الکلام الإسلامی المعاصر المجلد 2

هوية الکتاب

خسروبناه، عبد الحسين مؤلف .

الكلام الإسلامي المعاصر الجزء الثالث / تأليف عبد الحسين خسروبناه ؛ ترجمة محمد حسين الواسطي، اسعد الكعبي - الطبعة الثانية - النجف العراق : العتبة العباسية المقدسة، المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، 1440 ه. = 2019.

3 مجلد ؛ 24سم – (سلسلة دراسات كلامية ؛ 14)

يتضمن إرجاعات ببليوجرافية.

.1 علم الكلام أ. الواسطي، محمد حسين مترجم. ب. الكعبي، اسعد ، مترجم. ج. العنوان.

LCC: BP166 K46 2019

مركز الفهرسة ونظم المعلومات التابع لمكتبة ودار مخطوطات العتبة العباسية المقدسة

ص: 1

اشارة

الکلام الإسلامی المعاصر

الجزء الثانی

تألیف :عبد الحسین خسروپناه

ترجمة:محمَّد حسین الواسطیّ

ص: 2

بسم اللّه الرحمن الرحیم

خسروبناه عبد الحسين، مؤلف.

الكلام الإسلامي المعاصر.الجزء الثاني / تأليف عبد الحسين خسروبناه ؛ ترجمة محمد حسين الواسطي، اسعد الكعبي - الطبعة الثانية - النجف العراق : العتبة العباسية المقدسة، المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، 1440 ه. = 2019.

3مجلد ؛ 24 سم. -(سلسلة دراسات كلامية ؛14)

يتضمن إرجاعات ببليوجرافية.

1 .علم الكلام. أ. الواسطي، محمد حسين،مترجم .ب. الكعبي، اسعد ، مترجم،ج. العنوان.

LCC: BP166 K46 2019

مركز الفهرسة ونظم المعلومات التابع لمكتبة ودار مخطوطات العتبة العباسية المقدسة

ص: 3

الفهرس

تصدير...6

الباب الرابع: النبوّة...9

13. النبوّة العامة ... 12

1/13.تمهید...12

2/13. بيان حقيقة النبوّة في المعارف الإسلامية...13

3/13. أسباب ضرورة بعثة الأنبياء ...39

4/13 .شبهات حول ضرورة ابتعاث الأنبياء:...81

5/13 .سُبُل إثبات النبوة:...92

14. خصائص الأنبياء...100

1/14. تمهید: ...100

2/14.أوّلاً: حقيقة الوحي...100

3/14. ثانياً: عصمة الأنبياء:... 116

4/14 .ثالثاً : العلم والحكمة ...138

5/14. رابعاً: حسن خلق الأنبياء:...143

6/14. خامساً: القول الصادق:...144

7/14. سادساً: الاستعداد للابتلاء الإلهيّ ...145

8/14. سابعاً: الأمانة:... 145

9/14. ثامناً: البرّ:...146

10/14. تاسعاً: توحيد الخشية من اللّه...146

11/14. عاشراً: الإخلاص للّه ...146

ص: 4

12/14.حادي عشر : التوكل على اللّه ...147

13/14.ثاني عشر : النصيحة والشفقة...147

14/14.ثالث عشر : القدرة والبصيرة...148

15/14.رابع عشر : الصبر والتجلّد...148

15.نبوّة رسول الإسلام...149

1/15.تمهید...151

2/15.سُبُل إثبات نبوّة رسول اللّه...166

16 .تحدّيات النبوّة ...166

1/16.تمهيد...166

2/16.تحدّيات الوحى التفسيريّة:...176

3/16.تحدّيات عصمة الأنبياء:...193

4/16.تحدّي صيانة القرآن:...208

5/16.تحدّيات المستشرقين...229

6/16.استنتاج...231

17.ختم النبوّة...231

1/17.تمهید...231

2/17.معنى ختم النبوّة :...231

3/17.تاريخ عقيدة ختم النبوّة ...234

4/17.الأدلّة على ختم النبوّة...236

5/17.تبيين معنى ختم النبوّة ...237

6/17.الشبهات على ختم النبوّة:...263

ص: 5

تصدیر

لا تتوقّف شآبيب الرحمة والعناية الربانيّة عن الهطول على كلّ الخليقة؛ لا سيّما على عباد اللّه الباحثين عنه، والتائقين إلى معرفته.وها هو اللطف الإلهیّ يغمرني مرّة أخرى؛ حيث وفقّني اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لإتمام كتابة الجزء الثاني من«الكلام الإسلامي المعاصر» ؛ لأضعه بين أيدي القرّاء والمهتمّين.

من المعلوم عند القارئ الكريم أنّ«الكلام الإسلامي المعاصر» يسعى لعرض الأبحاث القديمة والجديدة لعلم الكلام الإسلامیّ بمنهج معاصر،وشاكلة حديثة،هادفاً إلى الحدّ من ظاهرة التفكيك بين الكلام القديم (التقليديّ)والكلام الجديد،و إلى إعادة صياغة جميع الأبحاث الكلاميّة القديمة والجديدة في مكانة وقولبة منطقيّة،وفي ضمن منظومة ممنهجة ومنضبطة.

لقد عرض الجزء الأول من الكتاب أبحاث مبادئ علم الكلام (ماهيّة علم الكلام، وقابليّة الإثبات للقضايا الدينيّة ومعقوليتها)،والإلهيات(معرفة اللّه وإثبات وجوده، إثبات وحدانيّة اللّه،ومراتب التوحيد،الصفات الإلهية، والأفعال الإلهية)، ومعرفة الدين (حقيقة الدين، وحقيقة التجربة الدينيّة،والمطلوب من الدين،ومنشأ الدين،والإيمان الدينیّ،والتعدّديّة الدينية).أمّا في الجزء الثاني فقد تطرّقت الدراسات إلى أبحاث النبوّة ( النبوّة العامة ، وصفات الأنبياء، ونبوّة رسول الإسلام،وتحدّيات النبوّة، وختم النبوّة)، وأبحاث الإمامة(الإمامة العامّة، والإمامة الخاصّة، والدراسات المهدويّة)بياناً وإثباتاً.

ص: 6

وقد أُوكل الحديث عن أبحاث المعاد(المعاد الجسمانيّ والروحانيّ،وتحدّيات منكري المعاد،ومنازل الآخرة، والرجعة)،وأبحاث دراسة الإسلام (القضايا المتعلّقة بلغة الإسلام،ومنطق فهمه،وشموليّته،وجوهر الإسلام وصدفه، والصلة بين الإسلام والعلم والعقل والحداثة وما بعد الحداثة والبحث عن العلم الديني)إلى الجزء الثالث من الكتاب إن شاء اللّه تعالى(1).

ص: 7


1- ننوّه للقارئ الكريم بأنّنا حذفنا من الترجمة الباب السادس من الكتاب المتعلّق بالحضارة الإسلامية، وعليه تمّ تغيير هيكلية الكتاب،فالجزء الثالث بتقسيمنا يحتوي على كتاب الإمامة والمعاد.[المركز الإسلامي].

ص: 8

الباب الرابع النبوّة

-النبوّة العامة

- خصائص الأنبياء

- نبوّة رسول الإسلام

- تحدّيات النبوة

- ختم النبوّة

ص: 9

يراود الباحثين والمطّلعين على الكتب المقدّسة عند الأديان الإبراهيميّة والشرقيّة وغيرها شعور ونداء باطنيّ يتساءل:لو كان هؤلاء القوم يعرفون الرسول الخاتم،ويعرفون أهل بيته الأطهار:،ولو كانوا قد آمنوا بهم، لفُتحت عليهم أبواب الهداية،ولكانت السعادة الحقيقيّة قد غمرتهم،ولكن وا أسفاه عليهم،وعلى بُعد شُقّتهم من الحقيقة،وانغماسهم في ظلمات الوهم والضلال.

ويزداد هذا الشعور عمقاً إذا ما سافر المرءُ إلى الدول التي تكثر فيها الأديان والمذاهب المختلفة؛مثل:الهند، والصين،وما تنطوي عليه أقاليم هذه البلدان ومدنها وقراها من معابد يرتادها أتباع الديانات البوذيّةوالهندوسيّة والسيخيّة، وغيرهم من أبناء الفِرق والطوائف الأخرى؛ لا سيّما إذا تحدّث المرءُ مع علمائهم وكبرائهم، ووقف على ما عقدوا قلوبهم عليه، والسبيل الذي اختاروه للوصول إلى الخير والسعادة.

إنّ التشعّبات والانقسامات التي يجدها الباحث في البوذيّة والهندوسيّة كثيرة إلى حدّ يجعلك تحسب كأنّ كلّ فرقة منها دين برأسه،وإنّ هذا التشظّي الوسيع الذي تعاني منه الأديان الشرقيّة يُجيبك على استفهامات عديدة أخرى ما تفتأ تنقدح في أذهان الباحثين على الدوام؛منها على سبيل المثال:التساؤل عن العوامل التي ساعدت إنجلترا على استعمار بلاد مثل الهند،والأسباب التي ألقت الصينيّين في أحضان العالم الغربيّ رغم الحضارة العريقة والثقافة القوميّة المستقلّة التي امتلكتها الصين على مرّ العصور.

نعم؛ الانقسامات التي تفتك بالشعوب والأمم والخلافات أو الصراعات والتحزّبات التي تحوّل الطقوس والمناسك الدينيّة إلى أفيون بشريّ مهلك هي العامل الرئيس الذي يودي بالمجتمع في شباك الاستعمار.

ص: 10

لقد بعث اللّه عَزَّ وَجَلَّ بدينه ليستنقذ الناس من وبال القيود والأغلال التي أطبقت على أعناقهم،ويفكّ أسرهم من السجون الظاهرة والباطنة التي حاصرتهم وأحاطت بهم؛حتّى تتفتّح عقولهم، ويتسنّى لهم استخدامها في العثور على سبيل السعادة الحقيقيّة، ومعرفة أنّ المجتمعات الإنسانية الرافضة للدين الإلهیّ لم تنجُ من السقوط في وحل التبعيّة للغرب، أو الغرق في مستنقع الاستعمار،فما إن تخلّصت تلك المجتمعات من براثن الاستعمار السياسيّ بعد اللتيا والتي حتّى التفّت حول رقابها حبال الاستعمار الثقافي.

نعم؛ إنّ إنسان القرن الحادي عشر يفتقر إلى الدين الإلهیّ السماويّ البعيد عن التحريف أكثر من أيّ وقت مضى، وإنّ الإنسان المعاصر متوغّل في الأهواء،ومتورّط في الشهوات والضغائن أكثر من ذي قبل، وهو يشكو من الاستعمار الخارجيّ أكثر ممّا سبق،ويشعر بالوحدة والانعزال أكثر بكثير ممّا مضى،وهو لا يألو جهداً في تدمير الطبيعة والإنسانيّة بيديه.

يعاني الإنسان اليوم من أزمات عديدة ألّمت به على مستوى الهويّة والبيئة والأخلاق والإنسانية والروحانية، وعليه أن يتوقّع الموت والفناء في أيّة لحظة؛لأنّ خطر الانفجارات التي تُحدثها القنابل النووية لا ولن يستثنيه. ومن هنا،فإنّ الإنسان المعاصر يحتاج إلى الدين الإلهیّ السماويّ للخروج من أزماته الخانقة أكثر من أيّ وقت مضى.

ص: 11

13. النبوّة العامّة

1/13. تمهيد:

قبل الولوج في خضمّ أبحاث هذا الباب نمهّد هنا بمقدّمات:

1. الكلام الإسلاميّ المعاصر علمٌ يمارس وظائفه التبيينية والإثباتية والدفاعية حيال العقيدة الدينية من خلال تأسيسه لمنظومة منسجمة ومتراصّة تجمع في طيّاتها القضايا الكلامية التقليدية القديمة إلى جانب القضايا الكلامية الجديدة والمستحدثة.وأغلب القضايا التقليدية مستخرجة من الكتاب العزيز والسنّة المطهّرة وما تمخّضت عنه مطارحات الملل والنحل التقليدية. أمّا القضايا الكلامية الجديدة فهي وليدة مناقشات العلوم الحديثة والمدارس الفلسفية المحدثة إلى جانب المدارس الاجتماعية المعاصرة. لقد أدّى هذا المنحى في علم الكلام الإسلامي إلى ظهور نظام جديد في علم الكلام، وعلى هذا الأساس انطلقنا في هذا الكتاب من البحوث التمهيدية ومعقولية القضايا الدينية،مروراً بأبحاث الإلهيّات،ودراسة الدين،ووصولاً إلى باب النبوّة والإمامة والمعاد،ومن ثمّ الأبحاث المرتبطة بدراسة الإسلام.

2 . تتمحور أبرز الاستفهامات الفطرية التي تراود الإنسان على مرّ التاريخ لا سيّما في العالم الراهن حول معرفة المبدأ (الخالق)،والوقوف على غاية الخلق،ومعنى الحياة،وكيفية بلوغ غايتها. ولا يتسنّى الكشف عن الأسلوب الأنجع في الحياة من دون امتلاك إجابات شافية على ما يطرحه الذهن البشريّ من تساؤلات تخصّ «النبوّة»؛ وهي إجابات تناولها الدين الإلهيّ مسلّطاً عليها مزيداً من الأضواء.والنبوّة قضيّة متداولة في الأديان الإبراهيميّة، وليس الأديان الشرقيّة؛ لأنّ الهاجس الأساس في

ص: 12

الأديان الشرقية يتمثّل في استجلاب الأمن والطمأنينة،وما ينتهي إلى الفوز والنجاة في الدنيا،وليس السعادة الأخروية،وهو الذي يحصل-بزعمهم-من خلال الكشف الصوفیّ والشهود العرفانيّ. لقد عرض الدين الإسلاميّ وكذلك اليهوديّ ما يرتبط بموضوع النبوّة على العكس من الدين المسيحیّ الذي خلُص إلى أنّ«مسيحه» هو الوحي الإلهي، والربّ المتجسّد، فلم يبقَ بعد ذلك ما يدعو للبحث عن النبوّة. وعليه فإنّ أبحاث النبوّة في الإسلام وعند المفكّرين الإسلاميّين تحظى بمكانة رفيعة،وبأهميّة بالغة.

3.عرض الفلاسفة والمتكلّمون والعرفاء المسلمون القضايا المرتبطة بالنبوّة بنحو تفصيليّ وموسّع في دراساتهم الفلسفية والكلامية والعرفانيّة؛فدرسوا على سبيل المثال أبعاد التعريف بحقيقة النبوّة،وإثبات ضرورة النبوّة العامة والخاصة والوظائف التي يضطلع بها الأنبياء في الحياة الفردية والاجتماعية وما يرتبط بموضوع إعجاز القرآن الكريم وختم النبوّة وغير ذلك. وقد قسّم المتكلمون أبحاث النبوّة إلى قسمين رئيسين: أبحاث النبوّة العامة، وأبحاث النبوّة الخاصة. أمّا العامّة فهي التي تبحث في ضرورة ابتعاث الأنبياء،وصفاتهم،وضرورة الإعجاز،وما شاكل ذلك.وأمّا الخاصّة فهي التي تعرض الموضوعات المختصّة بالرسول الخاتم .وقد تحدّث العرفاء أيضاً عن النبوّة التشريعيّة والنبوّة التبليغيّة. أمّا الفلاسفة المسلمون فقد اكتفوا بتسليط الضوء على النبوّة العامة نظراً إلى اقتصارهم على الدليل العقلیّ في أبحاثهم الفلسفيّة.

وبعد هذه المقدّمات، يصل الدور إلى تفصيل القول في أبحاث النبوّة على النحو الآتي ذكره إنّ شاء اللّه تعالى.

2/13. بيان حقيقة النبوّة في المعارف الإسلامية:

تناول المتكلّمون والفلاسفة والعرفاء بيان ماهية النبوّة بثلاثة أنماط مختلفة. أمّا المتكلّمون فقد استعرضوا حقيقة النبوّة من زاوية البحث عن الإلهيات والصفات

ص: 13

الإلهيّة،وأمّا الفلاسفة فقد تناولوها من نافذة أبحاث معرفة اللّه ومعرفة الإنسان عن طريق الإفادة من الصفات الإلهيّة وكمال القوى الإنسانيّة. وأمّا العرفاء فقد كشفوا الستار عن واقعها من زاوية أبحاث معرفة الوجود ومعرفة الإنسان. وقد تطرّقت النصوص القرآنيّة والحديثيّة أيضاً لحقيقة النبوّة، وبيان رسالتها.من هنا ،يمكن استعراض هذا البحث - باختصار-من خلال أربعة اتجاهات رئيسيّة:البيان الوحيانيّ،والبيان الكلاميّ، والبيان الفلسفيّ، والبيان العرفانيّ.

1/2/13. البيان الوحياني للنبوّة:

القضيّة الأولى في بحث النبوّة تتناول التعريف بمعناها اللغويّ،وحقيقة معناها الاصطلاحيّ.أمّا مفردة «النبوّة» فهي في كتب اللغة على أربعة معانٍ:

1 .«الخبر»: فالجذر اللغويّ للنبوّة هو النون والباء والهمزة (نبأ)،غير أنّهم تركوا الهمز في النبيّ وعُدّ لغةً رديئة؛ لقلّة استعمالها بالهمز(1).

2.«الارتفاع»:لأنّه قد يكون مشتقّاً من النباوة؛وهي الشيء المرتفع؛أيّ إنَّه شُرِّفَ على.سائر الخلق فترقّى في السماء،وعلا شأنه،فهو كالأرض التي هي أعلى وأرفع من غيرها(2).

3 . «الطريق»:فقد ورد أيضاً أنه بمعنى الطريق الواضح،أو طريق الهداية(3).

ص: 14


1- قال ابن منظور:«ويجوز فيه تحقيق الهمز وتخفيفه؛يُقال نبأ ونبأ وأنبأ.قال سيبويه:ليس أحد من العرب إلا ويقول تنبأ مسيلمة بالهمز،غير أنّهم تركوا الهمز في النبي؛كما تركوه في الذرية والبرية والخابية ... قال: والهمز فی النبيّء لغة رديئة ؛ يعني لقلّة استعمالها؛لا لأنّ القياس يمنع من ذلك ... قال الفرَّاءُ: النبيّ:هو من أَنْبَأَ عن اللّه، فَتُرِك هَمزه». لسان العرب مادة نبأ.
2- قال ابن فارس : «نبو بتسكين الباء أصل صحيح يدلّ على ارتفاع الشيء عن غيره».معجم مقاييس اللغة ، ج 5، ص 385 .وقال الجوهري: «النبوّة والنباوة:ما ارتفع من الأرض،فإن جعلت النبيّ مأخوذاً منه أي إنَّه شرّف على سائر الخلق،فأصله غير الهمز». الصحاح ، ج6، ص 2500 . وقال ابن منظور: «وقيل النبيّ : مشتق من النباوة وهي الشيء المرتفع».لسان العرب ، ج 1، ص 163 . وقال الراغب الأصفهانيّ:«وقال بعض العلماء هو من النبوّة أي الرفعة،وسُمّي نبياً لرفعة محله عن سائر الناس».المفردات في غريب القرآن ، ص482. [م].
3- قال ابن منظور:«قال الكسائي:النبيّ:الطريق،والأنبياء:طرق الهدى،قال أبو معاذ النحوي:سمعت أعرابياً يقول: من يدلني على النبيّ،أي على الطريق»،وقال أيضاً: «والنبيّء : الطريق الواضح » . لسان العرب ، ج 1، ص 163.

4.«الصوت الخفيّ »:ذلك لأنّ ما يتلقّاه الأنبياء لا يسمعه الآخرون(1).

يقول الشيخ الطوسي في المعاني اللغويّة لمفردة «النبيّ»:

«النبيّ» في العرف هو:المؤدّي عن اللّه تعالى بلا واسطة من البشر. ومعنى النبي في اللغة يحتمل أمرين: أحدهما: المخبر ، واشتقاقه يكون من«الإنباء» الذي هو الإخبار،ويكون على هذا مهموزاً.والثاني: أن يكون مفيدا للرفعة وعلوّ المنزلة،واشتقاقه يكون من«النباوة»التي هي الارتفاع.ومتى أريد بهذا اللفظ علو المنزلة فلا يجوز إلا بالتشديد بلا همز(2).

وبناءً على ما تقدمّ،فإنّ«الإنباء»التي تعني الإخبار،أو «النباوة» التي تعني الارتفاع هي مصدر مفردة «النبيّ» التي هي صفة مشبَّهة بالفعل على وزن فعيل،وتعني:الشخص الذي نال درجة رفيعة ومنزلة عظيمة،والمخبر عن الحقائق الهادية إلى اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالى؛فقد أخبر الأنبياء عن حال من سبقهم من الأنبياء وما جرى على أممهم من عذاب أو هلاك،وأخبروا الناس بالأمور الغيبيّة،وبالأسماء والصفات الإلهيّة، والقيامة،وما إلى ذلك.قال جَلَّ وَعَلا :

(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ﴾(3).

(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا)(4).

و«النبوّة»في معناها الاصطلاحيّ هي المكانة والمنزلة التي يتحلّى بها بعض الخلق ممّن يمكن وصفهم ب«الإنسان الكامل».وهم طائفة من الناس بعثهم اللّه تَبَارَكَ وَتَعَالى هداةً للخلق؛لما فيهم من علوّ الشأن، ورفعة المقام.

ص: 15


1- قال ابن منظور: «والنبأة : الصوت الخفيّ». المصدر السابق.
2- الاقتصاد فيما يتعلّق بالاعتقاد،الشيخ الطوسيّ، ص 244.
3- سورة الكهف: 13.
4- سورة المائدة: 27.

و ممّا يرتبط بمفردتي «النبوّة» و«النبيّ» مصطلحا «الرسالة» و«الرسول»،وهما مشتقّان من مادّة«رسل» التي تعني الحركة مع من الطمأنينة.وتطلق مفردة الرسول في المصطلح القرآنيّ على من يرسله اللّه عَزَّ وَجَلَّ لإبلاغ رسالته للناس. وقد استخدمت للأنبياء وللملائكة على حدّ سواء. قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى :

(يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلَّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ)(1).

(الَّذِينَ يُبلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ ﴾(2).

(وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءهَا الْمُرْسَلُونَ )(3).

(فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ)(4).

(قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا )(5).

وبناءً على ذلك، فإنّ مفردة «الرسول» - وفقاً لهذه الآيات-أعمّ من النبيّ مصد مصداقاً؛ لأنّها تشمل الملائكة أيضاً.

والسؤال المهمّ الذي يطرح نفسه هنا هو : ما الفرق بين النبيّ والرسول البشريّ؟

أورد المفكّرون المسلمون للتفريق بين هذين المصطلحين أنظاراً وآراءً مختلفة.

وفي الحديث الشريف المنقول عن الأئمة الأطهار: نجد أنّ النبيّ هو من يرى ملك الوحي الإلهيّ في المنام،ويسمع صوت الملائكة في اليقظة،من دون أن يراها.

ص: 16


1- سورة المائدة: 67.
2- سورة الأحزاب: 39.
3- سورة يس: 13.
4- سورة العنكبوت :40.
5- سورة مريم: 19.

أمّا الرسول فهو يرى الملائكة ويسمع صوتها في النوم واليقظة بما فيها ملك الوحي(1).

وعليه:فإنّ تعريف كلّ من النبیّ والرسول مختلفان،ولا يجتمعان(2).

ومن جهة أخرى،فإنّ القرآن الكريم قد خاطب من أوحي إليه هذا الكتاب بالنبيّ وبالرسول؛حيث قال تَبَارَكَ وَتَعَالَى :

ص: 17


1- لاحظ:الكافي، الكلينيّ، ج 1، ص 176.وفي الكافي باب عنوانه الفرق بين الرسول والنبيّ والمحدث، ورد فيه على سبيل المثال:«عدة من أصحابنا،عن أحمد بن محمّد،أحمد عن بن محمّد بن أبي نصر، عن ثعلبة بن ميمون،عن زرارة قال:سألت أبا جعفر .عن قول اللّه عزّ وجلّ(وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا)ما الرسول وما النبيّ؟قال:النبیّ الذي يرى في منامه ويسمع الصوت ولا يعاين الملك، والرسول الذي يسمع الصوت ويرى في المنام ويعاين الملك،قلت:الامام ما منزلته ؟ قال : يسمع الصوت ولا يرى ولا يعاين الملك، ثم تلا هذه الآية: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيِّ ) ولا محدَّث». وروى الكليني أيضاً: عن«عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن إسماعيل بن مرار قال:كتب الحسن بن العباس المعروفي إلى الرضا : جعلت فداك أخبرني ما الفرق بين الرسول والنبيّ والامام؟ قال: فكتب أو قال: الفرق بين الرسول والنبيّ والامام أنّ الرسول الذي ينزل عليه جبرئيل فيراه ويسمع كلامه وينزل عليه الوحي وربما رأى في منامه نحو رؤيا إبراهيم،والنبیّ ربّما سمع الكلام وربما رأى الشخص ولم يسمع والامام هو الذي يسمع الكلام ولا يرى الشخص».ونقل أيضاً:عن«محمّد بن يحيى،عن أحمد بن محمّد،عن الحسن بن محبوب،عن الأحول قال سألت أبا جعفر عن الرسول والنبيّ والمحدث = =قال:الرسول الذي يأتيه جبرئيل قبلا،فيراه ويكلمه فهذا الرسول، وأما النبيّ فهو الذي يرى في منامه نحو رؤيا إبراهيم ونحو ما كان رأى رسول اللّه .من أسباب النبوّة قبل الوحي حتى أتاه جبرئيل .من عند اللّه بالرسالة وكان محمد .حين جمع له النبوّة وجاءته الرسالة من عند اللّه يجيئه بها جبرئيل ويكلمه بها قبلا ،ومن الأنبياء من جمع له النبوّة ويرى في منامه ويأتيه الروح ويكلمه ويحدثه، من غير أن يكون يرى في اليقظة،وأما المحدث فهو الذي يحدث فيسمع،ولا يعاين ولا يرى في منامه».وروى كذلك:عن «أحمد بن محمّد ومحمّد بن يحيى،عن محمّد بن الحسين، عن علي بن حسان عن ابن فضال، عن علي بن يعقوب الهاشمي،عن مروان بن مسلم،عن بريد،عن أبي جعفر وأبي عبد اللّه 8 في قوله عزوجل:(وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٌّ )ولا محدَّث، قلتُ: جعلت فداك!ليست هذه قراءتنا!فما الرسول والنبيّ والمحدَّث ؟ قال : الرسول الذي يظهر له الملك فيكلمه،والنبيّ هو الذي يرى في منامه وربما اجتمعت النبوّة والرسالة لواحد والمحدث الذي يسمع الصوت ولا يرى الصورة،قال:قلت:أصلحك اللّه كيف يعلم أن الذي رأى في النوم حق،وأنه من الملك؟قال:يوفق لذلك حتى يعرفه،لقد ختم اللّه بكتابكم الكتب وختم بنبيكم الأنبياء».
2- والقول بعدم الاجتماع بينهما مبنيّ على أنّ الرسول إذا كان من يرى ملك الوحي في اليقظة فضلًا عن رؤيته في المنام وسماع صوته،فهذا لا يجتمع مع النبيّ؛لأنّ تعريف الأخير لا يسمح برؤية ملك الوحي في اليقظة؛ فكيف يقال رسول ونبيّ في آن واحد،وتعريف هذا يناقض تعريف ذاك؛ لأنك تقول يرى ولا يرى ؟! ولعلّ من الصحيح أيضاً القول بأن الاجتماع قد يُقصد منه أنّ «الرسول » عنوان جامع لما يتضمنه «النبیّ» وزيادة، وهو من باب «كلُّ الصَّيدِ فِي جَوْفِ الفَرا» (مثلٌ يُضرب لما يغني عن غيره)، وبهذا المعنى يجوز الاجتماع،[م]

(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ الله وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ 64 يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرَّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ)(1).

﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ﴾(2).

وغيرها من الآيات القرآنية، وقد وصف البعض أيضاً بقوله:

(وَكَانَ رَسُولًا نبيا)(3).

وهذا كلّه يدلّ على جواز اجتماع«النبوّة» و«الرسالة» في بعضهم؛وعلى رأسهم الرسول الأعظم . وبناءً على ذلك، فإنّ النبيّ والرسول في بعض الأدلة النقلية يتحلّيان بمقامين مختلفين، ولا يجتمعان في مصداق واحد، في حين أنّ بعض الأدلة النقلية الأخرى تجوّز هذا الاجتماع في مصداق واحد.

والمشهور أنّ بعضهم ذهب إلى أنّ النبي أعمّ من الرسول،وأنّ الرسول أخصّ من النبيّ.وعلى هذا الأساس، فإنّ النبي هو الذي يوحى إليه، سواء كان مبلِّغاً لكلام اللّه جَلَّ وَعَلا ، أم لم يكن كذلك. لكنّ هذا المعنى غير تامّ؛ فقد قال عَزَّ وَجَلَّ:

(كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النبيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ)(4).

وهذا يعني أنّ على كل نبيّ أن يكون مبشِّراً ونذيراً، ومن ثَمَّ: فإنّ عليه إبلاغ الرسالة الإلهيّة للناس.

والحقّ أنّ هناك فرقاً في المعنى بين «النبيّ» و «الرسول»،وهو ما تدلّنا عليه الآيات التالية ؛ قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى :

(وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيًّا )(5).

ص: 18


1- سورة الأنفال: 64-65.
2- سورة المائدة: 41.
3- سورة مريم 51.
4- سورة البقرة: 213.
5- سورة مريم :51.

(وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَيَّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللّه مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾(1).

والأحاديث الشريفة التي عدّت 313 رسولاً ، و 124 ألف نبيّ(2).

فهي تشير بذلك إلى أنّ الرسالة والنبوّة مقامان؛وليسا بمقام واحد.هذا،ويشترك النبيّ والرسول البشريّ في تلقّي الوحي الإلهيّ،وإبلاغه للناس،لكنّهما يختلفان في نوعيّة الشهود الحاصل لهما للملائكة،وفي الوظائف الملقاة على عاتقيهما.

وهذه الأدلّة تهدينا إلى أنّ النبي أعمّ دائرةً من الرسول البشريّ بأحد المعاني،كما أفادتنا طائفة أخرى من الأدلّة النقلية بأنّهما مقامان مستقلّان،فيكون بعض مصاديق النبوّة حائز على مقام النبوّة،والبعض الآخر حائز على مقام الرسالة.

وبناءً على ذلك، النسبة بين النبيّ والرسول البشريّ في بعض الأدلة هي التباين ،وفي البعض الآخر : العموم والخصوالمطلق(كلّ نبيٍّ رسولٌ، وليس كلّ رسولٍ نبيّاً)،فيكون عدد الأنبياء من حيث المصاديق أكثر من الرسل. وهذا الاختلاف في الكمّ عائد إلى التمايز بينهما على مستوى الكيف والوظائف والتكاليف الاجتماعية التي هي أكبر عدداً عند الرسل.

ص: 19


1- سورة الحج : 52.
2- روى الشيخ الصدوق في «الخصال » و « معاني الأخبار»:عن علي بن عبداللّه بن أحمد الأسواريّ، قال:«حدّثنا أبو يوسف أحمد بن القيس السّجزي المذكّر، قال حدّثنا أبو الحسن عمرو بن حفصٍ، قال حدّثني أبو محمّد عبيد اللّه بن محمّد بن أسدٍ ببغداد،قال حدثنا الحسين بن إبراهيم أبو عليٍّ قال حدّثنا يحيى بن سعيدٍ البصريّ قال حدّثنا ابن جريح [جريجٍ]عن عطاءٍ عن عبيد بن عميرٍ الليثيّ عن أبي ذزٍّ رحمة اللّه عليه قال:[...]قلت:يا رسول اللّه!كم النبيون؟ قال: مائة ألفٍ وأربعةٌ وعشرون ألف نبيٍّ. قلت: كم المرسلون منهم؟ قال ثلاث مائةٍ وثلاثة عشر جمّاً غفيراً. قلت: من كان أوّل الأنبياء؟ قال: آدم.قلت: وكان من الأنبياء مرسلًا؟قال:نعم؛خلقه اللّه بيده ونفخ فيه من روحه.ثمّ قال: يا أبا ذرٍّ!أربعةٌ من الأنبياء سريانيّون آدم= = وشيتٌ وأخنوخ - وهو إدريس وهو أوّل من خطّ بالقلم-ونوحٌ، وأربعةٌ من العرب هودٌ وصالحٌ وشعيبٌ ونبيك محمّد، وأوّل نبيٍّ من بني إسرائيل موسى،وآخرهم عیسی وست مائة نبيٍّ. قلت: يا رسول اللّه! كم أنزل اللّه تعالى من كتابٍ؟ قال: مائة كتاب وأربعة كتبٍ؛ أنزل اللّه تعالى على شيثٍ خمسين صحيفةً، وعلى إدريس ثلاثين صحيفةً، وعلى إبراهيم عشرين صحيفةً، وأنزل التّوراة،والإنجيل،والزّبور،والفرقان». بحار الأنوار، ج 11، ص 32.

ولعلّ وجه الجمع بين هاتين الطائفتين من الأدلّة أن يُقال: يشترك النبيّ والرسول البشريّ - رغم كونها مقامين إلهيّين - في تلقّي الأخبار والأنباء من السماء، وإبلاغها للناس لأجل هدايتهم، لكنّ المخاطب بالوحي إذا كان في مرتبة «النبوّة»، فهو يرى الملائكة في منامه،ويسمع صوتها في يقظته؛من دون أن يُبصرها في اليقظة، أمّا إذا علا مقامه، وبلغ مرتبة «الرسالة»،وأُثقل كاهله بوظائف أكبر،فهو عندئذٍ يسمع صوت الملائكة ويراها في النوم واليقظة.

ومن ثَمَّ: فإنّ بين النبيّ والرسول البشريّ علاقة التباين على مستوى الاتصال بالملائكة،وهما في ذلك مقامان مستقلّان، أما على مستوى تلقّي الوحي وإبلاغ الرسالة فهما مشتركان،ويفترقان في الواجبات والتكاليف الاجتماعية المناطة بهما، فتكون نسبتهما العموم والخصوص المطلق. فتكون الحصيلة - في نهاية المطاف - أنّ هناك نسباً مختلفةً بينهما باختلاف الاعتبار واللحاظ.

لقد أشارت آيات القرآن الكريم إلى أنّ جميع الرسل هم حجج اللّه على الخلق،وأنهم يقطعون العذر على الناس بما يقومون به من تبشير وإنذار،فلا يبقى بعد ذلك حجّة لأحد على اللّه . قال تَبَارَكَ وَتَعَالَى:

(رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاً يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا)(1).

وعليه:فإنّ الوقوف في وجه الرسل الذين يحملون الرسالات الإلهيّة الخاصة يستلزم الهلاك والعذاب الإلهيّ(2).

وقد أشار القرآن الكريم إلى أنّ الرسول - علاوةً على ما أنيط به من واجب إبلاغ الرسالة الإلهيّة - مطالب بوظيفة اجتماعية مهمّة في تحقيق العدل والقسط في المجتمع. يقول جَلَّ وَعَلا: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولُ فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)(3).

ص: 20


1- سورة النساء: 165.
2- راجع:الميزان،العلامة الطباطبائي، ج 2، ص 140.
3- سورة يونس: 47 .

1/1/2/13. تقسيم النبوّة إلى تشريعية وتبليغيّة:

تنقسم النبوّة في أحد تصنيفاتها إلى نبوّة تشريعيّة، ونبوّة تبليغيّة:

أمّا الأنبياء التشريعيّون فهم الذين يتلقّون من اللّه عَزَّ وَجَلَّ الشريعة - وهي القوانين والبرامج والتعاليم - من أجل إبلاغها إلى الناس؛ كما في شريعة نوح،أو شريعة موسی .وأمّا الأنبياء التبليغيون فهم الذين يدعون الناس إلى شريعة الأنبياء الذين سبقوهم،من خلال ما يتلقونه من الوحي، وما يظهرونه من المعجزات.ومن ثَمَّ:يطبّقون التعاليم الشرعية والدينية(1).

وممّا تجدر الإشارة إليه هنا أنّ لفظ «النبيّ» في القرآن الكريم قد استُخدم أحياناً للرسول الخاتمّ،و المقصود به - من دون شكّ - النبوّة التي تتحلّى بمقام الرسالة وأولي العزم من الرسل. قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى :

(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)(2).

2/1/2/13. الأنبياء من أولي العزم:

«أولو العزم»هم الأنبياء الذين امتلكوا صفة العزم والإرادة لحمل الشريعة المنزلة إليهم من اللّه تَبَارَكَ وَتَعَالى، وإيصالها بحكمة إلى الجماهير. وقد أسدل القرآن الكريم الستار عن هذا العنوان والمقام الإلهيّ، وأطلقه على بعض الرسل؛حيث قال جَلَّ وَعَلا :

(فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَك إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ )(3).

ص: 21


1- راجع:الخاتمية،الشهيد المطهّري،ص ،29، 40 (النسخة الفارسيّة)؛ المعارف الإسلامية في مصنفات الشهيد المطهريّ، ص 370 ،ختم النبوّة، ص 34،الخاتمية على ضوء العقل والقرآن الكريم، رضا الأستادي، ص 179-180.
2- سورة التوبة: 73.
3- سورة الأحقاف: 35.

يقول العلامة الطبرسيّ في تفسيره لهذه الآية :

أي:فاصبر يا محمّد على أذى هؤلاء الكفار،وعلى ترك إجابتهم لك؛ كما صبر الرسل.و(من)هاهنا لتبيين الجنس؛كما في قوله:﴿فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ ﴾.وعلى هذا القول، فيكون جميع الأنبياء هم أولو العزم؛لأنهم عزموا على أداء الرسالة،وتحمل أعبائها.عن ابن زيد والجبائيّ وجماعة:وقيل إنّ(من)هاهنا للتبعيض؛ وهو قول أكثر المفسّرين، والظاهر في روايات أصحابنا،ثمّ اختلفوا،فقيل: أولو العزم من الرسل من أتى بشريعة مستأنفة نسخت شريعة من تقدّمه؛وهم خمسة:أوّلهم نوح،ثم إبراهيم،ثمّ موسى،ثمّ عيسى، ثم محمّد.عن ابن عباس وقتادة - وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبداللّه-:قال:وهم سادة النبيّين وعليهم دارت رحا المرسلين. وقيل:هم ستّة؛نوح صبر على أذى قومه، وإبراهيم صبر على النار، وإسحاق صبر على الذبح، ويعقوب صبر على فقد الولد وذهاب البصر، ويوسف صبر في البئر والسجن، وأيوب صبر على الضُّر والبلوى.عن مقاتل: وقيل : هم الذين أمروا بالجهاد والقتال وأظهروا المكاشفة وجاهدوا في الدين.عن السديّ والكلبيّ:وقيل:هم إبراهيم،وهود،ونوح، ورابعهم محمّد .عن أبي العالية :والعزم هو الوجوب والحتم،وأولو العزم من الرسل هم الذين شرعوا الشرائع،وأوجبوا على الناس الأخذ بها والانقطاع عن غيرها(1).

وقد أشارت الأحاديث المروية عن المعصومين:إلى خمسة من الأنبياء اتّصفوا بأولي العزم؛هم:نوح، وإبراهيم، وموسى،وعيسى، والرسول الأعظم محمّد.

يقول الإمام الرضا. في حديث مرويّ عنه(2):

«إِنَّما سُمِّيَ أُولُو الْعَزْمِ أُولِي الْعَزْمِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَصْحَابَ الشَّرَائِعِ وَالْعَزَائِمِ وَذَلِكَ

ص: 22


1- مجمع البيان في تفسير القرآن، الطبرسيّ، ج 9، ص 143.
2- سند الرواية:حدّثنا محمّد بن إبراهيم بن إسحاق الطالقاني (رضي اللّه عنه)قال:حدّثنا أحمد بن محمّد بن سعيدٍ الكوفيّ الهمدانيّ؛ قال:حدّثنا عليّ بن الحسن بن عليّ بن فضالٍ، عن أبيه، عن أبي الحسن الرّضا.

أَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ بَعْدَ نُوحٍ .كَانَ عَلَى شَرِيعَتِهِ ومِنْهَاجِهِ وتَابِعاً لِكِتَابِهِ إِلَى زَمَنِ إِبْرَاهِيمَ الخليل .وكُلُّ نَبِيٍّ كَانَ فِي أَيَّامٍ إِبْرَاهِيمَ وبَعْدَهُ كَانَ عَلَى شَرِيعَتِهِ ومِنْهَاجِهِ وتَابِعاً لِكِتَابِهِ إِلَى زَمَنِ مُوسَى .وَكُلُّ نَبِيٍّ كَانَ فِي زَمَنِ مُوسَى وَبَعْدَهُ كَانَ عَلَى شَرِيعَةِ مُوسَى ومِنْهَا جِهِ وتَابِعاً لِكِتَابِهِ إِلَى أَيَّامٍ عِيسَى .وكُلُّ نَبِيٍّ كَانَ فِي أَيَّامٍ عِيسَى .وَبَعْدَهُ كَانَ عَلَى مِنْهَاجِ عِيسَى وشَرِيعَتِهِ وتَابِعاً لِكِتَابِهِ إِلَى زَمَنِ نَبِيِّنَا محمّد ص فَهَؤُلَاءِ الْخَمْسَةُ أُولُو الْعَزْمِ فَهُمْ أَفْضَلُ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ .و شَرِيعَةُ محمّد ص لَا تُنْسَخُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَلَا نَبِيَّ بَعْدَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَمَنِ ادَّعَى بَعْدَهُ نبوّة أَوْ أَتَى بَعْدَ الْقُرْآنِ بِكِتَابِ فَدَمُهُ مُبَاحٌ لِكُلِّ مَنْ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْهُ»(1).

وهذا يعني أنّ سبب تسميتهم بأولي العزم هو اتصاف هذه الطائفة من الأنبياء بكونهم أصحاب شرائع؛ أوّلهم:النبيّ نوح .الذي تابعه كلّ الأنبياء الذي جاؤوا من بعده على شريعته ومنهاجه وكتابه السماويّ إلى زمان الخليل إبراهيم.،فتابع إبراهيمَ الأنبياءُ من بعده في شريعته وكتابه السماويّ إلى زمان الكليم موسى.، ثمّ اتبع موسى جميع الأنبياء من بعده في كتابه وشريعته ومنهاجه إلى زمان المسيح عيسى .، ثمّ تابع عيسى كلُّ نبيّ جاء في زمنه أو ما بعده إلى حين ظهو رسالة النبيّ الخاتم محمّد.

أما شريعة نبيّنا محمّد .فلا ولن تُنسخ حتى قيام الساعة، وهو النبيّ إلى أن يرث اللّه الأرض ومن عليها . وإنّ هؤلاء الأنبياء الخمسة من أولي العزم هم أفضل الأنبياء والرسل على الإطلاق.

وفي المحصّلة نقول : إنّ مجموع النصوص الدينية علّمتنا ما يأتي:

1. «النبيّ» بأحد معانيه أعمّ من «الرسول»، و«الرسول» أعمّ من «أولي العزم».

2. العناصر العامة للنبوّة كما نستلهمها من مجموع النصوص الدينية هي: بشريّة

ص: 23


1- عيون أخبار الرضا .،الصدوق، ج 2، 80؛مسند الإمام الرضا .،ابن سليمان الغازي، ج 1، ص 48.

النبيّ، واستقباله للوحي ومن اللّه عَزَّ وَجَلَّ،وارتباطه المباشر مع عالم الغيب،والإعجاز في إثبات النبوّة، وأنّ الهدف في هذه المسيرة هو الهداية(التبشير والإنذار)من أجل إقامة الحجّة الإلهية على الخلق،وأنّ جميع المكلّفين من الجنّ والإنس هم المخاطبون بالبلاغ الإلهيّ.

2/2/13. البيان الكلامي للنبوّة:

يتوزّع المتكلّمون المسلمون إلى خمس مدارس شهيرة؛هي الإمامية،والمعتزلة،والأشاعرة،والماتريديّة، وأهل الحديث(1).وقد عرض غالبية المتكلمين المسلمين بحث النبوّة في ضوء الصفات الكمالية اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالى،ولم يركّزوا اهتمامهم على الدراسة الأنطولوجيّة للعالم، أو على ما يرتبط ببحوث دراسة الإنسان المنصبّة على الأنبياء.

1/2/2/13 . الرؤية الكلامية الإمامية:

درس المتكلّمون الإماميّون من الشيعة الاثني عشريّة تعريف النبوّة وضرورة ابتعاث الأنبياء من خلال خوضهم في مباحث الحسن و القبح الذاتيين والعقليين((2))،مستعينين ببعض الصفات الإلهيّة؛من قبيل : العدل والحكمة واللطف التي يتصف بها الله تَبَارَكَ وَتَعَالى.ولم يصرّح كثير من المتكلمين بما يُفهم منه أنّ هذا المقام الإلهيّ اكتسابيّ أم تفضّليّ؟ ولم يحدّدوا أيضاً هل حاز الأنبياء مقام النبوّة من خلال مسيرةٍ دارسةٍ للعالم أو دارسةٍ للإنسان مكّنتهم من إيجاد الأرضية المطلوبة لذلك،أم أنّ هذا المقام الربانيّ قد وُهِب لهم بتفضّل إلهيّ؟

ص: 24


1- عندما يتطرّق الباحثون في علم الكلام الإسلاميّ إلى مدرسة«أهل الحديث» فهم يقصدون بهم عادة «الحنابلة»ومن تبعهم في منهجهم الدارس لأصول الدين. ومن الجليّ لكلّ متابع لتاريخ هذا العلم ومدارسه أنّ منهج اهل الحديث قائم على نبذ علم الكلام ورفضه؛ إذ يرون فيه زيغاً وضلالاً عن منهج السلف في التعامل مع العقيدة، وهم لا يذكرون المتكلمين إلا بسوء أو توجّس. ولهذا،لا يمكن عدّهم من المتكلّمين إلا مسامحةً.وعليه:فإنّ المقصود هنا من«المتكلمين»:كلّ باحث أو دارس للعقيدة الإسلاميّة؛ سواء كان مؤمناً بعلم الكلام،أو ناقماً عليه. [م]
2- تقدّم تعريف الحسن والقبح الذاتيين والعقليين عند البحث عن العدل الإلهيّ في الجزء الأول من هذا الكتاب.

لقد عرض المتكلّمون الإماميّون تعريف النبوّة بتعابير متنوّعة،ذهبوا فيها إلى أنها وظيفة إلهيّة يكون فيها المبعوث من قبل اللّه جَلَّ وَعَلا قد أرسل من أجل هداية الناس،وإصلاح أمرهم.من بين هذه التعاريف التي رامت كشف النقاب عن حقيقة النبوّة ما يأتي:

يقول الفاضل المقداد:«النبيّ»هو:الإنسان المأمور من السماء بإصلاح الناس في معاشهم ومعادهم، العالم بكيفية ذلك،المستغني في علمه وأمره عن واسطة البشر،المقترنة دعواه بظهور المعجز.(1).

ويقول المحقق الطوسيّ:«النبيّ»: إنسان مبعوث من اللّه تعالى إلى عباده؛ ليكملّهم بأن يعرّفهم ما يحتاجون إليه في طاعته، وفي الاحتراز عن معصيته(2).

وعند بقيّة متكلّمي الإماميّة: «النبيّ»هو:الإنسان المخبر عن اللّه تعالى بغير واسطة أحد من البشر(3).

ومحصّل هذه التعاريف الثلاثة التنويه بثلاثة عناصر رئيسة فيها؛هي :

1.انبعاث الأنبياء من جانب اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالى.

2.اضطلاعهم بمهمة هداية الخلق، وإصلاح أمورهم.

3.تمسّكهم بوسيلة الإعجاز في حركتهم نحو إثبات مصداقيّتهم.ومن الملاحظ هنا أنّ أيّاً من التعاريف المذكورة لم يتّخذ أيّ منحى دارسٍ للإنسان أو العالم في تبيينه لمقام النبوّة.

ص: 25


1- اللوامع الإلهيّة المقداد، ص 239
2- قواعد العقائد، الطوسي، ص 87.
3- مناهج اليقين،العلامة الحلي، ص263؛ الباب الحادي العشر، ص 58؛المنقذ من التقليد، سديدالدين الحمصّي، ص371؛ قواعد المرام،ابن ميثم البحراني، ص122.

2/2/2/13. الرؤية الكلامية الاعتزالية:

المدرسة الاعتزالية هي إحدى الفرق الكلامية التي تنضوي تحت اللواء السنّيّ،وقد كانت لها صولات وجولات في القرون الأولى من تاريخ الإسلام،وروّج لأفكارها جمع من كبار المفكّرين المسلمين؛مثل : النظّام، والقاضي عبد الجبّار المعتزليّ،والزمخشري.

لم تعرض المعتزلة بحث النبوّة بوصفه أصلاً مستقلًّا، بل تطرّقوا له عند دراستهم للعدل،وهكذا ذهبوا إلى أنّ ابتعاث الأنبياء وإرسالهم من قبل اللّه العادل جَلَّ وَعَلا - لهداية الإنسان وإرشاده إلى السعادة - كان ضروريّاً على ضوء معطيات بحث الحسن والقبح الذاتيين والعقليين(1). وهذه الرؤية في تبيين النبوّة كصاحبتها الإماميّة تنطلق من منحى دارس للإلهيات؛ وذلك نظراً لإفادتها في عملية الشرح والتوضيح من صفة العدل الإلهي ، ومن الغرض الإلهي الذي يستهدف الهداية.

3/2/2/13. الرؤية الكلامية الأشعرية

تمثّل المدرسة الأشعريّة إحدى الفرق الكلاميّة الحيّة في العالم الإسلامیّ.وقد تصدّى المتكلمون الأشعريون لفكرة العدل الإلهي المبتني على أساس الحسن والقبح الذاتيين والعقليين، رافضين ذلك، ورافعين راية الحسن والقبح الشرعيين.وعصارة ما ذهبوا إليه في هذا الشأن أن يُقال:«كلّ ما يصنعه الحبيب فهو حلو زبيب»؛لا أن يُقال :«الحلو الزبيب ما يصنعه الحبيب»(2).

وعلى هذا الأساس،فإنّ الأنبياء الذين اصطفاهم اللّه عَزَّ وَجَلَّ قد لا يتحلّون بأَيِّ مرجّح يدعو لاصطفائهم، كما أنّ ابتعاثهم أو عدم ابتعاثهم سيّان في فقدان الضرورة.

ص: 26


1- راجع:شرح الأصول الخمسة ،القاضي عبد الجبار ، ص 563.
2- هذه العبارة - وكذا حال سابقتها - ليس إلا كناية عماً يدور في خلد الأشاعرة في المقام، وهي معادل منحوت لمقابلة المقولة الفارسيّة: «آنچه را شیرین بُوَد،خُسرو كند»، والذي يعادل العبارة السابقة هو البيت الشعريّ الفارسيّ الذي يقول: «آنچه آن خُسرو ،کند شیرین بُوَد». [م].

يقول إمام الحرمين الجوينيّ:فليست النبوءة راجعة إلى جسم النبيّ،ولا إلى عرض من أعراضه(1).

ويقول القاضي الإيجي:

فهو عند أهل الحقّ من قال له اللّه:«أرسلتُك»، أو: «بلّغهم عنّي»، ونحوه من الألفاظ. ولا يُشترط فيه شرط الاستعداد، بل اللّه يختصّ برحمته من يشاء من عباده(2).

وقد ذهب الشهرستاني إلى القول:

قال أهل الحقّ : النبوّة ليست صفة راجعة إلى نفس النبيّ،ولا درجة يبلغ إليها أحد بعلمه، ولا كسبه، ولا استعداد نفسه يستحق به اتصالاً بالروحانيّات، بل رحمة من اللّه تعالى، ونعمة يمنّ بها على من يشاء من عباده(3).

وقيل في هذا الخصوص أيضاً:

إنّ شكر نعمة المنعم واجب عقلاً وشرعاً، والعقل لا يهتدي لمعرفة ذلك بطريق التفصيل إلا بالسمع(4).

تشير جميع هذه النصوص إلى انعدام أي دليل أو مرجّح أو لياقة واستعداد ذاتيّ تتحلّى به شخصيّة النبيّ، ويكون السبب في بلوغه مرتبة النبوّة. ومن ثُمَّ : فليس هناك من عامل يغاير الرحمة الإلهية التي اقتضت - حسب هذه الرؤية - أن يبلغ المرء هذا المقام.

وهنا، يتّضح أنّ البيان الأشعريّ للنبوّة يتناسب مع المنحى المرتبط بمباحث الإلهيات أكثر من بقيّة الفِرق المشار إليها .

ص: 27


1- الإرشاد،الجوينيّ، ص 143.
2- شرح المواقف،الجرجانيّ، ج 8،ص 218 ،والنصّ من المواقف للإيجي (الماتن).
3- نهاية الأقدام، الشهرستاني، ص 258.
4- أصول الدين جمال الدين الغزنويّ، ص 119.

4/2/2/13. الرؤية الكلامية الماتريدية:

تقترب المدرسة الماتريديّة في منظومتها الكلاميّة من الأشاعرة في بعض الجهات،وتختلف معها في أخرى. وفي موضوع النبوّة، ذهب أعلام الماتريديّة إلى أنّ اصطفاء الأنبياء وابتعاثهم ينطويان - من دون شكّ - على حكمة إلهية، واستعداد ذاتيّ في الأنبياء،مكّنهم من تلقّي الحقيقة الناصعة.

يقول أبو منصور الماتريديّ-وهو مؤسّس هذه المدرسة - :

إثبات النبوّة من حكمة اللّه(1).

5/2/2/13. حصيلة البيان الكلامي للنبوة:

هل الحكمة تعود إلى الناس، أم إلى النبيّ؟

هل السبب الذي استدعى نزول الوحي هو هداية الناس،أم السبب عائد إلى القابلية التي يتمتّع بها ذلك النبيّ؛فلأجلها نزل الوحي؟

أم أنّ كليهما مطلوب في ذلك؟

هذه تساؤلات لم تجب عليها تلك المدارس.

وإلى هنا، يتّضح أنّ بيان المتكلمين المسلمين للنبوّة مبنيّ ومرتكز على أسلوب البحث في الإلهيات، وقد اختلفوا في الإجمال والتفصيل،فاكتفت المدارس السنيّة بذلك على نحو الإجمال، وعرضه متكلمو الإمامية بنحو أكثر تفصيلاً.

3/2/13. البيان الفلسفي للنبوة:

تحدّث الفلاسفة المسلمون عن حقيقة النبوّة وضرورتها بنحو تفصيليّ،وقد ذهبوا

ص: 28


1- التوحيد، أبو منصور الماتريدي، ص 177.

في آرائهم إلى نظريّة تكامل الإنسان؛ بمعنى أنه كائن مركّب من روح وبدن، وهو قابل للرقيّ والتعالي، فإذا نمت جميع قواه الحسية والخيالية والعقلية،فإنه يبلغ مرحلة يتمكن فيها من التواصل مع الملائكة، والارتباط بعالم العقول،ويتسنّى له عندئٍذ تلقّي الوحي الإلهيّ،وتظهر على يديه المعجزات.

ویری الفلاسفة أنّ القوّة الحسّيّة عند النبيّ عندما تصل إلى حدّ الكمال فإنّ قوّتّه التحريكية تزداد قدرةً، فيتمكن عندها من التصرّف في عالم التكوين،وهذا ما يُفسّر قدرته على فعل المعاجز والأفعال الخارقة للعادة(1).

وإذا نمت القوة الخيالية عند النبيّ،أمكن له الارتباط بعالم المثال،ومشاهدة تمثّل المَلَك،وسماع الوحي. أمّا إذا تجاوز العقل الهيولانيّ والعقل بالملكة(وهما متربتان أوّليّتان من القوّة العاقلة،ترتبطان بحدّ الاستعداد القابليّة الضئيلة)،وبلغ مرحلة العقل بالفعل(هو العقل القادر على استنتاج المجهولات من المعلومات)، ومرحلة العقل المستفاد(وهو العقل المتّصل والمرتبط بالملائكة والعقل الفعّال)،فإنّه وقتئذٍ قادر على معرفة جميع الحقائق على واقعها.

ولم يقصد الفلاسفة في مقولاتهم تلك أنّ الأنبياء اكتفوا في حصولهم على مقام النبوّة بمجرّد ما بلغوه من تطوّر اختياري،أو بوصول قواهم الثلاثة (الحسّ، والخيال،والعقل)إلى مرحلة الفعليّة؛من دون أن يكون هناك دور للتفضّل والكمال الإلهيين،كما أنّهم لم يريدوا القول بأنّ الأنبياء قد باشروا إنتاج «الوحي»، وتصنيع «النصّ»من عند أنفسهم،بعدما بلغوه من رقيّ على مستوى الحسّ والخيال والعقل،بل آمنوا بأنّ الوحى الإلهىّ هو لهيّ هو أحد أفعال اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالى،وهو يُفاض على الأنبياء تفضلاً وكرماً، وهو منحصر بالإنسان

ص: 29


1- يقول الفاراتي في هذا الصدد:«النبوّة تختصّ في روحها بقوّة قدسيّة تذعن لها غريزة عالم الخلق الأكبر [أي الطبيعة]،كما يذعن لروحها غريزة الخلق الأصغر [أي:البدن]،فتأتي بالمعجزات».فصوص الحكم، الفارابي، الفصّ 32.

الكامل الذي تهيّأت في وجوده الأرضيّة اللازمة لتلقّيه بعدما مرّ به من رقيّ و تكامل معرفيّ إنساني وعالميّ(1).

يقول الفيلسوف الأرسطيّ ابن رُشد :

والذي يقول به القدماء في أمر الوحي والرؤيا إنّما هو عن اللّه تَبَارَكَ وَتَعَالى(2).

وقد قصد هنا الإشارة إلى أنّ تلقّي الوحي عند الأنبياء أمر قادم من جانب اللّه جَلَّ وَعَلا.

وبناءً على ذلك،فإنّ بيان الفلاسفة للنبوّة بيان ينتهج المنحى المرتبط بدراسات الإلهيّات،ومعرفة الإنسان، وقد التفتوا في شرحهم لحقيقة النبوّة إلى القدرة الإلهية،مستفيدين في الآن ذاته من مجالات الحسّ والخيال والعقل.

4/2/13 البيان العرفاني للنبوة:

«العرفان»علم انطوى - في صفحات تاريخه الطويل-على سعة كبيرة وتنوّعات عديدة(3).وقد عرضت فصول هذا العلم أبحاث النبوّة بشكل مفصّل وموسّع.

ص: 30


1- راجع:جوهر المراد(بالفارسية گوهر مراد)،الفياض اللاهيجّي، ص 366؛الشواهد الربوبية،صدر الدين الشيرازيّ،ص 1 و 241؛الحكمة المتعالية،صدر الدين الشيرازيّ،ج 7،ص 24 و 358؛ مفاتيح الغيب،صدر الدين الشيرازيّ،ص 33،المبدأ والمعاد،ابن سينا،ص 116؛مجموعة مصنّفات شيخ الإشراق،ج 3، ص 245؛ آراء أهل المدينة الفاضلة، الفارابي.
2- تهافت التهافت،ابن رشد، ص 516.
3- الهاجس الأكبر الذي اهتمّ العرفان الإسلاميّ بأمره في الأدوار الأولى من تاريخ الإسلام هو السلوك والرياضة العملية،وبعض من ألوان النشاطات الاجتماعية.وقد انطلق تدوين بعض المكتوبات العرفانيّة من القرن الرابع الهجري، فصُنّفت بعض الرسائل في هذا الصدد؛منها:«اللمع في التصوّف»و«القشيرية». استخدم أهل العرفان مفردة «تصوّف» في القرن الثاني الهجريّ،ثم انضمّت إليها مفردة «عرفان» في القرن الرابع.وقد انصبّت نشاطات التصوف والعرفان إلى القرن السادس في دائرة«العرفان العملي»بنحو اجتماعي.بعد ذلك،عمد محيي الدين بن عربّي إلى تأسيس«العرفان النظري»لأوّل مرّة،فقام ببيان الأبحاث العرفانيّة التي كان أهل المعرفة يشاهدونها بالكشف والشهود في سياق منظّم ومعقلن، واستطاع ابن عربي بمساعدة القونوي-وهو تلميذه وابنه بالتبنّي-أن يقدّم أنموذجاً جديداً في الأبحاث الأنطولوجية الدارسة للوجد.وفي هذا العصر،اصطفت الأنطولوجيا العرفانية إلى جانب الأنطولوجيا الفلسفية والكلامية. وأهمّ ما قام به ابن عربي هو تدوينه لمنظومة عرفانيّة سعت إلى تنظيم الكشف والشهود عند العارف بنحو معقلن،ممّا سهّل على الأجيال التي أعقبته من العرفان عمليّة التدليل على العرفان النظريّ ببراهين عقلية.وهنا،يُذكر ابن تركة بوصفه أحد أعلام العرفان النظري الذين برهنوا بالأدلة العقلية على نظرية «وحدة الوجود»التي أطلقها ابن عربي.بعد ذلك، تمكّن صدر الدين الشيرازيّ من إقامة الحجج والبراهين العقلية على بعض قضايا المنظومة العرفانيّة عند ابن عربي،فتطرّق مثلاً:لأصالة الوجود، واتحاد العاقل والمعقول،والحركة الجوهرية،فضلاً عن وحدة الوجود.وهذا ما أدّى إلى اتساع رقعة العرفان النظري وتمدّد أبحاثه.لقد ركب ابن عربيّ نظامه العرفانيّ على ثلاثة محاور رئيسية؛هي:قضيّة «وحدة الوجود»،وقضية«تجليات الوجود وتنزلاته»،وقضية«الإنسان الكامل بصفته أكمل التجليات الإلهية». وتُعدّ وحدة الوجود إحدى أهمّ أحكام الهوية الغيبية.والهوية الغيبية في العرفان النظري هي مقام الهوية على نحو اللابشرط المقسميّ التي لا يُحمل عليها أيّ حكم تعييني، أي اسم==ووصف متعيّن،وهو ما يسميّه العرفاء ب«اللاتعيّن»،فيقولون:هو مقام لا اسم له،ولا وصف.هذا،ويقوم العرفاء في منظومتهم الأنطولوجية ببيان التعيّنات بعد تجاوزهم للهوية الغيبية التي هي مقام «اللاتعيّن»،فيقسمون التعيّنات إلى طائفتين:تعيّنات ربوبية،وتعيّنات خلقية.أمّا الربوبية فهي متعلقة بصقع العالم الربوبي،وهو يتقدم على عالم الخلق والإيجاد،وينطوي على مرتبتين:التعيّن الأول،ثم التعيّن الثاني.فالتعيّن الأول:هو مقام الأحدية، ومقام الحقيقة المحمّدية، وهو مقام لا يبلغه في قوس الصعود إلّا النبي المصطفى محمّد.وخلفاؤه بالحق:.وهذه المرتبة في المنظومة الأنطولوجية هي مقام الأسماء والصفات الإلهية بنحوها الاندماجيّ واللاتفصيليّ. والحديث الشريف الذي يروي أنّ«أوّل ما خلق اللّه نوري»ناظر إلى هذا المقام،وهذه المرتبة.أمّا المرتبة الثانية من تعيّنات الصقع الربوبيّ فهو التعيّن الثاني،أو مقام الواحدية، وهو مقام الأسماء والصفات الإلهية بنحوها التفصيلي.وتقع الأعيان الثابتة أو مقام العلم الإلهي وصور عالم الخلق في هذه المرتبة. وبعد التعينات الربوبية تقع التعينات الخلقية، وفيها تتموضع عوالم الأرواح(المجردات التامة)، والمثال،والطبيعة.هذا،وتمهّد أبحاث الأنطولوجيا العرفانيّة الأرضية اللازمة لأبحاث معرفة الإنسان العرفانيّة. وإنّ الإنسان الكامل في العرفان النظريّ جامع لجميع تعيّنات الصقع الربوبي، والتعينات الخلقية. وفي هذه المرتبة تقع جميع والتعيّنات والأسماء والصفات الإلهية، ويتموضع مقام النبوّة ومقام الولاية - التي هي باطن النبوة - في هاتين المنظومتين؛ أي: الأنطولوجيا العرفانية،ومعرفة الإنسان العرفانية.

وقد استُخدمت في العرفان بعض المصطلحات التي تساعدنا معرفتها على تبيين النبوّة؛منها:«النبوّة»،و«الرسالة»، و«الولاية»، و«الإنسان الكامل»،وهي مفردات سوف نسلّط الضوء عليها هنا في هذا البحث.

يقول الإمام الخميني (1409ه) قُدَّسَ سِرُّه:

إنّ النبوّة الحقيقية المطلقة هي إظهار ما في غيب الغيوب في الحضرة الواحديّة حسب استعدادات المظاهر بحسب التعليم الحقيقیّ والإنباء الذاتي، فالنبوة مقام ظهور الخلافة والولاية، وهما مقام بطونها(1).

ص: 31


1- مصباح الهداية الإمام الخمينيّ، ص 38 .وراجع أيضاً:تقريرات الأسفار،الإمام الخميني، ص 351، تعليقات على شرح الفصوص،الإمام الخميني، ص 96.

وهو يرى أنّ«النبوّة الحقيقيّة»تنبثق من مقام«الواحديّة»؛لأنّ مقام«الأسماء والصفات»ينبئ عن مقام«غيب الغيوب»و«الأحديّة»،وبعد ذلك فإنّ وجود الصادر الأوّل(العقل)ينبئ بكمالاته الشاملة عن مقام الواحدية؛وهي تجلّي وظهور الخلافة والولاية الإلهية(1).

إنّ مقام النبوّة هو إخبار وإعلان عن الحقائق الإلهية والمعارف الربّانية من حيثيات الذات والصفة والاسم.وينقسم هذا المقام إلى قسمين:نبوّة التعريف، ونبوّة التشريع:

أمّا«نبوّة التعريف»فهي:معرفة الذات،والصفات،والأسماء،والأفعال.

وأمّا«نبوّة التشريع»فهي:نبوّة التعريف بزيادة تبليغ الأحكام،والتأديب بالأخلاق،وتعليم الحكمة،والقيام بأمر السياسة.وهذا القسم من النبوّة هو المسمّى ب«الرسالة».

والمراد من «النبيّ»:الإنسان الكامل الذي بُعث من قِبل اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالى ليدلّ العباد على حاجاتهم ، ولكي يُبعدهم عن الذنوب والمعاصي. قال عَزَّ وَجَلَّ:

(لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإن كانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ)(2).

(وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا﴾(3).

وقد قسّم العرفاء المسلمون النبوّة-بنحو آخر-إلى قسمين آخرين؛هما:النبوّة المطلقة، والنبوّة المقيدة:

أمّا«النبوّة المطلقة»فهي:الوقوف على الحقائق الإلهيّة،والدقائق الربانيّة كما هي

ص: 32


1- راجع المصادر السابقة.
2- سورة آل عمران 164.
3- سورة النور: 21. لاحظ : المقدّمات من نصّ النصوص، سيّد حيدر الآملي، ص167، 271.

متحقّقة.ولهذا،فإنّ النبوّة تستلزم معرفة حقائق الممكنات الموجودة وغير الموجودة،علاوةً على الماهيات المعدومة،وكذلك الأعيان الثابتة.

وأمّا«النبوّة المقيَّدة»فهي: الإخبار عن الحقائق الإلهية؛أي:معرفة ذات الحقِّ تَبَارَكَ وَتَعَالى، والأسماء والصفات،والأحكام الإلهية.

وإنّ النبوّة المطلقة والمقيّدة لا تتيسّر لأيّ أحد إلا لمن يستحقّ مقام«الخلافة الإلهية»،ومن اللازم أن يكون هذا الفرد خليفةً بالفعل وعلى أرض الواقع. وبناءً على ذلك، تعود النبوّة المطلقة والمقيّدة إلى «الحقيقة المحمّديّة».

ولا يتلقّى الأنبياء علومهم الإلهية إلا من خلال الوحي الإلهيّ الخاصّ؛ لأنّهم يعلمون بعجز العقل وتصوّراته عن إدراك تلك الأمور(1).

وتنقسم«الولاية»بلحاظ الأولياء إلى ثلاثة أقسام؛هي:الولاية الإلهيّة،والولاية البشريّة،والولاية المُلكيّة. أمّا الولاية البشريّة فهي منقسمة إلى قسمين:ولاية عامّة،وولاية خاصّة،ثمّ تنقسم الولاية الخاصّة إلى مطلقة ومقيَّدة .

أمّا«الولاية العامّة»في العرفان فهي على ثلاثة معانٍ:

أوّلاً:ما يعني التولّي والتصدّي؛ حيث يتولّى بعض من الناس أمر بعض آخر.

ثانياً: ما يعني ولاية عموم المؤمنين الصالحين على حسب مراتبهم.

ثالثاً: تعني الولاية العامة البشرية الولاية المطلقة.

وأمّا«الولاية الخاصّة»فهي مقام يحصل عليه العرفاء بعد سيرهم وسلوكهم المعنويّ الروحيّ ،وتجاوزهم السفر من الخلق إلى الحقّ،وفنائهم في الحقّ. فعندئذٍ

ص: 33


1- راجع:شرح فصوص الحكم،داوود القيصريّ، ج 1، ص 132-133؛شرح فصوص الحكم،تاج الدين الخوارزميّ،ص 32 ؛المقدّمات من نصّ النصوص،سيد حيدر الآمليّ،ص 174 ؛أسرار الشريعة،سيّد حيدر الأملي، ص 90.

يتركون الصفات البشرية،ويتجلّى فيهم الحقِّ تَبَارَكَ وَتَعَالى بصفاته وتعيّناته الربّانية،وتكون قلوبهم طاهرة من دنس الرذائل والخبائث النفسانية،وينعمون بتوجّه وانشداد كامل إلى الحقِّ سُبحَانَهُ وَتَعَالى،فينقطعون عن الأغيار،وتطمئنّ نفوسهم على أعتاب الحبيب،فيطّلعون حسب درجة قربهم من الحقِّ عَزَّ وَجَلَّ على الحقائق الحضوريّة الشهوديّة، وعلى العلوم الغيبيّة.

وفي هذه المرحلة،يتّصل وليّ اللّه بربّه تَبَارَكَ وَتَعَالى من خلال الإلهام والإرشاد الغيبّي والوحي الإلهيّ اتصالاً شديداً،فيتحلّى بالكرامات،وخرق العادات،ويصبح مبدءاً للأفعال الإلهية،فيكون عين اللّه التي يرى بها،وأذنه التي يسمع بها،ويده التي يصنع بها.وهذا هو المقام المعروف ب«قرب النوافل»الذي لا ينقطع أبداً،ويبقى على الدوام خالداً؛لأنّ الولاية هي باطن النبوّة،والنبوّة ظاهر الولاية،والولاية فوق النبوّة والرسالة.

والمقصود من«ختم الولاية»العامة والخاصّة ليس الختم الزمانيّ،بل الختم الإحاطي؛أي إنّ«خاتم الأولياء»من حيث الإطلاق والإحاطة محيط بجميع الولايات،وهو أقرب السالكين إلى الحقِّ جَلَّ وَعَلا؛ وليس بمعنى أنّ وليّاً آخر لن يتحقّق بعده.وعند الشيعة الإماميّة فإنّ خاتم الولاية المطلقة هو أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب .،وخاتم الولاية الخاصة هو الإمام المهدي.(1)

يقول السيد حيدر الآمليّ في تفسيره لمفردة«الوليّ»:

الوليّ هو من تولّى الحقّ أمره،وحفظه من العصيان، ولم يخله ونفسه بالخذلان،

ص: 34


1- راجع:شرح فصوص الحكم،داوود القيصريّ،الفصل الثاني عشر من المقدمة في النبوّة والرسالة والولاية، ص 148-146؛ شرح منازل السائرين،عبد اللّه الأنصاري، باب الغرق،ص 492-495؛جامع الأسرار ومنبع الأنوار، عبداللّه الأنصاريّ، ص 386-387 ؛المقدّمات من نصّ النصوص،الأملي،ص 167-169 أسرار الشريعة، الأملي،ص 101؛الفتوحات المكيّة، ابن عربي،الباب الثاني والخمسون ومئة،ج 14، ص ؛التجلّيات الإلهية، ابن عربي،ص 299- 301 ؛مصباح الهداية،الإمام الخميني،ص 50 فما بعد.

حتى يبلغ في الكمال مبلغ الرجال. قال اللّه تعالى:﴿وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ﴾(1)،وقوله جلّ ذكره:(رِجالٌ لّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةً وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللّهِ﴾(2)،إشارة إليهم،وكذلك قوله:﴿رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّه عَلَيْهِ ﴾(3)،والولّي هو المحبوب تارةً،والمحبّ تارةً؛فإذا كان في المقام المحبوبيّ،فلا تكون ولايته كسبيّة،ولا موقوفة على شيء،بل تكون أزلية ذاتية وهبية إلهية،كما كانت لخاتم الأولياء-وأتباعه الحقيقيين-الذي قال:«كنت ولياً وآدم بين الماء والطين»،وأمّا إذا كان الوليّ في المقام المحبّیّ، فلابدّ له من الاتصاف بصفات اللّه والتخلّق بأخلاقه؛ ليصدق عليه أنه وليّ، وإلّا فلا(4).

والفرق بين «النبیّ» و«الرسول» و «الوليّ» أنّ النبيّ والرسول لهما حقّ التصرّف في الخلق على حسب الظاهر والشريعة،أمّا الوليّ فهو يتصرّف في الخلق على حسب الباطن والحقيقة؛ولهذا فإنّ الولاية أعظم من النبوّة(5).

ولم يختلف العرفاء في أنّ نيل مقام الولاية الخاصة يعني الإفادة من الدين والشريعة،وأنّ بلوغ مقام قرب النوافل والتعيّنات الربّانية وتطهير النفس من الخبائث لا يتيسّر من دون الانخراط في سبيل الدين والتديّن والسير والسلوك المقتبس من الشريعة.

أمّا المصطلح الآخر الذي يمكن أن يعيننا في فهم النبوّة فهو«الإنسان الكامل»،وقد تناول العرفاء هذا البحث في العرفان النظريّ عند حديثهم عن أنواع المظاهر والظهورات وأبحاث الأسماء والتجلّيات والأعيان الثابتة والحضرات الخمسة،كما أنهم تطرّقوا له في العرفان العملى أيضاً.

ص: 35


1- سورة الأعراف: 196.
2- سورة النور: 37
3- سورة النور: 37.
4- المقدّمات من نصّ النصوص،السيد حيدر الآملي، ص 270.
5- راجع:المصدر السابق،ص 169-168.

وقد ذهب أهل المعرفة في العرفان النظريّ إلى أنّ حاجة عالم التكوين والبشرية إلى«الإنسان الكامل»هي حاجة تكوينية؛ لأنّ ظهور حقيقة الوجود المطلق وتجلّيها أمر ضروريّ،والتجلّيات تتحقّق بنحو المراتب التشكيكيّة على أساس من قابليات الموجودات في الأعيان الثابتة،ولأجل تكميل حلقات هذه السلسلة، يتحتّم وجود حلقة ومرتبة هي«الإنسان الكامل»،وهي مرتبة تجتمع فيها جميع المراتب الإلهيّة والكونية بما يشمل العقول والنفوس الكلية والجزئية والمراتب الطبيعية. وبناءً على ذلك،لا يقتصر الأمر على حاجة البشرية،بل إنّ جميع مراتب تجلّيات الكون تفتقر تكوينيّاً إلى الإنسان الكامل.

أمّا حاجة السالكين إلى الإنسان الكامل في دائرة العرفان العمليّ فأمر مشهود أيضاً؛فالإنسان الذي ينوي الحركة صوب الكمال مضطر إلى طيّ المراحل والمنازل والمقامات،وهو في سيره وسلوكه هذا محتاج إلى الإرشاد والهداية،والإنسان الكامل يمثل أعلى مراتب الهادين المرشدين(1).

