الكلام الإسلامي المعاصر المجلد 3

هوية الکتاب

خسروبناه، عبد الحسين مؤلف .

الكلام الإسلامي المعاصر الجزء الثالث / تأليف عبد الحسين خسروبناه ؛ ترجمة محمد حسين الواسطي، اسعد الكعبي - الطبعة الثانية - النجف العراق : العتبة العباسية المقدسة، المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، 1440 ه. = 2019.

3 مجلد ؛ 24سم – (سلسلة دراسات كلامية ؛ 14)

يتضمن إرجاعات ببليوجرافية.

.1 علم الكلام أ. الواسطي، محمد حسين مترجم. ب. الكعبي، اسعد ، مترجم. ج. العنوان.

LCC: BP166 K46 2019

مركز الفهرسة ونظم المعلومات التابع لمكتبة ودار مخطوطات العتبة العباسية المقدسة

ص: 1

اشارة

الكلام الإسلامي المعاصر

الجزء الثالث

تأليف: عبد الحسين خسرويناه

ترجمة: محمّد حسين الواسطىّ - أسعد الكعبيّ

ص: 1

بسم الله الرّحمن الرّحیم

ص: 2

خسروبناه، عبد الحسين مؤلف .

الكلام الإسلامي المعاصر الجزء الثالث / تأليف عبد الحسين خسروبناه ؛ ترجمة محمد حسين الواسطي، اسعد الكعبي - الطبعة الثانية - النجف العراق : العتبة العباسية المقدسة، المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، 1440 ه. = 2019.

3 مجلد ؛ 24سم – (سلسلة دراسات كلامية ؛ 14)

يتضمن إرجاعات ببليوجرافية.

.1 علم الكلام أ. الواسطي، محمد حسين مترجم. ب. الكعبي، اسعد ، مترجم. ج. العنوان.

LCC: BP166 K46 2019

مركز الفهرسة ونظم المعلومات التابع لمكتبة ودار مخطوطات العتبة العباسية المقدسة

ص: 3

الفهرس

الباب الخامس: الإمامة ...9

الإمامة العامّة ...10

.18 /1تمهيد : 10

18 /2. حقيقة الإمامة: ...16

1/ /3. العناصر المشتركة في الإمامة :...18

18 /4. عناصر الإمامة التي انفردت بها الإماميّة ...20

شرعيّة الإمامة ...24

18 /5 .ثلاثة تساؤلات رئيسية ...32

19 /1.تقرير عبدالجبّار المعتزليّ ...32

19/ 2.تقرير العلّامة الحلّي: ...33

19 /3.وجوب الإمامة على الله أو على الأمّة :...34

19 /4 .استدلال أهل الحديث ...36

19 /5.استدلال المعتزلة ...37

19 /6 .أدلّة الأشاعرة ...38

19 /7.أدلّة الإماميّة :...45

20 .عصمة الإمام...54

ص: 4

الفهرس

20 /1. تمهید:...54

20 /2.تحليل العصمة :...55

20 /3 .مجال العصمة وسعة مفهومها :...58

20 /4. الأدلّة على عصمة الأئمة: ...60

21.علم الإمام. ..69

21 /1.تمهيد :...69

21 /2. براهين علم الإمام :...71

21 /3. سعة نطاق علم الإمام :...75

21 /4 .مصادر علم الإمام: ...86

أفضلية الإمام...96

22 /1. تمهید:...96

22 /2.أفضلية الإمام ضرورة : ...97

22 /3. الأدلّة العقليّة على الأفضلية. ..99

التعيين والنصّ على الإمام...100

23 /1.تمهيد :...100

الإمامة الخاصة ...106

ص: 5

24 /1. تمهید :...106

24 /2. أفضلية أمير المؤمنين (علیه السلام) :...107

24 /3. نقد أفضليّة أبي بكر :...122

24 /4.آية التطهير: ...131

24 /5.شبهات العامّة على آية التطهير: ...135

24 /6. آية الولاية :...137

24 /7.حديث الغدير :...140

24 /8. حديث الثقلين :...141

24/ 9. حديث الولاية :...142

24 /10.حديث اللوح :...145

24/ 5. أحاديث الأئمة الاثني عشر: ...150

.25 المهدويّة ...162

25 /1. تمهید:...162

25 /2.الإيمان بمخلّص البشريّة في الديانات الأخرى: ...162

25 /3.المهدوية في رؤية الفريقين :...164

25/ 4.سمات أصحاب المهديّ :...171

25 /5. أحداث ما قبل الظهور :...173

ص: 6

25 /6. فلسفة الغيبة :...177

الباب السابع: المعاد: ...181

37. المعاد الجسماني والروحاني ...182

- نمطية تصنيف المعتقدات: ...182

- أهميّة دراسة المعاد :...183

- حقيقة الخلود :...184

-النزعة إلى الخلود :...185

- حقيقة الشخصية الإنسانية:...186

-تأثير الاعتقاد بالمعاد على الحياة:...190

-آثار الاعتقاد بالمعاد من زاويةٍ قرآنيةٍ :...191

- نظريات المعاد الجسماني :...196

-براهين إثبات المعاد :...200

-البراهين التجريبية على إمكانية المعاد:...206

- الأدلّة العقليّة لإثبات المعاد :...210

38. منكرو المعاد في مواجهة تحدّياتٍ تفنّد آراءهم :...227

39 .منازل الآخرة :...240

المنزل الأوّل: الموت:...240

ص: 7

المنزل الثاني: القبر والبرزخ :...246

المنزل الثالث: القيامة :...249

المنزل الرابع: النَّفخ في الصور:...251

المنزل الخامس :الحساب :...252

المنزل السادس: الصّراط: ...262

المنزل السابع: الجنّة وجهنّم والأعراف :...263

40. الرجعة :...277

-معنى الرجعة :...277

- معارضو الرجعة:...278

- إمكانية تحقّق الرجعة :...280

- إثبات تحققّ الرجعة :...281

-أهل الرجعة :...285

-الهدف من الرجعة :...287

- الشبهات التي اُثيرت حول الرجعة :...288

- نتيجة البحث :...293

المصادر والمراجع ...294

ص: 8

الباب الخامس :الإمامة

إشارة

-الإمامة العامّة

- شرعيّة الإمامة

- عصمة الإمام

- علم الإمام

- أفضلية الإمام

- الإمامة الخاصة

المهدوية

ص: 9

18.الإمامة العامّة

18/ 1.تمهید

إشارة

قبل الولوج في خضمّ أبحاث الإمامة وصفاتها نمهّد هنا بمقدّمات:

18 /1 /1.المقدّمة الأولى:

«الإمامة» قضيّة مطروحة على بساط البحث منذ القرون الإسلامية الأولى، وهي نقطة الخلاف المركزية بين الفريقين؛ من الشيعة وأهل السنّة. وقد ألّف في القرون الأولى المخالفون لنظرية الإمامة عند الشيعة الإثني عشرية كتباً في الردّ على الإمامة، وكتب علماء الإماميّة أيضاً مصنّفات تدافع عن هذه النظرية.

وقد عمد ابن النديم (438ه) في الفنّ الرابع من كتاب «الفهرست» إلى التعريف ببعض ما كتبه أتباع أهل البيت (1) في موضوع الإمامة، وعدّ في الفنّ الرابع من

ص: 10


1- يقول ابن النديم: «علي بن إسماعيل بن ميثم التمار أوّل من تكلّم في مذهب الإماميّة عليّ بن إسماعيل بن ميثم التمار... ولعليّ من الكتب: كتاب الإمامة. هشام بن الحكم وهو أبو محمد هشام بن الحكم... من متكلمي الشيعة ممّن فتق الكلام في الإمامة... وله من الكتب: كتاب الإمامة... كتاب اختلف الناس في الإمامة. شيطان الطاق :أبو جعفر محمّد بن النعمان الأحول... تلقّبه العامّة بشيطان الطاق والخاصة تعرفه بمؤمن الطاق وهو من أصحاب أبي عبدالله جعفر بن محمد الصادق (علیهما السلام) وله من الكتاب كتاب الإمامة... كتاب الردّ على المعتزلة في إمامة المفضول. ابن قبة وهو أبو جعفر بن محمد بن قبة من متكلّمي الشيعة وحذاقهم وله من الكتب كتاب الإنصاف في الإمامة، كتاب الإمامة. أبو سهل النوبختي: أبو سهل إسماعيل بن عليّ بن نوبخت من كبار الشيعة وله من الكتب كتاب الاستيفاء في الإمامة كتاب التنبيه في الإمامة، كتاب الردّ على الغلاة، كتاب الردّ على الطاطري في الإمامة الحسن بن موسى النوبختي: وهو أبو محمد الحسن بن موسى بن أخت أبي سهل بن نوبخت متكلّم فيلسوف... وله من الكتب كتاب الإمامة» الفهرست ابن النديم، ص 217-220.

كتابه هذا «الخوارج» أوّل من خالف الإماميّة، وأوّل من ألّف في هذا المجال(1) وفضلاً عن الخوارج في صدر الإسلام، فإنّ سائر متكلّمي المذهب السنّي في العصور الغابرة مثل: القاضي عبد الجبار المعتزلي (415ه) في «المغني» في أبواب التوحيد والعدل، والفخر الرازيّ (606ه )في الأربعين ، وابن تيمية (728ه) في «منهاج السنة»، والقوشجيّ (879ه) في« شرح تجريد العقائد» - قد تصدّوا لنظرية الإمامة حسب ما يؤمن بها الشيعة الاثناعشرية، وقد بالغ أعلام الوهّابيّة أكثر من غيرهم في محاربة عقيدة الإمامة ونقدها بشتى الأساليب.

ولا بدّ من الالتفات إلى أنّ التحدّيات التي تكتنف بحث الإمامة لا تنحصر على شبهات أهل السنّة، بل يمكن أن يضاف إليها المبادئ التي دعت إليها بعض التيارات الفكريّة المعاصرة ؛ ومنها - على سبيل المثال - : التيار الفارسي المسمّى ب«الكسرويّة » (2) وهو تیّار رُوّج له إبان حكم النظام البهلوي البائد في إيران، والتيار الفكري الذي يطلق على نفسه مسمّى «التنوير الديني»، الذي اشتدّ عوده بعد قيام الثورة الإسلامية في إيران وشهر سيفه لنقد نظريّة الإمامة عند الشيعة الإثني عشرية. وهذا يدلّنا إلى ضرورة تناول بحث الإمامة وسبر أغواره حسب الرؤية التي يتبنّاها مذهب أهل البيت :.

ص: 11


1- قال ابن النديم (438ه) : اليمان بن رباب :من جلة الخوارج ورؤساءهم... وكان نظاراً متكلّما مصنفاً للكتب وله في ذلك: كتاب إثبات إمامة أبي بكر. يحيي بن كامل .... له من الكتب .... كتاب التوحيد والردّ على الغلاة وطوائف الشيعة عبدالله يزيد.... له من الكتب... كتاب الردّ على الرافضة إبراهيم بن اسحاق الأباضيّ وله من الكتب كتاب الإمامة ،الهيثم بن الهيثم وله من الكتب كتاب الإمامة. المصدر السابق، ص 228 -227.
2- تيّار فكري يُعرف بالفارسيّة باسم «كسروي گرائي» منسوب إلى أحمد كسروي (1890 -1946م)، وهو باحث ومؤرّخ مناصر للإصلاحات الاجتماعية والدينيّة. تمركز نشاطه في الأعوام بين سنة 1930- 1945م. كما نجد ذلك في آثاره. وقد هاجم الإسلام بحجة الدفاع عن القومية والأمة الفارسية هجمة واسعة. وأعرب عن أفكاره الانتقادية - الإصلاحيّة والمذهبيّة - الاجتماعية الحادّة بلغة أشدّ حدّة وعنفاً ولذلك واجه ردّة فعل حادة من قبل المخالفين. ومؤلّفات كسروي وعقائده وأعماله كانت جميعها في مسار نوايا رضاشاه تماماً، وحسب رأي بعضهم فإنّه استطاع في هذه الفترة بالذات أن ينشر آثاره برعاية الدولة مباشرة ممّا اكتسب جمهوراً كبيراً. وكان يعتقد كسروي بأنّ السلسلة البهلوية هي استمرار وإحياء لمجد الملوك الأخمينيّين والساسانيين وعظمتهم ورضا شاه هو الذي سيستعيد جميع فتوحات تلك المرحلة من أيدي الغاصبين. ولكنّه عدّل في نظرته بعد أغسطس 1941م واعتبر بأنّ نتيجة القوّة الظاهرية لحكومة رضا شاه هي عبرة هزيمة أغسطس 1941م ولذلك لام رضاشاه بعد انهيار حكومته المستبدة. [م]
18 /1 /2.المقدّمة الثانية:

تُطرح مباحث الإمامة على ساحتي «الإمامة العامّة» و«الإمامة الخاصّة» على ثلاثة مستويات؛ هي : العرض (التبيين)، والإثبات، والدفاع .

ويمكن أن نتناول مباحث الدفاع عن الإمامة في أربعة فروع؛ هي:

أوّلاً: الردّ على الشبهات التقليدية ذات البيان التقليديّ المتداول؛ حيث تُستعرض هناك الشبهات الدارجة في كتب أهل السنّة على سبيل المثال، ويُردّ عليها.

ثانياً: الردّ على الشبهات التقليديّة ذات البيان الجديد الذي وُظّفت فيه المناهج والمبادئ التقليدية؛ ومثالها : شُبهة «نظرية العلماء الأبرار» التي عرضها حسين المدرّسيّ (مواليد 1941م) في حُلّة حديثة، مستخدماً فيها المصادر الرجالية، والتاريخية، والكلاميّة التقليدية.

ثالثاً: الردّ على الشبهات التقليدية ذات البيان الجديد الذي وُظّفت فيه المناهج والمبادئ والمصادر الحديثة؛ كما في شبهة «اللاانسجام بين الخاتميّة والإمامة »التي أطلقها عبدالكريم سروش (مواليد 1945م) مستخدماً فيها المناهج والمبادئ المتبنّاة في الهرمينوطيقا، والإبستمولوجيا ( نظرية المعرفة)، واللسانيّات الحديثة.

رابعاً: الردّ على الشبهات الجديدة المبتنية على المناهج والمبادئ المتداولة في عصر الحداثة؛ كما في شبهة «تعارض الإمامة مع الديموقراطية»، أو شبهة «تعارض المهدويّة مع الحداثة والتعدديّة الدينيّة».

هذا، وتنطوي كلّ ساحة من ساحات الإمامة العامّة والخاصّة على قضايا ومباحث خاصّة بها. وقد ذهب القاضي عبد الجبار المعتزليّ (415ه) إلى أنّ مباحث الإمامة العامّة تنحصر في ثلاثة حقول ؛ هي : وظائف الإمامة، وصفاتها، وطرق تعيينها(1).

ص: 12


1- المغني في أبواب التوحيد والعدل، القاضي عبدالجبار، ج 1، ص 11.

أمّا المحقّق الطوسيّ (672ه) فذهب إلى أنّ مباحث الإمامة تنشعب إلى خمس شعب: مطلب ما؟ (التعريف بالإمامة)، ومطلب هل؟ (إثبات ضرورة الإمامة)، و مطلب لِمَ ؟ ( غاية الإمامة ووظائفها وآثارها)، ومطلب كيف؟ (صفات الإمامة)، ومطلب من ؟ (مصدايق الإمامة)(1).

والذي يجدر عرضه في مباحث الإمامة العامّة خمسة فروع؛ هي:

أوّلاً: تعريف الإمامة، وتبيين حقيقتها.

ثانياً: أدلّة وجوب الإمامة.

ثالثاً : وظائف الإمامة، والفوائد المترتبة عليها.

رابعاً: الشروط العامّة والخاصّة للإمامة.

خامساً: طرق نصب الإمام.

أمّا في مباحث الإمامة الخاصة فيجدر التطرّق لثلاثة فروع؛ هي :

أوّلاً: إثبات إمامة الإمام علي بن أبي طالب .

ثانياً: إثبات إمامة الأئمّة والخلفاء الاثني عشر .

ثالثاً: مباحث المهدويّة.

18 /1 /3.المقدّمة الثالثة:

هل تُعدّ «الإمامة» من أصول الدين أم من فروعه؟ وهل هي قضيّة كلاميّة، أم فقهيّة ؟ طرح المفكّرون المسلمون ثلاث نظريات في هذا الشأن:

ص: 13


1- تلخيص المحصّل (المعروف بنقد المحصّل) المحقّق الطوسيّ، ص 426.

أوّلاً: الرؤية التي ذهبت إلى أنّ الإمامة أصل من «أصول الدين».

ثانياً: الرؤية التي عدّتها من «فروع الدين».

ثالثاً: الرؤية التي نعتتها بأنّها من «أصول المذهب ».

عرض المتكلّمون المنتمون للمدرسة السنيّة - لا سيّما الأشاعرة منهم - موضوع «الإمامة» في كتبهم الكلاميّة؛ لما تتحلّى به من أهمّيّة، لكنّهم عدّوها في ضمن المباحث الفقهيّة، وفروع الدين وقد ابتنت هذه الرؤية على أساس فكرتهم وانطباعهم عن واقع الإمامة؛ إذ أوّلوها إلى نظريّة سياسيّة؛ فقد كتب إمام الحرمين الجويني (478ه):

الكلام في هذا الباب [أي: الإمامة] ليس من أصول الاعتقاد، والخطر على من يزلّ فيه يربى على الخطر على من يجهل أصله (1).

وقال أبو حامد الغزالي (505ه) :

النظر في «الإمامة» أيضاً ليس من المهمّات، وليس أيضاً من فن المعقولات فيها من الفقهيات ... ولكن إذا جرى الرسم باختتام المعتقدات به أردنا أن نسلك المنهج المعتاد(2).

وقد سار الشهرستانيّ(3) (548ه)، والتفتازانيّ(4) (792ه)، وابن خلدون(5) (808ه)، وسائر الأشاعرة على هذا النهج، في حين لم يذكر المعتزلة كلاماً صريحاً في هذا الباب.

ص: 14


1- الإرشاد الجويني، ص 245.
2- الاقتصاد في الاعتقاد، الغزالي، ص 234.
3- نهاية الإقدام في علم الكلام الشهرستانيّ، ص 559.
4- شرح المقاصد التفتازانيّ، ج5، ص 232.
5- المقدّمة ،ابن خلدون، ص 193.

وذهب مفكرو الإماميّة - ومعهم بعض الأشاعرة (1)- إلى أنّ الإمامة أصل من «أصول الدين»، وأنّ منكرها «كافر»؛ فقد قال الشيخ الصدوق (381ه) :

يجب أن يعتقد أنّه يلزمنا من طاعة الإمام ما يلزمنا من طاعة النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ،... و یعتقد أنّ المنكر للإمامة كالمنكر للنبوّة، والمنكر للنبوّة كالمنكر للتوحيد(2).

وقال الشيخ المفيد (413ه) :

واتّفقت الإماميّة على أنّ من أنكر إمامة أحد الأئمة، وجحد ما أوجب الله من فرض الطاعات، فهو كافر ضالّ، مستحقّ للخلود في النار(3).

وكان السيّد المرتضى (436ه) يرى أنّ الإمامة تشترك مع النبوّة في كونها من أعظم أصول الدين (4)، وقد صرّح في كتابه الذي عرض فيه الإمامة بقوله: فقد أجبت الى ما سألنيه الأستاذ - أدام الله تأييده - من إملاء مختصر محيط بما يجب اعتقاده من جميع أصول الدين(5).

والذي ينتهي إليه النظر أنّ الإمامة - باعتبار ضرورة التنصيب فيها من قبل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى - قضيّة كلاميّة تنتمي لأصول الدين أو لأصول المذهب والإيمان، هي -وباعتبار الوجوب الشرعيّ الذي يطال طاعة الناس للإمامة وشخص الإمام - فهي بحث فقهي ينتمي لفروع الدين؛ فإنّ المناط في كون المسألة كلاميّة أو فقهيّة هو علاقته

ص: 15


1- مثل الأسروشنيّ الحنفيّ (632ه)، والقاضي البيضاوي الأشعري (685ه) . قال في «إحقاق الحقّ»: «صرّح القاضي البيضاويّ في مبحث الأخبار من كتاب المنهاج ، وجمع من شارحي كلامه بأنّ مسألة الإمامة من أعظم مسائل اصول الدين الذي مخالفته توجب الكفر والبدعة، وقال الأسروشنيّ من الحنفيّة في كتابه المشهور بينهم بالفصول الأسروشنيّ بتكفير من لا يقول بإمامة أبي بكر» إحقاق الحقّ ،القاضي نور الله، ج 2، 307. [م]
2- الهداية في الأصول والفرع الصدوق، ص 27-28.
3- أوائل المقالات المفيد، ص 7 .
4- رسائل الشريف المرتضى، ج 2، ص 165- 166.
5- رسائل الشريف المرتضى، ج 3، ص 9.

بالبحث عن وجود الله وصفاته وأفعاله، أو علاقته بفعل الإنسان؛ فإذا كان الأول، فهو بحث كلاميّ، و إلّا فهو بحث فقهيّ.

وفي المحصّلة نقول كما تناول المتكّلمون الإماميّون بحث الإمامة في كتبهم الكلاميّة وأثبتوا فيها ضرورة الإمامة وصفات العلم والعصمة والولاية التكوينيّة والتشريعيّة والسياسية الاجتماعيّة للأئمة الاثني عشر، فعلى فقهاء الإماميّة أن يطرحوا بحثاً تحت عنوان «فقه الإمامة»، يتطرّقون فيه إلى الوظائف الشرعيّة المناطة بالإمام؛ ومنها مراعاة حقوق الناس، وإلى الوظائف الشرعيّة الملقاة على عاتق الناس في طاعة الإمام. فالإمامة - إذن - بحث كلاميّ باعتبار أنّ تنصيب الإمام واجب على الله جَلَّ وَعَلا ، كما أنّها بحث فقهي أيضاً باعتبار أنّ هناك وظائف شرعيّة ملقاة على عاتق الإمام والمأموم .

18/ 2.حقيقة الإمامة:

إشارة

أوّل أبحاث قضيّة «الإمامة» هو الوقوف على تعريفها، وماهيّتها، وبيان عناصرها فتصوّر المفهوم مقدّم على تصديقه منطقيّاً، وإذا لم يتّضح مفهوم «الإمام» بشكل جليّ، فلا سبيل إلى أيّ بحث تصديقي بشأنه.

وفي ما يلي إطلالة على أبرز تعاريف «الإمام» و«الإمامة»:

18 /2 /1.تعريف الإمامة:

أوّلاً : تعريف الشيخ المفيد (413ه) :

«الإمام» هو :الإنسان الذي له رئاسة عامّة في أمور الدين والدنيا نيابةً عن النبيّ(1).

ص: 16


1- النكت الاعتقاديّة المفيد، ص 39.

و قد كتب في« أوائل المقالات »:

«إنّ الأئمّة القائمين مقام الأنبياء في تنفيذ الأحكام وإقامة الحدود [وهذا منصب القضاء]، وحفظ الشرائع [ أي من التحريف بزيادة أو نقصان]، وتأديب الأنام [أي: في الشؤون الثقافيّة]، معصومون كعصمة الأنبياء»(1).

وقد أدرج الشيخ المفيد في تعريفه هذا قضايا - منها : التربية الثقافيّة - عدّها من وظائف الإمام؛ خلافاً لما ذهب إليه العلمانيوّن الرافضون لأيّ تدخّل تمارسه الحكومة الدينيّة في الشؤون التربوية والأخلاقيّة.

ثانياً : تعريف القاضي عبد الجبار المعتزلي (415ه) في «شرح الأصول الخمسة»:

«الإمام» : اسم لمن له الولاية على الأمة، والتصرف في أمورهم على وجه لا يكون فوق يده يد(2).

ثالثاً : تعريف الماورديّ (450ه) في «الأحكام السلطانية»:

«الإمامة»: رئاسة عامّة في أمور الدين والدنيا خلافةً عن النبيّ... «الإمامة» موضوعة لخلافة النبوّة في حراسة الدين، وسياسة الدنيا (3).

ويتبيّن من خلال مراجعة التعاريف المتقدّمة أنّ طائفة من التعاريف تعاريف عامّة تشمل النبيّ والإمام؛ كما هو ملاحظ في مثل تعريف ابن ميثم البحراني (679ه) ؛ حيث ذهب إلى أنّ الإمامة رئاسة عامّة في أمور الدين والدنيا بالأصالة »(4)، وبعض آخر من التعاريف يختصّ وينحصر في الإمامة؛

ص: 17


1- أوائل المقالات المفيد، ص 19.
2- شرح الأصول الخمسة ،القاضي عبد الجبار ص 509.
3- لأحكام السلطانية، الماورديّ، ص 5 .
4- واعد المرام ابن ميثم البحراني، ص 174.

كما في تعريف الشيخ المفيد (413ه) ال /ذي عرّفها بأنّها رئاسة عامّة في أمور الدين والدنيا نيابةً عن النبيّ» (1).

18/ 3.العناصر المشتركة في الإمامة

يمكن استنتاج العناصر المشتركة في الإمامة عند الفريقين من التعاريف التي أوردوها للإمامة؛ وهي على النحو الآتي:

أوّلاً: «الولاية والرئاسة»: وردت خصوصيّة «الرئاسة» أو «القيادة» العامّة للناس في شؤون الدين والدنيا في جميع التعاريف، واستخدمت مفردة «الولاية» في بعضها؛ وإن اختلف في تفسير الولاية أو معناها. والولاية التي تعني تولّي الإمام زمام الرئاسة الحكومية والدنيوية مشتركة بين الإماميّة وأهل السنّة، لكنّ الولاية التي تعني الولاية التكوينيّة والتشريعيّة والاجتماعية منحصرة بالإمامية، ولا يعتقد أهل السنّة بهذا النطاق الواسع من الولاية.

ثانياً: «خلافة رسول الله و نيابته »يتّفق الفريقان على هذه الخصوصية؛ ف«الخلافة »منضوية في معنى «الإمامة»؛ كما أشار اللغويّون إلى ذلك، وألمح إليه ابن خلدون (808ه) أيضاً. أمّا فيما يخصّ مفهوم الخلافة والإمامة؛ هل هما مفهومان أم مفهوم واحد؟ فالحقّ أنّ الخلافة تختلف عن الإمامة من حيث المفهوم. وعلى الرغم

من أنّ الخلفاء بعد الرسول الأعظم هم خلفاء وأئمّة في الآن ذاته، لكنّ الأمر ليس على هذا النحو دائماً، فقد نجد من يتّصف بالإمامة ولا يكون خليفةً لأحد؛ كما في مثل إبراهيم الذي كان إماماً ؛ ولم يكن خليفة لأحد. فالخلافة - إذن - من مشتركات الفريقين؛ ولا خلاف فيها. وقد أورد الكلينيّ (329ه) في «الكافي» عن الإمام الرضا (علیه السلام) أنّه قال :

«إِنَّ الْإِمَامَةَ خِلَافَةُ الله وَخِلَافَةُ الرَّسُولِ »(2).

ص: 18


1- النكت الاعتقادية، المفيد، ص 39.
2- الكافي ،الكلينيّ، ج 1، ص 198.

ثالثاً : « وجوب طاعة الإمام على الجميع »تُستفاد هذه الخصوصية أيضاً من تعاريف العامّة والخاصّة بوجوب طاعة الإمام على الجميع؛ فالفارق بين النظرية الإماميّة ورؤية أهل السنّة في هذا الخصوص لا يتمحور حول وجوب اتباع إمام محدّد؛ وإنّما الاختلاف يعود إلى مسألتين: الأولى: هل الولاية أمر مقتصر على الحكومة فقط، أم أنّها تشمل في طيّاتها الولاية التكوينيّة والتشريعيّة أيضاً؟ والثانية: ما أورد بعض علماء الإماميّة من قيد الأصالة والنيابة في التعاريف، فالسؤال المطروح هنا هو : هل يتسلّم الإمام مقاليد الإمامة نيابةً عن الناس أم أنّ إمامته أصيلة؛ وليست بالنيابة عنهم؟ ومن المعلوم أنّ الإماميّة ترى في الإمامة نيابةً عن النبوّة.

رابعاً : «القيادة الشرعيّة »علاوةً على النقاط المتقدّمة، فقد دلّت تعاريف الفريقين على قيادة الإمام؛ فالذي يذهب إلى أنّ الإمامة نيابة عن النبوّة فهو يُقرّ لها بقدسيّة وشرعيّة إلهيّة. وكما عبّر ابن خلدون (808ه) فإن «الإمامة خلافة عن صاحب الشرع »(1).

خامساً: «الإمام شخص ؛ وليس حزباً، أو فئةً، أو شورى بعينها»: تدلّ تعاريف الإمامة على أنّ الإمام شخص؛ وليس حزباً، أو شورى محدّدة، أو طائفة بعينها، وقد حقّقت سيرة المتشرّعين هذا المفهوم على مرّ التاريخ.

سادساً: نطاق هذه الزعامّة والقيادة هي شؤون الدين والدنيا وردت مفردة «الدين »في بعض هذه التعاريف منفردةً، وفي البعض الآخر مقرونةً مع الدنيا. والمقصود ب «الدين» في الطائفة الأولى من التعاريف : «الإسلام»، لكنّ مفردة «الدين» إذا استخدمت بمفردها دلّت على الآخرة ، فكما تقدّم ،إذن، في كلا الصورتين تكون الشؤون الدنيويّة والأخرويّة بمجموعها منضوية تحت مفهوم «الإمامة». والنتيجة هنا: انعدام أيّ خلاف في هذا العنصر أيضاً؛ فالإمام - حسب عقيدة الفريقين - يتولّى

ص: 19


1- المقدّمة ابن خلدون، ص 191، [م].

أمر سعادة الناس في الدنيا والآخرة. ومن هذا المنطلق، قسم أهل السنة الخلفاء إلى الراشدين وغير الراشدين، وآمنوا بأنّ الخلفاء الراشدين (أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً (علیه السلام)) كانوا معنيّين بجميع شؤون الأمّة الدنيويّة والأخرويّة. أمّا معاوية وغيره فلا يطلق عليهم هذا اللقب - رغم كونهم موضع احترام بسبب كونهم من كونهم من الصحابة - لعدم اهتمامهم بأمور الناس الدنيويّة والأخرويّة.

18/ 4.عناصر الإمامة التي انفردت بها الإماميّة

إشارة

تقدّم الحديث عن العناصر المشتركة للإمامة بين الفريقين. أما العناصر الأخرى التي تنفرد بها النظريّة الإماميّة فهي تضمّ ما يلي:

أوّلاً: «الولاية المطلقة»: ومعناها اشتمال الولاية التي يتحلى بها الإمام على شتّى ألوان الولاية التكوينيّة، والتشريعية، والقيادية.

ثانياً: «العصمة»: وهي تعني شمولية نطاق العصمة لجميع دوائر المعرفة، والتبليغ، والعمل بالدين والشريعة.

ثالثاً: «الرئاسة الأصيلة» : بمعنى نفي النيابة عن الأمّة؛ فليست الأمّة هي من يختار الإمام - على الرغم من كون بيعتهم ضرورية -، وليست البيعة هي العامل الذي يمنح الشرعيّة للإمام، خلافاً لما تذهب إليه رؤى الديموقراطيّة اللبراليّة؛ فمشاركة الشعب عندهم هو مصدر الشرعيّة. نعم؛ البيعة - في واقع أمرها - عامل يساهم في فعليّة وجوب طاعة الإمام، وتحقّق ذلك على الأرض. وفي الجهة المقابلة، يرى أهل السنّة أنّ الإمام نائب عن الأمّة، وأنّ شرعيّته الفلسفيّة منوطة باختيار الأمّة له بشروط إلهيّة.

18 /4 /1.عنصران آخران :

ألمح الشيخ الطوسيّ (460ه) إلى عنصرين خاصّين آخرین؛ هما :

ص: 20

أوّلاً: أن يكون قدوة الأمّة قولاً وفعلاً». بمعنى أنّ الإمام قدوة للنّاس في القول والعمل. ومن الجليّ ألّا فرق بين الإمام والنبيّ من هذه الجهة.

ثانياً: «الزعامة والحكومة» : وهي تعني أنّ الإمام يتولّى تدبير أمر المجتمع، ويدير دفّة السياسة فيه. ولا يخفى أنّ هذه الخصوصية منحصرة في الإمام؛ فلا يمكن القول بأنّ «كلّ نبيّ إمام» ، كما لا يمكن القول بأنّ كلّ إمام نبيّ . نعم؛ من الممكن أن يكون بعض الأنبياء أئمّة في الوقت ذاته؛ كما في الأنبياء من أولي العزم؛ فقد كانوا أئمّة بأسرهم، أو كما في بعض الأنبياء الآخرين من غير أولي العزم؛ كما في مثل سليمان وداوود(علیهما السلام) اللذين تولّيا منصب «الإمامة»؛ بمعنى «الزعامة السياسيّة الاجتماعيّة». لكنّ مثل هذه النماذج تتطلّب دليلاً يدلّ عليها بخصوصها. ومن ثَمَّ : لا دليل على إثبات أنّ كلّ نبيّ إمام. ومن جهة أخرى، لا يمتنع أن يوجد إمامٌ ليس بنبيّ؛ أي أن يتولّى الإمام الزعامة والقيادة والهداية الدينيّة والدنيويّة؛ من دون أن يكون نبيّاً. وحسب رأي الشيخ الطوسيّ تتمثل حقيقة النبوّة وجوهرها في تلقّي الوحي من دون واسطة بشريّة»، أمّا حقيقة الإمامة وجوهرها فتتمثّل في «تعليم الأمّة، وتدبير أمرها، وإدارة دفّة السياسة فيها». وبناءً على ذلك، النسبة بين الإمام والنبيّ هي نسبة العموم والخصوص من وجه(1)؛ فليس كلّ نبيّ مأمور بالتدبير والسياسة؛ وإن كان قد نُصب ليكون قدوةً وأسوةً للناس. ولهذا، من الممكن أن يبعث الله نبياًّ يتلقى الوحي، لكنّه لا يكون مأموراً بالحكم، فيدعو الناس - بإذن الله وأمره - إلى حاكم غيره ؛ كما في مثل طالوت(2).

وقد أشار العلّامة المطهّري (1979م) إلى فارق آخر بين النبوّة والإمامة ممّا يكمل نظرية الشيخ الطوسيّ؛ إذ قال ببيان آخر :

ص: 21


1- الرسائل العشر، الطوسيّ، ص 109-111.
2- وقد روي في مصادرنا أنّ طالوت لما حضرته المنيّة أوحى الله سبحانه وتعالى إليه أن يسلّم ما في يده من المواريث والعلوم إلى داوود (علیه السلام) الذي جُمعت في النبوة والإمامة، فسلّم طالوت نور الله وحكمته وجميع ما في يديه إليه كما أمره ربّه. يقول المسعودي (346ه) : «واجتمعت بنو اسرائيل على داوود (علیه السلام)، وأنزل الله - جلّ ذكره - عليه الزبور.... وأعطي النور والحكمة والتوراة». إثبات الوصيّة ،المسعوديّ، ص 69. [م].

«النبوّة» هداية، لكنّ «الإمامة» قيادة؛ فواجب الهادي أن يري الطريق، لكنّ البشريّة تحتاج القيادة فضلاً عن حاجتها إلى الهداية؛ بمعنى أنّها محتاجة إلى أشخاص، أو فئات، أو نظام يستجمع قوى الإنسان وطاقاته، ويحرّكها (1).

وبناءً على ذلك، فإنّ «القائد» هو من يتولّى مهمّة «الإيصال إلى المطلوب» و «تفعيل المواهب والطاقات»، أمّا «الهادي» فمهمّته هي «إراءة الطريق». وعليه: فإنّ «ختم النبوّة» يعني ختام الهداية التي تنير درب الإنسان بتقديم الأطروحة الإلهيّة، أمّا الإمام فهو الموكَّل بتطبيق هذه الأطروحة عمليّاً على أرض الواقع.

18 /4 /2.محصّلة القول :

يمكن أن نختصر الوظائف الإلهيّة التي أُنيطت بالأنبياء التشريعيين (أولي العزم من الرسل) - وعلى رأسهم الرسول الأعظم - في أربع وظائف رئيسيّة؛ هي:

أوّلاً: «تلقّي الوحي وإبلاغه»: وهذا يعني نشر الأطروحة الدينيّة التي تشمل القرآن الكريم والبيان القرآني.

ثانياً: «المرجعيّة الدينيّة» : بما يعني الولاية التشريعيّة، أو بيان الوحي وتفسيره.

ثالثاً: «الولاية التكوينية»: وهي تعني القدرة على فعل المعجزات، والولاية المعنويّة والعرفانية.

رابعاً: «الزعامة» : ومعناها الولاية السياسية والاجتماعية والقضائيّة.

أمّا النبوّة التبليغيّة فلا تنطوي إلّا على ثلاث من هذه الوظائف؛ باستثناء بعض الأنبياء المبلغين الذين ورد فيهم نصّ خاص يستثنيهم من هذه القاعدة؛ فعلى الرغم من وجود وجوه الاشتراك بين «النبوّة التبليغية» و«النبوّة التشريعيّة »في تلقّي الوحي

ص: 22


1- الأعمال الكاملة (بالفارسية)، المطهريّ، ج3، ص 318-321.

وإبلاغه إلّا أنّ الفارق بينهما يكمن في أنّ« النبيّ المبلّغ »قد يبيّن أحكاماً جديدةً لم یرد لها ذكر في ما سبق - كما حصل في زبور داوود الذي وردت فيه أحكام لم تذكرها التوراة - إلّا أنّ ظهور هذه الأحكام لا يستوجب حدوث تجديد في الشريعة، بل هو مجرّد تكميل وتتميم للشريعة السابقة؛ لا سيّما في النبوّة التبليغيّة التي يتولّى نبيّها منصب الإمامة أيضاً. وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ المناط في كون النبيّ من أولي العزم هو امتلاكه لكتاب يشتمل على شريعة مستقلّة وجديدة.

نستنتج ممّا تقدّم أنّ النبوّة التبليغيّة تنطوي على خصوصيّتين:

أولاً: العلاقة المباشرة مع الله عَزَّ وَجَلَّ، وتلقّي الوحي التشريعيّ منه؛ من دون أيّ وسيط بشريّ.

ثانياً: عدم تلقّي النبيّ التبليغيّ شريعة مغايرة لما عند النبيّ الذي سبقه من أولي العزم؛ وإن تلقّى أحكاماً جديدةً؛ إذ لا يستلزم نزول بعض الأحكام الجديدة تجديداً في الشريعة، فعندئذٍ يكون هذا النبيّ والنبيّ الذي سبقه قد بلّغ كلّ منهما جزءاً من الوحي الإلهيّ إلى الناس.

وفي خصوص «الإمامة» - التي هي خلافة النبيّ (صلّی لله علیه وآله و سلّم) حسب تعريف الفريقين - اختلف المسلمون على تحديد وظائفها؛ فذهب أهل السنّة إلى أنّها منحصرة في الوظيفة الرابعة فقط ( الولاية السياسية والاجتماعيّة)، وأثبتت الإماميّة للإمام الوظيفة الثانية والثالثة والرابعة، متمسكين ببعض الأدلّة ؛ ومنها : حديث المنزلة؛ إذ قال فيه رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لعليّ (علیه السلام) :

«أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي »(1).

وهو دليل يُستنبط منه أنّ جوهر النبوّة يتمثّل في تلقّي الوحي المباشر من الله عَزَّ

ص: 23


1- عيون أخبار الرضا (علیه السلام)، الصدوق، ج2، ص 10. [م].

وَجَلَّ، وهي خصوصيّة لم تتوافر في عليّ (علیه السلام). أمّا بيان الوحي وتفسيره فهو من شؤون الولاية التشريعيّة للنبيّ.

18 /5.ثلاثة تساؤلات رئيسيّة :

18 /5 /1.السؤال الأوّل:

إذا كانت خصوصية الإمام أن يتلقّى الحقائق من النبيّ مباشرةً، فما هو الفارق بينه وبين راوي الحديث في تلقّي الحقائق الدينيّة؟

الجواب: يكمن الفارق بين الإمام وراوي الحديث في ثلاث جهات؛ هي:

أوّلاً: يتمتع الإمام بولاية سياسية واجتماعيّة، والرواة ليسوا كذلك.

ثانياً : غاية ما يمكن للراوي أن يقوم به هو تلقّي الحقائق الدينيّة من النبيّ من خلال أدوات المعرفة الاعتياديّة ( السمع والبصر ) ؛ فهو يجالس النبيّ، ويسمع المعارف الدينيّة منه، ولعلّه يدوّنها، ويسجّلها، ثمّ ينشرها بين الناس حسب طاقته. ولهذا، فإنّ الرواة عاجزون عن نيل جميع الحقائق الدينيّة، أمّا الإمام المعصوم فهو مطلع على الحقائق الدينيّة بأسرها، وبإمكانه أن يقوم بدور الهداية الإلهيّة للناس.

ثالثاً: لا يمكن نفي الخطأ في أداء الرواة؛ فهو أمر محتمل و وارد؛ في حين أنّ هذا الاحتمال منتفٍ بالنسبة إلى الأئمة الأطهار (علیهم السلام) بسبب العصمة. ولذلك، يتحتّم على عالم الدين أن يطبّق قواعد علمي الدراية والرجال؛ ليعرف الرواية الصحيحة سنداً ودلالةً، بينما لا يحتاج الإمام المعصوم إلى شيء من ذلك. فهو يتلقّى الحقائق الدينيّة من طرق غير اعتياديّة. يقول أمير المؤمنين (علیه السلام) :

«عَلَّمَنِي رَسُولُ اللهَ أَلْفَ بَابٍ كُلُّ بَابٍ يَفتَحُ أَلْفَ بَاب »(1).

ص: 24


1- الاختصاص المفيد، ج2، ص 283. [م].

وبطبيعة الحال، فإنّنا لا ندرك حقيقة هذا التلقّي؛ أهو من سنخ العلم الحضوريّ، أم الحصوليّ؟ كما أنّنا لا نعرف حقيقة الوحي. وعلى أيّ حال، فإنّنا نعلم من الأدلّة أنّ النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) نقل الحقائق الدينيّة إلى الإمام المعصوم بواسطة ما، وأنّ الإمام قد تلقّى من النبیّ تلك الحقائق كاملةً بنهج معيّن، وهو يعرضها على الناس حين الحاجة وعلى مرّ الزمان. يقول العلّامة المطهّريّ (1979م) في هذا الشأن:

هل كان بعد النّبیّ من يكون مرجعاً حقيقياًّ للأحكام الدينيّة، كما كان النبيّ مرجعاً ومبيّناً ومفسّراً؟ هل كان هناك إنسان كامل يتمتّع بهذه الصفات، أم لا؟ قلنا: إنّ هذا كان متحقّقاً؛ ولكن بفارق أنّ ما كان يقوله النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في هذه القضايا كان مستنداً إلى الوحي مباشرةً، أمّا ما يقوله الأئمة (علیهم السلام) فهو مستند إلى النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لا بمعنى أنّ النبيّ قد درّسهم ذلك، بل بالطريقة التي أفصح عنها عليّ (علیه السلام) ؛ حينما قال: «عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهَ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أَلْفَ بَابِ كُلُّ بَابٍ يَفْتَحُ أَلْفَ بَاب». إنّنا لا نستطيع تفسير كيفیّة تلقّى الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) العلم من الله، لا يمكننا تفسير كيفية العلاقة المعنويّة بين النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وعليّ (علیه السلام) والتي أفضت إلى تعليم النبيّ له جميع الحقائق حقّ التعليم، من دون أن يعلّمها لغيره(1).

وفي المحصّلة نقول: حديث الإمام هو الدين بعينه. ومن ثَمَّ: فإنّ للإمام ولاية تشريعيّة، لكن حديث عالم الدين ليس إلّا تفسيراً للدين والمعرفة الدينيّة. ولذلك، فهو فاقد للولاية التشريعيّة؛ وإن كانت معرفته الدينيّة حجّة بالدليل العقلي والنقلي .

من جهة أخرى، فإنّ طريقة تلقّي الإمام من النبيّ تختلف عن طريقة تلقي الرواة عنه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) كمّاً ونوعاً؛ فالإمام من حيث نوعيّة التلقّي، يأخذ الحقائق من خلال الأداة الإلهيّة عن النبيّ دفعةً واحدةً، ومن جهة الكميّة فهو يجد كلّ الحقائق الدينيّة عنده؛ بينما يفتقر رواة الحديث إلى كلا الجهتين كمّاً ونوعاً.

لاحظ التخطيط الآتي:

ص: 25


1- الأعمال الكاملة (بالفارسية)، المطهري، ج4، ص 859.

الصورة

26.jpg

18 /5 /2.السؤال الثاني:

بالنظر إلى ما تقدّم ، ألا يمكن القول بأنّ النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قد قصّر في إبلاغ رسالته؟ فقد يتصوّر بعضهم بأنّ النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قد قصّر في تلقّي الوحي أو في إبلاغه، فلم يحدّث الناس بجميع الحقائق الدينيّة !

الجواب: لم يحدث أيّ تقصير في رسالة النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ؛ لأنّه وإن لم يبلغ الناس بكل ما جاء به الوحي لبعض الأسباب (بلغ الناس بتمام الوحي القرآنيّ، وبعض الوحي التبيينيّ)، لكنّه أودع جميع الحقائق الدينيّة - سواء من الوحي القرآنيّ والتبيينيّ - إلى الأئمة المعصومين (علیهم السلام) بشكل مباشر أو غير مباشر، ليبيّنوه للناس في الوقت المناسب.

وفي الحقيقة، فإنّ قضيّتي «الإمامة» و «الخاتميّة» وجهان لعملة واحدة؛ وهي «كمال الدين». لقد أبلغ الله عَزَّ وَجَلَّ نبيه بجميع الحقائق، لكنّ كمال الدين لا يتحقّق إلّا بعد أن يُبلغ النبيُّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) الأمّة بأنّ قسطاً من الحقائق الدينيّة - وهي بعض بيان القرآن وتفسيره -

ص: 26

لم يُفصَح عنه بعد، وأنّه قد أودع علمه إلى الإمام؛ فإن كان الناس طالبين لكمال الدين، فعليهم إذن بالإمام؛ فهو بيان الدين وتفسيره . ومن هنا كان كمال الدين بالإمامة؛ لأنّ بيان الوحي بنحو كامل في قبضة الإمام، وحسب.

وبناءً على ما تقدّم، فإنّ جميع الحقائق الدينيّة موجودة في القرآن الكريم، وتمام تفسيره وبيانه متوافر في سنّة النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) التي أورثت إلى الأئمة (علیهم السلام) فما قاله النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) هو تفسير للقرآن الكريم، وما قاله الأئمّة (علیهم السلام) فهو بيان النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وتفسيره للقرآن. ويتبيّن بذلك، أنّ أهل البيت هم من خوطب بالقرآن؛ كما ورد في بعض الأحاديث الشريفة(1).

وبطبيعة الحال، ليس المقصود مما تقدّم أنّ «الإسلام ليس مكتملاً»! أو أنّ «الدين ناقص طالما أنّنا نعيش عصر الغيبة، وأنّ الإمام المهديّ (علیه السلام) لم يأتِ لنا ببقية الحقائق الدينيّة»! فالدين كامل من دون شك. ولهذا، لو رحل أحد من المؤمنين عن دار الدنيا قبل وفاة النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، أو قبل إمامة الإمام عليّ (علیه السلام)، أو قبل ظهور الإمام المهدي (علیه السلام)، فإنّ دينه ومعتقده مكتمل بالنسبة إليه . لقد أنزل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى الدين مكتملاً؛ غاية الأمر أنّ الآيات القرآنيّة والأحكام الإلهيّة - مثل : حرمة شرب الخمر، وما إلى ذلك من المحرّمات - قد نزلت بنحو تدريجيّ، وعلى مراحل زمنيّة، وقد أبلغ النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) والأئمّة (علیه السلام) : الناس ببيان الوحي وتفسيره بنحو تدريجيّ، حسب مقتضيات العصر، وسوف يُعرض بظهور الإمام المهديّ (علیه السلام) أيضاً تفسير وبيان جديدين لم يرد في كلام النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أو الأئمة السابقين (علیهم السلام)؛ لعدم وجود ما يقتضيه.

توضيح ذلك : أنّ المعارف التي وصلتنا عن الأئمة (علیهم السلام) على ثلاثة أنواع:

أولاً :« تفسير الآيات القرآنية »ببيان الحديث النبويّ وشرحه.

ثانياً: «تطبيق الكلّي على مصداقه»، أو قل: تطبيق الكبرى على الصغرى؛ مثل ما

ص: 27


1- ورد عن الإمام الباقر (علیه السلام) أنّه قال: «إنّما يَعْرِفُ الْقُرْآنَ مَنْ خُوطِبَ بِهِ». بحار الأنوار، ج24، ص 238. [م]

يفعله المجتهدون، لكن من دون أخطاء. فمثلاً : لو سئل الإمام ( علیه السلام)عن معاملة لم تكن موجودة على عهد رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ؛ هل هي حلال أم حرام؟ قد يجيب الإمام بأنّها محلَّلة؛ بناءً على قوله عَزَّ وَجَلَّ: «أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرّبا» (1).

ثالثاً: «الإبداع الظاهريّ»؛ فإنّ بعض كلمات الأئمّة (علیهم السلام) على الظاهر هي مطالب جديدة؛ ليست بتطبيق ولا تفسير ومن أمثلتها بعض الأحكام الواصلة حول «الإرث» أو «الدية». وهذه - من حيث الظاهر - لا هي تفسير لآية، ولا تعدّ تطبيقاً للكلّيّ على الجزئيّ. وقد يبدو للملاحظ أنّها حكم جديد، وأنّ الإمام جاء بشريعة جديدة؛ في حين أنّها بأسرها بيان للقرآن الكريم؛ فإنّ جميع حقائق الدين موجودة في القرآن، وإنّ سنّة النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أو أهل بيته (علیهم السلام) : هي تفسير القرآن؛ وإن كنّا لا نفقه بعض الحقائق التفسيرية.

إنّ ما استعرضناه من تحليل يحلّ مشكلة النوع الثالث من هذه المعارف. وبناء على ذلك، فإنّ النوع الثالث من معارف الأئمّة (علیهم السلام) ليس« تشريعاً جديداً» لكي يتعارض مع الخاتمية»؛ بل قد بلغ النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) حقيقة الدين للأمة، والإمام هو من يقوم بهذا المرحلة من الأطروحة الإلهيّة بصفته «القائد» و «القائم على الأمر» ؛ وليس بصفته «الهادي للأمة». فالإمامة - إذن - لا تتناقض مع الخاتميّة، بل هي تبيان وتكميل لها. وختم النبوّة يعني ختام أطروحة الشريعة التي لم يبلّغ بعضها للناس، ولمّا ينفّذ بعد، وسوف يقوم الإمام المعصوم بإبلاغ هذا البعض، وتنفيذه.

ومما تقدّم يتبيّن أنّ المرجعيّة الدينيّة للإمام إثباتيّة؛ وليست ثبوتيّة، أنّ مرجعيّة النبيّ الدينيّة ثبوتيّة؛ لأنّ الوحي التشريعي يُلقى إلى النبيّ؛ وليس إلى الإمام. وكون مرجعيّة الإمام إثباتيّة يعني أنّ المعارف الدينيّة موجودة لدى الإمام، والإمام يبينها عندما تقتضي الظروف ذلك. وبناءً على ما تقدّم: فإنّ هناك اختلافاً بين مضمون الولاية

ص: 28


1- سورة البقرة: 275 .

التشريعيّة عند النبيّ وعند الإمام أمّا مضمون الولاية التشريعيّة النبويّة فهو من عند الله جَلَّ وَعَلا مباشرةً ، وأمّا المحتوى التشريعي عند الإمام فهو قادم من قبل النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ؛ على الرغم من أنّ أصل الولاية التشريعيّة للإمام ثابتة من قبل الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى. من هنا ، تكون الولاية التشريعيّة للنبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في مقام الثبوت والولاية التشريعيّة للإمام في مقام الإثبات. وعليه فإنّ ما قاله الإمام الباقر (علیه السلام) هو ما قاله النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، وعندما يُقال: «قال الباقر (علیه السلام) »، فهذا يعني وجود عبارات مقدّرة في المقام؛ فكأنّ الإمام يروي: «عن أبي عن جدّي، عن... أمير المؤمنين (علیهم السلام): قال رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) كذا وكذا ».

وقد روى الكلينيّ (329ه) في «الكافي» عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنّه قال: «مَا مِنْ شَيْءٍ إِلَّا وفِيه كِتَابٌ أَوْ سُنَّة » (1).

وهذا يعني أنّ سنّة النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) - بأجمعها - موجودة لدى الإمام المعصوم (علیه السلام) ، وأنّ الإمام يبيّنها حسب ما تقتضيه الظروف.

18 /5 /3.السؤال الثالث :

قيل في الفرق بين النبيّ والإمام أنّ النبيّ يتلقى الوحي من الله عَزَّ وَجَلَّ من دون واسطة بشريّة، لكنّ الإمام يتلقّى الحقائق الدينيّة بواسطة النبيّ؛ فكيف يمكن الجمع بين هذا القول وبين الروايات التي أوردت نزول الملائكة على الأئمة (علیهم السلام)، بل ونزول ملك أعظم من جبرئيل على فاطمة الزهراء (علیها السلام) لبيان بعض الحقائق؟

الجواب: وجه الجمع بينهما أنّ الذي أوحي إلى النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) إنّما هو حقيقة دينيّة تنزّلت عليه، فأودع النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) تلك الحقائق إلى أمير المؤمنين عليّ (علیه السلام) ليبلّغها للناس حسب ما تقتضيه الظروف. وهذا يعني أنّ مرجعيّة الإمام الدينيّة مرجعيّة وولاية تشريعيّة

ص: 29


1- وسند الرواية: عن «عليّ ، عن محمّد بن عيسى، عن يونس، عن حماد، عن أبي عبدالله (علیه السلام)». وهذه الرواية مع مثيلاتها مذكورة في باب عقده الكلينيّ بعنوان: «باب الرّدّ إلى الكتاب والسنة وأنّه ليس شيء من الحلال والحرام وجميع ما يحتاج النّاس إليه إلّا وقد جاء فيه كتاب أو سنّة». الكافي، الكلينيّ، ج1، ص59. [م].

إثباتيّة وليست ثبوتيّة. وقد كان الأئمّة (علیهم السلام) يعملون على وفق هذه الحقائق الدينيّة، ويرتقون درجات القرب الإلهيّ من خلال العمل بذلك؛ فإنّ تقوى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى توصل الإنسان إلى مقام «الفرقان».

قال عَزَّ مِن قَائِل « إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا» (1)

لقد كان الأئمّة (علیهم السلام) يبلغون في سيرهم وسلوكم نحو الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى إلى مقام يؤهّلهم ليكونوا معه مهبطاً للملائكة، فيتواصلون مع جبرئيل (علیه السلام)، أو مع من هو أعظم منه ، غير أنّ السماء لم تشأ أن تُنزّل على الإنسان وحياً جديداً، أو أطروحة إلهيّة جديدةً تتخلّل هذا التواصل، بل كان تلقّي المعصومين منحصراً بالحقائق غير الدينيّة، وحسب.

وبناءً على ما تقدّم ، ينبغي الجمع بين مطالب عدّة؛ هي :

أوّلاً: ختم النبوّة.

ثانياً: كمال الدين.

ثالثاً: الإمامة حسب الرؤية الشيعيّة الإثني عشريّة؛ وهي تعني : امتلاك الولاية التكوينيّة والتشريعيّة والقياديّة، علاوةً على التواصل مع الملائكة .

وعدم الجمع بين هذه النقاط قد أدّى ببعض الكتاب إلى استنتاج خاطئ مفاده: أنّ هذه من عقائد غلاة الشيعة! مشكلتهم في هذا البحث أنّهم يضعون الأئمة من أهل البيت (علیهم السلام) في مصاف المجتهدين؛ لأنّهم وجدوا أنفسهم محاصرين بين فرضيتين: إمّا أن يذهبوا إلى نبوّة هؤلاء الأئمة (علیهم السلام)؛ وهو أمر لا يتلاءم مع «ختم النبوّة»، وإمّا أن ينتهوا إلى أنّهم مجتهدون، لا يمتنع صدور الخطأ منهم ، و المجتهد المعصوم مفهوم متناقض .

ص: 30


1- سورة الأنفال:29.

هذا، وقد تبين - فيما مضى من أبحاث - أنّ الإمامة لا تضاهي مقام النبوّة، ولا تساوي الاجتهاد، بل هي حقيقة مستقلّة، يتلقّى معها الإمام الحقائق الدينيّة مباشرة بالعلم اللدنّيّ القادم من النبيّ، ويتمكّن معها الإمام من التواصل مع الملائكة لتلقّي أمور غير دينيّة.

***

ص: 31

19.شرعيّة الإمامة

19 /1 .تقرير عبد الجبار المعتزليّ:

يقول القاضي عبد الجبّار (415ه) في كتابه «المغني»:

اختلف الناس في ذلك [ أي : فيما يتعلّق بوجوب الإمامة ] على وجوه ثلاثة : فمنهم من لم يوجبها أصلاً؛ وهم الأقلّ. ومنهم من أوجبها عقلاً. ومنهم من أوجبها سمعاً(1).

وعلى ضوء ذلك يمكن القول بأنّ الشرعيّة الفلسفيّة والكلاميّة للإمامة تنقسم إلى نظريّتين رئيستين: الأولى : نظريّة عدم وجوب الإمامة؛ وهذا يعني: أنّ الإمامة لا تمتلك شرعيّة فلسفيّة كلاميّة. والثانية: نظريّة وجوب الإمامة؛ بمعنى أنّ للإمامة شرعيّة فلسفيّة كلاميّة. وحول وجوب الإمامة وضرورتها هنالك ثلاثة مدّعيات:

أولاً : الوجوب العقلي (الشرعيّة الفلسفيّة).

ثانياً: الوجوب النقليّ السمعيّ.

ثالثاً: الوجوب العقليّ السمعيّ (الشرعيّة الكلامية).

وبعبارة أخرى، السؤال الذي نواجهه في الإمامة هو: هل الإمامة واجبة أم لا؟

يقول القاضي عبدالجبار في بحث الإمامة:

وقد اعتمدا وغيرهما على ما ثبت من إجماع الصحابة ... وممّا يبيّن صحّة الإجماع في

ص: 32


1- المغني في أبواب التوحيد والعدل ، القاضي عبدالجبار، ج20، ص 16.

ذلك أنّ كلّ من خالف فيه لا يُعدّ في الإجماع؛ لأنّه إنّما خالف في ذلك بعض الخوارج، وقد ثبت أنّهم لا يُعدّون في الإجماع. وأمّا ضرار فأبعدُ من أن يُعدّ في الإجماع. وأمّا الأصمّ فقد سبقه الإجماع؛ وإن كان شيخنا أبو عليّ حكى عنه ما يدلّ على أنّه غير مخالف في ذلك، وأنّه إنّما قال: لو أنصف الناس بعضهم بعضاً، وزال التظالم، وما يوجب إقامة الحدّ، لاستغنى الناس عن إمام(1).

وحسب هذا النصّ فإنّ القائلين بعدم الوجوب (إنكار الشرعيّة الفلسفيّة للإمامة) هم الخوارج، وشخص من المعتزلة هو أبو بكر الأصمّ (279ه) . لكنّه يستدرك قائلاً بأنّه سمع من أستاذه أبي علي الجبائيّ (303ه) تفسيراً مغايراً لنظرية الأصمّ؛ فهو لم یكن ينكر الإمامة، بل أراد القول بأنّ الناس لو عاشوا بالعدل والإنصاف، ولم يظلموا أنفسهم، لاستغنوا عن وجود الإمام.

وعليه، فإنّ مدّعاه في قضيّة إنكار وجوب الإمام مأخوذ على نحو القضيّة الشرطيّة. وصدق القضية الشرطيّة متوقف على صدق التلازم بين المقدم والتالي، أو قل: صدق التلازم بين الشرط والجزاء، وليس مرتهناً بصدق المقدّم والتالي نفسيهما. وطالما أنّ المقدّم - وبتبعه التالي - في هذه القضية الشرطيّة لا يتحقّق خارجياًّ، فلنا أن ندعي بأنّ هذه النظرية لا تستلزم إنكار وجوب الإمام في عالم الواقع، ولا تدلّ على استغناء الناس عن الإمام. ومن هنا، فإنّ القاضي عبد الجبار يستثني أبابكر الأصمّ عن الخوارج؛ لأنّه من المعتزلة، فيبقى الخوارج - في نهاية المطاف - الطائفة المسلمة الوحيدة التي تؤمن بنظريّة عدم وجوب الإمامة(2).

19/ 2.تقرير العلّامة الحلّي:

يقول العلّامة الحلّي (726ه) في موضوع وجوب الإمامة أو عدم الوجوب شارحاً كلام المحقّق الطوسيّ (672ه) :

ص: 33


1- المغني في أبواب التوحيد والعدل ،القاضي عبد الجبار، ج20، ص 27- 28.
2- المصدر السابق، ص 27- 28.

اختلف الناس هنا؛ فذهب الأصمّ من المعتزلة وجماعة من الخوارج إلى نفي وجوب نصب الإمام، وذهب الباقون [أي باقي المسلمين] إلى الوجوب [أي: إلى ضرورة الإمام]، لكن اختلفوا فالجبائيّان وأصحاب الحديث، والأشعريّة قالوا: إنّه واجب سمعاً؛ لا عقلاً. وقال أبو الحسين البصري، والبغداديّون [من المعتزلة] والإماميّة : إنّه واجب عقلاً. ثمّ اختلفوا [على أنّ نصب الإمام واجب على الله تعالى، أم على الناس؟ في نظريّتين]؛ فقالت الإماميّة : إنّ نصبه واجب على الله تعالى. وقال أبوالحسين والبغداديّون: إنّه واجب على العقلاء(1).

19/ 3.وجوب الإمامة على الله أو على الأمّة:

أحد الأسئلة المهمّة التي يجب أن تُعالج في هذه البحوث هي: هل إنّ الإمامة واجبة على الناس؟ أم أنّ وجوبها متوجّه لله جَلَّ وَعَلا ؟

يصنّف القاضي عبدالجبار (415ه) القائلين بوجوب الإمامة إلى فريقين؛ فأهل السنّة يرون وجوبها على الأمّة؛ بمعنى أنّ نصب الإمام أمر واجب على النّاس، بينما ترى الإماميّة أنّ الوجوب متوجّه لله تَبَارَكَ وَتَعَالى؛ أي إنّ نصب الإمام واجب على الله عَزَّ وَجَلَّ.

ومن أهمّ الأسباب التي أدّت إلى بروز هذين الاتجاهين أنّ الشروط اللازمة في الإمامة لو كانت تدور حول صفات حدّها: «الاجتهاد»، و«امتلاك الرأي»، و«التحلّي بالشجاعة»، و«العدالة»، و«العقل»، و«البلوغ»، وما إلى ذلك مما ورد في كتب العامّة - مثل: «شرح المواقف»(2)، و «شرح الأصول الخمسة »(3)- فمن الطبيعيّ أنّ الأمّة ستكون قادرة على تشخيص مصاديق الإمامة واختيار الإمام، أما لو ذهبنا إلى

ص: 34


1- كشف المراد، ص362. يُراجع أيضاً: محصّل أفكار المحصّلين، الرازيّ، ص 183؛ كتاب الأربعين، ص426 و 427؛ البراهين في علم الكلام، ج2، ص199؛ إبكار الأفكار، ج 3، ص 416 و417؛ كشف الفوائد، ص297.
2- شرح المواقف، ج8، ص 349.
3- کشف المراد، ص 751.

اشتراط «العصمة» و«الأعلميّة » و «الأفضليّة» في الإمامة، فلا ريب بضرورة الرجوع إلى النصّ الإلهيّ. وكما يعبّر المحقّق الطوسيّ (672ه) فإنّ «العصمة تقتضي النصّ»(1). بمعنى أنّ اشتراط العصمة يستلزم وجود النصّ الإلهيّ، وتشريع الشارع المقدّس(2).

وعلماء الإماميّة مجمعون على نظرية الوجوب على الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى؛ لأنّ نصب الإمام فعل إلهيّ، وكون القضيّة كلاميّة، وأنّها من فعل الله يتلازم مع الوجوب على الله جَلَّ وَعَلا؛ مثل أصل التكليف؛ فإنّه يجب على الله تَبَارَكَ وَتَعَالى من حيث أنّه فعل إلهيّ.

وبطبيعة الحال، فإنّ المقصود من الوجوب على الله ليس فرض تكليف على الله عَزّ وَجَلَّ، بل المراد أنّ الوجوب الإلهيّ يُستكشف من خلال الضرورة العقليّة أو النقليّة، مثله في ذلك مثل قاعدة ضرورة العليّة التي مفادها : إذا تحقّقت العلّة التامّة فالمعلول يتحقّق بالضرورة العقليّة، والوجوب - في الحقيقة - يعني هنا : الضرورة الفلسفيّة.

قال العلّامة الحلّي (726ه) في «كشف المراد»:

قال أبو الحسين البصري، والبغداديّون [من المعتزلة]، والإماميّة: إنّه واجب عقلاً، ثمّ اختلفوا؛ فقالت الإماميّة : إنّ نصبه واجب على الله تعالى. وقال أبوالحسين والبغداديّون: إنّه واجب على العقلاء(3).

فعلى الرغم من أنّ المعتزلة أذعنوا بالوجوب العقليّ، إلّا أنّهم ذهبوا إلى وجوب النصب على الناس؛ لا على الله . أمّا الإماميّة فقد رأوا أنّ الوجوب متوجّه إلى الله جَلَّ وَعَلا.

وحسب تقرير المحقّق الطوسيّ في «تلخيص المحصّل» فإنّ الإسماعيليّة - وهي فرقة تُصنّف في ضمن الفرق الشيعيّة - تنكر الوجوب على الله جَلَّ وَعَلا (4).

ص: 35


1- كشف المراد، العلّامة الحلي، ص495.
2- وذلك لأنّ العصمة إنّما تعرف بإخبار الله جلّ وعلا الذي يعلم السّرّ وأخفى، ويعلم حقائق الناس، ولا سبيل إلى ذلك من دون وجود نصّ إلهيّ قرآني أو بيانيّ يحدّثنا به الرسول الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) . [م]
3- کشف المراد، ص 362.
4- تلخيص المحصّل (المعروف بنقد المحصّل)، المحقّق الطوسيّ، ص407.

قال في «قواعد العقائد» أمّا القائلون بوجوبه من الله [تعالى] فهم الغلاة والإسماعيليّة، وأمّا القائلون بوجوبه على الله [ تعالى ] فهم الشيعة (1).

وبناءً على ذلك، يمكن استنتاج أنّ الإماميّة تعتقد بالوجوب الإلهيّ للإمامة.

هذا، ومن الممكن إثبات الشرعيّة الفلسفيّة والكلاميّة للإمامة بالأدلّة العقليّة المحضة، والأدلّة النقليّة المحضة، والأدلّة العقليّة النقليّة :

أمّا الأدلّة النقليّة فهي الآيات والأحاديث الشريفة المروية عن الرسول الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، وهي تستلزم وجود الإمام في المجتمع الإسلامي وتحقّقه.

وأمّا الأدلّة العقليّة فهي المقدّمات التي تنتهي إمّا إلى نتائج عقليّة أو إلى فوائد عقلانيّة؛ فالمرابطة على حدود المجتمع ، وتجهيز القوات الدفاعية، وتنفيذ الإجراءات الاقتصاديّة، وقمع المشاغبين، وإقامة صلوات الأعياد والجمعات، وفصل الخصومات، وتقسيم الغنائم، وحفظ النظام الاجتماعيّ الإسلاميّ، واستقرار العدل، وما إلى ذلك، من شأنه أي يُعدّ من أدلّة وجوب الإمامة.

وفي ما يأتي إلماحة إلى بعض الأدلّة النقليّة والعقليّة لشرعيّة الإمامة فلسفياًّ وكلاميّاً :

19 /4.استدلال أهل الحديث :

استدلّ أحمد بن حنبل (241ه) - وهو إمام الحنابلة والظاهريّين، ومن أبرز ناقدي المنهج العقليّ - بدليل عقليّ أراد منه إثبات وجوب الإمامة نقليّاً؛ فقال: الفتنة إذا لم يكن إمام يقوم بأمر الناس(2).

أراد بذلك أنّ الناس إن لم يكن لهم إمام يدير شؤونهم، فستحلّ الفتنة في مجتمعهم. ومن هنا، فإنّ وجود الإمام ضروريّ لاجتناب وقوع الفتن.

ص: 36


1- قواعد العقائد في خاتمة تلخيص المحصّل ص 458 .
2- الأحكام السلطانيّة، أبو يعلى الفرّاء، ص 23 .

19 /5.استدلال المعتزلة :

أقام الجاحظ (255 ه) - وهو من متكلّمي المعتزلة في القرن الثاني - في «الرسالة الكلاميّة »بعض الأدلّة على الوجوب العقليّ للإمامة. قال في بيان أحدها:

لمّا أن كان لا بدّ للعباد من أن يكونوا مأمورين منهيين بين عدوّ عاص ومطيع وليّ، علمنا أنّ الناس لا يستطيعون مدافعة طبائعهم ومخالفة أهوائهم إلّا بالزجر الشديد والتوعّد بالعقاب الأليم... وإذا كانت عقول الناس لا تبلغ جميع مصالحهم في دنياهم فهم عن مصالح دينهم أعجز ؛ إذ كان علم الدين مستنبطاً من علم الدنيا، وإذا كان العلم مباشرةً، أو سبباً بالمباشرة، وعلم الدين غامض لا يتخلّص إلى معرفته إلّا بالطبيعة الفائقة والعناية الشديدة مع تلقين الأئمّة(1).

أراد بذلك أنّ المجتمع الإنساني عاجز عن تحديد الصديق والعدوّ الحقيقيين، كما أنّه عاجز عن التفريق بين طاعة الله وطاعة الشيطان، وبين العمل بالدين وتركه وليس هناك شيء يمكن له ضبط الناس وتوجيههم نحو الصلاح والفلاح غير الأوامر والنواهي الإلهيّة (المبنيّة وفقاً للمصالح والمفاسد الحقيقيّة للناس)، وغير العقاب الإلهيّ الأليم، فلا بدّ من الأمر والنهي من قبل الإمام. ومن ثَمَّ: فإنّ العقل يحكم بأنّ الإمام هو من يحقّق ضبط المجتمع، وهو الضمان لتحقّق القوانين الجنائيّة؛ ليستبين الصديق من العدوّ. وهذا الدليل إنّما يثبت «الإمامة» بمعنى: «الولاية السياسيّة والاجتماعيّة».

أمّا الدليل الثاني الذي أقامه الجاحظ إثباتاً للإمامة، فقد قال فيه:

ولأنّ الناس لو كانوا يبلغون بأنفسهم غاية مصالحهم في دينهم ودنياهم لكان إرسال الرسل قليل النفع، يسير الفضل. وإذا كان الناس... لا يبلغون بأنفسهم

ص: 37


1- رسائل الجاحظ، ص184-185.

معرفة ذلك وإصلاحه... فهم عن التعديل والتجوير وتفصيل التأويل والكلام في مجيءالأخبار وأصول الأديان أعجز ، وأجدر أن لا يبلغوا منه الغاية، ولا ينالوا منه الحاجة (1).

أراد بذلك أنّ عقول الناس ليست فقط عاجزة عن فهم المصالح الدنيويّة، بل هي عاجزة بنحو أكبر في معرفة المصالح الأخرويّة . و نستنتج من ذلك أنّهم محتاجون لأئمّة يعرفونهم بجميع المصالح الدنيويّة والأخرويّة.

والأمر المهمّ الذي غاب عن الجاحظ هو أنّ دليله هذا، يثبت الإمامة بمعناها الذي يتبنّاه مذهب أهل البيت (علیهم السلام) أي: الإمامة المتّصفة بالولاية التكوينيّة والتشريعيّة والاجتماعيّة والعصمة؛ لأنّ وجود الإمام العالم بمصالح الدنيا والآخرة يستلزم امتلاكه المرجعيّة الدينيّة، والولاية التشريعيّة، علاوةً على ما له من المرجعيّة السياسيّة. وهذا لا يتناسب مع الإمامة التي ذهبت إليها فرق أهل السنّة.

19 /6.أدلّة الأشاعرة:

إشارة:

تمسّك المتكلّمون الأشاعرة لإثبات ضرورة الإمامة ببعض الأدلّة؛ نأتي على ذكرها فيما يأتي:

19 /6 /1.أوّلاً: دليل مقدّمة الواجب :

ذكر الفخر الرازيّ (606ه) في بعض كتبه عند الحديث عن ضرورة الإمام أنّ نصب الإمام مقدّمة للواجبات المطلقة (صغرى القياس)، وطالما أنّ مقدّمات الواجبات المطلقة واجبة (كبرى القياس )، فنصب الإمام واجب إذن.

وقد بيّن المقدمة الأولى: بأنّ الشارع المقدس أمر بتنفيذ الحدود، وتجهيز الجيش، والمرابطة على حدود البلاد الإسلاميّة، وحفظ الكيان الإسلاميّ، وهذه الأمور -

ص: 38


1- رسائل الجاحظ، ص184-185.

التي تُعدّ من الواجبات المطلقة - لا يمكن تنفيذها من دون إمام؛ فنصب الإمام إذن مقدّمة للواجبات المطلقة. وذهب إلى أنّ المقدّمة الثانية التي تنصّ على «وجوب توفير مقدمات الواجبات المطلقة حالة الإمكان» ثابتة في علم أصول الفقه؛ فيكون نصب الإمام واجباً شرعيّاً(1).

لكنّ هذا البرهان لا يتطابق مع المبادئ التي آمن بها الأشاعرة؛ لأنّ وجوب المقدّمة إنّما يثبت بواسطة الملازمة بين الأحكام الشرعيّة والعقليّة؛ وهذا لا ينسجم مع عقيدة من أنكر الحسن و القبح العقليّين(2).

19 /6 /2.ثانياً: دليل ضرورة دفع الضرر:

أورد المتكلّمون الأشاعرة والمعتزلة هذا الدليل بتعابير مختلفة. وفيما يأتي نستعرض تقرير الفخر الرازيّ (606ه) ؛ إذ استدلّ على الوجوب الشرعيّ للإمامة بقوله:

لنا أنّ نصب الإمام يتضمّن دفع الضرر عن النفس، فيكون واجباً. أما الأوّل فلأنّا نعلم أنّ الخلق إذا كان لهم رئيس قاهر يخافون بطشه، ويرجون ثوابه، كان حالهم في الاحتراز عن المفاسد أتمّ مما إذا لم يكن لهم هذا الرئيس. وأمّا أن دفع الضرر عن النفس واجب، فبالإجماع عند من لا يقول بالوجوب العقليّ، وبضرورة العقل عند من يقول به(3).

وترتيبه أن يُقال: نصب الإمام يوجب دفع الضرر عن النفس، ودفع الضرر عن النفس ،واجب، فنصب الإمام واجب(4).

ص: 39


1- أصول الدين ،الفخر الرازيّ، ص143؛ التفسير الكبير (مفاتيح الغيب)، الفخر الرازيّ ، ج 4، ص 356، ج8، ص313 شرح التجريد القوشجيّ، ص365؛ غاية المرام في علم الكلام ص 366 شرح المقاصد، ج 5، ص 236 و 237؛ الصواعق المحرقة في الردّ على أهل البدع والزندقة، الهيثميّ، ص5 .
2- دراسات في الإمامة [بالفارسية : امامت پژوهي]، ص 131و132 .
3- محصّل الأفكار ،الفخر الرازيّ، ص184.
4- یُراجع تلخيص المحصّل، ص407؛ المسائل في أصول الدين ،الفخر الرازيّ، ص 70 و 71 ؛ البراهين ،الفخر الرازيّ، ج 2، ص 199؛ شرح المقاصد، ج 5، ص 237؛ شرح التجريد ،القوشجيّ، ص365و366.

وبعد أن ادّعى أنّ المقدّمة الأولى (نصب الإمام يتضمّن دفع الضرر عن النفس) ضروريّة، أشار في هذا النصّ إلى أنّ المقدّمة الثانية هي موضع وفاق جميع عقلاء العالم؛ سواء عند من آمن بالحسن والقبح في الأشياء، أو عند من أنكر ذلك؛ لأنّ المنكر للحسن و القبح في الأشياء يقول: وجوب دفع الضرر عن النفس ثابت بإجماع الأنبياء والرسل وجميع الأمم والأديان، ومن يقول بالحسن والقبح في الأشياء يقول: إنّ وجوب دفع الضرر عن النفس من البديهيات العقليّة، فيكون وجوب دفع الضرر عن النفس - على كل حال - موضع اتفاق عقلاء العالم، فيثبت أن نصب الإمام واجب.

وقد ناقش المحقّق الطوسيّ (672ه) هذا الاستدلال بقوله :

الدليل الذي جاء به المصنّف على وجوب الإمامة سمعاً: فصغراه عقليّ من باب الحسن والقبح؛ وهو ليس من مذهبه، وكبراه التي أحالها إلى الاجماع أوضح عقلاً من الصغرى(1).

أراد بذلك أنّ المقدّمة الأولى التي جاء بها في القياس مبنيّة على القول بالحسن والقبح العقليّين؛ وهو ما لا يقبل به الرازيّ، أما المقدّمة الثانية فهي أوضح من الأولى عقلاً، ولا حاجة لدعوى الإجماع عليها .

ويجدر الاستفهام هنا بالقول: بعد أن آمن الأشاعرة والفخر الرازيّ بوجوب نصب الإمام شرعاً ونقلاً، فما حاجتهم إلى الأدلّة العقلية؟! ونظراً إلى هذا الإشكال، أشار المحقّق الطوسيّ في النصّ المتقدّم بأنّ صغرى هذا الدليل عقليّة.

من هنا كان الأجدر بهم أن يستشهدوا بقوله تعالى:

« أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ» (2).

ص: 40


1- تلخيص المحصّل ،المحقّق الطوسيّ، ص407.
2- سورة النساء: 59 .

أو بالحديث النبوي الشريف:

«مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَعْرِفْ إِمَامَ زَمَانِهِ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةٌ »(1).

وما شاكل ذلك من أدلّة.

19 /6 /3.ثالثاً: الأدلّة النقليّة :

من الأدلّة النقليّة الدلّة على ضرورة الإمامة الحديث الشريف المذكور أعلاه:

«مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَعْرِفْ إِمَامَ زَمَانِهِ مَاتَ مِينَةٌ جَاهِلِيَّة »(2).

وبيان الحديث: أنّ معرفة الإمام واجبة شرعاً، وطالما أنّ المعرفة فرع الحصول والتعيين، فينبغي القول بأنّ تعيين الإمام واختياره واجب على الناس شرعاً(3).

وقد استدلّ الأشاعرة بمثل ذلك في الآية الكريمة المشار إليها :

« أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ» (4).

فقالوا بأنّ الطاعة فرع المعرفة والمعرفة فرع النصب والتعيين، فبمقتضى الآية الكريمة يجب نصب الإمام وتعيينه على الناس(5).

يقول صدرالدين الشيرازي (1050ه) في «شرح أصول الكافي» ناقداً هذا الدليل:

ص: 41


1- مسند أحمد، ج 3، ص96؛ مسند أبي داوود، ص 259؛ مسند أبي يعلى، ج 13، ص 336؛ كنز العمال ، المتقي الهنديّ ج6، ص 65؛ درر الأحاديث النبويّة بالأسانيد اليحيويّة، يحيى بن الحسين بن القاسم، ص 177؛ مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، الهيثميّ، ج5، ص 225 .
2- المصادر السابقة.
3- لاحظ: المسائل الخمسون، الفخر الرازيّ، ص 71؛ شرح المقاصد، ج 5، ص 239؛ تلخيص المحصّل، المحقّق الطوسيّ، ص 407.
4- سورة النساء: 59 .
5- شرح المقاصد ،التفتازانيّ، ج5، ص239؛ تلخيص المحصّل، المحقّق الطوسيّ، ص407.

أما استدلالهم بقوله تعالى: « أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ» وبقوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : «مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَعْرِفْ إِمَامَ زَمَانِهِ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةٌ»، فذلك لا يدلّ أصلاً على مذهبهم من وجوب نصب الإمام عليهم ، بل يدلّ على وجوب الطاعة له، والمعرفة به، كما دلّ على وجوب طاعة الرسول، وعرفانه؛ لا على وجوب نصبهم إياه(1).

أرى أنّ من الممكن في الآية المباركة - فهم الملازمة العقليّة بين وجوب طاعة الرسول و أولي الأمر من جهة، وضرورة وجود الرسول وأولي الأمر من جهة أخرى، وكذلك الملازمة العقليّة - في الحديث الشريف - بين ضرورة معرفة إمام الزمان من جهة، وضرورة وجوده من جهة أخرى. وهذا يختلف عن عدم ملازمة الوجوب الشرعيّ للحج وضرورة تحصيل الاستطاعة؛ فالاستطاعة في مسألة الحج شرط للوجوب، في حين وجوب الإمام شرط للواجب في مسألة لزوم طاعة الإمام ومعرفته.

19 /6 /4.رابعاً دليل الإجماع وسيرة المتشرّعين :

أهمّ دليل تمسّك به الأشاعرة على ضرورة الإمامة هو ما يُعبّر عنه تارةً ب- «السيرة» أو ب- «الإجماع» تارةً أخرى؛ فبعد رحيل النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) إلى الرفيق الأعلى، زهد الصحابة في أهمّ الواجبات الإلهيّة وقتئذٍ - ألا وهي دفن جثمانه الشريف - وباشروا معالجة قضية خلافته، وقد نادى أبو بكر فيهم:

أيّها الناس! إنّه من كان يعبد الله، فإنّ الله حيّ لا يموت، ومن كان يعبد محمّداً (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فإنّ محمّداً قد مات ... ألا وإنّ محمداً (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قد مضى لسبيله، ولا بدّ لهذا الأمر من قائم يقوم به، فدبّروا وانظروا وهاتوا رأيكم؛ رحمكم الله (2).

فبادر الكلّ إلى قبول قوله، ولم يقل أحد: لا حاجة لنا بالإمام.

ص: 42


1- شرح أصول الكافي، صدر الدين الشيرازيّ، ج2، ص473و474.
2- الفتوح الأعثم ،الكوفي، ج 1، ص 6. [م].

هذا، وإن اختلف القوم في تعيين شخص الخليفة، لكنّهم أيّدوا بأجمعهم ضرورة الخلافة. وقد أمضت الأمّة الإسلاميّة بعد الصحابة عملهم. وإنّ ما يؤيّده الصحابة والأمّة الإسلامية يكون واجباً؛ لما روي عنه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) :

«إنَّ اللهَ لَا يَجمَعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَة »(1).

ولما كان الإجماع من مصادر التشريع، فالإمامة واجبة شرعاً (2).

