ینابیع الأحکام في معرفة الحلال و الحرام المجلد 5

هوية الكتاب

بطاقة تعريف:قزویني، علي بن اسماعیل، 1237 - 1298ق.

عنوان المؤلف واسمه:ینابیع الاحکام في معرفة الحلال و الحرام/ تالیف علي الموسوي القزویني ؛ تحقیق علي العلوي القزویني.

تفاصيل النشر:قم: جامعة المدرسین في الحوزة العلمیه بقم، موسسه النشر الاسلامي، 1424ق.-= 1382 -

مواصفات المظهر:5ج.

فروست:موسسه النشر الاسلامي التابعه لجماعة المدرسین بقم المشرفه؛ 1075، 1076، 1079.

ISBN:دوره 978-964-470-077-4 : ؛ 46000 ریال : ج.1: 964-470-077-5 ؛ 105000 ریال: ج. 5 : 978-964-470-850-3 ؛ ج. 2 978-964-470-847-3 :

لسان:العربية.

ملحوظة:محقق جلد پنجم عبدالرحیم الجزمئی القزوینی است.

ملحوظة:ج. 2 (چاپ اول: 1432 ق.= 1390) (فیپا).

ملحوظة:ج. 5 (چاپ اول: 1429ق. = 1387).

ملحوظة:کتابنامه.

موضوع:فقه جعفری -- قرن 13ق.

الحلال والحرام

طهارت

معرف المضافة:علوي قزویني، علي، محقق

معرف المضافة:جزمئي قزویني، عبدالرحیم

معرف المضافة:جامعة المدرسین في الحوزة العلمیه بقم. موسسه النشر الاسلامي

تصنيف الكونجرس:BP183/3/ق4ی9 1382

تصنيف ديوي:297/342

رقم الببليوغرافيا الوطنية:1 1 4 1 6 5 0

ص: 1

اشارة

ینابیع الاحکام فی معرفه الحلال و الحرام

تالیف علی الموسوی القزوینی

تحقیق علی العلوی القزوینی.

ص: 2

كتاب المتاجر

اشارة

ص: 3

الحمد للّٰه ربّ العالمين و صلّى اللّٰه على محمّد و آله الطاهرين، و لعنة اللّٰه على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

كتاب التجارة

[في معنى التجارة و أقسامها]

و اعلم أنّ «التجارة» كالكتابة مصدر ثانٍ يقال: تجر يتجر بالضمّ تجراً و تجارة، قيل كما عن ابن فارس في مجمل اللغة(1) «إنّه لم يوجد في كلام العرب لفظ اجتمع فيه التاء الأصلي مع الجيم مقدّماً عليه إلّا هذه المادّة، و أمّا التاء الغير الأصلي فاجتماعه مع الجيم كثير، و منه تجربة و تجري و تجعل و ما أشبه ذلك».

و اعترض عليه كما عن المصباح المنير(2) بمنع الانحصار، لورود رتج و نتج أيضاً: يقال رتج الباب أي سدّه، و نتجت الناقة أي ولدت.

و التجارة ورد في استعمال العرب ملكة و هي الصناعة المعروفة الّتي يقال لصاحبها: «التاجر» و هو معروف، و حالاً و هو فعل البائع أو المشتري في مقام البيع و الشرى، يقال: فلان يتجر في المال الفلاني أو في مال الطفل.

و قيل: إنّها مشتركة بينهما، و ليس ببعيد، لتبادر أحد المعنيين عند الإطلاق، و استقراء استعمالات العرف، و ظاهر كلام أئمّة اللغة حيث إنّهم بين من فسّرها بالصناعة و من فسّرها بالفعل.

و محلّ البحث هو الثاني، و هو بهذا المعنى لغة - على ما يظهر من كلمات أهل اللغة

ص: 4


1- المجمل 145:1.
2- مصباح المنير: 80 (تجر).

و عبارات أصحابنا(1) الفقهاء في هذا المقام و في باب زكاة مال التجارة و صرّح به السيّد قدس سره في الرياض(2) - «الكسب» و هو التحصيل لا مطلقاً لينتقض في طرده بتحصيل العلم و نحوه الّذي يطلق عليه الكسب دون التجارة، بل تحصيل المال لا مطلقاً لينتقض أيضاً بنحو الاحتطاب و الاحتشاش لعدم وقوع التجارة عليه بل تحصيله ببيع و اشتراء من صاحب الصناعة المعروفة أو غيره ممّن شأنه البيع و الاشتراء كأهل السوق الّذين يشتغلون أنواع المكاسب على اختلاف أصنافهم. و في صدقها على فعل من يبيع أو يشتري أحياناً من دون أن يكون شغله ذلك تأمّل بل منع، لعدم مساعدة العرف عليه.

و لكنّ المراد بها هنا ما يعمّه أيضاً، فلا يعتبر في موضوع البحث هنا حصولها من صاحب ملكة الصناعة و لا ممّن يكون شغله البيع و الشرى، و لا يعتبر أيضاً حصولها بقصد الاسترباح و هو طلب الزيادة في أصل المال، بخلاف ما هو موضوع كلامهم في زكاة مال التجارة، بل ينبغي القطع بعدم كون موضوع الكلام مقصوراً على ما لو حصل الاكتساب بعقد البيع بل أعمّ منه و ما لو حصل بعقد الصلح و عقد الإجارة، و لذا يذكرون في مباحث الباب حرمة عمل الصور المجسّمة، و إجارة المسكن لعمل الخمر، و السفينة أو الدابّة لحمل الخمر، و التكسّب بالواجبات و أخذ الاُجرة عليها، فمورد التجارة بالمعنى المبحوث عنه أعمّ من العين و المنفعة.

و من أغلاط المقام ما في مجمع البحرين في تفسير التجارة من «أنّها بالكسر انتقال شيء مملوك من شخص إلى آخر بعوض مقدّر على جهة التراضي»(3) لقضائه بكونها صفة لمورد التجارة لا فعلاً للتاجر، فيخالف كلام أهل اللغة و كلام الفقهاء المفيدين لكونها فعلاً للتاجر، و لذا قال في القاموس: «التاجر الّذي يبيع و يشتري»(4).

ثمّ التجارة بالمعنى المذكور يرادفها متجر بناءً على كونه مصدراً ميميّاً كما احتمله في جامع المقاصد(5) و يجوز كونه اسم مكان و هو محلّ التجارة من الأعيان و المنافع،

ص: 5


1- كما في المعتبر 548:2، المسالك 164:1، التنقيح الرائع 3:2.
2- الرياض 129:8.
3- مجمع البحرين 218:1.
4- القاموس المحيط 379:1.
5- جامع المقاصد 379:1.

و جمعه متاجر، و في معناها مكاسب، و كونهما في عنوان قولهم كتاب المتاجر أو المكاسب عبارتين عن الفعل و جمعه حينئذٍ لكثرة مورده و متعلّقه من الأعيان و المنافع، أو عن نفس المورد و المتعلّق من الأعيان و المنافع المكتسب بهما وجهان، و لعلّه يختلف باختلاف مشاربهم في جعل عقد البيع و غيره من عقود المعاوضة من مباحث هذا الباب كما صنعه في الشرائع(1). و عدمه كما في غيره(2).

ثمّ في قواعد العلّامة(3) كما عن جماعة(4) تقسيم التجارة إلى محرّمة و مكروهة و مباحة و واجبة و مستحبّة، و هذا التقسيم حيث أخذت التجارة مورد القسمة على القاعدة، و لا يتوجّه إليه مناقشة، لأنّ الأحكام الخمس المذكورة من عوارض فعل المكلّف و التجارة منه فتقبل الانقسام إلى الخمسة.

و من المحرّم: التكسّب بالأعيان النجسة كالخمر و الميتة، و من المكروه: بيع الأكفان و التكسّب بها، و من المباح: بيع الأملاك و الأموال المملوكة إذا فرض تساوي طرفيه و خلوّهما عن الرجحان و المرجوحيّة، و من الواجب: بيع ما يضطرّ الإنسان إلى بيعه من أملاكه لمئونة نفسه و مئونة عياله و في أداء حقّ واجب عليه من دَين آدمي أو غيره، و من المستحبّ : بيعه للتوسعة على عياله أو للصرف في جهات الخير.

و لكن في الشرائع(5) بعد ما أخذ مورد القسمة ما يكتسب به من العين و المنفعة قسّمه إلى المحرّم و المكروه و المباح، و أهمل ذكر الواجب و المستحبّ . و نحوه صنع في اللمعة(6) إلّا أنّه عبّر عن المقسم بموضوع التجارة مهملاً للواجب و المستحبّ . و اعتذر له في الروضة(7) بأنّ الوجوب و الندب من عوارض فعل المكلّف الّذي منه التجارة فلا يعرضان موردها من العين و المنفعة.

و يمكن الاعتراض عليه بعدم صحّة الفرق بين الثلاثة و الاثنين في اللحوق بالعين و المنفعة على تقدير، و عدم اللحوق بهما على تقدير آخر، لأنّه إن اُريد من عدم

ص: 6


1- الشرائع 9:2.
2- كما في التذكرة 5:10.
3- القواعد 5:2.
4- المستند 9:14، جامع المقاصد 6:4، إيضاح الفوائد 400:1، المهذّب 234:2، التنقيح 4:2.
5- الشرائع 9:2.
6- اللمعة: 61.
7- الروضة 308:1.

عروض الوجوب و المنفعة أنّهما لكونهما تكليفين من عوارض فعل المكلّف فلا يلحقان العين و المنفعة أوّلاً و بالذات و على وجه الحقيقة فكذلك الثلاثة لاشتراكها لهما في صفة التكليف و كونها من عوارض الفعل.

و إن اُريد من لحوق الثلاثة لهما أنّها يلحقانهما بواسطة ما يضاف إليهما من فعل المكلّف كالاكتساب فيما نحن فيه، و المعروض الواقعي لها هو ذلك الفعل، فمعنى حرمة ما يكتسب به من العين و المنفعة أو كراهته أو إباحته حرمة الاكتساب بهما أو كراهته أو إباحته فكذلك الوجوب و الندب فيجوز لحوقهما للعين و المنفعة باعتبار ما يضاف إليهما من الاكتساب، فهو المعروض الواقعي. و معنى وجوب ما يكتسب به من العين و المنفعة أو ندبه حينئذٍ وجوب الاكتساب بهما أو ندبه، فالفرق تحكّم و المنع من لحوقهما لهما مع تسليم لحوق الثلاثة مكابرة.

و لكنّ الإنصاف أنّ الصحيح بعد جعل مورد القسمة ما يكتسب به من الأعيان و المنافع هو ما صنعه المحقّق(1) و الشهيد(2) من الاقتصار في التقسيم على الثلاثة و إسقاط الواجب و المستحبّ ، فإنّ المراد من المقسم حينئذٍ الأعيان و المنافع الّتي يلحقها لعناوينها الكلّيّة المنضبطة الأحكام التكليفيّة و لو مجازاً من باب الإسناد المجازي، و هي بهذا المعنى منحصرة في الثلاثة غير قابلة للانقسام إلى الواجب و المندوب أيضاً. و ما قد يرى في بعض الأحيان من وجوب بيع بعض الأعيان أو ندبه كذلك فهو من عوارض الشخص لا من لواحق العنوان كما هو واضح، نعم على طريقة من جعل التجارة مورداً للقسمة فالتقسيم إلى الخمسة في محلّه، و لذا استحسن في المسالك(3) كلا التقسيمين.

ثمّ إنّه قد عرفت أنّ محلّ التجارة المحرّمة بل المكروهة أيضاً يعمّ الأعيان و المنافع، و هل يعمّ الحقوق القابلة للتعويض بعقد الصلح كحقّ الشفعة و حقّ الخيار و نحوه بأن يقول: «صالحتك عن هذا الخمر أو عن هذا الخنزير بحقّ شفعتك أو بحقّ خيارك» أو يقول: «صالحتك عن حقّ شفعتي أو عن حقّ خياري برطل من الخمر أو

ص: 7


1- الشرائع 9:2.
2- اللمعة: 61.
3- المسالك 118:3.

بهذا الخنزير» فيندرج نحو هذا أيضاً في التجارة المحرّمة أم لا؟ لم نقف في كلامهم على تصريح في ذلك، إلّا أنّ المستفاد من فحاوي عباراتهم و مساق استدلالاتهم على المنع بل عموم بعض الأدلّة المقامة عليه هو العموم.

ثمّ من الظاهر أنّ مورد التجارة إذا كان من الأعيان المحرّمة أو المكروهة لا يتفاوت الحال في الحرمة أو الكراهة بين ما لو اعتبرت العين المحرّمة أو المكروهة أحد العوضين أو كليهما لوحدة المناط و عموم الأدلّة.

ثمّ إنّه قد يقال: إنّ المراد من حرمة الاكتساب حرمة النقل و الانتقال بقصد ترتّب الأثر. و لم أتحقّق معناه، فإن اُريد به أنّ العقد في محلّ التحريم يفيد نقلاً و انتقالاً في العين أو المنفعة و التحريم إنّما هو في ذلك النقل و الانتقال و هو الأثر المترتّب على العقد على معنى أنّ المحرّم هو الأثر، ففيه: أنّه خلاف ما اتّفقت عليه كلمتهم صراحةً و ظهوراً من فساد العقد في محلّ التحريم، و في إجماعاتهم المنقولة ما هو صريح في ذلك أيضاً، كما في كلام العلّامة في التذكرة في شرائط البيع حيث قال: «يشترط في المعقود عليه الطهارة الأصليّة، فلو باع نجس العين كالخمر و الميتة و الخنزير لم يصحّ إجماعاً»(1)فلا يترتّب على العقد في محلّ التحريم أثر النقل و الانتقال حتّى يكون هو المحرّم.

فمعنى حرمة التجارة أو الاكتساب هاهنا حرمة أصل العقد على الأعيان المحرّمة أو حرمة المعاوضة و المبادلة الواقعة بين المتعاقدين بذلك العقد.

و يمكن إرجاع كلام القائل إلى هذا المعنى بأن يراد من النقل و الانتقال الصوري منهما أعني المعاوضة بذاك العقد المستتبعة لدفع كلّ من المتعاقدين لما بيده إلى صاحبه، لا النقل و الانتقال المعنويّ الّذي هو أثر للعقد، و معناهما إخراج المالك ما في يده من ملكه و إدخاله في ملك صاحبه و خروج كلّ من العوضين عن ملك مالكه و دخوله في ملك غيره، و يحتمل أن يكون النقل و الانتقال في كلامه كناية عن العقد الّذي يفيدهما بنوعه و إن لم يفد في خصوص المورد تسمية للمؤثّر باسم الأثر.

ثمّ القدر المتيقّن من معقد التجارة المحرّمة إنّما هو عقود المعاوضة بحسب الأصل

ص: 8


1- التذكرة 25:10.

كالبيع و الإجارة و الصلح في وجه. و في عموم الحرمة للعقود الملحقة بعقود المعاوضة و إن لم يكن مبنى مشروعيّتها بحسب الأصل على التعويض - كالهبة المعوّضة، و النكاح المشتمل على المهر عوضاً عن البضع، و الخلع المتضمّن لما تبذله الزوجة عوضاً عن الطلاق، و المكاتبة المطلقة أو المشروطة، و الوكالة المشترط فيها الجعل للوكيل - وجهان: من ظهور التجارة و الاكتساب في عقود المعاوضة، و من قوّة احتمال كون المراد بهما جعل هذه الأشياء أعواضاً و لو فيما يشتمل على العوض الجعلي. و في عمومه لعقود الغير المعاوضة الصرفة - كعقد الرهانة و عقد الوديعة و عقد العارية و عقد الضمان و الوكالة و العارية و الوصيّة و ما أشبه ذلك - احتمال، مبنيّ على أن يكون ذكر التجارة و الاكتساب في عناوين الباب و مطاويّ مباحثه مثالاً، و إلّا فالمناط هو أن يتعامل مع هذه الأشياء معاملة الأملاك و الأموال المملوكة المباحة، سواء كان ذلك بجعلها أعواضاً في المعاوضات الأصليّة أو الجعليّة، أو بجعلها موارد في العقود المتعارفة و لو من غير جهة التعويض، و تحقيق هذه المراتب يطلب من مطاويّ مباحث الباب.

و على أيّ حال فينبغي القطع بعدم كون معقد كلامهم الّذي هو موضوع الحكم و مورد الأدلّة أمراً لفظيّاً - و هو مجرّد إجراء العقد اللفظي و لو بغير العربي لينتقض بما لم يكن هناك عقد لفظي أصلاً - بل أمر معنوي و هو المعاوضة و التعويض بهذه الأشياء أو مطلق المعاملة عليها كالمعاملة على الأموال المملوكة المباحة و إن لم يشتمل على عقد لفظي، فيعمّ البحث لمعاطاة كلّ معاملة و يجري الحكم فيه جزماً لعموم الأدلّة. ثمّ الأشياء المبحوث عنها في التجارة المحرّمة من الأعيان و المنافع أنواع تذكر في أبواب

ص: 9

الباب الأوّل في الأعيان النجسة

اشارة

و يراد بها هنا ما يعمّ النجاسة الذاتيّة الّتي هي تابعة للذات، و لا تزول عنها بغير الاستحالة و الاستهلاك، و العرضيّة الحاصلة بالملاقاة مع عدم قبول التطهير بغير الاستحالة و الاستهلاك، كالمايعات المتنجّسة من الدبس أو العصير أو اللبن أو الزيت أو الدهن أو غير ذلك ممّا كان طاهر الأصل و لذا عبّر عنها في الشرائع(1) بالأعيان النجسة «كالخمر و الأنبذة و الفقّاع و كلّ مائع نجس عدا الأدهان لفائدة الاستصباح تحت السماء و الميتة و الدم و أرواث و أبوال ما لا يؤكل لحمه و الخنزير و جميع أجزائه و جلد الكلب و ما يكون منه» و صرّح بالتعميم في القواعد و غيره(2) قائلاً: «الأوّل، كلّ نجس لا يقبل التطهير سواء كانت نجاسته ذاتيّة كالخمر و النبيذ و الفقّاع و الميتة و الدم و أبوال ما لا يؤكل لحمه و أرواثها و الكلب و الخنزير و أجزائهما، أو عرضيّة كالمايعات النجسة الّتي لا تقبل التطهير إلّا الدهن النجس لفائدة الاستصباح به تحت السماء خاصّة»(3).

و قال المحقّق الثاني في شرح العبارة: «و أراد بالنجس ما كان عين نجاسة أو متنجّساً بإحدى الأعيان النجسة، و لذا قسّمه إلى ما نجاسته ذاتيّة و نجاسته عرضيّة و غاية ما فيه أن يريد باللفظ حقيقته و مجازه معاً الخ»(4).

و فيه ما لا يخفى لابتناء نسبة إرادة الحقيقة و المجاز معاً على حدّ الاستعمال في المعنيين على مقدّمتين: كون لفظ «النجس» لغةً لخصوص ما نجاسته ذاتيّة، و كون

ص: 10


1- الشرائع 9:2.
2- كما في التحرير 257:2.
3- القواعد 6:2.
4- جامع المقاصد 12:4.

إرادتهما من اللفظ على البدل بالمعنى المقرّر في الاُصول، و كلّ موضع منع، أمّا الاُولى:

فلظهور كون لفظ النجس بحسب العرف الكاشف عن صدر اللغة لما يعمّ الذاتيّة و العرضيّة و لذا جعله في القاموس مع مرادفاته «كالنَّجس بالفتح فالسكون و النجسْ بالكسر فالسكون و النجَس بفتحتين و النجس بالفتح و الضمّ ضدّ الطاهر»(1) و الظاهر أنّ الطاهر هو الذات المتّصفة بالطهارة، فالنجس هو الذات المتّصفة بالنجاسة و هذا معنى عامّ . و أمّا الثانية: فلجواز كون المراد هذا المعنى العامّ الجامع بين المعنيين من باب عموم المجاز، و على أيّ حال كان فجهات الكلام في الأعيان النجسة كثيرة، فيتكلّم تارةً في جواز التكسّب بها بجعلها أعواضاً في عقود المعاوضة و غير [ها] ممّا يلحق بها و عدمه، و اُخرى في جواز المعاملة عليها بغير التعويض و عدمه، و ثالثة في جواز الانتفاع بها و عدمه، و رابعة في تملّك المسلم لها على معنى دخولها في ملكه بشيء من الأسباب المملّكة و عدمه، و حيث بنينا على المنع في جميع الجهات كان ذلك المنع على وجه القاعدة الكلّيّة، و هي قابلة للتخصيص فنتبعها بالتعرّض لبيان ورود تخصيص على القاعدة في الأحكام المذكورة و عدمه، و بيان ما خرج بالتخصيص و تعيين القدر المخرج على تقدير ثبوت التخصيص.

أمّا الجهة الاُولى: فالمعروف المشهور بين الأصحاب شهرة محكيّة و محقّقة عظيمة قريبة من الإجماع عدم جواز التكسّب بها مطلقاً، على معنى تحريم المعاوضة بل مطلق المعاملة عليها بحيث يستحقّ العقوبة عليها و إن فرض لها نفع محلّل مقصود للعقلاء، كما هو قضيّة إطلاقهم المنع بل هو المصرّح به في كلام السيّد رحمه الله في المصابيح(2) مع دعوى الإجماع عليه. و لم نقف من الأصحاب على قائل بالجواز بقول مطلق و لا على نقله. نعم عن المحدّث الكاشاني(3) القول بالجواز إن اشتملت على منفعة محلّلة، و عن المقدّس الأردبيلي(4) و الفاضل الخراساني(5) في الكفاية الميل إليه، و زيّفه السيّد المتقدّم بأنّه شاذّ ضعيف، و وجهه سبق إجماع الأصحاب على ظهور هذا الخلاف.

ص: 11


1- القاموس المحيط 253:2 (نجس).
2- المصابيح: 4.
3- المفاتيح 51:3.
4- مجمع الفائدة 28:8.
5- الكفاية: 252.

و قد تظافرت الإجماعات المنقولة على المنع بقول مطلق، ففي التذكرة «الكلب إن كان عقوراً حرم بيعه عند علمائنا»(1) و في موضع آخر منه «لا يجوز بيع السرجين النجس إجماعاً منّا»(2).

و عن المنتهى «إجماع المسلمين كافّة على تحريم الخمر و الميتة و الخنزير».

و عن موضع آخر منه «إجماع علمائنا على تحريم بيع الكلاب عدا الأربعة»(3).

و عن النهاية «الإجماع على تحريم بيع الخمر و العذرة و الدم»(4).

و عن الخلاف «إجماع الفرقة على تحريم بيع الخمر و السرجين النجس و الكلب عدا كلب الصيد»(5).

و عن المبسوط «الإجماع على تحريم بيع الخنزير و إجارته و اقتنائه و الانتفاع به»(6).

و عن الحلّي في السرائر «بيع الخمر للمسلم حرام و ثمنه حرام و جميع أنواع التصرّفات فيه حرام على المسلمين بغير خلاف بينهم» و قال أيضاً: «حكم الفقّاع حكم الخمر لا يجوز التجارة به و لا التكسّب به بغير خلاف بين فقهاء أهل البيت»(7).

و عن الانتصار «إجماع الفرقة على تحريم الفقّاع و تحريم ابتياعه»(8) و جعل القول به ممّا انفردت به الإماميّة.

و هذه الإجماعات و إن نقلت على موارد خاصّة لا على الأعيان النجسة بعنوانها الكلّي إلّا أنّه يمكن التعميم بجعل الاقتصار في معاقدها على البعض وحدانيّاً أو ثنائيّاً أو ثلاثيّاً مثالاً، أو أنّه يستفاد منها على كثرتها و اختلاف معاقدها عيناً و عدداً وقوع الإجماع المشترك بينها على الجميع، أو أنّه إذا ثبت الحكم بها في الموارد الخاصّة يتمّ في غيرها بالإجماع المركّب و عدم القول بالفصل، فهي مع الضميمة تفيد عموم المنع على وجه يحصل بها خصوصاً مع اعتضادها بالشهرة العظيمة بقسميها الظنّ الاطمئناني بالمنع و هو الحجّة مضافاً إلى النصوص الآتية.

ص: 12


1- التذكرة 26:10.
2- التذكرة 31:10.
3- المنتهى 1008:2-1009.
4- نهاية الإحكام 463:2.
5- الخلاف 182:3-185.
6- المبسوط 166:2.
7- السرائر 218:2-219.
8- الانتصار: 418.

و قد يستدلّ بعدّة من الآيات:

منها: قوله تعالى و «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةُ وَ اَلدَّمُ وَ لَحْمُ اَلْخِنْزِيرِ» (1) بتقريب أنّ التحريم المتعلّق بالأعيان يعمّ جميع أنواع التصرّف و الانتفاع و منها التجارة و التكسّب بها.

و فيه: أنّه في كلّ عين - على ما حقّق في الاُصول - ينصرف إلى الجهة المقصودة منها في الغالب، كالأكل في المأكول كما في الأمثلة المذكورة، و الشرب في المشروب كالخمر، و الوطء في الموطوء كما في «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهٰاتُكُمْ » (2) الآية.

و منها: قوله تعالى أيضاً في الخمر: «رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطٰانِ فَاجْتَنِبُوهُ » (3) بتقريب أنّه تعالى أوجب الاجتناب عن الخمر لكونه رجساً، و هو لا يتحقّق مع التصرّف فيه بالتجارة فيجب اجتنابها.

و فيه: أنّه لا يتمّ إلّا على تقدير حمل الرجس على إرادة النجاسة الشرعيّة، و هو موضع منع.

و دعوى: أنّ الرجس لغة القذر و المراد به النجاسة الشرعيّة، و يؤيّده ما عن الشيخ في التهذيب من «أنّ الرجس هو النجس بلا خلاف»(4) و كلامه يحتمل وجهين:

أحدهما: دعوى عدم الخلاف بين علماء اللغة في كون القذر في معنى الرجس هو النجس لغةً . و الآخر: دعوى عدم الخلاف بين علماء التفسير أو الفقهاء في أنّ المراد من الرجس في الآية هو النجس و إن لم يكن القذر في معناه هو النجس لغةً ، و أيّاً ما كان فالاستدلال ناهض على المطلوب، ثمّ يتمّ في غير الخمر بالإجماع المركّب و عدم القول بالفصل.

يدفعها أوّلاً: أنّ القذر في معنى الرجس بحسب اللغة أعمّ من النجاسة الشرعيّة و الخباثة المعنويّة الّتي ملاكها استنفار الطبع السليم و استقباحه، فالخبيث ما يستنفره الطبع السليم و يستقبحه فلِمَ لا يجوز أن يكون المراد به الخباثة المعنويّة، و يصدق على الخمر باعتبار كونه ممّا يستقبحه الشرع أو يستقبح شربه، و أيّ طبع سليم يكون أسلم

ص: 13


1- المائدة: 3.
2- النساء: 23.
3- المائدة: 90.
4- التهذيب 278:1.

من الشرع، و ربّما يشهد له ما عن مجمع البيان من «أنّ الرجس القذر»(1) و قد يعبّر عن الحرام و الفعل القبيح. و معنى كونه من عمل الشيطان أنّ اختراع الخمر كان من الشيطان أو أنّ شربه ينشأ من وسوسته و تسويله.

و ثانياً: أنّ في الآية قرينة تصرفه عن النجاسة الشرعيّة، و هو عطف الميسر و الأنصاب و الأزلام على الخمر، فإنّ الميسر عبارة عن آلة القمار كالنرد و الشطرنج و غيرهما، و في حديث عن الباقر عليه السلام «أنّه لمّا نزلت هذه الآية قيل: يا رسول اللّٰه ما الميسر؟ فقال: كلّ ما قومر عليه حتّى الكعاب و الجوز، قيل: فما الأنصاب ؟ قال:

ما ذبحوا لآلهتهم، قيل: فما الأزلام ؟ قال: قداحهم الّتي يستقسمون بها»(2).

و قيل في تفسير الأنصاب: «إنّها الأصنام كانت منصوبة حول البيت يذبحون عليها و يعدّون ذلك قربة»(3).

و الأزلام «جمع زلم بالفتح أو الضمّ كجُمل و صُرد و هي قداح لا ريش لها و لا نصل»(4) و القداح العشرة كانت معروفة في الجاهليّة، و كانت نوعاً من آلة القمار ثمّة، و قصّته معروفة مذكورة في كتب التفسير(5) و ورد بها رواية(6) و ظاهر أنّ النجاسة الشرعيّة لا تلائم شيئاً من ذلك، فلا بدّ و أن يحمل على معنى يلائم الجميع و هو الخباثة المعنويّة و لو مجازاً.

و أمّا ما تقدّم نقله عن الشيخ في التهذيب «من كون الرجس هو النجس بلا خلاف» فلم أتحقّق معناه مع القرينة المذكورة، فإن أراد به أنّ الرجس في الآية من حيث حمل على الخمر اُريد منه النجس و إن كان من حيث حمل على البواقي اُريد منه الخبيث، فيبطله الاستعمال في معنيين و هو غير سائغ.

و إن أراد أنّه بحمله في الآية على كلّ من الخمر و توابعه و هو متضمّن للإسناد،

ص: 14


1- مجمع البيان 478:3.
2- الوسائل 4/165:17، ب 35 ما يكتسب به، التهذيب 1075/371:6.
3- مجمع البحرين 316:3 (نصب).
4- مجمع البحرين 288:2 (زلم).
5- مجمع البيان 244:3.
6- تفسير عليّ بن إبراهيم 181:1.

و الرجس في الجميع اُريد منه النجس إلّا أنّه حيث اُسند إلى الخمر كان الإسناد حقيقيّاً، و حيث اُسند إلى توابعه كان الإسناد مجازيّاً لضرب من التشبيه في استقباح المتعلّق أو وجوب اجتنابه. ففيه: أنّ الإسناد الواحد لا يتحمّل وصفي الحقيقة و المجاز، و اعتبار التعدّد في الإسناد يؤدّي إلى الاستعمال في معنيين.

و إن أراد أنّ تعدّد المبتدأ ممّا يستدعي تعدّد الخبر فيقدّر لما عدا الخمر خبراً، فالرجس المذكور من حيث إنّه خبر للخمر اُريد منه النجس، و هذا لا ينافي أن يراد من الرجس المقدّر بالقياس إلى غيرها معنى آخر كالخباثة المعنويّة.

ففيه: أنّ التقدير خلاف الأصل، و تعدّد المبتدأ مع صلاحية الخبر للعود إلى الجميع لا يقضي بلزومه، و لو سلّم التقدير وجب اتّحاد المذكور و المقدّر في أصل المعنى.

و بالجملة دعوى عدم الخلاف في كون الرجس في الآية بمعنى النجس مع أنّه ليس له معنى محصّل - بملاحظة ما ذكرناه من وجود قرينة الخلاف - غير مسموعة.

و منها: قوله سبحانه أيضاً: «وَ اَلرُّجْزَ فَاهْجُرْ» (1) قال في القاموس: «الرجز القذر و عبادة الأوثان و الشرك و العذاب»(2) و إطلاق الرجس على الشرك و عبادة الأوثان مجاز يتوقّف على القرينة، و الحمل على العذاب في هذه الآية بعيد جدّاً، فينبغي حمله على المعنى الأوّل و هو المناسب لقوله: «وَ ثِيٰابَكَ فَطَهِّرْ» (3) و في تفسير عليّ بن إبراهيم «الرجز الخبيث»(4) و المحكوم بنجاسته شرعاً خبيث قذر فيجب هجره بمقتضى الأمر الّذي هو من التكاليف المشتركة دون الخواصّ ، و التصرّف بالتجارة و البيع و الشراء خلاف الهجر المأمور به فيكون محرّماً، هكذا قرّره في المصابيح(5).

و يرد عليه أوّلاً - بعد تسليم تعيّن الحمل على المعنى الأوّل و مجازيّة ما سواه غير العذاب - ما تقدّم من أنّ القذر أعمّ من النجاسة الشرعيّة و الخباثة المعنويّة فلم يتعيّن كون المأمور بهجرانه في الآية هو النجس، و لا يشهد له قوله: «وَ ثِيٰابَكَ فَطَهِّرْ» لما روي عن الصادق عليه السلام «أنّ معناه و ثيابك فقصّر»(6) ارشاداً له إلى التنزّه عن ملابس أهل الكبر

ص: 15


1- المدّثر: 5.
2- القاموس 176:2 (رجز).
3- المدّثر: 5.
4- تفسير عليّ بن إبراهيم 393:2.
5- المصابيح: 5.
6- الوسائل 10/41:5، ب 23 أحكام الملابس، مجمع البيان 385:5.

حيث كانوا في الجاهليّة يطيلونها حتّى تخطّ على الأرض و كان ذلك آية كبرهم، إلّا أن يقال: بأنّه لا حاجة إلى الاستشهاد به و لا إلى جعل الرجز بمعنى النجس. بل يكفي اندراج النجس في الرجز بمعنى الخبيث كما تقدّم الحمل عليه عن عليّ بن إبراهيم، فإنّ الأعيان النجسة أيضاً ممّا يستقبحه الطبع و لو بحسب طبع الشرع في بعضها.

و ثانياً: أنّ هجران الرجز بمعنى النجس لعلّه معتبر في الصلاة أو في مطلق مشروط بالطهارة من المأكول و المشروب و غيرهما، كما أنّ تطهير الثوب عن النجاسات معتبر في الصلاة و ليس واجباً في غير حالها بضرورة من الدين، و في رواية عن الصادق عليه السلام عن أمير المؤمنين عليه السلام «اغسل الثياب يذهب الهمّ و الغمّ ، و هو طهور للصلاة»(1) فلم يحصل الدلالة من الآية على تحريم التجارة.

و ربّما استدلّ أيضاً بعدّة روايات عامّيّة:

منها: قوله عليه السلام في حديث ابن عبّاس: «إنّ اللّٰه إذا حرّم شيئاً حرّم ثمنه»(2) استدلّ بها السيّد في المصابيح(3) على وجه الاعتماد، و يظهر الاعتماد عليها عن جماعة(4) من مشايخنا قدّس اللّٰه أرواحهم، و لعلّه لما استفادوه من كونها متلقّاة بالقبول عند جميع الأصحاب أو معظمهم أو جماعة من معتبريهم فإنّ كلّاً ممّا ذكر جابر لضعف السند لإفادته ظنّ الصدور و الوثوق به، و إن كان الأوّل كثيراً ما يوجب القطع به إلّا أنّه في خصوص المقام غير معلوم، كما أنّ الثاني أيضاً كذلك، و أظهر الاحتمالات هو الثالث لأنّهم نسبوا إيراد الرواية و الاستناد إليها إلى جماعة من معتبري أصحابنا كالشيخ و ابن إدريس و العلّامة و ابن فهد و ابن [أبي] جمهور في الخلاف(5) و المبسوط(6) و السرائر(7) و التذكرة(8)و المهذّب(9) و الغوالي(10) و ربّما اُضيف إليهم أيضاً السيّد ابن زهرة في الغنية(11)

ص: 16


1- الوسائل 7/41:5، ب 23 أحكام الملابس.
2- غوالي اللآلي 301/110:2، سنن الدارقطني 20/7:3.
3- مصابيح الأحكام: 5.
4- كما في الجواهر 11:22، المكاسب للشيخ 13:14.
5- الخلاف 184:3.
6- لم نعثر عليه في المبسوط.
7- السرائر 113:3.
8- التذكرة 379:2.
9- المهذب 235:4.
10- الغوالي 301/110:2.
11- الغنية: 213.

و المقداد في التنقيح(1).

و أمّا الدلالة فقوله: «إنّ اللّٰه إذا حرّم شيئاً» ظاهر في تحريم العين لذاته لعنوانه الخاصّ بقول مطلق من غير تقييد له بجهة من الجهات العرضيّة، كما لو قال: الخمر حرام أو الميتة حرام أو لحم الخنزير حرام و غير ذلك. و الجملة تفيد الملازمة الكلّيّة بين تحريم الشيء على هذا الوجه و تحريم ثمنه في البيع و الشراء، بل قضيّة الشرطيّة سببيّة الأوّل للثاني و تحريم الثمن بإطلاقه ظاهر في تحريم جميع التصرّفات فيه، و لا يكون ذلك إلّا لانتفاء الملكيّة بسبب عدم إفادة العقد دخوله في ملك البائع و عدم تأثيره في النقل و الانتقال فكان فاسداً، و لا جهة للفساد إلّا تحريم التجارة بما حرّمه اللّٰه تعالى بقول مطلق. و يندرج فيه الأعيان النجسة لأنّها أشياء حرّمها اللّٰه تعالى بقول مطلق فثبت حرمة التجارة بها.

و المناقشة فيها بمنع الملازمة بين حرمة التصرّف و انتفاء الملكيّة، فكم من ملك يحرم لمالكه التصرّف فيه كالمفلّس المحجور عليه، و تركة المديون مع استغراق الدين - على القول بانتقالها إلى الوارث - مع ممنوعيّته من التصرّف فيها حتّى يؤدّي الدين من ماله أو يضمن للدَيّان، و العين إذا حلف الداخل من المتداعيين فيها بعد عجزهما عن البيّنة فإنّها قد تكون في الواقع للخارج مع عدم جواز التصرّف له، و الرهن بالنسبة إلى الراهن، و الخمر و لحم الخنزير للكفّار فإنّهم يملكونهما مع حرمة الشرب و الأكل لهم بمقتضى كونهم مكلّفين بفروع هذه الشريعة إلى غير ذلك من الموارد.

يدفعها: أنّ انتفاء الملازمة بين حرمة التصرّف في مطلق الشيء و انتفاء الملكيّة و إن كان مسلّماً إلّا أنّ مبنى الاستدلال ليس على دعوى هذه الملازمة، بل على الملازمة بين حرمة التصرّف في ثمن الشيء المحرّم من حيث هو ثمن و انتفاء ملكيّة ذلك الثمن، و لا ريب في ثبوتها بمقتضى الانفهام العرفي من لفظ الرواية و ما أشبهه، فقوله عليه السلام:

«ثمن الخمر سحت»(2) أو «ثمن الكلب سحت»(3) و نحوه ما لو قيل: «ثمن الخمر أو

ص: 17


1- التنقيح 5:2.
2- الوسائل 8/94:17، ب 5 ما يكتسب به، الفقيه 435/105:3.
3- الوسائل 2/118:17، ب 14 ما يكتسب به، الكافي 4/120:5.

ثمن الميتة حرام» ينساق منه في متفاهم العرف كون الحكم معلّقاً على الثمن من حيث هو ثمن و كونه ملازماً لانتفاء ملكيّته للبائع مع إمكان إثبات هذه الملازمة بالإجماع على أنّ حرمة التصرّف في الثمن إنّما هو لانتفاء الملكيّة، كما ادّعى نظير الإجماع في قوله عليه السلام: «اغسل ثوبك عن أبوال ما لا يؤكل لحمه»(1) على أنّ وجوب غسل الثوب عن الأبوال إنّما هو باعتبار النجاسة لا غير.

و قد يتوهّم ثبوتها بعموم «الناس مسلّطون على أموالهم»(2) فإنّ ثمن الأعيان النجسة لو كان مالاً للبائع لتسلّط على التصرّف فيه. و لكنّه ضعيف لأنّ أقصى ما يثبت بذلك العموم إنّما هو الملازمة بين الملكيّة و تسلّط المالك على التصرّف و لا كلام فيها، بل في الملازمة بين حرمة التصرّف و انتفاء الملكيّة و ليست مستفادة من العموم، فالوجه في إثباتها ما ذكرناه.

لا يقال: إنّ تحريم الثمن إنّما يلازم انتفاء الملكيّة إذا توجّه إلى جميع أنواع التصرّفات لا مطلقاً، و هذا محلّ منع سنده ما تقدّم من انصراف إطلاق التحريم المضاف إلى العين إلى الجهة الغالبة المقصودة منها، و مرجعه فيما نحن فيه إلى تحريم بعض التصرّفات في الثمن و هو لا يلازم انتفاء الملكيّة و إلّا انتفى الملك رأساً، إذ ما من شيء في سلسلة الأموال إلّا و بعض التصرّفات فيه محرّم.

لأنّا نقول: إنّ القاعدة المذكورة إنّما تتمّ فيما كان له جهة غالبة مقصودة للعقلاء، و أمّا ما تساوت جهات التصرّف فيه فالتحريم المتعلّق به يعمّ الجميع لشهادة العرف و قضاء دليل الحكمة بذلك، و الثمن بعنوان الثمنيّة خصوصاً إذا كان من أحد النقدين كما هو المتبادر منه ليس له جهة غالبة ينصرف إليه إطلاق التحريم فيعمّ جميع التصرّفات اللاحقة به. نعم إنّما المعضل إثبات الملازمة بين فساد المعاملة و تحريمها الّذي هو

ص: 18


1- الوسائل 2/405:3، ب 8 أبواب النجاسات، التهذيب 1329/420:1.
2- عوالي اللآلي 99/222:1.

المقصود بالبحث و هي ممنوعة، و أقصى ما دلّت عليه الرواية بالبيان المتقدّم إنّما هو الفساد، و المقصود إثبات التحريم، و الفساد لا يلازمه، كما قيل عكسه في الاُصول في منع دلالة النهي في المعاملات على الفساد بتقريب أنّ تحريم المعاملة لا ينافي الصحّة فلا يلازم الفساد و هاهنا أيضاً نقول: إنّ الفساد لا يلازم التحريم.

إلّا أن يقال بأنّ المراد به في محلّ البحث ما يعمّ الحرمة التشريعيّة، فإنّ إجراء العقد الفاسد و إعمال المعاملة الفاسدة و ترتيب الآثار عليها مع فرض الفساد تشريع فيكون محرّماً.

و يدفعه: ظهور كلماتهم بل صراحة جملة منها في إرادة الحرمة الشرعيّة، و أقوى ما يشهد بذلك اقتصارهم في الحكم بالحرمة على أشياء مخصوصة كالأعيان النجسة و غيرها ممّا يذكر في هذا الباب، فلو أنّ الحرمة المبحوث عنها أعمّ من الحرمة التشريعيّة لوجب طرد الحكم بجميع ما يفسد من المعاملات و لو في الأملاك و الأموال المملوكة إذا كان فسادها للإخلال ببعض شروط الصحّة ممّا يرجع إلى الصيغة أو إلى أحد المتعاقدين أو أحد العوضين.

و يمكن التخلّص عن الإشكال بإثبات الملازمة بأحد الوجوه:

الأوّل: أن يقال: إنّ ثمن العين المحرّمة من لوازم بيع تلك العين، و تحريمه في الرواية كناية عن تحريم ملزومه و هو البيع على معنى أنّه صلى الله عليه و آله و سلم في قوله: «إنّ اللّٰه إذا حرّم شيئاً حرّم ثمنه» إنّما ذكر تحريم ثمن ما حرّمه اللّٰه تعالى لينتقل منه السامع إلى تحريم البيع الواقع عليه.

الثاني: أن يقال: إنّ سوق الرواية ظاهر في أنّه صلى الله عليه و آله و سلم قصد ببيان تحريم ثمن الأعيان المحرّمة على الوجه الكلّي نصب قرينة عامّة على أنّ المراد من تحريم كلّ واحد من الأعيان المحرّمة ما يعمّ بيعها و التكسّب بها، إمّا باعتبار أنّ تحريم العين راجع إلى جميع منافعها الّتي منها البيع و التكسّب، أو باعتبار أنّه راجع إلى منافعها المقصودة الّتي منها البيع و التكسّب، و أيّاً ما كان فالبيع و التكسّب بالأعيان النجسة داخل في التحريم، و المقصود من الرواية بيان هذا المطلب، و مرجعه إلى إعطاء ضابطة كلّيّة في الأعيان

ص: 19

المحرّمة الّتي منها الأعيان النجسة و هي حرمة بيعها و التكسّب بها.

الثالث: أن يقال: إنّ تحريم المال المأخوذ بالعقد الفاسد يتصوّر من وجهين:

أحدهما: حرمة التصرّف فيه باعتبار أنّه مال الغير و هو حرام.

و ثانيهما: حرمته باعتبار كونه ثمناً للعين المحرّمة و عوضاً عنه، و كونه ثمناً و عوضاً عنها وجه، و اعتبار وجهة مفسدة في نظر الشارع تعرض المال و أوجبت فيه الحرمة الشرعيّة، و لا ريب أنّ الحرمة من هذه الجهة غير الحرمة من الجهة الاُولى.

و يظهر فائدة الفرق بينهما فيما لو أذن المالك بعد المعاملة الفاسدة للبائع في التصرّف في الثمن و أباح له جميع التصرّفات، ارتفعت الحرمة من الجهة الاُولى و بقيت الجهة الثانية إذ لا مدخليّة لإذن المالك في رفعها باعتبار كونها حرمة تعبّديّة صرفة، و لا يدور ثبوتها مدار إذن المالك و رضاه و عدمهما، و له نظائر كثيرة:

منها: الرشوة المحرّمة، و هي المال المأخوذ رشاءً ، فإنّ الرشائيّة جهة مفسدة إذا عرضت المال صار محرّماً و إن بذله صاحبه بطيب نفسه و رضاه.

و منها: المال المأخوذ قماراً، فإنّ القماريّة جهة مفسدة في نظر الشارع، إذا عرضت المال أوجبت تحريم الشارع إيّاه على الآخذ و إن أعطاه صاحبه برضاه و طيب نفسه.

و منها: المال الّذي يأخذه الإنسان عند الترافع إلى الجبت و الطاغوت و حاكم الجور بل كلّ من لا يصلح للحكومة الشرعيّة استناداً إلى حكمه، فإنّه عند الشارع جهة مفسدة في أخذ المال توجب تحريمه تعبّداً من الشارع و إن كان حقّه ثابتاً دَيناً كان أو عيناً.

و قد ذكر عليه السلام في مقبولة عمر بن حنظلة «أنّه يأكل سحتاً» و إن كان حقّه ثابتاً.

و المال المأخوذ ثمناً و عوضاً عمّا حرّمه اللّٰه تعالى من حيث عروض جهة الثمنيّة و العوضيّة عنه لذلك المال من قبيل هذه النظائر.

و الرواية لمكان قوله عليه السلام: «حرّم ثمنه» باعتبار إضافة الثمن إلى ما حرّمه اللّٰه ظاهرة في التحريم من هذه الجهة لا من الجهة الاُولى، نظراً إلى انفهام حيث الثمنيّة، فيكون تقدير الرواية في حاصل المعنى «أنّ اللّٰه إذا حرّم شيئاً حرّم ثمنه من حيث إنّه ثمنه»

ص: 20

و هذه الحيثيّة كما ترى لا مدخليّة لها في التحريم من الجهة الاُولى، و مرجع تحريمهما حينئذٍ إلى مبغوضيّة كلّ من المعوّض و العوض للشارع، أمّا مبغوضيّة المعوّض فلمفسدة في ذاته، و أمّا مبغوضيّة العوض فلمفسدة العوضيّة عن ذي المفسدة الذاتيّة، و من المعلوم أنّ مبغوضيّة العوضين تقضي بمبغوضيّة التعويض و المعاوضة، فيكون أصل المعاملة الواقعة على الأعيان المحرّمة الّتي منها الأعيان النجسة محرّماً بمقتضى الملازمة المستفادة من الرواية.

و من الروايات النبويّة قوله صلى الله عليه و آله و سلم في حديث جابر بن عبد اللّه: «إنّ اللّٰه و رسوله صلى الله عليه و آله و سلم حرّما بيع الخمر و الميتة و الخنزير و الأصنام، قيل يا رسول اللّٰه: أ رأيت شحوم الميتة أنّها تطلى بها السفن و تدهن بها الجلود و يستصبح بها الناس ؟ فقال: لا، هو حرام، ثمّ قال:

قاتل اللّٰه اليهود إنّ اللّٰه لمّا حرّم عليهم شحومها جملوها(1) ثمّ باعوها فأكلوا ثمنه»(2).

و في المصابيح(3) أوردها في الخلاف(4) و المنتهى(5).

و في الإيضاح(6) و الغوالي(7) أنّه صلى الله عليه و آله و سلم «قال: لعن اللّٰه اليهود حرّمت عليهم الشحوم فباعوها فأكلوا أثمانها».

و هذه إمّا رواية اُخرى أو نسخة اُخرى من الرواية الاُولى مكان قوله صلى الله عليه و آله و سلم «قاتل اليهود» الخ. و قوله «أ رأيت شحوم الميتة» أي بيع شحوم الميتة للمنافع الثلاث المذكورة بقرينة انسياق و تذكير الضمير في قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «هو حرام» أي بيع شحوم الميتة للمنافع المذكورة، و ظاهر الرواية أنّه ليس للميتة و شحومها جهة محلّلة بل جميع منافعهما محرّمة و إلّا لم يكونوا جملوها للبيع بل كانوا يمسكونها للانتفاع بها في الجهات المحلّلة.

و كيف كان ففي الرواية مواضع ثلاث من الدلالة كما يظهر بأدنى تأمّل. ثمّ لو انجبر ضعفها سنداً باعتماد الشيخ و العلّامة في الخلاف و المنتهى، أو هو مع اعتماد الإيضاح

ص: 21


1- جملت الشحم: إذا أذبته و استخرجت دهنه (النهاية ابن الأثير 298:1 جمل).
2- صحيح مسلم 71/120:3، سنن الترمذي 1297/591:2، سنن النسائي 309:7.
3- مصابيح الأحكام: 5.
4- الخلاف 186:3.
5- المنتهى 1010:2.
6- إيضاح الفوائد 402:1.
7- عوالي اللآلي 240/181:1.

و الغوالي بحيث يحصل الظنّ و الوثوق بصدورها، كانت دليلاً على المطلب في الجملة لاختصاص موردها ببعض الأعيان النجسة و إلّا كانت مؤيّدة للدليل.

و العمدة في دليل المسألة الأخبار الإماميّة المأثورة من طرق أصحابنا الإماميّة، و العمدة منها قوله عليه السلام: «و أمّا وجوه الحرام من البيع و الشراء، فكلّ أمر يكون فيه الفساد ممّا هو منهيّ عنه من جهة أكله أو شربه أو كسبه أو نكاحه أو ملكه أو إمساكه أو هبته أو عاريته، أو شيء يكون فيه وجه من وجوه الفساد، نظير البيع بالربا أو البيع للميتة أو الدم أو لحم الخنزير أو لحوم السباع من صنوف سباع الوحش أو الطير أو جلودها أو الخمر أو شيء من وجوه النجس، فهذا كلّه حرام و محرّم، لأنّ ذلك كلّه منهيّ عن أكله و شربه و لبسه و ملكه و إمساكه و التقلّب فيه فجميع تقلّبه في ذلك حرام»(1) الخ. و هذا بعض من الرواية الطويلة رواها حسن بن علي بن شعبة في كتاب تحف العقول بحذف سندها لاشتهارها بين الأصحاب و معروفيّة سندها عن الصادق عليه السلام.

و لكن عن السيّد رحمه الله أنّه أوردها في رسالة المحكم و المتشابه(2) نقلاً عن تفسير محمّد بن إبراهيم بن جعفر النعماني بإسناده عن أمير المؤمنين عليه السلام.

و ينبغي التكلّم في شرح متن الرواية و بيان تركيبها و إعرابها ليتميّز ما تضمّنه من أنواع البيع الحرام، فإنّها متضمّنة لأنواع ثلاث يضبطها: أنّ البيع الحرام إمّا أن يكون بحيث نهى عنه لما فيه من وجه فساد ليس معه وجه صلاح، أو يكون بحيث نهى عنه لوجه فساد فيه معه وجه صلاح أيضاً على معنى اشتماله على وجه فساد و وجه صلاح باعتبار اشتمال متعلّقه و هو المبيع على منفعة محرّمة و منفعة محلّلة، و على الأوّل فإمّا أن يكون بحيث نهى عنه أصالة من دون نهي في متعلّقه مع قطع النظر عنه، أو يكون بحيث نهى عنه تبعاً للنهي عن متعلّقه.

و إذا عرفت ذلك فنقول: إنّ قوله: «و أمّا وجوه الحرام» أي عنوانات الحرام من البيع و الشراء، و كلمة «من» للتبيين متعلّقة بالحرام، و حاصل معنى العبارة عنوانات البيع

ص: 22


1- الوسائل 1/83:17، ب 2 ما يكتسب به، تحف العقول: 331.
2- رسالة المحكم و المتشابه: 46.

و الشراء المحرّم.

قوله: «فكلّ أمر» أي بيع كلّ أمر بتقدير المضاف.

و قوله: «يكون فيه الفساد» أي كلّ أمر مشتمل على وجه فساد.

و قوله: «ممّا هو منهيّ عنه» أي ممّا يكون وجه فساده باعتبار كونه منهيّاً عنه على معنى اشتماله على منفعة محرّمة.

و قوله: «من جهة أكله» أي كون منفعته المحرّمة المنهيّ عنها أكله لا سائر منافعه كالطين الّذي أكله حرام فبيعه و شراؤه أيضاً لجهة أكله حرام.

و قوله: «أو شربه» أي كون منفعته المحرّمة شربه لا سائر منافعه كالعصير العنبي بعد الغليان إن قلنا بطهارته، فإنّ شربه حرام، فبيعه و شراؤه أيضاً لجهة شربه حرام.

و قوله: «أو كسبه» أي كون الجهة المحرّمة فيه كسبه أي التكسّب به و تحصيل المال بواسطته كالجارية المغنّية إذا اتّخذها الإنسان للتكسّب بتغنّيها، فبيعها و شراؤها لأجل هذه المنفعة حرام.

و قوله: «أو نكاحه» أي كون الجهة المحرّمة فيه نكاحه بمعنى وطئه كالجارية الّتي تكون من محارمه فبيعها و اشتراؤها لجهة الوطء حرام و نحوها موطوءة الابن أو موطوءة الأب للأب أو الابن.

و قوله: «أو ملكه» أي كون الجهة المحرّمة فيه الملك بمعنى ترتيب آثار الملك كالحرّ أو المملوك إذا كان أحد العمودين، فإنّ ترتيب آثار الملكيّة عليه حرام فبيعه و اشتراؤه أيضاً لهذه الجهة حرام، و إنّما فسّرنا الملك بذلك لأنّه بالمعنى المصدري إمّا صفة في المالك إن اعتبرناه بالبناء للفاعل أعني المالكيّة، أو صفة في المملوك إن أخذناه بالبناء للمفعول أعني المملوكيّة، و أيّاً ما كان فهو لا يصلح متعلّقاً للنهي، لأنّه يتعلّق بما هو من مقولة الأفعال لا ما هو من مقولة الصفات، فوجب تأويله إلى إرادة ترتيب آثار الملكيّة.

و قوله: «أو إمساكه» أي كون الجهة المحرّمة فيه الإمساك كالطعام في المجاعة مع احتياج الناس إليه، فإنّ إمساكه حينئذٍ حرام، فبيعه و اشتراؤه لأجل الإمساك أيضاً حرام.

ص: 23

قوله: «أو هبته أو عاريته» أي كون الجهة المحرّمة فيه أحد الأمرين كهبته القرآن أو عاريته من الكافر، أو هبته السلاح أو عاريته من المشركين، أو هبة كتب الضلال أو عاريتها لغير الأهل، فالبيع و الشراء في الجميع لجهة الهبة أو العارية حرام.

فقوله: «ممّا نهى عنه» مع ما ذكر معه من الأمثلة إشارة إلى أحد الأنواع الثلاثة المشار إليها، و هو البيع الحرام الّذي نهى عنه لوجه فساد فيه معه وجه صلاح أيضاً باعتبار اشتمال مورده - و هو المبيع - على جهة محرّمة وجهة محلّلة.

و قوله: «أو شيء يكون فيه وجه من وجوه الفساد» إشارة إلى النوعين الآخرين أعني البيع الحرام الّذي نهى عنه لوجه فساد فيه ليس معه وجه صلاح مع تعلّق النهي به أصالةً كالبيع بالربا، فإنّ الربويّة وجه فساد فيه أي علّة باعثة على فساده و ليس معه وجه صلاح، ضرورة حرمة البيع الربوي بجميع أفراده.

و عدم حلّية شيء منها إلّا ما خرج بالدليل، مع عدم كون مورده و هو المبيع مع قطع النظر عن هذا البيع منهيّاً عنه، أو تبعاً للنهي في مورده و متعلّقه كبيع الميتة و بيع الدم و بيع لحم الخنزير و غيره من الأمثلة المذكورة فإنّ الجميع من وادٍ واحد و هو كون حرمة البيع لوجه فساد فيه ليس معه وجه صلاح باعتبار كون جميع جهات مورده و جميع منافع متعلّقه محرّمة على معنى عدم اشتماله على منفعة محلّلة أصلاً، و هذا هو على مقتضى ظاهر الرواية، و لو ثبت بالدليل في بعض الأمثلة جواز الانتفاع فيه ببعض الجهات فهو مخرج بالدليل من باب التخصيص.

فقوله: «أو شيء يكون فيه وجه من وجوه الفساد» عطف على المضاف المقدّر في قوله: «فكلّ أمر» بقرينة التمثيل له بالبيع بالربا و البيع للميتة فيكون مرفوعاً، و معناه شيء من البيع يكون فيه وجه من الفساد على حسبما بيّنّاه.

و قوله فيما بعد الأمثلة المذكورة: «أو شيء من وجوه النجس» عطف على سابقه أي بيع شيء من وجوه النجس أي العنوانات النجسة الّتي نجاستها تابعة لأصل العنوان، كالبول و العذرة و أرواث ما لا يؤكل لحمه و المني و الكلب و ما أشبه ذلك. و من هنا يعلم أنّ حكم الرواية لا يعمّ المتنجّسات الغير القابلة للتطهير من غير استحالة، لكون

ص: 24

نجاستها عرضيّة غير تابعة للعنوان.

و قوله: «فهذا كلّه حرام و محرّم» بقرينة التعليل إشارة إلى ما بعد البيع بالربا و لا يعمّه و ما قبله. و عطف المحرّم على الحرام لعلّه للمغايرة بينهما في كون المراد بالمعطوف عليه ما كان حرمته عقليّة - و هو كون الشيء بحيث يستحقّ فاعله الذمّ - و بالمعطوف ما حرّم بالتحريم الشرعي، و التعليل حينئذٍ راجع إليه. و جعل المنهيّ عنه في الأشياء المذكورة و في وجوه النجس أكله و شربه و لبسه و ملكه و إمساكه و التقلّب فيه تصريح بكونها بجميع منافعها محرّمة و أنّه ليس فيها منفعة محلّلة.

فيستفاد من الرواية بالنسبة إلى الأعيان النجسة ما عدا المتنجّسات اُصول ثلاث على سبيل القاعدة الكلّيّة:

الأوّل: أنّ الأصل فيها حرمة البيع و التكسّب بها.

و الثاني: أنّ الأصل فيها حرمة الانتفاع بها بجميع جهات النفع، بل حرمة جميع التصرّفات فيها و تقلّباتها، و يندرج في ذلك عدم جواز أخذها موارد في سائر عقود المعاوضة و غيرها، لمكان قوله عليه السلام: «فجميع تقلّبه في ذلك حرام».

الثالث: عدم تعلّق صفة الملك بها و عدم دخولها في ملك المسلم، لمكان قوله عليه السلام:

«و ملكه» أي منهيّ عن ملكه، فإنّ النهي عن ترتيب آثار الملك عليها يكشف عن انتفاء الملكيّة فيها، فلو ثبت في بعضها مطلقاً أو في بعض موارد بعضها أنّه يقبل البيع أو مطلق التكسّب أو الانتفاع ببعض الجهات أو الملكيّة فهو مخرج عن القاعدة بالدليل، هذا كلّه في متن الرواية و كيفيّة دلالتها و مقدار دلالتها.

و أمّا سند الرواية: فهو على ما حكي عن رسالة المحكم و المتشابه نقلاً عن تفسير النعماني، أنّ محمّد بن إبراهيم بن جعفر النعماني روى في تفسيره عن أحمد بن محمّد بن سعيد ابن عقدة عن أحمد بن يوسف بن يعقوب الجعفي عن إسماعيل بن مهران عن الحسن بن عليّ بن أبي حمزة عن أبيه عن إسماعيل بن جابر قال: سمعت أبا عبد اللّه جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام عن آبائه عليهم السلام عن أمير المؤمنين عليه السلام.

أمّا النعماني فحاله في كونه شيخاً من أصحابنا عظيم القدر شريف المنزلة صحيح

ص: 25

العقيدة كثير الحديث واضح ذكره في الخلاصة(1).

و أمّا ابن عقدة فهو و إن كان زيديّاً جاروديّاً إلّا أنّ الشيخ وثّقه بقوله: «إنّ أمره في الثقة و الجلالة و عظم الحفظ أشهر من أن يذكر. قال: و إنّما ذكرناه في جملة أصحابنا لكثرة روايته عنهم و خلطته بهم و تصنيفه لهم»(2).

و أمّا الجعفي فعن التعليقة «أنّه روى عن محمّد بن إسماعيل الزعفراني و فيه إشعار بوثاقته»(3) و وجه الإشعار ما عدّوه من أمارات التوثيق رواية محمّد بن إسماعيل بن ميمون أو جعفر بن بشير عنه أو روايته عن أحدهما و أحمد بن يوسف يروي عن محمّد ابن إسماعيل بن ميمون الزعفراني.

و أمّا ابن مِهْران بكسر الميم و سكون الهاء فقد شهد الشيخ(4) و النجاشي(5) له بالثقة و تبعهما العلّامة في الخلاصة(6) و رميه بالغلوّ غير جيّد، بل عن محمّد بن مسعود «أنّه يكذّبون عليه كان تقيّاً ثقة خيراً فاضلاً»(7) فالسند إليه لا ضير فيه غايته اندراجه في الموثّق.

و إنّما الكلام في الحسن(8) بن عليّ بن أبي حمزة و أبيه، فقد ذكر في الرجال في كلّ منهما قدح عظيم و طعن كثير مع كونهما واقفيّين، فالسند من جهتهما يدخل في الضعيف فلا بدّ في التعويل على الرواية من جابر لضعف السند.

و قد يقال: إنّه منجبر باُمور:

منها: قول الشيخ في العدّة في عليّ بن أبي حمزة «أنّه عملت الطائفة بأخباره»(9)فإنّه في معنى دعوى الإجماع على العمل.

و منها: عمل المعظم بمضمون الرواية.

و منها: إيراد عليّ بن حسن بن شعبة إيّاها في تحف العقول بحذف السند، فإنّه

ص: 26


1- الخلاصة: 267.
2- الفهرست: 76/42.
3- منتهى المقال 368:1، التعليقة: 50.
4- الفهرست: 32/11.
5- رجال النجاشي: 49/26.
6- الخلاصة: 34/54.
7- رجال الكشّي: 1102/589.
8- الخلاصة: 7/212، منتهى المقال 755/409:2.
9- العدّة 381:1.

يومئ إلى أنّه لأجل اشتهارها بين الطائفة و الاعتماد عليها عندهم.

و منها: فتوى الشيخ في النهاية(1) بمضمونها بألفاظ قريبة من عباراتها.

و منها: عمل السيّد(2) بمضمونها مع أنّه لا يرى العمل بأخبار الآحاد الغير المقطوع بصدورها. و هذه الأمارات قرائن تفيد و لو بتراكم بعضها ببعض القطع أو الظنّ بالصدور.

و من الأخبار ما عن دعائم الإسلام للقاضي نعمان المصري عن الصادق عليه السلام «إنّ الحلال من البيوع كلّما كان حلالاً من المأكول و المشروب و غير ذلك ممّا هو قوام للناس و يباح لهم الانتفاع، و ما كان محرّماً أصله منهيّاً عنه لم يجز بيعه و لا شراؤه»(3).

و ما عنه أيضاً عن جعفر بن محمّد عن أبيه عن آبائه عن عليّ عليه السلام «إنّ رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم نهى عن بيع الأجراب و عن بيع الميتة و الدم و لحم الخنزير و الأصنام، و عن عسيب الفحل، و عن ثمن الخمر، و عن بيع العذرة. و قال: هي ميتة»(4).

و ما عن الفقه الرضوي «اعلم رحمك اللّٰه أنّ كلّ مأمور به على العباد و قوام لهم في اُمورهم من وجوه الصلاح الّذي لا يقيمهم غيره ممّا يأكلون و يشربون و يلبسون و ينكحون و يملكون و يستعملون، فهذا كلّه حلال بيعه و شراؤه وهبته و عاريته، و كلّ أمر يكون فيه الفساد ممّا قد نهى عنه من جهة أكله و شربه و لبسه و نكاحه و إمساكه بوجه الفساد مثل الميتة و الدم و لحم الخنزير و الربا و جميع الفواحش و لحوم السباع و الخمر و ما أشبه ذلك فحرام ضارّ للجسم»(5) و هذا إن لم ينهض حجّة فلا أقلّ من صلوحه مؤيّداً أو جابراً لضعف سند ما تقدّم، و نحوه الكلام في سابقيه لعدم وضوح سنديهما.

و لقد أكثر السيّد في المصابيح(6) في ذكر الأخبار المصرّحة بسحتيّة الثمن في جملة كثيرة من الأعيان النجسة بل في أكثرها بما يشرف الفقيه على دعوى القطع بأنّ مبنى الشريعة فيها على حرمة التكسّب بها، و لعلّنا نورد نبذة منها في تضاعيف الباب.

و ليس للقول بجواز التكسّب بها إن فرض لها منفعة غالبة مقصودة للعقلاء

ص: 27


1- النهاية 97:2.
2- رسالة المحكم و المتشابه: 46.
3- دعائم الإسلام 23/18:2.
4- دعائم الإسلام 22/18:2.
5- فقه الرضا عليه السلام: 250.
6- المصابيح: 6.

- كما تقدّم(1) عن الفاضل الكاشاني و المقدّس الأردبيلي و الفاضل الخراساني في الكفاية - إلّا أنّ الأصل و العمومات أجناساً و أنواعاً و أصنافاً كقوله تعالى: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» (2) و قوله: «إِلاّٰ أَنْ تَكُونَ تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ » (3) و قوله: «أَحَلَّ اَللّٰهُ اَلْبَيْعَ » (4)و قوله عليه السلام: «كلّ صلح جائز بين المسلمين إلّا ما أحلّ حراماً أو حرّم حلالاً»(5)و قوله عليه السلام: «البيّعان بالخيار ما لم يفترقا»(6) إلى غير ذلك، فإنّها شاملة لمحلّ البحث كما أنّ الأصل جارٍ فيه.

و ليس هاهنا ما يتوهّم كونه مخرجاً عنهما إلّا النجاسة و هي غير صالحة عقلاً و لا شرعاً لعدم نهوض ما يقضي من الشرع بإناطة الحكم تكليفاً و وضعاً بالنجاسة، و أنّه لو لا الجواز لما وقع في الشرع و التالي باطل لورود الإذن في بعض الأعيان و ليس إلّا للانتفاع المحلّل، كما في كلب الصيد بل الكلاب الأربع و في بيع الكافر، و في بيع العذرة و بيع الميتة في بعض أحوالهما، و بيع شعر الخنزير ليتّخذ حبلاً يستقى به.

و الجواب عن الأصل: أنّه إن اُريد به ما يفيد الجواز التكليفي قبالاً للحرمة و هو أصل الإباحة، فيدفعه: أنّ ما تقدّم من الإجماعات و الروايات ناقلة عنها، بتقريب أنّ موضوع الأصل المذكور الأشياء المشتملة على المنفعة الخالية عن أمارة المفسدة أو مطلق ما لم يعلم حكمه بالخصوص لشبهة حكميّة تحريميّة، و ما ذكر من الإجماعات و الروايات أمارة مفسدة تفيد خروج محلّ البحث عن موضوع الأصل بكلا تقريريه.

و إن اُريد به ما يفيد الجواز الوضعي أعني الصحّة بمعنى ترتّب الأثر و هو أصالة الصحّة في العقود أو مطلق المعاملات، فإن اُريد به ما يعبّر عنه بالأصل الأوّلي، فهو خلاف ما حقّق في محلّه، من أنّ الأصل الأوّلي في المعاملات هو الفساد، لأنّ الأصل عدم ترتّب الأثر و هو أمر حادث يشكّ في حدوثه. و إن اُريد به ما يعبّر عنه بالأصل الثانوي و هو القاعدة المستفادة من عمومات الصحّة فمرجعه إلى عموم تلك العمومات،

ص: 28


1- تقدّم في ص 11.
2- المائدة: 1.
3- البقرة: 188.
4- البقرة: 279.
5- الوسائل 5/234:27، ب 3 أبواب كيفيّة الحكم، الفقيه 52/20:3.
6- الوسائل 3/6:18، ب 1 أبواب الخيار، التهذيب 85/20:7.

و جوابه التخصيص بما ذكر من الإجماعات و الروايات فإنّها كما تنهض ناقلة عن الأصل كذلك تنهض مخصّصة للعمومات. و هذا كافٍ في التزام إناطة الحكم تكليفاً و وضعاً بالنجاسة و كونها مانعة من الجواز مطلقاً إلّا ما خرج بالدليل.

و من هنا يظهر الجواب عن العلاوة، فإنّ الجواز في الموارد المذكورة ليس إجماعيّاً و حيث قلنا به فيها أو في بعضها كان مخرجاً عن القاعدة بالدليل، فلا ينافيها ثبوته فيها لأنّها على ما بيّناه سابقاً قابلة للتخصيص.

ثمّ ينبغي التكلّم في كلّ واحد من الأعيان النجسة على وجه التفصيل طلباً لمعرفة أحكام كلّ مفصّلة، و تمييزاً لمحل الاستثناء منها عن غيره، و يتمّ ذلك في مباحث

ص: 29

المبحث الأوّل فيما يتعلّق بالخمر موضوعاً و حكماً

أمّا الموضوع،

فالمعروف المشهور بين الفقهاء أنّها المسكر المتّخذ من العنب، و هو المعهود في العرف الكاشف عن اللغة بل المشهور بين أئمّة اللغة، و هو المستفاد من تضاعيف الأخبار المتكاثرة المأثورة عن أهل بيت العصمة، و ما يوجد في بعض الأخبار من إطلاقها على سائر الأنبذة و المسكرات أو الفقّاع فهو مبنيّ على الاستعارة، و التشبيه لمشاركتها الخمر في الأحكام.

و من هذا الباب ما ورد في عدّة أخبار من قوله عليه السلام: «قال رسول اللّٰه: الخمر من خمسة، العصير من الكرم، و النقيع من الزبيب، و البِتع(1) من العسل، و المزر(2) من الشعير، و النبيذ من التمر»(3) و كذا ما في قول أبي الحسن الماضي عليه السلام بسند صحيح: «من أنّ اللّٰه لم يحرّم الخمر لاسمها، و لكن حرّمها لعاقبتها، فما كان عاقبته عاقبة الخمر فهو خمر»(4) بل هذا على ما ذكرناه من اختصاص اسم الخمر بالمتّخذ من العنب أدلّ لمكان قوله: «لم يحرّم الخمر لاسمها و لكن حرّمها لعاقبتها» فإنّ هذا البيان يقال لتعميم الحكم إلى ما لم يتناوله الاسم حقيقة و إن فرض دخوله في المراد مجازاً حين إنشاء الحكم.

ص: 30


1- البِتع: نبيذ يتّخذ من عسل كأنّه الخمر صلابة (لسان العرب 4:8).
2- المزر: نبيذ الشعير و الحنطة و الحبوب (لسان العرب 172:5).
3- الوسائل 1/279:25، ب 1 الأشربة المحرّمة، التهذيب 442/101:9.
4- الوسائل 1/342:25، ب 19 الأشربة المحرّمة، التهذيب 486/112:9.

فالقول بأنّها كلّ شراب مسكر سواء كان متّخذاً من العنب أو الزبيب أو التمر أو الشعير أو الذرّة أو العسل أو غيره، ضعيف و إن رجّحه صاحب القاموس قائلاً: «الخمر ما أسكر من عصير العنب أو عامّ . ثمّ قال: و العموم أصحّ لأنّها حرّمت، و ما بالمدينة خمر عنب و ما كان شرابهم إلّا البُسر و التمر»(1).

و هذا التعليل أضعف من القول المذكور لأنّ التحريم حكم مشترك بين أهل المدينة و أهالي سائر البلاد، و عدم وجود شراب العنب في المدينة يوم حرّمت الخمر لا يقضي بأنّ المراد بالخمر ما عداه من المسكرات أو ما يعمّه و غيره، و لو سلّم فلا يثبت به الاستعمال غير دالّ على الحقيقة.

و أمّا الحكم،
اشارة

فنقول: إنّه يتعلّق بالخمر كثيرة تذكر في مسائل:

المسألة الاُولى: يحرم بيع الخمر و شراؤها بل مطلق التكسّب بها

إجماعاً محصّلاً و منقولاً مستفيضاً كما تقدّم الإشارة إلى جملة منها، مضافاً إلى عموم النبويّ المتقدّم، و خصوص رواية تحف العقول، و الروايات المصرّحة بسحتيّة ثمن الخمر، و ما رواه في الخصال عن الباقر عليه السلام «لعن رسول اللّٰه صلى الله عليه و سلم في الخمر عشرة، غارسها و حارسها و عاصرها و شاربها و ساقيها و حاملها و المحمولة إليه و بائعها و مشتريها و آكل ثمنها»(2) و في معناه المرويّ في كتب المشايخ الثلاث بطرق عديدة.

و في مقابلها عدّة من الأخبار ربّما توهم الجواز مثل خبر محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام «في رجل كان له على رجل دراهم فباع خمراً أو خنازير و هو ينظر فقضاه، فقال: لا بأس به أمّا للمقتضي فحلال، و أمّا للبائع فحرام»(3).

و خبر زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السلام «في الرجل يكون لي عليه الدراهم فيبيع بها خمراً أو خنزيراً ثمّ يقضي منها، قال: لا بأس، أو قال: خذها»(4).

و خبر محمّد بن يحيى الخثعمي قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الرجل يكون لنا

ص: 31


1- القاموس 23:2 (خمر).
2- الوسائل 4/224:17، ب 55 ما يكتسب به، الخصال: 41/444.
3- الوسائل 2/232:17، ب 60 ما يكتسب به، التهذيب 606/137:7.
4- الوسائل 3/233:17، ب 60 ما يكتسب به، الكافي 11/232:5.

عليه الدين فيبيع الخمر و الخنازير فيقضينا، فقال: لا بأس به ليس عليك من ذلك شيء»(1).

و رواية أبي بصير قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الرجل يكون له على الرجل مال فيبيع بين يديه خمراً و خنازير يأخذ ثمنه ؟ قال: لا بأس»(2).

فإنّها تدلّ على إباحة ثمن الخمر للمقتضي و هو فرع على جوازه و صحّته، غير أنّها - مع عدم عامل بإطلاقها من الأصحاب فلا تقاوم لمعارضة أدلّة المنع - حملت على ما لو كان البائع ذمّياً فإنّه يملكها و يجوز له بيعها.

و ربّما يشهد له رواية منصور قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: لي على رجل ذمّي دراهم، فيبيع الخمر و الخنزير و أنا حاضر فيحلّ لي أخذها؟ فقال: إنّما لك عليه دراهم فقضاك دراهمك»(3).

و في رواية جميل قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: يكون لي على الرجل الدراهم فيعطيني بها خمراً؟ قال: خذها ثمّ أفسدها. قال عليّ - و في نسخة قال ابن أبي عمير -:

يعني اجعلها خلّاً»(4) و هذه تدلّ على جواز إعطاء الخمر و أخذها وفاءً عن الدين و هو نوع من التكسّب، و لكنّها أيضاً - مع عدم عامل بها أيضاً و عدم مقاومتها و احتمالها كون القاضي ذمّياً - حملت على كون المراد أخذها مجّاناً ثمّ تخليلها لنفسه أو أخذها و تخليلها لصاحبها ثمّ أخذ الخلّ وفاءً عن الدين.

و هل يجوز بيع الخمر و شراؤها للتخليل ؟ الوجه لا بلا خلاف أجده، لإطلاق أدلّة المنع، مع سلامتها عن المعارض، سوى ما يتوهّم معارضته لها من رواية عبيد بن زرارة، قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الرجل يأخذ الخمر فيجعلها خلّاً؟ قال: لا بأس»(5)و يدفعه عدم قضائها بأنّ المراد أخذها بعنوان البيع و الشراء، و لو فرض فقد الدلالة على

ص: 32


1- الوسائل 4/233:17، ب 60 ما يكتسب به، التهذيب 607/137:7.
2- الوسائل 4/233:17، ب 60 ما يكتسب به، التهذيب 608/137:7.
3- الوسائل 1/232:17، ب 60 ما يكتسب به، الكافي 10/232:5.
4- الوسائل 4/371:25، ب 31 أبواب الأشربة المحرّمة، التهذيب 506/117:9.
5- الوسائل 3/370:25، ب 31 أبواب الأشربة المحرّمة، التهذيب 505/117:9.

التحريم هنا استرابة لإطلاق أدلّة المنع، فلا أقلّ من التزام فساد البيع لكون المبيع ممّا لا يملكه المسلم و لا يدخل في ملكه على ما ستعرفه.

الثانية: يحرم شرب الخمر اختياراً بالإجماع الضروري بل بضرورة من دين الإسلام،

و لأجل ذا يكون مستحلّه من أهل الإسلام كافراً، و الآيات الكتابيّة المتقدّم ذكرها أيضاً ناطقة بذلك، و الأخبار القاضية به صراحةً و ظهوراً متواترة لفظاً و معنى بل بالغة فوق حدّ التواتر بمراتب شتّى. و يمكن الاستدلال عليه أيضاً من طريق العقل، فإنّ تناول ما يزيل العقل بل الإيمان أيضاً على ما نطق به بعض الأخبار قبيح عقلاً و فاعله مستحقّ لذمّ العقلاء المعتدلين.

و إذا اضطرّ إلى شربها لإزالة العطش المفرط المؤدّي إلى التلف أو المرض أو المشقّة الّتي لا تتحمّل عادةً ، فعن الشيخ في المبسوط(1) «أنّه لا يجوز شربها و دفع الضرورة بها» للاحتياط و عموم الأدلّة الدالّة على تحريم الخمر و خصوص قول الصادق في خبر أبي بصير المضطرّ: «لا يشرب الخمر فإنّها لا تزيده إلّا شرّاً، و لأنّه إن شربها قتلته فلا يشرب منها قطرة»(2) و عن الصدوق «و روي لا تزيده عطشاً»(3).

خلافاً لجماعة منهم ابنا سعيد(4) و إدريس(5) من المتقدّمين، و الفاضلان في الشرائع(6) و القواعد(7) من المتأخّرين، ثمّ بعدهما كاشف اللثام(8) و ثاني الشهيدين في المسالك(9) و غيرهما(10) و هو مختار الشيخ في النهاية(11) و في المسالك (12)«مذهب الأكثر» لأنّ حفظ النفس في نظر الشارع أهمّ من ترك المحرّمات، و مفسدة هلاك النفس أقوى من مفاسد ارتكاب المحرّمات، و قاعدة وجوب دفع الضرر الّذي هو حكم عقلي، و قاعدة كلّما غلب اللّٰه عليه فهو أولى بالعذر، و قاعدة نفي الضرر و الضرار الّتي مفادها

ص: 33


1- المبسوط 288:6.
2- الوسائل 3/378:25، ب 36 الأشربة المحرّمة، علل الشرائع: 1/478.
3- الوسائل 4/379:25، ب 36 الأشربة المحرّمة، علل الشرائع: 478 / ذيل الحديث 1.
4- الجامع للشرائع: 394.
5- السرائر 126:3.
6- الشرائع 230:3.
7- القواعد 333:3.
8- كشف اللثام 321:9.
9- المسالك 251:2.
10- كما في كفاية الأحكام: 254.
11- النهاية 111:3.
12- المسالك 251:2.

نفي مجعوليّة الحكم الضرري، و قاعدة نفي العسر و الحرج الّتي مفادها نفي مجعوليّة الحكم الحرجي و حرمة شرب الخمر مع الاضطرار حكم ضرريّ حرجيّ فلا تكون مجعولة. و الآيات مع الروايات المعلّقة للرخصة في تناول المحرّمات على الاضطرار.

و من الاُولى قوله عزّ من قائل: «وَ مٰا لَكُمْ أَلاّٰ تَأْكُلُوا مِمّٰا ذُكِرَ اِسْمُ اَللّٰهِ عَلَيْهِ وَ قَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مٰا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاّٰ مَا اُضْطُرِرْتُمْ » (1).

و من الثانية قوله عليه السلام في خبر المفضّل الطويل: «إنّه تعالى علم ما تقوم به أبدانهم و ما يصلحهم فأحلّه لهم و أباحه تفضّلاً منه عليهم به لمصلحتهم، و علم ما يضرّهم فنهاهم عنه و حرّمه عليهم. ثمّ أباحه للمضطرّ فأحلّه في الوقت الّذي لا يقوم بدنه إلّا به، فأمر أن ينال منه بقدر البُلغَة لا غير»(2).

و نحوه بعينه قوله عليه السلام في خبري محمّد بن عبد اللّه و محمّد بن عذافر(3).

و مرسل الدعائم عن عليّ عليه السلام «المضطرّ يأكل الميتة، و كلّ محرّم إذا اضطرّ إليه»(4).

و عن التفسير المنسوب إلى العسكري عليه السلام قال اللّٰه سبحانه: فمن اضطرّ إلى شيء من هذه المحرّمات فإنّ اللّٰه غفور رحيم، ستّار لعيوبكم أيّها المؤمنون، رحيم بكم حتّى أباح لكم في الضرورة ما حظره في الرخاء»(5).

و قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «و ما اضطرّوا إليه» في حديث رفع عن اُمّتي تسعة.

و خصوص قول الصادق عليه السلام في خبري حمّاد بن عيسى و عمّار بن موسى في الرجل أصابه عطش حتّى خاف على نفسه فأصاب خمراً قال: «يشرب منه قوته»(6).

مضافاً إلى فحوى ما دلّ على إباحة ما هو أفحش منها للمضطرّ كالميتة و الخنزير و الدم، و من ذلك مرسل الصدوق المرويّ عن نوادر الحكمة «من اضطرّ إلى الميتة و الدم

ص: 34


1- الأنعام: 119.
2- الوسائل 1/99:24، ب 1 الأطعمة المحرّمة، الكافي 1/242:6.
3- الوسائل 1/99:24، ب 1 الأطعمة المحرّمة، الفقيه 1009/218:3، تفسير العيّاشي 15/292:1.
4- دعائم الإسلام 435/125:2.
5- مستدرك الوسائل 5/201:16، ب 40 الأطعمة المحرّمة، تفسير الإمام العسكري: 585.
6- الوسائل 1/378:25، ب 36 الأشربة المحرّمة، التهذيب 502/116:9.

و لحم الخنزير فلم يأكل شيئاً من ذلك حتّى يموت فهو كافر»(1).

و هذه الأدلّة واضح الدلالة على إناطة الرخصة في شرب الخمر بل مطلق المسكر بل تناول مطلق المحرّمات بالاضطرار، فالمضطرّ إلى شرب الخمر يحلّ له الشرب.

و لكنّ الكلام في تحقيق معنى المضطرّ و تشخيص مصاديقه:

فنقول: إنّه على ما حكي عن النهاية الّذي يخاف التلف على نفسه لو لم يتناول و كأنّه استظهار من قوله المحكيّ عنها: «لا يجوز أن يأكل الميتة إلّا إذا خاف تلف النفس»(2) و نسبه في المسالك(3) إلى تلميذه القاضي(4) و ابن إدريس(5) و العلّامة في المختلف(6) و فسّره في الشرائع(7) و القواعد «بالّذي يخاف التلف لو لم يتناول، و كذا لو خاف المرض بالترك، و كذا لو خشي الضعف المؤدّي إلى التخلّف عن الرفقة مع ظهور أمارة العطب أو إلى ضعف الركوب المؤدّي إلى خوف التلف»(8).

و في المسالك «هو المشهور بين الأصحاب لتحقّق معنى الإكراه [الاضطرار](9)على جميع هذه الأحوال، ثمّ قال: و في معنى ما ذكر من يخاف طول المرض أو عسر برئه لأنّ ذلك كلّه إضرار»(10).

و في كشف اللثام(11) و غيره(12) أضاف إلى الخوف على نفسه الخوف على نفس محترمة غيره كالحامل تخاف على الجنين، و المرضعة تخاف على الرضيع، و فيه و في غيره أيضاً جعل الخوف أعمّ ممّا ينشأ من نفس عدم التناول أو من إكراه الغير على التناول بحيث يخاف معه على نفسه أو على نفس محترمة غيره أو على مال محترم له أو لغيره أو على عرضه أو من التقية الموجبة للخوف على أحد الاُمور المذكورة.

و هذا أصحّ ، لأنّ الاضطرار ليس من الموضوعات الشرعيّة و لم يرد له من الشارع

ص: 35


1- الوسائل 3/216:24، ب 56 الأطعمة المحرّمة، الفقيه 1008/218:3.
2- النهاية 98:3-99.
3- المسالك 249:2.
4- المهذّب 433:2.
5- السرائر 113:3.
6- المختلف 321:8.
7- الشرائع 757:3.
8- القواعد 333:3.
9- هكذا في المصدر و كلمة الإكراه سهو من قلمه الشريف.
10- المسالك 249:2.
11- كشف اللثام 317:9.
12- كما في مجمع الفائدة و البرهان 312:11، المستند 33:15.

تحديد بل هو من الموضوعات المستنبطة العرفيّة.

فالمرجع في استعلام مفهومه و تشخيص مصاديقه العرف، و هو في متفاهم العرف يصدق على الجميع بل على ما لو أدّى الامتناع عن التناول إلى مشقّة شديدة لا تتحمّل عادةً ، فيصدق عليه في الجميع أنّه مضطرّ إلى التناول، و يصحّ له أن يقول: في الجميع «اضطررت إلى تناوله» و لا يصحّ سلب الاسم عنه و لا تكذيبه في شيء من الصور.

و الضابط الكلّي خوف الضرر سواء كان الضرر المخوف تلف النفس أو تلف المال أو هتك العرض أو حدوث المرض أو بطء علاجه أو غيره من الأحوال المذكورة فالاقتصار فيه على خوف تلف نفسه كما عرفته عن النهاية غير جيّد.

و الظاهر عدم الفرق فيه بين كون الضرر المخوف مقطوعاً أو مظنوناً أو محتملاً بالاحتمال العقلائي الّذي ملاكه الخوف و كونه بحيث يعتني بشأنه العقلاء، فلا يكفي الوهم و هو مطلق الاحتمال المرجوح الغير المعتنى به عند العقلاء، و يعتبر في نفس الضرر المخوف كونه ضرراً معتدّاً به و هو ما يعتني بشأنه العقلاء و يتحرّزون منها و لا يتسامحون فيه، فالضرر اليسير المتسامح فيه عند العقلاء من صداع غير شديد و ما أشبه ذلك لا عبرة به كما تنبّه عليه كاشف اللثام بقوله: «و لا يدخل فيه صداع غير متناه في الشدّة و نحوه»(1).

و بجميع ما عرفت ظهر ضعف قول الشيخ و ضعف دليله، لأنّ الاحتياط مع فرض الاضطرار لا حكم له حتّى من الرجحان، و عموم أدلّة المنع يخرج منه بالتخصيص أو الحكومة، و الخبر الخاصّ ضعيف بالإرسال، و مع ذلك يمكن حمله على الغالب و لو بحسب الأمزجة، فيعتبر في محلّ الرخصة العلم أو الظنّ الغالب بترتّب الفائدة على شربها لعدم صدق الاضطرار بدون ذلك.

الثالثة: يحرم سقي الصبيان الخمر بلا خلاف يظهر،

و في المستند(2) هو المعروف في كلامهم، لعموم قوله: «فجميع تقلّبه في ذلك حرام».

ص: 36


1- كشف اللثام 317:9.
2- المستند 234:15.

و خصوص روايتي عجلان بن أبي صالح في إحداهما «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام:

المولود يولد فنسقيه الخمر؟ فقال: لا، من سقى مولوداً مسكراً سقاه اللّٰه من الحميم و إن غفر له»(1).

و في الاُخرى «سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: يقول اللّٰه عزّ و جلّ : من شرب مسكراً أو سقى صبيّاً لا يعقل سقاه اللّٰه من ماء الحميم مغفوراً له أو معذّباً... الخ»(2).

و رواية أبي الربيع الشامي قال: «سئل أبو عبد اللّه عن الخمر؟ فقال رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم...

إلى أن قال: اُقسم ربّي لا يشرب عبد لي خمراً في الدنيا إلّا سقاه اللّٰه ما يشرب منها من الحميم معذّباً أو مغفوراً له، و لا يسقيها عبد لي صبيّاً صغيراً أو مملوكاً إلّا سقاه مثل ما سقاه من الحميم يوم القيامة معذّباً أو مغفوراً له»(3) و يستفاد من ذلك حرمة سقيها المملوك أيضاً صغيراً كان أو كبيراً.

و في حرمة سقيها الدوابّ كما عن القاضي ابن البرّاج(4) و جوازه على كراهية كما عليه العلّامة في القواعد(5) و عن الشهيد في الدروس(6) و في المستند(7) «أنّه الأشهر» قولان: و العموم المتقدّم يساعد على الأوّل، و ربّما يتناوله قوله عليه السلام: «و ساقيها» في خبر الخصال المتقدّم(8) كما جزم به بعض مشايخنا(9).

و للقول الآخر - بعد الأصل و العمومات - رواية غياث بن إبراهيم عن أبي عبد اللّه عليه السلام «إنّ أمير المؤمنين عليه السلام كره أن تسقى الدوابّ الخمر»(10).

و رواية أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «سألته عن البهيمة البقرة و غيرها تسقى أو تطعم ما لا يحلّ للمسلم أكله أو شربه أ يكره ذلك ؟ قال: نعم يكره ذلك»(11).

ص: 37


1- الوسائل 2/307:25، ب 10 الأشربة المحرّمة، التهذيب 449/103:9.
2- الوسائل 3/308:25، ب 10 الأشربة المحرّمة، الكافي 7/397:6.
3- الوسائل 1/307:25، ب 10 الأشربة المحرّمة، الكافي 1/396:6.
4- المهذّب 433:2.
5- القواعد 332:3.
6- الدروس 21:3.
7- المستند 234:15.
8- تقدّم في الصفحة 33: الرقم 1.
9- الجواهر 420:36.
10- الوسائل 4/308:25، ب 10 الأشربة المحرّمة، التهذيب 496/114:9.
11- الوسائل 5/309:25 باب 10 الأشربة المحرّمة، التهذيب 497/114:9.

و الروايتان لقصور سنديهما بل ضعف سند الثانية بالحسن بن عليّ بن أبي حمزة و أبيه، و قصور دلالتيهما نظراً إلى ظهور الكراهة في أخبار أهل بيت العصمة في الحرمة باعتبار كونها بمعنى المبغوضيّة لا تنهضان لتخصيص دليل المنع إلّا لجابر ينجبر به القصور و الضعف سنداً و دلالة، و لا يكون في نظائر المقام إلّا الشهرة المحقّقة الاستناديّة، و تحقّقها فيما نحن فيه غير واضح، فالمسألة موضع تأمّل و إن كان المنع لا يخلو عن قوّة.

الرابعة: يجوز الاكتحال بكحل متّخذ من الخمر للتداوي عند الضرورة

لا للزينة و لا للتداوي من غير ضرورة، كما عليه الشيخ(1) و جماعة كما في كاشف اللثام(2) و نسبه في المسالك(3) إلى الأكثر، لعموم قاعدة الاضطرار الّذي مداره على العلم بانحصار العلاج فيه، و خصوص ما رواه هارون ابن حمزة الغنوي في الحسن عن أبي عبد اللّه عليه السلام «في رجل اشتكى عينيه، فنعت له كحل يعجن بالخمر، فقال: هو خبيث بمنزلة الميتة، فإن كان مضطرّاً فليكتحل به»(4).

خلافاً لابن إدريس(5) فمنعه مطلقاً، لإطلاق النصّ و الإجماع بتحريمه الشامل لما نحن فيه، و لقوله عليه السلام «ما جعل اللّٰه في محرّم شفاء»(6) و خبر مروك بن عبيد عن رجل عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «من اكتحل بميل من مسكر كحّله اللّٰه بميل من نار»(7).

و يقيّد الجميع بحال الضرورة، لما عرفت مع ضعف سند الأخير بالإرسال فلا يقاوم لمعارضة الحسن، و معنى «ما جعل اللّٰه في محرّم شفاء» أنّه لم يأذن في الاستشفاء به إخراجاً له عن وصمة الكذب، و قاعدة الاضطرار حاكمة عليه لأنّها بمضمونها متعرّضة لبيان مقدار موضوع المنع من الاستشفاء و هو غير المضطرّ.

الخامسة: اختلف الأصحاب في جواز التداوي بالخمر شرباً أو أكلاً أو طلياً

ص: 38


1- المبسوط 288:6.
2- كشف اللثام 323:9.
3- المسالك 252:2.
4- الوسائل 5/350:25، ب 21 الأشربة المحرّمة، التهذيب 293/114:9.
5- السرائر 126:3.
6- الوسائل 1/349:25، ب 21 الأشربة المحرّمة، التهذيب 491/113:9.
7- الوسائل 2/349:25، ب 21 الأشربة المحرّمة، الكافي 7/414:6.

و عدمه، فعن الأكثر كما في كشف اللثام(1) المنع مطلقاً و لو مع الانحصار، و في المسالك(2) «هو المشهور بين الأصحاب» و عن الخلاف(3) و ظاهر المبسوط(4) الإجماع عليه. و عن القاضي(5) و العلّامة في المختلف(6) و جماعة(7) من المتأخّرين و متأخّريهم الجواز مع الانحصار.

مستند المشهور الأخبار الآتية المستفيضة القريبة من التواتر إن لم نقل بكونها متواترة و فيها الصحاح و غيرها من المعتبرة القاضية بمنع التداوي بالخمر أو مطلق المسكر و بالدواء المتّخذ منهما بقول مطلق.

و مستند الآخرين قاعدة الاضطرار المتقدّمة الّتي يمكن نهوضها حاكمة على الأخبار المشار إليها كما كانت حاكمة على أدلّة تحريم المحرّمات و غيرها ممّا تقدّم كرواية تحف العقول، و لأجل ذا ربّما يترجّح في النظر القاصر هذا القول.

غاية الأمر أن يعتبر فيه إحراز الصدق الاضطرار العلم بانحصار العلاج فيه، فلا يكفي فيه عدم العلم بعدم الانحصار، و لكن الإفتاء به و بناء العمل عليه مشكل بل في غاية الإشكال لمخالفته الشهرة العظيمة القريبة من الإجماع المعتضدة بالإجماع المنقول، مع أنّ أدلّة القاعدة المزبورة من الآيات و الروايات بمرأى من المعظم و مسمع، و القاعدة المستنبطة منها مقبولة لديهم معمولة عندهم في غير محلّ البحث، كالاضطرار إلى أكل الميتة أو إلى لحم الخنزير و إلى أكل مال الغير من دون إذنه و نحو ذلك، و لم يلتفتوا هنا إليها أصلاً و أعرضوا عن أدلّتها رأساً و أخذوا بمفاد الأخبار المشار إليها، مضافاً إلى خلوّها على كثرتها عمّا يدلّ على الرخصة في التداوي بالخمر أو مطلق المسكر مطلقاً أو مقيّداً بالانحصار الّذي هو ملاك الاضطرار، مضافاً إلى اشتمالها على أنواع التأكيدات في إنكار التداوي بالخمر و المنع من الاستشفاء بالمحرّم الّذي منه المسكر القاضية بشدّة الإنكار و المنع.

ففي صحيح الحلبي قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن دواء عجن بالخمر؟ فقال: لا،

ص: 39


1- كشف اللثام 321:9.
2- المسالك 252:2.
3- الخلاف 97:6 المسألة 27.
4- المبسوط 288:6.
5- المهذّب 433:2.
6- المختلف 341:8.
7- كما في السرائر 126:3، و في المنتهى 1010:2، و في الحدائق 70:18.

و اللّٰه ما اُحبّ أن أنظر إليه فكيف أتداوى به ؟ أنّه بمنزلة شحم الخنزير أو لحم الخنزير و ترون اُناساً يتداوون به»(1).

و خبره الآخر قال: «سئل أبو عبد اللّه عليه السلام عن دواء عجن بخمر؟ فقال: ما اُحبّ أن أنظر إليه و لا أشمّه، فكيف أتداوى به ؟»(2).

و صحيحه الآخر قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن دواء يعجن بالخمر لا يجوز أن يعجن به إنّما هو اضطرار فقال: لا، و اللّٰه لا يحلّ للمسلم أن ينظر إليه، فكيف يتداوى به ؟ و إنّما هو بمنزلة شحم الخنزير الّذي يقع في كذا و كذا لا يكمل إلّا به، فلا شفى اللّٰه أحداً شفاه خمر أو لحم خنزير»(3).

و حسن عمر بن اُذينة بل صحيحه قال: «كتبت إلى أبي عبد اللّه عليه السلام أسأله عن الرجل ينعت له الدواء من ريح البواسير فيشربه بقدر اسكرجة من نبيذ ليس يريد به اللذّة إنّما يريد به الدواء؟ فقال: لا، و لا جرعة. ثمّ قال: إنّ اللّٰه عزّ و جلّ لم يجعل في شيء ممّا حرّم دواء و لا شفاء»(4).

و خبر عمر بن يزيد قال: «حضرت أبا عبد اللّٰه عليه السلام و قد سأله رجل به البواسير الشديد و قد وصف له دواء اسكرّجة من نبيذ صلب لا يريد به اللذّة بل يريد به الدواء؟ فقال: لا، و لا جرعة. قلت: و لِمَ؟ قال: لأنّه حرام، و أنّ اللّٰه لم يجعل في شيء ممّا حرّمه دواء و لا شفاء»(5).

و المرويّ عن الصادق عليه السلام «لا يتداوى بالخمر و لا بالمسكر، و لا تمتشط به النساء، فقد أخبرني أبي عن جدّي أنّ عليّاً عليه السلام قال: إنّ اللّٰه عزّ و جلّ لم يجعل في رجس حرّمه شفاء»(6).

و خبر أبي بصير قال: «دخلت اُمّ خالد العبدية على أبي عبد اللّه عليه السلام و أنا عنده، فقالت: إنّه يعتريني قراقر في بطني و قد وصف لي أطبّاء العراق النبيذ بالسويق، فقال:

ص: 40


1- الوسائل 4/345:25، ب 20 الأشربة المحرّمة، التهذيب 490/113:9.
2- الوسائل 6/345:25، ب 20 الأشربة المحرّمة، الكافي 10/414:6.
3- الوسائل 10/346:25، ب 20 الأشربة المحرّمة، طبّ الأئمّة: 62.
4- الوسائل 1/343:25، ب 20 الأشربة المحرّمة، الكافي 2/413:6.
5- الوسائل 7/346:25، ب 20 الأشربة المحرّمة، طبّ الأئمّة: 32.
6- البحار 41/495:63، ب الأنبذة و المسكرات، دعائم الإسلام 473/134:2.

ما يمنعك من شربه ؟ فقالت: قد قلّدتك ديني، فقال: فلا تذوقي منه قطرة، لا و اللّٰه لا آذن لك في قطرة منه، فإنّما تندمين إذا بلغت نفسك إلى هاهنا، و أومأ بيده إلى حنجرته - يقولها ثلاثةً - أ فهمت ؟ فقالت: نعم...»(1) الخ.

و خبر عليّ بن أسباط عن أبيه قال: «كنت عند أبي عبد اللّه عليه السلام فقال له رجل: إنّ بي أرواح البواسير و ليس يوافقني إلّا شرب النبيذ. قال: فقال: ما لك و لما حرّم اللّٰه و رسوله ؟ - يقول ذلك ثلاثاً - عليك بهذا المريس الّذي تمرسه بالليل، و تشربه بالغداة، و تمرسه بالغداة و تشربه بالعشيّ ، فقال: هذا ينفخ البطن، فقال: أدلّك على ما هو أنفع من هذا؟ عليك بالدعاء فإنّه شفاء من كلّ داء، قال: فقلنا له: فقليله و كثيره حرام ؟ قال: قليله و كثيره حرام»(2).

و خبر ابن أبي يعفور قال: «كان إذا أصابته هذه الأوجاع فإذا اشتدّت به شرب الحسو من النبيذ فتسكن عنه فدخل على أبي عبد اللّه عليه السلام... إلى أن قال: فأخبره بوجعه و شربه النبيذ فقال له: يا ابن أبي يعفور لا تشربه فإنّه حرام، إنّما هذا شيطان موكّل بك فلو قد يئس منك ذهب، فلمّا رجع إلى الكوفة هاج به وجع أشدّ ممّا كان فأقبل أهله عليه فقال: لا و اللّٰه لا أذوقنّ منه قطرة، فيئسوا منه و اشتدّ به الوجع أيّاماً ثمّ أذهب اللّٰه عنه فما عاد إليه حتّى مات»(3).

و خبر سيف بن عميرة عن شيخ من أصحابنا عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «كنّا عنده فسأله شيخ فقال: إنّ بي وجعاً و أنا أشرب له النبيذ و وصفه له الشيخ، فقال له: ما يمنعك من الماء الّذي جعل اللّٰه منه كلّ شيء حيّ؟ قال: لا يوافقني، قال: فما يمنعك من العسل ؟ قال اللّٰه: «فِيهِ شِفٰاءٌ لِلنّٰاسِ » قال: لا أجده، قال: فما يمنعك من اللبن الّذي نبت منه لحمك و اشتدّ عظمك ؟ قال لا يوافقني ؟ قال: أبو عبد اللّه عليه السلام: تريد أن آمرك بشرب الخمر، لا و اللّٰه لا آمرك»(4).

ص: 41


1- البحار 2/344:25، ب 20 الأنبذة و المسكرات، الكافي 1/413:6.
2- الوسائل 3/344:25، ب 20 الأشربة المحرّمة، الكافي 3/413:6.
3- الوسائل 11/347:25، ب 20 الأشربة المحرّمة، رجال الكشّي: 459/247.
4- الوسائل 16/348:25، ب 20 الأشربة المحرّمة، تفسير العيّاشي 45/264:2.

و خبر إسماعيل بن محمّد قال: «قال جعفر بن محمّد عليهما السلام: نهى رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم عن الدواء الخبيث أن يتداوى به»(1).

و خبر فضل بن شاذان عن الرضا عليه السلام في كتابه إلى المأمون قال: «و المضطرّ لا يشرب الخمر لأنّها تقتله»(2).

و خبر أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «المضطرّ لا يشرب الخمر فإنّها لا تزيده إلّا شرّاً، و لأنّه إن شربها قتلته فلا يشرب منها قطرة»(3).

و خبر قائد بن طلحة «أنّه سأل أبا عبد اللّه عليه السلام عن النبيذ يجعل في الدواء؟ قال:

لا ينبغي لأحد أن يستشفى بالحرام»(4).

و السرّ فيما صنعه المعظم من الأخذ بمؤدّى هذه الأخبار دون قاعدة الاضطرار لا يخلو عن أحد الوجوه:

الأوّل: أنّ أدلّة القاعدة و إن كانت حاكمة على أدلّة تحريم المحرّمات و غيرها إلّا أنّها لا تحكم على الأخبار المانعة من التداوي بالخمر و مطلق المسكر، بل هذه الأخبار تنهض مخصّصة لها مخرجة للاضطرار إلى التداوي من القاعدة لكونها أخصّ مورداً و أقلّ أفراداً، فإنّ أدلّة القاعدة عامّة في مطلق المحرّمات و هذه الأخبار خاصّة في الخمر أو مطلق المسكر، فيرجّح الأخبار على أدلّة القاعدة و تخصّص تلك الأدلّة بها و إن كانت بين أكثرها و تلك الأدلّة عموماً من وجه، مع كون جملة منها لاختصاصها صراحة و ظهوراً بصورة الاضطرار أخصّ منها مطلقاً، فيكون مفادها بعد إرجاع التخصيص إليها أنّ كلّ مضطرّ اُبيح له تناول المحرّمات بقدر ما يدفع الضرورة إلّا من اضطرّ إلى التداوي بالمسكر خمراً كان أو غيرها فإنّه لا يحلّ له التداوي به مطلقاً.

و على هذا فالجعل المنفيّ في قوله عليه السلام: «إنّ اللّٰه لم يجعل في شيء ممّا حرّمه دواء و لا شفاء» يراد به الجعل التكليفي لا الجعل التكويني، و معناه أنّه لم يأذن في التداوي

ص: 42


1- الوسائل 9/346:25، ب 20 الأشربة المحرّمة، طبّ الأئمّة: 62.
2- الوسائل 12/347:25، ب 20 الأشربة المحرّمة، عيون الأخبار الرضا عليه السلام 1/129:2.
3- الوسائل 13/347:25، ب 20 الأشربة المحرّمة، علل الشرائع: 1/478.
4- الوسائل 5/345:25، ب 20 الأشربة المحرّمة، الكافي 8/414:6.

و لا الاستشفاء به، و يؤيّده إطلاق قوله تعالى: «قُلْ فِيهِمٰا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنٰافِعُ لِلنّٰاسِ وَ إِثْمُهُمٰا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمٰا» (1) بناءً على أن يكون المراد من منافع الخمر ما يعمّ منفعة التداوي من البرء و الشفاء، فقوله: «إِثْمُهُمٰا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمٰا» يعني به أنّ التداوي بالخمر مع حصول النفع به إثم و هو لشدّة عقوباته الاُخرويّة أو لعظم مفاسده الدنيويّة أكبر من النفع الحاصل به.

الثاني: أن تكون الأخبار المذكورة مسوقة لبيان أنّ الفائدة المطلوبة من التداوي لا تحصل به أبداً، و ما يرى في بعض الأحيان من مصادفة التداوي به لحصول البرء و الشفاء فإنّما هو لضرب من المقارنة الاتّفاقيّة من غير مدخليّة و تأثير له فيه، فيكون فعله اثماً صرفاً خالياً عن الفائدة المطلوبة، و ربّما يشير إليه قوله عليه السلام في قصّة اُمّ خالد:

«فإنّما تندمين...» الخ، و في نسبة القتل في عدّة من الأخبار إلى الخمر أيضاً إشارة إلى ذلك. و على هذا فيكون الجعل المنفيّ فيما تقدّم عبارة عن الجعل التكويني على معنى خلوّه عن الدواء و الشفاء بالمرّة.

الثالث: أن تكون الأخبار مسوقة لبيان عدم حصول الاضطرار للمسلم إلى التداوي به قطّ، لعدم انحصار طريق العلاج فيه بل له طريق آخر و لو نحو التوسّل بالدعاء فإنّه شفاء من كلّ داء، كما يشير إليه خبر عليّ بن أسباط أو التربة الحسينيّة عليه السلام كما يظهر من أخبار الاستشفاء بها، أو زوال المرض بنفسه بتفضّل من اللّٰه فيمن تحرّز عن التداوي به خالصاً لوجهه، ففيما تخيّل الإنسان اضطراره إليه بمظنّة انحصار الطريق فيه فهو وهم من الشيطان، فإذا يئس ذهب فحصل البرء تفضّلاً من اللّٰه، كما يشير إليه خبر ابن أبي يعفور.

و في خبر سيف بن عميرة أيضاً إشارة إلى عدم اتّفاق الاضطرار بعدم اتّفاق الانحصار قطعاً، فيكون الجعل المنفيّ في التعليل المتقدّم الجعل التكليفي أيضاً. و الوجوه الثلاث و إن كانت مشتركة في منع التداوي و تحريمه إلّا أنّ الأوجه منها الوجه الأخير، فالقول بجواز التداوي و إن كان قويّاً و لكنّ الأقوى هو المنع مطلقاً.

لا يقال: قضيّة ذلك عدم جواز الاكتحال به أيضاً فكيف يذهب الأكثر إلى الجواز و قد رجّحته أيضاً، لأنّا نعالجه بتخصيص القاعدة المستنبطة من أخبار الباب في منع

ص: 43


1- البقرة: 219.

التداوي بالخمر بل مطلق المسكر بما كان التداوي بطريق الشرب أو الأكل، و يؤيّده أنّ في الأكل و الشرب مفاسد ليست في غيرهما من التصرّفات و الانتفاعات فيكون الاكتحال مخرجاً عنها بدليل جوازه المتقدّم.

و في جواز التداوي بالطلي و عدمه وجهان: من ملاحظة تخصيص قاعدة المنع بالشرب و الأكل، و من أنّ القدر المتيقّن ممّا خرج بالتخصيص هو الاكتحال و بقى غيره و منه الطلي، و هذا أوجه إن لم يتوجّه إليه أنّ القدر المتيقّن ممّا خرج بالتخصيص من قاعدة الاضطرار هو التداوي بالمسكر بطريق الشرب أو الأكل و بقى غيره و منه الاكتحال و الطلي. و يؤيّده أنّ العمدة من دليل جواز الاكتحال كما تقدّم هو قاعدة الاضطرار، فالأقوى هو الجواز فيهما عند الضرورة الّتي ملاكها العلم أو الظنّ الغالب بانحصار العلاج.

فانقدح من تضاعيف كلماتنا من أوّل المبحث إلى هنا حرمة الانتفاع بالخمر بجميع وجوه الانتفاعات إلّا في أربعة مواضع:

الأوّل: شربها عند الضرورة للعطش.

الثاني: الاكتحال بها للضرورة.

الثالث: الطلي بها للتداوي عند الضرورة.

الرابع: اتّخاذها و إمساكها للتخليل.

السادسة: الخمر لا يملكها المسلم مطلقاً

بلا خلاف بين الأصحاب و ظهور الإجماع، و عن الشيخ في الخلاف(1) الإجماع عليه، و يدلّ عليه قوله عليه السلام في رواية تحف العقول: «منهيّ عن ملكه» على معنى ترتيب آثار الملك عليها و لا يكون ذلك إلّا لانتفاء الملكيّة، مضافاً إلى الروايات(2) الواردة في عقد النصراني و النصرانيّة على الخمر و الخنازير إذا أسلما قبل الأداء الدالّة على أنّه لا يؤدّي المهر من الخمر بل من غيرها، و في بعضها الدلالة على أنّها تقوّم عند مستحلّيها و يؤدّي القيمة، و إذا كان الإسلام رافعاً للملكيّة

ص: 44


1- الخلاف 185:3.
2- الوسائل 2/243:21، ب 3 أبواب المهور، التهذيب 1448/356:7.

فلئن يكون دافعاً لها طريق الأولويّة لأنّ الدفع أهون من الرفع. نعم يملكها الذمّي بلا خلاف فتوى و نصّاً كما هو مقتضى الأخبار المشار إليها مفهوماً بل منطوقاً، و لذا يضمنها الغاصب عيناً إذا كان ذمّياً أو قيمة إذا كان مسلماً.

و في تملّك المسلم لها إذا اتّخذها و أمسكها للتخليل قول نسب إلى جماعة(1).

و يظهر من المسالك في كتاب الغصب في مسألة ضمان الخمر إذا كان المغصوب منه مسلماً و قد اتّخذها للتخليل قائلاً: «و يضمنها الغاصب فإن كان المغصوب منه مسلماً وجب ردّها عليه مع بقاء عينها، و لو تخلّلت ردّها خلّاً لأنّها مملوكة على هذا الوجه فلا يزول ملكيتها بانتقالها إلى الصفة المحلّلة بل يتأكّد»(2) إلى آخر ما ذكره.

و فيه: أنّه ينافي إطلاق الإجماع المنقول و إطلاق قوله: «منهيّ عن ملكه» مضافاً إلى الاعتبار من أولويّة الدفع من الرفع، فإنّ العصير ملك للمسلم و إذا انقلب خمراً يزول ملكه فالخمريّة رافعة لملك المسلم، فلئن يكون دافعة طريق الأولويّة. نعم له حقّ اختصاص ما دام في يده للتخليل فيحرم مزاحمته فيها و أخذها منه قهراً أو إراقتها.

و قول الجماعة بملكه لها ممّا لا دليل عليه و لا دلالة للأخبار الدالّة على جواز أخذها للتخليل عليه.

ص: 45


1- كما في السرائر 281:2، و التحرير 160:1.
2- المسالك 256:2.

المبحث الثاني فيما يتعلّق بالأنبذة و الفقاع موضوعاً و حكماً

أمّا الأوّل: [أي الأنبذة]

فالأنبذة جمع النبيذ و هو بحسب الأصل الشراب المعمول من التمر بالخصوص و غلّب على باقي المسكرات المعمولة من الاُرز و الذرّة و غيرهما و إن اختصّ كلّ واحد أيضاً باسم، و ضابطه كلّ مسكر مائع بالأصالة كما في المسالك(1)و جمعه في كلام الفقهاء لاختلاف أنواعه لا لتعدّد أفراد نوع واحد، لأنّ المقصود به تعميم الحكم بالقياس إلى الأنواع المختلفة لا بالقياس إلى أفراد النوع، لأنّه بعد ما ثبت الحكم للنوع يسري إلى أفراده و لا حاجة له إلى التعميم. و ما ذكرناه من الاختصاص هو المصرّح به في كلام أئمّة اللغة و كلمة الفقهاء و هو المستفاد من أخبار أهل العصمة عليهم السلام.

[الثاني الفقاع]

و الفقّاع بحسب الأصل و في زمان صدور الحكم على ما يستفاد من الأخبار هو الشراب المتّخذ من الشعير خاصّة، و إطلاقه على المتّخذ من الزبيب أو الذرّة أو القمح أو الشعير و القمح كما قيل مجاز أو محدث حدث بعد أزمنة صدور الحكم.

و تحريمه - على التحقيق المتقدّم في باب النجاسات من كتاب الطهارة - من حيث تحريم الخمر أعني الإسكار و إن كان سكره خفيّاً، و لعلّه إلى ذلك يشير تصغير خميرة في قوله عليه السلام: «الفقّاع خميرة يستصغرها الناس»(2) و قد حقّقنا في الباب المذكور أنّه مع سائر الأنبذة من الأعيان النجسة فيشمل الجميع عموم قوله عليه السلام: «أو شيء من وجوه النجس» في رواية تحف العقول.

ص: 46


1- المسالك 119:3.
2- الوسائل 1/365:25، ب 28 الأشربة المحرّمة، الكافي 9/423:6.

فعموم قوله عليه السلام: «فجميع تقلّبه في ذلك حرام» يقتضي حرمة البيع و الشراء بل مطلق التكسّب في الجميع، بل قضيّة هذا العموم حرمة جميع الانتفاعات، إلّا ما يضطرّ إليه الإنسان فيحلّ الانتفاع عند الضرورة، إلّا ما يضطرّ إليه شرباً أو أكلاً للتداوي فإنّه حرام مطلقاً.

و الدليل على الاستثناء الأوّل قاعدة الاضطرار، و الدليل على الاستثناء الثاني عموم المنع المستفاد من الأخبار المانعة من التداوي، و يكفي فيه عموم التعليل الوارد فيها بقوله عليه السلام: «إنّ اللّٰه عزّ و جلّ لم يجعل في شيء ممّا حرّم دواءً و لا شفاءً »(1) مضافاً إلى أنّ مورد أكثرها هو النبيذ، و لو جعلناه بحسب الاسم عامّاً تثبت عموم المنع مع ما في بعضها النهي عن التداوي بالخبيث و هو بعموم مفهومه يعمّ الجميع مع إمكان دعوى الإجماع المركّب و عدم القول بالفصل.

و أمّا المسكرات الجامدة بالأصالة كالحشيشة الّتي منها ورق القنب على ما قيل و غيرها فهي و إن لم تكن من سنخ الأعيان النجسة إلّا أنّها لمشاركتها المسكرات المائعة في صفة الإسكار و تحريمها لأجله ربّما تذكر في المقام استتباعاً.

ففي المسالك بعد ما ذكر أنّ ضابط التحريم في الأنبذة كلّ مسكر مائع بالأصالة قال: «و كذا الجامدات إن لم يفرض لها نفع آخر و قصد من بيعها المنفعة المحلّلة»(2).

و يستفاد من كلامه أنّ ما كان له من الجامدات منفعة محلّلة و قصد من بيعه المنفعة المحلّلة جاز التكسّب به، بتقريب أنّ قوله: «و قصد بيعها...» الخ لا يجوز كونه عطفاً على الشرط في القضيّة المنطوقيّة و إلّا لتهافت المعطوف و المعطوف عليه، بل هو عطف على الشرط في القضيّة المفهوميّة و هو جواز بيعها إن كان لها منفعة محلّلة قصداً إلى إخراجه من الإطلاق إلى تقييده بالقصد المذكور. فيفيد أنّ الجواز مشروط بأمرين أحدهما:

أن يكون فيه منفعة، و ثانيهما: أن يقصد ببيعه المنفعة المحلّلة، فما لا منفعة فيه أو لم يقصد ببيعه تلك المنفعة حرم بيعه، فالأقسام ثلاثة يجوز البيع في واحد منها دون غيره.

و في الرياض بعد ما أشار إلى القول بهذا التفصيل تنظّر فيه بقوله: «فيه نظر لعموم

ص: 47


1- الوسائل 7/346:25، ب 20 الأشربة المحرّمة، طبّ الأئمّة: 32.
2- المسالك 119:3.

أدلّة المنع»(1) و كان نظره في دعوى العموم إلى عموم قوله في رواية تحف العقول: «أمّا وجوه الحرام من البيع و الشراء فكلّ أمر يكون فيه الفساد ممّا هو منهيّ عنه من جهة أكله أو شربه أو كسبه أو نكاحه أو ملكه أو إمساكه أو هبته أو عاريته» مضافاً إلى عموم الملازمة المستفادة من النبويّ المتقدّم: «إنّ اللّٰه إذا حرّم شيئاً حرّم ثمنه» فإنّه في الدلالة على التكسّب بما حرّمه اللّٰه تعالى يتناول المسكرات الجامدة أيضاً لأنّها أشياء حرّمها اللّٰه تعالى.

و قد يحتمل كونه عموم التشبيه في نحو قوله عليه السلام في الأخبار المستفيضة: «إنّ اللّٰه لم يحرّم الخمر لاسمها بل لعاقبتها فما كان عاقبته عاقبة الخمر فهو خمر»(2) بناءً على أنّه يقتضي المشاركة في جميع الأحكام الّتي منها حرمة التكسّب.

و نوقش بأنّ التحقيق أنّه يقتضي المشاركة في الأحكام الظاهرة، و الظاهر من أحكام الخمر حرمة شربها. فالتمسّك بالعموم من جهة التشبيه غير جميل، إلّا أن يدّعى كون حرمة التكسّب في الخمر من أحكامها الظاهرة. و فيه تأمّل، فإنّ أقصى ما يسلّم فيها كون التكسّب بها من منافعها الغالبة، و هو لا يقتضي كون حرمته من الأحكام الظاهرة.

و كيف كان فقضيّة نظر السيّد رحمه الله استناداً إلى العموم عدم الفرق في منع التكسّب بالجامدات بين صورها الثلاث، فهو حرام و إن قصد به الجهة المحلّلة، و هو مستظهر لأنّ التفصيل بالجواز من حيث الجهة المحلّلة و عدمه من حيث الجهة المحرّمة تخصيص في أدلّة المنع المفروض عمومها لمحلّ البحث فيحتاج إلى دليل. و على المفصّل إقامة الدليل عليه، و يمكن أن يستدلّ له بوجوه:

الأوّل: التعليل الواقع في رواية تحف العقول بقوله عليه السلام: «لأنّ ذلك كلّه منهيّ عن أكله و شربه و لبسه و ملكه و إمساكه و التقلّب فيه...» الخ فإنّه يفيد أنّ العلّة في تحريم بيع الأشياء المذكورة قبل ذلك تحريم منافعها، فيفيد دوران تحريم البيع مع تحريم المنافع وجوداً و عدماً و بمقتضى حجّية العلّة المنصوصة يتعدّى من الأشياء المذكورة في

ص: 48


1- الرياض 130:8.
2- الوسائل 1/342:25، ب 19 الأشربة المحرّمة، التهذيب 486/112:9.

الرواية إلى غيرها ممّا وجد فيه العلّة فيعمّ تحريم البيع و دورانه مع العلّة المذكورة للمسكرات الجامدة أيضاً.

لا يقال: ظاهر العطف بواو الجمع كون العلّة تحريم جميع المنافع فلا تعمّ ما كان بعض منافعه محلّلاً كما هو محلّ البحث، لأنّ الدوران في الوجود و العدم يفيد انتفاء تحريم البيع عند انتفاء تحريم جميع المنافع، و هذا بضابطة رفع الإيجاب الكلّي يصدق مع عدم تحريم شيء من المنافع و مع عدم تحريم بعض المنافع، غاية الأمر أنّه يثبت تحريم البيع بالنسبة إلى الثاني في المنفعة المحرّمة بدليل آخر، و يكفي فيه عموم قوله:

«فكلّ أمر يكون فيه الفساد ممّا هو منهيّ عنه من جهة أكله أو شربه أو كسبه» الخ فإنّه يعطي كفاية تحريم بعض المنافع في تحريم البيع، و القدر المتيقّن من ذلك تحريم البيع في المنفعة المحرّمة إن لم ندّع الظهور فيه بحسب العرف، فيبقى جواز البيع في المنفعة المحلّلة و صحّته مستفاداً من عمومات الصحّة مثل «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» (1)«وَ أَحَلَّ اَللّٰهُ اَلْبَيْعَ » (2) و نحو ذلك.

الثاني: قوله عليه السلام في رواية دعائم الإسلام: «إنّ الحلال من البيوع كلّما كان حلالاً من المأكول و المشروب و غير ذلك ممّا هو قوام للناس و يباح لهم الانتفاع، و ما كان حراماً أصله منهيّاً عنه لم يجز بيعه و لا شراؤه»(3) و هذا يدلّ على إناطة حلّ البيع و تحريمه بحلّ المنفعة و تحريمها أكلاً في المأكول، و شرباً في المشروب، و لبساً في الملبوس، و سائر وجوه الانتفاع في غيرها، و ينساق منه أنّ البيع في المنفعة المحلّلة حلال، و في المنفعة المحرّمة حرام، و يجري هذا التفصيل فيما اشتمل على المنفعتين.

و لو سلّم عدم جريانه فيه فلا ينساق من قوله: «و ما كان حراماً أصله منهيّاً عنه لم يجز بيعه» أزيد من تحريم بيعه في المنفعة المحرّمة، فيبقى حلّيّة بيعه في المنفعة المحلّلة مستفادة من العمومات.

الثالث: قوله: «إنّ اللّٰه إذا حرّم شيئاً حرّم ثمنه» فإنّه بملاحظة ما قرّرناه من الوجوه لإثبات الملازمة بين فساد البيع و تحريمه في معنى قوله: «إذا حرّم شيئاً حرّم بيعه»

ص: 49


1- المائدة: 1.
2- البقرة: 188.
3- دعائم الإسلام 19:2.

فيدلّ بظاهره على تحريم بيع الشيء فيما حرّم اللّٰه من منافعه سواء كان جميع المنافع أو منافعه المقصودة، فيبقى حلّيّة بيع ما اشتمل على المنفعة المحلّلة مستفادة من العمومات.

الرابع: صحيحة عمر بن اُذينة قال: «كتبت إلى أبي عبد اللّه عليه السلام أسأله عن رجل له كرم أ يبيع العنب و التمر ممّن يعلم أنّه يجعله خمراً أو سكراً؟ فقال: إنّما باعه حلالاً في الإبّان الّذي يحلّ شربه أو أكله فلا بأس ببيعه»(1) فإنّ قوله: «إنّما باعه حلالاً» بمنزلة العلّة لقوله: «فلا بأس ببيعه» فيفيد تعليل عدم البأس ببيعه حال حلّيّة أكله أو شربه، و هو أيضاً يفيد دوران حلّيّة البيع وجوداً و عدماً مع حلّيّة المنفعة أكلاً و شرباً.

فنتيجة الوجوه المذكورة فيما اشتمل على المنفعتين تحريم بيعه في المنفعة المحرّمة، و حلّ بيعه في المنفعة المحلّلة، و هذا التفصيل حينئذٍ قاعدة اُخرى مستفادة من الأدلّة تنهض لتخصيص عموم أدلّة المنع حسبما تمسّك به السيّد(2).

فإن قلت: هذا التفصيل إن صحّ لجرى في الخمر و غيرها من المسكرات المائعة أيضاً، لاشتمالها بملاحظة ما سبق من جواز الانتفاع بها في المواضع الأربع المتقدّمة على منفعتين محرّمة - و هي شربها اختياراً - و محلّلة، كما في المواضع الأربع فوجب أن يحلّ بيعها في هذه المواضع، فما معنى إطلاق المنع من بيعها حتّى في المواضع الأربع حتّى في صورة اتّخاذ الخمر للتخليل كما تقدّم.

قلت: فرق بين حلّ الانتفاع بالشيء و حلّ منفعة الشيء، و المسوّغ للبيع هو الثاني، و الموجود في المواضع الأربع هو الأوّل، و الفرق بينهما أنّ المنفعة عبارة عن الفائدة المقصودة من الشيء بنوعه، بأن يكون ذلك الشيء بنوعه معدّاً لاستفادة هذه الفائدة، و هي غير الفائدة المطلقة المترتّبة على الشيء في بعض الأحيان من دون أن يكون بنوعه معدّاً لاستفادة تلك الفائدة، و ضابط الفرق بينهما أنّ المنفعة من قبيل لوازم الماهيّة، و مطلق الفائدة من قبيل عوارض الشخص، و على ما بيّنّاه ينطبق جميع تعبيرات الفقهاء، فتارةً بالمنفعة الغالبة و المنفعة النادرة، و اُخرى بالمنفعة المقصودة

ص: 50


1- الوسائل 5/230:17، ب 59 ما يكتسب به، الكافي 8/231:5.
2- مصابيح الأحكام: 13.

للعقلاء و المنفعة الغير المقصودة لهم، و سيأتي زيادة بيان لهذا المقام.

و لا ريب أنّ الخمر بنوعها معدّة لشربها اختياراً طلباً للإسكار، لا لشربها عند الضرورة لرفع العطش، و لا للاكتحال بها عند الضرورة، و لا للطلي بها عند الضرورة للتداوي، و لا لاتّخاذها للتخليل، فليس لها في المواضع الأربع منفعة محلّلة بالمعنى المذكور حتّى تكون مسوّغة لبيعها، و لو سلّم إطلاق المنفعة على مطلق الفائدة المحلّلة فهي منفعة نادرة، و المسوّغ للبيع هي المنفعة الغالبة مع كونها محلّلة لا غير، مع أنّه لا عبرة بما أحلّت في مقام الاضطرار بل المعتبر حلّ المنفعة حال الاختيار.

ثمّ إنّه بعد البناء فيما اشتمل على المنفعتين المحرّمة و المحلّلة، فهل قصد المنفعة المحلّلة عند البيع شرط لجوازه أو أنّ قصد المنفعة المحرّمة مانع ؟ و يظهر فائدة الفرق بين الاعتبارين فيما لو بيع لا بقصد إحدى المنفعتين فإنّه على الأوّل حرام لانتفاء شرط الحلّ ، و على الثاني حلال لانتفاء المانع، و الأظهر هو الثاني لظهور إطلاق قوله عليه السلام في صحيحة عمر بن اُذينة: «لا بأس ببيعه» تعليلاً بأنّه «باعه حلالاً في الإبان الّذي يحلّ شربه أو أكله».

مضافاً إلى ما ظهر من تقرير الاستدلال بالوجوه الأربعة لاستفادة التفصيل المذكور من أنّ أدلّة المنع من بيع المسكرات أو مطلق المحرّمات لا تدلّ على أزيد من تحريم البيع في المنافع المحرّمة، و يبقى حلّ البيع في المنافع المحلّلة مستفادة من عمومات صحّة البيع و حلّه، فإنّ المستفاد منها جواز البيع و صحّته بقول مطلق، خرج منها ما قصد ببيعه المنفعة المحرّمة، و بقى غيره و منه ما لم يقصد ببيعه إحدى المنفعتين.

و بقى الكلام في أنّ المسكرات الجامدة هل هي مشتملة على المنفعة المحلّلة و أنّها أيّ شيء؟ و تحقيق ذلك ليس من وظيفة الفقه، و استعلامه موكول إلى العرف و نظر أهل الخبرة

ص: 51

المبحث الثالث فيما يتعلّق بالميتة موضوعاً و حكماً

ففي القاموس «مات يموت و يمات و يميت فهو ميّت، و ميّت ضدّ حيّ ... إلى أن قال: و هي مَيّتة و مَيْتَةٌ وَ مَيت و الميتة ما لم تلحقه الزكاة»(1) انتهى.

و قضيّة صدر كلامه كون الميّتة مؤنّثة الميّت لمعنى عامّ ، لأنّ ضدّ الحيّ يعمّ الميّت الإنساني و غيره ممّا ذهبت عنه الحياة بإزهاق الروح أو بالذكاة ذبحاً أو نحراً أو رمياً، و قضيّة ذيله كونها لمعنى خاصّ .

و من ثمّ ربّما يتوهّم منه كونها بحسب العرف القديم مقولاً بالاشتراك بين العامّ و الخاصّ ، و هو بعيد. و ليس بذلك البعيد أن لو قلنا بأنّ هذه المادّة بجميع تصاريفها كانت في أصل اللغة للمعنى العامّ ، إلّا أنّ المشدّد من تصاريفها غلّب في العرف على الميّت الإنساني، و المخفّف منها خصوصاً مع التاء غلّب على ما تلحقه الزكاة من سائر أنواع الحيوان، و يشهد له التبادر و صحّة السلب خصوصاً سلب الميّتة عن المذكّى، و على هذا فالتاء في هذه اللفظة للنقل لا غير، و لا يبعد كون هذا النقل بحسب الوضع الشرعي، فتكون هذه اللفظة من الحقائق الشرعيّة.

و يؤيّده أنّها في نحو قوله تعالى: و «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةُ » (2) و قوله أيضاً: «إِلاّٰ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً» (3) بل في جميع خطابات الشرع كتاباً و سنّة و في عرف المتشرّعة مصروفة إلى هذا المعنى لا غير، و لم يعلم من غير أهل هذا الدين أنّهم يخصّونها به. و كيف كان فموضوع البحث هو الميتة بهذا المعنى، و لها أنواع ثلاث لأنّها

ص: 52


1- القاموس 158:1. (موت)
2- المائدة: 3.
3- الأنعام: 145.

إمّا أن تكون من نجس العين كالكلب و الخنزير، أو من طاهر العين، و على الثاني إمّا أن تكون من ذات النفس السائلة كالحمير و البغال و البرازين و غيرها، أو من غير ذات النفس السائلة كالسمك و الجرادة و غيرها.

أمّا النوع الأوّل: فلا إشكال بل لا خلاف في حرمة المعاوضة بل مطلق المعاملة عليها، و لا في عدم جواز الانتفاع بها مطلقاً، و لا في عدم جريان ملك المسلم عليها ابتداءً و استدامةً فيما كانت من الكلاب الأربع، من غير فرق في هذه الأحكام بين الميتة بجملتها أو بأبعاضها ممّا تحلّه الحياة من أجزائها و غيرها، فإنّ الكلّ من وجوه النجس، و الدليل على الكلّ في الكلّ - بعد ظهور الإجماع بل الإجماعات المنقولة على ما قيل - عموم رواية تحف العقول الّتي دلالتها على تحريم البيع للجملة في مواضع منها.

و هل يستثنى من أجزاء ميتة الخنزير شعرها للانتفاع به باتّخاذ حبل يستقى به أو لا؟ أقوال، ثالثها الفرق بين ما لا دسومة فيه فيجوز و ما فيه دسومة فلا يجوز، و على الاستثناء ففي كونه من حلّ الانتفاع أو من حلّ المنفعة ليحلّ بيعه في تلك المنفعة وجهان، و تحقيق القول في هذين الفرعين يأتي عند الكلام في الخنزير، فإنّ الاختلاف في الانتفاع بشعر الخنزير على الوجه المذكور واقع ثمّة، و ظاهر إطلاقهم عدم الفرق بين ما لو اُخذ الشعر من الحيّ أو من الميتة.

و أمّا النوع الثاني: و هو ميتة طاهر العين ممّا له نفس سائلة، فالمعروف بين الأصحاب من غير خلاف يظهر حرمة المعاوضة عليها، بل في المنتهى(1) دعوى إجماع المسلمين كافّة على تحريم بيع الميتة. و يدلّ عليه من الروايات(2) كلّما دلّ على سحتيّة ثمن الميتة و رواية تحف العقول في مواضع عديدة منها، و على تحريم مطلق المعاوضة بل المعاملة عليها عموم قوله: «فجميع تقلّبه في ذلك حرام». كما يدلّ على حرمة الانتفاع بها بجميع وجوهه حتّى إطعام السباع و الطيور و البزازين.

و يدلّ على عدم جريان ملك المسلم عليها ابتداءً و استدامةً عموم قوله عليه السلام: «و منهيّ

ص: 53


1- المنتهى 1008:2.
2- الوسائل 5/94:17 و 8 و 9، ب 5 ما يكتسب به، الفقيه 435/105:3 و 824.

عن ملكه» بالتقريب المتقدّم، و على حرمة الانتفاع بها مطلقاً بالخصوص - مضافاً إلى الإجماع المنقول عن التنقيح(1) و الإيضاح(2) على حرمة الانتفاع بالأعيان النجسة بقول مطلق، و إلى الكتاب العزيز في الآيات المتكرّرة المتقدّم إلى بعضها الإشارة و لو في الجملة إن قلنا بانصراف إطلاقها في خصوص الأكل - عدّة روايات(3) مصرّحة بأنّ الميتة لا ينتفع بها و في بعضها لا ينتفع من الميتة بإهاب و لا عصب، و هذا مضافاً إلى ما ذكر يعمّ الجملة و الأبعاض.

نعم يستثنى من أبعاضها في جميع الأحكام المذكورة على وجه القاعدة القابلة للتخصيص ما لا تحلّه الحياة من أجزائها كالشعر و الصوف و الوبر و الريش و القرن و العظم و غيره، لما تحقّق في كتاب الطهارة من طهارة هذه الأجزاء، فيجري عليها ملك المسلم استدامةً للاستصحاب و ابتداءً للعمومات، فيحلّ الانتفاع بها بجميع الانتفاعات التابعة للملك، و يجوز بيعها و شراؤها بل يجري عليها عقود المعاوضة مطلقاً و غيرها، كلّ ذلك للعمومات الشاملة لها أجناساً و أنواعاً و أصنافاً.

و ربّما يستشكل في تحريم التكسّب بجلد الميتة و تحريم الانتفاع به مطلقاً، كما عن الكفاية(4) و الحدائق(5) نظراً منهما إلى رواية الصيقل رواها الشيخ بإسناده عن محمّد ابن الحسن الصفّار عن محمّد بن عيسى بن عبيد عن أبي القاسم الصيقل و ولده قال:

«كتبوا إلى الرجل: جعلنا اللّٰه فداك إنّا قوم نعمل السيوف ليست لنا معيشة و لا تجارة غيرها، و نحن مضطرّون إليها، و إنّما علاجنا جلود الميتة من البغال و الحمير الأهليّة لا يجوز في أعمالنا غيرها، فيحلّ لنا عملها و شراؤها و بيعها و مسّها بأيدينا و ثيابنا؟ و نحن نصلّي في ثيابنا، و نحن محتاجون إلى جوابك في هذه المسألة يا سيّدنا لضرورتنا؟ فكتب: اجعل ثوباً للصلاة...»(6) الخ بتوهّم أنّه يدلّ على الجواز في جميع ما سئل عنه.

و الجواب أوّلاً: أنّ الرواية معارضة بما هو أقوى منها من المعتبرة المصرّحة بعدم

ص: 54


1- التنقيح 5:2.
2- الإيضاح 152:4.
3- الوسائل 2/185:24، ب 34 الأطعمة المحرّمة، المهذّب 335/79:9.
4- الكفاية: 84.
5- الحدائق 73:18.
6- الوسائل 4/173:17، ب 38 ما يكتسب به، التهذيب 1100/376:6.

جواز الانتفاع من الميتة بشيء، و قد تقدّم(1) الإشارة إلى بعضها المصرّح بأنّه لا ينتفع من الميتة بإهاب و لا عصب.

و ثانياً: القدح في سندها لجهالة الراوي، فإنّ أبا القاسم الصيقل غير مذكور في الرجال بمدح و لا قدح، و يتأكّد ضعفها بإعراض الأصحاب عن العمل بها في تجويز التكسّب و الانتفاع بقول مطلق.

و ثالثاً: أنّها محتملة للتقيّة لموافقتها مذهب العامّة القائلة بطهارة جلد الميتة بالدبغ، و ربّما يشعر بها الإضراب في الجواب عمّا سئل عنه فأجاب بما لا يوافق السؤال، مع أنّ المكاتبة يحتمل فيها من التقيّة ما لا يحتمل في غيرها، و التقرير مع كونه دلالة ضعيفة إنّما يكشف عن الرضا حيث لم يكن لعدم الردع جهة إلّا الرضا، و لا يكون إلّا حيث ينتفي احتمال التقيّة.

و رابعاً: منع الدلالة، فإنّ الجواب لا ظهور له في الجواز إلّا من حيث التقرير الغير الظاهر في الرضا مع قيام احتمال التقيّة.

و قد يقال في منع الدلالة بالقياس إلى البيع و التكسّب: إنّ مورد السؤال عمل السيوف و بيعها و شراؤها، لا خصوص الغلاف مستقلّاً و لا في ضمن السيف على أن يكون جزء من الثمن في مقابل عين الجلد، فغاية ما يدلّ عليه جواز الانتفاع بجلد الميتة بجعله غمداً للسيف و هو لا ينافي عدم جواز معاوضته بالمال.

و فيه: أنّه تفكيك غير سائغ بين فقرات السؤال فإنّ مورده عمل جلود الميتة و بيعها و شراؤها و مسّها فإن دلّ الجواب على الجواز في الأوّل دلّ عليه في البواقي، و إن لم يدلّ عليه في البواقي لم يدلّ عليه في الأوّل و التفكيك غير معقول. و الإنصاف أنّ في عدم تعرّضه عليه السلام لتجويز هذه الاُمور صراحة و الاقتصار في الجواب على بيان العلاج للصلاة دلالة على مبغوضيّة هذه الاُمور في نظره عليه السلام و عدم رضاه بشيء منها، و إنّما لم يصرّح به لمانع و هو خوف الإشاعة المنافية للتقيّة.

و لكثير ممّا ذكرناه من الوجوه يظهر الجواب عن رواية قاسم الصيقل قال: «كتبت

ص: 55


1- تقدّم في الصفحة 60 الرقم 5.

إلى الرضا عليه السلام إنّي أعمل أغماد السيوف من جلود الحمر الميتة فتصيب ثيابي فاُصلّي فيها؟ كتب إليّ اتّخذ ثوباً لصلاتك، فكتبت إلى أبي جعفر الثاني عليه السلام إنّي كتبت إلى أبيك عليه السلام بكذا و كذا فصعّب عليّ ذلك، فصرت أعملها من جلود الحمر الوحشيّة الذكيّة، فكتب إليّ كلّ أعمال البرّ بالصبر يرحمك اللّٰه فإن كان ما يعمل وحشيّاً ذكيّاً فلا بأس»(1).

بل هذا باعتبار المفهوم ربّما يدلّ على المنع من عمل جلود الميتة.

كما يظهر الجواب أيضاً عن خبر حسين بن زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السلام «في جلد شاة ميتة يدبغ فيصيب فيه اللبن أو الماء فأشرب منه و أتوضّأ؟ قال: نعم، و قال: يدبغ فينتفع به و لا يصلّي فيه»(2) بل هذا لمخالفته عدّة قواعد محكّمة من المذهب - من عدم طهر جلد الميتة بالدبغ، و حرمة شرب الماء المتنجّس، و حرمة التوضّي و عدم صحّته بالماء المتنجّس - مطروح أو محمول على التقيّة، كما هو المصرّح به في كلام جماعة منهم صاحب الوسائل(3).

و اختلف الأصحاب في الاستقاء بجلد الميتة في غير مشروط بالطهارة - من المأكول و المشروب و الوضوء و الصلاة - كسقي الدوابّ و المزارع و البساتين و ما أشبه ذلك، فالمشهور المنع، و ذهب جماعة كالشيخ في النهاية(4) و الفاضلين في الشرائع(5)و النافع(6) و الإرشاد(7) إلى الجواز، و لقد أفرط الصدوق في المقنع(8) فجوّز الاستقاء بجلد الخنزير، و هو يعطي جوازه في غيره من جلود الميتة بطريق أولى.

و الأقوى المشهور، لعموم أدلّة المنع من الانتفاع بالميتة المتناول لجلدها أيضاً، و شذوذ القول بالجواز مع عدم مستند له، سوى ما أشار إليه الشهيد الثاني في المسالك «من الأصل و كون النجاسة غير مانعة من أصل الاستعمال»(9) و يدفعه: أنّ الأصل يخرج منه بدليل المنع، و أنّ النجاسة العينيّة مانعة من مطلق الاستعمال كما أنّها مانعة من المعاوضة بالمال. و يكفي في دليله عموم قوله عليه السلام: «فجميع تقلّبه في ذلك حرام» بعد

ص: 56


1- الوسائل 1/489:3، ب 49 أبواب النجاسات، التهذيب 1485/358:2.
2- الوسائل 7/186/24، ب 34 الأطعمة المحرّمة، التهذيب 332/78:9.
3- الوسائل 186:24.
4- النهاية 101:3.
5- الشرائع 227:3
6- النافع: 24.
7- الإرشاد 113:2.
8- المقنع: 18.
9- المسالك 247:2.

قوله عليه السلام: «أو شيء من وجوه النجس» المتناول لمثل جلد الميتة أيضاً.

و لئن سلّمنا عدم كون النجاسة مانعة من الاستعمال فالميتيّة الّتي هي جهة اُخرى كافية في المنع.

و يكفي في دليله العموم المذكور أيضاً بعد ذكر الميتة في عداد الاُمور المذكورة قبله، مضافاً إلى خصوص عدّة روايات مصرّحة بمنع استعمال الجلد أيضاً بقول مطلق على ما تقدّم الإشارة إليها مثل خبر الفتح بن يزيد عن أبي الحسن عليه السلام قال: «كتبت إليه أسأله عن جلود الميتة الّتي يؤكل لحمها ذكيّاً؟ فكتب عليه السلام: لا ينتفع من الميتة بإهاب و لا عصب»(1).

و صحيح عليّ بن أبي المغيرة قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: الميتة ينتفع منها بشيء؟ فقال: لا، قلت: بلغنا أنّ رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم مرّ بشاة ميتة، فقال: ما كان على أهل هذه الشاة إذا لم ينتفعوا بلحمها أن ينتفعوا بإهابها؟ فقال: تلك شاة كانت لسودة بنت زمعة زوج النبيّ صلى الله عليه و آله و كانت شاة مهزولة لا ينتفع بلحمها فتركوها حتّى ماتت، فقال رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله:

ما كان على أهلها إذا لم ينتفعوا بلحمها أن ينتفعوا بإهابها أي تذكّى»(2).

و خبر يونس بن يعقوب عن أبي مريم قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: السخلة الّتي مرّ بها رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم و هي ميتة ؟ فقال رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم: ما ضرّ أهلها لو انتفعوا بإهابها، قال: فقال أبو عبد اللّه عليه السلام: لم تكن ميتة يا أبا مريم، و لكنّها كانت مهزولة فذبحها أهلها فرموا بها، فقال رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم: ما كان على أهلها لو انتفعوا بإهابها»(3).

و هذا كسابقه في الدلالة على ردع الراوي عمّا اعتقده من ترخيص رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم في الانتفاع بجلد الميتة، فيدلّان على المنع من الانتفاع بقول مطلق، مضافاً إلى قوله عليه السلام: «لا» في سابقه المتناول لوجوه الانتفاع حتّى بجلدها بدليل فهم الراوي و لذا نقضه بحديث رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم حسبما اعتقده على خلاف الواقع.

و موثّقة سماعة قال: «سألته عن جلود السباع أ ينتفع بها؟ فقال: إذا رميت و سمّيت

ص: 57


1- الوسائل 1/185:24، ب 34 الأطعمة المحرّمة، التهذيب 335/79:9.
2- الوسائل 1/184:24، ب 34 الأطعمة المحرّمة، الكافي 7/256:6.
3- الوسائل 3/185:24، ب 34 الأطعمة المحرّمة، التهذيب 335/79:9.

فانتفع بجلده، و أمّا الميتة فلا»(1) إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع.

و بهذا كلّه يظهر ضعف ما سمعت عن الصدوق من تجويز الاستقاء بجلد الخنزير مع شذوذه و ضعف مستنده، و هو الأصل على ما أشار إليه في المسالك حيث قال: «إنّ النهي في الآية مورده الميتة مطلقاً الشامل للانتفاع بجلدها بخلاف الخنزير فإنّ مورده اللحم فلا يتعدّى إلى غيره للأصل»(2).

و فيه: أنّ التعدّي إلى غيره يثبت بالأخبار فإنّها إمّا شاملة بمنطوقها من جهة الإطلاق لجلد الخنزير لأنّه نوع من جلد الميتة، أو توجب التعدّي إليه بمفهومها الموافقة نظراً إلى الأولويّة، و به يتعيّن الخروج عن الأصل.

النوع الثالث: و هو ميتة ما ليس له نفس سائلة كميتة السمك و نحوه، و هذه تشارك ميتة ذي النفس في الحرمة الذاتيّة و تمتاز عنها في الطهارة، فلا يلحقها البحث من جهة النجاسة بل من حيث الحرمة. و هذا البحث يلحقها تارةً في حرمة التكسّب بها، و اُخرى في جواز الانتفاع بشيء منها من غير جهة الأكل، كالانتفاع بدهنه للإسراج و تدهين الأجرب و طلي السفن و نحو ذلك.

أمّا الجهة الاُولى: فالظاهر عدم الخلاف في حرمة التكسّب بها و المعاوضة عليها في الجملة، و هو المعتمد لعموم قوله في رواية التحف: «أمّا وجوه الحرام من البيع و الشراء فكلّ أمر يكون فيه الفساد ممّا نهى عنه من جهته أكله...» الخ، و عموم الملازمة المستفادة من النبوي «إنّ اللّٰه إذا حرّم شيئاً حرّم ثمنه».

و أمّا الجهة الثانية: فالظاهر جواز الانتفاع بدهنها فيما ذكر كما عليه جماعة(3) و في كلام بعض مشايخنا(4) «الظاهر أنّه لا خلاف فيه» للأصل و فقد ما يوجب الإضراب عنه من النصوص و غيرها حتّى عموم قوله: «فجميع تقلّبه في ذلك حرام» لاختصاصه

ص: 58


1- الوسائل 4/185:24، ب 34 الأطعمة المحرّمة، التهذيب 339/79:9.
2- المسالك 247:2.
3- كما في المسالك 121:3، الحدائق 77:18، مفتاح الكرامة 59:12، الجواهر 17:22.
4- المكاسب للشيخ الأنصاري 40:1.

بوجوه النجس و خصوص النصوص المانعة من الانتفاع بالميتة مطلقاً لاختصاصها بميتة ذي النفس بحكم الانصراف. ثمّ إنّ ما ذكر من فائدة الإسراج أو التدهين أو الطلي فوائد مقصودة للعقلاء من هذا الدهن، فتكون من قبيل المنفعة المحلّلة، و بيعه في تلك المنفعة جائز و صحيح، و في فائدة الأكل حرام و فاسد على ما تقدّم من قاعدة التفصيل فيما اشتمل على المنفعتين فليتدبّر.

فرع: إذا اختلط المذكّى و الميتة من ذي النفس المأكول مع تعذّر التميّز، فإن كان اختلاط مزج يجب اختيار الجميع قولاً واحد فيحرم بيعه و أكله و سائر الانتفاعات به، و يؤيّده أو يدلّ عليه قوله عليه السلام: «ما اجتمع الحلال و الحرام إلّا غلب الحرام الحلال»(1)و إن كان اختلاط اشتباه مع كما في الشبهة المحصورة، فالأصحّ وفاقاً للأكثر وجوب اجتناب الجميع عملاً بقاعدة الشبهة المحصورة - على ما تقرّر في الاُصول - خلافاً للمحقّق الأردبيلي(2) و صاحب الكفاية(3) و النراقي في المستند(4) فجوّزوا الارتكاب و لو بالأكل إلى أن يعلم بقاء مقدار الحرام، للأصل، و قوله عليه السلام: في صحيح ضريس الكناسي «سأل أبا جعفر عليه السلام عن السمن و الجبن نجده في أرض المشركين بالروم فآكله ؟ فقال: أمّا ما علمت أنّه خلطه الحرام فلا تأكله، و أمّا ما لم تعلم فكله حتّى تعلم أنّه حرام»(5).

و الأصل مدفوع بالقاعدة المأخوذ في موضوعها العلم الإجمالي المنجّز للتكليف، و الخبران مدفوعان باختصاصهما بمحتمل الحرمة الّذي لم يكن معه علم إجمالي فلا يتناولان المقام.

و هل يجوز بيع الجميع باعتبار كون أحدهما مذكّى ؟ فله صورتان، إحداهما: بيعه من المسلم، و الظاهر أنّه ممّا لا خلاف في عدم جوازه بل هو من فروع القاعدة المذكورة المقتضية لوجوب الاجتناب عن جميع أطراف الشبهة، و لا يتمّ إلّا بالامتناع

ص: 59


1- البحار 6/272:2.
2- مجمع الفائدة 271:11.
3- الكفاية: 251.
4- المستند 154:15.
5- الوسائل 1/235:24، ب 164 الأطعمة المحرّمة، التهذيب 336/79:9.

عن بيع الجميع، كما لا يتمّ إلّا بالامتناع عن أكل الجميع و عن سائر الانتفاعات بالجميع.

و اُخراهما: بيعه من المستحلّ للميتة، و فيه اختلاف، فعن الشيخ في النهاية(1)و ابن حمزة في الوسيلة(2) و يحيى بن سعيد في الجامع(3) جوازه، و مال إليه في الشرائع إن قصد به بيع المذكّى، حيث قال: «و ربّما كان حسناً إن قصد بيع الذكي حسب»(4)و نسب اختياره إلى العلّامة في المختلف(5) أيضاً، و مستندهم صحيح الحلبي قال:

«سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: إذا اختلط الذكيّ و الميتة باعه ممّن يستحلّ الميتة و أكل ثمنه»(6) و حسنه بل صحيحه على الصحيح عن أبي عبد اللّه عليه السلام «أنّه سئل عن رجل كان له غنم و بقر و كان يدرك الذكيّ منها فيعزله و يعزل الميتة: ثمّ إنّ الميتة و الذكي اختلطا كيف يصنع به ؟ قال: يبيعه ممّن يستحلّ الميتة و يأكل ثمنه فإنّه لا بأس»(7) قيل و نحوهما خبر عليّ بن جعفر.

و عن الحلّي أنّه منع عن بيعه و الانتفاع به مطلقاً، لمخالفة الرواية لاُصول المذهب في جواز بيع الميتة، و لقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «إنّ اللّٰه إذا حرّم شيئاً حرّم ثمنه»(8).

و المحقّق بما سمعت منه في الشرائع وجّه الرواية - كما فهمه في المسالك - بما إذا قصد به بيع المذكّى حسب، فلا يكون منافياً لاُصول المذهب.

و استشكله في المسالك «بأنّ مع عدم إمكان التميز يكون المبيع مجهولاً فلا يمكن إقباضه فلا يصحّ بيعه منفرداً»(9).

و نقل الجواب عنه عن المختلف «بأنّه ليس بيعاً حقيقيّاً بل هو استنقاذ مال الكافر من يده برضاه فيكون سائغاً، و إنّما اطلق عليه اسم البيع لمشابهته له في الصورة من حيث إنّه بذل مال في مقابلة عوض»(10).

و استشكله أيضاً بأنّ مستحلّ الميتة أعمّ ممّن يباح ماله إذ لو كان ذمّيّاً كان ماله

ص: 60


1- النهاية: 586.
2- الوسيلة: 362.
3- الجامع للشرائع: 250.
4- الشرائع 223:3.
5- المختلف 319:8.
6- الوسائل 1/99:17، ب 7 ما يكتسب به، الكافي 2/260:6.
7- الوسائل 2/99:17، ب 7 ما يكتسب به، الكافي 1/260:6.
8- السرائر 113:3.
9- المسالك 58:12.
10- المختلف 319:8.

محترماً فلا يصحّ إطلاق القول ببيعه كذلك على مستحلّ الميتة، و الأولى إمّا العمل بمضمون الرواية لصحّتها أو اطراحها لمخالفتها الأصل. و مال الشهيد في الدروس(1) إلى عرضه على النار، و اختباره بالانبساط و الانقباض كما يأتي في اللحم المطروح المشتبه. و يضعّف مع تسليم الأصل ببطلان القياس مع وجود الفارق، و هو أنّ اللحم المطروح يحتمل كونه بأجمعه مذكّى و كونه غير مذكّى فكونه ميتة غير معلومة، بخلاف المتنازع فإنّه مشتمل على الميتة قطعاً فلا يلزم من الحكم في المشتبه تحريمه كونه كذلك في المعلوم التحريم(2).

أقول: مبنى هذه التجشّمات و التكلّفات و النقوض و الإبرامات كلّها على توهّم كون المراد من البيع في الروايتين بيع المذكّى و الميتة معاً، و ليس كما توهّم بل المراد بيع المذكّى منهما وحده حال الاشتباه بأن يتوارد إيجاب البائع و قبول المشتري على المذكّى لا غير، و لعلّه مراد المحقّق من قصد المذكّى بالبيع لا مجرّد قصد البائع كون المبيع هو المذكّى مع إجراء العقد على الجميع.

و الدليل على ما ذكرنا من نفس الروايتين إفراد الضمير في قوله عليه السلام: «باعه و يبيعه» فإنّه ليس إلّا من جهة عوده إلى المذكّى، فلو كان المراد بيعهما جميعاً كان المناسب تثنية الضمير بأن يقول «باعهما و يبيعهما» كما أنّ الراوي في الرواية الثانية ثنّى الضمير بقوله: «الميّت و المذكّى اختلطا» و لو فرضنا عود الضمير فيهما إلى المشتبه أو المختلط فالمراد به أيضاً هو المذكّى من حيث طرأه الاشتباه و الاختلاط، فما ذكرناه قرينة واضحة على أنّ الإمام عليه السلام أراد بقوله: «باعه أو يبيعه» بيع المذكّى وحده. و هذا ليس من تجويز البيع للميتة ليكون مخالفاً لاُصول المذهب، و صورته أن يقول البائع لمستحلّ الميتة: هذان أحدهما مذكّى و الآخر ميتة و قد اختلطا بحيث لا يمكن لي التميّز و أنا أبيعك المذكّى منهما بكذا، و إذا رضي المستحلّ بالاشتراء بقول البائع «بعتك المذكّى منهما بكذا» و يقول المشتري: قبلته أو ابتعته أو اشتريته بكذا، و هذا هو معنى بيعه ممّن يستحلّ الميتة.

ص: 61


1- الدروس 14:3.
2- المسالك 242:2.

فاندفع بما بيّنّاه شبهة الحلّي حيث أورد على الرواية بكونها مخالفة لاُصول المذهب، كما يندفع إشكال الشهيد الثاني باعتبار جهالة المبيع، فإنّ التميّز إنّما يعتبر مقدّمة للإقباض الّذي إمكانه شرط في صحّة البيع، و إقباض المبيع هنا يحصل بإقباض الجميع، و عدم إمكان التميّز للمشتري غير قادح لأنّه لاستحلاله الميتة لا حاجة له إلى التميّز بينها و بين المذكّى لأنّهما عنده بحسب اعتقاده الفاسد في حلّية الأكل و الانتفاع على حدّ سواء.

و لا يلزم من عدم التميّز في حقّه الإخلال بشرط الصحّة لحصول الإقباض بإقباض الجميع، و يكون ذلك كشيئين أحدهما ملك لزيد و الآخر ملك لعمرو و اشتبها بحيث تعذّر عليهما التميّز و كانا في يد زيد مثلاً و حينئذٍ إذا باع زيد شقصه منهما على عمرو ثمّ أقبضه بإقباضهما معاً لم يكن مانع من الصحّة، نعم إنّما يحتاج إلى التميّز إذا كان المشتري مسلماً غير مستحلّ للميتة، و حيث تعذّر ذلك تعذّر إقباض المبيع فتعذّر قبضه فبطل معه البيع.

و من هنا ظهر أنّه لا حاجة إلى ما تكلّفه العلّامة في المختلف من صرف ذلك عن حقيقة البيع إلى صورته للاستنقاذ، ليرد عليه ما تقدّم من أنّه لا يتمّ فيمن لا يباح مال كما لو كان ذمّيّاً.

و لا إلى ما سمعت عن الشهيد في الدروس من العرض على النار و الاختبار بالانقباض و الانبساط ليتوجّه إليه ما عرفت عن المسالك.

و لا إلى ما تكلّفه بعض مشايخنا من حمل الروايتين على صورة قصد البائع المسلم أجزاءها الّتي لا تحلّها الحياة من الصوف و العظم و الشعر نحوها، قال: «و تخصيص المشتري بالمستحلّ لأنّ الداعي له على الاشتراء اللحم أيضاً و لا يوجب ذلك فساد البيع ما لم يقع العقد عليه»(1) ليتوجّه إليه البعد و كمال مخالفة الظاهر و عدم كونه حينئذٍ من بيع المذكّى و لا الميتة، مع أنّ المشتري لا يشتري إلّا المجموع الّذي غرضه الأصلي منه اللحم و هو من المبيع في نظره فلم يتوارد الإيجاب و القبول على شيء واحد،

ص: 62


1- الشيخ الأنصاري في المكاسب 38:1.

و لم يوافق قصداهما.

و يندفع بما بيّنّاه أيضاً جميع الإيرادات الّتي أوردها السيّد في المصابيح(1) و نقلها شيخنا في الجواهر - مضافة إلى ما عرفته عن المسالك من كون المبيع مجهولاً لا يمكن إقباضه - من أنّه «قد يأخذ أكثر من ثمن المذكّى إذا باع الاثنين ظاهراً فيكون أخذ الزائد أكلاً للمال بالباطل، و أنّه يقصد الواحد و المشترى الاثنين فلم يوافق قصداهما و لم يتوارد الإيجاب و القبول على أمر واحد، و أنّه مع قصد المذكّى لو صحّ البيع من المستحلّ لصحّ من غير المستحلّ أيضاً و الفرق تحكّم، و أنّ المستحلّ يشارك غيره في الحكم الّذي هو عدم جواز الانتفاع المقتضي لعدم صحّة البيع من غير المستحلّ بناءً على الأصحّ من مخاطبة الكافر بفروع هذه الشريعة»(2) انتهى.

فإنّ العقد إذا وقع على المذكّى بالخصوص مع قصدهما إيّاه لا غير لم يبذل و لم يؤخذ أكثر من ثمن المذكّى و لتوارد الإيجاب و القبول على الواحد و هو المذكّى لا غير، و أنّ الفارق بين المستحلّ و غير المستحلّ أنّ عدم إمكان التميّز قادح في الثاني لعدم إمكان الإقباض معه فيه و غير قادح في الأوّل لحصول إقباض المبيع بإقباض الجميع مع عدم الحاجة له إلى التميّز لاستحلاله الجميع.

فإن قلت: الفرق بين المستحلّ و غير المستحلّ في كفاية إقباض المبيع في ضمن الجميع و عدم قدح عدم إمكان التميّز في الأوّل دون الثاني تحكّم، بل هما مشاركان في الحكم نفياً و إثباتاً، و السرّ فيه أنّ الإقباض من حيث إنّه إقباض ليس معتبراً في صحّة البيع، فإنّ البيع ليس كالوقف و الهبة ليكون الإقباض و القبض معتبراً في صحّته بل الشرط في الحقيقة هو سلامة المبيع عن موانع التصرّف فيه و الانتفاع به، فلو باع شيئاً مع ما يمنع المشتري عقلاً أو شرعاً من التصرّف و الانتفاع وجب عليه رفع المانع إن قدر عليه، و لو لم يقدر عليه كبيع العبد الآبق أو الطير في الهواء أو السمك في البحر كان البيع باطلاً لكونه حينئذٍ معاملة سفهيّة و هي باطلة غير مندرجة في عمومات الصحّة.

ص: 63


1- مصابيح الأحكام: 14.
2- الجواهر 340:36.

و لا ريب أنّ حرمة الانتفاع بالميتة و اشتباه المذكّى بها على وجه لا يتميّز و وجوب الاجتناب عن المذكّى أيضاً من باب المقدّمة موانع من التصرّف فيه و الانتفاع به، و هي كما يمنع البائع عنهما كذلك يمنع المشتري أيضاً سواء كان مستحلّاً أو غير مستحلّ ، أمّا الأوّل فواضح، و أمّا الثاني فلمخاطبة الكافر بفروع الشريعة فيكون البيع و الاشتراء معاملة سفهيّة مطلقاً لعدم سلامة المبيع عن موانع التصرّف و الانتفاع مع عدم قدرة البائع على رفعها حتّى في حقّ المستحلّ .

قلت: حرمة الانتفاع بالميتة و وجوب الاجتناب عن المذكّى في صورة الاشتباه إنّما هو بحسب اعتقادنا لا في اعتقاد الكافر، فإنّه لا يعتقد في حقّه حرمة و وجوباً فالبيع و الاشتراء في حقّه ليس معاملة سفهيّة بحسب اعتقاده لعدم صدقها عليه عرفاً بل صدق المعاملة الغير السفهيّة، و هذا هو معنى عدم قدح عدم إمكان التميّز هنا، بخلاف ما لو كان المشتري غير مستحلّ فإنّه في حقّه معاملة سفهيّة قطعاً لعدم تمكّنه من التصرّف و الانتفاع بالمبيع، و إن حصل قبضه في ضمن قبض الجميع.

لا يقال: البائع لكونه مسلماً بمقتضى قاعدة الشبهة المحصورة ممنوع من هذا البيع لوجوب الاجتناب عليه عن جميع أطراف الشبهة، و تجويز بيع المذكّى المشتبه و لو من المستحلّ ينافيه لأنّ وجوب الاجتناب عن جميع أطراف الشبهة حكم ظاهري يثبت بقاعدة الاشتغال الجارية في الشكّ في المكلّف به الّذي لا يؤول إلى الشك في التكليف، فيخرج عنه بالدليل و هو النصّ الصحيح الصريح في الجواز.

لا يقال: قاعدة الاشتغال المقتضية لوجوب الاجتناب عن المذكّى الواقعي قاعدة عقليّة فوجوب الاجتناب حكم عقلي و التخصيص في الأحكام العقليّة غير سائغ، لأنّ هذا الحكم و إن كان عقليّاً إلّا أنّه حكم تعليقي معلّق على عدم ورود الدليل على جواز الارتكاب، نظير الحظر العقلي و الإباحة العقليّة في المنافع قبل ورود الشرع، و المفروض وجود الدليل على جواز بيع المذكّى المشتبه بالميتة ممّن يستحلّها بالخصوص، و هذا في الحقيقة ليس تخصيصاً بل هو إخراج للمورد عن موضوع حكم العقل.

ص: 64

فتقرّر أنّ الأقوى في المسألة هو الجواز على الوجه الّذي قرّرناه عملاً بالصحيحة و الحسنة.

و توهّم مخالفتهما الشهرة الموهنة لهما، يدفعه أوّلاً: أنّ هذه الشهرة على تقدير تسليمها لابتنائها على الاشتباه في فهم معنى الصحيحة حسبما عرفت لا تأثير لها هنا، و ثانياً: منع تحقّق شهرة الخلاف إن لم ندّع الشهرة في الجواز، بل عن مجمع البرهان(1)حكاية الشهرة على العمل بالروايتين، و أنّ ابن إدريس(2) طرحهما على أصله.

ص: 65


1- مجمع الفائدة 271:11.
2- السرائر 113:3.

المبحث الرابع فيما يتعلّق بالدم

اشارة

و له من حيث النجاسة و الطهارة، و من حيث كونه من مأكول و غيره أنواع:

النوع الأوّل: الدم النجس بنوعه

و هو دم ذي النفس المعبّر عنه في الآية و الفتوى بالدم المسفوح، و لا ينبغي التأمّل في حرمة التكسّب به، للإجماع محصّلاً و منقولاً في حدّ الاستفاضة، و رواية تحف العقول في غير موضع، و عموم الملازمة المستنبطة من النبوي. كما لا ينبغي التأمّل في حرمة الانتفاع به من غير جهة الأكل مطلقاً، لعموم «فجميع تقلّبه في ذلك حرام» و قوله تعالى: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةُ وَ اَلدَّمُ » (1) في وجه، و هو تناول إطلاق التحريم لجميع جهاته.

نعم ينبغي أن يستثنى منه استعماله في الزروع و الكروم و اُصول الأشجار، لنفي الخلاف في المبسوط الّذي هو في معنى نقل الإجماع، حيث قال: «و أمّا سرجين ما لا يؤكل لحمه و عذرة الإنسان و خرء الكلاب و الدم، فإنّه لا يجوز بيعه و يجوز الانتفاع به في الزروع و الكروم و اُصول الشجر بلا خلاف»(2) بناءً على رجوعه إلى الحكمين كما هو الظاهر.

فإنّه مع عدم العثور على ما ينافيه من النصوص و الفتاوي ربّما يورث الظنّ القويّ بالجواز في المواضع الثلاث و يخرج به من القاعدة المستفادة من العموم، و لو سلّم عدم إيراثه الظنّ بالجواز فلا أقلّ من توهينه العموم بحيث يتناول المواضع المذكورة فيرجع

ص: 66


1- المائدة: 3.
2- المبسوط 167:2.

فيها إلى الأصل و هو كافٍ في التزام الجواز، و لكنّ على كلّ تقدير وجب الاقتصار في الخروج عن القاعدة على هذه المواضع و لا يتعدّى إلى غيرها حتّى التداوي به للعين و غيرها و الصبغ و غيره، و إن كان ربّما يستشمّ من بعض العبائر جواز الصبغ لعدم وضوح دليل على شيء ممّا ذكر سوى الأصل الغير الجاري في موضع الدليل.

نعم إذا عصى باستعماله في الصبغ مثلاً ينبغي القطع بجواز الانتفاع بالمصبوغ بعد التطهير، لأنّ المحرّم إنّما هو الصبغ بالدم لا الانتفاع بالصفة الحادثة منه. و لا يخفى عليك أنّ جواز الانتفاع في الوجوه المذكورة لا يسوّغ البيع لأجلها، لأنّه فيها من حلّ الانتفاع لا من حلّ المنفعة. و بجميع ما ذكر يظهر أنّه لا يجري على هذا الدم ملك المسلم، لعموم «منهيّ عن ملكه» على ما تقدّم.

النوع الثاني: الدم الطاهر بنوعه،

و هو دم غير ذي النفس المعبّر عنه بغير المسفوح، مع كونه من غير المأكول كدم الضفادع و القُراد و البراغيث و القماميل و ما أشبه ذلك، و حرمة المعاوضة عليها مبنيّة على كون هذا الدم محرّماً فإنّه قد حكي عن بعضهم(1)القول بحلّيّته استرابة في استخباثه. و يستفاد من صاحب الكفاية التردّد فيه قائلاً:

«و الكلام في حلّه و حرمته مبنيّ على استخباثه و عدمه»(2) و هذا لا يخلو عن غرابة و إن كان وافقه غير واحد في التشكيك المذكور، إذ لا ينبغي لأحد أن يرتاب في خباثة دماء هذه الحيوانات سيّما في أكثر أنواعها، فإنّ الخبيث ما يتنفّر منه طباع أوساط الناس و هم المعتدلون منهم، و هذا موجود في تلك الدماء، فينبغي القطع بأنّ الحكم فيها هو حرمة الأكل لا غير، لعموم قوله عليه السلام: «و حرّم عليكم الخبائث»(3).

و قد يدّعى فيه الإجماع و السيرة القطعيّة بل الضرورة، و يدلّ عليه قوله عليه السلام في رواية تحف العقول: «لأنّ ذلك كلّه منهيّ عن أكله و شربه» في تعليل تحريم بيع الاُمور المذكورة قبله الّتي منها الدم، بناءً على تناوله لمحلّ البحث من الدماء المذكورة كما هو الأظهر لمكان جنسيّة اللام، فتفيد تعليق الحكم على الماهيّة من حيث هي السارية في جميع مصاديقها الخارجيّة الّتي منها محلّ البحث. و بهذا التقريب يمكن الاستدلال أيضاً

ص: 67


1- كما في التذكرة 464:1.
2- الكفاية: 251.
3- البحار 76:49 مع اختلاف.

بقوله تعالى: و «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةُ وَ اَلدَّمُ » (1) المتكرّر في سورتين إن لم يعارضه مفهوم الدم المسفوح في الآية الاُخرى كما هو الأظهر على ما سنقرّره، فإذا ثبت الحرمة الذاتيّة في هذا الدم يثبت حرمة المعاوضة عليه بقول مطلق، لعين ما مرّ في تحريم المعاوضة على الدم النجس و لا حاجة إلى الإعادة.

و هل يحلّ الانتفاع بهذا الدم من غير جهة الأكل كالصبغ و التداوي في غير محلّ الضرورة و غير ذلك أو لا؟ مبنيّ على كون الأصل فيه حلّ الانتفاع بقول مطلق إلّا ما أخرجه الدليل، أو أنّ الأصل فيه حرمة الانتفاع إلّا ما خرج بالدليل.

يمكن القول بالأوّل استناداً إلى الأصل بمعنى أصالة الإباحة الجارية في الأشياء النافعة الخالية عن أمارة المفسدة، و أصالة البراءة الجارية في الشبهات التحريميّة المستفادة من العمومات، مضافاً إلى عموم قوله تعالى: و «خَلَقَ لَكُمْ مٰا فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً» (2) أي لأجل انتفاعكم.

كما يمكن القول بالثاني استناداً إلى عموم قوله عليه السلام: «فجميع تقلّبه في ذلك حرام» بعد فرض شمول قوله: «أو الدم» لمحلّ البحث كما نبّهنا عليه و يعضده طريقة الاحتياط. و هذا هو الوجه و المختار، لأنّ الحكم المستفاد من العموم على وجه القاعدة أصل اجتهادي، و به يخرج عن الأصلين وروداً، و عن العامّ المتقدّم تخصيصاً. و يستثنى منه استعماله في الوجوه المتقدّمة في الدم النجس إمّا لإطلاق معقد نفي الخلاف المتقدّم عن الشيخ في المبسوط، أو للأولويّة بالنظر إلى جواز ذلك في الدم النجس المعتضدة بالأصل، أو هو المستند في وجه على ما تقدّم، و لكن لا يجوز بيعه و شراؤه في هذه الوجوه على ما بيّنّاه، و الكلام في عدم جريان الملك عليه كما تقدّم أيضاً.

النوع الثالث: الدم الطاهر الغير المسفوح من مأكول اللحم كدم السمك، و هل يحرم المعاوضة عليه أو لا؟

وجهان مبنيّان على كونه محرّم الأكل أو محلّله، إذ على الأوّل يلزم حرمة المعاوضة عليه لعين ما مرّ في النوعين الأوّلين، و على الثاني يلزم جوازها و صحّتها للعمومات أجناساً و أنواعاً و أصنافاً، فينبغي لاستعلام الحلّ و الحرمة في

ص: 68


1- المائدة: 3 و البقرة: 173.
2- البقرة: 29.

المعاوضة من صرف النظر في مسألة حلّ أكل هذا الدم و حرمته.

فنقول: قد اختلف فيه الأصحاب، فعن ظاهر المعتبر(1) و الغنية(2) و السرائر(3)و المختلف(4) و المنتهى(5) و نهاية الإحكام(6) القول بحلّيّته، و ربّما يعزى إلى ظاهر الأوّل دعوى الإجماع عليه.

و نسب في الكفاية إلى ظاهر كثير من عبائرهم المصير إلى الحرمة قائلاً: «و ظاهر كثير من عبائرهم تخصيص التحليل بالدم المتخلّف في الذبيحة و تعميم التحريم في غيره من الدماء قال: و عن بعضهم التصريح به و التنصيص على دم السمك»(7) انتهى.

و من المعلوم أنّ محلّ النزاع ما تميّز عن اللحم و انفصل منه حيّاً أو ميّتاً إن فرض له دم بعد الموت يمكن انفصاله منه، دون ما اختلط باللحم بعد ذكاته بالصيد ممّا لا يمكن تخليصه منه، فإنّه في حكم الدم المتخلّف في الذبيحة من المأكول المختلط باللحم بحيث يتعذّر تخليصه منه و إن غسل بالماء مرّة بعد اُولى و كرّةً بعد اُخرى، فإنّه معفوّ مباح تبعاً للّحم، للإجماع و السيرة القطعيّة بل ضرورة الدين، مضافاً إلى العسر و الحرج المنفيّين في الدين.

و مستند المبيحين على ما يستفاد من عباراتهم و تضاعيف كلماتهم وجوه:

الأوّل: الأصل المحتمل لإرادة أصالة الإباحة المقرّرة في الأشياء النافعة الخالية عن أمارة المضرّة، أو أصالة البراءة المقرّرة في الشبهات التحريميّة.

الثاني: قوله عزّ من قائل: «قُلْ لاٰ أَجِدُ فِي مٰا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلىٰ طٰاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاّٰ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ» (8) فإنّه تعالى قيّد الدم بالمسفوح و خصّ التحريم بذلك المقيّد، و المسفوح على ما ذكره الأصحاب تبعاً لأهل اللغة(9) من السفح بمعنى الصبّ أي المصبوب، و فسّروه بدم ذي النفس المحكوم عليه بالنجاسة. و لذا قال في المسالك في شرح عبارة الشرائع عند ذكر الدم المسفوح و غير المسفوح: «إنّ الأوّل

ص: 69


1- المعتبر 491:1.
2- الغنية: 41.
3- السرائر 174:1.
4- المختلف 474:1.
5- المنتهى 191:3.
6- نهاية الإحكام 268:1.
7- الكفاية: 251.
8- الأنعام: 145.
9- كما في لسان العرب 275:6، تاج العروس 475:6 (سفح).

الدم الّذي يخرج بقوّة عند قطع عرق الحيوان أو ذبحه، و الثاني هو الدم يخرج بتثاقل كدم السمك»(1).

و تخصيص التحريم بالدم المسفوح يقتضي حلّيّة غير المسفوح إمّا بحكم الأصل أو المفهوم أو الحصر المستفاد من النفي و الاستثناء، و لا يعارضه قوله تعالى: و «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةُ وَ اَلدَّمُ وَ لَحْمُ اَلْخِنْزِيرِ» (2) لأنّ الدم في هذه الآية مطلق و في الآية الاُولى مقيّد، و من الواجب حمل المطلق على المقيّد كما زعمه في المسالك تعليلاً باتّحاد الموجب، فالمراد في الآية الثانية أيضاً هو الدم المسفوح لا غير.

الثالث: السيرة القطعيّة بين المسلمين المستقرّة على عدم التحرّز عن دم السمك.

الرابع: العسر و الحرج المنفيّين في تحريم دم السمك.

و ضعف الكلّ واضح، إذ الأصل يخرج منه بدليل الحرمة و سيظهر، و تحريم الدم المسفوح لا ينافيه تحريم مطلق الدم لأنّ المسفوح أيضاً من جمله أفراد الماهيّة، فالآيتان من قبيل العامّ و الخاصّ المتوافقي الظاهر فيعمل بهما من غير محذور.

و دعوى: أنّ المطلق يحمل على المقيّد لاتّحاد الموجب، يدفعها أوّلاً: أنّ المقام ليس من موارد قاعدة حمل المطلق على المقيّد لكون حكميهما تحريميّين و قد اتّفقوا على عدم الحمل فيهما، و لذا لا حمل في مثل: لا تعتق مكاتباً و لا تعتق مكاتباً كافراً، بخلاف مثل: أعتق رقبة و أعتق رقبة مؤمنة أو لا تعتق رقبة كافرة.

و ثانياً: أنّ الحمل في باب المطلق و المقيّد فرع على التنافي بين مقتضاهما، و التنافي المتوهّم هنا إن كان بين منطوقي الآيتين ففيه منع التنافي لتوافق المنطوقين، و إن كان بين منطوق المطلق و مفهوم المقيّد فهو فرع على ثبوت المفهوم هنا، و هو محلّ منع لكونه من مفهوم الوصف الّذي - هو على المشهور و هو الأصحّ - ليس بحجّة في نفسه، فتعليق تحريم الدم على وصف المسفوح لا يفيد نفي الحكم عن غير المسفوح، و النكتة في ذكر الوصف حينئذٍ إمّا شدّة الاهتمام في المنع و التحريم بشأن المسفوح فإنّه لنجاسته أشدّ حرمة من غير المسفوح، أو لأنّ الّذي اُوحي إليه صلى الله عليه و آله و سلم و بيّن له إلى زمان

ص: 70


1- المسالك 245:2.
2- المائدة: 3.

صدور الآية إنّما هو تحريم المسفوح فقط، و هذا لا ينافي كون غير المسفوح ممّا بين تحريمه فيما بعد نزول الآية، و يؤيّده اُمور:

منها: التعبير عن نفي تحريم ما عدا الثلاثة بعدم وجدان محرّم غيرها و تقييده بما اُوحي إليه، و هذا يشعر بأنّ في علم اللّٰه سبحانه محرّمات اُخر لم يوح تحريمها إليه صلى الله عليه و آله بعمد، و يجوز كون غير المسفوح من جملتها.

و منها: عدم انحصار محرّمات الأكل في الثلاثة المذكورة في الآية بحكم الضرورة بل هي غير محصورة، و من جملتها لحوم السباع و المسوخ و الوحوش و أكثر الطيور و غيرها، و لا محالة قد اُوحي إليه صلى الله عليه و آله و سلم تحريمها، و قضيّة حصر ما اُوحي إليه في الثلاثة كون غيرها إنّما اُوحي إليه بعد نزول الآية بالتدريج، و يجوز كون غير المسفوح من جملتها.

و منها: أنّ هذه الآية مذكورة في سورة الأنعام، و آية إطلاق التحريم متكرّرة في سور ثلاث البقرة و المائدة و النحل، و قد قيل كما في المستند(1) في سورة الأنعام و سورتي البقرة و المائدة: إنّ الاُولى مكّيّة و هاتان مدنيّتان، و ذكر الطبرسي(2) في تفسيره أنّ هذه السورة - يعني الأنعام - مكّيّة و المائدة مدنيّة، فيجوز أن يكون غير ما في الآية من المحرّمات إنّما حرّم فيما بعد و يجوز أن يكون غير المسفوح منها.

و السيرة القطعيّة المدّعاة إنّما تسلّم في المختلط باللحم الّذي يتعذّر تخليصه منه، لا في المتميّز المنفصل منه، و لا في ما يمكن انفصاله من غير عسر.

و قاعدة نفي العسر و الحرج أيضاً تسلّم في المختلط لا في غيره.

و على هذا فالعمل بإطلاق التحريم متّجه، لسلامة الآية المتضمّنة له عن المعارض، و تكرّرها في السور الثلاث يوجب قوّة اُخرى في دلالتها، و مقتضى إطلاق التحريم ثبوته في جميع الأنواع الثلاث من الدم خصوصاً المسفوح منها لنجاسته، بل قضيّة اندراجه في الإطلاق تحريم جميع أفراده في جميع أحوالها حتّى ما كان منها من الذبيحة من المأكول فضلاً عن غير المأكول، فيحرم ما في القلب و الكبد و الطحال و إن طهرت مع إشكال في طهارة ما في الطحال.

ص: 71


1- المستند 161:15.
2- مجمع البيان 3 و 299:4 و 3.

نعم يستثنى منها الدم المختلط باللحم المنبثّ فيه بحيث تعذّر أو تعسّر التحرّز منه فإنّه معفوّ مباح تبعاً للّحم إجماعاً ضروريّاً بل للسيرة القطعيّة مضافاً إلى الأدلّة النافية للعسر و الحرج، و يترتّب على التحريم في الجميع حرمة التكسّب و المعاوضة و عدم كونه متموّلاً و لا جارياً عليه الملك مطلقاً، و عدم جواز الانتفاع من غير جهة الأكل مطلقاً حتّى في دم السمك، عدا ما استثنى من استعماله في الزروع و الكروم و اُصول الشجر عملاً بإطلاق معقد إجماع الشيخ أو للأولويّة.

ص: 72

المبحث الخامس فيما يتعلّق بأبوال و أرواث ما لا يؤكل لحمه

اشارة

و قد تحقّق في باب النجاسات من كتاب الطهارة كونهما من الأعيان النجسة، إذ ليس المراد ممّا لا يؤكل لحمه هنا ما لم يجر العادة بأكله كلحوم الفرس و البغال و الحمير بل ما يحرم أكل لحمه، و حيث إنّ هذه الأبوال و الأرواث من الأعيان النجسة فتدرجان في عموم أحكامها المتقدّمة على وجه القاعدة و فيه الكفاية، إلّا أنّه نزيد هنا.

و نقول: إنّ المعاوضة على الأبوال النجسة محرّمة قولاً واحداً، و شربها أيضاً محرّم قولاً واحداً، بل سائر الانتفاعات بها مطلقاً محرّم قولاً واحداً، و هذا ينحلّ إلى أنّه ليس للأبوال النجسة منفعة محلّلة مقصودة للعقلاء، و لا يحلّ الانتفاع بها أيضاً و إن لم يكن من قبيل المنفعة، و لا تكون متموّلة قولاً واحداً، و لا يجري عليها الملك قولاً واحداً، مضافاً في الجميع إلى عمومات رواية تحف العقول و غيرها، و عموم آية الخبائث بالنسبة إلى الشرب و نحوه.

و أمّا الأرواث أعني الفضلات النجسة الّتي كثيراً ما يعبّر عنها بالسرجين النجس، فالمشهور فيها حرمة التكسّب و المعاوضة بقول مطلق، بل عن الخلاف «إجماع الفرقة على تحريم بيع السرجين النجس»(1) و في التذكرة «لا يجوز بيع السرجين النجس إجماعاً منّا»(2) و عن النهاية «بيع العذرة و شراؤها حرام إجماعاً»(3) و عن المنتهى «الإجماع على تحريم بيع العذرة»(4).

ص: 73


1- الخلاف 185:3.
2- التذكرة 464:1.
3- نهاية الإحكام 463:2.
4- المنتهى 1010:2.

و يدلّ عليه عمومات رواية تحف العقول و الخبر النبويّ و فيه الكفاية إلّا أنّه استدلّ عليه أيضاً بخبر يعقوب بن شعيب عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «ثمن العذرة من السحت»(1)و عن الدعائم مرسلاً عن جعفر بن محمّد عن أبيه عن آبائه عليهم السلام عن عليّ عليه السلام «إنّ رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله نهى عن بيع العذرة»(2) و لكن يعارضه خبر محمّد بن مضارب عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال:

«لا بأس ببيع العذرة»(3).

و عن السبزواري «احتمال حمل رواية المنع على الكراهة جمعاً»(4).

و لا خفاء في بعده لعدم تحمّل لفظ «السحت» هذا الحمل و لفظ «النهي» أيضاً ظاهر كالنصّ في التحريم.

و أبعد منه ما عن المجلسي في الجمع بينهما باحتمال «حمل خبر المنع على بلاد لا ينتفع فيها بالعذرة، و حديث الجواز على بلاد ينتفع(5) بها» فإنّ اختلاف البلدان في جريان العادة بالانتفاع بها و عدمه لا يوجب اختلافاً بينها في الحكم لأصالة الاشتراك في التكليف، فحكم بيع العذرة واحد بالقياس إلى الجميع.

و ربّما: حمل خبر المنع على التقيّة، لكونه مذهب أكثر العامّة. و هذا أيضاً ضعيف لأنّ هذا الحمل ترجيح سندي باعتبار مخالفة العامّة يقتضي طرح الخبر الموافق، و المرجّحات السنديّة إنّما يرجع إليها بعد العجز عن الجمع و الترجيح باعتبار الدلالة.

و قد قيل كما عن الشيخ «بأنّ الجمع بينهما بحسب الدلالة ممكن، و هو حمل رواية المنع على عذرة الإنسان و رواية الجواز على عذرة الدوابّ المأكول لحومها، و عنه في الاستبصار حملهما عليه، و وجّه بأنّ الأوّل نصّ في عذرة الإنسان ظاهر في غيرها و الثاني بالعكس، فيطرح ظاهر كلّ منهما بنصّ الآخر»(6).

ص: 74


1- الوسائل 1/175:17، ب 40 ما يكتسب به، التهذيب 1080/372:6.
2- دعائم الإسلام 18:2.
3- الوسائل 3/175:17، ب 40 ما يكتسب به، التهذيب 1079/372:6.
4- كفاية الأحكام 422:1.
5- حكاه المجلسي في ملاذ الأخيار 202/379:10 عن والده قدّس سرّهما.
6- الاستبصار 183/56:3، التهذيب 1081/372:6.

و بذلك إن تمّ يندفع أيضاً ما يقال: من أنّ العلاج في الخبرين المتنافيين على وجه التباين الكلّي هو الرجوع إلى المرجّحات الخارجيّة ثمّ التخيير أو التوقّف لا إلغاء ظهور كلّ منهما، فإنّ الجمع على الوجه المذكور حيثما ساعد عليه شاهدان متعيّن و لا يعدل مع إمكانه إلى الترجيح السندي.

نعم يرد على الشيخ أنّه إن أراد بما ذكره التبرّع في الجمع محافظة على الرواية المأثورة عن أهل بيت العصمة عن الطرح من دون جعله مستنداً للحكم الشرعي كما هو دأبه في كتابي الحديث، فلا حجر منه. و إن أراد به الالتزام به على وجه يكون مدركاً للحكم الشرعي، ففيه: أنّه لا مورد له في المقام لأنّه من أحكام التعارض و هو فرع على المقاومة بل الحجّيّة الذاتيّة. و الروايتان ضعيفتان للجهالة، أمّا الاُولى فلوجود عليّ بن مسكين أو ابن سكن - على اختلاف النسخة - في سندها، و هو مجهول غير مذكور في الرجال بمدح و لا قدح. و أمّا الثانية فلوجود الحجّال في سندها و هو أيضاً مجهول، مع ما في الراوي أيضاً من الجهالة كما لا يخفى على الخبير البصير.

و توهّم انجبار ضعف الاُولى بالشهرة و الإجماعات المنقولة إن سلّمنا الانجبار لا يجدي نفعاً في انجبار الثانية، مع تطرّق المنع إلى صلاحية ما ذكر للجبر، فإنّ جابر الرواية الضعيفة ليس إلّا عمل الأصحاب كلّهم أو معظمهم أو جماعة من معتبريهم و هو غير واضح، و الشهرة فتوائيّة و كونها استناديّة غير واضح، و الإجماع المنقول أقصاه إفادة الظنّ بالحكم الشرعي من غير تعرّض فيه للرواية ليكشف عن كون معقده عن الاستناد إليها.

و مع الغضّ عن ذلك فيتوجّه إلى الجمع المذكور أنّه في المتباينين يحتاج إلى شاهدين في كلّ من المتعارضين أوجب طرح ظاهره و هو مفقود فيهما.

و ما تقدّم من التوجيه واضح الدفع بأنّ النصوصيّة في كلّ منهما - مع كون مورديهما العذرة و هي حقيقة في عذرة الإنسان لا غير - غير معقولة، و اختلاف التركيب الكلامي لا يوجب في نحو المقام اختلافاً في معنى اللفظ، إلّا أن يقال: بأنّ الشاهد المعتبر وجوده في كلّ منهما قد يكون خارجيّاً، و يمكن إثبات وجوده هنا بموثّقة سماعة بن مهران قال: «سأل رجل أبا عبد اللّه عليه السلام و أنا حاضر فقال: إنّي رجل أبيع العذرة فما تقول ؟

ص: 75

قال: حرام بيعها و ثمنها، و قال: لا بأس ببيع العذرة»(1). فإنّ التناقض في كلام واحد من متكلّم واحد محال خصوصاً إذا كان المتكلّم معصوماً. و هذا ينهض قرينة على أنّه عليه السلام أراد من الأوّل تحريم بيع عذرة الإنسان و من الثاني تجويز بيع غيره من الأرواث الطاهرة، و كأنّه عليه السلام علم من حال السائل أنّه يبيع كلا النوعين فأجابه بحكم كلّ منهما.

و ينهض ذلك بعد استظهار هذا المعنى منه شاهداً بالتأويل المذكور في الروايتين.

و على أيّ حال كان فالدليل على تحريم بيع العذرات النجسة من غير جهة الرواية المتعارضة واضح لا حاجة معه إلى تجشّم علاج التعارض فيها، كوضوح الدليل على تحريم أكلها مع كونها من الخبائث و تحريم مطلق وجوه الانتفاع عدا الاستعمال في الزروع و الكروم و اُصول الشجر لما تقدّم في مبحث الدم من نفي الخلاف عن مبسوط الشيخ(2) مع السيرة القديمة في الجملة، و على عدم كونها متموّلة و لا مملوكة أصلاً.

ثمّ ينبغي إتباع المبحث بالكلام في الأبوال و الأرواث الطاهرة كأبوال و أرواث البهائم و الأنعام من الإبل و البقر و الغنم و الفرس و الحمار و البغل و الجاموس، و هذه لطهارتها و إن كانت خارجة عن عنوان الأعيان النجسة إلّا أنّ الفقهاء لمّا تكلّموا في أحكامها فنحن نقتفي أثرهم و نتكلّم فيها استتباعاً،

و الكلام فيها يقع في مقامين:
المقام الأوّل في الأرواث الطاهرة،

فنقول: المعروف المشهور جواز التكسّب بها مطلقاً. و عن الشيخ في الخلاف(3) «نفي الخلاف» و عن السيّد «الإجماع عليه»(4) و إن ناقش فيه بعضهم. و لم يظهر خلاف فيه عدا ما عن مختلف(5) العلّامة من نسبة الخلاف إلى المفيد و السلّار حيث منعا عن بيع الأبوال و الأرواث عدا بول الإبل، و لكن عبارتهما المنقولة عن المقنعة و المراسم لا تساعد عليه.

فعن الأوّل «بيع العذرة و الأبوال كلّها حرام إلّا أبوال الإبل خاصّة، فإنّه لا بأس ببيعها و الانتفاع بها و استعمالها لضرب من الأمراض»(6).

ص: 76


1- الوسائل 2/175:17، ب 40 ما يكتسب به، التهذيب 1081/372:6.
2- المبسوط 167:2.
3- الخلاف 185:3.
4- الانتصار: 201.
5- المختلف 5:5.
6- المقنعة: 587.

و عن الثاني «التصرّف في الميتة و لحم الخنزير و شحمه و الدم و العذرة و الأبوال ببيع و غيره حرام إلّا بول الإبل خاصّة»(1).

و ليس في العبارتين إلّا لفظ «العذرة» و هي حقيقة في عذرة الآدميّين و لا تشمل غيرها من أنواع السرجين النجس فضلاً عن الأرواث الطاهرة، و يؤيّده إفراد العذرة و جمع الأبوال، و لو سلّم عموم فيها و لو في إرادة القائل فغايته العموم بالنسبة إلى أنواع النجس، فليس في عبارتيهما دلالة صريحة و لا ظاهرة على النسبة المذكورة. و لذا ناقش فيها في المصابيح بقوله: «و هو غير واضح» و قال في موضع آخر: «بل الظاهر أنّ جواز بيع الأرواث محلّ وفاق بين الأصحاب، و نسبة المنع منه إلى الشيخين و سلّار غير ثابتة»(2) انتهى.

و كيف كان لنا على المختار - بعد ما أشرنا إليه من نفي الخلاف و منقول الإجماع إن صحّ - السيرة القطعيّة المستمرّة بين المسلمين في جميع الأعصار و الأمصار على بيعها و شرائها و أخذ الأعواض و الأثمان في مقابلتها من غير نكير و لا منع من أحد، مضافاً إلى عمومات عقود المعاوضة من البيع و الصلح و الهبة المعوّضة و غيرها أجناساً و أنواعاً و أصنافاً كقوله تعالى: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» (3) و «أَحَلَّ اَللّٰهُ اَلْبَيْعَ » (4) و «إِلاّٰ أَنْ تَكُونَ تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ » (5)«و الصلح جائز بين المسلمين»(6) و ما أشبه ذلك، و يؤيّدها الأخبار النافية للبأس عن بيع العذرة بناءً على حملها على إرادة الأرواث الطاهرة كما صنعوه.

و ليس للقول بالمنع إن ثبت إلّا ما قد يحتمل من الاستناد إلى وجهين:

أحدهما: عموم تحريم الخبائث في الآية(7) بناءً على تناول إطلاقه للبيع و الشراء، و الأرواث من الخبائث جزماً فيحرم بيعها و شراؤها.

و ثانيهما: عموم النبويّ «إنّ اللّٰه إذا حرّم شيئاً حرّم ثمنه» و هذه منه.

و يضعّفهما أنّ المراد بالأوّل بقرينة المقابلة تحريم خصوص الأكل و الشرب لأنّهما متعلّق التحليل في آية تحليل الطيّبات، و ظاهر الثاني إمّا تحريم جميع المنافع أو تحريم

ص: 77


1- المراسم: 170.
2- مصابيح الأحكام: 18.
3- المائدة: 1.
4- البقرة: 188.
5- البقرة: 279.
6- الوسائل 2/443:18، ب 3 كتاب الصلح، الفقيه 52/20:3.
7- الأعراف: 157.

المنافع المقصودة، و أيّاً ما كان فالمحرّم في الأرواث إنّما هو أكلها و هو ليس منفعة مقصودة منه، و المنفعة المقصودة منه إنّما هو الإيقاد و جريها مجرى الحطب و التسميد و ما أشبه [ذلك]، و هذه ليست محرّمة، فالأرواث لا تندرج في عموم النبويّ ، فعمومات الجواز و الصحّة حينئذٍ سليمة عمّا يزاحمها.

لا يقال: البيع مشروط بالملك و لا يصحّ بيع ما لا يملك، و جريان الملك في الأرواث محلّ منع، و إلّا لوجب ضمانها بالإتلاف و غيره من أسباب الضمان و لتحقّق فيها الغصب و لتحقّق فيها السرقة، و اللوازم بأسرها باطلة و كذا الملزوم، كما قيل نظيره في الأبوال استناداً إلى الوجوه المذكورة على ما ستعرفه.

لأنّ الصحيح المقطوع به جريان الملك في الأرواث الطاهرة، للسيرة القطعيّة في جميع الأعصار و الأمصار المستقرّة على تملّك المسلمين لها و ترتيب آثار الملك عليها من غير نكير، مضافاً [إلى] أنّها تملك بالحيازة بلا خلاف لعموم «على اليد ما أخذت»(1) و بقاعدة النمائيّة القاضية بتبعيّة النماء للعين في الملك كما في اللبن و الشعر و الصوف و الوبر و ما أشبه ذلك، و لا ريب أنّ الأرواث نماءات لهذه الحيوانات فتكون مملوكة لصاحبها تبعاً.

و الوجوه المستدلّ بها على نفي الملكيّة مدخولة، لوضوح منع بطلان اللوازم فإنّها تضمن بالإتلاف، لعموم «من أتلف مال الغير فهو ضامن» و بالغصب، لعموم «على اليد ما أخذت» و يتحقّق فيها الغصب سواء فسّرناه بالاستيلاء على مال الغير عدواناً أو بأخذه ظلماً. و يتحقّق فيها السرقة إن فسّرناه بمفهومه اللغوي أعني أخذ الشيء خفية، و إن فسّر بلازمه الشرعي و هو ما يوجب القطع فلعلّ عدم تحقّقه حينئذٍ لعدم تحقّق شرائط القطع فيها - من بلوغ المسروق ربع دينار و كونه أخذ من المحرز - و لو فرض تحقّق الشرائط يتوجّه المنع إلى عدم صدق ما يوجب القطع، و غاية ما هنالك أنّ القطع غير واقع. و لعلّه من جهة المسامحات العرفيّة لخساسة هذه الأشياء. و على هذا فلا يجوز إتلافها عدواناً و يحرم غصبها، فلو غصبها وجب ردّها إن كانت العين باقية، و إلّا وجب

ص: 78


1- عوالي اللآلي 106/224:1، المستدرك 4/18:17، ب 1 كتاب الغصب.

ردّ عوضها مثلاً إن كانت من المثليّات و إلّا وجب ردّ قيمتها.

. المقام الثاني في الأبوال الطاهرة - أعني أبوال الأنعام و الحمولة
اشارة

- و فيها مسائل:

الاُولى: جواز الانتفاع فيما عدا الأكل و الشرب اختياراً،

كالصبغ و عجن الجصّ و الزروع و الكروم و اُصول الشجر و ما أشبه ذلك.

و الظاهر جوازه بلا خلاف يظهر، و لم يعرف من الأصحاب من أنكره و إن كان ربّما ينسب إلى مراسم سلّار(1) المنع منه استظهاراً له من عبارته المتقدّمة بقرينة استثناء بول الإبل، فإنّه كون المراد من الأبوال ما يعمّ الأبوال الطاهرة لم يتمّ هذا الاستثناء الّذي الأصل فيه الاتّصال. أقول: لو صحّ هذا الاستظهار لجرى في عبارة نهاية الشيخ لأنّه - على ما حكي - قال فيها: «جميع النجاسات يحرم التصرّف فيها و التكسّب بها على اختلاف أجناسها من سائر أنواع العذرة و الأبوال و غيرهما إلّا أبوال الإبل خاصّة فإنّه لا بأس بشربه و الاستشفاء به عند الضرورة»(2) و كيف كان فيزيّف الاستظهار المذكور ظهور الأبوال بقرينة السياق و ذكرها في قرن النجاسات و عدادها في إرادة الأبوال النجسة. و أمّا الاستثناء فالتزم السيّد في مصابيحه(3) بجعله للانقطاع. و يرد عليه أنّ الالتزام بذلك لكونه مجازاً غير لازم، لإمكان الاتّصال بحمل أبوال الإبل على النجسة منها، و هي أبوال الإبل الجلّالة و الموطوءة.

و لنا على الجواز - بعد عدم ظهور الخلاف بل ظهور الإجماع - الأصل السليم عمّا يزاحمه و يخرج عنه. و القول بالمنع - مع شذوذه و عدم ظهور قائل به - لا مستند له عدا ما قد يحتمل من الاستناد إلى آية تحريم الخبائث، بناءً على شموله جميع المنافع و الانتفاعات. و يزيّفه ما أشرنا إليه سابقاً من قضاء قرينة المقابلة لتحليل الطيّبات بكون متعلّق التحريم خصوص الأكل و الشرب لا سائر الانتفاعات.

المسألة الثانية: جواز الانتفاع بها و عدمه في الأكل و الشرب

بأن يطبخ به المطبوخات من اللحم و الخبز و غيرهما و يشرب بانفراده أو في سائر المشروبات، فقد اختلف فيه الأصحاب على أقوال:

ص: 79


1- المراسم: 170.
2- النهاية 98:2.
3- مصابيح الأحكام: 18.

ثالثها: المنع فيما عدا بول الإبل و الجواز فيه.

و القول بالمنع مطلقاً للشيخ(1) و ابن حمزة(2) على ما حكي عنهما، و المحقّق في الشرائع(3) و العلّامة في عدّة من كتبه(4) و الشهيدين في اللمعة(5) و الروضة(6) و السيّدين في المصابيح(7) و الرياض(8).

و القول بالجواز عن السيّد في الانتصار(9) و قبله ابن جنيد(10) و عن السيّد الإجماع عليه، و تبعهما على ما حكي الحلّي في السرائر(11) و جماعة من المتأخّرين منهم المحقّق الأردبيلي(12) و السبزواري(13) و الحرّ العاملي(14).

و القول بالفرق ربّما عزي إلى المفيد(15) و سلّار(16) استظهاراً من عبارتيهما المتقدّم إليهما الإشارة بناءً على إرادة ما يعمّ النجسة و الطاهرة من الأبوال المستثنى منها، و قد عرفت منعه.

و الأصحّ الأقوى المنع مطلقاً، لعموم تحريم الخبائث الوارد في سورة الأعراف في قوله تعالى: «اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ اَلرَّسُولَ اَلنَّبِيَّ اَلْأُمِّيَّ اَلَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي اَلتَّوْرٰاةِ وَ اَلْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهٰاهُمْ عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ اَلطَّيِّبٰاتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ اَلْخَبٰائِثَ وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ اَلْأَغْلاٰلَ اَلَّتِي كٰانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ وَ نَصَرُوهُ وَ اِتَّبَعُوا اَلنُّورَ اَلَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولٰئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ » (17) فإنّ الطيّب على ما يتبادر منه عند الإطلاق و نصّ عليه الطبرسي في تفسيره(18) و الطريحي في مجمعه(19) و فهمه محقّقو أصحابنا «ما تستلذّه النفوس و تميل إليه الطباع».

و لا يصادمه المعاني الاُخر الّتي ورد إطلاقه عليها ك «المحلّل» و منه قوله تعالى:

ص: 80


1- النهاية 98:2.
2- الوسيلة: 364.
3- الشرائع 227:3.
4- الإرشاد 111:2، التحرير 161:2، القواعد 158:2، المختلف 337:8.
5- اللمعة: 61.
6- الروضة 324:7.
7- مصابيح الأحكام: 18.
8- الرياض 462:13.
9- الانتصار: 424.
10- نقله عنه في المختلف 337:8.
11- السرائر 125:3.
12- مجمع الفائدة 214:11.
13- الكفاية: 252.
14- الوسائل: 176:12.
15- المقنعة: 587.
16- المراسم: 170.
17- الأعراف: 157.
18- مجمع البيان 405:4.
19- مجمع البحرين 80:3 (طيب).

«كُلُوا مِنْ طَيِّبٰاتِ مٰا رَزَقْنٰاكُمْ » (1) و «الطاهر» و منه قوله تعالى: «فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً» (2)و «الخالي عن الأذى في النفس و البدن» كما في زمان طيّب أي خالٍ عمّا يؤذي النفس و البدن من حرّ و برد و نحوهما، لأنّها مجازات لا يصار إليها إلّا بقرينة و هي منتفية، أو أنّها بأسرها لوازم للمعنى الحقيقي كما يظهر بأدنى تأمّل. و يقابل الطيّبات بالمعنى المذكور، و هي ما تستكرهه النفوس و تتنفّر عنها الطباع، و لا ريب أنّ الأبوال سيّما أبوال الفرس و البغل و الحمار منها فيعمّها التحريم.

و استدلّ على المختار أيضاً بوجوه اُخر غير مستقيمة:

منها: ما أشار إليه في الرياض «من احتمال الخباثة فيها الموجب للتنزّه عنها و لو من باب المقدّمة»(3) و ملخّصه أنّ هذه الأبوال يحتمل خباثتها و الاحتمال يوجب الاجتناب عنها و لو بحكم المقدّمة.

و هذا في غاية الضعف لأنّ الاكتفاء في إيجاب التنزّه في الشبهة التحريميّة بمجرّد الاحتمال من اُصول الأخباريّة، فيدفعه ما تحقّق في الاُصول وفاقاً لأصحابنا المجتهدين من عدم الفرق في البناء على أصل البراءة بينها و بين الشبهة الوجوبيّة، فاحتمال الخباثة لا يوجب الاجتناب جزماً.

و أمّا الاستناد في ذلك إلى قاعدة المقدّمة فلم نتحقّق هنا معناه، لأنّ مقدّميّة الاجتناب عمّا يحتمل الخباثة بدون ذي المقدّمة ممّا لا يتعقّل فكيف له الوجوب المقدّمي ؟ و هو فرع على وجوب ذي المقدّمة.

و لو وجّه بأنّ الخبائث الواقعيّة يجب الاجتناب عنها و هو لا يتمّ إلّا بالاجتناب عمّا يحتمل الخباثة، فيردّه أنّ الخبائث الواقعيّة إن اُريد بها الأشياء الخبيثة في الواقع الّتي لم نعلم خباثتها فوجوب الاجتناب عنها أوّل المسألة، بل هي من جزئيّات محلّ البحث لأنّ ما يحتمل الخباثة أعمّ ممّا هو خبيث في الواقع و لكن لم يعلم خباثته و ما هو غير خبيث في الواقع، فالاستدلال بوجوب الاجتناب عنها على وجوب الاجتناب عمّا يحتمل الخباثة مصادرة، بل المقدّمة على هذا التقدير عين ذي المقدّمة.

و إن اُريد بها الخبائث الّتي علم خباثتها فالاجتناب لامتيازها عن محتملات

ص: 81


1- البقرة: 172.
2- النساء: 43.
3- الرياض 462:13-463.

الخباثة ليس متوقّفاً على الاجتناب عنها، فالمقدّميّة فيه منتفية جزماً.

و لو قيل: إنّ الاشتغال اليقيني في الاجتناب عن معلومات الخباثة يستدعي اليقين بالبراءة و لا يتمّ ذلك إلّا بالاجتناب عمّا يحتمل الخباثة فيكون ذلك مقدّمة علميّة لا وجوديّة، لردّه ضرورة عدم توقّف اليقين المذكور على هذا الاجتناب أيضاً لمكان الامتياز فيما بينهما، فلا يبقى بالنسبة إلى ما يحتمل الخباثة إلّا احتمال الحرمة و هو شكّ في التكليف الّذي لا يجري فيه أصل الشغل.

و بالتأمّل في بعض ما ذكر يندفع أيضاً ما في ذيل كلامه في توجيه المقدّميّة من «أنّ التكليف باجتنابه ليس مشروطاً بالعلم بخباثته بل هو مطلق و من شأنه توقّف الامتثال فيه بالتنزّه عن محتملاته»(1) فإنّ التكليف بالاجتناب و إن لم يكن مشروطاً بالعلم بالخباثة إلّا أنّ العلم طريق إلى إحراز الموضوع و حيث لا علم بالخباثة تفصيلاً و لا إجمالاً فالموضوع غير محرز فلا يبقى إلّا احتمال وجوب الاجتناب و الأصل براءة الذمّة عنه و عن العقاب المحتمل ترتّبه على الارتكاب.

و فرض القاعدة في صورة اشتباه ما علم خباثته في الواقع بما يحتمل خباثته خروج عن محلّ البحث، إذ ليس مبنى الكلام على ذلك، و المقام ليس من قبيل ما احتمل كونه سمّاً لأنّ احتمال الضرر الدنيوي - و هو الهلاك - واجب الدفع و لا يتمّ إلّا بالاجتناب عن المحتمل، و احتمال الضرر الاُخروي و هو العقاب مرتفع بالأصل.

و منها: الأولويّة المستفادة من الأدلّة الدالّة على حرمة الفرث و المثانة هي مجمع البول بناءً على بعدهما بالإضافة إلى البول عن القطع بالخباثة، فتحريمهما مع ذلك يستلزم تحريم البول القريب من القطع بالاستخباث بالإضافة إليهما بطريق أولى ذكره في الرياض(2) أيضاً.