ولا ينحصر مقام «الإنسان الكامل»و«الخلافة الإلهية»في الرجال - كما يرى محيي الدين بن عربيّ في كتابه «عقلة المستوفز» - بل يمكن للنساء أيضاً أن يبلغن هذا المقام؛ لأنّ مناط الكمال هو الإنسانية؛ وليست الحيوانية والذكورية. وعليه:فإنّ الكمال قد يظهر في النساء كما يظهر في الرجال(2).

ولا يخفى أنّ سعة دائرة الخلافة في عالم المُلك أو ضيقها مرهون بإحاطة الخليفة بالأسماء الحاكمة، ويظهر سرّ الاختلاف بين الأنبياء في خلافتهم أو نبوّتهم إذا ما التفتنا إلى موضوع «الإحاطة» هذا(3).

ص: 36


1- الفتوحات المكية، ابن عربي، ج 1،ص 118 ،153،389 ؛نقد النصوص، عبدالرحمن الجاميّ، ص 30-61 ؛شرح فصوص الحكم، داوود القيصريّ، ج 2، ص 409 .
2- راجع كتاب «محيي الدين» لمؤلّفه: محسن جهانگيري، ص 328 [بالفارسية].
3- مصباح الهداية،الإمام الخميني، ص 83.

وإنّ مرتبة«الحقيقة المحمّدية»هي مرتبة«الإنسان الكامل»بعينها،وهو المقام الذي يكون الإنسان فيه محيطاً بجميع الأسماء الإلهية، والمراتب الكلّيّة.

وبناءً على ما تقدّم، فإنّ الإنسان الكامل عند العرفاء إنما هو كونٌ(وجود)جامعٌ يشتمل على جميع المراحل المنضوية تحت لواء الفيض المقدّس(عالم الأرواح، وعالم المثال،وعالم الأجسام)،والفيض الأقدس (التعيّن الأوّل،والتعيّن الثاني)(1).

ويجمع الإنسان الكامل-حسب رؤية أهل العرفان-بين المظهرية المطلقة،ومظهرية الأسماء والصفات والأفعال،كما أنّه يجمع بين الحقائق الوجوبية،والحقائق الإمكانية،ونِسَب الأسماء والصفات الخلقية.هذا، وإنّ الإنسان الكامل يمتلك مقاماً لا يجاريه فيه أيّ كائن من موجودات عالم الإمكان؛فليس له من المخلوقات أيّ ندّ أو كفو.وكما يقول الإمام الرضا .في حديث مرويّ عنه :

«الإمَامُ وَاحِدُ دَهرِهِ،لَا يُدَانِيهِ أَحَدٌ،وَلَا يُعَادِلُهُ عَالِمٌ،وَلَا يُوجَدُ مِنْهُ بَدَل وَلَا لَهُ مَثَل وَلَا نَظِيرُ،...وَهُوَ بِحَيث النَّجم مِن يَدِ المُتَناوِلِينَ،وَوَصْفِ الْوَاصِفِينَ؛فَأَينَ الاخْتِيَارُ مِنْ هَذَا؟ وَأينَ العُقُولُ عَن هَذَا؟»(2).

فالإنسان الكامل قطب تدور حوله أفلاك الوجود من البداية وإلى النهاية(3).

وعلى العموم،فإنّ الإنسان الكامل نسخة تجمع في طيّاتها كلّ ما في العالم الكبيرة والحضرة الإلهيّة. وبناءً على ذلك، فإنّ الحادث والقديم، والحقّ والخلق، والكون الجامع والأكمل هي بأسرها مظاهر اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالى،وهي تمثّل مظهر الاسم الأعظم.وبطبيعة الحال،فإنّه بلحاظ البدن العنصريّ يتأخّر عن كثير من الموجودات،

ص: 37


1- أشرنا في الهوامش السابقة إلى الاختلاف بين هذين التعينين. [المؤلّف]
2- الكافي، الكليني، ج 1، ص 201.
3- لاحظ:تحرير تمهيد القواعد،الجواديّ الآملي،ص 47، 547، 561؛ الإنسان الكامل،عبدالكريم الجيلي، ج2، 75 ؛مصباح الهداية،الإمام الخميني، ص 35،مصباح الأنس،الفناري،ص 622؛نقد النصوص،الجاميّ، ص 61-62.

وجميع الأنبياء، لكنّه بلحاظ وجوده الكلّيّ السعيّ والانبساطيّ مقدَّم على الكلّ،وإنّ جميع الأنبياء ورثته في الشريعة والولاية.

إنّ الإنسان الكامل خليفة الحقِّ عَزَّ وَجَلَّ،وتظهر فيه كلّ الحقائق، ولهذا فإنّ عينه الثابتة هي أوّل ظهور تشهده نشأة الأعيان الثابتة.

أمّا فيما يخصّ العلاقة بين«النبوّة»و«الولاية»و«الإنسان الكامل»في رؤية أهل العرفان، فيُستحسن أن نقف عليها من خلال ما قاله العالم الربّانيّ والعارف الصمدانيّ عبد الصمد الهمداني في كتابه«بحر المعارف»؛حيث قال:

الولاية باطن النبوّة،والنبوّة ظاهرها،...الإنسان الكامل إمّا نبيّ أو وليّ.والنبوّة إمّا مطلقة أو مقيّدة؛ فالنبوّة المطلقة هي النبوّة الحقيقية الحاصلة في الأزل، الباقية إلى الأبد، وهو اطلاع النبيّ المخصوص بها على استعداد جميع الموجودات بحسب ذواتها وماهياتها، وإعطاء كلّ ذي حقّ حقّه الذي يطلبه بلسان استعداده،من حيث أنه الإنباء الذاتيّ والتعليم الحقيقيّ الأزليّ المسمّى بالربوبيّة العظيمة والسلطنة الكبرى، وصاحب هذا المقام هو الموسوم بالخليفة الأعظم، وقطب الأقطاب، والإنسان الكبير، وآدم الحقيقيّ، المعبَّر عنه بالقلم الأعلى،والعقل الأوّل،والروح الأعظم،...وتستند جميع العلوم والأعمال إلى هذا الإنسان، وكذلك تنتهي إليه جميع المقامات والمراتب؛سواء كان هذا الإنسان الكامل رسولاً أم وصيّاً، أو كان نبياً أم وليّاً. وباطن هذه النبوّة هي الولاية المطلقة، وهي عبارة عن حصول هذه الكمالات بحسب الباطن(1).

أما ابن عربي فيعبّر عن النبوّة والرسالة بقوله:

كانت النبوّة والرسالة اختصاصاً إلهياً ليس فيها شيء من الاكتساب(2).

ص: 38


1- راجع:بحر المعارف، الهمدانّي، الفصل 64:في النبوّة والولاية. ولا يخفى أنّ أصل هذه العبارة موجود في كلمات السيد حيدر الآملي (787ه)، فالأولى الإحالة إلى كتابه جامع الأسرار ص 380-382 بدلاً عمّا قرّره عبدالصمد الهمداني (1216ه) في بحر المعارف؛ وهو متأخّر عنه بقرون. [م]
2- راجع:فصوص الحكم،ابن عربي، ص 221(الفص الداوودي)؛ شرح فصوص الحكم ،القيصري، ص 946. [م]

وهذا البيان العرفانيّ يدلّنا إلى أنّ العرفاء حاولوا تقديم تعريف شامل عن النبوّة والرسالة والولاية والإنسان الكامل من زاوية مباحث الإلهيات، ومعرفة الإنسان، والجانب الأنطولوجيّ الدارس للكون والوجود.

3/13 .أسباب ضرورة بعثة الأنبياء:

بعد الفراغ من تبيين الجانب المفهومي لمفردتي«النبوّة»و«الرسالة»يقع البحث عن«ضرورة ابتعاث الأنبياء»على رأس قائمة المباحث الدارسة للنبوّة.

والبحث هنا يدور حول الأدلّة المثبتة لضرورة وجود النبيّ؛فضلاً عن كون وجوده أمراً غير ممتنع عقلاً .

وعلى هذا الأساس فقد تناول الفلاسفة والمتكلمون والعرفاء المسلمون هذا الموضوع،وأقاموا الحجج والبراهين على إثبات ضرورة بعثة الأنبياء.

وقبل البدء بسرد تلك الأدلّة،تتحتّم الإشارة إلى منهجيّة البحث في تناول هذه المسألة؛فقد انتهج المفكّرون الإسلاميّون لإثبات ضرورة ابتعاث الأنبياء جملةً من المناهج المتنوّعة؛منها:المنهج العقليّ النظريّ،والمنهج العقليّ العمليّ، والمنهج الوظيفيّ. وقد تطرّق الفلاسفة من خلال بيانهم لحاجات الإنسان، والمتكلّمون من زاوية تناولهم لبحث الحسن والقبح العقليين وقاعدة اللطف، وكلاهما من نافذة استعراضهم لوظائف البعثة، تطرّقوا إلى ضرورة وجود الأنبياء ومدى حاجة الإنسان إليهم. وفيما يأتي نشير بتفصيل إلى الضرورة الوحيانية والكلامية والفلسفية والعرفانية التي تكتنف بعثة الأنبياء.

1/3/13.الضرورة الوحيانية لابتعاث الأنبياء:

تناول القرآن الكريم والحديث الشريف المرويّ عن أئمّة الدين: ضرورة وجود

ص: 39

الأنبياء الإلهيين وحاجة البشرية إليهم بسلوك المنهج الوظيفيّ الشارح لوظائفهم والمنافع المترتبة على وجودهم؛نشير إلى بعضها فيما يأتي:

1/1/3/13.الوظيفة الأولى:

بعث الحقِّ تَبَارَكَ وَتَعَالى الأنبياء لهداية الإنسان نحو عبادة اللّه واجتناب الطاغوت؛يقول تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا الله وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ)(1).

(وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا الله مَا لَكُم مِّنْ إِلَهِ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ)(2).

فالأنبياء - علاوةً على قيامهم بترغيب الناس في عبادة اللّه واجتناب الطاغوت والأصنام التي صنعتها أيديهم - كانوا يوصون بمجابهة طاغوت النفس وأصنامها، وإنّ شرّ الأصنام لهي الأصنام التي في النفوس،وإنّ اتباع الإنسان لهواه وما تشتهيه نفسه وتميل إليه لأمر ينتهي بالمرء إلى الوقوع في هاوية الانحراف والاعوجاج والابتعاد عن الصراط المستقيم وجادّة القرب الإلهي .

لقد ابتلي الإنسان في العصر الراهن بعد ما كنز من ثروات،وما اكتسبه من سلطة وأمور دنيوية وصلت معه إلى حدّ الذروة، وما اقترفه بانغماسه في أوحال الشهوة والغضب،لقد ابتلي بمزيد من التخبّط وهو يرزح تحت وطأة عبادة النفس والصنم.والتاريخ شاهد على أنّ المجتمع كلّما ابتعد عن الأنبياء زادت معاناته من ويلات الشرك والطاغوت.

2/1/3/13. الوظيفة الثانية:

رهي الحكم والقضاء بين الناس بالحقّ،ومخالفة الهوى والنفس. يقول تعالى:

ص: 40


1- سورة النحل: 36.
2- سورة الأعراف: 65.

(يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾(1).

وإذا قيل إنّ الإنسان قادر على تمييز الحقّ من الباطل بما يعرفه من الحسن والقبح العقليين؛ من دون الحاجة إلى الشريعة، فإنّنا نقول :

أوّلاً: إنّ كثيراً من القوانين لا يُدركها العقل البشري، ولا يُتوصّل إليها باتّباع الأذواق والمشارب العرفية المتلوّنة.

وثانياً: لعلّ الأحكام التي يتوصّل الإنسان إلى حُسنها أو قبحها بسلوكه طريق العقل والتجربة قد تؤدّي به إلى نتائج ضارّة، لا يمكن له تفاديها،وهي حقائق قابلة للتجربة،لكنّها غير قابلة للاستدراك والتعويض، ويكفي للإنسان أن يخوض غمار تجربتها ليقضي بذلك على جوهر وجوده،ويعرّضه للدمار و الاضمحلال؛ كما في موضوع العلاقات الجنسية مثلاً؛ فلو لم تؤطّر بإطار الشريعة الإسلامية التي أمرت بوضع حدود لها، وتُرك أمرها بيد التجربة البشريّة، لعاثت هذه التجربة في أرض الوجود الإنساني وكيانه فساداً، ولمرّغت أنف الإنسان في التراب، ولما نفعه أيّ شيء بعد إزاحة الستار عن الأضرار التي لحقت بالبشرية من جراء إطلاق العنان لحرّيّة جنسيّة مطلقة، وعندئذٍ ليس هناك ما يجبر خسائر هذا الإنسان أو ما يعوّض له مصيباته. ولهذا، فليس من محيص عن التمسّک بالشريعة التي ضمنت تطابق قوانينها مع مسيرة الإنسان التكاملية؛ من دون دفع أيّ ضريبة، أو الوقوع في رهانات خاسرة غير قابلة للتعويض.

3/1/3/13. الوظيفة الثالثة:

وهي إقامة القسط وإرساء العدالة الاجتماعية بين الناس.يقول تعالی:﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)(2).

ص: 41


1- سورة ص: 26.
2- سورة الحديد: 25.

فإنّ الأنبياء موظفون بتبليغ حقائق الشريعة والمعارف والقوانين الإلهية الحقّة حتى يتحقّق العدل الذي أمر الناس بتحقيقه والقيام بأمره.

4/1/3/13. الوظيفة الرابعة:

وهي تعليم الكتاب والحكمة والأوامر الإلهية وما لا يعرفه الإنسان، وتهذيب المجتمع على مختلف الصعد. يقول تعالى:

(كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ ﴾(1).

فالأنبياء الإلهيون مأمورون بتعليم الحكمة وتزكية النفوس؛فضلاً عن واجبهم بشأن تلاوة الآيات الإلهية، وتعليم الكتاب السماويّ،والرقيّ بمعلومات البشر التي لا يستغني فيها الإنسان عن الغيب.

والحكمة هنا بمعنى إدراك الحقائق التي إن عمل الإنسان على وفقها لأخذت به إلى طريق الفلاح،وهي علم قرين بالعمل،نتيجته تهذيب النفس،وتطهير الباطن.

5/1/3/13. الوظيفة الخامسة:

وهي إخراج الناس من الظلمات إلى النور.يقول تعالى:﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ)(2).

فالناس قد ابتلوا في حياتهم بظلمات الدنيا وحُجُبها،ولا سبيل لهم للخلاص من دون التشبّث بأذيال الفطرة النيّرة التي أودعها اللّه تَبَارَكَ وَتَعَالى لانتشال الإنسان من ظلمات الضياع،وقد نزل الكتاب السماوي الإلهي على الأنبياء ليُخرج الناس من الظلمات ويُنقذهم من الحُجُب الظلمانية.

ص: 42


1- سورة البقرة: 151 .
2- سورة إبراهيم: 1.

6/1/3/13. الوظيفة السادسة:

وهي إتمام الحجّة وإلقائها على الناس يقول تعالى:(رُسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةً بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهِ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾(1).

ليس في وسع الإنسان أن يجد طريق سعادته على نحو تامّ إذا ما اكتفى بما يملك من أدوات ومصادر معرفيّة أو دعتها السماء في خلقته؛مثل:الحسّ والتجربة والعقل والضمير،ولهذا فلن يصل إلى جادّة الهداية.وإذن لأمكن لهذا الإنسان أن يقف بين يدي ربّه محاججاً ومبرهناً بالدليل العقليّ حقّه في الدفاع عن نفسه بوجود نقص وخلل معرفيّ كان بالإمكان تفاديه؛ بأن يمنحه اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالى مصدراً معرفياً آخر يهتدي به إلى سواء السبيل. فلأجل أن يقطع الله عَزَّ وَجَلَّ هذه الحجة من الأساس،بعث إلى الناس رسله وأنبياءه هداةً، يحملون لهم البشرى والنُّذُر. ولهذا، عُدّ موضوع إتمام الحجّة وإلقائها على الناس واحداً من الأسباب الداعية لابتعاث الأنبياء.

7/1/3/13. الوظيفة السابعة:

وهي إعادة الروح والحياة إلى الإنسان. يقول تعالى:

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِله وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ ﴾(2).

وهذه الآية تشير إلى أنّ الإنسان يمتلك حياة أخرى غير حياته النباتية والحيوانية؛ ألا وهي الحياة الروحانية الإنسانية، ولا يتيسّر له تأمين متطلّبات هذه الحياة الروحانية من دون بعثة الأنبياء، وطاعة الناس لهم.

8/1/3/13 الوظيفة الثامنة:

وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبيان الأحکام الإلهية،والحلال والحرام،

ص: 43


1- سورة النساء: 165.
2- سورة الأنفال: 24.

والتحرّر من أغلال الأسر والقهر. يقول تعالى:

(الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النبي الأمي الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ والإنجيل يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(1).

ما من شكّ في أنّ التعاليم والأحكام السماوية التي يُظهرها الأنبياء الإلهيون للناس كفيلة بإنقاذ البشرية من قيود الأسر الداخليّ والخارجيّ؛ فإنّ الإنسان قد يقع بتمرّده على الأحكام الإلهية في شباك شياطينه الداخليّة(النفس الأمارة بالسوء)، وشياطينه الخارجيّة (الطاغوت)، وهو أمرٌ يُسفر - في نهاية المطاف - عن تكبيله بقيود الأسر الروحيّ والاجتماعيّ.وليس هناك من منقذٍ يقوده إلى الحرّية الروحيّة والاجتماعيّة وإلى الفلاح والسعادة غير اتّباع الرسل الإلهيين وطاعة أمرهم.

9/1/3/13. الوظيفة التاسعة:

وهي رفع الاختلاف والانشقاق في صفوف الأمة. يقول تعالى: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ الله النبيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى الله الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهِ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ)(2).

إحدى الوظائف الأخرى المناطة بالأنبياء هي رفع الاختلاف في المجتمع الإنساني قبل أن يأتيه العلم أو يدعى للهداية والصراط المستقيم.

يقول العلامة الطباطبائيّ في تفسيره لهذه الآية الكريمة:

ص: 44


1- سورة الأعراف: 157.
2- سورة البقرة: 213 .

إنّ الإنسان - وهو نوع مفطور على الاجتماع والتعاون - كان في أوّل اجتماعه أمة واحدة ثم ظهر فيه بحسب الفطرة الاختلاف في اقتناء المزايا الحيوية،فاستدعى ذلك وضع قوانين ترفع الاختلافات الطارئة، والمشاجرات في لوازم الحياة فألبست القوانين الموضوعة لباس الدين،وشفعت بالتبشير والانذار:بالثواب والعقاب،وأصلحت بالعبادات المندوبة إليها ببعث النبيين،وإرسال المرسلين،ثم اختلفوا في معارف الدين أو أمور المبدأ والمعاد،فاختل بذلك أمر الوحدة الدينية،وظهرت الشعوب والأحزاب،وتبع ذلك الاختلاف في غيره، ولم يكن هذا الاختلاف الثاني إلا بغيا من الذين أوتوا الكتاب، وظلما وعتوا منهم بعد ما تبين لهم أصوله ومعارفه، وتمت عليهم الحجة،فالاختلاف اختلافان: اختلاف في أمر الدين مستند إلى بغي الباغين دون فطرتهم وغريزتهم، واختلاف في أمر الدنيا وهو فطري وسبب لتشريع الدين، ثم هدى اللّه سبحانه المؤمنين إلى الحق المختلف فيه بإذنه، واللّه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. فالدين الإلهي هو السبب الوحيد لسعادة هذا النوع الانساني، والمصلح الأمر حياته(1).

ثمّ يتابع في بيانه للاختلاف الثاني قائلاً:

ومن هنا، يُعلم أنّ قريحة الاستخدام في الإنسان بانضمامها إلى الاختلاف الضروري بين الأفراد من حيث الخلقة ومنطقة الحياة والعادات والأخلاق المستندة إلى ذلك،وإنتاج ذلك للاختلاف الضروريّ من حيث القوّة والضعف يؤدّي إلى الاختلاف والانحراف عن ما يقتضيه الاجتماع الصالح من العدل الاجتماعيّ، ...فكان بروز الاختلاف مؤدياً إلى الهرج والمرج،وداعياً إلى هلاك الإنسانيّة،وفناء الفطرة،وبطلان السعادة. وهذا الاختلاف-كما عرفت-ضروريّ الوقوع بين أفراد المجتمعين من

ص: 45


1- راجع:بحر المعارف،الهمدانيّ، الفصل 64 :في النبوّة والولاية.ولا يخفى أنّ أصل هذه العبارة موجود في كلمات السيد حيدر الآمليّ (787ه)، فالأولى الإحالة إلى كتابه جامع الأسرار ص 380-382 بدلاً عمّا قرّره عبدالصمد الهمداني (1216ه) في بحر المعارف؛ وهو متأخّر عنه بقرون. [م].

الإنسان؛ لاختلاف الخلقة باختلاف المواد،وإن كان الجميع إنساناً بحسب الصورة الإنسانيّة الواحدة، والوحدة في الصورة تقتضي الوحدة من حيث الأفكار والأفعال بوجه،واختلاف الموادّ يؤدّي إلى اختلاف الإحساسات والإدراكات والأحوال - في عين أنها متحدة بنحو - أو اختلافها يؤدّي إلى اختلاف الأغراض والمقاصد والآمال،واختلافها يؤدّي إلى اختلاف الأفعال،وهو المؤدّي إلى اختلال نظام الاجتماع. وظهور هذا الاختلاف هو الذي استدعى التشريع،وهو جعل قوانين كلّيّة يوجب العمل بها ارتفاع الاختلاف، ونيل كلّ ذي حقّ حقّه(1).

وهنا، يمكن الإشارة إلى بعض النقاط التي يمكن لنا أن نستفيدها من هذه الآية الكريمة على النحو الآتي:

أوّلاً: الدين هو نهج معيّن في الحياة الدنيا يضمن للإنسان مصالحه في الدنيا،كما يضمن له كماله الأخروي وحياته الحقيقية الخالدة عند المليك المقتدر.

ثانياً: نزل الدين منذ فجر ظهوره لحلّ الاختلاف الفطريّ بين البشر.

ثالثاً: الدين الإلهيّ متّجه دائماً نحو الكمال حتّى يضمن للإنسان تلبيته لجميع التشريعات التي يحتاجها على مختلف الصعد، وهنا يبلغ الدين كماله.

رابعاً: كلّ شريعة لاحقة أكمل من الشريعة السابقة لها.

خامساً: السبب الذي دعا لإرسال الرسل وإنزال الكتب هو المسار الطبيعي والفطري الذي يسير فيه البشر نحو الاختلاف، ولهذا فإنّ اللّه تَبَارَكَ وَتَعَالى قاد المجتمع البشري صوب الكمال المطلوب وإلى جهة الصلاح والفلاح في الحياة من خلال إرساله الأنبياء وتشريعه للشرائع، وبدّد بذلك الفرقة والاختلاف؛ فإنّ إحدى

ص: 46


1- راجع:بحر المعارف، الهمداني، الفصل 64 :في النبوّة والولاية. ولا يخفى أنّ أصل هذه العبارة موجود في كلمات السيد حيدر الآملي (787ه)، فالأولى الإحالة إلى كتابه جامع الأسرار ص 380-382 بدلاً عمّا قرّره عبدالصمد الهمداني (1216ه) في بحر المعارف؛ وهو متأخّر عنه بقرون. [م]

الشؤون الربوبية للّه جَلَّ وَعَلا هو أن يهدي كل مخلوق من مخلوقاته إلى درجة الكمال في خلقته.

سادساً : يُستفاد من انتساب البعثة إلى اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالى في القرآن الكريم الاختلاف أن بين الناس لا يُحلّ إلا من جانبه عَزَّوَجَلَّ.

سابعاً: المجتمع الإنساني ينزع نحو الاختلاف كما ينزع نحو التمدّن والتحضّر.

ثامناً: الاختلاف على السبيل المؤدّي إلى السعادة يمكن له أن يؤدّي إلى استئصال البشرية واقتلاعها من جذورها.

تاسعاً: لا يمكن للمعادلات العقلية والفكرية عند البشر أن تقضي على الاختلاف في المجتمع الإنساني.

عاشراً: نستنتج أنّ اللّه تَبَارَكَ وَتَعَالى هو الوحيد القادر على رفع هذه الاختلافات بإرساله الرسل، وبما يُفيضه على عباده من الوحي والشريعة.

10/1/3/13 .الوظيفة العاشرة:

وهي الجامعيّة والشموليّة. يروي الشيخ الكليني خمسة أحاديث عن ضرورة ابتعاث الأنبياء والحجج الإلهية في كتابه«الكافي» ؛ أحدها: رواية هشام بن الحكم ؛ حيث ورد فيها أنّ الإمام الصادق .عندما سأله زنديق عن الأنبياء والرسل؛ كيف السبيل إلى إثباتهم ؟ قال :

«لَمَّا أَثْبَتْنَا أَنَّ لَنَا خَالِقاً، صَائِعاً، مُتَعَالِياً عَنَّا وَعَنْ جَميع مَا خَلَقَ، وَكَانَ ذلِكَ الصَّانِعُ حَكِيماً مُتَعَالِياً ، لَمْ يَجْرُ أَنْ يُشَاهِدَهُ خَلْقُهُ وَلاَ يُلاَ مِسُوهُ؛ فَيُبَاشِرَهُمْ وَيُبَاشِرُوهُ، وَيُجَاجهُمْ وَيُحَاجُوهُ، ثَبَتَ أَنَّ لَهُ سُفَرَاءَ فِي خَلْقِهِ يُعَبِّرُونَ عَنْهُ إِلى خَلْقِهِ وَعِبَادِهِ، وَيَدُلُّونَهُمْ عَلَى مَصَاحِهِمْ وَمَنَافِعِهِمْ وَمَا بِهِ بَقَاوِهُهُمْ وَفِي تَرْكِهِ فَنَاوِهُهُمْ، فَثَبَتَ الْآمِرُونَ وَالنَّاهُونَ عَن

ص: 47

الحكيم الْعَلِيم في خَلْقِهِ، وَالمُعَبِّرُونَ عَنْهُ جَلَّ وَعَزَّ، وَهُمُ الأنبياء: وَصَفْوَتُهُ مِنْ خَلْقِهِ، حُكَماءَ مُوءَ ذَبِينَ بِالحِكْمَةِ، مَبْعُوثِينَ بِهَا، غَيْرَ مُشَارِكِينَ لِلنَّاسِ - عَلى مُشَارَكَتِهِمْ هُمْ فِي الخَلْقِ وَالتَّرْكِيب - في شَيْءٍ مِنْ أَحْوَالِهِمْ، مُؤَيَّدِينَ مِنْ عِنْدِ الحكيم العليم بالحِكْمَةِ، ثُمَّ ثَبَتَ ذلِكَ فِي كُلِّ دَهْرٍ وَزَمَانِ مِمَّا أَنتُ بِهِ الرُّسُلُ وَالأَنْبِيَاءُ مِنَ الدَّلائِل وَالْبَرَاهِينِ؛ لِكَيْلَا تَخْلُوَ أَرْضُ اللَّهُ مِنْ حُجَّةٍ يَكُونُ مَعَهُ عِلْمٌ يَدُلُّ عَلَى صِدْقِ مَقَالَتِهِ وَجَوَازِ عَدَالَتِهِ»(1).

وبناءً على ما تقدّم، فإنّ تحقّق الهدف من خلق الإنسان - وهو معرفة المبدأ والمعاد وسائر المجهولات - مرتهن بابتعاث الأنبياء، وغير ممكن من دونه. وقد بعث اللّه تَبَارَكَ وَتَعَالى الأنبياء على أساس من حكمته البالغة واستعداد الإنسان في تحمّل الدعوة؛ ليعلّموا الناس التوحيد وعبادة اللّه الواحد الأحد؛ رجاء مثوبة الآخرة،وقدموا إليهم ليضعوا عنهم أغلال الاختلاف والخصومة، وليتمّوا الحجة عليهم بالتبشير والإنذار، وتأسيس الحكومة الدينية، وتعليم الكتاب والحكمة.

2/3/13 . الضرورة الكلامية لابتعاث الأنبياء:

تناول المتكلّمون المسلمون قضية ضرورة ابتعاث الأنبياء،وأقاموا الحجة عليها من خلال دراستهم لصفتي «الكمال»و«اللطف»الإلهيين، أو من خلال«قاعدة اللطف»، أو «مبدأ الحسن والقبلح العقليين».

يبيّن المحقّق اللاهيجي آراء المتكلمين المسلمين فيما يخصّ إثبات النبوّة على النحو الآتي:

اعلم أنّ الأشاعرة لا سبيل لهم لإثبات النبوّة عقلاً، بل طريقهم إلى ذلك منحصر بالسمع، وبتصديق النبوّة من خلال مشاهدة المعجزة. ولهذا، فإنّ أمرهم عسير؛ لأنّه يلزم من اتباع طريقتهم إلزام الأنبياء؛ فهم لا يؤمنون بحكم العقل، ولا يقبلون بأن يكون العقل قد أوجب شيئاً، فلا يجب إذن النظر في المعجزة إلا عن طريق السمع،

ص: 48


1- الكافي،الكليني، ج 1، كتاب الحجة،باب الاضطرار.

والسمع الموقوف على النبوّة لا يثبت إلا بالنظر في المعجزة،وللأمة أن تمتنع عن النظرة في المعجزة قائلةً: لا أنظر حتى يجب عليّ النظر،وإذا لم أنظر لم يجب عليّ قبول الدعوى،ولا تصديق النبوّة؛فلا طريق إذن للنبيّ لكي يثبت به نبوّته،ويُلزم الآخرين بها.

أمّا المعتزلة القائلين بوجوب النظر عقلاً،فيرون أنّ دفع الخوف عن النفس واجب بضرورة العقل، وإهمال النظر في المعجزة موجب للخوف لا محالة، وجب للخوف لا محالة، وطالما أنّ قول مدّعي المعجزة يُحتمل فيه الصدق، وعلى تقدير الصدق وعدم الاتباع يرد الضرر، فلا يمكن بعد وجوب دفع الضرر المتوقّع أن يمتنع المرء من النظر في المعجزة. وبهذا، يكتفي المعتزليّ بوجوب النظر في المعجزة؛ لأنها تُثبت نبوّة الشحص المدّعي لها، لكنّ وجوب النظر في المعجزة مرتهن باحتمال الصدق كما أشير إليه، واحتمال الصدق يتحقق عندما يكون أصل النبوّة أمراً مكن الوقوع بالإمكان العامّ؛فلابدّ أوّلاً من إثبات صحّة النبوّة وحسن بعثة الأنبياء(1).

وفيما يلي نورد بإيجاز بعض الأدلّة الكلامية الدالة على ضرورة ابتعاث الأنبياء:

1/2/3/13 .دليل اللطف:

يرى المتكلّمون المسلمون أنّ ابتعاث الأنبياء لطفٌ؛ لأنه بيان لقبح الأفعال والأحوال في القيامة،أو هو بيان لحُسنها ؛ أي إنّه يقرب الناس من طاعة اللّه، ويبعدعم عن معصيته مع المحافظة على اختيارهم، واللطف يتحلّى بالحسن العقلي، وكلّ ما هو حسن عقلاً،فهو واجب على اللّه.ولهذا،فإنّ بعثة الأنبياء واجبة عليه عَزَّ وَجَلَّ عقلاً .

وقد ذهب الشيخ المفيد - وهو أحد كبار المتكلّمين من الإمامية - في جوابه على مسألة الدليل على وجوب نصب الأنبياء والرسل إلى أنّ دليلنا هو اللطف الواجب على اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالى، وقال معرَّفاً اللطف:

ص: 49


1- جوهر المراد(بالفارسية:گوهر مراد)، الفياض اللاهيجيّ، ص 358.

اللطف هو ما يقرب المكلّف معه من الطاعة،ويبعد عن المعصية،ولا حظّ له في التمكين،ولم يبلغ الإلجاء(1).

بيّن توقف غرض اللّه تَبَارَكَ وَتَعَالى المتمثّل بهداية الناس عليه قائلاً:

الدليل على وجوبه توقف غرض المكلّف عليه، فيكون واجباً في الحكمة؛وهو المطلوب(2).

وكتب السيّد المرتضى - وهو أحد أعلام المتكلّمين الشيعة - في موضوع ضرورة ابتعاث الأنبياء مستفيداً من قاعدة اللطف ما نصّه :

اعلم أنه غير ممتنع أن يعلم اللّه تعالى أنّ في أفعال المكلّف ما إذا فعله اختار عنده فعل الواجبات العقليّة، أو الامتناع عن القبائح العقليّة، وفيها ما إذا فعله اختار فعل القبيح أو الإخلال بالواجب، وإذا علم اللّه تعالى ذلك فلا بدَّ من اعلام المكلَّف به ليفعل ما يدعوه إلى فعل الواجب ويعدل ما يدعوه إلى فعل القبيح، لأن اعلامه بذلك من جملة ازاحة علّته في التكليف. وإذا كان تمييز ما يدعو من أفعاله أو يصرف لا سبيل إليه باستدلال عقلي، ولم يحسن أن يفعل اللّه تعالى له العلم الضروري به؛ فتجب بعثة من يُعلِمه بذلك(3).

وقرّر المحقق الطوسي في «التجريد» يقول:

البعثة واجبة؛لاشتمالها على اللطف في التكاليف العقليّة(4).

وهذا يعني أنّ بعثة الأنبياء طالما أنها لطف في التكاليف العقلية، واللطف فعل

ص: 50


1- النكت الاعتقادية،الشيخ المفيد، ص 35.
2- المصدر نفسه.
3- الذخيرة في علم الكلام،السيّد المرتضى، ص 323 .
4- تجريد العقائد،نصير الدين الطوسي، المقصد الرابع،البعثة.

إلهيّ، وواجب على اللّه جَلَّ وَعَلا ، فإنّ ابتعاث الأنبياء واجب على الحقّ عَزّ وَجَلَّ . وكما تقدّم فإنّ تعريف اللطف أن يقال:

ما يقرب المكلّف معه من الطاعة، ويبعد عن المعصية، ولا حظّ له في التمكين،ولم يبلغ الإلجاء(1).

وقد قالوا في تعريفه أيضاً:

اللطف هو كلّ ما يختار عنده المرء الواجبَ،ويتجنّب القبيح، أو ما يكون عنده أقرب إما إلى اختيار الواجب، أو ترك القبيح(2).

ولمزيد من الأضواء على ذلك نقول : اللطف صفة فعلية من صفات اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالى تتعلق بالمكلّفين، وهي أمر يوجد في انفسهم الداعي لإيجاد التكليف،أو التقرّب منه، ولهذا قسّموا اللطف إلى قسمين: مُقرّب، ومحصِّل.

وشروط اللطف هي:أوّلاً: ألا تكون القدرة على فعل التكاليف مرتهنة بذلك اللطف؛ لأنّ اللطف فرع التكليف،والتكليف فرع القدرة على فعل المكلَّف به.

وثانياً : ألا يؤدّي اللطف بالمكلّف إلى الدخول في دائرة الإجبار وسلب الاختيار.

والدليل على وجوب اللطف هو «الحكمة الإلهية»؛فاللطف هو أحد التدابير الحكيمة التي يقرّرها المولى تَبَارَكَ وَتَعَالى ليتحقق بها هدف خلق الإنسان؛ ألا وهو الهداية. ولهذا قال المحقق الطوسي :

اللطف واجب؛ ليحصل الغرض به(3).

وهذا يعني أنّ اللّه تَبَارَكَ وَتَعَالى إذا علم بأنّ الطاعة أو التقرب إلى الطاعة لا

ص: 51


1- النكت الاعتقادية،الشيخ المفيد، ص 35.
2- شرح الأصول الخمسة،القاضي عبدالجبار، ص 351.
3- كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد،ص350.

يحصل من دون تحقق فعل أو أمر ما ، فمن الواجب على اللّه عَزَّ وَجَلَّ أن يفعله؛ كي لا يؤدّي ذلك إلى نقض الغرض. وقد أشار المتكلمون أيضاً إلى نقطة أخرى تتعلق بفاعل اللطف ؛ فقالوا إنّه إما اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالى كما في إرسال الرسل، أو إنه المكلّف نسبةً إلى نفسه، ومثاله: التأمل في معجزات الأنبياء، أو إنّه المكلّف نسبةً إلى الغير، ومثاله : تبليغ الأحكام الإلهية إلى الناس. وحصيلة القول : تُعدّ بعثة الأنبياء لبيان الأحكام التي هي مؤكّدة لأحكام العقل لُطفاً، أمّا بعثتهم لبيان الأحكام التي لا يستقلّ العقل في إدراكها، فليست من مصاديق اللطف؛ لأنّ الأحكام التي يُبيّنها الأنبياء في هذه الحالة أحكام صانعة للتكليف، وقد ذكرنا أنّ الشرط في قاعدة اللطف أن يكون هذا اللطف متفرّعاً عن التكليف. وعلى هذا الافتراض، فإنّ ضرورة بعثة الأنبياء مبنيّة على الحكمة الإلهية.

وبناءً على ما تقدّم،تدلّ قاعد اللطف على ضرورة البعثة حينما تكون أحكام الأنبياء أحكاماً مؤكّدة لأحكام العقل، وتدلّ قاعدة الحكمة على ضرورة البعثة حينما يكون بيان الأحكام من قبل الأنبياء خارجاً عن دائرة أحكام العقل البشريّ.

2/2/3/13 برهان الحكمة:

استخدم المتكلّمون من الإمامية والمعتزلة والماتريدية برهان الحكمة في إثبات ضرورة بعثة الأنبياء ؛ ومنهم: القاضي عبد الجبار المعتزليّ (1)، وأبو منصور الماتريديّ.(2)أمّا المتكلّمون من الأشاعرة فقد أقصوا هذا البرهان عن أبحاثهم لأجل موقفهم المانع من استخدام معطيات العقل العملي في إثبات ضرورة بعثة الأنبياء. وقد أعلنوا معارضتهم لذلك صراحةً؛ومنهم:الشهرستانيّ بصفته أحد أعلام المتكلمين الأشاعرة؛ حيث قال: لا يجب على اللّه شيء ما بالعقل(3).

ص: 52


1- شرح الأصول الخمسة،القاضي عبد الجبّار، ص 564.
2- كتاب التوحيد،الماتريدي، ص 177.
3- الملل والنحل،الشهرستاني، ج 1، ص 93.

وهذا يعني أنّ إثبات ضرورة البعثة لا يقوم عليه أيّ دليل عقلي.

ويرى العلامة الحليّ أنّ النبوّة أمر حسن؛خلافاً لما ذهبت إليه البراهمة،وأمر واجب في الحكمة؛خلافاً للأشاعرة؛ فإنّ غاية اللّه تَبَارَكَ وَتَعَالى من خلق الإنسان أن ينال المصلحة،ومعرفة المصلحة، وكذا طرد المفسدة واجب في الحكمة الإلهية. وهذا الوجوب جارٍ في أحوال المعاش، وأحوال المعاد.

وقد ذهب العلّامة إلى أنّ الحكمة الإلهية تقتضي في بيان أحوال المعاش أن يسلم الجنس البشري في حياته الاجتماعية.(1)أمّا الحكمة الإلهية في بيان أحوال المعاد فهي مبنيّة على أساس السعادة الأخروية التي لا تنال إلا من خلال المعارف الحقّة والأعمال الصالحة. وإنّ بيان هذه الحقائق والأعمال لا يتيسّر إلا عن طريق الأنبياء الإلهيين(2).

ومن المعاصرين،استخدم العلامة الشيخ مصباح اليزدي في كتابه «دروس في العقيدة الإسلامية»برهان الحكمة لإثبات ضرورة بعثة الأنبياء، وقد جعله متشكّلاً من ثلاث مقدّمات؛ هي:

أوّلاً: هدف خلق الإنسان هو التكامل بالاختيار.

ثانياً:التكامل الاختياري للإنسان رهين بالأفعال الاختيارية.

ثالثاً: المعارف العقلية والحسية عند الإنسان غير كافية للوقوف على طريق الكمال والسعادة.

والنتيجة : يلزم على اللّه جَلَّ وَعَلا أن يدلّ الإنسان على طريق آخر غير الحسّ والعقل ؛ ليوصله به إلى الكمال(3).

ص: 53


1- تجد تفصيلًا لهذا الدليل في براهين الحكماء. [المؤلّف]
2- الباب الحادي عشر مع شرحيه النافع يوم الحشر ومفتاح الباب،العلامة الحلي،ص 34-35
3- دروس في العقيدة الإسلامية، مصباح اليزدي، درس النبوّة.

وبتعبير آخر:اللّه سبحانه وتعالى حكيم في خلقه للإنسان، وهو يريد له الكمال والسعادة الحقيقية. وإنّ القوى الإدراكية عند الإنسان غير كافية لتعريفه بنحو تامّ على السعادة الحقيقية. إذن، فإنّ بعثة الأنبياء أمر ضروري لهداية الإنسان وسعادته، فإذا لم يُبعث الأنبياء الإلهيون من قِبل اللّه عَزَّ وَجَلَّ لهداية الإنسان، لانتقضت بذلك الحكمة الإلهية، لكن الحكمة الإلهية ضرورية، فبعثة الأنبياء إذن لازمة.

ويقول العلامة اليزدي في موضع آخر:

تقتضي الحكمة الإلهية أن يكوّن الإنسان ذا معرفة وافية بطريق الكمال. وأنّ صفة الحكمة - في واقع الأمر - يُدركها العقل،كما أنه يدرك أيضاً لوازم هذه الصفة. وإذا كان الحكيم حكيماً فإنّ من لوازم حكمته أن تكون أفعاله بنحو يوصله إلى المقصود.. وليس هذا اللزوم يعني أن يأمر العقل، أو أن يُصدر حكماً يوجبه على اللّه؛ حتى يقول القائل : كيف يجرؤ المخلوق على إصدار أمر يوجّهه إلى خالقه؟! ليست القضية قضية «أوامر»، بل هي اكتشاف ما تقتضيه الحكمة الإلهية، وهذا الحكم باللزوم ليس إلا كشف للضرورة القائمة بين العلّة والمعلول(1).

3/2/3/13. أدلّة المصالح المترتبة على النبوّة:

يُعدّ البحث عن الفوائد والمصالح المترتبة على النبوّة أحد الأدلّة النافعة في إثبات النبوّة في مدرسة المتكلمين.وقد تناول شيخ الطائفة الطوسي وهو من أعاظم الفقهاء وأعلام المتكلمين الإماميين في «كتابيه الاقتصاد فيما يجب على العباد»، و«تمهيد الأصول»قضية ضرورة ابتعاث الأنبياء والمصالح المترتبة على ذلك؛ حيث قال:

فأما الذي يدلّ على حسن بعثة الرسل فهو ما يؤدّونه إلينا من المصالح والألطاف؛ لأنّه لا يمتنع أن يعلم اللّه تعالى أنّ في أفعال المكلّف ما إذا فعله دعاه إلى فعل الواجب

ص: 54


1- معارف القرآن، مباحث السبيل والدليل (بالفارسية : معارف قرآن،راه و راهنما شناسي)، محمّد تقي مصباح، ج 4 و 5، ص 115-116.

العقليّ، أو صرفه عن فعل القبيح العقليّ، أو ما إذا فعله دعاه إلى فعل القبيح والإخلال بالواجب، فيجب إعلامه ذلك؛ لأنّ الأوّل لطف له، والثاني مفسدة، ويجب عليه تعالى إزاحة علته في التكليف في فعل اللطف على ما بيّناه فيما مضى، ولا يمكن إعلام المكلّف ذلك إلا بأن يبعث إليه نبياً يعلمه ذلك، وإنّما قلنا ذلك لأنه لا يمكن الوصول إلى ذلك باستدلال عقليّ، ولا يحسن خلق العلم ضرورة بذلك؛ لأنّ التكليف يمنع منه،فلم يبق بعد ذلك إلّا بعثة الرسول؛ ليعرّفه ذلك.وهذا الوجه الذي نقول إنّه متى حسنت بعثة الانبياء وجبت،فلا ينفصل الحسن من الوجوب(1).

ويسرد الشيخ سديد الدين الحمصيّ الرازيّ - وهو من كبار علماء الإمامية في القرن السابع - فوائد البعثة وحاجة الإنسان إلى النبوّة في كتابه«المنقذ من التقليد»شارحاً ذلك في نقاط ستّ؛هي:

أوّلاً : تعريف المكلّفين بالمصالح والمفاسد.

ثانياً : بيان الثواب والعقاب الإلهيّين.

ثالثاً: معرفة التوحيد الإلهيّ.

رابعاً : التأكيد على أحكام العقل.

خامساً: بيان الأطعمة والأشربة المفيدة والضارّة.

سادساً: معرفة اللغات.

ثمّ يتناولها بالنقد، فيقول:

لم لا يجوز أن يتوصّل إلى معرفة هذه المصالح والمفاسد من جهة اخرى غير جهة الأنبياء؟ فأمّا استحقاق العقاب ودوامه ودوام الثواب، فلم لا يجوز أن يتوصّل إلى معرفتها من جهة العقل؟

ص: 55


1- تمهيد الأصول، الطوسّي، ص 685-685.

ثمّ يكتب مجيباً :

لا يمكن التوصّل إلى معرفة هذه المصالح إلّا من جهة الأنبياء: ... لا يمكننا معرفتها ضرورةً، من حيث أنّا كلّفنا أداء هذه العبادات الشرعيّة التي هي مصالح لنا على وجه القربة إلى اللّه تعالى والعبادة له؛فلو عرفناها ضرورةً، لكنّا عارفين باللّه تعالى ضرورةً، والتكليف يمنع منها،ولا شيء من أدلّة العقل يدلّ على هذه المصالح،وأنّها تدعونا إلى الطاعات، وتصرفنا عن المعاصي، فعلمنا بهذا أنّه لا يمكننا التوصّل إلی معرفة هذه المصالح إلّا من جهة الأنبياء ... وأمّا الفرق بين الطعوم المغذية وبين السموم المتلفة، فإنّه وإن أمكن التوصّل إليه بالتجربة، إلّا أن الزمان يطول فيها، وربما يهلك كثير من الناس فيها ... الشرعيّات تتضمّن التذلّل والتضرّع والخشوع إلى اللّه تعالى،كما أنّ في العقليّات نوع تذلّل وتضرّع وخشوع إذا أديت لوجوبها وطلبا لمرضاة اللّه تعالى في هذا الوجه تناسب الشرعيّات والعقليات(1).

وقد قام المحقّق الطوسيّ - علاوةً على إقامته الحجج الفلسفية وبرهان العدالة الاجتماعية - بسرد الفوائد والمصالح المترتبة على بعثة الأنبياء، مشيراً في أبحاثه إلى عشر نقاط في هذا الصدد؛ وهي:

أوّلاً: أنّ فوائد البعثة تظهر في الحالات التي يأتي الشرع فيها مناصراً للعقل، فيدعم فيها الأحكام العقلية في دائرة المستقلات أو غير المستقلات العقلية؛ مثل: إثبات وجود اللّه وصفاته.

ثانياً: يحتاج العقل إلى الشرع في بعض الحالات التي يعجز فيها عن الإدراك والحكم؛ مثل : التعريف بدرجات الجنّة والنار، ومراحل القيامة، أو القضايا المرتبطة بفروع الدين.

ص: 56


1- المنقذ من التقليد،الحمصي، ج 1، ص 373-382.

ثالثاً: شريعة الأنبياء هي المصدر الذي يُبدّد خوف الإنسان وقلقه بشأن كلّ ما يقوم به من أفعال وتصرّفات حينما يطبّق هذا الإنسان أعماله وفقاً للأوامر والنواهي الشرعية.

رابعاً: العقل محتاج للشرع في إدراكه للأفعال الحسنة والسيئة.

خامساً: الشرع مفيد أيضاً في تعريف الإنسان بالأدوية والمأكولات النافعة والضارّة،وكلّ ما من شأنه أن يجلب للإنسان النفع والضرر من الأمور التي تتطلّب تجربتها تجاوز أزمنة طويلة.

سادساً: المحافظة على الجنس البشريّ من خلال إرساء أسس الانتظام الاجتماعي وقواعد السنن والتشريعات الإلهية.

سابعاً: تتميم القضايا الأخلاقية والتربوية والروحية عند الإنسان على حسب القابليات المتنوّعة.

ثامناً: تعليم الصناعات والفنون الخفيّة على الناس.

تاسعاً: تعليم الأخلاق والسياسات الاجتماعية.

عاشراً: التعريف بالثواب والعقاب الأخرويّين(1).

وقد استعرض المحقق الطوسي هذه الفوائد والمصالح أيضاً في كتابه «تحصيل المحصّل»(2).

أمّا العلامة الحليّ - وهو من أكابر الفقهاء وأعاظم المتكلّمين الشيعة - فقد عرض

ص: 57


1- راجع:كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، الحلّي ص 271؛ الحاشية على الإلهيات الشرح الجديد للتجريد،أحمد الأردبيلي،ص 292.
2- راجع: نقد المحصل،الطوسي، ص 361-364.

موضوع ضرورة ابتعاث الأنبياء كغيره من المفكّرين الإسلاميين، ورتّب على النبوّة مجموعة من الفوائد والأدلّة، متمسّكاً بقاعدة اللطف التي عدّ فيها بعثة الأنبياء لطفاً في التكليف العقلي والسمعي والشرعي، فذهب إلى أنّ هذا اللطف الإلهي إذا ما قورن بالتكاليف العقلية عُدّ لطفاً مقرّباً ، وإذا ما قورن بالتكاليف السمعية والشرعية كان لطفاً محصّلاً؛ لأنّ في التكاليف السمعية أمور (مثل: العلم باستمرار الثواب والعقاب) لا تتحصّل إلا من ناحية بعثة الأنبياء(1).

وقد تناول العلامة الحليّ شرح مسلك الحكماء، وما ذهبت إليه العدلية في هذا الصدد قائلاً:

الإنسان لا يمكن أن يستقل وحده بأمور معاشه لاحتياجه الى الغذاء والملبوس والمسكن وغير ذلك من ضرورياته الّتي تخصه ويشاركه غيره من اتباعه فيها، وهي صناعية لا يمكن أن يعيش الإنسان مدة يصنعها ويستعملها، فلابد من إجماع على تلك الأفعال بحيث يحصل التعاون الموجب لتسهيل الفعل، فيكون كل واحد منهم يعمل لصاحبه عملا يستعيض منه أحد ... الطبائع البشرية مجبولة بالشهوة والغضب والتحاسد والتنازع والإجماع مظنة ذلك، فيقع بسبب الإجماع الهرج والمرج ويختل أمر النظام، فلا بد من معاملة وعدل يجمعها قوانين كلية هي الشرع، فلا بد من شريعة ناظمة لأمور نوع الإنسان ... الشريعة لا بدّ لها من واضع يمتاز عن بني نوعه بخاصة من اللّه تعالى هي المعجزة، لأن الشريعة لو فوّضت الى بني آدم لوقع منهم النزاع في وضعها وكيفيته ومن يستقل به، وتلك المعجزات قد يكون قوله وقد يكون فعله(2).

وفي سرده للفوائد والمصالح المترتبة على بعثة الأنبياء يذكر النقاط الآتية :

أوّلاً: الأخبار القطعية بوقوع العقاب على المذنبين؛ لأنّ العقل لا يحكم بأكثر من

ص: 58


1- المصدر السابق، ص 217 و 226.
2- مناهج اليقين، العلامة الحلّي، ص276؛ الباب الحادي عشر،العلامة الحلي، ص35.

استحقاقهم للعقوبة، أمّا وقوعها عليهم، فليس له حكم يخصّ ذلك، وما من شكّ في تأثير هذه الأخبار للحدّ من ارتكاب المعاصي.

ثانياً: التعريف بالمصالح والمفاسد.

ثالثاً: تأكيد الشرع على المعارف العقلية؛ مثل: التوحيد والصفات الإلهية.

رابعاً : بيان وجوب التكاليف التي يستعصي على العقول النفوذ إلى كنهها وسبر أغوارها.

خامساً: قد تُبتلى العقول البشرية ببعض الأضداد؛ مثل: الشهوة والكراهية والوهم وما إلى ذلك، والتي قد تدعو الإنسان في بعض الأحيان إلى القيام بأمور تتعارض مع العقل، ولا سبيل للوقوف في وجه هذه القوى ومنعها أو زجرها سوى الأنبياء.

سادساً:التعريف ببعض الصفات الإلهية التي لا سبيل للعقل إلى كشفها؛مثل:الكلام الإلهي،أو السمع والبصر الإلهيين.

سابعاً: تطبيقات الحسن و القبح التي يقوم الأنبياء بكشف الستار عنها.

ثامناً:ما يقوم به الأنبياء من تبديد الخوف الذي يستولي على الإنسان،وإخراجه من الحيرة التي تسيطر على كيانه.

تاسعاً: الكشف عن المنافع والمضارّ التي في النباتات ولا يعرفها العقل البشريّ.

عاشراً: ما ينعم به الإنسان من اختفاء المظاهر الناع في الحياة الاجتماعية.

حادي عشر : الكشف عن الصناعات الغائبة والخفية عن عقول البشر(1).

وقد كتب المحقق اللاهيجي مجموعة من الفوائد المترتبة على النبوّة،واستدل بها على ضرورة ابتعاث الأنبياء قائلاً:

ص: 59


1- مناهج اليقين، العلامة الحلّي، ص 264 -265 كشف المراد، العلامة الحلي، ص216.

الدليل على ذلك [إثبات النبوّة]أنّ النبوّة تنطوي على فوائد عديدة؛مثل:تقوية العقل في الأحكام التي يستقلّ بإدراكها،ودلالتها على الأحكام التي لا يستقلّ بإدراكها،وإيقاظ العقل من هجعة الغفلة بتحصيل المعرفة الإلهية، والحصول على السعادة الأبدية-كما بيّن في مقدمة الكتاب - وإرشاد الناس إلى الضار والنافع من الأدوية والأطعمة التي يضطر الإنسان إلى استعمالها،ولا سبيل للعقل إلى معرفتها من دون تجربة،والتجربة تتطلب وقتاً،والوقت هذا لا يمكن له أن يكون خالياً عن استعمال الأطعمة والأدوية،فإنّ هذا يؤدّي إلى الهلاك، كما أنّ التجربة بذاتها قد تُفضى أحياناً إلى الهلاك، وغير ذلك من الفوائد التي لا تحصى. وما من شكّ في إمكانية وجود شخص كهذا في الجملة.وعليه:فإنّ ترك إيجاد النبيّ وإرسال الرسول يوجب إهمال الجنس البشري، وهو أفضل أجناس الكائنات،والإهمال يؤدّي إلى هلاك الجنس، ويلزم منه انتقاض الغرض.

ولهذا،فإنّ بعثة الأنبياء وإرسال الرسل واجب في الجملة.وقد ثبت أيضاً وجوب التكليف، وما من شكّ في أنّ تلقي الوحي الإلهي وتحمل الإتيان بالأوامر والنواهي الربانية ليس متاحاً لأيّ شخص، فيلزم إذن وجود شخص ممتاز يتحلّى بقابليات تؤهّله للأمور المذكورة، ويكون ذا جهتين؛ حتّى يقوم في جهة بتلقّي الوحي الإلهي،ويقوم في الجهة الأخرى بتبليغ الأوامر والنواهي للمكلّفين(1).

وقد استهوى بعض علماء أهل السنة هذا الدليل (المصالح المترتبة على النبوّة)، فأخذوا يستخدمونه في أبحاثهم،ومنهم الفخر الرازي الذي ذكر من فوائد ابتعاث الأنبياء اثنتي عشر فائدة؛منها-على سبيل المثال-:التعريف بالأحكام العقلية المستقلة وغير المستقلة،وبيان المنافع والمضار للمواد الغذائية،وقيام نظام المجتمع على أساس من القوانين العادلة،وتكامل الإنسان وفقاً لاختلافهم في القابليات،والتعرف على الصناعات النافعة،والعلم بالأحكام الدنيوية والسياسات الاجتماعية،وغير ذلك(2).

ص: 60


1- جوهر المراد(بالفارسية:گوهرمراد)،اللاهيجي، ص 359.
2- محصل أفكار المتقدّمين والمتأخرين،الفخر الرازي، ص 165-166.

4/2/3/13 .دليل الحاجة:

اختار العلامة المطهري في إثباته لضرورة ابتعاث الأنبياء أن يسلك طريق الحاجة إلى الرسالة؛فقال في هذا الصدد:

إذا ما آمنا بالآخرة وأن حياة الإنسان لا تنتهي بالموت في هذه الدنيا،بل هناك نشأة أخرى، وحياة أخرى، ونحو آخر من الرزق والسعادة والشقاء؛حيث يقول اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى:﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ 169 فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ)،إِذا ما آمنا بذلك فلا شكّ في انّ العلم والعقل الإنسانيّين غير كافيين للبحث في مسألة الآخرة،وتحديد الأشياء النافعة والضارة للسعادة الأخروية.والأكثر من ذلك أن البشرية لم تستطع أن تبلغ بعلها وعقلها وجود نشأة أخرى؛فمع كل التقدم الذي أحرزه العلم البشري،ما يزال عالم ما بعد الموت يتجلّى مجهولاً أمام البشرية. والحقيقة أنه إذا ما أردنا أن ننظر إلى المسألة بشكل عام بغضّ النظر عن أي فكرة،فعالم ما بعد الموت لم يزل مجهولاً لا يمكن للعلم أن يبتّ بأمر وجوده أو عدمه بنحو قاطع،ومن ثمّ ظلّت المسألة هذه جزءاً من مجهولات البشرية.

فإذا أخذنا إذن مسألة الآخرة التي أخبر الأنبياء أنفسهم عن أصل وجودها وأوضحوا فيها نهج السعادة ونهج الشقاء فإنّ الحاجة إلى النبوات تصير ثابتة قطعية لا مجال في للنقاش. أما الجهة التي تحتاج إلى بحث أكثر فهي تلك التي تتعلق بالحياة الاجتماعية؛ فهل تحتاج الحياة الدنيوية للبشر إلى الأنبياء حقاً أم لا؟ وهل عني القرآن بهذا الجانب أيضاً أم اقتصرت رسالته على النشأة الآخرة وحسب؟

عندما نرجع إلى القرآن نرى أن اهتمامه لم يقتصر على الآخرة وحدها، بل كانت الحياة الدنيا من أهداف الأنبياء أيضاً؛ إذ تشير لذلك الآية المعروفة : ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ).

ص: 61

وفي حديث القرآن دلالة على وجود هذه الحاجة وإيمانه بأصالتها، حتى أنه لم يذكر الهدف الآخر (أي معرفة اللّه)أبداً، بعكس المواضع الأخرى،ربما ليؤكد أن لهذا الجانب أصالته،وأنه يعكس حاجة لابدّ منها.فالقرآن يؤكّد أن العدالة من ضرورات الحياة البشرية،وأن وجود الأنبياء ضروري لازم لبسط العدالة.

ولكن ما هو موقف العلم؟وما هي نظرة الدراسات الاجتماعية؟فهل تذعن هي الأخرى لوجود ضرورة مثل هذه أم لا؟هناك بحوث وافرة يمكن سوقها حيال هذا الجانب،بيد أني سأشير إلى بحث موجز،وإذا ما كانت هناك حاجة فيمكن الاستطراد بالمزيد.

يعد الإنسان موجوداً خاصاً ينبغي لحياته أن تكون اجتماعية؛إذ لا يمكن لبني البشر إلا أن يعيشوا بعضهم مع بعض،وأن يكون بينهم ضرب من الترابط والتعاون.بيد أن الإنسان يختلف عن بقية الكائنات الاجتماعية التي تمارس حياتها بدافع الغريزة،وتلجأ إلى الحياة الاجتماعية بالإجبار.فالإنسان مدفوع للحياة الاجتماعية، ولكن ليس بحكم الغريزة،وبدافع الإجبار. وما أريد أن أقوله إن الحيوانات الاجتماعية مدفوعة لأن تعيش اجتماعياً من قبل نظام التكوين، ومسخّرة لهذا النمط من العيش بقانون الطبيعة. فالطبيعة هي التي قسّمت الاعمال فيما بينها،ونظام الخلق هو الذي وضع قانون حياتها الاجتماعية بدافع الضرورة والجبر.

والحيوانات الاجتماعية مضطرة لهذا النمط من الحياة تلقائياً من دون تعليم وتربية. أمامنا مثلاً:نحل العسل وتجربته الحياتية، فكل صنف من أصنافه يعرف وظيفته بالضرورة دونما حاجة إلى التعليم وبذل السعي لكي يعرف مسؤوليته وواجباته. فهو يعرف الطريق الذي يسلكه، والمواقع لا تتبدل. فالعاملة تمارس وظيفتها في إطار موقعها وحسب، والملكة تمارس دورها انطلاقاً من هذه المسؤولية والموقع، بل تختلف أصناف نحل العسل فيما بينها حتى في الأبنية التي تستقر فيها.

أما الإنسان فهو على عكس ذلك، فمع أنه مضطر لأن يعيش حياةً اجتماعية،

ص: 62

ولكنه يمارس كل شيء بنفسه وبإرادته لأنه موجود مختار،حر وعاقل.فعليه أن يفكّر،ثم يلجأ للاختيار على وفق إرادته. وهذا نقص في البشر من حيث الغريزة، بمعنى أنه لم يزوّد بالغريزة التي تضطرّه لذلك اضطراراً.

أما لماذا لم يزوّد الإنسان بمثل هذه الغريزة، فلذلك شأن آخر.

وما دام الإنسان قد خلق مختاراً حراً، فهو يستطيع إذن أن يتخلف عن وظيفته دائماً.وما دام يتمتع بغريزة الحياة، ويريد أن يعيش، فقد خُلق مجبولاً على طلب النفع لنفسه. فأوّل ما يفكّر به كل إنسان هو أن يسعى في المجتمع وراء أهدافه الشخصية والفردية، وليس وراء مصلحة المجمع . فأول ما يفكّر به الإنسان هو منفعته الخاصة، وليس المصلحة الاجتماعية، وهو لا يشخّص مصلحة المجتمع على نحو حسن، وإذا افترضنا أنه يفعل ذلك فهو لا يرعاها .

أما الحيوان الاجتماعي فهو يشخص المصلحة الاجتماعية بحكم الغريزة، ويسير بهذا الاتجاه، وينفذ مطلباته بدافع الغريزة أيضاً. أما الإنسان فهو محتاج من هاتين الحيثيتين كلتيهما؛محتاج إلى نحو من الهداية والتوجيه يسوقه صوب مصالحه الاجتماعية،كما هو بحاجة إلى قوة تكون مهيمنة على وجوده تسوقه وراء المصالح الاجتماعية.

وما يقال هنا هو أن الأنبياء بعثوا كي ينهضوا بالمهمتين معاً؛ فهم يهدون الإنسان ویر شدونه نحو المصالح الاجتماعية، وفي الوقت ذاته يجعلونه - وربما كانت هذه هی الوظيفة الأهم - مسؤولاً في أن يمكّن قوّة معينة باسم «الإيمان» للهيمنة على وجوده، بحيث يستطيع بحكم هذه القوة أو القدرة أن ينفّذ المصالح الاجتماعية، وأن يسعى وراء كل ما يشخّص أنه مصلحة اجتماعية؛ لا فرق بين أن يكون هذا التشخيص للمصالح بحكم الوحي أو العقل أو العلم.

ص: 63

ولو لم تكن هذه السلطة للدين والأنبياء موجودة بين بني البشر في الماضي والحاضر،فإنّ أصحاب هذا الرأي يذهبون إلى اندثار البشرية وعدم وجودها على الأرض بالأساس؛ إذ كانت البشرية قد أكلت نفسها ، ودمرّت وجودها بذاتها.

إن البشرية والحضارة الموجودتين الآن على سطح الأرض مدينتان للأنبياء؛فالأنبياء نهضوا بهداية البشرية، كما حموها من شرّ نفسه في الوقت ذاته. بل مع كل تقدم أحرزته الإنسانية على خط رقيها العلمي وتكاملها العقلي،فإنّ دور الأنبياء ما يزال محفوظاً.فما تملكه الإنسانية المعاصرة من إرث تربوي يعود منشؤه إلى الأنبياء، والقدر الذي تحظى به من الإنسانية يعود هو الآخر إلى تأثير الكتب السماوية.

وإذا ما قُدّر لنا أن نسلب بقوة وكيفية ما هذه البقايا وذلك الموروث من البشرية على نحو تامّ، فإن ذلك سيعني اضمحلال الروح الإنسانية، وسيتساوى ذلك مع فناء البشرية بالضرورة. فمن دون تلك الروح ستتحول البشرية إلى موجودات وحشية لا حظّ لها من الحياة الاجتماعية. ومن ثمّ سيكون الجميع مضطرين للعيش بعضهم مع بعض، ولكن ليس كما تعيش مجموعة من الأسود والسباع الضارية .

ومردّ الاختلاف يعود إلى التفاوت الموجود بين أفراد البشر؛ إذ ستتحول حياتهم إلى غابة يعيش فيها قطيع من الغنم، ومجموعة من الذئاب والثعالب والنمور، وعدد من الجمال والخيول يفترس بعضها بعضاً، ويسحق القوي فيها الضعيف.

هذه خلاصة وددت أن أبدأ بها،ولا أدري إذا كان من الضروري أن أستفيض بهذا البحث أكثر أم لا. إنّ ما مرّ يعكس بعبارة أخرى بحث «الحاجة إلى الدين»، ولماذا تحتاج الإنسانية إلى الدين في حياتها الاجتماعية. لقد عرضت جوهر الفكرة، وإذا ما كانت ثمة ضرورة فسأزيد. وهكذا يتضح من العرض بأن علل الحاجة إلى النبوّة تمثلت بأمرين؛هما:الآخرة، والحياة الاجتماعية والفردية(1).

ص: 64


1- النبوّة(النسخة المعرّبة)،المطهّريّ، ص 49-54.

3/3/13 .الضرورة الفلسفية لابتعاث الأنبياء:

استدلّ الفلاسفة المسلمون - ومنهم الفارابي وابن سينا والسهروردي وصدر الدين الشيرازي - على لزوم بعثة الأنبياء مستهلّين بذكر مقدمات تناولت الجانب الاجتماعي في الإنسان، وفيما يأتي نستعرض بعضاً من تقريرات الفلاسفة لضرورة ابتعاث الأنبياء:

1/3/3/13 .بيان الفارابيّ:

تطرّق الفارابي لتقسيم المدينة إلى فاضلة وغير فاضلة، ثمّ لأنواع المدن غير الفاضلة، ومبدأ ضرورة الحياة الاجتماعية عند الإنسان ليصل من خلال ذلك إلى ضرورة وجود النبيّ (1).

وحسب رؤية الفارابي فإنّ وجود الرئيس الفاضل والنبيّ ضروريّ؛ لأنّ حسن المعاش وصلاح المعاد مرهون بمشاركة مجموعة من الناس في المدينة، ولأنّ علاقات هؤلاء الناس وتعاملاتهم تستوجب الحاجة إلى العدل، ولا يتحقق العدل من دون وجود القانون والسياسة المدنية، فإنّ الحاجة إلى واضع النواميس أمر مسلّم وطبيعي، وواضع النواميس هو الشخص الذي يُحدّد صلاح معاش الناس ومعادهم، وهو صاحب النفس القدسيّة، وهو بعد هذه الصفات شخص يمتاز عن جميع الناس. وللنبي أن يتصرف في مواد الكائنات، وذلك بمعنى أنه يمتلك نفساً ناطقةً بلغت حدّاً من القوّة جعلته تتشابه مع عالم العقول، وأصبحت بعد ذلك النقوش الثابتة في اللوح المحفوظ منتقشة في روحه القدسية. وقد أمسى جسم العالم الكبير بقواه الطبيعية محكوماً لما تمليه روحه القدسية. ولهذا، فهو قادر على فعل المعجزات وخوارق العادات، ولأجل ما يتحلّى به من صفاء ونقاوة، ولأنه منزّه عن جميع مكدِّرات عالم الطبيعة، فهو عالم بالأسرار والصفات والغيبيات من دون الحاجة لكسب العلم عند

ص: 65


1- أفكار أهل المدينة الفاضلة، الفارابي،ص280-293.

أقرانه من البشر ، وعلمه مأخوذ من عالم الملكوت والملائكة، وهو يُبلّغه إلى عامّة الخلق حيث يهديهم إلى جادّة السعادة الدنيوية والأخرويّة(1).

وعند تطرّقه لبيان السمات والشروط التي يتحلّى بها رئيس الأمّة الفاضلة والمدينة الفاضلة يذكر الفارابي أنه تامّ الأعضاء، فطن، ذو ذاكرة ثاقبة، وذكاء حادّ، وذو بيان فصيح،محبّ للعلم،ومنقاد للحكمة،ومنزّه عن الحرص والولع في الأكل والشرب والنكاح،مجتنب للهو واللعب،محبّ للصدق والصادقين،عدوّ للكذب والكاذبين، كريم النفس،توّاق للعدل والعادلين،وخصم للظلم والظالمين، راسخ في قراره وعزمه،محتقر للدرهم ،والدينار معرض عن الدنيا، ومقترن بالوحي الإلهيّ (2).

وقد أضاف الفارابي إلى مواصفات رئيس المدينة الفاضلة سمةً أخرى هي معرفته بعلم الفقه؛ لأنّ الفقه ضروري في إدارة المجتمع، وفي الأحكام العملية للأمّة(3).

وقد عرّفه الفارابي بأنه الفقيه الحكيم الحافظ للآثار المتبقية من الرئيس الأوّل،وقد أسماه ب«ملك السنّة»، وقال:

والثالث أن لا يوجد [هؤلاء أيضا ] فيكون رئيس المدينة حينئذ هو الذي اجتمع فيه إن كان عارفاً بالشرائع والسنن المتقدّمة التي أتى بها الأوّلون من الأئمّة ودبّروا بها المدن. ثمّ أن يكون له[جودة تمييز الأمكنة والأحوال التي ينبغي أن تستعمل فيها تلك السنن على حسب مقصود الأوّلين بها،ثم أن يكون له] قدرة على استنباط ما ليس يوجد مصرّحابه في المحفوظة والمكتوبة من السنن القديمة محتذيا بما يستنبط منها حذو ما تقدّم عن السنن.ثم أن تكون له جودة رأي وتعقّل في الحوادث الواردة شيئاً شيئاً ممّا ليس سبيلها أن تكون في السير المتقدّمة ممّا يحفظ به عمارة المدينة، وأن يكون

ص: 66


1- الفارابيّ ،رضا داوري (مصدر بالفارسيّة)، ص 244-245.
2- الملّة ونصوص أخرى، الفارابي، البند 1، ص 44.
3- المصدر السابق، ص 50-52 .

له جودة إقناع وتخييل ويكون له مع ذلك قدرة على الجهاد. فهذا يسمّى ملك السنّة، ورئاسته تسمّى مُلكاً سنيّاً.والرابع الّا يوجد إنسان واحد تجتمع فيه هذه كلّها ولكن تكون هذه متفرّقة في جماعة،فيكونون بأجمعهم يقومون مقام ملك السنّة، وهؤلاء الجماعة يسمّون رؤساء السنّة(1).

وحسبما بيّن فإنّ سمات الملك السنيّ أو السلطان القانوني على النحو الآتي:

أوّلاً : أن يكون عارفاً بالشرائع والسنن المتقدمة التي وضعها الرئيس الأول وخلفاؤه، وأن يدير دفّة المدينة على أساس من ذلك.

ثانياً: أن يتحلّى بفضيلة الإلمام بمقتضيات الزمان والمكان.

ثالثاً :أن يكون قادراً على استنباط السنن، وقادراً على الاجتهاد واتخاذ الآراء الجديدة مستفيداً من التراث المحفوظ الذي وصل مكتوباً عن الرؤساء السابقين.

رابعاً: أن يكون حائزاً على فضيلة امتلاك الرأي،والتعقّل في الأمور المستحدثة،يجتهد فيها،ويستخرج الإجابة التي تلبّي حاجة المدينة في ذلك العصر.

خامساً: أن يمتلك الفضيلة والمقدرة والأهلية التي تمكّنه من إقناع أهل المدينة والنفوذ إلى قلوبهم عن طريق قواهم المتخيلة .

سادساً: أن يكون قادراً على الجهاد.

2/3/3/13 .بيان ابن سينا:

تطرّق الشيخ الرئيس ابن سينا في إلهيات الشفاء بنحو تفصيلي إلى ضرورة ابتعاث الأنبياء من خلال استخدامه لدليل العدالة الاجتماعية(2).

ص: 67


1- فصول منتزعة،الفارابي، فصل 58، ص 67.
2- الشفاء (الإلهيات)، ابن سين،المقدمة العاشرة،الفصل الثاني والثالث.

وقد تناول بحث ضرورة بعثة الأنبياء وحاجة الإنسان إلى الدين بأدلة أوضح،وبتنسيق أجود في كتاب«الإشارات والتنبيهات»؛ حيث قال:

لما لم يكن الإنسان بحيث يستقلّ وحده بأمر نفسه لا بمشاركة آخر من بني جنسه، وبمعاوضة ومعارضة تجريان بينهما يفرغ كل واحد منهما لصاحبه عن مهم لو تولاه بنفسه لازدحم على الواحد كثير ، وكان مما يتعسر إن أمكن وجب أن يكون بين الناس معاملة وعدل يحفظه شرع يفرضه شارع متميز باستحقاق الطاعة لاختصاصه بآيات تدل على أنها من عند ربه، ووجب أن يكون للمحسن والمسيء جزاء من عند القدير الخبير. فوجب معرفة المجازي والشارع. ومع المعرفة سبب حافظ للمعرفة ففرضت عليهم العبادة المذكرة للمعبود،وكررت عليهم ليستحفظ التذكير بالتكرير حتى استمرت الدعوة إلى العدل المقيم لحياة النوع ، ثم زيد المستعمليها بعد النفع العظيم في الدنيا الأجر الجزيل في الأخرى، ثم زيد للعارفين من مستعمليها المنفعة التي خصوا بها فيما هم مولون وجوههم شطره(1).

ويمكن استخلاص هذا الاستدلال في ما يأتي:

أوّلاً : لا يستقلّ الإنسان في أمور حياته؛ فهو مفتقر للغير في مأكله وملبسه ومسكنه و في غير ذلك؛ لأنّ كلّ هذه الاحتياجات لا تُسدّ على يد رجل واحد، ومن دون هذه الأمور تكون الحياة مستحيلة أو تكون مقرونة بالعسر والحرج الشديدين.

ثانياً: يلزم من أجل رفع هذه الاحتياجات وتسهيل أمرها أن يتعاون الناس ويتشاركوا فيما بينهم في الأخذ والعطاء، وعليه فإنّ الإنسان يحتاج في حياته ومعيشته طبيعياً للمجتمع والحضارة.

ثالثاً: ليس من الممكن أن تجد المجتمع والحضارة من دون وجود العدالة.وذلك لأنّ الشهوة والغضب يجرّان الإنسان إلى هاوية الظلم والهرج والمرج.

ص: 68


1- الإشارات والتنبيهات ابن سينا،ج 3،ص 371-373.

رابعاً: نستنتج أننا محتاجون للشريعة من أجل أن تتحقق العدالة.

خامساً: تتطلّب الشريعة مُشرِّعاً ومُقنِّناً يضع فيها الشرائع ويسنّ القوانين.

سادساً: يجب أن يتّصف المشرِّع والمقنِّن بمجموعة من الصفات والمؤهِّلات التي تجعله مستحقّاً للطاعة عند نشوب الهرج والمرج وبروز النزاعات في المجتمع، فيلجأ الناس إلى طاعته فزعاً من الهرج والمرج.وعليه: يجب أن يكون منصوباً من قِبل اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالى.