ويمكن مناقشة هذا الإجماع الذي تمسّك به علماء أهل السنّة بالأدلّة الآتية :

*أوّلاً: أنّ هذا الإجماع - وهو اتفاق جماعة من الصحابة في سقيفة بني ساعدة - قد تحقّق في غياب جمع غفير من كبار الصحابة. ولهذا، فهو لا يتفّق مع أيّ من معاني الإجماع، ولا تجتمع فيه الشروط المعتبرة عند أهل السنة. فالإجماع يحصل حسب مذهبهم في إحدى الحالات الآتية: أوّلاً: أن يُطبق الجميع بالاتفاق، وثانياً: أن يتّفق أهل الحلّ والعقد وثالثاً: أن يتّفق أهل المدينة المنوّرة، ورابعاً: أن يتّفق أغلب علماء المسلمين. وحسب القرائن والشواهد التاريخية المسلّم بها، ما من شك في أنّ الإجماع لم يحصل بأيّ من المعاني المتقدّمة في السقيفة؛ فلم يحضر فيها كبار الصحابة؛ كعليّ (علیه السلام)، والسيّدة الزهراء (علیها السلام) وغيرهما من بني هاشم، ولا سعد بن عبادة، ولا قيس بن سعد، و لا طائفة أخرى من كبار الصحابة؛ مثل: سلمان، وأبي ذر الغفاريّ، ومقداد، وعمّار، وخالد بن سعيد، والحذيفة بن اليمان ،وبريدة وغيرهم ممّن يُعدّون من كبار أهل الحلّ والعقد، ومن أجلّاء علماء المسلمين، وأعلام أهل المدينة. فدعوى الإجماع في

ص: 43


1- أخرجه الترمذي في كتاب الفتن باب ما جاء في لزوم الجماعة، ح: 2168.[م] [
2- الإبانة عن أصول الديانة ،الأشعري ص 77 ؛ المقدّمة ،ابن خلدون، ص191؛ نهاية الإقدام في علم الكلام ،الشهرستاني ص 479 شرح الأصول الخمسة ،القاضي عبد الجبّار، ص510 المغني ،القاضي عبدالجبّار، ج 1، ص 47؛ غاية المرام في علم كلام ،الآمدي، ص364 و365؛ إبكار الأفكار، الآمدي، ج 3، ص 417 ؛شرح تجريد الاعتقاد ،القوشجيّ ص 365؛ شرح المقاصد، ج 5، ص236؛ شرح المواقف، ج8، ص346؛ الاقتصاد في الاعتقاد، الغزاليّ، ص254؛ دراسات في الإمامة [بالفارسيّة : امامت پژوهي]، ص 127 .

هذا المقام ليست فقط بعيدة عن الحقيقة، بل لا تتناسب مع أيّ معنى من معاني الإجماع المقبولة عند أهل السنة(1).

ومن الجدير بالذكر هنا أنّ بعض كبار الأشاعرة مثل الفخر الرازيّ (606ه) تفطّنوا لهذا الإشكال حسب مبادئهم، فلم يعرضوا هذا الدليل في استدلالهم على ضرورة الإمامة ؛ قال في «المحصول»: «الإجماع لا يتمّ مع مخالفة الواحد والاثنين»(2)ثمّ قال ردّاً على مخالفي هذه النظرية: «أنّ المسلمين اعتمدوا في خلافة أبي بكر على الإجماع مع مخالفة سعد وعليّ بن أبي طالب(علیه السلام)»(3). وأجاب: «أنّ الإمامة لا يعتبر في انعقادها حصول الإجماع، بل البيعة كافية»(4). ولهذا لم يتناوله، وأقام دليلًا مختلفاً لإثبات ضرورة الإمامة.

*ثانياً : ينطوي الاستدلال بالإجماع المذكور على مغالطة «أخذ ما ليس بعلّة علّة»؛ لأنّ هذا الإجماع - على فرض تحقّقه - أخصّ من المدّعى؛ فالمدّعى هو أصل الوجوب الشرعيّ في نصب الإمام بشكل عامّ، لكنّ الدليل هو الإجماع الحاصل على إمامة أبي بكر؛ وهذا أحد مصاديق المدّعى، فيكون أخصّ منه(5).

*ثالثاً: الإجماع المشار إليه - على فرض تحقّقه - إنّما يدلّ على الوجوب الشرعيّ لنصب الإمام لو كان مستنداً إلى مستمسك ودليل شرعيّ آخر، بينما لا يوجد أيّ دليل أو مستمسك آخر على ذلك؛ لا من الكتاب ولا من السنّة، ولا من القياس المقبول عند العامّة، حتّى أنّ أهل السنّة أنفسهم لم يدّعوا وجود دليل أو مستمسك شرعيّ على حجية إجماع الصحابة(6).

ص: 44


1- يُراجع :دراسات في الإمامة [ بالفارسية :امامت پژوهي]، ص 138.
2- المحصول ،الفخر الرازيّ، ج4، ص181.
3- المصدر السابق، ج4، ص 183.
4- المصدر نفسه، ج4، ص 185.
5- توضيح المراد (تعليقة على شرح تجريد الاعتقاد )، الحسينيّ الطهرانيّ، ص 679.
6- يراجع :رأسمال الإيمان[ بالفارسية: سرمايه ايمان] ، اللاهيجيّ، ص112؛ أنيس الموحدين، النراقي، ص 135.

غاية الأمر، دعوى بعض المحقّقين منهم بوجود ما يثبت ذلك، بيد أنّه لم يصلنا (1).

19 /7.أدلّة الإمامية:

إشارة

تمسّك علماء الإماميّة بأدلّة عقليّة ونقليّة تثبت ضرورة الإمامة بتفسيرها ومعناها الذي يتبنّاه مذهب أهل البيت (علیهم السلام) ، وسنستعرض أهمّها فيما يأتي على نحو الإجمال:

19 /7 /1.الدليل الأوّل: قاعدة اللطف :

يستند علماء الإماميّة على قاعدة اللطف لإثبات وجوب نصب الإمام على الله عَزَّ وَجَلَّ؛ فهم يرون أنّ نصب الإمام لطف، واللطف واجب عليه سُبحَانَهُ وَتَعَالى، فنستنتج أنّ نصب الإمام واجب على الله(2).

وهنا، ينبغي إلقاء بعض الأضواء على قاعدة اللطف؛ لتوضيح هذا الاستدلال.

قال المتكلّمون في تعريف اللطف الإلهيّ: «اللطف» هو: ما يقرّب المكلّفُ معه من الطاعة، ويبعد عن المعصية، ولا حظّ له في التمكين، ولم يبلغ الإلجاء(3).

وقيل في تعريفه أيضاً: «اللطف »هو: كلّ ما يختار عنده المرء الواجب، ويتجنّبُ القبيح، أو ما يكون عنده أقرب؛ إما إلى اختيار، أو إلى ترك القبيح(4).

توضیح ذلك : أنّ اللطف من الصفات الفعليّة (5) لله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، وهو يتعلّق بالمكلّفين، ويُحدث فيهم حافزاً نحو تحقيق التكليف، أو التقرّب منه. وشرائط وجوب

ص: 45


1- شرح المواقف، ج3، ص 757.
2- رسائل الشريف المرتضى، ج 2، ص 309 و ج 3 ، ص20 الذخيرة ،السيّد المرتضى، ص410؛ تلخيص المحصّل، ص407؛ منهاج اليقين، ص 430 كشف المراد ؛العلّامة الحلّي، ص362؛ قواعد المرام ،البحراني ص 175؛ الياقوت في علم الكلام ،نوبخت ص75؛ اللوامع الإلهيّة، ص 325 و 326 .
3- النكت الاعتقادية، المفيد، ص 31.
4- شرح الأصول الخمسة ،عبد الجبّار المعتزليّ، ص351.
5- تبيّن في مباحث معرفة الله الاختلاف بين تعريف الصفات الفعليّة الإلهيّة والصفات الذاتيّة الإلهيّة.

اللطف هي أوّلاً: عدم توقّف القدرة على أداء التكليف على اللطف؛ لأنّ اللطف فرع التكليف، والتكليف فرع القدرة . وثانياً: عدم إيصال اللطف المكلّف إلى حدود الإلجاء (الإجبار) السالب للإرادة.

والدليل على وجوب اللطف هو الحكمة الإلهيّة؛ لأنّ اللطف تدبير من التدابير الإلهيّة الحكيمة في سبيل تحقيق الغاية من خلق الإنسان (الهداية) ؛ ولذلك قال المحقّق الطوسيّ (672ه) في المقام: «اللطف واجب؛ لتحصيل الغرض به»(1). وهذا يعني أنّ الله عَزَّ وَجَلَّ لو علم بأنّ العبد لن يختار الطاعة - أو التقرّب من الطاعة - من دون تحقّق فعل ما بعينه، وجب عليه القيام بذلك الفعل؛ كيلا يستلزم نقض الغرض.

والقضيّة الأخرى التي ألمح إليها المتكلّمون في هذا الشأن حديثهم عن فاعل اللطف ؛ فهو إمّا الله جَلَّ وَعَلا كما هو الحال في قضيّة إرسال الرسل أو هو المكلّف لنفسه (مثل: التأمّل في معجزات الرسل)، أو هو المكلّف للآخرين (مثل: إبلاغ الأحكام الإلهيّة للناس).

فإذا اتّضح تعريف اللطف وشروطه والدليل على وجوبه، تبيّن حينئذ معنى العبارات التي ساقها العلماء - ومنهم : المحقّق الطوسيّ (672ه) - إذ عدّوا الإمامة مصداقاً من اللطف الإلهيّ. يقول في «تجريد الاعتقاد»: الإمام لطف؛ فيجب نصبه على الله تعالى تحصيلاً للغرض (2).

وقال في بيان كون الإمام لطفاً:

الإمام الذي حدّدناه إذا كان منصوباً ممكناً، يُقرّب المكلّفين إلى القيام بالواجبات، والانتهاء من المقبّحات ويبعدهم عن الإخلال بالواجبات وارتكاب المقبّحات وإذا لم يكن كذلك، كان الأمر بالعكس. وهذا الحكم ممّا قد ظهر لكلّ عاقل بالتجربة، وصار ضرورياً له؛ بحيث لا يمكنه أن يدفعه. وكلّ ما يقرّب المكلّفين إلى الطاعات،

ص: 46


1- كشف المراد ،العلّامة الحلّي، ص351.
2- تجريد الاعتقاد، المحقّق الطوسيّ، ص362.

ويبعّدهم عن المعاصي، فقد يُسمّى لطفاً اصطلاحاً(1).

ويتبيّن كون الإمامة لطفاً بمقدّمات؛ هي:

أوّلاً: تعبيد الطريق للناس نحو طاعة الحقّ، والحدّ من دواعي الضلالة بواسطة حضور الإمام.

ثانياً : إبعاد الناس عن الفساد، وتقريبهم إلى الصلاح.

ثالثاً : إرادة الله تَبَارَكَ وَتَعَالى وغرضه الذي تعلّق بطاعة العباد لأوامره، وبتركهم لنواهيه وتوقّف تحقّق هذا الغرض على نصب الإمام(2).

فإذا نصب الله عَزَّ وَجَلَّ حاكماً جديراً، تحقّق الغرض واللطف الإلهيّان؛ بمعنى تحقّق العبادة، والطاعة، واجتناب المعاصي، وترك مثل هذا اللطف، مخلّ بهذا الغرض (3).

ومن القضايا المهمّة اكتشاف مصاديق اللطف في الإمامة؛ فإنّ منصب الإمام يتولّى مسؤوليّتين:

*المسؤولية الأولى: أن يعرض الإمام على الناس ما أخذه عن النبيّ من بيان جديد للقرآن الكريم والسنّة النبويّة، وضرورة الإمامة في مثل هذه الشؤون تكون من باب الحكمة الإلهيّة؛ وليس من باب اللطف فمن خلال معرفة القضايا الدينيّة الجديدة يتعرّف الناس على تكاليفهم الدينيّة، وتحصل لهم القدرة على الامتثال. أمّا لو لم يرسل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى الإمام لبيان القضايا الدينيّة الجديدة، فلن يحصل للناس علم بالدين ولن يسلكوا سبل الهداية. ومن هنا اقتضت الحكمة الإلهيّة وجوب الإمامة.

ص: 47


1- رسائل المحقّق الطوسيّ، ص 426.
2- لاحظ :رسائل المحقّق الطوسيّ، ص 426 الفصول، الطوسيّ، ص38؛ كشف المراد، الحلي، ص 2و 3 أنوار الملكوت في شرح الياقوت ،العلّامة الحلّي، ص403 كشف الفوائد ،العلّامة الحلّي، ص298؛ الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد، الشيخ الطوسيّ، ص183؛ إرشاد الطالبين، الفاضل المقداد، ص 326 و 327؛ كفاية الموحدين، الطبرسيّ، ج 2، ص 2و3.
3- دلائل الصدق، المظفر، ج 2، ص 41.

*المسؤوليّة الثانية: أن يذكّر الإمام بالتكاليف العقليّة أو الشرعيّة التي يعرفها الناس؛ لإيجاد الحافز فيهم على تحقّق التكليف أو التقرّب من التكليف. وضرورة الإمامة في هذه المقام من باب اللطف الإلهيّ . ولذلك ذهب السيّد المرتضى (436ه) إلى وجوب كون الإمامة لطفاً بالنسبة إلى التكاليف العقليّة، وذهب ابن ميثم البحراني (679ه) إلى وجوب كونها لطفاً بالنسبة إلى التكاليف الشرعيّة (1). أمّا الشيخ الطوسيّ (460ه) فقد عدّ وجود إمام لهداية الناس بعد رحيل الرسول لطفاً (2).

وقد ناقش الأشاعرة والمعتزلة الاستدلال بقاعدة اللطف من جهات مختلفة؛ أمّا الأشاعرة فقد أنكروا القاعدة من الأساس لابتنائها على الحسن والقبح العقليّين، وأما المعتزلة فعلى الرغم من قبولهم بها، لكنّهم ذهبوا إلى أنّ كون الإمامة لطفاً، ووجوبها على الله جَلَّ وَعَلا أمر مشكل(3).

وأبرز المناقشات الكبرويّة التي أوردها الأشاعرة على قاعدة اللطف تساؤلهم عن حدود اللطف الإلهيّ؛ إلى أين يكون؟ فلو كان اللطف واجباً على الله، لوجب عليه فعل كلّما وجد الحافز عند المكلّف، والحال أنّه ليس كذلك.

والجواب : أنّ كلّ ما كان مصداقاً للطف الإلهيّ فإنّ الله يفعله بالضرورة العقليّة، فإذا لم يصنع فعلاً، عُلم من ذلك أنّه ليس مصداقاً للطف، وعدم اتّصاف بعض الأفعال باللطف عائد إلى أنّها تسلب الإنسان اختياره، أو أنّها من الأفعال التي توجد القدرة، أو لأنّ المكلّف لم يقم بواجبه تجاه الألطاف الإلهيّة السابقة، وقد تمّت الحجّة عليه، فصدور سائر الأفعال الإلهيّة يجعلها من اللغو الذي لا جدوى منه، وهذا ما يتنافى مع الحكمة. فإذا حاز فعل ما على جميع شرائط اللطف، وجب صدوره عن الله تَبَارَكَ وَتَعَالى.

ص: 48


1- الذخيرة، ص 409- 410 ؛ قواعد المرام، ص175.
2- فصول العقائد ،الشيخ الطوسيّ، ص 36؛ تمهيد الأصول، ص 446.
3- دراسات في الإمامة [بالفارسية : امامت پژوهي]، ص 139.

ولمّا كان الله عَزَّ وَجَلَّ عالماً بجميع الأمور علماً أزليّاً، وله الحكمة البالغة، والقدرة المطلقة عليها، فهذا يعني أنّ عدم تحقّق بعض الأفعال التي قد نخالها لطفاً لا يمثّل إلّا نقصاً معرفيّاً أصابنا، ومنعنا من الوقوف على أنّها ليست بلطف .

وقد ناقش بعض المتكلّمين من المعتزلة القائلين بقاعدة اللطف بمناقشات صغروية حاولت إخراج الإمامة من دائرة اللطف لكنّ المتكلّمين من الإماميّة فنّدوها وردّوا عليها(1)؛ من أهمّ هذه المناقشات ما يأتي:

*المناقشة الأولى: أنّ المصالح المترتّبة على الإمامة مصالح دنيوية (مثل: الأمن والعدالة)، في حين أنّ قاعدة اللطف لا تتعلّق إلّا بالمصالح الدينيّة؛ أي: بطاعة الله، و اجتناب معصيته.

والجواب: أنّ العدالة بمعناها الأتمّ هي من أبرز المصالح الدنيويّة والأخرويّة التي لا يمكن تحقيقها من دون وجود الإمام المعصوم.

*المناقشة الثانية: ليست الإمامة لطفاً بالنسبة إلى جميع أفراد البشر؛ فبعضهم ينقلب على الإمام، ويشقّ عصا الطاعة الإلهيّة؛ فحين تفضي الإمامة إلى تقرّب الناس من الله تكون لطفاً في حق المكلّفين؛ والحال أنّ المكلّفين يعملون بتكاليفهم خوفاً من الإمام، ورهبةً منه.

والجواب: أوّلاً : أنّ هذه المناقشة إذا كانت واردةً، فهي ترد أيضاً على كون النبوّة لطفاً؛ فإذا لم يتسبّب كون الإمامة لطفاً بتقرّب بعض الناس من الله، أو كان ذلك منطلقاً للطغيان عند بعضهم، فإنّ هذا لا يختصّ بالإمامة، بل يعرض أيضاً على كون النبوّة لطفاً. وثانياً: أنّ النبوّة والإمامة تمهّدان لهداية الجنس البشري؛ وإن خالف بعضهم جهلاً أو عناداً . وثالثاً : أنّ عمل المكلّفين خوفاً من الإمام أو رهبةً منه لا ينافي

ص: 49


1- المغني، عبد الجبار المعتزليّ، ج 1، ص 30 فما بعدها؛ الشافي في الإمامة ،السيّد المرتضى؛ الإمامة في الرؤية الإسلامية [بالفارسية امامت در بینش اسلامي]، الربانيّ الگلپايگانيّ.

إيمانهم بالآخرة، ولا ضير من عدّ هذا من سنخ« تحقّق الداعي على الداعي»؛ بمعنى أنّ مخافة الإمام تكون محفزاً على محفّز آخر؛ هو الإيمان بالآخرة.

*المناقشة الثالثة : إذا كانت الإمامة لطفاً، لزم التسلسل؛ لأنّ الألطاف لو كانت عامّة لشملت الإمام نفسه، ولاحتاج كل إمام إلى إمام آخر، ولاستمرّت الحاجة إلى ما لا نهاية.

والجواب : أوّلاً: أنّ هذه المناقشة إذا كانت واردةً، فهي ترد أيضاً على كون النبوّة لطفاً في حين أنّ المعتزلة لا يوجّهون هذه المناقشة إلى النبوّة

وثانياً: أنّ وجوب اللطف على الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى لا يتبلور إلّا بعد أن يحتاج المكلّفون إلى حافز إضافيّ، والنبيّ أو الإمام المعصوم غنيّان عن أي حافز إضافيّ.

*المناقشة الرابعة : لو افترضنا أنّ وجود الإمام لطف، فلم لا نذهب إلى وجوب هذا اللطف على الناس؟

والجواب: أنّ الغاية من تعيين الإمام المعصوم تقريب الناس إلى الطاعة، وتجنيبهم الوقوع في المعصية؛ وهذا لا يتأتى إلّا عن طريق الله عَزَّ وَجَلَّ.

*المناقشة الخامسة : لو افترضنا أنّ اللطف واجب على الله جَلَّ وَعَلا، فهذا يعني ضرورة أن يعيش الإمام حالة الحضور والظهور على الدوام؛ لكنّ الإماميّة لا تؤمن بوجوب ما عدّته لطفاً، وما آمنت بوجوبه لا يصلح أن يكون لطفاً.

والجواب: كما ردّ المحقّق الطوسيّ (672ه) على ذلك بأنّ: «وجوده لطف؛ وتصرّفه لطف آخر، وعدمه مِنّا» (1) ؛ أي: إنّ أصل وجود الإمام لطف من الله تَبَارَكَ وَتَعَالى، وتصرّف الإمام لطف آخر يقوم به الإمام نفسه، وحضوره لطف ثالث يجب أن يتحقّق من خلالنا، ولم تحصل غيبة الإمام إلّا بسببنا، وبسبب المعاصي التي

ص: 50


1- تجريد الاعتقاد ،ص 221 ؛كشف المراد، ص362.

جنتها يد الإنسان. وقد ألمح العلّامة الحلّي (726ه) في شرحه لهذه العبارة بأنّ لطف الإمامة إنّما يتمّ بأمور ثلاثة أوّلها بخلق الإمام، وتمكينه بالقدرة، والعلم، والنصّ عليه باسمه ونسبه. وثانيها : بتحمّل الإمامة، وقبولها . وثالثها : بمساعدة الإمام، والنصرة له، والانقياد إلى أوامره ونواهيه. أمّا الأمر الأوّل فهو واجب على الله ؛ وقد تحقّق. وأما الأمر الثاني فهو واجب على الإمام ؛ وقد قام به. وأما الثالث فوجوبه متوجّه إلى الرعيّة؛ لكنّهم قصّروا فيه، ولم يتحقّق؛ فلم يكن عدم تمكن الإمام من الإمامة، والتصرف في الأمور من جانب الله عَزَّ وَجَلَّ، ولا من قِبل الإمام، بل كان لتقصير الرعيّة(1).

وقد أشار المحقّق الطوسيّ (672ه) في« الفصول النصيريّة »إلى أنّ سبب حرمان الخلق عن إمام العصر ليس هو الله تَبَارَكَ وَتَعَالى؛ فهو لا يخالف مقتضى الحكمة، ولا هو الإمام؛ لأنّه معصوم، فيكون السبب هو الرعيّة(2).

وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ غيبة الإمام لا تعني حرمان الناس من جميع كمالاته؛ فالإماميّة لا تذهب إلى انتفاء القدرة التكوينيّة أو التشريعيّة للإمام الغائب؛ لأنّ الإمام المعصوم المستتر ظاهراً عن الأنظار ، مصدر لآثار وبركات كثيرة، ويجري لطفه وفيضه للناس كالشمس؛ فقد روي عن أمير المؤمنين علىّ (علیه السلام) أنّه قال:

«لَا تَخلُو الْأَرْضُ مِنْ قَائِم لله بِحُجَّةٍ؛ إِمَّا ظَاهِراً مَشْهُوراً، وَإِمَّا خَائِفاً مَغْمُوراً»(3).

19 /7 /2.الدليل الثاني: ضرورة البيان المعصوم للشريعة ووجوب صيانتها :

ينتهي بنا التأمل في خاتميّة الإسلام (نبوّة رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) )، وأبديّة القرآن الكريم

ص: 51


1- المغني، ج 1، ص 30؛ الشافي في الإمامة؛ كشف المراد، العلّامة الحلّي، ص363؛ الألفين، العلّامة الحلّي، ص48و49؛ المنقذ من التقليد ،الحمصيّ، ج2، ص254؛ إرشاد الطالبين ،الفاضل المقداد، ص 331 المواقف، ج 3، ص 583 و 584؛ شرح المقاصد، ج5، ص 241 كتاب الأربعين ،الفخر الرازيّ، ص430 شرح الأصول الخمسة، ص 509و510؛ شرح التجريد ،القوشجيّ، ص 366.
2- الأدلّة الجليّة في شرح الفصول النصيريّة، ص165.
3- نهج البلاغة، الحكمة 147؛ الاحتجاج، ج 1، ص 69؛ الأمالي، الطوسيّ، ص20؛ عوالي اللآلي، ج4، ص124؛ الإرشاد، ج 1، ص 121؛ تحف العقول، ص 169.

-من جهة - ثمّ في ضرورة الحفاظ على الشريعة وحاجة الأمّة إلى البيان المعصوم ،والعرض التفصيليّ للشريعة بغية هداية المجتمع - من جهة أخرى - إلى ثبوت ضرورة الإمامة بمعناها المقرّر في مدرسة أهل البيت (علیهم السلام).

وعلى هذا الأساس، لا يجوز عدّ الإسلام خاتماً للدين الإلهيّ، ونعته بالأبديّة والشموليّة لجميع الأعصار والأمصار والنفوس، ثمّ يُكتفى - بعد ذلك - بالنصوص القرآنيّة والنبويّة؛ فهل يتسنّى لهذا الكمّ من النصوص الدينيّة الردّ على جميع الاستفهامات التي يطلقها الإنسان في مسيرته نحو الهداية إلى يوم القيامة؟ وهل سوف يبقى هذا الكمّ من النصوص الدينيّة محفوظاً مصوناً إلى يوم القيامة؛ من دون الإمام المعصوم؟ ما من شكّ في أنّ الإجابة سلبيّة؛ فالمؤمنون محتاجون إلى الإمام المعصوم للحفاظ على الشريعة الواصلة من النبيّ الأعظم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، كما أنّهم بحاجة ماسّة إلى الإمام المعصوم؛ لمعرفة تفاصيل الشريعة(1).

وبعبارة أخرى : فلسفة ضرورة الإمامة لا تختلف عن الفلسفة التي تُذكر لضرورة ابتعاث الأنبياء؛ فالهداية الإلهيّة العامّة من خلال التشريع تثبت ضرورة النبوّة والإمامة، باختلاف أنّ النبيّ يتلقّى الشريعة بواسطة الوحي الإلهيّ، ويبلّغه للناس، في حين يتولّى الإمام المعصوم هذه المسؤوليّة بواسطة النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) (2).

نعم؛ ذهب بعض المتكلمين من العامّة إلى أنّ مجرد وجود القرآن الكريم والسنّة النبويّة المطهّرة بين ظهرانينا (من دون وجود الإمام) كافٍ لهداية الإنسان، ولعلّهم تمسّكوا بالوعد الإلهيّ بحفظ الدين والشريعة(3).

والجواب على ذلك : أنّ وجود كلّ هذه الفرق المختلفة وقراءاتها المختلفة للإسلام

ص: 52


1- يراجع: الشافي، ج 1، ص 179؛ الذخيرة، ص 424؛ تلخيص الشافي، ج 1، ص 123 المنقذ من التقليد، ج2، ص 262 -265 قواعد المرام ،ابن ميثم البحراني ص 178؛ إرشاد الطالبين، الفاضل المقداد، ص333.
2- حقّ اليقين، العلّامة المجلسيّ، ص28؛ علم اليقين ،الفيض الكاشاني، ص375. [
3- كما في قوله تعالى: « وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ *لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ» سورة الفصّلت: 41- 42، وقوله تعالى: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ »سورة الحجر: 9. [م].

خير دليل على عدم كفاية المصدرين المتقدّمين لوحدهما، وضرورة وجود مصدر معرفيّ آخر مكمّل ؛ هو سنّة الأئمة المعصومين من أهل البيت (علیهم السلام).

أضف إلى ذلك أنّ الحفاظ على الشريعة لا يتسنّى إلّا من نافذة الحفاظ على مصادر الشريعة. نعم؛ لقد وعد الله عَزَّ وَجَلَّ الأمّة بحفظ القرآن الكريم؛ ولكن كيف يتحقّق هذا الوعد؟ لا شكّ في أنّ أحد أهمّ السبيل الكفيلة بصيانة القرآن وجود حفظة حقيقيّين، وأئمة معصومين من الخطأ والزلل ، يصونون القرآن الكريم من أيّ تحريف بالزيادة أو النقيصة، وهم أهل الثغور وحماتها المرابطين على حفظ الدين والشريعة .

وتجدر الإشارة أيضاً إلى أنّ الحفاظ على النصوص القرآنية بمفردها لا يكفي لهداية الناس، بل ينبغي صيانة النصوص النبويّة أيضاً، لوجود كمّ هائل من التحريف الذي طال أحاديث النبيّ الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) من قبل أمثال سمرة بن جندب، وابن أبي العوجاء، وكعب الأحبار ، وهذا ما أحدث كثرة الفرق المنشعبة على الإسلام.

و إنّ ما أودعه النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) من بيان تفصيليّ وتكميليّ للشريعة إلى الإمام أمير المؤمنين عليّ (علیه السلام) هو صمّام الأمان لسعادة الناس، وإنّ تحقّق جميع هذه المتطلّبات الضروريّة لا تتأتّى إلّا بواسطة الإمام المعصوم؛ فاجتهاد أبناء العامّة، وتوظيفهم للقياس، وسدّ الذرائع والاستحسان، وما إلى ذلك، ليس ببديل مناسب للإمام المعصوم؛ لأنّ مناهج الاجتهاد هذه مناهج ظنّيّة، مختلف فيها؛ ولا تمثّل أيّ حجّة قطعيّة، ولا تضمن سعادة الإنسان وفلاحه .

أمّا لو قيل : إذا كان الأمر كذلك، فلم ابتليت الشيعة بالاختلاف والتمذهب؛ حتى صاروا فرقاً؟ فالجواب : أنّ هذا الانحراف - كغيره - ناشئ أيضاً من عدم التمسك بالإمام المعصوم؛ فالذين توقفوا عند أحد الأئمة المعصومين ، ولم يؤمنوا بالإمام المعصوم الشرعيّ الذي يليه هم المسؤولون عن إحداث الشرخ، واختلاق الفِرَق والمذاهب المنحرفة.

***

ص: 53

20.عصمة الإمام

20/ 1.تمهيد

يُعدّ البحث عن صفات الأئمّة (علیهم السلام) أحد أبحاث الإمامة العامّة المهمّة وهو يعالج صفات يتحلّى بها الإمام من قبيل: «العصمة»، و«العلم اللدنّي»، و«الولاية التكوينيّة»، و«الولاية التشريعيّة»، و«الولاية السياسيّة الاجتماعيّة»، و«التنصيب»، و«الأفضليّة»(1). ويجري البحث عن صفات الأئمة في كل من مقامي «الإمامة العامّة»، و«الإمامة الخاصّة». ويتطرّق المتكلّمون عند حديثهم عن صفات الأئمة إلى إثبات عصمة الإمام، وعلمه، والنصّ عليه، والولاية؛ وذلك لما لهذه الموضوعات من أهميّة. أما في مبحث الإمامة الخاصّة فعادةً ما تقام الأدلّة على إثبات وجود أشخاص معيّنين، يتمتّعون بصفات العصمة، والعلم والنصّ، والولاية التكوينيّة والتشريعيّة؛ مثل : أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (علیه السلام).

هذا، وتمثّل العصمة إحدى صفات الإمام البارزة، وقد تطرّق إلى بيانها وإثباتها متكلّمو الإماميّة. ويحظى منصب الإمامة عند علماء الشيعة الإثني عشرية بمكانة مرموقة، تتنافى مع ارتكاب صاحبه (الإمام) للذنوب - كبيرةً كانت، أو صغيرة - كما يتنافى أيضاً مع صدور الخطأ منه - سواءً كان ذلك عن عمد، أم عن سهو -.

أمّا متكلّمو العامّة فقد اكتفوا في هذا الخصوص بإثبات صفة «العدالة» فقط ؛ ولم يعدّوا العصمة من لوازم الإمامة.

ص: 54


1- أتقدّم بالشكر الجزيل لجهود سماحة الشيخ الفاضل حجّة الإسلام والمسلمين الدكتور محمد رضا بهدار لما قام به من جمع مستندات صفات الأئمة (علیهم السلام).

وعلى الرغم من أنّنا قد عرضنا هذا الموضوع مفصّلاً في باب النبوّة، فإنّنا سنتطرّق هنا - من باب التمهيد للبحث - إلى موجز عن ماهيّة «العصمة»، وسعة هذا المفهوم.

20 /2.تحليل العصمة

إشارة

تعود مفردة «عصمة» إلى الجذر «ع.ص. م» الذي يعني في اللغة العربية: المنع، والإمساك عن الشيء. وسُمّيت العصمة بهذا الاسم لأنّ صاحبها - أي الشخص المعصوم - قد مُنع عن ارتكاب المعصية، وعن الوقوع في الخطأ(1). وقد عرّف اللغوي الشهير ابن فارس هذه المفردة بأنّها الحفظ الإلهيّ للعباد من الأمور القبيحة والحوادث(2). واعتمد كلّ من الشيخ المفيد (413ه)، والسيّد المرتضى (436ه)، والشيخ الطوسيّ (460ه) هذا المعنى اللغوي للعصمة بعينه(3).

وفي ما يتعلّق بالمعنى الاصطلاحي للعصمة، نجد أنّ المتكلمين والحكماء الإسلاميّين قد ساروا في اتجاهات ومناهج مختلفة (4)؛ فقد عدّ بعضهم حقيقة العصمة لطفاً وتفضّلاً إلهيّاً، وارتأى طائفة منهم أنّها قوّة عاقلة، واختار آخرون أنّها ملكة نفسانيّة، كما ذهب آخرون إلى أنّها حيثيّة خاصّة .

ص: 55


1- كتاب العين ،الخليل الفراهيدي، ج1، ص313.
2- معجم مقاييس اللغة ،ابن فارس، ج4، ص331 .
3- إنّ العصمة في أصل اللغة هي ما اعتصم به الإنسان من الشيء كأنّه امتنع به عن الوقوع فيما يكره... ومنه قولهم «اعتصم فلان بالجبل» إذا امتنع به ومنه سميت «العِصَم»؛ وهي وُعُول الجبال ؛ لامتناعها بها، والعصمة من الله تعالى هي التوفيق الذي يسلم به الإنسان ممّا يكره إذا أتى بالطاعة، وذلك مثل إعطائنا رجلاً غريقاً حبلاً ليتشبّث به فيسلم، فهو إذا أمسكه واعتصم به سُمّي ذلك الشيء عصمة له لمّا تشبّث وسلم به من الغرق ولو لم يعتصم به لم يُسمّ عصمة، وكذلك سبيل اللطف إنّ الإنسان إذا أطاع سُمّي توفيقاً وعصمة، وإن لم يطع لم يُسمّ توفيقاً ولا عصمة ... أوائل المقالات ،الشيخ المفيد، ص 66. وأصل العصمة في موضوع اللغة المنع؛ يُقال عصمتُ فلاناً من السوء إذا منعت من حلوله به ،غير أنّ المتكلّمين أجروا هذه اللفظة على من امتنع باختياره عند اللطف الذي يفعله الله تعالى به عنده من فعل القبيح، فقد منعه من القبيح، فأجروا عليه لفظة المانع قهراً وقسراً .الأمالي ،المرتضى، ج 3، ص336. العصمة المنع من الافة والمعصوم في الدين الممنوع باللطف من فعل القبيح، لا على وجه الحيلولة. التبيان الطوسيّ، ج5، ص490.
4- راجع :الكلام الفلسفي [بالفارسية: كلام فلسفي ]محمد حسن قدردان قراملكي.
20 /2 /1.تفسير العصمة باللطف :

و ممّن رأى أنّ حقيقة العصمة لطف الهيّ الشيخ المفيد (413ه)، والسيّد المرتضى (436ه)، والمحقّق الطوسيّ (672ه)، والعلّامة الحلّي (726ه) (1). وهذا الفهم للعصمة وما فيها من اللطف والتفضّل الإلهيّ، صحيح ؛ إلّا أنّه لا يضع يده على القوّة المؤثّرة في صيانة أئمّة الدين من الذنب والخطأ.

20 /2 /2.تفسير العصمة بكمال القوة العقليّة :

أمّا الحكماء المسلمون فذهبوا إلى أنّ حقيقة عصمة الأئمة (علیهم السلام) تكمن في كونها كمالاً للقوّة العاقلة الإنسانيّة في مقابل القوّة الغضبيّة والشهوانيّة. فعلى أساسٍ من ذلك، يُسخّر الإنسان الكامل من خلال تدعيمه للقوّة العاقلة، قواه النفسيّة الأخرى (القوى الغضبيّة والشهوانيّة) ، ويجعلها طوعاً للقوّة العاقلة؛ فبعد أن تتجاوز نفس النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) والوليّ جميع مراحل التكامل والاتصال والارتباط الوثيق بالعقل الفعّال، والملائكة، تبلغ مكانةً سامية، تزول معها جميع الظروف المؤدّية للوقوع في وحل المعصية(2).

وما من شكّ في أنّ تكامل القوّة العاقلة له دور فاعل في حقيقة العصمة، لكنّ التساؤل الذي يطرح نفسه هنا هو : هل يكفي هذا النوع من التكامل لوصول الإنسان إلى مقام النبوّة والإمامة؟ وهل يصل كلّ حكيم تمكّن من تحصيل فعليّة القوّة العاقلة إلى مقام العصمة النبويّة والولائيّة ؟

أرى أنّ الأنبياء والأئمة المعصومين لا يكتفون بما حصلوا عليه من نموّ ورقيّ عقلانيّ، بل إنّهم محتاجون أيضاً إلى فضل ولطف إلهيّين يتنزّل عليهم من الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى لكي ينالوا مقام العصمة الخاصّة ، ولتُفتح لهم أبواب هداية البشر.

ص: 56


1- النكت الاعتقاديّة، ص 37؛ مسائل المرتضى، ص 188؛ رسائل الشريف المرتضى، ج 3، ص 325 و 326 . وقد كتب الشيخ المفيد في هذا الخصوص ما يأتي: «العصمة لطف يفعله الله بالمكلّف؛ بحيث يمنع من وقوع المعصية وترك الطاعة مع قدرته عليهما»، أمّا السيّد المرتضى فقد قال : « العصمة هي لطف الله الذي يفعله تعالى فيختار العبد عنده الامتناع عن فعل القبيح، ويُقال: إنّ العبد معصوم لأنّهُ اختار عند هذا الداعي الذي فعل له الامتناع من القبيح».
2- راجع: الإشارات ابن سينا ،النمط العاشر، ج 3، ص 130 .

ولنا أن نتساءل هنا :هل يمكن لفعليّة القوّة العاقلة أن تعمل على تعبيد الطريق للإنسان العاقل حتى يتمكّن من تحصيل العقل المستفاد الذي يعينه على الارتباط بالعقل الفعّال، فينال بذلك القدرة على تلقّي الوحي الإلهيّ على النحو الصحيح؟

يبدو أنّ تحقّق الفيض واللطف الإلهيّين لازم أيضاً لتحقّق هذا الأمر لا محالة. بالرغم من أنّ نفس الوصول إلى تحقيق فعليّة القوّة العاقلة بحدّ ذاته يُعدّ فيضاً ولطفاً إلهيّاً.

20 /2 /3.تفسير العصمة بالملكة الإنسانيّة :

ذهب بعض المتكلّمين وثلّة من الحكماء الإسلاميين في حقيقة العصمة إلى أنّها ملكة إنسانيّة تصون صاحبها من ارتكاب الذنوب (1). ونجد أنّ بعض المتكلّمين - بدلاً من التصريح بكون العصمة لطفاً - قد عدّها نوعاً من الصفات والحالات التي تؤدّي بصاحبها إلى الأمن من ارتكاب الذنوب(2).

20 /2 /4.المختار في تفسير العصمة :

الصحيح في هذا المجال أن تحقّق ملكة العصمة عند الإمام يستلزم كلّاً من قابلية القوّة العاقلة للمعصوم واستعداده (منهج الفلاسفة) ، وكذلك اللطف والعناية الإلهيّين (منهج المتكلّمين)؛ فلكلّ منهما تأثيره الخاصّ في نيل هذا المقام. لقد أودع الله جَلَّ وَعَلا العصمة في أولئك المنتجبين من عباده من خلال ملكة نفسانيّة، وقوّة عقلانيّة. وبناءً على هذا، فإنّ للعصمة حيثيّة اكتسابيّة، كما أنّ لها حيثيّة إعطائيّة.

والذي ينتهي إليه النظر أنّ الأئمة المعصومين (علیهم السلام) قد حازوا على قابليّة تلقّي

ص: 57


1- قال المحقّق الطوسيّ : «إنّها ملكة لا يصدر عن صاحبها معها المعاصي وهذا على رأي الحكماء». نقد المحصّل ص 369. وقال ابن ميثم البحرانيّ: «العصمة ملكة نفسانيّة يمتنع معها المكلّف من فعل المعصية». النجاة في القيامة ابن ميثم البحراني، ص55.
2- وقد عبّر المحقّق الطوسيّ عن العصمة بنوع من الحيثيّة؛ إذ قال: «العصمة هي كون المكلّف بحيث لا يمكن أن يصدر عنه المعاصي من غير إجبار له عن ذلك» قواعد العقائد ،ص 93 .

العصمة الإعطائيّة من جانب الله تَبَارَكَ وَتَعَالى منذ عالم الذرّ الذي سبق عالم الدنيا؛ وهو عالم أشارت إليه النصوص الشريفة من الكتاب والسنّة، كانت لأرواح البشر فيه الاختيار والتعقّل والقدرة على التصرّف. وقد تمكّنت بعض الأرواح (أرواح الأئمّة المعصومين (علیهم السلام)) بمحض اختيارها من أن تبلغ فيه درجات سامية أتاحت لهم نيل القابليّة اللازمة لتلقّي العصمة ولا يخفى أنّ هذا البيان يعيننا على إثبات العصمة للأنبياء (علیهم السلام) قبل مبعثهم، وللأئمة (علیهم السلام) قبل إمامتهم، بل ويثبت أيضاً تلقّيهم إيّاها قبل نشأة عالم الدنيا.

20 /3.مجال العصمة وسعة مفهومها :

للعصمة في الكلام الإسلامي مراتب و درجات اكتفى بعضهم بذكر ثلاث منها؛ وهي:

*العصمة عن ارتكاب المعصية، ومخالفة الأوامر الإلهيّة (الواجبات والمحرّمات).

*العصمة عن الخطأ والنسيان في تلقّى الوحي والرسالة وتبليغها.

*العصمة عن الخطأ والنسيان في تنفيذ الأحكام الإلهيّة، وتطبيقها مع الشرع، والأمن من الخطأ في القيام بالأمور الفردية والاجتماعية(1).

هذا، لكنّ الالتفات إلى التحليل المفهومي للعصمة وإثباتها التصديقي، يبيّن وجود درجات أخرى من العصمة؛ منها ما يأتي:

العصمة في تلقّي الوحي والإلهام.

العصمة في الإبلاغ الصحيح للوحي والإلهام.

ص: 58


1- راجع :الإلهيّات على هدي الكتاب والسنة والعقل ،السبحاني، ج 3، ص 155.

*العصمة في المعتقدات الدينيّة.

*العصمة في العمل وتنفيذ الأحكام الإلهيّة على النحو الصحيح.

*العصمة في التعرّف على موضوعات الأحكام الشرعيّة بدقة.

*العصمة في معرفة المصالح والمفاسد الفرديّة والاجتماعيّة.

*العصمة في الأمور العاديّة وشؤون الحياة اليوميّة.

ويُطلق على العصمة في المعتقد الدينيّ والعمل بالشريعة عنوان «العصمة من ارتكاب الذنوب والمعاصي»؛ وهي تنقسم بدورها إلى عددٍ من الأقسام، وذلك باعتبار كون المعاصي على أنواع؛ صغيرة وكبيرة، وكون الآثام عمديّة وسهويّة ونسيانيّة، وكذلك بلحاظ مراتب العصمة؛ من حيث كونها قبل منصب النبوّة والإمامة، وبعده(1).

وبناءً على ما تقدّم، يمكن بيان تقسيم مراتب العصمة في ثلاثة مجالات:

أوّلاً: العصمة النظريّة (في المعرفة والمعتقدات).

ثانياً : العصمة السلوكية (في الملكات).

ثالثاً: العصمة العمليّة ( فرديّة واجتماعيّة ) .

وقد اختلف علماء الإسلام في ما يتعلّق بمراتب العصمة وأقسامها؛ فذهب مشهور علماء الإماميّة - خلافاً للعامّة - إلى عصمة الأئمّة من أهل البيت (علیهم السلام) من جميع أنواع الذنوب وشتّى ألوان الخطأ؛ سواء كانت تلك الذنوب أو الأخطاء كبيرة أو صغيرة، وسواء كانت عمديّة أو سهويّة، وسواء كانت قبل التصدّي للنبوّة والإمامة أم بعد ذلك(2).

ص: 59


1- إيضاح المراد في شرح كشف المراد ،الربّاني الگلپايگاني ص 353 .
2- راجع: تنزيه الأنبياء، السيّد المرتضى، ص 34-35 ؛الذخيرة، ص 337 - 338؛ أوائل المقالات، ص 18.

وعصمة الأئمة (علیهم السلام) بحسب مذهب الإماميّة ومتكلّميهم - التي تعني : عصمتهم على مستوى الاعتقاد، والعمل والسلوك الشخصيّ، ومعرفة مصالح الناس ومفاسدهم، وفي تبيين الأحكام الإلهيّة وتفسيرها وتنفيذها على النحو الصحيح، وسواء في عصمتهم من الأخطاء والمعاصي العمديّة أو السهويّة والكبيرة أم الصغيرة، وسواء كانت قبل الإمامة أم بعدها - لا تختلف عن عصمة الأنبياء بأيّ نحو من الأنحاء.

أمّا علماء العامّة فلا يقولون بالعصمة بهكذا كيفية، بل اكتفوا بالقول بعدالتهم(1).

20 /4.الأدلّة على عصمة الأئمة (علیهم السلام):

إشارة

تمسّك متكلّمو الإماميّة في إثبات العصمة بمجموعة من الأدلّة والبراهين العقليّة والنقليّة؛ نكتفي فيما يأتي - حرصاً على مراعاة الاختصار - بذكر دليلين؛ أحدهما : برهان التسلسل، والآخر دليل حافظ الدين والشريعة :

20 / 4 /1.برهان التسلسل :

أحد البراهين التي تثبت ضرورة عصمة الإمام من وجهة نظر الإماميّة هو برهان التسلسل؛ وبيانه كالآتي:

السبب الداعي لحاجة الأمّة إلى إمام هو التصدّي لظلم الظالم، ومعصية الفاسق، ومنع وقوعهما. لكن، إذا كان صدور الظلم والمعصية من الإمام نفسه أمراً ممكناً ومتصوّراً، لاستلزم ذلك وجود إمام آخر؛ لمنع صدورهما منه. وإذا تكرّر الأمر على هذا المنوال من دون أن ينتهي إلى إمام معصوم؛ للزم من ذلك التسلسل، والتسلسل باطل(2).

ص: 60


1- قواعد العقائد، ص 94-97 .
2- راجع: الشافي في الإمامة، ج 1، ص 320 ؛مسائل المرتضى، ص 243 ؛الياقوت في علم الكلام، ابن نوبخت ص 75 ؛أسرار الإمامة ،الطبرسي، ص 123 و 124؛ الرسالة السعدية، العلّامة الحلّي، ص 82 ؛ أنوار الملكوت في شرح الياقوت، ص 204. الباب الحادي عشر، ص 41. المسالك في أصول الدين ،ص 198. نهج المسترشدين، ص 63. اللوامع الإلهيّة في المباحث الكلاميّة ص 320 . إرشاد الطالبين، ص 332 و 333 . قواعد المرام في علم الكلام ص 177 و 178. وقد ذكر السيّد المرتضى في تقرير هذا الدليل قوله: «واجب في الإمام عصمته، لأنّه لو لم يكن كذلك لكانت علّة الحاجة إليه فيه أيضاً، وهذا يؤدّي إلى وجوب ما لا يتناهى من الرؤساء أو الانتهاء إلى رئيس معصوم». شرح جمل العلم والعمل ص 193. قال المحقّق الطوسيّ في لزوم ثبوت العصمة بأقصر عبارة : «وامتناع التسلسل يُوجب عصمته» تجريد الاعتقاد، ص 222. وقد شرح العلّامة الحليّ ذلك بأنّ الإمام لو لم يكن معصوماً لزم التسلسل، ومن ثَمَّ باطل فالمقدّم مثله، بيان الشرطية أنّ المقتضي لوجوب نصب الإمام هو تجويز الخطأ على الرعيّة، فلو كان هذا المقتضي ثابتاً في حقّ الإمام وجب أن يكون له إمام آخر ويتسلسل أو ينتهي إلى إمام لا يجوز عليه الخطأ فيكون هو الإمام الأصلي. کشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، ص492.

يقول السيّد المرتضى (436ه) في شرح هذا البرهان:

الذي يدلّ على عصمة الإمام أنّ علّة الحاجة إليه هي جواز الخطأ وفعل القبيح من الأمة. قال : فليس يخلو الامام من أن يكون يجوز عليه ما جاز على رعيته، أو لا يجوز ذلك عليه. قال: وفي الأوّل وجوب إثبات إمام له؛ لأنّ علّة الحاجة إليه موجودة فيه؛ وإلّا كان ذلك نقصاً للعلّة، وهذا يؤدّي إلى إثبات ما لا يتناهى من الأئمة، أو الانتهاء الى إمام معصوم؛ وهو المطلوب(1).

وأورد الشيخ الطوسيّ (460ه) في توضيح هذا البرهان قوله:

يجب أن يكون الإمام معصوماً من القبائح والإخلال بالواجبات؛ لأنّه لو لم يكن كذلك لكانت علّة الحاجة [أي: عدم العصمة] قائمة فيه إلى آخر؛ لأنّ الناس إنّما احتاجوا إلى الإمام لكونهم غير معصومين ومحال أن تكون العلّة حاصلة، والحاجة مرتفعة؛ لأنّ ذلك نقض للعلّة [ ونقض العلّة ممتنع]، ومتى احتاج إلى إمام لكان الكلام فيه كالكلام في الإمام الأوّل، وذلك يؤدّي إلى وجود أئمة لا نهاية لهم [أي: يؤدّي إلى التسلسل ]، أو الانتهاء إلى إمام معصوم؛ ليس من ورائه إمام؛ وهو المطلوب(2).

أمّا المتكلّمون الأشعريّون - ومنهم الفخر الرازيّ (606ه) - ممّن تطرّق لبرهان التسلسل فقد حاولوا مناقشة ذلك، لكن المتكلّمين من الإماميّة ردّوا تلك المناقشات

ص: 61


1- رسائل الشريف، المرتضى، ج 1، ص 324.
2- الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد، ص 189؛ يُراجع :أيضاً تلخيص الشافي، ج 1، ص 198.

بأسلوب منطقيّ وعلميّ حصيف.

وكتب الفخر الرازيّ في نقد هذا الاستدلال :

والجواب عن الشبهة الأولى: أنّها مبنيّة على المسألة الأولى [أي: وجوب الإمامة]؛ وهي أنّ الخلق لمّا كان الخطأ عليهم جائزاً، احتاجوا إلى نصب الإمام(1).

أمّا سعد الدين التفتازاني (792ه) فقد ذكر أنّ احتياج الأمّة إلى الإمام ليس من باب وجود قابليّة الوقوع في الخطأ فيها؛ حتى يؤدّي عدم عصمة الإمام إلى التسلسل، معتمداً في ذلك على تبيين أنّ وجوب نصب الإمام في منظور أهل السنّة شرعيّ؛ لا عقليّ.

وعلى فرض كون وجوب نصب الإمام أمراً عقليّاً، فما الدليل على أنّ علّة هذا الوجوب العقليّ لنصب الإمام هي وجود قابليّة الخطأ في الأمّة؟ فلعلّ منشأ هذا الوجوب العقليّ المفترض هو وجود مصالح أخرى. وبالرغم من هذا، لو فرض أنّ علة وجوب نصب الإمام هي وجود إمكان وقوع الأمّة في الخطأ؛ فلا يصلح هذا أن يكون برهاناً على عصمة الإمام؛ ذلك لأنّ تدارك خطأ الأمّة متاح من خلال العلم والعدالة والاستعانة بالكتاب والسنّة(2).

والجواب على الإشكال الأول هو كالآتي:

يرى علماء الإماميّة أنّ براهين ضرورة نصب الإمام لا تنحصر بالأدلّة الشرعيّة فقط ؛ بل إنّ وجوب نصبه ثابت أيضاً بالأدلّة العقليّة ؛ ومنها: برهان اللطف، وبرهان الحكمة. بناء على ذلك، يكون وجود الإمام المعصوم أمراً ضروريّاً من أجل تحقّق العدالة والهداية الإسلامية للبشر، وفقدانه في المجتمع يستلزم نقض الغرض، ويصبح المجتمع البشريّ محتاجاً لوجود عدد غير متناه من الأئمّة غير المعصومين؛ فتحقّق

ص: 62


1- كتاب الأربعين ،436-437؛ أصول الدين، ص 143.
2- شرح المقاصد، ج 5، ص 248.

العدالة والهداية للمجتمع الإسلاميّ تمثّل تكامل الفرد والمجتمع، ووصوله إلى أسمى درجات الكمال. وإنّ اللطف والحكمة الإلهيّان يقتضيان أن يقوم الله عَزَّ وَجَلَّ بإظهار سبيل الهداية للبشر على نحو كامل. وبحسب مقتضى العقل، يجب على الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى - من حيث كونه الهادي إلى سبيل الرشاد - أن يتمّ نوره الكاشف عن سبيل الهداية، وبما أنّ العقل ليس كافياً لهداية البشر ممّا تسبّب في ضرورة نزول القرآن الكريم والسنّة النبويّة؛ ولذات هذا السبب أيضاً، كانت ضرورة تعيين الإمام المعصوم.

والدليل الذي يشهد على ضرورة إكمال تبيين سبيل الهداية من خلال تعيين إمام معصوم هو أنّ علماء العامّة استعانوا -من بعد اعتمادهم على الكتاب والسنة - بأصول ظنيّة؛ منها الاستحسان والمصالح المرسلة، وسدّ الذرائع وما شاكلها كما أنّهم اضطرّوا إلى إعمال الاجتهاد في الأصول والمبادئ، فوقعوا في فخّ الأخطاء والأهواء. أما علماء الإماميّة فقد اعتصموا بحبل الهداية الإلهيّة الكاملة - من خلال تمسّكهم بالإمامة المعصومة - ولم يتجرّؤوا على إطلاق يد الاجتهاد لتنال الأصول أيضاً؛ بل اكتفوا باتّخاذ الاجتهاد وسيلةً لتطبيق الأصول على الفروع.

بالرغم من أنّهم قد حُرموا الهداية الإلهيّة في تطبيق الأصول على الفروع لما كان من غيبة إمام الزمان (علیه السلام). ولهذا، قد تزلّ الأقدام أحياناً عن إصابة الحكم الواقعيّ في هذا الصدد؛ غير أنّ اللوم في هذا الزلل لا يُوجَّه لله جَلَّ وَعَلا؛ فالله تَبَارَكَ وَتَعَالى - وبوصفها ضرورة عقليّة - قد قدّر كلّ ما هو لازم لتحقيق هداية البشر؛ وحاشاه التقصير في ذلك. كما أنّه جَلَّ وَعَلا قد أرسل الأنبياء - مراراً وتكراراً- ليبلغوا أسباب الهداية إلى بني إسرائيل الذين كان ردّهم على ذلك قتل الأنبياء، والتمسّك بالضلالات، والإعراض عن الهداية. فكان عاقبة أمرهم أن حرمهم الله من الرسل مدة من الزمن. وما حرمان البشر في زماننا الحاضر عن رؤية الإمام المهدي المنتظر (علیه السلام)، وابتلائهم بالوقوع في أخطاء التطبيق إلّا أمر مشابه لحرمان بني إسرائيل من بعثة الأنبياء؛ فهو أيضاً وليد إرادة البشر.

ص: 63

بناءً على ما تقدّم نقول : لقد وضع الله عَزَّ وَجَلَّ نظام التكوين والتشريع على أحسن صورة، وأتمّ هيئة، وقد قدّر تحقّق الكمال. وإذا لاحظنا خطأ في موضع ما، فهو عائد إلى أفعال البشر ، وتقصيرهم. ولهذا، فإنّ لازم هذه المطالب هو ضرورة وجود إمام معصوم في هذا العالم . ووجود الإمام المعصوم يضمن تحقّق الهداية المعرفيّة؛ وذلك من خلال تبيينه الدين على نحو منزّه عن شتّى ألوان الخطأ والنسيان، كما أنّه يعمل على تحقيق الهداية على أرض الواقع من خلال تحقّق المعرفة الدينيّة، وإدارة أمور المجتمع على النحو الصحيح؛ إذ إنّ الدور الذي يؤديه الإمام - سواء في الفكر، أو في السلوك، أو في الأفعال؛ على الصعيدين الفرديّ والاجتماعيّ - هو دور فعال ومصيريّ.

والإمام ومن خلال ما يتمتّع به من معرفة معصومة، وأسلوب إدارة منزّه عن الخطأ؛ ملمّ بحقيقة خير الأمة الإسلاميّة ،وصلاحها، كما أنّه محيط بالمعنى الحقيقيّ للعدالة والظلم. أضف إلى ذلك أنّه يعلم مواضع الحقّ وأهله من خلال معرفته الصحيحة لحقوق أصحاب الحقّ؛ فيعطي كلّ ذي حقّ حقّه، ويقف في وجه الظالمين، ويتصدّى لهم. وهذا، لأنّ الإمام المعصوم ملمّ بمصداق العدالة والحقوق والواجبات، كما أنّ لديه القدرة على إدارة المجتمع.

20 / 4/ 2.برهان حافظ الدين والشريعة :

يمثّل حفظ الدين والشريعة أحد أهمّ أدلّة الإماميّة على عصمة الإمام؛ وذلك لأنّ حفظ الدين والشريعة في المجتمع الإسلاميّ هو أعظم المهامّ المناطة بالإمام بعد النبيّ الاكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، وأكثرها حساسيّة ومركزيّة. من هذا المنطلق، يلزم أن يكون الإمام مصوناً من ارتكاب جميع المعاصي والذنوب، ومحصّناً منها؛ اللّهمّ إلّا أن يزعم أحدهم أنّ مهمّة الحفاظ على الدين ليست منحصرةً بالإمام. وعلى هذا الأساس، يمكن فرض عوامل أخرى تتكفّل بالحفاظ على الدين، لكن يتوجّب ههنا النظر في إمكانيّة تحقّق هذه العوامل، ومدى جدارتها بالحفاظ على الدين بالرغم من عدم وجود إمام معصوم، وهل ستكون تلك العوامل صالحة لأداء هذه المهمّة أم لا؟

ص: 64

أمّا الأمور التي قد يُتوقّع منها أن تصون الدين والشرع فهي: القرآن الكريم، والسنّة الشريفة، والإجماع، والقياس، وأصل البراءة. لكنّنا إذا أمعنا النظر فيها، سنجد بقول لا ريب فيه أنّ هذه العوامل - سواء كانت بمفردها، أو مع انضمام الأخريات إليها - لن تفضي إلى حفظ الشريعة من دون وجود إمام معصوم.

وبناء على هذا، نجزم بأنّ حفظ الدين والشريعة وصيانتهما أمر لا يتحقّق إلى بوجود إمام، بل ويجب أن يكون ذلك الإمام معصوماً عن ارتكاب المعاصي، وعن الوقوع في الخطأ والنسيان. وبانعدامه، لن يأمن الدين والشريعة من خطر السقوط والانحراف؛ وذلك لوجود احتمال أن تتسبّب الأهواء النفسانيّة، أو الخطأ والنسيان في نقصان حكم أو زيادته؛ وهذا يتنافى مع مقام الحفظ(1).

وفي هذا الصدد، أورد العلّامة الحلّي (726ه) في شرحه لعبارة المحقّق الطوسيّ (672ه) التي قال فيها: «ولأنّه حافظ للشرع» ما يأتي:

الثاني: أنّ الإمام حافظ للشرع، فيجب أن يكون معصوماً، أمّا المقدّمة الأولى فلأنّ الحافظ للشرع ليس هو الكتاب؛ لعدم إحاطته بجميع الأحكام التفصيليّة، ولا السنّة ؛ لذلك أيضاً، ولا إجماع الأمّة؛ لأنّ كلّ واحد منهم - على تقدير عدم المعصوم فيهم - يجوز عليه الخطأ؛ فالمجموع كذلك، ولأنّ إجماعهم ليس لدلالة وإلّا لاشتهرت، ولا لإمارة؛ إذ يمتنع اتفاق الناس في سائر البقاع على الإمارة الواحدة ... ولا القياس؛ لبطلان القول به على ما ظهر في أصول الفقه وعلى تقدير تسليمه فليس بحافظ للشرع بالإجماع، ولا البراءة الأصليّة؛ لأنّه لو وجب المصير إليها، لما وجب بعثة الأنبياء، وللاجماع على عدم حفظها للشرع . فلم يبق إلّا الإمام ؛ فلو جاز الخطأ عليه، لم يبق وثوق بما تعبّدنا الله

ص: 65


1- راجع: الياقوت في علم الكلام، ص 76 .تمهيد الأصول، ص 778. النكت الاعتقادية ،ص 40 .إرشاد الطالبين، ص 333 و334 . اللوامع الإلهيّة، ص 331- 332. قواعد المرام، ص 178 و 179. الصراط المستقيم ،ج 1 ،ص 113 .نهج الإيمان، ص 55 و 56. جوهر المراد (بالفارسية گوهر مراد )، الفياض اللاهيجيّ، ص 475 .حق اليقين ،ص 39. أنيس الموحّدين، ص 139. علاقه التجرید در شرح تجرید الاعتقاد، ج 2، ص 957.

تعالی به، و ما كلّفناه، وذلك مناقض للغرض من التكليف؛ وهو الانقياد إلى مراد الله تعالى (1).

وكتب السيّد المرتضى (436ه) في توضيح هذا البرهان يقول : قد ثبت أنّه [أي: الإمام] حافظ الشرع، وحجّةٌ فيه، وأنّ الأمر ربّما انتهى في الشريعة أو بعضها إلى أن يكون هو المؤدّي لها عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ومن كان بهذه الصفة، فلابدّ عندنا - وعند محصّلي خصومنا - من وجوب عصمته وكيف يُحفَظ الشرع بمن ليس بمعصوم، أو يوثق بأداء من ليس بمأمون ؟! (2).

وقد اكتفى الفخر الرازيّ (606ه) بالإشارة إلى ثلاثة عوامل أو احتمالات لحفظ الشرع؛ وهي: الإجماع، والتواتر، والإمام المعصوم ولم يعرض العوامل الأخرى؛ مثل : القرآن الكريم، والسنّة الشريفة، والقياس، والاستحسان. وهي أمور تطرّق إلى ذكرها أكثر الإماميّة عند إقامتهم لهذا البرهان(3).

وبحسب مذهب الإماميّة، فإنّ الإمام المعصوم هو المصداق الأوحد لمن يمكنه أن يتولّى مقام حفظ شريعة النبيّ الخاتم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) . لكنّ أبناء العامّة من المسلمين دأبوا على تسمية مصاديق أخرى في محاولة منهم لإنكار ضرورة وجود الإمام المعصوم. ومن البيّن أنّ الكتاب المجيد، والسنّة القطعية (الأخبار المتواترة)، والإجماع، وأخبار الآحاد، والقياس، والبراءة، بأجمعها غير كافية لضمان هذا الأمر؛ فالقرآن الكريم والسنّة النبويّة المطهّرة لا يسعهما أن يكونا حافظين للشرع؛ لبداهة أنهما يشتملان على المجمل والمفصل، والناسخ والمنسوخ، والمحكم والمتشابه، ويلزمهما وجود مفسّر ومبيّن معصوم و منزّه عن جميع أشكال الخطأ واللبس؛ من أجل القيام بمهمّة حفظهما وصيانتهما(4).

ص: 66


1- کشف المراد، ص 493.
2- الذخيرة في علم الكلام، ص 433 .يُراجع: أيضاً الشافي في الإمامة، ج 1 ص 179.
3- كتاب الأربعين ،ص 437 . البراهين في علم كلام ، ج 2، ص 270 و 271.
4- راجع: كشف المراد، ص 364 .الألفين، ج 1، ص 109 .نهج المسترشدين، ص63. اللوامع الإلهيّة، ص 327. علم اليقين، الفيض الكاشاني، ج 1، ص 500 و501. الحاشية على إلهيّات شرح التجريد، ص 202 و203.

وبناءً على ذلك، لا يتأتّى لنا اتّخاذ القرآن الكريم والسنّة النبويّة بمثابة حافظين للشريعة؛ بل إنّ مهمّة حفظهما وتبيينهما في نفسها موكولة إلى الإمام المعصوم.

ومن جهة أخرى، نجد أنّ السنّة النبويّة إمّا أن تكون من قبيل الخبر المتواتر، أو أن تكون من قبيل خبر الواحد؛ والأخبار المتواترة في مجال الأحكام نادرة جداً، ولا يمكنها أن تكون حافظة للشريعة. كما أنّ خبر الواحد ظنّيّ، وهو ممتزج بالروايات الموضوعة؛ فضلاً عن كونه في نطاق تفصيل الأحكام محدوداً وعاجزاً عن حفظ الشريعة(1).

أمّا إجماع الأمّة فهو فاقد للحجيّة، طالما أنّه لم يشمل قول الإمام المعصوم لا سيّما إذا لاحظنا أنّ الإجماع قاصر عن تبيين الشرع بتمامه؛ فإنّ موارد الإجماع قليلة جداً. هذا، فضلاً عن أنّ الإجماع يعتمد إمّا على الكتاب أو على السنّة، ولا يوجد من البشر من بعد النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) من له إلمام تامّ ودقيق بهذين المصدرين سوى الإمام المعصوم المصون من ارتكاب المعاصي، والوقوع في الخطأ(2).

وأمّا القياس الفقهيّ، فهو أيضاً لا يُمثّل إلّا ظنّاً هزيلاً، وهو - بعد ذلك - فاقد للحجيّة في مجال استنباط الأحكام الشرعيّة.

وأما أصل البراءة فلا يمكنه أن يكون حافظاً للشرع أيضاً؛ لأنّ جريان هذا الأصل في صورة الشكّ يُفضي إلى انتفاء الحاجة إلى بعثة الأنبياء(3).

ناهيك عن أنّ جميع الأمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، والمجتهدين غيرُ

ص: 67


1- راجع: النافع يوم الحشر ، ص 87، المنقذ من التقليد ،ج 2 ،ص 262 -261 الإمامة والقيادة [بالفارسيّة : امامت ورهبرى ]، المطهّريّ، ص 53 -51. الألفين، ج 1، ص 52- 53 .حياة القلوب ص 19 .الحاشية على إلهيّات شرح التجريد ص 202 و 203.
2- راجع :الذخيرة في علم الكلام ص 425. الشافي في الإمامة، ج 1، ص 180- 179 .كشف المراد، ص 364. اللوامع الإلهيّة ص 327 .المنقذ من التقليد، ج2، ص261.
3- کشف المراد، ص 364 .الألفين، ج 1، ص 109. إرشاد الطالبين ،ص 335 .نهج المسترشدين، ص63.

معصومين، وهم معرّضون لاحتمال الوقوع في الخطأ واللبس أيضاً؛ فلا يمكنهم - والحال هذه - أن يقوموا بمهمّة حفظ الشريعة النبويّة، وصيانتها .

وفي المحصّلة نقول : لو لم يكن وجود الحافظ المعصوم للشريعة ضروريّاً، لاستلزم ذلك إهمال المولى عَزَّ وَجَلَّ أمر الشريعة، وتكليفه لعباده ما لا يطيقون (تكليف غير المعصوم بحفظ الشريعة)، ومخالفة إجماع الأمّة؛ لأنّه يلزم منه أن يعمل الناس بجزء من الشريعة، وألّا يتسنّى لهم نيل الهداية الكاملة(1).

ص: 68


1- راجع: الذخيرة في علم الكلام ،ص 424. الشافي في الإمامة، ج 1، ص 179 . قواعد المرام، ص 178. المنقذ من التقليد، ج2، ص 261.

21.علم الإمام

21 /1.تمهید:

تمثّل صفة «العلم» إحدى صفات الإمام الحائزة على قدر كبير من الأهمّية. وقد اعترف بأصل وجودها قاطبة متكلّمي المسلمين، بيد أنّهم اختلفوا في كيفية تحقّقها، وسعة نطاقها؛ فقد ذهب القاضي أبوبكر الباقلانيّ (403ه) - وهو أحد الأعلام البارزين من متكلّمي الأشاعرة - عند حديثه عن إحراز منصب الخلافة إلى وجوب تحقّق ثلاثة شروط؛ منها : أن يتحلّى بالعلم الذي يتيح له القدرة على القضاء؛ غير أنّه لم يقل بلزوم اتّصافه بالعلم بالغيب(1).

أمّا القاضي عبد الجبّار الهمدانيّ (415ه) - وهو أحد علماء المعتزلة - فقد قرّر ثلاثة شروط أصليّة لمنصب الإمام ؛ وهي «العلم الاجتهادي»، و«العدالة والتقوى»، و«الشجاعة». فاتّصاف الإمام بالعلم بحدّ يتيح له الاجتهاد، وحلّ مشاكل الناس والتمكّن من تمييز القول الضعيف، هو من لوازم منصب الإمام (2).

وبناءً على ذلك، ترتهن رؤية علماء العامّة من المسلمين - في ما يتعلّق بعلم الإمام - بما قدّموه من تبيين وشرح الحقيقة الإمامة نفسها؛ فقد أصرّوا فيها على عدم الاعتراف بأنّ الإمامة امتداد للنبوّة، واستمرار لهديها، وذهبوا إلى أنّ منصب الإمام مقام يتساوى مع منصب تنفيذ الأحكام على نحو اجتهاديّ. وبالطبع، لا يلزم الإمام - والحال هذه - سوى مرتبة متدنّية من العلم، يكفي فيها أن يكون بمستوى القاضي، والمفتي، والمجتهد.

ص: 69


1- تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل، ص 471.
2- شرح الأصول الخمسة ،ص 510.

والسؤال المطروح هنا هو : كيف يمكن لإمام لا يملك من العلم إلّا ما هو بحدود العلم الاجتهاديّ الذي يتحلّى به القاضي أن يمسك بزمام قيادة المجتمع، وأن يغدو أسوة الناس ومثلهم الأعلى؟! وكيف يمكن له - والحال هذه - أن يمهّد الطريق لضمان سعادتهم، وتحقّق هدايتهم؟

والحقّ أنّ الإمام ليس فقط يجب أن يكون واجداً للعلم بالفعل في جميع الأمور التي تتعلّق بمصالح الناس - دنيويةً كانت، أم أخروية - بل يتحتّم أيضاً أن يكون أعلم ممّن سواه. والعلم على هذا المستوى لا يتأتّى بالعلم الاجتهاديّ، كما أنّه لا يتحصّل بالاكتساب والتعلّم الاعتياديين. ولهذا، يلزم ههنا تحقّق العلم اللدنيّ الإلهيّ(1).

لقد قطع علماء الإماميّة بضرورة ثبوت العلم اللدنيّ والأعلميّة المطلقة للإمام؛ من أجل أن تتوافر أسباب السعادة والهداية الدينيّة والدنيويّة، وقد عملوا على تبيين مختلف مجالاته، وأكّدوا ويؤكّدون على ثبوت هذا النوع من العلم للإمام، وعلى تحقّق الأعلميّة له .غاية الأمر ، أنّ بعضهم تطرّقوا إلى شرط الأعلميّة في مبحث أفضليّة الإمام (2).

يرى السيّد المرتضى (436ه) أنّ صفات الإمام تنقسم إلى طائفتين؛ الأولى : تثبت للإمام من خلال العقل، والأخرى: تثبت له بحكم الشرع. فالعقل يثبت أعلميّة الإمام في جميع مسائل الشريعة وأحكامها، وفي الأبعاد السياسيّة، وتدبير الأمور؛ ذلك من خلال «قبح تقديم المفضول على الفاضل »(3). وقد تناول أيضاً إثبات الأعلميّة في الأحكام الشرعيّة على أنّه أمر تعبّدي؛ لا عقليّ (4).

ص: 70


1- للمزيد من المعلومات في هذا المجال؛ راجع: موسوعة الإمام عليّ (علیه السلام) [بالفارسية :دانشنامه امام عليّ (علیه السلام)] ،ج 3، ص 346- 352.
2- نهج المسترشدين ،العلّامة الحليّ، ص 63 .أنوار الملكوت، ص 206 .نهج الحق وكشف الصدق، ص 168 .اللوامع الإلهيّة، ص 333 .المسلك في أصول الدين ص 205 و 206. تجريد الاعتقاد ص 266- 263 .كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد ،ص .383
3- الذخيرة في علم الكلام ،ص 429. شرح جمل العلم والعمل، ص 194 و 195.
4- المصدر السابق، ص 429 و 430.

أمّا الشيخ الطوسيّ (460ه) فقد استعرض علم الإمام على أنّه واحد من سبعة شروط لازمة لتحقّق مقام الإمامة؛ فقال :

ويجب أن يكون الإمام عالماً بتدبير ما هو إمام فيه من سياسة رعيته والنظر في مصالحهم وغير ذلك بحكم العقل ويجب أن يكون أيضاً بعد الشرع عالماً بجميع الشريعة؛ لكونه حاكماً في جميعها (1).

وقد اشترط المحقّق الطوسيّ (672ه) في تلخيص المحصّل» أعلميّة الإمام أيضاً(2).

21 /2.براهين علم الإمام (علیه السلام):

تمسّكت الإماميّة في إثبات ضرورة علم الإمام بأدلّة عديدة؛ منها ما نُقل عن المحقّق الطوسيّ (672ه) : لمّا كان الأنبياء والأئمة (علیهم السلام) تحتاج إليهم الأمّة، للتعليم والتأديب وجب أن يكونوا أعلم وأشجع (3).

وعلّق الفاضل المقداد (876ه) شارحاً ذلك بقوله :

يجب كون الأنبياء والأئمة أفضل من كلّ واحد من الأمّة. والمراد بالأفضليّة: أن يكون أجمع الخصائص الكمال كمّاً وكيفاً، وإنّما قلنا بوجوب ذلك؛ لأنّ العلة في وجوب رئاستهم نقص الرعيّة، واحتياجهم إلى التعليم والتأديب؛ فلو لم يكن المحتاج إليهم أفضل، لما تحقّق معنى حيثية الاحتياج إليهم، لكنّ الفرض خلاف ذلك ، فيدخل في وجوب كونهم أفضل من رعاياهم أن يكونوا أعلم وأشجع وأكرم إلى غير ذلك من الخصائص(4).

ص: 71


1- الاقتصاد إلى طريق الرشاد ،الشيخ الطوسيّ، ص192. ويُراجع :تلخيص الشافي، ج 1 ص 245.
2- تلخيص المحصّل، ص 417.
3- الأنوار الجلاليّة في شرح الفصول النصيريّة ،الفاضل المقداد، ص 167. يُراجع: أيضاً : رسالة الإمامة (طبعت في تلخيص المحصّل )، ص .430
4- الأنوار الجلاليّة في شرح الفصول النصيريّة ،الفاضل المقداد، ص 167.

وفي الرواية عن أمير المؤمنين عليّ (علیه السلام) أنّه قال في بيانه لمقام الأئمة (علیهم السلام):

«هُمْ مَوْضِعُ سِرِّهِ، وَلَجَأُ أَمْرِهِ، وَعَيْبَةُ عِلْمِهِ، وَمَوْئِلُ حُكْمِهِ، وَكُهُوفُ كُتُبِهِ، وَجِبَالُ دِينِهِ، بِهِمْ أَقَامَ انْحِناءَ ظَهْرِهِ، وَأَذْهَبَ ارْتِعَادَ فَرَائِصِهِ »(1).

وقد كتب الشيخ الطوسيّ (460ه) في بيان إثبات علم الإمام يقول : ويدلّ أيضاً على كونه عالماً . الشرع، أنّا قد دلّلنا على كونه حافظاً للشرع، فلو لم يكن عالماً بجميعه لجوّزنا أن يكون وقع فيه خلل من الناقلين أو تركوا بعض ما ليس الإمام عالماً به، فيؤدّي إلى أن لا يتّصل بنا ما هو مصلحة، ولا تنزاح علّتنا في التكليف لذلك، وذلك باطل بالاتّفاق(2).

وقال ابن ميثم البحراني (679ه) في ضرورة علم الإمام:

فأمّا العلم فلابدّ من أن يكون عالماً بما يحتاج إليه في الإمامة من العلوم الدينيّة والدنيويّة كالشرعيّات، والسياسات والآداب، وفصل الحكومات والخصومات؛ إذ لو جاز أن يكون جاهلاً بشيء منها مع حاجة إمامته إلى ذلك، لكان مخلّاً ببعض ما يجب عليه تعلّمه ، والإخلال بالواجب ينافي العصمة(3).

فالإمامة في مفهومها الصحيح وبالنظر إلى المهامّ المناطة بها، وفقاً لرؤية الإسلام والعقل، أمر لا يمكن له أن يتحقّق من دون شرط العلم، ومن دون هذا الشرط، فهو أمر غير مقبول، وليس حقيقاً بالمجتمع الإسلاميّ.

وإذا ما ألقينا نظرة على آيات القرآن الكريم والأحاديث الشريفة لوجدنا اشتراط العلم في تحقّق الأهليّة لتسنّم المسؤوليّات التنفيذيّة والاجتماعيّة، بل ولكلّ شكل من

ص: 72


1- نهج البلاغة ،الخطبة 2، ص 9 .
2- الاقتصاد إلى طريق الرشاد، ص 193.
3- قواعد المرام في علم كلام، ص 179.

أشكال التطوّر والتقدم(1)؛ يقول تعالى:

«قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ »(2).

«أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ»(3).

يقول السيّد المرتضى (436ه) :

أمّا الذي يدلّ على أنّه أعلم الخلق بأحكام الشريعة، فهو أنّه إمام فيها، ورئيس في الشرع، وقبيح في العقل أن يُجعل المفضول رئيساً لمن هو أفضل فيه فيما كان رئيساً فيه (4).

وقد كتب الشيخ الطوسيّ (460ه) في هذا الصدد:

ضرورة من قبح تقديم المفضول على الفاضل؛ ألا ترى إنّه يقبح من ملك حكيم أن يجعل رئيساً في الخطّ على مثل ابن مقلة(5)، ونظرائه من يكتب خطوط الصبيان والبقّالين ويجعل رئيساً في الفقه على مثل :أبي حنيفة، والشافعيّ، وغيرهما(6).

وأكمل يقول أيضاً:

ص: 73


1- ومن قبيل المثال نورد قول النبيّ الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) :من استعمل عاملاً من المسلمين وهو يعلم أنّ فيهم أولى بذلك منه وأعلم بكتاب الله وسنّة نبيّه؛ فقد خان الله ورسوله وجميع المسلمين. سنن البيهقي، ج 10، ص 118، كتاب آداب القاضي باب لا يولي الوالي امرأة ولا فاسقاً ولا جاهلاً أمر القضاء.
2- سورة يونس :35.
3- سورة الزمر: 9 .
4- الذخيرة في علم الكلام، ص 432 و 433.
5- الذخيرة في علم الكلام، ص 432 و 433.
6- الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد، ص 191.

ويجب أن يكون أيضاً بعد الشرع عالماً بجميع الشريعة؛ لكونه حاكماً في جميعها. يدلّ على ذلك أنّه لا يَحسُن من حكيم من حكماء الملوك أن يولّي وزارته والنظر في مملكته من لا يُحسِنها، أو لا يُحسّن أكثر من ذلك، ومتى فعل ذلك كان مضيّعاً لمملكته، واستحقّ الذم من العقلاء(1).

وقد أشار بعض أعلام الإماميّة؛ مثل : الشيخ الحمصيّ الرازيّ(2) (حوالي 585ه)، والسيّد إسماعيل الطبرسي النوري(3) (1321ه)، والشيخ محمد حسين المظفر(4) (1381ه)، إلى ضرورة علم الإمام.

ومن هنا نقول: طالما أنّ القرآن الكريم قد بيّن الأحكام وقوانين الشرع الإسلاميّ على نحو كلّي، وطالما أنّ رسول الإسلام (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) الذي لم يعمِّر طويلاً - لم يبيّين جميع تفاصيل الدين للناس، وطالما أنّ الناس متماثلون في قدرتهم على اكتشاف أحكام الدين ومعارفه واستشفافها من مصادرها، ولا يمكن ترجيح أحدهم على الآخر؛ لأنّهم كلّهم عاجزون عن التمييز بين الناسخ والمنسوخ، والتأويل والتشبيه، والعامّ والخاصّ والمجمل والمبيّن من الدين فإنّ الحكمة الإلهيّة تقتضي وجود أئمّة عالمين؛ بل وأعلم من غيرهم وتقتضي أن يقوم الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى بتعيينهم؛ ليصون بذلك الناس من الضلال، ويضمن تحقّق الهداية لهم. فلو لم يكن الإمام أعلم من غيره للزم رجوعه في فهم بعض المسائل إلى إمام آخر، ولو لم يكن الإمام الآخر هو الأعلم، فإنّ وجود إمام أعلم من غيره ضروري، وعدمه يستلزم التسلسل، أو الدور، أو تقدّم المفضول على الفاضل.

وليس خفيّاً أنّ العقل البشريّ غير قادر على اكتشاف القضايا الدينيّة كشفاً قطعيّاً

ص: 74


1- الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد ،ص 192؛ تلخيص الشافي، ج2، ص 245- 246 ؛تمهيد الأصول، ص 811.
2- المنقذ من التقليد، ج 2، ص 290.
3- كفاية الموحدين، ج 2، ص 211.
4- الشيعة والإمامة، ص 14 و 15.

يقينيّاً. ولهذا، فإنّ عدم وجود إمام يتحلّى بصفة الأعلميّة في المجتمع، ليقوم بمهمّة الكشف عن أحكام الدين ومعارفه على نحو قطعيّ، والعمل على تبيينها من بعد ذلك، سوف يستلزم اعتماد الأساليب الظنّية في الوصول إلى أحكام الدين والمعارف الإسلاميّة؛ وهو ما لا يُقرّه صاحب الشريعة؛ فالأحكام والمعارف التي تحصل بهذه الطريقة ليست لا تحمل الصفة الدينيّة وحسب، بل هي فاقدة لأيّ حجيّة إلهيّة أو شرعيّة أيضاً.

21 /3.سعة نطاق علم الإمام (علیه السلام):

إشارة

بعد أن ثبتت لنا ضرورة تحقّق العلم لإمام المجتمع وقائده، نبحث الآن عن نطاق ذلك العلم وحدوده؛ فهل يجب أن يشتمل منصب الإمامة على كلّ أمر مرتبط بالإنسان والكون، فضلاً عن الإلمام بالأحكام والمعارف الدينيّة؟ وهل الإمام محيط بجميع العلوم والصنائع والفنون المختلفة في سائر العصور والدهور؟ وهل يتصوّر في الإمام أنّه يعلم الغيب ، فيكون عالماً بمستقبل الإنسان والكون والأمور الغيبية؟ وهل إنّ علم الأئمة (علیهم السلام) علم حضوريّ وفعليّ، أم أنّه حصوليّ واكتسابيّ؟ وهل علمهم مقيّد و مشروط، أم أنّه مطلق وعامّ ؟

21 /3 /1.معنى علم الإمام بالغيب :

تعني كلمة «الغيب» و«الغياب» و«الغيبوبة» ومشتقّاتها - بنحو عامّ- : الاختفاء، والبُعد عن النظر(1). ولهذا، فإنّ «الغيب» يقابل «الشهادة»، ويشمل جميع الأمور الواقعيّة غير المحسوسة(2). ويُطلق «الغيب» في الاصطلاح على الحقائق التي لا سبيل لحواسّ البشر وأعضائه الإدراكيّة إلى نيلها»(3).

ص: 75


1- راجع: لسان العرب ج 1 ،ص 654 .تاج العروس، ج 2، ص 295.
2- ترجمة وتفسير نهج البلاغة (بالفارسيّة)، محمّد تقي الجعفري، ج 8، ص 53.
3- المصدر السابق، ج 10، ص 243.

وبناءً على هذا، فإنّ علم البشر المحدود - لا العلم الأزليّ الإلهيّ - هو السبب من وراء تقسيم الأشياء إلى غيب وشهادة؛ فالله جَلَّ وَعَلا محيط بجميع الموجودات وعالم الوجود إحاطة وجوديّة (1)؛ فلا يوجد شيء يغيب عن الحقّ تعالى (2).

قال أمير المؤمنين (علیه السلام):

«قَدْ عَلِمَ السَّرَائِرَ وخَبَرَ الضَّمَائِرَ، لَهُ الْإِحَاطَةُ بِكُلِّ شَيءٍ، وَالْغَلَبَةُ لِكُلِّ شَيء »(3).

ولم يستعرض بعض أهل السنّة من أمثال الفخر الرازيّ (606ه) كثيراً من البحوث في ما يتعلّق بإحاطة الإمام بعلم الغيب؛ ولكن اعتماداً على اعتقادهم بأنّ مكانة مقام الإمام والخليفة ومنزلتها دنيويّة حكوميّة ؛ يمكننا أن ننسب له القول بنفي كلّ أشكال ثبوت علم الغيب وسائر العلوم غير الدينيّة للإمام.