و هذا أيضاً كسابقه في الضعف، لأنّ تحريم الفرث - و هو السرجين في الكرش الّذي يقال له بالفارسيّة: «شكنبه» - و المثانة ليس لأجل الخباثة بل لنصوص خاصّة دلّت عليه فيهما في جملة محرّمات الذبيحة، و ليس في النصوص دلالة و لا إشعار على كونه من جهة الخباثة، و من الجائز كونه لمفسدة في ذاتهما ليست موجودة في الأبوال.

فالأولويّة ممنوعة، و بدونها يكون التعدّي قياساً، مع تطرّق المنع في الفرث إلى بعده من

ص: 82


1- الرياض 464:13.
2- الرياض 463:13.

الخباثة، بل هو أقرب إليها بالإضافة إلى البول.

و منها: ما روي بطرق عديدة من «أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كان يكره الكليتين لقربهما من البول»(1) فنفس البول حينئذٍ أولى بالكراهة و المنع، و الكليتان على ما عن الأزهري «لحمتان حمراوان لازقتان بعظم الصلب من عند الخاصرتين»(2).

و فيه أيضاً: منع الحكم أعني التحريم في الأصل، فإنّ الكراهة هنا يراد بها الكراهة المصطلحة، لما ورد في عدّة من الروايات من «أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم كان لا يأكل الكليتين و لا يحرّمهما لغيره»(3) فالعمدة من دليل المسألة آية تحريم الخبائث، و غيرها من الوجوه مدخول جدّاً.

حجّة القول بالجواز: أصالة الإباحة في الأشياء. و الإجماع الّذي ادّعاه السيّد في الانتصار(4). و قوله عزّ من قائل: «قُلْ لاٰ أَجِدُ فِي مٰا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلىٰ طٰاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاّٰ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ» (5) و قوله أيضاً: «إِنَّمٰا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةَ وَ اَلدَّمَ وَ لَحْمَ اَلْخِنْزِيرِ» (6) فإنّ عموم الحصر في الآيتين يدلّ على عدم تحريم الأبوال. مضافاً إلى خصوص عدّة روايات:

منها: ما رواه الحميري في قرب الإسناد بسنده عن جعفر عن أبيه عليه السلام «أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم قال: لا بأس ببول ما اُكل لحمه»(7).

و منها: موثّقة عمّار بن موسى الساباطي عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «كلّما اُكل لحمه فلا بأس بما يخرج منه»(8).

و منها: موثّقته أيضاً عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «سئل عن بول البقر يشربه الرجل ؟ قال: إن كان محتاجاً إليه يتداوى به يشربه، و كذلك أبوال الإبل و الغنم»(9).

ص: 83


1- الوسائل 24؛ 13/176، ب 31 الأطعمة المحرّمة، علل الشرائع: 1/562.
2- تهذيب اللغة 3180:4.
3- الوسائل 18/177:24، ب 31 الأطعمة المحرّمة، عيون أخبار الرضا عليه السلام 131/41:2.
4- الانتصار: 424.
5- الأنعام: 145.
6- البقرة: 173.
7- الوسائل 2/114:25، ب 59 الأطعمة المباحة، قرب الإسناد: 72.
8- الوسائل 12/409:3، ب 9 أبواب النجاسات، التهذيب 781/266:1.
9- الوسائل 1/113:2، ب 59 الأطعمة المباحة، التهذيب 832/284:1.

و منها: موثّقة سماعة قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن شرب الرجل أبوال الإبل و البقر و الغنم ينعت له من الوجع هل يجوز له أن يشرب ؟ قال: نعم لا بأس به»(1).

و الجواب عن الأصل: أنّه يخرج عنه بدليل المنع.

و عن الإجماع المنقول بكونه موهوناً بعدم كون ناقله و هو السيّد رحمه الله جازماً فيه حيث ذكره في الانتصار احتمالاً متردّداً فيه، و هذه عبارته «ممّا يظنّ قبل التأمّل انفراد الإماميّة به القول بتحليل أبوال الإبل و ما يؤكل لحمه من البهائم إمّا للتداوي أو غيره، ثمّ ذكر خلاف العامّة هنا و أقوالهم. ثمّ قال: و الّذي يدلّ على صحّة مذهبنا إليه بعد الإجماع المتردّد أنّ الأصل فيما يؤكل أو يشرب في العقل الإباحة...»(2) إلى آخر كلامه، مضافاً إلى شهرة القول بالتحريم و ذهاب جماعة من معتبري الطائفة و أساطينهم، بل في مصابيح السيّد «أنّ المشهور بين الأصحاب هو التحريم»(3) و لم يذهب إلى إباحة الأبوال قبل السيّد فيما أعلم سوى ابن الجنيد.

و عن الآيتين أنّ الحصر المستفاد منهما ليس على ظاهره، و عموم النفي غير مراد منهما خصوصاً الآية الاُولى لمكان تقييد نفي وجدان المحرّم ممّا عدا الثلاثة المذكورة فيها بما اُوحي إليها، و لو سلّم فيجب تخصيصهما بآية تحريم الخبائث، كما أنّهما تخصّصان بأدلّة سائر محرّمات الشرع ممّا لا يحصى كثرة.

و عن الأخبار بأنّ الظاهر من نفي البأس في الخبرين الأوّلين إنّما هو نفي النجاسة، و لذا تداول من الأصحاب في كتاب الطهارة ذكرهما في عداد الأخبار الدالّة على طهارة أبوال و أرواث ما اُكل لحمه، و الاستدلال بهما على الطهارة، و لعلّ السرّ فيه أنّه لمّا كان المعهود في أبوال و أرواث ما لا يؤكل لحمه هو النجاسة فيوجب ذلك بقرينة المقابلة انصراف إطلاق نفي البأس في أبوال ما اُكل لحمه إلى نفي النجاسة الملازم للطهارة، و يؤيّده أنّ إضافة «لا بأس» إلى الأعيان فيه إشعار ما بنفي النجاسة أيضاً.

ص: 84


1- الوسائل 7/115:25، ب 59 الأطعمة المباحة، التهذيب 832/284:1.
2- الانتصار: 424.
3- مصابيح الأحكام: 21.

و توهّم: أنّه بضابطة النكرة المنفيّة عامّ فينفي جميع جهات المنع الّتي منها النجاسة، و قضيّة ذلك إباحة شرب الأبوال الطاهرة بل مطلق الانتفاع بها.

يدفعه: بعد تسليم العموم أنّ تخصيص آية تحريم الخبائث ليس بأولى من تخصيص الخبرين، بل هذا أولى لكون عموم الآية وضعيّاً و هذا عقليّ ، لأنّ نفي الماهيّة كما هو قضيّة لا النافية للجنس يستلزم نفي أفرادها، و العموم الوضعي أقوى، و مرجعه إلى تقديم الأظهر على الظاهر فيخصّص نفي البأس بنفي النجاسة.

و أنّ مفهوم الشرط في الخبر الثالث يقتضي حرمة الشرب في غير مقام الحاجة إليه للتداوي، فقصارى ما ثبت بالخبر هو الجواز في مقام الحاجة للتداوي. و لا يهمّنا تخصيص الجواز بصورة الضرورة الّتي ملاكها انحصار العلاج فيه حتّى يدفع بأنّ الحاجة أعمّ من الضرورة، لأنّها تصدق مع عدم الانحصار بخلاف الضرورة، لأنّا نلتزم الجواز في مطلق الحاجة المقيّدة بالتداوي في خصوص الأبوال الثلاثة بول الإبل و البقر و الغنم لأنّها مورد الرخصة المستفادة من الخبرين لا غير فيخرج ما عداها و في الثلاثة صورتا عدم الحاجة أصلاً و الحاجة لغير التداوي.

و بما ذكر ظهر الجواب عن الخبر الرابع، فإنّ غاية ما يستفاد منه إنّما هو الجواز للاستشفاء، لمكان قول السائل: «ينعت له من الوجع» فيبقى ما عدا ذلك تحت عموم آية تحريم الخبائث. فصار المحصّل أنّ الانتفاع بالأبوال الطاهرة في الأكل و الشرب حرام مطلقاً إلّا للاستشفاء و التداوي في خصوص أبوال الإبل و البقر و الغنم.

و هل يستثنى منه بول الإبل ليثبت به القول بالفرق - على ما تقدّم حكايته - أو لا؟ و يستفاد من كلام الشهيد في المسالك أنّ فيه أقوالاً ثلاث: المنع مطلقاً، و الحلّ مطلقاً، و جواز الاستشفاء لا غير، و الثالث هو الأصحّ على ما بيّنّاه عملاً بالخبرين، مضافاً إلى ما نقله في المسالك مرسلاً من «أنّ النبيّ أمر أقواماً اعتلّوا بالمدينة أن يشربوا أبوال الإبل فشفوا»(1).

و أمّا القول بالحلّ فيه مطلقاً فلم نقف له على مستند إلّا خبر الجعفري قال: «سمعت أبا الحسن موسى عليه السلام يقول: أبوال الإبل خير من ألبانها، و يجعل اللّٰه الشفاء في ألبانها»(2).

و يرد عليه الطعن في السند لوجود بكر بن صالح فيه و قد ضعّفه العلّامة في

ص: 85


1- المسالك 121:3.
2- الوسائل 3/114:25، ب 59 الأطعمة المباحة، التهذيب 437/100:9.

الخلاصة و النجاشي(1) و في الأوّل «إنّه كثير التفرّد بالغرائب»(2).

هذا مضافاً إلى اشتمال متنه على أمارة الوضع، فإنّ قوله: «و يجعل اللّٰه الشفاء في ألبانها» بعد قوله: «أبوال الإبل خير من ألبانها» يشبه بكونه اعتراضاً من الإمام عليه السلام على اللّٰه سبحانه، حيث إنّه جعل الشفاء في ألبان الإبل، مع أنّ مقتضى خيريّة أبوالها أن يجعل الشفاء فيها، فهذا الكلام بهذا الاعتبار لا يشبه بكلام أهل بيت العصمة و الطهارة.

مع أنّه يقتضي أنّه لم يجعل في أبوالها شفاء، و هذا كذب و هو جهة اُخرى في اختلال متن الرواية، مع عدم وضوح دلالتها على الجواز، إذ لا يدرى أنّه أراد أيّ شيء من الخيريّة، و لعلّه أراد أنّه من حيث الاستشفاء خير، بناءً على كون المراد من جعل الشفاء في الألبان الجعل التكليفي و هو الترخيص في الاستشفاء، و حينئذٍ ينقلب الدلالة و يصير دليلاً على المنع في الأبوال مطلقاً حتّى الاستشفاء فليتدبّر.

المسألة الثالثة: جواز التكسّب بالأبوال الطاهرة و عدمه،

و فيه - بعد البناء على حرمة الانتفاع بها في الأكل و الشرب اختياراً - قولان، و الأصحّ الأقوى القول بالمنع عملاً بروايتي تحف العقول و رواية دعائم الإسلام و خبر النبويّ ، فإنّها تدلّ على أنّ ضابط المنع من البيع و الشرى تحريم الشيء اختياراً، لظهور قوله عليه السلام: «ممّا هو منهيّ من جهة أكله أو شربه» في كون أكله اختياراً أو شربه كذلك منهيّاً عنه، و كذلك قوله:

«ما كان محرّماً أصله منهيّاً عنه لم يجز بيعه و لا شراؤه» أي محرّماً و منهيّاً عنه أكله و شربه اختياراً، و كذلك قوله: «إنّ اللّٰه [إذا] حرّم شيئاً حرّم ثمنه» أي إذا حرّم أكله أو شربه اختياراً أو جميع منافعه الاختياريّة أو منافعه المقصودة المنوطة بالاختيار.

كما أنّ المستفاد من الأدلّة خصوصاً رواية دعائم الإسلام أنّ ضابطة حلّ بيع الشيء حلّ منافعه المقصودة أو منفعته الغالبة المقصودة - كما تقدّم بيان ذلك في ذيل بحث المسكرات الجامدة - فتحليل أكل الشيء أو شربه للضرورة أو عند الحاجة للتداوي في المرض لا يسوّغ بيعه مطلقاً، و لا في الجهة المحلّلة الّتي هي من حلّ

ص: 86


1- رجال النجاشي 109:1.
2- خلاصة الأقوال: 327.

الانتفاع لا من حلّ المنفعة.

و قد ثبت في المسألة السابقة تحريم شرب الأبوال اختياراً للاستخباث فيحرم بيعها مطلقاً، و تحليل شربها عند الضرورة أو الحاجة للتداوي لا يسوّغ بيعها مطلقاً، و لا ينتقض ذلك بالأرواث الطاهرة بتقريب أنّ أكلها اختياراً محرّم و جاز بيعها بلا خلاف يظهر - كما تقدّم - لأنّ أكل الأرواث اختياراً و إن كان محرّماً إلّا أنّه ليس منفعة مقصودة منها، و سائر منافعها المقصودة من الإيقاد و طبخ المطعومات و غيرهما كلّها محلّلة فيجوز بيعها و شراؤها في تلك المنافع.

و من هنا يعلم عدم الانتقاض بالطين الّذي مع كون أكله محرّماً جاز بيعه و شراؤها، لأنّ أكل الطين منفعة غير مقصودة منه و قد حرّمت و سائر منافعه المقصودة الغير المحصورة كلّها محلّلة فيحلّ بيعه و شراؤه في تلك المنافع.

و لا ينتقض أيضاً بالأدوية و العقاقير الّتي جاز تناولها أكلاً أو شرباً أو غيرهما في المرض للتداوي، و جاز بيعها و شراؤها أيضاً أيضاً بلا خلاف، مع أنّه حرّم تناولها في غير المرض لمنع كلّيّة تحريم تناولها في غير المرض فإنّها أقسام:

منها: ما يكون نافعاً في المرض و ينتفع بها في الصحّة أيضاً أكلاً و شرباً و غيرهما، لكونها منافع محلّلة.

و منها: ما يكون نافعاً في المرض و لا ينتفع بها أكلاً و شرباً في الصحّة، لعدم لذّة في أكلها و شربها و لا فائدة معتدّ بها، و لكن لا يحرم ذلك لعدم دليل على التحريم، و الأصل هو الحلّ .

و منها: ما يكون نافعاً في المرض و مضرّاً في الصحّة كبعض السمومات و بعض المسهلات، و هذا هو الّذي يحرم تناولها في غير المرض للإضرار بحيث لولاه لم يكن محرّماً للأصل، و نحو هذا التحريم لا يوجب تحريم البيع مطلقاً حتّى في تناولها في المرض للتداوي، مع كون ذلك منفعة مقصودة محلّلة لأنّها إنّما خلقت و اتّخذت لأجل هذه المنفعة لا غير، و هذه في الحقيقة في موضوع المريض منفعة غالبة مقصودة للعقلاء و هي محلّلة، فيحلّ بيعها و شراؤها في هذه المنفعة جزماً.

ص: 87

المبحث السادس في المنيّ و الكافر و الخنزير و الكلب

اشارة

و يتكلّم هنا في مقامات أربع:

المقام الأوّل: في التكسّب بالمنيّ بالبيع و الشراء و نحوه،

فنقول: إنّ للمنيّ حالات ثلاث:

الاُولى: ما دام كونه في أصلاب الفحول.

الثانية: إذا انتقل من الصلب و وقع في الرحم.

الثالثة: إذا خرج من الصلب و وقع في خارج.

و ينبغي القطع بتحريم بيعه في الحالة الأخيرة، لعموم قوله عليه السلام: «أو شيء من وجوه النجس» إلى قوله: «فجميع تقلّبه في ذلك حرام» مضافاً إلى أنّه ليس له منفعة محلّلة أصلاً فيحرم بيعه للنبويّ ، و يمكن كونه من المعاملة السفهيّة فيحرم و لا يصحّ .

و أمّا الحالة الاُولى: فحرمة بيعه في تلك الحالة للنجاسة أيضاً مبنيّة على نجاسة ما في الباطن ما دام في الباطن و عدمه، فعلى الأوّل يتناوله عموم قوله: «أو شيء من وجوه النجس» و على الثاني كما هو الحقّ فيمنع بيعه أيضاً، و لكن للجهالة و عدم القدرة على التسليم الّذي مرجعه إلى المعاملة السفهيّة و هي قبيحة، و قد نسب إلى الغنية(1)تعليل بطلان ما في أصلاب الفحول بالجهالة و عدم القدرة على التسليم.

و أمّا الحالة الثانية: فعدم الجواز فيها أيضاً للنجاسة مبنيّ على نجاسة ما يستقرّ في الرحم، و عن بعضهم منع ذلك لأنّه دخل من الباطن إلى الباطن، و عليه فيمكن أن يكون

ص: 88


1- الغنية: 212.

وجه عدم الجواز الجهالة إمّا جهالة مقدار المبيع أو جهالة وجوده في الرحم، بملاحظة أنّها قد تلقح و قد لا تلقح. و الأولى تعليله بعدم القدرة على التسليم إذا كان المشتري غير مالك الدابّة، و إلّا فالوجه أنّه إمّا مالك لما استقرّ في الرحم أو سيصير مالكاً للولد بقاعدة التبعيّة للاُمّ الثابتة بالشرع في الحيوان الغير الآدمي. و عن العلّامة(1) أنّه ذكر من المحرّمات بيع عسيب الفحل و هو ماؤه قبل الاستقرار في الرحم، كما أنّ الملاقيح هو ماؤه بعد الاستقرار. و في تفسير الملاقيح بما ذكر نظر، و لعلّ الوجه في تفسير العسيب بماء الفحل قبل الاستقرار في الرحم ليعمّ الحكم كلتا الحالتين الاُولى و الأخيرة.

المقام الثاني: في التكسّب ببيع و غيره في الكافر الأصلي أو الارتدادي الحربي أو الذمّي المملوك لمسلم أو كافر حربي أو ذمّي،

و هو جائز بلا خلاف بل بإجماع المسلمين كما في جواهر الكلام(2) و لا يبعد دعوى الضرورة فيه في الجملة، و النصوص(3) الناطقة به مع ذلك مستفيضة، فهو حينئذٍ مع كونه من الأعيان النجسة مخرج عن القاعدة، و النجاسة هاهنا غير مانعة من التكسّب و إن كانت ذاتيّة. و هل هذا خروج موضوعي أو أنّه خارج عن الحكم بالدليل من باب التخصيص ؟ فقد يستشمّ الأوّل من جملة من العبارات لبنائهم جواز بيع الكافر و صحّته على قبوله الطهر بالإسلام، و بناء بعضهم جواز بيع المرتدّ الفطري على قبول توبته.

و عن مفتاح الكرامة المبالغة في منع ذلك بقوله: «أمّا المرتدّ عن فطرة فالقول بجواز بيعه ضعيف جدّاً، لعدم قبول توبته فلا يقبل التطهير»(4) و مبنى هذا البناء على كون موضوع القاعدة الأعيان النجسة الغير القابلة للتطهير من غير استحالة، فيكون المملوك الكافر لقبوله التطهير بالإسلام خارجاً عن هذا العنوان.

و يرد عليه أوّلاً: أنّه لا دليل على تقييد العنوان بما ذكر.

و ثانياً: أنّه لو سلّم فإنّما يعتبر فيما لا ينتفع به منفعة معتدّاً بها إلّا مع الطهارة، على

ص: 89


1- التذكرة 67:10.
2- الجواهر 23:22.
3- الوسائل 1/122:17، ب 16 ما يكتسب به، التهذيب 1151/387:6.
4- مفتاح الكرامة 39:12.

معنى توقّف الانتفاع على الطهارة، فلإحراز هذا الشرط يعتبر في محلّ المنع من البيع عدم قابليّة التطهير من غير استحالة احترازاً عمّا له قابليّة التطهير، و الظاهر أنّ الانتفاع في محلّ البحث بالاستخدام و غيره لا يتوقّف على الطهارة، و على هذا فالمتّجه كون خروجه عن القاعدة بالدليل من باب التخصيص.

و يتفرّع على ذلك حينئذٍ عدم الفرق في جواز بيع المرتدّ بين كون ارتداده عن ملّة أو عن فطرة، فالقول بالجواز في الثاني قويّ و إن قلنا بعدم قبول توبته، لأنّه مملوك و مال و قابل للانتفاع بالاستخدام الغير المشروط بالطهارة فيتناوله العمومات أجناساً و أنواعاً و أصنافاً، كيف و أنّ الأقوى عندنا قبول توبته في زوال النجاسة لتبدّل موضوعها و هو الكافر بموضوع الطهارة و هو المسلم.

نعم ربّما يستشكل في جواز بيعه من جهة اُخرى جارية على القولين في قبول توبته و عدمه، و هي وجوب إتلافه باعتبار تعيّن قتله و كونه في معرض التلف. و يندفع بأنّ هذا لا يصلح مانعاً عن بيعه، حيث لا دليل على المانعيّة بعد ما فرض عدم زوال الملك و الماليّة و صلاحية الانتفاع بالاستخدام بسبب الارتداد.

و توهّم سفهيّة المعاملة مع كونه في معرض التلف، يدفعه أنّه ربّما لا يقتل أبداً و المشتري عالم به، مع أنّه قد يكون غرضه من الاشتراء ممّن لا يمكّن من قتله تعريضه للقتل إقامة لحدود اللّٰه عزّ و جلّ ، كما أنّه قد يشتري المملوك المسلم مثلاً لغرض العتق و غيره.

المقام الثالث: في الخنزير و حرمة التكسّب به و بأجزائه لنجاستها حتّى ما لا تحلّها الحياة منها على الأصحّ ،

خلافاً للمرتضى كما تقدّم(1) و كذلك عدم جريان ملك المسلم عليه و على أجزائه مطلقاً ابتداءً و استدامة كما تقدّم(2) لعموم قوله عليه السلام: «كلّ ذلك منهيّ عن ملكه» و خصوص الأخبار(3) الواردة في نكاح النصراني و النصرانيّة على مهر الخمر و الخنازير مع إسلام الزوجة قبل قبض المهر الآمرة بأنّها يأخذ القيمة عند مستحلّيهما، و كذلك حرمة الانتفاع به و بما عدا الشعر من أجزائه مطلقاً حتّى جلده في الاستقاء

ص: 90


1- الناصريّات: 100.
2- تقدّم في الصفحة 25.
3- الوسائل 2/243:21، ب 3 أبواب المهور، التهذيب 1448/356:7.

على ما تقدّم(1) في جلد الميتة، و قد عرفت أنّ قول الصدوق في المقنع(2) لجوازه شاذّ ضعيف محجوج عليه بعموم المنع نصّاً و فتوى، لاندراجه في إطلاق معقد إجماع الشيخ في المبسوط(3) على حرمة بيع الخنزير و إجارته و اقتنائه و الانتفاع به.

و أمّا شعره فاختلف الأصحاب في جواز استعماله و الانتفاع به و عدمه، إلّا أنّه قد يجعل الخلاف في أقوال ثلاث: الجواز مطلقاً، و المنع كذلك، و التفصيل بين ذي الدسم فالمنع و غيره فالجواز، و لكنّ التتبّع لا يساعد عليه، بل الظاهر كون الخلاف في الجواز مطلقاً من غير استثناء عزي إلى جماعة منهم العلّامة في المختلف(4) و المنع إلّا فيما لا دسم فيه إن اضطرّ إليه فاستعمله و غسل يده، فلا يجوز استعمال ما فيه دسم اختياراً و اضطراراً و لا ما لا دسم فيه اختياراً، و قد جعله في المسالك(5) مشهوراً، و وصفه في الرياض بالشهرة العظيمة.

و بالجملة الّذي يظهر من عبارة الشرائع(6) و النافع(7) و المسالك(8) و الرياض و غيرها(9) كون الخلاف في قولين: الجواز مطلقاً، و الجواز فيما لا دسم فيه بشرط الاضطرار و المنع في غيره، و لذا ذكر في الرياض «أنّ القول بالمنع في صورة الدسم خاصّة و الجواز في غيرها مطلقاً و لو اختياراً لم يوجد به قائل أصلاً»(10).

و من مشايخنا من ناقش في تقييد الجواز فيما لا دسم فيه بالاضطرار بعد التعبير عنه بالضرورة، بأنّه «إن اُريد بها ما يسوّغ معها تناول المحرّم فهو مع خلوّ النصوص قطعاً عنها ينبغي عدم الفرق معها بين ذي الدسم و غيره و لا بين شعر الخنزير و غيره، و إن اُريد بها مطلق الحاجة فهي إنّما توافق القول بالجواز مطلقاً، ضرورة عدم صلاحية ذلك عنواناً للحرمة لعدم انضباطه»(11).

و يمكن دفعها: بإثبات الواسطة و هو أن يراد بالاضطرار توقّف تماميّة شغل الصانع

ص: 91


1- تقدّم في الصفحة 56.
2- المقنع: 18.
3- المبسوط 166:2.
4- المختلف 323:8.
5- المسالك 247:2.
6- الشرائع 227:3.
7- النافع: 254.
8- المسالك 247:2.
9- كما في المهذّب 443:2، القواعد 159:2، الدروس 15:3، الروضة 340:7.
10- الرياض 468:13.
11- الجواهر 401:36.

كالخرّاز و هو خيّاط الخفّ إذا توقّف خرزه على أن يخيط بشعر الخنزير، و بالجملة توقّف تماميّة خرز الخفّ على شعره و هذا أخصّ من الحاجة و أعمّ من الضرورة المسوّغة لتناول المحرّم مطلقاً، و دليل التقييد به من النصوص قول الراوي في بعض الأخبار الآتية قلت له: «إنّي رجل خرّاز لا يستقيم عملنا إلّا بشعر الخنزير نخرز به»(1)فإنّ معنى قوله: «لا يستقيم عملنا إلّا به» أنّه لا يتمّ عملنا إلّا به، و لذا قال في المسالك بعد ذكر الخبر المشار إليه: و بهذا تمسّك القائل بالجواز مع الضرورة إذا زال دسمه بما ذكر، و قرينة الضرورة قوله: «لا يستقيم عملنا إلّا به».

و كيف كان فالأخبار الواردة في الباب: خبر الحسن بن زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السلام قلت: «شعر الخنزير يجعل حبلاً يستقي به من البئر الّتي يشرب منها أو يتوضّأ؟ فقال:

لا بأس به»(2).

و خبر سليمان الإسكاف قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن شعر الخنزير يخرز به ؟ قال: لا بأس به، و لكن يغسل يده إذا أراد أن يصلّي»(3).

و خبر بُرد الإسكاف قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن شعر الخنزير يعمل به ؟ قال:

خذ منه فاغسله بالماء حتّى يذهب ثلث الماء و يبقى ثلثاه، ثمّ اجعله في فخّارة جديدة ليلة باردة فإن جمد فلا تعمل به، و إن لم يجمد فليس له دسم فاعمل به، و اغسل يدك إذا مسسته عند كلّ صلاة، قلت: و وضوء، قال: لا، اغسل يدك كما تمسّ الكلب»(4).

و خبر بُرد أيضاً قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: جعلت فداك إنّا نعمل بشعر الخنزير فربّما نسي الرجل فصلّى و في يده منه شيء؟ فقال: لا ينبغي أن يصلّي و في يده منه شيء، فقال: خذوه فاغسلوه، فما كان له دسم فلا تعملوا به، و ما لم يكن له دسم فاعملوا به و اغسلوا أيديكم منه»(5).

ص: 92


1- الوسائل 3/228:17، ب 58 ما يكتسب به، الفقيه 108/220:3.
2- الوسائل 3/171:1، ب 14 الماء المطلق، الكافي 3/258:6.
3- الوسائل 3/238:24، ب 65 الأطعمة المحرّمة، التهذيب 357/85:9.
4- الوسائل 2/228:17، ب 58 ما يكتسب به، التهذيب 1130/382:6.
5- الوسائل 2/237:24، ب 65 ما يكتسب به، التهذيب 356/85:9.

و خبر برد الإسكاف أيضاً قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: إنّي رجل خرّاز و لا يستقيم عملنا إلّا بشعر الخنزير نخرز به ؟ قال: خذ منه وبره فاجعلها في فخّارة، ثمّ أوقد تحتها حتّى يذهب دسمها، ثمّ اعمل به»(1).

و لعلّ مستند القول بالجواز مطلقاً الخبران أو ثانيهما، مضافاً في نفي اعتبار تقييده بحال الضرورة إلى ما عدا الأخير، كما أشار إليه في المسالك.

و يشكل بأنّ التفصيل المستفاد من الثلاثة بين ذي الدسم و غيره قاطع لإطلاق ثاني الخبرين بضابطة حمل المطلق على المقيّد، إلّا أن تتحمّل في دفعه بمنع كون النهي عن العمل بذي الدسم للتحريم، بل هو إرشادي للتحفّظ و التوقّي عن النجاسة المانعة من الصلاة و غيرها من مشروط بالطهارة - كما صنعه بعض مشايخنا(2) - فلا تنافي حينئذٍ بين المطلق و المقيّد.

و كيف كان يرد على التمسّك بالخبر الأوّل - مع قصور سنده في الجملة بالحسن بن زرارة لعدم توثيق فيه - منع الدلالة فإنّها لا تتمّ إلّا على تقدير كون عنوان السؤال المشتبه حكمه للسائل الاستقاء بالحبل المتّخذ من شعر الخنزير من البئر لشبهة في جواز استعمال شعر الخنزير كما هو موضوع الكلام و محلّ البحث، و هذا غير واضح، بل الظاهر كون عنوان السؤال الاستقاء من البئر الّتي يشرب منها أو يتوضّأ منها بالحبل المتّخذ من الشعر النجس لشبهة في فساد الماء المانع من شربه و التوضّي به بملاقاة النجس و عدمه. و القرينة عليه وصف البئر بكونها يشرب منها أو يتوضّأ منها، فإنّ عنوان السؤال لو كان هو الاستقاء بشعر الخنزير و استعماله من حيث إنّه يجوز أو لا يجوز لم يكن في ذكر الوصف فائدة أصلاً، و إطلاق الجواب ينصرف إلى عنوان السؤال، فقوله عليه السلام: «لا بأس به» لا ينساق منه إلّا نفي فساد ماء البئر بملاقاة هذه النجاسة.

و توهّم: أنّ الخبر إن لم يدلّ على حكم استعمال شعر الخنزير بالنطق لدلّ عليه بالتقرير، لأنّه لو لا جوازه لوجب على الإمام عليه السلام الردع منه، و عدمه يكشف عن الجواز.

ص: 93


1- الوسائل 1/237:34، ب 65 ما يكتسب به، التهذيب 355/84:9.
2- الجواهر 401:36.

يدفعه: منع كشف عدم الردع هنا عن الجواز، لأنّ الراوي لم يقل في سؤاله إنّا نفعل هذا الفعل، بل حكى عمل الحبل و الاستقاء به بصيغة المجهول، و يحتمل كون العاملين هم المخالفين أو أهل الكفر من النصارى المستحلّين لاستعمال شعر الخنزير، و هذا الاحتمال مانع عن الكشف جزماً، فالإنصاف أنّ خبر حسن بن زرارة لا دلالة له بوجه على جواز استعمال شعر الخنزير.

و أمّا الروايات الاُخر فهي و إن كانت مندرجة في نوع الضعاف لجهالة الإسكافيّين، غير أنّه ينجبر بالشهرة العظيمة و عمل المعظم بل الإجماع على العمل، نظراً إلى أنّها مستند المطلقين بالجواز و المفصّلين فيه، و الاختلاف إنّما نشأ عن الدلالة باعتبار الاختلاف في النظر.

و يمكن تشييد نظر المجوّزين و تقوية قولهم بمنع اشتراط جواز استعمال هذا الشعر بالشرطين:

و سنده في الأوّل ظهور سياق الروايات المفصّلة في كون النهي إرشاداً للسائل إلى طريق التحفّظ عن النجاسة المانعة من الصلاة لسهولة تطهير اليد و غسلها عن النجاسة فيما لا دسم فيه، و يصعب ذلك في ذي الدسم لتوقّفه على إزالة الدسومة الحاصلة في اليد و هي متعسّرة كما تقدّم، و يعضده الاعتبار بتقريب أنّ الدسومة و انتفاءها لا مدخليّة لهما في استعمال شعر الخنزير، من حيث إنّه نجس العين ليختلف بسببهما الجواز و عدمه، بل إنّما يكون لهما مدخليّة في الصلاة من حيث توقّف طهارة اليد بالغسل المشترط بها الصلاة على زوال الدسومة و انتفائها رأساً.

و سنده في الثاني أنّ فرض الاضطرار المفهوم من قوله: «و لا يستقيم عملنا إلّا بشعر الخنزير» إنّما وقع في السؤال، و الاعتبار في إطلاق الحكم و تقييده بما يستفاد من الجواب و هو خالٍ عن القيد، و فرض الاضطرار في السؤال لا يقضي بتقييد الجواب.

و يندفع ذلك بأنّ هذا إنّما يستقيم لو قصد من الاشتراط ما يرجع إلى تقييد الجواب و ليس بمراد هنا، بل فرض الاضطرار حيثيّة أخذها السائل في عنوان السؤال، فكأنّه قال: أنا رجل خرّاز أعمل الخرز، و هذا العمل صفته أنّه لا يستقيم إلّا بشعر الخنزير،

ص: 94

و هذا يقضي بكون هذه الحيثيّة مأخوذة في أسئلة الروايات الثلاث الاُخر لمكان قوله:

«و لا يستقيم عملنا إلّا بشعر الخنزير» أي لا يستقيم عملنا طائفة الخرّازين، و من المعلوم أنّ الجواب ينزّل على عنوان السؤال، فالجواز المستفاد من قوله: «فاعمل به» إنّما ورد على العنوان المقيّد، و لا يعقل فيه حينئذٍ إطلاق يتناول صور عدم الاضطرار.

كما يندفع الأوّل: أنّ قضيّة إرشاديّة النهي كون الجواب بالنسبة إلى ذي الدسم ساكتاً غير دالّ على المنع من استعماله و لا على الرخصة فيه، فلا بدّ لاستعلام حكمه من الرجوع إلى مرجع آخر، و هو إمّا الأصل الأوّلي الّذي يعبّر عنه بأصالة الإباحة، أو الأصل الثانوي و هو قاعدة المنع المستفادة من عموم قوله عليه السلام: «فجميع تقلّبه في ذلك حرام» و إطلاق معقد إجماع الشيخ في المبسوط(1) و الأوّل باطل إذ لا مجرى للأصل العملي مع وجود الأصل الاجتهادي، فتعيّن الرجوع إلى قاعدة المنع، و مقتضاها حرمة استعمال شعر الخنزير مطلقاً إلّا ما ثبت جواز بالدليل، و القدر الثابت جوازه بالروايات المذكور هو استعمال غير ذي الدسم حيثما حصل الاضطرار إليه، فانقدح أنّ المتّجه في المسألة هو القول المشهور لأنّه المنصور، و اللّٰه العالم بحقائق أحكامه.

المقام الرابع: في الكلب،
اشارة

و مقتضى الأصل بمعنى القاعدة المتقدّمة في الأعيان تحريم التكسّب به لأنّه نجس العين مسلوب المنفعة في أكثر أفراده، فيحرم التكسّب به لعموم «شيء من وجوه النجس» و «أنّ اللّٰه إذا حرّم شيئاً حرّم ثمنه» مضافاً إلى عموم النبويّ الآخر - الّذي وصفه السيّد في المصابيح(2) بالمتّفق عليه بين الفريقين - «أنّه نهى عن ثمن الكلب»(3) و إلى المستفيض من الأخبار الخاصّة المصرّحة بأنّ «ثمن الكلب سحت» أو «من السحت»(4).

و اُولى الكلاب و أحقّها بذلك الحكم كلب الهراش المعبّر عنه بالكلب العقور من العقر بمعنى الجرح لأنّه يعقر كالسبع مثل الأسد و الفهد و النمر، و المراد به ما عدا

ص: 95


1- المبسوط 166:2.
2- مصابيح الأحكام: 10.
3- الوسائل 4/119:17، ب 14 ما يكتسب به.
4- الوسائل 2/118:17، ب 14 ما يكتسب به، التهذيب 1017/356:6.

الكلاب الأربع المشهورة - أعني كلب الصيد، و كلب الماشية، و كلب الزرع، و كلب الحائط - و وجه الأولويّة أنّه أظهر أفراد موضوع القاعدة و أخصّها، أو لعدم الخلاف بين أصحابنا في تحريمه فيه، و عليه أكثر العامّة كما صرّح بهما في المصابيح(1) بل صرّح فيما بعد ذلك بإجماع أصحابنا عليه، و حكاه أيضاً عن جماعة كالشيخ(2) و العلّامة(3)و الشهيدين(4) و غيرهم(5) أو لخصوص ما في غير واحد من النصوص من قوله عليه السلام:

«ثمن الكلب الّذي لا يصيد أو لا يصطاد سحت»(6) و في بعضها «لا يحلّ ثمنه»(7) فإنّ المراد بالموصوف إمّا الهراش أو أنّه مندرج فيه أيضاً.

و هل استثني من الحكم شيء أم لا؟ الكلام فيه يقع في موضعين.
الموضع الأوّل: في استثناء كلب الصيد،

و هو الكلب المعلّم الّذي يصيد، فنقول: إنّ المشهور بين الأصحاب شهرة عظيمة قريبة من الإجماع أنّ التكسّب بكلب الصيد جائز، بل عن جماعة من أساطين الطائفة نقل الإجماع عليه كالشيخ في الخلاف(8)و ابن زهرة في الغنية(9) و العلّامة في المنتهى(10) و التذكرة(11) و فخر المحقّقين في الإيضاح(12)و الشهيدين في الدروس(13) و المسالك(14) و المحقّق الثاني في شرح القواعد(15).

و عن الشيخين في المقنعة(16) و النهاية(17) تخصيص الجواز بالسلوقي، منسوب إلى السلوق و هو قرية في اليمن و أكثر كلابها معلّمة.

و عن ظاهر كلام ابن الجنيد استثناء الأسود البهيم منه و هو الأسود الخالص لا يخالط لونه لون آخر، يعني أنّ التكسّب بكلب الصيد جائز إلّا الأسود البهيم منه، لأنّ

ص: 96


1- مصابيح الأحكام: 12.
2- الخلاف 182:3.
3- المنتهى 1009:2.
4- الدروس 168:3، المسالك 167:1.
5- كما في السرائر 220:2، الوسيلة: 248، المهذّب 347:2.
6- الوسائل 3/119:17، ب 14 ما يكتسب به، التهذيب 1017/356:6.
7- الوسائل 5/119:17، ب 14 ما يكتسب به، التهذيب 1016/356:6.
8- الخلاف 181:3.
9- الغنية: 213.
10- المنتهى 1009:2.
11- التذكرة 464:1.
12- الإيضاح 402:1.
13- الدروس 168:3.
14- المسالك 167:1.
15- جامع المقاصد 14:4.
16- المقنعة: 589.
17- النهاية: 364.

النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أمر بقتله(1).

و عن العلّامة في النهاية(2) التوقّف في جواز بيع كلب الصيد.

و عن ابن أبي عقيل العمّاني(3) في ظاهر كلامه المنع منه مطلقاً.

و هذه الأقوال كلّها شاذّة ضعيفة، و المشهور هو المنصور، للمستفيض من الإجماعات المنقولة المعتضدة بالشهرة العظيمة، و مفهوم الصفة في النصوص المتقدّم إليها الإشارة إن لم نقل بحجّيّته و إلّا فهو حجّة مستقلّة. مضافاً إلى النصوص المستفيضة المصرّحة بالجواز فيه بعبارات مختلفة، و فيها الصحيح و غيره من المعتبرة، ففي خبرين منها عن ثمن الكلب الّذي لا يصيد، فقال: «سحت، و أمّا الصيود فلا بأس»(4) و في ثالث عن ثمن كلب الصيد قال: «لا بأس بثمنه، و الآخر لا يحلّ ثمنه»(5) و في رابع صحيح عن الكلب الصيود يباع قال: «نعم، و يؤكل ثمنه»(6) و في خامس مرويّ عن دعائم الإسلام عن أمير المؤمنين عليه السلام «أنّه قال: لا بأس بثمن كلب الصيد»(7).

و ليس للعمّاني المانع عن بيعه على ما حكي إلّا عموم النهي عن ثمن الكلب، و أنّه حيوان نجس العين فلا يجوز بيعه، و أنّ النبيّ أمر بقتل الكلاب.

و الأوّل: مدفوع بتعيّن الخروج عن العموم بالمستفيض من منقول الإجماع و النصوص الخاصّة، و الثاني مدفوع بمنع كلّيّة الكبرى بعد مساعدة الأدلّة على الجواز في خصوص محلّ البحث، كما أنّ الثالث أيضاً مدفوع تارةً بالتزام نسخ الأمر بقتل الكلاب في خصوص المقام، و اُخرى بالتزام تخصيصه بما عدا محلّ البحث تحكيماً للخاصّ على العامّ .

و منشأ توقّف العلّامة في النهاية على ما حكي أنّ جواز اقتناء كلب الصيد وهبته و الوصيّة به و تقدير الشارع له دية و هي أربعون درهماً يقتضي جواز بيعه، و عموم النهي (3)

ص: 97


1- غوالي اللآلي 21/36:1، المستدرك 2/294:8، ب 36 أحكام الدواب في السفر.
2- نهاية الإحكام 462:2.
3- نقل عنه في مفتاح الكرامة 28:4.
4- الوسائل 1/118:17، ب 14 ما يكتسب به، الكافي 5/127:5.
5- الوسائل 5/119:17، ب 14 ما يكتسب به، التهذيب 1016/356:6.
6- التهذيب 343/80:9.
7- دعائم الإسلام 28/19:2.

عن ثمن الكلب يقتضي المنع من ذلك.

و قد ظهر الجواب عن العموم، بل الوجوه الثلاث المذكورة للجواز تنهض لتخصيص العموم فلا تعارض حتّى يلزم منه الإلجاء إلى الوقف.

و أمر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بقتل الأسود البهيم على تقدير ثبوته على ما تقدّم في تعليل ابن الجنيد لمختاره محتمل للنسخ، و إلّا يتعيّن اطراحه لعدم مقاومته عمومات كلب الصيد و مطلقاته لشذوذ العامل به، و إعراض المعظم عنه فيخرج عن صلاحية المقاومة فضلاً عن التقديم.

و ليس للشيخين إلّا تبادر السلوقي من إطلاقات كلب الصيد لانصرافها إليه، و هو محلّ منع خصوصاً مع مقابلة الصيود أو كلب الصيد للّذي لا يصيد، فإنّ الوصف الوارد في الأخبار يفيد أنّ مقابله ما يصيد لا ما يكون سلوقيّاً بالخصوص.

و توهّم: كون الوصف وارداً مورد الغالب، يدفعه منع غلبة السلوقي، و لو سلّم الغلبة ففي كون مجرّد غلبة الوجود من دون غلبة الإطلاق موجبة للانصراف كلام، و لعلّ أقربه المنع.

و كون فتوى الشيخ في النهاية(1) يجري مجرى الرواية المرسلة لأنّه يفتي فيها بمتون الروايات، يدفعه: أنّ هذه الرواية - مع احتمالها لإرادة مطلق الصيود من السلوقي تغليباً، و ضعفها بالإرسال - ضعيفة بالشذوذ و إعراض المعظم عنها، فلا يعبأ بها قبالاً للمعتبرة العامّة في مطلق الصيود و الإجماعات المنقولة المستفيضة الّتي منها إجماع الخلاف فيتوهّن به فتواه في النهاية.

الموضع الثاني: في كلب الماشية و الزرع و الحائط،

و عبارات الأصحاب في هذه الكلاب مضطربة جدّاً و كلماتهم فيها مختلفة غاية الاختلاف، و المحصّل منها أنّهم مختلفون في المنع عن بيعها و جوازه على قولين كما في الرياض(2) أو أقوال أربع.

ثالثها: الجواز في كلب الماشية و الزرع دون كلب الحائط، و هو قول سلّار(3)

ص: 98


1- النهاية: 364.
2- الرياض 135:8-136.
3- المراسم: 170.

و ظاهر ابن الجنيد(1) و أحد قولي الشيخ(2) و ابن البرّاج(3).

و رابعها: جواز بيع كلب الماشية و الحائط دون كلب الزرع، و نسب القول به إلى سلّار(4) و صاحب الوسائل(5) كما في المصابيح(6) جاعلاً للقول بالمنع أشهر و ناسباً للقول بالجواز إلى جماعة(7) و خالفه شيخنا في الجواهر(8) فجعل الأشهر بل المشهور القول بالجواز بضروب من التأويل في عباراتهم و إرجاع بعضها إلى بعض.

و ظاهر أنّ القول بالمنع مطلقاً لا يحتاج إلى حجّة اُخرى سوى القاعدة المتقدّمة فالمانع لا يطالب بالدليل و إنّما يطالب به المجوّز مطلقاً أو في اثنين، لكون القول به تخصيصاً في القاعدة بدعوى استثناء الثلاثة أو الاثنين منها و لا بدّ له من دليل.

و من هنا ينقدح أنّ الاحتجاج لهذا القول بالأصل تارةً و بعمومات البيع ك

«أحلّ اللّٰه البيع»

و نحوه خرج منهما كلب الهراش و بقى غيره اُخرى - كما أشار إليهما السيّدان السندان في الرياض(9) و المصابيح(10) - غير جيّد، لأنّ الأصل مع القاعدة المقتضية للخلاف لا مجرى أو لا حكم له و العمومات مخصّص بتلك القاعدة فيقال: إنّه خرج منها الكلاب الثلاث أيضاً.

نعم الّذي يمكن أن يحتجّ به للقول بالجواز مطلقاً أمران:

أحدهما: الإجماع المنقول الّذي ربّما استظهر من عبارة الشيخ في إجارة الخلاف و العلّامة في التذكرة و الشهيد في الحواشي، فعن الأوّل «أنّ أحداً لم يفرّق بين بيع هذه الكلاب و إجارتها بعد ملاحظة الاتّفاق على جواز إجارتها»(11) و عن الثاني «يجوز بيع هذه الكلاب عندنا»(12) و عن الثالث «أنّ أحداً لم يفرّق بين الكلاب الأربعة»(13).

و يزيّفه - مع عدم صراحة شيء ممّا ذكر في دعوى الإجماع على جواز بيع

ص: 99


1- نقله عنه في المختلف 12:5.
2- المبسوط 166:2.
3- المهذّب 348:2.
4- المراسم: 170.
5- الوسائل 120:17.
6- مصابيح الأحكام: 8.
7- كما في الوسيلة: 248، السرائر 220:2، القواعد 120:1، الإيضاح 402:1، الدروس 168:3.
8- الجواهر 137:22-145.
9- الرياض 136:8.
10- مصابيح الأحكام: 11.
11- المبسوط 350:3، الخلاف 511:3.
12- التذكرة 259:2.
13- نقله عنه في مفتاح الكرامة 94:12.

الكلاب الثلاثة - أنّه معارض بظاهر عبارة الشيخ في مكاسب الخلاف(1) و كذلك عبارة الغنية(2) من دعوى الإجماع على تحريم بيع ما عدا كلب الصيد، مضافاً إلى أنّه موهون باشتهار القول بالمنع بين القدماء و المتأخّرين إن لم نقل بكونه أشهر، فلا يمكن التعويل عليه مع اشتهار ذلك القول كما هو واضح.

و ثانيهما: أنّه لو جاز بيع كلب الصيد جاز بيع هذه الكلاب لكنّ المقدّم ثابت بالنصّ و الإجماع فكذا التالي، و بيان الملازمة أنّ المقتضي للجواز في كلب الصيد و هو الملك و جواز الاقتناء و وجود المنفعة المحلّلة و جواز الإجارة و جواز الوصيّة و جواز الهبة و تقدير الشارع للدية موجود في هذه الكلاب أيضاً، فإنّها مملوكة و يجوز اقتناؤها و لها منفعة محلّلة مقصودة للعقلاء و هي الحفظ و الحراسة و يجوز إجارتها و الوصيّة بها وهبتها و قدّر لها دية و هي عشرون درهماً على ما ورد به النصّ .

و يزيّفه أنّ الحكم كما اعترف به المستدلّ إنّما ثبت في الأصل بالنصّ و الإجماع لا بالأحكام المذكورة، و المفروض أنّه فيهما غير معلّل بتلك الأحكام ليندرج المقام في العلّة المنصوصة المسوّغة للتعدّي من كلب الصيد إلى الكلاب الثلاثة فيرجع إثبات العلّة إلى إعمال شيء من طرق الاستنباط و الاستدلال معه يرجع إلى القياس المستنبط العلّة و هو باطل عندنا بالضرورة، مضافاً إلى عدم اطّراد جواز البيع مع الأحكام، و مرجعه إلى تخلّف الحكم عن العلّة كما في اُمّ الولد و الوقف و الحرّ، فإنّ الاُولى ملك و يجوز اقتناؤه و له منفعة محلّلة و يجوز إجارتها مع عدم جواز بيعها، و الوقف يجوز إجارته و لا يجوز بيعه، و الحرّ يجوز إجارته و لا يجوز بيعه، مع أنّ تقدير الدية من الشارع ربّما استظهر منه عدم جواز البيع لأنّه يكشف عن عدم كون الكلاب مالاً يقابل بالمال و يعاوض بالأثمان، و إلّا فقضيّة ماليّة المال أن يضمن بالقيمة إذا كان قيميّاً فوجب كون ديتها القيمة كائنة ما كانت.

فإن قلت: إنّ ما ذكرت من عدم الاطّراد و إثبات التخلّف إنّما يقدح في الدليل إذا اُريد الملازمة العقليّة فإنّ اللازم العقلي يستحيل تخلّفه عن ملزومه و ليس بلازم،

ص: 100


1- الخلاف 183:3.
2- الغنية: 213.

و يكفي الملازمة الشرعيّة و هي بين الأحكام المذكورة و جواز البيع ثابتة بالدليل من النصّ و الإجماع، و مرجع الملازمة الشرعيّة إلى لزوم جواز البيع للأحكام المذكورة على سبيل القاعدة الكلّيّة و هي قابلة للتخصيص، و الموارد المذكورة للتخلّف مخرجة عنها بالدليل و ما عداها باقٍ تحتها و منه الكلاب الثلاثة.

قلت: تحريم بيع الكلب أيضاً قاعدة ثابتة بالدليل، و هي مع القاعدة المذكورة متعارضتان و بينهما عموم من وجه لافتراقهما في كلب الصيد و اُمّ الولد و الوقف و الحرّ و اجتماعهما في الكلاب الثلاثة، فلا بدّ من الترجيح بمرجّح داخلي أو خارجي، و من المرجّح الداخلي في العامّين من وجه كون أحدهما أقلّ أفراداً من الآخر، و لا ريب أنّ قاعدة التحريم أخصّ مورداً بمراتب شتّى من قاعدة الملازمة فيؤخذ بها و يخصّص قاعدة الملازمة بإخراج مورد التعارض عنها.

و لم نقف للقول بجواز بيع كلب الماشية و كلب الزرع على حجّة سوى ما حكاه في المصابيح(1) من عدّة روايات غير دالّة عليه أصلاً، مثل ما عن الكافي في الصحيح عن محمّد بن قيس عن أبي جعفر عليه السلام عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: «لا خير في الكلاب إلّا كلب صيد أو كلب ماشية»(2).

و ما في التذكرة(3) و عن المنتهى(4) من قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «من اتّخذ كلباً إلّا كلب ماشية أو زرع أو صيد نقص من أجره كلّ يوم قيراط»(5).

و المرويّ عن غوالي اللآلئ في حديث «إنّ جبرئيل نزل إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم فوقف بالباب و استأذن، فأذن له فلم يدخل، فخرج النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم فقال: ما لك ؟ فقال: إنّا معاشر الملائكة لا ندخل بيتاً فيه كلب و لا صورة فنظروا فإذا في بعض بيوتهم كلب فقال النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: لا أدع كلباً إلّا قتلته، فهربت الكلاب حتّى بلغت العوالي فقيل: يا رسول اللّٰه كيف الصيد بها و قد أمرت بقتلها؟ فسكت رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم فجاء الوحي باقتناء الكلاب

ص: 101


1- مصابيح الأحكام: 11.
2- الوسائل 2/530:11، ب 43 أحكام الدوابّ ، الكافي 4/552:6.
3- التذكرة 30:10.
4- المنتهى 1009:2.
5- صحيح مسلم 58/1203:3، المغني 326:4، الشرح الكبير 16:4.

الّتي ينتفع بها، فاستثنى رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم كلاب الصيد و كلاب الماشية و كلاب الحرث، و أذن في اتّخاذها»(1).

و في الجميع - بعد الغضّ عن سند ما عدا الصحيح منها و عن أخصّيّة الصحيح من المدّعى - منع الدلالة، إذ الخيريّة لا تفيد أزيد من وجود المنفعة المحلّلة و لا كلام فيه، و الإذن في الاتّخاذ و جوازه لا يفيد أزيد من جواز اقتناء هذين الكلبين، و هذا أيضاً على ما ستعرفه ليس بمحلّ كلام. و بالجملة محلّ النزاع غير ثابت بهذه الروايات، و الثابت بها ليس بمحلّ نزاع، فيبقى قاعدة التحريم فيما عدا كلب الصيد سليمة عمّا يوجب التخصيص.

و ليس للقول بجواز بيع كلب الماشية و كلب الحائط إلّا رواية مرسلة أرسلها الشيخ في المبسوط قائلاً: «يجوز بيع كلب الصيد، و روي أنّ كلب الماشية و الزرع مثل ذلك أي مثل كلب الصيد في جواز البيع»(2) و يظهر التعويل عليها من صاحب الوسائل(3).

و يرد عليها الضعف بالإرسال، مضافاً إلى أنّ الشيخ المرسِل لها لم يعمل بها لعدم تصريحه بجواز البيع في الكلبين كما أفتى به صريحاً في كلب الصيد بل نسبه فيهما إلى الرواية.

ثمّ إنّ المعروف في كلب الحائط أنّه كلب البستان، و قد يعمّم بالنسبة إليه و إلى كلب البيوت و الدور و الخيام، و منهم من ألحق ما عدا كلب البستان به في الحكم، و لا يهمّنا تحقيق ذلك بعد البناء على المنع من البيع فيما عدا كلب الصيد، فإنّ الأقسام المذكورة مثل كلب الماشية و كلب الزرع مندرجة في عموم المنع سواء سمّينا الجميع بهذا الاسم أو لا.

ثمّ إنّ هاهنا فروعاً ينبغي التعرّض لها:
الأوّل: يجوز اقتناء ما ينتفع به من الكلاب في حراسة و نحوها

سواء فيه الكلاب الأربع و غيرها بإجماع علمائنا كما في المصابيح(4).

و في المحكيّ عن مبسوط الشيخ «و يجوز اقتناء الكلب للصيد و حفظ الماشية و حفظ الزرع بلا خلاف و كذلك يجوز اقتناؤها لحفظ البيوت»(5).

ص: 102


1- غوالي اللآلئ 414/148:2، المستدرك 2/293/:8، ب 35 أحكام الدوابّ في السفر.
2- المبسوط 166:2.
3- الوسائل 120:17.
4- مصابيح الأحكام: 12.
5- المبسوط 166:2.

و ظاهره وقوع الخلاف في غير الثلاثة، و لذا قد يدّعى اتّفاق الأصحاب في اتّخاذه للمزارع و الماشية و الصيد مع نقل اختلافهم في جواز اتّخاذه لحفظ الدرب و الدور على وجهين كما حكاه في البحار(1).

و في المصابيح علّل إطلاق القول بالجواز - بعد الإجماع - بالأصل و الأخبار.

و جريان الأصل هنا مع ملاحظة ما في رواية تحف العقول من قوله عليه السلام: «لأنّ ذلك كلّه منهيّ عن أكله و شربه و لبسه و ملكه و إمساكه» الخ محلّ منع، و لم نقف من الأخبار إلّا على ما دلّ على جواز اتّخاذ الثلاثة المذكورة، كرواية غوالي اللآلي المتقدّمة.

و في رواية عن أبي عبد اللّه عليه السلام «إنّ رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم رخّص لأهل القاصية في الكلب يتّخذونه»(2) و هذا أخصّ عن المدّعى لأنّ القاصية البعيدة عن المعمورة.

و يمكن استنباط الجواز من الروايات الدالّة أو المحمولة على الكراهة، فإنّ اقتناء الكلاب المنتفع بها و اتّخاذها للانتفاع و إن كان جائزاً إلّا أنّه على كراهية كما نصّ عليه في المصابيح، لنجاستها و عسر التحرّز عنها، و لقول أبي عبد اللّه عليه السلام في صحيح الحلبي:

«يكره أن يكون في دار الرجل المسلم الكلب»(3) و قوله عليه السلام في موثّقة زرارة: «ما من أحد يتّخذ كلباً إلّا نقص في كلّ يوم من عمل صاحبه قيراط»(4) و نحوه المرسلة المتقدّمة عن التذكرة(5) قيل و في رواية قيراطان، و في موثّقة سماعة قال: «سألته عن الكلب يمسك في الدار؟ قال: لا»(6) و هذا محمول على الكراهة و على تقدير حمله على التحريم فيحتمل كونه في الكلب الهراش، و للروايات الدالّة على أنّ الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب:

منها: ما تقدّم(7) عن الغوالي اللآلئ.

و منها: المرويّ عن الشيخ عن محمّد بن مروان عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «قال رسول اللّٰه: إنّ جبرئيل أتاني فقال: إنّا معاشر الملائكة لا ندخل بيتاً فيه كلب و لا تماثيل

ص: 103


1- البحار 51:62.
2- الوسائل 7/531:11، ب 43 أحكام الدوابّ ، الكافي 11/553:6.
3- الوسائل 1/530:11، ب 43 أحكام الدوابّ ، الكافي 1/552:6.
4- الوسائل 5/531:11، ب 43 أحكام الدوابّ ، الكافي 2/552:6.
5- التذكرة 30:10.
6- الوسائل 6/531:11، 43 أحكام الدوابّ ، الكافي 3/552:6.
7- تقدّم في الصفحة 101.

جسد، و لا إناء فيه يبال»(1).

و المرويّ عن الفقيه عن الصادق عليه السلام «لا تصلّ في دار فيها كلب إلّا أن يكون كلب الصيد و اُغلقت دونه باباً فلا بأس، فإنّ الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب، و لا بيتاً فيه تماثيل، و لا بيتاً فيه بول مجموع في آنية»(2).

و يستفاد من هذه الرواية ارتفاع الكراهة في كلب الصيد بشرط أن يكون في بيت اُغلق عليه الباب كما أفتى به في المصابيح(3) و يدلّ عليه أيضاً خبر جرّاح المدائني عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «لا تمسك كلب الصيد في الدار إلّا أن يكون بينك و بينه باب»(4)و خبر سماعة قال: «سألته عن كلب الصيد يمسك في الدار؟ قال: إذا كان يغلق دونه الباب فلا بأس»(5).

و أمّا تفسير القيراط الوارد في أخبار نقص أجر العمل، ففي المجمع «و القيراط نصف دانق... إلى أن قال: و أمّا القيراط الّذي جاء في الحديث جزء من أجزاء الدينار...

إلى أن قال: و في النهاية(6) القيراط جزء من أجزاء الدينار و هو نصف عشر في أكثر البلاد، و أهل الشام يجعلونه جزء من أربعة و عشرين»(7) و لعلّه لمكان الاختلاف و اشتباه حقيقته. قيل: و المراد بالقيراط مقدار معلوم عند اللّٰه تعالى ينقص من أجر عمله.

و قيل أيضاً: اختلفوا في المراد بما نقص منه فقيل ممّا مضى من عمله، و قيل: من مستقبله، و قيل: قيراط من عمل الليل و قيراط من عمل النهار، و قيل: قيراط من عمل الفرض و قيراط من عمل النفل. و كأنّ هذين القولين قصد بهما بيان معنى رواية قيراطين كما تقدّم قصداً إلى الجمع بينها و بين رواية القيراط، و قد يجمع أيضاً بحملها على اختلاف أنواع الكلاب في كون بعضها أشدّ أذىً من البعض الآخر، أو على اختلاف

ص: 104


1- الوسائل 1/174:5، ب 33 مكان المصلّي، الكافي 27/393:3.
2- الوسائل 4/175:5، ب 33 مكان المصلّي، الفقيه 744/159:1.
3- مصابيح الأحكام: 12.
4- الوسائل 3/530:11، ب 43 أحكام الدوابّ ، الكافي 5/552:6.
5- الوسائل 4/531:11، ب 43 أحكام الدوابّ ، الكافي 6/552:6.
6- النهاية 42:4.
7- مجمع البحرين 489:3.

المواضع فيكون القيراطان في المدن و نحوها و القيراط في البوادي.

الثاني: قال في المصابيح: «كلّما يجوز اقتناؤه من الكلاب يصحّ تملّكه كغيره من الحيوانات المنتفع بها

الثاني: قال في المصابيح(1): «كلّما يجوز اقتناؤه من الكلاب يصحّ تملّكه كغيره من الحيوانات المنتفع بها

و يحرم إتلافه و الجناية عليه من غير المالك بإجماع الأصحاب حكاه العلّامة في التذكرة و ابن فهد في المهذّب»(2).

و مراده ممّا نسبه إلى العلّامة ما ذكره في التذكرة «يحرم قتل ما يباح اقتناؤه من الكلاب إجماعاً و عليه الضمان»(3).

و قال بعض مشايخنا - في جملة كلام له في الكلاب الأربعة -: «لا خلاف في أنّها مملوكة و لإتلافها غرامات، و يجوز إجارتها وهبتها و رهنها و الوصيّة بها و أن تكون مهراً للنكاح و عوضاً للخلع، بل يجوز أن تكون ثمناً في الإجارة و غيرها»(4).

و قال العلّامة في غصب التذكرة: «لو غصب كلب صيد أو زرع أو حائط أو ماشية وجب عليه ردّه إلى مالكه، لأنّ له قيمة في نظر الشرع، و يجوز اقتناؤه و الانتفاع به فأشبه غيره من الأموال. و لو أتلفه ضمن القيمة الّتي قدّرها الشرع، و لو حبسه عن مالكه مدّة لزمه اُجرته عندنا لأنّه يصحّ استيجاره عندنا» و قال في موضع آخر: «قد بيّنّا أنّ منافع الكلب الّذي يجوز اقتناؤه و له قيمة في نظر الشارع مضمونة على الغاصب»(5).

قال السيّد - بعد العبارة المتقدّمة عن مصابيحه -: «و لا ينافي ذلك تحريم بيع ما عدا كلب الصيد، لأنّ جواز البيع ليس من لوازم الملك، إذ من المملوك ما لا يجوز بيعه كالوقف و المكاتب و اُمّ الولد و القليل الغير المتموّل، فلا يلزم من تحريم البيع انتفاء الملك و لا جواز الإتلاف و الجناية، و قد ورد في أكثر هذه الكلاب دية مقدّرة»(6).

أقول: تحريم البيع هنا لعلّه لانتفاء الماليّة الّتي لا ملازمة بينها و بين الملكيّة، بناءً على أنّ النسبة بين الملك و المال عموم من وجه لافتراق الملك عن المال في الحبّة المملوكة من الحنطة و نحوها، و افتراق [المال] عن الملك ثلث الميّت بناءً على خروجه عن ملك الميّت، و المبيع يتبع الماليّة، كما يظهر ذلك من العلّامة في وصيّة التذكرة حيث

ص: 105


1- مصابيح الأحكام: 12.
2- المهذّب البارع 348:2.
3- التذكرة 28:10.
4- الجواهر 140:22.
5- التذكرة 379:2 كتاب الغصب.
6- مصابيح الأحكام: 12.

أناط الماليّة و انتفاءها في الكلاب بجواز بيعها و العدم قائلاً: «لو أوصى بكلب الهراش لم تصحّ الوصيّة لأنّه ليس بمال، و لا يجوز اقتناؤه و لا بيعه و لا هبته، أمّا لو كان الكلب ممّا يحلّ اقتناؤه مثل كلب الصيد و الماشية و الزرع و الحائط صحّت الوصيّة به إجماعاً لأنّ فيه نفعاً مباحاً و تقرّ اليد عليه، و الوصيّة تبرّع تصحّ في المال و غير المال من الحقوق و لأنّه تصحّ هبته فتصحّ الوصيّة به كالمال. و لو قال: أعطوه كلباً من كلابي، فإن لم يكن له كلب مباح اقتناؤه بل كلّ كلابه كلاب الهراش بطلت الوصيّة، و لو كان له كلاب يباح الانتفاع بها صحّت الوصيّة و اُعطي واحداً منها. و كذا لو قال: أعطوه كلباً من مالي، فإن قلنا الكلب المباح اقتناؤه يصحّ بيعه و شراؤه كان مالاً و صحّت الوصيّة به، و إن قلنا إنّه لا يصحّ بيعه فإنّه تصحّ الوصيّة به أيضاً و به قال الشافعي و إن لم يكن الكلب مالاً لأنّ المنتفع به من الكلاب يصحّ اقتناؤه و اعتبار أيدي المتداولة عليه كالأموال و يستعار له اسم المال بهذا الاعتبار، بخلاف كلب الهراش فإنّ الوصيّة به باطلة سواء قال: أعطوه كلباً من كلابي، أو من مالي، لأنّه لا يصحّ ابتياع الكلب المذكور لأنّه لا قيمة له و لا يباح اقتناؤه، فلا يعدّ مالاً حقيقة و لا مجازاً إلى آخر ما ذكره»(1).

و لو لا الإجماع على مملوكيّة رقبة هذه الكلاب المستفاد من تضاعيف كلماتهم خصوصاً تصريحهم بصحّة هبة هذه الكلاب الّتي يشترط في متعلّقها كونه عيناً مملوكة أمكن منع ابتناء حرمة الإتلاف و الجناية و ضمان الدية المقدّرة بل سائر الأحكام المذكورة عدا صحّة الهبة على ملك الرقبة لكفاية ملك المنافع المحلّلة في ذلك كلّه كما هو واضح. و ربّما أمكن منع ابتناء الضمان و تحريم الإتلاف على ملك المنافع أيضاً، لكفاية تعلّق حقّ الاختصاص، فتأمّل.

الثالث: ظاهر كلمة الأصحاب جواز إجارة الكلاب الأربعة خصوصاً كلب الصيد،

و هو المعروف من مذهب الأصحاب في كلب الصيد كما في المصابيح(2) بل ظاهر عبارة التذكرة(3) إجماعهم عليه في الأربعة حيث لم ينسب الخلاف إلّا إلى بعض الشافعيّة، و الشيخ في الخلاف على ما حكي نسب الخلاف إلى بعض العامّة و لكنّه

ص: 106


1- التذكرة 483:2 كتاب الوصيّة.
2- مصابيح الأحكام: 12.
3- التذكرة 28:10.

لم يذكر إلّا كلب الصيد و الماشية و الزرع.

و استدلّوا عليه بأنّه حيوان مملوك ينتفع به نفعاً محلّلاً مقصوداً مع بقاء عينه، و زاد عليه في المصابيح في كلب الصيد «أنّه قد ثبت بالنصّ و الإجماع جواز إعارته»(1).

و هذا يقتضي جواز إجارته أيضاً بضابطة أن كلّما صحّ إعارته مع بقاء عينه صحّ إجارته كذلك.

و المحقّق مع أنّه في الشرائع(2) منع عن بيع ما عدا كلب الصيد أجاز إجارة الجميع، و عن الشهيد الثاني في المسالك «نفى الإشكال عنه»(3) و عن ابن الفهد في المهذّب «نفي الخلاف عنه»(4).

و في المصابيح «قد يقال بالمنع إن لم يثبت الإجماع على الجواز لكون الإجارة نوعاً من التكسّب فتكون محرّمة لتحريم التكسّب بالأعيان النجسة»(5).

و يدفعه: أنّ الدليل العامّ على تحريم التكسّب بالأعيان النجسة يقول مطلق، إمّا قوله في رواية تحف العقول: «لأنّ ذلك كلّه منهيّ عن أكله و شربه و لبسه و ملكه و إمساكه و التقلّب فيه فجميع تقلّبه في ذلك حرام» أو قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «إنّ اللّٰه إذا حرّم شيئاً حرّم ثمنه» و أيّاً ما كان فهو لا يتناول الكلاب الأربعة أصلاً فضلاً عن إجارتها.

أمّا الأوّل فلظهوره في تحريم جميع المنافع و التقلّبات، و أمّا الثاني فلظهوره فيه أو في تحريم المنافع المقصودة، فلا يندرج فيهما الكلاب الأربعة لحلّيّة منافعها المقصودة، حتّى أنّه لو لا النصوص المصرّحة بتحريم ثمن الكلب الّذي لا يصيد لم يمكن إثبات تحريم بيع ما عدا كلب الصيد بقاعدة تحريم التكسّب بالأعيان لعدم العموم في دليلها بحيث يشمل الكلاب الثلاثة، و المفروض عدم إمكان إثبات تحريم إجارتها بتلك النصوص لمكان الثمن الّذي لا يطلق على عوض المنفعة في الإجارة لاختصاصه عرفاً بل لغة بعوض الأعيان، و أمّا عوض المنافع فيقال له: الاُجرة و مال الإجارة و وجه الإجارة.

و هل يصدق الثمن على عوض العين في الصلح المعوّض و الهبة المعوّضة ليتّجه

ص: 107


1- مصابيح الأحكام: 12.
2- الشرائع 9:2.
3- المسالك 135:3.
4- المهذّب البارع 346:2.
5- مصابيح الأحكام: 13.

من جهته التمسّك بالنصوص المشار إليها لتحريم هذين النوعين من الصلح و الهبة أو لا؟ وجهان مبنيّان على كون الثمن عبارة عن العوض المبذول للعين في البيع أو مطلقاً، كلمة أئمّة اللغة فيه مختلفة.

فعن الجوهري في الصحاح «و الثمن ثمن المبيع»(1) و ظاهره يفيد الاختصاص و إن حمل على إرادة التشبيه.

و في الغريبين للهروي «الثمن قيمة الشيء»(2) و نحوه ما في المجمع(3) إلّا أنّ الأوّل قال - عقيب ما عرفت -: «و جعل الثمن مشتري كسائر السلع لأنّ الثمن و المثمن كلاهما مبيع و لذا اُجيز شريت بمعنى بعت».

و هذا الكلام يعطي أنّ المراد قيمة المبيع خاصّة فيوافق الأوّل، و لا ينافيهما ما عن الأساس «أثمنت الرجل بمتاعه و أثمنت له أعطيت ثمنه، و ثمّن هذا المتاع بيّن ثمنه كما تقول قوّمه»(4).

نعم عن المصباح المنير «الثمن العوض»(5) و هذا ظاهر في العموم، و يوافقه ما في القاموس «و ثمن الشيء محرّكة ما استحقّ به ذلك الشيء... إلى أن قال: و أثمنه سلعته و أثمن له أعطاه ثمنها»(6).

و يمكن إرجاعهما إلى الأوّل، فالجميع يريدون عوض المبيع خاصّة، و يشهد له العرف فإنّ المتبادر من الثمن في متفاهم العرف هو ذلك لا مطلق العوض، و إليه ينصرف إطلاقات الأخبار. و لو سلّم أنّه بحسب اللغة لمطلق العوض فلا ينصرف الإطلاق في الأخبار إلّا إلى الخاصّ فإنّه الغالب المعهود بحسب الاستعمال. و على هذا فلا يندرج المعوّض من الصلح و الهبة في عموم قوله عليه السلام: «ثمن الكلب الّذي لا يصيد سحت» كما لا يندرج فيه الغير المعوّض منهما.

و قضيّة عمومات الصحّة في العقدين جوازهما في الكلاب الأربعة مطلقاً، و كذلك يجوز إصداقها و الوصيّة بها لأجل العمومات السليمة عمّا يوجب الخروج منها جزماً

ص: 108


1- الصحاح 2089:5 (ثمن).
2- الغريبين 296:1.
3- مجمع البحرين 325:1.
4- أساس البلاغة: 48.
5- المصباح المنير: 93.
6- القاموس المحيط 207:4.

كما نصّ عليه السيّد(1) و غيره(2).

بل ظاهر عبارة التذكرة بل صريحها جريان الوقف فيها حيث إنّه بعد ما ذكر أنّه يشترط في العين الموقوفة اُمور خمسة «أن يكون عيناً معيّنة مملوكة ينتفع بها انتفاعاً محلّلاً مع بقائها و يصحّ إقباضها قال - في بيان فائدة القيد الثالث -: «و كذا لا يصحّ وقف ما ليس بمملوك من الأعيان كالخمر و الأنبذة و كلب الهراش و الخنزير و السرجين و غير ذلك ممّا تقدّم من الأعيان الّتي لا يقع عليها الملك... إلى أن قال: و يصحّ وقف الكلب المعلّم و كلب الحائط و الماشية و السنّور، لجواز الانتفاع بها و صحّة بيعها على الأقوى.

و للشافعيّة في وقف الكلب المعلّم وجهان...»(3) إلى آخر ما ذكره. و ربّما يومئ ذلك إلى عدم خلاف بين الأصحاب في الكلب المعلّم.

ص: 109


1- مصابيح الأحكام: 13.
2- جامع المقاصد 145:9.
3- التذكرة 431:2.

المبحث السابع في المائعات النجسة

اشارة

و هي على قسمين:

أحدهما: ما كان نجاسته ذاتيّة كالخمر و الفقّاع و سائر الأنبذة و البول ممّا لا يؤكل لحمه، و قد تقدّم ما يتعلّق بأنواع هذا القسم من الأحكام مشروحاً، و هي في الحقيقة داخلة في الأعيان النجسة، و ما فرض فيها من الميعان غير مؤثّر في شيء.

و ثانيهما: ما كان نجاسته عرضيّة كالماء و المضاف المتنجّسين بالملاقاة، و الأدهان المتنجّسة كذلك من الزيت و السمن و الشحم حال ذوبانه، و منه العصير العنبي بعد الغليان على المشهور المنصور، بناءً على أنّ المراد من النجاسة العرضيّة النجاسة الطارئة لطاهر العين بسبب خارجي من غليان أو ملاقاة أو غيرهما من دون أن تستند إلى ذاته و حقيقته، قبالاً للنجاسة الذاتيّة و هي التابعة لذات الشيء المعلولة لحقيقته.

نعم لو فسّرت الذاتيّة بما لم يكن مكتسبة من غيره بالملاقاة كانت العرضيّة حينئذٍ عبارة عن المكتسبة عن غيره بالملاقاة فيدخل العصير في الذاتيّة، إلّا أنّ الأظهر هو الأوّل، و لذا كانت نجاسة موطوءة الإنسان و الجلّالة من العرضيّة.

و كيف كان فالغرض من عقد هذا المبحث التعرّض لأحكام المائعات المتنجّسة بالعرض،

و تمام البحث في أنواعها يقع في مقاصد:
المقصد الأوّل: في العصير العنبي إذا غلى قبل ذهاب ثلثيه الّذي هو في تلك الحال نجس و محرّم،

و لا إشكال في بقاء ماليّته و ملكيّته و عدم زوالهما بالنجاسة العارضة له

ص: 110

و لو بحكم الاستصحاب، غاية الأمر أنّه مال معيوب عيبه قابل للزوال بالنقص الحاصل بإذهاب ثلثيه مع بقاء موضوعه. و بالجملة النجاسة القابلة للزوال مع بقاء الموضوع ليست رافعة لملكيّة الشيء و لا مخرجة له عن الماليّة، بل الرافع للملكيّة المخرج عن الماليّة شرعاً و عرفاً هو النجاسة الغير القابلة للزوال مع بقاء الموضوع فيما يتوقّف منافعه المحلّلة على الطهارة، فالعصير حال نجاسته مال عرفاً و شرعاً و ملك لصاحبه، و الخمر ليس مالاً و لا ملكاً، و لذا لو غصب العصير غاصب فأغلاه وجب عليه ردّ عينه، و عليه ضمان مئونة إذهاب ثلثيه، بل ضمان التالف منه بالغليان عنده بمثله في قول قويّ ، بخلاف ما لو غصبه عصيراً فصار خمراً عنده فإنّه يضمن بمثل العصير.

كما صرّح بما ذكرناه من الفرق بينهما العلّامة في غصب التذكرة معلّلاً لضمان اُجرة العمل حتّى يذهب ثلثاه بعد ما ردّه إلى المالك «بأنّه ردّه معيباً و يحتاج زوال العيب إلى خسارة و العيب من فعله فكانت الخسارة عليه»(1).

و اندفع بما ذكر ما ناقشه في جامع المقاصد «بعدم وضوح الفرق بين المقامين»(2)فإنّ الفرق بينهما واضح، ضرورة أنّ صيرورة العصير خمراً عند الغاصب لخروجها عن الماليّة و الملكيّة بمنزلة التلف فوجب ضمانه بمثل العصير، و الخمر لا يزول نجاستها إلّا بزوال موضوعها و العصير مال و ملك مع النجاسة و لا يزول موضوعها بزوالها، ثمّ لا ينبغي التأمّل في جواز الانتفاع به في الأكل و الشرب بعد الطهارة الحاصلة بالنقص.

و على هذا فهو عين مملوكة قابلة للانتفاع منفعة محلّلة مقصودة، و قضيّة ذلك أن يجوز بيعه بل مطلق التكسّب به عملاً بالعمومات من نحو قوله تعالى: «أَحَلَّ اَللّٰهُ اَلْبَيْعَ » (3)و «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» (4) و ما أشبه ذلك وفاقاً لغير واحد، و هو على ما قيل لازم كلّ من قيّد تحريم البيع في الأعيان النجسة بعدم قابليّتها للتطهير بغير استحالة.

نعم يظهر من المحقّق في الشرائع(5) حيث اقتصر في الاستثناء عن كلّ مائع نجس على الأدهان لفائدة الاستصباح المصير إلى المنع، و نسب القول به صريحاً إلى مفتاح

ص: 111


1- التذكرة 387:2 كتاب الغصب.
2- جامع المقاصد 293:6.
3- البقرة: 188.
4- المائدة: 1.
5- الشرائع 9:2.

الكرامة(1) و رجّحه بعض مشايخنا(2) عند قراءتنا عليه. و ليس بشيء، و العمومات المشار إليها حجّة على كلّ من قال هنا بالمنع، و لا يزاحمها قاعدة تحريم التكسّب بالأعيان النجسة على ما أقعدناه سابقاً، لعدم شمول ما هو دليلها العامّ من رواية تحف العقول و الخبر النبويّ لما نحن فيه.

أمّا الأوّل: فلوجهين، الأوّل أنّ قوله عليه السلام: «أو شيء من وجوه النجس» على ما بيّنّاه سابقاً ظاهر في العنوانات النجسة الّتي نجاستها تابعة لأصل العنوان، و المقام ليس منها.

و الثاني أنّ قوله عليه السلام: «لأنّ ذلك كلّه منهيّ عن أكله و شربه...» الخ يفيد إناطة المنع من البيع و الشراء بتحريم جميع المنافع و التقلّبات، و هذا ليس منها لقبوله الانتفاع بالأكل و الشرب بعد الطهارة و هما منفعتان محلّلتان.

و أمّا الثاني: فلما ذكرناه مراراً من أنّ قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «إنّ اللّٰه إذا حرّم شيئاً» يفيد إناطة تحريم الثمن بتحريم جميع المنافع أو تحريم المنافع المقصودة و العمدة من منافع المقام الأكل و الشرب بعد الطهارة و هما محلّلان، نعم إنّما أكله و شربه حال النجاسة، و لا كلام في حرمة بيعه و شرائه لأجل هذه الجهة، و هذا خارج عن معقد البحث.

نعم يبقى ممّا توهّم منه عموم المنع من التكسّب هنا أمران:

أحدهما: الإجماع المنقول في تذكرة العلّامة حيث قال: «يشترط في المعقود عليه الطهارة الأصليّة فلو باع نجس العين كالخمر و الميتة و الخنزير لم يصحّ إجماعاً»(3).

و يدفعه: منع اندراج المقام في معقد هذا الإجماع، لظهور نجس العين في النجاسة العينيّة التابعة لذات الشيء و ماهيّته، و يؤكّده التمثيل بالثلاثة الّتي نجاستها ذاتيّة، فيراد من الطهارة الأصليّة المشترط بها الطهارة الذاتيّة الّتي لا ينافيها النجاسة العرضيّة خصوصاً مع قبولها الزوال كما هو مفروض المقام.

و ثانيهما: الإجماع المنقول في كلام ابن زهرة في الغنية حيث إنّه بعد ما ذكر «إنّ شرائط صحّة البيع ثبوت الولاية في المعقود عليه، و أن يكون معلوماً مقدوراً على تسليمه، منتفعاً به منفعة مباحة... الخ قال - في بيان تفصيل الشروط المذكورة -: و قيّدنا

ص: 112


1- مفتاح الكرامة 38:12.
2- الجواهر 12:22.
3- التذكرة 25:10.

بكونها أي المنفعة مباحة تحفّظاً من المنافع المحرّمة و يدخل في ذلك كلّ نجس لا يمكن تطهيره إلّا ما أخرجه الدليل من بيع الكلب المعلّم للصيد و الزيت النجس للاستصباح به تحت السماء و هو إجماع الطائفة»(1).

و هذا أيضاً واضح الدفع، لأنّ معقد هذا الإجماع على تقدير كونه إجماعاً على المستثنى منه أيضاً لا على الاستثناء فقط ما لا يقبل التطهير و كلامنا فيما يقبله، فكلّ ما يوجد في فتاوي الأصحاب أو وجد في معاقد إجماعاتهم من إطلاق المنع من بيع النجس فهو إمّا في النجاسات الذاتيّة أو فيما لا يقبل التطهير من النجاسات و لو عرضيّة.

و عن مفتاح الكرامة(2) الاستناد للمنع إلى ظاهر العمومات المتقدّمة، و خصوص بعض الأخبار:

مثل رواية أبي كهمس قال: «سأل رجل أبا عبد اللّه عليه السلام عن العصير فقال: لي كرم و أنا أعصره كلّ سنة و أجعله في الدنان(3) و أبيعه قبل أن يغلي، قال: لا بأس، و إن غلى فلا يحلّ بيعه، ثمّ قال: هو ذا نحن نبيع تمرنا ممّن نعلم أنّه يصنعه خمراً»(4).

و رواية أبي بصير «قال سألت أبا عبد اللّه عليه السلام: عن ثمن العصير قبل أن يغلي لمن يبتاعه ليطبخه أو يجعله خمراً؟ قال: إذا بعته قبل أن يكون خمراً و هو حلال فلا بأس»(5).

و رواية محمّد بن هيثم عن رجل عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «سألته عن العصير يطبخ بالنار حتّى يغلي من ساعته أ يشربه صاحبه ؟ فقال: إذا تغيّر عن حاله و غلى فلا خير فيه حتّى يذهب ثلثاه و يبقى ثلثه»(6).

و قد ظهر الجواب عن العمومات، و أمّا الروايات - فمع الغضّ عمّا في أسانيدها من الضعف و القصور - يتطرّق المنع إلى دلالة الأخير منها إلّا على تقدير أن يراد من قوله:

«لا خير فيه» ما يعمّ البيع، و هو واضح المنع، فلا يفيد أزيد من التحريم أو هو مع

ص: 113


1- الغنية: 207-213.
2- مفتاح الكرامة 41:12.
3- الدنان: جمع الدن و هو الجرّة و الحبّ .
4- الوسائل 6/235:17، ب 59 ما يكتسب به، الكافي 12/232:5.
5- الوسائل 2/229:17، ب 59 ما يكتسب به، الكافي 3/231:5.
6- الوسائل 7/285:25، ب 2 الأشربة المحرّمة، الكافي 2/419:6.

النجاسة، كما ربّما يومئ إليه الغاية المعهود منها كونها غاية للطهارة و الحلّية.

و يرد على الأوّل منها: ظهوره في البيع لمن يشربه و هو نجس أو حرام - أعني قبل إذهاب ثلثيه - و لا كلام في تحريمه حينئذٍ، و لذا قال عليه السلام - فيما بعد تجويزه البيع قبل الغليان و منعه منه بعده -: «هو ذا نحن نبيع تمرنا ممّن نعلم أنّه يصنعه خمراً».

و على الأوسط منها: أنّ مفهوم قوله عليه السلام: «إذا بعته قبل أن يكون خمراً و هو حلال فلا بأس» ثبوت البأس في بيعه بعد أن يكون خمراً لا ثبوته في بيعه بعد الغليان، إلّا أن نقول بالملازمة بين الغليان و الخمريّة، و هي غير واضحة من الرواية لعدم تعليق نفي البأس على عدم الغليان بالنار فتأمّل. و لو سلّم فضعف هذه الرواية بعليّ بن أبي حمزة يمنع من التعويل عليها في الحكم المخالف للأصل و العمومات، مع إمكان حملها على من يشتريه لشربه خمراً لا للتطهير بإذهاب ثلثيه.

المقصد الثاني: في المضاف المتنجّس بالملاقاة بجميع أنواعه من الجلاب و الخلّ و العصير و الدبس و غيره
اشارة

ممّا لا يقبل التطهير بالماء مع بقاء موضوعه و صدق عنوانه عليه، و لا ينبغي الإشكال في بقاء ملكيّته و عدم انسلاخ الملك عنه بطروء النجاسة و لو بحكم الأصل و استصحاب الحالة السابقة الّذي هو من الاستصحاب مع الشكّ في رافعيّة العارض، كما لا ينبغي الإشكال في حرمة استعماله في الأكل أو الشرب أو غيرهما من مشروط بالطهارة، و لا في حرمة بيعه و شرائه في هذه الجهة المحرّمة.

و إنّما الكلام في مقامين آخرين:
اشارة

أحدهما: جواز الانتفاع به في غير الأكل و الشرب من الانتفاعات الاُخر الغير المشترطة بالطهارة، كسقي الدوابّ و التداوي بالطلي و غيره ممّا عدا الأكل و الشرب.

و ثانيهما: جواز بيعه بل مطلق التكسّب به في الانتفاعات الاُخر المباحة.

أمّا المقام الأوّل: [أي جواز الانتفاع به في غير الأكل و الشرب من الانتفاعات الاُخر الغير المشترطة بالطهارة]

فتحقيقه مبنيّ على النظر في أنّ الأصل في المتنجّس الغير القابل للتطهير بالماء هل هو جواز الانتفاع به إلّا ما أخرجه الدليل - كالأكل و الشرب و الاستصباح بالدهن المتنجّس تحت الظلال كما نسب إلى أكثر المتأخّرين(1) و اختاره

ص: 114


1- كما في الإرشاد 357:1، التحرير 257:2. الروضة 207:3، التنقيح 7:2.

بعض مشايخنا(1) و هو الأقوى، لأصالة الإباحة في المنافع، و أصالة براءة الذمّة عن العقاب المحتمل ترتّبه على الفعل، و استصحاب الحالة السابقة على طروء النجاسة، و عموم الانتفاع بما خلق في الأرض المستفاد من قوله تعالى:

«و خلق لكم ما في الأرض»

«و خلق لكم ما في الأرض»(2)

و لا وارد على هذه الاُصول من الأدلّة - أو الأصل هو عدم الجواز إلّا ما أخرجه الدليل ؟ كالاستصباح بالدهن تحت السماء كما نسب إلى ظاهر جماعة من القدماء(3) و إلى صاحب مفتاح الكرامة(4) و اختاره شيخنا في الجواهر(5) و سيأتي تفصيل الكلام في تحقيق هذا المقام في مسألة الأدهان المتنجّسة إن شاء اللّٰه تعالى.

و أمّا المقام الثاني: [جواز بيعه بل مطلق التكسّب به في الانتفاعات الاُخر المباحة.]

فقد اختلف فيه الأصحاب ففي المصابيح «المشهور فيه عدم الجواز، لعدم قبوله التطهير».

و عن العلّامة في بعض أقواله «الجواز لقبوله التطهير»(6).

و عن المحقّق الثاني(7) جوازه فيما لا يتوقّف الانتفاع به على طهارته كالمايعات المقصود منها الصبغ بخلاف غيره من المائعات المقصود منها الأكل و الشرب و نحوهما من الانتفاعات المشروطة بالطهارة. و عنه أيضاً القول بالجواز إن قصد مزجه بالماء المطلق إلى أن يصير ماء لطهارة المضاف باستهلاكه في الكثير المطلق.

و الأصحّ هو القول الثالث. و ربّما احتمل تنزيل القول المشهور عليه، لقوّة احتمال كون مرادهم المنع عن بيعه في الأكل و الشرب و غيره من الانتفاعات المحرّمة. كما ربّما يومئ إليه تعليله بعدم قبوله التطهير فإنّ التطهير و قبوله علاج يقصد به التوصّل إلى

ص: 115


1- المكاسب للشيخ الأنصاري 65:1.
2- البقرة: 29.
3- كما في النهاية 98:2، و المبسوط 5:1 و 6، المقنعة: 582، المراسم: 170، السرائر 219:2.
4- مفتاح الكرامة 78:12.
5- الجواهر 8:22.
6- كما في القواعد 2: التحرير 160:1، نهاية الإحكام 464:2.
7- جامع المقاصد 13:4.

الأكل و الشرب و غيرهما من منافعه المقصودة، و لعلّ العلّامة أيضاً أراد من قبوله التطهير قبوله بمزجه في الكثير المطلق حتّى يصير مطلقاً فيكون مراده ممّا جوّزه تجويز بيعه للأكل و الشرب بعد التطهير بهذا الطريق. و على هذا فلا مخالفة بين العلّامة و المشهور إلّا في مجرّد اللفظ أو في الموضوع. و قضيّة ما وجّهناه رجوع قول العلّامة إلى القول الرابع، و هما راجعان إلى القول المشهور.

فصار المحصّل أنّه لا خلاف لأحد في عدم جواز بيعه و شرائه في الأكل و الشرب المحرّمين حال النجاسة.

و أمّا بيعه و شراؤه في الانتفاعات الاُخر المباحة أو في الأكل و الشرب المقصودين بعد التطهير و لو بالطريق المذكور فلم يتبيّن إنكار جوازه من أحد، و المعتمد على ما بيّنّاه هو الجواز، للأصل بمعنى استصحاب الحالة السابقة، و عموم أدلّة الصحّة في جميع عقود المعاوضة من نحو قوله تعالى: «أَحَلَّ اَللّٰهُ اَلْبَيْعَ » (1) و «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» (2) و ما أشبه ذلك.

و ليس للقول بالمنع مطلقاً إن كان إلّا ما أشار إليه السيّد في الرياض من العمومات المتقدّمة المانعة عن بيع النجس المعربة عن تحريم ثمن ما حرّم أصله(3) مضافاً إلى الإجماعات المنقولة الّتي حكاها عن الغنية(4) و المنتهى(5) و المسالك(6) و غيرها.

و لم يتقدّم في كلامه صريحاً من العمومات ممّا يمكن التمسّك بعمومه للمقام إلّا أمران:

أحدهما: ما نقله من الفقه المنسوب إلى مولانا الرضا عليه السلام من قوله: «اعلم رحمك اللّٰه أنّ كلّ مأمور به على العباد و قوام لهم في اُمورهم من وجوه الصلاح الّذي لا يقيمهم غيره - ممّا يأكلون و يشربون و يلبسون و ينكحون و يملكون و يستعملون - فهذا كلّه حلال بيعه و شراؤه وهبته و عاريته، و كلّ أمر يكون فيه الفساد ممّا قد نهى عنه من جهة أكله و شربه و لبسه و نكاحه و إمساكه بوجه الفساد مثل الميتة و الدم و لحم الخنزير و الربا و جميع الفواحش و لحوم السباع و الخمر و ما أشبه ذلك فحرام ضارّ للجسم»(7).

و ثانيهما: قوله في رواية تحف العقول: «أو شيء من وجوه النجس» مع التعليل بأنّ ذلك كلّه منهيّ عن أكله و شربه... الخ.

و يمكن أن يضاف إليهما عمومات اُخر و إن لم يذكرها في صريح العبارة:

أحدها: ما في رواية تحف العقول قبل الفقرة المذكورة من قوله: «و أمّا وجوه الحرام من البيع و الشراء فكلّ أمر يكون فيه الفساد ممّا هو منهيّ عنه من جهة أكله أو شربه أو لبسه... الخ».

ص: 116


1- البقرة: 118.
2- المائدة: 1.
3- الرياض 137:8.
4- الغنية: 213.
5- المنتهى 1010:2.
6- المسالك 119:3.
7- فقه الرضا عليه السلام: 250.

و ثانيها: ما في خبر دعائم الإسلام من قوله عليه السلام: «و ما كان محرّماً أصله منهيّاً عنه لم يجز بيعه و لا شراؤه»(1).

و ثالثها: الخبر النبويّ «إنّ اللّٰه إذا حرّم شيئاً حرّم ثمنه»(2).

و أنت خبير بأنّ ليس شيء منها بشيء، أمّا الرضوي فالقدح في سنده لكون الكتاب المذكور غير ثابت الحجّيّة لعدم ثبوت كونه من الإمام عليه السلام أوّلاً و منع دلالته ثانياً. و سند المنع وجوه:

الأوّل: أنّ قوله: «فحرام ضارّ للجسم» لا يفيد تحريم بيع الأشياء المذكورة لظهوره في تحريمها باعتبار كونه خبراً لكلّ أمر يكون فيه الفساد، فالحرام حينئذٍ أكل ما نهي عنه من جهة أكله، و شرب ما نهى عنه من جهة شربه، و لبس ما نهي عنه من جهة لبسه و هكذا، و جعله متعلّقاً بالبيع و الشراء يحتاج إلى إضمار و تقدير ينفيه الأصل، و ظهور السياق بقرينة الفقرة الاُولى الّتي متعلّق الحلّية فيها البيع و الشراء و إن كان يقرب احتمال الإضمار و التقدير إلّا أنّه يبعّده اُمور:

منها: وصف ضارّ للجسم فإنّه بظاهر العبارة صفة لقوله: «حرام» و لا يتصوّر كون الضارّ للجسم بيع الأشياء المذكورة بل الضارّ أكلها و شربها و لبسها و نكاحها، إلّا أن يرجع الوصف إلى كلّ أمر يكون فيه الفساد على طريقة الخبر بعد الخبر بإسقاط العاطف، و هو خلاف ظاهر سقوط العاطف.

و منها: قوله فيما سبق: «نكاحه» فإنّ المنهيّ عنه من جهة نكاحه إنّما هو المحارم و نحوه ذات البعل و ذات العدّة، و الحرام إنّما هو نكاحهنّ و لا يعقل لحرمة بيع نكاحهنّ معنى.

و منها: قوله: «و الربا» فإنّ الربا هو بيع الجنس بمثله مع زيادة، و لا معنى لحرمة بيع الجنس بمثله مع زيادة إلّا أن يجرّد الربا عن معنى البيع و اكتفى فيه بالزيادة، و هو تكلّف آخر.

و منها: قوله: «جميع الفواحش» فإنّ الفواحش بظاهرها من القمار و الزنا و اللواط و الغناء و غيرها من القبائح، لا معنى لحرمة بيعها.

الثاني: ظهور الرواية بملاحظة الأمثلة المذكورة - على تقدير تسليم تعلّق الحرمة

ص: 117


1- دعائم الإسلام 23/18:2.
2- عوالي اللآلي 301/110:2.

فيها بالبيع - في بيع المحرّمات النفسيّة و النجاسات العينيّة الذاتيّة، و الحرمة و النجاسة في المضاف المتنجّس عرضيّتان فلا يتناوله الرواية.

الثالث: أنّها لا تفيد أزيد من تحريم بيع الأشياء المذكورة في جهاتها المحرّمة المنهي عنها من الأكل و الشرب و اللبس و غير ذلك، و التحريم من هذه الجهة في المضاف المتنجّس مسلّم، و يبقى بيعه من الجهات الاُخر المباحة مندرجاً تحت الأصل و العمومات.

و أمّا قوله: «أو شيء من وجوه النجس» فلعدم شمول وجوه النجس للمضاف المتنجّس لعدم كون شيء من أنواعه بعنوانه الخاصّ عنواناً للنجاسة، و أمّا البواقي فلأنّه لا ينساق منها أزيد من تحريم بيع المحرّمات المنهيّ عنها في جهاتها المحرّمة، مضافاً إلى ما في رواية دعائم الإسلام من قوله عليه السلام: «و ما كان محرّماً أصله» و هذا لا يتناول محلّ البحث، لعدم كون شيء من أنواع المضاف المتنجّس أصله محرّماً، بل إنّما حرّم أكله أو شربه أو غيرهما ممّا يتوقّف على الطهارة لعارض النجاسة، و إلّا فأصله لو لا هذا العارض محلّل مباح، و لقد سبق منّا في ذيل البحث عن المسكرات الجامدة ما ينفعك هنا، فراجع و تأمّل.

و أمّا الإجماعات الّتي أشار إليها السيّد فإجماع الغنية هو الّذي نقلناه في بحث العصير و قد سمعت الجواب عنه ثمّة و لا حاجة إلى الإعادة، و إجماع المنتهى لم نقف عليه حتّى ننظر في مفاده، و إجماع المسالك أيضاً غير واضح، و لعلّه استفاده من كلامه في شرح عبارة الشرائع حيث إنّه بعد ما عدّ كلّ مائع نجس ممّا يحرم التكسّب به عدا الأدهان لفائدة الاستصباح تحت السماء بناه الشهيد في الشرح على عدم قبول التطهير، ثمّ ذكر «و لو قلنا بقبولها الطهارة جاز بيعها مع الإعلام بحالها، قال: و لا فرق في عدم جواز بيعها على القول بعدم قبولها الطهارة بين صلاحيتها للانتفاع على بعض الوجوه و عدمه، و لا بين الإعلام بحالها و عدمه على ما نصّ عليه الأصحاب و غيرهم»(1).

و هذا كما ترى ليس نصّاً و لا ظاهراً في دعوى الإجماع، و لو سلّم الظهور فهو إجماع على عدم الفرق بناءً على القول بعدم جواز البيع لعدم قبول الطهارة، لا أنّه

ص: 118


1- المسالك 119:3.

إجماع على عدم جواز البيع، و نحن ننكر أصل الإجماع عليه، و لقد عرفت إمكان تنزيل المشهور على المنع في الجهة المحرّمة، و لا ينافيه استثناء الأدهان كما في عبارة الشرائع و غيره، بل ربّما يكون شاهداً عليه لأنّ الوجه في استثناء الأدهان كون فائدة الاستصباح تحت السماء فائدة محلّلة مأذوناً فيها فيجوز بيعها في تلك الفائدة. فلو كان الأكل و الشرب فيها و في غيرها من أنواع المتنجّسات محلّلين أيضاً كفائدة الاستصباح في الأدهان لجاز البيع فيهما أيضاً بلا خلاف. و لعلّ عدم تعرّضهم لاستثناء سائر المائعات المتنجّسة الّتي منها المضاف لندرة فوائدها المباحة و عدم الاعتداد بشأنها في العرف و العادة. فما نقله الشهيد من نصّ الأصحاب بعدم الفرق إن أراد به إجماعهم عليه فغير مسلّم، و إن أراد به نصّ بعضهم أو جماعة منهم فغير ضائر فيما ذكرنا.

تذنيبان:
أحدهما: يظهر ممّا بيّنّاه حكم الماء المتنجّس من بقاء ملكيّته السابقة و عدم انسلاخها بعروض النجاسة

و جواز استعماله في الجهات الغير المتوقّفة على الطهارة من سقي الدوابّ و الأشجار و عجن الحناء و الأصباغ و ما أشبه ذلك و جواز التكسّب به مطلقاً، كلّ ذلك للأصل و استصحاب الحالة السابقة و العمومات في الأخير، بل هذا أولى بالجواز لقبوله التطهير مع بقائه على صفة المائيّة بواسطة إلقاء الكرّ و غيره من مطهّرات الماء المتنجّس، و لا أعرف خلافاً في شيء ممّا ذكر.

و ثانيهما: أنّ من الأشياء ما يكون جامداً بالطبع و يعتريه الميعان كالذهب و الفضّة

و الصفر و الرصاص و الشمع و القير و ما أشبه ذلك، و هي إذا تنجّست حال ميعانها ثمّ جمدت أو حال جمودها ثمّ ماعت ثمّ جمدت مثل المائع بالطبع إذا تنجّس كالمضاف في الأحكام المذكورة حتّى البيع و التكسّب بل هي أولى بالجواز لقبول ظاهرها التطهير، و نحوها الصابون المتّخذ من المتنجّس إذا يبست، بل هو أولى بالجواز من الأشياء المذكورة لقبول ظاهره و باطنه التطهير بعد التجفيف بوضعه في الكثير حتّى يرسب فيه الماء و يصل إلى أعماقه. و منه يعلم الحال في العجين المتنجّس إذا جفّف أو خبّز و جفّف لقبوله التطهير بعد الجفاف بالطريق المذكور. و قد يدّعي السيرة في بيع

ص: 119

الأشياء المذكورة و استعمالها في الانتفاعات الغير المتوقّفة على الطهارة، و الأصل في الجواز في الجميع الأصل بمعنى استصحاب الحالة السابقة و عموم «خَلَقَ لَكُمْ مٰا فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً» (1) و عمومات العقود مع عدم المخرج عنها من الأدلّة المانعة من التكسّب و الاستعمال.

المقصد الثالث: في الأدهان المتنجّسة من السمن و الشحم و الزيت و البذر و الشيرج
اشارة

و ما أشبه ذلك.

و الكلام فيها أيضاً يقع في جهات:
الجهة الاُولى: أنّ الأدهان المملوكة لا يزول ملكها بعروض النجاسة استصحاباً بالحالة السابقة

كما هو الحال في سائر المتنجّسات، و لا نظنّ قائلاً بخلاف ذلك من الأصحاب، من غير فرق فيه بين ما قابل التطهير بالماء مع بقاء موضوعه و غيره و لا بين ما ينتفع به بعد النجاسة نفعاً محلّلاً مقصوداً للعقلاء و غيره.

و توهّم: الفرق بينهما بأنّ الثاني يدخل في عنوان ما لا نفع فيه مقصود للعقلاء و كما أنّ ذلك لا يعدّ مالاً فكذلك هذا، يدفعه: الخلط بين المال و الملك، و لا ملازمة بين انتفاء الماليّة و انتفاء الملكيّة، فإنّ المال ما يكون له قيمة في العرف و العادة و يبذل له العوض، بخلاف الملك. و النسبة بينهما عموم من وجه، لافتراق المال في الحبّة من الحنطة، و افتراق الملك في المال الموصى به بعد موت الموصي و قبل قبول الموصى له، و كذلك تركة المديون مع استيعاب الدين على القول بأنّه لا يملكها الورثة، فالمتنجّس في الصورة المفروضة ملك و إن لم يكن مالاً.

الجهة الثانية: في جواز الانتفاع بها في غير مشروط بالطهارة

بأن يعمل صابوناً أو يطلي به الأجرب أو السفن و ما أشبه ذلك و عدمه. و ينبغي هنا تأسيس أصل كلّي يعمّ فائدته لغير المقام من أنواع المتنجّس ممّا قدّمنا ذكره و غيره، و هو أنّه هل الأصل في المتنجّس كائناً ما كان جواز الانتفاع إلّا ما خرج بالدليل كالأكل و الشرب و غيرهما من الاستعمالات المشروطة بالطهارة، أو أنّ الأصل عدم جواز الانتفاع أو الاستعمال إلّا

ص: 120


1- البقرة: 29.

ما ثبت جوازه بالدليل كالاستصباح بالدهن تحت السماء؟ قولان.

نسب ثانيهما إلى جماعة من القدماء كالشيخين في المقنعة(1) و المبسوط(2)و النهاية(3) و الخلاف(4) و السيّدين في الانتصار(5) و الغنية(6) و الحلّي في السرائر(7)و نسب اختياره من الأواخر إلى مفتاح الكرامة(8) و يظهر اختياره من شيخنا في الجواهر(9).

و ربّما توهّم من عبارة الانتصار و الخلاف و الغنية دعوى الإجماع عليه، ففي الأوّل «و ممّا انفردت به الإماميّة أنّ كلّ طعام عالجه أهل الكتاب و من ثبت كفرهم بدليل قاطع لا يجوز أكله و لا الانتفاع به، و اختلف باقي الفقهاء في ذلك و قد دللنا على ذلك في كتاب الطهارة حيث دللنا على أنّ سؤر الكفّار نجس»(10). و عن الثاني «في حكم السمن و البذر و الشيرج و الزيت إذا وقعت فيه فارة أنّه جاز الاستصباح به و لا يجوز أكله و لا الانتفاع به بغير الاستصباح و لا غيره بل يراق كالخمر، و قال أبو حنيفة:

يستصبح به و يباع لذلك، و قال ابن داود: إن كان المائع سمناً لم ينتفع به، و إن كان غيره من الأدهان لم ينجّس بموت الفارة فيه و يحلّ أكله و شربه، دليلنا إجماع الفرقة و أخبارهم»(11). و في الثالث عبارته المتقدّمة في مبحث المضاف المتنجّس(12).

و القول الثاني(13) منسوب إلى أكثر المتأخّرين(14) و اختاره بعض مشايخنا(15) قدس سره و نعني من الأصل ما يتردّد بين الاُصول العمليّة و القاعدة المستنبطة عن الأدلّة. و الأقوى هو القول الثاني(16) استصحاباً للحالة السابقة و لأصالة الحلّ و الجواز، و قاعدة عموم الانتفاع بما خلق في الأرض، و لا وارد على الأوّلين كما لا حاكم على القاعدة من

ص: 121


1- المقنعة: 582.
2- المبسوط 5:1 و 6.
3- النهاية: 588.
4- الخلاف: كتاب الأطعمة المسألة 19.
5- الانتصار: 409.
6- الغنية: 213.
7- السرائر 121:3-122.
8- مفتاح الكرامة 13:4 و 24.
9- الجواهر 15:22.
10- الانتصار: 409.
11- الخلاف 544:2 كتاب الأطعمة.
12- الغنية: 213.
13- كذا في الأصل، و الصواب: القول الأوّل.
14- كما في المعتبر 105:1، القواعد 189:1، الإرشاد 238:1، الذكرى: 14، حاشية الإرشاد: 203، المسالك 119:3.
15- المكاسب للشيخ الأنصاري 91:1.
16- كذا في الأصل، و الصواب: القول الأوّل.

الأدلّة، إذ ليس لأصحاب القول الأوّل(1) إلّا عدّة من الآيات و جملة من الروايات العامّة و غيرها مع ضميمة الإجماعات المنقولة، و كلّها مدخولة.

أمّا الآيات فمنها قوله عزّ من قائل: «إِنَّمَا اَلْخَمْرُ وَ اَلْمَيْسِرُ وَ اَلْأَنْصٰابُ وَ اَلْأَزْلاٰمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطٰانِ فَاجْتَنِبُوهُ » (2) فإنّ تفريع الأمر باجتناب الاُمور المذكورة على الرجس يدلّ على وجوب اجتناب كلّ رجس، و المتنجّس رجس فيجب اجتنابه.

و فيه: منع الدلالة، فإنّ الرجس لغة و إن كان هو القذر و لكن اطلق على الحرام و على الفعل القبيح أيضاً، كما نصّ عليه الطبرسي في مجمع البيان(3) و قد تقدّم نقل عبارته في مفتتح باب حرمة التكسّب بالأعيان النجسة. و من الجائز أن يكون المراد منه هنا الحرام أو الفعل القبيح بل هو المتعيّن بقرينة عطف الميسر و ما بعده، لعدم تعقّل القذر بمعنى النجس الشرعي فيها. و على تقدير كون المراد من الرجس القذر المعنوي فهو بقرينة العطف المذكور لا يتمّ بالنسبة إلى الميسر و ما بعده، إلّا إذا اُريد به ما ينطبق على الحرام أو الفعل القبيح.

و حاصل معنى الآية حينئذٍ أنّ شرب الخمر و اللعب بالميسر و عمل الأنصاب و الأزلام حرام أو قبيح من عمل الشيطان فيجب اجتنابه، و معنى كونه من عمل الشيطان أنّه يحصل من إغوائه و تسويله. و المحرّم و القبيح من المتنجّسات إنّما هو الأكل أو الشرب و وجوب اجتنابهما مسلّم و لا كلام فيه، و أمّا سائر الاستعمالات فوجوب اجتنابهما أيضاً فرع على كونها محرّمة أو قبيحة و هو أوّل المسألة، و لا بدّ أن يثبت بدليل من الخارج و لا يمكن إثباته بالآية كما هو واضح.

و قد يجاب أيضاً: بأنّ الرجس ظاهر فيما يكون رجساً في ذاته فيختصّ بالأعيان النجسة، و هي النجاسات العشرة فلا يندرج فيه لكون نجاستها عرضيّة هذا، مضافاً إلى أنّه لو عمّم الرجس بالقياس إلى المتنجّس أيضاً لزم تخصيص الأكثر، ضرورة أنّ أكثر المتنجّسات لا يجب اجتنابها في غير مشروط بالطهارة، فلئلّا يلزم ذلك وجب تقييد

ص: 122


1- كذا في الأصل، و الصواب: القول الثاني.
2- المائدة: 90.
3- مجمع البيان 478:3.

الرجس بما هو كذلك في ذاته، أو تخصيص الأمر بالاجتناب بالاستعمالات المشروطة بالطهارة كالأكل و الشرب و غيرهما.

مع أنّ الآية إنّما تدلّ على وجوب اجتناب ما كان رجساً من عمل الشيطان، و معنى كونه من عمل الشيطان أنّه من مبتدعاته و مخترعاته كالخمر و الميسر و الأنصاب و الأزلام، فلا يتناول المتنجّسات لأنّها ليست من عمل الشيطان و مخترعاته كما هو واضح. و إن اُريد من عمل الشيطان كون عمل المكلّف حاصلاً في الخارج بإغوائه ليكون المراد بالمذكورات استعمالها على النحو الخاصّ ، فالمعنى أنّ الانتفاع بها رجس من عمل الشيطان، كما يقال في سائر المعاصي أنّها من عمل الشيطان لحصول الجميع بإغوائه، فلا تدلّ الآية على وجوب اجتناب الاستعمالات إلّا إذا ثبت حرمتها بدليل، و هو في المتنجّس أوّل الكلام.

و منها: قوله تعالى: «وَ اَلرُّجْزَ فَاهْجُرْ» (1) فإنّ الرجز هو القذر، و إن اطلق على معانٍ اُخر في الكتاب العزيز مثل عبادة الأوثان و الشرك و العذاب، و القذر هو النجس أو أعمّ منه و من القذر المعنوي، فيعمّ المتنجّس فيجب هجرانه.

و فيه: أنّه ظاهر فيما يكون رجزاً في نفسه فلا يتناول ما يعرضه الرجزيّة، مع أنّه لو عمّم بالقياس إلى المتنجّس بجميع أنواعه و أفراده لزم تخصيص الأكثر حسبما بيّنّاه في أجوبة الآية السابقة، فوجب تقييده بما يكون كذلك في ذاته أو تخصيص الأمر بالهجران بخصوص الأكل و الشرب و غيرهما من الاستعمالات المشروطة بالطهارة، مع احتمال أن يراد هجرانه في خصوص الصلاة إن اُريد به النجس الشرعي بقرينة أنّ تطهير الثياب معتبر للصلاة.

و منها: قوله تعالى: «وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ اَلْخَبٰائِثَ » (2) بناءً على أنّ كلّ متنجّس خبيث فيفيد تحريم مطلق الاستعمال.

و فيه: أوّلاً منع كلّيّة المقدّمة الاُولى كما هو واضح، ثانياً منع المقدّميّة، بل الظاهر أنّ المراد هنا حرمة الأكل خاصّة بقرينة مقابلته لحلّيّة الطيّبات الّتي اُريد منها خصوص الأكل.

ص: 123


1- المدّثر: 5.
2- الأعراف: 175.

و أمّا الروايات فعامّها خبر تحف العقول حيث قال: «أو شيء من وجوه» و بعقيبه بقوله: «فجميع تقلّبه في ذلك حرام» و هذا عامّ في جميع الاستعمالات، و قد ظهر ضعفه مراراً فإنّ الدهن المتنجّس و غيره ليس عنواناً للنجاسة بحيث يكون النجاسة تابعة للذات و هو الظاهر من قوله: «أو شيء من وجوه النجس» و الملاقي للنجس و إن كان عنواناً عامّاً و النجاسة فيه لكونها عرضيّة ليست تابعة للذات. و خاصّها الأخبار الجزئيّة الواردة في الموارد الخاصّة الآمرة جملة منها بإهراق المرق المتنجّس و نحوه، و جملة منها بإلقاء النجاسة و ما حولها و ما تحتها و أكل الباقي من الدهن المتنجّس إذا كان جامداً، و قد أوردنا نبذة من هذه الروايات في أبواب النجاسات من كتاب الطهارة.

و الجواب عن الجميع: أنّ الأمر بالإهراق أو الإلقاء كناية عن عدم صلاحية المتنجّس للأكل، و انتفاء فائدة الأكل فيه الّتي هي الفائدة المقصودة من المرق و السمن بقرينة مقابلة الأمر بأكل اللحم المطبوخ بعد غسله و أكل الباقي من السمن، و هذه الكناية في نظائر المقام شائعة في استعمالات العرف. و ممّا يشهد بذلك أنّ استعمال الدهن المتنجّس في الإسراج جائز بالنصّ و الإجماع، خصوصاً نفس الأخبار الآمرة بالإلقاء في الجامد المتضمّنة للأمر بالإسراج أو الاستصباح في الذائب. و لا يعقل كون الفرق بينهما بالجمود و الذوبان مؤثّراً في الحكم، مضافاً إلى الإجماع على عدم الفرق و إطلاق النصوص الاُخر الآمرة بالاستصباح تحت السماء أو مطلقاً على ما ستعرفها.

و أمّا الإجماعات فيرد عليها: أنّ إجماع الانتصار ليس منقولاً على حرمة الانتفاع بقول مطلق، و ذلك لأنّ عبارة الانتصار في دعوى إجماع الإماميّة مسوقة لبيان ما هو محلّ الوفاق عند الإماميّة و محلّ الخلاف بين العامّة، و هو بدليل قوله حيث استدللنا على أنّ سؤر الكفّار نجس نجاسة ما باشره أهل الكتاب و عدمها و اختلاف باقي الفقهاء يعني فقهاء العامّة إنّما هو في ذلك باعتبار الاختلاف في نجاسة أهل الكتاب، فيكون محلّ الوفاق عند الإماميّة هو النجاسة لا غير، و هي الّتي استدلّ عليها في كتاب الطهارة، و ادّعى عليها ثمّة إجماع الشيعة حيث قال: «و ممّا انفردت به الإماميّة القول بنجاسة سؤر اليهودي و النصراني و كلّ كافر، و خالف جميع الفقهاء في ذلك... إلى أن

ص: 124

قال: فالإماميّة منفردة بهذا المذهب، و يدلّ على صحّة ذلك - مضافاً إلى إجماع الشيعة - قوله تعالى: «إِنَّمَا اَلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ » (1) إلى آخر ما ذكره»(2) و لا ريب أنّ دعوى الإجماع على النجاسة لا تستلزم دعوى الإجماع على الأحكام المتفرّعة عليها.

و إجماع الخلاف(3) أيضاً بهذه المثابة، فإنّ العبارة المتقدّمة منه مسوقة لبيان محلّ الوفاق و الخلاف بين الخاصّة و العامّة، و حيث نقل عن ابن داود قولاً بعدم نجاسة ما عدا السمن من الأدهان بموت الفارة فيه، دلّ ذلك على أنّ المسألة المختلف فيها بين الخاصّة و العامّة هو نجاسة كلّ دهن بموت الفارة أو وقوع مطلق النجاسة فيه و عدمها، و قد أفتى الشيخ بالنجاسة مطلقاً ببيان الأحكام المتفرّعة عليها، و حكي الموافقة له في أصل النجاسة عن أبي حنيفة و المخالفة فيها عن ابن داود، و قوله: «دليلنا إجماع الفرقة» دعوى للإجماع على النجاسة مطلقاً لا على الأحكام المتفرّعة عليها الّتي منها منع الانتفاع بالمتنجّس مطلقاً كما هو.

و إجماع الغنية: كما بيّنّاه سابقاً إجماع على الاستثناء من جواز بيع الكلب المعلّم و بيع الزيت المتنجّس للصيد و الاستصباح تحت السماء لا على حكم المستثنى منه. و لو سلّم فحكم المستثنى منه إنّما هو عدم جواز بيع النجس لا حرمة سائر الاستعمالات و الانتفاعات.

و بالجملة العبارات المتقدّمة المتضمّنة لدعوى الإجماع ليس بظاهرة في دعواه على حرمة مطلق الانتفاع بالمتنجّس إلّا ما ثبت جوازه بالدليل، و إن قلنا بأنّ مختار صاحب العبارة هو ذلك. و لو سلّم ظهور العبارات أيضاً في دعواه على ذلك فهي موهونة بمصير أكثر المتأخّرين بالخلاف خصوصاً أساطينهم كالمحقّق في المعتبر(4)و العلّامة في بعض كتبه و الشهيدين في القواعد(5) و الذكرى(6) و المسالك(7) و المحقّق الثاني في حاشية الإرشاد(8) و كاشف اللثام(9) و غيره، فإنّ كلماتهم بين صريحة و ظاهرة

ص: 125


1- التوبة: 28.
2- الانتصار: 88-89.
3- الخلاف 544:2 كتاب الأطعمة.
4- المعتبر 105:1.
5- القواعد 189:2، الإرشاد 238:1.
6- الذكرى: 14.
7- المسالك 119:3.
8- حاشية الإرشاد: 28.
9- كشف اللثام: 299.

في اختيار جواز الاستعمال في الانتفاعات الغير المشروطة بالطهارة.

و ربّما يحتمل في إطلاقات القدماء بالمنع إرجاعها إلى الاستعمالات المشروطة بها أيضاً من الأكل و الشرب و إطعام الغير و البيع في الأكل و الشرب، و لو لم يمكن إرجاعها إليها لكفى في وهن مختارهم مخالفة أكثر المتأخّرين، مع عدم مساعدة دليل واضح عليه يكون وارداً على الاُصول حاكماً على القاعدة، فعليها المعوّل حتّى يثبت الصارف عنها.

الجهة الثالثة: في بيع الأدهان المتنجّسة،
اشارة

و قد اختلف فيه الأصحاب إطلاقاً و تقييداً تعميماً و تخصيصاً بعد اتّفاقهم على الجواز في الجملة، و أقوالهم في محلّ الخلاف محصّلة و منقولة أربعة:

الأوّل: جواز بيع الدهن المتنجّس مطلقاً لفائدة الاستصباح تحت السماء،

و هو المشهور على ما في كلام جماعة من دعوى الشهرة فيه، و قد ينسب إلى محكيّ الخلاف(1)و الغنية(2) و إيضاح النافع دعوى الإجماع عليه. و لم نقف على عبارة الخلاف و إيضاح النافع لننظر في مفادها، و لكن نسبة دعواه في مطلق الدهن إلى الغنية وهم، لأنّ معقد إجماع الغنية على ما سمعت من صريح عبارته المتقدّمة هو بيع الزيت النجس خاصّة.

الثاني: جواز بيعه لفائدة الاستصباح مطلقاً و لو تحت الأظلّة و السقوف،

و هو على ما حكي للشيخ و العلّامة في المبسوط(3) و المختلف(4). و حكي عن موضع من الخلاف(5)أيضاً، و اختاره الشهيد الثاني في المسالك(6) و عزي إلى الأردبيلي(7) و الخراساني(8)و عن فخر المحقّقين في الإيضاح(9) أنّه قوّاه، و في الرياض(10) عليه كثير من المتأخّرين.

الثالث: تخصيص الجواز بالزيت النجس لفائدة الاستصباح تحت السماء

كما نسب إلى ظاهر كلام الشيخ(11) و هو خيرة الغنية(12) على ما هو ظاهر عبارته المتقدّمة.

الرابع: جوازه في مطلق الدهن لمطلق الفوائد المحلّلة ممّا عدا الاستصباح

من

ص: 126


1- الخلاف: 187:3.
2- الغنية: 213.
3- الخلاف 93:6 المسألة 20.
4- المختلف 331:8.
5- الخلاف 93:6 المسألة 20.
6- المسالك 119:3.
7- مجمع الفائدة 35:8.
8- الكفاية: 85.
9- الإيضاح 156:4.
10- الرياض 137:8.
11- المبسوط 167:2.
12- الغنية: 213.

تدهين الأجرب و طلي السفن و غيره، كما يظهر اختياره من كاشف اللثام(1) و عزي إلى جماعة منهم الشهيد(2) و المحقّق(3) الثانيين و قبلهما الشهيد الأوّل(4) في بعض الحواشي المنسوبة إليه على ما ستعرفه إن شاء اللّٰه تعالى، و هو لازم خيرة أكثر المتأخّرين في الجهة المتقدّمة من جواز استعمال المتنجّس في الانتفاعات المباحة، إلّا أن يدفع بمنع الملازمة بين جلّ الفوائد المباحة و حلّ البيع في تلك المنافع.

و مستند الحكم في المسألة - بعد الإجماعات المنقولة - النصوص المستفيضة مثل صحيح معاوية بن وهب عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «قلت: جرذ مات في زيت أو سمن أو عسل، فقال: أمّا السمن و العسل فيؤخذ الجرذ و ما حوله و الزيت يستصبح به.

[و أمّا الزيت فيستصبح به خ ل] قال في بيع ذلك الزيت: تبيعه و تبيّنه لمن اشتراه ليستصبح به»(5).

و صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السلام «قال: إذا وقعت الفارة في السمن فماتت فيه فإن كان جامداً فألقها و ما يليها و كل ما بقي، و إن كان ذائباً فلا تأكله، و استصبح به و الزيت مثل ذلك»(6).

و موثّق معاوية بن وهب و غيره عن أبي عبد اللّه عليه السلام «في جرذ مات في زيت ما تقول في بيع ذلك ؟ فقال: بعه و تبيّنه لمن اشتراه ليستصبح به»(7).

و القويّ القريب من الموثّق بالحسن بن رباط عن أبي بصير «قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن الفارة تقع في السمن أو في الزيت فتموت فيه ؟ فقال: إن كان جامداً فتطرحها و ما حولها و يؤكل ما بقي، و إن كان ذائباً فاسرج به و أعلمهم إذا بعته»(8).

و خبر إسماعيل بن عبد الخالق عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «سأله سعيد الأعرج

ص: 127


1- اكشف اللثام 269:2.
2- المسالك 246:2.
3- جامع المقاصد 13:4.
4- نقله عنه في جامع المقاصد 13:4.
5- الوسائل 1/97:17، ب 6 ما يكتسب به، الكافي 2/261:6.
6- الوسائل 2/97:17، ب 6 ما يكتسب به، الكافي 1/261:6.
7- الوسائل 4/98:17، ب 6 ما يكتسب به، التهذيب 563/129:7.
8- الوسائل 3/98:17، ب 6 ما يكتسب به، التهذيب 562/129:7.

السمّان و أنا حاضر عن الزيت و السمن و العسل تقع فيه الفارة فتموت كيف يصنع به ؟ قال: أمّا الزيت فلا تبعه إلّا لمن تبيّن له فيبتاع للسراج، و أمّا الأكل فلا، و أمّا السمن فإن كان ذائباً فهو كذلك، و إن كان جامداً و الفارة في أعلاه فيؤخذ ما تحتها و ما حولها ثمّ لا بأس به، و العسل كذلك إن كان جامداً»(1).

و حيث إنّ هذه الروايات تضمّن أكثرها السمن مع الزيت ظهر بذلك ضعف القول باختصاص الجواز بالزيت، و لا ينافيه إجماع الغنية، لأنّه لا ينفي الجواز عن غير الزيت إلّا على القول بمفهوم اللقب و هو باطل. و أمّا تعميم الحكم بالقياس إلى سائر الأدهان مع أنّ نصوص الباب مقصورة على السمن و الزيت فلعلّ وجهه الإجماع المركّب و عدم القول بالفصل.

و حيث إنّ النصوص الآمرة بالاستصباح أو البيع له مطلقة و ليس فيها لتقييد الاستصباح بكونه تحت السماء أثر، فقضيّة إطلاقها إطلاق الجواز حتّى تحت الظلال، و هو الأصحّ وفاقاً لمن تقدّم من الجماعة و كثير من المتأخّرين، مضافاً إلى أصالة الجواز و استصحاب الحالة السابقة و القاعدة المستنبطة من عمومات الصحّة، خصوصاً مع ملاحظة أنّ الاستصباح تحت الظلال على ما تقدّم تحقيقه منفعة مقصودة للعقلاء دلّ الدليل على إباحتها، فمطلق الاستصباح منفعة محلّلة مقصودة للعقلاء فيجوز البيع فيها للأصل و العموم.

و أمّا التقييد بكونه تحت السماء و إن كان مشهوراً على ما صرّح به في المسالك(2)و الرياض(3) بل عن الحلّي نفي الخلاف عن محظوريّة الاستصباح تحت الظلال قائلاً:

«إنّ الاستصباح به تحت الظلال محظور بغير خلاف»(4) غير أنّ الشهرة و نفي الخلاف لا ينهضان للصرف عن الاُصول و لا تخصيص العموم و لا تقييد النصوص المطلقة، لكون نفي الخلاف موهوناً بمخالفة الجماعة و كثير من المتأخّرين. و احتمال ابتناء الشهرة على الأخذ بالقدر المقطوع به من النصّ و الإجماع بتوهّم نحو إجمال فيهما أو

ص: 128


1- الوسائل 5/98:17، ب 6 ما يكتسب به، قرب الإسناد: 60.
2- المسالك 119:3.
3- الرياض 138:8.
4- السرائر 121:3-122.

استنادها إلى مقدّمتين فاسدتين من نجاسة دخان الدهن المتنجّس و حرمة تنجيس السقف و هي مع هذين الاحتمالين - مضافاً إلى مخالفة الجماعة من الأساطين - لا تكشف و لو ظنّاً عن وجود مدرك معتبر لها لو ظفرنا به لعملنا به. و ليس في النصوص المعتبرة فيما علمنا كما صرّح به جماعة من المهرة المتتبّعين أيضاً ما يشهد لهم في التقييد المذكور.

نعم في مبسوط الشيخ بعد ما اختار جواز الاستصباح بقول مطلق و نسبه إلى جماعة «أنّه رووا أصحابنا أنّه يستصبح به تحت السماء دون السقف، ثمّ قال: و هذا يدلّ على أنّ دخانه نجس ثمّ صرّح بأنّه عندي يعني الاستصباح تحت السقف مكروه، و بعدم نجاسة دخان المتنجّس و نجس العين»(1) و زعم جماعة أنّ هذا رواية مرسلة منجبر ضعفها من جهة الإرسال بالشهرة.

و في الجميع نظر، أمّا ما أرسله الشيخ، فلقوّة احتمال كون مراده من رواية الأصحاب فتواهم لا الرواية المصطلحة، و لو لزعم كون مستند الفتوى الرواية المصطلحة بشهادة كون كتب الحديث و الاستدلال خلوّاً عن ذكر نحو هذه الرواية. و لو سلّم كونها رواية مصطلحة لا جابر لها، و شهرة الفتوى ما لم تكن استناديّة لا تصلح جابرة، و استنادها إلى تلك الرواية بعد قيام أحد الاحتمالين المتقدّمين غير واضح، مع أنّه لو كان فيها أمارة اعتبار كان الشيخ المرسل لها أولى بالاعتماد عليها، بل مصيره إلى خلاف مقتضاها ربّما يوجب ضعفاً آخر فيها، أو يكشف عن خلوّها عن أمارة الاعتماد.

و هل يقتصر في محلّ الرخصة على فائدة الاستصباح خاصّة أو لا، بل يجوز البيع لسائر الفوائد المحلّلة ممّا تقدّم إليها الإشارة ؟ قولان، أوّلهما المشهور، و ثانيهما الأقوى وفاقاً لشيخنا(2) في متاجره تبعاً لكاشف اللثام(3) و الشهيد و المحقّق الثانيين في المسالك(4) و حاشية الإرشاد(5) و قبلهما الشهيد الأوّل على ما هو صريح عبارته المنسوبة إليه في حواشيه، قال المحقّق في حاشية الإرشاد عند شرح عبارة مصنّفه

ص: 129


1- المبسوط 283:6.
2- الجواهر 15:22.
3- كشف اللثام 2:
4- المسالك 119:3.
5- حاشية الإرشاد: 204.

لفائدة الاستصباح به تحت السماء: «في بعض الحواشي المنسوبة إلى شيخنا الشهيد ما حاصله: أنّ الفائدة لا تنحصر في ذلك، إذ مع فرض فائدة اُخرى للدهن لا تتوقّف على طهارته يمكن بيعه لها كاتّخاذ الصابون منه، قال: و هو مرويّ و مثله طلي الدابّة.

أقول: لا بأس بالمصير إلى ما نبّه عليه سيّما و قد ذكر أنّ به رواية»(1) انتهى.

قال شيخنا(2) قدس سره: الرواية إشارة إلى ما عن الراوندي في كتاب النوادر بإسناده عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليهما السلام و فيه «سئل عليه السلام عن الشحم يقع فيه شيء له دم فيموت، قال: تبيعه لمن يعمله صابوناً...»(3) الخبر.

أقول: لنا - بعد أصالة الجواز و استصحاب الحالة السابقة جوازاً و صحّة - عمومات العقود، مضافاً إلى ما في رواية دعائم الإسلام المتقدّمة من قوله عليه السلام «و يباح لهم الانتفاع» و إلى قوله عليه السلام: في رواية تحف العقول: «و كلّ شيء يكون لهم فيه الصلاح من جهة من الجهات فذلك كلّه حلال بيعه و شراؤه» و يعضدها رواية الراوندي المتقدّمة على ما أشار إليه الشهيد رحمه الله. و لم نقف للقول بالمنع على دليل عموماً و لا خصوصاً، و الإجماع الّذي ادّعاه العلّامة في التذكرة(4) في مسألة اشتراط الطهارة الأصليّة في المعقود عليه إنّما ادّعاه على عدم صحّة بيع نجس العين كالخمر و الميتة و الخنزير، فلا يتناول المقام كما نبّهنا عليه سابقاً، و ليس في سائر أدلّة حرمة التكسّب بالأعيان النجسة أيضاً ما يتناول المقام.

فروع:
الأوّل: على القول بالاقتصار في فائدة الاستصباح على ما تحت السماء فهل هذا الحكم تعبّد محض، أو لنجاسة الدخان المتصاعد من هذا الدهن و تنجيسه السقف ؟

قولان، قيل بالأوّل و لعلّه المشهور، و قيل بالثاني. و لوضوح ضعف هذا القول بظاهره و مخالفته المشهور بل الإجماع الظاهر على عدم نجاسة الدخان عدل عنه العلّامة(5)

ص: 130


1- حاشية الإرشاد: 204.
2- المكاسب للشيخ الأنصاري 92:1.
3- المستدرك 7/73:13، ب 6 ما يكتسب به.
4- التذكرة 25:10.
5- المختلف 333:8.

و وجّهه بأنّه يتصاعد من الدهن بسبب شدّة السخونة الحاصلة من النار مع الدخان أجزاء صغار لطيفة غير مستحيلة و تتّصل بالسقف و تنجّسه. و حكي عنه أنّه في موضع آخر فصّل بين العلم بتصاعد تلك الأجزاء فمنع من الاستصباح تحت السماء و عدم العلم به فجوّزه.

و الأصحّ أنّ الحكم على تقدير صحّته تعبّد محض، و القول الآخر في غاية الضعف لمنع صغراه و كبراه معاً فإنّ دخان النجس و المتنجّس كبخارهما على ما حقّق في محلّه ليس بنجس للأصل، بعد ملاحظة أنّ الأحكام تدور مدار الأسماء، و دخان شيء من الأعيان النجسة كبخاره لا يسمّى باسم ذلك النجس و هذا واضح.

و دعوى: تصاعد الأجزاء اللطيفة الغير المستحيلة، غير مسموعة حيث لم يقم عليها برهان، و مجرّد الاحتمال غير كافٍ . و لو سلّم فاتّصالها بالسقف غير مطّرد، لأنّه لا يتمّ في السقوف العالية المرتفعة. و لو سلّم فحرمة تنجيس السقف محلّ منع، إذ لا دليل على منع المالك عن تنجيس ملكه، و الأصل يقتضي عدمه.

الثاني: هل يشترط في صحّة بيع الدهن المتنجّس أن يشرط البائع على المشتري فائدة الاستصباح

بأن يقول: بعتك هذا الدهن بشرط أن تستصبح به، أو يشترط قصدهما في العقد هذه الفائدة، أو لا يشترط شيء منهما؟ وجوه، بل أقوال، عزي أوّلها إلى ظاهر الحلّي حيث إنّه - بعد ما ذكر جواز الاستصباح بالأدهان المتنجّسة - قال:

«و يجوز بيعه بهذا الشرط عندنا»(1).

و ثانيها إلى ظاهر الشيخ في الخلاف و المبسوط حيث قال في الأوّل: «جاز بيعه لمن يستصبح به تحت السماء، و دليلنا إجماع الفرقة و أخبارهم»(2) و نحوه مجرّداً عن دعوى الإجماع عبارة الثاني إلّا أنّه زاد قوله: «لا يجوز بيعه إلّا لذلك»(3) و ظاهره كما قيل كفاية القصد، و هذا ظاهر غيره أيضاً ممّن عبّر بقوله «جاز بيعه للاستصباح» و ما يقرب منه كالمحقّق و العلّامة في الشرائع(4) و النافع(5) و القواعد(6) و غيرهما(7) في

ص: 131


1- السرائر 222:2.
2- الخلاف 187:3.
3- المبسوط 167:2.
4- الشرائع 9/:2.
5- النافع: 246.
6- القواعد 6:2.
7- كما في التنقيح 7:2، مجمع الفائدة 31:8، اللمعة: 108.

غيرها. و ربّما احتمل في هذه العبارات رجوع التعليل إلى الجواز لا إلى البيع، و مفاده حينئذٍ يجوز لأجل تحقّق فائدة الاستصباح في هذه الأدهان بيعها.

و بالجملة فائدة الاستصباح علّة مجوّزة لبيع الأدهان المتنجّسة، لا أنّها غاية مقصودة من بيعها. و يمكن منع ظهور اشتراط القصد من العبارة على تقدير كونها غاية للبيع، فإنّ كون شيء غاية مقصودة من فعل بنوعه لا يقضي باشتراط قصده حال مباشرة ذلك الفعل.

و ثالثها إلى صريح جماعة(1) و هو الموافق للأصل و القاعدة، فإنّ الأصل في كلّما يشكّ في كونه شرطاً في عبادة أو معاملة عدم الشرطيّة، و قد حقّقنا سابقاً في مسألة بيع ما لو اشتمل على منفعتين محلّلة و محرّمة، أنّ قصد المنفعة المحرّمة مانع من صحّة البيع، لا أنّ قصد المنفعة المحلّلة شرط في الصحّة. و هذه القاعدة فيما نحن فيه تساعد على عدم اشتراط الصحّة بقصدهما، و مدركها عمومات صحّة البيع أجناساً و أنواعاً، فإنّها يقتضي الصحّة في جميع الصور من قصد المنفعة المحرّمة و قصد المنفعة المحلّلة و عدم قصد شيء منهما، إلّا انّه خرج منها الصورة الاُولى و بقى الباقي و منه الصورة الثالثة.

و ينبغي الرجوع إلى الأخبار المتقدّمة لينظر أنّه هل يستفاد منها ما يوجب الخروج عن الأصل و القاعدة أو لا؟ و قد عرفت أنّ في خبر منها قوله عليه السلام: «تبيعه و تبيّنه لمن اشتراه ليستصبح به» و في آخر «بعه و بيّنه لمن اشتراه ليستصبح به» و في ثالث «و أعلمهم إذا بعته» و في رابع «لا تبعه إلّا لمن تبيّن له فيبتاع للسراج».

و الأوّلان لا يدلّان إلّا على وجوب إعلام النجاسة و على كون فائدة الاستصباح غاية مقصودة من الإعلام، و إطلاق الأمر بالإعلام يتناول ما لو كان الإعلام قبل البيع أو بعده أو حينه، فلا دلالة فيهما على اعتبار اشتراط الاستصباح في ضمن العقد و لا قصدهما إيّاه.

و الثالث لا يدلّ إلّا على وجوب الإعلام وقت صدور البيع، و هذا أيضاً بإطلاقه يتناول أثناء البيع و ما بعده بل ما قبله أيضاً في تقدير، و لا دلالة فيه على اعتبار فائدة الاستصباح فضلاً عن جعلها شرطاً في ضمن العقد صريحاً أو قصدهما لها حينه.

ص: 132


1- حكاه السيّد العاملي في مفتاح الكرامة 80:12 عن اُستاذه، الكفاية: 85، الحدائق 90:18.

و أمّا الرابع فهو و إن كان في بادئ النظر يوهم اشتراط القصد لمكان قوله: «فيبتاع للسراج» إلّا أنّ دقيق النظر يساعد على خلافه، لأنّه يفيد كون الابتياع للسراج متفرّعاً على التبيين و الإعلام فيكون غاية مقصودة من الإعلام، و لا يلزم من ذلك شرط الإسراج و لا قصده في ضمن العقد، مع قوّة احتمال كون مدخول اللام علّة للجواز المستفاد من جملة «يبتاع» يعني فيجوز له لأجل السراج أن يبتاعه، مع أنّ الكلام في اعتبار قصد البائع و المشتري معاً لا قصد المشتري، مع أنّ كونه غاية للابتياع يفيد كونه الباعث عليه الداعي إليه، و لا يفيد اعتبار حصول القصد منه حال وقوع الابتياع كما هو واضح.

لا يقال: إنّ ما تقدّم من الخلاف من إجماع الفرقة يدلّ على اعتبار القصد، لأنّه ظاهر في دعوى الإجماع على أصل جواز البيع لا على اشتراط قصد الاستصباح، هذا مع ما عرفت من احتمال بل ظهور رجوع العلّة إلى الجواز فيكون علّة مجوّزة للبيع من دون دلالة فيه على كون قصده شرطاً في صحّته.

الثالث: هل يجب على البائع إعلام المشتري لنجاسة الدهن إن كان جاهلاً أو لا؟

و على الأوّل فهل هو واجب نفسي من باب وجوب إرشاد الجاهل و تنبيه الغافل و لو في موضوع الحكم الشرعي، أو واجب شرطي على معنى كون الإعلام نفسه شرطاً لجواز البيع و إباحته كما يقال يجب الوضوء لمسّ كتابة القرآن، أو على معنى كونه مقدّمة لإحراز علم المشتري و هو شرط لصحّة البيع، أو مقدّمة لإحراز شرط البائع على المشتري فائدة الاستصباح، أو مقدّمة لإحراز قصدهما لتلك الفائدة و هو شرط؟ وجوه و احتمالات:

أوجهها و أجودها الوجوب النفسي وفاقاً لجماعة منهم المحقّق الأردبيلي(1) مدّعياً لظهور اتّفاق الفقهاء على الوجوب النفسي فيصحّ البيع بدون الإعلام، غاية الأمر أن يثبت للمشتري خيار بعد علمه بالنجاسة لكتمان النجاسة الّتي هي عيب في المبيع على ما هو القاعدة المقرّرة في كتمان العيب. و قد يقال بكون الإعلام نفسه شرطاً في جواز البيع تكليفاً و وضعاً.

ص: 133


1- مجمع الفائدة 38:8.

لنا - بعد الأصل النافي لاحتمال شرطيّة الاُمور المذكورة و لا سيّما الأخيرين على ما تقدّم الكلام في نفي اشتراط الصحّة بهما، و أصالة النفسيّة في الأمر كقوله عليه السلام: «أو أعلمهم إذا بعته» فإنّ الأمر كما أنّه ظاهر في الوجوب كذلك ظاهر في كونه نفسيّاً، و إن اختلف الظهوران في كون الأوّل وضعيّاً و الثاني إطلاقيّاً لرجوع الاشتراط إلى تقييد الموضوع قضاءً - نفس الأخبار الواردة في الباب الآمرة بالإعلام، فإنّ التعليل بقوله عليه السلام: «ليستصبح به» في خبرين منها يقضي بأنّ الغرض من إعلام نجاسة الدهن أن يستعمله المشتري في الاستصباح لا في الأكل و غيره من مشروط بالطهارة لئلّا يقع في الحرام الواقعي، و هذا يأبى كون الغرض منه إحراز صحّة البيع أو إحراز شرط صحّته، و كذلك قوله عليه السلام: «فيبتاع للسراج» فإنّه أيضاً يقضي بأنّ الغرض من التبيين استعماله في السراج لا في غيره من الأكل و نحوه، و يأبى ذلك أيضاً الوجوب الشرطي بجميع محتملاته، و قضيّة إطلاق الأمر عدم الفرق بين الإعلام قبل البيع أو بعده أو حينه أي في ضمن العقد، و المفروض أنّ الغرض حاصل في الجميع. و ما بيّنّاه من الاستدلال أولى ممّا حكي من موافقينا من التمسّك بالعمومات جنسيّة و نوعيّة من قوله تعالى: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» «وَ أَحَلَّ اَللّٰهُ اَلْبَيْعَ » و نحو ذلك المعتضدة بالشهرة، مضافاً إلى دعوى ظهور اتّفاق الفقهاء على ذلك في كلام الأردبيلي، و يؤيّد الجميع أنّ كتمان العيب ممّا يوجب خياراً للمشتري لا فساد البيع رأساً.

ثمّ إنّ هاهنا مسائل تتعلّق بالإعلام:
الاُولى: إذا كان المشتري عالماً بنجاسة الدهن من غير جهة إعلام البائع،

فالظاهر سقوط وجوبه، لأنّ الغرض و هو علم المشتري ليستعمله في السراج حاصل بدون الإعلام فيلغو.

الثانية: أنّ الدهن في جملة من أنواعه لا يتأتّى منه بحسب متعارف الناس إلّا فائدة الاستصباح

و لا يستعمل في الأكل عادةً ففي وجوب الإعلام في بيعه وجهان: من إطلاق الأمر، و من أنّ الغرض المستفاد من التعليل حاصل بدون علم المشتري بالنجاسة. و هذا أوجه، فوجوبه لأجل هذا الغرض ساقط، و أمّا التوقّي عن نجاسته

ص: 134

تحفّظاً على الثوب و البدن و الأواني و غيرها فوجوب الإعلام لأجله مبنيّ على وجوب إعلام كلّ إنسان لنجاسة ما في يده إذا كان جاهلاً، و سيأتي الكلام في تحقيقه.

الثالثة: إذا علم البائع من حال المشتري أنّه يشتري الدهن المتنجّس لغرض الإسراج لا غير

ففي سقوط وجوب الإعلام و عدمه الوجهان السابقان، و الأوجه هو السقوط لحصول الغرض بدونه، و لا يبعد التفصيل بين ما لو علم البائع بأنّ المشتري لا يبدو له فيما بعد إرادة الاستعمال في الأكل فلا يجب الإعلام، و ما لو علم أنّه يبدو له ذلك فيما بعد أو شكّ فيه و العدم فيجب لإطلاق الأمر و عموم التعليل. و هذا أجود.

الرابعة: لو باع الدهن المتنجّس لمن يعلم من حاله أنّ قوله في الإخبار بالنجاسة لا يؤثّر،

كما لو كان المشتري ممّن لا يجتنب عن النجاسات حتّى في الأكل لقلّة مبالاته في الدين، ففي سقوط وجوب الإعلام وجه، من جهة خلوّه عن الفائدة، إلّا أنّ الأوجه هو الوجوب لإطلاق الأمر و عموم التعليل.

الخامسة: لو باعه و المشتري لا يشتريه لنفسه بل لغيره

كما لو كان وكيلاً في اشتراء الدهن أو وليّاً أو فضوليّاً، فالوجه وجوب الإعلام أيضاً عملاً بإطلاق قوله عليه السلام: «أعلمهم إذا بعته» مضافاً إلى عموم التعليل.

السادسة: لو باع الوكيل فالظاهر وجوب الإعلام عليه أيضاً،

لأنّ الوكيل قائم مقام الموكّل، فيجب عليه ما وجب على موكّله في الفعل الموكّل فيه، و يجري عليه الأحكام الجارية على الموكّل إلّا ما خرج بالدليل.

السابعة: لو باع الفضولي و لحقه إجازة المالك،

ففي وجوب الإعلام عليه أو على المالك و عدمه عليهما، أمّا على البائع فلعدم كونه مالكاً و الأخبار الآمرة به ظاهر فيما لو كان البائع مالكاً، و أمّا على المالك فلأنّ الأمر متعلّق بما لو كان المالك بائعاً إلّا أن يقال: إنّ الإجازة اللاحقة من المالك توجب كونه هو البائع في الحقيقة و إن كان العقد صادراً من الفضولي، و لعلّ هذا أوجه.

ص: 135

الباب الثاني في الأعيان الّتي منافعها المقصودة محرّمة

اشارة

و عبّر عنها في الشرائع و غيره «بما يحرم لتحريم ما قصد به كآلات اللهو مثل العود و الزمر، و هياكل العبادة المبتدعة كالصليب و الصنم، و آلات القمار كالنرد و الشطرنج»(1) انتهى.

و آلات اللهو و القمار عبارة عن الآلات الّتي بها يستعان على فعل اللهو أو القمار، و العبادة المبتدعة هي العبادة الغير المشروعة لعدم استحقاق المعبود بها لها كالصنم و هو معلوم، و الصليب و هو على ما عن المغرب(2) «شيء مثلّث كالتماثيل تعبده النصارى» و الهيكل على ما عن الجوهري و غيره «بيت الصنم»(3) و غلب على نفس الصنم تسمية للحالّ باسم المحلّ ، ثمّ اطلق على ما يعمّ الصليب مجازاً، و حاصل معناها التماثيل و الأشكال الّتي يعبدها أهل الضلال، و العود شيء يضرب به يقال له في الفارسيّة «ساز» و الزمر و المزمار بمعنى و هو قصبة يزمر بها.

و حيث إنّ المقصود بالذات من عقد الباب هو التكلّم في حرمة التكسّب بالأشياء المذكورة و غيرها فلنقدّم ذلك ثمّ نشر في مطاوي البحث إلى جهات اُخر متعلّقة بهذه الأشياء من عملها و استعمالها و الانتفاع بها و ملكها هيئة و مادّة أو مادّة فقط أو لا هيئة و لا مادّة و إن كانت المادّة بحسب الأصل ملكاً إلّا أنّه انسلخ عنها الملكيّة لعروض الهيئة كالخمر و إبقائها و إعدامها و نذكر أحكامها.

ص: 136


1- الشرائع 9:2.
2- لا يوجد عندنا.
3- الصحاح 1851:5 (مادّة هكل).

فنقول: أخصّ صور هذه الأشياء ما كان منها بحيث لا يمكن الانتفاع بها في غير الوجه المحرّم و لم يكن لمكسورتها قيمة، فالمعروف من مذهب الأصحاب تحريم التكسّب بها بلا خلاف نعرف بل الإجماع بقسميه على ما في كلام بعض مشايخنا لأنّه القدر المتيقّن من معاقد فتاوي الأصحاب و إجماعاتهم المنقولة، و في الرياض(1)«بإجماعنا المستفيض النقل في كلام جماعة من أصحابنا»(2) و إن كان قد يناقش في دعواه الاستفاضة.

و كيف كان فالعمدة من دليل المسألة العمومات

مثل ما في رواية تحف العقول من قوله عليه السلام: «أمّا وجوه الحرام من البيع و الشراء فكلّ أمر يكون فيه الفساد ممّا هو منهيّ عنه من جهة أكله و شربه أو كسبه أو نكاحه أو ملكه أو إمساكه أو هبته أو عاريته...» الخ بناءً على أنّ العبرة بعموم اللفظ لا خصوص المثال، و لا ريب في تناول كلّ أمر يكون فيه الفساد للأشياء المذكورة و خصوص المثال لا يخصّصه فلا يقدح عدم ذكر اللهو و العبادة المبتدعة و المقامرة في عداد الأمثلة المذكورة. و قوله أيضاً: «أو شيء يكون فيه وجه من وجوه الفساد...» الخ و الكلام فيه أيضاً كسابقه. و قوله عليه السلام أيضاً:

«و كذلك كلّ مبيع ملهوّ به و كلّ منهيّ عنه ممّا يتقرّب به لغير اللّٰه عزّ و جلّ » و هذا كالنصّ في محلّ البحث. و قوله عليه السلام: «و ذلك إنّما حرّم اللّٰه الصناعة الّتي هي حرام كلّها ممّا يجيء منها الفساد محضاً، نظير البرابط و المزامير و الشطرنج و كلّ ملهوّ به و الصلبان و الأصنام و ما أشبه ذلك من صناعات الأشربة المحرّمة، و ما يكون منه و فيه الفساد محضاً، و لا يكون منه و لا فيه شيء من وجوه الصلاح، فحرام تعليمه و تعلّمه و العمل به و أخذ الاُجرة عليه و جميع التقلّب فيه من جميع وجوه الحركات...» الخ، لوضوح اندراج التكسّب بها بجميع أنواعه في عموم جميع التقلّب و جميع وجوه الحركات.

و ما في رواية دعائم الإسلام من قوله عليه السلام: «و ما كان محرّماً أصله منهيّاً عنه لم يجز بيعه و لا شراؤه».

ص: 137


1- الرياض 140:8.
2- كما في المنتهى 1011:2، مجمع الفائدة 41:8، الحدائق 200:18.

و خبر أبي بصير المرويّ عن مستطرفات السرائر عن جامع أبي نصر البزنطي عن الصادق عليه السلام في خصوص الشطرنج «بيع الشطرنج حرام، و أكل ثمنه سحت، و اتّخاذها كفر، و اللعب بها شرك، و السلام على اللاهي بها معصية و كبيرة موبقة، و الخائض يده فيها كالخائض يده في لحم الخنزير»(1) و خوض اليد فيهما كناية عن وضع يد التصرّف و التقليب و الاستعمال و كيف شاء و حيث أراد، و حاصل معناه أنّ جميع تقلّبه في ذلك حرام، و هذا تعميم بعد التخصيص ثمّ يتمّ في غيره بعدم القول بالفصل.

و نحوه الاستدلال بما في المرسل من قوله عليه السلام في الشطرنج أيضاً: «و المقلّب لها كالمقلّب لحم الخنزير»(2) و معناه بملاحظة عموم التشبيه تحريم جميع التصرّفات الّتي منها البيع و الشراء و غيرهما.

و الظاهر أنّه لا فرق في التحريم و البطلان بين ما لو عقد البيع و غيره على الأعيان الخارجيّة من هذه الأشياء أو على الكلّيّات منها في الذمّة لعموم بعض ما ذكر.

مسألتان:

المسألة الاُولى: في أنّه لو كان في تلك الأشياء ما يمكن الانتفاع به في غير الوجه المحرّم لاشتماله على جهة محلّلة،

فلا يخلو ذلك إمّا أن يكون الجهة المحلّلة فيه غالبة على الجهة المحرّمة كالجارية المغنّية حيث إنّ التغنّي بها جهة محرّمة و في مقابلها الجهة المحلّلة الغالبة عليها من الاستخدام و الاستمتاع و غيره، أو مساوية لها، أو أقلّ منها و لكن لم تبلغ حدّ الندرة بحيث لم تكن مقصودة للعقلاء، أو نادرة غير مقصودة للعقلاء، فهذه صور أربع.

و ضابط الصور الثلاث الاُولى كون الهيئة المخصوصة بحسب وضعها عند واضعها مشتركة بين المنفعة المحرّمة و المنفعة المحلّلة، و ملاكه كون كلّ منهما مقصوداً للعقلاء من وضع الشيء بتلك الهيئة المخصوصة. و تحريم البيع و التكسّب في هذه الصور الثلاث مقصور على البيع و الشراء في الجهة المحرّمة. و أمّا في الجهة المحلّلة فلا يبعد

ص: 138


1- الوسائل 4/323:17، ب 103 ما يكتسب به، مستطرفات السرائر: 29/59.
2- الوسائل 3/322:17، ب 103 ما يكتسب به، الكافي 15/437:6.

جوازه و صحّته للقاعدة المتقدّمة في بحث المسكرات الجامدة فيما اشتمل منها على منفعة محرّمة و منفعة محلّلة المستفادة من أدلّة منع التكسّب و تحريمه من إناطة تحريم البيع و حلّه بحرمة المنفعة المقصودة و حلّها، و لكن هذا الفرض في آلات اللهو و القمار و هياكل العبادة المبتدعة نادر، على معنى ندرة ما اشتمل منها على المنفعتين بحيث كان الهيئة المخصوصة مشتركة بينهما، كما اعترف به ثاني الشهيدين في المسالك حيث قال:

«و إن أمكن الانتفاع بها في غير الوجه المحرّم على تلك الحالة منفعة مقصودة فاشتراها لتلك المنفعة لم يبعد جواز بيعها إلّا أنّ هذا الفرض نادر فإنّ الظاهر أنّ ذلك الوضع المخصوص لا ينتفع به إلّا في المحرّم غالباً و النادر لا يقدح و من ثمّ أطلقوا المنع من بيعها»(1) انتهى بناءً على أنّ ندرة الفرض في كلامه صفة لوجود المنفعة المحلّلة المقصودة في هذه الأشياء لا لنفس المنفعة المحلّلة مع اطّراد وجودها بقرينة قوله:

«منفعة مقصودة» فإنّ المنفعة مع الندرة لا تكون مقصودة للعقلاء.

و أمّا الصورة الرابعة - و هي ما كانت الجهة المحلّلة نادرة غير مقصودة - فالوجه فيها تحريم البيع و الشراء مطلقاً و لو في الجهة المحلّلة، لعموم أدلّة المنع المعتضد بإطلاق فتاوي الأصحاب و إطلاق معاقد الإجماعات المنقولة. و لا يجري هنا القاعدة المشار إليها لأنّ الموجود هنا حلّ الانتفاع لأجل المنفعة و المسوّغ للبيع هو الثاني لا الأوّل، كما بيّنّاه في بحث المسكرات الجامدة أيضاً.

لا يقال: لا يستفاد من العمومات المذكورة أزيد من تحريم بيع هذه الأشياء في الجهة الغالبة الّتي هي المنفعة المقصودة للعقلاء، و أمّا بيعها في الجهة النادرة الّتي هي من قبيل مطلق الفائدة المترتّبة عليها و إن لم تكن مقصودة من وضعها و اختراعها فيبقى جوازه مستفاداً من عمومات العقود أجناساً و أنواعاً، و قضيّة ذلك أن يكون حلّ الانتفاع أيضاً مسوّغاً للبيع و نحوه كحلّ المنفعة.

لإمكان إثبات عموم المنع لمثل ذلك بقوله عليه السلام: «و جميع التقلّب فيه من جميع وجوه الحركات» و قوله أيضاً: «و كذلك كلّ مبيع ملهوّ به و كلّ منهيّ عنه ممّا يتقرّب به

ص: 139


1- المسالك 122:3.

لغير اللّٰه عزّ و جلّ » إلى قوله: «فهو حرام محرّم بيعه و شراؤه و إمساكه و ملكه وهبته و عاريته و جميع التقلّب فيه، إلّا في حال تدعو الضرورة فيه إلى ذلك» فإنّ جميع التقلّب فيه البيع لاستفادة الفائدة النادرة الّذي هو فرد نادر من بيع هذه الأشياء خصوصاً بملاحظة استثناء حال الضرورة، فإنّه يقضي بكون ما عدا حال الضرورة داخل في المستثنى منه، و ليس النظر فيما نحن فيه إلى كون البيع للفائدة النادرة ما يقضي الضرورة إليه.

و كذلك يدلّ عليه قوله عليه السلام في خبر أبي بصير: «و الخائض يده فيه كالخائض يده في لحم الخنزير» بالتقريب المتقدّم بملاحظة شمول المنع في المشبّه به للفروض النادرة أيضاً الّتي منها البيع لاستفادة الفائدة النادرة، فتأمّل هذا.

و لكنّ الانصاف أنّ مثله يرد على البيع في المنفعة المحلّلة لوضوح أنّ عموم جميع التقلّب يتناوله، و استثناء حال الضرورة يؤكّده بل يساعد عليه لقضائه بدخول ما عدا المستثنى في المستثنى منه، و قضيّة ذلك أن لا يكون حلّ المنفعة أيضاً مجدياً في الجواز.

لا يقال: إنّ جواز البيع في المنفعة المحلّلة إنّما هو من مقتضى اشتراك الهيئة المخصوصة بينها و بين المنفعة المحرّمة بملاحظة القاعدة المشار إليها، و لو فرض قصور القاعدة عن إخراج محلّ الفرض عن العموم المذكور لقلنا بالجواز هنا بملاحظة قوله عليه السلام في رواية التحف: «و أمّا تفسير التجارات في جميع البيوع و وجوه الحلال من وجه التجارات الّتي يجوز للبائع أن يبيع ممّا لا يجوز، و كذلك المشتري الّذي يجوز له شراؤه ممّا لا يجوز، فكلّ مأمور به ممّا هو غذاء للعباد و قوامهم به في اُمورهم في وجوه الصلاح الّذي لا يقيمهم غيره ممّا يأكلون و يشربون و يلبسون و ينكحون و يملكون و يستعملون من جميع المنافع الّتي لا يقيمهم غيرها، و كلّ شيء يكون لهم فيه الصلاح من جهة من الجهات فهذا كلّه حلال بيعه و شراؤه و إمساكه و استعماله وهبته و عاريته، و أمّا وجوه الحرام من البيع و الشراء فكلّ أمر يكون فيه الفساد» إلى آخر ما تقدّم ذكره. فإنّ قوله: «و كلّ شيء يكون لهم فيه الصلاح من جهة من الجهات...» الخ يتناول بعمومه للهيئة المشتركة في هذه الأشياء من حيث قصد بوضعها الصلاح و هو النفع المحلّل المقصود منها.

ص: 140

لأنّا [نقول]: إنّ هذا يعارضه قوله عليه السلام: «و كلّ مبيع ملهوّ به و كلّ منهيّ عنه...» الخ فإنّه أيضاً يتناولها من حيث قصد بوضعها اللهو أو العبادة لغير اللّٰه عزّ و جلّ للنهي عنهما المقصودين من وضعها، و بينهما عموم من وجه فيتعارضان في الهيئة المشتركة، لقضاء الأوّل جواز البيع و الشراء و غيرها من سائر التصرّفات، و الثاني تحريمهما و تحريم غيرهما من سائر التقلّبات حتّى الإمساك من غير استعمال في اللهو و العبادة، و يقدّم الثاني لأظهريّة دلالته خصوصاً بملاحظة الاستثناء القاضي بدخول جميع ما عدا المستثنى في المستثنى [منه] و يؤكّده التصريح بتحريم الإمساك المنافي لتجويز البيع في الجهة المحلّلة بل... تجويز الاستعمال في تلك الجهة لاستلزامهما الإمساك المحرّم، و بذلك يمكن أن يستدلّ على وجوب هدم الهيئة مطلقاً و كونه فوريّاً. و بهذا كلّه يمكن أن يستدلّ على أنّ هذه الآلات بأسرها ليس فيها منفعة محلّلة يجوز بيعها أو استعمالها في تلك المنفعة.

فالحقّ أنّ هذه الفقرة من الرواية كالفقرة الاُخرى المتضمّنة لقوله عليه السلام: «و ما يكون منه و فيه الفساد محضاً، و لا يكون منه و لا فيه شيء من وجوه الصلاح فحرام تعليمه و تعلّمه و العمل به و أخذ الاُجرة عليه و جميع التقلّب فيه من جميع وجوه الحركات...» الخ ظاهرة كالصريحة في تحريم جميع المنافع المقصودة من هذه الآلات و الأدوات و الفوائد الغير المقصودة من دون استثناء شيء إلّا ما دعا إليه الضرورة.

و يدلّ عليه التشبيه بالميتة في خبر أبي بصير و المرسل المتقدّمين لأنّ هذا هو حكم المشبّه به، و يؤيّده الوجه الاعتباري الّذي سنذكره في بعض فروع ما كان لمكسورته قيمة، و لعلّه لذا أطلق الأصحاب المنع من بيعها، و ظاهر عبارة المسالك إجماعهم عليه حيث قال: «و من ثمّ أطلقوا المنع من بيعها»(1) حتّى أنّه نفى البعد عن الجواز فيما أمكن الانتفاع بها في غير الوجه الحرام من غير جزم به، و لعلّه للتشكيك في تحقّق هذا المفروض فيما بينها فليتدبّر.

المسألة الثانية: فيما لو كان لمكسورها قيمة كما لو كانت متّخذة من ذهب أو فضّة

ص: 141


1- المسالك 122:3.

أو صفر أو رصاص أو نحوه، ففي جواز بيعها حينئذٍ و العدم قولان، بل أقوال ثلاث:

المنع مطلقاً نسبه في المسالك(1) إلى الأكثر، و الجواز و هو خيرة السيّد في الرياض(2)و قبله صاحب الحدائق(3) و قبلهما صاحب الكفاية(4) على ما حكي عنهما، و الجواز بشرط زوال الصفة قوّاه في التذكرة(5) حكاه في المسالك و استحسنه قال: «و لو كان لمكسورها قيمة و باعها صحيحة ليكسر و كان المشتري ممّن يوثق بديانته، ففي جواز بيعها حينئذٍ وجهان، و قوّى في التذكرة جوازه مع زوال الصفة، و هو حسن، و الأكثر أطلقوا المنع»(6). انتهى.

و ظاهر العبارة وفاقهم على المنع فيما لم يشرط البائع على المشتري كسرها و لا قصده و المشتري إيّاه حين العقد، و هل المعتبر في محلّ الخلاف قصد الكسر منهما و ان لم يصرّحا بالشرط و الاشتراط، أو شرط الكسر على المشتري و لا يكفي مجرّد القصد في الجواز؟ يحتملهما العبارة كعبارة غيره، و إنّما اعتبروا كون المشتري موثوقاً بديانته لأنّ المسوّغ للبيع عند قائليه أو محتمليه ليس مطلق قصد الكسر أو شرطه بل ما يستتبع منهما حصول الكسر في الخارج، و المشتري إذا كان موثوقاً بديانته فبمقتضى ديانته يكسرها لا محالة.

و المراد بالصفة في كلام العلّامة الشارط لزوالها في الجواز ليس هو الهيئة كما قد يتوهّم فيورد عليه بأنّ زوال الهيئة لا يتأتّى إلّا بالكسر و الجواز معه واضح و خارج عن محلّ النزاع، بل أمر معنوي يدور عليه ما يقصد من الهيئة من اللهو و المقامرة، و كأنّ نظره في اعتبار هذا الشرط إلى أنّ قصد الكسر و شرطه مع بقاء الصفة لا يجوّز البيع و إن كان المشتري موثوقاً به، بل المجوّز له هو زوال الصفة إذ معه لا يتمشّى منه الفعل المحرّم و المفسدة الّتي تعلّق غرض الشارع بحسم مادّتها، و إنّما اعتبر في محلّ الجواز عند قائليه وجود القيمة لمكسورتها تخلّصاً عن لزوم كون البيع و الشراء من المعاملة السفهيّة.

ثمّ السيّد في الرياض تمسّك للجواز «بالأصل و عدم دليل على المنع يشمل محلّ

ص: 142


1- المسالك 122:3.
2- الرياض 140:8.
3- الحدائق 201:18.
4- الكفاية: 85.
5- التذكرة 465:1.
6- المسالك 122:3.

الفرض، لندوره فلا يشمله العموم المتقدّم كإطلاق الأكثر»(1).

و الظاهر أنّه أراد بالأصل الأصل الثانوي المستفاد من عمومات الجواز و الصحّة الواردة في أبواب العقود أجناساً و أنواعاً. و أمّا ندور محلّ الفرض فليس بواضح بل موضع منع، سواء أراد به ندرة المبيع و هو ما كان من هذه الآلات لمكسورته قيمة، أو ندرة البيع و هو ما قصد فيه أو شرط في ضمنه الكسر، أمّا الأوّل فلوضوح غلبة وجود القيمة لمكسورة هذه الآلات، و أمّا الثاني فلوضوح الفرق بين ندرة الفرد و ندرة الحالة العارضة له من باب العرض المفارق، و الموجود في محلّ الفرض من قبيل الثاني فلعدم كون هذه الحالة أعني القصد و الشرط المذكورين من مشخّصات الفرد لا يوجب ندرتها ندرة في الفرد مانعة عن تناول العموم و الإطلاق، و لذا لو قطع النظر عنهما أو فرض عدم طروّهما لهذا الفرد من البيع لشمله العموم و الإطلاق بلا شبهة، فقد اختلط الأمر عليه قدس سره.

مع أنّ تأثير الندرة لو سلّمناها في منع تناول العموم الوضعي كما في أكثر عمومات المسألة محلّ منع، فالأقوى ما عليه الأكثر من إطلاق المنع عملاً بالعموم المخرج عن الأصل المذكور، و لا يجدي في منع شموله و لا ثبوت الجواز قصد الكسر و لا شرطه سواء كان المشتري موثوقاً بديانته أو لا. هذا كلّه فيما لو كان مورد العقد هو المادّة المتهيّئة بهذه الهيئة المخصوصة مع وجود الصفة المطلوبة منها بحيث كانت الهيئة جزءاً من المبيع و كان الثمن مبذولاً في مقابل المجموع كما هو معقد كلام الأكثر. و أمّا غير هذه الصورة فيندرج فيه اُمور ينبغي التعرّض لذكرها من باب التفريع:

الأوّل: ما لو باع المادّة فقط حال وجود الهيئة من دون اعتبار الكسر و لا اعتبار الهيئة جزءاً للمبيع، بأن يكون المال مبذولاً و مأخوذاً في مقابل المادّة كأن يقول: بعتك رصاص هذا الصنم أو ذهبه أو خشبه، ففي جواز البيع حينئذ وجهان: من عدم تناول شيء من عمومات المسألة لعدم كون المبيع أمراً يكون فيه الفساد، و لا شيئاً فيه وجه من وجوه الفساد، و لا أنّه ملهوّ به و لا منهيّ عنه، و لا أنّه الشطرنج و غيره من

ص: 143


1- الرياض 140:8.

الأسماء، و لا أنّه ممّا حرّمه اللّٰه، و لا أنّه محرّم أصله و منهيّ عنه. و من أنّ تجويزه حينئذٍ ينافي الحكمة الباعثة على تشريع حرمة البيع و سائر التقلّبات و هو الامتناع عنه لحسم مادّة الفساد، و إذا عرف الناس جواز بيع المادّة لتوصّلوا إلى تناول الهيئة و استعمالها في اللهو بهذه الحيلة. و لا يبعد الجواز مع كون المشتري موثوقاً بديانته لأنّه بموجب ديانته لا يستعملها في اللهو، و غاية ما يلزم من البيع حينئذٍ هو ترك واجب و هو هدم الهيئة و هذا لا يؤثّر في تحريم البيع و لا بطلانه.

الثاني: ما لو باعها مع زوال الصفة و هي صفة الفساد و لو مع وجود الهيئة، و قد عرفت أنّ العلّامة في التذكرة قوّى جوازه و استحسنه ثاني الشهيدين في المسالك، فما قوّاه الأوّل و استحسنه الثاني حسن لأنّ الهيئة إنّما صارت محرّمة منهيّاً عن بيعها و شرائها لما يترتّب عليها من فساد اللهو و المفروض زوالها، فلا يجري عمومات المنع و لا يكون أكل المال المبذول بازاء المجموع أكلاً للمال بالباطل.

الثالث: قال في جامع المقاصد على ما حكي: «لو باع رضاضها الباقي بعد كسرها قبل أن يكسرها و كان المشتري موثوقاً به و أنّه يكسرها أمكن القول بصحّة البيع، و مثله باقي الاُمور المحرّمة كأواني النقدين و الصنم»(1) انتهى. و الجواز و الصحّة هنا مع الشرط المذكور أيضاً غير بعيد، وجهه عدم كون الرضاض المبذول له المال قبل الكسر أمراً يكون فيه الفساد، و لا شيئاً فيه وجه من وجوه الفساد، و لا أنّه مبيع ملهوّ به و لا منهيّ عنه يتقرّب به لغير اللّٰه، و لا أنّه الشطرنج فلا يتناوله شيء من عمومات المسألة.

الرابع: ما لو باع مقداراً معيّناً من الجنس المتّخذ منه هذه الآلات على نحو الكلّي في الذمّة - كمنّ من رصاص أو صفر أو ذهب أو فضّة أو صاع من خشب - ثمّ سلّم إليه في مقام الردّ المعبّر عنه بالمعاملة الوفائيّة ما ينطبق على المبيع من هذه الآلات، فالظاهر بل المقطوع جوازه و صحّته لأنّه ليس من بيع الآلات فلا يندرج في أدلّة المنع أصلاً، و مثله ما لو باع صاعاً معيّناً من حطب مثلاً، و قال: بعتكه بكذا، فظهر فيه صنم أو صليب أو نحوه ممّا اتّخذ من الخشب. و من مشايخنا من قال: بأنّ الحكم ببطلان البيع

ص: 144


1- جامع المقاصد 15:4.

هنا مشكل، لمنع شمول الأدلّة لمثل هذا الفرد، لأنّ المتيقّن من الأدلّة المتقدّمة حرمة المعاوضة على هذه الاُمور.

الخامس: ما لو باع من هذه الآلات شيئاً مع الضميمة ممّا يجوز بيعه منفرداً فهل الضميمة يسوّغه كما تسوّغ بيع العبد الآبق و بيع الثمرة على الشجرة بعد الظهور و قبل البلوغ ؟ فالوجه فيه المنع، للعموم المعتضد بإطلاق فتاوي الأصحاب و إطلاق معاقد الإجماع خصوصاً عموم «و جميع التقلّب فيه».

السادس: في بقايا أحكام هذه الآلات من تحريم عملها على معنى صنعها، و تحريم الانتفاع بها في اللهو و القمار و العبادة المبتدعة، و تحريم إبقائها المستلزم لوجوب هدم هيئاتها المخصوصة المحرّمة بالكسر و نحوه، و عدم ملكها و لو باعتبار عدم مملوكيّة الهيئة المتقوّمة بالمادّة.

و يدلّ على الأوّل - بعد ظهور عدم الخلاف فيه و الإجماعات المنقولة المحكيّة عن جماعة كالمفيد(1) و ابن زهرة(2) و العلّامة(3) على حرمة أخذ الاُجرة عليها الظاهرة في أخذها على صنعتها و الأولويّة بالإضافة إلى تحريم التكسّب بها، و عموم تحريم المعاونة على الإثم - عموم قوله عليه السلام في رواية تحف العقول: «فأمّا وجوه الحرام من وجوه الإجارة نظير أن يؤاجر نفسه على جمل ما يحرم أكله أو شربه أو يؤاجر نفسه في صنعة ذلك الشيء أو حفظه، أو يؤاجر نفسه في هدم المساجد ضراراً، أو قتل النفس بغير حقّ ، أو عمل التصاوير و الأصنام و المزامير و البرابط و الخمر و الخنازير و الميتة و الدم، أو شيء من وجوه الفساد الّذي كان محرّماً عليه من غير جهة الإجارة فيه و كلّ أمر منهيّ عنه من جهة من الجهات، فتحرم على الإنسان إجارة نفسه فيه أو له أو شيء منه أو له» الخ. و كذلك قوله عليه السلام فيما بعد ذلك و ذلك «إنّما حرّم اللّٰه الصناعة الّتي هي حرام كلّها الّتي يجيء منها الفساد محضاً، نظير البرابط و المزامير و الشطرنج و كلّ ملهوّ به و الصلبان و الأصنام و ما أشبه ذلك من صناعات الأشربة المحرّمة و ما يكون منه و فيه الفساد محضاً و لا يكون منه و لا فيه شيء من وجوه الصلاح، فحرام تعليمه و تعلّمه

ص: 145


1- المقنعة: 587.
2- الغنية.
3- المنتهى 1011:2.

و العمل به و أخذ الاُجرة عليه و جميع التقلّب فيه من جميع وجوه الحركات» الخ.

و يدلّ على الثاني: أدلّة تحريم هذه المحرّمات و النواهي الواردة فيها، و العقل المستقلّ بقبح الشرك باللّٰه و تشريك غيره له في العبادة، و عموم «جميع التقلّب فيه».

و على الثالث: قوله عليه السلام: «و إمساكه».

و على الرابع: قوله: «و ملكه» بناءً على أنّ المراد به ترتيب آثار الملك، و القدر المتيقّن من مورده المجموع من المادّة و الهيئة و لو باعتبار عدم ملكيّة الهيئة المتقوّمة بالمادّة يقع الشك في أنّ عروضها المادّة يزيل ملكيّتها السابقة فيحكم بالبقاء استصحاباً للحالة السابقة، فالقول بملك المادّة دون الهيئة أصحّ الأقوال، و قيل بالملك فيهما، و قيل بعدمه فيهما، و هما ضعيفان.

و على المختار من كون المادّة ملكاً فلو أتلفها متلف وجب عليه ضمانها إن كان لهدم الهيئة و إعدامها طريق آخر غير إتلاف المادّة، فلو توقّف إعدامها على إتلافها فلا ضمان لترخيص الشارع في إتلافها حينئذ باعتبار عموم إيجابه هدم الهيئة و إعدامها.

ثمّ إنّه قد يلحق بتلك الآلات في تحريم البيع و الشراء و التكسّب بها و المعاوضة عليها أمران:

اشارة

أحدهما: أواني الذهب و الفضّة.

و ثانيهما: الدراهم و الدنانير المغشوشة أو المسكوكة بسكّة الخارج.

فهاهنا مسألتان:

المسألة الاُولى: في الأواني

قال في المسالك: «و هل الحكم في أواني الذهب و الفضّة كذلك ؟ يحتمله بناءً على تحريم عملها و الانتفاع بها في الأكل و الشرب، و عدمه لجواز اقتنائها للادّخار و تزيين المجلس و الانتفاع بها في غير الأكل و الشرب و هي منافع مقصودة، و في تحريم عملها مطلقاً نظر»(1) انتهى.

يظهر منه أنّ تحريم التكسّب بها مطلقاً بالبيع و الشراء و غيرهما مبنيّ على تحريم جميع منافعها و استعمالاتها حتّى في غير الأكل و الشرب بل اقتنائها للادّخار و تزيين

ص: 146


1- المسالك 123:3.

المجالس، و لذا اختار جماعة(1) من مشايخنا قدّس اللّٰه أرواحهم التحريم هنا أيضاً لبنائهم على تحريم جميع الاستعمالات حتّى الاقتناء، كما هو الأقوى وفاقاً للمشهور بل عن كشف الرموز(2) نفي الخلاف فيه و عن التذكرة(3) و غيره الإجماع عليه، خلافاً لجماعة منهم المسالك(4) كما عرفت فخصّوا تحريم الاستعمال بالأكل و الشرب.

و من مشايخنا من بنى تحريم المعاوضة عليها على أحد الأمرين: من تحريم اقتنائها، أو قصد المعاوضة على مجموع الهيئة و المادّة لا المادّة فقط(5).

و يظهر منه أنّه لو قصدها مع عدم تحريم الاقتناء على المادّة فقط لم تكن محرّمة، و حيث إنّ المختار تحريم جميع الاستعمالات حتّى الاقتناء اتّجه تحريم المعاوضة عليها مطلقاً، لعدّة من العمومات الواردة في رواية التحف، و عموم قوله صلى الله عليه و آله و سلم في النبويّ :

«إنّ اللّٰه إذا حرّم شيئاً حرّم ثمنه» بناءً على تعليقه تحريم الثمن الملازم لتحريم المبايعة على تحريم جميع منافع الشيء أو منافعه الغالبة، و نحوه قوله عليه السلام في رواية الدعائم: «و ما كان محرّماً أصله منهيّاً عنه لم يجز بيعه و لا شراؤه» و قضيّة حرمة جميع الاستعمالات حتّى الاقتناء وجوب كسرها و إخراجها عن هيئة الإنائيّة فوراً.

المسألة الثانية: في الدراهم و الدنانير المغشوشة،
اشارة

و لها حالتان:

إحداهما: كونها معلومة الصرف، و هو على ما فسّرها في المسالك و غيره «كونها متداولة بين الناس مع علمهم بحالها»(6) على معنى كونها رائجة في معاملاتهم و معاوضاتهم مع وضوح كونها مغشوشة لديهم، و هذا ممّا لا إشكال في جواز إخراجها و إنفاقها و المعاوضة عليها سواء جعلت أعواضاً أو معوّضات بل لا خلاف فيه أجده.

و في كلام بعض مشايخنا بل يمكن تحصيل الإجماع عليه فضلاً عن محكيّه، بل هو معلوم بالسيرة القطعيّة، و مدلول عليه بالأخبار المستفيضة الّتي يقف عليها من يراجع مظانّها.

و اُخراهما: كونها مجهولة الصرف بالمعنى المذكور، و هذا ممّا صرّحوا بعدم جواز

ص: 147


1- كما في الجواهر 26:22.
2- كشف الرموز 118:1.
3- التذكرة 226:2.
4- المسالك 123:3.
5- المكاسب للشيخ الأنصاري 118:1.
6- المسالك 338:3.

إنفاقها إلّا بعد إبانة حالها، و في كلام بعض المشايخ «بلا خلاف بل يمكن تحصيل الإجماع عليه فضلاً عن محكيّه»(1) و النصوص الدالّة عليه أيضاً كثيرة، و في بعضها كرواية الجعفي(2) الأمر بكسرها تعليلاً بأنّه «لا يحلّ بيعه و لا إنفاقه» و في رواية موسى ابن بكير «قطعه نصفين، ثمّ قال: ألقه في البالوعة حتّى لا يباع بما فيه من الغشّ »(3) و خبر فضل أبي العبّاس قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الدراهم المحمول عليها؟ فقال: إذا أنفقت ما يجوز بين أهل البلد فلا بأس، و إن أنفقت ما لا يجوز بين أهل البلد فلا»(4) و المستفاد من بعض الروايات جواز بيعها إذا بيّن حالها، و هو المصرّح به في كلام جماعة، كما أنّ المصرّح به في كلامهم أنّ المعتبر في محلّ المنع كون الغشّ كثيراً لا يتسامح فيه بحيث لو علم من صار إليه لم يقبله، فلو كان قليلاً متسامحاً فيه لا بأس بإخراجه و إنفاقه.

ثمّ بقي اُمور:
الأوّل: هل يجب كسرها؟

وجهان: من الأصل المعتضد بعدم الوقوف على مصرّح من الأصحاب بوجوبه، و من الأمر به في رواية الجعفي و بتقطيعه نصفين و إلقائه في البالوعة في رواية ابن بكير. و الأوجه الأوّل، لعدم ظهور عامل بالخبرين، مع خلوّ باقي النصوص عنه، بل ينساق من ملاحظة مجموعها و لا سيّما ما دلّ منها على جواز الإنفاق في البيع مع إعلام الحال عدم وجوبه، مع أنّ الأمر بالكسر في خبر الجعفي بمقتضى ظاهر التعليل غيري و الغرض الأصلي منه التجنّب عن بيعها و إنفاقها في المعاملات.

فمن قصد باقتنائها غرضاً آخر غير البيع و إنفاقها فيه كالزينة و نحوها لم يشمله الأمر بالكسر، منها مفهوم صحيح محمّد بن مسلم قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: الرجل يعمل الدراهم يحمل عليها النحاس أو غيره ثمّ يبيعها، قال: إذا بيّن ذلك فلا بأس»(5).

ص: 148


1- الجواهر 17:24.
2- الوسائل 5/186:18، ب 10 أبواب الصرف، التهذيب 466/109:7.
3- الوسائل 5/186:18، ب 10 أبواب الصرف، التهذيب 466/109:7.
4- الوسائل 9/188:18، ب 10 أبواب الصرف، الكافي 4/253:5.
5- الوسائل 2/185:18، ب 10 أبواب الصرف، الكافي 2/253:5.
الثاني: هل يجوز دفعها إلى العشّار و غيره ممّن يأخذ الأموال بغير حقّ من الظلمة و حكّام الجور؟

أقربه ذلك، و أحوطه الترك.

الثالث: أنّ محلّ الحرمة على ما عرفت ما لو وقعت المعاوضة عليه من غير أن يبيّن الحال لمن صار إليه،

و لكن مع علم البائع أو المنفق له بالحال، فأمّا لو جهلا فلا حرمة جزماً لقبح تكليف الغافل، و هل تقع فاسدة مع الحرمة و مع انتفائها؟ وجهان:

من ظاهر النهي الكاشف عن عدم صلاحية هذه الدراهم بحسب الشرع للعوضيّة و المعوّضيّة، و من ظاهر بعض النصوص في كون الحرمة تكليفاً صرفاً غير مؤثّر في الفساد، كخبر جعفر بن عيسى قال: «كتبت إلى أبي الحسن عليه السلام ما تقول جعلت فداك في الدراهم الّتي أعلم أنّها لا تجوز بين المسلمين إلّا بوضيعة تصير إليّ من بعضهم بغير وضيعة بجهلي به، و إنّما آخذه على أنّه جيّد أ يجوز لي أن آخذه و اُخرجه من يدي على حدّ ما صار إليّ من قبلهم ؟ فكتب: لا يحلّ ذلك...»(1) الخ، فإنّه لو فسدت المعاملة لأمره عليه السلام بردّ الدراهم الصائرة إليه على صاحبه، فتأمّل.

و قد يفصّل بأنّه إن وقع المعاوضة عليه بعنوان الدرهم المفروض انصراف إطلاقه إلى الصحيح المسكوك سكّة السلطان بطل البيع، و إن وقعت المعاوضة على شخصه من دون عنوان فالظاهر صحّة البيع مع خيار العيب إن كانت المادّة مغشوشة، و إن كان مجرّد تفاوت السكّة فهو خيار التدليس انتهى.

و لعلّ وجهه استظهار الفساد من النهي مع جعل مورده بمقتضى انسياق إطلاق نصوصه ما لو أخذت هذه الدراهم في المعاملة عوضاً أو معوّضاً بعنوان الدراهم المعمولة في المعاملات لا من حيث الخصوصيّة على حدّ ما يؤخذ فيها من سائر الأموال الغير المندرجة في عنوان الدراهم، و الأقوى عدم الفرق مع الصحّة منعاً لاقتضاء النهي هنا الفساد لعدم كشفه عن عدم صلاحيته العوضيّة و المعوّضيّة و إلّا لم يفرّق بين صورتي الجهل و العلم و لا بين حالتي بيان الحال و عدمه، كما في الأعيان النجسة و آلات اللهو و القمار و هياكل العبادة المبتدعة.

ص: 149


1- الوسائل 8/187:18، ب 10 أبواب الصرف، التهذيب 506/116:7.

ثمّ اعلم أنّ ما يحرم المعاوضة عليه لتحريم ما قصد به ينقسم إلى ما قصد بوضعه و اختراعه على النحو الخاصّ الحرام

اشارة

كآلات اللهو و هياكل العبادة و آلات القمار و ما أشبه ذلك، و ما قصد المتعاقدان بالمعاوضة عليه المنفعة المحرّمة كبيع العنب أو الخشب ليعمل خمراً أو صنماً أو آلة لهو أو قمار و نحوه.

و قد يذكر قسم ثالث و هو ما من شأنه أن يقصد به الحرام و اندراجه في العنوان مبنيّ على تعميم ما قصد به بالنسبة إلى الفعل و الشأن ليكون تقدير العبارة ما قصد به فعلاً أو شأناً.

و عبّر في الشرائع(1) عن القسمين بما أفضى إلى المساعدة على محرّم كبيع السلاح لأعداء الدين و إجارة المساكن و السفن للمحرّمات و بيع العنب ليعمل خمراً و بيع الخشب ليعمل صنماً، بناءً على كونه عطفاً على سابقه من آلات اللهو و هياكل العبادة المبتدعة و آلات القمار ليكون قسماً من عنوان ما يحرم لتحريم ما قصد به، لا على أصل العنوان ليكون قسيماً له كما هو الظاهر، و إلّا لوجب إفراده بعنوان آخر. فذكره في عداد أقسام العنوان المذكور لا إفراده بعنوان آخر قرينة واضحة على أنّه من الأقسام. و المساعدة المأخوذة في هذا القسم عبارة عن المعاونة، و الإفضاء إليه هو الانتهاء إليه، و قيل: الإفضاء إلى الشيء الوصول إليه، و هما متقابلان.

و قد يدخل في الوهم أنّ اعتبار الإفضاء و توسيطه بين المعاوضة و المعاونة لا يجدي فائدة فيكون لغواً، فإنّ بيع العنب ليعمل خمراً مثلاً و المعاوضة بقصد المنفعة المحرّمة بنفسه مساعدة على المحرّم فلا فائدة لتوسيط الإفضاء.

و يمكن دفعه بأنّ المعاونة على الشيء عنوان يصدق على إيجاد مقدّمة حرام الغير بشرط أن يقصد به توصّل الغير إلى الحرام، مع ترتّب التوصّل إليه في الخارج عليه، و بدون الشرطين معاً أو بدون الشرط الثاني لا يصدق عليه المعاونة، و أوّل الشرطين حيث يتحقّق و إن قارن تحقّقه لإيجاد المقدّمة إلّا أنّ ثانيهما حيث يتحقّق فإنّما يتحقّق متراخياً عن زمان إيجادها فيكون صدق عنوان المعاونة حينئذٍ من حين إيجادها مراعى لتحقّقه.

ص: 150


1- الشرائع 10:2.

و قضيّة ذلك أن لا يكون البيع في نفسه معاونة بل مفضياً و منتهياً إليه فتأمّل، لتطرّق المنع إلى اعتبار الشرط الثاني بل يكفي قصد الإعانة بإيجاد المقدّمة أو قصد التوصّل به مع العلم و لو من جهة العادة، أو كون الغير في شرف التشاغل بها بأنّه يتوصّل إليه فلا بدّ من أن يراد من الإفضاء إليها تحقيقها على معنى كون البيع محقّقاً لعنوان المساعدة،

و كيف كان ففي صدق ما يفضي إلى المساعدة على محرّم للقسم الأخير من الأقسام الثلاث المذكورة منع واضح.
اشارة

و قد يقال: إنّ في المقام موضوعات للحكم بالتحريم:

منها: بيع ما من شأنه أن يفضي إلى المساعدة على المحرّم سواء أفضى فعلاً أو لا، و سواء قصد ذلك أو لا.

و منها: ما علم أنّه يفضي فعلاً و قصد ببيعه ذلك، و هذا أظهر أفراد العنوان.

و منها: ما قصد ببيعه الإفضاء إلى المساعدة من دون علم بأنّه يفضي فعلاً، سواء ظنّ به أو شكّ فيه أو علم بالعدم.

و منها: ما علم بكونه يفضي و لكن لم يقصد ببيعه ذلك. و الأولى في ضبط الأقسام هو ما ذكرنا،

و أمّا أحكام هذه الأقسام فقد تقدّم الكلام في حكم القسم الأوّل منها

مشروحاً.

و أمّا القسم الثاني فقد ذكروا له أمثلة يذكر أحكامها في طيّ مسائل
المسألة الاُولى: في بيع الخشب ليعمل صنماً و بيع العنب ليعمل خمراً،
اشارة

و هذا يتضمّن صوراً خمس:

الاُولى: أن يباع العنب أو الخشب على أن يخمّره المشتري أو يتّخذه صنماً، بأن يشرطه البائع على المشتري، و بعبارة اُخرى بناء العقد على التخمير و اتّخاذ الصنم.

الثانية: أن يتواطآ و يتوافقا عليه قبل إجراء العقد ثمّ يباع من غير تصريح بالشرط في ضمن العقد، و يعبّر عنه بالشرط المضمر.

الثالثة: أن يقصده البائع و المشتري حين العقد من غير شرط في ضمنه و لا توافق قبله.

الرابعة: أن يقصده البائع خاصّة.

ص: 151

الخامسة: أن يقصده المشتري كذلك.

و يمكن تحريمه في جميع الصور كما ربّما يستشمّ من إطلاق بعض فتاوي الأصحاب و إن كان دعوى انصرافه إلى بعض الصور أو ما عدا الصورة الأخيرة غير بعيدة، و هو في الجملة ممّا لم يوجد فيه خلاف، و عن مجمع البرهان(1) نسبته إلى ظاهر الأصحاب مؤذناً بدعوى الإجماع، بل صرّح به السيّد في الرياض(2) حاكياً له عن المنتهى(3).

و يدلّ عليه في الجملة عموماً قوله عليه السلام في رواية التحف: «أو شيء فيه وجه من وجوه الفساد» بناءً على أنّ العبرة بعموم اللفظ لا خصوص المثال، و أنّ المراد تحريم بيعه في وجه الفساد كما هو المتبادر، أو أنّه معلوم بدليل من الخارج.

مضافاً إلى قاعدة حرمة الإعانة على الإثم، لوضوح صدق الإعانة على البيع فيما عدا الصورة الأخيرة. و السرّ فيه أنّ الإعانة على الإثم عبارة عن إيجاد مقدّمة معصية إعانته عليها أو أن يتوصّل إليها مع تعقّبه بحصول التوصّل في الخارج و معناه حصول المعصية المعان عليها، و يندرج فيه البيع في جميع الصور الأربع على تقدير حصول عمل الخمر و الصنم من المشتري، و أمّا شمول النهي للبائع و تعلّق الحرمة به فمنوط بعلمه حين البيع بتعقّبه للعمل المذكور.

و إلى قاعدة وجوب النهي عن المنكر، بتقريب أنّه عبارة عن الردع عن المعصية و هو جهة جامعة بين رفعها في المتشاغل بها و دفعها في العازم على التشاغل، و البيع المذكور في الصور المذكورة حتّى الأخيرة منها لو علم البائع بأنّ المشتري يعمل الحرام في المبيع و إن لم يقصده ترك للردع عن المعصية بمعنى دفعها فيكون محرّماً.

و إلى قاعدة تحريم الأمر بالمنكر كالنهي عن المعروف على ما يستفاد من أدلّة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، بتقريب أنّ الأمر بالمنكر عبارة عن الحمل على المعصية، و البيع المذكور حتّى في الصورة الأخيرة مع علم البائع بصدور العمل المحرّم من المشتري حمل له على المعصية فيكون محرّماً.

و إلى قاعدة وجوب اللطف بمعنى تقريب العبد إلى الطاعة و تبعيده عن المعصية،

ص: 152


1- مجمع البرهان 51:8.
2- الرياض 144:8.
3- المنتهى 1011:2.

بتقريب أنّ من أقسامه ما يجب على العباد غير النبيّ و الوصيّ ، و منه الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فيكون التقريب إلى المعصية أو ترك التبعيد عنها قبيحاً و كلّ قبيح محرّم، و البيع المذكور حتّى في الصورة الأخيرة تقريب إليها أو ترك للتبعيد عنها فيكون محرّماً.

و إلى القاعدة المستفادة من الأخبار الواردة في ذمّ أعوان بني اُميّة، فإنّ المستفاد منها ذمّهم على أفعال و أعمال لو تركوها لم يتحقّق معصية غصب حقّ أهل بيت العصمة من بني اُميّة، فتدلّ على أنّ المناط في الذمّ فعل مقدّماً تكون من أجزاء علّة وقوع المعصية من صاحبها سواء كان تركه علّة تامّة لعدم وقوعها منه أو لا.

و يدلّ عليه خصوصاً حسنة عمر بن اُذينة بإبراهيم بن هاشم على المشهور بل صحيحه على الأصحّ قال: «كتبت إلى أبي عبد اللّه عليه السلام أسأله عن رجل له خشب فباعه ممّن يتّخذه برابط؟ فقال: لا بأس به، و عن رجل له خشب فباعه ممّن يتّخذه صلباناً، قال: لا»(1).

و خبر عمرو بن حريث قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن التوت أبيعه ممّن يصنع الصليب و الصنم ؟ قال: لا»(2).

إطلاق الجواب فيهما بانضمام ترك الاستفصال يعمّ الصور الخمس بأجمعها.

و ضعف سند الثاني بجهالة أبان بن عيسى القمّي منجبر بعمل الأصحاب، مضافاً إلى وجود الحسن بن محبوب المجمع على تصحيح ما يصحّ منه في السند.

نعم قد يناقش في دلالة الاُولى على التحريم بمنع كون كلمة «لا» نهياً نظراً إلى ظهور «باعه» في السؤال في المضيّ فيكون سؤالاً عن الواقعة بعد وقوعها لا عنها على تقدير الوقوع، و النهي عن البيع الواقع في الخارج بعد وقوعه غير معقول فتكون نفياً، و لا يمكن توجيهه إلى الماهيّة لفرض وقوع البيع فلا بدّ و أن يوجّه إلى الصحّة، فأقصاه حينئذٍ فساد البيع و هو لا يلازم التحريم، و إن كان و لا بدّ من حملها على النهي، فيجب إرجاعها إلى ما يمكن النهي عنه مثل التصرّف في الثمن و نحوه.

ص: 153


1- الوسائل 1/176:17، ب 41 ما يكتسب به، الكافي 2/226:5.
2- الوسائل 2/176:17، ب 41 ما يكتسب به، الكافي 5/226:5.

و تندفع بشيوع التعبير في أخبار أهل بيت العصمة و لا سيّما في أسئلتها عن الحال أو المستقبل بصيغة المضيّ ، و بوجود القرينة في خصوص المقام على إرادة السؤال عن الواقعة على فرض وقوعها، و هو قوله: «ممّن يتّخذه» فإنّه أظهر في المستقبل من قوله:

«فباعه» في المضيّ ، و من ثمّ لم يتأمّل أحد فيها من هذه الجهة.

و لا يقدح في التمسّك بها تدافع ما بين موضع الدلالة و سابقه من حيث إنّ الأصحاب لا يفرّقون في المنع و التحريم في بيع الخشب بين بيعه ممّن يتّخذه برابط و بيعه ممّن يتّخذه صلباناً.

و قد صرّح بعدم البأس فيه مع إمكان التوفيق بينهما بأحد وجوه، أجودها حمل نفي البأس على التقيّة، نظراً إلى أنّها وردت في عهد خلفاء الجور المستحلّين للملاهي بالبرابط و العودان و المزامير و غيرها من آلات اللهو المنهمكين عليها، فكان المنع من اتّخاذ الخشب لعملها و عن بيعه ممّن يتّخذه لعملها موضع خوف و تقيّة، خصوصاً مع كون الرواية مكاتبة يسرع إليها الإشاعة، بخلاف المنع من اتّخاذه للصليب و الصنم و البيع لعمله فإنّه لم يكن بتلك المثابة.

و قد يحتمل للتوفيق عود ضمير «يتّخذه» إلى جنس الخشب على طريقة الاستخدام لا شخص المبيع أو كون البائع علم بكون المشتري إنّما اتّخذه لهذا العمل بعد البيع، و وحدة السياق يبعّدهما جزماً.

ثمّ إنّ الخبرين كما ترى مختصّان ببيع الخشب، و التعدّي عنه إلى بيع العنب بحيث يخرج عن القياس المحرّم مشكل.

و توهّم: تنقيح المناط بدعوى أنّه يظهر من النصّ أنّ العلّة في منع البيع صرف المبيع في المنفعة المحرّمة الساقطة عن نظر الشارع، و نقطع أنّ الفارق و هو خصوصيّة الخشبيّة ملغى في نظر الشارع و لا تأثير له في الحكم.

يدفعه: أنّ هذا المناط ممّا لا منقّح له، و القطع بكون الفارق ملغى ممّا لا موجب له، خصوصاً مع ملاحظة أنّ الغاية المطلوبة من اتّخاذ الصنم و الصليب إنّما هو العبادة لغير اللّٰه، و هو أشدّ قبحاً و أعظم مفسدة من الغاية المطلوبة من اتّخاذ الخمر و هو شربها و لعلّه

ص: 154

الفارق بين الأصل و الفرع، فدعوى تنقيح المناط في غاية البعد.

نعم لو استند للتعدّي إلى الإجماع المركّب و عدم القول بالفصل نظراً إلى ظاهر عبارات جماعة حيث نراهم يذكرون المسألتين بعنوان واحد و يتمسّكون لهما بالخبرين، لم يكن بذلك البعيد، إلّا أنّ الإجماع على عدم الفرق ليس بمقطوع به، و غايته الظنّ خصوصاً مع الالتفات إلى ما قد يحتمل في وجه الجمع بين الخبرين و غيرهما من الأخبار المصرّحة بجواز بيع العنب أو العصير ممّن يعلم أنّه يجعله خمراً من العمل بهما في بيع الخشب بالأخبار المجوّزة في بيع العنب.

ثمّ إنّه قد يمنع دلالة الخبرين على المنع و التحريم فيما عدا الصورة الأخيرة بل مطلقاً، فإنّ حملها على صورة الاشتراط أو هو مع المواطاة أو هما مع القصد منهما أو من البائع فقط بعيد. بل في غاية البعد، إذ لا غرض للمسلم في بيع ماله على هذا الوجه أصلاً خصوصاً إذا كان عدلاً أو ثقة فكيف يجوز على مسلم عدل أنّه أراد البيع على هذا الوجه ثمّ يجيء إلى إمامه ليسأله عن حكمه جوازاً و تحريماً. و لو قيل بأنّ الخبرين يحملان حينئذٍ على الصورة الأخيرة ثمّ يستدلّ بهما على حكم ما عداها أيضاً باعتبار الفحوى.

و ردّ عليه أنّه إنّما يستقيم لو سلّم دلالتهما على المنع و التحريم بالنسبة إلى هذه الصورة لأنّهما معارضان بما هو أقوى و أصرح دلالة منهما من الأخبار المجوّزة لبيع العنب أو العصير ممّن يعلم أنّه يجعله خمراً أو مسكراً، و حملهما على الكراهة كما هو المشهور في حكم البيع ممّن يعلم أنّه يجعله خمراً و هو الأقوى على ما ستعرف ففي نهوض الخبرين حينئذٍ بحكم مسألتنا غاية الإشكال، إلّا أن يقال بأنّ المناقشة المذكورة مع أنّ مبناها على الاستبعاد مختصّة بمعتبرة عمرو بن حريث و لا تجري في صحيحة عمر بن اُذينة كما لا يخفى، و هذا كافٍ في إنهاض الدليل على حكم المسألة بالخصوص فتأمّل.

ثمّ إنّ حكم المسألة يجري في بيع كلّ ذي منفعة محلّلة على أن يصرف في المنفعة المحرّمة بإحدى الصور الأربع المذكورة، لعموم القواعد المشار إليها، مضافاً إلى القاعدة

ص: 155

الّتي أقعدناها في ذيل مسألة المسكرات الجامدة، بل هذه القاعدة أيضاً تنهض مدركاً آخر للحكم في مسألتنا هذه أيضاً.

ثمّ إنّ البيع بالنسبة إلى الصور المذكورة حيث يحرم يفسد على معنى أنّ تحريمه يلازم الفساد لتعلّق النهي به باعتبار المعوّض الّذي هو من أركان عقد المعاوضة، و من المقرّر أنّه ممّا يقتضي الفساد حتّى أنّه لو قلنا في الصورة الأخيرة بالتحريم أيضاً لزمه الفساد، كما أنّه كذلك في الصورة الرابعة أيضاً و إن اختصّ التحريم بالبائع لأنّ الفساد من جانب واحد يستلزمه من الجانب الآخر، لأنّ تبعّض العقد في الصحّة و الفساد بالنسبة إلى الجانبين غير معقول.

و ممّا يمكن أن يحتجّ به على الفساد الإجماع حيث ثبت على التحريم لظهور عباراتهم بل صريح جملة منها في الملازمة بينهما، فالإجماع على التحريم إجماع على الفساد، و لعلّه لأجل قاعدة اقتضاء النهي حسبما بيّنّاه، مضافاً إلى قوله: «أو شيء يكون فيه وجه من وجوه الفساد» بناءً على عمومه لما نحن فيه كما سبق لدلالته على الحكم تكليفاً و وضعاً، مضافاً إلى قوله عزّ من قائل: «لاٰ تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ إِلاّٰ أَنْ تَكُونَ تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ » (1) بتقريب أنّ أخذ الثمن المبذول بإزاء المبيع المحصور في البيع في المنفعة المحرّمة المبغوضة للشارع الساقطة في نظره و التصرّف فيه، أكل للمال بسبب الباطل، و لا يكون إلّا من جهة عدم انتقاله بالعقد إلى البائع.

و توهّم: أنّه داخل في المستثنى لكونه من التجارة عن تراضٍ فلا يتناول حكم المستثنى منه للثمن، يدفعه: أنّ التراضي الموجب للصحّة في التجارة هو الّذي أمضاه الشارع لا مطلق التراضي، و لذا لا يصحّ البيع الربوي و بيع الخمر و الميتة و غيرها من الأعيان النجسة و غيرها ممّا يحرم التكسّب، فهو فيما نحن فيه غير مجدٍ في الصحّة، فيكون الثمن الصائر إلى البائع مندرجاً في حكم المستثنى منه.

و يؤيّد الجميع النصوص الواردة في بيع الجارية المغنّية و شرائها الدالّة على فساده باعتبار ما في بعضها من «أنّ ثمن المغنّية حرام»(2) و في البعض الآخر «ثمن الكلب

ص: 156


1- البقرة: 188.
2- الوسائل 3/123:17، ب 16 ما يكتسب به، إكمال الدين: 4/483.

و المغنّية سحت»(1) و في البعض الآخر أيضاً «ثمن المغنّية ثمن الكلب و ثمن الكلب سحت و السحت في النار»(2) نظراً إلى أنّ ما نحن فيه مع بيع المغنّية لأجل التغنّي بها من وادٍ واحد، و إنّما لم نعتبره دليلاً خروجاً عن شبهة القياس.

تذنيب: فيما لو باع العنب أو الخشب ممّن يعملهما خمراً أو صنماً أو بربطاً أو عوداً أو نحو ذلك من دون شرط و لا توافق و لا قصد من البائع،

فله صور أربع أو خمس:

الاُولى: أن يعلم البائع أنّ المشتري يعملهما.

الثانية: أن يظنّ به.

الثالثة: أن يشكّ فيه.

الرابعة: أن يظنّ عدمه.

الخامسة: أن يقطع بالعدم.

و في جوازه مطلقاً، أو عدمه كذلك، أو جوازه فيما عدا صورة العلم و المنع فيها، أو جوازه فيما عدا صورتي العلم و الظنّ و المنع فيهما، احتمالات، و بحسبها أقوال للأصحاب، إلّا الاحتمال الثاني لعدم الوقوف على قائله حتّى أنّ التتبّع في كلماتهم يعطي إجماعهم على الجواز و الصحّة فيما عدا الصورتين الاُوليين سيّما صورة القطع بالعدم.

نعم ذكر في الروضة(3) أنّه قيل: يحرم ممّن يعمله مطلقاً، و الظاهر بل المقطوع به أنّه إن كان قولاً فالمراد به ما عدا صورة القطع. فالمحقّق من أقوالهم ثلاثة: الجواز مطلقاً، و هو المشهور المحكيّ فيه الشهرة في كلام جماعة. و المنع في صورة العلم و الجواز في غيرها، و هو خيرة العلّامة في المختلف(4) و لعلّ له موافقاً أيضاً كما نسب ذلك إلى ظاهر التهذيب(5) و صريح النهاية(6). و المنع في صورتي العلم و الظنّ و الجواز في البواقي كما اختاره ثاني الشهيدين في المسالك(7) و الروضة(8).

و عن ابن المتوج(9) القول بالحرمة مع الصحّة، و لعلّ مراده صورة العلم.

ص: 157


1- الوسائل 4/123:17، ب 16 ما يكتسب به، قرب الإسناد: 125.
2- الوسائل 6/124:17، ب 16 ما يكتسب به، الكافي 4/120:5.
3- الروضة 211:3.
4- المختلف 373:5.
5- التهذيب 373:6.
6- النهاية 105:2.
7- المسالك 105:3.
8- الروضة 211:3.
9- نقله عنه في الجواهر 33:22.

و يظهر من السيّد في الرياض الوقف حيث قال: «فالمسألة لذلك محلّ إعضال، فالاحتياط فيها لا يترك على حال»(1).

و منشأ الاختلاف لعلّه اختلاف النصوص الواردة في الباب و تعارضها، و اختلاف الأنظار في علاج التعارض و وجه الجمع بينها.

فمن الدالّ منها على الجواز مطلقاً ما تقدّم نقله من صحيحة عمر بن اُذينة و معتبرة عمرو بن حريث.

و من الدالّ منها على الجواز مطلقاً المستفيضة الواردة في بيع العصير أو العنب و غيرهما، و فيها الصحاح و غيرها:

مثل صحيح الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السلام «إنّه سئل عن بيع العصير ممّن يصنعه خمراً؟ فقال: بعه ممّن يطبخه و يصنعه خلاً أحبّ إليّ و لا أرى بالأوّل بأساً»(2).

و ما تقدّم في صحيح ابن اُذينة «عن رجل له خشب فباعه ممّن يتّخذه برابط، فقال:

لا بأس به»(3).

و خبر أحمد بن محمّد بن أبي نصر قال: «سألت أبا الحسن عليه السلام عن بيع العصير فيصير خمراً قبل أن يقبض الثمن ؟ فقال: لو باع ثمرته ممّن يعلم أنّه يجعله حراماً - و في رواية اُخرى ممّن يعلم أنّه يجعله خمراً حراماً - لم يكن بذلك بأس، فأمّا إذا كان عصيراً فلا يباع إلّا بالنقد»(4).

و صحيح محمّد الحلبي قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن بيع عصير العنب ممّن يجعله حراماً؟ فقال: لا بأس به، تبيعه حلالاً و يجعله حراماً فأبعده اللّٰه و أسحقه»(5)أسحقه: أي أبعده عطف تفسير.

و صحيح ابن اُذينة قال: «كتبت إلى أبي عبد اللّه عليه السلام أسأله عن رجل له كرم أ يبيع

ص: 158


1- الرياض 147:8.
2- الوسائل 9/231:17، ب 59 ما يكتسب به، التهذيب 605/137:7.
3- الوسائل 1/176:17، ب 41 ما يكتسب به، التهذيب 1082/373:6.
4- الوسائل 1/229:17، ب 59 ما يكتسب به، التهذيب 611/138:7.
5- الوسائل 4/230:17، ب 59 ما يكتسب به، التهذيب 604/136:7.

العنب و التمر ممّن يعلم أنّه يجعله خمراً أو سكراً؟ فقال: إنّما باعه حلالاً في الإبّان الّذي يحلّ شربه و أكله فلا بأس ببيعه»(1).

و خبر أبي بصير قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن ثمن العصير قبل أن يغلي لمن يبتاعه ليطبخه أو يجعله خمراً؟ قال: إذا بعته قبل أن يكون خمراً و هو حلال فلا بأس»(2).

و خبر أبي كهمش قال: «سأل رجل أبا عبد اللّه عليه السلام عن العصير، فقال: لي كرم و أنا أعصره كلّ سنة و أجعله في الدنان و أبيعه قبل أن يغلي ؟ قال: لا بأس و إن غلى فلا يحلّ بيعه، ثمّ قال: هو ذا نبيع تمرنا ممّن نعلم أنّه يصنعه خمراً»(3).

و خبر رفاعة بن موسى قال: «سئل أبو عبد اللّه و أنا حاضر عن بيع العصير ممّن يخمّره ؟ قال: حلال، ألسنا نبيع تمرنا ممّن يجعله شراباً خبيثاً»(4).