سابعاً: لأجل أن يكون المشرِّع مستحقّاً للطاعة، يجب أن يمتلك من الآيات والمعجزات ما يدلّ على ارتباطه باللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالى،وانتساب شريعته إلى اللّه عَزَّ وَجَلَّ. ويمكن لهذه المعجزات أن تكون قولية أو فعلية، فمن الضروري إذن أن يتحلى المشرۀع بالمعجزة.

ثامناً:لأجل أن يُضمن تنفيذ القوانين والتشريعات الإلهية، ويُضمن تطبيقها على الأرض - لا سيّما لزمرة من ضعفاء العقول الذين لا يتردّدون في الإخلال بالنظام الاجتماعي لأجل مصالحهم الخاصّة - يتوجّب تثبيت نظام الثواب والعقاب للمطيعين والعاصين؛حتّى يتأكّد التزامهم بالأوامر والنواهي الإلهية،ويتحتّم تشريع عبادات وأفعال تحقّق الاتصال الخاصّ والمباشر بين الإنسان وربّه، تضمن حالة الذكر المستمرّ للإنسان.

تاسعاً : بعد أن احتاج العباد إلى هذه الأمور، وتوقّف انتفاع الناس على تحقّقها،اقتضت العناية الربّانية أن تلبّي هذه الحاجة.

عاشراً: الحصيلة التي نخرج بها أن الحفاظ على الحياة الاجتماعية وحاجة الإنسان إلى التشريعات الإلهية يستلزم وجود الأنبياء والشرائع والدين بالضرورة.

ولكنّ برهنة الشيخ الرئيس التي اختصّها بحاجة الإنسان الاجتماعية إلى الدين لا تخلو من إشكال؛ لما يأتي:

ص: 69

أوّلاً: أن لازم قوله أن تكون الآخرة لأجل الدنيا؛ وليس العكس! توضيح ذلك: أن الدنيا والآخرة وفقاً للأدلة العقلية والنقلية هما الظاهر والباطن لحقيقة واحدة،وأن الجنة والنار إنما هي باطن أعمالنا الدنيوية، أو قل:هي نتيجة هذه الأعمال. أما الدنيا فهي ظاهر الآخرة، أو قل:مقدّمتها.

يقول الرسول الأعظم:«الدنيا مزرعة الآخرة»،فالآخرة هي الأصل، والدنيا فرعٌ لذلك؛ في حين أنّ بيان ابن سينا يُشير إلى أنّ الدنيا والحاجات الدنيوية والقوانين الاجتماعية هي الأصل، وكأنّ اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالى قد أتى بقضايا الذكر الإلهي والمعاد والأفعال العبادية من أجل أن يضمن بها تنفيذ تلك القوانين، ولكي لا تُنسى أو يُمحى ذكرها. وهذا يعني أنّ الآخرة وسيلة يُتوسّل بها لإعمار الدنيا؛ وهو أمر لا يتماشى مع التعاليم الدينية، ولا مع العقل.

ثانياً : هذا الاستدلال يعاني من مشكلة الدور؛ لأنّ ضرورة ابتعاث الأنبياء وحاجة الإنسان إلى الدين في برهان ابن سينا مرتهن بضرورة المعاد والإيمان بالحياة في الآخرة، فإذا احتجنا لإثبات المعاد والحياة الأخروية إلى الدليل النقلي (مثل: الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة)فقد وقعنا في الدور؛ لأنّ حجية الآيات والأحاديث متوقّفة على ضرورة بعثة الأنبياء. اللهم إلا أن يُقال بأنّ المعاد يثبت بالدليل العقلي الصرف؛ وهو متوقف على مقدّمات أبحاث الإلهيات،وليس أبحاث النبوّة، فعندئذٍ يرتفع الدور.

3/3/3/13. بيان السهرورديّ:

أوضح شهاب الدين السهروردي - الشهير بشيخ الإشراق - برهان العدالة الاجتماعية في أكثر من رسالة ألفها؛ منها على سبيل المثال: «التلويحات» التي اختطّ فيها نهج الفلاسفة المشّائين في التعاطي مع ضرورة بعثة الأنبياء، متبعاً في ذلك منحاهم الحقوقيّ الجانح إلى مسلك العدليّة(1).

ص: 70


1- مجموعة مصنّفات السهرورديّ (التلويحات)، ج 1، ص 95-96.

وقد أورد شيخ الإشراق هذا التقرير وإيضاحاته في رسالته الموسومة ب«پرتونامه»(1)، وفي رسالة أخرى عُرفت ب«یزدان شناخت»،بيّن فيهما برهان العدالة الاجتماعية بالقول:

بعد أن خلق اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالى الإنسان وميّزه عن الحيوانات، جعل كلّ فرد في الصناعات البدنية بحاجة إلى غيره من الأفراد في الجنس البشريّ؛فإذا أراد أحدهم أن ينفرد بجميع الأشغال التي هي ضرورية في هذا العالم ويكتفي بذاته ما أمكنه ذلك لوحده إلا بمعونة الآخرين من بني جنسه ومؤازرتهم.ومثاله: الفرد الذي يخبز الخبز لغيره، والآخر الذي يُعدّ آلة الخبز للأوّل،والآخر الذي يُعدّ غيرها من الوسائل حتّى يقيموا باجتماعهم وتآزرهم وتشاركهم النظام بأسره، فكانوا محتاجين بسبب اجتماعهم لتنظيم مدنهم وتأسيس بلدانهم والقيام بأمر مصالحهم، والظروف الملائمة للمدن والبلاد، وهكذا يتحقّق نظام العالم، ولأجل الحفاظ على وجود الإنسان وبقاء جنسه لا محيص عن التعاون فيما بين بني البشر، ولا يتمّ أمر التعاون من دون المعاملة، ولا يتمّ أمر المعاملة من دون قانون وعدالة، ولا يتمّ أمر القانون والعدالة إلا بما تُسنّ به القوانين،وتُبسط به العدالة، ومن الواجب بطبيعة الحال أن يكون القانون والعدل مستمرّين ومستقيمين، فكانت الحاجة لحضور شخص النبيّ والوليّ، وأن يكونا من جنس البشر؛ حتّى تُبسط القوانين بين الناس، ويُقضى على الظلم والجور والباطل، فكانت الحاجة لوجود هذه الشخصية أكثر إلحاحاً من وجود رموش العين، أو شعر الحاجب، أو تقعّر أسفل القدم، أو حمرة الشفاه،أو اختلاف شكل الأصابع، وما إلى ذلك ممّا هو زائد على أمر الخلق وما يتبعه من مصلحة للإنسان، وطالما أنّ الحكمة الإلهية اقتضت وجود هذه الزيادات في الخلق ممّا لا ينطوي على حاجة ما، فإنّ اقتضاء وجود هذه الشخصيّة التي تستجلب هذه المصالح العامّة وتبسطها بين الخلق أولى، وإنّ العناية الأزليّة التي اقتضت خلق مخلوقات غير ضروريّة لهي أكبر وأكمل من أن تُفرّط في مصلحة

ص: 71


1- مجموعة مصنّفات السهرورديّ(پرتونامه)، ج 3، ص 75 .

بهذه العظمة. وهنا نقول: إنّ وجود شخص مثل هذا في العالم ضروريّ، ويحظى بعدد من الفضائل(1).

4/3/3/13 .بيان صدر الدين الشيرازيّ:

لم يتطرّق صدر الدين الشيرازي في مصنّفاته الفلسفية والتفسيرية كثيراً للأبحاث المرتبطة بالنبوّة، وقد أفاد في أغلب الأحيان من المقاربات المتنوعة التي جاء بها الحكماء من أمثال ابن سينا في«إلهيات الشفاء»و«النجاة»، وما أورده الفارابي في«آراء أهل المدينة الفاضلة».يقول في معرض بيانه لبرهان العدالة الاجتماعية :

[1]:الإنسان مدني بالطبع لا ينتظم حياته إلا بتمدن واجتماع وتعاون، لأن نوعه لم ينحصر في شخص، ولا يمكن وجوده بالانفراد،فافترقت الأعداد،واختلفت الأحزاب، وانعقدت ضياع وبلاد.

[2] :فاضطروا في معاملاتهم ومناكحاتهم وجناياتهم إلى قانون مطبوع مرجوع إليه بين كافة الخلق،يحكمون به بالعدل، وإلا تغالبوا وفسد الجميع واختل النظام،لما جبل عليه كل أحد من أنه يشتهي لما يحتاج إليه ويغضب على من يزاحمه. وذلك القانون هو الشرع.

[3] :ولا بدّ من شارع يعين لهم منهجاً يسلكونه لانتظام معيشتهم في الدنيا، ويسنّ لهم طريقاً يصلون به إلى اللّه، ويذكرهم أمر الآخرة والرحيل إلى ربهم وينذرهم بيوم (يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ ﴾(2)،و(وتَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سَرِاعاً)(3)،(ويَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُستَقِیمٍ)(4).

ص: 72


1- المصدر السابق (يزدان شناخت)،ج 3 ،السهرورديّ، ص 453-455.
2- سورة فصّلت: 44.
3- سورة ق: 44.
4- سورة فصّلت: 44.

[4]:ولا بدّ أن يكون إنساناً؛ لأنّ مباشرة الملك لتعليم الإنسان وتصرّفه فيهم على هذا الوجه فيهم،ممتنع ودرجة باقي الحيوانات أنزل من هذا.

[5]:ولا بدّ من تخصصه بآيات من اللّه دالة على أن شريعته من عند ربّه العالم القادر الغافر المنتقم،ليخضع له النوع ويوجب لمن وقف لها أن يقرّ بنبوّته وهي المعجزة...

[6] :فهذا النبيّ يجب أن يفرض على الناس في شرعه العبادات. منها، وجوديّة يخصهم نفعها؛ كالأذكار والصلوات، فيحرّكهم بالشوق إلى اللّه تعالى، أو نافعة لهم ولغيرهم؛كالقرابين،والزكوات،والصدقات، وعدميّة يخصّهم أيضاً، ويزكّيهم؛ كالصوم(1).

وفي المحصّلة فإنّ ابتعاث الأنبياء من وجهة نظر صدر الدين الشيرازيّ هي صمّام الأمان للحياة الاجتماعية وحاجة المجتمع إلى القانون الشرعي الصادر من اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالى المقترن بالعدالة الاجتماعية. ويجب التنويه هنا بأنّ الحكيم الشيرازيّ يؤمن بوظائف وفوائد أخرى لجميع الأحكام الشرعية سواء الفردية منها أو الاجتماعية، وكذا الإيجابية أو السلبية علاوةً على ما ذكره من موضوع العدالة. وقد أورد هذا الاستدلال أيضاً في كتابه «الشواهد الربوبية في المناهج السلوكية»(2).

وقد تابع سلفه الفارابي في نصّ آخر، وتطرّق لضرورة بعثة الأنبياء بقوله:

[1]: الإنسان لم يمكن أن ينال الكمال الذي لأجله خلقت إلا باجتماعات جماعة كثيرة متعاونين كلّ واحد منهم لكلّ واحد ببعض ما يحتاج إليه، فيجتمع مما يقوم به جملة الجماعة جميع ما يحتاج إليه في قوامه وفي بلوغه إلى كماله.

[2]:ولهذا كثرت الاجتماعات الإنسانية:فمنها الكاملة، ومنها غير الكاملة؛

ص: 73


1- المبدأ والمعاد،صدر الدين الشيرازي، ص 488-489 .
2- الشواهد الربوبية، صدر الدين الشيرازي، ص 359-361.

فالأولى:ثلث عظمى كاجتماعات أفراد الإنسان كلها في المعمورة من الأرض، ووسطى كاجتماع أمة في جزء من المعمورة،وصغرى كاجتماع أهل مدينة في جزء من أمة.والثانية:كاجتماع أهل القرية،وأهل المحلة، والسكّة، والبيت...

[3]:فالخير الأفضل والكمال الأقصى إنما ينال بالمدينة الفاضلة والأمة الفاضلة التي يتعاون مدنها كلها على ما ينال بها الغاية الحقيقية،والخير الحقيقي دون المدينة الناقصة، والأمّة الجاهلة التي يتعاونون على بلوغ بعض الغايات التي هي الشرور ...

[4]: كذلك المدينة أجزاؤها مختلفة الفطر، والطبائع متفاضلة الهيئات بحسب عناية اللّه على عباده، ووقع ظلال من نور صفاته العليا وأسماء الحسنى على خلقه وبلاده، كوقوع ظلال من صفات النفس الناطقة وأخلاقها على خلائق البدن، وبلادها من القوى والأعضاء.

[5]: ففيها إنسان واحد هو رئيس مطاع، وآخرون يقرب مراتبها من الرئيس...

[6]:ويكون ذلك الإنسان إنساناً قد استكملت نفسه، وصارت عقلاً بالفعل، وقد استكملت قوّته المتخيّلة بالطبع غاية الكمال،وكذا قوّته الحسّاسة والمحركة في غاية الكمال ... فبقوّته الحساسة والمحركة يباشر السلطنة، ويجري الأحكام الإلهية، ويحارب أعداء اللّه، ويذبّ عن المدينة الفاضلة، وتقاتل المشركين والفاسقين من أهل المدينة الجاهلية والظالمة والفاسقة، ليفيئوا إلى أمر اللّه . وبقوّته المتخيلة معداً بالطبع ليقبل إما في اليقظة، أو في وقت النوم عن العقل الفعال، أما الجزئيات بأنفسها، وأما الكليات بحاكيها. وبقوته العاقلة يكون بحيث قد استكمل عقله المنفعل بالمعقولات حتى لا يكون بقي عليه منها شيء وصار عقلاً بالفعل.

[7]: فأيّ إنسان استكمل عقله المنفعل بالمعقولات كلّها وصار عقلاً بالفعل ومعقولاً بالفعل وصار المعقول منه هو الذي يعقل حصل له عقل بالفعل، فيصير عقلاً مستفاداً ...

ص: 74

[8]:وهذا إذا حصل للجزء النظريّ من قوته الناطقة هذا الإنسان حكيماً يسمى وفيلسوفاً. وإذا حصل ذلك في كلا جزأي قوته الناطقة، وهما النظرية والعملية، وفي قوته المتخيلة، كان هذا الإنسان هو الذي يوحى إليه، فيكون اللّه عز وجل يوحي إليه بتوسط الملك الذي هو العقل الفعال، فيكون بما يفيض عن اللّه تبارك وتعالى إلى العقل الفعال، ولفيضه العقل الفعال إلى عقله يفيضه منه إلى عقله المنفعل حكيماً فيلسوفاً وولياً، وبما يفيض منه إلى قوته المتخيلة نبيّاً منذراً(1).

وقد أشار الحكيم الشيرازيّ-في حديثه عن درجات الإنسان - إلى درجة النبوّة وصفات النبيّ وصرح قائلاً:

للإنسان مقامات ودرجات متفاوتة بعضها حسّيّة، وبعضها خياليّة، وبعضها فكريّة، وبعضها شهوديّة.وهي بإزاء عوالم مرتبة بعضها فوق بعض:فأوّل منازل النفس الإنسانية درجة المحسوسات...وبعد ذلك درجة المتخيّلات...وبعد ذلك وهو منزلة الثالث درجة الموهومات ... وبعد هذا يترقى إلى عالم الإنسانية فيدرك الأشياء التي لا يدخل في حس ولا تخيل ولا وهم ... ويدرك الأشياء الغائبة عن الحسّ والخيال والوهم، ويطلب الآخرة والبقاء الأبديّ. ومن هاهنا، يقع عليه اسم الإنسانية بالحقيقة؛وهذه الحقيقة هي الروح ... الإنسان البالغ حدّ الكمال ملتئم من عوالم ثلاثة من جهة مبادي إدراكاته الثلاثة:قوّة الإحساس،وقوّة التخيّل، وقوّة التعقّل...جوهر النبوّة كأنه مجمع الأنوار العقليّة والنفسيّة والحسّية(2).

وله مقاربة أخرى بشأن ضرورة بعثة الأنبياء، وهي ترتكز على استعراض منافع العبادات والالتزام العملي بالأعمال المحلّلة والمحرّمة والمكروهة والمندوبة والمباحة؛حيث يقول في هذا الصدد:

ص: 75


1- المبدأ والمعاد،صدر الدين الشيرازي، ص 490-493.
2- الشواهد الربوبية،صدر الدين الشيرازي،ص 337-345.

أمّا سرّ الصلاة فخشوع الجوارح،وخضوع البدن بعد تنظيفه وتطهيره...وأمّا الصوم فيكسر به قوّة الشهوة الغالبة،ويضعف صورة أعداء اللّه فيك،ويسدّ مجاري جنود إبليس؛وهو جُنّة من النار...(1)

وقد أورد فوائد أخرى لإرسال الرسل وإنزال الكتب؛منها :تكميل النفوس الإنسانية الضعيفة(2).وبمقاربة معرفيّة إبستمولوجية يقول صدر الدين الشيرازي:

قد علم أن فهم رموز القرآن وأغواره وأسراره مما لا يمكن حصوله بدقة الفكر وكثرة البحث والنظر من غير طريق التصفية والمراجعة إلى أهل بيت الولاية واقتباس أنوار الحكمة من مشكاة علوم النبوّة(3).

وهذه المعارف الإلهية سيما ما يتعلق بأحوال المعاد مما لا يستقل بإدراكه العقول البشرية على طريقة النظر البحثي بل يحتاج إلى اقتباس النور من مشكاة خاتم النبوّة.(4).

ولأجل أن يبرهن على حاجة العقل إلى الشريعة والطريقة في الإدراك يعمد الحكيم الشيرازي إلى الردّ على شبهات بعضهم من أمثال فخر الدين الرازي وابن أبي الحديد(5)،مستشهداً بالأحاديث الشريفة المرويّة عن أئمة الدين: الواردة في زوال العقل بطول الأمل والشهوات وهوى النفس(6).

وبعد اتضاح أنّ قدرة العقل على المعرفة الصحيحة مشروطة ببعض الشروط المعيّنة - ومنها: الإفادة من الدين والنبوّة - يُطرح السؤال الآتي: هل إنّ العقل قادر

ص: 76


1- الشواهد الربوبية، صدر الدين الشيرازي، ص 368-369.
2- الأسفار الأربعة، صدر الدين الشيرازي، ج 7، ص 19-22.
3- مفاتيح الغيب،صدر الدين الشيرازي، ص 81.
4- مفاتيح الغيب، ص 679. راجع أيضاً:متشابهات القرآن،ص 86؛تفسير القرآن الكريم، ج 2، ص 79-80 وكلّها لصدر الدين الشيرازيّ.
5- متشابهات القرآن، ص 79-78.
6- شرح أصول الكافي، ج 1، ص 366.

على فهم الشريعة والقضايا الدينية أيضاً؟ يجيب الحكيم الشيرازي على هذا السؤال بالإيجاب، لكنّه يلاحظ أيضاً الفوارق الثابتة بين العقول(1)؛ فعلى سبيل المثال: علماء الدنيا الذين يمتلكون مرتبةً عقليةً متدنّية ليسوا قادرين على تفسير الشريعة، وهذا الأمر منحصر في علماء الآخرة، والراسخين في العلم بأسرار الدين وحِكَم الشريعة(2).

ويعترف صدر الدين الشيرازي بإمكانية قدرة الإنسان على فهم الشريعة التي أتت لهدايته كما يرى أنّ خلاف ذلك ليس إلا نقضاً لغرض المُشرِّع(3).

هذا، ويختلف أنموذج المقاربة التي يوظّفها صدر المتألّهين عن نظائرها عند المعتزلة والأشاعرة وأهل الحديث؛ فهو لا يعتمد على العقل بنحو مفرط ومتطرِّف، كما أنه لا يُعطّل العقل بنحو تامّ، وليس من منهجه أيضاً أن يسير شطراً من الطريق بمؤازرة العقل، وشطراً آخر منه متكئاً على الشرع كما صنع الأشاعرة، بل يسلك سبيل الراسخين في العلم حينما يختار الطريقة الوسطى، فيمارس تهذيب النفس وتنوير العقل من أجل تمهيد الطريق لتفسير القضايا الدينية ومتشابهات القرآن الكريم، فيمضي في هذا الدرب مستنيراً بنور المكاشفة، ومستر شداً ببصيرة العقل(4).

يمكن لنا من خلال هذا الأنموذج استنتاج أن دائرة العقل والدين مندكّتان و ممزوجتان بحيث لا يمكن الفصل بينهما بحال؛ فالدين يمهّد الطريق لحصول المعرفة بما يقدّمه من أعمال وأحوال ، كما أنّه منتج للمعرفة في بعض الجوانب الأخرى(5).

4/3/13 .الضرورة العرفانية لابتعاث الأنبياء:

يوظّف العرفاء في فهمهم للحقائق المنهج الشهوديّ، ولم يكونوا في وارد البرهنة

ص: 77


1- شرح أصول الكافي، ج 1، ص 227 و 240.
2- متشابهات القرآن، ص 76.
3- تفسير القرآن الكريم، ج 1، ص 205-206.
4- مفاتيح الغيب،ص 73-74 ؛متشابهات القرآن، ص 6-7 و 90-93.
5- شرح أصول،الكافي، ج 1، ص 237 و 240 - 241.

على مكاشفاتهم العرفانية. ولعلّ أوّل عارف إسلاميّ مارس عقلنة القضايا العرفانية وشرحها هو محيي الدين بن عربيّ، ثمّ أتباعه الذين انتهجوا نهجه في البرهنة وإلقاء الضوء على المشاهدات العرفانية.

لقد أطبق العرفاء المسلمون على ضرورة الشريعة ووجوب وجودها.

يقول السيد حيدر الآملي: الشرع وضع إلهيّ وترتيب ربّانيّ، واجب على الأنبياء والأولياء. القيام به، والأمر بإقامته؛ أعني : واجب عليهم تكميل مراتبه الثلاثة الجامعة لجميع المراتب(1).

وقد ذهب العرفاء إلى أنّ طريق الوصول إلى مقام الحبّ والمعرفة هي الشريعة:

واعلم أنّ الطريق الحقّ الذي طلب اللّه سبحانه بمثل قوله: «أحببت»، أو «أردت أن أعرف فخلقت الخلق»، أن يعرفوه به هو ما جاءت به ألسنة الشرائع المنّزلة على الرسل صلوات اللّه عليهم أجمعين(2).

وبناءً على ذلك، يُقام الدين من خلال الانقياد إلى الأوامر والأحكام الواردة في الشريعة، وبهذا يحصل الإنسان على الكمال، ويُكتب في السعداء(3). أما منصب التشريع والتقنين، وكذلك نسخ بعضٍ من أحكام الشريعة التي وُضعت من ذي قبل فلا يجري إلا للنبيّ والرسول(4).

إنّ سرّ انقطاع نبوّة التشريع والرسالة بالنبيّ الخاتم يكمن في أنه .امتلك مقاماً جامعاً لم يُبقِ مجالاً لأحد من الخلق بعده. ولهذا، كانت شريعته خالدة ومهيمنة على ما

ص: 78


1- جامع الأسرار،حيدر الآملي، ص 359.
2- المقدّمات من كتاب نص النصوص في شرح فصوص الحكم ، حيدر الآملي، ص129.
3- راجع:شرح فصوص الحكم،الخوارزمي، ج 1، ص 318 .
4- راجع:نقد النصوص في شرح نقش الفصوص،الجاميّ، ج 1، ص 213؛ الفتوحات المكّية، ابن عربي، ج 14، ص 616،ج13،ص77،ج2،ص331،356.

سواها من الشرائع(1). وإنّ صاحب الشريعة الإسلامية كان مستجمعاً لكلّ الكلمات الإلهية، ولهذا كانت شريعة الإسلام أكمل الشرائع(2)؛فإنّ حكمة جعل الشريعة تابعة لكمال الأنبياء، ومدى صفاء بواطنهم، ومستوى ظهور تجليات الحقّ لهم، ممّا يؤهّلهم لإدراك المَلَك، وتلقّي الأحكام الإلهية، وكشف الأعيان الثابتة(3).

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ الشريعة والرسالة على الرغم من كونها قد خُتمتا وانقطعتا لكنّ باب اكتساب المعارف والحقائق الربانية من دون تشريع ما زال مفتوحاً لعباد اللّه الصالحين، كما أنّ باب الاجتهاد في الأحكام الفرعية أيضاً لم يؤصد أمام أهله(4).ولهذا السبب،انقسمت النبوّة والرسالة عند العرفاء إلى شُعبتين: إحداهما تتعلّق بالتشريع،والأخرى بالإخبار عن الحقائق الإلهية، وأسرار الغيوب،والإرشاد الباطني للعباد. فالذي انقطع وخُتم هو القسم الأوّل من النبوّة والرسالة(5).

وقد ذهب محيي الدين بن عربي إلى أنّ سبب اختصاص الشريعة بالأنبياء هو كون النبوّات والشرائع أموراً لدنّيّة وغير اكتسابيّة(6)، وأوضح أن امتداد الشريعة يشمل إرشاد الناس لطرق إعمار قلوبهم، مشيراً إلى تفريق الخواطر المحمودة والمذمومة،و بیان مقاصد الشريعة(7).

وقد اعترف بالحسن والقبح الذاتيين،واتصاف الأشياء بهما، مذعناً بمقدرة الإنسان على إدراك شطرٍ من الأمور الحسنة والقبيحة من حيث الكمال والنقص، أو

ص: 79


1- راجع:مصباح الهداية إلى الخلافة والولاية،الإمام الخميني، ص 90.
2- راجع:الفتوحات المكيّة، ابن عربي ج 2، ص 309، ج 3، ص 357.
3- راجع:شرح فصوص الحكم،الخوارزمي، ج 1، ص 589.
4- المصدر السابق، ص 483.
5- راجع:شرح فصوص الحكم، القيصري، ج 1، ص 243؛ الفتوحات المكيّة، ابن عربي، ج 3، ص 391.
6- راجع:الفتوحات المكيّة،ابن عربي، ج 4، ص 121.
7- المصدر السابق، ص 204.

الغرض،أو ملاءمة الطبع أو منافرته،وكذا عجزه عن إدراك شطر آخر من الأمور الحسنة والقبيحة،وأنّ الشرعية ضرورية لمعرفة هذا النوع الثاني(1).

وعلاوةً على ضرورة الشريعة في مقام الثبوت،يُشير ابن عربي إلى لزومها في مقام الإثبات أيضاً، مصرِّحاً بكفاية شريعة الإسلام وغنائها، وأنّ الناس بحاجة إلى الرجوع للفقهاء والعلماء من أجل معرفتها، وأنّ المرء إذا فارق الحياة من دون أن يكون عارفاً بمصطلحاتٍ؛ مثل: الجوهر والعرض، والجسم والجسمانيّ، والروح والروحانيّ، فإنّ اللّه عَزَّ وَجَلَّ لن يحاسبه على ذلك، لكنه سوف يُسأل عن تكاليفه الشرعية لا محالة(2).

و ممّن أشار إلى طريقة التصوّف في إثبات النبوّات المحقّق اللاهيجيّ عند استعراضه لمطالب الفصل الرابع من الباب الثاني من المقالة الثالثة في كتابه «جوهر المراد»؛ حيث قال:

إنّ غاية وجود الإنسان هي سيره وسلوكه نحو اللّه عَزَّ وَجَلَّ،وإِن مراتب سير السالك أربعة : الأولى : سيره من الخلق إلى اللّه بنفي ما سواه عن النفس، بل بنفي النفس عن النفس - كما تقدّمت الإشارة إلى ذلك في مقدّمة الكتاب - ومشاهدة الذات الأحدية المطلقة من دون ملاحظة التعيّنات والشؤون والاعتبارات.المرتبة الثانية: سيره في اللّه بمشاهدة الذات الأحدية باعتبار تعيّن من تعيّنات الصفات،والترقّي من تعيّن صفة إلى تعيّن صفة أخرى إلى آخر التعيّنات الصفاتية. المرتبة الثالثة: السير مع اللّه بمشاهدة الهوية المطلقة مع تعيّن من التعيّنات الخلقية الكونية حتّى لا يبقى تعيّن إمكانيّ وماهيّة اعتبارية إلا وقد شاهد فيه الهوية المطلقة حقيقة متأصلة، والماهية الإمكانية اعتبارية محضة. المرتبة الرابعة:سير من اللّه إلى الخلق، وهو عود إلى عالم الوجود الإمكاني بعد التحقّق بالحقيقة الوجوبية،بحمل الأوامر والنواهي الإلهية، والقوانين والسنن الناموسية؛ لأجل الأخذ بيد عطاشى بادية عالم الإمكان إلى واحة

ص: 80


1- المصدر السابق، ج 1، ص 206.
2- الفتوحات المكيّة،ابن عربي، ج 4، ص 161.

الحياة الخالدة، ولا يمكن إعادة التشرذم في وادي الكثرة الاعتبارية إلى جموع الوحدة الحقيقية - وهي الغاية الأصلية والغرض الحقيقي من بعثة الأنبياء والرسل - إلا من خلال ذلك . وما من شكّ في أنّ كلاً من هذه الأسفار الأربعة يترتب بعضه على بعض. والمراد من النبيّ هو المسافر بالسفر الرابع بعد طيّه للأسفار الثلاثة السابقة. ولابدّ من وجود مسافر بهذه الصفة؛ ليتزعّم قافلة السلوك من عالم الإمكان إلى مدينة الوجوب. وإنّ تزعّم هذا المسافر القائد توفيق لا يُحالف أيّ سالك إلا بعد تناسبه. ولا يخفى أنّ هذه الطريقة المذكورة من أبي عبد اللّه .مشتملة لطريقة الحكماء والمتكلمين، وهذا ظاهر غاية الظهور، أمّا اشتمالها لطريقة الصوفية فلا يخلو من خفاء. وهو ما يظهر من قوله : «مؤيَّدين عند الحكيم العليم بالحكمة»؛ فإنّ لفظ «عند» قد يومي إلى السفر الثاني والثالث:«في اللّه»و«مع اللّه»،وكلاهما متوقّف على السفر الأول؛ أي «إلى اللّه». وإنّ لفظ «المبعوثين» المذكور قبل هذا الكلام، بل لفظ«الرسول»،بل معنى«الرسالة»و«النبوّة» مُشعر بالسفر الرابع؛ كما لا يخفى(1).

4/13.شبهات حول ضرورة ابتعاث الأنبياء:

ناقش المنكرون لضرورة ابتعاث الأنبياء أو لزوم ذلك حسبما أفاده الفلاسفة والمتكلمون، وخلصوا في بعض مناقشاتهم إلى إنكار حاجة الإنسان إلى الأنبياء الإلهيين، وعمدوا إلى الطعن في الأدلّة العقلية الدالة على هذه الحقيقة. وفيما يأتي إشارات إلى جانب من تلك المناقشات:

1/4/13 .شبهة الحاجة إلى البعثة:

ذهبت جماعة من«البراهمة» إلى استحالة ابتعاث الأنبياء أو إلى لغويّة ذلك وانتفاء أيّ طائل منه؛ فقالوا: لا يخرج ما جاء به الأنبياء عن حالتين : إما أن يوافق العقل؛

ص: 81


1- جوهر المراد (بالفارسية:گوهر مراد)، الفياض اللاهيجيّ، ص 362-363.

فابتعاثهم عندئذٍ لغو لا طائل منه، أو يكون مخالفاً للعقل؛ فتكون أوامرهم حينئذ غير مقبولة.

والجواب على ذلك : أنّ ما جاء به الأنبياء على ضربين:

الأوّل: التعاليم المنسجمة مع العقل بنحو تامّ، وهي التي حكم العقل وفقاً لها؛ مثل:«حسن العدل» و«قبح الظلم».

والثاني: ما سكت عنه العقل، ولم يتطرّق له نفياً أو إثباتاً. قال تعالى: ﴿ وَيُعَلِّمُكُمُ لكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ)(1).

وهذا يدلّنا إلى أنّ قسطاً من تعاليم الأنبياء يتناول أموراً خارجةً عن دائرة العلم الاعتياديّ عند البشر .

2/4/13 . شبهة انتفاء ضرورة البعثة:

ناقش الفخر الرازي في شرحه للإشارات بعد استعراضه لدليل ابن سينا وتلخيصه في خمس مقدّمات؛ ومنها - حسب تقريره وتلخيصه - :

وأما الثانية: وهي أن الاجتماع لا يكمل إلا عند شريعة ضابطة، فلأنّ كلّ أحد يريد تحصيل جميع الخيرات والسعادات لنفسه، وذلك لأنّ الخير مطلوب لذاته، وحصول المطالب الجسمانية لواحد يقتضى فواتها عن الآخر، وذلك يقتضى وقوع العداوة في قلب ذلك الآخر، فظاهر أنّ الاجتماع سبب لظهور الخصومات والمنازعات، فلولا شريعة ضابطة، وإلّا لتأدّى الأمر الى إثارة الفتن العظيمة(2).

فقال مستشكلاً على الحكم بالتلازم في هذا البرهان بما نصّه:

ص: 82


1- سورة البقرة: 151 .
2- شرح الإشارات، فخر الدين الرازي، ج 2، ص 106 .

لقائل أن يقول : ما المعنى بقولكم: «لمّا احتاج أهل العالم إلى الشارع، وجب وجوده»؟[1]:إن عنيتم به «كونه موجوداً واجباً لذاته»، فهو ظاهر الفساد. [2]:وإن عنيتم به«أنّه يجب على اللّه تكوينه وايجاده»كما يقوله المعتزلة ان العوض واجب على اللّه تعالى أي لو لم يفعله لاستحقّ الذمّ، فذلك مما لا يقول به الفلاسفة أصلاً ! [4]:وإن عنيتم به أنّ وجود النبي لمّا كان سبباً لنظام هذا العالم وثبت أنه تعالى مبدأ لكلّ كمال وخير، وجب أن يكون تعالى علة لهذا الشخص،فهذا باطل أيضاً؛لأنّا نقول:ليس كلّ ما كان أصلح لهذا العالم، وجب حصوله في هذا العالم(1).

وهذه المناقشات مرتكزة على إنكار «قاعدة اللطف» و«قاعدة الأصلح»؛ فإذا فرضنا عدم اعتماد دليل ابن سينا على أيّ منهما - بنحو من الأنحاء - بطلت هذه المناقشات من الأساس.

بيان ذلك أن يُقال: من الممكن استبدال مفهوم«الوجوب على اللّه» وهو وجوب أخلاقي وحقوقي بمفهوم «الوجوب عن اللّه» وهو وجوب فلسفي؛ وهو يستتبع القول بأنّ العلاقة بين تلبية احتياجات الإنسان الأساسية والمصيرية من جهة، والفيض الإلهيّ أو إرادة الخير من اللّه وكمالاته اللامتناهية من جهة أخرى هي الضرورة بالقياس.ومن هنا،تتلبّس تلبية هذه الاحتياجات من خلال الفيض الإلهي اللامحدود وصدور الكمالات الربانية بلباس الوجوب الفلسفي؛ وليس الأخلاقي أو الحقوقي . يقول العلامة الشيخ مصباح اليزدي في مناقشته لهذا الاستدلال:

لم يلتفت الفلاسفة في هذا البرهان إلى الكمال الإنساني أو إلى حياة الإنسان الأبدية، والجوانب الأخروية لسلوكه، مكتفين بالتركيز على حياته الدنيوية، وحاجته إلى القوانين والمصالح الاجتماعية(2).

ص: 83


1- شرح الإشارات، فخر الدين الرازي، ج 2، ص 106.
2- معارف القرآن،مباحث السبيل والدليل (بالفارسية : معارف قرآن،راه و راهنما شناسي)، محمد تقي مصباح، ج4و5،ص38-39.

ومن هنا،اهتمّ في بحوثه حول«معرفة الدليل»و«برهان ضرورة ابتعاث الأنبياء»بالحياة الخالدة والسعادة والكمال الأبديين والأخرويين بصفتها مقصداً رئيسياً. أمّا مصالح الحياة الدنيوية فقد عدّها مقدّمةً لبلوغ ذلك.

وعلى هذا، فإنّ الحكماء - من أمثال ابن سينا - لم يتناسوا في استدلالهم هذا الحياة الأبدية والأخروية للإنسان، وأنّ المناقشة الوحيدة التي تعترضهم - حسبما نرى - منصبّة على أن «الآخرة» في دليلهم هذا مأخوذة من أجل «الدنيا»؛ في حين أنّ التعاليم الإسلامية ما فتئت تؤكّد على نظريّة«الدنيا من أجل الآخرة».

3/4/13.شبهة الأنظمة غير الدينية:

تطرّق ابن خلدون - وهو أحد المستشكلين على منهج الحكماء - إلى الأنظمة الاجتماعية المنافسة، وأتى على ذكر الأنظمة الاجتماعية الأخرى التي من شأنها أن تقدّم العمران والازدهار في الدنيا من دون الحاجة إلى الشريعة(1).

وقد ألمح المحقّق الطوسي إلى هذه المناقشة في شرحه للإشارات بقوله:

اعلم أنّ جميع ما ذكره الشيخ[ابن سينا ] من أمور الشريعة والنبوّة، ليست ممّا لا يمكن أن يعيش الإنسان إلا به، إنّما هي أمور لا يكمل النظام المؤدّي إلى صلاح حال العموم في المعاش والمعاد إلّا بها، والإنسان يكفيه في أن يعيش نوعاً من السياسة؛ لحفظ اجتماعهم الضروريّ؛ وإن كان ذلك النوع مناطاً يتغلّب، أو ما يجري مجراه. والدليل على ذلك تعيش سكان أطراف العمارة بالسياسات الضرورية(2).

وهنا يمكن أن نعلّق على كلام ابن خلدون والمحقق الطوسي بالقول:

إذا كنّا حقّاً محتاجين إلى الشريعة في حياتنا الاجتماعية فهل كلّ قانون يمكن له أن

ص: 84


1- المقدمة،ابن خلدون.
2- شرح الإشارات، نصير الدين الطوسي، ج3، ص 374.

يوفّر السعادة الدنيوية ؟ إنّ شمولية القانون و جامعيته تتطلّب - من دون شكٍّ - اهتمامه بجميع الأبعاد والجوانب الروحية والجسمية،وكذا الفردية والاجتماعية، وتستلزم أيضاً تصدّيه للاستعمار والعبودية والتسلّط على رقاب الشعوب، واقتلاعه لجذور الظلم والاستبداد، وهي تستدعي كذلك أن يكون القانون منسجماً مع الحاجة الحقيقية والطبيعية للإنسان؛ بما يضمن له تغطية شاملة لشؤونه الاجتماعية والسياسية والقانونية والأخلاقية. ومن اللازم أيضاً أن يوفّر هذا القانون لجميع الناس صمّام الأمان لتطبيقه على أرض الواقع بما يرعى مصالح مختلف الطبقات الاجتماعية ومنافعها بنحو كامل و دقيق وشامل؛ من دون استثناء أو إقصاء لطبقة معيّنة لصالح طبقة أخرى.

وهنا نتساءل: هل من الممكن للإنسان الاعتيادي الذي لا يُؤمَن عليه من مزالق العواطف والأحاسيس ودوّامات المصالح الشخصية والفئوية أن يُبلور قانوناً وضعياً يحمل جميع المواصفات المذكورة أعلاه ؟ وهل تتّصف طاعة الناس لهذا الإنسان الاعتيادي بأيّ معقوليّة أو مشروعيّة عقليّة أو شرعيّة؟ من الواضح أن الجواب على ذلك سلبيّ.

وهنا نضيف أيضاً: لم يكتفِ ابن سينا في برهانه بالتركيز على تبلور المدنية ونشأة المجتمع البشريّ من دون أن يلحظ مكانة إرساء العدل، وما يضمن تطبيق القانون، وما شاكل ذلك؛ فإنّ المذاهب الاقتصادية والسياسية والإدارية ومثيلاتها أمور لا تنفكّ عن شؤون الإنسان الدنيوية، غير أنّ الإنسان - وفي ظلّ تضارب العقل والعواطف والأحاسيس وعشرات القضايا الروحية والنفسية الأخرى – عاجز عن توحيد الرؤية ورأب الصدع والبون الشاسع الذي يُرى في بعض الأحيان بين النظريات المختلفة؛ بما لا يُبقي أيّ فرصة للعثور على نقاط التقاء واشتراك.

وعلى أيّ حال، فإننا نرى ضرورةً وحاجةً ماسّةً وملحّةً للشريعة في الحياة الدنيويّة؛ بغضّ النظر عن الموقف بإزاء الحاجة الأخرويّة.

ص: 85

4/4/13 .شبهة برهان الحكمة الإلهية:

كتب بعضهم في مناقشاته لضرورة ابتعاث الأنبياء مجموعة من النقاط(1)؛نستعرضها فيما يأتي:

1/4/4/13. المناقشة الأولى:

أحد أهمّ الأدلّة التي اعتمدها العلامة الشيخ مصباح اليزديّ في أبحاثه عن النبوّة والإمامة أنّ اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالى خلقنا مختارين، وأنّ حكمته تقتضي إيصالنا لمرتبة الكمال، وطالما أنّ وسائل المعرفة البشرية الاعتيادية ليست كافية للوصول إلى الكمال، فإنّنا إذن محتاجون للوحي.

والإشكال هنا أن يُقال: لو فرضنا ثبوت الحكمة الإلهية فإننا لا نُسلّم اقتضاءها إيصالنا للكمال؛ إذ لا دليل على ذلك ! وبعبارة أخرى:ما هو التلازم المنطقيّ المزعوم بين الحكمة الإلهية والكمال الإنساني؟ وبتعبير مختلف:الحكيم هو من تتصف أفعاله بالهدفية، والفرض أنّ اللّه تَبَارَكَ وَتَعَالى حكيم، وأنّ له غايةً تقف خلف خلقه للإنسان، لكن ما الدليل على أنّ هدفه يكمن في إيصال الإنسان إلى درجة الكمال؟

والجواب على ذلك:يكفي أن تتبلور لدينا صورة صحيحة عن معنى الحكمة الإلهية أو اتصاف اللّه تَبَارَكَ وَتَعَالى بالحكيم من أجل أن يتّضح التلازم بين الحكمة الإلهية والكمال الإنساني. لقد استفاد نصير الدين الطوسي من صفة «وجوب الوجود» ليستنبط منها بعض صفات الكمال الإلهي .

وعلى هذا الأساس، يستتبع الفهم الصحيح لمعنى«واجب الوجوب» الوصول إلى أنّ اللّه عَزَّ وَجَلَّ مستجمع الجميع صفات الكمال ، ومنزّه عن كلّ نقيصة. أما معنى الحكمة الإلهية فهو استهداف هدف فعليّ - علاوةً على استهداف هدف فاعليّ؛ وهو ذاته

ص: 86


1- نظرية الإمامة في ميزان النقد[بالفارسية: تئوري امامت در ترازوي نقد]،حجة اللّه نيكويي.

سُبحَانَهُ وَتَعَالى - والمراد بالهدف الفعليّ: رفع النقص الذي يعاني منه الفعل (المخلوق)، وهذا يعني أنّ اللّه كامل، والذي يريده متعلّق بفعله، فإمّا أن يُقال بأنه تَبَارَكَ وَتَعَالَى يريد نقص فعله، أو أنه يريد كماله. فإذا أراد نقص الفعل عاد هذا النقص إلى ذاته جَلَّ وَعَلا ؛ لأنّ الكامل المحض فيّاض بالكمال؛ لا بالنقص ! فهو إذن يريد الكمال.

وبناءً على ذلك لا محيص عن وجود تلازم منطقيّ بين حكمة اللّه وكمال الفعل الإلهيّ؛ وهو في مثالنا هذا:الإنسان.

2/4/4/13. المناقشة الثانية:

لو فرضنا ثبوت الهدفية لفعل اللّه عَزَّ وَجَلَّ ، وأن هدفه هو الكمال الإنساني، وأن عقل الإنسان غير كافٍ للوصول إلى هذه الغاية، لكن ما الدليل على أنّ تحقّق كمال الإنسان وسعادته مرهون بالوحي؛ حتى يستتبع ذلك الحاجة إلى النبيّ؟ وهل أنكم توصلتم لذلك بعد إجراء استقراء تامّ أو مسح شامل لوسائل المعرفة الإنسانية؟ فلعلّ هناك طرقاً ووسائط مغايرة أخرى يتخذها اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالى لإيصال الإنسان لدرجة الكمال ؛ منها على سبيل المثال: «الهداية الباطنية» ! فما الضرورة التي تستلزم انحصار تحقق الكمال الإنساني في الطريق المذكور؟

الجواب على ذلك : هذا الاستشكال ناشئ من عدم الالتفات إلى الأدلة والبراهين التي أقيمت لإثبات ضرورة ابتعاث الأنبياء. فإذا آمنا بأنّ اللّه تَبَارَكَ وَتَعَالى حكيم، وأنّ الإنسان يجب أن يبلغ مرتبة الكمال، يتلو ذلك أن نقول : أودع اللّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى الإِنسان عدداً من الوسائل العامة المعينة؛ كالحسّ والعقل والضمير، لكنّ هذه الوسائل ليست كافية لإيصال الإنسان إلى الكمال والسعادة. وهنا، لسنا ندعي أن طرق الهداية منحصرة في هذه الوسائل التي نملكها؛ فلعلّ هناك عشرات الطرق والوسائط الأخرى التي لم تُمنح للبشر، ولسنا هنا في صدد اكتشاف سبب حرمانه منها؛ فلربّما لم يكن البشر قابلاً لأكثر مما قد أعطي، مَثَله في ذلك مَثَل الكأس الذي له حدّ محدود؛ لا يسمح له بتقبّل مقدار زائد عليه من الماء.

ص: 87

وبناءً على ذلك، فإنّ الوسائل التي نملكها غير كافية للهداية، ولا نشكّ في أنّ هداية الإنسان أمر لازم وضروري. ومن ثَمَّ : تثبت ضرورة الوحي والنبوة.

ويمكن هنا أن نضيف مقدّمة أخرى لهذا الاستدلال؛ مفادها أن الإنسان راحل لا محالة إلى المعاد وعالم الآخرة، وأنه مفتقر لسعادة دنيوية تضمن له السعادة الأخروية، وأنّ هذه الوسائل الاعتيادية التي بين يديه لا تكفيه المؤونة لمعرفة تلك السعادة، فاقتضت الحكمة الإلهية أن تُرسل للإنسان وسيلةً أخرى لهدايته، عنوانها «الوحي»، وهدفها انتشال البشرية من الضياع، وتوفير الهداية له.وعليه : يلزم وجود واسطة أخرى بين الإنسان والوحي،وهي النبوّة.

3/4/4/13. المناقشة الثالثة:

مع فرض تماميّة برهان ضرورة الوحي، يبقى تساؤل مهمّ لم يُجب عنه لحد الآن؛ وهو : هل أرسل اللّه عَزَّ وَجَلَّ رسلاً لجميع المجتمعات البشريّة؟ إذ إنّ أكثر الرسل الذين وردت أسماؤهم في القرآن الكريم بُعثوا إلى منطقة الشرق الأوسط، وعليه إلى ماذا سيؤول أمر الشعوب التي لم يبعث اللّه لها رسلاً؟

والرد على ذلك أن يقال:لقد أورد بعض المستشرقين هذا الإشكال،وقد أجيب عليهم بعدّة ردود؛ أحدها: أنّ القرآن الكريم - ومن حيث كونه كتاب هداية لا كتاب تاريخ - قد أورد أسماء بعض الأنبياء؛ لا كلّهم، وقد ورد فيه ذكر أسماء أربعة وعشرين منهم فقط، كما أنّ القرآن الكريم قد تطرّق إلى هذا الأمر صراحة؛ حيث قال اللّه تعالى فيه مخاطباً نبيه :

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ)(1).

(إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ ﴾(2).

ص: 88


1- سورة غافر، الآية 78.
2- سورة فاطر، الآية 24.

فضلاً عن أنّ الدليل العقليّ قد بيّن ضرورة النبوّة.وبناءً على ذلك:لا يمكن أن ينقض عليه بمثال تاريخي، بل يتعيّن النقض عليه بدليل عقليّ.

4/4/4/13. المناقشة الرابعة:

لا يرتاب أصحاب هذه المناقشة في كون النبيّ محمّد خاتم الأنبياء، ومن المقبول عندهم عدم وجود أيّ نبيّ آخر في زمان بعثته ، وكذا لن يُبعث أي نبيّ من بعده إلى الأبد. وهنا يُقال: يجب أن تمضي عدّة أجيال حتّى تصل رسالة النبيّ الخاتم إلى درجة من الانتشار تمكّنها من الوصول إلى جميع سكّان العالم، ومن المعلوم أنّ النبي .استطاع أن يوصل صوته إلى الناس في زمانه؛ أي في العصر الأوّل من تاريخ الإسلام؛ وإلى أن تنتشر دعوته لتصل للمجتمعات الأخرى سيكون هناك عدد كبير من الناس - في هذه المدّة - قد فارق الحياة وهو محروم من نيل السعادة، لا سيّما أنّ كتب الأنبياء السابقين قد امتدّت إليها يد التحريف، فلو كانت بعثة الأنبياء أمراً ضرورياً؛ فكيف يمكن تبرير حرمان بعض البشر من الهداية في هذه الفترة؟

الردّ على هذه المناقشة:من الممكن أن يجاب عن هذه الإشكالية على نحوين:

أوّلاً: أنّ البرهان العقليّ لا يمكن النقض عليه بمثال واستقراء تاريخي؛ بل يجب على المستشكل أن يحلّل استقراءه؛ فالبرهان المنطقيّ لا يتسنّى إبطاله إلا من خلال نقض كبراه أو صغراه. على سبيل المثال : فلنفرض أنّ البرهان العقليّ قد قام على أنّ«كلّ إنسان حيوان ناطق» ، فلو وجدنا كائناً يشبه الإنسان؛ لكنّه لم يكن حيواناً ناطقاً، فإنّ هذا لا يؤدّي لانخرام البرهان العقليّ؛ فلعلّ ذلك الكائن لم يكن إنساناً، بل هو شيء يشبه الإنسان.

وكذا هو الحال في مقام بحثنا الذي نصبو فيه إلى إقامة برهان عقليّ على ضرورة بعثة الأنبياء، فبعد أن قام البرهان على هذا الأمر، يدرك العقل بأنّ الضرورة تقتضي

ص: 89

أن يبعث اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالى نبياً، فهل عدم علمنا بإرساله لهذا النبيّ في بعض الأماكن كالصين أو غيرها - مثلاً - يصلح دليلاً على عدم ضرورة بعثة الرسل؟ إنّ الدليل العقليّ يُثبت لزوم بعثة نبيّ في تلك المناطق أيضاً، لكن ما هو الواقع؟ هل أنّ اللّه تَبَارَكَ وَتَعَالى لم يُبعث نبياً في ذلك المكان؟ أم أنّه جَلَّ وَعَلا قد بعث نبياً ولم يصل خبره للناس؟ وما السبب الذي اقتضى عدم ابتعاث النبيّ فيما لو أنّ اللّه عَزَّ وَجَلَّ لم يرسله؟ حاصل الكلام:أنّ الاستدلال على قضيّة ما قد يكون في بعض الأحيان استقرائياً، فإذا عثرنا على مثال نقض واحد فإنّ هذا كافٍ لانخرام الاستدلال . أمّا في الحالات التي يكون فيها الاستدلال على دعوى ما مبنيّاً على البرهان العقليّ ، فإنّ مثال النقض التجريبيّ لن يجدي نفعاً، وليس من صلاحيتّه أن يخدش هذا البرهان.

ثانياً : ثبت وفقاً للأدلّة النقليّة القطعية الواردة في هذا الصدد أنّ اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى قد بعث الأنبياء إلى جميع الأقوام والملل، لكنّ الإرادة السيئة لبعض الناس قد تؤدّي إلى إضلالهم، وعدم نيلهم الهداية والسعادة. وقد يعرف الإنسان طريق الهداية لكنّه يتبع طريق الضلال بدلاً عنه، وقد يتسبّب الآخر أحياناً في منعه عن نيل الهداية؛ كأن يطوّقه في دوّامة من الشبهات العويصة المضلّة، أو أن يحول بينه وبين وصول صوت الهداية إليه، وهذه الأنحاء من وقوع الضلالة لا تؤدّي إلى انتقاض براهين ضرورة بعثة الأنبياء؛ ذلك لأنّ الأدلّة على ضرورة البعثة لا تتنافى مع اختياريّة الإنسان، بل إنّ مقدّمات تلك الأدلّة لا تُساق إلا بعد افتراض الإنسان مختاراً.

وعلى هذا الأساس، يثبت أنّ اللّه تَبَارَكَ وَتَعَالى قد أرسل لكلّ قوم نبيّاً، لكن من الممكن أن يُحرم بعض الناس من الهداية بسبب ما يقوم به أصحاب الضلالة، ولكن - بالرغم ممّا تقدّم - فإنّ الناس جميعاً يستفيدون من نعمة هداية الأنبياء مع اختلافهم في درجات تلك الاستفادة. وعليه، فإنّ حرمان بعض الناس من بلوغ الدرجات العليا من الهداية بسبب منع الآخرين لهم لا ينقض أصل برهان ضرورة ابتعاث الأنبياء.

ص: 90

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ البرهان لم يدّع ابتعاث الأنبياء لحظة بلحظة، كما أنّه لم يقطع بتخليص البشر من شرّ المعاندین، بل حاصل برهان ضرورة بعثة الأنبياء هو أنّ اللّه تَبَارَكَ وَتَعَالى يرسل أنبياءه بقصد هداية البشر لا محالة،وأما الحديث عن مصير هذه البعثة ونتيجتها في مجتمع بشريّ يتمتّع بإرادة واختيار، وبيان أن غالبية البشر سوف يكونون من المهتدين أم لا،فهي أمور سكت عنها الدليل.

وبالإضافة إلى ما تقدّم، نجد أنّ المعاندين الذين يريدون الوقوف في وجه الهداية وصدّها لا يهتمون فيما لو كان عدد الأنبياء المبعوثين قليلاً أم كثيراً، والأمر سواء عندهم أكان المبعوث واحداً أم آلافاً مؤلّفةً.

بناءً على ما تقدّم، فإنّ الدليل العقليّ قائم على ضرورة بعثة الأنبياء؛ فإن ثبت أن اللّه عَزَّ وَجَلَّ لم يبعث نبياً في مكان أو زمان ما، وجب أن نبحث عن سبب ذلك؛ فهل كان المقتضي معدوماً، أم كان هناك مانع ما ؟ أم أنّ النبي قد بعث إليهم لكنّهم لم يرغبوا في الوصول إلى الكمال، أو أنّ المعاندين من منعوهم من الوصول إلى الكمال. فما ذكر على أنّه إشكال لا يتمّ إلا إذا ثبت حرمان بعض البشر القاصرين - لا المقصّرين - إثر منع الآخرين لهم. وهنا، يجيء الكلام عن مبحث الأعواض ومبحث عالم البرزخ؛ فعالم البرزخ ليس عالماً نهائياً، واستمرار رقيّ الإنسان لدرجات الكمال ممكن فيه أيضاً.

وتجدر الإشارة أيضاً إلى أنّ الهداية والسعادة أمر ذو مراتب ودرجات،ولهذا فإنّ المجال لأولئك الناس الذين عاشوا في عصر رسول اللّه .لكنّهم لم يسمعوا بدعوته غير أنهم التزموا بدعوة الرسول السابق بالعقل والفطرة السليمين متاح في أن ينالوا قسطاً من السعادة والهداية، وهذا المقدار من الهداية كافٍ لإبطال هذه الشبهة والردّ على هذا الإشكال.

ويمكن أن نضيف هنا أيضاً أنّ بعض الناس لمّا فقدوا الدليل الكافي لنفي ضرورة بعثة الرسل عمدوا إلى اصطناع الأسباب الواهية غافلين عن كون هذا الأمر في نفسه

ص: 91

هو امتحان إلهيّ لهم. وقد ذكر اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالى حقيقة الامتحان الإلهيّ وحذّر الناس منه في عددٍ من الآيات؛ إذ قال في بعضها مثلاً:

وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ.(1)

الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ.(2)

كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرّ وَالخَيْرِ فِتْنَةٌ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ.(3)

وقد أجاب الإمام علي في خطبته القاصعة في رده على منكري النبوّة:

«وَلَقَدْ دَخَلَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ وَمَعَهُ أَخُوهُ هَارُونُ .عَلَى فِرْعَوْنَ وَعَلَيْهِمَا مَدَارِعُ الصُّوفِ وَبِأَيْدِيهِمَا الْعِصِيُّ فَشَرَطَا لَهُ إِنْ أَسْلَمَ بَقَاءَ مُلْكِهِ وَدَوَامَ عِزْهِ فَقَالَ أَلَا تَعْجَبُونَ مِنْ هَذَيْنِ يَشْرِطَانِ لي دَوَامَ الْعِزَّ وَبَقَاءَ الْمُلْكِ وَهُمَا بِمَا تَرَوْنَ مِنْ حَالِ الْفَقْرِ وَالذُّلِّ فَهَلَّا أُلْقِيَ عَلَيْهِمَا أَسَاوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ إِعْظَاماً لِلذَّهَبِ وَجَمْعِهِ وَاحْتِقَاراً لِلصُّوفِ وَلُبْسِهِ وَلَوْ أَرَادَ اللهُ سُبْحَانَهُ لِأَنْبِيَائِهِ حَيْثُ بَعَثَهُمْ أَنْ يَفْتَحَ هُمْ كُنُوزَ الذَّهْبَانِ وَمَعَادِنَ الْعِقْيَانِ وَمَغَارِسَ الْجِنَانِ وَأَنْ يَحْشُرَ مَعَهُمْ طُبُورَ السَّمَاءِ وَوُحُوشَ الْأَرَضِينَ لَفَعَلَ وَلَوْ فَعَلَ لَسَقَطَ الْبَلَاءُ وَبَطَلَ الْجَزَاءُ وَاضْمَحَلَّتِ الْأَنْبَاءُ وَلَمَا وَجَبَ لِلْقَابِلِينَ أُجُورُ الْمُبْتَلَيْنَ وَلَا اسْتَحَقَّ الْمُؤْمِنُونَ ثَوَابَ الْمُحْسِنِينَ»(4).

5/13.سُبُل إثبات النبوّة:

من بحوث النبوّة العامة - بعد ماهيّة النبوّة وإثبات ضرورتها وصفات النبيّ - سُبُل عرفة النبيّ الحقيقيّ وإثباته. لا ريب في أنّ الفطرة الإنسانيّة تقتضي رفض الدعوى التي تفتقد دليلاً يثبتها، ودعوى النبوّة أيضاً هي ممّا يحتاج إلى دليل.

ص: 92


1- سورة هود، الآية: 7.
2- سورة الملك،الآية :2.
3- سورة الأنبياء، الآية :35.
4- نهج البلاغة،الخطبة: 192.

يقول المحقّق اللاهيجيّ في هذا المضمار :

اعلم أنّه من السهل جدّاً تحصيل العلم بصدق دعوى النبوّة بالنسبة إلى الحكماء والعقلاء الناظرين في حقائق الموجودات، ممّن أعملوا النظر وتكميل القوّة النظريّة وعرفوا المبدأ الأوّل والمبادئ الأوليّة والثانوية، وعلموا بصحّة النبوّة، ووجوب وجود النبيّ؛ فإنّ معرفة الخواصّ الثلاث عندهم غايةٌ في السهولة، ويمدّهم في ذلك التأمّلُ في مجاري أحوال صاحب الدعوى وأفعاله وأقواله والتنبيه بنيّاته وأغراضه، ويفيد الحصول على صدق الجزم الصادق وكذب الكاذب بسهولة. أمّا على الجمهور وعامّة الناس، فذلك صعب للغاية، وهو يفتقر - لا محالة-إلى النظر والتأمّل في المعجزات، وإنّ إصابة النظر في

المعجزة أيضاً تحتاج إلى العقل التامّ وتمييز ما لا كلام،حيث يفتقد إليهما أكثر العامّة.

فلا بدّ لهم أوّلاً من تقليد عقلائهم حتّى يستقرّ بالتدريج نور التصديق التقليديّ في قلوبهم، فتورث بالخاصّيّة،الإيمانَ الإجماليّ. وبعد حصول الإيمان الإجماليّ، إن وُفّقوا لتعلّم أصول التوحيد وإعمال النظر في الكلام المنزّل على النبيّ والأقوال الصادرة عن معدن النبوّة، يكتمل إيمانهم فيبلغون مرتبة التصديق اليقينيّ التفصيليّ؛ وإلّا فإن قصّروا عن إعمال النظر وقبول التعلّم، اكتفوا بالإيمان الإجماليّ، واشتغلوا بالمواظبة على الأفعال والأعمال التي وردت فيها الشريعة، واقتدوا بالانقياد للأوامر والنواهي الإلهيّة، وطمحوا إلى التأسّي بأفعال النبيّ وسننه؛ حتّى يؤدّي ذلك إلى صلاح المعاش ونجاة المعاد، ورُبّ معجزة تُشتبه على الجمهور بأفعال السَحَرة والمشعوذين والكهنة وأمثالهم، ويمكن تمييزها مقترنةً بالدعوة إلى الحقّ والدعوة إلى الباطل، لكن يتوقف ذلك على عقل يستطيع التمييز بين الحقّ والباطل وفي النهاية سوف يحتاجون إلى تقليد العلماء(1).

لقد قدّم المفكّرون المسلمون ثلاثة سُبُل لإثبات«النبيّ الحقيقيّ»، ومعرفته وتمييزه من «النبيّ الكاذب»(المتنبّي):

ص: 93


1- جوهر المراد (بالفارسية:گوهر مراد )،الفياض اللاهيجيّ، ص 382.

الأوّل: سبيل الإعجاز.

والثاني : تصديق النبيّ السابق للنبيّ اللاحق.

والثالث: جمع القرائن والشواهد على دعوى النبوّة.

1/5/13. المعجزة:

يعتقد جميع المتكلّمين بأنّ الإعجاز دليل حاسم على صدق دعوى النبوّة وعلاقة النبيّ بخالق الكون. وقد عرّف المتكلّمون، المعجزة بقولهم:

ثبوت ما ليس بمعتاد، أو نفي ما هو معتاد، مع خرق العادة ومطابقته الدعوى(1).

أو بقولهم:

أمر خارق للعادة مقرون بالتحدّي، مع عدم المعارضة(2).

فالمعجزة تعني إتيان أعمال غريبة وخارقة للعادة،لا يقدر عليها الآخرون،سواء كانت في الأمور الإيجابيّة، كتبديل عصا خشبيّة إلى ثعبان،أو في الأمور السلبيّة؛ كعجز بطل ما عن حمل سيف، شرط أن تتماشى المعجزة مع دعوى النبوّة وتقترن بالتحدّي ولا يكون لها أيّ معارض(3).

فإنّ مقوّمات المعجزة إذن هي: القيام بعمل خارق للعادة؛ وليس الأعمال الاعتيادية واليوميّة للناس، وعجز أمة النبيّ عن القيام بمثلها، واقتران إظهار المعجزة بدعوى النبوّة، وتطابق العمل الخارق للعادة مع دعوى مدّعى النبوّة ذلك؛ مثل: مسيلمة الكذّاب الذي كان يزعم أنّ في لعاب فمه شفاء؛ ولكن حين ألقى لعاب

ص: 94


1- کشف المراد،ص 218.
2- شرح التجريد،نظام الدين القوشجيّ، ص 465.
3- شرح كشف المراد، ص 363.

فمه في بئر قليلة الماء، جنّت مياه البئر تماماً، أو أنّه مسح بيده تبرّكاً على وجوه بعض الأطفال ورؤوسهم في قبيلة بني حنيفة فأصبحوا معيبين وقُرْعاً!

تشترك معجزات الأنبياء مع بعض الأمور الأخرى (مثل: كرامات الأولياء الإلهيّين والأعمال الخارقة للعادة التي يقوم بها المرتاضون والسَّحَرة) في خرقها للعادة، وتختلف عنها في نقاط أخرى؛ إذ تمتاز المعجزة عن الكرامة في أنّ الكرامة عمل خارق للعادة يُقدِم عليه الأولياء الإلهيّون من أجل إثبات فضيلتهم؛ من دون أن تصحبها دعوى للنبوّة؛ مثل: كرامة السيّدة مريم .في سورة العمران في الآيات 35-37 ، وكرامة آصف بن برخيا في سورة النمل في الآيات 39 و40، وكرامات أميرالمؤمنين وأهل بيت العصمة والطهارة. أما المعجزة فهي عمل خارق للعادة يظهر على يد الأنبياء الإلهيين لإثبات نبوّتهم مشفوعاً بدعوى النبوّة . وتمتاز المعجزة والكرامة عن العمل الخارق للعادة الذي يمارسه المرتاضون والسحرة في أنّ المعجزة والكرامة أمر يمكن تحدّيه ولا معارض له؛ غير أنّ للأعمال الخارقة للعادة لدى المرتاضين معارضاً ومشابهاً. أضف إلى ذلك، أنّ الأعمال الخارقة للعادة لدى المرتاضين والسحرة يمكن تعليمها ونقلها إلى الآخرين. وقد أنكر بعض المعتزلة كرامة الأولياء الإلهيّين، وتناولوا الأعمال الخارقة للعادة للسيدة مريم 3 على أنّها إرهاصات وتمهيدات لنبوّة عيسى المسيح، واعتبروا كرامة آصف بن برخيا تمهيداً لنبوّة سليمان النبي، وكرامات الأئمة الأطهار تتمياً لمعجزات النبي الأعظم. أمّا الإماميّة فهم يرون أنّ كرامة الأولياء الإلهيين ليست ممكنة فحسب، بل يمكن أيضاً صدور أعمال خارقة للعادة عن مدّعي النبوّة كذباً من أجل فضحهم من قِبَل الله تَبَارَكَ وَتَعَالى(1).ومن الجدير بالذكر هنا:

أوّلاً : أنّ المعجزة عمل خارق للعادة؛ وليس خارقاً للعقل، فلا تتعارض المعجزات مع الأحكام العقليّة؛ مثل استحالة الاجتماع وارتفاع النقيضين؛ فليس شفاء الأعمى وتبديل العصا إلى ثعبان ونقل عرش بلقيس في لمحة بصر ، ممّا يخالف البديهيات العقلية.

ص: 95


1- کشف المراد،قسم النبوّة.

وثانياً: لا يتعارض الإعجاز مع مبدأ العلّيّة (قانون السببيّة)؛ فإنّ العقل البديهيّ يحكم بأنّ تحقُّق كل ظاهرة من الظواهر بحاجة إلى علّة. والعلّة القريبة لظاهرة ما، ماديّة تارةً ومجرّدة وغير مادّيّة تارة أخرى. وتعود نشأة ظاهرة ما تارة إلى العلّة المادّيّة الظاهرة، وإلى العلّة الخفيّة تارة أخرى. ولا شك في أنّ معجزات موسى وعيسى تسري عليها قاعدة العليّة، وهي منبثقة من علة لكن ليس العلة المادية الاعتيادية التي هي واضحة عند الجميع.

وثالثاً: ما هي علّة تحقّق المعجزة ؟ هل هو اللّه جَلَّ وَعَلا أم العلّة المادّيّة غير المألوفة؟ أم المخلوقات المجرّدة والملائكة أم الروح والنفس المتعاليتان للنبيّ؟ تُسنِد الآيات القرآنيّة حدوث المعجزات إلى الأنبياء؛ كتبيين معجزات عيسى المسيح في الآيات:

(أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطَّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِىءُ الأَكْمَهَ والْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾(1).

﴿وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطَّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِىءُ الأَكْمَة وَالأَبْرَصَ بإذني وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوقَى بِإِذْنِي)(2).

وتُسنِد الآيات الأخرى جميع الأفعال إلى اللّه سبحانه وتقول:(اللّهُ خَالِقُ كُلَّ شَيْءٍ﴾ فيمكن إذن أن نعتبر علّة معجزات الأنبياء هي النفس النبوية من جهة، والحق تعالى من جهة أخرى. ما من شكّ في أنّ أيّ نبي باستطاعته الإقدام على معجزة من خلال علمه بالعلل الطبيعيّة غير المعروفة.

ورابعاً: ليس ثمة تعارض أيضاً بين حقيقة الإعجاز ودليل النظام؛ فإنّ هذا الدليل يؤدّي إلى إثبات اللّه ويكشف عن مصداق النظام عن طريق التجربة. وتمثل المعجزة مصداقاً للنظام غير المألوف الذي يكتشفه الأنبياء، وهو يدلّ على الناظم المتعالي.

ص: 96


1- سورة آل عمران: 49.
2- سورة المائدة : 110.

وخامساً: يشير إعجاز الأنبياء إلى صدق دعوى النبوّة؛ فقد استدلّت الآيات القرآنية أيضاً على صدق دعوى النبوّة بالمعجزة النبوية :

(ما أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مثلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)(1).

(حَقِيقُ عَلَى أَن لا أَقُولَ عَلَى الله إِلا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)(2).

ولكن ما وجه دلالة الإعجاز على صدق دعوى النبوّة؟ هل يوجد دليل برهانيّ أو علاقة منطقيّة بين المعجزة وصدق الدعوى أو أنّ الدليل إقناعيّ فحسب؟

الحقيقة هي أنّ العلاقة بين المعجزة وصدق دعوى النبوّة وارتباط النبيّ بالحقّ تعالى،علاقة برهانيّة.

توضيح ذلك : أنّ اللّه العادل والحكيم لا يفعل فعلاً ظالماً وغير حكيم، بل يريد الهداية للبشر ويأبى لهم الضلالة؛ فإن منح اللّه العادل والحكيم المدّعيَ الكاذب القدرة على عمل خارق للعادة - لا معارض له وتصحبه دعوى النبوّة - فإن هذا يتعارض مع الحكمة والعدالة الإلهيتين، وهو مناف للهداية التي يريدها عَزّ وَجَلَّ(3).

ویری العلّامة الشعرانيّ عند تبيينه دلالة المعجزة أنّ المعجزة تعني تصديق اللّه لدعوى النبي والرسالة، وانطلاقاً من ذلك، يُستبعد إتيانها من قبل مدعي النبوة كذباً.

ويبرهن العقل على هذا الأمر على النحو الآتي:

أوّلاً: المعجزة هي تصديق اللّه تعالى لدعوى النبوّة.

ثانياً : تصديق الكذاب للدعوى الكاذبة أمر قبيح.

ص: 97


1- سورة الشعراء: 154.
2- سورة الأعراف : 105 و 106.
3- البيان في تفسير القرآن الخوئي، ص 36.

ثالثاً: صدور القبيح من اللّه قبيح. فإذن:

رابعاً: يستحيل صدور المعجزة عن مدّعي النبوة كذباً. فإذن:

خامساً: تدلّ المعجزة على صدق دعوى النبيّ.

وبتعبير آخر:

أوّلاً: تقتضي قاعدة اللطف أن يفضح اللّه مدعي النبوة كذباً.

ثانياً :يفضح الكذَّابَ منعُه من القيام بعمل خارق للعادة.

ثالثاً : اللّه قادر على منع الكذّاب من خرق العادة. فإذن:

رابعاً: يمنع اللّه الكاذبين من خرق العادة. فإذن:

خامساً: يتساوى وقوع المعجزة مع تصديق اللّه للنبوّة(1).

2/5/13. نصّ النبيّ السابق:

إحدى السُّبُل الأخرى الكفيلة بإثبات النبوّة ما يصرّح به النبيّ السابق بخصوص النبيّ اللاحق؛ فإذا ثبتت

نبوّة النبيّ السابق من خلال الأدلّة والمعجزة، تثبت جميع ادّعاءاته ؛ ومنها : ادّعاء نبوّة النبي اللاحق. فعلى سبيل المثال: شهد النبيّ عيسى على نبوّة رسول اللّه محمد ؛حيث يقول اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالى في ذلك :

﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ)(2).

(الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبي الأمي الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَر)(3).

ص: 98


1- طريق السعادة(بالفارسية : راه سعادت)، ص 243.
2- سورة الصف: 6 .
3- سورة الأعراف: 157.

3/5/13.جمع القرائن والشواهد:

يتمثّل الدليل الآخر على إثبات نبوّة الأنبياء في جمع القرائن والشواهد؛ فإنّ النبي الصادق، صادق في أعماله وأفعاله أيضاً. وتتمتّع روح النبي بالكمالات السامية والأخلاق الفاضلة، ويقود النبيّ الإلهي الناسَ بطريقة يقيم بها مجتمعاً حضارياً يتميز بمظاهر التقدّم والنموّ ومن شأن مجموع المعارف والقوانين والأحكام والشريعة النبوية أن تكون قرينة أخرى على حقانية النبوّة. وقد تدلّ على حقانية النبي أيضاً الوسائل والآليات التي يلجأ إليها النبي من أجل هداية البشر، وكذلك المؤمنون وأتباع النبي وطريقة تصرفاتهم وسلوكيّاتهم(1).

ص: 99


1- الإلهيّات على هدي الكتاب والسنّة ،والعقل السبحاني، ص 66-122.

14.خصائص الأنبياء

1/14.تمهيد:

من البحوث الأخرى التي نتناولها في الأبحاث الدارسة للنبوّة بعد الفراغ من ضرورة بعثة الأنبياء وشبهات المنكرين، خصائص الأنبياء ومميزاتهم؛ فإنّ الأنبياء الإلهيين - وانطلاقاً من مهامهم المتمثلة في الإرشاد والحثّ على تبيان سعادة البشر - يتمتعون بخصائص وسمات خاصة مثل العصمة، والعلم اللدنّي، وتلقي الوحي النبوي، والمعجزات. وقد قدّم القرآن الكريم تعريفاً بالخصائص التي يتحلّى بها الأنبياء بصورة عامة مما يترك تأثيره على تحقيق مهام الهداية، والتهذيب، والتربية، والتعليم، وتنفيذ العدالة والتعالي والنموّ، والتكامل المادّيّ والمعنوي تجاه البشر. وإنّ هذه الصفات والسمات ضرورية لجميع الأنبياء، وقد أُودعت في الأنبياء الإلهيين على شكل مراتب متنوّعة تختلف شدة وضعفاً. ويحظى الأنبياء أولو العزم من هذه الصفات الكمالية بنصيب أكثر، بينما يتحلّى سائر الأنبياء بنصيب أقل. وفيما يأتي نعرض هذه الصفات والخصائص بنحو من التفصيل.

2/14.أوّلاً:حقيقة الوحي:

إحدى النقاط التي يتميّز بها الأنبياء عن غيرهم هي المصدر المعرفي لهم؛ فالأناس الاعتياديون يدركون الحقائق عن طريق الوسائل والمصادر الاعتيادية لاكتساب المعرفة؛ ألا وهي ،الحس والعقل والشهود. أما الأناس الإلهيون الذين يرتبطون بالله تعالى ويتولّون مهمّة هداية البشر، فلا بدّ لهم من الإفادة من مصدر معرفيّ آخر يفوق المصادر المعرفيّة المألوفة. وهذا المصدر المعرفي هو الوحي الإلهيّ.

وعلى هذا الأساس، فإنّ تبيين الوحي وماهيّته يُعدّان من بحوث النبوّة العامة.

ص: 100

1/2/14. معاني الوحي لغةً:

«الوحي»لغةً يحمل معاني متنوّعة؛ منها : الإشارة، والكتابة، والرسالة، والنداء، والكلام الخفيّ، والتسارع والعجلة، والإعلان خفية، وإلقاء كلام أو رسالة أو كتابة على الآخرين. وقد عدّ بعضهم الوحيَ من قبيل الكلام الشفهيّ، ورأى آخرون أنه ينطوي على الكلام الكتابيّ والشفهيّ. وقد ذهبت جماعة إلى أنّ معناه إعلان الخبر وإلقائه خُفيةً على الغير(1).وقد أخذ أبو إسحاق بالمعنى الثالث(2).وقام آخرون بتفسير الوحي في معنى أوسع فكتبوا: «الإشارة، والكتابة،والرسالة، والإلهام، والكلام الخفي، وكلّ ما ألقيته إلى غيرك.. وما يكتب في الحجارة وينقش عليها»(3)،وفسرّ بعضهم الوحيَ بمعنى السرعة،كما فسّروه بالإعلان السريع الخفيّ .