ويكتفي الفخر الرازيّ في تفسير علم الأنبياء بالغيب بأنّه مجرّد إلمام بالأمور الوحيانيّة وحسب. فقد قال في تفسير قوله عَزَّ وَجَلَّ: «أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ»(4):

إشارة إلى أنّ ما عند النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم من علم الغيب علم بالوحي - أموراً وأسراراً وأحكاماً و أخباراً كثيرة - كلّها هو جازم بها (5).

وهذا التفسير ناقص ؛ فكيف من الممكن أن يحمل لفظ «الغيب» الذي يعني: الشیء المستتر عن الحسّ - وهو معنى عامّ، يُقابل معنى «الشهادة» - على مصداق واحد فقط ؛ وهو «الوحى» ؟ ! (6).

ص: 76


1- سورة فصلت، الآية 54 .
2- الإدراك الثالث أو علم الغيب [بالفارسية: آگاهي سوم يا علم غيب]، السبحانيّ، ص 26- 25.
3- نهج البلاغة ،الخطبة 82 .
4- سورة الطور: 41.
5- مفاتيح الغيب، ج 10، ص 221.
6- لسان العرب، ج 1، ص 654 .تاج العروس، ج 2، ص 295.

إن قلت: على الرغم من أنّ مفردة «الغيب» تُستخدم بالمعنى العامّ، لكنّ «الوحي الإلهيّ »هو السبيل الوحيد والأوحد لتلقّى العلم بالأمور الغيبيّة.

قلنا: إنّ الآيات والروايات لم تحصر سبل تحصيل العلم بالأمور والحقائق الغيبيّة بالوحي، بل ذكرت طرقاً أخرى لاكتساب المعرفة بالأمور الغيبيّة؛ منها على سبيل المثال الإلهام والرؤيا الصادقة والتعلّم والتلقّي من النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) .

يقول العلّامة الطباطبائي (1402ه) في تفسير قوله عَزَّ وَجَلَّ: «عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا »(1):

والمعنى هو عالم كلّ غيب علماً يختصّ به؛ فلا يطّلع على الغيب - وهو مختصّ به أحداً من الناس. فالمفاد سلب كلّي؛ وإن أصرّ بعضهم على كونه سلباً جزئياًّ محصّل معناه : لا يُظهر على كلّ غيبه أحداً . ويؤيّد ما قلنا ظاهر ما سيأتي من الآيات. قوله تعالى: «إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ» استثناء من قوله : « أَحَدًا »، و« مِنْ رَسُولٍ» بيان لقوله : « مَنِ ارْتَضَى »، فيُفيد أنّ الله تعالى يظهر رسله على ما شاء من الغيب المختصّ به؛ فالآية إذا انضمّت إلى الآيات التي تخصّ علم الغيب به تعالى؛ كقوله: «وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ »(2)، وقوله : « «وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ»(3)، وقوله : «قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ »(4)، أفاد ذلك معنى الأصالة والتبعيّة؛ فهو تعالى يعلم الغيب لذاته، وغيره يعلمه بتعليم من الله »(5).

وهناك عدد من الروايات التي تؤيّد هذا التفسير (6) ؛ فأمير المؤمنين (علیه السلام) ومن خلال

ص: 77


1- سورة الجن: 26 .
2- سورة الأنعام: 59.
3- سورة النحل: 77.
4- سورة النمل: 65 .
5- تفسير الميزان ،ج 20 ،ص52- 53.
6- الكافي، ج 1، ص 256 .بحار الانوار ، ج 26، ص 101 -99 وص 165 .بصائر الدرجات، ص 113.

سيره في العوالم الملكوتيّة كان باستطاعته نيل الحقائق الغيبيّة؛ ولهذا قال:

«لَوْ كُشِفَ الْغِطَاءُ مَا ازْدَدْتُ يَقِيناً »(1).

هذا، ولم نعثر بين مصنّفات المحقّق الطوسيّ (672ه) في علم الكلام على بحث موسّع يتناول علم الغيب. نعم؛ تطرّق في كتاب تجريد الاعتقاد إلى أفضلية الإمام عليّ (علیه السلام) على جميع الخلفاء؛ لما ظهر منه من تنبّوءات وإخبارات غيبيّة (2).

21 /3 /2.المنقولات التاريخيّة عن إخبار الأئمة (علیهم السلام) بالغيب:

نقل التاريخ لنا أمثلة عديدة من تنبّؤات الأئمة من أهل البيت (علیهم السلام)، وإخبارهم بالغيب. وهي تدلّ بأسرها على ما خصّهم الله به من علم لدنّيّ؛ منها على سبيل المثال:

*أوّلاً: الأخبار الغيبيّة المرويّة عن الإمام عليّ بن أبي طالب (علیه السلام) :

«أُخِذَ مَرْوَانُ بْنُ الحَكَم أَسِيراً يَوْمَ الْجَمَلِ ، فَاسْتَشْفَعَ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ (علیهما السلام) إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ (علیه السلام)، فَكَلَّمَاه فِيهِ، فَخَلَّى سَبِيلَهُ، فَقَالَا لَهُ: يُبَايِعُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ (علیه السلام) : أَولَمْ يُبَايِعْنِي بَعْدَ قَتْلِ عُثمانَ؟! لَا حَاجَةَ لی فِي بَيْعَتِهِ؛ إِنَّهَا كَفٌّ يَهُودِيَّةٌ، لَوْ بَايَعَنِي بِكَفِّه لَغَدَرَ بِسَبَّتِهِ ، أَمَا إِنَّ لَه إِمْرَةً کَلَعقَةِ الْكَلْبِ أَنْفَه، وهُوَ أَبو الأَكْبُشِ الأَرْبَعَةِ، وسَتَلْقَى الأُمَّةُ مِنْه ومِنْ وَلَدِه يَوْماً أَحمَرَ »(3).

والتاريخ يشهد على وقوع ذلك كلّه؛ فقد ولي مروان الملك بعد أن شاب صدغاه في عمر يناهز الخمس وستّين سنة، واستمرّت مدة ملكه تسعة أشهر فقط، وولي الرياسة أربعة من أولاده وهم: عبدالملك - حيث صار ملكاً - وعبدالعزيز وبشر ومحمد حيث

ص: 78


1- بحار الأنوار، ج 65، ص 382 ؛ ارشاد القلوب الديلمي، ج 1، ص 124.
2- تجريد الاعتقاد، ص 282 ؛ كشف المراد ، ص .390
3- نهج البلاغة الخطبة ،73 ، وكذا الخطب: 13؛ 15؛ 57 ؛ 58؛ 89؛ 138؛ 176. ويُراجع أيضاً: الإرشاد، الشيخ المفيد، ج 1، ص 332 -315.

أصبحوا ولاة. وقد قاست الأمّة الإسلاميّة في أيّام ملك مروان وولده عبدالملك ورياسة الثلاثة الباقين من أبناء مروان أيّاماً عصيبّة ودامية(1).

*ثانياً : أخبر الإمام الحسن (علیه السلام) بكيفيّة استشهاده؛ فقال:

«إِنِّي أَمُوتُ بِالسَّمَّ كَما مَاتَ رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) . قَالُوا: وَمَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ؟ قَالَ: امْرَأَتِی جَعْدَةُ بِنْتُ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ، فَإِنَّ مُعَاوِيَةَ يَدُسُّ إِلَيْهَا، وَيَأْمُرُهَا بِذَلِكَ »(2).

وقال (علیه السلام) وهو على فراش الموت لأخيه الحسين (علیه السلام) :

«مَا يُبْكِيكَ يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ ؟ قَالَ : أَبْكِي لِمَا يُصْنَعُ بِكَ. فَقَالَ لَهُ الْحَسَنُ (علیه السلام) : إِنَّ الَّذِي يُؤْتَى إِلَيَّ سَمٌ، يُدَسُّ إِلَىَّ، فَأُقتَلُ بِهِ؛ وَلَكِنْ لَا يَوْمَ كَيَوْمِكَ يَا أَبَا عَبْدِ الله يَزْدَلِفَ إِلَيْكَ ثَلَاثُونَ أَلْفَ رَجُلٍ، يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ مِنْ أُمَّةِ جَدِّنَا مُحَمَّدٍ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، وَ یَنتَحِلُونَ دِينَ الْإِسْلَامِ، فَيَجْتَمِعُونَ عَلَى قَتْلِكَ وَسَفْكِ دَمِكَ، وَانْتِهَاكِ حُرْمَتِكَ، وَسَبْيِ ذَرَارِيِّكَ وَنِسَائِكَ »(3).

*ثالثاً : ورد في الرواية أنّ عمر بن سعد قال للإمام الحسين (علیه السلام):

«يَا أَبَا عَبْدِ الله! إِنَّ قِبَلَنا نَاساً سُفَهَاءَ يَزْعُمُونَ أَنِّي أقتُلُکَ . فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ (علیه السلام): إِنَّهُمْ لَيْسُوا بِسُفَهَاءَ؛ وَلَكِنَّهُمْ حُلَمَاءُ أَمَا إِنَّهُ يُقِرُّ عَيْنِي أَلَّا تَأْكُلَ بُرَّ الْعِرَاقِ بَعْدِي إِلَّا قَلِيلًا »(4).

*رابعاً: روى أبو بصير عن الإمام الباقر (علیه السلام) أنّه قال :

«كَانَ فِيمَا أَوْصَى أَبي إِلَيَّ أَنْ قَالَ: يَا بُنَيَّ! إِذَا أَنَا مِتُّ، فَلَا يَلِي غُسْلِي أَحَدٌ غَيْرُكَ؛ فَإِنَّ الْإِمَامَ لَا يَغْسِلُهُ إِلَّا إِمَامٌ ، وَاعْلَمْ أَنَّ عَبْدَ الله أَخَاكَ سَيَدْعُو النَّاسَ إِلَى نَفْسِهِ، فَدَعْهُ؛ فَإِنَّ

ص: 79


1- راجع شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج 6، ص 146- 148.
2- الخرائج والجرائح، الراونديّ، ج 1، ص 241 ؛ إثبات الهداة ،الحرّ العاملي، ج 5، ص147 و 150.
3- الأمالي الصدوق، ص 116 .
4- الإرشاد ،الشيخ المفيد ،ج 2 ،ص 132 .إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات، ج5، ص 199.

عُمُرَهُ قَصِيرٌ. فَلَمَّا مَضَى أَبِي وَ غَسَلتُهُ كَمَا أَمَرَنِي، وَادَّعَى عَبْدُ اللَّهِ الْإِمَامَةَ مَكَانَهُ، فَكَانَ كَمَا قَالَ أَبي وَمَا لَبِثَ عَبْدُ اللَّهِ إِلَّا يَسِيراً؛ حَتَّى مَاتَ »(1).

خامساً : روي عن الإمام الباقر (علیه السلام) أنّه: «دَخَلَ الْمَسْجِدَ يَوْماً فَرَأَى شَابّاً يَضْحَكُ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ لَهُ: تَضْحَكُ فِي الْمَسْجِدِ، وَأَنْتَ بَعْدَ ثَلَاثَةٍ مِنْ أَهْلِ الْقُبُورِ ؟ فَمَاتَ الرَّجُلُ فِي أَوَّلِ الْيَوْمِ الثَّالِثِ، وَدُفِنَ فِي آخِرِه »(2).

وروي أيضاً أنّه (علیه السلام) قال لأبي بصير: «إذَا رَجَعْتَ إِلَى الْكُوفَةِ، يُولَدُ لَكَ وَلَدٌ، وَ تُسَمِّیهِ عِيسَى، وَيُولَدُ لَكَ وَلَدٌ، وَتُسَمِّيهِ مُحَمَّداً؛ وَهُمَا مِنْ شِيعَتِنَا »(3).

وهناك روايات عديدة أُخرى نقلت لنا تنبّؤات الأئمة (علیهم السلام) وإخبارهم بالغيب(4).

21 /3 /3.علم الأئمة (علیهم السلام) بكيفيّة موتهم:

من الأسئلة المهمّة التي تُطرح في نطاق مبحث علم الإمام بالغيب السؤال عن علمه بكيفيّة موته، واطّلاعه على توقيت ذلك؛ فهل إنّ الأئمة المعصومين - كالإمام عليّ، والإمام الحسن، والإمام الحسين (علیهم السلام)، كانوا محيطين بأحداث المستقبل ؛ ومنها مكان استشهادهم، ووقته، والكيفيّة التي يكون عليها ذلك؟ وهل كانوا يعرفون قاتليهم؟ وفي معرض الردّ على هذا السؤال، ذهب علماء الإماميّة إلى رأيين مختلفين ؛ هما :

أولاً: ما أجاب به الشيخ المفيد (413ه) حينما قال:

وما أجمعت الشيعة قطّ على هذا القول ؛ وإنّما إجماعهم ثابت على أنّ الإمام يعلم

ص: 80


1- كشف الغمّة، الأربلي، ج 2 ،ص 381 .مناقب آل ابي طالب ،ابن شهر آشوب، ج4، ص 224.
2- إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات، ج 5، ص 305 ؛ بحار الأنوار ،المجلسيّ، ج46، ص 274.
3- المصدر السابق.
4- راجع: الاحتجاج ،ج 2 ،ص 366 .الإرشاد ،الشيخ المفيد ،ج 2 ،ص 198 .بحار الأنوار، ج 23 ،ص 13 .إثبات الهداة بالنصوص والمعجزات، ج 5، ص 336 و 508 . وج 6، ص 77 و 181 وص 266 و 322 .عيون أخبار الرضا ،الشيخ الصدوق، ج 1، ص 26 وج 2، ص 216.

الحكم في كلّ ما يكون؛ من دون أن يكون عالماً بأعيان ما يحدث ويكون، على التفصيل والتمييز. وهذا يُسقِط الأصل الذي بنيت عليه الأسئلة بأجمعها. ولسنا نمنع أن يعلم الإمام أعيان الحوادث تكون بإعلام الله تعالى له ذلك. فأمّا القول بأنّه يعلم كلّ ما يكون، فلسنا نطلقه ولا نصوّب قائله؛ لدعواه فيه من غير حجّة، ولا بيان والقول بأنّ أمير المؤمنين (علیه السلام) كان يعلم قاتله، والوقت الذي يقتل فيه، فقد جاء الخبر متظاهراً أنّه كان يعلم في الجملة أنّه مقتول. وجاء أيضاً بأنّه كان يعلم قاتله على التفصيل؛ فأمّا علمه في وقت قتله، فلم يأتِ فيه أثر على التفصيل، ولو جاء فيه أثر، لم يلزم ما ظنّه المستضعفون؛ إذ كان لا يمتنع أن يتعبّده الله بالصبر على الشهادة والاستلام للقتل ؛ ليبلّغه الله بذلك من علوّ الدرجة ما لا يبلّغه إلّا به، ولعلمه تعالى بأنّه يطيعه في ذلك طاعةً لو كُلّفها سواه لم يؤدّها ، ويكون في المعلوم من اللطف بهذا التكليف لخلق من الناس ما لا يقوم مقامه غيره ؛ فلا يكون بذلك أمير المؤمنين (علیه السلام) ملقياً بيده إلى التهلكة، ولا مُعيناً على نفسه معونة مستقبحة في العقول(1).

أما السيّد المرتضى (436ه) فقد استعرض ثورة الإمام الحسين (علیه السلام) قائلاً:

وسيدنا أبو عبد الله (علیه السلام) لم يسر طالباً للكوفة إلّا بعد توثّق من القوم، وعهود وعقود، وبعد أن كاتبوه (علیه السلام) طائعين غير مكرهين ومبتدئين غير مجيبين . وقد كانت المكاتبة من وجوه أهل الكوفة وأشرافها وقرّائها ... ولم يكن في حسابه أنّ القوم يغدر بعضهم، ويضعف أهل الحقّ عن نصرته، ويتّفق بما اتّفق من الأمور الغريبة (2).

وقد تطرّق الشيخ الطوسيّ (460ه) أيضاً إلى اختلاف علماء الإماميّة في هذه المسألة، مختاراً في الجواب عنها رأي أستاذه السيّد المرتضى (3).

ص: 81


1- المسائل العكبريّة ،المسألة 20، ص 70.
2- تنزيه الانبياء، ص 227 و 228.
3- تلخيص الشافي، ج 4، ص 189و 182.

وكتب الشيخ الطبرسيّ (548ه) في تفسير الآية الكريمة:

«وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» (1).

فإن عورضنا بأنّ الحسين (علیه السلام) قاتل وحده؟ فالجواب: إنّ فعله يحتمل وجهين أحدهما إنّه ظَنّ أنّهم لا يقتلونه لمكانه من رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) والآخر: إنّه غلب على ظنّه : أنّه لو ترك قتالهم قتله الملعون ابن زياد صبراً، كما فعل بابن عمّه مسلم، فكان القتل مع عزّ النفس والجهاد أهون عليه(2).

لكنّ العلّامة الطباطبائيّ (1402ه) ردّ ناقداً هذه الرؤية بالقول:

كلّ موجود ما لم يجب لم يوجد ومن ثَمَّ : ليس كلّ فعل واجباً بالنسبة لفاعله، بل يجب بالنسبة إلى علّته التامّة (وإرادة الله منها). تحقّق الفعل وانضواؤه تحت راية التكليف لا يتنافى مع كونه واجباً؛ فإنّ أفعال الإنسان الإراديّة من هذا النوع؛ أي إنّ أفعاله واجبة الوجود مع أنّه مكلّف بفعلها.

وعلى هذا الأساس، كان الأئمّة (علیهم السلام) يقدمون على العمل رغم معرفتهم بأنّه سوف يستشهد. يذهب أمير المؤمنين (علیه السلام) إلى المحراب، ويتناول الإمام الحسن والإمام الرضا (علیهما السلام) شراب الرمّان أو العنب المسموم ، ويدخل سيّد الشهداء (علیه السلام) أرض كربلاء. قد يعلم الإنسان أحياناً علماً قطعيّاً أنّه بفعله الاختياريّ سوف يشرب السمّ في الساعة الحادية عشر، وسوف يذهب صريع حادث مروريّ في ساحة كذا وشارع كذا، كما أنّه قد يعلم بالعلم القطعيّ أنّه بفعله الاختياريّ والإراديّ سوف يحصل له - مثلاً - حادث مروريّ في الساعة الحادية عشر في ساحة كذا، وشارع كذا، أو أنّه سوف يصاب بطلق ناريّ؛ لكنّ هذه الواقعة مشروطة بوقوع شرط أو شروط. وفي موضوعنا الأمر مشروط بالذهاب؛ بحيث إذا ذهب المرؤ قُتل، وإذا لم يذهب لم

ص: 82


1- سورة البقرة: 195.
2- تفسير مجمع البيان، ج 2، ص 35.

يُقتل. ففي الصورة الأولى لا معنى للعثور على مخرج وحلّ ؛ لأنّ الإنسان يرى نفسه واقعاً في الهلاك؛ وليس أنّه يوقع نفسه فيه، فيصدق أنّه ألقى بنفسه في التهلكة. ولهذا، لا يتوجّه إليه الخطاب القائل : «وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ» (1)، ولا يُعدّ أنّه ألقى نفسه بيده إلى التهلكة لكن في الصورة الثانية هنالك معنى للتشبّث والتمسّك بالأسباب، والعثور على مخرج وحلّ، والامتناع عن الذهاب صوب الهلاك، ويتوجّه للمرء خطاب «وَلَا تُلْقُوا». وإنّ حركة الأئمة (علیهم السلام) كان من قبيل الأوّل؛ فهم كانوا يعلمون أنّ الفعل واقع بالحتم لا محالة - شاؤوا أم أبوا -؛ فانتفى بذلك أيّ معنى للبحث عن طريق خلاص أو للامتناع عن الفعل؛ فكلّ هذا يخالف العلم القطعيّ المفترض. وفي واقع الأمر، فإنّ الآية الشريفة تنهى عن «الإلقاء» في التهلكة؛ لكنّ قضايا الأئمة (علیهم السلام) «وقوع» في التهلكة؛ وليس «إيقاعاً» ولا «إلقاءاً» فيها (2).

وقد روي عن الإمام عليّ (علیه السلام) في اللة التي قتل في صبيحتها أنّه:

«لَمْ يَخْرُجُ إِلَى الْمَسْجِدِ لِصَلَاةِ اللَّيْلِ عَلَى عَادَتِهِ، فَقَالَتْ لَهُ ابْتَتُه أُمّ كلثوم رَحْمَةُ الله عَلَيْهَا : مَا هَذَا الَّذِي قَدْ أَسْهَرَكَ؟ فَقَالَ : إِنِّي مَقْتُولٌ لَوْ قَدْ أَصْبَحْتُ. وَأَنَاهُ ابْنُ النَّبّاحِ فَآذَنَهُ بِالصَّلَاةِ، فَمَشَى غَيْرَ بَعِيدٍ، ثُمَّ رَجَعَ ، فَقَالَتْ لَهُ ابْنَتَهُ أُمُّ كُلْتُوم: مُرْ جَعْدَةَ؛ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ. قَالَ : نَعَمْ؛ مُرُوا جَعْدَةَ؛ فَلْيُصَلِّ. ثُمَّ قَالَ: لَا مَفَرَّ مِنَ الْأَجَلِ، فَخَرَجَ إِلَى الْمَسْجِد »(3).

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ الشيخ المفيد (413ه) قد أشار إلى هذا الجواب أيضاً(4).

ثانياً : ما أورده البعض الآخر من كبار علماء الإماميّة ومنهم : ابن طاووس(5)

ص: 83


1- سورة البقرة: 195.
2- في حضرة العلّامة الطباطائي [بالفارسیة در محضر علامه طباطبايي]، ص 205 و 206.
3- الإرشاد، ج 1، ص 16 ،إعلام الورى بأعلام الهدى، الطبرسيّ، ص 155. المناقب، ج 3، ص 310.
4- المسائل العكبرية، مسألة 20 ،ص .70
5- اللهوف في قتلى الطفوف، ص 11 .والذي تحقّقناه أنّ الحسين (علیه السلام) كان عالماً بما انتهت حاله إليه وكان تكليفه ما اعتمد عليه.

( 664ه)، والفيّاض اللاهيجيّ(1) (1051ه)، والعلّامة المجلسيّ (2)(1110ه)، والمحدّث البحراني(3) (1186ه) ؛ فقد ذهبوا إلى أنّ الأئمة (علیهم السلام) كانوا على علم بزمان استشهادهم، وكيفيّة ذلك؛ ولا محلّ لإلقاء شبهة في هذا الصدد.

يقول الشيخ جعفر التستريّ (1303ه) :

ولكنّه (علیه السلام) قد علم بأنّه يقتل ؛ فقال لأصحابه : أشهد أنّكم تقتلون جميعاً، ولا ينجو أحد منكم إلّا ولدي عليّ (4).

وكتب فضل الله الكمبانيّ (1414ه) يقول:

لقد كان الإمام (علیه السلام) قبل انطلاقته من مكّة ، بل حتّى من حين خروجه من المدينة عالماً بجميع أحداث كربلاء؛ حتى الوقائع التي بعد استشهاده - مثل : وقوع أهل بیته في الأسر - ولأجل ذلك أخذ معه عائلته (5).

وأمّا العلّامة الطباطبائي (1402ه) فقد أشار إلى هذه النقطة قائلاً:

يملك الإمام - حسب ما أفادته أحاديث كثيرة - مقاماً من القرب الإلهيّ يمكّنه من العلم بأيّ شيء يريده بإذن الله؛ ومن ذلك علمه بملابسات موته واستشهاده بجميع التفاصيل (6).

ومن هنا، نجد أن المشيئة الإلهيّة اقتضت أن ينماز الأئمة الأطهار عن باقي الخلائق بأن اختصّهم الله تَبَارَكَ وَتَعَالى بعلم واسع النطاق، وأطلعهم على علوم غيبيّة تلقّوها من رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، فوصلوا إلى حقائق الكون وأسراره.

ص: 84


1- جوهر المراد [بالفارسية :گوهر مراد ]، الفياض اللاهيجيّ، ص 594.
2- مرآة العقول، ج 3، ص 124 بحار الأنوار، ج 45، ص 98.
3- أحكام القرآن، ج 1، ص 319 منقولًا عن: مقتل الحسين، عبد الرزاق المقرم، ص44.
4- الخصائص الحسينية، ص 30 و 42.
5- من الحسين؟ [بالفارسية: حسین کیست؟ ] ، فضل الله الكمباني ،ص 325 .
6- بحث مقتضب عن علم الإمام [بالفارسية بحثي كوتاه درباره علم امام ]ص34.

وقد عرض الفخر الرازيّ (606ه) حديث أمير المؤمنين (علیه السلام) الذي قال فيه :

«عَلَّمَنِي رَسُولُ الله أَلْفَ بَابٍ مِنَ العِلْمِ، فَفَتَحَ (فَانفَتَحَ) لِيْ مِنْ كُلُّ بَابٍ أَلْف بابٍ»(1).

وقال في معرض ردّه على أنّ عليّاً (علیه السلام) كان الأعلم بين الصحابة :

أمّا الحجّة الثالثة - وهي أنّ عليّاً كان أعلم -قلنا : لِمَ لا يجوز أن يُقال: إنّه حصل له هذه العلوم الكثيرة، بعد أبي بكر ؛ وذلك لأنّه عاش بعده زماناً طويلاً، فلعلّه حصلها في هذه المدّة (2).

وهو بهذا النصّ يتجاهل حقيقة أنّ أمير المؤمنين (علیه السلام) قد تعلّم هذه العلوم في عصر النبوّة، ونهلها من شخص النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، وقد كان الخلفاء - باعترافهم هم - يلجؤون لحلّ ما يستعصي عليهم إلى أمير المؤمنين (علیه السلام) .

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ الفخر الرازيّ (606ه) روى في كتابه بعض الوقائع التي تؤيّد أعلميّة الإمام عليّ (علیه السلام)؛ إذ أورد ما روي عن عمر بأنّه أمر برجم امرأة ولدت لستة أشهر، فنبّهه علىّ (علیه السلام):

وقال له: الآية: «وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا »(3)، مع قوله: «وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ » (4)، على أنّ أقلّ مدّة الحمل ستّة أشهر. فقال عمر: «لولا علىّ

ص: 85


1- الأربعين في أصول الدين ،الفخر الرازيّ ،ص 475. لاحظ أيضاً: ينابيع المودة القندوزي، ص 72؛ كنز العمال، المتّقي الهنديّ، ج6، ص392. وروى ابن عساکر : قال رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في مرضه: «ادعوا إليّ أخي، فدعي له عثمان، فأعرض عنه، ثمّ قال: ادعوا إليّ أخي، فدعي له عليّ بن أبي طالب فستره بثوب، وأنكبّ عليه، فلمّا خرج من عنده قيل له: ما قال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ؟ قال : علّمني ألف باب يفتح كلّ باب ألف باب». تاریخ دمشق، ج 42 ،ص 385 الرقم : 8992 .[م]
2- المصدر السابق، ص 477.
3- سورة الأحقاف: 15 .
4- سورة البقرة : 233 .

لهلك عُمر». ورُوي أنّ امرأةً أقرّت بالزنا، وكانت حاملاً، فأمر عمر برجمها. فقال عليّ (علیه السلام): إن كان لك سلطان عليها ، فما سلطانك على ما في بطنها؟»، فترك عُمر رجمها، وقال: «لولا عليّ، لهلك عُمر »(1).

ثمّ روى بعد ذلك أيضاً :

أنّ عُمر قال يوماً على المنبر: «ألا لا تغالوا في مهور النساء، فمن غالى في مهر امرأةٍ، جعلته في بيت المال»، فقامت عجوز وقالت يا أمير المؤمنين! أتمنع عنّا ما أحلّه الله لنا؟ قال تعالى: «وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا »(2)، فقال عمر : كلّ الناس أفقه من عُمر؛ حتى المخدَّرات في البيوت»(3).

21 /4.مصادر علم الإمام (علیه السلام):

إشارة

تمثّل الأبحاث المرتبطة بمصادر علم الأئمة المعصومين (علیهم السلام): إحدى أهمّ البحوث المتعلّقة بعلم الإمام، فدائماً ما يُطرح هذا السؤال: كيف تمكّن الأئمة المعصومون (علیهم السلام) من الوصول إلى درجة الإلمام بالحقائق الدينيّة وغير الدينيّة ؟

وقد استعرض العلماء مصادر مختلفة لعلومهم، سنتطرّق لبيان بعضها بإيجاز :

21 /4/ 1.القرآن الكريم:

القرآن الكريم هو أهمّ مصادر علم الإمام (علیه السلام) ؛ فهناك عدد من الآيات والروايات الدالّة على قيام الأئمّة (علیهم السلام): باستنباط الأحكام والمعارف الإلهيّة من القرآن الكريم.

ص: 86


1- الأربعين في أصول الدين الرازيّ، ص 477؛ المناقب، الخوارزمي ،ص 81.
2- سورة النساء: 20 .
3- الأربعين في أصول الدين، ص 466 و 467. وقد أذعن الفخر الرازيّ في كتابه هذا بأعلميّة الإمام عليّ (علیه السلام) ؛ حيث قال: فثبت بما ذكرنا أنّه رضوان الله عليه كان أستاذ العالمين بعد محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في جميع الخصال المرضيّة والمقامات الحميدة الشريفة».

يقول تعالى :

«وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ »(1).

وقد دلّت طائفة من الأحاديث الشريفة على أنّ الأئمة الأطهار (علیهم السلام) هم مصداق « مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ». وقد سُئل الإمام الباقر (علیه السلام) عن الآية فأجاب:

«إيَّانَا عَنَى وَعَلِيٌّ أَوَّلُنَا، وَأَفضَلُنَا، وَخَيْرُنَا بَعدَ النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) »(2).

وروي عنه (علیه السلام) أيضاً أنّه قال : «نَزَلَتْ فِي عَلِيٍّ بنِ أَبِي طَالِبٍ (علیه السلام) ، إِنَّهُ عَالِمٌ هَذِهِ الأُمَّةِ بَعدَ النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) »(3).

وقد روى أهل السنّة عدداً من الروايات في هذا المجال؛ منها :

«سَأَلتُ رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) عَنْ قَولِ الله تَعَالَى: « وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ » قَالَ: ذَاكَ أَخِي عَلِيُّ بنِ أَبِي طَالِب »(4).

ورووا في كتبهم أيضاً :

«عَن أبِي صَالِحٍ [في قوله تعالى]: « وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ »قَالَ: عَلِيُّ بنِ أَبِي طَالِب [ كَانَ عَالِماً بِالتَّفْسِيرِ وَالتَّأْوِيلِ وَالنَّاسِخِ وَالمَنسُوخِ وَالحَلَالِ وَالحَرَامِ. قَالَ أَبُو صَالِحٍ :سَمِعتُ ابنَ عَبَّاسِ ... يَقُولُ : لَا - والله - مَا هُوَ إِلَّا عَلِيُّ بن أبي طالب »(5).

ومن المواضع التي استنبط فيها الأئمة الأطهار (علیهم السلام)أحكاماً من القرآن : استنباط الإمام

ص: 87


1- سورة الرعد :43.
2- نور الثقلين ،الحويزيّ، ج 2، ص 521، ح 207.
3- المصدر السابق ،ص 523 .
4- شواهد التنزيل ،الحسكانيّ، ج 1، ص 400، ح 422؛ وكذلك: ح 423، 424 و425.
5- المصدر السابق ،ص 405، ح 427. ولاحظ أيضاً: ينابيع المودة ،القندوزي، ج 1 ، باب 30، ح 11، والأحاديث، 1، من 1 إلى 13 .

الجواد(علیه السلام) ؛ وهو ما رووه عن زرقان صاحب ابن أبي دواد وصديقه الحميم قال:

«رجع ابن أبي دواد ذات يوم من عند المعتصم وهو مغتمّ فقلت له في ذلك، فقال وددت اليوم أنّي قدمت منذ عشرين سنة، قال قلت له : ولم ذاك؟ قال : لما كان من هذا الأسود أبي جعفر محمد بن عليّ بن موسى اليوم بين يدي أمير المؤمنين، قال: قلت له : وكيف كان ذلك؟ قال : إنّ سارقاً أقرّ على نفسه بالسرقة، وسأل الخليفة تطهيره

بإقامة الحدّ عليه، فجمع لذلك الفقهاء في مجلسه ؛ وقد أحضر محمد بن عليّ فسألنا عن القطع في أيّ موضع يجب أن يقطع؟ قال: فقلت من الكرسوع. قال: وما الحجّة في ذلك؟ قال: قلت لأنّ اليد هي الأصابع والكفّ إلى الكرسوع، لقول الله في التيمّم :

« فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ »واتّفق معي في ذلك قوم. وقال آخرون: بل يجب القطع من المرفق قال: وما الدليل على ذلك؟ قالوا: لأنّ الله لما قال: « وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ» في الغسل دلّ ذلك على أنّ حدّ اليد هو المرفق. قال: فالتفت إلى محمّد بن عليّ فقال: ما تقول في هذا يا أبا جعفر؟ فقال: قد تكلّم القوم فيه يا أمير المؤمنين، قال: دعني ممّا تكلّموا به ! أيّ شيء عندك ؟ قال : اعفني عن هذا يا أمير المؤمنين، قال: أقسمت عليك بالله ما أخبرت بما عندك فيه . فقال : أما إذ أقسمت عليّ بالله، إنّي أقول إنّهم أخطأوا فيه السنّة، فإنّ القطع يجب أن يكون من مفصل أصول الأصابع، فيترك الكفّ، قال : وما الحجّة في ذلك؟ قال: قول رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) « السجود على سبعة أعضاء؛ الوجه واليدين والركبتين والرجلين، فإذا قطعت يده من الكرسوع أو المرفق لم يبق له يد يسجد عليها؛ وقال الله تبارك وتعالى: «وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ »(1)؛ يعني به هذه الأعضاء السبعة التي يسجد عليها: «فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا »(2) ،وما كان الله لم يقطع. قال: فأعجب المعتصم ذلك وأمر بقطع يد السارق من مفصل الأصابع دون الكفّ. قال ابن أبي دواد قامت قيامتي وتمنّيت أنّي لم أك حياً»(3).

ص: 88


1- سورة الجن: 18.
2- سورة الجن: 18.
3- تفسير العياشيّ، ج 1، ص 319، ح 109.
21 /4 /2.العلم النبويّ:

المصدر الثاني من مصادر علم الأئمّة (علیهم السلام) هو: تعلّمهم السنّة النبويّة من النبيّ الأکرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، ووصاياه، وما أورثه لهم؛ فقد أودع النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أوّل أوصيائه الإمام عليّاً (علیه السلام) جميع معارفه وعلومه، كما علّم الإمام عليّ (علیه السلام) أبناءه تلك العلوم والمعارف، وتوارثوها إماماً عن إمام إلى أن وصلت إلى الإمام المهدي (علیه السلام).

وقد رويت كثير من الأحاديث من طرق العامّة والخاصّة تدلّ على أنّ الإمام عليّاً (علیه السلام)، قد تعلّم علوم النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) مباشرةً من ذاته المقدسة؛ من دون واسطة؛ منها:

«عَنْ مَكْحُولٍ فِي قَوْلِهِ :« وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ»(1) ، قَالَ: قَالَ : رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) سَأَلْتُ رَبِّی أَنْ يَجْعَلَهَا أُذُنَ عَلِيٍّ (علیه السلام)»(2).

وروي في «الدرّ المنثور» بشأن هذه الآية:

«أخرج أبو نَعِيم في الحليةِ عَن عَلىّ (علیه السلام)؛ قَالَ: قَالَ رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : يَا عَلىّ إِنَّ اللهَ أَمَرَنِي أنْ أُدْنِيَكَ وأَعَلَّمَكَ لِتَعِيَ ، فَأَنزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: :« وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ»، فَأَنْتَ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ لعلمي»(3).

وروي فيه أيضاً عن سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن مكحولٍ ؛ قال :

«لَمّا نَزَلَتْ : :« وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ»، قَالَ رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : سَأَلْتُ رَبِّي أَنْ يَجْعَلَهَا أُذُنَ

ص: 89


1- سورة الحاقة: 12. «تعيها» من مادة «وعى» في الأصل بمعنى: الاحتفاظ بشيء معين في القلب، ومن هنا قيل للإناء «وعاء»؛ لأنّه يحفظ الشيء الذي يوضع فيه، وقد ذكرت هذه الصفة «الوعي» للآذان في الآيات مورد البحث ،وذلك بلحاظ أنّها تسمع الحقائق وتحتفظ بها. التفسير الأمثل، ج 24، ص 444».
2- ينابيع المودة ،القندوزي ، ج 1 ، باب 39، ص 360، ح 240 ؛مناقب آل أبي طالب ،ابن شهر آشوب، ج 2، ص 61. تأويل الآيات، شرف الدين الحسيني، ص 715.
3- الدرّ المنثور ،عبد الرحمن جلال الدين السيوطي ، ج 6، ص 260 .

عَليٍّ. قَالَ مَكحُولٌ : فَكَانَ عَلِيٌّ (علیه السلام) يَقُولُ : مَا سَمِعْتُ مِنْ رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) شَيْئاً فَنَسِيتُهُ »(1).

ومن المرويات في هذا الباب أيضاً:

«عَنِ ابْنِ عَبَّاسِ ؛ قَالَ : قَالَ رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : أَتَانِي جَبْرَئِيلَ (علیه السلام) بِدُرْنُوكِ مِنَ الْجَنَّةِ، فَجَلَسْتُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا صِرْتُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّی، كَلَّمَنِي، وَنَاجَانِی، فَمَا عُلِّمْتُ شَيْئًا إِلَّا عَلَّمْتُهُ عَلِيّاً، فَهُوَ بَابُ مَدِينَةِ عِلْمِي»(2).

21 /4 /3.الصحيفة الجامعة للإمام عليّ (علیه السلام):

«الكتاب» - أو «الجامعة»، أو «صحيفة عليّ (علیه السلام)» - هو أحد مصادر العلم لدى الأئمة الأطهار (علیهم السلام) وقد نُقلت مجموعة من الروايات من طرق الفريقين تفيد بأنّ الإمام عليّ (علیه السلام) قد كتب كتاباً أملاه عليه النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، ومن ذلك :

ما روي عن أبي بصير، عن الإمام الصادق (علیه السلام) ؛ قال :

«يَا أَبَا مُحَمَّدٍ وَإِنَّ عِنْدَنَا الْجَامِعَةَ، وَمَا يُدْرِيهِمْ مَا الْجَامِعَةُ؟ قَالَ: قُلْتُ : جُعِلْتُ فِدَاكَ؛ وَمَا الْجَامِعَةُ ؟ قَالَ : صَحِيفَةٌ طُولُها سَبْعُونَ ذِرَاعاً بِذِرَاعٍ رَسولُ اللَّهِ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وَإِمْلَائِهِ، مِنْ فَلْقِ فِيهِ، وَخَطِّ عَلِيٌّ بِيَمِينِهِ، فِيهَا كُلُّ حَلَالٍ وَحَرَامِ، وَكُل شیء يَحْتَاجُ النَّاسُ إِلَيْهِ؛ حَتَّى الْأَرْشُ فِي الْخَدْشِ وَضَرَبَ بِيَدِهِ إِلَىّ، فَقَالَ: تَأْذَنُ لِي يَا أَبَا مُحَمَّدِ؟ قَالَ: قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ! إِنَّمَا أَنَا لَكَ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ. قَالَ: فَغَمَزَنِي بِيَدِهِ، وَقَالَ: حَتَّى أَرْشُ هَذَا، كَأَنَّهُ مُغْضَبٌ، قَالَ: قُلْتُ: هَذَا وَالله الْعِلْمُ قَالَ: إِنَّهُ لَعِلْمٌ، وَلَيْسَ بِذَاكَ »(3).

وعن الإمام الباقر (علیه السلام) أنّه قال:

ص: 90


1- المصدر السابق. وراجع أيضاً : الجامع لأحكام القرآن ،القرطبي، ج 19، ص: 264 .يُراجع: سعد السعود، ابن طاووس، ص 108 ينابيع المودة، القندوزيّ ، ج 1 ، باب 39 ،ص 360، ح 24.
2- بحار الانوار، المجلسيّ، ج 3، ص 149 وج 40، ص 190. الصراط المستقيم ،عليّ بن يونس، ج 2، ص 20. مستدرك سفينة البحار ،علي النمازيّ، ج 8 ،ص 48 .ينابيع المودة ،القندوزي، ج 1، ص 217 .
3- الكافي ،الكلينيّ، ج 1، ح 1، ص 239.

«في كِتاب علىّ (علیه السلام) ثَلَاثُ خِصَالٍ لَا يَمُوتُ صَاحِبُهُنَّ أَبَداً حَتَّى يَرَى وَبَالَهُنَّ الْبَغْيُّ وقَطِيعَةُ الرَّحِمِ والْيَمِينُ الْكَاذِبَةُ يُبَارِزُ اللَّهَ بِهَا »(1).

ويقول الشريف الجرجاني (816ه) في« شرح المواقف» عن الجفر والجامعة:

وهما كتابان لعليّ رضي الله تعالى عنه (2).

وعن معلّى بن خنيس أنّه قال:

«كُنْتُ عِنْدَ أَبي عَبْدِ اللَّهَ (علیه السلام) إِذْ أَقْبَلَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الله [يقصد: النفس الزكيّة] فَسَلَّمَ، ثُمَّ ذَهَبَ ، فَرَقَّ لَهُ أَبُو عَبْدِ الله (علیه السلام)، ودَمَعَتْ عَيْنَاهُ. فَقُلْتُ لَهُ: لَقَدْ رَأَيْتُكَ صَنَعْتَ بِهِ مَا لَمْ تَكُنْ تَصْنَعُ ! فَقَالَ: رَفَقْتُ لَهُ لِأَنَّهُ يُنْسَبُ إِلَى أَمْرٍ لَيْسَ لَهُ، لَمْ أَجِدْهُ فِي كِتَابٍ عليّ (علیه السلام) مِنْ خُلَفَاءِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَلَا مِنْ مُلُوكِهَا »(3).

21 /4 /4.الجفر :

«الجفر» هو أحد مصادر علم الأئمة الأطهار (علیهم السلام)؛ وتعني مفردة «الجفر»: الوعاء من الجلد. وقد كان يحوي علم الأنبياء (علیهم السلام)، والأوصياء، والماضين من بني إسرائيل (4).

وهناك مجموعة من الرويات التي تخبر عن وجود الجفر، وكونه لدى الأئمة (علیهم السلام):

روي عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنّه قال:

«وَإِنَّ عِنْدَنَا الْجَفْرَ، وَمَا يُدْرِيهِمْ مَا الْجَفْرُ ؟ قَالَ: قُلْتُ: وَمَا الْجَفْرُ؟ قَالَ: وِعَاءٌ مِنْ أَدَمٍ، فِيهِ عِلْمُ النَّبِيِّينَ، وَالْوَصِيِّينَ، وَعِلْمُ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ مَضَوْا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ »(5).

ص: 91


1- الخصال، الصدوق، ص 124 . معالم المدرستين ،العسكريّ، ج 2، ص 346.
2- شرح المواقف ،الجرجاني، ص 276 .الذريعة، الطهراني، ج 5، ص 119 .أعيان الشيعة، الأمين، ج 1، ص 81.
3- الكافي، الكلينيّ، ج8، ص395. بصائر الدرجات، الصفّار، ج 4 ،ص 229، ح 1.
4- الكافي، الكلينيّ، ج 1، ص 239، ح 1.
5- الكافي، الكلينيّ، ج 1 ص 239، ح 1. ولاحظ :بصائر الدرجات ،الصفّار، ج 3، ص 210، ح 3.

وقد قرّر الإمام الرضا (علیه السلام) أنّ من جمله شروط الإمام والقائد أن يكون كلّ من كتابي الجفر الأكبر والأصغر (الأصفر) بحوزته(1).

وروي عن أبي مريم أنّه قال:

«قَالَ لِي أَبُو جَعْفَر(علیه السلام) ....وعِنْدَنَا الْجُفْرُ؛ وهُوَ أَدِيمٌ عُكَاظِيٌّ، قَدْ كُتِبَ فِيهِ حَتَّى مُلِئَتْ أَكَارِعُهُ، فِيهِ مَا كَانَ، وَمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ»(2).

وقد تمسّك الأئمة الأطهار (علیهم السلام) في موارد عديدة بكتاب الجفر، واستشهدوا بما جاء فيه؛ فحينما كتب المأمون كتاباً إلى الإمام الرضا ،(علیه السلام) ، وأوكل ولاية عهده إليه؛ كتب الإمام (علیه السلام) في ظهر ذلك الكتاب:

«وَالْجامِعَةُ وَالجُفْرُ يَدُلَّانِ عَلَى ضِدَّ ذَلِكَ ... لَكِنِّي امْتَثَلْتُ أَمْرَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَآثَرْتُ رضاه »(3).

ونجد أنّ الإمام الصادق (علیه السلام) قد قال في شأن أصحاب زيد:

«إِنَّ فِي الجُفْر الَّذِي يَذْكُرُونَهُ لَمَا يَسُوؤُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَقُولُونَ الْحَقَّ، والْحَقُّ فيه، فَلْيُخْرِجُوا قَضَايَا عليّ (علیه السلام) وفَرَائِضَهُ؛ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ! وَسَلُوهُمْ عَنِ الْخَالَاتِ والْعَمَّاتِ »(4).

21 /4 /5.مصحف فاطمة (علیها السلام):

«مصحف فاطمة (علیها السلام) »- أو صحيفتها - أحد المصادر المعرفيّة لأهل البيت (علیهم السلام):

ص: 92


1- كشف الغمّة، الأربلّي، ج 3، ص 121 .الاحتجاج، الطبرسيّ، ج 2 ،ص 448 .الخصال ،الصدوق، أبواب الثلاثين، ص 527 ، ح 1. بحار الأنوار ،المجلسيّ ، ج 25 ، ص 117 [ وردت في كتاب بحار الأنوار كلمة «الأصفر» بدلاً من «الأصغر»].
2- بصائر الدرجات ،الصفّار، ج 3، ص 218، ح 3 .بحار الأنوار ،المجلسيّ، ج 26، ص 48، ح 90. [
3- كشف الغمّة، الأربلي، ج 3، ص 172-179. معالم المدرستين ،العسكريّ، ج 2، ص 427.
4- بصائر الدرجات، ج 3، ص 214، ح 16 ، وص 216 ،ح21 ؛الكافي، الكلينيّ، ج 1، ص 241، ح 4.

وهو يشتمل على أخبار غيبيّة ، وأحداث سوف تحدث في المستقبل؛ نزل به جبرئيل الأمين (علیه السلام) على السيّدة الزهراء (علیها السلام) بعد وفاة النبيّ الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، وخطّه الإمام عليّ (علیه السلام)(1). وقد استشهد الإمام الخميني (1409ه) بها قائلاً :

والصحيفة الفاطمية؛ وهي الكتاب الملهم من قِبَل الله تعالى إلى الزهراء المرضيّة(علیها السلام) (2).

وروي عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنّه قال عندما سئل عن هذا المصحف:

«إِنَّ فَاطِمَةَ (علیها السلام) مَكَثَتْ بَعْدَ رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) خَمْسَةً وسَبْعِينَ يَوْماً، وَكَانَ دَخَلَهَا حُزْنُ شَدِيدٌ عَلَى أَبِيهَا، وَكَانَ جَبْرَئِيلُ (علیه السلام) يَأْتِيهَا، فَيُحْسِنُ عَزَاءَهَا عَلَى أَبِيهَا ، ويُطيِّبُ نَفْسَهَا، ويُخبرُهَا عَنْ أَبِيهَا، وَمَكَانِهِ ، ويُخبرُهَا بِمَا يَكُونُ بَعْدَهَا فِي ذُرِّيَّتِهَا، وَكَانَ عليّ (علیه السلام) يَكْتُبُ ذَلِكَ فَهَذَا مُصْحَفُ فَاطِمَةَ (علیها السلام)»(3).

وروي عن حمّاد بن عثمان أنّه قال :

«سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله (علیه السلام) يَقُولُ : تَظْهَرُ الزَّنَادِقَةُ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ وعِشْرِينَ وَمِائَةٍ، وَذَلِكَ أَنِّی نَظَرْتُ فِي مُصْحَفِ فَاطِمَةَ (علیها السلام)»(4).

وعن فضيل بن سُكَّرة؛ قال:

«دَخَلْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهَ (علیه السلام)، فَقَالَ : يَا فُضَيْلُ أَتَدْرِي فِي أَيَّ شَيْءٍ كُنْتُ أَنْظُرُ قُبَيْلُ؟! :قالَ: قُلْتُ: لَا ، قَالَ: كُنْتُ أَنْظُرُ فِي كِتَابٍ فَاطِمَةَ (علیها السلام)؛ لَيْسَ مِنْ مَلِكٍ يَمْلِكُ الْأَرْضَ إِلَّا وهُوَ مَكْتُوبٌ فِيهِ بِاسْمِهِ، واسم أبيه »(5).

ص: 93


1- الكافي ،الكلينيّ، ج 1، ص 241، ح 5 وص 458، ح 2 .
2- الوصيّة السياسية الإلهيّة الإمام الخميني، ص 3 .
3- بصائر الدرجاتّ، ج 1، ص 154.
4- الكافي ،الكلينيّ، ج 1، ص 240 ،ح 2 .بصائر الدرجات ،الصفّار ،جزء 3 باب 14، ص 215، ح 18 .
5- الكافي، الكلينيّ، ج 1 ،ص 242، ح 8.

وروى سليمان بن خالد عن الإمام الصادق (علیه السلام) أنّه قال:

«وَلْيُخْرِجُوا مُصْحَفَ فَاطِمَةَ (علیها السلام)؛ فَإِنَّ فِيهِ وَصِيَّةَ فاطمة (علیها السلام) »(1).

ولمّا سُئل الإمام الباقر (علیه السلام) عمّا آل إليه أمر هذا المصحف بعد رحيلها (علیها السلام)، قال:

«دَفَعَتْهُ إِلَى أمير المؤمنين (علیه السلام) ، فَلَمَّا مَضَى صَارَ إِلَى الْحَسَنِ (علیه السلام)، ثُمَّ إِلَى الْحُسَيْنِ (علیه السلام)، ثُمَّ عِنْدَ أَهْلِهِ؛ حَتَّى يَدْفَعُوهُ إِلَى صَاحِبِ هَذَا الْأَمْرِ [أي: الإمام المهدي (علیه السلام)]»(2).

وقد روي عن الإمام الرضا (علیه السلام) أنّه قال:

«للْإِمَامِ عَلَامَاتٌ يَكُونُ أَعْلَمَ النَّاسِ وأَحْكَمَ النَّاس... ويَكُونُ عِنْدَهُ مُصْحَفُ فَاطِمَةَ (علیها السلام)»(3).

ويقول العلّامة الطهرانيّ (1389ه) : مصحف فاطمة (علیها السلام) من ودائع الإمامة، عند مولانا وإمامنا صاحب الزمان (علیه السلام) ، كما روي في عدة أحاديث من طرق الأئمة (علیهم السلام)(4).

21 /4 /6.التحديث :

تحديث الملائكة لأئمة أهل البيت (علیهم السلام) ممّا يجعلهم من «المحدّثين» هو أحد مصادر علومهم؛ فإنّ بعض تلك العلوم انتقل إليهم من خلال التحديث وإلقاء الملائكة عليهم. و«المحدَّث» هو من تتحدّث الملائكة معه من غير أن يكون نبيّاً؛ أو الذي يرى الملائكة، أو الذي يحضر لديه العلم بأمور من خلال الإلهام والمكاشفة، أو تُلقى في روعه حقائق تخفى على الآخرين(5).

ص: 94


1- المصدر السابق، ص 241، ح 4.
2- دلائل الإمامة ،الطبريّ، ص 28 .مسند السيّدة الزهراء ،العطارديّ، ص 292.
3- الخصال ،الصدوق ،أبواب الثلاثين، ص 527.
4- لذريعة ،الطهرانيّ، ج 12، ص 126، رقم 4248.
5- الكافي، الكلينيّ، ج 1، ص 271، ح 4. الغدير، الأمينيّ، ج 5، ص 42.

وهناك عدد من أمثلة تحديث الملائكة لبعض البشر من غير أن يكونوا من الأنبياء؛ فقد تحدّثت الملائكة مع السيّدة مريم (علیها السلام)(1)، كما تحدّثت مع سارة زوج نبيّ الله إبراهيم (علیه السلام) (2). وتحدّثت مع الزهراء (علیها السلام)ابنة النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) (3).

ويرى علماء العامّة أنّ عمر كان محدّثاً (4).

وقد استعرض الباحثون الإسلاميّون مجموعة من المصادر الأخرى لعلم الإمام؛ منها: روح القدس، والاسم الأعظم، والرؤيا الصادقة، وكتب الأنبياء، وعالم الملكوت، والعقل.

***

ص: 95


1- سورة آل عمران الآيات: 42-45.
2- سورة هود: 71.
3- علل الشرايع ،الصدوق، ج 1، ص 216 ، باب 146 ، ح 1. بحار الأنوار ،المجلسيّ، ج 43، ص 78، ح 65. دلائل الإمامة، محمّد بن جرير بن رستم الطبريّ، ص 28 .
4- فتح الباري بشرح صحيح البخاري ،ابن حجر العسقلانيّ ، كتاب فضائل الصحابة ،باب مناقب عمر، ج 7، ص 52، ح 3689 .غريب الحديث ،عبدالله بن مسلم بن قتيبة الدينوريّ، ج 1، ص 9 ش 34 .لسان العرب، ابن منظور ،ج 2، ص 134.

22.أفضلية الإمام

22 /1.تمهيد :

تمثّل صفة أفضليّة الإمام على من سواه إحدى الصفات المهمّة له؛ وهي من الصفات التي اتّفق جميع علماء الإماميّة في ثبوتها للإمام فعلى سبيل المثال يرى الشيخ الطوسيّ (460ه) أنّ وجوب أفضليّة الإمام (علیه السلام) تؤسس لتحقّق معنيين:

أوّلاً: أنّ الإمام أكثر الناس ثواباً عند الله تعالى.

ثانياً: أنّ الإمام أفضل من غيره في جميع الأمور الظاهرية، وفي كلّ ما هو متعلّق بأمر الإمامة(1).

ويرى السيّد المرتضى (436ه) أنّ أحد الشروط الواجبة في الإمام (علیه السلام) أن يكون الأفضل ؛ بمعنى أن يكون من جهة الثواب أفضل من غيره(2).

وقد نسب العلّامة الحلّي (726ه) إلى بعض المعتزلة أنّهم يوافقون الإماميّة في رؤيتهم لهذا الأمر؛ في حين يخالفهم في ذلك الأشاعرة وباقي المعتزلة(3).

وقرّر الفيّاض اللاهيجيّ (1051ه) أنّ كلّ القائلين بالحسن والقبح العقليّين يذهبون - لا محالة - إلى وجوب أفضليّة الإمام، أمّا غيرهم وهم الرافضون لهذا المبدأ فينكرون شرطيّة هذا للإمام. ومع ذلك، فقد نقل عن أبي الحسن الأشعريّ (324ه)

ص: 96


1- تلخيص الشافي ،ج 1 ،ص 209 ؛ تمهيد الأصول، ص 803 .
2- الذخيرة في علم الكلام ،السيّد المرتضى، ص 429.
3- مناهج اليقين، ص 454.

وسعد الدين التفتازانيّ (792ه) أنّهما أذعنا بوجوب الأفضليّة في الإمام، بالرغم من أنّهما لم يقولا بالحسن و القبح العقليّين (1).

22 /2.أفضليّة الإمام ضرورة :

أكّد منّظرو الإماميّة على وجوب أفضليّة الإمام، وكونها من ضروريّات الإمامة؛ ومنهم: أبو إسحاق إبراهيم بن نوبخت(2) (310ه)، وأبو الصلاح الحلبيّ (3) (447ه)، والحمصيّ الرازيّ (4)(حوالي 585ه )، وابن ميثم البحرانيّ (5) (679ه)، والفاضل المقداد(6) (876ه)، والعلّامة المجلسيّ (7) ( 1110ه)، والسيّد عبدالله شَبّر (8) (1242ه)، والسيّد إسماعيل الطبرسيّ النوريّ (9) (1321ه)، والشيخ محمّد حسين المظفّر (10) (1381ه)

بناءً على ما تقدّم ،الإمام - حسب الرؤية الإماميّة - هو الأفضل من جميع أمّته فرداً فرداً في جميع الأبعاد الشخصيّة والسلوكيّة؛ بما يعمّ القضايا الدنيويّة الظاهريّة، والأخرويّة الروحانيّة؛ فالإمام هو الشخص الذي يتفوّق على الآخرين في جميع الفضائل الإنسانية، والسجايا الأخلاقيّة، ويفضلهم في العبادة والإيمان والعمل الصالح؛ فالإمام هو أعلم وأتقى وأزهد وأشجع وأكرم وأكيس و... أفراد زمانه.

ص: 97


1- جوهر المراد [بالفارسيّة گوهر مراد] ،الفيّاض اللاهيجيّ، ص 269 و 270.
2- الياقوت في علم الكلام ،ص 76 .«و واجب في الإمام أنّه أفضل بالعلم والشجاعة والزهد».
3- تقريب المعارف، ص 150 .
4- المنقذ من التقليد ،ص 286 .قال فيه: «أمّا كونه أفضل الرعية فيدخل تحته معنيان: أحدهما كونه أفضلهم بمعنى كونه أكثرهم ثواباً عند الله ، وثانيهما كونه أفضل منهم في الظاهر وفيما هو متقدّم عليهم فيه».
5- النجاة في القيامة، ص 65 و 72-71؛ قواعد المرام، ص 180 .
6- اللوامع الإلهيّة، ص 333 .
7- الحقّ اليقين، ص 38.
8- حقّ اليقين، ص 187.
9- كفاية الموحّدين، ص 238 .
10- الشيعة والإمامة ص 238.

وقد أوضح العلّامة الأمينيّ (1390ه) المقصود من «الأفضل» بقوله:

إنّا لا نريد بالأفضل إلّا الجامع لجميع صفات الكمال التي يمكن اجتماعها في البشر؛ لا الأفضلية في صفة دون أخرى، فيكون حينئذ الأفقه مثلاً هو الأبصر بشؤون السياسة، والأعرف بمصالح الأمور ومفاسدها، والأثبت في إدارة الصالح العامّ، والأبسل في مواقف الحروب، والأقضى في المحاكمات والأخشن في ذات الله، والأرأف بضعفاء الأمّة، والأسمح على محاويج الملأ الدينيّ، إلى أمثالها من الشرائط والأوصاف، إذن فلا تصوير لما حسبوه من أنّ المفضول قد يكون أقدر وأعرف وأقوم(1).

وخالف بعض الأشاعرة والمعتزلة ممّن يقول باشتراط الأفضليّة للإمام قول الإماميّة في معيار الأفضلية، فقالوا إنّ أفضلية الإمام هي «كثرة الثواب في الأجر» لا غير.

أمّا المنظّرون من غير الإماميّة فقد انقسموا في هذه القضيّة إلى طائفتين: فأكّدت الأولى على وجوب اشتراط الأفضليّة للإمام بوضوح وصراحة، لكنّ الأكثريّة لم يعتمدوا أفضليّة الإمام في ضمن شروط الإمام، بيد أنّهم لمّا رأوا الاستدلالات العقليّة والنقليّة التي أقامتها الإماميّة في مبحث ضرورة أفضليّة الإمام، ووقفوا على الحقائق التاريخيّة التي لا يمكن إنكارها، والتي تؤكّد أنّ أئمة الشيعة كانوا أفضل الأمّة على الإطلاق، وجودوا أنفسهم مضطرّين إلى الولوج في هذا الباب، وطفقوا ينحتون لخلفائهم فضائل مختلقة(2). وعلى أيّ حال لا يمكن التغاضي عن إشكال يرد عليهم، و مفاده :أنكم بذلتم قصارى الجهد لإثبات حقانيّة حُكّامكم من خلال أبحاثكم في قضيّة الأفضليّة، وتلفيقكم للقرائن والشواهد، لكن ما السبب الذي دعاكم لإقصاء الأفضليّة من شروط الإمامة؟ ومع أنّكم تلاحظون الفضائل الجمّة لأمير المؤمنين عليّ (علیه السلام) فلماذا يتغيّر موقفكم، وترفعون الراية البيضاء ؛ وأنتم تقولون: لا إشكال في تقديم المفضول على الفاضل ؛ لحفظ المصالح ودرء الفتن ! فإذا كان أبناء العامّة

ص: 98


1- الغدير، الأميني، ج 7، ص 149.
2- راجع: شرح المواقف ،ج 3 ،ص 624 -622 و 631_629 .

ينكرون شرط أفضليّة الإمام، ويخالفون رؤية الإماميّة في هذا المجال، فلماذا يجهدون أنفسهم إذن في استعراض أفضليّة أبي بكر وعمر ؟!

22 /3.الأدلّة العقليّة على الأفضلية :

استدلّ علماء الإماميّة على أفضليّة الإمام من خلال الأدلّة العقليّة المثبتة للعصمة، والأعلميّة (1)؛ فقال الشيخ الطوسيّ (460ه) :

وإذا ثبتت عصمته فكل من أوجب له العصمة قطع على أنّه أكثر ثواباً؛ لأنّ أحداً لا يُفرّق بين المسألتين (2).

وأردف المحقّق الحلّيّ (676ه) يقول:

الإمام أعلم الأمّة؛ فيكون أفضل... ولأنّ العلم فضيلة موجبة للثواب؛ فيكون تزايدها موجباً لازدياده(3).

والدليل الآخر على وجوب أفضليّة الإمام هو برهان اللطف؛ فإنّ تعيين الإمام - لما أثبتناه سابقاً - من اللطف الإلهيّ، واللطف يؤدّي بالعبد إلى التزام الطاعات، واجتناب المعاصي وعليه فإنّ الإمام الذي يجد ويجتهد في استقطاب الناس، وسوقهم صوب الطاعات، وصرفهم عن المعاصي، وتجنيبهم إيّاها، لابدّ من أن يكون هو في نفسه أفضل من الآخرين - سواء على صعيد العمل بالتكاليف الإلهيّة والطاعات والعبادات، أم في الاتّصاف بالفضائل الأخلاقيّة والكمالات النفسانيّة - حتى تتسنّى له أسباب أداء هذا الدور المهمّ والخطير، وينجح في هداية الآخرين إلى سبيل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، والسعادة الأبديّة (4).

***

ص: 99


1- راجع: الذخيرة في علم الكلام ،المرتضى، ص 435 .المسلك في أصول الدين ،المحقّق الحلي، ص 205. النجاة في القيامة ،ابن ميثم البحرانيۀ، ص 65 .
2- الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد، ص 191؛ تمهيد الأصول، ص 803؛ تلخيص الشافي، ج 1، ص 214.
3- راجح: المسلك في أصول الدين، ص 205.
4- راجع: المصدر السابق، ص 205.

23.التعيين والنصّ على الإمام :

23 /1.تمهيد

تمثّل مسألة تعيين الإمام من خلال النصّ الإلهيّ، أو بواسطة اختيار الناس وانتخابهم أهمّ مواضع الاختلاف بين الإماميّة ومخالفيهم؛ فهل يجب تعيين مصداق الإمام بنصّ من عند الله جَلَّ وَعَلا، أم أنّ هذا الأمر موكول لاختيار البشر؟ وهل يوجد نصّ جليّ أو خفيّ يُثبت الإمامة؟

يرى علماء الإماميّة - ومنهم : الشيخ الطوسيّ (460ه) (1)، والعلّامة الحلي (726 ه) (2) ، والفاضل المقداد(3) (876ه) ؛ - أنّ الله عَزَّ وَجَلَّ ونبيّه الأكرم(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قد بيّنا إثبات إمامة أمير المؤمنين عليّ (علیه السلام) من خلال مجموعة كبيرة من النصوص. لكنّ علماء أهل السنّة تعرّضوا لهذه النصوص بالنقد والتأويل، وأنكروا شرط النصّ الإلهيّ على الإمام.

وقد دفعت أهميّة هذا البحث بعلماء الفريقين إلى أن يُفردوا فصلاً مستقلّاً يدرس طرق تعيين الإمام؛ منهم من علماء الإماميّة : المحقّق الطوسيّ(4) (672ه)، والسيّد المرتضى (436ه)(5) والمحقّق الحلي(6) (676ه) ، وابن ميثم البحرانيّ(7) (679ه)، وأبو الصلاح الحلبيّ (8) (447ه) .

ص: 100


1- الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد، ص 194-193.
2- نهج المسترشدين، ص 64-63 .مناهج اليقين، ص 452 .
3- النافع يوم الحشر، ص 100 .
4- رسالة الإمامة.
5- الذخيرة في علم الكلام ،المرتضى، ص 429.
6- المسلك في أصول الدين، ص 198.
7- النجاة في القيامة ،ص 69.
8- تقريب المعارف، ص 170 .

وينقسم مصطلح «النصّ» في كلام العلماء بعدة لحاظات؛ أهمّها درجة صراحة النصّ، فقُسّم النصّ بهذا اللحاظ إلى «نصّ جليّ»، و«نصّ خفيّ»:

فالنصّ الجليّ: هو «ما علم سامعوه من الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) مراده منه باضطرار»، وهو «النصّ الذي في ظاهره ولفظه الصريح بالامامة والخلافة»، وينتفي فيه احتمال الخلاف(1) . ومن أمثلة النصّ الجلّي على إمامة الإمام عليّ (علیه السلام) قوله :

«سَلَّمُوا عَلَى عَلِيّ بِإِمْرَةِ الْمُؤْمِنين »(2).

«هَذَا خَلِيفَتِي فِيكُمْ مِنْ بَعْدِي فَاسْمَعُوا لَهُ وأَطِيعُوهُ »(3).

وأمّا النصّ الخفيّ فهو : ما «لا نقطع على أنّ سامعيه من الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) علموا النصّ بالإمامة منه اضطراراً، ولا يمتنع عندنا أن يكونوا علموه استدلالاً من حيث اعتبار دلالة اللّفظ. ومن أمثلته عند البعض (4)قول النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) :

«مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلىٌّ مَوْلاه »(5).

«أَنْتَ مِنِّى بمَنْزلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى »(6).

وذهب بعض الإماميّة الاثني عشريّة والكيسانيّة إلى أنّ المثبت للإمامة هو النصّ الجليّ فقط (7) ، وعدّوا كلاً من حديث الغدير ( من كنت مولاه)، وحديث المنزلة (أنت منّي بمنزلة هارون .. ) من زمرة النصوص الجليّة (8).

ص: 101


1- راجع :الشافي ج 2 ،ص 67 .نهج الإيمان ،ابن جبر، ص 68 -67 .اللوامع الإلهيّة، ص 335 .
2- الكافي، الكلينيّ، ج 1، ص 292.
3- الشافي ،ج 2 ،ص 67 .مسائل ،المرتضى، ص 262 .
4- راجع :الشافي ،ج 2 ،ص 68- 67 ؛ أنوار الملكوت ،ص 219 ؛ الذخيرة في علم الكلام ،المرتضى، ص 463؛ مسائل ،المرتضى، ص 262 .
5- الكافي ،الكلينيّ، ج 1، ص 287 .
6- الكافي، الكلينيّ، ج 8، ص 107.
7- قواعد العقائد ،ص 110 . قال فيه: «فقالت الإماميّة الاثنا عشريّة والكيسانيّة : إنّه إنّما يحصل بالنصّ الجليّ لا غير».
8- راجع :تلخيص المحصّل ،ص 412 .كشف المراد، ص 370-367 .

أما أهل السنّة فقد تأسّى قلّة منهم بما ذهب إليه الحسن البصريّ (110ه) ؛ فزعموا صدور نصّ خفيّ من الرسول(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ينصّ على إمامة أبي بكر (1) . ورأى الفخر الرازيّ (606ه) في مبحث طرق تعيين الإمام أنّ نظريّة «كفاية وجود النصّ لتعيين الإمام» ممّا انعقد عليه إجماع المسلمين، بخلاف غيرها من الطرق؛ فكلّها مختلف عليها.

وذهبت الزيديّة بقطعيّة إمامة كلّ فرد فاطميّ ، عالم، زاهد، يخرج بالسيف، ويدعو الناس إلى إمامته.

أمّا الأشاعرة والمعتزلة فقد عدّوا البيعة سبباً في تعيين الإمام في حين أنكر الشيعة الاثناعشريّة هذا الطريق(2). وكتب المحقّق الطوسيّ (672ه) :

و من الظاهر أنّ أصحاب النبيّ(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بعد وفاته أجمعوا على طاعة إمام بعده، فذهب بعضهم إلى أنّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) نصّ على عليّ (علیه السلام). وبعضهم قالوا إنّا ننصب إماماً، ونصبوا أبا بكر ، وبايعوه جميعاً... ولو لم يكن نصب إمام واجباً لخالفهم من الأمّة أحد في ذلك. ثمّ أجمعوا على عمر بنصّ أبي بكر، ثمّ على عثمان بسبب الشورى، ثمّ على عليّ (علیه السلام) لإجماع أكثر أهل الحلّ والعقد عليه. وعرف من ذلك أنّ الإمام يُنصب إمّا بنصّ من الذي قبله، وإمّا باختيار أهل الحلّ والعقد إيَّاه، وهذا هو العمدة عند أهل السنة(3).

وقال المحقّق الطوسيّ بخصوص نصب الإمام في موضع آخر :

وأما القائلون بوجوبه من الله [تعالى] فهم الشيعة القائلون بإمامة عليّ بن أبي طالب (علیه السلام) بعد النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) واختلفوا في طريق معرفة الإمام (علیه السلام) بعد أن اتّفقوا على أنّه نصّ من الله تعالى أو ممّن هو منصوص [عليه] من قبل الله تعالى لا غير، فقالت الاثناعشريّة والكيسانيّة أنّه إنّما يحصل بالنصّ الجليّ؛ لا غير. وقالت الزيديّة أنّه يحصل بالنصّ الخفىّ أيضاً»(4).

ص: 102


1- لاحظ :أبكار الأفكار ،التفتازانيّ ، ج 3 ،ص 434 .شرح المقاصد، ج 52، ص283. النجاة في القيامة، ص 79.
2- الأربعين ص 438 -437 .البراهين في علم الكلام، ج 2، ص 202 -201.
3- تلخيص المحصّل ،ص 438 -437 .قواعد العقائد ،ص 130.
4- قواعد العقائد ، ص110.

هذا، وقد عدّ الفخر الرازيّ (606ه) البيعة سبباً في حصول الإمامة(1).

وقد ذكر كلّ من الإيجيّ (756ه) و الجرجانيّ (816ه) أنّ تعيين مصداق الإمام يتمّ بأحد ثلاثة طرق: إمّا بنصّ النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، وإمّا بنصّ الإمام السابق، وإمّا من خلال بيعة أهل الحلّ والعقد (2). والدليل على الطريق الثالث عندهم هو إمامة أبي بكر (3). وأمّا سعد الدين التفتازاني (792ه) فقد أضاف إلى الطرق الثلاثة السابقة طريقاً رابعاً ؛ وهو الغلبة والقهر بالسيف؛ فقال:

والثالث(4): القهر والاستيلاء؛ فإذا مات الإمام وتصدّى للإمامة من يستجمع شرائطها من غير بيعة واستخلاف وقهر الناس بشوكته؛ انعقدت الخلافة له، وكذا إذا كان فاسقاً أو جاهلاً على الأظهر، إلّا أنّه يعصى بما فعل ولا يُعتبر الشخص إماماً بتفرده بشروط الإمامة، ويجب طاعة الإمام ما لم يخالف حكم الشرع؛ سواء كان عادلاً أو جابراً ولا يجوز نصب إمامين في وقت واحد على الأظهر وإذا ثبت الإمام بالقهر والغلبة ثمّ جاء آخر فقهره؛ انعزل وصار القاهر إماماً(5).

والملاحظ هنا أنّ نظريّات أهل السنة فيما يتعلّق بطرق تعيين الإمام تعاني بأسرها مشكلة «المصادرة على المطلوب »(6)؛ فهي تبيّن طرقاً لتعيين الإمام على أساس تبرير من الوضع الموجود، وإضفاء حالة من الشرعيّة على خلافة أبي بكر، وعمر، وعثمان، وغيرهم من الحكّام.

ص: 103


1- الأربعين في أصول الدين، ص 438 .وقد كتب الفخر الرازيّ في الصفحة 144 منه؛ ما يلي: «إنّ الدليل دلّ على إمامة أبي بكر رضي الله عنه وما كان لتلك الإمامة سبب إلّا البيعة إذ لو كان منصوصاً عليه لكان توقيفه الأمر على البيعة خطأ عظيماً يقدح في إمامته وذلك باطل، فوجب كون البيعة طريقاً صحيحاً».
2- راجع: المواقف، ج 6، ص 589 .
3- المواقف، ج 6، ص 593 -594.
4- قال الثالث - ولم يقل الرابع - لأنّه جمع الأوّل والثاني في طريق واحد.
5- شرح المقاصد، ج 5، ص 233.
6- المصادرة على المطلوب يعني أن يُجعل المدّعى عين الدليل أو جزئه [م] .

ويكمن أحد أهمّ الإشكالات التي ترد على نظرية البيعة في ارتكازها على الإجماع؛ وليس السبب في ذلك اختلاف الرأي الواقع بين أهل السنّة أنفسهم في تحقّق هذا الإجماع، وعدد الأشخاص الذين انعقد بهم وحسب؛ بل إنّ هذا الإجماع فاقد للحجيّة والمشروعيّة، ولن يكتسبهما مطلقاً. ذلك لأنّهم إذا سُئلوا عن إثبات حقّانيّة إمامة أبي بكر، لأجابوا بأنّها ثبتت ببيعة واحد، أو مجموعة من أهل الحلّ والعقد، ثمّ إذا سُئلوا عن مشروعيّة البيعة في نفسها، لأجابوا بأنّ خليفتهم الأوّل عُيّن بهذه الطريقة، فيصبح من المعلوم أنّ هذه الطريقة مشروعة !

وهذا الاستدلال ليس إلّا دوراً صريحاً؛ والدور باطل(1).

وقد اتّفق منظّرو الإماميّة قاطبة على أنّ العصمة هي إحدى الشروط الواجبة في حقّ الإمام. وعلى هذا الأساس - وكما أشرنا في البحوث السابقة - نجد علماء الإماميّة قد أقاموا لإثباتها عدداً من الأدلّة العقليّة والنقليّة.

وبناءً على هذا، فإنّ الإذعان بضرورة إثبات العصمة للإمام يمحو إمكانيّة الإجابة على السؤال الآتي: بما أنّ معرفة الإمام الواجد للعصمة أمر مشكل - بل قل إنّه مستحيل - فما هو الطريق الذي يجب أن ننتهجه كي نتمكّن من تعيين الإمام المعصوم؟

فههنا تقف البشريّة منتظرة العلم الغيبي الذي اختصّ به المولى من دون غيره؛ وذلك من حيث كونه عَزَّ وَجَلَّ الوحيد العالم بخفايا الأمور، والمحيط بما في صدور الناس من أسرار. ومن هذا المنطلق، فإنّ الجهة الوحيدة القادرة على تعيين الإمام واختياره، وتقديمه للبشريّة هي الله، وليس لأحد دونه القدرة على التدخّل في هذا الأمر الخطير (2).

ص: 104


1- راجع المسلك في أصول الدين، ص 213.
2- لاحظ شرح جمل العلم والعمل، ص 199 . الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد، ص 194 .تلخيص الشافي، ج 1، ص 276 . المصابيح في إثبات الامامة، ص 103 .قواعد المرام، 181 .اللوامع الإلهيّة، ص 334 -333. أنوار الملكوت، ص 208. نهج المسترشدين، ص 64 .مناهج اليقين، ص 452 .النافع يوم الحشر ، ص 100 .المنقذ من التقليد، ج 2، ص 296 ،ص 210 .أنيس الموحّدين، ص 145 .جوهر المراد( بالفارسية : گوهر مراد)، الفيّاض اللاهيجيّ، ص 465.

يقول المحقّق الطوسيّ (672ه) في تبيين ضرورة النصّ وإثباتها من خلال العصمة: «العصمة تقتضي النصّ»(1) ؛ أي إنّ ثبوت العصمة للإمام يقتضي وجود النصّ على تعيينه. ويقول العلّامة الحلّي (726ه) في شرحها :

قد بيّنّا أنّه يجب أن يكون الإمام معصوماً؛ والعصمة أمر خفيّ لا يعلمها إلّا الله تعالى، فيجب أن يكون نصبه من قبله تعالى؛ لأنّه العالم بالشرط دون غيره (2).

وقد تمسّك بهذا الدليل بعض علماء الإماميّة ؛ ومنهم : الفاضل المقداد (3)( 876ه)، والفيّاض اللاهيجيّ (4) (1051ه)، ومحمّد مهديّ النراقيّ (5) (1209ه) .

***

ص: 105


1- کشف المراد، ص 366.
2- كشف المراد ،ص 366 .قال العلّامة الحليّ موضّحاً هذا الاستدلال: «إنّ النبيّ(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) كان أشفق على الناس من الوالد على ولده؛ حتى أنّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أرشدهم إلى أشياء لا نسبة لها إلى الخليفة بعده ،كما أرشدهم في قضاء الحاجة إلى أمور كثيرة مندوبة وغيرها من الوقائع وكان (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) إذا سافر عن المدينة يوماً أو يومين استخلف فيها من يقوم بأمر المسلمين، ومن هذه حاله كيف يُنسَب إليه إهمال أمّته وعدم إرشادهم في أجلّ الأشياء وأسناها وأعظمها قدراً وأكثرها فائدة وأشدّهم حاجة إليها، وهو المتولي لأمورهم بعده فوجب من سيرته (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) نصب إمام بعده والنصّ عليه وتعريفهم إياه، وهذا برهان لمّي» . كشف المراد، ص 367- 366.
3- اللوامع الإلهيّة، ص 334 .
4- جوهر المراد (بالفارسية گوهر مراد)، الفيّاض اللاهيجيّ، ص 483.
5- أنيس الموحّدين، ص 146-145.

24.الإمامة الخاصّة

24 /1.تمهيد

بعد أن فرغنا من بيان حقيقة الإمامة ومشروعيّتها، وأوضحنا ثبوت صفات «العصمة»، و«العلم»، و«الأفضليّة»، و«النصّ »في تعيينه، تثبت إلى درجة كبيرة الإمامة الخاصّة لأمير المؤمنين والأئمة المعصومين (علیهم السلام)؛ وبتعيين كبرى مسألة الإمامة يتّجه طالب العلم إلى تعيين مصداق الإمامة.

أصل البحث في هذا الموضوع منصبّ على تحديد خليفة النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، وقد ذهب أبناء العامّة من المسلمين إلى أنّ خليفة رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) هو أبو بكر بن أبي قحافة؛ وذلك لانعدام وجود نصّ نبويّ صريح يحدّد الإمام والخليفة من بعده، ولأنّ المسلمين قد أجمعوا عليه، وما تميّز به من فضائل أمّا أتباع المذهب الإماميّ فذهبوا إلى أنّ الإمام والخليفة المباشر بعد النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) هو أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (علیه السلام)؛ وذلك لما ورد من نصوص شريفة جليّة، ولما قام من دلائل عقليّة على ذلك، ناهيك عما تميّز به الإمام (علیه السلام) من فضائل فريدة ومناقب جليلة.

وقد استدلّ علماء الإماميّة ببراهين عديدة من جملتها أدلّة عقليّة، وأخرى استُشهد فيها بالآيات القرآنية والأحاديث القدسيّة والنبويّة وما روي عن أمير المؤمنين وولده المعصومين (علیهم السلام) في إثبات الإمامة الخاصّة للأئمة الأطهار(علیهم السلام).

وقد تناول العلّامة الأمينيّ (1390ه) في كتابه «الغدير» ومن قبله العلّامة السيّد حامد حسين الموسويّ (1306ه) الشهير بالمير حامد حسين الهنديّ في كتابه «عبقات الأنوار»؛ الأحاديث الدالّة على هذا الأمر في مصادر أهل السنّة.

ص: 106

وتنقسم أدلّة إثبات الإمامة الخاصّة إلى طائفتين: أدلّة عقليّة، وأخرى نقليّة.

أما الأدلّة النقليّة فهي منقسمة بدورها إلى عامّة، وخاصة.

الأدلّة النقليّة العامّة هي الأدلّة التي عرضت إثبات إمامة مجموع الأئمة الاثني عشر (علیهم السلام)؛ منها : «حديث اللوح» ، و «أحاديث الأئمة الاثني عشر»، و«حديث السفينة».

والأدلّة النقليّة الخاصّة هي الأدلّة تناولت الكرامات الخاصّة لكلّ واحد من الأئمّة (علیهم السلام)، أو الروايات الخاصّة بأهل البيت (علیهم السلام) الناظرة إلى إثبات إمامة الأئمّة الاثني عشر فرداً فرداً.

وفيما يأتي نستعرض كوكبة من الأدلّة المثبتة للإمامة الخاصّة؛ نقليّة وعقليّة.

24 /2. أفضليّة أمير المؤمنين (علیه السلام) :

إشارة

تمثل أفضليّة الإمام - بحسب معتقد الإماميّة - شرطاً لإمامته، وباعتراف كلّ من الشيعة والسنّة؛ لم يكن بين أصحاب النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) شخص يضاهي أمير المؤمنين (علیه السلام) في الأفضليّة. وقد أورد كلّ من المحقّق الطوسيّ (672ه) في كتابه «تجريد الاعتقاد» والعلّامة الحلّي (726ه) في «كشف المراد »خمسة وعشرين نموذجاً لأفضليّة الإمام عليّ (علیه السلام) (1). ويلازم بيان الأمثلة والنماذج التي تظهر أفضليّة الإمام عليّ (علیه السلام) الإثبات العقليّ على إمامته؛ إذ من الواجب أن يكون خليفة الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) والقائم مقامه من بعده هو الأفضل بين صحابته، وطالما أنّ علياً (علیه السلام) هو الأفضل بينهم جميعاً، فقد وجب أن يكون هو الخليفة.

ص: 107


1- كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، العلّامة الحليّ، ص 212 -238؛ شرح كشف المراد ،عليّ محمديّ، ص 457 -494. إثبات الوصيّة للإمام عليّ بن ابي طالب ،(علیه السلام)، أبو الحسن المسعودي، ص: 239. تجدر الإشارة إلى أنّ جميع القضايا المذكورة هنا في خصوص فضائل أمير المؤمنين (علیه السلام) وأفضليّته وردت في تعليقات العلّامة السبحانيّ على كشف المراد مسندةً لمصادر أهل السنّة.

ويمكن استعراض فضائل أمير المؤمنين (علیه السلام) في أربعة عهود من حياته الشريفة؛ امتدّت لثلاثة وستّين عاماً؛ وهي على التفصيل الآتي:

العهد الأوّل: الفترة التي قضاها في كنف الرسول الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، يتربّى في أحضانه، وينهل من نمير علومه؛ وهي فترة امتدّت لعشرة أعوام.

العهد الثاني : الفترة التي أمضاها بعد إعلان نبوّة رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) سعى فيها جاهداً لخدمة الدين وتثبيت أركان الشريعة؛ وهي فترة امتدّت ثلاثة وعشرين عاماً.

العهد الثالث : الفترة التي حافظ فيها أمير المؤمنين (علیه السلام) على شوكة الإسلام ووحدة المسلمين بعد أن لم تُنفّذ الأمّة وصيّة النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فيه، فقعد عن المطالبة بحقّه؛ وهي فترة امتدّت خمسة وعشرين عاماً.

العهد الرابع: الفترة التي عاد فيها العدل إلى نصابه، وتولّى فيها الإمام سدّة الحكم، وهي فترة لم تتجاوز الأربعة أعوام وتسعة أشهر طبق خلالها معالم العدالة في حكومته الراشدة.