و خبر يزيد بن خليفة قال: «كره أبو عبد اللّه عليه السلام بيع العصير بتأخير»(5).

و خبره الآخر أيضاً عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «سأله رجل و أنا حاضر، قال: إنّ لي الكرم، قال: تبيعه عنباً؟ قال: فإنّه يشتريه من يجعله خمراً، قال: فبعه إذاً عصيراً، قال:

فإنّه يشتريه منّي عصيراً فيجعله خمراً في قربتي، قال: بعته حلالاً فجعله حراماً فأبعده اللّٰه، ثمّ سكت هنيئة، ثمّ قال: لا تذرنّ ثمنه عليه حتّى يصير خمراً فتكون تأخذ ثمن الخمر»(6).

و الجمع بينها و بين الخبرين الدالّين على المنع في الخشب يتصوّر من وجوه:

أحدها: حمل النهي فيهما على الكراهة، كما هو المشهور.

و الآخر العمل بكلّ من المتعارضين في مورده فيقال بالمنع في بيع الخشب و الجواز في بيع العنب و العصير و التمر، كما احتمله بعض مشايخنا قدس سرهم و قال: «إنّه قول فصل إن لم يكن قولاً بالفصل»(7).

ص: 159


1- الوسائل 5/230:17، ب 59 ما يكتسب به، التهذيب 8/231:7.
2- الوسائل 2/229:17، ب 59 ما يكتسب به، الكافي 3/231:5.
3- الوسائل 6/230:17، ب 59 ما يكتسب به، الكافي 12/232:5.
4- الوسائل 8/231:17، ب 59 ما يكتسب به، التهذيب 603/136:7.
5- الوسائل 3/230:17، ب 59 ما يكتسب به، التهذيب 609/137:7.
6- الوسائل 10/231:17، ب 59 ما يكتسب به، التهذيب 610/138:7.
7- المكاسب 132:1.

و الثالث: حملهما على صورة العلم و حملها على البواقي، و عليه مبنى قول العلّامة و إن لم يصرّح به في المختلف.

و الرابع: حملهما على صورتي العلم و الظنّ و حملها على ما عداهما، كما عليه مبنى خيرة المسالك و الروضة.

و الأقوى الأوّل وفاقاً للمشهور، لاعتضاده بعمل المعظم، مع أنّ له شاهداً في روايات الباب و هو صحيح الحلبي المتقدّم لمكان قوله عليه السلام: «بعه ممّن يطبخه أو يصنعه خلّاً أحبّ إليّ و لا أرى بالأوّل بأساً»(1) و يضعّف البواقي بذلك، مضافاً إلى عدم شاهد عليها، مع أنّ الأوّل ممّا لا قائل به حتّى أنّ من ذكره فإنّما ذكره احتمالاً مع ما فيه من شبهة خرق الإجماع المركّب، و أنّ الأخيرين يأباهما عدّة من النصوص المجوّزة لاختصاصها بصورة العلم المصرّح به فيها سؤالاً أو جواباً.

و لا مخالفة لما اخترناه من الجواز المطلق لعموم رواية تحف العقول، لما بيّنّاه سابقاً من ظهورها بحكم التبادر أو غيره من الأدلّة الخارجيّة في بيع الشيء في وجه الفساد، و لا يكون إلّا مع قصد الغاية المحرّمة و مفروض المسألة انتفاؤه. و توهّم: أنّ علم البائع بحصولها من المشتري لا ينفكّ عن قصدها، يندفع بمنع الملازمة لأنّ العلم المذكور يجامع قصد غاية اُخرى كنقد المال و نحوه.

و لا لقاعدة حرمة الإعانة على الإثم، لانتفاء القصد أيضاً الّذي لا يصدق معه الإعانة على إيجاد مقدّمة معصية الغير كما ذكرناه مراراً.

و لا لقاعدة وجوب النهي عن المنكر، لمنع وجوبه فيما نحن فيه.

أمّا فيما عدا صورة العلم بأنّه يعمل العنب و الخشب خمراً و صنماً و ما أشبهه فلكون أدلّة وجوبه مخصوصة بصورة العلم بالتشاغل بالمنكر أو العزم و التهيّؤ له، فلا يجب النهي مع الظنّ به و لا مع الشكّ فيه و لا الظنّ بالعدم و لا القطع به إجماعاً بل ضرورة من الدين.

و أمّا في صورة العلم فلأنّ من شروط وجوبه احتمال التأثير في الارتداع، و هذا

ص: 160


1- الوسائل 9/231:17، ب 59 ما يكتسب به، التهذيب 605/137:7.

الشرط منتف هنا، فإنّ هذا البائع إذا ترك بيع متاعه لتوصّل إليه المشتري من غيره فلا يكون تركه علّة لتركه و إنّما يكون كذلك إذا انحصر المبيع فيه، أو علم البائع أو احتمل بعدم قيام غيره ممّن عندهم جنس هذا المبيع بترك البيع، و كلّ من هذين إنّما يتحقّق في فرض نادر لا يصلح مناطاً للحكم.

مع أنّه لو حرّم البيع في نحو هذه الصورة من باب النهي عن المنكر لزم سدّ [باب] المعاملات بأسرها مع سلاطين الجور و حكّام الجور و الظلمة و أعوانهم و الفسقة من الرجال و النسوان لمكان العلم التفصيلي أو الإجمالي بأنّهم يصرفون المبيع - من مأكول أو مشروب أو ملبوس أو نحو ذلك - في الملاهي و المعاصي و الفسوق و القبائح و وجوه الظلم، و هو خلاف الضرورة من الدين، و يصادم السيرة من المسلمين الكاشفة عن التقرير و رضا المعصوم.

فلو كان في أدلّة وجوب النهي عن المنكر عموم بحيث يتناول المقام وجب تخصيصها بغيره. و من هنا يعلم وجه الخروج عن قاعدة حرمة الأمر بالمنكر على معنى الحمل على المعصية لو فرض في أدلّة حرمته عموم يتناول المقام لقبولها التخصيص.

مضافاً إلى منع صدق الحمل على المعصية على البيع الحاصل لا بقصد الغاية المحرّمة من البائع، فإنّ المصداق المشترك بين عنوانين قبيح و حسن محرّم و مباح لا يصرف إلى أحدهما إلّا إذا حصل بقصده، و لذا لا يصدق عنوان الظلم على ضرب اليتيم المقصود به التأديب مثلاً.

و من ذلك أيضاً يتطرّق المنع إلى مخالفته لقاعدة اللطف، فإنّ البيع الغير المقصود به توصّل المشتري إلى المعصية لا يصدق عليه التقريب إلى المعصية و لا ترك التبعيد عن المعصية، مضافاً إلى أنّ التقريب إلى المعصية كالحمل عليها من الأفعال المسندة إلى ذوي الاختيار بالتسبيب لا بالمباشرة و لا يصحّ إسنادها عرفاً إلى مع صدق عنوان السبب على البائع عرفاً و هو منوط بقصد الغاية المحرّمة، هذا.

ثمّ إنّ الكراهة في هذا البيع مقصورة على صورة علم البائع و لا يثبت لغيرها خصوصاً صورة القطع بالعدم، و دونه صورة الظنّ به، و دونه صورة الشكّ ، و هو ظاهر

ص: 161

كلام المعظم القائلين بالجواز على كراهية، و لذا يعبّرون عن عنوان المسألة ببيع العنب و الخشب ممّن يعلم أنّه يعملهما خمراً أو صنماً مثلاً اقتصاراً في الحكم المخالف للأصل على مقدار دلالة النصّ .

و لا ريب أنّ ظاهر الخبرين حيث ذكر فيهما «باعه ممّن يتّخذه صلباناً» أو «أبيعه ممّن يصنع الصليب أو الصنم» إنّما هو علم البائع بأنّه يتّخذ أو يصنع، مع أنّ الموجود في نبذة من الأخبار المتقدّمة إنّما هو العلم بأنّه يفعله فالجواز بالمعنى الأعمّ المحمول عليه هذه الأخبار مقيّد به.

ثمّ إنّ البيع ممّن يصنعه خمراً إذا كان عصيراً فالمستفاد من جمله من النصوص المتقدّمة كراهة تأخير قبض ثمنه إلى ما بعد صيرورته خمراً، و في الأخير منها تعليله بأن لا يكون مع التأخير آخذ ثمن الخمر، و هذا تشبيه لأدنى ملابسة، و إلّا فالثمن ثمن عصير حقيقة و قد انتقل إلى ملك البائع بالعقد، غاية الأمر أنّه تأخّر قبضه.

ثمّ إنّه بقي من أطراف المسألة دقيقة أشرنا إليه سابقاً عند منع منافاة الجواز هنا لوجوب النهي عن المنكر، و توضيحها أنّ بيع العنب أو الخشب أو غيرهما ممّن يعلم أنّه يصرفه في المحرّم و يعمله خمراً أو صنماً أو غيرهما بالقياس إلى تركه له صور:

فقد يكون ترك هذا البائع للبيع سبباً و علّة تامّة لترك المشتري و ارتداعه عن المعصية، و قد يكون السبب لتركه و ارتداعه المجموع من تركه و ترك الآخرين ممّن عندهم العنب أو الخشب أو غيره البيع و ضابط الوجهين انحصار جنس هذا المبيع فيما عند هذا البائع و عدم انحصاره فيه، و على التقدير الثاني فقد يعلم هذا البائع بقيام الآخرين بترك البيع من هذا المشتري، و قد يحتمله احتمالاً راجحاً كما لو ظنّ ذلك، أو مساوياً كما لو شكّ فيه، أو مرجوحاً كما لو ظنّ العدم، و قد يعلم عدم قيامهم بترك البيع. و هذه صور ستّ لا يتمّ الجواز إلّا في الصورة الأخيرة، و المتّجه في غيرها المنع و الحرمة لعموم وجوب الردع عن المعصية، مع العلم بتأثير ترك هذا البيع على أنّه علّة تامّة لارتداع المشتري أو أنّه جزء للعلّة أو احتماله و لو مرجوحاً.

و توهّم: عموم الجواز لجميع الصور المذكورة من إطلاق النصوص المجوّزة مع

ص: 162

انضمام ترك الاستفصال المفيد للعموم المعتضد بإطلاق فتوى المعظم، يدفعه: منع الإطلاق بندرة فرض الانحصار، و ندرة العلم بالتأثير، أو احتماله على تقدير عدم الانحصار، نظراً إلى أنّ الغالب عدم انحصار جنس المبيع فيما عند البائع، و الغالب من هذا الغالب أيضاً علم البائع بعدم قيام غيره ممّن عندهم العنب أو الخشب أو غيرهما بترك البيع، و المطلق ينصرف إلى الغالب الشائع من فروض المسألة، و ترك الاستفصال ممّا لا مجرى لعمومه في نحو المقام لأنّ من شروطه أن لا يكون للمورد فرض شائع ينصرف إليه الإطلاق سؤالاً و جواباً، و إطلاق فتوى المعظم أيضاً لعلّه منزّل على الغالب بحكم الانصراف، فالوجه حينئذٍ في غير مورد الغالب حرمة البيع لوجوب النهي عن المنكر و الردع عن المعصية بلا معارض يوجب الخروج عنه.

المسألة الثانية: في المعاوضة على الجارية المغنّية و كلّ عين مشتملة على صفة يقصد منها الحرام

كالعبد الماهر في شغل السرقة أو المقامرة أو الملاهي أو غير ذلك، و له صور لأنّه قد تباع الجارية على أن يتغنّى بها أي يشترط ذلك في متن العقد، و قد يتوافق البائع و المشتري على ذلك قبل إجراء العقد من دون تصريح بذكره في ضمنه، و قد يقصدان من دون شرط و لا توافق على معنى أن يكون الغاية المقصودة لهما ذلك، و قد يقصده البائع دون المشتري، و قد يقصده المشتري دون البائع بأن يكون الغاية الباعثة على اشترائها التغنّي بها، و قد لا يقصدان و لكن كان لوجود هذه الصفة للمبيع في نظرهما مدخليّة في زيادة الثمن المبذول له على وجه يقع منه في ظرف التحليل بإزاء الموصوف و منه بإزاء الصفة، و قد يكون مع عدم القصد بحيث لا مدخليّة للصفة في زيادة الثمن و كان وجودها في نظرهما بمنزلة العدم و مرجعه إلى كون الثمن المبذول لها كالثمن المبذول للجارية الفاقدة لتلك الصفة.

و أكثر هذه الصور كالأُولى و الثانية و الثالثة و الرابعة يبعد تحقّقها من البائع المسلم، إذ لا غرض له في اعتبار الشرط المذكور، و لا التوافق مع المشتري و لا القصد إلى الغاية المحرّمة بأن يكون داعيه إلى البيع هذه الغاية لا غير. و لكن حيث تحقّق البيع بأحد هذه الوجوه فلا ينبغي التأمّل في حرمته و فساده، لحرمة الإعانة على الإثم، و وجوب النهي

ص: 163

عن المنكر، و الردع عن المعصية، و حرمة الأمر بالمنكر و الحمل على المعصية و التقريب إليها عقلاً و نقلاً، مضافاً إلى أنّ أخذ الثمن و بذله بإزاء المبيع لأجل الغاية المحرّمة أكل للمال بالباطل.

و أمّا الصور الثلاث الباقية فلا إشكال في جواز الأخيرة منها، للأصل الثانوي المستفاد من عمومات العقود أجناساً و أنواعاً و أصنافاً، مع عدم مخرج منه من الأدلّة الخاصّة و لا القواعد العامّة، مع ورود نصّ خاصّ دالّ على الجواز و الصحّة فيه، مثل ما رواه عبد اللّه بن الحسن الدينوري عن أبي الحسن عليه السلام في حديث قال: «قلت: فأشتري المغنّية أو الجارية تحسن أن تغنّي اُريد منها الرزق لا سوى ذلك ؟ قال: اشتر و بع»(1).

و أمّا الصورتان الاُخريان فالظاهر حرمة اُولاهما، و هي ما لو كان الغاية المقصودة للمشتري التغنّي بها لا غير، كما يدلّ عليه الخبر المذكور حيث قال: «اُريد بها الرزق لا سوى ذلك» لقضائه بأنّ عدم الجواز مع إرادة الغاية المحرّمة معتقد السائل مفروغ عنه عنده و قد قرّره الإمام عليه السلام على معتقده، مضافاً إلى النصوص المستفيضة الصريحة في المنع و الفساد المنصرفة إلى هذه الصورة لأنّها الغالب في المعاوضة على الجواري المغنّية، ففي بعضها «ثمن المغنّية حرام»(2) و في بعضها «ثمن الكلب و المغنّية سحت»(3)و في ثالث عن شراء المغنّية قال: «قد تكون للرجل الجارية تلهيه و ما ثمنها إلّا ثمن كلب، و ثمن الكلب سحت و السحت في النار»(4) و في رابع عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال:

«سأله رجل عن بيع الجواري المغنّيات ؟ فقال: شراؤهنّ حرام، و بيعهنّ حرام، و تعليمهنّ كفر و استماعهنّ نفاق»(5).

و في خامس عن إبراهيم بن أبي البلاد قال: «أوصى إسحاق بن عمر بجوار له مغنّيات أن تبيعهنّ و يحمل ثمنهنّ إلى أبي الحسن عليه السلام قال إبراهيم: فبعت الجواري

ص: 164


1- الوسائل 1/122:17، ب 16 ما يكتسب به، التهذيب 1151/387:6.
2- الوسائل 3/122:17، ب 16 ما يكتسب به، إكمال الدين: 4/483.
3- الوسائل 4/123:17، ب 16 ما يكتسب به، قرب الإسناد: 125.
4- الوسائل 6/124:17، ب 16 ما يكتسب به، التهذيب 1019/357:6.
5- الوسائل 7/124:17، ب 16 ما يكتسب به، الكافي 5/120:5.

بثلاثمائة ألف درهم و حملت الثمن إليه فقلت له: إنّ مولى لك يقال له إسحاق بن عمر أوصى عند وفاته ببيع جوار له مغنّيات و حمل الثمن إليك و قد بعتهنّ و هذا الثمن ثلاثمائة ألف درهم، فقال: لا حاجة لي فيه إنّ هذا سحت، و تعليمهنّ كفر، و الاستماع منهنّ نفاق، و ثمنهنّ سحت»(1) إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع.

و هذه النصوص كما قيل مبنيّة على الغالب و هو صورة قصد المشتري للغاية المحرّمة، أو هي مع الصورة الاُخرى و هي ما لو كان لوجود الصفة مدخليّة في نظرهما، أو في المعاملة مدخليّة لزيادة الثمن، و قصور أسانيدها ينجبر باستفاضتها، مضافاً إلى أنّ أخذ نحو هذا الثمن و بذله أكل للمال بالباطل.

و توهّم: أنّ شيئاً من الثمن مبذول بإزاء الصفة و هذا يقضي ببطلان العقد بالنسبة إلى الصفة لا الموصوف، يدفعه: أنّ البيع لا وجود له إلّا وجود القيد، و هذا الوجود الخاصّ ممّا لم يمضه الشارع و لا وجود للبيع في الموصوف سواه، فالصحّة في الموصوف بدونها في الصفة غير صحيح، هذا و لكن في كون مدخليّة الصفة في زيادة القيمة بحسب المعاملة و في عادة النوع لا في نظرهما و جعلهما مقتضية للمنع و الفساد نظر خصوصاً لو لم يكن للمشتري غرض في اشترائها إلّا الاستخدام و غيرها من المنافع المباحة، بل منع، فالأقرب حينئذٍ الجواز و الصحّة.

المسألة الثالثة: في إجارة المسكن أو السفينة أو الحمولة للمحرّمات

كعمل الخمر أو بيعه أو اقتنائه أو حمله و حمل الخنازير و ما أشبه ذلك، و الظاهر أنّه لا خلاف بين الأصحاب في تحريم نحو هذه الإجارة و فسادها، بل عن الشيخ و ابن زهرة في الخلاف(2) و الغنية(3) الإجماع على عدم صحّة إجارة المسكن ليحرز فيه الخمر و إجارة الدكّان ليباع فيه.

و المراد بالإجارة هنا على ما ينساق من كلماتهم أن يعتبر المنفعة المحرّمة بالخصوص عنواناً في الإجارة و مورداً للعقد سواء على وجه الركنيّة - كأن يقول:

ص: 165


1- الوسائل 5/123:17، ب 16 ما يكتسب به، التهذيب 1021/357:6.
2- الخلاف 508:3.
3- الغنية: 285.

آجرتك داري على أن تعمل فيها الخمر، أو دكّاني على أن تبيع فيه الخمر أو لحم الخنزير، أو دابّتي على أن تحمل عليها الخمر - أو على وجه الشرطيّة، أو على وجه التواطي و التوافق عليها قبل إجراء العقد، أو بقصدها من المؤجر و المستأجر، أو من المؤجر فقط. و إطلاق كلماتهم مع إطلاق معقد الإجماعين يعمّ الجميع.

و مدرك الحكم - بعد الإجماعين المعتضدين بظهور عدم الخلاف، مضافاً إلى حرمة الإعانة على الإثم و وجوب النهي عن المنكر و الردع عن المعصية و أنّ أخذ المال بإزاء المنفعة المحرّمة الساقطة في نظر الشارع و التصرّف فيه أكل للمال بالباطل - خبر جابر بالسند الجاري مجرى الصحيح بوقوع عبد اللّه بن مسكان مع انتهائه إليه صحيحاً قال:

«سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الرجل يؤاجر بيته فيباع فيه الخمر؟ فقال: حرام اُجرته»(1)و في نسخة اُخرى «حرام أجره».

و ربّما توهّم معارضة صحيحة عمر بن اُذينة قال: «كتبت إلى أبي عبد اللّه عليه السلام أسأله عن الرجل يؤاجر سفينته أو دابّته ممّن يحمل فيها أو عليها الخمر و الخنازير؟ قال:

لا بأس له»(2).

و لأجل ذا جمع الشيخ(3) بينهما على ما حكي عنه بحمل الأوّل على من يعلم أنّه يباع فيه الخمر، و الثاني على من لا يعلم أنّه ما يحمل عليها.

و لعلّه أراد به الجمع التبرّعي دفعاً للمناقضة الظاهرة كما هو دأبه في التهذيبين لا الجمع الالتزامي على وجه يكون مناطاً للإفتاء و العمل، و إلّا يرد عليه أنّه ممّا لا شاهد عليه مع افتقار نحو هذا الجمع إلى شاهدين.

و ربّما وجّه بأنّ الأوّل نصّ فيمن يعلم و ظاهر في غيره و الثاني بعكس ذلك، فيطرح ظاهر كلّ بنصّ الآخر. و فيه من التحكّم ما لا يخفى، لمنع النصوصيّة في المقامين.

و الوجه عندي أنّ الخبر الأوّل دليل تامّ على المسألة بجميع صورها، لظهوره

ص: 166


1- الوسائل 1/174:17، ب 39 ما يكتسب به، التهذيب 593/134:7.
2- الوسائل 2/174:17، ب 39 ما يكتسب به، التهذيب 1078/372:6.
3- التهذيب 134:7.

فيما جعل بيع الخمر عنواناً في الإجارة و مورداً للعقد لمكان الفاء في قوله: «فيباع فيه الخمر» فإنّه لا يلائم شيء من معانيها مورد السؤال إلّا كونها عاطفة من عطف مفصّل على مجمل على حدّ ما في قوله: «فَأَزَلَّهُمَا اَلشَّيْطٰانُ عَنْهٰا فَأَخْرَجَهُمٰا مِمّٰا كٰانٰا فِيهِ » (1) فإنّ المعطوف عليه أعني قوله «يؤاجر بيته» كأن يتضمّن جعل بيع الخمر عنواناً و لو في إرادة السائل و كان يدلّ عليه إجمالاً، فذكر ما يفصّله بطريق العطف بالفاء و استظهر الإمام عليه السلام هذا الاعتبار من السؤال بواسطة كلمة الفاء في المعطوف فذكر في الجواب «حرام اُجرته» و إطلاقه من جهة ترك الاستفصال يعمّ جميع الصور المذكورة.

نعم يعارضه الصحيحة بظاهرها لاحتمالها إرادة إجارة السفينة أو الدابّة ممّن يحمل فيها أو عليها الخمر و الخنازير على وجه جعل حمل الخمر و الخنازير عنواناً فيها مورداً للعقد على وجه الركنيّة، أو يشترط في ضمن العقد، أو توافق قبل إجرائه، أو في قصد المؤجر و المستأجر، أو في قصد المؤجر فقط، أو المستأجر كذلك. أو لم يجعل عنواناً و لكن كان الخمر أو الخنازير من جملة ما قصد حمله من الأمتعة على وجه علم به المؤجر، أو قصد مطلق الحمل، أو حمل ما يحلّ حمله من الأمتعة و لكن كان حمل الخمر أو الخنازير مقصوداً له من باب الغاية الداعية إلى الاستيجار من دون أن يكون مورداً للعقد و لا بعضاً منه و علم به المؤجر، أو كان في قصده ذلك و علم به المؤجر بعد الإجارة لا حينه، أو أنّه بدا له بعد الإجارة أن يحمل الخمر أو الخنازير من دون كونه مقصوداً له حين العقد.

و لكنّه ينهض مخصّصاً لها بحملها على الصور الأربع الأخيرة لكونه باعتبار أقلّيّة الصور المندرجة فيه أخصّ منها فيكون أظهر منها في العموم، و من الواجب تقديم الأظهر على الظاهر، مضافاً إلى أنّه حاظر و هي مبيحة و الحاظر مقدّم على المبيح، و إلى اعتضاده بفهم الأصحاب و عملهم، و بموافقة مضمونه الكتاب لآية «لاٰ تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ » (2) و بموافقته للقواعد العامّة المحكّمة حسبما تقدّم الإشارة إليها.

هذا، و يدلّ عليه أيضاً ما في رواية تحف العقول من قوله عليه السلام: «فأمّا وجوه الحرام

ص: 167


1- البقرة: 36.
2- البقرة: 188.

من وجوه الإجارة، نظير أن يؤاجر نفسه على حمل ما يحرم أكله أو شربه، أو يؤاجر نفسه في صنعة ذلك الشيء أو حفظه، أو يؤاجر نفسه في هدم المساجد ضراراً، أو قتل النفس بغير حقّ ، أو عمل التصاوير و الأصنام و المزامر و البرابط و الخمر و الخنازير و الميتة و الدم، أو شيء من وجوه الفساد الّذي كان محرّماً عليه من غير جهة الإجارة فيه، و كلّ أمر منهيّ عنه من جهة من الجهات فمحرّم على الإنسان إجارة نفسه فيه أو له أو شيء منه أو له، إلّا لمنفعة من استأجره كالّذي يستأجر له الأجير ليحمل الميتة ينحّيها عن أذاه أو أذى غيره و ما أشبه ذلك»(1).

فإنّ مورده و إن كان إجارة الإنسان نفسه و لم يذكر فيه نحو المسكن و السفينة و الحمولة، غير أنّه يستفاد منه كون المناط في التحريم و الفساد جعل المنفعة المحرّمة عنواناً و مورداً للعقد، مع أنّ إجارة الإنسان نفسه فيها أيضاً من أفراد المسألة.

ثمّ اعلم أنّه ليس إجارة شيء ممّا ذكر ممّن يعلم المؤجر أنّه قصد المنفعة المحرّمة بالخصوص من عمل الخمر أو اقتنائه أو بيعه أو حمله أو نحو ذلك كبيع العنب أو الخشب ممّن يعلم أنّه يجعله خمراً أو صنماً في الجواز على ما قدّمناه من جواز ذلك على كراهية وفاقاً للمشهور، فإنّه غير صحيح جزماً.

و وجه الفرق أنّ وُضِع عقد الإجارة لنقل المنافع و انتقالها و تمليكها و تملّكها، و هو مركّب كسائر العقود من الإيجاب و القبول، فالسبب هو المجموع منهما و كلّ منهما جزء للسبب فوجب تواردهما على محلّ واحد، و لا يتأتّى ذلك إلّا بتوارد قصد المؤجر و المستأجر على محلّ واحد، فلا بدّ أن تفسد الإجارة ممّن يعلم أنّه قصد المنفعة المحرّمة لا غير.

و قصد المؤجر لمطلق المنفعة أو خصوص المحلّلة منها لا يجدي نفعاً في تصحيحه، لأنّ ما قصده المؤجر لم يقصده المستأجر، و ما قصده المستأجر لم يمضه الشارع، مضافاً إلى عدم قصد المؤجر إيّاه أيضاً، فصار وجود القبول بمنزلة عدمه لوروده على المنفعة المحرّمة.

ص: 168


1- تحف العقول: 331.

و الإيجاب المتعلّق بمطلق المنفعة أو خصوص المنفعة المحلّلة بانفراده غير مؤثّر لعدم كونه سبباً تامّاً، بخلاف بيع العنب أو الخشب، فإنّ وضع عقد البيع لنقل الأعيان و تمليكها و تملّكها و قد قصده البائع و المشتري، فتوارد الإيجاب و القبول على عين يصحّ نقلها و انتقالها و تمليكها و تملّكها، غاية الأمر أنّ المشتري قصد من تملّكها غاية محرّمة، و قصد الغاية ليس من أركان العقد و لا من شروط صحّته فيلغو، فالعقد بمجموع جزئيه ورد محلّه فيؤثّر أثره.

و الكراهة إنّما هو للنصّ ، فما يستفاد من تضاعيف عبارات شيخنا قدس سره في الجواهر(1) من جعلهما من وادٍ واحد على وجه يظهر منه الجواز فيهما ليس على ما ينبغي، و ما حكاه من ظاهر التهذيب(2) و المختلف(3) و حواشي الشهيد(4) و المسالك(5)و الروضة(6) و نهاية(7) الشيخ من حرمة الإجارة مع العلم في خصوص المساكن و الحمولات في غاية المتانة.

ثمّ إنّه لو آجر نفسه أو دابّته لحمل الميتة و نحوها ممّا يحرم أكله أو شربه لمصلحة مأذون فيها كدفع أذاها عن الناس، فيؤاجر لتبعيدها عنهم و طرحها في الصحراء أو المزبلة أو نحوها ينبغي القطع بجوازه، لأنّه في الحقيقة إجارة في منفعة محلّلة و لرواية التحف كما قدّمنا نقله.

و لو جعل مورد الإجارة كلّ منفعة أو مطلق المنفعة لا بشرط بحيث دخل المحرّمة في جملته من جهة العموم أو الإطلاق، لا ينبغي الإشكال في الجواز و الصحّة فيه بالنسبة إلى المنافع المحلّلة المندرجة في العموم أو الإطلاق، و لا يقدح فيهما عدم تأثيره في خصوص المنفعة المحرّمة، و بالجملة يصرف الإجارة إلى خصوص المنافع المحلّلة و يصحّ للأصل و العمومات، و لخصوص رواية ابن اُذينة.

القسم الثالث: من الأقسام الثلاث المندرجة فيما يحرم التكسّب به لتحريم ما يقصد به

القسم الثالث:(8) من الأقسام الثلاث المندرجة فيما يحرم التكسّب به لتحريم ما يقصد به

ما من شأنه أن يقصد به الحرام و إن لم يكن مقصوداً بالفعل حين عقد المعاوضة عليه،

ص: 169


1- الجواهر 31:22.
2- التهذيب 373:6.
3- المختلف 22:5.
4- حاشية الإرشاد: 205 (مخطوط).
5- المسالك 124:3.
6- الروضة 309:1.
7- النهاية 105:2.
8- تقدّم القسم الثاني في ص 151.

و هذا بهذا العنوان الكلّي غير مذكور في كلام الأصحاب، و لم يساعد على تحريمه على الوجه الكلّي أيضاً دليل، بل الدليل في غالب موارده في عدم المنع و التحريم إذ ما من شيء من المبيعات إلّا و من شأنه أن يقصد منه غاية محرّمة، فلو كان ذلك مناطاً للمنع و تحريم المعاوضة لانسدّ باب أكثر عقود المعاوضة في غالب مواردها و أنّه باطل بالضرورة، بل المذكور في كلامهم نوع خاصّ منه و هو بيع السلاح لأعداء الدين، و لذا ذكر بعض مشايخنا(1) رحمهم الله بعد ما أخذ العنوان على الوجه الّذي ذكرناه:

و تحريم هذا القسم مقصور على النصّ ، إذ لا يدخل ذلك تحت الإعانة خصوصاً مع عدم العلم بصرف الغير إيّاه في الحرام.

و كيف كان فكلمات الأصحاب في تحريم بيع السلاح لأعداء الدين من حيث الإطلاق و التقييد بأحد الوجوه الآتية مختلفة، و أقوالهم فيه مضطربة متشتّتة:

فمنهم من أطلق القول بتحريمه كما في الشرائع(2) و عزي إلى جماعة من القدماء كالشيخين في المقنعة(3) و النهاية(4) و سلّار(5) و الحلبي(6) و غيرهم(7) بل عن حواشي الشهيد(8) أنّ المنقول أنّ بيع السلاح حرام مطلقاً في حال الحرب و الصلح و الهدنة، لأنّ فيه تقوية الكافر على المسلم فلا يجوز على كلّ حال.

و منهم من قيّده بأحد اُمور ثلاث: قصد الإعانة، أو قيام الحرب، أو التهيّؤ له كما في عبارة المسالك(9).

و قد يقيّد بأحد القيدين الأوّلين على معنى كون التحريم إمّا في صورة الإعانة أو في حال الحرب. و ربّما اكتفى في التقييد بقصد الإعانة فقط. و ربّما اقتصر على قيام الحرب فقط.

و ربّما اعتبر الأمران معاً على معنى الجمود في التحريم على صورة قيام الحرب مع

ص: 170


1- المكاسب للشيخ الأنصاري 147:1.
2- الشرائع 9:2.
3- المقنعة: 588.
4- النهاية: 365.
5- المراسم: 170.
6- الكافي في الفقه: 282.
7- كما في السرائر 216:2، و في كشف الرموز 439:1.
8- حاشية الشرائع: 326.
9- المسالك 123:3.

قصد الإعانة.

و ما أبعد بينه و بين ما نسب إلى الشيخ النجفي في شرحه للقواعد(1) من التعدّي من السلاح إلى كلّ ما يتقوّى به الكفر من الأطعمة و الأشربة و الألبسة و غيرها، فقال بتحريم بيع الكلّ من أعداء الدين من الكفّار و المشركين.

و قيل: لعلّ وجهه الإعانة على إثم الحرب مع المسلمين. فردّ بأنّ المعتبر في صدق الإعانة قصدها و حصول المعان عليه و الشرط غير متحقّق هنا.

و يقوّى في النظر كون مستنده توهّم العموم من رواية تحف العقول حيث ذكر فيه «و كذلك كلّ مبيع ملهوّ به، و كلّ منهيّ عنه ممّا يتقرّب به لغير اللّٰه عزّ و جلّ أو يقوى به الكفر و الشرك أو باب يوهن به الحقّ فهو حرام محرّم بيعه و شراؤه و إمساكه و ملكه وهبته و عاريته و جميع التقلّب فيه» فإنّ قوله: «باب يوهن به الحقّ » يعمّ ما ذكر.

و لكن يزيّفه أنّ هذا العموم ممّا لا عامل به من الأصحاب بل يشبه بكونه خلاف السيرة المستمرّة من عهد الرسول صلى الله عليه و آله و سلم و كلّ واحد من الأئمّة عليهم السلام لاستقرارها على حمل المسلمين إلى الكفّار و المشركين و سائر أعداء الدين ما يعيشون به من الأطعمة و الأشربة و الألبسة و غيرها من غير نكير و لا ردع من النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم و الأئمّة عليهم السلام مضافاً إلى أنّ في صحيح عليّ بن جعفر الآتي ما هو نصّ في الجواز.

و كيف كان فينبغي لاستعلام ما هو الحقّ من أقوال المسألة النظر في نصوصها، و هي من المطلق و المقيّد منها عدّة روايات: مثل صحيح عليّ بن جعفر المرويّ عن كتاب مسائله و عن قرب الإسناد عن أخيه موسى عليه السلام قال: «سألته عن حمل المسلمين إلى المشركين التجارة ؟ قال: إذا لم يحملوا سلاحاً فلا بأس»(2) و ما رواه الصدوق بإسناده عن جعفر بن محمّد عن آبائه عليهم السلام في وصيّة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لعليّ عليه السلام قال: «يا عليّ كفر باللّٰه العظيم من هذه الاُمّة عشرة أصناف... إلى أن قال: و بائع السلاح من أهل الحرب»(3) و هذا كمفهوم الأوّل من جهة الإطلاق يعمّ حال الحرب و غيرها من حال

ص: 171


1- شرح القواعد 162:1.
2- الوسائل 6/103:17، ب 8 ما يكتسب به، مسائل عليّ بن جعفر: 320/176.
3- الوسائل 7/130:17، ب 8 ما يكتسب به، الفقيه 821/257:4.

الهدنة و المباينة، بناءً على إرادة ما يقابل أهل الذمّة من أهل الحرب و هم الّذين لا يلتزمون شرائط الجزية و إن كانوا لا يتعرّضون المسلمين بالقتال و المحاربة.

و في مقابلهما رواية أبي بكر الحضرمي قال: «دخلنا على أبي عبد اللّه عليه السلام فقال له حكم السرّاج: ما تقول فيمن يحمل إلى الشام السروج و أداتها؟ فقال: لا بأس أنتم اليوم بمنزلة أصحاب رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم إنّكم في هدنة، فإذا كانت المبائنة حرم عليكم أن يحملوا إليهم السروج و السلاح»(1) و رواية هند السرّاج قال: «قلت لأبي جعفر عليه السلام:

أصلحك اللّٰه أنّي كنت أحمل السلاح إلى أهل الشام فأبيعه منهم، فلمّا عرّفني اللّٰه هذا الأمر ضقت بذلك و قلت: لا أحمل إلى أعداء اللّٰه، فقال لي: احمل إليهم و بعهم، فإنّ اللّٰه يدفع بهم عدوّنا و عدوّكم - يعني الروم - فإذا كانت الحرب بيننا فلا تحملوا، فمن حمل إلى عدوّنا سلاحاً يستعينون به علينا فهو مشرك»(2) و صريحه كالأوّل اختصاص الحكم بصورة المبائنة المقابلة للهدنة و هو صلح المسلمين مع أهل الحرب على ترك الحرب إلى مدّة معيّنة، فتكون بمعنى ارتفاع الصلح أو انقضاء زمانه، و لا يكون إلّا بعزم أهل الحرب على قتال المسلمين و تهيّؤهم له و إن لم يتحرّكوا عن مقرّهم و أوطانهم بعد.

فوجب الخروج من إطلاق الأوّلين بحملهما عليهما من باب حمل المطلق على المقيّد دفعاً للمعارضة الظاهرة.

فالمحصّل من المجموع بعد إعمال الجمع بين المطلقات و المقيّدات هو حرمة بيع السلاح لأهل الحرب من أعداء الدين في حال المبائنة و ارتفاع الهدنة و الصلح الّذي يتحقّق بالعزم على قتال المسلمين و التهيّؤ له و إن لم يتشاغلوا به بعد، بل و لم يخرجوا عن منازلهم و أوطانهم كما يرشد إليه الخبران الأوّلان لتضمّنهما النهي عن حمل السلاح إلى الشام عند صيرورة المبائنة و الحرب. فما تقدّم من الجماعة: من إطلاق القول بالتحريم حتّى في صورة الهدنة و الصلح و لا سيّما الشهيد في حواشيه(3) لصراحة كلامه

ص: 172


1- الوسائل 1/101:17، ب 8 ما يكتسب به، الكافي 1/112:5.
2- الوسائل 2/101:17، ب 8 ما يكتسب به، الكافي 2/112:5.
3- حاشية الشرائع: 326.

فيه، غير صحيح، لكونه طرحاً للمقيّدات من روايات المسألة.

و أمّا التقييد بحال الحرب أو قيامه في كلامه الآخرين، فإن أرادوا بحال الحرب أو قيامه ما يرجع إلى ما استظهرناه من الخبرين فمرحباً بالوفاق، و إن أرادوا به خصوص حال التشاغل به أعني وقوع المعركة أو ما يقرب منه كتلاقي الفئتين و تقابلهما للمعركة فهو خروج من إطلاق نصوص المسألة بلا شاهد عليه، لما عرفت من أنّها بعد إرجاع مطلقاتها إلى مقيّداتها تفيد المنع و التحريم في أزيد من ذلك.

و أمّا من اعتبر القصد إلى الإعانة في محلّ التحريم فإن اعتبره مع قيام الحرب بالمعنى المذكور كما عرفت القول به فهو أيضاً تقييد بلا دليل فينفيه الإطلاق، و إن أراد به الاكتفاء به في محلّ التحريم و لو مع عدم قيام الحرب ففيه: أنّ قصد الإعانة من دون ترتّب المعان عليه ممّا لا تأثير له في الحكم، و مع ذلك فهو طرح لما دلّ على الاختصاص بصورة قيام الحرب و المباينة من الخبرين.

فروع:

الأوّل: لا فرق في محلّ التحريم بين كون أعداء الدين من فرق الكفر كالمشركين و غيرهم،

أو من المسلمين كالخوارج الّذين يخرجون على إمام العصر و يستحلّون قتاله - كخوارج صفّين و النهروان و أصحاب الجمل الموسومين بالقاسطين و المارقين و الناكثين - كما نصّ عليه في المسالك(1). و الدليل على ذلك أوّلاً: عموم أهل الحرب في وصيّة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لعليّ عليه السلام بناءً على كون المراد من الحرب معناه اللغوي المقيّد بصورة المبائنة لا خصوص من لا يلتزم بشرائط الذمّة من الكفّار. و ثانياً: روايتا السرّاجين لاختصاص موردهما بأهل الشام و هم في زمان الصدور كانوا يعدّون من المسلمين.

الثاني: هل يلحق بأعداء الدين قطّاع الطريق ؟

كما صرّح به في المسالك(2) أيضاً وجهان: من الاقتصار على مورد النصّ حذراً عن القياس، و من عموم تحريم الإعانة على الإثم. و هذا أوجه، و لكن وجب تقييده حينئذٍ بقصد الإعانة و تعقّبه بحصول المعان عليه و هو إثم قطع الطريق، لما ذكرناه مراراً من عدم صدق عنوان الإعانة على الإثم إلّا بتحقّق الشرطين، أمّا الأوّل فلأنّ المصداق المشترك بين عنوانين لا يتعيّن لأحدهما إلّا

ص: 173


1- المسالك 123:3.
2- المسالك 123:3.

بقصد التعيين و هو قصد العنوان، و أمّا الثاني فلانتفاء الأمر النسبي بانتفاء أحد المنتسبات، و لذا لا يقال على من قصد الإعانة على الإثم و لكن لم يترتّب عليه حصول الإثم أنّه أعانه على الإثم، فهذا ليس بإعانة بل قصد إعانة، و من المعلوم عدم لحوق قصد الشيء به في الحكم.

الثالث: يلحق السروج بالسلاح في الحكم، لصراحة رواية حكم السرّاج فيه.

و في لحوق ما يتوقّى العدوّ نفسه من القتل من الجثّة و الخود و الدرع و نحوهما وجهان: من الجمود على موضع النصّ و هذا غير مذكور فيه فيكون التعدّي قياساً، و من الأولويّة بالقياس إلى السرج لأنّه أدخل في استقرار الحرب و الإقدام عليه من السرج. و هذا أوجه لا لمجرّد الأولويّة لكونها ظنّيّة بما لا يبلغ حدّ الاطمئنان، بل للتعليل المستفاد ممّا في ذيل رواية هند السرّاج من قوله عليه السلام: «فمن حمل إلى عدوّنا سلاحاً يستعينون به علينا فهو مشرك»(1) نظراً إلى أنّ توصيف موضوع الحكم بالوصف المناسب للحكم يفيد علّيّة الوصف، فهو كمنصوص العلّة. فحاصل ما يستفاد من الوصف كون المناط ما به يتقوّى العدوّ على المسلم فيندرج فيه ما نحن فيه. و من ذلك ظهر لحوق الفرس أيضاً بل هو أولى بالحكم من السرج جزماً، و أمّا لباس الفرس كالتمتام بكسر التاء و نحوه فلحوقه مشكل بل الظاهر عدمه حذراً عن القياس، مع انتفاء الأولويّة و المناط المذكور فيه كما لا يخفى.

الرابع: هل البيع من أعداء الدين حيث يحرم فاسد أيضاً أو لا؟

قولان، حكاهما في المسالك(2) و اختار أوّلهما تمسّكاً بالنهي لتعلّقه بالمعوّض. و فيه: أنّ كبرى هذه القاعدة ممّا لا كلام فيه على معنى أنّ اقتضاء النهي عن المعاملة باعتبار أحد العوضين الفساد مسلّم لكشفه عن عدم صلاحية المورد للتمليك و التملّك، و الكلام إنّما هو في الصغرى و هو كون ما نحن فيه من النهي المتعلّق بالمعاملة باعتبار أحد العوضين لذاته، لأنّ الظاهر المنساق من نصوص المسألة و لا سيّما ما في رواية هند من وصف السلاح بكونه ما يستعان به أي يتقوّى به العدوّ، و هذا كما ترى أمر خارج، فالنهي إنّما تعلّق ببيع

ص: 174


1- الوسائل 2/101:17، ب 8 ما يكتسب به.
2- المسالك 123:3.

السلاح و غيره باعتبار هذا الأمر الخارج، و مثله لا يقتضي الفساد.

نعم يمكن إثبات الفساد ممّا في رواية التحف من قوله عليه السلام: «و ملكه» بالتقريب الّذي قدّمناه مراراً من كون المراد تحريم ترتيب جميع آثار الملكيّة، و لا يكون إلّا من جهة انتفاء الملكيّة. هذا، و لكن في النفس بعد شيء لظهوره في انتفاء الملكيّة عن الشيء في نفسه، و ما نحن فيه ليس من هذا القبيل، و المقصود إثبات الفساد في المبيع بهذا البيع لا مطلقاً، و إلّا فلا إشكال في أنّه مع قطع النظر عن هذا البيع ملك و يملك في غير هذه الصورة من البيوع.

ص: 175

الباب الثالث فيما لا ينتفع به من الأشياء

اشارة

كالحشرات و فضلات الإنسان و ما يلحق بهما من المسوخ و السباع، و التعبير عن العنوان بما سمعت كما وقع في كلام جماعة بل الأكثر، كالمبسوط(1) و الغنية(2)و الوسيلة(3) و الشرائع(4) و النافع(5) و التذكرة(6) و القواعد(7) و السرائر(8) و الإرشاد(9)و الكفاية(10) و غيرها(11). و في الدروس(12) التعبير عنه بما لا نفع مقصوداً منه للعقلاء كالحشار و فضلات الإنسان، و في معناه ما في المستند من التعبير «ممّا لا يكون فيه نفع معتدّ به عند العقلاء»(13) و في اللمعة التعبير «بما لا نفع فيه غالباً كالحشرات و فضلات الإنسان»(14) و المعنى عند الكلّ واحد.

و ما يتراءى من العبارات المذكورة اختلاف في التعبير لا في المعنى لرجوع عبارة المطلقين إلى المقيّد المصرّح به في كلام الآخرين أعني ما لا يكون فيه نفع مقصود للعقلاء سواء لم يكن فيه نفع أصلاً أو كان و لم يكن مقصوداً للعقلاء. و إليه يرجع أيضاً النفع الغالب قبالاً للنفع النادر، إذ ليس المراد بغلبة النفع و ندرته غلبة أو ندرة وجوده و لا غلبة أو ندرة اتّفاق الحاجة إليه، بل غلبة أو ندرة قصده و طلبه، فإنّ المنفعة عبارة

ص: 176


1- المبسوط 166:2.
2- الغنية: 213.
3- الوسيلة: 248.
4- الشرائع: 248.
5- النافع: 116.
6- التذكرة 35:10.
7- القواعد 6:2.
8- السرائر 220:2.
9- الإرشاد 357:1.
10- الكفاية: 85.
11- كما في المسالك 125:3، مجمع البرهان 53:8.
12- الدروس 163:3.
13- المستند 101:14.
14- اللمعة: 63.

عن الفائدة المطلوبة أي المقصودة من الشيء و لا بدّ له من طالب و قاصد و هو قد يكون الغالب من العقلاء و قد يكون البعض النادر منهم.

و بعبارة اُخرى أنّ الفائدة الموجودة في الشيء إن كان ممّا يعتدّ به و يعتني إليه غالب العقلاء فهو النفع الغالب، و إن كان بحيث لا يعتدّ و لا يعتني به إلّا البعض النادر منهم فهو النفع النادر، و الّذي يشهد بذلك كلّه أنّ الجميع على اختلاف عبائرهم مثّلوا للعنوان بالحشرات، و منهم من أضاف إليها فضلات الإنسان، و منهم من أضاف إليها جملة من المسوخ و السباع كلّها أو بعضها. و لذا ترى ما في كلام جماعة من منع جواز بيع القردة لفائدة حفظ المتاع تعليلاً بأنّه منفعة نادرة أي ندرة من يطلب هذه المنفعة من العقلاء، و نحوه من منعه في دود القزّ لفائدة صيد السمك تعليلاً بالندرة. و من ثمّ أيضاً قال العلّامة في التذكرة - بعد ما ذكر لما لا ينتفع به أمثلة من الحشرات -: «و لا اعتبار بما يورد في الخواصّ من منافعها، فإنّها مع ذلك لا تعدّ مالاً»(1) فإنّ مراده أنّ هذه الخواصّ في الأشياء المذكورة منافع لا يقصدها العقلاء أي لا يعتني بها غالبهم بدليل أنّهم لا يعدّون هذه الأشياء مع هذه الخواصّ أموالاً حيث لا يعتبرون لها قيمة بل لا قيمة لها عندهم و لا يقابلون لها بالمال إلّا نادراً.

و لا ينافي ما ذكرناه ما قد يوجد في كلامهم من التمثيل لما لا ينتفع به بغير الحشرات كما في الشرائع(2) حيث مثّل بالمسوخ برّيّة كانت أو بحرّية و بالسباع، لأنّ هذا منه مبنيّ على كلام صغروي تتعرّض له فيما بعد ذلك إن شاء اللّٰه، و هو أنّ المسوخ و السباع أيضاً كالحشرات ليس فيها منفعة غالبة مقصودة للعقلاء أوّلاً، فما سمعت بناءً منه فيها على العدم.

و بالجملة محلّ المنع في هذا الباب الأشياء الّتي ليس فيها منفعة غالبة مقصودة للعقلاء و إن فرض في بعضها منفعة نادرة غير مقصودة لهم كالفضلات و الحشرات من الحيوانات كالفار و العقارب و الحيّات و الخنافس و الجعلان و بنات وردان(3) و الديدان

ص: 177


1- التذكرة 35:10.
2- الشرائع 10:2.
3- ما يقال له بالفارسيّة سوسك و يكون في الحمّامات و بيوت التخلّي. منه.

و القنافذ و اليرابيع و النمل و الزنبور و البعوضة و البق و القمّل و البرغوث و ما يلحق بها كالخفّاش الّذي يطير بالليل.

و يرجع الحكم عليها بعدم جواز التكسّب بها و عدم صحّة المعاملة عليها إلى بيان أنّ من شروط صحّة البيع و غيره من عقود المعاوضة اشتمال المورد على منفعة معتدّ بها عند العقلاء و هو النفع الغالب المقصود لهم.

و إذا تمهّد هذا فينبغي التكلّم في مقامين:

المقام الأوّل: في الحكم الكبروي للأشياء الغير المنتفع بها جزماً
اشارة

فنقول: المعروف من مذهب الأصحاب فيما لا ينتفع به من الأشياء - كالمذكورات - هو عدم جواز التكسّب بها و عدم صحّة المعاملة عليها مطلقاً بلا خلاف يظهر، بل الظاهر المظنون القويّ المتاخم للعلم إن لم ندّع القطع أنّه إجماعي كما صرّح به في الرياض(1) و نصّ عليه بقسميه في الجواهر(2).

و صرّح الشيخ في موضع من المبسوط بعدم الخلاف فيه حيث إنّه في حكم ما يصحّ بيعه و ما لا يصحّ قال: «الأشياء على ضربين حيوان أو غير حيوان، و الحيوان على ضربين آدمي و بهيمة... إلى أن قال: و ما ليس بآدمي من البهيمة فعلى ضربين نجس و طاهر... إلى أن قال: و أمّا الطاهر فعلى ضربين ضرب ينتفع و الآخر لا ينتفع به...

إلى أن قال: و إن كان ممّا لا ينتفع به فلا يجوز بيعه بلا خلاف مثل الأسد و الذئب و سائر الحشرات من الحيّات و العقارب و الفار و الخنافس و الجعلان و الحدأة و النسر و الرخمة و بغاث الطير و كذلك الغربان سواء كان أبقع أو أسود... إلى آخر ما ذكر. و في موضع آخر بعيد ذلك بأسطر صرّح بالإجماع قائلاً: «كلّما ينفصل من آدمي من شعر و مخاط و لعاب و ظفر و غيره لا يجوز بيعه إجماعاً، لأنّه لا ثمن له و لا منفعة فيه»(3) الخ.

لا يقال: هذا مخصوص بفضلات الإنسان و لا يتعدّاها إلى غيره. لإمكان تعدية الحكم أوّلاً بالإجماع المركّب، و ثانياً بتنقيح المناط لوضوح أنّ مناط الحكم كما يظهر من تعليله انتفاء الثمن على معنى عدم قيمة لهذه الأشياء في العرف و العادة و عدم

ص: 178


1- الرياض 147:8.
2- الجواهر 34:22.
3- المبسوط 165:2-167.

المنفعة، و كلّ منهما موجود في الحشرات و ما يلحق بها من السباع و المسوخ، و ثالثاً ظهور كون الإجماع المذكور إجماعاً على الحكم و العلّة معاً على معنى كونه نقلاً للكاشف عن قول المعصوم في كليهما فتكون نوعاً من العلّة المنصوصة و هي حجّة.

و يظهر دعوى الإجماع أيضاً من تذكرة العلّامة و من التنقيح، أمّا الأوّل فلأنّه قال:

«لا يجوز بيع ما لا ينتفع به من الحيوانات كالخفّاش و العقارب و الحيّات و بنات وردان و الجعلان و القنافذ و اليرابيع، لخسّتها و عدم التفات نظر الشارع إلى مثلها في التقويم و لا يثبت الملكيّة لأحد عليها و لا اعتبار بما يورد في الخواصّ من منافعها فإنّها مع ذلك لا تعدّ مالاً و كذا عند الشافعي»(1) الخ فإنّ قوله «و كذا عند الشافعي» يفيد كون لفظ «عندنا» مطويّاً قبل ذلك في العبارة بل ربّما يفيد كون الاتّفاق عند الأصحاب على الحكم في الوضوح بحيث لا يحتاج إلى التصريح به في الكلام.

و أمّا الثاني فلأنّه عند بيان حكم ما يصحّ بيعه من الأشياء و ما لا يصحّ فإنّه بعد ما قسّم الأشياء إلى ما لا منفعة فيه أصلاً و إلى ما فيه منفعة و قسّم الثاني إلى ما يكون جميع منافعه محلّلة و ما يكون جميع منافعه محرّمة و ما بعض منافعه محرّمة و بعضها محرّمة على ما حكي ذكر «أنّ الأوّل من هذه الأقسام يجوز بيعه و الثاني يجوز بيعه إجماعاً و الثالث لا يجوز إجماعاً»(2) فهو ملحوق بمعدوم المنفعة فإنّ ذلك يدلّ على كون معدوم المنفعة أيضاً إجماعيّاً. و هذا ربّما يعطي دعوى الإجماع في معدوم المنفعة على وجه أبلغ من التصريح به لأنّ اللحوق يقتضي كون الملحوق به أصلاً و الملحوق فرعاً، فيكون الإجماع على الفرع من جهة الإجماع على الأصل، أو أنّ الأصل أولى بالإجماع.

و هذه الإجماعات إن لم نقل بحجّيّة كلّ واحد من حيث إنّه إجماع فلا أقلّ من أنّه يحصل من ملاحظة مجموعها مع اعتضادها بما ذكرناه من ظهور عدم الخلاف، بل ظهور الإجماع الظنّ القويّ البالغ حدّ الاطمئنان بالحكم، و عليه مدار الاستنباط عندنا غالباً هذا.

ص: 179


1- التذكرة 35:10.
2- التنقيح 10:2.

و يدلّ عليه أيضاً وجوه اُخر:

منها: أنّ هذه الأشياء لا يثبت عليها الملكيّة لأحد كما نصّ عليه فيما سمعت من التذكرة، فلا يجري عليها البيع و غيره من عقود المعاوضة لاشتراط الملكيّة في صحّتها، أمّا الصغرى فيكفي في إحرازها الأصل لأنّ الملكيّة في الأملاك صفة حادثة، و الأصل عدم حدوثها في هذه الأشياء بشيء من أسبابها حتّى الحيازة.

لا يقال: إنّ الأصل بالنسبة إلى الحيازة منقطع بعموم قوله عليه السلام: «لليد ما أخذت».

لأنّ عامّ في مورده و المقام ليس من مورده لاعتبار قابليّة التملّك في مورده فهو عامّ في الأشياء القابلة لأن يحدث فيها الملكيّة، و نحن نشكّ في عروض صفة الملكيّة لهذه الأشياء باعتبار الشكّ في قابليّتها للتملّك. فالأصل المذكور ممّا لا وارد عليه من جهة هذه الرواية إذ القابليّة لا تحرز بها، على أنّه يمكن إثبات عدم القابليّة فيها بملاحظة العرف و العادة - أعني عادةً الناس و عامّة العقلاء - لجريانها بأنّهم لا يتملّكون هذه الأشياء لخسّتها و عدم منفعة فيها تكون مقصودة للعقلاء و لا يرتّبون عليها آثار الملكيّة أصلاً، فتكون سيرة بينهم و ليست بحادثة بل قديمة ثابتة من عهد النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم و ما قبله و ما بعده من أعصار الأئمّة عليهم السلام و غيرها إلى يومنا، فتكون كاشفة عن تقرير المعصومين عليهم السلام الناس على معتقدهم و عملهم.

و منها: أنّ هذه الأشياء لا تعدّ أموالاً في العرف و العادة و لا يعتبر لها قيمة عند العقلاء، و ما قد يتّفق نادراً من التقويم و أخذ القيمة أو بذلها فهو لا يوجب الماليّة لعدم اعتناء الشارع بها بل هو في الحقيقة ليس تقويماً بل قد يقصد به رفع اليد فلا تصلح للتعويض فلا تجري عليها عقود المعاوضة و لا غيرها ممّا ينوط انعقاده بماليّة المورد، كما أشار إلى هذا الوجه في عبارة التذكرة كقوله: «و لا اعتبار بما يورد في الخواصّ من منافعها تعليلاً بأنّها مع ذلك لا تعدّ مالاً»(1).

و منها: أنّ التكسّب بهذه الأشياء معاملة سفهيّة، و هي خارجة من مقاصد العقلاء فلا يشملها عمومات الصحّة لاختصاصها بحكم التبادر بما يتداوله العقلاء.

ص: 180


1- التذكرة 35:10.

و قد استدلّ في الرياض بعد الاستناد إلى الإجماع بوجهين آخرين:

أحدهما: عموم أدلّة منع المعاملة مع السفيه.

و لا خفاء في ضعفه، أمّا أوّلاً: فلأنّ المستفاد من الأدلّة المشار إليها فساد المعاملة مع السفيه، نظراً إلى عدم نفوذ تصرّفاته الماليّة فتقع المعاملة من طرفه فاسدة، فتفسد من الطرف الآخر لا منعها إن أراد به الحرمة.

و أمّا ثانياً: فلأنّ مورد هذه الأدلّة إنّما هو السفيه الملكي، و هو أن تكون السفاهة حالة نفسانيّة له و لم يعتبر في موضوع المسألة كون طرف المعاملة سفيهاً بهذا المعنى، غاية ما هنالك كون فعله من البيع أو الشراء أو بذل الماء بإزاء هذه الأشياء لخسّتها فعلاً سفهيّاً، و الأفعال السفهيّة لا يلزمها التحريم بل غاية ما فيها كونها من منافيات المروّة، و لم يؤخذ فيها كونها من المعاصي الصغيرة و إن كانت قد تكون منها كالتطفيف بحبّة مثلاً و سرقة الحبّة كذلك، و لا دليل على كون هذا الفعل السفهي الخاصّ معصية صغيرة إلّا حيث يندرج في عنوان التبذير.

و أضعف من هذا الوجه ثانيهما و هو ما محصّله «أنّ تصرّفات السفيه محرّمة فالمعاملة معه إعانة على الإثم فتحرم»(1).

و فيه: منع كلّ من الصغرى و الكبرى، أمّا الأوّل:

فأوّلاً: لمنع التحريم في تصرّفات السفيه، بل أقصاها عدم نفوذها إذا كانت ماليّة.

و ثانياً: ما مرّ من عدم كون البحث في السفيه الملكي بل في البالغ الكامل إذا صدر منه المعاملة على ما لا ينتفع به من الأشياء، و لا يلزم من صدور الفعل السفهي من الكامل كونه سفيهاً ملكيّاً فلا يشمله ما دلّ على حرمة تصرّفات السفيه.

و أمّا الثاني: فلمنع صدق الإعانة على الإثم مع انتفاء قصدها.

و قد يستدلّ أيضاً بكون أكل المال المأخوذ في مقابل هذه الأشياء أكلاً للمال بالباطل فيحرم بنصّ الآية، كما حكي عن القطيفي في إيضاح النافع(2).

و يشكل ذلك: بإمكان المنع لأنّ كونه أكلاً للمال بالسبب الباطل نظير القمار

ص: 181


1- الرياض 147:8.
2- نقله عنه في مفتاح الكرامة 133:14.

و السرقة و الغصب و الظلم و العقد الفاسد أوّل المسألة، فيندرج المقام في مستثنى الآية لا في المستثنى منه.

و دعوى: أنّ اندراجه في المستثنى موقوف على كون التراضي المتحقّق فيه ممّا أمضاه الشارع، و هو موضع منع، فيندرج في عموم المستثنى منه كما في البيع الربوي و البيع للميتة و بيع الخمر و ما أشبه ذلك.

يدفعها: بأنّا إنّما التزمنا عدم إمضاء الشارع للتراضي في الأمثلة المذكورة و نظائرها لأدلّتها الدالّة على منع الشارع لها من النصّ و الإجماع، و ليس في المقام دليل على المنع و التحريم بالخصوص من نصّ و لا غيره، فيندرج في إطلاق المستثنى و هذا كافٍ في الدلالة على الإمضاء، إلّا أن يتشبّث في إحراز صغرى الأكل بالباطل بالإجماع المتقدّم محصّلاً و منقولاً و يقال: إنّه لدلالته على فساد المعاملة يستلزم كون المال المأخوذ بسببها أكلاً للمال بالباطل، أو يتمسّك بانتفاء الماليّة في نظر العقلاء فيكون أخذها عوضاً في عقود المعاوضة أكلاً للمال بالباطل.

و بالتأمّل في ذلك يندفع أيضاً ما قد يستشكل فيما ذكره العلّامة من «أنّه لا اعتبار بما يورد في الخواصّ من منافعها فإنّها مع ذلك لا تعدّ مالاً»(1) بأنّه إذا اطّلع العرف على خاصيّة في إحدى الحشرات معلومة بالتجربة أو غيرها، فأيّ فرق بينه و بين نبات من الأدوية علم فيه تلك الخاصيّة، و حينئذٍ فعدم جواز بيعه و أخذ المال في مقابله بملاحظة تلك الخاصيّة يحتاج إلى دليل لأنّه حينئذٍ ليس أكلاً للمال بالباطل، و يؤيّد ذلك ما في رواية التحف من «أنّ كلّ شيء يكون لهم فيه الصلاح من جهة من الجهات، فذلك حلال بيعه و شراؤه» الخ.

و وجه الاندفاع وضوح الفرق بين المقامين و الفارق كون الخاصيّة في النباتات مقصودة للعقلاء على معنى اعتنائهم بها، بدليل أنّهم يتملّكونها لأجلها بالحيازة و نحوها و يجرون عليها أحكام الملك من الحفظ و الضبط و القنية و التقويم و كونها عندهم تعدّ مالاً بخلافها في الحشرات، و هذا هو معنى التعليل بما في عبارة التذكرة. و قضيّة انتفاء

ص: 182


1- التذكرة 35:10.

الماليّة كون أخذ الثمن أكلاً للمال بالباطل، و لا ينافيه ما قد يبذل العقلاء مالاً لتحصيل ذي الخاصيّة من الحشرات بصورة الاشتراء و نحوه لأنّه لرفع يد المتصرّف عنه و إسقاط حقّه. و أمّا التأييد بالرواية ففيه المنع، لظهور الصلاح لهم في المصلحة المقصودة للعباد بدليل ضمير الجمع الظاهر في جميعهم.

كما يندفع أيضاً ما قد ينقض تعليل المنع في ذوات المنافع النادرة من الحشرات و غيرها بندرة منافعها بالعقاقير و غيرها من الأدوية للاشتراك في الندرة، لما بيّنّاه سابقاً من ضابط غلبة النفع و ندرته، فالخاصيّة و إن كانت متّحدة بحسب النوع فيهما إلّا أنّها في العقاقير مقصودة للعقلاء و في الحشرات غير مقصودة لهم.

تذنيبات:
أحدها: انّ عدم الانتفاع بالشيء فيما لا ينتفع به قد يكون لعدم وجود منفعة مقصودة للعقلاء في نوع ذلك الشيء لخسّته كالحشرات على ما تقدّم،

و قد يكون لعدم حصول المنفعة المقصودة من النوع فيه لقلّته كالحبّة من الحنطة و العودة من الحطب و ما يقرب منهما، و هما سيّان في منع التكسّب كما صرّح به جماعة(1) و هو ظاهر آخرين، إمّا لإطلاق ما لا ينتفع به في معاقد فتاويهم و إجماعاتهم، أو تعليلاتهم للحكم بعدم القيمة و انتفاء الماليّة، و من ذلك ما سمعت من التذكرة من تعليل الحكم «بعدم التفات نظر الشارع إلى مثلها في التقويم» نظراً إلى أنّ المراد به عدم قيمة لها التفت إليها الشارع كما يكشف عن إرادة ذلك ما في ذيل العبارة من قوله: «فإنّها مع ذلك لا تعدّ مالاً» و نحوه ما تقدّم في عبارة المبسوط من تعليل عدم جواز بيع ما ينفصل من الإنسان من الفضلات المدّعى عليه الإجماع «بأن لا ثمن له أي لا قيمة له»(2) في العرف و العادة. و هذه التعليلات كما ترى تجري في نحو الحبّة و العودة.

فإن قلت: جريان التعليلات هنا محلّ منع، لوضوح الفرق بين ما لا ينتفع به لقلّته و الحشرات، فإنّ الأوّل له قيمة في الواقع و إن لم يكن لقيمته مصداق في الخارج و ذلك

ص: 183


1- كما في الغنية: 213، السرائر 332:2، الإرشاد 357:1، مجمع البرهان 53:8، المسالك 165:1.
2- المبسوط 167:2.

لأنّ الحبّة و العودة بعض من الكلّ و هو عبارة عن الهيئة الحاصلة من انضمام الأبعاض بعضها إلى بعض و له قيمة متقوّمة بتلك الهيئة، فيكون لكلّ من أبعاضه قيمة بنسبة قيمة الكلّ ، غاية الأمر أنّه قد يبلغ البعض في القلّة إلى ما لا وجود لقيمته، و على هذا فلكلّ من الحبّة و العودة قيمة بخلاف الحشرات الّتي لا قيمة لأصل نوعها حتّى في ضمن الكثير.

قلت: المقصود من التعليلات التنبيه على انتفاء الماليّة و عليها مدار الصحّة، و لا ريب أنّ الحبّة و العودة لا تعدّ مالاً في نظر العقلاء و لا تقابل بالمال و إن فرض لها قيمة بحسب الواقع.

لا يقال: إنّ من العقود الصحيحة بالنصّ و الإجماع بيع المحاباة و صلح المحاباة، و من المعلوم أنّ المحاباة كما تجري في جانب البائع و هو أن يبيع عينه بأقلّ من ثمن المثل، فكذلك تجري من جانب المشتري و هو أن يشتري العين بأزيد من ثمن المثل، و من الجائز أن يبذل المشتري في الحبّة و العودة في مقابلها من الثمن ما يمكن(1)عنه و يوجد في الخارج، غاية الأمر كونه أزيد من قيمة المثل و لا ضير فيه لكونه حينئذٍ من بيع المحاباة أو صلح المحاباة من طرف المشتري أو المتصالح و هو صحيح.

لأنّا نقول: إنّ العقد في محلّ المحاباة بيعاً أو صلحاً إنّما يصحّ لكون العين ممّا يحصل فيه المنفعة المقصودة من النوع، و ضابطه عدم كون المعاملة سفهيّة بعدم كون بذل المال بإزائها فعلاً سفهيّاً، و مفروض المقام عدم حصول المنفعة المقصودة من النوع في الشخص فيكون بذل المال في مقابل العين حينئذٍ سفهاً.

ثانيها: قد يلحق بما لا قيمة له لخسّته أو لقلّته ما ليس له قيمة لكثرته كالقربة من الماء في شاطئ النهر أو ساحل البحر،

و المنّ من الحطب مثلاً في الغابات، و باقة من الحشيش في صحراء ذات حشيش، و باقة قصب في الآجام، فإنّ هذه الأشياء أيضاً لا تقابل بالمال لكثرة أمثالها، فينبغي أن لا يصحّ فيها البيع و لا غيره من أنواع التكسّب.

و فيه: نظر، لمنع إطلاق الحكم و اطّراده، فإنّ الجهة المقتضية للمنع في المقام إمّا الإجماع محصّلاً و منقولاً، أو انتفاء المقصودة للعقلاء، أو عدم الملكيّة، أو عدم الماليّة،

ص: 184


1- هنا كلمة غير مقروءة.

أو سفهيّة المعاملة. و الأوّل لا يتمشّى في المقام لأنّ معقد الإجماع بقسميه إنّما هو ما لا ينتفع به، و هذا ممّا ينتفع به لأنّ المنفعة المقصودة من النوع حاصلة بعينها في الشخص. و من ذلك علم عدم تمشّي الثاني أيضاً. و الثالث أيضاً لا يتمشّى لضرورة أنّه يتملّك بالحيازة. و كذلك الرابع فإنّه مال عند العقلاء و له قيمة، غاية ما هنالك عدم بذلهم المال في الغالب لتحصيله لتيسّر بالحيازة و الأخذ من النهر أو البحر أو الآجام أو حشاش الأرض أو نحو ذلك، لا أنّه في نفسه ليس. و الخامس يتفاوت بحسب اختلاف الأشخاص و حالات شخص واحد بحسب الأزمنة و الأوقات، فالحكم منعاً و جوازاً يدور على سفهيّة بذل المال في مقابله وجوداً و عدماً، فإطلاق المنع غير جيّد جدّاً.

و ثالثها: قال في التذكرة: «أمّا العلق ففي بيعه لمنفعة امتصاص الدم إشكال،

و أظهر وجهي الشافعي و أحمد الجواز(1) و كذا ديدان القزّ تُترك في الشصّ (2) فيصاد بها السمك، و الأقرب عندي المنع و هو أحد الوجهين لهما، لندور الانتفاع فأشبه ما لا منفعة فيه، إذ كلّ شيء فله نفع ما»(3).

أقول: استقراب المنع في العلق غير جيّد، لأنّ مصّ الدم لاستعلاج جملة من الأمراض الدمويّة الصعبة منفعة يقصدها العقلاء و يعتنون بها و يقابلونه لأجلها بالمال بل يعدّونه مالاً و يتملّكونه بالأخذ من الماء من غير نكير و لا تسفيه لفاعله، و من أقوى الشاهد عدم كون المعاملة لأجلها و بذل المال في مقابله سفهيّة، فيندرج في عمومات الجواز و الصحّة.

المقام الثاني: فيما يرجع الكلام فيه إلى الصغرى أعني الأشياء المختلف في كونها ممّا لا ينتفع به كالمسوخ و السباع،
اشارة

و فيه مقصدان:

المقصد الأوّل في المسوخ:

فاعلم أنّ هذا اللفظ بضمّ أوّله على زنة فعول جمع المسخ بفتح أوّله، نظير درس و دروس، و حرب و حروب، و درب و دروب، و بحر و بحور، و ما أشبه ذلك. و المسخ ورد مصدراً و اسماً.

ص: 185


1- المجموع 241:9، المغني 328:4، الشرح الكبير 10:4.
2- الشصّ : شيء يصاد به السمك (الصحاح 1043:3).
3- التذكرة 36:10.

و المصدر منه لغة تحويل الشيء من صورة إلى ما هو أقبح منها، يقال: مسخه اللّٰه قرداً. و محلّ البحث منه تحويله من الصورة الإنسانيّة إلى غيرها من صور الحيوانات.

و المراد بالأقبح الأقبحيّة الإضافيّة أعني كون الصورة المحوّل إليها أقبح من الصورة المحوّل منها و إن كانت بالقياس إلى سائر أنواع الصور المحوّل إليها أحسنها.

فلا يرد النقض بالطاوس الّذي هو من أحسن صور الطيور و هو من المسوخ كما ورد به رواية، كالمرويّ عن الكافي بإسناده عن سليمان الجعفري عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال: «الطاوس مسخ، كان رجلاً جميلاً فكابر امرأة رجل مؤمن تحبّه فوقع بها ثمّ راسلته بعد، فمسخهما اللّٰه طاوسين اُنثى و ذكراً، فلا يؤكل لحمه و لا بيضه»(1)فإنّ الصورة الطاوسيّة أقبح من الصورة الإنسانيّة و إن كانت فيما بين صور الطيور بل سائر المسوخ أيضاً لا قبح فيها بل كانت أحسنها.

و الاسم منه يطلق على المسوخات و لعلّه من باب النقل من المصدريّة إلى معنى اسم المفعول. و يقال: إنّ المسوخ جميعها لم تبق أكثر من ثلاثة أيّام ثمّ ماتت و لم تتوالد، و هذه الحيوانات على صورها سمّيت مسوخاً على الاستعارة.

و أمّا مصاديق المسوخ المتحقّقة في الخارج فهي كثيرة جدّاً، بل على ما في بعض الروايات أكثر من أن تحصى و لا يعرف أكثرها إلّا اللّٰه و من أوقفه اللّٰه من أوليائه، ففي حديث(2) «إنّ اللّٰه تبارك و تعالى مسخ سبعمائة اُمّة عصوا الأوصياء بعد الرسول فأخذ أربعمائة اُمّة منهم برّاً و ثلاثمائة بحراً، ثمّ تلا هذه الآية «فَجَعَلْنٰاهُمْ أَحٰادِيثَ وَ مَزَّقْنٰاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ » (3) الخ.

و المحقّق المجلسي في جلد سماء العالم من البحار - بعد ما أورد روايات كثيرة واردة في ضبط المسوخ و بيان علل مسخها - قال: «اعلم أنّ أنواع المسوخ غير مضبوطة في كلام أكثر الأصحاب بل أحالوها على هذه الروايات و إن كان في أكثرها ضعف على مصطلحهم، فالّذي يحصل من جميعها ثلاثون صنفاً: الفيل و الدبّ و الأرنب

ص: 186


1- الوسائل 6/106:24، ب 2 الأطعمة المحرّمة، الكافي 16/247:6.
2- الوسائل 9/107:24، ب 2 الأطعمة المحرّمة، الكافي 1/243:6.
3- سبأ: 19.

و العقرب و الضبّ و الوزغ و العظاية و العنكبوت و الدعموص و الجرّي و الوطواط و القرد و الخنزير و الكلب و الزهرة و سهيل و الطاوس و الزنبور و البعوض و الخفّاش [و الفأر] و القمّلة و العنقاء و القنفذ و الحيّة و الخنفساء و الزمير و المارماهي و الوبر و الورل لكن يرجع بعضها إلى بعض»(1) انتهى.

و ذكر في المجمع أنواعاً اُخر غيرها «كالذئب و الثعلب و اليربوع و السرطان و السلحفاة و النقعاء بالنون و القاف و العين المهملة»(2).

و في الشرائع(3) و التذكرة(4) و غيرهما ذكر أشياء اُخر كالضفادع و الطافي و التمساح و الدباء و هو نوع من الجراد إلّا أنّه من الممسوخ.

و قد رأينا التكلّم في هذه الأصناف و التعرّض لذكر الروايات المتعلّقة بها و بيان صفاتها و خواصّها هنا قليل الجدوى تطويلاً بلا طائل، مع خروجه من وظيفة الفقه، و المقصود الأصلي بيان ما يتعلّق بها من الأحكام المعلّقة على ما ينتفع به و ما لا ينتفع به.

فنقول: إنّ جميع المسوخ قسمان:

أحدهما: غير ذوات اللحوم كالعقرب و الزنبور و الخنفساء و العنكبوت و البعوض و القمّلة، و هذه ملحقة بما تقدّم من الحشرات في عدم نفع فيها أصلاً، و ما قد يحصل منه النفع كالخنفساء لما قيل من أنّ شحمها يجعل في دواء يتداوى به العين فهو نفع نادر لا يعتني به العقلاء، فلا ينبغي التأمّل في عدم جواز التكسّب بها و لا عدم إجراء ساير العقود عليها.

و ثانيهما: ذوات اللحوم و هذه أيضاً قسمان

: أحدهما:
اشارة

ما ليس لها جلود و لا عظام و لا شحوم يمكن الانتفاع بها كالحيّة و الخفّاش و الضبّ و الوزغ و العظاية و الوبر و الورل و الطاوس، و هذه أيضاً ملحقة بالحشرات لانتفاء النفع، إذ ليس فيها إلّا اللحم و هو محرّم الأكل. و إطعامه الكلاب المعلّمة و جوارح الطيور من الصقور و البازي و الشاهين و العقاب و إن أمكن و كان محلّلاً إلّا أنّه

ص: 187


1- البحار 230:65.
2- مجمع البحرين 201:4.
3- الشرائع 9:2-10.
4- التذكرة 34:10.

غير مقصود للعقلاء كما هو واضح. فمحلّ البحث البواقي إلّا الكلب و الخنزير لكونهما من الأعيان النجسة المتقدّم أحكامها مشروحة، فهما أيضاً خارجان عن محلّ البحث.

و من هنا علم أنّه لو قلنا بنجاسة ما عداهما من المسوخ كما نسب إلى الشيخ(1)و الديلمي(2) و ابن حمزة(3) كانت مندرجة في الأعيان النجسة و لا حاجة معه إلى التكلّم فيها بالخصوص لاتّضاح أحكامها فيما تقدّم، إلّا أنّ هذا القول مهجور قد استقرّ إجماع من تأخّر بخلافه. و ربّما قيل: أنّه يخالف ضروريّ المذهب بل الدين من طهارة المسوخ.

فنحن إنّما نتكلّم على طهارتها. و لقد عدّها في الشرائع(4) ممّا لا ينتفع به بل لم يذكر فيه و في النافع(5) له أمثلة إلّا المسوخ و السباع، و وافقه أكثر المتأخّرين(6) على ما قيل حيث بنوا في المسوخ على منع التكسّب بها. خلافاً لأكثر المتقدّمين(7)لمصيرهم فيها إلى الجواز، و ربّما عزي ذلك إلى أكثر أصحابنا تعليلاً بالانتفاع بها، و هو ظاهر عبارة التذكرة(8).

و يحتمل في كلام من جعلها ممّا لا ينتفع به وجوه: عدم نفع فيها أصلاً، كون جميع منافعها ساقطة في نظر العقلاء غير معتنى بها و لا ملتفت إليها لديهم، و كون منافعها بأجمعها ساقطة في نظر الشارع على معنى كونها محرّمة و كون منافعها الغالبة محرّمة ساقطة في نظر الشارع.

و يتطرّق المنع إلى كلّيّة جميع هذه الوجوه، فإنّها غير مسلّمة في شيء منها.

و توضيح المقام أنّ المنافع الملحوظة في هذه الحيوانات و لو بعضها، منها ما هي ملحوظة فيها حيّاً، و منها ما هي ملحوظة ميّتاً.

و الاُولى أنواع، منها: ما هو محرّم كاللعب بالقرد أو الدبّ يعلّمان و يلعب بهما.

و منها: ما هو محلّل، و لكنّه نادر غير ملتفت إليه عند غالب العقلاء، كحفظ المتاع الّذي يتأتّى من القردة المعلّمة أو الخياطة أو الصياغة و نحوها على ما حكي في صفتها

ص: 188


1- المبسوط 166:2، الخلاف 184:3.
2- المراسم: 170.
3- الوسيلة: 248.
4- الشرائع 10:2.
5- النافع: 116.
6- كما في الإيضاح 404:1، التنقيح الرائع 10:2، جامع المقاصد 19:4.
7- كما في النهاية: 364، الخلاف 184:3 المسألة 307، المراسم: 170.
8- التذكرة 35:10.

من أنّها ذكيّة سريعة الفهم، و قد أهدى ملك النوبة إلى المتوكّل قرداً خيّاطاً و آخر صائغاً، و أهل اليمن يعلّمون القردة القيام بحوائجهم حتّى أنّ البقّال و القصّاب يعلّم حفظ الدكّان حتّى يعود صاحبه و يعلّم السرقة فيسرق.

و منها: ما هو محلّل أيضاً، و لكنّه مشتبه حاله من حيث كونه نادراً أو غالباً مقصوداً للعقلاء، كالحمل في الفيل إذ لا يدرى غلبة تداوله بين أهالي بلاد الفيلة أو أنّه يتّفق نادراً.

و الثانية أيضاً أنواع، منها: ما يلاحظ في لحومها، و هذا منه ما هو محرّم كأكل الآدمي، و منه ما هو نادر غير مقصود للعقلاء كإطعام الكلاب المعلّمة و جوارح المعلّمة و جوارح الطيور.

و منها: ما يلاحظ في شحومها و لا سيّما من السموك منها كالجري و الزمّير و المارماهي لإمكان الانتفاع بها بالإسراج و طلي السفن و ما أشبه ذلك، و هذا أيضاً ربّما يشتبه حاله من حيث الندرة و الغلبة. و أنّ دعوى الغلبة في أدهان السموكة غير بعيدة.

و منها: ما يلاحظ في جلودها يتّخذ منها الفرّاء أو الدلاء و ما أشبه ذلك، و لا يبعد كونه من بعض هذه الحيوانات كالثعلب نفعاً غالباً.

و منها: ما يلاحظ في عظامها، و هذا مخصوص بالفيل، و يسمّى عظمه بالعاج و يتّخذ منه الأمشاط و نحوها. و قد ورد بجواز التمشّط بعظمه روايات، و يستفاد من صراحتها أنّ الأئمّة عليهم السلام كانوا يتمشّطون بها. و في المجمع «أنّ العاج عظم أنياب الفيل، و عن بعض أهل اللغة لا يسمّى غير الناب عاجاً»(1) و هذا لا ينافي كون مطلق عظمه ما ينتفع به في المشط و غيره.

و إذا أحطت خبراً بما شرحنا عرفت سند المنع من كلّيّة الوجوه المحتملة في معنى ما لا ينتفع به بالقياس إلى المسوخ، لمكان الانتفاع بها و لو في الجملة حيّاً أو ميّتاً منفعة محلّلة غالبة أو نادرة أو مردّدة بينهما، فكيف يقال: إنّه لا نفع فيها أصلاً، أو أنّ جميع منافعها ساقطة في نظر العقلاء، أو أنّ جميعها أو منافعها الغالبة ساقطة في نظر الشارع لكونها محرّمة.

ص: 189


1- مجمع البحرين 271:3 (ع و ج).

و على هذا فيجوز التكسّب بالفيل منها بالخصوص توصّلاً إلى منفعة الحمل المقصودة منه حيّاً إن كان ممّا يتداوله نوع العقلاء في نوعه من دون توقّف له على قبول التذكية أو إلى منافع عظمها المقصودة للعقلاء المحلّلة شرعاً المطلوبة منه ميّتاً من دون توقّف له أيضاً على قبوله التذكية، و بغيره أيضاً توصّلاً إلى منافع شحومها أو جلودها المطلوبة منها ميّتاً المتوقّفة على قبولها التذكية.

و لعلّ ما في كلام جماعة(1) من المتأخّرين تبعاً لثاني الشهيدين في المسالك(2) من بناء الجواز على قبولها التذكية ناظر إلى ذلك أعني التكسّب بها تبعاً لمنافع جلودها أو شحومها، لا مطلقاً حتّى ما لو كان المقصود منفعة حملها على تقدير كونه منفعة غالبة عقلائيّة أو تبعاً لمنافع عظمها إذ لا مدخليّة للتذكية في حلّ الانتفاع بتلك المنافع.

و لنا على الجواز عمومات الصحّة السليمة عمّا يوجب الخروج منها نظراً إلى عدم صدق الأكل بالباطل على أكل المال المأخوذ في مقابلها لأجل المنافع المذكورة و عدم منافاته للنبويّ «إنّ اللّٰه إذا حرّم شيئاً حرّم ثمنه» لظهور قوله: «إذا حرّم شيئاً» على ما بيّنّاه مراراً في باب الأعيان النجسة في تحريم جميع منافع الشيء أو منافعه الغالبة المقصودة للعقلاء، و ضابطه ما لو قال بقول مطلق: الشيء الفلاني حرام، كما قال: الخمر حرام، و حرّمت عليكم الميتة مثلاً. و هذا كما ترى غير متحقّق في الحيوانات المذكورة.

و يؤيّدها إن لم نقل بالدلالة على المطلب ما في رواية التحف من قوله عليه السلام: «و كلّ شيء يكون لهم فيه الصلاح من جهة من الجهات فذلك كلّه حلال بيعه و شراؤه» الخ.

مضافاً إلى ما تقدّم الإشارة إليه من نصوص جواز الانتفاع بعظم الفيل و بيعه و شرائه، مثل خبر موسى بن بكر قال: «رأيت أبا الحسن عليه السلام يتمشّط بمشط عاج، و اشتريته له»(3).

و خبر عبد الحميد بن سعد قال: «سألت أبا إبراهيم عليه السلام عن عظام الفيل يحلّ بيعه أو شرائه الّذي يجعل منه الأمشاط؟ فقال: لا بأس، قد كان لأبي عليه السلام منه مشطا و أمشاط»(4).

و خبر الحسن بن عاصم عن أبيه قال: «دخلت على أبي إبراهيم عليه السلام و في يده مشط

ص: 190


1- كما في الإيضاح 404:1، التنقيح 10:2، جامع المقاصد 19:4.
2- المسالك 125:3.
3- الوسائل 3/171:17، ب 37 ما يكتسب به، الكافي 4/489:6.
4- الوسائل 2/171:17، ب 37 ما يكتسب به، الكافي 1/226:5.

عاج يتمشّط به، فقلت: له جعلت فداك إنّ عندنا بالعراق من يزعم أنّه لا يحلّ التمشّط بالعاج، قال: و لِمَ فقد كان لأبي منها مشط أو مشطان، ثمّ قال: تمشّطوا بالعاج فإنّ العاج يذهب بالوباء»(1).

و خبر عبد اللّه بن سليمان قال: «سألت أبا جعفر عليه السلام عن العاج ؟ فقال: لا بأس به و إنّ لي مشطاً منه»(2).

لا يقال: غاية ما ينساق من هذه النصوص جواز الانتفاع بعظم الفيل و جواز بيعه و شرائه، و الكلام في بيع الفيل بجملته و التعدّي من عنوان عظم الفيل إلى الفيل بجملته لعلّه قياس، و نحوه يرد فيما لو ورد نصّ بجواز بيع جلود المسوخ مثلاً. لأنّه ينتقل من جواز بيع عظم الحيوان أو جلده في متفاهم العرف إلى جواز بيع ذلك الحيوان تبعاً لمنافع عظمه أو جلده، و مرجعه إلى دلالة النصوص الواردة في العظم و الجلد عليه بالالتزام العرفي.

ثمّ يبقى الكلام في مسألتين:
المسألة الاُولى: فيما لو اتّفق من المسوخ أو غيرها ما اشتبه حاله من حيث اشتماله على منفعة عقلائيّة و عدمه،

أو من حيث كون المنفعة الموجودة فيه منفعة غالبة مقصودة للعقلاء أو منفعة نادرة غير مقصودة لهم، كحمل الفيل مثلاً على ما أشرنا من الشكّ في كونه متعارفاً بين النوع في النوع، ففي مثل ذلك لا بدّ لاستعلام الحال و الخروج عن الشبهة من مراجعة العرف و أهالي الخبرة من العقلاء ثمّ العمل بما يتبيّن من أحد طرفي الشبهة من تجويز التكسّب به و منعه، و إن لم يتبيّن شيء من طرفي الشبهة يعرض المعاملة عليه على العقلاء هل تعدّ عندهم من المعاملة السفهيّة فيحكم بالمنع أو لا فيبني على الجواز. و إن لم يتبيّن شيء من ذلك أيضاً ففي جواز التكسّب به و صحّته و العدم وجهان: من عموم عمومات الصحّة أجناساً و أنواعاً، و من الأصل الأوّلي في المعاملات و هو الفساد. و هذا أوجه، لما ظهر من كلمات الأصحاب و معاقد إجماعاتهم و غيرها من الأدلّة من كون وجود المنفعة العقلائيّة من شروط صحّة البيع

ص: 191


1- الوسائل 1/122:2، ب 72 آداب الحمّام، الكافي 3/488:6.
2- الوسائل 4/123:2، ب 72 آداب الحمّام، الكافي 5/489:6.

و غيرها من عقود المعاوضة بل غيرها أيضاً.

بل يستفاد من إجماع الشيخ في المبسوط على عدم جواز بيع ما ينفصل من الإنسان من فضلاته تعليلاً بعدم المنفعة فيه كون شرطيّة وجودها للجواز و الصحّة إجماعيّة، بناءً على ما تقدّم الإشارة إليه من كون الإجماع المذكور إجماعاً على الحكم و العلّة، فموضوع عمومات الصحّة حينئذٍ ما وجد فيه المنفعة العقلائيّة و لا بدّ لإجرائها من إحرازه و هو في محلّ الفرض غير محرز، فلا معنى للتمسّك بالعموم حينئذٍ، إن شئت قلت: إنّ الشكّ في الشرط يفضي إلى الشكّ في المشروط فيرجع إلى الأصل المقتضي للفساد.

المسألة الثانية: في أنّ المسوخ هل يقع عليها الذكاة

- و هو الذبح بمعنى قطع الأوداج بشرائطه المقرّرة في محلّه على وجه أثّرت في طهارة ما يتوقّف الانتفاع به على طهارته كالجلود و الشحوم ليتفرّع عليها جواز بيعها تبعاً لمنافع جلودها أو شحومها - أو لا؟ خلاف على قولين، فقيل(1) لا و هو المشهور على ما قيل، و قيل: نعم و نسب إلى السيّد(2)و الشهيد(3) و عن غاية المراد(4) نسبته إلى ظاهر الأكثر، و عن كاشف اللثام(5) نسبته إلى المشهور.

مستند الأوّلين الأصل، و قرّر بأنّ من صفة الحيوان أنّه إذا زهق روحه يصير ميتة و يترتّب عليه أحكامها، و الشكّ في قبول التذكية راجع إلى الشكّ في قدح العارض و هو أنّ الذكاة الواقعة على هذا الحيوان هل ترفع هذه الصفة الّتي مرجعها إلى كون الحيوان منهيّاً و مستعدّاً لصيرورته ميتة أو لا؟ و الاستصحاب مع الشكّ في قدح العارض كالاستصحاب مع الشكّ في عروض القادح حجّة، فهو يقتضي بقاء التهيّؤ و الاستعداد و عدم ارتفاعه فيحكم به إلى أن يعلم ارتفاعه بالدليل كما في الحيوانات المأكول لحومها.

و مستند الآخرين أيضاً الأصل، و قرّر تارةً باستصحاب الطهارة الأصليّة الثابتة في

ص: 192


1- كما في المقنعة: 578، و الخلاف 73:6، و المراسم: 208، و الوسيلة: 248.
2- الناصريّات: 99.
3- المسالك 124:3.
4- غاية المراد 60:2.
5- كشف اللثام 220:9.

هذا الحيوان قبل الذبح بشرائطه المقرّرة. و توهّم: عدم بقاء الموضوع لأنّ الطهارة كانت ثابتة للحيّ و قد صار الآن ميّتاً. يدفعه: منع كون الحياة وصفاً مقوّماً لموضوع الحكم و لا جزءاً فيه بل الحكم ثابت لهذا الجسم المشتمل على الجلد و اللحم و الشحم في حال الحياة، نظير نجاسة الماء المتغيّر بالنجاسة. و توضيح ذلك: أنّ التزكية فيما يقبلها كالحيوان المأكول لحمه من حكمها طهارة المذكّى و حلّيّة أكل لحمه و نحو ذلك، و هي بالنسبة إلى الطهارة علّة مبقية لا أنّها علّة محدثة بأن يزول الطهارة الاُولى بالموت و يحدث بها طهارة اُخرى فإنّه ممّا لا معنى له، و بالنسبة إلى حلّيّة اللحم يمكن كونها علّة محدثة إن قلنا بحرمة أكل لحم الحيوان حيّاً و كونها علّة مبقية لها أيضاً إن لم نقل بالحرمة، لعدم الدليل عليه، غاية الأمر لا يؤكل حيّاً بل لا يمكن أكله كذلك و هذا لا يلازم الحرمة.

و اُخرى بأصالة الطهارة في الأشياء على معنى قاعدتها المستفادة من قوله عليه السلام:

«كلّ شيء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر»(1).

و يمكن المناقشة في مستند الأوّلين بالتقرير المذكور بمنع رجوع الشكّ في قبول التذكية إلى الشكّ في قدح العارض، بل هو من الشكّ في عروض القادح.

و توضيحه: أنّ المذكّى و الميتة متقابلان، و في كون تقابلهما بالتضادّ بأن يقال: إنّ الحيوان بطبعه متهيّئ و مستعدّ لأن يصير مذكّى إذا استند زهوق روحه إلى التذكية بشرائطه المقرّرة، و لأن يصير ميتة إذا استند زهوق روحه إلى ما عدا التذكية بشرائطها.

أو عدم الملكة إمّا بأن يقال: إنّ الميتة عبارة عن عدم المذكّى ممّا من شأنه أن يكون مذكّى، بدعوى أنّه بطبعه متهيّئ و مستعدّ لأن يصير مذكّى إذا استند موته إلى التذكية بشرائطها إلّا ما خرج بالدليل كالآدمي. أو بأن يقال: إنّ المذكّى عبارة عن عدم الميتة ممّا من شأنه أن يكون ميتة، بدعوى أنّه بطبعه متهيّئ و مستعدّ لأن يصير ميتة بزهوق روحه بأيّ طريق اتّفق إلّا ما خرج بالدليل كالحيوان المأكول لحمه.

و رجوع الشكّ في قبول التذكية في المسوخ إلى الشكّ في قدح العارض إنّما

ص: 193


1- الوسائل 4/467:3، ب 37 النجاسات، التهذيب 832/284:1.

يستقيم على هذا التقدير.

و هذا محلّ منع، لجواز كلّ من الوجهين الأوّلين لرجوع الشكّ إلى أنّه تعالى هل جعل هذا الاستعداد و التهيّؤ للمسوخ ؟ و الأصل عدمه، فالشكّ في الجعل و هو أمر حادث يشكّ في حدوثه، و ليس المراد به الجعل التشريعي على معنى كون التهيّؤ و الاستعداد المذكورين من قبيل الأحكام الوضعيّة، و قد جعله الشارع في المسوخ حتّى يرد علينا عدم كون الأحكام الوضعيّة مجعولة، بل هي مفاهيم انتزاعيّة تتبع الأحكام التكليفيّة. بل المراد به الجعل التكويني الراجع إلى لحاظ خلق الحيوان و إيجاده، على معنى أنّه تعالى في هذا اللحاظ له ذلك التهيّؤ و الاستعداد، و هذا الجعل أمر حادث يشكّ في حدوثه و الأصل عدمه. و هذا الأصل لكونه موضوعيّاً وارد على الأصل الّذي هو مستند الأخيرين بكلا تقريريه، و عليه فالأصل إن اُريد به ما هو من الاُصول العمليّة عدم وقوع الذكاة على المسوخ هذا.

و لكنّ الإنصاف أنّ هاهنا أصلاً ثانويّاً وارداً على الأصل المذكور مستفاداً من صحيحة عبد اللّه بن بكير قال: «سأل زرارة أبا عبد اللّه عليه السلام عن الصلاة في الثعالب و الفنك و غيره من الوبر؟ فأخرج كتاباً زعم أنّه إملاء رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم: أنّ الصلاة في وبر كلّ شيء حرام أكله فالصلاة في وبره و شعره و جلده و بوله و روثه و كلّ شيء منه فاسد، لا تقبل تلك الصلاة حتّى يصلّي في غيره ممّا أحلّ اللّٰه أكله، ثمّ قال: يا زرارة هذا عن رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم فاحفظ ذلك يا زرارة، فإن كان ممّا يؤكل لحمه فالصلاة في وبره و بوله و شعره و روثه و ألبانه و كلّ شيء منه جائز إذا علمت أنّه ذكيّ قد ذكّاه الذابح، و إن كان غير ذلك ممّا قد نهيت عن أكله و حرم عليك أكله فالصلاة في كلّ شيء منه فاسد، ذكّاه الذابح أو لم يذكّه»(1) و في نسخة مكان «الذابح» في الموضعين «الذبح» مصدراً.

و وجه الدلالة أنّ قوله: «ممّا قد نهيت» في تفسير غير ذلك عامّ في جميع ما نهي عن أكله، و قوله: «ذكّاه الذابح» يعني به أنّ تذكية الذابح لكلّ ما نهي عنه لا تجدي نفعاً في صحّة الصلاة فيه، و إنّما ذكر ذلك رفعاً لتوهّم السائل أنّها تبيح الصلاة، و هذا التوهّم

ص: 194


1- الوسائل 1/345:4، ب 2 لباس المصلّي، الكافي 1/397:3.

منه مبنيّ على اعتقاده وقوع الذكاة على كلّ ما نهي عن أكله، و الإمام عليه السلام قرّره على معتقده و رفع توهّمه لإباحة الصلاة بالتذكية، و لو لا المقصود به رفع التوهّم يلغو ذكره.

أو يقال: إنّه عليه السلام قصد بذلك تعميم الحكم - أعني فساد الصلاة - في كلّ ما نهي عن أكله بحسب ما تحقّق منه في الخارج بالقياس إلى قسميه ممّا هو مذكّى و ما ليس بمذكّى، و محصّله أنّ كلّ ما نهي عن أكله بحسب الخارج منه ما هو مذكّى و منه ما ليس بمذكّى، و لا فرق بينهما في فساد الصلاة فيه. و هذا يدلّ بأوضح دلالة على وقوع الذكاة على كلّ ما نهي عن أكله، و هذا كما ترى يعمّ المسوخ أيضاً.

لا يقال: إنّ الصحيحة يعارضها رواية عليّ بن أبي حمزة قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام و أبا الحسن عن لباس الفراء و الصلاة فيها؟ فقال: لا تصلّ فيها إلّا ما كان منه ذكيّاً، قال:

أ وَ ليس الذكيّ ما ذكّي بالحديد؟ قال: نعم إذا كان ممّا يؤكل لحمه، قلت: و ما لا يؤكل لحمه من غير الغنم ؟ فقال: لا بأس بالسنجاب فإنّه دابّة لا يؤكل اللحم و ليس هو ممّا نهى عنه رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم إذ نهى عن كلّ ذي ناب و مخلب»(1) وجه المعارضة أنّ قوله عليه السلام: «إذا كان ممّا يؤكل لحمه» عقيب قوله «نعم» في جواب السائل «أ ليس الذكيّ ما ذكّي بالحديد» من باب تخصيص العامّ بالشرط فيفيد خروج ما ذكّي بالحديد ممّا لا يؤكل لحمه من الذكيّ بمعنى المذكّى، فتكون مفاده في حاصل المعنى أنّ كلّ ما ذكّي بالحديد فهو مذكّى إلّا أن يكون ممّا لا يؤكل لحمه فإنّه ليس بمذكّى، فإذا لم يكن مذكّى كان ميتة إذ لا واسطة بينهما.

لأنّا نقول: هذا الرواية لا تقاوم لمعارضة الصحيحة:

أمّا أوّلاً: فلضعف السند بعليّ بن أبي حمزة الّذي حاله معلوم حيث ضعّفه علماء الرجال قولاً واحداً، و لعنوه، و كان من عمد الواقفة.

و ثانياً: أنّ ما ادّعي استفادته من الشرط من كلّيّة «أنّ كلّما ذكّي بالحديد ممّا لا يؤكل لحمه ليس بمذكّى» منقوض بالسباع على ما سنقرّره من قبولها التذكية بقول مطلق.

و أمّا ثالثاً: فلمنع الدلالة، بل هي على مختارنا أدلّ ، لمنع كون ما ذكر مخرجاً من

ص: 195


1- الوسائل 2/345:4، ب 2 لباس المصلّي، الكافي 3/397:3.

اسم المذكّى، بل مخرج من حكمه الّذي علم من قوله عليه السلام: «لا تصلّ فيها إلّا ما كان منه ذكيّاً» و هو كون المذكّى الّذي هو عبارة عمّا ذكّي بالحديد ما يجوز الصلاة فيه، فيفيد أنّ ما ذكّي بالحديد ممّا لا يؤكل لحمه ليس من المذكّى الّذي يجوز الصلاة فيه - يعني لا يجوز الصلاة فيه - لا أنّه ليس بمذكّى، كيف و لو لا إرادة ذلك لزم خلاف وضع التخصيص الّذي هو عبارة عن قصر العامّ على بعض ما يتناوله، فإنّ إخراجه من الاسم يقضي بخروجه عن موضوع المذكّى من أصله، لا أنّه داخل في الموضوع و يخرج منه بالتخصيص، فيكون الشرط المذكور حينئذٍ أشبه شيء بالاستثناء المنقطع، و هو خلاف الظاهر.

و ممّا يرشد إلى ما ذكرناه أيضاً قوله: «لا بأس بالسنجاب» أي لا بأس بالصلاة فيه بعد قول السائل: «و ما لا يؤكل لحمه» فإنّه يدلّ على أنّ السائل إنّما سأل بذلك عن كلّيّة نفي جواز الصلاة فيما ذكّي بالحديد ممّا لا يؤكل لحمه، على معنى عدم جواز الصلاة في شيء من أفراد ما لا يؤكل لحمه إذا ذكّي بالحديد، فأجاب عليه السلام بالإيجاب الجزئي أعني جواز الصلاة في السنجاب.

و يرشد إليه أيضاً التعليل بأنّه دابّة لا يؤكل اللحم و ليس ممّا نهى عنه رسول اللّٰه إذ نهى عن كلّ ذي ناب و مخلب، أي ليس ممّا نهى عن الصلاة فيه إذ نهى عن الصلاة في كلّ ذي ناب و مخلب، فإنّ هذا كلّه يقضي بأنّ النظر في أسئلة الرواية و أجوبته إلى حيث الصلاة فيما ذكّي بالحديد الّذي هو المذكّى جوازاً و منعاً، فالرواية حينئذٍ دليل لنا لا علينا.

المقام

[المقصد] الثاني: في السباع وحوشها كالأسد و الذئب و النمر و الفهد، و طيورها كالبازي و الصقر و العقاب و الشاهين،

[المقصد] الثاني(1): في السباع وحوشها كالأسد و الذئب و النمر و الفهد، و طيورها كالبازي و الصقر و العقاب و الشاهين،

و هي جمع السبع بالضمّ أو الفتح أو السكون، هو كلّ حيوان ذي ناب أو مخلب يفترس الحيوان للأكل و الافتراس الاصطياد، و قد يحتمل إرادة كلّ ذي ناب و مخلب سواء كان ممّا يفترس للأكل أو ممّا يتغذّى باللحم.

و قد اختلف الأصحاب في جواز التكسّب بها و عدمه لاختلافهم في كونها ممّا ينتفع به و عدمه، كما يستفاد من كلماتهم الّتي منها عبارة الشيخ في الخلاف(2) على ما حكي من أنّه يحرم التكسّب بما لا نفع فيه كالأسد و النمر و الفهد بلا خلاف، فقيل

ص: 196


1- تقدّم عدله في ص 185 بعنوان «المقصد الأوّل».
2- الخلاف 184:3.

كما عن العمّاني(1) و سلّار(2) إنّها لا يجوز بيعها بقول مطلق، و قيل كما عن ابن البرّاج(3)و ابن إدريس(4) إنّه يجوز بيع السباع كلّها تبعاً لجلدها و ريشها، و بينهما أقوال متوسطة كالقول بجواز بيع سباع الطير و الفهود و الهرّ، و قيل بجوازه في سباع الطير و الفهود خاصّة، و قيل بالجواز في الفهود(5) و قيل بالجواز في الفهود فقط، و قيل في الهرّة إلّا أنّه يظهر من كلماتهم عدم الخلاف في الهرّة، بل نسب الجواز فيها إلى علمائنا مؤذناً بدعوى الإجماع عليه.

و الأقوى هو القول الثاني - أعني جواز التكسّب بها - ففي جملة منها تبعاً لمنفعة الاصطياد بها كالفهد من الوحوش و جوارح الطيور، و في اُخرى تبعاً للانتفاع بجلدها و ريشها، للعمومات السالمة عن معارضة المعاملة السفهيّة و أكل المال بالباطل المعتضدة بما عرفت من الإجماع في الهرّة، و الصحيح فيها أيضاً «لا بأس بثمن الهرّة»(6)و الصحيحين «عن الفهود و سباع الطير هل يلتمس التجارة فيها؟ قال: نعم»(7).

مضافاً إلى أنّها تقبل التذكية بقول مطلق وفاقاً للمشهور على ما حكي، بل عن غاية المراد(8) لا نعلم مخالفاً، و عن بعض دعوى الاتّفاق عليه، و عن الحلّي(9) في السرائر الإجماع عليه، و لم يسند الخلاف إلّا إلى المفيد(10) و سلّار(11) و ابن حمزة(12)للصحيحة المتقدّمة(13) في المسوخ المتأيّدة برواية عليّ بن أبي حمزة(14).

مضافاً إلى المرويّ عن قرب الإسناد «عن جلود السباع و بيعها و ركوبها أ يصلح ذلك، قال: لا بأس ما لم يسجد عليها»(15) و موثّقي سماعة ففي أحدهما «سألته عن

ص: 197


1- نقله عنه في المختلف 10:5.
2- المراسم: 170.
3- المهذّب 442:2.
4- السرائر 221:2.
5- كذا في الأصل، و الظاهر أنّها زائدة.
6- الوسائل 3/119:17، ب 14 ما يكتسب به، التهذيب 1047/356:6.
7- الوسائل 1/170:17، ب 37 ما يكتسب به، التهذيب 1048/386:6.
8- غاية المراد 6:2.
9- السرائر 220:2.
10- المقنعة: 589.
11- المراسم: 170.
12- الوسيلة: 248.
13- تقدّم في الصفحة 194.
14- تقدّم في الصفحة 195.
15- الوسائل 5/353:4، ب 5 لباس المصلّي، قرب الإسناد: 1032/261.

جلود السباع ينتفع بها؟ قال: إذا رميت و سمّيت فانتفع بجلده»(1) و في الآخر «سألته عن لحوم السباع و جلودها؟ فقال: أمّا لحوم السباع و السباع من الطير فإنّا نكرهه، و أمّا الجلود فاركبوا عليها، و لا تلبسوا شيئاً منها تصلّون فيه»(2).

و الأوّل صريح في قبول التذكية بالاصطياد، و يتمّ في غيره بالإجماع على عدم الفصل، و الثاني يدلّ عليه بالالتزام إذ لولاه لم يجز الانتفاع بها في الركوب و اللبس في غير الصلاة لحرمة جميع الانتفاعات بالميتة في غير الضرورة.

و قد يستدلّ بالسيرة المستمرّة في جميع الأعصار و الأمصار على استعمال جلودها، و بما ورد من النصوص في جواز استعمال جلد السنّور و الثعالب، و المرويّ عن قرب الإسناد مع دلالته على قبول التذكية بالالتزام يدلّ على جواز البيع بالمطابقة، و قصورها بالإضمار و غيره منجبر بما عرفت من الشهرة و منقول الإجماع، مع ما قيل من كون الموثّق الثاني في محكيّ الفقيه مسنداً و هو حجّة في نفسه.

ص: 198


1- الوسائل 2/489:3، ب 49 النجاسات، التهذيب 339/79:9.
2- الوسائل 3/353:4، ب 5 لباس المصلّي.

الباب الرابع في التكسّب بما يحرم في نفسه

اشارة

أعني ما يلحقه التحريم في حدّ ذاته، لا باعتبار ما يتعلّق به كالأعمال المحرّمة سواء كانت ممّا قوبل بالمال أو لا، فخرج به الأعيان المحرّمة الّتي لحوق التحريم بها باعتبار ما يتعلّق بها من الأفعال المقصودة منها من أكل كالميتة أو شرب كالخمر، أو لعب و مقامرة كآلات اللهو و القمار، أو عبادة لغير اللّٰه كالأصنام و الصلبان، لأنّ التحريم و غيره من الأحكام التكليفيّة لا يضاف إلى غير فعل المكلّف على وجه الحقيقة، فما خرج بالقيد المذكور بالتوجيه المزبور الأعيان النجسة و الأعيان المحرّمة لتحريم ما قصد منها و غيرها من عناوين الأبواب الثلاث المتقدّمة.

فما في كلام بعض مشايخنا(1) تبعاً للشيخ النجفي في شرحه للقواعد من جعله لإخراج ما هو محرّم لنجاسته أو لغايته أو للعبث، ليس بسديد، و إن كان مفاده أيضاً إخراج ما ذكر من عناوين الأبواب المتقدّمة.

و أضعف من ذلك حمل القيد على إرادة الحرمة النفسيّة احترازاً عن المحرّمات الغيريّة كمقدّمات المحرّمات النفسيّة، فإنّ من يحرّم التكسّب بالمحرّمات يحرّمه بمقدّماتها أيضاً. و كيف كان فبعد ما عرفت أنّ موضوع هذا الباب هو الأعمال المحرّمة يظهر أنّ التكسّب بها لا يتأتّى بنحو عقد البيع و غيره ممّا يختصّ بالأعيان، بل إنّما

ص: 199


1- الجواهر 41:22.

يتأتّى بعقد الإجارة و الجعالة و الصلح، لاشتراكه بين الأعيان و المنافع و الأمهار في عقد النكاح بناءً على صحّة إمهار الأفعال و المنافع كالكتابة و الخياطة و تعليم القرآن.

ثمّ إنّ الأعمال المحرّمة في الشريعة كثيرة بل في غاية الكثرة إلّا أنّ الأصحاب في هذا الباب اقتصروا منها على أنواع مخصوصة، و نحن أيضاً نقتفي أثرهم فنقتصر على الأنواع المذكورة و نتكلّم فيها:

: النوع الأوّل: في عمل الصور المجسّمة،

اشارة

أي تصوير الصورة، و كونها مجسّمة، معناه كونها ذات ظلّ كنفس المصوّر أعني ذي الصورة. و كيف كان فالصورة إمّا مجسّمة، أو غير مجسّمة كالمنقوشة على الجدار أو الوسادة أو البساط أو الورق أو غيره، و على التقديرين إمّا من ذوات الأرواح الّتي قد يعبّر عنها بالحيوانيّة كصورة الإنسان و الفرس و الأسد و الفيل و الطاوس و غيرها من البهائم و السباع و المسوخ و الحشرات و الطيور و غيرها، أو من غير ذوات الأرواح كالشجر و النخل و الرياحين و غيرها، فالأقسام أربع.

و في إطلاق موضوع الحكم بكلا الاعتبار أو تقييده بكليهما أو إطلاقه بالاعتبار الأوّل و تقييده بالاعتبار الثاني أو العكس احتمالات، بحسبها اختلفت كلمات الأصحاب على وجه استظهر منها لهم أقوال أربع:

أحدها: تحريم عمل الصور مجسّمة أو غيرها من ذوات الأرواح و غيرها، نسبه في المسالك(1) إلى جماعة.

و ثانيها: تحريم عمل الصور المجسّمة من ذوات الأرواح، نسبه أيضاً إلى جماعة.

و ثالثها: تحريم عمل الصور المجسّمة، و هو أيضاً لجماعة منهم المحقّق في الشرائع(2) و النافع(3).

و رابعها: تحريم عمل الصور من ذوات الروح، اختاره في المسالك و الروض(4)و الروضة(5) و الرياض(6) و نسب إلى حاشية الإرشاد للكركي و حاشية الشرائع للميسي و الشيخ إبراهيم القطيفي في إيضاح النافع(7) و نسبه في الرياض إلى الأكثر بل عامّة من تأخّر.

ص: 200


1- المسالك 126:3.
2- الشرائع 10:2.
3- النافع: 116.
4- الروض 568:2.
5- الروضة 212:3.
6- الرياض 151:8-152.
7- نقله عنه في مفتاح الكرامة 158:12.

و ربّما نزّل إطلاق من أطلق بالنسبة إلى غير ذي روح و غيره على المقيّدة بذي الروح استناداً إلى التبادر.

و ربّما نسب إلى جماعة دعوى اختصاص الصورة بذي الروح خلافاً للمجلسي(1)على ما حكي لتعميمه لها بالنسبة إلى القسمين ناسباً له إلى ظاهر الأصحاب.

و لا ينبغي أن يرجع هذا الاختلاف إلى وضع الصورة بحسب العرف أو اللغة، إذ الظاهر من كلام أئمّة اللغة كونها لغة للأعمّ ، و لذا فسّرها في القاموس(2) ب «الشكل» و فسّر الشكل: «بالشبه و المثل، ثمّ قال: و واحد الأشكال للاُمور المختلفة المشكلة و صورة الشيء المحسوسة و المتوهّمة»(3).

و قال الطريحي في المجمع «و الصورة: عامّة في كلّ ما يصوّر مشبهاً بخلق اللّٰه من ذوات الروح و غيرها، قاله في المغرب»(4).

و لا يصحّ سلبها عرفاً عن صور الشجر و غيرها من الصور الغير الحيوانيّة، نعم لا نضايق غلبة إطلاقها على الصور الحيوانيّة و التبادر المدّعى فيه نشأ من ذلك، فلا ينافي الوضع للأعمّ .

فلا بدّ و أن يرجع إلى تشخيص موضوع الحكم إطلاقاً و تقييداً، و لعلّ من يدّعي الاختصاص فهم ذلك من أدلّة الحكم، أو أخذ بموجب التبادر الإطلاقي.

و على أيّ حال كان فنحن نتكلّم أوّلاً في حكم أخصّ الصور - و هو عمل الصورة المجسّمة من ذوات الروح - فنقول: لا إشكال في تحريمه بلا خلاف يظهر فتوى و نصّاً، و قيل(5) الإجماع بقسميه بل المنقول منه مستفيض، للروايات المستفيضة.

كقوله في رواية تحف العقول: «و صنعة صنوف التصاوير ما لم يكن مثال الروحاني... إلى أن قال: فحلال فعله و تعليمه و العمل به لنفسه أو لغيره» دلّ بمفهوم القيد على عدم الحلّ في عمل ما كان مثال الروحاني.

ص: 201


1- البحار 243:83-245 كتاب الصلاة في النهي عن الصلاة في الحرير.
2- القاموس 73:2. (صور).
3- القاموس 401:3. (شكل).
4- مجمع البحرين 644:2. (صور).
5- كما في الجواهر 41:22.

و الموثّق كالصحيح بأبان بن عثمان المجمع على تصحيح ما يصحّ منه عن أبي العبّاس عن أبي عبد اللّه عليه السلام في قول اللّٰه عزّ و جلّ : «يَعْمَلُونَ لَهُ مٰا يَشٰاءُ مِنْ مَحٰارِيبَ وَ تَمٰاثِيلَ » (1) فقال: «و اللّٰه ما هي تماثيل الرجال و النساء و لكنّها الشجر و شبهه»(2) يدلّ إنكاره عليه السلام المؤكّد بالقسم على المنع من عمل تماثيل الرجال و النساء بل على عدم اختصاصه بشرع هذه الاُمّة.

و صحيح محمّد بن مسلم قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن تماثيل الشجر و الشمس و القمر؟ فقال: لا بأس ما لم يكن شيئاً من الحيوان»(3) يدلّ على ثبوت البأس الظاهر في المنع، خصوصاً مع ملاحظة وروده في مقام توهّم الحظر في تمثال الحيوان.

و قوله عليه السلام في حديث المناهي المرويّ عن الفقيه: «نهى رسول اللّٰه عن التصاوير، و قال: من صوّر صورة كلّفه اللّٰه يوم القيامة أن ينفخ فيها، و ليس بنافخ...»(4) الخ.

و الموثّق كالصحيح أيضاً بعبد اللّٰه بن مسكان المجمع على تصحيح ما يصحّ عنه عن محمّد بن مروان عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «سمعته يقول: ثلاثة يعذّبون يوم القيامة من صوّر صورة من الحيوان يعذّب حتّى ينفخ فيها و ليس بنافخ فيها»(5) الخ.

و الخبر المرويّ عن الخصال باسناده عن ابن عبّاس قال: «قال رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم: من صوّر صورة عذّب و كلّف أن ينفخ فيها و ليس بفاعل...»(6) الخ.

و قد يستشكل فيما تضمّنته هذه الثلاث الأخيرة من تكيف المصوّر في دار الآخرة بنفخ الروح فإنّه من التكليف بغير المقدور. و الاعتذار له بأنّه إنّما يقبح في دار التكليف لا مطلقاً، يدفعه عدم قبول الأحكام العقليّة للتخصيص. و يمكن دفعه - مع أنّ العقوبات الاُخرويّة كلّها خارجة عن حدّ الوسع و الطاقة و لا يتحمّلها النفوس الضعيفة - بأنّ

ص: 202


1- سبأ: 13.
2- الوسائل 1/295:17، ب 94 ما يكتسب به، الكافي 7/527:6.
3- الوسائل 3/296:17، ب 94 ما يكتسب به، المحاسن: 54/619.
4- الوسائل 6/297:17، ب 94 ما يكتسب به، الفقيه 1/503:4.
5- الوسائل 7/297:17، ب 49 ما يكتسب به، الخصال: 76/108.
6- الوسائل 9/297:17، ب 94 ما يكتسب به، الخصال: 77/109.

التكليف المذكور ليس تكليفاً حقيقيّاً بل هو نحو من التكليف الابتلائي، و يقصد به توجيه العذاب و العقاب إلى المصوّر على ترك النفخ و مخالفته، و لو كان لعدم القدرة على الفعل و الإطاعة و العرض الأصلي منه تشديد العذاب و تغليظ العقاب حيث علّق رفعه على أمر غير مقدور فيدوم دوام عدم القدرة عليه، و كلّ ذلك من آثار العصيان الاختياري الصادر منه في دار الدنيا فيكون من آثار الاختيار فلا قبح فيه.

و قد يدفع الإشكال بأنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.

و ردّ بأنّ مورد هذه القضيّة هو الممتنع بالامتناع العرضي الّذي كان عروض الامتناع مسبّباً عن اختيار المكلّف كالوضوء ممّن قطع مواضع وضوئه، و هو فيما نحن فيه ليس كذلك، لأنّ امتناع نفخ الروح ذاتي.

و يدفعه منع اختصاص هذه القاعدة عند قائلها بالممتنع العرضي بل يجرونها في غيره، و مرادهم بها أنّ التكليف بالممتنع الّذي تسبّب ذلك التكليف من اختيار المكلّف لا قبح فيه، من غير فرق فيه بين الممتنع العرضي الّذي عروض الامتناع كان من اختيار المكلّف و غيره. و لذا تراهم يجرونها فيمن توسّط دار قوم غصباً و عدواناً فقالوا: إنّه مأمور بالخروج و منهيّ عنه، مع أنّ الجمع بين الخروج و عدمه جمع بين المتناقضين و هو ممتنع ذاتاً، و اعتذروا له بأنّ المكلّف صار نفسه سبباً للتكليف بالممتنع حيث دخل الدار عصياناً باختياره.

و الّذي يسهل الخطب في دفع الكلام المذكور هو أنّ التكليف بالنفخ ليس على حقيقة التكليف، بل هو كناية عن تشديد العذاب و تغليظ العقاب حسبما بيّنّاه، و لذا ذكر في رواية ابن مروان «يعذّب حتّى ينفخ فيها» و في رواية الخصال «عذّب و كلّف أن ينفخ فيها»(1) و لو تحقّق معه صورة تكليف فهو نحو من التكليف الابتلاء في الّذي لا يقصد منه إلّا تشديد العذاب و تغليظ العقاب.

و هل الحكم يتعدّى إلى صور غير ذات الروح - كالشجر و النخلة و الرياحين و الشمس و القمر و غيرها - أو لا؟ قولان، نسب ثانيهما في الرياض(2) إلى جماعة

ص: 203


1- الخصال: 77/109.
2- الرياض 152:8.

كالشيخين(1) و المتأخّرين(2) كافّة. و هو الأقوى، للأصل، و عدم دليل على المنع في غير ذات الروح خصوصاً و لا عموماً، بل الدليل على الجواز من جهة الأخبار موجود كصريح ما عرفت عن تحف العقول، و يقرب منه في الصراحة ما في الموثّق كالصحيح المتقدّم في قوله تعالى: «يَعْمَلُونَ لَهُ مٰا يَشٰاءُ مِنْ مَحٰارِيبَ وَ تَمٰاثِيلَ » (3) إلى آخره و صريح صحيحة محمّد بن مسلم المتقدّمة، مضافاً إلى الصحيح أيضاً عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: «لا بأس بتماثيل الشجر»(4) و إلى أخبار التكليف بنفخ الروح، لأنّه من خصائص الحيوان فلا يتمشّى في الصور الغير الحيوانيّة.

و هل يتعدّى الحكم إلى المنقوشة من الصور الحيوانيّة أو لا؟ قولان، أقواهما الأوّل و إن كان قد يستظهر من الأمر بنفخ الروح اختصاصه بالمجسّمة، لأنّ نفخ الروح لا يكون إلّا في الجسم.

و ردّ بأنّ النفخ يمكن تصوّره في النقش بملاحظة محلّه أو بملاحظة اللون الّذي هو في الحقيقة أجزاء لطيفة من الصبغ، أو بدون اعتبار الجسميّة كما في أمر الإمام عليه السلام الصورة الأسديّة المنقوشة على البساط بأخذ الساحر في مجلس الخليفة، و يمكن أن يقال بملاحظة ما ذكرناه في توجيه التكليف بنفخ الروح مع كونه ممتنعاً فإنّه لا ينوط بالمقدوريّة، و إذا كان نوعاً من التكليف الابتلائي يقصد به تشديد العذاب و تغليظ العقاب فلا ريب أنّه في غير المجسّمة أبلغ و آكد.

و بالجملة الأمر بنفخ الروح لا ينهض قرينة على الاختصاص، و لو سلّم فغاية ما قضت به القرينة هو اختصاص التكليف بنفخ الروح بالمجسّمة، و هذا لا ينافي كون المنقوشة أيضاً يعاقب على عملها و لا لتحريم عملها إذا قضت به نصوص المنع عموماً من جهة الإطلاق. و لا يجري هنا قاعدة حمل المطلق على المقيّد، لعدم جريانها في المنفيّين من جهة عدم التنافي فيعمل بهما معاً.

ص: 204


1- كما في المقنعة: 587، النهاية 97:2.
2- كما في جامع المقاصد 23:4، مجمع البرهان 54:8، التنقيح 11:2، الكفاية: 85.
3- سبأ: 13.
4- الوسائل 2/296:17، ب 94 ما يكتسب به، المحاسن: 55/619.

فلنا على عموم المنع ما في رواية التحف من قوله عليه السلام: «ما لم يكن مثال الروحاني» فإنّه مطلق في المجسّمة و المنقوشة معاً، و نحوه قوله عليه السلام: «و اللّٰه ما هي تماثيل الرجال و النساء» فإنّه أيضاً يعمّ المنقوشة، مضافاً إلى ما في صحيح محمّد بن مسلم «سألت أبا عبد اللّه عن تماثيل الشجر و الشمس و القمر؟ فقال: لا بأس ما لم يكن شيئاً من الحيوان»(1) فإنّه يعمّ المنقوش أيضاً.

بل قد يقال: إنّ ذكر الشمس و القمر هنا قرينة على أنّ مورد الرواية سؤالاً و جواباً التماثيل المنقوشة هذا، مضافاً إلى ما في حديث المناهي من قوله: «و نهى أن ينقش شيء من الحيوان على الخاتم»(2) و يتمّ في غير الخاتم بعدم القول بالفصل.

و ليس للقول بعدم المنع في المنقوش إلّا الأصل، و يدفعه: ما عرفت من وجود الدليل على المنع عموماً و خصوصاً. و النصوص الدالّة فعلاً و قولاً على جواز الجلوس و الوطء على البساط أو الوسادة عليه التماثيل، و يدفعه - مع قصور بعضها سنداً و معارضتها بالموثّق كالصحيح الظاهر في المنع - من منع الدلالة إذ لا صراحة لها في تماثيل الحيوان فيحمل على غيرها جمعاً. و لو سلّم الصراحة في الحيوان أو الحمل على إرادة العموم فالرخصة في الجلوس على الصورة المنقوشة لا تلازم الرخصة في تصويرها، و لا تنافي تحريمه كما هو واضح. و الإجماع على عدم الفصل غير ثابت.

ثمّ إنّ المرجع في الصورة الّتي يحرم تصويرها و في معرفة مصاديقها العرف كما هو الأصل في موضوعات الأحكام،

فهاهنا فروع:
الأوّل: لا فرق في تحريم عمل الصورة بين هيئاتها

كهيئة القائم و الجالس و المضطجع و الراكب و غيرها، لعموم الأدلّة و صدق الصورة في الجميع.

الثاني: نقص الصورة ببعض أجزائها لا ينفع في رفع تحريم عملها

كما لو كانت بلا عين أو بدون اليد أو مقطوعة الرأس أو نحو ذلك، لصدق الاسم عرفاً على الناقصة، بل مورد الأدلّة ليس إلّا الناقصة لاستحالة تصوير التامّة بحيث يشتمل على جميع الأعضاء و الجوارح المخلوقة في الممثّل. و ما ورد في رجحان تغييرها بقلع عينها أو

ص: 205


1- الوسائل 3/296:17، ب 94 ما يكتسب به، المحاسن: 54/619.
2- الوسائل 6/297:17، ب 94 ما يكتسب به، الفقيه 1/3:4.

كسر رأسها فهو حكم آخر لا يلازم جواز تصوير الناقصة.

الثالث: لا يحرم عمل بعض أجزاء الحيوان

كيد أو رجل بل رأس لعدم صدق الصورة و المثال، بل و لو شكّ في الصدق لكفى في نفي التحريم للأصل.

الرابع: لو صوّر نصفاً من الحيوان

بأن يصوّر من رأسه إلى وسطه فإن قدّر نصفه الآخر كما لو قصده جالساً فقد اتّضح حكمه في الفرع الأوّل، و إن قصد ابتداءً تصوير الناقص إلى النصف ففي لحوقه بالتامّ إشكال: من صدق المثال الروحاني و الصورة عليه، و عدمه. و على تقدير الاشتباه بحسب العرف فالأصل يقتضي الجواز، و لكنّ الاحتياط واضح. و أولى منه بعدم المنع النصف الآخر من الوسط إلى أصابع الرجلين.

الخامس: لو شرع بالتصوير بقصد التمام

فإذا بلغ النصف أو أقلّ بدا له في عدم الإتمام، فحرمة ما فعله بناءً في الفرع السابق على عدم تحريم تصوير النصف و أقلّ مبتنية على مسألة التجرّي و كونه موجباً لقبح الفعل المتجرّى به، و الأقوى على ما حقّقناه في محلّه خلافه، و على هذا فلا حرمة على البناء المذكور.

السادس: لو بدأ بالتصوير قاصداً للناقصة

و إذا بلغ منتهى ما قصده فبدا له الإتمام، فالوجه تعلّق الحرمة لصدق تصوير الصورة حينئذٍ، و هل قصده الإتمام علّة كاشفة عن سبق التحريم من أوّل الأمر أو علّة محدثة له من حينه ؟ الأقرب الثاني للأصل، و حينئذ فلو شهد حال الاشتغال قبل ما بدا له الإتمام قبل شهادته لتأخّر وقوع القادح في العدالة المانع من قبول الشهادة عن أدائها.

السابع: الظاهر لحوق تصوير صورة الملك و الجنّ بتصوير صورة الحيوان في التحريم،

لعموم مثال الروحاني و «من صوّر صورة كلّفه اللّٰه تعالى... الخ» و يؤيّده ما قيل من أنّ الحكمة المقتضية لتحريم عمل الصور مبغوضيّة التشبّه بالخالق في اختراع ما أبدعه بصنعه اللطيف.

الثامن: لو صوّر صورة تخيّلها صورة حيوانيّة و لا مماثل لها فيما بين أنواع الحيوانات،

ففي لحوقها بصور الحيوانات الموجودة احتمال غير بعيد إن لم نقل بكونه قويّاً، لقوّة احتمال العموم في مثل «من صوّر صورة» و أقوى منه قوله: «نهى النبيّ عن التصاوير».

التاسع: لو اشترك اثنان في تصوير الصورة،

فإن اشتغلا من البداية إلى الإكمال

ص: 206

شملهما التحريم لعموم الأدلّة، و إن كان بحيث صوّر أحدهما إلى النصف مثلاً ثمّ أكمله الآخر ففي شمول التحريم لهما، أو اختصاصه بالأوّل لأنّه المبدع، أو بالثاني لأنّه الموجد للصورة بإتمامها، و عدم تحريم بالنسبة إليهما لعدم صدق تصوير صورة في حقّ واحد منهما؟ احتمالات، ثالثها لا يخلو عن قوّة، و الاحتياط منهما إذا كان الأوّل حين شروعه قاصداً إلى تصوير صورة تامّة و لو باشتراك غيره لا يترك، بل التحريم بالنسبة إليه حينئذ قويّ .

تذنيب: يجوز اقتناء الصورة بعد ما صوّرت و استعمالها و بيعها و شراؤها و التزيين بها في البيت،

و مرجعه إلى أنّه لا يحرم إبقاؤها و لا يجب إعدامها بكسر المجسّمة منها و محو المنقوشة، فلا تكون كآلات اللهو و أواني الذهب و الفضّة اللتين تقدّم حرمة إبقائهما و وجوب كسرهما، وفاقاً لغير واحد من مشايخنا(1) العظام قدّس اللّٰه تعالى أرواحهم بل عن المحقّق الأردبيلي في شرح الإرشاد(2) أنّه المستفاد من الأخبار الصحيحة و أقوال الأصحاب، بل في كلام بعض مشايخنا إمكان دعوى الإجماع عليه، للأصل المعتضد بما عرفت مع عدم دليل معتبر صارف عنه، مضافاً إلى النصوص المعتبرة الدالّة على الجواز، سيّما المستفيضة القريبة من التواتر الواردة في لباس المصلّي فيه التماثيل و الصور و في بيته الّذي فيه التماثيل و الصور الدالّة على كراهة الصلاة، مع دلالة جملة منها على علاج الكراهة في الصلاة بقلع عينها أو كسر رأسها أو سترها، و قد تقدّمت في كتاب الصلاة مشروحة.

خلافاً للشيخين(3) و الحلّي(4) لما يظهر من عبائرهم المحكيّة عن المقنعة و النهاية و السرائر من المنع. و ربّما استدلّ لهم بروايات أكثرها ضعاف الأسانيد غير واضحة الدلالات، مع معارضتها بما هو أقوى منها من جهات شتّى، مع احتمالها الكراهة فليحمل عليها جمعاً.

و لقد تصدّى لذكرها و الجواب عنها مشروحة شيخنا قدس سره(5) في متاجره.

ص: 207


1- الجواهر 44:22.
2- مجمع البرهان 58:8.
3- المقنعة: 587، النهاية 97:2.
4- السرائر 328:2.
5- الجواهر 44:22.

النوع الثاني الغناء

و ينبغي أولاً التعرّض لمعناه لتشخيص موضوع الحكم

فنقول: قد اختلفت كلمات الفقهاء و أهل اللغة في تفسيره، فعن المصباح المنير «أنّه الصوت»(1) و عن الحلّي في السرائر(2) و الشيخ القطيفي في إيضاح النافع «أنّه الصوت المطرب»(3).

و في معناه ما عن القاموس من «أنّ الغناء: ككساء من الصوت ما طُرِّب به»(4) و عن بعضهم «أنّه الصوت المشتمل على الترجيع»(5).

و في المجمع و شرح النافع الصغير للسيّد «أنّه الصوت المشتمل على الترجيع المطرب»(6) و عن الغزالي «أنّه الصوت الموزون المفهم المحرّك للقلب»(7) و عن الشافعي «أنّه تحسين الصوت و ترقيقه» و عن نهاية ابن الأثير «أنّ كلّ من رفع صوتاً و والاه فصوته عند العرب غناء»(8) و عن بعض «أنّه مدّ الصوت»(9) و عن آخر «أنّه ترجيع الصوت»(10) و عن ثالث «أنّه إطراب الصوت»(11) و عن بعض كتب اللغة كما عن

ص: 208


1- المصباح المنير: 109.
2- السرائر 120:2.
3- نقله عنه في مفتاح الكرامة 169:12.
4- القاموس المحيط 372:4.
5- نقله المستند من دون إسناد إلى قائل معيّن، المستند 125:14.
6- مجمع البحرين 335:4.
7- إحياء علوم الدين 270:2.
8- النهاية ابن الأثير 391:3.
9- نقله المستند من دون إسناد إلى قائل معيّن، المستند 125:14.
10- نقله المستند من دون إسناد إلى قائل معيّن، المستند 125:14.
11- نقله المستند من دون إسناد إلى قائل معيّن، المستند 125:14.

شهادات القواعد «أنّه ترجيع الصوت و مدّه»(1) و عن بعض «أنّه ترجيع الصوت و تطريبه»(2) و في كلام جماعة من الأصحاب المنسوب إلى المشهور «أنّه مدّ الصوت المشتمل على الترجيع المطرب»(3).

و ينبغي القطع بأنّه ليس مطلق الصوت، و ما سمعته عن المصباح المنير لعلّه قصد به بيان أنّه من جنس الصوت على حدّ ما في قولهم «السعدانة نبت» و لا مدخليّة للحسن في كون الصوت غناء لإجماعهم ظاهراً على عدم كون الصوت الحسن من الغناء، و لا يكفي في تحقّقه مجرّد مدّ الصوت و رفعه و لا موالاته كما يستفاد من النهاية، بل يعتبر فيه مع المدّ و الرفع شيء آخر من الترجيع أو الإطراب أو كليهما.

و هل هو صوت مكيّفة بكيفيّة مخصوصة أو كيفيّة مخصوصة في الصوت، و مرجعه إلى أنّ ما اعتبر فيه من الصفات هل هي فصول الغناء أو أجناسه ؟ احتمالان، و لا يبعد كونهما قولين كما يومئ إليه اختلاف عباراتهم المذكورة.

و يمكن الجمع بين العبارات المذكورة بدعوى أنّه لا خلاف لأحد في كون الغناء بحسب أصل اللغة عبارة عن الصوت المخصوص، و لا ينافيه إضافة التحسين أو المدّ أو الترجيع أو الإطراب أو غير ذلك إليه كما في كلام جماعة، لأنّ مقصودهم بذلك بيان الموضوع على الوجه الّذي يصحّ أن يتعلّق به الحكم الشرعي و هو التحريم، فإنّ الصوت في معنى الغناء في أصله عرض من مقولة الكيف لأنّه عبارة عن الكيفيّة القائمة بالهواء المعتمد على مقطع الفم، و هو بهذا الاعتبار لا يصلح متعلّقاً للتحريم الّذي لا يتعلّق إلّا بفعل المكلّف فلا بدّ و أن يضاف إليه في تعلّق التحريم ما يكون من مقولة الفعل كالرفع أو التحسين أو الترجيع أو الإطراب أو الردّ فأضاف من هذه الأفعال كلّ من ترجّح في نظره شيء منها فلا نزاع في معنى الغناء و أنّه عبارة عن صوت مخصوص.

و يمكن على تقدير النزاع في معناه حسبما بيّنّاه ترجيح قول من جعله عبارة عن كيفيّة مخصوصة في الصوت، بتقريب أنّ الغناء بحسب أصل وضع اللغة و إن احتمل

ص: 209


1- القواعد 495:3.
2- كما في الإرشاد 156:2، التحرير 251:5.
3- كما في الرياض 155:8، المفاتيح 20:2، المكاسب للشيخ الأنصاري 291:1.

كونه اسماً مطلقاً موضوعاً للصوت الّذي هو عرض من مقولة الكيف أو اسم مصدر بمعنى التغنّي كالوضوء للتوضّؤ و الغسل للاغتسال و السلام للتسليم و الكلام للتكليم، أو مصدراً و إن لم يأت من جنسه فعل بل الفعل من هذه المادّة إنّما أتى من باب التفعّل و من باب التفعيل كما ضبطه صاحب القاموس، إلّا أنّ أرجح الاحتمالات هو الأخير نظراً إلى قاعدة الاشتقاق فإنّ بابي التفعّل أو التفعيل من هذه المادّة لا بدّ و أن يؤخذ من مصدر مجرّد، و لا بدّ و أن يكون لهما مبدأ حدثي يكون من المصادر المجرّدة و لا يصلح له إلّا لفظ الغناء فيكون مصدراً، فلا بدّ و أن يكون قد اُخذ في معناه معنى حدثي يكون من مقولة الفعل، و هو لا يخلو عن أحد الاُمور المذكورة.

و يؤيّد كونه مصدراً أيضاً صحّة تعلّق التحريم و غيره من الأحكام التكليفيّة، فإنّها و إن احتمل كونها منوطة بتقدير فعل إلّا أنّ الأصل عدم التقدير.

و يؤيّده أيضاً أنّه عبّر عنه في عدّة آيات من الكتاب العزيز بما هو ظاهر في الفعل كقول الزور في قوله: «فَاجْتَنِبُوا اَلرِّجْسَ مِنَ اَلْأَوْثٰانِ وَ اِجْتَنِبُوا قَوْلَ اَلزُّورِ» (1) و لَهْوَ اَلْحَدِيثِ في قوله تعالى: «وَ مِنَ اَلنّٰاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ اَلْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اَللّٰهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ » (2)الآية، و اللغو في قوله تعالى: «وَ اَلَّذِينَ هُمْ عَنِ اَللَّغْوِ مُعْرِضُونَ » (3) لما ورد في الروايات من تفسير هذه الألفاظ بالغناء، و هي ظاهرة المعاني الحدثيّة المصدريّة فيكون الغناء أيضاً مصدراً فتأمّل.

و كيف كان ففي كلام جماعة من الأصحاب إحالة معرفة حقيقة الغناء و استعلام ما اُخذ في مفهومه من الخصوصيّات كرفع الصوت و مدّه و حسنه و ترجيعه و التطريب به إلى العرف، لمكان قولهم «أو ما يسمّى في العرف غناء» كما في المسالك(4) و الروضة(5)و الرياض(6) و غيرها(7).

و هذا في خصوص هذا اللفظ لا يخلو في بادئ النظر عن إشكال، لعدم إمكان التوصّل إلى عرف العرب القحّ و هم الممحضون في العربيّة و لم يخالطهم العجميّة، و عدم

ص: 210


1- الحجّ : 30.
2- لقمان: 6.
3- المؤمنون: 3.
4- المسالك 126:3.
5- الروضة 212:3.
6- الرياض 155:8.
7- كما في التنقيح 11:2.

الاعتداد بعرف السواد من العرب كأهل العراق و من ضارعهم لشوب العجميّة فيهم مع اضطراب عرفهم في هذا اللفظ بالخصوص، و عدم وجود مرادف من لغة الفرس و غيرها من لغات الاعجام لهذا اللفظ حتّى يستعلم حقيقته بمعرفة حقيقة مرادفه بالرجوع إلى عرف الفرس و غيره.

و ما في المستند من «أنّ بعض أهل اللغة فسّره بما يقال له بالفارسيّة سرود»(1)و عن الصحاح «أنّه ما يسمّيه العجم بدو بيتي» لا يجدي نفعاً في المقام، لعدم كون هذين اللفظين معمولين في أعصارنا هذه، فلو فرضنا كونهما معمولين في الفرس القديم فهما مهجوران في عرف أعصارنا فلا نستفيد منهما، نعم كثيراً ما يستعملون في مظانّ الغناء لفظ «آوازه خوانى و خوانندگي» و هذا أيضاً لا يخلو عن إجمال.

بل ربّما يطلق مع حسن الصوت الّذي نقطع بعدم كونه غناءً ، اللهمّ إلّا أن يقال: إنّ أهل العرف يطلقون الغناء على ما يعدّ من ألحان أهل الطرب فإنّ الطرب على ما عن الصحاح و غيره «خفّة تعتري الإنسان لشدّة حزن و علامته أن يحسّ الإنسان من نفسه الميل إلى البكاء، أو شدّة سرور و علامته أن يحسّ من نفسه الميل إلى الرقص، و هذه الحالة قد تحدث من آلات اللهو كالعود و المزمار و الناي و غير ذلك، و قد تحدث من الصوت الحسن المشتمل على الترجيع البالغ حدّ الإطراب و هو إيجاد الطرب و إحداثه، و يندرج فيه مدّ الصوت المشتمل على الترجيع المطرب فإنّ ألحان أهل الطرب نغمة و تصانيف أهل الفسوق و ترقيق الصوت مع تحسينه المسمّى في العجميّة بزمزمة و لفظ الغناء إمّا يساوقها فيعمّ الأنواع الثلاث، أو أنّه أخصّ منها فلا يعمّ التصانيف و الزمزمة، و الاحتمال الأوّل و إن كان يبعّده عنوان «آوازه خوانى و خوانندگي» في الفارسيّة لظهورهما في النوع الأوّل، و عدم ظهور إطلاقهما على النوعين الآخرين، و لكن يقربه التغنّي لصحّة أن يقال على المتشاغل بالتصنيف أو الزمزمة إنّه يتغنّى إلّا أنّه ليس بحيث يقطع لعدم الاطّلاع على عرف العرب(2).

و على كلا التقديرين فالغناء ما وصفه اللّٰه تعالى في كتابه العزيز تارةً باللهو كما في

ص: 211


1- المستند 125:14.
2- الصحاح 171:1، (طرب).

آية «وَ مِنَ اَلنّٰاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ اَلْحَدِيثِ » (1) و اُخرى بالباطل كما في آيات «وَ اَلَّذِينَ هُمْ عَنِ اَللَّغْوِ مُعْرِضُونَ » (2)«وَ اِجْتَنِبُوا قَوْلَ اَلزُّورِ» (3)«وَ اَلَّذِينَ لاٰ يَشْهَدُونَ اَلزُّورَ» (4) بناءً على إرادة الباطل من اللغو و الزور.

و قد ورد في أخبار مستفيضة تفسير «لهو الحديث» في الآية الاُولى بالغناء كالأخبار المستفيضة أيضاً في تفسير كلّ من «اللغو» و «قول الزور، و الزور» بالغناء.

و قضيّة وصفه باللهو - و هو ما يلهيك عن ذكر اللّٰه - كون الغناء من جملة الملاهي و أن يكون تحريمه لعنوان اللهو الصادق عليه و على غيره، كما أنّ قضيّة وصفه بالباطل أن يكون تحريمه لأجل هذا العنوان الّذي هو أعمّ من اللهو كما أنّ اللهو أعمّ من الغناء.

و في حديث أيضاً «إنّ رجلاً أتى أبا جعفر عليه السلام فسأله عن الغناء، فقال له: إذا ميّز اللّٰه بين الحقّ و الباطل فأين يكون الغناء؟ قال: مع الباطل، قال: قد حكمت»(5).

و المراد بالباطل إمّا ما يقابل الحقّ و هو الشيء الثابت المرخّص فيه فالباطل الغير الثابت باعتبار منع الشرع، أو الشيء الخالي عن الفائدة العقلائيّة، و منه الغناء لأنّ طالبيه و الراغبين إليه ليسوا إلّا السفهاء من الناس و هم أهل الفسوق.

فتحريم الغناء حينئذٍ إمّا لعنوانه الخاصّ إن استفدناه من الأدلّة الخاصّة به، أو لعنوان اللهو إن استفدناه من آية لهو الحديث، أو لعنوان الباطل إن استفدناه من الآيات الاُخر.

فصحّ أن يقال: إنّ كلّ صوت لهويّ يعدّ من ألحان أهل الطرب و ترجيعاتهم المطربة محرّم سواء صدق عليه بجميع أنواعه الغناء أو لا، بأن لم يصدق إلّا على أحد أنواعه، و قد وقع في بعض الروايات أيضاً إشارة إلى الضابط المذكور كقوله: «اقرءوا القرآن بألحان العرب و إيّاكم و لحون أهل الفسوق و الكبائر...»(6) الخ، فإنّ لحون أهل الفسوق و الكبائر هي ألحان أهل الطرب المرتكبين لفسوق التطريبات بالآلات و الأصوات الّتي هي من المعاصي الكبائر.

و هل يعتبر قيامه باللفظ و تقوّمه بالكلام نثراً أو نظماً أو لا؟ بمعنى أنّه لا مدخليّة

ص: 212


1- لقمان: 6.
2- المؤمنون: 3.
3- الحجّ : 30.
4- الفرقان: 72.
5- الوسائل 13/306:17، ب 99 ما يكتسب به، الكافي 25/435:6.
6- الوسائل 1/21:6، ب 24 قراءة القرآن.

للكلام فيه بل هو تابع لجوهر الصوت تحقّق معه كلام نثراً أو نظماً أو لم يتحقّق وجهان: من إمكان دعوى ظهور آيتي لهو الحديث و قول الزور لأنّ الحديث بحسب العرف هو الكلام فيكون المراد باعتبار كون إضافة اللهو من إضافة الصفة على الموصوف الكلام الملهوّ به و القول واضح، و من ظهور الآيتين الاُخريين اللّتين عبّر عنه فيهما باللغو و الزور الصادقين على الجوهر المعتضدتين بصدق لحن أهل الطرب على ما لم تكن معه لفظ و لا كلام. و إذا لم يكن له مدخليّة في صدق اسم الغناء و لا الصوت اللهويّ وجوداً و عدماً فخصوصيّة كلام دون كلام فيما اشتمل عليه لا تؤثّر في خروجه من الاسم.

و على هذا فمن يدّعي استثناء المراثي أو قراءة القرآن لا يمكنه دعوى الخروج عن الاسم من باب التخصّص، بل لا بدّ و أن يدّعي الخروج من الحكم من باب التخصيص، و حينئذٍ فنطالب بدليله.

و كيف كان فالكلام في المقام تارةً في أصل حكم الغناء [و اُخرى في مقداره تعميماً و تخصيصاً]
اشارة

قبالاً لمن سبقه شبهة إنكار تحريمه في نفسه، و اُخرى في مقداره تعميماً و تخصيصاً قبالاً لمن سبقه شبهة استثنائه في المراثي و في تلاوة القرآن.

أمّا الأوّل: [أي في أصل حكم الغناء]
اشارة

فالمعروف من مذهب الأصحاب من غير خلاف معتدّ به تحريم الغناء بقول مطلق بل عليه إجماعهم محصّلاً و منقولاً، و قيل بكون الإجماعات المنقولة عليه مستفيضة، و ربّما ادّعى فيه ضرورة المذهب، بل و لعلّه المشهور عند العامّة حيث لم يخالف فيه إلّا الغزالي و متصوّفوهم، و قد يظهر عمّن نقل فيه إجماع العلماء كونه إجماعاً من العامّة أيضاً. خلافاً للمحدّث الكاشاني فنفى تحريمه في نفسه و خصّه بما اشتمل منه على المحرّمات الخارجة من اللعب بآلات اللهو و الكلام بالباطل و دخول الرجال حيث قال - في الوافي بعد ذكر جملة من الأخبار المتعلّقة بالباب على ما حكي -:

«الّذي يظهر من مجموع الأخبار الواردة اختصاص حرمة الغناء و ما يتعلّق به من الأجر و التعليم و الاستمتاع و البيع و الشراء كلّها بما كان على النحو المتعارف في زمن الخلفاء من دخول الرجال عليهنّ و تكلّمهنّ بالباطل و لعبهنّ بالملاهي من العيدان و القصب و غيرهما دون ما سوى ذلك من أنواعه كما يشعر به قوله: ليست بالّتي تدخل عليها

ص: 213

الرجال... إلى أن قال: و على هذا فلا بأس بالتغنّي بالأشعار المتضمّنة لذكر الجنّة و النار و التشويق إلى دار القرار، و وصف نعم الملك الجبّار، و ذكر العبادات و الرغبات في الخيرات و الزهد في الفانيات... إلى أن قال: و بالجملة فلا يخفى على أهل الحجج بعد سماع هذه الأخبار تميّز حقّ الغناء عن باطله، و أنّ أكثر ما يتغنّى به الصوفيّة في محافلهم من قبيل الباطل»(1) انتهى.

و قيل: إنّ هذا القول تبع منه للغزالي. و ربّما يظهر الموافقة له من صاحب الكفاية(2)في أحد الوجهين اللذين ذكرهما في وجه الجمع بين الأخبار الّتي توهّم بينها التعارض و ستعرف عبارته.

و أورد عليه بعض مشايخنا بأنّ الغناء على ما استفدناه من الأخبار بل فتاوي الأصحاب، و قول أهل اللغة هو من الملاهي، نظير ضرب الأوتار و النفخ في القصب و المزمار، و قد تقدّم التصريح بذلك في رواية الأعمش الواردة في الكبائر، و هي قوله عليه السلام: «و الملاهي الّتي تصدّ عن ذكر اللّٰه كالغناء و ضرب الأوتار»(3) فلا يحتاج في حرمته إلى أن يقترن بالمحرّمات الاُخر(4).

أقول: و يرد عليه مضافاً إلى ذلك أنّه لو لم يكن الغناء في نفسه محرّماً فاقترانه بالمحرّمات أيضاً لا يوجب تحريمه إذ لا ملازمة أصلاً، و ربّما يحتمل كون بناء كلامهما على تفسير الغناء بالصوت الحسن كما يظهر القول به من الشافعي حيث فسّره بتحسين الصوت و ترقيقه، و ربّما يومئ إليه أيضاً ما عن الصحاح في تفسير التطريب من أنّ التطريب في الصوت تحسينه و مدّه.

و يزيّفه أيضاً ما أشرنا إليه سابقاً، من أنّ مطلق الصوت الحسن لا يسمّى غناءً ، و أنّ مجرّد الحسن لا يكفي في تحقّقه، و أنّه لا قائل بحرمة مطلق الصوت الحسن كيف و هو في الشرع من صفات المدح، و الأخبار في مدحه و مدح صاحبه و أنّه من أجمل الجمال

ص: 214


1- الوافي 218:17-223.
2- الكفاية: 86.
3- الوسائل 36/331:15، ب 46 جهاد النفس، الخصال: 610.
4- المكاسب للشيخ الأنصاري 302:1.

متكاثرة، بل ورد النصوص باستحبابه في الأذان و في قراءة القرآن و الدعاء، و أنّه من صفات الأنبياء و الأئمّة عليهم السلام هذا. مضافاً إلى منع استلزام المحرّمات المتحقّقة معه حرمته.

فهذا القول أحرى بالإعراض عنه إلى ما هو مقصود المقام،

فنقول: يدلّ على حرمة الغناء الإجماع بقسميه و الكتاب و السنّة ز
أمّا الكتاب

فقوله تعالى: «وَ اِجْتَنِبُوا قَوْلَ اَلزُّورِ» (1) و قوله تعالى: «وَ مِنَ اَلنّٰاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ اَلْحَدِيثِ ...» (2) الآية مع انضمام الأخبار المفسّرة لهما بالغناء، فمن الأوّل:

صحيحة زيد الشحّام قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن قوله عزّ و جلّ «وَ اِجْتَنِبُوا قَوْلَ اَلزُّورِ» قال: قول الزور الغناء»(3).

و مرسلة ابن أبي عمير عن بعض أصحابه عن أبي عبد اللّه عليه السلام «في قول اللّٰه عزّ و جلّ : «وَ اِجْتَنِبُوا قَوْلَ اَلزُّورِ» قال: قول الزور الغناء»(4).

و موثّقة أبي بصير قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن قول اللّٰه عزّ و جلّ «فَاجْتَنِبُوا اَلرِّجْسَ مِنَ اَلْأَوْثٰانِ وَ اِجْتَنِبُوا قَوْلَ اَلزُّورِ» (5) قال: الغناء»(6).

و رواية عبد الأعلى قال: «سألت جعفر بن محمّد عليه السلام عن قول اللّٰه عزّ و جلّ «فَاجْتَنِبُوا اَلرِّجْسَ مِنَ اَلْأَوْثٰانِ وَ اِجْتَنِبُوا قَوْلَ اَلزُّورِ» قال: الرجس من الأوثان الشطرنج، و قول الزور الغناء، قلت: قول اللّٰه عزّ و جلّ «وَ مِنَ اَلنّٰاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ اَلْحَدِيثِ » قال: منه الغناء»(7).

و صحيحة هشام عن أبي عبد اللّه عليه السلام «في قوله تعالى «فَاجْتَنِبُوا اَلرِّجْسَ مِنَ اَلْأَوْثٰانِ وَ اِجْتَنِبُوا قَوْلَ اَلزُّورِ» قال: الرجس من الأوثان الشطرنج، و قول الزور الغناء»(8).

و من الثاني: مضافاً إلى ما في ذيل رواية عبد الأعلى المتقدّمة:

صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: «سمعته يقول: الغناء ممّا وعد اللّٰه

ص: 215


1- الحجّ : 30.
2- لقمان: 6.
3- الوسائل 2/303:17، ب 99 ما يكتسب به، الكافي 2/435:6.
4- الوسائل 8/305:17، ب 99 ما يكتسب به، الكافي 7/436:6.
5- الحجّ : 3.
6- الوسائل 9/305:17، ب 99 ما يكتسب به، الكافي 2/431:6.
7- الوسائل 20/308:17، ب 99 ما يكتسب به، الكافي 1/349:6.
8- الوسائل 26/310:17، ب 99 ما يكتسب به، تفسير القمّي 84:2.

عليه النار، و تلا هذه الآية «وَ مِنَ اَلنّٰاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ اَلْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اَللّٰهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ يَتَّخِذَهٰا هُزُواً أُولٰئِكَ لَهُمْ عَذٰابٌ مُهِينٌ » (1)-(2).

و رواية مهران بن محمّد عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «سمعته يقول الغناء ممّا قال اللّٰه عزّ و جلّ «وَ مِنَ اَلنّٰاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ اَلْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اَللّٰهِ » (3).

و رواية الوشاء قال: «سمعت أبا الحسن الرضا عليه السلام يقول: سئل أبو عبد اللّٰه عليه السلام عن الغناء، فقال: هو قول اللّٰه عزّ و جلّ «وَ مِنَ اَلنّٰاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ اَلْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اَللّٰهِ » (4).

و رواية الحسن بن هارون قال: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: الغناء مجلس لا ينظر اللّٰه إلى أهله، و هو ممّا قال اللّٰه عزّ و جلّ : «وَ مِنَ اَلنّٰاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ اَلْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اَللّٰهِ » (5).

و قد يستدلّ بآيتي «وَ اَلَّذِينَ هُمْ عَنِ اَللَّغْوِ مُعْرِضُونَ » (6)«وَ اَلَّذِينَ لاٰ يَشْهَدُونَ اَلزُّورَ» (7) بانضمام الأخبار المفسّرة لهما بالغناء. و في دلالتهما على التحريم نظر، إذ غاية ما فيهما الدلالة على مدح المجتنب عن الغناء و حسن اجتنابه، و هذا لا يلازم المنع من فعله أو استماعه لاحتمال الكراهة.

و قد يناقش في آية لهو الحديث بأنّ مفادها حرمة الغناء الّذي يشتري ليضلّ عن سبيل اللّٰه و يتّخذها هزواً و هو ممّا لا شكّ فيه، و لا يدلّ على حرمة غير ذلك ممّا يتّخذ لترقيق القلب و يذكر الجنّة و يهيج الشوق إلى العالم الأعلى و يؤثّر القرآن و الدعاء في القلوب، بل في قوله «لَهْوَ اَلْحَدِيثِ » إشعار بذلك أيضاً. هكذا ذكر في المستند(8).

و فيه: أنّ الاشتراء هنا إمّا بمعنى الاختيار أو صرف المال لعقد مجلس الغناء و اللام في «ليضلّ » للعاقبة، و معناها أنّ الغناء من خواصّه أنّه يضلّ عن سبيل أي يخرج صاحبه عن حدود اللّٰه تعالى و يميله إلى الفسوق و الفجور الاُخر، كما يدلّ عليه ما في

ص: 216


1- لقمان: 6.
2- الوسائل 6/304:17، ب 99 ما يكتسب به، الكافي 4/431:6.
3- الوسائل 7/305:17، ب 99 ما يكتسب به، الكافي 5/431:6.
4- الوسائل 11/306:17، ب 99 ما يكتسب به، الكافي 8/432:6.
5- الوسائل 16/307:17، ب 99 ما يكتسب به، الكافي 16/433:6.
6- المؤمنون: 3.
7- الفرقان: 72.
8- المستند 134:14-135.

بعض الروايات من قول النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: «الغناء رقية الزنا»(1) كما في كتاب جامع الأخبار أي يجرّه إليه و يوقعه فيه كما يرشد إليه المشاهدة.

و أمّا السنّة:

فقيل: إنّها متواترة، إلّا أنّ العمدة منها سنداً و دلالة صحيحة محمّد بن مسلم المتقدّمة(2) المصرّحة بأنّ «الغناء ممّا وعد اللّٰه عليه النار» فإنّها مع دلالتها على حرمته تدلّ على كونها من الكبائر.

و مثلها دلالة رواية عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «قال رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم:

اقرءوا القرآن بألحان العرب و أصواتها و إيّاكم و لحون أهل الفسوق و أهل الكبائر، فإنّه سيجيء من بعدي أقوام يرجّعون القرآن ترجيع الغناء...»(3) الخ.

فإنّ قرينة المقابلة تقضي بكون المراد من ألحان العرب و أصواتها تحسين الصوت و تحزينه أو النغمة الحسنة الغير البالغة حدّ ترجيع الغناء، و بلحون أهل الفسق و الكبائر الترجيعات المطرحة على حدّ ما يعمله أهل الطرب الّذين هم أهل الفسق و الكبائر، و يرشد إليه التعليل أيضاً، لمكان قوله: «يرجّعون القرآن ترجيع الغناء» فلو لم يكن ترجيع الغناء و هو الترجيعات المطربة محرّماً لما صحّ تعليل «و إيّاكم» المفيد للتحريم بما ذكر.

و دلالة هذه الرواية في موضعين أحدهما قوله: «إيّاكم» و الآخر الذمّ المستفاد من التعليل. و اختصاص المورد غير ضائر لمكان قوله: «ترجيع الغناء» فإنّه يدلّ على أنّ ترجيع الغناء بنوعه و طبيعته مذموم و محرّم، مع أنّ العبرة في قوله: «و إيّاكم...» الخ بعموم اللفظ لا خصوص المورد.

و في جامع الأخبار مرسلاً قال: «رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم يحشر صاحب الطنبور يوم القيامة و هو أسود الوجه و بيده طنبور من نار و فوق رأسه سبعون الف ملك بيد كلّ ملك مقمعة يضربون رأسه و وجهه، و يحشر صاحب الغناء من قبره أعمى و أخرس و أبكم...

إلى أن قال: و قال النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: الغناء رقية الزنا»(4).

ص: 217


1- جامع الأخبار: 154.
2- تقدّم في الصفحة: 215.
3- الوسائل 1/211:6، ب 24 قراءة القرآن.
4- مستدرك الوسائل 17/219:13، ب 79، ما يكتسب به، جامع الأخبار: 154.

و عن المقنع مرسلاً قال الصادق عليه السلام: «شرّ الأصوات الغناء»(1).

و عن إرشاد الحسن بن محمّد الديلمي قال: «قال رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم: يظهر في اُمّته الخسف و القذف، قالوا متى ذلك ؟ قال: إذا ظهرت المعازف و القينات و شربت الخمور و اللّٰه ليبيتنّ اُناس من اُمّتي على أشر و بطر و لعب فيصبحون قردة و خنازير لاستحلالهم الحرام و اتّخاذهم القينات... إلى أن قال: و قال صلى الله عليه و آله و سلم: إذا عملت اُمّتي خمس عشرة خصلة حلّ بهم البلاء... إلى أن قال: و اتّخذوا القينات و المعازف و شربوا الخمور و كثر الزنا، فارتقبوا عند ذلك ريحاً حمراء و خسفاً و مسخاً، و ظهور العدوّ عليكم ثمّ لا تنصرون»(2) و القينات جمع القين و هي الأمة المغنّية، و المعازف آلات اللهو، و قيل جمع المعزف و هو نوع من الطنابير.

و في المرسل عن أبي عبد اللّه قال: «سئل عن الغناء و أنا حاضر؟ فقال: لا تدخلوا بيوتاً اللّٰه معرض عن أهلها»(3).

و في حديث قال راويه: «دخلت على أبي عبد اللّه عليه السلام فقال: الغناء اجتنبوا الغناء، اجتنبوا قول الزور، فما زال يقول: اجتنبوا الغناء اجتنبوا، فضاق بي المجلس و علمت أنّه يعنيني»(4).

و في رواية الأعمش الواردة في تعداد الكبائر قال: «و الملاهي الّتي تصدّ عن ذكر اللّٰه كالغناء و ضرب الأوتار»(5).

و المستفيضة الدالّة على «حرمة ثمن الجارية المغنية و أنّه سحت و أنّه كثمن الكلب»(6).

و رواية يونس قال: «سألت الخراساني عن الغناء، و قلت: إنّ العبّاسي زعم أنّك ترخّص في الغناء، فقال: كذب الزنديق ما هكذا قلت له، سألني عن الغناء قلت له: إنّ

ص: 218


1- الوسائل 22/309:17، ب 99 ما يكتسب به، المنقع: 154.
2- الوسائل 30/311:17 و 31، ب 99 ما يكتسب به، المقنع: 154.
3- الوسائل 12/306:17، ب 99 ما يكتسب به، الكافي 18/434:6.
4- الوسائل 24/309:17، ب 99 ما يكتسب به.
5- تقدّم في الصفحة: 214.
6- الوسائل 3/123:17 و 6، ب 16 ما يكتسب به، الكافي 4/120:5.

رجلاً أتى أبا جعفر عليه السلام فسأله عن الغناء فقال له: إذا ميّز اللّٰه بين الحقّ و الباطل فأين يكون الغناء؟ قال: مع الباطل، قال: قد حكمت»(1) إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع.

و لم نقف في النصوص على ما ينافي روايات التحريم إلّا عدّة روايات ربّما توهّم موافقتها لمذهب المحدّث الكاشاني و من وافقه، مثل ما رواه في الوسائل من خبر عليّ ابن جعفر عن أخيه عليهما السلام قال: «سألته عن الغناء في الفطر و الأضحى و الفرح ؟ قال:

لا بأس ما لم يعص به»(2) و في نسخة اُخرى «ما لم يزمر به» قال في الكفاية: «و المراد به ظاهراً ما لم يصر الغناء سبباً للمعصية و لا مقدّمة للمعاصي المقارنة له، و قال في تفسير النسخة الاُخرى: و الظاهر أنّ المراد بقوله «ما لم يزمر به * أي لم يلعب معه بالمزمار أو ما لم يكن الغناء بالمزمار و نحوه من آلات الأغاني»(3).

و رواية أبي بصير عن كسب المغنّيات «فقال: الّتي يدخل عليهنّ الرجال حرام و الّتي تدعى إلى الأعراس ليس به بأس و هو قول اللّٰه عزّ و جلّ : «وَ مِنَ اَلنّٰاسِ مَنْ يَشْتَرِي» (4) الآية و روايته الاُخرى عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «أجر المغنّية الّتي تزفّ العرائس ليس به بأس ليست بالّتي تدخل عليها الرجال»(5).

و الجواب: عدم مقاومة هذه لمعارضة ما مرّ من جهات عديدة، مع عدم وضوح دلالتها، فيراد بالغناء في خبر عليّ بن جعفر قراءة الأشعار المفرّحة المناسبة ليومي العيدين بالصوت الحسن المرجع فيه الغير البالغ حدّ الترجيع المطرب، و هو المراد من قوله «ما لم يعص به» و كذلك قوله «ما لم يزمر به» في نسخة اُخرى أي ما لم يبلغ حدّ صوت المزمار و هو الصوت اللهويّ المشتمل على الترجيع المطرب.

و غاية ما في روايتي أبي بصير بعد الإغماض عمّا في سنديهما الدلالة على جواز التغنّي الخالي عن دخول الرجال و استماعهم في الأعراس، و لعلّنا نقول به فيكون ذلك مستثنى كما عليه جماعة و سيأتي الكلام في استثنائه.

ص: 219


1- الوسائل 13/306:17، ب 99 ما يكتسب به، الكافي 18/434:6.
2- الوسائل 5/122:17، ب 15 ما يكتسب به، قرب الإسناد: 121.
3- كفاية الفقه 433:1، و التفسير موجود في مكاسب الشيخ الأنصاري 304:1.
4- لقمان: 6.
5- الوسائل 1/120:17 و 3، ب 15 ما يكتسب به، الكافي 1/119:5 و 3.

و أمّا ما رواه في الفقيه مرسلاً قال: «سأل رجل عليّ بن الحسين عليه السلام عن شراء جارية لها صوت ؟ فقال: ما عليك لو اشتريتها فذكّرتك الجنّة يعني بقراءة القرآن و الزهد و الفضائل الّتي ليست بغناء، فأمّا الغناء فمحظور»(1). فعدم منافاته واضح لا يحتاج إلى البيان، فإنّ مطلق الصوت لا يلازم الغناء، و لذا ذكر الصدوق أو الراوي في تفسيره ما ذكر بناءً على كونه من أحدهما كما هو الظاهر.

و أمّا الثاني: فقد استثني من تحريم الغناء اُمور
منها: الغناء في قراءة القرآن،

استثناه في الكفاية حيث جعله أحد وجهي الجمع بين ما دلّ من الروايات على التحريم بقول مطلق و ما توهّم دلالته منها على جوازه بل استحبابه في القرآن، فذكر الروايات الدالّة على مدح الصوت الحسن و استحبابه في القرآن حيث قال:

و صرّح المحقّق(2) و جماعة(3) ممّن تأخّر عنه بتحريم الغناء و لو كان في القرآن، لكن غير واحد من الأخبار يدلّ على جوازه بل استحبابه في القرآن بناءً على دلالة الروايات على حسن الصوت و التحزين و الترجيع في القرآن بل استحبابه، و الظاهر أنّ شيئاً منها لا يوجد بدون الغناء على ما استفيد من كلام أهل اللغة و غيرهم و فصّلناه في بعض رسائلنا. ففي مرسلة ابن أبي عمير عن الصادق عليه السلام «إنّ القرآن نزل بالحزن فاقرءوه بالحزن»(4) و عن عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «إنّ اللّٰه أوحى إلى موسى بن عمران إذا وقفت بين يدي فقف موقف الذليل الفقير، و إذا قرأت التوراة فأسمعنيها بصوت حزين»(5) و عن حفص قال: «ما رأيت أحداً أشدّ خوفاً على نفسه من موسى بن جعفر، و لا أرجى للناس منه، و كانت قراءته حزناً، فإذا قرأ فكأنّه يخاطب إنساناً»(6). و في رواية عبد اللّه بن سنان «اقرءوا القرآن بألحان العرب و أصواتها»(7) و في

ص: 220


1- الوسائل 2/122:17، ب 16 ما يكتسب به، الفقيه 139/42:4.
2- الشرائع 10:2.
3- كما في المسالك 126:3، و جامع المقاصد 23:4، و المكاسب 310:1.
4- الوسائل 1/208:6، ب 22 قراءة القرآن، الكافي 2/449:2.
5- الوسائل 2/208:6، ب 22 قراءة القرآن، الكافي 6/450:2.
6- الوسائل 3/208:6، ب 22 قراءة القرآن، الكافي 10/443:2.
7- الوسائل 1/210:6، ب 24 قراءة القرآن، الكافي 3/450:2.

رواية النوفلي عن أبي الحسن عليه السلام قال: «ذكرت الصوت عنده فقال: إنّ عليّ بن الحسين عليهما السلام كان يقرأ القرآن فربّما يمرّ به المارّ فصعق من صوته أنّ الإمام أظهر من ذلك شيئاً لما احتمله الناس من حسنه»(1) الخ. و في رواية عبد اللّه بن سنان عن رسول اللّٰه «لم يعط اُمّتي أقلّ من ثلث الجمال و الصوت الحسن و الحفظ»(2). و في رواية أبي بصير عن رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم «إنّ من أجمل الجمال الشعر الحسن و نغمة الصوت الحسن»(3) و في رواية عبد اللّه بن سنان عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم «لكلّ شيء حلية و حلية القرآن الصوت الحسن»(4) و في رواية اُخرى عن أبي عبد اللّه عليه السلام «قال: كان عليّ بن الحسين عليهما السلام أحسن الناس صوتاً بالقرآن و كان السقّاءون يمرّون يستمعون قراءته»(5).

و في رواية اُخرى عن أبي جعفر عليه السلام «ترجّع بالقرآن صوتك فإنّ اللّٰه عزّ و جلّ يحسب الصوت الحسن يرجع فيه ترجيعاً»(6) و روى معاوية في الصحيح قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: الرجل لا يرى أنّه صنع شيئاً في الدعاء و في القرآن حتّى يرفع صوته، فقال: لا بأس إنّ عليّ بن الحسين عليهما السلام كان أحسن الناس صوتاً بالقرآن فكان يرفع صوته حتّى يسمعه أهل الدار، و أنّ أبا جعفر عليه السلام كان أحسن الناس صوتاً بالقرآن، فقال:

إذا قام الليل و قرأ رفع صوته فيمرّ به مارّ الطريق من السقّائين و غيرهم فيقيمون فيستمعون إلى قراءته»(7). إلى أن قال: و ارتكاب التأويل في هذه الأخبار بحيث يجتمع مع القول بتحريم الغناء في القرآن يحتاج إلى تكلّف بيّن... إلى أن قال: و حينئذٍ نقول:

يمكن الجمع بين هذه الأخبار و الأخبار الكثيرة الدالّة على تحريم الغناء بوجهين، أحدهما: تخصيص تلك الأخبار ما عدا القرآن، و حمل ما يدلّ على ذمّ التغنّي بالقرآن على قراءة تكون على سبيل اللهو كما يصنعه الفسّاق في غنائهم. و ثانيهما: أن يقال

ص: 221


1- الوسائل 12/211:6، ب 24 قراءة القرآن، الكافي 4/450:2.
2- البحار 2/443:22. ب 14 فضائل اُمّة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم.
3- روضة المتّقين 170:10، الكافي 8/615:2.
4- الوسائل 3/211:6، ب 24 فضائل اُمّة، الكافي 9/450:2.
5- الوسائل 4/211:6، ب 24 فضائل اُمّة، الكافي 11/451:2.
6- الكافي 13/616:2.
7- الوسائل 2/209:6، ب 23 قراءة القرآن، مستطرفات السرائر: 17/97.

المذكور في تلك الأخبار الغناء و المفرد المعرّف باللام لا يدلّ على العموم لغةً ، و عمومه إنّما يستنبط من حيث إنّه لا قرينة على إرادة الخاصّ ، و إرادة بعض الأفراد من غير تعيين ينافي غرض الإفادة و سياق البيان و الحكمة فلا بدّ من حمله على الاستغراق و العموم، و هاهنا ليس كذلك لأنّ الشائع في ذلك الزمان الغناء على سبيل اللهو من الجواري المغنّيات و غيرهنّ في مجالس الفجور و الخمور و غيرها. فحمل المفرد على تلك الأفراد الشائعة في ذلك الزمان غير بعيد. و في عدّة من تلك الأخبار إشعار بكونه لهواً باطلاً، و صدق ذلك في القرآن و الدعوات و الأذكار المقروءة بالأصوات الطيّبة المذكّرة للآخرة و المهيّجة للأشواق إلى عالم القدس محلّ تأمّل. فإن ثبت إجماع في غير الغناء على سبيل اللهو كان متّبعاً و إلّا كان حكمه على أصل الإباحة، و طريق الاحتياط واضح(1) انتهى.

و يندفع ما ذكره في الوجه الثاني بأنّ المفرد المعرّف باللام حقيقة في تعريف الجنس، و الشيوع الموجب لانصرافه إلى ما ادّعى شيوعه غير معلوم، و الأصل في الاستعمال الحقيقة، و تعليق التحريم إلى الطبيعة يقتضي حرمة جميع أفرادها إلّا ما خرج منها بالدليل، فدعوى بقاء غير الغناء على سبيل اللهو تحت أصل الإباحة غير سديد.

على أنّا نقول - بناءً على ما تقدّم تحقيقه عند البحث في موضوع الغناء - إنّ الغناء ليس إلّا من جنس الصوت اللهويّ الّذي يرغب إليه أهل الفسق و الطرب، و مقتضى الأدلّة خصوصاً قوله في صحيحة محمّد بن مسلم «الغناء ما وعد اللّٰه عليه النار» كون الصوت اللهويّ بطبيعته مبغوضة للشارع، و على هذا فمادّة القراءة بالغناء مبغوضة محرّمة، و خصوصيّة الهيئة القرآنية الطارئة لها لا يخرجها عن المبغوضيّة و التحريم و إن لم يصدق على القراءة باعتبار عنوان القرآنيّة عنوان اللهويّة، إذ من الواضح أنّه يصحّ القول بأنّ القرآن يقرأ بصوت لهويّ ، كما يقال: إنّه يقرأ بالغناء و إن لم يكن نفس القراءة لهواً.

و أمّا الوجه الأوّل: فيندفع أيضاً بمنع معارضة أخبار استحباب حسن الصوت و تحسينه في القرآن لأخبار تحريم الغناء و سائر أدلّته بوجه، إذ لا دلالة فيها صراحة

ص: 222


1- الكفاية: 85-86.

و لا ظهوراً و لا خصوصاً و لا عموماً على شيء من جواز الغناء و لا استحبابه في القرآن.

و دعوى عدم انفكاك تحسين الصوت أو ترجيعه عن الغناء غير مسموعة، بل ضرورة العيان و الوجدان تشهد ببطلانها حيث لا يلازم شيء منهما البلوغ حدّ الصوت اللهوي و لا التطريب اللذين أحدهما ضابط الغناء.

فإن قلت: الصوت الحسن على ما ذكرت بمفهومه أعمّ ممّا يتحقّق فيه الغناء و ما لا يتحقّق فله فردان، و عموم الجواز و الاستحباب المستفاد من الأخبار المذكورة يشملهما، غاية ما هنالك كون النسبة بين هذه الأخبار و أخبار تحريم الغناء عموم من وجه، فتخصّص أخبار التحريم بغير القرآن لأصالة الإباحة فيه.

قلت: مع أنّ أصل الإباحة في تعارض العامّين من وجه لا يصلح شاهداً لإرجاع التخصيص إلى ما يخالفه و أنّ شواهد إرجاعه إلى أخبار الجواز و الاستحباب من الأكثريّة و أظهريّة الدلالة و الشهرة و موافقة الإجماع محصّلاً و منقولاً و موافقة الكتاب و غير ذلك متكاثرة أصل التعارض مع فرض العموم على الوجه المذكور ممنوع.

و سند المنع أنّ أدلّة استحباب المستحبّات - كغسل الجمعة، و إدخال السرور في قلب المؤمن، و إجابة المؤمن، و قضاء حاجته، و نحو ذلك - و أدلّة إباحة المباحة كلحم الغنم و شرب الماء، و أدلّة كراهة المكروهات كالطهارة بالماء المشمّس و نحو ذلك إنّما أفادت هذه الأحكام في مواردها من حيث خلوّها عن الجهات الملزمة للفعل أو الترك، فما طرأه جهة ملزمة لفعله أو جهة ملزمة لتركه فهو خارج من هذه الموارد خروجاً موضوعيّاً، فلا ينافي الوجوب أو الحرمة المستفاد من أدلّة هذه الجهات للأحكام الثلاث المذكورة التابعة لخلوّ مواردها عن تلك الجهات، و هذا هو معنى عدم المعارضة بين أدلّة هذه الأحكام و أدلّة الوجوب أو الحرمة التابعين للجهات الطارئة لموارد هذه الأحكام، و لذا قد يجب غسل الجمعة لأجل النذر، و قد يحرم إذا تضمّن ضرراً أو مع مظنّة الضرر، أو لمغصوبيّة الماء أو نجاسته مع الانحصار، و قد يحرم إدخال السرور و إجابة المؤمن لجهة اللواط أو الزنا، و يحرم أكل لحم الغنم و شرب الماء للضرر أو المغصوبيّة أو النجاسة، و كذلك الطهارة بالماء المشمّس.

ص: 223

و من هذا القبيل حسن الصوت في القراءة بل و نفس القراءة فإنّ استحبابهما إنّما هو من حيث خلوّهما عن الجهات الملزمة لتركهما لأنّه الظاهر من أدلّة استحبابهما و طروّ جهة الغنائيّة أو اللهويّة يعطيهما الحرمة بلا إشكال لانتفاء التعارض. و بالتأمّل فيما ذكرنا يظهر الجواب عن الاستدلال بعمومات القراءة فإنّها لا تقاوم أدلّة حرمة الغناء، فإنّ المستحبّ هو القراءة من حيث خلوّهما عمّا يوجب لزوم أحد طرفي الفعل أو الترك فلا ينافيه التحريم من جهة لحوق عنوان الغناء.

و منها: الغناء في المراثي،

و عن جامع المقاصد(1) «أنّه حكي استثناؤه قولاً» و لم يسمّ قائله، و دليله على ما قيل عمومات أدلّة الإبكاء و الرثاء. و عن المحقّق الأردبيلي أنّه - بعد ما وجّه استثناءه في المراثي بأنّه لم يثبت الإجماع إلّا في غيرها و الأخبار ليست بصحيحة صريحة في التحريم مطلقاً - أيّده بأنّ البكاء و التفجّع أمر مطلوب مرغوب و فيه ثواب عظيم و الغناء معين على ذلك و أنّه متعارف دائماً في بلاد المسلمين من زمن المشايخ إلى زماننا هذا من غير نكير، ثمّ أيّده أيضاً بجواز النياحة و أخذ الاُجرة عليها، و الظاهر أنّها لا تكون إلّا معه و بأنّ تحريم الغناء للطرب على الظاهر و ليس في المراثي طرب بل ليس إلّا الحزن(2) انتهى.

و الجواب: عن العمومات قد ظهر ممّا مرّ من أنّها لا تقاوم لمعارضة أدلّة تحريم الغناء حتّى ما تحقّق منه في المراثي، و مرجعه إلى منع قضاء عمومها بجواز جهة الغناء المتحقّقة فيها و لا استحبابها، و إطلاق الإجماعات المنقولة يعمّها أيضاً إن لم نقل بسبق الإجماع المحصّل على حدوث الخلاف، و في الأخبار ما هو صحيح صريح في التحريم مطلقاً كصحيحة محمّد بن مسلم المتقدّمة، و كون الغناء معيناً على البكاء و التفجّع أضعف شيء ذكر في المقام، و لا يثبت به استحباب الغناء، لمنع الصغرى تارةً و منع الكبرى اُخرى.

أمّا الأوّل: فلأنّ الغناء إن اُريد به الصوت اللهوي فهو حيثما تخلّل في أثناء القراءة يختلّ به حالة البكاء و التفجّع عن المستمع فهو ممّا يزيل تلك الحالة لا أنّه يعين عليها،

ص: 224


1- جامع المقاصد 23:4.
2- مجمع الفائدة 59:8.

و إن اُريد به الترجيع المطرب فالطرب الّذي يحصل به إن كان سروراً فهو لا يناسب البكاء و التفجّع، و إن كان حزناً فهو كالحزن الحاصل منه في غير مجلس الرثاء فيكون حزناً على الآلام المركوزة في النفوس من عدم نيل المقاصد و الآمال و فقد المشتهيات النفسانيّة، لا على ما أصاب أئمّتنا و ساداتنا من المصائب.

و أمّا الثاني: فلأنّ استحباب الغناء لكونه معيناً على المستحبّ ، إمّا من جهة المقدّمية بدعوى أنّه مقدّمة للبكاء الّذي هو مستحبّ فيستحبّ بضابطة أنّ مقدّمة المستحبّ مستحبّة، أو من جهة الإعانة على البرّ المستفاد حسنه من قوله تعالى:

«تَعٰاوَنُوا عَلَى اَلْبِرِّ وَ اَلتَّقْوىٰ » (1) نظراً إلى أنّ البكاء من البرّ فيندرج الإعانة عليه في عموم الآية. و لا سبيل إلى شيء منهما:

أمّا الأوّل فلوجهين:

أحدهما: أنّ المقدّمة إنّما تكتسب الحكم وجوباً أو استحباباً من ذي المقدّمة إذا كانت فعلاً لفاعل ذي المقدّمة، على معنى كون اتّحاد فاعليهما شرطاً لوجوب مقدّمة الواجب و استحباب مقدّمة المستحبّ ، و لذا لا يجب على إنسان إحضار الماء لمن وجب عليه غسل الجنابة أو الوضوء للصلاة، و لا يستحبّ إحضاره أيضاً لمن يستحبّ له غسل الجمعة أو الوضوء لتلاوة القرآن.

و ثانيهما: أنّ مقدّمة الواجب أو المستحبّ إذا كانت محرّمة فتحريمها يؤثّر إمّا في تخصيص الوجوب أو الاستحباب المقدّمي بأفرادها المباحة إن كانت، أو في رفع الحكم وجوباً أو استحباباً عن ذي المقدّمة مع الانحصار لئلّا يلزم التكليف بما لا يطاق، و لذا انتقل تكليف من انحصر ماء وضوئه في المغصوب إلى التيمّم إلى أنّ وجوب ذي المقدّمة أو استحبابه يؤثّر في رفع الحرمة عن المقدّمة لتصير واجبة أو مندوبة من باب المقدّمة، فالغناء مع قطع النظر عن مقدّميّته إن كان محرّماً فكيف يمكن أن يصير مستحبّاً لأجل كونه مقدّمة للمستحبّ .

و أمّا الثاني فلوجوه ثلاث:

ص: 225


1- المائدة: 2.

الأوّل: أنّ مفاد الآية وجوب المعاونة على البرّ و التقوى و تحريم المعونة على الإثم و العدوان لا استحبابه، فيراد من البرّ ما كان وجوبيّاً كفعل الواجبات و ترك المحرّمات فلا يندرج فيها ما نحن فيه.

الثاني: أنّ الغناء فيما نحن فيه من الإعانة على الإثم و العدوان المنهيّ عنه في الآية، نظراً إلى أنّه كما يحرّم فعله فكذلك يحرم استماعه.

الثالث: أنّ الإعانة على البرّ من حيث خلوّها عن الجهة الملزمة للترك مستحبّة، و مع طروّ تلك الجهة تصير محرّمة، و لا ينافي تحريمها حينئذٍ دليل استحبابها كما عرفت مراراً.

و أضعف من الوجه دعوى كونه متعارفاً في بلاد المسلمين فإنّه إن اُريد به كونه متعارفاً في مجالس الجهّال و العوام المتسامحين في الدين، فلا اعتبار بهذا التعارف، لأنّه ليس إلّا كتعارف سائر الفسوق و المعاصي و منها الغناء في غير مجالس الرثاء.

و إن اُريد به تعارفه في مجالس العلماء و المتورّعين من العوام، فأصل التعارف ممنوع أوّلاً بل نرى أنّ القارين و الراثين عند حضور العلماء يتحفّظون عنه، و عدم النكير ممنوع ثانياً حيث يقع أحياناً بل شاهدنا منع العلماء و المتورّعين و إنكارهم، و ربّما خرجوا من المجلس إنكاراً، و من لم ينكر فلعلّه لمصيره إلى هذا القول الضعيف أو لعلمه بعدم التأثير.

و مع الغضّ عن جميع ما ذكر فالتعارف المذكور إن اُريد به ما دون السيرة فلا عبرة به، و إن اُريد به السيرة الكاشفة عن تقرير المعصومين عليهم السلام و لا تكون كاشفة إلّا إذا كانت قديمة ثابتة في أعصارهم عليهم السلام، و هذا غير معلوم بل خلافه معلوم، حيث لم يكن إقامة مجلس العزاء في أعصارهم شائعة بل كانت في كمال الندرة، و هذا النادر لشدّة التقيّة كان يقع في الخلوات، و من أين يعلم وقوع الغناء في مجالسهم و هم لم ينكروا على الفاعل ؟ و على تقدير الوقوع من أين علم عدم إنكارهم ؟ فهذه السيرة حادثة لا تكشف عن التقرير.

و أمّا جواز النياحة و جواز أخذ الاُجرة عليها فلا تأييد فيهما، لأنّها لا تلازم الغناء أصلاً. فقوله «و الظاهر أنّها لا تكون إلّا معه» واضح المنع فلا يبقى إلّا إطلاق دليل، و ينصرف إلى ما لم يطرأه جهة منع و الغناء منها. و قوله «و ليس في المراثي طرب» فلعلّه

ص: 226

مبنيّ على توهّم انحصار الطرب في السرور كما حكاه صاحب القاموس قولاً و زيّفه.

و فيه: أوّلاً منع الانحصار و إن غلب إطلاقه في هذه الأعصار و غيرها في السرور، و ثانياً ما عرفت من أنّ الحزن الحاصل من الغناء ليس هو الحزن المطلوب في الرثاء.

و منها: غناء المغنّية في الأعراس إذا لم يكن معه اللعب بآلات اللهو و التكلّم بالأباطيل و دخول الرجال،

و قيل: المشهور استثناؤه. و عن صريح الحلّي(1) و العلّامة في التذكرة(2) و ظاهر المفيد(3) و الحلبي(4) و الديلمي(5) المنع منه.

و مستند المشهور ما تقدّم من روايتي أبي بصير الدالّتين على «إباحة أجر المغنّية الّتي تزفّ العرائس و ليست بالّتي يدخل عليها الرجال» نظراً إلى الملازمة بين إباحة الأجر و إباحة الفعل. و منع الملازمة غير سديد، كما أنّ دعوى كون الأجر لمجرّد الزفّ لا للغناء غير سديد. و هذا القول جيّد لقوّة دليله.

و توهّم القصور في سند الروايتين من جهة أبي بصير لاشتراكه بين الثقة و غير الثقة - مع أنّ إطلاقه كما حقّق في محلّه ينصرف إلى الثقة، مضافاً إلى منع دخول غير الثقة في هذا الاسم كما عن بعضهم تعليلاً بأنّ أبا بصير مشترك بين ثلاثة و كلّهم أجلّاء ثقات و لا رابع لهم - يندفع بانجباره بالشهرة لو كانت مستندة إلى الروايتين. و مع هذا فطريق الاحتياط واضح.

و على الجواز فشرطه - كما صرّح به في الروايتين - عدم دخول الرجال عليهنّ لاستماع الغناء منهنّ ، و أمّا الشرطان الآخران فلم يصرّح بهما في الروايتين فاعتبارهما يحتاج إلى دليل، و حرمة اللعب بالملاهي لا تستلزم حرمة ما اقترن بها، و كذلك التكلّم بالباطل إن سلّمنا حرمته مطلقاً. إلّا أن يقال: إنّ العذر المقطوع بخروجه من عمومات تحريم الغناء و مطلقاته ما اشتمل على الشروط الثلاث، و الباقي باقٍ تحت العموم و الإطلاق، هذا مضافاً إلى طريقة الاحتياط.

و منها: الحُداء بالضمّ كدعاء، و هو صوت ترجّع فيه للسير بالإبل،

و في المسالك(6)

ص: 227


1- السرائر 222:2.
2- التذكرة 582:1.
3- المقنعة: 588.
4- الكافي في الفقه: 281.
5- المراسم: 170.
6- المسالك 126:3.

و الرياض(1) أنّه سوق الإبل بالغناء. و في الكفاية(2) المشهور استثناؤه، و عن الدروس(3)و شهادات الشرائع(4) و القواعد(5) التصريح بذلك.

و في الرياض(6) ينبغي القطع بعدم استثنائه، و منعه أيضاً بعض مشايخنا قدس سره(7)استضعافاً لدليله، إذ ليس إلّا رواية(8) نبويّة متضمّنة لتقرير النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لعبد اللّٰه بن رواحه حيث حدى للإبل و كان حسن الصوت. و هو في محلّه، لضعف الرواية و عدم ثبوت الشهرة الجابرة له، بل قيل: لعلّ المحقّق خلافها، مع تطرّق المنع من كون الحداء على صفة الغناء، و لعلّه كيفيّة مخصوصة غير مندرجة فيه، بل في كلام بعض مشايخنا(9) «أنّه قسيم للغناء بشهادة العرف، و حينئذٍ فهو خارج من الموضوع لا الحكم».

ص: 228


1- الرياض 157:8.
2- الكفاية: 86.
3- الدروس 126:2.
4- الشرائع 128:4.
5- القواعد 236:2.
6- الرياض 236:8.
7- المكاسب للشيخ الأنصاري 313:1.
8- سنن البيهقي 227:10.
9- الجواهر 51:22.

النوع الثالث في معونة الظلمة

اشارة

و عن الأكثر تقييده بكونه في الظلم(1) و عن جماعة(2) تقييده بكونه في المحرّم، و لعلّه يوافق الأوّل بإرادة هذا النوع من المحرّم لا مطلقه لأنّ الإعانة عليه داخل في المعونة على الإثم المنصوص على حرمتها في الآية، و هذا لا يختصّ بالمظلمة و الأصحاب أفردوه بالذكر لخصوصيّة، و لعلّه تبع منهم للنصوص المأخوذ فيها ذلك عنواناً. و عن نهاية(3) الشيخ إطلاق العنوان من دون تقييد له بأحد القيدين، و لعلّ المراد به المقيّد، و ربّما ادّعي الانصراف إليه و لعلّه لتعليق الحكم على الوصف، و يحتمل كونه بناءً منه على إطلاق المنع من معونة الظلمة في ظلمهم و العمل لهم في المباحات و الطاعات أيضاً.

و كيف كان فالعمل للظلمة على أقسام ثلاث:
اشارة

الأوّل: معونتهم في ظلمهم.

الثاني: العمل لهم بحيث يعدّ العامل من أعوان الظلمة و رجالهم المنسوبين إليهم - بأن يقال: فلان كاتب السلطان أو خيّاطه أو معماره أو ناظره - و إن لم يكن أصل

ص: 229


1- المكاسب 53:2، السرائر 222:2، التحرير 260:2، الدروس 163:3، اللمعة: 108، جامع المقاصد 26:4.
2- حكاه الشيخ البهائي في الأربعين حديثاً: 239، المقنعة: 589، المراسم: 17، الشرائع 10:2، الكفاية 435:1، الإرشاد 357:1.
3- النهاية: 365.

العمل محرّماً.

الثالث: العمل لهم من غير أن يعدّ من أعوانهم كخياطة ثيابهم و البناء لهم و الكتابة لهم و نحو ذلك بأُجرة أو تبرّعاً.

أمّا القسم الأوّل: [أي معونتهم في ظلمهم.]

فحكمه التحريم بلا خلاف، بالأدلّة الأربع من الإجماع بقسميه.

و العقل المستقلّ فإنّه كما يستقلّ بإدراك قبح الظلم فكذلك يستقلّ بإدراك قبح المعونة للظالم في ظلمه، بل لك أن تقول: إنّه من الظلم نفسه، كما حكي «أنّه قيل لبعض: إنّي رجل أخيط للسلطان ثيابه فهل تراني بذلك داخلاً في أعوان الظلمة ؟ قال:

المعين من يبيعك الإبر و الخيوط، و أمّا أنت من الظلمة أنفسهم»(1).

و الكتاب لعموم قوله عزّ من قائل: «وَ لاٰ تَعٰاوَنُوا عَلَى اَلْإِثْمِ وَ اَلْعُدْوٰانِ » (2) و نحو قوله تعالى: «وَ لاٰ تَرْكَنُوا إِلَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ اَلنّٰارُ» (3) فإنّ محبّتهم أو الميل إليهم أو محبّة بقائهم إذا حرم فمعونتهم على الظلم أولى بالتحريم.

و السنّة كالمستفيضة الدالّة على ذمّ أعوان الظلمة، مضافة إلى خصوص الصحيح عن أبي حمزة الثمالي عن عليّ بن الحسين عليهما السلام في حديث قال: «إيّاكم و صحبة العاصين و معونة الظالمين»(4). و رواية طلحة بن زيد عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «العالم بالظلم، و المعين له، و الراضي به، شركاء ثلاثتهم»(5). و المرويّ عن كتاب عقاب الأعمال بإسناده عن السكوني عن جعفر بن محمّد عن آبائه عليهم السلام عن رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم في حديث قال: «من تولّى خصومة ظالم أو أعانه عليها نزل به ملك الموت بالبشرى بلعنه و نار جهنّم، و بئس المصير»(6).

و المرويّ عن كتاب ورّام بن أبي فراس قال: «قال عليه السلام: من مشى إلى ظالم ليعينه و هو يعلم أنّه ظالم فقد خرج من الإسلام، قال: و قال عليه السلام: إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ أين الظلمة، أين أعوان الظلمة، أين أشباه الظلمة، حتّى من برى لهم قلماً، و لاق لهم

ص: 230


1- المكاسب 58:2، التحفة السنيّة في شرح النخبة المحسنيّة: 57.
2- المائدة: 2.
3- هود: 113.
4- الوسائل 1/177:17، ب 42 ما يكتسب به، الكافي 2/14:8.
5- الوسائل 2/177:17، ب 42 ما يكتسب به، الكافي 16/333:2.
6- الوسائل 14/181:17، ب 42 ما يكتسب به، عقاب الأعمال: 331.

دواة، قال: فيجتمعون في تابوت من حديد ثمّ يرمى بهم في جهنّم»(1). و في الحديث المتقدّم عن كتاب عقاب الأعمال «و من علّق سوطاً بين يدي سلطان جائر، جعلها اللّٰه حيّة طولها سبعون ألف ذراع، فيسلّطه عليه في نار جهنّم خالداً فيها مخلّداً»(2).

و أمّا القسم الثاني: [أي العمل لهم بحيث يعدّ العامل من أعوان الظلمة و رجالهم المنسوبين إليهم]

فالظاهر أنّه أيضاً حرام وفاقاً لبعض مشايخنا(3) و لم نقف على قول بخلاف الحرمة.

و يحتمل قويّاً أن يكون المراد من معونة الظلمة في عنواناتهم ما يعمّ ذلك أيضاً، للنصوص الدالّة على ذمّ أعوان الظلمة:

مثل خبر محمّد بن عذافر عن أبيه قال: «قال أبو عبد اللّه عليه السلام: يا عذافر نبّئت أنّك تعامل أبا أيّوب و الربيع فما حالك إذا نودي بك في أعوان الظلمة ؟ قال: ففزع أبي، فقال له أبو عبد اللّه عليه السلام لمّا رأى ما أصابه: أي عذافر إنّما خوّفتك بما خوّفني اللّٰه عزّ و جلّ به، فقال محمّد: فقدم أبي فما زال مغموماً مكروباً حتّى مات»(4).

و خبر ابن أبي يعفور قال: «كنت عند أبي عبد اللّه عليه السلام إذ دخل عليه رجل من أصحابنا، فقال له: جعلت فداك أنّه ربّما أصاب الرجل منّا الضيق أو الشدّة فيدعى إلى البناء يبنيه أو النهر يكريه أو المسنّاة يصلحها، فما تقول في ذلك ؟ فقال أبو عبد اللّٰه عليه السلام: ما اُحبّ أنّي عقدت لهم عقدة أو وكيت لهم وكاءً و أنّ لي ما بين لابتيها لا و لا مدّة بقلم، إنّ أعوان الظلمة يوم القيامة في سرادق من نار حتّى يحكم اللّٰه بين العباد»(5).

و الشاهد في التعليل و إن كان السؤال في مطلق العمل لهم صدر الجواب ظاهراً في الكراهة، و تعليله بما ذكر تنبيه على أنّ وجه الكراهة أنّ العمل لهم مطلقاً ربّما يفضي إلى أنّ دخل المعامل في أعوان الظلمة و يعدّ من رجالهم و خواصّهم.

و خبر ابن بنت الوليد ابن صبيح الكاهلي عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «من سوّد اسمه في ديوان ولد سابع حشره اللّٰه يوم القيامة خنزيراً»(6) سابع مقلوب عبّاس كما أنّ رمع

ص: 231


1- الوسائل 15/182:17، ب 42 ما يكتسب به، تنبيه الخواطر 54:1.
2- الوسائل 14/181:17، ب 42 ما يكتسب به، عقاب الأعمال: 335.
3- المكاسب للشيخ الأنصاري 54:1 و 59.
4- الوسائل 3/178:17، ب 42 ما يكتسب به، الكافي 1/105:6.
5- الوسائل 6/179:17، ب 42 ما يكتسب به، الكافي 7/107:5.
6- الوسائل 9/180:17، ب 42 ما يكتسب به، الكافي 913/329:6.

مقلوب عمر، و منه ما روي «أنّ أوّل من ردّ شهادة المملوك رمع»(1).

و خبر السكوني عن جعفر بن محمّد عن آبائه عليهم السلام قال: «قال رسول اللّٰه: إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ أين أعوان الظلمة و من لاق لهم دواة، أو ربط كيساً، أو مدّ لهم مدّة قلم فاحشروهم معهم»(2).

و خبره الآخر قال: «قال رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم: ما اقترب عبد من سلطان جائر إلّا تباعد من اللّٰه»(3).

و خبره الآخر قال: «قال رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم: إيّاكم و أبواب السلطان و حواشيها فإنّ أقربكم من أبواب السلطان و حواشيها أبعدكم من اللّٰه عزّ و جلّ »(4).

و تقدّم في الحديث المنقول عن كتاب ورّام بن أبي فراس قوله عليه السلام: «إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ أين الظلمة، و أعوان الظلمة، و أشباه الظلمة حتّى من برى لهم قلماً، و لاق لهم دواة، قال: فيجتمعون في تابوت من حديد ثمّ يرمى بهم في جهنّم»(5).

و أمّا القسم الثالث: [أي العمل لهم من غير أن يعدّ من أعوانهم]

فالمصرّح به في كلام جماعة(6) عدم التحريم، و في كلام غير واحد نفي الخلاف، و ربّما يدّعى الإجماع عليه.

نعم في عدّة من الروايات ما يستظهر منه المنع أيضاً، مثل خبر أبي بصير قال:

«سألت أبا جعفر عليه السلام عن أعمالهم ؟ فقال لي: يا أبا محمّد لا و لا مدّة قلم، إنّ أحدكم لا يصيب من دنياهم شيئاً إلّا أصابوا من دينه مثله، أو حتّى يصيبوا من دينه مثله»(7).

و خبر ابن أبي يعفور المتقدّم، و خبر يونس بن يعقوب قال: «قال لي أبو عبد اللّٰه عليه السلام:

لا تعنهم على بناء مسجد»(8).

ص: 232


1- الوسائل 6/267:27، ب 14 كتاب القضاء، الفقيه 213/63:3.
2- الوسائل 11/180:17، ب 42 كتاب القضاء، عقاب الأعمال: 1/309.
3- الوسائل 12/181:17، ب 42 كتاب القضاء، عقاب الأعمال: 1/310.
4- الوسائل 13/181:17، ب 42 كتاب القضاء، عقاب الأعمال: 2/310.
5- الوسائل 16/182:17، ب 42 ما يكتسب به، تنبيه الخواطر 54:1.
6- كما في السرائر 222:2، جامع المقاصد 26:4، الروضة 213:3، الكفاية: 86.
7- الوسائل 5/179:17، ب 42 ما يكتسب به، الكافي 5/106:5.
8- الوسائل 8/180:17، ب 42 ما يكتسب به، التهذيب 941/338:6.

و خبر صفوان بن مهران الجمّال قال: «دخلت على أبي الحسن الأوّل عليه السلام فقال لي:

يا صفوان كلّ شيء منك حسن جميل ما خلا شيئاً واحداً، قلت: جعلت فداك أيّ شيء؟ قال: إكراؤك جمالك من هذا الرجل - يعني هارون الرشيد - قلت: و اللّٰه ما أكريته أشراً و لا بطراً و لا للصيد و لا للّهو و لكنّي أكريته لهذا الطريق - يعني طريق مكّة - و لا أتولّاه بنفسي، و لكن أبعث معه غلماني، فقال لي: يا صفوان أ يقع كراؤك عليهم ؟ قلت: نعم جعلت فداك، قال: فقال لي: أ تحبّ بقاءهم حتّى يخرج كراءك ؟ قلت: نعم، قال: من أحبّ بقاءهم فهو منهم، و من كان منهم كان ورد النار، قال صفوان: فذهبت فبعت جمالي عن آخرها فبلغ ذلك إلى هارون فدعاني، فقال: يا صفوان بلغني أنّك بعت جمالك، قلت: نعم، قال: و لِمَ؟ قلت: أنا شيخ كبير، و أنّ الغلمان لا يقومون بالأعمال، فقال: هيهات هيهات إنّي لأعلم من أشار عليك بهذا، أشار عليك بهذا موسى بن جعفر، قلت: ما لي و لموسى بن جعفر؟ فقال: دع هذا عنك فو الله لو لا حسن صحبتك لقتلتك»(1).

و هذه الأخبار لعدم عامل بها و قصور أسانيدها مطروحة، أو مؤوّلة فتارةً بالحمل على ما تضمّن من العمل المباح بالذات محرّماً من غصب أو استعمال آلة مغصوبة و نحو ذلك، و اُخرى بالحمل على الكراهة كما يشهد له قوله عليه السلام: «ما اُحبّ » في خبر ابن أبي يعفور المتقدّم، هذا مع تطرّق المنع إلى دلالة بعضها كخبر الجمّال لقضائه بأنّ المرجوح بل المذموم بل الممنوع هو محبّة بقائهم لا نفس العمل لهم، إلّا أن يكون العمل مقدّمة للمحبّة فليتدبّر.

ص: 233


1- الوسائل 17/182:17، ب 42 ما يكتسب به، رجال الكشّي 828/740:2.

النوع الرابع النوح بالباطل

و أصل النوح ذكر الميّت بأوصاف و مدائح على وجه الندبة و التفجّع، فإن لم يكن فيه هذه الأوصاف و المدائح كان نوحاً بالباطل، و لذا فسّر الباطل هنا بالكذب، و إن كانتا فيه كان نوحاً بالحقّ ، و موضوع المسألة هو الأوّل، و هو محرّم في نفسه عند الأكثر، و إنّما قيّدناه بالأكثر لأنّ من الأصحاب كالشيخ في ظاهر المبسوط(1) و ابن حمزة في الوسيلة(2) من منع من النوح على الميّت مطلقاً عملاً بظاهر روايات دالّة عليه بإطلاقها و عن الأوّل دعوى الإجماع عليه، خلافاً للأكثر ففصّلوا بينهما بالمنع في الأوّل و عن المنتهى(3) الإجماع عليه و الجواز في الثاني، و عن المنتهى الإجماع عليه أيضاً جمعاً بين الأخبار المختلفة بالمنع و التجوّز. و الظاهر أنّ النياحة على أهل بيت العصمة من النبيّ و الصدّيقة و الأئمّة عليهم السلام لأنّ الجواز بل الاستحباب فيه معلوم بالضرورة من المذهب(4) و على هذا فالاستدلال للجواز بالموثّق عن أبي عبد اللّه قال: «قال لي أبي: يا جعفر أوقف لي من مالي كذا و كذا لنوادب تندبني عشر سنين بمنى أيّام منى»(5) ليس على ما ينبغي لأنّ الجواز في مورد الموثّقة ليس من محلّ البحث.

و كيف كان فمن الأخبار المانعة ما في حديث المناهي «إنّه نهى عن النياحة

ص: 234


1- المبسوط 189:1.
2- الوسيلة: 69.
3- المنتهى 1012:2.
4- كذا في الأصل.
5- الوسائل 1/125:17، ب 42 ما يكتسب به، الكافي 1/117:5.

و الاستماع إليها»(1) و في المرويّ عن الخصال «إنّ النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقوم يوم القيامة و عليها سربال من قطران و درع من حرب»(2) و في حديث «من اُصيب بمصيبة فجاء عند تلك المصيبة بنائحة فقد كفّرها»(3) و عن المرويّ في معاني الأخبار في وصيّة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لفاطمة عليها السلام «إذا أنا متّ فلا تقيمنّ عليّ النياحة»(4).

و من المجوّزة الصحيح المتضمّن لترخيص النبيّ و تقريره نياحة اُمّ السلمة على أخيها الوليد(5) و الصحيح الآخر «لا بأس بأجر النائحة الّتي تنوح على الميّت»(6)و المرسل «و سئل الصادق عليه السلام عن أجر النائحة ؟ فقال: لا بأس به قد نيح على رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم»(7) و الآخر «لا بأس بكسب النائحة إذا قالت: صدقاً»(8).

و الأكثر حملوا الأوّلة على النوح بالباطل، و الاُخرى على النوح بالحقّ ، و لعلّ الشاهد إجماع المنتهى أو المرسلة الأخيرة، أو أنّ الأوّلة نصّ في الباطل و ظاهر في الحقّ و الاُخرى نصّ في الحقّ و ظاهر في الباطل، فطرح ظاهر كلّ بنصّ الآخر. و إجماع الشيخ موهون بمصير الأكثر إلى خلافه مع معارضته بأقوى منها و هو إجماع المنتهى.

و ربّما حملت الأخبار المانعة على التقيّة، أو على الكراهة، و قد يستشهد له بالمرويّ عن كتاب عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام قال: «سألته عن النوح على الميّت أ يصلح ؟ قال: يكره»(9) و المرويّ عن قرب الإسناد عن عبد اللّه بن الحسن عن جدّه عليّ بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام قال: «سألته عن النوح ؟ فكرهه»(10)و فيه نظر.

ص: 235


1- الوسائل 11/128:17، ب 17 ما يكتسب به، الفقيه 1/3:4.
2- الوسائل 12/128:17، ب 17 ما يكتسب به، الخصال: 60/226.
3- الوسائل 5/127:17، ب 17 ما يكتسب به، الكافي 11/432:6.
4- الوسائل 5/275:3، ب 83 أبواب الدفن، معاني الأخبار: 33/390.
5- الوسائل 2/125:17، ب 17 ما يكتسب به، الكافي 2/117:5.
6- الوسائل 7/127:17، ب 17 ما يكتسب به، التهذيب 1028/359:6.
7- الوسائل 10/128:17، ب 17 ما يكتسب به، الفقيه 551/116:1.
8- الوسائل 9/128:17، ب 17 ما يكتسب به، الفقيه 378/98:3.
9- الوسائل 13/129:17، ب 17 ما يكتسب به، مسائل عليّ بن جعفر: 221/156.
10- الوسائل 14/129:17، ب 17 ما يكتسب به، قرب الإسناد: 121.

نعم ربّما يستشمّ الكراهة من حديث «من اُصيب بمصيبة فجاء عند تلك المصيبة بنائحة فقد كفّرها»(1) و من الخبر «من أقام النياحة فقد ترك الصبر و أخذ في غير طريقه» و لكنّهما لا يقاومان أخبار المنع المصروفة إلى النوح بالباطل. نعم الكراهة في النوح بالحقّ عملاً بهما غير بعيدة، و ربّما يؤيّده نهي النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم فاطمة عليها السلام «إذا أنا متّ فلا تقيمنّ عليّ نياحة» ضرورة أنّ النياحة الّتي تقيمها فاطمة عليها السلام لا تكون بالباطل، فيكون النهي مصروفاً إلى الكراهة جمعاً بينه و بين ما هو أقوى منه سنداً و دلالة.

ص: 236


1- الوسائل 5/127:17، ب 17 ما يكتسب به، الكافي 11/432:6.

النوع الخامس حفظ كتب الضلال

فإنّه حرام كما هو المصرّح به في كلام جماعة، و عن منتهى(1) العلّامة نفي الخلاف عنه، كما هو المصرّح به أيضاً في التذكرة(2). و المراد به على ما يستفاد من كلماتهم ما يعمّ صيانة نفس الكتاب عن التلف و الاندراس و نسخه، و حفظ المكتوب على ظهر القلب و تعليمه و تعلّمه.

و دليله من الروايات ما في رواية تحف العقول من قوله عليه السلام: «و كلّ منهيّ عنه ممّا يتقرّب به لغير اللّٰه عزّ و جلّ ، أو يقوّى به الكفر و الشرك في جميع وجوه المعاصي، أو باب يوهن به الحقّ فهو حرام محرّم بيعه و شراؤه و إمساكه و ملكه وهبته و عاريته و جميع التقلّب فيه إلّا في حال تدعو الضرورة فيه إلى ذلك».