وبناءً على ذلك، فإنّ إرسال أيّ نوع من الرسالة والخبر، من أيّ طرف وإلى أيّ أحد، بشرط كونهما سريعين وخفيّين هو المقصود بالوحي(4).

2/2/14. معاني الوحي في القرآن:

استُعملت مفردة الوحي في القرآن بأربعة معانٍ؛ وهي على النحو الآتي:

أوّلاً: الإشارة الخفيّة والسرّيّة:قال تعالى:(فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّاً)؛ (5)ولعلّ الوحي هنا بمعنى الإعلان أيضاً.

ثانياً: الأمر الغريزيّ والتكوينيّ ونوع من الإعلان التكوينيّ: قال تعالى: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً )(6).

ص: 101


1- أقرب الموارد ، سعيد الخوريّ الشرتونيّ، ج 2، الوحي.
2- لسان العرب، ج 15، ص 280.
3- مجمع البحرين ولسان العرب، ج 15، ص 280.
4- المفردات في غريب القرآن،الراغب الأصفهانيّ، ص 515 ؛وابن منظور، لسان العرب، ج 15، ص 380.
5- سورة مريم: 11.
6- سورة النحل: 68-69.

ثالثاً :الإلهام النفسيّ والشعور والإحساس في باطن الإنسان:فقد ينشأ هذا الإلهام من خاطرة ذهنيّة أو إيحاء نفسيّ من العالم الأعلى أو وسوسة شيطانيّة؛ مثل:(وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾(1)؛﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ فِي عَدُوّاً شَيَاطِين الإنس والجن يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ﴾(2)؛(وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ﴾(3)؛الوحي في الآية الأولى يعني الإلهام النفسيّ والروحيّ الذي أعطاه اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالى إلى أمّ موسى، وأمّا الإلهام في الآيتين الأخريين ، فهو ما يصل إلى الإنسان من الشياطين.

رابعاً: الإلهام الرساليّ للأنبياء: وهو الإلهام الغيبيّ والرساليّ الإلهيّ الذي يُبلغه اللّه تعالى عن طريق الملائكة أو بدون واسطة أو بواسطة أمر آخر، إلى الأنبياء، من أجل تبليغ الرسالة الإلهيّة وهداية الناس.

لقد استُخدمت مفردة «الوحي» في القرآن الكريم أكثر من سبعين مرّة بالمعنى نفسه؛كما في قوله تعالى: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ)(4).

(وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا ﴾(5).

(اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ)(6).

(أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ)(7).

ص: 102


1- سورة القصص: 7.
2- سورة الأنعام: 112.
3- سورة الأنعام: 121.
4- سورة يوسف: 3 .
5- سورة الشورى: 7.
6- سورة العنكبوت: 45.
7- سورة يونس: 2.

(إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً﴾(1).

إنّ الفطرة السليمة للإنسان والعقل البشريّ السليم يدلّان على أنّ للبشر قدرة كامنة على نيل الكمال والسعادة الأبديّين، وتبيّن البراهين العقليّة أنّ الهدف من خلق البشر وحياتهم في هذه الدنيا هو إيصالهم إلى الكمال؛ كما أن القرآن الكريم يشير إلى ذلك بقوله:

(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)(2).

والسؤال المطروح هنا هو : كيف يمكن الوصول إلى الكمال، والسير في صراط مستقيم نحوه؟ لا شكّ في أنّ العقل والحسّ والشهود تمثّل وسائل مفيدة لبلوغ تلك الحقيقة؛ لكنّها ليست كافية؛ لأنّ أسباب الانحراف عن الطريق القويم في هذا المسير ليست قليلة، وبالتالي فإنّ الوسائل الاعتيادية للمعرفة معرّضة للخلل على الدوام. ناهيك عن وجود ميدان معرفي لا تناله يد هذه الوسيلة؛ بمعنى أنه خارج عن نطاق العقل والحسّ. من هنا، تتجلّى ضرورة الاعتماد على وسيلة أخرى يطلق عليها مسمّى الوحي.

وفي المحصلة نقول : تتمثل حقيقة الوحي في كونه وسيلة أخرى لاكتساب المعرفة، لا يتيسّر لنا إدراك واقعها وكنهها .

يقول العلّامة الطباطبائيّ في هذا الشأن:

إنّ حقيقة الوحي خفيّة علينا؛لأنّنا محرومون من هذه العطيّة،أو قل:لأنّنا لم نسعد بتذوّقه..وليس في وسعنا سوى معرفة بعض آثاره؛وهي القرآن والصفات النبويّة(3).

وبناءً على ذلك،يمكننا أن نقف على حقيقة الوحي من خلال مطالعة آثاره وملاحظة علاماته، والتدبّر في مضمونه؛ أي في القرآن الكريم.

ص: 103


1- سورة النساء: 163.
2- سورة الذاريات: 56.
3- القرآن في الإسلام (بالفارسیة:قرآن در اسلام)،العلامة الطباطبائي، ص 149.

3/2/14. الوحي والإلهام:

الإلهام حقيقة تماثل الوحي الإلهيّ، وتختلف عنه في نقاط وتختلف عنه في نقاط عدّة. ويلزم معرفة التمييز

بين هاتين الحقيقتين في البحوث الدارسة للنبوّة.

يقول بعضهم في تبيان الاختلاف بين هاتين الظاهرتين:

المعرفة التي تحصل للإنسان بالواسطة أو بدون واسطة، إن علم بأنها من جانب اللّه تعالى، فهي الوحي، وإن لم يعلم، سُمّي بالإلهام. فالإلهام إذن، ضربٌ من ضروب الشعور؛ كالحزن والفرح، أو الجوع والعطش(1).

ويكتب ابن عربيّ عند تفريقه بين الوحي والإلهام:

إنّ الإلهام قد يحصل من الحقّ تعالى بغير واسطة الملك بالوجه الخاصّ الذي له مع كل موجود، والوحي يحصل بواسطته؛ لذلك لا تُسمّى الأحاديث القدسية بالوحي والقرآن؛وإن كانت كلام اللّه تعالى.

وأيضاً: قد مرّ أنّ الوحي قد يحصل بشهود الملك وسماع كلامه، فهو من الكشف الشهوديّ المتضمّن للكشف المعنويّ، والإلهام من المعنويّ فقط. وأيضاً،الوحي من خواصّ النبوّة لتعلّقه بالظاهر والإلهام من خواصّ الولاية. وأيضاً هو مشروط بالتبليغ دون الإلهام(2).

نستخلص ممّا تقدّم أنّ الوحي والإلهام يحملان معاني شتّى، وينطويان على نِسَب مختلفة على ضوء كلّ من هذه المعاني؛ فإذا كان المقصود بالوحي: «الوحي النبويّ»، ومن الإلهام: «الإلهام الإلهيّ»، ففي هذه الحالة، تتوحّد كلتا الحقيقتين باعتبار كونهما إلهيّتين، وجريانهما من عالم الغيب، وقدرتهما على كشف الحقائق الملكوتيّة؛ وإن تختلف الواحدة

ص: 104


1- الوحي والنبوّة (بالفارسية:وحي و نبوّت)محمّد تقي شريعتي، ص 4.
2- شرح مقدّمة القيصريّ، ص 590.

عن الأخرى في جوانب عدّة؛ يشتمل الوحي الإلهيّ على الشريعة والدين الإلهيّين؛ أي يحتوي على طبيعة ووظيفة دنيويّتين تدلّان على الملكوت والسعادة الإنسانيّة. والإلهام الإلهيّ أعمّ من الوحي؛ أي إنّه قد لا يشتمل على الشريعة؛ كالإلهامات التي تنزله الملائكة على الأئمّة وتطلعهم بها على حقائق العالم. وإذا اعتُبر الإلهام أعمّ من نوعيه الحقيقيّ والمزيّف وشمل المكاشفات الشيطانيّة والواردات النفسانيّة أيضاً، فعندئذٍ، يصبح الإنهام أعمّ من الوحي أيضاً؛ لأنّ الوحي إلهام إلهيّ وحقيقيّ، ولأنّ الإلهام أعمّ من الواردات الإلهيّة والشيطانيّة.

4/2/14. الوحي في الحكمة الإسلامية:

لطالما كانت حقيقة الوحي وماهيّته تؤرّق الفلاسفة الإسلامييّن وتشكّل أحد الهواجس عندهم.الفارابيّ (339-258) هو أوّل حكيم مسلم تحدّث عن ماهيّة الوحي من منطلق فلسفيّ، وبالرغم من أنّ الكنديّ تطرّق قبله إلى مسألة الخيال التي تولّد صوراً جزئيّة فاقدة للمادّة؛ غير أنه لم يعرض لتبيين الوحي. وقد اتّبع المشربَ الفلسفيّ للفارابيّ في باب حقيقة الوحي والنبوّة، حكماءُ آخرون؛ من أمثال:ابنسينا،وشيخ الإشراق، وصدر الدين الشيرازيّ.

يشير الفارابيّ - بغية تبيين الفرق بين النبيّ والفيلسوف - إلى نقطة مفادها أن بإمكان الأنبياء - علاوةً على ما يتمتّعون به من بالعقل المستفاد والاتّصال بالعقل الفعّال لتلقّي الوحي - أن يتلقّوا الحقائق الوحيانيّة بواسطة القوّة المتخيّلة أيضاً. ويرى الفارابي أنّ القوّة المتخيّلة تتوسّط الحاسّة والناطقة(1).

وبعبارة أخرى، فإنّ العقل يمدّ الأنبياء في إدراك الوحي الكلّيّ وتمدّهم قوّةً الخيال في إدراك الوحي الجزئي ومشاهدة ملائكة الوحي وسماع كلامهم. ولهذا، فإنّ استخدام كلّ من القوّة العاقلة والقوّة المتخيّلة يلعب دوراً فعالاً في اكتشاف أقسام

ص: 105


1- آراء أهل المدينة الفاضلة، ص 108.

الوحي المختلفة. ويتحقّق إدراك المعقولات والكلّيّات الوحيانيّة بواسطة العقل المستفاد ومشاهدة الجزئيات، ومنها ملك الوحي وسماع كلامه عن طريق اتصال القوّة المتخيّلة للنبي بالعقل الفعّال.

وعلى هذا الأساس، لا يتميز النبي عن الحكيم في كمال القوّة العاقلة والعقل النظري والعقل المستفاد؛ فإنّ كلتا الشخصيّتين تشارك إحداهما الأخرى في هذه المرحلة ، بل الفرق بين هاتين الاثنتين يكمن في كمال القوّة المتخيّلة؛ أي الفصل المميّز للنبي عن الحكيم عبارة عن القوّة المتخيّلة(1).

ويبيّن الشيخ الرئيس عقلانيّاً ضرورة الوحي النبوي عن طريق مراتب العقل وخاصة العقل المستفاد و ضرورة قوّة الحدس وارتباط العقل البشري بالعقل الفعّال،ويذهب إلى أنّ الناس مختلفون فيما بينهم في قوّة الحدس كيفاً وكماً، ويفتقد بعضهم إلى هذه القوّة، في حين يمتلك آخرون درجات عالية منها . ولا يوجد على وجه البسيطة إلا أشخاص قلائل يحتلون الرتبة العليا لهذه القوّة، وذلك من جراء اتصالهم التام بالحقيقة، ومن دون تعليم من الخارج، وهم يحصلون على البصيرة النبوية من خلال الربط بين العقل المستفاد والعقل الفعّال.

ويذكر ابنسينا في الفصل السادس من المقالة الخامسة لكتاب الشفاء، مراتب العقل، ويصف هنالك العقل القدسيّ بأعلى مراتب العقل(2).وفي باب إمكان الوجود

ص: 106


1- تحصيل السعادة،الفارابیّ،ص 61-63 ،وكتاب العلّة ونصوص أخرى، ص 49-50 ؛وآراء أهل المدينة الفاضلة، الفصلان 24 و 25.
2- يقول ابن سينا بشأن العقل المستفاد: «أمّا العقل المستفاد ، فهو العقل بالفعل من حيث هو كمال.. فحينئذ يجوز أن يتصل بالعقل الفعّال تمام الاتصال.. فجائز إذن أن يقع الإنسان بنفسه الحدس وأن ينعقد في ذهنه القياس بلا معلّم، وهذا ممّا يتفاوت بالكم والكيف؛ أمّا في الكمّ، فلأنّ بعض الناس يكون أكثر عدد حدس للحدود الوسطى، وأمّا في الكيف، فلأنّ بعض الناس أسرع زمان حدس ولأنّ هذا التفاوت ليس منحصراً في حد، بل يقبل الزيادة والنقصان دائماً وينتهي في طرف النقصان إلى من لا حدس له البتة، فيجب أن ينتهي أيضاً في طرف الزيادة إلى من له حدس في كلّ المطلوب أو أكثرها، وإلى من له حدس في أسرع وقت وأقصره، فيمكن إذن أن يكون شخص من الناس مؤيد النفس لشدّة الصفاء وشدّة الاتصال بالمبادئ العقلية إلى أن يشتغل حاسّاً أعني قبولاً لها من العقل الفعّال في كل شيء وترتسم فيه الصور التي في العقل الفعّال، إما دفعة وإمّا قريباً من دفعة،ارتساماً لا تقليدياً بل بترتيب يشتمل على الحدود الوسطى. فإنّ التقليديّات في الأمور التي إنّما تُعرف بأسبابها،ليست يقينية عقلية، وهذا ضرب من النبوّة، بل أعلى قوة النبوّة، والأولى أن نسمّى هذه القوّة، قوّة حدسية وهي أعلى مراتب القوى الإنسانية». انظر: الشفاء الطبيعيّات،كتاب النفس،المقالة الخامسة، الفصل السادس، ص 220.

من كتابه «الإشارات والتنبيهات»وضع كلاً من القوّة القدسيّة والحدس القويّ واشتمال النفوس القويّة - ومنها : النفسَ النبويّة - في ضمن هذه المرتبة(1).

ويوضّح الوحي بعد تقسيم العقل النظريّ، فيقول ما ترجمته:

وأمّا النفس التي تُسمّى بالنفس الناطقة، فإنّ قواها على قسمين: أحدهما القوّة العاملة والآخر القوّة العالمة ويوصَف كلاهما بالعقل على سبيل الاشتراك. أما القوّة العاملة، فهي التي تُسمّى بالعقل العمليّ، وأما القوة العالمة، فهي التي تُسمّى بالعقل النظريّ ويمكنه إدراك المعاني والصور العقلية وفهم الكليات. وله مراتب من حيث إدراكه هذه المعاني:إحداها حين يخلو من المعقولات كلّها ويُسمّى بالعقل الهيولانیّ، وإذا أدرك الأوّليّات يُسمّى بالعقل بالملكة.. والثالثة تكون حين يدرك المعقولات كلّها، فينقلب حينئذ ملكةً كي يطالع تلك المعقولات فيُسمّى بالعقل بالفعل،والرابعة هي حين يطالع ويشاهد المعقولات ويُسمّى بالعقل المستفاد، وإذا نالت نفوس الناس هذه الغاية في العلم والأخلاق، تتجه نحو الفضيلة وهذه الغاية هي كمال الناس ولهذه الجوهرة وجهان: أحدهما متّجه إلى العقل الفعّال وهو العقل النظريّ ومن هنا، يقتبس العلم، والوجه الآخر متجه إلى الجسم وهو العقل العملیّ(2).

وبطبيعة الحال، يستخدم ابنسينا أحياناً مصطلح العقول الفعّالة بدلاً عن مصطلح العقل الفعّال(3).

ص: 107


1- الإشارات والتنبيهات،ابن سينا،ج 2،النمط الثالث،ص 360-365 ؛المبدأ والمعاد، ابن سينا،ص 115.
2- رسالة النفس، ابن سينا،ص23-26.
3- يقول في هذا الصدد: العلم البسيط الذي ليس من شأنه أن يكون له في نفسه صورة ولكن هو واحد تفيض عنه الصور في قابل الصور، فذلك علم فاعل للشيء الذي نسمّيه علماً فكرياً ومبدأ له وذلك هو للقوة العقلية المطلقة من النفوس المشاكلة للعقول الفعّالة. انظر: النفس من الكتاب الشفاء، ص 333.

ويصل ابن سينا في نهاية المطاف إلى قناعة مفادها أنّ النبي .يتلقّى علم الغيب والحقائق وصورة الحروف والأشكال المختلفة والعبارات الوحيانيّة من خلال الملائكة، أو بمساعدة القوّة المتخيّلة، ويسمع الكلام الإلهيّ، ويشاهد الملك على هيئة شخص بشريّ(1).وتبلغ القوّة المتخيّلة النبوية حدّاً من القدرة والطاقة، لا تستطيع معه الحواسّ الظاهريّة أن تستولي عليها(2).

ويتمسّك الشيخ الرئيس من أجل تبيان الوحي في الأمور الجزئية بالنفوس الفلكيّة وعلمها بجزئيّات الطبيعة، مبيّناً أنّ النفس النبويّة تتّصل بالنفوس الفلكيّة، وتطّلع على جزئيّات عالم الطبيعة(3).

ويتّفق شهاب الدين السهرورديّ مع الفارابيّ وابن سينا في إنكار أي دور فاعليّ للنبوّة في تلقّي الوحي؛ إذ عمد إلى استعراض دورها القابليّ من خلال ارتقاء العقلانيّة من مرحلة العقل بالقوّة وبالملكة إلى العقل بالفعل، والعقل المستفاد،والاتّصال بالعقل الفعّال، وتلقّي الصور العقليّة والكلّيّة من ذلك العالم.

وحسبما يزعم شيخ الإشراق، فإنّ الحجاب الوحيد الحاجز بين الأنوار الإسفهبديّة أو النفوس والأنوار المجرّدة هو الشواغل الجسمانيّة والعالم الظلمانيّ(4).

ويقسّم السهرورديّ - كغيره من الحكماء المتقدّمين - الوحي إلى كلّيّ وجزئي، ويبيّن تلقّي الوحي الكلّيّ بواسطة النبيّ من خلال علاقة العقل المستفاد بالعقل الفعّال،ويوضح علم الوجود الخاصۀ بالوحي الكلّيّ عبر العقول العرضيّة؛ ولكن في باب

ص: 108


1- الرسالة العرشيّة، ص 12.
2- راجع: الإشارات والتنبيهات،النمط العاشر،الفصلان 21 و 22 ، ص 142-145؛ وكذلك لبحث مراتب العقل،راجع:التجريد، شرح نمط هفتم،ص 40؛ وكذلك راجع: قطب الدین محمّد بن محمّد الرازي، الإلهيّات من المحاكمات بين شرحي الإشارات، ص 393-398 .
3- رسالة في النفس وبقائها ومعادها، ص 114-115.
4- الأعمال الكاملة،شهاب الدين السهروردي ، ج 2، ص 236 وج 3 ص 445.

كيفيّة تلقّي الوحي الجزئيّ، وإبصار الملك، وسماع الألفاظ الوحيانيّة، لا يمكنه مسايرة الفلاسفة الماضين، وحلّ ذلك عن طريق ارتباط النبوّة بالنفوس الملکیّة.

وبطبيعة الحال، يشير في بعض مصنّفاته إلى مكانة المتخيّلة، متابعاً في ذلك المشرب المشّائيّ، غير أنّه يميل في«المطارحات» إلى اعتناق رأي آخر؛ فلا يعدّ إبصار الملك من إبداعات المتخيّلة في قوّة الخيال، بل يتحدّث عن عالم آخر، يتوسّط عالم الحسّ وعالم العقل يسمّى بعالم المُثُل المعلّقة. وقد حذّر الحكماء المشّائيّين من الغفلة عن عالم المُثُل المعلّقة، أو عالم الخيال المنفصل، بأنّ هذا العالم يقع بين العالم المحسوس والعالم المعقول. فإنّ صور الملائكة وسائر الحقائق التي يبصرها النبيّ عبارة عن واقعيّات تقع في الخيال المنفصل وعالم المُثُل المعلّقة، ولا دور للقوّة المتخيّلة أو الخيال المتّصل للنبوّة في إيجادها وإنتاجها(1).

أمّا صدر الدين الشيرازيّ فهو يستند في تفسيره للوحي الجزئيّ إلى كمال القوّة المتخيّلة كما تمسّك في تفسيره للوحي الكلّيّ بكمال القوّة النظرية؛ أي العقل المستفاد والاتّصال أو الاتّحاد بالعقل الفعّال أو العقول الفعّالة.

ولهذا فهو يرى أنّ القوّة المتخيّلة ينبغي أن تملك من القدرة ما تبصر به عالم الغيب عند اليقظة، وتشعر بالصور الجميلة والأصوات الحسنة المنظومة على وجه جزئي في مقام هورقليا (العالم غير المادّيّ) أو غيره من العوالم الباطنية، وتبصرها أو تحكي ما تبصره النفس في عوالم الجواهر المجرّدة العقليّة. فعليها أن تبصر وتسمع ما تبصر وتسمع في المنام(2).

وفي رؤية صدر المتألهين، فإنّ جميع العقول المجرّدة والحقِّ سُبحَانَهُ وَتَعَالى هي من القسم الفعّال؛غير أنّ أقرب المخلوقات المجرّدة منّا على لسان الشريعة، هو روح

ص: 109


1- الأعمال الكاملة،شهاب الدين السهرورديّ ، ج 1 ص 495 و 496 وص 230-245.
2- المبدأ والمعاد في الحكمة المتعالية، ص 547 و548.

القدس الذي يصفه بالقول:

المعلّم الشديد القويّ والمؤيّد بإلقاء الوحي للأنبياء، وهو الذي إذا اتّصلنا به،أيّدنا، وكتب في قلوبنا الإيمان، والعلوم الحقّة(1).

وبناءً على ذلك، فقد قَبِل صدر المتألهين بنظريّتين مختلفتين؛ هما المشَائيّة والإشراقيّة؛ فهو يرى أنّ الإدراك الكلّيّ اتّحاد النفس الإنسانيّة مع العقل الفعّال (أي العقل العاشر الواحد في سلسلة العقول الطوليّة) وفي الوقت نفسه، يقبل وجهة النظر الرامية إلى أنّ الإدراك العقليّ إبصار للمُثُل الأفلاطونية (أي: العقول العرضيّة المتكثّرة). وهنا يجب إيضاح أنّه هل يمكن اعتبار حصول الإدراك الكلّيّ عن طريق اتّحاد النفس مع العقل الفعّال، وعن طريق إبصار المُثُل المفارقة العرضيّة ؟ وجه الجمع هو أنّ مراد صدر الدين الشيرازي من العقول العرضيّة والمثل الأفلاطونية مع العقل الفعّال حقيقة واحدة؛ لكن يجب أن يجريالحديث - بعد الآن - عن عدّة عقول فعّالة بدلاً من عقل فعّال واحد، كما أنّه استعمل في بعض كتاباته تعبير العقول الفعّالة(2).

يقول صدر المتألهين في كيفيّة إنزال الوحي على الأنبياء: بعد اعترافه بوجوب الإيمان بالكتب الإلهيّة المنزَلة على الأنبياء ومحتواها وخدمة العلماء الذين يقومون بتأويل القرآن، يقول في باب ماهيّة إنزال الوحي:

فمن الدائر على ألسنة جماعة من المفسّرين وغيرهم من المتكلّمين، أنّ المراد من إنزال الوحي أن جبرئيل .سمع في السماء كلام اللّه تعالى فنزل به على الرسول . وربّما استشكل بعضهم هذا أي سماع جبرئيل كلام اللّه سيّما القائل بأنّ كلامه ليس من جنس الأصوات والحروف فأجابوا عنه : أمّا المعتزلة، فبأنّه يخلق اللّه أصواتاً وحروفاً

ص: 110


1- المصدر السابق، ص 449.
2- تفسير فلسفة الوحي من الفارابّي إلى صدر الدين الشيرازيّ (بالفارسية : تبيين فلسفه وحی از فارابي تا ملاصدرا) موسى ملايري، ص158،159.

على لسان جبرئيل وهذا معنى الكلام عندهم. وأمّا الأشاعرة، فتارةً بأنه يحتمل أن يخلق اللّه له سماعاً لكلامه ثمّ أقدره على عبارة يعبّر بها عن ذلك الكلام. وتارة بأنه يجوز أن يخلق اللّه في اللوح المحفوظ كتابة بهذا النظم المخصوص، فقرأه جبرئيل .فحفظه، وتارة بتجويز أن يخلق أصواتاً مقطّعة بهذا النظم المخصوص في جسم مخصوص فتلقّفه جبرئيل، ويخلق له علماً ضرورياً بأنّه هو العبارة المؤدّية لمعنى ذلك الكلام القديم.. وطائفة استدلّوا على كون الملائكة أجساماً متحيّزة.. وأمّا على مسلك هؤلاء وممشاهم من القول بما هو صريح الحقّ وما عليه كافّة الحكماء الإلهيّين والربّانيّون من الإسلامييّن وهو أنّ الملائكة - كما مرّ - تُطلَق على قبائل علويّات وسفليّات سماويّات وأرضيّات، قدسيّات وجسمانيّات .. وقد مرّ منا القول بأنّ كلام اللّه ليس مقصوراً على ما هو من قبيل الأصوات أو الحروف، ولا على ما هو من قبيل الأعراض مطلقاً ألفاظاً كانت أو معاني، بل كلامه ومتكلّميّته يرجع إلى ضرب من قدرته وقادريّته، وله في كلّ عالم من العوالم العلويّة والسفليّة صورة مخصوصة. وطائفة أخرى اقتصروا على القول بالتلاقي الروحانيّ والظهور العقلانيّ بين النبي .والملك الحامل للوحي. فسمّوا ظهوره العقلانيّ لنفوس الأنبياء: نزولاً تشبيهاً للهبوط العقليّ بالنزول الحسّيّ وللاعتلاق الروحانيّ بالاتّصال المكانيّ، فيكون قولنا : نزل الملك استعارة تبعية(1).

لقد عدّ الشيرازيّ هذه الرؤية إسرافاً في التنزيه، كما يقدّم الرؤية الأولى بوصفه إسرافاً في التشبيه، ويستبعد كلا القولين عن طريق الصواب، ويعدّهما باطلين ومخالفين للهداية والأحاديث النبويّة المتواترة والقوانين العقليّة.

فضلاً عن أنّ الأمّة الإسلاميّة تجمع على أنّ النبيّ. يبصر جبرئيل والملائكة المقرّبين بالبصر الجسمانيّ، ويسمع الكلام الإلهيّ جارياً على ألسنتهم القدسيّة بالسمع الجسمانیّ، فإنّ العقل يبرهن على ذلك بأنّ المعوّل عليه في السماع والإبصار الحسّيّين لدى الإنسان هو وجود الصور البصريّة؛كالألوان،والأشكال، والصور المسموعة؛

ص: 111


1- تفسير القرآن الكريم، ص147-144.

كالأصوات،والحروف والكلمات؛فالمبصَر والمسموع الحقيقيّان-إذن-هما الصورة الحاصلة في النفس ؛ لا الصورة الخارجيّة، والمادة الوضعيّة التي هي مدرَكة بالعرض(1).

حاصل الكلام أنّ الحكماء الإسلاميين قاموا عند تبيينهم الوحي بالفصل بين مقامي الوحي الكلّيّ، والوحي الجزئي. وقد استفادوا من أجل تبيين الوحي الكلّي وتبريره عقليّاً من اتصال النفس الإنسانية أو اتحادها في مرتبة العقل المستفاد مع العقل الفعّال أو العقول الفعّالة أو إبصار العقول العرضيّة والمثل الأفلاطونية، وأفادوا في تبيين الوحي الجزئي وتبريره عقليّاً من اتصال العقل العملي للنبي بالنفوس الفلكية أو المثال المنفصل والاطلاع على الصور العلمية الجزئية فيها. فيحصل النبي كذلك على الوحي والعلم بالكليات والوحي والعلم بالجزئيات، من مصادرهما الحقيقية والأصلية. وقد اكتفى الفارابي في تحليل الوحي بهذا القدر من تبيين مراتب العقل النظري، ووصف العقل المستفاد بالعقل النبوي، وقدّم الصورة المعقولة النازلة عن طريق العقل الفعّال، على أنه وحي، ولكن صدر الدين الشيرازي يرى أنه بالرغم من أنّ غاية الوجود الإنساني تتلخص في الوصول إلى العقل المستفاد والاتصال بالعقل الفعال؛ غير أنّ هذه المزية يمكن تحققها في غير الأنبياء أيضاً. ولذلك، مع أنّ للنبوّة دوراً أساسياً في قابلية الوحي وتلقيه من وجهة نظر الحكماء الإسلاميين، وتوفق النبوّة لتلقي الوحي بالارتقاء والوصول إلى العقل المستفاد والحدس القوي والقوة المتخيّلة المتعالية؛ غير أنّ أيّاً من الحكماء الإسلاميّين لم يذعن لها بالدور الفاعليّ، ولم يتقبلوا تأثير ثقافة العصر على إيجاد الوحي(2).

5/2/14 أقسام الوحي النبوي:

عرض القرآن الكريم - إضافة إلى تبيان معاني الوحي المختلفة - لتبيين أقسام الوحي النبويّ ؛ فالأقسام الثلاثة للوحي النبويّ هي:الوحي الإلهيّ المباشر إلى النبيّ،

ص: 112


1- المصدر نفسه.
2- راجع:مقالة ماهية الوحي في الحكمة الإسلامية،للمؤلّف، مجلّة قبسات.

والوحي المباشر عن طريق الملك الإلهيّ، والوحي عن طريق الحجاب أو أيّ شيء آخر. يقول اللّه سبحانه في هذا المجال:

(وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلَّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلى حَكِيمٌ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا )(1).

ويشير في آيات أخرى إلى الوحي في المنام والوحي المباشر وبواسطة الروح الأمين والوحي المباشر:

(لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللهُ ﴾(2)؛

(نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ )؛(3)

(إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً )؛(4)

ينقسم الوحي في تقسيم آخر، إلى تكويني وتشريعيّ:

أمّا الوحي التشريعيّ فهو مجموعة التعاليم والأحكام التي أنزلها اللّه تعالى على الأنبياء دفعة أو تدريجيّاً تحت تسمية الشريعة والدين. وأما الوحي التكوينيّ فهو استعداد وغريزة في المخلوقات، وكذلك القوانين العامّة الحاكمة على نظام الكون والتي تسير بأهداف محدّدة. وعلى هذا الأساس، يمكن عدّ الوحي حقيقة تتحقّق في جميع المخلوقات وتضمن هدايتها. وتوجد هذه الحقيقة الإلهية بمراتب طوليّة شتّى في المخلوقات. ويتمتع الأنبياء الإلهيون بالمرتبة العالية من هذه الحقيقة، وتتمتع سائر المخلوقات بالمراتب اللاحقة للوحي؛ كالرؤى الصادقة التي تحصل للأناس الاعتياديين.

ص: 113


1- سورة الشورى: 51 .
2- سورة الفتح: 27.
3- سورة الشعراء: 193.
4- سورة المزمل: 5.

6/2/14. خصائص الوحي النبويّ:

للوحي النبويّ والإلهيّ خصائص مختلفة؛وقد ذكر العلامة المطهّري في كتابه«النبوّة»،أربع سمات تخصّ وحي الأنبياء. وفيما يأتي نقدّم شرحاً لهذه الخصائص الأربع بمزيد من الإيضاح:

أوّلاً: علاقة الوحي بالباطن : ويعني ذلك أنّ الوحي ذلك أنّ الوحي الإلهيّ يُتلقّى من الباطن؛ لا عن طريق الحواسّ الظاهريّة. ولهذا، كانت حواسّ النبيّ الأعظم .في أغلب الأحيان التي ينزل فيها الوحي عليه تتثاقل، ثمّ يتصبّب عرقاً. وقد أشار القرآن إلى ذلك بالقول:(نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ)(1). و من المصاديق الأخرى للوحي: الإلهام،والرؤى الصادقة، وهي أمور تنكشف للإنسان باطنياً.

ثانياً مصاحبة الوحي للتعليم الإلهيّ : حينما لا يكون هناك وحي إلهيّ خارجيّ ،ولا يحصل هذا الوحي عن طريق الحواسّ الظاهريّة أيضاً ، فلن يكون له معلّم طبيعيّ وإنسانيّ، ولا يمكن اكتشافه بالاختبار والتجربة؛ لكنّه لا يشبه غرائز الحيوانات التي لا تعليم لها، بل هو التعليم في ذاته ومعلّمه هو اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى. وقد أشارت إلى ذلك الآيات الكريمة التي تقول:

(أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالَّا فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى ﴾(2).

﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ﴾(3).

(عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى)(4).

ص: 114


1- سورة الشعراء: 193.
2- سورة الضحى: 6-8.
3- سورة النساء: 113.
4- سورة النجم: 5.

ثالثاً:استشعار الوحي النبويّ : يعي ويستشعر الأنبياء أحوالهم المعنويّة والملكوتيّة، وهم يدركون الطابع الوحياني للتعاليم الدينيّة. وبعبارة أخرى، كيف عرف الأنبياء أنّ الوحي قد نزل عليهم ، وأنهم بُعثوا، وأن جبرئيل هو الوسيط؟

يجب أن نعلم بأنّ اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالى يوفّر على أساس قاعدة اللطف والحكمة جميع الطرق والوسائل الكفيلة بهداية العباد وإطاعتهم وسعادتهم، ولو لم يكن الأمر على هذا النحو،للزم نقض الغرض. ولهذا، يمهّد اللّه بنفسه الأرضيّة لعلم الأنبياء.

يقول الحقِّ سُبحَانَهُ وَتَعَالى بهذا الشأن:(وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ﴾(1).

(يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(2).

(يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ ﴾(3).

وقال الإمام الصادق .ردّاً عن سؤال زرارة بن أعين عن كيفيّة علم النبي:

«إنّ اللّه إذا اتّخذ عبداً رسولاً أنزل عليه السكينة والوقار، فكان [الذي] يأتيه من قبل اللّه مثل الذي يراه بعينه»(4).

ومن الجدير بالذكر هنا أنّ الوحي لا ينزل على الأنبياء إلّا بعد اجتيازهم المراحل المتدنّية،وبلوغهم المنازل السامية. وفي هذه الحالة، يقف الإنسان بالعلم الحضوريّ على المنزل والمقام الذي تبوّأه.

رابعاً:وساطة الوحي: اعتاد الأنبياء على تلقّي الوحي النبويّ عن طريق مخلوق آخر يُدعى الروح الأمين وجبرئيل. ويُعدّ جبرئيل وسيطاً للوحي الإلهيّ(5).

ص: 115


1- سورة الأنعام: 75.
2- سورة النمل: 9.
3- سورة النمل: 10 .
4- تفسير العياشي، ج 2، ص 201 .
5- لاحظ:النبوّة،مرتضى المطهري، ص 81-84(النسخة الفارسية).

3/14.ثانياً: عصمة الأنبياء:

من صفات الأنبياء الإلهيين عصمتهم من الذنوب والأخطاء، وهي سمة بادر المتكلمون المسلمون إلى تبيينها وإثباتها. ويحتل مقام النبوّة في رأي علماء الإسلام مكانة مهمة تعارض إتيان الصغائر أو الكبائر والأخطاء على سبيل السهو أو العمد.

وقبل الولوج في ماهيّة العصمة وأدلتها المثبتة، هناك سؤال مهمّ يطرح نفسه حول نشأة العصمة؛ مفاده: ما هو المنبع والمنشأ لنظريّة العصمة بين المسلمين؟ ومتى تبلورت هذه الفكرة عندهم ؟

لا ريب في أنّ هذه النظرية الإسلاميّة تنبع من القرآن الكريم، وقد ظهرت معالمها منذ صدر الإسلام؛ فقد أشار اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالى في آيات عديدة إلى مسألة العصمة؛ حيث يقول بخصوص عصمة الملائكة:(لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ )(1).

وفيما يخصّ عصمة القرآن الكريم قال تعالى:(لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ )(2).

كما ورد أيضاً في بيان عصمة بعض الناس على لسان الشيطان قوله تعالى: ﴿فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ﴾(3).

من هنا، فإنّ الشبهة القائلة بأنّ نظريّة العصمة قضيّة روّج له بعض حديثي العهد بالإسلام ممن كانوا على دين اليهوديّة، ليست على صواب؛ فاليهود لم يكونوا يؤمنون بعصمة أنبياء بنيإسرائيل، وكان من ديدنهم الافتراء على أنبيائهم وقذفهم بارتكاب المعاصي الكثيرة.

ص: 116


1- سورة التحريم: 6 .
2- سورة فصلت: 42.
3- سورة ص : 82 .

ومن جهة أخرى، فإنّ المتكلّمين من الإماميّة والمعتزلة ليسوا هم أوّل مَن جاء بهذه النظريّة؛ فقبل نشوب الخلاف بين المسلمين حول قضيّة الإمامة، كانت نظرية العصمة شائعة بين أتباع رسول اللّه .مستفيدةً من الآيات القرآنية(1).

1/3/14. مناحي العصمة:

ترتبط مفردة «العصمة» بمادّة «عَصَمَ»، وهي تعني المنع والإمساك. وتُسمّى العصمة بهذا الاسم؛ لأنّ الشخص المعصوم يُمنع من ارتكاب المعصية والخطأ. يقول اللغويّ الشهير الخليل الفراهيدي في هذا الخصوص:أن يعصمك اللّه من الشرّ ؛ أي: يدفع عنك، واعتصمت باللّه؛ أي: امتنعت به من الشرّ(2).

وقد عرّف ابنفارس، العصمة بالصيانة الإلهية من كل سوء يقع العباد فيه(3). وفسرّ الراغب الأصفهاني كلمة «العصمة» بالإمساك.(4)

وأشار كلّ من الشيخ المفيد والسيّد المرتضى والشيخ الطوسي إلى المعنى اللغوي للعصمة(5).

ص: 117


1- لاحظ:مفاهيم القرآن (بالفارسية : منشور جاويد)، جعفر السبحانيّ، ج 5، ص 6؛ عصمة الأنبياء في القرآن الكريم،السبحاني ص 10؛الإلهيّات على هدي الكتاب والسنة والعقل،السبحاني،ج2 ، ص 154؛أضواء على عقائد الشيعة الإمامية وتاريخهم،السبحاني،ص 289؛رسائل ومقالات،السبحاني،ص 294؛سيرة الرسول الأكرم في القرآن الكريم (بالفارسية: سيره رسول اکرم در قرآن)الجوادي الآملي، ج 5،ص 6؛ عصمة الأنبياء في القرآن الكريم، الجوادي الآملي، ص 10.
2- كتاب العين،الخليل بن أحمد الفراهيدي، ج 1، ص 313 .
3- معجم مقاييس اللغة،ابن فارس، ج 4 ، ص 331.
4- المفردات،الراغب الأصفهاني، ص 336. وقال ما نصّه: «العصم الإمساك والاعتصام الاستمساك، قال: لا عاصم اليوم من أمر اللّه؛ أي: لا شيء يعصم منه».
5- إنّ العصمة في أصل اللغة هي ما اعتصم به الإنسان من الشيء كأنه امتنع به عن الوقوع فيما يكره.. ومنه قولهم:«اعتصم فلان بالجبل» إذا امتنع به ومنه.سُمّيت «العصم» وهي وعول الجبال لامتناعها بها. والعصمة في اللّه تعالى هي التوفيق الذي يسلم به الإنسان ممّا يكره إذا أتى بالطاعة وذلك مثل إعطائنا رجلاً غريقاً حبلاً ليتشبّث به فيسلم فهو إذا أمسكه واعتصم به سُمّي ذلك الشيء عصمة له لما تشبث به وسلم به من الغرق ولو لم يعتصم به، لم يُسمَّ عصمة. وكذلك سبيل اللطف، أنّ الإنسان إذا أطاع سُمّي توفيقاً وعصمة وإن لم يطع لم يُسم توفيقاً ولا عصمة ...(أوائل المقالات،الشيخ المفيد، ص 66 )وأصل العصمة في وضع اللغة المنع، يقال: فلاناً من السوء إذا منعت من فعله ،به غير أنّ المتكلمين أجروا هذه اللفظة على من امتنع باختياره عند اللطف الذي يفعله اللّه تعالى به؛ لأنّه إذا فعل به ما يعلم أن يمتنع عنده من فعل القبيح، فقد منعه منه، فأجروا عليه لفظ المانع قسراً أو قهراً. (رسائل السيّد المرتضى، ج 3، ص 326.) و«العصمة المنع من الآفة والمعصوم في الدين؛ الممنوع باللطف من فعل القبيح، لا على وجه الحيلولة» (التبيان،الشيخ الطوسيّ، ج 5، ص 490).

وفيما يخصّ المعنى الاصطلاحيّ للعصمة، نوقشت مناحٍ وتوجّهات مختلفة من قِبَل المتكلّمين والحكماء الإسلاميّين(1)؛فأدرج بعضهم العصمة تحت لواء اللطف والفضل الإلهيّين، وعدّه آخرون القوّة العاقلة، ووصفته جماعة بالكلمة النفسانية، وفسّرته أخرى بالحيثية الخاصة.

أما الشيخ المفيد والسيّد المرتضى والمحقّق الطوسي والعلّامة الحلّيّ، فذهبوا إلى أنّ اللطف يمثل حقيقة العصمة(2).ومن متكلّمي الأشاعرة والمعتزلة الذين عدّوا العصمة لطفاً إلهياً البياضيّ (3)الأشعريّ، والقاضي عبدالجبّار المعتزليّ(4).

ومع أنّ هذا الانطباع عن العصمة الذي يصنّفها في ضمن اللطف أو الفضل الإلهيّين صحيح لا غبار عليه؛ إلّا أنّ ذلك لا يحدّد القوة المؤثرة في مصونيّة أئمة الدين من المعصية والخطأ.

وقد ذهب الحكماء المسلمون إلى أنّ حقيقة العصمة في أئمة الدين كمال القوة

ص: 118


1- راجع : الكلام الفلسفي (بالفارسية: كلام فلسفي)، محمد حسن قدردان قراملكي، ص 364-377.
2- النكت الاعتقادية،37: «العصمة لطف يفعله اللّه بالمكلف بحيث يمتنع منه وقوع المعصية وترك الطاعة مع قدرته عليهما.» ؛ والسيّد المرتضى، مسائل المرتضى،مؤسسة البلاغ،الطبعة الأولى، بيروت، 1422، ص 188: «إنّ اللطف الذي يفعله تعالى.» وكذلك السيّد المرتضى، علم الهدى، رسائل الشريف المرتضى، ج 3، ص 325 و 326:«فيختار العبد عنده الامتناع العدول عن القبيح، ويقال: إنّ العبد معتصم، لأنّه اختار عند هذا الداعي الذي فعل الامتناع عن القبيح». وتلخيص المحصّل، ص 369: «إنّ اللّه في حق صاحبها لطفاً لا يكون له مع ذلك داع إلى ترك الطاعة وارتكاب المعصية مع قدرته على ذلك.» والباب الحادي عشر، ص 37: «العصمة لطف خفي يفعل اللّه تعالى بالمكلّف بحيث لا يكون له داعٍ إلى ترك الطاعة وارتكاب المعصية مع قدرته على ذلك.»؛جامع الأسرار ومنبع الأنوار، ص 242: «العصمة من اللّه هي التوفيق الذي يسلم به الإنسان فيما يكره إذا أتى الطاعة».
3- الصراط المستقيم، ج 1، ص 50 و116.
4- راجع المغني، ج 13، ص 15.

العاقلة للإنسان إزاء القوّة الغضبيّة والشهويّة. فإنّ الإنسان الكامل من خلال هذا التوجّه يسيطر بعد تقوية القوّة العاقلة على القوى الأخرى للنفس ؛ أي القوى الغضبية والشهويّة، ويجعلها مطيعة للقوّة العاقلة. وتبلغ نفس النبي والولي بعد اجتياز مراحل التكامل والارتباط والاتصال بالعقل الفعّال(المَلَك الإلهي) مقاماً لايتوفّر فيه المجال لتحقق المعصية في وجوده(1).

ومع أنّنا لا نشكّ في أنّ تكامل القوّة العاقلة يلعب دوراً فعالاً في حقيقة العصمة؛ لكن هل يكفي هذا النوع من التكامل للوصول إلى مقام النبوّة؟ وهل يبلغ كلّ حكيم يملك فعليّة القوّة العاقلة ، مقام عصمة النبي أو الولي؛ أمّ أنّه يصل إلى مرتبة من مراتب العصمة وحسب؟

يرى كاتب هذه السطور أنّ الأنبياء المعصومين: لا يستغنون في نيل العصمة وهداية الناس عن الفضل واللطف الإلهيين حتى بعد ما بلغوه من الرقي العقلي.

إنّ فعليّة القوّة العاقلة لا تقوم إلا بتوفير الأرضية اللازمة لحصول الإنسان العاقل على العقل المستفاد، ويرتبط عن طريق ذلك بالعقل الفعّال، ويتلقّى

ص: 119


1- راجع:الإشارات،ابن سينا،النمط العاشر ، ج3، ص130. يقول المحقق اللاهيجي لدى تبيينه هذا المنحى،في كتابه «گوهر مراد» في الصفحة 379 ؛«اعلم أنّ ثبوت هذا الأمر في طريقة الحكماء،في كمال الظهور؛ لأنه وبناء على الخاصّيّة الثالثة،تكون جميع القوى النفسانية مطيعة ومنقادة للعقل، والعقل من حيث هو عقل يمتنع فيه إرادة المعصية وصدور الفعل القبيح عنه. المراد بالعصمة هو الغريزة التي لا يمكن معها صدور الداعي إلى المعصية مع القدرة عليها؛ وهذه الغريزة عبارة عن قوّة العقل، بحيث توجب قهر القوى النفسانية». ويقول العلامة النراقي في «أنيس الموحّدين»، ص 99 :«قابل مرتبة النبوّة هو الذي أصبحت جميع قواه الطبيعية والحيوانية والنفسانية مطيعة منقادة مقهورة له،ومن تتبع جميع قواه العقل،فمن المحال أن تصدر عنه معصية؛ لأنّ جميع الذنوب قبيحة في نظر العقل، وكل من تصدر عنه معصية، فمن المحال أن يرتكب معصية مالم تغلب عقله إحدى قواه؛ كالقوة الغضبيّة أو القوّة الشهويّة أو غيرهما.»؛ ويقول المقداد السيوري في اللوامع الإلهيّة، ص 242:«وقال بعض الحكماء: إنّ المعصوم خلقه اللّه جبلة صافية وطينة نقية ومزاجاً قابلاً، وخصّه بعقل قوي وفكر سوي، وجعل له ألطافاً زائدة،فهو قوي بما خصّه على فعل الواجبات واجتناب المقبحات والالتفات إلى ملكوت السموات والأرض عن عالم الجهات،فتصير النفس الأمارة مأسورة مقهورة في حيّز النفس العاقلة».

الوحي الإلهيّ بشكل صحيح؛ ولكن هل له أن يحفظ الوحي الإلهيّ ويبلغه ويبيّنه بالقوّة العاقلة فقط ؛ وهو متمتّع بالعصمة؟ يبدو أنّ ذلك يستلزم الفيض واللطف الإلهيّين أيضاً، وإن يُعدّ الوصول إلى فعليّة القوّة العاقلة كذلك، فيضاً اهياً .

يقول العلامة الجواديّ في شرحه لكلمات ابنسينا(1)في حقيقة العصمة :

العصمة على قسمين: أحدهما يعود إلى العلم،والآخر إلى العمل. أمّا القسم الأوّل؛ أي العصمة التي تعود إلى العلم،فهو أن يكون النبيّ معصوماً في جميع شؤونه وأموره العلميّة وأبعاده الإدراكيّة، واتّضح عند تشريحه كمال القوّة النظريّة أنّ النبيّ يتلقّى الوحي بواسطة العقل المستفاد من حضرة الحكيم العليم وتتجسّم وتتمثّل تلك المعارف والمعلومات والعلوم المتلقّاة، في حسّه المشترك ؛ بحيث لا يداخله الوهم ولا تتلاعب سائر القوة المهجورة.فلا يرى سوى الحقّ ولا يفكّر في سوى الحقّ؛ لأنّه نال مقاماً يدور حول مدار الحقّ وقد تلقّى المعارف والعلوم من عند حكيم عليم لا مجال للخطأ في حضرته.فإن تمّ حدّ العصمة ونصابها العلميّان في هذه المرحلة من التلقّي والأخذ، يأتي الدور على العصمة في المرحلة الثانية، وهي مرحلة الحفظ والضبط، بحيث يكون النبي محفوظاً ومصوناً من السهو والخطأ أيضاً؛ لأنّ القانون الكامل الوحيد لسعادة الإنسان هو الوحي ولو لم يكن الوحي النازل من حضرة المعلّم الإلهي الذي هو العقل الفعّال، مصوناً من الزوال وسهو المعصوم وخطئه، فلن يكون له جدوى البتة .. ومن هنا، يتّضح لزوم العصمة في مرحلة الإبلاغ والبيان؛ بحيث لا يبلّغ سوى عين ما أُوحي إليه منذ البدء ولا يملي عن هوى، فلا يخطئ ولا يعتريه النسيان، كما أنه لا يخطئ في الحفظ والضبط. هذه مقولة

ص: 120


1- راجع: الشفاء،الإلهيات، ابن سينا،الفصل التاسع من المقالة الأولى؛ وكذلك:اشارات،الفصل العشرون من النمط العاشر والفصل الرابع من النمط التاسع والفصل السادس والعشرون من النمط العاشر.

حول العصمة العلميّة. وأمّا القسم الثاني؛أي العصمة العمليّة،فهي أن يكون النبيّ في جميع الشؤون والأمور العمليّة وأبعاد فعليّته معصوماً بحيث يقوم بكلّ ما يستحقّ القيام به ويترك ما يستحقّ الترك حتّى يكون الجذب والدفع؛أي حبّه وبغضه في سبيل اللّه تعالى وخالصَينِ له(1).

وقد عدّ بعض المتكلّمين وطائفة من الحكماء المسلمين حقيقة العصمة امتلاكَ ملكة نفسانيّة تصون الإنسان من ارتكاب الذنوب(2):

يقول الفاضل المقداد في كتابه اللوامع الإلهيّة : العصمة ملكة نفسانية تمنع المتّصف بها من الفجور مع قدرته عليه(3).

ويكتب العلامة النراقيّ في هذا الشأن:العصمة ملكة لا يكون معها داع إلى المعصية مع القدرة عليها(4).

وقد أذعن بهذا المنحى بعضُ المتكلّمين من أهل السنّة؛مثل:المحقق الجرجاني(5)،والقاضي الإيجّي(6)، والتفتازانّي(7).

وصوّر عدد من المتكلّمين المسلمين - بدلاً من تصريحهم بكون العصمة

ص: 121


1- راجع:المبدأ والمعاد،الجوادي الأملي، ص 267-269.
2- يقول المحقق الطوسي في «نقد المحصّل»ص 369: «إنّها ملكة لا تصدر عن صاحبها معها الذنوب وهذا على رأي الحكماء.»يقول ميثم بن ميثم البحرانيّ في«النجاة في القيامة في تحقيق أمر الإمامة»؛ مجّمع الفكر الإسلاميّ، ج 1، قم 1417؛ ص 55 :«العصمة ملكة نفسانيّة يمتنع معها المكلّف من فعل المعصية».ويقول الفاضل المقداد في الباب الحادي عشر ص 37: «ملكة نفسانية لطف يفعله اللّه بحيث لا يختار معه ترك طاعة ولا فعل معصية مع قدرته على ذلك».
3- اللوامع الإلهية، ص 244.
4- أنيس الموحدين، ص 97.
5- التعريفات، ص 65.
6- شرح المواقف، ج 8، ص 281.
7- شرح المقاصد، ج 5، ص 313.

من اللطف - أنّها صفة وحالة معيّنة، أو قوّة توجب مصونيّة المتصف بها من المعصية(1).

إنّ ما يؤخذ على هذا التعريف من أساسه: إبهام الحيثيّة والقوّة والأمر، وكذا غموضها الذي لا يسمح بظهور حقيقة العصمة.

أمّا المسلك الذي تعتنقه غالبيّة الأشاعرة في قضيّة العصمة فهو أنّ اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالى لا يخلق في الإنسان المعصوم أي فعل قبيح أو معصية، لكنّ قدرة ارتكاب المعصية - في الوقت ذاته - غير منتفية عنه(2).

ويبتني تحليل الأشاعرة هذا للعصمة على أساس نفي فاعليّة الإنسان؛ فهم يعدّون كلّ ضرب من الأفعال الإنسانيّة فعلاً إلهيّاً، ولا يقولون بأيّ دور للإنسان في ارتكاب فعله. وتتعارض هذه النظريّة - إضافة إلى ما يُعاب عليها من القول بالجبر - مع معنى الاختيار والقدرة اللازمة في حقيقة تعريف العصمة.

وقد انبرت طائفة من المتكلّمين السنّة والشيعة من أمثال : الفخر الرازي والمحقّق الطوسيّ إلى التبيين التركيبيّ لحقيقة العصمة؛ فحسبما يراه الفخر الرازي تمثّل العصمة

ص: 122


1- يعبر المحقق الطوسي في «قواعد العقائد» ص 93، عن العصمة بنوع من الحيثية فيقول: «العصمة هي كون المكلّف بحيث لا يمكن أن تصدر عنها الذنوب من غير إجبار له عن ذلك.»وابن ميثم البحرانيّ يعبّر في «قواعد المرام» ص 125،عن العصمة بالصفة قائلاً:«العصمة صفة للإنسان يمتنع بسببها من فعل الذنوب ولا يمتنع منه بدونها.»ويقرّر السيّد حيدر الآملي في «جامع الأسرار ومنبع الأنوار» ص 243 آراء المتأخرين على النحو الآتي: «وأما على رأي متأخّريهم، فالعصمة صفة للإنسان يمتنع بسببها من فعل الذنوب ولا يمتنع منها بدونها.» ويعرّف العلامة حسن زاده الأمليّ في«شرح كلمة عصميّة في كلمة فاطميّة » ص 151 العصمة ب«القوّة» فيقول: «وحقيقة العصمة أنّها قوّة نورية ملكوتية تعصم صاحبها عن كلّ ما يشينه من رجس الذنوب والأدناس والسهو والنسيان ونحوها من الرذائل النفسانية».
2- راجع:فخرالدين الرازي،المحصّل، ص 365 ؛إنّه يكتب نقلًا عن أبي الحسن الأشعري: «العصمة القدرة على الطاعة وبعدم القدرة على المعصية». وذكر القاضي الإيجيّ في «المواقف»ج 4 ،ص 280 عند تعريفه للعصمة:«وهي عندنا أن لا يخلق اللّه فيهم ذنباً.» ويقول في كتابه«كشّاف اصطلاحات الفنون» ج 3، ص 1047:«وهي عند الأشاعرة أن لا يخلق اللّه في العبد ذنباً بناء على ما ذهبوا إليه من استناد الأشياء كلّها إلى الفاعل المختار ابتداء».ويكتب التفتازاني في «شرح المقاصد»ج 4 ص 312: «العصمة خلق قدرة الطاعة».

خاصّيّة في الجسم أو النفس تمنع من ارتكاب المعصية، أو أنّ المعصية هي القدرة على الطاعة التي تستلزم سلب الاختيار. أما العصمة في رؤية الإمامية فهي أمر يوجِده اللّه في المعصوم،يبعث على ترك المعصية، ولا يؤدّي إلى سلب الاختيار.

وأسباب العصمة عند الرازي هي:

أولاً: هناك في النفس أو الجسم خاصّيّة وملكة تمنعان من المعصية

ثانياً: يوجد لدى المعصوم، العلم بشرّ المعصية وقبحها، وبخير الطاعة.

ثالثاً: تصل هذه العلوم عن طريق الوحي والكلام الإلهيّ إلى المعصوم.

رابعاً: إذا صدر عن المعصوم خطأ يكون من باب ترك الأولى أو النسيان، ولا يوكَل إلى نفسه، بل يتعرّض للمعاقبة والتنبيه ويصعب الأمر عليه. فيجعل العوامل الأربعة صدور المعصية عن المعصوم معدوماً ومحالاً(1).

فالعصمة من المعصية عند الفخر الرازي إذن، نتيجة لعمليّة محدّدة تبدأ من الملكة النفسانيّة المتمثّلة في العلم بحقيقة الطاعة والذنوب وإلقاء الوحي الإلهيّ وتنتهي إلى الخوف من المؤاخذة والعقاب الإلهيّين مع إتيان أصغر خطا أو معصية. ورغم أنّ المحقق الطوسي لم يقدّم في أيّ موضع،تعريفاً تركيبيّاً؛ غير أنّه يمكن الحصول على تعريف تركيبيّ من تعاريفه المتنوّعة في باب العصمة.فهو يعرّف العصمة بالملكة النفسانيّة(2)، وإيجاد حيثيّة خاصة (ملكة) في المعصوم(3)، واللطف والتفضّل

ص: 123


1- يقول في هذا الصدد: «منهم من زعم أنّ المعصوم هو المختص في بدنه أو في نفسه بخاصيّة تقتضي امتناع إقدامه على الذنوب، ومنهم من ساعد على كونه مساوياً لغيره في الخواصّ البدنية، لكن فسّر العصمة بالقدرة على الطاعة وهو قول أبي الحسن الأشعريّ، والذين لم يسلبوا الاختيار فسروها بأنّه الأمر الذي يفعله اللّه تعالى بالعبد،وعلم أنه لا يقدم مع ذلك الأمر على المعصية بشرط أن لا ينتهي فعل ذلك الأمر إلى حدّ الإلجاء..»، محصل أفكار المتقدمين، ص 167.
2- نقد المحصّل،ص 369.
3- قواعد العقائد، ص 93.

الموهوبين(1)من اللّه تعالى .(2)كما يؤكّد العلّامة الطباطبائي في تعريفه للعصمة، على عاملين هما الملكة النفسانية والعلم(3).

وملخّص القول: إنّ في تحقّق ملكة العصمة،يؤثّر الاستعداد والقابليّة للقوّة العاقلة لدى المعصوم ( توجّه الفلاسفة)واللطف والعناية الإلهيّان(توجّه المتكلّمين)، يؤثّر على منح هذا المقام.ويجعل اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالى العصمة في المعصومين عن طريق الملكة النفسانيّة والقوّة العقلائية ؛ فالعصمة - إذن - لها حيثيّة اكتسابيّة، وحيثيّة إعطائية معاً. ويرى كاتب هذه السطور أنّ الأئمّة المعصومين تلقّوا قابليّة الاتصاف بالعصمة المعطاة من قبل اللّه تعالى في عهد عالم الذر؛ فطبقاً للآيات والأحاديث، كان قبل العالم الدنيوي، عالم اسمه عالم الذرّ، ولأرواح البشر فيه الاختيار والتعقل والقدرة على التصرّف. فبلغت بعض الأرواح (أرواح أئمة الدين)هناك درجات باختيارهم، تُمكِّنهم من الاتّصاف بالعصمة. وهذا البيان يساعدنا في إثبات عصمة الأنبياء: قبل البعثة ،والإمامة، بل قبل العالم الدنيوي.

2/3/14. نطاق عصمة الأنبياء:

للعصمة في الكلام الإسلاميّ مراتب. وقد اكتفى بعضهم بثلاث مراتب منها :

أوّلاً: العصمة من ارتكاب الذنوب ومخالفة الأوامر الإلهيّة (الواجبات والمحرّمات).

ثانياً: العصمة من الخطأ والنسيان في تلقّي الوحي، وإبلاغه، وتبليغ الرسالة.

ص: 124


1- تلخيص المحصّل، ص 369.
2- راجع:الباب الحادي عشر، ص 37.
3- يقول في هذا الصدد: «الأفعال الصادرة عن النبي .على وتيرة واحدة صواباً وطاعة تنتهي إلى سبب مع النبي .وفي نفسه وهي القوّة الرادعة.. وفي النبيّ ملكة نفسانية يصدر عنها أفعاله على الطاعة والانقياد». الميزان،ج 2، ص 138 و 139. «إنّ الأمر الذي تحقق به العصمة نوع من العلم يمنع صاحبه عن التلبس بالمعصية والخطأ، وبعبارة أخرى علم مانع عن الضلال».المصدر نفسه، ج 5، ص 78 وكذلك، ج 11، ص 162.

وثالثاً: العصمة من الخطأ والنسيان في تنفيذ الأحكام الإلهيّة، والمطابقة بينها وبين الشريعة، والمصونيّة من الخطأ في القيام بالشؤون الفرديّة والاجتماعيّة(1).

إنّ الاهتمام بالتحليل المفهوميّ والإثبات التصديقيّ للعصمة،يدلّ على المراتب الأخرى لها؛ ومنها:العصمة في تلقي الوحي والإلهام، والعصمة في إبلاغ الوحي والإلهام بشكل صحيح، والعصمة في المعتقدات الدينيّة، والعصمة في العمل وتنفيذ الأحكام الإلهيّة بشكل صحيح، والعصمة في المعرفة الدقيقة لمواضيع الأحكام الشرعيّة، والعصمة في معرفة المصالح والمفاسد الفرديّة والاجتماعيّة، والعصمة في شؤون الحياة الاعتياديّة. سُمّيت العصمة في العقيدة الدينيّة والعمل بالشريعة، بالعصمة من الذنوب والذنوب وذلك باعتبار أنواع الصغائر والكبائر والذنوب العمدية والسهويّة والنسيانية. وتنقسم العصمة من حيث مراتبها قبل مقام النبوّة والإمام وبعده، إلى عدة أقسام(2).

وهنا يمكن استعراض مراتب العصمة في ثلاثة مجالات:

أوّلاً: العصمة في البصيرة (المعرفة والمعتقدات).

ثانياً: العصمة فى الأخلاق (الملكات).

ثالثاً: العصمة في السلوك الفردي والاجتماعي).

وقد قام العلّامة الحلّيّ في شرح التجريد بتبيين الآراء المختلفة للعلماء المسلمين حول نطاق العصمة على النحو الآتي:

فجماعة المعتزلة جوّزوا الصغائر على الأنبياء إمّا على سبيل السهو كما ذهب إليه بعضهم أو على سبيل التأويل كما ذهب إليه قوم منهم أو لأنها تقع محبطة بكثرة ثوابهم.

ص: 125


1- راجع: الإلهيّات على هدي الكتاب والسنة والعقل، جعفر السبحاني، ج 3، ص 155.
2- إيضاح المراد في شرح كشف المراد،علي ربّاني گلبايگاني،ص 353.

وذهبت الأشعريّة والحشويّة إلى أنّه يجوز عليهم الصغائر والكبائر إلّا الكفر والكذب وقالت الإماميّة أنّه تجب عصمتهم عن الذنوب كلّها صغيرها وكبيرها والدليل عليه وجوه : أحدها أنّ الغرض من بعثة الأنبياء: إنّما يحصل بالعصمة(1).

يتّضح مما سبق وجود الاختلاف بين علماء المسلمين حول مراتب العصمة وأقسامها؛ فمشهور الإماميّة يرون عصمة أئمة أهل البيت:من جميع الأخطاء والذنوب، سواء كبيرة منها أو صغيرة، عمديّة أو سهويّة، قبل النبوّة والإمامة أو بعدهما، وهذا ما لا يذهب إليه أهل السنة(2).

وتثبت عصمة الأنبياء عند علماء الإمامية ومتكلّميهم في جميع المجالات المذكورة آنفاً (العصمة في المعتقدات،والأفعال والأعمال الفرديّة، ومعرفة مصالح الناس و مفاسدهم، والتبيين والتفسير لأجل تنفيذ الأحكام الإلهيّة بشكل صحيح، سواء العثرات والذنوب العمديّة أو السهويّة، الكبيرة أو الصغيرة، قبل الإمامة أو بعدها)، ولم يقل أيّ من علماء المذاهب الإسلامية الأخرى بمعنى كهذا للعصمة بالنسبة إلى الأنبياء الإلهيّين.

وقد اختلف متكلّمو الأشاعرة والمعتزلة اختلافاً شديداً في المجالات المختلفة لعصمة الأنبياء؛ فحسَب رأي القاضي الإيجيّ ترى غالبيّة الأشاعرة جواز صدور الكبائر عن الأنبياء سهواً(3).ويعزو الفاضل القوشجيّ منْعَ نسبة الكبائر والصغائر الدنيئة إلى الأنبياء بعد البعثة إلى محقّقي الأشاعرة؛ وإن أجاز إمام الحرمين الجوينيّ،على غرار أبيهاشم المعتزليّ نسبةَ الصغائر العمديّة إلى الأنبياء(4).

ص: 126


1- کشف المراد، ص 349.
2- راجع:السيّد المرتضى،تنزيه الأنبياء، ص 34 و 35؛ الذخيرة، ص 337 و 338؛ أوائل المقالات، ص 18 .
3- المواقف، ج 5؛ وشرح المقاصد، ج 5، ص 50.
4- شرح التجريد، ص 359؛ وكذلك شرح المقاصد، ج 5، ص 51.

ويرى التفتازانيّ أنّ الأشاعرة والمعتزلة قاطبةً قد أجازوا ارتكاب جميع الصغائر على الأنبياء سهواً، سوى ما يوجب انتقاص شأنهم.(1)ولكن، خطّأ صاحب النبراس هذه الدعوى، ونسَب ذلك إلى أكثر الأشاعرة والمعتزلة؛ وليس إلى كلّهم(2).

ويذهب الفخر الرازي إلى أنّ جميع ما في أقوال العلماء المسلمين من اختلاف في مسألة العصمة، يتلخّص في أربعة أقسام عامّة : وفي البداية، يقدّم عصمة الأنبياء في هذه المجالات:

أوّلاً: العصمة في المعتقدات.

وثانياً: العصمة في التبليغ.

وثالثاً: العصمة في الأحكام.

ورابعاً: العصمة في الأفعال والأعمال.

أمّا بخصوص القسم الأوّل، فينبغي للأنبياء أن يتنزّهوا من الكفر والضلال،ويرى الفخر الرازي ضرورة ذلك عند أكثر العلماء؛ بخلاف طائفة من الخوارج تُدعى الفضيليّة، فقد آمنوا بإمكان صدور المعصية عن الأنبياء ، وفسّروا ارتكاب المعصية بنوع من الكفر والشرك، فقبلوا بوقوع الكفر من الأنبياء.(3)وقد ردّ الرازي قولهم بأنّ الإمام هو من يؤتمّ به،فأوجب على كلّ الناس أن يأتمّوا به، فلو صدر الذنب عنه لوجب عليهم أن يأتموا به في ذلك الذنب!وذلك يفضي إلى التناقض. وقد نسب الرازي مخطئاً، تجويز إظهار الكفر من الأنبياء بناءً على التقية إلى علماء الإمامية(4).

ص: 127


1- شرح العقائد النسفية، ص 102.
2- راجع:النبراس، ص 452 و 453 ،نقلًا عن إيضاح المراد، ص 356.
3- مفاتيح الغيب،فخرالدين الرازي، ج 1، ص 455 ؛وكتاب الأربعين،ص 329؛ومحصل أفكار المتقدمين والمتأخرين، ص 167 و 168.
4- مفاتيح الغيب،ج 1 ،ص 455 ؛وكذلك كتاب الأربعين، ص 329.

أما بخصوص القسم الثاني من العصمة والذي يرتبط بتبليغ الوحي وتشريعه، فيُجمع - حسب رأيه - كلّ علماء الأمة على العصمة من الكذب والتحريف؛ لأنه في غير هذه الحالة، لا يعود يمكن الوثوق بأفعالهم وأقوالهم والاعتماد عليها. وكذلك يتفق العلماء على أنّ الخطأ والكذب لا يصدران عمداً عن الأنبياء؛ كما أنه لا يجوز وقوع الخطأ السهويّ منهم غير أن جماعة أخرى أجازت الخطأ والكذب سهواً ودلّلت على ذلك بأنّ الاحتراز عنهما غير ممكن إطلاقاً ولا طاقة للإنسان بذلك.

وأما بخصوص القسم الثالث الذي يتعلّق بالعصمة في مجال الإفتاء وتبيين الأحكام وتشريعها، فقد اتفق العلماء على أنّه لا يُقبل الخطأ العمدي منهم؛ لكن بعضهم يجيز الخطأ السهويّ(1).

وأما القسم الرابع من العصمة والمرتبط بأفعالهم، ففيه اختلاف بين العلماء المسلمين، وسيقت بشأنه خمسة أقوال(2).

وبناء على رؤية الفخر الرازي،تختصّ عصمة الأنبياء من الذنب والمعصية، كبيرة كانت أو صغيرة،بزمن النبوّة فقط، ولا يقولون بلزومها قبل مقام الرسالة والنبوّة،وبالإضافة إلى ذلك، لا يجيز هؤلاء الذنوب العمدية للأنبياء فحسب، بل الذنوب التي تصدر عنهم سهواً(3).

بناءً على ما تقدّم، يعتمد رأي الأشاعرة والمعتزلة في عدم اشتراط العصمة في الإمام على أنّ ملكة العصمة تخصّ من يتبوّأ مقام الحجّة من جانب اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالى، وهم من يأخذ الناس عنهم المسائل الدينيّة؛ كالأنبياء، وهذا - حسب زعمهم - لا ينطبق على الإمام؛ لأنّ الناس لا يتلقّون معارف دينهم من الإمام(4).

ص: 128


1- المصدر نفسه، ص 455 ؛وكتاب الأربعين، ص 329.
2- مفاتيح الغيب (التفسير الكبير)، ج 1، ص 455؛ وكذلك البراهين في علم الکلام، ج 2، ص 45-47.
3- راجع:شرح الأصول الخمسة،عبد الجبّار المعتزلي،ص 510 و 511 ؛راجع: مقدّمة ابن خلدون، ص 193؛ ،والمواقف، ج 3، ص 585 و 586؛ والماورديّ، الأحكام السلطانية، ص 6.
4- المغني،عبد الجبّار المعتزلي، ج 20، ص 75.

ويرى المتكلّمون الشيعة أنّ المعصوم هو الذي لا تصدر عنه - من أوّل حياته إلى آخرها - أيّ معصية؛ كبيرة كانت أو صغيرة، على سبيل العمد أو السهو . أمّا أهل السنّة فيرون أنّ المعصية أو الخطأ السهويّ لا ينافي العصمة؛ كما أنّ مِن علماء أهل السنّة مَن يقول : الصغائر لا تضرّ العصمة. وقد ذهب بعض علماء العامّة إلى أنّ العصمة تشترط أن يكون الأنبياء معصومين في زمن بعثتهم ودعوتهم، وليس قبلهما. وحصر آخرون العصمة في زمن تبيين الوحي وإبلاغه إلى الناس؛ أي أن يكون صادقاً في مقام دعوة الناس إلى الرسالة، ولا يكذب عمداً أو سهواً أو عن نسيان،ولكن لا يلزم أن يكون معصوماً في غير ذلك من الحالات، بل يجوز صدور الخطأ والمعصية عنه(1).

يقول الشيخ الصدوق:

اعتقادنا في الأنبياء والرسل والأئمة والملائكة (صلوات اللّه عليهم) أنهم معصومون مطهّرون من كلّ دنس ،وأنهم لا يذنبون ذنباً، لا صغيراً ولا كبيراً، ولا يعصون اللّه ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون. ومن نفى عنهم العصمة في شيء من أحوالهم فقد جهلهم(2).

هذا، ويشمل نطاق عصمة الأنبياء،السهو والنسيان أيضاً.

وما رُوي من أنّ النبي .سها في صلاته، ثمّ أدّى سجدتي السهو، غير تامّ للأسباب الآتية:

ص: 129


1- قواعد العقائد،ص 94-97 ،يقول الشيخ المفيد في«أوائل المقالات» ص18: «إنّ جميع الأنبياء (صلوات اللّه عليهم)معصومون من الكبائر قبل النبوّة وبعدها وممّا يستخفّ من الصغائر كلّها وأما ما كان من الصغيرة لا يستخفّ فاعله فجائز وقوعه منهم قبل النبوّة وعلى غير تعمّد وممتنع منهم بعدها على كل حال،وهذا مذهب جمهور الإمامية،والمعتزلة بأسرها تخالف فيه.» يقول السيّد المرتضى في كتابه «تنزيه الأنبياء» ص 34، وفي كتابه «الناصريات» ص 255، وفي «الشافي في الإمامة» في ج1، ص97: «قالت الشيعة الإمامية: لا يجوز عليهم شيء من الذنوب والذنوب كبيراً كان أو صغيراً، لا قبل النبوّة ولا بعدها ويقولون في الأئمة مثل ذلك».
2- الاعتقادات،الصدوق، ص 128.

أوّلاً: أنّ في هذا الحديث ضعف من ناحية السند، وفيه اضطراب من ناحية المتن.

وثانياً : أنّه يتناقض مع ظاهر الكتاب والأحاديث العديدة التي تدلّ على مصونية النبي من السهو والنسيان.

وثالثاً: أنه يتنافى مع الأدلّة العقليّة المبنية على عصمة الأنبياء(1).

وقد ناقش في الاستدلال بهذا الحديث علماء كبار من أمثال:الشيخ المفيد، والشيخ الطوسيّ، والمحقّق الحلّيّ، والخواجة الطوسيّ، والعلّامة الحلّيّ، والشهيد الأوّل، والفاضل المقداد.

3/3/14. أدلّة عصمة الأنبياء:

إنّ الأدلّة التي سيقت لضرورة بعثة الأنبياء تشير أيضاً إلى عصمتهم. وقد استفاد المحقّق اللاهيجيّ في تبيانه لأدلّة العصمة من طريقة الحكماء والمتكلّمين فقال:

اعلم أنّ ثبوت هذا الأمر في طريقة الحكماء، في كمال الظهور؛ لأنّه وبناء على الخاصّيّة الثالثة، تكون جميع القوى النفسانيّة مطيعة ومنقادة للعقل،والعقل من حيث هو عقل يمتنع فيه إرادة المعصية وصدور الفعل القبيح منه. المراد بالعصمة هو الغريزة التي لا يمكن معها صدور الداعي إلى المعصية مع القدرة عليها؛ وهذه الغريزة عبارة عن قوّة العقل، بحيث توجب قهر القوى النفسانيّة. أمّا بطريقة المتكلّمين، فإنّ الدليل على هذا الأمر هو أنه لا شكّ في أنّ عصمة الأنبياء لطف نظراً إلى المكلّفين؛ لأنه إذا كانت عصمة النبيّ ،واجبة، يحصل الوثوق التامّ بأفعاله وأقواله ويقترب المكلّف -بسبب هذا المعنى - من الانقياد له ويبعد عن مخالفته، وإنّ اللطف واجب على اللّه تعالى، فتجب عصمة الأنبياء. وإذا ثبتت العصمة، وجب اعتبارها بالنسبة إلى جميع الصغائر

ص: 130


1- الإلهيّات على هدي الكتاب والسنّة والعقل، جعفر السبحاني، ج 2، ص 188-196 ؛سيرة الرسول الأكرم في القرآن الكريم سلسلة التفسير الموضوعي، الجوادي الآملي،ج 9،ص 48؛الوحي والنبوّة، سلسلة التفسير الموضوعي،الجوادي الآملي، ج 3، ص 241، ص 287، و292، و289.

والكبائر بعد البعثة؛ وقبل البعثة، إذ يكون اللطف لا محالة أتمّ في هذه الحالة، بل تتحقّق حقيقة اللطف بأن لا يتحقّق موجب الكراهة في أيّ حال وفي أيّ وقت(1).