وقد عرض كلّ من المحقّق الطوسيّ (672ه) في كتابه «تجريد الاعتقاد» والعلّامة الحلّي (726ه) في «كشف المراد »فضائل الإمام عليّ (علیه السلام) في العهود الأربعة من حياته، ضمن خمسة وعشرين نقطة نستعرضها فيما يأتي:

24 /2 /1. الفضيلة الأولى:

أنّ عليّاً (علیه السلام) كان أكثر جهاداً وأعظم بلاء في غزوات النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بأجمعها، ولم يبلغ أحد درجته في ذلك؛ منها :

أوّلاً: في غزوة بدر؛ وهي أوّل حرب امتحن بها المؤمنون لقلّتهم وكثرة المشركين، فقتل عليّ (علیه السلام) الوليد بن عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة، ثمّ العاص بن سعيد بن

ص: 108

العاص، ثمّ حنظلة بن أبي سفيان ثمّ طعيمة بن عدي، ثم نوفل بن خويلد - وكان شجاعاً - وسأل النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أن يكفيه أمره فقتله عليّ (علیه السلام)، ولم يزل يقاتل حتى قتل نصف المشركين المقتولين والباقي من المسلمين وثلاثة آلاف من الملائكة مسوّمين قتلوا النصف الآخر، ومع ذلك كانت الراية في يد عليّ (علیه السلام) .

ثانياً: في غزوة أحد؛ حيث جمع له الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بين اللواء والراية، وكانت راية المشركين مع طلحة بن أبي طلحة ؛ وكان يسمّى كبش الكتيبة، فقتله عليّ (علیه السلام) ، فأخذ الراية غيره فقتله (علیه السلام)، ولم يزل يقتل واحداً بعد واحد حتى قتل تسعة نفر، فانهزم المشركون واشتغل المسلمون بالغنائم فحمل خالد بن الوليد بأصحابه على النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فضربوه بالسيوف والرماح والحجر حتى غشي عليه فانهزم الناس عنه سوى عليّ (علیه السلام) فنظر إليه النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بعد إفاقته، فقال له : «اكفني هؤلاء»، فهزمهم عنه، وكان أكثر المقتولين بسيفه (علیه السلام).

ثالثاً: يوم الأحزاب، وقد بالغ في قتل المشركين ، وقتل عمرو بن عبدود الذي كان بطل المشركين، ودعا إلى البراز مراراً، فامتنع عنه المسلمون، وعليّ (علیه السلام) يروم مبارزته، والنبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) يمنعه من ذلك لينظر صنع المسلمين، فلمّا رأى امتناعهم أذن له، وعمّمه بعمامته، ودعا له. قال حذيفة: لمّا دعا عَمْراً إلى المبارزة أحجم المسلمون عنه كافّة، ما خلا عليّاً (علیه السلام) ؛ فإنّه برز إليه، فقتله الله على يديه والذي نفس حذيفة بيده لعمله في ذلك اليوم أعظم أجراً من عمل أصحاب محمّد(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) إلى يوم القيامة، وكان الفتح في ذلك اليوم على يدي عليّ (علیه السلام) ، وقال النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : «لضربة عليّ خير من عبادة الثقلين».

رابعاً: في غزوة خيبر، وصيت جهاده فيها غير خفيّ، وقد نصر الله الإسلام على يديه، فإنّ النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) حصر حصنهم بضعة عشر يوماً، وكانت الراية بيد علىّ (علیه السلام) فأصابه الرمد، فسلّم النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) الراية إلى أبي بكر ومعه جماعة، فرجعوا منهزمين خائفين، فدفعها في الغد إلى عمر بن الخطّاب، فصنع كالذي سبقه، فقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : «لأُسلّمنّ الراية

ص: 109

غداً إلى رجل يحبّه الله ورسوله ويحبُّ الله ورسوله كرّارٍ غير فرّار، لا يرجع حتى يُفتَح على يده»، فلمّا أصبح قال : ايتوني بعليّ (علیه السلام) فقيل: به رمد، فتفل في عينه، (علیه السلام) ودفع الراية إليه، فقتل مرحباً، فانهزم أصحابه وغلقوا الأبواب، ففتح عليّ (علیه السلام) الباب ،واقتلعه وجعله جسراً على الخندق وعبروا وظفروا، فلمّا انصرفوا أخذه بيمينه ودحاه أذرعاً، وكان يغلقه عشرون وعجز المسلمون عن نقله حتى نقله سبعون رجلاً. وقد روي عنه أنّه قال (علیه السلام): «والله ما قلعتُ باب خيبر ورميت بها خلف ظهري أربعين ذراعاً بقوّة جسديّة، ولا حركة غذائيّة، لكنّي أيّدتُ بقوّة ملكوتيّة »(1).

24 /2 /2. الفضيلة الثانية:

أنّ عليّاً (علیه السلام) كان أعلم هذه الأمّة؛ فقد أطبق المسلمون على أنّه (علیه السلام) كان في أعلى مراتب الذكاء وقوّة الفكر والحدس، وقد نشأ في حجر رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ملازماً له، مستفيداً منه ؛ قال (علیه السلام):

«عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهَ أَلْفَ بَابٍ مِنَ العِلْمِ، فَفَتَحَ (فَانفَتَحَ) لِيْ مِنْ كُلُّ بَابٍ أَلْف تبب»(2).

والرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) كان أكمل الناس وأفضلهم، ومع حصول القبول التام والمؤثر الكامل يكون الفعل أقوى وأتمّ، وهذا برهان لمّي. أضف إلى ذلك أنّ الأحكام الشرعيّة كانت تشتبه أحياناً على الصحابة، وربّما أفتى بعضهم خطأ، وقد كانوا يراجعونه في ذلك، ولم يُنقَل أنّه (علیه السلام) راجع أحداً منهم في شيء البتة، وذلك يدلّ على أنّه أفضل من غيره.

و ممّا روي من ذلك أنّ رجلاً من اليهود لقي أبا بكر، فقال له: أين الله تعالى؟

ص: 110


1- الأمالي الشيخ الصدوق، ص 604. [م]
2- الأربعين في أصول الدين ،الفخر الرازيّ، ص 475. لاحظ أيضاً: ينابيع المودة، القندوزي، ص 72؛ كنز العمال، المتّقيّ الهنديّ، ج6، ص 392. [م]

فقال: على العرش فقال اليهوديّ : خلت الأرض منه حيث اختصّ ببعض الأمكنة، فانصرف اليهودي متهكّماً بالإسلام، فلقيه عليّ (علیه السلام)، فقال له: «إنّ الله جلّ وعزّ أيّن الأين فلا أين له، وجلّ عن أن يحويه مكان، وهو في كلّ مكان بغير مماسّة ولا مجاورة ،يحيط علماً بما فيها ولا يخلو شيء منها»، فأسلم على يده.

وسئل أبو بكر عن «الكلالة» (1)، و«الأبّ»(2)فحار جواباً، حتّى فسرّهما الإمام له.

وسُئل عمر بن الخطّاب عن أحكام كثيرة فحكم فيها بغير الصواب، فاعترضه عليّ (علیه السلام) فيها، فرجع عمّا قال.

وقد روي عنه أيضاً إسقاط حدّ الشرب عن قدامة بن مظعون لما تلا عليه قوله عَزَّ وَجَلَّ: «لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا »(3)، فقال عليّ (علیه السلام)« الذين آمنوا وعملوا الصالحات لا يستحلّون محرّماً»، وأمره بردّه، واستتابته؛ فإن تاب فاجلده وإلّا فاقتله، فتاب ولم يدرِ عمر كم يحدّه، فأمره (علیه السلام) بحدّه ثمانين جلدة.

وفي واقعة أخرى أمر عمر برجم مجنونة زنت، فردّه (علیه السلام) بقوله: «رفع القلم عن المجنون حتّى يفيق»، فقال الخليفة الثاني: «لولا عليّ لهلك عمر».

وروي أيضاً أنّ امرأةً ولدت لستّة أشهر، فأمر عمر برجمها، فقال (علیه السلام) له: «إنّ أقلّ الحمل ستة أشهر بقوله تعالى: «وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ، »(4) وقوله: « وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا»(5).

وقد أمر الخليفة الثاني أيضاً برجم امرأة حامل فقال (علیه السلام) له : «إن كان لك سبيل عليها فليس لك على ما في بطنها سبيل» فامتنع.

ص: 111


1- في قوله تعالى: «يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ » سورة النساء: 176.[م]
2- في قوله تعالى: «وَفَاكِهَةً وَأَبًّا »سورة عبس: 31. [م]
3- سورة المائدة: 93 .
4- سورة لقمان: 14.
5- سورة الأحقاف: 15 .

وغير ذلك من الوقائع الشهيرة.

هذا، وقد اتّفق المسلمون في رواية أنّ رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قد قال في حقّه (علیه السلام): «أقضاكم علیّ (علیه السلام)»، والقضاء يستلزم العلم، فيكون أفضل منهم.

أضف إلى ذلك استناد العلماء بأسرهم إليه ؛ فإنّ علم النحو مستند إليه، وكذا« أصول المعارف الإلهيّة» و«علم الأصول»؛ فإنّ أبا الحسن الأشعريّ تلميذ أبي علي الجبائيّ من المعتزلة وجميع المعتزلة ينتسبون إليه، ويدعون أخذ معارفهم منه، وأهل التفسير رجعوا إلى ابن عباس فيه وهو تلميذ عليّ (علیه السلام)، والفقهاء ينتسبون إليه، والخوارج مع بعدهم عنه ينتسبون إلى أكابرهم؛ وهم تلامذة عليّ (علیه السلام).

24 /2 /3. الفضيلة الثالثة:

أنّ علياًّ (علیه السلام) كان نفس النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ؛ فقد قال عَزَّ وَجَلَّ: « فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ»(1).

وأطبق المفسّرون على أنّ «الأبناء» إشارة إلى الحسن والحسين (علیهما السلام) ، و«النساء» إشارة إلى فاطمة (علیها السلام) ، و«الأنفس» إشارة إلى عليّ (علیه السلام) ولا يمكن أن يقال: إنّ نفسيهما واحدة؛ فلم يبق المراد من ذلك إلّا المساوي. ولا شكّ في أنّ رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أفضل الناس، فمساويه كذلك أيضاً.

24 /2 /4. الفضيلة الرابعة :

أنّ عليّاً (علیه السلام) كان كثير السخاء على غيره، فقد روي أنّه كان (علیه السلام) أسخى الناس بعد رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ؛ حتى أنّه جاد بقوته وقوت عياله، وبات طاوياً هو وإيّاهم ثلاثة أيام؛ حتى أنزل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى في حقّهم : «وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا »(2).

ص: 112


1- سورة آل عمران: 61.
2- سورة الإنسان (الدهر) : 8 .

وتصدّق مرّة أخرى بجميع ما يملكه، وقد كان حينئذ لا يملك أكثر من أربعة دراهم؛ فتصدّق بدرهم ليلاً، وبدرهم نهاراً، وبدرهم سراً، وبدرهم علانية، فأنزل الله تَبَارَكَ وَتَعَالى في حقه:

«الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً »(1).

وكان يعمل بالأجرة ويتصدّق بها، ويشدّ على بطنه الحجر من شدّة الجوع، وشهد له بذلك أعداؤه فضلاً عن أوليائه ؛ قال معاوية : «لو ملك علىّ (علیه السلام) بيتاً من تبر وبيتاً من تبن؛ لأنفد تبره قبل تبنه، ولم يخلف شيئاً أصلاً».

24 /2 /5.الفضيلة الخامسة:

كان (علیه السلام) أزهد الناس بعد النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ؛ وبيانه أنّه كان سيّد الأبدال، وإليه تُشدّ الرحال في معرفة الزهد والتسليك فيه وترتيب أحوال الرياضات، وذكر مقامات العارفين. وكان أخشن الناس مأكلاً وملبساً، ولم يشبع من طعام قطّ، قال عبيد الله بن أبي رافع : دخلت عليه يوماً فقدّم جراباً مختوماً فوجدنا فيه خبز شعير يابساً مرضوضاً، فأكل منه، فقلت: يا أمير المؤمنين كيف تختمه؟ فقال: «خفت هذين الولدين يلتّانه بزيت أو سمن»، وهذا شيء اختصّ به عليّ (علیه السلام) لم يشاركه فيه غيره، ولم ينل أحد بعض درجته. وكان نعلاه من ليف، ويرقع قميصه بجلد تارة، وبليف أخرى. وقلّ أن يأتدّم، فإن فعل فبالملح أو بالخلّ، فإن ترقّى فبنبات الأرض، فإن ترقّى فبلبن، وكان لا يأكل اللحم إلّا قليلاً ويقول: « لا تجعلوا بطونكم مقابر الحيوان».

24 /2 /6.الفضيلة السادسة :

كان (علیه السلام) أعبد الناس بعد النبيّ(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ؛ ومنه تعلّم الناس صلاة الليل، واستفادوا منه ترتيب النوافل والدعوات وكانت جبهته كثفنة البعير لطول سجوده، وكان يحافظ

ص: 113


1- سورة البقرة: 274 .

على النافلة؛ حتى إنّه بسط له بين الصفين نطع ليلة الهرير؛ فصلّى (علیه السلام) النافلة والسهام تقع بين يديه وإلى جوانبه وكانوا يستخرجون النصول من جسده وقت الصلاة لالتفاته بالكليّة إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى حتى لا يبقى له التفات إلى غيره.

24 /2 /7.الفضيلة السابعة :

كان (علیه السلام) أحلم الناس بعد رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ؛ فلم يقابل أحداً بإساءته. فعفا عن مروان بن الحكم يوم الجمل وكان شديد العداوة له (علیه السلام) وعفا عن عبد الله بن الزبير لما استأسره يوم الجمل، وكان يشتمه (علیه السلام) ظاهراً، وقال :(علیه السلام): «لم يزل الزبير رجلاً منّا أهل البيت حتى شبّ عبد الله »، وعفا عن سعيد بن العاص وكان عدوّاً له (علیه السلام) ، وأكرم عائشة، وبعثها إلى المدينة مع عشرين امرأة عقيب حربها له. وصفح عن أهل البصرة مع محاربتهم له، ولما حارب معاوية سبق أصحاب معاوية إلى الشريعة فمنعوه من الماء، فلما اشتدّ العطش بأصحابه حمل عليهم، وفرّقهم، وملك الشريعة، فأراد أصحابه أن يفعلوا بهم كذلك، فنهاهم عن ذلك، وقال: «أفسحوا بعض الشريعة ففي حدّ السيف ما يغني عن ذلك».

24 /2 /8.الفضيلة الثامنة:

كان (علیه السلام) أشرف الناس خلقاً، وأطلقهم وجهاً ؛ قال صعصعة بن صوحان: «كان فينا كأحدنا، لين جانب، وشدّة تواضع، وسهولة قياد، وكنّا نهابه مهابة الأسير المربوط للسيّاف الواقف على رأسه». وقال معاوية لقيس بن سعد رحم الله أبا حسن؛ فلقد كان هشّاً بشّاً ذا فكاهة، فقال قيس: «أما والله لقد كان مع تلك الفكاهة والطلاقة أهيب من ذي لبدتين قد مسّه الطوى، تلك هيبة التقوى ليس كما يهابك طغام الشام .

24 /2 /9.الفضيلة التاسعة

أنّه (علیه السلام) كان أقدم الناس إيماناً. وقد روى سلمان الفارسي عن النبيّ(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أنّه قال: «أوّلكم وروداً علىَّ الحوض أوّلكم إسلاماً عليّ بن أبي طالب (علیه السلام)». وقال أنس:

ص: 114

بعث النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) يوم الاثنين، وأسلم عليّ (علیه السلام) يوم الثلاثاء. وقال رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لفاطمة (علیها السلام) «زوجتك أقدمهم سلماً، وأكثرهم علماً».

ولا يُقال : إنّ إسلامه (علیه السلام) كان قبل البلوغ، فلا اعتبار به؛ فلأنّ سنّ عليّ (علیه السلام) كان ستّاً وستين سنة أو خمساً وستّين، والنبيّ(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بقي بعد الوحي ثلاثاً وعشرين سنة، و علیّ (علیه السلام) بقي بعد النبيّ نحواً من ثلاثين سنة، فيكون سنّ علي (علیه السلام) وقت نزول الوحي فيما بين اثنتي عشرة سنة وبين ثلاث عشرة سنة، والبلوغ في هذا الوقت ممكن، فيكون واقعاً لقوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : «زوّجتك أقدمهم سلماً، وأكثرهم علماً».

24 /2 /10.الفضيلة العاشرة

أنّه (علیه السلام) كان أبلغ الناس في الفصاحة، وأعظمهم منزلة فيها بعد رسول الله ؛ حتى قال البلغاء كافّة: «إنّ كلامه دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق»، ومنه تعلّم الناس أصناف البلاغة ، حتى قال معاوية : «ما سنّ الفصاحة لقريش غيره»، وقال ابن نباتة حفظت من خطبه مئة خطبة». وقال عبد الحميد بن يحيى حفظت سبعين

خطبة من خطبه .

24 /2 /11. الفضيلة الحادية عشر:

أنّه (علیه السلام) كان أسدّ الناس رأياً بعد رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، وأجودهم تدبيراً، وأعرفهم بمزايا الأمور ومواقعها؛ وهو الذي أشار على عمر بالتخلف عن حرب الروم والفرس، وبَعْث نوّابه، ففي وجود الخليفة في الجيش وعلم العدوّ بذلك مدعاة لهم للاستبسال في القتال، ساعين في ذلك إلى قتله، وكسر شوكة الإسلام، وتفريق كلمة المسلمين. وأمّا بالبقاء في مركز الدولة الإسلاميّة، فيبقى دائماً إمكان إرسال جيش آخر إن هُزم الأول. وأشار على عثمان بما فيه صلاحه وصلاح المسلمين، فخالفه حتّى قُتِل.

ص: 115

24 /2 /12.الفضيلة الثانية عشر:

أنّه (علیه السلام) كان أكثر الناس حرصاً على إقامة حدود الله تعالى، لم يراقب في ذلك أحداً، ولم يلتفت إلى قرابة؛ بل كان شديد السياسة، خشناً في ذات الله جَلَّ وَعَلا، لم يراقب ابن عمّه ولا أخاه، ولم يساوه في ذلك أحد من الصحابة.

24 /2 /13. الفضيلة الثالثة عشر:

أنّه (علیه السلام) كان أوّلهم وأتقنهم حفظاً لكتاب الله ؛ فقد كان يحفظ كتاب الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى على عهد رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، ولم يكن أحد يحفظه. وهو أوّل من جمعه، ونقل الجمهور أنّه تأخّر عن البيعة بسبب اشتغاله بجمع القرآن العظيم ، وأئمّة القرّاء يسندون قراءاتهم إليه ؛ كأبي عمرو بن أبي العلاء، وعاصم، وغيرهما؛ لأنّهم يرجعون إلى أبي عبدالرحمن السلمي؛ وهو تلميذه (علیه السلام).

24 /2 /14. الفضيلة الرابعة عشر:

أنّه (علیه السلام) كان يُخبر بالغيب، وقد روي عنه ذلك في مواضع كثيرة، ولم تحصل هذه المرتبة لأحد من الصحابة فيكون أفضل منهم قطعاً. ذلك كإخباره بقتل ذي الثدية، ولما لم يجده أصحابه بين القتلى ؛ قال : «والله ما كَذَبت ولا كُذّبت»، فاعتبرهم (علیه السلام) حتى وجده وشقّ قميصه ووجد على كتفه سلعة كثدي المرأة عليها شعرات تنحدر كتفه مع جذبها وترجع مع تركها. وقال له أصحابه: إنّ أهل النهروان قد عبروا، فقال (علیه السلام) : لم يعبروا، فأخبروه مرّة ثانية فقال : لم يعبروا، فقال جندب بن عبدالله الأزدي في نفسه: إن وجدت القوم قد عبروا كنت أوّل من يقاتله، فلمّا وصلنا النهر لم نجدهم عبروا ، فقال (علیه السلام): «يا أخا الأزد ! أتبيّن لك الأمر؟»، وذلك يدلّ على اطلاعه على ما في ضميره.

وأخبر (علیه السلام) بقتل نفسه في شهر رمضان وبولاية الحجّاج وانتقامه، وبقطع يد جويرية بن مسهر ورجله وصلبه على جذع ؛ ففعل به ذلك في أيام معاوية، وبصلب

ص: 116

ميثم التمار على باب عمرو بن حريث؛ عاشر عشرة وأراه النخلة التي يُصلَب على جذعها فكان كما قال وبذبح قنبر، فذبحه الحجّاج.

وقيل له : قد مات خالد بن عرفطة بوادي القرى، فقال: «لم يمت ولا يموت حتّى يقود جيش ضلالة صاحب رايته حبیب بن جماز»، فقام رجل من تحت المنبر فقال: والله إنِّي لك لمحبّ وأنا حبيب، قال: «إيَّاك أن تحملها ولتحملنّها فتدخل بها من هذا الباب»، وأومأ إلى باب الفيل . فلمّا بعث ابن زياد عمر بن سعد إلى قتال الحسين (علیه السلام) جعل على مقدّمته خالداً وحبيب صاحب رايته، فسار بها حتى دخل المسجد من باب الفيل.

وقال (علیه السلام) يوماً على المنبر : «سلوني قبل أن تفقدوني؛ فوالله لاتسألوني عن فئة تضلّ مائة وتهدي مائة إلّا نبّأتكم بناعقها وسائقها إلى يوم القيامة»، فقام إليه رجل فقال: أخبرني كم في رأسي ولحيتي من طاقة شعر ؟! فقال أمير المؤمنين (علیه السلام): «لقد حدّثني خليلي بما سألت عنه؛ وأنّ على كلّ طاقة شعر في رأسك ملكاً يلعنك وعلى كلّ طاقة شعر في لحيتك شيطاناً يستفزّك وأنّ في بيتك لسخلاً يقتل ابن بنت رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) »فلما كان من أمر الحسين (علیه السلام) ما كان؛ تولّى قتله.

والأحاديث في ذلك أكثر من أن تحصى؛ نقلها المخالف والمؤالف.

24 /2 /15. الفضيلة الخامسة عشر:

أنّه (علیه السلام) كان مستجاب الدعوة سريعاً؛ دون غيره من الصحابة؛ ومنها أنّه (علیه السلام) دعا على بسر بن أرطأة فقال: «اللّهمّ إنّ بسراً باع دينه بالدنيا فاسلبه عقله ولا تبق له من دينه ما يستوجب به عليك رحمتك »؛ فاختلط عقله. واتُّهِم العيزار برفع أخباره (علیه السلام) إلى معاوية؛ فأنكر فقال (علیه السلام) له: «إن كنت كاذباً فأعمى الله بصرك»، فعمي قبل أسبوع.

واستشهد (علیه السلام) جماعة من الصحابة عن حديث الغدير ؛ فشهد له اثنا عشر رجلاً من الأنصار وسكت أنس بن مالك ؛ فقال له : يا أنس ما يمنعك أن تشهد وقد سمعت ما

ص: 117

سمعوا؟» فقال: يا أمير المؤمنين كبرت ونسيت، فقال: «اللّهمّ إن كان كاذباً فاضربه ببياض الوضح لا تواريه العمامة »فصار أبرص وكتم زيد بن أرقم فذهب بصره، وغير ذلك من الوقائع المشهورة.

24 /2 /16. الفضيلة السادسة عشر:

کرامته (علیه السلام) وظهور المعجزات عنه ؛ وهي كثيرة منها: حديثه مع الحيّة، وخلعه باب خيبر، وردّ الشمس، والحرب مع الجنّ.

24/ 2 /17. الفضيلة السابعة عشر:

اختصاصه (علیه السلام) بالقرابة؛ فقد كان (علیه السلام) أقرب الناس نسباً إلى رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، فيكون أفضل من غيره، ولأنّه كان هاشمياًّ فيكون أفضل لقوله (علیه السلام): «إنّ الله اصطفى من ولد إسماعيل قريشاً ومن قريش هاشماً».

24/ 2/ 18. الفضيلة الثامنة عشر:

أُخوته (علیه السلام) مع النبيّ وبيانه أنّ النبيّ(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لمّا واخى بين الصحابة وقرن كل شخص إلى مماثله في الشرف والفضيلة، رأى عليّاً (علیه السلام) متكدّراً، فسأله عن سبب ذلک فقال: «إنّك آخيت بين الصحابة وجعلتني منفرداً»، فقال له رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : «ما أخّرتك إلّا لنفسي ألا ترضى أن تكون أخي ووصيّي وخليفتي من بعدي؟» فقال: «بلی یا رسول الله »فواخاه من دون الصحابة.

24/ 2/ 19. الفضيلة التاسعة عشر:

وجوب المحبّة له (علیه السلام) على الآخرين ؛ فقد كان محبّته (علیه السلام) ومودّته واجبة دون غيره من الصحابة فيكون أفضل منهم قطعاً، وذلك أنّه (علیه السلام) كان من أولي القربى؛ فتكون

ص: 118

مودّته واجبة لقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: « قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى» (1).

24/ 2/ 20.الفضيلة العشرون :

النصرة للنبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ؛ فقد اختصّ بهذه الفضيلة دون غيره من الصحابة؛ فيكون أفضل منهم، وبيانه هو قوله عَزَّ وَجَلَّ: « فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ »(2). وقد اتّفق المفسرون على أنّ المراد بصالح المؤمنين هو عليّ (علیه السلام)، و«المولى» هنا هو الناصر؛ لأنّه القدر المشترك بين الله جَلَّ وَعَلا وجبرئيل (علیه السلام)، وجعله ثالثهم، وحصر المولى في الثلاثة بلفظة «هو» في قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى:« فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ ».

24 /2 21.الفضيلة الحادية والعشرون :

مساواته (علیه السلام) الأنبياء (علیهم السلام) ؛ وبيانه أنّه كان مساوياً للأنبياء المتقدّمين؛ فيكون أفضل من غيره من الصحابة بالضرورة؛ لأنّ المساوي للأفضل أفضل، ودليله ما رواه البيهقي عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أنّه قال: من أحبّ أن ينظر إلى آدم في علمه [««وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا»] ، وإلى نوح في تقواه، وإلى إبراهيم في حلمه [«إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ» ]، وإلى موسى في هيبته، وإلى عيسى في عبادته، فلينظر إلى عليّ بن أبي طالب ».

لذا فإنّ عليّاً (علیه السلام) واجد لعلم آدم (علیه السلام)، وتقوى نوح (علیه السلام)، وحلم إبراهيم (علیه السلام)، وهيبة موسى (علیه السلام) ، وعبادة عيسى (علیه السلام)؛ وليس لأحد من الصحابة مثل هذا الفضل.

24/ 2 /22.الفضيلة الثانية والعشرون :

تحديث النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بفضائله (علیه السلام)؛ فقد أخبر النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في مواضع كثيرة ببيان فضله وزيادة كماله على غيره ونصّ على إمامته ؛ منها على سبيل المثال :

ص: 119


1- سورة الشورى: 23 .
2- سورة التحريم: 4 .

ما ورد في خبر الطائر؛ وهو أنّه (علیه السلام) قال: «اللّهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر»، فجاء علىّ بن أبي طالب (علیه السلام) فأكل معه، وفي رواية: «اللّهمّ أدخل إليّ أحبّ أهل الأرض إليك»، رواه أنس وسعد بن أبي وقاص وأبو رافع مولى رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وابن عبّاس، وعوّل أبو جعفر الإسكافيّ وأبو عبدالله البصري على هذا الحديث في أنّه (علیه السلام) أفضل من غيره، وادّعى أبو عبد الله شهرة هذا الحديث، وظهوره بين الصحابة، ولم ينكره أحد منهم؛ فيكون متواتراً.

وخبر المنزلة؛ وهو قوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى؛ إلّا أنّه لا نبيّ بعدي»، وقد كان هارون أفضل أهل زمانه عند أخيه، فكذا عليّ (علیه السلام) عند محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ).

وخبر الغدير؛ وهو قوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لمّا خطب الناس بغدير خم في عوده من حجة الوداع: معاشر المسلمين ألست أولى منكم بأنفسكم ؟ قالوا : بلى يا رسول الله»، فأخذ بيد عليّ (علیه السلام) وقال: «من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه اللّهمّ وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره وأخذل من خذله وأدر الحقّ مع عليّ كيف ما دار». والمراد بالمولى هاهنا: الأولى بالتصرّف، وإذا كان عليّ (علیه السلام) أولى من كل أحد بالتصرف في نفس المؤمنين ومالهم، فهو أفضل منهم قطعاً، ووجب أن يكونوا جميعاً تحت إمرته وولايته.

24 /2 /23. الفضيلة الثالثة والعشرون :

انتفاء سبق الكفر عنه (علیه السلام) ؛ وبيانه أنّه (علیه السلام) لم يكفر بالله عَزَّ وَجَلَّ أصلاً؛ بل من حين بلوغه كان مؤمناً موحّداً؛ بخلاف باقي الصحابة، فإنّهم كانوا في زمن الجاهليّة كفرة، ولا ريب في فضل من لم يزل موحّداً على من سبق كفره على إيمانه.

24 /2 /24. الفضيلة الرابعة والعشرون :

كثرة انتفاع الإسلام به والمسلمين؛ فقد انتفع به (علیه السلام) المسلمون أكثر من نفعهم بغيره؛ فيكون ثوابه أكثر، وفضله أعظم، وقد تقدّم من كثرة حروبه، وشدّة بلائه في

ص: 120

الإسلام، وفتح الله البلاد على يديه، وقوة شوكة الاسلام به ؛ لذا فإنّه (علیه السلام) الأفضل عند الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى وعند رسوله وعند الناس والشاهد على هذا المدعى ما كان منه (علیه السلام) من تضحيات جسيمة في العهود الأربعة من حياته الشريفة.

24/ 2 /25.الفضيلة الخامسة والعشرون :

تميّزه (علیه السلام) بالكمالات جميعها. وبيانه أنّ الكمالات إمّا نفسانية وإما بدنيّة وإما خارجيّة : أمّا الكمالات النفسانية والبدنيّة فقد بينّا بلوغه فيها إلى حدّ الذروة والغاية؛ فقد كان العلم والزهد والشجاعة والسخاء وحسن الخلق والعفّة فيه أبلغ من غيره، بل لا يجاريه في واحد منها أحد بعد رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) . وبلغ في القوّة البدنية والشدّة مبلغاً لا يساويه أحد حتى قيل : إنّه (علیه السلام) كان يقطّ الهام قط الأقلام، لم يخط في ضربه قط ولم يحتج إلى المعاودة، وقلع باب خيبر وقد عجز عن نقلها سبعون رجلاً من أشدّ الناس قوّة مع أنّه (علیه السلام) كان قليل الغذاء جداً بأخشن مأكل وملبس كثير الصوم مداوم العبادة.

وأمّا الخارجيّة فمنها : النسب الشريف الذي لا يساويه أحد في القرب من رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فإنّه كان أقرب الناس إليه ؛ فإنّ العبّاس كان عمّ رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) من الأب خاصّة، وعليّ (علیه السلام) كان ابن عمّه من الأب والأمّ، ومع ذلك فإنّه كان هاشمياً من الأب والأمّ؛ لأنّه عليّ بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم وأمّه فاطمة بنت أسد بن هاشم.

ومنها : المصاهرة ولم يحصل لأحد ما حصل له منها؛ فإنّه زوج سيدة نساء العالمين (علیها السلام)،وعثمان وإن شاركه في كونه ختناً لرسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) إلّا أنّ فاطمة أشرف بناته، وكان لها من المنزلة والقرب من قلب الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) مبلغ عظيم وكان يعظّمها حتى أنّه كان إذا جاءت إليه نهض لها قائماً ولم يفعل ذلك بأحد من النساء، وقال رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : سيّدة نساء العالمين في الجنّة أربع وعدّ منهنّ فاطمة (علیها السلام).

ومنها: الأولاد؛ ولم يحصل لأحد من المسلمين مثل أولاده في الشرف والكمال؛ فإنّ

ص: 121

الحسن والحسين (علیها السلام) إمامان سيّدا شباب أهل الجنّة، وكان حبّ رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لهما في الغاية حتّى أنّه (علیه السلام) كان يتطأطأ لهما ليركباه ويبعبع لهما . ثمّ أولد كل واحد منهما أولاداً بلغوا في الشرف إلى الغاية ؛ فالحسن (علیه السلام) أولد مثل الحسن المثنى والمثلّث وعبد الله بن الحسن المثنّى والنفس الزكية وغيرهم ، وأولد الحسين (علیه السلام) مثل زين العابدين، والباقر، والصادق والكاظم والرضا والجواد والهادي، والعسكريّ، والمهديّ (علیهم السلام)، وقد نشروا من العلم والفضل والزهد والانقطاع والترك شيئاً عظيماً(1)..

24 /3. نقد أفضليّة أبي بكر :

إشارة

تناول أبناء العامّة من أهل السنة في كتبهم الكلاميّة تبيين مصداق الأفضل بعد رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، فقدّموا أبا بكر على أنّه هو المصداق؛ حتى يتمكّنوا من إثبات الإمامة له مستعينين في ذلك بدليل الإجماع.

ولا نجد لدى أولئك أيّ حديث صريح يدلّ على إمامة أبي بكر(2)، أمّا ما أوردوه وأستدلّوا به على أفضليّته فسنتناول تبيينه ونقده مستندين في ذلك إلى كتاب «إبطال ما استدلّ به لإمامة أبي بكر» لآية الله السيّد علي الميلانيّ؛ وهو على النحو التالي(3) :

24 /3 /1. الدليل الأوّل:

استدلّوا في هذا الدليل بقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: «وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّىوَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى »(4).

ص: 122


1- لاحظ: كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، العلّامة الحلي، ص 212 -238؛ شرح كشف المراد ،علي محمديّ ، ص 457 -494.
2- شرح المواقف، ج 8، ص 365.
3- الموضوعات المتعلّقة بنفي فضيلة أبي بكر وتفنيد القول بالإجماع عليه مقتبسة من كتاب: إبطال ما استدل به لإمامة أبي بكر ، لآية الله السيّد علي الميلانيّ.
4- سورة الليل: الآية 17 -19.

ثمّ قالوا: قال أكثر المفسرين وقد اعتمد عليه العلماء: إنّها نزلت في أبي بكر، أتقى، ومن هو أتقى فهو أكرم عند الله ؛ لقوله جَلَّ وَعَلا : « إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ»(1).

فيكون أبوبكر هو الأفضل عند الله عَزَّ وَجَلَّ. ولا ريب في أنّ من كان الأفضل والأكرم عند الله فهو المتعيّن للإمامة والخلافة بعد رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، وهذا لا إشكال فيه، من كان الأكرم والأفضل عند الله فهو المتعيّن للإمامة والخلافة بعد رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، فيكون أبوبكر هو الأفضل، الأفضل من الأمّة كلّها بعد رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، فهو المتعيّن للخلافة بعده (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) (2).

ويرد عليه أنّ الاستدلال بهذا الدليل يتوقّف على إثبات مقدمات، ومن دونها لا تتمّ دلالة الآية على إمامة أبي بكر ؛ ومن تلك المقدّمات:

أولاً: أنّ هذا يتوقف على سقوط جميع الأدلّة التي أقامها الإماميّة على عصمة عليّ (علیه السلام)، وإلّا فالمعصوم أكرم عند الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى ممن يؤتي ماله يتزكّى. ومن يتوقّف الاستدلال بهذه الآية على إمامة أبي بكر - لو كانت نازلة فيه - على عدم تماميّة تلك الأدلّة التي وردت في المصادر السنيّة والشيعيّة الدالّة على فضائل عليّ (علیه السلام) وأفضليته وعصمته، وإلّا فلو تمّ شيء من تلك الأدلّة لكان عليّ (علیه السلام) أكرم عند الله تَبَارَكَ وَتَعَالى، وحينئذٍ يبطل هذا الاستدلال. ثمّ إنّ هناك جمع غفير من أصحاب رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) يرون أنّ علیّاً (علیه السلام) أفضل من أبي بكر ؛ وقد ورد هذا في كلّ من كتاب الاستيعاب وكتاب الفصل في الملل والنحل (3).

ثانياً : أنّ الاستدلال بهذه الآية المباركة يتوقّف في المقام الأوّل على نزول الآية في أبي بكر، والحال أنّهم مختلفون في تفسير هذه الآية على ثلاثة أقوال:

ص: 123


1- سورة الحجرات: 13 .
2- شرح المواقف، ج 8 ،ص 365 .
3- الاستيعاب ،ج 3 ،ص 1090 ؛ الفصل في الملل والنحل، ج 4، ص 181.

*القول الأوّل: أنّ الآية عامّة للمؤمنين؛ ولا اختصاص لها بأحد منهم.

*القول الثاني: بناءً على تفسير الدرّ المنثور للسيوطي نزلت الآية في قصّة أبي الدحداح وصاحب النخلة. وعلى هذا، فإنّ الآية لا علاقة لها بأبي بكر.

*القول الثالث: بناءً على رواية الطبرانيّ فإنّ الآية نازلة في أبي بكر.

فالقول بنزول الآية المباركة في أبي بكر أحد الأقوال الثلاثة عندهم.

لكنّ القول الأخير القاضي بكونها نزلت في أبي بكر يتوقّف على صحة سند الخبر به، وإذا لم يتمّ الخبر الدالّ على نزول الآية في أبي بكر يبطل هذا القول. والرواية يرويها الطبرانيّ، ويرويها عنه الحافظ الهيثميّ في مجمع الزوائد، ثمّ يقول : فيه - أي في سنده - مصعب بن ثابت وفيه ضعف (1). كما ضعّفه يحيى بن معين، وضعّفه أحمد بن حنبل، وضعّفه أبو حاتم قال : لا يحتجّ به، وقال النسائيّ : ليس بالقويّ، وهكذا قال غير هؤ لاء (2).

24 /3 /2. الدليل الثاني:

استدلّوا في هذا الدليل بما يُنسب إليه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بأنّه قال: «اقتدوا باللَّذَين من بعدي: أبي بكر، وعمر»(3).

والمشكلة الأساسيّة في دليلهم هذا ضعف الرواة؛ فقد قال المناويّ في شرح هذا الحديث في فيض القدير في شرح الجامع الصغير : أعلّه أبو حاتم [ أي قال: هذا الحديث عليل ] ، وقال البزار كابن حزم: لا يصحّ (4)، والترمذيّ حيث أورد هذا الحديث في كتابه بأحسن طرقه، يضعفه بصراحة (5)، وورد في كتاب الضعفاء الكبير لأبي جعفر

ص: 124


1- مجمع الزوائد، ج 9، ص 50.
2- تهذيب التهذيب، ج 10، ص 144.
3- مسند أحمد، ج 5، ص 382، 385 ؛ صحيح الترمذي ، ج 5 ص 572 ؛ مستدرك الحاكم، ج 3، ص 75.
4- فيض القدير، ج 2، ص 56.
5- صحيح الترمذي، ج 5، ص 572 .

العقيليّ أنّه منكر لا أصل له (1)، وأمّا الحافظ الذهبيّ الذي يذكر هذا الحديث في مواضع عديدة من كتابه فيردّه، ويكذّبه، ويبطله، كما يستند إلى قول أبي بكر النقاش : وهذا الحديث واهٍ (2)، وجاء تلخيص المستدرك أنّ سنده واهٍ جداً (3) ، وأمّا الهيثميّ في مجمع الزوائد فيروي هذا الحديث عن طريق الطبرانيّ، يقول: وفيه من لم أعرفهم(4)، وأمّا ابن حجر العسقلانيّ الحافظ شيخ الإسلام فيذكر هذا الحديث في أكثر من موضع وينصّ على سقوطه(5). وللحافظ ابن حزم الأندلسيّ في الاستدلال بهذا الحديث كلمة مهمّة جداً، حيث يقول ما نصّه : «ولو أنّنا نستجيز التدليس والأمر الذي لو ظفر به خصومنا طاروا به فرحاً أو أبلسوا أسفاً؛ لاحتججنا بما روي: اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر ،وعمر، ولكنّه لم يصحّ، ويعيذنا الله من الاحتجاج بما لا يصحّ »(6).

24 /3 /3. الدليل الثالث :

استدلّوا في هذا الدليل بما رووه عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) من أنّه قال لأبي الدرداء:

«والله ما طلعت شمس ولا غربت بعد النبيّين والمرسلين على رجل أفضل من أبي بكر »(7).

وهذا الحديث مضعّف عندهم للغاية؛ فقد رواه الطبرانيّ في الأوسط بسند، قال الهيثميّ : فيه إسماعيل بن يحيى التيميّ؛ وهو كذّاب. وورد أيضاً في مجمع الزوائد بسند آخر يرويه عن الطبرانيّ، ويقول : فيه بقية بن الوليد؛ وهو مدلّس، وهو ضعيف، وهو ساقط عند علماء الرجال (8).

ص: 125


1- الضعفاء الكبير، ج 4، ص 95 .
2- میزان الاعتدال ،ج 1 ،ص 142، ص 105 ،141، و43/ 610.
3- تلخيص المستدرك، ج 3، ص 75.
4- مجمع الزوائد، ج 9، ص 53 .
5- لسان الميزان ،ج 1 ،ص 188، 272 و 5/ 237 .
6- الفصل في الأهواء والملل والنحل، ج 4 ،ص 88 .
7- كنز العمال ،ج 11 ،ص 557؛ تاریخ بغداد ،ج 12 ،ص 433 ؛ تاريخ مدينة دمشق ،ج 30 ، ص 208.
8- مجمع الزوائد، ج 9، ص 44.
24 /3 /4.الدليل الرابع :

استدلّوا في هذا الدليل بما رووه عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أنّه قال عن أبي بكر وعمر: «هما سيّدا كهول أهل الجنّة ؛ ما خلا النبيّين والمرسلين»(1).

روى هذه الرواية الهيثميّ في مجمع الزوائد عن البزار وعن الطبرانيّ، وكلاهما روياه عن أبي سعيد وعن عبيد الله بن عمر. وقال الهيثميّ حيث رواه عنهما في مجمع الزوائد فيه عليّ بن عابس وهو ضعيف(2).

هذا بالإضافة إلى أنّ الجنّة - بحسب ما ورد في الأحاديث الشريفة المعتبرة - ليس بها كهول؛ فكلّ أهل الجنة شباب!

24/ 3 /5.الدليل الخامس :

استدلّوا في هذا الدليل بما ينسبونه إليه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) من أنّه قال في أفضليّة أبي بكر: «ما ينبغي لقوم فيهم أبوبكر أن يتقدّم عليه غيره »(3).

ومن حسن الحظ أنّ الحافظ ابن الجوزيّ أورد هذا الحديث في كتاب الموضوعات؛ وقال ما نصّه : هذا حديث موضوع على رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) (4).

24 /3 /6.الدليل السادس:

استدلوا في هذا الدليل بحديث رواه البخاريّ ومسلم عن عائشة أنّ النبيّ(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في حين مرضه قدّم أبا بكر للصلاة.

ص: 126


1- تاريخ مدينة دمشق، ج 3، ص 171 ؛ سنن الترمذي، ج 5، ص 272 و 273 ؛ المصنّف، ج 7، ص 473.
2- مجمع الزوائد، ج 9، ص 53.
3- سنن الترمذي، ج 5، ص 276 ؛ الكامل، ج 5، ص 240.
4- الموضوعات، ج 1، ص 318.

لكن هذا الدليل ليس بتامّ ؛ ويرد عليه جملة أمور منها:

أولاً: تنتهي جميع أسانيد هذا الخبر إلى عائشة، وعائشة متّهمة في نقل مثل هذه القضايا؛ لسببين هما: مخالفتها لعليّ (علیه السلام) ، وكونها ابنة أبي بكر .

ثانياً: تدلّ الشواهد التاريخيّة على أنّ تقديم أبي بكر للصلاة بالناس لم يكن من جانب رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، بل بإيعاز من عائشة نفسها؛ فهي من أرسلت أباها ليصلّي بالناس؛ حيث إنّ رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قد بعث بكبار الصحابة وعلى رأسهم أبو بكر وعمر في سرية أسامة، وشدّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) على خروجهم من المدينة حتّى اللحظات الأخيرة من عمره الشريف ؛ وهذا لا يقبل الإنكار فهو ثابت بالكتب المعتبرة التي نقلت هذا الخبر ؛ حيث قال الحافظ ابن حجر العسقلانيّ في كتاب فتح الباري بشرح البخاري: قد روى ذلك - أي كون أبي بكر في بعث أسامة - الواقديّ، وابن سعد، وابن إسحاق، وابن الجوزيّ، وابن عساكر ، وغيرهم(1) ولذا، لمّا توفي رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) كان أسامة بجيشه في خارج المدينة، ولذا لمّا ولي أبو بكر اعترض أسامة ولم يبايع أبا بكر، وقال: «أنا أمير على أبي بكر؛ وكيف أبايعه».

ثالثاً: لو سلّمنا بذلك، فكم من صحابيّ أمره رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بأن يصلّي في مكانه في مسجده وفي محرابه، ولم يدّع أحد ثبوت الإمامة بتلك الصلاة لذلك الصحابيّ الذي صلّى في مكانه.

رابعاً: لو كان رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) هو الآمر، فقد ذكرت تلك الأخبار أنّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) خرج بنفسه الشريفة - معتمداً على رَجُلين، ورجلاه تخطّان على الأرض - ونحّى أبا بكر عن المحراب، وصلّى تلك الصلاة بنفسه ؛ ثمّ خطب خطبة ذكر فيها القرآن الكريم وأهل البيت (علیهم السلام) وحثّ الناس على اتّباعهم.

ص: 127


1- فتح الباري ،ج 8 ،ص 124 .
24 /3 /7.الدليل السابع:

استدلّوا في هذا الدليل بما ينسبونه إليه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) من أنّه قال في حقّ أبي بكر وعمر: «خير أمّتي أبو بكر ثمّ عمر »(1).

ويرد على هذا الاستدلال :

أوّلاً :أنّ هذا الحديث ضعيف من ناحية السند.

ثانياً: ورد هذا الحديث في المواقف وشرح المواقف ناقصاً؛ فقد اكتفوا بنقل هذا المقطع من الحديث؛ حيث رووا عن عائشة:

«قلتُ: يا رسول الله ! من خير الناس بعدك ؟ قال : أبو بكر، قلت: : ثمّ من؟ قال : عمر».

هذا هو الموضع الذي استدلّوا به. لكن بالمجلس فاطمة (علیها السلام)، وللحديث ذيل، ،أسقطوه ليتمّ لهم الاستدلال وتكملته:

«قالت فاطمة : يا رسول الله ! لم تقل في عليّ شيئاً؟ قال: يا فاطمة عليّ نفسي، فمن رأيتيه يقول في نفسه شيئاً؟»(2).

24 /3 /8. الدليل الثامن :

استدلّوا في هذا الدليل بما ما رووه عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أنّه قال واصفاً قربه من أبي بكر: « لو كنت متخذاً خليلاً دون ربّي لاتّخذت أبا بكر خليلاً»(3).

ص: 128


1- تاريخ مدينة دمشق، ج 3، ص 376.
2- تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الشنيعة الموضوعة، ج 1، ص 376.
3- مسند أحمد ،ج 1 ،ص 412 ،432، 439 وج4، ص 4 و 5 ؛ صحيح البخاريّ، ج4، ص 191؛ صحیح مسلم، ج 7، ص 108 و 109 .

وهذه الرواية تتعارض مع رواية أخرى رواها أبناء العامّة من أهل السنّة أنفسهم؛ حيث زعموا أنّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قد اتّخذ عثمان خليلاً وقال:

«إنّ لكلّ نبيّ خليلاً من أمّته، وإنّ خليلي عثمان بن عفان».

واستناداً على هذه الرواية يكون عثمان أفضل من أبي بكر ؛ حيث اتّخذه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) خليلاً ولم يتّخذ أبا بكر ؛ والجدير بالذكر أنّ كلا الحديثين ضعيفان(1).

24 /3 /9. الدليل التاسع :

ما ينسبونه لرسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أنّه قال وقد ذُكر أبو بكر عنده :

«وأين مثل أبي بكر ؟! كذّبني الناس وصدّقني، وآمن بي وزوّجني ابنته، وجهّزني بماله وواساني بنفسه، وجاهد معي ساعة الخوف(2).

وقد أدرج هذا الحديث - من ناحية السند - الحافظ السيوطي في كتابه اللآلي المصنوعة بالأحاديث الموضوعة (3)، وأدرجه أيضاً الحافظ ابن عراق صاحب کتاب تنزيه الشريعة (4) ، وقد ألّف كتابه هذا في خصوص الروايات الموضوعة.

وأمّا من ناحية دلالته على أنّ رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بحاجة إلى مال أبي بكر وإنفاقه عليه، فهو من القضايا الكاذبة، وقد وصل كذب هذا الخبر إلى حدّ ألجأ ابن تيمية نفسه إلى التصريح بكذبه(5).

ص: 129


1- تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الشنيعة الموضوعة، ج 1، ص 392.
2- تاریخ مدينة دمشق، ج 3، ص 110 و 155.
3- اللآلي المصنوعة في الأحاديث الموضوعة، ج 1، ص 295.
4- تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الشنيعة الموضوعة، ج 1، ص 344.
5- منهاج السنة، ج 4، ص 289 .
24 /3 /10.الدليل العاشر:

ما رووه عن عليّ (علیه السلام) أنّه قال :

«خير النّاس بعد النبيّين أبو بكر ثمّ عمر ثمّ الله أعلم»(1).

وقد وردت هذه الرواية بعدّة ألفاظ ؛ ويرد عليها أنّ أبا بكر نفسه يعترف بأنّه لم يكن خير الناس؛ فقد صرّح بقوله :

«وليتكم ولست بخيركم»

وهذا مثبَّت في طبقات ابن سعد(2)، وقال أيضاً:

«أقيلوني فلست بخيركم»(3).

وعليه فلا يمكن الاعتماد على الدليل العاشر .

24 /3 /11.الدليل الحادي عشر:

من أدلّتهم على إمامة أبي بكر : إجماع الصحابة في سقيفة بني ساعدة على خلافته.

والجدير بالذكر هنا أنّ صاحب شرح المقاصد وغيره من كبار علماء الكلام يقولون بأنّا عندما ندّعي الإجماع، فإنّنا لا ندّعي وقوع الإجماع حقيقة. فعندما نقول: قام الإجماع على خلافة أبي بكر ، فليس المعنى أنّ القوم كلّهم كانوا مجمعين وموافقين على إمامته، بل إنّ إمامته قد وقعت في الحقيقة ببيعة عمر فقط، وفي السقيفة، وذلك بعد وقوع النزاع بين المهاجرين والأنصار ، ونقله إلى نزاع بين الأنصار الأوس والخزرج(4).

ص: 130


1- كنز العمال، ج 13، ص 8 ؛ تاريخ مدينة دمشق، ج 3، ص 351.
2- الطبقات الكبرى، ج 3، ص 139.
3- مجمع الزوائد، ج 5 ،ص 183 ؛ سيرة ابن هشام، ج 2، ص 661؛ تاریخ الخلفاء، ص .71
4- شرح المقاصد، ج 2، ص 298 .

وبناء على هذا الاختلاف بين المسلمين، لا تتمتّع خلافة أبي بكر بأيّ درجة من درجات الإجماع. ناهيك عن مخالفة علماء الشيعة لإمامة أبي بكر؛ فقد استندوا في ذلك على أدلّة عقليّة ونقليّة معتبرة.

24 /4.آية التطهير:

إشارة

تمثّل آية التطهير إحدى أهمّ الأدلّة التي يُعتمد عليها في إثبات عصمة أهل بيت رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، والتي يمكن أن يُدلَّل من خلالها على حقانيّة إمامتهم؛ فقد قال الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى في محكم كتابه: « إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا»(1).

وبيان الاستدلال بهذه الآية أن يُقال : تدلّ مفردات الآية ومجموع التفاسير التي أدلى بها علماء الفريقين، وما أوردوه في تفنيد الشبهات الملقاة في هذا المجال (2)على ثبوت عصمة أهل البيت (علیهم السلام).

أمّا نصّ الآية الكريمة فينطوي على مجموعة من المفردات المفتاحيّة التي يجب التطرّق إلى بيانها؛ وهي قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: «إنّما»، و«يريد»، و«الرجس»، و«تطهيراً» و«أهل البيت». وإليك فيما يأتي إضاءات دقيقة على معانيها:

24 /4 /1. مفردة «إنّما»:

تدلّ هذه المفردة لغةً على الحصر؛ فعندما يُقال: «إنّما لك عندي درهم»، أو يُقال: «إنّما في الدار زيد» يتبادر إلى الذهن من الجملة الأولى: أنّ لك عندي درهم فقط ؛ ولا غير، ومن الجملة الثانية: أنّ الموجود في الدار هو زيد؛ ولا أحد غيره(3).

ص: 131


1- سورة الأحزاب: 33 .
2- استعنتُ في جمع المباحث التفسيرية لآية التطهير وتنظيمها بجهود الأخ الباحث السيّد عادل هاشمي فخر؛ مماً استدعى التنويه بذلك، فالشكر موصول له، وأسأل الله أن يجزيه عنّي خيراً.
3- لاحظ مجمع مجمع البيان، ج 11، ص 479.

ومن ثمّ : تدلّ مفردة «إنّما » في الآية الكريمة على حصر إرادة الله عَزَّ وَجَلَّ في إعطائه العصمة لأهل البيت (علیهم السلام) ، واستبعاده الرجس والإثم عنهم؛ دون غيرهم(1).

24/ 4/ 2. مفردة «يريد»:

تدلّ هذه المفردة على الإرادة التكوينيّة لله جَلَّ وَعَلا؛ ذلك لأنّ الإرادة الإلهيّة التشريعيّة في ترك الآثام وتجنّب المعاصي ليست منحصرة بأهل البيت (علیهم السلام) ؛ بل تشمل جميع البشر . والمقصود من الإرادة الإلهيّة التكوينيّة في نفي الإثم والرجس عن أهل البيت (علیهم السلام) ليس هو الجبر التكوينيّ؛ بل هو نوع من اللياقة الذاتيّة والموهبة الإلهيّة والجدارة الاكتسابيّة النابعة من إرادة الشخص نفسه؛ ذلك لأجل أن يكون أسوة وقدوة لكل الناس، والحال هنا مشابه لما يقوم به الإنسان من اجتناب الاحتراق بالنار ؛ فهي حالة نابعة من أعماق وجود الإنسان، ومعارفه، وسائر المنطلقات الفطريّة والطبيعيّة المحيطة به ؛ من دون أن يكون هناك أيّ لون من ألوان الجبر(2).

24 /4 /3. مفردة «الرجس»:

تدلّ هذه المفردة على الآثام والقاذورات. ويوحي هذا اللفظ بهيئة تبعث نفس الإنسان إلى التنفّر والاجتناب(3).

أمّا الألف واللام في هذه الكلمة في ضمن سياق الآية الكريمة فهي ما يُعرف بلام الجنس ؛ أي إنّ الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى يريد أن يُبعد جميع ضروب الآثام والرذائل والهيئات الخبيثة عن نفوس أهل البيت (علیهم السلام)، ويزيلها عنهم. ومثل هذه الإزالة لا تجري إلّا مع افتراض العصمة الإلهيّة التي ترعى الإنسان من كلّ ما هو باطل؛ سواء كان

ص: 132


1- لاحظ: التبيان في تفسير القرآن، ج 8 ،ص 340 ؛ الميزان، ج 16، ص 483 .
2- تفسير الأمثل، ج 17، ص 315.
3- المصدر السابق، ص 316 .

على مستوى العقيدة أو العمل . ويرى ابن عباس أنّ مفردة «الرجس» تعني العمل الشيطانيّ القبيح الذي لا يلازمه رضا الله جَلَّ وَعَلا (1).

24 /4/ 4. مفردة «تطهيراً»:

تدلّ هذه المفردة على جعل الشيء طاهراً، وهي - في واقع الأمر - تأكيد لقضية إذهاب الرجس، ونفي الآثام. ويُعدّ ورودها هنا بصيغة المفعول المطلق دالّا على تأكيد آخر على ذات المعنى(2).

24 /4 /5. مفردة «أهل البيت»:

تشير هذه المفردة - باتّفاق علماء الإسلام؛ لا سيّما المفسّرين - إلى أهل بيت النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وقد ذهب بعضهم إلى اختصاصها بنساء النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ورأى آخرون أنّها تشمل الرجال والنساء من بيت النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لكن بعضهم جزم بأنّ مفردة «أهل البيت» منحصرة في الخمسة من أصحاب الكساء (علیهم السلام) ؛ دون غيرهم (3).

أمّا انحصار هذه المفردة في نساء النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فهو غير وارد قطعاً؛ فإنّ الضمير في قوله عنكم ضمير مذكّر لا يتناسب مع نساء النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، ولا يتّجه إرجاعه إليهنّ (4).

ولم تتفق آراء علماء أهل السنّة في هذه النقطة تحديداً؛ فقد ذهب ابن كثير الدمشقيّ مستنداً إلى رواية عكرمة إلى أنّ الآية تنصّ على دخول نساء النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في مفهوم أهل البيت؛ لأنّهنّ سبب نزول هذه الآية، وسبب النزول داخل لا محالة في معنى الآية (5).

ص: 133


1- تفسير الميزان ،ج 16 ،ص 488 ؛ مجمع البيان، ج 11، ص 473؛ تفسير المراغي، ج 22 ، ص 7؛ تفسير السمرقندي، ج 3، ص 50.
2- التفسير الأمثل، ج 17، ص 316.
3- المصدر السابق، ص 317 .
4- تفسير الميزان، ج 16، ص 484 .
5- تفسير القرآن العظيم، ج 3، ص 450.

ورأى آخرون أنّ هذه المفردة لا تنحصر بنساء النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بل تشمل أيضاً: عليّاً، وفاطمة والحسن والحسين (علیهم السلام)(1).

لكنّنا نجد في بعض الأحاديث المرويّة عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ما يخالف ذلك؛ فقد روت أمّ سلمة عنه -(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) - وهي من نسائه - أنّها سألته قائلةً:

«فأدخلت رأسي البيت، وقلت: وأنا معكم يا رسول الله؟ قال: إنّك إلى خير، إنَّك إلى خير »(2).

أمّا علماء الإماميّة فذهبوا إلى أنّ أهل البيت لفظ مختصّ بالخمسة من أهل الكساء ، ومنحصر بهم. وقد استند الشيخ الطوسيّ (460ه) إلى حديث رواه أبو سعيد الخدري وأنس بن مالك وعائشة وأمّ سلمة ورد فيه أنّ الآية قد نزلت في شأن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وعليّ وفاطمة والحسن والحسين (علیهم السلام)، مفنّداً بذلك رواية عكرمة (3).

وكتب الشيخ الطبرسيّ (548ه) ناقلاً عن ابن عباس:

«الرجس عمل الشيطان، وما ليس لله فيه رضى. والبيت التعريف فيه للعهد، و المراد به بيت النبوّة والرسالة... وقال أبو سعيد الخدري، وأنس بن مالك، وواثلة بن الأسقع، وعائشة، وأمّ سلمة: إنّ الآية مختصّة برسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، وعليّ، وفاطمة، والحسن، والحسين (علیهم السلام)»(4).

̧ وقد أجمع مفسّرو الإماميّة على هذا الرأي(5).

ص: 134


1- الجامع لأحكام القرآن، ج 14، ص 183.
2- مجمع البیان، ج 21 -22، ص 476 .
3- التبيان في تفسير القرآن، ج 8، ص 339.
4- مجمع البیان، ج 21 -22 ، ص 473 .
5- زبدة التفاسير، ج 5، ص372؛ تفسير القرآن العظيم ،ص 400 ؛ تفسير كنز الدقائق، ج8، ص 155؛ تفسير نور الثقلين، ج4، ص 270؛ تفسير الصافي، ج4، ص 187.

24/ 5.شبهات العامّة على آية التطهير :

إشارة

استعرض أبناء العامّة من أهل السنّة بعض الشبهات على آراء علماء الإمامية؛ نذكر منها على سبيل المثال ما يأتي:

24 /5 /1. الشبهة الأولى:

المقصود من مفردة «أهل البيت »في آية التطهير نساء النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ؛ ذلك لأنّ هذا اللفظ ورد في وسط الآية التي تحدّثت عنهنّ.

وقد أجابوا على ذلك بنقاط :

أوّلاً: إنّ آية التطهير - استناداً على ما صرّحت به بعض الروايات المعتبرة - ليست من جملة آيات نساء النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، ولم تنزل في شأنهنّ، فمن بين سبعين رواية تحدّثت عن هذه الآية لا وجود لرواية واحدة تنصّ على أنّ الآية نزلت في ذيل آيات نساء النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ؛ بل إنّ نفس عكرمة الذي قال باختصاص آية التطهير بنساء النبیّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ؛ لم يقل أنّ هذه الآية قد نزلت ضمن آيات نساء النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ! بل على العكس تماماً؛ فقد دلّت الروايات المعتبرة على اختصاص هذه الآية بالخمسة من أصحاب الكساء (علیهم السلام)، وأنّها نزلت في شأنهم(1).

ثانياً: يُستخدم ضمير «كم» للجمع المذكّر، ومعلوم أنّ «نساء النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) » جمع مؤنث. بناءً على ذلك، إن كان مراد الآية نساء النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لوجب أن تكون الكلمات ذات الضمائر على نحو «عليكنّ» و «يطهّركنّ»؛ وليس بصيغة المذكّر .

ثالثاً: تدلّ الروايات التاريخيّة على امتلاك كل واحدة من نساء النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بيتاً خاصّاً بها؛ فلو كنّ هنّ المقصودات بالآية لوجب أن تأتي كلمة «البيت» جمعاً؛ لا مفرداً، ولكانت بصيغة «أهل البيوت »؛ وليس «أهل البيت».

ص: 135


1- الميزان ،ج 16، صفحه 487.
24 /5 /2.الشبهة الثانية :

روى واثلة بن أسقع أنّه كان حاضراً في بيت أمّ سلمة عندما نزلت آية التطهير على النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في بيتها، فسأل النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : هل أنا من أهلك ؟ فأجابه النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : «وأنت من أهلي »(1).

وبناءً على ذلك، إن كان ابن أسقع من أهل بيت النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، فمن الأولويّة بمكان أن تكون نساؤه من أهل بيته أيضاً.

وقد أجابوا على ذلك بقولهم:

أوّلاً: استبدلت جملة ردّ النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في طريق آخر لهذه الرواية بجملة أخرى لم ترد في هذا الطريق؛ حيث ورد في الطريق الآخر أنّ جواب النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) على سؤال واثلة أن غطّى علياًّ وفاطمة الحسن والحسين (علیهم السلام) بكسائه، وقال: «اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي، أهل بيتي أحقّ»(2).

ثانياً: لو سلّمنا بالرواية من هذا الطريق؛ فإنّها أيضاً غير وافية بما يرجونه منها، فإنّ المعنى عندئذٍ أنّ واثلة من أهل النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ؛ لا من أهل بيته، و«أهل النبيّ» مفهوم عام يُطلق على الزوجة والولد والقوم والعشيرة، بل ويُطلق على الأتباع أيضاً(3). .

24 /5 /3. الشبهة الثالثة:

لو كانت آية التطهير تدلّ على عصمة أهل البيت (علیهم السلام) فإنّ آية نفي الحرج تدلّ أيضاً على عصمة المسلمين الذين شاركوا في غزوة بدر ؛ قال عَزَّ وَجَلَّ: «مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ»(4).

ص: 136


1- تفسير الطبريّ، ج 22، ص 12.
2- تفسير ابن كثير، ج 5، ص 453 .
3- المصباح المنير، ج 1، ص 37.
4- سورة المائدة: 6.

فإنّ إتمام النعمة الإلهيّة عليهم لا يحصل من دون أن يكونوا محفوظين من شرّ الشيطان، وارتكاب المعاصي(1).

وقد أجابوا على هذه الشبهة بعدم اختصاص هذه الآية بأصحاب بدر؛ دون غيرهم، فالآية مرتبطة بتشريع الوضوء والغسل والتيمم. ولهذا، فهي تشمل جميع المسلمين بالإرادة التشريعيّة؛ إذ أراد الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى أن يُذهب عن المسلمين الحرج وعن قلوبهم الهمّ؛ وذلك حينما يستفيقوا من نومهم مجنبين؛ فأنزل عليهم الغيث ليتطهّروا من جنابتهم، وكما تسبّب هطول الغيث في إزالة العناء الروحي عن كاهل المسلمين فاستطاعوا أن يتطهّروا ويقيموا صلاتهم، تسبّب أيضاً في تثبيت رمال المعسكر ، فأضحت خطواتهم أكثر ثباتاً(2).

24 /6.آية الولاية

إشارة

تمثل آية الولاية دليلاً محكماً في إثبات إمامة أمير المؤمنين (علیه السلام) وإثبات ولايته وخلافته المباشرة بعد النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ؛ فقد قال الله عزّ وجلّ في هذه الآية: «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ»(3).

أما مفردة «إنّما» فهي أداة تدلّ على الحصر، وأمّا مفردة «وليّكم» فهي تدلّ على التكفّل بشيء والأخذ بزمام أمره؛ كما ورد في حديث رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أنّه قال: «عليّ منّي وأنا من عليّ؛ وهو وليّكم بعدي»(4).

وهنا، يرد السؤال : تنطوي مفردة «الوليّ» أو «الولاية» على معانٍ متعدّدة، لكنّ تعدّد المعاني فيها هل هو من باب الاشتراك اللفظيّ، أم الاشتراك المعنوي؟

ص: 137


1- تفسير روح المعاني، ج 22 ،ص 26 .
2- تفسير الطبريّ، ج 9 ،ص 229.
3- سورة المائدة: 55 .
4- سنن ابن ماجة، ج 1، ص 89 ؛ مسند أحمد بن حنبل، ج 5، ص 171 ؛ كنز العمال، ج 11، ص 603 ح32913.

والجواب:

إذا كانت هذه المفردة من المشترك المعنويّ فهذا يعني أنّها تستخدم في معنى واحد على الدوام ؛ وهو معنى القيموميّة وتدبير أمور الآخرين.

فعندما يُقال مثلاً: «زيد وليّ عمرو»؛ فهذا يعني أنّ زيداً هو القيّم على عمرو، : وهو المدبّر لأمره. ويُطلق على السلطان أنّه ((وليّ»؛ لأنّه تكفّل أمور المملكة، وأخذ بزمام إدارتها ومسؤولياتها.

أما إذا كانت مفردة «الولاية »من المشترك اللفظي فهذا يعني أنّ اللفظ ينطوي على معان كثيرة مختلفة. وفي هذه الحالة نقول : أحد هذه المعاني هو التقدّم والأولويّة على الجميع فيه، وهذا هو الذي يمكن الوصول إليه من خلال أخذ قرينة أنّه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) من عليّ (علیه السلام) وأنّ عليّاً (علیه السلام) من النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) .

وتوجد في الآية المباركة مجموعة من القرائن والشواهد التي تُثبت أنّ مفردة «الولاية» وردت بالمعنى الذي ذكرته الإماميّة؛ أي: الأولويّة والأفضليّة والأهليّة لتولّي أمور المسلمين والأخذ بزمامها ؛ لا ما ذهب إليه الفضل بن روزبهان في ردّه على العلّامة الحلّي (726ه) عند الاستدلال بهذه الآية؛ إذ ادّعى أنّها بمعنى النصرة والعون(1).

وقد ورد في شأن نزول الآية : أنّ النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لمّا علم بتصدّق عليّ (علیه السلام) بخاتمه على الفقير؛ رفع رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، طرفه إلى السماء، وقال: «اللّهمّ إنّ أخي موسى سألك فقال: «قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي *وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي *وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي *يَفْقَهُوا قَوْلِي *وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي *هَارُونَ أَخِي *اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي *وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي *كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا *وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا *إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا »، فأنزلت عليه قرآناً ناطقاً: «سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا» ، وإنّي محمّد نبيّك وصفيّك؛ اللّهمّ فاشرح

ص: 138


1- إحقاق الحقّ، ج 2، ص 408 .

لي صدري، ويسّر لي أمري، واجعل لي وزيراً من أهلي عليّاً، أشدد به ظهري. قال أبو ذر (رضی الله عنه) : فما استتم دعاءه، حتى نزل جبريل (علیه السلام) من عند الله عزّ وجلّ ، قال : يا محمّد إقرأ :

«إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ»(1).

24 /6 /1. شبهة صيغة الجمع:

استعرض أهل السنّة إشكالاً على ما ذهبت إليه الإماميّة من الاستدلال بالآية الكريمة على الإمام عليّ (علیه السلام) ؛ وهو أنّ المخاطب في آية الولاية جمع، وعليّ (علیه السلام) فرد.

والجواب على ذلك أن يُقال:

ورد في آيات أخرى أيضاً إطلاق لفظ الجمع وإرادة المفرد؛ منها - على سبيل المثال: آية المباهلة؛ فقد قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى فيها :

«وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ»(2).

وقد برّر الزمخشريّ استخدام الجمع مكان المفرد؛ فكتب يقول :

«جيء به على لفظ الجمع ؛ وإن كان السبب فيه رجلاً واحداً، ليرغب الناس في مثل فعله فينالوا مثل ثوابه ،ولينبّه على أنّ سجيّة المؤمنين يجب أن تكون على هذه الغاية من الحرص على البرّ، والإحسان، وتفقد الفقراء»(3).

هذا، وقد ذهب العلّامة السيّد شرف الدين إلى أنّ استعمال الجمع وإرادة المفرد في هذه الآية ضرب من ضروب الخطّة الإلهيّة للحفاظ على القرآن الكريم وصيانته من التحريف على يد المنافقين وأعداء الدين وأعداء الإمام عليّ (علیه السلام)(4).

ص: 139


1- سورة المائدة: 55. تفسير الفخر الرازيّ، ج 11، ص 25.
2- سورة آل عمران: 61 .
3- تفسير الكشّاف ،الزمخشريّ، ج1، ص 649.
4- آية الولاية، السيّد عليّ الميلانيّ، ص: 35.

24/ 7. حديث الغدير :

روى أحمد بن حنبل في مسنده بسند صحيح عن زيد بن أرقم أنّه قال:

نزلنا مع رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بواد يقال له: وادي خم. فأمر بالصلاة فصلّاها بهجير .قال فخطبنا وظُلّل لرسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بثوب على شجرة سمر من الشمس، فقال: ألستم تعلمون - أو : ألستم تشهدون - أنّي أولى بكلّ مؤمن من نفسه قالوا: بلى قال: «فمن كنت مولاه فإنّ عليّاً مولاه ،اللّهمّ عاد من عاداه ووال من والاه»(1).

وروى النسائي في سننه بسند صحيح عن أبي الطّفيل عن ابن أرقم أنّه قال:

«لّما رجع النبيّ(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) من حجّة الوداع، ونزل غدير خم أمر بدوحات فأقمن، ثمّ قال: «كأنّي دعيت فأجبت ، وإنّي تارك فيكم الثقلين، أحدهما أكبر من الآخر، كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فانظروا كيف تخلفوني فيهما، فإنّهما لن يفترقا حتّى يردا علىّ الحوض، ثمّ قال: إنّ الله مولاي، وأنا مولى كلّ مؤمن، ثمّ أخذ بيد عليّ (علیه السلام) ، فقال : من كنت وليّه فهذا وليّه اللّهمّ وال من والاه، وعاد من عاداه »فقلت لزيد: سمعته من رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وأنّه ما كان في الدرجات أحد ، إلّا رآه بعينه، وسمعه بأذنيه»(2).

وهنا تجدر الإشارة إلى بعض النقاط المهمة؛ وأبرزها:

أوّلاً: :ورد حديث الغدير في صحيح مسلم، ومسند أحمد، وكثير من المصادر الحديثية لأهل السنّة.

ثانياً: قبل حادثة الغدير نزلت الآية الشريفة التي يقول فيها عَزّ وَجَلَّ:

«يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ »(3).

ص: 140


1- مسند أحمد بن حنبل، ج 5، ص 1 -5 حديث 18838.
2- فضائل الصحابة، أحمد بن حنبل الشيباني ،ص 15، الحديث 45 ؛ خصائص أمير المؤمنين (علیه السلام)، عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي ،ص 96، حديث 79.
3- سورة المائدة: 67 .

ومن بعد أن أتمّ رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) الخطبة أنزل الله تَبَارَكَ وَتَعَالى قوله :

«الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا»(1).

ثالثاً: عندما انتهت خطبة الغدير وبدأ الناس يبايعون أمير المؤمنين عليّ (علیه السلام) جاء أعرابيّ وسأل أن يُنزِّل الله عليه العذاب؛ فنزل قوله عَزَّ وَجَلَّ: «سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ»(2)؛ وحلّ به العذاب عاجلًا في حينه (3).

رابعاً: أكثر من مئة وعشرين صحابيّاً بين رجل وامرأة رووا حديث الغدير؛ وقد نقل محدّثو أهل السنّة في كتبهم هذا الحديث بسلاسل من السند المعتبر عندهم. وبلغ عدد رواة الحديث من التابعين أضعاف عدد رواته من الصحابة. وعليه، فإنّ هذا الحديث متواتر. وقد أذعن لتواتره كوكبة من علماء أهل السنّة؛ نذكر منهم: جلال الدين السيوطيّ، والكتّاني، والشيخ علي المتقي الهندي، وشمس الدين الذهبي، والحافظ الكبير شمس الدين الجَزَري، وغيرهم(4).

24/ 8.حديث الثقلين :

يمثّل حديث الثقلين أحد أبرز الأدلّة على إمامة أهل بيت رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وقد

ص: 141


1- سورة المائدة: 3 .
2- سورة المعارج: 1 .
3- شأن نزول الآيات المباركات هو أنّه لما شاع ما قال رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في يوم غدير خم في عليّ (علیه السلام) وطار في البلاد وبلغ الحارث بن النعمان الفهري أتى رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) على ناقة له فنزل بالأبطح عن ناقته، وأناخها، فقال: «يا محمّد أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلّا الله وأنّك رسول الله، فقبلناه منك، وأمرتنا أن نصلّي خمس فقبلنا منك، وأمرتنا بالزكاة، فقبلنا منك وأمرتنا أن نصوم شهر فقبلنا منك وأمرتنا بالحجّ، فقبلنا منك، ثمّ لم ترضَ بهذا حتى رفعت بضبعي ابن عمّك تفضله علينا وقلت من كنت مولاه فعليّ مولاه فهذا منك أم من الله؟» فقال النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : «والذي لا إله إلّا هو إن هذا من الله». فولّى الحارث بن النعمان وهو يريد راحلته ويقول: اللّهمّ إن كان ما يقول محمّد حقاً فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم فما وصل إلى راحلته حتى رماه الله تعالى بحجر، فسقط على هامته، وخرج من دبره، وأنزل الله: «سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ *«لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ ».
4- حديث الغدير ،السيّد عليّ الميلانيّ.

نقله محدّثو أهل السنّة بأسانيد صحيحة؛ فقد روى الترمذيّ في صحيحه بسند صحيح عن جابر بن عبد الله الأنصاري (رضی الله عنه) عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أنّه قال :

«يا أيها الناس إنّي قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي »(1).

وروى أيضاً في صحيحه بسند آخر عن زيد بن أرقم أنّ رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قال :

«إنّي تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلّوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر : كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما »(2).

وقد نقل حديث الثقلين المئات من أئمّة الحديث وحفظته؛ من جملتهم: مسلم بن الحجّاج، وأحمد بن حنبل، والترمذيّ وأبو داوود، وابن ماجه، والنسائي، والحاكم النيسابوريّ، والطبريّ، والطبرانيّ، كما رواه ما يقارب الأربعين بين رجل وامرأة من أصحاب رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ)

ويدلّ حديث الثقلين بوضوح على أعلميّة الأئمة من أهل البيت (علیهم السلام) ، كما يدلّ أيضاً على وجوب اتّباع الأمة لهم في جميع الشؤون الدينيّة والدنيويّة(3).

24/ 9.حديث الولاية

روى علماء الفريقين عن بعض أصحاب رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ؛ وهم: الإمام عليّ (علیه السلام) والإمام الحسن (علیه السلام)، وعبدالله بن عبّاس وأبو ذر الغفاري، وأبوسعيد الخدري، والبرّاء بن عازب، وعمران بن حصين ،وأبوليلى الأنصاري، وبريدة بن حصيب،

ص: 142


1- صحيح الترمذيّ، ج 6، ص 124 ،حديث 3786.
2- المصدر السابق ،ص 125، حدیث 3788 .
3- حديث الثقلين ،السيّد علي الميلانيّ.

وعبدالله بن عمر، وعمرو بن العاص، ووهب بن حمزة، عن النبيّ الأکرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أنّه قال مخاطباً أمير المؤمنين عليّ (علیه السلام): «أنت وليّ كلّ مؤمن بعدي»(1).

وقد روى عبدالله بن عباس وبريدة بن حصيب ،وعمران بن حصين حديث الولاية أكثر من غيرهم.

كما نقل حديث الغدير؛ كبار أئمة الحديث وحفّاظه وجهابذته من أهل السنّة في كتبهم ؛ من بينهم : أبو داؤد الطيالسي؛ صاحب المسند ، أبوبكر بن أبي شيبة؛ صاحب المصنّف، أحمد بن حنبل، إمام الحنابلة وصاحب المسند ،أبوعيسى الترمذي؛ صاحب الصحيح، والنسائي؛ صاحب السنن ،أبو يعلي الموصلي؛ صاحب المسند، أبوجعفر الطبري؛ صاحب كتابي تاريخ الطبري وتفسير الطبري، أبوحاتم بن حبّان؛ صاحي الصّحيح، أبو القاسم الطبرانيّ؛ صاحب المعجم الكبير والأوسط والصغير، الحاكم النيسابوريّ، صاحب المستدرك، أبوبكر بن مردويه؛ صاحب التفسير، أبو نعيم الأصبهاني؛ صاحب حلية الأولياء وغيرها من الكتب الخطيب البغداديّ؛ صاحب تاریخ بغداد ابن عبدالبرّ ؛ صاحب الاستيعاب ،ابن عساكر ؛ صاحب تاريخ مدينة دمشق، ابن الأثير الجُزُري ،صاحب أسد الغابة، وضياء المقدسي؛ صاحب المختارة، البغوي؛ صاحب مصابيح السّنّة وتفسير معالم التّنزيل ،الحافظ شمس الدين الذهبي؛ صاحب الكتب المشهورة كتهذيب التهذيب ،ابن حجر العسقلاني؛ صاحب فتح الباري في شرح صحيح البخاري والإصابة في معرفة الصحابة وغيرها من الكتب المشهورة، القسطلانيّ؛ صاحب كتاب إرشاد السّاري في شرح صحيح البخاري، المتّقي الهندي ،صاحب كنز العمّال، الحافظ محمّد بن يوسف الصالحي؛ صاحب السّير الشّاميّة، ابن حجر الهيثميّ المكي؛ صاحب الصواعق المحرقة، الملّا علي قاري الهروي؛ صاحب مرقاة المفاتيح في شرح مشكاة المصابيح ،عبدالرؤوف المنّاوي؛ صاحب فيض القدير في شرح الجامع الصغير، علّامة بلاد الهند والمحدّث الكبير شاه وليّ الله

ص: 143


1- مسند أبي داوود ،ص 360، حديث 2752.

الدهلوي؛ صاحب الكتب الكثيرة ومؤسّس المدرسة المعروفة في دهلي بالهند.

والنصّ الكامل للرواية بأسنادها المختلفة هو على النحو الآتي:

أوّلاً: روى أبو داؤد الطيالسي في كتابه المسند عن ابن عباس أنّ نبيّ الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قال مخاطباً عليّاً (علیه السلام): أنت وليّ كلّ مؤمن بعدي»(1).

ثانياً: روى الحاكم النيسابوري في كتابه المستدرك عن ابن عبّاس، عن نبيّ الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) :

«أنت وليّ كلّ مؤمن بعدي ومؤمنة »(2).

ثالثاً: روى أحمد بن حنبل في كتابه المسند عن ابن عبّاس، عن رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أنّه قال: «أنت وليّي في كلِّ مؤمن بعدي »(3).

رابعاً: روى ابن أبي شيبة وأبو جعفر الطبريّ؛ بسند عن عمران بن حصين؛ أنّه قال :بعث رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) سرية (السرية قطعة من الجيش) واستعمل عليها علياً، فغنموا، فصنع علي شيئاً فأنكروه، وفي لفظ : فأخذ عليّ من الغنيمة جارية - فتعاقد أربعة من الجيش إذا قدموا على رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أنْ يُعلموه، وكانوا إذا قدموا من سفر بدأوا برسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، فسلّموا عليه ونظروا إليه ثمّ ينصرفون إلى رحالهم، فلمّا قدمت السريّة سلّموا على رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، فقام أحد الأربعة فقال: يا رسول الله؛ ألم تر أنّ عليّاً (علیه السلام) قد أخذ من الغنيمة جارية، فأعرض عنه رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، ثمّ قام الثاني فقال مثل ذلك، فأعرض عنه رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، ثمّ قام الثالث فقال مثل ذلك، فأعرض عنه، ثمّ قام الرابع فأقبل إليه رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) يُعرَف الغضب في وجهه؛ فقال: «ما تريدون من علي؟ ما تريدون من علي؟ عليّ منّي وأنا من عليّ، وعليّ وليّ كلّ مؤمن بعدي»، وكذا الحديث في المسند لأحمد بن حنبل وفي آخره: «فأقبل رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) على

ص: 144


1- مسند أبي داوود ص 360، شماره 2752 .
2- المستدرك على الصحيحين، ج 3، ص 134.
3- مسند أحمد بن حنبل، ج 1، ص 545، ذیل حدیث 3052 .

الرابع وقد تغيّر وجهه فقال : «دعوا عليّاً، دعوا عليّاً، إنّ عليّاً منّي وأنا منه، وهو وليّ كلّ مؤمن بعدي »(1).

24 /10. حديث اللوح :

يمثّل حديث اللوح أحد الأدلّة النقليّة لإثبات الإمامة الخاصّة؛ واللوح عطية إلهية للنبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بمناسبة ميلاد سبطه الحسين (علیه السلام)، أخذها فأعطاها (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لابنته فاطمة (علیها السلام) .ويدلّ هذا الحديث على إمامة الأئمة الإثني عشر. وقد ورد في الحديث:

عن أبي عبد الله (الإمام الصادق) (علیه السلام) قال : قال أبي الجابر بن عبد الله الأنصاري «إنّ لي إليك حاجة فمتى يخفّ عليك أن أخلو بك فأسألك عنها»، فقال له جابر: «أيّ الأوقات أحببته فخلا به في بعض الأيام فقال له: يا جابر أخبرني عن اللوح الذي رأيته في يد أمّي فاطمة (علیها السلام) بنت رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وما أخبرتك به أمّي أنّه في ذلك اللوح مكتوب؟» فقال جابر: «أشهد بالله أنّي دخلت على أمّك فاطمة (علیها السلام) في حياة رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فهنيتها بولادة الحسين (علیه السلام) ورأيت في يديها لوحاً أخضر، ظننت أنّه من زمرّد ورأيت فيه كتاباً أبيض، شبه لون الشمس فقلت لها بأبي وأمّي يا بنت رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ما هذا اللوح؟» فقالت: «هذا لوح أهداه الله إلى رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فيه اسم أبي واسم بعلي واسم ابني واسم الأوصياء من ولدي؛ وأعطانيه أبي ليبشّرني بذلك»، قال جابر: فأعطتنيه أمك فاطمة (علیها السلام) فقرأته واستنسخته »، فقال له أبي: فهل لك يا جابر أن تعرضه علي» قال : نعم فمشى معه أبي إلى منزل جابر فأخرج صحيفة من رق، فقال: يا جابر انظر في كتابك لأقرأ [أنا] عليك، فنظر جابر في نسخته فقرأه أبي فما خالف حرف حرفاً، فقال جابر: «فأشهد بالله أنّي هكذا رأيته في اللوح مكتوباً: «بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من الله العزيز الحكيم لمحمّد نبيّه ونوره وسفيره وحجابه ودليله، نزل به الروح الأمين من عند رب العالمين، عظّم يا محمّد أسمائي واشكر

ص: 145


1- مسند أحمد، ج 4، ص 438.