و ما أرسله في المستند من رواية الحذّاء «من علّم باب ضلال كان عليه مثل وزر من عمل به»(3).

وجه الاستدلال بالرواية الاُولى على ما قيل: إنّ المراد ب «ما يتقرّب به لغير اللّٰه» إنّما هو الأصنام و نحوه، و ب «ما يقوّى به الكفر و الشرك» إنّما هو بيع السلاح لأعداء الدين، و ب «باب يوهن به الحقّ » كتب الضلال و نحوه ممّا يوجب الإضلال و حصول الضلال.

و الضلال قد يطلق على ما يرادف البطلان، و منه قوله تعالى: «و أضلّ أعمالهم»(4)

ص: 237


1- المنتهى 1013:2.
2- التذكرة 144:12.
3- الوسائل 2/172:16، ب 16 من أبواب الأمر و النهي، الكافي 4/35:1.
4- محمّد (ص): 1.

فالمراد من كتبه حينئذٍ الكتب المشتملة على المطالب الباطلة.

و قد يطلق على ما يقابل الهداية و هذا شائع، فالمراد من كتبه حينئذٍ ما قصد بوضعه الإضلال و حصول الضلالة، أو ما يوجب الضلالة سواء قصد بوضعه ذلك أو لا؟ و سواء ترتّب الضلال على اُسلوبه و تأليفه كما فيما ابتدعه الفرقة الضالّة المضلّة، أو على مطالبه المندرجة فيه المنافية لدين الإسلام أو مذهب الفرقة المحقّة الناجية.

و الظاهر أنّ موضوع المسألة هو هذا المعنى لا المعنى الأوّل، لأنّه القدر المتيقّن من معقد نفي الخلاف و عليه ينطبق الرواية. و أمّا المعنى الأوّل فما كان من المطالب الباطلة مرتبطاً بالعقائد الّتي عليها مدار الهداية و الضلالة فهو داخل في المعنى الثاني، و ما كان منها من قبيل الأباطيل و الأكاذيب و الإغراقات كما في بعض كتب السير و التواريخ. أو الغزليّات و الهزليّات كجملة من كتب الشعراء فلا دليل على حرمة حفظها بشيء من معنييه.

و يندرج في المعنى الثاني الّذي هو المبحوث عنه من كتب العامّة ما اشتمل على إثبات خلافة الثلاثة و تفضيلهم و إثبات الفضائل لهم، و ما اشتمل على إثبات الجبر أو التفويض أو التجسيم أو الرؤية، و ما اشتمل على أحاديثهم المجعولة في هذه المطالب المنكرة من كتب أحاديثهم. و أمّا كتب أحاديثهم المتعلّقة بالفروع فلا يندرج فيه، و كذلك كتبهم في الفقه و اُصول الفقه و التفسير و النحو و الصرف و اللغة، و غيرها من العلوم العربيّة، لعدم الإضلال في شيء من ذلك.

و يندرج فيه من الكتب الشيخيّة ما اشتمل على إثبات العلل الأربعة في شأن الأئمّة عليهم السلام أو خصوص التفويض لأمر الخلق و الرزق و الإحياء و الإماتة إليهم، و على إنكار المعاد و المعراج الجسمانيّين، و من كتب العرفاء و المتصوّفة و رسائلهم ما اشتمل على مطالب منكرة و لو بمقتضى ظواهر ألفاظها القابلة للتأويل قريباً أو بعيداً من إثبات الجبر و وحدة الوجود و دعوى الاُلوهيّة أو الولاية، و من كتب الفلاسفة ما اشتمل على وحدة الوجود أو غيرها من المنكرات.

ثمّ إنّ مرجع حرمة الحفظ إلى وجوب الإعدام و الإتلاف و لو بمحو موضع الضلال

ص: 238

أو حكّه أو قطع الصفحة أو الورقة الّتي هو فيها. فما كان من كتب الضلال ما يترتّب الضلال على مجرّد اُسلوبه و تأليفه كبيان هؤلاء الفرقة الضالّة المضلّة، أو كان جميع مطالبه المندرجة فيه ضلالاً فطريق إعدامه إزالة خطوطه بالماء، أو دفنه في التراب حتّى يبلو، أو رضّ كواغذه و إلقاء رضاضها في الماء أو الصحراء أو غير ذلك.

و ما كان منها مع اشتماله على المطالب الضالّة مشتملاً على مطالب حقّة أيضاً فإن أمكن إفراد موضع الضلال بالإعدام بمحو أو قطع ورق أو نحو ذلك يقتصر عليه و لا يجب إعدام غيره بل لا يجوز لو كان له ماليّة أو كان مال الغير لكونه محترماً، و إن لم يمكن إفراده بالإعدام بل يتوقّف على إعدام الجميع و إتلافه وجب ذلك حسماً لمادّة الفساد، و لأنّ الشارع أسقط احترامه حينئذٍ، و لو كان لجلده أو وعائه ماليّة اُخذ صوناً للمال المحترم عن التلف و الضياع، و لو كان لغيره فلإتلافه تبعاً لإتلاف الكتاب يوجب الضمان.

و لا يندرج الكتب السماويّة الغير المحرّفة في الكتب الضالّة و إن كانت منسوخة فلا يلحقها حكّها، و أمّا المحرّفة منها كالموجود في يد اليهود و النصارى اليوم المسمّى عندهم بالتوراة و الإنجيل ففي اندراجها و لحوق الحكم بها و عدمه وجهان: من أنّها لا توجب للمسلمين بعد بداهة نسخها ضلالة، و من أنّها توجبها لليهود و النصارى، و الأقرب الأوّل للأصل.

ثمّ يدخل في الحفظ المحرّم، كلّ ما له دخل في بقاء المطالب المضلّة و الوقوع في الضلالة من النسخ و الحفظ على ظهر القلب و المذاكرة و المطالعة و المراجعة و غيرها.

و استثني عنه صور، منها: الحفظ لنقض دليل أهلها من كلامهم ليكون المجادلة بالّتي هي أحسن، أو الاحتجاج عليهم، أو إلزامهم على الحقّ ، و قد يقال في ضبط هذه الثلاث: إنّ الأوّل إبطال لدليل الخصم بما هو من مذهبه، و الثاني إبطال لمذهبه بما هو من مذهبه، و الثالث إثبات حقّيّة مذهبك بما هو من مذهبه. و الاطّلاع على مطالبهم ليحصل به التقيّة أو لمجرّد الاطّلاع على الآراء و المذاهب إلى غير ذلك من الفوائد الكثيرة، و لذا قال في جامع المقاصد - على ما حكي -: «إنّ فوائده كثيرة»(1).

ص: 239


1- جامع المقاصد 26:4.

و الدليل على الاستثناء بعد ظهور عدم الخلاف فيه قوله عليه السلام في الرواية المتقدّمة:

«إلّا في حال تدعو الضرورة فيه إلى ذلك».

و يعتبر في مواضع الاستثناء الأهليّة لمن استثني في حقّه، و ضابطها أن يطمئنّ على نفسه من الضلالة بالإذعان و القبول للمطلب المضلّ ، فإنّ النفس سارقة «وَ مٰا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ اَلنَّفْسَ لَأَمّٰارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاّٰ مٰا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ » (1).

ص: 240


1- يوسف: 53.

النوع السادس هجاء المؤمنين و هو حرام بالأدلّة الأربع،

أمّا الإجماع

فبقسميه كما في كلام بعض مشايخنا(1)و ممّن ادّعى الإجماع عليه - كما حكي - كاشف اللثام(2) تبعاً للعلّامة في المنتهى(3)و عنه في التذكرة(4) نفي الخلاف فيه.

و أمّا العقل

فلاستقلاله بقبح الهجاء.

و أمّا الكتاب

فآيات، منها: قوله تعالى: «وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ » (5) و هما على ما قيل بمعنى واحد و هو من يعيبك، و قيل: الأوّل من يعيبك بوجهك و الثاني من يعيبك بغيبك.

و منها: قوله تعالى: «وَ لاٰ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ » (6) فإن جعلنا الهجاء نوعاً من الغيبة غاية الأمر كونها أخصّ أفراده و أظهرها يشمله النهي الصريح في صدر الآية، و إن لم نجعله منها يدلّ على حرمته قوله «أ يحبّ أحدكم أن يأكل...» الخ الّذي هو بمنزلة التعليل، فإنّه مبنيّ على الاستعارة و التشبيه كما قيل، حيث شبّه المؤمن بالأخ النسبي و عرضه بلحم الأخ، و التعرّض لعرضه بالهجاء أو الغيبة بأكل لحمه و غيبته بموته، و المقصود من هذه التشبيهات بيان مشاركة هجاء المؤمن و اغتيابه لأكل لحم الأخ النسبي بعد موته في شدّة القبح و العقوبة، فكما أنّ المشبّه به ممّا يكرهه النفوس و ينكره العقول فكذلك المشبّه.

ص: 241


1- الجواهر 60:22.
2- كشف اللثام 294:10.
3- المنتهى 1013:2.
4- التذكرة 144:12.
5- الهمزة: 1.
6- الحجرات: 12.

و منها: قوله تعالى: «إِنَّ اَلَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ اَلْفٰاحِشَةُ فِي اَلَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ » (1) و لا ريب أنّ الهجاء إشاعة للفاحشة، و إذا كانت محبّته محرّمة فنفسه أولى بالتحريم.

و أمّا السنّة فكلّما دلّ - من النصوص المتكاثرة القريبة من المتواترة - على تحريم الغيبة و توعيد العذاب عليه يدلّ على تحريم هجاء المؤمنين أيضاً إمّا بالنطق إن جعلناه نوعاً منها، أو بالفحوى إن جعلناه خارجاً عنها، و حيث إنّ الأظهر في النظر القاصر كونه منها في الجملة كما ستعرفه في شرح الغيبة و بيان النسبة بينها و بين الهجاء، فلا نطيل الكلام بإيراد الأخبار هنا مستوفاة لعدم رجوعه إلى طائل بعد لحوق ذكرها في عنوان الغيبة، فنقتصر هنا في تقرير الأدلّة على ما ذكرناه ثمّ نردفه بالتعرّض لذكر موضوع الهجاء.

فنقول: فسّره جماعة منهم الشهيد الثاني في المسالك(2) و المحقّق الثاني في جامع المقاصد(3) و السيّد في الرياض(4) بذكر معائبهم بالشعر، و لعلّهم أخذوه من شيوع إطلاقه في العرف على هذا المعنى، أو من القاموس حيث ذكر «هجاه هجواً و هِجاءً شتمه بالشعر»(5) و نسب نحوه إلى النهاية(6) الأثيريّة و المصباح المنير(7) و في القاموس(8) فسّر الشتم بالسبّ و السبّ بالشمّ فهما و الهجاء ألفاظ مترادفة، و ذكر في المجمع «إنّ الشتم السبّ بأن تصف الشيء بما هو ازراء و نقص»(9) و الإزراء الغيب، فحاصل معنى الشتم و السبّ وصف الشيء بعيوبه فيرجع إلى ذكر المعايب بالشعر. فكلام هؤلاء يقتضي عدم تحقّق الهجاء في النثر.

لكنّ المحكيّ عن الصحاح كما في المجمع تفسير الهجاء بخلاف المدح. و الظاهر أنّ خلاف المدح هو الذمّ ، فيكون الهجاء عبارة عن الذمّ . و في المجمع «ذمّه عابه» يرجع إلى ذكر المعايب. و إطلاقهما يقتضي كونه أعمّ من ذكرها بالشعر أو بالنثر، و عموم الأدلّة

ص: 242


1- النور: 19.
2- المسالك 127:3.
3- جامع المقاصد 26:4.
4- الرياض 162:8.
5- القاموس 402:4.
6- النهاية الأثيريّة 248:5.
7- المصباح المنير 367:1.
8- القاموس 135:4.
9- مجمع البحرين 929:2.

أيضاً يساعد على إرادة الأعمّ بل هو أعمّ من كونه في الحضور أو في الغياب بالنطق أو بالكتب، إلّا أنّ الأظهر ما عليه الأكثر من اختصاصه بالشعر لشهادة العرف بذلك.

و المراد بالمؤمنين أهل الإيمان و هو الشيعي الاثنى عشري عدلاً كان أو فاسقاً ذكراً كان أو اُنثى بل الخنثى، نعم يخرج الكافر و المخالف و الإمامي الغير الاثنى عشري فلا يحرم هجاؤهم للأصل، و عدم شمول أدلّة التحريم.

و ربّما استثني عن موضع الحرمة هجاء المتجاهر بالفسق و لكن يجب الاقتصار على عيبه المتجاهر به طلباً لردعه، و هجاء الخائض في معصية اللّٰه و لو متستّراً إذا أراد به الردع مع انحصار طريقه في هجائه، و كذلك هجاء المبدع في الدين المدّعي لنفسه ما ليس فيه من نبوّة أو ولاية أو بابيّة أو ركنيّة فتهجوه و تذكر معائبه ليتنفّر عنه الناس و لا يحصل له الاتّباع، كما روي في الصحيح عن داود بن سرحان عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «قال رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم: إذا رأيتم أهل الريب و البدع من بعدي فأظهروا البراءة منهم و أكثروا من سبّهم و القول فيهم و الوقيعة و باهتوهم كيلا يطمعوا في الفساد في الإسلام و يحذّرهم الناس و لا يتعلّمون من بدعهم يكتب اللّٰه لكم الحسنات و يرفع لكم به الدرجات»(1).

ثمّ إنّ من مشايخنا(2) تبعاً لجامع المقاصد من ذكر سبّ المؤمنين أيضاً مع ذكره هجاءهم، و نقل عن جامع المقاصد تفسيره «بأن يسند إليه ما يقتضي نقصه مثل الوضيع و الناقص»(3) و قد تقدّم عن المجمع تفسير الشتم «بالسبّ بأن تصف الشخص بما هو إزراء و نقص» قال شيخنا: «و يدخل في النقص كلّما يوجب الأذى كالقذف و الحقير و الوضيع و الكلب و الكافر و المرتدّ و التعيير بشيء من بلاء اللّٰه تعالى كالأجذم و الأبرص»(4) و هذا على ما قدّمناه من معنى الهجاء داخل فيه، و كأنّ إفراده بالذكر لزعم أنّه لا يكون إلّا في النثر و الهجاء مختصّ بالشعر كما ذكره جماعة.

و كيف كان فهو كالهجاء يعتبر فيه قصد الإهانة، قال شيخنا قدس سره: و هو حرام في

ص: 243


1- الوسائل 1/267:16، ب 39 من أبواب الأمر و النهي، الكافي 4/375:2.
2- المكاسب للشيخ الأنصاري 254:1.
3- جامع المقاصد 27:4.
4- المكاسب للشيخ الأنصاري 254:1.

الجملة بالأدلّة الأربعة لأنّه ظلم و إيذاء و إذلال، ففي رواية أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام قال: «قال رسول اللّٰه: سباب المؤمن فسوق، و قتاله كفر، و أكل لحمه معصية، و حرمة ماله كحرمة دمه»(1) و في رواية السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «قال رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم:

سباب المؤمن كالمشرف على الهلكة»(2) و في رواية أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام قال:

«جاء رجل من تميم إلى رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم فقال له: أوصني، فكان فيما أوصاه لا تسبّوا فتكسبوا العداوة»(3) و في رواية ابن الحجّاج عن أبي الحسن عليه السلام في الرجلين يتسابّان قال: «البادئ منهما أظلم و وزره على صاحبه ما لم يعتذر إلى المظلوم»(4) قال: و في مرجع الضمائر اغتشاش و يمكن الخطأ من الراوي. و المراد و اللّٰه أعلم أنّ مثل وزر صاحبه عليه لإيقاعه إيّاه في السبّ من غير أن يخفّف عن صاحبه شيء، فإذا اعتذر إلى المظلوم عن سبّه و إيقاعه إيّاه في السبّ برء من الوزرين. ثمّ قال: يستثنى من المؤمن المظاهر بالفسق لما سيجيء في الغيبة من أنّه لا حرمة له، و هل يعتبر في جواز سبّه كونه من باب النهي عن المنكر فيشترط بشروطه أم لا؟ ظاهر النصوص و الفتاوى كما في الروضة(5) الثاني، و الأوّل أحوط. و يستثنى منه المبتدع أيضاً لقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «إذا رأيتم أهل البدع من بعدي فأظهروا البراءة منهم و أكثروا من سبّهم و الوقيعة فيهم»(6). و يمكن أن يستثنى من ذلك ما إذا لم يتأثّر المسبوب عرفاً بأن لا يوجب قول هذا القائل في حقّه مذلّة و لا نقصاً، كقول الوالد لولده أو السيّد لعبده عند مشاهدة ما يكره «يا حمار» و عند غيظه «يا خبيث» و نحوه(7).

ص: 244


1- الوسائل 3/297:12، ب 158 أحكام العشرة، الكافي 2/268:2.
2- الوسائل 4/298:12، ب 158 أحكام العشرة، الكافي 1/268:2.
3- الوسائل 2/297:12، ب 158 أحكام العشرة، الكافي 3/268:2.
4- الوسائل 1/297:12، ب 158 أحكام العشرة، الكافي 4/268:2.
5- الروضة البهيّة 175:9.
6- الوسائل 1/267:16، ب 39 الأمر و النهي، الكافي 4/375:2.
7- المكاسب 255:1.

النوع السادس الغيبة

و ينبغي التكلّم أوّلاً في تحقيق موضوعها بالنظر تارةً في كلمات أئمّة اللغة، و اُخرى في تفاسير الفقهاء، و ثالثة في الأخبار المتعرّضة لبيان معناها.
أمّا الأوّل: [أي في كلمات أئمّة اللغة]

ففي القاموس «غابه عابه و ذكره بما فيه من السوء كاغتابه، و الغيبة فعلة منه تكون حسنة و قبيحة»(1) انتهى، و الظاهر بمقتضى السياق أنّ عطف «و ذكره» للتفسير و المراد بالحسنة و القبيحة الغيبة المرخّص فيها شرعاً كالمستثنيات الآتية و النهي عنها و هي الباقية من الأفراد بعد إخراج المستثنيات. و عن الصحاح «و هو أن يتكلّم خلف إنسان مستور بما يغمّه لو سمعه»(2) و في المجمع اغتابه اغتياباً وقع فيه و الاسم الغيبة بالكسر، و هو أن يتكلّم خلف إنسان مستور بما يغمّه لو سمعه، فإن كان صدقاً سمّي غيبة، و إن كان كذباً سمّي بهتاناً»(3) قوله: «وقع فيه» أي عابه يقال وقعت فيه أي عبته. و عن المصباح المنير «اغتابه إذا ذكره بما يكرهه من العيوب و هو حقّ ، و الاسم الغيبة»(4) و عن النهاية «أن يذكر الإنسان في غيبته بسوء ممّا يكون فيه»(5).

و أمّا الثاني: [أي في تفاسير الفقهاء]

فعن جامع المقاصد «أنّ حدّ الغيبة على ما في الأخبار أن يقول في أخيه ما يكرهه لو سمعه ممّا فيه»(6) و في الروضة «و هو القول و ما في حكمه في المؤمن بما يسوؤه لو سمعه مع اتّصافه به، و في حكم القول الإشارة باليد و غيرها من

ص: 245


1- القاموس 112:1 (غيب).
2- الصحاح 196:1 (غيب).
3- مجمع البحرين 1344:2.
4- المصباح المنير: 112.
5- النهاية 399:3.
6- جامع المقاصد 27:4.

الجوارح و التحاكي بقول أو فعل»(1) و عنه في كشف الغمّة(2) الّتي هي رسالة منفردة في الغيبة أنّ لها تعريفين: «أحدهما: مشهور و هو ذكر الإنسان في غيبته بما يكره نسبته إليه ممّا يعدّ نقضاً في العرف بقصد الانتقاص و الذمّ ، و الثاني: التنبيه بما يكره نسبته إليه»(3)و في المستند «و هي أن يذكر إنسان من خلفه بما هو فيه من السوء»(4) و لم نقف من الفقهاء على أزيد من ذلك.

و أمّا الثالث: [أي في الأخبار المتعرّضة لبيان معناها.]

ففي النبويّ المرسل عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أنّه قال: «هل تدرون ما الغيبة ؟ فقالوا: اللّٰه و رسوله أعلم، قال: ذكرك أخاك بما يكره، قيل: أ رأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، و إن لم يكن فيه فقد بهتّه»(5) و نحوه ما في حديث في وصاياه صلى الله عليه و آله و سلم لأبي ذرّ ففيه على ما حكي «إنّها ذكرك أخاك بما يكرهه» و نحوهما المرويّ عن مكارم الأخلاق قلت: «يا رسول اللّٰه و ما الغيبة ؟ قال: ذكرك أخاك بما يكره، قلت: فإن كان فيه ذلك الّذي تذكر به، قال: أعلم أنّك إذا ذكرته بما هو فيه فقد اغتبته»(6) إلى آخر ما ذكره. و نحوه المرسل «أنّه ذكر عنده رجل فقالوا ما أعجزه ؟ فقال: اغتبتم صاحبكم، قالوا: يا رسول اللّٰه قلنا ما فيه، قال: إن قلتم ما ليس فيه فقد بهتّموه»(7) و ما حكي روايته عن مجمع البيان «إذا ذكرت الرجل بما فيه يكرهه اللّٰه فقد اغتبته»(8) و حسنة عبد الرحمن بن سيّابة عن الصادق عليه السلام «الغيبة أن تقول في أخيك ما ستره اللّٰه عليه، و أمّا الأمر الظاهر فيه مثل الحدة و العجلة فلا، و البهتان أن تقول فيه ما ليس فيه»(9). و عن مصباح الشريعة قال الصادق عليه السلام: «صفة الغيبة أن يذكر أحد بما ليس هو عند اللّٰه عيب، و يذمّ ما يحمده أهل العلم فيه، و أمّا الخوض في ذكر غائب بما هو عند اللّٰه مذموم و صاحبه فيه ملوم فليس بغيبة و إن كره صاحبه إذا سمع به و كنت

ص: 246


1- الروضة 314:3.
2- هذا سهو من قلمه الشريف، الصحيح كشف الريبة.
3- كشف الريبة: 51.
4- المستند 159:14.
5- تنبيه الخواطر: 126، صحيح مسلم 2589/2001:4.
6- أمالي الطوسي 150:2، مكارم الأخلاق 378:2.
7- مجمع الزوائد 94:8.
8- مجمع البيان 137:5.
9- الوسائل 2/288:12 ب 15 أحكام العشرة، الكافي 7/267:2.

أنت معافياً عنه خالياً منه، و تكون مبيّناً للحقّ من الباطل ببيان اللّٰه و رسوله، و لكن على شرط أن لا يكون للقائل بذلك مراد غير بيان الحقّ و الباطل في دين اللّٰه، و أمّا إذا أراد به نقص المذكور بغير ذلك المعنى فهو مأخوذ بفساد مراده و إن كان صواباً»(1). و عن الكاظم عليه السلام قال: «من ذكر رجلاً من خلفه بما هو فيه ممّا عرفه الناس لم يغتبه، و من ذكره من خلفه بما هو فيه ممّا لا يعرفه الناس اغتابه، و من ذكره بما ليس فيه فقد بهته»(2) و صحيحة داود بن سرحان عن الغيبة قال: «هو أن تقول لأخيك في دينه ما لم يفعل، و تبثّ (3) عليه أمراً قد ستره اللّٰه عليه لم يقم عليه فيه حدّ(4).

و ينبغي التنبيه على اُمور تذكر فيها ما يعتبر في حقيقة الغيبة و ما لا يعتبر:
الأوّل: قضيّة صريح عبارتي الصحاح و المجمع

حيث اُخذ فيهما التكلّم و صريح تعريفي المحقّق و الشهيد الثانيين حيث أخذ فيهما القول كصريح حسنة عبد الرحمن و صحيحة داود بن سرحان، كذلك كظاهر الآخرين من أهل اللغة و سائر الروايات المتقدّمة حيث عبّر في الجميع بالذكر، و هو ظاهر في الذكر اللساني المرادف للقول مضافاً إلى ما في النبويّ المتقدّم من تفسير الذكر بالقول في قول القائل «أ رأيت إن كان في أخي ما أقول» مع تقريره صلى الله عليه و آله و سلم بقوله: «إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته» أن يكون حقيقة الغيبة من مقولة القول و الكلام، و ما تقدّم من الشهيد في الرسالة يقتضي كونه المعروف بين الأصحاب، مع كون غيره من جعلها أعمّ منه و من الإشارة و الكتابة و التحاكي و غيره من الأفعال غير معروف لشذوذه و ندرة القائل به فيكون ضعيفاً، لعدم شاهد عليه يقاوم لمعارضة ما سمعت من النصّ على القول لغةً و فتوى و رواية، و إن اختاره غير واحد من مشايخنا(5) و نسبه في المستند إلى جماعة(6) منهم والده في جامع

ص: 247


1- مصباح الشريعة: 205.
2- الوسائل 3/289:12، ب 154 أحكام العشرة، الكافي 6/266:2.
3- البثّ : الإظهار، منه.
4- الوسائل 1/288:12، ب 154 أحكام العشرة، الكافي 3/266:2.
5- المكاسب 331:1، الجواهر 64:22.
6- كما في القواعد 46:2، جامع المقاصد 27:4، الروضة 314:3.

السعادات(1) فقالوا: «إنّ الغيبة لا تنحصر باللسان، بل كلّما يفهم نقصان الغير و يعرّف ما يكرهه فهو غيبة سواء كان بالقول أو الفعل أو التصريح أو التعريض أو الإشارة أو الإيماء أو الغمز أو الرمز أو الكتابة أو الحركة»(2).

أقول: إن أرادوا في الحكم باعتبار كونه إشاعة لسرّ المؤمن أو تعرّضاً لعرضه و عورته أو إيذاءً له عملاً بعموم قوله تعالى: «إِنَّ اَلَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ اَلْفٰاحِشَةُ فِي اَلَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ » (3) و صحيحة ابن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السلام «عورة المؤمن على المؤمن حرام قال: نعم، قلت: تعني سفلتيه ؟ قال: ليس حيث تذهب إنّما هو إذاعة سرّه»(4) و المرويّ عن رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم «من آذى مؤمناً فقد آذاني، و من آذاني فقد آذى اللّٰه فهو ملعون في التوراة و الإنجيل و الزبور و الفرقان»(5) فلا نزاع معهم.

و إن أرادوا في الاسم أيضاً فهو لمخالفته لما عرفت مردود عليهم، مع عدم ما يشهد لهم ممّا يمكن التعويل و يصحّح التأويل في النصوص الكثيرة المعتبرة، و يجوز طرح جملة من كلام أهل اللغة. و احتمال كون المراد من الذكر ما يوجب التذكّر أو مطلق الإفهام و الإعلام و التنبيه - مع عدم جريانه فيما عبّر فيه بالتكلّم أو القول و مخالفته للتفسير المتقدّم في الرواية - بعيد لا يصار إليه بدون صارف معتبر. و الاستدلال عليه بصدق الاسم عرفاً و الاستعمالات الدائرة في العرف ضعيف، لتطرّق المنع إلى صغراه و كبراه من حيث إنّ الاستعمال لو سلّمناه أعمّ من الحقيقة.

و أضعف منه الاستدلال بما روى من «أنّه دخلت امرأة قصيرة على عائشة، فلمّا ولّت أومأت بيدها - أي هي قصيرة - فقال رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم: قد اغتبتها»(6) للقدح في سندها أوّلاً، و منع دلالتها ثانياً، إذ ليس فيها إلّا استعمال محتمل للتشبيه و الاستعارة، فيكون أعمّ بل يتعيّن الحمل عليه جمعاً.

و أضعف منه أيضاً الاستدلال بأنّ الذكر باللسان غيبة محرّمة ليفهمه الغير نقصان

ص: 248


1- جامع السعادات 305:2.
2- المستند 163:14.
3- النور: 19.
4- الوسائل 1/294:12، ب 157 أحكام العشرة، الكافي 2/267:6.
5- مستدرك الوسائل 199:9 /، ب 125 أحكام العشرة، جامع الأخبار: 147.
6- مسند أحمد 136:6.

أخيك لا لكون المفهم لساناً فإنّه علّة مستنبطة لا عبرة بها، و لو سلّم الاعتبار فأقصاه الإلحاق في الحكم لا في الاسم.

و أضعف من الجميع الاستدلال بأنّ القلم أحد اللسانين، فإنّ هذه القضيّة ممّا لم يعلم لها أصل في النصوص فلا عبرة بها، و لو سلّم فمعناه أنّ القلم لسان حكمي فالتثنية من باب التغليب على حدّ القمرين.

الأمر الثاني: يعتبر في الغيبة غياب المغتاب و عدم حضوره

بحيث يسمع ما ذكر فيه و يفهمه كما يقتضيه مادّة هذا اللفظ، وفاقاً لما في المستند من «أنّها أن يذكر إنسان من خلفه بما هو فيه من السوء، فلو لم يكن من خلفه لم يكن غيبة كما هو مقتضى مادّة اللفظ»(1) و قبله المحقّق و الشهيد الثانيين، و قضيّة كلام الثاني في كشف الريبة كونه مشهوراً»(2) و هو موافق لصريح النهاية الأثيريّة(3) و الصحاح(4) و المجمع(5) بل ظاهر الآخرين لشهادة ذكرهم هذه اللفظة في مادّة الغيب، و من الواجب سريان ما يعتبر في المبدأ في المشتقّ . هذا كلّه مع شهادة العرف و عدم صدق الاسم عرفاً مع الحضور، فإن ذكره بعيوبه في حضوره شتم و سبّ . فلا ينافي عدم كونه غيبة كونه محرّماً بل أغلظ تحريماً كما نصّ عليه المحقّق المتقدّم ذكره، فإنّه على ما حكي بعد ما عرفت من تعريفه بعد جملة كلام له قال: «لو ذكره في حضوره بما يكرهه فهو أغلظ تحريماً، و إن لم يكن غيبة»(6).

و لكن الظاهر أنّ الغياب أعمّ من الحقيقي لعدم حضوره في مجلس الغيبة و الحكمي كالحاضر الغير السامع لصمم أو نوم أو وقوعها بطريق النجوى و السامع الغير الفاهم كالعربي القحّ الّذي لا يفهم اللغة العجميّة أصلاً و العجمي القحّ الّذي لا يفهم اللغة العربيّة كذلك إذا وقعت الغيبة بغير لغته، لصدق اسم الغيبة و عدم صحّة سلبه.

الأمر الثالث: يعتبر فيها أن يكون ما يذكر في غيابه سوءاً و ذمّاً،

الأمر الثالث(7): يعتبر فيها أن يكون ما يذكر في غيابه سوءاً و ذمّاً،

فلو ذكر بما فيه من المدح - ككونه متهجّداً أو زاهداً أو ورعاً أو غير ذلك من المحامد و المحاسن -

ص: 249


1- المستند 159:14.
2- كشف الريبة: 51.
3- النهاية لابن الأثير 399:3.
4- الصحاح 196:1.
5- المجمع البحرين 1344:2.
6- كشف الريبة: 51.
7- في الأصل: الثاني، و الصواب ما أثبتناه.

لم يكن غيبة و إن كرهه صاحبه لغرض من الأغراض الصحيحة، مثل أن لا يعتريه عجب أو رياء أو سمعة أو سرور أو شهرة أو غير ذلك. و الظاهر عدم حرمته أيضاً، لعدم مدخليّة رضاه في إباحته إلّا إذا بلغ حدّ الإيذاء فيحرم لذلك.

الأمر الرابع: يعتبر فيها كون العيب ثابتاً للمغتاب،

فلو ذكره بما ليس فيه فهو بهتان لا أنّه غيبة لصحّة سلب الاسم، و هو ظاهر عبارة الدروس(1) و صريح عبارات النهاية(2)و الصحاح(3) و المصباح(4) و المجمع(5) و عبارتي المحقّق(6) و الشهيد(7) الثانيين، كصريح جملة من الروايات المتقدّمة، و يحمل عليها مطلقاتها أيضاً. و احتمال أن يراد بالبهتان غيبة غيبة بهتان أي غيبة عرضها البهتانيّة فالغيبة غيبتان غيبة محضة و غيبة بهتان - كما سبق إلى بعض الأوهام - خلاف ظاهر لا يصار إليه. و الاستشهاد له بما في كلام المصباح المنير بعد ما ذكر التعريف المتقدّم من قوله: «إن لم يكن حقّاً فهو غيبة في بهت»(8) مدفوع بعدم حجّيّة الشاهد لتفرّده و مخالفته الأكثر من أهل اللغة و النصوص المستفيضة و ظهور إجماع الطائفة.

الأمر الخامس: هل يعتبر فيها مستوريّة العيب الثابت في المغتاب،

فذكر من شاع و ظهر عيبه بحيث يعرفه الناس بذلك العيب و هو كاره له ليس بغيبة أو لا؟ بل الغيبة ذكر الرجل بعيب يكرهه سواء كان مستوراً فيه أو ظاهراً بيّناً، و يظهر الفائدة في المتجاهر بالفسق الّذي يأتي كونه مخرجاً من الحرمة إذا ذكر بما تجاهر فيه و هو يكره ذكره، فعلى الأوّل يكون خروجه موضوعيّاً، و على الثاني حكميّاً وجهان:

من التقييد في عبارتي الصحاح و المجمع و جملة من النصوص المتقدّمة بل التفصيل الموجود في بعضها.

و من إطلاق ما عداهما من تفاسير أهل اللغة و تفاسير الروايات المطلقة المعتضدتين بتفاسير الفقهاء، و إطلاق فتاويهم الّتي هي معاقد الإجماعات كما يكشف عنه عدّهم غيبة المتجاهر من المستثنيات. و هو الأقوى، لصدق الاسم عرفاً على ذكر

ص: 250


1- الدروس 292:2-179.
2- النهاية لابن الأثير 399:3.
3- الصحاح 196:1.
4- المصباح المنير 458:1 (غيب).
5- مجمع البحرين 135:2.
6- جامع المقاصد 27:4.
7- كشف الريبة: 51.
8- الصحاح 196:1.

غير المستور و عدم صحّة سلبه عنه المعتضدين بأكثريّة المطلقين من أهل اللغة، و أكثريّة النصوص المطلقة فيحمل المقيّدة منها على إرادة الغيبة المحرّمة. و قد تجمع بين كلمات أهل اللغة أيضاً بالأخذ بالمطلق منها لسلامته في مادّة افتراقه عن العارض فلا يلزم تكذيب غيره لرجوع كلامه إلى لا أدري، و فيه تأمّل.

الأمر السادس: يعتبر فيها كون ذكر الرجل بعيبه لسامع يفهمه،

فلو ذكره عند نفسه أو عند من لا يفهمه لم يكن غيبة، لأنّه المتبادر من تعاريف أهل اللغة و تفاسير الأخبار و فتاوى الأصحاب و تعاريفهم أيضاً، و لم نقف على مخالف فيه.

الأمر السابع: يعتبر فيه كراهة المغتاب،

فذكر الرجل بما لا يكرهه ليس بغيبة، كما هو قضيّة النصّ اللغوي و غيره خصوصاً ما تقدّم من المستفيضة. و لكنّ الكلام في تحقيق مرجع ضمير «يكرهه و يغمّه و يسوؤه» على ما اُخذ في التعاريف المتقدّمة، و مرجعه إلى تحقيق ما يكرهه المغتاب أ هو العيب - كما هو ظاهر عبارتي القاموس و المصباح، و معناه كون المكروه وجود العيب المذكور فيه، و مقتضاه أن لا يكون ذكر الرجل بخوضه في القبائح و ارتكابه المحرّمات أو تركه الواجبات غيبة، لأنّها عيوب لا يكره وجودها بل تصدر عنه بميله النفساني. و ربّما يستشمّ الشهادة له من المرويّ المتقدّم عن مصباح الشريعة - أو هو الكلام المذكور فيه، أو ذكر عيبه من حيث هو كذلك، أو ذكره أيضاً و لكن من حيث إنّه إظهار لعيبه و ربّما يستشمّ الشهادة به من حسنة عبد الرحمن و صحيحة داود بن سرحان و المرسلة عن الكاظم عليه السلام، أو ذكره من حيث إنّه يشعر بذمّه و إن لم يكن الذمّ مقصوداً كذكره بالألقاب المشعرة بالذمّ ، أو ذكره من حيث قصد به ذمّه و تعييره على ما فيه من العيب المذكور فيه، أو ذكره من حيث قصد به نقصه و انتقاصه أي سقوطه عن أعين الناس، أو ذكره من حيث قصد به إهانته لغرض كونه مهاناً عند الخلق ؟ احتمالات.

منشأها صلاحية الموصول للجميع على معنى احتمال كونه كناية عن كلّ واحد.

و لكنّ الأربع الأخيرة تندفع بأنّ الحيثيّات المأخوذة تقييدات في معنى الغيبة لا شاهد عليها، و ينفيها إطلاق كلمات أهل اللغة و النصوص المفسّرة للغيبة، بل في جملة منها

ص: 251

إشارات إلى نفيها، مثل ما تقدّم عن عائشة في امرأة قصيرة فإنّها تقضي بأنّ عائشة لم تصدر منها إلّا التنبيه على قصر الامرأة و قد قال لها رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم: «قد اغتبتها»(1).

و مثل المرسل المتقدّم في قول أصحاب رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم «ما أعجزه» مع قولهم «قلنا ما فيه» لقضائه بأنّه لم يتحقّق منهم سوى قول «ما أعجزه» من دون إشعار بذمّه و لا قصد له و لا لنقصه و انتقاصه و لا إهانته، و قد قال صلى الله عليه و آله و سلم: «اغتبتم صاحبكم».

و مثل قوله عليه السلام في حسنة عبد الرحمن: «الغيبة أن تقول في أخيك ما ستره اللّٰه عليه» لقضائه بأنّه لم يعتبر فيها حيثيّة سوى كون المقول في الأخ ما ستره اللّٰه عليه.

و مثل المرويّ عن الكاظم عليه السلام من قوله: «من ذكر رجلاً من خلفه بما هو فيه ممّا لا يعرفه الناس اغتابه» لقضائه أيضاً بأنّه لم يؤخذ فيها حيثيّة سوى كون ما ذكر في الرجل عيباً ثابتاً فيه لم يعرفه الناس.

و مثل المرويّ عن مكارم الأخلاق فإنّ قوله: «فإن كان فيه ذلك الّذي يذكر» يشير إلى أنّه لم يتحقّق فيما حكم عليه بكونه غيبة سوى أنّه ذكر فيه ما هو فيه من السوء.

فما في تعريف الشهيد المتقدّم من اعتبار قصد الانتقاص و الذمّ غير مسموع، و نسبته إلى المشهور غير مسلّمة، و لو سلّمت الشهرة فهي هنا ممّا لا أصل له.

و الرابع من الاحتمالات الباقية يندفع بابتنائه على اعتبار مستوريّة العيب في محلّ الغيبة و قد منعناه، فحيثيّة الإظهار أيضاً غير معتبرة في معنى الغيبة.

و الأوّل منها أيضاً يندفع بأنّ تخصيص الغيبة بغير العيوب الشرعيّة يقضي بعدم تحقّقها فيمن ذكر بعيب شرعي - مثل كونه تارك الصلاة أو مانع الزكاة أو شارب الخمر أو لاطياً أو نحو ذلك - و ضرورة العرف و الشرع تنفيه، و عليه مبنيّ استثناء غيبة المتجاهر و استثناؤها في موضع الجرح و في محلّ الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و غير ذلك ممّا ستعرفه.

و بقى منها الاحتمال الثاني و الثالث، و كلاهما صحيحان و إن كان أظهرهما إرادة ذكر العيب. فصار المحصّل أنّ الغيبة عبارة عن ذكر عيب للمؤمن يكرهه من حيث إنّه

ص: 252


1- الدرّ المنثور 94:6.

ذكر لعيبه سواء كره وجود العيب أو لا، و ظهوره أو لا، و كان ذكره على وجه الإظهار أو لا، تضمّن قصد الذمّ أو الانتقاص أو الإهانة أو لا، أشعر بالذمّ أو لا، فإنّ الجميع من الغيبة المحرّمة عدا ما استثني، نعم لا نضايق كون عروض إحدى الحيثيّات المذكورة موجباً لشدّة قبحها و غلظة حكمها.

الأمر الثامن: ممّا يعتبر في مفهوم الغيبة تعيين المغتاب على معنى كونه شخصاً معيّناً

بحيث يصدق في حقّه أنّه ذكر بما يكرهه أو يغمّه أو أنّه ذكر بعيب أو صفة ذمّ لو سمعه يكرهه أو يغمّه لو سمعه، لأنّه الظاهر المتبادر من جميع ما تقدّم من تعريفاته و تفاسيره.

و لعلّ وجهه كون التعيين من ضروريّات صدق الإسناد في جملة «سمعه و يكرهه و يغمّه و يسوؤه» و إن شئت قلت: إنّه ظهور من الهيئة التركيبيّة لكلّ تعريف.

فلو ذكر عيباً لمبهم أو وصفه بما هو نقص فإن كان ذلك المبهم من المجهول المطلق كما لو قال: سأُنبّئك أو سأُخبر لك عن رجل فاسق أو بخيل أو لئيم أو شحيح أو سارق أو زانٍ أو نحو ذلك من غير قصد إلى معيّن و لا معرفة تعيين، فلا ينبغي الاسترابة في عدم اندراجه في الغيبة إذ لا أحد هنا يكره ذلك لو سمعه.

و إن كان من قبيل مطلق المجهول بأن يكون الجهالة عند السامع فقط مع كونه معلوم العين للقائل، كأن رأيت رجلاً فاسقاً أو بخيلاً جاءني رجل فاسق أو بخيل أو نحو ذلك، و هو معيّن عنده بقرينة المضيّ ، فالظاهر اندراجه فيها لوضوح أنّه لو سمع أنّه ذكره بعيبه على هذا الوجه لكرهه، و لصدق قوله عليه السلام: «ذكرك أخاك بما يكرهه».

و من ذلك ينقدح أنّ التعيين المعتبر في مفهوم الغيبة أعمّ منه عند القائل و السامع و عند القائل فقط، و لو قال: أحد هذين الرجلين أو واحد منهما أو أحد هؤلاء الجماعة أو أهل هذه القبيلة أو أهل هذه القرية أو هذا البلد فاسق أو دنيّ أو شرور أو ديّوث أو نحو ذلك، فربّما يشكّك في كونه غيبة.

و التحقيق هو التفصيل بين إرادة مصداق الأحد أو الواحد الّذي هو معيّن خارجي عنده سواء عرف السامع أيضاً تعيينه أو لا، و بين إرادة المفهوم الّذي يقال له الفرد المنتشر و الفرد الشائع لصدقه على كلّ واحد على البدل، فعلى الأوّل يندرج فيها ظاهراً لأنّ ذلك المصداق المعيّن لو سمع أنّ القائل ذكره بعيبه على هذا الوجه أي قاصداً لتعيينه

ص: 253

بهذه العبارة لكرهه و لصدق أنّه ذكر أخاه بما يكرهه، و أمّا الثاني فالوجه فيه عدم الاندراج لأنّ كلّاً منهما أو منهم إذا سمع هذه العبارة على الوجه الّذي صدر من قائلها أي وقف على أنّه لم يقصد تعيينه يردّها عن نفسه بأنّه ما قصدني بالخصوص فلا يكرهها.

و يمكن تفصيل آخر بين انحصار المتّصف بهذه الصفة الذميمة في واحد فيندرج فيها حينئذٍ لأنّه يكره هذا الذكر إذا سمعه مع علمه بانحصار المفهوم فيه و لا سبيل له إلى ردّه عن نفسه لأنّ إرادة المفهوم المنحصر في مصداق واحد كإرادة نفس المصداق، و بين عدم انحصاره فيه فلا يندرج لمكان ردّ كلّ عن نفسه بأنّه ما قصدني فلا يكرهه بهذا الاعتبار.

الأمر التاسع: قيل يعتبر الحصر في الغيبة،

حكاه في جامع المقاصد قائلاً: «و يوجد في كلام بعض الفضلاء أنّ من شرط الغيبة أن يكون متعلّقها محصوراً، و إلّا فلا تعدّ غيبة، فلو قال عن أهل بلدة غير محصورة ما لو قال عن شخص واحد كان غيبة لم يحتسب غيبة»(1).

و اعترض عليه بعض مشايخنا قدس سرهم «بأنّه إن أراد أنّ ذمّ جمع غير محصور لا تعدّ غيبة و إن قصد انتقاص كلّ منهم كما لو قال: أهل هذه القرية أو هذه البلدة كلّهم كذا و كذا، فلا إشكال في كونها غيبة محرّمة، و لا وجه لإخراجه عن موضوعها أو حكمها.

و إن أراد أنّ ذمّ المتردّد بين غير المحصور لا تعدّ غيبة فلا بأس به»(2).

أقول: كأنّه أراد بالمتردّد بين غير المحصور ما لو قال: «بعض أهل هذه البلدة أو جماعة أو جمعاً أو واحداً منهم كذا و كذا» و أراد به بعضاً مبهماً أو جماعة مبهمة أو واحداً مبهماً على سبيل الإشاعة فما ذكره قدس سره حينئذٍ في محلّه إلّا أنّه من فروع اعتبار التعيين لا من فروع اعتبار الحصر. و أمّا لو اُريد به شخصاً معيّناً أو واحداً معيّناً أو جماعة معيّنة فإخراجه عن الغيبة موضوعاً أو حكماً غير سديد كما ذكرناه.

و لو قال: أهل هذه البلدة لئام أو فسّاق، و أراد به الغالب منهم من دون قصد تعيين آحاد الغالب لا تعدّ غيبة لانتفاء الكراهة حينئذٍ.

ص: 254


1- جامع المقاصد 27:4.
2- المكاسب للشيخ الأنصاري 334:1.

و لو قال: أهل هذه البلدة كلّهم كذا و كذا إلّا بعضاً منهم أو إلّا جماعة منهم، فكونه غيبة و عدمه مبنيّ على إرادة البعض المعيّن أو الجماعة المعيّنة أو البعض المبهم أو الجماعة المبهمة من المستثنى، و السرّ فيه أنّ إجمال المستثنى على الثاني يسري إلى المستثنى منه بخلافه على الأوّل فيكون اغتياباً لكلّ واحد من آحاد الباقي من المستثنى منه.

الأمر العاشر: لا فرق في الغيبة موضوعاً و حكماً بين ما لو كان ما يذكر فيه من العيب عيباً في بدنه أو نسبه أو شأنه و

شغله أو خلقه أو فعله أو قوله أو لقبه أو ثوبه أو داره أو دابّته أو غير ذلك ممّا يضاف إليه كما هو المصرّح به في كلام جماعة(1) فالأوّل:

يقول فلان أعمى أو أعور أو أعرج أو أقرع أو قصير أو طويل أو أسود أو أصفر، و الثاني: ككونه كرديّاً أو خالديّاً أو نحو ذلك، و الثالث: ككونه كنّاساً أو حمّالاً أو نحو ذلك، و الرابع: ككونه سيّئ الخُلُق أو لئيماً أو متكبّراً أو مرائياً أو جباناً و ما أشبه ذلك، و الخامس: ككونه سارقاً أو خمّاراً أو لاطياً أو ظالماً أو فاسقاً أو متهاوناً في دينه، و السادس: ككونه كذوباً أو كثير الكلام أو سيّئ الكلام أو فحّاشاً أو مغتاباً، و السابع:

الألقاب المشعرة بالذمّ ، و الثامن: ككونه وسخ الثياب أو طويل الأذيال أو غير ذلك، و التاسع و العاشر: واضحان. هذا كلّه في موضوع الغيبة.

و أمّا حكمها

فهي الحرمة بل هي من المعاصي الكبيرة بالإجماع و الكتاب و السنّة، بل قيل كما عن الشيخ النجفي في شرحه للقواعد(2) و وافقه بعض مشايخنا(3) بالأدلّة الأربعة. و لكن تتميمه من حيث العقل بأن يكون العقل مستقلّاً في إدراك قبحه مشكل، إلّا حيث يندرج في عنوان الظلم أو الإيذاء أو الإهانة، و الأولى الاقتصار على ما ذكرنا.

فمن الإجماع، المحصّل منه ضروري، و منقوله متواتر، و لا يبعد دعوى كونه من ضروريّات الدين.

و من الكتاب قوله تعالى: «وَ لاٰ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً (3)

ص: 255


1- كما في كشف الريبة: 60، الجواهر 64:22.
2- شرح القواعد 222:1.
3- الجواهر 65:22.

فَكَرِهْتُمُوهُ » (1) و قوله: «وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ » (2) و قوله تعالى: «إِنَّ اَلَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ اَلْفٰاحِشَةُ فِي اَلَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ » (3) و قوله تعالى: «لاٰ يُحِبُّ اَللّٰهُ اَلْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ اَلْقَوْلِ إِلاّٰ مَنْ ظُلِمَ » (4).

و من السنّة فالروايات الواردة فيه أكثر من أن تحصى مذكورة في مظانّها.

و لا فرق في التحريم بين الرجال و النساء، لعموم الأدلّة، و لا ينافيه التذكير في ضمير الجمع في الآية لابتنائه على التغليب كما في أكثر الخطابات الشفاهيّة، و كذلك تذكير الموصول في الآية الاُخرى، و يدخل الخناثى لعدم خروجها من أحد الفريقين.

و في عمومه للصبيّ المميّز الّذي يتألّم بذكر عيبه و يكرهه وجه قويّ ، من جهة عموم بعض الأدلّة كقوله «وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ » . و يحتمل التغليب في الآيتين الاُخريين أيضاً بملاحظة كون أطفال المسلمين ملحقين بهم في الأحكام، و من جملتها تحريم اغتيابهم. و أمّا غير المميّز فهو كالمجنون و لو أدواريّاً حال جنونه لانتفاء الكراهة فيهما، و لأجل هذا ربّما أمكن الخروج الموضوعي فيهما. و مع الغضّ عن ذلك نقول: إنّ دخولهما في إطلاق الأدلّة مستراب فيه، فالأصل عدم الحرمة.

ثمّ المستفاد من كلمات الأصحاب صراحة و ظهوراً من غير خلاف بل بالإجماع المدّعى في كلام بعض مشايخنا(5) اختصاص تحريم الغيبة بغير الكافر، فيحلّ استغابة الكافر بجميع فرقه و أصنافه مقصّراً و قاصراً من أهل الذمّة و غيرهم، كما يجوز سبّهم و الطعن عليهم و لعنهم و يجب معاداتهم و التبرّي عنهم، للأصل و عدم الدليل على التحريم، إذ المستفاد من مجموع أدلّة تحريمه و فحاويها و الإشارات الواقعة فيها و التشبيهات و الاستعارات الموجودة فيها أنّ تحريم الغيبة إنّما هو من جهة حقّ الاُخوّة الّتي بين المؤمنين بنصّ قوله تعالى: «إِنَّمَا اَلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ » (6) و بحكم الروايات الواردة فيه، و أنّه لمراعاة احترام الأخ الديني الإيماني، فلا يعمّ الكفّار و المشركين، إذ لا مؤاخاة بيننا و بينهم و لا حرمة لهم عند اللّٰه، و لذا رخّص في لعنهم و أوجب معاداتهم و التبرّي

ص: 256


1- الحجرات: 12.
2- الهمزة: 1.
3- النور: 19.
4- النساء: 148.
5- الجواهر 61:22.
6- الحجرات: 10.

عنهم فلأن يجوز استغابتهم طريق الأولويّة.

و في اختصاصه بالمؤمن أو عمومه للمخالف أيضاً خلاف، إذ المصرّح به في كلام جماعة(1) جواز استغابة المخالف، و لعلّه مذهب الأكثر، إذ لم ينقل المخالفة إلّا عن المحقّق الأردبيلي(2) فمنع من استغابة المخالف أيضاً.

و نعني بالمؤمن الإمامي الاثنى عشري، و هو من يعتقد الوحدانيّة و صفاته الكماليّة من الثبوتيّة و السلبيّة و نبوّة نبيّنا صلى الله عليه و آله و سلم، و يتديّن بدينه و يعتقد المعاد و عدله تعالى و يعرف الأئمّة الاثني عشر و يعتقد إمامتهم و يواليهم.

و المراد بالمخالف من لا يعتقد إمامة الاثنى عشر و لا يواليهم و هم فريقان: فريق حكم بكفرهم واقعاً و ظاهراً كالنواصب و الخوارج، و هذا الفريق خارج عن محلّ النزاع، لدخوله في الكفّار الّذين جاز استغابتهم قولاً واحد. و الفريق الآخر من حكم بكفرهم واقعاً و إسلامهم ظاهراً لجريان بعض أحكام الإسلام عليهم كطهارتهم و عدم انفعال ما يلاقيهم برطوبة و حرمة قتلهم و أخذ أموالهم و حرمة مناكحهم، و هذا هو محلّ الخلاف.

و الأقوى الأظهر فيه ما عليه الأكثر من جواز استغابتهم و الوقيعة فيهم كما يجوز سبّهم و لعنهم و الطعن و معاداتهم و التبرّي عنهم بل الأئمّة عليهم السلام كانوا يفعلون جميع ذلك و يأمرون أصحابهم بمعاداتهم و التبرّي عنهم(3) بل ورد فيهم أنّهم أشرّ من اليهود و النصارى و أنّهم أنجس من الكلاب(4) فلا اُخوّة بيننا و بينهم و لا احترام لهم عند اللّٰه.

فأدلّة تحريم الغيبة لا يتناولهم خصوصاً ما علّق فيها الاسم أو الحكم بالأخ أو المؤمن، كقوله في عدّة روايات: «ذكرك أخاك بما يكرهه»(5) و قوله: «الغيبة أن تقول في أخيك ما ستره اللّٰه تعالى عليه»(6) و قوله أيضاً: «أن تقول لأخيك في دينه ما لم يفعل و تبثّ أمراً قد ستره اللّٰه تعالى عليه لم يقم عليه فيه حدّ»(7) و في المرسل «من قال في

ص: 257


1- كما في الرياض 162:8.
2- مجمع الفائدة 76:8.
3- الوسائل 176:16، ب 17 الأمر و النهي.
4- البحار 5/72:76، البحار 6/36:80.
5- الوسائل 9/280:12، ب 152، أمالي الطوسي 150:2.
6- الوسائل 2/288:12، ب 154، الكافي 7/267:2.
7- الوسائل 1/288:12، ب 154، الكافي 3/266:2.

مؤمن ما رأته عيناه و سمعته اُذناه فهو من الّذين قال اللّٰه عزّ و جلّ : و «اَلَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ اَلْفٰاحِشَةُ فِي اَلَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ » (1)، فإنّ ما عدا بمفهوم الحدّ نظراً إلى ظهور قيوده في الاحتراز يدلّ على خروج المخالف من اسم الغيبة أو من حكمه، و الثاني بمفهوم الوصف يدلّ على خروجه من حكم الغيبة.

و ليس للأردبيلي إلّا ما حكي «من أنّ الظاهر عموم أدلّة تحريم الغيبة من الكتاب و السنّة للمؤمنين و غيرهم، لأنّ قوله تعالى: «وَ لاٰ يَغْتَبْ ...» الخ خطاب للمكلّفين أو للمسلمين لجواز غيبة الكافر، و ألسنة أكثرها بلفظ «الناس» و «المسلم» و هما معاً شاملان للجميع، و لا استبعاد في ذلك، إذ كما لا يجوز أخذ مال المخالف و قتله لا يجوز تناول عرضه. و ظنّي أنّ الشهيد في قواعده جوّز غيبة المخالف من جهة مذهبه و دينه لا غير»(2).

و فيه: ما لا يخفى، لمنع ظهور الأدلّة في عموم التحريم، و الآية بملاحظة صدرها و ذيلها تأبى عموم حكمها للمخالف فإنّها مصدّرة بقوله: «يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ اَلظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ اَلظَّنِّ إِثْمٌ ، وَ لاٰ تَجَسَّسُوا وَ لاٰ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً» و مذيّلة بقوله: «أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ » (3) فالخطاب للمؤمنين و التحريم لحقّ الاُخوّة لا غير، و الناس يقيّد بالمؤمن و المسلم ظاهر فيه أو يقيّد به، و مع أنّ إطلاقه على المسلم توسّع شرعي لمراعاة جريان بعض أحكام الإسلام عليهم و إلّا فهو ليس على حقيقة الإسلام كما يدلّ عليه روايات مستفيضة قريبة من التواتر بل متواترة جدّاً ناطقة بأنّه «بني الإسلام على خمس الصلاة و الزكاة و الحجّ و الصيام و الولاية»(4) و هم تركوا الولاية.

و بالجملة لا إشكال في جواز غيبة المخالفين، للأصل و عدم دليل على المنع، حتّى أنّ أدلّة تحريمها غير شاملة لهم بل أكثرها ظاهرة كالصريحة في غيرهم، و في بعض النصوص ما يدلّ صراحةً على جواز اغتيابهم، بل استحبابه إن لم نقل بظهوره في الوجوب.

ص: 258


1- الوسائل 6/280:12، ب 152 أحكام العشرة، الكافي 2/266:2.
2- مجمع الفائدة 78:8.
3- الحجرات: 12.
4- الوسائل 1/13:1، ب 1 مقدّمة العبادات، الكافي 3/15:2.

كالمرويّ في الصحيح عن داود بن سرحان عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «قال رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم: إذا رأيتم أهل الريب و البدع من بعدي فأظهروا البراءة منهم و أكثروا من سبّهم و القول فيهم و الوقيعة، و باهتوهم كيلا يطمعوا في الفساد في الإسلام، و يحذّرهم الناس و لا يتعلّمون من بدعهم يكتب اللّٰه لهم الحسنات و يرفع اللّٰه لكم به الدرجات»(1).

و لا ريب أنّ المخالفين أهل الريب و البدع فيشملهم الرواية، و هذه تدلّ على جواز بهتهم و استحبابه أيضاً و هي أشدّ من الغيبة، و القول فيهم عبارة عن اغتيابهم، و الوقيعة فيهم ذكر معائبهم.

و يلحق بالمخالفين سائر فرق الشيعة - من الزيديّة و الكيسانيّة و الناووسيّة و الإسماعيليّة و الفطحيّة و الواقفيّة و غيرهم - فيحلّ استغابتهم أيضاً، للأصل، و عدم الدليل على المنع و التحريم، لانتفاء الاُخوّة و عدم احترام لهم عند اللّٰه سبحانه، مضافاً إلى صحيحة ابن سرحان في أهل الريب و البدع، و يندرج هؤلاء المذكورون جزماً.

و هل يعتبر في محلّ التحريم - و هو المؤمن - أن يكون عدلاً فلا يحرم اغتياب الفاسق و إن لم يكن متجاهراً أو لا؟ ظاهر إطلاق الأصحاب عدم الاشتراط، فيحرم اغتياب الفاسق أيضاً إذا لم يكن متجاهراً، لإطلاق أدلّة المنع و التحريم بل و عموم بعضها وضعاً. خلافاً لما يظهر من صاحب المجمع قائلاً - بعد كلام له -: «و بما ذكرناه يظهر أنّ المنع من غيبة الفاسق - كما يميل إليه كلام بعض من تأخّر - ليس بالوجه، لأنّ دلالة الأدلّة على اختصاص الحكم بغيره أظهر من أن يبيّن»(2) إلى آخر ما ذكره.

و فيه: منع دليل يكون ظاهر الدلالة على الجواز في الفاسق، كيف و لم يأت من هذه الأدلّة في تضاعيف كلامه، إلّا ما رواه في الكافي في الموثّق عن سماعة عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «من عامل الناس فلم يظلمهم، و حدّثهم فلم يكذبهم، و وعدهم فلم يخلفهم، كان ممّن حرمت غيبته، و كملت مروّته، و ظهرت عدالته، و وجبت اُخوّته»(3): و ما أشار إليه من صحيحة عبد اللّه بن أبي يعفور الواردة في العدالة فإنّ في جملتها قوله عليه السلام «و الدلالة على ذلك كلّه أن يكون ساتراً لجميع عيوبه، حتّى يحرم على

ص: 259


1- الوسائل 1/267:16، ب 39 الأمر و النهي، الكافي 4/375:2.
2- مجمع البحرين 136:1.
3- الوسائل 2/278:12، ب 152 أحكام العشرة، الكافي 28/187:2.

المسلمين ما وراء ذلك من عثراته و عيوبه و تفتيش ما وراء ذلك»(1).

و فيهما: المنع من الدلالة على جواز غيبة الفاسق.

أمّا الأوّل فلأنّه - مع أنّ العدالة لا تتحقّق بمجرّد الصفات المذكورة - فيه لا ينفي حرمة غيبة من عدا الموصوف بها، بل في قوله: «كان ممّن حرمت غيبته» دلالة على أنّ في غيره أيضاً من يحرم غيبته فيدخل فيه الفاسق في الجملة هذا. و لكنّ العمدة في منع الدلالة أنّ اجتماع هذه الصفات الثلاث لا ينافي الفسق بل يجامعه، لأنّ أسباب الفسق لا تنحصر في الظلم في المعاملات مع الناس و الكذب في الحديث و خلف الوعدة، مع إمكان أن يقال بدخول من انتفى عنه الصفات الثلاث على وجه الدوام في المتجاهر فهو موضوع المفهوم لا غير.

و أمّا الثاني فلأنّه غير متعرّض لحكم الغيبة أصلاً، لأنّ المراد من حرمة ما وراء ذلك من عثراته و عيوبه حرمة التفحّص و التجسّس عن بواطن من كان ساتراً لجميع عيوبه و التفتيش لخفاياه لظهور العطف في التفسير، و هذا كما ترى حرام آخر لا مدخل للغيبة فيه و هو الّذي نصّت الآية بتحريمه حيث قال تعالى: «وَ لاٰ تَجَسَّسُوا» (2) و إن كانت الغيبة أيضاً محرّمة. و بالجملة الصحيحة ليست بصدد بيان حكم للغيبة لا بإثبات تحريم و لا بنفيه لا منطوقاً و لا مفهوماً، و لو سلّم فهي بالمفهوم لا تدلّ إلّا على جواز غيبة المتجاهر لأنّ من لا يكون ساتراً لجميع عيوبه لا يكون إلّا متجاهراً و لو في بعض عيوبه.

و استثني من الغيبة المحرّمة اُمور:
: الأوّل: المتجاهر بالفسق

الّذي نسب استثناؤه إلى جماعة(3) و لعلّه ممّا لا خلاف فيه حيث لم نقف على نقل مخالف فيه، و إنّما يحتاج إلى استثنائه إذ لم نقل بخروجه الموضوعي بعدم أخذ الستر في مفهومها كما هو الأقوى على ما تقدّم، و إلّا فعلى أخذه في مفهومها كما هو المستفاد من عبارة الصحاح و المجمع و من حسنة ابن سنان فذكره بعيوبه الغير المستورة ليس غيبة حتّى ينظر في تحريمه و عدم تحريمه، و المراد به المتظاهر بفسقه من «جهر» بمعنى ظهر، و هو الّذي يرتكب القبيح جهاراً و لا يبالي

ص: 260


1- الوسائل 1/391:27، ب 41 أبواب الشهادات، الفقيه 65/24:3.
2- الحجرات: 12.
3- كما في القواعد 148:2، الروضة 214:3، الكفاية: 87.

بظهوره بين الناس، و اللازم من ذلك أن لا يكون كارهاً لذكره بذلك الفسق المتجاهر فيه، و ربّما يخرج من موضوع الغيبة أيضاً بهذا الاعتبار لما عرفت من اعتبار الكراهة في مفهومها.

و الدليل على انتفاء الحرمة في غيبته عدّة من الروايات الّتي منها الصحيحة و الموثّقة المتقدّمتان، بناءً على دلالتهما بالمفهوم على نفي تحريم الغيبة لعدم كونه إلّا في المتجاهر.

و رواية هارون الجهم المرويّة عن مجالس الصدوق الموصوفة في المستند [بالصحيحة] «إذا جاهر الفاسق بفسقه فلا حرمة له و لا غيبة»(1).

و رواية أبي البختري «ثلاثة ليس لهم حرمة صاحبة هوى مبتدع، و الإمام الجائر، و الفاسق المعلن بفسقه»(2).

و المرويّ عن رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم «إنّه قال: من ألقى جلباب الحياء عن وجهه فلا غيبة له»(3) أي لا حرمة لغيبته، و يمكن كونه لنفي الحقيقة بناءً على ما تقدّم من أحد الوجهين.

و الجلباب الثوب الواسع الساتر لمعظم البدن، و إضافته إلى الحياء للبيان، و استعير عن الحياء بالثوب الواسع لأنّه يستر معائب الإنسان كما يستر الثوب البدن، فيكون إلقاء الحياء عن الوجه كناية عن الإجهار في الفسوق و الإعلان في ارتكاب القبائح.

و استدلّ أيضاً بما روي عن المحاسن عن صالح بن علقمة عن أبيه عن الصادق عليه السلام في حديث «فمن لم تره بعينيك يرتكب ذنباً و لم يشهد عليه شاهدان، فهو من أهل العدالة و الستر و شهادته مقبولة و إن كان في نفسه مذنباً، و من اغتابه بما فيه فهو خارج عن ولاية اللّٰه تعالى داخل في ولاية الشيطان...»(4) الخ دلّ على ترتّب حرمة الاغتياب و قبول الشهادة على كونه من أهل الستر و كونه من أهل العدالة على طريق اللفّ و النشر، أو على اشتراط الكلّ بكون الرجل غير مرئيّ منه الذنب و لا مشهوداً عليه به، و مقتضى المفهوم جواز الاغتياب مع عدم الشرط خرج منه غير المتجاهر. و كون قوله:

ص: 261


1- الوسائل 2/279:12، ب 154 أحكام العشرة، أمالي الصدوق: 7/42.
2- الوسائل 5/279:12، ب 154 أحكام العشرة، قرب الإسناد: 82.
3- مستدرك الوسائل 3/129:9، ب 134 أحكام العشرة، الاختصاص: 242.
4- الوسائل 20/285:12، ب 152 أحكام العشرة، أمالي الصدوق: 3/91.

«و من اغتابه» الخ جملة مستأنفة غير معطوفة على الجزاء خلاف الظاهر.

و قضيّة ظاهر إطلاق الروايات المذكورة عدم اشتراط جواز غيبة المتجاهر بكونه لقصد غرض صحيح كما اعترف به بعض مشايخنا قال: «و لم أجد من قال باعتبار قصد الغرض الصحيح، و هو ارتداعه عن المنكر، نعم عن الشهيد الثاني(1) احتمال اعتبار قصد النهي عن المنكر في جواز سبّ المتجاهر، مع اعترافه بأنّ ظاهر النصّ و الفتوى عدمه»(2) انتهى.

و في جواز اغتياب المتجاهر بالفسق في غير ما تجاهر به أيضاً - كما جزم به بعض مشايخنا استناداً إلى الأصل و عموم الروايات و نسب إلى بعض الأساطين(3) و عن الحدائق(4) استظهاره من جملة من الأعيان - و عدمه كما عن الشهيدين(5) قولان.

و الحقّ بناء المسألة على أنّ مناط اغتياب المتجاهر هل هو أنّه لا يكره ذكر عيبه أو أنّ الشارع أسقط احترامه فلا حرمة له عنده حتّى يحرم اغتيابه ؟ فالمتّجه على الأوّل وجوب الاقتصار على الفسق المتجاهر فيه لأنّ قضيّة كونه متستّراً في غيره أن يكون كارهاً لذكره بخلاف ما تجاهر فيه فإنّ من لا يبالي بظهور عيبه لا يكره ذكره، و على الثاني جواز التعدّي إلى غيره، و ظاهر أكثر الروايات المتقدّمة هو الثاني، فالأقوى الأظهر القول الثاني و إن كان الأحوط هو الأوّل.

و على هذا القول فقد يقال: ينبغي إلحاق ما يتستّر به بما يتجاهر فيه إذا كان دونه في القبح، فمن تجاهر باللواط جاز اغتيابه بالتعرّض للنساء الأجانب، و من تجاهر بقطع الطرق جاز اغتيابه بالسرقة، و من تجاهر بكونه جلّاد السلطان يقتل الناس و ينكّلهم جاز اغتيابه بشرب الخمر، و من تجاهر بالقبائح المعروفة جاز اغتيابه بكلّ قبيح دونها، و لعلّ هذا هو المراد ب «من ألقى جلباب الحياء» لا من تجاهر بمعصية خاصّة و عُدّ مستوراً بالنسبة إلى غيرها كبعض عمّال الظلمة(6).

أقول: وجه الإلحاق غير واضح، و لعلّه الأولويّة بالقياس إلى كراهة المغتاب فمن

ص: 262


1- الروضة 175:9.
2- المكاسب 345:1.
3- صرّح به كاشف الغطاء في شرحه على القواعد 228:1.
4- الحدائق 166:18.
5- كشف الريبة: 79، القواعد و الفوائد 148:2.
6- المكاسب 345:1-346.

لا يكره ذكره بفسق شديد قبحه فلا يكره ذكره بما دون ذلك، و فيه ما لا يخفى لمنع الملازمة فإنّ المتستّر قد يتستّر في فسقه لأنّه يكره ظهوره و إظهاره للناس و إن كان أضعف قبحاً ممّا تجاهر فيه، نعم قد يكون تستّره لمحض الاتّفاق من غير كراهة له لظهوره في الناس و إظهاره لهم و إن كان أشدّ قبحاً ممّا تجاهر فيه، فينبغي التفصيل في الإلحاق و عدمه.

ثمّ المتجاهر بفسق قد يكون متجاهراً في محلّة دون اُخرى، أو في بلد دون بلاد اُخر على معنى كونه مستوراً فيها، فمقتضى البناء المتقدّم جواز اغتيابه عند من كان مستوراً إذ لا احترام له. و توهّم أنّ القدر الساقط من احترامه إنّما هو عند من هو متجاهر به، يدفعه عدم معقوليّة تبعّض الاحترام و تجزيته.

و لو تجاهر بما ظاهره كونه فسقاً و اعتذر له بما لو صحّ شرعاً أخرجه عن عنوان الفسق فإن لم يظهر كذبه و كان عذره بحسب الشرع مقبولاً لم يجز اغتيابه حينئذٍ، لأنّه لا يعدّ متجاهراً بالفسق، بخلاف ما لو ظهر كذبه كما لو كان من أعوان الظلمة و عمّال سلاطين الجور و اعتذر في فعله بكونه مجبوراً أو أنّه دخل فيه بداعي رفع الظلم عن المظلومين أو بداعي منع السلطان عن الظلم أو بداعي صيانة نفسه أو عقاراته و أملاكه عن أيادي الغاصبين و تعدّيات الظالمين و ما أشبه و علمنا كذبه من خارج، أو كان عذره غير مقبول شرعاً و إن كان صادقاً في اعتذاره كالجلّاد الّذي يقتل محترم الدم بأمر السلطان إذا اعتذر لفعله المجبوريّة و الإكراه الناشئ من تهديد السلطان على قتله فإنّ هذا العذر بمقتضى أنّه لا تقيّة في الدماء غير مقبول شرعاً، أو أنّ شارب الخمر جهاراً علّله بكونه للتداوي و أنّ الطبيب الحاذق أمره بذلك فإنّ هذا العذر - بناءً على عدم الرخصة في تناوله و شربه حتّى للتداوي و إن أمره الحاذق به كما هو الأقوى على ما تقدّم تحقيقه - غير مسموع شرعاً، فإنّه لا يخرج بذلك في الصورتين عن كونه متجاهراً بالفسق و لا يحرم اغتيابه.

الثاني: تظلّم المظلوم،

و هو أن يذكر المظلوم مظلمة ظالمه عند غيره، أو أن يذكر ظالمه بسوء و ظلم أوقعه عليه عند غيره.

و في تقييد من يذكر عنده بكونه ممّن يرجو إزالة مظلمته و رفع ظلمه و عدمه

ص: 263

قولان: أوّلهما منسوب إلى كاشف الريبة(1) و جمع(2) ممّن تأخّر عنه.

و ثانيهما خيرة غير واحد من مشايخنا(3) و عزي إلى بعض الأساطين، و لعلّه الشيخ النجفي قدس سره في شرحه للقواعد(4).

و ربّما حكي القول بالتعدّي إلى مطلق سوء الظالم غير ما فعله في حقّ المظلوم على ما سمعناه عن بعض مشايخنا قدس سرهم فقال في التظلّم أقوال: أخصّها جواز التظلّم عن الظالم فيما ظلمه عند من يرجى رفع ظلمه فلا يجوز ذكر ظلمه عند من لا يرجى رفعه و لا ذكر سائر عيوبه و لو عند من يرجى رفع مظلمته، و القول الآخر جواز التظلّم عنه و ذكره بظلمه عند من يرجى إزالة مظلمته و عند من لا يرجى ذلك، و ثالث الأقوال جواز ذكره بظلمه و غيره من عيوبه عند من يرجى منه رفع المظلمة و من لا يرجى منه ذلك.

و لكنّا لم نحقّقه و لم نجده في كلام من يعتبر نقله و لم نقف على قائله أيضاً، مضافاً إلى أنّه يأباه مادّة التظلّم و مفهومه فإنّ ذكر الظالم بما فيه من السوء غير ظلمه الّذي أوقعه على هذا المظلوم ممّا لا مدخل له في عنوان التظلّم أصلاً.

و لو فرض كون هذا الظالم متجاهراً في ظلمه بأن أوقعه عليه جهاراً و على رءوس الأشهاد فيجوز حينئذٍ ذكر عيوبه الاُخر أيضاً على ما تقدّم في حكم المتجاهر لورد عليه أنّه يرجع حينئذٍ إلى غيبة المتجاهر فيخرج عن عنوان التظلّم إذ ليس الكلام في ذكر مظلمة الظالم من حيث إنّه متجاهر فيها و لذا يعمّ الحكم المتستّر بها أيضاً كما لو ضربه ليلاً أو شتمه أو أخذ ماله سرّاً كما نصّ عليه بعض مشايخنا(5).

و كيف كان فدليل استثناء التظلّم قوله عزّ من قائل: «لاٰ يُحِبُّ اَللّٰهُ اَلْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ اَلْقَوْلِ إِلاّٰ مَنْ ظُلِمَ وَ كٰانَ اَللّٰهُ سَمِيعاً عَلِيماً» (6).

و بيان الدلالة المتوقّفة على النظر في التركيب النحوي أنّ الجهر مصدر بمعنى الظهور، و كلمة الباء فيما بعده للتعدية على حدّ ذهب به فتصير الجهر بمعنى الإجهار المرادف للإظهار، فيكون التقدير و حاصل المعنى إنّ اللّٰه لا يحبّ أن يظهر السوء، و من

ص: 264


1- كشف الريبة: 77.
2- كما في الكفاية: 86، المستند 168:14، مفتاح الكرامة 218:12.
3- المكاسب 349:1، الجواهر 66:22.
4- شرح القواعد 224:1.
5- المكاسب 247:1.
6- النساء: 48.

القول بيان أي لا يحبّ من جنس القول إظهار السوء، و فاعل المصدر محذوف وجوباً بدليل النفي و الاستثناء و هو الأحد المنكر، و تقديره لا يحب أن يظهر أحد السوء، و المستثنى مفرّغ لوقوعه في كلام منفيّ حذف فيه المستثنى منه، فيعرب بحسب اقتضاء العامل المتقدّم و هو الرفع على الفاعليّة للمصدر.

و حيث إنّ الاستثناء من النفي إثبات فيفيد أنّ اللّٰه يحبّ أن يجهر من ظلم بسوء ظالمه أي يظهر من حيث كونه مظلوماً سوء ظالمه، و المنساق من الحيثيّة المنساقة في متفاهم العرف كون المراد من السوء سوء الظلم الّذي وقع من الظالم على المظلوم لا مطلق السوء، و حيث إنّ الموصول باعتبار صلته ظاهر في المعنى الجنسي فيكون المستثنى عامّاً في كلّ مظلوم، فالاستثناء حينئذٍ يفيد عموم الرخصة لكلّ مظلوم في ذكر مظلمة ظالمه عند غيره، و إطلاقه يشمل من لا يرجى إزالة المظلمة و رفع الظلم.

و قد يتوهّم دلالة الآية على محبوبيّة ذلك للّٰه تعالى فيفيد رجحان التظلّم الّذي أقلّ مراتبه الاستحباب. و هذا سهو، لأنّ قوله: «لا يحبّ اللّٰه» ظاهر فيما يرادف الكراهة الظاهرة في المبغوضيّة، فحاصل معنى نفي المحبوبيّة هو المبغوضيّة و الاستثناء يفيد إثبات المحبوبيّة المرادفة لعدم المبغوضيّة و أقصاه الرخصة في الفعل بمعناها الأعمّ ، فالدلالة على الرجحان محلّ منع.

و كما أنّ توهّم هذه الدلالة سهو فكذلك ما في صريح عبارة مجمع البيان من جعل الاستثناء منقطعاً فيكون «إلّا» بمعنى لكن لرفع التوهّم أيضاً سهو، و لعلّ منشأه زعم عدم كون المستثنى و هو قوله: «من ظلم» من جنس المستثنى منه و هو الجهر بالسوء، و يدفعه أنّ المستثنى إذا كان مفرّغاً معرباً بحسب اقتضاء العامل الّذي هو المصدر كان عامله في الحقيقة هو جهر المظلوم بسوء ظالمه، و هذا نوع من مطلق الجهر بالسوء الواقع في حيّز النفي فهو المستثنى في الحقيقة لا ما هو معرب بإعراب المستثنى منه المحذوف. و مع الغضّ عن ذلك نقول: بأنّ الموصول مندرج في «أحد» المنكّر المحذوف الّذي هو المستثنى منه في الحقيقة، فانقطاع الاستثناء هنا ممّا لا معنى له أصلاً.

و قد يستدلّ أيضاً بقوله تعالى: «وَ لَمَنِ اِنْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولٰئِكَ مٰا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ إِنَّمَا اَلسَّبِيلُ عَلَى اَلَّذِينَ يَظْلِمُونَ اَلنّٰاسَ وَ يَبْغُونَ فِي اَلْأَرْضِ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ » (1) و كأنّه لزعم أنّ المراد بالانتصار طلب النصرة و لا يكون إلّا من المظلوم في مقام التظلّم عند من يرجو إزالة مظلمته.

ص: 265

و قد يستدلّ أيضاً بقوله تعالى: «وَ لَمَنِ اِنْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولٰئِكَ مٰا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ إِنَّمَا اَلسَّبِيلُ عَلَى اَلَّذِينَ يَظْلِمُونَ اَلنّٰاسَ وَ يَبْغُونَ فِي اَلْأَرْضِ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ » (1) و كأنّه لزعم أنّ المراد بالانتصار طلب النصرة و لا يكون إلّا من المظلوم في مقام التظلّم عند من يرجو إزالة مظلمته.

و فيه نظر، لأنّ الانتصار كما فسّره المفسّرون و ذكره بعض أهل اللغة و يدلّ عليه سياق الآية و القرائن الموجودة معها سبقاً و لحوقاً خصوصاً ما سبق عليها من قوله تعالى: «وَ اَلَّذِينَ إِذٰا أَصٰابَهُمُ اَلْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ وَ جَزٰاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهٰا فَمَنْ عَفٰا وَ أَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اَللّٰهِ » (2) اُريد به في الآية ما يقابل العفو و هو الانتقام، و قوله: «ما عليهم من سبيل» يعني به سبيل المؤاخذة و المعاقبة في دار الآخرة فيفيد الرخصة في انتقام المظلوم عن ظالمه و هو أن يصنع عليه مثل ما صنعه عليه كما أشار إليه بقوله: «وَ جَزٰاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهٰا» فتكون الآية مساوقة لقوله: «فَمَنِ اِعْتَدىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اِعْتَدىٰ عَلَيْكُمْ » (3) و في معناه قوله: «فَلاٰ عُدْوٰانَ إِلاّٰ عَلَى اَلظّٰالِمِينَ » (4) فلا تعلّق لها بما نحن فيه.

و توهّم: أنّ الحكمة في انتقام المظلوم إنّما هو لما فيه من شفاء الصدر و تشفّي القلب، و هذا موجود في التظلّم أيضاً، لأنّ المظلوم يتشفّى قلبه بمذاكرة مظلمة ظالمه في المجالس و المحافل. يدفعه: أنّه يرجع إلى استنباط العلّة من غير دلالة النصّ عليها، فالتعدّي عن مورده إلى غيره قياس لا نقول به.

و يمكن كون مبنى الاستدلال على الفحوى و الأولويّة، بتقريب أنّ تظلّم المظلوم عن ظالمه أهون من انتقامه منه، فلو كان مبناهما في الشريعة على التحريم كان الانتقام أغلظ حكماً و أشدّ مفسدة من التظلّم، و إذا صحّ الترخيص في الأوّل بنصّ الآية كان الثاني أولى بالترخيص فيه. و فيه أيضاً منع، لقصور العقول عن إدراك الحكم الخفيّة، مع إمكان دعوى كون الأولويّة في العكس لأنّ التظلّم إشاعة سوء و هتك عرض يوجب فيه الفضيحة العظمى.

و استدلّ أيضاً [بنصوص] منها: ما روي عن مولانا أمير المؤمنين عليه السلام بسند قويّ

ص: 266


1- الشورى: 41-42.
2- الشورى: 39.
3- البقرة: 194.
4- البقرة: 193.

على ما وصفه شيخنا «لا زلت مظلوماً منذ ولدتني اُمّي حتّى أنّ عقيلاً كان يرمد فيريدون أن يذرّوه، فقال: لا تذرّوني حتّى تذرّوا عليّاً فيذرّوني و ما كان بي رمد...»(1)الحديث. وجه الدلالة أنّه عليه السلام تظلّم عن عقيل أو عن أبويه بما كانوا يصنعون فيه من الّذي بدون رمد الّذي لا يستريب أحد في كونه ظلماً، و لم يكن في موضع رجاء الإزالة لأنّ الظلم قد وقع و انصرم زمانه و لم يكن عقيل و أبواه حين إذ تظلّم موجودين فلم يمكن تدارك ظلمه، و فعل المعصوم حجّة، فلو لا التظلّم خصوصاً في موضع عدم رجاء إزالة المظلمة [جائزاً] لما أقدم عليه.

و منها: ما روي عن زوجة أبي سفيان حيث شكت عنه إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم و قالت: إنّ أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني و ولدي ما يكفيني، آخذ من ماله ما يكفيني و ولدي ؟ قال صلى الله عليه و آله و سلم: «خذي لك و لولدك ما يكفيك بالمعروف»(2) و هذا تظلّم و ذكر للعيب و يدلّ على جواز تقريره صلى الله عليه و آله و سلم. و ردّ بخروجه عن محلّ الغيبة، لأنّ أبا سفيان لم يكن في الواقع مسلماً، و يؤيّده ذكرها عيبه الآخر الخارج عن ظلمه.

و منها: النبويّ «مطل الواجد ظلم»(3) و يزيّفه أنّه ينهض دليلاً على إحراز الصغرى في موضع عدم الحاجة إليها فإنّ كون المطل من الواجد ظلماً مع وضوحه ليس من محلّ البحث الّذي هو عبارة عن ذكر الظلم الواقع في الخارج على المظلوم عند الغير، نعم يتمّ الاستدلال بانضمام ما روي أيضاً من «أنّ مطل الواجد يحلّ عقوبته و عرضه»(4)كما نقله الشهيد رحمه الله و المعروف مكان «المطل» ليّ (5) الواجد(6).

و منها: ما تقدّم في مسألة المتجاهر في رواية أبي البختري من قوله: «و الإمام الجائر» فإنّ إسقاط حرمته المجوّزة للغيبة ليس لكونه متجاهراً و إلّا بطل مقابلته للفاسق المعلن بفسقه بل من حيث جوره و هو الظلم، و إسقاط حرمته كناية عن ذكره بظلمه، و ربّما اُيّد الحكم بأنّ في منع المظلوم من هذا الّذي هو نوع من التشفّي حرجاً

ص: 267


1- الوسائل 10/123:12، ب 85 أحكام العشرة، علل الشرائع: 3/44.
2- المستدرك 129:9، عوالي اللآلي 59/402:1.
3- البحار 231:72.
4- المستدرك 397:13، عوالي اللآلئ 44/72:4.
5- الليّ : مطل الدين (القاموس 390:4).
6- الوسائل 4/333:18، ب 8 أبواب الدين و القرض، أمالي الطوسي 134:2.

عظيماً، و بأنّ في تشريع الجواز مظنّة ردع للظالم و هي مصلحة خالية عن مفسدة فيثبت الجواز لأنّ الأحكام تابعة للمصالح هذا، و لكن العمدة من أدلّة المسألة هو الآية.

الثالث: الاستفتاء،

و فسّر بأن يقول للمفتي: ظلمني فلان حقّي، فكيف طريقي في الخلاص ؟ كما في كلام بعض مشايخنا(1) أو فما حيلتي ؟ أو ما تقول في حكمي ؟ أو ما تحكم بيني و بينه ؟ كما ذكره بعض(2) آخر.

و يشكل بأنّه غير خارج عن التظلّم المتقدّم حكمه و دليله و هو الآية، فإنّه لا فرق في إطلاقها بين كونه للتشفّي أو طلباً لطريق التخلّص عن ظلم الظالم أو رفعه و إزالته فيندرج فيه المعنى المذكور للاستفتاء فلا وجه لعدّه نوعاً آخر قسيماً له.

و لو فسّر بذكر معصية الخائض فيها طلباً لطريق حسم مادّة الفساد و الردع عن محارم اللّٰه تعالى - كأن يقول: فلان أو جاري أو أخي يشرب الخمر أو يزني أو يسرق أو يقامر أو نحو ذلك فما أصنع فيه، أو كيف نمنعه ؟ أو غير ذلك ممّا يؤدّي مؤدّى طلب الفتوى على معنى حكم المفتي و بيانه لطريق المنع - كان أسدّ كما هو شائع الوقوع.

و حينئذٍ فالظاهر جواز ما تضمّنه من الغيبة و إشاعة السوء، و دليله صحيحة عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم فقال: إنّ اُمّي لا تدفع يد لامس، فقال: احبسها، فقال: قد فعلت، فقال: فامنع من يدخل عليها، قال: قد فعلت، قال عليه السلام: فقيّدها، فإنّك لا تبرّها بشيء أفضل من أن تمنعها عن محارم اللّٰه عزّ و جلّ »(3)و المناقشة بظهورها في كون المورد من المتجاهر، يدفعها عموم التعليل المفيد لكون مصلحة المنع عن محارمه تعالى أقوى من مصلحة برّ الوالدين المأمور به عقلاً و نقلاً كتاباً و سنّة، بل يدلّ على أنّه أفضل أفراد البرّ، و يستفاد منه أيضاً أنّ المدار في الترجيح على الأفضليّة، و يدلّ الرواية باعتبار التقرير على جواز الاستفتاء بالمعنى المذكور المتضمّن للغيبة و ذكر المؤمن بسوئه، و لكن ينبغي تقييده بصورة ما لو لم يحصل الغرض من الاستفتاء إلّا بتعيين المغتاب و التصريح باسمه. فلو حصل الغرض بذكره مبهماً

ص: 268


1- المكاسب 352:1.
2- انظر كشف الريبة: 300.
3- الوسائل 1/150:28، ب 48 من أبواب حدّ الزنا، الفقيه 5140/72:4.

- كأن يقول: إنّ لي جاراً أو صديقاً أو قريباً يفعل كذا و كذا، أو يقول: رجل يفعل كذا - فالظاهر وجوب الاقتصار عليه و عدم جواز التعدّي من الإبهام إلى التصريح عملاً بعموم تحريم الغيبة و عدم ظهور مخرج للفرض عن أدلّته، فإنّ التقرير المستفاد من الرواية دليل لبّي و يقتصر فيه على القدر المقطوع به من مورده.

الرابع: التحذير،

و هو تخويف المؤمن عن الوقوع في ضرر ديني أو دنيوي بما يتضمّن الوقيعة في الضارّ، و يندرج فيه أنواع:

الأوّل: منع طلبة العلوم عن الاشتغال عند من طريقته باطلة كالطريقة الأخباريّة مثلاً أو عقيدته فاسدة بذكر بطلان طريقته أو فساد عقيدته ليحذروه، و منه منع الناس عن مخالطة من يضلّهم في دينهم أو مذهبهم الحقّ . و هذا ممّا لا إشكال في جوازه بل وجوبه و إن تضمّن الوقيعة في الرجل و إشاعة سرّه، لقوله تعالى: «وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى اَلْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ» (1) و هذا دعاء إلى الخير، و قوله صلى الله عليه و آله و سلم في صحيح داود بن سرحان المتقدّم: «إذا رأيتم أهل الريب و البدع من بعدي فأظهروا البراءة منهم و أكثروا في سبّهم و القول فيهم و الوقيعة و باهتوهم لكيلا يطمعوا في الفساد في الإسلام و يحذرهم الناس...»(2) الخ. و لكن في كونه من الغيبة حتّى يحتاج إلى دليل الجواز تأمّل بل منع في غير من طريقته باطلة لانتفاء الإيمان و المؤاخاة المأخوذ في الغيبة.

الثاني: منع الناس عن الرجوع إلى عالم غير قابل للقضاء و الإفتاء بذكر عدم قابليّته و عدم كونه أهلاً لهما ليحذروه و لا يفسد أعمالهم و أموالهم، و الظاهر جوازه بل وجوبه، للآية المذكورة، مع كون مصلحة الهداية و إرشاد الجاهل و تنبيه الغافل أعظم و أقوى من مفسدة الغيبة و مصلحة حرمة المؤمن، و عليها مدار إرسال الرسل و إنزال الكتب و نصب الأوصياء، و لكن ينبغي مراعاة عدم ترتّب مفسدة على الفعل كتوهين النوع، أو انفتاح باب وقوع الناس في الغيبة أو الفساد من جهته، أو اتّهام نفسه بكونه مغرضاً.

الثالث: منع المؤمن عن معاشرة من يضرّه في دنياه نفساً أو عرضاً أو مالاً، كالمنع

ص: 269


1- آل عمران: 104.
2- تقدّم في الصفحة: 243.

عن الرجوع إلى طبيب ناقص بذكر نقصانه، أو عن إدخال من يخون في أهله و لو بالنظر إليها في داره، أو عن المعاملة لمن ينكر حقّه قرضاً أو قراضاً أو يعسر في أدائه، أو عن تزويج امرأة بذكر قبائحها الّتي توجب وقوع المريد لتزويجها في فساد أو تلف مال أو اتّهام أو انهتاك عرض أو نحو ذلك، و منه بيان خلل في بكارتها و هو يريدها باعتقاد البكارة.

و هذا فيما كان الضرر هلاكة نفس محترمة ممّا لا إشكال في جوازه بل وجوبه أيضاً ترجيحاً لأعظم المصلحتين و هي مصلحة حفظ النفس، و في غيره محلّ إشكال خصوصاً فيما كان الضرر ماليّاً سيّما اليسير منه، إذ لم نقف على دليل مخرج عن أدلّة تحريم الغيبة و إشاعة السرّ.

و من مشايخنا من نفى الريب في مثال تزويج المرأة عن أولويّة التنبيه على بعض قبائحها من ترك نصح المؤمن مع ظهور عدّة من الأخبار في وجوبه(1).

و التمسّك بظهور الأخبار المشار إليها و إن كان غير بعيد في هذا المثال و نحوه و فيما كان الضرر المخوف من جهة المغتاب هتكاً للعرض أو نقصاً في الشأن و فيما كان الضرر المالي كثيراً يعتدّ به العقلاء، و في غيره مشكل غاية الإشكال، و الأولى إناطة الحكم بالأهمّ من مصلحة فعل النصيحة و مصلحة احترام المؤمن أو الأعظم من مفسدة اغتياب المؤمن و إذاعة سرّه و إشاعة عيبه و مفسدة ترك نصيحة مؤمن آخر، و يختلف ذلك بحسب الأشخاص و بحسب أنواع الضرر و بحسب مراتب الضرر المالي.

الخامس: نصح المستشير

و هو النصيحة المسبوقة بالاستشارة، و هو من المشورة بمعنى طلب الرأي في الأمر، و حاصل معناه رجوع الإنسان إلى غيره ممّن كمل عقله ليرى رأيه في أمره المتردّد فيه على معنى رأيه في صلاحه و فساده، فالمستشير هو الّذي يرجع إليه و يطلب رأيه في مصلحته أو مفسدته في أمره، و المعهود من معنى النصح في متفاهم العرف ما يعبّر عنه في الفارسيّة «بخير خواهى كردن» و يرادفه «نيك خواهى كردن» كما فسّره به في الكنز(2) و هو المتبادر من قوله تعالى: «وَ لاٰ يَنْفَعُكُمْ

ص: 270


1- المكاسب 352:1.
2- كنز 1318:2.

نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كٰانَ اَللّٰهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ » (1) و بمعناه النصيحة، و لا يخالفه ما في المجمع من «أنّ أصل النصيحة الخلوص يقال: نصحته و نصحت»(2) و نحوه ما في الأساس(3) و الغريبين(4)، و عن الصحاح(5) أيضاً، و المراد به هنا أن يخلص المؤمن رأيه في مصلحة أخيه المؤمن عن شوب الخيانة على معنى أن يريه ما يراه مصلحة أو مفسدة في أمره من غير خيانة لأنّه في حاصل المعنى يرجع إلى المعنى المذكور بل هو عينه.

و يدلّ على جواز الغيبة في مقام نصح المستشير بالخصوص الصحيح المرويّ عن محاسن البرقي عن ابن محبوب عن عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «أتى رجل أمير المؤمنين عليه السلام فقال له: جئتك مستشيراً أنّ الحسن عليه السلام و الحسين عليه السلام و عبد اللّٰه ابن جعفر خطبوا إليّ ، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: المستشار مؤتمن أمّا الحسن فإنّه مطلاق للنساء، و لكن زوّجها الحسين فإنّه خير لابنتك»(6) و قوله عليه السلام: «المستشار مؤتمن» يعطي ضابطة كلّيّة تجري في جميع موارد الاستشارة و هي كون المستشار أميناً يجب عليه ردّ الأمانة من غير خيانة، على معنى بيان ما يراه مصلحة المستشير و مفسدته و لا يخون في رأيه، و فعل الإمام عليه السلام حجّة فيدلّ على جواز النصح و إن تضمّن ذكر سوء مؤمن آخر على قدر ما يتوقّف عليه النصح.

و نحوه في الدلالة عليه باعتبار فعل المعصوم النبويّ المرويّ مرسلاً «من قول النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لفاطمة بنت قيس لمّا شاورته في خطابها معاوية صعلوك لا مال له، و أبو الجهم لا يضع العصى عن عاتقه»(7).

و إطلاق صحيح حسين بن عمر بن يزيد عن أبيه عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «من استشار أخاه فلم ينصحه محض الرأي سلبه اللّٰه عزّ و جلّ رأيه»(8) و في سند آخر عن الكليني فيه إرسال عنه عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «من استشار أخاه فلم يمحضه محض

ص: 271


1- هود: 34.
2- مجمع البحرين 318:4.
3- الأساس: 458.
4- الغريبين 1846:6 (نصح).
5- الصحاح 411:1.
6- الوسائل 1/43:12، ب 23 أحكام العشرة، المحاسن: 20/601.
7- مستدرك الوسائل 5/129:9، ب 134 أحكام العشرة، عوالي اللآلي 155/438:1.
8- الوسائل 2/44:12، ب 23 أحكام العشرة، المحاسن: 27/602.

الرأي سلبه اللّٰه عزّ و جلّ رأيه»(1).

و خبر عمّار بن مروان قال: «قال أبو عبد اللّه عليه السلام في وصيّته له: اعلم أنّ ضارب عليّ عليه السلام بالسيف و قاتله لو ائتمنني و استنصحني و استشارني ثمّ قبلت ذلك منه لأدّيت إليه الأمانة»(2).

و خبر إسماعيل بن عبد اللّه القرشي في حديث «إنّ رجلاً قال لأبي عبد اللّه عليه السلام:

الناصب يحلّ لي اغتياله ؟ قال: أدّ الأمانة إلى من ائتمنك و أراد منك النصيحة و لو إلى قاتل الحسين عليه السلام»(3).

و يدلّ عليه أيضاً إطلاق الأخبار المستفيضة القريبة من التواتر فيها الصحاح و الموثّقات و غيرهما الدالّة صراحةً و ظهوراً على وجوب النصيحة، و هذه الأخبار مع أخبار تحريم الغيبة و إن كان بينهما عموم من وجه لقضائها لجواز النصيحة بل وجوبها و إن تضمّنت غيبة مؤمن آخر و قضاء أخبار الغيبة بتحريمها و إن كانت في ضمن نصيحة مؤمن آخر سبقها استشارة أم لا فتتعارضان في نصح مستشير تضمّن غيبة مؤمن آخر، و الظاهر تعيّن إرجاع التخصيص إلى أخبار الغيبة، لأظهريّة دلالات أخبار النصيحة على العموم و قلّة ورود التخصيص عليها و اعتضادها بأخبار نصح المستشير المتضمّن لفعل المعصوم و لسيرة المسلمين قديماً و حديثاً حتّى الفقهاء المتورّعين و بفهم جماعة من الأساطين و لعلّهم الأكثرون.

السادس: جرح الشاهد عند الحاكم، و جرح الراوي بذكر ما يوجب الفسق المانع من القبول.

أمّا الأوّل: فجوازه معلوم بالإجماع منقولاً و محصّلاً فتوى و عملاً، كما يعلم الأوّل بملاحظة فتاويهم في أحكام الشهادات و البيّنات حتّى أنّهم عقدوا لتعارض الجرح و التعديل باباً و اختلفوا في تقديم أيّهما على الآخر، و الثاني بملاحظة السيرة المستمرّة بين المسلمين في جميع الأمصار و الأعصار من لدن عصر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم و أعصار

ص: 272


1- الوسائل 5/384:16، ب 36 فعل المعروف، الكافي 5/270:2.
2- الوسائل 8/74:19، ب 2 كتاب الوديعة، الكافي 5/133:5.
3- الوسائل 4/73:19، ب 2 كتاب الوديعة، الكافي 448/293:4.

الأئمّة عليهم السلام إلى أعصارنا هذه، فتكشف عن رضاهم و تقريرهم بل أمر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في الحكومات بإحضار من يعرف الشهود بتزكية أو جرح، مضافاً إلى عمومات الأمر بإقامة الشهادات و النهي عن كتمانها كتاباً و سنّة، و إلى ما قيل من أنّ مصلحة عدم الحكم بشهادة الفاسق أولى من مصلحة الستر على الشاهد. و لكن يعتبر في محلّ الجواز اُمور:

الأوّل كون الجرح عند الحاكم لا غير. الثاني استدعاؤه و طلبه، و مرجعه إلى عدم التبرّع بالشهادة. الثالث الاقتصار في إظهار الفسق على ما يحصل به الغرض من الجرح و عدم التعدّي إلى ما زاد، و مرجعه إلى عدم إحصاء عيوب الشاهد و فسوقه، فإنّ القدر المقطوع بخروجه من عمومات تحريم الغيبة و إشاعة الفاحشة في «الّذين آمنوا» هو ما اجتمع فيه الشروط الثلاث دون غيره ممّا انتفى فيه الشروط وحدانيّاً أو ثنائيّاً أو ثلاثيّاً.

و أمّا الثاني: فجوازه أيضاً معلوم بالإجماع منقولاً و محصّلاً كما يظهر للمتتبّع في سيرة العلماء و عملهم قديماً و حديثاً خلفاً عن سلف من لدن أعصار الأئمّة عليهم السلام حيث كانوا يتعرّضون لأحوال رواة الحديث بذكر مناقبهم و عيوبهم و مدائحهم و ذمائمهم و تعديلهم و جرحهم و تفسيقهم و رميهم بالتخليط و فساد المذهب و عدم الاستقامة و فساد العقيدة من غير نكير حتّى في أعصار الأئمّة عليهم السلام مع اطّلاعهم عليهم السلام و تقريرهم حتّى أنّ المتصدّين لهذا الشأن وضعوا لذلك فهارست و رسائل و كتباً كما يعلم ذلك بملاحظة كتب الرجال الموضوعة في هذه الصناعة، و كونها مرجعاً لأهل الحلّ و العقد في مقام الاستنباط و تشخيص المقبول من الروايات عن مردودها و تمييز ما يترجّح منها في مقام التعارض على غيره، أو لإحراز التعادل بين المتعادلين، فهذا كلّه يكشف كشفاً ضروريّاً عن كون هذه الطريقة ممّا رضي به الأئمّة عليهم السلام عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم عن اللّٰه عزّ و جلّ ، فهذا الإجماع العملي ضروريّ من أهل الحلّ و العقد من أهل الحقّ و الباطل، فهو من ضروريّات العلماء و إن لم يبلغ حدّ الضرورة عند كافّة الناس.

مضافاً إلى ما قيل: من أنّ مفسدة العمل برواية الفاسق أعظم من مفسدة الشهادة بفسقه و إشاعة عيبه و نقصانه، و يجوز فيه التبرّع بها أيضاً بل قيل: يستحبّ ذلك، فيجوز الجرح للراوي على الإطلاق.

السابع: الشهادة عند الحاكم بالقتل أو شرب الخمر أو الزنا أو اللواط أو السرقة

أو

ص: 273

غيرها من الفسوق الكبائر لإقامة الحدود و حفظ الدماء المعصومة و الأموال المحترمة لئلّا يتضيّع الحقوق و لا يغلب الباطل على الحقّ ، كذا نسب إلى الشيخ في شرحه(1)للقواعد، و لا يخفى أنّ ذكر الحدّ في هذا العنوان إمّا مثال، أو يراد به ما يعمّ القصاص و التعزيرات المنوطة برأي الحاكم.

و الدليل على جواز هذه الشهادة - مع كونها من الغيبة الّذي هو دليل على الاستثناء - أوّلاً: إجماع علماء الإسلام على ما يظهر منهم في أبواب الدعاوي و الشهادات و الحدود و الديات الّتي يندرج فيها الشهادة بالغاصبيّة أو السرقة، و فيها حفظ الأموال المحترمة و الشهادة بالقتل أو الجناية، و فيها حفظ الدماء المعصومة من أن تهدر و الشهادة بشرب الخمر و الزنى و اللواط و السحق و غيرها من أنواع الفسوق، و فيها حفظ حقوق اللّٰه من أن تتضيّع.

و ثانياً: السيرة القطعيّة المستمرّة بين المسلمين في جميع الأمصار و الأعصار من لدن بناء الشرع إلى يومنا هذا الكاشفة عن رضا المعصوم من النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم و أوصيائه المعصومين عليهم السلام.

و ثالثاً: تقرير أهل العصمة من النبيّ و أهل العصمة حيث إنّ أصحابهم كانوا يشهدون في حضرتهم الشريفة بنحو الاُمور المذكورة، و هم يستمعون شهاداتهم من غير نكير و لا ردع و منع تعليلاً بأنّها من الغيبة المحرّمة.

و رابعاً: الأخبار المتكاثرة المتواترة معنىً بل البالغة فوق حدّ التواتر بمراتب شتّى الواردة في أبواب الدعاوي و الشهادات و الحدود الدالّة على جواز نحو هذه الشهادات بل وجوبها في الجملة.

و خامساً: الأمر بإقامة الشهادة و النهي عن كتمانها الواردين في الكتاب العزيز كقوله تعالى: «وَ أَقِيمُوا اَلشَّهٰادَةَ لِلّٰهِ » (2) و قوله أيضاً: «وَ لاٰ تَكْتُمُوا اَلشَّهٰادَةَ وَ مَنْ يَكْتُمْهٰا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ » (3) و قوله أيضاً: «مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهٰادَةً » (4) فإنّ إطلاقها يعمّ الشهادة بأنواع الفسوق الكبائر، و خصوص قوله تعالى: «وَ اَلَّذِينَ يَرْمُونَ اَلْمُحْصَنٰاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ

ص: 274


1- شرح القواعد 228:1.
2- الطلاق: 2.
3- البقرة: 283.
4- البقرة: 140.

شُهَدٰاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمٰانِينَ جَلْدَةً » (1) الآية يدلّ بالالتزام دلالة صريحة على جواز الشهادة بالزنى و نحوه قوله تعالى «لَوْ لاٰ جٰاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدٰاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدٰاءِ فَأُولٰئِكَ عِنْدَ اَللّٰهِ هُمُ اَلْكٰاذِبُونَ » (2).

و هل يعتبر في محلّ الاستثناء استدعاء الشهادة من الشاهد فلا يجوز التبرّع بها لكونها غيبة لم يثبت خروجها عن عموم التحريم أو لا؟ فالشهادة التبرّعيّة أيضاً جائزة، و لم نقف على كلام لهم صريح في أحد الوجهين، غير أنّه يمكن استظهار الإجماع على عدم اشتراط الاستدعاء و جواز التبرّع بها من كلماتهم في مواضع اُخر، مثل ما في الشهادات في مسألة أنّ التبرّع بالشهادة في حقوق اللّٰه تعالى هل يمنع القبول كما عن الشيخ في النهاية(3) أو لا؟ كما هو المشهور شهرة عظيمة.

و مستند القول بالمنع تطرّق التهمة المانعة من القبول كما في حقوق الآدميّين، و عن الصيمري(4) دفعه «بأنّ العدالة تدفع التهمة» و ردّه السيّد في الرياض بمنع دفع العدالة التهمة مستنداً إلى «أنّه قد أطبق هو و سائر الأصحاب على اجتماعها معها، و لذا عدّوا التهمة من موانع قبول الشهادة زيادة على الفسق المقابل للعدالة، فلو أوجبت التهمة فسقاً لما كان لعدّهم إيّاها من الموانع في مقابلة الفسق وجه»(5) انتهى.

فإنّ مصير المعظم إلى عدم منع التبرّع القبول، و كلام الصيمري في منع تطرّق التهمة تعليلاً بأنّ «العدالة المعتبرة في الشاهد تدفعها» و ما عرفت من ردّه من عدم كون التهمة قادحة في العدالة و ما نسب إليه و سائر الأصحاب من الإطباق على اجتماع العدالة معها يعطي إجماعهم على عدم كون أصل التبرّع بالشهادة على شرب الخمر و غيره من الفسوق الكبائر من غير جهة التهمة لا يوجب الفسق و لا يقدح في العدالة و إلّا لوجب ردّها من هذه الجهة لا من جهة التهمة، و لا يتمّ ذلك إلّا على تقدير كون الشهادة التبرّعيّة مع كونها من الغيبة و إشاعة الفاحشة جائزة مخرجة من عموم أدلّة تحريمها هذا، مضافاً إلى قضاء السيرة بذلك أيضاً.

ص: 275


1- النور: 4.
2- النور: 13.
3- النهاية: 330.
4- غاية المرام 284:4.
5- الرياض 325:15.

و هل يعتبر سبق الدعوى عند الحاكم من مدّعي مخصوص ليشهد الشاهد على طبقها و لو تبرّعاً؟ الظاهر العدم، لظهور الإجماع من كلامهم في المسألة المشار إليها، حيث علّلوا المشهور في قبول الشهادة التبرّعيّة بأنّها في حقوق اللّٰه و المصالح العامّة لا مدّعي لها، فلو لم تقبل فيها شهادة المتبرّع لأدّى ذلك إلى سقوطها.

و اُجيب بما يرجع حاصله إلى منع بطلان التالي، و هذا يدلّ على أنّ جواز هذه الشهادة من دون سبق الدعوى مفروغ عنه عندهم متسالم فيه لديهم، و لو علم بأنّ شهادته لا تقبل لفسقه أو عدم عدل آخر يستكمل به البيّنة أو تطرّق التهمة إليه أو جهة اُخرى لم يجز له الشهادة حينئذٍ عملاً بعموم حرمة الغيبة و إشاعة الفاحشة من دليل مخرج مع عدم ترتّب الفائدة المقصودة من الشهادة.

و هل العلم بالقبول شرط أو العلم بعدمه مانع و يظهر الفائدة في صورة احتمال القبول لاحتمال حصول العلم للحاكم بشهادته مع فسقه أو بانفراده من جهة القرائن أو حصول ما يتمّ به البيّنة فيما بعد؟ وجهان: من الأخذ بالقدر المتيقّن ممّا خرج من أدلّة الحرمة، و من الإجماع و السيرة في أداء الشهادة مع الاحتمال مساوياً أو راجحاً أو مرجوحاً. و هو الوجه، و لكنّه فيما لم يجامع عنوان الغيبة حيثيّة اُخرى كالقذف في الزنى مثلاً، و إلّا وجب الاقتصار على صورة العلم بالقبول المتوقّف على استكمال عدد الأربع بشروطها المقرّرة في محلّه الّتي منها تواردهم دفعة واحدة و وحدة زمان المشهود به و مكانه و عدم نكول بعضهم، فلو نقص العدد أو اختلّ بعض الشروط لم يجز الشهادة لكونه من القذف المحرّم، و لذا يحدّ الشاهد حينئذٍ نظراً إلى أنّ الحدّ عقوبة و هي فرع على تحقّق المعصية.

ثمّ إنّه يلحق بالشهادة لإقامة الحدود الشهادة بشرب الخمر و غيره من الفسوق الكبائر لإقامة الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر ممّن لا يتمكّن من القيام بهما بنفسه، أو يخاف على نفسه الضرر، أو يقطع بأنّ قوله لا يؤثّر في الارتداع و الانتهاء، فيظهر الواقعة لمن يتمكّن من ذلك - من حكّام الشرع أو حكّام الجور أو غيرهم من المقتدرين و أرباب الاستيلاء - للسيرة القطعيّة و عموم أدلّة وجوبهما، نظراً إلى أنّه من

ص: 276

جملة مراتبهما المختلفة على ما ستعرفه.

الثامن: ما يدخل في الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر إذا تحقّق شرائطه، من الأمن عن الضرر و وقوع الفتنة

و احتمال التأثير و توقّف انتهائه عمّا عليه من ترك الواجب أو ارتكاب المحرّم على اغتيابه و ذكره بمعصيته في المجالس و المحافل على قدر ما يحصل به الغرض مع انحصار طريقه فيه، فإنّه جائز بل واجب لوجوب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، على معنى حمل تارك الواجب على فعله و ردع فاعل الحرام عن فعله، لا المعنى المعروف المصطلح الاُصولي نظراً أنّ مصلحة ذلك أعظم من مصلحة احترام المؤمن، و أنّ مفسدة اغتيابه بذكر منكره أهون من مفسدة بقائه على منكره.

كما أنّه قد يجوز بل يجب في موضع توقّف الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر مع الانحصار بعض المحرّمات، من إيذاء المؤمن بالقول الخشن أو ضربه أو جراحه أو قتله على القول بجواز كلّ منهما، أو أوّلهما لحسم مادّة العصيان مع مراعاة الترتيب على وجه الأيسر فالأيسر، نظراً إلى أنّها تتدرّج على حسب ما يحصل به الغرض، و يعتبر في محلّ الاستثناء أن لا يكون قاطعاً بعدم التأثير، سواء كان قاطعاً بالتأثير أو محتملاً له احتمالاً مساوياً أو راجحاً أو مرجوحاً.

التاسع: التفضيل ذكره الشيخ في شرحه للقواعد

التاسع: التفضيل ذكره الشيخ في شرحه للقواعد(1)

و المراد به تفضيل بعض العلماء و المجتهدين على بعض، نقول: إنّ فلاناً أعلم من فلان أو أفقه منه أو أفضل منه، فإنّه يتضمّن ذكر المفضّل عليه بصفة المفضوليّة الّتي هي نوع عيب و منقصة فيه، ربّما يكره ذكره بهذا العيب و تلك المنقصة فيكون اغتياباً له، فاندراج التفضيل في الغيبة باعتبار ما تضمّنه لا في نفسه.

و العمدة بيان الوجه في استثنائه و تفصيل القول فيه: أنّ التفضيل إمّا أن يكون في موضع الحاجة إليه - لتوقّف حقّ ديني أو دنيوي عليه، ككونه لمن يريد التقليد و لا يعرف الأعلم من المجتهدين عن غيره، بناءً منه على وجوب تقليد الأعلم أو على العمل بالاحتياط أخذاً بالقدر المتيقّن ممّا يوجب البراءة، أو لمن يريد معرفة الموقوف

ص: 277


1- شرح القواعد 229:1.

عليه أو المتولّي على الوقف أو الموصى له فيما وقف على المجتهدين الأعلم منهم فالأعلم، أو جعل التولية لأعلم العلماء أو اُوصي لهم - أو لا يكون في موضع الحاجة.

و الأوّل: ممّا لا إشكال في جوازه بل قد يجب ممّن سئل عن الفاضل و هو من أهل الخبرة، للسيرة، و لأنّ مصلحة التفضيل في مقام الحاجة أعظم من مصلحة احترام المؤمن.

و أمّا الثاني: فلا دليل على جوازه فضلاً عن وجوبه إلّا إذا فرض بحيث خرج عن موضوع الغيبة، ككون المفضول مشتهراً بين الناس بالمفضوليّة و هو أيضاً يعتقد المفضوليّة في حقّه، و لا يبالي ذكره بصفة المفضوليّة و لا يكرهه، فجوازه حينئذٍ لأجل عدم كونه اغتياباً. و كذا الكلام في التفضيل فيما لو كان المتفاضلان من غير أهل العلم من أرباب سائر الحرف و الصنائع، كتفضيل أحد الصائغين أو المعمارين أو النجّارين على الآخر.

العاشر: ذمّ المؤمن و ذكر معائبه لحفظ دمه أو عرضه أو ماله إذا كان أحد هذه في معرض التلف،

و عن الشيخ في شرح(1) القواعد إطلاق القول بخروجه من حكم الغيبة.

و هذا في مقام حفظ الدم كذلك ترجيحاً لمصلحة حفظ النفس المحترمة على مصلحة احترام المؤمن و ستر عيوبه، و كذلك في صورة حفظ العرض خصوصاً إذا كان من الفروج، ضرورة أنّ مصلحة حفظ الفروج أقوى من مصلحة ستر العيوب. و أمّا في صورة حفظ المال فإطلاق الحكم محلّ منع، خصوصاً إذا كان المال المتوقّف حفظه على ذكر معائب صاحبه يسيراً. و لا يبعد التفصيل بين من لا يبالي ذهاب مال له و لو كثيراً و يبالي التعرّض لعيوبه فلا يجوز لكونه من الغيبة الّتي لا مخرج لها، و بين من لا يبالي التعرّض لعيوبه و يبالي ذهاب مال له و لو قليلاً فيجوز. و دعوى أنّ مصلحة حفظ أموال الناس أعظم من مصلحة ستر معائبهم بقول مطلق، ممّا لم نقف على دليل عامّ ، قضى بوجوب حفظ أموال الناس بحيث أوجب استباحة اغتيابهم و الكشف عن معائبهم مع كون الأموال بأيدي أربابها.

الحادي عشر: نفي النسب عمّن يدّعي نسباً ليس له،

ذكره جماعة في المستثنيات.

و الكلام هنا تارةً في الموضوع ببيان وجه اندراج هذا العنوان في الغيبة، و اُخرى في

ص: 278


1- شرح القواعد 228:1.

الحكم ببيان مدركه.

أمّا الأوّل فكونه غيبة إمّا باعتبار ما تضمّنه من إثبات نسب آخر له غير المنفيّ لكونه نسباً وضيعاً إثباته له وقيعة فيه و كشف لمنقصته فلا يرضى به و يسوؤه، أو باعتبار نفسه نظراً إلى أنّ نفي ما ادّعاه لنفسه على خلاف الواقع تكذيب له و إظهار لكذبه فيكون وقيعة فيه، بناءً على أنّ الكذب هو الخبر الغير المطابق للواقع خالف الاعتقاد أو لا كما هو المشهور، و أمّا على مذهب النظام و الجاحظ فلا يكون كذباً إلّا إذا خالف الاعتقاد، فنفيه فيمن ادّعاه و هو معتقد ثبوته له على خلاف الواقع ليس تكذيباً له نعم هو تخطئة له، و الخطأ في الاعتقاد أيضاً نوع نقص و عيب لا يرضى الإنسان إظهاره و الكشف عنه لغيره فيكون غيبة. و قد يجتمع الاعتباران فيكون النفي غيبة باعتبار نفسه و باعتبار ما تضمّنه. و الأوّل غير مطّرد لأنّ المدّعي للنسب قد يدّعي لنفسه نسباً شريفاً و أنت تنفيه و تثبت له نسباً وضيعاً أو متوسّطاً، و قد يدّعي نسباً متوسّطاً و أنت تنفيه و تثبت له نسباً شريفاً أو وضيعاً، و قد يدّعي نسباً وضيعاً و أنت تنفيه و تثبت له نسباً شريفاً أو متوسّطاً، و قد يدّعي نسباً و أنت تنفيه و تثبت له ما يساويه، و لا يكون باعتبار ما تضمّنه غيبة إلّا في بعض هذه الصور كما لا يخفى. بخلاف الثاني فإنّه مطّرد، و لعلّ نظر الجماعة في إطلاق القول بكون نفي النسب غيبة إلى هذا الاعتبار و إن كان قد يجتمع معه الاعتبار الأوّل أيضاً.

و أمّا الثاني فاستدلّ على الجواز بالسيرة، و بأنّ مراعاة مصلحة حفظ الأنساب أولى من مراعاة مصلحة الستر على المؤمن.

و يشكل الأوّل بأنّ السيرة مجملة و كونها بحيث تكشف عن رضا المعصوم باستغابة المؤمن و إشاعة سرّه للناس غير معلوم. و الثاني بمنع الأولويّة إذ لم يثبت بدليل عامّ وجوب حفظ الأنساب على المكلّفين على وجه يكون مفسدة تركه بقول مطلق في نظر الشارع أقوى من مفسدة الوقيعة في المؤمن و إشاعة سرّه.

و لو استند في ذلك إلى كون صيانة الأنساب من المقاصد الخمس الباعثة على جعل الأحكام و تأسيس الشرائع من أنواع العبادات و المعاملات و الحدود و الديات و هي صيانة الأموال و النفوس و العقول و الأديان و الأنساب.

ص: 279

لدفعه أنّ المقاصد الخمس ملحوظة على وجه الحكمة و هي عبارة عن علّة التشريع و لا يعتبر فيها الاطّراد فلا بدّ لإثبات وجوب حفظ الأنساب على المكلّفين على وجه يستباح به المحرّمات الّتي منها الغيبة من دليل و هو غير واضح، فالأولويّة غير ثابتة، و حينئذٍ فلا محيص لاستباحة الغيبة بنفي النسب من إدراجه في إحدى العناوين الاُخر المستثناة كالتحذير أو نصح المستشير أو الجرح أو الشهادة لإقامة الحدود و حفظ الأموال أو النهي عن المنكر، فلا يكون عنواناً مستقلّاً في باب المستثنيات.

الثاني عشر: ذمّ أولاده و عياله و أتباعه و غيرهم من الملتحقين به ببعض الأوصاف تأديباً لهم

كما ذكره الشيخ في شرح القواعد، و علّله أوّلاً: «بأنّ المذكورين لهم حكم آخر في التأديب، و ثانياً: بقضاء الحكمة بذلك، و ثالثاً: بقضاء السيرة به، و رابعاً: بخوف الوقوع فيما هو أعظم من ذلك»(1).

و الكلّ منظور فيه، أمّا الأوّل: فلأنّ ثبوت الولاية للإنسان في تأديب أولاده و أتباعه في الجملة ممّا لا كلام فيه كما في أولاده الأصاغر و مماليكه و لذا يجوز ضربهم تأديباً أيضاً، و أمّا ولايته على التأديب بقول مطلق - حتّى في أولاده الكبار و زوجاته و سائر من يدخل في عيلولته و أتباعه من الخدم و الأقارب المخصوصين به بحيث يستباح به المحرّمات الّتي منها اغتيابهم و الكشف عن عيوبهم و أوصافهم الذميمة و أعمالهم الشنيئة - يحتاج إلى دليل.

و أمّا الثاني: فلأنّ كون التأديب من مصالح الأولاد و الأهل و الأتباع مسلّم لا كلام فيه، بل الكلام في وجوبه و أقوائيّة مصلحته بحيث تزاحم مفسدة الغيبة و إشاعة الفاحشة، و هو أوّل المسألة إذ لم نقف على دليل عامّ من العقل أو الشرع عليه، و كون حسن التأديب ممّا يستقلّ بإدراكه العقل لا يسلّم في مقابلة استباحة الغيبة الّتي هي من الكبائر و ورد فيها أنّها أشدّ من الزنى، و غير ذلك من التوعيدات و التهديدات.

و بالجملة لا يسلّم في العقل إدراك حسن للغيبة الّتي ورد في قبحها من الشرع ما ورد لأجل كونها تأديباً أو للتوصّل بها إلى التأديب، و غاية ما يسلّم من حسنه

ص: 280


1- شرح القواعد 230:1.

ما يحصل بالموعظة و النصيحة و نحوهما من الحكم العمليّة المباحة.

و أمّا الثالث: فلأنّ السيرة و إن كانت مسلّمة، و لكن كونها صحيحة بحيث تكشف عن رضا المعصوم ممنوع، و إلّا تنتقض بسيرة الناس في أصل الغيبة، و لو سلّم فهي مجهولة الجهة، و من الجائز أن يكون جريان السيرة في ذمّ الأولاد أو الأتباع و إشاعة عيوبهم لجهة النهي عن المنكر أو غيره لا التأديب من حيث إنّه تأديب، فيجب فيه مراعاة انحصار الطريق.

و أمّا الرابع: فلأنّه إن اُريد به خوف الوقوع عليهم فيما هو أعظم من مفسدتهم الموجودة، فيتطرّق المنع إلى تأثير هذه المفسدة المخوفة على تقدير وقوعها في استباحة الغيبة، فإنّه في المفسدة الموجودة محلّ منع فكيف المفسدة المحتملة ؟ و إن اُريد به الخوف على نفسه من الوقوع فيما هو أعظم من اغتيابهم و الكشف عن عيوبهم من ضربهم أو جرحهم أو قتلهم أو غير ذلك من المحرّمات، فيجوز الذمّ و الاغتياب حينئذٍ لكونه من باب ارتكاب أقلّ القبيحين أولى. ففيه منع الأولويّة، بل منع الجواز في الأعظم أيضاً، فإنّ سند المنع من تأثير القصد إلى التأديب في استباحة المحرّم واحد جارٍ في الأحقر و الأعظم، مع أنّ ارتكاب أقلّ القبيحين إنّما يسلّم في مقام الدوران، كما لو دعت الضرورة إلى ارتكاب قبيح دائر بين الأقلّ و الأعظم، كما لو دار الأمر في المجاعة مثلاً لضرورة عدم الوقوع في التهلكة بين أكل المال المغصوب أو تناول الميتة مثلاً، و لا ضرورة في المقام دعت إلى ارتكاب أحد القبيحين ليرجّح في ذلك أقلّهما، فإنّ الكلام في تأثير جهة التأديب في استباحة المحرّم و هو في الجميع محلّ منع.

كالمنع من دعوى أنّ المنساق من أدلّة التحريم هو غير ذلك فإثبات الإباحة لا يحتاج إلى إثبات دليل عليه لكفاية الأصل في ذلك حيث لا دليل على التحريم هنا، فإنّها دعوى مردودة على مدّعيها. فالإنصاف أنّ الدليل في عنوان التأديب و تأثيره في استباحة الغيبة غير تامّ ، فلا بدّ فيه من مراعاة اندراجه في عنوان النهي عن المنكر و غيره من المستثنيات المتقدّمة.

الثالث عشر: ذكره باسمه المعروف المشعر بالذمّ أو الصفة المعروفة كذلك،

كالأعور و الأعرج و الأعمش و الأشتر و نحوها لضرورة التعريف، كما جرت به عادة العلماء في

ص: 281

ذكر الرواة و المحدّثين و قد ورد في كثير من الأخبار، فالسيرة و الإجماع و الأخبار شاهدة بذلك كما نقل عن شرح القواعد(1).

و الكلّ منظور فيه، فإطلاق الجواز محلّ منع، بناءً على ما تقدّم من عدم اعتبار المستوريّة في موضوع الغيبة، و لو سلّم فغايته خروج ذكره باللقب أو الصفة المعروفين المشعرين بالذمّ عن كونه غيبة، و هذا بمجرّده لا يلازم الجواز، لأنّ الشيء قد يحرّم لكونه إيذاءً للمؤمن، و قد يحرّم لكونه بهتاناً، كما قد يحرّم لكونه غيبة. و التفصيل بين صورتي العلم برضا صاحبه فيجوز و عدمه فلا، غير واضح أيضاً، لأنّ كون رضا صاحب الغيبة مبيحاً لغيبته على ما ستعرفه أوّل الكلام.

فعن ثاني الشهيدين في رسالته في الغيبة من التفصيل بين الأموات فيجوز ذكرهم بنحو الصفة المذكورة لضرورة التعريف و الأحياء فلا يجوز و الفارق هو أنّ عادة العلماء جارية في الأوّل لذكرهم الرواة و المحدّثين بالأوصاف المذكورة دون الثاني فلا بدّ فيه من رضا المغتاب، أيضاً غير واضح.

نعم لو كانت الضرورة المفروضة في التعريف بنحو ما ذكر ما لو توقّف واجب شرعي على التعريف و كان في نظر الشارع من أهمّ الواجبات بحيث يكون مصلحته راجحة على مصلحة احترام المؤمن مع انحصار طريقه فيه لم يكن حجر في جوازه حينئذٍ، كما أنّه لا حجر في الجواز أيضاً في ذكره بالاسم أو اللقب المذموم بحسب الأصل الّذي زال منه الإشعار بالذمّ بسبب الاشتهار و كثرة التداول، أو بأن يكون الصفة المذمومة ثابتة لسوابقه من آبائه أو أجداده لا لنفسه، و المناط صيرورته بحيث لا يكره ذكره بهذا الاسم و اللقب المعروف أو الصفة المعروفة.

و قد يذكر في المستثنيات أشياء اُخر دليل استثنائها غير تامّ .

و ينبغي ختم باب الغيبة بإيراد اُمور مهمّة:
أوّلها: في أنّ رضا المغتاب باغتيابه هل يكون مبيحاً للاغتياب أو لا؟

و لم نقف في كلام الأكثر على نصّ في ذلك بل أطلقوا الحكم بالتحريم، غير أنّه نسب إلى الشيخ في

ص: 282


1- شرح القواعد 227:1.

شرح القواعد(1) المصير إلى أنّه لا يبيحها، و عن ثاني الشهيدين(2) في رسالته في الغيبة أيضاً التصريح بالعدم، حتّى أنّه نقل عن الفقهاء أنّهم في باب القذف صرّحوا بأنّ رضا المقذوف بقذفه لا يبيحه للقاذف، و إن كان قد ينكر ذلك عليه بأنّه لم يذكره إلّا العلّامة، و ربّما اعترض عليه بتهافت بين كلامه هنا و كلامه في موضع آخر عند ذكر المستثنيات، حيث إنّه في مسألة ذكر الرجل بصفته المعروفة المشعرة بالذمّ فصّل بين الأموات و الأحياء فمنع في الثاني إلّا مع رضاهم.

و أمّا إطلاق الأكثر بالمنع فيمكن كونه منزّلاً على هذا القول، نظراً منهم إلى أنّ الغيبة في تحريمها كسائر المحرّمات مثل اللواط و الزنا حيث لا يباحان برضا الملوط و المزنيّ بها، فلا تحلّ الغيبة أيضاً برضا المغتاب لاشتمالها على مفسدة ذاتيّة و مبغوضيّة عند الشارع الحكيم، فلا ترتفعان بالرضا.

و توهّم: التفرقة بينها و بينهما في كونهما من حقوق اللّٰه المحضة فلا مدخليّة لرضا العبد فيهما و الغيبة متشبّثة بحقوق الناس أيضاً، و لذا ورد في عدّة من الروايات «أنّ صاحب الغيبة لا يغفر له إلّا بأن يغفر صاحبه»(3) يدفعه: بأنّ غاية ذلك أنّ الرضا يوجب سقوط حقّ المغتاب و لا ملازمة بينه و بين سقوط حقّ اللّٰه أيضاً، فإنّه حينئذٍ نظير مال مشترك بين شريكين إذا رضي أحدهما بتصرّف أحد في المال دون الآخر حيث لا يفيد ذلك إباحة التصرّف له.

و يحتمل كون إطلاقهم منزّلاً على ما لم يقارنه رضا المغتاب بدعوى خروجه عن موضوع الغيبة أو لانصراف أدلّة التحريم إلى ما عداه.

و تحقيق المقام: أنّه لو قلنا بمنافاة الرضا للكراهة المأخوذة في ماهيّة الغيبة فلا حاجة حينئذٍ إلى التكلّم في كون الرضا مبيحاً لأنّه حينئذٍ رافع لموضوع الغيبة، لأنّ معناه عدم الكراهة فيخرج من أدلّة التحريم خروجاً موضوعيّاً.

و قد تقدّم في البحث فيما يعتبر في مفهوم الغيبة و ما لا يعتبر أنّ الكراهة معتبرة فيه

ص: 283


1- شرح القواعد 221:1.
2- كشف الريبة: 301.
3- الوسائل 9/280:12، ب 152 أحكام العشرة، أمالي الطوسي 150:2.

و إن قلنا بعدم المنافاة بينهما، و أنّ الرضا بالشيء يجامع كراهته كما يظهر الجزم به من بعض أهل المعرفة و هو الأظهر، نظراً إلى أنّ الكراهة و إن كانت من صفات النفس و هي عبارة عن انقباض النفس عن وقوع المكروه و الرضا أيضاً صفة اُخرى تجامعها، و هي عبارة عن إرخاء عنان المنع في النفس فلو أظهره يقال له الإذن، فقد ترى أنّ الوالد و الوالدة يكره إيذاء ولده بالفصد أو الحجامة أو غيرهما من أنواع الإيلامات و مع ذلك يرضى به لمصلحة الاستعلاج و لذا لا يسخط و لا يغضب على الفصّاد و الحجّام، و كذلك ربّ الدار لشدّة حاجته إليها أو شدّة علاقته بها يكره بيعها و مع ذلك قد يرضى به بل يأذن فيه لمصلحة أداء الدين.

و لعلّ المكروهات الشرعيّة في نظر الشارع تعالى أيضاً من هذا القبيل فيكره وقوعها من العبد لما فيها من المفسدة و المنقصة الّتي هي إمّا مضرّة دنيويّة أو اُخرويّة و مع هذا فهو راضٍ بفعلها و آذن فيه.

فعلى هذا التقدير ينبغي أن يتكلّم في حكم المسألة و قد يقال: بأنّ الرضا يبيحها استناداً إلى أصلي الإباحة و البراءة لعدم شمول أدلّة التحريم لما يقارنه الرضا، لأنّ المنساق منها أنّ الغيبة إنّما حرّمت من حيث كونها إيذاءً للمؤمن و الراضي لا يتأذّى، أو على أنّها هتك لاحترام المؤمن و الراضي بنفسه هتك احترام نفسه. و يؤيّده النبويّ المرويّ عن الكافي «قال النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: أ يعجز أحدكم أن يكون كابن [ضمضم](1) زمزم، أنّه كان إذا خرج من بيته يقول: اللّهمّ إنّي تصدّقت بعرضي على المسلمين»(2) و النبويّ الآخر(3) «كان عليّ بن الحسين عليهما السلام يتصدّق صبيحة كلّ يوم عرضه»(4) فإنّ المقصود من صدقة العرض أن لا يتأثّم المسلمون المتعرّضون له، و العرض هو الغيبة بالخصوص، أو يندرج فيه الغيبة أيضاً.

و يمكن الاستدلال بما دلّ من المستفيضة على «أنّ صاحب الغيبة لا يغفر له إلّا أن

ص: 284


1- هو أنس بن مالك بن النضر بن ضمضم، أبو حمزة الأنصاري النجاريّ المدنيّ خادم رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله، و له صحبة طويلة و حديث كثير، و كان آخر الصحابة موتاً. (تذكرة الحفّاظ) 44.
2- البحار 244:72، المستدرك 5/6:9، ب 95 أحكام العشرة.
3- كذا في الأصل، إمّا في العبارة سقط، أو المراد: و العامّي الآخر.
4- لم نعثر عليه.

يغفر صاحبه»(1) بتقريب أنّ العفو إذا كان رافعاً لاستحقاق العقوبة على الغيبة بعد وقوعها جاز أن يكون الرضا قبل وقوعها دافعاً له و لا يكون إلّا إذا لم يحرم بل بطريق أولى لأنّ الدفع أهون من الرفع.

و في الكلّ نظر، و بعد اللتيّا و الّتي فغاية ما يسلم أنّ رضا المغتاب يوجب سقوط حقّه، فالوجه أنّه لا يوجب إباحتها لعدم دليل عليها.

و ثانيها: المعروف من مذهب الأصحاب حرمة استماع الغيبة،

و الظاهر أنّه إجماعي بل في كلام غير [واحد] من مشايخنا(2) بلا خلاف، و استدلّ عليه بالمرسل عن النبيّ صلى الله عليه و آله «المستمع أحد المغتابين»(3) و الآخر عن عليّ عليه السلام «السامع للغيبة أحد المغتابين»(4)و في كتاب جامع الأخبار قال عليه السلام: «ما عمّر مجلس بالغيبة إلّا خرّب من الدين، فنزّهوا أسماعكم من استماعها، فإنّ القائل و المستمع لها شريكان في الإثم»(5) و في حديث المناهي المرويّ في الفقيه «إنّ رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم نهى عن الغيبة و الاستماع إليها»(6).

و قد يقال: الأخبار في حرمة استماع الغيبة كثيرة، و الأخبار المذكورة كما ترى ضعيفة الأسانيد بالإرسال فيتطرّق الإشكال إلى صحّة الاستدلال بها، إلّا أن يقال:

بانجبارها بالكثرة المدّعاة أو بما عرفت من ظهور الإجماع و نفي الخلاف، بدعوى أنّ مدركهم في الإفتاء بحرمة الاستماع هذه الأخبار فينجبر ضعفها بالعمل.

ثمّ يتطرّق الإشكال إلى دلالة ما عدا الأخيرين منها فإنّ دلالة قوله عليه السلام: «المستمع أحد المغتابين» على تحريم الاستماع غير واضحة، لقيام احتمال قراءة المغتابين تثنية، و اعتبار كون المستمع أحد هذه الاثنين.

بتقريب انّ الاغتياب لا يتحقّق إلّا بين اثنين أحدهما القائل و هو المغتاب بالمعنى الفاعلي، و الآخر المقول له و هو السامع فهو المغتاب بالمعنى المفعولي أعني المغتاب له فهو أحد المغتابين، المغتاب بمعنى المغتيِب بالكسر و المغتاب بمعنى المغتيَب له بالفتح،

ص: 285


1- الوسائل 9/280:12، ب 152 أحكام العشرة، أمالي الطوسي: 548.
2- الجواهر 71:22.
3- كشف الريبة: 64، تنبيه الخواطر 127:1.
4- أورده في كشف الريبة مرسلاً: 64.
5- جامع الأخبار: 413، المستدرك 108:2.
6- الوسائل 13/282:12، ب 152 أحكام العشرة، الفقيه 4:4 و 1/8.

فعلى إرادة هذا المعنى لا دلالة فيه على حرمة الاستماع أصلاً إلّا أن يدفع بكمال بعده من لفظ الرواية، مع تطرّق المنع إلى صحّته لغة و اعتباراً، فإنّ هيئة المغتاب الحاصلة بالإعلال مشتركة بين اسم الفاعل و اسم المفعول فلا يجوز وقوعها في استعمال واحد موقعهما.

و يكون معنى الرواية على الاحتمال المذكور أنّه أحد المسمّيين بلفظ المغتاب، و هذا مع أنّه غير مفيد فلا يناسب شأن المعصوم يوجب كون الهيئة المذكورة في المغتابين واقعة موقع اسمي الفاعل و المفعول، و نحوه غير معهود في الاستعمال فوجب توجيه متن الرواية بوجه صحيح.

و هو إمّا بأن يقال: بدخول المستمع لغيبة كالقائل لتلك الغيبة في الحكم فإن كان القائل آثماً باعتبار كون غيبته في محلّ الحرمة فكذلك المستمع لها، و إن كان القائل غير آثم باعتبار كونها في محلّ الرخصة ككونها من أحد المستثنيات فكذلك المستمع لها، و قضيّة ذلك حرمة استماعها حيث حرمت على القائل لها.

أو بأن يعتبر المستمع خارجاً من العدد المراد من لفظ المغتابين سواء اعتبر تثنية أو جمعاً بأن يكون هناك اثنان أو جماعة يتذاكرون أحداً بالسوء و هو حاضر عندهم يستمع ذكرهم لا غير و كونه أحدهما أو أحدهم يعني به مشاركته لهما أو لهم في الإثم و الحرمة إمّا باعتبار رضاه بعملهم الموجب لدخوله في عموم الأخبار الدالّة على أنّ الراضي بعمل قوم كالداخل معهم، أو باعتبار كونه تشبيهاً بحذف أداته و هو يفيد المشاركة في الأحكام مطلقاً، أو الأحكام الظاهرة و الحرمة منها و به يثبت كون الاستماع كنفس الغيبة من الكبائر.

ثمّ إنّ المستمع قد يعلم أنّ الغيبة الصادرة من قائلها محرّمة عليه لعلمه بعدم كونها من إحدى المستثنيات، و قد يعلم أنّها محلّلة عليه لعلمه بكونها من إحدى المستثنيات كغيبة المتجاهر مع علمه بالتجاهر، و قد يعلم بعدم كونها محرّمة عليه لاعتقاده بتجاهر صاحبها و هو يعتقد عدم كونه متجاهراً، و قد يعلم بعدم كونها محرّمة عليه أيضاً لاعتقاده بتجاهر صاحبها و هو يشكّ في كونه متجاهراً و عدمه، و قد يشكّ في كونها محرّمة عليه أو محلّلة على معنى كونها صادرة منه على وجه العصيان أو لا على وجه

ص: 286

العصيان لشكّه في استحقاق صاحبها لتلك الغيبة ككونه متجاهراً و عدمه لعدم كونه متجاهراً، و هذه صور خمس تختلف أحكامها بالقياس إلى المستمع.

أمّا الصورة الاُولى: فلا يجوز له استماعها جزماً، و هو القدر المتيقّن من معقد أدلّة حرمة الاستماع.

و أمّا الصورة الثانية: فيجوز له الاستماع للأصل، و لعدم كونها من المنكر، و لاستحقاق المغتاب لها، و لأنّ استماع الغيبة تبع لنفس الغيبة في الحكم، و مرجعه إلى الملازمة بينهما في الحكم لأنّه المستفاد من أدلّة تحريمه. و بعبارة اُخرى موضوع حكم الاستماع الغيبة المحرّمة و هذه ليست منها، و لقوله عليه السلام: «المستمع أحد المغتابين» بناءً على احتمال أن يكون معناه أنّه كالمتكلّم بها فإن كان آثماً فكذا المستمع و إلّا فلا، و إن كان بعيداً من حاقّ هذا اللفظ مع ابتنائه على كون مبنى التثنية على التغليب كما في قمرين، و لا قرينة عليه.

و أمّا الصورة الثالثة: ففي جواز استماعها له و العدم وجهان، من ثبوت الملازمة بين المستمع و القائل في الحكم فحيث لا تحرم على القائل لم يحرم استماعها عليه، و من أنّ هذه الملازمة على تقدير ثبوتها إنّما تسلّم بينهما في الحكم الواقعي و اعتقاد القائل لا يغيّر الواقع و لا يحدث به الإباحة الواقعيّة، غايته أنّه لا حرمة عليه و لا يخاطب على تركها لقبح تكليف الغافل، فهي في نظر المستمع غيبة محرّمة في الواقع لعدم كونها مخرجة من أدلّة التحريم فيحرم عليه استماعها و نظير استماع الغناء ممّن يحرّمه مطلقاً حتّى في قراءة القرآن إذا صدر في القراءة ممّن يجوّزه فيها، فأقوى الوجهين ثانيهما.

و أمّا الصورة الرابعة: ففي جواز استماعها و العدم وجهان، من أنّ الشكّ المفروض من الشبهة الموضوعيّة لرجوعه إلى الشكّ في منكريّة هذه الغيبة - كالشكّ في خمريّة مائع معيّن - فيرجع فيه إلى أصل البراءة، و من أنّ الأصل عدم خروجها من عموم أدلّة التحريم فيحرم استماعها.

و يزيّفه أنّ هذا الأصل لا معنى له إلّا من باب أصالة عدم التخصيص، و هذا إنّما يتّجه الاستناد إليه فيما لو بنى على خروجه من العموم لزم زيادة تخصيص في العامّ ، و المقام ليس منه لأنّ غيبة المتجاهر بعنوانها الكلّي و بجميع أفرادها من عمومات

ص: 287

التحريم بتخصيص واحد، و لو بنى فيما نحن فيه على خروجه عن العموم لزم اندراجه في عنوان غيبة المتجاهر و لا يلزم به تخصيص آخر غير ما ورد بالنسبة إلى ذلك العنوان، فلا مجرى لأصالة عدم التخصيص حينئذٍ، فلا يبقى بالنسبة إلى هذا الفرد إلّا الشكّ في التكليف و الأصل براءة الذمّة، فأقوى الوجهين أوّلهما.

و أمّا الصورة الخامسة: فالكلام فيها تارةً في تكليف المستمع، باعتبار ما يرجع إلى القائل من البناء على حرمة هذه الغيبة الصادرة، فيرتّب عليه جميع آثار الحرمة من طروّ الفسق و زوال العدالة أو يحكم بعدم الحرمة.

و اُخرى في تكليفه باعتبار ما يرجع إلى نفسه من حيث حرمة استماعها عليه و العدم.

و ثالثة في تكليفه باعتبار ما يرجع إلى نفسه أيضاً، و لكن من حيث وجوب ردّ هذه الغيبة و عدمه.

أمّا الجهة الاُولى فالوجه فيها البناء على عدم الحرمة عملاً بأصالة الصحّة في فعل المسلم. و توهّم: أصالة عدم الخروج من عموم التحريم، يدفعه - مضافاً إلى ما عرفت من عدم كون ذلك الأصل في مجراه - أنّ الرجوع إلى أدلّة الواقع أو سائر الاُصول في الفعل الصادر من المسلم إنّما يتّجه في الشبهات الحكميّة لا الموضوعيّة الّتي يعمل فيها على أصالة الصحّة لا غير.

نعم لو فرض مورد الشكّ من الشبهة الحكميّة اتّجه الرجوع إلى أدلّة الواقع، كما لو اغتاب أحد عن فاسق غير متجاهر و المستمع يشكّ في صحّته و فساده باعتبار الشكّ في جواز غيبة الفاسق الغير المتجاهر كما يظهر القول به من بعض الأصحاب، فكلّ غيبة يسمعها مسلم من مسلم و يشكّ في صدورها على وجه العصيان أو لا على وجه العصيان لشبهة موضوعيّة وجب الحكم عليها بكونها صادرة لا على وجه العصيان، حملاً لفعل المسلم على الصحّة فلا يحكم بمجرّدها بفسقه و زوال عدالته.

و منه ما لو صدر منه غيبة الفاسق الغير المتجاهر و هو يعتقد باجتهاده أو تقليده لمجتهد حرمتها و لكن يشكّ في كون صدورها من المتكلّم على وجه العصيان أو لا على وجه العصيان لاحتمال كونه باجتهاد أو تقليد لمجتهد معتقد لجوازها.

ص: 288

و منه يعلم الحكم في الموارد الخلافيّة بين المتكلّم و المستمع كغيبة الفاسق الغير المتجاهر إذا كان القائل معتقداً لجوازها لاجتهاد أو تقليد و المستمع يعتقد عدم جوازها كذلك، فإنّها في حقّ القائل تحمل على الصحّة الغير المنافية لعدالته لوجوب إنفاذ اجتهاد المجتهد و تقليد مقلّده الثابت بالإجماع و الضرورة من الدين، نعم يحرم عليه استماعها لاعتقاده فيها بالحرمة الواقعيّة.

و أمّا الجهة الثانية فالوجه فيها جواز استماع الغيبة المفروضة عملاً بأصالة البراءة في الشبهة الموضوعيّة.

و أمّا الجهة الثالثة ففي وجوب الردّ و عدمه وجهان، مبنيّان على أنّ وجوب ردّ الغيبة هل هو من باب وجوب النهي عن المنكر فالمتّجه عدم الوجوب لعدم كون المنكريّة محرز، أو من باب وجوب رعاية حقّ المؤمن المتوقّفة على ردّ غيبته لرجوع الشكّ إلى استحقاق المغتاب لتلك الغيبة و معناه الشكّ في أنّ الشارع أسقط في تلك الواقعة حقّه الواجب رعايته على المستمع أو لا؟ و الأصل العدم فالمتّجه حينئذٍ وجوب الردّ.

و هذا و إن كان يقوى في ظاهر النظر، لأنّ المستفاد من أدلّة وجوب ردّ الغيبة و الأخبار الواردة فيه كونه لأجل أنّه من حقوق المؤاخاة الحاصلة بين المسلمين، و لكن يضعّف بأنّ الأصل المذكور معارض بمثله لأنّ المتكلّم أيضاً ممّن يجب رعاية حقّه، و لا ريب أنّ ردّ الغيبة عليه و ردعه عنها هتك لاحترامه و كسر لقلبه و تخفيف له لو كان بمشهد من الناس و يشكّ في استحقاقه لهذه الحزازات، و معناه الشكّ في أنّ الشارع أسقط حقّه لأجل هذه الغيبة أو لا؟ و الأصل عدمه، فيتعارض الأصلان، و يبقى أصل البراءة سليماً عمّا يوجب الانصراف عنه. و يؤيّده أنّ المستفاد من أدلّة حرمة الاستماع و أدلّة وجوب الردّ أنّ بينهما ملازمة في الوجود و العدم، فحيث حرم الاستماع وجب الردّ أيضاً و إلّا فلا.

ثمّ اعلم أنّ ما ذكرناه في حكم الصورة الثانية من الصور الخمس من جواز استماع الغيبة ليس على إطلاقه بحيث يكون جارياً في جميع المستثنيات بل هو مقصور على بعضها، فإنّ في جرح الشاهد لا يجوز الاستماع لغير الحاكم، و في نصح المستشير لغير المستشير، و في التظلّم لغير من يرجى إزالة المظلمة إن قيّدناه بكونه عند من يرجو إزالة

ص: 289

المظلمة، و في الاستفتاء لا يجوز الاستماع لغير المفتي، فإنّ الواجب في هذه الموارد الاقتصار في ذكر العيب على استماعه لمن يحصل به أو منه الغرض فلا يجوز لغيره الاستماع.

و ربّما يمكن الاستدلال عليه بقوله عليه السلام: «المستمع أحد المغتابين» إن استظهرنا منه أنّ معناه أنّ المستمع لغيبة كأنّه متكلّم بها فإذا لم يجز له التكلّم بها لم يجز استماعها، إلّا أنّه محلّ منع. لا يقال: إنّ هذه غيبة محلّلة فيجوز استماعها لكلّ مستمع بحكم الملازمة المتقدّمة، لمنع الحلّية لو ذكرها بحيث يسمعها غير من يحصل به أو منه الغرض، حتّى أنّ الجارح للشاهد لو ذكر فسق الشاهد بحيث يسمعه غير الحاكم كان جرحاً له.

ثمّ إنّ المحرّم في هذا الباب هو الاستماع و هو السماع القصدي لا السماع من غير قصد، و إن عبّر في بعض الروايات المتقدّمة بالسامع لوجوب حمله على المستمع، لأنّ السماع من غير قصد الحاصل لضرب من الاتّفاق داخل في الأفعال الغير الاختياريّة فلا يصلح متعلّقه للتكليف.

ثالثها: في ردّ الغيبة، و استحلالها، و الاستغفار لصاحبها.

أمّا الأوّل: فلا إشكال في وجوبه على من يقدر عليه بل الظاهر أنّه لا خلاف فيه، للنصوص المستفيضة القريبة من التواتر إن لم ندّع تواترها، منها ما في حديث المناهي «و من تطوّل على أخيه في غيبة سمعها فيه في مجلس فردّها عنه ردّ اللّٰه عنه ألف باب من الشرّ في الدنيا و الآخرة، فإن هو لم يردّها و هو قادر على ردّها كان عليه كوزر من اغتابه سبعين مرّة»(1).

و ما في حديث وصيّة النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لعليّ عليه السلام «يا علي من اغتيب عنده أخوه المسلم فاستطاع نصره فلم ينصره خذله اللّٰه في الدنيا و الآخرة»(2) و قضيّة الرواية الاُولى زيادة عقاب تارك ردّ الغيبة على عقاب فاعلها سبعين مرّة. قيل: و لعلّ وجهه أنّه إذا لم يردّه يجرأ المغتاب على الغيبة فيصرّ على هذه الغيبة و غيرها.

ص: 290


1- الوسائل 13/282:12، ب 152 أحكام العشرة، الفقيه 1/4:4.
2- الوسائل 1/29:12، ب 156 أحكام العشرة، الفقيه 824/269:4.

أقول: يمكن أن يكون وجهه أنّ ترك الردّ الغيبة و السكوت على فاعلها يتضمّن الإخلال بواجبات عديدة و الدخول في محرّمات كثيرة متصادقة عليه لجهات مجتمعة فيه، فإنّ الردّ واجب و تركه معصية و هو يوجب تحقّق الاستماع لا للردّ و هو معصية اُخرى، و يتضمّن الإخلال بالنهي عن المنكر و هو معصية ثالثة، و يكون من الحمل على المنكر على معنى تقرير فاعل المنكر على منكره و هو معصية رابعة، و يندرج في الإعانة على الإثم باعتبار أدائه إلى جرأة الفاعل و إصراره على الإثم و هو معصية خامسة، و قد يتضمّن محبّة شيوع فاحشة المغتاب فيندرج في قوله تعالى: و «اَلَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ اَلْفٰاحِشَةُ فِي اَلَّذِينَ آمَنُوا» (1) و هو معصية سادسة، و قد يتحقّق معه الركون إلى الظالم على معنى الميل إليه، و فاعل الغيبة ظالم فيندرج في قوله تعالى: «وَ لاٰ تَرْكَنُوا إِلَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا» (2) و هو معصية سابعة، و ربّما يتحقّق في نفسه الرضا بعمل الفاعل فيندرج في الأخبار الدالّة على «أنّ الراضي بعمل قوم كالداخل معهم»(3) و هو معصية ثامنة، و مع هذا كلّه فالعلم عند اللّٰه فإنّ الحكم الخفيّة لا يعلمها إلّا اللّٰه.

ثمّ إنّ وجوب ردّ الغيبة ليس لأمر يرجع إلى المتكلّم و هو النهي عن المنكر بقول «لا تغتب» بل لأمر يرجع إلى المغتاب و هو الانتصار له و دفع الغيبة عنه، و لذا عبّر في الأخبار الواردة فيه تارة بالردّ، و اُخرى بالنصر، و ثالثة بالدفع، و رابعة بالذبّ عنه، و كيفيّته فيما لو كان الاغتياب بذكر عيب دنيوي في بدن المغتاب أو خلقه أو غير ذلك أن يقول: العيب ما عابه اللّٰه سبحانه و ليس إلّا المعاصي و ذكرك إيّاه أكبرها، و فيما لو كان عيباً دينيّاً كالمعصية فإن كان قابلاً للتوجيه بإرجاعه إلى إحدى المحامل الصحيحة بحيث يخرج عن المعصية يبادر إليه، و إلّا فيقول في ردّه: إنّ الإنسان ليس بمعصوم و قد يستولي عليه الشيطان، و يغلب عليه النفس الأمّارة، كما هو شأنك في اغتيابك هذا، و لعلّه أعظم من معصيته، و من حقوقه أن تستغفر له لا أن تعيّره و تعيّبه، و يلزم منه عيب فيك أعظم من معصيته.

ص: 291


1- النور: 19.
2- هود: 113.
3- الوسائل 12/141:16، ب 5 أبواب الأمر و النهي، نهج البلاغة 154/191.

و أمّا الثاني و الثالث: فلا إشكال في استحباب كلّ منهما، و أمّا الوجوب فلم نقف على قائل صريح به من معتبري أصحابنا، نعم ربّما يستظهر القول به من صاحب الوسائل حيث قال - في عنوان باب الاستحلال و الاستغفار -: «باب وجوب تكفير الاغتياب باستحلال صاحبه أو الاستغفار له» ثمّ أورد خبراً واحداً عن الكافي بإسناده عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «سئل النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ما كفّارة الاغتياب، قال: تستغفر اللّٰه لمن اغتبته كلّما ذكرته»(1) و لم ينقل هنا ما يدلّ على حكم الاستحلال. نعم في كتاب الحقائق في حديث مرسلاً عن الصادق عليه السلام قال: «و إن اغتبته فبلغ المغتاب فاستحلّ منه، فإن لم يبلغه فاستغفر اللّٰه»(2) و هما غير صالحين لإثبات الوجوب. و الاستحباب لا كلام فيه خصوصاً على التسامح فيحملان عليه، إلّا أنّ الأحوط في الاستحلال مع بلوغ الخبر عدم الترك.

ص: 292


1- الوسائل 1/29:12، ب 155 أحكام العشرة، الكافي 4/266:2.
2- البحار 257:72.

النوع السابع السحر و تعلّمه و تعليمه

أمّا السحر
اشارة

فالبحث فيه تارةً في موضوعه، و اُخرى في حكمه و سائر ما يتعلّق به، فالكلام في مقامين:

المقام الأوّل: في معرفة موضوعه و حقيقته،
و لا بدّ فيه من مراجعة أهل اللغة تارةً ، و الرجوع إلى العرف اُخرى، و إلى بيانات الفقهاء و تفاسيرهم ثالثة.
أمّا الجهة الاُولى: [أي مراجعة أهل اللغة]

فقيل كما عن القاموس: «إنّه ما لطف مأخذه و دقّ »(1) يعني ما خفي سببه كما في كلام جماعة.

و قيل كما عن أحمد بن فارس في مجمل اللغة: «إنّه إخراج الباطل بصورة الحقّ »(2).

و قيل: «إنّه الخديعة»(3) و هو فعل ما يوجب المكروه في إنسان حيث لا يعلم به، و لذا قد يعبّر عنه بهذا المعنى بالتمويه و هو التلبيس، و قد ذكر هذا المعنى أيضاً في القاموس أيضاً بعد ما ذكر المعنى الأوّل، و حكي نقله أيضاً عن مجمل اللغة.

و قيل: «إنّه صرف الشيء عن وجهه»(4).

و أمّا الجهة الثانية: [أي الرجوع إلى العرف اُخرى]

فعن شرح القواعد للشيخ «أنّه لا يرجع فيه إلّا إلى العرف العامّ قال: و محصوله أنّه عبارة عن إيجاد شيء تترتّب عليه آثار غريبة و أحوال عجيبة

ص: 293


1- القاموس 45:2 (سحر).
2- مجمل اللغة: 488.
3- الصحاح 679:2.
4- النهاية لابن الأثير 346:2.

بالنسبة إلى العادة بحيث تشبه الكرامات، و تُوهِم أنّها من المعجزات الثابتة للنبوّات من غير استناد إلى الشرعيّات بحروز أو دعوات أو نحوها من المأثورات، و أمّا ما اُخذ من الشرع كالعوذ و الهياكل و بعض الطلسمات فليست منه بل هي بعيدة عنه، و كأنّ غرض الشارع المنع من التدليس و التلبيس في الأسباب على نحو منعه في المسبّبات و أنّ حدوث الأفعال من غير سبب يَبِين مخصوص بربّ العالمين»(1) انتهى.

و من مشايخنا من أنكر عليه بما محصّله «أنّ السحر علم دقيق و بحر عميق له شعب كثيرة لا يبلغ كنهه إلّا الماهرون و الأوحدي، فكيف يعرفه عامّة الناس حتّى يرجع لمعرفته أهل العرف العامّ »(2).

أقول: و يؤيّده أنّه معنى معرفته يتوقّف على التعليم و التعلّم فلا يعرفه إلّا أهله المخصوصون به، حتّى أنّ العامّة لو سئلوا عن حقيقته و أنّه أيّ شيء لعجزوا عن تفسيره و لو إجمالاً و أظهروا الجهل به، و إن كان ربّما يمكن أن يستشمّ من ملاحظة بعض موارد استعمالاتهم إرادة ما يرجع إلى ما عرفته عن القاموس حيث إنّهم إذا شاهدوا من أحد أمراً عجيباً و طوراً غريباً و صنيعاً لطيفاً و تعجّبوا يقولون في مدحه: إنّه قد سحر، أي صدر منه أمر لطيف مأخذه و خفيّ سببه.

و عن فخر الدين الرازي في تفسيره عند الكلام في شرح قوله تعالى في سورة البقرة «وَ اِتَّبَعُوا مٰا تَتْلُوا اَلشَّيٰاطِينُ عَلىٰ مُلْكِ سُلَيْمٰانَ وَ مٰا كَفَرَ سُلَيْمٰانُ وَ لٰكِنَّ اَلشَّيٰاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ اَلنّٰاسَ اَلسِّحْرَ وَ مٰا أُنْزِلَ عَلَى اَلْمَلَكَيْنِ بِبٰابِلَ هٰارُوتَ وَ مٰارُوتَ ...» (3) الآية، ما يظهر منه دعوى ثبوت الوضع الشرعي للفظ «السحر» على خلاف اللغة، حيث قال: «ذكر أهل اللغة أنّه في الأصل عبارة عمّا لطف و خفي سببه... إلى أن قال: اعلم أنّ لفظ السحر في عرف الشرع مختصّ بكلّ أمر مخفيّ سببه، و يتخيّل على غير حقيقته و يجري مجرى التمويه و الخداع»(4).

و هذا في غاية البعد بل ينبغي القطع بانتفائه، و لم نقف على من وافقه من أصحابنا

ص: 294


1- شرح القواعد 243:1.
2- الجواهر 81:22.
3- البقرة: 102.
4- التفسير الكبير 186:3-187.

و لا غيرهم، و قوله: «و يتخيّل على غير حقيقته» قد يقال: إنّ معناه يتخيّل أنّه لا أصل و لا حقيقة له، و هذا سهو بل معناه بقرينة قوله: «و يجري مجرى التمويه و الخداع» كلّ أمر مخفيّ سببه ممّا لا أصل و لا حقيقة له يتخيّل أنّ له أصلاً و حقيقة كما هو الحال في صنع سحرة فرعون في حبالهم و عصيّهم، و لذا قال تعالى في وصفهم:

«سحروا أعين الناس و استرهبوهم»

«سحروا أعين الناس و استرهبوهم»(1)

و قال في وصفها في سورة طه:

«يخيّل إليه من سحرهم أنّها تسعى».

«يخيّل إليه من سحرهم أنّها تسعى»(2).

و يشهد أيضاً أنّه ذكر فيما بعد العبارة المذكورة أنّ لفظ السحر إنّما يكون عند إخفاء الظاهر، و ذكر أيضاً في وجه تسمية بعض البيان سحراً في قول النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم «إنّ من البيان لسحراً»(3) مع أنّ القائل إنّما قصد إظهار الخفيّ لا إخفاء الظاهر، فقال: إنّ المقتدر على البيان يكون قادراً على تحسين ما يكون قبيحاً و تقبيح ما يكون حسناً، فبذلك يشبه السحر.

و أمّا الجهة الثالثة: [أي بيانات الفقهاء و أصحابهم]

فلجماعة من فقهاء أصحابنا عبارات مختلفة في تعريفه بحيث لا يكاد يمكن الجمع بينها فمنها: ما في المسالك من «أنّه كلام أو كتابة أو رقية أو أقسام أو عزائم و نحوها يحدث بسببها ضرر على الغير. و منه عقد الرجل عن زوجته بحيث لا يقدر على وطئها و إلقاء البغضاء بينهما، و منه استخدام الملائكة و الجنّ و استنزال الشياطين في كشف الغائبات و علاج المصاب و استحضارهم و تلبّسهم ببدن صبيّ أو امرأة و كشف الغائب على لسانه، فتعلّم ذلك و أشباهه و عمله و تعليمه كلّه حرام»(4).

و منها: ما في الدروس «و تحرم الكهانة و السحر بالكلام و الكتابة و الرقية و الدخنة بعقاقير الكواكب، و تصفية النفس و التصوير و العقد و النفث و الإقسام و العزائم بما لا يفهم معناه و يضرّ بالغير فعله، و من السحر الاستخدام للملائكة و الجنّ ، و الاستنزال للشياطين في كشف الغائب و علاج المصاب، و منه الاستحضار بتلبّس الروح ببدن منفعل كالصبيّ و المرأة و كشف الغائب عن لسانه، و منه النيرنجيّات و هي إظهار غرائب خواصّ الامتزاجات و أسرار النيّرين، و يلحق بذلك الطلسمات و هي تمزيج القوى العالية الفاعلة بالقوى السافلة المنفعلة لتحدث عنها فعل غريب، فعمل هذا كلّه و التكسّب به حرام»(5).

ص: 295


1- الأعراف: 116.
2- طه: 66.
3- البحار 218:1.
4- المسالك 128:3.
5- الدروس 163:3-164.

و منها: ما عن إيضاح فخر المحقّقين «أنّه استحداث الخوارق إمّا بمجرّد التأثيرات النفسانيّة و هو السحر، أو بالاستعانة بالفلكيّات فقط و هو دعوات الكواكب، أو بتمزيج القوى السماويّة بالقوى الأرضيّة و هو الطلسمات، أو على سبيل الاستعانة بالأرواح الساذجة و هو العزائم و يدخل فيه النيرنجات، و الكلّ حرام في شريعة الإسلام و مستحلّه كافر. أمّا ما كان على سبيل الاستعانة بخواصّ الأجسام السفليّة فهو علم الخواصّ ، أو الاستعانة بالنِّسب الرياضيّة فهو علم الحيل و جرّ الأثقال، و هذان ليسا من السحر»(1)انتهى. قيل: و قد أدخلهما غيره في السحر، و قضيّة كلامه بالقياس إلى الأنواع الأربعة الّتي جعلها من السحر أنّ السحر اسم عامّ يطلق على الجميع، و أنّ لكلّ واحد ممّا عدا النوع الأوّل أيضاً اسماً خاصّاً به كدعوات الكواكب و الطلسمات و العزائم الّتي يدخل فيها النيرنجات.

و منها: ما عن القواعد(2) و التحرير(3) للعلّامة «أنّه كلام يتكلّم به أو يكتبه أو رُقْيَة أو يعمل شيئاً يؤثّر في بدن المسحور أو قلبه أو عقله من غير مباشرة» قيل و نحوه ما في المنتهى(4) و لكن بزيادة «أو عقد».

و من جهات اختلاف هذه العبارات أنّ في عبارة المسالك اعتبار الضرر على الغير و هو المسحور و غيره خالٍ عن هذا القيد فيكون(5) إلّا أن يحمل التأثير في عبارة القواعد و التحرير على خصوص الإضرار فيوافق المسالك من هذه الجهة.

و ربّما يكون ما في الدروس أخصّ من غيره حيث ذكر «و يحرم الكهانة و السحر بالكلام...» الخ لظهوره في بيان موضوع التحريم لا مفهوم اللفظ من حيث هو، خصوصاً مع أنّ الأصل في القيود الاحتراز، و قد قيّد السحر المحرّم بكونه بالكلام إلى آخره فيدلّ على أنّ هنا سحراً بغير الكلام إلّا أنّه ليس بمحرّم.

و يشكل الجميع بعدم التعرّض فيها لبيان أصل مفهوم لفظ «السحر» بل هي بيانات لأنواعه و موارد إطلاق لفظه، نعم ما في عبارة الإيضاح من أنّه استحداث الخوارق يفيد المفهوم في الجملة، إلّا أنّه يرد عليه عدم الفرق حينئذٍ بين السحر و المعجزة و هو بديهيّ

ص: 296


1- ايضاح الفوائد 405:1.
2- القواعد 9:2.
3- التحرير 161:1.
4- المنتهى 1014:2.
5- كذا في الأصل.

البطلان و إلّا بطلت النبوّات فينتقض الطرد.

و عن التنقيح للفاضل المقداد «أنّه عمل يستفاد منه ملكة نفسانيّة يقتدر بها على أفعال غريبة و أسرار عجيبة»(1) و يرد عليه حزازة أنّ العمل ممّا ينشأ من الملكة النفسانيّة لا أنّه يستفاد منه الملكة إلّا أن يتكرّر مرّات عديدة، فيخرج ما لا يستفاد منه وجود الملكة، و لعلّه لذا كلّه تصدّى في شرح القواعد بجعله عبارة عن إيجاد شيء يترتّب عليه آثار غريبة...(2) إلى آخر ما ذكره، و قد تقدّم نقله في الجهة الثانية.

و قد يفرّق بين الطلسم و السحر و الكيميا، فيقال: الطلسم علم موضوعه تأثير الروح في الروح، و السحر علم موضوعه تأثير الروح في الجسد، و الكيميا علم موضوعه تأثير الجسد في الجسد كما يصنع الصفر فضّة و الرصاص ذهباً.

هذا أيضاً ليس بسديد، لأنّ السحر من قبيل العمل و إن كان منشؤه العلم بمعنى الملكة النفساني إلّا أن يقال: هذا إطلاق آخر للفظ السحر و كأنّه مأخوذ من الساحر على معنى صاحب ملكة هذا الفنّ .

و كيف كان فلنقتصر على ذكر الأنواع الّتي ذكر الإمام الرازي في كلامه
اشارة

الّذي نقله المجلسي رحمه الله في البحار بطوله عن تفسيره، فإنّها ثمانية أنواع نقلها هنا ملخّصة.

النوع الأوّل: سحر الكذّابين

الّذين كانوا في قديم الدهر، و هم قوم يقولون بإلهيّة الأفلاك و الكواكب و يعبدونها، و يزعمون أنّها المدبّرة للعالم و منها تصدر الخيرات و الشرور و السعادة و النحوسة، و هم الّذين بعث اللّٰه تعالى إبراهيم عليه السلام لإبطال مقالتهم و الردّ لمذاهبهم، فإنّها ثلاثة على حسب فرقهم المختلفة:

منها: مذهب فريق يقولون بكون الأفلاك و الكواكب واجبة الوجود لذواتها، فهي المدبّرة لعالم الكون و الفساد.

و منها: مذهب فريق يقولون بعدم كونها واجبة الوجود بل هي ممكنة الوجود بالذات لافتقارها إلى العلّة و المؤثّر، إلّا أنّها قديمة لقدم العلّة المؤثّرة فيها.

و منها: مذهب فريق قالوا بكونها ممكنة حادثة مسبوقة بالعدم، إلّا أنّه أعطاها

ص: 297


1- التنقيح 12:2.
2- شرح القواعد 243:1.

خالقها قوّة عالية نافذة في هذا العالم، و فوّض إليها تدبير هذا العالم فهي الخالقة لها المدبّرة فيها بتفويض منه تعالى، فالساحر عند هؤلاء الأقوام من يعرف تلك القوى العالية الفعّالة بسائطها و مركّباتها، و يعرف ما يليق بالعالم السفلى، و يعرف معدّاتها ليعدّها و عوائقها ليرفعها بحسب الطاقة البشريّة، فيكون متمكّناً من استحداث الخوارق للعادة.

النوع الثاني: سحر أصحاب الأوهام و النفوس القويّة

و هي النفوس الناطقة، فإذا صارت صافية عن الكدورات البدنيّة صارت قابلة للأنوار الفائضة من الأرواح السماويّة و النفوس الفلكيّة، فتتقوّى هذه النفوس بأنوار تلك الأرواح فتقوّي على اُمور غريبة خارقة للعادة.

النوع الثالث: الاستعانة بالأرواح الأرضيّة الّتي هي الأجنّة،

و القول بالجنّ و إن كان أنكره بعض متأخّري الفلاسفة و المعتزلة إلّا أنّ أكابرهم أثبتوه و سمّوها بالأرواح الأرضيّة، قالوا: و هي في أنفسها مختلفة منها خيّرة و منها شريرة، فالخيّرة منهم مؤمنو الجنّ ، و الشريرة هم كفّار الجنّ و شياطينهم، و يجوز الاتّصال بهذه الأرواح الأرضيّة بواسطة أعمال سهلة قليلة من قراءة الرقي و الدخون و البخورات و التجريد، فيستعان بها في علاج المصاب و كشف الغائبات و الأخبار بالمغيبات و هو السحر.

النوع الرابع: التخيّلات و الأخذ بالعيون،

و الأصل في ذلك أنّ القوّة الباصرة كثيراً ما تبصر الشيء على خلاف ما هو عليه، و بذلك كثرت أغلاطها، و من ذلك السفينة إذا نظر إلى الشطّ رأى السفينة واقفة و الشطّ متحرّكاً، و هذا يدلّ على أنّ الساكن يرى متحرّكاً و المتحرّك يرى ساكناً. و القطرة نازلة ترى خطّاً مستقيماً، و الزبالة الّتي تدار بسرعة ترى دائرة إلى غير ذلك.

و أنّها إنّما تقف على المحسوس وقوفاً تامّاً إذا أدركته في زمان معتدّ به، فأمّا إذا أدركته في زمان صغير جدّاً ثمّ أدركت بعده محسوساً آخر كذلك و هكذا، فإنّه يختلط البعض بالبعض و لا يتميّز بعض المحسوسات عن بعض، و أنّ النفس إذا كانت بشيء فربّما حضر عند الحسّ شيء آخر فلا يشعر به الحسّ البتّة.

و من هذه المقدّمات يعلم السرّ في أنّ المشعبذ الحاذق يظهر عمل شيء يشغل أذهان الناظرين به و يأخذون عيونهم إليه متعجّبين منه متحيّرين فيه متفكّرين في

ص: 298

مأخذه و سببه، فبينما هم كذلك عمل شيئاً آخر عملاً بسرعة شديدة يصرفهم عن الأوّل إليه فيشغلون به على الوجه المذكور فيبقى العمل خفيّاً سببه، و هكذا يظهر ثالثاً على الوجه المذكور و هكذا حتّى إذا فرغ عن جميع أعماله يرى الإنسان قد اجتمعت على نظره أشياء غربية مخفيّة الأسباب فيتخيّلها أنّ لها حقيقة، و هذا هو المراد من قولهم: إنّ المشعبذ يأخذ بالعيون، لأنّه بالحقيقة يأخذ العيون إلى غير الجهة الّتي تخال.

النوع الخامس: الأعمال العجيبة الّتي تظهر من تركيب الآلات المركّبة على النسب الهندسيّة

تارةً و على ضرورة الخلاء اُخرى، مثل رقّاص يرقص و فارسان يقتتلان فيقتل أحدهما الآخر، و كفارس على فرس في يده بوق كلّما مضت ساعة من النهار ضرب البوق من غير أن يمسّه أحد، و منها الصور الّتي يصوّرها الروم و أهل الهند حتّى لا يفرّق الناظر بينها و بين الإنسان حتّى يصوّرونها ضاحكة و باكية و حتّى يفرّق فيها بين ضحك السرور و ضحك الخجل و ضحك الشامت، و هذه الوجوه من لطيف اُمور التخائيل، و كان سحر سحرة فرعون من هذه الضرب، و من هذا الباب تركيب صندوق الساعات، و ربّما قيل بأنّه يندرج فيه علم جرّ الأثقال و هو أن يجرّ ثقيلاً عظيماً بآلة خفيفة.

النوع السادس: الاستعانة بخواصّ الأدوية،

مثل أن يجعل في طعامه بعض الأدوية المبلّدة أو المزيلة للعقل أو الدخن المسكرة تجعل نحو دماغه فإذا تناول يبلّد أو يزول عقله أو قلّت فطنته، و أثر المغناطيس شاهد بذلك.

النوع السابع: تعليق القلب

و هو أن يدّعي الساحر قد علم الكيميا، أو عرف الاسم الأعظم، أو أنّ الجنّ يطيعونه و ينقادون له في أكثر الاُمور، و بذلك يجذب قلب السامع إلى نفسه، و ذلك لأنّ السامع قد يكون ضعيف العقل قليل التميّز فيعتقد أنّ دعواه حقّ ، و تعلّق قلبه بذلك في نفسه نوع من الرغب و الخوف و حصل ضعف في قواه الحسّاسة، و كلّما قويت مخافته ازدادت حواسّه ضعفاً، و عند ذلك يتمكّن الساحر من أن يعمل فيه ما شاء، و من جرّب الاُمور و عرف أحوال أهل العالم يعلم أنّ لتعليق القلوب أثراً عظيماً في تنفيذ الأعمال و إخفاء الأسرار.

النوع الثامن: السعي بالنميمة و التضريب من وجوه خفيّة لطيفة،

و هذا شائع في الناس(1).

ص: 299


1- البحار 278:59-297.

و قد يصرف به قلب الحبيب عن محبوبه فيزول محبّته و يعتريه العداوة و البغضاء حتّى يبلغ به إلى تعريض نفسه لقتله و إهلاكه، و منه السعاية عن الضعفاء عند الأقوياء و عن الرعيّة عند السلاطين و الاُمراء. و في هذا يلخّص الأنواع الّتي ذكرها الرازي. و في رواية الاحتجاج(1) الآتية دلالة على كون النميمة من السحر بل من أكبر السحر.

ثمّ يبقى الكلام ممّا يتعلّق بموضوع السحر جهتان:
إحداهما: أنّ السحر هل هو أمر ممكن على معنى إمكان تأثيره في الآثار المذكورة له بأنواعه أو لا؟

قيل بالإمكان، و لعلّه مذهب الأكثر إذ القول بالامتناع لم ينقل إلّا عن الشيخ في الخلاف(2) و الظاهر أنّ النزاع هنا في القول بالإمكان على وجه الإيجاب الجزئي و القول بالامتناع على وجه السلب الكلّي، إذ بعض أنواعه المتقدّمة عن الرازي ممّا لا يمكن لأخذ الاسترابة في امتناعه لابتنائه على القول بإلهيّة الأفلاك و الكواكب، أو أدائه إلى الشرك باللّٰه بالنسبة إلى النفس الناطقة لتضمّنه القول بالفعّاليّة و الخلّاقيّة لها، و لو بواسطة الأنوار الفائضة إليها من الأرواح السماويّة و النفوس الفلكيّة كما في النوع الأوّل و النوع الثاني، و أيّاً ما كان فهو باطل محال.

و كيف كان فاستدلّ القائل بالإمكان بالأصل المعروف المعبّر عنه بأصالة الإمكان فيما دار بينه و بين الامتناع، و استشهد لذلك بما عن الشيخ الرئيس الشيخ أبي علي من قوله: «كلّما قرع سمعك شيء و لم يقم على امتناعه برهان فذره في بقعة الإمكان» و غاية ما يمكن أن يقال في توجيهه: إنّ المراد بالإمكان هنا الإمكان العامّ المقيّد بلا ضرورة جانب العدم، و الامتناع هو ضرورة العدم، و دوران الأمر بينهما معناه أنّه لا يدري أنّه من المعدوم الّذي لم يصر العدم ضروريّاً له، أو من المعدوم الّذي صار العدم ضروريّاً له، و ضرورة العدم قيد زائد، و المدّعي للإمكان ينفي هذه الزيادة فهو في فسحة عن مطالبة الدليل، و القائل بالامتناع يدّعي الزيادة فعليه بإقامة الدليل، فإذا لم يكن دليل على الزيادة يحكم بعدمها و معناه الحكم بالإمكان.

و فيه نظر، إذ غاية ما يلزم من عدم الدليل على القيد الزائد هو الوقف لا الحكم

ص: 300


1- الاحتجاج 81:2.
2- الخلاف 327:5 المسألة 14.

بالإمكان، فإنّ عدم الدليل على الزيادة لا ينفي احتمالها.

و توهّم: الاستناد للحكم بعدمها إلى القاعدة الاُصوليّة المعبّر عنها بأنّ عدم الدليل على الوجود دليل على العدم، يدفعه: أنّ هذه القاعدة على تقدير تماميّتها مختصّة بالشرعيّات و لا تجري في العقليّات.

كما أنّ توهّم الاستناد إلى الأصل بمعنى استصحاب عدم الزيادة، يدفعه: أنّ الاستصحاب يقتضي حالة سابقة تكون هي المستصحب، و إنّما يتمّ فيما كان في أصله ممكناً و شكّ في طروء الضرورة لعدمه فيقال: بأنّ الأصل عدم طروء الزيادة، و محلّ البحث ليس من هذا القبيل، لأنّ الشكّ في ضرورة عدم الشيء المعدوم الّذي لو كانت صفته هذه كانت ثابتة له من الأزل.

و توهّم: الاستناد إلى الغلبة بدعوى أنّ الممكنات أغلب من الممتنعات أيضاً، مدفوع بأنّ هذه الغلبة ممّا لا طريق إلى إحرازه، لأنّه إنّما يتمّ فيما لو تصفّح سلسلة المعدومات و وجد أغلبها بصفة عدم ضرورة عدمها و هذا غير ممكن جزماً.

فالتحقيق أنّ أصالة الإمكان ممّا لا مدرك له، نعم يمكن في خصوص محلّ البحث إثبات الإمكان بملاحظة الوقوع الّذي هو أخصّ ، و ستعرف في الجهة الثانية أنّ له أصل و حقيقة في الجملة، و الظاهر أنّ الوقوع في الجملة دليل على الإمكان في الجملة.

و عن الشيخ(1) الاحتجاج على الامتناع، بأنّه لولاه لزم إبطال معاجز الأنبياء فيبطل به النبوّات، إذ كلّ نبيّ أتى بمعجزة يحتمل كونه ساحراً متنبّئاً أتى بسحره لإثبات دعواه الكاذبة، و لو امتنع السحر لم يحتمل ذلك.

و اُجيب: بمنع الملازمة لجواز الحيلولة بأن يحول سبحانه بين الساحر المتنبّئ، و بين سحره و يمنعه من التأثير، كما حال في قصّة إبراهيم عليه السلام بينه و بين النار و منع من تأثيرها حتّى صارت بالقياس إليه برداً و سلاماً.

و فيه: أنّه لا يجدي نفعاً إلّا إذا كانت قضيّة قولنا «كلّ ساحر متنبّئ فاللّٰه عزّ و جلّ يحول بينه و بين سحره» معلومة لكلّ واحد من آحاد المكلّفين مركوزة في أذهانهم

ص: 301


1- التبيان 374:1 نقلاً بالمعنى.

ليظهر لهم صدق الآتي بخارق العادة في دعواه النبوّة و المفروض خلافه.

و التحقيق في جوابه منع الملازمة:

أمّا أوّلاً: فلأنّ الوقوع الّذي ستعرف ثبوته في الجملة يدلّ على إمكانه، فيكشف عن كون دعوى الملازمة واردة على سبيل المغالطة و إن لم يعرف أنّ جهة المغالطة أيّ شيء.

و أمّا ثانياً: فلأنّ إبطال المعاجز و الإفحام للأنبياء يترتّب على وقوع السحر في الخارج لا على إمكانه، و الإمكان أعمّ من الوقوع، فعلى القول بأنّه ممكن و لكنّه ليس بواقع لا يلزم الإبطال و الإفحام، لأنّ كلّ ما وقع من المتنبّئ من خوارق العادات لا يحتمل كونه سحراً على هذا القول.

و لو قيل: لا كلام على هذا القول في أنّ السحر يقع على وجه التخييل و تلبيس الأمر على الوهم، فمن أين يميّز الناظر فيما أتى به المتنبّئ من خارق العادة و يعرف أنّه أمر واقعي و ليس ممّا لا واقعيّة له بل هو مجرّد تخييل و تلبيس، فإنّ كلّ خارق للعادة أتى به المتنبّئ يحتمل كونه من هذا القبيل.

قلنا: طريق معرفة ذلك هو الرجوع إلى العقل و إعماله و إزالة غطاء الشبهات عنه فإنّه الحجّة البالغة الّتي أعطاها اللّٰه سبحانه المكلّف، و هو لمن يراجعه و يستعمله كما هو حقّه يميّز بين الحقّ و الباطل و يرشد صاحبه إلى الحقّ ، كما يدلّ عليه رواية ابن السكّيت المرويّة عن العيون و العلل قال لأبي الحسن الرضا عليه السلام: لما ذا بعث اللّٰه موسى بن عمران عليه السلام بيد البيضاء و العصا و آلة السحر، و بعث عيسى عليه السلام بالطبّ ، و بعث محمّداً صلى الله عليه و آله و سلم بالكلام و الخطب ؟ فقال له أبو الحسن عليه السلام: «إنّ اللّٰه تبارك و تعالى لمّا بعث موسى عليه السلام كان الأغلب على أهل عصره السحر فأتاهم من عند اللّٰه عزّ و جلّ بما لم يمكن في وسع القوم مثله و بما أبطل به سحرهم و أثبت الحجّة عليهم، و أنّ اللّٰه تبارك و تعالى بعث عيسى عليه السلام في وقت ظهرت فيه الزمانات و احتياج الناس إلى الطبّ فأتاهم من عند اللّٰه عزّ و جلّ بما لم يكن عندهم مثله و بما أحيا لهم الموتى و إبراء الأكمه و الأبرص بإذن اللّٰه و أثبت به الحجّة عليهم، و أنّ اللّٰه تبارك و تعالى بعث محمّداً صلى الله عليه و آله و سلم في وقت كان الأغلب على أهل عصره الخطب و الكلام - و أظنّه قال: و الشعر - فأتاهم من كتاب اللّٰه عزّ و جلّ و مواعظه و أحكامه ما أبطل به قولهم و أثبت الحجّة عليهم. فقال ابن السكّيت:

ص: 302

تاللّٰه ما رأيت مثل اليوم قطّ، فما الحجّة على الخلق اليوم ؟ فقال عليه السلام: العقل تعرف به الصادق على اللّٰه فتصدقه و الكاذب على اللّٰه فتكذبه، فقال ابن السكّيت: هذا و اللّٰه الجواب»(1).

و أمّا ثالثاً: فلأنّ الفرق بين السحر و المعجزة واضح بما اُخذ فيها ممّا يميّزها عن السحر، فإنّها عبارة عن كلّ فعل عجز البشر عن الإتيان به و كان خارقاً للعادة و مطابقاً - مثل شقّ القمر و قلب العصا حيّة و إحياء الموتى و ردّ الشمس و استنطاق الحصى و البهائم، و جعل الماء المسائل ساكناً، و جعل الحجر أو الشجر الساكن متحرّكاً ماشياً و ما أشبه - و القيد الأوّل لإخراج السحر و الشعبذة لأنّهما من مقدورات البشر، و يقبل كلّ منهما المعارضة بالمثل و لذا اعتبر فيها عدم المعارضة من لم يعتبر عجز البشر عن الإتيان بمثله.

و في الرواية المتقدّمة أيضاً إشارة إلى اعتبار العجز عن الإتيان به و بمثله و عدم قبول المعارضة، و من ثمّ آمن سحرة فرعون و هم اثنا عشر الف رجل بموسى عليه السلام لأنّهم عرفوا بسبب عجزهم عن المعارضة و الإتيان بمثل ما أتى به موسى عليه السلام من قلب العصا حيّة أنّه من فعل اللّٰه عزّ و جلّ فعرفوا بذلك صدقه في دعوى النبوّة. و كذا الحال في القرآن المجيد فإنّ فصحاء عصره صلى الله عليه و آله و سلم من الخطب و الشعراء و غيرهم بعد ما عجزوا عن الإتيان بمثل سورة منه بل عن مثل آية منه عرفوا أنّه كلام اللّٰه سبحانه و من عنده، لخروجه من الطاقة البشريّة. و لعلّ من حكمة الخفيّة في بعث كلّ نبيّ من جنس البشر لا غير هو أن يظهر لقومه أنّ ما أتى به من خوارق العادات ليس من مقدورات البشر ليصدّقوه في دعوى النبوّة.

ثانيتهما: أنّ السحر هل هو واقع ؟

على معنى أنّ ما ادّعي كونه سحراً هل له أصل و حقيقة في الواقع و تأثير في نفس الأمر أو لا بل هو مجرّد تخييل و تلبيس للأمر على الوهم ؟ فقد اختلف فيه أصحابنا، فقيل بأنّ له أصلاً حقيقة في الواقع و تأثيراً في نفس الأمر مطلقاً. و قيل بأنّ لا حقيقة له أصلاً، و نسبه الشهيدان في الدروس(2) و المسالك(3)إلى الأكثر، و في الروضة(4) إلى كثير منهم، و ربّما نقل عن بعضهم دعوى الإجماع عليه.

ص: 303


1- علل الشرائع 115:1-116.
2- الدروس 164:3.
3- المسالك 128:3.
4- الروضة 272:1.

و قيل بأنّه لا تأثير له إلّا في التفريق بين المرء و زوجه و إلقاء البغضاء بينهما، و هذا نقله في المجمع(1) عن بعضهم. و قيل بأنّه لا يؤثّر إلّا في استخدام الجانّ و استحضارهم. و قد يستظهر من فخر المحقّقين الفرق بين دعوى الكواكب فلا أصل له و غيره حيث قال:

«اختلف علماؤنا فيما عدا دعوة الكواكب»(2) و فيه نظر، و قضيّة كلامه عدم كون القول الأوّل على وجه الإطلاق المنحلّ إلى الإيجاب الكلّي.

و المختار وفاقاً لبعض مشايخنا(3) أنّ له حقيقة في الجملة على وجه الإيجاب الجزئي، و دليله شهادة الوجدان و المشاهدة و الحسّ و العيان بتأثير جملة من أنواعه فيما قصد منه من الآثار و تأثّر المسحور منه و ظهور آثاره فيه، كما في المصاب يستحضر لاستعلاجه الجانّ ، و في عقد اللسان و عقد الرجل على امرأته، و التفريق فيما بين المرء و زوجه، أو التحبيب فيما بينهما، و إلقاء العداوة و البغضاء بين المتحاببين المتصافيين، و صرف القلوب المؤتلفة بعضها عن بعض، و جذب القلوب المتنافرة بعضها إلى بعض و نحو ذلك. و إلى جميع ما ذكر أشار ثاني الشهيدين في المسالك بدعوى «وجدان أثره في كثير من الناس على الحقيقة... إلى أن قال: و إحضار الجانّ و شبه ذلك فإنّه أمر معلوم لا يتوجّه دفعه».

و توهّم: أنّ هذا كلّه تأثير من الوهم فإنّه قد يكون مؤثّراً في النفوس كالمشي على جذع ملقى طرفاه على رأسي جدارين عاليين و على جذع آخر ملقى على وجه الأرض، فإنّ الوهم في الأوّل يؤثّر اضطراب القلب و مخافة السقوط، و ربّما يسقط إلى الأرض بخلاف الثاني، و كذلك من كان في ليلة مظلمة عند ميّت مع علمه بأنّه جماد لا ينشأ منه شيء، و مع ذلك يطرؤه الخوف و الخشية حتّى ربّما يأخذه الغشوة بل ربّما يبلغه خوفه بالهلاك، و ليس ذلك كلّه إلّا من تأثيرات الوهم، و هكذا يقال في الآثار الغريبة الظاهرة من فنون السحر المعهودة عند أهله.

يدفعه: ما أشار إليه في المسالك من «أنّ هذا إنّما يتمّ لو سبق للقابل علم بوقوعه، و نحن نجد أثره فيمن لا يشعر به أصلاً حتّى يضرّ به»(4) هذا مع أنّ الأمر في تأثير

ص: 304


1- مجمع الفائدة 78:8.
2- إيضاح الفوائد 405:1.
3- الجواهر 87:22.
4- المسالك 128:3.

النميمة الّتي هي من أكبر السحر و ترتّب آثار فنون الفساد واضح لا يمكن إنكاره إلّا من مكابر متعسّف.

و يدلّ على ذلك الرواية المرويّة عن الاحتجاج في حديث الزنديق الّذي سأل أبا عبد اللّه عليه السلام عن مسائل كثيرة، منها ما ذكره بقوله: «أخبرني عن السحر ما أصله ؟ و كيف يقدر الساحر على ما يوصف من عجائبه و ما يفعل ؟ قال أبو عبد اللّه عليه السلام: إنّ السحر على وجوه شتّى:

منها بمنزلة الطبّ كما أنّ الأطبّاء وضعوا لكلّ داء دواءً ، فكذلك علم السحر احتالوا لكلّ صحّة آفة و لكلّ عافية عاهة و لكلّ معنى حيلة، و نوع آخر منه خطفة و سرعة و مخاريق و خفّة، و نوع منه ما يأخذه أولياء الشياطين منهم، قال: فمن أين علم الشياطين السحر؟ قال: من حيث علم الأطبّاء الطبّ بعضه بتجربة و بعضه بعلاج، قال:

فما تقول في الملكين هاروت و ماروت و ما يقول الناس إنّهما يعلّمان السحر؟ قال: إنّما هما موضع ابتلاء و موقف فتنة، تسبيحهما اليوم لو فعل الإنسان كذا و كذا لكان كذا، و لو تعالج بكذا و كذا لصار كذا، فيتعلّمون منهما ما يخرج عنهما فيقولان لهم إنّما نحن فتنة فلا تأخذوا عنّا ما يضرّكم و لا ينفعكم قال: أ فيقدر الساحر على أن يجعل الإنسان بسحره في صورة كلب أو حمار أو غير ذلك ؟ قال: هو أعجز من ذلك، و أضعف من أن يغيّر خلق اللّٰه، إنّ من أبطل ما ركّبه اللّٰه تعالى و صوّر غيره فهو شريك اللّٰه في خلقه، تعالى اللّٰه عن ذلك علوّاً كبيراً، لو قدر الساحر على ما وصفت لدفع عن نفسه الهَرَم و الآفة و الأمراض، و لنفى البياض عن رأسه و الفقر عن ساحته، و أنّ من أكبر السحر النميمة يفرّق به بين المتحابّين، و يجلب العداوة على المتصافّين، و يسفك به الدماء، و يهدم بها الدور، و يكشف بها الستور، و النمّام شرّ من وطأ الأرض بقدمه، فأقرب أقاويل السحر من الصواب أنّه بمنزلة الطبّ ، أنّ الساحر عالج الرجل فامتنع من مجامعة النساء فجاءه الطبيب فعالجه بغير ذلك فأبرأه...»(1) الحديث.

المقام الثاني: في حكم السحر
اشارة

الّذي يتكلّم فيه تارةً من حيث علمه، و اُخرى من

ص: 305


1- الاحتجاج 81:2.

حيث تعلّمه و تعليمه، و ثالثة من حيث التكسّب به، و رابعة من حيث كفر مستحلّه، و خامسة من حيث وجوب قتل عامله، إلّا أنّ هذه الجهة الخامسة ليس هنا موضع ذكرها، بل محلّه باب الحدود لأنّ الأصحاب ذكروا قتل الساحر في ذلك الباب.

فالعمدة في المقام هو التكلّم في الجهات الأربع:
الجهة الاُولى: في حرمة عمل السحر،

و الظاهر أنّه لا يتفاوت فيه الحال بين ما لو كان السحر أمراً واقعيّاً أو أمراً تخيّليّاً أو بعضه واقعيّاً و بعضه تخيّليّاً، لأنّ الحرمة في الشريعة ثبت لعنوان السحر كائناً ما كان، فتثبت لكلّ ما يصدق عليه عنوان السحر على وجه الحقيقة إلّا ما خرج بالدليل.

و أمّا ما اطلق عليه السحر مجازاً للمشابهة و المشاركة في الصورة كالاستعانة بخواصّ الأجسام السفليّة أو بالنسب الرياضيّة الّتي تسمّى علم الحيل و جرّ الأثقال على مذهب فخر المحقّقين المصرّح فيما تقدّم بعدم كونهما من السحر، و قضيّة كلامه أن يكون إطلاق السحر عليه حيثما وقع مجازيّاً فلا بدّ في إلحاقه بالسحر في الحرمة من دليل آخر يدلّ على اللحوق، و لا يكفي فيه أدلّة حرمة السحر كما هو واضح، و حيث لم يساعد عليه دليل يحكم فيه بعدم الحرمة عملاً بالأصل، كما أنّه كذلك كلّما اشتبه كونه سحراً من الأعمال الغريبة و الأفعال العجيبة، لاختلاف العلماء فيه كالاختلاف الّذي يستظهر فيما بين الشهيد الثاني في المسالك حيث اعتبر فيه كونه بحيث يحدث بسببه ضرر على الغير و بين غيره ممّن لم يعتبر ذلك، فيشتبه ما لم يحدث بسببه ضرر على الغير بين كونه سحراً و عدمه.

و كذلك على ما تقدّم عن العلّامة(1) حيث اعتبر فيه كونه مؤثّراً في بدن المسحور أو قلبه أو عقله، و غيره لم يعتبر ذلك فيشتبه ما ليس بمؤثّر، ففي نحو ذلك يجب لرفع الاشتباه و استعلام حقيقة الحال الرجوع إلى اللغة ثمّ إلى العرف ثمّ إلى الروايات المأثورة عن أهل بيت العصمة، فإن لم يتبيّن شيء يحكم فيه بعدم الحرمة أيضاً للأصل، و كيف كان فالمعروف من مذهب الأصحاب حرمة السحر.

ص: 306


1- القواعد 9:2.

و عن المختلف(1) بلا خلاف و في الرياض(2) عن جماعة الإجماع عليه، و يظهر من فخر المحقّقين في الأنواع الأربع المتقدّمة منه حيث قال: «و الكلّ حرام في شريعة الإسلام»(3) كونه إجماع المسلمين، و ربّما نسب إليه دعوى كونه من ضروريّات الدين، و كأنّه استظهار من قوله: «و مستحلّه كافر» بتقريب أنّ المستحلّ منكر لحرمته لا محالة و لا يكون كافراً إلّا باعتبار كون إنكاره إنكاراً لضروريّ الدين، و قد يستظهر ذلك أيضاً من الشهيدين في الدروس(4) و المسالك(5) حيث قالا: «و يقتل مستحلّه» نظراً إلى أنّ قتل المستحلّ لا يكون إلّا لارتداده و لا معنى للارتداد إلّا باعتبار كونه إنكاراً لضروريّ الدين.

و يشكل دعوى الضرورة بمعناها المعروف لعدم وضوح حرمته عند كافّة آحاد المسلمين حتّى الدهاقين و الرساتيق، اللّهمّ إلّا أن يراد بالضرورة هنا العلم الضروريّ الحاصل من تظافر حرمته و تسامعها بين العلماء و مخالطيهم و غيرهم ممّن يحذو حذوهم من العارفين المطّلعين على اُصول الدين و فروعه المتلقّاة من النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم فإنّه يعلم بذلك ضرورة كون حرمته ممّا أتى به النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم.

و على أيّ حال كان فالأصل في حرمته في الجملة أوّلاً: الضرورة بالمعنى المذكور المعتضدة بدعواها من الفخر و الشهيدين و نفي الخلاف و الإجماعات المنقولة.

و ثانياً: الروايات، ففي رواية عن السكوني عن جعفر بن محمّد عليهما السلام عن أبيه قال:

«قال رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم: ساحر المسلمين يقتل، و ساحر الكفّار لا يقتل، قيل: يا رسول اللّٰه لِمَ لا يقتل ساحر الكفّار؟ قال: لأنّ الشرك أعظم من السحر، لأنّ السحر و الشرك مقرونان»(6) و في رواية اُخرى عن السكوني أيضاً عن أبي عبد اللّه عليه السلام مثله لكن مع اختلاف يسير لا يوجب اختلافاً في المعنى، و من هذا الاختلاف أنّه ذكر «و لأنّ السحر و الشرك مقرونان»(7) بواو العطف.

ص: 307


1- لم نعثر عليه.
2- الرياض 166:8.
3- إيضاح الفوائد 405:1.
4- الدروس 164:3.
5- المسالك 128:3.
6- الوسائل 2/146:17، ب 25 ما يكتسب به، الفقيه 1752/371:3.
7- الوسائل 1/365:28، ب 1 أبواب بقيّة الحدود، الكافي 2/260:7.

و في رواية زيد الشحّام عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «الساحر يضرب بالسيف ضربة واحدة على رأسه»(1) و في اُخرى «على اُمّ رأسه» و في رواية مرسلة على ما في الرياض و المستند «حلّ دمه».

و في رواية أيضاً عن أبي عبد اللّه عليه السلام في حديث عن آبائه عن عليّ عليهم السلام «نحن أهل بيت عصمنا اللّٰه من أن نكون فتّانين أو كذّابين أو ساحرين أو زنّائين، فمن كان فيه شيء من هذه الخصال فليس منّا و لا نحن منه»(2).

و في رواية نبويّة «قال رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم: ثلاثة لا يدخلون الجنّة، مدمن خمر، و مدمن سحر، و قاطع رحم»(3).

و في رواية مرسلة قال: «دخل عيسى بن سقفي على أبي عبد اللّه عليه السلام و كان ساحراً يأتيه الناس و يأخذ على ذلك الأجر، فقال له: جعلت فداك أنا رجل كانت صناعتي السحر و كنت آخذ عليه الأجر و كان معاشي، و قد حججت منه و منّ اللّٰه عليّ بلقائك، و قد تبت إلى اللّٰه عزّ و جلّ ، فهل لي في شيء من ذلك مخرج ؟ فقال له أبو عبد اللّه عليه السلام:

حلّ و لا تعقد»(4) و روي ذلك بطرق متعدّدة و فيه موضعان من الدلالة: أحدهما باعتبار التقرير، و الآخر باعتبار النهي.

و يدلّ عليه أيضاً الروايات الدالّة على تحريم تعلّمه و تعليمه بالفحوى أو بالاستلزام العرفي، بدعوى أنّ المنساق منها عرفاً كون تحريم التعلّم غيريّاً لحقه لأجل كون عمله محرّماً.

و في رواية مرويّة عن الفقيه عن السكوني عن جعفر عليه السلام عن أبيه عن آبائه عليهم السلام قال:

«قال رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم: لامرأة سألته أنّ لي زوجاً و به غلظة عليّ و أنّي صنعت شيئاً لاُعطفه عليّ ، فقال لها رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم: اُفّ لك كدّرت البحار، و كدّرت الطين، و لعنتك

ص: 308


1- الوسائل 3/367:28، ب 1 أبواب بقيّة الحدود، الكافي 2/26:7.
2- الوسائل 8/148:17، ب 25 ما يكتسب به، تفسير فرات الكوفي: 62.
3- الوسائل 6/148:17، ب 25 ما يكتسب به، الخصال: 243/179.
4- الوسائل 1/147:17، ب 25 ما يكتسب به، الكافي 7/115:5.

الملائكة الأخيار و ملائكة السماء و الأرض، قال: فصامت المرأة نهارها و قامت ليلها و حلقت رأسها و لبست المسوخ فبلغ ذلك النبيّ ، فقال: إنّ ذلك لا يقبل منها»(1) بناءً على أنّ المراد من الشيء الّذي صنعتها شيء من السحر كما فهمه الصدوق، و هذه الروايات و إن كانت بحسب أسانيدها ضعافاً غير أنّ كثرتها و انجبارها بالعمل و اعتضادها بالضرورة و الإجماعات المنقولة يغني عن التأمّل في قبولها.

و حيث إنّ الحرمة فيها معلّقة على ماهيّة السحر السارية في جميع أنواعه و أشخاصه، و هل استثني منه شيء أم لا؟ ظاهر من أطلق تحريم السحر كالإيضاح(2)و غيره(3) و قيل الأكثر عدم الاستثناء، و قيل كما عليه جماعة بالاستثناء و اختلف في المستثنى، فممّا قيل باستثنائه حلّ عقد السحر أي رفع ضرر السحر بالسحر، و اختاره غير واحد من مشايخنا(4).

و منعه جماعة كالعلّامة في جملة من كتبه(5) و الشهيد في الدروس(6) و الفاضل الميسي(7) و الشهيد الثاني(8). و ينبغي تخصيص مورد الاستثناء بصورة انحصار طريق الدفع في السحر، و عليه ينزل إطلاق من أطلق اقتصاراً في الحكم المخالف للعمومات على موضع اليقين.

و كيف كان فقد يستدلّ عليه بقاعدة أنّ الضرورات تبيح المحظورات، و يشكل بأنّ المسلّم منها ما لو كان ضرر السحر بحيث خيف بسببه تلف النفس أو زوال العقل، لأنّ مصلحة حفظ النفس عن التلف و العقل عن الزوال أعظم من مفسدة السحر، و أمّا مطلق الضرر و إن لم يبلغ حدّ تلف النفس و لا زوال العقل فلا يسلّم كون التخلّص عنه من الضرورة المبيحة للمحظور، لعدم دليل معتبر على كون مصلحة دفع مطلق الضرر أعظم من مفسدة السحر، و العبارة المذكورة لبيان القاعدة ليست بلفظ الحديث حتّى يؤخذ بعمومها أو إطلاقها.

و استدلّ عليه أيضاً بما تقدّم في حديث عيسى بن سقفي من قوله عليه السلام: «حلّ

ص: 309


1- الفقيه 4544/445:3.
2- إيضاح الفوائد 405:1.
3- التنقيح الرائع 12:2.
4- المكاسب للشيخ الأنصاري 296:1.
5- القواعد 9:2، التذكرة 582:1، المنتهى 1014:2.
6- الدروس 164:3.
7- نقل عنه في مفتاح الكرامة 237:12.
8- المسالك 128:3.

و لا تعقد» فإنّ الأمر هنا يفيد الإذن و الرخصة في حلّ عقد السحر. و في دلالته عليه بقول مطلق إشكال بل منع، لا لما عن بعضهم من حمله على الحلّ بغير السحر كالاستعانة بالآيات القرآنيّة أو الأدعية و التعويذات المأثورة عن أهل بيت العصمة عليهم السلام كما في حلّ عقد الرجل عن حليلته كما حكاه في الوسائل(1) و استحسنه، فإنّه بعيد في الغاية عن لفظ الرواية، خصوصاً مع مقابلته للعقد بالسحر فيكون ظاهراً في الحلّ بالسحر، بل لقوّة احتمال كون المراد به حلّ الساحر ما عقده بسحره و رفع آثار سحره عن مسحوريه، بقرينة قول السائل: «هل لي في شيء من ذلك مخرج ؟» بعد قوله: «و قد تبت إلى اللّٰه» فإنّه طلب للمخرج عن إثم أعماله السالفة و عقوبة أفعاله القبيحة من فنون السحر بعد التوبة، فكأنّه سأله عليه السلام عن قبول توبته فقوله عليه السلام: «حلّ و لا تعقد» معناه أنّ توبتك بعد الندامة على ما مضى أن تحلّ ما عقدته بسحرك و لا تعود إلى العقد بالسحر في المستقبل.

و هذا نظير ما ورد فيمن عليه مظلمة الناس من أنّ توبته تفريغ ذمّته عن المظلمة و ردّها إلى أهلها، و نحوه في التوبة عن الغيبة على القول بوجوب استحلال المغتاب، و يؤيّده فهم الصدوق في الفقيه حيث قال: «و روي أنّ توبة الساحر أن يحلّ و لا يعقد»(2)فإنّ ظاهره أنّه فهمه من رواية ابن سقفي لا أنّه ورد رواية اُخرى بتلك العبارة، على أنّه لو كانت رواية اُخرى خرجت شاهدة بما احتملناه في رواية ابن سقفي.

و استدلّ أيضاً بعدّة روايات وردت في قصّة هاروت و ماروت، و أنّهما ملكان و أنّهما كانا يعلّمان السحر الدالّة بمجموعها على أنّهما كانا يعلمانه لأن يحلّ به لا لأن يعقد به.

فمنها: ما عن عيون الأخبار بسند ضعّفه الغضائري و قوّاه غيره استناداً إلى اعتماد الصدوق على محمّد بن القسم الّذي ضعّفه الغضائري، و إكثاره من الرواية عنه و كونه من مشايخه و ذكره حيثما يذكره بقوله رضى الله عنه عن الإمام الهمام الحسن بن عليّ العسكري عليهما السلام عن آبائه في حديث قال في قوله عزّ و جلّ : «وَ مٰا أُنْزِلَ عَلَى اَلْمَلَكَيْنِ بِبٰابِلَ هٰارُوتَ وَ مٰارُوتَ » (3) قال: «كان بعد نوح عليه السلام قد كثرت السحرة المموّهون، فبعث اللّٰه عزّ و جلّ

ص: 310


1- الوسائل 147:17.
2- الفقيه 463/110:3.
3- البقرة: 102.

ملكين إلى نبيّ ذلك الزمان بذكر ما يسحر به السحرة، و ذكر ما يبطل به سحرهم و يردّ به كيدهم، فتلقّاه النبيّ عن الملكين و أدّاه إلى عباد اللّٰه بأمر اللّٰه عزّ و جلّ و أمرهم أن يقفوا به على السحر، و أن يبطلوه و نهاهم أن يسحروا به الناس» و هذا كما يقال إنّ السمّ ما هو؟ و أنّ ما يدفع به غائلة السمّ ما هو؟ ثمّ يقال: للمتعلّم هذا السمّ من رأيته بسمّ فادفع غائلته بهذا و لا تقتل بالسمّ ... إلى أن قال: «و ما يعلّمان من أحد ذلك السحر و إبطاله حتّى يقولا للمتعلّم إنّما نحن فتنة و امتحان للعباد ليطيعوا اللّٰه فيما يتعلّمون من هذا و يبطلوا به كيد السحرة و لا تسحروهم، فلا تكفروا باستعمال هذا السحر و طلب الإضرار، و دعاء الناس إلى أن يعتقدوا أنّك تحيي و تميت و تفعل ما لا يقدر عليه إلّا اللّٰه فإنّ ذلك كفر... إلى أن قال: فيتعلّمون ما يضرّهم و لا ينفعهم لأنّهم إذا تعلّموا ذلك السحر ليسحروا به و يضرّوا به فقد تعلّموا ما يضرّ بدينهم و لا ينفعهم»(1).

و منها: رواية عليّ بن الجهم عن مولانا الرضا عليه السلام في حديث قال: «و أمّا هاروت و ماروت فكانا ملكين علّما الناس السحر ليحترزوا به سحر السحرة و يبطلوا به كيدهم، و ما علّما أحداً من ذلك شيئاً حتّى قالا إنّما نحن فتنة فلا تكفر، فكفر قوم باستعمالهم لمّا اُمروا بالاحتراز منه، و جعلوا يفرّقون بما تعملوه بين المرء و زوجه قال اللّٰه تعالى:

«وَ مٰا هُمْ بِضٰارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاّٰ بِإِذْنِ اَللّٰهِ » (2) -(3) .

و منها: ما تقدّم في رواية الاحتجاج في جواب مسائل الزنديق من قوله عليه السلام حيث سأله عن الملكين هاروت و ماروت و ما يقول الناس إنّهما يعلّمان السحر: «إنّما هما موضع ابتلاء و موقف فتنة، تسبيحهما اليوم لو فعل الإنسان كذا و كذا لكان كذا، و لو تعالج بكذا و كذا لصار كذا، فيتعلّمون منهما يخرج عنهما فيقولان لهم إنّما نحن فتنة فلا تأخذوا عنّا ما يضرّكم و لا ينفعكم...»(4) الحديث.