وبعد أن ذكرنا عبارة المحقّق اللاهيجيّ في ضرورة العصمة من منظور الحكماء والمتكلّمين، نتطرّق إلى تبيين أهمّ الأدلّة القائمة على عصمة الأنبياء:

أحد الأدلّة على عصمة الأنبياء هو دليل الحكمة واللطف الإلهيّين؛ فإذا أثبت الحكمة واللطف من اللّه تعالى،ضرورةَ بعثة الأنبياء وكان رمز هذه الضرورة يتمثّل في لزوم هداية البشر؛ حينئذ يجب أن يكون الأنبياء الإلهيّون معصومين من الخطأ والمعصية في تلقّي الوحي وإبلاغه والعمل به حتّى يأخذوا المعارف والأوامر الإلهيّة بشكل صحيح، وينقلونها للناس بشكل سليم؛ ليتوفّر طريق الهداية أمام البشر.

والدليل الآخر على ضرورة عصمة الأنبياء هو أنّ على الناس ومن أجل الهداية عن طريق المعارف والأوامر التي يصدرها الأنبياء الإلهيون، أن يثقوا بكلامهم، وإنّ ثقة الناس تتفرع من عصمة الأنبياء؛ فإذا كان الأنبياء معصومين، وثق الناس بهم وعملوا بأقوالهم، وتحققت أسباب هدايتهم، والغرض من البعثة.

يقول المحقّق الطوسيّ في استعراضه لهذا الاستدلال:

ويجب في النبيّ العصمة ليحصل الوثوق فيحصل الغرض(2).

إن قلت:تكفي المصونيّة من الكذب لوثوق الناس بالأنبياء، ولا يضر بالنبوّة ارتكاب سائر الذنوب، قلنا:

أوّلاً: رؤية كلّ نوع من الذنب من الأنبياء، تسلب الثقة بهم، ولا فرق في ذلك بين الكذب وغيره. فكلّ خطا يصدر عن النبيّ، يؤدّي بالناس إلى التشكيك بهم، فلا ينالون الهداية بعد ذلك.

ص: 131


1- جوهر المراد :(بالفارسية گوهر مراد)،الفياض اللاهيجيّ، ص 379.
2- كشف المراد،المقصد الرابع.

وثانياً: ارتكاب الذنب من كلّ إنسان وليد ضعفه الوجوديّ؛ فإذا كان الأنبياء يتمتّعون بمقامات سامية ودرجات عالية وهبها اللّه لهم، فمن المستحيل إذن صدور الذنوب منهم مع وجود الاختيار والإرادة. ولا ينسجم انتساب الذنوب إلى النبيّ ونفي الكذب عنه مع النبوّة.

والدليل الآخر على عصمة الأنبياء هو أنّ مسؤوليّة الأنبياء ليست تلقّي الوحي الإلهيّ وإبلاغه للناس فحسب، بل إنّهم يتولّون أيضاً مهمّة تربية الناس وتزكيتهم. يقول اللّه سبحانه وتعالى على لسان النبيّ إبراهيم :﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ )(1).

(لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ )(2).

كما يأخذ اللّه سبحانه،المؤمنين بالأقوال غير المشفوعة بالأعمال ويقول:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ )(3).

ولو لم يتمتّع الأنبياء الإلهيّون بالعصمة في العمل، وتورّطوا في أوحال الذنوب والمعاصي، فلا شكّ في أنّ تربية الناس وتزكيتهم لا تتحقّقان، ولا تتمّ بذلك مهمّتهم(4). فلا يمكن - إذن - تربية البشر وتزكيتهم حتّى البلوغ بهم إلى الكمال الحقيقيّ من دون معلّمين صالحين ومحصنين من دنس المعاصي والأخطاء(5).

يقول القاضي عبد الجبّار :

ص: 132


1- سورة البقرة: 129.
2- سورة العمران: 164 .
3- سورة الصفّ: 2 و 3 .
4- المغني القاضي عبد الجبار ، ج 15، ص 303.
5- الفقرتان «أ» و «ب» وردتا في دروس في العقيدة الإسلامية (بالفارسية: آموزش عقاید)،محمّد تقي مصباح، ج2، ص 67؛ مفاهيم القرآن (بالفارسية:منشور جاويد)،جعفر السبحاني، ج5، ص32.

إنّ النفوس لا تسكن إلى القبول ممّن يخالف فعله قوله سكونها إلى من كان منزّهاً عن ذلك، فيجب أن لا يجوز في الأنبياء: إلّا ما نقوله من أنهم منزّهون عما يوجب العقاب والاستخفاف والخروج من ولاية الله تعالى إلى عداوته.

يبيّن ذلك أنّهم لو بعثوا للمنع من الكبائر والمعاصي بالمنع والردع والتخويف، فلا يجوز أن يكونوا مقدمين على مثل ذلك، لأنّ المعلوم أنّ المقدم على شيء، لا يقبل منه الغير بالنهي والزجر والنكير، وأنّ هذه الأحوال منه لا تؤثر .. ولو أنّ واعظاً انتصب يخوّف من المعاصي من يشاهده مقدماً على مثلها، لاستخف به و بوعظه(1).

والدليل الآخر على ضرورة عصمة الأنبياء هو وجوب طاعة الأنبياء الإلهيين واتباعهم؛ فإن لم يكن الأنبياء معصومين، وارتكبوا الخطأ والمعصية، فالناس أمام احتمالين :

إمّا عليهم أن يطيعوهم؛ فيكونون بذلك مخطئين وعاصين، ولا تتحقق الهداية، أو ألّا يتبعوا أخطاء الأنبياء؛ فينتقض حينئذ الغرض من البعثة؛ لأنّ الحق تعالى بعث الأنبياء حتى يقتدي بهم الناس، وينالوا بذلك الهداية. فلا تتحقق هداية البشر في كلا الفرضين وتعود الهداية على غرضها بالنقض بابتعاث أنبياء غير معصومين(2). فيستلزم ابتعاث أنبياء عاصين (غير معصومين)، عدم قبول شهاداتهم !

ومن ثَمَّ: تعود الرسالة على غرضها بالنقض. وكذلك، فإنّ الأنبياء العاصين يستحقون العذاب واللعن الإلهيّين؛ في حين أنّ الأنبياء الإلهيين جديرون بالمدح والثناء، ووفقاً للآية الكريمة :(لَا يَنَالُ عَهْدِيَ الظَّالِمِينَ)(3)، لا تشمل الإمامة والرسالة الأنبياء المذنبين(4).

ص: 133


1- المغني، القاضي عبد الجبار ، ج 15، ص 303 الإلهيات على هدي الكتاب والسنّة والعقل، جعفر السبحاني، ج 2، ص 157.
2- الوحي والنبوّة،سلسلة التفسير الموضوعي،الجوادي الأملي، ج 3، ص 231.
3- سورة البقرة : 124.
4- الوحي والنبوّة، سلسلة التفسير الموضوعي، الجوادي الآملي، ج 3، ص 231 و 232؛ مفاهيم القرآن (بالفارسية:منشور جاويد)، جعفر السبحاني، ج 10، ص152.

من الضروريّ هنا الالتفات إلى نقاط مهمّة حول عصمة الأنبياء الإلهيّين:

أوّلاً: يتّضح من تبيين حقيقة العصمة في البحث السابق أنّ الأدلّة على إثبات عصمة الأنبياء لا تشمل عصمتهم في أثناء البعثة وبعدها فقط، بل تتجاوز ذلك إلى قبل البعثة أيضاً؛ لأنّ اللطف والحكمة كذلك يجريان في عهد ما قبل البعثة .

ثانياً: عصمة المعصومين مقام نفسي يصاحب اختيار الإنسان، ولا يفضي إلى نفي إرادة الإنسان في ترك المعصية؛ مثل: الطبيب الذي لا يُدخن لعلمه وباختياره؛ فإنّ الإنسان المعصوم هو الآخر لا يقدم على الذنب مستعيناً بتقواه واختياره(1).

والعصمة ملكة ومنزلة يمنحهما اللّه سبحانه للأشخاص اللائقين. وتوجد ملكة العصمة في الإنسان مجالاً يتمكّن به الإنسان من القيام بالواجبات الإلهية واجتناب المحرّمات إرادياً واختيارياً؛ كما أن الإنسان السليم يحترز بإرادته من شرب السائل السام(2).

فالآية ﴿ اجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾(3)تدلّ على أنّ الشرك من قبل الأنبياء أمر ممكن ؛ غير أن أصفياء اللّه لاهتدائهم بالهدي الإلهي، يتجنبون هذا الذنب الكبير.

وكذلك يُستفاد من الآية﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلَّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ﴾(4)تحقّق اختيار نبيّ الإسلام في إمكان عدم إبلاغ الرسالة الإلهيّة للناس؛ وإن لم يقصّر النبي الأعظم بإرادته إطلاقاً في إنجاز المهمّة الإلهيّة(5).

ص: 134


1- أمالي السيّد المرتضى، ج 2، ص 347 ؛والميزان، ج 11، ص 179.
2- الميزان،ج 11 ،ص 163 ؛دروس في العقيدة الإسلامية (بالفارسية: آموزش عقاید)،محمّد تقي مصباح، ص 152؛ عصمة الأنبياء في القرآن الكريم، جعفر السبحاني، ص 36 ؛مفاهيم القرآن (بالفارسية: منشور جاويد)، جعفر السبحانيّ، ج 5 ص 28؛ الإلهيّات على هدي الكتاب والسنة ،والعقل جعفر السبحاني، ج 2، ص 162.
3- سورة الأنعام: 88.
4- سورة المائدة: 67.
5- الميزان،ج 11 ،ص 163 ؛مفاهيم القرآن (بالفارسية: منشور جاويد)،جعفر السبحاني، ج 5، ص 29؛ عصمة الأنبياء في القرآن الكريم،جعفر السبحاني، ص39.

فالعصمة ملكة علميّة في نفس الإنسان المعصوم وتنشأ منها أعماله الصالحة ولا تتنافى مع اختيار الإنسان المعصوم وإرادته؛ مثل الإنسان الذي يوفقه الله تعالى للقيام بعمل صالح.(1)نستنتج مما سبق أن العصمة لا تتعارض مع القدرة على الذنب والعصيان أيضاً؛ فإنّ الإنسان المعصوم يليق بالمدح والمكافأة على عمله الصالح.(2)كما لا ينافي مقام العصمة ومنزلتها التكليف المولوي والإرشادي. فالشارع المقدّس ليس له أن يأمر وينهى الإنسان المعصوم ويجبره على إتيان التكاليف الشرعية وينهاه عن المنكرات فحسب، بل إنّ الإنسان المعصوم أحوج ما يكون إلى التكاليف الشرعية لمسيرته التكاملية .(3)

ثالثاً: تدلّ بعض الآيات القرآنية على عصمة الأنبياء؛ منها على سبيل المثال:

(أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهُ )(4).

(وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ وَمَن يَهْدِ اللهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلَّ )(5).

فلا يضلّ الأنبياء الإلهيّون الذين ينعمون بالهداية الإلهية ولا تدبّ إلى ساحتهم المعصية. وتشير آيات الإطاعة للنبي الأعظم والأنبياء الإلهيّين - من دون قيد أو شرط-إلى عصمتهم؛ منها قوله تعالى:

ص: 135


1- الميزان، ج 2، ص 138.
2- الوحي والنبوّة،سلسلة التفسير الموضوعي، الجوادي الآملي،ج 3 ،ص 238؛سيرة الرسول الأكرم في القرآن الكريم سلسلة التفسير الموضوعي،الجوادي الآملي، ج 9، ص 22؛ عصمة الأنبياء، جعفر السبحاني، ص 38؛ دروس في العقيدة الإسلامية (بالفارسية : آموزش عقايد)،محمّد تقي مصباح، ج2، ص 165؛معارف القرآن، مباحث السبيل والدليل (بالفارسية:معارف قرآن،راه و راهنما شناسي)،محمّد تقي مصباح، ج 4 و 5 ، ص 161؛شرح وتفسير مثنوي،محمّدتقي جعفري، ج2، ص 599؛الوحي والنبوّة (بالفارسية:وحي ونبوت)،مرتضى المطهري، ص 145؛ ميثاق معتقدات الإمامية (بالفارسية: منشور عقاید امامیه)جعفر السبحاني، ص 116.
3- تفسير تسنيم،الجوادي الآملي، ج 3، ص 291 ؛سيرة الرسول الأكرم في القرآن الكريم سلسلة التفسير الموضوعي،الجوادي الآملي، ج 9، ص 25 ؛الميزان،الطباطبائي، ج 17، ص 290.
4- سورة الأنعام: 90.
5- سورة الزمر: 36.

(قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ )(1).

(منْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّه)(2).

(وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ الله وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ )(3).

كما تدلّ الآيات المتعلقة بالإخلاص ومقام المخلصين للأنبياء على عصمتهم؛ حيث يقول تعالى :

﴿ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ﴾(4).

(وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلَّ مَنْ الْأَخْيَارِ)(5).

فالأنبياء جميعاً متصفون بالعصمة الإلهية؛ بوصفهم عباداً مخصلين(6).

يقول الحق تعالى في آية أخرى: ﴿وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً ﴾(7)؛(صَرِاطَ الذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ )(8).

ص: 136


1- سورة العمران: 31.
2- سورة النساء: 80.
3- سورة النور: 52.
4- سورة ص : 82.
5- سورة ص: 45-48.
6- راجع: مفاهيم القرآن (بالفارسية : منشور جاويد)، جعفر السبحاني، ج 5، ص 41-48؛ والميزان، ج 2، ص 134؛عصمة الأنبياء في القرآن الكريم، جعفر السبحاني،ص 59؛ الإلهيّات على هدي الكتاب والسنة والعقل، جعفر السبحاني،ج 2 ،ص 167؛ سيرة الأنبياء في القرآن الكريم سلسلة التفسير الموضوعي، الجوادي الآملي، ج 7، ص 117 ؛ميثاق معتقدات الإمامية (بالفارسية: منشور عقاید اماميه)، جعفر السبحاني،ص 168 ؛معارف القرآن،مباحث السبيل والدليل(بالفارسية:معارف قرآن،راه وراهنما شناسي)،محمّد تقي مصباح، ج 4 و5، ص 158؛ دروس في العقيدة الإسلامية(بالفارسية:آموزش عقاید)، محمّد تقي مصباح، ج2، ص 68.
7- سورة النساء: 69.
8- سورة الحمد:7.

إنّ ما نستنتج من هاتين الآيتين هو عصمة الأنبياء؛ لأنّ الأنبياء تشملهم النعم الإلهية، ومن شملته النعم الإلهية، فليس مغضوباً ولا ضالًا، فالأنبياء إذن، ليسوا من المغضوبين والضالين؛ أي إنّهم معصومون.

يقول اللّه سبحانه في آيات أخرى مشيراً إلى تبيان العصمة في التبليغ :

(كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)(1).

ومن الآيات التي تصرّح بعصمة النبي الأعظم .قوله تعالى :

(إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيماً)(2).

(وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى)(3).

رابعاً: ثمة أحاديث كثيرة في مصادر السنّة والشيعة تدلّ على عصمة الأنبياء؛(4)منها : قال الإمام الباقر :«إنّ الأنبياء لا يذنبون لأنهم معصومون، مطهرون، لا يذنبون ولا يزيغون ولا يرتكبون ذنباً صغيراً ولا كبيراً.»(5)ويصف أمير المؤمنين علّي بن أبي طالب:في نهج البلاغة عصمة النبي الأعظم .بالقول: «لقد قَرَنَ الله به من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق

ص: 137


1- سورة البقرة: 213.
2- سورة النساء: 105.
3- سورة النجم:3 و 4 .
4- الوحي والنبوة، سلسلة التفسير الموضوعي،الجوادي الأملي، ج3، ص239.
5- المصدر السابق، ص 227 و 228.

العالم ليله ونهاره.»(1)وقد برهن الإمام الرضا .في مجلس المأمون العبّاسّي على عصمة الأنبياء لأحد المعارضين.(2)

خامساً:أجاز بعض من أنكر العصمة،الخطأ على الأنبياء مستفيدين من الآيات القرآنية؛ فعلى سبيل المثال، الآية: ﴿ وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذَّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾(3)ويُردّ على هؤلاء بأنّ الآية نزلت في مقام تربية الأمة ومعرفتها بوظائفها وواجباتها.

4/14. ثالثاً: العلم والحكمة:

من الضروريّ بالنسبة إلى الأنبياء الإلهيين الاطلاع على التشريع، وأحكامه، ومعاييره، وكذلك الوقوف على بعض الأمور التكوينية لهداية الناس وقيادتهم. ولهذا، استعرض القرآن الكريم صفتي العلم والحكمة بوصفها خصيصتين للأنبياء.

وفي هذا الخصوص ورد قوله تعالى:

﴿ وَآتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء)(4).

(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً )(5).

(وَلُوطاً آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً ﴾(6).

(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً)(7).

ص: 138


1- مفاهيم القرآن (بالفارسية:منشور جاويد)، جعفر السبحاني، ج 5، ص 9.
2- المصدر السابق، ص 10.
3- سورة الأنعام: 68.
4- سورة البقرة:251.
5- سورة يوسف : 22.
6- سورة الأنبياء: 74.
7- سورة القصص: 14.

﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ)(1).

(وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلَّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ )(2).

(وَأَنزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ﴾(3).

1/4/14. نطاق العلم النبوي:

لا شكّ في أنّ الضرورة تقتضي أن يكون الأنبياء على علم تام بجميع الأهداف الإلهية النهائية والمتوسطة والابتدائية وطريق الوصول إلى هذه الأهداف، وكذلك كيفية السلوك في هذا الطريق. ولهذا السبب، لا بدّ للأنبياء من أن يطلعوا على أصول الشريعة وفروعها، والأحكام، والأخلاق، والمعارف الدينية، وكذلك أسباب السعادة والشقاء، ووسائل نجاة البشر وهدايتهم ؛ ومنها : إدارة المجتمع، وإقامة الحكومة، والإمامة، والقيادة، وغير ذلك. وقد أشار القرآن الكريم إلى بعض متعلقات علم الأنبياء؛ كما في الآيات الآتية:

1/1/4/14 .العلم بجميع الكتب السماوية والحكمة:

(وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ ﴾(4)؛

(وَأَنزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عظيماً)(5).

ص: 139


1- سورة النمل: 15 .
2- سورة النمل: 16.
3- سورة النساء: 113 .
4- سورة المائدة: 110.
5- سورة النساء: 113.

2/1/4/14. العلم بالأسماء الإلهية والأمور التكوينية:

(وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قَالَ يَا آدَمُ أَنبِتْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ﴾(1).

3/1/4/14. اطّلاع الأنبياء على العلوم الأخرى:

يقول اللّه تعالى عن النبي داوود :(وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ﴾(2).

ويقول في آية أخرى:

(وَأَلَنَا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدَّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً )(3)؛

وقد ورد بشأن النبي سليمان :

(وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلَّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلَّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ ﴾(4).

ويسند اللّه تعالى في آية أخرى العلم بتأويل الأحاديث، إلى يوسف فيقول:

(وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ )(5).

(وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلتَعَلَّمَهُ مِن تأويل الأحاديث)(6).

ص: 140


1- سورة البقرة: 31-33.
2- سورة الأنبياء: 80.
3- سورة سبأ: 10 و 11.
4- سورة النمل: 16.
5- سورة يوسف 6.
6- سورة يوسف : 21.

2/4/14. الأنبياء وعلم الغيب:

يقابل علمَ الغيب العلم الشهوديّ، وهو علم يخفى على حواسّ الإنسان، ولا يمكن رؤيته والإحساس به. وقد جرى بين المتكلّمين المسلمين سجال حادّ يتمحور حول السؤال الآتي : هل يختصّ علم الغيب باللّه تعالى،أم يمكن أن يمتلكه غيره؟

الآيات القرآنية في هذا المجال على طائفتين :

الأولى: آيات خصّت اللّه سبحانه بعلم الغيب دون غيره؛ مثل قوله تعالى:

(وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ)(1).

(فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلهِ )(2).

(قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللّه)(3).

والثانية: آيات أثبتت للأنبياء العلم بالغيب، ومن ثَمَّ فقد خصّصت ذلك الحكم العامّ الوارد في الطائفة الأولى؛ كما في قوله تعالى:

(عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً﴾(4).

(وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء..)(5).

و محصّل هاتين الطائفتين من الآيات أن يقال: إنّ اللّه سبحانه وتعالى يستقل في

ص: 141


1- سورة الأنعام: 59.
2- سورة يونس: 20.
3- سورة النمل: 65.
4- سورة الجنّ: 26-28.
5- سورة العمران: 179.

امتلاك العلم بالغيب بذاته، وليس علمه بالغيب مقيّداً أو مشروطاً؛ لكن هذا لا يمنع من أن يُتاح لغيره (من الأنبياء والأئمة والملائكة)الاطلّاع على أسرار الغيب عن طريق التعليم الإلهي.

3/4/14. مصادر علم الأنبياء:

يذكر القرآن الكريم طرقاً وقنوات متعدّدة لاكتساب العلوم عند الأنبياء؛ وهي:

أوّلاً :الوحي:وهو أحد أهمّ الطرق المؤدّية إلى المعرفة بالنسبة إلى الأنبياء:

(وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبيَّ مُّبِين)(1).

فإنّ حقيقة الوحي إلهيّة، ولا دور للنبوّة في تغييره ، ومنزل الوحي الإلهيّ هو قلب النبي.فكما يقول القرآن:

﴿قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدَّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُل لَّوْ شَاء اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً من قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ)(2).

ثانياً: السير والسلوك عند الأنبياء وصعودهم إلى العوالم الأخرى: يرتقي الأنبياء الإلهيّون بالسير والسلوك إلى المراتب السامية، والعوالم العليا، ويتلقون بعض الحقائق.

يقول تعالى :

(سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ)(3).

ص: 142


1- سورة الشعراء: 192-195.
2- سورة يونس: 15 و 16.
3- سورة الإسراء: 1.

ثالثاً:روح القدس:وهو أحد المصادر والطرق التي يكتسب بها الأنبياء المعرفة.

قال تعالى:﴿وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ)(1).

(قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ)(2).

(نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ)(3).

وقد قدّم المفسّرون تفسيرين لروح القدس؛ فعبّر بعضهم عنه بجبرئيل (ملك الوحي الإلهيّ)، وذهب بعض آخر إلى أنّه مرتبة من مراتب روح الأنبياء، والقوّة النبويّة الخاصّة.

5/14. رابعاً: حسن خلق الأنبياء:

من خصائص الأنبياء الإلهيّين حسن خلقهم؛ فقد اتصفت شخصيّات الأنبياء باللطف والعطف ورحابة الصدر؛ فتنزّهت دعوتهم إلى الهداية عن العنف والفظاظة، فسعوا إلى أن يتعانق الإيمان والقلب تحت مظلة الإرادة والاختيار؛ فلم يوظفوا في تحقيق أهدافهم أي ضرب من ضروب العنف؛ ظاهرياً كان أو باطنيّاً وقلبياً.

وبطبيعة الحال، فإنّهم لم يدّخروا جهداً في التصدّي للعدو، واستخدام العنف معه إذاما دخلوا في حرب أو صراع مع الأعداء، لكنهم لم يخرجوا يوماً عن إطار الشريعة والأوامر الإلهية.

ونجد في القرآن الكريم إشارات لطيفة يصوّر فيها اللّه سبحانه وتعالى الرحمة واللين التي كان يتصف بهما الرسول؛حيث يقول:

(فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ )(4).

ص: 143


1- سورة البقرة: 87.
2- سورة النحل: 102.
3- سورة الشعراء: 193.
4- سورة العمران: 159.

ويجمع المؤرّخون - مسلمين وغير مسلمين - على أنّ هذه المزية كان لها دور أساسي في دفع عجلة الإسلام إلى الأمام؛ فمع أنّ نبي الإسلام كان يتعرّض للأذى والظلم والإهانة واللوم من قبل المشركين أكثر مما تعرّض له سائر الأنبياء،؛ غير أنه لم يبادر إطلاقاً إلى لعنهم، بل قابلهم بالاستغفار وطلب الرحمة لهم على الدوام.

وفيما يخصّ الخلق النبويّ الرفيع أشارت آيات القرآن الكريم قائلة: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)(1).

(لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمُ)(2).

6/14.خامساً: القول الصادق:

اتسم الأنبياء الإلهيون بالصدق؛ فتتطابق أقوالهم مع الحقيقة، وأثبتت الوقائع التزامهم بوعودهم. وكانت هذه الصفة تؤثر كثيراً على مهامهم المتجلّية في الهداية، وجلب السعادة للناس.

من هنا،تجد القرآن الكريم يصف النبي إبراهيم .بالصدّيق؛فيقول:﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً﴾(3).

ويشيد بالنبي إسماعيل .مشيراً إلى سمة صدق الوعد قائلاً:

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيَا)(4).

ص: 144


1- سورة القلم: 4.
2- سورة التوبة : 128.
3- سورة مريم: 41.
4- سورة مريم: 54.

7/14. سادساً: الاستعداد للابتلاء الإلهي:

يُبتلى الأولياء الإلهيون بمحن ومصائب من اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالى من أجل مسيرتهم التكاملية التي تمثل دوراً مهماً في هداية الناس. ولا ينبغي أن نظنّ أن الابتلاء الإلهي يختص بمجموعة من الأناس الاعتياديين، ولا ينطبق على الأنبياء والأولياء الإلهيين؛ فإنّ العالم دار الاختبار والابتلاء الإلهيين. وجميع الناس، ليلاً ونهاراً، وفي حركاتهم وسكناتهم كافّةً، وفي المنام واليقظة، وفي السفر والحضر، وفي الفقر والغنى، وفي الصحة ،والمرض، وأمثالها معرَّضون للابتلاء الإلهيّ.

وفي هذا الصدد، يحدّثنا اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالى عن المحن والاختبارات المضنية التي مرّ بها النبي إبراهيم .قائلاً:﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾(1).

8/14.سابعاً: الأمانة:

اتصف الأنبياء بالأمانة في جميع شؤونهم الشخصيّة والاجتماعيّة، والإلهيّة والجماعيّة، والماديّة والمعنويّة؛ فكانوا يحفظون الأسرار والآيات الإلهية، وينقلونها كاملةً للناس. وقد اشتهر رسول الإسلام .بسبب التزامه بالأمانة، بلقب «محمد الأمين».

وقد أسند اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالى هذه الصفة إلى النبي نوح .في سورة الشعراء في الآية 107 ، وإلى النبيّ هود .في الآية 125 من السورة نفسها، وإلى النبي صالح .في الآية 143 من السورة ذاتها، وإلى النبيّ لوط .في الآية 162 من السورة نفسها، وإلى النبيّ شعيب .في الآية 178 من هذه السورة أيضاً، وإلى النبيّ موسى .في سورة الدخان في الآية 18 ؛ وكما يعبّر عنه القرآن،كان الأنبياء الإلهيّون جميعاً يخاطبون أقوامهم بقولهم:(إنّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ).

ص: 145


1- سورة البقرة: 124.

9/14. ثامناً: البر:

درج الأنبياء في تعاملهم مع الناس على الإحسان للصديق والعدوّ، فجسّدوا بذلك أسمى مظاهر العفو والسماحة والصبر على أذى الأعداء. يقول اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى:

(وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ كُلاً هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾(1).

10/14. تاسعاً: توحيد الخشية من اللّه:

أهمّ دوافع الأنبياء تحقيق الأهداف الإلهيّة. ولهذا، لم يكونوا يهابون أو يخافون شيئاً سوى اللّه، فوطنوا أنفسهم على حصر الخوف والخشية في نقطة واحدة؛ لا تتعادّاها؛ ألا وهي ربّ العالمين. وكما جاء في القرآن الكريم:(الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيبًا)(2).

11/14.عاشراً: الإخلاص للّه:

الإخلاص أعلى مراتب التوحيد،وهو يعني تصفية النفس من دنس الشرك والهوى، وطرد كلّ دافع غير الهيّ؛ بمعنى أن تفرَّغ ساحة القلب من كلّ شيء سوى اللّه؛حتّى لا يتّسع لأحد غيره.لقد وصف اللّه سبحانه وتعالى أنبياءه بهذه الصفة في مواطن عديدة؛ إذ قال على سبيل المثال:

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخلَصاً وَكَانَ رَسُولًا نَّبِيّاً)(3).

ص: 146


1- سورة الأنعام: 84.
2- سورة الأحزاب: 39.
3- سورة مريم:51.

ويستفاد من الآيات القرآنية التي نقلت حواريات الشيطان أنّ القلب إذا تسرّبت إليه الشوائب - ولو بمقدار ذرّة - فقد تهيأ ليكون منفذاً ومرتعاً للشيطان، وإغواءاته؛ باستثناء عباد اللّه الذين أخلصوا اللّه، فلا سبيل للشيطان عليهم:﴿إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ)(1).

وقد نقل القرآن الكريم لنا خطاب النبي الأعظم .حيث يقول: ﴿وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَ رَبِّ الْعَالَمِينَ)(2).

12/14.حادي عشر: التوكل على اللّه:

لم يركن الأنبياء الإلهيّون الذين كذّبوا وأُحبطت مساعيهم بسبب عصبية المشركين و عنادهم إلى زاوية الضعف والانكسار أو إلى التراجع والانحسار، بل كان ديدنهم التوكّل على الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى وطلب العون منه .

قال تعالى:(إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم)(3).

13/14. ثاني عشر: النصيحة والشفقة:

اعتاد الأنبياء في مسيرتهم من أجل هداية الناس على توظيف النصح والشفقة، فحملوا هموم الناس وتعاملوا معهم بلسان الحبّ والانفتاح؛ لا بلسان الإجبار والإكراه.

يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحُ أَمِينُ)(4).

ص: 147


1- سورة الحجر: 40.
2- سورة الشعراء: 109 .
3- سورة هود:56.
4- سورة الأعراف: 68.

14/14.ثالث عشر: القدرة والبصيرة:

تتطلّب مسيرة الأنبياء الإلهيّين الذين عقدوا هممهم لهداية الناس، ومواجهة المعاندين والمشركين أن يتحلّوا بدرجة عالية من القدرة والبصيرة. ولهذا، تجد القرآن الكريم يصف إبراهيم وابنه وحفيده (إسحاق ويعقوب)بأنهم أصحاب قدرة وبصيرة؛ حيث يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ)(1).

15/14. رابع عشر: الصبر والتجلّد:

ما من شكّ في أنّ مسيرة الهداية مسيرة طويلة محفوفة بالمشاق والصعاب. وليس للإنسان الهادي أن يدبر أمر هذه المسيرة من دون أن يتخلّق بالصبر والحلم والتجلّد.

من هنا تحلّى الأنبياء الإلهيون التوّاقون لتحقيق الهداية والسعادة للناس بالصبر، فأبلغوا رسالات اللّه وأوصلوا صوت الحق للناس تحت وطأة مصائب ومصاعب جمة. وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الصفة عند حديثه عن إسماعيل وإدريس.حيث قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: ﴿وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِّنَ الصَّابِرِينَ )(2).

من هنا، كان الأنبياء الإلهيّون يضربون أروع الأمثلة في صبرهم وتجلّدهم في سبيل إبلاغ الرسالة الإلهية، وهداية الناس، وتغيير ما بأنفسهم، والأخذ بأيديهم إلى اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.

ص: 148


1- سورة ص: 45.
2- سورة الأنبياء: 85.

15.نبوّة رسول الإسلام

1/15. تمهید:

وُلد محمّد بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد بن هاشم بن عبد مناف من قبيلة قريش سنة 570 للميلاد في مكة. وكانت قبيلة بني هاشم تشتهر بالكرم والسخاء والعفّة والفتوة. ولهذا، أُوكلت إلى هذه القبيلة سدانة الكعبة. وبدأت دعوة النبي.عام 610م؛ أي في أوائل القرن السابع الميلاديّ، وعمره آنذاك أربعون عاماً؛ حين كانت عبادة الأوثان بمختلف ألوانها شائعة ودارجة في شبه الجزيرة العربيّة، وكانت عمائم الظلم والتمييز بشتّى أنواعها تخيّم على المجتمعات في الروم وبلاد فارس.

انطلقت حركة الرسول الأعظم .في بداية أمرها بدعوة الأقربين من بنيهاشم إلى الإسلام،وإلى خير الدنيا والآخرة،فعرّفهم على رسالته،ثمّ وسّع من هذه الدائرة فعرض دعوته على الناس على المستوى العالميّ ؛قائلاً:

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً)(1).

(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ )(2).

(وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ)(3).

وقد شاءت الإرادة الإلهية أن تكون رسالة هذا النبيّ خاتمة للرسالات، وأن يكون

ص: 149


1- سورة الأعراف: 158.
2- سورة الأنبياء: 107.
3- سورة الأنعام: 19.

القرآنُ خاتماً للكتب السماوية؛ حيث قال تعالى:

﴿مَا كَانَ محمّد أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً)(1).

وقد اشتملت هذه الرسالة وانطوت على جميع ما جاءت به الأنبياء والرسل من ذي قبل، فكانت أكملها وأشملها؛ قال تعالى:

(الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيِّ الأُتيَ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنجيل)(2).

(الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)(3).

(وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدَّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ)(4).

واحتوت رسالة هذا الرسول الكريم كلّ ما من شأنه أن يحرّر البشريّة من أغلال الجهل وقيود الظلم والشرك؛ قال تعالى :

(وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ)(5).

وعلى هذا الأساس، انطلقت آيات القرآن الكريم في دعوتها للاهتمام بالدنيا والآخرة معاً؛ فقال عز من قائل:

(يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِت﴾(6).

ص: 150


1- سورة الأحزاب: 40.
2- سورة الأعراف: 157.
3- سورة البقرة: 146.
4- سورة المائدة: 48.
5- سورة الأعراف: 157.
6- سورة الأعراف: 157.

كما نوّهت أيضاً بألا يصاحب هذا الاهتمام أيّ عسر أو حرج؛ فقال تعالى:

(وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(1).

(يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ )(2).

وقد استطاع هذا النداء المخلّص والخطاب الشامل أن يعمّ أنحاء المعمورة في أقلّ فترة زمنيّة ممكنة، وتمكّن من تشييد حضارة رصينة في شتّى المجتمعات الإسلاميّة المختلفة(3).

2/15.سُبُل إثبات نبوّة رسول اللّه:

عمد المفكّرون المسلمون في الكتب الكلاميّة إلى إثبات النبوّة الخاصّة من خلال سلوك ثلاثة طرق. وقد فصّل العلّامة الشعراني في كتابه «طريق السعادة» البحث، فاستعرض أربعة أدلّة؛ هي:

أوّلاً : التأمل في شخصية الرسول الأعظم .

ثانياً: برهان الإعجاز.

ثالثاً : بشائر الأنبياء الماضين.

رابعاً: البرهنة عن طريق المؤمنين(4).

ص: 151


1- سورة الحج : 78.
2- سورة البقرة: 185.
3- راجع:محمّد حسن قدردان قراملكي،آيين خاتم،معهد الثقافة والفكر الإسلامي.
4- اقتُبست فكرة هذه الأدلّة الأربعة وشروحها من مقال لحميدرضا شاكرين،عنوانه: إثبات نبوّة النبي الأكرم (بالفارسية: اثبات نبوّت پیامبر اکرم)،مدرج في مجلّة أفكار العلّامة الشعراني،إعداد: عبد الحسین خسروبناه، معهد الثقافة والفكر الإسلامي.

1/2/15. الدليل الأوّل: التأمل في شخصية الرسول الأعظم :

تدلّ الدراسات التاريخية على ظهور سمات أساسيّة في شخصية الرسول .منها: الصدق،والأمانة، وطهارة الروح، والابتعاد عن طلب الدنيا، ومجانبة المكر والخديعة، والإيمان الراسخ بالرسالة والثبات والتضحية في سبيل الواجب الإلهي، وهلمّ جرّاً. وليست هذه القضايا مما ينفرد المسلمون بالإيمان بها، بل المثير أنّ شدّة بروزها وظهورها على مسرح التاريخ ترك أثراً بالغاً على كثير من الكتاب والمفكرين غير المسلمين، بل وعلى المستشرقين الغربيين أيضاً.

يقول مؤلّف كتاب«إخلاص محمّد»(1)بعد تطرّقه للإيمان الراسخ للنبي .بنبوّته ورسالته:

مثل الأحوال التي كانت تعتري أنبياء بنيإسرائيل،أي الفناء والانقطاع عن عالم الطبيعة، والانفتاح على عالم الباطن، وحال مشابه للإغماء، تصيبه هو أيضاً. وتتمثل له الملائكة أيضاً، نفسها التي تتجسّم لأنبياء بنيإسرائيل؛ ويسمع الأصوات التي يسمعونها هم(2).

فالنظرة المنصفة إلى صدق النبي .وإيمانه ،وإخلاصه، تزيل أي ترديد في صدق النبي في دعواه.

2/2/15 .الدليل الثاني: بشائر الأنبياء الماضين:

إحدى الطرق التي تثبت النبوّة الخاصة بشائر الأنبياء الماضين؛ فهناك في كتب الأمم الغابرة بشائر عديدة عن رسالة خاتم الأنبياء. وقد تحدث القرآن الكريم عن وعد مجيئه في التوراة والإنجيل(3).

وقد ذكر العلّامة الشعراني في كتابه«طريق السعادة» بالتفصيل بشائر للأنبياء

ص: 152


1- Sincerite de Mohamet.
2- طريق السعادة (بالفارسية: راه سعادت)، الشعراني، 38.
3- راجع: سورة البقرة: 146 ؛سورة العمران: 75 ؛سورة الأعراف :156؛ سورة الصف: 6.

موسى، وإشعياء، وحيقوق:، وقصّة بحيراء الراهب،ودانيال النبيّ، والسيد المسيح، وقد سَبَر أغوار التساؤلات والشبهات التي تحوم حولها.

جاء في الإصحاح الثاني والأربعين من سفر إشعياء:

هُوَذَا عَبْدِي الَّذِي أَعْضُدُهُ، مُختَارِي(1)(الْمُصْطَفَى) الَّذِي سُرَّتْ بِهِ نَفْسِي، وَضَعْتُ رُوحِي عَلَيْهِ فَيُخْرِجُ الْحَقَّ لِلْأُمَمِ. لَا يَصِيحُ وَلَا يَرْفَعُ وَلَا يُسْمِعُ فِي الشَّاَرِعِ صَوْتَهُ. قَصَبَةً مَرْضُوضَةً لَا يَقْصِفُ، وَفَتِيلَةٌ خَامِدَةً لَا يُطْفِيُ .إِلَى الْأَمَانِ يُخْرِجُ الْحَقَّ.(2)لا يَكِلُّ وَلَا يَنْكَسِرُ حَتَّى يَضَعَ الْحَقِّ فِي الْأَرْضِ،وَتَنتَظِرُ الْجَزَائِرُ شَرِيعَتَهُ(3). هَكَذَا يَقُولُ اللهُ الرَّبُّ، خَالِقُ السَّمَاوَاتِ وَنَاشِرُهَا، بَاسِطُ الْأَرْضِ وَنَتَائِجِهَا، مُعْطِي الشَّعْبِ عَلَيْهَا نَسَمَةٌ، وَالسَّاكِنِينَ فِيهَا رُوحاً. أَنَا الرَّبَّ قَدْ دَعَوْتُكَ بِالْبِرِّ، فَأَمْسِكُ بِيَدِكَ وَأَحْفَظُكَ وَأَجْعَلُكَ عَهْداً لِلشَّعْبِ وَنُوراً لِلْأَمَمِ،(4)لِتَفْتَحَ عُيُونَ الْعُمْيِ لِتُخْرِجَ مِنَ الخَبْسِ المأسورِينَ، مِنْ بَيْتِ السِّجْنِ الْجَالِسِينَ فِي الظُّلْمَةِ.(5)أَنَا الرَّبُّ هَذَا اسْمِي، وَمُجَدِي لاَ أُعْطِيهِ لِآخَرَ، وَلَا تَسْبِيحِي لِلْمَنْحُوتَاتِ. هُوَذَا الْأَوَّلِيَّاتُ قَدْ أَتَتْ، وَالْحَدِيثَاتُ أَنَا مُخَبِرُ بِهَا. قَبْلَ أَنْ تَنْبُتَ أُعْلِمُكُمْ بِهَا . غَنُّوا لِلرَّبِّ أُغْنِيةٌ جَدِيدَةَ، تَسْبِيحَهُ مِنْ أَقْصَى الْأَرْضِ. أَيُّهَا المَنْحَدِرُونَ فِي الْبَحْرِ وَمِلْؤُهُ وَاجْزَائِرُ وَسُكَّانُهَا، لِتَرْفَع الْبَرِّيَّةُ وَمُدُتُها صَوْتَهَا، الدِّيَارُ الَّتِي سَكَنَهَا قِيدَارُ(6).لِتَتَرَنَّمْ سُكَّانُ سَالِعَ(7).مِنْ رُؤُوسِ الْجِبَالِ لِيَهْتِفُوا. لِيُعْطُوا الرَّبَّ

ص: 153


1- المختار بمعنى المصطفى وهو لقب خاتم الأنبياء.
2- كناية عن أن شريعته تنتشر قريباً؛ فالمصباح الذي يوشك على الانطفاء، لم ينطفئ بعد وسوف يعمّ دينه العالم.
3- إشارة إلى أنّ له شريعته وأحكامه الخاصة، وليس مثل النبي عيسى .وينتشر دينه إلى أقصى أنحاء العالم؛ كجزيرة جاوة والفيليبين.
4- الأمم في اصطلاح التوراة،هي الأمم الأخرى غير بنيإسرائيل؛أي ينتشر دينه بين غير بنيإسرائيل.
5- كان الناس قبل الإسلام يعيشون في طبقات مختلفة؛ لاتزال هذه الطبقات شائعة بين الوثنيين في الهند. ولا يحق للطبقات الدنيا أن ترتقي إلى الطبقات العليا. وهذا الاستعلاء العرقيّ موجود في المسيحية أيضاً ولا عرق يساوي بينه وبين عرق آخر، فألغى الإسلام هذا التقليد.
6- قيدار بن النبيّ إسماعيل وجد خاتم الأنبياء .والديار التي سكنها قيدار هي مكّة والمدينة والطائف والمناطق التي سكنتها الأعراب من أبناء إسماعيل. ومدبار بمعنى الصحراء وهو اسم علم والمراد به هو العربية السعودية ولا معنى لأن يقال البرّيّة ومدنها؛ ولكن يمكن أن يقال العربية السعودية ومدنها. ولسكّان الشام الحقِّ في أن يقولوا البرّية ويريدوا بها السعودية.
7- هي يثرب أي المدينة المنوّرة. راجع:طريق السعادة (بالفارسية: راه سعادت) الشعراني.

جداً وَيُخْبِرُوا بِتَسْبِيحِهِ فِي الْجُزَائِرِ.الرَّبُّ كَالجُبَّارِ يَخْرُجُ .كَرَجُلٍ حُرُوبِ يُنْهِضُ غَيْرَتَهُ. يَهْتِفُ وَيَصْرُخُ وَيَقْوَى عَلَى أَعْدَائِهِ. قَدْ صَمَتُ مُنْذُ الدَّهْرِ. سَكَتُ. تَجَلَّدْتُ. كَالْوَالِدَةِ أَصِيحُ.أَنْفُخُ وَأَنْخُرُ مَعاً. أَخْرِبُ الْجِبَالَ وَالْآکامَ وَأَجَفِّفُ كُلَّ عُشْبَهَا، وَأَجْعَلُ الْأَنْهَارَ يَبَساً يساً وَأَنشِّفُ الآجَامَ، وَأُسَيْرُ الْعُمْيَ في طريق لَمْ يَعْرِفُوهَا.في مَسَالِكَ لَمْ يَدْرُوهَا طَرِيقٍ أُمَشِّيهِمْ . أَجْعَلُ الظُّلْمَةَ أَمَامَهُمْ نُوراً، وَالْمُعْوَجَاتِ مُسْتَقِيمَةٌ. هَذِهِ الْأُمُورُ أَفْعَلُهَا وَلَا أَتْرُكُهُمْ. قَدِ ارْتَدُّوا إِلَى الْوَرَاءِ. یَجْزَى خِزْياً المُتَّكِلُونَ عَلَى المُنحُونَاتِ،الْقَائِلُونَ لِلْمَسْبُوكَاتِ: أَنْتُنَّ آهِتُنَا!أَيُّهَا الصُّمُّ اسْمَعُوا.أَيُّهَا الْعُمْيُّ انْظُرُوا لِتُبْصِرُوا.مَنْ هُوَ أَعْمَى إِلَّا عَبْدِي، وَأَصَمُّ كَرَسُولِي الَّذِي أُرْسِلُهُ؟ مَنْ هُوَ أَعْمَى كَالْكَامِلِ، وَأَعْمَى كَعَبْدِ الرَّبِّ؟ نَاظِرٌ كَثِيراً وَلَا تُلَاحِظُ.مَفْتُوحُ الْأُذُنَيْنِ وَلَا يَسْمَعُ.الرَّبُّ قَدْ شَرَّ مِنْ أَجْلِ بِرِّهِ. يُعَظَّمُ الشَّرِيعَةَ وَيُكْرمُهَا.وَلَكِنَّهُ شَعْبٌ مَنْهُوبٌ(1)وَمَسْلُوبٌ. قَدِ اصْطِيدَ في الحَفَرَ كُلُّهُ، وَفِي بُيُوتِ الحُبُوسِ اخْتِبَلُّوا.صَارُوا نَهْباً وَلَا مُنْقِذَ، وَسَلَبَاً وَلَيْسَ مَنْ يَقُولُ: رُدَّ! مَنْ مِنْكُمْ يَسْمَعُ هَذَا؟ يَصْغَى وَيَسْمَعُ مَا بَعْدُ؟ مَنْ دَفَعَ يَعْقُوبَ إِلَى السَّلَبِ وَإِسْرَائِيلَ إِلَى النَّاهِبِينَ؟ أَلَيْسَ الرَّبُّ الَّذِي أَخْطَأْنَا إِلَيْهِ وَلَمْ يَشَاؤُوا أَنْ يَسْلُكُوا فِي طَرَقِهِ وَلَمْ يَسْمَعُوا لِشَرِيعَتِهِ. فَسَكَبَ عَلَيْهِ هُوَ غَضَبِهِ وَشِدَّةِ الحَرْبِ، فَأَوْقَدَتْهُ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ وَلَمْ يَعْرِفُ، وَأَحْرَقَتْهُ وَلَمْ يَضَعْ فِي قَلْبِهِ.

وقد بشّر النبي عيسى .بمجيء «الفارقليط»، وهذه المفردة لفظة يونانيّة، يعود أصلها إلى كلمة «بركليتوس» (بكسر الباء والراء)، فعرّبت وتحوّلت إلى«فارقليط». والفارقليط هو الذي يجري اسمه على الألسن، ويمدحه الجميع، وهذا هو الذي يعنيه الاسم «أحمد» . ويستطرد العلّامة الشعراني قائلاً:

عندي قاموس يوناني-إنكليزي، فأريت الكلمة لأحد الملمين باللغة الإنكليزية، فقال : لقد ترجم «الفارقليط»بالمعنى نفسه، بل إنّ المعنى التفضيلي الذي يوجد في

ص: 154


1- هذا الشعب المنهوب هو بنو إسرائيل ويمكن أن نعرف من هذه الآيات أنّ المراد بهذا النبي الموعود ليس ذلك المسيح الذي ينتظره بنو إسرائيل؛ لأنّهم يعتقدون بأنّ المسيح سوف يجيء لإعزاز بني إسرائيل، في حين تدلّ هذه الآيات على إذلالهم وكذلك ليس المراد بهم عيسى كما تدلّ عليه أكثر الفقرات .

«أحمد»، ولا يوجد في «محمّد» ، يُفهم من كلمة«فارقليط » اليونانيّة، وهذا القاموس مطبوع في بريطانيا(1).

نعم؛ ينطق المسيحيون اليوم كلمة«بركليتوس» بفتح الباء والراء، ويقولون: إنّ الكلمة لو كانت بكسر هذين الحرفين، لكان معناها «أحمد»؛ لكنّ تحريكها بالفتح، فيكون المعنى: «المعزّي» ؛ والمراد بها هنا :«روح القدس»!

نحن نرى أنّ الترجمة الأولى ( أحمد ) هي الصحيحة؛ لأنّ «بركليتوس» كُتبت في نسخ الإنجيل بهذا التحريك (بالكسر)؛ وهي بمعنى «أحمد»؛ وليست بالفتح؛ حتى تعني «المعزّي». وقد كتب الكتاب النسخ بالتصحيف، ويتّضح ممّا جاء في تحريفات الإنجيل أنّه لا عبرة بخصوصيّات خطّ الإنجيل الحاليّ (2).

أضف إلى ذلك أننا لو افترضنا - جدلاً - أنّ الكلمة هي بَرَكليتوس (بالفتح)، وأنّها تعني المعزّي، فهناك قرائن عديدة من الخارج، ومن الإنجيل نفسه تشير إلى أنّ المراد به نبيّ بشريّ؛ وليس روح القدس الذي يصوّره المسيحيّون في هذه الأزمنة !

وقد ورد في إنجيل يوحّنا (21:14 ..):

أَنَا أَطْلُبُ مِنَ الآب فَيُعْطِيكُمْ مُعَزّياً (الفارقليط) آخَرَ لِيَمْكُثَ مَعَكُمْ إِلَى الأَبَدِ، رُوحُ الحَقِّ الَّذِي لاَ يَسْتَطِيعُ الْعَالَمُ أَنْ يَقْبَلَهُ، لأَنَّهُ لا يَرَاهُ وَلَا يَعْرِفُهُ، وَأَمَّا أَنتُمْ فَتَعْرِفُونَهُ لأَنَّهُ مَاكِتٌ مَعَكُمْ وَيَكُونُ فِيكُمْ.لا أَتْرُكُكُمْ يَتَامَى. إنِّی آتِي إِلَيْكُمْ.بَعْدَ قَلِيل لَا يَرَانِي الْعَالَم أَيْضاً ، وَأَمَّا أَنْتُمْ فَتَرَوْنَنِي.إِنِّي أَنَا حَيٌّ فَأَنْتُمْ سَتَحْيَوْنَ.فِي ذلِكَ الْيَوْمِ تَعْلَمُونَ أَنِّي أَنَا فِي أَبِي، وَأَنْتُمْ فِيَّ، وَأَنَا فِيكُمْ.. وَأَمَّا المُعَنِّي (الفارقليط)، الرُّوحُ الْقُدُسِ، الَّذِي سَيُرْسِلُهُ الآبُ بِاسْمِي، فَهُوَ يُعَلِّمُكُمْ كُلَّ شَيْءٍ، وَيُذَكِّرُكُمْ بِكُلِّ مَا قُلْتُهُ لَكُمْ.

ص: 155


1- طريق السعادة(بالفارسية : راه سعادت)، الشعراني، ص 314.
2- راجع المصدر السابق.

وجاء في الإنجيل (26:15) نفسه:

وَمَتَى جَاءَ المُعَزِّي الَّذِي سَأُرْسِلْهُ أَنَا إِلَيْكُمْ مِنَ الآبِ، رُوحُ الْحَقِّ، الَّذِي مِنْ عِنْدِ الآبِ يَنْبيَّقُ ، فَهُوَ يَشْهَدُ لِي وَتَشْهَدُونَ أَنتُمْ أَيْضًا لأَنَّكُمْ مَعِي مِنَ الابْتِدَاء.

وفيه (16 : 15-7) أيضاً :

لكِنِّي أَقُولُ لَكُمُ الْحَقِّ:إِنَّهُ خَيْرٌ لَكُمْ أَنْ أَنْطَلِقَ ، لأَنَّهُ إِنْ لَمْ أَنْطَلِقُ لَا يَأْتِيكُمُ الْمُعَزِّي (الفارقليط)، وَلكِنْ إِنْ ذَهَبْتُ أُرْسِلْهُ إِلَيْكُمْ. وَمَتَى جَاءَ ذَاكَ يُبَكِّتُ الْعَالَمَ عَلَى خَطِيَّةٍ وَعَلَى بِرٌ وَعَلَى دَيْنُونَةٍ : أَمَّا عَلَى خَطِيَّة فَلاتَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ بِي. وَأَمَّا عَلَى بِرٌ فَلأَنِّي ذَاهِبٌ إِلَى أبي وَلا تَرَوْنَنِي أَيْضًا وَأَمَّا عَلَى دَيْنُونَةٍ فَلأَنَّ رَئِيسَ هَذَا الْعَالَمَ قَدْ دِينَ. إِنَّ لِي أُمُوراً كَثِيرَةً أَيْضاً لأَقُولَ لَكُمْ، وَلكِنْ لا تَسْتَطِيعُونَ أَنْ تَحْتَمِلُوا الآنَ. وَأَمَّا مَتَى جَاءَ ذَاكَ، رُوحُ الْحَقِّ، فَهُوَ يُرْشِدُكُمْ إِلَى جَمِيعِ الْحَقِّ ، لأَنَّهُ لاَ يَتَكَلَّمُ مِنْ نَفْسِهِ، بَلْ كُلُّ مَا يَسْمَعُ يَتَكَلَّمُ بِهِ.وَيُخْبِرُكُمْ بِأُمُورِ آتِيَةٍ. ذَاكَ يُمَجِّدُنِي، لأَنَّهُ يَأْخُذُ مِمَّا لِي وَيُخْبِرُكُمْ. كُلُّ مَا لِلآبِ هُوَلِي. لهِذَا قُلْتُ إِنَّهُ يَأْخُذُ مِمَّا لِي وَيُخْبِرُكُمْ.

وهنا نقول:يعتقد النصارى بأنّ الفارقليط هو روح القدس،ووعد المسيح.بأن ينزل هو على الحواريّين. ولنا عدّة أدلة تثبت أنّ المراد بالفارقليط رجل معيّن يظهر بعد المسيح ؛ وليس روح القدس كما زعموا منها :

أوّلاً: أنّ المترجمين القدماء اعتبروا«الفارقليط» علماً إنسانياً، فجاؤوا باللفظة نفسها في الترجمة، ولو فهموا منها«المعزّي» لذكروا ترجمتها؛ على سبيل المثال، فقد ذكروا في الترجمة السريانية القديمة والعبريّة والعربيّة القديمة، لفظة الفارقليط نفسها. وفي العبريّة حيث لديّ ( العلّامة الشعرانيّ) نسخة مطبوعة منها، اللفظة هي بكسر الفاء (الفرقليط ) وبدون ألف. ووردت في الترجمة العربيّة المطبوعة في السنوات 1821 و 1831 و 1844 نقلاً عن«إظهار الحقّ»على شكل«الفارقليط».

ص: 156

ثانياً: أنّ التواريخ المختلفة التي يؤيّد بعضها بعضاً تدلّ على أنّ النصارى قبل الإسلام كانوا يطبّقونه على رجل معيّن؛ ولهذا،ادّعى أحد الزهاد النصارى في القرن الثاني الميلاديّ والذي يُدعى«منتس» في آسيا الصغرى،بأنه الفارقليط، فآمنت به جماعة. وينقل إظهار الحقّ عن لبّ التواريخ الذي ألفه مسيحيّ:كان اليهود والنصارى في عهد محمّد .يتوقّعون ظهور نبيّ. أرسل مقوقس - كبير الأقباط - إلى رسول اللّه رسالة يردّ عليه فيها :«عرفت أنه لا بدّ من أن يُبعث نبي وظننت أنّ ذلك يكون في الشام».

ثالثاً: يقول في الفصل 14 والآية 16: «أَنَا أَطْلُبُ مِنَ الآبِ فَيُعْطِيكُمْ مُعَنِّياً (الفارقليط) آخَرَ». يؤدّي هذا الكلام أنّني الفارقليط ويجيء بعدي فارقليط آخر؛ إذا كان الفارقليط بمعنى أحمد ومن يجري اسمه على الألسن ويذكره الجميع بالخير، يمكن ترجمة هذه العبارة هكذا:إنّني رجل حسن السمعة وأطلب من الآب أن يعطيكم رجلاً حسن السمعة آخر. أما إذا كان الفارقليط بمعنى المعزّي، لا يمكن القول بأنّ عيسى هو المعزّي، وأنّ محمّداً أو روح القدس معزّ آخر؛ لأنّ الحواريين كانوا حزناء من صعود السيد المسيح .ولم يكن السيد المسيح بعد صعوده موجوداً حتى يعزّيهم ويكون روح القدس معزياً آخر. فكان عليه أن يقول إذن: لا تحزنوا من رحيلي فيجيء معز بدون أن يذكر كلمة«آخر».

رابعاً: يقول في الآية 26 : «فَهُوَ يُعَلِّمُكُمْ كُلَّ شَيْءٍ، وَيُذَكِّرُكُمْ بِكُلِّ مَا قُلْتُهُ لَكُمْ». تدلّ هذه العبارة على أنّ السيّد المسيح يخاطب الأمة كلها إلى نهاية العالم؛ ويقول بأنكم أمتي تنسون كلامي فيذكركم به الفارقلیط، فلا يخاطب الحواريين دون غيرهم، لأنّهم ما كانوا قد نسوا كلامه ولكن بما أنه مرّ زمن طويل وامتزجت معتقدات الوثنيين مع كلام السيد المسيح .ونسوا أقواله، فاعتبروه اللّه وابن اللّه واعتنقوا التثليث، فأرسل اللّه الفارقليط؛ أي محمّد بن عبد الله .ليذكّرهم بكلام المسيح، فإنّه كان عبداً اللّه.

ص: 157

خامساً: يقول في الآية 30 : «وَقُلْتُ لَكُمُ الآنَ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ، حَتَّى مَتَى كَانَ تُؤْمِنُونَ». فنقول: حينما ينزل روح القدس على قلب أحد، لا يشكّ الحواريّون خاصّة في ذلك وإلّا فلابد للأنبياء أيضاً من أن يشكّوا بعد نزول الوحي في صحّته، والأمر ليس كذلك ، فلم يكن الحواريون بحاجة إلى أن يخبرهم النبي عيسى بروح القدس حتّى يصدّقوه عند نزوله، فالمراد بالفارقليط هو النبيّ الذي يشكّ الناس في صدقه وقد أخبرهم النبي عيسى .من قبل حتّى لا يعتريهم أيّ شكّ. كما يقول في الإصحاح 15 وفي الآية 26 : «فَهُوَ يَشْهَدُ لِي. وَتَشْهَدُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا لأَنَّكُمْ مَعِي مِنَ الابْتِدَاءِ.»يُفهم من هذا الكلام بصراحة أن منكري كلام النبي عيسى .،أثاروا سخطه، فيقول: سيجيء الفارقليط ويشهد على حقّانيّتي وتشهدون أنتم أيضاً إذ رأيتم معجزاتي، وتؤيد هاتان الشهادتان إحداهما الأخرى فتتم الحجة على المنكرين. إنّ ما قيل لا يتناسب مع نزول روح القدس على الحواريين، لأنه أي ضرورة تدعو إلى شهادة روح القدس على حقانية السيد المسيح .بالنسبة للحوارييّن الذي كانوا معه منذ البداية ورأوا معجزاته؟ وقوله: «فَهُوَ يَشْهَدُ لِي. وَتَشْهَدُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا»؛ أي: يؤيد بعضكم بعضاً وهو إزاء المنكرين وإلا لا يسمع شهادة روح القدس غير الحواريين ولا تؤيد إحدى الشهادتين الأخرى. كما يقول في الآية 7 من الإصحاح 16 : «إِنْ لَمْ أَنْطَلِقْ لاَ يَأْتِيكُمُ المُعَزِّي».فلا تنطبق هذه العبارة على روح القدس الذي نزل على الحواريين؛ لأنه وفقاً لنص الإنجيل، فقد نزل روح القدس عليهم في عهد النبي عيسى أيضاً، حين أرسلهم السيد المسيح إلى مدن إسرائيل. يقول في الآية 8 :«وَمَتَى جَاءَ ذَاكَ يُبَكِّتُ الْعَالَمَ عَلَى خَطِيَّةٍ وَعَلَى بِرٌ وَعَلَى دَيْنُونَةٍ .» وهذا يصدق على نبينا ؛ لأنه كانت تربطه أمور بالعالمين؛ لكن روح القدس كان في الباطن ونزل على قلوب الحواريين ولم تكن له صلة بالعالمين. ويقول في الآية 13 : «لأَنَّهُ لاَ يَتَكَلَّمُ مِنْ نَفْسِهِ، بَلْ كُلُّ مَا يَسْمَعُ يَتَكَلَّمُ بِهِ، وَيُخْبِرُكُمْ بِأُمُورِ آتِيَةِ. » فتنطبق هذه الفقرة أيضاً على شخص إنسانيّ؛ ولكن فيما يتعلق بروح القدس الذي هو اللّه في اعتقاد النصارى، فلا معنى ل«كُلُّ مَا يَسْمَعُ يَتَكَلَّمُ بِهِ».كذلك يقول في الآيتين 14 و 15 :«اذَاكَ يُمَجِّدُنِي، لأَنَّهُ يَأْخُذُ مِمَّا لِي

ص: 158

وَيُخْبِرُكُمْ كُلُّ مَا لِلآبِ هُوَ لِي. هِذَا قُلْتُ إِنَّهُ يَأْخُذُ مِمَّا لِي وَيُخْبِرُكُمْ.» فلا تنطبق هذه الأمور على روح القدس.

وينتقل العلّامة الشعراني بعد نقله العبارات المذكورة من الإنجيل وإيضاحها إلى استعراض الشهادات المتعلّقة بالعبارات الآنفة الذكر ويردّ عليها(1).

3/2/15. الدليل الثالث: البرهان عن طريق المؤمنين:

أحد الطرق المبتكرة التي أشار إليه العلّامة الشعراني لدى إثباته نبوّة النبي الأعظم.،هو إثبات النبوّة عن طريق بعض المؤمنين بالنبي ؛ ففي بعض الأحيان، تتميز شخصيات بعض من يتبعون نبياً ما بخصائص تورث اليقين بصحتها، ولا يبقى مع معرفتها أي ترديد في صدق دعوى النبوّة. وهنا، تتميز شخصيّة أمير المؤمنين .بمكانة خاصة . يقول العلّامة الشعراني في هذا الخصوص:

إن إيمان أمير المؤمنين بنبيّه يُعدّ بدوره دليلاً عظيماً على نبوّته؛لأنه من درس عهد أمير المؤمنين واطّلع على أحواله - مسلماً كان أو غير مسلم - آمن بأنه كان عالماً فطناً أميناً،لا يقبل المداهنة،وإنّ إعجاز خطَبه التوحيديّة أكبر من معجزة تكلّم الشجرة. فمن المحال - إذن - أن يكون قد آمن مداهناً، أو أنه أخطأ في معرفة دلائل النبوة، ولم يرَ آيةً أو دليلاً على صدق نبيّه(2).

وعلى أساس هذه النظرة ، هناك ثلاثة عناصر أساسيّة في شخصية أمير المؤمنين.تجعل إيمانه حجّة دامغة على حقانية رسالة خاتم الأنبياء؛ وهي:

أوّلاً:قمّة العلم،والفطانة، ومعرفة الدين، ومعرفة اللّه بما يفوق الطاقة البشريّة .

ثانياً:قمّة الأمانة،والصدق،والإخلاص.

ص: 159


1- راجع المصدر السابق، ص 322-325 .
2- المصدر نفسه، ص 215.

ثالثاً :الحزم،وعدم المساومة في الإذعان بالحقّ، ومقارعة الباطل.

وإنّ شخصاً كهذا يُستنار به في الهداية ويُعدُّ رفضه وقبوله برهاناً نيراً وقاطعاً على كشف الحقيقة ويمكن عن طريق معرفة عليّ ، الاهتداء إلى معرفة النبي.

4/2/15 . الدليل الرابع:برهان الإعجاز:

من أمتن البراهين العقليّة على إثبات النبوّة لأيّ نبي صدور المعجزة عنه . وقد أتينا على ذكر ماهيّة النبوّة وشروطها في بحث النبوّة العامة.

يقول العلّامة الشعراني عن ماهية المعجزة:

المعجزة تُطلق على أمر خارق للعادة؛ بمعنى أنها لا تطابق السير الاعتيادي للطبيعة، وليس في وسع الآخرين الإتيان بمثلها. وفي اصطلاح المتكلمين، لا تُطلق المعجزة على كلّ أمر نادر أو خارق للعادة، بل المعجزة هي التي ترتبط بدعوى النبي ويظهرها اللّه لتصديقه،فتقترن المعجزة بالدعوى ؛ وذلك ليس بالصدفة، بل بحيث يدرك الآخرون دلالتها على تصديق النبي(1).

كانت لرسول الإسلام معجزات مختلفة وعديدة؛ بحيث لم تُنقل عن أيّ نبيّ آخر كلّ هذه الأمور الخارقة للعادة؛ فالمعجزات الموثقة التي نقلتها الكتب المعتبرة عن النبي تفوق الألف!في حين لا تتجاوز مجموعة المعجزات التي نقلتها الأناجيل عن السيد المسيح .سبعاً وعشرين معجزة، أو ثلاثين على أكثر التقادير. علاوةً على ذلك، فقد حدثت معجزات النبي - في معظمها - عند اجتماع الناس، ونقلت بأسانيد لا يتطرّق إليها احتمال التزوير أو الكذب، في حين نَقَل معجزات النبي عيسى.أربعة مجهولين، يلفّ الضباب والغموض تاريخ حياتهم.

ص: 160


1- كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد (بالفارسية)، أبوالحسن الشعراني، ص 488 و 489.

ويذكر العلّامة الشعراني من بين مئات الرواة الذين نقلوا معجزات النبيّ أسماء ستين منهم قائلاً:

المعجزات التي رواها جابر بن عبداللّه الأنصاري تشكّل - لوحدها - بضعة أضعاف معجزات النبي عيسى، ويتضح من ذلك كلّه أنّ جميع الناس كانوا يعتقدون بصدور المعجزة عن رسول اللّه .، وإنّ تواطؤ كلّ هذه الجماهير على أمر باطل كاذب يستحيل عادة(1).

ويمكن تقسيم معجزات النبي الأعظم .وتصنيفها في أربعة أقسام :

أوّلاً: الإخبار عن الغيب.

ثانياً: الإعجاز العملي الصادر عن النبيّ.

ثالثاً: الأحداث المحيّرة.

رابعاً: الكتاب السماوي(2).

1/4/2/15. الإخبار عن الغيب

نقل العلّامة الشعراني سبعة وعشرين إخباراً غيبيّاً تكثر القرائن على صحّتها ودرأ عنها الشبهات. وبعضها كما يأتي:

أوّلاً: الإخبار عن موت النجاشي ملك الحبشة،وعن إقامة الصلاة عليه برفقة حشد كبير من الصحابة.

ثانياً: الإخبار عن فتح العراق،والشام،وبيت المقدس، ومصر، وإيران، وغيرهنّ،

ص: 161


1- كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد (بالفارسيّة)، أبو الحسن الشعراني،ص 222.
2- المصدر نفسه، ص 221.

وتوصيات في كيفية مواجهة سكانها حين لم يكن يتصوّر قط إنجاز فتوحات على هذا النطاق.

ثالثاً: الإخبار عن هزيمة الدولة العربية من هولاكو حيث وقعت في القرن الثالث للهجرة.

رابعاً: الإخبار عن اندلاع النار من أرض الحجاز في سنة 654.

خامساً: الإخبار عن خروج عائشة على أمير المؤمنين علي ، وإيصاء النبي للإمام علي بمداراتها.

سادساً: الإخبار عن حرب أمير المؤمنين .مع المارقين،والناكثين،والقاسطين.

سابعاً :الإخبار عن انحراف ذي الخويصرة، وقتاله مع أمير المؤمنين .

ثامناً: الإخبار عن مقتل كسرى على يد ابنه شيرويه مما أدى إلى إسلام باذان ملك اليمن بعد ثبوت صدقه(1).

تاسعاً: الإخبار عن أكل صحيفة قريش بواسطة الأرضة، وبقاء اسم اللّه فيه؛ وهو ما أسفر عن رفع الحصار في شعب أبي طالب(2).

2/4/2/15. الإعجاز العملي:

ذكر العلّامة الشعراني ما يقارب عشرين معجزة عمليّة في كتابه «طريق السعادة»ودرأ عنها الشبهات(3)؛ من بين هذه المعجزات:

ص: 162


1- طريق السعادة (بالفارسية : راه سعادت) الشعراني، ص 86-113.
2- المصدر نفسه، ص 202-205.
3- المصدر نفسه، ص 182-221.

أوّلاً شق القمر.

ثانياً : إنارة سوط الطفيل بن عمرو الدوسيّ بدعاء من النبي من أجل دعوة قومه إلى الإسلام وتلقبه ب«ذيالنور».

ثالثاً :ردّ العينين المفقوءتين لقتادة بن النعمان في معركة أحد، وشفاؤه.

رابعاً: شفاء كثير من الأفراد بلعاب فمه ؛ ومن ذلك : شفاء عيني أمير المؤمنينفي غزوة خيبر .

خامساً: سير الشجرة باتجاه النبي، وانتصافها، وتحرّك كلّ من النصفين في الاتجاه المعاكس للآخر، والتحامهما من جديد، واستقرار الشجرة في مكانها.

سادساً: تدفق الماء من بين أصابع النبيّ .

3/4/2/15. الأحداث المحيّرة:

بعض الأمور الخارقة للعادة هي الأحداث التي رغم عدم صدورها مباشرة عن النبيّ ، إلّا أنها تستدعي وتوجب تصديقه. وقد حدثت هذه المعجزات في زمن نبوّة النبيّ ، وقبل الرسالة. وإليك نماذج للمعجزات في زمن نبوّة النبي:

أوّلاً: الأسطوانة الحنّانة جذع نخل كان النبي .يتكئ عليه عند وعظه في المسجد. وعندما صنعوا منبراً واعتلاه النبي،سُمع من الشجرة حنين جعل الجميع يقولون بأنّه كان أنيناً يشكو فراق النبي .ويُنقل أنّ النبي اقترب من الشجرة، ومسح بيده المباركة عليها، فهدأ حنينها(1).

ثانياً :كان هناك صحابيّ من صحابة النبي يُدعى وهب بن أوس، ويعرفه

ص: 163


1- المصدر نفسه، ص 219 و 220.

الناس ب«مكلّم الذئب»؛ لأنه كان يرعى الغنم - ذات يوم - فأغار ذئب على القطيع، فأخذ شاةً منها، فسعى نحوه، فقال له الذئب:أتعجب من أخذي شاة؟ هذا محمّد يدعو إلى الحقّ فلا تجيبونه! فجاء إلى النبي ،وأسلم(1).

وفيما يأتي نماذج للمعجزات التي وقعت قبل الرسالة، وهي ما تعارفوا على تسميتها ب«الإرهاصات»، وهي قضايا تمهّد الأرضيّة لقبول الناس بالأنبياء:

أولاً : إبادة جيش أبرهة، وفيه من يقود قطيعاً من الفيلة. وقد تمّ ذلك، بهجوم شنّته أعداد من الطيور التي رشقت الجيش بحجارة قضت عليه. جرى ذلك في السنة التي وُلد فيها النبي ، وذكر خبره القرآن الكريم حين كان كثير من شهوده أحياءً، يذكرون الحادثة. ويدلّ وقوع هذا الحادث على قدرة الربّ وعنايته بتعظيم الكعبة، وهو أمر يمهّد لقبول دعوة الإسلام التوحيدية(2).

ثانياً: استقرار سحابة فوق النبي محمّد ، حيث كان الحضور يشهدونها، وتصاحبه أينما يذهب(3).

ثالثاً: شقّ طاق كسرى الذي تنبّؤوا به بزوال الدولة الإيرانية، وصار توالي هذا الحادث والأحداث المماثلة له،ممهّداً لقبول الدين الإسلاميّ (4).

4/4/2/15 .الكتاب السماوي:

القرآن وحي بجميع أجزائه، وقد نزل لفظاً ومعنى من اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالى؛ خلافاً للكتب السماوية الأخرى التي نزلت معانيها على الأنبياء، وبادر الأنبياء بأنفسهم إلى

ص: 164


1- شرح التجريد،ترجمة:العلامة الشعراني، ص 496.
2- المصدر نفسه، ص 491.
3- شرح التجريد،ترجمة:العلامة الشعراني،ص 492.
4- المصدر نفسه.

وضع التعابير والألفاظ لها. لكنّ الوصايا العشر التي نزلت على موسى،وتلقّاها منقوشة على الألواح، قد تكون هي الأخرى منزلة بألفاظ الوحي بعينها(1).

ثمّ إنّ ما وصل إلينا من التوراة والإنجيل ليس سوى سيرة للنبي موسى والنبي عیسی؛ بينما يجمع القرآن في ثناياه معارف وتعاليم في غاية العمق والشمول والسعة،لا نرى أثراً لها في كتب السلف(2).

إنّ ما جاء في كتب الشرائع الماضية ممّا وصل إلينا، كتبه الإنسان، وطرأ عليه تحريف فاحش، ونشهد فيه كثيراً من المفارقات. أما القرآن الكريم فهو كتاب لم ولن يطاله أيّ تحريف.(3)ويُعدّ القرآن - في حدّ ذاته - معجزةً ودليلًا على إثبات حقّانيّته، وصدق دعوى النبوّة؛خلافاً لغيره من الكتب السماويّة.كما أنّ معجزات الأنبياء كانت تحدث على مرأى ومسمع الناس ممن يشهدها ويحضرها ويخاطَب بها، ولا فائدة تُرجى منها للخلف غير سماعها؛ إلّا أنّ القرآن الكريم معجزة مرئيّة أمام الجميع. فتحمل ميزة القرآن هذه وظيفتين :

أوّلاً: أنّها تسدّ على الملحدين السبيل إلى إنكار الإعجاز؛ لأنهم إن استطاعوا إنكار معجزات الأنبياء المختلفة، فلن يُتاح لهم أبداً أن ينكروا أو يفنّدوا وجود القرآن، أو إعجازه.

ثانياً: أنه حجّة مستمرّة حاضرة ودامغة على إلهيّته هو، وعلى حقّانية رسول الإسلام ،ولم يخلّف أي نبي حجّة كهذه.

ص: 165


1- المصدر نفسه، ص 58.
2- المصدر نفسه، ص 57.
3- المصدر نفسه، ص 57 و 64.

16.تحدّيات النبوّة

1/16. تمهيد:

طالما كان بحث النبوّة عرضة لنقد المخالفين منذ قديم الأيام. فبعض الشبهات تعترض أدلّة ضرورة بعثة الأنبياء مما أجبنا عليه في بحث النبوّة العامة. ويتعلّق بعضها الآخر من الشبهات بالنبوّة الخاصة مما سنتعرّض إليه في هذا المجال.

2/16. تحدّيات الوحي التفسيرية:

قدّم الغربيّون والتنويريّون المتأثّرون بالغرب - نتيجةً لانطباعاتهم عن الفلسفات النسبيّة والماديّة - تفاسير غير واقعيّة عن الوحي النبويّ. وتعتمد هذه الرؤية الماديّة على افتراضات؛ من قبيل:إنكار ما وراء العالم، وإنكار وجود اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالى، والإيمان بانحصار الوجود في عالم المادّة، والأطر المنهجية الحسيّة والتجربيّة.

وطبيعيّ أن ينتج عن هذه الافتراضات عدّ الوحي ظاهرة خياليّة ووهميّة، وإنكار استنادها إلى اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالى. وقد دعا الاعتقاد بالافتراضات المتقدّمة المنكرين لحقيقة الوحي العينيّة إلى تقديم تفسير نفسيّ واجتماعيّ لهذه الحقيقة، وتجاهل كون الوحي أمراً إلهيّاً. وفيما يأتي سرد لأهمّ الآراء الجديدة التي تناولت الوحي النبويّ(1):

1/2/16 .شخصية النبي الباطنية:

توقّدت نظريّة الشخصيّة الباطنة والخفيّة في أذهان علماء النفس والأطباء النفسيّين

ص: 166


1- اقتُبست فكرة هذه الآراء ونقدها من ملزمة دراسية تحمل عنوان:معرفة الوحي (بالفارسية:وحي شناسي)،لمؤلّفها علي الرباني الكلبايكاني،تُدرّس في المركز التخصصي لعلم الكلام.