نعمائي ولا تجحد آلائي، إنّي أنا الله لا إله إلّا أنا ،قاصم الجبارين ومديل المظلومين وديّان الدين ،إنّي أنا الله لا إله إلّا أنا، فمن رجا غير فضلي أو خاف غير عدلي، عذّبته عذاباً لا أعذّبه أحداً من العالمين، فإيَّاي فاعبد وعليّ فتوكَّل إنّي لم أبعث نبيّاً فأكملت أيامه وانقضت مدّته إلّا جعلت له وصيّاً وإنّي فضّلتك على الأنبياء وفضّلت وصيّك على الأوصياء وأكرمتك بشبليك وسبطيك حسن وحسين ،فجعلت حسناً معدن علمي، بعد انقضاء مدّة أبيه، وجعلت حسيناً خازن وحيي وأكرمته بالشهادة وختمت له بالسعادة، فهو أفضل من استشهد وأرفع الشهداء درجة، جعلت كلمتي التامّة معه وحجّتي البالغة عنده ،بعترته أثيب وأعاقب، أولهم عليّ سيد العابدين وزين أوليائي الماضين، وابنه شبه جده المحمود؛ محمّد الباقر علمي والمعدن لحكمتي، سيهلك المرتابون في جعفر ،الرادّ عليه كالرادّ عليّ، حقّ القول مني لأكرمنّ مثوى جعفر ولأسرّنه في أشياعه وأنصاره وأوليائه، أتيحت بعده موسى فتنة عمياء حندس لأنّ خيط فرضي لا ينقطع وحجّتي لا تخفى وأنّ أوليائي يسقون بالكأس الأوفى، من جحد واحداً منهم فقد جحد نعمتي ومن غير آية من كتابي فقد افترى عليّ، ويل للمفترين الجاحدين عند انقضاء مدة موسى ،عبدي وحبيبي وخيرتي في عليّ وليّي وناصري ومن أضع عليه أعباء النبوّة وأمتحنه بالاضطلاع بها، يقتله عفريت مستكبر يدفن في المدينة التي بناها العبد الصالح إلى جنب شر خلقي حق القول منّي لأسرنّه بمحمّد ابنه وخليفته من بعده ووارث علمه فهو معدن علمي وموضع سرّي وحجّتي على خلقي لا يؤمن عبد به إلّا جعلت الجنّة مثواه وشفّعته في سبعين من أهل بيته كلّهم قد استوجبوا النار ، وأختم بالسعادة لابنه علي وليّي وناصري والشاهد في خلقي وأميني علي وحیي، أخرج منه الداعي إلى سبيلي والخازن لعلمي الحسن وأكمل ذلك بابنه «م ح م د » رحمة للعالمين، عليه كمال موسى وبهاء عيسى وصبر أيّوب؛ فيُذَلّ أوليائي في زمانه و تتهادى رؤوسهم كما تتهادى رؤوسُهم الترك والديلم، فيُقتَلون ويُحرّقون ويكونون خائفين، مرعوبين، وجلين تصبغ الأرض بدمائهم ويفشو الويل والزنا في نسائهم. أولئك أوليائي حقاً، بهم أدفع كل فتنة عمياء حندس وبهم أكشف

ص: 146

الزلازل وأدفع الآصار والأغلال أولئك عليهم صلوات من ربّهم ورحمة وأولئك هم المهتدون. قال عبد الرحمن بن سالم : قال أبو بصير: لو لم تسمع في دهرك إلّا هذا الحديث لكفاك، فصنه إلّا عن أهله»(1).

وراوي حديث اللوح هو جابر بن عبدالله الأنصاري (رضی الله عنه) ؛ وهو آخر صحابة رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وفاةً؛ حيث توفّي (رضی الله عنه) عن أربع وتسعين سنة من العمر؛ وكان ذلك بين عامي 74 و 78 للهجرة، قبل استشهاد الإمام الباقر (علیه السلام)؛ وقد نال (رضی الله عنه) شرف رواية هذا الحديث إلى الإمام الباقر (علیه السلام) ، على الرغم من أنّ الإمام الباقر (علیه السلام) كان عالماً به بل إنّ اللوح نفسه في يده.

وحديث اللوح هو أحد الأحاديث المعتبرة والمعتمدة التي رواها الرواة الثقات، كما أنّه ورد في كتب الإماميّة المعتبرة. وقد أورد الكلينيّ في أصول الكافي مجموعة روايات تحكي سؤال أصحاب الإمام الصادق (علیه السلام) إيّاه عن مصحف فاطمة (علیها السلام) فأجابهم وأكّد لهم وجوده(2).

وقد قال الطبرسي في «إعلام الورى »أنّ بعض علماء أهل السنّة قد أشاروا إلى حديث اللوح إشارات طفيفة(3). وقد وردت هذه الرواية في مصادر عديدة؛ ورواه عدد من أساطين الحديث؛ منهم:

أوّلاً: رواه الشيخ الكلينيّ (329ه) في «الكافي» في باب : «ما جاءَ في الاثني عشر والنصّ عليهم (علیهم السلام)» : بسنده إلى محمّد بن يحيى ومحمد بن عبد الله عن عبدالله بن جعفر عن الحسن بن ظريف وعليّ بن محمّد عن صالح بن أبي حماد عن بكر بن صالح عن عبدالرحمن بن سالم عن أبي بصير عن أبي عبدالله»(4).

ص: 147


1- الكافي ،الكلينيّ، ج 1، ص 527 و 528 ،حديث 3؛ الاحتجاج على أهل اللجاج، الطبرسيّ، ج 1، ص 67.
2- الكافي ،الكلينيّ، ج 1، ص 241.
3- إعلام الورى بأعلام الهدى، الطبرسيّ، ص 258.
4- الكافي ،الكلينيّ، ج 1، ص 527.

ثانياً: رواه الشيخ الصدوق في «كمال الدين وتمام النعمة» تحت عنوان «باب ذكر النصّ على القائم (علیه السلام) في اللوح الذي أهداه الله عزّ وجل إلى رسوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ودفعه إلى فاطمة (علیها السلام) فعرضته على جابر بن عبدالله الأنصاري حتى قرأه وانتسخه واخبر به أبا جعفر محمد بن علي الباقر (علیه السلام)»(1) ، كما رواه أيضاً في «عيون أخبار الرضا»، تحت عنوان «باب النصوص على الرضا (علیه السلام) بالإمامة في جملة الأئمة الاثني عشر (علیهم السلام) »(2).

ثالثاً : رواه الشيخ المفيد في «الاختصاص»(3).

رابعاً : رواه النجاشي (450ه) في رجاله(4).

خامساً: رواه الشيخ الطوسيّ في كتابه «الغيبة»(5).

سادساً : رواه الطبرسيّ (المتوفى في القرن السادس) في «الاحتجاج» في باب : «ذكر تعيين الأئمة الطاهرة (علیهم السلام) بعد النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) واحتجاج الله تعالى بمكانهم على كافة الخلق »(6).

سابعاً: رواه تاج الدين الشعيري ( من أعلام القرن السادس) في «جامع الأخبار» في الفصل السابع تحت عنوان «الفصل السابع في فضائل الأئمة الاثني عشر (علیهم السلام)»(7).

ثامناً : رواه الشيخ الديلمي (841ه) في «إرشاد القلوب»، في باب «خبر اللوح الذي كان عند جابر »(8).

ص: 148


1- كمال الدين وتمام النعمة الصدوق، 308- 311.
2- عيون أخبار الرضا ،الصدوق، ج اول ص 42 -45.
3- الاختصاص، الشيخ المفيد، ص 210 .
4- رجال النجاشي، ص 360 .
5- الغيبة ، الطوسیّ ،ص 62.
6- الاحتجاج على أهل اللجاج، الطبرسي، ج، ص 67.
7- جامع الأخبار، تاج الدين الشعيري، ص 17.
8- إرشاد القلوب، ص 290 - 292.

تاسعاً :كما تناول ذكره على نحو مجمل ثلّة آخرين من كبار العلماء في مصنّفاتهم الروائيّة؛ من قبيل: تأويل الآيات، وتقريب المعارف، والفضائل للفضل بن شاذان، و مناقب آل ابي طالب لابن شهر آشوب، وكشف الغمّة، والفصول المختارة، والصراط المستقيم؛ فقد ذكرو هذه الرواية الشريفة مسندة في بعضها وغير مسندة في الآخر(1).

ودلالة هذا الحديث في إثبات إمامة الأئمة الإثني عشر (علیهم السلام)واضحة وبيّنة.

قال الإمام الصادق (علیه السلام) في روايته لهذا الحديث :

«فنظر جابر في نسخته؛ فقرأه عليه أبي (علیه السلام) فوالله ما خالف حرف حرفاً». وقال أبو بصير لعبد الرحمن بن مسلم وبعد أن روى له حديث الإمام الصادق (علیه السلام) : «لو لم تسمع في دهرك إلّا هذا الحديث لكفاك فصنه إلّا عن أهله»(2).

وهذا الحديث الشريف يخبرنا بجملة من القضايا ،منها على سبيل المثال: وصاية أمير المؤمنين (علیه السلام) وإمامته المباشرة بعد النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، وشهادة الإمام الحسين (علیه السلام)، وبعض الأحداث المعاصرة لحياة الأئمّة (علیهم السلام)؛ من قبيل: علم الإمام، كيفية استشهاد الإمام، محلّ استشهاد الإمام وشكل تعامل المخالفين والمعاندين مع إمام زمانهم، وكون الإمام الباقر (علیه السلام) باقراً لعلوم الأوّلين والآخرين، وهلاك المرتابين في إمامة الإمام جعفر الصادق (علیه السلام) وقيام فتنة عمياء حندس بعد الإمام الكاظم (علیه السلام) ، وإمامة الإمام عليّ بن موسى الرضا (علیه السلام) واستشهاده (علیه السلام) على يد ظالم مستكبر (المأمون)، والإشارة إلى محلّ دفنه في مدينة طوس في جنب هارون الملعون، وسرور الإمام الرضا (علیه السلام) وقرّة عينه بابنه محمّد الجواد (علیه السلام) والبشرى بالوجود المبارك للإمام المهدي (علیه السلام).

وقد تطرّق الحديث أيضاً إلى بيان اشتمال الإمام صاحب العصر والزمان (علیه السلام) علی أوصاف الأنبياء، كما استعرض خصوصيّاته الظاهريّة والمعنويّة له (علیه السلام)، وعرض أيضاً

ص: 149


1- جامع الأخبار ،الشعيريّ ، ص 18 ؛ بحار الأنوار ،المجلسيّ ، ج ،36، ص 195؛ الغيبة، الطوسيّ، ص 143.
2- كمال الدين ،الصدوق، ج 1، ص 311.

الوضع السياسيّ والاجتماعيّ والثقافيّ لعصر ظهور صاحب العصر (علیه السلام) واستعرض الحوادث والإصلاحات الاجتماعيّة التي ستقع بعد ظهور الإمام الغائب (علیه السلام)(1).

24 /11. أحاديث الأئمة الاثني عشر(علیهم السلام):

إشارة

رُويت مجموعة من الأحاديث عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) تتحدّث عن الأئمة الاثني عشر (علیهم السلام)؛ وهي أحاديث وصفت بأنّها معتبرة من جهة السند، وتامّة من ناحية الدلالة على إمامة الأئمة من أهل البيت (علیهم السلام). وقد وردت بعض هذه الأحاديث في الصحاح الستة لأهل السنّة ومسانيدهم(2).

فقد روى البخاريّ في صحيحه عن جابر بن سمرة أنّ النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قال: «يكون اثني عشر أميراً، فقال كلمة لم أسمعها، فقال أبي إنّه قال: كلّهم من قريش »(3).

وروى مسلم في صحيحه عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) حديث الأئمّة الاثني عشر (علیهم السلام) بثمانية طرق وبألفاظ مختلفة؛ غير أنّها متفقة جميعاً في «اثني عشر» و «كلّهم من قريش»؛ منها: «لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلاً ... كلّهم من قريش »(4).

«إنّ هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي له منهم اثنا عشر خليفة... كلّهم من قریش »(5).

«لايزال الإسلام عزيزاً منيعاً إلى اثني عشر خليفة كلّهم من قريش »(6).

ص: 150


1- أتقدّم بالشكر الجزيل إلى الأخ الباحث السيّد صادق الموسويّ الجزائريّ لما قدّمه لي من معونة في جمع بعض المعلومات المرتبطة بهذا الحديث الشريف.
2- أشكر الأخ الباحث سعيد لفته پور لما قام به من جمع لأحاديث وأخبار الأئمّة الاثني عشر فجزاه الله خيراً.
3- صحيح البخاري، كتاب الأحكام، باب الاستخلاف، حدیث 1148؛ سنن الترمذي، ج 4، ح 2223؛ مستدرك الحاكم ،ج 3، ص 715، ح .6586
4- صحیح مسلم ،كتاب الإمارة، باب 1.
5- صحیح مسلم ،كتاب الإمارة، باب 1.
6- المصدر السابق.

«لا يزال هذا الدين قائماً حتّى تقوم الساعة أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش»(1).

وروى أبو داوود السجستانيّ في سننه عن جابر بن سمرة أنّه قال:

سمعت رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) يقول : لا يزال هذا الدين قائماً حتّى يكون عليكم اثنا عشر خليفة كلّهم تجتمع عليه الأمة، فسمعت كلاماً من النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لم أفهمه؛ قلت لأبي ما يقول؟ قال كلّهم من قريش»(2).

كما روى الترمذي في سننه، بسند عن رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أنّه قال :

«يكون من بعدي اثنا عشر أميراً كلّهم من قريش »(3).

وروى أحمد بن حنبل أيضاً في سند عن جابر بن سمرة عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أنّه قال:

«يكون لهذه الأمّة اثنا عشر خليفة»(4).

وروي الحاكم النيسابوري في مستدركه على الصحيحين عن عون بن أبي جحيفة عن أبيه عن رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أنّه قال :

«لا يزال أمر أمّتي صالحاً حتّى يمضي اثنا عشر خليفه كلّهم من قريش »(5).

وروى السيوطيّ في تاريخ الخلفاء عن جابر بن سمرة عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أنّه قال :

«لا يزال هذا الأمر عزيزاً يُنصرون على من ناوأهم عليه اثنا عشر خليفة كلّهم من قریش»(6).

ص: 151


1- المصدر نفسه.
2- سنن أبي داوود ،كتاب المهدي، ج، حديث 4279 .
3- سنن الترمذيّ، ج 4، ح 2223 .
4- مسند أحمد بن حنبل، ج 5 ،ص 90 ،والرواية عن جابر بن سمرة في الحديث رقم 33 .
5- المستدرك على الصحيحين ،الحاكم، ج 3، ص 68.
6- تاريخ الخلفاء ،جلال الدين السيوطي، ص 10 .

كما روى الخطيب البغداديّ في كتابه تاريخ بغداد بسند عن طريق جابر بن سمرة عن رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أنّه قال :

«يكون بعدي اثنا عشر أميراً كلّهم من قريش»(1).

وروي المتقي الهندي في كتابه كنز العمّال عن أنس عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أنّه قال:

«لايزال هذا الدين قائماً إلى اثني عشر من قريش، فإذا هلكوا ماجت الأرض بأهلها »(2).

وقد ذكر الشيخ الحرّ العاملي في كتابه إثبات الهداة مئتين وثمانية وسبعين حديثاً يستعرض الأئمة الاثني عشر (علیهم السلام) منقولاً عن طرق أهل السنّة.

وبناء على هذا، فإنّ وجود هذا الكمّ الهائل من طرق السند لهذا الحديث في المصادر الحديثيّة لأهل السنّة يؤكّد صحة هذا الحديث، ويشيّد تواتراً، أو استفاضة له؛ بلا أدنى شكّ. فعندما يُخبر الرسول (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بالغيب عن إمامة اثني عشر أميراً بهذا النحو؛ فهذا يدلّ على إمامة أهل بيته (علیهم السلام)؛ لأنّ الأمراء الذين تعاقبوا على كرسيّ السلطة على طول التاريخ الإسلاميّ قد فاق عددهم الاثني عشر، فيصبح من الواضح حينها أنّ المقصود من الأمراء هاهنا خلفاء رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) بالحقّ .

وإنّ هذا الخبر يتحدّث عن الأمة الإسلاميّة من بعد رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وإلى يوم القيامة؛ لذا وجب أن يكون عمر أحدهم أطول من المعتاد حتى يتحقّق مفاد الحديث وتستطيل مدّة الأمراء إلى يوم القيامة.

24/ 11 /1. تفسير علماء العامّة لأحاديث الاثني عشر:

تورّط علماء أهل السنة في بيان مصداق الأمراء الاثني عشر المذكورين في الرواية،

ص: 152


1- تاریخ بغداد ،الخطيب البغداديّ، ج 14، ص 353 .
2- كنز العمال ،المتّقي الهنديّ، ج 12، ص 34 .

مما أدّى إلى تفسيرهم هذا الحديث بطرق غريبة وعجيبة؛ فقد نقل ابن حجر العسقلاني شيئاً من أقوال علمائهم فيه؛ حيث قال:

«قال ابن بطال عن المهلب: لم ألقَ أحَداً يقطع في هذا الحديث؛ يعني بشيء معيّن»(1).

ونقل أيضاً قول أبي الحسين بن المنادي (336ه) في الجزء الذي جمعه في المهدي، حيث يحتمل في معنى حديث «يكون اثنا عشر خليفة » أن يكون هذا بعد المهديّ(علیه السلام) الذي يخرج في آخر الزمان(2) . ونقل ابن حجر العسقلاني قول ابن الجوزي والخطابي (388ه) في هذا الحديث، حيث قالا:

«فإنّه أشار إلى ما يكون بعده وبعد أصحابه وأنّ حكم أصحابه مرتبط بحكمه. فأخبر عن الولايات الواقعة بعدهم، فكأنّه أشار بذلك إلى عدد الخلفاء من بني أمية ... ثمّ ينتقل إلى صفة أخرى أشدّ من الأولى، وأوّل بني أمية يزيد بن معاوية وآخرهم مروان الحمار وعدّتهم ثلاثة عشر ، ولا يُعدّ عثمان ومعاوية ولا ابن الزبير، لكونهم صحابة فإذا أسقطنا منهم مروان بن الحكم للاختلاف في صحبته، أو لأنّه كان متغلّباً بعد أن اجتمع الناس على عبد الله بن الزبير ؛ صحّت العدّة، وعند خروج الخلافة من بني أميّة وقعت الفتن العظيمة والملاحم الكثيرة»(3).

وذكر العسقلاني قول القاضي عياض (544ه) حيث قال :

«ويحتمل أن يكون المراد أن يكون (الاثنا عشر) في مدّة عزّة الخلافة وقوة الإسلام و استقامة أموره والاجتماع على من يقوم بالخلافة، ويؤيّده قوله في بعض الطرق (كلّهم تجتمع عليه الأمة) ؛ وهذا قد وُجد فيمن اجتمع عليه الناس إلى أن اضطرب أمر بني أمية ووقعت بينهم الفتنة زمن الوليد بن يزيد، فاتصلت بينهم إلى أن قامت الدولة العباسيّة فاستأصلوا أمرهم»(4).

ص: 153


1- فتح الباري في شرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، ج 13، ص 180.
2- فتح الباري في شرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، ج13، ص181.
3- المصدر السابق.
4- فتح الباري ،العسقلاني، ج 13، ص 180 ؛ شرح صحيح مسلم، النووي، ج 12، ص 203.

أمّا ابن تيميّة (728ه) فيقول :

وأما قوله [ أي: العلّامة الحلّي]: «ولم يجعلوا الأئمّة محصورين في عدد معيّن» فهذا حقّ؛ ذلك أنّ الله تعالى قال«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ»(1)، ولم يوقّتهم بعدد معيّن »(2).

ومن اللافت أنّه يقول - بالرغم من وجود كلّ هذه الأحاديث النبويّة - : «وكذلك النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في الأحاديث الثابتة عنه المستفيضة لم يوقّت ولاة الأمور في عدد معيّن»(3).

ثمّ يقول في موضع آخر محاولاً تحديد مصاديق الأمراء الاثني عشر:

«وهكذا كان؛ فكان الخلفاء أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ، ثمّ تولّى من اجتمع الناس عليه، وصار له عزّ ومنعه: معاوية، وابنه يزيد ، ثمّ عبد الملك، وأولاده الأربعة، وبينهم عمر بن عبدالعزيز»(4).

في حين أنّ روايات العامّة أنفسهم قد وردت بأنّ معاوية وبني أمية كانوا ملوكاً ولم يكونوا خلفاء (5) . ناهيك عن أنّهم لم يعدّوا الإمام الحسن بن عليّ (علیهما السلام) من مصاديق الحديث؛ في حين أنّ عدداً من كبراء علمائهم - مثل : ابن كثير في كتاب البداية والنهاية، والسيوطي في كتابه تاريخ الخلفاء والقندوزي الحنفي في كتابه ينابيع المودة - قد عدّوه (علیه السلام) من بينهم. بل وبالرغم من وجود الأحاديث المتواترة التي تناولت موضوع

ص: 154


1- سورة النساء: 59 .
2- منهاج السنة ،ابن تيمية، ج 3، ص 381.
3- المصدر السابق.
4- منهاج السنة ،ابن تيمية، ج 8، ص 243.
5- البداية والنهاية ،ابن كثير، ج 6، ص 279؛ التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول، منصور علي ناصف، ج 3، ص 40، كتاب الإمارة والقضاء؛ سنن الترمذيّ، باب ماجاء في الخلافة، حديث 2226. والرواية عن سعيد بن جمهان، قال: حدّثني سفينة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الخلافة في أمتي ثلاثون سنة، ثمّ ملك بعد ذلك» ثمّ قال لي سفينة: أمسك خلافة أبي بكر، وخلافة عمر ، وخلافة عثمان، ثمّ قال لي : أمسك خلافة عليّ قال : فوجدناها ثلاثين سنة، قال سعيد فقلت له: إنّ بني أميّة يزعمون أنّ الخلافة فيهم؟ قال: كذبوا بنو الزرقاء بل هم ملوك من شرّ الملوك.

الإمام المهديّ (علیه السلام)؛ إلّا أنّه لم يذكر شيئاً عنه أبداً وتجاهل كلّ ذاك الكمّ الهائل من الأحاديث !

والسؤال الكبير الذي يعترض طريق ابن تيميّة وأتباعه هو :

هل يمكن أن يكون ملوك بني أميّة - من أمثال يزيد بن معاوية؛ بعد كل ما ارتكبه من جنايات فظيعة في حقّ الإسلام والمسلمين من قبيل قتل الإمام الحسين (علیه السلام) وما صحبه من فجائع، هدم الكعبة ورميها بالمنجنيق قتل أهل المدينة المنورة واستباحته إيّاها - جديرين بخلافة النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في أمته ؟ !

وأما ابن كثير (728ه) فقد ذكر في كل من تاريخه الموسوم بالبداية والنهاية وفي تفسيره في ذيل الآية الشريفة : «وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا»(1).

وبعد أن أورد نصّ حديث جابر بن سمرة قال:

«معنى هذا الحديث؛ البشارة بوجود اثني عشر خليفة صالحاً يقيم الحق ويعدل فيهم، ولا يلزم من هذا تواليهم وتتابع أيامهم، بل قد وُجد منهم أربعة على نسق، وهم الخلفاء الأربعة : أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ ... ومنهم عمر بن عبد العزيز بلا شكّ عند الأئمة، وبعض بني العباس. ولا تقوم الساعة حتى تكون ولايتهم لا محالة، والظاهر أنّ منهم المهدي المبشّر به في الأحاديث الواردة بذكره أنّه يواطئ اسمه اسم النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، واسم أبيه اسم أبيه، فيملأ الأرض عدلاً وقسطاً، كما مُلتَت جوراً وظلماً،... وليس المراد بهؤلاء الخلفاء الاثني عشر الأئمة الاثني عشر الذين يعتقد فيهم الاثنا عشريّة من الروافض لجهلهم وقلة عقلهم»(2).

ومن الجليّ أنّ ابن كثير - مثله مثل غيره - قد عجز عن عدّ الأمراء الاثني عشر؛ فاكتفى بزعمه خمسة منهم، ثمّ شغل نفسه بعبارات عامّة لا تسمن ولا تغني من جوع؛

ص: 155


1- سورة المائدة: 12.
2- تفسير ابن كثير، ج 2، ص 34.

غير أنّ ابن كثير - على خلاف أستاذه ابن تيميّة المتيّم بالأمويّين - ينحت لهم من الفضل ما تهواه نفسه، فحسب ملوكهم هم الأمراء الاثنا عشر- ولم يعدّ أحداً من ملوك بني أميّة من مصاديق الأمراء الاثني عشر ؛ غير عمر بن عبد العزيز !

والمناقشة الأساسيّة التي ترد على ابن كثير هي أن يقال:

إذا كان من الممكن أن نعدّ كل من تقلّد زمام السلطة - بغض النظر عن كيفية وصوله سدّة الحكم - خليفة لرسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ؛ فلم أخرج معاوية ويزيد وسائر خلفاء بني أميّة وبني العباس من زمرة خلفائه (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ؟! فإن قال : الشرط هو إفشاء العدل، عاجلناه بالسؤال عن إسقاطه للإمام الحسن (علیه السلام)، وعدم عدّه من زمرة الاثني عشر ؛ فإن قال: الشرط هو اجتماع الناس عليه، دحضناه بالسؤال عن عدّه بني أميّة من الأمراء الاثني عشر بالرغم من أنّ الناس لم يجمعوا عليهم.

وقد نقل ابن حجر في شرحه لصحيح البخاري، أقوالاً متعدّدة في بيان حديث (الأئمة الاثني عشر) وتوضيحه؛ أشار بعضها إلى المصاديق في حين عرض الآخر أموراً عامّة لا تفيد شيئاً. إلّا أنّه قد رجّح رأي القاضي عياض؛ ولم يتقبّل بقية الآراء؛ ثمّ ذكر مجموعتين من الأمراء ورجّح جدارة المجموعة الثانية على الأولى؛ مدعياً كونها مصاديق هذه الرواية. المجموعة الأولى هي :

1- أبو بكر . 2 عمر. 3 عثمان. 4 الإمام عليّ (علیه السلام) . 5- معاوية . 6- يزيد. 7- عبدالملك بن مروان. 8 - وليد بن عبد الملك . 9- سليمان بن عبد الملك . 10 - يزيد بن عبدالملك . 11 - هشام بن عبد الملك . 12 . وليد بن يزيد بن عبدالملك. والمجموعة الثانية هي: 1- أبو بكر . 2 عمر. 3- عثمان. 4- الإمام عليّ (علیه السلام) 5 -الإمام الحسن (علیه السلام) 6-معاوية. 7- يزيد بن معاوية . 8 - عبدالله بن الزبير. 9- عبدالملك بن مروان .10 وليد بن عبد الملك. 11- سليمان بن عبدالملك 12 -عمر بن عبدالعزيز.

ص: 156

ويقول ابن حجر فيهم: «كلّهم يجتمع عليه الناس».

وكلامه هذا من عجائب الدهر؛ فإنّ الناس من بعد الخلفاء الأربعة لم يجمعوا على أحد أبداً، وقد كان هناك إجماع نسبي على الإمام الحسن (علیه السلام)، وعلى عبدالله بن الزبير .

أما السيوطي (911ه) في كتابه تاريخ الخلفاء فقد تطرّق - من بعد أن روى الأحاديث في هذا المجال وعرض آراء أهل السنّة المختلفة في تعريف مصاديق الأمراء الاثني عشر - إلى استعراض رأيه في الموضوع؛ وزعم أنّ الأمراء الاثني عشر هم:

1 - أبو بكر. 2- عمر. 3- عثمان. 4- الإمام عليّ (علیه السلام) 5-الإمام الحسن (علیه السلام). 6- معاوية. 7- عبد الله بن الزبير 8- عمر بن عبدالعزيز 9 - المهتدي العبّاسي. 10 - الطاهر عبّاسي ( مبقياً إياه في حد الاحتمال) 11- المهدي. 12- المهدي(1).

ومن الواضح أنّ جلال الدين السيوطي لما لم يستطع بيان مصاديق الاثنى عشر؛ اضطُرّ إلى ذكر مهديّين !

والجدير بالذكر أنّ بعض كبار علماء العامّة أذعنوا لرأي الشيعة في بيان مصاديق الأمراء الاثني عشر ؛ فقد روى الإمام الجويني عن عبد الله بن عبّاس قال: قال رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : «أنا سيّد النبيّين وعليّ بن أبي طالب سيّد الوصيين وإنّ أوصيائي بعدي اثنا عشر ؛ أوّلهم عليّ بن أبي طالب وآخرهم المهديّ »(2) ؛

وروى أيضاً بسند آخر؛ أنّ الرواي قال:

«أنا وعليّ والحسن والحسين وتسعة من ولد الحسين؛ مطهّرون ومعصومون »(3).

ص: 157


1- تاريخ الخلفاء، جلال الدين السيوطيّ، ص 12.
2- فرائد السمطين، الجويني، ج 2 ب 61 ح 564 .وفيه ذات السند لكنّه ورد بهذه الصيغة: «أنا سيّد المرسلين وعليّ ابن أبي طالب سيّد الوصيّين، وإنّ أوصيائي بعدي اثنا عشر أوّلهم: عليّ بن ابي طالب وآخرهم: القائم».
3- المصدر السابق حديث 563.

وروى الطبرسي عن ابن مثنّى، عن أبيه، عن عائشة، قال:

«سألتها كم خليفة يكون لرسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ؟ فقالت : أخبرني رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : أنّه يكون بعده اثنا عشر خليفة. قال : فقلت لها : من هم؟ فقالت: أسماؤهم عندي مكتوبة بإملاء رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) . فقلت لها : فاعرضيه، فأبت»(1).

وروى أيضاً عن ابن عبّاس أنّه قال :

«سألت رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) حين حضرته وفاته فقلت يا رسول الله ! إذا كان ما نعوذ بالله منه فإلى من؟ فأشار إلى عليّ (علیه السلام) فقال : إلى هذا؛ فإنّه مع الحقّ، والحقّ معه، ثمّ يكون من بعده أحد عشر إماماً مفترضة طاعتهم كطاعته »(2).

وروى القندوزيّ الحنفيّ في ينابيع المودة عن عباية بن ربعي عن جابر أنّه قال:

قال رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : «أنا سيّد النبيّين وعليّ سيّد الوصيّين، وإنّ الأوصياء بعدي اثنا عشر؛ أوّلهم عليّ وآخرهم القائم المهديّ »(3).

كما روى أيضاً في ينابيع المودة عن بعض المحقّقين:

إنّ الأحاديث الدالة على كون الخلفاء بعده (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) اثنا عشر قد اشتهرت من طرق كثيرة ... فبشرح الزمان وتعريف الكون والمكان ،عُلم أنّ مراد رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) من حديثه هذا؛ الأئمة الإثنا عشر من أهل بيته وعترته، إذ لا يمكن أن يحمل هذا الحديث على الخلفاء بعده من أصحابه لقلّتهم عن اثني عشر، ولا يمكن أن يحمله على الملوك الأمويّة لزيادتهم على اثني عشر، ولظلمهم الفاحش إلّا عمر بن عبد العزيز، ولكونهم من غير بني هاشم، لأن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قال: «كلّهم من بني هاشم»(4).

ص: 158


1- كشف الغمّة، ج 2، ص 504 ؛ إعلام الورى، ص 379 .
2- المصدر السابق.
3- ينابيع المودة، القندوزيّ الحنفيّ، ج 3، الباب 77 ، وراجع أيضاً: الأبواب : 93،94،76، 98.
4- ينابيع المودّة، القندوزيّ الحنفيّ، ج 3، الباب 77، وراجع أيضاً : الأبواب: 76، 98،93،94 .

وروى ابن عساكر عن ابن عليّ الهلالي عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أنّه قال لابنته الزهراء (علیها السلام)

«أما علمت أنّ الله أطلع على الأرض اطلاعة فاختار منها أباك يبعثه برسالته، ثمّ اطلع اطلاعة فاختار منها بعلك... أنا خاتم النبيّين وأكرم النبيّين على الله، وأحبّ المخلوقين إلى الله، وأنا أبوك، ووصيّي خير الأوصياء، وأحبّهم إلى الله؛ وهو بعلك... ومنّا سبطا هذه الأمة؛ وهما ابناك الحسن الحسين، وهما سيدا شباب أهل الجنة... يا فاطمة! والذي بعثني بالحقّ إنّ منهما مهديّ هذه الأمة»(1).

وقال عماد الدين الحنفي في كتابه تناقضات البخاري :

«إنّ الأئمّة اثنا عشر؛ علىّ والحسن والحسين وتسعة من ولد الحسين(علیهم السلام)»(2).

24 /11 /2.تفسير علماء الإماميّة لأحاديث الاثني عشر:

روى الصدوق في كتابه کمال الدین بسند عن جابر بن يزيد الجعفي أنّه قال:

سمعت جابر بن عبد الله الأنصاري يقول: «لما أنزل الله عَزَّ وَجَلَّ على نبيه محمد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ»(3) قلت: يا رسول الله عرفنا الله ورسوله، فمن أولو الأمر الذين قرن الله طاعتهم بطاعتك ؟ فقال (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : هم خلفائي يا جابر، وأئمة المسلمين [من] بعدي؛ أوّلهم عليّ بن أبي طالب، ثمّ الحسن والحسين، ثمّ علي بن الحسين، ثمّ محمّد بن علي المعروف في التوراة بالباقر، وستدركه يا جابر، فإذا لقيته فأقرئه منّي السلام، ثمّ الصادق جعفر بن محمد، ثمّ موسى بن جعفر، ثمّ عليّ بن موسى، ثمّ محمد بن عليّ، ثمّ عليّ بن محمد، ثمّ الحسن بن عليّ، ثمّ سميّي وكنيّي حجّة الله في أرضه، وبقيته في عباده ابن الحسن بن عليّ، ذاك الذي يفتح الله تعالى ذكره على يديه مشارق الأرض ومغاربها ...»(4).

ص: 159


1- تاریخ دمشق ،ابن عساكر، ج 17، ص 340.
2- منتخب الأثر ، الصافي، ج 1، ح 203، ص 140.
3- سورة النساء: 59 .
4- كمال الدين وتمام النعمة ،الصدوق، ج 1، ص 253.

وقد روي عن الصحابيّ زيد بن أرقم أنّه سمع النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) يقول لعليّ (علیه السلام) :

«أنت الإمام والخليفة بعدي ،وابناك هذان إمامان ،وسيدا شباب أهل الجنة، وتسعة من صلب الحسين أئمة معصومون، ومنهم قائمنا أهل البيت ...»(1).

وروي أيضاً عن أبي ذر الغفاري قال:

قال رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : «الأئمّة بعدي اثنا عشر ،تسعة من صلب الحسين (علیه السلام) ، تاسعهم قائمهم، إلّا إنّ مثلهم فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق، ومثل باب حطة في بني إسرائيل »(2).

كما روي أيضاً عن سلمان الفارسي (رضی الله عنه) أنّه قال:

خطبنا رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فقال: «معاشر الناس إنّي راحل عن قريب ومنطلق إلى المغيب، أوصيكم في عترتي خيراً .... ثمّ قال: إنّهم هم الأوصياء والخلفاء بعدي، أئمة أبرار، عدد أسباط يعقوب وحواري عيسى. :قلت فسمّهم لي يا رسول الله. قال: أوّلهم وسيّدهم عليّ بن أبي طالب، وسبطاي وبعدهما زين العابدين عليّ بن الحسين، وبعده محمد بن عليّ باقر علم النبيّين، والصادق جعفر بن محمّد، وابنه الكاظم سمّي موسى، والذي يُقتل بأرض الغربة ابنه عليّ، ثمّ ابنه محمّد والصادقان عليّ والحسن، ثمّ الحجّة القائم المنتظر في غيبه، فإنّهم عترتي، من دمي ولحمي، علمهم علمي، وحكمهم حكمي، من آذاني فيهم فلا أناله الله شفاعتي»(3).

من هنا، ومع وجود الروايات الصحيحة والنصوص الصريحة الدالّة على الخلفاء الاثني عشر من أئمة أهل البيت (علیهم السلام) لا يبقى مجال للشكّ والترديد في الرؤية التي استعرضها علماء الشيعة عن الإمامة.

ص: 160


1- كفاية الأثر ،القمّي الرازيّ، ح 64، ص 177 .
2- المصدر السابق، ح 22، ص 96 .
3- كفاية الأثر، القمّي الرازيّ، ح 24، ص 101 .

وقد أورد بعض أهل السنّة إشكالاً في مقام النقد على رؤية الإمامة لدى الشيعة؛ فقالوا : بحسب روايات الأئمة الاثني عشر وعبارة «يجتمع عليه الناس» الواردة فيها؛ يجب أن يكون الأئمة الاثني عشر جميعهم محلّ اتفاق الأمّة وأن تجتمع الأمة عليهم؛ غير أنّ الأمّة لم تجتمع على أئمة أهل البيت (علیهم السلام).

والجواب على هذا أن يُقال:

إن كان المقصود من اجتماع الأمّة عليهم وتقبّلها إيّاهم هو ما فهمه علماء أهل السنة من اتّفاق في البيعة، فإنّ هذا المعنى لم يتحقّق في حقّ أيّ من الأشخاص الذين تولّوا زمام السلطة في الدولة الإسلاميّة، بما في ذلك أبي بكر وعمر.

أما إن كان المقصود من اجتماع الأمّة اتفاق جميع الناس على حسن سيرتهم وتفرّد فضائلهم، فإنّ هذا النوع من الإجماع قد تحقّق في حقّ أهل البيت (علیهم السلام) ، وهذا من المسلّمات عند جميع المسلمين - شيعة وسنة - إذ أذعن المسلمون جميعاً بما لأهل البيت (علیهم السلام) من الفضائل والمناقب الفاخرة التي لم تجتمع لأحد من الناس.

وإنّ أحد الأسباب التي تقف خلف الأحداث المريرة التي مرّت بهم - ومنها إيذاؤهم، بل وقتلهم (علیهم السلام)- وكذلك خضوعم لرقابة الملوك الأمويّين والعباسيّين على نحو دائم ،هو الذعر الذي دبّ في أركان السلطة الحاكمة من سلاطين الجور على أثر اجتماع الناس والتفافهم حولهم يقول الدهلويّ في هذا الشأن:

«وقد عُلم أيضاً من التواريخ وغيرها أنّ أهل البيت ولا سيّما الأئمة الأطهار؛ من خيار خلق الله تعالى بعد النبيّين، وأفضل سائر عباده المخلصين والمقتفين لآثار جدّهم سيّد المرسلين»(1).

ص: 161


1- مختصر التحفة الاثني عشريّة، شاه عبد العزيز غلام حكيم الدهلويّ؛ منقول عن مسائل خلافيّة حار فيها أهل السنّة، الشيخ علي آل محسن، ص 41.

25. المهدوية

25 /1.تمهید

تشمل الدراسات المهدويّة عدداً من الموضوعات الشاملة والمهمّة. وسنتطرّق في هذا الباب إلى بيان بعض هذه البحوث مراعين في ذلك الاختصار؛ وهي على الترتيب الآتي:

أوّلاً: الإيمان بوجود مخلّص البشريّة في الديانات الأخرى.

ثانياً: المهدويّة في رؤية الفريقين.

ثالثاً: سمات أصحاب المهديّ (علیهم السلام).

رابعاً: أحداث ما قبل الظهور.

خامساً : فلسفة الغيبة(1).

25 /2.الإيمان بمخلّص البشريّة في الديانات الأخرى:

تمثّل قضيّة الاعتقاد بوجود مخلّص للبشريّة إحدى القضايا المشتركة التي يؤمن بها أبناء الديانات المختلفة فالزرادشتيّون على سبيل المثال يؤمنون بوجود صراع مستمر بين قوى الشرّ وجنوده من جهة، وقوى الخير وجنوده من جهة أخرى، وأنّ

ص: 162


1- استفدتُ في تبيين الأبحاث المرتبطة بالمهدويّة وفقاً لعقيدة أهل السنّة، وكذا في استعراض سمات أصحاب المهديّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وأحداث الظهور من أطروحة جامعية أشرفتُ عليها، وعنوانها: الإمام المهديّ (علیه السلام) في رؤية المفسّرين من أهل السنّة بالفارسية [ امام مهدیّ (علیه السلام) از دیدگاه مفسران اهل سنّت] ، تأليف مصطفى ورمبزيار .

هذه الصراع الدائم سوف يختفي يوماً بانتصار قوى الخير التي سوف تحقّق السعادة للبشريّة، وتمهّد الطريق للازدهار والرقيّ.

ويقول شاكموني - وهو أحد أعلام الدين الهندوسيّ - :

«سوف يؤول أمر المُلك والسلطنة في دار الدنيا إلى ولد آدم (علیه السلام)؛ وإنّ ابن آدم هو من سيحكم جبال المشرق والمغرب، وهو من سيركب أعالي السُّحب، وسيجعل دين الله ديناً واحداً»(1).

وقد نُقل عن زبور النبيّ داوود (علیه السلام) :

«سوف يُقطع دابر قوى الشرّ. أمّا المتوكّلون على الربّ فسوف يرثون الأرض، وسوف تكون عاقبة الأشرار الفناء على يديهم، وسوف يرث الأرض أولئك الذين باركهم الربّ»(2).

وورد في العهد القديم [ التوراة المنسوبة للنبيّ موسى (علیه السلام)]:

«ويخرج قضيب من جذع يسى، وينبت غصن من أصوله. ويحلّ عليه روح الربّ؛ روح الحكمة والفهم، روح المشورة والقوّة، روح المعرفة ومخافة الربّ. ولذّته تكون في مخافة الربّ، فلا يقضي بحسب نظر عينيه، ولا يحكم بحسب سمع أذنيه. بل يقضي بالعدل للمساكين، ويحكم بالإنصاف لبائسي الأرض»(3).

وجاء أيضاً في العهد الجديد في إنجيل متّى، في الإصحاح 25 ، الآية 31 :

«ومتى جاء ابن الإنسان في مجده وجميع الملائكة القدّيسين معه، فحينئذ يجلس على كرسي مجده ».

ص: 163


1- أنيس الأعلام في نصرة الإسلام ،محمّد صادق فخر الاسلام، ج 2، ص 199.
2- سوشيانت أو موعود آخر الزمان، علي أصغر مصطفوي، ص 9.
3- توراة النبيّ أشعياء، الإصحاح 11 الآية 1- 5 .أسئلة وردود حول الإمام المهديّ(علیه السلام)[ بالفارسيّة: پرسش و پاسخ پیرامون امام زمان]، عليرضا رجالي، ص22.

كما ورد أيضاً في وصايا المسيح (علیه السلام) إلى شمعون بطرس (شمعون الصفا):

«یا شمعون ! لقد أخبرني الربّ أن أوصيك بسيّد الأنبياء، والذي هو كبير أبناء آدم؛ وهو النبيّ الأمّيّ العربيّ. وستأتي ساعة يقوى فيها الفرج، وتتبلور فيها النبوّة، وتملأ العالم عدلاً وإنصافاً؛ كما يفعل السيل»(1).

أمّا القرآن الكريم فقد تحدّث في هذا الموضوع بكل صراحة؛ فقد ورد فيه:

«وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ»(2).

«وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ »(3).

«وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ»(4).

25/ 3.المهدوية في رؤية الفريقين :

إشارة

روى كبار المحدّثين المسلمين من الشيعة وأهل السنّة أخباراً متعدّدة في ما يتعلّق بموعود آخر الزمان عن النبيّ الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) وأهل بيته الأطهار(علیهم السلام) ، وقد صُنّفت مئات من الكتب في هذا الإطار(5). وقد أخبر الرسول الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) عن ظهور الحجة المنتظر (علیه السلام) بنحو لا يترك مجالاً للشكّ؛ فالأحاديث التي تناولت هذا الموضوع متواترة عند الفريقين. وفيما يأتي نماذج منها :

ص: 164


1- أسئلة وردود حول الإمام المهديّ، عليرضا رجالي، ص 22 .
2- سورة الأنبياء: 105 .
3- سورة القصص: الآية 5 .
4- سورة النور : الآية 55.
5- مجلّة دروس من مدرسة الإسلام الشهرية ،الصافي الگلپايگاني، العدد الثالث.
25/ 3/ 1. المهدويّة عند علماء العامّة:

يمكن أن نشير فيما يأتي إلى بعض المحدّثين الذين رووا في كتبهم شيئاً من الأحاديث المرتبطة بالإمام المهديّ (علیه السلام) ؛ ويقع على رأس القائمة : أبو داوود، والترمذي، وابن ماجه والطبرانيّ ، وأبويعلى البزّاز، وأحمد بن حنبل ، والحاكم النيسابوري، وقد نقلوها إلى الأجيال التي تليهم(1).

ومن روى هذه الأحاديث من علماء أهل السنة: الگنجيّ الشافعيّ (658ه) في كتابه «البيان في أخبار صاحب الزمان»(2) ، وابن حجر العسقلانيّ (852ه) في كتابه «فتح الباري»(3)، ومؤمن الشبلنجي في كتابه «نور الأبصار» (4)، والشيخ محمد الصبّان في كتابه «إسعاف الراغبين» (5) ، والشيخ منصور علي ناصف في كتابه «التاج الجامع للأصول »(6)، والعلّامة الشوكاني في كتابه « التوضيح في تواتر ما جاء في المنتظر والدجال والمسيح»، وقد اعترف جميعهم بتواتر هذه الأحاديث(7).

وادّعى ابن أبي الحديد أنّ الفرق الإسلاميّة قد أجمعت وأطبقت بأسرها على أنّ أجل الدنيا لن ينقضي إلّا بعد ظهور المهديّ المنتظر(علیه السلام)(8).

وروى ابن ماجة في صحيحه عن الرسول الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أنّه قال :

«المهديّ منّا أهل البيت يصلحه الله في ليلة»(9).

ص: 165


1- التاج الجامع للأصول، منصور علي ناصف ج 5، ص 310- 327؛ صحیح ابن داوود، ج 2، ص 207.
2- البيان في أخبار صاحب الزمان (علیه السلام)،الكنجي الشافعي ،باب 11 ؛ منتخب الأثر الصافي الگلپايگاني، ص 5
3- فتح الباري في شرح صحيح البخاري ،ابن حجر العسقلاني، ج ص 393- 394.
4- نور الأبصار، مؤمن الشبلنجي، ص 171 .
5- إسعاف الراغبين ،الشيخ محمد الصبّان (على هامش نور الأبصار)، ص 140.
6- التاج الجامع للأصول، الشيخ منصور علي ناصف، ج 5، ص 310.
7- غاية المأمول في شرح التاج الجامع للأصول، محمد البطاشي، ج 5، ص 327.
8- شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج 10، ص 96.
9- صحیح ابن ماجة، ج 6، ص 30.

وروى أبو داوود في صحيحه بسند عن عليّ (علیه السلام) عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أنّه قال :

«لو لم يبق من الدنيا إلّا يوم لطوّل الله ذلك اليوم حتى يبعث فيه رجلاً منّي أو من أهل بيتي ... يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً»(1).

وورد في صحيح الترمذي عن رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أنّه قال:

«لا تذهب أو لا تنقضي الدنيا حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي ويواطئ اسمه اسمي»(2).

وروي عن أبي هريرة عن النبيّ(صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أنّه قال :

«لو لم يبق من الدنيا إلّا يوم لطوّل الله ذلك اليوم حتى يلي رجل من آل محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) »(3).

وقد ذهب القرطبيّ في تفسيره - وتابعه في ذلك صاحب تفسير المنار - إلى صحّة الأخبار المخبرة بالإمام المهديّ (علیه السلام)، وتواترها (4)، والأحاديث التي أثبتت أنّه من ذريّة النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ومن نسل فاطمة الزهراء (علیها السلام) (5)؛ فقد ورد في تفسير روح المعاني قوله:

«ذهب معظم أهل العلم إلى أنّه حين ينزل، يصلّي وراء المهديّ (علیه السلام) صلاة الفجر »(6).

ص: 166


1- صحيح أبي داوود، ج 2، ص 207.
2- صحيح الترمذي، ج 2، ص 46 .
3- المصدر السابق، ص 46.
4- صحيح الترمذي، ج 2، ص 46 .
5- الجامع لأحكام القرآن ،القرطبي، ج 8، ص 121- 122 (الأخبار الصحاح قد تواترت على أنّ المهديّ (علیه السلام) من عترة رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ) ؛ تفسير المنار، ج 9، ص 480 (نقلاً عن كتاب الإشاعة للسيّد محمد البرزنجي المدني). (وغاية ما ثبت بالأخبار الصحيحة الشهيرة التي بلغت التواتر المعنوي وجود الآيات العظام التي أوّلها خروج المهدي وأنّه يأتي في آخر الزمان من ولد فاطمة (علیها السلام) الجامع الاحكام القرآن القرطبيّ، ج 8، ص 122،( والأحاديث التي قبله في التنصيص على خروج المهديّ (علیه السلام))، وفيها بيان كون المهديّ (علیه السلام) من عترة رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أصحّ إسناداً).
6- روح المعاني في تفسير القرآن العظيم، الآلوسي، ج 22، ص 35.

ويذكر في مكان آخر ما نصّه:

«والمشهور نزوله (علیه السلام) بدمشق والناس في صلاة الصبح فيتأخّر الإمام وهو المهديّ (علیه السلام) فيقدّمه عيسى (علیه السلام) ويصلّي خلفه ويقول: إنّما أقيمت لك، وقيل بل يتقدم هو ويؤمّ الناس والأكثرون على اقتدائه بالمهديّ (علیه السلام) في تلك الصلاة دفعاً لتوهّم نزوله ناسخاً»(1).

ويقول الفخر الرازيّ في تفسيره:

«قال بعض الشيعة : المراد بالغيب المهديّ المنتظر الذي وعد الله تعالى به في القرآن والخبر؛ أمّا القرآن فقوله«وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ»(2). وأما الخبر فقوله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : (لو لم يبق من الدنيا إلّا يوم واحد لطوّل الله ذلك اليوم حتّى يخرج رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي وكنيته كنيتي يملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً). واعلم أنّ تخصيص المطلق من غير الدليل باطل »(3).

أما ابن كثير فيقول في تفسيره :

«والظاهر أنّ منهم [الأمراء الإثني عشر] المهديّ المبشَّر به في الأحاديث الواردة بذكره»(4).

وقد صرّح كلّ من محمّد طه درّة الحمصي و محمد رشيد رضا أنّ المسلمين ينتظرون ظهور المهديّ (علیه السلام) ، وعيسى (علیه السلام)(5).

ص: 167


1- المصدر السابق ج 25، ص 95 - 96 .
2- سورة النور: 55 .
3- مفاتيح الغيب، الفخر الرازيّ، ج 2، ص 28 .
4- تفسير القرآن العظيم ،ابن كثير ، ج 2 ص 34 ؛ذيل الآيه 12 من سورة المائدة.
5- تفسير القرآن الكريم وإعرابه وبيانه ،محمد علي طه الدرة ،الحمصيّ ، ج 12 ،جزء 23- 4 ص 591: ( ينظر المسلمون المهديّ وعيسى على نبينا وعليه ألف صلاة وألف سلام». تفسير المنار، محمد رشيد رضا، ج 9 ص 489 .في ذيل الآية 187 من سورة الأعراف «فالمسلمون المنتظرون لها [الساعة] يعلمون أنّ لها أشراطاً تقع بالتدريج فهم آمنون من مجيئها بغتة في كل زمان وإنّما ينتظرون قبلها ظهور الدجّال والمهديّ والمسيح (علیهما السلام) .

وقال صاحب تفسير بيان المعاني واصفاً المهدي (علیه السلام) :

«وقد جاء في فضله ما لم يحصره القلم »(1).

ويبيّن الطنطاويّ في تفسير الجواهر، عموم فكرة المهدويّة بين الناس جاهلهم وعالمهم؛ حيث قال:

«فأصبحت فكرة المهدي عامّة في المسلمين العلماء والجهّال، فلمّا قرأت الكتب وجدت لهذا المهدي أحاديث كثيرة ... فأيقنت بأنّ الأمّة الإسلاميّة تغلغلت فيها هذه الفكرة وثبّتت»(2).

ويوافقه في ذلك محمد رشيد رضا حيث ذكر في تفسير المنار ما يأتي:

«يعلم الخاصّ والعامّ أنّه ورد في علامات الساعة من الأخبار أنّه يخرج رجل من آل بيت النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) يُقال له المهديّ (علیه السلام)»(3).

25/ 3/ 2. المهدويّة عند علماء الإماميّة:

تبيّن لنا مما تقدّم أنّ علماء الفريقين متفقون على وجود مخلّص يظهر في آخر الزمان؛ غير أنّ أهل السنّة ذهبوا إلى أنّ هذا المهديّ المنتظر لم يولد بعد، وأنّه سوف يولد في آخر الزمان، وسوف يؤسس دولة تشمل العالم بأسره.

أمّا الإماميّة فيرون أنّ المهدي المنتظر هو الإمام محمد بن الحسن العسكريّ (علیه السلام) وأمّه السيّدة نرجس (علیه السلام) (4)، وأنّه ولد (علیه السلام) في القرن الثالث الهجري، ثمّ

ص: 168


1- تفسير بيان المعاني ،ملا حويش ،ج2، ص 197، ذيل الآيات 21- 30 من سورة طه.
2- الجواهر في تفسير القرآن الكريم، الطنطاوي، ج 6، ج 12،11، ص 12- 16 ذيل الآية 1 من سورة الحج.
3- تفسير المنار ،محمد رشید رضا، ج 6، ص 57 ، ذيل الآية 157 من سورة النساء.
4- من الملاحظ أنّ الروايات قد جاءت مختلفة في ما يتعلّق باسم السيّدة أمّ الإمام المهديّ (علیه السلام)؛ إذ جاء اسمها في بعض الروايات، منها: نرجس وفي رواية أخرى :صقيل وفي ثالثة: ريحانة، وفي رواية رابعة: سوسن وفي رواية خامسة :حكيمة، وفي رواية سادسة :خمط وفي رواية سابعة: مليكة، وفي رواية ثامنة : مريم بنت زيد علويّة؛ وذلك لأنّ تلك السيّدة جليلة القدر كان لها في كلّ يوم اسم راجع: الغيبة ،الطوسيّ: ص 142، 143، 164، 147، 241؛ الإرشاد، ص 346؛ عيون أخبار الرضا (علیه السلام)، ص 24؛ بحار الأنوار، ج 36، ص 194، و ج 51، ص 2، 5، 13 ، 15، 17 ، 19، 23 ، 24، 28، 121 ،293، 36 ، و ج 52، ص16 إثبات الهداة ج 1، ص 469 ، وج 3، ص 365 ، وج 3 ، ص 490 ،410 ،414 ؛ إعلام الورى بأعلام الهدى، ص 394 ؛ وسائل الشيعة، ج 16، ص 244؛ جامع الروايات ج 2 ص 467؛ دلائل الإمامة ص 264 منتخب الأثر، ص 320، 321 .

غاب غيبة صغرى، وهو اليوم في غيبة كبرى بإذن وأمر من الله، وأنّه سوف يظهر في آخر الزمان، ويحقّق حكومة العدل الإلهيّة .

ويروي محدّثو الشيعة أنّ حكيمة بنت محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب (علیهم السلام)؛ قالت: «بعث إليّ أبو محمد الحسن بن عليّ (علیهما السلام) فقال : يا عمةّ اجعلي إفطارك الليلة عندنا فإنّها ليلة النصف من شعبان فإنّ الله تبارك وتعالى سيظهر في هذه الليلة الحجّة وهو حجّته في أرضه قالت: فقلت له ومن أمّه؟ قال لي: نرجس .. قلت له : والله جعلني الله فداك ما بها أثر ؟ فقال : هو ما أقول لك »وجاء في رواية أخرى: «قالت: فوثبت إلى نرجس فقلّبتها ظهر البطن فلم أر بها أثراً من حبل فعدت إليه فأخبرته بما فعلت فتبسّم ثمّ قال لي : إذا كان وقت الفجر يظهر لك بها الحبل»(1).

وروي عن السيّدة حكيمة أيضاً في خبر آخر أنّها قالت:

«ثم استيقظت فلم أزل مفكّرة فيما وعدني أبو محمد (علیه السلام) من أمر ولي الله (علیه السلام) فقمت قبل الوقت الذي كنت أقوم في كل ليلة للصلاة، فصلّيت صلاة الليل حتى بلغت إلى الوتر، فوثبت سوسن فزعة وخرجت وأسبغت الوضوء ثمّ عادت فصلّت صلاة الليل وبلغت إلى الوتر، فوقع في قلبي أنّ الفجر قد قرب فقمت لأنظر فإذا بالفجر الأوّل قد طلع فتداخل قلبي الشكّ من وعد أبي محمد (علیه السلام) فناداني من حجرته: لا تشكّي وكأنّك بالأمر الساعة قد رأيته إن شاء الله قالت حكيمة: فاستحييت من أبي محمّد (علیه السلام) و مما وقع في قلبي، ورجعت إلى البيت وأنا خجلة فإذا هي قد قطعت الصلاة وخرجت فزعة فلقيتها على باب البيت فقلت: بأبي أنت وأمي هل تحسّين شيئا؟ قالت نعم يا عمة إنّي لأجد أمراً شديداً قلت: لا خوف عليك إن شاء الله وأخذت وسادة فألقيتها في وسط البيت وأجلستها عليها وجلست منها حيث تقعد

ص: 169


1- كمال الدين وتمام النعمة، الصدوق، ص390 ،393 ؛ بحار الأنوار، ج 51 ص 2 ،13، 17 26؛ إثبات الهداة، ج 3، ص 409 ،414 ؛ إعلام الورى بأعلام الهدى، ص 394 ؛ دلائل الإمامة، ص 264.

المرأة من المرأة للولادة فقبضت على كفّي وغمزت غمزة شديدة ثمّ أنت أنّة وتشهّدت ونظرت تحتها فإذا أنا بولي الله صلوات الله عليه متلقّياً الأرض بمساجده فأخذت بكتفيه فأجلسته في حجري وإذا هو نظيف مفروغ منه فناداني أبو محمد (علیه السلام) يا عمّة هلمّي فأتيني بابني »(1).

وروي في خبر عن أبي الأديان أنّه قال: خرجت بالكتب إلى المدائن وأخذت جواباتها ودخلت سرّ من رأى يوم الخامس عشر كما ذكر لي (علیه السلام) فإذا أنا بالواعية في داره وإذا به على المغتسل، وإذا أنا بجعفر بن عليّ أخيه بباب الدار والشيعة من حوله يعزّونه ويهنّونه، فقلت في نفسي: إن يكن هذا الامام فقد بطلت الإمامة، لأنّي كنت أعرفه يشرب النبيذ ويقامر في الجوسق ويلعب بالطنبور، فتقدّمت فعزّيت وهنّيت فلم يسألني عن شيء، ثمّ خرج عقيد فقال : يا سيّدي قد كُفّن أخوك فقم وصلّ عليه فدخل جعفر بن عليّ والشيعة من حوله يقدّمهم السمان والحسن بن عليّ (علیهما السلام) قتيل المعتصم المعروف بسلمة. فلمّا صرنا في الدار إذا نحن بالحسن بن علي صلوات الله عليه على نعشه مكفّناً فتقدّم جعفر بن علي ليصلّي على أخيه، فلمّا همَّ بالتكبير خرج صبيّ بوجهه سمرة، بشعره قطط، بأسنانه تفليج فجبذ برداء جعفر بن عليّ وقال: تأخّر يا عمّ فأنا أحقّ بالصلاة على أبي، فتأخّر جعفر، وقد أربد وجهه واصفرّ فتقدّم الصبيّ وصلّى عليه ودفن إلى جانب قبر أبيه (علیه السلام) ثمّ قال : يا بصري هات جوابات الكتب التي معك، فدفعتها إليه، فقلت في نفسي : هذه بينتان بقي الهميان ثمّ خرجت إلى جعفر بن عليّ وهو يزفر ، فقال له حاجز الوشاء: يا سيّدي من الصبيّ لنقيم الحجّة عليه ؟ فقال : والله ما رأيته قطّ ولا أعرفه فنحن جلوس إذ قدم نفر من قم فسألوا عن الحسن بن عليّ (علیهما السلام) فعرفوا موته فقالوا : فمن ( نعزّي ) ؟ فأشار الناس إلى جعفر بن عليّ فسلّموا عليه وعزّوه وهنّوه وقالوا : إنّ معنا كُتباً ومالاً، فتقول ممّن الكتب؟ وكم المال؟ فقام ينفض أثوابه ويقول: تريدون منّا أن نعلم الغيب ، قال : فخرج الخادم فقال: معكم كتب فلان

ص: 170


1- كمال الدين وتمام النعمة ،الصدوق، ص 390، 393 .

وفلان وفلان وهميان فيه ألف دينار وعشرة دنانير منها مطلية، فدفعوا إليه الكتب والمال وقالوا: الذي وجه بك لاخذ ذلك هو الإمام، فدخل جعفر بن عليّ على المعتمد وكشف له ذلك (1).

وهناك عدد من الشواهد الروائية الدالة على ولادة الإمام المهديّ (علیه السلام)؛ والتي كانت منذ اللحظة الأولى لميلاده. كما أنّ الإمام الحسن العسكريّ (علیه السلام) كان يخرجه ويريه للخواص من أصحابه في طوال الخمس سنوات التي عاشها الإمام المهديّ (علیه السلام) في كنف أبيه. ومع تقبّل ما وقع من معجزات في أمر ولادته (علیه السلام) وكيف تمّت المحافظة عليه طوال مدة تلك السنوات الخمسة؛ يتّضح أنّ الإمام (علیه السلام) كانت تذهب به الملائكة إلى السماء ولا تعود به إلى الإمام العسكريّ (علیه السلام) ليراه إلّا مرة كل أربعين يوم(2).

24/ 4. سمات أصحاب المهدي (علیه السلام) :

وردت في المصادر الإسلامية بحوث تتعلّق بعدد أصحاب الإمام المهدي (علیه السلام)وأسماء بعضهم، وأوطانهم. وأكثر هذه الشخصيّات بروزاً هو نبيّ الله عيسى المسيح (علیه السلام) الذي سوف يكون له دور مهمّ ومفصليّ في عصر مفصليّ في عصر ما بعد الظهور، وسوف يقدّم عوناً كبيراً لقيام المهدي (علیه السلام)(3).

وقد وردت بعض الأحاديث في كتب أهل السنّة أيضاً عن أصحاب الكهف ودورهم آخر الزمان، وأنّهم سوف يكونون من أصحاب المهديّ المنتظر (علیه السلام) أيضاً(4).

ص: 171


1- كمال الدين وتمام النعمة ،الصدوق، ص 390، 393 .
2- كمال الدين وتمام النعمة ،،الصدوق، ص390، 393.
3- تفسير سور ،آبادي، ج 1، ص 288 و 504 وج 3، ص 1719، وج 4 ص 2235 ؛تفسير روح البيان، إسماعيل حقّي البروسوي، ج 3، ص 416 :«و في الحديث... (... لا مهديّ إلّا بعيسى بن مريم) ؛ ومعناه لا يكون أحد صاحب المهديّ إلّا عيسى بن مريم؛ فإنّه ينزل لنصرته وصحبته». وج 8، ص 385 :يجتمع عيسى والمهديّ فيقوم عيسى بالشريعة والإمامة والمهدي بالسيف والخلافة؛ فعيسى خاتم الولاية المطلقة كما أنّ المهدي خاتم الخلافة المطلقة».
4- تفسير ابن عربي، ج 1، ص 420 :وفي المأوي إلى الكهف عند مفارقتهم سر آخر يُفهم من دخول المهديّ في الغار اذا خرج ونزل عيسى. والله أعلم»؛ الدرّ المنثور في تفسير المأثور، جلال الدين السيوطي ، ج 4، ص 215: «قال رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : أصحاب الكهف أعوان المهديّ (علیه السلام)»؛ تفسير روح البيان إسماعيل حقّي البروسوي، ج 1، ص 217: «وورد أنّ أصحاب الكهف يُبعثون في آخر الزمان ويحجّون ويكونون من هذه الأمة تشريفاً لهم بذلك وورود مرفوعاً (أصحاب الكهف أعوان المهديّ (علیه السلام))»؛ تفسير روح البيان ،إسماعيل حقّي البروسوي، ج 2، ص 319: «ويجدّد الله تعالی به [عیسی (علیه السلام)] عهد النبوّة على الملة ويخدمه المهديّ وأصحاب الكهف»؛ تفسير روح البيان، إسماعيل حقّي البروسوي، ج 5، ص 269 :وذكر الشيخ الأكبر (رضی الله عنه) في بعض كتبه أنّه [إلياس [(علیه السلام)] يظهر مع أصحاب الكهف في آخر الزمان عند ظهور المهديّ (علیه السلام)، ويستشهد ويكون من أفضل شهداء عساكر المهديّ (علیه السلام)». وفي ص 381: «وهذه الوزارة ممتدّة إلى زمن المهديّ (علیه السلام) والوزراء السبعة هم أصحاب الكهف؛ يحييهم الله في آخر الزمان يختم بهم رتبة الوزارة المهديّة». وفي ج 9، ص :117: «المهديّ إذا خرج يستصحب أصحاب الكهف وروحانية شخصين من كمّل هذه الأمة».

وقد أشار الآلوسي إلى الخضر (علیه السلام)، وعدّه أيضاً من بين أصحاب المهديّ المنتظر (علیه السلام) الذين سوف يرافقونه في قيامه (1). ونقل إسماعيل حقّي البروسويّ عن الشيخ الأكبر أنّ نبيّ الله إلياس (علیه السلام) سوف يظهر مع أهل الكهف في عصر ظهور الإمام المهديّ (علیه السلام) وسوف يستشهد بين يديه، ويكون من أفضل شهداء جيشه(2).

كما ورد في مصادر العامّة أيضاً أن أكثر أصحاب الإمام المهديّ (علیه السلام) من أمّة الإسلام (3)، وأنّهم ممّن يتّصفون بخصائص الكمّل من المؤمنين (4).

ص: 172


1- روح المعاني في تفسير القرآن العظيم، الآلوسي، ج 8، ص 308: «بل قد يجتمع [الخضر] الكامل بمن لم يولد بعد كالمهديّ (علیه السلام)».
2- تفسير روح البيان إسماعيل حقّي البروسوي، ج 1، ص 217 :« وذكر الشيخ الأكبر في بعض كتبه أنّه [إلياس(علیه السلام)]» يظهر مع أصحاب الكهف في آخر الزمان عند ظهور المهديّ ويستشهد ويكون من أفضل شهداء عساكر المهديّ (علیه السلام)».
3- تفسير القرآن العظيم ،ابن كثير، ج 6، ص 74 عن رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أنّه قال: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين علي الحقّ لا يضرّهم من خذلهم ولا من خالفهم إلى يوم القيامة - وفي رواية حتّى يأتي أمر الله وهم كذلك - وفي رواية - حتّى يقاتلوا الدجال - وفي رواية - حتّى ينزل عيسى بن مريم وهم ظاهرون». تفسير سور آبادي، ج 3، ص 1792 -1791: «مهدي بيرون آيد جمعي از مسلمانان یار وي گردند با دجال حرب کنند؛ أي: سيظهر المهديّ (علیه السلام) وسينصره جمع من المسلمين وسيحاربون الدجّال . وورد في تفسير في ظلال القرآن ،سیّد قطب، ج 5، ص 3199 :« وعن جابر (رضی الله عنه) قال: قال رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحقّ ظاهرين إلى يوم القيامة؛ فينزل عيسى بن مريم (علیه السلام) فيقول أميرهم :تعال صلّ بنا. فيقول: لا؛ إنّ بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله تعالى لهذه الأمة وهو غيب من الغيب الذي حدثنا عنه الصادق الأمين وأشار إليه القرآن الكريم».
4- روح المعاني في تفسير القرآن العظيم، الآلوسي، ج 8، ص 308: «بل قد يجتمع [الخضر] الكامل بمن لم يولد بعد كالمهديّ تفسير روح البيان إسماعيل حقّي البروسوي، ج 9، ص 117: «المهديّ إذا خرج يستصحب أصحاب الكهف وروحانية شخصين من كمّل هذه الأمة».

[3]

وورد أيضاً أنّهم من أهل الصدق (1)، مجاهدون ، لا يكلّون ولا يفترون (2)، يحبّون الله تَبَارَكَ وَتَعَالى ويحبّهم (3) ، وأنّهم من زمرة وصفهم الله بقوله السابقون السابقون، علاوةً على كونهم من أصحاب القيامة الكبرى، وأهل الكشف والظهور(4).

25 /5. أحداث ما قبل الظهور :

ترتبط البحوث الأخرى بأحداث عصر الظهور التي جاء بيانها على نحو مفصّل في الكتب التي تناولت موضوع المهدويّة.

وفيما يأتي سنستعرض بعض تلك الأحداث :

أوّلاً عندما يصل الإمام المهديّ(علیه السلام) يأخذ حليّ جميع بيت المقدس - التي كان قيصر الروم قد أخذها، واحتملها على سبعين ألفاً ومئة ألف عجلة حتى أودعه في كنيسة الذهب، فهو فيها الآن - ويردّها إلى بيت المقدس، حيث يرسي بها على يافا، ويمضي بها حتى يدخل بها بيت المقدس، وبها يجمع الله الأولين والآخرين، وذلك: أنّها معجزة تثبت حقانية دعوتها(5)، وقد ورد في وصف هذه الحلّي أنّه (علیه السلام)

ص: 173


1- تفسير روح البيان ،إسماعيل حقّي البروسوي، ج 9، ص 263: «كلّ أهل الصدق من مقدمات المهديّ (علیه السلام)».
2- تفسير القرآن العظيم ،ابن كثير، ج 6، ص 74 :«عن رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أنّه قال: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين علي الحقّ لا يضرّهم من خذلهم ولا من خالفهم إلى يوم القيامة - وفي رواية حتّى يأتي أمر الله وهم كذلك - وفي رواية - حتّى يقاتلوا الدجال - وفي رواية - حتّى ينزل عيسى بن مريم وهم ظاهرون تفسير سور آبادي،ج 3، ص 1792- 1791 : مهدي بيرون آيد جمعي از مسلمانان یار وي گردند با دجال حرب کنند»؛ أي: سيظهر المهديّ وسينصره جمع من المسلمين وسيحاربون الدجّال. وورد في تفسير في ظلال القرآن، سيّد قطب، ج 5، ص 3199: «وعن جابر (رضی الله عنه) قال: قال رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) :لا تزال طائفة من أمّتي يقاتلون على الحقّ ظاهرين إلى يوم القيامة؛ فينزل عيسى بن مريم (علیه السلام) فيقول أميرهم: تعال صلّ بنا. فيقول: لا؛ إنّ بعضكم على بعض أمراء تكرمة الله تعالى لهذه الأمة وهو غيب من الغيب الذي حدثنا عنه الصادق الأمين وأشار إليه القرآن الكريم».
3- التفسير الحديث، محمد عزة دروزة، ج 9، ص 160: «عن الطبرسيّ روايتاً عن عليّ بن إبراهيم بن هاشم أنّ الآية الأولى فسوف يأتي الله بقوم يحبّهم ويحبّونه نزلت في مهديّ الأمة وأصحابه».
4- تفسير ابن عربي، ج 2 ،ص 293: «والآخرون هم الذين طال عليهم الأمد فقست قلوبهم في آخر دور الدعوة وقرب زمان خروج المهديّ (علیه السلام) لا الذين هم في زمانه فإنّ السابقين في زمانه أكثر لكونهم أصحاب القيامة الكبرى وأهل الكشف والظهور»>
5- جامع البيان في تفسير القرآن، ج11، ص 223- 222. وج 15، ص 17 - 18 ؛الدر المنثور في تفسير المأثور، ج 4، ص 165 ؛الكشف والبيان عن تفسير القرآن، الثعلبي، ج 6، ص70؛ معالم التزيل في تفسير القرآن ،البغوي، ج 3، ص 113؛ مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد، ج1، ص618 ؛ الجامع لأحكام القرآن ،القرطبيّ، ج 10، ص 22 -223 تفسير القرآن الكريم وإعرابه وبيانه، محمد عليّ طه الدرة الحمصيّ، ج 8، جزء 15 -16، ص 20 ... جميع حلي بيت المقدس... فهو فيها الآن حتّى يأخذه المهديّ (علیه السلام) فيردّه إلى بيت المقدس... وبها يجمع الله الأوّلين والآخرين».

يرسي بألف سفينة وسبعمئة سفينة محمّلة بها(1).

ثانياً ومن الحوادث الإعجازيّة التي تقع في عصر الظهور سلام الإمام المهديّ (علیه السلام) على أصحاب الكهف؛ حيث جعله الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى سبباً في بعثهم إلى الحياة مرّة أخرى (2)؛ لينصروا الإمام المهديّ (علیه السلام) في حركته (3) . وبحسب نقل آخر فإنّهم سوف يثبتون في مكانهم إلى حين قيام القيامة(4).

ص: 174


1- جامع البيان في تفسير القرآن ،ج 11 ص 223- 222 ؛الجامع لأحكام القرآن، القرطبيّ، ج 10، ص 222- 223 تفسير القرآن الكريم وإعرابه وبيانه ،محمد عليّ طه الدرة الحمصيّ، ج 8، جز 15- 16 ، ص 20 :«وأخذ حلي جميع بيت المقدس ...و احتمله علي سبعين ألفاً و- مائة ألف عجلة حيث أودعه في كنيسة الذهب... = و- هو ألف سفينة و- سبعمائة سفينة يرسي بها علي يافا». وج15، ص 17 - 18 ؛الدر المنثور في تفسير المأثور، ج 4، ص 165؛ الكشف والبيان عن تفسير القرآن، الثعلبي، ج6، ص 70؛ معالم التزيل في تفسير القرآن، البغوي، ج 3، ص 113؛ مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد، ج1، ص618: «وهو ألف سفينة وسبع مئة سفينة»(علیها السلام).
2- الجامع لأحكام القرآن ،القرطبيّ، ج 10، ص 389 - 390: «فيقال: إنّ المهديّ (علیه السلام) يسلّم عليهم فيحييهم الله». الكشف والبيان عن تفسير القرآن ،الثعلبيّ، ج 6 ،ص 157 :«ويُقال: إنّ المهديّ (علیه السلام) يسلّم عليهم فيحييهم الله عزّوجلّ»؛ تاج التراجم في تفسير القرآن للأعاجم ،الإسفرايينيّ، ج 3، ص 1307؛ تفسير روح البيان، ج5، ص232.
3- الدر المنثور في تفسير المأثور، السيوطي ، ج 4 ص 215 :« قال رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أصحاب الكهف أعوان المهديّ (علیه السلام)»؛ تفسير روح البيان، إسماعيل حقّي البروسويّ، ج 1، ص 217: « وورد أنّ أصحاب الكهف يبعثون في آخر الزمان ويحجون ويكونون من هذه الأمّة تشريفاً لهم بذلك، وورد مرفوعاً (أصحاب الكهف أعوان المهديّ (علیه السلام))؛ تفسير روح البيان، إسماعيل حقّي البروسوي، ج 2، ص :319 :«ويجدّد الله تعالى به [عيسى (علیه السلام)] عهد النبوّة على الملة ويخدمه المهدي وأصحاب الكهف»؛ الجامع لأحكام القرآن ،القرطبيّ، ج 5، ص 269:« وذكر الشيخ الأكبر (رضی الله عنه) في بعض كتبه أنّه [الياس] يظهر مع أصحاب الكهف في آخر الزمان عند ظهور المهديّ(علیه السلام) ويستشهد ويكون من أفضل شهداء عساكر المهديّ(علیه السلام)». وفي ص 381 :«وهذه الوزارة ممتدّة إلى زمن المهديّ (علیه السلام) ووزراؤه سبعة هم أصحاب الكهف يحييهم الله في آخر الزمان يختم بهم رتبة الوزارة المهدية». وفي ج 9، ص :117: «المهديّ (علیه السلام) إذا خرج يستصحب أصحاب الكهف وروحانية شخصين من كمّل هذه الأمة».
4- الجامع لأحكام القرآن ،القرطبيّ، ج 10، ص 389- 390: «إنّ المهديّ (علیه السلام) يسلّم عليهم فيحييهم الله ثمّ يرجعون إلى رقدتهم فلا يقومون حتى تقوم الساعة»؛ الكشف والبيان عن تفسير القرآن ،الثعلبيّ، ج 6، ص 157: «إنّ المهديّ (علیه السلام) يسلّم عليهم، فيحييهم الله عزّوجلّ، ثمّ يرجعون إلى رقدتهم ولا يقومون إلى يوم القيامة»؛ تاج التراجم في تفسير القرآن للأعاجم الإسفرايينيّ، ج 3، ص 1307؛ تفسير روح البيان، إسماعيل حقّي البروسويّ، ج 5، ص 232.

ثالثاً : من جملة من يعودون إلى الدنيا إضافة إلى أصحاب الكهف هو الإمام عليّ (علیه السلام) ومجموعة أخرى من الأخيار؛ حيث يعودون لنصرة الإمام المهديّ(علیه السلام).

رابعاً: يخوض الإمام المهديّ (علیه السلام) بعد ظهوره حروباً عديدة بعضها على الكفار وبعضها على منكريه، وأهمّ هذه الحروب :

حربه على الدجّال، وعلى السفيانيّ؛ ومن خلال هذه الحروب تصبح جميع الأرض تحت سيطرته، وتنعم جميع المخلوقات برغد حكومته العادلة؛ وقد وردت الإشارة في الأحاديث المرويّة إلى بعض هذه الفتوحات - ولعلّ السبب في ذلك أهمّيتها وما لها من خصوصية - من بينها عمورية، وروميّة، والقسطنطينيّة(1)، وببيان هذه المدن واهتمام الروايات بها يتّضح لنا أهميّة الحروب التي سوف يخوضها الإمام المهديّ (علیه السلام) على البلاد الغربيّة (2).

خامساً: استعرض مفسّرو أهل السنة في ضمن تفسيرهم الآيات التي تناولت الحديث عن إظهار الدين من قبيل قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى:

«هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ» (3).

وقوله عَزَّ وَجَلَّ: «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى

ص: 175


1- تفسير الل،باب ،ابن عادل، ج 2، ص 53 ،«وقال السدّي: الخزي لهم في الدنيا قيام المهديّ وفتح عَمورِيّة ورُومِيَّة وقسطنيطينيّة، وغير ذلك من مدنهم». لاحظ أيضاً :جامع البيان، الطبريّ، ج 1، ص 699 ؛ الدر المنثور في تفسير المأثور، السيوطيّ ، ج1، ص 108 ؛ الكشف والبيان عن تفسير القرآن ،الثعلبيّ، ج 1، ص 261 ؛= =فتح القدير، الشوكانيّ، ج 1، ص 132 ؛ فتح البيان القنوجي، ج 1، ص 183 البحر المحيط، أبو حيان الأندلسي، ج 1، ص 523؛ كشف الاسرار، رشيد الدين الميبدي، ج 1، ص 325 -326 ؛ تفسير ابن أبي حاتم، ج 1، ص 211 و ج4، ص 1132: «أما خزيهم في الدنيا فإنّه إذا قام المهديّ (علیه السلام) فتح القسطنطينيّة وقتلهم فذلك الخزي».
2- تفسير المنار، ج 9، ص 480 :«وقال في الإشاعة... وغاية ما ثبت بالأخبار الصّحيحة الكثيرة الشّهيرة التي بلغت التواتر المعنوي... وأنّه يقاتل الروم في المللحمة ويفتح القسطنطينيّة، ويخرج الدجّال في زمنه وينزل عيسى (علیه السلام) ويصلّي خلفه، وما سوى ذلك كلّه أمور مظنونة أو مشكوكة والله أعلم. انتهى».
3- سورة التوبة :33 .

بِاللَّهِ شَهِيدًا»(1)، وغيرها ؛ أنّ زمان ظهور الإمام المهديّ (علیه السلام) هو الزمان الذي يتحقّق فيه علوّ الدين الإسلاميّ وانتصاره، بحيث لا يبقى على وجه البسيطة مشرك؛ وذلك عندما يكون كلّ البشر قد اعتنقوا الإسلام (2).

سادساً : نقلت بعض كتب التفسير في ما يتعلّق بتفسير الآية الشريفة :« لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ»(3) مجموعة من الأحاديث التي تطرّقت الكفار والظالمين في الدنيا، وتعرّضهم للذلّ في الدنيا قبل الآخرة، ويتحقّق ذلك بقيام المهديّ (علیه السلام) وحينها تتخلّص البشريّة من أذاهم وليس لهم مفرّ آخر إلّا أن يتقبّلوا بالدين الحقّ (4).

وهكذا الحال في تفسير الآية الشريفة : «وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ»(5)؛ حيث نُقلت أحاديث أخرى أيضاً تشير إلى أنّ المقصود من العذاب الأكبر المذكور في الآية الشريفة هو قيام الإمام المهديّ (علیه السلام) بالسيف(6)، وحينها سوف يميّز المؤمن من الكافر.

ص: 176


1- سورة الفتح: 28 .
2- الجامع لأحكام القرآن ،القرطبي، ج 8 ص ،121 ؛ الكشف والبيان عن تفسير القرآن ،الثعلبيّ، ج 3، ص 352، وأيضاً ج 5، ص 34- 35؛ البحر المحيط، أبو حيان الأندلسيّ، ج 5، ص 34؛ مفاتيح الغيب، الفخر الرازيّ، ج 16، 40 ؛ تفسير سور آبادي، ج 1، ص 504 ؛ غرائب القرآن ورغائب الفرقان، ج 3، ص 458؛ تفسير السراج المنير، الخطيب الشربينيّ، ج 1، ص 1312؛ جامع لطائف التفسير، ج 25، ص 196 ج 26، ص 262 ؛ تفسير اللّباب ،ابن عادل، ج 8، ص 266.
3- سورة المائدة : 33 .
4- جامع البيان، الطبريّ، ج 1، ص 699 ؛ الدر المنثور في تفسير المأثور، السيوطي ، ج 1، ص 108؛ الكشف والبيان عن تفسير القرآن، الثعلبي ، ج 1 ص 261 ؛ فتح القدير ،الشوكانيّ ،ج 1 ، ص 132 ؛ فتح البيان ،القنوجيّ، ج 1، ص 183 ؛ البحر المحيط، أبو حيان الأندلسيّ ، ج 1 ، ص 529 ؛ تفسير اللّباب، ابن عادل، ج 2، ص 53 .كشف الأسرار، رشيد الدين الميبدي، ج 1، ص 325- 326 ؛ تفسير ابن أبي حاتم، ج 1، ص 211 وكذلك ج 4، ص 1132 .
5- سورة السجدة: 21 .
6- البحر المحيط، أبو حيان الأندلسيّ، ج 7، ص 198: «العذاب الأكبر... وعن جعفر بن محمّد أنّه خروج المهديّ (علیه السلام) بالسيف»؛ تفسير عز بن عبد السلام ،ج2، ص553 ؛ تفسير ابن عربيّ، ج 2، ص 214 :«وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعةُ بمحشر الأجساد أو ظهور المهديّ (علیه السلام)... وقهر المهديّ (علیه السلام) إيّاهم وتعذيبه لهم لكفرهم به وبعدهم عنه»؛ تفسير القرآن ،السمعاني، ج 4.