و دلالات هذه الروايات و إن كانت واضحة و لا يتوجّه أنّ أقصى ما يثبت بها كون

ص: 311


1- الوسائل 4/147:17، ب 25 ما يكتسب به، عيون أخبار الرضا عليه السلام 1/266.
2- البقرة: 102.
3- الوسائل 5/147:17، ب 25 ما يكتسب به، عيون أخبار الرضا عليه السلام 2/271:1.
4- الاحتجاج 81:2.

إبطال السحر في الشرائع السالفة و لا يلزم منه جوازه في هذا الشرع أيضاً لكفاية الاستصحاب في إثبات بقائه إلى هذا الشرع لعدم ثبوت نسخه، و لكن قصور أسانيدها مانع من الوثوق بصدقها و التعويل عليها في قبول الحكم المخالف للعمومات، و لم يثبت لها جابر من عمل الأصحاب أو أكثرهم أو جمع من أساطينهم، و لذا صار الجماعة المتقدّم ذكرهم إلى المنع، و بالجملة لم يعلم جابر لها أوجب الوثوق بصدقها و الاطمئنان بصدورها كما هو مناط حجّيّة أخبار الآحاد. فالأقوى هو المنع من حلّ السحر بالسحر ما لم يبلغ ضرر السحر حدّ تلف النفس أو زوال العقل.

و ممّا استثني أيضاً التوقّي و دفع المتنبّئ بالسحر كما اختاره الشهيدان في المسالك(1) و الدروس(2) و الفاضل الميسي(3) و الكاشاني(4) على ما حكي، خلافاً للعلّامة في أكثر كتبه(5) فمنع عنهما، و عليه صاحب الوسائل في دفع المتنبّئ حتّى أنّه قال: في حاشية منه: «إنّ أصل الحكم بالجواز من العامّة لأنّه موجود في كتبهم بناءً منهم على أصلهم الفاسد من عدم وجوب وجود الإمام في كلّ زمان فأوجبوا دفع المتنبّئ على الرعيّة، و أمّا على اُصول الشيعة فدفعه من وظائف الإمام لا الرعيّة، مع أنّه ورد النصّ بأنّ من ادّعى النبوّة بعد محمّد صلى الله عليه و آله و سلم وجب قتله فالشارع تعالى أمر الرعيّة بقتل المتنبّئ و لم يأمرهم بتعلّم السحر»(6) و إلّا ورد فيه أيضاً نصّ .

و لقائل أن يقول: إنّ كلام المجوّزين ليس على عنوان التوقّي و دفع المتنبّئ بل على عنوان تعلّم السحر، فإنّه عندهم مخرج عن عموم ما دلّ على حرمة التعلّم كما هو ظاهر عبائرهم الّتي منها عبارة المسالك القائلة بأنّه لو تعلّمه ليتوقّى به أو يدفع المتنبّئ بالسحر فالظاهر جوازه و تعلّمه لإحدى الغايتين لا يستلزم عمله:

أمّا الأوّل: فلجواز أن يراد بالتوقّي تحفّظ نفسه عن الوقوع في عمل السحر في محلّ الاشتباه بين السحر و غيره، فإنّه إذا عرف السحر و ميّز بينه و بين غيره لا يرتكب السحر فيما ابتلي به ممّا احتمل كونه سحراً.

ص: 312


1- المسالك 128:3.
2- الدروس 164:3.
3- نقله عنه في مفتاح الكرامة 237:12.
4- المفاتيح 24:2.
5- القواعد 9:2، المنتهى 1014:2، التحرير 261:2.
6- الوسائل 145:17.

و أمّا الثاني: فلأنّه يتعلّم السحر و يعرف أسبابه الخفيّة فيلزم المتنبّئ الآتي بالسحر لإثبات دعواه الكاذبة على كذبه بواسطة إلزامه بأنّ ما أتى به من خارق العادة من السحر، ببيان أنّ سببه الخفيّ كذا و كذا.

فهؤلاء حينئذٍ متّفقون مع المانعين في تحريم أصل عمل السحر حتّى في مقام التوقّي و دفع المتنبّئ.

و لكنّا نتكلّم معهم في منع جواز تعلّمه أيضاً على كلّ تقدير أي سواء استلزم عمله في المقامين أو لا؟.

أمّا في مقام التوقّي فنقول: إنّ التوقّي إمّا أن يراد به تحفّظ نفسه من الوقوع في عمل السحر فيما اشتبه بينه و بين غيره، أو تحفّظ نفسه من سحر غيره على وجه الرفع و هو أن يرفع ضرر سحر الغير الواقع عليه بطريق السحر الّذي تعلّمه، أو على وجه الدفع و هو أن يستعمل في حقّ نفسه سحراً لا يؤثّر معه ما يتوقّع وقوعه عليه من سحر الغير في المستقبل، سواء قطع بوقوعه عليه فيما بعد أو ظنّه أو احتمله، و أيّاً ما كان فالأقوى فيه المنع و عدم الجواز.

أمّا الأوّل: فلأنّ الاشتباه المفروض فيما اشتبه بين السحر و غيره إن لم تكن مجامعاً للعلم الإجمالي في محلّ الابتلاء بأن يتّفق أنّه بعمل احتمل كونه سحراً على وجه الشبهة الموضوعيّة التحريميّة، و حينئذٍ فإذا تعلّم السحر و ميّز بينه و بين غيره لا يقع في نحو ذلك في عمل السحر المحرّم عليه في الواقع، فنقول في منع جواز التعلّم في نحو هذه الصورة أنّ الشارع قرّر له في نظائرها طريقين:

أحدهما: ما يتوصّل به إلى الفعل و الارتكاب و هو أصالة البراءة. و الآخر:

ما يتوصّل به إلى الترك و الاجتناب و هو طريقة الاحتياط، بضابطة أنّ الاحتياط حسن على كلّ حال، فإنّ أقلّ مراتبه الرجحان، فمن اشتبه عليه الأمر في الموضوع الخارجي له أن يختار الفعل تعويلاً على الأصل و أن يختار الترك عملاً بالاحتياط فأيّ شيء يبقى له من الاُصول أو القواعد أو الأدلّة يسوّغ له تعلّم السحر الّذي دلّ الدليل على تحريمه لفائدة التوقّي و إن كان مجامعاً للعلم الإجمالي في محلّ الابتلاء بأن يكون هناك أعمال متعدّدة يعلم أنّ بعضها ما هو سحر في الواقع و بعضها ما ليس بسحر في الواقع، و اشتبها

ص: 313

عليه فيتعلّم السحر ليميّزه عن غيره فلا يقع في السحر المحرّم الواقعي.

فنقول في منع التعلّم حينئذٍ: إنّ العلم الإجمالي المفروض إن كان في غير محصور بحيث كان المورد من مسألة الشبهة الغير المحصورة قصد له الشارع طريقاً في نظائره و هو جواز الارتكاب تعويلاً على الأصل، مع جواز الاجتناب أيضاً. عملاً بطريقة الاحتياط فلا مسوّغ لتعلّم السحر الّذي دلّ الدليل على تحريمه لفائدة التوقّي أيضاً، و إن كان في محصور بحيث اندرج المورد في الشبهة المحصورة فيتعلّم السحر حينئذٍ لئلّا يقع في المحرّم الواقعي المعلوم بالإجمال، فنقول في منع جوازه: إنّ الواجب عليه إنّما هو الاجتناب عن الجميع لئلّا يقع في المحرّم الواقعي على ما هو قاعدة الشبهة المحصورة المقرّرة في الاُصول، و هذا هو الطريق الّذي قرّر له الشارع حينئذٍ فلا مسوّغ لتعلّم السحر أيضاً الّذي دلّ الدليل على تحريمه.

و توهّم: أنّ المسوّغ هو أنّ المكلّف المبتلى بشبهة محصورة إذا كان له طريق إلى رفع الاشتباه و معرفة الحرام الواقعي من الحلال جاز له سلوك هذا الطريق للتمييز حتّى يرتكب الحلال و يجتنب عن الحرام، يدفعه: أنّ هذا إنّما يسلّم في الطريق المشروع له بحسب الشرع و المقام ليس منه.

و أمّا الثاني: فلأنّ التوقّي عن سحر الغير على وجه الرفع راجع إلى مسألة حلّ عقد السحر بالسحر، و قد تقدّم تفصيل القول فيه و قوّينا فيه المنع ما لم يبلغ ضرر السحر حدّ التلف و لا زوال العقل.

و أما الثالث: فلأنّه بعد ما ثبت عدم جواز التوقّي بمعنى الرفع بقول مطلق، فالتوقّي بمعنى الدفع أولى بعدم الجواز لأنّ الدفع أهون من الرفع، و مرجع المنعين إلى منع وجود دليل يسوّغ السحر في مقام التوقّي بكلّ من معنييه الرفع و الدفع و التوقّي بنفسه لا يصلح دليلاً عليه.

لا يقال: يكفي في دليل ذلك قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل أو المظنون أو المقطوع، فإنّ هذه القاعدة كما يستباح بها إفطار صوم نهار رمضان لمن يضرّه الصوم بحدوث ضرر منه أو اشتداده أو عسر علاجه أو بطؤه فكذلك يستباح بها السحر للتوقّي بكلّ من معنييه.

لأنّا نقول: إنّ هذا اشتباه، و إعمال القاعدة المذكورة في مسألة الإفطار خلط،

ص: 314

و توضيحه: أنّ وجوب دفع الضرر في محلّ الاحتمال أو الظنّ أو القطع قاعدة عقليّة، لأنّ الحاكم بوجوب الدفع هو العقل المستقلّ لاستقلاله بإدراك أنّ دفع الضرر بأحد الوجوه الثلاث بحيث يستحقّ فاعله المدح و تاركه الذمّ ، و هذا وجوب عقلي يلازم الوجوب الشرعي بحكم الملازمة بين حكم العقل و حكم الشرع، و إذ ثبت وجوب الدفع بحكم العقل يثبت وجوب مقدّمته و هو ما يدفع به الضرر من ترك شيء أو فعله، بحكم أنّ وجوب الشيء يستلزم وجوب مقدّماته، و هذا هو تحرير قاعدة وجوب دفع الضرر و لا تجري إلّا فيما كانت مقدّمة الدفع محلّلة، بأن لا يكون ما يدفع به الضرر ترك واجب شرعي أو فعل محرّم شرعي إذ لو كان كذلك لا يسلّم وجوبه من باب مقدّمة الدفع لا بمعنى أنّ الدفع واجب و لا يجب مقدّمته في صورة ما لو كان ترك واجب أو فعل حرام بل لعدم وجوب ذي المقدّمة حينئذٍ.

فالسرّ في ذلك أنّ العقل بملاحظة وجوب الواجب الّذي تركه مقدّمة للدفع، و بملاحظة حرمة الحرام الّذي فعله مقدّمة للدفع بوجوب الدفع، بل و مع احتمال الوجوب أو الحرمة أيضاً لا يحكم بوجوب الدفع، بل نجده متحيّراً و متوقّفاً في الحكم به، و هذا هو السرّ في عدم جريان القاعدة في إفطار نهار رمضان لمن يضرّه الصوم لكون العقل متوقّفاً في الحكم بوجوب دفعه بالإفطار التفاتاً منه إلى احتمال وجوب صومه بملاحظة عموم ما دلّ على وجوب صيام شهر رمضان.

و هكذا نقول في منع جريانها في مسألة التوقّي بالسحر عن ضرر سحر الغير مطلقاً في كلّ من معنييه، فإنّ السحر الّذي يريد المسحور استعماله للدفع أو الرفع ما لم يثبت جوازه بدليل من الخارج لا يحكم معه العقل بوجوب دفع ضرر سحر الغير باستعماله، و لا ينافي ما ذكرناه بالقياس إلى مسألة إفطار نهار رمضان من عدم جريان القاعدة فيه كون فتوى الفقهاء من غير خلاف جواز الإفطار بل وجوبه و حرمة الصوم، لأنّ ذلك ليس من القاعدة المذكورة بل من قاعدة نفي الضرر الّتي هي قاعدة شرعيّة مستفادة من عموم قوله: «لا ضرر و لا ضرار في الإسلام»(1) فإنّ أصحّ معانيها على ما حقّقناه في

ص: 315


1- الوسائل 10/14:26، موانع الإرث، الفقيه 777/243:4.

رسالة منفردة لنا في تأسيس هذه القاعدة نفي الحكم الضرري أعني مجعوليّة حكم أدّى إلى ضرر المكلّف بحيث استند الضرر إلى الشارع باعتبار جعل ذلك الحكم و هذا كصوم نهار رمضان فيمن يضرّه الصوم فإنّه لو كان واجباً لأدّى وجوبه إلى ضرر المكلّف و القاعدة تنفيه.

لا يقال: لِمَ لا يجوز أن يكون مستند الجواز فيما نحن فيه أيضاً هذه القاعدة ؟ لمنع جريانها أيضاً فيما نحن فيه، فإنّ ضرر السحر الّذي وقع على المسحور في مسألة الرفع أو الّذي يتوقّع وقوعه عليه في مسألة الدفع يستند إلى فاعل السحر سواء حرم على المسحور إعمال السحر لرفعه أو دفعه أو لا، فلا يكون حرمته المجعولة من الحكم الضرري بالمعنى الّذي ينفيه القاعدة.

فإن قلت: لا إشكال في أنّ استعمال السحر من المسحور في مسألة الدفع مانع من حدوث ضرر سحر الغير، و عدمه مستند إلى منع الشارع منه، و حدوث الضرر يستند إلى عدمه، فيستند إلى منع الشارع و هو في مسألة الرفع رافع لضرر السحر الواقع عليه، و بقاؤه يستند إلى عدمه المستند إلى منع الشارع أيضاً فيستند إليه البقاء، فيكون المنع حكماً ضرريّاً فينفى بموجب القاعدة لئلّا يتضرّر المسحور بالحدوث أو البقاء.

قلت: لا كلام في أنّ عدم المانع من أجزاء العلّة التامّة للحدوث، و لا في أنّ عدم الرافع من أجزاء العلّة التامّة للبقاء، و قضيّة كونهما من أجزاء العلّة التامّة أن يكون لهما مدخليّة ما في حدوث الضرر أو بقائه، و لكن مجرّد هذه المدخليّة لا تكفي في استناد الضرر حدوثاً أو بقاءً إلى الشارع في نظر العرف الّذي هو مناط جريان قاعدة نفي الضرر، لأنّ الشيء في نظر العرف يستند إمّا إلى العلّة التامّة أو الجزء الأخير منها أو ما هو العمدة من أجزاء العلّة، و لا ريب أنّ العمدة من أجزاء علّة الحدوث أو البقاء هنا إنّما هو فعل الساحر لا عدم المانع و لا عدم الرافع، فيستند إليه الضرر في نظر العرف حدوثاً و بقاءً لا إلى الشارع حيث جعل الحرمة لاستعمال السحر على المسحور في مقام التوقّي هذا.

مضافاً إلى أنّه يكفي في نفي الشارع لاستناد الضرر حدوثاً أو بقاءً إليه أنّه حرّم السحر على الساحر فإذا عصى الساحر بفعله السحر المحرّم عليه لم يوجب ذلك صحّة استناد ضرر سحره عرفاً إلى الشارع باعتبار أنّه حرّم استعمال السحر على المسحور

ص: 316

أيضاً فليتدبّر.

و ممّا حقّقناه يظهر حقيقة الحال في باطل السحر المتداول في الألسنة يريدون به ما يبطل السحر، فإن كان بطريق مشروع كالاستعانة بالقرآن أو الدعاء و التعويذ فلا إشكال في جوازه، و إن كان بطريق السحر فالوجه عدم الجواز عملاً بعموم قاعدة تحريم السحر مع عدم المخرج.

و أمّا في مقام دفع المتنبّئ فالحق فيه أيضاً مع المانعين، سواءً رجع قول المجوّزين إلى تجويز مجرّد تعلّم السحر لكفايته في الدفع أو إليه مع علمه أيضاً، و ذلك لأنّ المتنبّئ إمّا أن يظهر في عصر النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أو فيما بعده، و على الثاني فإمّا أن يكون ظهوره في زمن حضور إمام العصر أو في غيبته.

أمّا الصورة الاُولى: مع أنّ استعلام حكم أهل عصر النبيّ لا يثمر في حقّنا، فدفع المتنبّئ من وظائف النبيّ لا الرعيّة و هو أقدر على دفعه بغير السحر من الرعيّة في دفعهم بطريق السحر، و مع ذلك فأيّ حاجة للرعيّة إلى تعلّمه أو عمله.

و أمّا الصورة الثانية: فمع أنّ التكلّم في حكم أهل زمن الحضور غير مفيد، يظهر حكمها ممّا مرّ، فإنّ دفع المتنبّئ من وظائفه و هو أقدر على دفعه بغير طريق السحر من الرعيّة في دفعهم بطريق السحر.

و أمّا الصورة الثالثة: فلعدم الحاجة في إظهار كذبه و إظهار كون ما أتى به من خارق العادة سحراً إلى تعلّم السحر و لا إلى عمله، لكون كلّ من الأمرين معلوماً بالضرورة من دين الإسلام، على أنّه لا نبيّ بعد نبيّنا صلى الله عليه و آله و سلم إلى قيام الساعة مع شهادة الكتاب العزيز و السنّة القطعيّة بذلك.

مع أنّ الّذي أوجبه اللّٰه سبحانه على الرعيّة في دفعه إنّما هو تكذيبه بلا توقّف بل قتله بلا مهلة، و مع ذلك فأيّ دليل من العقل و النقل دلّ على جواز تعلّم السحر لدفعه فضلاً عن وجوبه و عن جواز عمله أو وجوبه.

و لو خيف على ضعفاء العقول المتردّدين إليه المستمعين لكلامه الناظرين في سحره من الضلال، فطريق حفظهم الّذي أوجبه اللّٰه تعالى على العلماء إنّما هو منعهم عن التردّد إليه و ردعهم عن الاستماع لكلامه و النظر في سحره من باب النهي عن المنكر

ص: 317

و الردع عن الباطل، و إن لم يرجعوا إلى العلماء أو لم يستمعوا قولهم أو لم يرتدعوا حتّى ضلّوا فهم مقصّرون في ضلالتهم و لا جرح على غيرهم.

و لو فرض أنّ المتنبّئ حصل له أتباع و اجتمع عليه اُناس فهجم إلى بلاد المسلمين لهدم بيضة الإسلام فالواجب على المسلمين الدفاع، و لو فرض أنّهم لم يجتمعوا لدفاعهم لعصيانهم أو عدم تمكّنهم و لو لعدم إعانة سلطان المسلمين لهم، و أمكن دفعه بتعلّم السحر أو عمله و انحصر الطريق فيه أمكن القول بجوازه بل وجوبه حينئذٍ ترجيحاً لمصلحة حفظ بيضة الإسلام فإنّها أعظم بمراتب شتّى من مفسدة السحر و تعلّمه، و لكن هذا عند وقوع الواقعة، و كلام المجوّزين ليس على هذا الفرض البعيد الّذي لم يتّفق في الخارج بعد، بل ظاهرهم تعلّم السحر من غير وقوع الواقعة لمجرّد احتمال أنّه لو وقعت في وقت من الأوقات على الوجه المفروض لقام المتعلّم إلى دفعه، و هذا ممّا لا يساعد دليل على جوازه فضلاً عن وجوبه كفاية بحيث ينهض ذلك الدليل مخرجاً عن عموم تحريم السحر و تعلّمه.

الجهة الثانية: و ما بعدها في تعلّم السحر و تعليمه و التكسّب به و كفر مستحلّه.
أمّا تعلّمه

فالمعروف من مذهب الأصحاب تحريمه، و الظاهر أنّه ممّا لا خلاف، و عن الأردبيلي في شرح(1) الإرشاد احتمال كونه إجماعيّاً أو استظهاره. و يدلّ عليه من النصوص عموماً ما في رواية تحف العقول من قوله عليه السلام: «و ما يكون منه أو فيه الفساد محضاً و لا يكون منه أولاً فيه وجه من وجوه الصلاح حرام تعليمه و تعلّمه و العمل به و أخذ الاُجرة عليه»(2) و خصوصاً رواية إسحاق عن الصادق عليه السلام عن أبيه عليه السلام «إنّ عليّاً عليه السلام قال: من تعلّم من السحر شيئاً كان آخر عهده بربّه، و حدّه القتل إلّا أن يتوب»(3) و رواية أبي البختري المرويّة عن قرب الإسناد عن أبي عبد اللّه عليه السلام عن أبيه عليه السلام «إنّ عليّاً قال:

من تعلّم شيئاً من السحر قليلاً أو كثيراً فقد كفر، و كان آخر عهده بربّه، و حدّه أن يقتل إلّا أن يتوب»(4) و في كلام صاحب الوسائل في الحاشية ما يعطي كون هذه الرواية

ص: 318


1- مجمع الفائدة 79:8.
2- تحف العقول: 331.
3- الوسائل 7/148:17، ب 25 ما يكتسب به، قرب الإسناد: 71.
4- الوسائل 2/367:28، ب 3 بقيّة الحدود، التهذيب 586/147:10.

متواترة لأنّه عند تزييف القول لجواز التعلّم لدفع المتنبّي قال: «و تخصيص النصّ المتواتر المشتمل على نهاية التأكيد و التهديد و الوعيد من غير مخصّص غير جائز»(1)و على هذا فقصور سندي الخبرين إن كان منجبر بذلك مضافاً إلى العمل.

و قضيّة إطلاق النصّ و الفتوى عدم الفرق في التحريم بين ما لو كان تعلّمه لغرض العمل به أو لغرض آخر غير العمل من الأغراض الصحيحة و لعلّه لقاعدة حماية الحمى المنصوص عليها في الروايات، خلافاً لمن جوّزه لدفع المتنبّي بالسحر كما عرفت من الشهيدين و من تبعهما و قد عرفت ضعفه لكونه من القول بلا دليل و التخصيص بلا مخصّص، و لمن جوّزه أيضاً لغرض تحصيل الفضيلة و الكمال و الارتفاع عن حضيض الجهل تعليلاً بأنّ علم كلّ شيء خير من جهله كما عن الشيخ في شرحه(2)للقواعد، و التعليل عليل لمنع الخيريّة مع الحرمة الذاتيّة.

و أمّا تعليمه:

فالظاهر أنّه أيضاً ممّا لا خلاف في تحريمه، و يدلّ عليه صريحاً ما سمعت من رواية تحف العقول، مضافاً إلى عموم تحريم المعاونة على الإثم، فإنّ تعلّمه إذا كان حراماً فتعليمه معاونة على الإثم.

و أمّا التكسّب به و أخذ الاُجرة عليه

فهو أيضاً ممّا لا خلاف في تحريمه بل الظاهر أنّه إجماعي(3) و يدلّ عليه صريحاً ما سمعت من رواية التحف. و يمكن أن يستدلّ عليه أيضاً بالنبويّ «إنّ اللّٰه إذا حرّم شيئاً حرّم ثمنه» بناءً على أنّ المراد بالثمن مطلق العوض لا خصوص ما يقابل به العين، فيكون المراد من قوله: «إذا حرّم شيئاً» ما يعمّ الأعيان المحرّمة و الأعمال المحرّمة.

و أمّا كفر مستحلّه:

فيعلم الكلام فيه بالتأمّل فيما ذكرناه على دعوى ضرور الدين في عمل السحر، و محصّله أنّ المستحلّ المنكر لتحريم عمل السحر إنّما يكفر بإنكاره إذا علم ضرورة كون تحريمه ممّا جاء به النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم فإنكاره تكذيب للنبيّ و هو الكفر.

و يلحق بباب السحر الشعبذة و الكهانة و القيافة،
اشارة

و الكلام في هذه الموضوعات الثلاث يقع في مقامات:

ص: 319


1- الوسائل 145:17.
2- شرح القواعد 239:1.
3- مفتاح الكرامة 226:12.
المقام الأوّل: في الشعبذة.
اشارة

و كونها ملحقة بالسحر مبنيّ على عدم كونه من أنواعه و حينئذٍ تمسّ الحاجة إلى تجشّم الاستدلال على حكمه، و إلّا فعلى القول بكونه منه - كما تقدّم عن الرازي حيث جعل التخييلات و الأخذ بالعيون من أنواعه، فإنّه بظاهر العنوان مع ملاحظة الأمثلة المذكورة له منطبق على الشعبذة، فإنّ الأخذ بالعين ما يعبّر عنه بالفارسيّة ب « چشم بندى». و حاصل معناه أن يسترق إنسان بسرعة يده و نحوها بالحركة عين إنسان آخر فيرى الشيء الصادر عنها على غير حقيقته و على خلاف ما عليه أصله، فيتخيّل أنّ له أصلاً و حقيقة، و نظيره النار المتحرّكة على الاستدارة بسرعة حيث ترى على هيئة الدائرة فيتخيّل الحركات الشعاعيّة متّصلة بعضها ببعض، مع أنّه ليس كذلك في الواقع و نحوها القطرة المتساقطة فترى على هيئة الخطّ المستقيم المستطيل و يرى ساكن السفينة الشطّ و ساحله متحرّكاً و السفينة واقفة إلى غير ذلك من النظائر. و يظهر كونها من السحر من عبارة القاموس حيث عرّفه «بما لطف مأخذه و دقّ »(1) أي خفي سببه، و من عبارة مجمل اللغة «إخراج الباطل بصورة الحقّ »(2) و يدلّ عليه رواية الاحتجاج المتقدّمة في حديث الزنديق حيث قال عليه السلام: «و نوع آخر خطفة و سرعة و مخاريق و خفّة»(3) - فلا حاجة إلى تجشّم الاستدلال بإقامة دليل آخر على تحريمها بل يكفي فيه الأدلّة المقامة على تحريم السحر لأنّها منه حقيقة، بل لا حاجة حينئذٍ إلى إفرادها بالبحث.

و أمّا على تقدير عدم كونها منه - كما عليه مبنيّ إفرادها بالبحث - فتمسّ الحاجة إلى بيان حكمها بعد معرفة موضوعها فنقول: قد ذكر في القاموس «المشعبذ المشعوذ و قد شعبذ يشعبذ». و ظاهره كون الشعبذة و الشعوذة بمعنى و ذكر في مادّة شعوذة - أنّها خفّة في اليد و أخذ كالسحر يرى الشيء بغير ما عليه أصله في رأى العين و هو مشعوذ و مشعوذ»(4) و عرّفها الشهيد في الدروس «بأنّها أفعال عجيبة تترتّب على سرعة اليد بالحركة فتلتبس على الحسّ ...»(5) الخ. و الأظهر عدم كونها من خواصّ اليد و لذا

ص: 320


1- القاموس 45:2.
2- مجمل اللغة 488:1.
3- تقدّم في الصفحة: 305.
4- القاموس 355:1.
5- الدروس 164:3.

فسّرها في المجمع(1) «بالحركة الخفيفة» و العلّامة في القواعد «بأنّها الحركات السريعة بحيث يخفى على الحسّ الفرق بين الشيء و شبهه لسرعة الانتقال من الشيء إلى شبهه»(2) و في المسالك «عرّفوها بأنّها الحركات السريعة الّتي يترتّب عليها الأفعال العجيبة بحيث يلتبس على الحسّ الفرق بين الشيء و شبهه لسرعة الانتقال منه إلى شبهه»(3) هذا هو الكلام في الموضوع.

و أمّا الحكم

فالمعروف من مذهب الأصحاب كونها محرّمة و الظاهر أنّه إجماعي و في كلام جماعة نفي الخلاف كما عن الشهيد في الدروس(4) بل عن المنتهى(5) الإجماع عليه. و الحجّة عليه بعد ما ذكر - مضافاً إلى عموم تحريم السحر إن جعلناه منه - أمران:

أحدهما: أنّه من الباطل و هو خلاف الحقّ ، و حاصل معناه الإتيان بخلاف الحقّ ، فيحرم، لعموم تحريم الباطل الثابت بالعقل لكون قبحه ممّا يستقلّ بإدراكه العقل، و بالنقل و منه رواية يونس المتقدّمة في الغناء قال: «سألت الخراساني عن الغناء قلت له: إنّ العبّاسي زعم أنّك العبّاسي زعم ترخّص في الغناء، فقال: كذب الزنديق ما هكذا قلت له، سألني عن الغناء قلت له: إنّ رجلاً أتى أبا جعفر عليه السلام فسأله عن الغناء، فقال له:

إذا ميّز اللّٰه بين الحقّ و الباطل فأين يكون الغناء؟ قال: مع الباطل، قال: قد حكمت»(6)فإنّ قوله عليه السلام: «قد حكمت» كناية عن تحريم الباطل. و يدلّ عليه على وجه الكبرى الكلّيّة الّتي يندرج فيها الغناء، فينتظم من ذلك مع ما تقدّم في جواب العبّاسي من قوله:

«مع الباطل» قياس بطريق الشكل الأوّل هكذا: الغناء باطل، و كلّ باطل حرام، فيندرج فيه الشعبذة لأنّها من أظهر مصاديق الباطل، خصوصاً على تفسير مجمل اللغة كما عرفت.

و ثانيهما: أنّها من اللهو فيشملها عموم ما دلّ على تحريم اللهو و هو ما يلهي عن ذكر اللّٰه، و منه ما في رواية الأعمش المتكفّلة لتعداد الكبائر من قوله عليه السلام: «و الملاهي الّتي تصدّ عن ذكر اللّٰه كالغناء و ضرب الأوتار»(7) و في الحسن بل الصحيح الوارد في

ص: 321


1- مجمع البحرين 514:2.
2- القواعد 9:2.
3- المسالك 129:3.
4- الدروس 164:3.
5- المنتهى 1014:2.
6- الوسائل 13/306:17، ب 99 ما يكتسب به، الكافي 25/435:6.
7- الوسائل 36/331:15، ب 46 أبواب جهاد النفس، الخصال: 9/610.

تعداد الكبائر أيضاً عن الفضل عن الرضا عليه السلام قال عليه السلام - في جملة ذلك -: «و الاشتغال بالملاهي»(1) و الجمع المعرّف عامّ و الشعبذة من أعظم الملاهي.

و يمكن الاستدلال عليه أيضاً بما في رواية تحف العقول من قوله عليه السلام: «و كلّ مبيع ملهوّ به... إلى أن قال: حرام محرّم بيعه و شراؤه و إمساكه وهبته و عاريته و جميع التقلّب فيه...» الخ فإنّ مورده و إن كان هو الأعيان المعدودة من الملاهي كآلات اللهو و القمار غير أنّ الحكم معلّق على الوصف، فيفيد أنّ تحريم تلك الآلات لكونها ملهوّاً بها فيفيد ذلك أيضاً تحريم كلّ ملهوّ به على وجه كبرى كلّيّة، فيندرج فيها الشعبذة لأنّها من أعظم الملهوّ به.

لا يقال: إنّ غاية ما في التعليق على الوصف إنّما هو الإشعار بعلّيّة الوصف و هو دون الدلالة فلا يثبت به الكلّيّة المذكورة لأنّ المعتبر في استنباط الحكم الشرعي هو الدلالة لا الإشعار، لأنّ هذا إنّما هو حكم التعليق على الوصف إذا لوحظ من حيث هو و لكن قد ينضمّ إليه بعض القرائن الخارجة المفيدة للعلّية و منها كون الخطاب وارداً مورد تأسيس قاعدة كلّيّة و إعطاء ضابطة مطّردة و المقام منه بملاحظة سياق رواية التحف. هذا كلّه في تحريم عمل الشعبذة.

و أمّا تعلّمها

فإن جعلناها من السحر فلا إشكال في تحريمه لعموم ما دلّ على تحريم تعلّم السحر، و إلّا فإثبات تحريمه إذا لم يكن لغرض العمل في غاية الإشكال، إذ لم نقف على دليل عليه، و الأصل يقتضي الإباحة. و يمكن الاستناد إلى عموم قاعدة حماية الحمى إن كانت في سياق التحريم لا التزهيد و الكراهة، و هو مشكل. فالإنصاف أنّ تعلّم الشعبذة ممّا لا دليل على تحريمه، و تحريم عمل الشيء لا يقضي بتحريم تعلّمه لا لأجل العمل.

و أمّا التكسّب بها و أخذ الاُجرة عليها

فالظاهر أنّه ممّا لا خلاف في تحريمه بل الظاهر كونه إجماعيّاً، و يمكن استفادته أيضاً من النبويّ «إنّ اللّٰه إذا حرّم شيئاً حرّم ثمنه» بالتقريب المتقدّم من كون المراد بالثمن مطلق العوض لا خصوص ما يقابل به العين.

ص: 322


1- الوسائل 33/329:15، ب 46 أبواب جهاد النفس، عيون أخبار الرضا عليه السلام 125:2-126.
المقام الثاني: في الكهانة.

و هي على ما يظهر من كلام القاموس بالفتح مصدر و بالكسر اسم قال: «كهن له كمنع و نصر و كرم كهانة بالفتح، و تكهّن تكهّناً قضى له بالغيب فهو كاهن، جمع كهنة و كُهّان و حرفته الكِهانة بالكسر»(1) انتهى. و يقرب منه المحكيّ عن المصباح المنير إلّا أنّه في كسره قال: «الكهانة بالكسر صنعة»(2).

و على هذا فالكاهن الّذي هو اسم الفاعل من هذه المادّة يحتمل كون مبدئه حالاً أو ملكة أو حرفة و صنعة.

و يظهر ثمرة هذه الوجوه فيما لو علّق حكم في النصّ على اسم الفاعل كما في المحكيّ عن الاحتجاج و نهج البلاغة، من قوله عليه السلام: «المنجّم كالكاهن، و الكاهن كالساحر، و الساحر كالكافر، و الكافر في النار»(3) فعلى الأوّل يراد بالكاهن الّذي حكمه أنّه في النار الآتي بعمل الكهانة، و على الثاني من له ملكة هذا العمل و إن لم يأت به، و على الثالث من حرفته ذلك أي من اتّخذه وسيلة لكسب المال، فعلى الأوّل يحرم عليه أصل العمل فيجب ترك الإتيان به، و على الثاني يحرم عليه إبقاء ملكته فيجب إزالتها بإنساء و نحوها، و على الثالث يحرم اتّخاذه وسيلة لتحصيل المال فيجب ترك الاتّخاذ.

و من فروع هذه الوجوه أنّ الرواية إن صحّ الاعتماد عليها في إثبات حكم شرعي لا يثبت بها على أوّل الاحتمالات حرمة تعلّم الكهانة و لا حرمة التكسّب بها، و على ثانيها يثبت حرمة تعلّمها أيضاً دون حرمة التكسّب بها، و على ثالثها يثبت حرمة التكسّب دون التعلّم.

و كيف كان فمعنى الكهانة على ما نصّ عليه في القاموس «القضاء بالغيب» و حاصله الإخبار بالمغيبات، و يوافقه المحكيّ عن النهاية الأثيريّة من «أنّها تعاطي الأخبار عن الكائنات في مستقبل الزمان» و هذا باعتبار قيد «مستقبل الزمان» أخصّ ممّا ذكره في القاموس. ثمّ عنه أيضاً «أنّ الكهانة في العرب و قد كان في العرب كهنة،

ص: 323


1- القاموس 264:4.
2- المصباح المنير: 205.
3- نهج البلاغة (محمّد عبده) 125:1، الاحتجاج 136/560:1.

فمنهم من كان يزعم أنّ له تابعاً من الجنّ يلقى إليه الأخبار، و منهم من كان يزعم أنّه يعرف الاُمور بمقدّمات أسباب يستدلّ بها على مواقعها من كلام من يسأله أو فعله أو حاله، و هذا يختصّ باسم العرّاف كالّذي يدّعي معرفة الشيء المسروق و مكان الضالّة»(1) انتهى.

و هذا يقتضي وقوع الاختلاف في مأخذ الإخبار بالمغيب الّذي يصير الكاهن به كاهناً على قولين، أوّلهما أنّه يأخذ الخبر من تابع له من الجنّ يقال له «الشيطان» و هو اختيار جماعة من الأصحاب، و عن التنقيح «أنّه المشهور»(2) و في كلام بعض مشايخنا(3) و المحكيّ عن الأكثر في تعريف الكاهن ما في القواعد(4) من «أنّه من كان له رأي من الجنّ يأتيه الأخبار» و الرأي على ما عن النهاية «يقال للتابع من الجنّ رأي بوزن كميّ »(5) و نسب هذا القول في المحكي عن المغرب إلى الرواية قائلاً: «الكاهن أحد الكهّان و أنّ الكهانة في العرب قبل المبعث يروى أنّ الشياطين كانت تسترق السمع فتلقيه إلى الكهنة و تقبله الكفّار منهم، فلمّا بعث صلى الله عليه و آله و سلم و حرست السماء بطلت الكهانة»(6) و ربّما يشهد له عدّة روايات كالمرويّ عن الأمالي عن الصادق عليه السلام في حديث متكفّل لذكر عجائب وقعت ليلة ولادة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم فإنّ فيه «و لم تبق كاهنة في العرب إلّا حجبت عن صاحبها»(7) و عن ابن عبّاس في تفسير قوله: «إلّا من استرق السمع»(8) «كان في الجاهليّة كهنة و مع كلّ واحد شيطان، و كان يقعد من السماء مقاعد للسمع، فيستمع من الملائكة ما هو كائن في الأرض، فينزل و يخبر به الكاهن، فيفشيه الكاهن إلى الناس»(9).

و رواية الاحتجاج المتقدّمة الّتي سأل الزنديق أبا عبد اللّه عليه السلام عن أسئلة منها ما تقدّم في السحر، و منها: ما قال: «فمن أين أصل الكهانة ؟ و من أين يخبر الناس بما يحدّث ؟ قال عليه السلام: إنّ الكهانة كانت في الجاهليّة في كلّ حين فترة من الرسل كان

ص: 324


1- النهاية لابن الأثير 215:4.
2- التنقيح الرائع 13:2.
3- الجواهر 90:22.
4- القواعد 9:2.
5- النهاية 178:2.
6- المغرب: نقله عنه الطريحي في مجمع البحرين 305:6 (كهن).
7- أمالي الصدوق: 235.
8- الحجر: 18.
9- مجمع البيان 232:3.

الكاهن بمنزلة الحاكم يحتكمون إليه فيما يشتبه عليهم من الاُمور بينهم، فيخبرهم بأشياء تحدّثه و ذلك في وجوه شتّى، فراسة العين، و ذكاء القلب، و وسوسة النفس، و فطنة الروح مع قذف في قلبه، لأنّ ما يحدث في الأرض من الحوادث الظاهرة فذلك يعلم الشيطان و يؤدّيه إلى الكاهن، و يخبره بما يحدث في المنازل و الأطراف. و أمّا أخبار السماء فإنّ الشياطين كانت تقعد مقاعد استراق السمع إذ ذلك و هي لا تحجب و لا ترجم بالنجوم، و إنّما منعت من استراق السمع لئلّا يقع في الأرض سبب يشاكل الوحي من خبر السماء، و يلبس على أهل الأرض ما جاءهم عن اللّٰه تعالى لإثبات الحجّة و نفي الشبهة، و كان الشيطان يسترق الكلمة الواحدة من خبر ما يحدث اللّٰه في خلقه، فيختطفها ثمّ يهبط بها إلى الأرض فيقذفها إلى الكاهن، فإذا قد زاد كلمات من عنده فيخلط الحقّ بالباطل، فما أصاب الكاهن من خبر يخبر به هو ما أدّاه إليه شيطانه ممّا سمعه، و ما أخطأ فيه فهو من باطل ما زاد فيه، فمنذ منعت الشياطين عن استراق السمع انقطعت الكهانة، و اليوم إنّما يؤدّي الشياطين إلى كهّانها أخباراً للناس ممّا يتحدّثون به، و الشياطين يؤدّي إلى الشياطين ما تتحدّث في البعد من الحوادث من سارق سرق، و قاتل قتل، و غائب غاب، و هم أيضاً بمنزلة الناس صدوق و كذوب»(1) الخبر.

بناءً على رجوع قيد مع قذف في قلبه إلى جميع الوجوه الأربع المذكورة، أو على كون المراد من قوله: «انقطعت الكهانة» انقطاع ماهيّة الكهانة على تقدير رجوع القيد إلى الأخير كما هو الأظهر، نظراً إلى الأصل المقرّر في الاُصول، و لكنّ الإنصاف أنّه ظاهر في انقطاع الفرد الكامل منه، و هو ما كان مدرك المخبر بالغائبات في أخبار الأخذ من الجنّ ، مع كون مدرك الجنّ في قذفه الخبر في قلب الكاهن استراق السمع من الملائكة، بقرينة ما في صدر الرواية من قوله: «كان الكاهن بمنزلة الحاكم يحتكمون إليه» إلى قوله: «فيخبرهم بأشياء تحدّثه و ذلك في وجوه شتّى» فإنّه بظاهره يفيد أنّه من حيث كونه كاهناً كان حاكماً يحتكمون إليه، و كان يخبرهم من هذه الحيثيّة بجميع الوجوه الأربع المذكورة الّتي لا مدخليّة للشيطان في الثلاث الاُولى منها، فإنّ

ص: 325


1- الاحتجاج 218:2-220.

هذا كلّه يفيد أنّ الكهانة بحسب المأخذ أعمّ من الجميع، و هذا ينهض قرينة أنّ المنقطع بعد ممنوعيّة الشياطين عن استراق السمع هو الفرد الكامل منها لا الماهيّة، مضافاً إلى أنّ قوله: «و اليوم إنّما يؤدّي الشياطين إلى كهّانها» يدلّ على عدم انتفاء الماهيّة بعد انقطاع الكهانة المستندة إلى استراق السمع من السماء.

و يؤيّد الرواية في اقتضاء ما ذكر بل يدلّ عليه أيضاً ما في المرويّ عن الاحتجاج و نهج البلاغة من قول مولانا أمير المؤمنين عليه السلام: «أيّها الناس إيّاكم و تعلّم النجوم إلّا ما يهتدى به في برّ أو بحر فإنّها تدعو إلى الكهانة، المنجّم كالكاهن و الكاهن كالساحر و الساحر كالكافر، و الكافر في النار»(1) فإنّ الكهانة الّتي يدعو إليها النجوم هي الإخبار بالغائبات الّذي مستنده النجوم، و هذا يقتضي كون ذلك أيضاً من الكهانة، و لا ينافيه ما بعده من قوله: «المنجّم كالكاهن» لأنّه تشبيه له به في الحكم فلا ينافي دخوله من حيث إخباره في الاسم.

نعم ربّما يعارض الروايتين بعض الأخبار الاُخر مثل خبر نضر بن قابوس قال:

«سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: المنجّم ملعون، و الكاهن ملعون، و الساحر ملعون، و المغنّية ملعونة، و من آواها و أكل كسبها ملعون، و قال عليه السلام: المنجّم كالكاهن، و الكاهن كالساحر، و الساحر كالكافر، و الكافر في النار»(2) و مثل الخبر الصحيح المرويّ عن مستطرفات السرائر نقلاً عن كتاب المشيخة للحسن بن محبوب عن الهيثم قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: إنّ عندنا بالجزيرة رجلاً ربّما أخبر من يأتيه، يسأله عن الشيء يسرق، أو شبه ذلك فيسأله، فقال: قال رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم: من مشى إلى ساحر أو كاهن أو كذّاب يصدّقه بما يقول فقد كفر بما أنزل اللّٰه من كتاب»(3) فإنّ قرينة المقابلة تقضي بكون المنجّم قسيماً للكاهن.

و يمكن الجمع أمّا في الخبر الأوّل، فأوّلاً لجواز كون المنجّم من حيث إنّه يعتقد

ص: 326


1- تقدّم في الصفحة: 323.
2- الوسائل 7/143:17 و 8، ب 24 ما يكتسب به، الخصال: 67/297.
3- الوسائل 3/150:17، ب 26 ما يكتسب به، مستطرفات السرائر: 22/83.

التأثير في النجوم وقع قسيماً للكاهن، و هذا هو الجهة الباعثة على لعنه، و هذا لا ينافي إخباره بالغائبات استناداً إلى النجوم من الكهانة. و ثانياً أنّ الخبر عن الغائبات إذا كان له في إخباره طرق متعدّدة و سمّي في الجميع كاهناً، فهو لا ينافي كونه باعتبار خصوص استناده إلى النجوم أيضاً يسمّى بالمنجّم، و باعتبار استناده أيضاً إلى قواعد السحر يسمّى ساحراً أيضاً، و هكذا نقول في الخبر الثاني أيضاً.

و هذا و إن كان ضرباً من التأويل إلّا أنّ الواجب إرجاع التأويل إليهما، لأنّ الروايتين المتقدّمتين أظهر دلالة منهما على كون ما يستند فيه إلى النجوم أو غيرها أيضاً من الكهانة، و أمّا الروايتان الاُخريان المتقدّم نقلهما عن الأمالي و ابن عبّاس فهما أيضاً لا تنافيانهما كما يظهر وجهه بأدنى تأمّل.

و ممّا يرشد إلى صحّة ما قلناه - من عدم كون الأخذ من الشيطان معتبراً في مفهوم الكهانة و ماهيّتها - أنّ الروايات الناهية عن الكهانة إماميّة و المفروض انقطاع استراق السمع في أزمنة صدورها، فلو كان ذلك معتبراً في مفهومها لزم خروج هذه الروايات و النهي الوارد فيها بلا مورد و اللازم باطل جزماً. و الرواية المذكورة كما تدلّ على عدم اعتبار هذه الخصوصيّة في الكهانة فكذلك تدلّ على عدم اعتبار خصوصيّات اُخر أيضاً فيها، مثل كون الخبر المتلقّي من الشيطان مثلاً من أخبار السماء، و مثل كونه إخباراً عمّا يقع في المستقبل لا عمّا وقع في الماضي و مثل كونه على بتّ و جزم، كما يظهر جميع ذلك بالتأمّل في رواية الاحتجاج و نهج البلاغة. و على هذا فما نسب إلى المشهور أو الأكثر أو إلى جماعة من أصحابنا من اعتبار الأخذ من الشيطان فيها ليس على ما ينبغي.

و من أغرب ما ذكر في المقام تعريف الكهانة بعمل يوجب طاعة بعض الجانّ له و اتّباعه له و يأتيه بالأخبار الغائبة كما في المسالك(1) و الروضة(2) فإنّ العمل الموجب لطاعة بعض الجانّ لا يوافق لغة معنى الكهانة مصدراً و اسماً، إذ الأوّل على ما سمعت من القاموس «قضاء بالغيب» و الثاني «صنعة و حرفة» مع أنّه ليس مورداً لأدلّة التحريم كقوله عليه السلام: «من تكهّن أو تكهّن له فقد برأ من دين محمّد صلى الله عليه و آله و سلم»(3) كما لا يخفى.

ص: 327


1- المسالك 128:3.
2- الروضة 215:3.
3- الوسائل 2/149:17، ب 26 ما يكتسب به، الخصال: 68/19.

و كيف كان فالمعروف من مذهب الأصحاب من غير خلاف يعرف هو حرمة عمل الكهانة، و في كلام غير واحد نفي الخلاف فيه، و في المستند(1) دعوى ثبوت الإجماع عليه ناقلاً «للتصريح به في كلام جماعة» فهو الحجّة، مضافاً إلى النصوص، منها: ما دلّ على أنّ أجر الكاهن من السحت.

و منها: خبر أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام «قال: من تكهّن أو تكهّن له فقد برئ من دين محمّد صلى الله عليه و آله و سلم»(2).

و منها: خبر الهيثم المتقدّم الناطق بأنّ «من مشى إلى ساحر أو كاهن أو كذّاب يصدّقه فقد كفر بما أنزل اللّٰه من كتاب»(3).

و منها: ما في حديث المناهي المرويّ في الفقيه من «أنّ رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم نهى عن إتيان العرّاف، و قال: من أتاه و صدّقه فقد برئ ممّا أنزل اللّٰه على محمّد صلى الله عليه و آله و سلم»(4)و العرّاف على ما عرفت من النهاية الأثيريّة «هو الكاهن» و في البحار(5) أيضاً قال الطيبي - في شرح المشكاة -: هو قسم من الكهّان يستدلّ على معرفة المسروق و الضالّة بكلام أو فعل أو حالة.

و السرّ في البراءة على ما دلّ عليه هذه الروايات الثلاث أنّ تصديق الكاهن فيما أخبر به من الغيب تكذيب للّٰه عزّ و جلّ فيما أنزله اللّٰه في كتابه على نبيّه من اختصاص علم الغيب به، قال عزّ من قائل: «وَ عِنْدَهُ مَفٰاتِحُ اَلْغَيْبِ لاٰ يَعْلَمُهٰا إِلاّٰ هُوَ...» (6) الآية، و قال أيضاً: و «عِنْدَهُ عِلْمُ اَلسّٰاعَةِ وَ يُنَزِّلُ اَلْغَيْثَ وَ يَعْلَمُ مٰا فِي اَلْأَرْحٰامِ وَ مٰا تَدْرِي نَفْسٌ مٰا ذٰا تَكْسِبُ غَداً وَ مٰا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اَللّٰهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» (7).

و منها: ما سمعت أيضاً من قول مولانا امير المؤمنين عليه السلام: «إيّاكم و تعلّم النجوم إلّا ما يهتدى به في برّ أو بحر فإنّها تدعو إلى الكهانة، المنجّم كالكاهن، و الكاهن كالساحر، و الساحر كالكافر، و الكافر في النار».

ص: 328


1- المستند 116:14.
2- الوسائل 2/149:17، ب 26 ما يكتسب به، الخصال: 68/19.
3- الوسائل 3/150:17، ب 26 ما يكتسب به، السرائر: 22/38.
4- الوسائل 1/149:17، ب 26 ما يكتسب به، الفقيه 1/3:4.
5- البحار 330:73.
6- الأنعام: 59.
7- لقمان: 34.

و منها: ما سمعت أيضاً من خبر نضر بن قابوس قال: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول:

المنجّم ملعون، و الكاهن ملعون، و الساحر ملعون، و المغنّية ملعونة، و من أرادها و أكل كسبها ملعون، و قال عليه السلام: المنجّم كالكاهن و الكاهن كالساحر و الساحر كالكافر و الكافر في النار».

ثمّ إنّ ظاهر نصوص الباب و فتاوى الأصحاب أن يكون الإخبار على سبيل الحكم البتّي، على معنى كونه بصورة الجزم سواء كان المخبر جازماً بما أخبر به أو ظانّاً به أو محتملاً له عملاً بالإطلاق، و أمّا لو ذكر شيئاً على سبيل الاحتمال أو الظنّ بأن يقول:

يحتمل أن يكون كذا، أو أظنّ أنّه كذا، أو أرجو أن يكون كذا، و ما أشبه ذلك ممّا لا يكون على سبيل الحكم بالمطلوب، فلا يندرج فيهما فلا يشمله الحرمة فالأصل يقتضي جوازه، و لعلّه إلى ذلك ينظر ما فصّله صاحب المفاتيح على ما حكي بقوله: «من المعاصي المنصوص عليها الإخبار عن الغائبات على البتّ لغير نبيّ أو وصيّ نبيّ سواء كان بالتنجيم أو الكهانة أو القيافة أو غير ذلك إلى أن قال: و إن كان الإخبار على سبيل التفؤّل من دون جزم فالظاهر جوازه لأنّ أصل هذه العلوم حقّ و لكنّ الإحاطة بها لا يتيسّر لكلّ أحد، و الحكم بها لا يوافق المصلحة»(1) انتهى، و إن كان تعليله عليلاً مع نوع تشويش في العبارة، لأنّ حقّيّة العلوم لا تنافي حرمة ترتيب الآثار عليها الّتي منها الإخبار بالغائبات.

و يؤيّدها علّة منع الشياطين من استراق السمع المتقدّمة في خبر الاحتجاج، فإنّها تقتضي مبغوضيّة كلّ ما يشاكل الوحي، و يوجب التباس ما جاء من اللّٰه تعالى لإثبات الحجّة و نفي الشبهة على الخلق و المبغوضيّة تلازم الحرمة. ثمّ الظاهر حرمة تعلّم الكهانة أيضاً للنهي المتقدّم عن تعلّم النجوم لأنّها تدعو إلى الكهانة، و حرمة التكسّب بها و أخذ الاُجرة عليها لما تقدّم الإشارة إليه من النصوص الدالّة على كون أجر الكاهن من السحت، مع إمكان الاستدلال عليه بالنبويّ بالتقريب المتقدّم.

ص: 329


1- المفاتيح 23:2-24.
المقام الثالث: في القيافة.

قال في المجمع في الحديث: «لا آخذ بقول قائف، هو الّذي يعرف الآثار و يلحق الولد بالوالد و الأخ بأخيه، و الجمع قافة من قولهم قَفْتُ أثره إذا تبعته مثل قَفَوْتُ أثره، وقاف الرجل يقوف قوفاً من باب قال تبعه»(1) و يقرب منه ما في القاموس قائلاً: «و القائف من يعرف الآثار، جمع قافة، وقاف أثره تبعه كقفاه و اقتفاه...»(2) إلى آخر ما ذكره.

و ظاهرهما عدم بناء هذه المادّة على القيافة مصدراً و لا اسماً و إلّا لم يتركا ذكرها في تصاريف هذه المادّة، فيكون القيافة حينئذٍ اسماً للصناعة المعهودة من الألفاظ المبتدئة المخترعة. و ربّما يحتمل كون بنائها على الأجوف لضرب من النقل أي نقل العين مكان اللام و اللام مكان العين بفرض كونه بحسب الأصل من الناقص، كقفى يقفو و اقتفى.

و كيف كان فالقيافة - على ما في المسالك(3) و الروضة(4) و غيرهما(5) - الاستناد إلى علامات و مقادير يترتّب عليها نسب شخص إلى شخص و إلحاقه به، كالولد بوالده و الأخ بأخيه.

و أمّا حكمها فالمعروف بينهم كونها حراماً، و عن الحدائق(6) نسبته إلى الأصحاب مؤذناً بالإجماع عليه، و عن الكفاية «لا أعرف خلافاً فيه»(7) و عن المنتهى(8) و التنقيح(9)و المفاتيح(10) الإجماع عليه.

و خلاصة القول فيها: أنّها صناعة من الصناعات، و التكلّم في حكمها إن كان من حيث تعلّمها و تحصيل ملكتها فالوجه فيه الجواز، إذ لا دليل على تحريمه فيبنى فيه على الأصل، و إذا جاز تعلّمها لم يحرم إبقاؤها بعد التعلّم و لا يجب إزالتها بالتناسي و نحوه، للأصل أيضاً. و ربّما يستشمّ كونها في نفسها ممدوحة ممّا في رواية أبي بصير بعد قول السائل عن القافة ما يقولون شيئاً إلّا يقرب ممّا يقولون من قوله عليه السلام: «القيافة

ص: 330


1- مجمع البحرين 560:3.
2- القاموس: 188:3.
3- المسالك 129:3.
4- الروضة 273:1.
5- كما في جامع المقاصد 33:4، التنقيح 13:2.
6- الحدائق 183:18.
7- الكفاية: 87.
8- المنتهى 1014:2.
9- التنقيح 15:2.
10- المفاتيح 24:2.

فضلة من النبوّة ذهبت في الناس حين بعث النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم»(1).

و إن كان من حيث استنباط القائف بالتفرّس و التحدّس نسب شخص إلى آخر قصد إلى معرفة نفسه جزماً أو ظنّاً من دون أن يبرزه في الخارج و يلحقه به، فهذا أيضاً ممّا لا دليل على تحريمه و لم نقف على مفت أفتى به صريحاً بل ربّما كان الغرض من تقييدهم الآتي إخراج ذلك عن التحريم. و توهّم: الدلالة عليه من قوله عليه السلام في رواية أبي بصير: «ما اُحبّ أن تأتيهم» في جواب السائل عن القيافة أو القافة على اختلاف النسخة. يدفعه: منع الدلالة لظهور هذه اللفظة في الكراهة، و لو سلّم عدم ظهورها فيها فلا يسلّم ظهورها في التحريم أيضاً فتكون محتملة لهما، و لو سلّم ظهورها فيه فأقصاه الدلالة على تحريم إتيان القائف استعلاماً لنسب أو طلباً لإلحاق و لا يلزم منه تحريم استنباط نسب لا للإلحاق.

و إن كان من حيث استنباطه النسب للإلحاق، فالظاهر أنّه موضوع المسألة و معقد فتاوي الأصحاب بالتحريم، و نحن نطالبهم بدليل ذلك و لم نقف لهم على دليل واضح يعتمد عليه، فيشكل الإذعان به إلّا أن يكون إجماعاً كما يقتضيه الإجماعات المنقولة في كلام الجماعة، و لكن ثبوته على تحريمها من حيث هي هي ليثبت به الحرمة النفسيّة غير معلوم، و لذا قيّده جماعة كالشهيدين في الدروس(2) و المسالك(3) و جامع المقاصد(4) و التنقيح(5) بما إذا ترتّب عليه محرّم.

بل في كلام بعض مشايخنا «و الظاهر أنّه مراد الكلّ و إلّا فمجرّد حصول الاعتقاد العلمي أو الظنّي بنسب شخص لا دليل على تحريمه»(6) انتهى. و كأنّه قدس سره حمل المحرّم المترتّب على القيافة على نفس الإلحاق، و لعلّ السرّ في تحريمه إمّا أنّه اتّباع لما لا يعلم من حيث إنّ العلامات و الأمارات المستند إليها لا تفيد غالباً إلّا الظنّ فيندرج في عموم قوله تعالى: «لاٰ تَقْفُ مٰا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ » (7) أو أنّه إثبات للنسب بغير طريقة

ص: 331


1- الوسائل 2/149:17، ب 26 ما يكتسب به، الخصال 68:19.
2- الدروس 165:3.
3- المسالك 129:3.
4- جامع المقاصد 33:4.
5- التنقيح 13:2.
6- الجواهر 92:22.
7- الإسراء: 36.

الشرعي من العلم العادي أو الفراش أو الإقرار أو البيّنة، فيكون من الحكم بغير ما أنزل اللّٰه المحكوم عليه في الكتاب بكونه فسقاً.

و يحتمل كون مراد الجماعة من المحرّم المحرّمات الاُخر المترتّبة على الإلحاق لا نفسه، على معنى أنّه و إن لم يكن محرّماً في نفسه إلّا أنّه كثيراً ما يترتّب عليه محرّم خارجي كإيذاء المؤمن فيما لو كان الإلحاق بحيث يتأذّى به الملحق أو الملحق به و يكرهه باعتبار كون صاحبه شخصاً رذلاً دَنيّاً و هو من أهل الشأن و الشرف و النجابة، أو القذف للملحق به و إشاعة فاحشته و إذاعة عيب الملحق بتقريب أنّ حصوله على تقدير الإلحاق كثيراً ما يكون من زنى، أو التوارث فيما بينهما المفضي إلى استيلاء إنسان على مال آخر من غير استحقاق شرعي و هو إثم فيكون الإلحاق من المعاونة على الإثم، أو استباحة نظر أجنبيّ إلى محارم أجنبيّ آخر من بنته أو اُمّه أو اُخته أو حليلته من دون مجوّز و مبيح شرعي، و هذا أيضاً إثم و الإلحاق معونة عليه. و بالجملة فالقيافة محرّمة لتحريم ما يترتّب عليها لا في نفسها. و أمّا التكسّب بها و أخذ الاُجرة عليها فالظاهر أنّ تحريمه إجماعيّ و هو الحجّة.

ص: 332

النوع الثامن التنجيم و تعلّم النجوم

اشارة

أمّا التنجيم فقد عرّفه المحقّق الشيخ عليّ في جامع المقاصد «بأنّه الإخبار عن أحكام النجوم باعتبار الحركات الفلكيّة و الاتّصالات الكوكبيّة الّتي مرجعها إلى القياس و التخمين»(1).

و قد حرّمه بعض الأصحاب لدلالة الأخبار على تحريمه من حيث هو، و ظاهر جماعة كالسيّد(2) و العلّامة(3) و البهائي(4) و غيرهم تحريمه من حيث فساد مذهب المنجّمين لاعتقادهم تأثير الكواكب و أوضاعها بالاستقلال اختياراً أو إيجاباً أو الاشتراك، و عن بعض هؤلاء تحريمه أيضاً مع اعتقاد كونها معدّة لتأثير اللّٰه سبحانه لكونه علماً بما لا يعلم و كأنّه أراد بالمعدّية ما يرجع إلى القابل لا إلى الفاعل و إلّا كان كفراً و لا يناسبه التعليل بكونه علماً بما لا يعلم، و عن بعض المتأخّرين «أنّه يحرم من حيث ابتنائه على الظنّ و التخمين و كونه قولاً بما لا يعلم»(5) قيل: و يمكن أن يكون التحريم لأجل الإخبار بما لم يقع فيشبه الكهانة.

و عن كثير من الأصحاب التصريح بجوازه إذا لم يعتقد منافياً للشرع، و في المستند «بل هو الظاهر من الأكثر حيث قيّدوا التحريم بما إذا اعتقد التأثير»(6) و نسب ذلك أيضاً

ص: 333


1- جامع المقاصد 31:4.
2- رسائل الشريف المرتضى 311:3.
3- المنتهى 1014:2، التحرير: 161.
4- الحديقة الهلاليّة: 139.
5- كما في الدروس 165:3، و القواعد و الفوائد 35:2.
6- المستند 118:14.

إلى السيّد ابن طاوس فقال: «بأنّ علم النجوم من العلوم المباحات»(1) و جوّز تعليمه و تعلّمه و النظر فيه و العلم به إذا لم يعتقد أنّها مؤثّرة حاملاً لأخبار النهي و الذمّ على ما إذا اعتقد ذلك، ثمّ ذكر تأييداً لصحّة هذا العلم أسماء جماعة من الشيعة كانوا عارفين به.

و القول بإطلاق التحريم الّذي عرفت نسبته إلى بعض الأصحاب يظهر من السيّد الأجلّ المرتضى أيضاً جاعلاً لأدلّ الدليل على بطلانه كونه موجباً لاختلال الأمر في معجزات الأنبياء قال - في جملة كلام له محكيّ عن كتاب الغرر و الدرر -: «و من أدلّ الدليل على بطلان أحكام النجوم أنّا قد علمنا أنّ من جملة معجزات الأنبياء الإخبار عن الغيوب و عدّ ذلك خارقاً للعادات، كإحياء الميّت و إبراء الأكمه و الأبرص، و لو كان العلم بما يحدث طريقاً نجوميّاً لم يكن ما ذكرناه معجزاً و لا خارقاً للعادة، و كيف يشتبه على مسلم بطلان أحكام النجوم و قد أجمع المسلمون قديماً و حديثاً على تكذيب المنجّمين و الشهادة بفساد مذاهبهم و بطلان أحكامهم، و معلوم من دين الرسول صلى الله عليه و آله و سلم ضرورة التكذيب بما يدّعيه المنجّمون و الإزراء عليهم و التعجيز بهم، و في الروايات عنهم عليهم السلام من ذلك ما لا يحصى كثرة، و كذا عن علماء أهل بيته و خيار أصحابه، فما زالوا يبرءون من مذاهب المنجّمين و يعدّونها ضلالاً و محالاً، و ما اشتهر هذه الشهرة في دين الإسلام كيف يغترّ بخلافه منتسب إلى الملّة و مصلّ إلى القبلة»(2) انتهى.

و تحقيق المسألة يستدعي التكلّم في مقامات:
المقام الأوّل: فيما يتعلّق بالأجرام الفلكيّة و الكواكب من حيث القدم و الحدوث و الحياة و عدمها و

الاختيار و العلوم و الإدراكات و الإرادات و أضدادها لما عزي إلى المنجّمين خصوصاً أوائلهم من المذاهب المختلفة في ذلك، فنقول: إنّ الفلكيّات و الكواكب غير خالية عن كونها قديمة أو حادثة، و المراد بحدوثها كونها مسبوقة بالعدم و بالقدم خلافه.

و على الأوّل: فإمّا أن يراد بالقدم قدمها لذواتها على معنى عدم كونها معلولة عن

ص: 334


1- فرج المهموم: 81.
2- الغرر و الدرر (أمالي المرتضى) 384:2-391 و رسائل الشريف المرتضى 310:3-311.

علّة قديمة لذاتها كذات الباري تعالى، أو قدمها باعتبار الزمان على معنى أنّها و إن كانت معلولة غير أنّها قديمة زماناً لقدم علّتها، و الاعتقاد بالقدم بكلّ من معنييه كفر و معتقده كافر، لكونه مخالف لما علم ضرورة من دين الإسلام بل جميع الأديان من حدوث العالم، و إنكاراً لما جاء به النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم على ما دلّت عليه الآيات المتكاثرة و الروايات المتظافرة المتواترة من كون الفلكيّات و الأرضين و السموات مخلوقة للّٰه عزّ و جلّ و قد خلقها في ستّة أيّام، مضافاً إلى كونه من كفر التشريك مع اللّٰه عزّ و جلّ المنافي للتوحيد الّذي من مراتبه التوحيد في الصفات الذاتيّة الّتي منها القدم ذاتاً و زماناً.

و على الثاني: فإمّا تكون في حدوثها متّصفة بصفة الحياة و العلوم و الإدراكات و الإرادات، أو متّصفة بالعلوم و الإدراكات و الإرادات من دون حياة، أو تكون كسائر الجمادات من دون أن يكون لها حياة و لا علوم و إدراكات و إرادات، و هذه وجوه ثلاث صحيحها الموافق لدين الإسلام بل جميع الأديان ثالثها، بل في كلام المجلسي في البحار و السيّد علي ما عن الغرر و الدرر دعوى الضرورة و إجماع المسلمين على بطلان ما عداه - قال المجلسي في تأويل الرواية الدالّة على أنّ اللّٰه عزّ و جلّ بعث المشتري إلى الأرض في صورة رجل فأخذ رجلاً من العجم فعلّمه النجوم... الحديث: «لعلّ المراد - على تقدير صحّة الخبر - أنّ اللّٰه تعالى جعله في هذا الوقت ذا روح و حياة و علّم و بعثه إلى الأرض لئلّا ينافي ما سيأتي من إجماع المسلمين على عدم حياة الأجسام الفلكيّة و شعورها...»(1) إلى آخر ما ذكره. و قال السيّد في جملة كلام له في إبطال علم النجوم:

«و أقوى من ذلك في نفي كون الفلك و ما فيه من شمس و قمر و كوكب أحياء السمع و الإجماع، و أنّه لا خلاف بين المسلمين في ارتفاع الحياة عن الفلك و ما يشتمل عليه من الكواكب، و أنّها مسخّرة مدبّرة مصرّفة، و ذلك معلوم من دين رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم، ضرورة» و إذا قطعنا على نفي الحياة و القدرة فكيف تكون فاعلة فينا؟...»(2) إلى آخر ما ذكره - مع ما في ثانيها من بطلانه في نفسه لامتناع العلم و الإدراك و الإرادة من دون حياة، لكون هذه الصفات من لوازم الحياة أو ما به الحياة و هو الروح المتعلّق بالبدن.

ص: 335


1- البحار 278:55.
2- الغرر و الدرر (أمالي المرتضى) 384:3-391.

و بذلك يندفع ما عساه يقال في منع الملازمة: من تنظير المقام بالروح بعد مفارقة البدن من حيث إنّه يعلم و يدرك و لا حياة له، إذ لا يقال إنّه حيّ كما لا يخفى.

المقام الثاني: فيما يتعلّق بالأجرام العلويّة و حركاتها و اتّصالاتها من حيث التأثير و عدمها في الحوادث السفليّة،

فإنّ المنجّمين لهم في ذلك أقوال مختلفة:

فإمّا أن يقال: بأنّها المدبّرة للعالم المؤثّرة في الكائنات و الحوادث بالاستقلال على وجه يرجع إلى نفي وجود الصانع تعالى، أو على وجه يرجع إلى تعطيله عن التدبير و التأثير مع كونها قديمة لذواتها أو باعتبار الزمان أو حادثة، و معنى الأخيرين أنّ الصانع تعالى لمّا خلقها قديمة زماناً أو حادثة فوّض أمر التدبير و التأثير إليها، و حينئذٍ فإمّا أن يكون بحيث خرج الأمر عن تحت قدرته فلا يقدر على منعها عن التدبير و التأثير، أو لا بل يقدر على المنع و لكنّه لا يمنع. و على جميع هذه التقادير الأربع فإمّا أن تكون مجبولة على التدبير و التأثير على معنى كونها فاعلة بالإيجاب كالنار في فعل الإحراق، أو تكون مختارة فيهما على معنى كونها فاعلة بالاختيار.

أو يقال: بأنّها مؤثّرة لا بالاستقلال إمّا بأن يكون التأثير قائماً بها بشرط إرادته تعالى أو قائماً به تعالى بشرط توسّطها فتكون كالآلة و المعدّ، إمّا لأمر راجع إلى الفاعل بأن لا يقدر على التأثر إلّا بهذه الآلة، أو لأمر يرجع إلى القابل بأن لا يقبل الأثر إلّا بهذه الواسطة.

أو يقال: بعدم مدخليّة لها أصلاً بل المدبّر للعالم و المؤثّر في الكائنات و الحوادث بالاستقلال هو الصانع تعالى إلّا أنّه جرى عادته بأن لا يفعل إلّا عند حركات الأفلاك و اتّصالات الكواكب و أوضاعها المخصوصة بحيث لم يتغيّر عادته تعالى أصلاً، فتكون هذه الحركات و الأوضاع المخصوصة علامات دائميّة للآثار الحادثة من تأثيره تعالى، أو بحيث جاز تغيّرها بالصدقة أو الدعاء أو غيرهما، أو لا على وجه جرى عادته بذلك على الوجه الكلّي، فيمكن أن يكون فيما يفعله تعالى من خلق أو تدبير أو تأثير ما لا يرتبط بحركات الأجرام العلويّة و أوضاع الكواكب المخصوصة أصلاً و إن كان في تلك الحركات و الأوضاع المخصوصة أيضاً ما قد يرتبط به فعله تعالى و تأثير ارتباط ذي العلامة بالعلامة و ارتباط المكشوف عنه بالكاشف.

ص: 336

و هذه ستّة عشر وجهاً صحيحها الموافق لشرع الإسلام هو الأخير منها، لبطلان ما عداه، إمّا لكونه موجباً للكفر لما يتضمّنه من إنكار وجود الصانع، أو لما يتضمّنه من التشريك معه في صفة القدم، أو لما يتضمّنه من نفي صانعيّة الصانع و إنكار خالقيّته، أو لما يتضمّنه من نفي القدرة عنه و إثبات العجز عليه، أو لما يتضمّنه من تكذيبه تعالى فيما قاله في الكتاب: «يَمْحُوا اَللّٰهُ مٰا يَشٰاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ اَلْكِتٰابِ » (1) أو لكون الاعتقاد به من القول بما لا يعلم فيكون آثماً لدخوله في قوله عزّ من قائل: «لاٰ تَقْفُ مٰا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ » (2)«وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَى اَللّٰهِ مٰا لاٰ تَعْلَمُونَ » (3).

المقام الثالث: في نقل الأخبار المتعلّقة بالمسألة،

و هي على أنحاء، منها: ما يدلّ على المنع من التنجيم أو علم النجوم بقول مطلق:

مثل خبر القاسم بن عبد الرحمن الأنصاري عن محمّد بن عليّ عن أبيه عن الحسين بن عليّ عليه السلام قال: «نهى رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم عن خصال... إلى أن قال: و عن النظر في النجوم»(4).

و خبر نصر بن قابوس قال: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: المنجّم معلون، و الكاهن ملعون، و الساحر ملعون، و المغنّية ملعونة و من آواها و أكل كسبها ملعون، و قال عليه السلام:

المنجّم كالكاهن، و الكاهن كالساحر، و الساحر كالكافر، و الكافر في النار»(5).

و المرويّ عن شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد قال: «عزم عليّ عليه السلام على الخروج عن الكوفة إلى الحروريّة و كان في أصحابه منجّم، فقال له: يا أمير المؤمنين لا تسر في هذه الساعة و سر على ثلاث ساعات مضين من النهار، فإنّك إن سرت في هذه الساعة أصابك و أصحابك أذى و ضرّ شديد، و إن سرت في الساعة الّتي أمرتك بها ظفرت و ظهرت و أصبت ما طلبت. فقال له عليّ عليه السلام: أ تدري ما في بطن فرسي هذا أذكر أم اُنثى ؟ قال: إن حسبت علمت، فقال عليه السلام: فمن صدّقك بهذا فقد كذّب بالقرآن، قال اللّٰه

ص: 337


1- الرعد: 39.
2- الإسراء: 36.
3- البقرة: 169.
4- الوسائل 9/143:17، ب 24 ما يكتسب به، الخصال: 10/418.
5- الوسائل 7/143:17 و 8، ب 24 ما يكتسب به، الخصال: 67/297.

تعالى: «إِنَّ اَللّٰهَ عِنْدَهُ عِلْمُ اَلسّٰاعَةِ ...» (1) الآية، ثمّ قال عليه السلام: إنّ محمّد صلى الله عليه و آله و سلم ما كان يدّعي علم ما ادّعيت علمه، أ تزعم إنّك تهدي إلى الساعة الّتي يصيب النفع من سار فيها، و تصرف عن الساعة الّتي يحيق السوء من سار فيها، فمن صدّقك بهذا فقد استغنى عن الاستعانة باللّٰه جلّ و عزّ في صرف المكروه عنه، و ينبغي للموقن بأمرك أن يولّيك الحمد دون اللّٰه جلّ جلاله، لأنّك بزعمك هديته إلى الساعة الّتي يصيب النفع من سار فيها و صرفته عن الساعة الّتي يحيق السوء بمن سار فيها، فمن آمن بك في هذا لم آمن عليه أن يكون كمن اتّخذ من دون اللّٰه ضدّاً و ندّاً، اللهمّ لا طير إلّا طيرك، و لا ضير إلّا ضيرك، و لا إله غيرك، ثمّ قال: بل نخالف و نسير في الساعة الّتي نهيتنا، ثمّ أقبل على الناس، فقال: أيّها الناس إيّاكم و التعلّم للنجوم إلّا ما يهتدى به في ظلمات البرّ و البحر، إنّما المنجّم كالكاهن، و الكاهن كالكافر، و الكافر في النار، أما و اللّٰه إن بلغني أنّك تعمل بالنجوم لأخلدنّك السجن أبداً ما بقيت، و لأحرمنّك العطاء ما كان لي سلطان، ثمّ سار في الساعة الّتي نهاه عنه المنجّم فظهر بأهل النهر و ظهر عليهم، ثمّ قال: لو سرنا في الساعة الّتي أمرنا بها المنجّم لقال الناس: سار في الساعة الّتي أمر بها المنجّم و ظفر و ظهر، أما أنّه ما كان لمحمّد صلى الله عليه و آله و سلم منجّم و لا لنا من بعده حتّى فتح اللّٰه علينا بلاد كسرى و قيصر، أيّها الناس توكّلوا على اللّٰه وثقوا به فإنّه يكفي ممّن سواه»(2).

و خبر عبد الملك بن أعين، قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: «إنّي قد ابتليت بهذا العلم فاُريد الحاجة فإذا نظرت إلى الطالع و رأيت الطالع الشرّ جلست و لم أذهب فيها، و إذا رأيت الطالع الخير ذهبت في الحاجة، فقال لي: تقضي، قلت: نعم، قال: احرق كتبك»(3)قال المجلسي رحمه الله: «و هذا خبر معتبر يدلّ على أظهر الوجوه على أنّ الإخبار بأحكام النجوم و الاعتناء بسعادة النجوم و الطوالع محرّم يجب الاحتراز عنه»(4).

أقول: يعني بأظهر الوجوه أظهر الوجوه المحتملة في قوله عليه السلام: «تقضي» و هو أن

ص: 338


1- لقمان: 34.
2- البحار 265/264:55، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 269:2، الخطبة 78.
3- الوسائل 1/37:11، ب 14 آداب السفر، الفقيه 779/175:2.
4- البحار 272:55.

يكون المراد به الحكم بالحوادث و الإخبار بالاُمور الآتية أو الغائبة، و أمّا اعتبار الخبر فلعلّ الوجه فيه كونه ممّا أورده الصدوق في الفقيه بملاحظة ما ضمنه من إيراد ما أفتى به و حكم بصحّته و اعتقد فيه أنّه حجّة فيما بينه و بين ربّه، و إلّا ففي سنده على ما ضبطه في المشيخة أحمد بن أبي عبد اللّه عن أبيه و هما مجهولان و هو من موجبات الضعف.

و منها: ما هو كالشارح للأخبار المذكورة بعد الإغماض عمّا في أسانيدها من الضعف و القصور، و هو المرويّ عن احتجاج الطبرسي عن هشام بن الحكم عن أبي عبد اللّه عليه السلام في حديث «إنّ زنديقاً قال له: ما تقول في علم النجوم ؟ قال: هو علم قلّت منافعه و كثرت مضارّه»(1) و في نسخة اُخرى «مضرّاته» و قوله عليه السلام هذا صغرى لكبرى مطويّة، تقديرها كلّما قلّت منافعه و كثرت مضارّه وجب التحرّز عنه و كون الحكم وجوب التحرّز دون رجحانه الّذي أقلّ مراتبه الاستحباب، لاستقلال العقل بوجوب التحرّز عمّا كثرت مضارّه.

فهذا يدلّ على أنّ المنع من علم النجوم لكثرة مضارّه، و هذه المضارّ الكثيرة لا تخلو عن اُمور:

منها: ما تعرّض لذكره في هذا الخبر بعد قوله: «و كثرت مضارّه» بقوله: «لا يدفع به المقدور، و لا يتّقى به المحذور، إن خبّر المنجّم بالبلاء لم ينجه التحرّز من القضاء، و إن خبّر هو بخير لم يستطع تعجيله، و إن حدث به سوء لم يمكنه صرفه، و المنجّم يضادّ اللّٰه في عمله بزعمه أنّه يردّ قضاء اللّٰه عن خلقه»(2).

و منها: أنّه قد يؤدّي إلى الطيرة المنهيّ عن ترتيب الأثر عليها و الاعتناء بها، كما يشير إليه قوله عليه السلام: «تقضي» في خبر عبد الملك بن أعين على أحد احتماليه، و هو إرادة العمل على مقتضى تطيّره، و هو جلوسه عن الحاجة و عدم ذهابه فيها، و أصرح من ذلك دعاؤه المتقدّم في مرسلة ابن أبي الحديد بقوله عليه السلام: «اللّهمّ لا طير إلّا طيرك...» الخ و نحوه ما في المرويّ عن مجالس الصدوق رحمه الله.

ص: 339


1- الوسائل 10/143:17، ب 24 ما يكتسب به، الاحتجاج: 348.
2- الوسائل 10/143:17، ب 24 ما يكتسب به، الاحتجاج: 348.

و منها: أنّه يدعو إلى الكهانة و هو الإخبار بالغائبات الغير الواقعة، كما يشهد به قوله مولانا أمير المؤمنين عليه السلام في خبر الاحتجاج المتقدّم ذكره في باب الكهانة: «أيّها الناس إيّاكم و تعلّم النجوم إلّا ما يهتدى به في ظلمات البرّ و البحر لأنّها تدعو إلى الكهانة».

و منها: أنّه ربّما يفضي إلى تكذيبه تعالى في قوله تعالى: «وَ عِنْدَهُ مَفٰاتِحُ اَلْغَيْبِ لاٰ يَعْلَمُهٰا إِلاّٰ هُوَ» (1) و قوله أيضاً: و «عِنْدَهُ عِلْمُ اَلسّٰاعَةِ وَ يُنَزِّلُ اَلْغَيْثَ وَ يَعْلَمُ مٰا فِي اَلْأَرْحٰامِ وَ مٰا تَدْرِي نَفْسٌ مٰا ذٰا تَكْسِبُ غَداً وَ مٰا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ » (2) فيما إذا ادّعى المنجّم العلم بالاُمور الغائبة الّتي منها ما في الأرحام و نزول الأمطار و آجال الناس و أفعالهم في مستقبل الزمان و ما أشبه ذلك، كما يشير إليه ما في مرسلة ابن أبي الحديد المتقدّمة، و نحوه ما في المرويّ عن مجالس الصدوق من قوله عليه السلام: «من صدّقك بهذا فقد كذّب بالقرآن» مضافاً إلى أنّه قد يوجب الكذب في إخباراته لاستحالة الكذب في قوله تعالى.

و منها: أنّه يوجب إضلال من يعتمد على قول المنجّم و يصدّقه فيما يدّعيه و يخبر به لتكذيبه القرآن و اتّخاذه إيّاه ضدّاً و ندّاً للّٰه سبحانه، كما دلّ عليه ما في المرويّ عن المجالس، و نحو مرسلة ابن أبي الحديد من قوله عليه السلام: «من آمن لك بهذا فقد اتّخذك من دون اللّٰه ندّاً و ضدّاً».

و منها: أنّه يوجب انسلاخ صفة التوكّل عنه أو عن غيره ممّن يقفو أحكامه، فيجلس عن الحاجة تارةً و يذهب فيها اُخرى.

و منها: أنّه قد يفضي إلى تكذيبه تعالى في قدره و قضائه و في محوه و إثباته.

و منها: أنّه قد يستتبع الكفر و فساد المذهب إذا اعتقد التأثير بالاستقلال أو المدخليّة في الكواكب و حركاتها، و قد أشار إليه و إلى سابقه المرويّ عن الخصال بسنده عن أبي الحصين قال: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: سئل رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم عن الساعة ؟ فقال: عند إيمان بالنجوم و تكذيب بالقدر»(3) و المرويّ عنه أيضاً بسنده عن عبد اللّه بن الحسين بن زيد بن عليّ بن الحسين عليه السلام عن أبيه عن جعفر بن محمّد عن آبائه عن

ص: 340


1- الأنعام: 59.
2- لقمان: 34.
3- الوسائل 6/143:17، ب 24 ما يكتسب به، الخصال: 87/62.

عليّ عليه السلام قال: «قال رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم: أربعة لا تزال في اُمّتي إلى يوم القيامة، الفخر بالأحساب، و الطعن في الأنساب، و الاستسقاء بالنجوم، و النياحة و أنّ النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقوم يوم القيامة و عليها سربال من قطران و ذرع من جرب»(1). قال المجلسي - في شرح الحديث -: «الاستسقاء بالنجوم اعتقاد أنّ للنجوم تأثيراً في نزول المطر»(2).

أقول: و على هذا فتحريم علم النجوم و تعلّمه إمّا لنفسه و من حيث هو، أو لتحريم لوازمه و غاياته، و لا كلام في الثاني، و الأوّل محلّ إشكال لعدم وضوح دليله، و إطلاق المنع في الأخبار المتقدّمة حسن لإثبات ذلك لو استقامت أسانيدها، و قد عرفت الحال فيها، مع أنّ لها معارضات من الروايات المصرّحة بأنّ أصل هذا العلم حقّ و أنّه من علوم الأنبياء و أنّه ما يعلمه الأئمّة المعصومون عليهم السلام.

و فيها ما يدلّ على مدحه كالمرويّ في البحار عن كتاب نزهة الكرام تأليف محمّد بن الحسين بن الحسن الرازي، قال المجلسي: و هذا الكتاب خطّه بالعجميّة تكلّفنا من نقله إلى العربيّة فذكر في أواخر المجلّد الثاني منه ما هذا لفظ من أعربه «و روى أنّ هارون الرشيد بعث إلى موسى بن جعفر عليه السلام فأحضره، فلمّا حضر عنده قال: إنّ الناس ينسبونكم يا بني فاطمة إلى علم النجوم، و أنّ معرفتكم بها معرفة جيّدة، و فقهاء العامّة يقولون: إنّ رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم قال: إذا ذكروا في أصحابي فاسكتوا، و إذا ذكروا القدر فاسكتوا، و إذا ذكروا النجوم فاسكتوا، و أمير المؤمنين كان أعلم الخلائق بعلم النجوم و أولاده و ذرّيته الّذين تقول الشيعة بإمامتهم كانوا عارفين بها. فقال له الكاظم عليه السلام: هذا حديث ضعيف و إسناده مطعون فيه، و اللّٰه تبارك و تعالى قد مدح النجوم، و لو لا أنّ النجوم صحيحة ما مدحها اللّٰه عزّ و جلّ ، و الأنبياء كانوا عالمين بها، و قد قال اللّٰه تعالى في حقّ إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام: «وَ كَذٰلِكَ نُرِي إِبْرٰاهِيمَ مَلَكُوتَ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ اَلْمُوقِنِينَ » (3) و قال في موضع آخر: «فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي اَلنُّجُومِ فَقٰالَ إِنِّي سَقِيمٌ » (4)

ص: 341


1- الوسائل 12/128:17، ب 18 ما يكتسب به، الخصال: 60/226.
2- البحار 226:55.
3- الأنعام: 75.
4- الصافّات: 88.

فلو لم يكن عالماً بعلم النجوم ما نظر فيها و ما قال «إِنِّي سَقِيمٌ » و إدريس عليه السلام كان أعلم أهل زمانه بالنجوم، و اللّٰه تعالى قد أقسم بمواقع النجوم «وَ إِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ » (1)و قال في موضع آخر: «وَ اَلنّٰازِعٰاتِ غَرْقاً إلى قوله فَالْمُدَبِّرٰاتِ أَمْراً» (2) و يعني بذلك اثنى عشر برجاً، و سبعة سيّارات و الّذي يظهر بالليل و النهار بأمر اللّٰه عزّ و جلّ ، و بعد علم القرآن ما يكون أشرف من علم النجوم، و هو علم الأنبياء و الأوصياء و ورثة الأنبياء الّذين قال اللّٰه عزّ و جلّ : «وَ عَلاٰمٰاتٍ وَ بِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ » (3) و نحن نعرف هذا العلم و ما نذكره. فقال له هارون: باللّٰه عليك يا موسى هذا العلم لا تظهروه عند الجهّال و عوامّ الناس حتّى لا يشنّعوا عليك و نفس العوام به و غطّ، و ارجع إلى حرم جدّك. ثمّ قال له هارون: و قد بقي مسألة اُخرى باللّٰه عليك أخبرني بها، فقال: سل، فقال له: بحقّ القبر و المنبر و بحقّ قرابتك من رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم أخبرني أنت تموت قبلي أو أنا أموت قبلك لأنّك تعرف هذا من علم النجوم ؟ فقال له موسى عليه السلام: آمني حتّى اُخبرك، فقال: لك الأمان، فقال: أنا أموت قبلك و ما كذّبت و لا أكذب و وفاتي قريب»(4).

بل في بعض الأخبار ما هو صريح في عدم المنع منه، غايته أنّه لا ينتفع به، ففي المرويّ عن الكافي عن عدّة من أصحابنا عن أحمد بن محمّد بن خالد عن ابن فضّال عن الحسن بن أسباط عن عبد الرحمن بن سيّابة قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: جعلت فداك إنّ الناس يقولون: إنّ النجوم لا يحلّ النظر فيها، و هي تعجبني، فإن كانت تضرّ بديني فلا حاجة لي في شيء يضرّ بديني، و إن كان لا يضرّ بديني فو الله أنّي لأشتهيها و أشتهي النظر فيها، فقال: ليس كما يقولون لا تضرّ بدينك، ثمّ قال: إنّكم تنظرون في شيء منها كثيره لا يدرك و قليله لا ينتفع به»(5).

فإنّ ذلك و نظائره لا بدّ و أن ينزّل على أنّ الإمام عليه السلام علم من حال السائل أنّ علمه بالنجوم لا يفضيه إلى فساد عقيدة، و لا إلى الوقوع في حيثيّة من الحيثيّات القبيحة

ص: 342


1- الواقعة: 76.
2- النازعات: 1.
3- النحل: 16.
4- البحار 25:55-253.
5- الوسائل 1/141:17، ب 24 ما يكتسب به، الكافي 233/195:8.

المحرّمة. و قوله عليه السلام: «و قليله لا ينتفع به» معناه أنّ من لم يدرك كثيره كالمنجّم فعلمه القليل باعتبار عدم إحاطته بجميع النجوم و حركاتها و مقادير حركاتها و معارضاتها ناقص و العلم الناقص ما لا يترتّب عليه الفائدة المقصودة منه، كالمقدّمات الناقصة الّتي علامة نقصانها عدم إنتاجها النتيجة المطلوبة منها، و قضيّة ذلك غلبة عدم إصابة الواقع في أحكام المنجّمين و إخباراتهم، و لذا اشتهر بل نسب إلى الرواية «أنّ كلّ منجّم كذّاب» و لا ينافيه ما قد يتّفق في أحكامهم من الإصابة لأنّه لضرب من الاتّفاق لا من مقتضى أصل العلم، و في ذلك تعريض على عدم جواز التعويل على أحكامهم بل عدم جواز الحكم و الإخبار لهم بصورة الجزم لعدم خلوصه عن وصيمة الكذب بل الظنّ الغالب فيه الكذب.

فانقدح بجميع كلماتنا المتقدّمة من البداية إلى تلك النهاية مسائل:
الاُولى: الاعتقاد في الأفلاك و الكواكب و النجوم بالقدم الذاتي أو الزماني،

و لا إشكال في كونه حراماً محرّماً لكونه كفراً.

الثانية: الاعتقاد فيها بالحياة و العلم و الإرادة و الاختيار،

و هذا أيضاً حرام لكونه مخالفة لإجماع المسلمين، بل قد يكون من كفر إنكار ضروريّ الدين على ما ادّعاه غير واحد.

الثالثة: الاعتقاد فيها و في حركاتها المخصوصة و أوضاعها المعيّنة بتدبير العالم

و التأثير في الحوادث السفليّة بالاستقلال أو المدخليّة فيها بالاشتراك، و لا إشكال في تحريمه أيضاً لكونه كفراً.

الرابعة: تعلّم علوم النجوم

فإن كان لمجرّد شرافته أو لكون علم الشيء خيراً من جهله أو لمعرفة الهيئة و أوضاع الأفلاك و الكواكب و حركاتها و مقادير حركاتها قصداً إلى معرفة قدرة اللّٰه الكاملة و حكمته البالغة و عجائب مخلوقاته و غرائب مصنوعاته مع الاطمئنان على نفسه من الأمن عن فساد العقيدة و الوقوع في إحدى الجهات المحرّمة فالظاهر جوازه، للأصل، و عدم الدليل على المنع و التحريم، مع دلالة بعض النصوص المتقدّم إليها الإشارة عليه. و مع الخوف على نفسه من فساد العقيدة أو الوقوع في الجهة المحرّمة يحرم كما أنّه يحرم لو قصد به العمل لنفسه أو الحكم و الإخبار لغيره.

الخامسة: النظر في النجوم بعد تعلّم علمه

فإن كان ذلك لمعرفة أوقات الصلوات

ص: 343

و سائر العبادات و تعيين جهة القبلة حيث يكتفي فيهما بالأمارة الظنّيّة أو لمعرفة الطرق في البرّ أو البحر فالظاهر جوازه أيضاً، للأصل المعتضد بالنصّ و الاعتبار بل الإجماع عليه، و إن كان لاستنباط أحكام من الاُمور الخفيّة و الأشياء الغيبيّة فإن قصد به مجرّد الاطّلاع الظنّي لا العمل و ترتيب الأثر و لا الحكم و الإخبار لغيره فالظاهر جوازه أيضاً، و إن قصد به عمل نفسه على وجه الإذعان و القبول ليكون من الطيرة المأمور بالمضيّ فيها و عدم الاعتناء بها و إيكال الأمر إليه تعالى يحرم، و إن قصد به الحكم و الإخبار لغيره فإن كان حكمه بصورة الجزم مع دعوى العلم فالظاهر تحريمه، لكونه كهانة محرّمة و تكذيباً للّٰه سبحانه و مضادّة له و إضلالاً لضعفاء العقول من الناس الّذين يعتمدون على أحكامهم و يصدّقونهم في دعواهم و حكمهم. و إن كان على وجه الاحتمال كأن يقول: يحتمل نزول المطر في وقت كذا، أو حدوث المرض أو وقوع الرخص في الأسعار أو موت فلان في وقت كذا - مثلاً - ففي جوازه و العدم وجهان: من الأصل، و من إطلاق النهي. و هو موهون، و الأصل قويّ ، و الأحوط تجنّبه.

السادسة: الرجوع إلى المنجّم استخبار لتعيين المنحوسة من الساعات و تمييزها عن المسعودة،

فإن كان ذلك على وجه التعويل و الإذعان و التصديق الموجب للخروج عن التوكّل فهو حرام جزماً، و إن كان لمراعاة الاحتياط و الأخذ بالأوثق مع عدم الخروج عن صفة التوكّل فالأقرب جوازه، للأصل و الاعتبار، و عدم دليل واضح على المنع.

ص: 344

النوع التاسع في المحرّمات النفسيّة القمار

اشارة

و ليعلم أنّ القمار على ما يستفاد من كلام القاموس(1) و المحكيّ عن مجمل(2) اللغة يأتي لغة كالقتال مصدراً من باب المفاعلة يقال: «قامر يقامر مقامرة و قماراً» و مقتضاه أن يقع من اثنين كما هو الأصل في باب المفاعلة فهو اللعب بالآلات المعدّة له أو مطلقاً إذا وقع من اثنين، و كالذهاب مصدراً مجرّداً من باب نصر ينصر كما في القاموس أو ضرب يضرب كما في الصحاح(3) و ظاهر عبارة القاموس أنّه على هذا الاعتبار أيضاً يقع بين اثنين، و ربّما يحتمل وقوعه حينئذٍ من واحد و لازمه أن لا يكون فيه رهن و عوض لأنّه غير متصوّر من الواحد.

و أمّا على الاعتبار الأوّل ففي لزومه الرهن و العوض و عدمه قولان، فعن بعض أهل اللغة أنّه الرهن على اللعب بشيء من الآلات المعروفة، و قضيّة ذلك دخول الرهن في ماهيّة القمار، و يقتضيه كلام القاموس أيضاً حيث فسّر قامره براهنه فغلبه، و عن جماعة كالصحاح و المصباح(4) المنير و التكملة(5) أنّه قد يطلق على اللعب بها مطلقاً أي مع الرهن و بدونه، و عن(6) بعض أنّ أصل المقامرة المغالبة، و هذا يقتضي كون القمار بحسب الأصل للأعمّ ممّا يأتي بهذه الآلات، لأنّ المغالبة قد يأتي بدونها بل بدون آلة، كالمغالبة بالركض و الأقدام و المصارعة و المشاعرة و المشابكة و هو المغالبة بتشبيك الأصابع و بالمشقّ و بالكبش و بالديك و الريش و هو الطير كالحمام و نحوه، و المغالبة في

ص: 345


1- القاموس 121:2.
2- مجمل اللغة 733:2
3- الصحاح 799:2.
4- المصباح المنير 515:2.
5- نقله عنه في مفتاح الكرامة 186:12.
6- المكاسب 371:1.

هذه الأقسام يكون مع الرهن و بدونه.

فللبحث في الحكم أعني التحريم و عدمه جهات عديدة، يقع التكلّم لتحقيقها في مسائل:
الاُولى: اللعب بآلات القمار من الاثنين مع الرهن و العوض،

و فسّر بأجر جعل للغالب، و لا إشكال بل لا خلاف في تحريمه. و الأصل فيه الإجماع بقسميه، و لا يبعد دعوى ضرورة الدين فيه في الجملة.

و الكتاب قال عزّ من قائل: «يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاٰ تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ » (1)و ليس المراد بالأكل المنهيّ عنه هنا معناه المعهود المشتمل على المضغ و الازدراد بل إعطاء المال و أخذه و المعاملة عليه بالباطل و هو القمار، أو أنّه داخل فيه بشهادة الأخبار المستفيضة المفسّرة له بالقمار، و في غير واحد منها بعد السؤال عن الآية «أنّ قريشاً كانوا يقامر الرجل منهم بأهله و ماله فنهاهم اللّٰه عزّ و جلّ عن ذلك»(2) و قال أيضاً:

«يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْخَمْرِ وَ اَلْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمٰا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنٰافِعُ لِلنّٰاسِ وَ إِثْمُهُمٰا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمٰا» (3) و قال أيضاً: «إِنَّمَا اَلْخَمْرُ وَ اَلْمَيْسِرُ وَ اَلْأَنْصٰابُ وَ اَلْأَزْلاٰمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطٰانِ فَاجْتَنِبُوهُ » (4)بضميمة الأخبار المستفيضة أيضاً المفسّرة للميسر بالقمار، و في بعضها أنّه «كلّما تقومر به حتّى الكعاب و الجوز»(5) و في بعض آخر «كلّما قومر عليه فهو ميسر»(6).

و السنّة لاستفاضة الروايات المأثورة عن أهل بيت العصمة في تحريمه، بل قيل بكونها متواترة، و في بعضها الدلالة على كون اللعب بالبيض أيضاً من القمار كخبر عبد الحميد بن سعيد قال: «بعث أبو الحسن عليه السلام غلاماً يشتري له بيضاً، فأخذ الغلام بيضة أو بيضتين فقامر بها فلمّا أتى به أكله، فقال له مولى له: إنّ فيه من القمار، قال:

فدعا بطشت فتقيّأ فقاءه»(7).

ص: 346


1- البقرة: 188.
2- الوسائل 1/164:17، ب 35 ما يكتسب به، الكافي 1/22:5.
3- البقرة: 219.
4- المائدة: 90.
5- الوسائل 4/165:17، ب 35 ما يكتسب به، الكافي 2/122:55.
6- الوسائل 11/167:17، ب 35 ما يكتسب به، تفسير العيّاشي 182/339:1.
7- الوسائل 2/165:17، ب 35 ما يكتسب به، الكافي 3/123:5.

و ربّما يطعن عليه من حيث اشتماله على إقدام المعصوم على تناول المحرّم الواقعي جهلاً، و هو مشكل، لأنّ ما دلّ على عدم جواز الغفلة عليه في ترك الواجب و فعل الحرام دلّ على عدم جواز الجهل عليه في ذلك.

و الخطب في دفعه سهل، لما حقّق و دلّ عليه المستفيض من الروايات من كون علمه في الموضوعات إراديّاً، على معنى أنّه إذا أراد علم شيء منها يعلّمه اللّٰه عزّ و جلّ من حينه، و إذا لم يرد لا يعلم إلّا بالأسباب العادية، فجهله هنا إنّما هو لأنّه عليه السلام لم يرد العلم فلا ينافي العصمة و منصب الإمامة، و عدم جواز الجهل عليه كالغفلة عليه في ترك الواجب و فعل الحرام إنّما يسلّم في الأحكام الكلّيّة الإلهيّة.

ثمّ إنّ المعاملة القماريّة كما أنّها محرّمة كذلك فاسدة قولاً واحداً، فيحرم الأعواض المأخوذة من جهتها بلا خلاف، قيل: و أجمعوا عليه محصّلاً و منقولاً حدّ الاستفاضة، هذا مضافاً إلى آية «لاٰ تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ » (1) و رواية إسحاق بن عمّار قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: الصبيان يلعبون بالجوز و البيض و يقامرون، فقال:

لا تأكل منه فإنّه حرام»(2) و رواية السكوني عن أبي عبد اللّه قال: «كان ينهى عن الجوز يجيء به الصبيان من القمار أن يؤكل، و قال: هو سحت»(3).

و حينئذٍ فالمال المأخوذ في ضمان آخذه و يجب عليه ردّه عيناً إن كانت باقية أو مثلاً أو قيمة إن كانت تالفة إلى صاحبه إن كان بالغاً و إلّا يردّه إلى وليّه، و إن كان الآخذ صبيّاً يردّه وليّه، و إن كان المالك مجهولاً مطلقاً أو في عدد غير محصور يتصدّق به عنه، و على القول بكون ولاية المال المجهول المالك مع الحاكم يدفعه إليه أو يتصدّق بإذنه، و إن كان مجهولاً في عدد محصور يجب محاللتهم و لو بالصلح.

و قد يقال: هنا بالصلح القهري، نظير ما ذكروه في التداعي فيما لو كان المال بين اثنين فصاعداً و أقام كلّ منهما بيّنة على التساوي من جميع الجهات أو حلفا معاً أو نكلا

ص: 347


1- البقرة: 188.
2- الوسائل 7/166:17، ب 35 ما يكتسب به، الكافي 10/124:5.
3- الوسائل 6/166:17، ب 35 ما يكتسب به، الكافي 6/123:5.

فالمال بينهما نصفين أو أثلاثاً أو أرباعاً، و الأولى في ذلك الصلح و هو أن يصالح كلّ من المتعدّدين(1) تمام ما ادّعاه، أو ما احتمل كونه له ببعضه و هو الّذي يأخذه على نسبة القسمة المذكورة.

و لو أكله حراماً أو نسياناً فتذكّر فهل يجب استفراغه ما دام في المعدة ؟ قيل: نعم، استناداً إلى رواية عبد الحميد بن سعيد المتقدّمة في فعل أبي الحسن عليه السلام. و الأقوى العدم، للأصل استضعافاً للرواية سنداً بسهل بن زياد و دلالة إذ ليس فيها إلّا فعل المعصوم وجهته مجهولة، و لعلّه للتنزّه أو لئلّا يصير الحرام جزءاً لبدنه الشريف، و وجوب التأسّي في مثله غير ثابت، و أقصاه الرجحان و بلوغه حدّ الوجوب غير واضح، مع أنّ الاستفراغ إن كان لردّه إلى صاحبه ففيه أنّه خرج عن الماليّة و كان في حكم التلف فرجع الردّ إلى البدل مثلاً أو قيمة، و إن كان لحرمة استبقائه في المعدة أو لحرمة جعله جزءاً للبدن فلا دليل على شيء منهما.

و هل يحرم الحضور في مجلس القمار و النظر إليه ؟ لم نقف على قائل صريح بالتحريم، نعم يقتضيه إطلاق الشهيد في الدروس حيث عدّ من أمثلة ما حرم لعينه «الحضور في مجالس المنكر لغير الإنكار أو الضرورة»(2) و يظهر من السيّد في الرياض كونه قولاً محقّقاً بل اشتهاره و كان متردّداً في بلوغه الإجماع حيث إنّه بعد ما ذكر أنّه يستفاد ممّا استفاض من الأخبار حرمة الحضور في المجالس الّتي يلعب فيها بها و النظر إليها و ذكر هذه الأخبار قال: «إلّا أنّ في إثبات التحريم بذلك إشكالاً إلّا أن يكون إجماعاً»(3) و أمّا الأخبار المشار إليها الّتي يستفاد منها التحريم:

فكالمرويّ عن مستطرفات السرائر نقلاً من كتاب جامع البزنطي عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «بيع الشطرنج حرام، و أكل ثمنه سحت، و اتّخاذها كفر، و اللعب بها شرك، و السلام على اللاهي بها معصية و كبيرة موبقة، و الخائض يده كالخائض يده في لحم الخنزير، و لا صلاة له حتّى يغسل يده كما يغسلها من مسّ لحم الخنزير، و الناظر إليها كالناظر في فرج اُمّه، و اللاهي بها و الناظر إليها في حال ما يلهى بها و السلام على اللاهي بها في حالته تلك في الإثم سواء، و من جلس على اللعب بها فقد تبوّأ مقعده من

ص: 348


1- كذا في الأصل، و الصواب: المتداعيين.
2- الدروس 163:3.
3- الرياض 170:8.

النار، و كان عيشه ذلك حسرة عليه في يوم القيامة، و إيّاك و مجالسة اللاهي و المغرور بلعبها فإنّها من المجالس الّتي باد أهلها بسخط من الله يتوقّعونه في كلّ ساعة فيعمّك معهم»(1).

و صحيح حمّاد بن عيسى قال: «دخل رجل من البصريّين على أبي الحسن الأوّل عليه السلام فقال له: جعلت فداك إنّي أقعد مع قوم يلعبون بالشطرنج و لست ألعب بها، و لكنّي أنظر، فقال: ما لك! و لمجلس لا ينظر اللّٰه إلى أهله»(2).

و خبر سليمان الجعفري عن أبي الحسن الرضا عليه السلام قال: «المطّلع في الشطرنج كالمطّلع في النار»(3).

و هذه الأخبار كما ترى واضح الدلالة على حرمة كلّ من الحضور و النظر و لا صارف لها من إجماع على الخلاف و غيره، نعم هي مخصوصة بالشطرنج و لعلّ التعدّي إلى غيرها يتمّ بالإجماع على عدم الفصل إن ثبت.

و من مشايخنا وفاقاً لما سمعت من الشهيد من قال: «لا يبعد القول بحرمة الجلوس في مجالس المنكر ما لم يكن للردّ أو للضرورة بل كان للتنزّه و نحوه ممّا يندرج به في اسم اللاهين و اللاعبين خصوصاً في مثل حضور مجلس الطبل و الرقص و نحوهما من الأفعال الّتي لا يشكّ أهل الشرع و العرف في تبعيّة حاضريها في الإثم لأهلها، بل هم أهلها في الحقيقة، ضرورة أنّ الناس لو تركوا حضور أمثال هذه المجالس لم يكن اللاهي و اللاعب يفعلها لنفسه كما هو واضح»(4).

أقول: يمكن استفادة هذا الحكم العامّ من ذيل صحيح حمّاد حيث قال عليه السلام: «ما لك و لمجلس لا ينظر اللّٰه إلى أهله» بتقريب أنّ اللّٰه سبحانه لا ينظر إلى أهالي مجالس المعصية عموماً، فإنكاره عليه السلام للحضور فيها يعمّ الجميع.

الثانية: اللعب بتلك الآلات من غير رهن،

و في تحريمه و العدم وجهان بل قولان، و مستند القول بعدم الوجوب الأصل و اختصاص أدلّة تحريم القمار بما كان فيه رهن،

ص: 349


1- الوسائل 4/223:17، ب 103 ما يكتسب به، مستطرفات السرائر: 29:59.
2- الوسائل 1/222:17، ب 103 ما يكتسب به، الكافي 12/437:6.
3- الوسائل 2/222:17، ب 103 ما يكتسب به، الكافي 16/437:6.
4- الجواهر 111:22.

إمّا لدخوله في مفهومه أو لانصراف مطلقاته إلى ما فيه لأنّه الغالب. و دعوى أنّ هذا غلبة وجود و المعتبر في الصرف غلبة الإطلاق، يدفعها ثبوت الغلبة في المشتمل على الرهن بحسب الإطلاق أيضاً.

و توهّم: الاستناد للتحريم حينئذٍ إلى كونه لهواً و هو حرام، يدفعه منع قيام الدليل على تحريم اللهو بقول مطلق.

و الأقوى هو التحريم من جهة الروايات الدالّة عليه عموماً و خصوصاً.

أمّا الأوّل: فما في رواية تحف العقول من قوله عليه السلام: «و كذلك كلّ مبيع ملهوّ به... إلى أن قال: فهو حرام محرّم بيعه و شراؤه و إمساكه و ملكه وهبته و عاريته و جميع التقلّب فيه إلّا في حال تدعو الضرورة فيه إلى ذلك» و كذلك قوله الآخر: «و ما يكون منه و فيه الفساد محضاً، و لا يكون منه و لا فيه شيء من وجوه الصلاح فحرام تعليمه و تعلّمه، و العمل به و أخذ الاُجرة عليه، و جميع التقلّب فيه من جميع وجوه الحركات».

و الخبر المرويّ عن كتاب المجالس للشيخ الحسن بن محمّد الطوسي رحمه الله بسنده عن عليّ بن موسى الرضا عن آبائه عن أمير المؤمنين عليهم السلام قال: «كلّ ما ألهى عن ذكر اللّٰه فهو من الميسر»(1) و لا ريب أنّ اللعب بتلك الآلات مطلقاً ممّا يلهى عن ذكر اللّٰه، و مقتضى كونه كذلك عموم التحريم في أدلّة تحريم الميسر كما هو واضح.

و رواية عبد اللّه بن المغيرة الّذي قيل فيه إنّه من أصحاب الإجماع رفعه قال: «قال رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم في حديث: كلّ لهو المؤمن باطل إلّا في ثلاث: في تأديبه الفرس، و رميه عن قوسه، و ملاعبته امرأته فإنهنّ حقّ »(2).

و أمّا الثاني: فأخبار مستفيضة، مثل الخبر المتقدّم في المسألة الاُولى عن جامع البزنطي، و فيه مواضع عديدة من الدلالة.

و خبر أبي الربيع الشامي عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «سئل عن الشطرنج و النرد؟ فقال:

لا تقربوهما...»(3) الحديث. و هذا كما ترى نهي عن جميع أفراد قربهما الّذي منه اللعب

ص: 350


1- الوسائل 15/315:17، ب 100 ما يكتسب به، أمالي الطوسي 345:1.
2- الوسائل 3/493:17، ب 7 أحكام الدوابّ ، الكافي 13/50:5.
3- الوسائل 10/320:17، ب 102 ما يكتسب به، معاني الأخبار الرضا: 1/224.

بهما و لو بغير رهن.

و خبر أبي الجارود المرويّ عن تفسير عليّ بن إبراهيم عن أبي جعفر عليه السلام في قول اللّٰه تعالى «إِنَّمَا اَلْخَمْرُ وَ اَلْمَيْسِرُ وَ اَلْأَنْصٰابُ وَ اَلْأَزْلاٰمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطٰانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ » (1) قال: أمّا الخمر فكلّ مسكر من الشراب... إلى أن قال: و أمّا الميسر فالنرد و الشطرنج و كلّ قمار ميسر... إلى أن قال: كلّ هذا بيعه و شراؤه و الانتفاع بشيء من هذا حرام من اللّٰه محرّم...»(2) الخ. و المراد من القمار آلاته لا معناه المصدري و هو المقامرة بقرينة قوله عليه السلام: «و أمّا الميسر فالنرد و الشطرنج» و كذلك البيع و الشراء لعدم تعلّقهما بالفعل، و تحريم الانتفاع به يعمّ ما نحن فيه أيضاً. و توهّم: أنّه يوجب ظهور كون المراد صورة الرهن لأنّه الّذي ينتفع به لا الخالي من الرهن، يدفعه: أنّ في الخالي أيضاً انتفاعاً كالتلذّذ أو الاشتغال عن هموم الدنيا و ازدياد القوّة الفكريّة و الغلبة على الحريف و ما أشبه ذلك، فإطلاق الانتفاع المحرّم يعمّ جميع أفراده الّتي منها ما نحن فيه.

و خبر يعقوب بن يزيد عن بعض أصحابنا قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن اللعب بالشطرنج ؟ فقال: الشطرنج من الباطل»(3) يدلّ على أنّ اللعب بالشطرنج يحرم باعتبار كونه باطلاً فيعمّ الخالي من الرهن لأنّه أيضاً من الباطل.

و نحوه في الدلالة خبر الفضيل قال: «سألت أبا جعفر عليه السلام عن هذه الأشياء الّتي يلعب بها الناس النرد و الشطرنج حتّى انتهيت إلى السدر؟ فقال: إذا ميّز اللّٰه الحقّ من الباطل مع أيّهما يكون ؟ قال: مع الباطل، قال: فما لك و للباطل»(4).

و نحوه موثّق زرارة عن أبي عبد اللّه عليه السلام «أنّه سئل عن الشطرنج و عن لعبة شبيب الّتي يقال لها: لعبة الأمير، و عن لعبة الثلث ؟ فقال: أ رأيت إذا ميّز اللّٰه الحقّ و الباطل مع أيّهما تكون ؟ قال: مع الباطل، قال: فلا خير فيه»(5).

قيل في وجه الدلالة في هذه الثلاث و نظائرها: إنّ مقتضى إناطة الحكم بالباطل

ص: 351


1- المائدة: 90.
2- الوسائل 12/321:17، ب 102 ما يكتسب به، تفسير القمي 180:1.
3- الوسائل 13/321:17، ب 102 ما يكتسب به، تفسير العياشي 153/315:2.
4- الوسائل 3/324:17، ب 104 ما يكتسب به، الكافي 9/436:6.
5- الوسائل 5/319:17، ب 102 ما يكتسب به، الكافي 10/436:6.

و اللعب عدم اعتبار الرهن في اللعب بهذه الأشياء، و لا يجري دعوى الانصراف هنا.

الثالثة: في اللعب بغير الآلات المعمولة في القمار

الّذي يقال له المغالبة و المراهنة أيضاً إذا كان مع الرهان، كالمصارعة و المسابقة بالركض و المغالبة بتشبيك الأصابع أو بالخطّ أو بالمشاعرة أو بالكبش أو الديك أو الأسد أو الجاموس أو العوامل و ما أشبه ذلك، و لا خلاف لأحد في فساد هذه المعاملة بجميع أنواعها إذا كانت مع الرهان، فلا يخرج عن ملك صاحبه فيكون أخذه و التصرّف فيه أكلاً للمال بالباطل. فيحرم بنصّ الآية، فالفساد ممّا لا بحث فيه هنا. بل الكلام في حكمها التكليفي و هو الحرمة و عدمها، فإن كانت مع الرهان فعن العلّامة الطباطبائي في مصابيحه(1) التصريح بعدم الخلاف في الحرمة و الفساد، و قضيّة الإجماعات المنقولة في حرمة ما لا رهان فيه كما ستعرفه أن يكون الحرمة هنا أيضاً إجماعيّة بل بطريق أولى.

و قيل: إنّه ظاهر كلّ من نفى الخلاف في تحريم المسابقة فيما عدا المنصوص مع العوض و جعل محلّ الخلاف فيها بدون العوض، فإنّه بظاهره يعطي أنّ محلّ الخلاف هنا هو محلّ الوفاق هناك، بل عن تذكرة العلّامة في خصوص المصارعة «أنّه لا تجوز المسابقة على المصارعة بعوض و لا بغير عوض عند علمائنا أجمع لعموم النهي إلّا في الثلاثة الخفّ و الحافر و النصل»(2) و مع هذا كلّه فبعض مشايخنا(3) صار هنا أيضاً إلى الجواز كما صار إليها فيما لا رهان فيه الّذي نسب السيّد في الرياض(4) التحريم فيه إلى الأكثر، و عن المسالك(5) أنّه وصفه بالأشهريّة، و حكى السيّد عن جماعة نقل الإجماع عليه كالمهذّب البارع(6) و جامع المقاصد(7) و الفاضل و قد سمعت إجماعه في التذكرة(8)و عن صاحب الكفاية(9) عن الشيخ في المبسوط(10) الإجماع عليه أيضاً، و السيّد(11) مع ما عرفت منه خالف الأكثر فصار إلى الجواز، و وافقه شيخنا في الجواهر(12).

فقد ظهر بما حرّرناه اختلاف أقوال الأصحاب في حكم المغالبة تكليفاً و هي

ص: 352


1- المصابيح: 22.
2- التذكرة 354:2.
3- الجواهر 109:22.
4- الرياض 237:10.
5- المسالك 381:1.
6- المهذّب البارع 82:3.
7- جامع المقاصد 326:8.
8- التذكرة 354:2.
9- الكفاية: 137.
10- المبسوط 290:6.
11- الرياض 238:10.
12- الجواهر 218:28-219.

الحرمة مع الرهان و بدونه، و الجواز فيهما، و الحرمة مع الرهان و الجواز بدونه. و الأقوى القول الأوّل، لنا عموم المرويّ عن المجالس من قول مولانا أمير المؤمنين: «كلّ ما ألهى عن ذكر اللّٰه فهو من الميسر»(1) و عموم ما في رواية ابن المغيرة المتقدّمة من قوله صلى الله عليه و آله و سلم:

«كلّ لهو المؤمن باطل إلّا في ثلاث»(2) و لا ريب في كون اللعب بالمراهنة بل مطلق المغالبة و المسابقة لهواً و ملهياً عن ذكر اللّٰه فيحرم.

و الظاهر أنّ موضوع اللهو الّذي اُخذ منه الإلهاء موكول إلى العرف فلا ينتقض بفعل المباحات الأصليّة، أو يقال: إنّ ملاكه التلذّذ النفساني الغير المعتدّ به عند العقلاء أو ما لم يتعلّق به غرض عقلائي هذا، مضافاً فيما فيه رهان إلى قول الصادق عليه السلام: «أنّ الملائكة لتنفر عند الرهان و تلعن صاحبه ما خلا الحافر و الخفّ و النصل»(3) و إلى خبر العلاء بن سيّارة عن أبي عبد اللّه عليه السلام في حديث قال: «إنّ الملائكة تحضر الرهان في الخفّ و الحافر و الريش و ما سوى ذلك فهو قمار حرام»(4) و لو تعلّق بشيء من هذه الأفعال غرض عقلائي يخرجه عن اللهو كالمصارعة لإصلاح المزاج و الركض لتقوية الطبيعة و ما أشبه ذلك فلا ينبغي التأمّل في الجواز.

و قد يستدلّ على الحرمة بعموم قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «لا سبق إلّا في ثلاثة الخفّ و الحافر و النصل»(5) فإنّه يدلّ على حصر الجواز في الثلاثة فيحرم ما عداها و هو عامّ . و ردّ بأنّه إنّما يسلّم على احتمال السكون في لفظ «سبق» لأنّه حينئذٍ معنى مصدري بمعنى المسابقة، و أمّا على قراءة الفتح و هو حينئذٍ بمعنى المال المبذول للسابق فغايته الدلالة على حرمة المال و هي لا تلازم حرمة الفعل. و احتمال السكون معارض باحتمال الفتح و لا مرجّح، فحصل الإجمال المانع من الاستدلال.

أقول: يمكن منع الدلالة على احتمال السكون أيضاً، لأنّ كلمة «لا» النافية للجنس بعد تعذّر حقيقتها ظاهرة في نفي الصحّة لأنّها أقرب إلى الحقيقة عرفاً و اعتباراً

ص: 353


1- تقدّم في الصفحة: 350.
2- تقدّم في الصفحة: 350.
3- الوسائل 3/413:27، ب 54 كتاب الشهادات، الفقيه 88/30:3.
4- الوسائل 2/413:27، ب 54 كتاب الشهادات، التهذيب 785/284:6.
5- الوسائل 4/253:19، ب 3 ما يجوز السبق و الرماية، قرب الإسناد: 42.

فلا تصرف منه إلى نفي الجواز لأنّه مجاز بعيد لهذه اللفظة، فغايتها الدلالة حينئذٍ على فساد المعاملة الرهانيّة في غير الثلاثة و هي لا تلازم الحرمة.

و تمسّك بعض مشايخنا(1) لما صار إليه من الجواز بالأصل، و انصراف أدلّة القمار إلى غير ما نحن فيه، و السيرة القطعيّة من الأعوام و العلماء في المغالبة بالأبدان و غيرها، و قد روي(2) مصارعة الحسن و الحسين بمحضر من النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم.

و في الجميع ما لا يخفى، إذ الأصل يخرج عنه بما سمعت، و لا انصراف فيه، و السيرة المدّعاة على وجه تكشف عن التقرير و الرضا ممنوعة، و تحقّقها على وجه القطع فيما بين المعتبرين من العلماء من الخلف و السلف غير معلوم و عمل البعض لا حجّية فيه، و تحقّقها فيما بين الجهّال من العوام ممّا لا ينبغي الاعتداد به، و مصارعة الحسنين رواية لم يعلم العمل بها من الأصحاب، و لو سلّم فلعلّ الجواز في حقّهما لكونهما بحسب الظاهر في سنّ الطفوليّة فكيف يستدلّ به على الجواز في حقّ المكلّفين البالغين، و مع هذا كلّه فهي قضيّة في واقعة و لا مقتضي للتعدّي إلى غيرها إلّا القياس المحرّم، مع احتمال تطرّق النسخ كما يساعد عليه عمومات المنع و غيرها حسبما عرفت.

ص: 354


1- الجواهر 109:22.
2- ذخائر العقبى: 134، كنز العمّال 107:7.

النوع العاشر الغشّ بما يخفى

اشارة

و ليعلم أوّلاً أنّه قال صاحب القاموس في مادّة الغشّ : غشّه لم يمحضه النصح أو أظهر له خلاف ما أضمر كغشَّشه، و الغشّ بالكسر الاسم منه... إلى أن قال: و المغشوش الغير الخالص، و الغشّ محرّكة الكدر المشوب...»(1) إلى آخر ما ذكره.

و يستفاد من كلامه مجيء الغشّ لمعان: عدم إمحاض النصح، و أن يظهر له خلاف ما أضمر، و أن يفعل في الشيء ما يخرجه عن كونه خالصاً و هو أن يشوبه بغير جنسه كشوب اللبن بالماء و مزج الحنّاء بقشر الرمّان و خلط الطحين بدقيق الشعير أو الدخن و ما أشبه ذلك، فالشيء المشوب فيه يقال له: المغشوش، أي الغير الخالص.

و أوّل هذه المعاني خارج عن محلّ البحث و إن كان هو أيضاً محرّماً لأنّه عبارة عن أن يشوب الناصح في نصيحته الواجبة عليه خصوصاً في حقّ المستشير خلاف النصيحة بصورتها بحيث لا يلتفت إليه صاحبه، و لا ريب في حرمته و لكنّه لا دخل له بموضوع المسألة.

و كذلك المعنى الثاني و إن كان هو أيضاً محرّماً، لأنّه عبارة من أن يضمر إنسان في حقّ المؤمن خيانة فيظهره له بصورة النصيحة، و يقال له: المكر أيضاً المنصوص على حرمته فتوى و نصّاً كتاباً و سنّة، و إن كان ربّما أمكن توجيهه بحيث يعمّ بعض أفراد موضوع المسألة بجعل الإضمار أعمّ من إضمار الخيانة و إخفاء عيب المال، إلّا أنّه

ص: 355


1- القاموس 281:2 مادّة (غش).

خلاف الظاهر لظهور الإضمار في أمر قلبي.

و أمّا المعنى الثالث فهو من موضوع المسألة إلّا أنّ معقد فتاوي الأصحاب و مورد الأدلّة من الإجماعات و الروايات أعمّ منه لجهات، فإنّ الغشّ قد يكون بإدخال غير الجنس في الجنس كمزج اللبن بالماء و الحنّاء بقشر الرمّان و الطحين بدقيق الشعير أو الدخن و الحنطة بالتراب أو بالشعير.

و قد يكون بإدخال الرديء من الجنس بجيّده كخلط الحنطة الجيّدة بالرديئة و السمن الجيّد بالرديء منه.

و قد يكون بإظهار الشيء بغير جنسه بنحو من التمويه كطلي الصفر بماء الفضّة و إظهاره فضّة و طلي الرصاص بماء الذهب و إظهاره ذهباً و يقال له المموّه و منه إظهار لبن البقر باسم لبن الضأن أو المعز و إظهار لحم البقر أو البعير باسم لحم الغنم و إظهار دبس التمر باسم دبس العنب.

و قد يكون بإظهار صفة جيّدة للشيء مفقودة فيه واقعاً.

و قد يكون بإخفاء عيب الشيء و هذا أعمّ من الحقيقي و الحكمي، و منه بيع المتاع المعيوب أو الرديء في الظلال على ما ورد في رواية هشام بن الحكم قال: «كنت أبيع السابري(1) في الضلال، فمرّ بي أبو الحسن عليه السلام فقال: يا هشام إنّ البيع في الظلال غشّ و الغشّ لا يحلّ »(2).

و قد يكون بإحداث صفة في الشيء كرشّ التنباكو بماء البقم و نحوه ليعتريه اللون الجيّد، و منه وضع الإبريسم في مكان رطب أو بارد ليكتسب ثقلاً.

ثمّ إنّ الخلط و المزج قد يكون بما لا يخفى على المشتري كخلط الحنطة بالتراب أو بالشعير و الأبيض منها بالأحمر و ما أشبه ذلك، و هذا ممّا لا حرمة فيه قولاً واحداً، بل قد يقال بخروجه عن موضوع الغشّ لما يعتبر فيه كون المزج بما لا يظهر، و كذلك غير المزج من الأنواع المذكورة فيعتبر في الجميع كونه بما يخفى.

ص: 356


1- و هو ضرب من الثياب الرقاق يعمل بسابور و هو موضع بفارس عن مغرب. منه.
2- الوسائل 3/28:17، ب 86 ما يكتسب به، الكافي 6/160:5.

و ينبغي أن يقيّد بكون الخفاء و عدم الظهور لذاته لا لمسامحة المشتري في التحرّي، فإنّه لو كان على هذا الوجه لا حرمة فيه و لا أظنّ قائلاً بحرمته.

ثمّ الغشّ بما يخفى في جميع أنواعه قد يكون لغرض آخر غير البيع و هذا أيضاً ليس بمحرّم بالضرورة. و ما كان منه للبيع قد يكون البائع يعلم المشتري بغشّه، و هذا أيضاً لا حرمة فيه قولاً واحداً. فموضوع المسألة هو الغشّ بما لا يعرفه المشتري إلّا بإعلام البائع و هو لا يعلمه، و حينئذٍ فغشّ المسلم على ما ورد في الأخبار إنّما يكون ببيعه المغشوش من المسلم، و إطلاق الغشّ على البيع حينئذٍ كما في قوله عليه السلام: «ليس من المسلمين من غشّهم»(1) و قوله أيضاً: «من غشّ الناس فليس بمسلم»(2) و قوله أيضاً:

«ليس منّا من غشّ مسلماً أو ماكره»(3) مجازي من باب وصف الشيء بصفة متعلّقه، فإنّ الوصف حاصل في المبيع لا في نفس البيع.

و يمكن كون القدر الجامع بين الأنواع المذكورة هو الخيانة و هي المرادة من الغشّ كما يقتضيه كلام بعض أهل اللغة و يقتضيه المقابلة بينه و بين النصح، و يساعد عليه بعض الروايات الآتية فيكون إطلاق الغشّ على البيع حينئذٍ لأجل كونه مصداقاً له، على معنى أنّ البيع في جميع الأنواع المذكورة خيانة.

ثمّ إنّ الغشّ بمعنى بيع المغشوش قد يتكلّم فيه من حيث حكمه التكليفي و هو الحرمة و عدمها، و قد يتكلّم فيه من حيث حكمه الوضعي على تقدير و هو الفساد و عدمه،

فالبحث يقع في مقامين:
المقام الأوّل: فالمعروف من مذهب الأصحاب من غير خلاف يظهر كما في كلام جماعة حرمة الغشّ ،

و عن المنتهى(4) التصريح بذلك، و النصوص به مع ذلك متظافرة بل قيل متواترة، ففي صحيح هشام بن سالم على الصحيح عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «قال

ص: 357


1- الوسائل 2/279:17، ب 86 ما يكتسب به، الكافي 2/160:5.
2- الوسائل 11/283:17، ب 86 ما يكتسب به، عقاب الأعمال: 334.
3- الوسائل 12/283:17، ب 86 ما يكتسب به، عيون أخبار الرضا عليه السلام 26/29:2.
4- المنتهى 1012:2.

رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم لرجل يبيع التمر: يا فلان، أما علمت أنّه ليس من المسلمين من غشّهم»(1).

و صحيح هشام بن الحكم قال: «كنت أبيع السابريّ في الظلال، فمرّ بي أبو الحسن الأوّل موسى عليه السلام فقال: يا هشام، إنّ البيع في الظلال غشّ ، و الغشّ لا يحلّ »(2).

و في حديث المناهي عن رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم إنّه قال: «و من غشّ مسلماً في شراء و بيع فليس منّا، و يحشر يوم القيامة مع اليهود لأنّهم أغشّ الخلق للمسلمين»(3).

و عن عقاب الأعمال بسنده عن رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم قال - في حديث -: «و من غشّ مسلماً في شراء أو بيع فليس منّا و يحشر مع اليهود يوم القيامة، لأنّه من غشّ الناس فليس بمسلم... إلى أن قال: ثمّ قال رسول اللّٰه: ألا و من غشّنا فليس منّا قالها ثلاث مرّات، و من غشّ أخاه المسلم نزع اللّٰه بركة رزقه و أفسد عليه معيشته و وكله إلى نفسه»(4).

و عن عيون الأخبار بأسانيده عن الرضا عليه السلام عن آبائه قال: «قال رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم:

ليس منّا من غشّ مسلماً أو ضرّه أو ماكره»(5).

و عن السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السلام «قال: نهى النبيّ صلى الله عليه و آله أن يشاب اللبن بالماء للبيع».

و عن موسى بن بكر قال: «كنّا عند أبي الحسن عليه السلام و إذا دنانير مصبوبة بين يديه، فنظر إلى دينار فأخذه بيده ثمّ قطعه بنصفين، ثمّ قال لي: ألقه في البالوعة حتّى لا يباع بشيء فيه غشّ »(6).

و عن الحسين بن زيد الهاشمي عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «جاءت زينب العطّارة الحولاء إلى نساء النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم و بناته، و كانت تبيع منهنّ العطر، فجاء النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم و هي عندهنّ ، فقال: إذا أتيتنا طابت بيوتنا، فقالت: بيوتك بريحك أطيب يا رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم قال: إذا بعت فأحسني و لا تغشّي فإنّه أتقى و أبقى للمال»(7).

ص: 358


1- الوسائل 2/279:17، ب 86 ما يكتسب به، الكافي 2/160:5.
2- الوسائل 3/280:17، ب 86 ما يكتسب به، الكافي 6/160:5.
3- الوسائل 10/282:17، ب 86 ما يكتسب به، الفقيه 1/8:4.
4- الوسائل 11/283:17، ب 86 ما يكتسب به، عقاب الأعمال: 334.
5- الوسائل 12/238:17، ب 86 ما يكتسب به، عيون أخبار الرضا عليه السلام 26/29:2.
6- الوسائل 5/28:17، ب 86 ما يكتسب به، الكافي 3/160:5.
7- الوسائل 6/281:17، ب 86 ما يكتسب به، الكافي 143/153:8.

و في رواية سعد الإسكاف عن أبي جعفر عليه السلام قال: «مرّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في سوق المدينة بطعام، فقال لصاحبه: ما أرى طعامك إلّا طيّباً، و سأله عن سعره، فأوحى اللّٰه عزّ و جلّ إليه أن يدسّ يده في الطعام، ففعل فأخرج طعاماً رديئاً، فقال لصاحبه: ما أراك إلّا و قد جمعت خيانة و غشّاً للمسلمين»(1).

و في مرسلة عبيس بن هشام عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «دخل عليه رجل يبيع الدقيق، فقال: إيّاك و الغشّ فإنّه من غَشّ غُشّ في ماله، فإن لم يكن له مال غُشّ في أهله»(2).

و في رواية الحلبي قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الرجل يشتري طعاماً فيكون أحسن له و أنفق أن يبلّه من غير أن يلتمس زيادة ؟ فقال: ان كان بيعاً لا يصلحه إلّا ذلك و لا ينفعه غيره، من غير أن يلتمس فيه زيادة فلا بأس، و إن كان إنّما يغشّ به المسلمين فلا يصلح»(3).

و روايته الاُخرى قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الرجل يكون عنده لونان من الطعام سعرهما بشيء، و أحدهما أجود من الآخر فيخلطهما جميعاً ثمّ يبيعهما بسعر واحد؟ قال: لا يصلح له أن يغشّ المسلمين حتّى يبيّنه»(4).

و صحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام أنّه سئل عن الطعام يخلط بعضه ببعض، و بعضه أجود من بعضه ؟ قال: إذا رُئيا جميعاً فلا بأس ما لم يغطّ الجيّد الرديء»(5).

و رواية داود بن سرحان قال: «كان معي جربان من مسك أحدهما رطب و الآخر يابس، فبدأت بالرطب فبعته، ثمّ أخذت اليابس أبيعه، قال: أنا لا اُعطي باليابس الثمن الّذي يسوى و لا يزيدوني على ثمن الرطب، فسألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن ذلك أ يصلح لي أن أنديه ؟ قال: لا، إلّا أن تعلّمهم، قال: فنديته ثمّ أعلمتهم، قال: لا بأس»(6).

ص: 359


1- الوسائل 8/282:17، ب 86 ما يكتسب به، الكافي 7/161:5.
2- الوسائل 7/281:17، ب 86 ما يكتسب به، الكافي 7/161:5.
3- الوسائل 3/113:18، ب 9 أحكام العيوب، الكافي 3/183:5.
4- الوسائل 2/112:18، ب 9 أحكام العيوب، الكافي 2/183:5.
5- الوسائل 1/112:18، ب 9 أحكام العيوب، الكافي 1/183:5.
6- الوسائل 4/113:18، ب 9 أحكام العيوب، الفقيه 628/143:3.

و هذه الروايات كما ترى في الدلالة على المنع تعمّ الأنواع المتقدّمة بأجمعها خصوصاً إذا اعتبرنا الغشّ بمعنى الخيانة، كيف و أنزل المراتب بيع الشيء في الظلال و قد نصّت رواية هشام بن الحكم بكونه غشّاً و أنّه لا يحلّ ، و في جملة منها الدلالة على اعتبار الخفاء و عدم الظهور على المشتري في الغشّ المحرّم، كدلالة جملة منها على خروجه عن الحكم أو الموضوع بإعلام البائع و بيانه.

المقام الثاني: في حكم الغشّ من حيث فساد المعاملة و عدمه،

لمصير جماعة منهم ثاني(1) الشهيدين و تبعه محقّقو مشايخنا(2) إلى العدم و لعلّه مذهب الأكثر، خلافاً للمحكيّ عن المحقّق الأردبيلي(3) لمصيره إلى الفساد استناداً إلى ورود النهي فيكون المغشوش منهيّاً عن بيعه. و يظهر من المحكيّ عن المحقّق الثاني في جامع المقاصد التردّد، حيث إنّه بعد ما ذكر الغشّ بما يخفى و مثّل له بمزج اللبن بالماء ذكر في صحّة المعاملة و فسادها وجهين: «من حيث إنّ المحرّم هو الغشّ و المبيع عين مملوكة ينتفع بها، و من أنّ المقصود بالبيع هو اللبن و الجاري عليه العقد هو المشوب»(4).

و حاصل وجه الصحّة أنّ النهي تعلّق بالغشّ و هو أمر خارج عن المعاملة، و المقصود من العقد بيع هذا اللبن المشوب و هو عين مملوكة ينتفع بها فيصحّ ، لأنّه عقد وقع من أهله في محلّه. و حاصل وجه الفساد أنّ مقصود المتعاقدين في البيع هو اللبن و العقد وقع على المشوب، فما قصد لم يقع و ما وقع لم يقصد فيفسد، لأنّ العقود يتبع القصود. و لذا يظهر من ذيل عبارته بناء الوجهين على الإشكال في مسألة تعارض الإشارة و الاسم و أنّه يبني فيها على تغليب الإشارة أو على تغليب الاسم، كما لو باع هذا الفرس فبان حماراً، و معنى تغليب الإشارة في مورد هذا المثال استظهار أنّ

ص: 360


1- المسالك 129:3.
2- الجواهر 112:22.
3- مجمع الفائدة 83:8.
4- جامع المقاصد 25:4.

المقصود بالذات هو البيع للحمار، و اسم الفرس وقع عليه خطأ، و عليه مبنيّ احتمال الصحّة لوقوع العقد على ما قصد، و معنى تغليب الاسم استظهار أنّ المقصود بالذات هو البيع للفرس و الإشارة و إجراء العقد على المشار إليه وقع خطأ، و عليه مبنيّ احتمال الفساد لعدم وقوع ما قصد.

و منشأ الإشكال اشتباه الدلالة اللفظيّة لهذه العبارة و نظائرها، و تحقيق المقام مبنيّ على النظر في تشخيص المنهيّ عنه و متعلّق الحرمة هل هو الغشّ للبيع كما هو صريح قوله: «نهى النبيّ أن يشاب اللبن بالماء للبيع»(1) و هو أيضاً ظاهر حديثي المناهي و عقاب الأعمال بل ظاهر حديث زينب العطّارة، أو هو البيع لكونه غشّاً كما هو مقتضى حديث هشام بن الحكم في بيع السابري في الظلال، أو هو بيع المغشوش كما عليه مبنيّ قول الأردبيلي ؟

و دلالة النهي على فساد المعاملة إنّما يسلّم على هذا التقدير، لكون البيع حينئذٍ من المنهيّ عنه لنفسه فيفيد النهي إمّا شرطيّة الخلوص أو مانعيّة الخلط، و أيّاً ما كان فهو يفيد الفساد باعتبار انتفاء شرط الصحّة أو وجود مانع الصحّة على قياس ما هو الحال في النهي عن بيع الأعيان النجسة المقتضي لشرطيّة الطهارة الأصليّة في المبيع أو مانعيّة النجاسة الذاتيّة فيه عن الصحّة، و كذلك النهي عن بيع المغصوب المقتضي لشرطيّة المملوكيّة أو مانعيّة المغصوبيّة.

و أمّا على الوجهين الأوّلين: فلا يقتضي النهي المفروض فيهما فساد المعاملة، أمّا على الوجه الأوّل فلأنّ النهي متعلّق بالغشّ للبيع و هو لا يستلزم حرمة البيع فضلاً عن فساده، نظير النهي عن الكذب للبيع.

و أمّا على الوجه الثاني: فلأنّ النهي متعلّق بالبيع لأمر خارج أعمّ منه من وجه متّحد معه في الوجود، نظير المكالمة مع الأجنبيّة المنهيّ عنها المتّحدة مع البيع بالصيغة معها، و مثل هذا النهي لا يوجب فساد البيع لعدم كونه من المنهيّ لنفسه و لا لجزئه و لا لشرطه و لا لوصفه اللازم، و لقد عرفت أنّ قضيّة طائفة من أخبار الباب تعلّق النهي بالغشّ على الوجه الأوّل أو على الوجه الثاني، فيحمل على أحدهما مطلقات الأخبار كقوله: «ليس من المسلمين من غشّهم»(2) و «من غشّ الناس فليس منّا»(3) و ما أشبه ذلك.

ص: 361


1- الوسائل 4/280:17 ب 86 ما يكتسب به، الكافي 5/160:5.
2- الوسائل 2/279:17، ب 86 ما يكتسب به، الكافي 2/16:5.
3- الوسائل 11/283:17، ب 86 ما يكتسب به، عقاب الأعمال: 334.

و أمّا تعلّقه على الوجه الثالث: فممّا لا شاهد عليه في الروايات فلا يلتفت إلى احتماله.

و توهّم: وروده على هذا الوجه من حديث الدنانير المصبوبة حيث قال عليه السلام: - فيه بعد كسر الدينار المغشوش - «القه في البالوعة حتّى لا يباع بشيء فيه غشّ »(1) لعود ضمير «لا يباع» إلى ذلك الدينار المغشوش.

يدفعه أوّلاً: عدم كون هذه الرواية بظاهرها معمولاً بها، لعدم وجوب الكسر و لا الإلقاء في البالوعة. و لو سلّم فأقصى ما فيها من الدلالة إنّما هو الأمر بالإلقاء في البالوعة لا النهي عن البيع و لا ملازمة بينهما، و لو سلّم النهي أيضاً فقصارى ما فيه حرمة البيع، و أمّا أنّه لكونه غشّاً أو لكونه بيعاً للمغشوش فلا دلالة فيها على أحدهما صراحةً و لا ظهوراً، فيكون بالقياس إلى الوجه الثاني مجملة. على أنّه بعد الكسر قد ظهر ما خفي فيه من الغشّ ، و قد عرفت عدم الحرمة حينئذٍ.

و أمّا كلام المحقّق الثاني و بناؤه الفساد على مسألة تغليب الاسم ففيه: أنّ الأقوى و الأصحّ في مسألة تعارض الاسم و الإشارة نوعاً و إن كان تغليب الاسم أخذاً بما هو الظاهر المنساق من العبارة في متفاهم العرف - من كون قصد المتعاقدين إلى العنوان الواقع اسمه على الشخص الخارجي و هو المشار إليه الحاضر كالحمار في المثال المتقدّم فيكون وقوع الإشارة و جريان العقد عليه على الخطأ و الاشتباه، فالمقصود بالذات في نحو المثال إنّما هو بيع الفرس و شراؤه - إلّا أنّ اسمه لم يصادف مصداقه بل صادف مصداق غيره ممّا ليس مقصوداً بالذات، فيفسد العقد لأنّ ما قصد لم يقع العقد عليه و ما وقع العقد عليه لم يقصد.

و أمّا إدراج ما نحن فيه من الغشّ بإجراء العقد على المغشوش كاللبن المشوب و نحوه في عنوان هذه المسألة فليس على ما ينبغي، إذ لا تعارض فيه بين الاسم و الإشارة بل هما متطابقان، ضرورة أنّ مقصود البائع و المشتري بالبيع إنّما هو اللبن و له بحسب الخارج مصداقان صحيح و هو الخالص، و معيب و هو المشوب، و الاسم صادق عليهما حقيقة، إذ المفروض عدم كون الخلط و الشوب بحيث أخرجه عن اللبنيّة و إلّا

ص: 362


1- الوسائل 5/281:17، ب 86 ما يكتسب به، الكافي 3/160:5.

خرج عن موضع مسألة الغشّ و كان بيعه فاسداً، فلو قال: بعتك هذا اللبن مشيراً إلى المشوب، فقد باع ما هو من مصاديق العنوان المقصود بالبيع، فقد صادف الاسم و الإشارة محلّهما، و العقد جرى على ما هو من مصاديق المقصود فيكون صحيحاً، غاية الأمر كون المبيع معيوباً فيثبت للمشتري خيار العيب، و كذا الحكم من حيث ثبوت الخيار في سائر أنواع الغشّ بالبيع.

و يلحق بباب الغشّ أمران:
أحدهما: النجش بفتح النون و سكون الجيم،

و هو عبارة عن أن يزيد الرجل في قيمة سلعة رجل و هو لا يريد شراءها ليرغب فيه غيره فيزيد لزيادته، و هو سواء كان مع المواطاة مع البائع أو لا معها حرام شرعاً بلا خلاف ظاهراً، بل عن جامع المقاصد(1) نقل الإجماع عليه، و في النبويّ «لعن الناجش و المنجوش له»(2) و في آخر «لا تناجشوا»(3) و ربّما اُجبرا بالإجماع المنقول، بل قيل: قبيح عقلاً لأنّه غشّ و تلبيس و إضرار، و على تقدير كونه من الغشّ المنهيّ عنه يكفي في إثبات تحريمه كلّ ما دلّ على تحريم الغشّ من المطلقات.

و قد يفسّر النجش كما في القاموس(4) و المجمع «بأن يمدح السلعة في البيع ليروّجها و يقع غيره فيها»(5) مع المواطاة للصاحب أو لا معها(6) قيل: و حرمته بهذا التفسير خصوصاً لا مع المواطاة يحتاج إلى دليل، و حكي(7) الكراهة عن بعض.

أقول: كأنّه نزّله على كون المدح بما يستحقّها السلعة لاتّصافها بالصفة الممدوحة، و إلّا فلا ينبغي التأمّل في القبح و الحرمة لكونه كذباً و إغراء و تغريراً و إضراراً، بل ربّما يندرج في غشّ البائع إذا كان مع المواطاة كما لا يخفى.

و أمّا الكراهة في صورة الاستحقاق فهي أيضاً محتاجة إلى الدليل، و على القول

ص: 363


1- جامع المقاصد 39:4.
2- الوسائل 2/458:17، ب 49 آداب التجارة، الكافي 13/559:5.
3- الوسائل 4/459:17، ب 49 آداب التجارة، معانى الأخبار: 284.
4- القاموس المحيط 289:2.
5- مجمع البحرين 154:4.
6- المكاسب للشيخ الأنصاري 62:2.
7- مفتاح الكرامة 106:4.

بكفاية فتوى الفقيه في تسامح أدلّة السنن لا يبعد التزامها.

ثانيهما: تدليس الماشطة

الّتي يراد تزويجها أو الجارية الّتي يراد بيعها، و المراد به في كلام الأصحاب أعمّ من كتمان عيوبها أو إظهار محاسن لها ليست فيها ليرغب فيها الخاطبون و الراغبون، كتحمير وجهها و تسويم حواجبها لترى طويلة أو متقوّسة، و هو على المعروف من مذهب الأصحاب من غير خلاف يظهر حرام، و في الرياض(1)بلا خلاف، و عن الأردبيلي(2) الإجماع عليه، و هو مع ذلك إغرار و إغرار و إضرار فيقبح عقلاً بل غشّ بمعنى الخيانة أو عدم إمحاض فيعمّه دليل تحريمه.

و يدلّ عليه في الجملة الخبر المرويّ عن معاني الأخبار بسنده عن جعفر بن محمّد عليه السلام عن آبائه قال: «لعن رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم النامصة و المنتمصة و الواشرة و الموتشرة، و الواصلة و المستوصلة، و الواشمة و المستوشمة»(3).

قال الصدوق في شرح هذه الاُمور الأربع - ناقلاً عن عليّ بن غراب راوي الحديث -: «النامصة الّتي تنتف الشعر، و المنتمصة الّتي يفعل ذلك بها، و الواشرة الّتي تشر أسنان المرأة و تفلجها و تحدّدها، و الموتشرة الّتي يفعل ذلك بها، و الواصلة الّتي تصل شعر المرأة بشعر امرأة غيرها، و المستوصلة الّتي يفعل ذلك بها، و الواشمة الّتي تشم وشماً في يد المرأة أو في شيء من بدنها، و هو أن تغرر بدنها أو ظهر كفّها أو شيئاً من بدنها بإبرة حتّى تؤثّر فيه ثمّ تحشوه بالكحل أو بالنورة فتخضر»(4) انتهى. و اللعن ظاهر في التحريم، و إطلاقه يعمّ صورة التدليس من فعل هذه الاُمور بل هو القدر المتيقّن من الإطلاق.

و أمّا لو كان كتمان العيب أو إظهار الحسن لا للتدليس بل للزينة للزوج فالظاهر جوازه بلا خلاف يظهر، للأصل، مضافاً إلى النصوص - الدالّة على الرخصة في الزينة بل استحبابها للزوج - الّتي منها: رواية سعد الإسكاف قال: «سئل أبو جعفر عليه السلام عن القرامل الّتي تضعها النساء في رءوسهنّ يصلنه بشعورهنّ؟ فقال: لا بأس على المرأة

ص: 364


1- الرياض 172:8.
2- مجمع الفائدة 84:8.
3- الوسائل 7/133:17، ب 19 ما يكتسب به، معاني الأخبار: 1/249.
4- معاني الأخبار: 249.

بما تزيّنت به لزوجها، قال: فقلت: بلغنا أنّ رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم لعن الواصلة و الموصولة، فقال: ليس هنالك إنّما لعن رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم الواصلة الّتي تزني في شبابها فلمّا كبرت قادت النساء إلى الرجال فتلك الواصلة و الموصلة»(1).

فهذه الرواية كما ترى بإطلاقها بل عمومها يعمّ الاُمور الأربع المتقدّمة في حديث اللعن، فتدلّ على جوازها للزينة، فيتعارض مع هذا الحديث تعارض العامّين من وجه، و تخصيص حديث اللعن بصورة التدليس طريق جمع بينهما.

و العكس أيضاً بتخصيص رواية الزينة بما عدا الاُمور الأربع و إن كان محتملاً في بادئ النظر غير أنّه مزيّف باستلزامه تخصيص العامّ بالمورد و هو إخراج المورد عن تحته، فإنّ من الاُمور الأربع وصل شعر المرأة و هو مورد السؤال في الرواية.

إلّا أن يذبّ عن ذلك بأنّ أحد الاُمور الأربع وصل شعر المرأة بشعر امرأة اُخرى و مورد الرواية هو القرامل، و لعلّ المراد به وصل شعرها بصوف أو شعر معز كما ورد في عدّة أخبار، فلا يلزم المحذور المذكور بتخصيص الرواية بما عدا الاُمور الأربع.

و لكن يرد عليه أوّلاً: أنّ في بعض الأخبار ما يظهر كون القرامل للأعمّ ، كخبر عبد اللّه بن الحسن قال: «سألته عن القرامل ؟ قال: و ما القرامل ؟ قلت: صوف تجعله النساء في رءوسهنّ ، قال: إذا كان صوفاً فلا بأس، و إن كان شعراً فلا خير فيه من الواصلة و الموصولة»(2) فإنّ القرامل لو لا كونه أعمّ كان تفصيل الإمام عليه السلام لغواً.

و ثانياً: أنّ تحريم وصل الشعر بالشعر مطلقاً خلاف النصّ و الإجماع.

أمّا الأوّل: فلظهور «لا خير» في الخبر المتقدّم في الكراهة، و يفصح عنها بل يدلّ على الجواز ما تقدّم في خبر سعد الإسكاف من إنكاره عليه السلام لعن رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم الواصلة و الموصولة بمعنى واصلة الشعر، و صرفه اللفظين في قضيّة لعن رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم إلى معنى الزانية و القائدة.

و أمّا الثاني: فلما عن الخلاف(3) و المنتهى(4) من الإجماع على أنّه يكره وصل

ص: 365


1- الوسائل 3/132:17، ب 19 ما يكتسب به، الكافي 3/119:5.
2- الوسائل 5/132:17، ب 19 ما يكتسب به، التهذيب 1926/361:6.
3- الخلاف 492:1.
4- المنتهى 184:1.

شعرها بشعر غيرها رجلاً كان أو امرأة. و على هذا فتخصيص حديث اللعن بصورة التدليس متعيّن كتعيّن الجواز على كراهية في وصل الشعر بالشعر للزينة، و عليها يحمل النهي عنه في خبرين آخرين:

أحدهما: مرسلة ابن أبي عمير عن رجل عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «دخلت ماشطة على رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم فقال لها: هل تركت عملك أو أقمت عليه ؟ فقالت: يا رسول اللّٰه أنا أعمله إلّا أن تنهاني عنه فأنتهي عنه. فقال: افعلي فإذا مشطت فلا تجلي الوجه بالخرق، فإنّه يذهب بماء الوجه، و لا تصلي الشعر بالشعر»(1).

و الآخر: خبر القسم بن محمّد عن عليّ قال: «سألته عن امرأة مسلمة تمشّط العرائس ليس لها معيشة غير ذلك و قد دخلها ضيق ؟ قال: لا بأس، و لكن لا تصل الشعر بالشعر»(2) و أمّا ما عدا الوصل من الاُمور المذكورة في حديث اللعن بعد التخصيص المذكور فلا دليل على كراهته، و رواية سعد بعمومه يفيد الرخصة، و الأصل عدم الكراهة.

نعم على طريقة من يحمل اللعن على شدّة الكراهة جمعاً بينه و بين رواية الرخصة عموماً يتّجه القول بها في الجميع، غير أنّه في غاية الضعف إذ لا شبهة في حرمة هذه الأربع و غيرها في مقام التدليس فلا بدّ مع(3) الحمل المذكور، فلا محيص من تخصيص مع الحمل المذكور بإخراج صورة التدليس، و هذان تأويلان في الحديث بلا موجب لأحدهما فوجب الاقتصار على أحدهما، و هو التخصّص بإخراج صورة الزينة لحصول الجمع بذلك من دون مسيس الحاجة إلى الحمل على الكراهة. ثمّ بعد ما ثبت كون تدليس الماشطة محرّماً حرم التكسّب به و أخذ الاُجرة عليه. و نحو تدليس الماشطة تدليس المرأة بنفسها في الحرمة.

ص: 366


1- الوسائل 2/131:17، ب 19 ما يكتسب به، الكافي 2/119:5.
2- الوسائل 4/132:17، ب 19 ما يكتسب به، التهذيب 1030/359:6.
3- كذا، و الظاهر: من.

النوع الحادي عشر تزيين الرجل بما يحرم عليه

اشارة

و هو على أنواع:

منها: تزيينه بالذهب

و إن قلّ ، و بالحرير المحض عدا ما استثني، فإنّه حرام بالادلّة المتقدّمة في باب لباس المصلّي من الصلاة مشروحة فلا حاجة إلى الإعادة.

و منها: تزيينه بالزينة المختصّة بها من حليها،

كلبسه السواد و الخلخال.

و منها: لبسه الثياب المختصّة بها،

و يختلف ذلك باختلاف الأزمان و الأصقاع.

و الحرمة فيهما و إن وصفها في الرياض بكونه على الأظهر الأشهر، غير أنّ دليلها غير واضح عدا خبرين:

أحدهما: ما عن الكافي من قول أبي جعفر عليه السلام في حديث: «لعن اللّٰه المحلّل و المحلّل له... إلى أن قال: و المتشبّهين من الرجال بالنساء، و المتشبّهات من النساء بالرجال»(1).

و الآخر: ما عن العلل عن زيد بن عليّ عن آبائه عن عليّ عليهم السلام «أنّه رأى رجلاً به تأنيث في مسجد رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم فقال له: اخرج من مسجد رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم يا لعنة رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم، ثمّ قال عليّ عليه السلام: سمعت رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم يقول: لعن اللّٰه المتشبّهين من الرجال بالنساء، و المتشبّهات من النساء بالرجال»(2) قال الصدوق: و في حديث آخر

ص: 367


1- الوسائل 1/284:17، ب 87 ما يكتسب به، الكافي 27/69:8.
2- الوسائل 2/284:17، ب 87 ما يكتسب به، علل الشرائع: 63/602.

«أخرجوهم من بيوتكم فإنّهم أقذر شيء»(1).

و رمي بقصور الدلالة لأنّ الظاهر من التشبّه تأنث الذكر و تذكّر الاُنثى لا مجرّد لبس أحدهما لباس الآخر مع عدم قصد التشبّه، و ايّد بالخبر الثاني لمكان قوله صلى الله عليه و آله و سلم:

«رأى رجلاً به تأنيث» و برواية يعقوب بن جعفر الواردة في المساحقة «إنّ فيهنّ قال رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم: لعن اللّٰه المتشبّهات بالرجال من النساء...»(2) الخ، و رواية أبي خديجة عن أبي عبد اللّه عليه السلام «لعن رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم المتشبّهين من الرجال بالنساء، و المتشبّهات من النساء بالرجال، و هم المخنّثون و اللائي ينكحهن بعضهنّ بعضاً»(3).

و يمكن منع القصور بأنّ التشبّه من الجهة المذكورة لا ينافي التشبّه من جهة اللباس أيضاً و اللفظ عامّ ، و يؤيّده رواية سماعة عن أبي عبد اللّه عليه السلام «عن الرجل يجرّ ثيابه، قال: إنّي لأكره أن يتشبّه بالنساء»(4) و عنه عليه السلام عن آبائه عليهم السلام «كان رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم يزجر الرجل أن يتشبّه بالنساء، و ينهى المرأة أن تتشبّه بالرجال في لباسها»(5) غير أنّ فيهما ظهور في إرادة الكراهة خصوصاً أوّلهما بقرينة الموردة. فالمسألة لا تخلو عن إشكال و إن كان القول بالحرمة مطلقاً لا يخلو عن قوّة. و على حرمة التشبّه مطلقاً على الرجال يحرم على النساء أيضاً فيحرم عليهنّ لبس الثياب المختصّة بالرجال.

و أمّا الخنثى المتردّدة بين الذكر و الاُنثى فيجب عليها تجنّب كلتا الزينتين المختصّتين بالرجال و النساء للعلم الإجمالي بتوجّه الخطاب باجتناب إحداهما المعيّنة في الواقع، فتكونان من قبيل المشتبهين المعلوم حرمة أحدهما فتجتنب عنهما مقدّمة.

و قد يستشكل على تقدير كون مدرك الحكم حرمة التشبّه بأنّ الظاهر من التشبّه صورة علم المتشبّه، فليتدبّر.

ص: 368


1- الوسائل 3/285:17، ب 87 ما يكتسب به، علل الشرائع: 64/602.
2- الوسائل 5/285:20، ب 24 النكاح المحرّم.
3- الوسائل 6/285:20، ب 24 النكاح المحرّم.
4- الوسائل 1/25:5، ب 13 أحكام الملابس، مكارم الأخلاق: 118.
5- الوسائل 2/25:5، ب 13 أحكام الملابس، مكارم الأخلاق: 118.

الباب الخامس في التكسّب بما يجب عليه فعله عيناً أو كفاية

اشارة

و ليعلم أنّ عبارات المحقّق و الشهيد في النافع و الشرائع و اللمعة و الدروس في عنوان هذه المسألة مختلفة، ففي النافع «أخذ الاُجرة على القدر الواجب من تغسيل الأموات و تكفينهم و حملهم و دفنهم و الرشاء في الحكم...»(1) الخ و نحوه ما في اللمعة(2)و في الشرائع «ما يجب على الإنسان فعله كتغسيل الموتى و تكفينهم و تدفينهم»(3)و نحوه في الدروس قائلاً: «ما يجب على المكلّف فعله إمّا عيناً كالصلاة اليوميّة، أو كفاية كتغسيل الميّت و تكفينه و الصلاة عليه»(4) و المرفوع في الجميع خبر السادس أو الخامس من التكسّب المحرّم أو المحرّم من التكسّب، و قد خصّاه في النافع و اللمعة بأخذ الاُجرة و أطلقاه في الشرائع و الدروس.

و من ثمّ قد يقال في الفرق بينهما: بأنّ الأوّل يختصّ بعقد الإجارة نظراً إلى أنّ الاجرة عبارة عن المال المبذول في عقد الإجارة بإزاء المنفعة فلا يجري في سائر العقود و لو سلّم العموم فغايته الشمول كعقد الجعالة دون غيره، بخلاف الثاني فإنّه يعمّهما و عقد الإجارة المجعول فيه فعل الواجب اُجرة مبذولة بإزاء منفعة اُخرى، كما لو قال: آجرتك هذه الدابّة على أن تغسل ذلك الميّت مثلاً، و عقد البيع المجعول فيه فعل الواجب ثمناً بناءً على أنّه أعمّ من الأعيان و المنافع و أنّ ما اشتهر من اختصاص البيع

ص: 369


1- النافع: 118.
2- الشرائع 69:4.
3- اللمعة: 61.
4- الدروس 172:3.

بالأعيان معناه اختصاص المثمن فيه بها كما هو الأقوى خلافاً لمن يخصّه بالأعيان مثمناً و ثمناً، و عقد الصلح المجعول فيه ما صولح عنه أو مال المصالحة فعل الواجب، و عقد النكاح المجعول فيه فعل الواجب مهراً، و الخلع و المباراة المجعول فيهما فعل الواجب فدية.

أقول: يمكن إرجاع كلّ من التعبيرين إلى مؤدّى الآخر، أمّا إرجاع الأوّل فنحمله على إرادة المثال لعموم مناط المنع و هو كون الوجوب مانعاً كالحرمة، و أمّا إرجاع الثاني فبأن يحمل التكسّب المحرّم فيما يجب فعله على الإنسان على إرادة التكسّب الخاصّ و هو أخذ الاُجرة في عقد الإجارة أو ما يعمّه و الجعالة أيضاً.

و كيف كان فموضوع المسألة ما يجب فعله على آخذ المال عوضاً على وجه يعود ذلك الفعل أو أثره و فائدته إلى باذل المال، كفعل الواجب الكفائي الّذي فائدته سقوط الفرض عن الباذل و القضاء الّذي يعود نفعه و هو ثبوت الحقّ للمدّعي الباذل للأجر عليه المعبّر عنه بالرشاء، فيعتبر فيه قيدان وجوب الفعل على آخذ المال عوضاً، لأنّ مرجع البحث في هذا الباب إلى أنّ الوجوب فيما يكتسب به هل هو مانع من التكسّب به وضعاً، كما أنّ الحرمة فيه كانت مانعة منه تكليفاً أو وضعاً أو لا؟ و كون الفعل الواجب بحيث يعود فائدته إلى باذل المال عوضاً منه لأنّ المعتبر في عقد الإجارة عود المنفعة إلى المستأجر، كما أنّ المعتبر في عقود المعاوضة وقوع كلّ من العوضين لباذل العوض الآخر حذراً عن المعاملة السفهيّة، و لئلّا يقع كلّ من العوض و المعوّض لشخص واحد، فعدم جواز التكسّب في نحو ذلك وضعاً و عدم جواز أخذ الاُجرة على نحوه لأجل ذلك، لا لمانعيّة الوجوب.

فما في الدروس: من التمثيل لما يجب على المكلّف عيناً بالصلاة اليوميّة، ليس بسديد، إذ لو اُريد بالصلاة اليوميّة ما يجب على آخذ المال فهي و فائدتها من كمال النفس و ارتفاع الدرجة و استحقاق المثوبة لا تعودان إلى باذله، و لو اُريد بها ما وجب على باذل المال فهي ليست ممّا يجب على آخذه فلا وجوب حتّى يكون مانعاً، مع أنّها غير قابلة للنيابة بعدم جواز أخذ الاُجرة عليها لأجل ذلك لا للوجوب.

ص: 370

و بالتأمّل في ذلك ينقدح أنّ الاستيجار على الحجّ واجباً أو مندوباً عن الغير حيّاً أو ميّتاً و على زيارات قبور المعصومين عليهم السلام عن الغير حيّاً أو ميّتاً و على تلاوة كلام اللّٰه عن الغير كذلك و على قضاء الفوائت عن الميّت و ما أشبه ذلك خارج عن موضوع مسألة أخذ الاُجرة على الواجبات. و الإشكال الموجود في المسألة من جهة مانعيّة صفة الوجوب و عدمها عن أخذ الاُجرة غير جار في هذه الموارد لانتفاء الوجوب في حقّ المستأجر.

نعم فيها إشكال آخر معروف، و هو منافاة أخذ الاُجرة للقربة المعتبرة فيها لأجل كونها من العبادات، و لكنّه هيّن و واضح دفعه.

و توضيحه: أنّ الأعمال المستحبّة و هي العناوين الّتي حكم الشرع باستحبابها و كذلك بعض الواجبات على أنواع:

اشارة

منها: ما يعتبر في صحّتها المباشرة النفسيّة، و لا تقع صحيحة في حقّ مكلّف لو وقعت من غير مباشرته، كغسل الجمعة، و فعل النوافل، و عيادة المريض، و ما أشبه ذلك.

و منها: ما لا يعتبر فيها المباشرة لما استفيد من أدلّتها من قبولها التسبيب كبناء المسجد أو المدرسة أو القنطرة أو الرباط و ما أشبه، حيث استفيد من أدلّة استحباب بناء المسجد أنّه عنوان يتأتّى تارةً بمباشرة المكلّف نفسه، و اُخرى بتسبيبه و هو أن يأمر بالبنّاء ببنائه له، فالمستحبّ في هذا النوع هو القدر المشترك بين ما يحصل بالمباشرة و ما يحصل بالتسبيب.

و منها: ما لا يعتبر فيها المباشرة أيضاً لما استفيد من دليل استحبابها قبولها النيابة كالأمثلة المذكورة للاستيجار.

أمّا النوع الأوّل: [أي ما يعتبر في صحّتها المباشرة النفسيّة]

فحكمه أنّه لا يقع عليه عقد الإجارة و لا يجوز أخذ الاُجرة عليه أصلاً، و ذلك لأنّ الاُجرة في غسل الجمعة مثلاً إمّا أن يؤخذ عليه من حيث إنّه مستحبّ على المؤجر، أو يؤخذ عليه من حيث إنّه مستحبّ على المستأجر، و لا سبيل إلى شيء منهما، أمّا الأوّل فلعدم وقوع العمل للمستأجر و عدم عود فوائده من كمال النفس و ارتفاع الدرجة و استحقاق المثوبة على تقدير حصولها إليه فيكون المعاملة سفهيّة مع

ص: 371

لزوم خلاف وضع عقود المعاوضة من وقوع العوضين معاً لشخص واحد هو أحد المتعاقدين، و أمّا الثاني فلفرض اعتبار المباشرة فيه، و معناه عدم قبوله التسبيب و لا النيابة، فيكون أخذ الاُجرة على التقديرين أكلاً للمال بالباطل فيحرم.

و أمّا النوع الثاني: [أي ما لا يعتبر فيها المباشرة]

فحكمه أنّه يقع مورد لعقد الإجارة و يحلّ أخذ الاُجرة عليه، و لا يعتبر فيه قصد النيابة و لا النيّة، و قصد القربة من العامل و هو البنّاء في بناء المسجد مثلاً لكون النيّة في نحوه وظيفة الباني فإنّه ببنائه على وجه التسبيب ينوي القربة.

و السرّ فيه أنّ فعل البناء من عامله و هو البنّاء إذا لم يقترنه النيّة و قصد القربة منه كان من أفعاله المباحة، و هذا الفعل المباح يقع للباني و يعود نفعه و فوائده و الثواب المعدّ له إليه، و لأجل ذلك يصلح مورداً لعقد الإجارة و يملك الاُجرة المجعولة بإزائه، و من هذا القبيل عمل الراثين و الذاكرين و القارين لمصائب مولانا الشهيد عليه و على أصحابه الشهداء آلاف تحيّة و ثناء في أخذهم الاُجرة من البانين، فإنّ إقامة العزاء لهم عليهم السلام على ما استفيد من أدلّة استحبابها أعمّ ممّا يحصل بمباشرة المكلّف و ما يحصل بتسبيبه، و القاري الراثي إذا لم ينو بفعله القربة كان من أفعاله المباحة و يعود نفعه و فوائده إلى الباني الآمر له بالقراءة، حيث استفيد من أدلّة استحباب إقامة العزاء كونها أعمّ ممّا يحصل بطريق التسبيب.

و أمّا النوع الثالث: [أي ما لا يعتبر فيها المباشرة أيضاً لما استفيد من دليل استحبابها قبولها النيابة]

فحكمه أنّه أيضاً يقبل الإجارة و يؤخذ فيه الاُجرة، كما في الاستيجار على الحجّ و فوائت الميّت و غيرهما من الأمثلة المتقدّمة، و لكنّه يعتبر فيه من العامل قصد النيابة و قصد القربة معاً.

و السرّ في الجميع أنّه قد ذكرنا أنّ عقد الإجارة لا يجري إلّا في عمل يصحّ عوضاً للاُجرة، بأن يكون بحيث يعود نفسه أو منفعته إلى المستأجر، و من منافع عمل الإنسان في نوع ما يقبل النيابة قيامه مقام عمل غيره فله حينئذٍ أن يقيم عمله مقام عمل ذلك الغير تبرّعاً أو بأُجرة، فعقد الإجارة يقع على ذلك و فائدته قيام عمله مقام عمل ذلك الغير لأنّه بعد إقامة عمله مقام عمل الغير صار هو بمنزلة ذلك الغير، فيصير عمله الواقع منه في الخارج عمله و يكون تقرّبه و قصده للتقرّب تقرّبه و قصده، و يكون جميع الفوائد

ص: 372

المترتّبة عليه من الكمال و ارتفاع الدرجة و استحقاق المثوبات الاُخرويّة حاصلة له.

و حيث إنّ إقامة العمل مقام عمل الغير اعتبار منوط بالقصد و النيّة فلا يتحقّق هذا الاعتبار إلّا بقصده لإقامة عمله مقام عمل الغير فيعتبر منه ذلك القصد حين الإتيان بالعمل، و هذا هو قصد النيابة الّتي اعتبروه في هذا المقام، فإنّ قصد النيابة عن فلان عند الإتيان بالعمل معناه أنّه يقصد إقامة عمله هذا مقام عمل فلان، فيكون هو بذلك القصد نائباً و الفلان منوباً عنه، فالاُجرة إنّما تستحقّ و تؤخذ بسبب عقد الإجارة بإزاء النيابة بمعنى إقامة العمل مقام عمل الغير الّذي هو المنوب عنه، و أصل العمل بعد قيامه بهذا الاعتبار مقام عمل المنوب عنه بل صيرورته عمله يؤتى به بداعي التقرّب و امتثال الأمر لا بداعي الاُجرة و استحقاقها فإنّها تدعوه إلى أن يجعل نفسه نائباً و يقيم عمله مقام عمل المنوب عنه، لا إلى الإتيان بأصل العمل بعد تحقّق النيابة بمعنى إقامة عمله مقام عمل المنوب عنه.

و بالجملة الأجير إنّما يجعل نفسه بداعي أخذ الاُجرة أو استحقاقها نائباً عن الغير و عمله قائماً مقام عمل ذلك الغير، فالعمل المأتيّ به بعد تحقّق هذا الاعتبار يقع مقروناً بقصد القربة و متقرّباً به إلى اللّٰه سبحانه، فلا منافاة حينئذٍ بين أخذ الاُجرة و قصد القربة، لتغاير موجب استحقاق الأوّل و مورد الثاني.

فهاهنا داعيان و آمران مدعوّ إليهما، الأوّل: من الداعيين قصد استحقاق أخذ الاُجرة فإنّه يدعو الأجير إلى جعل نفسه نائباً و إقامة عمله مقام عمل المنوب عنه.

و ثانيهما: قصد القربة و امتثال الأمر إيجاباً أو ندباً، فإنّه يدعو إلى الإتيان بالعمل الّذي صار بسبب تحقّق النيابة و الإقامة على الوجه المذكور بالقصد و النيّة عمل المنوب عنه.

نعم ربّما يشكل الحال فيما يتداوله الناس في صلاة ليلة الدفن من أخذ المال لأجل هذه الصلاة فإنّها على ظاهر النظر لا تندرج في شيء ممّا يقبل النيابة و لا التسبيب، أمّا الأوّل فلانّ من شرط ما يقبل النيابة كونه بحيث لو كان المنوب عنه بنفسه قائماً به مخاطباً به أي مكلّفاً به إيجاباً أو ندباً كما هو الحال في قضاء فوائت الميّت و غيره ممّا تقدّم، فإنّ الميّت في فوائته لو كان حيّاً و أراد القيام بقضاء فواته كان

ص: 373

مخاطباً به و لو ندباً من جهة الاحتياط، و هذه الصلاة ليست بتلك المكانة، لأنّ الميّت لو كان حيّاً لم يكن له فعلها لعدم كونه مخاطباً به لا إيجاباً و لا ندباً و لذا لا يصحّ لغيره فيها قصد النيابة.

و أمّا الثاني فلأنّ ظاهر النصّ الوارد في تشريع هذه الصلاة اعتبار المباشرة فيها، و هو الحديث المرويّ عن مصباح الكفعمي، و موجز ابن فهد قال النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم: «لا يأتي على الميّت أشدّ من أوّل ليلة، فارحموا موتاكم بالصدقة، فإن لم تجدوا فليصلّ أحدكم يقرأ في الاُولى الحمد و آية الكرسي، و في الثانية الحمد و القدر عشراً، فإذا سلّم قال:

اللّهمّ صلّ على محمّد و آل محمّد و ابعث ثوابها إلى قبر فلان، فإنّه تعالى يبعث من ساعته الف ملك إلى قبره مع كلّ ملك ثوب و حلّة»(1) فإنّ قوله: «فليصلّ أحدكم» ظاهر في المباشرة، و حينئذٍ فالآتي بهذه الصلاة إن أتى بها بداعي الاُجرة لم تقع صحيحة فلم تستحقّ الاُجرة، و إن أتى بها بداعي القربة لم تستحقّ الاُجرة رأساً، و على التقديرين أخذها يكون أكلاً للمال بالباطل فلا يحلّ أخذها.

لا يقال: لِمَ لا يجوز أخذها في مقابل الثواب المعدّ لهذه الصلاة فيجري عليها عقد الإجارة ليعود ذلك الثواب إلى الميّت فيبدله له الأجير بعد الفراغ منها كما يرشد إليه الأمر به في النصّ المذكور، لأنّا نقول: إنّ الأمر به في هذا المورد تعبّد من الشارع، و هو بمجرّده لا يصحّح عقد الإجارة على هذه الصلاة، و لا يجوز أخذ الاُجرة بإزاء الثواب المعدّ لها، لأنّ حصول الثواب من فعله سبحانه و لا يطمئنّ بحصوله منه تعالى، نظراً إلى أنّ إفاضة فيض الثواب من المبدأ الفيّاض على أعمال العباد في دار الآخرة قد يحصل و قد لا يحصل و لو لحزازة في العمل فحصوله غير معلوم و لا مظنون. و مجرّد احتمال حصوله غير كاف في صحّة وقوعه عوضاً في عقد المعاوضة، مضافاً إلى أنّه غير مقدور على تسليمه و لا على تسلّمه، فإنّ الموجر و المستأجر لا يقدران على استخراجه منه تعالى، و المنفعة في باب الإجارة لا بدّ و أن تكون مقدوراً على تسليمها أو على تسلّمها. و لذا ترى أنّ العلّامة قدس سره في التذكرة منع من إجارة الديك للصياح في

ص: 374


1- البحار 4/219:88.

أوقات الصلاة، قائلاً: «لا يجوز استيجار الديك ليوقظه وقت الصلاة، لأنّ ذلك يقف على فعل الديك و لا يمكن استخراج ذلك منه بضرب و لا غيره و قد يصيح و قد لا يصيح و ربّما صاح قبل الوقت أو بعده»(1) انتهى.

نعم لو قصد باذل المال ببذله الصدقة و أخذه بصلاته التبرّع لرجاء أن يحصل للميّت نفع الصدقة و نفع الصلاة أو أحد النفعين، فالظاهر عدم المنع منه نظراً إلى ورود الأمر في الحديث المذكور أوّلاً بالصدقة، و كون العدول عنها إلى الصلاة على تقدير تعذّرها و إن كان الجمع بينهما من جهة شبهة مشروعيّة الصلاة مع إمكان الصدقة لظهور النصّ في الترتّب لا يخلو عن إشكال.

و بما نبّهنا عليه بالقياس إلى أخذ العوض في مقابلة الثواب ظهر الحال في مطلق الثواب المعدّ لسائر الأعمال الحسنة كغسل الجمعة و الزيارة و تلاوة كلام اللّٰه و النوافل و غيرها و عدم صلاحيته عوضاً في عقد الإجارة و عقد الصلح و غيره من عقود المعاوضة على وجه القاعدة الكلّيّة لكون الجميع على خلاف قواعد الإجارة و عقود المعاوضة، و كذا الحال في جعل الصلوات بصيغة «اللّهمّ صلّ على محمّد و آل محمّد» مورداً لعقد الصلح.

[أدلة القول بجواز التكسب بالواجبات و منع التكسب بالواجبات]

اشارة

ثمّ إذ قد عرفت أنّ مرجع البحث عن التكسّب و أخذ الاُجرة على الواجبات إلى منع الوجوب من التكسّب و أخذ الاُجرة و عدمه فينبغي التعرّض أوّلاً لبيان أقوال المسألة، فنقول: إنّ القول بالمنع منه مطلقاً على ما في المسالك «هو المشهور بين الأصحاب» قال بعده: «و عليه الفتوى»(2).

و في الرياض «بلا خلاف» ثمّ قال: «بل عليه الإجماع في كلام جماعة»(3).

و ربّما يضعّف بعدم التصريح بالإجماع على إطلاق المنع في كلام أحد على وجه القطع به فضلاً عن جماعة.

و لعلّه قدس سره استظهره من عبائر جماعة توهمه كالمحقّق الأردبيلي و الشهيد الثاني

ص: 375


1- التذكرة 295:2.
2- المسالك 130:3.
3- الرياض 180:8.

و المحقّق الثاني، حيث إنّ الأوّل في ذكر مستند الحكم قال: «و كأنّ دليله الإجماع»(1)و الثاني بعد نسبته إلى المشهور قال: «و عليه الفتوى»(2) لشيوع ورود هذا اللفظ في كلامهم لبيان فتوى الأصحاب، و الثالث بعد ما نقل التفصيل الآتي عن فخر المحقّقين في الإيضاح(3) أورد عليه «بأنّه مخالف لنصّ الأصحاب»(4).

لكن يشكل ذلك بظهور الأوّل في الشكّ فغايته أنّه ذكر لاحتمال الإجماع، و منافاة الثاني لو كان إجماعاً لسبق دعوى الشهرة الظاهرة في وجود القول بالخلاف فليحمل على إرادة فتواه لا فتوى الأصحاب، و هذا أيضاً شائع و إن كان يمكن الجمع على تقدير إرادة فتوى الأصحاب بتأويل دعوى الشهرة بكون مراده من المشهور ما يقابل قول السيّد المرتضى الخارج عن موضوع المسألة، كما يقتضيه ما حكاه عنه الشهيد في الدروس حيث إنّه بعد ما ذكر في مثال ما يجب على الإنسان كفايةً الّذي يحرم التكسّب به تغسيل الميّت و تكفينه و الصلاة عليه و دفنه، قال: «و في فتاوي السيّد أن ذلك واجب على الوليّ فلو استأجر غيره جاز»(5).

و الظاهر أنّ كون القول بالمنع مشهوراً بالمعنى المقابل لقول السيّد، هذا لا ينافي كونه إجماعاً أيضاً. و لكن عليه حينئذٍ بعض ما يرد على الثالث فقد اُورد عليه:

أوّلاً: أنّ فخر المحقّقين أسبق من المحقّق الثاني فهو أعرف بمذهب الأصحاب، فلو كان إطلاق المنع إجماعاً عندهم كيف يختار لنفسه التفصيل المخالف له.

و ثانياً: كيف يدّعي نصّ الأصحاب على معنى إجماعهم، مع أنّ جلّ قدمائهم لم يتعرّضوا لأصل المسألة كالصدوقين و القديمين و سلّار و ابن البرّاج و غيرهما من أتباع الشيخ عدا ابن إدريس، فلا يعلم مذهبهم في المسألة بنفي و لا بإثبات.

و ثالثاً: أنّ جماعة من معتبري المتأخّرين ذهبوا إلى خلاف إطلاق المنع كالفخر في تفصيله المتقدّم إليه الإشارة، و هذا على ما حكي عبارته «الحقّ عندي أنّ كلّ واجب على شخص معيّن لا يجوز للمكلّف أخذ الاُجرة عليه، و الّذي وجب كفاية فإن كان ممّا

ص: 376


1- مجمع الفائدة 89:8.
2- المسالك 130:3.
3- إيضاح الفوائد 264:2.
4- جامع المقاصد 182:7.
5- الدروس 172:3.

لو أوقعه بغير نيّة لم يصحّ و لم يزل الوجوب، فلا يجوز أخذ الاُجرة عليه لأنّه عبادة محضة، و قال اللّٰه تعالى: «وَ مٰا أُمِرُوا إِلاّٰ لِيَعْبُدُوا اَللّٰهَ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ » (1) حصر غرض الآمر في انحصار غاية الفعل في الإخلاص، و ما يفعل بالعوض لا يكون كذلك، و غير ذلك يجوز أخذ الاُجرة عليه إلّا ما نصّ الشارع على تحريمه كالدفن»(2) و عن العلّامة في المختلف(3) أنّه نصّ بجواز أخذ الاُجرة على القضاء إذا لم يتعيّن، و نحوه عن المحقّق في الشرائع(4) إلّا أنّه قيّد صورة عدم التعيين بصورة احتياج القاضي، و مع هذا كلّه فإنّ الوثوق بإجماع لم يصرّح به أحد على إطلاق المنع.

و أمّا القول بالجواز مطلقاً فلم نقف على مصرّح به و لا على نقل له، نعم ربّما يستظهر من الفاضل التوني في شرح(5) الإرشاد فإنّه على ما حكي في ردّ قول العلّامة بالمنع مطلقاً مستدلّاً بوجهين آتيين قال: «بأنّه لا دليل على عدم الجواز و لا نصّ في الكتب الأربعة» فيقال: بأنّ قضيّة ذلك أن يكون قائلاً بالجواز مطلقاً، و لكن يخدشه منع الظهور في اختيار القول بالجواز لقوّة احتمال التوقّف في المسألة من جهة الشهرة و نحوها.

نعم حكي عن فخر المحقّقين ولد العلّامة في الإيضاح تفصيلاً بين ما كان الواجب عينيّاً أو كفائيّاً تعبّديّاً أو كفائيّاً توصّليّاً فمنع أخذ الاُجرة في الأوّلين و جوّزه في الأخير إلّا ما نصّ الشارع بتحريمه أيضاً، و عبارته المحكيّة لهذا التفصيل ما لفظه:

«الحقّ عندي أنّ كلّ واجب على شخص لا يجوز للمكلّف أخذ الاُجرة عليه، و الّذي وجب كفاية فإن كان ممّا لو أوقعه بغير نيّة لم يصحّ و لم يزل الوجوب فلا يجوز أخذ الاُجرة عليه لأنّه عبادة محضة، و قال اللّٰه تعالى «وَ مٰا أُمِرُوا إِلاّٰ لِيَعْبُدُوا اَللّٰهَ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ » (6) حصر غرض الآمر في انحصار غاية الفعل في الإخلاص و ما يفعل بالعوض ليس كذلك، و غير ذلك يجوز أخذ الاُجرة عليه إلّا ما نصّ الشارع على تحريمه كالدفن» انتهى(7) و عن السيّد الطباطبائي في المصابيح(8) اختيار هذا التفصيل، و قد

ص: 377


1- البيّنة: 5.
2- إيضاح الفوائد 264:2.
3- المختلف 18:5.
4- الشرائع 69:4.
5- شرح حاشية الإرشاد (مخطوط) 110.
6- البيّنة: 5.
7- إيضاح الفوائد 264:2.
8- المصابيح: (مخطوط) 59-60.

عرفت عن الفاضلين في المختلف و الشرائع القول بجواز أخذ الاُجرة على القضاء إذا لم يتعيّن، و إن كان قيّده في الشرائع مع عدم التعيين بصورة احتياج القاضي.

و ربّما نقل في المسألة قول آخر بالتفصيل بين الواجبات النظاميّة فيجوز أخذ الاُجرة عليها و غيرها فلا يجوز، و المراد بالاُولى ما يتوقّف عليه نظام العالم و انتظام عيش بني آدم كالطبابة و الحياكة و النجارة و الصياغة و غيرها من الصناعات الواجبة كفاية. و لعلّه إلى ذلك يرجع ما عن الشيخ في شرحه(1) للقواعد من التفصيل بين الواجبات المشروطة بالتعويض و غيرها، فجوّزه في الأوّل و منعه في الثاني لأجل الملك و الحقّ ، نظراً إلى أنّ المملوك لا يملك ثانياً، و المستحقّ لا يستحقّ ثانياً.

ثمّ إنّ القول بالمنع مطلقاً لا ينتقض بعمل الوصيّ الواجب عليه بعينه مع جواز أخذ الاُجرة عليه من مال الصغير و لو بعد إيقاعه على حسب ما هو رأيه اجتهاداً أو تقليداً في قدرها من اُجرة مثل العمل أو قدر الكفاية أو أقلّ الأمرين من اُجرة المثل و الكفاية على الخلاف في المسألة، و كذلك الوصيّ على ثلث الميّت عند من ألحقه بالوصيّ على الصغير، لأنّ ذلك ليس من باب المعاوضة المبنيّة على عقد الإجارة بل هو حكم شرعي، أو أنّه استحقاق شرعي جعله الشارع للوصيّ إرفاقاً فلا ينافي وجوب العمل، كما أنّه كذلك لو عيّن له الموصي شيئاً فإنّه يستحقّه من باب الوصيّة لا من باب المعاوضة.

ثمّ استدلّ على القول بالمنع مطلقاً أو في الجملة بوجوه:
منها: الإجماع المنقول في كلام جماعة اعتمد عليه السيّد في الرياض.

منها: الإجماع المنقول في كلام جماعة اعتمد عليه السيّد في الرياض(2).

و قد عرفت ما فيه، و الحقّ أنّ المنع في الجملة إجماعيّ ، و الإجماع على إطلاقه غير ثابت بل المعلوم خلافه.

و منها: منافاة أخذ الاُجرة للإخلاص المعتبر في العمل.

و ردّ بانتقاض عكسه بالواجبات التوصّليّة و طرده بالمندوبات القابلة للاُجرة.

ص: 378


1- شرح القواعد 27:1.
2- الرياض 180:8.
و منها: أنّ المنافاة بين أخذ الاُجرة و صفة الوجوب ذاتيّة

لأنّ المملوك لا يملك ثانياً و المستحقّ لا يستحقّ ثانياً.

و نقض بالواجبات النظاميّة و الصناعات الواجبة كفاية. و قد يورد عليه بكونه مصادرة، لأنّ دعوى المنافاة الذاتيّة أوّل المسألة، و تعليلها بما ذكر عليل لمنع المملوكيّة و الاستحقاق بالمعنى المعتبر في المعاوضات الماليّة.

و منها: أنّ الإجارة لو تعلّقت به كان للمستأجر سلطان عليه في الإيجاد و العدم على نحو سلطان الملّاك

و كان له الإبراء و الإقالة و التأجيل، و كان للأجير قدرة على التسليم، و في الواجب ممتنع ذلك و هو في العيني بالأصل أو العارض واضح، و أمّا الكفائي فلأنّه بفعله يتعيّن له فلا يدخل في ملك آخر، ذكره الشيخ في شرح القواعد.

و اُجيب بأنّه إن أراد بالسلطنة الثابتة له بعقد الإجارة سلطنة بالنسبة إلى حقّه من حيث إنّه حقّ له فلا مانع من ثبوتها فله الإيجاد و العدم من هذه الحيثيّة، غير أنّه لا ينافيها قيام المانع من عدم الإيجاد من حيثيّة اُخرى جامعة لتلك الحيثيّة، و كذلك مسألة الإبراء و الإقالة و التأجيل فإنّ الكل جائز من الحيثيّة الاُولى و الحيثيّة الاُخرى مانعة و لا منافاة، أ لا ترى أنّه لو استأجر المرضعة لإرضاع الطفل في محلّ التوقّف وجب و ليس له حينئذٍ الإبراء و لا للطفل و لا الإقالة و لا التأجيل لإفضاء الجميع إلى هلاك الطفل و هذه حيثيّة مانعة من الاُمور المذكورة، و كذلك لو استأجر أحداً لحفظ نفسه أو ماله في محلّ الخوف فليس له الإبراء و لا الإقالة و لا التأجيل لحرمة تضييع المال و إلقاء النفس في التهلكة.

و منها: ما ذكره الشيخ أيضاً «من عدم نفع المستأجر فيما يملكه و يستحقّه غيره»

و منها: ما ذكره الشيخ أيضاً «من عدم نفع المستأجر فيما يملكه و يستحقّه غيره»(1)

انتهى.

و كأنّه رحمه الله فرضه ممّا لا منفعة فيه تعود إلى المستأجر، و قد عرفت سابقاً و ستعرف أيضاً أنّه ليس بمحلّ كلام.

و منها: أنّ أخذ الاُجرة على الشيء إنّما يجوز إذا كان ذلك الشيء ممّا يختصّ بالمستأجر

لئلّا يلزم أكل المال بالباطل، و الواجب لا اختصاص له.

و اُجيب: بأنّه يتمّ في الواجب الكفائي لتعلّق وجوبه بالجميع و أمّا العيني فلا. و ظنّي

ص: 379


1- شرح القواعد 27:1.

أنّه سهو من عدم فهم حقيقة مراد المستدلّ ، فإنّ الظاهر أنّه أراد بعدم الاختصاص به تعلّق حقّ الغير به من جهة إيجاب الشارع له عليه ليعود نفعه إلى الغير من المستأجر أو غيره، و عليه يرجع مفاده إلى ما تقدّم من أنّ المستحقّ لا يستحقّ ثانياً.

و تحقيق المقام على وجه يعلم منه ما هو الحقّ في المسألة و ينكشف به صحّة الأدلّة و سقمها يستدعي تأسيس قاعدة،

و هي أنّه لا إشكال في أنّ عمل الإنسان محترم فلا يخرج منه مجّاناً و بلا عوض إلّا بما يسقط به احترامه، و حينئذٍ فكلّ عمل للإنسان لا يخلو إمّا أن لا يشتمل على منفعة محلّلة مقصودة للعقلاء عائدة إلى غيره، أو يشتمل على نحو هذه المنفعة، و الأوّل لا يصلح مورداً لعقد الإجارة و لا يجوز أخذ الاُجرة فلو أخذها كان آكلاً للمال بالباطل، لأنّ عقد الإجارة إنّما شرّع لنقل المنافع المحلّلة المقصودة للعقلاء، و لا يختصّ ذلك بما إذا كان العمل المذكور واجباً، بل يجري في المندوبات بل المباحات الأصليّة أيضاً إذا لم يكن لها المنفعة المذكورة.

و على الثاني فإمّا أن يجوز له الامتناع من الإتيان بذلك العمل و بذله لغيره ممّن يعود إليه نفعه، و لو امتنع فليس لأحد استخراجه منه مجّاناً و لو بإجبار و إكراه بل جواز استخراجه منه كذلك يتوقّف على رضاه و طيب نفسه، أو لا يجوز له الامتناع و لو امتنع جاز استخراجه منه مجّاناً و لو بقهر عليه و إجبار له عليه من غير توقّف على رضاه و طيب نفسه. و الأوّل ممّا لا ينبغي التأمّل في جواز أخذ الاُجرة عليه، لأنّه يصلح مورداً لعقد الإجارة، و العقد يقع مؤثّراً في نقل العمل و منفعته إلى المستأجر و نقل الاُجرة إلى الأجير. و الثاني كالعمل المستأجر عليه من كتابة أو خياطة ثوب أو نحو ذلك حيث ليس له أن يمتنع من بذله و الإتيان به، و لو امتنع كان للمستأجر استخراجه منه قهراً و إجباره على الإتيان به من غير توقّف على رضاه و طيب نفسه، و هذا ممّا لا يقع عليه عقد الإجارة ثانياً و لا يستحقّ عليه اُجرة اُخرى من المستأجر الأوّل أو من غيره، و لو وقع لم يكن صحيحاً و مؤثّراً في تملّك الاُجرة و استحقاقها، لأنّ قضيّة عقد المعاوضة أن لا يؤثّر في تملّك أحد العوضين إلّا حيث أثّر في تملّك العوض الآخر، و هذا العقد لا يؤثّر في تملّك المستأجر للعمل و منفعته و لا في استحقاقه، لأنّه ملّكه

ص: 380

و استحقّه من غير جهة هذا العقد، و لا يعقل تملّكه له و استحقاقه له ثانياً من جهته فإذا لم يؤثّر في تملّك المعوّض و استحقاقه لم يؤثّر في تملّك العوض أعني الاُجرة و استحقاقه، فيكون أخذها أكلاً للمال بالباطل.

و هل الأعمال الواجبة بالشرع على الإنسان من قبيل أعماله الّتي له الامتناع من الإتيان بها، و لو امتنع لا يجوز استخراجها منه مجّاناً إلّا برضاه و طيب نفسه، أو من قبيل أعماله الّتي ليس له الامتناع عن الإتيان بها، و لو امتنع جاز إجباره عليه و استخراجها منه قهراً، من غير توقّف على رضاه و طيب نفسه ؟

و الحقّ أنّ فيه تفصيلاً و ذلك لأنّ العمل الواجب على المكلّف إمّا عيني تعييني أو تخييري أو كفائي، فإن كان عينيّاً تعيينيّاً فهو ممّا لا يجوز له الامتناع من الإتيان به، و لو امتنع جاز استخراجه منه مجّاناً من غير رضاه و طيب نفسه، بل يجب ذلك مع الامتناع من باب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، فيجب على الآمرين بالمعروف حمله على الإتيان به و لو بإجبار و إكراه، و هذا ممّا لا يقع عليه عقد الإجارة و لا يؤخذ عليه الاُجرة، لما تقدّم من أنّ عقد المعاوضة لا يؤثّر في تملّك العوض و استحقاقه إلّا حيث أثّر في تملّك المعوّض و استحقاقه، و المفروض أنّ العمل المذكور ما ملّكه باذل الاُجرة أو استحقّه من جهة إيجاب الشارع له عليه عيناً على وجه التعيين و يجب عليه الإتيان به و بذله لمالكه و مستحقّه مجّاناً.

و لا يتفاوت الحال في ذلك بين كونه تعبّديّاً متوقّفاً على الإخلاص و قصد القربة كقضاء فوائت الميّت على وليّه - أعني أكبر أولاده - فلا يجوز له أخذ الاُجرة على أصل هذا العمل الواجب عليه من الوصيّ من ثلثه أو من وارث آخر أو غيرهما من متبرّع و نحوه، أو توصّليّاً لم يعتبر فيه إخلاص و لا نيّة قربة كإنقاذ الغريق في موضع انحصار من يغوص في الماء لإنقاذه فيه فإنّه ليس له الامتناع من إنقاذه حينئذٍ و لا يستحقّ الاُجرة لو بذلت له، لأنّ الإنقاذ قد ملكه الغريق و استحقّه بإيجاب من الشارع، و عقد الإجارة لا يؤثّر فيه ملكاً آخر له و لا استحقاقاً آخر غير الاستحقاق الأوّل من غير فرق في ذلك بين كون باذل الاُجرة هو الغريق نفسه أو وليّه كما لو كان

ص: 381

أباه أو غيره من متبرّع و نحوه.

و لا ينتقض الأوّل بالمال الموصى به للولد الأكبر برعاية تحمّله مشقّة قضاء فوائته حيث يستحقّه و يملكه، و يجوز له أخذه لأنّه إنّما ملّكه و استحقّه بسبب الوصيّة لا بالإجارة على وجه المعاوضة، كما أنّ الثاني لا ينتقض بما لو بذل له مال إحساناً بعد بذله حيث يجوز له أخذه، لأنّه لا يستحقّه على وجه العوضيّة، فلا يأخذه اُجرة على عمله الواجب عليه بل مال أباح له باذله إحساناً فيباح له أخذه أو وهبه له مجّاناً و بلا عوض فيجوز له قبوله.

و إن كان تخييريّاً كالتخيير في العمل الواجب عليه عيناً بين فردين أو أفراد، فأخذ الاُجرة على فرد خاصّ معيّن مبنيّ على اشتماله باعتبار الخصوصيّة على منفعة زائدة على منفعة أصل العمل الواجب المشتركة بين جميع الأفراد كالحفر لدفن الميّت الواجب على إنسان عيناً المتعدّد أفراده من حيث مواضعه الّتي منها الأرض الصلبة و منها قرب مشهد معصوم أو أحد من ولده أو غيره من العلماء أو الصلحاء، و كان الحفر في هذه المواضع متضمّناً لكلفة زائدة عليه في غيرها.

و ظاهر أنّ صلابة الأرض منفعة زائدة على منفعة أصل الحفر، كما أنّ قرب المشهد منفعة زائدة على منفعة أصل الحفر و هي المواراة، و له الامتناع من هذه المنفعة الزائدة و ليس لأحد من وليّ الميّت أو وصيّه أو غيره إجباره على بذلها مجّاناً بإلزامه على هذا الفرد الخاصّ من الحفر، فهو من هذه الجهة يصلح مورداً لعقد الإجارة، و يجوز أخذ الاُجرة عوضاً عن المنفعة الزائدة على منفعة أصل الحفر، لأنّها منفعة لم يتعيّن عليه بذلها، و له الامتناع من خصوصيّة هذا الفرد المشتملة على تلك المنفعة الزائدة.

و الظاهر عدم الفرق بين التوصّلي كالمثال المذكور، و التعبّدي كقضاء فوائت الميّت الواجبة على وليّه المخيّر فيها بين إيقاعها في البيت أو إيقاعها في المسجد، فإنّ فضيلة المسجد منفعة في خصوص أحد الفردين زائدة على منفعة فعل القضاء المشتركة بين الفردين، فليس للوصيّ أو وارث آخر إلزام الوليّ على الفرد الخاصّ ، و هو إيقاع القضاء في المسجد ليعود إليه منفعة فضيلة المسجد أيضاً، و للوليّ الامتناع منه بالخصوص إلّا

ص: 382

بالاُجرة، و لا ينافي أخذها للإخلاص و قصد القربة لأنّهما معتبران في أصل القضاء لا في إيقاعه في المسجد، و الاُجرة يستحقّها على إيقاعه في المسجد لا على أصل القضاء، فداعيه عند الإتيان به هو امتثال الأمر بالقضاء خالصاً لوجه اللّٰه الكريم، و ليس أخذ الاُجرة داعياً إلى فعل القضاء بل إلى إيقاعه في المسجد فلا منافاة أصلاً.

و إن كان كفائيّاً فقد يفصّل و يقال: بأنّه إن كان توصّليّاً أمكن أخذ الاُجرة على إتيانه لأجل باذل الاُجرة فهو العامل في الحقيقة، و إن كان تعبّديّاً لم يجز الامتثال به و أخذ الاُجرة عليه.

و كلّ من شقّي هذا التفصيل منظور فيه يظهر وجهه بما نفصّله:

و هو أن نقول: إنّ الواجب الكفائي على ما حقّق في الاُصول لمّا كان من حيث الخطاب يجب على الكلّ ، و من حيث السقوط يسقط عن الباقين بفعل البعض، فهو بالنسبة إلى كلّ من وجب عليه يتضمّن حيثيّتين: إحداهما وجوبه عليه باعتبار كونه مخاطباً به، و اُخراهما كونه مسقطاً للفرض عن غيره، فهو من الحيثيّة الاُولى لا يقابل بالعوض لأنّ المكلّف من هذه الحيثيّة مقهور عليه و ليس من حيث وجوبه عليه محترماً ليقابل بالعوض. و لذا لا يتوقّف خروجه منه على رضاه و طيب نفسه.

و أمّا من الحيثيّة الثانية فإسقاطه الفرض عن غيره منفعة قائمة به عائدة إلى الغير، ففي قبوله أخذ الاُجرة من هذه الحيثيّة ليكون الاُجرة عوضاً عن المنفعة المبذولة للغير و العدم وجهان:

من أنّ له أن يمتنع عن بذل منفعة الإسقاط. و لذا لو قال له أحد: أقدم على الفعل ليسقط الفرض عنّي، كان له أن يعارضه بالمثل. فإذا جاز له الامتناع من بذل هذه المنفعة و ليس لأحد إلزامه على بذلها جاز له أخذ الاُجرة بإزائها.

و من أنّ هذه الحيثيّة غير منفكّة من الحيثيّة الاُولى فالامتناع عنها امتناع عن الحيثيّة الاُولى، و ليس له ذلك لما عرفت من كونه مقهوراً عليها فلا يجوز له أخذ الاُجرة مطلقاً.

و التحقيق أن يفصّل بين صورتي علمه بأنّه لو امتنع و لم يقدم على العمل لأقدم

ص: 383

عليه غيره، و علمه بأنّه لو لم يقدم و امتنع لم يقدم غيره أيضاً، فيفوت الفرض و يأثم الكلّ بتركه.

فعلى الأوّل جاز له الامتناع و يأخذ الاُجرة على منفعة الإسقاط و إن كان الواجب تعبّديّاً، لعدم منافاته الإخلاص و النيّة لأنّ الاُجرة إنّما يستحقّها على حيثيّة الإسقاط، و الإخلاص و القربة في الحيثيّة الاُولى فيأتي بالعمل الواجب عليه بداعي وجوبه و امتثال الأمر به، لا بداعي الاُجرة.

و على الثاني لا يجوز له الامتناع لأنّه يفضي إلى الامتناع عن الواجب من حيث وجوبه عليه فيأثم و هو ليس بسائغ فلا يستحقّ به الاُجرة، و إن كان توصّلياً و لو ظنّ قيام غيره به أو احتمله لو امتنع و لم يقدم عليه فالوجه أيضاً عدم جواز أخذ الاُجرة، لما حقّقناه في الاُصول من عدم جواز أن يتقاعد عن الفعل في صورتي الظنّ و الاحتمال.

و يمكن تفصيل آخر في أخذ الاُجرة على الواجبات الكفائيّة، و هو أنّها إذا كانت توصّليّة - كإزالة النجاسة عن المسجد مثلاً - فمقتضى كونها توصّليّة أن يكون المقصود بالأصالة من إيجابها حاصلاً بالمباشرة و بالاستنابة - نظير غسل الثوب الّذي هو واجب عيني على المكلّف - و المقصود من إيجابه و هو طهارة الثوب و زوال النجاسة عنه يحصل بأن يباشره المكلّف بنفسه، و بأن يستنيب غيره بالتماس أو بذل اُجرة فهو مخيّر بينهما، فإذا جاز لمن وجب عليه إزالة النجاسة عن المسجد كفاية أن يستأجر غيره جاز لغيره أيضاً أن يباشرها عن نفسه و يوجر نفسه لغيره و يأخذ عليها الاُجرة، فيكون نائباً عن الغير و يكون العمل حينئذٍ للمنوب عنه، و كذلك دفن الميّت الّذي قصد من إيجابه كفاية حفظ جثّة الميّت عن ضرر السباع و دفع الأذى عن الناس، و هذا يحصل بالمباشرة و الاستنابة معاً، فلا مانع من التزام التخيير بينهما لكلّ مكلّف، و اللازم منه أن يجوز لكلّ واحد أن يباشره عن نفسه و عن غيره فيكون نائباً عنه و يقع العمل للمنوب عنه.

و إذا كانت تعبّديّة لتغسيل الميّت و الصلاة عليه فالجواز و عدمه مبنيّ على قبوله النيابة و عدمه، كالجهاد الّذي هو أيضاً واجب كفائي و يقبل النيابة، و لأجل ذا كان المكلّف مخيّراً بين أن يباشره بنفسه أو يستأجر غيره، فجاز لغيره أيضاً ممّن وجب

ص: 384

عليه كفاية أن يجاهد عن نفسه فيكون أحد أفراد من قام به الكفاية و أن يجاهد عن غيره و يأخذ عليه الاُجرة فيكون نائباً و الفعل يقع للمنوب عنه فهو حينئذٍ أحد أفراد من قام به الكفاية.

و يمكن الخدشة في الحكم المذكور بخروجه عن موضوع المسألة، لعدم وجوب النيابة، فالاُجرة المأخوذة لأجل النيابة ليست اُجرة على الواجب، نعم لا بأس به في استباحة أخذها لمن يتداول أخذها في مثل إزالة النجاسة عن المسجد و دفن الأموات و غيره، فإنّ ما ذكر طريق استباحة لأخذها لا أنّه من أخذ الاُجرة على الواجب فليتدبّر.

فقد ظهر بما قرّرناه أنّ صفة الوجوب مانعة من أخذ الاُجرة على فعل الواجب من حيث وجوبه، و ما جوّزناه أخذه في بعض صور الواجب التخييري و بعض تقادير الواجب الكفائي فهو في الحقيقة إخراج له عن كونه أخذاً للاُجرة على الواجب من حيث وجوبه.

ثمّ إنّ في المقام إشكالاً مشهوراً ربّما يصعب دفعه، و هو أنّ الصناعات الّتي يتوقّف عليها النظام ممّا يجب على المكلّفين كفاية، بل قد يتعيّن بعضها على بعض المكلّفين إذا انحصر من يعرفه فيه، مع أنّه لا كلام عندهم في جواز أخذ الاُجرة عليها فكيف التوفيق ؟ و قد ذكر في التفصّي عنه وجوه:

أحدها: الالتزام بخروجها الموضوعي عن حرمة أخذ الاُجرة على الواجبات، فإنّ الواجب إنّما هو وجود من يعرف الصناعات لا عملها، و بعبارة اُخرى يلاحظ في الصناعات علم و عمل و الّذي يجب على المكلّفين تحصيل علمها لا عملها، و الاُجرة تؤخذ على العمل و هو غير واجب.

و يزيّفه أنّ الصناعات إنّما وجبت لإقامة النظام و هي لا تتمّ بمجرّد العلم بل تتوقّف على العمل أيضاً، فالعلم يجب مقدّمة للعمل، و العمل يجب مقدّمة لإقامة النظام.

ثانيها: الالتزام بخروجها عن الحكم بالإجماع و السيرة القطعيّتين، فإنّ حرمة أخذ الاُجرة على الواجبات ثابتة على وجه القاعدة القابلة للتخصيص.

و يزيّفه أنّه إنّما يستقيم لو كان مدرك القاعدة هو النصّ أو الإجماع في وجه،

ص: 385

و كلاهما ممنوعان، لفقد النصّ في المسألة و عدم ثبوت الإجماع على إطلاق المنع بل الثابت خلافه على ما عرفت، بل العمدة من مدرك القاعدة هو المنافاة الذاتيّة بين أخذ الاُجرة و صفة الوجوب، فالمنع عقلي، و التخصيص في القواعد العقليّة محال.

ثالثها: الالتزام بجواز أخذ الاُجرة على الواجبات إذا لم تكن تعبّديّة كالصناعات.

و يزيّفه أوّلاً: انتقاض عكسه بمثل دفن الميّت و إزالة النجاسة عن المسجد و ما أشبه ذلك.

و ثانياً: أنّه إنّما إذا كان مستند المنع منافاة أخذ الاُجرة للإخلاص، و قد عرفت أنّ العمدة من مستنده منافاته لصفة الوجوب، فلا يتفاوت الحال بين التعبّدي و التوصّلي.

رابعها: اختصاص جواز أخذ الاُجرة بصورة قيام من به الكفاية، فلا يكون حينئذٍ واجباً.

و يزيّفه الفتوى و العمل، أمّا الأوّل فلأنّ فتوى الأصحاب مطلقة في صورتي قيام من به الكفاية و عدم قيامه، بل ظاهر كلامهم جوازه مع بقاء الوجوب بل مع تعيّنه أيضاً كما عرفت.

و أمّا الثاني فلأنّ المعلوم من عمل المسلمين بذل الاُجرة و أخذها مطلقاً، بل الغالب فيها ما يأخذه من قام به الكفاية حال قيامه بالعمل، كالطبيب و الفصّاد و الحجّام و غيرهم تراهم يأخذونها حال القيام، مع أنّه لا يعقل له مورد غالباً بعد قيام من به الكفاية.

خامسها: اختصاص المنع و الحرمة بالواجبات الكفاية المقصودة لذواتها كواجبات الميّت و تعليم و ما أشبه ذلك، لا ما يجب لغيره كالصناعات فإنّها وجبت لإقامة النظام.

و يزيّفه أوّلاً: أنّه لا فرق في دليل المنع من المنافاة الذاتيّة، فالدليل عقلي و هو لا يقبل التخصيص.

و ثانياً: أنّ الصنائع إذا وجبت لإقامة [النظام] فأخذ الاُجرة عليها راجع بالأخرة إلى أخذها على إقامة النظام، و هي واجبة لذاتها.

سادسها: أنّه كما وجبت الصنائع لإقامة النظام كذلك يجوز أخذ الاُجرة عليها لإقامة النظام أيضاً، و بعبارة اُخرى أنّ مصلحة إقامة النظام كما تدعو إلى إيجاب هذه الواجبات كذلك تدعو إلى تسويغ أخذ الاُجرة عليها، إذ لو لا جوازه لاختلّ النظام بوقوع أكثر الناس في المعصية بتركها أو ترك الشاقّ أو الدقيق منها طلباً للأسهل، فإنّهم

ص: 386

يرغبون في الصناعات الشاقّة أو الدقيقة طمعاً في الاُجرة بل زيادتها على ما اعتيد أخذه في غيرها، فتسويغ أخذ الاُجرة عليها لطف في التكليف بإقامة النظام.

و يزيّفه أوّلاً: انتقاض طرده بالواجبات العينيّة التعبّديّة الّتي يكثر المعصية بتركها، فينبغي أن يسوّغ فيها الاُجرة أيضاً لكونه لطفاً في التكليف بها.

و ثانياً: انتقاض عكسه، بأنّ المشاهد في الناس أنّ تحمّلهم الصنائع الشاقّة من الكفائيات لا يكون لداعي زيادة الاُجرة فيها بل لدواعي اُخر، مثل عدم الميل إلى ما عدا ما اختاروه، أو عدم قابليّتهم لغير المختار، و حسبك شاهداً بذلك أنّ أغلب الصنائع الشاقّة كالعمالة و الفلاحة و الحرث و الحصاد و ما أشبه ذلك لا يزيد اُجرتها على ما عداها من الأعمال السهلة الغير الشاقّة.