من خلال الدراسات النفسيّة الحديثة. وقد توصّلوا من خلال دراسات واختبارات كثيرة إلى أنّ لكلّ إنسان شخصيّتين ظاهرة وباطنة ، وروح الإنسان كذلك لها بُعدان داخليّ وخارجيّ : أمّا الشخصيّة الظاهرة أو البعد الخارجي لروح الإنسان (عقله الواعي) فتعمل في الأحوال الاعتياديّة، وأمّا شخصيّته الباطنة أو البُعد الداخليّ لروحه(عقله غير الواعي) فتعمل في الأحوال والظروف غير الاعتيادية (مثل: النوم، أو شدّة الإرهاق، أو الحزن والهم البالغين، أو فقدان الوعي).

وقد انجرّ علماء النفس إلى الاعتقاد بوجود مثل هذه الشخصيّة في الإنسان بسبب وقوفهم على نماذج عديدة من أشخاص قادرين على حلّ مسائل رياضيّة صعبة من دون تفكر وتأمل،وكذلك حلّ المجهولات المعقّدة بلا تأنٍّ. ولم يكن يعرف أيّ من هؤلاء الأشخاص المصدر الذي يرفد مثل هذا الوعي على الرغم من سلامتهم وصحّتهم، وكأنّ شخصاً ما يكلّمهم من وراء الستار، ويلقنهم بعض الأمور، فلا يصدر هذا الوعي عن عقلهم الواعي،وشخصيّتهم الظاهرة والاعتيادية،وإنّما هو ناشئ عن عقلهم اللاواعي، وشخصيّتهم الباطنة.

والشاهد الآخر على هذه المعطيات اكتشاف أنّ الشخص المنَّوم مغناطيسيّاً يجيب في حال نومه على بعض الأسئلة، وينبئ فيها عن حقائق لا يعيها هو في حالة اليقظة. فاستنتجوا أنّ مصدر وعيه ليس شخصيّته أو عقله الواعي؛ بل توجد فيه شخصيّة باطنة، تتفعّل عند توقف شخصيّته الظاهرة الواعية، وتخبره عن أحداث غيبية.

وقام هؤلاء العلماء استناداً إلى هذه النظرية حول الشخصية الباطنة بتفسير الوحي الذي يُلقى إلى الأنبياء، وعمدوا إلى تحليله، فقالوا: إنّ ما يَنفخ في روع الأنبياء، ويُلقي إليهم بعض المطالب هو شخصيّتهم الباطنة. وربّما تتجسّد هذه الشخصية الباطنة وتبدو واقعيّة في أعينهم وربّما تصوّروا أنّها ملك أرسل إليهم من قبل اللّه، وهبط إليهم من السماء؛ وأنه هو من يوحي إليهم تلك الحقائق .

ص: 167

وأراد هؤلاء بواسطة هذا التفسير أن يحلّوا مشكلة التعارض المزعوم بين النصوص الوحيانية والنظريات العلميّة؛فالوحي - بناءً على تلك النظريات - ليس إلا تجليّاً لشخصية النبي الباطنة، تتجلى هذه الشخصية تناسباً مع الظروف التي يعيشها النبي واستعداداته، وربّما تمتزج المعارف النابعة عن شخصيته الباطنة مع ما يتعلق بشخصيته الاعتيادية؛ وهذا هو مصدر الخطأ في الوحي(1).

لكنّ هذا التفسير لا يتطابق مع حقيقة النبي العينية؛ فكما قال علماء النفس: إنّ الشخصية الباطنة والعقل اللاواعي يتفعّل في الظروف غير الاعتيادية؛ مثل: النوم الطبيعيّ، أو المصطنع، أو حالة المرض، أو الإرهاق الشديد، أو ما شاكل ذلك؛ وليس في الظروف الاعتياديّة للحياة؛ والحال أنّ الأنبياء لم يتلقوا في حالة النوم إلا القليل من المعارف الوحيانية والوحي في غالب الأحيان كان في حال اليقظة؛ حيث كانوا يتمتعون بسلامة جسمية ونفسية تامّة، وكانت شخصيّتهم الظاهرة وعقلهم الواعي في أتم الاستعداد والنشاط.

كما لا تتناسب آراء علماء النفس والأطباء النفسيّين مع ما ورد في الروايات من أحوال النبي الأكرم.حين تلقّي الوحي. وقد ورد فيها أن النبيّ كان يفقد وعيه عند نزول الوحي، وكان يدهش، وتعرض عليه حالة كحالة النوم، وعند نزول الوحي المباشر كان يشعر بثقل، ويسخن جسده الشريف من ثقل ما ألقي عليه، ويعرق. روي عن الإمام علي أنّه قال :

لقد نزلت (سورة المائدة)عليه وهو على بغلة الشهباء، وثقل عليه الوحي؛حتّى وقفت، وتدلّى بطنها، حتّى رأيت سرّتها تكاد تمسّ الأرض، وأغمي على رسول اللّه؛حتّى وضع يده على ذؤابة (أحد الصحابة)(2).

ص: 168


1- دائرة معارف القرآن العشرين،فريد وجدي، ج 10، ص 712-720.
2- تفسير العياشي، ج1: ص 388.

وروي عن عبادة بن الصامت أنّه قال :

كان إذا نزل الوحي على النبي ك رب له(1)،وتربّد وجهه(2).

وفي رواية أخرى عنه أيضاً:

نکّس رأسه،ونكس أصحابه رؤوسهم(3).

ومن الصعب فهم هذه الحقيقة لمن يعجز عن معرفة الوحي(4).

وعلى أية حال، فإنّه لا تجتمع هذه الأحاديث مع فرضية الشخصيّة الباطنة للرسول و اعتبار الوحي أمراً غير واقعيّ:

* فأوّلاً: كانت تعرض هذه الحالة على النبي .عندما كان يتلقى الوحي من دون توسّط جبرئيل ؛ فلم تكن حالة عامة.

وثانياً : إنّ حالة الدهشة التي كانت تعرض على الرسول عن نزول الوحي مباشرةً، كانت نتيجة نزول الوحي؛ وليس سبباً له. بينما نجد في تجلّي الشخصيّة الباطنة والعقل اللاواعي أنّ الأحوال غير الاعتيادية هي السبب والداعي؛ بمعنى أنّ الشخص يستقر أوّلاً في الظروف والأحوال غير الاعتيادية، ثم تتفعّل شخصيّته الباطنة، في حين نرى بالنسبة إلى النبي.أنه كان ينزل عليه الوحي أولاً،ثمّ تعرض عليه تلك الأحوال غير الاعتيادية.

وثالثاً: الوعي هو من خصائص الوحي النبويّ؛ أي إنّ الأنبياء كانوا على وعي كامل باتّصالهم بمصدر سامٍ، وإنّ المعارف التي يتلقّونها تأتي من ذلك المصدر، وأحياناً

ص: 169


1- قيل في شرح ذلك:كرُب له:أي انقبضت نفسه وتغيرت حالته، وتربّد : أي تغير لون وجهه إلى الغبرة. [م]
2- طبقات ابن سعد، ج 1، ص 131.
3- صحیح مسلم، ج 15، ص 89.
4- يراجع:التمهيد في علوم القرآن،محمد هادي معرفة، ج1، ص 66 وما بعدها.

كان التلقي بشكل مباشر، وأخرى بواسطة ملك الوحي. ولكن ما تذكره تقارير علماء النفس من تجلّي الشخصيّة الباطنة هو أنّ أصحاب هذه الحالة لا يعرفون بالضبط مصدر ما يلهمون به، والشيء الوحيد الذي يعرفونه أنه لم يصدر عن عقلهم الواعي، وجهاز التفكير عندهم.

ورابعاً: تدلّ روايات متواترة قطعية على حضور ملائكة الوحي، وتوسّط جبرئيل في الوحي؛ وهذا يعني أنّ مصدر الوحي النبوي كان خارجيّاً، ولم يكن ينبع من داخلهم.

هذا، وتتلازم نظريّة التخيّل والشخصيّة الباطنة أن يكون الأنبياء أناساً متوهّمين وبعيدين عن الواقعية؛ وهو يتناقض مع الأدلّة العقليّة على ضرورة النبوّة، كما يتعارض مع التقارير التأريخية القطعية حول شخصيّة الأنبياء الإلهيين، وطريقة تعاملهم مع الصديق والعدوّ، فالتاريخ يشهد لهم بأنهم أعقل أناس عصرهم.

2/2/16 .الوحي النفسيّ :

قدّم بعض فلاسفة الغرب تفسيراً آخر للوحي النبوي باسم «الوحي النفسي». وعليه : فإنّ الوحي النبوي ناشئ عن عقل النبي وروحه؛ وليس له منشأ خارجيّ وغيبيّ ! فالنبيّ - عندهم - إنسان طاهر يتمتّع بهمّة عالية، وإيمان ثابت وراسخ باللّه، يبغض عبادة الأوثان والشرك وتقليد العقائد والآداب والتقاليد الجاهلية المشحونة بالشرك، ويشعر بالمسؤولية تجاه مصير المجتمع البشري. فتقوى فيه هذه الفكرة، وهذا الشعور؛ حتى يتجسّم ويتمثل في فكره ووجدانه، وكأنّ رسولاً جاءه من قبل اللّه وعالم الغيب، فأوحى إليه تلك المعارف والأوامر، وبعثه لهداية المجتمع البشري وإنقاذه(1).

وهذا التفسير والتحليل ليس بجديد؛ فقد تناوله المناوئون للأنبياء في عصورهم

ص: 170


1- الوحي المحمدي، رشيد رضا،ص 71 ،تفسير المنار، ج11، ص 163-164.

على مرّ التاريخ ؛ إذ عدّوا أقوال الأنبياء«أضغاث أحلام»(1)،أو«ثمرة الجنون»(2).نعم؛لا تخلو مراحل التاريخ من مصلحين،كانوا يتمتّعون بهمم عالية، ونيّات بارّة، سعوا لإنقاذ الناس؛ لكنّهم لم يقدّموا معارف وبرامج شاملة وعالمية مثل الأنبياء. ولم تكن أطروحاتهم بشمولية تعم الجسد والروح، والظاهر والباطن، والمادة والمعنى، والدنيا والآخرة، والملك والملكوت؛ والحال أنّ برامج الأنبياء كانت تتمتع بمثل هذه الشمولية. ومن البيّن أنّ هذه الخصوصية تدلّ على هذا النوع من البرامج لا يمكن أن يصدر إلا عن العلم الإلهي وحكمته؛ فلو لم يكن الوحي الإلهي واقعياً، وكان مجرد أوهام اعترت الأنبياء، لكان لابد لهم من الخروج من تلك الأوهام ومعرفتهم بالخطأ يوماً ما.

وقد بيّن اللّه عَزَّ وَجَلَّ في القرآن الكريم كون الكلام النبوي وحيانياً وإلهيّاً وقال:

مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى 2 وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى 3 إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى 4 عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى(3).

مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ ما رَأَى 11 أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى(4).

مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى 17 لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى(5).

وهذه الآيات تنفي - بصراحة - أيّ ضرب من ضروب احتمال الخطأ في المقال والمعرفة النبويّة ، وتفنّد فرضيّة«الوحي النفسي».

3/2/16. عبقرية بشرية:

ذهب بعضهم إلى أنّ الوحي النبويّ من سنخ العبقريّة، فعدّوا الأنبياء من زمرة

ص: 171


1- (بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ﴾ سورة الأنبياء: 5.
2- (كَذَلِكَ مَا أَتيَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ) سورة الذاريات: 52.
3- سورة النجم : 52.
4- سورة النجم : 11-12.
5- سورة النجم : 17-18.

عباقرة البشر الذين تألقوا في الإدارة ومجالات الحياة الاجتماعية والتربوية؛فلم يكن لوحيهم مصدر خارجيّ، بل كان وليد عبقريتهم الذاتية. أما «جبرئيل» فهو روحهم الطاهرة، وأمّا الكتب السماويّة فهي تشريعات و معارف جادت بها قريحتهم الفكرية ودهائهم الذاتيّ.

وعلى سبيل المثال:كان عالم الدين والمصلح الهندي السيد أحمد خان الهندي (1898م) يرى أنّ النبوّة قوّة طبيعية خاصة كسائر قوى الإنسان ومواهبه التي تزدهر في الوقت المناسب، ويتفق أحياناً بأن يتمتع شخص ما بقوّة ومواهب كاملة بحيث يعده الناس عبقريّاً في ذلك المجال الخاصّ. فمن كانت له هذه القدرات الطبيعيّة الخارقة في معالجة الأمراض الروحيّة واستطاع بثّ روح جديدة في الجسد الأخلاقيّ للبشريّة سمّي نبيّاً. وعندما نضجت ثمرة هذه الموهبة الطبيعية، شعر النبي أنه قد بعث، ليكشف للناس عن رسالته الجديدة لتهذيب الأخلاق والروح. وإنّ الاختلاف بين الأنبياء وسائر العباقرة هو نتاج الاختلاف بين المجالات التي يعملون فيها. فالأنبياء شفاء للأرواح، وينحصر واجبهم في تقديم توجيه جديد لحياة الناس الروحية والأخلاقية(1).

هذه النظريّة أيضاً غير تامّة؛ لأنّ العباقرة على الرغم من شبههم بالأنبياء من حيث الامتياز والتفوّق على سائر أفراد البشر ، إلا أنّ بينهم وبين الأنبياء اختلافات أساسيّة تنتقض بها فرضيّة تحليل الوحي النبوي على أنه نوع من العبقرية ! فالأنبياء يمتازون بخصوصيّة العصمة العلميّة والعمليّة؛ في حين يفتقدها عباقرة البشر؛ فهؤلاء ليسوا مبرئين عن الخطأ العلميّ والعمليّ.

لقد صرّح الأنبياء - بوعي كامل - أنّ ما قدّموه من معارف وأوامر لهداية البشر ليس نابعاً من أفكارهم وعبقريّتهم؛ وإنّما صادر عن عالم الغيب والمشيئة والعلم الإلهيّين. كما لا يتطابق تفسير الوحي النبوي بالعبقرية مع مسألة ختم النبوّة؛ فلا معنى للخاتمية

ص: 172


1- تاريخ الفلسفة في الإسلام (بالفارسیة:تاریخ فلسفه در اسلام)،شریف، ج4، ص206-207، نقلًا عن تفسير القرآن، تأليف: السيد أحمد خان، ج1، ص32-35.

فی العبقريّة. ولا يمكن تفسير عمق ونطاق المعارف والمفاهيم الوحيانية مع العبقریّةالبشريّة؛ فالتنبؤ بأحداث المستقبل والتقارير التفصيليّة والدقيقة عن أحداث الماضي وأحداث عالم ما بعد الموت ( عالم البرزخ والقيامة)، والقوانين الأخلاقية والمدنية والعبادية والجنائية الشاملة - كما ورد في القرآن الكريم والروايات الإسلامية - لا يمكن تفسيره بالعبقرية البشريّة بأية حال(1).

4/2/16.التجربة الدينية:

استخدم فلاسفة غربيون مثل : شلاير ماخر (1834م) وبول تيليخ (1965م) وويليم جيمس تعبير «التجربة الدينيّة»، وذهبوا إلى أنّ الدين يعني تحقّق التجربة الدينيّة، وفسّروا هذه التجربة بأنها علاقة مع الموجود المطلق. وكما تقدّم في أبحاث معرفة الدين، فقد فسّرت التجربة الدينية بمعانٍ مختلفة من الإدراك والشعور والحقيقة غير القابلة للتفسير. وعدّ بعض التنويرييّن الإيرانيّين المعاصرين حقيقة الوحي النبويّ بأنها نوع من التجربة الدينية، ونسبوا للوحي النبويّ خصائص التجربة الدينيّة. وخلصوا إلى القول: كما أنّ التجربة الدينية ليست خالصة، وتتكوّن من دوافع باطنية ونفسية للإنسان، وعوامل خارجية من المجتمع تتوفّر مضامينها منها، فإنّ الوحي النبوي - كذلك - متأثر بثقافة عصره، والحالات الشخصية للنبي !

لكنّ إدراج الدين تحت مسمّى التجربة الدينية لا يتلاءم مع حقيقة الوحي؛ لأنّ الوحي من سنخ العلم الحضوري، وهو أكمل صوره؛ فهو عبارة عن مشاهدة الحقيقة التي يتقوّم بها وجود الإنسان، والإنسان يجد بالعلم الحضوري الخالص مقوّم وجوده (أي: اللّه وكلامه)كما يجد نفسه.والوحي هو الوجدان؛ لأنّ النبي عندما كان يتلقى الوحي بوجدانه، كان موقناً بأنّ ما وجده هو الوحی.ولذلک،فانّ الوحی ليس من سنخ التجربة الدينية؛ ليحتاج إلى مشاهدات متكرّرة.

ص: 173


1- مفاهيم القرآن (بالفارسية : منشور جاويد)،جعفر السبحاني، ج10، ص 223.

قال الإمام الصادق في جواب من سأله عن كيفية معرفة الأنبياء بأنّ ما يجدونه وحي:«يُوفُقُ لذلك حَتَّى يَعْرِفَهُ»(1).

وهذا يعني أن التوفيق الإلهي يرافق الأنبياء؛ فكما أنّ الإنسان يجد نفسه في نشأة الشهود بحيث لا يحتمل الخطأ، فإنّه يجد الكلام الإلهي كذلك، بحيث لا يشكّ فيه أبداً؛ لأنّ إدراك الإنسان للوحي أسمى وأعلى من إدراكه لنفسه. فالرسول الأكرم يتلقّى الوحي من موطن «لدن» كما ورد في قوله تعالى:

وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ(2).

وهو موطن لا يقبل الشكّ و لا الريب؛ لأنّ الشكّ والخطأ يكون حيث يوجد حق وباطل، وعندما لا يعرف الإنسان الحق من الباطل في ما يجده، ولكن حيث لا مجال للباطل، لن يكون مجال للشك ولا للخطأ والاشتباه.

وعدم احتمال الباطل في أمر الوحي، صادق في ثلاث مراحل:

أوّلاً: التلقي؛ قال تعا الى : وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ(3).

ثانياً: الحفظ؛ قال تعالى : سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى(4).

ثالثاً: الإبلاغ قال تعالى: وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى 3 إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى(5)»(6).

فالوحي النبويّ نوع من المقابلة مع اللّه تعالى؛ لا من سنخ التجربة الدينية؛لأنّ الوحي النبوي مرئي ومسموع. فمعارف الدين ألقيت من قبل اللّه إلى الرسول -

ص: 174


1- أصول الكافي، ج2، ص 177.
2- سورة النمل: 6.
3- سورة النمل: 6.
4- سورة الأعلى: 6.
5- سورة النجم : 3و4.
6- معرفة الدين (بالفارسية:دين شناسي)، ص 241-243.

بتوسط ملك الوحي، أو بنحو مباشر - وسمعها الرسول بمسامع باطنه، وقد شاهد النبي الملك بعين باطنه؛ فعند تلقّي الوحي والأحكام والمعارف، يوجد تواصل كلاميّ ولساني بين اللّه ورسوله .ورسوله والوحي النبوي ترافقه العصمة، فهو لا يحتمل الخطأ،في حين لا تكون التجربة الدينيّة بريئة من الخطأ؛ لأنّ الافتراضات والعقائد والخلفيات الفكريّة الخاصة لصاحب التجربة تؤثر فيها، وتعرقل مصداقيتها. كما أنّ الكشف العرفاني للعرفاء كذلك ليس معصوماً من الخطأ، وتدخّلات الشيطان، وهو محتاج إلى ميزان و معيار مثله في ذلك مثل العقل القطعي، أو النقل المعصوم.

والنبيّ في مسألة الوحي ليس إلا قابلاً ومتلقياً للوحي؛ وليس فاعلاً وخالقاً له، ودعوى أنّ الوحي نابع من باطن الرسول، وأنّ جبرئيل هو عقله، الرسول وليس شخصيّة خارجة عن وجوده؛ ليست فقط تواجه مشكلة عقليّة في جهة اتحاد القابل والفاعل؛ بل تتناقض مع صريح الآيات القرآنية أيضاً؛ لأنّها تدلّ على أنّ النبي قابل لمضمون الوحى وألفاظه، وأنّ هناك كائناً يستقل وجوده عن وجود الرسول بعنوان ملك الوحي المأمور بإبلاغ مضمون الوحي ولفظه من قبل اللّه إلى الرسول(1).

ولأجل رفع الاستغراب والوهم الباطل حول بعثة الله للأنبياء، يقول سبحانه:

إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا 163 وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلًا لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا 164 رُّسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاً يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا

ص: 175


1- الآيات الدالة على دور القابل بالنسبة إلى الرسول في تلقّي الوحي ودور الفاعل بالنسبة إلى اللّه سبحانه في إنزال الوحي هي: (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٌّ مُبِينٍ (الشعراء -192-195)؛ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ. (يوسف 2-1) كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا .(الشورى 7)؛قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ.(النحل 102)؛.قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ . (البقرة 97)؛ وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (مريم 64).

165 لَّكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا 166 إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوا عَن سَبِيلِ الله قَدْ ضَلُّواْ ضَلَالًا بَعِيدًا(1).

3/16. تحدّيات عصمة الأنبياء:

لقد أثبتت الأدلّة القرآنية والروائية عصمة الأنبياء بنحو لا غبار عليه. وينبغي هنا الإجابة والردّ على الأسئلة والشبهات التي أوردوها على عصمة بعض الأنبياء.

وقد قام علماء مسلمون؛ مثل : السيّد المرتضى (436ه) والفخر الرازي (606ه) في مواجهة تحدّيات عصمة الأنبياء بتأليف كتب مثل :«تنزيه الأنبياء وعصمة الأنبياء»،دافعوا بها عن ساحة الأنبياء الإلهيّين.

وهنا نقدّم موجزاً عن أهمّ تحدّيات عصمة الأنبياء بعد بحث النبوّة العامة والخاصة(2).

1/3/16 .شبهة عصمة آدم:

أحد الشبهات التي ترد على عصمة الأنبياء اقتراب نبي الله آدم من الشجرة الممنوعة على الرغم من النهي الإلهي؛ حيث قال تعالى:

وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ(3).

فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ(4).

ص: 176


1- سورة نساء 163-167.
2- استفدنا في استعراض تحدّيات عصمة الأنبياء من كتابات محمد امین صادقي ارزگاني،بعنوان: أسئلة وردود حول العصمة (بالفارسیة:پرسشها و پاسخهايي درباره عصمت)،بإشراف عبدالحسین خسروبناه.
3- سورة البقرة 35،سورة الأعراف 19.
4- سورة البقرة 36.

فَدَلاهُمَا بِغُرُورٍ(1).

فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ(2).

قَالاً رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ(3).

وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى(4).

والجواب:

أولاً : أنّ النهي الوارد في هذه الآيات نهي إرشادي؛ لا مولوي نسبة إلى تداعيات الحياة لآدم وحوّاء؛ مثل: الجوع،والعطش، والعريّ، وغيرها؛ لأنّ اللّه سبحانه يقول: (فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى *إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لَا تَطْمَقُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى(5).

ثانياً: العالم الذي كان يعيش فيه آدم وحوّاء لم يكن عالم التكليف ليشتمل على تشريع إلهيّ ،ثمّ تنتفي عصمة الرسول بمخالفة ذلك التشريع(6).

ثالثاً: أنّ وسوسة الشيطان كانت تختلف بالنسبة إلى آدم عن سائر وساوسه؛ لأنّ وساوس الشيطان بالنسبة إلى الناس هي الرسوخ في أنفسهم؛ كما قال تعالى: (يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ)(7).

ص: 177


1- سورة الأعراف 22.
2- سورة طه 120.
3- سورة الأعراف 23.
4- سورة طه 121.
5- سورة طه 117.
6- مفاهيم القرآن (بالفارسية : منشور جاويد)، جعفر السبحاني، ج 5، ص 73 و 75. عصمة الأنبياء في القرآن الكريم، السبحاني، ص 91 ؛الميزان، ج 14، ص 220، ج 1، ص 145.
7- سورة الناس 5.

في حين نجد القرآن الكريم قد عبّر عن وسوسته لآدم ب«إلى»؛ أي إنّ الشيطان اقترب إلى آدم ؛ لكنّه لم ينفذ في قلبه ليتناقض ذلك مع عصمته.

* رابعاً: أن آدم اعترف بظلمه؛ ولكن ليس كلّ ظلم ذنب؛ لأنّ الظلم يعني العمل غير العادل، وما وضع في غير موضعه؛ سواء أكان ذنباً أم لم يكن.

*خامساً : أنّ مفردتي«عصى» و«غوى» وإن كانتا تستعملان في العربية المعاصرة بمعنى الذنب؛ لكن معناهما في عصر نزول القرآن الكريم كان أوسع مما هو عليه الآن؛ فمفردة «عصى» تعني خلاف الطاعة، ولا تنحصر بالذنب ومفردة «غوى»كذلك تعني في العربيّة الخسارة والضياع والضلالة وما شاكل ذلك، ولا تتلازم أي من هذه المعاني مع الذنب. كما أنّ مفردة الغفران تعني الستر؛ وطلب الستر لا يعني دائماً طلب الستر على الذنب. فآدم إنّما طلب من اللّه سبحانه ستر النقص الذي عرض له بسبب عدم امتثال الأمر الإرشادي(1)؛ فلا ينافي إذن تخلّف آدم عن أمر اللّه الإرشادي مع عصمته.

2/3/16. شبهة عصمة نوح.

الشبهة الأخرى تتعلّق بطلب نبيّ اللّه نوح لنجاة ابنه المذنب.

قال نوح للّه سبحانه: (رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي)(2).

فردّ اللّه عليه بالقول: (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ )(3).

ص: 178


1- مفاهيم القرآن (بالفارسية: منشور جاويد)،جعفر السبحاني، ج5، ص 67-89.والمصدر نفسه، ج11، ص 89. شرح وتفسير مثنوي،محمّدتقي جعفري، ج13، ص191. وكذلك يمكن مراجعة المصادر التالية:معارف القرآن،مباحث السبيل والدليل (بالفارسية : معارف قرآن،راه و راهنما شناسي)، محمّد تقي مصباح، ج4 و5، دروس في العقيدة الإسلامية (بالفارسية: آموزش عقايد)،محمد تقي مصباح ،ج2، ص 175 ؛دروس في العقيدة الإسلامية (بالفارسية آموزش عقايد)،محمّد تقي مصباح، ج2، ص 87؛ عصمة الأنبياء في القرآن الكريم،السبحاني، ص94؛ شرح نهج البلاغة،محمّد تقي جعفري، ج2، ص172؛ الوحي والنبوّة، سلسلة التفسير الموضوعي، الجوادي الأملي، ج 3، ص 246 ؛الميزان،ج 14، ص 220، وج6، ص264.
2- سورة هود 45.
3- سورة هود 46.

وقال تعالى:فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ»(1).

هذه الشبهة أيضاً لا تنفي عصمة نوح.والحوار الذي دار بين اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وبين نوح،كالحوار الذي دار بينه سُبحَانَهُ وَتَعَالى وبين الملائكة حول خلقة آدم هو نوع من الاستفسار حول مصير ابن نوح. فنوح لما أخذ أهله معه في السفينة خاطب ابنه قائلاً:

يا بُنَيَّ اركب مَعَنَا ولا تَكُن مَعَ الكَافِرِينَ(2).

وهذا يبيّن أنّ ابنه لم يظهر كفره حتى ذلك الحين، وأنّ اللّه يخبر نوحاً بعدم صلاح ابنه بالتعبير المتقدّم. وبناءً على ذلك، لا يتنافى طلب نوح مع عصمته(3)؛ فدعاء نوح لا يعني الزلل؛ لأنّ التوبة وطلب الغفران في كلام المعصومين لا تعني الاعتذار من الذنب، وإنّما نوع من السلوك إلى اللّه تعالى(4).

3/3/16. شبهة عصمة إبراهيم :

من ضمن الشبهات المطروحة في هذا السياق قضيّة نبي اللّه إبراهيم، ومناظرته للكفّار؛ حيث قال اللّه تعالى نقلاً عن إبراهيم :

فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِعًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ(5).

ص: 179


1- سورة هود 46.
2- سورة هود 42.
3- الأنبياء في القرآن الكريم،سلسلة التفسير الموضوعي،الجوادي الأملي، ج6، ص 274،الوحي والنبوّة، سلسلة التفسير الموضوعي،الجوادي الأملي، ج 3، ص 250.
4- مفاهيم القرآن (بالفارسية : منشور جاويد)، جعفر السبحاني، ج 5، ص90. وكذلك يراجع المصدر نفسه، ج11، ص 147؛ عصمة الأنبياء في القرآن الكريم، الجوادي الآملي، ص 114؛الوحي والنبوّة،سلسلة التفسير الموضوعي، الجوادي الأملي، ج 3، ص 247؛ الميزان في تفسير القرآن، ج 10، ص232؛ شرح وتفسير مثنوي،محمدتقي جعفري،ج 7، ص 147؛ المیزان، ج 6، ص 266.
5- سورة الأنعام 76-78

والجواب أنّ نبي اللّه إبراهيم قام في هذه القضيّة في مقام المناظرة والجدل ببيان الفروض المختلفة ونقدها. قال السيّد المرتضى (436ه):إنّه لم يقل ذلك مخبراً، وانّما قال فارضاً ومقدّراً على سبيل الفكر والتأمل.

وقد قال الإمام الصادق:«لم يكن من إبراهيم شرك، وانما كان في طلب ربه وهو من غيره شرك»، كما قال الإمام الباقر :«(وعندما قال إبراهيم (هذا ربيّ) إنّما كان طالباً لربّه (كما إذا أكمل أحد علمه ومعرفته بواسطة التأمل والتفكر في الآيات الإلهية وتحليلها).

وأضاف السيد المرتضى (436ه) : ان ابراهيم .لم يقل ما تضمنته الآيات على طريق الشكّ، ... وإنّما قال ذلك على سبيل الإنكار على قومه، والتنبيه لهم على أنّ ما يغيب ويأفل لا يجوز أن يكون إلهاً معبوداً(1).

بمعنى أنه كان بصدد هداية قومه، وفكهم من عبادة الأجرام السماوية، فجاراهم في منطقهم، وناظرهم من خلال تعظيم نقاط الضعف في آلهتهم؛ فلا ينبغي عدّ كلام إبراهيم حيث قال :

بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْتَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُون(2).

من توهّم الكذب؛ لأنّ إبراهيم كان مشهوراً بعدائه. وغاية إبراهيم هي بيان حقيقة أخرى وكشف خطأ الناس. وكلام إبراهيم مشروط، فينتفي المشروط بانتفاء الشرط(3). لكنّ تعبيره ب إني سَقِيمٌ(4)جاء فی جواب طلب الكفّار منه الخروج من المدينة، وهو لا يتنافى مع عصمته ؛فربّما كان سقيماً حقاً(5).

ص: 180


1- عصمة الأنبياء في القرآن الكريم،السبحاني، ص 125-128.
2- سورة الأنبياء 55.
3- عصمة الأنبياء في القرآن الكريم،جعفر سبحاني، ص129.
4- سورة الصافات 85.
5- المصدر نفسه، ص 132 ، المیزان، ج 17، ص 148.

4/3/16.شبهة عصمة يونس:

الشبهة الأخرى تتعلّق بنبيّ اللّه يونس؛حيث قال تعالى :

وَذَا النُّونِ إِذ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ(1).

فتوهّم بعضهم أنّ بعض التعابير-مثل:(مغاضباً)،و( فظنّ أن لن نقدر عليه)،و(إنّي كنت من الظالمين)- لا تتلاءم مع عصمة النبي.

والجواب:

*أوّلاً: أنّ غضب يونس كان على قومه؛ وليس على اللّه سبحانه، ليتنافى ذلك مع عصمته .

*ثانياً: أنّ تركه لقومه لم يكن خلاف التشريع الإلهيّ؛ وإن كان الأجدر به أن يصبر على الصعوبات، وأن يتحمل تبعاتها. فإذن ما فعله يونس هو ترك الأولى الذي لا يتنافى مع عصمته.

ثالثاً : أنّ مفردة الظلم التي ورد على لسانه تعني العمل الذي ليس في محلّه؛ وليس بمعنى الذنب(2).

5/3/16.شبهة عصمة موسى:

الشبهة الأخرى تخص قضية قتل القبطي على يد النبي موسى . قال تعالى: هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلُّ مُّبِينٌ(3).فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّين(4).

ص: 181


1- سورة الأنبياء 87.
2- مفاهيم القرآن (بالفارسية: منشور جاويد)، جعفر السبحاني، ج 5، ص 150 ؛ج 12، ص326؛ عصمة الأنبياء في القرآن الكريم، السبحاني، ص193؛ الميزان،ج 17، ص165؛ سيرة الأنبياء في القرآن الكريم سلسلة التفسير الموضوعي، الجوادي الأملي، ج 7، ص 300و302.
3- سورة القصص 15.
4- سورة الشعراء 20.

والجواب:

أوّلاً: أنّ اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وصف موسى:وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ(1).

فأفعال موسى تقوم على أساس من العلم والحكمة(2).

ثانياً : أن عبارة ( هذا من عمل الشيطان)إمّا ناظرة إلى النزاع بين القبطيّ وشخص من بني إسرائيل ؛ ولا علاقة له بقتل موسى للقبطي(3). وإما ناظرة إلى تداعيات قتله؛ لأنه عبّر عن النزاع وقتل القبطيّ بأنّه في غير محلّه،وعمل متسرّع يؤدّي إلى تأجيل غاية موسى ورسالته الرئيسيّة في إزالة الطاغوت(4).وعليه:فإنّ موسى اعتذر من اللّه سبحانه بقوله :رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي(5).

6/3/16 .شبهة عصمة يوسف:

وردت شبهة أخرى بالنسبة إلى نبي اللّه يوسف.وقد ورد في القرآن الكريم إشارات تخصّ دعوة زليخا يوسف إلى نفسها؛ حيث قال تعالى : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ(6).

وقد توهّم بعضهم نتيجة تعبير (وهمّ بها)أن نبي اللّه يوسف همّ بالذنب كماهمّت به زلیخا؛ لكنّ برهان الربّ صرفه عن ذلك!

ص: 182


1- سورة القصص 20.
2- مفاهيم القرآن (بالفارسية: منشور جاويد)، جعفر السبحاني، ج5، ص114.
3- المصدر نفسه ص 116.
4- الميزان، ج16، ص18.
5- منشور جاوید، ج 5، ص 117؛ الميزان ج 16 ، ص 19؛ القصص 16.
6- سورة يوسف 24.

والجواب:

أنّ (لولا) حرف امتناع وجود، ومحتاج إلى جواب لم يأت في ظاهر الآية وهو مقدّر، وبما أنّ جملة (همّ بها ) مقدّمة على حرف ( لولا ) فلا يمكن اعتبارها جواباً؛ فلا يمكن تقديم جواب لولا عليه بناء على قواعد اللغة العربية . والجملة تكون في الحقيقة هكذا : لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ لَهَمَّ بِهَا ، وبما أنه رأى دليل ربّه وبرهانه لم يذهب بل حتى لم يعزم على الذنب ولم يفكّر به. وقد تجلّى هذا البرهان في ضوء عصمة يوسف . قال الإمام الرضا .في تفسير هذه الآية :

«إنّ يوسف كان معصوماً والمعصوم لا يهم بذنب ولا يأتيه».

وإنّ سورة يوسف المباركة تؤكّد على طهارة يوسف وعصمته ونزاهته وعفّته البالغة وصدقه وصبره وصفحه وإيثاره وعظمته، وتعرّفه قدوة لأفضل الناس ومن جملة عباد اللّه المخلصين الذين لا يجرؤ الشيطان على الدنو منهم أبداً(1).

7/3/16. شبهة عصمة سليمان :

هناك شبهة تحوم حول فوات صلاة نبي اللّه سليمان؛فالقصة تقول: عندما كان سليمان منشغلاً باستعراض جياده وغفل عن الصلاة، أمر الملائكة بإرجاع الشمس، وصلّى، وضرب عنق جياده. وقد ورد ذكر لهذه الحادثة في بعض كتب قصص الأنبياء؛ وهي بعيدة عن الواقع؛ لأنّ القرآن يحكي هذه القضيّة كما يأتي: إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ 32 فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ 33 رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ(2).

ص: 183


1- مفاهيم القرآن (بالفارسية: منشور جاويد)،جعفر السبحاني، ج5، ص99؛ عصمة الأنبياء في القرآن الكريم،جعفر سبحاني، ص 136؛112؛ الميزان، ج 11، ص 131 و 127؛ سيرة الأنبياء في القرآن الكريم سلسلة التفسير الموضوعي،الجوادي الآملي، ج 7، ص 64؛ دروس في العقيدة الإسلامية (بالفارسية: آموزش عقاید)،محمّد تقي مصباح، ص18؛ معارف القرآن،مباحث السبيل والدليل (بالفارسية : معارف قرآن،راه و راهنما شناسي)،محمد تقي مصباح، ج 4 و5، ص 169.
2- سورة ص 31 و 32 و 33.

والملاحظات التي نسجّلها هنا :

أولاً : لا يوجد في هذه الآية أي دلالة على القصّة المحرّفة المتقدمة في فوات صلاة نبي اللّه سليمان.

ثانياً: تتنافى تلك القصّة مع الصفة التي ذكرها القرآن الكريم لسليمان ؛

حيث نصّ على أنّه «أوّاب». قال اللّه تعالى:

(وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ(1).

ثالثاً : إنّ سليمان قال : أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي(2)بمعنى أنّ حبّي للجياد هو في الواقع حبّ الخير ؛ لأنّ الجياد وسيلة لمجاهدة أعداء الدين وخدمة الخلق.

رابعاً: إنّ الفتنة الإلهية لسليمان كانت حين ألقى على كرسيه جسداً، فأناب سليمان إلى ربّه(3). وهذا الاختبار - أيضاً - لا ينافي عصمة سليمان. كما أنّ طلبه من بأن يهب له ملكاً لا ينبغي لأحد في الآية : وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي .(4)لا يعني البخل ؛ وإنّما المعنى هو إعطاء سليمان ملكاً لا ينبغي لغير المعصوم في بلاده(5).

8/3/16. شبهة عصمة داوود:

وردت شبهة أخرى تتعلّق بما أطلق عليه «القضاء غير العادل لنبي اللّه داوود »؛ فقد استمع إلى أحد المتخاصمين دون الآخر، ثمّ قضى. قال اللّه سبحانه:

ص: 184


1- سورة ص 30.
2- سورة ص 32.
3- سورة ص 34(وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ).
4- سورة ص 35.
5- مفاهيم القرآن (بالفارسية: منشور جاويد)، جعفر السبحاني، ج 5، ص 125 وج11، ص274؛ وج 12، ص 269؛عصمة الأنبياء في القرآن الكريم،السبحاني، ص234 و172 ؛ الميزان، ج 17، ص202 ؛سيرة الأنبياء في القرآن الكريم سلسلة التفسير الموضوعي، الجوادي الأملي، ج 7، ص 268؛ الوحي والنبوّة، سلسلة التفسير الموضوعي،الجوادي الآملي، ج 3، ص 266.

وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ 21 إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصَّرَاطِ 22 إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ يَسْعُ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلي نَعْجَةٌ وَاحِدَةً فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّني في الخطاب 23 قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ(1).

والجواب:

أوّلاً: أنّ حكم داوود كان معلقاً؛ وليس منجزاً و قطعياً؛ أي إنّه لو كان كما قال، فقد ظلمك أخوك.

ثانياً : أنّ بعض الروايات عدّت القضيّة تخاصماً ظاهرياً بين الملائكة؛ وهذا ليس له واقع خارجي.

ثالثاً : أَنّ اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالى يثني على نبيه داوود قائلاً:

وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ(2).

وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ(3).

وبناءً على ذلك، فإنّ داوود لا يقضي ظلماً بما له من مقام إلهي رفيع(4).

9/3/16.شبهة عصمة أيوب:

الشبهة الأخرى هي مس الشيطان لأيوب النبيّ. قال اللّه سبحانه: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ.

ص: 185


1- سورة ص 21-24.
2- سورة ص17.
3- سورة ص 25.
4- سيرة الأنبياء في القرآن الكريم سلسلة التفسير الموضوعي،الجوادي الآملي،ج 7 ؛ الوحي والنبوة، سلسلة التفسير الموضوعي، الجوادي الأملي، ج 3، ص 262؛ص 240 ؛ص 243؛ عصمة الأنبياء في القرآن الكريم، السبحاني، ص167 ،ص 167؛ مفاهيم القرآن (بالفارسية:منشور جاويد)،السبحاني، ج 12، ص 256؛ الميزان، ج 17، ص 189 و 201؛ معارف القرآن،مباحث السبيل والدليل (بالفارسیة:معارف قرآن، راه و راهنما شناسي)، محمّد تقي مصباح، ج 4 و 5 ، ص 175؛ مجموعة آثار،مرتضى المطهري، ج16، ص124.

وهذا أيضاً لا يتعارض مع العصمة؛ لأنه :

أوّلاً:كان مراد أيوب من مسّ الشيطان،وسوسته للناس؛لابتعادهم عن أيوب ممّا أدى إلى الطعن فيه والاستهانة والاستهزاء به(1).

ثانياً: لا مجال لولوج الشيطان في عقل الأنبياء النظري والعمليّ؛ ولكن بإمكانه التصرف في أجسادهم، فنسبة بعض الأمراض الجسديّة إلى الشيطان لا ينافي عصمة الأنبياء(2).

ثالثاً: ليس المراد من مسّ الشيطان هو اقتراف الذنب من قبل أيوب؛ بل إن معنى عبارة (مسّني الشيطان) هو (مسني الضرّ ) الوارد في سورة أنبياء حول أيوب. والمقصود من العذاب ليس العقاب الإلهيّ؛ وإنّما هو النصب الذي عاناه أيوب من قومه(3).

10/3/16 .شبهة عصمة زكريا :

الشبهة الأخرى تحوم حول طلب نبي اللّه زكريا آية من اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى؛ حين بشّره اللّه بالذرية؛ فطلب هذه الآية يعني الشكّ في الوعد الإلهي ! قال الله سبحانه:

قَالَ رَبِّ اجْعَل لَّيَ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلا تُكَلَّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْرًا وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ .(4)

والجواب:

ما أراده زكريّا من طلب الآية هو تحقق بشارة الذريّة على كبر سنّه، وأن يزيل اللّه قلقه حول ذلك(5).

ص: 186


1- الميزان، ج 17، ص 220.
2- الميزان، ج 17، ص221 ؛سيرة الأنبياء في القرآن الكريم سلسلة التفسير الموضوعي،الجوادي الآملي، ج 7، ص75.
3- عصمة الأنبياء في القرآن الكريم،السبحاني،ص 187؛ مفاهيم القرآن (بالفارسية:منشور جاويد)، جعفر السبحاني، ج12، ص313.
4- سورة آل عمران 41.
5- الوحي والنبوّة،سلسلة التفسير الموضوعي، الجوادي الآملي، ج 3،ص 273؛المرأة في مرآة الجلال والجمال (بالفارسیة: زن در آیینه جلال و جمال)،الجوادي الآملي،ص148،مفاهيم القرآن (بالفارسية: منشور جاويد)، جعفر السبحاني، ج12، ص 340.

11/3/16.شبهة عصمة النبي الخاتم:

استعرض بعضهم شبهة أخرى حول عصمة النبي الأكرم ؛وهي ترتبط بما ورد في قوله تعالى بخصوص الرسول الأعظم :لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا(1).

والجواب:

أنّ الآية المباركة ليست في صدد إثبات ذنب للنبي ؛ لأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ في الآية السابقة:إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا(2).

والعلاقة بين الفتح المبين ومغفرة الذنب تهدينا إلى أنّ المراد من الذنب في الآية المباركة هو الذنب من وجهة نظر المشركين الذين كانوا يعدّون الرسول مذنباً.

قال الإمام الرضا:

«لأَنَّ مُشْرِكِي مَكَّةَ أَسْلَمَ بَعْضُهُمْ وَ خَرَجَ بَعْضُهُمْ عَنْ مَكَّةَ وَ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ لَمْ يَقْدِرُ عَلَى إِنْكَارِ التَّوْحِيدِ عَلَيْهِ إِذَا دَعَا النَّاسَ إِلَيْهِ فَصَارَ ذَنْبُهُ عِنْدَهُمْ فِي ذَلِكَ مَغْفُوراً بظهوره عَلَيْهِمْ»(3).

والآية الأخرى قوله تعالى:عَفَا اللهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ(4).

فظاهر الآية هو مخاطبة النبيّ ومعاتبته؛ ولكن حسب تعبير الإمام الرضا فالآية من باب(إيّاك أعني واسمعي يا جارة)؛ فخطاب الآية موجّه لأمة الرسول.

ص: 187


1- سورة الفتح 2.
2- سورة الفتح 1.
3- الميزان،ج 18، ص 273 ؛الوحي والنبوّة،سلسلة التفسير الموضوعي،الجوادي الآملي،ج 3، ص274؛ عصمة الأنبياء في القرآن الكريم،السبحاني ص 220؛ معارف القرآن مباحث السبيل والدليل (بالفارسية: معارف قرآن راه وراهنما شناسي)، محمد تقي مصباح، ج 4 و 5 ، ص180؛ دروس في العقيدة الإسلامية (بالفارسية: آموزش عقاید)، محمّد تقي مصباح، ج2، ص 187.
4- سورة التوبة 43.

وهناك آيات قرآنية أخرى تخاطب النبي في الظاهر؛ ولكن المقصود منها هو الأمة، فلا تناقض هذه الآيات عصمة النبي(1).

أضف إلى ذلك أنّ الآية تشتمل على مدح لطيف؛ وليس عتاباً حقيقياً فهي تبيّن مدى الرأفة النبوية ، فلا تنافي العصمة إذن(2).

أما الآية الكريمة التي تقول:وَوَجَدَكَ ضَالَّا فَهَدَى(3)،فهي لاتعني ضلال النبيّ في فترة صباه؛ وإنما(الضالّ) - حسب ما نقل من كلام الإمام الرضا - : أنّك كنت مجهولاً بين الناس، ولم يعرف منزلتك وعظمتك أحد، فهدى الله الناس إليك، فعرفك الجميع، وعرفوا عظيم قدرك(4).

والآية الأخرى في هذا السياق قوله تعالى :

عَبَسَ وَتَوَلَّى 1 أَن جَاءَهُ الْأَعْمَى 2 وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزكَى 3 أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى 4 أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى 5 فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى 6 وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَكَى 7 وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى 8 وَهُوَ يَخْشَى 9 فَأَنتَ عَنْهُ تَلَقَّى(5).

قيل: إنّها نزلت في قضيّة ابن أم مكتوم ؛ الرجل الأعمى الذي حضر عند النبيّ عندما كان في حوار مع كبار قريش، فأهمله النبي حسب هذه الرواية .

والجواب:

أنّ الآية لا تعاتب النبي ؛ فهو خير مطلق، ولم يعبس وجهه لصديق أو عدوّ ،

ص: 188


1- الوحي والنبوّة،سلسلة التفسير الموضوعي، الجوادي الآملي، ج 3، ص276 ؛ الميزان، ج 9، ص 300، ج 6، ص 363.
2- معارف القرآن، مباحث السبيل والدليل (بالفارسية : معارف قرآن،راه و راهنما شناسي)،محمّدتقي مصباح، ج4 و5، ص182؛ دروس في العقيدة الإسلامية (بالفارسية : آموزش عقايد)،محمّد تقي مصباح، ج2، ص182.
3- سورة الضحى 7.
4- الوحى والنبوّة، سلسلة التفسير الموضوعي، الجوادي الأملي،ج 3 ،ص 278؛مفاهيم القرآن (بالفارسية: منشور جاويد)، جعفر السبحاني، ج6، ص 90 الميزان، ج 20، ص 310.
5- سورة عبس 1-10.

قط، وكان يعاشر الناس معاشرة حسنة، وكما عبّر اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالى عنه :وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ(1).

قال الإمام الصادق :«نَزَلَتْ فِي رَجُل مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ كَانَ عِنْدَ النَّبِيِّ ، فَجَاءَ ابْنُ أُمَّ مَكْتُوم، فَلَمَّا رَآهُ تَقَذَرَ مِنْهُ وَ جَمَعَ نَفْسَهُ وَ عَبَسَ وَ أَعْرَضَ بِوَجْهِهِ عَنْهُ، فَحَكَى اللهُسُبْحَانَهُ ذَلِكَ وَ أَنْكَرَهُ عَلَيْهِ»(2).

أما فيما يخص قوله تعالى:

وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَيَّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أَمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(3).

فالشبهة التي قد تخطر بالبال تحوم حول كيفية إمكان تدخل للشيطان في أمنية الأنبياء الخلّص؛ فالقرآن الكريم يصرح بانعدام أي سلطان أو نفوذ له على المخلصين، ومعلوم أنّ الأنبياء الإلهيّين هم المخلصون؛ فيكون المقصود - إذن - محاولة الشيطان لوسوسة الناس لعدم استجابة دعوة الأنبياء كي لا تتحقق أمنية الأنبياء في هداية الناس.

ويجدر بالذكر أنّ بعض مؤلّفي أهل السنّة اعتبروا بأنّ الآية نزلت في أسطورة الغرانيق وأسطورة الغرانيق أو الآيات الشيطانية أقصوصة كاذبة من نسج خيال القصاصين؛ مفادها أنهم قالوا:

إنّ رسول اللّه لما رأى من قومه ما شق عليه من مباعدة ما جاءهم به من اللّه تمنى في نفسه أن يأتيه من اللّه ما يقارب بينه وبين قومه،...حتى حدثت بذلك نفسه وتمناه وأحبه ، فانزل اللّه عليه :

ص: 189


1- سورة القلم 4.
2- الميزان،العلّامة الطباطبائي، ج20، ص 203؛ عصمة الأنبياء في القرآن الكريم، السبحاني، ص229.
3- سورة الحج 53.

وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى 1 مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى 2 وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى 3 إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيَّ يُوحَى 4 عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ... .

فلما انتهى إلى قوله :

أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى 19 وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى ....

ألقى الشيطان على لسانه لما كان تحدّث به نفسه ويتمنّى أن يأتي به قومه : (تلك الغرانيق العلى، وإنّ شفاعتهنّ ترتجي)وتابع السورة ، فلمّا سمعت ذلك قريش فرحوا وسرهم وأعجبهم ما ذكر به آلهتهم ، ومدوا له يد الأخوّة. وبلغ خبر السجدة من بأرض الحبشة من أصحاب رسول اللّه وعادوا إلى مكة، وعاشوا مع المشركين إخواناً. فلما أمسى أتاه جبرائيل فطلب من أن عرض عليه السورة، فلما بلغ الكلمتين اللتين ألقى الشيطان عليه قال جبرائيل أسكت، ما هذا الذي جرى على لسانك، فعرف رسول اللّه بخطئه وأنّه انخدع بإبليس، فاشتدّ حزنه وملّ الحياة وقال : «عجباً، افتريت على اللّه وقلت على اللّه ما لم يقل، آه ما أعظم الخطب»(1).

وحسب بعض الروايات، فإنّ رسول اللّه قال لجبرئيل :

«إنّه أتاني آتٍ على صورتك فألقاها على لساني»، فقال جبرئيل: «معاذ اللّه أن أكون أقرأتك هذا». فاشتدّ حزن النبي . وقيل : فنزلت فيه هذه الآية: (وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لا تَخَذُوكَ خَلِيلًا 73 وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا 74إِذًا لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا.(2)وقد زادت هذه على حزن الرسول أكثر من قبل، فما زال مغموماً محزوناً حتى شملته العناية الإلهية وأنزل الله يطيب نفسه: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيَّ إِلَّا

ص: 190


1- وهذا مما يدلّ على اصطناع الأسطورة وكذبها؛ فكيف يمكن إيصال النبأ إلى مسلمي حبشة ورجوعهم إلى مكة في مدة يوم على الرغم من بعد المسير وأسباب السفر حينئذ.
2- سورة الإسراء 73-75.

إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(1)؛ فطابت نفسه وزال غمّه .(2)

وقد تناول العلامة الشيخ محمد هادي معرفة (2007م) دراسة أسانيد قصّة الغرانيق ومضمونها بعد نقلها، وقال:

«رفض جلّ المحققيّن المسلمين هذه الأسطورة واعتبروها خرافة». قال القاضي عياض: «هذا الحديث لم يخرجه أحد من أهل الصحّة، ولا رواه ثقة بسند سليم متصل، وإنّما أولع به وبمثله المفسّرون والمؤرّخون المولعون بكل غريب، المتلقفون من الصحف كلّ صحيح وسقيم. وقال أبو بكر بن العربي:(كلّ ما يرويه الطبري في ذلك باطل لا أصل له).وصنّف محمّد بن إسحاق بن خزيمة رسالة، فنّد فيها هذا الحديث المفتعل ونسبه إلى وضع الزنادقة. كما أن تهافت الأسطورة وتشتتها يدلّان على اختلاقها، وإنّ الواضع لم يكن محترفاً لأنّ السورة تبدأ ب(وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى " إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى.فاللّه سبحانه أكّد في هذه الآيات على عدم ضلال النبيّ وغوائه ونطقه عن الهوى. كما صرح بأنّ ما يقوله الرسول وحي إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى. ولو قدر إبليس على التلبيس للزم منه تكذيب كلام الله وهذا مرفوض، كما أنّ الشيطان لن يغلب إرادة الله أبداً ف (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا(3)و كَتَبَ الله لَأَغْلِبنَّ أَنَا وَرُسُلِ إِنَّ اللَّهِ قَوِيٌّ عَزِيزٌ .(4)والعزيز هو الذي لا يغلبه أحد . فكيف تكون الغلبة مع إبليس وهو الضعيف؟ يقول سبحانه: (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانُ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ(5)وكذلك إِنَّ عِبَادِي

ص: 191


1- سورة الحج 52.
2- تفسير الطبري، ج 17، ص1313-134؛تاريخ الطبري، ج2، ص 75-78 ، الدرّ المنثور،جلال الدين السيوطي، ج4، ص 194، 366-368؛فتح الباري في شرح البخاري،ابن حجر العسقلاني، ج8،ص333.
3- سورة النساء 76.
4- سورة المجادلة 21.
5- سورة النحل 99 .

لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَان.(1)فكما يقول الشيطان: وَمَا كَانَ لَي عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي(2)؛ فكيف يكون له التسلّط على مشاعر النبيّ الأكرم ؟

والأمر الآخر هو أنّ اللّه قد ضمن صيانة القرآن فقال:إِنَّا نَحْنُ نَزَلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ(3)وأنّ القرآن لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَين يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ(4)فالقرآن سيكون مصاناً من الأحداث على مرّ الزمان ولن يتمكّن أحد من التدخل فيه بزيادة أو نقصان.

وأضاف العلامة معرفة (2007م):

والآيتان المتقدّمتان لا علاقة لها بقصّة الغرانيق. فإنّ آية (فَيَنسَخُ اللّه مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ(5)بعد أن كانت تشير إلى أنّ أمنية صاحب كلّ شريعة أن تثمر جهوده وتتحقق أهدافه ومطالبه وتستقرّ كلمة اللّه في أرجاء المعمورة؛ ولكن الشيطان يسعى دائماً في الحؤول دون ذلك أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ(6)؛ولكن اللّه قَوِيٌّ عَزِيزٌ(7)و إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا(8)؛فمهما قام الشيطان بالدسائس وعرقل الطريق، أدمغه اللّه بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ(9)،فَيَنسَخُ اللَّهِ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ واللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ؛(10)وإنّ الآيات التالية وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا 73 وَلَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدةً

ص: 192


1- سورة الإسراء 65.
2- سورة إبراهيم 22.
3- سورة الحجر 9.
4- سورة فصلت 42.
5- سورة الحج 52.
6- سورة الحج 52.
7- سورة المجادلة 21.
8- سورة النساء 76.
9- سورة الأنبياء 18 .
10- سورة الحج 52.

تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا 74 إِذًا لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا(1). باستخدامها حرف (لولا) لامتناع الوجود تبيّن مقام عصمة الأنبياء. ولو لم تشمل العصمة أنبياء الله كعناية إلهيّة لإنارة سبيلهم؛ لأمكن الزلل والانحراف إلى المبطلين. والعناية الإلهية هي التي تعمّ عباده الصالحين وتؤمنهم وساوس الشيطان ومكائده(2).

4/16. تحدّي صيانة القرآن:

يتّفق جميع العلماء المسلمين على أنّ القرآن الكريم مصان عن التحريف، وقد قدّموا إثباتات تدعم هذه الدعوى. وقد تبادر إلى الأذهان شبهة التحريف بواسطة بعض الروايات غير المعتبرة أو القابلة للتأويل من مصادر الشيعة وأهل السنة(3).

1/4/16. معاني التحريف:

التحريف - لغةً - يعود إلى الجذر (حرف)؛ وهو يعني الطرف والجانب. وتحريف الكلام صرفه عن مسير الطبيعي. والمسير الطبيعي لكل عبارة هو إفادتها لمعناها الحقيقي والمراد الواقعي، ويتحقق التحريف بانحرافها عن معناها الحقيقي.

فسّر الطبرسي آية يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ (4)بمعنى خلاف ما أراده اللّه سبحانه(5).

ص: 193


1- سورة الإسراء 73-75.
2- محمد هادي معرفة،علوم القرآن،ص 27-31 ؛وكذلك يراجع:معارف القرآن،مباحث السبيل والدليل (بالفارسية : معارف قرآن،راه و راهنما شناسي)، محمّد تقي مصباح، ج 4 و 5، ص194؛ الوحي والنبوّة، سلسلة التفسير الموضوعي، الجوادي الأملي، ج 3، ص282؛ سيرة الرسول الأكرم في القرآن الكريم (بالفارسیة:سیره رسول اکرم در قرآن)،الجوادي الأملي، ج 9، ص 37؛ مفاهيم القرآن (بالفارسية:منشور جاويد)،جعفر السبحاني، ج7، ص277؛ عصمة الأنبياء في القرآن الكريم،السبحاني،ص203؛الميزان، العلّامة الطباطبائي، ج 14، ص 390 وج 19، ص 267؛ دروس في العقيدة الإسلامية (بالفارسية: آموزش عقاید)،محمد تقی مصباح، ص 177؛ شرح وتفسير مثنوي،محمّدتقي جعفري، ج 2، ص 255؛ الأعمال الكاملة (بالفارسية)، مرتضى المطهري، ج16، و 129.
3- استفدنا في ترتيب مباحث تحدّي صيانة القرآن من كتاب علوم القرآن للعلامة محمد هادي معرفة.
4- سورة المائدة 13 ،سورة النساء 46.
5- يراجع تفسير الطبرسي، ج 2، ص 173؛(وقال الزمخشري أيضاً في تفسير هذه الآية: (أي يميلونها عن مواضعها)الكشاف، ج1، ص 516).

قال الإمام الباقر:«من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه وحرّفوا حدوده»(1).

وقد عدّد العلامة معرفة سبعة معانٍ للتحريف المصطلح كما يأتي:

أوّلاً: التحريف في مدلول الكلام:أي التأويل الباطل والتفسير بالرأي؛ قال رسول اللّه:«من فسّر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار»(2).

ثانياً : تسجيل الآية أو السورة في المصحف على غير ترتيب النزول.

ثالثاً: اختلاف القراءات:بأن يخالف القراءة المشهورة.

رابعاً: اختلاف اللحن:أجاز النبيّ اختلاف الألحان وقال: «نزل القرآن على سبعة أحرف».

خامساً: استبدال المفردات: أي استبدال مفردة من القرآن بغيرها.

سادساً : الزيادة على القرآن:كما أنّ ابن مسعود كان يذكر بعض الكلمات تفسيراً للآية في خلالها ليبيّن المراد من الآية بنحو أفضل، كما أضاف في آية التبليغ عبارة «إنّ عليّاً مولى المؤمنين»وقرأ الآية هكذا: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلَّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ - إن عليّا مولى المؤمنين - وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ(3).

سابعاً: التحريف بالنقص : اعتبر بعض«الحشوية»و«الأخبارية»(4)بأن القرآن كان أكثر مما هو عليه الآن وقد انتقص عن سهو أو خطأ أو عمد. ولكن أجمعت الأمة الإسلامية على صيانة القرآن من النقص(5).

ص: 194


1- الكافي، ج 8، ص53، الرقم 16.
2- غوالي اللئالي ،ج 4، ص 104، الرقم 154.
3- سورة المائدة 67.
4- الأخباريون في الماضي هم من اهتم بجمع الأخبار التأريخيّة؛ ولكنه يطلق منذ القرن الحادي عشر حتى الآن على جماعة من المحدثين المتساهلين في جمع الأحاديث الراوين لأي حديث عن أي أحد.
5- علوم قرآني،محمد هادي معرفة، ص 369-371.

2/4/16. آراء علماء الإمامية:

أكّد علماء الإماميّة في مكتوباتهم الفقهيّة والتفسيرية والكلامية على سلامة القرآن من التحريف. وصرّح بعض هذه الشخصيّات على ذلك؛ مثل: شيخ الطائفة أبي جعفر الطوسي(1)(460ه)،وأمين الإسلام الطبرسّي(2)(القرن السادس الهجريّ)،وأبي الفتوح الرازي(3)(القرن السادس الهجريّ)، والشيخ محمّد بن إدريس الحليّ (4)(598ه)، ومحمد بن الحسن الشيباني(5)(من علماء الشيعة في القرن السابع)،و كمال الدين الكاشفي(6)(القرن التاسع الهجريّ)،ومحمّد بن علّي النقيّ الشيبانيّ (7)(ق994ه)،والملّا فتح اللّه الكاشاني(8)(988ه) ،والشيخ أبي الفيض الناكوري(9)(1004ه)،والشيخ محمّد بن حسن الحارثي(10)المعروف بالشيخ البهائي (1030ه)،و محمّد بن إبراهيم الشيرازي المعروف بصدر الدين الشيرازيّ(11)(1050ه)، والملّا عبداللّه الشبرونيّ الشهير بالفاضل التوني(12)(1071ه)، ومحمّد محسن المعروف بالفيض الكاشاني(13)(1091ه)،والشريف اللاهيجي(14)(حوالي 1097ه)،

ص: 195


1- البيان في تفسير القرآن،محمّد بن حسن الطوسي، ج6، ص320.
2- مجمع البيان في علوم القرآن،فضل بن حسن الطبرسي، ج 6، ص 509؛ وجوامع الجامع، ص236.
3- روض الجنان وروح الجنان،حسين بن علي الخزاعي (أبو الفتوح الرازي)، ج 1، ص 31.
4- المنتخب من تفسير القرآن والنكت المستخرجة من كتاب التبيان،ابن إدريس الحلّي، ج2، ص246.
5- نهج البيان عن كشف معاني القرآن،محمّد بن الحسن الشيباني، ج3، ص182.
6- المواهب العليّة، كمال الدين حسين الكاشفي، ج2، ص 336.
7- مختصر نهج البيان عن كشف معاني القرآن،محمّد بن علي نقي الشيباني، ص262.
8- منهج الصادقين في إلزام المخالفين،فتح اللّه الكاشاني، ج 5، ص154 ؛ وخلاصة منهج الصادقين، ج4، ص59.
9- سواطع الإلهام، أبو الفيض الناكوري، ج3، ص214.
10- يراجع: رسالة العروة الوثقى (تفسير سورة الحمد) محمد بن حسن الحارثي(الشيخ البهائي)، ص16، وآلاء الرحمن في تفسير القرآن،محمدجود البلاغي، ج1، ص26.
11- يراجع:تفسير القرآن الكريم، محمّد بن إبراهيم، ج5، ص 19.
12- يراجع:الوافية عن الأصول، عبدالله الشبروني، ص 148.
13- يراجع: تفسير الصافي، الفيض الكاشاني، ج 3، ص102؛ والأصفى في تفسير القرآن، ج1 ص626.
14- تفسير الشريف اللاهيجي، ج2، ص 658.

ونورالدين محمّد بن مرتضى الكاشاني(1)(1115ه)، ومحمّد بن محمّدرضا القمّي(2)(القرن الثاني عشر الهجري)،والشيخ جعفر الكبير(3)المعروف بكاشف الغطاء (1228ه)، والسيّد عبداللّه شبّر(4)(1242ه)،والسيّد حسين الكوهكمري(5)(1299ه)،والسيّد شرف الدين العاملي(6)(1381ه)،والسيد محسن أمين العاملي(7)(1371ه) ، والعلامة الشيخ عبد الحسين الأميني(8)(1390ه، والعلّامة الطباطبائي(9)(1402ه)، والإمام الخميني،(10)وآية اللّه السيد أبو القاسم الخوئي،(11)وكثير من الباحثين القرآنيين من الإمامية في القرنين الماضيين(12).

كما نقل العلامة الشيخ محمد هادي معرفة (2007م) طرفاً من كلمات علماء الشيعة في مجال صيانة القرآن:

قال أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه الصدوق (381ه) في رسالة الاعتقادات :

«اعتقادنا أنّ القرآن الذي أنزله الله تعالى على نبيه محمّد هومابين الدفتين، وهو ما في أيدي الناس، ليس بأكثر من ذلك، ومبلغ سوره عند

ص: 196


1- تفسير المعين، محمد بن مرتضى الكاشاني، ج 2، ص 650.
2- كنز الدقائق وبحر الغرائب محمّد بن محمّدرضا القمي، ج 7، ص104.
3- كشف الغطاء (كتاب القرآن)،الشيخ جعفر الكبير، ص229.
4- تفسير القرآن الكريم،السيد عبداللّه شبر، ص714.
5- التحقيق في نفي التحريف عن القرآن الشريف،السيّد على الحسيني الميلاني، ص 27.
6- الفصول المهمّة، السيد شرف الدين العاملي، ص163.
7- أعيان الشيعة، ج1، ص41.
8- الغدير،العلامة الأميني، ج 3، ص 101.
9- الميزان،العلامة الطباطبائي، ج12، ص 106-137.
10- كتاب تهذيب الأصول،الإمام الخميني، ج 2، ص 165 ؛ وأنوار الهداية في شرح كفاية الأصول، ج 1، ص 245.
11- البيان الخوئي، ص215-258.
12- يراجع:سلامة القرآن عن التحريف، فتح اللّه محمدي، ص 21.

الناس مائة وأربع عشرة سورة... ومن نسب إلينا أنا نقول إنّه أكثر من ذلك فهو كاذب»(1).

قال محمّد بن محمّد بن النعمان المعروف بالشيخ المفيد (413ه) في كتاب «أوائل المقالات»:

«وقد قال جماعة من أهل الإمامة إنه لم ينقص من كلمة ولا من آية ولا من سورة (إلّا) حذف ما كان مثبتاً في مصحف أمير المؤمنين من تأويله وتفسير معانيه».ثمّ قال:«وعندي أن هذا القول أشبه من مقال من ادعى نقصان کَلِمٍ من نفس القرآن على الحقيقة دون التأويل، وإليه أميلُ ... وأمّا الزيادة فيه فمقطوع على فسادها (وقد أجمع العلماء على ذلك)، ... فالوجه الذي أقطع على فساده أن يمكن لأحدٍ من الخلق زيادة مقدار سورة فيه ( ممّا يتنافى مع الإعجاز)، وأما زيادة الكلمة والكلمتين والحرف والحرفين وما أشبه ذلك (فهو مردود لعدم رجحانه)، (فالقرآن بريء عن أي زيادة) ومعي بذلك حديث عن الصادق جعفر بن محمّد»(2).

قال شيخ الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي (460ه)في مقدمة تفسيره النفيس «التبيان»:

«أمّا الكلام في زيادته ونقصانه ( فمنتفي تماماً)،لأنّ الزيادة فيه مجمع على بطلانها.والنقصان منه،فالظاهر أيضاً من مذهب المسلمين خلافه،وهو الأليق بالصحيح من مذهبنا وهو الذي نصره المرتضى،وهو الظاهر في الروايات»(3).

قال جمال الدين أبو منصور الحسن بن يوسف بن المطهر العلّامة الحلّي (726ه) في «أجوبة المسائل المهنائية»في جواب السيد المهنا :

«الحق أنه لا تبديل ولا تأخير ولا تقديم فيه وانه لم يزد ولم ينقص. ومن نعوذ

ص: 197


1- يراجع:اعتقادات الإمامية مع شرح الباب الحادي عشر،للشيخ الصدوق، ص 93.
2- أوائل المقالات، ص54-56.
3- التبيان، ج1، المقدّمة، ص 3.

باللّه تعالى من أن يعتقد مثل ذلك وأمثال ذلك، فإنه يوجب التطرق الى معجزة الرسول المنقولة بالتواتر»(1).

قال العلامة الطباطبائي (1402ه) في هذا الشأن:

«ويدلّ على عدم وقوع التحريف الأخبار الكثيرة المروية عن النبي 9 من طرق الفريقين الآمرة بالرجوع إلى القرآن عند الفتن وفي حلّ عقد المشكلات. وكذا حديث الثقلين المتواتر من طرق الفريقين... وكذا الأخبار الكثيرة الواردة عن النبي وأئمّة أهل البيت الآمرة بعرض الأخبار(على الكتاب على نحو الإطلاق دون تخصيص الحكم بحديث دون آخر ومعلوم أنه لو كان الكتاب الإلهي محرّفاً، لم يعد لهذه الأحاديث معنى ... وكذلك أخبار أخرى ...)»(2).

وقام عدد من كبار أهل السنّة مثل أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري (324ه) رئيس الأشاعرة والعلّامة الشيخ رحمة الله الهندي الدهلوي (1308ه) في كتاب«إظهار الحق»وكذا الشيخ محمد المدنيّ (1968ه) رئيس كلية الشريعة بجامعة الأزهر في رسالة «الإسلام بتنزيه»الشيعة من عقيدة تحريف القرآن، ونسبوا فكرة التحريف إلى عقليّات تكتفي بالظاهر وتفتقر إلى العمق في المعرفة الدينية(3).

وما أحدث شبهة التحريف عند بعض هؤلاء الظاهريين هو عدد من روايات المصادر الشيعية والسنية.

قال العلّامة الشيخ محمد جواد البلاغي (1352ه) في مقدمة تفسير «آلاء الرحمن»:

ص: 198


1- أجوبة المسائل المهناويّة، ص121، مسألة 13.
2- الميزان في تفسير القرآن،محمد حسين الطباطبائي، ج12، ص 107-108.
3- ر.ك: مقالات الإسلاميين،أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري، ج 1، ص 119-120؛ وإظهار الحق، ج2، ص206۔ 209؛ ورسالة الإسلام، شماره ،44، ص 382-385؛ وصيانة القرآن من التحريف، ص 79-81.

«وفي جملة ما أورده القاضي نور اللّه من الروايات ما لا يتيسر احتمال صدقها. ومنها ما هو مختلف باختلاف يؤوّل به إلى التنافي والتعارض. هذا مع أن القسم الوافر من الروايات ترجع أسانيده إلى بضعة أنفار وقد وصف علماء الرجال كلا منهم إما بأنه ضعيف الحديث فاسد المذهب مجفو الرواية. وإما بأنّه مضطرب الحديث والمذهب يعرف حديثه وينكر ويروي عن الضعفاء. وإما بأنه كذاب متهم لا أستحل أن أروي من تفسيره حديثاً واحداً وأنه معروف بالوقف في الأئمة وأشدّ الناس عداوة لهم. و ( تكفي هذه الأوصاف لعدم الوثوق في هؤلاء»(1).

وقال العلامة المعرفة (2007ه) بعد نقل عبارات العلامة البلاغيّ :

وقد وجدت في مراجعتي الجميع تلك الروايات سواء المرويّة في كتب أهل السنة و في كتب الشيعة، أنّ غالب هذه الروايات الداعية إلى الطعن في الشريعة ، موضوعة ومصطنعة على أيدي أعداء الدين، أو يمكن تأويلها بوجوه أخرى فلا علاقة لها بدعوى التحريف(2).

وإنّ أمثال محمّد محمّد عبد اللطيف المعروف بابن الخطيب (1402ه) الكاتب المصري في كتابه «الفرقان» من بين أهل السنّة وبعضاً من الشيعة الأخباريين مثل : السيّد نعمة اللّه الجزائري (1112ه) في «منبع الحياة»والمحدّث النوري (1320ه) في«فصل الخطاب»قد وقعوا في شرك شبهة التحريف نتيجة لغفلتهم عن أسانيد بعض الروايات فوقفوا في وجه إجماع علماء المسلمين.

وفيما ذكره ثقة الإسلام الكليني (329ه) في الكافي من عبارة:«باب أنّه لم يجمع القرآن كلَّه إلا الأئمة: وأنهم يعلمون علمه كلَّه».

فإنّ مراده من ذلك نظراً إلى الجزء الثاني من التعبير هو أن جمع كامل التفسير

ص: 199


1- تفسير آلاء الرحمن، ج 1، ص 25.
2- علوم القرآن، ص 383-385.

والتأويل القرآني وظاهره وباطنه وعلم القرآن بأكمله إنّما يكون في يد الأئمة الأطهار. فلا علاقة إذن بين الأحاديث التي أوردها ثقة الإسلام الكليني في هذا الباب بفكرة التحريف الباطلة.

وقد قسم العلامة معرفة (2007م) الروايات التي تدلّ على التحريف ظاهراً إلى عدة أقسام:

القسم الأوّل: أحاديث تفسيرية، تحدّث بها الإمام إما توضيحاً للآية باختصار، ولكنّ أمثال المحدّث النوري (1320ه)عدّوا هذه التفاسير المرافقة للتلاوة جزءاً من القرآن واستنتجوا التحريف منها(1). وللمثال إليك ما ورد في الكافي عن الإمام أمير المؤمنين أنه حين قرأ آية: وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ...(2)أضاف قائلًا: «بظلمه وسوء سريرته».

* القسم الثاني : أحاديث جاء فيها لفظ «التحريف»، والمراد منه تحريف بالمعنى وتفسير على غير الوجه، ولكنّ أمثال المحدّث النوري (1320ه) حسبها التحريف اللفظي المصطلح(3).فعلى سبيل المثال روي عن النبي الأكرم أنه قال: «جيء يوم القيامة ثلاثة يشكون:المصحف، والمسجد، والعترة. يقول المصحف : يا ربّ حرّفوني ومزّقوني. ويقول المسجد:يا ربّ عطّلوني وضيّعوني. وتقول العترة:يا ربّ قتلونا وطردونا ...»(4).

* القسم الثالث : روايات زعموا دلالتها على سقط بعض الآيات. ومثاله: ما ورد في«الكافي» عن الإمام الصادق :«إنّ القرآن الذي جاء به جبرائيل إلى محمّد سبعة عشر ألف آية»، في حين ورد في كتاب «الوافي» - الجامع للكتب الأربعة - بلفظ

ص: 200


1- فصل الخطاب، ص275.
2- البقرة 205.
3- فصل الخطاب، ص 23-24.
4- خصال الصدوق،باب الثلاثة،برقم 232 ،ص174.

«سبعة آلاف آية»(1)من غير ترديد وهذا يتطابق مع الواقع نوعاً ما علما بأنّ الفيض الكاشاني (1091ه) من أهل الضبط في النقل. ولا يخفى ما يعاني منه سند الحديث من الترديد وعدم إمكانية الاستناد إليه(2).