25 /6. فلسفة الغيبة :

تقتضي فلسفة ضرورة وجود الإمام تواجد الإمام المعصوم بين الناس؛ ليكون له عليهم ولاية تشريعيّة وسياسيّة اجتماعيّة؛ علاوةً على ما يتمتّع به من الولاية التكوينيّة على عالم الممكنات لكنّ إمام العصر يعيش حالة الغيبة لبعض الأسباب، ومع أنّ اللطف الإلهيّ التكوينيّ المفاض على الناس وعالم الممكنات بواسطته غير منقطع، لكنّ العالم محروم من ولايته التشريعيّة والسياسيّة.

والسؤال المركزيّ الذي يطرح نفسه هنا هو : لم اختفى الإمام (علیه السلام) عن الأنظار؟ وما الحكمة التي تقف وراء حدوث هذه الغيبة؟ وما هي فلسفتها؟

يرى جماعة أنّ سبب الغيبة سرّ خفيّ، وقد تمسّكوا لإثبات هذه الدعوى إلى بعض الأحاديث؛ منها على سبيل المثال:

«فأغلقوا أبواب السؤال عمّا لا يعنيكم ولا تتكلّفوا علم ما قد كفيتم وأكثروا الدعاء بتعجيل الفرج »(1).

«عن الفضيل الهاشمي أنّه قال: سمعت الصادق (علیه السلام) يقول : إنّ لصاحب هذا الأمر غيبة لا بدّ منها، يرتاب فيها كلّ مبطل. فقلت : ولم جعلت فداك؟ قال: لأمر لم يؤذن لنا في كشفه لكم... إنّ هذا الأمر، أمر من أمر الله وسرّ من الله، وغيب من غيب الله »(2).

«عن حنان بن سدير عن أبيه ... إنّ للقائم (علیه السلام) منّا غيبة يطول أمدها. فقلت له: ولم ذاك يا ابن رسول الله ؟ قال : إنّ الله عَزَّ وَجَلَّ أبى إلّا أن يجري فيه سنن الأنبياء في غيباتهم وإنّه لا بدّ له يا سدير من استيفاء مدد غيباتهم»(3).

ص: 177


1- كمال الدين ،ج 2 ، ص 162 ؛ الاحتجاج ،ص 263 ؛ الغيبة ،الطوسيّ، ص 177؛ بحار الأنوار، ج 52، ص 92، ج 53، ص 181.
2- بحار الأنوار، ج 52 ،ص 91 ؛ إثبات الهداة، ج 3، ص 388 .
3- علل الشرائع، ج 1، ص234؛ كمال الدين ص 437؛ بحار الأنوار، ج 51، ص142، ج 52، ص 90.

وقدّم غيرهم تصوّراً آخر عن أسباب غيبة الإمام المهديّ (علیه السلام) والحكمة التي تقف خلف ذلك، مستفيدين من أحاديث شريفة أخرى صدرت لخواص أصحاب الأئمة (علیهم السلام) ولعلّ ضرورة استمرار الإمامة وحياة الإمام على الرغم من جميع التحدّيات والتهديدات التي واجهت ذلك يمكن عدّها في ضمن أهمّ دواعي الغيبة.

ومما روي عن رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أنّه قال: «لا بدّ للغلام [ المهديّ (علیه السلام)] من غيبة، فقيل له: و لِمَ يا رسول الله؟ قال: يخاف القتل»(1).

وروي عن زرارة أنّه قال :

«سمعت أبا جعفر (علیه السلام) : يقول : إنّ للغلام [ المهديّ (علیه السلام)] غيبة قبل ظهوره. قلتُ: ولِمَ؟ قال: يخاف؛ وأومأ بيده إلى بطنه. قال زرارة: يعني القتل»(2). وورد في رواية أخرى أنّه «يخاف على نفسه الذبح»(3).

وروي عن الإمام الباقر (علیه السلام): يقول قائمنا - قائم آل البيت (علیهم السلام) - ما يظهر: «فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ»(4)»(5).

وذهب بعضهم في هذا السياق أيضاً إلى أنّ سبب الغيبة هو ألّا يكون حين الغيبة في عنق الإمام بيعة لأحد.

روي عن إسحاق بن يعقوب أنّ المهدي (علیه السلام) قال :

«وأمّا علّة ما وقع من الغيبة فإنّ الله عَزَّ وَجَلَّ يقول: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ

ص: 178


1- علل الشرائح، ج 1، ص234؛ بحار الأنوار ج 52، ص 90، 97 ؛ إثباة الهداة، ج 3، ص 498.
2- علل الشرائع ،ج 1 ،ص 246؛ بحار الأنوار، ج 52 ص 98،97،95،91، 146 ؛ إثباة الهداة، ج 3، ص 443، 444، 472، 784 ،571 ؛ کمال الدین ،ص 321، 325 ؛ غيبة النعمانيّ ، ص 118 ؛ غيبة ،الطوسيّ، ص 202. ،
3- کمال الدين ،ص 437؛ بحار الأنوار، ج 52، ص 97؛ إثباة الهداة، ج 3، ص 487.
4- سورة الشعراء: 21 .
5- كمال الدين ،ص 308 ؛ بحار الأنوار، ج 52، ص 157، 281 ،292، 385؛ غيبة ،النعماني، ص 116؛ نور الثقلين، ج 4، ص 49؛ تأويل الآيات، ج 1، ص 388 ؛ البرهان، ج 3، ص 183 إثبات الهداة ، ج 3، ص 468، 535، 561، 583.

أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ » (1)؛ إنّه لم يكن أحدٌ من آبائى إلّا وقعت في عنقه بيعةٌ لطاغية زمانه، وإنّي أخرج حين أخرج ولا بيعةَ لأحدٍ من الطواغيت في عنقي »(2).

وروي عن أبي عبد الله الصادق (علیه السلام) أنّه قال :

«صاحب هذا الأمر تعمى ولادته على هذا الخلق، لئلّا يكون لأحد في عنقه بيعة إذا خرج»(3).

والحكمة الأخرى من وراء الغيبة هي سوء أعمال العباد، ولا يرضى الله سبحانه بأن يرافق الإمام أمثال هؤلاء العباد، كما ورد في الرواية:

«ما هو محجوب عنكم ، ولكن حجبه سوء أعمالكم »(4).

قال الشيخ الطوسيّ (460ه) :

«وفيه إشارة إلى أنّ من ليس له عمل سوء فلا فلا شيء يحجبه عن إمامه (علیه السلام)»(5).

وروي عن مروان الأنباريّ أنّه قال:

«خرج من أبي جعفر (علیه السلام) : إنّ الله إذا كره لنا جوار قوم، نزعنا من بين أظهرهم»(6).

ص: 179


1- سورة المائدة: 101 .
2- كمال الدين ،ص 436 ؛ الاحتجاج ،ص 263؛ بحار الأنوار، ج 52، ص 92، 279 ، ج 53، ص 181 ج 78، ص 380؛ غيبة الطوسيّ، ص 177.
3- کمال الدين، ص 53؛ بحار الأنوار، ج 51، ص 132، ج 52، ص 95، 96 ،289.
4- بحار الأنوار، ج 53، ص 321 .
5- بحار الأنوار، ج 53، ص 321.
6- بحار الأنوار، ج 52 ،ص 90 ؛ إثبات الهداة، ج 3، ص 447.

ص: 180

الباب السابع -المعاد

إشارة

المعاد الجسماني والروحاني

-منكرو المعاد في مواجهة تحدّيات تفنّد آراءهم

- منازل الآخرة

-الرجعة

-المصادر والمراجع

ص: 181

37.المعاد الجسماني والروحاني

إشارة

-مباحث عامّة حول المعاد

يتمحور البحث في هذا الفصل حول المواضيع الآتية:

1 ) إمكانية تحقّق المعاد.

2 ) كيفية تحقّق المعاد الجسماني والروحاني.

3 ) عالم البرزخ

4 ) عالم القيامة ومواقفه

قبل الخوض في تفاصيل هذه المباحث، نتطرّق أوّلاً إلى الحديث عن بعض المواضيع المرتبطة بها فيما يأتي:

- نمطية تصنيف المعتقدات.

المواضيع العقائديّة تصنف في ثلاثة أقسامٍ، هي:

القسم الأوّل: قضايا لا يمكن إثباتها إلّا عن طريق العقل وبالاعتماد على النصوص الدينيّة بحيث تستتبع حدوث الدور الذي يعني توقّف وجود الشيء على نفسه، مثل إثبات أنّ الله تعالى موجود لكون حجّيّة كلامه متوقفةً على وجوده.

القسم الثاني: قضايا لا يمكن إثباتها إلّا اعتماداً على النصوص الدينيّة (القرآن والحديث) نظراً لكونها جزئيةً، مثل درجات الجنّة وطبقات جهنّم.

ص: 182

القسم الثالث قضايا يمكن إثباتها عن طريق الدليلين العقليّ والنقليّ، مثل التوحيد والمعاد الروحاني.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ أهمّ المسائل المرتبطة بالمعاد تندرج في ضمن القسم الثالث من قبيل أهمّية الاعتقاد بالحياة بعد الممات وإثبات تحقّقها والردّ على شبهات منكريها ومعرفة نمط العلاقة بين الدنيا والآخرة وبيان طبيعة عالم البرزخ ويوم القيامة وكيفية الثواب والعقاب.

- أهمّية دراسة المعاد :

ثلث آيات القرآن المجيد تتمحور مواضيعها حول العوالم الأخرى والحياة بعد الممات، فالبارئ سبحانه وتعالى يروم من ذلك بيان أهمّية عقيدة المعاد لعباده، ويمكن تصنيف هذه الآيات كما يأتي:

أوّلاً: آياتٌ تؤكّد على وجوب الإيمان بالله تعالى وبيوم القيامة في آنٍ واحدٍ، ومنها قوله تعالى: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ»(1).

ثانياً: آيات تؤكّد على ضرورة الإيمان بالآخرة وتعتبره من ميزات خير العباد، ومنها قوله تعالى«الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ *أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ »(2).

ثالثاً: آيات تحذّر من عواقب إنكار المعاد، ومنها قوله تعالى: «وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا »(3).

[3]

رابعاً : آيات تخبر عن النعيم الذي يناله المؤمنون والعذاب الذي يطال الكافرين في

ص: 183


1- سورة البقرة، الآية 8.
2- سورة لقمان، الآيتان 4 و 5 .
3- سورة الإسراء، الآية 10 .

يوم القيامة، ومنها قوله تعالى: «وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ *أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ *فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ *ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ *وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ *عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ *مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ *يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ *بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ.»(1). وقوله تعالى: «وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ *فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ *وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ *لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ *إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ *وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ *وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ *أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ *قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ *لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ »(2).

خامساً: آياتٌ تدلّ على ارتباط الأعمال الحسنة والقبيحة بمصير الإنسان في يوم القيامة والحساب، ومنها قوله تعالى: «فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ *يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ »(3).

- حقيقة الخلود :

(خلود) يعادلها في اللغة الإنجليزية مصطلح (immortality) وهي تعني الحياة التي لا يكتنفها موتٌ، ولا فرق في ذلك بين كون المخلّد منعّماً أو معذّباً، إلّا أنّ المصطلح الإنجليزي فيه دلالة على المعنى السلبي لاستمرار الحياة.

ليس هناك اختلاف بين معنى الخلود ومفهوم الحياة بعد الموت، إذ كلاهما يدلّان على استمرار الحياة إلى الأبد ؛ ولكن هناك بعض التوجّهات الفكريّة لا تؤيّد هذا الأمر، كالبوذية التي يعتقد أتباعها بأنّ الإنسان يفنى بعد موته، حيث يقولون بأنّ الميّت بعد خروجه من دورة التناسخ سوف يلتحق بالنيرفانا (nirvana) ومن ثُمَ تنتهي حياته الشخصيّة.

ص: 184


1- سورة الواقعة، الآيات 10 إلى 18.
2- سورة الواقعة، الآيات 41 إلى 50.
3- سورة ص، الآيتان 25 و 26.

الخلود في الإسلام يعني بقاء شخصيّة الإنسان على حالها بعد الموت وفق مبدأ الهوهويّة، فالإنسان في الحياة الأخرويّة يُبعث بنفس شخصيّته الدنيويّة وخصالها التي تمتاز بها عن غيرها، إذ من المؤكّد أنّه لا يبقى مسوّغ للخلود بعد زوال الشخصيّة. إذن، هناك هوهويّةٌ ( عينيّةٌ) بين إنسان الحياة الدنيا وإنسان الحياة الآخرة.

- النزعة إلى الخلود :

إشارة

الإنسان بطبيعته تكتنفه نزعةٌ باطنيّة إلى الخلود من منطلق فطرته المستودعة في ذاته منذ لحظة خلقته في عالم التكوين، والنزعات الفطرية بدورها تتأرجح بين الشدّة والضعف على مرّ الأيام إثر مختلف الظروف الاجتماعيّة والنفسيّة والجغرافيّة.

هذه الرغبة الجامحة والشاملة تثير في نفس الإنسان إرادة البقاء وعدم الفناء، ومن جانبٍ آخر فإنّ الموت بدوره ينتاب الذهن البشري ويثير هواجسه أيضاً، إذ كلّ إنسانٍ على يقينٍ بأنّ حياته الدنيويّة ستصل إلى نهايتها وسيلاقي مصيره المحتوم يوماً ما بعد أن تطرق بابه المنّية التي لا مفرّ منها، وحينما تتبادر في ذهنه هذه الحقيقة يتساءل قائلاً: هل أنّ الموت نهاية للحياة وبداية لعدمٍ مطلقٍ ؟ من المؤكّد أنّ معتنقي الأديان السماويّة يؤمنون بحتميّة المعاد والحياة الأخرويّة، وهذه الأديان لها الريادة في ترويج فكرة الخلود بعد الموت.

من الجدير بالذكر هنا أنّ كثيراً من علماء النفس المعتقدين بالمسائل النفسيّة الميتافيزيقيّة في عصرنا الراهن يطرحون قضيّة ارتباط الروح الإنسانيّة بالقضايا الماورائيّة، وهو ما يطلق عليه (ADS) حيث يقولون إنّ أرواح الموتى من شأنها الارتباط مع الأحياء وإخبارهم بما يجري في ذلك العالم الغيبي. من المؤكّد أنّ الأديان التوحيديّة وعلى رأسها الإسلام، تتضمّن تعاليم أكثر شموليةً وتفصيلاً حول الحياة بعد الممات، وقد أخبرت أتباعها بوجود ارتباطٍ وطيدٍ بين الحياتين الدنيويّة والأخرويّة.

ص: 185

- حقيقة الشخصيّة الإنسانيّة:

إشارة

لا ريب في أنّ شخصية الإنسان هي الدعامة الأساسيّة وقوام الخلود في الحياة الآخرة، وعلى هذا الأساس فلا بدّ من معرفة كُنهها وماهيتها.

كلمة (شخصيّة) واحدةٌ من الألفاظ المشتركة التي لها أكثر من دلالةٍ، فأحياناً يراد منها طبيعة الإنسان النفسية ومشاربه الفكريّة، وهذا المعنى خارجٌ عن نطاق بحثنا. وأحياناً أخرى يقصد منها الهوية الفردية المشخّصة للإنسان بذاته والتي تعدّ محور دلالة الضمير ( أنا ) ، أي إنّها حقيقة الأنا؛ وهذا المعنى هو محور بحثنا .

الإنسان طوال حياته الدنيويّة ومن خلال مختلف تجاربه، يواجه تغييراتٍ عديدةً تسفر عن حدوث تحوّلاتٍ في شخصيّته، ومن الممكن أن تطرأ هذه التحوّلات في الحياة الأخرويّة أيضاً؛ إلّا أنّ هويته تبقى على حالها دونما أيّ تغيير وفق مبدأ الهوهوية.

هناك أربع نظريات أساسية طرحت لبيان معيار هوهويّة الشخصيّة، هي(1):

النظرية الأولى: انعدام شخصية الإنسان

نحا بعض العلماء المادّيين منحىً متطرّفاً بالنسبة إلى مصير شخصيّة الإنسان بعد الموت، كالفيلسوف ديفيد هيوم الذي ادّعى زوالها واضمحلال الهويّة الفرديّة بعد الموت مشبّهاً ابن آدم بالآلة التي تتلاشى بتلاشي أجزائها، إذ عدّ وحدته وحدة اعتباريّة وليست حقيقيّة، وقال إنّ ذهن الإنسان ليس سوى سلسلة من الإدراكات المتوالية.

وللفيلسوف ديكارت عبارة شهيرة بهذا الخصوص، وهي: «أنا أُفكّر، إذن أنا موجودٌ»، لكنّها في الواقع استنتاج خاطئ وعارٍ من الصواب، لأنّ التفكير هو عين وجود الإنسان ولا يمكن القول بأنّ الإنسان موجودٌ ويفكّر، فهو موجودٌ مفكّرٌ ؛ وشخصيّته على هذا الأساس ليست سلسلة اعتباريّة من الأفكار والتصوّرات المتوالية.

ص: 186


1- مرتضى مطهّري، معاد (باللغة الفارسية)؛ رضا أكبري ،جاودانگي (باللغة الفارسيّة)، ص 76.

المزاعم الواهية التي بدرت من بعض الفلاسفة والمفكرين من أمثال هيوم و ديكارت، تتعارض مع الوجدان الذي يدرك مفهوم الشخصيّة بعلمه الحضوريّ، إذ كلّ إنسان يعرف نفسه معرفةً حضوريّةً، وهذه المعرفة عبارة عن إدراكٍ واحدٍ بسيطٍ وبديهيٍّ لايمكن إنكاره بتاتاً.

وأما بالنسبة إلى الأفكار والتصوّرات التي تراود ذهن الإنسان، فهي ليست مطلقة لكونها متعلقات ترتبط بشخصيته؛ لذا لو فرضنا أن شخصين اجتمعا في مكانٍ واحدٍ وطلب منهما تصوّر الكعبة المشرّفة في آنٍ واحد، فلا يمكن ادّعاء أنّ تصوّرهما واحد، بل ما حدث هو في الواقع تصوّران في وعاءين ذهنيين مختلفين، إذ إنّ تصوّر كلّ واحدٍ منهما متعلّق بذاته وشخصيته. إذن ،هذان التصوّران ليسا مطلقين لكون كل واحدٍ منهما يرتبط بشخصيةٍ وهويّةٍ بالتحديد، ودواليك سائر الأفكار والتصوّرات الذهنية.

إذا ذهبنا إلى القول باعتبارية الشخصية الإنسانية، يترتّب عليه أنّ شخصية الإنسان مركبة من تصوّراتٍ وأفكارٍ متواليةٍ؛ لكنّ الواقع على خلاف ذلك تماماً.

النظرية الثانية: البدن هو شخصيّة الإنسان :

برأي العلماء المادّين فإنّ بدن الإنسان هو المناط لهويّته الشخصيّة، واستدلّوا على رأيهم بالمثال الآتي: زيدٌ قبل شهر هو زيد بذاته اليوم، وبعد شهرٍ أيضاً سيبقى هو هو، ولكن هذا البقاء مشروط ببقاء بدنه على أرض الواقع ؛ لذا بما أنّ بدنه موجود على أرض الواقع فهو عين شخصيّته (هوهويّته) في كلّ زمانٍ.

إذن، حسب رأي هؤلاء فإنّ شخصيّة الإنسان هي ذات بدنه الذي نلاقيه في الخارج، وهذا الرأي يدلّ بوضوح على نفي الوجود الإنساني المجرّد ويؤكّد على كون حقيقته مادّيةً محضةً، ومن ثَمَّ تكون شخصيته متعلّقة ببدنه فقط؛ ومن المؤكّد أنّ هذه الرؤية المادّية البحتة منبثقةٌ من النزعة الوضعية .

ص: 187

أمّا الفلسفة الدينيّة - ولا سيّما الإسلاميّة - فهي من خلال استدلالاتها العقليّة أثبتت وجود النفس المجرّدة المتعلّقة بالبدن، ومن ثَمَّ فنّدت نظرية الشخصيّة المادّية.

لذا، رأي المادّيين الذي ذهبوا على أساسه إلى تقييد الشخصيّة الإنسانيّة بالبدن، يمكن نقضه حسب تعاليم الحكمة الإسلاميّة كما يأتي: إذا ادّعيتم أنّ البدن المادّي في الحياة الدنيا هو الشخصيّة الحقيقيّة للإنسان، فكيف تبرّرون قوانينكم وأحكامكم التي تنصّ على وجوب معاقبة المجرمين بعد ارتكابهم الجرائم حتّى وإن اعتقلوا بعد فترةٍ طويلةٍ قد تدوم عشرات السنين ؟! من المؤكّد أنّ هذه المدّة الزمنية شهدت اضمحلال الخلايا البدنية التي كانت في جسم المجرم أثناء ارتكاب الجريمة، وحسب القوانين الطبيعيّة ومبادئ علم الأحياء فقد استبدلت بالكامل وحلّت محلّها خلايا جديدة لم تكن موجودةً آنذاك بحيث يمكن القول إنّ أعضاء جسمه قد استبدلت بأعضاء جديدة. فيا ترى كيف تُعاقب أعضاء لم ترتكب أية جنحةٍ؟!

حتّى وإن لم تتغيّر الجينات الوراثية للبدن وبقيت البُنية العامّة المكوّنة لأعضائه الداخلية على حالها، إلّا أنّ حقيقة خلاياها قد تغيّرت بعد أن استقرّت في زمانين مختلفين داخل جسمين مادّيين متشابهين من حيث الهيئة ، وعلى هذا الأساس انتفت هوهويتها .

بناءً على ما ذكر لا يمكن مطلقاً إثبات شخصيّة الإنسان وهوهويته الثابتة طبقاً لمكوّنات بدنه المادّي من خلايا وجينات وراثية.

النظرية الثالثة : الذهن هو شخصية الإنسان :

استدلّ أصحاب هذه النظرية على رأيهم كما يأتي: لو أنّ زيداً قبل شهرٍ امتلك أحاسيس وتصوّرات ورغبات وارتكازات ذهنية خاصة بحيث بقيت راسخةً في ذهنه اليوم وبعد شهر من الآن، فهذا دليل على كون ذهنه هو شخصيته وهويته، أي إنّ هوهويّة الذهن وخصائصه هي ذات هوهوية الشخصيّة وخصائصها(1).

ص: 188


1- جون لوك ،رساله در باب فاهمه بشر (باللغة الفارسية)، الفصل 27 .

هذه النظرية هي الأخرى لا تصمد أمام الأدلّة الدامغة التي تنقض متبنّياتها، فالإنسان غالباً ما ينسى كثيراً من أفعاله وذكرياته ، وبعضها الآخر يمحى بالكامل من ذهنه، لكن مع ذلك فهو يدرك هوهويّته الشخصيّة، ناهيك عن أنّ المعيار الذهنيّ هو نفس المعيار البدني المذكور في النظريّة الثانية لكونه لا يدلّ إلّا على التشابه والانطباق بين الأعضاء طوال حياة الإنسان.

لنفترض أنّ شخصين أحدهما زيد تطابقت تصوّراتهما، وهذه التصوّرات تناظر أيضاً ما في أذهان عددٍ آخر من الناس؛ فهل يمكن القول حينئذ إنّ زيداً وذلك الشخص وكلّ أولئك الذي اتسقت تصوّراتهم معهما، يمتلكون شخصيةً واحدةً؟! أي هل من الممكن القول بأنّ هوهويّة هؤلاء هي عين هوهويّة زيد؟!

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ البعض ذهبوا إلى القول بكون الذهن والبدن معاً يكونان شخصيّة الإنسان (1)، وهذا الرأي يرد عليه ما ورد على الرأيين السابقين، وغاية ما يمكن أن يثبته هو وجود تشابه بين إنسانين أو أكثر في بعض الخصال النفسيّة، وهذا بمعنى أنّ التصوّرات يمكن أن تكون واحدةً لكنّ الذهن ليس واحداً، والأعضاء أيضاً تكون متشابهةً من حيث الهيئة فقط ؛ فكلّ إنسان له ذهنه الخاصّ وأعضاؤه التي يمتاز بها عن غيره.

إذن، الذهن البشري والأعضاء البشريّة المادّية، ليس من شأنها الحفاظ على وحدة شخصيّة الإنسان في الدنيا والآخرة.

النظرية الرابعة : النفس هي شخصية الإنسان :

هذه النظرية هى الأكثر شيوعاً من بين سائر النظريات التي طرحت على صعيد بيان حقيقة الشخصيّة الإنسانيّة وهوهويّتها، والاستدلال فيها كما يأتي : زيد قبل شهر

ص: 189


1- للاطلاع أكثر ،راجع :مهدي بازركان ،راه طي نشده (باللغة الفارسية).

هو نفسه الآن، وبعد شهر سيبقى كذلك شريطة أن تكون نفسه واحدةً، والمراد من النفس هنا الجوهر المجرّد المتّحد مع البدن على نحو ما؛ وبناءً على هذا تكون النفس هی الهوية الحقيقة للإنسان والمناط الأساسي لشخصيّته وهوهويّته.

تأثير الاعتقاد بالمعاد على الحياة :

الاعتقاد بالمعاد له دور كبير في شتّى الشؤون الحياتيّة للإنسان، ولا سيّما على صعيد تعيين مصيره فهو نظير الاعتقاد بالتوحيد والنبوّة وتأثيره يبدو جليّاً فى مجال الأنثروبولوجيا، فالاعتقاد به يجعل الإنسان مؤمناً بهدفٍ نبيلٍ غير محدود بإطار المادّة وهويةٍ خالدةٍ تفوق أُطر الحياة الدنيا الفانية، كما أنّه ذو تأثير لا ينكر على القيم والأصول المثلى.

لا ريب في أنّ الإنسان الذي لا يؤمن بالحياة الخالدة، يعجز عن بلوغ الدرجة المطلوبة من الفضل مهما كان نزيهاً ومثالياً وعادلاً ومؤثّراً على نفسه ومحسناً للآخرين، بل حتى لو دافع عن العدل وقارع الظلم فسوف يبقى يعاني من نقص في شخصيّته؛ فهو وإن امتلك درجةً من الفضل، لكنّ فضله هذا يظلّ محدوداً في نطاق حياته الدنيويّة فحسب. وهو كذلك عاجز عن ذكر جواب للسؤال الآتي : ما السبب الذي يدعو الإنسان لمراعاة الأخلاق الحميدة والسعي لأن يصبح فاضلاً كريماً في هذه الحياة الفانية؟

ومن المؤكّد أنّ الفضيلة لا معنى لها إلّا في ظلّ اعتقاد الإنسان بالحياة بعد الممات.

ومن الآثار الأخرى التي تترتب على الاعتقاد بالمعاد في الحياة الآخرة، أنّ الإنسان ينزع إلى الدفاع عن كافّة القوانين الاجتماعيّة والحقوقيّة والأخلاقيّة والثقافيّة، إذ إنّ الإيمان بالبعث والحساب في العالم الآخر يحفّزه على الامتثال لهذه القوانين ومن ثمّ تطبيقها بأحسن وجهٍ وفي الحين ذاته يمنحه القدرة اللازمة لمقارعة الباطل ومواجهة الهجمات الثقافيّة المحمومة.

ص: 190

-آثار الاعتقاد بالمعاد من زاويةٍ قرآنيةٍ :

هناك عدد من الآيات المباركة التي تطرقت إلى مسألة المعاد في الكتاب الحكيم في ضمن مباحث عديدة، ونذكر منها ما يأتي على سبيل المثال لا الحصر:

*اجتناب الشرك وأداء الأعمال الصالحة «قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا»(1).

*تقديم العون المادّي للمحرومين وخشية الله تعالى: «وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا *إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا *إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا »(2).

*عبادة الله تعالى وحده وعدم الشرك به : «وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ *أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ»(3).

*إقامة الصلاة وأداء الطاعات وعدم التكذيب بالمعاد: «كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ *إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ *فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ *عَنِ الْمُجْرِمِينَ *مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ *قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ *وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ *وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ *وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ *حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47)»»(4).

*عدم إجحاف الناس حقوقهم الاقتصادية : «وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ *الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ *وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ *أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ *لِيَوْمٍ عَظِيمٍ *يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ »(5).

ص: 191


1- سورة الكهف، الآية 110 .
2- سورة الإنسان ،الآيات 8 إلى 10.
3- سورة يس ،الآيتان 22 و 23 .
4- سورة المدثر، الآيات 38 إلى 47.
5- سورة المطففين، الآيات 1 إلى 6.

*رقّة القلب والرحمة بالعالمين ولا سيّما الأيتام والمساكين: «أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ *فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ *وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ »(1).

*عدم التبجّح في إنكار يوم القيامة بذريعة استحالة إحياء البدن بعد الممات : «لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ *وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ *أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ *بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ *بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ *يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ»(2).

* الدور النفسي للمعاد: «الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ *إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ *أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ »(3).

الدور التعبوي للمعاد: «لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ *إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ.»(4). « ... قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ»(5).

- ماهية الحياة بعد الموت :

طرحت مجموعة من الآراء حول طبيعة الإنسان في الحياة الأخرى من قبل المعتقدين بعدم فنائه بعد الممات، وأكثرها شهرةً وشيوعاً الآراء الثلاثة الآتية: التناسخ، انبعاث الروح (المعاد الروحاني) ، انبعاث الجسم (المعاد الجسماني).

ص: 192


1- سورة الماعون، الآيات، 1 إلى 3 .
2- سورة القيامة، الآيات 1 إلى 6.
3- سورة النمل الآيات ،3 إلى 5 .
4- سورة التوبة، الآيتان 44 و 45.
5- سورة البقرة، الآية 249 .

وفيما يأتي نتطرّق إلى بيانها بشكلٍ إجماليٍّ :

أولاً : التناسخ:

كلمة (تناسخ)(1) مشتقّةٌ من مادّة (نسخ)، وتعني الانتقال لغةً؛ وأمّا اصطلاحاً فهي تدلّ على انتقال النفس من بدن إلى بدنٍ آخر .

عقيدة التناسخ شائعةٌ بين بعض الأديان والمذاهب الشرقية وبما فيها البراهماتية والهندوسية والبوذية، فأتباع هذه الأديان يعتقدون بصور عديدة لهذا الأمر، منها بقاء الروح تدور في فلك التناسخ إلى الأبد منتقلة من بدن إلى آخر، ومنها حلولها في بدن حيوان وبعد ذلك استقرارها في نباتٍ ومن ثَمَّ انتقالها إلى أحد الجمادات، في حين يرى آخرون أنّ هذه العلمية تتم معكوسةً.

حسب المعتقدات البوذية لا بدّ للإنسان من البقاء في عناء آلام التناسخ المضنية ما لم يطهّر نفسه من الآثام ويجرّدها من الرغبات والطموحات التي لا تتناسب مع تعاليم البوذا، وعلى هذا الأساس فالروح الطاهرة فقط تلتحق بالنيرفانا بعد الموت لتنال الطمأنينة الأبدية (2). أمّا الفلاسفة وعلماء الكلام المسلمون والغربيون فقد رفضوا عقيدة التناسخ وساقوا براهين عديدة لتفنيدها.

-المعاد الروحاني:

يرى الباحثون أنّ الحكيم أفلاطون هو الرائد في طرح عقيدة المعاد الروحاني، (3)إذ كان يعتقد بأنّ الروح ترتقي إلى حضرة القدس بعد الموت فتنعم بحياة أبدية هناك(4).

ص: 193


1- transformation.
2- فريد وجدي ،دائرة المعارف، ج 2، ص 388.
3- Disem boclieds soul.
4- فايدون ،مجموعة آثار أفلاطون (باللغة الفارسية)، ص 499 - 515 .

هذه الرؤية شهدت تغييراً من قبل الرئيس ابن سينا الذي كان يعتقد بأنّ القوة العقليّة (العاقلة) للإنسان هي الوجود المجرّد الوحيد بين سائر القوى النفسانية وهي التي تبقى بعد الموت.

يؤكّد أتباع المعاد الروحاني على أن النفس الناطقة حينما تأنس بكمالاتها المعنوية في حياتها الدنيوية فسوف تحظى بلذّةٍ ونعيمٍ في الحياة الآخرة، لكنّها إن انهمكت في الملذّات المادّية ستواجه آلاماً وهموماً فور نهاية الحياة المادّية ومن ثمّ تفقد كلّ تلك الكمالات المادّية التي كانت تنعم بها في الحياة الدنيا (1).

وقد أيّد ابن سينا المعاد الجسماني على أساس القول الصادق المصدّق، أي كلام النبيّ الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) (2) ، في حين أنّ الفيلسوف الغربي ديكارت أكّد على ثلاث حقائق في منظومته الفلسفيّة، وهي الله والنفس والجسم، حيث استنتج أنّ النفس تمتلك شعوراً لكنّها مجرّدةٌ عن الأبعاد ، لكنّ الجسم مفتقدٌ لخصائص الروح، لذا تكون النفس غير مادّيةٍ ولا يمكن أن تفنى بعد فناء الجسد.

يمكن القول إنّ نظرية ديكارت تعود في أساسها إلى نظريّة أفلاطون التي اعتبرت الجسم والنفس جوهرين مستقلّين عن بعضهما(3).

- المعاد الجسماني :

المقصود من المعاد الجسماني هو حياة الإنسان الأخروية بهيئةٍ جسمانيةٍ مادّيةٍ أو جسمانيةٍ مثاليةٍ.

أصحاب الحكمة المتعالية رجّحوا الجسم المثالي على الجسم المادّي واعتبروه أكثر احتمالاً وأقرب إلى الحقيقة ومن ثَمَّ فهو أنسب للاتّصاف بالجسمية من المادّي.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ نظرية المعاد الجسماني تعدّ إحدى أقدم النظريات التي

ص: 194


1- ابن سينا ،الشفاء، كتاب النفس، المقالة الأولى، الفصل الأوّل، ص 6 - 10.
2- المصدر السابق ،الإلهيّات ،الفصل السابع، ص 423 .
3- دیکارت ،تأملات در فلسفة أوّلي (باللغة الفارسية)، التأمّل السادس.

تمحورت حول خلود الإنسان، وهناك شواهد عديدة على هذا الأمر ومنها الآثار المكتشفة في مختلف بقاع العالم، إذ عثر على أدوات حربية وموادّ غذائية في القبور التي دفن فيها إنسان النياندرتال وسائر الأمم التي تضرب بجذورها في عهود ما قبل التأريخ، كذلك المومياءات التي تعجّ بها مقابر الفراعنة في مصر والتي دفن معظمها في الأهرامات المزوّدة بشتّى الوسائل المادّية التي اعتقد المصريون القدماء بأنّها ستكون مفيدةً لهم في حياتهم الأخروية، وكذا هو الحال بالنسبة إلى حضارة ما بين النهرين التي عثر فيها على عددٍ من الوسائل المادّية في المقابر ؛ فهذه الأمور صوّرت في ذهن الإنسان المعاصر وجود حياةٍ مادّيةٍ أخرى بعد الحياة الدنيوية.

ولو ألقينا نظرةً إجماليةً على الأديان التوحيدية المعروفة كالإسلام والمسيحية، نجد أتباعها قد انقسموا إلى فئتين، فمنهم من ذهب إلى القول بمبدأ المعاد الروحاني ومنهم من قال بالمعاد الجسماني؛ وأحد الأسباب التي دعت بعض المسلمين للقول بالمعاد الجسماني ما جاء في القرآن المجيد على لسان النبيّ موسى (علیه السلام): «وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا *ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا»(1).

تعاليم الديانة المسيحية أعارت أهميةً كبيرةً لمسألة الحياة بعد الممات، ومن جملة ذلك ما ورد في رسالة القديس بولس إلى نصارى مدينة فيلبي الواقعة شمالي بلاد الإغريق حيث جاء فيها: «فَإِنَّ سِیرَتَنا نَحْنُ هِيَ فِي السَّمَاوَاتِ الَّتِي مِنْهَا أَيْضًا نَنتَظِرُ مُخَلّصًا هُوَ الرَّبُّ يَسُوعُ المَسِيحُ ، * الَّذِي سَيُغَيِّرُ شَكْلَ جَسَدِ تَوَاضُعِنَا لِيَكُونَ عَلَى صُورَةِ جَسَدِ مُجدِه، بِحَسَبِ عَمَلِ اسْتِطَاعَتِهِ أَنْ يُخْضِعَ لِنَفْسِهِ كُلََ شَيْءٍ »(2).

الديانة اليهودية هي الأخرى أكّدت على مبدأ المعاد الجسماني، إذ ذكر في العهد القديم وفي كتاب دانيال بالتحديد أنّ الموتى سيبعثون في فئتين، فبعضهم سيبعث للخلود والبعض الآخر للذلّة والتوبيخ (3).

ص: 195


1- سورة نوح، الآيتان 17 و 18.
2- رسالة القدّيس بولس إلى أهل فيلبي ،الإصحاح الثالث، الفقرتان 20 و 21.
3- العهد القديم ،كتاب دانیال 12 / 20.

إذن، النصوص المقدّسة لمختلف الأديان لها دورٌ كبيرٌ في طرح مسألة المعاد الجسماني بين أتباعها.

-نظريات المعاد الجسماني :

إشارة

طرحت مجموعة من النظريات والآراء حول كيفية تحقّق المعاد الجسماني في الحیاة الآخرة، ونشير إلى بعضها فيما يأتي:

1) نظرية إعادة المعدوم :

بعض علماء الكلام الأشاعرة من أمثال أبي الحسن الأشعري والباقلاني وعبد القاهر البغدادي، وعدد من متكلّمي المعتزلة من أمثال الضراء بن عمرو والكعبي وأبي علي الجبائي وابنه أبي هاشم؛ ذهبوا إلى أنّ النفس عبارةٌ عن كائن مادّي أو عرضي من أعراض الجسم بحيث يزول مع زواله، لأنّ العرض متقوّم بوجوده على الجسم الذي يحلّ فيه وبطبيعة الحال فإنّه سيفنى لمجرّد فناء هذا الجسم، ولكنّه سيخلق مرّةً أخرى في القيامة من قبل الله تعالى.

باعتقاد أتباع هذه النظرية فإنّ المعدوم يمكن أن يخلق مرّةً أخرى وقد أقاموا أدلّة تدعم رأيهم هذا.

أهمّ مؤاخذةٍ تذكر على هذه النظرية هي استحالة إعادة المعدوم من جديد، فبعض الفلاسفة من أمثال ابن سينا اعتبروا استحالة إعادة المعدوم من البديهيات، ومع ذلك فقد استشهد ببراهين عدّة لإثبات بداهة هذه الاستحالة(1).

ص: 196


1- من البراهين التي استشهد بها العلماء لتفنيد مسألة إعادة المعدوم ما يأتي: «لو جاز للمعدوم في زمان أن يعاد بعينه في زمان آخر، لزم من ذلك تخلّل العدم بين الشيء ونفسه؛ وهو محالٌ لأنّه حينئذٍ يكون موجوداً بعينه في زمانين تخلّل بينهما عدم، أي إنّه في الحقيقة تقدّم زمانياً على وجوده، وحسب القاعدة فإنّ تقدّم الشيء على نفسه محالٌ».
2)نظرية النسخة البديلة.

نظرية النسخة البديلة (1).

نظرية النسخة البديلة (طبق الأصل) قريبة في دلالتها إلى نظرية إعادة المعدوم، وقد طرحها اللاهوتي البريطاني المعاصر جون هيك (2) ، ونظريته هي : الصورة الوحيدة التي يمكننا ادّعاء أنّ الإنسان (ب) نسخةٌ طبق الأصل للإنسان (أ) مشروطةٌ بأن يتصف (ب) بثلاث خصائص، هي:

الأولى: أن يكون شبيهاً ل (أ) من حيث الصفات البدنية والذهنية بالكامل، من قبيل الذكريات والمعتقدات ولون الشعر والطول والبصمات والأحشاء الداخلية، وما إلى ذلك .

الثانية : أن يكون النسخة الوحيدة ل (أ) لا غير.

الثالثة: أن لا يكون موجوداً مع (أ) في آنٍ واحدٍ.

وقد وضّح هذا الفيلسوف نظريته على النحو الآتي: «الإنسان (أ) يموت وتظهر نسخته الأخرى بنفس خصائصه في عالمٍ آخر يختلف بالكامل عن هذا العالم المادّي وفي مكان آخر بعيد عن كلّ مكانٍ في هذا العالم.

حينما نريد أن نحكي الكلام التالي على لسان (أ) نقول : (إنّني انتبهت من نومةٍ كتلك النومة التي كانت تسلب منّي الشعور بما حولي في عالم الدنيا، فقد انتبهت من عدم الشعور .عندما استيقظت من موتي تذكّرت أنّني كنت راقداً في فراش الموت وقد صحوت الآن في عالم مختلف بالكامل عمّا سبقه) »(3).

المؤاخذة الأساسية التي تطرح على هذه النظرية هي أنّها تنفي الهوهوية الشخصية،

ص: 197


1- Replica.
2- John Hick.
3- رضا أكبري ،جاودانگی (باللغة الفارسية)، ص 240 - 245.

إذ تؤكّد على كون النسخة البديلة (ب) هي نسخة مطابقة للنسخة الأصيلة (أ) فقط وليست بذاتها، لذا لا يمكن على أساسها إثبات الهوية الفردية للنسخة الأصيلة، وتوضيح ذلك كما يأتي :

النسخة البديلة لا يمكنها أن تتحمّل مسؤولية أعمال النسخة الأصيلة، إذ إنّ الإنسان حسب التعاليم والمقرّرات الدينيّة سوف ينال جزاء أعماله الدنيوية الحسنة والقبيحة في حياته الأخروية، لذا إمّا أن ينال حُسن العقبى أو يطاله عذابٌ أليمٌ تجاه تلك الأعمال الشنيعة التي ارتكبها في حياته؛ في حين أنّ نظرية جون هيك تؤكّد على أنّ المعذّب والمنعّم في يوم القيامة هو شخص آخر شبيهٌ ( بديلٌ ) عمّن بدرت منه الأعمال الدنيوية.

إذن، الذي يحشر في الحياة الآخرة لم يرتكب أيّ ذنبٍ كي يستحقّ العذاب ولم يفعل أيّ حُسنٍ كي يستحقّ الثواب، أي إنّه ليس الفاعل.

3) نظرية الجسم المثالي :

الحكيم المسلم صدر الدين الشيرازي المعروف ب (صدرالمتألّهين) بعد أن أثبت أصالة الوجود وأكّد على أنّه من الحقائق المشكّكة ، طرح نظرية الحركة الجوهرية التي تدلّ على وجود حركةٍ باطنيةٍ غير محسوسةٍ في جواهر الأشياء فضلاً عن الحركات الظاهرية والمحسوسة .فهي حركةٌ تكامليةٌ مصدرها استعداد الأجسام لامتلاكها، أي إنّ المتحرّك يسير نحو التكامل على أساس هذه الحركة.

من المباحث الأخرى التي تطرّق هذا الحكيم المتألّه إلى شرحها وتحليلها، هي العلاقة الموجودة بين النفس والبدن، إذ استنتج أنّهما ليسا جوهرين متمايزين عن بعضهما، فالنفس برأيه ثمرةٌ للحركة الاشتدادية والتكاملية المكنونة في البدن، والبدن بدوره هو أحد مراتب النفس، وهذه النفس خلال مسيرتها التكاملية تصبح في غنىً عنه شيئاً فشيئاً ومن ثمّ تنفصل عنه بالكامل.

ص: 198

يرى هذا الفيلسوف أنّ تصوّر جسم بلا مادّةٍ لا يمسّ بجسميّته، كما يعتقد بأنّ النفس هي الهوهوية الشخصية للإنسان، وعلى هذا الأساس إن تعلّقت ببدن مثاليٍّ فلا يحدث خلل في الهوهوية الشخصية؛ فهي التي توجد البدن عبر حركتها الجوهرية والاشتدادية، ومن ثمّ تبدأ بالانفصال عنه تدريجياً إلى أن تنقطع عنه بالكامل.

ويرى هذا الحكيم المتألّه أنّ قوّة التصوّر لدى الإنسان هي عبارة عن جوهرٍ مجرّدٍ ومرتبةٍ من مراتب النفس، وبعد انفصال النفس عن البدن تتزايد قدرتها على التصوّر ممّا يعني تزايد هذه القوّة الجوهرية.

وقد أكّد على أنّ النفس الإنسانية تتجلّى في يوم القيامة على أساس الإدراكات والملكات التي اكتسبتها في الحياة الدنيا فينشأ إثر ذلك جسمٌ مثاليٌّ.

إذن، نظرية الجسم المثالي تؤكّد على أنّ البدن مرآة للنفس وانعكاسٌ لها (1).

هناك تفسيرٌ آخر للمعاد الجسماني في الحكمة المتعالية، وهو: الجسم المثالي ينشأ إثر الحركة الجوهرية والتكاملية للجسم المادّي، أي إنّ الإنسان يمتلك جسمين أحدهما مادّي والآخر مثالي، وهما موجودان في آنٍ واحدٍ في الحياة الدنيا، ولكن بعد الموت يفنى الجسم المادّي ويبقى المثالي ؛ وعلى الرغم من أنّ الثاني ينشأ من جوهر الأوّل، لكنّ هيئته تتكوّن تدريجياً من أفعال الإنسان وملكاته النفسية.

الجسم المادّي حسب هذه الرؤية يفقد ارتباطه بالنفس عندما ينفصل عنها إثر الموت(2).

النصوص الدينيّة تصوّر عالم الآخرة بشكلٍ مختلف عن عالم الدنيا، ومن هذا المنطلق فالأحكام والمقرّرات التي تتّخذ في ذلك العالم متقوّمةٌ على أعمال الإنسان في

ص: 199


1- للاطلاع أكثر، راجع :صدر الدين الشيرازي، الحكمة المتعالية في الأسفار الأربعة، ج 9، ص 35.
2- للاطلاع أكثر ،راجع :روح الله الموسوي الخميني، معاد (باللغة الفارسية).

هذا العالم، فالقرآن الكريم يعتبر الدنيا دار عمل والآخرة دار جزاء، لذا ليس هناك مجال للتوبة من المعاصي إلّا في هذه الحياة فقط إذ لا وجود لها في الحياة الآخرة.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ الدنيا عبارة عن نظام مرتكز على الحركة والتكامل، في حين أنّ الآخرة نظام مرتكز على الأعمال والملكات النفسانية الدنيوية.

وحسب التعاليم الدينيّة فإنّ جميع الكائنات الحيّة في الدنيا العالم ستنبعث فيها الحياة في الآخرة لدرجة أنّ أعضاء الإنسان وجوارحه ستشهد له أو عليه جرّاء ما فعل في حياته الدنيوية، وعلى هذا الأساس لا يمكن لبدن الإنسان أن يتواجد في القيامة بنفس خصائص حياته الأولى التي تطغى عليها الميزة الدنيوية(1).

براهين إثبات المعاد :

يمكن إثبات تحقّق المعاد والحياة الأخروية ببراهين عقليّة ونقليّة على حدٍ سواء، لذا ليس من الحريّ غضّ النظر عن الأدلّة العقليّة والاكتفاء بما جاء في النصوص الدينيّة ولا سيّما القرآن الكريم لكونه كلام الله تعالى؛ إذ من المؤكّد أنّ الكتاب الحكيم يؤيد القضايا التي تثبت بالبراهين العقليّة القاطعة.

ومن الجدير بالذكر هنا أنّ القرآن الكريم تضمّن عدداً من الآيات التي أثبتت تحقّق المعاد بالأدلّة العقلية، إذ أكّدت على ضرورة وجود حياةٍ آخرة تلي الحياة الدنيا وأثبتت عدم استحالة البعث والمعاد بحكم العقل والبرهان.

قبل أن نتطرّق إلى بسط الأدلّة العقليّة والتجريبية التي تثبت وقوع المعاد بعد الممات، سنسلّط الضوء على بعض جوانبه ونبيّن طبيعته ومفاهيمه وبعض أدلّته وشواهده التأريخية في رحاب القرآن الكريم في ضمن خمس نقاطٍ في المبحث الآتي:

ص: 200


1- للاطلاع أكثر ، راجع :جلال الدين آشتياني مقالة تحت عنوان :تحقیق در معاد جسماني (باللغة الفارسية)، مجلة (الهيات)، جامعة مشهد العدد 6 .

المعاد فی القرآن الکریم:

إشارة

كتاب الله الحكيم أعار أهميةً بالغةً لمسألة المعاد وتحدّث عنها من عدّة زوايا، وفيما يأتي نذكر جانباً منها :

1) ألفاظ المعاد في القرآن الكريم :

كلمة (معاد) لغةً مصدر ميمي مشتقّة من جذر (عود)، وتعني الرجوع.

بعض العلماء عدّها اسم مكانٍ يدلّ على محلّ العودة، فيما ذهب آخرون إلى أنّها اسم زمانٍ يدلّ على وقت تحقّقها .

أمّا اصطلاحاً فهي تعني الانتقال من عالم الدنيا إلى عالم الآخرة، بمعنى تحوّل الحياة الدنيوية إلى أخروية عن طريق عودة الحقيقة الإنسانية الدنيوية في عالم الآخرة.

هناك عدد من التعابير والمصطلحات القرآنية التي تدلّ على البعث والحياة بعد الممات، ومنها ما يأتي:

قيام الساعة (الروم / (12) ، إحياء الموتى (الحج / 7) ، النشر (فاطر / 9 ) ، المعاد (الأعراف / 29 )، لقاء الله (يونس / 45 )، الرجوع (العنكبوت / 57 ) ، يوم القيامة (الأنبياء / 47 ) ، اليوم الآخر (البقرة / 177) ، يوم الحساب (غافر / 27)، يوم الدين (الحمد /4 )يوم الجمع (التغابين / 9) ، يوم الفصل (النبأ / 17)، يوم الخروج (ق / 42)، اليوم الموعود (البروج / 2 )، يوم أليم (هود / 26) ، يوم عسير (الفرقان / 26) ،اليوم الحق (النبأ / 39) ، يوم ابتلاء السرائر (الطارق / 9)، يوم لا ريب فيه (آل عمران / 9) ، يوم يقال لجهنّم هل امتلأت ؟( ق / 30) ، يوم عضّ الظالم على يديه (الفرقان / 27) ، يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ( غافر / 52) يوم صيرورة الولدان شيباً (المزمّل / 1) ، يوم فرار المرء من كلّ ما حوله (عبس / 34) ، يوم الشرّ المستطير

ص: 201

(الإنسان / 7 ) ،يوم لا تجزي نفس عن نفس شيئاً (البقرة / 48)، يومٌ لا تملك فيه نفس لنفس شيئاً (الانفطار / 19) ، يوم ابيضاض وجوه واسوداد أخرى (آل عمران / 106)، يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون (الشعراء / 88)، يوم تذكّر الإنسان سعيه (النازعات / 35)، يوم إحضار كلّ عمل بدر من النفس (النبأ / 40 )، يومٌ مقداره ألف سنة (المعارج / (4) ، يوم النفخ في الصور (الأنعام / 73 )، يوم تبدّل الأرض والسماء (إبراهيم / 48).

2) القدرة الإلهيّة المطلقة :

بعد إثبات أنّ الله عزّ وجلّ ذو قدرةٍ مطلقة وغير متناهية على أساس أسمائه الحسنى وصفاته الجلالية بحيث تعمّ قدرته عالم الممكنات بمادّياته ومجرّداته، بطبيعة الحال يمكن إثبات كلّ ما يترتّب على هذه العمومية من قضايا، لذا بما أنّ عالم الحشر والحياة بعد الممات جزء من عالم الممكنات فهو مشمول أيضاً بهذه القاعدة ومن ثَمَّ ليس هناك أيّ مانعٍ من تعلّق القدرة الإلهيّة به وتحقّقه على أرض الواقع لكون هذه القدرة المطلقة تتعلّق بجميع العوالم من دون استثناء في كلّ آنٍ ومكانٍ بما في ذلك الحياة الأخروية.

ومن الآيات التي تثبت هذه الحقيقة الثابتة قوله تعالى: «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ *وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ»(1).

وفي بعض الآيات استخدم الكتاب الحكيم تعابير بسيطة لإثبات تحقّق المعاد بعد الممات، كقوله عزّ شأنه : «وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ *وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ *وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ »(2).

ص: 202


1- سورة الأحقاف، الآيتان 33 و 34 .
2- سورة الروم، الآيات 25 إلى 27 .

ومن جملة الاستدلالات القرآنية على هذا الصعيد التمثيل بإحياء الأرض وازدهارها بنعمة الماء بعد جدبها وجفافها؛ فهذا الإحياء آيةٌ جليّةٌ على القدرة الإلهيّة المطلقة التي من شأنها إحياء كلّ شيء، وبما في ذلك إحياء الناس بعد الممات، فقد قال تعالى «اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ *وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ *فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ »(1).

3)العلم الإلهيّ بالخلقة الأولى:

العلم المطلق واللامحدود هو أحد صفات الذات الإلهيّة المباركة، فقد خلق الله تعالى الإنسان من العدم بمحض إرادته وعلمه، ومن المؤكّد أنّ هذا الخالق المبدع من العدم له القدرة على إحياء العظام وهي رميم، فكما خلقها أوّل مرّةٍ من البديهيّ أنّه غير عاجز عن إعادتها من جديدٍ؛ وهو ما أكّد عليه الكتاب الكريم: «أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ *وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ *قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ »(2).

4)خلقة الإنسان :

لمّا كان الإنسان مستعدّاً للظهور من العدم إلى الوجود في الحياة الدنيوية في مراحل عدّة عبر التحوّل من ترابٍ إلى نطفةٍ ثمّ علقةٍ ثمّ مضغةٍ ثمّ عظامٍ يكتسي بلحمٍ وجلدٍ مع أحشاءٍ ومكوّناتٍ أخرى لا شعور لها، فهو بكلّ تأكيد مستعدٌّ لأن ينشأ من جديد في حياةٍ أخرويةٍ على وفق مراحل محدّدة؛ وهذه المراحل التي تكتنف الحياتين لا تحدث عبثاً، بل هي من تخطيط ربٍّ مدبّرٍ ذي قدرةٍ مطلقة لا

ص: 203


1- سورة الروم، الآيات 48 إلى 50.
2- سورة يس ،الآيات 77 إلى 79.

حدّ لها، فقد جاء في الكتاب الحكيم قوله تعالى :

«أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ *الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ *وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ *ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ *ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ *ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ* ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ»(1).

5)الشواهد التأريخية :
إشارة

القرآن الكريم إلى جانب تأكيده على إمكانية تحقّق المعاد بعد الممات، ذكر براهين تثبت عدم استحالته، إذ اشتملت بعض آیاته مضامین تدلّ على وجود هذه الحقيقة في إطار نمطين استدلاليين، أحدهما استدلالٌ تأريخيٌّ تجريبيٌّ، والآخر عقليٌّ.

هناك شواهد تأريخية ساقها الكتاب الحكيم تدلّ على إمكانيّة الحياة بعد الممات، منها قصّة عزير الذي توفّي مع حماره لمدّة مئة عام، وإبراهيم الخليل الذي تضمّنت قصّه إحياء أربعةٍ من الطير، وأصحاب الكهف الذين مكثوا في الكهف مع كلبهم لأكثر من ثلاثمئة عام، وبقرة بني إسرائيل التي اعتمد عليها لإحياء أحد موتاهم الذي لقي حتفه قتلاً.

أ - عُزير (علیه السلام) :

عزیر (علیه السلام) هو أحد صلحاء بني إسرائيل، وقيل إنّه كان نبياً. ذات يومٍ مرّ مع حماره على قرية مندرسة فتساءل مع نفسه عن كيفية خلقتها وخلقة الموتى بعد أن تبلى عظامهم ولا يبقى منهم شيء؛ فأماته الله سبحانه وتعالى مئة عام ثمّ أحياه وأحيا حماره وأعاد طعامه طازجاً طرياً وكأن لم يمض عليه قرنٌ من الزمن بحيث تصوّر أنّ النوم غلبه، فرأى من ربّه معجزةً أمست عبرةً لكلّ معتبرٍ ، فقد قال تعالى في الذكر الحكيم:

ص: 204


1- سورة المؤمنون، الآيات 10 إلى 16.

«أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»(1).

ب - إبراهيم الخليل (علیه السلام) :

ذكر القرآن الكريم قصصاً عدّة حول خليل الله إبراهيم (علیه السلام) ومن جملتها قصّة الطير، فعلى الرغم من أنّه آمن بالمعاد والحياة بعد الممات إلّا أنّه رغب بأن تترسّخ في نفسه معرفةٌ شهوديةٌ حول هذا الأمر عن طريق مشاهدة كيفية إحياء الموتى، فأمره الله تعالى بأن يأخذ أربعةً من الطير فيقطّعهنّ ثمّ يلقي كلّ قطعة على جبل ثمّ يدعوهنّ فيرجعن إليه على حالهنّ الأوّل بإذن الله وقدرته؛ فقد قال تعالى: «وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ »(2).

ج - الفتية أصحاب الكهف :

قصّة أصحاب الكهف هي إحدى الشواهد القرآنية التأريخية على إمكانية إحياء الموتى، ومن ثَمَّ فهي دليل على عدم استحالة وقوع المعاد في الحياة الآخرة. صحيحٌ أنّهم ناموا في كهفهم ما يقارب 309 سنوات، حيث جاء في الذكر الحكيم: «وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا»(3).، لكنّ النوم في الحقيقة هو سنخّ للموت، ولا سيّما هذه الرقدة التي دامت كلّ هذه الفترة المتمادية، حيث مكثوا في الكهف لأكثر من ثلاثة قرون مع كلبهم بإعجاز من الله العزيز القدير. قال تعالى: «وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا

ص: 205


1- سورة البقرة، الآية 259 .
2- سورة البقرة، الآية 260 .
3- سورة الكهف ،الآية 25 .

َعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا *وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا *وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا *وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا»(1).

د - قتيل بني إسرائيل :

ذكر الله تعالى في كتابه الكريم عدداً من القصص والأحداث التأريخية حول بني إسرائيل، ومن جملتها قصّة شاب قتل ولم يُعرف قاتله، لذلك أراد سبحانه أن يريهم قدرته المطلقة وإعجازه على صعيد إحياء الموتى، فأمر نبيّهم موسى (علیه السلام) بأن يطلب منهم ذبح بقرةٍ ويضربوا القتيل ببعضٍ منها كي يعود إلى الحياة ويخبرهم عمّن قتله؛ فقد قال عزّ من قال: «وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ *فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ »(2).

-البراهين التجريبية على إمكانية المعاد :

إشارة

لقد أثبتت بعض الشواهد التجريبية في علم النفس الغيبي (الباراسيكولوجي) (3) وجود الظواهر الماورائية وأكّدت على إمكانية الحياة بعد الممات، ونكتفي هنا بذكر الموارد الآتية منها :

ص: 206


1- سورة الكهف، الآيات 17 إلى 19.
2- سورة البقرة، الآيتان 72 و 73.
3- Parapsychology.
1) الوسائط الروحانية :

الوسائط الروحانية (1)هي إحدى الشواهد التجريبية على إمكانية تحقّق الحياة بعد الممات، فهناك أشخاص يدّعون أنّهم قادرون على الارتباط بالأرواح ونقل كلامهم إلى الأحياء؛ وهناك نوعان من هذا الارتباط، أحدهما يتمّ عن طريق القوّة الذهنية والآخر عبر التنصّت (استراق السمع ) ؛ وهو ما يعبّر عنه بإحضار الأرواح.

الوسيط الذي يقوم بالارتباط الذهني يجلس بسكينة على كرسيٍّ ويغلق عينيه، وبعد مدّةٍ يبدأ بالشخير أو إخراج أصواتٍ غير مفهومة فتكتنفه حالةٌ وكأنّه في نوم عميق لكنّه غير مستقرّ بحيث يتصوّر من يشاهده بأنّه يرى في المنام كابوساً مزعجاً. بعد دقائق عدّة يهدأ مرّةً أخرى ويبدأ بالهمس والتلفّظ بكلماتٍ بصوتٍ منخفضٍ، ثمّ شيئاً فشيئاً ينطلق لسانه ويرتفع صوته بالكلام بحيث تتغيّر حالته ونبرة صوته وتبدو في كلامه أحياناً عبارات غير متعارفةٍ عنه وكأنّ شخصاً آخر قد حلّ في بدنه.

هذه الشخصية الجديدة بإمكانها التحدّث مع من حولها طوال ساعةٍ كاملةٍ أو أكثر، ومن ثمّ تبدأ بالاضمحلال تدريجياً فتطوي المراحل السابقة نفسها ليعود الوسيط إلى وضعه الطبيعي مرّةً أخرى، ولكنّه ينسى كلّ ما جرى عليه ولا يعرف كيف حدث ذلك وكأنّما رأى طيفاً في المنام فحسب ثمّ نسيه بالكامل.

هناك وسائط روحانية بإمكانها التنصّت إلى الأرواح مرّاتٍ عدّة، وفي كلّ مرّةٍ تتلبّس بها نفس الشخصيّة الغيبيّة التي سيطرت عليها ، وهذه الشخصيّة تتّصف بذات الصفات من حيث السلوك ونبرة الصوت والاسم المفترض في جميع الأحيان، ويطلق عليها (المسيطرة ) لكونها تسيطر على الوسيط الذي أحضرها، وهذا الوسيط في معظم الأحيان عبارة عن جسرِ رابط بين الحاضرين في المجلس والروح التي يتمّ إحضارها(2).

ص: 207


1- Mediumistic.
2- للاطلاع أكثر، راجع: محمد رضا غفّاري ،روح ودانش جديد (باللغة الفارسية)، ص 307 - 310.

إن افترضنا صدق هذه الشواهد التجريبية وأذعنّا بأنّها ليست من أفعال المحتالين والنصّابين، لكن مع ذلك يحتمل أنّها تبدر من أولئك الذين يمتلكون شخصيات مزدوجة، لذا من الطبيعيّ بمكان اعتبار أنّ الشخصية المسيطرة على الوسيط هي شخصيته النفسية الثانية في الحقيقة. فضلاً عن ذلك، يمكننا اعتبار بعض هذه التصرفات نمطاً من أنماط تداعي الخواطر (التخاطر)، (1)وهو بمعنى تبادل الأفكار والمشاعر، أو تعرّف شخص إلى آخر من دون استخدام أيٍّ من المدارك التقليديّة المتعارفة كالسمع والبصر والشم والتذوق واللمس ؛ ويسمّى أحياناً قراءة الأذهان أو قراءة الأفكار، وهذا الأمر برأي علماء النفس ممكن حسب القوانين الطبيعية لكونه عملاً غير مرتبط بإحضار الأرواح ولا صلة له بعالم الماورائيات، بل كما قلنا فهو عبارةٌ عن قراءة أفكار الآخرين(2).

2)تجربة الموت والعودة إلى الحياة :

هناك كثير من الحالات التي يتجرع الناس فيها الموت مؤقّتاً ثمّ تنبعث في أجسادهم الحياة من جديد، (3)وهذه الظاهرة هي شاهد آخر من شواهد علم النفس الغيبي على إمكانية الحياة بعد الممات.

كثيراً ما نسمع أنّ شخصاً حلّ به الموت من الناحية الطبّية، إذ يتوقّف قلبه عن الخفقان ويسكن مخّه عن النشاط الفكري، لكنّه بعد ذلك يسترجع قواه وتسري الحياة في بدنه.

بعض الذين خاضوا هذه التجربة الفريدة من نوعها ذكروا حقائق تختلف بالكامل عن الحقائق المادية التي يدركها الأحياء، ويمكن بيانها بشكل إجمالي بغضّ النظر عن التفاصيل كما يأتي:

ص: 208


1- telepathy.
2- للاطلاع أكثر ، راجع :رضا أكبري، جاودانگی (باللغة الفارسية).
3- near - death experience.

-الشعور بخروج الروح من البدن.

-تحليق الروح في الأفق الذي يعلو البدن.

-سماع أصواتٍ عاليةٍ.

-الشعور بقوّة تدفع الروح للدخول في نفقٍ مظلمٍ.

-الولوج في عالمٍ نورانيٍّ.

- لقاء الأهل والأصدقاء الذين وافتهم المنية سابقاً.

- رؤية كائنٍ نورانيٍّ يدخل السرور في النفس.

بعد طيّ هذه المراحل، تشعر الروح باقترابها من الحياة الدنيوية مرّةً أخرى، فتعود إلى البدن الذي تتنشّط أعضاؤه المادية من جديد، فيخفق القلب وتجري الدماء في العروق والشرايين ويعود النشاط للمخّ ليستعيد إدراكه ومشاعره. أصحاب هذه التجربة يطرحون تفسيراً آخر للموت يختلف عمّا يتصوّره من لم يخوضها، كما أنّهم لا يخشونه بعد ذلك.

أمّا الاستدلال على إمكانية الحياة بعد الممات على أساس هذه الظاهرة الفريدة فيمكن تقريره كالآتي : الذين خاضوا هذه التجربة ذكروا أموراً منطبقةً مع بعضها رغم أنّهم من أماكن شتّى وواجهوا الموت في أزمنة مختلفة، وهذا الانطباق بذاته دليل على حقيقة خروج الروح من البدن وولوجها في عالمٍ آخر.

وأكّد بعض العلماء على أنّ التجارب الإدراكيّة لهذا الموت المؤقت قد تحصّلت للميّت عن طريقٍ آخر يختلف عن معلوماته التي يحصل عليها بواسطة مدركاته العقليّة والحسّية، وهذه الظاهرة الإدراكيّة تدلّ بوضوح على عدم تدخّل أيّ عضو من أعضاء البدن في تحقّقها، وبما في ذلك العقل؛ ويمكن القول إنّ الروح قد واصلت إدراكها الذاتي بعد انفصالها عن البدن؛ مما يعني بقاءها بعد زوال البدن(1).

ص: 209


1- للاطلاع أكثر، راجع: جون هيك، فلسفه دين (باللغة الفارسية)، ص 265.
3) التجارب الخارجة عن البدن (الخلع):

التجارب الخارجة عن البدن(1) يعبّر عنها في الفكر الإسلامي ب(الخلع)، وهي تضرب بجذورها في العهود السالفة حيث طرحت من قبل الفلاسفة والعلماء القدامى ومن جملتهم أفلوطين (2) وشيخ الإشراق(3).

علماء الباراسيكولوجيا وبعض العرفاء والفلاسفة يعتقدون بأنّ ما يخرج من البدن عن طريق الخلع ويواصل الحياة، هو أمر ليس مادّياً .

وتجدر الإشارة هنا إلى الشواهد التجريبية البحتة عاجزةٌ عن إثبات الحياة بعد الموت بالبرهان القاطع نظراً لعدم اكتمال مقوّماتها المعرفية، ولكن يمكن الاعتماد عليها بوصفها قرائن تفيد الظنّ.

- الأدلّة العقليّة لإثبات المعاد :

إشارة

كما ذكرنا آنفاً فالقرآن الكريم إضافةً إلى أنّه ساق شواهد تأريخيةً لإثبات المعاد وإمكانية الحياة بعد الموت، فقد استدلّ بأساليب منطقية مبرهنة على هذه الحقيقة، ومن ضمنها برهان بقاء الروح والحكمة والعدل والرحمة، وفيما يأتي نتطرّق إلى بيانها :

* البرهان الأوّل: بقاء الروح وتجرّدها:

إضافةً إلى أنّ الإنسان يمتلك جسماً مادّياً مكوّناً من أنسجة وخلايا لا تنفكّ عن التغيير والتحوّل، فهو يمتلك روحاً مجرّدةً ثابتةً لا يطرأ عليها التغيير والتحوّل، لذا فهي معيار هويته ووحدته الشخصية.

ص: 210


1- out of body experience.
2- للاطلاع أكثر، راجع: أفلوطين، دوره آثار (باللغة الفارسية)، ج 1، الرسالة الثامنة، ص 639.
3- للاطلاع أكثر ، راجع :شهاب الدين السهروردي ،حكمة الإشراق، ج 2، ص 213.

بما أنّ الروح المجرّدة هي الميزة الأساسية التي يتصف بها كلّ كائن غير مادّيٍّ، لذا يتمّ على أساسها تفسير واقع الحياة بعد الممات بالنسبة إلى البشر، وقد ذكر علماء الفلسفة عدداً من البراهين لإثبات تجرّد الروح وخلودها، وأحد هذه البراهين أنّ الإنسان ذا البدن المادّيّ له حقيقةٌ باطنيةٌ يدركها بنفسه وهي التي تتمثّل في قوله (أنا) .

يتحقّق ثبوت (أنا) ويطرأ التغيير الكمّي والنوعي على الأعضاء والجوارح وسائر خلايا البدن المادّي من خلال التجارب الباطنيّة أو الخارجيّة، ولو افترضنا أنّ وجود الإنسان ليس سوى أعضائه المادّية، فلا بدّ من افتراض أنّ وجود زيدٍ قبل سنواتٍ يختلف عن وجوده اليوم، وبالطبع سوف يكون مختلفاً في مستقبل حياته؛ في حين أنّ الواقع غير هذا التصوّر تماماً، فزيد هو هو منذ أن ولدته أمّه حتّى مماته رغم كلّ التغييرات البدنيّة التي طرأت عليه طوال فترة حياته، أي إنّ هويته الشخصية (هوهويته) تبقى بذاتها من دون أن يكتنفها أيّ تغيير، وهو يدرك بالوجدان هذا الأمر.

إذن، هذا الثبوت النفسي الشخصي دليل على وجود حقيقةٍ في ماوراء الوجود المادّي، وهي ليست سوى الروح المجرّدة التي لا يكتنفها التغيير والتحوّل.

استدلّ صاحب كتاب (الميزان في تفسير القرآن) العلّامة محمد حسين الطباطبائي على ما ذكر في إطار بحث فلسفيٍّ كما يأتي : هل النفس مجرّدة عن المادّة؟ ونعني بالنفس ما يحكي عنه كلّ واحد منا بقوله (أنا)، وبتجرّدها عدم كونها أمراً مادياً ذا انقسامٍ و زمانٍ ومكانٍ.

إنّا لا نشكّ في أنّا نجد من أنفسنا مشاهدة معنى نحكي عنه ب (أنا)، و لا نشكّ أنّ كلّ إنسان هو مثلنا في هذه المشاهدة التي لا نغفل عنه حيناً من أحيان حياتنا وشعورنا، وليس هو شيئاً من أعضائنا وأجزاء بدننا التي نشعر بها بالحسّ أو بنحو من الاستدلال كأعضائنا الظاهرة المحسوسة بالحواسّ الظاهرة من البصر واللمس ونحو ذلك؛ وأعضائنا الباطنة التي عرفناها بالحسّ و التجربة.

ص: 211

فإنّا ربّما نغفل عن كل واحدٍ منها وعن كل مجموعٍ منها حتى عن مجموعها التامّ الذي نسمّيه بالبدن، ولا نغفل قطّ عن المشهود الذي نعبّر عنه (بأنا)، فهو غير البدن وغير أجزائه وأيضاً لو كان هو البدن أو شيئاً من أعضائه أو أجزائه، أو خاصّةً من الخواصّ الموجود فيها - وهي جميعاً مادّية ومن حكم المادة التغيّر التدريجي وقبول الانقسام والتجزّي - لكان مادّياً متغيّراً وقابلاً للانقسام؛ وليس كذلك، فإنّ كلّ أحدٍ إذا رجع إلى هذه المشاهدة النفسانية اللازمة لنفسه وذكر ما كان يجده من هذه المشاهدة منذ أوّل شعوره بنفسه، وجده معنى مشهوداً واحداً باقياً على حاله من غير أدنى تعدّدٍ وتغيّر، كما يجد بدنه وأجزاء بدنه والخواصّ الموجودة معها متغيّرةً متبدلةً من كلّ جهة في مادّتها وشكلها وسائر أحوالها وصورها، وكذا وجده معنىً بسيطاً غير قابل للانقسام والتجزّي، كما يجد البدن وأجزاءه وخواصه - وكلّ مادةٍ وأمرٍ مادّي كذلك فليست النفس هي البدن، ولا جزءاً من أجزائه، ولا خاصّةً من خواصّه، سواء أدركناه بشيءٍ من الحواسّ أو بنحو من الاستدلال، أو لم ندرك؛ فإنّها جميعاً مادّية كيفما فرضت ومن حكم المادّة التغيّر وقبول الانقسام، والمفروض أن ليس في مشهودنا المسمّى بالنفس شيء من هذه الأحكام، فليست النفس بمادّيةٍ بوجهٍ.

وأيضاً هذا الذي نشاهده نشاهده أمراً واحداً بسيطاً ليس فيه كثرة من الأجزاء ولا خليطٌ من خارج، بل هو واحدٌ صرفٌ، فكلّ إنسان يشاهد ذلك من نفسه ویری أنّه هو وليس بغيره ؛ فهذا المشهود أمرٌ مستقلٌّ في نفسه لا ينطبق عليه حدّ المادة ولا يوجد فيه شيءٌ من أحكامها اللازمة، فهو جوهر مجرّد عن المادة متعلّق بالبدن نحو تعلّقٍ يوجب اتّحاداً ما له بالبدن، وهو التعلّق التدبيري؛ وهو المطلوب»(1).

وإليك برهان آخر على تجرّد الروح وعدم فنائها: الحالات النفسية التي تكتنف الإنسان، كالعلم والشعور والإرادة، لا تتّصف بميزاتٍ مادّيةٍ كالتقسيم والتوسّع في الحجم؛ وكذا هو الحال بالنسبة إلى الروح التي هي أساس الحالات

ص: 212


1- محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 1، ص 211.

النفسية، فهي في الحقيقة عاريةٌ عن كلّ ميزةٍ مادّيةٍ؛ لذا يكون وجودها مجرّداً عن المادّة بالكامل(1).

وفيما يأتي نذكر برهاناً ثالثاً في هذا الصدد: حينما نتأمّل في باطننا فنحن نتمعّن في حقيقة الأنا، وإثر ذلك ندرك أنّها أمرٌ بسيطٌ غير قابل للتقسيم لجزئين أو أكثر؛ في حين أنّ أهمّ ميزةٍ تختصّ بها الأجسام هي قابليتها للتقسيم إلى أجزاء، بل وحتّى أجزاؤها يمكن أن تنقسم أيضاً.

إذن ،الروح التي هي أخصّ الخصوصيات للبدن لا يمكن تقسيمها بوجه، وعلى هذا الأساس فهي لا بدّ من أن تكون مجرّدةً (2).

وأخيراً نسوق برهاناً رابعاً حول الموضوع وهو ما يعرف ببرهان الهواء الطلق الذي طرحه الحكيم ابن سينا في كتاب (الإشارات): لو تواجد شخصٌ في مكانٍ منعزل عن العالم الخارجي بالكامل بحيث ليس هناك ما يجذب انتباهه من الأشياء في الخارج بحيث نتصوّره وهو في وضعٍ خاصٍّ ولا يتأمّل بأيّ عضو من أعضاء بدنه المادّي ولا يكتنفه شعورٌ خاص من قبيل الجوع أو العطش أو الحرّ أو البرد أو الألم، وفي الوقت ذاته يكون الهواء هادئاً تماماً كي لا يثير هواجسه؛ فما يدركه في هذه الحالة هو عين (أنا) فيشعر بنفسه من دون أن يلتفت إلى أيّ عضو من أعضائه أو جارحةٍ من جوارحه أي إنّ ما يدركه هنا يختلف عمّا لا يدركه. وعلى هذا الأساس نقول إنّ النفس غير البدن المادّي.

وعبارة ابن سينا هي : «.... بماذا تدرك حينئذٍ وقبله وبعده ذاتك؟ وما المدرك من ذاتك؟ أترى المدرك منك أحد مشاعرك مشاهدةً أم عقلك وقوّة غير مشاعرك وما يناسبها ؟ فإن كان عقلك وقوّة مشاعرك بها تدرك ، أفبوسطٍ تدرك أم بغير وسط ؟ ما

ص: 213


1- عبد الحسين خسروبناه ،قلمرو دين (باللغة الفارسية)، ص 145.
2- للاطلاع أكثر، راجع :محمّد تقي مصباح اليزدي، آموزش فلسفة (باللغة الفارسية)، ج 2.

أظنّك تفتقر في ذلك حينئذ إلى وسط، فإنّه لا وسط. فبقي أن تدرك ذاتك من غير افتقار إلى قوّةٍ أخرى وإلى وسط، فبقي أن يكون بمشاعرك أو بباطنك بلا وسط ؛ ثمّ انظر»(1).

القرآن الكريم بدوره أكّد على استقرار الروح وثبوتها، وأشار إلى أنّ البدن مخلوق من تراب بحيث يبلى ويندرس في الحياة الدنيا؛ لذلك اعتبر الموت انتقالاً من عالم إلى آخر وليس فناءً للوجود.

إذن، الإنسان من وجهة نظر الكتاب الحكيم حقيقة باقية بعد فناء البدن المادّي، والآيات الآتية تصرح بذلك:

-«الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ *ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ *ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ *وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ *قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ»(2).

-«اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ »(3).

- «وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ *فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ *يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ»(4).

- «وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ»(5).

ص: 214


1- للاطلاع أكثر، راجع: ابن سينا ،الإشارات والتنبيهات ،النمط الثالث؛ محمّد تقي مصباح اليزدي، آموزش فلسفه (باللغة الفارسية)، ج 2.
2- سورة السجدة، الآيات 7 إلى 11 .
3- سورة الزمر، الآية 42.
4- سورة آل عمران، الآيات 169 إلى 171.
5- سورة البقرة، الآية 154.
* البرهان الثاني: الحكمة:

من المسائل التي تمّ إثباتها في مباحث علم اللاهوت وأفعال الله تعالى، أنّ الخلقة بشكل عام ولا سيّما خلقة الإنسان ذات هدفٍ معيّنٍ؛ ولمّا كانت ذات البارئ سبحانه وتعالى عين الخير والكمال، فعالم الخلقة لابدّ من أن يكون قد أوجد على هذا الأساس بغية بلوغ هاتين الخصلتين الساميتين بصفتها غايةً للخلقة؛ ناهيك عن أنّ مقتضى الحكمة الإلهيّة هو بلوغ الكائنات هذه الغاية كلٌّ حسب شأنه ومنزلته.

روح الإنسان لها الاستعداد لنيل الكمال الأبدي، لكنّ هذه القابلية لا يمكن أن تتجلّى بشكلها الحقيقي في البدن المادّي الكائن في عالم الطبيعة الزاخر بالتعارض والاختلاف؛ وبما أنّ الحكمة الإلهيّة تقتضي بلوغه الكمال، فلا بدّ من تحقّق هذا الكمال في عالمٍ آخر غير عالم المادّة ، ألا وهو عالم الحياة بعد الممات.

إذن، برهان الحكمة يثبت لنا أنّ العالم المادّي المؤقّت ليس وعاءً لتحقّق الكمال، بل العالم الأخروي المجرّد الأبدي هو الذي يفسح المجال لتحقّق هذه الغاية الإلهيّة.

ومن الجدير بالذكر هنا أنّ الفعل الحكيم حقاًّ هو ما كانت نتيجته أكثر قيمةً منه، فبناء معملٍ إنتاجيٍّ على سبيل المثال إنّما يتمّ بالاعتماد على رؤوس الأموال والأيدي العاملة وبإشراف مهندسين مختصّين، والهدف منه بطبيعة الحال هو تحقيق نفع مادّيّ، أي إنّ نتيجة هذه الجهود أهمّ وأكثر قيمةً منها. إن كانت العائدات التي تكتسب هذا المشروع الصناعي أقلّ نسبةً من رؤوس الأموال التي أُنفقت لبنائه، فمن المؤكّد أنّه عبثيٌّ ولا نفع فيه لكونه إتلافاً للمال والجهود، فهو نظير سائر الأفعال الحمقاء التي يمجّها العقل السليم ولا فرق بينه وبين الخبير الذي يطوّر جهاز الحاسوب ويزوّده بتقنيةٍ تفوق التقنية المعاصرة ومن ثمّ يحرقه ولا يبقي منه شيئاً ؛ فما فائدة اختراعه إذن؟! إنّه بكلّ تأكيد ارتكب عملاً غير عقلاني.

الله الحكيم العليم خلق الكون بحكمته وعلمه وأودع في نفس أفضل خلقه

ص: 215

الإنسان - أسراراً عظيمةً وجعل له غايةً ساميةً، لذا فهو منزّه من العبثية وليس من الصواب بمكان تصوّر أنّه خلق الكائنات كي تفنى وتنعدم، فحكمته على خلاف هذا الزعم الواهي (1). وقد أشار القرآن الكريم إلى الحكمة من المعاد والحياة الأخروية ،ومن ذلك ما تضمّنته الآيات الآتية:

- «قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ *قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ *قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ *أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ»(2).

- «وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ»(3).

- «وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ *مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ *إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ *يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ»(4).

* البرهان الثالث :العدل :

يمكن تقسيم الناس من حيث الأفعال الإرادية إلى فئتين :

الفئة الأولى: يسخّرون حياتهم في عبادة الله تعالى وخدمة بني جلدتهم بصدقٍ وإخلاص ويمتثلون لأداء كلّ عمٍل صالحٍ، وفي الحين ذاته يجتنبون ارتكاب المعاصي والأفعال القبيحة.

ص: 216


1- محمّد تقي مصباح اليزدي، معارف قرآن (باللغة الفارسية)، ج 3، ص 409.
2- سورة المؤمنون، الآيات 112 إلى 115 .
3- سورة ص، الآية 27.
4- سورة الدخان ،الآيات 38 إلى 41 .

الفئة الثانية: يسخّرون حياتهم في الملذّات الدنيوية والأعمال الشيطانية ولا يتورّعون عن فعل أيّ قبيحٍ وعملٍ منكرٍ .

وكما هو معلومٌ فالحياة الدنيا ليست دار حسابٍ عادلٍ، حيث لا ينال فيها المحسنون ثواب أعمالهم ولا يطال المسيئين جزاء أفعالهم ، فالإنسان في هذه الدنيا غير مستعدٍّ لأن يحاسب بعدلٍ عن جميع حركاته وسكناته، كما أنّ الدنيا نفسها ليست مقرّاً توزن فيه الأعمال؛ لذا فإنّ مقتضى العدل الإلهيّ في حساب الناس على ما بدر منهم لا بدّ وأن يتحقّق في الحياة الآخرة التي هي وعاءٌ مناسبٌ لإقامة العدل عبر إثابة الصالحين ومعاقبة المجرمين في كلّ ما بدر منهم طوال حياتهم الأولى.

إذن، مبدأ العدل الإلهيّ يثبت ضرورة وجود حياةٍ بعد الممات في عالمٍ آخر تتجلّى فيه جميع الحقائق بكلّ صورها، ولا يختلف اثنان في أنّ الله العزيز الحكيم لا يمكن وأن يظلم أحداً بتاتاً، لذا يكون مصير الإنسان في حياته الأخروية منوطاً بأعماله الدنيويّة التي يؤدّيها بمحض اختياره ، فهو لا يفعل الخير ولا يرتكب الشرّ إلّا برغبته وإرادته.

الاختيار هو السبب الأساسي الذي يجعل بعض الناس يلهثون وراء الملذّات الفانية والأهواء النفسانيّة، وفي الحين ذاته يكون وازعاً للبعض الآخر في السيطرة على جموح النفس وشهواتها والقيام بالأعمال الصالحة التي يرتضيها الشرع والعقل لكونهم سلكوا سبيل الرحمن بمحض إرادتهم.

الذين سلكوا سبيل الشيطان بإرادتهم واختيارهم، لا يتورّعون عن فعل أيّ قبيحٍ ومنكرٍ، بل لا تأبى أنفسهم ظلم الآخرين وسلب حقوقهم، ومعظم هؤلاء عادةً ما يعيشون حياةً مرفّهةً ملؤها الفجور والمجون والقليل النادر منهم يصحو من غفلته ويتوب إلى ربّه؛ لكن أكثرهم لا ينفكّون عن الآثام والمعاصي حتّى يحلّ أجلهم دون أن يطالهم أيّ عقاب دنيويٍّ جرّاء ما ارتكبوا، وحتّى الذين يحاكمون ويعاقبون في الحياة الدنيا فإنّهم لا ينالون جزاءهم العادل مطلقاً، إذ إنّ مجرم الحرب الذي أزهق أرواح

ص: 217

آلافٍ مؤلّفةٍ ولربّما فتك بالملايين من البشر وأحرق الحرث والنسل، لا يمكن أن ينال جزاءه العادل بمجرّد سجنه أو إعدامه.