سابعها: أنّ الوجوب في هذه الاُمور مشروط بالتعويض و الواجب المشروط قبل حصول شرط وجوبه ليس بواجب، فعقد الإجارة الّتي يشترط فيها العوض يقع على العمل قبل وجوبه، و الاُجرة يستحقّها الأجير بسببه فيجب العمل حينئذٍ.

و يزيّفه أوّلاً: ما أنّ هذه الأعمال لا تجب لذواتها بل لتوقّف إقامة النظام عليها، و لا ريب أنّ إقامة النظام واجب مطلق، و ليس وجوبها مشروطاً بالتعويض فكيف يتصوّر كون ما يجب لأجلها واجباً مشروطاً بالتعويض ؟!.

و ثانياً: أنّ قضيّة البيان المذكور استناد وجوب هذه الاُمور إلى عقد الإجارة و أخذ الاُجرة فلا يكون بأصل الشرع كسائر ما يلتزمه الإنسان بعقد الإجارة، مع أنّ الضرورة قاضية بأنّها من الواجبات بأصل الشرع، غاية الأمر كونها واجبات غيريّة.

ثامنها: أنّ وجوب الصناعات المذكورة لم يثبت من حيث ذاتها بل إنّما وجب من حيث الأمر بإقامة النظام، و إقامة النظام غير متوقّفة على العمل تبرّعاً بل يحصل به و بالعمل بالاُجرة، فالّذي يجب على الطبيب لأجل إحياء النفس و إقامة النظام هو بذل نفسه للعمل لا بشرط به بل له أن يتبرّع به و أن يطلب الاُجرة، و حينئذٍ فإن بذل المريض الاُجرة وجب عليه العلاج، و إن لم يبذل الاُجرة و المفروض إفضاء ترك العلاج إلى الهلاك أجبره الحاكم حسبة على بذل الاُجرة للطبيب، و إن كان المريض مغمى عليه

ص: 387

دفع عنه وليّه، و إلّا جاز للطبيب العمل بقصد الاُجرة فيستحقّ الاُجرة في ماله، و إن لم يكن له مال ففي ذمّته فيؤدّي في حياته أو بعد مماته من الزكاة أو غيرها.

و يزيّفه: أنّ قصد التبرّع بالعمل و قصد أخذ الاُجرة عليه من قبيل الدواعي فيكونان من الحيثيّات التعليليّة، فلا يتعدّد بهما العمل بل العمل واحد، و هو إذا كان واجباً بأصل الشرع فالمكلّف مقهور على التبرّع به، و لا قدرة له في الامتناع عنه فلا يقع عليه عقد الإجارة، فلو وقع يكون لغواً غير مؤثّر لا في إيجاب العمل ثانياً و لا في استحقاق الاُجرة بإزائه.

و التحقيق في التفصّي أن يقال: إنّ الصناعات و إن كانت تنتظم بها المعاش و يتوقّف عليها إقامة النظام لكن لا في حدّ ذاتها، بل بواسطة التكسّب المتوقّف عليها.

و توضيحه: أنّ العمدة ممّا يتوقّف عليه إقامة النظام الأموال المتوقّف حصولها على التكسّب، فإنّ كلّ إنسان في نظم معاشه و انتظام اُموره في دينه و دنياه حتّى أرباب الصنائع يحتاج لمأكله و مشربه و ملبسه و منكحه و دفع المضارّ عن نفسه و حفظ نفسه عن الهلاك و علاج مرضه و غير ذلك ممّا لا يحصى إلى اُمور كثيرة غير محصورة، لا يمكن التوصّل إليها في الغالب إلّا ببذل الأعواض و صرف الأموال، فله بحسب جهات احتياجه جهات خرج كثيرة غير محصورة.

و لا ريب أنّ جهات الخرج تستدعي جهة دخل، و الغالب في آحاد نوع الإنسان كون دخله في جهة واحدة فالتاجر في تجارته، و الزارع في زراعته، و الفلاح في فلاحته، و الحارث في حرثه، و الحاصد في حصاده، و الفصّاد في فصده، و الحجّام في حجامته، و كذلك كلّ صانع في صنعته بأن يتّخذها وسيلة لتحصيل المال ليكفيه في جهات خرجه، حتّى أنّ الطبيب في طبابته.

و كما أنّ التاجر لو منع من التكسّب و تحصيل المال بتجارته، و الزارع لو منع من تحصيل المال بزراعته لاختلّ نظام اُموره في دينه و دنياه، فكذلك كلّ صانع لو منع من تحصيل المال بصنعته بأن يكون اتّخاذه لها وسيلة لكسب المال محرّماً عليه لاختلّ نظام اُموره في دينه و دنياه، فإقامة نظام النوع متوقّفة على انتظام اُمور كلّ شخص في

ص: 388

دينه و دنياه، و هو متوقّف على التكسّب، و هو متوقّف على الصناعات علماً و عملاً، فوجوب الصناعات حينئذٍ إنّما هو من حيث وجوب التكسّب المتوقّف عليها، ضرورة أنّه لا يتأتّى إلّا باتّخاذ كلّ صانع صنعته وسيلة لكسب المال بإجراء عقود المعاوضة من عقد بيع أو صلح أو إجارة أو جعالة أو غيرها عليها، و اللازم منه جواز أخذ الاُجرة عليها بل وجوبه و لو في الجملة، و مع هذا كيف يتصوّر كونه محرّماً؟.

و بالجملة الواجب من كلّ صنعة اتّخاذها وسيلة لكسب المال، و لا يكون ذلك إلّا بأخذ الاُجرة على عملها، فمعنى وجوب الصناعات كفاية هو هذا، بل الغالب في كلّ صانع وجوب صنعة عليه على التعيين، نعم القدر الواجب منه ما يكتفي به في جهات الخرج و يرتفع به الحاجة بجميع جهاتها، و أمّا الزائد عليه فإن كان للتوسعة على الأهل و العيالات أو للمواظبة على القربات و الخيرات - من الضيافات و الزيارات و الصدقات الجاريات و بناء بقاع الخير و إنفاق الفقراء وصلة الأرحام و ما أشبه ذلك - كان مستحبّاً، و إن كان لمجرّد إكثار المال و جمعه كان مباحاً.

فملخّص ما حقّقناه أنّ أخذ الاُجرة على الصناعات ليس من أخذ الاُجرة على الواجبات في شيء من مراتبه الثلاث، لأنّ معنى وجوبها هو وجوب التكسّب به و أخذ الاُجرة عليها لا غير، فليتدبّر فيه فإنّه دقيق و حقيق بالإذعان و القبول.

و ينبغي ختم المقام بإيراد مسائل متعلّقة بالباب:
الاُولى: مقدّمات الواجب كنفس الواجب في حرمة أخذ الاُجرة عليها،

كالحضور عند الجنازة للصلاة على الميّت أو تغسيله، و اغتراف الماء أو صبّه في التغسيل و إزالة ولي الميّت في قضاء فوائته للنجاسة عن لباسه أو بدنه و طلبه الماء للطهارة الحدثيّة و الخبثيّة و ما أشبه ذلك، لتعيّن فعلها على المكلّف بفعل الواجب فهو مقهور عليه و ليس له أن يمتنع عنه، و قضيّة ذلك تعيّن فعلها مجّاناً، فأخذ الاُجرة عليها أكل للمال بالباطل.

و لا يتفاوت الحال في ذلك بين القول بوجوب المقدّمة و القول بعدم وجوبها، لمكان تعيّن الفعل من جهة اللابدّيّة الّتي هو معنى الوجوب العقلي، بل الوجوب العقلي جهة جامعة بين القولين فليس له الامتناع، و لك أن تقول: إنّه على القولين مقهور على فعل

ص: 389

المقدّمات، فتعيّن عليه فعلها مجّاناً، فيحرم أخذ الاُجرة لكونه أكلاً للمال بالباطل.

الثانية: يجوز أخذ الاُجرة على إرضاع اللباء،

و هو أوّل ما تحلب الاُمّ ولدها مطلقاً أو إلى ثلاثة، كما هو المصرّح به في كلام جماعة، و لعلّه المشهور إن لم نقل بكونه إجماعاً، و يؤيّد الجواز بل يدلّ عليه إطلاق قوله تعالى: «فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ » (1).

و قد يستشكل: بكونه أخذاً للاُجرة على الواجب، لوجوب إرضاع اللباء على الاُمّ ، لتوقّف حياة المولود عليه لأنّه لا يعيش بدونه.

و دفع أوّلاً: بمنع أصل الوجوب، إذ لا دليل على أنّ الاُمّ يجب عليها إرضاع اللباء.

و دعوى أنّه ما يتوقّف عليه الحياة مردودة على مدّعيها، لشهادة الوجدان بل الحسّ بخلافها.

و ثانياً: منع تعيّنه على الاُمّ ، لأنّه قد يتأتّى من امرأة اُخرى غير الاُمّ ، إذا اتّفق ولادة اُخرى مقارنة لولادة هذا المولود.

و ثالثاً: منع كونه اُجرة على فعل الواجب بل هو أخذ عوض عن العين، نظير أخذ العوض عن المال المبذول فيمن وجب عليه بذله للمضطرّ، و قد تقدّم أنّه عوض عن المبذول لا عن أصل البذل هو الواجب عليه، و الواجب على الاُمّ أيضاً أصل الإرضاع و هو بذل اللباء الّذي هو عين له قيمة لا التبرّع بالمبذول. و يمكن أن يقال إنّه: ليس على وجه المعاوضة بل هو حقّ شرعي قرّره للاُمّ في مطلق إرضاعها الولد في مال الوليّ أو في ذمّته بحكم قوله تعالى: «فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ » (2) فلا يكون عوضاً و لا اُجرة و إن عبّر عنه بالاُجرة.

الثالثة: لا يجوز أخذ الاُجرة على تحمّل الشهادة و لا على أدائها على القول بوجوب التحمّل
اشارة

لمن دعاه إليه كما هو المشهور استناداً إلى قوله تعالى: «وَ لاٰ يَأْبَ اَلشُّهَدٰاءُ إِذٰا مٰا دُعُوا» (3) بضميمة الأخبار المستفيضة المفسّرة له بتحمّل الشهادة و الدعاء إليه، فتكون قرينة على التجوّز في المشتقّ بعلاقة ما يؤول، خلافاً للحلّي القائل باستحبابه استضعافاً للروايات لكونها من أخبار الآحاد، فتحمل الآية على الأداء عملاً بحقيقة المشتقّ .

ص: 390


1- الطلاق: 6.
2- الطلاق: 6.
3- البقرة: 282.

فوجه المنع فيه و في الأداء ما تقدّم من أنّ قضيّة الوجوب فيهما عيناً أو كفاية تعيّن بذله مجّاناً فلا يقابل بالعوض، فيكون أخذ الاُجرة عليه أكلاً للمال بالباطل.

و قد يستدلّ عليه بأنّ المستفاد من أدلّة الشهادة كون التحمّل و الأداء حقّاً للمشهود له على الشاهد، فالموجود في الخارج من الشاهد حقّ للمشهود له فلا يقابل بعوض، ضرورة استحالة مقابلة حقّ شخص بشيء من ماله، فيرجع أخذ المال في مقابله إلى أكل المال بالباطل.

فروع:
الأوّل: لو توقّف الحمل أو الأداء على قطع مسافة بعيدة

وجب مقدّمة فيحرم أخذ الاُجرة عليه أيضاً، لما تقدّم من أنّ الواجب إذا حرم أخذ الاُجرة عليه حرم أخذها على مقدّماته أيضاً، نعم لو افتقر إلى بذل مال كالافتقار إلى زاد أو راحلة لم يجب بذله على الشاهد من ماله، لأنّ المستفاد من أدلّتهما وجوب أصل التحمّل أو الأداء لا وجوب بذل المال للتحمّل أو الأداء، فيكون كلّ منهما بالإضافة إلى بذل المال أعني الزاد و الراحلة واجباً مشروطاً و إن كان بالإضافة إلى أصل قطع المسافة من الواجب المطلق، فإذا بذلهما الداعي أو صاحب الواقعة وجب القطع.

الثاني: لو أمكن إحضار الواقعة عنده لتحمّل الشهادة،

قيل: إنّ له أن يمتنع من الحضور و يطلب الإحضار، و قضيّة ذلك أن يجوز له أخذ الاُجرة على حضوره. و فيه نظر، لأنّ تحمّل الشهادة في نحو هذه الصورة إذا كان واجباً مطلقاً فمقدّمته أيضاً واجب مطلقاً، غاية الأمر أنّ حصول إحضار الواقعة من صاحب الواقعة مسقط عن المقدّمة الواجبة عليه، و إمكانه لا ينافي إطلاق وجوبها نظير غسل الثوب على المكلّف بالصلاة مقدّمة لها مع إمكان سقوطها بفعل الغير. و بالجملة حضور الشاهد عند الواقعة لتحمّل الشهادة مقدّمة للواجب المطلق فيكون واجباً، فكيف يقال: بجواز الامتناع منه ؟ و إذا لم يجز الامتناع منه فكيف يقال بجواز أخذ الاُجرة عليه ؟!.

نعم إنّما يتّجه ما ذكر لو كان التحمّل في نحو هذه الصورة واجباً مشروطاً بإحضار الواقعة، فله حينئذٍ أن يمتنع من الحضور لعدم وجوبه و يطلب الإحضار و لكنّه خلاف

ص: 391

مقتضى إطلاق الآية، و التقييد الموجب لاشتراط الوجوب يحتاج إلى دليل و لا دليل.

الثالث: ما تقدّم من منع أخذ الاُجرة على التحمّل أو الأداء إنّما هو إذا أخذها من المشهود له،

و أمّا لو أخذها ممّن يشاركه في الفرض في صورة الوجوب كفاية لفائدة إسقاط الفرض عنه فقيل بعدم جوازه أيضاً، و لعلّ وجهه أنّ فائدة الإسقاط في الكفائي ليست منفعة تقابل بالعوض في نظر الشارع، لأنّها على تقدير القيام بفعل الكفائي ضروري الحصول، و على تقدير عدمه ممتنع الحصول، فلا تكون من المنافع المقدور على تسليمها، فلا تصلح مورداً لعقد الإجارة و لا مطلق المعاوضة، مع أنّ هذه الفائدة مشتركة بين فاعل الكفائي و من يشاركه في الفرض، فيصير أخذ الاُجرة عليها مع عودها إلى نفسها كالجمع بين العوض و المعوّض.

مع إمكان أن يقال: كما أنّ تحمّل الشهادة و أدائها حقّ للمشهود له فلا يقابل بشيء من ماله، كذلك فائدة إسقاط الفرض عن الباقين بفعل البعض كالحقّ لهم فلا يقابل بشيء من مالهم، مع أنّ فاعل الكفائي على تقدير قيامه بالفعل مقهور على بذلها يمتنع عليه الإمساك عنها، فتكون نظير مقدّمة الواجب على القول بعدم وجوبها، فالمنع جيّد.

الرابعة:

الاُجرة على القضاء الواجب على الحاكم الشرعي عيناً أو كفاية بالمعنى المتناول للجعل، و المشهور ظاهراً المنع من أخذها مطلقاً و لو من بيت المال، و عن جامع المقاصد(1) دعوى النصّ و الإجماع عليه، و عن الخلاف(2) صريحاً و المبسوط(3)ظاهراً دعوى الإجماع على تحريم الجعل الّذي هو أعمّ من الاُجرة. خلافاً للمقنعة(4)و النهاية(5) و القاضي(6) على ما حكي عنهم فجوّزوا أخذه من بيت المال، و لمختلف(7)العلّامة على ما تقدّم منه من جواز أخذها عليه مع عدم التعيين، و يظهر الميل إليه من عبارة المحقّق في الشرائع(8) مع الحاجة إلّا أنّه جعل المنع أولى.

و الأصحّ المنع مطلقاً، لأنّ القضاء الّذي يؤخذ الاُجرة أو الجعل عليه، إن اُريد به

ص: 392


1- جامع المقاصد 36:4.
2- الخلاف 233:6 المسألة 31.
3- المبسوط 85:8.
4- المقنعة: 588.
5- النهاية: 367.
6- المهذّب 346:1.
7- المختلف 18:5.
8- الشرائع 69:4.

مجموع يتصدّاه القاضي عند الترافع إليه، من سماع دعوى المدّعي و إحضار المدّعى عليه و طلب الجواب منه، و طلب البيّنة من المدّعي على تقدير إنكار المدّعى عليه، ثمّ طلب تزكية الشهود أو جرحهم، و إحلاف المنكر على تقدير عدم بيّنة للمدّعي إلى غير ذلك ممّا يستعمله القاضي في مجلس الترافع إلى أن يبلغ حدّ الحكم الإنشائي فهو حقّ للمترافعين، و القاضي مقهور عليه فلا يقابل بعوض منهما و لا من أحدهما و لا من غيرهما. و إن اُريد به خصوص الحكم الإنشائي فهو حقّ للمحكوم له فلا يقابل بعوض منه أو من غيره، لكونه من أكل المال بالباطل.

و يدلّ عليه أيضاً - بعد الإجماع المنقول المعتضد بالشهرة - صحيح عمّار بن مروان المرويّ عن الخصال قال: «كلّ شيء غلّ من الإمام فهو سحت، و السحت أنواع كثيرة، منها: ما اُصيب من أعمال الولاة الظلمة، و منها: اُجور القضاة و اُجور الفواحش، و ثمن الخمر و النبيذ المسكر، و الربا بعد البيّنة»(1) الخ.

مضافاً إلى صحيح ابن سنان المرويّ عن المحمّدين الثلاث قال: «سئل أبو عبد اللّٰه عليه السلام عن قاض بين فريقين يأخذ على القضاء من السلطان الرزق ؟ فقال: ذلك السحت»(2). بناءً على كون المراد من الرزق المأخوذ من السلطان ما يأخذه القاضي على وجه الاُجرة لا ما يرتزقه من بيت المال فإنّه حلال بلا إشكال، لكون بيت المال معدّاً لمصالح المسلمين و القاضي و قضاؤه من أهمّ مصالحهم. إلّا أنّه نوقش في هذه الصحيحة من وجوه أسدّها أنّ هذا القاضي بقرينة السلطان منصوب من قبل الجائر، و لا ريب أنّه مثل هذا الشخص غير قابل للقضاوة فيحرم عليه ما يأخذه و لو بعنوان الارتزاق من بيت المال.

و قد يستدلّ أيضاً ببعض أخبار الرشوة، بناءً على أنّها في بعض الأخبار اُطلقت على مطلق العوض.

و حيث انجرّ الكلام إلى ذكر الرشوة فينبغي صرف عنان البحث إليها حكماً و موضوعاً،

اشارة

ببيان أنّ رشوة القاضي مع الاُجرة على القضاء هل هما متّحدان أو

ص: 393


1- المسالك 163:3.
2- الوسائل 1/22:27، ب 8 آداب القاضي، التهذيب 527/222:6.

متغايران ؟ و على الثاني تغايرهما هل هو على وجه التباين الكلّي أو الجزئي أو العموم و الخصوص ؟ فنقول:

أمّا الحكم

فتحريم الرشوة على الحاكم إجماعي، و في المسالك(1) كما عن جامع(2)المقاصد «أنّ عليه إجماع المسلمين» و يمكن دعوى الضرورة فيه في الجملة.

و يدلّ عليه مضافاً إلى ذلك النصوص المستفيضة القريبة من التواتر بل المتواترة في الحقيقة، ففي بعضها: «لعن رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم الراشي و المرتشي»(3) و في رواية يوسف بن جابر: «لعن رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم من نظر إلى فرج امرأة لا تحلّ له، و رجلاً خان أخاه في امرأته، و رجلاً احتاج الناس إليه لفقهه فسألهم الرشوة»(4).

و في بعضها كون أخذها شركاً كما في رواية الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: «أيّما وال احتجب من حوائج الناس احتجب اللّٰه عنه يوم القيامة و عن حوائجه، و إن أخذ هديّة كان غلولاً، و إن أخذ الرشوة فهو مشرك»(5).

و في جملة كثيرة منها جعلها سحتاً أو عدّها من السحت، و من ذلك رواية يزيد بن فرقد عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «سألته عن السحت ؟ فقال: الرشا في الحكم»(6) و رواية السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «السحت ثمن الميتة، و ثمن الكلب، و ثمن الخمر، و مهر البغيّ ، و الرشوة في الحكم، و أجر الكاهن»(7).

و في جملة كثيرة أيضاً: فأمّا الرشا في الحكم فهو الكفر باللّٰه العظيم، و من ذلك ما في مرسلة الفقيه قال: «قال عليه السلام: أجر الزانية سحت، و ثمن الكلب الّذي ليس بكلب الصيد سحت، و ثمن الخمر سحت، و أجر الكاهن سحت، و ثمن الميتة سحت، فأمّا الرشا في الحكم فهو الكفر باللّٰه العظيم»(8). و الصحيح المرويّ عن الخصال عن أبيه عن

ص: 394


1- المسالك 163:3.
2- جامع المقاصد 35:4.
3- البحار 274:101.
4- الوسائل 5/223:27، ب 8 آداب القاضي.
5- الوسائل 10/94:17، ب 5 ما يكتسب به، عقاب الأعمال: 1/310.
6- الوسائل 4/93:17، ب 5 ما يكتسب به، الكافي 4/127:5.
7- الوسائل 5/93:17، ب 5 ما يكتسب به، الكافي 2/126:5.
8- الوسائل 8/94:17، ب 5 ما يكتسب به، الفقيه 435/105:3.

سعد عن أحمد بن محمّد عن ابن محبوب عن أبي أيّوب عن عمّار بن مروان قال: «قال أبو عبد اللّه عليه السلام: كلّ شيء غُلّ من الإمام فهو سحت، و السحت أنواع كثيرة، منها: ما اُصيب من أعمال الولاة الظلمة، و منها: اُجور القضاة، و اُجور الفواجر، و ثمن الخمر و النبيذ المسكر، و الربا بعد البيّنة، فأمّا الرشاء - يا عمّار - في الأحكام فإنّ ذلك الكفر باللّٰه العظيم و برسوله»(1).

و قد يستدلّ عليه بالكتاب، و كأنّ النظر فيه إلى قوله تعالى: «وَ لاٰ تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ وَ تُدْلُوا بِهٰا إِلَى اَلْحُكّٰامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوٰالِ اَلنّٰاسِ بِالْإِثْمِ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ » (2)بناءً على بعض التفاسير في «وَ تُدْلُوا» عطفاً على المنهيّ ، و الإدلاء هو الإلقاء و إعطاء الأموال إلى الحكّام رشوةً لأجل أحكامهم المتوسّل بها إلى أكل طائفة من أموال الناس مأخوذة بسبب هذه الأحكام بغير حقّ .

قيل: الآية تدلّ على النهي عن شيئين:

أحدهما: عن أكل الأموال بسبب باطل غير مشروع، كالقمار و السرقة و الخيانة و الغصب و العقود الفاسدة.

و الآخر: عن إدلاء الأموال إلى الحكّام أي لا تعطوا الحكّام أموالكم ليحكموا لكم، و هذا مستعار من قول العرب: «و أدلى دلوه أي أرسله» و هو إرسال الرشوة إلى الحكّام للتوصّل إلى حكمهم، كمن أرسل دلوه إلى البئر للتوصّل إلى الماء.

و أمّا الموضوع:

فنقول: قد ظهر ممّا سبق في أخذ الاُجرة على الواجبات أنّ عنوان الاُجرة على القضاء هو الاُجرة على الواجب، و تحريم أخذها عليه إنّما هو من حيث وجوبه على القاضي، فإن اُريد به خصوص الحكم الإنشائي إذا تعيّن لأحد المتخاصمين بعد إعمال موازين القضاء فهو حقّ فيكون واجباً، و قضيّة ذلك كون الحكم للآخر باطلاً فيكون محرّماً. فالقاضي إن أخذ مالاً على الحقّ و هو الحكم لمن له الحكم فهو أخذ للاُجرة على القضاء الواجب، و إن أخذ مالاً على الباطل أي ليحكم للطرف

ص: 395


1- الوسائل 2/95:17، ب 5 ما يكتسب به، الخصال 26/329:1.
2- البقرة: 188.

الآخر فهو الرشوة، و على هذا فيحصل الفرق بينهما بالتباين الكلّي و كلاهما محرّمان إلّا أنّ الأوّل لكونه أخذاً للاُجرة على الواجب، و الثاني لكونه أخذاً للاُجرة على المحرّم.

و يؤيّده أو يساعد ما في المجمع كما عن النهاية من أنّ الرشوة قلّما تستعمل إلّا فيما يتوصّل به إلى إبطال حقّ أو تمشية باطل.

و إن اُريد به التوجّه إلى أمر المترافعين من أوّل أعمال القاضي إلى أن ينتهي إلى الحكم الإنشائي أعني مجموع هذه الأعمال فهو أيضاً واجب و أخذ الاُجرة عليه أيضاً حرام، فأخذ الاُجرة على القضاء حينئذٍ يصدق على أخذها على المجموع و على أخذها على خصوص الحكم الإنشائي، و فسّر الحكم بما يعطيه أحد المتحاكمين الحاكم ليحكم له حقّاً كان أو باطلاً كان الفرق بينهما بالتباين الجزئي، لافتراق الأوّل فيما يؤخذ على القضاء بمعنى التوجّه إلى أمر المترافعين من دون نظر إلى خصوص الحكم فإنّه لا يسمّى رشوة. و افتراق الثاني فيما إعطاء المبطل منهما لأن يحكم له بالباطل، فإنّه رشوة لا تسمّى اُجرة على القضاء الواجب، و اجتماعهما فيما يعطيه المحقّ لأن يحكم له فإنّه رشوة من هذه الحيثيّة، و اُجرة على القضاء من حيث وجوب ذلك الحكم.

و أرجح الوجهين ثانيهما وفاقاً للشيخ الشارح للقواعد على ما حكي من قوله:

«إنّها ليست مطلق الجعل كما في القاموس(1) بل بينها و بين الأجر و الجعل عموم من وجه، و لا البذل على خصوص الباطل كما في النهاية(2) و المجمع(3) و لا مطلق البذل و لو على خصوص الحقّ ، بل هو البذل على الباطل أو على الحكم له حقّاً أو باطلاً مع التسمية و بدونها»(4) و ستعرف معنى تتمّة كلامه.

بل ظاهر المحكيّ عن مفتاح الكرامة كون العموم في جانب الرشوة محلّ وفاق بين الأصحاب لقوله: «إنّها عند الأصحاب ما يعطي للحكم حقّاً و باطلاً»(5) و يعطيه ظاهر كلام جامع المقاصد قائلاً: «بأنّ الجعل من المتحاكمين للحاكم رشوة»(6) كما حكي. و في معناه عبارة المسالك من «أنّها أخذ الحاكم مالاً لأجل الحكم»(7) و هو

ص: 396


1- القاموس المحيط 334:4.
2- النهاية لابن الأثير 226:2.
3- مجمع البحرين 184:1.
4- شرح القواعد 289:2.
5- مفتاح الكرامة 321:12.
6- جامع المقاصد 37:4.
7- المسالك 347:13.

ظاهر ما عن الحلّي بل صريحه في مسألة تحريم أخذ الرشوة مطلقاً و إعطائها «إلّا إذا كان على إجراء حكم صحيح فلا يحرم على المعطي»(1).

و تبعه على ذلك جماعة حيث حرّموا الرشوة على الحكم الباطل من الآخذ و المعطي، و على الحكم الحقّ من الآخذ دون المعطي لو توقّف توصّله إلى حقّه على إعطائها. و يؤيّده بل يساعد عليه المحكيّ عن المصباح المنير من «أنّها ما يعطيه الشخص للحاكم أو غيره ليحكم له أو يحمله على ما يريد»(2) و نحوه ما في المجمع.

و عليه فلا ينافيه ما تقدّم من عبارته كما عن النهاية أيضاً إذ لا مانع في كونها غالب الاستعمال فيما يتوصّل إلى إبطال حقّ أو تمشية باطل، و قليل الاستعمال فيما يتوصّل به إلى الحقّ مع صدق الاسم عليهما حقيقة كما يشهد به العرف أيضاً.

لأنّا نرى صدقها على كلّ ممّا يبذل للحكم حقّاً أو باطلاً، و تستعمل في كلّ منهما من دون صحّة سلب الاسم. بل يدلّ عليه النصوص المصرّحة بكون الرشوة في الحكم سحتاً، أو كون الرشاء في الأحكام كفر باللّٰه العظيم، لعموم الحكم و الأحكام كلّاً من الحقّ و الباطل، و لا ينافيه الرشاء في الأحكام لاُجور القضاة في صحيح(3) عمّار لكفاية التباين الجزئي في صحّة المقابلة، هذا كلّه في الفرق بينهما بحسب المورد.

و بينهما فرق آخر بحسب العنوان، بتقريب أنّ الاُجرة على القضاء ما يؤخذ بعنوان الإجارة أو الجعالة، نظراً إلى أنّ الاُجرة قد يطلق على ما تعمّ الجعل، كما أنّ الجعل يطلق على ما يعمّ الاُجرة، و الرشوة على الحكم قد تكون بعنوان الإعطاء و البذل المطلق، و قد تكون بعنوان الإجارة، و قد تكون بعنوان الجعالة، و قد تكون بعنوان المحاباة كالصلح أو البيع من الحاكم بأقلّ من ثمن المثل لغرض أن يحكم له، و قد تكون بعنوان الهبة المجّانيّة، و قد تكون بعنوان الهديّة، و قد تكون بعنوان العاريّة، و قد تكون بعنوان الوقف على الحاكم، و قد يكون بصيغة ردّ المظالم أو الزكاة أو الخمس أو خصوص سهم الإمام، أو غيره من وجوه البرّ و الصدقات الواجبة و المندوبة، و كلّ ذلك

ص: 397


1- السرائر 166:2.
2- المصباح المنير 228:1.
3- الوسائل 12/95:17، ب 5 ما يكتسب به، الخصال 26/329:1.

كما ترى يصدق عليه الرشوة عرفاً و لغة، و يندرج في تراجم أهل اللغة و تفاسير الفقهاء فيتناولها أدلّة التحريم.

و قضيّة حرمة أخذه على الحاكم فساد العقود و الصيغ المفروضة، و عدم تأثيره في النقل و الانتقال و لا براءة ذمّة المعطي و لا تملّك الآخذ و ملكه، و السرّ فيه أنّ جهة الرشائيّة صفة مبغوضة في نظر الشارع إذا طرأت المال كانت مانعة عن صحّة العقود أو الصيغ الجارية عليه، أو أنّ النكتة فيه فساد القصد و النيّة بحسب الواقع و اعتبار إحدى العناوين المذكورة، و التسمية باسمه لباس ظاهري لا ينوط به الصحّة و التأثير، حتّى أنّ النيّة في أداء الوجوه الواجبة أو المندوبة المنوط صحّته بالإخلاص و قصد القربة مشوبة غير خالصة، لأنّ أصل الداعي إليه في نفس الأمر هو التوصّل إلى استخراج الحكم حقّاً أو باطلاً.

و ربّما يشكل الحال فيما لو كان للحاكم دين على أحد المترافعين، أو عين مغصوبة في يده و كان منكراً أو ممتنعاً من أداء الدين، أو ردّ العين غصباً و هو من أهل الاستيلاء، ففي هذا المقام الّذي هو موضع حاجته يردّ الدين أو العين لغرض أن يحكم له، فهل هو رشوة ؟ فيحرم كلّ من الإعطاء و الأخذ، أوْ لا فلا يحرم شيء منهما، أو يفصّل بين الدين فيحرم و العين فلا يحرم. و وجه الفرق أنّ الردّ في الأوّل إيجاد للمقتضي فلا يؤثّر في تعيّن المال للحاكم لطروّ جهة الرشائيّة، و الثاني رفع للمانع و هو يده الغاصبة عن العين المملوكة للحاكم فيجوز له أخذها و التصرّف فيها للأصل و «عموم الناس مسلّطون على أموالهم». و هذا جيّد.

و لكنّ الأجود هو أوسط الوجوه، لتطرّق المنع من صدق الرشوة على مثل ذلك عرفاً و لغة، لظهور تراجم أهل اللغة و تفاسير الفقهاء في كون المال المبذول من مال باذله الّذي أعطاه الحاكم لمجرّد أن يحكم له، و هذا دَيناً و عيناً مال الحاكم فلا يشمله أدلّة التحريم.

ثمّ الظاهر بل المقطوع به اختصاص الرشوة موضوعاً و حكماً بالأموال،

و عدم جريانهما في الأعمال كأن يخدمه أو يعمل له عملاً ليحكم له، و لا الأقوال بأن يمدحه و يمجّده و يبجّله و يثني عليه في الحضور و الغياب و يفرط في تعظيمه لإلقاء حبّه و مودّته في قلبه ليدعوه إلى الحكم له، لصحّة سلب الاسم فلا يشملهما أدلّة التحريم.

ص: 398

و هل تختصّ في الأموال بالأعيان أو تعمّ المنافع أيضاً؟ بأن يوجره داره أو غيرها من أملاكه بأقلّ من ثمن المثل، أو أباح له منافع عقار من عقاراته مدّة ليحكم له، الظاهر هو الثاني لصدق الاسم عرفاً و لغة.

ثمّ المال المبذول للحكم قد يكون مبذولاً ليحكم له في خصومة وقعت في الحال، و قد يكون مبذولاً له في خصومة يقصدها في الاستقبال،

و قد يكون مبذولاً لأجله في خصومة على تقدير وقوعها في المال، و في اختصاص الرشوة بالأوّل أوْ عمومها لغيره قولان، أحدهما التعميم الّذي صرّح به الفاضل النراقي في المستند(1) و نقل القول به أيضاً إلى كتب غير واحد من الأصحاب، و أنكره السيّد في الرياض(2) فخصّها بالأوّل.

و الأصحّ هو الأوّل، لصدق الرشوة عرفاً على الجميع، و تناول نصّ أهل اللغة و الفقهاء للجميع، مع عموم الروايات لكون الجميع رشوة في الحكم و رشاء في الأحكام. و ربّما استدلّ عليه بما دلّ من الأخبار على أنّ هدايا العمّال غلول، و في بعضها أنّها سحت.

و ليس ببعيد على تقدير سلامة الإسناد.

ثمّ قد عرفت ممّا سبق أنّ من جملة وجوه الرشوة إعطاء و أخذ الهديّة،

و هي مال يرسله إنسان إلى آخر لأغراض، و هذا الغرض فيما كان المرسول إليه هو الحاكم قد يكون نفس الحكم، و قد يكون إيراث المحبّة و المودّة الباعثة له على الحكم، و الظاهر أنّ كليهما من الرشوة المحرّمة لصدق الاسم عرفاً و لغة و عموم أدلّة الحرمة. و يستفاد من عبارات جماعة اختصاص الهديّة بما كان لإيراث المحبّة المحرّكة إلى الحكم، و ليس بشيء لكثرة ما يقصد التحريك إلى الحكم من نفس الهديّة. و قد يستدلّ على الحرمة في ما يقصد به إيراث المحبّة المحرّكة إلى الحكم أو مطلق الهديّة على تقدير عدم صدق الاسم بما ورد من «أنّ هدايا العمّال سحت»(3) أو «أنّها غلول»(4) مضافاً إلى ما تقدّم في رواية الأصبغ بن نباتة من قوله عليه السلام «و إن أخذ هديّة كان غلولاً»(5) و إلى تنقيح المناط.

ص: 399


1- المستند 181:14.
2- الرياض 182:8.
3- الوسائل 6/237:27، ب 8 أبواب آداب القاضي.
4- مسند أحمد 424:5.
5- تقدّم في الصفحة: 394.
ثمّ إنّ العبرة في كون المال المبذول للحكم رشوة بقصد المعطي لا الآخذ،

فإن أعطاه لغرض أن يحكم له و أخذه الحاكم لا بهذا القصد كان من الرشوة المحرّمة، حتّى أنّه لو اطمأنّ على نفسه بأنّه لا يزلّ في مقام الحكم و لا يميل نفسه إلى باذل المال كان رشوة محرّمة أيضاً، لصدق الاسم و إطلاق كلام أهل اللغة و الفقهاء في تفسيرها. نعم حرمة أخذه مقصورة على ما لو علم الآخذ بقصد المعطي، فلو جهل و لو بكونه ظانّاً أو شاكّاً لا ضير في أخذه، لعموم أصل البراءة في الشبهات الموضوعيّة و إن كان التحلّي بحلية التقوى و سلوك طريق الاحتياط يقتضي أولويّة تجنّبه.

ثمّ إنّه قد ظهر من تضاعيف كلماتنا المتقدّمة أنّ الرشوة كما يحرم أخذها على الحاكم و هو المرتشي، فكذا يحرم إعطاؤها على الراشي،

كما هو المصرّح به في كلام الأصحاب بل عليه الإجماع ظاهراً، و يدلّ عليه من النصوص ما تقدّم(1) من لعن الرسول صلى الله عليه و آله و سلم «الراشي و المرتشي» و في كلام جماعة(2) تعليلها في الراشي بكونه إعانة على الإثم، و إن كان في أصله أو اطّراده موضع نظر. و يستثنى الإعطاء من الحرمة فيما لو كان المعطي محقّاً و توقّف الوصول إلى حقّه بإعطاء الرشوة، فيجوز إعطاؤها حينئذٍ للراشي و إن حرم أخذها على المرتشي، كما هو المصرّح به في كلام جماعة منهم الحلّي(3) فيما تقدّم من عبارته، و إطلاقها بالقياس إلى صورة عدم توقّف الوصول إلى الحقّ منزّل على صورة التوقّف. و دليل الاستثناء حينئذٍ قاعدة نفي الضرر الحاكمة على سائر الأدلّة الخاصّة الّتي منها ما نحن فيه.

ثمّ إنّ المصرّح به في كلام جماعة جريان الرشوة في غير الحكم من الغايات الاُخر

الّتي يتوصّل إليها ببذل مال حقّاً كانت الغاية المقصودة أو باطلاً، و هذا صريح ما تقدّم من كلام المصباح المنير كما في المجمع أيضاً، و ربّما نسب إلى النهاية الأثيريّة أيضاً.

و خصّه في شرح القواعد بما لو كانت الغاية باطلة، و قد سمعت تمام عبارته و موضع البحث منه قوله: «بل هو البذل على الباطل أو على الحكم حقّاً أو باطلاً»(4).

و هذا جيّد، لمنع إطلاق الرشوة على ما كان لتمشية حقّ و هو الغاية المباحة، كما

ص: 400


1- تقدّم في الصفحة: 394.
2- كما في الرياض 182:8، الشرائع 12:2.
3- السرائر 217:2.
4- شرح القواعد 27:1.

لو بذل مالاً لمن يصلح أمره عند الأمير أو غيره، أو لحاكم الجور لرفع ظلم ظالم عنه، أو لرفع يد غاصبة عن عينه المغصوبة، أو لاسترجاع حقّه أو استيفاء دينه و ما أشبه.

و لو اطلق الرشوة على نحو ذلك في بعض الأحيان كان مجازاً لصحّة سلب الاسم.

و لو سلّم دخوله في الاسم فلا ينبغي التأمّل في خروجه من الحكم أخذاً و إعطاءً فلا يحرم، إمّا لعدم عموم في أدلّة تحريمها حيث يشمل المقام و الإطلاق في مطلقات تلك الأدلّة منصرف إلى غير ما نحن فيه، أو لورود التخصيص عليها من جهة الإجماع فتوى و عملاً، و ممّا ينهض للتخصيص ما في الصحيح «عن الرجل يرشو الرجل على أن يتحوّل من منزله ليسكنه، قال: لا بأس»(1) بناءً على كون المراد من المنزل ما يكون من الأوقاف كالمدرسة و الخان و الرباط و ما أشبه ذلك، كما فهمه صاحب الوسائل و تبعه غير واحد من مشايخنا(2). نعم لو كانت الغاية المقصودة من البذل محرّمة - كما لو أعطى حاكم الجور ليعينه على ظلمه، أو يقرّه عليه أو على غصبه أو على خوضه في معصية أو لأن يضرب أحداً ظلماً أو يأخذ منه مالاً بغير حقّ - فالظاهر كونه من الرشوة المحرّمة، لصدق الاسم عليه عرفاً. و لو سلّم صحّة سلبه فالظاهر كونه حراماً أيضاً، لكونه من أكل المال بالباطل، فيختصّ الحرمة حينئذٍ بالآخذ، إلّا إذا صدق على فعل المعطي الإعانة على الإثم فيحرم عليه أيضاً، و لكنّه غير مطّرد.

ثمّ إنّ قضيّة كون الرشوة في موضع تحريمها سحتاً عدم خروجها عن ملك المعطي بل بقاؤها في ملكه،

فيجب على الآخذ ردّها إليه إن كانت عينها باقية إجماعاً كما في المستند(3) و لو تلفت في يده و لو من غير تفريط ففي الضمان كلام، فمن مشايخنا(4) من استشكله مع علم الدافع لأنّه سلّطه على إتلاف ماله فلا يستحقّ عليه عوضاً، و في المستند «يجب عليه ردّ عوضها مع تلفها و إن لم يكن التلف بتفريطه وجوباً فوريّاً على المصرّح به في كلام الأصحاب». و هذا منه يؤذن بالإجماع على ضمان العوض مثلاً أو قيمة، ثمّ قال: «و هو فيما إذا كان بذلها من غير رضى الباذل و طيب نفسه ظاهر، و أمّا لو بذلها بطيب نفسه سيّما إذا حكم له بالحقّ فإن ثبت الإجماع على ثبوت غرامتها

ص: 401


1- الوسائل 2/278:17، ب 85 أبواب ما يكتسب به.
2- كالنجفي في الجواهر 148:22.
3- المستند 74:17-75.
4- الجواهر 149:22.

عليه و ضمانه إيّاها مطلقاً و إلّا فللتأمّل فيه للأصل مجال واسع»(1).

و من مشايخنا من فصّل بين ما لو كان مبنى بذله على المعاوضة، كما لو بذلها على وجه الاُجرة أو الجعالة أو البيع أو الصلح المحابي على معنى اعتبار كون الحكم عوضاً عنه يجب عليه الضمان، و ما لم يكن كذلك كالبذل على وجه الإعطاء المطلق أو هبة مجّانيّة أو هديّة فالوجه عدم الضمان، لعموم القاعدة كلّما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده المختصّة بعقود المعاوضة و عكسها كلّما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده المختصّة بغير عقود المعاوضة»(2).

أقول: هذا التفصيل جيّد إلّا أن يكون إطلاق الضمان إجماعاً و ليس بثابت، و كونها من السحت لا يلازم الضمان، و عموم على اليد مخصوص بما لم يكن مترتّباً على التسليط المجّاني و لذا لا يضمن بالهبة الفاسدة في غير هذا المقام.

خاتمة: في أخذ الاُجرة على المندوبات،

اشارة

و اختلف في جوازه و العدم، فقيل بالجواز كما عن الأكثر(3) للأصل و انتفاء المانع، و عن بعض الأصحاب(4) و لعلّه ابن جنيد عدم الجواز في مستحبّات تجهيز الميّت لإطلاق النهي، و كأنّه عثر على نصّ فيه نهى عن أخذها في تجهيز الميّت متناول إطلاقه لمستحبّاته فيكون ذلك بمثابة رواية مرسلة.

و قد يفصّل «بين ما كان استحبابه ذاتيّاً فلا يجوز لمنافاة الإجارة للرجحان و القربة و ما كان استحبابه توصّليّاً و كان له نفع للمستأجر فيجوز للأصل»(5) و هذا هو القول الفصل.

و تفصيل القول فيه أنّ المندوب إمّا أن يكون مستحبّاً على المستأجر، فجواز أخذ الاُجرة عليه مبنيّ على أحد الأمرين: من قبوله النيابة كالحجّ المندوب و نحوه، أو قبوله التسبيب كبناء المسجد و نحوه. و قد سبق بيان الفرق فيما بينهما مشروحاً و هذا بكلا قسميه خارج عن محلّ البحث، لأنّ الكلام في أخذ الاُجرة على ما يستحبّ على الإنسان نفسه لا على ما يستحبّ على غيره، كالكلام المتقدّم في أخذ الاُجرة على

ص: 402


1- المستند 74:17-75.
2- المكاسب 248:1-249.
3- كما في المستند 182:14، السرائر 217:2، نهاية الأحكام 474:2، جامع المقاصد 35:4، المسالك 130:3.
4- حكاه في الإيضاح 408:1 عن ابن البرّاج.
5- مفتاح الكرامة 312:12.

الواجب أعنى ما يجب على الإنسان نفسه لا على غيره. فما قد يوجد في بعض العبارات من التمثيل لما يؤخذ عليه الاُجرة من المندوبات بالاُجرة على الحجّ و نظائره و الاُجرة على بناء المسجد و ما أشبهه أو نقض القول بالمنع بنحو الاُمور المذكورة، فليس على ما ينبغي.

أو يكون مستحبّاً على الأجير، و هذا هو محلّ الكلام إذا اشتمل على فائدة و منفعة تعود إلى المستأجر، لأنّ ما لم يشتمل على نحو هذه الفائدة و المنفعة فهو ممّا لا يقع عليه عقد الإجارة من أصله و إن كان مباحاً لأنّ من شروط عقد الإجارة كون العمل المستأجر عليه مشتملاً على منفعة يصحّ عودها إلى المستأجر، فيكون ما لا منفعة فيه تعود إليه خارجاً عن موضوع المسألة.

و توهّم: أنّ هذا الفرض ممّا لا تحقّق له في المندوبات، لأنّ أقلّ مراتب فائدة العمل المندوب الثواب المعدّ له المترتّب عليه، و هذه الفائدة يمكن عودها إلى غير العامل، بأن يبذل له الثواب و يأخذ بإزائه العوض.

يدفعه: أنّ الثواب ممّا لا يقابل بالعوض لما بيّنّاه سابقاً. ثمّ ما اشتمل من المستحبّات على منفعة يمكن عودها إلى غير عاملها لا يخلو إمّا أن يكون المنفعة المفروضة فيه مرتبطة بالإخلاص و قصد القربة بحيث يلزم من انتفائهما انتفاؤها كإعادة الفريضة لمن صلّاها فرادى لفائدة اقتداء الغير به فيها و إدراكه فضيلة الجماعة، أو لم تكن مرتبطة بهما فلا يلزم من انتفائهما انتفاؤها، كالسعي في قضاء حاجة المؤمن.

و الأوّل: ما لا يجوز أخذ الاُجرة عليه، لأنّه يوجب انتفاء قصد القربة و الإخلاص الموجب لانتفاء فائدة الاقتداء و فضيلة الجماعة الموجب لعدم جواز أخذ الاُجرة عليه، فيكون أخذ الاُجرة ممّا يلزم من وجوده عدمه و هو محال، و لا كلام في كبرى هذه القاعدة، و أمّا صغراها فلأنّ قضيّة عقد الإجارة الوارد على عمل أن يكون الداعي المحرّك إلى الإتيان بالعمل المستأجر عليه هو استحقاق المستأجر له، لا على معنى أنّه من شروط الصحّة بل بمعنى أنّه قهريّ الحصول في كلّ عمل مستأجر عليه، و أنّه المركوز في الأذهان كما يشاهد في الخيّاط في خياطته و العامل في عمله، حتّى أنّه لو سئل عن الجهة الباعثة عليه لعلّله باستحقاق المستأجر له، و لا ريب أنّه ينافي قصد

ص: 403

القربة بمعنى كون الداعي إليه امتثال الأمر الاستحبابي أو الإخلاص إن تحقّق معه داعي امتثال الأمر أيضاً، و أيّاً ما كان فهو موجب لبطلان العمل، و هو موجب لعدم حصول الفائدة المطلوبة منه، و هذا هو معنى الاستدلال على المنع بمنافاة أخذ الاُجرة لقصد القربة و الإخلاص.

فما أورد عليه من منع المنافاة لأنّ أخذ الاُجرة يؤكّد القربة و الإخلاص لأنّ عقد الإجارة يقضي بوجوب العمل و الوجوب زيادة على الاستحباب مؤكّدة للقربة و الإخلاص لا أنّها تنافيهما، واضح الدفع بأنّ حصول هذه الزيادة المؤكّدة فرع على صحّة العقد، و هي مع تحقّق داعي استحقاق المستأجر في المستحبّ غير معقولة، و هذا هو معنى ما ذكرناه من أخذ الاُجرة يلزم من وجوده عدمه.

و الثاني: ما يجوز أخذ الاُجرة عليه، لأنّ غاية ما يلزم من داعي استحقاق المستأجر للعمل المستأجر عليه خروج العمل الموجود في الخارج من كونه مستحبّاً، لا انتفاء الفائدة المقصودة منه، لفرض عدم ارتباطها بالقربة و الإخلاص، كقضاء الحاجة الغير المرتبط حصوله بحصول السعي على صفة الاستحباب.

و من فروع هذا القسم جواز أخذ الاُجرة على مستحبّات تجهيز الميّت، كما أنّ من فروع القسم الأوّل عدم جواز أخذ الاُجرة على الإمامة و هو الصلاة بالناس جماعة، كما هو المصرّح به في كلام جماعة(1) و ربّما نفي الخلاف(2) فيه. و يدلّ عليه خبر محمّد بن مسلم المرويّ في باب شهادات الفقيه عن أبي جعفر عليه السلام قال: «لا تصلّ خلف من يبغي على الأذان و الصلاة بين الناس أجراً، و لا تقبل شهادته»(3) و هو نصّ في الحرمة بل كونه من الكبائر القادحة في العدالة، و لذا لا يصلّى خلفه و لا يقبل شهادته، نظراً إلى إطلاق الرواية الشامل لأخذها مرّة واحدة.

و يعضدها القاعدة الّتي ضابطها ما بيّنّاه، و ملخّصه أنّ ما كان انتفاع الغير به موقوفاً على وقوعه على وجه القربة و الإخلاص، و هذا لا يجامع ما يقع لأجل استحقاق الغير

ص: 404


1- كما في النهاية: 365، السرائر 217:2، التذكرة 583:1، مجمع الفائدة 93:8.
2- كما في الرياض 182:8.
3- الوسائل 6/378:27، ب 32 أبواب الشهادات، الفقيه 75/27:3.

له فيفسد به صلاة الإمام فيتعذّر انتفاع الغير بها في الايتمام، لأنّ من شرط صحّة صلاة المأموم صحّة صلاة الإمام.

و من فروع القسم الأوّل أيضاً عدم جواز أخذ الاُجرة على الأذان للصلاة في الجماعة الّذي ينتفع به غير المؤذّن من الإمام و غيره من المأمومين في الاجتزاء به، كما هو المصرّح به في كلام جماعة(1) و نسبه في الذكرى(2) إلى أكثر الأصحاب، و عن المختلف(3)أنّه المشهور، و عنه أيضاً كما عن جامع المقاصد(4) أنّه مذهب الأصحاب إلّا من شذّ، و عن الشيخ في الخلاف(5) الإجماع عليه، خلافاً للسيّد(6) على ما حكي لمصيره إلى الجواز على كراهية تسوية بين الاُجرة و بين الرزق، و استوجهه في الذكرى، و تبعهما جماعة من متأخّري المتأخّرين كما في المدارك(7) و عن مجمع(8) البرهان و البحار(9).

و الصحيح هو المشهور، للقاعدة، و خبر محمّد المتقدّم(10) الصريح في دلالته المعتبر في سنده بل المصحّح سنده في المستند(11) مضافاً إلى خبر السكوني المرويّ عن الشيخ مسنداً، و عن الفقيه مرسلاً عن جعفر عن أبيه عن عليّ عليه السلام قال: «آخر ما فارقت عليه حبيب قلبي أن قال يا عليّ : إذا صلّيت فصلّ صلاة أضعف من خلفك و لا تتّخذن مؤذّناً يأخذ على أذانه أجراً»(12).

و رواية زيد بن عليّ عن أبيه عن آبائه عن عليّ عليهم السلام «أنّه أتاه رجل فقال له: و اللّٰه إنّي اُحبّك للّٰه، فقال له: لكنّي أبغضك للّٰه، قال: و لِمَ؟ قال: لأنّك تبغي في الأذان أجراً، و تأخذ على تعليم القرآن أجراً»(13) و نحوه في الفقيه مرسلاً إلّا أنّه ذكر في الفقرة الاُولى في موضع أجراً «كسباً».

ص: 405


1- كما في السرائر: 44، الخلاف 290:1 المسألة 36.
2- الذكرى 223:3.
3- المختلف 134:2.
4- جامع المقاصد 176:2.
5- الخلاف 29:1 المسألة 36.
6- حكى عن مصباح السيّد المحقّق في المعتبر 134:1.
7- المدارك 276:3.
8- مجمع البرهان 92:8.
9- البحار 161:84.
10- تقدّم في الصفحة: 404.
11- المستند 183:14.
12- الوسائل 1/447:5، ب 38 الأذان و الإقامة، الفقيه 870/184:1، التهذيب 1129/283:2.
13- الوسائل 1/157:17، ب 30 ما يكتسب به، الفقيه 461/109:3.

و قوله عليه السلام في رواية حمران الواردة في فساد الدنيا و اضمحلال الدين «و رأيت الأذان بالاُجرة و الصلاة بالأجر»(1).

و أسانيد هذه الروايات ما عدا خبر محمّد ضعيفة جدّاً، و دلالتها على التحريم قاصرة قطعاً، و لعلّه لذا صار الجماعة إلى الكراهة تسامحاً في أدلّتها، و المرتضى لا يعتبر أخبار الآحاد.

و ربّما يؤيّدها الاعتبار من حيث إنّ أخذ الاُجرة على الأذان يوجب خروج الأذان الموجود في الخارج عن الاستحباب لا صيرورتها بسبب انتفاء القربة و الإخلاص محرّماً، فلا يفسد الإجارة مع فرض اشتماله على المنفعة العائدة إلى غير المؤذّن.

و لكن يدفعه: أنّ المنفعة المفروضة في هذا الأذان إن كان اجتزاء الغير به لصلاته، ففيه منع انفكاك هذه المنفعة عن الإخلاص و القربة، فإنّ الأذان الّذي يقوله المكلّف لصلاته فرادى أو جماعة عبادة صرفة فيفسد بانتفاء الإخلاص و القربة، و لذا لا يجتزأ به هو لنفسه فكيف بغيره.

و إن كان الإعلام بدخول الوقت، ففيه: أنّه لا يتمّ مطّرداً إلّا في الأذان الإعلامي لقوّة احتمال كونه من القسم الثاني أعني المستحبّ التوصّلي، فغاية ما يترتّب على انتفاء الإخلاص و القربة عدم ترتّب الثواب لا عدم حصول فائدة الإعلام، و محلّ البحث هو أذان الصلاة في الجماعة، إلّا أن يدفع ذلك و يقال: إنّ محلّ بحث الأصحاب هو الأذان الإعلامي كما جزم به صاحب الحدائق(2) و هو ظاهر كلام شيخنا(3) قدس سره أيضاً، غير أنّه خلاف الإنصاف لظهور كلمات الأصحاب خصوصاً كلام المعتبر(4) و الذكرى(5)و غيرهما في أذان الصلاة في الجماعة، و ممّا يشهد بذلك ما في المدارك و غيره من ذكر الاُجرة على الإقامة أيضاً هنا ناقلاً عن العلّامة في نهاية الإحكام منع الاستيجار عليها قائلاً: «و الظاهر أنّ الإقامة كالأذان و حكم العلّامة في النهاية بعدم جواز الاستيجار عليها و إن قلنا بجواز الاستيجار على الأذان فارقاً بينهما بأنّ الإقامة لا كلفة فيها

ص: 406


1- الوسائل 6/275:16، ب 41 الأمر و النهى، الكافي 7/36:8.
2- الحدائق 351:7.
3- الجواهر 73:9.
4- المعتبر 133:2.
5- الذكرى 223:3.

بخلاف الأذان فإنّ فيه كلفة بمراعاة الوقت، و هو غير جيّد إذ لا يعتبر في العمل المستأجر عليه اشتماله على الكلفة»(1).

و أمّا ضعف الروايات، فيمكن انجباره بالشهرة كإمكان انجبار قصور دلالتها بفهم المعظم، مع ما عرفت من صراحة دلالة خبر محمّد بن مسلم و قوّة سنده إن لم نقل بصحّته، فالقول بالمنع و التحريم متعيّن.

و يمكن طرد المنع إلى الأذان الإعلامي أيضاً عملاً بإطلاق النصّ ، و لا يبعد دعوى إطلاق فتوى الأكثر أيضاً، و إن كان كلمات جماعة منهم كما عرفت أظهر في أذان الصلاة في الجماعة. و يمكن تطبيقه على الاعتبار أيضاً، بدعوى ظهور إطلاق النصّ في كون مطلق الأذان حتّى الإعلامي عبادة محضة فلا يقع عليه عقد الإجارة إلّا بوصف كونه عبادة راجحة، و هذا لا يجامع أخذ الاُجرة المخرج له عن الرجحان بسبب انتفاء القربة أو الإخلاص.

ثمّ إنّ المصرّح به في كلام جماعة من أساطين(2) الطائفة جواز ارتزاق المؤذّن من بيت المال، مصرّحين بعدم كونه من باب الاُجرة لأنّ الاُجرة إذا كانت حراماً فلا يتفاوت فيه الحال بين كونها من بيت المال أو من غيره، بل هو استحقاق شرعي حصل للمؤذّن باعتبار كونه كأذانه من مصالح المسلمين و بيت المال معدّ لمصالحهم، و نحوه إمام الجماعة و القاضي لجواز الارتزاق للجميع، فلا يكون الارتزاق على وجه المعاوضة، و لذا لا يراعى في مورده عقد إجارة و لا جعالة، و لا يعتبر فيه تعيين الاُجرة و لا ضبطها جنساً و وصفاً و قدراً، بل ينوط بنظر الحاكم فقد يساوي اُجرة مثل العمل و قد ينقص منه و قد يزيد عليه، و يعتبر فيه الحاجة عند جماعة بل الأكثر بخلاف الاُجرة، و نحو استحقاقه الرزق من بيت المال استحقاقه من غلّة الوقف كاستحقاق إمام الجماعة و القاضي أيضاً من ذلك فيما وقف على المؤذّنين أو أئمّة الجماعة أو القضاة، فإنّه في

ص: 407


1- المدارك 276:3.
2- كما في المبسوط 160:8، السرائر: 215، الشرائع 11:2، القواعد 10:2، الدروس 172:3، المدارك 277:3.

جميع ذلك استحقاق من الواقف حيث وقف على هؤلاء.

تذنيب: صرّح جماعة بجواز الاُجرة على إجراء عقد النكاح و حرمتها على تعليمه،

تذنيب: صرّح جماعة(1) بجواز الاُجرة على إجراء عقد النكاح و حرمتها على تعليمه،

و هو كذلك، و وجه الفرق أنّ إجراء العقد من الأعمال المباحة المحترمة و هو قابل للوكالة فيجري عليه عقد الإجارة و عقد الجعالة و يقابل بالمال اُجرة و جعلاً، و تعليمه عبارة عن تعليم صيغة النكاح و كيفيّتها حسبما وردت في الشرع، فتكون من قبيل المسائل الشرعيّة الواجب على العالم بها عيناً أو كفاية تعليمها الجاهل بها فلا يقابل بالعوض لتعيّن بذله مجّاناً هذا.

و ينبغي ختم باب المكاسب المحرّمة بإيراد مسائل مهمّة:

المسألة الاُولى: [في بيع المصحف و شرائه]

صرّح جماعة كالعلّامة(2) في جملة من كتبه و الشهيد في الدروس(3) و المحقّق الثاني في جامع المقاصد(4) بحرمة بيع المصحف، و ظاهر المحكيّ عن نهاية(5) الإحكام اشتهاره بين الصحابة حيث تمسّك على الحرمة بمنع الصحابة.

و مرادهم حرمة بيع الخطّ لا آلات من الورق و الجلد و غيره كما هو صريح المحكيّ عن الدروس قائلاً: «و يحرم بيع خطّ المصحف دون الآلة».

خلافاً للسيّد الطباطبائي في المصابيح(6) لمصيره إلى كراهة بيعه و شرائه، و وافقه شيخنا في الجواهر(7).

مستند الأوّلين ظواهر روايات مستفيضة كخبر عبد الرحمن بن سيّابة عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «سمعته يقول: إنّ المصاحف لن تشترى، فإذا اشتريت فقل: أشتري منك الورق و ما فيه من الأديم و حليته و ما فيه من عمل يدك بكذا و كذا»(8).

و خبر سماعة عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «سألته عن بيع المصاحف و شرائها؟ فقال:

لا تشتر كتاب اللّٰه و لكن اشتر الحديد و الورق و الدفّتين و قل: أشتري منك هذا بكذا

ص: 408


1- كما في مجمع الفائدة 94:8، و المستند 187:14، جامع المقاصد 37:4، الجواهر 124:22.
2- كما في التذكرة 582:1.
3- الدروس 165:3.
4- جامع المقاصد 33:4.
5- نهاية الإحكام 472:2.
6- المصابيح: 28.
7- الجواهر 125:22.
8- الوسائل 1/158:17، ب 31 ما يكتسب به، الكافي 1/121:5

و كذا»(1).

و رواية عثمان بن عيسى قال: «سألته عن بيع المصاحف و شرائها؟ فقال: لا تشتر كلام اللّٰه و لكن اشتر الحديد و الجلود و الدفتر، و قل: أشتري هذا منك بكذا و كذا»(2).

و رواية عبد اللّه بن سليمان قال: «سألته عن شراء المصاحف ؟ فقال: إذا أردت أن تشتري فقل: أشتري منك ورقه و أديمه و عمل يدك بكذا و كذا»(3).

و رواية جرّاح المدائني عن أبي عبد اللّه عليه السلام في بيع المصاحف قال: «لا تبع الكتاب و لا تشتره، و بع الورق و الأديم و الحديد»(4).

و رواية سماعة بن مهران قال: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول: لا تبيعوا المصاحف، فإنّ بيعها حرام، قلت: فما تقول في شرائها؟ قال: اشتر منه الدفّتين و الحديد و الغلاف، و إيّاك أن تشتري منه الورق و فيه القرآن مكتوب، فيكون عليك حراماً و على من باعه حراماً»(5).

و في مقابلها خبران دالّان على الجواز مثل رواية روح بن عبد الرحيم عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «سألته عن شراء المصاحف و بيعها؟ فقال: إنّما كان يوضع الورق عند المنبر، و كان ما بين المنبر و الحائط قدر ما تمرّ الشاة أو رجل منحرف، قال: فكان الرجل يأتي فيكتب من ذلك، ثمّ إنّهم اشتروا بعد، قلت: فما ترى في ذلك ؟ فقال لي:

أشتري أحبّ إليّ من أن أبيعه، قلت: فما ترى أن اُعطي على كتابته أجراً؟ قال: لا بأس، و لكن هكذا كانوا يصنعون»(6).

و رواية أبي بصير قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن بيع المصاحف و شرائها؟ فقال:

إنّما كان يوضع عند القامة و المنبر، قال: كان بين الحائط و المنبر قدر ممرّ شاة أو رجل و هو منحرف، فكان الرجل يأتي فيكتب البقرة، و يجيء آخر فيكتب السورة كذلك كانوا،

ص: 409


1- الوسائل 2/158:17، ب 31 ما يكتسب به، الكافي 2/121:5.
2- الوسائل 3/158:17، ب 31 ما يكتسب به، التهذيب 1049/365:6.
3- الوسائل 6/159:17، ب 31 ما يكتسب به، التهذيب 1050/365:6.
4- الوسائل 7/159:17، ب 31 ما يكتسب به، التهذيب 1051/366:6.
5- الوسائل 11/160:17، ب 31 ما يكتسب به، التهذيب 1007/231:7.
6- الوسائل 4/158:17، ب 31 ما يكتسب به، الكافي 3/121:5.

ثمّ إنّهم اشتروا بعد ذلك، فقلت: فما ترى في ذلك ؟ فقال: أشتريه أحبّ إليّ من أن أبيعه»(1).

و معارضتهما للروايات المذكورة واضحة، و هما مع وضوح دلالتهما على الجواز جامعان سنداً لشرائط الحجّيّة، لكون الأوّل من الموثّق و الثاني من الصحيح، فلا يسوّغ طرحهما رأساً، و لا يقبلان تأويلاً قريباً يساعد عليه فهم العرف، بخلاف الروايات المانعة لقبولها الكراهة فتحمل عليها جمعاً. و في قوله عليه السلام: «أشتريه أحبّ إليّ من أن أبيعه» أيضاً دلالة عليها.

و كون الاشتراء أحبّ إليه عليه السلام إمّا من جهة انتفاء الكراهة من الاشتراء و اختصاصها بالبيع، أو من جهة كون الكراهة في الاشتراء أخفّ ، و السرّ فيه أنّ تعريض المصحف بخطّه للبيع و مقابلته بحطام الدنيا و أخذ المال بإزائه و لو باعتبار كونه جزءاً من المبيع مع كونه كلام اللّٰه العزيز و كتابه المجيد المستحقّ لحسن الأدب معه و التعظيم له بل الّذي لا قيمة له في الحقيقة لعظم شأنه و علوّ قدره، ابتذال له و إساءة للأدب معه، و هذا شيء يجيء من قبل البائع أو أنّه فيه أكثر و أظهر.

و في الخبر الأوّل حيث قال: «و لكن هكذا كانوا يصنعون» دلالة على كون اشتراء المصحف بعد كثرة نسخه و شيوعها واقعاً على وجه الشيوع و الاستمرار في زمان الوحي أيضاً، فيستكشف من ذلك تقرير النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم. و من ذلك يظهر بطلان دعوى اشتهار الحرمة بين الصحابة و بطلان التمسّك و الاستناد إلى منعهم.

و لكن قد يمنع دلالة الخبرين على جواز اشتراء خطّ المصحف بل يدلّان على أنّ تحصيل المصحف في الصدر الأوّل كان بمباشرة كتابته. ثمّ قصرت الهمم فلم يباشروها بأنفسهم و حصّلوا المصاحف بأموالهم شراءً و استيجاراً، و لا دلالة فيهما على كيفيّة الشراء و أنّ الشراء و المعاوضة كانا واقعين على ما يعمّ الخطّ أو على ما عداه من الأوراق و الجلود و غيرها، و الروايات المانعة تنهض بياناً.

و يدفعه: أنّ البيع و الشراء المضافين إلى المصحف ظاهران في التعلّق بالمجموع من حيث كون المصحف حقيقة في المجموع فيعمّان الخطّ أيضاً، و لا إجمال فيهما جزماً

ص: 410


1- الوسائل 7/160:17، ب 31 ما يكتسب به، التهذيب 1052/366:6.

كما لو اُضيفا إلى الكتب، بل المقصود بالأصالة من أجزاء هذا المبيع على ما هو المتعارف إنّما هو الخطّ لا غير، و تداول مباشرة الكتابة في الصدر الأوّل إنّما هو لقلّة النسخ بل انحصارها في أوّل نزول الآية أو السورة في واحدة، فكان حدوث بناء الاشتراء فيما بعد ذلك لأجل شيوع النسخ و وفورها المغني عن كلفة مباشرة الكتابة.

و على هذا يحمل خبر عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «إنّ اُمّ عبد اللّه بن الحرث أرادت أن تكتب مصحفاً و اشترت ورقاً من عندها، ودعت رجلاً فكتب لها على غير شرط، فأعطته حين فرغ خمسين ديناراً و أنّه لم تبع المصاحف إلّا حديثاً»(1).

و يدلّ على الجواز أيضاً رواية عنبسة الورّاق قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام فقلت: أنا رجل أبيع المصاحف فإن نهيتني لم أبعها، فقال: أ لست تشتري ورقاً و تكتب فيه ؟ قلت:

بلى و اُعالجها، قال: لا بأس بها»(2) فإنّه عليه السلام لم يردع السائل حيث قال: «أنا رجل أبيع المصاحف» و مع هذا قال له(3) بأس بها أي بالمصاحف باعتبار أنّه يبيعها.

و ما يقال: في الإيراد عليها أيضاً من أنّها و إن كانت ظاهرة في الجواز إلّا أنّ ظهورها من حيث السكوت عن كيفيّة البيع في مقام الحاجة إلى البيان، فلا تعارض ما تقدّم من الأخبار المتضمّنة للبيان.

ففيه: أنّ المصاحف مجاز في مجرّد الأوراق و الجلود فظهورها فيما يعمّ الخطوط وضعي لا غير، كما أنّ النهي فيما تقدّم من الأخبار مجاز في الكراهة، فكون ما تقدّم بياناً للمجاز الأوّل ليس بأولى من كون هذه الرواية مع الخبرين الآخرين بياناً للمجاز الثاني، بل الثاني أولى لشيوع استعمال النهي في الكراهة، و ندرة استعمال المصحف في مجرّد الجلد و الورق، و يعضده الأصل و الإطلاق و ظهور كلامهم في مسألة المنع من بيع المصحف من الكافر و وجوب إجباره على البيع من المسلم في جواز بيعه من المسلم و لا ريب في دخول الخطّ هنا هذا، مع تحقّق سيرة المسلمين بإجراء عقود المعاوضة على ما يعمّ الخطّ، مع أنّه لا كلام لأحد في جواز البيع و الشراء في كتب التفاسير و الفقه

ص: 411


1- الوسائل 10/160:17، ب 31 ما يكتسب به، التهذيب 1054/366:6.
2- الوسائل 5/159:17، ب 31 ما يكتسب به، الكافي 4/122:5.
3- كذا في الأصل.

و الأحاديث و غيرها، مع اشتمالها على الآيات و السور القرآنيّة و لم يقل أحد بخروج الخطّ هنا عن المبيع.

ثمّ على المختار لو أراد البائع و المشتري اجتناب ذلك المكروه بإجراء العقد على الآلات من الأوراق و الجلد و المداد ففي بقاء الخطّ و هو النقوش و العبارات على ملك البائع، أو دخوله في المبيع تبعاً بخروجه عن ملك البائع و دخوله في ملك المشتري لمجرّد التبعيّة و إن لم يجر عليه العقد و لم يعتبر بإزائه جزء من الثمن كغيره من توابع المبيع في غير المقام - كالنواة في التمر، و القشر في الجوز، و الحبّ في البطيخ، و ما أشبه ذلك - أو تحقّق الهبة المجّانيّة للخطّ في ضمن المبايعة الواقعة على الآلات وجوه:

أجودها الأخير، لبطلان الأوّل بمعلوميّة انتفاء الشركة من حال المتشرّعة، و ضرورة كون المقصود بالأصالة في المعاملة هو الخطّ الّذي بجودته و رداءته يختلف القيمة، و لعلّه لذا تداول بينهم التعبير عن هذه المعاملة بالخصوص بالهديّة بناءً على شيوع إطلاق الهديّة على مطلق العطيّة و الهبة المجّانيّة و تحقّقها بالمعاطاة.

و على القول بالمنع و التحريم في بيع ما يعمّ الخطّ و شراءه فالقدر المسلّم الثابت بما تقدّم من الأخبار الناهية إنّما هو حرمة المعاملة لا فسادها، لعدم اقتضاء النهي المفروض فيها - خصوصاً قوله عليه السلام: «لا تشتر كتاب اللّٰه» و قوله أيضاً: «لا تشتر كلام اللّٰه» - فساد أصل المعاملة، لأنّ الضابط في اقتضائه الفساد في المعاملات على ما حقّقناه في الاُصول كون النهي بمضمونه في متفاهم العرف متعرّضاً لمضمون مقتضى السببيّة، و دليل الصحّة بتقييد أو تخصيص مفيد لخروج المورد عن عموم المقتضي للسببيّة و دليل الصحّة.

و بعبارة اُخرى كون النهي ناشئاً عن الجهة الراجعة إلى أصل المعاملة أو الصيغة المعتبرة فيها، أو أحد أركانها من المتعاقدين أو العوضين.

و بعبارة ثالثة دلالة النهي على كون المعاملة من حيث إنّها معاملة مقصود منها أثر خاصّ معصية للّٰه عزّ و جلّ ، و النهي الوارد فيما تقدّم ليس من هذا القبيل، لقوّة احتمال كون تعلّقه ببيع المصحف و شرائه المختصّ بالخطّ، باعتبار مصادفته لعنوان آخر خارج عن حقيقة البيع هو معصية للّٰه عزّ و جلّ ، لا أصل البيع من حيث إنّه بيع، و هو ابتذال كلام

ص: 412

اللّٰه و سوء الأدب معه و ترك تعظيمه، فيكون النهي ناشئاً عن الجهة الراجعة إلى الأمر الخارج عن أصل المعاملة، فلا يكون في متفاهم العرف متعرّضاً لمضمون دليل الصحّة و مقتضى السببيّة، فيبقى على عمومه في اقتضاء الصحّة.

و على هذا فلو أراد المتبايعان إجراء العقد على ما يعمّ الخطّ حصل المعصية مع حصول النقل و الانتقال في الخطّ أيضاً بخروجه عن ملك البائع و دخوله في ملك المشتري.

و لو اُريد تخصيص العقد بما عدا الخطّ من الآلات عملاً بمقتضى النهي، ففي بقاء الخطّ في ملك البائع فيحصل الشركة، أو دخوله في المبيع تبعاً، أو دخوله في ملك المشتري بالهبة المجّانيّة الضمنيّة الوجوه المتقدّمة على القول بالكراهة و الأجود الأخير، و ربّما يحتمل ضعيفاً خروجه عن ملك البائع بالإعراض و تجدّد الملك للمشتري بالقصد على حدّ ما يتملّكه في اللقطة بمجرّد القصد، فليتدبّر فإنّ المقام لا يخلو عن إشكال و دقّة.

المسألة الثانية: في جوائز السلطان الجائر و عمّاله الظلمة،
اشارة

و المراد بها عطاياه المجّانيّة، و تخصيصها بالذكر لعلّه اتّباع للنصوص الواردة في الباب، و إلّا فينبغي تعميم المبحث بالقياس إلى عطاياه العوضيّة، كالأثمان المأخوذة في البيع و الشراء، و الاُجور المأخوذة في عقد الإجارة و نحوه، لكون الجميع من وادٍ واحد بالنظر إلى الأصل و الإجماع و إن لم يجر النصوص في الجميع، كما أنّ تخصيص السلطان و عمّاله في عنوان الأصحاب بالذكر اتّباع لنصوص الباب، و إلّا فينبغي تعميم المبحث بالقياس إلى كلّ من لا يتورّع الأموال المحرّمة، كالسارق و قاطع الطريق و من يعامل الظلمة، و من لا يبالي الربا أو أخذ الأموال بالعقود الفاسدة، و مانع الزكاة أو الخمس و نحوه، فإنّ الجميع من باب واحد، و الجامع بين الكلّ كلّ مال يحصل في يد الإنسان ممّن لا يتورّع الأموال المحرّمة، و هو على أنواع:

منها: ما لا يعلم بوجود محرّم في جملة أمواله، سواء علم بوجود حلال في جملة أمواله أيضاً أو لا.

و منها: ما يعلم بوجود محرّم في جملة أمواله، و لكن لا يعلم بوجود شيء من ذلك

ص: 413

المحرّم فيما حصل بيده سواء علم بوجود حلال فيه أو لا.

و منها: ما يعلم بوجود محرّم في جملة أمواله، مع العلم بحصول شيء منه فيما حصل في يده إجمالاً.

و منها: الصورة بحالها مع العلم التفصيلي بالجزء المحرّم فيما حصل في يده، على معنى العلم به بعينه.

أمّا النوع الأوّل: [أي ما لا يعلم بوجود محرّم في جملة أمواله]

فلا إشكال بل لا خلاف في جواز أخذه و التصرّف فيه، للأصل و الإجماع محصّلاً و منقولاً، و السيرة عملاً، و النصوص المستفيضة الّتي فيها الصحيح و غيره من المعتبر، ففي صحيح أبي ولّاد قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: ما ترى في رجل يلي أعمال السلطان، ليس له مكسب إلّا من أعمالهم، و أنا أمرّ به فأنزل عليه فيضيفني و يحسن إليّ ، و ربّما أمر لي بالدراهم و الكسوة و قد ضاق صدري من ذلك ؟ فقال لي: كل و خذ منه، فلك المهنّا و عليه الوزر»(1).

و صحيح أبي المعزّا قال: «سأل رجل أبا عبد اللّه عليه السلام و أنا عنده، فقال: أصلحك اللّٰه أمرّ بالعامل فيجيزني بالدراهم آخذها؟ قال: نعم، قلت: و أحجّ بها؟ قال: نعم»(2).

و خبر محمّد بن هشام أو غيره قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: أمرّ بالعامل فيصلني بالصلة أقبلها؟ قال: نعم، قلت: و أحجّ منها؟ قال: نعم و حجّ منها»(3).

و صحيح محمّد بن مسلم و زرارة قالا: «سمعناه يقول: جوائز العمّال ليس بها بأس»(4).

و خبر أحمد بن محمّد بن عيسى في نوادره عن أبيه عن أبي جعفر عليه السلام قال:

«لا بأس بجوائز السلطان»(5). و إطلاق هذه الروايات يعمّ صورة عدم العلم بوجود محلّل في جملة أموال المجيز.

و لكن في بعض النصوص ما يدلّ على اشتراط العلم به في إباحة الأخذ و التصرّف،

ص: 414


1- الوسائل 1/213:17، ب 51 ما يكتسب به، التهذيب 940/338:6.
2- الوسائل 2/213:17، ب 51 ما يكتسب به، التهذيب 942/338:6.
3- الوسائل 3/214:17، ب 51 ما يكتسب به، التهذيب 943/338:6.
4- الوسائل 5/214:17، ب 51 ما يكتسب به، التهذيب 931/336:6.
5- الوسائل 16/218:17، ب 51 ما يكتسب به، نوادر أحمد بن محمّد بن عيسى: 163.

كالمرويّ عن محمّد بن عبد اللّه بن جعفر الحميري «أنّه كتب إلى صاحب الزمان عليه السلام يسأله عن الرجل من وكلاء الوقف مستحلّاً لما في يده و لا يتورّع عن أخذ ماله، ربّما نزلت في قريته و هو فيها، أو أدخل منزله و قد حضر طعامه فيدعوني إليه، فإن لم آكل من طعامه عاداني عليه، فهل يجوز لي أن آكل من طعامه، و أتصدّق بصدقة، و كم مقدار الصدقة ؟ و إن أهدى هذا الوكيل هديّة إلى رجل آخر فيدعوني إلى أن أنال منها و أنا أعلم أنّ الوكيل لا يتورّع عن أخذ ما في يده، فهل عليّ فيه شيء إن أنا نلت منه ؟. الجواب:

إن كان لهذا الرجل مال أو معاش غير ما في يده فكل طعامه و اقبل برّه و إلّا فلا»(1).

و يمكن حمله على الكراهة ليكون العلم به شرطاً لرفع الكراهة لا الحرمة جمعاً، لاعتضاد إطلاق ما تقدّم أو عمومه بنفي الخلاف و الإجماع المنقول، فلا يقاومه المقيّد و الخاصّ .

و يمكن منع المنافاة بظهور قوله عليه السلام: «و إلّا فلا» في صورة العلم بعدم الوجود كظهور قوله: «إن كان لهذا الرجل مال أو معاش» في صورة العلم بالوجود فيكون صور انتفاء العلمين مسكوتاً عنها في هذه الرواية، فتبقى مندرجة في إطلاق ما تقدّم، و لا يقدح فيه كون العلم بعدم وجود مال له غير ملازم لحرمة الجائزة، لجواز حصولها للمجيز الفاقد للمال بنوع من تمليك الغير أو إباحته، لجواز أن يكون عليه السلام إنّما اعتبر العلم بوجود مال أو معاش له إحرازاً للشبهة بالنسبة إلى الجائزة فيمن انحصر الشبهة في جوائزه في هذه الصورة، فيكون العلم بعدم وجوده ملازماً لانتفاء الشبهة، لمكان العلم بكون جميع ما في يده محرّماً فتكون جائزته أيضاً محرّمة.

و أمّا النوع الثاني: فله صور ثلاث:
الاُولى: أن تكون الشبهة فيما بين الجائزة و غيرها من أموال المجيز

الّتي علم بوجود محرّم فيها غير محصورة، كأن يكون له أموال كثيرة غير محصورة علم بوجود مال مغصوب فيها، و وقع منها شيء بيد المجاز بعنوان الإجازة و ما بحكمها بحيث احتمل في نظره كونه ذلك المغصوب أو غيره من أمواله المملوكة.

ص: 415


1- الوسائل 15/217:17، ب 51 ما يكتسب به، الاحتجاج: 485.
الثانية: أن تكون الشبهة محصورة بين محلّ ابتلاء هذا المكلّف و بين غيره ممّا لا يبتلى به أصلاً،

كأن يكون المغصوب المعلوم وجوده في أموال الظالم المجيز مردّداً بين الجائزة و بين الجارية المعدودة من خواصّ نساء الظالم مثلاً.

ففي هاتين الصورتين يجوز أخذ الجائزة و التصرّف فيها مطلقاً، للأصل، و إطلاق معقد الإجماع، و النصوص المتقدّمة، مضافاً إلى الإجماع على عدم وجوب الاجتناب عن الشبهة الغير المحصورة.

و لا يقدح في الثانية كون الشبهة محصورة، لأنّ من شرط وجوب الاجتناب من الشبهة المحصورة تنجّز التكليف بوجوب الاجتناب عن الحرام الواقعي المشتبه ليجب الاجتناب عن جميع أطراف الشبهة مقدّمة، و من شرط وجوب الاجتناب عن الحرام الواقعي كونه مردّداً بين أمرين كلّ منهما محلّ ابتلاء للمكلّف، إذ بدونه يحتمل كون المحرّم الواقعي غير محلّ الابتلاء فلا يكون هذا المكلّف مخاطباً بالاجتناب عنه، حتّى أنّه لو كان معلوماً بالتفصيل لم يكن مخاطباً بالاجتناب فكيف به إذا كان مشتبهاً؟!.

نعم ذكر جماعة(1) أنّ الأفضل في الصورتين التورّع عنها و معناه كراهة أخذها، و في الرياض(2) بلا خلاف، لشبهة الحرمة المقتضية لحسن الاحتياط عقلاً، مضافاً إلى عمومات الاحتياط كقوله عليه السلام: «أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت»(3) و قوله: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك»(4) و قولهم عليهم السلام: «من ترك الشبهات نجى من المحرّمات»(5)مضافاً إلى أنّ أخذ المال منهم يوجب محبّتهم فإنّ القلوب مجبولة على حبّ من أحسن إليها، و يترتّب عليه من المفاسد ما لا يخفى، و في الصحيح «أنّ أحدكم لا يصيب من دنياهم شيئاً إلّا أصابوا من دينه مثله» هذا مع إمكان اندراجه في عموم قوله تعالى:

«وَ لاٰ تَرْكَنُوا إِلَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا» (6) .

ص: 416


1- كما في النهاية: 367، و المنتهى 1026:2 و الحدائق 268:18.
2- الرياض 206:8.
3- الوسائل 46/167:27، ب 12 أبواب صفات القاضي، أمالى الطوسي 109:1.
4- الوسائل 54/170:27، ب 12 أبواب صفات القاضي، كنز الفوائد: 164.
5- الوسائل 9/157:27، ب 12 أبواب صفات القاضي، التهذيب 845/301:6.
6- هود: 113.

فالكراهة ممّا لا إشكال فيه إنّما الإشكال فيما، ذكروه أيضاً من ارتفاع الكراهة بإخبار المجيز بحلّيّة جائزته كأن يقول هذه من تجارتي أو من زراعتي أو نحو ذلك، و بإخراج الخمس منه، و في الرياض(1) نفي الخلاف عنه في الأوّل بل فيهما معاً، و نسب نفي الخلاف إلى ظاهر الحدائق(2) و عن المناهل(3) الخدشة في الأوّل بأنّه لم يجد له مستنداً. و لذا قد يستشكل فيه تعليلاً «بعدم خروجه عن الشبهة إذا احتمل كذبه، و وجوب حمل قول المسلم على الصدق، إن كفى في رفع الشبهة لكفى حمل فعله على الصحّة في رفعها بمجرّد الإعطاء أيضاً، فلا يكون مكروهاً مطلقاً»(4).

و قد يقرّر ذلك أيضاً بأنّه لا فرق بين يد الظالم و تصرّفه، و بين خبره في كون كلّ منهما مفيداً للملكيّة الظاهريّة غير منافٍ للحرمة الواقعيّة المقتضية للاحتياط، فلا وجه لوجود الكراهة الناشئة عن حسن الاحتياط مع اليد و ارتفاعها مع الإخبار.

و قد يوجّه المستند لدفع الإشكال بإمكان كونه ما دلّ على قبول قول ذي اليد فيعمل بقوله، كما لو قامت البيّنة على تملّكه، و شبهة الحرمة و إن لم ترتفع بذلك إلّا أنّ الموجب للكراهة ليس مجرّد الاحتمال و إلّا لعمّت الكراهة أخذ المال من كلّ أحد، بل الموجب له كون الظالم مظنّة الظلم و الغصب و غير متورّع عن المحارم، نظير كراهة سؤر من لا يتوقّى النجاسة، و هذا المعنى ترتفع بإخباره إلّا إذا كان خبره كيده مظنّة للكذب لكونه ظالماً غاصباً، فيكون خبره كيده و تصرّفه غير مفيد إلّا الإباحة الظاهريّة الغير المنافية للكراهة، فيختصّ الحكم برفع الكراهة بما إذا كان مأموناً في خبره، و قد صرّح الأردبيلي(5) بهذا القيد في إخبار وكيله.

ص: 417


1- الرياض 206:8.
2- الحدائق 265:18.
3- المناهل: 303.
4- المستند 200:14.
5- مجمع البرهان 86:8.

أقول: إن كان إجماعاً و إلّا فهذه التجشّمات لا تنهض لإخراج الاحتياط عن الحسن و لا لتخصيص العمومات، مع أنّ الكراهة في كلام القائلين بها ليست مقيّدة بمظنّة الحرمة في الجائزة، مع أنّ الأظهر في دليل قبول قول ذي اليد كونه معتبراً على وجه التعبّد لا من باب المرآتيّة.

و أمّا ارتفاعها بإخراج الخمس فقد يعلّل بأنّ إخراج الخمس مطهّر للمال المختلط بالحرام في صورة العلم به فلأن يكون مطهّراً للمختلط به ظنّاً أو احتمالاً طريق الأولويّة.

و استدلّ أيضاً بالموثّق عن أبي عبد اللّه عليه السلام «سئل عن أعمال السلطان يخرج فيه الرجل ؟ قال: لا إلّا أن لا يقدر على شيء يأكل و لا يشرب و لا يقدر على حيلة، فإن فعل فصار في يده شيء فليبعث بخمسه إلى أهل البيت»(1) فإنّ موردها و إن كان ما يقع في يده بإزاء العمل إلّا أنّ الظاهر عدم الفرق بينه و بين ما يقع في اليد على وجه الجائزة.

و من مشايخنا من ناقش في الوجه الأوّل بقوله: «و يمكن الخدشة في أصل الاستدلال، بأنّ الخمس إنّما يطهّر المختلط بالحرام حيث إنّ بعضه حرام و بعضه حلال، فكأنّ الشارع جعل الخمس بدل ما فيه من الحرام، فمعنى تطهيره تخليصه بإخراج الخمس ممّا فيه من الحرام، فكان المقدار الحلال طاهراً في نفسه إلّا أنّه قد تلوّث بسبب الاختلاط مع الحرام بحكم الحرام و هو وجوب الاجتناب، فإخراج الخمس مطهّر له عن هذه القذارة العَرَضيّة، و أمّا المال المحتمل لكونه بنفسه حراماً و قذراً ذاتيّاً فلا معنى لتطهّره بإخراج خمسه»(2) انتهى.

أقول: بل لا معنى له على تقدير كونه حلالاً لعدم القذارة فيه لا ذاتاً و لا عرضاً، و مرجع ما ذكره منع الأوّليّة بمنع تحقّق العلّة الموجودة في الأصل في الفرع، فيكون التعدّي إليه قياساً و مع الفارق مع انتفاء الاختلاط، و الاحتمال ليس من الاختلاط في شيء و لذا لم يؤثّر في وجوب الاجتناب الّذي هو في المختلط قذارة ذاتيّة في البعض الحرام منه و قذارة عرضيّة في البعض الحلال منه.

و يمكن الذبّ بأنّ معنى كونه مطهّراً في المختلط كونه رافعاً للحرمة و وجوب الاجتناب، فكونه في المحتمل رافعاً للكراهة و استحباب الاجتناب طريق الأولويّة، لأنّ الكراهة و الاستحباب أهون من الحرمة و الوجوب. و فيه: أنّ الكراهة و استحباب الاجتناب فيه إنّما ثبت لحسن الاحتياط و عمومات رجحانه، و هما لا يرتفعان

ص: 418


1- الوسائل 3/202:17، ب 48 ما يكتسب به، التهذيب 915/330:6.
2- المكاسب 171:1-172.

ما لم يرتفع موضوع الاحتياط، و الأولويّة المدّعاة لا تصلح رافعة له، و مرجعه إلى أنّها لا تنهض لتخصيص العقل المستقلّ بحسن الاحتياط و لا عمومات رجحانه فتأمّل.

و اعترض الفاضل النراقي على الاستدلال بالرواية «بأن لا دلالة فيها على أنّه صار في يده شيء من المشتبه بالحرام، لجواز أن يكون من ارتفاع أراضي الخراجيّة الّتي هو مباح و خمسه للإمام، مع أنّه يكون هذا كسباً و ما صار بيده ربحاً، فإخراج خمسه من حيث هو واجب و لا يدلّ على أنّه تطهّره»(1).

و فيه ما لا يخفى لاختصاص هذا الخمس بفاضل مئونة السنة من أرباح المكاسب المحلّلة، و الرواية غير واضحة في اعتبار الفضل بل ظاهرة في خلافه، مع أنّ كون مورد الرواية من المكسب المحلّل غير واضح و الرواية غير دالّة عليه، لجواز كون أعمال السلطان في موردها من الأعمال المحرّمة الّتي يحرم أخذ الاُجرة عليها. و الأولى في منع دلالة الرواية أن يقال بإمكان كون ما صار إليه من السلطان من المال المختلط و قد علم به الإمام عليه السلام فأمره بإخراج خمسه فيخرج عنه ما نحن فيه، و ربّما يومئ إليه تعليقه الرخصة على الاضطرار الّذي هو المناط في تناول الأموال المحرّمة، إلّا أن يعارض باحتمال كون إناطة الرخصة بالاضطرار باعتبار كون عمل السلطان الّذي أخذ الاُجرة عليه من الأعمال المحرّمة فيكون ما صار إليه حراماً محضاً، و لكن منع دلالة الرواية في محلّه.

و أمّا الصورة الثالثة: فقضيّة قاعدة الشبهة المحصورة على ما حقّقناه في الاُصول وجوب الاجتناب عن الجائزة في هذه الصورة،

و عدم جواز أخذها و لا التصرّف فيها، غير أنّه قد يقابل هذه القاعدة بالأخبار المتقدّمة الدالّة على حلّيّة الجائزة و جواز أخذها بقول مطلق، فلا بدّ في العلاج إمّا من التزام حكومة الأخبار على القاعدة، أو الالتزام بحكومة القاعدة عليها.

و لكنّ الّذي يساعد عليه التحقيق و النظر الدقيق أنّ حكومة الأخبار على القاعدة ممّا لا سبيل إليه، لأنّ مبنى القاعدة على كفاية العلم الإجمالي في تنجّز التكليف بالواقع

ص: 419


1- المستند 201:14.

و هو حكم عقلي، و أخبار الحلّ ليست متعرّضة بمضمونها لمضمون حكم العقل ببيان مقدار موضوعه، بأن يكون مضمونها أنّ العلم الإجمالي إنّما يكفي في تنجّز التكليف فيما عدا جوائز السلطان أو عامله، لكونها في متفاهم العرف مسوقة لبيان أنّ جهة كون المال الواقع في يد الإنسان من السلطان أو عامله جائزة من حيث هي هذه الجهة ليست مؤثّرة في الحرمة و عدم الجواز، و هذا لا ينافي اجتماع هذه الجهة لجهة اُخرى مانعة من أخذها، كالعلم الإجمالي فيما نحن فيه المقتضي لوجوب الاجتناب عن الحرام الواقعي المعلوم بالإجمال، و مرجعه إلى أنّ الأخبار الدالّة على الحلّ و إن كانت مطلقة إلّا أنّها واردة مورد بيان حكم آخر فلا تعارض الدليل العقلي المقتضي لوجوب الاجتناب عنها باعتبار كونها من الشبهة المحصورة.

و ذلك يظهر ما لو كان المال الواقع في يد الإنسان بعنوان الجائزة من السلطان أو عامله خمراً أو لحم خنزير أو شيء ممّا لا يؤكل لحمه كالأرنب و ما أشبه ذلك.

و لا يمكن التمسّك لإثبات الجواز هنا بعموم قوله عليه السلام: «كلّ شيء فيه حلال و حرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه»(1) و لا بقوله عليه السلام: «كلّ شيء لك حلال»(2) الخ، لما ذكرناه في محلّه من اختصاصهما بالشبهات الموضوعيّة من الشكّ في التكليف.

النوع الثالث: ما علم إجمالاً وجود الحرام في الجائزة على وجه تعذّر التمييز بسبب الاشتباه،

و هذا إذا كان الاشتباه موجباً للإشاعة الموجبة للشركة ملحق موضوعاً و حكماً بالمال الحلال المختلط بالحرام المعنون في كتاب الخمس، فإن كان القدر و المالك مجهولين وجب إخراج خمسه فيطهر الباقي مطلقاً، و إن كانا معلومين وجب التخلّص بالقسمة معه، و إن كان القدر معلوماً دون المالك لحقه حكم مجهول المالك و ستعرفه، و إن كان المالك معلوماً دون القدر وجب ترضيته للتخلّص بصلح و نحوه. و إن لم يكن الاشتباه موجباً للإشاعة و الشركة بل أوجب الانتشار و البدليّة فقيل: يتعيّن بالقرعة، أو يباع ليحصل الاشتراك في الثمن ثمّ يقسّم مع المالك إن تعيّن، و إلّا يلحقه

ص: 420


1- الوسائل 1/87:17 و 4، التهذيب 988/226:7 و 989.
2- الوسائل 1/87:17 و 4، التهذيب 988/226:7 و 989.

حكم مجهول المالك.

النوع الرابع: ما علم الحرام تفصيلاً
اشارة

سواء كان بجملته حراماً أو كان بعضه حراماً و هو معلوم بعينه، و لا إشكال في حرمة أخذه و حرمة التصرّف فيه على كلّ حال، و يجب ردّه إلى مالكه إجماعاً و نصّاً خصوصاً و عموماً، كقوله عليه السلام: «على اليد ما أخذت» فلو أكله أو أتلفه ضمن بدله مثلاً أو قيمة و لا يجوز إعادته إلى الظالم اختياراً فلو أعاده كذلك ضمن، و لو أخذ منه قهراً سقط الحرمة، و هل يضمن ؟ خلاف، فقيل بالضمان مطلقاً لعموم «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي»(1) نقله جماعة منهم الشهيد الثاني في المسالك ثمّ اختار قولاً بالتفصيل بقوله: «و الأقوى التفصيل، و هو أنّه إن كان قد قبضها من الظالم عالماً بكونها مغصوبة ضمن و استمرّ الضمان و إن أخذت منه قهراً، و إن لم يعلم حالها حتّى قبضها ثمّ تبيّن كونها مغصوبة و لم يقصّر في إيصالها إلى مالكها و لا في حفظها لم يضمن، و الفرق بين الحالتين واضح، فإنّ يده في الأوّل عادية فيستصحب حكم الضمان كما لو تلفت بغير تفريط، و في الثاني يد أمانة فيستصحب كما لو تلفت بغير تفريط و الفرض كون الأخذ قهريّاً»(2) انتهى.

و في إطلاق الأمانة على الثاني منع واضح، و عموم «على اليد ما أخذت» محكّم، و الاستصحاب فرع على وجود الحالة السابقة، هذا مع ما اُورد عليه بأنّ المعروف من المسالك و غيره في مسألة ترتّب الأيدي على مال الغير ضمان كلّ منهم و لو مع الجهل، غاية الأمر رجوع الجاهل على العالم إذا لم يقدم على أخذه مضموناً، و لا إشكال عندهم ظاهراً في أنّه لو استمرّ جهل القابض المتّهب إلى أن تلف في يده كان للمالك الرجوع عليه، و لا رافع لهذا المعنى مع حصول العلم بكونه مال الغير فيستصحب الضمان لا عدمه. و ذكر في المسالك «فيمن استودعه الغاصب مالاً مغصوباً أنّه لا يردّه إليه مع الإمكان و لو أخذه منه قهراً ففي الضمان نظر و الّذي يقتضيه قواعد الغصب أنّ للمالك الرجوع على أيّهما شاء و إن كان قرار الضمان على الغاصب»(3) انتهى.

ص: 421


1- عوالي اللآلي 106/224:1، سنن البيهقي 95:6.
2- المسالك 142:3.
3- المسالك 99:5-100.

و الظاهر أنّ مورد كلامه ما إذا أخذ الودعي المال من الغاصب جهلاً بغصبه ثمّ تبيّن له، و هو الّذي حكم هنا بعدم الضمان لو استردّه الظالم المجيز أو تلف بغير تفريط. أقول:

محصّل الإيراد أنّ المسألتين من وادٍ واحد، فالفرق بينهما تحكّم، إذ الجهل في القبض إن صلح رافعاً للضمان وجب كونه رافعاً في المقامين، و إلّا لم يزل الضمان فيهما معاً.

و اختار العلّامة في التذكرة تفصيلاً آخر حيث قال: «و لا يجوز له إعادتها إلى الظالم، فإن أعادها ضمن إلّا أن يقهره الظالم على أخذها فيزول التحريم، أمّا الضمان فإن كان قد قبضها اختياراً لم يزل عنه بأخذ الظالم لها كرهاً، و إن كان قد قبضها مكرهاً زال الضمان أيضاً»(1) انتهى.

و لعلّ مستنده رحمه الله قوله عليه السلام: «و ما استكرهوا عليه» في حديث «رفع عن اُمّتي تسعة» بناءً على حمله على إرادة رفع جميع الأحكام الّتي منها الضمان. و فيه منع، لكون المرفوع في التسعة بعد صرفه عن أعيانها هو المؤاخذة خاصّة.

و من مشايخنا من فصّل بما محصّله «أنّه إن أخذها بنيّة الردّ إلى مالكها لا ضمان عليه بالاسترداد القهري لكونه محسناً، فيعمّه نفي السبيل على المحسنين، و هذا حاكم على عموم على اليد. و إن أخذها لا بنيّة الردّ ضمن، سواء كان حين القبض عالماً بغصبيّته أو جاهلاً مختاراً في قبضه أو مكرهاً كالتقيّة، لعموم على اليد»(2).

لا يقال: إنّ الضمان بالقبض يتبع تحريمه و لا تحريم مع الإكراه و التقيّة فلا ضمان، لوضوح منع الملازمة فإنّ الأحكام الوضعيّة لا تناط بشرائط الأحكام التكليفيّة و لا بموانعها و روافعها إلّا على تقدير حمل حديث رفع التسعة على رفع جميع الأحكام، و قد عرفت منعه، و لا عموم في أدلّة التقيّة بحيث يجدي في المقام، لأنّ وظيفة التقيّة تتأدّى بالأخذ بقصد الردّ فيكون الأخذ لا بهذا القصد محرّماً و موجباً للضمان. و من ذلك يظهر أنّه لو سلّمنا الملازمة المذكورة نمنع ارتفاع التحريم في مطلق القبض إذ لا إكراه في القصد. و هذا التفصيل جيّد، لأنّه أوفق بالأدلّة و القواعد فهو المختار.

و هل يجب أخذها من الظالم بنيّة الردّ إلى المالك ؟ الوجه لا، لعدم العثور على دليل

ص: 422


1- التذكرة 152:12.
2- المكاسب 182:1-183.

الوجوب و الأصل البراءة، و غاية ما يعطيه نيّة الردّ هو جواز الأخذ لا وجوبه، و فتوى الأصحاب بحرمته منزّلة على ما لو أخذها للأكل و التصرّف لا للردّ، فالوجوب يحتاج إلى الدليل.

و توهّمه من أنّ مال المسلم محترم فيجب حفظه و طريقه هنا الأخذ من الظالم الغاصب للإيصال إلى صاحبه، يندفع بعدم العثور على دليل عامّ يقضي بوجوب الحفظ على هذا الوجه، و لذا لا تجد في كلامهم الإفتاء به، بل الموجود في كلام جماعة إطلاق الإفتاء بحرمة الأخذ و عموم نفي السبيل عن المحسن، أقصاه الجواز أو هو مع الرجحان لا الوجوب، ثمّ إن أخذها يجب عليه ردّها على المالك فوراً و يسقط الفوريّة بإعلامه به.

و هل يعتبر في الردّ الإقباض ؟ قيل: ظاهر أدلّة وجوب ردّ الأمانة وجوب الإقباض إلّا أنّه ذكر غير واحد(1) - كما عن التذكرة(2) و المسالك(3) و جامع(4) المقاصد - أنّ المراد بردّ الأمانة رفع يده عنها و التخلية بينه و بينها. و هو الوجه، لصدق الردّ بذلك عرفاً، و لأنّ الردّ إنّما وجب من جهة حرمة حبسها عن مالكها و يرتفع ذلك بالتخلية و رفع اليد، و لكن يعتبر كونهما على وجه و في موضع يتمكّن المالك من القبض، و حينئذٍ خرج آخذها عن ضمانها، فإذا تلف فيما بينهما و قبض المالك بعد تمكّنه من القبض لا شيء عليه، هذا كلّه إذا عرف المالك.

و أمّا إن جهله فالفاضلان في الشرائع(5) و التذكرة(6) و جماعة ممّن تبعهما أطلقوا الحكم بأنّه تصدّق بها، و لعلّه منزّل على صورة اليأس عن معرفة المالك حصل ابتداءً أو بالفحص، لأنّه حكم مجهول المالك كما ذكروه فيه في مواضع كثيرة من غير خلاف يظهر، مع كونه في عدد غير محصور و لذا قيّد الشهيد في المسالك(7) عبارة الشرائع باليأس من معرفته، و أفرد عنه ما لو اشتبه المالك في قوم محصورين، و تبعه بعض مشايخنا(8).

و على هذا فينبغي التكلّم في مقامين
اشارة

ص: 423


1- : الكفاية 133، و الحدائق 426:21.
2- التذكرة 152:8.
3- المسالك 97:5.
4- جامع المقاصد 43:6.
5- الشرائع 13:2.
6- التذكرة 152:8.
7- المسالك 141:3.
8- المكاسب 188:1.
المقام الأوّل: فيما لو اشتبه المالك بين جماعة محصورين،

و قد حكم فيه في المسالك بأنّه يتعيّن عليه التخلّص من مال الغير و لو بالصلح معهم، و نحوه ما في كلام شيخنا قدس سره و كان إطلاقه منزّل على ما لم يدعه واحد منهم، و حينئذٍ يجب التخلّص بإباحة أو هبة أو صلح حطيط أو صلح عوض أو توزيع بينهم برضا كلّ واحد، مع إسقاط كلّ حقّه الاحتمالي عن الباقين أو نحو ذلك.

و أمّا لو ادّعاه بعضهم مع عدم معارض له ففي سماع قوله مطلقاً، أو هو مع الوصف المورّث لظنّ الصدق، أو مع البيّنة ؟ وجوه: من إلحاقه بمال وجد بين جماعة فادّعاه واحد منهم، حيث حكموا من غير خلاف بأنّه يقضى له عملاً بصحيح منصور بن حازم الوارد في «كيس يكون بين عشرة كانوا جلوساً فسألوا أ لكم الكيس ؟ فقالوا: كلّهم: لا، و قال واحد منهم: هو لي، [فلمن هو؟] فقال عليه السلام: هو للّذي ادّعاه»(1).

و من إلحاقه بلقطة وصفها المدّعي بصفات خفيّة لا يطّلع عليها إلّا المالك، بحيث أوجب ظنّ صدقه الّتي صار المشهور فيها إلى جواز دفعها إلى المدّعي، على معنى أنّه لو تبرّع بالتسليم اعتماداً على الوصف لم يمنع، و لو امتنع لم تجبر.

و من عموم «البيّنة على المدّعي» و حجّيتها عموماً و كونها علماً شرعيّاً.

غير أنّ أرجح الوجوه أخيرها بل هو المتعيّن، لبطلان الأوّلين بكون كلّ منهما قياساً، فإنّ ما نحن فيه ليس من اللقطة موضوعاً، لدخول الضياع في مفهومها فيحرم التعدّي إلى غيرها، و الصحيح المذكور في كيس يكون بين عشرة، غاية ما في الباب أنّ الأصحاب تعدّوا منه إلى مطلق مال وجد بين جماعة لا يد لأحد عليه، لا إلى غيره من مجهول المالك الّذي حصل في يد إنسان و إن لم تكن يد مالكيّة.

و من ذلك ظهر أنّ القياس هنا مع الفارق، لأنّ المفروض حصول الجائزة في يد المجاز، و وجه الفرق أنّه لا معارض لدعوى المدّعي في الأصل أصلاً، بخلاف ما نحن فيه، فإنّ من حصل بيده مخاطب بإيصاله إلى مالكه، و الشغل اليقيني يستدعي يقين البراءة، و يقوم مقامه العلم الشرعي و البيّنة علم شرعي. و كون قول المدّعي بمجرّده

ص: 424


1- الوسائل 1/273:27 ب 17 من أبواب كيفيّة الحكم، الكافي 5/422:7.

علماً شرعيّاً بقول مطلق أوّل المسألة، لعدم نهوض دليل عامّ عليه.

نعم يبقى الإشكال فيما لم يكن للمدّعي بيّنة على ما ادّعاه، و ما لم يكن في الجماعة من ادّعاه، غير أنّهم امتنعوا عن الصلح و غيره، و أبى كلّ واحد منهم إلّا عن أنّه إن كان له المال يدفع إليه بتمامه، و إلّا لا حقّ له حتّى يصطلحه أو يقبل بعضه، فهل يلحقه حينئذٍ حكم مجهول المالك و هو وجوب الصدقة، أو يسلّمه إلى الحاكم حتّى يعمل فيه بموجب تكليفه الّذي يعرفه، أو أنّه أجبرهم على الصلح و لو امتنعوا اصطلح عنهم قهراً عليهم لأنّه وليّ الممتنع ؟ احتمالات، أسلمها أوسطها، و كلام الأصحاب غير محرّر هنا حتّى أنّ الشهيد و غيره ممّن تعرّض للمسألة لم يتعرّضوا للصورة المفروضة.

المقام الثاني: فيما لو جهل المالك في عدد غير محصور،
اشارة

و حينئذٍ دخل المال في عنوان «مجهول المالك» كما هو المصرّح به في كلام جماعة(1) فيلحقه أحكامه الّتي نتكلّم فيها هنا بالبحث في جهات:

الجهة الاُولى: في أنّه هل يجب الفحص عن المالك و طلبه حيثما احتمل الوصول إليه بالفحص أو لا؟

عبارات الأصحاب كروايات الباب هنا مختلفة، ففي كلام الفاضلين في الشرائع(2) و التذكرة(3) و من تبعهما الحكم بالتصدّق من غير ذكر فحص عنه.

غير أنّ المعروف في مطلق مجهول المالك المصرّح به في كلامهم في مواضع كثيرة من غير خلاف يظهر هو وجوب الفحص حيث احتمل معرفته و الوصول إليه، و به عدّة روايات(4) و إن اختصّ بعضها بالدين و بعضها بالعين و بعضها محتمل الأمرين، إلّا أنّ ظاهرهم عدم الفرق في وجوب الفحص و الطلب بين دين مجهول مالكه أو عين مجهول مالكها.

و في مقابلها عدّة روايات(5) آمرة بالتصدّق أو غيره من غير ذكر الفحص و الطلب، و من ذلك:

ص: 425


1- كما في الجواهر 177:22.
2- الشرائع 13:2.
3- التذكرة 152:12.
4- الوسائل 1/296:26 و 2، ب 6 ميراث الخنثى، الكافي 1/153:7 و 2.
5- الوسائل 1/185:17، ب 44 ما يكتسب به، الوسائل 2/45:25، ب 7 أبواب اللقطة و الوسائل 1/199:17، ب 47 ما يكتسب به، التهذيب 920/331:6.

خبر عليّ بن أبي حمزة قال: «كان لي صديق من كتّاب بني اُميّة، فقال: استأذن لي على أبي عبد اللّه عليه السلام فاستأذنت له عليه، فأذن له، فلمّا أن دخل سلّم و جلس ثمّ قال:

جعلت فداك إنّي كنت في ديوان هؤلاء القوم فأصبت من دنياهم مالاً كثيراً، و أغمضت في مطالبه، فقال أبو عبد اللّه عليه السلام: لو لا أنّ بني اُميّة وجدوا لهم من يكتب و يجيء لهم الفيء و يقاتل عنهم و يشهد جماعتهم لما سلبونا حقّنا، و لو تركهم الناس و ما في أيديهم ما وجدوا شيئاً إلّا ما وقع في أيديهم، قال: فقال الفتى: جعلت فداك فهل لي مخرج منه ؟ قال: إن قلت لك تفعل ؟ قال: أفعل، قال له: فأخرج ممّا كسبت في ديوانهم من عرفت منهم رددت عليه ماله، و من لم تعرف تصدّقت به، و أنا أضمن لك على اللّٰه عزّ و جلّ الجنّة، فأطرق الفتى طويلاً ثمّ قال له: لقد فعلت جعلت فداك. قال ابن أبي حمزة: فرجع الفتى معنا إلى الكوفة فما ترك شيئاً على وجه الأرض إلّا خرج منه حتّى ثيابه الّتي كانت على بدنه. قال: فقسّمت له قسمة و اشترينا له ثياباً و بعثنا إليه بنفقة، قال: فما أتى عليه إلّا أشهر قلائل حتّى مرض فكنّا نعوده، قال: فدخلت يوماً و هو في السوق، قال:

ففتح عينيه، ثمّ قال لي: يا عليّ وفى لي و اللّٰه صاحبك، قال: ثمّ مات فتولّينا أمره فخرجت حتّى دخلت على أبي عبد اللّه عليه السلام فلمّا نظر إليّ قال لي: يا عليّ وفينا و اللّٰه لصاحبك، قال: فقلت: صدقت جعلت فداك، و اللّٰه هكذا قال و اللّٰه لي عند موته»(1).

إلّا أنّ غاية ذلك كغيره الإطلاق فيحمل هذه الأخبار المطلقة على الروايات الأوّلة المقيّدة، باعتبار كونها آمرة بالفحص و الطلب، و لذا قيّد في المسالك(2) عبارة الشرائع باليأس عن المالك، و إطلاقه يتناول اليأس الابتدائي و الحاصل بعد الفحص، و ظاهره يقتضي أنّ حدّ الفحص هو اليأس كما هو المصرّح به في كلام جماعة(3)، بل قيل هو الأصل في مجهول المالك الموافق للقاعدة، لأنّ المال محترم و قضيّة الاحترام أن لا يتصرّف فيه إلّا بالإيصال إلى مالكه، فإذا جهل المالك و احتمل الوصول إليه وجب الفحص إلى اليأس، فعليه يحمل إطلاق الأخبار المطلقة، و في بعضها أيضاً ما يشير إليه

ص: 426


1- الوسائل 1/199:17، ب 47 ما يكتسب به، التهذيب 100:2.
2- المسالك 141/3.
3- كما في جامع المقاصد 44:4.

إن لم نقل بظهوره فيه كمفهوم قوله عليه السلام: «إذا كان كذا فبعه و تصدّق بثمنه» في خبر يونس ابن عبد الرحمن الآتي.

نعم ورد فيما أودعه اللصّ ما يقضي بتجديده بالحول، كخبر حفص بن غياث عن الصادق عليه السلام «سأله رجل من المسلمين أودعه رجل من اللصوص دراهم أو متاعاً و اللصّ مسلم هل يردّه عليه ؟ قال: لا يردّه فإن أمكنه أن يردّه على صاحبه فعل، و إلّا كان في يده بمنزلة اللقطة يصيبها فيعرّفها حولاً، فإن أصاب صاحبها ردّها عليه و إلّا تصدّق بها، فإن جاء صاحبها بعد ذلك خيّره بين الأجر و الغرم، فإن اختار الأجر فله، و إن اختار الغرم غرم له و كان الأجر له»(1) و قد نسب إلى المشهور العمل بمضمونها.

و لكن يدفعه أنّ إجراء حكم ما أودعه اللصّ أو مطلق الوديعة المجهول مالكها في مطلق مجهول المالك يحتاج إلى دليل، و الرواية قاصرة عن إفادته و لم يظهر عامل بها فيما نحن فيه، و المنزلة الموجودة فيها لا يتناول ما نحن فيه، و لذا قيل: إنّ الأصحاب تعدّوا من اللصّ إلى مطلق الغاصب و لم يتعدّوا من الوديعة المجهول مالكها إلى مطلق ما يعطيه الغاصب و لو بعنوان غير الوديعة كما فيما نحن فيه، حتّى أنّه يظهر من عبارة المسالك في اللقطة أنّه ليس من حكم مجهول المالك، و لذا حمله على زيادة الاستظهار قائلاً: «إنّ مضمونه موافق للاُصول الشرعيّة فإنّه بعد التعريف يصير مالاً مجهول المالك، و قد تقدّم أنّه يجوز الصدقة به عن مالكه، و لا يقدح زيادة التعريف هنا لأنّه زيادة في الاستظهار و التفحّص من المالك»(2) فإنّ ظاهره أنّ الفحص عن المالك يتمّ بأقلّ من تعريف السنة لأنّ حدّه اليأس و هو يحصل بأقلّ منها، فاعتبار الزيادة في مورد الرواية زيادة في الاستظهار، و قضيّة ذلك أنّهم لم يعملوا بالرواية في مطلق مجهول المالك، و إن كان قد يورد على ما ذكره بمنع كون مبناها على زيادة الاستظهار لأنّ حدّ الفحص هنا إذا كان اليأس فهو قد يحصل بأقلّ من سنة و قد يحصل إلّا بأكثر منها كما أنّه قد لا يحصل إلّا بالسنة، و على هذا فيمكن حملها على هذه الصورة، على معنى أنّ

ص: 427


1- الوسائل 1/464025، ب 18 أبواب اللقطة، التهذيب 1192/396:6.
2- المسالك 304:2.

الإمام عليه السلام علم في موردها أنّ اليأس لا يحصل إلّا بالسنة لئلّا يخالف القاعدة في مجهول المالك.

ثمّ إنّه لو احتاج الفحص إلى بذل مال كأُجرة دلّال يصيح عليها هل يجب عليه بذلها من ماله ؟ إشكال: من أصالة البراءة، و من توقّف الواجب عليه. و لذا عن جماعة في اللقطة أنّ اُجرة التعريف على الواجد، و عن التذكرة(1) أنّه إن قصد الحفظ دائماً يرجع أمره إلى الحاكم ليبذل اُجرته من بيت المال، أو يستقرض على المالك، أو يبيع بعضها إن رآه أصلح. و عن جامع المقاصد(2) أنّه استوجهه و لا يبعد القول به هنا أيضاً.

الجهة الثانية: في أنّ هذا المال بعد اليأس عن مالكه هل يصير مال الإمام عليه السلام فيجب دفعه إليه لأنّه مالكه، أو أنّه باقٍ على ملك مالكه المجهول

و لكن ولايته إلى الحاكم لأنّه وليّ الغائب فيجب تسليمه إليه ليصنع فيه ما يراه، أو يجب إبقائه أمانة في يده و الوصيّة به عند موته، أو أنّه يتصدّق به ؟ وجوه، أوجهها الأخير.

إلّا أنّه قد يتخيّل الأوّل استظهاراً له من خبر داود بن أبي يزيد عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «قال رجل: إنّي قد أصبت مالاً، و إنّي قد خفت فيه على نفسي و لو أصبت صاحبه دفعته إليه و تخلّصت منه قال: فقال له أبو عبد اللّه عليه السلام: و اللّٰه إن لو أصبته كنت تدفعه إليه ؟ قال: اي و اللّٰه، قال: فأنا و اللّٰه ما له صاحب غيري، قال: فاستحلفه أن يدفعه إلى من يأمره، قال: فحلف، فقال: فاذهب فاقسمه في إخوانك فلك الأمن ممّا خفت منه، قال:

فقسّمته بين إخواني»(3).

و فيه منع الظهور، لجواز كونه ممّا لا مالك له لموت مالكه و لا وارث له و قد علم به الإمام، و لا ريب أنّ نحوه من الأنفال للإمام عليه السلام و لذا قال عليه السلام: «ما له صاحب غيري» و على هذا يمكن دعوى ظهوره في غير ما نحن فيه.

و قد يحتمل الثاني لما سمعت من أنّه وليّ الغائب، فالدفع إليه أقرب طرق الإيصال، لأنّ الإيصال إليه إيصال إلى المالك.

ص: 428


1- التذكرة 258:2.
2- جامع المقاصد 162:6.
3- الوسائل 1/45:25، ب 7 أبواب اللقطة، الفقيه 17/189:3.

و ردّ بأنّه حسن لو لا إطلاق الأمر بالتصدّق في النصوص، فهي حاكمة على عمومات ولاية الحاكم على مال الغائب في مجهول المالك.

و توهّم: أنّ الأمر بالتصدّق من باب إذن الإمام في أمر يرجع ولايته إليه فيكون من التصرّف بطريق الأمانة، يدفعه: ظهور الأمر في كونه على وجه الفتوى، فيكون حكم اللّٰه العامّ في واقعة مجهول المالك هو وجوب التصدّق على كلّ من هو بيده، مع أنّ الأصل في تصرّفات المعصوم الدائرة بين الفتوى و الإمامة - على ما حقّق في الاُصول - كونها على وجه الفتوى، لأنّها الغالب على المعصومين، و لأنّه منصوب لتبليغ الأحكام.

نعم قد يقال: يجوز الدفع إليه من حيث ولايته على مستحقّي الصدقة و لأنّه أعرف بمواقعها، و لكنّه لا يوجب التعيين بل أقصاه الجواز أو هو مع الرجحان.

و ربّما قيل بالثالث كما عن الحلّي ناسباً للقول بالتصدّق إلى رواية أصحابنا، و لعلّه بناءً منه على طريقته في أخبار الآحاد من عدم الحجّية، فلا مناص من حفظ مال الغير بإبقائه أمانة و الوصيّة به لئلّا يتلف، و التصدّق تصرّف غير مأذون فيه. فيتّضح ضعفه حينئذٍ بما حقّق في الاُصول، من الحجّية عند اجتماع شرائطها خصوصاً مع انجبارها بالشهرة كما فيما نحن فيه، فالرواية الّتي أرسلها و إن كانت مرسلة إلّا أنّها مجبورة بالشهرة فتصلح مستندة، و ضعّف أيضاً بأنّ إبقاء المال أمانة تعريض لها للتلف و لا يرضى به المالك البتّة.

و على هذا فتعيّن المصير إلى الرابع، و هو المشهور، للروايات المستفيضة الآمرة بالتصدّق الواردة في موارد مختلفة و إن اختصّ بعضها بمورد إلّا أنّه يظهر من ملاحظة المجموع أنّ هذا هو حكم مجهول المالك بعنوانه الكلّي:

منها: ما تقدّم(1) من رواية عليّ بن أبي حمزة في رجل من كتّاب بني اُميّة.

و خبر إسحاق بن عمّار قال: «سألت أبا إبراهيم عليه السلام عن رجل نزل في بعض بيوت مكّة فوجد فيه نحواً من سبعين درهماً مدفونة فلم تزل معه و لم يذكرها حتّى قدم الكوفة كيف يصنع ؟ قال: يسأل عنها أهل المنزل لعلّهم يعرفونها قلت: فإن لم يعرفوها قال: يتصدّق بها»(2).

ص: 429


1- تقدّم في الصفحة: 500 الرقم 1.
2- الوسائل 3/448:25، ب 5 أبواب اللقطة، التهذيب 1171/391:6.

و خبر يونس بن عبد الرحمن قال: «سئل أبو الحسن الرضا عليه السلام و أنا حاضر... إلى أن قال:

فقال: رفيق كان لنا بمكّة فرحل منها إلى منزله و رحلنا إلى منازلنا فلمّا أن صرنا في الطريق أصبنا بعض متاعه معنا فأيّ شيء نصنع به ؟ قال: تحملونه حتّى تحملوه إلى الكوفة، قال: لسنا نعرفه و لا نعرف بلده كيف نصنع ؟ قال: إذا كان كذا فبعه و تصدّق بثمنه، قال له: على من جعلت فداك ؟ قال: على أهل الولاية»(1).

و خبر زرارة قال: «سألت أبا جعفر عليه السلام عن اللقطة فأراني خاتماً في يده من فضّة ؟ قال: إنّ هذا ممّا جاء به السيل و أنا اُريد أن أتصدّق به»(2).

و أيّدت بما ورد في تراب الصياغة من الأخبار الآمرة بالصدقة، منها خبر عليّ بن ميمون الصائغ قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عمّا يكنس من التراب فأبيعه فما أصنع به ؟ قال: تصدّق به فإمّا لك و إمّا لأهله، قلت: فإنّ فيه ذهباً و فضّة و حديداً فبأيّ شيء أبيعه ؟ قال: بعه بطعام. قلت: فإن كان لي قرابة محتاج اُعطيه منه ؟ قال: نعم»(3).

و بما ورد من الأمر بالتصدّق بغلّة الوقف المجهول أربابه، و ما ورد من الأمر بالصدقة بما يبقى في ذمّة الشخص الأجير استأجره، و بأنّ التصدّق أقرب طرق الإيصال، و بأنه إحسان على المالك، و أنّ الإذن منه حاصل بشهادة الحال للقطع برضاه بانتفاعه بماله في الآخرة على تقدير عدم انتفاعه به في الدنيا.

و إن كان قد يزيّف هذه الثلاث بمنع كون الصدقة أقرب طرق الإيصال بل الأقرب دفعه إلى الحاكم الّذي هو وليّ الغائب، و منع جواز كلّ إحسان في مال الغائب، و شهادة الحال غير مطّردة إذ بعض الناس لا يرضى بالتصدّق لعدم يأسه عن وصوله إليه، خصوصاً إذا كان المالك مخالفاً أو ذمّيّاً لا يرضى بالتلف و لا يرضى بالتصدّق على الشيعة. فالعمدة في المقام النصّ ، و لا يمكن الإضراب عنه.

و حينئذٍ فهل التصدّق واجب على من هو في يده على التعيين أو على التخيير بينه و بين الدفع إلى الحاكم ؟.

ص: 430


1- الوسائل 2/450:25، ب 7 أبواب اللقطة، التهذيب 1189/395:6.
2- الوسائل 3/451:25، ب 7 أبواب اللقطة، التهذيب 1172/391:6.
3- الوسائل 1/202:18، ب 16 أبواب الصرف، التهذيب 479/111:7.

قد يقال: إنّ مقتضى الجمع بين النصّ بالتصدّق و بين دليل ولاية الحاكم هو التخيير بينه و بين الدفع إلى الحاكم فلكلّ منهما الولاية على هذا المال، و هذا في غاية الإشكال، لظهور الأمر في تعيين التصدّق خصوصاً و أنّ الأصل فيه التعيين - كما حقّق في محلّه - إلّا أن يدفع إليه الصرف في التصدّق كسائر الوجوه الّتي له ولاية الصرف في مستحقّيها.

و من هنا قد يقال: بأنّه يجوز الدفع إليه من حيث ولايته على مستحقّي الصدقة و كونه أعرف بمواقعها، بل قيل بأنّه لو أراد السلامة عن الضمان على تقدير عدم إجازة المالك يسلّمه إلى الحاكم، إذ الإيصال إليه بمنزلة الوصول إلى المالك.

و كيف كان فالظاهر أنّ ذلك هو الأفضل، خصوصاً بملاحظة ما ذكر من أنّه أعرف بمواقع صرفها، بل قد يقال: بأنّ الأحوط خصوصاً بملاحظة ما دلّ على أنّ مجهول المالك مال الإمام عليه السلام هو مراجعة الحاكم بالدفع إليه أو استيذانه، أقول: و يتأكّد ذلك فيما لو احتمل اندراجه في عنوان ما لا مالك له لقيام احتمال موت المالك و عدم وارث له.

و قد يقال: يتأكّد أيضاً في الدين المجهول مالكه، نظراً إلى أنّ الكلّي لا يتشخّص للغريم إلّا بقبض الحاكم الّذي هو وليّه، و إن كان ظاهر الأخبار الواردة فيه ثبوت الولاية للمديون.

ثمّ لو كان المالك معلوماً بالتفصيل و لكن تعذّر الوصول و إيصال المال إليه، فالمصرّح به في كلام جماعة تبعاً للمحقّق في الشرائع، كونه كصورة اليأس من معرفته فيتصدّق به مستقلاًّ، أو بإذنه و هو أحوط. و ربّما يستشمّ من بعض أخبار تراب الصياغة كون ما لو خاف من هو بيده عن الاتّهام أيضاً كذلك، كخبر عليّ الصائغ قال: «سألته عن تراب الصواغين و إنّا نبيعه ؟ قال: أما تستطيع أن تستحلّه من صاحبه ؟ قال: قلت: لا، إذا أخبرته اتّهمني، قال: بعه، قلت: بأيّ شيء نبيعه ؟ قال: بطعام، قلت: فأيّ شيء أصنع به ؟ قال: تصدّق به، إمّا لك و إمّا لأهله، قلت: إن كان ذا قربة محتاجاً أصله ؟ قال: نعم»(1).

ثمّ إنّ مستحقّ هذه الصدقة الفقراء من أهل المعرفة بلا خلاف فتوى و نصّاً. و في جواز إعطائها الهاشمي و عدمه قولان: من أنّها صدقة مندوبة على المالك و إن وجبت

ص: 431


1- الوسائل 2/202:18، ب 16 أبواب الصرف، التهذيب 1131/383:6.

على من هي بيده لأنّه نائب كالوصيّ و الوكيل، و من أنّه مال تعيّن صرفه بحكم الشارع لا بأمر المالك حتّى تكون مندوبة، مع أنّ كونها من المالك غير معلوم فلعلّها ممّن تجب عليه. و الأقوى الأوّل، و يندفع وجه الثاني بأنّ غاية ما يلزم من التعيّن بحكم الشارع كونها صدقة واجبة. و يتطرّق المنع إلى منع الهاشمي من مطلق الصدقة الواجبة، بل غاية ما يسلّم ممنوعيّته هي الزكوات من الصدقات لا غير، لظهور النصوص المانعة فيها و لو بحكم الانصراف العرفي، فيجوز للمعطي إعطاء ما عداها الهاشمي و إن كره أخذه للآخذ إلّا أن يكون مضطرّاً إليه.

الجهة الثالثة: في أنّه هل يضمن المتصدّق للمالك إذا ظهر و لم يجز الصدقة مطلقاً، أو لا يضمن مطلقاً،

أو يفصّل بين ما لو كان يده في الأخذ يد ضمان - كما لو أخذها بقصد المالكيّة جاهلاً فعلم أو بقصد الأكل عالماً ثمّ بدا له أن لا يأكل بل يتصدّق - أو يد أمانة كما لو أخذها حسبة للإيصال إلى مالكه ؟ وجوه:

من أنّ الأصل براءة ذمّة المتصدّق عن العوض مثلاً أو قيمة، مع خلوّ أخبار الباب عن الأمر بالضمان و أصالة اللزوم الصدقة بمعنى عدم انقلابها عن الوجه الّذي وقعت عليه.

و من عموم ضمان من أتلف، و لا ينافيه إذن الشارع في التصدّق، لأنّه أذن فيه على وجه الضمان على تقدير عدم إجازة المالك، كما في اللقطة المتصدّق بها مع الضمان بلا خلاف، و كما في وديعة اللصّ أو مطلق الغاصب.

و فيه: منع صدق الإتلاف على التصدّق، خصوصاً مع وجود العين في يد المستحقّ المجمع على عدم الرجوع عليه بل هو إحسان عليه و إيصال للنفع إليه. و إن شئت قلت:

إنّ ظاهر دليل الإتلاف هو الإتلاف على المالك و هذا إتلاف له و إحسان إليه، و لو سلّم يتطرّق المنع إلى الكبرى لأنّ مقتضى الرواية هو الضمان المستقرّ بالإتلاف، و هو فيما نحن فيه مراعى بعدم إجازة المالك، و هو خارج عن مؤدّى الرواية، فلا دليل عليه إلّا أن يقال: بأنّه هنا مستقرّ أيضاً و الإجازة رافعة له، و لعلّه موضع منع كما ستعرفه. فأصالة البراءة محكّمة مطلقاً إلّا أن يتشبّث بالاستصحاب فيما لو أخذه للتملّك و التصرّف لا حسبة فإنّه لا إشكال في الضمان حين الأخذ لعموم على اليد، فيستصحب بعد التصدّق المشكوك في كونه رافعاً له و أصالة البراءة لا تعارضه، فيتّجه التفصيل حينئذٍ،

ص: 432

و يتأكّد أصالة البراءة في صورة الأخذ حسبة باستصحاب عدم الضمان إلى ما بعد التصدّق المشكوك كونه موجباً للضمان.

و ربّما استوجه الضمان مطلقاً استناداً إلى عدم القول بالفصل، أو لاستفادته من خبر وديعة اللصّ بدعوى أنّه يستفاد منه أنّ الصدقة بهذا الوجه حكم. و هو مشكل، لعدم ثبوت الإجماع على عدم الفصل، و لو سلّم فهو يفيد الملازمة بين شطري الإجماع المركّب في الحكم الواقعي لا الحكم الظاهري، مع تطرّق المنع إلى استفادة الحكم المذكور من خبر الوديعة بعد البناء فيه على الاقتصار على المورد هذا. و لكنّ الأحوط هو الضمان مطلقاً.

و في كون الضمان حينئذٍ ثابتاً بمجرّد التصدّق إن كان مدركه دليل الإتلاف غاية الأمر كون الإجازة على تقدير لحوقها رافعة، أو يثبت بالردّ من حينه أو من حين التصدّق على معنى كونه كاشفاً لأصالة البراءة قبل الردّ و لرواية الوديعة الظاهرة في كون كلّ من الغرم و الأجر من حين التصدّق متزلزلاً؟ إشكال، و إن كان استصحاب الضمان السابق في صورة يد الضمان يقتضي الوجه الأوّل، بل يقتضيه ممّا قبل التصدّق.

و لو مات المالك ففي قيام وارثه مقامه في الإجازة و الردّ و عدمه وجهان، أقواهما الأوّل لأنّ ذلك من قبيل الحقوق المتعلّقة بالأموال فيورث كغيره من الحقوق، و وجه العدم لزوم التصدّق بالنسبة إلى العين فليس لأحد فيها حقّ و المتيقّن من جواز الرجوع إلى القيمة هو المالك.

و لو مات المتصدّق فردّ المالك، فقيل: الظاهر خروج الغرامة من تركته، لأنّه من الحقوق الماليّة اللازمة عليه بسبب فعله.

فأمّا لو دفعه إلى الحاكم فتصدّق به الحاكم، فالظاهر عدم الضمان عليه و لا على الحاكم، لبراءة ذمّة الأوّل بالدفع إلى وليّ الغائب و تصرّف الوليّ كتصرّف المولّى عليه، نعم لو كان الدفع إلى الحاكم من حيث ولايته على المستحقّ و كونه أعرف بمواقع الصرف ففي ضمان الدافع احتمال غير بعيد، لأنّ الحاكم حينئذٍ كالوكيل، و الغرامة تلزم على الموكّل، إذ المال إذا وقع في يد الدافع كان هو المكلّف بالفحص ثمّ بالتصدّق ثمّ بالغرامة فتأمّل.

ص: 433

تذنيب: يجوز أن يؤخذ مجّاناً أو معاوضة في عقد بيع أو صلح أو هبة من السلطان الجائر ما كان قد أخذه من الغلّات باسم المقاسمة

اشارة

و هي حصّة من حاصل الأرض تؤخذ عوضاً عن زراعتها، أو من الأموال باسم الخراج و هو مقدار من المال يضرب على الأرض أو الشجر حسبما يراه الحاكم، أو من الأنعام أو الغلّات أو الأموال باسم الزكاة، و إن كان السلطان ظالماً في أخذه غاصباً في تصرّفه غير مستحقّ للأخذ و التصرّف.

و لعلّ النكتة في الجواز على ما ذكره الفاضل المقداد في التنقيح(1) كما حكي أنّ أخذ هذه الأموال و إن كان حقّاً للأئمّة عليهم السلام و قد غصبه الجائر إلّا أنّهم عليهم السلام أذنوا لشيعتهم في أخذها و شرائها، فيكون تصرّف الجائر كتصرّف الفضولي إذا لحقه إجازة المالك، و قيل: الأولى أن يقول إجازة متولّي الملك.

و دليل الجواز بعد الإجماع المستفيض نقله في كلام جماعة من أساطين الطائفة - كما في المسالك(2) و عن التنقيح(3) و جامع المقاصد(4) و قاطعة اللجاج في حلّ الخراج(5)و هي رسالة للمحقّق الكركي، و المصابيح(6) و تعليق الإرشاد(7) و أنّه لولاه لزم العسر العظيم بل اختلال النظم - الأخبار المدّعى كونها متواترة كما عن جامع المقاصد(8).

منها: الروايات المتقدّمة في مسألة أخذ الجوائز من السلطان الغير الخالية عادةً عن هذه الأموال،

و قيل: خصوصاً الجوائز العظام الّتي لا تحتمل عادةً كونها من غير الخراج.

و منها: صحيحة أبي عبيدة الحذّاء عن أبي جعفر عليه السلام قال: «سألته عن الرجل منّا يشتري من السلطان من إبل الصدقة و غنمها و هو يعلم أنّهم يأخذون أكثر من الحقّ الّذي يجب عليهم، فقال: ما الإبل و الغنم إلّا مثل الحنطة و الشعير و غير ذلك لا بأس به حتّى يعرف الحرام بعينه، قيل له: فما ترى في مصدّق يجيئنا فيأخذ منّا صدقات أغنامنا، فنقول: بعناها فيبيعناها فما تقول في شرائها منه ؟ فقال: إن كان قد أخذها و عزلها فلا بأس. قيل له: فما ترى في الحنطة و الشعير يجيئنا القاسم فيقسم لنا حظّنا و يأخذ حظّه فيعزله بكيل فما ترى في شراء ذلك الطعام منه ؟ فقال: إن كان قبضه بكيل

ص: 434


1- التنقيح 19:2.
2- المسالك 142:3.
3- التنقيح 19:2.
4- جامع المقاصد 45:4.
5- قاطعة اللجاج (رسائل المحقّق الكركي) 274:1.
6- المصابيح: 26.
7- تعليق الإرشاد: 98.
8- جامع المقاصد 45:4.

و أنتم حضور ذلك فلا بأس بشرائه منه من غير كيل»(1).

و هذه الرواية واضحة الدلالة على المدّعى فتدلّ عليه في كلّ من الأسئلة الثلاث باعتبار التقرير و القول معاً، لظهورها في عدم شبهة للسائل في جواز أصل الشراء و كون جوازه معتقداً له مفروغاً عنه عنده، بل كانت اشتباهه لحيثيّات اُخر طارئة للمورد مثل العلم بأنّ سلاطين الجور كانوا يأخذون أكثر من الحقّ الّذي كان يجب على المالك في مورد السؤال الأوّل فأجاب الإمام عليه السلام بما يقضي بجواز شراء ما لم يعلم حرمته بعينه، باعتبار عدم العلم بكون المأخوذ صدقة من الزيادة على الحقّ الواجب، و يكشف عن تقريره عليه السلام السائل على معتقده. و مثل كون المبيع الّذي يشتريه المالك من العامل عين ماله الّذي دفعه بعنوان الصدقة، فأجاب الإمام عليه السلام بما يقضي بجواز شرائه بعد العزل و الأخذ لأنّه حينئذٍ خرج عن ملكه فلا حجر في شرائه حينئذٍ، و يكشف عن تقريره السائل على معتقده. و مثل الاكتفاء في شرائه بالكيل الأوّل من غير اعتبار كيل آخر للاشتراء، فأجاب الإمام عليه السلام بما يقضي بجوازه بشرط حضور المشتري حين الكيل، و يكشف عن تقريره على معتقده.

و نوقش في دلالتها على الإباحة بوجوه:

فأوّلاً: قوله «لا بأس به حتّى يعرف الحرام بعينه» فلم يتّضح دلالته على الإباحة لمعلوميّة حرمتها إجماعاً، فيحتمل كونه كناية عن الحرمة، و كان منشأ الإجمال التقيّة.

و ثانياً: أنّها مختصّة بالشراء فلا تتناول غيره حتّى الأخذ مجّاناً أو هبة فليقتصر في مخالفة القواعد عليه.

و ثالثاً: احتمال الشراء فيها استنقاذ الحقّ لا المعاملة الحقيقيّة، بناءً على كون موردها صدقات المشتري خاصّة.

و رابعاً: احتمال كون المصدّق من قبل العدل لا الجائر.

و خامساً: عدم دلالتها على جواز شراء الخراج و المقاسمة، بل غايتها الدلالة على الجواز في الزكاة.

ص: 435


1- الوسائل 5/219:17، ب 52 ما يكتسب به، التهذيب 1094/375:6.

و سادساً: احتمال كون القاسم زارع الأرض أو وكيله لا عامل الجائر.

و في الجميع من الضعف ما لا يخفى:

أمّا الأوّل: فلعدم وضوح معنى الإجمال، مع كون قوله عليه السلام: «لا بأس به» واضح الدلالة على إباحة شراء ما لم يعلم كونه من الزيادة المحرّمة، و كون قوله عليه السلام: «حتّى يعرف الحرام بعينه» واضح الدلالة على حرمة الزيادة، إلّا أن يوجّه بإرادة الإجمال في المركّب الطارئ له بملاحظة دعوى معلوميّة حرمتها إجماعاً، بتقريب أنّ قوله: «لا بأس به حتّى يعرف الحرام بعينه» يقتضي انقسام المال المأخوذ صدقة إلى ما علم حرمته بعينه و ما لم يعلم حرمته بعينه، و هو بملاحظة معلوميّة حرمته إجماعاً لا يصلح مقسماً في هذا التقسيم، فيتطرّق الإجمال حينئذٍ إلى المعنى المراد من قوله «لا بأس به» و قوله «حتّى يعرف الحرام بعينه» المقتضيين للانقسام. و يمكن أن يحمل قوله «لا بأس» على إرادة عدم الإباحة و إن كان غير واضح الدلالة عليه، و هو أيضاً من الإجمال غير أنّه لا ضير فيه إذا كان منشؤه التقيّة.

و يزيّفه أنّ منشأ الإجمال المتوهّم في الحقيقة هو الّذي ادّعاه من معلوميّة حرمة الصدقة الّتي أخذها الجائر بالإجماع، و يدفعه أنّه إن اُريد من الحرمة حرمتها على الجائر فهي مسلّمة و الإجماع عليه أيضاً مسلّم، إلّا أنّ حرمتها عليه لا يلازم حرمتها على الشيعة بعد ورود الرخصة و الإذن من الأئمّة عليهم السلام في شرائها الّتي مرجعها إلى إمضاء أخذ الجائر لها في حقّ الشيعة، و الكلام إنّما هو على هذا التقدير و الرواية منزّلة على هذا المعنى فصحّ التقسيم حينئذٍ، و يصلح الصدقة المأخوذة مقسماً فيه بالقياس إلى ما علم كونه من القدر الزائد على القدر الواجب و ما لم يعلم كونه منه، فالأوّل حرام على الجائر و على غيره أيضاً فلا يجوز شراؤه، و الثاني حلال على غيره و إن حرم عليه فيحلّ شراؤه، و معنى حلّيّته عدم المنع للشيعة من قبول هبته و قبول بيعه و غيره من المعاوضة عليه.

و إن اُريد منها حرمتها على غير الجائر أيضاً حتّى الشيعة حتّى بعد إمضاء الأئمّة عليهم السلام أخذ الجائر في حقّهم فدعوى معلوميّتها مردودة على مدّعيها. و دعوى

ص: 436

الإجماع على الحرمة على هذا الوجه كذب و فرية، كيف و قد سمعت استفاضة نقل الإجماع على عدمها.

و أمّا الثاني: فلأنّ هذه الأموال إذا كانت حلالاً من قبل الأئمّة على شيعتهم على معنى جواز التصرّفات المعامليّة لهم فيها، فلا يتفاوت فيها الحال بين الاشتراء الّذي هو قبول البيع و قبول الهبة الّتي هو الأخذ مجّاناً، و نحوه قبول الهديّة. و ربّما يستشمّ من تضاعيف عبارات الرياض(1) عدم الخلاف في عدم الفرق، بل الإجماع على عدم الفصل، و نحوه نقل عن المحقّق الكركي(2).

و أمّا الثالث: فلظهور القاسم في آخذ المقاسمة للاشتراك في المبدأ، مضافاً إلى التفكيك بين مورد السؤال الأخير و سابقه بالتعبير بالمصدّق و هو آخذ الصدقة ثمّة و القاسم هنا، فلو كان مورده حنطة الصدقة و شعيرها كما أنّ المورد في السابق أغنام الصدقة و لذا عبّر بالمصدّق لناسب التعبير بالمصدّق أيضاً، مع أنّ حكم الحنطة و الشعير من الصدقة قد ظهر في الجملة من جواب السؤال الأوّل، حيث قال عليه السلام: «ما الإبل و الغنم إلّا مثل الحنطة و الشعير» و غير ذلك بل دلّ ذلك على كونه معلوماً لدى السائل أيضاً، و إذا ثبت الجواز في الحنطة و الشعير من المقاسمة بالرواية يتمّ في الباقي حتّى الخراج بعدم القول بالفصل.

و أمّا الرابع: فلبعد احتمال كون المصدّق من قبل العدل، بل ظاهر سياق الرواية كونه من قبل الجائر، خصوصاً بعد ملاحظة أنّ الأئمّة عليهم السلام في تلك الأعصار لم يكونوا متصرّفين لمغصوبيّة حقوقهم و كونهم في شدّة التقيّة. و احتمال كون المنصوب من قبل الجائر لتصحيح أعماله استأذن في الخفاء من العدل أيضاً في غاية البعد، خصوصاً بعد ملاحظة أنّ سلاطين الجور و ولاتهم كانوا لا يستعملون غالباً إلّا أتباعهم من المخالفين و الناصبين للأئمّة عليهم السلام و مبغضيهم.

و أمّا الخامس: فلأنّ صرف البيع و الشراء المتكرّر في الرواية عن المعاملة الحقيقيّة و حملها على الاستنقاذ أبعد شيء ذكر في المقام، كيف و استنقاذ الحقّ من يد الغاصب

ص: 437


1- الرياض 199:8.
2- جامع المقاصد 45:4.

لكلّ من تمكّن منه لم يحتج جوازه إلى السؤال ثمّ التكرار فيه، و الجواب بجواز أيضاً لا يقتضي التعرّض لبيان شروط المعاملة الحقيقيّة كما هو واضح.

و أمّا السادس: فلبعد احتمال إرادة الزارع أو وكيله من لفظ القاسم.

و منها: حسنة أبي بكر الحضرمي

قال: «دخلت على أبي عبد اللّه عليه السلام و عنده ابنه إسماعيل، فقال: ما يمنع ابن أبي سمّاك أن يخرج شباب الشيعة فيكفونه ما يكفيه الناس، و يعطيهم ما يعطي الناس، ثمّ قال: لِمَ تركت عطاءك ؟ قلت: مخافة على ديني، قال:

ما منع ابن أبي سمّاك أن يبعث إليك بعطائك، أما علم أنّ لك في بيت المال نصيباً»(1).

و فيها موضعان من الدلالة:

أحدهما: قوله - بالقياس إلى شباب الشيعة -: «و يعطيهم ما يعطي الناس» فإنّه يدلّ على حلّيّة ما يعطي من بيت المال اُجرة و نحوها، و الغالب فيه ما يجتمع من أموال الخراج و المقاسمة. و المناقشة فيه باحتمال كون ما يعطي الشيعة لعلّه من الأموال المنذورة أو الموصى بها للشيعة أو غلّة الأملاك الموقوفة عليهم و ما أشبه ذلك، يدفعها بعد ذلك خصوصاً مع ندرة اتّفاق نحو هذه الأموال ثمّ إحرازها في بيت المال.

و ثانيهما: قوله - بالنسبة إلى الراوي -: «لِمَ تركت عطاءك» ثمّ قوله: «أن يبعث إليك بعطائك» ثمّ قوله: «أما علم أنّ لك في بيت المال نصيباً» و التقريب ما عرفت.

و توهّم و المناقشة فيه أيضاً باحتمال كون ما يعطي السائل و نصيبه من بيت المال من الزكوات المجتمعة، و هذا أيضاً ضعيف خصوصاً مع قلّة الزكوات و ندرة إحرازها فيه، لأنّ لها أهلاً يعطون فلا تحرز في بيت المال، مع أنّ الغالب دفع المالك إيّاه من دون إرجاعه إلى سلطان الجائر أو منصوبه.

و توهّم أنّ قول الراوي: «مخافة على ديني» ربّما يدلّ على حرمته إذ لا جهة للمخافة على الدين بدونها، يدفعه قوّة احتمال كون المخافة على الدين لأجل استلزام مطالبة النصيب و العطاء الركون إلى الظالم أو الحضور في مجالسه الّذي يوجب أن لا يصيبوا من دنياهم شيئاً حتّى أصابوا من دينه مثله.

ص: 438


1- الوسائل 6/214:17، ب 51 ما يكتسب به، التهذيب 933/336:6.
و منها: موثّقة إسحاق بن عمّار

قال: «سألته عن الرجل يشتري من العامل و هو يظلم ؟ قال: يشتري منه ما لم يعلم أنّه ظلم فيه أحداً»(1).

و صحيحة معاوية بن وهب قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: أشتري من العامل الشيء و أنّا أعلم أنّه يظلم ؟ فقال: اشتر منه»(2).

و مرسلة محمّد بن أبي حمزة عن رجل قال: «قلت لأبي عبد اللّه: أشتري الطعام فيجيئني من يتظلّم و يقول: ظلمني، فقال: اشتره»(3).

و رواية عبد الرحمن ابن أبي عبد اللّه قال: «سألته عن الرجل أ يشتري من العامل و هو يظلم ؟ فقال: يشتري منه»(4).

و ظاهر الاشتراء من العامل الاشتراء ممّا هو عامل فيه، و لا يكون في الغالب إلّا من طعام المقاسمة أو الصدقة، و ظاهر كونه يظلم مع أنّ أصل عمله ظلم باعتبار كونه من قبل ظلمه يأخذ الزيادة على الحقّ ، فأسئلة هذه الروايات موافق لصدر صحيحة الحذّاء، كما أنّ جواب الإمام عليه السلام في الموثّق يوافق جوابه في الصحيحة، فيحمل عليه الجواب فيما عداه حملاً للمطلق على المقيّد فهي واضحة الدلالة على الحلّ ، و ان كان المرسلة لا ظهور فيها في كون عنوان السؤال هو الاشتراء من العامل.

و ربّما نوقش في الموثّقة باحتمال كون مراد السائل الشراء من أملاك العامل منه مع علمه بكونه ظالماً غاصباً فيكون سؤالاً عن معاملة، و يدفعها كون الاحتمال خلاف الظاهر، و يبعده أنّه لو كان منظوره السؤال عن معاملة الظلمة لناسب جعل عنوان السؤال هو الظالم.

و منها: الروايات الدالّة على جواز قبالة الخراج و الجزية من السلطان الّتي يستفاد من مجموعها مسلّم الجواز عندهم، مثل صحيحة إسماعيل بن الفضل عن أبي عبد اللّه قال: «سألته عن رجل يتقبّل بخراج الرجال و جزية رءوسهم و خراج النخل و الشجر

ص: 439


1- الوسائل 2/221:17، ب 3 ما يكتسب به، التهذيب 1093/375:6.
2- الوسائل 4/219:17، ب 52 ما يكتسب به، التهذيب 938/.337:6
3- الوسائل 3/219:17، ب 52 ما يكتسب به، التهذيب 937/337:6.
4- الوسائل 3/221:17، ب 53 ما يكتسب به، التهذيب 582/132:7.

و الآجام و المصائد و السمك و الطير، و هو لا يدري لعلّ هذا لا يكون أبداً أو يكون أ يشتريه و في أيّ زمان يشتريه و يتقبّل ؟ فقال: إذا علمت أنّ من ذلك شيئاً واحداً قد أدرك فاشتره و تقبّل»(1).

و موثّقه أيضاً عن أبي عبد اللّه: «في الرجل يتقبّل بجزية رءوس الجبال أو بخراج النخل و الآجام و الطير، و هو لا يدري و لعلّه لا يكون...»(2) إلى آخر ما تقدّم في صحيحه بأدنى تفاوت. قيل: «و ظاهرهما أنّ غرض السائل متعلّق بالسؤال من حيث إنّه لا يدري يكون من ذلك شيء أم لا، و لذلك لم يذكر خراج الأرض، فكان أصل الجواز من حيث كون ذلك خراجاً أمر مسلّم عندهم»(3).

و صحيح الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السلام في جملة حديث قال: «لا بأس بأن يتقبّل الرجل الأرض و أهلها من السلطان، و عن مزارعة أهل الخراج بالربع و النصف و الثلث، قال: نعم لا بأس به، و قد قبّل رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم خيبر أعطاها اليهود حين فتحت عليه بالخُبر و الخُبْر هو النصف»(4). قيل: «و هذا كالصريح في أنّ حكم تصرّف الجائر في هذه الأراضي حكم تصرّف الإمام العادل»(5).

و صحيح إسماعيل بن الفضل أيضاً عن أبي عبد اللّه عليه السلام «قال: «سألته عن رجل استأجر من السلطان أرض الخراج بدراهم مسمّاة أو بطعام مسمّى، ثمّ آجرها و شرط لمن يزرعها أن يقاسمه النصف أو أقلّ من ذلك أو أكثر فله ذلك ؟ قال: نعم إذا حفر لهم نهراً أو عمل لهم شيئاً يعينهم بذلك فله ذلك. قال: و سألته عن رجل استأجر أرضا من أرض الخراج بدراهم مسمّاة أو بطعام معلوم فيؤجرها قطعة قطعة أو جريباً جريباً بشيء معلوم، فيكون له فضل فيما استأجره من السلطان و لا ينقص منه شيئاً، أو يؤاجر تلك الأرض قطعاً قطعاً على أن يعطيهم البذر و النفقة فيكون له في ذلك فضل على إجارته و له تربية الأرض أو ليست له ؟ فقال: إذا استأجرت أرضاً فأنفقت شيئاً أو

ص: 440


1- الوسائل 4/355:17، ب 12 عقد البيع، الفقيه 621/141:3.
2- التهذيب 544/124:7، الكافي 12/195:5.
3- الكفاية: 79.
4- الوسائل 3/59:19، ب 18 أحكام المزارعة و التهذيب 888/201:7.
5- الحدائق 257:18، الرياض 199:8، الجواهر 187:22.

زرعت فلا بأس بما ذكرت»(1).

و خبر العيص [الفيض] بن المختار قال لأبي عبد اللّه عليه السلام: «جعلت فداك ما تقول في الأرض أتقبّلها من السلطان ثمّ أُؤاجرها اُكرتي على أنّ ما أخرجه اللّٰه تعالى منها من كلّ شيء لي من ذلك النصف أو الثلث بعد حقّ السلطان ؟ قال: لا بأس به كذلك اُعامل اُكرتي»(2).

و منها: الأخبار المستفيضة المتقدّمة في حلّ جوائز السلطان الجائر و عمّاله،
اشارة

بناءً على أنّ الغالب فيما في أيديهم من الأموال ما أخذوه باسم الخراج و المقاسمة، أو بناءً على أنّه يغلب فيما وقع بأيديهم من الأموال ما يكون من قبيل الخراج و المقاسمة، مع ملاحظة إطلاق الأجوبة فيها بالحلّ المفيد للعموم من جهة ترك الاستفصال، و هي إن لم تتمّ دليلاً مستقلاًّ فلا تخلو عن تأييد، بل تنهض مؤيّدة للأخبار السابقة، و إلّا فهي على التقرير الأوّل لوجه الاستدلال دليل مستقلّ .

ثمّ إنّ في المقام مسائل كثيرة مهمّة تذكر من باب التفريع:
المسألة الاُولى: في اشتراط قبض السلطان أو عامله في جواز القبول منه مجّاناً أو بعقد من عقود المعاوضة و عدمه،

حتّى أنّه لو أحاله على مستعمل الأرض أو وكّله في أخذه منه جاز الأخذ قولان، عزي أوّلهما إلى صريح السيّد العميدي في شرحه للنافع حيث قال: «إنّما يحلّ ذلك بعد قبض السلطان أو نائبه، و لذا قال المصنّف يأخذه»(3)انتهى. و ربّما استظهر ذلك من عبارات الأكثر لمكان عبارة «يأخذه» في كلامهم. خلافاً لصريح جماعة منهم ثاني الشهيدين في المسالك و من تبعه فلم يشترطوا ذلك قال في المسالك. «لو أحاله به أو وكّله في قبضه أو باعه و هو في يد المالك أو ذمّته حيث يصحّ البيع كفى و وجب على المالك الدفع و كذا القول فيما يأخذه باسم الزكاة»(4) انتهى.

و في الرياض(5) نفي الخلاف في عدم الفرق بين مقبوض السلطان و غيره، و عن

ص: 441


1- الوسائل 3/127:19 و 4، ب 21 أحكام الإجارة، الكافي 2/272:5.
2- الوسائل 5/128:19، ب 21 أحكام الإجارة، رجال الكشّي 663/642:2.
3- نقله عنه في المكاسب 211:2.
4- المسالك 143:3.
5- الرياض 199:8.

المحقّق الثاني(1) في الرسالة الإجماع على عدم الفرق، و لا ينافيه ما في عبارة الأكثر من التعبير ب «ما يأخذه»، لقوّة احتمال إرادة المعنى الاستقبالي أي ما من شأنه أن يأخذه السلطان سواء أخذه فعلاً أو لم يأخذه بعد. و كان استظهار الخلاف منها بناءً على حملها على إرادة المعنى الحالي، و هو محلّ منع، و لو سلّم الظهور فهو لا يفيد الاعتبار، لجواز كون بنائه على الغالب من كون أموال الخراج و المقاسمة مقبوضة للسلطان أو نائبه.

و ربّما يحمل على كون ذكره بعد جوائز السلطان كالمستثنى من جوائزهم الّتي حرم أخذها و بعد الأخذ وجب ردّها إلى مالكها إذا علمت كونها بعينها محرّمة كما تقدّم.

و على أيّ حال كان فالمعتمد هو عدم الاشتراط، لما تقدّم من أخبار قبالة أرض الخراج و جزية الرءوس و خراج الشجر و النخل و الآجام المعتضدة بفهم الجماعة بل الأكثر، و نفي الخلاف و منقول الإجماع لاختصاص مواردها بغير المقبوض.

المسألة الثانية: الرخصة الحاصلة من الأئمّة عليهم السلام في أخذ هذه الأموال من الجائر و قبولها مجّاناً أو بأحد عقود المعاوضة مختصّة بالآخذ المتقبّل المنتقل إليه

في أخذه و قبوله غير متناولة للجائر في إعطائه، فالأخذ منه من حيث إنّه فعل للآخذ جائز لا إعطاؤه من حيث إنّه فعل للجائر، فإنّه كسائر تصرّفاته في هذه الأموال حرام، حتّى أنّ أخذه إيّاها من مستعملي الأراضي حرام لكونه غاصباً غير مستحقّ له، و أنت إذا تتبّعت عباراتهم لوجدتها مشحونة على التصريح بكونه غاصباً، أو عدم استحقاقه له، أو كونه منه حراماً، و ما يؤدّي مؤدّى ذلك على اختلاف العبارات.

و لذا قال الفاضل في التنقيح على ما حكي: «إنّ الدليل على جواز شراء الثلاثة من الجائر و إن لم يكن مستحقّاً له النصّ الوارد عنهم عليهم السلام و الإجماع و إن لم يعلم مستنده، و يمكن أن يكون مستنده أنّ ذلك حقّ للأئمّة عليهم السلام و قد أذنوا لشيعتهم في شراء ذلك فيكون تصرّف الجائر كتصرّف الفضولي إذا انضمّ إليه إذن المالك»(2).

و قال أوّل الشهيدين في الدروس: «يجوز شراء ما يأخذه الجائر باسم الخراج و الزكاة و المقاسمة و إن لم يكن مستحقّاً له»(3).

ص: 442


1- رسائل المحقّق الكركي 278:1.
2- التنقيح 18:2-19.
3- الدروس 169:3.

و قال ثانيهما في المسالك: «إلّا أنّ ما يأخذه الجائر في زمن الغيبة قد أذن أئمّتنا عليهم السلام في تناوله منه، و أطبق عليه علماؤنا لا نعلم فيه مخالفاً و إن كان ظالماً في أخذه»(1).

قال العلّامة في التحرير: «ما يأخذه الظالم بشبهة الزكاة من الإبل و البقر و الغنم، و ما يأخذه عن حقّ الأرض بشبهة الخراج، و ما يأخذه من الغلّات باسم المقاسمة حلال و إن لم يستحقّ أخذ ذلك»(2).

قال في النافع: «يجوز أن يشترى من السلطان ما يأخذه باسم المقاسمة و اسم الزكاة من ثمرة و حبوب و نعم و إن لم يكن مستحقّاً له»(3).

و عن شرح القواعد للشيخ الغروي «و يقوى حرمة سرقة الحصّة و خيانتها و الامتناع من تسليم ثمنها بعد شرائها إلى الجائر و إن حرمت عليه»(4) و دخل تسليمها في الإعانة على الإثم في البداية أو الغاية، و ظاهر تحريم الحصّة عليه تحريمها بجميع تصرّفاته الّتي منها الأخذ و الإعطاء و إلّا لم يكن تسليم ثمنها إليه إعانة على الإثم.

و يظهر من تضاعيف كلمات صاحب الحدائق(5) مع صاحب الكفاية انتصاراً للمحقّق الأردبيلي رحمه الله عليه كون الحرمة في تصرّفاته حتّى أخذه و إعطائه من المسلّمات عند الأصحاب الّتي يمكن دعوى الاتّفاق فيها(6). نعم يظهر من صاحب الكفاية في تضاعيف كلماته مع الأردبيلي ميله إلى منع الحرمة حيث قال - في جملة كلام له ردّاً عليه في إيراداته على صحيحة أبي عبيدة الحذّاء المتقدّمة -: «إنّا لو سلّمنا أنّ أخذ السلطان و جمعه حتّى الخراج من الأرضين حرام مطلقاً، حتّى لو كان مقصوده جمع حقوق المسلمين و صرفه في المصارف الشرعيّة بقدر طاقته كان حراماً أيضاً، لكن لا نسلّم أنّ إعطاءه لأحد في صورة الهبة أو غير ذلك يكون حراماً إذا كان الآخذ مستحقّاً لمثله كالفقراء، أو كونه من مصالح المسلمين كالغازي و القاضي و الّذي له مدخل في اُمور الدين و إن كان الأخذ حراماً أوّلاً، إذ لا أجد بحسب نظري دليلاً على ذلك و لا الأصل يقتضيه. ثمّ يظهر من الحديث أنّ تصرّف العامل بالبيع جائز إذ لو كان

ص: 443


1- المسالك 142:3.
2- التحرير 272:2.
3- النافع: 118.
4- شرح القواعد 38:1.
5- الحدائق 253:18.
6- مجمع الفائدة 98:8-99.

حراماً كان الظاهر أن يكون الاشتراء منه حراماً أيضاً لكونه إعانة على الفعل المحرّم، و حيث ثبت أنّ التصرّف بنحو البيع و الشراء جائز ظهر أنّ أصل التصرّف فيه ليس بحرام. و إذا قيل: إنّ بعض أنحاء التصرّفات كالإعطاء من غير عوض لمستحقّ له حرام كان محتاجاً إلى دليل لأنّ الأصل خلافه، و إذا كان ذلك حراماً فإمّا أن يكون الواجب ضبطه و حفظه في الخزائن و هو بعيد جدّاً، و إمّا أن يكون الواجب الردّ إلى من اُخذ منه، و ذلك يقتضي تحريم بيعه و الاشتراء لأنّ الواجب ردّ العين مع التمكّن لا القيمة مع أنّ الظاهر عدم القائل بالفرق بين الاشتراء و غيره»(1) انتهى.

و ربّما استظهر ذلك من عبارة المسالك في باب الأرضين قائلاً: «و ذكر الأصحاب بأنّه لا يجوز لأحد جحدها و لا منعها و لا التصرّف فيها بغير إذنه، بل ادّعى بعضهم الاتّفاق عليه»(2).

و قد يتوهّم أيضاً من عبارة المحقّق الكركي عن رسالته قائلاً: «ما زلنا نسمع من كثير ممّن عاصرناهم لا سيّما شيخنا الأعظم الشيخ عليّ بن هلال رحمه الله أنّه لا يجوز لمن عليه الخراج سرقته و لا جحوده و لا منعه و لا شيء منه لأنّ ذلك حقّ واجب عليه»(3).

و توهّم أيضاً من عبارة الدروس «و لا فرق بين قبض الجائر إيّاها أو وكيله و عدم القبض، فلو أحاله بها و قبل الثلاثة أو وكّله في قبضها أو باعها و هي في يد البائع أو في ذمّته جاز التناول و يحرم على المالك المنع... إلى أن قال: و لا يحلّ تناولها بغير ذلك»(4).

و فيه: أنّ كلام المسالك مفروض في صورة استيلاء الجائر على تلك الأراضي و عدم تمكّن السلطان العادل من التصرّف فيها و أخذ ما على مستعمليها من الخراج و المقاسمة، فإنّ هذه الأراضي ملك للمسلمين فلا بدّ لها من اُجرة على مستعمليها تصرف في مصالحهم، و لا تسقط من مستعمليها في أزمنة الغيبة و لا غيرها من أزمنة استيلاء الجائر عليها، فلا يحلّ لأحد الاستقلال بالتصرّف فيها من دون إذن العادل أو الجائر، و لا تناولها من دون إذن أحدهما بل يجب على مريد التناول الاستئذان فيه إمّا

ص: 444


1- الكفاية: 78.
2- المسالك 55:3-56.
3- رسائل المحقّق الكركي 285:1.
4- الدروس 170:3.

من العادل أو نائبه الخاصّ إن أمكن، و مع عدم الإمكان لاستيلاء الجائر فمن الجائر لا غير، فيكون تقدير قوله: «و لا التصرّف فيها بغير إذنه» و لا التصرّف في أموال الخراج و المقاسمة بغير إذن الجائر المفروض استيلاؤه على تلك الأراضي و على مستعمليها، و عليه يحمل عبارة المحقّق في الرسالة و عبارة الدروس فإنّ قوله: «على المالك المنع» عطف على «جاز التناول» أي جاز للمشتري مثلاً تناول ما باعه السلطان المفروض استيلاؤه، و يحرم على المالك منع المشتري عن المبيع بأن لا يدعه إليه مثلاً، و قوله:

«و لا يحلّ تناولها بغير ذلك» يعني تناول أحد هذا المال بغير إذن السلطان المفروض استيلاؤه و إعطاؤه بأحد الوجوه المذكورة من الإحالة و التوكيل و البيع، و مرجعه إلى الاستقلال بالتصرّف فيها و تناولها بدون الاستئذان من الجائر.

و ممّا يكشف عن كون عبارة المسالك منزّلة على هذا المعنى قوله - بعد العبارة المتقدّمة بلا فصل -: «و هل يتوقّف التصرّف في هذا القسم على إذن الحاكم الشرعي إذا كان متمكّناً من صرفها على وجهها بناءً على كونه نائباً عن المستحقّ و مفوّضاً إليه ما هو أعظم من ذلك ؟ الظاهر ذلك و حينئذٍ فيجب عليه صرف حاصلها في مصالح المسلمين، و مع عدم التمكّن أمرها إلى الجائر. و أمّا جواز التصرّف فيها كيف اتّفق لكلّ واحد من المسلمين فبعيد جدّاً، بل لم أقف على قائل به، لأنّ المسلمين بين قائل بأولويّة الجائر و توقّف التصرّف على إذنه و بين مفوّض الأمر إلى الإمام عليه السلام فمع غيبته يرجع الأمر إلى نائبه، فالتصرّف بدونهما لا دليل عليه»(1) انتهى.

فظهر من جميع ما عرفت من فتاوي الأصحاب أنّ الّذي أمضاه الشارع إنّما هو إعطاء الجائر و إذنه بالقياس إلى من يتناول أو يقبل شيئاً من الخراج أو المقاسمة أو أرضاً من الأراضي الخراجيّة لا بالقياس إلى الجائر، فالإمضاء بالقياس إليه أيضاً ليكون إعطاؤه أو إذنه تصرّفاً مأذوناً فيه من الشارع الّذي مرجعه إلى كون سلطنته و استيلائه ممّا أمضاه الشارع أيضاً يحتاج إلى دليل، و بدونه يحرم لكونه غصباً و تصرّفاً غير مأذون فيه.

ص: 445


1- المسالك 55:3.

و توهّم الدلالة عليه من صحيحة الحلبي المتقدّمة في أخبار القبالة و لذا ذكر غير واحد أنّها كالصريحة في أنّ حكم تصرّف الجائر في هذه الأراضي حكم تصرّف الإمام العادل، يدفعه بعد تسليم الدلالة أنّ أقصاها أنّه في حكمه في إفادة الجواز بالقياس إلى المتقبّل لا في جواز التقبيل بالقياس إلى السلطان.

و أمّا ما تقدّم في كلام صاحب الكفاية من استظهار جواز تصرّف العامل بالبيع من صحيح الحذّاء بقوله: «ثمّ يظهر من الحديث أنّ تصرّف العامل بالبيع جائز...»(1) إلى آخر ما ذكره.

ففيه: منع صدق الإعانة على الإثم مع انتفاء قصدها إذا كان مقصود المشتري التوصّل إلى غرض نفسه في اشتراء الحنطة و الشعير و غيرهما، لا لأن يتوصّل البائع إلى إثم البيع مع أنّ الإعانة على الإثم على ما بيّنّاه في باب بيع العنب و الخشب ممّن يعملهما خمراً و صنماً عبارة عن إيجاد مقدّمة معصية الغير، و مقدّمة معصية الغير عبارة عمّاله أو لبدله تأثير في وجود المعصية بحيث لو لا وجودهما لم توجد المعصية، و مفروض المقام ليس من هذا القبيل لأنّ كلّ تصرّف الجائر في هذا المال حرام أعمّ من البيع و ضدّه الوجودي، و لا اختصاص للحرمة ببيعه، بل لو ترك البيع كان ضدّه و ضدّ ضدّه حتّى إمساكه أيضاً حراماً، فالإثم واقع منه على كلا تقديري اشتراء المشتري و تركه فلا مدخليّة لوقوع الاشتراء في وجود الإثم بحيث لولاه لم يقع نوعه المتحقّق تارةً ببيعه من غير هذا المشتري و اُخرى في ضمن ضدّه الوجودي أو ضدّ ضدّه و هكذا، هذا مع العلم العادي بوقوع شخص الإثم و هو البيع منه للقطع بأنّه كان بائعاً لهذا المال إمّا من هذا المشتري أو من مشتري، فلا تأثير لترك هذا المشتري اشتراءه في عدم وقوع هذا الشخص من الإثم منه، و لعلّه إلى هذا يشير قول أبي عبد اللّه عليه السلام في صحيح جميل بن صالح قال: «أرادوا بيع تمر عين أبي زياد و أردت أن أشتريه فقلت: لا حتّى استأمر أبا عبد اللّه عليه السلام فسألت معاذاً أن يستأمره، فقال: قل له: يشتره فإنّه إن لم يشتره اشتراه غيره»(2).

ص: 446


1- الكفاية: 79.
2- الوسائل 1/220:17، ب 53 ما يكتسب به، التهذيب 1092/375:6.

و بما بيّنّاه سقط ما ذكره صاحب الكفاية أخيراً إلزاماً للقائل بالحرمة بقوله: «و إذا كان ذلك حراماً فإمّا أن يكون الواجب ضبطه و حفظه...» إلى آخر ما ذكره، فإنّا نقول بأنّ ذلك حرام و ضبطه و حفظه أيضاً من حيث إنّه من جملة تصرّفاته باعتبار كونه غاصباً في سلطنته أيضاً حرام، و لا نقول بأنّه يجب عليه ردّه إلى من أخذه منه، بل نقول بأنّه يجب عليه ردّه إلى المغصوب منه حقّه و هو الإمام العادل أو نائبه الخاصّ أو العامّ .

و لا ينافي جواز الأخذ و القبول حرمة الإيجاب و الإعطاء بعد ما فرض كون الأوّل تصرّفاً مأذوناً فيه من الشارع و من له ولاية هذه التصرّفات، و الثاني تصرّفاً غير مأذون فيه بل منهيّاً عنه بالخصوص. و لا ينافيه ما قيل: من أنّ النصوص و الفتاوي دلّت على كفاية إذن الجائر في حلّ الخراج و كون تصرّفه بالإعطاء و المعاوضة و الإسقاط و غير ذلك نافذاً، إذ المراد من النفوذ هو النفوذ الوضعي على معنى ترتّب الآثار الشرعيّة بالقياس إلى المتقبّل المنتقل إليه، فلا ينافي الحرمة من جهة الغصبيّة و عدم الاستحقاق بالنسبة إلى الجائر، كما أنّ الحرمة المذكورة لا تنافي الصحّة و النفوذ في البيع و سائر المعاوضات، لعدم كون الحرمة باعتبار كون بيع هذا المال من حيث البيعة معصية و مبغوضة للشارع، بل باعتبار كون أصل تصرّف الجائر بجميع وجوهه الّذي هو خارج عن ماهيّة البيع مبغوضاً له، نظير بيع الغاصب مع لحوق إجازة المالك، فالنهي متعلّق بالمعاملة لأمر خارج لا لنفسها و لا لجزئها و لا لشرطها و لا لوصفها اللازم، و نحو هذا النهي لا يقتضي الفساد، مع أنّ في النصوص ما هو كالصريح في حرمة تصرّفاته حتّى أخذه و لو بضميمة عدم القول بالفصل.

ففي صحيحة العيص في الزكاة فقال: «ما أخذ منكم بنو اُميّة فاحتسبوا به و لا تعطوهم شيئاً ما استطعتم»(1) و صحيحة الشحّام «أنّ هؤلاء المصدّقين يأتوننا فيأخذون منّا الصدقة فنعطيهم إيّاها يجزئ عنّا؟ فقال: لا، إنّما هؤلاء قوم غصبوكم أموالكم و إنّما الصدقة لأهلها»(2) قال في المستند: «أنّ ما ذكر و إن كان في الزكاة إلّا أنّه

ص: 447


1- الوسائل 3/252:9، ب 20 أبواب المستحقّين للزكاة، التهذيب 99/39:4.
2- الوسائل 6/253:9، ب 20 أبواب المستحقّين للزكاة، التهذيب 101/40:4.

يثبت الحكم في الخراج و المقاسمة أيضاً بعدم القول بالفصل»(1).

أقول: يمكن إثبات الحكم في الرواية الاُولى بقوله عليه السلام: «شيئاً» بضابطة أنّ الاعتبار بعموم اللفظ لا خصوص المورد، و في الرواية الثانية بالتعليل بقوله: «إنّ هؤلاء و إنّما الصدقة» فيكون من منصوص العلّة المفيد للعموم.

المسألة الثالثة: هل يشترط جواز الأخذ و القبول من الجائر في أزمنة الغيبة بإذن الحاكم الشرعي

حيث أمكن استئذانه لعموم ولايته على المستحقّين و على نحو هذه الأموال و الأراضي، لأنّه نائب عن الإمام الوليّ العامّ؟ وجهان بل قولان، أوّلهما خيرة ثاني الشهيدين في عبارته المتقدّمة عن المسالك(2) و من مشايخنا من جزم بالثاني تعليلاً «بأنّ المستفاد من الأخبار الإذن العامّ من الأئمّة عليهم السلام بحيث لا يحتاج بعد ذلك إلى الإذن الخاصّ في الموارد الخاصّة منهم عليهم السلام و لا من نوّابهم»(3).

أقول: هذا هو الأجود، لأنّ ما صدر من الأئمّة من الإذن في الأخذ و القبول إنّما صدر على وجه الإفتاء و الإذن العامّ فلا يختصّ بزمانهم، و المفروض أنّهم عليهم السلام لم يعتبروا استئذانهم في الموارد الخاصّة في أزمنة حضورهم فكيف يعتبر حينئذٍ استئذان نوّابهم في أزمنة الغيبة، فإنّ الفرع لا يزيد على الأصل.

و توهّم: أنّ عدم اعتبارهم عليهم السلام استئذانهم في أزمنة حضورهم لعلّه لأنّ الغالب عليهم و على الشيعة في تلك الأزمنة إنّما هو التقيّة الناشئة عن استيلاء السلاطين الاُمويّين و العبّاسيّين، و لذا لم يعتبروا الرجوع إليهم و استئذانهم لمنافاته التقيّة الواجبة عليهم و على أصحابهم.

يدفعه: أنّ التقيّة إنّما تمنع الرجوع إليهم في العلانية لا في السرّ، و قد كان أصحابهم يرجعون إليهم سواء فيما هو أعظم من ذلك مع إمكان بيان الحكم و لو لبعض الخواصّ ، مع أنّ الأحكام المبتنية على التقيّة مخصوصة بمواردها و لا تعمّ موارد انتفائها و هو نادرة.

نعم لو قيل بأنّ الإذن الصادر منهم عليهم السلام في الأخذ و القبول من الجائر في موارد النصوص المتقدّمة كانت على وجه الإمامة اتّجه القول بالرجوع إليهم أو إلى نوّابهم في

ص: 448


1- المستند 205:14.
2- المسالك 55:3.
3- المكاسب 223:1.

الموارد الخاصّة، غير أنّك قد عرفت سابقاً أنّ النصوص الواردة فيه ظاهرة في الفتوى، مع أنّ الأصل في تصرّفات المعصوم كونها على وجه الفتوى و الحكم العامّ .

نعم إنّما يتّجه الاشتراط حيث وجب على مستعملي الأراضي دفع الخراج و المقاسمة إلى الحاكم الشرعي لتمكينه من أخذهما و التصرّف فيهما و صرفهما إلى وجوههما، و حرم دفعهما إلى الجائر لتمكّنهم من عدم الدفع إن قلنا به، فإنّ هذه المسألة أيضاً خلافيّة و لهم فيها قولان:

أحدهما: وجوب دفعهما إلى الجائر مطلقاً و لو مع التمكّن من منعهما عنه، و دفعهما إلى الحاكم الشرعي حيث تمكّن من الأخذ و التصرّف و الصرف في وجوههما نسب ذلك إلى جماعة(1) أطلقوا الحكم الشرعي بحرمة سرقتهما و جحدهما و منعهما منه و التصرّف فيهما بدون إذنه، و منهم كثير من معاصري المحقّق الكركي على ما تقدّم، و عن الكفاية «عن بعض الأصحاب الاتّفاق عليه»(2).

و ثانيهما: حرمة الدفع إليه مع التمكّن من عدم الدفع، كما عن جماعة من أصحابنا لقولهم بعدم براءة الذمّة بالدفع اختياراً، و مقتضاه عدم جوازه مع التمكّن، و عن الفاضل القطيفي(3) التصريح بذلك. و في المستند «بل ظاهره دعوى الضرورة الدينيّة على العدم.

ثمّ قال: و لا يخفى أنّ ذلك مقتضى الأصل لأنّهما كالزكاة حقّ لجماعة خاصّة ليس الجائر منهم و لا قيّماً عليهم، فالأصل عدم جواز دفع حصّتهم إليهم - سيّما مع ما هم عليه من الفسق الواضح - ما دام يتمكّن من عدم الدفع... إلى أن قال: فوجوب منعها عن الجائر مع التمكّن أظهر»(4) انتهى.

و جزم به شيخنا في الجواهر(5). و هو الصحيح و المعتمد، لأصالة عدم جواز دفع الحقّ إلى غير مستحقّه و لا إلى من لا ولاية على مستحقّه اختياراً، و لصحيحي العيص و الشحّام المتقدّمين بعد حمل مطلقهما على مقيّدهما، فعدم الإجزاء في الثاني محمول

ص: 449


1- كما في المسالك 155:1، جامع المقاصد 11:7، الرياض 118:8، رسائل المحقّق الكركي 274:1.
2- كفاية الأحكام: 80.
3- كلمات المحقّقين: 307.
4- المستند 202:14.
5- الجواهر 195:22.

على الدفع اختياراً. و من ذلك ظهر أنّ الدفع إلى الجائر مع التمكّن من عدمه كما أنّه يحرم كذلك لا يجزئ و لا يوجب براءة الذمّة، و إذا حرم دفعهما إلى الجائر مع التمكّن وجب دفعهما إلى من له الولاية الشرعيّة على المستحقّين و هو الفقيه الجامع للشرائط، إذ لا ولاية لغيره عليهم في أزمنة الغيبة، كيف و أنّ الأصل فيهما في أزمنة الحضور وجوب دفعهما إلى السلطان العادل مع الإمكان، فتعيّن في أزمنة الغيبة دفعهما إلى نوّابه لعموم ولايتهم من مقتضى النيابة. و لذا ذكر المحقّق الكركي في الرسالة على ما حكي:

«فإن قلت: فهل يجوز أن يتولّى من له النيابة حال الغيبة ذلك أعني الفقيه الجامع للشرائط؟.

قلنا: لا نعرف للأصحاب في ذلك تصريحاً لكن من جوّز للفقهاء حال الغيبة تولّي استيفاء الحدود و غير ذلك من توابع منصب الإمامة ينبغي له تجويز ذلك بطريق أولى، لا سيّما و المستحقّون لذلك موجودون في كلّ عصر، و من تأمّل في أقوال كبراء علمائنا الماضين - مثل علم الهدى، و علم المحقّقين نصير الملّة و الدين، و بحر العلوم جمال الدين العلّامة رحمهم الله و غيرهم - نظر متأمّل منصف لم يشكّ في أنّهم يسلكون هذا المسلك، و ما كانوا يودعون في كتبهم إلّا ما يعتقدون صحّته»(1) انتهى. هذا في الخراج و المقاسمة.

و أمّا الزكوات فالظاهر مع إمكان منعها عن الجائر عدم وجوب دفعها إلى الفقيه بل غايته كونه أفضل، كما قرّر في باب الزكاة لجواز دفعها للمالك إلى المستحقّين، و لعلّه إلى ذلك أو ما يقرب منه ينظر ما روي من أنّ عليّ بن يقطين قال له الإمام عليه السلام: «إن كنت و لا بدّ فاعلاً فاتّق أموال الشيعة، و أنّه كان يجبيها من الشيعة علانية و يردّها عليهم سرّاً»(2) بناءً على أنّ المراد من أموال الشيعة المأمور باتّقائها زكاتهم، فيكون المراد من ردّها عليهم سرّاً ردّها على مالكيها ليدفعوها بأنفسهم إلى مستحقّيها، و يحتمل بعيداً أن يكون المراد من الردّ عليهم دفعها إلى مستحقّي الشيعة، كأن يباشره ابن يقطين بإذن الإمام نيابةً عن المالكين المأخوذ منهم ظلماً. و أمّا احتمال أن يراد منها مع الزكوات

ص: 450


1- رسائل المحقّق الكركي 274:1.
2- الوسائل 8/193:17، ب 46 ما يكتسب به، التهذيب 927/335:6.

وجوه الخراج و المقاسمات فبعيد جدّاً، لأنّ الخراج و المقاسمة لا يردّان ثانياً إلى مالكيهما، إذ لا ولاية لهم في الصرف إلّا أن يكون ممّا اُخذ منهم بهذين الاسمين ظلماً لا على وجه الاُجرة على الأراضي الخراجيّة كما لو اُخذ على الأملاك الخاصّة عن مالكها فليتدبّر.

المسألة الرابعة: فيما يعتبر و ما لا يعتبر في الجائر
اشارة

و هي اُمور:

الأوّل: يعتبر فيه لنفوذ إذنه و تصرّفاته و تأثيرهما في حلّ ما يؤخذ منه أو من عمّاله الاستقلال،

على معنى كونه سلطاناً مستقلّاً مذكوراً في عداد السلاطين المعروفين، فمن تغلّب و تسلّط على قرية أو بلدة خروجاً على سلطان الوقت فأخذ من أهلها حقوق المسلمين لا ينفذ إذنه و تصرّفه في حلّ ما يؤخذ منه أو يقبل، بل يجب في نحو ذلك استئذان من له الولاية الشرعيّة لأصالة المنع و عدم نفوذ التصرّفات إلّا ما خرج بالدليل و اقتصاراً في الحكم المخالف للأصل على موضع اليقين من النصّ و الفتوى، و نحن نقطع بعدم اندراج نحو هذا المتغلّب في مورد نصوص الباب و لا في معقد الإجماعات و فتاوى الأصحاب فيبقى تحت الأصل.

الثاني: عموم الرئاسة و السلطنة بأن يكون سلطاناً على إقليم أو مملكة واسعة،

فلا ينفذ إذن من اختصّ سلطنته ببلدة واحدة و توابعها، كما في بلاد الأفاغنة و حدود التركمانيّة لو وجد فيها أرض خراجيّة يضرب عليها الخراج و المقاسمة، لما ذكر من الاقتصار فيما خالف الأصل و القاعدة على موضع اليقين من النصّ و الإجماع، فلا بدّ في نحو ذلك من الرجوع إلى من له الولاية الشرعيّة.

الثالث: استيلاؤه و شمول سلطنته،

فلو فرضت أرض خراجيّة خارجة عن تحت يده لقصور يده عنها لبعدها عن مملكته، أو لوقوعها على الحدّ بينه و بين سلطان آخر و أهلها لا يطيعونهما، أو لخروج أهلها عن طاعته بعد ما كانوا من قسم رعيّته، فلا يجري فيها حكم نفوذ إذنه و مضيّ أمره، لعدم جريان حكمه في سلطانه عليها، بل يعتبر استئذان الحاكم الشرعي، لما عرفت من الاقتصار خصوصاً مع ملاحظة ما تقدّم من إناطة الحكم في فتاوي الأصحاب باستيلاء الجائر.

الرابع: لا يعتبر في نفوذ إذنه و تصرّفه كونه معتقداً في نفسه الاستحقاق

لأخذ

ص: 451

الخراج و المقاسمة و التصرّف في الأراضي الخراجيّة، بل لو اعتقد في نفسه الغاصبيّة و عدم الاستحقاق كفى إذنه و أخذه في حلّ ما يؤخذ منه مجّاناً أو معاوضة، عملاً بإطلاق النصّ و الفتوى. فما يتراءى في بعض العبارات كعبارة المسالك(1) و تبعه شيخنا(2) قدس سره من إناطة الحكم باعتقاده الاستحقاق و كونه مستحلّاً، فلم نقف له على وجه يعتمد عليه، خصوصاً و أنّ مورد الأخبار المتكفّلة لبيان نفوذ إذن الجائر و مضيّ تصرّفه أخذاً و إعطاءً المسئول عنه للأئمّة عليهم السلام إنّما هو سلاطين الاُمويّين و العبّاسيّين، و هم و إن كانوا في الظاهر يدّعون الخلافة و إمرة المسلمين. و يسمّون أنفسهم بأمير المؤمنين غير أنّ كلّهم أو جلّهم كانوا مذعنين في الباطن ببطلان دعواهم و عدم استحقاقهم و غاصبيّتهم، و كون منصب الخلافة و الإمامة لأهل بيت العصمة على ما علم من تتبّع السير و الأخبار، و لقد أجاد الشيخ الحائري في تعميمه عند تفسيره الجائر لكونه مستحلّاً و عدمه على ما حكي كما تسمع.

الخامس: الإسلام،

و الظاهر اعتباره في نفوذ إذنه و تصرّفاته أخذاً و إعطاءً ، فلو اتّفق أرض خراجيّة تحت يد سلطان كافر من سلاطين الكفر كالروس و الافرنج يعتبر في حلّ ما يؤخذ منه من الخراج و المقاسمة و يتقبّل من عين الأرض استئذان الحاكم الشرعي.

و توهّم العموم من قوله عليه السلام: «إنّما هؤلاء قوم غصبوكم أموالكم» يدفعه أنّه عامّ في مورده، و هو براءة ذمّة من عليه الحقّ لو أعطاه الجائر مجبوراً و مقهوراً عليه لا اختياراً، و عدم براءته لو أعطاه اختياراً، و كلامنا في مورد الإذن الحاصل من الأئمّة عليهم السلام و إمضاء الشارع لإذن الجائر و نفوذها في حلّ ما يؤخذ و ينقل منه، و لو فرض في بعض نصوص ذلك إطلاق فهو منصرف قطعاً إلى ما هو الغالب في مواردها من كون السلطان من المسلمين لا غير.

السادس: المخالفة أعني كونه من المخالفين قبالاً للسلطان المؤمن الإمامي،

ففي اعتباره و العدم على معنى اختصاص نفوذ إذن الجائر و سقوط اعتبار إذن الحاكم الشرعي بالمخالف للحقّ ، أو عمومه للموافق أيضاً كسلطان الشيعة، خلاف على قولين:

ص: 452


1- المسالك 56:3.
2- المكاسب 225:1.

أوّلهما: للمسالك(1) و إيضاح(2) النافع و الرياض(3) و المستند(4) و شيخنا(5) في مكاسبه، حتّى أنّ المحكيّ عن إيضاح النافع تفسير الجائر بمن تقدّم على أمير المؤمنين و اقتفى أثر الثلاثة و إن كان لا يخلو عن اختلال لعدم التقدّم على أمير المؤمنين عليه السلام في جميع المخالفين، و إن ادّعى كلّهم إمرة المؤمنين و اقتفوا أثر الثلاثة، بل المدّعي للتقدّم عليه إنّما هم الثلاثة و معاوية و بعض الاُمويّة أو كلّهم لا العبّاسيّة، فيلزم التفسير بالأخصّ إلّا أنّ الواو في عطف اقتفاء الثلاثة بمعنى أو.

و ثانيهما: ما اختاره شيخنا الآخر في جواهره(6) تبعاً لاُستاذه في شرح(7) القواعد حاكياً لعبارته في تفسير الجائر بالمتغلّب بجنوده و أتباعه ذا طبل أو جمعة أو عيد أو لا، فرعاً أو أصيلاً مؤمناً أو مخالفاً مستحلّاً أو لا.

مستند القول الأوّل الأصل المتقدّم ذكره الّذي قرّره في المسالك بأصالة المنع إلّا ما أخرجه الدليل، قال: «و تناوله للمخالف متحقّق، و المسئول عنه للأئمّة إنّما كان مخالفاً فيبقى الباقي و إن وجد مطلق، فالقرائن دالّة على إرادة المخالف منه التفاتاً إلى الواقع أو الغالب»(8).

و مستند الآخرين على ما أشار إليه في المسالك إطلاق النصّ و الفتوى، و عن شرح القواعد الاحتجاج بالعموم في الروايات و أكثر العبارات و بعض منقول الإجماعات.

و يزيّفه أنّه لم نقف في روايات المسألة ما يوهم الإطلاق إلّا صحيحة الحلبي المتقدّمة «لا بأس بأن يتقبّل الرجل الأرض و أهلها من السلطان»(9) و صحيحة محمّد بن مسلم «كلّ أرض دفعها إليك سلطان فعليك فيما أخرجه منها الّذي قاطعك عليه»(10).

و يدفعه: الانصراف إلى المعهود في أزمنة الصدور و ليس إلّا المخالفين، مع إمكان دعوى الورود مورد بيان حكم آخر كجواز إدخال أهل الأرض الخراجيّة معها في تقبّل

ص: 453


1- المسالك 144:3.
2- نقله عنه في مفتاح الكرامة 91:13.
3- الرياض 195:8.
4- المستند 204:14.
5- المكاسب 227:1.
6- الجواهر 191:22.
7- شرح القواعد 81:1.
8- المسالك 144:3.
9- الوسائل 8/42:19، ب 8 أحكام المزارعة.
10- الوسائل 1/188:9، ب 7 أبواب زكاة الغلّات، التهذيب 93/36:4.

الأرض في الصحيحة الاُولى، دفعاً لتوهّم حرمة ذلك و اشتغال الذمّة بما قاطعه عليه السلطان دفعاً لتوهّم عدم إفادة دفع الجائر له، فلا يلزم بإرادة المقيّد من المطلق منافاة حكمة و لا إغراء بجهل من جهة السكوت عن بيان القيد لعدم كون الخطاب مسوقاً لبيان أصل جواز التقبيل من السلطان.

و ممّا بيّنّاه ظهر ما في دعوى العموم في الروايات لمنع الظهور في العموم إن اُريد به العموم الإطلاقي في نحو ما ذكر، و منع وجود لفظ عامّ إن اُريد به غير ما ذكر.

نعم قد تقدّم في صحيحة الشحّام قوله عليه السلام: «إنّما هؤلاء قوم غصبوكم أموالكم، و إنّما الزكاة لأهلها» و هذا يفيد إناطة بوصف الغاصبيّة، و الوصف عامّ لسلاطين الشيعة أيضاً فيعمّ الحكم على حدّ عموم العلّة المنصوصة، و لكن يخدشه أنّه عامّ في مورده و هو الإجزاء و عدم الإجزاء فيما يدفع اختياراً أو إجباره إلى الجائر و عمّاله من الزكاة، و كلامنا في مسألة حلّ ما يؤخذ من الجائر من مال الخراج و المقاسمة و حلّ التصرّف فيما يقبله من الأرض الخراجيّة، و لذا لم يتمسّك أحد في هذه المسألة بهذه الرواية، مع أنّ سلطان الشيعة لا يدخل في موردها من جهة، لأنّ أخذ صدقات الناس و زكواتهم قهراً عليهم من رسوم المخالفين لا سلاطين الشيعة. و بملاحظة جميع ما ذكر في تزييف دعوى الإطلاق أو العموم في الروايات يتوهّن إطلاق الفتاوى و معاقد الإجماعات.

لا يقال: قضيّة لزوم الحرج العظيم و العسر الشديد من عدم حلّ الأخذ ممّا يأخذه الجائر باسم الخراج و المقاسمة كما تمسّك به جماعة في أصل المسألة عدم الفرق بين المخالف و المؤالف، لاختلال كبرى هذه القاعدة، و منع صغراها:

أمّا الأوّل: فلعدم انحصار ما في يد السلطان الموافق و عمّاله على ما نشاهده فيما يأخذونه من الخراج و المقاسمة على الأراضي الخراجيّة لو فرض عندهم أرض خراجيّة، بل لا يميّزون بينها و بين سائر الأراضي، فيضربون الخراج و المقاسمة على الأملاك الخاصّة الّتي في يد مالكيها، و على الأملاك المغصوبة الّتي في أيديهم مع معلوميّة مالكيها تفصيلاً أو إجمالاً، و على الأملاك الموقوفة، و على الأملاك المجهولة المالك المعدودة من الأنفال. و لا ريب أنّ الأراضي الخراجيّة في جنبها مستهلكة، و هم مع هذه الأموال يأخذون العشور من الناس و يأخذون منهم سائر الأموال ظلماً، و هم

ص: 454

يعاملون الناس بجميع هذه الأموال عطيّة أو معاوضة، فوجب استباحة الجميع دفعاً للحرج و لم يقل به أحد، مع وضوح بطلانه بحكم الأدلّة القطعيّة و القواعد المحكّمة المتقنة بل الضرورة الدينيّة.

و أمّا الثاني: فلمنع لزوم الحرج في التجنّب عمّا يأخذونه في الأراضي الخراجيّة باسم الخراج و المقاسمة، و لو اضطرّ أحد إلى أخذ شيء من ذلك أمكن التوصّل إلى حلّه باستئذان الحاكم الشرعي، فقاعدة نفي الحرج غير وافية بالمدّعى أصلاً، حتّى أنّه فيما يؤخذ من الجائر المخالف لو لا النصوص الخاصّة و الإجماعات المنقولة لم يمكن إثبات الحكم المخالف للأصل و القاعدة بهذه القاعدة المدخولة هنا في كلّ من صغراها و كبراها.

و قد تقدّم في فروع جوائز الظلمة ما يبيّن أحكام ما عدا الخراج و المقاسمة المأخوذين على الأراضي الخراجيّة من الأموال الواقعة في أيدي سلاطين الشيعة و عمّالهم من الوجوه المذكورة و غيرها، ثمّ يقع منها في يد إنسان آخر جائزة و عطيّة أو غيرها فإنّه لا يخلو عن أحد الأقسام المتقدّمة في باب الجوائز، و قد عرفت أحكام الجميع فلا بدّ من إجراء هذه الأحكام هنا.

المسألة الخامسة: لا يعتبر في حلّ الخراج و المقاسمة المأخوذين من الجائر أن يكون المأخوذ منه الّذي أخذ منه الجائر أو عمّاله ممّن يعتقد في الجائر استحقاقه للأخذ منه،

ككونه مخالفاً يعتقد في سلطانهم ولاية الأمر، بل لو كان مؤمناً شيعيّاً أو كافراً لا يعتقد ذلك في سلاطين الإسلام، لإطلاق الفتاوى و معاقد الإجماعات و إطلاق جملة من النصوص المتقدّمة، و خصوص صحيحة الحذّاء الظاهرة في كون موردها المؤمن الغير المعتقد للاستحقاق في سلاطين المخالفين، و ظهور مورد صحيحة إسماعيل بن الفضل المتقدّمة في أخبار القبالة في الاختصاص بالكافر الذمّي حيث سئل فيه عن الرجل يتقبّل بخراج الرجال و جزية رءوسهم و خراج النخل و الشجر و الآجام و المصائد و السمك و الطير فلا يختصّ حلّ الأخذ بكون المأخوذ منه كالآخذ من المخالفين وفاقاً لشيخنا قدس سره قائلاً: «و الأقوى أنّ المسألة أعمّ من ذلك و أنّ الممضى فيما نحن فيه تصرّف الجائر في تلك الأراضي مطلقاً»(1).

ص: 455


1- المكاسب 223:1.
المسألة السادسة: هل يعتبر في حلّ أخذ شيء من الخراج أو المقاسمة أو الزكاة من الجائر مجّاناً كون الآخذ من أهل استحقاق ما يأخذه من المال،

بأن يكون ممّن له مدخليّة في مصالح المسلمين الّتي يصرف فيها بيت المال الّذي منه الخراج و المقاسمة، أو يكون في الزكاة من أصناف مستحقّيها ككونه فقيراً أو مسكيناً أو غارماً و نحوه أو لا يعتبر ذلك ؟ خلاف. و إنّما قيّدنا عنوان المسألة بالأخذ المجّاني احترازاً عن الاشتراء و غيره ممّا يدخل في المعاوضة حتّى تقبيل الأرض الخراجيّة في مقابلة إقطاعها، إذ لا يعتبر في المشتري و غيره ممّن يدفع العوض وجود صفة الاستحقاق قولاً واحداً، و وجهه واضح من حيث وقوع العوض المدفوع إلى الجائر للمستحقّين فلم يكن أخذه المال أخذ الحقّ الغير من غير استحقاق.

و عبارات المتعرّضين للمسألة في محلّ الخلاف مختلفة، فمنهم من يظهر منه المصير إلى الاشتراط كثاني الشهيدين في المسالك قائلاً - في بيان شروط جواز أخذ الزكاة من الجائر -: «و أن يكون صرفه لها على وجهها المعتبر عندهم بحيث لا يعدّ عندهم غاصباً، إذ يمتنع الأخذ منه عندهم أيضاً. و يحتمل الجواز مطلقاً نظراً إلى إطلاق النصّ و الفتوى، و يجيء مثله في المقاسمة و الخراج لأنّ مصرفهما بيت المال و له أرباب مخصوصون عندهم أيضاً»(1) انتهى.

و من مشايخنا من جزم بعدم الاشتراط قائلاً في ردّ الكركي في توقّفه: «لا مجال للتوقّف بعد ما عرفت من إطلاق النصّ و الفتوى بالإذن الموافق لسهولة الملّة و رفع الحرج عن الشيعة الّذين لهم المهنأ و عليه الوزر»(2) انتهى.

و يظهر من الكركي في عبارته المحكيّة عن الرسالة الميل إلى التوقّف حيث قال:

«هل يكون الأخذ حلالاً مطلقاً حتّى لمن لم يكن مستحقّاً للزكاة و لا ذا نصيب في بيت المال حين وجود الإمام، أو إنّما يكون حلالاً بشرط الاستحقاق حتّى أنّ غير المستحقّ يجب عليه صرف ذلك إلى مستحقّه ؟ إطلاق الأخبار و كلام الأصحاب يقتضي الأوّل،

ص: 456


1- المسالك 143:3.
2- الجواهر 193:22.

و تعليلهم بأنّ للآخذ نصيباً في بيت المال و أنّ هذا حقّ اللّٰه مشعر بالثاني و للتوقّف فيه مجال»(1) انتهى.

و من مشايخنا من استشكل في المسألة من غير أن يرجّح شيئاً في الخراج و المقاسمة، ثمّ قال: «أشكل من ذلك تحليل الزكاة المأخوذة منه لكلّ أحد كما هو ظاهر إطلاقهم القول بحلّ اتّهاب ما يؤخذ باسم الزكاة» انتهى.

و قد ظهر أنّ مستند المطلقين إطلاق النصّ و الفتوى كما أشار إليه في المسالك و الرسالة. و يشكل بعدم الوقوف في روايات المسألة بنصّ وارد في خصوص الأخذ المجّاني و كان مطلقاً حتّى يتمسّك بإطلاقه. و الأخبار المتقدّمة منها ما كان مختصّاً باشتراء الإبل و الغنم من الصدقة من السلطان أو من عامله، و منها ما كان مختصّاً بالاشتراء من العامل، و منها ما كان مختصّاً بتقبّل الأرض الخراجيّة و جزية رءوس أهلها.

نعم ربّما يتوهّم الإطلاق من رواية أبي بكر الحضرمي في قضيّة ابن أبي سمّاك بالنسبة إلى شباب الشيعة لأنّهم أعمّ من كونهم ذوي حصص من بيت اللّٰه. و يشكل بقوّة احتمال كونهم ذوي حصص و يقوّيه ما في ذيله بالنسبة إلى الراوي من قوله عليه السلام: «أما علم أنّ لك في بيت المال نصيباً»(2) مع إمكان المراد من الإخراج في الصدر إخراجهم إلى عمل يرجع إلى مصالح المسلمين و يوجب الاستحقاق من بيت المال كحفظ الثغور و الحدود و مقاتلة أهل الحرب و دفع قطّاع الطرق و عمالة تعمير المساجد و الربط و ما أشبه ذلك، فلا يبقى إطلاق يعتمد عليه، فالرواية لا دلالة فيها من حيث الإطلاق على عدم الاشتراط، كما أنّه لا دلالة فيها على الاشتراط.

فتوهّم الدلالة عليه من الذيل كما عرفته من عبارة الكركي، واضح الدفع بأنّ غاية ما دلّ عليه الذيل هو أنّ كلّ من له نصيب في بيت المال جاز له الأخذ من الجائر، لا أنّ كلّ من لا نصيب له لا يجوز له الأخذ. و ربّما ينزّل إطلاق الأخبار على الأخبار المتقدّمة في جوائز السلطان و عمّاله، نظراً إلى أنّ الغالب من الأموال الواقعة في أيديهم إنّما هو من الخراج و المقاسمة و ليس إطلاقها بحيث يطمئنّ به النفس و يحصل به الظنّ

ص: 457


1- رسائل المحقّق الكركي 258:1.
2- الوسائل 6/214:17، ب 51 ما يكتسب به، التهذيب 933/336:6.

الاطمئناني بعدم الاشتراط، خصوصاً مع ملاحظة أنّه يتوهّن بأنّ الشهيد لم يلتفت إليه و كذلك المحقّق الكركي، و مع ملاحظة ما قيل من أنّ تلك الأخبار واردة أيضاً في أشخاص يحتمل كونهم ذوي حصص من بيت المال. فالمسألة قويّة الإشكال جدّاً خصوصاً في الزكوات فكيف يستبيحها غير المستحقّ ، و هي بحسب أصل الشرع محرّمة عليه، فالاحتياط فيها بعدم الأخذ من الجائر أو ردّه إلى مستحقّه على تقدير الأخذ أو استحلاله منه لا يترك.

المسألة السابعة: يشترط في جواز تناول المقاسمة أو الخراج من الجائر أو عمّاله كونهما مأخوذين على الأراضي الخراجيّة،

فلو اُخذا على الأملاك الخاصّة للناس أو للإمام عليه السلام من غير جهة الإمامة أو على الأراضي الّتي أسلم أهلها طوعاً لا إشكال في عدم حلّ تناوله، فلو اتّفق أنّه أخذه اختياراً أو اضطراراً كما في صورة التقيّة وجب ردّه إلى مالكه.

و فيما يأخذه على الأرض المجهول المالك باعتقاد استحقاقه لها فقال شيخنا: فيه وجهان(1).

و أمّا ما يؤخذ على الأرض الخراجيّة فهل يعتبر في حلّ تناوله كون الأرض خراجيّة بحسب الواقع، أو يكفي فيه اعتقاد الجائر بكونها خراجيّة كما لو كانت من الأنفال ؟ عندنا إشكال و إن عزي إلى المحقّق الكركي(2) أنّه استظهر في رسالته الإطلاق من كلمات الأصحاب و إطلاق الأخبار. و لعلّ نظره في كلمات الأصحاب إلى عباراتهم لعنوان المسألة بلفظ «ما يأخذه الجائر باسم المقاسمة أو باسم الخراج أو باسم الزكاة» فإنّها مطلقة و يتأكّد إطلاقها بالتعبير باسم المقاسمة و اسم الخراج و اسم الزكاة، و ما في جملة من كتب العلّامة من التعبير ب «ما يأخذه الجائر لشبهة المقاسمة أو لشبهة الخراج» فإنّ الشبهة إنّما يكون عند اعتقاد الخلاف.

و لكنّها معارضة بجملة كثيرة من عبائرهم في تضاعف المسألة كما تقدّم عن الشهيدين و معاصري الكركي و غيرهم من التصريح بمنع سرقته و خيانته و جحوده و منعه، مع التعليل بأنّه حقّ واجب للّٰه عليه، و في بعضها التصريح بكون الأراضي الخراجيّة

ص: 458


1- المكاسب 226:1.
2- رسائل المحقّق الكركي 283:1.

ملكاً للمسلمين و لا بدّ لها من اُجرة تصرف في مصالحهم، فإنّها يقتضي الاختصاص إذ لا اُجرة و لا حقّ لغير الأراضي الخراجيّة حتّى ما يكون من الأنفال، لأنّ الأئمّة عليهم السلام أباحوها للشيعة، نعم لو كان مستعملوها من غير الشيعة أمكن تعلّق اُجرة بها للشيعة.

و بالجملة عبارات الأصحاب مختلفة مضطربة. و أمّا إطلاق الأخبار فهو في بعضها غير بعيد، إلّا أنّ المسألة مع هذا محلّ إشكال، و للتوقّف فيها مجال و طريق الاحتياط واضح.

المسألة الثامنة: يشترط في كون الأرض خراجيّة بحيث يترتّب على ما يؤخذ من الجائر فيها ما تقدّم من أحكام الخراج
اشارة

و ما يأتي منها اُمور:

الأوّل: كونها مفتوحة عنوة أو صلحاً على أن يكون الأرض للمسلمين،
اشارة

و توضيح المقام أنّ الأراضي على ما ذكره الأصحاب في كتاب الجهاد أربعة أقسام يختلف أحكامها، و هي - على ما لخّصه في مفتاح الكرامة - «أرض أسلم عليها أهلها طوعاً، و أرض صولح عليها أهلها، و أرض الأنفال، و أرض فتحت عنوة، قال كما في المقنعة(1)و النهاية(2) و المبسوط(3) و المراسم(4) و الوسيلة(5) و الغنية(6) و السرائر(7) و الشرائع(8)و النافع(9) و التذكرة(10) و التحرير(11) و غيرها(12) ذكروا الضروب الأربعة و ذكروا أحكامها، و كثير منهم عيّن أشخاصها و نحن نجري على هذا المنوال على سبيل الإجمال فنقول:

الضرب الأوّل: أرض أسلم عليها أهلها طوعاً،

فهذه ملك لأهلها يصحّ لهم التصرّف فيها بسائر أنواع التصرّفات إذا عمّروها و قاموا بعمارتها، و هي أرض المدينة و الطائف و اليمن و بعض الديلم كما نصّ عليه جماعة(13) و الديلم قوم من مشركي العجم، و الظاهر أنّ بلادهم طبرستان كما نقل تعيين ذلك عن الاُستاد... إلى أن قال:

الضرب الثاني: الأرض الّتي صولح عليها أهلها،

و هذا على ضربين: أحدهما: أن يكونوا صولحوا على أنّ الأرض لهم و عليهم طسقها و هي تسمّى أرض الجزية يلزمهم

ص: 459


1- المقنعة: 274-275.
2- النهاية: 194-196.
3- المبسوط 234:1.
4- المراسم: 142.
5- الوسيلة: 132.
6- الغنية: 204.
7- السرائر 476:1.
8- الشرائع 322:1.
9- النافع: 114.
10- التذكرة 183:9-185.
11- التحرير 481:4.
12- كإرشاد الأذهان 347:1.
13- كما في الدروس 39:2، و المسالك 58:3.

ما يصالحهم الإمام عليها و يصحّ بيعها و التصرّف فيها بجميع أنواعها، فإذا أسلموا كان حكمهم حكم من أسلم عليها أهلها طوعاً. و الثاني: أن يكونوا صولحوا على أنّ الأرض للمسلمين و لهم السكنى و على رقابهم الجزية، و هذه حكمها حكم الأرض المفتوحة عنوةً ، و هذه كبعض أرض خيبر.

الضرب الثالث: أرض الأنفال،

و هي أقسام الأرض الّتي انجلى أهلها عنها، أو كانت مواتاً فأُحييت، أو كانت آجاماً و غيرها ممّا لا يزرع فاستحدثت مزارع، و كلّ أرض لم يوجف بخيل و لا ركاب و رءوس الجبال و بطون الأودية، فهذه كلّها للإمام خاصّة ليس لأحد معه فيها نصيب، و يجوز للشيعة حال الغيبة التصرّف فيها، و ليوطّن المتصرّف نفسه أنّه فيها يؤدّي طسقها إذا طلبه الإمام منه.

الضرب الرابع: الأرض الّتي فتحت عنوةً أي بالقهر و الغلبة و السيف،

و هذه للمسلمين قاطبة بإجماع علمائنا قاطبة، و قد نقل الإجماع على ذلك في الخلاف(1)و التذكرة(2) و المنتهى(3) كسواد العراق و بلاد خراسان و الشام و مكّة المشرّفة على ما عدّه المؤرّخون كما في المسالك(4)» انتهى(5).