القسم الرابع: روايات متعلّقة بظهور الإمام الحجة 7 تتكلّم عن إتيانه بقرآن جديد غير القرآن الموجود. وهذه الروايات إنّما تعتبر الاختلاف بين القرآنين في ترتيب السور، وبعض الإضافات التفسيرية، وليس في أصل نصّه. فعلى سبيل المثال: ورد في رواية الشيخ المفيد (413ه) :«عن الباقر قال: إذا قام قائم آل محمّد : ضرب فساطيط لمن يعلّم الناس القرآن،على ما أنزل اللّه.فأصعب ما يكون على من حفظه اليوم، لأنه يخالف فيه التأليف»(3).

القسم الخامس:الروايات الواردة بشأن فضائل أهل البيت: المخبوءة طيّ آيات الذكر الحكيم،أن لو قرئت كما هي على ما أنزلها اللّه لدلّت على شرف منزل أهل البيت وفضائلهم.وللمثال:روي عن الإمام الصادق أنّه قال:«من لم يعرف أمرنا من القرآن،لم يتنكب الفتن»(4).فظنّ أهل التحريف بأنّ مراد الإمام الصادق هو تصريح القرآن بشؤون ولاية أهل البيت وأنّ ذلك قد أسقط، في حين لم يقصد الإمام.

ذلك، بل إنّ التدبّر والتعمّق في هذا القرآن الموجود بين أيدينا تستجلي به شؤون ولايتهم:،كما يتبيّن من خلال التدقيق المنصف في آيات أولي الأمر وذوي القربى وغيرهما من الآيات، رفيع مقام ولاية أهل البيت وإن جهله المخالفون أو تجاهلوه(5).

الأمر الآخر هو مصحف أمير المؤمنين عليّ الذي تمسّك به بعضهم لنسبة

ص: 201


1- الوافي (الطبعة الحجرية)، الفيض الكاشاني، ج2 (الجزء الخامس)، ص274 و 232(الهامش)؛ ج 5، ص 1781.
2- يراجع:صيانة القرآن من التحريف ص263-267.
3- الإرشاد، ص 365.
4- تفسير العياشي، ج 1، ص 13.
5- علوم القرآن، ج1، ص13.

فكرة التحريف إلى الشيعة؛ والحال أنّ مصحف أمير المؤمنين يختلف مع المصحف الموجود في ترتيب السور حسب نزولها ويبيّن شأن نزولها وتفسيرها وهذا الاختلاف لا يدل على التحريف.

ويتفق على ما تقدم جميع المفكرين من أهل السنة ومن الشيعة مثل الشيخ المفيد(1)وابن شهر آشوب(2) والعلامة الطباطبائي(3).

3/4/16 .أدلّة صيانة القرآن:

تمسّك المفكّرون الإسلامييون بأدلّة على صيانة القرآن من التحريف.

وفيما يأتي نستعرض بعض هذه الدلائل:

1/3/4/16. شهادة التأريخ:

قال العلامة معرفة (2007م) في بيان دليل شهادة التأريخ:

إنّ القرآن وقع موضع اهتمام الجميع خصوصاً المسلمين من أوّل يومه. فالنبي الأكرم كان بنفسه حافظاً للقرآن وكان يأمر بحفظه وثبته وضبطه،وكان على المسلمين ثبته وحفظه ولذلك كانوا يعدّون منه نسخاً متعدّدة ويحفظونها في بيوتهم أو خزانتهم أو أكياس خاصّة. وقد راجت مسألة حفظ القرآن منذ عصره ونال جماعة لا تعدّ من المسلمين منزلة رفيعة في المجتمعات الإسلاميّة تحت عنوان «حفظة القرآن» ممّن اهتمّ بثبت القرآن وضبطه في المصاحف وإعداد نسخ عديدة منه ونشرها في البلاد الإسلاميّة... ولم يزل لهذا الكتاب الدور الأهم في مختلف شؤون المسلمين المصيريّة، كما كان يعد أساساً للعلوم الإسلامية المختلفة. فكان القرآن المرشد لكلّ عالم باحث

ص: 202


1- المسائل السرويّة، الشيخ المفيد،المسألة التاسعة، ص79.
2- المناقب،ابن شهر آشوب، ج2، ص 51.
3- الميزان،محمّد حسين الطباطبائي، ج12، ص 119.

في فرع من فروع العلوم الإسلامية(1). واستدل الشيخ جعفر الكبير كاشف الغطاء (1227ه) بالطريقة ذاتها فقال: «لا ريب في أنه محفوظ من النقصان بحفظ الملك الديّان كما دلّ عليه صريح القرآن وإجماع العلماء في جميع الأزمان، ولا عبرة بالنادر، وما ورد من أخبار النقيصة تمنع البديهية من العمل بظاهرها، ولا سيما ما فيه من نقص ثلث القرآن أو كثير منه، فإنّه لو كان ذلك لتواتر نقله لتوفّر الدواعي عليه، ولاتخذه غير أهل الإسلام من أعظم المطاعن على الإسلام وأهله. ثمّ كيف يكون ذلك وكانوا شديدي المحافظة على ضبط آياته وحروفه ؟»(2).

وشهادة التأريخ من شأنها أن تدلّ على ضرورة تواتر القرآن أيضاً، فإنّ جميع المسلمين تناقلوا القرآن صدراً عن صدر ويداً عن يد.

وقال العلامة الحلي (726ه):

«اتفقوا (العلماء) على أنّ ما نقل إلينا متواتراً من القرآن فهو حجّة لأنه سند النبوّة ومعجزتها الخالدة فما لم يبلغ حد التواتر لم يمكن حصول القطع بالنبوة، وحينئذ لا يمكن التوافق على نقل ما سمعوه منه - على فرض الصحّة - بغير تواتر، والراوي الواحد (وإن كان صادقاً) فإن ذكره على أنّه قرآن فهو خطأ، وإن لم يذكره على أنه قرآن كان متردّداً بين أن يكون خبراً عن النبي أو مذهباً له(أي للراوي)،فلا يكونحجّة»(3).

وبذلك استدلّ السيّد المجاهد الطباطبائي (1242ه) في كتاب «وسائل الأصول»والمحقق الأردبيلي (993ه) في«شرح الإرشاد»والسيد محمد جواد العاملي (1226ه) في كتاب «مفتاح الكرامة»(4).

ص: 203


1- علوم القرآن،ص 372.
2- علوم القرآن،ص 373 نقلًا عن:كشف الغطاء،الشيخ جعفر كاشف الغطاء، كتاب القرآن،المبحث 8و7،ص 298 و 299.
3- علوم القرآن،ص 373 نقلًا عن:كشف الغطاء،الشيخ جعفر كاشف الغطاء،كتاب القرآن،المبحث 8و7،ص 298 و 299.
4- يراجع:صيانة القرآن من التحريف، ص 38-39.

قام العلامة معرفة ببيان دلالة ضرورة تواتر القرآن على صيانته بنحو مستقل ونقل المطالب المتقدّمة(1).

2/3/4/16. البرهان العقلي:

يدلّ العقل الاستدلاليّ البشريّ أيضاً على صيانة القرآن من التحريف، ويمكن على أساس الحكمة الإلهية نفي التحريف بزيادة أو نقص.

وبيان البرهان العقليّ أن يقال :

أوّلاً: إنّ الربّ الحكيم أرسل القرآن لهداية البشر.

ثانياً : هذا الكتاب هو آخر الكتب السماويّة، والذي جاء به آخر رسل اللّه .

ثالثاً: لو كان هذا الكتاب محرّفاً، فلن يكون هناك كتاب سماوي آخر، أو رسول آخر، يهدي الناس إلى الصراط السوي، ولضلّ الناس من دون أن يكون السبب من جانبهم .

رابعاً: لا يتناسب هذا الضلال مع الساحة القدسيّة لربّ العالمين، وهو أمر يتعارض مع حكمته في هداية البشر .

النتيجة : القرآن مصان من شتّى ألوان التغيير والتحريف.

3/3/4/16 .دليل إعجاز القرآن:

الدليل الآخر على صيانة القرآن من التحريف هو كونه معجزة؛ لأنّ اللّه سبحانه يقول في القرآن الكريم:

ص: 204


1- علوم القرآن،محمد هادي معرفة، ص374.

قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْل هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا .(1)

وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مَّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ الله إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ.(2)

أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مَّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ .(3)

وقد تحدّى اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالى المخالفين في هذه الآيات، وكان لهؤلاء الدافع اللازم لتحدّي القرآن، وقد حاولوا أن يلجوا هذا المعترك إلا أنهم عجزوا عن مجاراة القرآن الكريم، فلم يتمكنوا من الإتيان بمثل القرآن أو الزيادة على آياته أو النقص منها، أو زعزعة نظامه وأسلوبه المعجز. فتحدّي القرآن وعجز المخالفين عن المجاراة دليل على صيانة القرآن عن التحريف.

وقد ضمن سبحانه في القرآن أنّه يحفظه فقال :إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ.(4)

وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ 41 لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدِ(5).

وهو يقول من جهة أخرى:إِنَّ اللّه لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ(6).

ص: 205


1- سورة الإسراء 88.
2- سورة البقرة 23.
3- سورة يونس 38.
4- سورة الحجر 9.
5- سورة فصلت 41-42.
6- سورة آل عمران 9.

4/3/4/16. الدليل الروائي:

تدلّ كثير من الروايات والأحاديث الشريفة المتواترة والمستفيضة على صيانة القرآن من التحريف، وهذا ما ينفي دعوى بعض الحشوية والأخباريين.

ويمكن تنويع هذه الروايات ضمن الطوائف الآتية:

الطائفة الأولى: أحاديث الثقلين المتواترة عند الشيعة وأهل السنة(1)التي توجب التمسّك بالقرآن وعترة الرسول .والسؤال هو : لو كان القرآن محرّفاً فهل يجوز التمسك به، وهل سيهتدي البشر به؟ لا شكّ في أنّ الإجابة سلبية، فتكون فكرة التحريف باطلة أيضاً.

الطائفة الثانية: وردت أحاديث كثيرة عن أهل البيت: تصرّح على سلامة القرآن من التحريف؛ فقد روى حسين بن عثمان عن الإمام الصادق .أنه قال: «ما بين الدفتين قرآن» لا أقلّ من ذلك ولا أكثر. وكتب الإمام الباقر .إلى أحد أصحابه المسمّى ب«سعد الخير»: «... وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه وحرّفوا حدوده»(2).

وقال العلامة معرفة (2007م) في شرح هذا الحديث:

«وهذا(تعبير الإمام)تصريح بأنّ الكتاب العزيز لم ينله تحريف فينصه «أقاموا حروفه»(كناية عن حفظهم له) وإن كانوا قد غيّروا من أحكامه (وضيّعوا أوامره)»(3).

الطائفة الثالثة: الأحاديث التي تعد القرآن مقياساً لمعرفة الصحيح من السقيم

ص: 206


1- عبقات الأنوار، مير حامد حسين،ج 1 و 3 ، وكذلك يراجع:الهوامش التحقيقية لكتاب المراجعات، حسين راضي وعبد الحسين شرف الدين،ص 327.
2- الكافي، الكليني، ج8، ص 53، ح 16. روي هذا الحديث بسند صحيح.وكذلك يراجع:فضائل القرآن، محمّد بن أيوب الضريس ( من علماء أهل السنّة ت 294ه)، تحقيق غزوة بدير ، ص 26-27. وهو يروي عن ابن مسعود بطريقين أنه قال: «... وسيكون قوم بعدكم بزمان تحفظ فيه حروف القرآن وتضيع فيه حدوده».
3- صيانة القرآن من التحريف،محمد هادي معرفة،ص 50.

في الروايات، وتعدّ ما خالف القرآن باطلاً(1)؛إذ روي مثلًا: «إنّ على كلّ حق حقيقة وعلى كلّ صواب نوراً، فما وافق كتاب اللّه فخذوه وما خالف كتاب اللّه فدعوه»(2). فكيف يحتمل تحريف القرآن على الرغم من وجود أمثال هذه الرواية، وكيف يمكن قياس صحة الروايات على قرآن محرّف؟!

الطائفة الرابعة : أحاديث كثيرة في الأبواب الفقهية؛ مثل: (باب الاستشفاء بالقرآن) و (باب التوسّل بالقرآن) و(باب حفظ القرآن عن ظهر القلب) و (باب آداب تلاوة القرآن) و (باب الحلف بالقرآن)وعشرات الأبواب الأخرى التي تدلّ بمجموعها على صيانة القرآن من التحريف(3). فلو كان القرآن محرّفاً لم يعد لتوصية أئمّة الدين في العمل بأحاديث هذه الأبواب أي معنى.

الطائفة الخامسة : أحاديث صحيحة تصرح بعدم ذكر اسم أمير المؤمنين علي في القرآن الكريم عن أبي بصير أنّه:

«سألت الإمام الصادق عن قوله تعالى: (أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ... )(4). وما يقوله الناس : ما له لم يسمّ عليّاً وأهل بيته ؟ قال : إنّ رسول اللّه نزلت عليه الصلاة ولم يسم اللّه لهم ثلاثاً ولا أربعاً، حتى كان رسول اللّه هو الذي فسّر ذلك لهم ...»(5).

وهذه الرواية الشريفة تحكي أصلاً عاماً هو أنّ القرآن مجال بيان الأصول وأمهات مسائل الفرائض والأحكام، ويتكفّل النبي بيان فروعها والمسائل الجزئية؛ فلا يتوقع ذكر أسماء الأئمة الأطهار في القرآن الكريم.

ص: 207


1- يراجع:المصدر نفسه، محمّد بن مسعود العياشي، ج1، ص8.
2- أصول الكافي، ج 1، ص 69.
3- يراجع: بحار الأنوار، محمّد باقر المجلسي، ج 92 ، كتاب القرآن، ص 133-43 و 175-37 وكذلك ج 93 ، كتاب القرآن؛والحياة، محمد رضا حكيمي،الباب السادس، ص41.
4- سورة النساء 59.
5- أصول الكافي، ج 1، ص 286.

وقد روى المفيد بإسناده عن جابر الجعفي عن الإمام أبي جعفر الباقر قال:«إذا قام قائم آل محمّد ضرب فساطيط لمن يعلّم الناس القرآن، على ما أنزل اللّه. فأصعب ما يكون على من حفظه اليوم، لأنه يخالف فيه التأليف»(1).

فالاختلاف إذن في ترتيب السور.

5/16.تحديات المستشرقين:

حاول المستشرقون الغربيون والمسيحيون في مساعيهم لتسقيط القرآن الكريم - كما صنعوا مع العهدين - من خلال الزجّ بمجموعة من التحدّيات حوله.

من هنا، نرى ضرورة بيان أهم التحدّيات المذكورة، ثمّ الردّ عليها فيما يأتي:

1/5/16.شبهة ورقة بن نوفل:

طرح بعض المستشرقين شبهة حديث ورقة بن نوفل (ابن عمّ السيّدة خديجة)الذي قرأ الكتب المقدّسة عند الأديان الأخرى. وتحدّث هؤلاء استناداً إلى كلمات بعض المؤلّفين من أهل السنة عن أن قلق النبي في بداية بعثته زال بواسطة ورقة؛ فقد روى البخاري ومسلم وابن هشام والطبري:

«بينما كان النبي مختلياً بنفسه في غار حراء إذ سمع هاتفا يدعوه، فأخذه الروع ورفع رأسه وإذا صورة رهيبة هي التي تناديه، فزاد به الفزع وأوقفه الرعب مكانه، وجعل يصرف وجهه عما يرى، فإذا هو يراه في آفاق السماء جميعا ويتقدّم ويتأخر فلا تنصرف الصورة من كلّ وجه يتجه إليه. وأقام على ذلك زمنا، ذاهلاً عن نفسه، وكاد أن يطرح بنفسه من حالق من جبل، من شدّة ما ألم به من روعة المنظر الرهيب. وكانت خديجة قد بعثت أثناءه من يلتمس النبي في الغار فلا يجده، حتى إذا انصرفت

ص: 208


1- الإرشاد، ص 365.

الصورة، عاد هو راجعا،وقلبه مضطرب ممتلئا رعبا وهلعا،حتى دخل على خديجة وهو يرتعد فرقا كأنّ به الحمّى ، فنظر إلى زوجه نظرة العائد المستنجد، قائلا: يا خديجة: ما لي ؟ ! وحدّثها بما رأى، وأفضى إليها بمخاوفه أن خدعه بصيرته. قال : لقد اشفقت على نفسي،وما أراني إلا قد عرض لي،فقالت:خديجة كلا واللّه،ما يخزيك اللّه أبداً. أنت رَجُل اللّه، ولن يدعك اللّه ونفسك وإن هذه هي بشرى مستقبل مضيء. وكان متنصرا قارئا للكتب، فقصت عليه خبر ابن عمّها محمّد فقال ورقة : قدّوس قدّوس لئن كنت صدقتني يا خديجة، فقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى وهاهو نزل عليك وبشّرك بالنبوّة فعند ذلك اطمأن باله وذهبت روعته وأيقن أنه نبيّ»(1).

وردّ العلامة محمّد هادي معرفة (2007م) على هذه الشبهة فقال:

«هذه الأساطير المصطنعة قد طرحها المستسلمون ليلتهي بها المسلمون في صدر الإسلام وفي العصر الذي ابتعد المسلمون فيه عن الولاية، فصارت اليوم مستمسكاً في أيدي ضعاف الناس. في حين خالف علماء مدرسة أهل البيت هذه القصص المختلقة وعدّوها غير لائقة بشأن النبي الأكرم المعنوي وما بلغه من درجات الكمال وكذلك مع آيات القرآن وروايات المعصومين»(2).

قال أمين الإسلام الطبرسي (548ه)بلزوم صيانة الوحي عن كل خطأ والتباس ليتمكّن الرسول بذلك من هداية الآخرين. وقال في تفسيره لسورة المدثر:

«لأنّ اللّه تعالى لا يوحي إلى رسوله إلّا بالبراهين النيّرة والآيات البينة الدالة على أنّ ما يوحى إليه إنّما هو من اللّه تعالى فلا يحتاج إلى شيء سواها ولا يفزع ولا يفرق»(3).

ص: 209


1- صحیح مسلم،ج1، ص 97-99؛ صحيح البخاري، ج 1، ص 4-3،سيرة ابن هشام، ج 1، ص 252-255؛ تاریخ الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير الطبريّ، ج2، ص 298-300 ،جامع البيان (تفسير الطبري)، محمد بن جرير الطبري، ج 30، ص 161.
2- علوم القرآن،محمّد هادي معرفة،ص 22-26.
3- مجمع البيان، الطبرسي، ج10، ص

ثمّ إنّ اللّه عَزَّ وَجَلَّ بيّن في القرآن الكريم في مثل سورة طه الآيات 11-14 وسورة الأنعام الآية 75 أنّ الأنبياء يملكون رؤية ناصعة واضحة عن الساحة الربوبية،ونظرة ثاقبة لا يعتريها الشكّ ولا الريب، وقد كشف لهم عن ملكوت السماوات والأرض وكانوا من الموقنين. قال أمير المؤمنين علي عن النبي الأكرم

«ولقد قرن اللّه به من لدن أن كان فطيماً أعظمَ مَلَكِ من ملائكته، يَسلُكُ به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره»(1).

أمّا أسطورة ورقة هذه فهى مرسلة من حيث السند، ومضطربة من حيث المضمون؛ فهناك من النقل ما ينصّ على أنّ السيّدة خديجة ذهبت بنفسها إلى ورقة، أو أنها أخذت النبيّ معها، أو قيل إنّ ورقة رأى النبيّ حال الطواف،وتكلّم معه، أو أنّ أبا بكر دخل على خديجة، وقال لها خذي محمّداً إلى ورقة.

والأمر الآخر أنّه - على فرض صحة هذه القضيّة - لماذا لم يؤمن به ورقة حين ذاك؛ وقد علم أنه نبي مبعوث ! فقد صح أنه مات كافراً، لم يؤمن به(2)!!

بناءً على ذلك:إنّ نقد أسانيد قضيّة ورقة بن نوفل ومضمونها والأدلة المتقدّمة تثبت أن معرفة الرسل بالوحي الإلهي معرفة مستندة إلى العلم الحضوري، ولا حاجة إلى إعلام الآخرين أو تعليمهم(3).

2/5/16. تحدّي مصادر القرآن:

من جملة المباحث القرآنيّة والكلاميّة الأساسيّة البحث عن مصادر القرآن(4).

ص: 210


1- نهج البلاغة،الخطبة القاصعة، الرقم 192، ص 300.
2- يراجع: السيرة الحلبية، ج1، ص250-252؛ وج،ص634.
3- علوم القرآن،محمد هادي معرفة، ص 22-26.
4- تمّ الاعتماد في هذا البحث على مقال نقد شبهات الوحي في رؤية العلامة معرفة » لفضيلة الشيخ حسين علوي مهر، من إصدار مؤتمر آية اللّه معرفة.

وإنّ صراحة آيات،مثل قوله تعالى: (إن هُوَ إِلّا وَحيَّ يُوحَى ) ، وأدلّة الإعجاز تدلّنا على أنّ اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالى هو المصدر الوحيد للمعارف القرآنية، وأن دعوى المستشرقين بالنسبة إلى استفادة الرسول الأكرم من علماء اليهود أو النصارى أو كتابي التوراة والإنجيل لا تمت إلى الواقع بصلة(1).

لقد ادعى المستشرق البريطاني ريتشارد بل (1952م) أن كثيراً من الآيات متأثرة من المصادر المسيحية؛ ومن جملتها: آية البعثة(2). ونجد المستشرق المجري برنارد هلر (1943م) في بحثه تحت عنوان (العناصر اليهوديّة في المصطلحات القرآنية)الصادر سنة 1928م يحاول إثبات تأثر القرآن من اليهود(3).

أمّا المستشرق المعاصر جون ونسبرو (2002م) فإضافة إلى تأكيده على تكوّن القرآن في قرنين بالتدريج فإنّه يعدّه متأثراً بالسنة اليهوديّة(4).

والمستشرق الآخر جويدي (1935م) يعدّ قصص القرآن متطابقة مع التوراة تقريباً، ويذهب إلى أنّ بعض الحقائق المتعلّقة بالأنبياء قد شوّهت في القرآن الكريم واحتمل أن السبب في ذلك هو تصوّر النبي الأكرم بأنه أفضل الأنبياء وآخرهم! وقصّته تشمل بعض أنبياء بني إسرائيل مثل قصة نوح وسفينته وإبراهيم وزوجته وموسى ومعجزاته، وداوود وسليمان وما منحها اللّه من الملك والحكمة(5).

هذا، وقد قام العلامة معرفة (2007م) ببيان وتحليل آراء ثلاثة من المستشرقين: درّة الحدّاد (1979م) ، ونولدكه (1930م)، وويل ديورانت (1981م).

وفيما يأتي إشارات لذلك :

ص: 211


1- يراجع:التمهيد،ج 4 و 5 و 6 وشبهات وردود.
2- المصدر نفسه، ج 1، ص104.
3- المصدر نفسه، ص 72.
4- بولتن مرجع،ش6، ص 126.
5- يراجع:الوحي القرآني في المنظور الاستشراقي ونقده،محمود ماضي، ص135-139.

1/2/5/16. آراء الأسقف يوسف درّة الحدّاد:

أكّد الحداد(1)على تأثر القرآن بمصادر مختلفة ومن جملتها الكتاب المقدس وخصوصاً التوراة وقد تمسّك في دعواه بآيات مثل قوله تعالى:إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى 18 صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى(2).

أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى 36 وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى 37 أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى(3).

وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ 196 أَوَلَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِي إِسْرَائِيلَ(4).

وقال في هذا الصدد:

آية محمّد الأولى تبرز تطابقاً لقرآنه مع زبر الأولين (للكتب السابقة عليه)،وآيته الثانية استشهاده بعلماء بني إسرائيل وشهادتهم له بصحة هذه المطابقة، ولكن ما الصلة بين القرآن وكونه في زُبر الأوّلين ؟! هذا هو سرّ محمّد ! فيكون من هو سر محمد! فيكون من ثَمَّ أَنه نزل في زُبُر الأوّلين بلغة أعجميّة يجهلونها ، ثُمَّ وَصَلَ إلى محمّد بواسطة علماء بني إسرائيل، فأنذر به محمّد بلسان عربي مبين . فأصل القرآن منزل في زُبُر الأوّلين، وهذا يُوحي بصلة القرآن بمصدره الكتابي زُبر الأوّلين، أي: صحفهم وكتبهم(5).

2/2/5/16. آراء ثيودور نولدکه:

عد نولدكه(6)القرآن مقتبساً من النصوص القديمة، ودليله الوحيد على ذلك هو

ص: 212


1- نال يوسف درّة الحدّاد سنة 1939 رتبة الكاهن في كنيسة لبنان، وتفرّغ عشرين سنة بالمنحى ذاته بدراسات قرآنية وإسلاميّة وعمد في محاولاته هذه إلى التقريب بين القرآن والعهدين ليعرّف العهدين بأنّهما مصدر ما نسبه القرآن إلى الوحي. توفي سنة 1979م.
2- سورة الأعلى 18-19.
3- سورة النجم 36-38.
4- سورة الشعراء 196-197.
5- يراجع:دروس قرآنيّة، يوسف درّة الحدّاد ،2 ، 173-188،فصل:القرآن والكتاب بيئة القرآن الكتابية.
6- آراء المستشرقين حول القرآن الكريم وتفسيره،عمر رضوان، ج 1، ص 272-290 و 335؛ كذلك يراجع:تاريخ قرآن، نولدكه،ترجمة جورج تامر ، فصل أوّل(نبوت محمّد ومنابع تعاليم وي)، ص 3 وما بعدها.

تماثل المعارف القرآنية مع معارف سائر الكتب؛ لأنّ القصص والحكم القرآنية هي ذاتها التي وردت في كتب اليهود والأناجيل وحتى في تعاليم زرادشت وبراهما، ومن جملتها قضيّة المعراج، والنعم الأخروية، وجهنّم ، والصراط، والبسملة، عند البدء، والصلوات الخمسة، وسائر الأحكام العبادية، وكذلك شهادة كل نبي على من يتلوه وكلّها متخذة من النصوص القدية المعروفة لدى العرب.

قال العلامة معرفة في نقدها بشكل عام :

«زعموا أنّ القرآن صورة تلموديّة وصلت إلى نبي الإسلام عن طريق علماء اليهود وسائر أهل الكتاب ممن كانت لهم صلة قريبة بجزيرة العرب، فكان محمد يلتقي بهم قبل أن يُعلن نبوّته»(1).

3/2/5/16.آراء ویل دیورانت:

يذكر ديورانت في تاريخه:

«وجديرٌ بالذكر أنّ الشريعة الإسلاميّة لها شبه بشريعة اليهود...والقرآن يمدح دين اليهود تارة وأخرى يذمه، ولكنه متأثر بتعاليم موسى في مضامين مثل التوحيد والنبوّة والإنابة والتوبة ويوم الحساب والجنة والنار... ومنسك ديني عند اليهود باسم شمايسرائل (ألا فاسمع يا إسرائيل) وهو تأكيد على التوحيد مما ظهر في الإسلام على صورة ( لا إله إلا اللّه). والبسملة مأخوذة أيضا من عبادة متكرّرة في تلمود. ولفظة«الرحمان» المختصّة باللّه معرّبة من«رحمانا»العبريّة ... إلى غيرها من تعابير جاءت في الإسلام منحدرة عن أصل يهودي. الأمر الذي جعل البعض يتصوّر أنّ محمّداً كان عارفاً بمصادر يهودية ...»(2).

ص: 213


1- شبهات وردود،محمد هادي معرفة، ص7.
2- ویل دیورانت،قصّة الحضارة، ج4، ص 236-238 ، عصر الإيمان،الفصل التاسع.

وقد عدّ العلامة معرفة مستشرقین آخرین؛ مثل: «تسدال»(1)و «ماسیه»(2)و«أندريه»(3)و «لامنس»(4)و «جولد تسيهر»(5)على غرار العقيدة ذاتها. لكن نظريّة تأثر القرآن بالكتب السماوية السابقة باطلة؛ لعدة دلائل :

أوّلاً: أنّ جميع الأديان الإلهية تعود إلى مصدر واحد، وغاية واحدة، ومضامينها منبثقة عن أصل واحد قال العلامة معرفة (2007م):

«نحن المسلمون نعتقد في الشرائع الإلهية أجمع أنّها منحدرة عن أصل واحد ومنبعثة من منهل عذب فارد، تهدف جميعاً إلى كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة. والإخلاص في العمل الصالح والتحلّي بمكارم الأخلاق، من غير اختلاف في الجذور ولا في الفروع المتصاعدة.شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدين ما وَصَى بِهِ نُوحا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسَى وعيسى أنْ أقِيمُوا الدّينَ ولا تَتَفَرَّقُوا فيه...(6)ونظراً إلى آية إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّه الإسلام(7)والآيات 85 من سورة آل عمران و 135 و 136 من سورة البقرة فإنّ دين اللّه واحد وهو الإسلام أي التسليم لله والإخلاص في عبادته محضاً»(8).

ثانياً:التحدّي الذي طرحه القرآن الكريم هو من جملة أهم علامات إعجازه؛إذ هو معجزة الرسول الأكرم الخالدة ولا يختلف في ذلك أحد علماء المسلمين. والقرآن يدعو العالمين بأن لو كنتم في ريب من كون القرآن من قبل الله؛ فأتوا بمثله ولو بمقدار سورة، ولكن لم يتمكن حتى اليوم أحد من إنشاء سورة مثل سور القرآن

ص: 214


1- ت1928م.
2- ت 1969م.
3- ت 1947م.
4- ت 1937م.
5- ت 1921م.
6- سورة الشورى 13.
7- سورة آل عمران 19.
8- شبهات وردود،محمد هادي معرفة، ص 11 و 12.

ليعارضها. والآيات التي تتحدّى هي: الآية 88 من سورة الإسراء، و 13 من سورة هود، و 23 و 24 من سورة البقرة و 38 و 39 من سورة يونس. وإن تحدّي هذه الآيات عام شامل لكافة طبقات الأمم عبر الخلود مما يشمل العصر الحاضر أيضاً(1)؛ فلو كان القرآن الكريم من عند غير اللّه لاستطاع الآخرون بإتيان غيره أيضاً.

ثالثاً: النبي الأكرم كان أمياً غير متعلّم، ويشهد تاريخه وقومه على أنه لم يتعلّم أي شيء من معلّم لا في حله ولا ترحاله، لا قبل بعثته، ولا بعدها، ولم يتعلّم مضامين القرآن من أحد، ولم يتعرّف على كتاب أو قرطاس.

قال ويل ديورانت:

والعرب في ذلك العصر بشكل عام كانوا أميين ولم يبلغ عدد المجيدين للقراءة والكتابة عدد الأصابع وكانوا معروفين(2).

ولم يُعرف محمد من جملة هؤلاء كما صرح القرآن الكريم بأن النبي أمي في سورة الأعراف الآية 157 وسورة العنكبوت الآية 48 .

رابعاً: لم يترجم العهد القديم إلى العربية حتى عصر الرسول الأكرم ، وذلك باعتراف المستشرقين أنفسهم، ومصادر التوراة الموجودة لدى الرهبان كان بغير العربية وإنّ أوّل ترجمة لأسفار التوراة إلى العربيّة إنما كان في بدايات الخلافة العباسية(3).

خامساً: لو وجد من اليهود والنصارى من يتعلّم العرب عنده في هذه الأمور، فلابد من وجود نخب و متفكّرين بين العرب وقريش ممن يأتي بمثل ما أتى به محمّد فيعرضه على العالم ويثير بذلك الإعجاب. في حين نجد أنّ الذين طرحهم

ص: 215


1- يراجع:التمهيد:ج4، ص21-24.
2- قصة الحضارة، ويل ديورانت، ج 7، ص 21.
3- الوحي القرآني في المنظور الاستشراقي ونقده،محمود ماضي، ص148؛ نقلًا عن موسوعة بريتانيا، ص26و27، مقال سهيل ويب.

المخالفون تحت عنوان المعلّمين ، هم أمثال«بلعام» و «عايش»و«سلمان الفارسي»(1)(طبقاً لشأن النزول الوارد ذيل آية 103 من سورة النحل في تفاسير:مجمع البيان،ابن كثير، الأمثل و...) ممّن لا يجيد حتى النطق بالعربية، فكيف بالتكلّم بأفصح وأعلى كلمات العرب.

سادساً : أنه لو كان الرسول محمّد قد اتخذ قرآنه من أهل الكتاب؛ لكانوا أذاعوا بذلك نتيجة لعداوتهم إيَّاه وقالوا: بأنّه تعلّم هذا القرآن منا أو أنه اتخذه من كتبنا وقرأه عليكم؛ في حين لا نجد هذه الدعوى في الكمّ الهائل مما روي عنهم، ولو كان لبان؛ مثل غيره ممّا نقل.

سابعاً: على الرغم من القصص القرآنية قد وردت في التوراة والإنجيل أيضاً؛ ولكن هناك اختلافاً جوهرياً وأساسياً بين قصص القرآن وقصص سائر الكتب السماويّة؛ ومن جملتها : قصّة خلقة آدم وطوفان نوح وغرق فرعون ونجاة قوم موسى وعدد من سائر القصص. يقول العلامة معرفة في نقد عام عند مقارنة القصص القرآنية مع التوراة:«لاتتجانس تعاليم راقية عرضها القرآن مع ضآلة الأساطير المسطّرة في كتب العهدين، وهل يكون ذاك الرفيع مستقى من هذا الوضيع »(2).

ثامناً: لا يوجد أثر لكثير من القصص القرآنية في التوراة والإنجيل ومن جملتها قصص هود وصالح وشعيب ، ولو كان النبي قد تعلّم قرآنه من أهل الكتاب لما طرح فيه هذه الزيادة(3).

3/5/16.تحدّي القرآن وثقافة العصر:

إحدى التحدّيات التي أثارها المستشرقون والتنويريون المتأثرون بالغرب في العالم

ص: 216


1- يراجع:ذيل آية 103 من سورة النحل في تفاسير:مجمع البيان، والتفسير العظيم لابن كثير، والتفسير الأمثل.
2- شبهات وردود،ص 14.
3- الوحي القرآني في المنظور الاستشراقي، ص148.

الإسلاميّ شبهة تأثر الوحي الإلهيّ والقرآن الكريم بثقافة العصر وعصر الجاهلية (1). ثقافة عصر الجاهلية وعصر نزول القرآن التي تتمظهر بحلّة المعتقدات والسلوكيات من المظاهر العقيدية في الثقافة الجاهلية: عبادة الأصنام، وعبادة أمور أخرى؛ مثل: الملائكة، والجنّ، والشياطين،والأجرام السماوية، ناهيك عن النزعات المادية والجبرية والإيمان بالخرافات والأساطير.

ومن سلوكيات عصر الجاهلية ونمطيّاته يمكن الإشارة إلى ازدراء شخصية المرأة، وممارسة القسوة والعنف تجاه الأطفال، والتفاخر، وأكل الربا، والخمر،والميسر، والسفاح، واغتصاب حقوق الورثة.

ومن الاستفهامات التي تدور بشأن القرآن وثقافة العصر أن يُقال : طالما أنّ اللّه عَزّ وَجَلَّ ليس مختصاً بلغة معيّنة، فلماذا نزل القرآن الكريم بالعربية؟ ومنها ما يتعلّق ببعض الحوادث التاريخية التي وقعت في عصر النبي مثل: قصة الإفك التي حصلت لعائشة، أو قصة أبي لهب، أو الحروب التي دارت في وقتها، وكذا الأسئلة التي وُجهت للنبي ، وأشارت إليها الآيات القرآنية بالقول:

(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ ﴾(2).

(وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ ﴾(3).

(وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ)(4).

وعدد كبير من الأحكام الشرعية؛ مثل : أحكام العبيد والإماء التي توجد آثارها

ص: 217


1- يعتمد هذا البحث على رسالة المرحوم فضيلة الشيخ سعيد مسعودي تحت عنوان (قرآن و فرهنگ زمانه) بإشراف عبد الحسين خسروبناه.
2- سورة البقرة: 189.
3- سورة الكهف: 83.
4- سورة الإسراء: 85.

القرآن، والسؤال الذي يقول: هل كان الوحي النازل على النبي متناغماً مع الظروف الثقافية لتلك المجتمعات في ذلك العصر؟ وهل كان الوحي المتأثر بتلك الظروف مؤهّلاً لتلبية احتياجات الإنسان الحقيقية؟

1/3/5/16. تأثر القرآن الكريم لغوياً بالثقافة المعاصرة له:

الشاهد الأوّل على تأثر القرآن بثقافة عصره تأثر آياته باللغة العربية بناءً على ذلك، ينبغي أن يُقال : إن فعل اللّه قد قيّد وخُصّص - كما يُعبّر الفلاسفة - واصطبغ بلون البيئة التي من حوله؛ فعندما نزل الوحي لم ينزل فاقداً لأي لون أو قيد أو نمط، بل قدر بقدر المجتمع الذي كان يعيش فيه النبي .

الشاهد الثاني يُشير إلى الآية الكريمة التي يقول فيها عَزَّ وَجَلَّ:

(وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾(1).

وإنّ اتحاد الوحي بلغة القوم الأوائل الذين خاطبهم، واستخدام القرآن للثقافة العربية في استعراض المفاهيم بما ينسجم مع عباراتهم والأحكام والقوانين المتداولة بينهم، وكذا المصاعب والحاجات وأساليب التعامل معها يعني أنّ القرآن كان متأثراً بثقافة الجاهلية.

والشاهد الآخر تأثر القرآن بثقافة التجارة التي كانت طاغية على أوضاع الجزيرة العربية في القرن السابع الميلادي بما تنطوي عليه من متاعب، وأضرار، ومعاملات تجارية، وبيع وشراء، وكنز، ووزن، وميزان، وما إلى ذلك. هذا إلى جانب مفاهيم أساسية؛ مثل: «اللّه»، و«النبي»، و«القيامة»، و«الجنّة»، و«النار»، و«الملك»، و«الجنّ»، و«الشفاعة»،و«التقوى»، و«الكرامة»، و«الكفر»، و«الإسلام»، و«الإيمان»، و«العبادة»، و«التقرّب بالأضحية»، و«الوحي»، و«الغيب»، و«الشهادة»، و«الدنيا»، و«الآخرة»، و«يوم الحساب»، و«صحيفة الأعمال»، و«النشر»، و«البعث»، وكلّ المفردات التي وردت في الفقه الإسلامي، كلّ ذلك كان معهوداً عند العرب في تلك الأيام.

ص: 218


1- سورة إبراهيم: 4 .

والشاهد الآخر القَسَم القرآني الذي تناول الظواهر الطبيعية.

والشاهد الآخر توظيف القرآن لأسلوب التشبيه والتمثيل الذي درج عليه العرب في لغتهم؛ كقوله تعالى:

(طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ﴾(1).

(إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ ﴾(2).

(وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ)(3).

(أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا ﴾(4).

واستخدام كثيف لتعابير أخرى؛ مثل: «السراب»، و«النهر»، و«السقي»، و «السحاب» التي كانت رائجة في عصر نزول القرآن.

هذا، علاوةً على استخدام القرآن لمفردات أخرى استعارها من لغات أعجمية كانت متداولة في صدر الإسلام؛ مثل: «الزنجبيل وهي مفردة هندية، و«البلد» والقلم وهما من لغة الإغريق.

والجواب على هذا الشبهة أن يُقال : كان من الواجب أن يستعمل الله عَزَّ وَجَلَّ في

سبيل هداية الإنسان الوسائل والأساليب التي يمكن من خلالها التواصل مع البشر وأجود هذه الوسائل: الألفاظ والكلمات. وإنّ اللغة التي وقعت في موقع المخاطب للقرآن الكريم هي العربية؛ فاستخدام هذه اللغة لا يعني تقييد الإله أو تخصيص هذه اللغة به؛ لأنّ القرآن باستخدامه لغة العرب لم يتأثر بثقافة الجاهلية، وإنّما وظّف هذا اللسان ليكون جسراً تُنقل من خلاله القيم والمعارف.

ص: 219


1- سورة الصافات: 65
2- سورة يونس: 24 .
3- سورة الرعد 14.
4- سورة الرعد: 17.

وكما أنّ القرآن الكريم اختار من نِعَم الجنّة الإشارة إلى الأنهر الجارية قوله:(جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ) (1)،والمياه العذبة(مَاءٍ غَيرْ آسنٍ)(2)، وأنهار الألبان اللذيذة ﴿وَأَنْهَارُ مِن لَّبَنِ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ )(3)، والظلال الممتدة ﴿وَظِلٌّ مَّمْدُودٍ ﴾(4)،والجلوس على الأسرة في وضع يعل الجالسين في تقابل(عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ)(5)والطواف بكؤوس الشراب(يُطَافُ عَلَيْهِم بِكَأْسٍ مِن مَّعِينٍ)(6)، وما إلى ذلك، اختار الإشارة إلى هذه الأمور ليرسم صورةً من الجنّة يمكن للمتلقي أن يُدركها، لكنّ الجنّة ليست منحصرةً في هذه الدائرة من النِعم.

وعليه فإنّ اللّه عَزَّ وَجَلَّ قد تناول ذكر الحقائق وفقاً لحاجة المخاطبين وسعة إدراكهم. وهذا اللون من تأثر الكلام الإلهي على مستوى الفعل الإلهي لا غبار عليه، ولا يناله النقض، وإنّما الإشكال في ما إذا تأثر القرآن بالعقائد الباطلة التي كانت الجاهلية تعتنقها أو أفعالها وسلوكيّاتها الفاسدة التي لا تتماشى مع المشروع الإلهي لهداية الإنسان. يقول العلامة الطباطبائي في هذا الصدد:

اللسان هو اللغة،...والمراد بإرسال الرسول بلسان قومه إرساله بلسان القوم الذين كان يعيش فيهم ويخالطهم ويعاشرهم ... فالمراد بقوله: «و ما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم»و-اللّه أعلم - أن اللّه لم يبن إرسال الرسل والدعوة الدينية على أساس معجز خارق للعادة الجارية، ولا فوض إلى رسله من الأمر شيئاً، بل أرسلهم باللسان الاعتيادي الذي كانوا يكالمون قومهم ويحاورونهم به؛ ليبينوا لهم مقاصد الوحى(7).

ص: 220


1- سورة البقرة: 25.
2- سورة محمد : 15.
3- السورة والآية نفسها.
4- سورة الواقعة: 30.
5- سورة الحجر: 47.
6- سورة الصافات: 45 .
7- الميزان،الطباطبائي، ج 12، ص 16.

وبناءً على ذلك، فإنّ هذا اللون من التناغم والانسجام لا يعني التأثر أو الخضوع لمفردات ثقافة الجاهلية.

2/3/5/16. تأثر القرآن الكريم علميّاً بالثقافة المعاصرة له:

لقد ادّعى بعضهم أنّ القرآن الكريم قد تأثر علميّاً بما شاع من معلومات في شبه الجزيرة العربية في ذلك الوقت؛من قبيل : نظرية وجود سماوات سبعة(1)ونظرية وجود أراض سبعة(2)وخلقة السماء والأرض في ستة أيام (3)وحركة الشمس وثبات الأرض (4)وغروب الشمس في عين من الماء(5)وإمكانية وقوع السماء على الأرض(6)والتصديق بالهيئة البطليموسية وكون السماوات مكوّنة من طبقات (7)والتصديق بالطبّ الجالينوسي وبأنّ المني يخرج من ظهر الإنسان وثدييه(8). فتلك عينة من الشبهات التي ترمي القرآن الكريم بالتأثر علميّاً بالثقافة المعاصرة له(9).وقد سبق المؤرّخ الإنجليزي سير جون مالكوم المستشرقين المعاصرين في هذا المجال؛ إذ قال في كتابه التاريخي: «لقد صدّق نبي المسلمين رأي بطلميوس صاحب كتاب المجسطي في آرائه المتعلقة بهيئة العالم، وقد ألف بطلميوس اليوناني المولود في حوالي 140 سنة قبل الميلاد كتاباً في الهيئة سماه المجسطي وترجم هذا الكتاب فيما بعد إلى اللغة العربية

ص: 221


1- حيث جاء ذلك صريحاً في:الآية 29 من سورة البقرة،الآية 44 من سورة الإسراء، الآية 12 من سورة الطلاق،الآيتين 17 و 86 من سورة المؤمنين، الآية 12 من سورة فصّلت،الآية 15 من سورة نوح، والآية 12 من سورة النبأ.
2- حيث جاء ذلك صريحاً في:الآية 44 من سورة الإسراء والآية 12 من سورة الطلاق.
3- حيث جاء ذلك صريحاً في:الآية 54 من سورة الأعراف والآية 3 من سورة يونس.
4- حيث جاء ذلك في الآية 258 من سورة البقرة.
5- حيث جاء ذلك في الآية 86 من سورة الكهف.
6- حيث جاء ذلك في الآية 65 من سورة الحج.
7- حيث جاء ذلك في:الآية 3 من سورة الملك والآية 15 من سورة نوح.
8- حيث جاء ذلك في الآية 6 من سورة الطارق.
9- راجع:مجلة بينات، العدد رقم 5 ، ص 76،77 و 95.مجلة دانشگاه انقلاب (جامعة الثورة)، العدد رقم 110 ،ص 132، مجلة كيان العدد رقم 23 (السنة الرابعة).

وسادت الآراء المطروحة فيه على آراء عامة الناس في أغلب مدن قارة آسيا لمدة 700 سنة»،كما أنه استعرض التعاليم الإسلامية على أنّها على خلاف قضايا هيئة نيكولاس كوبرنيكوس عالم النجوم البولندي(1).

بالنسبة لهذه الشبهات يجب أن نلحظ أوّلاً ما هو المقصود من«السماوات السبعة» في القرآن الكريم؛ وما هو معنى«فسواهنّ سبع سماوات»(2)؟ فلقد أشارت الآية الشريفة «إنّا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب»(3)إلى أن جميع الأجرام السماوية والنجوم التي يمكن رؤيتها جميعها موجودة في السماء الأولى، كما أنّ السماوات السبعة قد جاء بيان آخر لها في قوله تعالى: «ألم تروا كيف خلق اللّه سبع سماوات طباقاً»(4)، وهنا يتضح من وصف (طباقاً) أنها متداخلة وعلى شكل طبقات؛ لا أنها سبع قطع متجاورات كما ادعى بطلميوس. وعلى هذا الأساس يتضح لنا أنّ الفهم المغلوط الذي استقاه المستشرقون هو الذي أدى إلى أن يروا المباحث الدقيقة التي ذكرها القرآن الكريم في ما يتعلّق بالسماوات السبعة متأثرة بالهيئة البطليموسية. كما أن كلام سيّدنا إبراهيم الذي نقله القرآن الكريم في الآية 258 من سورة البقرة لا يدلّ على تبنّي القرآن الكريم لنظرية حركة الشمس وثبات الأرض؛ بل إنّ سيّدنا إبراهيم عليه السلام كان في مقام الجدل والاحتجاج على الخصم قد قال هذا الكلام، كما أن القرآن الكريم قد أشار في آية أخرى إلى حركة الأرض حيث قال:«وترى الجبال وتحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب»(5).

وأما ما يتعلّق بخروج المني من بين الظهر والثديين والذي ادعوه مستفيدين

ص: 222


1- راجع:سيرجون مالكوم خان،التاريخ، ترجمه إلى الفارسيّة مير اسماعيل حيرت ، ج2 2، ص 172، نقلًا عن الشهرستاني. وأيضاً:سيد هبة الدين،الإسلام الهيئة، ترجمه اسماعيل فردوس فراهاني.
2- سورة البقرة الآية: 29.
3- سورة الصافات، الآية 6.
4- سورة نوح، الآية: 15.
5- سورة النمل،الآية: 88.

من قوله تعالى:«فلينظر الإنسان ممّ خلق خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب»(1)فإنّه ناتج من التفسير المغلوط للمستشرقين المتأثرين بالغرب. فكلمة (الترائب) مشتقة من أصل (ترب) وتعني الشيئين المتساويين في بدن الإنسان؛ من قبيل: الثديين، أو الكتفين، أو عظمي الرجلين وغيرها(2).

وعليه فإنّ القرآن الكريم قد استخدم هذا النحو من البيان تجنّباً لذكر اسم الآلة التناسلية حيث قصد بالترائب العظمتين في مقدمة وسط جسم الرجل، وبذا يكون معنى الآية هو: ماء دافق يخرج من بين الظهر والرجلين(3)،كما يمكن أيضاً إرجاع الضمير في كلمة (يخرج) إلى نفس الإنسان، وبذا يون المقصود هو أنّ الإنسان يخرج من بين ظهر المرأة وثدييها؛ أي من بطنها؛ وبناء على هذا فإنّ ادّعاءهم بأن القرآن الكريم يعتقد بخروج المني من بين الظهر والثديين كلام غير صحيح.

3/3/5/16. تأثر القرآن الكريم معرفياً بالثقافة المعاصرة له:

كان في عصر الجاهلية عدد من المعتقدات المغلوطة وغير الصحيحة بيد أن القرآن الكريم رفضها جملة وتفصيلاً؛ فمثلاً رفض القرآن الكريم أموراً من قبيل: إشعال النيران طلباً لهطول المطر، أو ضرب الثيران إذا ما رفضت الأبقار شرب الماء، أو غيرها من الأفعال غير ذات الصلة التي كانوا يقومون بها للتخلّص من الخوف، أو الأفعال التي يقومون بها بقصد شفاء المرضى من قبيل تعليق حلي الذهب والفضة على عنق من لدغته حيّة أو عقرب، إذ كانوا يعتقدون أن وجود الرصاص والنحاس بقربه يؤدّي إلى موته. ولكن هناك بعض المسلمات القرآنية من قبيل: تصديقه بتأثير السحر على الإنسان (سورة البقرة، الآية : 102 )تحكي تصديقه بواقعية تأثير السحر.

ص: 223


1- راجع:قرشي، سيد علي أكبر ، قاموس القرآن الكريم، ذيل مادة (وفق).
2- راجع:معرفت،محمد هادي،التمهيد في علوم القرآن، ج 6، ص 64.
3- راجع:معرفت،محمد هادي،التمهيد في علوم القرآن، ج 6 ،ص 64 ،وأيضاً:دكتور عبد الحميد دياب ودكتور أحمد قرقوز ، الطب في القرآن، ص 32.

وقد ذكر العلامة المجلسيّ عدّة أقسام للسحر :

1-سحر المنجمين الذين يسعون إلى التنبؤ بالمستقبل أو الطلاسم من خلال علم النجوم والأفلاك.

2 - سحر الأشخاص ذوي النفوس القويّة الذين بإمكانهم الإتيان بأعمال خارقة للعادة من خلال قدراتهم الروحية وإرادتهم القويّة.

3 - السحر من خلال الاستعانة بالجن أو تسخير الجنّ.

4- الشعوذة؛ وهي خفّة اليد والخداع البصري.

5 - تنميق الكلام.

6-جذب الناس وأسر قلوبهم من خلال خداع عوام الناس كأن يدعي الإلمام باسم اللّه الأعظم أو تسخير الجن.

7- استعمال الخواص الكيمائية للتأثير على الأشياء؛ بعضها على بعض(1).

كما أن مسألة إصابة العين والتي ورد الحديث عنها في القرآن الكريم مرة في سورة يوسف، الآيتين: 67 و 68 ومرة في سورة القلم الآيتين: 51 و 52 ، هي أيضاً من المسائل الواقعيّة التي ورثتها ثقافة عصر الجاهليّة من الأديان السماوية السابقة، وجاء ذكرها في القرآن على نحو حكاية للحقائق ولم يكن فيها متأثراً بالثقافة الجاهلية. وقد ذكر العلامة الطباطبائي في تفسير الميزان:

«المعنى: أنّه قارب الذين كفروا أن يصر عوك بأبصارهم لما سمعوا الذكر. والمراد بإزلاقه بالأبصار و صرعه بها - على ما عليه عامة المفسرين - الإصابة بالأعين، و هو نوع من التأثير النفساني لا دليل على نفيه عقلاً و ربما شوهد من الموارد ما يقبل

ص: 224


1- العلامة المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج 63، ص9.

الانطباق عليه، وقد وردت في الروايات فلا موجب لإنكاره»(1).

كما أنّ القرآن الكريم قد ذكر مسألة تأثير الجن والشياطين بالرغم من أن العلم ما زال غافلاً عنها؛ وهي واقعية بينها الأنبياء السابقون للناس وجاء القرآن الكريم وأيّد بيانهم، فلا صلة لذلك بالتأثر بالثقافة المعاصرة. وقد اعتقد بعضهم أن تصديق القرآن الكريم بالروح هو ضرب من ضروب تأثر القرآن الكريم بالثقافة المعاصرة(2)، والروح في القرآن الكريم هي حقيقة ملكوتية وقد تكون مجردة كما هي الملائكة أو أنّها تتركب مع الجسم لتشكّل حقيقة الإنسان، وهي واقعية لا يمكن إنكارها بيد أن العلم الحديث ما زال غافلاً عنها. كما أنّ هناك من يعتقد بأنّ تصوير القرآن الكريم للجنة ونعمائها من قبيل المياه الجارية والظلال الممتدّة والأشجار الخضراء اليانعة والبساتين المملوءة بالثمار تموراً وأعناباً ورماناً، والحور العين والولدان جميعها عبارة عن آمال أهل عصر الجاهليّة أو شخص رسول اللّه،إذ إنّ القرآن الكريم قال:(،مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٌّ حِسَانٍ)(3)، (مُتَّكِئِين عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبَرْقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَينْ دَانٍ)(4)،(عالَيهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُفِّرْ وَإِسْتَبَرْقُ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا)(5)،(وَبَشِرِّ الذَّينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تُجَرِي مِن تُحَتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزقُوا مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأْتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)(6)،(فِيهِنَّ قَاصَرِاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسَ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ 56 فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ 57 كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ 58 )(7)،(وَحُورٌ عِين 22 كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُو

ص: 225


1- الطباطبائي، السيد محمد حسين،الميزان في تفسير القرآن، ذيل تفسير الآية 51 من سورة القلم.
2- فراستخواه،مقصود،مقالة (قرآن،آراء،انتظارات گوناگون)القرآن،الآراء والتوقعات المختلفة. مجلة (دانشگاه انقلاب) جامعة الثورة، العدد 110، ص 137.
3- سورة الرحمن،الآية:76.
4- سورة الرحمن،الآية: 54.
5- سورة الإنسان،الآية: 21.
6- سورة البقرة،الآية: 25.
7- سورة الرحمن،الآيات 56 - 58.

الْمَكْنُونِ)(1)،(مُتَّكِئِين عَلَى سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُم يُحِورٍ عِين)(2)، أي إنّ القرآن الكريم قد ذكر النعم التي يستأنس بها العرب في العصر الجاهلي.

والجواب عليه أنّ صرف تطابق آمال وأماني أمّة مع النعم التي أعدها اللّه سبحانه وتعالى في جنة الخلد لا يعني إنّ لقرآن الكريم قد استفاد من آمال أفراد تلك الأمة؛ بل إنّ هذا التطابق هو شاهد على أنّ القرآن الكريم قد جاء بما يتطابق مع فطرة البشر؛ فجميع الأمثلة التي يذكرونها لتأثر القرآن الكريم في صياغة آمال عرب عصر الجاهلية وجعلها نعماً في الجنّة الموعودة لا يدلّ على شيء سوى توافق القرآن الكريم وتطابقه مع فطرة العرب في عصر الجاهلية لا غير، ولا يصل دليلاً على أنّ القرآن الكريم قد تأثر بآمالهم وأمانيهم. ذلك لأنّ جميع هذه النعم ليس منحصرة بأمة عرب عصر الجاهلية أو مجتمع الجزيرة العربية بل إنّ تلك النعم خالدة وجامعة لجميع البشر، علاوة على أنّ القرآن الكريم قد بيّن أنّ تلك النعم تشمل جميع آمال وأماني البشر بمختلف أذواقهم في قوله تعالى: (وَفِيْها مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَ تَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)(3)(وَلَكُم فيها ما تَشتَهِي أَنفُسُكُم وَلَكُم فيها ما تَدعونَ )(4).

4/3/5/16. تأثر القرآن الكريم قانونياً بالثقافة المعاصرة له:

وقد ادعى بعضهم أنّ إحدى شواهد تأثر القرآن الكريم بالثقافة المعاصرة له هي آيات الأحكام ذاتها، إذ وجّه الخطاب فيها إلى الرجال دون النساء فقد كانت عادة العرب جارية على الخطاب بالتذكير من باب التغليب. كما أنّ الآية الشريفة:(لِلْذَكَرِ مُثْل حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ ) تحكي دعم الشريعة للمجتمع الرجالي في نظام الإرث وأنّ

ص: 226


1- سورة الواقعة، الآيات: 22 و 23 .
2- سورة الطور،الآية : 20.
3- سورة الزخرف،الآية:71.
4- سورة فصلت،الآية:31.

الإسلام قد حسب شخصيّة الأنثى نصف شخصية الرجل(1)وهذا جميعه نابع من التأثر بالمجتمع الرجالي. والجواب عليه أنّ الإسلام من وجهة نظر القيم الإنسانية لم يجعل أبداً الجنسيّة معياراً، بل جعل الشخصية الإنسانيّة هي معيار التقنين في جميع الأحكام الشرعية، فمثلاً وضع الإسلام أحكاماً سواء لكل من الرجل والمرأة في كلّ من: الحرية في الإيمان(2)، الثواب والعقاب (3)الملكية والتصرفات المالية (4)التعليم والتربية والشغل والزواج (5)وغيرها، فضلا عن أن مقدار سهم الإرث زيادة وقلة لا يمكن أن يصلح دليلاً على ارتفاع القيمة الإنسانية أو انحطاطها؛ فلو كان الشرف والقيم الإنسانيّة معياراً لمقدار سهم الإرث لوجب أن يكون سهم إرث المعصومين عليهم السلام أكثر من غيرهم من بين إخوتهم، بيد أنّ الأمر ليس كذلك؛ فإنّنا نجد أنّ أحكام الشريعة تقتضي أن ترث السيدة فاطمة الزهراء نصف سهم أخيها إن كان لها أخ وإن لم يتجاوز عمره الأشهر.

وعليه لا يمكن الاستدلال على انخفاض القيمة الإنسانيّة للمرأة من خلال كون سهمها من الإرث في بعض الأحيان نصف سهم الرجل، فقوانين الإرث قد صيغت على أساس الموقع الاجتماعيّ والأسري للمرأة والرجل لا على أساس جنسيّتهما، وأمّا الاعتقاد المغلوط بأنّ سهم المرأة من الإرث دائما يعادل نصف سهم الرجل فإنّه ناشئ من عدم إعمال الدقّة في ملاحظة أحكام الإرث؛ ذلك لأنّ سهم المرأة قد يساوي سهم الرجل بل قد يزداد سهم المرأة عن سهم الرجل في حالات أخرى، كما أنّ هناك حالات يكون سهم المرأة فيها نصف سهم الرجل.

ص: 227


1- مخاش ، سلوى،المرأة العربية والمجتمع التقليدي المتخلف، ص 31.
2- سورة البروج، الآية:10،وسورة الأحزاب،الآيتين: 36 و 58،وسورة الممتحنة، الآية: 10.
3- سورة النساء،الآية: 124.
4- سورة النساء، الآية: 32.
5- العلامة المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، كتب الاجتماع، ج 10 ،ص212،والحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 17، ص 436 و 437.

ويجب ألّا ننسی أنّ هناك واجبات اجتماعية واقتصادية قد فرضها الشرع على الرجال دون النساء من قبيل : الذهاب إلى الجهاد، ودفع المهر ، دفع الدية على العاقلة والتكفّل بنفقات الأسرة.

والشبهة الأخرى هي التفاوت بين دية الرجل ودية المرأة، وقد جاء تشريع الديّة في القرآن الكريم في الآية الشريفة (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنَا... )(1)ولم يتطرّق القرآن الكريم إلى بيان مقدار الدية بل أن الروايات هي التي حدّدتها وبذا لا يكون للقرآن الكريم أي صلة بهذه الشبهة، كما أنّ الديّة ومقدارها قضيّة اقتصادية ولا علاقة لها بالقيمة الإنسانيّة، فضلاً عن أنّ ازدياد دية الرجل عن دية المرأة أمر يصبّ في مصلحة المرأة، إذ إنّ ورثة الرجل الذين يستحقون ديته هم المرأة والأولاد كما أن ورثة المرأة الذين يستحقون ديتها هم الرجل والأولاد.

الشبهة الأخرى في هذا المجال هي قوامة الرجال على النساء،والتي وردت في الآية الشريفة: (الرَّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتُ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللهُ)(2).ويجب في مقام الجواب عليها البدء ببيان معنى القوامة؛ فهل تشمل الظلم والاجحاف بحقهنّ والاعتداد بالنفس في مقابلهنّ وتجاهل حقوقهنّ؟ فالقوّام هو الشخص الذي يسعى بكلّ جدّ وصدق إلى القيام بعمل ما ، وعليه يكون للمرأة هذا الحق على الرجل في إطار الأسرة، فالقوامة تكليف ومسؤولية لا تشريف ومنزلة. بل أنّ كلّا من الزوجين يبتدران حياتهما المشتركة بعقد مقدّس .

وفضلاً عن المشتركات التي يقتسمها الرجل والمرأة؛ نجد أنّ لكلّ واحد منهما خصائص ومميزات روحية وجسمانية مختصة به. ولذا وضع اللّه عزّ وجلّ لكلّ منهما تكاليف تتناسب مع خصائصه الروحية والجسمانية كما عيّن له حقوقاً

ص: 228


1- سورة النساء،الآية 92 .
2- سورة النساء، الآية: 34.

كذلك، وقد بين القرآن الكريم توصيته الأخلاقية للرجال بقوله: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)(1).

وهناك أيضاً شبهات أخرى في هذا المجال ترتبط بجواز تعدد الزوجات للرجال وإعطائهم حق الطلاق والتفاوت في الشهادة بين الرجل والمرأة؛ وقد تطرّقنا لها في كتابات أخرى(2).

5/3/5/16 .تأثر القرآن الكريم فقهيّاً بالثقافة المعاصرة له:

لقد كان في عصر الجاهلية أحكام عديدة؛ ولما نزل القرآن الكريم أقرها بعد أن أجرى عليها بعض التعديلات؛ ومثال تلك الأحكام:الحج وهو من شعائر ديانة النبي إبراهيم:بل وكان من العبادات الرائجة في عصر الجاهلية أيضاً، وكذلك أمضى القرآن الكريم العمل بأحكام الظهار وأحكام الموالي. والجواب عن هذه الشبهة هو أنّ القرآن الكريم يقبل العناصر الثقافية الإيجابية في كلّ عصر؛ لا سيّما إذا ما كانت تلك العناصر الثقافية متجذرة في أديان وشرائع توحيدية(3).

6/16. استنتاج:

يمكن الإشارة إلى حصيلة ما تقدّم من خلال النقاط الآتية:

أوّلاً: لا يمكن حصر الأحكام والتعاليم الإسلامية في خصوص دائرة الأحكام الإمضائيّة؛ إذ يوجد في الإسلام - علاوةً على ذلك - مجموعة من الأحكام التأسيسية والإصلاحية.

ص: 229


1- سورة النساء، الآية: 19.
2- عبدالحسین خسرو ،پناه التعرف على التيارات المضادة للثقافات، مقولة النسوية.
3- مقال:القرآن والثقافة المعاصرة (بالفارسية: قرآن و فرهنگ زمانه)،محمّد علي رضائي الأصفهاني، مجلة (معرفت)، العدد 26، ص 49.

ثانياً : الأحكام الإمضائيّة - في واقع الأمر - ما هي إلا تقرير وإمضاء للأحكام والتعاليم الموروثة من الأنبياء السابقين - أي:من الشريعة الإبراهيمية واليهودية والنصرانية والزرادشتية والصابئة، وما سوى ذلك - وليست تقريراً أو إمضاء لعصر الجاهلية؛ إذ لو كان الأمر كذلك لاستلزم أن يُقرّ الإسلام ما تعارف عليه أهل الجاهلية من آداب ومناسك، ولاستلزم ألّا يثور ضدّ القضايا العرفية وثقافة العصر الجاهليّ، وألّا يدعو لإصلاحها وتعديلها. ومن المعلوم أنّ هذه الشرائع التي كانت تتحلّى بكتب سماوية ومنظومات تشريعية ابتُليت على مرّ الزمن بالتحريف الذي نال منها بالزيادة أو النقصان، لكن مجموعة من مفرداتها بقيت سالمة دون المساس بها، وقد أمضت الشريعة الإسلامية هذه المجموعة، وأقرّتها. والسبب الذي يقف خلف تأييد الأحكام الإمضائيّة اتساقها مع الفطرة والجبلة الإنسانية، وتناغمها مع الشرائع السابقة.

ثالثاً: يصدر الإمضاء والتقرير النبوي انطلاقاً من أمر اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالى العليم بالمصالح والمفاسد الحقيقية للأشياء. إذا كان الأمر كذلك، فما بال هؤلاء التنويريين المنبهرين بالغرب، وماذا يُبرّر لهم حذف الأحكام الإلهية وإبعادها؛ من دون أيّ إلمام بالمصالح والمفاسد الحقيقيّة،ساعين لإمضاء وتقرير ما بشرت به قوانین عصر الحداثة ؟!

ص: 230

17.ختم النبوّة

1/17. تمهيد:

يمثل بحث ختم النبوّة أحد المباحث التفسيريّة التي أضحت في الآونة الأخيرة في ضمن مباحث علم الكلام الإسلامي، فحظيت بعدد كبير من عمليات التحليل والتوضيح. وفي هذا الفصل،سوف نعرض توضیح موضوعات؛من قبيل: حقيقة الختم،وختم النبوّة،وسوابق البحث في هذا الموضوع، وأسباب ختم النبوّة، وشروحات كلّ من المفسّرين والمتكلمين والحكماء والعرفاء، وتبيين آراء بعض المفكرين المعاصرين؛ من أمثال : إقبال اللاهوري، وشريعتي، والمطهري، ثمّ نستعرض الردود على الشبهات المطروحة في هذا الموضوع؛ قديماً وحديثاً(1).

2/17. معنى ختم النبوة:

ورد الختم في اللغة بمعنى: «الطبع»(2)، و«تغطية الشيء»(3)،«ونهاية الشيء»(4).والمراد به هنا آخر الشيء ونهايته.

ص: 231


1- أتقدم بالشكر الجزيل لجهود سماحة الشيخ الفاضل حجّة الإسلام حسن بناهي آزاد لما قدمه من عون في تدوين الملاحظات في مبحث الخاتمية.
2- قال ابن سيده:«ختمه،يختمه،ختماً:طبعه»المحكم، ج 5، ص 26 . وقد ذكر هذا ابن منظور في لسان العرب،ج 12، ص 163،وصاحب القاموس المحيط، ج 2، ص15. ويقول الزبيدي:«معنى ختم و طبع واحد في اللغة»تاج العروس، ج 8، ص266. [م]
3- ورد الختم في اللغة بمعنى تغطية الشيء والاستيثاق منه بحيث لا يدخله شيء ولا يخرج منه شيء؛ فقد قال ابن سيده:«والختم على القلب ألا يفهم شيئاً ولا يخرج منه شيء » المحكم، ج 5، ص 26. وقد ذكر هذا ابن منظور في لسان العرب ،ج12، ص 163،والزبيدي في تاج العروس، ج 8، ص 266. [م]
4- قال صاحب المحكم:«وختم الشيء يختمه:ختما بلغ آخره،وخاتم كل شيء: عاقبته وآخرته»المحكم، ج 5، ص26. وقال الراغب الإصفهانيّ - عند حديثه عن الصور التي يرد بها لفظ الختم-:«وتارة يعتبر منه بلوغ الآخر، ومنه قيل: ختمت القرآن أي انتهيت إلى آخره» إلى أن قال: «وخاتم النبيين؛ لأنّه ختم النبوّة، أي تممها بمجيئه» المفردات،ص 142-143. وقال صاحب القاموس ،ج 2، ص15:«والخاتم من كل،شيء: عاقبته وآخرته، وآخر القوم كالخاتم». [م]

وأما ما يكون الجزء الأخير من شيء ما؛ فيسمى «الخاتم»(1).و«خاتم الأنبياء» هو الفرد الذي يمثل نهاية الأنبياء. ويُطلق لفظ «الخاتم» أيضاً على الشيء الذي يكون بمنزلة العلامة الدالة على تمام شيء واكتماله، أو وسم انتهاء الشيء - الذي يُوضع بقصد منع دخول شيء من الخارج إليه، أو تداخل الأغيار معه.

بناءً على ذلك، نحن أمام معنيين لكلمة«خاتم»: الأول مأخوذ من مصدر الفعل المفتوح (خَتَم) ، والذي تقدّم أنّه يعني إنهاء الشيء.والثاني بمعنى الأثر الواضح الموضوع على الشيء للدلالة على انتهائه. ففي المعنى الأوّل: المقصود هو ذات أثر الشيء الذي هو من قبيل نقش الخاتم والطابع الموضوع للدلالة على الانتهاء، وفي المعنى الثاني المقصود هو الأثر المترتب على الفرد الذي يمثل نهاية الشيء وتمامه؛ من قبيل امتناع وقوع التغيير والتبديل في الشيء الذي وسم بالختم وطابع الانتهاء(2).

وقد وردت هذه الكلمة في القرآن الكريم بمعنى«ختم النبوّة» على نحو صريح في الآية 40 من سورة الأحزاب، كما وردت معان أخرى لها في القرآن الكريم من قبيل : الختم على قلوب الكفّار وإغلاقها، حيث وردت في سورة البقرة الآية رقم 7 و في سورة الأنعام الآية رقم 46. وكذا وردت بمعنى الختم على الأفواه بالإسكات في يوم القيامة، ثمّ أخذ الشهادة من الأيدي والأرجل، في سورة يس الآية رقم 65 . وكذا وردت في تهديد النبي بالختم على القلب إذا ما تخلّف عن الحق، في سورة الشورى الآية رقم 24 ووردت كذلك في الختم على قلوب متبعى الأهواء والضالين وآذانهم، في سورة الجاثية لآية رقم 23 ، وفي بيان علامة شراب أهل الجنة؛ بمعنى أنه لم تتناوله يد أحد قبلهم، في سورة المطففين الآية رقم 25 و 26 .

وعلى هذا الأساس، فإنّ معنى الختم هو انتهاء الشيء - وهو المعنى المقابل للابتداء

ص: 232


1- مفردات الراغب الأصفهاني؛ ختم ..
2- عمدة الحفاظ، أحمد بن يوسف عبدالدائم، ج 1، ص 489.

والشروع - وهذا المعنى هو نتيجة لنهاية الشيء وكماله(1).

من هنا، فإنّ إطلاق لقب«خاتم الأنبياء»على نبيّ الإسلام يعني أنه يتصف بأنه النبي الذي تمت على يده سلسلة أنبياء اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالى؛حيث وصلت النبوة إلى أوج كمالها ببعثته(2).

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ المعنى عند نطق كلمة «الخاتِم»(بكسر التاء) يختلف عنه عند نطق كلمة «الخاتَم» (بفتح التاء)، فالكلمة بالكسر تعني الشخص الذي حقق نهاية الشيء (النبوّة) ، والكلمة بالفتح تعني الشخص الذي انتهت معه النبوّة، واكتملت بإرساله(3). وعلى هذا الأساس فلن يأتي نبي بعده بل ستكون شريعته نافذة وباقية إلى يوم القيامة(4). وهذا هو المعنى الذي ورد في الآية الأربعين من سورة الأحزاب.

ويرتبط بحث ختم النبوّة في الإسلام بمباحث أخرى مهمّة؛ من جملتها: ضرورة أن يهدي اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالى الناس ، وأن يرسل إليهم الرسل، وتعميم إرسال الرسل على جميع البشر(5)،واحتياج البشر الفطري للدين(6)،كمال دين الإسلام والقرآن

ص: 233


1- التحقيق في كلمات القرآن الكريم، سيد حسن مصطفوي، ج 3؛ مادة (ختم).
2- كشف الأسرار وعدة الأبرار، عبداللّه الأنصاري، ج8، ص 62 و 63.
3- التبيان الطوسي، ج8، ص 346.
4- مجمع البيان، الطبرسي ج4، ص 437 وج8، ص 567؛ الميزان،الطباطبائي، ج16، ص 325.
5- كشف المراد،الحسن بن يوسف الحلي، ص 359؛ قواعد المرام،القاعدة 6،الركن 3،البحث 6 .الآيات التي صرحت بهذا المعنى هي: الآية 107 من سورة الأنبياء، الآية 1 من سورة الأنبياء، الآية 108 من سورة سبأ وغيرها. كما أن هناك العديد من الروايات أيضاً من قبيل هذه الرواية المرويّة عن النبي :«بعثت إلى الأسود والأبيض والأحمر».محمّد بن شهر آشوب المازندراني؛ مناقب آل أبي طالب، قم، العلامة، 1379ق، ج2، ص 25؛ ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، ج 5 (20 مجلّد في 10 مجلدات)،ص 55 ، وقد دلّت العديد من الآيات الشريفة على هذا المعنى؛ منها على سبيل المثال: الآية1 من سورة إبراهيم،الآيات 110 و 138 و 185 من سورة البقرة،الآية 79 من سورة النساء، الآية 185 من سورة الأعراف،الآية 2 من سورة يونس والآية 54 من سورة الحج، والتي ورد فيها الخطاب بلفظ (الناس) بعنوانهم مخاطبي القرآن الكريم والإسلام، وأيضاً يمكن الإشارة إلى الآية 52 من سورة القلم، الآية 87 من سورة ص والآية 90 من سورة الأنعام، والتي ورد في الخطاب بلفظ (العالمين) جاعلاً إياهم الهدف والمخاطب للقرآن الكريم والإسلام.
6- الآية 30 من سورة الروم ، شرح الأربعين حديثاً، الإمام الخميني، ص 86 و 152.الدين شمس لا تغرب (بالفارسية: خورشید دین هرگز غروب نمي كند)الأعمال الكاملة (بالفارسية)، ج3، ص384 - 388.

الكريم وخلودهما(1)،وأوصاف نبي الإسلام(2).

ويجدر بنا في هذا المقام التذكير إجمالاً بأن لا دين مقبول سوى دين الإسلام:

(وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ )(3).

ولازم هذا القول الإيمان بكمال دين الإسلام وجامعيّته القصوى؛ وإلا لما صح القول بأنه الدين الوحيد المقبول. هذا من ذات المنطلق القاضي بأنّ الهدف النهائي من إرسال الرسل ونزول الكتب السماويّة هو هداية البشر إلى سبيل الكمال والسعادة الحقيقية، وما كان لدين أن يختص بهذه الميزة الفذة لو لم يكن مشتملا على هذه الصفة؛ لاسيما وقد صرّح الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى بارتضائه الإسلام ديناً للمسلمين:

(الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ )(4).

3/17.تاريخ عقيدة ختم النبوّة:

يمثل القرآن الكريم أهم وأوّل المصادر التي صرّحت بكون نبي الإسلام هو خاتم الأنبياء:

(ما كانَ محمد أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا )(5).

ص: 234


1- محاضرات في الإلهيّات،السبحاني،تلخيص:الربّاني الكلبايكاني،ص 488. سورة فصلت 42.
2- سيرة الرسول الأكرم في القرآن الكريم (بالفارسیة:سیره رسول اکرم در قرآن)،الجوادي الآملي،ج8، ص 59 و 60 و144 و145.
3- الآية 85 من سورة آل عمران.
4- الآية 3 من سورة المائدة.
5- الآية 20 من سورة الأحزاب.