بناءً على ما ذكر، نقول إنّ العدل الإلهيّ في الثواب والعقاب لا يمكن أن يتحقّق إلّا في رحاب عالم آخر غير العالم الدنيوي المادي، ذلك كي ينال كلّ إنسانٍ جزاء أعماله بالتمام والكمال، وحتى تُعوّض الحقوق الضائعة وتُشفى الصدور الغليلة(1).

وفيما يأتي نوضح البرهان بأسلوب آخر: لا شكّ في أنّ الإنسان له كمالٌ حاله حال سائر الكائنات، وكماله يعني انتقال علمه وعمله من مرحلة الاستعداد إلى الفعلية عبر تبنّيه المعتقدات الحقّة وقيامه بالأعمال الصالحة؛ وهذا الامتثال للخير إنّما يتحقّق في ظلّ الفطرة السليمة التي لم تدنّسها أدران الذنوب. على هذا الأساس فالمتّقون هم أصحاب الكمال، بينما المفسدون الذين يعتنقون معتقداتٍ منحرفةً ويرتكبون قبائح الأعمال، لا يتمتّعون بروحٍ إنسانيةٍ كاملةٍ، وهذا النقص هو الذي حرمهم من الكمال المنشود.

مقتضى الكمال المذكور هو أن ينعم الإنسان بحياةٍ طيّبةٍ مطمئنّةٍ ملؤها الراحة والهناء، ومقتضى النقص المشار إليه هو أن يحرم من هذه الحياة المنعمة ويعيش في كنف حياة يشوبها شقاءٌ وعذابٌ شديدٌ.

كما هو معلوم فالحياة التي تدار شؤونها في ظلّ الأسباب والمؤثّرات المادّية، تعمّ الإنسان الكامل والناقص (المؤمن والكافر) على حدٍّ سواء، إذ إنّ سمومها تفتك بالاثنين معاً ونارها تحرقهما وخيرها يعمّهما بصفتهما إنسانين؛ لذا فمن تعينه الأسباب المادية سوف ينعم بحياةٍ مرفّهةٍ لا عناء فيها، في حين أنّ نظيره الذي حُرم من القابليات المادّية لأيّ سببٍ كان، تصبح حياته ضنكى ومريرة.

إذن، حتّى وإن افترضنا تنزّلاً - وفرض المحال ليس بمحال - أنّ حياة ابن آدم

ص: 218


1- محمّد تقي مصباح اليزدي، معارف قرآن (باللغة الفارسية)، ج 3، ص 493 .

مقيّدةٌ بعالم المادّة والدنيا فقط، فالعدل الإلهيّ في منح كلّ ذي حقٍّ حقّه لا يمكن أن يتحقّق فيها . وهو ما أكّد عليه العلّامة محمّد حسين الطباطبائي بقوله: «ومن المعلوم أنّ هذه الحياة الدنيا التي يشتركان فيها [المؤمن والكافر] هي تحت سيطرة الأسباب والعوامل المادّية ونسبتها إلى الكامل والناقص والمؤمن والكافر على السّواء؛ فمن أجاد العمل ووافقته الأسباب المادّية فاز بطيب العيش ومن كان على خلاف ذلك لزمه الشقاء وضنك المعيشة.

فلو كانت الحياة مقصورةً على هذه الحياة الدنيوية التي نسبتها إلى الفريقين على السواء ولم تكن هناك حياةٌ تختصّ بكلّ منهما وتناسب حاله، كان ذلك منافياً للعناية الإلهيّة بإيصال كلّ ذي حقٍّ حقّه وإعطاء المقتضيات ما تقتضيه. وإن شئت فقل: تسويةٌ بين الفريقين وإلغاء ما يقتضيه صلاح هذا وفساد ذلك، خلاف عدله تعالى »(1).

هناك آيات في الكتاب الحكيم يمكن اعتبارها من سنخ برهان العدل في إثبات المعاد، منها:

- «وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ *أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ»(2).

- «أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ *وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ»(3).

- «إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ

ص: 219


1- محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 17، ص 100.
2- سورة ص، الآيتان 27 و 28.
3- سورة الجاثية، الآيتان 21 و 22 .

الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ »(1).

- - «فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ *قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ *عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ *كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ *إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ *أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ *مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ»(2).

* البرهان الرابع برهان الرحمة

الرحمة هي إحدى صفات الله سبحانه وتعالى، وحسب تعاليمنا الدينيّة فالمعاد هو أحد تجلّيات الرحمة الإلهيّة حيث ينال المحسنون فيه نعماً عظيمةً لا حصر لها.

لولا الحياة الأخروية لما تمكّن الصالحون من جني ثمار أعمالهم الصالحة التي بدرت منهم في الحياة الدنيا بإرادتهم واختيارهم، لذا إن انتفت الحياة الآخرة سوف يُقدح برحمة الله التي وسعت كلّ شيءٍ والتي هي من الصفات الكمالية؛ لذا يمكن إثبات تحقّق المعاد على أساس مقتضى الرحمة الإلهيّة.

وقد برهن العلّامة محمد حسين الطباطبائي على هذه الحقيقة كما يأتي : قوله: «إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ» إلخ ، أشير به إلى حجّتين من الحجج المستعملة في القرآن لإثبات المعاد، أمّا قوله: « إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ » فلأنّ الجاري من سنّة الله سبحانه أنّه يفيض الوجود على ما يخلقه من شيءٍ ويمدّه من رحمته بما تتمّ له به الخلقة، فيوجد ويعيش ويتنعّم برحمة منه تعالى ما دام موجوداً حتى ينتهي إلى أجلٍ معدودٍ؛ وليس انتهاؤه إلى أجله

ص: 220


1- سورة يونس ،الآيتان 3 و 4 .
2- سورة القلم، الآيات 30 إلى 36.

المعدود المضروب له فناءً منه وبطلاناً للرحمة الإلهيّة التي كان بها وجوده وبقاؤه وسائر ما يلحق بذلك من حياةٍ وقدرةٍ وعلمٍ، ونحو ذلك، بل بقبضه تعالى ما بسطه عليه من الرحمة، فإنّ ما أفاضه الله عليه من عنده هو وجهه تعالى. ولن يهلك وجهه.

فنفاد وجود الأشياء وانتهائها إلى أجلها ليس فناءً منها وبطلاناً لها على ما نتوهّمه، بل رجوعاً وعوداً منها إلى عنده، وقد كانت نزلت من عنده، وما عند الله باقٍ، فلم يكن إلّا بسطاً ثمّ قبضاً ، فالله سبحانه يبدأ الأشياء ببسط الرحمة ويعيدها إليه بقبضها، وهو المعاد الموعود.

وأما قوله« لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ »إلخ، فإنّ الحجّة فيه أنّ العدل والقسط الإلهيّ - وهو من صفات فعله - يأبى أن يستوي عنده من خضع له بالإيمان به وعمل صالحاً ومن استكبر عليه وكفر به وبآياته؛ والطائفتان لا يُحسّ بينهما بفرقٍ في الدنيا، فإنّما السيطرة فيها للأسباب الكونية بحسب ما تنفع و تضرّ بإذن الله.

فلا يبقى إلّا أن يُفرّق الله بينهما بعدله بعد إرجاعها إليه، فيجزي المؤمنين المحسنين جزاءً حسناً والكفّار المسيئين جزاءً سيّئاً من جهة ما يتلذّذون به أو يتألّمون»(1).

والآيتان الآتيتان من جملة الآيات التي تضمّنت برهان الرحمة لإثبات تحقّق المعاد:

- «قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ *قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ»(2).

-«فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ »(3).

ص: 221


1- محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 10، ص 4 .
2- سورة الأنعام، الآيتان 11 و 12.
3- سورة الروم، الآية 50.
* البرهان الخامس: الأخلاق :

طرح الفيلسوف الألماني إيمانوئيل كانط نظرية مثالية الأخلاق على أساس استقلال العقل البشري وتبنّى مبدأي العينية والوظائفية، وقد ذكر أدلّة لإثبات وجود النفس وخلودها.

الأدلّة التي ساقها حول مسألة خلود النفس متفرّعةٌ على الأدلّة التي اعتمد عليها لإثبات وجود الله عزّ وجلّ والأدلّة التي تثبت كون الإنسان مخيّراً في أفعاله.

يعتقد هذا الفيلسوف بأنّ إرادة الخير تعدّ شرطاً ضروريّاً وكافياً لتحقّق الأخلاق المثالية، ومن هذا المنطلق فالعمل الأخلاقی هو ما كان منبثقاً من إرادة الخير من دون أن تشوبه أيّة مقاصد أخرى.

إذن، يمكن القول بأنّ إرادة الخير هي الدعامة الأساسية للنظام الأخلاقي الذي طرحه إيمانوئيل كانط، لذا يمكن اعتباره واحداً من المفكرين الذين يتّبعون النزعة البنيوية.

من المؤكّد أنّ الشعور بالمسؤولية هو الذي يجعلنا نعتقد بوجوب فعل الخير والمعروف ،ولكن كيف يمكننا البتّ بأنّ الفعل الذي يبدر منّا منبثق من شعورنا بالمسؤولية؟ إحدى مزايا العمل الناشئ من هذا الشعور السامي هي أنّه يسفر عن بلوغ السعادة المنشودة، لذا فالعلاقة بين أداء الواجب ونيل السعادة هي من سنخ العلاقات العينية الحقيقية، وهذا الامتثال بطبيعة الحال ناشئ من قانون كلّيٍّ، ومعنى ذلك أنّ الإرادة هي الأخرى لابدّ من أن تكون منبثقةً من قانون كلّيٍّ أيضاً؛ لذا ينبغي للإنسان أن يتصرّف بشكل يجعله يشعر وكأنّه هو الذي وضع القانون الأخلاقي العامّ.

الانطباق الكامل بين الإرادة والقانون الأخلاقي إنّما يتحقّق في رحاب العصمة الكمالية التي لا يمكن لأيّ كائنٍ عاقلٍ اكتسابها في عالم المادة ولو للحظةٍ واحدةٍ، فهي من الأمور الضرورية التي لا يمكن أن تتحقّق إلّا بسلوك غير متناهٍ في ظلّ هذا

ص: 222

الانطباق الكامل؛ وبطبيعة الحال لا يمكن تصوّر هكذا سلوك متكامل إلّا في ظلّ شخصيةٍ غير متناهيةٍ للكائن العاقل .

القانون المشار إليه يدلّ على أنّنا نمتلك القدرة لفعل أفضل الأعمال وأكثرها خيراً بمحض اختيارنا وإرادتنا، وبالطبع فإنّ تحقّق فعلٍ من هذا القبيل مرهون باتّباعنا للمقرّرات والقوانين الأخلاقية المثالية بحذافيرها؛ وهذا ما يطلق عليه كانط بكونه عصمةً.

إذن، ما لم تتعلّق إرادتنا الشخصية بالقوانين الأخلاقية، فلا يمكننا نيل العصمة ولا الخير المحض في الحياة الآخرة، لأنّ الخير الأمثل يمكن تحصيله في الحياة الدنيا. ومن ناحية أخرى، فإنّ نفس تكليفنا بالعمل على وفق القوانين والأصول الأخلاقية بحدّ ذاته دليل على إمكانية تحقيق الخير الأمثل والتحلّي بالعصمة، ولكن لا يمكن تحصيل ذلك في الحياة الدنيا، ومن ثَمَّ لابدّ من وجود عالمٍ آخر نتمكّن فيه من تحصيلها، وهذا العالم بكلّ تأكيد لا يمكننا أن نلجه إلّا بعد الموت؛ ولمّا كان الخير الأمثل أمراً غير متناهٍ فنتيجة ذلك أنّ الحياة الأخروية خالدةٌ والإنسان فيها سينعم بالخلود أيضاً(1).

*البرهان السادس : الفطرة (المحبّة الفطرية للحياة):

فحوى هذا البرهان أن النفس الإنسانية تكتنفها رغبةٌ فطريةٌ في الحياة الخالدة ،وهذه الرغبة بذاتها تعدّ دليلاً على وجود حياةٍ أخرويةٍ.

ويمكن تقرير البرهان بالقول: كلّ إنسانٍ تنتابه محبّةٌ فطريةٌ عارمةٌ للحياة الخالدة حيث يشعر برسوخ هذه الرغبة الشديدة في باطنه، وفي الحين ذاته يشعر بالأسى عند التفكير بالزوال والانعدام، لذلك ينأى عن التفكير بهما.

الإنسان الذي يبادر إلى الانتحار هو في الواقع يروم الخلاص من معاناته وآلامه

ص: 223


1- للاطلاع أكثر ،راجع :ستيفان كورنر، فلسفه كانت (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية عزت الله فولادوند، ص 318 رضا اكبري، جاودانگي (باللغة الفارسية)، ص 340.

في الحياة الدنيا بهدف الولوج في عالمٍ يصونه من جميع أشكال المعاناة والآلام، وليس هناك فرقٌ بين علمه ببقاء روحه حيّةً بعد الموت أو عدم علمه بذلك، فلربما يتصوّر بأنّه سيتحوّل إلى كائن جامد عديم الشعور ومن ثمّ ينجو من مآسيه. إذن، هذا الشخص ليس مستاءً من الوجود بذاته بل يشعر بالضجر من مصاعب الحياة ومشاكلها المحتدمة التي أصبحت عقبةً في طريقه ومعضلةً ليس بإمكانه تخليص وجوده منها؛ وعلى هذا الأساس يمكن القول إنّ محبّة الحياة الخالدة راسخةٌ في نفسه وكأنّها هدفٌ له.

هذه المحبّة لا تقتصر على عصر من العصور، وإنّما تراود الذهن البشري منذ عهده الأوّل وستظلّ راسخةً فيه حتّى آخر لحظة من الحياة الدنيا، وكلّنا يعلم بأنّ الحياة الدنيوية الفانية ليست وعاءً يتحقّق الخلود فيه، لذا لابدّ من أن يوجد مكان آخر يتحقّق فيه، أي إنّه مكانٌ لا معنى للزوال فيه ولا وجود للموت بين أطرافه، وهو بكلّ تأكيد عالم البعث والحساب.

ولمّا كان عالم الآخرة مفعماً بالحياة كما قال تعالى في كتابه الكريم: «وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ »(1)، فإِنّ محبّة الحياة الخالدة يعدّ أمراً وجودياً رابطاً بين المحبّ (الإنسان) والمحبوب (الحياة الخالدة)؛ ومن البديهي أنّ هذه المحبّة لا يمكن أن تترسّخ في باطن الإنسان بتاتاً ما لم تكن أمراً واقعياً، ولو لم تكن موجودةً حقاً لما عُدّت واحدةً من النزعات الفطرية لدى بني آدم. ويمكننا القول بأنّ رسوخ هكذا محبّة في النفس الإنسانية قد نشأ على أساس غايةٍ ساميةٍ، وهذه الغاية بطبيعة الحال لا بدّ وأن تكون موجودةً حقاً(2).

استناداً إلى ما ذكر، فالقياس المنطقي للبرهان المذكور يتمحور حول أنّ محبّة الحياة

ص: 224


1- سورة العنكبوت ،الآية 64 .
2- عبد الله جوادي الآملي، تفسير موضوعي قرآن (باللغة الفارسية)، ج 4، ص 151.

الخالدة عبارةٌ عن أمرٍ فطريٍّ متأصّلٍ في النفس الإنسانية، لذا ليس من الممكن أن يزول إثر فناء الحياة الدنيوية؛ ومن الثابت أنّ كلّ أمرٍ فطريٍّ لابدّ من أن يكون منطبقاً مع واقعٍ خارجيٍّ لكون الفطرة أثرٌ من آثار الحكيم المتعال بحيث لا يشوبها اللغو والعبث. وكما أنّ غريزة الأكل والشرب تتعلّق في تناول ما له صلاحية أن يكون مأكولاً ومشروباً، فالمحبة الفطرية تشهد أيضاً بوجود عالم آخر له صلاحية البقاء والخلود(1).

* البرهان السابع: الوفاء بالوعد :

الوفاء بالوعد هو أحد البراهين التي تثبت تحقّق المعاد بعد الممات، وله مقدّمتان إحداهما قرآنية والأخرى عقليّة ،هما:

المقدّمة الأولى: القرآن الكريم تضمّن عدّة آياتٍ وعد الله تعالى فيها عباده الصالحين بحسن العاقبة وتوعّد المسيئين بسوء العاقبة، ومنها الآيتان التاليتان :

«إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ »(2).

«وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ *وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ *قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ *النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ *إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ *وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ *وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ *الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ *إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ *إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ »(3).

المقدّمة الثانية : الله تعالى لا يمكن أن يخلف وعده أبداً، لأنّه ليس بحاجةٍ إلى ذلك،

ص: 225


1- محسن ،خرّازي ،بداية المعارف الإلهيّة في شرح عقائد الإمامية، ج 2، ص 270.
2- سورة يونس، الآية 4 .
3- سورة البروج ،الآيات 2 إلى 11 .

فهذا الأمر لا يحدث إلّا إثر وجود نقص فيمن يخلفه أو وجود أمر يضطرّه لذلك؛ ومن البديهي أنّه تبارك شأنه لا يكتنفه النقص ولا يمكن أن يضطرّ لفعل شيء يرغمه على مخالفة وعده .

إذن، نستنتج من هاتين المقدمتين أنّ الله عزّ وجلّ وعد المؤمنين بالثواب والكافرين بالعقاب في الحياة الآخرة، وكلّ وعدٍ يصدر منه فهو متحقّق قطعاً؛ لذا فإنّ الثواب والعقاب والجنّة والنار هي أمورٌ حتمية التحقّق في عالم الآخرة، أي إنّ المعاد متحقّق لا محالة(1).

***

ص: 226


1- محسن خرّازي، بداية المعارف الإلهيّة في شرح عقائد الإمامية، ج 2، ص 269.

38.منكرو المعاد في مواجهة تحدّيات تفنّد آراءهم

إشارة

شهدت المجتمعات البشرية على مرّ العصور ظهور مرجفين وعصاة يناهضون الأنبياء والأولياء الصالحين من دون أن يتوانوا عن أيّة ذريعةٍ لمواجهتهم والتشكيك بتعاليم السماء التي جاؤوا بها لأسباب ودواعي عديدة، إذ اتّبعوا أساليب ملتويةً وطرحوا شبهاتٍ بأنماط مختلفة، ومن جملة ذلك إنكار المعاد والحياة الأخرويّة من الأساس أو تصوير هذه الحقيقة بشكلٍ يختلف عمّا جاءت به الأديان السماوية الأصيلة.

القرآن الكريم بدوره تصدّى لهؤلاء ودحض شبهاتهم كما أشار إلى دوافعهم وأهدافهم من وراء عنادهم ومعارضتهم حقيقة المصير المحتوم بعد مفارقة الروح للجسد الأمر الذي جعلهم أمام تحدٍّ جادٍّ لا محيص لهم منه، وفيما يأتي نذكر بعض آرائهم وشبهاتهم في رحاب آي الذكر الحكيم:

* الشبهة الأولى : استحالة إحياء العظام وهي رميم :

تصوّر بعض المعاندين من منكري المعاد والحياة بعد الممات استحالة جمع العظام وإعادتها إلى حالتها الأولى بعد أن تتلاشى في الأرض وتصبح رميماً.

تحليل الشبهة ونقضها

فنّد القرآن الكريم هذه الشبهة مؤكّداً على القدرة المطلقة للبارئ سبحانه الذي أنشأها النشأة الأولى، فهو الذي أوجدها من العدم؛ لذا كيف لا يمكنه أن يعيدها سيرتها الأولى بعد موتها؟! و من البديهي أنّ الخلقة أصعب مرتبةً من إعادة تركيب الأجزاء بعد تلاشيها .

ص: 227

فيما يأتي نذكر الشواهد القرآنية على الموضوع :

-«أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ *بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ »(1).

-«الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ *ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ *ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ *وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ *قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ »(2).

- «أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ *قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ »(3).

-«وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ *يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ *إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ *يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ »(4).

- «زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ *فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ *يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ»(5).

- «وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ *وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ»(6).

ص: 228


1- سورة القيامة، الآيتان 3 و 4 .
2- سورة العنكبوت، الآيات 7 إلى 11.
3- سورة العنكبوت، الآيتان 19 و 20 .
4- سورة ق ،الآيات 41 إلى 44.
5- سورة التغابن ،الآيات 7 إلى 9.
6- سورة النحل، الآيات 77 إلى 78 .

منكرو المعاد في مواجهة تحديات تفند آراءهم

*الشبهة الثانية: إنكار المعاد من منطلق اتِّباع الهوى وحبّ الدنيا :

هناك من أنكر المعاد والحياة بعد الممات من منطلق تعلّقه بالدنيا واتّباع هوى النفس وفقاً لما تمليه عليه غرائزه الحيوانية الزائلة زاعماً أنّ الملذّات ينعم بها الإنسان في الحياة الدنيا فقط .

- تحليل الشبهة ونقضها :

لقد ذمّ الله تعالى هذا التوجّه المنحرف في كتابه الكريم وفضح مآربهم النفسية من وراء طغيانهم في غيّهم وضلالهم، ومن ذلك قوله : «بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ *يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ»(1).

*الشبهة الثالثة: إنكار المعاد من منطلق اللّهث وراء المال والشهوة والمقام:

لم ينفكّ بنو آدم عن السعي وراء مغريات الدنيا وملذّاتها على مرّ العصور، ذلك لأهداف ودواعي نفسانية طغت عليهم، حيث تعلّقت قلوبهم بحبّ الثروات والشهوات والمناصب السلطوية مما حجب عقولهم عن رؤية الحقيقة وجعلهم ينكرون الحياة بعد الممات زاعمين أنّ الدنيا هي المقصد والمآل للحياة.

- تحليل الشبهة ونقضها :

القرآن الكريم بدوره وبّخ هؤلاء وفنّد استدلالاتهم الواهية، من ذلك ما جاء في الآيات الآتية: «وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ *وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ *أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ *هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ *إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ *إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ »(2).

ص: 229


1- سورة القيامة، الآيتان 5 و 6.
2- سورة المؤمنون، الآيات 33 إلى 38.

*الشبهة الرابعة: عدم حتمية المعاد :

من الشبهات التي طرحها معارضو الأديان السماوية أنّ المعاد مجرد أمرٍ ظنّيٍّ وليس هناك برهان قاطع يثبت تحقّقه.

-تحليل الشبهة ونقضها :

هذه الشبهة في الواقع عاريةٌ عن الصواب لسببين، هما:

الأوّل: لا يمكن نفي أمرٍ من أساسه وإنكاره من داعي عدم الاعتقاد به فقط ،فعندما لا يؤمن شخص بإحدى القضايا لا يمكنه ادّعاء عدم وجودها.

الثاني: هناك عدد من البراهين الدامغة التي تثبت تحقّق المعاد والحياة بعد الممات، بما فيها تلك التي ذكرناها في المباحث الآنفة كبرهان الحكمة والعدل والرحمة.

وقد دحض الكتاب الحكيم هذه الشبهة في عدة آياتٍ، ومنها قوله تعالى: «وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ *وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ *وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ »(1).

* الشبهة الخامسة : اشتراط الإقرار بالمعاد بتلبية طلباتٍ غير معقولةٍ:

بعض المعاندين الذين أنكروا المعاد وإحياء الموتى، تشبّثوا بطلباتٍ لا مسوّغ لها كي يقرّوا بهذه العقيدة، من ذلك طلب إحياء آبائهم الموتى.

- تحليل الشبهة ونقضها :

تطرّق الكتاب الحكيم إلى هذه الظاهرة مؤكّداً على أنّ آياته براهين ساطعة تدلّ على حتمية البعث والحساب بعد الممات من ذلك قوله تعالى: «وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ *وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ

ص: 230


1- سورة الجاثية، الآية 32 إلى 34.

آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ *قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ* »(1).

*الشبهة السادسة : إحياء الموتى ضربٌ من السحر :

بعد أن دحضت استدلالات منكري المعاد والحياة بعد الممات، لم يجدوا بدّاً من تبرير هذا الأمر الواقع إلّا بزعم أنّه ضرب من السحر والشعوذة.

- تحليل الشبهة ونقضها

هذه الشبهة أشار إليها القرآن الكريم وفنّدها في قوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ »(2).

*الشبهة السابعة: استحالة جمع أعضاء البدن ومكوناته المتناثرة :

قصور عقل الإنسان يقيّده بالفكر المادّي البحت ويحجبه عن تلك القدرة الماورائية التي لا حدّ لها ولا نطاق، لذلك عجز بعض منكري المعاد عن تصوّر وجود هكذا قدرة عظيمة زاعمين استحالة جمع أعضاء بدن الإنسان ومكوّناته الدقيقة بعد تناثرها وتلاشيها في التراب ولا سيّما بعد أن تمضي قرون طويلة بحيث لا يبقى منها شيءٌ يذكر.

- تحليل الشبهة ونقضها :

الله العزيز القدير تحدّى هؤلاء وأكّد لهم في كتابه الكريم بأنّه على كلّ شيءٍ قديرٍ ولا تعزب عنه ذرّةٌ إلّا أحصاها، فهو الذي أوجدها من العدم في خلقتها الأولى، إذ قال:

ص: 231


1- سورة الجاثية ،الآيات 24 إلى 26 .
2- سورة هود، الآية 7 .

-«وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ *لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ »(1).

- «أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ *وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ *قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ *الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ *أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ *إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ »(2).

*الشبهة الثامنة : امتزاج خلايا البدن بعد موته مع أبدان حيّة أخرى (شبهة الآكل والمأكول ):

إحدى الشبهات الشائعة والمعقدة التي تشبّث بها منكرو المعاد هي شبهة (الآكل والمأكول) التي فحواها تداخل وامتزاج خلايا الكائن الحيّ بعد موته مع خلايا ومكوّنات كائن حىّ آخر.

وتقريرها بالتفصيل كما يأتي : هناك شواهد تأريخية تدلّ على وجود أكلة لحوم البشر فضلاً عن أنّ بعض الناس حين الجفاف والجدب المدقع قد يبادرون إلى أكل لحوم بني جلدتهم ممّا يترتّب عليه حدوث تداخل وامتزاج مباشر في الخلايا المكوّنة لأبدانهم، ومن الممكن أن يحدث هذا الأمر بشكل غير مباشر كما لو تلاشى بدن المتوفى في التراب وامتصّته جذور النباتات التي يتغذى منها الإنسان أو الحيوان مأكول اللحم. في كلتا الحالتين المذكوريتين تنتقل خلايا بدن الميّت إلى بدن الحيّ وتختلط معها.

ص: 232


1- سورة سبأ، ،الآيتان 3 و 4 .
2- سورة يس ،الآيات 77 إلى 82 .

على أساس ما ذكر، تساءل بعضهم قائلين: كيف ستحشر الخلايا التي انتقلت من بدن الميّت إلى بدن الحيّ في يوم القيامة؟ فهل ستحشر في إطار بدن الآكل أو المأكول؟ وبما أنّ بني آدم سيحشرون من دون أيّ نقصٍ في هيئتهم البنيوية، فكيف يتمّ تعويض هذا النقص في الخلايا المشتركة بين البدنين، إذ لو حشرت في البدن الأوّل كيف يتمّ تعويضها في البدن الثاني، والعكس صحيح؟(1).

- تحليل الشبهة ونقضها :

علماء الكلام فنّدوا هذه الشبهة بقولهم: جسم الإنسان مكوّنٌ من أجزاء أصلية وأخرى فرعية، أمّا الأصلية فهي مصونة من أيّ زيادة أو نقصانٍ ولا يمكن أن يطرأ عليها التغيير والتحوّل، في حين الفرعية من شأنها أن تتغيّر وتنتقل من بدنٍ إلى آخر.

علماء الفلسفة بدورهم تطرّقوا إلى نقض هذه الشبهة في ضمن بيانهم لحقيقة الوجود الإنساني، إذ قالوا: شخصية الإنسان متقوّمة على الروح التي هي عبارةٌ عن حقيقةٍ تتعلّق بالبدن المادّي فتدبّر شؤونه ومن ثمّ تجعله تابعاً لها، لذا ليس من الممكن أن تتغيّر أو تنتقل إلى بدنٍ آخر إثر التغييرات التي تطرأ على البدن الذي تحلّ فيه، فهي واقع شخصية الإنسان الثابتة.

لقد أكّد الفلاسفة على أنّ الإنسان طوال حياته المادية يواجه تغييراتٍ جذريةً في بدنه من الناحيتين الكمّية والنوعية، لكنّ روحه تبقى على حالها من دون أن يطالها أيّ تغيير ذاتيٍّ، فهي واحدة غير قابلةٍ للتقسيم ولا الزوال، وتبعاً لذلك يظلّ الإنسان بما هو إنسان، واحداً لا ثاني له.

ص: 233


1- هذه الشبهة قديمة حيث ذكرها أفلاطون وغيره من الفلاسفة المتقدّمين والمتأخرين من المسلمين وغيرهم بتعابير وتقريرات مختلفة، أهمّها: لو أنّ إنساناً تغذّى على إنسان آخر وأكل جميع أعضائه، فالمحشور لا يكون إلّا أحدهما لأنّه لا تبقى للآخر أجزاء تخلق منها أعضاؤه، وعليه يطرح سؤال فحواه :البدن المحشور بأيّ الروحين سوف يتعلّق ؟ فلو تعلّق بروح الآكل وكان كافراً، والمأكول مؤمناً؛ للزم عقاب المؤمن، ولو عكس الأمر للزم ثواب الكافر؛ وهو ممتنع . للاطلاع أكثر، راجع :العلّامة الحلّي، تجريد الاعتقاد، ص 406.

من البديهي أنّ هذه التغييرات دنيويّة مادّية تحدث في عالم الطبيعة، لكن من الممكن أن تسري إلى عالم الآخرة بنحوٍ آخر ، فقد ذكر الكتاب الحكيم أنّ الكفّار المعذّبين في جهنّم تصطلي جلودهم بالنار وإثر ذلك يبدلهم الله العزيز القهّار جلوداً أخرى، كما في الآية المباركة : «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا»(1).

استناداً إلى ما ذكر في النقاط الثمانية نستنتج أنّ المشكّكين بالحياة الأخروية لم يطرحوا أية شبهةٍ حقةٍّ مدعومةٍ ببرهانٍ جليّ يمكن الاعتماد عليه لإنكار البعث بعد الممات، وإنّما ذكروا مزاعم وتخمينات منبثقة من نزعات نفسية وتصوّرات عارية عن الصحة، وكلّ ما جاؤوا به قد تمّ تفنيده في كتاب الله العزيز الذي أكّد على قدرة البارئ اللامتناهية وحقيقة الروح الإنسانية المجرّدة.

فضلاً عن كلّ ما ذكر، فهؤلاء حتّى وإن لجؤوا إلى بعض العلوم الإنسانية لإنكار حقيقة المعاد، إلّا أنّ أطروحاتهم لا تسمن ولا تغني من جوع، إذ لا يمكن لعلم النفس أو الاجتماع أو أيّ علم تجريبي آخر نفي حقيقة البعث والحياة بعد الممات والأكثر وهناً من ذلك ما يدّعيه أصحاب النزعات المادية البحتة من المتعطّشين لملذّات الدنيا والثروات والمناصب السياسية، إذ يرفضون مبدأ المعاد من منطلق أهواء نفسية وبالاستناد إلى شبهاتٍ عقيمةٍ.

* الشبهة التاسعة التناسخ :

التناسخ هو اعتقاد مشتركٌ بين أتباع المذهب العرفاني الشرقي وعلماء الباراسيكولوجيا (علم النفس الغيبي) الذي شاعت فيه ظاهرة التنويم المغناطيسي.

محور الموضوع الذي يدور حوله البحث في هذه العقيدة يمكن تلخيصه في السؤالين الآتيين:

ص: 234


1- سورة النساء، الآية 56 .

- هل أنّ الروح الإنسانية أو الحيوانية تتعلّق ببدنٍ واحدٍ وبعد الموت تلج في عالمٍ آخر غير الدنيا؟

- هل تحلّ الروح الإنسانية أو الحيوانية بعد الموت في بدن آخر لتواصل حياتها الدنيوية؟

المعتقدون بالتناسخ يذهبون إلى أنّ الروح تحلّ في بدن آخر بعد موت البدن الأوّل، إذ قالوا: بعد أن تفارق الروح جسد الكائن الحيّ إثر الموت، تنتقل إلى جسد آخر إنسانيٍّ أو حيوانيٍّ أو نباتيٍّ، بل من الممكن أن تتلبّس في أحد الجمادات؛ حيث تتوالى هذه العملية فتسري من جسدٍ إلى غيره.

- تحليل الشبهة ونقضها

من البديهي أنّ هذه العقيدة تتعارض بالكامل مع حكم العقل ودلالات القرآن الكريم، فقد قال العزيز العليم : «اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ»(1).

كلمة (وفاة) ومشتقّاتها في القرآن الكريم تدلّ على عودة الروح إلى الله عزّ وجلّ بعد موت البدن المادّي، قال تعالى: «حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ *لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ »(2).

هذه العقيدة باطلة أيضاً من الناحية العقلية، إذ يتّرتب عليها اجتماع روحين في بدنٍ واحدٍ، إحداهما تحلّ في البدن بعد أن يصبح وعاءً مستعدّاً لتلقّي الفيض الإلهيّ ولائقاً للاتّصاف بالحياة، والأخرى هي التي تنتقل إليه من بدنٍ آخر .

ص: 235


1- سورة الزمر، الآية 42.
2- سورة المؤمنون، الآيتان 99 و 100.

العقل يدرك بالبداهة استحالة حلول روحين في بدنٍ واحدٍ من منطلق مبدأ الوحدة الشخصية، وهذا الأمر مدعوم بمبدأ الحركة الجوهرية، لأنّ البدن يطوي مسيرته التكاملية على أساس هذه الحركة فيصل إلى مرحلة تجعله متصفاً بقابلية ولوج الروح فيه، ولو تعلّقت فيه روح أخرى في هذه الحالة فهذا يعني اجتماع روحين في بدنِ واحدٍ ؛ وهو محالٌ (1).

ولصاحب تفسير الميزان العلّامة محمد حسين الطباطبائي استدلال مبسوط حول تفنيد عقيدة التناسخ، قال: «إنّ المحصّل من الحسّ والبرهان أنّ الجوهر النباتي المادّي إذا وقعت في صراط الاستكمال الحيواني، فإنّه يتحرّك إلى الحيوانية، فيتصوّر بالصورة الحيوانية، وهي صورةً مجرّدة بالتجرّد البرزخي ،وحقيقتها إدراك الشيء نفسه بإدراك جزئيٍّ خياليٍّ؛ وهذه الصورة وجود كامل للجوهر النباتي وفعلية لهذه القوّة تلبّس بها (2) بالحركة الجوهرية، ومن المحال أن ترجع يوماً إلى الجوهر المادّي فتصير إيَّاه إلّا أن تفارق مادّتها فتبقى المادّة مع صورة مادّية كالحيوان تموت فيصير جسداً لا حراك به. ثمّ إنّ الصورة الحيوانية مبدأ لأفعال إدراكية تصدر عنها وأحوال علمية تترتب عليها، تنتقش النفس بكلّ واحدٍ من تلك الأحوال بصدورها منها، ولا يزال نقشٌ عن نقشٍ، وإذا تراكمت من هذه النقوش ما هي متشاكلةٌ متشابهةٌ، تحصّل نقشٌ واحدٌ وصار صورةً ثابتةً غير قابلةٍ للزوال وملكةً راسخةً؛ وهذه صورة نفسانية جديدة يمكن أن يتنوّع بها نفسٌ حيوانيٌّ فتصير حيواناً خاصّاً ذا صورةٍ خاصةٍ منوّعةٍ كصورة المكر والحقد والشهوة والوفاء والافتراس، وغير ذلك؛ وإذا لم تحصل ملكةٌ بقي النفس على مرتبتها الساذجة السابقة، كالنبات إذا وقفت عن حركتها الجوهرية بقي نباتاً ولم يخرج إلى الفعلية الحيوانية، ولو أنّ النفس البرزخية تتكامل من جهة أحوالها وأفعالها بحصول الصورة دفعةً، لانقطعت علقتها مع البدن في أوّل وجودها، لكنّها تتكامل بواسطة أفعالها الإدراكية

ص: 236


1- صدر المتألهين ،الأسفار الأربعة، ج 9، ص 1 و 2 ؛ الرازيّ المباحث المشرقية، ج 2 ص 396 - 398 .
2- هكذا في نصّ الكتاب والمقصود أنّ فعلية هذه القوّة تتحقّق عبر تلبّسها بالحركة الجوهرية.

المتعلقة بالمادّة شيئاً فشيئاً حتى تصير حيواناً خاصّاً إن عمّر العمر الطبيعي أو قدراً معتدّاً به، وإن حال بينه وبين استتمام العمر الطبيعي أو القدر المعتدّ به مانعٌ كالموت الاخترامي، بقي على ما كان عليه من سذاجة الحيوانية . ثمّ إنّ الحيوان إذا وقعت في صراط الإنسانية -وهي الوجود الذي يعقل ذاته تعقلاً كلياً مجرّداً عن المادّة ولوازمها من المقادير والألوان وغيرهما - خرج بالحركة الجوهرية من فعلية المثال التي هي قوة العقل إلى فعلية التجرّد العقلي، وتحقّقت له صورة الإنسان بالفعل ، ومن المحال أن تعود هذه الفعلية إلى قوّتها التي هي التجرّد المثالي على حدّ ما ذكر في الحيوان.

ثمّ إنّ لهذه الصورة أيضاً أفعالاً وأحوالاً تحصل بتراكمها التدريجي صورةٌ خاصّةٌ جديدةٌ توجب تنوّع النوعية الإنسانية على حدّ ما ذكر نظيره في النوعية الحيوانية.

إذا عرفت ما ذكرناه ظهر لك أنّا لو فرضنا إنساناً رجع بعد موته إلى الدنيا وتجدّد لنفسه التعلّق بالمادة - وخاصّةً المادّة التي كانت متعلّقة نفسه من قبل - لم يبطل بذلك أصل تجرّد نفسه، فقد كانت مجرّدةً قبل انقطاع العلقة ومعها أيضاً، وهي مع التعلّق ثانياً حافظةٌ لتجرّدها، والذي كان لها بالموت أنّ الأداة التي كانت رابطة فعلها بالمادة صارت مفقودةً لها، فلا تقدر على فعل مادّي كالصانع إذا فقد آلات صنعته والأدوات اللازمة لها، فإذا عادت النفس إلى تعلّقها الفعلي بالمادة أخذت في استعمال قواها وأدواتها البدنية ووضعت ما اكتسبتها من الأحوال والملكات بواسطة الأفعال فوق ما كانت حاضرةً وحاصلةً لها من قبل واستكملت بها استكمالاً جديداً من غير أن يكون ذلك منه رجوعاً قهقرى وسيراً نزولياً من الكمال إلى النقص ومن الفعل إلى القوّة.

فإن قلت: هذا يوجب القول بالقسر الدائم مع ضرورة بطلانه، فإنّ النفس المجرّدة المنقطعة عن البدن لو بقي في طباعها إمكان الاستكمال من جهة الأفعال المادية بالتعلّق بالمادّة ثانياً، كان بقاؤها على الحرمان من الكمال إلى الأبد حرماناً عمّا تستدعيه بطباعها، فما كلّ نفسٍ براجعةٍ إلى الدنيا بإعجازٍ أو خرق عادةٍ، والحرمان المستمرّ قسرٌ دائمٌ.

ص: 237

قلت: هذه النفوس التي خرجت من القوّة إلى الفعل في الدنيا واتصلت إلى حدّ وماتت عندها ،لا تبقى على إمكان الاستكمال اللاحق دائماً، بل يستقرّ على فعليّتها الحاضرة بعد حينٍ أو تخرج إلى الصورة العقليّة المناسبة لذلك وتبقى على ذلك وتزول الإمكان المذكور بعد ذلك، فالإنسان الذي مات وله نفس ساذجةً غير أنّه فعل أفعالاً وخلط عملاً صالحاً وآخر سيّئاً ، لو عاش حيناً أمكن أن يكتسب على نفسه الساذجة صورةً سعيدةً أو شقيةً؛ وكذا لو عاد بعد الموت إلى الدنيا وعاش، أمكن أن يكتسب على صورته السابقة صورةً خاصةً جديدةً، وإذا لم يعد فهو في البرزخ مثابٌ أو معذّبٌ بما كسبته من الأفعال حتى يتصوّر بصورةٍ عقليّةٍ مناسبةٍ لصورته السابقة المثالية، وعند ذلك يبطل الإمكان المذكور ويبقى إمكانات الاستكمالات العقلية، فإن عاد إلى الدنيا كالأنبياء والأولياء لو عادوا إلى الدنيا بعد موتهم، أمكن أن يحصل صورةً أخرى عقليّة من ناحية المادّة والأفعال المتعلّقة بها، ولو لم يعد فليس له إلّا ما كسب من الكمال والصعود في مدارجه والسير في صراطه هذا .

ومن المعلوم أنّ هذا ليس قسراً دائماً، ولو كان مجرد حرمانٍ موجودٍ عن كماله الممكن له بواسطة عمل عواملٍ وتأثير عللٍ مؤثّرةٍ قسراً دائماً، لكان أكثر حوادث هذا العالم الذي هو دار التزاحم وموطن التضادّ أو جميعها قسراً دائماً، فجميع أجزاء هذا العالم الطبيعي مؤثرةٌ في الجميع، وإنّما القسر الدائم أن يجعل في غريزة نوع من الأنواع اقتضاء كمالٍ من الكمالات أو استعداد، ثمّ لا يظهر أثر ذلك دائماً إمّا لأمر في داخل ذاته أو لأمر من خارج ذاته متوجّه إلى إبطاله بحسب الغريزة، فيكون تغريز النوع المقتضي أو المستعدّ للكمال تغريزاً باطلاً وتجبيلاً هباءً لغواً؛ فافهم ذلك.

وكذا لو فرضنا إنساناً تغيرت صورته إلى صورة نوعٍ آخر من أنواع الحيوان كالقرد والخنزير، فإنّما هي صورةٌ على صورةٍ، فهو إنسانٌ خنزيرٌ أو إنسانٌ قردةٌ، لا إنسان بطلت إنسانيته وحلّت الصورة الخنزيرية أو القردية محلّها، فالإنسان إذا كسب صورةً من صور الملكات تصوّرت نفسه بها؛ ولا دليل على استحالة خروجها في هذه الدنيا

ص: 238

من الكمون إلى البروز على حدّ ما ستظهر في الآخرة بعد الموت، وقد مرّ أنّ النفس الإنسانيّة في أوّل حدوثها على السذاجة يمكن أن تتنوّع بصورة خاصّة تخصّصها بعد الإبهام و تقيّدها بعد الإطلاق والقبول، فالممسوخ من الإنسان إنسانٌ ممسوخٌ لا أنّه ممسوخ فاقد للإنسانية هذا ، ونحن نقرأ في المنشورات اليومية من أخبار المجامع العلمية بأوربا وأمريكا ما يؤخذ جواز الحياة بعد الموت وتبدّل صورة الإنسان بصورة المسخ، وإن لم نتكل في هذه المباحث على أمثال هذه الأخبار، لكن من الواجب على الباحثين من المحصّلين أن لا ينسوا اليوم ما يتلونه بالأمس.

فإن قلت : فعلى هذا فلا مانع من القول بالتناسخ .

قلت كلا فإنّ التناسخ - وهو تعلق النفس المستكملة بنوع كمالها بعد مفارقتها البدن ببدن آخر - محال، فإنّ هذا البدن إن كان ذا نفس استلزم التناسخ تعلّق نفسين ببدنٍ واحد، وهو وحدة الكثير وكثرة الواحد؛ وإن لم تكن ذا نفس، استلزم رجوع ما بالفعل إلى القوّة، كرجوع الشيخ إلى الصبا، وكذلك يستحيل تعلّق نفس إنساني مستكملة مفارقة ببدن نباتي أو حيواني بما مرّ من البيان»(1).

***

ص: 239


1- محمد حسين الطباطبائي ،الميزان في تفسير القرآن، ج 1، ص 117 و 118.

39. منازل الآخرة

إشارة

موضوع (منازل الآخرة) يعدّ واحداً من المباحث الهامة المطروحة في مجال المعاد والحياة بعد الممات والمراد منه تلك المواقف التي يمرّ بها الإنسان بعد أن يفارق الحياة الدنيا حتى يلاقي مصيره المحتوم في جنة النعيم أو عذاب السعير، ولا تتسنّى لنا معرفتها إلّا في رحاب النصوص القرآنية والروائية؛ لذا يمكن تصنيفها بالترتيب الآتي:

1)الموت.

2) القبر والبرزخ.

3) القيامة.

4) النفخ في الصور.

5) الحساب.

6) الصراط

7) الجنّة والنار والأعراف.

وفيما يأتي نتطرّق إلى شرحها وتفصيلها من زاويةٍ قرآنيةٍ حسب الترتيب أعلاه:

المنزل الأوّل: الموت :

عندما تفارق الروحُ الجسدَ لحظة الموت فهي تلج في عالمٍ جديدٍ، لذا يمكن اعتبار هذه اللحظة نهايةً للحياة الأولى وبدايةً لحياةٍ أخرى، حيث قال خاتم الأنبياء

ص: 240

محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : «الموت أوّل منزلٍ من منازل الآخرة، وآخر منزلٍ من منازل الدنيا، فطوبى لمن أكرم عند النزول بأوّلها، وطوبى لمن أحسن مشايعته في آخرها»(1).

عدد من الآيات القرآنية تحدّثت عن الموت، منها:

-«كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ »(2).

-«ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ *ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ *ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ»(3).

نستلهم من هذه الآيات أنّ الموت لا يعني فناء الإنسان، فقد عبّر الله تعالى عنه في بالوفاة التي تعني قبض الروح واستلالها من البدن بواسطة الله تعالى أو ملائكته، ومن ذلك قوله : «اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ.»(4). وكما هو واضحٌ في الآية المباركة، فإنّ قبض روح الإنسان لا يقتصر على الموت فحسب، فالمنام أيضاً يعدّ ضرباً من ضروب الموت.

وقد وصف الإمام علي (علیه السلام) الموت بأنّه انتقال من دارٍ إلى أخرى وعدّه بقاءً وليس فناء، فقال: «أشهد بالله ما تنالون من الدنيا نعمةً تفرحون بها إلّا بفراق أُخرى تكرمونها، أيها الناس إنّا خلقنا وإياكم للبقاء لا للفناء، لكنّكم من دارٍ إلى دارٍ تُنقلون؛ فتزوّدوا لما أنتم صائرون إليه وخالدون فيه»(5).

ص: 241


1- محمّد باقر المجلسيّ، بحار الأنوار، ج 6، ص 133.
2- سورة البقرة ،الآية 28 .
3- سورة المؤمنون، الآيات 14 إلى 16.
4- سورة الزمر، الآية 42.
5- الشيخ المفيد، الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد، ص 127.

ومن الجدير بالذكر هنا أنّ الموت سنةٌ شموليةٌ بحيث يطرأ على كلّ كائنٍ حيٍّ في حياته الدنيوية، فهذه المرحلة من الحياة فانية وتبعاً لذلك سيفني كلّ ما فيها، إذ أكّد الخالق البارئ تبارك شأنه على هذه الحقيقة في آياتٍ عدة منها:

-«كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ»(1).

-«إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ *ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ»(2).

-«وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ*كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ»(3).

الموت حقٌّ وهو حتمٌ محتومٌ، ولكن من ذا الذي يقبض الأرواح؟ أشار القرآن الكريم إلى أنّ الله تعالى وملك الموت وسائر الملائكة يقومون بقبض الأرواح، وذلك في الآيات الآتية:

-«اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا»(4).

-«قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ»(5).

««وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ»(6).

ص: 242


1- سورة آل عمران ،الآية 185.
2- سورة الزمر، الآيتان 30 و 31 .
3- سورة الأنبياء، الآيات 34 و 35.
4- سورة الزمر، الآية 42.
5- سورة السجدة، الآية 11 .
6- سورة الأنعام، الآية 61.

هذه الآيات في الحقيقة ليست متناقضةً في دلالاتها من حيث المتولّي المباشر لقبض الأرواح، إذ قد يقوم الله العزيز القدير بهذا الأمر مباشرةً بحقّ بعض عباده، ويوكل بعضهم الآخر إلى ملك الموت وسائر الملائكة، ومن البديهي أنّ قبض الروح في جميع الأحوال إنّما يتمّ بأمرٍ منه تبارك شأنه؛ لذا يستند إليه هذا الفعل من منطلق مبدأ التوحيد في الأفعال.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ ملك الموت لا يقبض جميع الأرواح بنمطٍ واحدٍ، فهو يستلّ روح المؤمن براحةٍ وطمأنينةٍ في حين يزهق روح الكافر بمشقّةٍ وعذابٍ، فقد قال تعالى في كتابه العزيز:

-«الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ»(1).

- «وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ *ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ »(2).

كلنا يعلم بأنّ غالبية الناس يخشون من الموت ولا يرغبون بالتخلّي عن الحياة الدنيوية، ذلك لأسباب عديدة، منها عدم فهمهم لحقيقة الموت وتصوّر كونه فناءً وعدماً، أو بسبب الخوف من سوء العاقبة إثر أعمالهم السيّئة وتنصّلهم عن أحكام الشريعة، أو أنّ الدافع لذلك حبّ الدنيا وملذّاتها الفانية؛ والآيات الآتية تطرّقت إلى ذكر جملة من هذه الأسباب : «وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ *ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ»(3).

ص: 243


1- سورة النحل ،الآية 32 .
2- سورة الأنفال، الآيتان 50 و 51.
3- سورة البقرة، الآيات 94 إلى 96.

وروي عن الإمام جعفر الصادق (علیه السلام) أنّه قال: «كان للحسن ابن عليّ بن أبي طالب (صلوات الله عليهما )صديقٌ، وكان ماجناً فتباطأ عليه أياماً؛ فجاءه يوماً فقال له الحسن (علیه السلام) :كيف أصبحت؟ فقال : يا ابن رسول الله، أصبحت بخلاف ما أُحبّ ويحبّ الله ويحب الشيطان فضحك الحسن (علیه السلام) ثمّ قال : وكيف ذاك؟ قال: لأنّ الله عزّ وجلّ يحبّ أن أُطيعه ولا أعصيه، ولست كذلك؛ والشيطان يحبّ أن أعصي الله ولا أُطيعه ولست كذلك؛ وأنا أحبّ أن لا أموت ولست كذلك، فقام إليه رجلٌ فقال : يا ابن رسول الله ما بالنا نكره الموت ولا نحبّه؟ قال: فقال الحسن (علیه السلام): إنّكم أخربتم آخرتكم وعمرتم دنياكم فأنتم تكرهون النقلة من العمران إلى الخراب»(1).

لا شكّ في أنّ غاية الله تعالى من وراء خلقة الإنسان في الحياة الدنيا ثمّ قبض روحه كي ينتقل إلى عالمٍ آخر، هي ابتلاؤه واختباره كي يميز الخبيث من الطيّب؛ لذلك وفّر له كلّ سبل الهداية والصلاح في الحياة الدنيا صيانةً له من الانجرار وراء وساوس الشيطان، فقد قال في كتابه الكريم : «تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ *الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ »(2).

لقد شرّع الله عزّ وجلّ التوبة لعباده المذنبين بغية تمكينهم من الرجوع إلى فطرتهم السليمة وتشويقهم على الإعراض عن كلّ ما يبعدهم عن الحقّ والحقيقة، ولكنّ هذا الندم يجب أن يتمّ أثناء الحياة التي يتمكّن الإنسان فيها من ارتكاب المعاصي، لذلك فهو غير ناجعٍ في لحظة نزع الروح، حيث قال تعالى:

-«إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا *وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا»(3).

ص: 244


1- محمد باقر المجلسيّ، بحار الأنوار، ج 6، ص 129.
2- سورة الملك، الآيتان 1 و 2 .
3- سورة النساء، الآيتان 17 و 18.

-«وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ *آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ *فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ»(1).

لحظة مفارقة الروح للبدن تبدأ عندما تنتاب الإنسان سكرات الموت، ففي هذه اللحظة يستعدّ للانتقال إلى مرحلةٍ جديدةٍ من حياته ويغادر الدنيا إلى الأبد رغماً عنه، حيث قال سبحانه :

-«وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ»(2).

-«كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ *وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ *وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ *وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ *إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ»(3).

ومن ناحيةٍ أخرى، هناك نمط آخر من الموت، ألا وهو الموت الاجتماعي الذي يعني فناء الحضارات والأقوام واضمحلالها، إذ أكّد القرآن الكريم على هذه الحقيقة في آياتٍ عديدةٍ، منها قوله تعالى: «وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ »(4).

لمّا كان الموت حقاً وفرضاً مفروضاً لا محيص منه، يجب على الإنسان أن يكتب وصيّته عند شعوره باقتراب أجله، وهو ما أكّد عليه القرآن الكريم في الآيتين الآتيتين:

-«كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ»(5).

ص: 245


1- سورة يونس الآيات 90 إلى 92 .
2- سورة ق الآية 19.
3- سورة القيامة، الآيات 26 إلى 30 .
4- سورة الأعراف ،الآية 34 .
5- سورة البقرة، الآية 180 .

- «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ »(1).

المنزل الثاني: القبر والبرزخ :

بعد أن تفارق روح الإنسان جسده المادي، تأتي مرحلة الدفن وعالم البرزخ الذي هو عبارة عن حياةٍ جديدةٍ.

صحيحٌ أنّ الجسد يدفن تحت التراب في قبر يكون مثواه الأخير في الحياة الدنيا، لكنّ المقصود من عالم البرزخ والحياة في القبر غير هذا الاستقرار البدني، فهو عالم متوسط بين الحياة الدنيا وقيام الساعة، لذا حتّى وإن تلاشت أجساد بعض الناس لأيّ سبب كان ولم تدفن في قبرٍ من ترابٍ فهي في الواقع تستقرّ في قبرٍ برزخيٍّ.

الكتاب الحكيم من ناحيته تطرّق إلى الحديث عن القبرين المادّي والبرزخي، والفقهاء بدورهم ساقوا أبحاثهم الفقهية على صعيد أحكام القبر المادّي، في حين أنّ علماء الفلسفة والكلام انصرفوا إلى بيان حقيقة القبر البرزخي وما تواجهه الروح فيه من شقاءٍ أو نعيمٍ. من جملة الآيات التي تضمّنت مفاهيم حول القبر المادّي، ما يأتي:

-«قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ *مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ *مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ *ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ *ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ»(2).

-«وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ.»(3).

ص: 246


1- سورة المائدة، الآية 106 .
2- سورة عبس، الآيات 17 إلى 22 .
3- سورة فاطر ، الآية 22 .

ومن جملة الآيات التي أشارت إلى عالم البرزخ الذي يتلو الحياة الدنيا ويسبق الحياة الآخرة، قوله تعالى: «حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ *لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ »(1).

أكّد القرآن الكريم على أنّ المؤمنين في حياتهم البرزخية يكرمون بشتّى أنواع النعم والملذّات التي تشتهيها الأنفس، حيث قال سبحانه: «وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ *فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ *يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ »(2).

من الحقائق التي جاء بها الكتاب الحكيم أنّ الإنسان يموت مرّتين ويحيا مرّتين، فقد قال تعالى: «قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ »(3). . إذ بعد خلقته في الدنيا يطرق بابه الموت، وهذه هي الميتة الأولى، وأمّا الميتة الثانية فتتحقّق في نهاية الحياة البرزخية بعد النفخ في الصور نفخة الموت التي يُصعق إثرها كلّ من في السماوات والأرض (النفخة الأولى) إلّا من شاء الله سبحانه. وبالنسبة إلى الحياتين اللتين أشار إليهما القرآن الكريم ،فهما الحياة البرزخية والحياة الأخروية التي تبدأ بعد نفخة الحياة النفخة الثانية لإحياء من صُعق في النفخة الأولى؛ فقد قال العليّ القدير في كتابه الكريم: «وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ *وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ »(4).

عالم البرزخ له مواقف وأوصاف خاصّة تميّزه عن عالمي الدنيا والقيامة، ومن

ص: 247


1- سورة المؤمنون، الآيتان 99 و 100 .
2- سورة آل عمران ،الآيات 169 إلى 171 .
3- سورة غافر، الآية 11.
4- سورة الزمر، الآيتان 68 و 69 .

جملتها سؤال القبر الذي تم التأكيد عليه في عددٍ من الروايات، فقد روي عن الإمام عليّ بن الحسين (علیهما السلام) حديث طويل جاء فيه : « ... أيها الناس اتقوا الله واعلموا أنّكم إليه ترجعون فتجد كلّ نفس ما عملت في هذه الدنيا من خيرٍ محضراً وما عملت من سوءٍ تودّ لو أنّ بينها وبينه أمداً بعيداً، ويحذّركم الله نفسه.

ويحك ابن آدم الغافل وليس بمغفولٍ عنه !

ابن آدم، إنّ أجلك أسرع شيء إليك، قد أقبل نحوك حثيثاً يطلبك ويوشك أن يدركك وكأن قد أُوفيت أجلك وقبض الملك روحك وصرت إلى منزل وحيداً فردّ إليك فيه روحك واقتحم عليك فيه ملكاك منكر ونكير لمساءلتك وشديد امتحانك.

ألا وإنّ أوّل ما يسألانك عن ربّك الذي كنت تعبده، وعن نبيّك الذي أرسل إليك، وعن دينك الذي كنت تدين به وعن كتابك الذي كنت تتلوه، وعن إمامك الذي كنت تتولّاه؛ ثمّ عن عمرك فيما أفنيته ومالك من أين اكتسبته وفيما أتلفته، فخذ حذرك وانظر لنفسك وأعدّ للجواب قبل الامتحان والمسألة والاختبار، فإن تكُ مؤمناً تقيّاً عارفاً بدينك متّبعاً للصادقين موالياً لأولياء الله ؛ لقّاك الله حجّتك ...»(1).

وقد أشارت بعض الروايات إلى أنّ سؤال القبر يواجهه صنفان من الناس، وهما المؤمنون حقاً والمعاندون غاية العناد، فقد روى أبوبكر الحضرمي عن الإمام محمّد الباقر (علیه السلام) أنّه قال: «لا يُسأل في القبر إلّا من مُحضّ الإيمان محضاً، أو مُحضّ الكفر محضاً، فقال الحضرمي له : فسائر الناس؟ أجاب :« يُلهى عنهم »(2).

ضغطة القبر هي من مختصات عالم البرزخ الأخرى، وهناك عدد من الأحاديث التي تؤكّد على هذه الحقيقة وفيها ما أشار إلى أنّها تعمّ بعض المؤمنين أيضاً، وقد تمّ تبريرها بأنّها كفّارة لما أضاعوه من نعم الله تعالى في الحياة الدنيا، ونوّه بعضها على عدم

ص: 248


1- محمد باقر المجلسيّ، بحار الأنوار، ج 6، ص 223.
2- محمّد باقر المجلسيّ، بحار الأنوار ، ج 6، ص 235.

شمولها للمؤمنين الخلّص. روي عن الإمام الصادق عن آبائه (علیهم السلام) عن رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ما يأتي:« ضغطة القبر للمؤمن كفّارة لما كان منه من تضييع النعم»(1).

المنزل الثالث: القيامة :

حينما تحلّ ساعة الحساب في يوم القيامة ينتقل الخلق من عالم البرزخ إلى عالم جديد له خصوصياته الفريدة التي تميّزه عن سائر العوالم فقد قال العزيز الحكيم في كتابه الكريم: «فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ»(2).

قبل ذلك اليوم المصيري تحدث وقائع مدوّية في الكون، كزلزلة الأرض زلزلةً عظيمةً وانشقاق السماء وانفطار القمر، فيتغيّر إثر ذلك النظام الحاكم حيث تخرج الأرض أثقالها وتتلاشى جبالها لتصبح كثيباً مهيلاً ويندرس كلّ ما فيها ويكون كالسراب، وتسجّر البحار ولا يبقى فيها كائن حي، فيتناثر كلّ ما في هذه الأرض في الفضاء وكأنّه عهنٌ منفوشٌ؛ ويختلّ نظم المجرّات الكونية فينطفئ نور نجوم السماء وشموشها التي يفوق حجمها كواكب المنظومة الشمسية أضعافاً مضاعفةً وتتصادم مع بعضها وكأنّ عاصفةً هوجاء أزاحتها عن مداراتها الثابتة طوال ملايين السنين؛ ويجمع الله تعالى الشمس والقمر مع بعضهما، فالسماء التي جعلها في الحياة الدنيا كالسقف الشديد تتزعزع أركانها ويختل نظمها الدقيق فتنشق وتطوى كطيّ السجل وقبل ذلك تأتي بدخان مبين بعد انصهار أجرامها وتحوّلها إلى حممٍ ملتهبةٍ.

في هذه الأوضاع المزلزلة ينفخ في الصور النفخة الأولى (نفخة الموت) فيعمّ الرعب والندم في النفوس ومن ثمّ لا يبقى كائن حيّ في الوجود ولا يبقى أثر للحياة في عالم الطبيعة إلّا من خلصت أعماله وتنزّهت روحه ممّن عرف الله حقّ معرفته

ص: 249


1- للاطلاع أكثر ،راجع :المصدر السابق، ص221.
2- سورة محمد ،الآية 18.

وأدرك أسرار الوجود واستحوذت على نفسه محبّة الربّ القدير بكلّ ما للكلمة من معنى؛ وبعد ذلك تبدأ مرحلة جديدة ويلج الخلق في عالم لم تطؤه أقدامهم من قبل وهو عالم البقاء الأبدي الذي يشرق فيه النور الإلهيّ العميم بعد أن ينفخ في الصور النفخة الثانية ( نفخة الحياة)، فيكتنفهم ذهولٌ شديدٌ ويحشرون إلى بارئهم كأنّهم جرادٌ منتشرٌ ويتصوّرون أنّهم لم يلبثوا في عالم البرزخ إلّا ساعة أو يوماً أو بضعة أيامٍ.

في هذا العالم الجديد تنكشف الحقائق وتتجلّى الحكومة الإلهيّة الشاملة لكلّ من أنكرها في الحياة الدنيا ويسود الصمت والاضطراب وكأنّ القلوب قد بلغت الحناجر ولا يفكّر أيّ مخلوق إلّا بنفسه وبما قدّمه في حياته الأرضية بحيث يفرّ من أقرب مقربيه وأحبّ الخلق لديه، فهو لا يطيق ولداً ولا أمّاً ولا أباً ولا عشيرةً، إذ لكلّ واحدٍ منهم حينئذ ما يغنيه؛ فتنقطع سلسلة الأنساب والأرحام والعلاقات التي ارتكزت على المصالح والنزوات الشيطانية لتتحوّل إلى عداء شديد وحسرة وندم مؤرّق يكدّر النفس أيما تكديرٍ (1).

الآيات القرآنية كثيرة على هذا الصعيد، ونذكر منها ما يأتي على سبيل المثال لا الحصر : «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ* إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ *وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ *وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ *وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ *وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ *وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ *وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ *وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ *بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ *وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ *وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ *وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ *وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ *عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ »(2).

ص: 250


1- للاطلاع أكثر على علائم القيامة ،راجع: محمد تقي مصباح، آموزش عقاید (باللغة الفارسي)، ج 3، ص 86 إلى 88، استناداً إلى سورة الزلزلة الآيتان 1 و 2؛ سورة الحاقّة، الآية 14 ؛ سورة الكهف الآيات 8 و 47 و 99؛ سورة المزمل، الآية 14 ؛ سورة المعارج، الآيتان 8 و 9؛ سورة طه الآية 105 ؛ سورة القيامة، الآيتان 8 و 9؛ سورة الانفطار، الآية 2؛ سورة الطور ،الآية 1 ؛ سورة الرحمن ،الآية 37 ؛ سورة الأنبياء، الآية 104 ؛ سورة الفرقان ،الآية 25 ؛ سورة الزمر، الآيتان 68 و 69 ؛ سورة الأنعام، الآيات 21 إلى 38 ؛ سورة النمل ،الآيات 87 إلى 89 ؛ سورة إبراهيم، الآيتان 21 و 48 ؛ سورة ق ،الآيتان 20 و 44 ؛ سورة القارعة ،الآية 4 ؛ سورة يس ،الآية 51 ؛ سورة الروم، الآية 56 ؛ سورة هود، الآية 105؛ سورة عبس ،الآيتان 34 و 37 ؛ سورة البقرة، الآية 166.
2- سورة التكوير، الآيات 1 إلى 14.

المنزل الرابع: النَّفخ في الصور:

النَّفخ في الصور هو أحد المنازل الأخرى في الحياة بعد الممات، وهناك مرحلتان له الأولى قبل البعث والحساب (نفخة الموت)، والأخرى عند حدوث وقائع القيامة ( نفخة الحياة).

النفخ في اللغة بمعنى إخراج الهواء من الفم، ونفخ النافخ في المزمار أو القصب ونحوهما ليخرج صوتاً؛ والصور هو قرن الحيوان أو ما يسمّى اليوم (بوق) ويبدو أنّ المراد من النفخ المشار إليه في القرآن الكريم (النفخ في الصور) هو ذلك الصوت الرهيب الذي يصدر قبل قيام الساعة والحساب فيُصعق على إثره الأحياء، ومن ثمّ يصدر مرّةً أخرى لتبعث فيهم الحياة ليحشروا في عالم القيامة والحساب؛ لذلك هناك تعابير قرآنية عديدة أشارت إليه منها الصيحة، الصاخّة، الناقور، الزجرة، الراجفة ، الرادفة.

الآيات الآتية تطرّقت إلى وصف هذه الحقيقة:

-«وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ»(1).

-«وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ *مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ *فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ *وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ *قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ *إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ»(2).

-«فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ *يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ *وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ *وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ *لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ»(3).

ص: 251


1- سورة الزمر، الآية 68 .
2- سورة يس ،الآيتان 48 إلى 53 .
3- سورة عبس، الآيات 33 إلى 37 .

-«يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ *تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ *قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ *أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ *يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ *أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً *قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ *فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ *فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ»(1).

-«فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ *فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ *عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ»(2).

المنزل الخامس :الحساب :

إشارة

الموقف الآخر من منازل الآخرة حساب الناس على أعمالهم، لذلك أطلق عليه (يوم الحساب)؛ حيث قال تعالى في كتابه الكريم: «يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ »(3).

وقد أكّد أمير المؤمنين (علیه السلام) على أنّ الإنسان في ذلك اليوم منقطع الأعمال ولا يواجه إلّا ما فعل في حياته الدنيا، فقال: «ألا وإنّ الآخرة قد أقبلت، ولكلِّ منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا أبناء الدنيا، فإنّ كلّ ولدٍ سيلحق بأمّه يوم القيامة، وإنّ اليوم عملٌ ولا حسابَ، وغداً حسابٌ ولا عملَ»(4).

یوم الحساب هو في الحقيقة محكمةٌ تتمّ فيها متابعة أعمال العباد بكلّ تفاصيلها وجزئياتها تحت إشراف مليكٍ عادلٍ مقتدرٍ، ففي ذلك اليوم تقام محكمة العدل الإلهيّ التي لا يُظلم فيها أحدٌ مثقال ذرّةٍ بحيث لا تبقى للإنسان أيّة ذريعةٍ للاعتراض على الحكم الصادر .

ص: 252


1- سورة النازعات، الآية 6 إلى 14.
2- سورة المدثر، الآيات 8 إلى 10 .
3- سورة ص ، الآية 26 .وقد أشير إلى يوم الحساب في الآيتين 16 و 53 من نفس هذه السورة، والآية 41 من سورة إبراهيم، والآية 67 من سورة غافر .
4- الشريف الرضي ،نهج البلاغة ،الخطبة رقم: 42.

مع أنّ الله سبحانه عالمٌ بجميع أعمال عباده وبمصيرهم، لكنّه يجمعهم في يوم الفصل ويحاسبهم بنفسه كي ينالوا جزاءهم العادل فيثيب المحسنين إكراماً لإحسانهم ويعاقب المسيئين جزاءً لعصيانهم ، فقد قال في كتابه الكريم :

-«وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ»(1).

-«إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ»(2).

كما أكّد سبحانه على أنّ الحقائق في ذلك اليوم ستنكشف للخلق ولا يمكن لأحدٍ أن يشكّك بالحقّ أو أن يدّعي الباطل لدرجة أنّ نفس الإنسان تذعن بما اقترفت وكفى بها حسيباً حينما تنظر إلى صحيفة أعمالها، فقد جاء في الكتاب الحكيم: «وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا *اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا »(3).

إذن، هكذا يتمّ الحساب وكلّ إنسانٍ يشاهد سجلّ أعماله بصغيره وكبيره محضراً أمامه وقبل أن يصدر الحكم الإلهيّ بشأنه فإنّ نفسه تحاسبه ولا يبقى له أيّ مجال للاعتراض على حكم الله العادل.

الآيات التي أشارت إلى كيفية الحساب على صنفين:

الصنف الأوّل: آيات أشارت إلى أنّ الإنسان سيحاسب على جميع أعماله بجميع جزئياتها، ومنها ما يأتي:

-«وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ»(4).

ص: 253


1- سورة الرعد ،الآية 40.
2- سورة الشعراء، الآية 113 .
3- سورة الإسراء، الآيتان 13 و 14.
4- سورة النحل، الآية 93 .

-«إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ»(1).

الصنف الثاني آياتٌ أشارت إلى أنّ الإنسان سيحاسب على بعض أعماله، منها:

-«ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ»(2).

- «وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ »(3).

-«وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ»(4).

وهناك كثير من الروايات التي أكّدت على أنّ الإنسان في يوم الحساب سيُسأل عن عمره فيما أفناه وعن رزقه كيف اكتسبه وأين أنفقه، كما يسأل عن القرآن والعترة والصلاة، وما إلى ذلك؛ ومنها الرواية الآتية:

عن رقية بنت إسحاق بن موسى بن جعفر ، عن أبيها (علیه السلام)، عن آبائه (علیهم السلام)، عن رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) أنّه قال: «لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن أربعٍ: عن عمره فيما أفناه وشبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين كسبه وفيما أنفقه، وعن حبّنا أهل البيت»(5).

هناك سؤال يطرح على هذا الصعيد، وهو : هل أنّ الله تعالى يحاسب جميع بني آدم من دون استثناء، أو أنّ هناك من يثاب خير الثواب دونما مساءلةٍ وحسابٍ؟

ص: 254


1- سورة الزمر، الآية 7 .
2- سورة التكاثر ،الآية 8.
3- سورة الزخرف، الآية 19.
4- سورة النحل، الآية 56 .
5- محمّد باقر المجلسيّ، بحار الأنوار، ج 7، ص 258.

الآيات المباركة على ثلاثة أقسام ودلالاتها على هذا الموضوع كالآتي:

1)جميع الناس الذين أرسل إليهم الأنبياء يحاسبون من دون استثناءٍ.

-«فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ *فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ *وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ *وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ»(1)..

2)المجرمون والظالمون يُسألون عمّا اقترفوا في الحياة الدنيا.

-«وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ *هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ *احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ *مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ *وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ»(2).

3)المؤمنون الصابرون ينالون ثواب إيمانهم وصبرهم من دون حساب.

-«أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ *قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ»(3).

- الأسس الأربعة في محكمة العدل الإلهيّ:
إشارة

هناك أربعة مقوّمات أساسية يرتكز عليها الحساب عند حشر الناس في يوم القيامة و شروع محكمة العدل الإلهيّ لمجازاة الناس على ما فعلوا من خير وسوء، وهي الكتاب (صحيفة الأعمال) والميزان والشهود وتجسّم الأعمال.

ص: 255


1- سورة الأعراف ،الآيات 6 إلى 9.
2- سورة الصافات، الآيات 20 إلى 24.
3- سورة الزمر، الآيتان 9 و 10.
أوّلاً: الكتاب

أكّد القرآن الكريم في مواطن عديدة على تخصيص صحيفة أعمالٍ لكلّ إنسانٍ، إذ تكتب فيها أعماله بحذافيرها صغيرةً كانت أو كبيرةً، لذلك سمّيت هذه الصحيفة كتاباً؛ وهناك آياتٌ صرّحت بأنّ المؤمن يحمل كتابه بيمينه والكافر يحمله بشماله أو يؤتاه وراء ظهره .

فيما يأتي نذكر مضامين ودلالات الآيات المباركة ودلالاتها على هذا الصعيد:

1)تدوّن في الكتاب كلّ أعمال الإنسان التي بدرت منه طوال حياته الدنيوية وكأنّه ملفٌّ أدرجت فيه معلوماتٌ كاملةٌ.

-«إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ»(1).

2)الكتاب في يوم القيامة ناطقٌ.

-«وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ *وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ *هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ»(2).

3)الكتاب شامل لجميع أعمال الإنسان بصغيرها وكبيرها من دون أن يستثني شيئاً منها .

-«وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ *وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ»(3).

4)لكلّ كتاب كاتبان مكلّفان بمراقبة الإنسان طوال حياته وتدوين كلّ ما يبدر منه.

ص: 256


1- سورة يس ،الآية 12.
2- سورة الجاثية، الآيات 27 إلى 29.
3- سورة القمر، الآيتان 52 و 53 .

- «إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ *مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ»(1).

5)لكلّ إنسانٍ كتاب مختصٌّ بأعماله وفي يوم القيامة إمّا أن يحمله بيمينه أو بشماله.

-«يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ *فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ *إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ *فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ»(2). «وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ *وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ *يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ *مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ *هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ *خُذُوهُ فَغُلُّوهُ *ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ»(3).

6)الذين يحملون كتابهم بيمينهم يكون حسابهم هيّناً يسيراً، في حين الذين يؤتونه من وراء ظهورهم فيحاسبون حساباً صعباً عسيراً.

-«فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ *فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا *وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا *وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ *فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا *وَيَصْلَى سَعِيرًا»(4).

ثانياً: الميزان :

الله العادل المقسط لا يظلم مثقال ذرّةٍ، لذلك وضع الميزان في يوم الحساب بالعدل والقسط ليوفّى المحسنين ثواب إحسانهم ويطال المسيئين عقاب إساءتهم، فالقيامة محكمة العدل الإلهيّ التي ينال بنو آدم فيها جزاءهم العادل، ومن ومن البديهي أنّ كفّة أعمال المؤمنين ترجح على الكفّة الأخرى بعد امتلائها بالأعمال الحسنة، في حين أنّ كفّة أعمال المعاندين ليست كذلك وهي خفيفة لا ترجح وكأن لم يوضع فيها شيءٌ.

ص: 257


1- سورة ق ،الآيتان 17 و 18 .
2- سورة الحاقة، الآيات 18 إلى 21 .
3- سورة الحاقة، الآيات 25 إلى 31.
4- سورة الانشقاق، الآيات 7 إلى 12 .

ومن الآيات المباركة التي تطرّقت إلى هذا الأمر :

-«وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ»(1).

- «فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ *وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ *تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ »(2).

-«وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ *وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ»(3).

ثالثاً: الشهود :
إشارة

لا ريب في أنّ محكمة العدل الإلهيّ تمتلك مقوّمات المحاكمة العأدلة جميعها، ومن جملة ذلك حضور شهود يشهدون على أعمال الإنسان، لذلك وصف الكتاب الحكيم يوم القيامة بأنّه: «يَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ»(4).

نستشفّ من القرآن الكريم أنّ الشهود في يوم القيامة على صنفين، هما:

(1شهودٌ محيطون بأعمال الناس.

يشهد على الإنسان في يوم القيامة كلّ من أحاط بأعماله، لذا سوف يشهد عليه الله تعالى والأنبياء (علیهم السلام) والنبيّ الخاتم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) والأمة التي وصفها القرآن الكريم بأنّها أمّةٌ وسطٌ والملائكة والأرض التي حدث عليها العمل، كما ستشهد عليه صحيفة أعماله أيضاً .

ص: 258


1- سورة الأنبياء، الآية 47.
2- سورة المؤمنون، الآيات 102 إلى 104.
3- سورة الأعراف ،الآيتان 8 و 9.
4- سورة غافر، الآية 51 .

ومن الآيات التي تدلّ على هذه الحقيقة:

-«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ»(1).

-«وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا»(2).

-«وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ *كِرَامًا كَاتِبِينَ *يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ»(3).

-«يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا *بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا»(4). نعم ،إنّ الأرض و کلّ ما فیها سينطق في يوم القيامة ويشهد على ما ارتكبه البشر من أعمال، لذلك فمن يشكّ في هذه الحقيقة نقول له : «تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا»(5).

-«وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا»(6).

2) أعضاء بدن الإنسان وجوارحه.

جميع أعضاء بدن الإنسان سوف تشهد عليه في يوم الحساب وتقرّ بما بدر منه حتى جلده سينطقه العزيز القدير فيعترف بما اقترف صاحبه، ذلك كي لا تبقى له أية ذريعةٍ لإنكار أعماله السيئة؛ والآيات المباركة خير دليل على هذه الحقيقة:

ص: 259


1- سورة الحج، الآية 17.
2- سورة البقرة، الآية 143 .
3- سورة الانفطار، الآيات 10 إلى 12 .
4- سورة الزلزلة ،الآيتان 4 و 5.
5- سورة الإسراء، الآية 44.
6- سورة الكهف، الآية 49.

-«يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ »(1).

-«وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ *حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ *وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ»(2).

رابعاً: تجسّم الأعمال:

لقد أكّدت التعاليم الدينيّة على أنّ أعمال الإنسان سوف تتجسّم أمامه في يوم القيامة فتبدو ظاهرةً له بحذافيرها كما فعلها تماماً.

الثواب والعقاب في يوم الحساب منوطان بما فعله الإنسان إبّان حياته الدنيوية، أي إنّهما نتيجة لهذه الأعمال، لذلك حينما يريد الله تعالى مجازاة الإنسان فهو يجسّم له كلّ ما بدر منه ويظهره أمام عينيه كما صدر في الدنيا فيكرمه على كل عمل حسن ويعاقبه على كل فعلٍ مشينٍ .

لا شكّ في أنّ النيّة أساسٌ لكل عمل يقوم به الإنسان، وقد تؤدّي إلى ترسيخ بعض الأعمال الحسنة أو القبيحة في النفس فتأنس بها لتصبح فيما بعد ملكةً ثابتةً تسوق الإنسان نحو النعيم أو الجحيم؛ وهذه الملكات سوف تظهر على حقيقتها في يوم الحساب.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ بعض الآيات القرآنية عدّت الثواب والعقاب بأنّهما عين أعمال الإنسان التي بدرت منه في الدنيا، في حين أنّ آياتٍ أخرى عدّتهما نتيجةً لأعماله

ص: 260


1- سورة النور، الآيتان 24 و 25 .
2- سورة فصلت، الآيات 19 إلى 22.

الدنيوية؛ وهذا الاختلاف في الوصف ربّما يكون ناشئاً من أنّ العمل تارةً يصدر إثر ملكةٍ نفسانيةٍ، وفي هذه الحالة سيكون ثوابه أو عقابه مطابقاً له - عينه - وتارةً أخرى لا يصدر من منطلق كونه ملكةً نفسانيةً، لذلك يصبح الثواب أو العقاب نتيجةً له.

قال الله الحكيم في كتابه الكريم:

- «يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ *فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ *وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ »(1).

-«وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا»(2).

-«يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا *هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ *أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ *اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ»(3).

وهذا الحديث يدلّ بوضوح على تجسّم الأعمال في يوم القيامة:

روى أبو بصير عن الإمام جعفر الصادق (علیه السلام) أنّه قال: «استقبل رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) حارثة بن مالك بن النعمان الأنصاري، فقال له : كيف أنت يا حارثة بن مالك النعماني؟

فقال يا رسول الله مؤمنٌ حقاً.

فقال له رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : لكلّ شيء حقيقةٌ، فما حقيقة قولك؟

فقال: يا رسول الله عزّفَتْ نفسي عن الدنيا، فأسهرتُ ليلي وأظمأتُ هواجري وكأنّي أنظر إلى عرش ربّي وقد وضع للحساب، وكأنّي أنظر إلى أهل الجنّة يتزاورون في الجنّة، وكأنّي أسمع عٍواء أهل النار في النار.

ص: 261


1- سورة الزلزلة ،الآيات 6 إلى 8.
2- سورة الكهف، الآية 49.
3- سورة الطور، الآيات 13 إلى 16.

فقال رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : عبدٌ نوّر الله قلبه؛ أبصرتَ فاثبتَّ.

فقال : يا رسول الله ادع الله لي أن يرزقني الشهادة معك.

فقال: اللّهمّ ارزق حارثة الشهادة.

فلم يلبث إلّا أياماً حتى بعث رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) سريةً، فبعثه فيها فقاتل فقتل تسعةً أو ثمانية، ثمّ قتل »(1).

كما روي عن رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قوله : «إنّ المؤمن إذا خرج من قبره صُوّر له عمله في صورةٍ حسنةٍ، فيقول له ما أنت؟! فو الله إنّي لأراك امرئ الصدق فيقول له: أنا عملك. فيكون له نورٌ أو قائدٌ إلى الجنّة.

وإنّ الكافر إذا خرج من قبره صُوّر له عمله في صورةٍ سيّئةٍ وبشارةٍ سيّئةٍ، فيقول: من أنت؟! فو الله إنّي لأراك امرئ السوء. فيقول: أنا عملك، فينطلق به حتى يدخل النار»(2).

المنزل السادس: الصّراط:

الصّراط هو أحد المزايا التي يختصّ بها عالم القيامة، ويوصف بأنّه جسرٌ فوق جهنّم يمرّ عليه جميع الناس، حيث قال تعالى: «وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا *ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا»(3).

الأحاديث المباركة بدورها تطرّقت إلى الحديث عن هذه الحقيقة الثابتة وأشير فيها إلى أنّ بني آدم ليسوا سواءً في عبوره، فالمؤمنون حقاً لا يواجهون أيّة صعوبةٍ في ذلك

ص: 262


1- محمد باقر المجلسيّ، بحار الأنوار، ج 22، ص 126.
2- محمدي الريشهري، ميزان الحكمة ،الحديث رقم: 2139 نقلًا عن كنز العمّال.
3- سورة مريم ،الآيتان 71 و 72 .

في حين المعاندون سيعانون الأمرين عليه ومنهم من لا يعبره مطلقاً فيسقط في قعر جهنّم، ونكتفي هنا بذكر الروايتين الآتيتين:

قال رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : «أثبتكم قدماً على الصراط ، أشدّكم حبّاً لأهل بيتي »(1).

قال الإمام الصادق (علیه السلام) : «الناس يمرّون على الصراط طبقاتٍ، والصراط أدقّ من الشعر ومن حدّ السيف فمنهم من يمرّ مثل البرق، ومنهم من يمرّ مثل عدو الفرس، ومنهم من يمرّ حبواً، ومنهم من يمرّ مشياً، ومنهم من يمرّ متعلّقاً قد تأخذ النار منه شيئاً وتترك شيئاً»(2).

المنزل السابع: الجنّة وجهنّم والأعراف :

إشارة

آخر موقفٍ من مواقف الآخرة هو تقسيم الناس بين الجنة والنار بصفتهما منزلين أبديين فالجنّة هي دار النّعيم الإلهيّ التي يحظى السعداء فيها بشتّى المكارم المادّية والمعنوية، وجهنّم هي دار السعير التي يعذب فيها المعاندون عذاباً أليماً ولا يرون فيها برداً ولا سلاماً.

نستشفّ من بعض الروايات أنّ الجنّة وجهنّم موجودتان الآن، وهذا الأمر مدعومٌ بمسألة تجسّم الأعمال.