ثمّ إنّه يثبت كون الأرض مفتوحة عنوةً بالعلم العقلي و بالعلم الشرعي القائم مقامه، و من العلم العقلي الشياع القطعي و نقل المعتبرين من المؤرّخين حيث أفاد العلم لاتّفاقهم عليه أو لاحتفافه بقرائن الصدق، و من العلم الشرعي شهادة عدلين من الأحياء كانا أو من الأموات، و إقرار ذي اليد، و خبر الواحد المأثور عن المعصوم عليه السلام مع اعتضاده بما يوجب الوثوق و الظنّ الاطمئناني بالصدق و الصدور، بناءً على المختار في حجّيّة أخبار الآحاد من إناطتها بالوثوق بالصدور، و في خبر العدل الواحد إشكال بل منع و إن أفاد الظنّ ، لعدم قيام دليل على كفايته في الموضوع و أصالة عدم حجّية الظنون المطلقة في الموضوعات الخارجيّة إلّا ما أثبته الدليل.

و منه يعلم عدم ثبوته بالظنّ المطلق من أيّ سبب حصل كالشهرة و الشياع الظنّي

ص: 460


1- الخلاف 535:5 المسألة 33.
2- التذكرة في إحياء الموات 402:2.
3- المنتهى في الجهاد 934:2.
4- المسالك 54:3.
5- مفتاح الكرامة 65:13-67.

و نقل المؤرّخين الغير البالغ حدّ العلم و غير ذلك من الأمارات، لأنّ كفايته في إثبات ذلك يحتاج إلى دليل عامّ كدليل الانسداد كما استدلّ به هنا بعضهم، أو دليل خاصّ و لا سبيل إلى شيء منهما.

أمّا الأوّل: فلعدم جريانه في الموضوعات خصوصاً ما نحن فيه، لعدم الانسداد الأغلبي في الأراضي بل الغالب منها معلومة الحال باعتبار العلم بكون أكثرها ملكاً لأربابها و لو بحكم اليد السليمة عن المعارض، و العلم بكون كثير منها من الأنفال، و العلم في جملة بكونها مجهولة المالك، و العلم في بعضها بكونه من المفتوحة عنوةً ، فلا يبقى ما يكون مشتبه الحال إلّا بعض قليل، مع عدم حكومة للعقل في الأراضي المشتبهة بين المفتوحة عنوةً و بين غيرها و إن فرضناها غالبة، التفاتاً منه إلى احتمال مرجعيّة الأصل الجاري في المورد ممّا سنشير إليه من غير أن يلزم من الرجوع إليه محذور من المحاذير الّتي كانت تلزم من العمل بالأصل في الأحكام الشرعيّة المظنونة بالظنون المطلقة، من الخروج عن الدين و الهرج و المرج فيه و المخالفة القطعيّة للعلم الإجمالي، فلا يحكم بتعيّن العمل بالظنّ و لا جوازه.

و أمّا الثاني: فلفقد ما يدلّ عليه من الأدلّة الخاصّة، و لم نقف على من ذكر هنا دليلاً خاصّاً سوى ما يوهمه عبارة مفتاح الكرامة من دعوى الإجماع عليه، فإنّه في تضاعيف كلامه في حجّيّة الظنّ الحاصل من التواريخ أو جماعة من مشاهير المؤرّخين أو نقل بعض أصحابنا بنى على الحجّيّة و كفايته في إثبات هذا الموضوع، و علّله «بأنّه ظنّ في الموضوعات الّتي يكتفي فيها بالظنون الضعيفة كما هو مسلّم عند الكلّ »(1) انتهى.

و فيه: أنّ الصفة المذكورة في العبارة إن كانت توضيحيّة ليرجع الكلام إلى دعوى الإجماع على حجّيّة مطلق الظنّ في عموم الموضوعات فهو واضح المنع، كيف و نزاعهم في مسألة تعارض الأصل و الظاهر معروف، و لعلّ المشهور تقديم الأصل. و إن كانت احترازيّة لإخراج الموضوعات الّتي لا يكتفى فيها بالظنّ ، ففيه أنّ الإجماع على كفاية الظنّ في هذا الموضوع غير معلوم الثبوت خصوصاً بالقياس إلى الظنون الضعيفة.

ص: 461


1- مفتاح الكرامة 76:13.

و قد يستدلّ لإثبات كون الأرض في محلّ الاشتباه خراجيّة باستقرار سيرة السلاطين على ضرب الخراج على هذه الأراضي و أخذ المقاسمة على ارتفاعها.

و هذا أيضاً ضعيف، إذ لو اُريد بذلك أنّ السيرة المذكورة تكشف عن ثبوت ذلك في تلك الأراضي من الصدر الأوّل من غير نكير و إلّا لنقله أرباب التواريخ لكثرة اعتنائهم بنقل هذه الاُمور، ففيه منع الكشف عن ذلك، لعدم قضاء العادة بحصول نكير في مثل ذلك، و لا بنقل المؤرّخين له على تقدير حصوله. أمّا الأوّل: فلجواز كون عدم النكير على السلاطين فيما أحدثوه من ضرب الخراج و المقاسمة على الأرض الغير الخراجيّة لضرب من الخوف و التقيّة. و أمّا الثاني: فلجواز عدم اطّلاع أهل التواريخ على ما أحدثوه ظلماً خصوصاً مع تأخّر زمانهم، أو بناء عدم تعرّضهم على تقدير الاطّلاع على ضرب من الخوف أيضاً سيّما مع أنّ كثيراً منهم ألّفوا كتبهم لسلاطينهم.

و لو اُريد به توسيط أصالة الصحّة في فعل المسلم لكون السلاطين من زمرة المسلمين، فيحمل فعلهم في ضرب الخراج و المقاسمة على هذه الأراضي على الصحّة المقتضية لكونها خراجيّة، ففيه - مع أنّ أصالة الصحّة على تقدير جريانها لا يثبت بها الموضوع، و أنّها لا تجري في أفعال المخالفين و الغالب من السلاطين من أهل الخلاف -:

أنّه [إن] اُريد بالصحّة المطلوبة من هذا الأصل الصحّة التكليفيّة أعني الجواز و الإباحة قبالاً للحرمة، ففيه أنّ حرمة تصرّفات الجائر حتّى في أخذ الخراج و المقاسمة فيما تحقّق كونه خراجيّاً مفروغ عنها، فكيف بالمشتبه المحتمل كونه ملكاً لأربابه لعدم استحقاقه و كونه غاصباً في سلطنته.

و إن اُريد بها الصحّة الوضعيّة أعني نفوذ هذه التصرّفات بالقياس إلى غيرهم إذا كان من الشيعة الّذي من آثاره بالنسبة إلى مستعملي الأرض براءة ذمّته عمّا دفعه إلى الجائر من الخراج و المقاسمة، و بالنسبة إلى من يأخذ شيئاً منهما من الجائر مجّاناً أو معاوضة حلّ الأخذ و جوازه. ففيه منع جريانه لوجهين:

الأوّل: أنّ السلطان الضارب للخراج و المقاسمة الآخذ لهما على الأراضي المشتبهة إن كان من المخالفين فلا يجري في أفعاله أصالة الصحّة بالذات لما حقّق في مباحث ذلك الأصل من عدم جريانه في أفعال أهل الخلاف، و إن كان من المؤمنين فالصحّة الوضعيّة

ص: 462

في فعله هذا مفروض الانتفاء في الأرض الخراجيّة المحقّقة فكيف بالمشتبه، لما تقدّم من عدم ثبوت إمضاء الأئمّة عليهم السلام لتصرّفات سلاطين الشيعة الّذي عليه مدار نفوذها.

الثاني: أنّ من شروط جريان هذا الأصل عدم رجوع الشكّ في صحّة الفعل الصادر من المسلم و فساده إلى الموضوع و الشكّ هنا باعتبار اشتباه الموضوع، و نفوذ تصرّفات الجائر إنّما ثبت بإمضاء الأئمّة و هو مقصور على الأرض الخراجيّة، و هذه الأراضي غير معلوم كونها منها فلا يعلم شمول إمضاء الأئمّة عليهم السلام لها و عدمه فتأمّل، فلا بدّ في الموارد المشتبهة من الرجوع إلى الأصل.

و قد يقرّر ذلك الأصل بأصالة عدم الفتح عنوةً .

و يمكن الخدشة فيه بمعارضة تأخّر إسلام الأهل عن الصدر الأوّل إلى زمان تيقّن تحقّقه فيه، إلّا أن يدفع بعدم لزوم الفتح عنوة لتأخّر إسلام الأهل و عدم منافاته لحدوث الإسلام في زمن الفتح. و الأولى أن يقرّر الأصل بأصالة بقاء ملك أهل الأرض و عدم خروجها عن ملكهم و عدم دخولها في ملك المسلمين و عدم تملّكهم لها، و لا يخدشه كونه من الاُصول المثبتة لعدم القصد به إلى إثبات كونها أرضاً أسلم عليها أهلها طوعاً أو أرضاً صولح عليها أهلها على أن تكون لهم أو من أرض الأنفال بل إلى نفي كونها فتحت عنوةً ، و يكفي فيه نفي اللازم بالأصل، و نفي اللازم يستلزم نفي الملزوم، لأنّ من لوازم الأرض المفتوحة عنوةً و أحكامها الشرعيّة كونها ملكاً للمسلمين من حين الفتح.

نعم ربّما يتعارض ذلك الأصل بأصالة عدم تملّك الإمام عليه السلام فيما كان الطرف المقابل كون الأرض ممّا انجلى أهلها.

فلو قيل: بعد تعارض الأصلين الموضوعين و تساقطهما - و هما أصالة عدم الفتح عنوة و أصالة عدم انجلاء الأهل - لا محلّ لجريان الأصل لأصالة عدم التملّك في الجانبين لأنّ التملّك لازم للفتح عنوة و لانجلاء الأهل و نفي الملزوم بالأصل يستلزم انتفاء اللازم فيهما، فالأصلان يتساقطان بالقياس إلى كلّ من الملزوم و اللازم، فيبقى استصحاب بقاء ما كان على ما كان و هو ملك الأهل سليماً.

قلنا: هذا الاستصحاب أيضاً في مسألة اشتباه الأرض بين المفتوحة عنوة و المنجلي عنها الأهل غير جارٍ، لتيقّن انتقاض الحالة السابقة على التقديرين، و الشبهة

ص: 463

إنّما هو في تملّك المسلمين أو تملّك الإمام عليه السلام.

لا يقال: قضيّة بقاء الاشتباه وقوع الشكّ في الحكم من حيث الحلّ و الحرمة فيما يؤخذ من الجائر من مال الخراج و المقاسمة المأخوذين على هذه الأرض المشتبهة الحال و أصل الإباحة و أصالة البراءة عن وجوب الاجتناب يقتضيان الحلّ و جواز الأخذ و الأكل، لأنّ الحلّ على ما تقدّم منوط بإذن الأئمّة و إمضائهم عليهم السلام و الأصل عدم صدوره منهم عليهم السلام بالقياس إلى محلّ الاشتباه، و هذا بالقياس إلى الأصلين أصل موضوعي وارد عليهما، فعدم ثبوت كون محلّ الاشتباه من المفتوحة عنوةً أو من مطلق الأرض الخراجيّة و لو لعدم جريان أصل من الاُصول فيه كافٍ في عدم حلّ الأخذ من الجائر مجّاناً أو معاوضة كما هو قضيّة الاشتراط بالشرط الأوّل.

و قد سبق إلى الوهم أنّ التكلّم في تأسيس الأصل في محلّ الاشتباه قليل الجدوى، لأنّه إن كان تحت يد المسلمين و هم يتصرّفون فيه تصرّف المالكيّة فأصالة الصحّة في تصرّفاتهم مع قاعدة اليد ترفعان الاشتباه، و إن لم يكن تحت يدهم بأن كان الأرض مواتاً بالموت الطارئ على حال كونها محياة نظراً إلى أنّها لو كانت في تلك الحال ملكاً للمسلمين لم تخرج عن ملكهم بالموت، فهذا مع ندرته خارج عن محلّ البحث لانتفاء الخراج و المقاسمة في نحو ذلك، فلا يبقى محلّ للتكلّم في إحراز شرط ترتّب الأحكام المتقدّمة للأرض الخراجيّة. نعم ربّما يتكلّم في نحو ذلك في إفادة الإحياء الملك لمن يريد إحياءها فتأمّل.

الشرط الثاني: أن يكون الفتح فيما ثبت كونها فتحت عنوةً بإذن الإمام عليه السلام

لأنّه لو لا بإذن الإمام عليه السلام كان المفتوح من الأنفال المختصّة بالإمام على المشهور بين الأصحاب المصرّح به في كلامهم بلا نقل خلاف فيه، و عن المجمع(1) أنّه كاد يكون إجماعاً، و عن المبسوط(2) نسبته إلى رواية أصحابنا و كأنّه أراد بالرواية مرسلة العبّاس الورّاق عن رجل سمّاه عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «إذا غزا قوم بغير إذن الإمام فغنموا كانت الغنيمة كلّها للإمام، و إذا غزوا بأمر الإمام فغنموا كان للإمام الخمس»(3) و عن

ص: 464


1- مجمع الفائدة 473:7.
2- المبسوط 34:2، نقلاً بالمعنى.
3- الوسائل 16/529:9، ب 1 الأنفال، التهذيب 378/135:4.

المبسوط و «على هذه الرواية يكون جميع ما فتحت بعد النبيّ إلّا ما فتحت في زمان الوصيّ من مال الإمام عليه السلام و على هذا فلو شكّ في أرض فتحت عنوة في كون فتحها بإذن الإمام و عدمه فالأصل يقتضي العدم مضافاً إلى أصالة عدم تملّك المسلمين إيّاها.

الشرط الثالث:

كون المفتوحة عنوة بإذن الإمام عامرة أي محياة في وقت الفتح ليدخل في ملك المسلمين بعد إخراج خمسه لكونها حينئذٍ من الغنائم، فإنّها إن كانت غامرة أي مواتاً حال الفتح كانت للإمام لكونها من الأنفال على المشهور المصرّح به في كلامهم من غير خلاف يظهر، و قيل بل المتّفق عليه المصرّح به كما عن الكفاية(1)و محكيّ التذكرة(2)، و على هذا فلو شكّ في حياتها حال الفتح كان أصالة عدم ملك المسلمين مقتضياً للعدم، مضافاً إلى أصالة تأخّر الحادث فإنّ الحياة أمر حادث يشكّ في بدو زمان حدوثها هل هو قبل الفتح أو بعده.

فقد ظهر بجميع ما قرّرناه في ذكر الشروط الثلاث أنّ الاشتباه في كون الأرض خراجيّة ليترتّب عليها الأحكام المتقدّمة قد يحصل للشكّ في كونها فتحت عنوة أو صلحاً، و قد يحصل بعد ثبوت الفتح عنوة للشكّ في كون فتحها بإذن الإمام أو لا، و قد يحصل بعد ثبوت الأمرين للشكّ في كونها حال الفتح معمورة أو خربة، و قد عرفت أنّ الأصل في جميع هذه المراتب يقتضي العدم و البناء على عدم كونها خراجيّة، و لا يخرج عن الأصل فيها إلّا بما يوجب علماً عقليّاً أو شرعيّاً، و من العلم الشرعي جملة من الروايات المأثورة عن أهل بيت العصمة في بعض مصاديق هذا العنوان الّتي منها مكّة المعظّمة، ففي خبر صفوان بن يحيى و أحمد بن محمّد بن أبي نصر قال عليه السلام: «إنّ أهل الطائف أسلموا و جعلوا عليهم العشر و نصف العشر، و أنّ مكّة دخلها رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم عنوة، و كانوا اُسراء في يده فأعتقهم، و قال: اذهبوا فأنتم طلقاء»(3).

و الرواية و إن ضعف سندها بجهالة بعض رجاله، غير أنّ الظاهر عدم الإشكال لأحد في هذا الموضوع، و لذا ذكر في مفتاح الكرامة «أنّ كون مكّة مفتوحة عنوة هو الظاهر من المذهب كما قاله الشيخ في المبسوط(4) و جماعة(5) و في

ص: 465


1- الكفاية: 239.
2- التذكرة 402:2.
3- البحار 29/180:19.
4- المبسوط 33:2.
5- كما في التذكرة 188:9، المسالك 54:3.

الخلاف(1) الإجماع عليه»(2).

و منها: سواد العراق،

ففي صحيح محمّد الحلبي قال: «سئل أبو عبد اللّه عليه السلام عن السواد ما منزلته ؟ قال: هو لجميع المسلمين لمن هو اليوم، و لمن يدخل في الإسلام بعد اليوم، و لمن لم يخلق بعد، فقلت: الشراء من الدهاقين ؟ قال: لا يصلح إلّا أن يشتري منهم على أن يصيّرها للمسلمين فإذا شاء وليّ الأمر أن يأخذها أخذها، قلت: فإن أخذها منه، قال: يردّ عليه رأس ماله و له ما أكل من غلّتها بما عمل»(3).

و رواية أبي الربيع الشامي عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «لا تشتر من أرض السواد شيئاً إلّا من كانت له ذمّة فإنّما هو فيء للمسلمين»(4).

و صحيح عبد الرحمن بن الحجّاج قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عمّا اختلف فيه ابن أبي ليلى و ابن شبرمة في السواد و أرضه ؟ فقلت: إنّ ابن أبي ليلى قال: إنّهم إذا أسلموا فهم أحرار و ما في أيديهم من أرضهم لهم، و أمّا ابن شبرمة فزعم أنّهم عبيد، و أنّ أرضهم الّتي بأيديهم ليست لهم، فقال: في الأرض ما قال ابن شبرمة، و قال: في الرجال ما قال ابن أبي ليلى إنّهم إذا أسلموا فهم أحرار»(5) الخ.

و أمّا الموضوع و تحديده فقال في مفتاح الكرامة: «و سواد العراق كما ذكره الأصحاب(6) و غيرهم من العامّة(7) في أبواب شتّى كباب الزكاة و الجهاد و الخمس و البيع و الرهن هو ما بين عبّادان و الموصل طولاً إلى ساحل البحر و قيّده بعضهم بكونه من شرقي دجلة قال: و أمّا الغربي الّذي يليه البصرة فإنّه إسلامي مثل شطّ عثمان بن أبي العاص فإنّ أرضه كانت مواتاً فأحياها عثمان بن أبي العاص، و ما بين طريق

ص: 466


1- الخلاف 188:3، المسألة 316.
2- مفتاح الكرامة 103:13.
3- الوسائل 4/369:17، ب 21 عقد البيع، التهذيب 652/147:7.
4- الوسائل 5/369:17، ب 21 عقد البيع، التهذيب 653/147:7.
5- الوسائل 3/417:25، ب 4 إحياء الموات: التهذيب 684/155:7.
6- كما في المبسوط 33:2، التذكرة 189:9، الحدائق 310:18.
7- الحاوي الكبير 256:14 باب فتح السواد.

القادسيّة المتّصل بعذيب من أرض العرب و منقطع جبال حلوان عرضاً، و سمّيت سواداً لأنّ الجيش لمّا خرجوا من البادية رأوا هذه الأرض و التفاف أشجارها فسمّوها سواداً لذلك»(1) انتهى.

و ظاهر الأخبار المتقدّمة كما ترى تملّك المسلمين لجميع أرض العراق المسمّى بأرض السواد من غير تقييد بالعامر قيل: و ينزّل ذلك على أنّ كلّها كانت عامرة حال الفتح، و يؤيّده أنّهم ضبطوا أرض الخراج كما في المنتهى(2) و غيره(3) بعد المساحة بستّة أو اثنين و ثلاثين ألف ألف جريب.

أقول: و يؤيّده أيضاً ما قيل من أنّ هذه الأرض لمّا فتحت أرسل إليها عمر بن الخطّاب ثلاثة أنفس، عمّار بن ياسر على صلاتهم أميراً، و ابن مسعود قاضياً و والياً على بيت المال، و عثمان بن حنيف على مساحة الأرض، و فرض لهم كلّ يوم شاة شطرها مع السواقط لعمّار و شطرها للآخرين، و قال ما أرى قرية يؤخذ منها كلّ يوم شاة إلّا سريع خرابها، و مسح عثمان بن حنيف أرض الخراج فقيل: اثنان و ثلاثون ألف ألف جريب، و قيل: ستّة و ثلاثون ألف ألف جريب، ثمّ ضرب على كلّ جريب نخل عشرة دراهم، و على الكرم ثمانية دراهم، و على جريب الشجر و الرطبة ستّة دراهم، و على الحنطة أربعة دراهم، و على الشعير درهمين، ثمّ كتب بذلك إلى عمر فأمضاه.

و روي أنّ ارتفاعها كان في عهد عمر مائة و ستّين ألف ألف درهم... إلى آخر ما ذكر. نعم ما تقدّم من التقييد بشرقي دجلة كون الغربي منه مواتاً حال الفتح بل هو المصرّح به في كلام البعض الّذي هو العلّامة في كتبه ظاهراً لما حكي عنه من قوله:

«من شرقي دجلة فأمّا الغربي الّذي يليه البصرة فإنّما هو إسلامي مثل شطّ عثمان بن أبي العاص و ما والاها كانت مواتاً فأحياها عثمان».

و أمّا توهّم الموت في غير ما ذكر من البلاد المحدث بالعراق مثل البغداد و الكوفة و الحلّة و المشاهد المشرّفة تعليلاً بكونها إسلاميّة بناها المسلمون و لم تفتح عنوة و لم يثبت أنّ أرضها يملكها المسلمون بالاستغنام و الّتي فتحت عنوة و اُخذت من الكفّار قهراً قد انهدمت، فيدفعه ما قيل من أنّ المفتوحة عنوة لا تختصّ بالأبنية حتّى يقال إنّها

ص: 467


1- مفتاح الكرامة 73:13-74.
2- المنتهى 937:2.
3- المبسوط 34:2.

انهدمت، فإذا كانت البلاد المذكورة و ما يتبعها من قراها غير مفتوحة عنوة فأين أرض العراق المفتوحة عنوة المقدّر بستّة و ثلاثين ألف ألف جريب، و أيضاً من البعيد عادةً أن يكون بلد المدائن على طرف العراق بحيث يكون الخارج ممّا يليه البلاد المذكورة مواتاً غير معمورة وقت الفتح.

هذا كلّه فيما يتعلّق بتحقّق الشرط الثالث في سواد العراق المفروض كونها فتحت عنوة. و أمّا يتعلّق بتحقّق الشرط الثاني أعني كون الفتح بإذن الإمام فقيل كما في الكفاية «الظاهر أنّ الفتوح الّتي وقعت في زمن عمر كان بإذن أمير المؤمنين عليه السلام لأنّ عمر كان يشاور الصحابة خصوصاً أمير المؤمنين عليه السلام في تدبير الحروب و غيرها، و كان لا يصدر إلّا عن رأيه عليه السلام و النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أخبر بالفتوح و غلبة المسلمين على أهل الفرس و الروم، و قبول سلمان تولية المدائن و عمّار أمارة العساكر مع ما روي فيهما قرينة على ما ذكرنا»(1) انتهى.

و قيل أيضاً: و الظاهر أنّ أرض العراق مفتوحة بالإذن كما يكشف عن ذلك ما دلّ على أنّها للمسلمين(2) و أمّا غيرها ممّا فتحت في زمان خلافة الثاني و هي أغلب ما فتحت فظاهر بعض الأخبار كون ذلك أيضاً بإذن مولانا أمير المؤمنين عليه السلام و أمره كالمرويّ عن الخصال بسنده عن جابر الجعفي عن أبي جعفر عليه السلام «أنّه أتى يهودي أمير المؤمنين عليه السلام في منصرفه عن وقعة نهروان فسأله عن المواطن الّتي يمتحن اللّٰه أوصياء الأنبياء حيث روي أنّه تعالى يمتحنهم في حياة الأنبياء في سبعة مواطن، و بعد وفاتهم في سبعة مواطن، فإنّ فيه قوله عليه السلام و أمّا الرابعة يعني من المواطن الممتحن بها بعد النبيّ فإنّ القائم بعد صاحبه يعني عمر بعد أبي بكر كان يشاورني في موارد الاُمور فيصدرها عن أمري و يناظرني في غوامضها فيمضيها عن رأيي لا أعلمه أحداً و لا يعلمه أصحابي و لا يناظرني غيره»(3) الخبر.

ص: 468


1- كفاية الأحكام: 239.
2- الوسائل 4/369:17 و 5، باب 21 عقد البيع، التهذيب 652/147:7 و 653.
3- الخصال: 58/374، ب السبعة.

و لا ريب أنّ الخروج إلى الكفّار و دعاءهم إلى الإسلام يدخل في عموم «الاُمور» بل هو من أعظمها، هذا مع ما اشتهر من حضور أبي محمّد الحسن المجتبى عليه السلام في بعض الغزوات(1) و دخول بعض خواصّ أمير المؤمنين عليه السلام من الصحابة كعمّار في أمرهم(2) مع إمكان استفادة العلم من جهة شاهد الحال برضا أمير المؤمنين عليه السلام بل سائر الأئمّة عليهم السلام بالفتوحات الإسلاميّة الموجبة لتأيّد هذا الدين، مع ما ورد من «أنّ اللّٰه تعالى يؤيّد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم منه»(3).

و قد يقال: إنّ ظاهر صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: «سألته عن سيرة الإمام عليه السلام في الأرض الّتي فتحت بعد رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم ؟ فقال: إنّ أمير المؤمنين عليه السلام قد سار في أهل العراق بسيرة فهي إمام لسائر الأرضين...»(4) الخ إنّ سائر الأرضين المفتوحة بعد النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم حكمها حكم أرض العراق.

ثمّ إنّك قد سمعت سابقاً عند الإشارة إلى أقسام الأرضين حسبما ذكره مفتاح الكرامة أنّهم مثّلوا للأراضي المفتوحة عنوة بسواد العراق و بلاد خراسان و الشام و مكّة المشرّفة، و قد سمعت أيضاً ما يتعلّق بمكّة و ما يتعلّق بسواد العراق من النصوص، و لم نقف في الشام و بلاد خراسان على نصّ يدلّ على الفتح عنوة فيهما و لا على تحديد لهما، بل في مفتاح الكرامة أنّه لم يذكر تحديد للشام، نعم قال قبيل ذلك: «و أمّا خراسان فمن أقصاها إلى كرمان و خوزستان و همدان و قزوين»(5) انتهى. و إن كان ذلك لا يخلو عن مناقشة لقضائه بأن يدخل في خراسان من البلاد ما ليس بداخل فيها قطعاً كأرض قم و ساوة و الري لدخولها في التحديد، و يمكن التوجيه بأنّه تحديد لبلاد خراسان لا من حيث الاسم بل من حيث صفة المفتوحيّة عنوة، فيعمّ ما ذكر إذا لم يعلم بطلان الفتح عنوة في البلاد المذكورة بل نقل ذلك في خصوص الري أيضاً بل في

ص: 469


1- تاريخ الطبري 323:3، الكامل في التاريخ 109:3.
2- اسد الغابة 46:4.
3- الوسائل 1/40:15، ب 9 أبواب جهاد العدوّ، التهذيب 224/127:6.
4- الوسائل 2/153:15، ب 69 أبواب جهاد العدوّ، التهذيب 340/118:4.
5- مفتاح الكرامة 74:13.

مفتاح الكرامة «أنّه قيل إنّ أكثر بلاد الإسلام فتحت عنوة» و على التوجيه المذكور فالتحديد المذكور ربّما يوهم كون كرمان و خوزستان و همدان و قزوين أيضاً من المفتوحة عنوة بناءً على إرادة دخول الغاية في المغيّا.

تتمّة: في كلام غير واحد أنّه ليس للخراج الّذي يتعلّق بالأراضي الخراجيّة قدر معيّن،

بل المعيار فيه ما وقع عليه التراضي من السلطان و مستعمل الأرض، بل نسب ذلك إلى ظاهر الأصحاب، و علّل بأنّ الخراج هي اُجرة أرض المسلمين فينوط برضى الموجر و المستأجر، و يدلّ عليه المرويّ من قول أبي الحسن عليه السلام في مرسلة حمّاد بن عيسى «و الأرض الّتي اُخذت عنوة بخيل و ركاب فهي موقوفة متروكة في يد من يعمرها و يحييها على صلح ما يصالحهم الوالي على قدر طاقتهم من الخراج النصف أو الثلث أو الثلثان، و على قدر ما يكون لهم صالحاً و لا يضرّ بهم...»(1) الحديث. و حكي عن بعض «أنّه يشترط فيه أن لا يزيد على ما كان يأخذه المتولّي له و هو الإمام العادل إلّا برضاه أي مستعمل الأرض»(2).

و قد يفصل بأنّ مستعمل الأرض بالزرع و الغرس إن كان مختاراً في استعمالها فمقاطعة الخراج و المقاسمة باختياره و اختيار الجائر فإذا تراضيا على شيء فهو الحقّ قليلاً كان أو كثيراً، و إن كان لا بدّ له من استعمالها لأنّها كانت مزرعة له من مدّة سنين و يتضرّر بالارتحال عن تلك القرية إلى غيرها، فالمناط ما ذكره الإمام عليه السلام في المرسلة من عدم كون المضروب عليهم مضرّاً بأن لا يبقى لهم بعد أداء الخراج ما يكون بإزاء ما أنفقوا على الزرع من المال و بذلوا له من أبدانهم الأعمال، و على كلّ تقدير فلو اتّفق أنّ أحداً استعمل الأرض قبل مقاطعة الخراج تعيّن عليه اُجرة المثل و هي مضبوطة عند أهل الخبرة. ثمّ إنّ المراد من الخراج هنا ما يعمّ المقاسمة و هي الحصّة المقاطع عليها من حاصلها كما يظهر ذلك عن المرسلة، هذا.

ص: 470


1- الوسائل 2/110:15، ب 41 جهاد العدوّ.
2- حكاه في مفتاح الكرامة عن السيّد عميد الدين 89:13-90.

كتاب البيع

اشارة

ص: 471

في تعريف البيع

و ليعلم أنّ البيع في الأصل على ما عن المصباح المنير «مبادلة مال بمال»(1)و ظاهره اعتبار كون كلّ من العوضين عيناً لظهور المال في العين شخصيّة كانت أو كلّيّة في الذمّة أو في الخارج كصاع من الصبرة الموجودة مثلاً، كما يقتضيه ما في المجمع من «أنّ المال في الأصل الملك من الذهب و الفضّة، ثمّ اطلق على كلّ ما يقتنى و يملك من الأعيان، و أكثر ما يطلق عند العرب على الإبل لأنّها كانت أكثر أموالهم»(2).

و لا إشكال بل لا خلاف فيه بالقياس إلى المبيع المعبّر عنه بالمثمن و هو ما يضاف من المال إلى البائع، و عليه جرى اصطلاح الفقهاء حتّى قالوا من غير خلاف «أنّ البيع لنقل الأعيان قبالاً للإجارة الّتي هي لنقل المنافع». و أمّا ما في كلام بعضهم «من بيع خدمة العبد» كما عن الشيخ في المبسوط(3) و ما في بعض الأخبار(4) «من بيع سكنى الدار» كما في رواية إسحاق بن عمّار، فهو لضرب من المجاز لا على الحقيقة.

و أمّا الثمن و هو ما يضاف من العوضين إلى المشتري، و هو من يصدر منه القبول قبالاً للبائع الّذي هو من يصدر منه الإيجاب. و قد يفرّق بينهما بكون سلعة المشتري في الصيغة المشتملة على الإيجاب و القبول مقرونة بالباء، كما ذكر ذلك في بيع الحيوان الموجب لخيار ثلاثة أيّام للمشتري على المشهور، فرقاً بينه و بين البائع الّذي لا خيار له مطلقاً حتّى في مسألة ما لو وقعت المبايعة بين حيوانين.

ص: 472


1- مصباح المنير: 69، مادّة «بيع».
2- مجمع البحرين 475:5.
3- المبسوط 172:6.
4- الوسائل 5/335:17، ب الأوّل من أبواب عقد البيع و شروطه، التهذيب 571/13.0:7

و أمّا ما قد يورد عليه من أنّه غير مطّرد لانتقاضه ببيع السلف كأن يقول أسلفتك المبلغ الفلاني في الحنطة الموصوفة مؤجّلة إلى شهر تؤدّيها عند رأس الأجل، فيدفعه بابتناء ما ذكر على الغالب فلا إشكال بل لا خلاف أيضاً في جواز كونه عيناً بل هو الغالب وقوعه في الخارج.

و أمّا المنافع فجواز وقوعها ثمناً في البيع هو المصرّح به في التذكرة(1) و القواعد(2)و جامع المقاصد(3) و عليه جماعة من مشايخنا(4) قدّس اللّٰه أرواحهم، و قبلهم الشيخ في شرحه للقواعد(5) و في كلام بعض مشايخنا «أنّه لا يبعد عدم الخلاف فيه» و يظهر ذلك أيضاً من كلّ من عبّر من الفقهاء عن الثمن بالعوض خصوصاً في أكثر حدود البيع لتناول العوض بعموم مفهومه المنافع أيضاً، و هو ظاهر من فسّره بمطلق المقابل أيضاً كما عن المصابيح(6). و هو الأقوى عملاً بصدق اسم البيع مع عوضيّة المنفعة و إطلاق الأدلّة و الفتاوي.

خلافاً لما عن بعض المتأخّرين من اعتبار العينيّة في العوضين معاً و هو ظاهر المستند(7) أيضاً حيث جعل من شرائط العوضين «كونهما عينين» و لعلّ مستنده ما سمعت عن المصباح المنير مع ما في كلام الأصحاب من أنّ البيع لنقل الأعيان، و الأوّل ممّا لا يمكن الوثوق عليه لتفرّده و إعراض الأكثر من أهل اللغة عنه، و الثاني منزّل على المبيع كما يكشف عنه وقوع العين اُجرة في الإجارة بل هو الغالب فيها، مع أنّهم قالوا فيها أنّها لنقل المنافع، و هذا أقوى شاهد بكون نظرهم في المقامين إلى المعوّض لا ما يعمّه و العوض.

و أمّا الحقوق ففي وقوعها ثمناً خلاف، فعن شرح(8) القواعد اعتبار عدم كونه ثمناً، و من مشايخنا من منع اعتبار ذلك تعليلاً «بإطلاق الأدلّة و الفتاوى المقتضي لكون البيع كالصلح الّذي لا إشكال في وقوعه على الحقوق، فلا يبعد صحّة وقوعها ثمناً في البيع

ص: 473


1- التذكرة 35:10.
2- القواعد 22:2 و 284.
3- جامع المقاصد 103:7.
4- الجواهر 209:22، المكاسب 8:3.
5- شرح القواعد 11:2.
6- المصابيح: 35.
7- المستند 306:14.
8- شرح القواعد 11:2.

و غيره، من غير فرق بين اقتضاء ذلك سقوطها كبيع العين بحقّ الخيار أو الشفعة على معنى سقوطهما، و بين اقتضائه نقلها كحقّ التحجير و نحوه»(1).

بل جزم به بعض معاصريه من مشايخنا أيضاً فقال - عند قراءتنا عليه -: «إنّ العوض في البيع بعد ثبوت اعتبار كونه دنيويّاً لا فرق فيه بين أن يكون عيناً أو منفعة أو حقّاً، و لا في الحقّ بين كونه نقليّاً كقوله بعتك هذا بحقّ تحجيرك فينتقل حقّ التحجير إلى البائع، أو إسقاطيّاً كقولك بعت هذا بحقّ شفعتك في هذه الدار فيسقط الشفعة لصدق البيع مع الجميع و إن فسّرناه بمبادلة مال بمال لصدق المال على المنفعة و الحقّ أيضاً، فإنّه عبارة عمّا يبذل في مقابله المال، و المنفعة و الحقّ أيضاً يبذل في مقابلهما المال».

و من مشايخنا أيضاً من فصّل بين ما لا يقبل النقل إلى الغير كحقّ الرجوع في الطلاق و حقّي الخيار و الشفعة فلا إشكال في عدم الصحّة لأنّ البيع تمليك و الإسقاط ليس تمليكاً، و ما يقبله «كحقّ التحجير و نحوه ففي جواز وقوعه عوضاً للبيع إشكال من أخذ المال في عوضي المبايعة لغة و عرفاً مع ظهور كلمات الفقهاء - عند التعرّض لشروط العوضين و لما يصحّ أن يكون اُجرة في الإجارة - في حصر الثمن في المال»(2).

أقول: هذا ينتقض بالمنفعة الّتي نفى الإشكال عن جواز وقوعها ثمناً، و لو بنى ذلك على تفسير الثمن بالعوض أو مطلق المقابل أو ما يستحقّ به المال أو ما يبذل بإزائه المال لجرى الجميع في الحقّ المقابل للنقل.

و نقض الأوّل أيضاً ببيع الدين على من هو عليه بعين معلومة، لاقتضائه الإسقاط و لو باعتبار أنّ الإنسان لا يملك على نفسه ما يملكه غيره عليه، و هذا بعينه يجري في حقّ الخيار و الشفعة. و دفع بأنّه لا مانع من كون بيع الدين على من هو عليه تمليكاً فيسقط، و لذا جعل الشهيد في قواعده(3) «الإبراء» مردّداً بين الإسقاط و التمليك.

و حاصل الدفع: أنّه ممّا يعقل أن يكون الإنسان مالكاً لما في ذمّته فيؤثّر تمليكه السقوط، و لا يعقل أن يتسلّط على نفسه، و السرّ في الفرق أنّ الحقّ سلطنة فعليّة لا يعقل قيام طرفيها لشخص واحد، بخلاف الملك فإنّه نسبة بين المالك و المملوك و لا يحتاج

ص: 474


1- الجواهر 209:22.
2- المكاسب 9:3.
3- القواعد و الفوائد 291:1.

إلى من يملك عليه حتّى يستحيل اتّحاد المالك و المملوك عليه.

و تحقيق المقام: أنّ معيار المسألة صدق البيع بمعناه العرفي الّذي سنذكره مع مقابلة الحقّ للعين مطلقاً أو في الجملة و عدمه، و الظاهر صدقه عرفاً على ما لو قال: بعتك هذا بحقّ تحجيرك أو بحقّ رجوعك أو حقّ خيارك أو حقّ شفعتك أو نحوه، و لذا لا يصحّ تكذيبه بأن يقال: ما بعته، و لا سلب البيع عن تمليكه في مقابل ما ذكر من الحقوق لمكان كلمة الباء المفيدة للمقابلة المقتضية للعوضيّة الصادقة على الحقّ و إن كان أثرها السقوط في البعض و الانتقال إلى البائع في البعض.

و دعوى كون البيع تمليكاً إن اُريد بالقياس إلى المبيع فهو حاصل في المقام، و إن اُريد بالقياس إلى كلّ من العوضين فهو في جميع فروض العوض محلّ منع، كالمنع من دعوى أخذ المال في عوضي المبايعة عرفاً و لغة، أمّا في الأوّل فلما عرفت من عدم صحّة التكذيب و سلب الاسم عرفاً، و أمّا في الثاني فلعدم شاهد عليه من كلام أهل اللغة عدا ما تقدّم عن المصباح المنير، و لقد عرفت ما فيه مع قوّة احتمال بنائه على الغالب في العوضين من كونها مالين.

ثمّ إنّ البيع يطلق على معان:

أحدها: المعاملة المتقوّمة بالمتبايعين المنحلّة إلى فعل البائع و فعل المشتري المعبّر عنهما في الفارسيّة ب «فروختن و خريدن».

و قد يقال: إنّ هذا عرف خاصّ و اصطلاح مخصوص للفقهاء يذكرونه في سلك سائر العقود و يعدّونه في عدادها، و من موارد إطلاقه عليه قولهم باب البيع أو كتاب البيع كما يقولون باب الإجارة و باب الصلح و نحوه، و لم يوجد الإطلاق عليه في خطابات الشرع كتاباً و سنّة.

و يمكن الخدشة فيه بمنع الإنكار المذكور، لجواز كون ما في قوله تعالى: «فَاسْعَوْا إِلىٰ ذِكْرِ اَللّٰهِ وَ ذَرُوا اَلْبَيْعَ » (1) و ما في قوله تعالى أيضاً: «رِجٰالٌ لاٰ تُلْهِيهِمْ تِجٰارَةٌ وَ لاٰ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اَللّٰهِ » (2) من هذا الباب.

ص: 475


1- الجمعة: 9.
2- النور: 37.

أمّا الأوّل فلوضوح عدم اختصاص النهي عن البيع وقت النداء بالبائع فقط بل يعمّه و المشتري أيضاً، فوجب أن يكون المراد بالبيع هنا المعاملة المذكورة المنحلّة إلى فعليهما فينحلّ النهي عنه أيضاً إلى نهي كلّ منهما عن فعله.

و أمّا الثاني فلوضوح أنّ مدح عدم الإلهاء عن ذكر اللّٰه حال التشاغل بالبيع أو الاشتراء لا يختصّ بالبائع بل يعمّ المشتري أيضاً، حيث كان اشتراؤه لا يلهيه عن ذكر اللّٰه، و ذكر البيع عقيب التجارة من باب ذكر الخاصّ بعد العامّ من حيث إنّ التجارة اُريد بها المعاملة الاكتسابيّة، سواء كانت على وجه البيع و الشراء أو على وجوه اُخر.

و لا يذهب عليك أنّ الإطلاق المذكور في الآيتين إنّما هو لضرب من المجاز من باب الاستعمال في القدر المشترك بين فعل البائع و فعل المشتري، و الظاهر كونه من باب الاستعمال في عموم المجاز بناءً على كون البيع حيثما استعمل في فعل المشتري مجازاً، و ظاهر عبارة القاموس كونه من باب الاستعمال في عموم الاشتراك لظهور كلامه في كون البيع من الألفاظ المشتركة بين الضدّين، لأنّه قال: «باعه يبيعه بيعاً و مبيعاً و القياس مباعاً إذا باعه، و إذا اشتراه ضدّ و هو مبيع و مبيوع»(1) إلى آخر ما ذكره.

و ثانيها: فعل البائع من حيث تعقّبه بفعل المشتري الّذي يراد ذلك من لفظ «بعت» خبراً و إنشاءً ، و إنّما اعتبرنا الحيثيّة لأنّ فعل البائع إن كان نقل ملك العين فلا يصدق بدون الانتقال إلى المشتري المنوط بقبوله لنقل البائع، و إن كان تمليك العين فلا يصدق بدون تملّك المشتري المنوط بقبوله التمليك، كالكسر لا يصدق بدون الانكسار، و الإحراق لا يصدق بدون الاحتراق، و الإيجاد لا يصدق بدون الوجود، و هكذا الإيجاب و الوجوب بل كلّ تأثير و أثره المترتّب عليه، و هذا المعنى هو المعنى العرفي العامّ الكاشف عن اللغة و لا يختصّ بعرف الفقهاء و لا عرف المتشرّعة و لا عرف زمان الشارع بل يعمّ غير المتديّنين بشرع الإسلام و أهل زمان الجاهليّة بل الاُمم السالفة، فهو من المعنى القديم الّذي أمضاه الشارع غاية الأمر أنّه أضاف إليه في هذا الشرع شروطاً و زوائد اُخر، و هو الّذي ورد على طبقه قوله تعالى: «أَحَلَّ اَللّٰهُ اَلْبَيْعَ » (2) و أخذ عنواناً في

ص: 476


1- البقرة: 275.
2- البقرة: 275.

أخبار أهل بيت العصمة عليهم السلام و هذا هو حقيقة البيع عرفاً و لغة للتبادر و استقراء موارد الاستعمال و غيره.

و ثالثها: فعل المشتري من حيث وقوعه عقيب فعل البائع، و عليه ينطبق ما في قوله عليه السلام: «البيّعان بالخيار ما لم يفترقا»(1) فإنّ البيع أصله البائع و قد اطلق بحكم التثنية على ما يعمّ المشتري فيكون المراد من المادّة فيما اطلق عليه فعله الّذي يتأتّى منه.

و قضيّة ظاهر كلام القاموس كونه فيه أيضاً حقيقة فيكون البيّعان كالعينين، و على ما بيّناه يكون مجازاً فيكون البيّعان كالقمرين. و ينبغي القطع بعدم كون هذا المعنى مراداً في محلّ البحث لوضوح عدم كون تعريف البيع باعتبار انتسابه إلى المشتري و إن قلنا بكونه حقيقة فيه أيضاً، كما أنّه ليس المقصود تعريفه بالمعنى الأوّل لما عرفت من عدم كونه مسمّى البيع على وجه الحقيقة. و المقصود في المقام تعريفه باعتبار مسمّاه الحقيقي عرفاً و لغة و لا يكون إلّا المعنى الثاني، فإنّ المتبادر من لفظ البيع في جميع تصاريفه الّتي منها مادّة «بعت» خبراً و إنشاءً تمليك العين، و هو إدخال البائع لها في ملك المشتري، و يتبادر مع ذلك كونه على وجه التعويض و هو تبديلها ببدل يعطيه المشتري، فيتبادر منه المجموع من التمليك و كونه على وجه التعويض تبادراً أوّليّاً، ثمّ ينتقل الذهن من هذا المعنى المتبادر إلى تملّك المشتري لها و انتقالها إليه، التفاتاً منه إلى أنّ التمليك لا ينفكّ في الوجود عن التملّك، كما أنّ النقل المرادف له لا ينفكّ عن الانتقال فيكون ذلك أيضاً ممّا يتبادر من اللفظ و لكن تبادراً ثانويّاً على حدّ تبادر سائر المداليل الالتزاميّة.

فالبيع في جميع تصاريفه يدلّ مطابقة على تمليك العين على وجه التعويض فهو معناه الموضوع له بحسب العرف و كذلك اللغة لأصالة عدم النقل، و التزاماً على التملّك المرادف للانتقال، و المعنى المطابقي المذكور فعل للبائع من حيث تعقّبه بفعل المشتري على ما بيّنّاه سابقاً، و هذا الفعل من البائع فعل توليدي يتولّد من فعل علاجي يقال له الفعل المباشري و هو التلفّظ بصيغة «بعت» و نحوها المقرونة بصيغة القبول من المشتري،

ص: 477


1- الوسائل 1/5:18 و 2، ب 1 من أبواب الخيار، عوالي الآلي 209:3.

أو الإعطاء و الأخذ الواقع بين شخصين في العوضين بقصد إنشاء التمليك من أحدهما و قبوله من الآخر كما في المعاطاة على القول بكونها بيعاً و في حكمها إشارة الأخرس.

فلا يصحّ تعريفه بالإيجاب و القبول كما في النافع(1) حيث عرّفه بالإيجاب و القبول اللّذان ينتقل بهما العين المملوكة من مالك إلى غيره بعوض مقدّر، و الدروس(2) حيث عرّفه بالإيجاب و القبول من الكاملين الدالّان على نقل العين بعوض مقدّر مع التراضي، لأنّ تعريف البيع بالإيجاب و القبول تسمية للسبب باسم المسبّب لا أنّه تعريف للمسبّب، و المقصود تعريف المسبّب لا السبب لأنّ البيع اسم للمسبّب لا للسبب.

و لا تعريفه بأنّه عقد يدلّ على انتقال عين أو ما في حكمها من شخص إلى غيره بعوض مقدّر على جهة التراضي كما عن الوسيلة(3) لأنّ العقد عندهم عبارة عن مجموع الإيجاب و القبول، و قد عرفت ما في التعريف بهما مضافاً إلى انتقاض العكس في الجميع بالمعاطاة على القول بكونها بيعاً.

و لا بانتقال عين مملوكة من شخص إلى غيره بعوض مقدّر على وجه التراضي كما عن المبسوط(4) و الحلّي في السرائر(5) و العلّامة في جملة من كتبه(6) من غير اختلاف بينها في ألفاظ التعريف إلّا يسيراً، لأنّ الانتقال على ما بيّنّاه لازم معنى البيع و المقصود تعريف الملزوم لا اللازم. و لا يجدي تكلّف توجيهه بأنّ ذلك تعريف البيع بالمعنى المأخوذ بالبناء للمفعول و هو المبيعيّة، لأنّ المصدر حقيقة في المعنى الحدثي المأخوذ بالبناء للفاعل و إطلاقه على غيره مجاز، مع أنّ المقصود تعريفه بالمعنى المأخوذ بالبناء للفاعل لأنّه فعل البائع المأخوذ في وضعه. و حمل الانتقال على إرادة معنى النقل نظراً إلى مجيء الانتقال في اللغة متعدّياً أيضاً، و إن كان يدفع المحذور و لكنّه خلاف ظاهر لا يليق بمقام التعريف.

و لا بنقل الملك من مالك بصيغة مخصوصة كما عن المحقّق الثاني(7) لا لاختلال

ص: 478


1- النافع: 118.
2- الدروس 191:3.
3- الوسيلة: 236.
4- المبسوط 76:2.
5- السرائر 240:2.
6- التذكرة 5:10، القواعد 16:2، التحرير 165:1.
7- جامع المقاصد 55:4.

في جنسه لأنّ النقل مرادف للتمليك، بل لخلل في القيد الأخير من جهة الإجمال، إذ لا يدرى أنّ المراد بقوله: «مخصوصة» هل هي الخصوصيّات المعتبرة في صيغة البيع أو خصوص صيغة البيع الممتازة عن صيغ سائر العقود مع جهالة الخصوصيّات المعتبرة على الاحتمال الأوّل و جهالة أصل الصيغة على الثاني، ففيه إجمال من جهات عديدة، و المقصود في التعريف إيضاح المعرّف فينافيه الإجمال.

و لا بأنّه إنشاء تمليك العين من مالك إلى غيره بعوض معلوم على جهة التراضي كما عن المصابيح(1) لأنّ الإنشاء مدلول صيغة «بعت» و ما بمعناها، و المقصود من التعريف معرفة مدلول المادّة لا مدلول الصيغة فلا يصحّ أخذه في تعريف مدلول المادّة فليتدبّر.

و ممّا ذكر ظهر ما في تعريفه بأنّه إنشاء تمليك عين بمال كما اختاره شيخنا(2) قدس سره و جعل تعريفه بذلك أولى، و نحوه تعريفه بإنشاء مقتضى تمليك العين بعوض.

فالصحيح في تعريفه بالنظر إلى ما بيّنّاه سابقاً أن يقال: إنّه تمليك العين على وجه التعويض إن أردنا تعريف الصحيح منه، أو إنّه إبدال عين بعوض إن أردنا تعريف الأعمّ منه، و لا حاجة إلى الإطناب بذكر قيود اُخر من كونه من مالك إلى غيره أو من شخص إلى آخر و بعوض مقدّر أو معلوم و على جهة التراضي و ما أشبه ذلك، لكونه تطويلاً بلا طائل، مع كون الاُمور المذكورة شروطاً لصحّة البيع أثبتها الشرع و ليست بداخلة في مسمّاه، بل الداخل في مسمّاه هو التمليك المقيّد بالقيدين.

و لكلّ من الأجزاء الثلاث ظهور يخرج به شيء، و للهيئة التركيبيّة أيضاً ظهور في دخل كلّ من القيدين في ماهيّة المسمّى و حقيقة الموضوع له المأخوذة في لحاظ الوضع.

فيخرج بالتمليك ما لا تمليك فيه كالصلح عمّا في الذمّة الّذي مفاده الإبراء و هو إسقاط لا أنّه تمليك. و ما كان تمليكه تمليك المنفعة كالإجارة، و ما كان تمليك العين فيه بلا عوض كالهبة، و ما ليس تمليك العين فيه على وجه التعويض داخلاً في الماهيّة

ص: 479


1- المصابيح: 33.
2- المكاسب 11:3.

و حقيقة المسمّى كالصلح عن العين بعوض فإنّ الصلح تسالم محض و هو تمام حقيقته و لم يعتبر فيه تمليك و لا كونه مع العوض، و لذا قد يكون مفاده الإبراء و قد يكون مفاده مفاد العارية.

و ما ذكرناه في وجه إخراج ما ذكر أولى ممّا قد يوجّه بأنّ التعويض في الصلح المذكور ضمني لأنّ التسالم باعتبار المورد يتضمّنه كما صنعه بعضهم، إذ لم يؤخذ في التعريف ما يخرج التمليك الضمني.

و يخرج أيضاً ما لا يكون التعويض فيه داخلاً في حقيقة مسمّاه المأخوذة في لحاظ الوضع كالهبة المعوّضة فإنّ تمام حقيقته تمليك العين مطلقاً و لذا يغلب فيه عدم اشتماله على العوض. فما ذكرناه تعريف تامّ لمسمّى البيع جامع و مانع غير محتاج في جمعه و لا منعه إلى تكلّف.

و بالتأمّل فيما ذكر يظهر حال التعريف الثاني، و السرّ في كونه للأعمّ أنّ إبدال العين بالعوض لا يقتضي كونه على وجه ترتّب عليه الأثر من حصول الملك و التملّك و النقل و الانتقال، و من ذلك يظهر الوجه في كون التعريف الأوّل للصحيح فإنّ التمليك على ما بيّنّاه سابقاً لا يصدق إلّا حيث يستتبع التملّك فيكون فرعاً على تحقّق جميع الشروط المعتبرة في الصحّة في نفس الأمر و إن لم يصرّح بشيء منها في التعريف، فلا ينقسم إلى الصحيح و الفاسد إذ لا تمليك في الفاسد، و قد يجعل التمليك أعمّ من الواقعي و الصوري و لو بحسب الاعتقاد أو القصد المحض كبيع الغاصب لنفسه مع العلم بالغصبيّة و الفساد، فيكون التعريف الأوّل أيضاً للأعمّ و لا يخلو عن تكلّف، و هو عند القائلين بكون المعاطاة بيعاً ينقسم إليه بالصيغة المخصوصة و هي قول «بعت و اشتريت» و ما بمعناهما في الإيجاب و القبول و إليه بغير الصيغة المخصوصة و يقال له «المعاطاة» و هو الإعطاء و الأخذ للعين و العوض على وجه التمليك و التملّك.

ثمّ إنّ في باب البيع مقاصد كثيرة:

المقصد الأوّل: في صيغة البيع و ما يتعلّق بها و ما يعتبر فيها من الخصوصيّات،

اشارة

و فيه مباحث

ص: 480

المبحث الأوّل [في المعاطاة]
اختلف الأصحاب في أنّ للصيغة المخصوصة تأثيراً خاصّاً و أثراً مخصوصاً باعتبار كونها معتبرة في اللزوم أو في الصحّة أو في صدق الاسم أو لا؟
اشارة

و منه نشأ النزاع في المعاطاة بين قائل بكونها بيعاً صحيحاً لازماً، و قائل بكونها بيعاً صحيحاً غير لازم، و قائل بكونها بيعاً غير صحيح فلا يؤثّر ملكاً و لا إباحة، و قائل بعدم كونها بيعاً أصلاً، و حينئذ فإمّا أن تكون إباحة لوجوه التصرّفات، أو معاملة مستقلّة موجبة لنقل الأعيان أو المنافع و ليست بيعاً و لا إجارة و لا صلحاً و لا هبة و لا عارية، أقوال خمس.

أوّلها: منسوب إلى ظاهر المفيد

قائلاً - على ما حكي عنه في المقنعة -: «ينعقد البيع على تراض بين الاثنين فيما يملكان المتبايع له إذا عرفاه جميعاً و تراضيا بالبيع و تقابضا و افترقا بالأبدان»(1) و استظهار الصحّة و اللزوم من هذه العبارة لعلّه بملاحظة عدم تعرّضه فيها لذكر الصيغة مع تعرّضه لجملة من شرائط الصحّة، فبالإطلاق تدلّ على انعقاد البيع مع الصحّة بدون الصيغة، و اعتباره الافتراق بالأبدان و هو شرط اللزوم لا الصحّة، فيكون مفاد العبارة أنّه ينعقد البيع الصحيح اللازم بالاُمور المذكورة الّتي منها ما هو شروط للصحّة، و منها ما هو شرط للزوم. و عزي الموافقة له إلى الأردبيلي(2)و الكاشاني(3) و نسبه في الحدائق(4) أيضاً إلى صاحب الكفاية(5) و إلى والده و إلى الشيخ عبد اللّه بن صالح البحراني و قال: «إنّهما نقلاه أيضاً عن شيخهما العلّامة الشيخ سليمان البحراني»(6) و يظهر الميل إليه من عبارة المسالك(7) لو لا الإجماع على خلافه، لمكان

ص: 481


1- المقنعة: 91.
2- مجمع الفائدة 142:8.
3- المفاتيح 49:3.
4- الحدائق 350:18.
5- الكفاية: 88.
6- الحدائق 350:18.
7- المسالك 151:3.

قوله بعد ما نقله ما أحسنه و أمتن دليله: إن لم ينعقد الإجماع على خلافه. و الظاهر أنّ مراده انعقاد الإجماع على خلافه في دعوى اللزوم لا في القول بانعقاد البيع و صحّته بدون الصيغة المخصوصة. و عن شرح القواعد للشيخ أيضاً حكاية الإجماع محصّلاً و منقولاً على عدم كفاية المعاطاة في اللزوم، و قضيّة ذلك أيضاً كون مخالفة قول المفيد للإجماع في دعوى اللزوم فقط، بل قد يدّعى الضرورة على أنّ للصيغة المخصوصة تأثيراً خاصّاً و أثراً مخصوصاً، و لا يكون ذلك الأثر إلّا اللزوم إذ لا ضرورة بل لا إجماع على اعتبارها في صدق الاسم و لا في الصحّة.

و ثانيها: خيرة المحقّق الثاني في شرح القواعد و تعليق الإرشاد

و ثانيها: خيرة المحقّق الثاني في شرح القواعد و تعليق الإرشاد(1)

و وصفه في عبارته المحكيّة عن شرح القواعد بالمعروفيّة بين الأصحاب قائلاً: «المعروف بين الأصحاب أنّ المعاطاة بيع و إن لم يكن كالعقد في اللزوم خلافاً لظاهر عبارة المفيد، و لا يقول أحد بأنّها بيع فاسد سوى المصنّف في النهاية(2) و قد رجع عنه في كتبه(3)المتأخّرة عنها، و قول اللّٰه تعالى: «وَ أَحَلَّ اَللّٰهُ اَلْبَيْعَ » (4) يتناولها لأنّها بيع بالاتّفاق حتّى من القائلين بفسادها لأنّهم يقولون إنّها بيع فاسد. و قوله تعالى: «إِلاّٰ أَنْ تَكُونَ تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ » (5) عامّ إلّا ما أخرجه الدليل...»(6) إلى آخر ما ذكره. و ستسمع تتمّة عبارته، و اختاره أكثر من تأخّر عنه إن لم نقل عامّتهم.

و احتمله في المسالك، و جعل عبارة العلّامة في التحرير كالصريحة في إفادة ذلك، قائلاً: «هل المراد بالإباحة الحاصلة بالمعاطاة قبل ذهاب العين إفادة ملك متزلزل كالمبيع في زمن الخيار و بالتصرّف يتحقّق لزومه، أم الإباحة المحضة الّتي هي بمعنى الإذن في التصرّف و بتحقّقه يحصل الملك له و للعين الاُخرى ؟ يحتمل الأوّل... إلى أن قال: و عبارة العلّامة في التحرير كالصريحة في إفادة هذا المعنى لأنّه قال: الأقوى عندي أنّ المعاطاة غير لازمة بل لكلّ منهما فسخ المعاوضة ما دامت العين باقية(7)و مقتضى تجويز الفسخ ثبوت الملك في الجملة، و كذا تسميتها معاوضة و الحكم باللزوم

ص: 482


1- حاشية الإرشاد: 216.
2- النهاية 449:2.
3- كما في المختلف: 348.
4- البقرة: 275.
5- النساء: 29.
6- جامع المقاصد 58:4.
7- التحرير 275:2.

بعد الذهاب»(1) انتهى.

و قد يستظهر القول بانعقادها بيعاً مع الصحّة ممّن عدا الشيخ في المبسوط(2)و الخلاف(3) و أتباعه كالحلّي في السرائر(4) و الحلبي في الكافي(5) و ابن الزهرة في الغنية(6) عن جماعة من القدماء كالقديمين - ابني أبي عقيل و الجنيد - و ابني بابويه و البرّاج و المرتضى و الجعفي و ابن سعيد في الجامع و النزهة التفاتاً إلى عدم ذكرهم الصيغة المخصوصة و لا غيرها من الألفاظ في عداد الشرائط المعتبرة في انعقاده و صحّته، و لا ينافيه تعريفه بالعقد في كلام غير واحد منهم، و إن فسّرنا العقد بالإيجاب و القبول لأنّه أعمّ من القوليّين و الفعليّين و الملفّقين، خصوصاً مع ملاحظة أنّه بحسب العرف و اللغة عبارة عن الربط و الشدّ الصادقين مع الأفعال الغير المتوقّفين على الألفاظ سيّما الصيغة المخصوصة. بل قد يحتمل لأجل ما ذكر موافقة هؤلاء المفيد في دعوى اللزوم زيادة على الانعقاد و الصحّة.

و ثالثها: ما اشتهر نسبته إلى العلّامة في نهاية الإحكام

كما سمعت نسبته إليه في عبارة جامع المقاصد فقال: «بأنّها بيع فاسد لا يؤثّر في ملك و لا في إباحة للتصرّفات»(7).

و قد يقال، بأنّ له موافقاً و هو المحقّق في الشرائع لمكان قوله: «و لا يكفي التقابض من غير لفظ و إن حصل من الأمارات ما يدلّ على إرادة البيع سواء كان في الحقير أو الخطير» مع قوله فيما بعد ذلك: «و لو قبض المشتري ما ابتاعه بالعقد الفاسد لم يملكه و كان مضموناً عليه» فإنّ العبارة الاُولى ظاهرة في نفي الآثار المترتّبة على البيع من الملك و إباحة التصرّفات مع تسليم كونها بيعاً بقرينة قوله في العبارة الثانية: «و لو قبض المشتري ما ابتاعه بالعقد الفاسد الخ. كما أنّ قوله: «لم يملكه» في هذه العبارة صريح في نفي الملكيّة، و قوله: «كان مضموناً عليه» صريح في نفي الإباحة إذ الحكم بالضمان إنّما هو على تقدير عدم إفادتها الإباحة أيضاً. فمفاد العبارتين أنّ المعاطاة المعبّر عنها بالتقابض من غير لفظ ليست من البيع الصحيح المفيد للملك و لا الإباحة من غير ملك،

ص: 483


1- المسالك 151:3.
2- المبسوط 87:2.
3- الخلاف 41:3 مسألة 59.
4- السرائر 250:2.
5- الكافي في الفقه: 252.
6- الغنية: 214.
7- التحرير 275:2.

و هذا عين ما صار إليه العلّامة في النهاية.

و فيه نظر: لأنّ العبارة الثانية في كلام المحقّق مسوقة لإعطاء قاعدة كلّيّة في كلّ مبيع مقبوض بالعقد الفاسد الّذي يكون فساده لاختلال شرط من شروط الصحّة و إن صدق معه العقد و انعقد أصل البيع من غير أن يكون ذلك من فروع الحكم السابق، و العبارة الاُولى مسوقة لبيان عدم كفاية التقابض من غير لفظ في انعقاد العقد الّذي عرّفه أوّلاً باللفظ الدالّ على نقل الملك من مالك إلى آخر بعوض معلوم. و هذا لا ينافي انعقاد البيع و لا صحّته من غير لفظ، لجواز التفكيك بينه و بين العقد موضوعاً.

بناءً على دعوى اختصاص العقد بالإيجاب و القبول اللفظيين و عدم دخله في حقيقة مسمّى البيع، كما عليه مبنيّ بعض طرق القول بصحّة المعاطاة و انعقادها بيعاً، و منه: ما عن أبي حنيفة من العامّة و بعض كتب الحنفيّة على ما نقل حكايته عنه عن الشيخ في الخلاف حيث قال: «إذا دفع قطعة إلى البقلي أو الشارب فقال: أعطني بها بقلاً أو ماءً ، فأعطاه فإنّه لا يكون بيعاً و كذلك سائر المحقّرات، و إنّما يكون إباحة له فيتصرّف كلّ منهما فيما أخذه تصرّفاً مباحاً من دون أن يكون ملكه، و فائدة ذلك أنّ البقلي إذا أراد أن يسترجع البقل أو أراد صاحب القطعة أن يسترجع قطعته كان لهما ذلك لأنّ الملك لم يحصل لهما، و به قال الشافعي(1) و قال أبو حنيفة(2): يكون بيعاً صحيحاً و إن لم يحصل الإيجاب و القبول، و قال ذلك في المحقّرات دون غيرها...»(3)إلى آخر ما ذكره. و عن بعض كتب الحنفيّة أنّه بعد ما فسّر البيع بمبادلة مال بمال قال:

«و ينعقد بالإيجاب و القبول و بالتعاطي»(4).

فلم يظهر من عبارة الشرائع أنّه قائل بفساد البيع مع انتفاء الإيجاب و القبول اللفظيّين، كما لا يظهر منها أيضاً كونه قائلاً بانعقاد موضوع البيع بدونه. فكلامه يحتمل وجوهاً: انعقاد المعاطاة بيعاً صحيحاً مفيداً لملك متزلزل كما عليه الكركي، و انعقادها

ص: 484


1- المجموع 163:9، فتح العزيز 99:8.
2- المجموع 162:9، فتح العزيز 101:8، النتف 442:1.
3- الخلاف 41:3 المسألة 59.
4- الفتاوى الهندية 2:3.

بيعاً فاسداً غير مفيد للملك و الإباحة كما عليه العلّامة في النهاية، و انعقادها إباحة مجرّدة عن الملك لا بيعاً كما عليه الشيخ و أتباعه، و ربّما يحتمل موافقته للمفيد أيضاً بناءً على كون البيع في مورد انفكاكه عن العقد على القول به مثله في اللزوم إلّا ما خرج بالدليل.

و رابعها: مذهب الشيخ و أتباعه

فقالوا بأنّها تفيد إباحة وجوه التصرّفات بعد نفي تسميتها بيعاً، و قد سمعت عبارة الشيخ في الخلاف و على منوالها عبارة السرائر(1)و يقرب منهما عبارة الغنية(2) و غيرها.

و قد يجعل ذلك قولين:

أحدهما: إفادتها لإباحة مطلق التصرّفات حتّى ما يتوقّف منها على الملك، كالوقف و وطء الجارية و الهبة و البيع، و عزي إلى ظاهر عبائر كثير منهم بل في المسالك «أنّ كلّ من قال بالإباحة يسوّغ جميع وجوه التصرّفات»(3).

و ثانيهما: إباحة ما لا يتوقّف من التصرّفات على الملك كالأكل و الشرب و اللبس و الركوب و ما أشبه ذلك، و عزي إلى ظاهر كلام الشهيد في حواشيه على القواعد(4) و في المسالك جعل القول بالإباحة مشهوراً، لكن المحقّق الكركي نزّله في جامع المقاصد على إرادة الملك المتزلزل ليوافق مختاره من انعقادها بيعاً جائزاً حيث قال - عقيب عبارته المتقدّمة في تحرير القول الثاني -: «و ما يوجد في عبارة جمع من متأخّري الأصحاب من أنّها تفيد الإباحة و تلزم بذهاب إحدى العينين يريدون به عدم اللزوم في أوّل الأمر و بالذهاب يتحقّق اللزوم، لامتناع إرادة الإباحة المجرّدة من أصل الملك، إذ المقصود للمتعاطيين الملك فإذا لم يحصل كان بيعاً فاسداً و لم يجز التصرّف و كافّة الأصحاب على خلافه، و أيضاً فإنّ الإباحة المحضة لا يقتضي الملك أصلاً و رأساً فكيف يتحقّق ملك شخص بذهاب مال آخر في يده ؟ و إنّما الأفعال لمّا لم يكن دلالتها على المراد بالصراحة كالقول لأنّها تدلّ بالقرائن منعوا من لزوم العقد بها، فيجوز الترادّ

ص: 485


1- السرائر 25:2.
2- الغنية: 214.
3- المسالك 149:3.
4- الحاشية النجاريّة (مخطوط): 57.

ما دام ممكناً، و مع تلف إحدى العينين يمتنع الترادّ فيتحقّق اللزوم، و يكفي تلف بعض إحدى العينين لامتناع الترادّ في الباقي إذ هو موجب لتبعّض الصفقة و الضرر»(1) انتهى.

و يشكل مع عدم اختصاص هذا القول بالمتأخّرين بل العمدة من أهله الشيخ و أتباعه عدم إمكان هذا التنزيل بالنظر إلى ما في كلام كثير منهم من نفي البيعيّة صريحاً، مع في كلام غير واحد أيضاً كالشيخ و الحلّي من نفي الملك صريحاً. و حمله على إرادة نفي استقرار الملك الغير المنافي لحصوله متزلزلاً - مع كمال بعده - لا يجدي نفعاً بعد التصريح بنفي البيعيّة.

و خامسها: ما يظهر من الشهيد فيما حكي عنه في موضع من شرحه للقواعد

من قوله: «إنّ المعاطاة معاوضة مستقلّة جائزة أو لازمة»(2) انتهى، و تبعه الشيخ في شرح القواعد فإنّه بعد ما اختار في المعاطاة مطلقاً إفادتها الملك قال فيما حكي عنه: «و هل هي داخلة في اسم المعاملة الّتي جاءت في مقامها فتجري فيها شرائطها و أحكامها؟ ظاهر جماعة من الأصحاب اختيار ذلك، فتجري فيها قائمة مقام البيع أحكام الشفعة و الخيار و الصرف و السلم و بيع الحيوان و الثمار و جميع شرائطه سوى الصيغة، و لم يقم على ذلك شاهد معتبر من كتاب أو سنّة أو إجماع، و الأقوى أنّها قسم آخر بمنزلة الصلح و العقود الجائزة، و يلزم فيها ما يلزم فيها، فتصحّ المعاطاة على المشاهد من مكيل أو موزون من غير اعتبار مكيال أو ميزان، و بنحو ذلك جرت عادة المسلمين. نعم لو أرادوا المداقّة بنوا على إيقاع الصيغة و المحافظة على الشروط، فالظاهر أنّه متى جاء بالفعل مستقلّاً أو مع ألفاظ لا يستجمع الشرائط مقصوداً بهما المسامحة جاء حكم المعاطاة، و على الأوّل فإن صرّح فيها بإلحاق بيع أو غيره بنى عليه و إلّا فالبيع أصل في المعاوضة على الأعيان مقدّم على الصلح و الهبة المعوّضة و الإجارة أصل في نقل المنافع مقدّمة على الصلح و الجعالة»(3) انتهى.

و هاهنا قولان آخران:
أحدهما: التفصيل بين ما يقع بالفعل المحض من غير لفظ يدلّ على الرضا

فلا يفيد

ص: 486


1- جامع المقاصد 58:4.
2- القواعد و الفوائد 50:1.
3- شرح القواعد 31:2-\32.

إلّا جواز التصرّف و ما يقع باللفظ الدالّ عليه كائناً ما كان و إن لم يجامع الشروط المعتبرة في الصيغة المخصوصة، فينعقد بيعاً صحيحاً بل لازماً كما أشار إلى حكايته في المسالك عن بعض مشايخه، قائلاً - بعد نقل قول المفيد -: «و قد كان بعض مشايخنا المعاصرين(1) يذهب إلى ذلك أيضاً لكن يشترط في الدالّ كونه لفظاً و إطلاق كلام المفيد أعمّ منه»(2) و وافقه صاحب الحدائق(3) بل يظهر من مفتاح الكرامة أنّ له موافقاً آخر من أهل البحرين غيره حيث نقل هذا القول عن السيّد المذكور «و من وافقه من أهل البحرين»(4) بصيغة الجمع.

و ثانيهما: التفصيل بين أن يكون في قصدهما إيقاع البيع اللازم و عدمه،

فيفسد على الأوّل مطلقاً و يصحّ على الثاني بيعاً و لكن مع الجواز لا اللزوم، و هو الّذي رآه بعض مشايخنا(5) حقّاً و زعم كونه موافقاً لقواعد الشريعة جامعاً بين الأدلّة الشرعية المتعارضة.

ثمّ إنّ الظاهر أنّ محلّ النزاع و مورد الكلام الّذي يتوارد عليه هذه الأقوال هو أن يقصد المتعاطيان بفعلهما تمليك العين و تملّكها

بعوض مأخوذ في المجلس أو مضمون في الذمّة و لو قصداً إجماليّاً و هو كون المركوز في نفسهما المحرّك لهما إلى هذا الفعل هو الملك في العوضين و إن لم يلتفتا إليه حين الفعل لاشتغال الذهن إلى شاغل آخر، و إن شئت تطبيق ذلك على معنى البيع المتقدّم المشترك بين الصحيح و الفاسد فعبّر عنه بمبادلة عين بعوض بقصد التمليك و التملّك فيهما من دون إعمال صيغة مخصوصة منهما و لا من أحدهما سواء وقع بينهما حين الفعل لفظ آخر غيرها يدلّ على التراضي و قصد الملك المعاوضي أو لم يقع.

و كون ذلك هو المحلّ للنزاع و مورد الأقوال هو المنساق من مطاوي كلماتهم و تضاعيف عباراتهم المصرّح به في كلام جماعة و لا سيّما غير واحد من مشايخنا قدّس اللّٰه أرواحهم، و هو الّذي يساعد عليه الاعتبار لوجوب توارد أقوال المسألة

ص: 487


1- و مراده من بعض مشايخه المعاصرين السيّد حسن بن السيّد جعفر البحراني.
2- المسالك 149:3.
3- الحدائق 350:18.
4- مفتاح الكرامة 506:12.
5- المكاسب 51:3.

المختلف فيها على أمر واحد مشترك بين الجميع.

و من أغرب ما سبق إلى بعض الأوهام في هذا المقام جعل محلّ النزاع المعاطاة المقصود بها مجرّد الإباحة الخالية عن قصد الملك رأساً، كما نسبه شيخنا المعظّم إلى بعض معاصريه، و قال: «إنّه رجّح بقاء الإباحة في كلامهم على ظاهرها المقابل للملك و نزّل مورد حكم قدماء الأصحاب بالإباحة على هذا الوجه» و طعن على من جعل محلّ النزاع في المعاطاة بقصد التمليك قائلاً: «بأنّ القول بالإباحة الخالية عن الملك مع قصد الملك ممّا لا ينسب إلى أصاغر الطلبة فضلاً عن أعاظم الأصحاب و كبرائهم»(1) انتهى.

و فيه: أنّ ما لا يقصد فيه الملك أصلاً و لو إجمالاً - مع كونه خلاف ما هو بأيدي الناس في جميع الأعصار و الأمصار من المعاطاة في أغلب معاملاتهم خصوصاً المحقّرات - كيف يتحمّل القول بالبيعيّة مع الصحّة و اللزوم و القول بالبيعيّة المفيدة لملك متزلزل و القول بالبيعيّة الفاسدة و القول بالمعاوضة المستقلّة المفيدة لملك الأعيان و المنافع، بخلاف المعاطاة المقصود بها الملك فإنّها تتحمّل جميع هذه الأقوال، و لا ينافيها القول بإفادتها الإباحة المحضة فإنّ قصد التمليك يتضمّن الإذن في عموم التصرّفات الّتي يقال لها الإباحة المالكيّة، غايتها أنّها حيث حصل الملك ملغاة في نظر الشارع لأنّ العين بعد ما خرج عن ملك صاحبها و دخل في ملك آخر لا عبرة في جواز التصرّفات له بإذن المالك الأوّل، إلّا أنّه من الجائز في محلّ النزاع كون قصد التمليك ممّا لم يمضه الشارع مع إمضائه لما يتضمّنه من الإذن في التصرّفات، و هذا هو معنى انعقاد المعاطاة إباحة و عدم انعقادها بيعاً.

و دعوى: أنّ مقصود المتعاطيين إذا كان هو الملك و المفروض عدم حصوله فكيف يتصوّر معه جواز التصرّف، استبعاد محض لا يصغى إليه، مع أنّ جواز التصرّف يتبع الإباحة المالكيّة الّتي أمضاها الشارع على ما هو مفروض القول بالإباحة، فإنّ ذلك ليس بأبعد من حصول البيعيّة أو هي مع الملك أو هما مع اللزوم فيما فرض عدم قصد شيء من ذلك، بل هذا أبعد بمراتب شتّى من حصول جواز التصرّف مجرّداً عن الملك

ص: 488


1- الجواهر 225:22.

فيما قصد به الملك.

فما تقدّم من أنّ القول بالإباحة الخالية عن الملك مع قصد الملك ممّا لا ينسب إلى أصاغر الطلبة... الخ.

يدفعه: أنّ القول بالبيع أو هو مع الملك أو هما مع اللزوم من دون قصد شيء من ذلك ممّا لا ينبغي نسبته إلى أصاغر الطلبة.

ثمّ إنّ النزاع في المعاطاة من الجهات المذكورة إنّما هو باعتبار خلوّها عن الصيغة المخصوصة لا لاختلال شيء من الشرائط المعتبرة في انعقاد البيع و صحّته، و لذا صرّح جماعة بأنّه يعتبر تحقّق جميع الشرائط المعتبرة في صحّة البيوع بحيث لم يفارق البيع بالصيغة المحكوم عليها بالصحّة و اللزوم إلّا في خلوّها عن الصيغة الخاصّة الّذي نشأ منه النزاع و اختلفت بسببه الأنظار.

و نحن لتحقيق المقام و تبيين ما هو المختار في محلّ الكلام نتكلّم في جهات ثلاث:
الجهة الاُولى: في مدخليّة الصيغة المخصوصة في صدق الاسم و تحقّق عنوان البيعيّة و عدمها،

فإنّ فيه خلافاً ظهر ممّا تقدّم، إذ كلّ من قال بأنّ المعاطاة تفيد إباحة التصرّف يلزمه القول بأنّها ليست بيعاً كما هو صريح الشيخ في عبارته المتقدّمة من الخلاف و كذلك من يتبعه، و عن الحاشية الميسيّة «أنّ المشهور بين الأصحاب أنّها ليست بيعاً محضاً و لكنّها تفيد فائدته في إباحة التصرّف»(1) و عن الغنية الإجماع عليه حيث إنّه بعد ذكر الإيجاب و القبول في عداد شروط الصحّة و انعقاد البيع قال: «و اعتبرنا حصول الإيجاب و القبول تحرّزاً عن القول بانعقاده بالاستدعاء من المشتري و الإيجاب من البائع بأن يقول بعنيه بألف فيقول بعتك بألف فإنّه لا ينعقد بذلك بل لا بدّ أن يقول المشتري بعد ذلك اشتريت أو قبلت حتّى ينعقد، و احترازاً أيضاً عن القول بانعقاده بالمعاطاة نحو أن يدفع إلى البقلي قطعة و يقول أعطني بقلاً فيعطيه فإنّ ذلك ليس ببيع و إنّما هو إباحة للتصرّف، و يدلّ على ما قلناه الإجماع المشار إليه»(2) انتهى.

و يظهر دعواه أيضاً من عبارة المسالك حيث إنّه بعد ما ذكر ملزمات المعاطاة قال:

ص: 489


1- نقله عنه في مفتاح الكرامة 499:12.
2- الغنية: 214.

الثامن على تقدير لزومها بأحد الوجوه المذكورة فهل يصير بيعاً أو معاوضة برأسها يحتاج إلى دليل، و يحتمل الثاني لإطباقهم على أنّها ليست بيعاً حال وقوعها فكيف يصير بيعاً بعد التلف»(1) انتهى.

و في مقابله القول بكونها بيعاً و لو مع الفساد أو الصحّة و عدم اللزوم كما عليه المفيد و العلّامة في النهاية و الكركي و من تبعه من أكثر المتأخّرين(2) إن لم نقل كلّهم، و قد تقدّم في عبارة الكركي في جامع المقاصد قوله: «المعروف بين الأصحاب أنّ المعاطاة بيع و إن لم تكن كالعقد في اللزوم»(3) بل ربّما نسب إليه دعوى الاتّفاق عليه.

و هذا هو الأقوى بل الّذي يقتضيه الإنصاف و مجانبة الاعتساف لوجوه:

منها: إطلاق البيع و الشراء و الابتياع و الاشتراء في محاورات أهل العرف العامّ من المتشرّعة و غيرهم قديماً و حديثاً في جميع الأعصار و الأمصار على المعاطاة بجميع صورها الّتي سيأتي إليها الإشارة المتداولة بين الناس من أهالي الأسواق و غيرهم من المدنيّين و البدويّين من المسلمين و غيرهم من ملل الكفر بجميع أصنافهم، فإنّ كلّ من عامل في سلعته كائنة ما كانت مع أحد بطريق المعاطاة و بادلها بعوض يقصد التمليك و التملّك من غير صيغته يقول في مقام الخبر: بعته و يقال له: باع، كما يقول صاحبه:

ابتعت أو اشتريت، و يقال له: ابتاع أو اشترى، إطلاقاً شائعاً لا يشوبه شكّ و ريبة، بل هو من أوضح الواضحات الّتي لا حاجة لها إلى الاستدلال.

و المناقشة فيه بأنّه استعمال و هو أعمّ من الحقيقة، يدفعها أنّ قاعدة أعمّية الاستعمال و إن كانت في موردها مسلّمة غير أنّ المقام ليست من مجاريها، فإنّ الاستعمال حسبما يقع و يتحقّق في محاورات العرف على أنواع، فقد يجهل حاله من حيث إنّه يلاحظ معه علاقة بين المستعمل فيه و معنى آخر أو لم يلاحظ، و قد يعلم بأنّه يلاحظ معه العلاقة، و قد يعلم بأنّه لا يلاحظ معه علاقة أصلاً، و الأوّل ما يقال فيه أنّ

ص: 490


1- المسالك 151:3.
2- كما في مجمع الفائدة 139:8، و المفاتيح 48:3، و الحدائق 350:18.
3- جامع القاصد 58:4.

الاستعمال أعمّ من الحقيقة و المقام من قبيل الأخير، و هو كالتبادر من خواصّ الحقيقة و لوازم الوضع، كما أنّ ما قبله من خواصّ المجاز و علائمه.

و ما ذكرناه في دفع المناقشة أسدّ و أتمّ ممّا قيل: من أنّ أعمّيّة الاستعمال إنّما هو مع تعدّد المستعمل فيه و هو هنا غير ثابت و استعماله فيما كان مع الصيغة بدون التقابض لا يثبته لجواز كون المستعمل فيه هو القدر المشترك، إذ لا فرق في عدم دلالة الاستعمال من حيث هو على شيء من الحقيقة و المجاز بين صورتي اتّحاد المستعمل فيه و تعدّده كما حقّقناه في الاُصول. ثمّ إنّ الإطلاق المذكور بعد ما ثبت كونه على وجه الحقيقة فلا ينافي كون اللازم من المختار كون البيع مقولاً بالتواطؤ على المعاطاة و على البيع بالصيغة، لكونه وضعاً للقدر الجامع بينهما و هو مبادلة عين بعوض بقصد الملك لكونه حينئذٍ من باب إطلاق الكلّي على الفرد.

و منها: التبادر فإنّ قول القائل: «بعت داري أو ثوبي أو فرسي أو حطبي أو بقلي» و غير ذلك من استعمالات هذا اللفظ عند الإطلاق يتبادر منه في العرف القدر المشترك بينها و بين ما وقع بالصيغة، أعني المعاملة الصالحة لوقوعها على وجه المعاطاة أو بالصيغة دون خصوص ما يقع منها بالصيغة.

و منها: عدم صحّة سلب اسم البيع عنها بجميع صورها الآتية، فإنّ من قال لمن باع سلعته كائنة ما كانت بطريق المعاطاة: ما باع أو ما بعته أو أنّه ليس ببيع، كان مستهجناً في نظر أهل العرف مستنكراً لديهم.

و منها: أنّه لو قال قائل: «بعت متاعي و لكن ما أجريت الصيغة» لم يتناقض أي لا يفهم التناقض بين قوليه، و صحّة الاستفهام ممّن قال: «بعت متاعي» بعبارة هل بعت بالصيغة أو بغير صيغة ؟. و هذه الوجوه كلّها من خواصّ الحقيقة، و بها يثبت كون البيع حقيقة في المعاطاة و عدم دخول الصيغة المخصوصة في معناه بحسب الوضع العرفي، ثمّ يتمّ كونه كذلك بحسب اللغة و العرف القديم و عرف زمان الشارع أيضاً بأصالة عدم النقل.

و توهّم: أنّ خروج الصيغة عن مسمّى البيع بحسب الوضع اللغوي لا ينافي دخوله فيه بحسب الشرعي، يدفعه: عدم ثبوت الحقيقة الشرعيّة و لا المتشرعيّة في لفظ البيع و غيره من المعاملات كما حقّقناه في الاُصول، و يكشف عنه عدم اصطلاح للمتشرّعة

ص: 491

فيه سوى اصطلاح العرف العامّ ، مع أنّا نقطع بثبوت البيع من قديم الأيّام حتّى أزمنة الجاهليّة بل الاُمم الماضية و لم يتصرّف فيه الشارع بنقل و لا تجوّز سوى أنّه اعتبر في صحّته شروطاً.

و بجميع ما بيّنّاه خصوصاً ما حقّقناه من الإطلاق يندفع ما قيل في منع تسميتها بيعاً عرفاً على وجه الحقيقة، من أنّ غاية العرف استعماله فيها، و لا ريب في أنّه من مسامحاته «و إلّا فأهل العرف مطبقون على عدم المسامحة في البيوع الخطيرة»(1) كما في مفتاح الكرامة، فإنّ المسامحة في إعمال الصيغة في الاُمور الحقيرة لا تقضي بالمسامحة في استعمال البيع في البيوع الخالية عن الصيغة و هذا واضح.

احتجّوا أوّلاً: بإجماع الغنية.

و ثانياً: بأنّها لو كانت بيعاً لكان لازماً و التالي باطل و كذا المقدّم، أمّا الملازمة فبالإجماع على أنّ كلّ بيع لازم.

و ثالثاً: بالاستقراء المقرّر بأنّا وجدنا كلّ عقد من العقود و كلّ إيقاع من الإيقاعات أنّها لا تنعقد إلّا بألفاظ مخصوصة على أنّها أسباب لانعقادها فكذا البيع لأنّ الظنّ يلحق الشيء بالأعمّ الأغلب، و يؤيّده أنّ البيع أمر نفساني لا يظهر إلّا من دلالة صريحة، و لا دلالة صريحة إلّا الألفاظ إذ الأفعال لا دلالة فيها، و لو سلّم فدلالتها ليست صريحة.

و الجواب عن الأوّل: بأنّه منقول فليس بمقبول سيّما في المسألة اللغويّة الّتي لا دخل للكشف فيها عن رأي المعصوم عليه السلام و المفروض عدم كون البيع من مصطلحات الفقهاء ليرجع في معرفته إلى اتّفاقهم بل هو كالماء و الأرض و السماء و الكلاء من الموضوعات العرفيّة العامّة الّتي يرجع فيها إلى العرف العامّ الكاشف عن اللغة، و لو سلّم كون منقوله مفيداً للظنّ فلا عبرة به في اللغة.

و قد يجاب أيضاً بمعارضته لاتّفاق جامع المقاصد الّتي اختلف النقل عنه فتارةً قوله: «إنّ المعاطاة بيع بالاتّفاق» كما في المستند(2) و اُخرى أنّ المعاطاة بيع عند كافّة الأصحاب(3).

ص: 492


1- مفتاح الكرامة 505:12.
2- المستند 249:14.
3- جامع المقاصد 58:4.

و قد يزاد أنّ هذا أقوى و أسدّ لكون ناقله أثبت و أبصر و أخبر، مع أنّ إجماعات الغنية في نفسها مستراب فيها لعدم اعتدادهم بها و يتوهّن منقوله، هذا بالخصوص بمخالفته لما تقدّم من أدلّة القول المختار و بالإجماع العملي من المسلمين كافّة على إجراء المعاطاة مجرى البيع اسماً و حكماً، حتّى أنّهم يستنكرون نفي البيع عنها.

و قد يؤوّل جمعاً بينه و بين أدلّة كونها بيعاً، فيقال: بأنّ دعوى الإجماع في كلام بعضهم على عدم كون المعاطاة بيعاً كابن زهرة في الغنية فمرادهم بالبيع المعاملة اللازمة الّتي هي إحدى العقود، و لذا صرّح في الغنية «بكون الإيجاب و القبول من شرائط صحّة البيع»(1).

و الجواب عن الثاني: بمنع دخول اللزوم في مسمّى البيع بل هو كالجواز المقابل له من أحكام العقد، و الأصل الثابت من عموم آية «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» (2) و غيره في كلّ عقد هو اللزوم إلّا ما خرج بدليل قضى بالجواز، و منه المعاطاة على ما ستعرفه.

و الجواب عن الثالث: منع الاستقراء المذكور بناءً على جريان المعاطاة في سائر العقود، مع أنّ قاعدة الإلحاق بعد ما تقدّم من الأدلّة ممّا لا حكم لها.

و أمّا التأييد ففيه - مع أنّه لو تمّ لقضى باعتبار مطلق اللفظ لا الألفاظ المخصوصة كبعت و شريت و ابتعت و اشتريت - منع انحصار صراحة الدلالة في الألفاظ، فإنّ الفعل أيضاً بمعونة قرائن الأحوال أيضاً يصير صريح الدلالة على المقصود كما في المعاطاة المبحوث عنها، إذ الكلام فيما علم كون قصد المتعاطيين ملك العوضين و لو إجمالاً، و علامته أنّ كلاًّ منهما بعد الإعطاء و الأخذ يخصّص ما وصل إليه بنفسه يقول إنّ هذا لي أو أنّه مالي حتّى أنّه يحلف عليه و يعارض من أنكر كونه له، فلا فرق في تحقّق البيع و صدق الاسم بين كون الدالّ على قصد الملك هو الفعل أو القول أو الملفّق منهما، كما لا فرق في القول الدالّ عليه بين الألفاظ المخصوصة أو مطلق اللفظ.

و بالتأمّل في ذلك يظهر أنّ المعاملة البيعيّة لها صور كثيرة ترتقي إلى خمس و عشرين صورة، و ذلك لأنّها إمّا فعليّة أو قوليّة بالصيغة المخصوصة أو بغيرها من اللفظ

ص: 493


1- الغنية: 214.
2- المائدة: 1.

المطلق، أو فعليّة و قوليّة بالصيغة المخصوصة أو بغيرها، و كلّ واحدة من هذه الخمس إمّا في جانب الإيجاب أو في جانب القبول، و مرتفع الخمس في الخمس خمس و عشرون، أربع منهما بيع بالصيغة و إذا اُلقي عنها هذه الأربع بقيت إحدى و عشرون صورة كلّها مندرجة في المعاطاة، لما قيل من أنّ هذه اللفظة في لسان الفقهاء صارت اصطلاحاً في كلّ معاملة وقعت بغير لفظ أو بغير صيغة مخصوصة، أو مع اختلال إحدى الشروط المعتبرة في الصيغة من العربيّة و الماضويّة و الصراحة و غيرها.

و لا ريب على المختار في تحقّق ماهيّة البيع في الجميع إذا حصلت بقصد الملك على وجه التعويض و صدق اسم البيع على الجميع لتبادر القدر المشترك من لفظه عند الإطلاق و استعمال البيع في كلّ واحدة من غير ملاحظة علاقة و عدم صحّة سلب الاسم عنها. و توهّم أنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة قد ظهر ما فيه، كما أنّ توهّم ابتنائه على المسامحة العرفيّة قد ظهر ما فيه لعدم صحّة سلب الاسم.

و دعوى: أنّه يطلق عليها البيع مجازاً و لذا يقيّد بالمعاطاة و يقال بيع المعاطاة كما في ماء البحر، يدفعها عدم منافاة ذلك الحقيقة لوضوح الفرق بين التقييد و التزامه كما في ماء البحر، و لذا يصحّ إطلاق البيع بدون القيد أيضاً، فالإضافة من إضافة العامّ إلى الخاصّ و القيد توضيحي فلا يكون علامة للمجاز.

و هل يعتبر الصيغة المخصوصة أو مطلق اللفظ في مسمّى العقد فالمعاطاة بجميع صورها أو في كثير منها لا تكون عقد و إن صدق عليها البيع، أو لا فالمعاطاة عقد كما أنّها بيع ؟ قولان، أوّلهما لازم كلّ من عرّف البيع بالعقد أو الإيجاب و القبول أو اللفظ الدالّ على نقل الملك ثمّ قال بأنّ المعاطاة ليست بيعاً بل تفيد إباحة التصرّفات أو أنّها معاوضة مستقلّة.

و قد يقال: إنّ اللفظ على تقدير اعتباره في مسمّى العقد فإنّما يعتبر في الإيجاب لا في القبول، فكلّما تحقّق إيجابه باللفظ فهو عقد سواء تحقّق قبوله أيضاً باللفظ أو بالفعل. و الأقوى عدم اعتباره لا في الإيجاب و لا في القبول، لا في العقود اللازمة و لا في العقود الجائزة.

و دعوى: أنّ الأصحاب أجمعوا على اعتبار اللفظ في مسمّى العقد في الجملة إمّا

ص: 494

إيجاباً فقط أو إيجاباً و قبولاً، مردودة على مدّعيها.

و بالجملة فالمعاطاة المبحوث عنها كما يصدق عليها اسم البيع فكذلك يصدق عليها اسم العقد لما قرّرناه في رسالة منفردة في أصالة الصحّة و اللزوم في العقود، و خلاصته: أنّ العقد بحسب العرف و اللغة عبارة عن الربط و الشدّ، و يصدق على الربط المعنوي المتحقّق بين شخصين فيما يتعلّق بالأموال أو ما بحكمها، و هو في محلّ البيع أن يربط البائع سلعته بالمشتري بجعله بالقصد و النيّة ملكاً له ليصير ما عند المشتري من الثمن في عوضه ملكاً له و المشتري بقبوله و هو إنشاء الرضا بما صنعه البائع يمضي ربط البائع و جعله، و لا ريب أنّه أعمّ ممّا يتحقّق بالألفاظ المخصوصة أو بمطلق الألفاظ أو بالأفعال حيث قارنها القصد و الرضا، فالبائع هو الرابط، و الصيغة المخصوصة في الإيجاب أو مطلق اللفظ أو الفعل الكاشف عن القصد و الرضا ما به الربط، فالعقد بمعنى الربط صادق على المعاطاة المبحوث عنها بجميع صورها المتقدّمة و إن قلنا بأنّ وضع العقد لغة إنّما هو للربط الحسّي كما في ربط أحد طرفي الحبل بطرفه الآخر و ربط حبل بحبل آخر، و ربط خرقة بخرقة و نحوها، و أنّ إطلاقها على الربط المعنوي مبنيّ على الاستعارة إذ المقصود عدم اعتبار اللفظ في صدق العقد بمعنى الربط المعنوي و إن قلنا بكون إطلاقه عليه على وجه الاستعارة.

فالمعاطاة المقصود بها ملك العوضين عقد بمعنى الربط المعنوي حقيقة، و لا ينوط صدقه و صحّة إطلاقه و لو باعتبار المعنى المجازي المستعار له بكون ما به الربط هو اللفظ المخصوص أو مطلق اللفظ، نظير الأسد المستعار للرجل الشجاع الصادق باعتبار هذا المعنى على الأبيض و الأسود النافي لاحتمال دخول البياض في معناه المستعار له. و بالجملة لفظ العقد باعتبار معنى الشدّ و الربط كما يصدق على العقود المنعقدة بالألفاظ المخصوصة أو بمطلق اللفظ، كذلك يصدق على المعاطاة بجميع صورها سواء فرضناه من المعنى الحقيقي أو معنى مجازيّاً له، فالمعاطاة المقصود بها التمليك و التملّك ممّا يتحقّق به الربط بين المتعاطيين و يصدق عليه اسم العقد صدقاً حقيقيّاً إن كان صدقه على سائر العقود على وجه الحقيقة أو مجازيّاً إن كان في سائر [العقود] على هذا الوجه.

ص: 495

و أمّا دفع ما ذكرناه تارةً بدعوى القطع بعدم كونها ممّا يسمّى عقداً و اُخرى بأنّ العقد كالبيع من الموضوعات العرفيّة فلا بدّ في معرفتها من مراجعة العرف و قد فهم فقهاؤها باعتبار العرف أنّ المعاطاة ليست عقداً، واضح الدفع بأنّا نقطع بتسميتها عقداً بالوجه الّذي يسمّى سائر العقود من جهته عقداً كما عرفت، و أنّ فهم الفقهاء إن اُريد به فهم كلّهم فغير مسلّم، و إن اُريد به فهم بعضهم أو أكثرهم فغير قادح بعد ما ساعد اللفظ باعتبار الوضع أو العلاقة المصحّحة للاستعمال على تحقّق المعنى المتحقّق في العقود اللفظيّة، و هو الربط المعنوي في المعاطاة أيضاً.

الجهة الثانية: في مدخليّة الصيغة المخصوصة في الصحّة و عدمها،
اشارة

و يرجع الكلام في ذلك إلى أنّ المعاطاة المقصود بها التمليك و التملّك - بعد ما بنينا على كونها بيعاً - هل تقع صحيحة على معنى كونها بحيث يترتّب عليها أثر حصول الملك و انتقال كلّ من العوضين إلى مالك الآخر بناءً على عدم كون الصيغة المخصوصة معتبرة في صحّة البيع، أو أنّها فاسدة بناءً على اعتبار الصيغة المخصوصة في الصحّة ؟ قولان، ثانيهما للعلّامة في النهاية(1) كما تقدّم.

و أوّلهما للمحقّق الثاني(2) و من تبعه من المتأخّرين(3) و لعلّه أكثر المتأخّرين إن لم نقل كلّهم، فالمشهور بين المتأخّرين هو هذا القول.

و قد يتوهّم أنّ الشهرة القدمائيّة في جانب القول بالفساد نظراً إلى ما تقدّم عن الشيخ و أتباعه من إنكار إفادتها الملك، بل عليه كلّ من قال بأنّها تفيد إباحة التصرّفات.

و يدفعه أوّلاً: أنّ هذا الإنكار بناءً منهم على إنكار كونها بيعاً، و أمّا على تقدير كونها بيعاً كما أنّ كلامنا على هذا التقدير فلم يظهر منهم إنكار إفادتها الملك.

و ثانياً: أنّه لم يعلم موافقة الشيخ على هذا القول من أكثر القدماء كابن بابويه و القديمين و المرتضى و ابني حمزة و سعيد و أضرابهما ممّن لم يتعرّض للصيغة المخصوصة في شرائط الصحّة كما تقدّم.

ص: 496


1- نهاية الإحكام 449:2.
2- جامع المقاصد 58:4.
3- كما في مجمع الفائدة 139:8، المفاتيح 48:3، الحدائق 350:18، الكفاية: 88.
و كيف كان فالأقوى ما هو المشهور بين المتأخّرين من صحّة المعاطاة و إفادتها الملك لوجوه:
أوّلها: سيرة المسلمين قديماً و حديثاً في جميع الأعصار و الأمصار على أنّهم يعاملون في الأموال المأخوذة بالمعاطاة معاملة الأملاك في تصرّفاتهم فيها،

من البيع و الهبة و الوقف و العتق و وطء الجارية و الوصيّة و التوريث و استطاعة الحجّ و إخراج الخمس و الزكاة و جعل المهر في النكاح دواماً و انقطاعاً و ما أشبه ذلك، فتكشف عن رضا صاحب الشريعة و صادعها صلى الله عليه و آله و سلم.

و توهّم بنائها على المسامحة و قلّة المبالاة في الدين كما في ارتكابهم لكثير من الاُمور الغير المشروعة، يدفعه عدم كونها حادثة بل قديمة من زمن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم و أعصار الأئمّة الطاهرين عليهم السلام و دخول الفقهاء و العلماء و الصلحاء و المتّقين و المتورّعين، مضافاً إلى أنّ من آثار الملكيّة الّتي يرتّبونها على الأموال المذكورة ما لا مسرح لاحتمال المسامحة فيه، كالحلف أو الإحلاف عليه في مقام التداعي أو الدعوى و الإنكار و إقامة البيّنة على الملكيّة و القضاء بها، و عدم تكذيب المدّعي للملكيّة و كون التكذيب من مكذّبه مستنكراً إلّا إذا استند تكذيبه إلى اختلال شرط من شروط الصحّة.

و بهذا كلّه تندفع المناقشة فيها بأنّ أقصاها الكشف عن إباحة التصرّفات، فإنّ التصرّفات المبتنية على الملك خصوصاً الحلف و الإحلاف و إقامة البيّنة على الملكيّة و القضاء بها لا تتمّ بدون الملك.

و بهذا كلّه مضافاً إلى القطع باستقرار السيرة على استناد تصرّفاتهم بأسرها على الملكيّة و اعتقاد حصول الملك من أوّل الأمر و كشفها عن تقرير المعصوم على أصل الملكيّة و اعتقاد حصولها بنفس المعاطاة ابتداءً و من أوّل الأمر، يعلم أنّه لا مجال لأحد أن يقول بمنع اعتبار الملك في التصرّفات المتوقّفة عليه في جميع أحوالها - التفاتاً إلى عدم كون التوقّف عقليّاً حتّى يستحيل الانفكاك بل شرعي ثبت بالإجماع أو غيره من الأدلّة فيجوز اختصاص موردها بغير المأخوذ بالمعاطاة، فإنّ نحو هذا الاحتمال ليس بمستبعد، كيف و عليه مبنيّ القول بالإباحة ممّن يسوغ جميع وجوه التصرّفات حتّى المتوقّفة منها على الملك، مع أنّ نحو هذه التصرّفات من غير ملك مع توقّف نوعها على

ص: 497

الملك بعادم النظير في الشريعة، كما في بيع ثلث الميّت أو وقفه الموصى بهما على القول بعدم كونه ملكاً للميّت و المفروض عدم كونه ملكاً للوصي و لا للوارث، و بيع الوقف العامّ عند قيام ما يسوغه على القول في الوقف بكونه فكّ الملك أو انتقال ملكه إلى اللّٰه عزّ و جلّ ، و شراء المملوك من تركة من لا وارث له سواه ليعتق حتّى ينتقل إليه بقيّة التركة و ما أشبه ذلك - و لا أن يقول بعد تسليم التوقّف الدائمي على الملك بمنع اقتضاء السيرة الجارية بنحو هذه التصرّفات سبق الملك و حصوله من أوّل الأمر، لكفاية حصوله آناً ما في صحّة التصرّف، فيجوز حينئذٍ التزام إباحة جميع التصرّفات مع التزام حصول الملك عند التصرّف المتوقّف على الملك لا من أوّل الأمر.

ثانيها: قوله تعالى: «أَحَلَّ اَللّٰهُ اَلْبَيْعَ »

ثانيها: قوله تعالى: «أَحَلَّ اَللّٰهُ اَلْبَيْعَ » (1)

فإنّه يدلّ على الصحّة فيما سمّي بيعاً على معنى كونه بحيث يترتّب عليه أثر حصول الملك، كما استدلّ به الفقهاء قديماً و حديثاً على الصحّة في جميع أبواب البيوع. و هذا ممّا لا إشكال فيه، بل الإشكال في بيان وجه دلالة الآية على الصحّة فإنّه لا يخلو عن غموض، غير أنّ الظاهر أنّها تدلّ عليها بالالتزام، نظراً إلى أنّ مدلولها المطابقي هو الحكم التكليفي، و هو ترخيصه تعالى في المعاملة البيعيّة المتداولة بين الناس المقصود بها التمليك و التملّك، إذ الإحلال إفعال من الحلّ عبارة عن جعل الحلّيّة كما أنّ التحريم من الحرمة عبارة عن جعل الحرمة، فحاصل معناه أنّه تعالى جعل الحلّيّة للبيع و رخّص فيه، و يستلزم ذلك عرفاً كون البيع بحيث يترتّب عليه أثر حصول الملك.

و يؤيّده قرينة المقابلة بينه و بين قوله: «وَ حَرَّمَ اَلرِّبٰا» فإنّ تحريمه الربا معناه منعه تعالى من المعاملة الربويّة و طلب تركها حتماً، و هذا يكشف عن مبغوضيّة هذه المعاملة في نظره تعالى، فيستلزم عرفاً أو عقلاً عدم كونها بحيث يترتّب عليها أثر الملك أو كونها بحيث لا يترتّب عليها الأثر، فقوله: «أَحَلَّ اَللّٰهُ اَلْبَيْعَ » بقرينة المقابلة معناه رخّص اللّٰه في البيع، فيكشف عن عدم مبغوضيّة البيع في نظره تعالى بل كونه بحيث رضي به تعالى، فيستلزم عرفاً أو عقلاً كونه بحيث يترتّب عليه الأثر.

ص: 498


1- البقرة: 275.

و قد يقال كما حكي: إنّ الآية تدلّ عرفاً بالمطابقة على صحّة البيع لا على مجرّد الحكم التكليفي. و لم نتحقّق معناه، إذ لو اُريد به أنّ الإحلال من الحلّ و هو مرادف للصحّة بمعنى كونه بحيث يترتّب عليه الأثر، فيكون معنى «أحلّ اللّٰه البيع» صحّح اللّٰه البيع، ففيه منع واضح، إذ الحلّ بمعنى الحلّيّة باعتبار وضعه العرفي أو الشرعي كما هو المصرّح به في كلامهم نقيض للحرمة، و كونه مرادفاً للصحّة يقتضي وضعه ثانياً بالنقل أو بالاشتراك لمعنى الصحّة، و الأصل ينفيهما، و على هذا فالآية دالّة بالمطابقة على الحكم التكليفي لا الوضعي.

و أمّا ما يقال في وجه الاستدلال بالآية: من أنّ المتبادر عرفاً من حلّ البيع صحّته شرعاً، فإن اُريد به التبادر الأوّلي من حاقّ اللفظ على حدّ التبادرات الوضعيّة الكاشفة عن الوضع، فمرجعه إلى دعوى الدلالة بالمطابقة على الصحّة، و قد عرفت ما فيه.

و إن اُريد به التبادر المستند إلى القرينة الخارجيّة على حدّ تبادرات المعاني المجازيّة المستندة إلى قرائنها، فيكون المتبادر على هذا الوجه من أحلّ البيع صحّح اللّٰه البيع، فأصل الدعوى ممّا لا حزازة فيه إلّا أنّ الإذعان بها يحتاج إلى وجود قرينة التجوّز في الآية و لم نقف عليها، فوقوع التجوّز بإرادة الصحّة من الحلّ غير واضح.

و إن اُريد به التبادر الثانوي على حدّ تبادر المداليل الالتزاميّة الحاصل عقيب تبادر المدلول المطابقي فلعلّه يرجع حينئذ إلى ما قرّرناه فلا حجر فيه حينئذٍ.

و قد يقرّر وجه الاستدلال بالآية بأنّه يدلّ على حلّيّة جميع التصرّفات المترتّبة على البيع، و لا يخلو عن قصور إلّا أن يوجّه بأنّ حلّيّة التصرّفات المترتّبة على البيع تكشف عن صحّة نظر أهل العرف و مطابقة معتقدهم للواقع، حيث إنّهم يستعملون البيع في معاملاتهم باعتقاد التأثير في حصول الملك خصوصاً إذا حمل البيع على تمليك العين على وجه التعويض كما تقدّم في تعريفه، بتقريب أنّ التمليك لا يتحقّق و لا يصدق إلّا حيث حصل الملك، فالمراد من البيع التمليك المستتبع لحصول الملك و لكن في نظر أهل العرف و على حسب معتقدهم.

و الشكّ في الصحّة و الفساد حيث يستدلّ لإثبات الصحّة بالآية يرجع إلى الشكّ في صحّة نظر العرف و مطابقة معتقدهم للواقع، و حلّ التصرّفات المترتّبة على البيع بهذا

ص: 499

المعنى يكشف عن صحّة نظرهم و مطابقة معتقدهم للواقع، على معنى حصول الملك في الواقع الّذي يستتبعه التمليك المقصود حين المعاملة في نظر العرف و على حسب معتقدهم.

و كيف كان فاُورد على الاستدلال بالآية لإثبات الصحّة مطلقاً أو في خصوص المعاطاة بوجوه:

منها: أنّ الآية لا تعلّق لها بهذا الدين بل مفادها حكم متعلّق باليهود و النصارى، لكونها حكاية عنهم كما يشهد به ظاهر صدر الآية. و فيه من الوهن ما لا يخفى إذ لا شهادة في صدر الآية بما ذكر بل ظاهر سياقها و ما قبلها و ما بعدها من الآيات خصوصاً قوله: «اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوٰالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَ اَلنَّهٰارِ سِرًّا وَ عَلاٰنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لاٰ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لاٰ هُمْ يَحْزَنُونَ » (1) مع قوله: «فَمَنْ جٰاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهىٰ فَلَهُ مٰا سَلَفَ وَ أَمْرُهُ إِلَى اَللّٰهِ وَ مَنْ عٰادَ فَأُولٰئِكَ أَصْحٰابُ اَلنّٰارِ هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ » (2) كون الخطاب مع المسلمين فيكون حلّيّة البيع و حرمة الربا من أحكام الإسلام، و لو سلّم كون قول «إِنَّمَا اَلْبَيْعُ مِثْلُ اَلرِّبٰا» من مقالة أهل الكتاب فلا ينافي كون الخطاب معهم حال دخولهم في الإسلام، نظراً إلى أنّهم لمّا تمسّكوا بعد الإسلام بمقالتهم السابقة على الإسلام فنزلت الآية لردّهم.

و منها: عدم تناول الآية للمعاطاة لعدم كونها بيعاً، كما عليه مبنيّ قول العلّامة في النهاية. و يدفعه ما سبق من تحقيقه في الجهة الاُولى، فالاستدلال بالآية إنّما هو [بعد] الفراغ عن إحراز كونها بيعاً.

و منها: أنّ من شروط حجّيّة إطلاق المطلق عدم وروده مورد بيان حكم آخر، و هذا الشرط غير موجود هنا، لكون الآية مسوقة لبيان حلّيّة البيع في الجملة على طريقة القضيّة المهملة في مقابلة تحريم الربا على وجه السلب الكلّي، من غير نظر إلى التعميم و التخصيص بالقياس إلى المعاطاة و البيع بالصيغة، و ذلك كما يقال: فلان يلبس الفرو، فإنّ معناه ليس أنّه يلبس أيّ فرو أو كلّ فرو حتّى يستدلّ به على الحكم في مطلق حتّى ما يتّخذ من جلد غير المأكول كالثعلب و الأرنب أو من جلد نجس العين كالكلب و الخنزير، فكأنّه تعالى في الآية قال: «ما أحلّ اللّٰه إلّا البيع» من باب قصر الأفراد ردّاً

ص: 500


1- البقرة: 62.
2- البقرة: 275.

على من شرّك في الحلّيّة بين البيع و الربا، كما يفصح عنه قوله: «ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قٰالُوا إِنَّمَا اَلْبَيْعُ مِثْلُ اَلرِّبٰا» و لا ريب في عدم إطلاق في المستثنى بحيث يعمّ حكمه المعاطاة.

و يدفعه: أنّ قوله: «وَ أَحَلَّ اَللّٰهُ اَلْبَيْعَ وَ حَرَّمَ اَلرِّبٰا» (1) ظاهر في كونه ردّاً و تصديقاً لهم في قولهم «إِنَّمَا اَلْبَيْعُ مِثْلُ اَلرِّبٰا» الظاهر في اعتقادهم بحلّيّة كلّ بيع و حلّيّة كلّ ربا، فردّهم في الثاني ببيان تحريم كلّ ربى مع تصديقهم في الأوّل فيكون في معنى التعميم.

و منها: أنّ من شرط حجّيّة إطلاق المطلق كونه متواطئاً في أفراده، و التواطؤ هنا منتف لانصراف البيع إلى البيع بالصيغة.

و يدفعه: أنّ الانصراف لا بدّ له من موجب، و هو إمّا كمال الفرد فالمحقّقون من الاُصوليّين إلى عدم صلاحيته موجباً له، و إمّا غلبة وجود أو غلبة إطلاق فهما في جانب المعاطاة، لما تقدّم في الجهة الاُولى من أنّها غالب الوقوع في معاملاتهم الناس من أهل الأسواق و غيرهم و لا سيّما في المحقّرات، و لو سلّم عدم كونهما في جانب المعاطاة فلا نسلّم كونهما في جانب البيع بالصيغة، فالتواطؤ الّذي هو من شروط الحجّيّة حاصل في المقام.

و منها: أنّ من شروط الحجّيّة أيضاً عدم كون المطلق مقيّداً بالمجمل، و هو هنا مقيّد به، لأنّ من البيوع ما هو صحيح و منها ما هو فاسد و منها ما هو مشكوك الحال، فما علمناه صحيحاً نحكم بصحّته، و ما علمنا فاسداً نحكم بفساده، و أمّا الفرد المشكوك فيه كالمعاطاة فلا نحكم عليه بالصحّة و لا بالفساد لاحتمال كونه من النوع الصحيح أو من النوع الفاسد، و هذا ما يسمّى بالإجمال المصداقي لعدم وضوح دلالة المطلق بالقياس إلى الفرد المشتبه.

و يدفعه: منع كون ما نحن فيه من هذا القبيل، لأنّ تقييد المطلق بالمجمل مع كون الإجمال مصداقيّاً إنّما هو فيما لو كان للماهيّة نوعان و دلّ دليل من الخارج على تقييد المطلق بأحدهما المعيّن، على معنى كون المراد منه للماهيّة من حيث تحقّقها في ضمن ذلك النوع القاضي بخروج النوع الآخر عن المراد، ثمّ اتّفق مصداق خارجي يشكّ كونه

ص: 501


1- البقرة: 275.

من أفراد النوع المراد أو من أفراد النوع الخارج عن المراد، و حينئذٍ لا يمكن التمسّك بإطلاق المطلق لإجراء حكمه على ذلك المفرد لطروء الإجمال له، بمعنى عدم اتّضاح دلالته على اندراج هذا المصداق في جملة أفراد النوع المراد، فيرجع في حكم ذلك الفرد المشكوك فيه إلى الاُصول العمليّة، و ذلك كما في قوله «أعتق رقبة» مع قيام دليل على تقييد الرقبة بالمؤمنة و الشكّ في رقبة خارجيّة في إيمانها و كفرها، بخلاف البيع في الآية فإنّ الصحّة ليست من القيود المنوّعة للماهيّة بل هي حكم شرعي عارض لها مستفاد من الآية، و من المحقّق أنّ الحكم المستفاد من الدليل لا يدخل في موضوعه.

فالمراد من البيع الماهيّة القابلة للصحّة و الفساد و الآية دالّة بالمطابقة أو بالالتزام على صحّتها، و ينحلّ مفادها إلى أنّ كلّ بيع صحيح، و الأفراد المعلوم فسادها خرجت عن هذا العموم بالأدلّة المثبتة لشروط الصحّة. و كون الصيغة و غيرها من الألفاظ من شروط الصحّة أيضاً ليخرج به المعاطاة أيضاً من عموم الآية ممّا لا دليل عليه، فيبقى المعاطاة مندرجة في العموم، للإطلاق، و أصالة عدم التقييد فيما فرض عدم دليل على الشرطيّة المستلزمة للتقييد.

و ثالثها: قوله تعالى: «يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاٰ تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ إِلاّٰ أَنْ تَكُونَ تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ »

و ثالثها: قوله تعالى: «يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاٰ تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ إِلاّٰ أَنْ تَكُونَ تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ » (1)

وجه الاستدلال أنّ الآية مشتملة على النفي و الاستثناء، فبالنفي تدلّ على حرمة أكل المأخوذ بالطريق الباطل، و بالاستثناء تدلّ على حلّيّة المال المأخوذ بطريق التجارة عن تراض، فيندرج فيه المال المأخوذ بطريق المعاطاة و الآية تدلّ على حلّيّة أكله و هو المطلوب.

و المناقشة فيه بأنّ المستفاد من الآية حكمان كلّيّان كبرويّان، أحدهما: أنّ أكل كلّ مال مأخوذ بالطريق [الباطل] حرام، و الآخر: أنّ أكل كلّ مال مأخوذ بطريق التجارة عن تراضٍ حلال، و لا كلام فيهما بل الكلام في الصغرى، و هي كون أكل مال المعاطاة أكلاً للمال المأخوذ بالتجارة عن تراض لا بالباطل، و الآية لا تنهض بإثباتها فلا يتمّ الاستدلال.

ص: 502


1- النساء: 29.

يدفعها: أنّ الصغرى محرزة بالفرض باعتبار كون المعاطاة المبحوث عنها من التجارة عن تراض، فإنّ التجارة بحسب العرف و اللغة هو الاكتساب و هو عبارة عن تحصيل المال على وجه الملك و التملّك، و الظاهر أنّ كلاًّ من المتعاطيين يقصد بدفع ماله و أخذ مال صاحبه عوضاً عنه تحصيل المال على الوجه المذكور، فيكون أكله من أكل المال المأخوذ بطريق التجارة عن تراض إذ المفروض تراضيهما بما يقصدان بالأخذ و الإعطاء.

لا يقال: إنّ قصارى ما يدلّ عليه الآية إنّما هو حلّيّة أكل هذا المال، و الحلّيّة حكم تكليفي لا يلازم الحكم الوضعي و هو الصحّة، و الكلام إنّما هو في الحكم الوضعي لا التكليفي فقط، فالآية تنهض دليلاً للقائلين بالإباحة فلا يثبت بها الصحّة و الملكيّة بل لو قدّرت كلمة «إلّا» وصفيّة على حدّ ما في قوله تعالى «لَوْ كٰانَ فِيهِمٰا آلِهَةٌ إِلاَّ اَللّٰهُ لَفَسَدَتٰا» (1) كما احتمله بعضهم لم تفد الآية للمستثنى حكماً لا تكليفاً و لا وضعاً، بل كان في حكم المسكوت عنه كما هو واضح.

لأنّا نقول - مع أنّ احتمال الوصفيّة ضعيف لا ينبغي الالتفات إليه لانتفاء ما هو من شروط الاستثناء الوصفي و هو نكارة المستثنى منه كما في الآية المشار إليها: إنّ الصحّة تستفاد من الآية باعتبار نفي البطلان أو رفع توهّمه بالاستثناء عن التجارة عن تراضٍ .

و توضيح المقام: أنّه قد اختلفت القراءة في إعراب «تجارة» من حيث الرفع و النصب، و منه اختلف القول في اعتبار «تكون» ناقصة أو تامّة، و هاهنا اختلاف آخر في انقطاع الاستثناء - كما هو ظاهر الأكثر - و اتّصاله، قال الشيخ الطبرسي في تفسيره مجمع البيان: «قرأ أهل الكوفة تجارة نصباً و الباقون الرفع... إلى أن قال: من رفع فتقديره إلّا أن تقع تجارة عن تراض فالاستثناء منقطع لأنّ التجارة عن تراضٍ ليس من أكل المال بالباطل، و من نصب تجارة احتمل ضربين، أحدهما: إلّا أن تكون التجارة تجارة عن تراض، و الآخر: إلّا أن تكون الأموال أموال تجارة، فحذف المضاف و أقام المضاف إليه مقامه، فالاستثناء على هذا الوجه أيضاً منقطع»(2) انتهى.

أقول: جعل «تكون» تامّة بمعنى تقع على قراءة الرفع لعلّه ارتكاب خلاف ظاهر

ص: 503


1- الأنبياء: 22.
2- مجمع البيان 58:1-59.

لا حاجة إليه، لصحّة كونها ناقصة بجعل خبرها الظرف المقدّر قدّر بقرينة الظرف المتقدّم في قوله: «لاٰ تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ » أي لا يأكل بعضكم مال بعض آخر بواسطة الاكتساب الباطل، حالكونه حاصلاً بينكم، و فسّر في الخبر المرويّ عن الباقر عليه السلام «بالقمار و الربا و النجش بالميزان و الظلم»(1) و كأنّه عليه السلام أراد المثال فيقدّر مثل هذا الظرف في جانب المستثنى، فيكون التقدير إلّا أن تكون بينكم تجارة عن تراضٍ ، و الظرف باعتبار عامله المقدّر نصب على الخبريّة قدّم على الاسم للنكارة، كما أنّه في جانب المستثنى منه نصب على الحاليّة قدّم على ذي الحال.

و لكن الأوجه هو قراءة النصب بأحد الوجهين اللّذين نقلهما المفسّر، و الاسم على الوجهين الضمير العائد إلى الباطل بمعنى الاكتساب و التجارة، و تأنيثها على ثاني الوجهين واضح، و أمّا على أوّلهما فلأنّ الباطل بمعنى الاكتساب يقدّر فيه باعتبار معنى التجارة تأنيث، أو لأنّ الضمير المتوسّط بين مرجع مذكّر و خبر مؤنّث ممّا جاز فيه الأمران من حيث التأنيث و التذكير، فالأوّل لمطابقة الخبر و الثاني لمطابقة المرجع، و اُختير في الآية الأوّل.

و الظاهر أنّ الاستثناء على الوجهين منقطع قصد به رفع توهّم كون التجارة عن تراضٍ من الاكتساب الباطل، فيحرم أكل المال المأخوذ بواسطتها على أوّل الوجهين، أو رفع توهّم كون الأموال المأخوذة بواسطة التجارة عن تراضٍ من الأموال المأخوذة بواسطة الاكتساب الباطل فيحرم أكلها أيضاً، و أيّاً ما كان فيفيد عدم بطلان التجارة عن تراضٍ بالمعنى المرادف للصحّة، بناءً على كون الباطل من البطلان بهذا المعنى كما في قوله تعالى: «لاٰ تُبْطِلُوا أَعْمٰالَكُمْ » (2) أي لا تفسدوها بالعجب و الرياء و غيرهما من أسباب الفساد الّتي منها قطع العمل على ما فهمه العلماء، كما يكشف عنه استدلالهم بتلك الآية على حرمة قطع العمل في الفرائض و غيرها، و لو قدّرنا الباطل بمعنى خلاف الحقّ ليكون معنى قوله «بِالْبٰاطِلِ » أي بغير حقّ و استحقاق شرعي دلّ الاستثناء بمعنى رفع التوهّم على كون التجارة عن تراضٍ مفيدة للملكيّة، إذ لا معنى لكون أكل أموال

ص: 504


1- مجمع البيان 58:1-59.
2- محمّد: 32.

التجارة بحقّ و استحقاق شرعي إلّا من جهة إفادتها ملكيّة هذه الأموال.

و لو قدّرنا خلاف الحقّ في معنى الباطل باعتبار مجرّد الحرمة، بتقدير أن يكون المراد منه المعاملات المحرّمة الّتي منع عنها الشارع - كالأمثلة المتقدّمة الواردة في الرواية - لكفى عدم كون التجارة عن تراض من الباطل بهذا المعنى في إثبات الدلالة على الصحّة من جهة الاستثناء، لأنّ التجارة عن تراضٍ بمفهومها العرفي عبارة عن الاكتساب على وجه التمليك و التملّك، و رفع توهّم المنع عنها على هذا الوجه بحسب متفاهم العرف في معنى إمضاء الشارع لها و ترخيصه فيها على هذا الوجه، فلو لا كونها مفيدة للملك لم يصدق الإمضاء و الترخيص على هذا الوجه. هذا كلّه على تقدير الاستثناء منقطعاً.

و أمّا تقديره متّصلاً فلا وجه يصحّحه إلّا جعل الباطل كناية عن مطلق الجهات أو المعاملات معرّاة عن وصف البطلان، بتجريد المشتقّ عن معنى المبدأ و اتّصاف الذات به ليدخل التجارة عن تراضٍ في جملة آحادها، كما قد يتكلّف و يقال: إنّما اُوتي بتلك العبارة رعاية لكمال البلاغة مع أداء المقصود بإعطاء حكمي التكليفي و الوضعي من حرمة الأكل و بطلان ما سوى التجارة عن تراض بأخصر العبارات، فكأنّه أتى بكلامين استثنائيّين مثل أن يقال: لا تأكلوا أموالكم بجهة من الجهات إلّا أن تكون الجهة تجارة عن تراضٍ ، لأنّ كلّ جهة باطلة إلّا التجارة عن تراضٍ ، و كان ذلك إعطاء للحكم ببيّنة و برهان.

و نظير ذلك في كلام البلغاء كثير أ لا ترى أنّه يقال في العرف: «لا تكرم الفسّاق إلّا عالم البلد» بجعل الفسّاق كناية عن أهل البلد و يراد به استثناء العالم من وصف الفسق الموجب لعدم شمول النهي له، فكأنّه قيل لا تكرم أهل البلد إلّا العالم لأنّ كلّهم فسّاق إلّا العالم. و هذا التأويل في الآية بالنظر إلى قواعد الألفاظ كما ترى تكلّف ركيك و مجاز بعيد لا يصار إليه إلّا القرينة واضحة، و مجرّد أصالة الحقيقة في أداة الاستثناء لا تصلح لها لكونها معارضة بمثلها في المشتقّ مع كونها أولى بالطرح، فإنّ انقطاع الاستثناء و إن كان مجازاً إلّا أنّه مجاز شائع يكثر دورانه في الاستعمالات العرفيّة، بخلاف تجريد المشتقّ عن وصف المبدأ و جعله للذات البحت المعرّاة عن الاتّصاف بمبدإ الاشتقاق فإنّه مجاز بعيد بل في غاية البعد لندرة وروده في الكلام، و من المحقّق أنّ أقرب

ص: 505

المجازين و أشيعها وروداً في الكلام أولى و أرجح في مقام التعارض من الآخر، و لذا لم يلتفت الأكثر إلى اتّصال الاستثناء هنا.

و قد يقدّر الاستثناء في الآية على تقدير الانقطاع مع قراءة النصب في «تجارة» بأنّ المعنى إلّا أن تكون السبب تجارة عن تراضٍ ، و لعلّه لإرجاع ضمير الاسم إلى مرجع معنوي ينساق من السببيّة المفهومة من كلمة «البا» في قوله «بِالْبٰاطِلِ » بناءً على كونها سببيّة و تأنيثه حينئذٍ لرعاية المطابقة مع الخبر لا مع الاسم، فيكون تقدير المستثنى و المستثنى منه في حاصل المعنى «لا تأكلوا أموالكم بينكم بسبب من الأسباب الباطلة إلّا أن يكون السبب تجارة عن تراضٍ » و الأولى ما تقدّم في كلام المفسّر فليتدبّر.

و قد يستدلّ على القول المختار بوجهين آخرين:
أحدهما: قوله تعالى: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ»

أحدهما: قوله تعالى: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» (1)

بتقريب أنّ المعاطاة عقد كما تقدّم في الجهة الاُولى فيشملها عموم الآية، نظراً إلى أنّ وجوب الوفاء بالعقد فرع على صحّته و إفادته الملكيّة.

و هذا في ظاهر النظر لا يخلو عن وجه خصوصاً بملاحظة ما قرّرناه في رسالتنا المنفردة لتأسيس أصالة الصحّة في العقود من وجه دلالة الآية على ذلك الأصل، و ملخّصه: أنّ كلاًّ من المتعاقدين يربط ماله بصاحبه و يجعله بالقصد و النيّة ملكاً له في عوض ماله، و مقتضى هذا الربط على حسب ما يجعلانه حصول الارتباط و هو صيرورة مال كلّ ملكاً لصاحبه، و الشكّ في صحّة عقد و فساده راجع إلى حصول ذلك الارتباط في الواقع و عدمه، باعتبار الشكّ في إمضاء الشارع للربط المذكور على حسب ما جعله المتعاقدان و عدمه، غير أنّه لو حصل فمقتضاه أن يجب على كلّ منهما أن يدفع ماله إلى صاحبه و يمكّنه من التصرّف فيه و لا يحول بينه و بين التصرّف فيما دخل في ملكه.

و هذا كلّه ما يعبّر عنه بالقيام بمقتضى العقد الّذي يعبّر عنه بالوفاء و الإيفاء، فإنّ معناه القيام بمقتضى العقد بالمعنى المذكور فقوله «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» أمر بالوفاء بكلّ عقد بهذا المعنى، و الوجوب المستفاد من الأمر يلازم حصول الارتباط في الواقع، فالأمر به

ص: 506


1- المائدة: 1.

كاشف عنه و دالّ على إمضاء الشارع للربط المذكور على حسب ما يقصدانه المتعاقدان، فيدلّ بالالتزام على حصول الارتباط الواقعي.

و لكن بالقياس إلى المعاطاة في دقيق النظر محلّ نظر بل موضع منع، لأنّ الاستدلال بالآية على الصحّة فيها إنّما يتمّ على القول باللزوم، و أمّا على القول بالجواز و الملك المتزلزل فلا، لابتناء هذا القول على تخصيص الآية في دلالتها على وجوب الوفاء الملازم للصحّة بما اقترن من العقود بالصيغة المخصوصة الجامعة للخصوصيّات المعتبرة فيها من العربيّة و الماضويّة و الصراحة و غيرها، و مرجع هذا التخصيص على ما حقّقناه في الرسالة المشار إليها إلى تقييد المادّة في العقود بحالة الاقتران بالصيغة، و قضيّة هذا التقييد خروج ما لم يقترن بها و منه المعاطاة، فالآية عامّ فيما اقترن لا غير، فلا يمكن الاستدلال بعمومها على صحّة ما لم يقترن، فليتدبّر.

و ثانيهما: قوله عليه السلام: «الناس مسلّطون على أموالهم»

و ثانيهما: قوله عليه السلام: «الناس مسلّطون على أموالهم»(1)

فإنّ عموم سلطنة الناس على أموالهم يقتضي تسلّطهم على تمليك أموالهم للغير بطريق المعاطاة، و هذا يقتضي كونها مفيدة للملك و هو المطلوب.

و فيه نظر بل منع أيضاً، لأنّ هذا الحديث بعمومه يفيد تسلّط الناس على التمليك في أموالهم بما كان قابلاً لأن يملّك، بأن يكون ممّا جعله الشارع سبباً ناقلاً للملك عن مالك إلى آخر كالبيع بالصيغة المخصوصة، و حينئذٍ لو قلنا بعدم الصحّة في بعض أفراد كبيع المحجور عليه لفلس أو سفه و نحوه رجع ذلك إلى نفي السلطنة فيلزم التخصيص في الحديث.

و أمّا ما شكّ في صحّته و فساده باعتبار الشكّ في كونه قابلاً لأن يملّك، أي كونه ممّا جعله الشارع سبباً مملّكاً، فهو ليس شكّاً في صحّته لأمر يرجع إلى الناس و هو سلطنتهم على التمليك الّذي هو نوع من التصرّف في أموالهم، بل لأمر يرجع إلى الشارع و هو جعله إيّاه سبباً مملّكاً، فلو بنينا حينئذٍ على عدم الصحّة فيه استناداً إلى أصل أو دليل دلّ على الفساد لم يرجع ذلك إلى نفي السلطنة، فلا يلزم تخصيص في

ص: 507


1- عوالي اللآلي 221:1.

حديث السلطنة الّذي هو عامّ في السلطنة على التمليك بما جعله الشارع سبباً مملّكاً، و الشكّ في صحّة المعاطاة راجع إلى جعل الشارع لا إلى سلطنة الناس على التمليك فيما جعله الشارع سبباً، فلا يلزم تخصيص في الحديث لو قيل فيها بعدم الصحّة، و لذا لا يلزم تخصيص فيه بالحكم بفساد المعاملة مع الصبيّ أو المجنون أو فيما ليس بمعلوم أو في المعاملة الربويّة، لأنّه نفي لجعل السببيّة الّذي هو فعل للشارع لا نفي للسلطنة الّتي هي حالة في ملّاك الأموال.

و الفارق أنّ الشكّ هنا ليس لعروض حالة للمالك أوجبت الشكّ في سلطنته، بل نشأ عن عروض حالة للعقد و هو خلوّه عن الصيغة أوجبت الشكّ في سببيّته فليتدبّر.

فدليل القول المختار منحصر في السيرة و آية أحلّ اللّٰه البيع و آية تجارة عن تراض.

و أمّا أدلّة سائر الأقوال و هي القول بالفساد، و القول بالإباحة، و القول بالمعاملة المستقلّة،

فاستدلّ على القول بالفساد كما عليه العلّامة في النهاية بأمرين:
أحدهما: الأصل المقرّر

تارةً بالقياس إلى الحكم التكليفي، و هو حرمة تصرف كلّ من المتعاطيين في مال صاحبه قبل وقوع المعاطاة بينهما، و قضيّة الأصل بقاؤها بعد وقوعها. و اُخرى بالقياس إلى الحكم الوضعي، و هو الصحّة المتضمّنة لخروج مال كلّ من المتعاطيين عن ملكه و دخوله في ملك صاحبه و هما أمران حادثان، و قضيّة الأصل عدم كلّ منهما، و مرجعه إلى أصالة بقاء ملك الأوّل و عدم حدوث الملك للثاني.

و ثانيهما: قوله عليه السلام: «إنّما يحلّل الكلام و يحرّم الكلام»

المفيد للحصر، فإنّ من أحكام البيع الصحيح المفيد للملكيّة أن يكون محلّلاً لما كان حراماً قبله و محرّماً لما كان حلالاً قبله، و قد دلّ الحديث على كون ذلك التحليل و التحريم منوطاً بالكلام و هو القول و النطق اللفظي، و لا نعني من مدخليّة الصيغة في الصحّة إلّا هذا و المعاطاة لا كلام و لا لفظ فيها.

و يرد على الأصل بجميع تقاديره الخروج عنه بما تقدّم من أدلّة الصحّة.

و أمّا الخبر فلا بدّ للنظر في دلالته من ذكر الروايات المشتملة عليه بتمامها، ففي صحيح يحيى بن الحجّاج قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: الرجل يجيء فيقول: اشتر لي هذا الثوب و اُربحك كذا و كذا، قال: أ ليس إن شاء ترك و إن شاء أخذ؟ قلت: بلى، قال:

ص: 508

لا بأس به، إنّما يحلّل الكلام و يحرّم الكلام»(1).

و صحيحة الحلبي قال: «سئل أبو عبد اللّه عليه السلام عن الرجل يزرع الأرض فيشترط للبذر ثلثاً و للبقر ثلثاً، قال: لا ينبغي أن يسمّي شيئاً، فإنّما يحرّم الكلام»(2).

و صحيحة سليمان بن خالد قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الرجل زارع فيزرع أرض آخر فيشترط للبذر ثلثاً و للبقر ثلثاً، قال: لا ينبغي أن يسمّي بذراً و لا بقراً، فإنّما يحرّم الكلام»(3).

و خبر أبي الربيع الشامي عن أبي عبد اللّه عليه السلام «أنّه سئل عن الرجل يزرع أرض رجل آخر فيشترط عليه ثلثاً للبذر و ثلثاً للبقر، فقال: لا ينبغي أن يسمّي بذراً و لا بقراً، و لكن يقول لصاحب الأرض: ازرع في أرضك و لك منها كذا و كذا نصفاً و ثلثاً و ما كان من شرط، و لا يسمّي بذراً و لا بقراً فإنّما يحرّم الكلام»(4)!

و التأمّل في مساق هذه الروايات و مفادها يشرف الفقيه على القطع بعدم دلالة المضمون المذكور على كون اللفظ المخصوص أو مطلق اللفظ معتبراً في صحّة العقد عموماً أو خصوصاً، بل هي مسوقة لإعطاء حكم كلّي آخر لا تعلّق له بما نحن فيه، و هو كونه شرحاً و بياناً لضابط الشرط المحرّم للحلال أو المحلّل للحرام على ما ورد في بعض الأخبار المعتبرة من قوله عليه السلام: «المؤمنون عند شروطهم إلّا شرطاً حرّم حلالاً أو أحلّ حراماً»(5) و حاصل معناها أنّ الشرط المحرّم للحلال أو المحلّل للحرام هو الشرط الملفوظ به في متن العقد المصرّح به في ضمنه، و هو المراد بالكلام لا مجرّد المنويّ في ضمنه من دون ذكره و التلفّظ به في متنه، و لا مجرّد ما تواطئا عليه المتعاملان قبل العقد من دون أخذه قيداً لفظيّاً في ضمنه.

و قد اعتبروا نظير ذلك في صحّة الشروط السائغة المأخوذة في العقود اللازمة

ص: 509


1- الوسائل 4/50:18، ب 8 أبواب العقود، التهذيب 216/50:7.
2- الوسائل 4/41:19، 8 أحكام المزارعة، الكافي 6/267:5.
3- الوسائل 6/41:19، ب 8 أحكام المزارعة، الكافي 5/267:5.
4- الوسائل 10/43:19، ب 8 أحكام المزارعة، التهذيب 857/194:7.
5- الوسائل 4/300:21، ب 40 أبواب المهور، التهذيب 1509/467:7.

فقالوا: إنّ من شروط صحّة الشرط أن يلتزم به في متن العقد فلو تواطئا عليه قبله لم يكف في الإلزام و الالتزام بالمشروط على المشهور، بل يعلم فيه خلاف كما في كلام بعض مشايخنا و قال: إنّ الظاهر من كلمات الأكثر عدم لزوم الشرط الغير المذكور في متن العقد و عدم إجراء أحكام الشرط عليه و إن وقع العقد مبنيّاً عليه، بل في الرياض «عن بعض الأجلّة(1) حكاية الإجماع على عدم لزوم الوفاء بما يشترط لا في عقد، بعد ما ادّعى هو قدس سره الإجماع على أنّه لا حكم للشروط إذا كانت قبل عقد النكاح»(2) و تتبّع كلماتهم في باب البيع و النكاح يكشف عن صدق ذلك المحكيّ فتراهم يجوّزون في باب الرباء و الصرف الاحتيال في تحليل معاوضة أحد المتجانسين بأزيد منه ببيع الجنس بمساويه، ثمّ هبة الزائد من دون أن يشترط ذلك في العقد، فإنّ الحلّيّة لا تتحقّق إلّا بالتواطؤ على هبة الزائد بعد البيع و التزام الواهب بها قبل العقد مستمرّاً إلى ما بعده...

إلى آخر ما ذكره(3).

و على هذا فحاصل المعنى المراد من قوله عليه السلام: «فإنّما يحرّم الكلام» في أخبار باب المزارعة هو أنّ تسمية كون ثلث من الحاصل للبذر و ثلث منه للبقر على معنى التصريح بذكره في متن عقد المزارعة هو الشرط المحرّم للحلال، و لا يقدح نيّته من دون تسمية في متن العقد، فالحصر المستفاد من كلمة «إنّما» إضافي بالنسبة إلى مجرّد النيّة. و السرّ في تحريم التسمية بمعنى الاشتراط الملفوظ به في العقد، أنّ مقتضى عقد المزارعة حلّيّة الحصّة المشترطة للمالك - كالثلث مثلاً - له، و حلّيّة ما زاد عليها كالثلثين للزارع، فاشتراط كون أحد الثلثين للبذر و الآخر للبقر على معنى التصريح بذكره في متن العقد شرط حرّم الثلثين معاً على الزارع، و إذا أخذهما بموجب هذا الشرط فقد أخذ حراماً.

و في كلام محكيّ عن ابن الجنيد كون سبب الحرمة دخوله في عنوان الربا حيث قال: «و لا بأس باشتراك العمّال بأموالهم و أبدانهم في مزارعة الأرض و إجارتها إذا كان

ص: 510


1- هو الفاضل الهندي في كشف اللثام 56:2.
2- الرياض 336:14/396:8-338.
3- المكاسب 56:6.

على كلّ واحد قسط من المئونة و له جزء من الغلّة، و لا يقول أحدهم ثلث للبذر و ثلث للبقر و ثلث للعمل، لأنّ صاحب البذر يرجع إليه بذره و ثلث الغلّة من الجنس و هذا رباً، فإن جعل البذر ديناً جاز ذلك»(1).

و عن حواشي المجلسي أنّ قوله «للبذر ثلثاً» يحتمل وجهين:

أحدهما: أنّ اللام للتمليك و النهي لكونهما غير قابلين للملك، و ثانيهما: أن يكون المعنى ثلث بإزاء البذر و ثلث بإزاء البقر فالنهي لشائبة الربا في البذر.

أقول: و يمكن أن يكون النهي لجهالة المشروط به من عوض البذر و اُجرة البقر، فالثلثان من الحلال على الزارع الّذي حرّمهما عليه الكلام على معنى الاشتراط الملفوظ به في العقد.

و بالتأمّل فيما بيّنّاه يظهر حقيقة المراد من حديث يحيى الحجّاج، فإنّ الضمير المجرور في قوله عليه السلام: «لا بأس به» راجع إلى قول السائل يقول: «اشتر لي هذا الثوب و أربحك كذا و كذا» و حاصل معناه بعد قول السائل «بلى» في جواب قوله عليه السلام: «أ ليس إن شاء أخذ و إن شاء ترك» أنّه استدعاء و وعد و لا بأس به، بل البأس بالكلام المحلّل للحرام و المحرّم للحلال، و المراد به الشرط الملفوظ به في متن عقد لازم الّذي يكون محلّلاً لحرام أو محرّماً لحلال، و هو غير متحقّق في مورد السؤال بدليل ما فرض من كون الرجل بحيث إن شاء أخذ و إن شاء ترك، أي إن شاء اشترى الثوب من الرجل المأمور باشترائه من مالكه بعد الاشتراء و أعطاه ربح كذا و كذا حسبما وعده، و إن شاء لم يشتره منه لأنّ الرجل المأمور لم يشترط عليه الاشتراء في ضمن عقد لازم و هو أن يلزمه بأن يشتري منه بالربح الموعود بعد ما اشتراه من مالكه، فإنّه على تقدير وقوعه من الشرط المحلّل للحرام.

و السرّ فيه أنّ الاشتراط المذكور على تقدير وقوعه في عقد لازم يرجع من الرجل الشارط إلى إثبات سلطنة لنفسه على صاحبه، بأن يلزمه بالاشتراء و إعطاء الربح و إن انصرف عنه و لم يشأه أي و إن لم يرض به، و لا ريب في حرمته بحسب أصل الشرع

ص: 511


1- نقله عنه في المختلف 191:6.

لأنّه من الإجبار على الاشتراء، و هو مع الإجبار على البيع سيّان في الحرمة. و الأصل في ذلك بناء العقود شرعاً و عقلاً نصّاً و إجماعاً على رضا الطرفين، و من شئونه ما ورد من «أنّه لا يحلّ مال امرئ إلّا بطيب نفسه»(1).

و لا ينتقض ذلك بإجبار الحاكم في بعض الموارد المالك على بعض ماله لأداء حقّ واجب عليه و إن امتنع يتولّى بيعه الحاكم، لأنّه عبارة عن الإجبار على البيع عن الرضا و طيب النفس و إن امتنع يتولّى الحاكم، لأنّ الشارع أسقط حينئذٍ رضا المالك و أقام رضا الحاكم مقام رضاه.

و من جزئيّات القاعدة ما أفتى به الفاضلان في الشرائع(2) و التذكرة(3) و غيرهما من جواز اشتراء البائع متاعه ممّن باعه منه بشرط أن لا يشرط في بيعه الأوّل بيعه منه. و ظاهر عبارة الحدائق كون هذا الشرط وفاقيّاً بين أهل القول بصحّة الاشتراء، و على اعتبار هذا الشرط حمل ما رواه الحسين بن المنذر قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: يجيئني الرجل فيطلب العينة فأشتري له المتاع مرابحة ثمّ أبيعه إيّاه ثمّ أشتريه منه مكاني، قال: إذا كان بالخيار إن شاء باع و إن شاء لم يبع و كنت أنت بالخيار إن شئت اشتريت و إن شئت لم تشتر فلا بأس...»(4) الخ، قال: و في هذا الخبر إيماء إلى أنّه مع الشرط لا يصحّ البيع»(5).

و أظهر منه في ذلك ما رواه في قرب الإسناد عن عليّ بن جعفر عن أخيه موسى عليه السلام قال: «سألته عن رجل باع ثوباً بعشرة دراهم ثمّ اشتراه بخمسة دراهم يحلّ؟ قال: إذا لم يشترط و رضيا فلا بأس»(6).

أقول: و في معناهما روايات مستفيضة اُخر، فوجه المنع من الاشتراط على ما بيّنّاه ليس لزوم الدور كما فهمه العلّامة في التذكرة(7) و لا عدم حصول القصد إلى نقله عن البائع، لاندفاع الأوّل بأنّ الموقوف على حصول الشرط هو لزوم البيع الأوّل لا إفادته الملكيّة للمشتري، و اندفاع الثاني بأنّ الفرض حصول القصد.

ص: 512


1- الوسائل 3/120:5، ب 3 مكان المصلّي.
2- الشرائع 28:2.
3- التذكرة 251:10.
4- الوسائل 4/41:18، ب 5 أحكام العقود، التهذيب 223/51:7.
5- الحدائق 128:18.
6- الوسائل 6/42:18، ب 5 أحكام العقود، قرب الإسناد: 114.
7- التذكرة 251:10.

و بالجملة شرط اشتراء المتاع في ضمن العقد اللازم على وجه يكون مفاده إلزام المشروط عليه بالاشتراء و إجباره عليه و إن لم يشأه و لا يرضى به من الشرط المحلّل للحرام، لأنّ إلزام الإنسان باشتراء ما لم يشأ اشتراءه و لا يرضى به حرام و لا يضرّ قصده من غير شرط. و ما ذكرناه في ردّ الاستدلال أولى و أسدّ ممّا ذكره في الرياض و من تبعه «من أنّها محمولة على اللزوم و على ما بعد الرجوع جمعاً بينها و بين ما دلّ على الإباحة بالتراضي من الإجماع في الغنية(1) و شرح القواعد(2) و عدم الخلاف بين الطائفة»(3) كما يظهر بالتأمّل للمنصف.

و استدلّ على القول بالإباحة بعد نفي البيعيّة لما تقدّم في الجهة الاُولى لنفي النقل و الانتقال بالأصل و لإباحة التصرّفات بإجماع الغنية - كما أشار إليه السيّد(4) في كلامه المتقدّم - و بسيرة المسلمين كافّة.

و نفي البيعيّة مندفع بما مرّ في الجهة الاُولى مشروحاً، و الأصل مندفع بما تقدّم من أدلّة الصحّة، و إجماع الغنية بعدم مقاومته السيرة القائمة بالملكيّة من ابتداء الأمر و إجراء أحكامها، و السيرة مندفعة بأنّها [لا] تثبت أزيد من إباحة التصرّفات. مع أنّ الإباحة المجرّدة عن الملك إن اُريد بها الإباحة المالكيّة، فهي غير مقصودة للمتعاطيين بل المقصود هو التمليك و التملّك الّذي من أحكامه شرعاً جواز التصرّفات قصده المتبايعان أو لا فما قصداه لم يقع و ما وقع لم يقصداه فيبطل، و إن اُريد بها الإباحة الشرعيّة فلا بدّ لها من دليل و أدلّة إثباتها على ما عرفت مدخولة.

و ممّا يرد على هذا القول أنّه لو لا الملك في الأموال المأخوذة بالمعاطاة لأشكل الحال في وطء الجارية و لمسها و سائر الاستمتاعات بها، لأنّ حلّ هذه الاُمور إمّا بملك اليمين أو التحليل أو النكاح و الكلّ منتف، أمّا انتفاء الأوّل فلأنّه المفروض، و أمّا انتفاء الثاني فلأنّ له صيغة مخصوصة و لم يتحقّق من مالكها في المقام، و أمّا انتفاء الثالث فواضح. و كذلك الإشكال في عتقها إذ لا عتق إلّا في ملك، و إرثها إذ الوارث يتلقّى

ص: 513


1- الغنية: 586.
2- جامع المقاصد 58:4.
3- الرياض 214:8.
4- الرياض 214:8.

الملك من مورثه و إذ لا ملك للمورّث لا إرث لوارثه. و كذلك في الوقف و الرهن و الهبة و البيع و الإجارة و غيرها من التصرّفات المتوقّفة على الملك.

و قد يتفصّى عن الإشكال بأحد وجهين:

الأوّل: منع توقّف التصرّفات المذكورة على الملك بقول مطلق، لجواز تخصيص القاعدة العامّة الثانية بأدلّة اشتراط هذه التصرّفات بالملك فتخصّص بما عدا الأموال المأخوذة بالمعاطاة، و يقال بأنّها في هذه الأموال لا تتوقّف على الملك فإنّه ليس بعادم النظير، بل له في الشريعة نظائر كثيرة:

منها: ثلث الميّت يبيعه الوصيّ و هو ليس بملك أحد من الوصيّ و الوارث و الميّت، أمّا الأوّل فواضح، و أمّا الثاني فلاختصاص ملكه بما زاد على الثلث، و أمّا الثالث فلعدم كونه قابلاً لأن يملك، لأنّ الملك عرض فيحتاج إلى محلّ يقوم به و الميّت غير صالح له.

و منها: الأراضي الخراجيّة يتصرّف فيها الوالي ببيع و صلح و نحوه إذا اقتضته المصلحة ليصرف ثمنها في مصالح المسلمين.

و منها: الأوقاف العامّة إذا حصل لبيع شيء منها جهة مسوّغة فيبيعه الحاكم أو الناظر.

و منها: شراء المملوك من تركة من لا وارث له سواه ليعتق حتّى ينتقل إليه سائر التركة، نظراً إلى أنّ الرقّية من حواجب الإرث فلا بدّ من زوالها بالعتق يتولاهما الحاكم أو غيره من عدول المؤمنين، مع أنّ الثمن ليس ملكاً حال الشراء.

الثاني: منع انتفاء الملك في محلّ هذه التصرّفات مطلقاً، لجواز حدوثه آناً ما من حين التصرّف المتوقّف عليه قهراً من اللّٰه سبحانه، كما وقع نظيره في شراء من ينعتق على المشتري كأحد العمودين على القول بأنّه يملكه آناً ما فينعتق عليه بعده.

و لا يخفى ما فيهما من الضعف خصوصاً ثانيهما، و لذا قيل بأنّ التزام حدوث الملك عند التصرّف المتوقّف عليه لا يليق بمتفقّه فضلاً عن الفقيه.

أمّا ضعف الأوّل فلأنّ تخصيص القاعدة لا بدّ له من دليل و التزامه بدونه غير سائغ، و لا دليل عليه. و الاستشهاد بالأمثلة المذكورة يدفعه منع انتفاء الملك فيها، أمّا ثلث الميّت فلأنّه ملك له كما هو ظاهر الأخبار المتكفّلة لبيان أنّ له ثلث ماله أو ليس له إلّا ثلث ماله. و دعوى: أنّه غير قابل لأن يملك، لا دليل عليها من عقل و لا نقل. و كون

ص: 514

الملك عرضاً و كون العرض ممّا يفتقر إلى المحلّ مسلّم، و عدم كون الميّت صالحاً له غير مسلّم إلّا باعتبار كونه معدوماً، و المعدوميّة ممنوعة لأنّ محلّ الملك في حال الحياة هو النفس الإنسانيّة و هي باقية بعد الموت، غاية الأمر زوال ملكيّة الزائد على الثلث بسبب انتقاله بالموت إلى الوارث فيبقى الثلث على كونه ملكاً له و لو بحكم الاستصحاب.

و أمّا الأرض الخراجيّة فلأنّ الأراضي الخراجيّة ملك لجميع المسلمين، و لمّا كان اجتماع الكلّ على بيع شيء منها متعذّراً فيقوم الوالي مقامهم، فهو بيع للملك صدر ممّن يقوم مقام المالك.

و أمّا الوقف العامّ فلأنّ انتفاء الملك في الأوقاف العامّة مبنيّ على كون الوقف فكّ ، و أمّا على القول بكونه نقلاً للملك إلى الموقوف عليهم أو إلى اللّٰه سبحانه فلا، و الحاكم أو الناظر عند قيام الجهة المسوّغة للبيع يقوم مقام المالك فهو أيضاً بيع للملك صدر من يقوم مقام المالك.

و أمّا ثمن شراء المملوك من تركة من لا وارث له سواه فلجواز بقاء جميع التركة في نحو هذه الصورة في ملك الميّت إلى أن يحصل من يصلح وارثاً بزوال رقّيته مثلاً، و دعوى الاستحالة مردودة على مدّعيها كما عرفت.

و أمّا ضعف الثاني فلأنّ حدوث الملك آناً حين التصرّف يقتضي سبباً و لا سبب له سوى المعاطاة السابقة و مقتضاها حصول الملك من ابتداء الأمر، و تنظير المقام بشراء أحد العمودين على القول بأنّه يملكه المشتري آناً ما مقايسة باطلة، لأنّ حصول الملك له سببه و هو البيع الواقع على الملك ثمناً و مبيعاً متحقّق و كونه آناً ما لما دلّ على أنّ الإنسان لا يملك العمودين حملاً له على الاستقرار و الدوام جمعاً. و لأجل ما ذكرنا ذكر الشيخ قدس سره في شرحه للقواعد في تزييف القول بالإباحة بما ملخّصه من أنّ القول بالإباحة من غير ملك مع قصده حين المعاملة دون الإباحة يستلزم إمّا إنكار ما ثبت بالضرورة و السيرة القطعيّة جوازه أو إحداث قواعد جديدة حيث قال - في ردّ هذا القول المدّعى عليه الشهرة و الإجماع -: «و هو مردود بالسيرة المستمرّة القاطعة في إجراء حكم الأملاك على ما اُخذ بالمعاطاة، من إيقاع عقد البيع و الإجارة و الهبة

ص: 515

و الصلح و الصدقة و جميع العقود ممّا يتعلّق بتمليك الأعيان أو المنافع عليه، و تعلّق العتق و الوقف و الحبس و الرهن و الربا و النذور و الايمان و الوصايا و نحوها به، و كذا حكم المواريث و الأخماس و الزكوات و استطاعة الحجّ ، و النظر إلى الجواري و لمسهنّ و وطئهنّ و تحليلهنّ و تزويجهنّ و نحو ذلك، فيلزم إمّا إنكار ما جاز بداهة أو إثبات قواعد جديدة»(1) انتهى.

أقول: بطلان اللازم الأوّل واضح، لأنّ الضرورة و السيرة القاطعة لا تقابل بالإنكار.

و أمّا بطلان اللازم فالإذعان به يستدعي ذكر القواعد الجديدة الّتي ذكرها و نقلها بعين عبارته قدس سره.

فأوّل ما ذكره من القواعد قوله: «إنّ العقود و ما يقوم مقامها لا تتبع القصود، و قصد الملك و التملّك عند المعاملة و البناء عليهما لا محض الإباحة لا ينافيها» انتهى.

و ملخّصه: أنّ قضيّة هذا القول وقوع الإباحة الغير المقصودة في محلّ قصد الملك و التملّك دونهما، و هو باطل لأنّ العقود تتبع القصود فما قصد لم يقع و ما وقع لم يقصد.

و نوقش بأنّه ليس إحداثاً لقاعدة جديدة بل هو تخصيص لقاعدة شرعيّة، و يكفي في دليله الإجماع المنقول على نفي البيعيّة، و قوله عليه السلام: «إنّما يحلّل الكلام و يحرّم الكلام» على نفي الملكيّة و إنّما صيّر إلى الإباحة مع عدم كونها مقصودة لقضاء السيرة القاطعة بذلك، و ظاهر أنّ المرء متعبّد بالدليل الشرعي فلزوم مخالفة القاعدة غير ضائر.

و يدفعه - بعد الإغماض عمّا يرد منقول الإجماع على نفي البيعيّة و على دلالة الرواية ممّا ذكرناه مشروحاً - أنّ هذه السيرة المتمسّك بها على اختيار الإباحة الغير المقصودة بنفسها على بطلان دعوى تخصيص القاعدة و فساد دليله، و ذلك لأنّها قديماً و حديثاً مستقرّة في الالتزام بالبيعيّة و الالتزام بالملكيّة و الالتزام بجواز عموم التصرّفات، على أنّه من أثار الملك لا على أنّه من توابع الإباحة المالكيّة.

و ثانيها: أنّ إرادة التصرّف من المملّكات فتملّك العين و المنفعة بإرادة التصرّف بها أو معه دفعة و إن لم يخطر ببال المالك الأوّل الإذن في شيء من هذه التصرّفات لأنّه

ص: 516


1- شرح القواعد 22:2-23.

قاصد للنقل من حين الدفع و أنّه لا سلطان له بعد ذلك بخلاف من قال: أعتق عبدك عنّي و تصدّق بمالي عنك» انتهى. و الضمير في قوله «بها» راجع بإرادة التصرّف و إنّما ذكره تأكيداً لقوله «بإرادة التصرّف» للتنبيه على أنّ المقصود في المعطوف عليه فرض إرادة التصرّف سبباً تامّاً، و في المعطوف بأو و هو قوله «أو معه» فرضها مع نفس التصرّف سبباً على أن يكون كلّ واحد جزءاً للسبب فتملّك بهما دفعة واحدة أي في آن واحد، و هو آن التصرّف لتقدّمه على الملك باعتبار كونه جزءاً للسبب ذاتاً و إن قارنه زماناً فتأمّل. و قوله: «بخلاف من قال» الخ قصد بذلك إلى رفع توهّم كون المملّك في هذين المثالين هو إرادة التصرّف، و حاصل ما قصد به من الدفع إبداء كون المملّك فيهما الهبة الضمنيّة فتأمّل.

و ثالثها: أنّ الأخماس و الزكوات و الاستطاعة و الديون و النفقات و حقّ المقاصّة و حقّ الشفعة و المواريث و الربا و الوصايا تتعلّق بما في اليد مع العلم ببقاء مقابله و عدم التصرّف به أو عدم العلم فينفى بالأصل فتكون متعلّقة بغير الأملاك، و أنّ صفة الغنى و الفقر تترتّب عليه كذلك فيصير ما ليس من الأملاك بحكم الأملاك» انتهى.

و مراده بما في اليد الّذي تتعلّق به الاُمور المذكورة ما فيها من الأموال المأخوذة بالمعاطاة فإنّها غير مملوكة على الفرض، و تتعلّق بها ما من حقّه أن يتعلّق بالأموال المملوكة، و هذا هو مخالفة القواعد المشهورة الشرعيّة، و إذا جاز ذلك صار قاعدة جديدة، و بطلان اللازم في أكثر هذه الاُمور مسلّم، و في بعضها محلّ منع كاستطاعة الحجّ فإنّها تحصل بأدون من الأموال المباحة الواصلة في اليد كبذل ما يكفيه في زاده و راحلته فلئن يحصل بتلك الأموال طريق الأولويّة لأنّ المناط صدق أنّه يستطيع إليه سبيلاً، و لا يتوقّف ذلك على ملكيّة المال الكافي في الزاد و الراحلة، و في بعضها محلّ تأمّل فإنّ أداء الدين من هذه الأموال و إيجابه البراءة للذمّة لا يقصر عن أداء المتبرّع و صدق اليسار مع وجودها الّذي عليه مدار وجوب الإنفاق على من عليه نفقته من الزوجة و المملوك و الدابّة و غيرها ممّن ذكر في باب النفقات.

و رابعها: كون التصرّف من جانب مملّكاً للجانب الآخر مضافاً إلى غرابة استناد الملك إلى التصرّف.

ص: 517

و خامسها: جعل التلف السماوي من جانب مملّكاً للجانب الآخر و التلف من الجانبين معيّناً للمسمّى، و لا رجوع إلى قيمة المثل حتّى يكون له الرجوع بالتفاوت و مع حصوله في يد الغاصب أو تلفه فيها، فالقول بأنّه المطالب لأنّه تملّك بالغصب و التلف في يد الغاصب غريب، و القول بعدم الملك بعيد مع أنّ التلف القهري أنّ ملك التالف قبل التلف فهو عجيب، و معه بعيد لعدم قابليّته حينئذٍ و بعده ملك معدوم و مع عدم الدخول في الملك يكون ملك الآخر بغير عوض و نفي الملك مخالف للسيرة و بناء المتعاطيين.

و سادسها: أنّ التصرّف إن جعلناه من النواقل القهريّة فلا يتوقّف على النيّة فهو بعيد، و إن أوقفناه عليها كان الواطئ للجارية من غيرها واطئاً بالشبهة، و الجاني و المتلف جانياً على مال الغير و متلفاً له.

و سابعها: أنّ النماء الحادث قبل التصرّف إن جعلنا حدوثه مملّكاً له دون العين فبعيد و معها فكذلك و كلاهما منافٍ لظاهر الأكثر، و شمول الإذن له غير خفيّ .

و ثامنها: قصر التمليك على التصرّف مع الاستناد فيه إلى أنّ إذن المالك فيه إذن في التمليك، فيرجع إلى كون المتصرّف في تمليك نفسه موجباً قابلاً، و ذلك جارٍ في القبض بل هو أولى منه لاقترانه بقصد التمليك دونه» انتهى.

قال شيخنا قدس سره: «و المقصود من ذلك كلّه استبعاد هذا القول، لا أنّ الوجوه المذكورة تنهض في مقابل الاُصول و العمومات، إذ ليس فيها تأسيس قواعد جديدة لتخالف القواعد المتداولة بين الفقهاء»(1) ثمّ أطنب قدس سره في الجواب عن جميع الاُمور المذكورة و من يطلبه يراجع كتاب متاجره، و الّذي يسهّل الخطب في المقام أنّها استبعادات و استغرابات لا تقاوم دليل هذا القول على نفي البيعيّة و نفي الصحّة بمعنى ترتّب الأثر المقصود و على إثبات الإباحة إن تمّ دلالته و سنده فالقائل على تقدير تماميّة دليله يلتزم بجميع اللوازم المذكورة و لا يلتفت إلى الاستبعادات، و العمدة إبطال دليله و قد ذكرناه بما لا مزيد عليه.

الجهة الثالثة: في مدخليّة الصيغة أو مطلق اللفظ في اللزوم و عدمه

و يرجع البحث

ص: 518


1- المكاسب 46:3.

في ذلك إلى أنّ المعاطاة هل تقع لازمة من ابتداء الأمر مطلقاً كما هو المعروف عن المفيد(1) بناءً على ظاهر عبارته، أو بشرط كون الدالّ على التراضي لفظاً كما حكاه في المسالك(2) عن بعض معاصريه(3) و ربّما قوّاه جماعة(4) من متأخّري المحدّثين، أو تقع جائزة مطلقاً فيجوز لكلّ منهما الرجوع على صاحبه فيما دفعه إليه كما عليه أكثر(5)القائلين بالملك بل قيل كلّهم عدا من عرفت ؟

و الأصل العملي مع الأصل الاجتهادي عموماً و خصوصاً يساعد على الأوّل.

أمّا الأصل العملي فهو استصحاب الملك المشكوك في زواله بمجرّد رجوع مالكه الأصلي.

و المناقشة فيه بأنّ الثابت هو الملك المشترك بين المستقرّ و المتزلزل، و الأوّل لا يقين بحدوثه من أصله و الثاني لا شكّ في ارتفاعه بعد الرجوع فلا معنى لاستصحابه مدفوعة، «لا لما قيل من أنّ انقسام الملك إلى المتزلزل و المستقرّ ليس باعتبار اختلاف في حقيقته و إنّما هو باعتبار حكم الشارع عليه في بعض المقامات بالزوال برجوع المالك الأصلي، و منشأ هذا الاختلاف اختلاف حقيقة السبب المملّك لا اختلاف حقيقة الملك فجواز الرجوع و عدمه من الأحكام الشرعيّة للسبب لا من الخصوصيّات المأخوذة في المسبّب إذ لا اختلاف في حقيقة السبب سواء اُريد به حقيقته الجنسيّة و هي العقديّة أو حقيقته النوعيّة و هي البيعيّة و لا شبهة في شيء منهما على ما تقدّم تحقيقه في الجهة الاُولى و ليس للمعاطاة حقيقة اُخرى سواهما» بل لعدم انقسام الملك إلى قسمين ليكون الثابت في المحلّ أمراً مشتركاً مردّداً بين القسمين حتّى لا يمكن استصحابه.

و ذلك أنّ التزلزل في الملك المتزلزل ليس صفة منوّعة ليكون المتزلزل نوعاً آخر من الملك مقابلاً للملك المستقرّ، بل هي صفة انتزاعيّة تنتزع من الملك باعتبار كونه

ص: 519


1- المقنعة: 91.
2- المسالك 147:3.
3- هو السيّد حسن بن السيّد جعفر.
4- كما في الحدائق 355:18.
5- التحرير 164:1، مجمع الفائدة 139:8 - المفاتيح 48:3، الكفاية: 88.

بحيث يرتفع بطروء ما جعله الشارع رافعاً له، فالشكّ في المقام إنّما هو لطروء ما يشكّ في رافعيّته و هو رجوع المالك الأصلي، و إلّا فالملك ليس إلّا نوع واحد و هو ملك مستقرّ ثابت كالطهارة المسبّبة من الوضوء مثلاً، و قد جعل الشارع له روافع كالإقالة و الفسخ فيما خياره لأحد المتبايعين بأصل الشرع أو لاشتراطه في ضمن العقد، كما جعل للطهارة روافع من البول و الغائط و الريح و النوم فهي بحيث ترتفع بطروء ما جعله الشارع رافعاً لها، و لا يلزم من ذلك أن يكون لها قسمان و لذا جارٍ استصحابها عند الشكّ في رافعيّة المذي الخارج من المتطهّر، و كذلك الملك فلا مانع من استصحابه عند الشكّ في ارتفاعه للشكّ في رافعيّة الرجوع، و إنّما اختصّ ذلك الشكّ بالمعاطاة لأنّ الصيغة في البيع بالصيغة أوجبت سقوط حقّ الرجوع المطلق من المتبايعين و اللزوم إنّما هو من جهته.

و أمّا الأصل الاجتهادي العامّ فهو أصالة اللزوم في العقود إلّا ما خرج بالدليل، و المعاطاة عقد و دليله عموم آية «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» على ما حقّقناه في رسالة منفردة. و أمّا الأصل الاجتهادي الخاصّ فهو أصالة اللزوم في البيع إلّا ما خرج بالدليل، و دليله الأخبار المثبتة للخيارات الّتي منها صحيحة الفضيل قال: «قلت له: ما الشرط في الحيوان ؟ قال: ثلاثة أيّام للمشتري، قلت: و ما الشرط في غير الحيوان ؟ قال: البيّعان بالخيار ما لم يفترقا»(1) فإنّها في إثبات الخيار في فروض مخصوصة من البيع تدلّ التزاماً على أنّ الأصل فيه أن يكون لازماً، خرج عنه الفروض المشار إليها كخيار المجلس و خيار الحيوان و خيار تأخير الثمن و خيار الرؤية و خيار الغبن و خيار العيب و ما أشبه ذلك، فدليل هذا القول قويّ جدّاً.

و أمّا القائلون بعدم اللزوم فليس لهم في مقابله إلّا الإجماع، و يمكن تقريره بوجهين:

أحدهما: الإجماع المحصّل المستفاد من كلماتهم صراحة و ظهوراً على أنّ الصيغة المخصوصة لها أثراً خاصّاً، و من مشايخنا(2) «من ادّعى الإجماع المحصّل و المنقول بل الضرورة على أنّ للصيغ المخصوصة أثراً بيّناً» و يؤذن بذلك ما في شرح القواعد من

ص: 520


1- الوسائل 3/6:18، ب 1 أبواب الخيار، التهذيب 85/20:7.
2- الجواهر 212:22.

قوله: «إنّا نعلم يقيناً أنّ للصيغ الخاصّة أثراً خاصّاً، و لو كان اللزوم غير موقوف عليها لم يكن لها أثر»(1) و هذا الأثر المجمع عليه إمّا أن يكون تأثيرها في صدق الاسم، أو يكون تأثيرها في الصحّة و إفادة الملك، أو يكون تأثيرها في اللزوم، و الأوّلان باطلان إذ لا إجماع و لا ضرورة على اعتبارها في صدق الاسم أو الصحّة و الملك، مضافاً إلى ما تقدّم من الأدلّة الّتي عمدتها السيرة القطعيّة على كلّ من الصدق و الملك بدونها بل بدون اللفظ مطلقاً، فتعيّن أن يكون التأثير الخاصّ المجمع عليه تأثيرها في اللزوم، و قضيّة ذلك أن لا لزوم في المعاطاة و إلّا لزم أن لا يكون للصيغ المخصوصة تأثير أصلاً و هذا خلاف الإجماع، و هذا هو معنى ما في كلام الشيخ المتقدّم من أنّه لو كان اللزوم غير موقوف عليها لم يكن لها أثر.

و توهّم: أنّ هذا الأثر يمكن أن يكون أحكام العقد على معنى انعقاده محكماً فبدونها لا يكون محكماً لا أنّه لا يكون لازماً، توهّم سخيف لا ينبغي الالتفات إليه، لأنّ العقد إذا انعقد لازماً فلا يتعقّل لعدم إحكامه معنى بل لم تتحقّق للإحكام و عدمه معنى سوى اللزوم و عدمه.

و ثانيهما: الإجماع المنقول المصرّح به في كلام غير واحد جزماً أو ظنّاً المعتضد بالشهرة المحقّقة و المحكيّة و لو عند المتأخّرين.

أمّا الإجماع فمنه ما عن المحقّق الكركي في جامع المقاصد من «أنّه يعتبر اللفظ في العقود اللازمة بالإجماع»(2).

و منه ما عن الشيخ في شرح القواعد «من الإجماع محصّلاً و منقولاً على عدم كفاية المعاطاة في اللزوم»(3).

و منه ما يظهر أو يحتمل دعواه من عبارة المسالك لقوله في تحسين قول المفيد أو قول بعض معاصريه: «ما أحسنه و أمتن دليله إن لم ينعقد الإجماع على خلافه»(4) بناءً على كون مراده من مخالفة هذين القولين للإجماع مخالفته في دعوى اللزوم بدون

ص: 521


1- شرح القواعد 17:2.
2- جامع المقاصد 309:5.
3- شرح القواعد 15:2.
4- المسالك 152:3.

الصيغة المخصوصة كما هو الظاهر لا مخالفتهما في دعوى البيعيّة أو الصحّة.

و منه ما تقدّم من السيّد في الغنية بعد قوله: «فإنّ ذلك ليس ببيع و إنّما هو إباحة للتصرّف بناءً على أنّه نصّ في الإجماع على نفي اللزوم و إن كان ظاهراً في الإجماع على نفي الملك فيؤخذ بنصّه و يطرح ظاهره جمعاً بينه و بين السيرة الصريحة في إفادته الملك كما قيل.

و منه ما في كلام بعض مشايخنا من دعوى ظهوره بقوله: «إنّ الظاهر فيما نحن فيه قيام الإجماع على عدم لزوم المعاطاة، قال: بل ادّعاه صريحاً بعض الأساطين و يعضده الشهرة المحقّقة، و قال بُعيد ذلك أيضاً: و الإجماع و إن لم يكن محقّقاً على وجه يوجب القطع إلّا أنّ المظنون قويّاً تحقّقه على عدم اللزوم مع عدم لفظ دالّ على إنشاء التمليك سواء لم يوجد لفظ أصلاً أم وجد و لكن لا لإنشاء التمليك بل ليكون قرينة على قصد التمليك من التقابض»(1).

و أمّا الشهرة فتحقّقها بين المتأخّرين واضح و لا يستراب فيه و حكاها غير واحد كما حكاها شيخنا في عبارته المتقدّمة، و ممّن حكاها المحقّق الثاني في كلامه المتقدّم عند نقل الأقوال حيث قال: «المعروف بين الأصحاب أنّ المعاطاة بيع و إن لم يكن كالعقد في اللزوم»(2).

و لا تتوهّن الإجماعات المذكورة بمخالفة المفيد إمّا لعدم صراحة عبارته في دعوى اللزوم بدون الصيغة أو لشذوذه و معلوميّة نسبه فلا يقدح مخالفته في الإجماع خصوصاً على طريقة المتأخّرين في تحصيل الإجماع من ابتنائه على الحدس.

و من ذلك ظهر عدم قدح مخالفة من تبعه من متأخّري المحدّثين. و كذلك لا يقدح فيه ما في كلام العلّامة في التحرير من قوله: «الأقوى أنّ المعاطاة غير لازمة»(3) مشعراً بوجود القول باللزوم و إن كان خلاف الأقوى إمّا لاحتمال كونه إشارة إلى خلاف العامّة أو إلى عبارة المفيد الغير الصريحة و قد عرفت حالها.

نعم قد يناقش في الإجماع بأنّ قول الأكثر من المجمعين و هم القائلون بالإباحة

ص: 522


1- المكاسب 56:3-59.
2- جامع المقاصد 58:4.
3- التحرير 164:1.

بعدم اللزوم مبنيّ على نفي الملك بل نفي البيعيّة أيضاً فالسالبة في كلامهم بانتفاء الموضوع، و هذا قادح في الإجماع لأنّه بسبب دخول قول الأكثر لا يكشف عن رأي المعصوم و أنّ معتقده في المعاطاة على تقدير الملك هو عدم اللزوم و كلامنا في هذا التقدير لا غير.

هذه المناقشة إن تمّت لوردت على التقرير الأوّل أيضاً، و لكنّها واضح الدفع بأنّ الإجماعات المعتضدة بالشهرة المحقّقة و المحكيّة تكشف كشفاً ظنّيّاً عن أنّ المعاطاة الّتي بأيدي الناس و حالها غير خفيّة على المعصومين عليهم السلام غير لازمة عند المعصوم، و أنّ هذا رأي المعصوم و معتقده، و معنى عدم اللزوم أنّه يجوز لكلّ من المتعاطيين الرجوع فيما دفعه إلى صاحبه، و هذا الجواز مستند إلى سلطنة كلّ منهما على صاحبه باسترجاع المال المدفوع إليه قهراً، غير أنّ الشبهة الّتي منها نشأ الاختلاف في الملك و عدمه إنّما هي في أنّ هذه السلطنة المقتضية للجواز هل هي من مقتضى بقاء الملك السابق في المال لصاحبه الأصلي أو أنّها مجعولة من الشارع جعلها لكلّ منهما من حيث عدم إتيانهما بالصيغة المخصوصة عند المعاملة ؟

و قول الأكثر بعدم اللزوم بناءً منهم على نفي الملك إنّما يقدح في استكشاف رأي المعصوم من الإجماع أن لو أردنا إثبات الجواز المستند إلى السلطنة المجعولة من الشارع هنا بالخصوص بالإجماع على معنى الاستناد في إثبات الجواز المقيّد بوصف كونه مقيّداً إلى الإجماع بأن يكون المستند في إثبات كلّ من المقيّد و قيده هو الإجماع، و حينئذٍ يرد عليه أنّ الإجماع لدخول الأكثر في جملة المجمعين لا يكشف عن ذلك على معنى كون معتقد المعصوم استناد الجواز إلى خصوص السلطنة المجعولة و هذا ليس بمراد، بل المراد إثبات الجواز المستند إلى سلطنته لهما لا بقيد كونها من مقتضى بقاء الملك و لا بقيد كونها مجعولة لهما هنا بالخصوص، فأنّا في هذا المقام لسنا بصدد إثبات المقيّد بوصف كونه مقيّداً و لا إثبات قيده، بل بصدد إثبات ذات المقيّد و هو أصل الجواز. و لا ريب أنّ الإجماعات المنقولة المعتضدة بالشهرة توجب الظنّ بأصل الجواز و تكشف عن كون معتقد المعصوم هو ذلك لا غير.

ثمّ إذا تكلّمنا في كونه من مقتضى أيّ السلطنتين نتمسّك لإثبات كونه من مقتضى

ص: 523

السلطنة المجعولة بالأدلّة المتقدّمة المقامة على أنّ المعاطاة بيع مفيد للملك، على أنّا نقول: إنّا قد فرغنا عن إثبات كونها بيعاً مفيداً للملك بالأدلّة المتقدّمة الّتي منها السيرة القطعيّة الكاشفة عن رأي المعصوم في ذلك، و بذلك ينتفي احتمال وجود السلطنة من مقتضى بقاء الملك السابق المقتضية للجواز، غاية الأمر أنّه يبقى الشكّ في أنّه هل جعل الشارع لكلّ منهما سلطنة على صاحبه باسترجاع ما نقله إليه و ملكه له أو لا؟ و منشأ هذا الشكّ هو الشكّ في اللزوم و الجواز.

و لا ريب أنّ الإجماعات المنقولة المعتضدة بالشهرة محقّقة و محكيّة توجب الظنّ بأصل الجواز و هو الظنّ باستناد إلى السلطنة المجعولة، و مرجعه إلى الظنّ بأنّ الشارع جعل لهما سلطنة مقتضية لجواز الرجوع، فنثبت مجموع المقيّد و قيده بمجموع الأدلّة المتقدّمة و الإجماعات المنقولة المعتضدة بالشهرة، فأصل الجواز نثبته بالإجماعات و قيده بالأدلّة المتقدّمة القاضية بانتفاء القيد، فعلى هذا تنهض الإجماعات المعتضدة بالشهرة من حيث إفادتها الظنّ الاطمئناني مخرجة عن الأصل العملي و مخصّصة للأصل الاجتهادي المقتضيين للّزوم.

و بما بيّنّاه يندفع نحو المناقشة المذكورة لو اُورد على التقرير الأوّل من الإجماع أيضاً. فالإجماع بكلا تقريريه ينهض دليلاً على نفي اللزوم في المعاطاة بجميع صورها المتقدّم إليها الإشارة، و هي إحدى و عشرين من خمس و عشرين صورة، و قضيّة ذلك عدم كفاية مطلق اللفظ الغير الجامع للشرائط المعتبرة في الصيغة فيما لو كان الدالّ على التراضي هو اللفظ في اللزوم، فإنّ الإجماع بكلا تقريريه يدلّ على عدم كفاية ذلك أيضاً في اللزوم و إن كان الإجماع بالتقرير الأوّل أصرح في الدلالة على ذلك منه بالتقرير الثاني. خلافاً لبعض معاصري(1) الشهيد الثاني القائل بكفاية مطلق اللفظ في اللزوم، و دليله على ما قيل ما دلّ على اعتبار اللفظ في اللزوم، و الظاهر أنّ المقصود بذلك ما تقدّم من قوله عليه السلام: «إنّما يحلّل الكلام و يحرّم الكلام» و يفسده بعد الإغماض عمّا بيّنّاه في منع دلالة ذلك على ما نحن فيه أنّه إن تمّ دليلاً لأفاد اعتبار اللفظ الخاصّ

ص: 524


1- هو السيّد حسن بن السيّد جعفر على ما في مفتاح الكرامة 505:12.

في اللزوم و هو الّذي يعبّر عنه بالصيغة المخصوصة الّتي يعتبر فيها اُمور فلا جهة للتعدّي عنها بالاكتفاء باللفظ على إطلاقه، فالتفكيك بين القسمين من الدالّ على التراضي أعني اللفظ و الفعل المحض باللزوم في الأوّل و عدمه في الثاني أو الإباحة فيه من دون ملك تحكّم، فإنّ مناط القسمين واحد و طريق الحكم فيهما متّحد.

و ينبغي التنبيه على اُمور:
الأوّل: أنّ اللزوم في البيع بالصيغة و الجواز في البيع بالمعاطاة ليسا عبارتين عن مجرّد الحكم التكليفي

- أعني حرمة الرجوع في الأوّل و إباحته في الثاني - بل هما حكمان وضعيّان يتولّد منهما الحكم التكليفي، فاللزوم عبارة عن أنّ لا سلطنة لأحد المتبايعين على الآخر باسترجاع ما ملكه له و يتولّد منه حرمة الرجوع، و الجواز عبارة عن أنّ لكلّ من المتعاطيين سلطنة على الآخر باسترجاع ما دفعه إليه و يتولّد منه إباحة الرجوع. أمّا الأوّل فلأنّه مقتضى أدلّة اللزوم في العقود اللازمة على ما قرّرناه في الرسالة المنفردة في أصالة الصحّة و اللزوم في العقود. و أمّا الثاني فلأنّه مقتضى دليل الجواز في المعاطاة على ما بيّنّاه هنا.

الثاني: أنّ الجواز في المعاطاة نظير الجواز في الهبة

لا الجواز في مواضع الخيار من العقود، و قد يعبّر عن الأوّل بالجواز الذاتي لثبوته مطلقاً ما دامت العين باقية، و عن الثاني بالجواز العارضي لعروضه العقد في زمان خاصّ أو لحالة مخصوصة، و من حكمه أنّه يقتصر في الالتزام به على مورد الدليل المثبت له، و فيما يقتصر على مورد الدليل أيضاً يقتصر على القدر المتيقّن من زمان ثبوته و هو زمان الفور. و لو شككنا في أنّ تلف إحدى العينين هل يكون مجوّزاً للفسخ نقول بالعدم لعدم الدليل، بخلاف الجواز الذاتي فإنّه لا يقتصر فيه على زمان خاصّ و لا حالة مخصوصة، و لو عرضت حالة مخصوصة شكّ في كونها ملزمة يبنى على العدم إلّا إذا ساعد عليه دليل.

لنا على ما بيّنّاه ظهور كلماتهم ظهوراً يمكن معه دعوى إجماعهم عليه، فإنّها صراحة و ظهوراً مطبقة على كون الجواز في المعاطاة مراعى ببقاء العين.

الثالث: أنّ الجواز هنا بالمعنى الّذي فسّرناه - أعني السلطنة على الرجوع - هل هو من لواحق الملك

أعني السلطنة على رفع ملك العين المدفوعة كما في الهبة، أو من

ص: 525

عوارض سببه أعني السلطنة على رفع العقد على حدّ الإقالة و الفسخ في مواردهما من العقود اللازمة ؟ و يظهر الثمرة في أنّ جواز الرجوع على الأوّل منوط ببقاء العين فمع بقائها يعود إليه ملك العين بالرجوع و مع تلفها لا تأثير للرجوع في عود المثل و القيمة، و على الثاني يؤثّر الرجوع بمعنى رفع العقد مع بقاء العين و مع عدمه، فعلى الأوّل يعود إليه ملك العين و على الثاني يعود إليه المثل أو القيمة. و كذلك على الأوّل لا يعتبر في تأثير الرجوع صيغة كقول «فسخت أو أقلت» بل يكفي مجرّد الترادّ بخلاف الثاني، و الأظهر من كلماتهم هو الأوّل و لذا لا يعبّرون هنا بخيار الفسخ و لا يعتبرون صيغة و لا لفظاً.

و أمّا الدليل على ذلك فيمكن تقريره بوجوه:

منها: أنّ الحكم المخالف للأصل الثابت بالإجماع يجب الاقتصار فيه على القدر المتيقّن من معقد دليله، و ليس إلّا جواز الرجوع ما دامت العين باقية.

و منها: أنّ الإجماع المثبت لهذا الحكم منعقد على الحكم المغيّا مع غايته فالمجمع عليه هو جواز الرجوع المغيّا بغاية بقاء العين، و قضيّة ذلك سقوطه بعد التلف.

و منها: ما سيأتي عند البحث في ملزمات المعاطاة من دليل كون التلف ملزماً من الإجماع عليه محصّلاً و منقولاً.

الرابع: قد أشرنا سابقاً إلى أنّ اللفظ الغير الجامع للاُمور المعتبرة في الصيغة غير كافٍ في لزوم المعاطاة،

و هل قصد اللزوم حين التقابض يوجبه أو لا؟ و على الثاني فهل شرط اللزوم أو شرط عدم الرجوع من الجانبين هل يوجبه أو لا؟ الوجه في الجميع هو عدم اللزوم، لقضاء الإجماع بالتقرير الأوّل و الإجماعات المنقولة المعتضدة بالشهرة بكون اللزوم من آثار الصيغة المخصوصة فلا يكفي غيرها لفظاً كان أو قصداً أو شرطاً في ضمن المعاطاة.

و قد يعلّل عدم كفاية الشرط بأنّ غاية ما يوجبه الشرط إنّما هو حكم تكليفي لا الحكم الوضعي و هو اللزوم، فيحرم عليه الرجوع و إذا رجع أثم، و لكن رجوعه يؤثّر في عود الملك إليه.

و الأولى أن يعلّل بلزوم الدور فإنّ الشرط إنّما يلزم إذا اُخذ في ضمن العقود اللازمة فلزوم الشرط المأخوذ في ضمن عقد المعاطاة موقوف على لزوم العقد،

ص: 526

و لو توقّف لزوم العقد على لزومه لزم الدور.

و توهّم أنّ لزوم العقد لا يتوقّف على لزوم الشرط بل على وجوده و وجوده لا يتوقّف على لزومه فلا دور، يدفعه أنّ وجود الشرط بمجرّده لو لا لزوم العمل به لا يثمر في لزوم العقد، فلزوم العقد يتوقّف على لزوم الشرط لا محالة فلا محيص من الدور.

الخامس: جواز الرجوع في المعاطاة هل هو كالخيار في العقود اللازمة

فيسقط بالإسقاط بعد العقد و بالصلح عليه و بالشرط في ضمن العقد اللازم أو هو كجواز الرجوع في الهبة فلا يسقط بشيء من ذلك ؟ و بالجملة فهل يسقط بإسقاطه بعدها كأن يقول أسقطت جواز الرجوع من الجانبين أو لا؟ و هل يسقط بالصلح عليه أو لا؟ و هل يسقط بالشرط في ضمن عقد خارج لازم أو لا؟

و الوجه في الجميع هو العدم كما يظهر من كلماتهم خصوصاً كلماتهم في بيان ملزمات المعاطاة، فإنّهم قصّروها على اُمور غير هذه الاُمور بل غير واحد صرّحوا بعدم سقوطه بالاُمور المذكورة، فلا إشكال في أنّ بناءهم على عدم السقوط كما أنّ بناءهم أيضاً بمقتضى ظهور كلامهم بل صريح بعضهم أنّه لا يورّث بالموت كما يورّث الخيار في مواضع ثبوته.

و العمدة إنّما هو بيان دليل هذا الحكم، فقد يعلّل بأنّ السقوط بالإسقاط أو بالصلح أو بالشرط في ضمن العقد اللازم من خصائص الحقوق، و جواز الرجوع ليس منها بل هو حكم شرعي فلا يسقط بإسقاط و لا صلح و لا شرط.

و فيه: أنّه إنّما يستقيم على تقدير كون جواز الرجوع عبارة عن الحكم التكليفي الصرف، و أمّا على ما فسّرناه من كونه عبارة عن سلطنة كلّ من المتعاطيين على الآخر باسترجاع ما دفعه إليه فلا، لأنّ السلطنة المذكورة أيضاً من الحقوق بل الحقّ في جميع موارده عبارة عن سلطنة مخصوصة لإنسان على غيره.

فيشكل الحال حينئذٍ من ملاحظة ما ذكروه في الحقوق من أنّها تسقط بالإسقاط و الصلح و الشرط و أنّها تورّث بالموت، و من ملاحظة ظهور عباراتهم هنا و لا سيّما عند بيان الملزمات.

و يمكن الذبّ بأحد وجوه:

ص: 527

الأوّل: أنّه كما أنّ الجواز في العقود اللازمة خلاف الأصل فيها فلا يلتزم به إلّا حيث ساعد عليه دليل، فكذلك اللزوم في العقود الجائزة خلاف الأصل فيها فلا يلتزم به إلّا حيث ساعد عليه دليل، و السقوط بالاُمور المذكورة الّذي مرجعه إلى اللزوم ممّا لا دليل عليه. و يضعّفه أنّ الدليل أعمّ من الخاصّ و العامّ و قاعدة أنّ الحقوق يسقط بالإسقاط و تقبل الصلح و تسقط بالشرط في ضمن العقد اللازم دليل عامّ .

الثاني: أنّ الحقوق على حسب اختلاف مفاد الأدلّة المثبتة لها على قسمين:

أحدهما: حقّ يثبت بدليله على طريقة القضيّة المطلقة الغير المقيّدة بالدوام، و ثانيهما:

حقّ يثبت بدليله على طريقة المشروطة العامّة، و جواز الرجوع في المعاطاة من هذا القبيل لأنّ الدليل المثبت له إنّما أثبته ما دامت العين باقية، فثبوته و سقوطه يدور على بقاء الوصف العنواني و زواله، و المراد بالوصف العنواني هنا بقاء العين.

الثالث: منع كون كلّ سلطنة حقّاً فإنّ الحقّ و إن كان نوعاً من السلطنة - كحقّ الخيار و حقّ الشفعة و حقّ الرجوع في الطلاق - و ليس كلّ سلطنة حقّاً كسلطنة الملّاك على أموالهم و أملاكهم، و هذا من قبيل الحكم بناءً على أنّه أعمّ من التكليفي و الوضعي و لذا لا يسقط السلطنة المذكورة بإسقاط و لا صلح و لا شرط في ضمن عقد، كما أنّ ولاية أولياء الصغير لا تسقط بشيء من ذلك، و جواز الرجوع في المعاطاة و في الهبة أيضاً من قبيل هذه السلطنة فهو سلطنة ليس بحقّ ليسقط بالاُمور المذكورة. و المائز أنّ كلّ سلطنة تكون من توابع المال فهي ليست من قبيل الحقّ ، و كلّ سلطنة تكون من خصائص الشخص فهو حقّ ، و هذا أوجه. و بالتأمّل في ذلك يظهر أنّه لا ينتقل بالموت إلى الورثة فإنّ الانتقال بالإرث من خصائص ملك الأعيان أو المنافع أو الحقوق، و جواز الرجوع ليس ملكاً و لا حقّاً بل حكم أثبته الدليل على خلاف الأصل في العقود للمالك الأصلي، و انتقاله إلى غيره يحتاج إلى دليل و لا دليل عليه فالأصل عدمه.

و توهّم: بقاء الجواز بحكم الاستصحاب، يبطله أنّ الاستصحاب مع عدم بقاء موضوع المستصحب ممّا لا معنى له.

لا يقال: إنّ الموضوع على ما ذكرت سابقاً من أنّ جواز الرجوع من لواحق الملك لا من عوارض العقد باقٍ ، لأنّ الكلام على تقدير بقاء المالين إلى ما بعد الموت لأنّ

ص: 528

الجواز بمعنى السلطنة نسبة شرعيّة بين ثلاث المتسلّط و المتسلّط عليه و المتسلّط فيه و هو المال، لأنّه على ما عرفت عبارة عن سلطنة المالك الأصلي على صاحبه باسترجاع المال المدفوع إليه، فله إضافة إلى كلّ من المالك الأصلي و المالك الثانوي و المال فيكون متقوّماً بالجميع فلكلّ موضوعيّة، و المفروض انتفاء الأوّل بالموت فيكون استصحاب الجواز بالقياس إليه من استصحاب الحكم مع عدم بقاء موضوع المستصحب، و لو سلّم عدم كونه منه نقول: بأنّ أصالة عدم الانتقال وارد عليه لسببيّة شكّه. و لو جنّ أحدهما فالظاهر وفاقاً لبعض مشايخنا(1) قيام وليّه في الرجوع مقامه لعموم أدلّة الولاية. و لا يرد هنا أصالة عدم الانتقال، لعدم كون بناء تصرّفات الوليّ على انتقال الحكم عن المولّى عليه إليه، بل على مباشرة الوليّ عن المولّى عليه في التصرّفات الراجعة إليه الملغاة في نظر الشارع كالنيابة في مواردها، فلا ينتقل الحكم من المولّى عليه إلى الوليّ .

السادس: قد عرفت سابقاً أنّ للمعاطاة إحدى و عشرين صورة،
اشارة

و ظاهر عبارة الشيخ في شرح القواعد(2) كون هذه الصور بأسرها من محلّ النزاع و لزم منه أن يجري فيها الأقوال المتقدّمة. و إطلاق ذلك عندنا غير سديد كما يظهر وجهه ببيان ما يعتبر في انعقادها بيعاً صحيحاً مفيداً للملك و ما لا يعتبر.

فهاهنا مسائل:
الاُولى: أنّه يعتبر فيها قصد إنشاء التمليك و التملّك

إذ بدونه لا تصير بيعاً و لو صدق الاسم عرفاً لا تقع صحيحة تترتّب عليها أثر الملك، و هو أن يقصد الموجب بإيجابه الفعلي - و هو التقابض و التعاطي - أو القولي و هو اللفظ الغير الجامع لشرائط الصيغة المخصوصة أو هما معاً إنشاء تمليك عينه لصاحبه بعوض الثمن الّذي وقع عليه التراضي، و يقصد صاحبه الّذي هو القابل بقبوله الفعلي أو القولي أو هما معاً إنشاء تملّك العين بعوض الثمن المذكور أو إنشاء تمليك ثمنه المذكور للموجب عوضاً عن عينه الّتي ملّكها له أو إنشاء تملّك العين و تمليك الثمن، نظراً إلى أنّ ظاهر إطلاق أهل القول بكون المعاطاة بيعاً صحيحاً كفاية وقوع القبول بأحد هذه الوجوه، و يساعد عليه

ص: 529


1- المكاسب 102:3.
2- شرح القواعد 15:2.

عموم قوله تعالى: «أَحَلَّ اَللّٰهُ اَلْبَيْعَ » و إطلاق قوله تعالى: «تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ » و رجع اعتبار هذا الشرط في المعاطاة إلى أنّ من الشرائط المعتبرة في الصيغة المخصوصة ما هو معتبر فيها و هو قصد إنشاء التمليك و التملّك. فما قد يوجد في بعض عبائرهم في بيان ضابط المعاطاة الجامع لصورها الممتاز به عن البيع بالصيغة المخصوصة أنّ كلّما لم يشتمل على الصيغة المخصوصة سواء لم يشتمل على صيغة لفظيّة أصلاً أو اشتمل على صيغة مع اختلال شرائط الصيغة المخصوصة كلّها أو بعضها فهو معاطاة بالنسبة إلى اختلال جميع الشرائط، ليس على إطلاقه.

و باشتراط الشرط المذكور في المعاطاة البيعيّة خرج صور منها، و هي ما لو قصد المتعاطيان بالفعل أو القول أو هما معاً إنشاء إباحة التصرّفات أي الإذن فيها، و ما لو لم يقصدا شيئاً من إنشاء التمليك و لا الإباحة، و ما لو قصدا عدم التمليك و عدم الإباحة كما يتحقّق ذلك في مورد الإكراه، و الجامع بينهما وقوع المعاطاة لا على وجه التراضي.

و لا إشكال في فسادها فيهما خصوصاً ثانيتهما حتّى بالنسبة إلى إفادة الإباحة المقتضية لجواز التصرّف، فلا يجوز لكلّ منهما التصرّف في المال المدفوع إليه لأصالة حرمة التصرّف في مال الغير من دون إذن مالكه، و يجب على كلّ ردّ ما أخذه إلى مالكه، و لو تلف في يده كان في ضمانه مثلاً أو قيمة.

و أمّا الصورة الاُولى فلا ينبغي التأمّل في عدم انعقادها بيعاً لانتفاء قصد التمليك و التملّك و لا في فسادها من حيث إفادتها الملك، و هل تقع صحيحة من حيث إفادة إباحة التصرّفات ؟ الوجه نعم، لعموم «الناس مسلّطون على أموالهم» كما يفيدها إحضار المالك الطعام للضيف و إعطاؤه طعاماً أو ماءً أو غيرهما من المأكول أو المشروب أو نحوهما لصاحبه أو رفيقه أو غيره ليأكله أو يشربه أو يستعمله للعموم المذكور، غاية الأمر أنّ هذا و نظائره إباحة مجّانيّة و ما نحن فيه إباحة معوّضة أو مشروطة بالعوض، مع كون مقصودهما التعويض بين المالين إلّا أنّ جواز التصرّف لكلّ منهما مراعى في استمراره و عدم استمراره ببقاء الإذن و الرضا في نفس المالكين، فلو علم أحدهما أو كلاهما زوال الإذن و الرضا عن ضمير المالك لم يجز له أو لهما التصرّف بعده و وجب ردّ ما بيده إلى مالكه و استرداد ماله، و لو علما بقاء الإذن و الرضا فلا إشكال. و لو شكّ

ص: 530

أحدهما أو كلاهما في البقاء و الارتفاع ففي التعويل على استصحاب الحالة السابقة إلى أن يحصل اليقين بالارتفاع وجه قويّ ، لا يعارضه أصالة حرمة التصرّف في مال الغير، لأنّه ليس بغير إذن المالك بحكم الاستصحاب الّذي هو علم شرعي لإحراز إذن المالك.

و هذا ليس من مسألة الإذن بشاهد الحال حتّى يعتبر فيه كونها مفيدة للقطع.

ثمّ إنّهما إن قصدا إباحة التصرّفات في الجملة وجب الاقتصار منهما على المتيقّن ممّا دخل منها في الإذن، و لا يجوز التعدّي إلى غيره حتّى ما لو شكّ شمول الإذن له، لأصالة عدم الإذن.

و إن قصدا إباحة كلّ تصرّف حتّى يكون إنشاء الإباحة المقصودة على هذا الوجه بمنزلة أن يقول كلّ منهما: «أبحت لك كلّ تصرّف» فلا يخلو إمّا أن يكون في قصدهما تعميم الإذن بالقياس إلى التصرّفات الغير المتوقّفة على الملك أو تعميمه بالقياس إلى مطلق التصرّفات حتّى المتوقّفة منها على الملك.

ففي الصورة الاُولى يجب الاقتصار على التصرّفات المأذون فيها، فلا يجوز التعدّي منها إلى غيرها من التصرّفات المتوقّفة على الملك.

و أمّا الصورة الثانية ففي الجارية ينبغي القطع بعدم حلّ الوطء و ما يلحق به من سائر الاستمتاعات بمجرّد الإباحة المذكورة لانحصار مجوّزه في ملك اليمين و التحليل و النكاح اللذين لكلّ منهما صيغة خاصّة و المفروض عدم حصول شيء منهما بمجرّد إنشاء الإباحة. و توهّم: أنّها في خصوص هذا التصرّف بمنزلة التمليك أو صيغة التحليل أو صيغة النكاح، ممّا لا ينبغي الإصغاء إليه.

و إن اُريد به التنزيل الشرعي لفقد ما يدلّ عليه في الشرع و إذن المالك بمجرّدها لا تصلح مشرّعة لما يكون مشروعيّته عن سبب خاصّ لم يتحقّق بالفرض.

و في نحو البيع و الشراء و العتق و الوقف و الصدقة إن قصدا بإنشاء إباحة هذه التصرّفات الإذن فيها ليحصل الآثار المقصودة منها من ملك الثمن أو المثمن و التقرّب إلى اللّٰه سبحانه المترتّب على العمل المقرون بنيّة القربة للمبيح، فالظاهر عدم الإشكال في الصحّة لأنّ الإباحة و الإذن في التصرّف على هذا الوجه تكون توكيلاً من المالك في هذه المعاملات و المفروض قبولها النيابة.

ص: 531

و إن قصدا وقوع الآثار للمباح له ففيه إشكال بل الإشكال فيه قويّ ، و إن كان ربّما يتوهّم الجواز استناداً إلى عموم «الناس مسلّطون على أموالهم» فإنّه عامّ في جميع أنحاء التصرّفات و منها هذا التصرّف أعني إذن المالك للغير في إجراء هذه العقود في ماله ليرجع الآثار المقصودة منها إلى ذلك الغير.

يدفعه: أنّه عامّ في التصرّفات الجائزة تكليفاً و وضعاً، و لذا لا يجوز للمالك جعل عنبه خمراً و لا يصحّ بيع اُمّ الولد و لا بيع المصحف من الكافر، و لا بيع العبد المسلم من الكافر، و لا بيع العنب أو الخشب ليعمل خمراً أو صنماً أو طبلاً لأجل العموم، و فيما نحن فيه أيضاً يقال: إنّه لا يعقل انتقال ملك أحد العوضين من الثمن أو المبيع إلى غير مالك العوض الآخر، و لا يعقل أيضاً أن يتقرّب الإنسان بمال الغير.

و من ذلك يظهر منشأ الإشكال و حاصله الإشكال في أنّ ملك أحد العوضين في البيع بل مطلق عقود المعاوضة هل يتبع ملك العوض الآخر أو لا؟ و أنّ التقرّب في باب العتق و الوقف و الصدقة هل يتبع ملك العين أو لا؟

و الظاهر بل الحقّ الّذي لا محيص عنه هو المنع فيهما:

أمّا في الأوّل: فلأصالة الفساد في المعاملات السليمة عمّا يوجب الخروج عنها، و الإجماع الظاهر بل المقطوع به من الأصحاب في أبواب العقود على أنّ البيع من عقود المعاوضة الّتي بمفهومها تقتضي لزوم عود الثمن إلى مالك المثمن و عود المثمن إلى مالك الثمن، فالقاعدة مندرجة في مفهوم عقد المعاوضة فتكون من القضايا الّتي قياساتها معها على حدّ قولنا: «الكلّ أعظم من الجزء» مع كونها إجماعيّة. و يعضد ذلك الإجماع مع الأصل المذكور ما في كلام بعض مشايخنا «من أنّه صرّح المشهور بل قيل(1) لم يوجد خلاف في أنّه لو دفع إلى غيره مالاً و قال: اشتر به طعاماً لنفسك، من غير قصد الإذن في اقتراض المال قبل الشراء أو اقتراض الطعام بعده أو استيفاء دَين له عليه لم يصحّ كما صرّح به في مواضع من القواعد(2) و علّله في بعضها بأنّه لا يعقل شراء شيء لنفسه بمال الغير»(3) و ما ذكره أيضاً بقوله: «من المعلوم أنّ بيع الإنسان مال

ص: 532


1- الجواهر 174:23.
2- القواعد 87:2 و 127.
3- المكاسب 85:3.

غيره لنفسه غير جائز بمقتضى العقل و النقل الدالّ على لزوم دخول العوض في ملك مالك المعوّض»(1).

فما يتوهّم: من إمكان الخدشة في الأصل المذكور من أنّه يجب الخروج عنه بعمومات الصحّة جنساً و نوعاً و صنفاً كآية «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» (2) و آية «تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ » (3) و آية «أَحَلَّ اَللّٰهُ اَلْبَيْعَ » (4) و رواية «البيّعان بالخيار ما لم يفترقا»(5).

واضح الدفع، بمنع تناول عمومات الصحّة لما نحن فيه من بيع الإنسان مال غيره ليكون الثمن له و شرائه بمال الغير ليكون المثمن له، أمّا آية «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» فلعدم صدق العقد على نحو هذه المعاملة نظراً إلى أنّه عبارة عن الربط المعنوي بين المالين كما أشرنا إليه عند بيان صدق العقد على المعاطاة و ذكرناه مشروحاً في رسالة مفردة في أصالة الصحّة و اللزوم في العقود، و لا ريب أنّ الربط المعنوي لا يتأتّى بينهما فيما لو فرض وقوع الثمن لغير مالك المثمن أو بالعكس فلا يصدق عليه العقد.

و أمّا آية «تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ » فلوضوح أنّ التجارة بمعنى الاكتساب و هو تحصيل المال لا تصدق على بيع مال إلّا على تقدير دخول الثمن في ملك صاحب المال و عوده إليه.

و أمّا آية «أَحَلَّ اَللّٰهُ اَلْبَيْعَ » فلأنّ البيع في معناه العرفي إن كان عبارة عن تمليك عين بمال على وجه التعويض بحيث يكون التعويض داخلاً في ماهيّته لا يصدق إلّا [على] تقدير عود الثمن إلى مالك المثمن و بالعكس، فلو فرض وقوع الثمن لغير مالك المثمن لم يصدق عليه عرفاً أنّه عوضه، و لو فرض وقوع المثمن لغير مالك الثمن لم تصدق عليه أنّه معوّضه فلم يتحقّق تعويض فلم يصدق البيع. و إن كان عبارة عن مبادلة مال بمال فلا يصدق البدل و المبدل إلّا على تقدير عود كلّ من البدلين إلى مالك البدل الآخر.

و من هنا يعلم الوجه في عدم تناول رواية «البيّعان بالخيار» لأنّ البيّع هو البائع و هو من البيع، و قد عرفت أنّه غير صادق على ما لو وقع لغير مالك البيع.

و أمّا الثاني: فلاستحالة التقرّب بدون نيّة القربة الّتي مرجعها إلى قصد امتثال الأمر

ص: 533


1- المكاسب 87:3.
2- المائدة: 1.
3- النساء: 29.
4- البقرة: 275.
5- الوسائل 1/5:18، أبواب الخيار، الكافي 5/17:5.

و استحالة نيّة القربة ممّن لم يتوجّه إليه أمر، و الظاهر أنّ أوامر العتق و الوقف و الصدقة و إن كانت استحبابيّة إلّا أنّها متوجّهة إلى مالك العبد و العين و المال لا إلى غيره، فيستحيل لغير المالك أن يتقرّب بإعتاق عبد غيره أو بوقف عين غيره أو بالتصدّق بمال غيره لاستحالة تحقّق نيّة القربة منه بدون أمر، و هذا هو معنى ما تقدّم من عدم إمكان التقرّب بمال و إن أذن فيه المالك لأنّ إذن المالك ليست مشرّعة و محدثة للأمر بإعتاق مملوكه أو وقف ملكه أو التصدّق بماله، فتقرّر بطلان الإذن في التصرّفات الموقوفة على الملك المقصودة من إنشاء الإباحة على معنى عدم ترتّب الآثار المقصودة منها عليها و هو وقوع البيع أو العتق أو الوقف أو الصدقة للمأذون له، لقاعدة تبعيّة ملك العوض لملك المعوّض، و عدم إمكان التقرّب بمال الغير سواء قصد المالك هذا الإذن في ضمن عموم التصرّفات كمحلّ البحث، أو صرّح بها بخصوصها كأن يقول: بع مالي لنفسك أو اشتر بمالي لنفسك أو أعتق عبدي أو أوقف داري أو تصدّق بمالي لنفسك.

فظهر أنّ توهّم التمسّك لإثبات الصحّة للإذن في جميع ما ذكر بعموم «الناس مسلّطون على أموالهم» غير سديد، لأنّه عامّ في التصرّفات الجائزة تكليفاً و وضعاً، و مرجعه بالنسبة إلى التصرّفات المذكورة إلى حكومة دليل عدم إمكان بيع الإنسان مال الغير لنفسه أو الشراء لنفسه بمال الغير و عدم إمكان التقرّب بمال الغير على هذا العموم، كحكومة دليل حرمة اتّخاذ العنب خمراً و دليل عدم جواز بيع العنب أو الخشب ليعمل خمراً أو صنماً عليه.

و لا ينتقض ما ذكرنا بمسألة بيع الواهب أو إعتاقه العبد الموهوب من حيث وقوع البيع و العتق للواهب لا للموهوب له، لكون البيع أو الإعتاق رجوعاً منه في الهبة، فيكون كلّ منهما واقعاً في ملكه العائد إليه بالرجوع لا في ملك الغير.

نعم لو فرض حصول ملك ضمني للمباح له بإنشاء الإباحة المذكورة كان ما نحن فيه كبيع الواهب و إعتاقه في وقوع البيع و العتق و الوقف و الصدقة من المباح له في ملكه، و هو يتصوّر من وجهين:

أحدهما: أن يتضمّن قصد إنشاء الإباحة لقصد إنشاء التمليك أيضاً، و المفروض في محلّ البحث ليس من هذا القبيل.

ص: 534

و ثانيهما: أن يدلّ دليل شرعي على حصول الملكيّة للمباح له بمجرّد الإباحة المقصودة، فيكون الدليل المفروض كاشفاً عن حصول الملك له ليقع البيع أو العتق أو الوقف أو الصدقة المأذون فيها في ملكه فيحصل الآثار له، و المفروض فقد الدليل عليه.