وتمثل هذه القضية إحدى المسلّمات والقطعيات الاعتقادية في دين الإسلام، كما أنها وردت صراحةً في روايات المعصومين؛ حيث صرح رسول اللّه وأمير المؤمنين بهذا الأمر؛ من ذلك ما روي عن رسول اللّه:

«أرسلت إلى الناس كافة، بي خُتِم النبيّیون»(1).

وما ورد في خطابه للإمام علي:

«أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلى أنه لا نبي بعدي»(2).

وقد تطرّق الإمام علي إلى بيان انقطاع النبوّة واصفاً الرسول بأنه الذي طوى صحيفة الوحي وختمها؛ حيث قال:

«بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ الله لَقَدِ انْقَطَعَ بِمَوْتِكَ مَا لَمْ يَنْقَطِعْ بِمَوْتِ غَيْرِكَ مِنَ النبوّة وَالْإِنْبَاءِ وَأَخْبَارِ السَّمَاءِ خَصَّصْتَ حَتَّى صِرْتَ مُسَلِّياً عَمَّنْ سِوَاكَ وَعَمَّمْتَ حَتَّى صَارَ النَّاسُ فِيكَ سَوَاءٌ ...»(3).

وروي عنه أنّه قال: «قفّى به الرسل وختم به الوحي»(4).

كما كان يصف رسول اللّه بعبارات تدلّ على خاتميته، من قبيل:

«الخاتم لما سبق الفاتح لما انغلق».

«أمين وحيه وخاتم رسله» و «خاتم النبيين »(5).

ص: 235


1- صحیح مسلم، ج 8، ص89. الطبقات الكبرى، ج 1، ص 65 .مسند أحمد بن حنبل، ج4، ص 81 و 84. جعفر سبحاني، الإلهيّات، ج 3، ص 500.
2- الكافي، ج 8، ص 106.
3- نهج البلاغة،خطبة 235.
4- نهج البلاغة،خطبة 133.
5- المصدر السابق، خطبة 72 وخطبة 87 وخطبة 173.

4/17. الأدلّة على ختم النبوّة

ليس من الممكن إقامة دليل وبرهان عقليّ لإثبات ختم النبوّة؛ ذلك لأنّ ختم النبوّة يُعدّ من البحوث الدينية المحضة، فإثباتها يتم من خلال الآية الأربعين من سورة الأحزاب ؛ فضلاً عن مجموعة من الروايات.

وقد ذكر المتكلمون المسلمون - منهم: العلامة الحلّي (726 ه) في «واجب الاعتقاد»، والفاضل المقداد (826ه) في شرح كلام العلامة ثلاثة أدلّة نقليّة :

أولاها: الآية المذكورة آنفاً.

وثانيها : هو خطاب الرسول ل أمير المؤمنين؛ حيث قال:

«أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلى أنه لا نبي بعدي».

* وثالثها: هو الإجماع(1).

كما ذكر أيضاً دليل الإجماع الملا صالح المازندراني في شرحه لأصول الكافي(2).

وكتب ابن الميثم البحرانيّ في شرحه لنهج البلاغة :

«وقوله (وختم به الوحي) كقوله ( خاتم النبييّن) وهذا الختام مستفاد من الشريعة وليس للعقل في الحكم بانقطاع الرسل فيه مجال بل ذلك من الأمور الممكنة عنده...»(3).

ويرى بعض المفكرين المعاصرين أن معايير ختم النبوّة أمر أعمق من قدراتنا،

ص: 236


1- صحيح البخاري، البخاري، ج 5، ص 42؛ كنز العمال في سنن الأقوال،المتقي الهندي، ج11، ص 599؛ مجمع الزوائد ومنبع الفوائد،الهيثمي، ج 9، ص 109 ؛الاعتماد في شرح واجب الاعتقاد،الفاضل المقداد.
2- الملا صالح المازندراني؛ شرح أصول الكافي، ج ، باب الفرق بين الرسول والنبي والمحدّث، ص 120.
3- شرح نهج البلاغة، ابن ميثم البحراني، ج1، ص572.

ومدى معرفتنا وعلمنا؛ حيث إنّ ختم النبوّة بنبي الإسلام وجعله آخر مبعوث من قبل اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالى هو مقتضى الحكمة الإلهية.

ولا شكّ في كون اتصاف الإسلام بالكمال والخلود بنفسه يدلّ على خاتمية نبي الإسلام ، ذلك لانتفاء احتمال بعثة نبي آخر. فختم النبوّة والكمال أمران متلازمان؛ أي:لا يمكن أن يتصف دين بخاتميّة الأديان من دون اشتماله على دواعي الكمال، أو أن يشتمل على دواعي الكمال النهائي، ولا يكون هو الدين الخاتم (1).

5/17. تبيين معنى ختم النبوّة :

تناول عدد من علماء المسلمين في مؤلّفاتهم التفسيرية والكلامية والعرفانية وغيرها،موضوع ختم النبوّة وعملوا على تبيينها ونقض ما أورد عليها من شبهات.

1/5/17. رؤية المفسّرين:

تناول عدد من علماء المسلمين - سنّة وشيعة - في تفاسيرهم في ذيل الآية الأربعين من سورة الأحزاب تبيين معنى ختم النبوّة وتوضيحها. ونجد أن معظم مفسّري أهل السنّة قد ذكروا - في ضمن توضيحهم معنى ختم النبوة - ما روي في كتبهم عن النبي أنّه قال :

«مَثَلِي فِي النَّبِيِّينَ كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى دَارًا فَأَحْسَنَهَا وَأَكْمَلَهَا، وَتَرَكَ فِيهَا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ لَمْ يَضَعْهَا، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِالْبُنْيَانِ وَيَعْجَبُونَ مِنْهُ وَيَقُولُونَ: لَوْ تَمَّ مَوْضِعُ هَذِهِ اللَّبِنَةِ، فَأَنَا فِي النَّبِيِّينَ مَوْضِعُ تِلْكَ اللبنة»(2).

ص: 237


1- معارف القرآن،مباحث السبيل والدليل (بالفارسية : معارف قرآن،راه و راهنما شناسي)،محمد تقي مصباح، ج 5، ص184.دروس في العقيدة الإسلامية (بالفارسية:آموزش عقاید)،محمّد تقي مصباح، ص 286.
2- تفسير القرآن العظيم،إسماعيل بن كثير، ج 3، ص 501،تفسير روح المعاني، ج 12، الجزء 22، ص 46. صحيح مسلم،کتاب الفضائل، ج 8، ص 21 و 32 ، الباب : باب ذكر كونه خاتم النبيين،حديث 2286 و 2287. راجع:مسند أحمد بن حنبل، ج 3، حدیث 3534 و 3535.

وقد جاء هذا المعنى في كتب الشيعة؛ فقد ذكر الحويزي في ذيل تفسير الآية الأربعين من سورة الأحزاب المعنى الذي بيناه سابقاً من ختم النبوة(1).

أمّا العلامة الطباطبائي فقد ذكر في تفسيره للآية الأربعين من سورة الأحزاب-علاوة على بيان شأن نزولها - المراد من ختم النبوّة في الآية الشريفة؛ حيث قال:

وقد عرفت فيما مرّ معنى الرسالة والنبوّة وأنّ الرسول هو الذي يحمل رسالة من الله إلى الناس والنبي هو الذي يحمل نبأ الغيب الذي هو الدين وحقائقه ولازم ذلك أن ترتفع الرسالة بارتفاع النبوّة فإن الرسالة أنباء الغيب، فإذا انقطعت هذه الأنباء انقطعت الرسالة. ومن هنا يظهر أنّ كونه خاتم النبيين يستلزم كونه خاتماً للرسل. وفي الآية إيماء إلى أن ارتباطه وتعلقه بكم تعلق الرسالة والنبوة وأن ما فعله كان بأمر من الله سبحانه(2).

كما أن إدعاء ظهور نبي بعد رسول الإسلام وتصديق من يدعيه في عصر الإسلام يعني إنكار ضرورة الدين ونقض صريح كلام الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى(3).

وكتب محمّد جواد مغنية بعد أن بيّن اتفاق نظر المسلمين في القول بخاتميّة رسول الإسلام ما يأتي:

«اتفق المسلمون قولاً واحداً على أنه لا وحي إلى أحد بعد محمد، ومن أنكر ذلك فما هو بمسلم ، ومن ادعى النبوّة بعد محمّد وجب قتله»،كما أنّه ذكر دليلاً آخر على ختم النبوّة إضافة إلى مجرّد ذكر الآيات الروايات؛ حيث قال: «إنّ الغاية

ص: 238


1- عبد العلي جمعة العروسي الحويزي، تفسير نور الثقلين، ج4، ص 284.
2- محمد حسين الطباطبائي، الميزان، ج16، ص 325.
3- أبو منصور عبد القاهر التميمي،أصول الدين، ص 162 و 163.ميمون بن محمد النسفي،بحر الكلام، ص 274.

الأولى والأخيرة من بعثة النبي هي أن يبلغ قوله تعالى إلى عباده، وما من شيء يريد اللّه سبحانه أن يبلغه إلى عباده إلا وهو موجود في القرآن الكريم، قال تعالى: (وَنَزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ )(1)وقال :(ما فَرَّطْنا في الْكِتابِ مِنْ شيَ )(2)... وقد خصّ الله محمداً ،بأسمى المراتب وأكمل صفات الكمال بحيث لا شيء فوقها إلا الله وصفات اللّه . ومن ذلك إكمال الوحي الذي أنزل إليه، إكماله من جميع الجهات... [إنّ] محمّداً ودين محمد قد استوفيا جميع صفات الكمال، وبلغا الغاية منها والنهاية، تماماً كما بلغت الشمس الحدّ الأعلى من النور ، فلا كوكب ولا كهرباء يمتلئ الكون بنورهما بعد كوكب الشمس .. كذلك لا نبي يأتي بجديد الخير الإنسانية بعد محمد»(3).

وقد تناول القرآن الكريم موضوع ختم النبوّة من جهات أخرى أيضاً؛ حيث صرّح بأنّ رسول الإسلام قد بعث رسولاً لكافة البشر: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا )(4).

وأنّه منذر البشر كافّة : (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا )(5).

ووصف القرآن رسول الإسلام أيضاً بأنه مظهر رحمة الله تعالى على العالمين: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)(6).

ولم يكن بين الأنبياء من نال هذه الخصائص.

ص: 239


1- سورة النحل، الآية: 89.
2- سورة الأنعام، الآية: 38.
3- تفسير الكاشف، ج6، ص 225 و 226،وأيضاً راجع:الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنة، محمد صادقي، سورة الأحزاب، ج 22، ص 153 إلى 158.
4- سورة سبأ، الآية: 28 .
5- سورة الفرقان،الآية: 1.
6- سورة الأنبياء، الآية: 107.

ومن أهمّ العلامات الدالة على شمولية الإسلام وعالميته والقرآن الكريم، وخلودهما وأبديتها - وهما من لوازم ختم النبوة - التحدّي العام الذي صرح به القرآن الكريم؛ حيث تحدّى - بكل صراحة - الجن والإنس مظهراً عجزهم عن الإتيان بمثيل للقرآن، وجاء هذا التحدّي بيّناً في الآيتين 32 و 24 من سورة البقرة:

(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ الله إن كُنتُمْ صَادِقِينَ (23)فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ).

وقد قام بعض المفسّرين ببيان ختم النبوّة وتحليلها على النحو الآتي:

يتواصل نزول الوحي الإلهي على أهل البيت:؛ولكن لا بنزول شرع ابتدائيّ بل تفصيلاً للإجمال الذي نزل في القرآن الكريم على النبي ، وذلك ما تعهد اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالى بحفظه :

(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)(1).

ويمكن تحليل خاتميّة رسول الإسلام إلى ركائز ثلاثة : خاتمية نفس الرسول للأنبياء والرسل الآخرين، وخاتميّة الكتاب الساوي النازل عليه للكتب السماوية الأخرى، وخاتميّة شريعته لبقية الشرائع الإلهية(2).

وقد سرد المفسّرون مجموعة من الأدلّة في ختم النبوة بنبي الإسلام ؛من جملتها : أنّ النبي الذي لا يكون بعده نبي هو أرأف الأنبياء وأرحمهم وأفضلهم في

ص: 240


1- سورة الحجر،الآية:9.
2- الفرقان، ج22، ص 154 إلى 158.

هداية الأمة وإرشادها. وبعبارة أخرى:لكلّ واحد من الأنبياء نصيبه من الإشفاق على أمته والنصح إليها والهداية والإرشاد،غير أنّ أفضل الأنبياء قد اختُصّ بأسمى الدرجات الممكنة من الإشفاق على أمته والنصح إليها، وهو نفسه خاتم الأنبياء؛ وذلك لعدم بقاء أي نصيب من الإشفاق والرأفة ليُتمّمه من سيأتي بعده من الأنبياء؛ إذ لا نبي بعده. وقد اختُص رسول الإسلام بأوفر قدر من الإشفاق والرأفة والرحمة، وإننا لنرى هذا المعنى جليّاً في الآية الكريمة: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)(1).

ومن هذا المنطلق كان خاتم الرسل(2)وقد سدّ باب بعثة الأنبياء به(3).

وكذلك نشاهد الدليل الآتي في آراء المفسّرين :

وصل رسول الإسلام إلى أسمى درجات الكمال والفضيلة؛ تلك الدرجة التي لا يعلوها إلا درجة الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى وصفاته، ولا يمكن لأحد من المخلوقات أن ينال درجة أعلى منه أبداً، لذا كان الوحي النازل عليه متصفاً بكونه أكمل وحي ومشتملاً على أسمى الحقائق والمعارف.

وبناءً على هذا،لن يأتي نبي برسالة جديدة بعد رسالة رسول الإسلام الأكرم،ولن تحدث بعثة النبي بعد بعثته(4).

ويظهر هذا المعنى جليّاً في (تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ ) في قوله تعالى : (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلّ أُمَّةٍ

ص: 241


1- سورة الأنبياء، الآية: 107.
2- التفسير الكبير،الفخر الرازي، ج 25، ص 214. تفسير روح المعاني،الجزء 22، ص 46.
3- روض الجنان، ج 15، ص 432.
4- تفسير الكاشف، ج 6، ص 225 و 226.

شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ(1).

2/5/17. رؤية المتكلمين:

يرى الشيخ المفيد - المتكلّم الإمامي المشهور - في بيانه أدلّة خاتمية نبي الإسلام بأنّ الدليل على ختم النبوة هو الآيات والروايات.

وقد أشار إلى الآية الأربعين من سورة الأحزاب وإلى الرواية التي سبق ذكرها من خطاب الرسول الإمام عليّاً(2). غير أنه يضيف في مكان آخر من كتبه:

يلزم من عموم نبوّته كونه خاتم الأنبياء(3).

وكأنّ الشيخ المفيد كان ناظراً للحديث النبوي الشريف: «أرسلت إلى الناس كافة »(4).

وقد تناول المتكلّمون في آثارهم هذا الدليل :

لقد بعث رسول الإسلام بأفضل كتاب وأتمّ شريعة وملة وأكمل دين وجاء بشريعة تضمن قضاء جميع حوائج جميع المخلوقات في كل زمان وكل مكان وتحت أي

ص: 242


1- سورة النحل،الآية :89.
2- النكت الاعتقاديّة، مجموعة مصنّفات الشيخ المفيد، ج 10، ص 37.
3- أوائل المقالات، ص 175.
4- صحیح مسلم، ج 8، ص 89 ،مسند أحمد، ج 4، ص 81 و 84 .الإلهيّات على هدي الكتاب والسنة والعقل، السبحاني، ج 3، ص 500.

ظروف. وبناءً على هذا، لن يُبعث رسول بعده(1).

3/5/17 . رؤية الحكماء:

من الممكن تبيين خاتمية نبي الإسلام فلسفياً، غير أنه أمر يتطلب بعض التفصيل الخارج عن مجال هذا المختصر .

وعلى سبيل المثال نجد أن صدر المتألهين يقول:

فالنبوّة والرسالة من حيث ماهيتهما وحكمهما ما انقطعت وما نسخت وإنما انقطع الوحي الخاص(2).

وهذا يعني أن ختم النبوّة تعني انقطاع الوحي.

وقد تناول المحقق اللاهيجي معنى ختم النبوّة والدليل العقائدي عليها مبيناً إياه ببيان فلسفيّ ممزوج بمصطلحات الحكمة المتعالية؛ حيث قال:

المراد من ختم النبوّة هو الصادر الأوّل الذي يحيط بدائرتي القوس صعوداً ونزولاً.وإن أرقى مراتب الكمالات الإنسانية هي النبوّة التي تنطوي بدورها على مراتب شتى.

ص: 243


1- صالح الفوزان،الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد. كذلك يمكن الرجوع إلى : حاج سلطان محمد جنابذي،بيان السعادة، ج 3، ص 249.«هذه الكلمة للترقي عن كونه أباً لأمته فكأنّه قال بل هو أب لجميع المرسلين وأممهم لأنه خاتمهم والخاتم ينبغي أن يكون محيطاً بالكلّ ومنسوباً إلى الكل نسبة الأب إلى الأولاد...» وواضح أن لفظة (أب) قد وردت في هذه العبارة على نحو من الكناية عن الإحاطة الوجودية له بجميع الممكنات والمخلوقات الإلهيّة. وجدير بالذكر أن رسول اللّه نفسه قد ذكر هذه اللفظة بالنسبة إلى أمّته؛ حيث ورد في المجامع الروائية الشيعية: «أنا وعلي أبوا هذه الأمة» راجع: بحار الأنوار، ج16، ص 95؛ج 23، ص 128 ؛ج 26، ص 263؛ ج 36، ص 11. أمالي الصدوق، ص 14 و 331.عيون أخبار الرضا، ج 2، ص 85 .كمال الدين، ج 1، ص 26. غير أنّ العبارة الأولى قد أوردت لفة (أب) مثبتة إحاطته بالنسبة إلى جميع البشر حتى الأنبياء الآخرين أيضاً.
2- صدر المتألهين الشيرازي،الشواهد الربوبيّة، قم، بوستان کتاب، 1382 شمسي، ص 436.

وهذه هي مرتبة العقل الأوّل التي هي الصادر الأوّل من الواجب تعالى؛ أي لا يمكن تصوّر أعلى منها في الممكنات.وهذه هي مرتبة وجود خاتم الأنبياء؛ حيث تختتم النبوّة بهم. وتتوازى مرتبة الصادر الأوّل في السلسلة البدوية (قوس النزول) مع مرتبة خاتم الأنبياء في سلسلة قوس الصعود. وقد تشابكت تانك القوسان في تلك المرتبة. وبذلك، تنتهي دائرة الوجود الموجود الأوّل الذي يصدر عن الواجب تعالى، هو أشرف الموجودات الممكنة ؛ لأنّه لو كان هناك أشرف منه، لوجب أن يصدر هو أولاً».

ويضيف قائلاً:

«انتهت دائرة الوجود بوجود خاتم الأنبياء، ويتصل المبدأ والمعاد الإضافيان أحدهما بالآخر، ويتحد المبدأ والمعاد الحقيقيّان أحدهما مع الآخر؛ فإنّ مرتبة وجود خاتم الأنبياء - إذن - تقع إزاء مرتبة وجود العقل الأوّل، ويظهر سرّ«أوّل خلق اللّه روحي» و«لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرّب ولا نبي مرسل»(1).

وعلى هذا الأساس، ومن خلال الاعتماد على الآية التي ذكرناها سابقاً: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ )(2).

فإنّ رسول الإسلام هو واسطة فيض الوجود والرحمة الإلهية على جميع الكائنات؛ وهذا هو الشأن ذاته المنحصر به هو فقط .

ص: 244


1- جوهر المراد(بالفارسية:گوهر مراد)،الفياض اللاهيجي،ص 370-372.شرح أصول الكافي، صدر المتألهين، كتاب العقل والجهل،الحديث الأول.
2- سورة الأنبياء، الآية: 107.

4/5/17. رؤية العرفاء:

ما من شكّ في أنّ من في أن ختم النبوّة وانطواء صفحة ابتعاث النبيين بإرسال نبي الإسلام أمر قطعي تسالم عليه العرفاء. وقد تناول العرفاء توضيح معنى ختم النبوّة، وبيان أدلّتها، مستفيدين من بعض الآيات، وبعض المصطلحات العرفانية.

يقول عبد الرزاق الكاشاني في بيان المعنى العرفاني لختم النبوّة:

«الخاتم هو الذي قطع المقامات بأسرها، وبلغ نهاية الكمال، وبهذا المعنى يتعدّد ويتكثّر. خاتم النبوّة هو الذي ختم الله به النبوّة؛ فلا يكون إلا واحداً وهو نبينا»(1).

وتوضيح هذا القول يمكن استفادته من قول عزيز الدين النسفي؛ إذ عدّ المراتب الوجودية على النحو الآتي:

إنّ الإنسان وبعد تصديقه للأنبياء إيماناً ومع ذلك التصديق والتقليد، يصرف معظم وقته على العبادة ويصبح عابداً، وإن تورّع بامتلاكه لذلك المقام، عن حبّ الجاه وأعرض عن الملذات والشهوات، فهو زاهد وإن نال مع حصوله على المراتب السابقة مشاهدة الملك والملكوت والجبروت، فقد بلغ مقام المعرفة ويُسمّى حينئذ عارفاً، وهذا هو حدّ الولاية. وإن استأثره الله مع وجود مرتبة المعرفة لديه،بمودّته وإلهامه، فقد نال الولاية وأصبح ولياً، وإن أعطاه الله الوحي، فقد نال مقام النبوّة، و إن أعطاه كتاباً إلى جانب الوحي والمعجزة، فقد نال مقام الرسالة، وإن كانت شريعته ناسخة لما قبلها من الشرائع وأتى هو نفسه بشريعة أخرى، فقد نال مقام ختم النبوّة، وبالطبع، فهذا مقام معطى من الحق سبحانه وتعالى(2).

ص: 245


1- اصطلاحات الصوفية،لكاشاني، ص178.
2- عزيز الدين النسفي؛ الإنسان الكامل، ص 93 .

وفي هذه الدرجة، ينال الإنسان أعلى مراتب العلم بالله سُبحَانَهُ وَتَعَالى، ولا يوجد في ما بين الموجودات الممكنة من يضاهيه في درجة العلم. وهذه الدرجة ليست إلّا رجة خاتم الرسل؛ ذلك لأنه الوحيد المحيط بجميع المقامات والدرجات الكلية منها والجزئية، الكبيرة منها والصغيرة كما أنه ملمّ بالفروقات بينها، وهذه المرتبة لا تثبت إلا لمن أضحى عالماً بالاسم الأعظم.

وقد نال نبي الإسلام درجة ختم النبوّة وكان خاتم الرسل؛ لأنه هو واسطة مشاهدة سائر الأنبياء لمراتب الحق تعالى:

«فلكون غيره من الأنبياء لا يشاهدون الحقّ ومراتبه إلا من مشكاته الممهدة له من الباطن»(1).

ومن هذا المنطلق، كان نبي الإسلام هو المبعوث للناس كافةً،وكان الدين الذي بعث به كافياً وافياً لجميع البشر :

(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ... )(2).

وقد أشار ابن عربي إلى عمومية رسالة النبي الخاتم إلى كل البشر قائلاً:

فكان من ذلك أن بعث وحده إلى الناس كافةً، فعمّت رسالته(3).

ص: 246


1- محمّد داوود ،قيصري شرح الفصوص، ص 436. ويقول ابن تركة في هذا الموضوع: «وليس هذا العلم إلا لخاتم الرسل وخاتم الأوليا، فإنّهما يوصلان في الحقائق والمعارف إلى أقصى كمالها بجزئياتها وكلياتها وصورها ومعانيها وهي حضرة متعانق الأطراف ومجتمع الأضداد» إبن تركة ؛ شرح الفصوص، ج 1، ص 191.
2- سورة سبأ، الآية: 28.
3- الفتوحات المكيّة، ابن عربي،ص 431.

وبعبارة أخرى: (ختم النبوّة) تعني عمومية الرسالة على جميع الخلائق.

يقول تعالى: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا)(1).

وهذا يشير إلى المعنى ذاته، فلفظ (نزّل) يتضمّن معنى التزايد؛ ذلك لأنّ إنزال الفرقان هو إظهار العقل الفرقاني المختص بواحد خاص من عبيد اللّه تعالى، والذي اختصّ به اللّه تعالى نبي الإسلام، ولم ينل غيره هذه الخاصية والاستعداد.

ولهذا، فإنّ عقله الفرقانيّ هو ذات العقل المحيط، والذي يُطلق عليه أيضاً اسم العقل الكلّ، والذي هو جامع لكمالات جميع العقول. وسبب هذا ظهور الحق تعالى بجميع صفاته المفيض على جميع الخلائق في المظهر المحمدي، غير أنّ هذا الظهور ذات التكثّر والتزايد في الخير؛ ولا يوجد بين الخلائق من يستفيض من هذا الخير أكثر من النبي. لذا قال تعالى: (... لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا )، أي إِنْ كُلَّ نبي يُبعث برسالة خاصة إلى أناس تتناسب معهم استعدادات ذلك النبي وقدراته؛ وأما رسالة نبي الإسلام فقد شملت العالمين جميعاً، وهذا هو عين معنى ختم النبوة ومن ذات المنطلق كانت أمته خير الأمم(2).

وهذا ما جاءت به آیات القرآن الكريم:

كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ...)(3).

كما أنّ ابن عربي قد قال في مكان آخر من كتابه:

ص: 247


1- سورة الفرقان، الآية:1.
2- تفسير القرآن،ابن عربي، ج 2، ص 151 و 152.
3- سورة آل عمران،الآية:110.

«قيل في رسول اللّه أنّه خاتم النبيين فبطن بهور ختمه كونه نبياً وآدم بين الماء والطين ولما ظهر كونه نبياً وآدم بين الماء والطين واستفتح به الحق مراتب البشر كان كونه باطناً في ذلك الظهور ... فإن قلت ما سبب الختم ومعناه؟ فلنقل في الجواب: كمال المقام سببه والمنع والحجر معناه، وذلك أن الدنيا لما كان لها بدء ونهاية وهو ختمها قضى اللّه سبحانه أن يكون جميع ما فيها بحسب نعتها له بدء وختام وكان من جملة ما فيها تنزيل الشرايع. فختم الله التنزيل بشرع محمّد 9 فكان خاتم النبيين وكان الله بكلّ شيء عليماً»(1).

وقد ذهب الإمام الخميني : إلى رؤية خاصة؛ إذ عدّ وجود نبي الإسلام مظهراً وتجلّياً للحق تعالى وعلى هذا الأساس كان النبي فضل البشر على الإطلاق ودينه وشريعته أفضل الأديان والشرائع؛ حيث قال: من

ولما كانت النبوّة الخاتمة والقرآن الكريم وشريعة ذلك القائد العظيم مظاهر ومجالي أو تجلّيات وظهورات المقام الأحديّ الجامع، وحضرة الاسم الأعظم، لذا كانت أكثر النبوات والكتب والشرائع إحاطة وجامعية، فلا يتصوّر وجود نبوّة أو شريعة أكمل وأشرف منها(2).

5/5/17 . رؤية إقبال اللاهوري:

فضلا عن آراء المفسرين والمتكلمين والعرفاء السابقين وأقوالهم، نجد أيضاً مجموعة أخرى من الشخصيات التي عرضت معنى ختم النبوّة والأدلة عليها، وعملت على توضيحها وبيانها.

وقبل أن نشرع في بيان هذه الآراء، لا بد من ذكر أن الحديث عن ختم النبوّة -

ص: 248


1- الفتوحات المكية،ابن عربي،ج 12، ص 126.
2- آداب الصلاة،الإمام الخميني،ص 439(النص العربي).

على طول التاريخ - لم يكن محفوفاً بالبحوث المعقدة ومليئاً بالتحديات؛ فالمفكرون السابقون كانوا يقولون بختم النبوّة، ويعتبرون الحديث تاماً في أمرها معتمدين في ذلك على ما ورد في الدين من أدلّة، وكانوا يكتفون في أقصى حالات الاستدلال بعض البراهين العرفانية، أو التحليلات المستندة إلى الوحي. أما في العصور المتأخرة فقد ولّدت الأقوال المختلفة وآراء النقد الوارد من خارج الإطار الإسلامي في هذا الموضوع بحوثاً عميقة وممتدّة جديرة بالأخذ بعين الاعتبار.

وفي ما يأتي نعرض أقوال بعض المفكّرين المعاصرين في ما يتعلق بمعيار ختم النبوّة، والأدلّة عليها من الأدلّة والمعايير التي استعرضت لإثبات ختم النبوة ما يأتي:

إن عقل الإنسان في ما يلي عصر الرسول الأكرم قد وصل إلى مرتبة من الرشد تكفي لهدايته ونيله السعادة والكمال؛ حيث يستطيع الإنسان من خلال ذات هذا الأداة (العقل) أن يواصل ما بقي من مسير. وبناء على هذا، لا يلزم إرسال الرسل ولا استدامة النبوة.

وقد ساق هذا الدليل العالم المعاصر محمّد إقبال اللاهوري؛ حيث ابتدر برهانه ببيان طبيعة الوحي، والذي يعتقد بكونه تجربة دينية كما أنه يعتبر أنّ النبي كالعارف الذي وصل إلى مرحلة الوعي الباطنيّ ، وأنّ أقواله حاصلة تعمّقه في باطنه(1).

ويتمثّل الفارق الوحيد بين الوعي النبوي ووعي العارف - عنده - في كون العارف وبعد أن تذوّق طعم الاطمئنان الحاصل من التجربة الاتحادية لا يقبل الرجوع إلى حياة هذا العالم،في حين نجد أنّ أهم اهتمامات النبي هي العمل على إصلاح هذا العالم.

ص: 249


1- تجديد الفكر الديني،محمد إقبال اللاهوري، ص 44.

وتناول اللاهوري مراحل تطوّر الإنسان التاريخية مستعرضاً نظرية أوغست كونت؛ حيث ادعى كونت أنّ الفكر البشريّ قد مر بثلاث مراحل:

المرحلة الأولى هي مرحلة معرفة اللّه (وهي المرحلة الدينية)، يتعرّف فيها الإنسان على العالم من خلال سلطة الدين والإله.

والمرحلة الثانية هي مرحلة ما وراء الطبيعة (وهي المرحلة الفلسفية)؛ حيث يتنازل الدين عن مكانته للقوى فوق الطبيعية والفكر الفلسفي في ما يتعلق بماهية الكائنات؛ ليصبح المنطق والرياضيات هما محور التفكّر.

والمرحلة الثالثة هي المرحلة العلميّة، التي تصبح فيها مشاهدة الوقائع التجربيّة واختبار النظريات هما الأسلوب الوحيد الذي يمكنه تحقيق المعرفة(1).

وادّعى إقبال اللاهوري أنّ الإنسان في مرحلة الطفولة (مرحلة الحياة الدينية) يكون تحت سلطة الغريزة والشهوات، وأمّا في مرحلة النضوج يكون قد وصل إلى مرحلة من النمو العقلي، ويتوجب عليه - عندئذٍ - أن يشتغل بكسب المعرفة مستفيداً من ذلك النموّ، وهذا هو الشيء الذي جعل الإنسان قادراً على التصرف في الطبيعة.

قال ما نصّه:

نبيّ الإسلام يبدو أنه يقوم بين العالم القديم والعالم الحديث ومولد الإسلام ... هو مولد العقل الاستدلالي. إنّ النبوّة في الإسلام لتبلغ كمالها الأخير في إدراك الحاجة إلى إلغاء النبوّة نفسها، وهو أمر ينطوي على إدراكها العميق لاستحالة بقاء

ص: 250


1- مفاهيم علم الاجتماع واستعمالاته،جوناثان اتش تيرنر،(الترجمه الفارسيّة، ص 28)؛علم الاجتماع الديني، مالكوم هاميلتون،(الترجمة الفارسية،ص 38)؛الفكر الديني في القرن العشرين،جون مك كويري،(الترجمة الفارسية، ص 196).

الوجود معتمداً إلى الأبد على مقود يقاد منه، وإن الإنسان، لكي يحصل كمال معرفته لنفسه ينبغي أن يُترك ليعتمد في النهاية على وسائله هو(1).

ولم يُخفِ إقبال تمايله إلى اعتبار النبوّة تجربةً باطنية؛ حيث قال:

قد يُقال في تعريف النبوّة: إنّها ضرب من الوعي الصوفي ينزع ما حصله النبي في مقام الشهود إلى مجاوزة حدوده، وتلمس كل سانحة لتوجيه قوى الحياة الجمعية توجيهاً جديداً، وتشكيلها في صورة مستحدثة، فالمركز المتناهي من شخصية النبي يغوص أغواراً لا نهائية ليطفو ثانية مفعماً بقوة جديدة تقضي على التقديم، وتكشف عن توجيهات للحياة جديدة(2).

وقد قوبلت رؤية إقبال اللاهوري بأربعة اتقادات أصلية؛ استعرضها الشهيد المطهّري. فالعرض الذي اقترحه اللاهوري لطبيعة الوحي مخالف للوحي الذي عرّفت المصادر الإسلامية؛ فقد ذهب إقبال إلى عدّ الوحي أمراً غريزياً طبيعياً، وذا مرتبة أدنى من العقل؛ في حين أنّ الوحي هو هداية تسمو على الحس والعقل !

وبناءً على ذلك، لا يمكن أن يُعدّ الوحي من سنخ الغريزة أو التجربة الدينية. والوحي ذو طبيعة لغوية خطابية، ولا يمكن اعتباره محدوداً بمواجهة النبي أو متحداً مع الغريزة. ولهذا نجد الشهيد المطهري يقول:

الغريزة... هي خاصية طبيعية مرتبطة باللاوعي بنسبة مئة بالمئة وهي أدنى من الحس والعقل ... كما أنّها تضمر وتتضعف بنمو أدوات الهداية الأسمى-أعني الحسّ والعقل- وأمّا الوحي فهو على عكسها تماماً، فهو هداية ومعرفة أعلى درجة من الحسّ

ص: 251


1- تجديد الفكر الديني،محمد إقبال اللاهوري، ص 149 (الترجمة العربية).
2- المصدر السابق، ص 148.

والعقل و... كما أنه في أسمى درجات الوعي،فجانب الوعي في الوحي بدرجة تفوق الحسّ والعقل على نحو لا يمكن وصفه»(1).

ومن جهة أخرى قد يحمل كلام إقبال اللاهوري على القول بأنّ وجود العقل كافٍ، فلا يحتاج معه لا لوحي جديد، ولا لنبي جديد؛ بل لا حاجة لجميع توصيات وإرشادات الوحي مطلقاً، وهذا يعني أنّ البشر من الأساس لا أنهم لا يحتاجون إلى الدين وإرشاداته، بل أنّهم لا يحتاجون إلى التدين في نفسه، فجل وظيفة الوحي كانت إعلان انقضاء عصر الدين وبداية عصر العقل والعلم .

«وهذا الأمر ليس مخالفاً لتعاليم الدين الإسلامي وحسب؛ بل إنّه مخالف لنفس نظرية إقبال اللاهوري. فقد دارت كلّ مساعي اللاهوري حول إثبات أن العقل والعلم هما أمران ضروريان للبشرية غير أنهما غير كافيين، فالإنسان يحتاج إلى إلى الدين والاعتقاد الديني بذات قدر احتياجه للأصول ثابتة والفروع المتغيّرة وعملية (الاجتهاد الإسلامي) هو عبارة عن تطبيق الفروع على الأصول»(2).

وبحسب أقوال العلامة المطهري فإنّ إقبال قد وقع في التناقض مع آرائه؛ وذلك لأنه - من جهة - يرى أنّ الوحي معرفة مأخوذة من الغريزة والتجربة الباطنية، وأنه مختص بفترة طفولة المجتمع البشري، كما أنّه يرى من الجهة الأخرى أنّ الاجتهاد هو عنصر تطوّر الإسلام، وهذا القول يستلزم كون الوحي ضرورياً في جميع فترات الحياة البشريّة؛ حتى الفترة الجديدة. ومجموع هذين القولين ليس إلا كاشفاً عن عدم الانسجام الداخلي لنظريّة إقبال اللاهوري.

ص: 252


1- الوحي والنبوّة.المطهري،ص 192.
2- الوحي والنبوّة،المطهري، ص 198.

ويقول إقبال اللاهوري بعدم قبول دعوى كلّ من يدعي الارتباط بعالم ما فوق الطبيعة؛ فقد ولّى - بحسب رأيه - زمان التجارب الباطنية والعرفانية والوحي، وانتهى عصرها. ولو كانت نظرية إقبال صحيحة لوجب أن ينتفي - بعد نشأة العقل التجربي جميع ما أسماه اللاهوري بالتجربة الباطنية وللزم أن تنقضي «مكاشفات الأولياء» أيضاً ؛ ذلك لأنّ الفرض قائم على أنّ جميع هذه الأمور هي - في الحقيقة - نوع من أنواع الغريزة وبنشأة العقل التجربي تنكمش ،الغريزة، وتخبو جذوتها، هذا في حين أنّ إقبال اللاهوري نفسه يعتقد ببقاء التجربة الباطنيّة؛ بل ويذكر أنّها (أي التجربة الباطنية) إحدى المصادر الثلاثة(للمعرفة الطبيعة، والتاريخ، والتجربة الباطنية)(1).

6/5/17. رؤية الدكتور شريعتي:

إحدى النظريّات الأخرى التي عرضت موضوع ختم النبوّة هي نظرية تعيين الفترة الزمانية لختم النبوّة. وقد تقبّل الدكتور علي شريعتي تبيين إقبال اللاهوري للخاتميّة بنحو كامل، مضيفاً إلى ذلك نقطة أخرى؛ إذ ذهب إلى أن زمن اختتام القيادة الخارجية للبشرية قد تأخّر مئتين وخمسين عاماً (250 عاماً بعد نبي الإسلام)، فأعرب عن رأيه بالقول:

من بعد هذا، فإنّ الإنسان على أساس طراز تربيته،سوف يكون قادراً على مواصلة طريقه في الحياة، وإكمال المسيرة من دون وحي،وبدون نبوّة جديدة.ولذا،اختتمت النبوّة ههنا،ووجب عليكم إكمالالمسير بأنفسكم.(2)

وقد شدّد شريعتي تارةً على ضرورة الاستفادة من الوحي في فترة ختم النبوّة،

ص: 253


1- الوحي والنبوّة،المطهري،ص190.
2- الأعمال الكاملة (بالفارسية) ، علي شريعتي، ج 30، ص 63.

مؤكّداً على ضرورة الحذر من مضارّ العلم الحديث وأخطاره، كما أنه تحدّث عن غنى البشر عن الوحي الجديد تارةً أخرى، وتحدّث - كإقبال اللاهوري- عن عدم افتقار البشر للوحي في هذا العصر على نحو مطلق تارةً ثالثةً، ذاهباً إلى أنّ العقل كافٍ لمواصلة الطريق!

فمن ناحية يقدّم شريعتي المفكّرين على أنّهم ورثة الأنبياء، ومن ناحية أخرى نجده يعتقد أيضاً بنظرية الإمامة وولاية الفقيه؛ فهل المقصود عنده وجوب اشتمال أئمة زمان الغيبة وفقهائها بخاصية الانفتاح الفكري، وبذا يكونون قد ضموا هذين المنصبين مع بعضهما، أم أنّ له مراداً آخر ؟ اللّه العالم.

إن قضية ختم النبوّة - بحسب رؤية شريعتي - تعني تخرج الإنسان من مرحلة الوحي، وطيّه إياها. وهذا يعني أن البشرية بعد اختتام النبوّة لا تفتقر إلى وحي جديد؛ أي إنّ الإنسان - من خلال اتكائه على تعاليم هذا الدين، وتعرّفه على ما تعلّمه في هذه المرحلة - أضحى قادراً على شق طريقه لوحده، وإيجاد الأجوبة المناسبة من دون افتقار لنبي جديد يُبعث ليأخذ بيده؛فالإنسان قادر على أن يخطو خطاه في طريقه نحو الكمال من خلال تعلّم ما جاء في الوحي الخاتم،والعمل بتعاليمه، والاجتهاد فيها(1).

ومن جانب آخر نفي شريعتي حاجة الإنسان إلى نبوّة جديدة قائلاً:

ختم النبوة تريد أن تبين أن الإنسان قد كان - إلى زمان بعث النبي الخاتم- محتاجاً إلى تلقّي الهداية من ما دون تعقله وتربيته، ففي ذاك الوقت (القرن السابع الميلادي) ونلاحظ أن مسيرة التربية البشرية في عصر ما بعد نهضة الحضارات المختلفة من قبيل الحضارة اليونانيّة والحضارة الرومانية والحضارة الإسلامية ونزول الكتب السماوية

ص: 254


1- الأعمال الكاملة (بالفارسية) ، علي شريعتي، ج 14، ص 327.

من قبيل الإنجيل والقرآن الكريم، قد بلغت المستوى اللازم. وبعد ارتقاء الإنسان إلى هذا المستوى من التربية، نجد أن الإنسان قد أصبح قادراً على أن يقف على قدميه، وأن يواصل حياته ومسيرته نحو الكمال بنفسه، من دون الحاجة إلى وحي ونبوّة جديدين یر شدانه، وعلى هذا الأساس كان ختم النبوّة والوحي».

وبعد هذا القول، نجده يتحدّث كأنّ الإنسان غنيّ عن الوحي؛ إذ كتب:

ومن بعد هذه المرحلة، يملأ العقل مكان الوحي، ولا شكّ في أنّ المقصود هو العقل الذي تربّى طوال القرون السابقة على يد الوحي، ووصل إلى مرحلة البلوغ(1).

وهذا يدلّ على أنه لم يلتفت إلى النقطة المهمّة في الموضوع؛فإنّ البشر الذين عاصروا حقبة نزول الوحي أيضاً كان من واجبهم أن يُفيدوا من العقل الذي تربّى على يدي الوحي؛فكما أنّ الوحي يمثل ضرورة للعقل في عصر ختم النبوّة، فإنّ العقل الذي تربى على يد الوحي في عصر النزول وإدراك الوحي ضروري أيضاً.

يقول شريعتي:

إنّني استوعب ختم النبوّة بهذا المعنى ؛ وهو أنّ الرسالة التي كان الأنبياء مكلّفين بها أصبحت على عاتق المفكرين،فأصبح من واجبهم أن يقوموا بأعبائها، أولئك المفكرون الذين لم يتحدّد بفرع معيّن من العلوم،بل إنّهم استقوا من حسّ النبوّة(2).

وهنا،نلاحظ أنّ كلام شريعتي عن ختم النبوّة يتناقض مع بعض التعاليم الدينية، بل لا يتوافق مع بعض أقواله وآرائه هو:

ص: 255


1- الأعمال الكاملة (بالفارسية)،علي شريعتي، ج 3، ص 63 - 64.
2- المصدر السابق، ج 4، ص 151.

فأوّلاً: يتنافى قوله هذا الإمامة؛ إذ إنّها هي المكمّلة للنبوّة والاستمرار لنهجها،وهي المسؤولة عن هداية الأمم من بعد النبوة.

وثانياً: برز مصطلح التنوير - بمعناه الحديث - في فرنسا، ومن ثمّ كان أتباع هذا المصطلح في سعي حثيث ومستديم من أجل زحزحة الوحي عن مكانته، ومحاولة تهمیشه؛ فهل يمكن للمفكّرين من هذا الطراز أن يصبحوا هداة للأمة وورثة للأنبياء ؟!

وثالثاً : تثمّل الاشتراكية - بحسب رؤية شريعتي - أكبر إبداعات البشر في العصر الحديث، ويمثل ماركس أحد مصاديق التنويريين.(1)وعلى هذا الأساس، من الواجب أن يُعد ماركس من زمرة ورثة الأنبياء وأن تُعدّ الاشتراكية استدامة لحركة النبوة! وهنا يظهر ما في تفسير شريعتي من تهافت.

إنّ دعوى إقبال وشريعتي القائمة على القول بكفاية العقل في مسيرة رشد الإنسان تؤدّي - لا محالة - إلى تقابل العقل والدين. وهذا النحو من التفكير ناشئ من إخراج العقل من دائرة حكومة الدين؛ أي إنّ هذه النظرية تجعل من العقل خصماً للدين. ومن هذا المنطلق، فكما أن التفريط يجعل من هذين الاثنين (العقل والدين)خصيمين، نلاحظ أنّ الإفراط يطرد العقل عن دائرة نفوذ الدين.

وأما على أساس الاعتقاد بتعاضد النقل والعقل، وتكاتفهما في إعمال تعاليم الدين،نجد أن مسؤولية معرفة أحكام الدين تقع على كاهلهما معاً؛ فالعقل بمعونة النقل هو الذي يمارس تحصيل تعاليم الدين والتعريف بها.

بناءً على ما تقدّم، ختم النبوّة يعني أنّ جميع أصول الدين والعقائد والضوابط

ص: 256


1- الأعمال الكاملة (بالفارسية)،علي شريعتي، ج 30، ص 161.

والقوانين الاعتقاديّة والعمليّة والأخلاقية والفقهيّة والحقوقيّة قد جاءت على نحو تامّ وكامل في النصوص الدينية، وأن العقول التي استنارت دفائنها بنور الوحي ستقوم باستخراج جواهرها .وإذكائها. ولهذا لن يأتي للبشرية إمداد جديد من المصادر الوحيانية والنقليّة، بل إنّ الدين الذي جعل من العقل المستعين بالنقل مصدراً في التعرّف إلى الأحكام الإلهية سيكتفي - دائماً و أبداً - في هداية البشر بهذين المصدرين؛ لا أنّ نمو العقل ورشده سوف يؤدّي إلى اضمحلال دور الدين، وتقلّص ساحة نفوذه؛ فالعقل ليس خصماً للدين، بل هو موجود في صميمه(1).

7/5/17. رؤية العلامة المطهري:

يتطلّب تقديم رأي نهائي في ما يتعلّق بختم النبوّة إجراء عملية تحليلية شاملة، وملاحظة الأبعاد المختلفة لهذه المسألة. ولقد لاحظنا قسماً من رؤية العلامة المطهري وتفسيره لما يتعلّق بختم النبوّة عندما طالعنا ردّه وانتقاداته لرؤية إقبال اللاهوري.

ولكن من أجل التعرّف على رؤيته كاملة يلزمنا - فضلاً عما طالعناه - أن نقوم بمراجعة لبقية مؤلّفاته ومكتوباته؛ فقد عرض المطهّريّ قضية فلسفة ختم النبوّة في جملة منها؛ مثل: «الخاتميّة»، و«ختم النبوّة»، و«الوحي والنبوّة»التي تضمنتها سلسلة«المدخل إلى الرؤية الكونية الإسلامية»، كما توجد أيضاً في كتبه الأخرى تلميحات بخصوص هذه المسألة؛ مثل: «الإسلام ومقتضيات الزمان» و «التعرّف على القرآن»، و«نقد الماركسية».

يتساءل العلامة المطهّري - في البداية - عن فلسفة ختم النبوّة، ويستعرض في هذا المجال ثلاثة حلول أي إنّه يرجع استمرار وتكرار إرسال الرسل وتشريع الشرائع في

ص: 257


1- منزلة العقل في هندسة المعرفة الدينية، الجوادي الأملي، ص 180.

ما قبل زمان الإسلام إلى أحد هذه الأمور الثلاثة،فمع انتفاء هذه العلل تُختتم النبوّة.وهذه الأمور الثلاثة هي:

أوّلاً: وجود احتمال وقوع التحريف في الدين.

ثانياً: وجود النقص في درجة إدراك البشر.

ثالثاً : وجود الحاجة إلى تفسير الدين وتبيينه وتبليغه.

فالسبب الذي دعا إلى إرسال الرسل في عصر ما قبل الإسلام هو تعرّض الأديان والشرائع للتحريف والتغيير من جانب البشر، وهذا الأمر يؤدّي - لا محالة - إلى فقدان المصداقيّة فيها . أما الإسلام فقد اختصه الباري سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بصيانته من هذه المشكلة، وضمن عدم وقوع التحريف فيه(1).

وإنّ البشر الذين عاشوا في العصور التي سبقت الإسلام كانوا عاجزين عن الوقوف على خارطة شاملة كاملة عن مسير حياتهم، ذلك لقصور نموّ إدراكهم العقلي، غير أنّهم في العصر الجديد الذي ظهر فيه دين الإسلام، أصبحوا قادرين على تلقي هذه الخارطة المتكاملة؛ إذ إنّ استخدام أصول هذه الخارطة الكلية وقواعدها أمكن البشريّة من تحصيل الحلول الفرعية والمؤقتة(2).

وأضاف المطهّريّ يقول:

ص: 258


1- ختم النبوّة، الأعمال الكاملة (بالفارسية)،مرتضى المطهري ، ج 3،ص 156؛الإسلام ومقتضيات الزمان، الأعمال الكاملة(بالفارسية)، مرتضى المطهري، ج21، ص 21. الوحي والنبوّة، نفس المصدر السابق، ص 184.
2- الوحي والنبوّة،المصدر السابق،ص 184. راجع: التعامل المتقابل بين الإسلام وإيران، مرتضى المطهري، ص 241 - 240.

إنّ تلقّي الوحي من جانب الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى هو النبوّة التكوينية، وأما تبليغه بين البشر وإيصاله إليهم فهو النبوّة التشريعية. فبعض الرسل كانوا يتمتعون بالنبوّة التكوينيّة فقط؛ إذ كانت مهمة تلبيغ الدين واقعة في عهدة نبي آخر، وهناك أيضاً بعض الأنبياء كانوا حاصلين على كلا نحوي النبوّة. كما أن الأعمّ الأغلب من الأنبياء كانوا أنبياء تبليغيّين؛ لا تشريعيّين. وقد ختم دين الإسلام النبوّة التكوينية والنبوّة التشريعية. وقد ختم الإسلام النبوّة التشريعيّة؛ لأنّ البشريّة إنّما تحتاج إلى الوحي التبليغي عندما تكون ذات درجة من العقل والعلم والحضارة لم تصل إلى مستوى يمكنها من أن تمسك هي بنفسها بزمام أمور الدعوة والتعليم والتبليغ والتغيير والاجتهاد في أمور الدين. فظهور العلم والعقل-وبعبارة أخرى : رشد الإنسانية وبلوغها-هو بفسه كافٍ لختم النبوّة التبليغيّة؛ حيث يصبح العلماء ورثة الأنبياء في هذا المجال... في عصر القرآن انتقلت مهمة تعليم الآيات السماوية وحفظها إلى العلماء، حيث أصبح العلماء من هذه الجهة ورثة للأنبياء»(1).

بناءً على هذا نجد أن مفهوم الاجتهاد - بحسب رؤية العلامة المطهّريّ - يلعب دوراً مهماً في فلسفة ختم النبوّة. فعلماء الأمة في عصر ختم النبوّة الذي هو عصر العلم - ومن خلال إلمامهم بالأصول الكلية لدين الإسلام، ومعرفتهم الظروف الزمانية والمكانية - قادرون على تطبيق تلك الكليّات على ظروف الزمان والمكان ومقتضياتها،ومن ثَمَّ استنباط الحكم الإلهي واستخراجه. وبهذا الترتيب سيمكن لهم الإتيان بكثير من مهام الأنبياء التبليغيين من خلال الاجتهاد.

ومن هذا المنطلق، نرى أنّه في عين كون حاجة البشريّة للتعاليم الإلهية والبلاغ

ص: 259


1- ختم النبوّة، ص 173 - 174.

الذي جاء من طريق الوحي أبديةً، تنتفي حاجتهم إلى تجدد النبوّة ونزول كتاب سماوي وبعثة نبي جديد إلى الأبد، وبذا تختتم النبوة(1).

وقد أيّد العلامة الجواديّ رؤية العلامة المطهّريّ فقال في بيان دور الاجتهاد في خلود الديانة الإسلاميّة :

يوجد في الدين الإسلاميّ نوعان من الاجتهاد؛ أحدهما/ديناميكيّ متغيّر، والآخر مستقرّ ثابت. فالأوّل هو الاجتهاد العلمي الذي يتحمّل مسؤولية استنباط الأحكام والقوانين واللوائح الفقهية والحقوقية. والثاني:هو الاجتهاد الإداري الذي يتكفّل بسنّ السنن الثابتة والمستقرّة. وتتضح خاتميّة الإسلام من خلال بيان هذين البندين على نحو كامل(2).

ويرى العلامة المطهّري أيضاً بأنّ خاتميّة الإسلام وأبديته قائمة على كون الدين أمراً فطريّاً؛ ذلك لأنّ معارف الدين الإسلامي وتعاليمه إما فطرية، وإما قائمة على الفطرة. ومن هنا، ستكون هذه التعاليم أبديّة غير قابلة للتغيير.

يقول في هذا الصدد:

والدليل الآخر على خاتميّة هذا الدين وأبديّته نابع من توافقه وتناسقه مع القوانين الفطريّة؛ حيث وضع لاحتياجات البشر الثابتة غير القابلة للتغيير قوانين ثابتة غير قابلة التغيير، كما توقع لأوضاع البشريّة وأحوالها المتغيّرة ما يوافقها(3).

ص: 260


1- الوحي والنبوّة،ص 185.
2- منزلة العقل في هندسة المعرفة الدينية،الجوادي الأملي، ص 180.
3- ختم النبوّة، ص 191.

ويذهب المطهّريّ إلى أنّ أبديّة الإسلام وخلوده قائم على أربعة أركان رئيسية:

أوّلاً: الإنسان والمجتمع : فللإنسان بعدان؛ بعد ثابت لا يتغيّر، وآخر متغيّر متبدّل. ولهذا السبب، كان من الضروري أن يلزم في بعض الأمور أصولاً ثابتة لا يحيد عنها، بينما في بقية الأمور يجب أن يتبع أوضاعاً متغيّرة.

ثانياً: الوضع المميز للتقنين في الدين الإسلامي: للإسلام أصول ثابتة لا تتبدل، كما أنّ له فروعاً متغيّرة ناشئة من تلك الأصول نفسها؛أي إنّ الإسلام هو أيضاً له - في إزاء بعدي الإنسان المذكورين - قوانين ثابتة، وأخرى متغيّرة.

ثالثاً: العلم والاجتهاد: عندما يتعرّف العالم على روح الإسلام، ويدرك أيضاً غاياته ووسائله،فيصبح باستطاعته أن يرجع الفروع إلى الأصول؛ يكون في واقع الأمر قد عمل بوظيفته الواقعيّة.

رابعاً: الاستعداد غير المتناهي الموجود في الكتاب والسنة:الدين مَثَله مَثَل الطبيعة في كونه غير متناه التفسير؛ وفي كل آن وأوان نجد أنّ الإنسان مكلّف بالتفكّر فيه والتدبّر لكي يحصل ما فيه من فوائد(1).

8/5/17 . حصيلة البحث:

كلّ ما مرّ من معانٍ وتفسيرات لختم النبوّة كان ناظراً إلى المحاور الآتية:

الأوّل:يمثل ختم النبوّة في الإسلام أمراً أصليّاً وقطعيّاً. وأهم الأدلّة عليه نص القرآن الكريم؛أي الآية الأربعون من سورة الأحزاب. ولا يوجد دليل عقلي على ختم النبوّة؛ ولكن من الممكن تعقلها.

ص: 261


1- الخاتميّة، ص 122 - 134.

الثاني: يمثّل الاعتقاد بخاتمية نبي الإسلام أحد ضروريات الدين؛ فإنكاره بمنزلة إنكار الإسلام.

الثالث: الدليل على معقولية ختم النبوّة - بحسب رؤية العلماء وأصحاب الآراء السابقين - هو الكمال النهائي للإسلام وشموليته؛ أي إنّ نبي الإسلام قد بيّن واستعرض جميع ما يحتاجه البشر في مسيرة هدايتهم ورشدهم، فجامعيّة الإسلام التامة وأبدية بقائه هما العاملان الأساسيان في خاتمية نبي الإسلام . وقد ورد هذا المعنى في بيان العرفاء عندما وصفوا المرتبة الوجودية لنبي الإسلام وإشرافه على جميع حقائق عالم الإمكان.

الرابع: عد بعض العلماء المعاصرين(إقبال اللاهوري وشريعتي)أنّ سرّ ختم النبوّة يكمن في التكامل العقلي للإنسان، ورشد فهمه وإدراكه، واعتقدوا أن الإسلام قد جاء في حقبة من التاريخ أصبح الإنسان فيها مستغنياً - بما تحصل عليه من معارف الدين الإسلامي وتعاليمه - عن ابتعاث نبي جديد، أو إرسال رسالة جديدة، بل وأصبح قادراً على مواصلة المسير معتمداً على عقله وفهمه ليصل إلى السعادة.

الخامس : أشكل بعض العلماء الآخرين (العلامة المطهّري) على الدليل السابق،وأوضحوا عدم تماميته؛ إذ رأوا أنّ العقل، بالرغم من كونه قائداً فذاً، إلا أن جوهر خاتمية الإسلام يكمن في :

[1]:بقاء الإسلام في مأمن من التحريف. [2]:غنى الإسلام وعدم احتياجه للتبليغ على أيدي أنبياء مبلّغين. [3]: وجود العنصر المهمّ والمصيريّ المسمىّ بالاجتهاد في منظومة الإسلام الإسلام المعرفية.

ومجموع هذه الأمور الثلاثة هو السرّ من وراء ختم النبوة.

ص: 262

6/17. الشبهات على ختم النبوّة:

ترتكز قضيّة ختم النبوّة على أسس استدلاليّة قرآنية وروائية؛ فهي أمر قطعي نابع من صميم الدين. ومن الممكن تعقلها من خلال تشييد أدلّة عقليّة عليها أيضاً؛ غير أنّ هذا ليس محلّ وفاقٍ أو إجماع.

وقد قام بعضهم بمحاولات استدلالية ساعين إلى نقض ختم النبوة من الأساس، فعمدت جماعة منهم إلى وضع بعض العراقيل أمام إثبات هذه القضيّة من خلال إثارة بعض الإشكالات والمناقشات التي سنأتي على ذكر بعضها في ما يأتي:

1/6/17.الأولى : بقاء بعض الأنبياء على قيد الحياة:

استعرض البعض هذه الشبهة على النحو التالي:

كيف يمكن أن نتقبّل ختم النبوّة بالنبي محمّد ؛في حين أن بعض الأنبياء من أمثال الخضر وإلياس وعيسى: ما زالوا على قيد الحياة؟ ألا يخدش هذا الأمر الإيمان بخاتمیته؟

منشأ هذه الشبهة : عدم فهم معنى ختم النبوّة؛ فالمقصود من ذلك انقطاع حدوث وصف ختم النبوّة، وابتدائها لشخص بعد نبي الإسلام؛ أي أنّ بعده لم يبعث شخص بالنبوة، ولن يبعث أبداً. أما الأنبياء المذكورون فقد بعثوا بالنبوة قبل نبي الإسلام(1).

ص: 263


1- تفسير روح المعاني،الآلوسي، ج 3، ص 49.

ويمكن الإجابة على ذلك بالقول:المقصود من ختم النبوّة انقطاع الوحي التشريعي،وخاتم الأنبياء هو المبعوث خاتماً للتشريع(1)بعبارة أخرى:من الممكن أيضاً أنّ يقع الوحي التكويني (العامّ) من بعد نبي الإسلام ، لكنّ الوحي التشريعيّ (الخاصّ) الذي يقارن بداية دين أو شريعة أو رسالة جديدة، فقد انتهى وانقطع ببعثته.

2/6/17 . الثانية : الاستدلال بالقرآن الكريم:

ادّعى بعض المنكرين لختم النبوّة أنّ القرآن الكريم قد صرّح باستمرار النبوّة، وعدم انقطاع بعثة الرسل الإلهيين على البشر؛ مستدلّين في هذه الدعوى على ظاهر الآية الخامسة والثلاثين من سورة الأعراف : (يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلُ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ) . فقالوا : إنّ مفاد هذه الآية يتنافى مع القول بختم النبوّة، وانسداد باب الوحي

والردّ على هذا أن يُقال: تحكي هذه الآية حال بني آدم،وذلك في بدايات مراحل الخلقة والهبوط إلى الأرض ، ولا ارتباط لها بجميع البشر . فهذا الخطاب الذي ورد في الآية ليس موجهاً إلى عصر رسالة نبي الإسلام عصر رسالة نبي الإسلام حتّى يقع التعارض بينها وبين القول بخاتميته!

والشاهد على أنّ هذه الآية تتعلّق بعصر آدم وهبوطه إلى الأرض مجموعةٌ من الآيات التي يتناسق نصّها ومفادها مع هذه الآية، تقع معها في ذات السياق؛ فقد ورد في الآية الثالثة والعشرين بعد المئة من سورة طه قوله تعالى: (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ).

ص: 264


1- سعد السعود،ابن طاووس ص 323؛رحمة من الرحمن،ابن عربي، ج 3، ص398.

وبناءً على ما تقدّم، يتضح جلياً أنّ الآية التي استدلوا بها ليست ناظرة إلى عصر رسالة نبي الإسلام ، بل الخطاب موجّه لأبناء آدم في ذلك الزمن(1).

3/6/17. الثالثة: شبهة البهائية:

أنكرت فرقة البهائية ختم النبوّة ببعثة نبي الإسلام ؛ ذلك بادعائهم نبوّة«علي محمّد الشيرازيّ» الملقّب ب «الباب»؛ فبحسب زعمهم يتمتّع «الباب» بمقامين؛ الأوّل: كونه نبيّاً مستقلاً، وصاحب كتاب سماويّ ! والثاني : كونه مبشّراً بظهور نبي آخر؛ والمقصود هنا: «ميرزا حسين عليّ »الملقّب ب«بهاء اللّه». بل ادّعوا أنّ «الباب» من الأنبياء أولي العزم وأصحاب الشرائع؛ مَثَله في ذلك مَثَل نوح، وموسى، ومحمّد ، كما تعاملوا مع شخصيّته بصفته «الموعود المقدس» الذي سوف يتحقق بظهوره وعد الأنبياء.

وبالرغم من أن عمر دعوة «الباب» لم يزد عن التسع سنوات؛ إلا أن أتباع هذه الفرقة يزعمون أنّ إرادة الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى منعقدة على إرسال رسول جديد كلّما احتاج أهل العالم إلى تعاليم جديدة.(2)، بل ادّعوا أنّ «الباب» أفضل من نبيّ الإسلام ، وأنّ أوّل من سجد للباب هو محمّد ، ومن بعده الإمام علي!(3)

ويؤمن بعض منظري هذه الفرقة بأنّ الاعتقاد بختم النبوّة يمثّل مانعاً عن وصول المسلمين إلى مرتبة العرفان واليقين، وينكرون أن تكون آيات القرآن الكريم وروايات المعصومين: دالّة على المعنى المذكور من ختم النبوّة؛ فهم يزعمون أنّ كلمة «نبيّ» لا تعني«حامل النبأ الإلهيّ»، بل إن معناها هو «المحدّث بالغيب»، ويقول أحد المدافعين

ص: 265


1- الإلهيّات، جعفر السبحاني، ص 487 و488.
2- البيان، الوحدة الأولى، الباب الخامس عشر.والوحدة الثانية،الباب الأول.والوحدة الثالثة، الباب الرابع عشر.
3- نصائح الهدى، ص 16.

عن هذه الفرقة: «لم يُختم ابتعاث نبي صاحب شريعة؛ بل الذي خُتم هو ظهور الأنبياء التابعين وغير المستقلين ممن يأتيهم الإلهام في المنام... ولا يدلّ مصطلح خاتم النبيين على اختتام ابتعاث الأنبياء أو انقطاعه؛ لأنّ الرسل ليسوا كلّهم أنبياء حتى يلزم من ختم الأنبياء ختم الرسل أيضاً»(1).

وعلى هذا الأساس،يتشعب مدّعى هذه الفرقة إلى طريقين: طريق يحرّف معنى «الختم»، والآخر يفصّل بين معنى «النبي» ومعنى«الرسول».

وتجدر الإشارة - عند تحليل هذا المدّعى - إلى أنّ النظرة الفاحصة في ما أوردته معاجم اللغة في باب معنى كلمة «خاتم» يؤكّد المعنى المتعارف بين المسلمين، والمستند إلى انتهاء النبوّة ببعثة رسول الإسلام.(2)وأما إذا ادعوا - بعد هذا - أنّ المراد من مفردة «خاتم»في الآية الأربعين من سورة الأحزاب ليس هو المعنى الأصلي، وجب القول: إنّ استعمال الكلمة في غير معناها الحقيقي يحتاج إلى شاهد أو قرينة؛ غير أنّ هذه الآية لم تتضمن أي قرينة تدلّ على استعمال هذه الكلمة في غير معناها الحقيقي.

أما بخصوص ما يتعلّق بمدّعى التفصيل بين معنى «النبي» ومعنى«الرسول» فيجب الالتفات إلى أنّ كلمة «النبي» في عبارة «خاتم النبيّين» قد جاءت بمعنى الشخص المرسل بخبر من عند اللّه سُبحَانَهُ وَتَعَالى ؛ سواء كان هذا الشخص ممن له شريعة مستقلة أم لا، كما أنّ هذه الصفة مختصة بالأنبياء دون غيرهم، وأمّا كلمة «رسول» فقد أطلقت

ص: 266


1- الخاتمية،روحي روشني،الفصل الأول، ص33. فرائد،أبو الفضل كلبايكاني،ص 35.درج لآلئ الهداية، إشراق خاوري،تبيان وبرهان،أحمد أحمدي.
2- مقاييس اللغة، ج 2، ص 245.راجع أيضاً: لسان العرب، ج 4 ،ص 25.قد جاء في مقاييس اللغة: «فأما الختم وهو الطبع على الشيء فذلك من الباب أيضاً؛ لأنّ الطبع لا يكون إلا بعد بلوغ آخره في الإحراز، والخاتم مشتق منه [الختم] لأنّ به يختم ويقال: الخاتم [بالكسر]والخاتام والخيتام...».

أيضاً على الملائكة حاملي الوحي من قبيل جبرائيل(1)،أي إنهم مكلّفون بإبلاغ الوحي فقط، وليسوا مرسلين بخبر من عند اللّه تعالى. كما ورد في القرآن الكريم إطلاق كلمة«رسول»على عدد من الأنبياء الإلهيين ممن لم يكن لهم شريعة مستقلة(2).

بناءً على هذا، لا يتمّ ما تشبّث به البهائيون وعدّوه دليلاً، ولا يكفي لإثبات مدّعاهم؛ فعبارة «خاتم النبيين» لا تعني شيئاً غير المعنى المعتمد في دين الإسلام؛ ولا يرد على القول بذلك المعنى أيّ نقد أو إشكال؛ فلا فرق بين ختم النبوة وانقطاع ابتعاث الرسل.

4/6/17. الرابعة: التقليل من قدر الوحي وجعله في مصاف التجربة الدينية:

الوحي حقيقة لا يفقه كنهها العينيّ إلا الأنبياء الإلهيون؛ فهي من مدركات العلم الحضوري بالنسبة لهم. أما الآخرون فيصلون إلى إدراك الوحي بتوسط تبيين الأنبياء، فيسعون إلى الوقوف على حقيقته من خلال العلم الحصولي مستعينين في ذلك بالمعايير العقلانية الدقيقة.

وقد عمد بعض الكتّاب - من خلال استعراضهم نظرية التجربة الدينية -إلى الحطّ من مكانة الوحي إلى أنّ جرّوه إلى مقام التجربة الباطنية والحالات النفسية التي تعرض للمرء، وادعوا أن من الممكن أن تعرض مثل هذه الحالات للناس الاعتياديين من غير الأنبياء.

وبناءً على ما تقدّم، استنتجوا خطئية المعنى الذي يُفسّر ختم النبوّة بانقطاع الوحي لإمكان أن يصل بعض الناس - بعد بعثة رسول الإسلام - إلى هذه الحالة، وأن يقدموا للبشريّة أموراً يصدق عليها أنها من التجربة الدينية.

ص: 267


1- سورة التكوير،الآية: 19.
2- سورة الصافات،الآيات: 123 و 133 و 139. وسورة مريم، الآية: 54.

وعلى أساس هذه الدعوى، يكون الفارق الوحيد بين رسول الإسلام وغيره من الناس أنهم ممنوعون عن التشريع للآخرين؛ وإلا فإنّ طريق التجربة الدينية ما زال مفتوحاً.

وهذه النظرية التي هي التي آمن بها شلاير ماخر،وبرغسون، وجون هيك، وآخرون غيرهم(1).تقول هذه النظرية:

الفارق الوحيد بين نبي الإسلام وسائر الأنبياء يكمن في أنه قد قدّم لمن أرسل لهم بالدعوة كلّ تجربته الباطنية، وأنّ الأمم التي جاءت بعد عصره واجهت تلك التجربة الباطنية التي أودعها رسول الإسلام في أمته من دون أن تمسها يد التفسير والتأويل؛ لأنّ تلك الأمم حصلت على القرآن الكريم. فالسر الذي يقف وراء خاتميّة نبي الإسلام -حسب هذه الرؤية - هو أن وحيه قد وضع بين أيدي الناس بلا تفسير، وأن مهام تفسيره قد أوكلت للناس!(2)ويصرح أصحاب هذه النظريّة أنّ استدامة الوحى من خلال تفسيره وبيانه هو حجر الزاوية في خاتميّة نبی الإسلام(3).

وبعبارة أخرى: ذهب بعض أصحاب هذه النظرية إلى أن ختم النبوّة وصف للنبيّ ؛ لا للدين. فالدين - منذ أوّل الأمر - كان دين النبي الخاتم، وقد جاء التصريح بهذا في القرآن الكريم في الآية الثالثة عشر من سورة الشورى،وفي الآية السابعة والستين من سورة آل عمران(4).

ص: 268


1- راجع: نقد نظرية بسط التجربة النبوية،علي الرباني الكلبايكاني،ص 9 - 14؛العقل والاعتقاد الديني، ص 41- 42 ؛فلسفه دين،جون هيك،ص 288 - 289( النسخة الفارسية).
2- أرحب من الإيديولوجيا،عبد الكريم سروش،ص 77 .
3- أرحب من الإيديولوجيا، عبد الكريم سروش،ص 78.
4- بسط التجربة النبوية،عبد الكريم سروش، ص 118.

وبناءً على ما ذهبت إليه هذه النظرية، فالوحي نتاج التجربة الشخصية للرسول،وأما وضعه في متناول يد الآخرين فهو نابع من شجاعة الرسول، وقدرته الهائلة.

وقد ادّعى صاحب هذه الرؤية تعدّد التجارب الدينية وتنوّعها، وضربوا لذلك بعض الأمثلة؛ منها : المعراج، ورؤية الحور العين وتلقي اللطف المعنوي . أما تجارب الأنبياء فهي أكثر من ذلك. ومن ثَمَّ: فإنّ الفارق الأساس بين التجارب الدينية عند الأنبياء والتجارب الدينية عند من دونهم يكمن في كون تجارب الأنبياء متعدّية؛ بمعنى أنها تتسبب في حصول التكليف، كما أنها تحثّ على العمل(1).

وأضاف قائلاً: «إن مفهوم الولاية التشريعيّة - التي هي في الحقيقة جوهر النبوّة التقنينية - أمر مشابه لما ذكرنا ؛ فالنبي ولي اللّه والولاية تعني كونه هو بنفسه حجّة لأوامره وأقواله ولا شكّ في كون اعتبار فرد ما تجربته الشخصية محصلة للتكليف لغيره ؛ ليقوم من خلال هذا الطريق وبواسطة هذا المستند بإعمال التصرف في أرواح غيره ،واعتقاداتهم وأموالهم وسعادتهم أمراً في غاية الصعوبة. ويتطلب صلابة وشجاعة كبرى ؛ فهذه هي الشهادة على النبوّة، والنبوّة بهذا المعنى قد ختمت»(2).

ويواصل حديثه قائلاً: «ولن يظهر من بعد رسول الإسلام أي شخص يتمتّع بشخصيّة تتضمّن من الجانب الدينيّ صحّة كلامه وحسن سلوكه، ويمكنه أن يأتي بالتكليف للآخرين. لكن - وبكل تأكيد - ما زال إمكان حصول التجارب الدينية موجوداً و القدرة على سبر الأسرار لن تختم قط ؛ فالعالم دائماً و أبداً في ضيافة أولياء اللّه»(3).

ويجب أن نلتفت هنا إلى أنّ التقليل من قدر الوحي وجعله في مصاف التجربة

ص: 269


1- المصدر نفسه، ص 133.
2- بسط التجربة النبوية، عبد الكريم سروش،ص 133.
3- المصدر نفسه، ص 133.

الدينيّة أمر لا يمكن قبوله تحت أيّ عنوان؛ فالمعيار في التجربة الدينيّة هو التجربة والحالات النفسيّة للفرد، ومن ثمّ كلماته، والأشخاص الآخرون لا يستطيعون إدراك المفاهيم إلا من خلال كلمات الشخص الذي جرّبها نفسه. كما أنّ بيان معنى الوحي - بحسب رؤية القرآن الكريم - يختلف تماماً مع ما ذكرته هذه

النظرية؛ لما يأتي:

أوّلاً: أنّ الفيض الإلهي هو محور الوحي، ومنبعه، ومعياره؛ لا نفس الشخص صاحب التجربة !

ثانياً: أن الشخص المتلقي للوحي هو فقط مستقبل للوحي؛ وليس سبباً في طروء حالات تؤدّي إلى التجربة الدينية.

فنظريّة التجربة الدينية - إذن - تتعارض بوضوح مع آيات القرآن الكريم؛ لأنّ نصّ القرآن الكريم قد صرّح بعدم تأدية شخص الرسول أيّ دو أساسيّ في نفس حصول الوحي؛ بل ورد في القرآن التهديد والوعيد له في حالة تغيير محتوى الوحي والآيات الآتية من سورة الحاقة تبين هذا التهديد بكلّ وضوح:

(وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ 44 لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ 45 ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ 46 فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ 47 وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةً لِلْمُتَّقِينَ 48 ).

والآيات الآتية من سورة النجم تصرح أيضاً بحقيقة كون جميع ما يقوله رسول اللّه هو الوحى بعينه ؛ لا أنّه حاصل تجربته النفسيّة؛ يقول تعالى :

( وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى 1 مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى 2 وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى 3 إِنْ هُوَ

ص: 270

إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى 4 عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى 5 ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى 6 وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَ 7 ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى : فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى 9 فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى 10 مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى 11 أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى 12 ... مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى 17 لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى 18 ).

وبهذا، يتضح أنّ نظريّة التجربة الدينيّة لا تمثّل أكثر من شبهة تُضاف إلى مجموعة شبهات أخرى ترد في نطاق البحث والتحقيق الديني هذا، فضلاً عن كونها مستوردة من الغرب، وأنها تتعارض مع مفاد القرآن الكريم.

ص: 271

هذا الكتاب

لا تتوقف شآبيب الرحمة والعناية الربانية عن الهطول عن كل الخليقة ، لا سيّما على عباد الله الباحثين عنه

،والتائقين إلى معرفته ، وما هو اللطف الإلاهي يغمرني مرّة أخرى، حيث وفقني اللّه عز وجل لإتمام كتابة الجزء الثاني من الكلام الإسلامي المعاصر ن لأضعه بين أيدي القراء والمهتمين .

من المعلوم عند القارئ الكريم أنّ الكلام الإسلامي المعاصر يسعى لعرض الأبحاث القديمة والجديدة

لعلم الكلام الإسلامي بمنهج معاصر، وشاكلة حديثة هادفاً إلى الحدّ من ظاهرة التفكيك بين الكلام القديم

( التقليدي ) والكلام الجديد، وإلى إعادة صيغة جميع الأبحاث الكلاميّة القديمة والجديدة في مكانة وقولبة

منطقيّة، وفي ضمن منظومة ممنهجة ومنضبطة.

المركز الهام للرامات الا الحين

http://www.iicss.iq

islamic.css@gmail.com

ص: 272

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.