القرآن الكريم أشار إلى وجود جنّتين ونارين حيث يُسعد المؤمنون في الجنّة البرزخية قبل أن يكرمهم الله تعالى بالجنّة الأخروية بعد يوم الحساب، كما هناك نارٌ برزخيةٌ يعذّب فيها المجرومون قبل دعهم في نار جهنّم بعد يوم الحساب.

هناك عدد من الآيات في الكتاب الحكيم أشارت إلى الجنّة والنار في يوم القيامة، ومن جملتها الآيات 26 من سورة يس و 46 من سورة غافر و 133 من سورة آل

ص: 263


1- محمّد باقر المجلسيّ، بحار الأنوار، ج 8، ص 69.
2- المصدر السابق، ص 64 و 65.

عمران و 21 من سورة الحديد و 100 من سورة التوبة؛ في حين سائر الآيات التي تطرّقت إلى النعيم والعذاب بعد الممات قد أشارت إلى الجنة والنار في عالم البرزخ .

وفيما يأتي نسلّط الضوء على مضامين الآيات التي تحدثت عن الجنة والنار الأبديتين:

أوّلاً: الآيات التي تحدثت عن جهنّم الأبدية

هناك كثير من الآيات التي تضمّنت كلاماً حول جهنّم وصفاتها وما سيجري على المعذّبين فيها، فبعض هذه الآيات وصف جهنّم وتحدّث عن طبيعتها وهيئتها من قبيل أبوابها وطبقاتها، وبعضها الآخر تحدّث عن نوع العذاب الجسماني والنفسي الذي يطال أهلها، في حين هناك آياتٌ تطرّقت إلى بيان صفات المعذّبين فيها والذين سيخلّدون بين أطباقها إلى الأبد.

نذكر فيما يأتي آياتٍ ومباحث مقتضبةً حول التصينف المذكور:

1) وصف جهنّم ( طبيعتها وهيئتها):

-«إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ *وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ »(1).

-«فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ»(2).

- «إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا»(3).

2) العذاب البدني الذي سيواجهه المعذبون في جهنّم:

-«إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ *طَعَامُ الْأَثِيمِ *كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ *كَغَلْيِ الْحَمِيمِ»(4).

ص: 264


1- سورة الحجر، الآيتان 42 و 43.
2- سورة النحل، الآية 29 .
3- سورة النساء ،الآية 149 .
4- سورة الدخان، الآيات 43 إلى 46.

-«هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ *وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ *عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ *تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً *تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ *لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ *لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ »»(1).

-«إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا»(2).

3)العذاب النفسي الذي سيواجهه المعذبون في جهنّم:

-«وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ»(3).

-«إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ»(4).

-«إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا *وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا»(5).

4) المعذّبون في جهنّم :

مسألة الخلود في الحياة الآخرة هي إحدى المواضيع المطروحة للبحث في ضمن المباحث المتعلّقة بالجنّة وجهنّم، ونستلهم من تعاليمنا الدينيّة أنّ أهل الجنة مخلّدون فيها أبد الآبدين، في حين الأمر ليس كذلك بالنسبة إلى جهنّم، إذ لا يخلّد فيها كل من وردها، بل هناك من يُخرج منها بعد حين ويبقى الآخرون مخلّدين بين أطباقها إلى الأبد.

هذه المسألة أثارت كثيراً من النقاشات بين علماء الكلام والعقائد، وكلّ فرقةٍ دينيّة اتخذت موقفاً تجاهها، وفيما يأتي نذكر بعض تلك المواقف:

ص: 265


1- سورة الغاشية، الآيات 1 إلى 7.
2- سورة النساء ،الآية 56 .
3- سورة الحج، الآية 57.
4- سورة المجأدلة ،الآية 5 .
5- سورة الفرقان ،الآيتان 12 و 13.

الخوارج كانوا يعتقدون بأنّ مرتكب الكبائر من الذنوب كافرٌ ومن ثَمَّ سوف يخلّد في جهنم إلى الأبد.

- طائفةٌ من المعتزلة عدّوا مرتكب الكبائر فاسقاً ومع ذلك فقد ذهبوا إلى القول بأنّه خالدٌ في جهنّم.

- علماء الشيعة من أمثال الشيخ المفيد (1) يرون أنّ الكافر فقط يخلّد في جهنم إلى الأبد، والمراد هنا الكفر العقائدي (الإلحاد)، وليس الكفر الفقهي (عدم العمل بالأحكام الشرعيّة).

- المرجئة نحوا منحىً متطرّفاً وقالوا بأنّ المؤمن مهما كان ذنبه كبيراً فهو لا يعاقب بتاتاً (2).

5)الخالدون في جهنّم:

هناك عدد من الآيات المباركة ذكرت صفات المعاندين الذين سيخلّدون في نار جهنّم إلى الأبد، ويمكن تصنيفهم كما يأتي:

أ - المكذّبون بآيات الله تعالى:

-«وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ *فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ»(3).

ص: 266


1- للاطلاع أكثر ، راجع :الشيخ المفيد، أوائل المقالات في المذاهب والمختارات.
2- ما ذهب إليه المرجئة يتعارض بشكل صريح مع قوله تعالى : «يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ *فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ *وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ» . سورة الزلزلة ،الآيات 6 إلى 8.
3- سورة الأعراف ،الآيتان 36 و 37.

ب - المعادون لله ورسوله :

-«يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ *أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ»(1).

ج - العصاة والمتمرّدون على الحقّ:

-«إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا *حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا»(2).

د - الظلمة والطغاة

- «ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ »(3).

ه - الأشقياء:

-«يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ *فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ *خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ»(4).المقصود من الشقاء هنا هو الشرك والكفر كما هو مضمون الآية 109 من نفس هذه السورة.

و - المجرمون:

-«إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ *لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ *وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ *وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ»(5).

ص: 267


1- سورة التوبة، الآيتان 62 و 63 .
2- سورة الجن، الآيتان 23 و 24 .
3- سورة يونس ،الآية 52.
4- سورة هود ،الآيات 105 إلى 107.
5- سورة الزخرف، الآيات 74 إلى 77 .

ز - الغارقون في المعاصي والآثام طوال حياتهم:

-«وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ *بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ»(1).

ح - الغارقون في الشرك والقتل وارتكاب الكبائر :

-«وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا *يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا»(2).

ط - العامدون في تجاهل أحكام القرآن الكريم والمعرضون عنه:

-«كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا *مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا *خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا»(3).

ي - الذين خفّت موازينهم:

-«وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ»(4).

ك - أكلة الربا ممن يعلمون بحرمة ذلك:

-«الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ»(5).

ص: 268


1- سورة البقرة، الآيتان 80 و 81 .
2- سورة الفرقان ،الآيتان 68 و 69.
3- سورة طه، الآيات 99 - 101.
4- سورة المؤمنون، الآية 103 .
5- سورة البقرة، الآية 275.

ل - قاتل النفس المؤمنة عمداً :

-«وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا»(1) . هذه الآية المباركة تدلّ في ظاهرها على تخليد كلّ من يقتل مؤمناً متعمداً من دون تحديد ما إن كان كافراً أو غير كافر، لكن يمكن تقييد دلالتها بالأحاديث التي أكّدت على أنّ الخلود في جهنّم مختصّ بالكافرين فحسب.

إضافةً إلى الآيات المذكورة أعلاه، هناك آيات عديدة أخرى أشارت إلى المعذّبين في نار جهنّم وبئس المصير من دون أن تصرح بخلودهم أو عدم خلودهم فيها، ويمكن تلخيص دلالاتها كما يأتي:

-اتّباع الشيطان (سورة الأعراف، الآية 18).

-الركون إلى الظلمة. (سورة هود، الآية 113).

-الظّلم . (سورة الكهف، الآية 29).

-حبّ الدنيا والإعراض عن الآخرة. (سورة الإسراء، الآية 18)

-اكتناز الذهب والفضّة وعدم انفاقهما في سبيل الله . (سورة التوبة، الآية 34)

-الفرار من الزحف (سورة الأنفال، الآية 16)

-ترك الصلاة وعدم إطعام المسكين ومجالسة عبيد الدنيا والتكذيب بيوم الدين. (سورة المدّثر، الآيات 43 إلى 46 )

-عدم دفع الزكاة (سورة فصّلت، الآية 7)

-أكل مال اليتيم بغير حقٍّ. (سورة النساء، الآية 1)

ص: 269


1- سورة النساء، الآية 93.

-الكفر بنعمة الله. (سورة إبراهيم، الآيتان 28 و 29 )

-التطفيف في الميزان (سورة المطفّفين، الآيات 1 إلى 7)

-الإسراف والتبذير. (سورة غافر ، الآية 43)

-الغيبة والسخرية بالآخرين . (سورة الهمزة، الآيات 1 إلى 4 )

-ارتكاب الجرائم. (سورة مريم، الآية 86)

-تجاهل يوم الدين. (سورة الجاثية، الآية 34)

لا ريب في أنّ الحكمة من الخلود في جهنّم تتّضح لنا فيما لو تمعنا بالعلاقة التكوينيّة الموجودة بين الذنوب والعقاب الأخروي، فالإنسان الذي أصبح الكفر ملكةً نفسانيةً ملازمةً له سيتحوّل باطنه إلى واقعٍ شيطانيٍّ لا يمكن أن يتبدل أبداً؛ وهذه الحالة سبب لبقائه معذّباً إلى أبد الآبدين لكونه يتجرّع الكأس التي ملأها بالسمّ القاتل بيديه وبمحض اختياره .

ثانياً: الآيات التي تحدّثت عن الجنّة الأبدية:
إشارة

إنّ الجنّة دار القرار والطمأنينة للصالحين والمؤمنين، ويمكن تقسيم الآيات المباركة التي تحدّثت عنها في ضمن ثلاثة أقسام، فهناك آياتٌ وصفتها وذكرت طبيعتها وهيئتها، وهناك آياتٌ أخرى تحدّثت عن مختلف النعم الجسمانية والمعنوية التي سيحظى بها سكانها، في حين أنّ عدداً منها تطرّق إلى العوامل التي تجعل الإنسان مستحقّاًّ لدخولها .

وفيما يأتي نسلّط الضوء على هذه الأقسام بشكل موجزٍ:

1) وصف الجنة (طبيعتها وهيئتها):

ص: 270

ذكرت مجموعة من الأوصاف للجنة في القرآن الكريم، ونكتفي هنا بذكر بعض الآيات في هذا الصدد:

-«وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ »(1).

-«هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ *جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ»(2).

-«جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ *سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ»(3).

-«سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ»(4).

2) النّعم الجسمانية والمعنوية التي سينالها المخلّدون في الجنّة:

هناك كثير من الآيات المباركة التي تحدّثت عن شتّى أنواع النّعم الجسمانية والمادّية التي سينالها سكنة جنّة الخلد، فقد ذكرت أشياء رائعة يتمنّاها كلّ إنسان من قبيل الحدائق الغنّاء والظلال الوارفة والقصور العظيمة والأرائك المريحة ومختلف أنواع الأطعمة والأشربة اللذيذة والثياب الناعمة والخدم والحور العين والأزواج المطهرة، و ما سوى ذلك من فضائل جمّة ونعم ممّا لا عينٌ رأت ولا أُذن سمعت.

أمّا الآيات التي أشارت إلى اللذّة المعنوية في جنّة الخلد فقد أكّدت على أنّ المؤمنين سينالون غاية المحبّة والاحترام ويعيشون بوئامٍ وسلامٍ آمنين من كلّ شرٍّ ومكروهٍ،

ص: 271


1- سورة الزمر، الآية 73 .
2- سورة ص، الآيتان 49 و 50.
3- سورة الرعد، الآيتان 23 و 24 .
4- سورة الحديد، الآية 21.

ويجالسون أمثالهم من الصلحاء الأوفياء من دون أن ينتابهم أيّ هاجس يؤرّق أذهانهم، وسيحظون بمقام القرب الإلهيّ الذي وعدوا به من قبل.

وفيما يأتي نذكر بعض الآيات التي تمحورت حول ما ذكر :

*آيات النعيم واللذة المادّية والجسمانية:

-«تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ»(1).

-«يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ *بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ *لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ *وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ *وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ *وَحُورٌ عِينٌ *كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ »(2).

- «وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ *فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ *وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ *وَظِلٍّ مَمْدُودٍ *وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ *وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ *لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ *وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ *إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً *فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا عُرُبًا أَتْرَابًا »(3).

-«يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ »(4).

-«وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ *فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ *ذَوَاتَا أَفْنَانٍ *فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ *فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ *فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ *فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ *فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ /مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ»(5).

ص: 272


1- سورة النساء، الآية 13.
2- سورة الواقعة، الآيات 17 إلى 23.
3- سورة الواقعة، الآيات 27 إلى 37.
4- سورة الصف، الآية 12.
5- سورة الرحمن، الآيات 46 إلى 54.

-«وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ»(1).

-«وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ *يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ *وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ»(2).

-«أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا»(3).

-«ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ *يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ »(4).

* آيات النعيم واللذّة المعنوية:

-«جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ *سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ»(5).

-«وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ»

وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(6).

-«إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ»(7).

ص: 273


1- سورة البقرة ،الآية 25 .
2- سورة الطور ،الآيات 22 إلى 24.
3- سورة الكهف، الآية 31 .
4- سورة الزخرف، الآيتان 70 و 71.
5- سورة الرعد ،الآيتان 23 و 24 .
6- سورة يونس ،الآية 25 .
7- سورة الدخان ،الآية 51 .

-«وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا *ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا»(1).

-«لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا *إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا»(2).

-«وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ *إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ»(3).

-«فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ»(4).

3)الشروط اللازم توفّرها لدخول جنّة الخلد :

أ-الإيمان والعمل الصالح.

-«وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ»(5).

ب - التقوى.

-«تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا»(6).

ج - عدم اتّباع أهواء النفس

-«وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى *فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى»(7).

د - عدم التأنّي في المبادرة إلى الخير والطاعة.

-«وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ *أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ *فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ»(8).

ص: 274


1- سورة النساء، الآيتان 69 و 70.
2- سورة الواقعة، الآيتان 25 و 26 .
3- سورة القيامة، الآيتان 22 و 23 .
4- سورة السجدة، الآية 17.
5- سورة البقرة، الآية 82.
6- سورة مريم، الآية 63.
7- سورة النازعات، الآيتان 40 و 41.
8- سورة الواقعة، الآيات 10 إلى 12.

ه- الصبر.

-«جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ *سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ»(1).

و - الاعتقاد بالله والاستقامة.

-«إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ *أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ»(2).

ز - إطاعة الله ورسوله.

-«تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ »(3).

ح - الإخلاص في العمل.

- «إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ *أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ *فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ *فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ»(4).

ط - الصدق .

-«قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ»(5).

ص: 275


1- سورة الرعد، الآيتان 23 و 24 .
2- سورة الأحقاف، الآيتان 13 و 14.
3- سورة النساء، الآية 13.
4- سورة الصافات، الآيات 40 إلى 43.
5- سورة المائدة، الآية 119 .

ي - موالاة أولياء الله ومعاداة أعدائه.

-«لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ »(1).

ثالثاً: الأعراف:

فضلاً عن الجنّة وجهنّم ،أشار الكتاب الحكيم إلى الأعراف في الآيات الآتية: «وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ *وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ *وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ»(2).

نستشفّ من هذه الآيات أنّ الأعراف مقامٌ مرتفعٌ واقعٌ بين الجنّة وجهنّم، ويقف فوقه أشخاصٌ يشرفون على أصحاب النعيم والجحيم، لذا يمكن وصف هذا المكان بالآتي:

1) مكانٌ مستقلٌّ عن الجنّة وجهنّم.

2) أصحاب الأعراف يعرفون أهل الجنّة والنار، ولهم علم بمصير كلّ إنسان نظراً للكمال المعنوي والدرجات العليا التي بلغوها.

3)الأنبياء والأولياء والصلحاء في كلّ أمةٍ هم من أهل الأعراف.

***

ص: 276


1- سورة المجادلة، الآية 22 .
2- سورة الأعراف ،الآيات 46 إلى 48.

40.الرجعة :

إشارة

عقيدة الرجعة هي إحدى المعتقدات الهامّة بين أتباع مذهب أهل البيت (علیهم السلام) ،(1) وقد أشير إليها في القرآن الكريم والروايات بهذا اللفظ وبألفاظ أخرى من قبيل الإياب والحشر.

- معنى الرجعة :

أوّلاً: المعنى اللغوي :

كلمة (رجعة) مصدر مشتقٌّ من (رجع) ، وعرّفها علماء اللغة بالآتي:

الخليل بن أحمد الفراهيدي: «رجع: رجعت رُجوعاً، ورجعته يستوي فيه اللازم والمجاوز، والرَّجْعَةُ (المرّة الواحدة)»(2).

محمد بن مكرم بن منظور : «الرجعة (المرّة من الرجوع) »(3).

الزبيدي: «فُلانٌ يُؤْمِنُ بالرَّجْعَةِ، بِالْفَتْح: أي بالرجوع إلى الدُّنيا بعد الموتِ ... يُقال: لَهُ على امْرَأَتِه رِجْعَةٌ ورَجْعَةٌ ، بالكسْرِ وَالْفَتْح، وَهُوَ عَوْدُ المطلّق إِلَى مُطَلَّقَتِه، وَيُقَال أَيضاً طَلَّقَ فُلانٌ فلانةَ طَلاقاً يَمْلِكُ فِيهِ الرَّجْعَةَ والرَّجْعَةَ ... وجاءَ فلان برِجْعَةٍ حَسَنَةٍ، أَي بشيءٍ صالحٍ اشتراه مكانَ شيءٍ طالح، أَو مَكَان شيءٍ قد كانَ دُونَه»(4).

الراغب الأصفهاني: «الرُّجُوعُ : العود إلى ما كان منه البدء، أو تقدير البدء مكاناً

ص: 277


1- نتقدّم بالشكر والامتنان للسيد رودبندي زاده الذي قدّم لنا يد العون في مجال استقراء آراء العلماء المسلمين حول عقيدة الرجعة.
2- الخليل بن أحمد الفراهيدي، العين، ج 1، ص 225.
3- محمد بن مکرم بن منظور، لسان العرب، ج 8، ص 114.
4- الزبيدي تاج العروس، ج 11، ص 156 .

كان أو فعلاً أو قولاً، وبذاته كان رجوعه، أو بجزء من أجزائه أو بفعلٍ من أفعاله . فَالرُّجُوعُ : العود، والرَّجْعُ: الإعادة، و(الرَّجْعَةُ) و(الرَّجْعَةُ) في الطلاق وفي العود إلى الدنيا بعد الممات، ويقال : فلان يؤمن بالرَّجْعَةِ»(1).

الجوهري: «فلانٌ يؤمن بالرَجْعَةِ، أي بالرجوع إلى الدنيا بعد الموت. وقولهم : هل جاء رَجْعَةُ كتابك، أي جوابه. وله على امرأته رَجْعَةٌ ورِجْعَةٌ أيضاً، والفتح أفصح. ويقال: ما كان من مَرْجُوعِ فلانٍ عليك أي من مردودٍه وجوابه. والرَجْعَةُ: الناقةُ تباع ويُشْتَرَى بثمنها مثلها، فالثانية راجعَةٌ ورجيعة. وقد ارْتَجَعْتُها، وتَرَجَّعتُها، ورَجَّعْتُها. يقال: باع فلانٌ إبله فارْتَجَعَ منها رِجْعَةً صالحةً بالكسر ، إذا صرف أثمانها فيما يعود عليه بالعائدة والصالحة»(2).

ثانياً: المعنى الاصطلاحي :

الرجعة بصفتها عقيدةً من معتقدات الشيعة الإماميّة لها معنى اصطلاحي، لكنّ بعض علماء الكلام تطرّقوا إلى إثبات إمكانية تحقّقها من دون أن يذكروا معناها الاصطلاحي كالفضل بن شاذان والشيخ الصدوق؛ في حين أنّ بعض الأعلام ذكروا لها تعريفاً حينما تناولوها بالشرح والتحليل كالشيخ المفيد والسيّد المرتضى وأبي الصلاح الحلبي والشيخ الطوسيّ والشيخ الطبرسي وعبد الجليل القزويني.

ومن الجدير بالذكر هنا أنّ جميع علماء الكلام من الإماميّة يعتقدون بإحياء بعض الموتى قبل حلول القيامة وفي عصر ظهور الإمام المهدي (علیه السلام).

- معارضو الرجعة :

احتدمت النقاشات بين علماء الإماميّة وبين منكري عقيدة الرجعة، لذلك تصدّوا إلى بيان طبيعتها وأثبتوا ضرورة تحقّقها، ومن جملتهم الفضل بن شاذان الذي ردّ على منتقديها بالقول: «وقال الجزرى في أسد الغابة: (قال أبو نعيم: اختُلف في وقت ذكر

ص: 278


1- الحسين بن محمّد (الراغب الأصفهاني)، المفردات في غريب القرآن، ص 342.
2- إسماعيل بن حماد الجوهري ،الصحاح ، ج 3، ص 1216 - 1217.

الرجعة) ، ورأيناكم عبتم عليهم شيئاً تروونه من وجوه كثيرةٍ عن علمائكم وتؤمنون به وتصدّقونه، ونحن مفسّرون ذلك لكم من أحاديثكم بما لا يمكنكم دفعه و لاجحوده فلا تستقيم إلّا بتكلّفٍ وتجشّمٍ »(1).

ثمّ نقل روايةً عن أهل السنّة حول الموضوع، وهي: «ورويتم عن يزيد بن الحبّاب عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن أنس بن مالك قال : لمّا مات زيد بن خارجة، نافست الأنصار في غسله حتى كان بينهم منازعةٌ، ثمّ استقام رأيهم على أن يغسّله الغسلتين الأولتين الذين كانوا يلون غسله، ثمّ يدخل عليه من كلّ فخذٍ سيّدها فيصبّون عليه الماء صبّةً واحدةً - يعني في الغسلة الثالثة - قال أنس: فأدخلت فيمن دخل، فلمّا ذهبنا لنصبّ عليه الماء، تكلّم فقال : مضت اثنتان وبقيت أربع، يأكل غنيّهم فقيرهم فارضوا لرضاهم لكم ، أبو بكر الصدّيق ليّنٌ رحيمٌ بالمؤمنين، عمر شديدٌ على الكفّار لا يأخذه في الله لومة لائم، عثمان ليّن رحيمٌ فاسمعوا له وأطيعوا فإنّكم على منهاج عثمان . ثمّ خمد صوته فإذا اللسان يتحرّك والجسد ميّتٌ »(2).

كما نقل عن محمد بن عبيد الطنافسي عن إسماعيل بن أبي خالد عن عامر الشعبي ما يأتي: «إنّ قوماً أقبلوا من الدفينة(3) متطوّعين أو قال: مجاهدين، فنفق حمار رجلٍ منهم فسألوه أن ينطلق معهم ولا يتخلّف، فأبى فقام فتوضّأ ثمّ صلّى، ثمّ قال: اللهم إنّك تعلم أنّي قد أقبلت من الدفينة مجاهداً في سبيلك ابتغاء مرضاتك، وإنّي أسألك أن لا تجعل لأحدٍ عليَّ منةً وأن تبعث لي حماري. ثمّ قام فضربه برجله، فقام الحمار ينفض أُذنيه، فأسرجه وألجمه، ثمّ ركب حتى لحق أصحابه، فقالوا له: ماشأنك؟ قال: شأني أنّ الله بعث لي حماري. قال محمد بن عبيد: قال إسماعيل بن أبي خالد: قال الشعبي: فأنا رأيت حماره بيع بالكناسة »(4).

ص: 279


1- الفضل بن شاذان، الإيضاح، ص 382 .
2- المصدر السابق ،ص 389 و 390 ؛ ابن عساكر تأريخ مدينة دمشق، ج 3، ص224.
3- منطقة تقع بين مكّة والبصرة.
4- المصدر السابق ،ص 420 - 423 ؛ ابن كثير، البداية والنهاية، ج 6، ص 170 ؛ تقي الدين أحمد بن علي المقريزي ،امتناع الأسماع، ج 5، ص 284.

وبعد أن نقل نقل عدداً من الروايات على هذا الصعيد ذكر مؤاخذةً على منكري الرجعة قائلاً: «ولسنا ننكر لله قدرة أن يحيي الموتى، ولكنّا نعجب أنّكم إذا بلغكم عن الشيعة قول عضّتموه وشنّعتموه وأنتم تقولون بأكثر منه، والشيعة لا تروي حديثاً واحداً عن آل محمّد أنّ ميّتاً رجع إلى الدنيا كما تروون أنتم عن علمائكم، إنّما يروون عن آل محمّد أنّ النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قال لأمته : ( أنتم أشبه شيءٍ ببني إسرائيل، والله ليكوننّ فيكم ما كان فيهم حذو النعل بالنعل والقذّة بالقذّة حتى لو دخلوا جحر ضبٍّ لدخلتموه). وهذه الرواية أنتم تروونها أيضاً وقد علمتم أنّ بني إسرائيل قد كان فيهم من عاش بعد الموت ورجعوا إلى الدنيا فأكلوا وشربوا ونكحوا النساء وولد لهم الأولاد، ولا ننكر لله قدرة أن يحيي الموتى، فإن شاء أن يردّ من مات من هذه الأمة - كما ردّ بني إسرائيل - فعل، و إن شاء لم يفعل»(1).

- إمكانية تحقّق الرجعة :

استدلّ الفضل بن شاذان وسائر علماء الكلام الإماميّة بقدرة الله المطلقة لإثبات إمكانية تحقّق الرجعة فهو تبارك شأنه ذو قدرةٍ غير متناهيةٍ ومن الهين عليه إحياء الموتى في الحياة الدنيا، حيث قال: «ولا ننكر لله قدرة أن يحيي الموتى، فإن شاء أن يردّ من مات من هذه الأمة - كما ردّ بني إسرائيل - فعل، وإن شاء لم يفعل»(2)، وقال أيضاً: ولسنا ننكر لله قدرة أن يحيي الموتى، ولكنّا نعجب أنّكم إذا بلغكم عن الشيعة قولٌ عضّتموه وشنّعتموه وأنتم تقولون بأكثر منه»(3).

أمّا السيّد المرتضى فقد ساق البحث في إطار موضوعي الجواهر والأعراض، وتطرّق إلى بيان تفاصيله بطريقةٍ فلسفيّةٍ لإثبات قدرة البارئ جلّ وعلا في إحياء الموتى، فهو يعتقد بأنّه تعالى قادرٌ على إيجاد الجواهر بعد الموت في أيّ زمن شاء، كما

ص: 280


1- الفضل بن شاذان، الإيضاح، ص 425 و 426.
2- المصدر السابق ،ص 426 .
3- المصدر السابق، ص 425 .

قسم الأعراض إلى قسمين؛ حيث قال: «إعلم أنّ الذي يقول الإماميّة في الرجعة لا خلاف بين المسلمين، بل بين الموحّدين في جوازه؛ وأنّه مقدور لله تعالى، وإنما الخلاف بينهم في أنّه يوجد لا محالة، أو ليس كذلك.

ولا يخالف في صحّة رجعة الأموات إلّا ملحدٌ وخارج عن أقوال أهل التوحيد لأنّ الله تعالى قادر على إيجاد الجواهر بعد إعدامها، وإذا كان عليها قادراً، جاز أن يوجدها متى شاء .

والأعراض التي بها يكون أحدنا حيّاً مخصوصاً، على ضربين :

أحدهما : لا خلاف في أنّ الإعادة بعينه غير واجبةٍ، كالكون والاعتماد وما يجري مجرى ذلك .

والضرب الآخر : اختلف في وجوب إعادته بعينه، وهو الحياة والتأليف .

وقد بيّنا في كتاب الذخيرة أنّ الإعادة بعينها غير واجبة إن ثبت أنّ الحياة والتأليف من الأجناس الباقية، ففي ذلك شكّ، فالإعادة جائزة صحيحةٌ على كلّ حالٍ »(1).

- إثبات تحقّق الرجعة :

علماء الكلام الإمامية، بمن فيهم الفضل بن شاذان والشيخ الصدوق والشيخ الطبرسي وأبو الفتوح الرازيّ وقطب الدين الراوندي والسيّد ابن طاووس، استندوا إلى حديثٍ مرويٍّ عن رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) لأجل إثبات أنّ الرجعة أمر ضروريٌّ سيتحقّق في الحياة الدنيا، فقد شبّه صلوات الله عليه أمته بالأمم السالفة. كما تمسّكوا ببعض الآيات القرآنية التي تضمنت هذا الموضوع من قبيل الآيات 83 من سورة النمل و6 من سورة الإسراء و 11 من سورة غافر و 39 من سورة النحل و 56 من سورة البقرة و 55 من سورة النور و 6 من سورة القصص و 77 من سورة المؤمنون. وأيضاً استدلّوا عليها بالأخبار التي تنصّ على عودة النبيّ عيسى بن مريم (علیهما السلام)، والسيّد المرتضى بدوره لجأ إلى إجماع العلماء لأنّه لا يعتقد بصحّة خبر الواحد.

ص: 281


1- الشريف المرتضى ،رسائل المرتضى، ج 3، ص 135 و 136.

وقد ذكرنا في المبحث السابق أنّ الفضل بن شاذان أكّد على تحقّق الرجعة واعترض على أهل السنّة الذين أنكروها بحديث نقلوه في أهمّ مصادرهم الحديثية عن رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، ونبّههم على أنّهم أولى بهذه العقيدة من الشيعة لأنّهم نقلوا أحاديث عدة حول إحياء الموتى في الدنيا في حين أنّ الشيعة لم ينقلوا في مصادرهم حديثاً واحداً في هذا الصدد. ومن جملة أحاديث أهل السنة التي نقلها والتي أشرنا إليها في المبحث السابق هو الحديث المروي عن النبيّ (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) : أنتم أشبه شيء ببني إسرائيل، والله ليكوننّ فيكم ما كان فيهم حذو النعل بالنعل والقذّة بالقذّة حتى لو دخلوا جحر ضبٍّ لدخلتموه»، (1)وقد خاطبهم قائلًا: «علمتم أنّ بني إسرائيل قد كان فيهم من عاش بعد الموت ورجعوا إلى الدنيا فأكلوا وشربوا ونكحوا النساء وولد لهم الأولاد»(2).

وفي كتاب (مختصر إثبات الرجعة)، نقل الفضل بن شاذان عشرين روايةً لإثبات تحقّق الرجعة، بما فيها الرواية الآتية المروية عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: «قال الحسين بن علي بن أبي طالب (علیهما السلام) لأصحابه قبل أن يقتل بليلةٍ واحدةٍ: إنّ رسول الله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) قال : يا بنیَّ إنك ستساق إلى العراق تنزل في أرض يقال لها عمورا وكربلاء، وإنك تستشهد بها وتستشهد معك جماعة ... فابشروا بالجنّة، فو الله إنّما نمكث ما شاء الله تعالى بعد ما يجري علينا، ثمّ يخرجنا الله وإياكم حين يظهر قائمنا فينتقم من الظالمين، وأنا وأنتم نشاهدهم وعليهم السلاسل والأغلال وأنواع العذاب والنكال ... »(3) .

كما نقل العلّامة المجلسيّ الرواية الآتية عن الإمام محمّد الباقر (علیه السلام) بإسناد الفضل بن شاذان عن أبي جعفر (علیه السلام) قال: «إذا ظهر القائم ودخل الكوفة، بعث الله تعالى من ظهر الكوفة سبعين ألف صديق، فيكونون في أصحابه وأنصاره» (4). كذلك نقل

ص: 282


1- نقل هذا الحديث في مختلف مصادر أهل السنّة، وبما فيها: البخاري ،صحيح البخاري ، ج 4، ص 144 - ج 8، ص 151 ؛ الترمذي، سنن الترمذي، ج 4 ،ص 135 ؛ الحاكم النيسابوري، المستدرك، ج 1، ص 128 - 129 - ج 4، ص 461؛ المتّقي الهندي ، كنز العمّال، ج 11، ص 230 - ج 11، ص 170 - ج 1، ص 211 و ص 183.
2- الفضل بن شاذان، الإيضاح، ص 426.
3- نقلًا عن مجلة تراثنا ،العدد 15 ص 208 و209.
4- محمّد باقر المجلسيّ، بحار الأنوار، ج 53، ص 104.

الرواية الآتية عن الفضل بن شاذان أيضاً عن الرضا (علیه السلام) أنّه قال: «من أقرّ بتوحيد الله ...»، وساق الكلام إلى أن قال: «وأقرّ بالرجعة والمتعتين، وآمن بالمعراج والمسألة في القبر والحوض والشفاعة وخلق الجنة والنار والصراط والميزان والبعث والنشور والجزاء والحساب، فهو مؤمن حقاً وهو من شيعتنا أهل البيت»(1).

ومن الأدلّة التي تمسّك بها الشيخ الصدوق لإثبات الرجعة، الروايتان الآتيتان:

- حدثنا أحمد بن محمّد بن يحيى العطّار (رضي الله عنه) قال: حدثنا سعد بن عبد الله قال: حدّثني يعقوب بن يزيد عن محمّد بن الحسن الميثمي عن مثنى الحنّاط قال: سمعت أبا جعفر (علیه السلام) يقول: «أيام الله عزّ وجلّ ثلاثة، يوم يقوم القائم، ويوم الكرّة، ويوم القيامة»(2).

علي بن أحمد بن عبد الله، عن أبيه عن جده عن أبي عبد الله البرقي عن أبيه عن عمرو بن شمر عن عبدالله قال قال الصادق (علیه السلام) :«من أقرّ بستة أشياء فهو مؤمن : البراءة من الطواغيت والإقرار بالولاية والإيمان بالرجعة والاستحلال للمتعة وتحريم الجرّي و ترك المسح على الخفّين»(3).

أمّا الشيخ المفيد فقد اعتمد على الآيتين 47 من سورة الكهف و 83 من سورة النمل لإثبات وجود حشرين، أحدهما عام ويجمع الله تعالى فيه جميع الناس من دون استثناء وموعده في يوم القيامة (الحشر الأكبر)، والآخر خاصٌّ (حشر الرجعة) يجمع الله فيه بعض الناس وموعده في الحياة الدنيا قبل قيام الساعة، والثاني هو المراد في عقيدة الرجعة التي يؤمن بها الشيعة.

والآيتان هما:

ص: 283


1- المصدر السابق ،ص 121 .
2- الشيخ الصدوق، الخصال، ص 108 ؛ معاني الأخبار، ص 365 و 366.
3- الشيخ الصدوق ،صفات الشيعة، ص 29.

-«وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا»(1). هذه الآية تشير إلى الحشر الأکبر في یوک القیامة.

- «وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ»(2).هذه الآية تشير إلى الحشر الخاص في الرجعة.

نستشفّ من هاتين الآيتين أنّ الحشر على نوعين، عامٌّ و خاصٌّ ؛ وبما أنّ الحشر العامّ الذي يحدث في يوم القيامة لا يتخلّف عنه أحدٌ من الناس ويتمّ فيه الحساب النهائي للأعمال، فذلك يعني أنّ حشر الرجعة (الخاصّ) الذي يجمع الله فيه فوجاً من كلّ أمةٍ لا يحدث في اليوم الموعود ( يوم القيامة)، ومن ثَمَّ فهو من الأحداث التي تقع في الحياة الدنيا، ومن هذا المنطلق لا يمكن تفسيره إلّا بالرجعة التي يعتقد بها أتباع مذهب أهل البيت (علیهم السلام)(3).

كما استدلّ هذا العالم الفذّ بالآية الحادية عشرة من سورة غافر لإثبات تحقّق الرجعة، وهي قوله تعالى: «قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ »(4)، إذ فسرّ الإماتة والإحياء مرّتين بالإحياء بعد الموتة الأولى في الحياة الدنيا والإحياء في الحياة الآخرة عند قيام الساعة، والأوّل هو الرجعة بعينها، و فنّد رأي من ذهب إلى غير هذا التفسير بالقول: «وللعامّة في هذه الآية تأويل مردود، وهو أنّ المعنى بقوله « رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ »أنّه خلقهم أمواتاً ثمّ أماتهم بعد الحياة. وهذا باطلٌ لا يجري على لسان العرب، لأنّ الفعل لا يدخل إلّا على ما كان بغير الصفة التي انطوى اللفظ على معناها ومن خلقه الله مواتاً لا يقال إنّه أماته، وإنّما يقال ذلك فيمن طرأ عليه الموت بعد الحياة. كذلك لا يقال أحيا الله ميّتاً إلّا أن يكون قد كان قبل إحيائه ميّتاً، وهذا بيّن لمن تأمّله .

ص: 284


1- سورة الكهف، الآية 47.
2- سورة النمل، الآية 83 .
3- الشيخ المفيد ،المسائل السروية، ص 32 - 33.
4- سورة غافر، الآية 11.

وقد زعم بعضهم أنّ المراد بقوله « رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ »الموتة التي تكون بعد حياتهم في القبور للمساءلة، فتكون الأولى قبل الإقبار والثانية بعده. وهذا أيضاً باطلٌ من وجه آخر، وهو أنّ الحياة للمساءلة ليست للتكليف فيندم الإنسان على ما فاته في حاله وندم القوم على ما فاتهم في حياتهم المرّتين يدلّ على أنّه لم يُرد حياة المساءلة، لكنّه أراد حياة الرجعة التي تكون لتكليفهم والندم على تفريطهم، فلا يفعلون ذلك فيندمون يوم العرض على ما فاتهم من ذلك»(1).

السيّد المرتضى بدوره استدلّ بإجماع الإماميّة لإثبات تحقّق الرجعة، إذ أجمعوا على هذه العقيدة اعتماداً على كلام المعصومين (علیهم السلام)، أي إنّ هذا الإجماع يكتسب حجّيته من حجّية كلامهم ؛ قال : «والدلالة على صحّة هذا المذهب أنّ الذي ذهبوا إليه ممّا لا شبهة على عاقل في أنّه مقدورُ لله تعالى غير مستحيل في نفسه، فإنّا نرى كثيراً من مخالفينا ينكرون الرجعة إنكار من يراها مستحيلةً غير مقدورةٍ . واذا أثبت جواز الرجعة ودخولها تحت المقدور، فالطريق إلى إثباتها إجماع الإماميّة على وقوعها، فإنّهم لا يختلفون في ذلك، وإجماعهم - قد بّينا في مواضع من كتبنا - أنّه حجّةٌ لدخول قول الإمام (علیه السلام) فيه، وما يشتمل على قول المعصوم من الأقوال، لا بدّ فيه من كونه صواباً »(2).

-أهل الرجعة :

باعتقاد علماء الكلام الإماميّة فإنّ الرجعة في الحياة الدنيا بعد الموت لا تشمل الناس قاطبةً، وإنّما ترجع فئتان منهم فقط، الأولى تشمل ذوي أعلى مراتب الإيمان كالأنبياء والأولياء الصالحين، والثانية تشمل ذوي اعلا درجات الكفر والنفاق؛ وقد أشارت الروايات إلى أسماء بعض الأشخاص الذين سيرجعون، ومنهم النبيّ عيسى بن مريم والإمام عليّ والإمام الحسين (علیهم السلام) وكذلك مرتكبو جريمة كربلاء الأليمة

ص: 285


1- الشيخ المفيد ،المسائل السروية، ص 33 .
2- الشريف المرتضى ،رسائل المرتضى، ج 1، ص 125 و 126.

وعائشة وخمسة عشر شخصاً من قوم النبيّ موسى (علیه السلام) وأصحاب الكهف ويوشع بن نون وسلمان الفارسي وأبو دجانة الأنصاري والمقداد ومالك الأشتر وأصحاب الإمام المهدي (علیه السلام) وشيعته وأعداؤه.

وقد رأى بعض العلماء - من أمثال المحقّق القزويني - أنّ الرجعة تشمل الأمم السالفة فقط (1).

صنّف الشيخ المفيد أهل الرجعة في فئتين: «وأقول: إنّ الراجعين إلى الدنيا فريقان، أحدهما من علت درجته في الإيمان وكثرت أعماله الصالحات وخرج من الدنيا على اجتناب الكبائر الموبقات، فيريه الله عزّ وجلّ دولة الحق ويعزّه بها ويعطيه من الدنيا ما كان يتمناه. والآخر من بلغ الغاية في الفساد وانتهى في خلاف المحقّين إلى أقصى الغايات وكثر ظلمه لأولياء الله واقترافه السيئات ... »(2). . وأكّد على هذا التصنيف بتخصيصٍ أدقّ في كتابٍ آخر بعد أن ذكر روايةً عن الإمام جعفر الصادق (علیه السلام)، وقال: «إنّما يرجع إلى الدنيا عند قيام القائم من مُحضّ الإيمان محضاً أو مُحضّ الكفر محضاً، فأمّا ما سوى هذين فلا رجوع لهم إلى يوم المآب»(3).

وقد أكّد على أنّ الرجعة تشمل أمّة محمّد (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ممّن نالوا أعلى مراتب الإيمان ومن الذين اتّصفوا بالكفر والنفاق، ولا تعمّ أبناء سائر الأمم السالفة، قال: «والرجعة إنّما هي الممحّضي الإيمان من أهل الملة وممحضي النفاق منهم دون من سلف من الأمم الخالية»(4).

ص: 286


1- عبد الجليل القزويني، كتاب النقض، ج 2، ص 305.
2- الشيخ المفيد، أوائل المقالات في المذاهب والمختارات، ص 78 .
3- الشيخ المفيد، تصحيح اعتقادات الإمامية، ص 90.
4- الشيخ المفيد ،المسائل السروية، ص 35.

- الهدف من الرجعة :

المعتقدون بالرجعة أكّدوا على أنّ الغاية منها إقامة العدل في الدنيا والانتقام من أعداء الله تعالى وإحياء دين الحق وتأسيس حكومة الأئمة المعصومين (علیهم السلام) الذين هم خلفاء النبيّ الأكرم (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) في الأرض ليراها أعداؤهم بأمّ أعينهم وينعم فيها المؤمنون فيعيشون تحت ظلّها بعزّة وكرامة، أي إنّ الله تبارك وتعالى سيريهم حقيقة حكومة الحقّ التي وعدهم بها وسيثبت لهم قدرته المعصوم على إقامة حكومة عدلٍ وصلاحٍ لا يعاني في كنفها أيّ إنسانٍ من ظلمٍ ولا حيفٍ.

قال الشيخ المفيد واصفاً الرجعة: «... فينتصر الله تعالى لمن تعدّى عليه قبل الممات ويشفي غيظهم منه بما يحلّه من النقمات؛ ثمّ يصير الفريقان من بعد ذلك إلى الموت ومن بعده إلى النشور وما يستحقّونه من دوام الثواب والعقاب، وقد جاء القرآن بصحّة ذلك وتظاهرت به الأخبار والإماميّة بأجمعها عليه إلّا شذاذاً منهم تأوّلوا ما ورد فيه مما ذكرناه على وجهٍ يخالف ما وصفناه»(1).

كما أكّد على أنّ أحد أهدافها هو تمكين المؤمنين للثأر من أعدائهم الذين ظلموهم وسلبوا حقوقهم جوراً وعدواناً، قال: «والرجعة عندنا تختصّ بمن مُحضّ الإيمان ومُحضّ الكفر دون ما سوى هذين الفريقين، فإذا أراد الله تعالى على ما ذكرناه أوهم الشيطان أعداء الله عزّ وجلّ إنّما ردّوا إلى الدنيا لطغيانهم على الله فيزدادوا عتوّاً، فينتقم الله تعالى منهم بأوليائه المؤمنين ويجعل لهم الكرّة عليهم فلا يبقى منهم أحدٌ إلّا وهو مغموم بالعذاب والنقمة والعقاب، وتصفو الأرض من الطغاة ويكون الدين لله تعالى »(2).

ص: 287


1- الشيخ المفيد، أوائل المقالات في المذاهب والمختارات، ص 78.
2- الشيخ المفيد ،المسائل السروية، ص 36 .

- الشبهات التي أثيرت حول الرجعة :

إشارة

كما هو متعارف، فقد بادر منكرو الرجعة إلى طرح شبهات حولها كما هو الحال بالنسبة إلى سائر معتقدات الإماميّة الحقّة، لكنّ علماءنا تصدّوا لها بالنقد والتفنيد، وعلى رأسهم السيّد المرتضى والشيخ الطوسيّ وفيما يأتي نتطرّق إلى ذكر فحوى هذه الشبهات ونقضها :

* الشبهة الأولى : الرجعة ضربٌ من الإعجاز والإعجاز من مختصّات الأنبياء (علیهم السلام):
إشارة

ذهب بعض علماء المعتزلة إلى استحالة تحقّق الرجعة في الحياة الدنيا لكونها ضرباً من الإعجاز، وقد مكّن الله تعالى الأنبياء فقط على الإتيان بالمعجزات بغية إقناع الناس بصحّة رسالتهم وحقانية نبوّتهم؛ وبما أنّ النبوّة ختمت بعد سيّدنا محمد بن عبدالله (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) فليس من الممكن تحقّق الرجعة حينئذٍ.

-تحليل الشبهة ونقضها :

ردّ الشيخ الطوسيّ على هذه الشبهة بإلغاء تخصيص الإعجاز بالأنبياء، فقال: «وقالت المعتزلة : ( لا يجوز أن يكون ذلك إلّا في زمان نبيٍّ، لأنّ المعجزة لا يجوز ظهورها إلّا للدلالة على صدق نبيٍّ، تكون له آيةً). وقد بيّنا فساد ذلك في غير موضع، وأنّه تجوز المعجزات على دينٍ من الصادقين: من الأئمة والأولياء وإن لم يكونوا أنبياء»(1).

*الشبهة الثانية: الرجعة وازعٌ لارتكاب المعاصي :
إشارة

عالم الكلام المعتزلي أبو القاسم البلخي ذكر مؤاخذةً على الرجعة معتبراً إياها واحدةً من المغريات التي تحفّز الإنسان على ارتكاب المعاصي، حيث قال إنّ العاصي

ص: 288


1- الشيخ الطوسيّ، التبيان في تفسير القرآن ،ج 1 ص 255 - ج 2، ص 283.

يفعل ما يشاء لأنّه يعلم برجوعه في الحياة الدنيا مرّةً أخرى فيؤمل على التوبة حينها، و الله تعالى يقبل توبة عباده في الحياة الدنيا وهذا يعني أنّ الاعتقاد بالرجعة يستلزم القول بكون الله عزّ وجلّ رغّب العباد على ارتكاب الذنوب والآثام. ونصّ كلامه: «لا تجوز الرجعة مع الإعلام بها، لأنّ فيها إغراء بالمعاصي من جهة الاتّكال على التوبة في الكرّة الثانية»(1).

-تحليل الشبهة ونقضها :

الشيخ الطوسيّ فنّد هذه الشبهة بالاعتماد على كلامٍ لأحد علماء المعتزلة البارزين، وهو عليّ بن عيسى الرماني (296ه - 384ه) الذي قال: «هذا ليس بصحيح من قِبَل أنّه لو كان فيها إغراء بالمعصية، لكان في إعلام التبقية إلى مدةٍ إغراءٌ بالمعصية؛ وقد أعلم الله تعالى نبيّه وغيره إبليس أنّه يبقيه إلى يوم يبعثون، ولم يكن في ذلك إغراء بالمعصية وعندي أنّ الذي قاله البلخي ليس بصحيح، لأنّ من يقول بالرجعة لا يقطع على أنّ الناس كلّهم يرجعون، فيكون في ذلك اتّكال على التوبة في الرجعة، فيصير إغراءً، فلا أحد من المكلّفين إلّا ويجوز أن لا يرجع، وإن قطع على الرجعة في الجملة، ويجوز أن لا يرجع ؛ فكفى في باب الزجر »(2). وأضاف الشيخ الطوسيّ قائلاً : «وأما قول الرماني (إنّ الله تعالى أعلم أقواماً مدّة مقامهم)، فإنّ ذلك لا يجوز إلّا فيمن هو معصوم يؤمن من جهة الخطأ، كالانبياء ومن يجري مجراهم في كونهم معصومين؛ فأما من ليس بمعصوم فلا يجوز ذلك، لأنّه يصير مُغرى بالقبح، وأمّا تبقية إبليس مع إعلامه أن يستبقيه إلى يوم القيامة، ففيه جوابان :

أحدهما : إنّه إنّما وعده قطعاً بالتبقية بشرط ألّا يفعل القبيح، ومن فعل القبيح حقّ اخترته عقبه، ولا يكون مُغرى.

ص: 289


1- الشيخ الطوسيّ، التبيان في تفسير القرآن، ج 1، ص 255.
2- الشيخ الطوسيّ، التبيان في تفسير القرآن، ج 1، ص 255.

والثاني : إنّ الله قد علم أنّه لا يريد بهذا الإعلام فعلاً قبيحاً، و إلّا لما كان يفعله، وفي ذلك إخراجه من باب الإغراء.

وقد قيل:« إنّ إبليس قد زال عنه التكليف، وإنّما أمكنه الله من وسوسة الخلق تغليظاً للتكليف وزيادةً في مشاقّهم ، ويجري ذلك مجرى زيادة الشهوات أنّه يحسن فعلها إذا كان في خلقها تعريضُ للثواب الكثير الزائد»(1).

* الشبهة الثالثة: الرجعة والتكليف :
إشارة

عندما يرجع الله تعالى من كُتبت عليه الرجعة في آخر الزمان، فهو آنذاك يكون قد مرّ بمرحلةٍ في قبره أزيحت فيها الحجُب المادّية التي تغشى أبصار الناس في الحياة الدنيا بحيث شاهد الثواب والعقاب الحقيقيين اللذين يترتّبان على الأعمال الحسنة والسيئة، لذلك لا يبقى له وازع كي يرتكب المعاصي مرّةً أخرى خشيةً من العذاب الأليم الذي لمسه بالعيان، أي إنّه يضطرّ إلى عدم فعل أيّ ذنبٍ ويبادر إلى فعل الخير.

قد يقال إنّ هذا الأمر جبرٌ في الأفعال (جبر بالمعنى الفلسفي)، لكنّه في الحقيقة ليس كذلك لكونه جبراً نفسياً ناشئاً من دوافع الإنسان، أي إن الدوافع النفسية تصبح بشكل بحيث لا ترغب الإنسان بفعل المنكر ومن ثَمَّ فهو يبادر إلى فعل الخير وترك الذنوب من منطلق الخشية من العذاب الأليم الذي شاهده في حياته البرزخية؛ وهذا الأمر لا بدّ من أن يستوجب رفع التكليف عمّن تشمله الرجعة لكونه لا يمتلك الدافع لارتكاب المعاصي.

- تحليل الشبهة ونقضها :

السيّد المرتضى ناقش هذه الشبهة وردّ عليها بقوله : «وقد بيّنا أنّ الرجعة لا تنافي التكليف، وأنّ الدواعي متردّدة معها حين لا يظنّ ظانٌّ أنّ تكليف من يُعاد باطلٌ،

ص: 290


1- المصدر السابق.

وذكرنا أنّ التكليف كما يصحّ مع ظهور المعجزات الباهرة والآيات القاهرة، فكذلك مع الرجعة، لأنّه ليس في جميع ذلك مُلجئٌ إلى فعل الواجب والامتناع من فعل القبيح»(1).

إذن، لما كان أهل الرجعة مخيّرين في أفعالهم، فلا مانع من كونهم مكلّفين.

*الشبهة الرابعة: الرجعة والتوبة :
إشارة

هذه الشبهة متفرّعةٌ على القول بتكليف جميع أهل الرجعة، إذ لو كانوا مكلّفين فذلك يستدعي قدرة العصاة والمتجبّرين على الرجوع إلى صوابهم والتوبة إلى الله تعالى معلنين ندمهم على ما اقترفوه من آثام وجرائم ، لذا قد تشملهم رحمته الواسعة لأنّه يقبل التوبة من عباده؛ في حين أنّ الإماميّة لا يقولون بتوبتهم رغم اعتقادهم بتكليفهم آنذاك.

- تحليل الشبهة ونقضها :

تطرّق السيّد المرتضى إلى الردّ على هذه الشبهة بالقول: «فإن قيل: فإذا كان التكليف ثابتاً على أهل الرجعة، فتجوّزوا ثبوت تكليف الكفّار الذين اعتقدوا النزول استحقاق العقاب .

قلنا : عن هذا جوابان، أحدهما أنّ من أُعيد من الأعداء للنكال والعقاب لا تكليف عليه، وإنّما قلنا إنّ التكليف باقٍ على الأولياء لأجل النصرة والدفاع والمعونة. و الجواب الآخر أنّ التكليف وإن كان ثابتاً عليهم، فتجوّزون بعلم الله تعالى أنّهم لا يختارون التوبة، لأنّا قد بيّنا أنّ الرجعة غير ملجئة إلى قول القبيح وفعل الواجب، وأنّ الدواعي متردّدة، ويكون وجه القطع على أنّهم لا يختارون ذلك ممّا علمنا وقطعنا عليه من أنّهم مخلّدون لا محالة في النار»(2).

ص: 291


1- الشريف المرتضى، رسائل المرتضى، ج 1، ص 126.
2- الشريف المرتضى، رسائل المرتضى، ج 3، ص 137.

وقال العلّامة محمّد باقر المجلسيّ على هذا الصعيد: «الظاهر أنّ زمان الرجعة ليس زمان تکلیفٍ فقط، بل هو واسطة بين الدنيا والآخرة، بالنسبة إلى جماعةٍ دار تكليفٍ وبالنسبة إلى جماعةٍ دار جزاءٍ ؛ فكما يجوز اجتماعهم في القيامة، لا يبعد اجتماعهم في ذلك الزمان»(1).

* الشبهة الخامسة: الرجعة والتناسخ :
إشارة

أهمّ شبهةٍ طُرحت حول عقيدة الرجعة ،هي تشبيهها بفكرة التناسخ، إذ عُدّت نمطاً من أنماط التناسخ الذي هو باطل باعتقاد الشيعة الإمامية؛ ومن ثمّ يترتّب على القول بها حدوث تناقضٍ عقائديٍّ صريحٍ.

- تحليل الشبهة ونقضها :

تصدّى علماء الكلام الإماميّة لهذه الشبهة بغية إثبات أنّ الرجعة ليست ضرباً من التناسخ، فقد أكّد السيّد المرتضى على أنّ الإماميّة يعدّون التناسخ باطلاً جملةً وتفصيلاً بحيث عدّ القائلین به كافرين بالتعاليم الإسلامية الحقة، حيث قال: «ولا اعتبار بقول طائفةٍ من أهل التناسخ بخلاف ذلك، لأنّ أصحاب التناسخ لا يُعدّون من المسلمين ولا ممّن يدخل قوله في جملة الإجماع، لكفرهم وضلالهم وشذوذهم من البين»(2).

ص: 292


1- محمد باقر المجلسيّ، بحار الأنوار، ج 25، ص 108 و 109 .
2- الشريف المرتضى، رسائل المرتضى، ج 1، ص 425.
نتیجة البحث:

نستنتج ممّا ذكر حول عقيدة الرجعة بأنّها من المسائل العقائدية التي يمكن إثباتها بالدليل في مختلف الشرائع، ناهيك عن أنّها لاتتعارض مع أيٍّ من المعتقدات الدينيّة، وأمّا الشبهات التي أُثيرت حولها فهي عقيمةٌ وليس من شأنها تفنيدها.

لو تتبّعنا تأريخ علم الكلام وأمعنّا النظر في البحوث التي طرحت للنقاش فيه حول هذه العقيدة، لوجدنا أنّ بعضهم صوّر الرجعة بنحو يختلف عن دلالتها الحقيقية على وفق آراء الشيعة الإماميّة وهو أمرٌ تسبّب في فسح المجال لبعض المعارضين في إثارة شبهاتٍ حولها.

ص: 293

المصادر والمراجع

1.ابن خلدون ،عبدالرحمن ،مقدّمة ابن خلدون ،ترجمه إلى الفارسية: محمد پروین گنابادي ،منشورات علمي و فرهنگي، طهران.

2. ابن سينا ،الإشارات والتنبيهات ،منشورات الكتاب، قم، 1377 ق.

3 .ابن سينا ،التعليقات ،قم، منشورات بوستان کتاب، 1379 ش .

4.ابن سينا، ،الشفاء، الإلهيّات، منشورات مكتبة المرعشي النجفي، قم، 1405 ق.

5. ابن سينا ،رسالة منطق، دانشنامه علائي، منشورات جامعة بوعلي سينا، همدان، 1383 ش.

6. ابن سينا، والطوسيّ، نصير الدين ،شرح الإشارات والتنبيهات ،منشورات البلاغة، قم، 1375ش.

7. ابن فارس ،معجم مقاييس اللغة ،بدون تاريخ .

8. ابن منظور، محمد بن مکرم، لسان العرب، منشورات أدب الحوزة، قم، 1405 ق.

9.أبو زهرة، تاريخ المذاهب الإسلاميّة، القاهرة، بدون تاريخ .

10. أحمدي، أحمد، نظرية بداهة مبدأ الهوهويّة [ بالفارسية: نظريه بداهت اصل هوهویت]، طهران، 1389 ش.

11. إدواردز ،بول، براهين إثبات وجود الله في الفلسفة الغربيّة، نقله إلى الفارسية: على رضا جمالي نسب، ومحمد محمد رضائي ، منشورات مكتب التبليغ الإسلامي، قم، 1371 ش.

12.أرسطو منطق أرسطو، تحقيق: عبد الرحمن بدوي، القاهرة .

13. آرون ريمون المراحل الرئيسية للفكر في علم الاجتماع ،نقله إلى الفارسية: بقر برهام، منشورات انقلاب إسلامي، 1370 ش.

14.أسس الفلسفة المسيحية؛

15. الأشعري، أبو الحسن ،الإبانة عن أصول الديانة، تحقيق: عبّاس صباغ، دار الأنصار، مصر، 1397 ق.

16. الأشعري، أبو الحسين اللمع، تحقيق: عبد الحليم محمود وطه عبد الباقي مسرور ، دار الكتب الحديثة ،القاهرة 1960م.

17. أمين ،أحمد، ضحى الإسلام، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1351 ق.

ص: 294

18.الإيجيّ، عضد الدين ،شرح المواقف، منشورات الشريف الرضي ، قم ، 1370 ش.

19 . باربور، إيان ،العلم والدين نقله إلى الفارسية: بهاء الدين خرمشاهي، منشورات دانشکاهي، طهران، 1362ش.

20. البحراني، السيّد هاشم ،البرهان في تفسير القرآن، منشورات مؤسسة إسماعيليان، قم، بدون تاريخ .

21.البخاري، محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري، المكتبة العصرية، بيروت، 1389 ق.

22. بدوي، عبد الرحمن ،موسوعة الفلسفة ،منشورات المؤسسة العربية للدراسات والنشر ،1996م.

23. بشيري، أبو القاسم، مقالة : الاغتراب [ بالفارسية از خود بيگانگي]، مجلة معرفت، العدد 91، ص 72.

24.بطرسون ،مايكل، العقل والإيمان الدينيّ ،نقله إلى الفارسية: أحمد نراقي وإبراهيم سلطانين، منشورات طرح نو ، طهران 1376ش.

25. البغدادي، عبد القاهر ،أصول الدين ،دار الكتب، بيروت، لبنان.

26.البغدادي ،عبد القاهر ،الفرق بين الفرق ،نقله إلى الفارسية : محمد جواد مشکور ؛منشورات إشراقي، 1367 ش.

27. البغدادي، عبد القاهر ،مقالات الإسلاميين، منشورات دار الفكر، بيروت، لبنان .

28.بلانتينغا ،ألفن ،فلسفة الدين، الله والاختيار والشرّ، نقله إلى الفارسية: محمد سعيدي مهر ،منشورات مؤسسة طه الثقافية، 1376ش.

29. بوبر، كارل ،الحدس والإبطال ،منشورات شرکت سهامی انتشار، طهران، 1375 ش.

30. بوبر، كارل، منطق الكشف العلمي، نقله إلى الفارسية: أحمد آرام، منشورات سروش، طهرا،1370 ش.

31. بيش، إدغار ،فكر ،فرويد نقله إلى الفارسية: غلام علي توسّلي ،منشورات كتابفروشي سينا، 1332ش.

32. التفتازاني ،سعد الدين ،شرح المقاصد، دار الكتب العلمية، بيروت، بدون تاريخ. .

33. التفتازاني ؛سعد الدين ،مختصر المعاني ،منشورات مكتبة إسلامي، بدون تاريخ.

34. تنهائي، حسين، مدخل إلى المدارس والنظريات في علم الاجتماع ، منشورات مرندیز، گناباد، 1374 ش .

ص: 295

35.توسّلي ،غلام حسين ،نظريات علم الاجتماع ،منشورات سمت ،طهران 1369 ش .

36. تیلیخ (تیلیش)، بول ،حيويّة الإيمان، نقله إلى الفارسية: حسين نوروزي، منشورات حکمت ،طهران.

37. جعفري، محمد تقي ،ترجمة نهج البلاغة وتفسيره ،منشورات دفتر نشر فرهنك إسلامي، طهرا، 1373 ش .

38. جهانگيري ،محسن ،ترجمة فرانسيس بيكون ومؤلّفاته ،منشورات شركة انتشارات علمي و فرهنگي طهران 1369ش.

39.الجوادي الآملي، عبد الله، ،أضواء على براهين إثبات الله ،منشورات إسراء، قم، 1385 ش.

40. الجوادي الآملي ،عبدالله الشريعة في مرآة المعرفة، منشورات مرکز فرهنگي رجا، طهران، 1372 ش .

41.الجوادي الآملي، عبدالله ،الهداية والضلال في القرآن الكريم ،منشورات إسراء، قم، 1386 ش.

42.الجوادي الآملي، عبد الله ، تحرير تمهيد القواعد، منشورات الزهراء، طهران، 1372ش.

43. جوادي، محسن، مدخل إلى الإلهيّات الفلسفيّة، منشورات معاونية أمور الأساتذة والدروس للمعارف الإسلامية، قم، 1369 ش.

44.جید شارل و جيست ،شارل تاریخ المذاهب الاقتصادية، نقله إلى الفارسية: سنجابي، جامعة طهران.

45. جيلسون ،إتيان ،العقل والوحي في القرون الوسطى ،نقله إلى الفارسية: شهرام پازوكي ،پژوهشگاه علوم انساني و مطالعات فرهنگي، 1371 ش.

46. جيمس، وليام، البراغماتية [بالفارسية: پراگماتیسم]، نقله إلى الفارسية: عبدالكريم رشيديان، منشورات آموزش انقلاب اسلامي، طهران، 1370 ش.

47. حسين زاده، محمد، أسس المعرفة الدينيّة، منشورات مؤسسة الإمام الخميني، قم، 1379 ش.

48.حسین زاده ،محمّد ،فلسفة الدين ،منشورات مكتب التبليغ الإسلامي، قم، 1376 ش.

49. حسين زاده ،محمد ،نظرية المعرفة، منشورات مؤسسة الإمام الخميني، قم، 1377 ش.

50. الحليّّ ،الحسن بن يوسف ،كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد ،منشورات مؤسسة النشر الإسلامي، 1407 ق.

51.الحلّي ،الحسن بن يوسف ،مجموعة رسائل كشف الفوائد في شرح القواعد، منشورات مكتبة المرعشيّ النجفيّ، قم.

ص: 296

52. الحلّيّ، جمال الدين، أنوار الملكوت في شرح الياقوت، تحقيق: محمد زنجاني، منشورات الرضي ،قم، 1373 ش.

53. خرمشاهي ،بهاء الدين ،الله في الفلسفة ،منشورات پژوهشگاه علوم انساني و مطالعات فرهنگي، 1384 ش.

54. خسروپناه ومهدي عبداللهي، ماهية الكلام الجديد [بالفارسية: چيستي كلام جديد]، فصليّة« اندیشه نوين ديني».

55. خسروپناه، عبد الحسين، الكلام الجديد، مرکز مطالعات و پژوهشهای فرهنگی حوزه علمیه قم، 1379 ش.

56.خسروپناه ،عبد الحسين ،المسائل الكلاميّة الجديدة وفلسفة الدين ،منشورات جامعة المصطفى (صَلَّى اللّه عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ) ، قم، 1388 ش.

57. خسروپناه، عبدالحسين، توقعات الإنسان من الدین، پژوهشگاه فرهنگ و اندیشه اسلامي 1381 ش .

58. خسروپناه ،عبدالحسين ،دراسة في التيّارات المضادّة للثقافة ،منشورات التعليم والتربية الإسلامية ،قم، 1389ش.

59. خسروپناه ،عبدالحسین ،مبادئ علم الكلام ومصادره، مؤسسة الإمام الصادق (علیه السلام)، قم.

60. خسروپناه، عبد الحسين ، مقالة «قابلية الدين للقراءات، دراسة في الُبنى التحتيّة »، مجلة قبسات ،العدد 23 .

61. الخميني، السيّد روح الله ، آداب الصلاة، مؤسسة تنظيم و نشر آثار الإمام الخميني، طهران، . 1380 .ش

62. الخميني ،السيّد روح الله، حديث جنود العقل والجهل ،مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني، طهران، 1377 ش .

63. الخميني، السيّد روح الله ، شرح الأربعين حديثاً، مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني، طهران 1375 ش .

64.الخميني، السيّد روح الله ، صحيفة الإمام ، مؤسسة تنظيم و نشر آثار الإمام الخميني، طهران، 1375 ش .

65.الخوارزمي، تاج الدين، شرح فصوص الحكم، منشورات مولی، 1368ش.

66. داوري اردكاني ،رضا ،المطهّريّ وعلم الكلام الجديد ،في ذكرى العلّامة الشهيد المطهريّ

ص: 297

[بالفارسية: يادنامه استاد شهید مرتضی مطهري]، ج 2، سازمان انتشارات و آموزش انقلاب إسلامي، 1363 ش.

67 . دائرة معارف التشيع، ج 2، مدخل «الإيمان».

68. دريابندري ،نجف ،آلام اللاانتمائية [بالفارسية : درد بي خويشتني]، منشورات پرواز، 1369 ش.

69. ديفيس ،ستيفين، مقالة عكس تيّار الإيمان اللاواقعيّ النسخة المترجمة للفارسيّة، مجلّة كيان ،العدد 52 ، ص 45 .

70. ديلمي، أحمد، دليل النظام ؛ دراسات في الطبيعة والحكمة ،منشورات معاونية أمور الأساتذة والدروس للمعارف الإسلامية، قم، 1376 ش .

71. دیورانت ،ویل ،مباهج الفلسفة ،نقله إلى الفارسية : عباس زرياب، سازمان انتشارات و آموزش انقلاب إسلامي.

72.الرازيّ ،فخر الدين ،التفسير الكبير، بدون تاريخ .

73. راسل ،برتراند ،الدين والعلم (النسخة المترجمة للفارسية )، منشورات كتابفروشی دهخدا ،1353 ش .

74.رجبي، محمود، معرفة الإنسان، منشورات مؤسسة الإمام الخميني، قم، 1379 ش.

75. رفیع بور، فرامرز ،تشريح المجتمع [العنوان بالفارسية : آناتومي جامعه]، منشورات شركة سهامي انتشار طهران 1378 ش .

76. ریشنباخ ،هانس ،ظهور الفلسفة العلمية، نقله إلى الفارسية: موسى أكرمي، منشورات شركة انتشارات علمي و فرهنگي، طهران، 1371 ش.

77. زيتلن، إيرفينغ، مستقبل مؤسّسي علم الاجتماع ،نقله إلى الفارسية: غلام عباس توسلي ،منشورات قومس ،طهران 1373 ش .

78.سالاي ،فیلسیان ،فرويد والفرويديّة [ النسخة المترجمة إلى الفارسيّة ] ، نقله إلى الفارسية : إسحاق وكيلي ،طهران 1355 ش .

79. السبحانيّ، جعفر، الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل ،منشورات المركز العالمي للدراسات الإسلامية، قم، 1409 ق.

80. السبحانيّ، جعفر، كليات في علم الرجال، مؤسسة الإمام الصادق (علیه السلام) للتعليم والبحوث، قم 1390 ش.

ص: 298

81. السبحانيّ، جعفر، مدخل إلى المسائل الجديدة في علم الكلام، مؤسسة الإمام الصادق (علیه السلام)، قم، 1375 ش.

82. السبحانيّ، جعفر، مفاهيم القرآن [ النسخة الفارسيّة : منشور جاويد]، مؤسسة الإمام الصادق (علیه السلام)، قم، 1375 ش.

83. السبزواري، هادي بن محمّد، أسرار الحكم، مطبوعات ديني، قم، 1383 ش.

84.السبزواري، هادي بن محمّد ، شرح المنظومة، منشورات ناب، طهران، 1369 ش.

85. ستور، أنطوني ،فرويد، نقله إلى الفارسية: حسن مرندي ،منشورات طرح نو، طهران، 1375 ش .

86.سروش، عبد الكريم ، مقالة الصراطات المستقيمة بالفارسية، مجلّة كيان، العدد 36 ،ص 9.

87 . سروش ،عبدالکريم، الصراطات المستقيمة [ النسخة الفارسية بعنوان: صراط هاي مستقيم] ،منشورات مؤسسة الصراط الثقافية طهران 1376ش.

88. سروش، عبدالكريم، القبض والبسط في الشريعة [ النسخة الفارسية بعنوان: قبض وبسط تئوريك شریعت] منشورات مؤسسة الصراط الثقافية ،طهران 1368ش.

89 .سروش ،عبدالکریم ،بسط التجربة النبوية ،منشورات مؤسسة الصراط الثقافية، طهران، 1378ش.

90 .سروش ،عبدالكريم ،معرفة العلم الفلسفيّة، منشورات مؤسسة الصراط الثقافية، طهران، 1388ش.

91. سليماني، عسكري، نقد على عدم قابلية البرهنة على وجود الله ،منشورات بوستان کتاب، قم.

92. السهروردي ،يحيى بن حبش ، حكمة الإشراق، منشورات پژوهشگاه علوم انساني و مطالعات فرهنگي، 1373 ش .

93. السيوريّ، المقداد، إرشاد الطالبين إل نهج المسترشدين ،مكتبة المرعشي النجفي، قم، 1405 ق. .

94. شاكرين ،حميد رضا ،براهين إثبات وجود الله في نقد لشبهات جون ها سبرز ،منشورات مؤسسه فرهنگي دانش و اندیشه معاصر، 1385.

95. شبّر ،السيّد عبدالله ،حقّ اليقين ،منشورات علمي طهران ،1334 ش .

96. شریف، میان محمد، تاريخ الفلسفة في الإسلام ،نقله إلى الفارسية: نصر الله جوادي، إسماعيل سعادت، منشورات مرکز نشر دانشگاهي، 1370 ش.

97. الشهرستاني ،عبد الكريم ،الملل والنحل ،منشورات الرضي، قم، 1367 ش.

ص: 299

98.الشيرازيّ ،صدر الدين ،الحكمة المتعالية في الأسفار العقليّة الأربعة، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1419 ق.

99. الشيرازي ،صدر الدين ،الشواهد الربوبيّة ،تصحيح: سيد جلال الدين الآشتياني، منشورات جامعة مشهد، 1346 ش.

100. الشيرازيّ، صدر الدين ،تفسير القرآن الكريم، منشورات مولی، طهران، 1380 ش.

101.الشيرازيّ ،صدر الدين ،مجموعة الرسائل الفلسفيّة ،تحقيق وتصحيح: حامد ناجي اصفهاني ،منشورات حکمت طهران ،1375 ش.

102.الشيروانيّ، عليّ ، دراسات الفطرة الإنسانية في الإلهيّات الفطرية، منشورات معاونية أمور الأساتذة والدروس للمعارف الإسلامية، قم، 1376 ش.

103.صادقي ،هادي ،مقالة: مواجهة مع ماكي في مقالته الشرّ والقدرة المطلقة ،مجلة كيان ،السنة 3 العدد 17 .

104. صبوري ،منو تشهر ، مبادئ علم الاجتماع، منشورات ني طهران.

105. الصدر، السيّد محمّد باقر ،اقتصادنا ،دار التعارف للمطبوعات، بيروت، 1400 ق.

106.الصدوق (ابن بابويه)، محمّد بن عليّ، الأمالي، منشورات أرمغان طوبى.

107.الصدوق (ابن بابويه)، محمّد بن عليّ ،التوحيد منشورات جامعة المدرسين، قم.

108.الصدوق (ابن بابويه)، محمّد بن عليّ ،علل الشرائع ،منشورات مؤمنين، قم، 1382ه ش.

109.الطباطبائي، محمّد حسين ،الشيعة في الإسلام ،منشورات مكتب التبليغ الإسلامي، 1348ش.

110.الطباطبائي، محمّد حسين ،الميزان في تفسير القرآن ،منشورات مؤسسة إسماعيليان، 1394ش.

111.الطباطبائي، محمّد حسين، نهاية الحكمة، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، 1364 ش.

112. طهماسبي ،عليّ ،الهاجس الأخير، منشورات یادآوران طهران، 1379 ش.

113. الطوسيّ، محمّد بن الحسن، الاقتصاد فيما يتعلق بالاعتقاد، منشورات دار الأضواء، بيروت، 1986م.

114.الطوسيّ، محمّد بن الحسن ،الرسائل العشر، منشورات مؤسسة النشر الإسلامي، قم، 1414 ق.

115.العاملي، الحرّ، وسائل الشيعة، المكتبة الإسلاميّة، طهران، 1403 ق.

ص: 300

116.العاملي، زين الدين ،حقائق الإيمان، تحقيق: مهدي الرجائي، مكتبة المرعشي النجفي .

117.عبودیت، عبدالرسول ،النظام الفلسفيّ لمدرسة الحكمة المتعالية [ بالفارسية : درآمدي به نظام حکمت متعالیه ]،منشورات سمت ومؤسسة الإمام الخمينيّ، 1386 ش.

118. العروسيّ الحويزيّ، عبد علي بن جمعة، تفسير نور الثقلين، مطبعة العلمية، منشورات نور الثقلين، قم، بدون تاريخ .

119.العشّاقي الإصفهانيّ، حسين، براهين الصديقين، قم، 1387 ش.

120.علم الهدى، السيّد المرتضى ،الذخيرة في علم الكلام ،مؤسسة النشر الإسلامي، 1400 ق.

121.غاردييه، لوي ،مقال «الإيمان في الموروث الإسلامي»، ترجمه إلى الفارسية كامران فاني ،مجلة كيان العدد 52 ، ص 18 .

122. الغزالي، أبو حامد، إحياء علوم الدين، دار إحياء التراث العربي، بيروت، بدون تاريخ.

123.الغزالي، أبو حامد، جواهر القرآن، منشورات المركز العربي للكتاب، دمشق، 1411 ق.

124.غيدنز، أنطوني، دوركايم نقله إلى الفارسية : يوسف اباذري، انتشارات خوارزمي ،طهران 1367 ش .

125.الفارابي، محمّد بن محمّد، إحصاء العلوم، انتشارات علمي و فرهنكي، طهران.

126. الفارابي، محمّد بن محمّد، المنطقيات ،مكتبة المرعشي النجفي، قم، 1408 ق.

127.فرامرز قراملكي، أحد ، موقف العلم والدين في خلق الإنسان، منشورات مؤسسة آراية الثقافية، 1373 ش.

128.فروغي، محمّد علي، مسيرة الحكمة في أوروبا، انتشارات زوار ،طهران 1366 ش.

129.فروم، إريك، الدين والتحليل النفسيّ، نقله إلى الفارسية: آرسن نظريان، منشورات پویش.

130. فروید، سيغموند ،التحليل النفسي للجميع، نقله إلى الفارسية هاشم رجبي، منشورات کاوه.

131.فروید، سيغموند ،الطوطم والمحرّم، نقله إلى الفارسية : ایرج پورباقر، منشورات آسیا ، 1362ش.

132.فروید، سيغموند ،مستقبل وهم ،نقله إلى الفارسية: هاشم رضي، منشورات كاوه، 1340 ش.

133.الفيض الكاشاني، محسن ،المحجة البيضاء ،انتشارات اسلامي، 1373 ش.

ص: 301

134.الفيض الكاشاني، محسن، تفسير الصافي، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، 1402 ق.

135.قرائتي، محسن، تفسير النور، مرکز فرهنکي درسهايي از قرآن 1376 ش .

136.القوشجي، علي بن محمّد، شرح تجريد الاعتقاد، الطبعة الحجرية.

137.القونويّ، صدر الدين، إعجاز البيان في تأويل القرآن، منشورات بوستان کتاب، قم.

138. القيصريّ الروميّ، داوود، شرح فصوص الحكم باهتمام سید جلال الدين الآشتياني ،انتشارات علمي فرهنكي، 1357ش.

139. کابلستون، فردريك، تاريخ الفلسفة، انتشارات علمي فرهنكي، 1375ش.

140. کارناب ،رودلف، مدخل إلى فلسفة العلوم، نقله إلى الفارسية : يوسف عفيفي، مركز نشر دانشگاهي طهران، 1369 ش.

141.الكلينيّ، محمّد بن يعقوب، الكافي، انتشارات علمیه اسلامیه، بدون تاریخ .

142.کمپاني ،فضل الله ،ماهيّة الدين ومنشأه ،منشورات فراهاني ،بدون تاريخ .

143.کوهن، توماس، بنية الثورات العلميّة، نقله إلى الفارسية: سعید زیباکلام منشورات سمت.

144.لازي، جون ،مدخل تاريخيّ إلى فلسفة العلم، نقله إلى الفارسية :علي ،پایا ،منشورات سمت 1389 ش .

145.اللاهيجيّ ( الفيّاض)، عبدالرزاق، شوارق الإلهام، مكتبة الفارابي، طهران، 1401 ق.

146. ماكي، مقالة الشرّ والقدرة المطلقة، الترجمة الفارسية المنشورة في مجلة كيان، السنة الأولى ، العدد3.

147.مجتهد شبستري ،محمّد ،هرمنيوطيقا الكتاب والسنّة [ بالفارسية: هرمنوتيك كتاب وسنّت]، منشورات طرح نو، طهران، 1375 ش.

148. المجلسيّ، محمد باقر، بحار الأنوار، انتشارات الوفاء، بيروت، 1983م.

149.مزلو، إبراهام، الدوافع والشخصيّة، نقله إلى الفارسية: أحمد رضواني، منشورات آستان قدس رضوي مشهد 1372 ش.

150.مصباح اليزدي ،محمّد تقي ،المنهج الجديد في تعليم الفلسفة (النسخة الفارسية)، منشورات سازمان تبليغات إسلامي، طهران، 1373ش.

151.مصباح اليزدي، محمد تقي ،دروس في العقيدة الإسلامية (النسخة الفارسية)، منشورات سازمان تبليغات إسلامي، طهران، 1364 ش.

152.مصلح ،علي أصغر، تاريخ الهيومانيزمية ورؤية هايدغر بشأنها، مجلة نامه فرهنك، السنة الرابعة، العدد 4 .

ص: 302

153.المطهّريّ، مرتضى، الأعمال الكاملة (النسخة الفارسية)، منشورات صدرا، طهران، 1378 ش.

154.المطهّريّ ،مرتضى ،التوحيد (النسخة الفارسية)، منشورات صدرا، طهران، 1374ش.

155.المطهّريّ، مرتضى ،الدوافع نحو المادّيّة (النسخة الفارسية)، منشورات صدرا.

156.المطهّريّ، مرتضى ،العدل الإلهيّ (النسخة الفارسية)، منشورات صدرا، طهران، 1377 ش.

157. المطهّريّ، مرتضى ،العدل الإلهيّ ، مرتضى المطبوع ضمن الأعمال الكاملة .

158.المطهّريّ ،مرتضى ،الفطرة (النسخة الفارسية)، منشورات صدرا، طهران 1369ش.

159.المطهّريّ، مرتضى، حول الجمهورية الإسلامية مرتضى [ النسخة الفارسية: پيرامون جمهوري إسلامي]، منشورات صدرا، طهران، 1384ش.

160.المظفّر ، محمد رضا ،المنطق، تعليقات :غلام رضا الفياضي ،مؤسسة النشر الإسلامي، قم، 1421 ق.

161.المعتزلي، القاضي عبد الجبار، المغني في أبواب التوحيد والعدل، الدار المصرية ، القاهرة.

162.المعتزلي، عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة ،تحقيق :عبد الكريم عثمان، انتشارات وهبة، بیروت، 1408 ق.

163.معين، محمّد، فرهنگ فارسي، مؤسسة انتشارات امير كبير، طهران، 1371 ش.

164.المفيد، محمّد بن محمّد ،النكت الاعتقاديّة، دار المفيد، بيروت، 1414 ق.

165.مكارم الشيرازي، ناصر، تفسير الأمثل، منشورات مدرسة أمير المؤمنين، مطبوعات هدف، قم.

166. مکارم الشيرازيّ، ناصر، نفحات القرآن [ النسخة الفارسيّة پیام قرآن] منشورات مدرسة أمير المؤمنين، مطبوعات هدف ،قم، 1373 ش.

167. النراقيّ، محمد مهدي، أنيس الموحّدين، تصحيح: القاضي الطباطبائي، منشورات الزهراء، طهران، 1363 ش.

168.نصري، عبد الله ،أسس معرفة الإنسان في القرآن الكريم، منشورات مؤسسه فرهنگي دانش و اندیشه معاصر، 1379 ش .

169. النوري، ميرزا حسن، مستدرك الوسائل، مؤسسة الوفاء، بيروت، 1404 ق.

170. نوس، جون بي، أديان الإنسان، نقله إلى الفارسية: علي أصغر حكمت، منشورات آموزش انقلاب إسلاميّ، طهران.

ص: 303

171. هاميلتون، مالكولم، علم الاجتماع الدينيّ، نقله إلى الفارسية: محسن ثلاثي، مؤسسة تبيان للثقافة النشر، طهران 1377 ش .

172.هيك، جون، فلسفة الدين ،نقله إلى الفارسية :بهرام راد ،انتشارات الهدى ،طهران 1372ش.

173. هيك، جون ،مباحث التعددية الدينيّة ،نقله إلى الفارسية: عبد الرحيم كواهي ،مؤسسة تبيان للثقافة النشر، طهران 1378 ش .

174.وینرایت ،ویلیام، مقالة : قضيّة الشرّ ، الترجمة الفارسية المنشورة في مجلة كيان، السنة 3 ، العدد 17 ، ص 34 .

175. يثربي، يحيى ،العرفان النظريّ، منشورات مكتب التبليغ الإسلامي، قم، 1372 ش.

176.يحيى بن الحسين ،رسائل العدل والتوحيد، دار الهلال 1971 م.

177. E.Robertson. The Sociological Interpretation of Religion Oxford: Black well, 1976)

178. F.Copleston, A History of philosophy. V.

179. G. Patrovic, "Alienation", The Encyclopaedia of Philosophy, Paul

Edwards (ed), New York, Macmillan Publishing, 1972, Vol.1.

180. Herbert, Nick, Quantum Reality: Beyond the new Physics (New

York: Doubleday, 1985).

181. M.Weber. The sociology of Religion London: Methuen.1965.

182. Routledge, Encyclopaedia of Philosophy, Religious Pluralism, Gen-

eral Editor: Edward Cralg, London and New York, 1998, Vol. 8.

183. W. James, The varieties of Religious Experience. New York: Col-

lier Macmillan 1961.

ص: 304

هذا الكتاب

"الإمامة " قضيّة مطروحة على بساط

البحث منذ القرون الإسلامية الأولى، وهي

نقطة الخلاف المركزية بين الفريقين، من

الشيعة وأهل السنة.

وقد ألّف في القرون الأولى المخالفون لنظرية

الإمامة عند الشيعة الإثني عشرية كتباً في

الردّ على الإمامة، وكتب علماء الإماميّة

أيضاً مصنّفات تدافع عن هذه النظرية.

المرة الإسلام للدراساتت الاشتر التحية

http://www.iicss.iq

islamic.css@gmail.com

ص: 305

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.