و منه يعلم ضعف احتمال دلالة الدليل على انتقال الثمن عن المبيح بلا فصل بعد البيع إلى المباح له و إن وقع أصل البيع للمبيح، لفقد الدليل عليه أيضاً. و مثلهما في الضعف احتمال كون الإباحة المقصودة توكيلاً ضمنيّاً من المبيح للمباح له في بيع ماله له ثمّ نقل الثمن إلى نفسه بالهبة، أو في نقله أوّلاً إلى نفسه ثمّ بيعه أو إعتاقه أو وقفه أو التصدّق به لنفسه، فإنّ هذا التوكيل لا يتحقّق في نفسه بل يحتاج إلى قصد المالك و المفروض انتفاؤه.

ثمّ إنّ البيع الّذي أوقعه المباح له لنفسه إذا لم يقع له - و هو المراد من فساد الإباحة بالقياس إلى هذا التصرّف - ففي وقوعه للمبيح بيعاً لازماً بناءً على أنّ قصد البائع كونه لنفسه يلغو، أو موقوفاً على إجازة المالك لأنّه لم يقصد التملّك بإنشائه الإباحة وجهان.

و سيأتي تحقيق ذلك في مسألة الفضولي إذا باع البائع الفضولي لنفسه و منه بيع الغاصب.

المسألة الثانية: هل يعتبر في المعاطاة و جريان أحكامها حصول القبض من الجانبين

على معنى قبض العوضين بالإعطاء و الأخذ من الجانبين، أو يكفي حصوله من أحدهما بأن يقصد بالفعل أو القول الغير الجامع لشرائط الصيغة تمليك عين شخصيّته بثمن كلّي في الذمّة، أو تمليك عين موصوفة في الذمّة بثمن شخصي ؟ فقد يستشكل في ذلك التفاتاً إلى عدم صدق المعاطاة من المفاعلة، خلافاً لجماعة منهم الشهيد في الدروس(1) فذهبوا إلى كفاية ذلك في لحوق الأحكام، و تردّد ثاني الشهيدين في المسالك و إن كان استظهر في آخر كلامه ذلك قائلاً: «لو وقعت المعاملة بقبض أحد العوضين خاصّة، كما لو دفع إليه سلعة بثمن وافقه عليه أو دفع إليه ثمناً عن عين موصوفة بصفات السلم فتلف العوض المقبوض، ففي لحوق أحكام المعاطاة و لزوم الثمن المسمّى و المثمن الموصوف نظر: من عدم صدق اسمها لأنّها مفاعلة يتوقّف على

ص: 535


1- الدروس 193:3.

العطاء من الجانبين و لم يحصل و الاقتصار فيما خرج عن الأصل على موضع اليقين إن كان، و من صدق التراضي على المعاوضة و تلف العين المدّعى كونه كافياً في التقابض من الجانبين، و الظاهر أنّ الحكم واحد و قد ذكر أوّلهما شيخنا الشهيد رحمه الله في الدروس و ألحقه بها»(1) انتهى.

و قد ظهر أنّ العمدة من منشأ الإشكال هو عدم تحقّق معنى المفاعلة بإعطاء أحد العوضين و أخذه، و المعاطاة مفاعلة فلا تصدق على المعاملة المذكورة.

و يدفعه أوّلاً: منع عدم الصدق لما ذكرناه غير مرّة وفاقاً لجماعة من أنّ المعاطاة عندهم اصطلاح في كلّ معاوضة خالية عن الصيغة المخصوصة، سواء خلت عن اللفظ مطلقاً أو لا، و الظاهر أنّ بناء هذا الاصطلاح على اعتبار تحقّق معنى المفاعلة، فالمعاطاة بحسب هذا الاصطلاح صادقة على ما نحن فيه.

و ثانياً: أنّه لو سلّم عدم صدقها و لو بالنظر إلى الاصطلاح، و لكن نقول: إنّه غير قادح في لحوق أحكامها على ما نحن فيه، فإنّها ليست عنواناً اُخذ في أدلّة تلك الأحكام ليقدح عدم صدقها في شمول تلك الأدلّة بل المأخوذ فيها عنوان العقد و البيع و التجارة، و المعاطاة غير مذكورة في الكتاب و السنّة و غيرهما. نعم إنّما اُخذت في معقد إجماع الغنية و لكنّه غير مضرّ في لحوق الأحكام على ما نحن فيه، لأنّ إجماع الغنية ليس من أدلّة القول المختار بل من أدلّة القول بالإباحة المتضمّنة لنفي البيعيّة و الصحّة بمعنى إفادة الملكيّة.

فالعمدة النظر في صدق العناوين المأخوذة في الأدلّة من العقد و البيع و التجارة، و الظاهر صدق الجميع، أمّا العقد فلتحقّق الربط المعنوي بقصد التمليك على أحد الوجهين المتقدّم ذكرهما في عنوان المسألة. و أمّا البيع فلصدق تمليك العين على وجه التعويض و إبدال مال بعوض، نظراً إلى أنّ العين و المال و العوض أعمّ من الكلّي في الذمّة و الشخص الخارجي. و أمّا التجارة فلأنّ هذا النحو من التمليك أيضاً نوع من التجارة بمعنى الاكتساب فيشمله الأدلّة بأجمعها حتّى السيرة، لتداول ذلك أيضاً بين المسلمين.

ص: 536


1- المسالك 151:3.

بل قد يدّعى عدم اعتبار الإعطاء و الأخذ يداً بيد في شيء من الجانبين فضلاً عن المعاطاة و التعاطي، بل يكفي مجرّد إيصال الثمن و أخذ المثمن من غير إعطاء كما تعارف أخذ الماء من مكان السقّاء في غيبته و وضع الفلس في المحلّ المعدّ له، و كذلك أخذ الباقة من دكّان البقلي في غيبته و وضع عوضها في كوزه، و منه دخول الحمّام و وضع الحقّ في الصندوق و ما أشبه ذلك، فإنّ الجميع متداول و كافٍ في لحوق أحكام المعاطاة، و لكن يشترط في الجميع العلم برضا المالك أعني صاحب الدكّان و الحمّامي إحرازاً للتراضي الّذي لا إشكال لأحد في اعتباره.

و لكن يشكل ذلك لو كان مراد القائل كفاية ما ذكر في انعقاد البيع و صحّته لأنّه لا بدّ في انعقاده من قصد التمليك و إنشائه و لم يتحقّق في الموارد المذكورة من المالك قطعاً. و توهّم حصوله من آخذ الماء و البقل فهو بأخذه يملّكه لنفسه و بوضعه العوض يقبل التمليك فهو مملّك و متملّك فيكون موجباً و قابلاً باعتبارين، يدفعه أنّ تمليك مال الغير لنفسه ممّا لا معنى له إلّا في موضع الوكالة و هي غير متحقّقة لعدم تحقّق التوكيل من المالك. و احتمال كونه من البيع الفضولي بعيد، لعدم لحوق إجازة المالك به المعتبر في صحّته. و الاكتفاء فيها برضاه النفساني المعلوم بشاهد الحال يوجب كونه بيعاً عن المالك بطريق الوكالة لحصول ذلك الرضا قبل البيع و مقارنته إيّاه فإنّه إذن منه في تلك المعاملة معلومة بشاهد الحال القطعي فيكون كالوكالة، و لكن في كونها إذناً في التمليك عنه لا في مجرّد الأخذ و التصرّف بشرط وضع عوضه إشكال.

و ظنّي أنّ هذه المعاملة على الوجه الّذي في الموارد المذكورة و نظائرها أشبه شيء بالإباحة المشروطة أو المعوّضة، نظراً إلى الإذن في الأخذ و الوضع المعلومة بشاهد الحال القطعي، و نحوها معاملة الحمّام حسبما فرض فإنّ الدخول في الحمّام و استيفاء المنفعة بالغسل و الاغتسال و استعمال الماء ثمّ وضع الفلوس المقرّر في الصندوق كلّها إباحة مالكيّة و إذن في التصرّفات المذكورة معلومة من شاهد حال الحمّامي، بل لا يختصّ ذلك بغيبته بل المتعارف في حضوره في جميع الحمّامات في كلّ الأعصار و الأمصار هو ذلك فإنّه ليس إلّا من قبيل الإباحة و الإذن في الدخول و استيفاء المنفعة و استعمال الماء بشرط بذل العوض المقرّر، للعلم الضروري من سيرة المستأجرين

ص: 537

للحمّامات و الداخلين فيها أنّ المستأجرين لا يقصدون عند دخول كلّ داخل إنشاء تمليك المنفعة بشرائطها له، و الداخلين أيضاً في قصدهم قبول تمليك المنفعة و لا تملّكها عند الدخول فلا يمكن كون ذلك من باب الإجارة لأنّها عقد و العقد لا بدّ فيه من إنشاء تمليك المنفعة و ليس بحاصل جزماً، فهو ليس إلّا لأنّ المستأجرين آذنون للناس إذناً عامّاً في الدخول و استيفاء المنفعة و استعمال الماء معلومة بشهادة أحوالهم بل كثيراً ما يكون الإذن صريحة.

و بهذا كلّه اندفعت الإشكالات المعروفة في خصوص عمل الناس في الحمّامات على تقدير كونه من باب الإجارة من عدم تعيين المنفعة و لا تعيين المدّة لتعيين المنفعة و لا تعيين الماء الّذي يستعمل و من جهة إتلاف الماء الّذي هو من العين فإنّ هذه تقدح في الإجارة لا في الإباحة، و هذا في كونه إباحة نظير الإباحة فيمن يستأجر داراً و يدخل فيها ضيفه و رفيقه و صديقه و غيره، غاية الأمر أنّ ذلك إباحة مجّانيّة و ما في الحمّامات إباحة مشروطة بدفع العوض المقرّر.

فالأولى أن يعبّر - بعد ما تقدّم من عدم اعتبار الإعطاء في شيء من الجانبين - مكان «بل يكفي مجرّد الإيصال و الوصول» بأنّه يكفي القول المجرّد عن الفعل الخالي عن شرائط الصيغة، و مرجعه إلى أنّه لا يعتبر في المعاطاة كونها بالفعل المحض أو الملفّق منه و من القول بل يكفي فيها مجرّد القول الخالي عن الشرائط، كأن يقول أحدهما: هذا ملك لك بكذا أو منّ من هذه الصبرة ملك لك بكذا، قاصداً لإنشاء التمليك، و يقول الآخر: ما يخالف أو ما يضرّ أو لا ضير فيه أو لا بأس به، قاصداً لإنشاء قبول التمليك، أو يقول أحدهما: أبيعك هذا بكذا، قاصداً لإنشاء التمليك، و يقول الآخر:

أشتري منك بكذا، قاصداً لإنشاء التمليك، أو يجريا الصيغة الفارسيّة مثل عبارة «فروختم و خريدم» و ما أشبه ذلك. و قد يعبّر عن هذه المعاملة القوليّة الخالية عن شرائط بأنّهما يتقاولان على مبادلة مال بمال من غير إيصال و قبض في المجلس، و مناط كفاية ما ذكر صدق البيع عرفاً فيشمله أدلّة الصحّة، هذا على القول بالملك. و أمّا على القول بالإباحة فقد يستشكل في كفايته تعليلاً بعدم الدليل على كفاية نحو ذلك في الإباحة، و القدر المتيقّن من دليله و هو السيرة و إجماع الغنية هو المعاطاة الحقيقيّة، و هي

ص: 538

الفعليّة المحضة أو الملفّقة.

المسألة الثالثة: هل يعتبر الشرائط المعتبرة في صحّة البيع ممّا يرجع إلى المتعاقدين و ما يرجع إلى العوضين

و إلى بيع الصرف و غيره في المعاطاة مطلقاً، أو لا تعتبر مطلقاً، أو تعتبر على القول بالملك و لا تعتبر على القول بالإباحة ؟ وجوه يظهر اختيار أوّلها من إطلاق جماعة منهم غير واحد من مشايخنا، و منهم صاحب الحدائق حيث قال: «ينبغي أن يعلم أنّه لا بدّ في هذا البيع من جميع الشرائط المعتبرة في صحّة البيوع سوى الصيغة الّتي ادّعوها. ثمّ حكى فيما بعد ذلك شهرة الاعتبار على القول بالإباحة قائلاً: المشهور بين القائلين بعدم لزوم المعاطاة صحّة المعاملة المذكورة إذا استكمل شروط البيع غير الصيغة المخصوصة، و أنّها تفيد إباحة تصرّف كلّ منهما فيما صار إليه من العوض»(1) انتهى.

و قوّاه شيخنا قدس سره(2) في متاجره مصرّحاً بعدم الفرق بين القولين و علّله على القول بالملك بكونها بيعاً، و حاصله أنّ الأدلّة دلّت على اعتبار الشروط فتثبت لكلّ ما صدق عليه أنّه بيع و منه المعاطاة. و على القول بالإباحة علّله تارةً بأنّها بيع عرفي و إن لم تفد إلّا الإباحة، و الأدلّة دلّت على اعتبارها في البيع العرفي لا خصوص البيع العقدي، و تنزيلها على البيع العقدي تقييد لها بغير الغالب. و اُخرى بأنّ الإباحة لم تثبت إلّا في المعاملة الفاقدة للصيغة فقط فلا تشمل الفاقدة للشروط الاُخر أيضاً. و لعلّ السرّ فيه على ما رامه أنّ العمدة من دليل القول بالإباحة السيرة و إجماع الغنية، و القدر المتيقّن من معقدهما الجامعة للشروط دون الفاقدة لها. و على هذا فالشروط على القول بالملك شروط للصحّة بالقياس إلى إفادة الملك، و على القول الآخر شروط لها بالنسبة إلى إفادة الإباحة.

و المخالف في المسألة على ما حكي هو الشهيد فنفى اعتبار جملة من الشروط قائلاً: «يجوز أن يكون الثمن و المثمن في المعاطاة مجهولين لأنّها ليست عقداً و كذا جهالة الأجل»(3) و عنه في باب الصرف أيضاً أنّه لا يعتبر التقابض في معاطاة النقدين،

ص: 539


1- الحدائق 350:18-356.
2- المكاسب 70:3.
3- نقله عنه في مفتاح الكرامة 510:12.

و هذا منه قدس سره إمّا اختيار للوجه الثاني، أو مصير إلى التفصيل و هو الوجه الثالث.

و يؤيّده أنّه من أهل القول بالإباحة(1) فعلى مختاره نفى الاشتراط. و يمكن أن يرجع كلامه الى تفصيل في تفصيل و هو التفصيل في الشروط على قوله بالإباحة لا مطلقاً.

و الأقوى هو القول الأوّل لأنّ الأصل في المعاملات مطلقاً هو الفساد حتّى بالنسبة إلى إباحة التصرّفات إلّا ما خرج بالدليل، و القدر المتيقّن خروجه من المعاطاة هي الجامعة لشروط صحّة البيع، و أمّا الفاقدة لها كلّها أو بعضها فلا دليل على خروجها فتكون باقية، و يعضده الشهرة محقّقة على القول بالملك معتضدة بعدم ظهور [خلاف فيه] و محكيّة على القول الآخر معتضدة بما تقدّم من الوجهين مع الاقتصار على القدر المتيقّن من معقد السيرة و إجماع الغنية و لم نقف للشهيد على وجه ظاهر، فقضيّة الأصل المعتضد بما ذكر اشتراط معلوميّة الثمن و المثمن و معلوميّة الأجل فيها و اعتبار التقابض في معاطاة النقدين.

و هل يجري في المعاطاة الأحكام المختصّة بالبيع كحرمة بيع الأعيان النجسة و غيرها ممّا تقدّم و حرمة الربا و الشفعة و خياري المجلس و الحيوان و نحو ذلك، أو لا؟ فنقول:

أمّا حرمة بيع الأعيان النجسة و غيرها ممّا تقدّم في مباحث المكاسب فلا ينبغي التأمّل في جريانها في المعاطاة على القول بالملك المتزلزل لأنّها بيع، بل هذه الأحكام جارية في مطلق عقود المعاوضة، و المعاطاة مع قطع النظر عن كونها بيعاً معاوضة. و من ذلك ظهر جريانها على القول بالإباحة لأنّها معاوضة عرفيّة بل قد يقال بكونها معاوضة شرعيّة نظراً إلى إمضاء الشارع، بل هي على هذا القول فاسدة من أصلها و لا تفيد إباحة التصرّفات في الأعيان النجسة و آلات اللهو و القمار و اتّخاذ العنب خمراً و الخشب صنماً للحرمة، جميع ذلك بالأصل، و إذن المبيح لا يرفعها و إذا انتفت الإباحة في المعوّض انتفت في العوض أيضاً لأنّ الإباحة مشروطة و الشرط غير حاصل فكذا المشروط.

و أمّا تحريم الربا فالظاهر جريانه فيها على القولين لقوله تعالى: «وَ حَرَّمَ اَلرِّبٰا» (2)(2)

ص: 540


1- القواعد و الفوائد 150:1.
2- البقرة: 275.

فإنّه عامّ في كلّ ربا كما أنّ «أَحَلَّ اَللّٰهُ اَلْبَيْعَ » عامّ في كلّ بيع فيندرج فيه المعاطاة الربويّة سواء جعلنا الربا عبارة عن البيع المشتمل على الزيادة أو عن الزيادة في البيع أو عن المعاوضة المشتملة على الزيادة - و هو الأقوى - أو عن الزيادة في المعاوضة، و المعاطاة على القولين معاوضة، و على القول بالملك بيع أيضاً.

و أمّا الخيارات فيمكن منع جريانها فيها مطلقاً لأنّها جائزة بالذات فلا معنى لثبوت الخيار، و يمكن القول بجريانها مطلقاً لأنّها تؤول إلى اللزوم بالتلف و غيره من الملزمات، و يظهر أثر الخيار بعد اللزوم و في الإسقاط و الصلح عليه، و يمكن القول بالفرق بين ما يختصّ دليله بالبيع كخيار المجلس و خيار الحيوان فلا يجري لاختصاص دليله بما وضع على اللزوم من غير جهة الخيار فلا يعمّ المعاطاة لخروجها عن هذا الموضوع لكون وضعها على الجواز، و ما لا يختصّ دليله بالبيع كخيار الغبن و خيار العنب فيأتي فيها لعموم دليله و هو قاعدة الضرر، وجوه و احتمالات، غير أنّه لم نقف على قائل بالوجه الأوّل، و لا على قائل صريح بالوجه الثاني، و أمّا الثالث فقد جزم به الشهيد الثاني في المسالك(1) و هو الأقرب بل الحقّ الّذي لا محيص عنه. و لكن ما لا يختصّ بالبيع إنّما يثبت فيها بعد حصول الملزم لا قبله.

لنا على عدم ثبوت ما يختصّ بالبيع فيها حكومة دليل خياري الحيوان و المجلس على دليل لزوم البيع الّذي هو الأصل فيه المقتضي لترتّب اللزوم على العقد من حين وقوعه، ببيان أنّ اللزوم الّذي هو حكم شرعي رتّبه الشارع على العقد في بيع الحيوان بعد ثلاثة أيّام و في بيع غيره بعد الافتراق، و معنى الحكومة هنا أنّ دليل هذين الخيارين و هو قوله: «ثلاثة أيّام للمشتري» و قوله: «البيّعان بالخيار ما لم يفترقا» بمدلول اللفظي متعرّض لدليل اللزوم ببيان كمّيّة موضوعه و هي أنّ بيع الحيوان لزومه بعد الثلاثة، و بيع غيره لزومه بعد الافتراق، و هذا كما ترى لا يتمّ إلّا في البيوع الّتي بناؤها في الشريعة على اللزوم، فهذه البيوع موضوع هذين الخيارين فلا يندرج فيها المعاطاة على القولين فلا يشملها دليل الخيارين جزماً.

و لنا على ثبوت ما لا يختصّ بالبيع كخياري الغبن و العيب بعد حصول الملزم

ص: 541


1- المسالك 151:3.

لا قبله أنّ قاعدة نفي الضرر حاكمة على دليل سبب اللزوم في البيع العقدي و المعاطاة على القولين، ببيان أنّ اللزوم الّذي هو حكم شرعي رتّبه الشارع على السبب المقتضي له عقداً كان أو غيره في غير محلّ الغبن و العيب لئلّا يلزم الضرر فلا لزوم في محلّيهما، و هذا كما ترى لا يعمّ المعاطاة قبل حصول شيء من ملزماتها إذ لا لزوم حينئذٍ ليلزم بسببه الضرر حتّى ينفيه القاعدة دفعاً للضرر من غير فرق بين القولين، و يعمّها بعد حصول شيء من الملزمات فيثبت كلّ من الخيارين لأنّه لولاه لزم الضرر بسبب اللزوم و هو منفيّ في شرع الإسلام.

لا يقال: إنّ قضيّة حكومة دليل هذين الخيارين أيضاً على دليل اللزوم كون موضوعه أيضاً البيوع الّتي بناؤها في الشريعة على اللزوم فلا يندرج فيه المعاطاة أيضاً لعين ما ذكرت في خيارى الحيوان و المجلس، لأنّ موضوع قاعدة الضرر ليس هو البيع بل الحكم الضرري تكليفيّاً كان أو وضعيّاً لزوماً كان أو غيره، استند اللزوم إلى العقد أو إلى غيره من ملزمات المعاطاة.

و توضيحه: أنّ مدرك قاعدة نفي الضرر ما ورد في الأخبار من قوله عليه السلام: «لا ضرر و لا ضرار في الإسلام»(1) و مفاده - على ما فهمه المحقّقون و حقّقناه في رسالة مفردة - أنّ الشارع تعالى لم يجعل في شرع الإسلام حكماً ضرريّاً أي حكماً مؤدّياً إلى ضرر مسلم، بحيث يسند الضرر إليه تعالى حيث جعل الحكم المؤدّي إليه، فكلّ حكم مؤدّ إلى الضرر فهو غير مجعول. و لا ريب أنّ من الحكم الضرري هو اللزوم في موارد الغبن و العيب لأنّه لو كان مجعولاً من الشارع في تلك الموارد لزم الضرر على المسلم المغبون و المعيب سلعته الّتي وقعت بيده بالبيع أو غيره فلا يكون مجعولاً بمقتضى القاعدة دفعاً للضرر. و هذا لا يتفاوت فيه الحال بين كون اللزوم المؤدّي إليه من مقتضى عقد من العقود اللازمة أو من مقتضى أسباب اُخر كملزمات المعاطاة، كما لا يتفاوت فيه الحال بالنسبة إلى ملزمات المعاطاة بين القولين فيها.

و أمّا الشفعة فالظاهر جريانها فيها على القول بالملك لاختصاص أدلّتها بالبيع

ص: 542


1- سنن البيهقي 70:6.

فيعمّها على هذا القول، خصوصاً ما هو صريح في العموم مثل قول الصادق عليه السلام في خبر هارون بن حمزة: «الشفعة في البيوع...»(1) الخ. و المعاطاة على هذا القول أيضاً بيع بل هي الغالب من أفراده الخارجيّة.

لا يقال: إنّها على القول الآخر أيضاً بيع عرفي لأنّ أهل العرف يطلقون عليها اسم البيع و إن لم تفد إلّا الإباحة فيشملها العموم المذكور و غيره من أخبار الشفعة، لأنّ هذه الدعوى غير مسلّمة بالنظر إلى عدم إمضاء الشارع الكاشف عن خطأ أهل العرف في اعتقادهم البيعيّة فيها، فإنّ أهل العرف في المعاطاة الّتي بأيديهم يعتقدون كونها معاوضة بيعيّة مفيدة للملك. و مفاد دليل القول بالإباحة من السيرة و إجماع الغنية المصرّح بنفي البيعيّة إن تمّ ينحلّ إلى نفي و إثبات، و الأوّل عدم إمضاء الشارع معتقد أهل العرف فيها من حيث البيعيّة و إفادة الملكيّة و مرجعه إلى أنّ الشرع كشف عن خطأ اعتقاد أهل العرف فيها من الحيثيّة المذكورة، و الثاني إمضاؤه لمعتقدهم فيها من حيث كونها معاوضة و أثرها بعد نفي إفادة الملك ليس إلّا إفادة إباحة التصرّفات، فهي على هذا القول بعد كشف الشرع ليست بيعاً حقيقة فكيف يعقل شمول الأدلّة المثبتة للشفعة في البيع لها.

المسألة الرابعة: في دخول المعاطاة و جريانها في سائر العقود اللازمة و الجائزة مطلقاً إلّا ما خرج بالدليل

كعقد النكاح لقيام دليل خاصّ على أنّه يعتبر في صحّته الصيغة المخصوصة بشرائطها، و عدمه مطلقاً، أو في الجملة، كلام الأصحاب فيه مضطرب حتّى قيل إنّ ما نحن فيه غير محرّر في كلامهم و عبارات المتعرّضين للمقام مختلفة، فعن السيّد صاحب المصابيح «دعوى سيرة المسلمين في الأعصار و الأمصار في جميع العقود على عدم الالتزام بالصيغ المخصوصة»(2).

و عن شرح القواعد ما يقضي بدعوى الإجماع المحصّل و المنقول بل السيرة على دخولها في عقود المعاوضات، و من عبارته المتكفّلة لدعوى السيرة في الجميع قوله ردّاً للقول بالإباحة المدّعى عليه الشهرة و الإجماع: «و هو مردود بالسيرة المستمرّة القاطعة

ص: 543


1- الوسائل 1/395:25، ب 2 أبواب الشفعة، التهذيب 728/164:7.
2- المصابيح: 23.

في إجراء حكم الأملاك على ما اُخذ بالمعاطاة من إيقاع عقد البيع و الإجارة و الهبة و الصلح و الصدقة و جميع العقود ممّا يتعلّق بتمليك الأعيان أو المنافع عليه...»(1) إلى آخر ما ذكره ممّا لا يتعلّق بما نحن فيه.

و من مشايخنا أيضاً من جزم بقيام السيرة على جريانها في كلّ باب و عنوان حتّى السبق و الرماية و الأوقاف كوقف المساجد و القناديل في الروضات المتبرّكة و الحصر و بواري المساجد و المدارس، حيث لم نر أحداً من المسلمين من لدن صاحب الشريعة إلى الآن أنّه التزم بإجراء صيغة خاصّة، بل نراهم في جميع الأعصار و الأمصار أنّهم يكتفون بمجرّد الأفعال مع القصد.

و نسب إلى المحقّق الثاني(2) الجزم بجريانها في مثل الإجارة و الهبة و القرض، و الاستشكال في الرهن، و وجّه بما محصّله اعتبار الوثوق في مفهوم الرهن و هو غير حاصل مع الجواز إن قلنا بكون معاطاته جائزة كمعاطاة البيع، و لو قلنا فيها باللزوم في الرهن فقط كان مخالفاً لما أطبقوا عليه من توقّف العقود اللازمة على اللفظ و المفروض عدم أوله إلى اللزوم بإتلاف أو تصرّف حتّى يقال بحصول الوثيقة في بعض الأحيان و به الكفاية في انعقاد مفهومه الّذي قوامه بالوثوق.

و في المسالك «ذكر بعض الأصحاب ورود المعاطاة في الإجارة و الهبة بأن يأمره بعمل معيّن و يعيّن له عوضاً فيستحقّ الاُجرة بالعمل، و لو كان إجارة فاسدة لم يستحقّ شيئاً مع علمه بالفساد بل لم يجز له العمل و التصرّف في ملك المستأجر مع إطباقهم على جواز ذلك و استحقاق الأجر إنّما الكلام في تسميته معاطاة في الإجارة، و ذكر في مثال الهبة ما لو وهبه بغير عقد فيجوز للقابض إتلافه و تملّكه به و لو كانت هبة فاسدة لم تجز، و لا بأس إلّا أنّ في مثال الهبة نظراً من حيث إنّ الهبة لا تختصّ بلفظ بل كلّ لفظ يدلّ على التمليك بغير عوض كافٍ فيها كما ذكروه في بابه، و جواز التصرّف في المثال المذكور موقوف على وجود لفظ يدلّ عليها فيكون كافياً في الإيجاب اللّهمّ إلّا أن يعتبر القبول القولي مع ذلك و لا يحصل في المثال فيتّجه ما قاله»(3) انتهى.

ص: 544


1- شرح القواعد 22:2.
2- جامع المقاصد 59:4.
3- المسالك 151:3-152.

و تحقيق المقام على ما يساعد عليه النظر أنّ العقود الباقية إمّا لازمة و لو من أحد الجانبين - كالإجارة و الصلح و المزارعة و المساقاة و القرض و الرهن و الوقف و الصدقة و الهبة لذي رحم و الهبة المعوّضة و المقصود بها القربة إن غايرت الصدقة و النكاح - أو جائزة كالشركة و القراض و الوديعة و العارية و الوكالة و الجعالة.

أمّا العقود اللازمة فالضابط في دخول المعاطاة فيها و قيامها مقام العقد اللفظي فيها و عدمه دخول خيار الشرط فيها، فكلّ عقد دخله خيار الشرط دخله المعاطاة أيضاً، و ينعكس بأنّ كلّما لا يدخله خيار الشرط لا يدخله المعاطاة، فإنّها في ذلك من جهة الإجماع على الدخول أو على عدمه أو الخلاف فيهما على أنواع:

الأوّل: ما لا يدخله خيار الشرط بالإجماع كالنكاح، و لعلّ السرّ فيه أنّ النكاح عقد صحّته مربوطة بلزومه و شرط الخيار ينافي لزومه فينافي صحّته فيبطل، و المعاطاة أيضاً لكون بنائها على الجواز تنافي اللزوم بل هي أشدّ منافاة من الخيار فتبطل.

الثاني: ما يدخله خيار الشرط بالإجماع كالإجارة و الصلح المعاوضي و القرض و المزارعة و المساقاة للإجماع على صحّة شرط خيار الفسخ فيها لأحد الجانبين أو كليهما، فإنّه يكشف عن عدم كون صحّة هذه العقود مربوطة للزومها فخيار الفسخ لا ينافي صحّتها و إن كان ينافي لزومها، و هذه دخلها المعاطاة أيضاً و تقوم مقام العقد اللفظي فيها لعدم منافاتها الصحّة، فتكون فائدة العقد اللفظي هو اللزوم المنتفي في معاطاتها. و يدلّ على دخولها فيها ما يدلّ على دخولها في البيع من السيرة القطعيّة القديمة في جميع الأعصار و الأمصار في جميع العقود المذكورة و لا سيّما القرض و بعده الإجارة و بعدها الصلح على عدم الالتزام في إطلاق أساميها و إجراء أحكامها بالصيغ المخصوصة المعتبرة فيها فتكشف عن تقرير المعصومين في كلّ من الاسم و الحكم.

الثالث: ما اختلف في دخول خيار الشرط و عدم دخوله فيه كالرهن و الوقف و الصلح الإبرائي و الصدقة و الهبة لذي رحم أو المعوّضة أو المقصود بها القربة، فإنّ اللازم من دخول الخيار فيها على القول به في كلٍّ دخول المعاطاة أيضاً لكشف دخوله عن عدم كون الصحّة مربوطة باللزوم، و اللازم من عدم دخوله على القول به في كلّ عدم دخولها أيضاً لكشف عدم دخوله عن كون الصحّة مربوطة باللزوم. و أمّا التكلّم في

ص: 545

دخول الخيار فيها كلاًّ أم بعضاً و عدمه هنا فليس من وظيفة المسألة بل له مقام آخر في أبواب الخيارات في مباحث خيار الشرط و سيأتي إن شاء اللّٰه تعالى، و إن كان الأقوى في الوقف و الرهن عدم دخوله كما هو المشهور في الأوّل بل عن المسالك كونه محلّ وفاق و هو في البواقي محلّ تأمّل، إلى أن يوفّقنا اللّٰه سبحانه على استقصاء النظر فيه في محلّه.

و أمّا العقود الجائزة، فالمعاطاة الّتي تضاف إليها إن كانت قوليّة فلا ينبغي التكلّم في دخولها فيها بل هو ممّا لا محلّ له، لأنّ كلّما يفرض بالقياس إليها من معاطاة قوليّة فهي داخلة في العقد اللفظي المعتبر فيها بناءً على أنّها لا تختصّ بلفظ بل كلّ لفظ يدلّ على المعنى المقصود منها يكون كافياً في انعقاد العقد المبحوث عن معاطاته و صحّته فيندرج فيه ما يفرض من المعاطاة القوليّة، بل هي على هذا التقدير من العقد اللفظي و تسميته معاطاة مسامحة، فلا معنى للتكلّم في قيامها مقام العقد اللفظي إلّا على القول باشتراط العربيّة في كلّ العقود الجائزة أو بعضها، و كانت المعاطاة القوليّة بغير اللفظ العربي، و لكنّ التكلّم في قيامها أيضاً في غير محلّه لأنّه راجع إلى التكلّم في اشتراط العربيّة في عقدها اللفظي و هو ليس من وظيفة المقام بل بالقياس إلى كلّ عنوان موكول إلى بابه.

و إن كانت فعليّة فالتشكيك في قيامها ليس لمدخليّة اللفظ في العقد اللفظي في انعقاد العقد أو صحّته بل لكونه فاقداً لما هو مناط انعقاده عقداً صحيحاً، و هو الدلالة على المعنى المقصود من الوديعة الاستنابة في حفظ المال، فإذا دفعه المالك إلى غيره و قال: «أودعته عندك» أو «هذا وديعة عندك» كان دالاّ على الاستنابة في الحفظ، و أمّا لو دفعه إليه من غير لفظ لم يكن دفع الدافع دالاّ على إنشاء هذا المعنى و لا أخذ الآخذ على قبوله، لقيام احتمال كونه هبة أو عارية أو إباحة للتصرّف أو قراضاً فيكون مجملاً، و لا يعقل في المجمل دلالة على المعنى المقصود منه بعينه، و هذا ممّا لا يعقل قيامه مقام العقد اللفظي، و إلّا فلو فرض الفعل بحيث يكون دالاّ على المعنى المقصود و لو بمعونة قرينة مقام و نحوها فلا ينبغي التشكيك في قيامه مقام العقد اللفظي، و لذا كان الفعل في مقام القبول بعد سبق الإيجاب القولي كافياً على الأقوى لأنّه بملاحظة سبق الإيجاب القولي ينصرف إلى كونه قبولاً لذلك الإيجاب، و لكن يشترط فيه حيث يدلّ على المعنى المقصود كون دلالته قطعيّة و لا يكفي فيها الظنّ و الظهور. و بذلك يفترق عن العقد اللفظي

ص: 546

الّذي يكفي في دلالته الظهور لحجّيّة الظواهر، و اختصاص الحجّيّة بالألفاظ بل الدلالة على المعنى المقصود كما أنّها معتبرة في معاطاة العقود الجائزة إذا كانت فعليّة فكذلك معتبرة في العقود اللازمة أيضاً، فالمعاطاة حيث تدخل العقود الجائزة تساوي العقد اللفظي في الفائدة لاشتراكهما في الجواز فإنّ العقد في ذاته جائز لفظيّاً كان أو معاطاة، و العقد اللفظي لا تفيد فائدة اُخرى زائدة على فائدة المعاطاة فيها. و بذلك يمتاز هذه المعاطاة عن معاطاة العقود اللازمة فإنّها تغاير العقد اللفظي المعتبر فيها في الجواز و اللزوم.

و أمّا المناقشة في التسمية بالمعاطاة في أكثرها كما تقدّم نظيرها في معاطاة على ما نقله في المسالك(1) فيدفعها، أنّه [إن] اُريد عدم التسمية لغة لعدم تحقّق المفاعلة و لا صدور الفعل بين اثنين ففيه أنّ إطلاق المعاطاة في كلمة الأصحاب ليس باعتبار اللغة، و إن اُريد عدم التسمية بحسب عرف الفقهاء أو المتشرّعة ففيه منع واضح، لما ذكرناه مراراً من أنّها عندهم عبارة عن كلّ معاملة عقديّة فاقدة للصيغة أو شرائطها، و هذا المعنى يوجد في الجميع حتّى الإجارة و الوكالة و المزارعة و المساقاة.

ثمّ إنّ قولنا بقيام المعاطاة مقام العقد اللفظي في العقود اللازمة و الجائزة ينحلّ إلى قضيّتين، إحداهما: أنّها في كلّ عنوان يصدق عليها اسم ذلك العنوان، فهي في محلّ الإجارة إجارة، و في محلّ الصلح صلح، و في محلّ القرض قرض، و في محلّ المزارعة مزارعة، و في محلّ الوديعة وديعة و هكذا. و اُخراهما: أنّها تفيد فائدة هذا العنوان من تمليك منفعة أو عين أو الاستنابة في الحفظ أو التصرّف أو الإذن في الانتفاع مع بقاء العين، أو الإذن في العمل بعوض أو الإذن في الاتّجار بحصّة من الربح و نحو ذلك.

و قضيّة ذلك كلّه أن يكون معاطاة سائر العقود كمعاطاة البيع في وجوب اجتماع شرائط الصحّة فيها، فوجب أن تكون في محلّ الإجارة جامعة لشرائط الإجارة، و في محلّ القرض جامعة لشرائط القرض، و في محلّ المزارعة أو المساقاة جامعة لشرائطهما، و في محلّ الوديعة أو العارية جامعة لشرائطهما، و في محلّ الوكالة و الجعالة جامعة لشرائطهما، و هكذا.

ص: 547


1- المسالك 147:3-151.
السابع: في ملزمات معاطاة البيع
اشارة

السابع(1): في ملزمات معاطاة البيع

فنقول: قد اتّفق الأصحاب - مع اختلافهم في أنّها هل تفيد الملك أو الإباحة و على الأوّل هل تفيد اللزوم أو الجواز - على أنّ لها ملزماً، و هو لا يخلو عن اُمور ثلاث: التلف، و نقل الملك بسبب شرعي، و تغيير الوصف.

و الملزميّة في بعض هذه الثلاث محلّ وفاق، و في البعض الآخر محلّ خلاف حسبما تعرفه. ثمّ لكلّ من هذه الحالات أقسام أربع، لأنّها إمّا تحصل في تمام كلّ من العينين، أو في تمام إحدى العينين، أو في بعض كلّ منهما، أو في بعض إحداهما، و مرتفع الثلاث في الأربع اثنى عشر.

و تمام البحث في أحكام هذه الأقسام يقع في طيّ مسائل:
المسألة الاُولى: في تلف تمام كلّ من العينين،

و نعني بالتلف تبدّل وصف وجود الشيء بالعدم سواء كان بآفة سماويّة أو بإتلاف من بيده أو متلف آخر فهل يكون ملزماً أو لا؟ و ليعلم أنّ المراد باللزوم هنا سقوط الجواز الّذي كان ثابتاً قبل التلف و هو جواز الرجوع بالعين، و قد يعبّر بجواز الترادّ و المعنى واحد، و المراد بالجواز المحتمل في مقابله هو جواز الرجوع على من تلفت بيده العين بغرامة مثلاً في المثليّات و قيمة في القيميّات، لا جواز الرجوع بالعين لاستحالته. فاللزوم بالمعنى المذكور بعد تلف العينين هو المعروف من مذهب الأصحاب الّذي صرّح به جماعة من الأساطين و قد ينفى عنه الخلاف، كما عن شرح(2) القواعد و قد يدّعى عليه الإجماع على الظاهر المصرّح به في بعض العبائر.

و قد يستدلّ عليه بأصالة اللزوم الّتي هي الأصل في العقود، و المتيقّن ممّا خرج منه ما دامت العينان باقيتين فوجب الحكم باللزوم بعد تلفهما عملاً بأصالة اللزوم. و لا خفاء في ضعفه لأنّ الاستناد إلى الأصل المذكور إنّما يتمّ أن لو كان الجواز المبحوث عنه مستنداً إلى وجود مانع يكون رافعاً للّزوم بحيث لولاه لكان اللزوم ثابتاً لوجود مقتضيه، كما في الخيارات الّتي تثبت في العقد اللازم من مقتضى دليل شرعي كما في خياري المجلس و الحيوان، أو من مقتضى حالة وجوديّة طارئة دلّ الدليل على كونها رافعة للّزوم كما في خياري الغبن و العيب، و هذا هو الّذي تقتصر في مخالفة أصالة

ص: 548


1- تقدّم «السادس» في ص 529.
2- شرح القواعد 28:2.

[اللزوم] و الخروج عنها على القدر المتيقّن و في غيره يحكم باللزوم عملاً بالأصل، و لذا صار الخيار في هذه الخيارات فوريّة على الصحيح لأنّ القدر المعلوم خروجه من الأصل هو زمان الفور. و ما نحن فيه ليس من هذا القبيل بل الجواز لو قيل به مستند إلى فقد المقتضي فإنّه في المعاطاة على ما تقدّم إنّما ثبت بالإجماع محصّلاً و منقولاً و مدرك الإجماع اشتراط اللزوم في العقود اللازمة بالصيغة المخصوصة الجامعة لشروطها المقرّرة و الشرط في المعاطاة منتف.

و من القواعد العقليّة الغير القابلة للتخصيص أنّه متى ما انتفى الشرط انتفى المشروط، فالجواز مسبّب عن انتفاء شرط اللزوم و لا ريب أنّ انتفاء الصيغة في المعاطاة لا يتفاوت فيه الحال بين حالات العوضين من بقائهما أو تلفهما أو بقاء إحداهما و تلف الاُخرى، ضرورة أنّ تلف العوضين لا يعطيها وجود الصيغة فالمعاطاة بجميع حالات العوضين فيها مخرجة عن عموم آية «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» الّذي هو المقتضي للّزوم في العقود اللازمة و هو مدرك أصالة اللزوم، و على هذا فلا مقتضي للّزوم في المعاطاة رأساً للزومها انتفاء شرط اللزوم، فلا معنى للاستناد إلى أصالة اللزوم بعد تلف العوضين.

و تحقيق المقام أنّ اللزوم إن اُريد به سقوط الجواز السابق على التلف فلا مجال لأحد إلى إنكار أنّ تلف العوضين يوجبه، لأنّ الجواز السابق عليه عبارة عن جواز ترادّ العينين و تلفهما يوجب استحالة ترادّهما فيمتنع بقاء جوازه، و لا نعني من سقوطه إلّا امتناع بقائه، و بالتأمّل في ذلك يعلم عدم إمكان استصحابه لعدم بقاء موضوع المستصحب.

و إن اُريد به ما يقابل جواز الرجوع بالغرامة مثلاً أو قيمة أعني عدم جواز الرجوع بها فالحقّ هو اللزوم أيضاً للأصل، فإنّ جواز الرجوع بالغرامة أمر إضافي بين المالك الأصلي و من بيده التلف فهو من حيث إضافته إلى المالك الأصلي يرجع إلى استحقاقه الغرامة مثلاً أو قيمة، و من حيث إضافته إلى من بيده التلف يرجع إلى ضمانه الغرامة بالمثل أو القيمة و كلاهما خلاف الأصل، فإنّ الأصل عدم استحقاق الأوّل و عدم ضمان الثاني، مضافاً إلى أصالة البراءة عن وجوب ردّ المثل أو القيمة، و لا دليل يوجب الخروج عن الأصل فيهما، و لا فرق في جريان الأصل بين القول بالملك و القول بالإباحة.

و توهّم: أنّ الدليل عليه قاعدة ضمان الإتلاف المستفادة من عموم قوله عليه السلام: «من

ص: 549

أتلف مال الغير» و قاعدة ضمان اليد المستنبطة من عموم قوله عليه السلام: «على اليد ما أخذت».

يدفعه عدم جريان عموم الخبرين فيما نحن فيه لا على القول بالملك و لا على القول بالإباحة.

أمّا عدم جريان عموم الخبر الأوّل على القول بالملك فلأنّه عامّ في إتلاف مال الغير، و التالف هنا لكونه ملكاً ليس بمال الغير، و على القول بالإباحة فلأنّه يقتضي الضمان بإتلاف لم يكن عن تسليط المالك و المفروض أنّ المالك لإباحته جميع التصرّفات حتّى التصرّفات الإتلافيّة سلّطه على إتلافه.

و أمّا عدم جريان عموم الخبر الثاني على القول بالملك فلأنّه عامّ في اليد الغير المالكيّة و ما نحن فيه يد مالكيّة، و على القول بالإباحة فلأنّ اليد الغير المالكيّة الموجبة للضمان عبارة عن اليد العادية و هي فيما نحن فيه ليست بعادية، لمكان إذن المالك في جميع التصرّفات حتّى الإتلافيّة منها، مضافاً إلى أنّ ضمان المثل أو القيمة بعد التلف تابع لضمان العين قبل التلف و هو وجوب ردّها إلى مالكها و المفروض عدم وجوب ردّ العين على المدفوع إليه قبل تلفها فلا يجب عليه مثلها و لا قيمتها بعده.

فتبقى الاُصول المذكورة سليمة عمّا يوجب الخروج عنها سواء كان التلف بإتلاف المدفوع إليه أو بآفة سماويّة أو بإتلاف أجنبيّ .

أمّا الأوّل فلما عرفت، و أمّا الأخيران فلأنّ الموجب للضمان إمّا الغصب فهو منتف، و إمّا التسبيب بالتفريط أو التعدّي فهما أيضاً منتفيان، أمّا انتفاء التفريط فلأنّه لم يجب عليه في المال المدفوع إليه ما يكون تركه تفريطاً، و أمّا انتفاء التعدّي فلأنّه لم يحرم عليه فيه ما يكون فعله تعدّياً، مع أنّه قد عرفت عدم كون يد المدفوع إليه يد ضمان لعدم وجوب ردّ العين قبل تلفها فلا يضمن الغرامة بالمثل أو القيمة بعد تلفها.

و لكن يشكل الحال في صورة إتلاف الأجنبيّ على القول بالإباحة، بأنّ غاية ما يسلّم عدم ضمان المدفوع إليه المثل أو القيمة للمالك، و لا مانع من أن يضمن أحدهما الأجنبيّ له بأن يستحقّ غرامة ماله مثلاً أو قيمة في ذمّة الأجنبيّ المتلف له و هو من مقتضى عموم «من أتلف مال الغير فهو ضامن».

و يمكن الذبّ عنه بأنّ إتلاف الأجنبيّ إن كان ترخيصيّاً و هو أن يأذن له المدفوع

ص: 550

إليه في إتلافه فهو مستند بالأخرة إلى تسليط المالك، و إن كان عدوانيّاً كما لو غصبه ثمّ أتلفه فلا يقتضي الخبر ضمانه المثل أو القيمة للمالك لظهوره و لو بحكم الانصراف في إتلاف مال لم يصب المالك عوضه و المفروض أنّ المالك قد أصاب عوض ماله، غاية الأمر كونه عوضاً جعليّاً فلا يستحقّ عوضاً آخر له في ذمّة الأجنبيّ الغاصب له عن المدفوع له. و لو سلّم عدم ظهور الخبر فيما ذكرنا فيمنع ظهوره أيضاً في خلافه فيبقى الشكّ في استحقاق المالك الأصلي بعوض ماله الحقيقي في ذمّة الغاصب المتلف له و عدمه و الأصل عدم استحقاقه له.

لا يقال: إنّ هذا الأصل معارض بمثله في جانب المدفوع إليه لبطلان استحقاقهما معاً من جهة استحالة اجتماع المالكين على مال واحد، و استحالة اجتماع استحقاقين في مال واحد كبطلان عدم استحقاقهما معاً، لأنّ الغاصب المتلف للمال ضامن لمثله أو قيمته لا محالة، و ضمان المثل أو القيمة أمر إضافي يقتضي مضموناً له، و هو إمّا المالك الأصلي أو المدفوع إليه من المتعاطيين، و أصالة عدم استحقاق الأوّل معارضة بأصالة عدم استحقاق الثاني.

لأنّا نقول: إنّ استحقاق المالك لغرامة ماله في ذمّة الغاصب المتلف له إمّا أن يكون مع ضمانه لغرامة مال المدفوع إليه المفروض تلفه في يده أو مع عدم ضمانه لها، و لا سبيل إلى الأوّل لما تقدّم من الاُصول أعني أصالة عدم استحقاق المدفوع إليه لغرامة ماله على ذمّة الدافع و أصالة عدم ضمان الدافع لها و أصالة البراءة عن وجوب ردّ مثله أو قيمته، و لا إلى الثاني لأنّ التعارض المتوهّم إنّما طرأ من جهة العلم الإجمالي بانتقاض الحالة السابقة في أحد الأصلين لتيقّن حدوث استحقاق للغرامة في ذمّة الغاصب المتلف مع اشتباه المستحقّ في بادئ النظر، و لكن يتعيّن كونه حاصلاً للمدفوع إليه المغصوب عنه لا لصاحب المال الأصلي لأنّه أصاب عوضه الجعلي بالفرض فلو استحقّ عوضه الحقيقي لزم الجمع بين العوض و المعوّض، مضافاً إلى ما يلزم بالقياس إلى المدفوع إليه من خروج ماله بلا عوض و هذا خلاف قاعدة «احترام مال المسلم»، فإنّ قضيّة احترام المال أن لا يخرج من مالكه مجّاناً و بلا عوض، و يؤيّده إطلاق كلام الأصحاب باللزوم و عدم جواز الرجوع على معنى عدم استحقاق المالك

ص: 551

الأصلي للغرامة بالمثل أو القيمة مع التلف الشامل لما كان التلف بإتلاف غاصب.

و ما يقال عليه: من أنّ تلف العين إذا كان بجناية الغير فهو ليس بتلف حقيقي لانتقالها حينئذٍ إلى ذمّة الجاني، و مع قرارها في الذمّة لِمَ لا يجوز الرجوع عليه بأخذ المثل أو القيمة. ففيه أنّه لا كلام في الانتقال إلى ذمّة الجاني، و إنّما الكلام فيمن يستحقّ ما في ذمّته من المثل أو القيمة، و نحن نقول بأنّ كونه المدفوع إليه لا المالك الأصلي أوفق بالأصل و القواعد حسبما بيّنّاه.

و قد يستدلّ على اللزوم بالسيرة فإنّها قائمة بعدم الرجوع بعد التلف مطلقاً. و نوقش بكونها مجملة إذ لا يدرى أنّ بناءهم في عدم الرجوع هل هو لزعمهم كونها بيعاً لازماً من أصلها أو بيعاً جائزاً فيلزم بالتلف أو معاملة مستقلّة لازمة من أصلها أو جائزة تلزم بالتلف أو إباحة لا تقبل الرجوع بعد التلف ؟ فجهة البناء غير معلومة فتكون كالإجماع التقييدي في عدم صلاحيته للاستناد إليه.

و يزيّفها أنّ السيرة على فرض قيامها بعدم الرجوع تكشف كشفاً قطعيّاً عن تقرير المعصوم الكاشف عن كون معتقده أنّه لا رجوع في المعاطاة بعد التلف و هذا كافٍ في ثبوت اللزوم بعده، غاية الأمر بقاء التشكيك في الجهة الباعثة عليه و هو لا يضرّ بالقطع بأصل اللزوم بعد التلف. نعم يخدشها أنّ غاية ما يسلّم قيام السيرة بعدم الرجوع بعد التلف، و هو غير اللزوم بمعنى عدم جواز الرجوع و هذا هو محلّ الكلام، و السيرة ساكتة عنه، فدليل اللزوم منحصر في الأصل حسبما قرّرناه.

و لو تلف البعض من كلّ من العينين فيحتمل فيه القول باللزوم مطلقاً، و القول بجواز الرجوع بعين البعض الباقي و عوض البعض التالف، و القول بالجواز في البعض الباقي و اللزوم في البعض التالف وجوه، قد يقال بأنّ خيرها أخيرها للاستصحاب مراداً به استصحاب الجواز السابق على التلف بالنسبة إلى الباقي و أصالة عدم استحقاق الغرامة بالمثل و القيمة بالنسبة إلى التالف، مضافاً إلى أصالة عدم ضمانها.

لا يقال: إنّ الحكم السابق على التلف إنّما جواز ترادّ العينين و هو بتلف البعض من كلّ منهما غير ممكن فيسقط جوازه أيضاً، لأنّ المسلّم من عدم الإمكان إنّما هو ترادّ التالف من كلّ منهما و أمّا ترادّ الباقي منهما فممكن جزماً فنحكم ببقاء جوازه و لو بحكم

ص: 552

الاستصحاب.

نعم يمكن الخدشة في الاستصحاب بعدم بقاء الموضوع لأنّ موضوع المستصحب هو مجموع العينين و هو غير باق و الباقي الّذي هو البعض من المجموع غيره، و ضابطه وجوب كون القضيّة المشكوكة بعينها هي القضية المتيقّنة بلا اختلاف بينهما إلّا في اليقين و الشكّ و تعدّد زمانيهما باعتبار السبق و اللحوق، و ما نحن فيه ليس من هذا القبيل، لأنّ القضيّة المتيقّنة في الزمان السابق جواز الرجوع بمجموع العينين و القضيّة المشكوكة في الزمان اللاحق جواز الرجوع بالبعض من المجموع، و لا ريب في تعدّد موضوعي القضيّتين، و هذا آية عدم بقاء الموضوع.

و يمكن دفعها بأنّ الموضوع ليس مفهوم مجموع العينين بل مصداقه، و لا ريب أنّ مصداق المجموع ينحلّ إلى أجزائه فيتبعه جواز الترادّ فيضاف إلى كلّ من أجزاء المجموع الّتي منها البعض الباقي منهما جواز الترادّ، فجواز الترادّ بالنسبة إلى البعض الباقي من كلّ منهما ليس من استصحاب الحكم مع عدم بقاء موضوع المستصحب، إلّا أنّ تتميم ذلك مبنيّ على ثبوت جواز ترادّ البعض من كلّ من العينين لكلّ من المتعاطيين حال وجود العينين بتمامهما، و هذا غير واضح لعدم وضوح الدليل عليه.

نعم ربّما يدخل في الوهم التمسّك له بالفحوى بتقريب أنّه إذا جاز لهما ترادّ العينين بتمامهما يجوز لهما ترادّ البعض من كلّ منهما بطريق أولى، و لكن يزيّفه منع الأولويّة، و سند المنع لزوم تبعّض الصفقة الموجب للضرر، و عليه فيشكل التعلّق بالاستصحاب لإثبات بقاء جواز الترادّ بالنسبة إلى البعض الباقي منهما. فالوجه و المختار حينئذٍ أوّل الوجوه المتقدّمة.

المسألة الثانية: فيما لو تلفت إحدى العينين بتمامها

و المصرّح به في كلام جماعة من أساطين الطائفة من غير خلاف يظهر على القول بالملك لزوم المعاطاة من الجانبين و علّله المحقّق الثاني في كلامه المتقدّم في مفتتح الباب «بأنّ الترادّ يجوز ما دام ممكناً و مع تلف إحدى العينين يمتنع الترادّ فيتحقّق اللزوم»(1).

ص: 553


1- جامع المقاصد 58:4.

و الأولى أن يقرّر الدليل بأنّ رجوع صاحب العين التالفة بعينها غير ممكن فيسقط الجواز في حقّه و يلزم منه سقوطه في حقّ صاحب العين الموجودة أيضاً، لأنّه لو جاز له الرجوع بعينها الموجودة، فإمّا أن يرجع بدون ضمانه المثل أو القيمة لصاحب العين التالفة، أو يرجع مع ضمانه إيّاهما له، و لا سبيل إلى شيء منهما.

أمّا الأوّل فللزوم الجمع بين العوض و المعوّض، و هو باطل بالإجماع.

و أمّا الثاني فلأصالة عدم الضمان و أصالة البراءة و أصالة عدم استحقاق صاحب العين التالفة لمثل عينه التالفة و قيمتها.

و توهّم: تعلّق الضمان من عموم «من أتلف مال الغير» أو من عموم «على اليد» فاسد، لأنّه إنّما أتلف مال نفسه لا مال الغير فلا يعقل كونه موجباً للضمان، و يده يد مالكيّة فلا يعقل كونها موجبة للضمان.

و قد يستدلّ أيضاً بأنّ قضيّة المعاوضة ارتباط كلّ من العوضين بالآخر و قضيّة هذا الارتباط مشاركتهما في الأحكام، و حينئذٍ فلو جاز لصاحب العين الموجودة الرجوع بعينها جاز لصاحب العين التالفة أيضاً الرجوع بعينها و لو لم يجز الرجوع للثاني لم يجز للأوّل أيضاً، فيتعارضان و الترجيح للثاني لأنّ مرجع التعارض المذكور إلى تعارض المقتضي و المانع، و من المحقّق تقدّم المانع و ذلك لأنّ وجود العين الموجودة يقتضي جواز الرجوع للجانبين و تلف العين التالفة يقتضي عدم جواز الرجوع من الجانبين فيكون الأوّل مقتضياً و الثاني مانعاً، و يقدّم المانع على المقتضي لأنّ تأثير المقتضي يتوقّف على فقد المانع و تأثير المانع لا يتوقّف على فقد المقتضي بل من خواصّ أنّه يجامع المانع فلا يقتضي، و هذا هو معنى تقديم المانع على المقتضي.

و يشكل بأنّ كون وجود العين الموجودة مقتضياً للجواز من الجانبين و تلف العين التالفة مانعاً من الجواز من الجانبين ليس لذاتهما بل باعتبار الملازمة بين العوضين في الحكم، و هو أن يقال: بأنّ جواز الرجوع بالعين الموجودة يلازم جواز الرجوع بالعين التالفة و عدم جواز الرجوع بالعين التالفة يلازم عدم جواز الرجوع بالعين الموجودة.

و نحن نطالب المستدلّ بدليل هذه الملازمة و لم نقف على دليل لها، إلّا أن يكون إجماعاً، و ليس ببعيد. هذا كلّه على القول بالملك.

ص: 554

و أمّا على القول بالإباحة فنقل شيخنا(1) قدس سره عن بعض مشايخه(2) وفاقاً لبعض معاصريه(3) تبعاً للمسالك(4) أنّه قد استوجه عدم اللزوم لأصالة بقاء سلطنة مالك العين الموجودة و ملكه.

و ردّه بأنّها معارضة بأصالة براءة ذمّته عن مثل التالف أو قيمته. و الأولى أن يقال:

بأنّ رجوع مالك العين الموجودة بعينه عملاً بأصالة بقاء سلطنته إمّا أن يكون بدون ضمانه للمثل أو القيمة لصاحب العين التالفة، أو يكون مع ضمانه، و الأوّل باطل لئلّا يلزم الجمع بين العوض و المعوّض، و الثاني أيضاً باطل للاُصول المتقدّمة. و لكن يرد على هذه الاُصول أنّ أصالة بقاء سلطنة المالك على ماله الموجود واردة عليها لسببيّة شكّها كما يظهر بالتأمّل. بل قد يقال: بأنّ عموم «الناس مسلّطون على أموالهم» يدلّ على السلطنة على المال الموجود بأخذه و على المال التالف بأخذ بدله الحقيقي و هو المثل أو القيمة. و فيه نظر لما يظهر وجهه بما بيّناه في المسألة السابقة، و العمدة ما تقدّم من ورود أصالة بقاء السلطنة، فما استوجه وجيه.

و في حكم تلف إحدى العينين سقوط أحد العوضين عن ذمّة أحد المتعاطيين فيما لو كان في ذمّته، و يندرج فيه صورتان:

إحداهما: ما لو وقعت المعاطاة على عين شخصيّة مع كلّي في الذمّة ثمناً أو مثمناً، كما لو باع رطلاً من الحنطة الموجودة برطل من تمر في الذمّة ثمّ دفع المشتري شخصاً مطابقاً له إلى البائع وفاءً عنه مع التراضي فإنّه يوجب سقوط الكلّي الّذي هو أحد العوضين عن ذمّته فإنّه في حكم التلف، و على القول بالملك يوجب اللزوم فليس له الرجوع بالشخص المدفوع إلى البائع وفاءً و لا للبائع ردّه، و الرجوع بعينه المدفوعة إلى المشتري لعدم الدليل على الجواز بهذا المعنى، فإنّ الجواز اللاحق بالمعاطاة إنّما ثبت بدليله لمورد المعاطاة و هو نفس العوضين، و المفروض كون أحدهما كلّيّاً في الذمّة و قد سقط، و الشخص الموجود إنّما حصل في يد البائع مثلاً وفاءً عمّا في الذمّة و هو معاملة

ص: 555


1- المكاسب 97:3.
2- هو السيّد المجاهد في المناهل: 269.
3- هو الفاضل النراقي في المستند 250:14.
4- المسالك 149:4.

اُخرى خارجة عن المعاطاة يقال «المعاملة الوفائيّة». و بالجملة الّذي ملكه البائع بالمعاطاة إنّما هو الكلّي في ذمّة المشتري و قد سقط بدفع شخصه المطابق، و هذا الشخص الموجود قد ملكه بالمعاملة الوفائيّة لا بالمعاطاة.

و دعوى أنّ المعاملة الوفائيّة الواقعة عقيب المعاطاة يتبعها في الجواز و اللزوم، و إذا فرض كونها قبل دفع الشخص وفاء عمّا في الذمّة جائزة كانت المعاملة الوفائيّة الواقعة بعدها أيضاً جائزة. يدفعها: أنّ التبعيّة تحتاج إلى دليل و لا دليل عليه، و الأصل عدم سلطنة المشتري على استرجاعه فقد لزمت المعاطاة من طرفه و يلزم منه لزومها من طرف البائع أيضاً.

و فيه تأمّل، لأنّ غاية ما هنالك انتفاء الجواز في جانب المشتري بالنسبة إلى الشخص المدفوع وفاءً ، و هذا لا ينافي بقاء الجواز في جانب البائع بالنسبة إلى عينه الموجودة و لو بحكم الأصل، فيلزم كون المعاطاة كالهبة جائزة من جانبه لازمة من جانب المشتري. هذا كلّه على القول بالملك.

و أمّا على القول بالإباحة ففي اللزوم و الجواز بعد سقوط الكلّي عن الذمّة بدفع الشخص المطابق وفاءً وجهان: من سقوط مورد المعاطاة عن الذمّة و القدر المتيقّن من الجواز الثابت بدليله هو ما دام العوضان بأنفسهما باقيين، و من أنّ الإباحة بالقياس إلى الكلّي في الذمّة لا تظهر أثرها إلّا في شخصه المدفوع وفاءً لعدم إمكان جميع أنواع التصرّفات فيما في الذمّة فكان المتعاطيان تبانيا و تواطئا على إباحة الشخص في مقابلة الشخص، و مرجعه إلى أنّ المعاطاة كأنّها وقعت على الشخصين، و هذا أجود في ظاهر النظر. و لك إجراء الكلام بحذافيره فيما لو كان المثمن كلّيّاً في الذمّة و ما لو كان المثمن و الثمن كلّيّين فحصل دفع الشخص وفاءً من الجانبين، إلّا أنّه ينبغي القطع باللزوم من الجانبين في الأخير على القول بالملك لا على القول بالإباحة لجريان المتقدّم فيه أيضاً من عدم ظهور أثر الإباحة إلّا في الشخصين، لامتناع أنواع التصرّفات في الكلّيين.

و ثانيتهما: ما لو كان أحد العوضين دَيناً في ذمّة أحد المتعاطيين سابقاً على المعاطاة فتعاطيا على الدين عوضاً و عين شخصية معوّضاً، فقال بعض مشايخنا: «إنّه على القول بالملك يملكه من في ذمّته فيسقط عنه، و الظاهر أنّه في حكم التلف لأنّ الساقط

ص: 556

لا يعود، و يحتمل العود و هو ضعيف. و الظاهر أنّ الحكم كذلك على القول بالإباحة»(1).

أقول: أمّا أنّه يملك الدين في ذمّته فالمراد منه أنّه يملكه آناً ما، و وجهه أنّه من مقتضى المعاوضة. و أمّا سقوطه لأنّ الإنسان لا يملك شيئاً في ذمّته لنفسه. و أمّا ضعف احتمال العود فلأنّ السقوط بمنزلة الانعدام و عود المعدوم محال، أو لأنّ الأصل عدم العود و إن فرضنا إمكانه بالذات. و أمّا كون الحكم على القول بالإباحة كذلك فمنظور فيه، لأصالة بقاء سلطنة المالك و هو المديون على ماله الموجود في يد الدائن، و أصالة بقاء ملكه فيه، فإذا رجع ضمن للدائن بمثل دَينه الساقط بالمعاطاة لئلّا يلزم الجمع بين العوض و المعوّض، لا بنفسه حتّى يلزم إعادة المعدوم المستحيل. نعم لو قيل بحدوث الملك للدائن في المال بسقوط دَينه عن ذمّة المديون اتّجه اللزوم و عدم جواز الرجوع للمديون بالمال، إلّا أنّه ممّا لا دليل عليه، و الأصل يقتضي عدمه، و يعضده أصالة بقاء السلطنة للمديون و بقاء ملكه فليتدبّر.

و لو تلف بعض إحدى العينين ففي اللزوم من الجانبين مطلقاً، أو الجواز مطلقاً فيرجع أحدهما بتمام العين الاُخرى و الآخر بعين الباقي و بدل التالف مثلاً أو قيمة، أو اللزوم بالنسبة إلى البعض التالف و مقابله من العين الاُخرى، و الجواز بالنسبة إلى البعض الباقي و مقابله من العين الاُخرى ؟ وجوه: جزم بأوّلها المحقّق الثاني، و احتمل الأخيرين ثاني الشهيدين في المسالك.

أمّا الأوّل فإنّه بعد ما حكم باللزوم مع تلف إحدى العينين قال: «و يكفي تلف بعض إحدى العينين لامتناع الترادّ في الباقي، إذ هو موجب لتبعّض الصفقة و للضرر، لأنّ المطلوب هو كون إحداهما في مقابل الاُخرى»(2).

و أورد عليه في المسالك في كلّ من وجهيه بقوله: «و فيه نظر فإنّ تبعّض الصفقة لا يوجب بطلان أصل المعاوضة، بل غايته جواز فسخ الآخر فرجع إلى المثل أو القيمة كما في نظائره، و أمّا الضرر الحاصل من التبعيض المنافي لمقصودهما من جعل إحداهما في مقابلة الاُخرى فمستند إلى تقصيرهما في التحفّظ بإيجاب البيع كما (2)

ص: 557


1- المكاسب 98:3-99.
2- جامع المقاصد 58:4.

لو تبايعا بيعاً فاسداً، و يحتمل حينئذٍ أن يلزم من العين الاُخرى في مقابلة التالف و يبقى الباقي على أصل الإباحة بدلالة ما قدّمناه»(1) انتهى.

أقول: في كلّ من الإيرادين نظر:

أمّا الأوّل: فلأنّ ما ذكره في تبعّض الصفقة غفلة عن حقيقة مراد المحقّق، فإنّ تبعّض الصفقة في كلام الأصحاب يطلق على معنيين:

أحدهما: تبعّضها بالقياس إلى تأثير العقد بأن يؤثّر في بعض المورد دون البعض الآخر، كما في بيع الملك و الغصب منضمّين، و بيع ما يملك و ما لا يملك كشاة و كلب، و بيع ما يقدر على تسليمه و ما لا يقدر عليه كما لو باع متاعه مع الطير في الهواء و ما أشبه ذلك، فإنّ العقد يؤثّر في المملوك و فيما يملك و فيما يقدر على تسليمه لا في الضميمة، و هذا هو الّذي لا يوجب بطلان العقد عندهم بل غايته ثبوت الخيار للمشتري.

و ثانيهما: تبعّضها بالقياس إلى الأثر الحاصل من العقد بعد حصوله في تمام المورد بإبطاله في بعضه و إبقائه في البعض، كما لو أراد من له خيار الحيوان أو خيار الغبن أو خيار العيب فسخ العقد في بعض المبيع دون البعض الآخر، و هذا هو الّذي صرّحوا بعدم جوازه من جهة الإجماع، بل لا بدّ إمّا من أن يفسخه في الكلّ أو يلتزم به في الكلّ ، و الّذي يلزم فيما نحن فيه حسبما تمسّك به المحقّق هو من هذا القبيل، لأنّ صاحب العين الاُخرى يرجع ببعضها المقابل للباقي دون البعض المقابل منها التالف، و هذا إبطال لأثر العقد في البعض و إبقاء له في البعض الآخر، و هذا غير جائز، بل لا بدّ من إبطاله في الكلّ أو إبقائه في الكلّ .

و أمّا الثاني: فلمنع التقصير في التحفّظ بإيجاب البيع، بعد ما كان أصل البيع الغير العقدي و هو المعاطاة مشروعاً مرخّصاً فيه من الشارع تسهيلاً لأمر المعاملة على الناس برفع كلفة رعاية الصيغة و مشقّة إحراز شروطها عنهم، فلو جاز له الرجوع ببعض العين الاُخرى دون بعض كان الضرر اللازم من التبعيض مستنداً إلى جعل الشارع و هو منفيّ في شرع الإسلام. فتمسّك المحقّق بكلّ من تبعّض الصفقة و الضرر في محلّه، إلّا

ص: 558


1- المسالك 149:3-150.

أنّه يرد عليه أنّ غاية ما يلزم من بطلان تبعّض الصفقة و نفي الضرر إنّما هو انتفاء الوجه الأخير من الوجوه الثلاث المتقدّمة لا تعيّن الوجه الأوّل، لقيام احتمال الوجه الثاني كما أشار إليه الشهيد رحمه الله بقوله «بل غايته جواز فسخ الآخر فيرجع إلى المثل أو القيمة» اللّهمّ إلّا أن يعتذر بأنّ هذا الاحتمال منفيّ بأصالة عدم استحقاق المثل أو القيمة. و على هذا فأوجه الوجوه هو الوجه الأوّل وفاقاً للمحقّق المتقدّم، هذا كلّه على القول بالملك.

و أمّا على القول بالإباحة فيجري هنا كلّما تقدّم في ذيل المسألة الاُولى في حكم تلف بعض من كلّ من العينين على القول المذكور، و لا حاجة إلى الإعادة و التكرار.

المسألة الثالثة: في نقل ملك كلّ من العينين إلى غير من هي بيده نقلاً لازماً،

كالبيع العقدي أو الصلح أو الهبة المعوّضة كذلك، أو جعله مهراً في عقد النكاح و نحو ذلك فالمصرّح به في كلام جماعة منهم الشهيد في المسالك كونه كالتلف في إفادة اللزوم و قد ينفى عنه الخلاف، و علّلوه بامتناع الترادّ، و وجه الامتناع أنّ الملك الحاصل للغير مانع شرعي عن استرجاعه فالامتناع شرعي، و هو الفارق بينه و بين التلف لكون الامتناع فيه عقليّاً، و لا فرق فيه بين القول بالملك في المعاطاة و القول بالإباحة لكون المانع المذكور مشترك اللزوم بين القولين، إذ لا كلام عند القائلين بالإباحة في كون التصرّف الناقل مفيداً للملك في العين لمن انتقلت إليه سواء قيل باشتراط تأثيره بسبق الملك للمتصرّف و أنّه يحصل آناً ما حين التصرّف، أو قيل بعدم اشتراطه به بل يكفي فيه مجرّد إباحة التصرّفات الناقلة.

لا يقال: الامتناع يسلّم في ترادّ العينين لا في ترادّ البدلين، لأنّا نقول: إنّ البدل إمّا جعلي و هو المأخوذ عوضاً عن العين المنتقلة إلى الغير الموجود في يدي المتعاطيين، أو واقعي و هو المثل أو القيمة، و أيّاً ما كان فجواز الترادّ في البدلين ممّا لا معنى له.

أمّا بالنسبة إلى البدل الجعلي فتارةً لفقد المقتضي للجواز، و اُخرى لوجود المانع منه. أمّا الأوّل: فلأنّ المقتضي لجواز المعاطاة إنّما اقتضاه في مورديها العوض و المعوّض، و البدل الجعلي ليس من موردها فلا مقتضى لجواز ترادّ البدلين، و الأصل عدمه. و أمّا الثاني: فلأنّ الناقل المفيد للّزوم كما أفاده في العينين كذلك أفاده في بدليهما، فالملك اللازم المفروض فيهما مانع من ترادّهما، و فيه تأمّل.

ص: 559

و أمّا بالنسبة إلى البدل الواقعي، فأوّلاً: لأنّ يد المتعاطيين في العينين لم تكن يد ضمان كما تقدّم بيانه في تضاعيف المسألتين السابقتين، من غير فرق بين القولين بالملك و الإباحة. و أمّا ثانياً: فللأُصول المتقدّمة من أصالة عدم استحقاق كلّ من المتعاطيين لمثل عينه المنتقلة إلى الغير و لقيمته، و أصالة عدم ضمان كلّ منهما لمثل ما نقله إلى غيره أو لقيمته، و أصالة براءة ذمّة كلّ منهما عن وجوب ردّ المثل أو القيمة.

و لو عادت العينان إلى المتعاطيين فإن كان العود لناقل آخر - من بيع أو صلح أو ارتداد أو ميراث أو نحو ذلك - فلا ينبغي التأمّل في عدم عود جواز الترادّ لعدم كون الملك المتجدّد من أثر المعاطاة، و إن كان لتفاسخ أو تقايل ففي عود جواز الترادّ و عدمه وجهان، من أصالة عدمه، و من ارتفاع المانع.

و التحقيق أنّه على القول بالملك لا ينبغي التأمّل في أنّه لا يعود، فإنّ السلطنة على الاسترجاع قد سقطت بالنقل، و سقوطها عبارة عن انعدامها و المعدوم لا يعود، فلو كان بعد عود العين سلطنة على استرجاعها أيضاً لكانت سلطنة جديدة، و الأصل عدم تجدّد سلطنة اُخرى.

و أمّا على القول بالإباحة ففي عود الجواز و عدمه وجهان، مبنيّان على النظر في أنّ العين تعود إلى ملك الناقل أو إلى ملك المالك الأوّل. و من ذلك ربّما يتّجه التفصيل بين القول بتوقّف التصرّف الناقل على سبق الملك للناقل و لو آناً ما حين التصرّف فلا معنى لعود جواز الترادّ لعدم بقاء موضوعه، و القول بعدم توقّفه على سبق ملك للناقل فيعود العين إلى ملك المالك الأوّل فيتسلّط المالك على استرجاعه لعموم «الناس مسلّطون على أموالهم».

و لكن قد يقال: بعدم عود الجواز مطلقاً، لأنّ العين تعود بالفسخ و الإقالة إلى الناقل.

و لعلّ وجهه أنّ ملك المالك الأوّل قد زال بتخلّل التصرّف الناقل في العين، و الفسخ و الإقالة توجب زوال ملك المالك الثاني لا عود ملك الأوّل، فإنّ الزائل معدوم و المعدوم لا يعود، فلو كان ملك بعد عود العين كان ملكاً متجدّداً و هو مردّد بين تجدّده للناقل أو تجدّده للمالك الأوّل. و كما يمكن أن يقال: بأنّ الأصل عدم تجدّد الملك للناقل فكذلك الأصل عدم تجدّده للمالك الأوّل، فالأصلان يتساقطان، بل لا أصل في الحقيقة يكون

ص: 560

حجّة لمكان انتقاض أحد الأصلين بيقين تجدّد ملك مردّد في النظر و الأصل الآخر مشتبه به فسقط عن الحجّية، فيبقى أصالة عدم سلطنتهما على الترادّ سليمة، و هي تقضي بعود العين إلى الناقل على معنى صيرورتها ملكاً له ليكون الأصل المذكور بالقياس إليه مثبتاً، لأنّا لسنا بصدد إثبات الملك للناقل بل بصدد بيان عدم عود الجواز بمعنى السلطنة على الاسترجاع، و الأصل المذكور كافٍ في ذلك و لا حاجة إلى إثبات الملك الناقل فتدبّر.

و من طريق بيان كون نقل العينين كالتلف ملزماً للمعاطاة يعلم أنّه لا فرق فيه بين النقل مع العوض - كالأمثلة المتقدّمة - و النقل بلا عوض كالهبة الغير المعوّضة لذي رحم و الصدقة و الوقف، لأنّ الجهة المقتضية للّزوم و هو امتناع الترادّ مشترك اللزوم بينهما.

و في حكم نقل الملك في إفادة اللزوم الإخراج عن الملك كالعتق لكونه فكّ ملك، و الوقف العامّ على القول بكونه فكّاً للملك لامتناع الترادّ معه أيضاً. بل و من تضاعيف المسألة يظهر أنّه لا يجوز لهما ترادّ بدلي العينين فيما لو غصب العينين غاصب و أتلفه فرجعا عليه ببدلهما مثلاً أو قيمة، إذ المقتضي لجواز المعاطاة إنّما اقتضاه في نفس العينين لا البدلين، هذا كلّه في النقل اللازم. و لو كان النقل جائزاً كالهبة الغير المعوّضة لغير ذي رحم و البيع أو الصلح بطريق المعاطاة مثلاً فالظاهر أنّه كالنقل اللازم في إفادة اللزوم ليس لكلّ من المتعاطيين إلزام الناقل باسترجاع عينه، و لا رجوعه بنفسه إلى عينه، أمّا الأوّل فلأصالة عدم سلطنته على الإلزام، و أمّا الثاني فلأنّ أثر المعاطاة في العين قد زال بالنقل المفروض، و الأثر المتجدّد فيها حاصل عن سبب آخر و لا سلطنة له على إزالة ذلك الأثر.

و أمّا نقل إحدى العينين فالظاهر أنّه كنقل ملك العينين في إفادة اللزوم من غير خلاف يظهر، فليس لصاحب العين المنتقلة إلى الغير الرجوع بها، و لا لصاحب العين الباقية الرجوع بعينه، أمّا الأوّل فلأنّ أثر المعاطاة قد زال عنها و الأثر المتجدّد ليس من المعاطاة فلا سلطنة له على إزالته، و أمّا الثاني فلأنّه إمّا أن يرجع بعينه الباقية بلا عوض عمّا نقله لمالكه الأصلي أو يرجع بها مع العوض مثلاً أو قيمة، و الأوّل باطل للزوم الجمع بين العوض و المعوّض و كذلك الثاني لأصالة عدم استحقاق صاحب العين

ص: 561

المنتقلة لغرامة عينه مثلاً أو قيمة. و لو كان النقل المفروض جائزاً فليس لمالك العين المنتقلة إلى الغير إلزام الناقل بالرجوع بها و لا رجوعه بنفسه إليها، لما تقدّم في نقل العينين كذلك.

و أمّا نقل البعض من كلّ من العينين أو نقل بعض إحدى العينين على وجه اللزوم أو الجواز فيجري فيهما كلّ ما تقدّم في المسألتين المتقدّمتين في تلف البعض منهما أو من إحداهما، و لا حاجة إلى الإعادة و التكرار.

المسألة الرابعة: في تغيير العينين معاً أو إحداهما،

و هو إمّا تغيير ذاتي كجعل الحَبّ زرعاً و البيضة فرخاً و الخشب فحماً و غير ذلك من موارد الاستحالة، أو اسمي كجعل الحنطة طحيناً و الطحين عجيناً و العجين خبزاً و جعل العنب عصيراً و العصير دبساً أو خلّاً و ما أشبه ذلك من موارد تبدّل الاسم مع بقاء الحقيقة، أو وصفي كصبغ الثوب أو فصله أو خياطته، أو حالي كمزج العين بمثلها بحيث لا يتمايزان كالحنطة بحنطة اُخرى و الدهن بدهن آخر و نحو ذلك، و مدرك اللزوم و عدم اللزوم في هذه الأقسام جريان أصالة البقاء و عدم جريانها.

ففي القسم الأوّل: ينبغي القطع باللزوم لامتناع الترادّ، و عدم جريان أصالة البقاء لعدم بقاء الموضوع باعتبار تبدّل الحقيقة من جهة الاستحالة.

و أمّا القسم الثاني: ففي اللزوم و عدمه وجهان، من عدم جريان أصالة العدم لتبدّل موضوع المستصحب من جهة تبدّل الاسم، و من جريانها نظراً إلى بقاء الموضوع فإنّ موضوع جواز الرجوع هو هذا الشخص الخارجي و حقيقته غير متبدّلة بحقيقة اُخرى و إن تبدّل اسمه. و أمّا التكلّم في تبدّل الموضوع و عدمه هنا فهو مبنيّ على النظر في أنّ موضوع المستصحب هل هو الأمر العرفي أو الأمر الحقيقي ؟ و لا يبعد ترجيح الأوّل لضابط أنّ المعيار في إحراز بقاء الموضوع و عدم بقائه في الاستصحاب إنّما هو كون القضيّة المشكوكة في الآن اللاحق هو القضية المتيقّنة في الزمان السابق بعينها و كونها غيرها، و موضوع القضيّة المتيقّنة هنا في الأمثلة المتقدّمة هو الحنطة أو العنب مثلاً و في القضيّة المشكوكة الطحين أو العصير مثلاً، و هما متغايران عرفاً، و لذا لو أراد من طحن الحنطة ردّ الطحين إلى صاحب الحنطة بعنوان الرجوع قهراً عليه يمتنع من قبوله معتذراً

ص: 562

بأنّي لم أبعك الطحين و إنّما بعتك الحنطة و إن كنت تريد الترادّ فردّ إليّ حنطتي، و هذا آية كون الموضوع عرفيّاً.

و أمّا القسم الثالث: فالّذي يتراءى في بادئ النظر هو الإذعان بعدم اللزوم، لأصالة البقاء نظراً إلى عدم تبدّل الموضوع حقيقة و لا اسماً كما لا يخفى، إلّا أنّه قد يقال باللزوم تعليلاً «بأنّ الجواز قد أثبته الدليل في عين ما أثّر فيه المعاطاة» و من البيّن أنّ ما حصل فيه الأثر هو العين بصفة خاصّة و قد زالت عنها الصفة، فإنّ الصفات قد تملك تبعاً لملك العين و يتعلّق بها ضمان القيمة بالغصب و الإتلاف لو كانت متموّلة، و بالجملة أثر المعاطاة إنّما حصل في المجموع من العين و صفاتها فإذا زالت تلك الصفات زال عين ذلك الأثر و معه لا يبقى محلّ للرجوع.

و قد يقرّر ذلك بأنّ الصفات تنزّل منزلة الأجزاء فزوال وصف العين بمنزلة زوال جزئها من حيث إنّها عين مملوكة بالمعاطاة و زوال جزء العين تلف للعين، و قد تقدّم أنّ التلف يوجب اللزوم لعدم إمكان الترادّ.

و فيه نظر، لمنع مدخليّة الصفة في الموضوع عرفاً، و لا بدّ في محلّ الاستصحاب من تغيير في صفة أو حالة، و المعيار جريان أصالة البقاء و لا مانع منه من جهة تغيير الوصف، لبقاء الموضوع عرفاً.

نعم قد يفصّل بين أن يتضرّر المالك الأصلي المرجوع إليه بتغيير الوصف و أن لا يتضرّر، كما عن الشيخ في شرح القواعد جعل المدار في جواز الرجوع على عدم الضرر مع إمكان الردّ قائلاً: «بأنّا نعلم من تتبّع كلام القوم و النظر إلى السيرة القاطعة أنّ الجواز مشروط بإمكان الردّ و بالخلوّ عن الضرر المنفيّ بحديث(1) «الضرار»(2).

و هذا التفصيل ليس ببعيد بل جيّد، و حيث يجري قاعدة نفي الضرر لا تأثير لأصالة البقاء لورود القاعدة عليها.

و أمّا القسم الرابع ففيه وجوه: اللزوم و سقوط الرجوع مطلقاً لامتناع الترادّ، الجواز مطلقاً لأصالة بقاء سلطنة المالك الأصلي على ماله الممتزج بمال الغير فيصير شريكاً

ص: 563


1- الوسائل 3:17 و 4، ب 17 أبواب الخيار.
2- شرح القواعد 29:2.

مع مالك المال الممتزج به و معها يمكن الترادّ بالقسمة، و الفرق بين المزج بالأجود فتلزم - لئلّا يلزم الضرر على مالك الأجود بذهاب بعض من أجوده إلى مالك غير الأجود - و بين المزج بالمساوي أو الأردأ فلا تلزم، و الفرق بين القول بالملك فسقط الرجوع لامتناع التراد و القول بالإباحة فلا يسقط لأنّ الأصل بقاء تسلّط المالك على ماله الممتزج بمال الغير فيكون شريكاً. و القول المحقّق من هذه الوجوه في اثنين منها، أحدهما: الوجه الأوّل نسب القول به في المسالك إلى جماعة فيما يأتي من عبارته، و الآخر: الوجه الأخير اختاره شيخنا(1) قدس سره.

و أمّا الوجه الثالث فقد ذكره في المسالك احتمالاً لا اختياراً حيث قال:

«لو اشتبهت بغيرها أو امتزجت بحيث لا يتميّز فإن كان بالأجود فكالتلف، و إن كان بالمساوي أو الأردأ احتمل كونه كذلك لامتناع الترادّ على الوجه الأوّل و اختاره جماعة، و يحتمل العدم في الجميع لأصالة البقاء»(2) انتهى.

و من ذيل العبارة يلوح أنّه ذكر الوجه الأوّل احتمالاً لظهور الجميع في الثلاثة، و لو حمل على إرادة المساوي و الأردأ كان ذكراً للوجه الثالث احتمالاً، و كيف كان فأصحّ الوجوه و أقواها هو الوجه الأوّل وفاقاً للجماعة، لامتناع الترادّ بقول مطلق، فإنّ دليل الجواز في المعاطاة إنّما اقتضى جواز الترادّ ما دام ممكناً و حيث امتنع كما فيما نحن فيه سقط الجواز.

لا يقال: إنّ الترادّ ممكن بالقسمة بعد التزام حصول الشركة. لأنّ الشركة المتوهّمة إن اُريد بها ما يحصل على القول بالملك فهو غير صحيح، لأنّ القسمة في اصطلاح الشرع عبارة عن اجتماع حقوق الملّاك في مال على سبيل الإشاعة، و ما نحن فيه من اجتماع ملكي مالك واحد فلا يصدق عليه الشركة بالمعنى المذكور.

و إن اُريد بها ما يحصل على القول بالإباحة، و عليه فإن اُريد بها الشركة بالمعنى الشرعي فلا موجب، و الأصل عدمها، لأنّها تقتضي انتقالاً و تملّكاً لكلّ من المتعاطيين في كلّ جزء من أجزاء المالين على سبيل الإشاعة و الأصل ينفيه. و توهّم: أنّ هذا

ص: 564


1- المكاسب 99:3.
2- المسالك 150:3.

الأصل يعارضه أصالة بقاء سلطنة المالك على ماله الممتزج، يدفعه كون الأصل المذكور سببيّاً فيكون وارداً على أصالة بقاء السلطنة.

و إن اُريد بها الشركة بمعنى اشتباه المال الممتزج بالممتزج به فهو مسلّم إلّا أنّ الموجب لامتناع الترادّ هو هذا الاشتباه.

و توهّم: إمكان الترادّ على هذا التقدير بالقرعة الّتي هي لتعيين المعيّن في الواقع المشتبه في الظاهر كما احتمله بعضهم، يدفعه عدم الجابر لعموم أخبار القرعة بالنسبة إلى هذا المورد و بدونه لا اعتبار بالقرعة. و لو اشتبه إحدى العينين بعين اُخرى مثلها على وجه الشبهة المحصورة لا الامتزاج فالظاهر سقوط الرجوع لامتناع الترادّ أيضاً مع الاشتباه. و احتمال التعيين بالقرعة مدفوع بما عرفت.

و ينبغي ختم الباب بإيراد اُمور مهمّة:
الأمر الأوّل: فيما يتعلّق بالمنافع المستوفاة من العين و النماءات المتجدّدة منها بعد المعاطاة

من لبن أو صوف أو نتاج في الحيوان أو ثمار في النخيل و الأشجار، فهذا يتضمّن مسألتين:

الاُولى: لو رجع بالعين بعد ما استعملها من هي بيده و استوفى منافعها إلى زمان الرجوع بالعين - كسكنى الدار و ركوب الدابّة و استخدام الأمة - لا يرجع بأُجرة المنافع المستوفاة، كما نصّ عليه في المسالك(1).

و الظاهر أنّه ممّا لا خلاف فيه، و هو المطابق للصواب الموافق للقواعد، من غير فرق فيه بين القول بالملك و القول بالإباحة.

أمّا على الأوّل فلأنّه إنّما استوفاها في ملكه على معنى كونها ملكاً له تبعاً لملك العين فلا يعقل الاُجرة عليها، مضافاً إلى أصالة عدم استحقاقه الاُجرة و أصالة براءة ذمّة المستوفي لها عن وجوب ردّ الاُجرة.

و أمّا على الثاني فلأنّه إنّما استوفاها بإذن المالك حيث أباح له التصرّفات الّتي هي في معنى إباحة المنافع، فتلفها مستند إلى تسليط المالك فلا يعقل كونها مضمونة عليه.

ص: 565


1- المسالك 150:3.

الثانية: لو حصل من العين نماء فإن كان تالفاً لم يرجع صاحبها بغرامته، و إن أتلفه من هي بيده كما في المسالك(1). و الظاهر أنّ هذا أيضاً ممّا لا خلاف فيه، من غير فرق فيه بين ما لو تلفت العين أيضاً و ما لو بقيت رجع بها صاحبها أو لا، و لا بين القول بالملك أو الإباحة، لما عرفت من أنّه على الأوّل إتلاف للملك فلا يستتبع ضماناً، و على الثاني إتلاف مستند إلى تسليط المالك و إذنه فلا يوجب ضماناً أيضاً.

و إن كان باقياً فهل يرجع به صاحب العين أو لا؟ فنقول: إنّ له صوراً ثلاث لأنّ بقاءه إمّا أن يكون مع تلف العين، أو مع بقائها و أراد الرجوع به دونها، أو أراد الرجوع بهما معاً.

أمّا الصورة الاُولى: فقد يقال بأنّ الحكم فيه من حيث جواز الرجوع به و عدمه يختلف على القول بالإباحة و القول بالملك، إذ على الأوّل لا ينبغي التأمّل في جواز الرجوع به لكونه ملكاً له قبل تلف العين تبعاً لملك العين فكذلك بعده استصحاباً للحالة السابقة، و كون تلف العين ملزماً له أيضاً لا يتمّ إلّا بكونه مملّكاً له لمن بيده تلف العين، و هذا يحتاج إلى دليل و هو مفقود، و الأصل يقتضي بقاءه على ملك مالك العين و عموم «الناس مسلّطون على أموالهم» يقتضي تسلّطه على الرجوع به. و على الثاني في اللزوم و عدمه وجهان: من أنّ النماء كما أنّه تابع للعين في الملك فيكون ملكاً لمن له ملك العين فكذلك تابع لها في وصف الملك من حيث اللزوم و الجواز فيلزم بلزوم العين و حيث إنّ التلف يوجب اللزوم في العين فيلزم النماء أيضاً تبعاً لها، و من أنّ اللزوم بالنسبة إلى العين بالتلف إنّما التزمناه لضرورة امتناع الترادّ و الضرورة تتقدّر بقدرها، و الرجوع إنّما تعذّر بالتلف بالنسبة إلى العين و هو بالنسبة إلى النماء غير متعذّر فلا ضرورة للزومه فيكون جائزاً.

و أمّا الصورة الثانية(2): فيحتمل فيها القول بالجواز لأنّه كما يتبع العين في الملك فكذلك يتبعها في الجواز و اللزوم فله أن يرجع به كما أنّ له أن يرجع بالعين، و القول باللزوم لمن بيده العين لأنّ الجواز وصف فيما وقع عليه المعاطاة و النماء ليس منه،

ص: 566


1- المسالك 150:3.
2- في الأصل: الثالثة.

و القول بالتفصيل بين القول بالملكيّة فيلزم، و القول بالإباحة فيجوز الرجوع به.

و أمّا الصورة الثالثة: فيجري فيها الوجوه المذكورة أيضاً بالقياس إلى النماء، و تحقيق المقام أنّه لمّا كان مبنى المسألة على قاعدة التبعيّة فلا بدّ من التكلّم في تلك القاعدة، فنقول: إنّ التبعيّة قد تلاحظ بالنسبة إلى أصل الملك، و قد تلاحظ بالنسبة إلى وصفه من حيث الجواز و اللزوم، أمّا بالنسبة إلى أصله فالظاهر أنّ التبعيّة فيه ثابتة في الجملة و أنّها إجماعيّة فالنماء ملك لمالك العين سواء على القولين بالملكيّة و بالإباحة، غاية الأمر أنّه على الأوّل ملك لمن هي بيده لأنّها ملك له، و على الثاني ملك للمبيح لأنّها ملك له.

و لكن قد يورد عليه بأنّ السيرة في خصوص المعاطاة قائمة بملكيّة النماء لمن بيده العين مطلقاً حتّى على القول بالإباحة، و دعوى السيرة إن صحّت كانت السيرة مخصّصة للقاعدة المجمع عليها، و لكن قيامها بالملكيّة على الوجه المذكور محلّ شكّ عندنا، و هذا يوجب كون القاعدة في معقد الإجماع مجملة ثابتة على وجه القضيّة المهملة، فلا بدّ بالقياس إلى النماء في مورد المعاطاة من الرجوع إلى الاُصول و الأخذ بما يقتضيه الأصل، فنقول: لا شبهة في أنّ النماء بتجدّده من العين صار ملكاً مردّداً بين مالكها و من هي بيده، و لو قيل: الأصل عدم دخوله في ملك من هي بيده، يقال: الأصل عدم دخوله في ملك من هي ملك له، و الأصلان يتساقطان فيرجع إلى أصل ثالث، و هو أصالة عدم تسلّط المبيح على الرجوع به و استرجاعه ممّن هو بيده. و قضيّة هذا الأصل عدم التبعيّة في وصف الملك و هو الجواز على القول بالملكيّة، فإنّ الأصل عدم تسلّط المالك الأصلي للعين على استرجاع نمائها من مالكه و هو مالك العين سواء كانت العين تالفة أو باقية أراد الرجوع بالعين أو لا. فتقرّر أنّ مقتضى الاُصول في النماء هو اللزوم و عدم الرجوع به في جميع الصور الثلاث المذكورة، من غير فرق فيه بين القول بالملكيّة و القول بالإباحة، فتدبّر.

الأمر الثاني: قد علم من تضاعيف الباب أنّ المعاطاة في نفسها معاملة جائزة

و يعرضها اللزوم بأحد الأسباب الملزمة المتقدّمة، فإن توافق المتعاطيان على عدم تحقّق شيء من الأسباب الملزمة فلا إشكال في عدم اللزوم بل هو في معنى اتّفاقهما

ص: 567

على الجواز، كما أنّه لو توافقا على تحقّق شيء من الملزمات لا إشكال في اللزوم بل هو في معنى اتّفاقهما على اللزوم.

و إن اختلفا في الجواز و اللزوم بأن ادّعى أحدهما الجواز و أنكره الآخر بادّعاء اللزوم فله صور، لأنّه قد يكون اختلافهما لشبهة حكميّة كما لو اختلفا في ملزميّة ما اتّفقا على تحقّقه كالمزج مثلاً، و قد يكون لشبهة موضوعيّة، و هو قسمان:

أحدهما: ما لو اختلفا في تحقيق ما اتّفقا على ملزميّته كالتلف و نحوه.

و ثانيهما: ما لو اختلفا في المتقدّم و المتأخّر من الفسخ و حصول الملزم بعد ما اتّفقا على حصولهما معاً، فمدّعي الجواز ادّعى تقدّم الفسخ ليرجع بالعين أو عوضها مثلاً أو قيمة، و مدّعي اللزوم ادّعى تقدّم حصول الملزم لئلّا يرجع صاحبه بالعين أو بدله، فهذه صور ثلاث:

أمّا الصورة الاُولى: فالحاكم بعد ترافعهما إليه يقضي بينهما بموجب فتواه، كما هو ميزان القضاء في الشبهات الحكميّة.

و أمّا الصورة الثانية: فيقدّم فيها قول المدّعي للجواز المنكر لحصول الملزم سواء أطلق أو عيّن السبب، لأصالة عدم حصوله مع أصالة بقاء الجواز.

و يشكل بامتناع الترادّ واقعاً لأنّ المدّعي لحصول الملزم قد يكون صادقاً في الواقع، و على تقدير الكذب يمتنع الترادّ ظاهراً لأنّه لا يردّ العين بل لا يظهرها لئلّا يظهر كذبه، فإن رجع المدّعي للجواز على تقدير تقديم قوله بالعين فهو ممتنع واقعاً و ظاهراً أو ظاهراً، و إن رجع بغرامة مثلاً أو قيمة بعد ردّ ما في يده، فالأصل عدم استحقاقه لها، و هذا الأصل منضمّاً إلى امتناع ترادّ العين يقتضي تقديم المدّعي للّزوم، و يعارض الأصلين المذكورين.

و يمكن الذبّ بورود الأصلين عليه، لسببيّة شكّيهما كما هو واضح.

و لكن قد يحتمل تقديم قول المدّعي للّزوم، لأصالة بقاء الملك، و أصالة اللزوم في العقود المستفاد من عموم «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» خرج منها المعاطاة في الحال المتقدّم على التداعي و بقى فيها الحال الاُخرى المتأخّرة عن الحال الاُولى.

و هو في غاية الضعف أ لفساد الأصلين:

ص: 568

أمّا أصالة بقاء الملك - فمع أنّها لا تجري على القول بالإباحة - ليست في محلّها، لعدم اختلافهما في بقاء الملك و عدم بقائه، بل هما متّفقان على بقاء الملك إلّا أنّ المنكر لحصول الملزم يريد إلزام صاحبه بالجواز ليرجع عليه بعينه و يزيل برجوعه الملك، و المدّعي لحصوله يريد منع ذلك فلا معنى لأصالة بقاء الملك.

و لو سلّم كونها في محلّها بتقريب أنّ النظر في إجرائها إلى ما بعد رجوع المدّعي للجواز فإنّه يشكّ حينئذٍ في تأثير رجوعه في زوال ملك المدّعي عليه و عدمه، و أصالة البقاء يقتضي بقاءه، و لكنّها تندفع بسببيّة شكّ الأصلين المذكورين لتقديم قول المدّعي للجواز كما لا يخفى.

و أمّا أصالة اللزوم: فلأنّها ممّا لا مقتضي له كما ذكرنا سابقاً، لأنّ المعاطاة بجميع حالاتها مخرجة عن عموم آية الوفاء فلا مقتضي لأصالة اللزوم بالقياس إلى الحالة المتأخّرة عن الحالة الاُولى، و مع الغضّ عن ذلك فأصالة بقاء الجواز يقتضي عدم اللزوم و لا يلزم تخصيص العامّ بالاستصحاب لأنّه من استصحاب حكم المستثنى و هو المعاطاة لأنّها خرجت عن العامّ بالتخصيص، و لا يبقى بعد خروجها عموم بالقياس إلى حالتها المتأخّرة عن التداعي، نظراً إلى أن العموم الأحوالي في العامّ بالقياس إلى فرد منه تابع لعمومه الأفرادي فإذا خرج عنه الفرد بالتخصيص ارتفع عمومه الأحوالي أيضاً إلى حالات ذلك الفرد. نعم لو كان المخرج بالتخصيص حالة مخصوصة من الفرد لا ذاته ثمّ شكّ في خروج حالة اُخرى له عن العموم بتخصيص آخر كان التمسّك بعمومه الأحوالي لنفي احتمال تخصيص آخر في محلّه، و ما نحن فيه ليس من هذا القبيل، فاستصحاب حكم المستثنى بالنسبة إلى حالته المتأخّرة عن الحالة لا يزاحمه عموم دليل حكم المستثنى منه ليلزم من العمل به تخصيص العامّ ، فليتدبّر.

و أمّا الصورة الثالثة: فالظاهر أنّ الاختلاف في التقدّم و التأخّر لا يتأتّى إلّا على تقدير عدم كون الفسخ و حصول الملزم معلومي التاريخ و إلّا قدّم ما تقدّم تاريخه، و حينئذٍ فإمّا أن يكون تاريخ أحدهما معلوماً و الآخر مجهولاً، أو يكونا مجهولي التاريخ، و على الأوّل يقدّم ما علم تاريخه لأصالة تأخّر الحادث بالقياس إلى ما جهل تاريخه، و على الثاني فهما بالقياس إلى أصالة [تأخّر الحادث] سيّان فيتعارض الأصل

ص: 569

من الجانبين، و حينئذٍ فالملزم المتّفق على حصوله إن كان ما عدا نقل الملك من تلف أو تغيير وصف يقدّم قول الفاسخ لأصالة الصحّة في الفسخ الصادر منه الّذي هو من فعل المسلم لأنّه تقدّمه على حصول الملزم لزم كونه باطلاً لم يترتّب عليه أثر الانفساخ و هو ينافي أصالة الصحّة في فعل المسلم، و لا معارض لها في جانب المدّعي لتقدّم حصول الملزم، و إن كان هو النقل فهو أيضاً كالفسخ من فعل المسلم و الأصل يقتضي صحّته بترتّب أثر الانتقال عليه، كما أنّ الأصل في الفسخ يقتضي صحّته بترتّب أثر الانفساخ عليه، فالأصلان في جانب الفاسخ و في جانب الناقل متعارضان، و حينئذٍ لا بدّ من الرجوع إلى اُصول اُخر، لو لا أصالة الصحّة مشغولة بمعارضة مثلها كانت واردة عليها. و يمكن حينئذٍ تقديم قول الفاسخ على القول بالإباحة عملاً باستصحاب ملكه في العين إلى زمان النقل و ما بعده، فإنّه لو كان حصوله مقدّماً لكان رافعاً لملك المبيح عن العين من حينه إلى ما بعده و هو مشكوك فيه، و مقتضى الاستصحاب بقاؤه إلى حين النقل و ما بعده، و هذا يقتضي تقدّم الفسخ عليه لكونه لا يرفع ملك المبيح بل يؤكّده، و إنّما يرفع الإذن في التصرّفات الّتي منها هذا النقل.

و يشكل الحال على القول بالملكيّة، لعدم وضوح جريان أصل يقتضي تقديم أحد القولين. و لكن يسهل الذبّ عنه بتعيّن تقديم الفاسخ أيضاً لأصالة بقاء سلطنته على الرجوع بالعين في زمان الفسخ، فإنّه لو كان النقل متقدّماً عليه لكانت السلطنة المذكورة اللازمة من المعاطاة الّتي يعبّر عنها بجواز الرجوع منقطعة، و هو في زمان وقوع الفسخ محلّ شكّ و الأصل يقتضي بقاءها. و لا يمكن معارضته بأصالة بقاء سلطنة الناقل على نقل ما في يده إلى الغير حين النقل، فإنّ تقدّم الفسخ عليه يوجب انقطاعها و هو في زمان وقوع النقل محلّ شكّ ، و الأصل يقتضي بقاءها لوروده عليها باعتبار كونه مخرجاً للمورد و هو العين عن موضوع المستصحب، فإنّ سلطنة الناقل على نقل العين ليست من مقتضى المعاطاة كما كانت سلطنة الفاسخ على الفسخ من مقتضاها بل من مقتضى عموم «الناس مسلّطون على أموالهم».

و لا ريب أنّ موضوع الحكم المستفاد من هذا العامّ هو المال المملوك و أصالة بقاء سلطنة الفاسخ على الفسخ الّتي هي عبارة عن جواز الرجوع بالعين يخرجها عن هذا

ص: 570

الموضوع، فلا يعقل جريان حكمه فيها بعد ملاحظة خروجها عن موضوعه بحكم الأصل المذكور، فلا يجري استصحابه حال جريان الأصل المذكور حتّى يعارضه.

لا يقال: إنّما يعارضه حينئذٍ أصالة بقاء موضوع الحكم المذكور حال النقل، لأنّ الشكّ في بقاء هذا الموضوع مسبّب عن الشكّ في بقاء سلطنة الفاسخ حال الفسخ، فيكون الأصل بقاء هذه السلطنة لكون شكّه سببيّاً وارداً على أصالة بقاء موضوع سلطنة الناقل على النقل، فليتدبّر فإنّ المقام دقيق و كلام الأصحاب فيه غير محرّر.

الأمر الثالث: قد ظهر في تضاعيف الباب أنّ انعقاد المعاطاة فعليّة أو قوليّة أو ملفّقة منهما بيعاً صحيحاً مفيداً للملك،
اشارة

متفرّع على عدم مدخليّة الصيغة المخصوصة و لا اللفظ المطلق في صدق اسم البيع و لا في صحّته على معنى إفادته الملك، و هل يكفي في الفعل الكافي في انعقاد البيع و صحّته الإشارة المفهمة من المتمكّن من النطق و التلفّظ أو لا؟ الوجه نعم، لوحدة المناط و هو الدلالة على التراضي و قصد إنشاء التمليك و قبوله، فإنّ الإفهام المعتبر في الإشارة عبارة عن ذلك، و لا ينافي ما ذكرناه ما في كلام الأصحاب من اعتبار العذر و العجز عن النطق في قيام الإشارة مقام البيع لأنّهم إنّما اعتبروه في قيامها مقام البيع العقدي المفيد للّزوم، و غرضنا ممّا ذكرنا جعلها قسماً من المعاطاة لا غير. و لمّا انجرّ الكلام إلى الإشارة المفهمة ممّن عليه العذر كالأخرس و من بلسانه آفة فينبغي التكلّم فيها و فيما يعتبر و ما لا يعتبر فيها،

و الكلام فيه يتمّ برسم مسائل:
المسألة الاُولى: في أنّ معنى قيام الإشارة مع العذر مقام اللفظ أو البيع العقدي المفيد للّزوم هل هو لحوقها به في الاسم

على معنى أنّها من أفراد ماهيّة البيع فإطلاق البيع عليها حقيقة، أو لحوقها به في الحكم على معنى أنّها ليست من أفراد الماهيّة بل يجري عليها أحكامها من حيث إفادة الملك و اللزوم و جريان الخيارات و الشفعة و غير ذلك، فلفظ البيع حيث عليها مجاز لعلاقة المشابهة و هي المشاركة في الأحكام و الخواصّ ، أو تبنى المسألة على الاختلاف في تعريفات البيع، فعلى تعريفه بالنقل أو الانتقال أو التمليك كانت من أفراد البيع فيكون إطلاق اللفظ عليها حقيقة و على تعريفه باللفظ الدالّ على نقل الملك كما في ظاهر الشرائع لا يكون من الأفراد فيكون الإطلاق مجازاً، أو تبنى على الاختلاف في المعاطاة من حيث البيعيّة المفيدة للملك أو الإباحة

ص: 571

أو المعاوضة المستقلّة فعلى المختار من كونها بيعاً مفيداً للملك اتّجه الحقيقة كما أنّه حقيقة في المعاطاة غاية الأمر حصول الفرق بينهما في الجواز و اللزوم بخلافه على القولين الآخرين ؟ وجوه، و كلام الأصحاب غير محرّر هنا بل لم نقف على من تعرّض لهذا المقام في عنوان الإشارة، و إن نسب إلى ظاهر الأكثر المصير إلى المجازيّة إلّا أنّ [أوجه] الوجوه الوجه الأخير لما عرفت.

المسألة الثانية: في أنّ المبايعة بطريق الإشارة إن وقعت بين عاجزين عن النطق فلا إشكال فيه من حيث إنّ الإيجاب و القبول كلاهما من جنس الإشارة المغتفرة منهما.

و إن وقعت بين عاجز و غير عاجز موجباً كان أو قابلاً فهل يعتبر منه الإتيان باللفظ و إن لزم منه كون العقد ملفّقاً من الإشارة و اللفظ، بناءً على عدم اعتبار المطابقة بين الإيجاب و القبول من هذه الجهة مع عدم اغتفار الإشارة من غير العاجز، أو يعتبر الإتيان بالإشارة كالعاجز رعاية للمطابقة بينهما من هذه الجهة مع كونه كالعاجز في اغتفار الإشارة منه، أو يجب عليه توكيل عاجز آخر رعاية للمطابقة مع عدم الاغتفار، أو يجب على العاجز توكيل غير العاجز ليأتي كلّ منهما باللفظ رعاية للمطابقة مع عدم الاغتفار، أو يجب الجمع بين اللفظ و الإشارة احتياطاً لقيام اعتبار اللفظ و عدم اغتفار الإشارة مع احتمال الاغتفار و اعتبار المطابقة، أو يفصّل بين عاجز لا يسمع قولاً و لا يفقهه كالأخرس الأصلي - بناءً على جري العادة بكونه أصمّ فلا يفقه القول بل لا يسمعه فيكتفي في المبايعة معه بالإشارة - و بين غيره ممّن يسمع القول و يفقهه فيحتاط فيه بالجمع بين الإشارة و اللفظ؟ وجوه، أوجهها من جهة الأوفقيّة بالقواعد و الاُصول أخيرها.

أمّا اعتبار الجمع على الثاني فلطريقة الاحتياط، و أمّا الاكتفاء بالإشارة في الإشارة فلأنّ كون الطرف المقابل لغير العاجز من لا يسمع القول و لا يفقهه أيضاً عذر مانع من النطق، بناءً على أنّه في كلام الأصحاب هنا أعمّ ممّا كان في نفس طرف العقد أو في الطرف الآخر هذا، مضافاً إلى العقود و المعاملات إنّما وردت على طبق عادات الناس، و من عاداتهم في المحاورات أنّهم يحاورون الأخرس الأصمّ الغير الفاهم للكلام بطريق الإيماء و الإشارة. و بذلك يعلم سقوط احتمال التوكيل من الجانبين مع أنّه قد يكون عسراً، فعموم الملّة السمحة السهلة يقتضي نفي اعتباره و كذلك العمومات النافية للعسر

ص: 572

و الحرج. و كلام الأصحاب في هذا المقام أيضاً غير محرّر، بل لم نقف على من تعرّض له أيضاً.

المسألة الثالثة: في أنّ مناط كفاية الإشارة المفهمة عن البيع اللفظي المفيد للّزوم هل هو الخرس أو العجز عن النطق أو العذر؟

و الفرق أنّ الأوّل أخصّ من الثاني و هو أخصّ من الثالث، فإنّ العذر مفهوم عامّ يشمل الخرس الأصلي و العجز عن النطق من جهة الآفة العارضة للّسان و غيرهما ممّا كان لفوات غرض و مصلحة أو لدفع مضرّة و مفسدة بأن يكون للمتبايعين غرض و مصلحة في المبايعة لا يحصل إلّا بالمبايعة بطريق الإشارة، أو كان في المبايعة بالعقد اللفظي مضرّة و مفسدة لا تندفع إلّا بالمبايعة بطريق الإشارة، فالعدول عن اللفظ إلى الإشارة إنّما هو لئلّا يفوت ما يقصدان من المصلحة، أو ليندفع ما يقعان فيه من المفسدة، و العذر يعمّ نحو ذلك بخلاف العجز عن النطق فيكون أخصّ منه، نعم هو يعمّ العجز العارضي لآفة عارضة للّسان فيكون أعمّ من الخرس.

و كلمة الأصحاب و عباراتهم في مناط الحكم الدائر بين هذه الثلاث مختلفة، فمنهم من أناطه بالخرس كالعلّامة و الشهيد في نهاية الإحكام(1) و الدروس(2) حيث عبّرا بإشارة الأخرس، منهم من أناطه بالعجز عن النطق كالعلّامة و الشهيد في التذكرة(3) و القواعد(4)و اللمعة(5) حيث عبّرا بالإشارة مع العجز، و نحوه ما في كشف اللثام على ما حكي عنه في النكاح من قوله بعد ذكر العقد اللفظي: «لو عجز أشار بما يدلّ على العقد و هو ممّا قطع به الأصحاب و لم نجد نصّاً من الأصحاب فيمن عجز لإكراه»(6) انتهى، و منهم من أناطه بالعذر كالمحقّق في الشرائع لمكان قوله: «و يقوم مقام اللفظ الإشارة مع العذر»(7)و في معناه ما عن إرشاد العلّامة «لو تعذّر النطق كفت الإشارة»(8).

و هل هذا الاختلاف لأجل خلاف بينهم في مناط الحكم، أو أنّه اختلاف في مجرّد التعبير و إلّا فلا خلاف بينهم في المعنى، إمّا بدعوى أنّ مناط الحكم عند الكلّ هو الخرس خاصّة بناءً على تنزيل العجز عن النطق و تنزيل العذر في كلام من عبّر

ص: 573


1- نهاية الإحكام 451:2.
2- الدروس 192:3.
3- التذكرة 9:10.
4- القواعد 10:3.
5- اللمعة: 109.
6- كشف اللثام 47:7.
7- الشرائع 13:2.
8- إرشاد الأذهان 359:1.

بأحدهما على إرادة العجز للخرس الأصلي و العذر الخاصّ ، أو بدعوى أنّ المناط عند الكلّ هو العجز عن النطق مطلقاً بناءً على حمل الأخرس في كلام من عبّر به على إرادة المثال و تنزيل إطلاق العذر في كلام من عبّر به على إرادة العجز عن النطق خاصّة، أو بدعوى أنّ المناط عند الكلّ هو العذر بقول مطلق بناءً على حمل الأخرس و العجز عن النطق في كلام من عبّر بأحدهما على إرادة المثال ؟

و الحقّ أنّ المسألة في كلامهم غير منقّحة بل لم نقف على من تعرّض لها أصلاً، نعم قد عرفت في عبارة كاشف اللثام قوله «و لم نجد نصّاً من الأصحاب فيمن عجز لإكراه»(1) إلّا أنّه لم يتعرّض لتحقيق المقام.

و لكنّ الّذي ينبغي أن يقطع به بملاحظة فحاوى كلماتهم و الإشارات الواقعة فيها و تعليلاتهم أنّ الحكم غير مقصور على الخرس الأصلي بل يكفي فيه عدم القدرة على النطق لآفة عارضة في اللسان، نعم كفاية مطلق العذر حتّى ما كان لعدم فوات المصلحة أو لدفع المفسدة محلّ شكّ ، غير أنّ المشكوك فيه كفاية ذلك في اللزوم لا في انعقاد أصل البيع و لا صحّته و إفادته الملك، فإنّا بنينا على أنّ الإشارة المفهمة مع عدم العذر قسم من المعاطاة المفيدة للبيعيّة و الملكيّة فكيف بها مع العذر المذكور. فالإشكال في أنّ الإشارة في نحو هذه الصورة الّتي هي من صور العذر هل تفيد اللزوم أيضاً لتلحق بالبيع العقدي المفيد للّزوم أو لا تفيده حتّى تلحق بالمعاطاة ؟.

و ظاهر أنّه لا طريق لاستعلام هذا الحكم إلّا النظر في دليل كفاية الإشارة، إلّا أنّه لم نقف على دليل عليه في النصوص، و كأنّ دليله الإجماع كما يوهمه بعض، و ربّما ادّعاه بعض من عاصرناه، و يلوح دعواه من عبارة كاشف اللثام لمكان قوله فيما تقدّم:

«و هو ممّا قطع به الأصحاب» فإنّه بملاحظة الجمع المحلّى في معنى أنّ الأصحاب أجمعوا عليه بعنوان القطع، بل هذا لكونه إجماعاً على القطع بالحكم أبلغ من سائر الإجماعات المنقولة بلفظ الإجماع، لعدم كون كلّ المجمعين في أكثرها قاطعين بالحكم، بل قد يكون فتوى بعضهم عن دليل ظنّي بل قد تكون الفتوى من كلّهم عن

ص: 574


1- كشف اللثام 47:7.

دليل ظنّي إلّا أنّ الإجماع المذكور لا يجدينا نفعاً لمكان الإجمال في معقده، و القدر المتيقّن منه هو العجز عن النطق بقول مطلق، و دخول العذر على الوجه الأخير الّذي فرضناه في معقده محلّ شكّ ، خصوصاً مع ملاحظة ما سمعت عن كاشف اللثام من «أنّه لم يجد نصّاً من الأصحاب فيمن لإكراه»(1).

نعم في عبارة الكفاية حكاية الشهرة على مناطيّة العذر حيث قال: «و يقوم مقام اللفظ الإشارة، و المشهور اشتراط ذلك بالعذر»(2) و لكنّه لا يورث قطعاً و لا ظنّاً بمناطيّة مطلق العذر.

و يمكن أن يكون دليل المسألة الّذي هو مدرك الإجماع ظاهراً عموم آية «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» بناءً على صدق العقد بمعنى الربط المعنوي على ما يحصل بالإشارة المفهمة كما هو الأظهر فيشمله العموم.

و توهّم المنع لأجل الانصراف إلى الأفراد الغالبة و هو العقود اللفظيّة و هذا فرد نادر، يدفعه عدم جريان قاعدة الانصراف في العمومات و الجمع المحلّى عامّ و عمومه وضعي. و محصّله أنّ هيئته موضوعة لتسرية الحكم إلى أفراد موضوعه و لا يتفاوت فيه الحال بين الأفراد الغالبة و الأفراد النادرة، و قضيّة العموم لزوم الإشارة المفهمة بجميع أفراد العذر حتّى ما نحن فيه.

المسألة الرابعة: في أنّه هل تلحق كتابة المعذور بإشارته و يقوم مقامها في إفادة البيع المفيد للّزوم ؟

كلمة الأصحاب فيه مختلفة بين من يظهر منه الجواز، و من يظهر منه المنع لقصور الكتابة عن الدلالة على الرضا و قصد الإنشاء، و من يظهر منه التردّد، و في التحرير(3) قيّد الكتابة في قيامها مقام الإشارة بانضمام قرينة تدلّ على المعنى المقصود و يمكن أن يكون ذلك مراد من أطلق الجواز و عليه سقط دليل المانع. و قد يفصّل بين الكتابة مع العجز عن الإشارة فيجوز و الكتابة بدون العجز عنها فرجّح الإشارة.

و التحقيق أنّ الكتابة إن دلّت على المعنى المقصود في نفسها أو بمعونة القرينة فلا يبعد قيامها مقام الإشارة مع العجز عنها و بدونه لأجل العموم المتقدّم، و هل يشترط (3)

ص: 575


1- كشف اللثام 47:7.
2- الكفاية: 449.
3- التحرير 275:2.

في كفاية إشارة المعذور أو كتابته عن البيع العقدي عدم تمكّنه من توكيل غير المعذور في إجراء العقد اللفظي ؟ الظاهر عدم الاشتراط، لظاهر إطلاق الأكثر و صريح جماعة(1).

و قد يستدلّ بفحوى ما دلّ في طلاق الأخرس بطريق الإشارة أو إظهار الكراهة على عدم وجوب توكيل الغير، بل قد يقال: بأنّ الظاهر أنّه ممّا لا خلاف فيه.

و هل يجوز لغير المعذور توكيل المعذور في إجراء العقد بالإشارة ؟ قيل: نعم، لعموم أدلّة الوكالة، مع كون وظيفة المعذور العقد بالإشارة، فإذا جاز له توكيله جاز له الاكتفاء بإشارته. و يحتمل المنع، لأنّ الوكيل قائم مقام الموكّل فيؤول إشارته إلى إشارة غير المعذور. و هو ضعيف، و الأوّل غير بعيد.

ص: 576


1- مفتاح الكرامة 526:12، المكاسب 118:3.
المبحث الثاني في نفس صيغة البيع و الاُمور المعتبرة فيها،
اشارة

و جهات الكلام هنا متعدّدة: فقد يتكلّم في الصيغة من حيث موادّ الألفاظ المعتبرة فيها، و قد يتكلّم أيضاً من حيث الهيئة المعتبرة في كلّ من الإيجاب و القبول بانفراده ككونها جملة فعليّة و كالماضويّة، و قد يتكلّم أيضاً من حيث الهيئة المعتبرة فيها من حيث تركّبها من الإيجاب و القبول كتقديم الإيجاب على القبول و الاتّصال،

فهاهنا جهات من الكلام:
الجهة الاُولى: فيما يتعلّق بها من حيث موادّ ألفاظها،
اشارة

و فيها مسائل:

المسألة الاُولى: في أنّه هل يعتبر فيها العربيّة على معنى كونها بألفاظ عربيّة، أو لا؟

خلاف على قولين، أشهرهما بل المشهور منهما العدم، لأنّ معتبري العربيّة جماعة معدودين من المتأخّرين كالسيّد العميدي(1) و المحقّق الثاني في جامع المقاصد(2)و تعليق الإرشاد(3) و رسالته في صيغ العقود(4) و الشهيد الثاني في الروضة(5) و الفاضل المقداد(6) على ما حكي، و لم نقف على مستند لهم سوى الأصل و التأسّي و الأولويّة.

أمّا الأوّل: فلأنّ الأصل في البيع بل كلّ عقد عدم الصحّة و عدم ترتّب أثر النقل و الانتقال إلّا ما خرج بالدليل، و القدر المخرج بالدليل ما وقع باللفظ العربي فيبقى غيره تحت الأصل.

و أمّا الثاني: فلأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم و الأئمّة عليهم السلام ما زالوا كانوا يتبايعون بالألفاظ العربيّة،

ص: 577


1- حكاه عنه الشهيد في حواشيه على ما في مفتاح الكرامة 526:12.
2- جامع المقاصد 59:4.
3- تعليق الإرشاد: 116.
4- رسائل محقّق الكركي 1:1.
5- الروضة 255:3.
6- التنقيح الرائع 184:2.

و التأسّي بهم واجب لقوله تعالى: «لَقَدْ كٰانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اَللّٰهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ » (1).

و أمّا الثالث: فلعدم انعقاد البيع بغير الماضي من الأمر و المضارع مع كونه عربيّاً، فعدم وقوعه بغير العربي بطريق أولى.

و في الجميع من الضعف ما لا يخفى:

أمّا الأصل: فيخرج عنه بالعمومات كآية «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» و «أَحَلَّ اَللّٰهُ اَلْبَيْعَ » و «تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ » لصدق كلّ من العقد و البيع و تجارة عن تراض عرفاً بما يحصل بالألفاظ الغير العربيّة فيشمله العموم و الإطلاق. و منع شمولها إلّا لما يقع بالألفاظ العربيّة لأنّه المتداول في زمان الصدور مكابرة.

و أمّا التأسّي: فبمنع صغراه أوّلاً، فتارةً بعدم معلوميّة أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أو الأئمّة كانوا يباشرون البيع و الشراء، و اُخرى فبعدم معلوميّة اتّفاق كون طرف العقد معهم في البيع أو الاشتراء من غير العرب فضلاً عن العلم بأنّهم كانوا يعقدون معه باللفظ العربي. و منع كبراه ثانياً، فتارةً بأنّ وجوب التأسّي خلافي و معركة للآراء و الأقوى فيه عدم الوجوب، و اُخرى بأنّ وجوبه على القول به مشروط باُمور، منها: عدم كون الفعل الصادر منهم من مقتضى الطبيعة و السجيّة و العادة، و لا ريب أنّ التكلّم بالألفاظ العربيّة من العرب من مقتضى طبائعهم و عاداتهم، فالعقد باللفظ العربي من النبيّ و الأئمّة لو ثبت مداومتهم عليه من عاداتهم باعتبار كونهم عربي اللسان فلا يكون من موضوع وجوب التأسّي.

و بالتأمّل في ذلك علم عدم صحّة الاستدلال على اعتبار العربيّة بقوله تعالى: «وَ مٰا أَرْسَلْنٰا مِنْ رَسُولٍ إِلاّٰ بِلِسٰانِ قَوْمِهِ » (2).

و أمّا الأولويّة: فبمنعها لوضوح الفرق بين الماضي و أخويه بكونه أقرب إلى المعنى المقصود من العقد و هو الإنشاء و كونهما أبعد عنه، بل الفرق أنّ صيغ الماضي في كلّ عقد من المنقولات إلى المعنى الإنشائي فهو فيها بالوضع العرفي الثاني دالّ عليه بخلافهما.

فتحقيق المقام: أنّ معتبري العربيّة إن أرادوا اعتبارها في انعقاد أصل البيع و صدق اسمه أو في صحّته و ترتّب الأثر، فالحقّ ما هو المشهور من عدم اعتبارها لعين ما مرّ في

ص: 578


1- الأحزاب: 21.
2- ابراهيم: 4.

بحث المعاطاة من عدم مدخليّة الصيغة المخصوصة الّتي من جملة خصوصيّاتها العربيّة في صدق الاسم و لا في الصحّة، فمعنى البيع يتحقّق بالألفاظ الغير العربيّة عرفاً أيضاً كما أنّه يترتّب عليه الأثر شرعاً لأجل العموم كما عرفت. و إن أرادوا اعتبارها في اللزوم، فهو كما قالوه لعين ما مرّ في المبحث المذكور من مدخليّة الصيغة المخصوصة في اللزوم.

ثمّ إنّها حيثما وقعت بالعربي فهل يشترط في ألفاظها الصحّة في مقابلة اللحن ؟ على معنى عدم كونها ملحونة، و هو عدم الموافقة للقانون المقرّر لكلمات لغة العرب من حيث الإعراب و البناء أصليّاً كان أو عارضيّاً، و من حيث الحركات و السكنات اللاحقة لبنية الكلمات، و من حيث الحروف بتبديل حرف بآخر و يقال له التحريف، أو بتقديم حرف على حرف و يقال له: «التصحيف» كما لو قيل بَعت بفتح الباء أو التاء و قبلت بضمّ الباء و بحت مكان بعت، و كبلت مكان قبلت، و سريت أو استريت بالسين مكان شريت و اشتريت، أو جوّزت مكان زوّجت و ما أشبه ذلك. فعلى المختار من عدم اشتراط العربيّة إلّا في اللزوم كان المتّجه اشتراط السلامة من اللحن في اللزوم دون الصحّة ما لم يكن اللحن مغيّراً للمعنى المقصود في العقد في عرف المتعاقدين، أمّا اشتراطها في اللزوم فلأنّ القدر المتيقّن ممّا دلّ على مدخليّة الصيغة المخصوصة في اللزوم الصيغة العربيّة السليمة عن اللحن بجميع وجوهه، و أمّا عدم اشتراطها في الصحّة فلعموم أدلّة الصحّة حسبما تقدّم بيانه، و أمّا اعتبار عدم كونه مغيّراً للمعنى المقصود فلأنّ المخاطب لا يدري بأيّ شيء خوطب فيبطل، و أمّا على اشتراط العربيّة في الصحّة فمقتضى العمدة من دليله و هو الاقتصار على القدر المتيقّن ممّا خرج من الأصل اشتراط السلامة عن اللحن أيضاً، لأنّ القدر المتيقّن ممّا خرج هو الصيغة العربيّة الغير الملحونة. و كذلك على الاستدلال بالتأسّي فإنّه إن تمّ و أفاد اشتراط العربيّة أفاد اشتراط السلامة عن اللحن أيضاً.

و قد يفصّل بين ما كان مغيّراً للمعنى المقصود فلا يصحّ ، و ما لم يكن مغيّراً فيصحّ .

و هو ضعيف بالنظر إلى دليل مشترطي العربيّة كما عرفت.

و حكي(1) عن فخر الدين الفرق بين ما لو قال بعتك بفتح الباء و بين ما لو قال

ص: 579


1- حكى في مفتاح الكرامة عنه 526:12.

جوّزتك بدل زوّجتك فصحّح الأوّل دون الثاني إلّا مع العجز عن التعلّم و التوكيل. قيل:

و لعلّه لعدم معنى صحيح في الأوّل إلّا البيع بخلاف التجويز فإنّ له معنى آخر فاستعماله في التزويج غير جائز. و هذا أيضاً بالنظر إلى الدليل المذكور لأنّه إن تمّ و أفاد اشتراط العربيّة أفاد المنع من الملحون مطلقاً.

ثمّ على اشتراط العربيّة في الصيغة فهل يعتبر كون المتكلّم و هو العاقد عربيّاً أيضاً؟ الوجه عدم الاشتراط، لإجماعهم المعلوم بالتتبّع في جميع العقود و الإيقاعات على الاكتفاء بالصيغ العربيّة الصادرة عن غير العربي بل هو معلوم بالسيرة المحقّقة في الأعصار و الأمصار.

و هل يعتبر على تقدير كونه غير عربي اللسان أن يكون عارفاً لجميع ألفاظ لغة العرب مميّزاً بين حقائقها و مجازاتها أو لا؟ و الوجه أنّه غير معتبر أيضاً، لما عرفت.

و عليه فهل يعتبر أن يكون عارفاً للألفاظ المستعملة في العنوان المقصود في العقد أعني البيع و فارقاً بين معنى بعت إخباراً و إنشاءً و أبيع و بع و أنا بائع، أو يكفي مجرّد علمه بأنّ بعت بمعنى «فروختم» يستعمل في لسان العرب لإنشاء البيع ؟ قيل: الظاهر هو الأوّل، لأنّ عربيّة الكلام ليست باقتضاء نفس الكلام بل يقصد المتكلّم منه المعنى الّذي وضع له عند العرب، فلا يقال: إنّه تكلّم و أدّى المطلب على طبق لسان العرب إلّا إذا ميّز بين معنى بعت و أبيع و أوجدت البيع و غيرها، بل على هذا لا يكفي معرفة أنّ بعت مرادف لقوله «فروختم» حتّى يعرف أنّ الميم في الفارسي عوض تاء المتكلّم فيميّز بين بعتك و بعت بالضمّ و بعت بفتح التاء.

و فيه نظر، بل الأقوى كفاية ما ذكر مطلقاً، لإجماعهم المعلوم بالتتبّع على عدم التزامهم بالمعرفة و التمييز المذكورين حتّى في صيغة النكاح.

و هل يعتبر العربيّة على القول باشتراطها في جميع الألفاظ المأخوذة في الإيجاب و القبول ممّا يدلّ على المثمن أو الثمن أو على مقاديرهما فلو قال «بعتك اين كتاب را به يك تومان او بده درهم» لا يقع صحيحاً أو لا؟ الوجه هو التفصيل فإن قلنا باشتراط ذكر متعلّقات الإيجاب في العقد اتّجه عدم كفاية ما ذكر لعين ما عرفت من دليل اشتراط عربيّة نفس الصيغة، و إلّا كما في القبول فالمتّجه هو الكفاية و مرجعه إلى عدم إخلال

ص: 580

وجود اللفظ الغير العربي في الصحّة مع عربيّة نفس الصيغة المستعملة في إنشاء العنوان المقصود.

المسألة الثانية: في اعتبار الصراحة و عدمه،

فليعلم أنّ الصراحة في لسان العلماء تطلق على معان:

منها: ما يقابل الظهور و يقال له «النصوصيّة» أيضاً كما هو المتداول عند الاُصوليّين.

و منها: وضوح الدلالة، أعني كون اللفظ واضح الدلالة على العنوان المقصود في العقد سواء كان بطريق النصوصيّة أو الظهور.

و منها: ما يقابل الكناية، كما في كلام جماعة(1) من معتبري الصراحة حيث يفرّعون عليه إخراج الكنايات، و المراد بالكناية هنا ما أفاد لازم العنوان المقصود و إن لم يفد إرادة نفس العنوان و هو الملزوم إلّا بواسطة القرائن، كما لو قال: جعلته لك بكذا أو أدخلته في ملكك بكذا أو سلّطتك عليه بكذا أو أعطيتكه بكذا و ما أشبه ذلك، فالصريح حينئذٍ ما أفاد نفس الملزوم و هو البيع.

و منها: ما يرادف الحقيقة، كما في كلام من ذكره و فرّع عليه إخراج المجازات، و منهم من عمّم المجاز المخرج باشتراط الصراحة بالقياس إلى القريب و البعيد و الجامع بينه و بين سابقه على ما يظهر من جماعة ما كان دلالته على العنوان المقصود في العقد بالوضع لغة أو شرعاً، فإنّ بذلك يخرج المجازات و الكنايات معاً و إن شئت قلت إنّ ذلك هو المعنى الأخير، و لكن يخرج به المجازات و الكنايات أمّا خروج الاُولى فلانتفاء الوضع، و أمّا خروج الثانية فلكون إفادة اللفظ العنوان المقصود بالقرينة كما تقدّم إليه الإشارة لكون لازمه اللازم الأعمّ و اللفظ الدالّ على الأعمّ بالأعمّ بالوضع لا يدلّ على الملزوم الأخصّ بنفسه.

و لكن ينبغي أن يقطع بعدم كون مرادهم هنا المعنى الأوّل، لأنّ مقام التعاقد ليس بخارج عن سائر مقامات الخطاب الّتي يكون مدار الإفادة و الاستفادة فيها على الظهورات النوعيّة المستندة إلى الأوضاع.

ص: 581


1- في غاية المراد: 81، و التذكرة 9:10 و إيضاح الفوائد 12:3 و المسالك 172:5.

و لا المعنى الثاني لعدم كونه مانعاً إن عمّم وضوح الدلالة بالقياس إلى ما كان بمعونة القرينة - لدخول ما كان من المجاز المشهور على القول بترجيح المعنى المجازي، و المجاز القريب بضابطة أولويّة أقرب المجازات عند تعذّر الحقيقة، و المجاز المقرون بقرينة موضحة للمراد و الكلّ ينافي إطلاقهم عدم انعقاد البيع و لا مطلق العقد بالمجازات مع صريح بعضهم كشارح(1) القواعد على ما نمي إليه بعدم الفرق بين المجاز القريب و المجاز البعيد - و عدم كونه جامعاً إن لم يعمّم بأن يراد وضوح الدلالة بنفس اللفظ لأنّه يخرج حينئذٍ المشترك بقسميه من اللفظي و المعنوي، فوجب أن لا يقع البيع بلفظ «بعت» و لا «شريت» و لا «ملّكت» في إيجاب عقده. و هو في الأوّل خلاف الإجماع، و في الأخيرين خلاف المشهور شهرة عظيمة تكاد تبلغ الإجماع لكون كلّ من الأوّلين مشتركاً لفظيّاً بين إيجاب البيع و قبوله اللذين يراد منهما في الترجمة الفارسية معنى «فروختن و خريدن» على ما هو المصرّح به في كلامهم. بل عن المصابيح «أنّه لا خلاف عندهم في وضعهما للمعنيين فيكونان من الأضداد»(2) و كون الأخير من المشترك المعنوي على ما هو المصرّح به في كلام جماعة، بل في كلام مفتاح الكرامة ما يظهر منه كونه محلّ وفاق عند الفقهاء و أهل اللغة حيث قال: «و الحقّ أنّ ملكت مشترك معنوي عند الفقهاء و أهل اللغة كما يظهر ذلك على من تتبّع كتب الفريقين»(3) انتهى.

و لا المعنى الثالث حتّى يكون مفاده انعقاد البيع بالمجازات فإنّه ينافي إطلاقهم العدم، و تصريح بعضهم بعدم الفرق كما عرفت.

فتعيّن كون المراد به المعنى الرابع الّذي مفاده خروج المجازات و الكنايات معاً، و هو الّذي ينبغي أن يقطع به أمّا أوّلاً، لحكاية الشهرة تارةً على عدم وقوع العقد بالمجازات، و اُخرى على عدم وقوعه بالكنايات. و أمّا ثانياً، لظهور دعوى الإجماع عليه من بعض العبارات كعبارة مفتاح الكرامة حيث قال:

«و اعلم أنّ اشتراط الدلالة بالوضع هو الّذي يعبّرون عنه بالصراحة»(4) و له كلام

ص: 582


1- شرح القواعد 14:2.
2- المصابيح: 34.
3- مفتاح الكرامة 484:12-486.
4- مفتاح الكرامة 484:12-486.

آخر متضمّن لدعوى الإجماع صريحاً على عدم وقوعه بالمجازات و لا بالكنايات حيث إنّه بعد ما فرّع على كون دلالة الصيغة على الرضا الباطني بمقتضى الوضع خروج المجاز قريباً كان أو بعيداً قال: «و هو الّذي طفحت به عباراتهم حيث قالوا في أبواب متفرّقة كالسلم و النكاح و غيرهما: إنّ العقود اللازمة لا تثبت بالمجازات، فيأخذون هذه القضيّة مسلّمة في مطاوي الاحتجاج، فلا ينعقد بشيء من المجازات كالهبة و الصلح و الإجارة و الكتابة و الخلع قولاً واحداً، و كذا لا ينعقد بشيء من الكنايات كالتسليم و التصرّف و الدفع و الإعطاء و الأخذ و نحو ذلك»(1) انتهى.

و قوله: كالهبة و الصلح... إلى آخر الأمثلة الأولة، إمّا أمثلة لمجازات البيع على معنى إطلاق هذه الألفاظ و إرادة معنى البيع مجازاً كما يساعد عليه ذيل العبارة بل صوغها أيضاً، أو أنّها أمثلة للعقود اللازمة الّتي لا تثبت بالمجازات، و هو أقرب معنى بالنظر إلى بعد بعض هذه الألفاظ عن معنى البيع بل المنافرة بينهما كالكتابة و الخلع.

و كيف كان فغرضنا الاستشهاد بقوله: «قولاً واحداً».

ثمّ إنّ القول باشتراط الصراحة في الصيغة منسوب إلى جماعة و حكي عليه الشهرة بأنحاء مختلفة: فتارةً على نفس الاشتراط، و اُخرى على عدم الوقوع بالكنايات، و ثالثة على عدم الوقوع بالمجازات، و اختاره شيخنا في الجواهر(2)، و قبله اُستاده في مفتاح الكرامة(3) بل ادّعى عليه الإجماع و قد سمعت عبارته، و قبلهما السيّد في المصابيح بل عنه دعوى الإجماع في موضعين، أحدهما: في مساقاة المصابيح ادّعاه على أنّ العقود لا بدّ فيها من صيغة صريحة، و الآخر: في البيع حيث قال - على ما حكي -: «و لا ينعقد بسائر المجازات كالهبة و الصلح و الإجارة و الكتابة و الخلع قولاً واحداً، و لا بالنكاح و لو كان المبيع أمة، و لا بشيء من الكنايات كالتسليم و التصريف و الدفع و الأخذ و الإعطاء و نحو ذلك»(4) و اختاره العلّامة في التذكرة قائلاً: «الرابع التصريح فلا يقع بالكناية مع النيّة مثل أدخلته في ملكك أو جعلته لك أو خذه منّي أو سلّطتك عليه بكذا، عملاً

ص: 583


1- مفتاح الكرامة 483:12-484.
2- الجواهر 248:22.
3- مفتاح الكرامة 483:12.
4- المصابيح: 232.

بأصالة بقاء الملك، و لأنّ المخاطب لا يدري بم خوطب»(1) و عن السيّد أيضاً في الطبريّات «الإجماع عليه»(2).

و في مقابله القول بعدم اشتراطها في صيغة عقد البيع بل صيغ سائر العقود اللازمة، بل يقع العقد بكلّ لفظ له ظهور عرفي في المعنى المقصود سواء كان ظهوره بالوضع أو بالقرينة، فيقع باللفظ الحقيقي و باللفظ المجازي مع القرينة الموضحة للمراد، و باللفظ الكنائي مع القرينة المفيدة للملزوم كما يقع بالمشترك اللفظي مع القرينة المعيّنة للمراد، و بالمشترك المعنوي مع القرينة المفهمة للمراد من الخصوصيّة، و اختاره جماعة من مشايخنا(3) و في كلام بعضهم: أنّ هذا هو الّذي قوّاه جماعة من متأخّري المتأخّرين، قال: و حكي عن جماعة ممّن تقدّمهم و من هؤلاء الجماعة المحقّق و تلميذه الآبي في كشف الرموز حيث إنّ التلميذ نقل عن شيخه «أنّ عقد البيع لا يلزم فيه لفظ مخصوص و اختاره هو أيضاً و يظهر ذلك من عبارة الشرائع حيث قال في تعريف عقد البيع أنّه اللفظ الدالّ على نقل الملك... الخ، ثمّ قال: و لا يكفي التقابض من غير لفظ... الخ ثمّ قال: و يقوم مقام اللفظ الإشارة مع العذر، ثمّ قال: و لا ينعقد إلّا بلفظ الماضي»(4) فإنّ اللفظ المتكرّر في هذه العبارة مطلق يتناول إطلاقه اللفظ المجازي و الكنائي، و يؤيّده تعرّضه لاعتبار الماضويّة و لم يتعرّض الصراحة.

و يظهر اختياره من العلّامة في التحرير حيث أطلق اللفظ بقوله: «الإيجاب اللفظ الدالّ على النقل مثل بعتك أو ملّكتك أو ما يقوم مقامهما»(5) و حكي ذلك أيضاً عنه في التبصرة(6) و الإرشاد(7) و عن ولده في شرحه(8) موافقته، و عن الشهيد في حواشيه(9) أنّه جوّز البيع بكلّ لفظ دلّ عليه مثل أسلمت إليك و عاوضتك، و قد تقدّم في بحث المعاطاة أنّ الشهيد الثاني نقل في المسالك(10) عن بعض معاصريه أنّه اعتبر اللفظ و أطلق نافياً لاعتبار الصيغة المخصوصة في الصحّة و اللزوم. و قيل: إنّه ظاهر كلّ من أطلق اعتبار

ص: 584


1- التذكرة 9:10.
2- الناصريّات: 330.
3- المكاسب 120:3.
4- كشف الرموز 446:1.
5- التحرير 275:2.
6- التبصرة: 88.
7- الإرشاد 359:1.
8- نقله عنه في مفتاح الكرامة 488:12.
9- نقله عنه في مفتاح الكرامة 487:2.
10- المسالك 147:3.

الإيجاب و القبول فيه من دون ذكر لفظ خاصّ ، كالشيخ(1) و أتباعه(2).

و مستند هذا القول العمومات و الإطلاقات مثل «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» و «أَحَلَّ اَللّٰهُ اَلْبَيْعَ » و «تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ » و «البيّعان بالخيار» لصدق العقد و البيع و التجارة على ما يتحقّق بكلّ لفظ مفيد للمعنى المقصود من إنشاء تمليك العين على وجه التعويض بنفسه أو بمعونة القرينة. و إنكاره مكابرة، كما أنّ القدح في تناول العموم و الإطلاق مكابرة.

و أمّا أهل القول الأوّل فلهم على ما يعطيه التتبّع وجوه:

منها: الأصل الأوّلي المقتضي لفساد المعاملة مطلقاً إلّا ما أخرجه الدليل، و القدر المقطوع خروجه بالدليل هو المعاملة الواقعة بالصيغة الصريحة فيبقى غيرها ممّا يقع بالصيغة الغير الصريحة تحت الأصل.

و منها: ما اعتمد عليه العلّامة في التذكرة(3) من العمل بأصالة بقاء الملك، و لأنّ المخاطب لا يدري بم خوطب، و الأوّل يؤول إلى الوجه الأوّل.

و منها: ما اعتمد عليه شيخنا في الجواهر(4) ممّا ملخّصه مع تحرير و توضيح منّا:

أنّ غرض الخالق من خلق العالم و إيجاد بني آدم انتظام أمر المعاد و لا ينتظم إلّا بانتظام أمر المعاش، و لا ينتظم إلّا بالمعاملات الموظّفة على كيفيّاتها المقرّرة، و لا تنتظم المعاملات إلّا بأن شرّعت على وجه لم تكن مثاراً للتنازع و التجاذب و الترافع، و لا يتأتّى ذلك إلّا بأن يعتبر في وقوعها الصيغ المخصوصة الصريحة لأنّ الصيغ الغير الصريحة مثار للتنازع و أخويه و هو يوجب اختلال أمر المعاش، و منه يلزم اختلال أمر المعاد و هو نقض للغرض.

و منها: الشهرة المحقّقة المعتضدة بالشهرات المحكيّة.

و منها: الإجماعات المنقولة حسبما تقدّم.

و هذه الوجوه كما ترى كلّها مدخولة ضعيفة:

أمّا ضعف الوجه الأوّل: فلأنّ الأصل يخرج عنه بما ذكر في دليل أهل القول بعدم الاشتراط من عمومات أدلّة الصحّة و إطلاقاتها. و بذلك يظهر وجه ضعف أصالة بقاء

ص: 585


1- الخلاف 7:3 المسألة 6.
2- كما في المراسم: 171، المهذّب 350:1، الوسيلة: 236.
3- التذكرة 9:10.
4- الجواهر 248:22.

الملك الّتي اعتمد عليها العلّامة، فإنّها لا تعارض العموم و الإطلاق.

و هاهنا شيء يعجبني ذكره و هو أنّ الشهيد الثاني في شرح عبارة الشرائع حيث قال: «و لا يكفي التقابض من غير لفظ» الخ ذكر «هذا هو المشهور بين الأصحاب بل كاد يكون إجماعاً غير أنّ ظاهر كلام المفيد يدلّ على الاكتفاء في تحقّق البيع بما دلّ على الرضا به من المتعاقدين... إلى أن قال: و قد كان بعض مشايخنا المعاصرين يذهب إلى ذلك لكن يشترط في الدالّ كونه لفظاً، و إطلاق كلام المفيد أعمّ منه، و النصوص المطلقة من الكتاب و السنّة الدالّة على حلّ البيع و انعقاده من غير تقييد بصيغة خاصّة تدلّ على ذلك، فإنّا لم نقف على دليل صريح في اعتبار لفظ معيّن، غير أنّ الوقوف مع المشهور هو الأجود، مع اعتضاده بأصالة بقاء ملك كلّ واحد بعوضه إلى أن يعلم الناقل»(1) انتهى.

و هذا منه مع المناقشة في تنزيل إطلاق اللفظ في عبارة الشرائع إلى اللفظ المعيّن و هو الصيغة الخاصّة لا يخلو عن تهافت، لأنّ دلالة النصوص المطلقة كتاباً و سنّة على ما ذهب إليه السيّد أو على ما ذهب إليه بعض معاصريه إن كانت مسلّمة عنده كما اعترف به بل اعترف بعدم وقوفه على دليل صريح في اعتبار لفظ معيّن كيف يصحّ الاعتضاد بأصالة بقاء الملك، لكون هذه النصوص المطلقة الّتي سلّم دلالتها على عدم الاعتبار ناقلة عنها. و في كلامه تهافت آخر و هو أنّ الدلالة المذكورة إن كانت مسلّمة مع الاعتراف بعدم الوقوف على دليل صريح في اعتبار اللفظ المعيّن كيف يجعل الوقوف مع المشهور أجود، إلّا أن يعتذر بأنّ دلالة النصوص المطلقة باعتبار الإطلاق و إنّما يصحّ التعويل على الإطلاق مع قطع النظر عن الشهرة المذكورة الّتي هي عبارة عن مصير معظم الأصحاب إلى خلاف مقتضى هذا الإطلاق، و أمّا مع ملاحظتها فيتوهّن بها الإطلاق فلا يحصل به ظنّ عدم الاعتبار بل بالشهرة يحصل ظنّ الاعتبار، فيصحّ الاعتضاد بأصالة البقاء حينئذٍ، كما يصحّ جعل الوقوف مع المشهور أجود الّذي هو عبارة عن التعويل على الشهرة. و لكنّه اعتذار ضعيف لما يظهر وجهه عند الجواب عن الشهرة.

ص: 586


1- المسالك 147:3.

و أمّا ضعف الوجه الثاني: الّذي اعتمد عليه العلّامة فلأنّه إن جعل محلّ النزاع في الكناية الغير المقرونة بقرينة تفيد إرادة المعنى المقصود فما ذكره من «أنّ المخاطب لا يدري بم خوطب» و إن كان صحيحاً غير أنّه ممّا لا كلام فيه و لا نظنّ بأحد من الأصحاب أنّه جوّز العقد بكناية لم تفد إرادته بل عباراتهم مشحونة باعتبار وضوح الدلالة و الظهور العرفي و نحوه، و إن جعله في الكناية مع القرينة المفيدة فيتوجّه إليه منع الملازمة، فإنّ فائدة القرينة هو أن يفهم المخاطب ما خوطب به. و بملاحظة ما ذكرناه في الترديد ربّما أمكن القول بأنّ النزاع بين العلّامة و مخالفيه يعود لفظيّاً، بتقريب أنّه منع الاكتفاء بالكناية بدون القرينة و مخالفوه جوّزوا الاكتفاء بها مع القرينة لا غير.

و قد ينزّل كلام العلّامة في تعويله على الوجه المذكور على كناية لم يكن قرينته لفظاً موضوعاً للعنوان المقصود منها على سبيل الكناية، كأن يقول في الأمثلة المتقدّمة:

أدخلته في ملكك بيعاً أو جعلته لك بيعاً أو خذه منّي بيعاً أو سلّطتك عليه بيعاً، بل كانت قرينة حال أو مقام أو لفظ سابق على المخاطبة، فإنّ الأوّل ممّا لا كلام لأحد في كفايته بخلاف الثاني فإنّه محلّ النزاع بينه و بين مخالفيه.

و لا يخفي بعده بالنظر إلى إطلاق كلامهم، و ربّما يأباه ظاهر عبارة التذكرة و هي قوله: «فلا يقع بالكناية مع النيّة»(1) فإنّه يعطي أنّ الكناية الّتي يأتي بها العاقد ليس معها إلّا نيّة القائل و قصده، فلو كان نظره إليها مع القرينة الغير اللفظيّة كان المناسب أن يقول:

فلا يقع بالكناية مع القرينة الغير اللفظيّة.

و أمّا ضعف الوجه الثالث فلوجوه:

الأوّل: أنّه وجه اعتباري لا اعتبار به في أدلّة الأحكام، و لا يصلح مدركاً لحكم شرعي، و لا ينهض مخصّصاً لعمومات أدلّة الصحّة و لا مقيّداً لإطلاقاتها.

الثاني: أنّه منقوض بالعقود الجائزة فإنّ محلّ النزاع هي العقود اللازمة كما يعطيه كلماتهم صراحة و ظهوراً، و أمّا العقود الجائزة فلا كلام لهم في الاكتفاء فيها بكلّ لفظ حتّى المجاز و الكناية و ربّما ادّعى الاتّفاق على ذلك، فلو كان الإتيان بالصيغ الغير

ص: 587


1- التذكرة 9:10.

الصريحة في المعاملات مؤثّراً في وقوع التنازع و الترافع الموجب لاختلال نظم المعاش و المعاد، لجرى ذلك في العقود الجائزة أيضاً فيلزم نقض الغرض.

الثالث: أنّه غير منطبق على مطلوبهم عكساً و طرداً، أمّا العكس فلأنّه ينتقض بالحقيقة و الصيغة الصريحة فإنّ جهات التنازع المفضي إلى الترافع كثيرة غير محصورة، فكثيراً ما يتنازع في المعاملة بالصيغة الصريحة في أصل وقوعها، و في المعاملة الواقعة بالصيغة الصريحة في نوعها ككونها بيعاً أو إجارة، بيعاً أو صلحاً، بيعاً أو هبة و كون النكاح الواقع بين الزوجين دواماً أو انقطاعاً، و في نوع المعاملة الواقعة بالصيغة الصريحة في تعيين المورد ككون المبيع عبداً أو جارية، و كون الثمن ديناراً أو درهماً، و في النقد و النسية و غير ذلك. و أمّا الطرد فلأنّ المجاز مع القرينة قد يكون أصرح و أوضح دلالة من الحقيقة، فلا يقع مثاراً للتنازع فوجب أن يكتفى به.

الرابع: أنّ مقام التعاقد ليس إلّا كسائر مقامات الخطاب، و من المعلوم ضرورة جواز الإتيان في مقامات الخطاب بالألفاظ المجازيّة و الكنائيّة بقرائنها المفيدة لمعانيها المقصودة، و هذه طريقة مألوفة شائعة.

و دعوى: أنّ هذه طريقة أهل العرف لا أهل المعاملة و كلامنا في المعاملات لا غير، يدفعها: أنّ أهل المعاملة ليس لهم طريقة متجدّدة مغايرة لطريقة أهل العرف في محاوراتهم، كيف و لو كان لهم مثل هذه الطريقة لكانت متلقّاة من الشارع و يحتاج ثبوتها إلى دليل و لا دليل عليها، حتّى أنّ القائل بثبوتها لم يأت إلّا بما سمعت من الوجه الاعتباري الّذي قد عرفت كونه قاصر الدلالة غير منطبق على مدّعاهم عكساً و طرداً.

و أمّا ما يستشمّ من بعض العبارات ممّا يمكن إنهاضه دليلاً عليها «من أنّ العقود اللازمة المؤثّرة في النقل و الانتقال و غيرهما أسباب شرعيّة توقيفيّة موظّفة من الشارع، فوجب الاقتصار فيها على موضع اليقين و لا يكون إلّا العقود الواقعة بصيغها المخصوصة، و أمّا غيرها ممّا يقع بغير هذه الصيغ من الألفاظ المجازيّة و الألفاظ الكنائيّة فتوظيف الشارع و توقيفه غير ثابت فيها» ففيه أنّه حسن لو لا عمومات الصحّة و إطلاقاتها، و قد عرفت نهوضها لإثبات التوقيف و التوظيف بالنسبة إلى ما عدا موضع اليقين فتكون حاكمة على قاعدة الاقتصار عليه.

ص: 588

و أمّا ضعف الوجه الرابع: و هو الشهرة، فلأنّ محقّقها غير ثابت، و محكيّها غير مفيد، لأنّه لا ينهض لتخصيص العمومات و تقييد المطلقات، على أنّه لو سلّمنا كونها محقّقة فهي أيضاً لا تجدي نفعاً لأنّها ليست حجّة لذاتها بل حيث كشفت كشفاً ظنّياً اطمئنانيّاً عن وجود دليل معتبر للمشهور لو عثرنا عليه لعملنا به، و هي فيما نحن فيه ليست بتلك المكانة خصوصاً مع ملاحظة كثرة المخالف و كون جمع منهم من أساطين الطائفة و وجوههم، و قضاء التتبّع بأن ليس لهم إلّا الوجوه المذكورة الّتي عمدتها الأصل و قد تبيّن ضعف الجميع. و من هنا قد يجاب عن الشهرة أيضاً بأنّها إنّما تصير حجّة حيث لم يعلم بفساد مدركها، و قد علمنا فساده هنا، إذ لا مدرك لها إلّا الأصل الّذي قد ظهر حاله.

و أمّا ضعف الخامس: و هو الإجماعات المنقولة فلأنّها مستراب فيها، بأنّ المسألة المبحوث عنها كيف تصير إجماعيّة مع مخالفة جماعة من متأخّري المتأخّرين و جماعة ممّن تقدّمهم مع كون جمع منهم من أساطين الطائفة و وجوههم. و من هنا أنكر كلّاً من الإجماع و الشهرة بعض مشايخنا قدس سرهم حيث إنّه بعد ما نقل في خصوص البيع عن الأصحاب من كلماتهم القاضية بوقوعه بألفاظ هي بالنسبة إليه إمّا من المجازات أو من الكنايات كالسلم و التولية و التشريك في المبيع و التقبيل في ثمرة النخيل و في سائر العقود اللازمة من كلماتهم القاضية بوقوعها بكلّ لفظ أو بألفاظ مخصوصة هي بالنسبة إليها أيضاً إمّا من قبيل المجاز أو من قبيل الكناية قال: «و مع هذه الكلمات كيف يسند إلى العلماء أو أكثرهم وجوب إيقاع العقد باللفظ الموضوع له و أنّه لا يجوز بالألفاظ المجازيّة»(1) انتهى.

و مع الغضّ عن ذلك نقول: إنّ حجّيّة الإجماع المنقول عندنا إنّما هو من حيث إفادته الظنّ الاطمئناني و هو هنا لا يفيد لنا ظنّاً فضلاً عن بلوغه حدّ الاطمئنان.

و بعد اللتيّا و الّتي لو سلّمنا الإجماع فيحتمل قويّاً كونه إجماعاً على اشتراط لزوم العقود اللازمة بالصراحة.

و يقرّبه ما في كلام مفتاح الكرامة الّذي من ناقلي الإجماع ناقلاً عن الأصحاب من

ص: 589


1- المكاسب 125:3.

قوله حيث قالوا: «إنّ العقود اللازمة لا تثبت بشيء من المجازات»(1).

و وجه التقريب أوّلاً: القاعدة المقرّرة من أنّ النفي الوارد عقيب كلام مقيّد ظاهر في الرجوع إلى القيد، و قضيّة هذا الظهور كون الإجماع منقولاً على أنّ لزوم العقود اللازمة لا يثبت بشيء من المجازات.

و ثانياً: قرينة مقابلة العقود اللازمة للعقود الجائزة، فإنّها تقضي بأنّ اختصاص العقود اللازمة بهذا الحكم لا بدّ و أن يكون لجهة مائزة بينها و بين العقود الجائزة و ليست إلّا كونها لازمة، فيكون المتوقّف منها على الصراحة لزومها لا صحّتها، لأنّها جهة مشتركة بينها و بين العقود الجائزة، و هي فيها ليست متوقّفة على الصراحة إجماعاً، و لذا لو فرض جميع العقود جائزة أو فرض البيع جائزاً لم يكن لها و لا له حكم إلّا الصحّة بدون الصراحة.

و ممّا يؤيّده أيضاً صريح عبارة جامع المقاصد في باب القراض فإنّه بعد ما بيّن أنّه جائز من الطرفين ذكر أنّ قبوله يقع بكلّ ما يدلّ على الرضا بالإيجاب و لو كان فعلاً، و علّله «بأنّه ليس كالعقد اللازم لأنّ الحكم بلزومه متوقّف على حصول السبب المعتبر شرعاً و هو اللفظ»(2) انتهى.

و حينئذٍ فالّذي ينبغي أن يذعن به هو كون الصراحة كالعربيّة شرطاً في لزوم البيع و سائر العقود اللازمة لا في انعقادها و صحّتها، و اللّٰه العالم بحقائق أحكامه.

المسألة الثالثة: في بيان الألفاظ المخصوصة المستعملة في إيجاب البيع و في قبوله
اشارة

بناءً على اعتبار الصراحة في الصحّة أو في اللزوم على المختار.

أمّا المستعملة منها في الإيجاب، فالمعروف بينهم المصرّح به في كلام جماعة(3)من أساطينهم أنّها «بعت و شريت و ملّكت» و عن الجامع(4) الاقتصار على الأوّلين، و قالوا: إنّ «بعت و شريت» حيث يقع كلّ منهما إيجاباً يتعدّى إلى مفعولين، فلو قال

ص: 590


1- مفتاح الكرامة 483:12.
2- جامع المقاصد 53:8.
3- كما في نهاية الإحكام 448:2، و التذكرة 8:10، و الدروس 191:3، و التنقيح 24:2، و رسائل محقّق الكركي (صيغ العقود) 178:1، و الروضة 225:3.
4- الجامع للشرائع: 246.

البائع: «بعتك هذه أو شريتك هذه» يتعيّن للإيجاب من وجهين: أحدهما وقوعه من البائع، و الآخر تعديته إلى مفعولين. و لو قال: «بعتها أو شريتها» يتعيّن له من وجه واحد.

و إذا وقع قبولاً يتعدّى إلى مفعول واحد فيقال «بعتها أو شريتها» و يجوز استعماله بحذف المفعول الواحد أيضاً فيقال «بعت أو شريت».

ثمّ إنّ كفاية لفظ «بعت» في إيجاب البيع و وقوع البيع به ممّا لا إشكال بل لا كلام فيه لأحد، و في كلام غير واحد(1) نفي الخلاف بل هو القدر المتّفق عليه من ألفاظ الإيجاب.

و أمّا «شريت» فالمصرّح به في كلام جماعة كفايته في الإيجاب و وقوع البيع به أيضاً، بل قيل(2): «إنّه المشهور شهرة عظيمة تكاد تكون إجماعاً» و قد يستدلّ عليه بوضعه للبيع كما عن بعض أهل(3) اللغة، بل قد تقدّم عن سيّد المصابيح نفي الخلاف في وضعه مع بعت لمعنيين إيجاب البيع و قبوله.(4) فيكون دلالته على البيع صريحة لاستنادها إلى الوضع، غاية الأمر افتقاره من جهة الاشتراك إلى القرينة المعيّنة و يكفي فيها صدوره من البائع و تعديته إلى مفعولين.

و قد يستشكل فيه نظراً إلى قلّة استعماله عرفاً في البيع، و احتياجه إلى القرينة، و عدم نقل الإيجاب به في الأخبار و لا كلام القدماء. و من مشايخنا من استوجهه بقوله:

«و لا يخلو عن وجه»(5).

و يدفعه: أنّ ندرة الاستعمال مع فرض وجود القرينة المعيّنة للمراد غير قادحة في الصراحة لاستناد أصل الدلالة إلى الوضع و عليها المدار في الصحّة أو اللزوم، نعم لو بلغت الندرة إلى حيث هجر ذلك المعنى بحيث صار مجازاً فيه خرج عن كونه صريحاً، و عدم الاكتفاء به حينئذٍ من هذه الجهة لا لمجرّد ندرة الاستعمال، و كون الندرة المفروضة فيه بتلك المثابة أوّل المسألة بل موضع منع و لو من جهة الأصل، و لذا لم يلتفت إليها الجماعة و عدّوه من ألفاظ الإيجاب. و أمّا الاحتياج إلى القرينة المعيّنة

ص: 591


1- المكاسب 130:3.
2- الجواهر 244:22.
3- الصحاح 2391:6، لسان العرب 103:7، القاموس المحيط 347:4.
4- المصابيح: 34.
5- المكاسب 131:3.

فهو أيضاً غير قادح، بل القادح في الصراحة هو الاحتياج إلى قرينة المجاز لا مطلق القرينة. و أمّا عدم ورود الإيجاب به في الأخبار و لا في كلام قدماء الأصحاب فعلى تسليمه فهو أيضاً غير قادح بعد ما ورد إطلاقه على البيع في الكتاب العزيز بل شيوع ذلك، كما في قوله عزّ من قائل: «وَ شَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ » (1) و قوله أيضاً: «وَ مِنَ اَلنّٰاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ اِبْتِغٰاءَ مَرْضٰاتِ اَللّٰهِ » (2) و قوله أيضاً: و «اَلَّذِينَ يَشْرُونَ اَلْحَيٰاةَ اَلدُّنْيٰا بِالْآخِرَةِ » (3) بل قيل(4): إنّه لم يستعمل في الكتاب العزيز إلّا في البيع. و مع الغضّ عن ذلك فالعبرة في الجواز بالصراحة و العبرة فيها بالوضع اللغوي.

و أمّا «ملّكت» بالتشديد فوقوع البيع به و جواز الاكتفاء به في الإيجاب منسوب إلى الأكثر(5) و قد ينسب مع ذلك إلى المشهور، و قد يعزى دعوى الإجماع عليه إلى ظاهر جامع المقاصد(6) في تعريف البيع، بل يظهر دعوى الاتّفاق عليه من المحكيّ عن نكت الإرشاد من قوله: «لا يقع البيع بغير اللفظ المتّفق عليه كبعت و ملّكت»(7).

نعم قد يسند الخلاف فيه إلى ظاهر الجامع(8) نظراً إلى اقتصاره على لفظ «بعت» و شريت. و فيه نظر.

و من مشايخنا من استشكل في الاكتفاء به بما ملخّصه «أنّ ملّكت و إن كان نصّاً في الإيجاب إلّا أنّه ليس نصّاً في البيع لاحتمال غيره كالهبة و الصلح، بل لا اختصاص للفظ التمليك بنقل الأعيان لوقوعه لنقل المنافع، و في نقل الأعيان لا اختصاص له بالبيع لصحّة وقوعه للهبة و الصلح، و لا يجدي تعلّقه في العقد بالعين لأنّ الهبة أيضاً متعلّقة بالأعيان، و لا ذكر العوض لأنّ الهبة قد تكون معوّضة و كذلك الصلح، إلّا أن يدفع بالتزام التقييد بالبيع كأن يقال: ملّكتك هذه العين بيعاً بكذا، و بذلك يرتفع النزاع بين الأكثر حيث أطلقوا جواز إيجاب البيع بهذا اللفظ و بين الجامع(9) حيث أطلق المنع بتنزيل

ص: 592


1- يوسف: 20.
2- البقرة: 207.
3- النساء: 74.
4- المكاسب 130:3، مفتاح الكرامة 495:12.
5- مفتاح الكرامة 492:12.
6- جامع المقاصد 55:4.
7- غاية المراد 17:2.
8- الجامع للشرائع: 246.
9- الجامع الشرائع: 246.

إطلاق الأكثر على صورة التقييد و حمل إطلاق الجامع على صورة ترك التقييد»(1).

و قد يذبّ عن الإشكال بالتمسّك بأصل ادّعاه شارح القواعد، و هو أنّ الأصل في نقل الأعيان بعوض هو البيع و في نقل المنافع بعوض هو الإجارة، و حينئذٍ فلو أطلق التمليك مع اعتبار تعلّقه بالعين انصرف إلى البيع و إن لم يقصده من جهة الأصل المذكور.

و هذا في غاية الضعف، لأنّ الأصل المذكور إن سلّمناه لا مدرك له إلّا الغلبة من حيث إنّ الغالب الوقوع في نقل الأعيان بعوض هو البيع لا الهبة و الصلح و في نقل المنافع هو الإجارة لا الصلح، و هو إنّما يجدي في الشبهات الموضوعيّة عند الترافع فيما إذا اختلف المتعاملان على نقل عين بعوض بأن ادّعى أحدهما وقوعه بيعاً و الآخر وقوعه صلحاً أو هبة معوّضة، فللحاكم أن يقدّم قول المدّعي للبيعيّة تعويلاً على الأصل المذكور، و لا يجدي في الشبهات الحكميّة، و الشبهة فيما نحن فيه حكميّة، إذ الشكّ إنّما هو في كفاية لفظ «ملّكت» المقصود به التمليك البيعي في انعقاد البيع و عدمه.

و تحقيق المقام: أنّ محلّ النزاع إن كان لفظ «ملّكتك» المقصود به التمليك البيعي على وجه المجاز بدخول الخصوصيّة في المراد، فالمانع يقول بعدم وقوع البيع به لخروجه عن الصراحة و دخوله في المجازات، و الأكثر يجوّزون وقوعه به فيكون ذلك منهم بمنزلة الاستثناء عمّا ذكره في اعتبار شرط الصراحة من عدم انعقاد البيع بالمجازات، و لكنّه خلاف ظاهرهم في إطلاق هذا القول، و خلاف ظاهرهم في تجويز وقوعه بهذا اللفظ، لظهور كلامهم في كونه بناءً على كون هذا اللفظ من الألفاظ الصريحة كلفظ «بعت». و إن كان هذا اللفظ المقصود به التمليك البيعي على وجه الحقيقة بفرض إرادة الخصوصيّة من خارج لا من اللفظ من باب تعدّد الدالّ و المدلول، فالمانع من وقوعه مستظهر لخروجه بمقتضى الفرض أيضاً عن الصراحة، بناءً على تفسيرها المتقدّم من كون دلالة اللفظ على العنوان المقصود بالوضع و الدلالة على خصوص البيع الّذي هو العنوان المقصود ليست بوضع «ملّكت» بل بالخارج، اللّهمّ إلّا أن يلتزم باعتبار كون الخارج الّذي هو القرينة المفهمة لفظاً دالاّ على العنوان الخاصّ

ص: 593


1- الجواهر 246:22.

بوضعه كلفظ البيع و ما يرادفه، بأن يقول «ملّكتك بيعاً». فالمتّجه حينئذٍ ما عليه الأكثر بناءً على أنّ الوضع في تفسير الصراحة أعمّ من وضع نفس الصيغة الدالّة على الإنشاء و وضع قرينتها اللفظيّة إذا كانت من المشتركات المعنويّة فيصدق على مجموع «ملّكتك بيعاً» أنّ دلالته على التمليك البيعي وضعيّة، و إن كانت بالنسبة إلى أصل التمليك بوضع «ملّكت» و على خصوص كونه بيعيّاً بوضع لفظ «البيع». و هذا في توجيه كلام الأكثر هو مقتضى الجمع بين قولهم باشتراط الصراحة و أنّه لا يقع بالمجازات و قولهم بوقوعه بلفظ «ملّكت». و لا بدّ حينئذٍ من تقييد كلامهم هذا بأمرين: أحدهما عدم إرادة الخصوصيّة من اللفظ، و ثانيهما كون قرينته لفظاً دالاّ على العنوان بالوضع، فليتدبّر.

و لكن ربّما يظهر من المحكيّ عن فخر الدين في شرح الإرشاد من قوله: «معنى بعت في لغة العرب ملّكت غيري»(1) كون التمليك حقيقة خاصّة في البيع بدخول الخصوصيّة في وضعه فيكون ملّكت مرادفاً لبعت، و وجه الظهور أنّ قوله «معنى بعت...» الخ ظاهر في كون «ملّكت غيري» تمام معنى «بعت» و لا يكون تمام معناه إلّا إذا دخل خصوص كون التمليك بيعيّاً في وضع ملّكت غيري و معناه، و هذا إن تمّ سلم به ظاهر إطلاق الأكثر، و لا حاجة إلى اعتبار عدم إرادة الخصوصيّة و لا إلى اعتبار القرينة المفهمة فضلاً عن كونها لفظيّة، لعدم اعتبار ملّكت حينئذٍ غير البيع من الصلح و الهبة فيكون ملّكت و بعت سيّان في الصراحة.

و لكنّه محلّ إشكال، لأنّه - مع مخالفته لصريح جماعة من أساطين الطائفة بكونه مشتركاً معنويّاً - ممّا يكذّبه عدم صحّة سلب اسم التمليك عن الهبة بغير عوض، بل لو أنكر الواهب بعد هبة عينه بقوله «ما ملّكتها»، صحّ تكذيبه و ردّه بعبارة «ملّكتها» و هذا آية عدم دخول خصوصيّة البيع في وضع التمليك.

نعم قد يقال: إنّ مادّة التمليك مشتركة معنىً بين التمليك المعاوضي و هو البيع خاصّة و التمليك المجّاني و هو الهبة بلا عوض، فإن اتّصل بالكلام ذكر العوض أفاد المجموع المركّب بمقتضى الوضع التركيبي البيع، و إن تجرّد عن ذكر العوض اقتضى

ص: 594


1- شرح الإرشاد: 46، نقله في مفتاح الكرامة 493:12.

تجريده الملكيّة المجّانيّة و هي الهبة بغير عوض، فلو اُريد ممّا اتّصل به ذكر العوض الهبة المعوّضة أو قصد به المصالحة بنى صحّته على صحّة عقد بلفظ غيره مع النيّة، و مرجعه إلى دعوى اختصاص اشتراكه معنىً بالبيع و الهبة المجّانيّة، ويتعيّن لأحدهما في العقد بذكر العوض و تجريده عنه، فإذا ذكر معه العوض كان ذلك قرينة لإفهام البيعيّة و لا يحتمل حينئذٍ المصالحة و لا الهبة المعوّضة حتّى أنّه لو اُريد به أحدهما احتاج إلى قرينة تفيده بل كان مجازاً، و صحّته حينئذٍ مبنيّة على صحّة العقد بالمجاز، و لا حاجة في تخصيصه بالبيع إلى اعتبار قرينة اُخرى و لا إلى اعتبار ذكر البيع معه بعبارة قولنا «ملّكتك بيعاً بكذا».

و هذا في غاية المتانة، و وجهه بالنسبة إلى المصالحة واضح، و بالنسبة إلى الهبة المعوّضة فيه نوع خفاء فإنّ المصالحة مسالمة من الصلح بمعنى السلم و لذا كان تعديته إلى المفعول الثاني بكلمة المجاوزة و لا يتعدّى إليه بنفسه، فمدلوله المطابقي المجاوزة عن مال مثلاً في مقابلة مال آخر، و يلزمه الملكيّة أعني ملكيّة المال الأوّل للمتصالح و ملكيّة المال الثاني الّذي يقال له مال المصالحة للمصالح فالتمليك مدلول التزامي له، فلو اُريد من لفظ «ملّكتك» معنى «صالحتك» صار مجازاً و وجب تعديته حينئذٍ بكلمة المجاوزة بأن يقال «ملّكتك عن هذا بكذا» مكان «صالحتك عن هذا بكذا» و يحتاج إفادته لإرادة هذا المعنى إلى قرينة مجاز. و قضيّة ذلك أن لا يحتمل مطلقه المصالحة فلا حاجة إلى أن يعتبر معه قرينة تخرجها.

و أمّا عدم احتماله الهبة المعوّضة فتوضيحه: أنّ مفهوم التمليك بحسب الوضع اللغوي جنس مشترك بين ماهيّتين نوعيّتين، و هما نوع البيع و هو التمليك المعاوضي و نوع الهبة بلا عوض و هو التمليك المجّاني، و لذا ذكرنا في تعريف البيع أنّه تمليك عين على وجه التعويض، و قلنا إنّ اعتبار كونه على وجه التعويض يخرج به الهبة المعوّضة لظهور القيد في كونه من لوازم الماهيّة، و العوض في الهبة المعوّضة من عوارض الشخص، فهو بذكر العوض معه الظاهر في كونه لازماً للماهيّة ينصرف إلى البيع، و لا يحتمل غيره ممّا يكون العوض من عوارض شخصه و هو الهبة المعوّضة، لأنّ الماهيّة تتمّ بدون العوض فقولنا «ملّكتك داري بكذا» هو بعينه معنى البيع بناءً على

ص: 595

التعريف المذكور، فلا يحتمل غيره حتّى يحتاج إلى اعتبار قرينة معه تخرجه.

و أمّا الألفاظ المستعملة في قبول البيع فهي على ما يستفاد من مجموع كلم الأصحاب بعد التتبّع التامّ من غير خلاف يظهر ثمانية ألفاظ، و هي «قبلت، و رضيت، و اشتريت، و ابتعت، و ملكت بالتخفيف، و تملّكت، و بعت، و شريت» بناءً على اشتراكهما بين الإيجاب و القبول كما تقدّم، ويتعيّن كلّ منهما لأحدهما بالقرينة، و لم نقف على مخالف في بعض هذه الألفاظ و لا على نقل قول بالخلاف عدا ما ينسب إلى المحقّق الثاني في تعليق الإرشاد(1) من تردّده في لفظ «رضيت» تعليلاً باحتمال توقّف النقل على الصيغة المعيّنة. و يزيّفه أنّ مجرّد الاحتمال لا ينشأ منه التردّد و إلّا لجرى ذلك في أكثر الألفاظ المذكورة بل فيما عدا لفظ «قبلت» مع أنّ معيار القبول هو الدلالة على الرضا بما أوجبه الموجب، و لا ريب أنّ لفظ رضيت أصرح في الرضا من لفظ قبلت.

نعم ربّما يوهم الخلاف اختلاف كلماتهم في الاقتصار على ذكر البعض واحداً أو اثنين أو ثلاثاً، و ممّن اقتصر على ذكر واحد العلّامة في التبصرة(2) على ما حكي عنه من أنّه ذكر للقبول لفظ «اشتريت» فقط، و كذلك الشيخ في المبسوط(3) و عن الغنية(4)أنّه ذكر اثنين «قبلت و اشتريت» و ذكر جماعة منهم الشهيدان في الدروس(5)و المسالك(6) ثلاثاً «ابتعت و اشتريت و تملّكت» و في التذكرة(7) و عن نهاية الإحكام(8)أربعاً «قبلت و ابتعت و اشتريت و تملّكت» و عن نسخة من التنقيح(9) خمساً «ابتعت و اشتريت و شريت و تملّكته و قبلته».

و هذا الاختلاف يوهم الخلاف، و دفعه غير واحد من الأساطين(10) بالحمل على المثال لا تخصيص الحكم، و ممّا يرشد إليه اقتصار المبسوط و التبصرة على «اشتريت» مع وقوع القبول ب «قبلت» محلّ وفاق، و يرشد إليه كلام العلّامة في التحرير في بيان معنى الإيجاب و القبول بقوله: «الإيجاب هو اللفظ الدالّ على النقل مثل بعتك أو ملّكتك

ص: 596


1- حاشية الإرشاد: 115.
2- التبصرة: 88.
3- المبسوط 87:2.
4- الغنية: 214.
5- الدروس 191:3.
6- المسالك 154:3.
7- التذكرة 8:10.
8- نهاية الإحكام 448:2.
9- التنقيح 24:2.
10- الجواهر 247:22.

أو ما يقوم مقامهما، و القبول اللفظ الدالّ على الرضا مثل قبلت و اشتريت و نحوهما»(1)و فيه مواضع من الدلالة خصوصاً ظهوره في بيان ضابط القبول و هو الدلالة على الرضا و هي موجودة في الجميع. و نحوه قوله «و نحوهما» فإنّه يعمّ الجميع فلا ينبغي الاسترابة في صحّة القبول بكلّ واحد.

فرعان:
الأوّل ظاهرهم كون ألفاظ الإيجاب كلّها اُصولاً،

و نسب ذلك إلى ظاهرهم في ألفاظ القبول أيضاً خلافاً للمسالك(2) كما عن نهاية الإحكام(3) أيضاً فجعلا الأصل منها «قبلت» و أنّ ما عداه قائم مقامه و فروع له، و علّلاه بأنّ القبول على الحقيقة ما لا يصحّ الابتداء به ك «قبلت»، و الابتداء بما عداه ك «ابتعت و اشتريت و تملّكت» ممكن. و ردّ بأنّهما لحظا في القبول معناه اللغوي فإنّه يقتضي سبق إيجاب. و يزيّفه أنّ القبول عندهم اصطلاح فيما يقابل الإيجاب و هو ما يدلّ على الرضا بما أوجبه الموجب كما عرفته في كلام العلّامة، و على هذا فالكلّ على حدّ سواء من دون أصليّة بعض و فرعيّة غيره.

الثاني: لو أوقع المتبايعان العقد بالألفاظ المشتركة بين الإيجاب و القبول

مثل «بعت أو شريت» ثمّ اختلفا في تعيين الموجب و القابل إمّا بناءً منهما على جواز تقديم القبول على الإيجاب أو من جهة اختلافهما في المتقدّم و المتأخّر بناءً على عدم الجواز، فقيل(4): لا يبعد الحكم بالتحالف، ثمّ عدم ترتّب الآثار المختصّة بكلّ من البيع و الاشتراء على واحد منهما مثل خيار تأخير الثمن المختصّ بالبائع و خيار الحيوان المختصّ بالمشتري.

و قد يفصّل بما ملخّصه: أنّ الحاكم إمّا أن يكون رأيه عدم جواز تقديم القبول على الإيجاب، أو يكون جواز التقديم، و على التقديرين إمّا أن يكون رأيه عدم جواز تقديم القبول على الإيجاب، أو يكون جواز التقديم، و على التقديرين إمّا أن يكون المتقدّم منهما معلوماً، أو يكون مشتبهاً بسبب الاختلاف فيه.

و على التقادير إمّا أن يكون اللفظ الصادر منهما معاً «بعت أو شريت» أو يكون من أحدهما «بعت» و من الآخر «شريت» فإن كان رأي الحاكم عدم جواز تقديم القبول

ص: 597


1- التحرير 413:2.
2- المسالك 154:3.
3- نهاية الإحكام 448:2.
4- المكاسب 134:3.

و كان المتقدّم منهما معلوماً حكم بكون المتقدّم موجباً، لأصالة الصحّة في العقد الواقع بينهما. و لو كان رأيه جواز تقديم القبول و كان المتقدّم أيضاً معلوماً حكم أيضاً بكون المتقدّم موجباً، استناداً إلى الظهور الناشئ من الغلبة فإنّ الغالب الوقوع في الخارج هو تقديم الإيجاب، مع ظهور آخر لو كان الصادر من المتقدّم لفظ «بعت» و من المتأخّر لفظ «شريت» لأنّ الغالب في الأوّل استعماله في البيع و في الثاني استعماله في الاشتراء، مضافاً إلى ظهور الأوّل بنفسه في البيع دون الاشتراء و إن كان مشتركاً بينهما لغة.

و إن كان المتقدّم مشتبهاً من جهة الاختلاف و كان اللفظ الصادر من أحدهما «بعت» و من الآخر «شريت» حكم بكون لافظه موجباً، للظهورين المذكورين. و إن كان الصادر منهما «بعت أو شريت» حكم بالتحالف ثمّ المنع من ترتيب الأحكام المختصّة بكلّ من البيع و الاشتراء على واحد منهما كما تقدّم. و نحوه في الحكم بالتحالف ما لو كان المتقدّم معلوماً و كان الصادر منه لفظ «شريت» و من المتأخّر لفظ «بعت» لتعارض الظهورين.

الجهة الثانية: فيما يشترط في الهيئة المعتبرة في كلّ من الإيجاب و القبول بانفراده،

و هو على ما هو المعروف بينهم الماضويّة، و هو ينحلّ إلى أمرين:

أحدهما: كون كلّ من صيغتي الإيجاب و القبول جملة فعليّة، فلا ينعقد البيع و لا غيره من العقود اللازمة بالجملة الاسميّة كأن يقول «هذا مبيع لك بكذا» أو «ملك لك بكذا» و الظاهر أنّ ذلك ممّا لا خلاف فيه عندهم بل من مسلّماتهم، كما ربّما يكشف عنه عدم تعرّض كثير ممّن تعرّض لبيان اعتبار الماضويّة لبيانه، فتأمّل. و لا تنتقض بالعتق و الطلاق و النذر نظراً إلى وقوع كلّ منها بالجملة الاسميّة مثل «أنت حرّ لوجه اللّٰه» «و أنت طالق» «و للّٰه عليّ كذا» لكون هذه المذكورات من قسم الإيقاع و كلامنا في العقود، مع أنّ ما ذكر في المذكورات حكم ثبت فيها بدليل خاصّ بالمورد فلا يتعدّى إلى غيره.

و ثانيهما: كون الفعل المأخوذ فيها ماضياً، فلو قال «أبيعك أو اشتر أو ابتع» لم ينعقد و كذا في جانب القبول لو قال «أشترى منك أو بعني» كما هو المصرّح به في كلام

ص: 598

جماعة كالوسيلة(1) و الشرائع(2) و الشهيدين في الدروس(3) و اللمعة(4) و المسالك(5)و الروضة(6) و العلّامة في القواعد(7) و التذكرة(8) و المختلف(9) و نهاية الإحكام(10)و الإرشاد(11) و التحرير(12) و ولده في شرح الإرشاد(13) و المحقّق الثاني في صيغ العقود(14)و تعليق الإرشاد(15) و غيرهم، و في كلام جماعة حكاية الشهرة فيه بل في بعض العبارات وصفها لكونها عظيمة، و في التذكرة دعوى الإجماع عليه قائلاً: «لو قال أبيعك أو قال أشتري لم يقع إجماعاً»(16).

خلافاً للقاضي ابن البرّاج في الكامل(17) و المهذّب(18) فصحّحه بالمضارع و الأمر على ما حكي، و للأردبيلي في مجمع البرهان(19) فنفى عنه البأس نظراً منه إلى أنّه عقد فيشمله عموم ما دلّ على لزوم الوفاء بالعقود كما حكي، و هذا هو مستند القول المذكور.

و ربّما اُيّد بما ورد في بيع الآبق و بيع اللبن في الضرع من النصّ الدالّ على انعقاد البيع بالمضارع مثل قوله عليه السلام في الأوّل: «تقول أشتري منكم جاريتكم فلانة و هذا المتاع بكذا و كذا درهماً»(20) و نحو ما ورد في اللبن(21).

و ردّه في مفتاح الكرامة «بأنّ العقود الّتي اُمرنا بالوفاء بها هي كلّ ما كان متداولاً في زمن الخطاب لا مطلقاً، و كون ما نحن فيه منها غير معلوم، و هذا كافٍ في منع العموم و قال - في موضع آخر أيضاً -: و الحاصل أنّه إن كان الإجماع منعقداً على اشتراط الماضويّة كان الإجماع قرينة على عدم تسمية الخالي عنها عقداً في زمانهم عليهم السلام و إلّا فالشهرة معلومة و منقولة فيحصل لنا بسببها الشكّ في كونه عقداً في ذلك الزمان و الشكّ

ص: 599


1- الوسيلة: 237.
2- الشرائع 13:2.
3- الدروس 191:3.
4- اللمعة: 109.
5- المسالك 153:3.
6- الروضة 255:3.
7- القواعد 17:2.
8- التذكرة 8:10.
9- المختلف 53:5.
10- نهاية الإحكام 449:2.
11- الإرشاد 359:1.
12- التحرير 275:2.
13- شرح الإرشاد: 46.
14- رسائل المحقّق الكركي (صيغ العقود) 177:1.
15- حاشية الإرشاد: 115 (مخطوط).
16- التذكرة 8:10.
17- نقله عنه في المختلف 53:5.
18- المهذّب 350:2.
19- مجمع البرهان 145:8.
20- الوسائل 1/353:17، ب 11 أبواب عقد البيع، التهذيب 541/124:7.
21- الوسائل 2/349:17، ب 8 أبواب عقد البيع، التهذيب 538/123:7.

كافٍ في المقام، و كون ذلك الآن عقداً لا يجدي كما هو الشأن في المكيل و الموزون»(1).

و أمّا التأييد بما ورد في الآبق و اللبن، ففيه: أنّه لا دلالة للنصّ الوارد فيهما على الاجتزاء بلفظ المضارع، خصوصاً مع ملاحظة أنّه في الآبق وارد في مقام حكم آخر و هو اعتبار الضميمة في بيعه، مع أنّه ظاهر في المساومة من غير دلالة أنّ المتعاقدين تعاقدا بمثل ذلك اللفظ.

و مستند القول باشتراطها أوّلاً: أصالة عدم النقل و الانتقال إلّا فيما تيقّن كونه موجباً لهما، و هو ما كان بصيغة الماضي.

و ثانياً: الشهرة المحقّقة المعتضدة بالمحكيّة منها في كلام جماعة(2).

و ثالثاً: الإجماع المنقول في التذكرة.

و رابعاً: اشتراط الصراحة في الصيغة فإنّها كما هي معتبرة في المادّة كذلك معتبرة في الهيئة، و لا صراحة في إنشاء المعنى المقصود في العقد إلّا للماضي لكونه منقولاً من الإخبار إلى الإنشاء، بخلاف المضارع و الأمر فإنّهما لا يحتملان الإنشاء المقصود في المقام بالوضع، بل المضارع صريح في الوعد و الأمر في الاستدعاء. فلو اُريد منهما الإنشاء المقصود في المقام كان مجازاً، و قد تقدّم أنّ العقود اللازمة لا تنعقد بالمجازات.

و تحقيق المقام: أنّ اشتراط الماضويّة إن كان متفرّعاً على اشتراط الصراحة كما هو قضيّة الوجه الأخير، فقد عرفت في بحثها أنّها عندنا معتبرة في اللزوم لا في الصحّة. فهذا هو المختار هنا أيضاً، لتحقّق العقد بمعنى الربط بالمضارع و الأمر المقصود بهما إنشاء العنوان المقصود في العقد حيث ساعد على إرادته القرينة المعتبرة كما هو المفروض في محلّ البحث، و صدق البيع بمعنى تمليك العين على وجه التعويض أو مبادلة عين بعوض، و صدق تجارة عن تراضٍ فيشمله العمومات و الإطلاقات، و بذلك يخرج من الأصل المتقدّم غاية اندراجه في أقسام المعاطاة و لا ضير فيه.

و دعوى: انصراف أدلّة الصحّة المذكورة إلى ما تعارف و تداول في زمن الخطاب، ممّا لا ينبغي الإصغاء إليه، لمنع معلوميّة عدم تعارف التعاقد بالمضارع و الأمر ثمّة،

ص: 600


1- مفتاح الكرامة 524:12.
2- كما في مجمع البرهان 145:8، و المفاتيح 49:3.

و مجرّد احتمال عدم تعارفه لا يوجب الانصراف و لا يمنع شمول العموم و الإطلاق لهما، كما أنّ معلوميّة تعارف التعاقد بالماضي لا يستلزم العلم بعدم تعارفه بغير الماضي.

و أمّا الشهرة محقّقة و محكيّة و الإجماع المنقول في التذكرة فلا ينهضان لتخصيص عمومات الأدلّة و لا لتقييد مطلقاتها، لعدم بلوغهما حدّ الظنّ الاطمئناني.

الجهة الثالثة: فيما يشترط في الهيئة التركيبيّة الحاصلة من الإيجاب و القبول،
اشارة

و فيه مسائل:

المسألة الاُولى: في أنّه هل يشترط تقديم الإيجاب على القبول أو لا، بل يجوز تقديم القبول ؟

قولان، أشهرهما على ما نصّ عليه جماعة(1) تبعاً للعلّامة في المختلف(2) الاشتراط، و نسب ذلك إلى الشيخ في الخلاف(3) و ابن حمزة في الوسيلة(4)و الحلّي في السرائر(5) و العلّامة في جملة من كتبه(6) و المحقّق الثاني في جامع المقاصد(7) و صيغ العقود(8) و تعليق الإرشاد(9).

و عن المختلف(10) و شرح الإرشاد(11) نسبته أيضاً إلى المبسوط. و لكن العبارة المنقولة عنها ليست بصريحة و لا ظاهرة في الاشتراط، لأنّه قال: «و إن تقدّم القبول فقال: بعنيه بألف، فقال: بعتك، صحّ . و الأقوى عندي أنّه لا يصحّ حتّى يقول المشتري بعد ذلك: اشتريت»(12) و هذا كما ترى ظاهر في كون عدم الصحّة الّذي قوّاه ثانياً بعد الحكم بالصحّة من جهة تقديم القبول إنّما هو لحيثيّة كون القبول المتقدّم المذكور بصيغة الأمر الدالّ على الاستدعاء لا لمجرّد التقديم، فإنّ «بعنيه» مشتمل على حيثيّين، بل حكمه بالصحّة أوّلاً المعلّق على عنوان تقديم القبول ربّما كان ظاهراً في أنّ الحيثيّة الموجودة في هذا اللفظ لو كانت منحصرة في التقديم كان حكمها الصحّة، و لكنّ فيه حيثيّة اُخرى هي موجبة لعدم الصحّة و هي كون القبول بالأمر الدالّ على الاستدعاء.

ص: 601


1- كما في الإرشاد 359:1، الإيضاح 413:1، التنقيح 24:2.
2- المختلف 52:5.
3- الخلاف 39:3 المسألة 56.
4- الوسيلة: 237.
5- السرائر 250:2.
6- التذكرة 8:10.
7- جامع المقاصد 60:4.
8- رسائل المحقّق الكركي (صيغ العقود) 177:1.
9- حاشية الإرشاد: 116.
10- المختلف 52:5.
11- شرح الإرشاد: 46.
12- المبسوط 87:2.

و ممّا يرشد إلى ذلك أنّ ما يقرب من هذه العبارة منقول أيضاً عن الغنية و هو كالصريح في كون عدم الصحّة لهذه الحيثيّة لا غير حيث قال: «و اعتبرنا حصول الإيجاب من البائع و القبول من المشتري تحرّزاً من القول بانعقاده بالاستدعاء من المشتري و هو أن يقول: بعنيه بألف، فيقول: بعتك، فإنّه لا ينعقد حتّى يقول المشتري بعد ذلك: اشتريت أو قبلت»(1) انتهى.

و نسب في المسالك(2) كما عن غاية(3) المراد إلى الشيخ في الخلاف(4) دعوى الإجماع على الاشتراط. و ليس كما نسب حتّى أنّه قال في مفتاح الكرامة: «و هو وهم قطعاً، لأنّي تتبّعت كتاب البيع فيه مسألة مسألة و غيره حتّى النكاح فلم أجده ادّعى ذلك، و إنّما عبارته في المقام توهم ذلك للمستعجل و هي قوله: دليلنا أنّ ما اعتبرناه مجمع على ثبوت العقد به و ما ادّعوه لا دلالة على صحّته»(5) انتهى.

و هو كما ذكره، فإنّ الإجماع على ثبوت العقد بتقديم الإيجاب ليس إجماعاً على اشتراط التقديم و لا على فساد ما قدّم فيه القبول، و لذا ذكر في ردّ القول بجوازه أنّ ما ادّعوه لا دلالة على صحّته، و هذا ظاهر كالصريح في كون مستند عدم صحّة ذلك عدم الدليل على الصحّة لا الدليل على عدم الصحّة، فيرجع في الحقيقة إلى التمسّك بالأصل المقتضي للفساد إلّا ما اُجمع على صحّته و هو ما قدّم فيه الإيجاب.

و القول بعدم الاشتراط لجماعة منهم المحقّق في الشرائع(6) و الشهيدان في الدروس(7) و اللمعة(8) و المسالك(9) و الروضة(10) و لعلّه عليه أكثر متأخّري المتأخّرين(11).

و في المسالك كما عن الحاشية الميسيّة(12) و الروضة(13) و مجمع البرهان(14) «أنّ موضع الخلاف ما لو كان القبول بلفظ: ابتعت أو اشتريت أو تملّكت منك كذا و بكذا،

ص: 602


1- الغنية: 214.
2- المسالك 153:3.
3- غاية المراد 16:2.
4- الخلاف 40:3 المسألة 56.
5- مفتاح الكرامة 529:12.
6- الشرائع 13:2.
7- الدروس 191:3.
8- اللمعة: 109.
9- المسالك 153:3.
10- الروضة 226:3.
11- كما في مجمع البرهان 145:8، و الكفاية 89، و الحدائق 349:18.
12- نقله عنه في مفتاح الكرامة 530:12.
13- الروضة 226:3.
14- مجمع البرهان 146:8.

بحيث يشتمل على ما كان يشتمل عليه الإيجاب، أمّا لو اقتصر على القبول و قال:

قبلت، و إن أضاف إليه باقي الأركان لم يكف بغير إشكال»(1) انتهى.

و هذا مبنيّ على ما تقدّم منه من أنّ الابتداء ب «قبلت» غير ممكن بخلاف الابتداء ب «ابتعت» و غيره فإنّه ممكن. و قد عرفت ضعف الفرق، إلّا على تقدير إرادة معنى القبول اللغوي، و هو موضع منع.

و المنقول من دليل القول بعدم الاشتراط وجوه أشار إليها ثاني الشهيدين في المسالك بقوله: «و وجه العدم أصالة الجواز، و أنّه عقد فيجب الوفاء به، و لتساويهما في كون كلّ منهما ينقل ملكه إلى الآخر فإذا جاز للبائع التقدّم جاز للمشتري، و لأنّ الناقل للملك هو الرضا المدلول عليه بالألفاظ الصريحة و لا مدخل للترتيب في ذلك، و لجواز تقديمه في النكاح بغير إشكال فليكن في غيره كذلك فإنّ النكاح مبنيّ على الاحتياط زيادة على غيره(2).

و العمدة من هذه الوجوه ثانيها، لفساد وضع البواقي، فإنّ الجواز في أصالة الجواز إن اُريد به الجواز التكليفي قصداً إلى بيان أنّ من قدّم القبول فعل فعلاً مباحاً فلا يكون آثماً و لا يستحقّ به العقاب، ففيه أنّه ليس بمحلّ كلام. و إن اُريد به الجواز الوضعي و هو الصحّة و اللزوم فمرجعه إلى الوجه الثاني فلا يكون دليلاً على حدة. و تساويهما فيما ذكر لا يوجب التعدّي، لكونه قياساً و لا نصّ بالعلّة فتكون مستنبطة فيبطل. و عدم مدخليّة الترتيب في الناقل للملك مصادرة، لأنّ القائل بالاشتراط يقول بأنّ الناقل هو الرضا المدلول عليه بالألفاظ الصريحة مع تقديم الإيجاب على القبول. و جواز تقديم القبول في النكاح على فرض تسليمه إنّما هو لمصلحة استحياء الأبكار المانع لهنّ من التقدّم، فيكون ذلك فارقاً بينه و بين غيره، فبطل به دعوى الأولويّة فيكون التعدّي من القياس الباطل.

و استدلّ لاشتراط تقديم الإيجاب بوجوه، أشار إليها في مفتاح الكرامة(3):

منها: الأصل عدم العقد، فإنّه قبل وقوع ما قدّم فيه القبول لم يكن العقد متحقّقاً،

ص: 603


1- المسالك 154:3.
2- المسالك 153:3.
3- مفتاح الكرامة 530:12.

فإذا وقع يشكّ في تحقّقه، و الأصل يقتضي عدمه.

و منها: الأصل بقاء الملك، فإنّه قبل وقوع ما ذكر كان كلّ من مالي البائع و المشتري ملكاً له، فإذا وقع يشكّ في بقائه، و الأصل يقتضي بقاءه.

و منها: أنّ القبول إضافة، فلا يصحّ تقدّمها على أحد المضافين، و توضيحه: أنّ القبول عبارة عن الرضا بالعوضيّة، و هي تابعة لتمليك البائع ماله للمشتري ليكون مال المشتري عوضاً عنه، و القبول بمعنى الرضا بالعوضيّة إضافة بينهما فلا يتقدّم على أحدهما، فلا بدّ من تقديم الإيجاب المحقّق للمضافين.

و منها: أنّ القبول فرع للإيجاب، فلا يعقل تقدّمه عليه.

و هذه الوجوه كلّها مدخولة:

أمّا الأوّل: فلمنع الشكّ في تحقّق العقد بما ذكر، لما ذكرنا مراراً من أنّ العقد عبارة عن الربط المعنوي بين شخصين فيما يتعلّق بالأموال، و الظاهر أنّ الربط لا بدّ له من رابط، و هو كما يمكن أن يكون هو الموجب بأن يربط ماله بمال المشتري و هو أن يملّك ماله للمشتري ليكون مال المشتري عوضاً عنه، فكذلك يمكن أن يكون هو المشتري بأن يربط ماله بمال البائع و هو أن يتملّك مال البائع ليكون ماله ملكاً له عوضاً عنه، فالعقد يتحقّق في كلّ من صورتي تقديم الإيجاب و تقديم القبول قطعاً، فلا معنى لأصالة عدمه في الصورة الثانية.

و أمّا الثاني: فلأنّه بعد ما تحقّق العقد في صورة تقديم [القبول] و صدق عليه - البيع بمعنى تمليك عين للغير على وجه التعويض - و صدق تجارة عن تراضٍ أيضاً، يتناوله العمومات، و به يخرج عن أصالة بقاء الملك.

و أمّا الثالث: فلما أجاب به الشهيد في حواشي القواعد على ما حكي من «أنّ العوضيّة من الاُمور الإضافيّة المتعاكسة فلا مزيّة لأحدهما بالاختصاص»(1) و حاصل مراده أنّ العوضيّة أمر إضافي بين العوض و المعوّض، و يتعاكس بأنّه كما يجوز أن يقال مال المشتري عوض عن مال البائع كذلك يمكن أن يقال مال البائع عوض عن مال المشتري،

ص: 604


1- نقله عنه في مفتاح الكرامة 530:12.

فلا مزيّة لأحدهما على الآخر ليختصّ بالتقدّم من جهتها فيجوز التقدّم لكلّ منهما.

و أمّا الرابع: فأُجيب عنه بأنّ القبول عبارة عن الرضا بالإيجاب سواء تحقّق قبله أو بعده، فإنّ الرضا بشيء لا يستدعي تحقّق ذلك الشيء في الماضي، إذ الإنسان قد يرضى بما يتحقّق في المستقبل، ففرعيّة القبول للإيجاب لا يقتضي عدم معقوليّة تقدّمه.

و ردّ بأنّ القبول ليس عبارة عن مطلق الرضا بالإيجاب بل الرضا بالإيجاب على وجه يتضمّن إنشاء نقل ماله في الحال إلى الموجب على وجه العوضيّة، لأنّ المشتري ناقل كالبائع، و هذا لا يتحقّق إلّا مع تأخّر الرضا عن الإيجاب، إذ مع تقدّمه لا يتحقّق النقل في الحال، فإنّ من رضي بمعاوضة ينشؤها الموجب في المستقبل لم ينقل في الحال ماله إلى الموجب، بخلاف من رضي بالمعاوضة الّتي أنشأها الموجب سابقاً، فإنّه يرفع بهذا الرضا يده من ماله و ينقله إلى غيره على وجه العوضيّة.

أقول: و فيه من التحكّم ما لا يخفى، فإنّ المعاوضة أمر لا يتحقّق إلّا بين اثنين، و كما أنّ الموجب بإيجابه يقصد إنشاء نقل ماله إلى المشتري على وجه يكون مال المشتري عوضاً عنه و لا يتحقّق المعاوضة بمجرّده حتّى يلحقه القبول، فكذلك القابل أيضاً برضاه يقصد إنشاء نقل ماله إلى البائع ليكون عوضاً عن مال البائع الّذي ينقله إليه في المستقبل و لا يتحقّق المعاوضة بمجرّده حتّى يلحقه الإيجاب، و كما أنّ نقل ماله إلى الموجب لا يتحقّق في الحال حتّى يتحقّق المعاوضة بلحوق الإيجاب فكذلك نقل مال الموجب في صورة تقديم الإيجاب إلى القابل لا يتحقّق في الحال حتّى يتحقّق المعاوضة بلحوق القبول، و الفرق بين الصورتين في دعوى تحقّق نقل مال البائع في الحال في صورة تقديم الإيجاب و عدم تحقّق نقل مال المشتري في الحال في صورة تقديم القبول تحكّم.

و قد يجاب عن الاستدلال بالفرعيّة المقتضية للتبعيّة، بأنّ تبعيّة القبول للإيجاب ليس تبعيّة اللفظ للّفظ و لا القصد للقصد حتّى يمتنع تقديمه، و إنّما هو على سبيل الفرض و التنزيل، بأن يجعل القابل نفسه متناولاً لما يلقي إليه الموجب و الموجب مناولاً، كما يقول السائل في مقام الإنشاء: أنا راضٍ بما تعطيني و قابل لما تمنحني، فهو متناول قدّم إنشاءه أو أخّره، فعلى هذا يصحّ تقديم القبول و لو بلفظ قبلت و رضيت إن

ص: 605

لم يقم إجماع على خلافه»(1) انتهى.

و ردّ «بأنّ الرضا بما يصدر من الموجب في المستقبل من نقل ماله بإزاء مال صاحبه ليس فيه إنشاء نقل من القابل في الحال بل هو رضى منه بالانتقال في الاستقبال، و ليس المراد أنّ أصل الرضا بشيء تابع لتحقّقه في الخارج أو لأصل الرضا به حتّى يحتاج إلى توضيحه بما ذكره من المثال، بل المراد أنّ الرضا الّذي يعدّ قبولاً و ركناً في العقد»(2) انتهى.

و فيه ما عرفت من التحكّم، و التوضيح بذكر المثال لبيان أنّ تبعيّة القبول للإيجاب عبارة عن تبعيّة القابل الموجب و هي فيه تبعيّة فرضيّة جعليّة من جعل نفس القابل و فرض نفسه متناولاً و الموجب مناولاً، و ظاهر أنّ كلّ متناول تابع لمناوله كما في المثال، و لا يتفاوت الحال في تحقّق هذا المعنى من التبعيّة فيه بين أن يقدّم إنشاءه أو يؤخّره أيضاً كما في المثال.

و قد أجاب عن الاستدلال بالفرعيّة أيضاً في مفتاح الكرامة بما ملخّصه «أنّ فرعيّة القبول لا تمنع من تقديمه على الإيجاب إلّا في لفظ قبلت و إلّا لما جاز ذلك في النكاح، لأنّ المنع عند قائليه لو كان عقلي و المنع العقلي لا يقبل التخصيص فوجب أن لا يجوز تقديمه في النكاح و هو باطل بدليل الخلف لأنّ المفروض ثبوت جوازه فيه، و هذا يكشف عن عدم كون الفرعيّة مانعة عنه عقلاً. و أمّا في لفظ قبلت فلا نزاع فيه كما صرّح به جماعة لا للتقديم بل لعدم صحّة هذا اللفظ، و إنّما النزاع كما في الحاشية الميسيّة و المسالك و الروضة و مجمع البرهان، و هو الّذي نبّه عليه في نهاية الإحكام(3)و كشف اللثام(4) في باب النكاح فيما إذا أتى المشتري بلفظ ابتعت أو اشتريت أو نحو ذلك بحيث يشتمل على جميع ما يعتبر في صحّة العقد في صورة تقديم الإيجاب فحينئذٍ يمكن أن يقال: إنّه يصير المشتري موجباً و البائع قابلاً كما في مجمع البرهان(5)أو يقال: إنّ تبعيّة القبول للإيجاب إنّما هي على سبيل الفرض و التنزيل...»(6) إلى آخر

ص: 606


1- نقله في مفتاح الكرامة 531:12.
2- المكاسب 145:3.
3- نهاية الإحكام 448:2.
4- كشف اللثام 47:7.
5- مجمع البرهان 146:8.
6- مفتاح الكرامة 530:12-531.

ما نقله من الجواب المتقدّم عن اُستاده.

و الظاهر أنّ نظره في عدم صحّة لفظ «قبلت» في صورة التقديم إلى عدم تحقّق معناه المقتضي للمسبوقيّة فيكون لغواً و اللفظ خال عن الفائدة. و يرد عليه: أنّه بناء منه على لحاظ معناه اللغوي، و هو في كلام الفقهاء في باب العقود محلّ منع، بل القبول المقابل للإيجاب يراد به الرضا بما أوجبه الموجب و إنشاؤه من المعنى المقصود للمتعاقدين، و لا ريب أنّ الألفاظ الثمانية المتقدّمة للقبول كلّها في الدلالة على الرضا على حدّ سواء، و إن كانت هذه الدلالة في بعضها أصرح منها في غيره كلفظ «رضيت» و نحوه «قبلت» فقضيّة الأصل المستفاد من عمومات الصحّة جواز التقديم مطلقاً، إلّا أن يقوم في خصوص «قبلت» إجماع على المنع، و هو غير ثابت حتّى ظنّاً. و نفي الخلاف على ما في كلام الجماعة مستراب فيه فلا يفيدنا شيئاً، لقوّة احتمال استناده إلى لحاظ المعنى اللغوي و قد عرفت فساده.

و قد يفصّل في المسألة و يقال «بأنّ القبول في العقود على أقسام، لأنّه إمّا أن يكون التزاماً بشيء من القابل كنقل مال عنه أو زوجيّة، و إمّا أن لا يكون فيه سوى الرضا بالإيجاب.

و الأوّل على قسمين، لأنّ الالتزام الحاصل من القابل إمّا أن يكون نظير الالتزام الحاصل من الموجب كالمصالحة، أو متغايراً كالاشتراء، و الثاني أيضاً على قسمين، لأنّه إمّا أن يعتبر فيه عنوان المطاوعة كالارتهان و الاتّهاب و الاقتراض، و إمّا أن لا يثبت فيه اعتبار أمر أزيد من الرضا بالإيجاب كالوكالة و العارية و شبههما، و تقديم القبول على الإيجاب لا يكون إلّا في القسم الثاني من كلّ من القسمين»(1) انتهى. و محصّله: عدم صحّة تقديم القبول في الرهن و القرض و الهبة و الصلح، و صحّته في سائر العقود اللازمة و الجائزة.

و استدلّ قبيل ذلك على عدم صحّته في الرهن «بأنّ اعتبار القبول فيه من جهة تحقّق عنوان المرتهن، و لا يخفى أنّه لا يصدق الارتهان على قبول الشخص إلّا بعد تحقّق الرهن، لأنّ الإيجاب إنشاء للفعل و القبول إنشاء للانفعال، ثمّ قال: و كذا القول في الهبة و القرض، فإنّه لا يحصل من إنشاء القبول فيها التزام بشيء، و إنّما يحصل به الرضا

ص: 607


1- المكاسب 155:3-156.

بفعل الموجب، و نحوها قبول المصالحة المتضمّنة للإسقاط أو التمليك بغير عوض»(1)يعني أنّ طريق الاستدلال المذكور يجري في الكلّ فيكون الإيجاب في كلّ واحد إنشاءً للفعل و القبول إنشاءً للانفعال حتّى المصالحة الغير المشتملة على العوض الّتي هي بالنسبة إلى ما في الذمّة في معنى الإبراء و الإسقاط، و بالنسبة إلى العين الخارجيّة في معنى الهبة الغير المعوّضة، فإنّ إيجاب المصالح فيه إنشاء للفعل و هو الإسقاط و قبول المتصالح فيه إنشاء للانفعال و هو قبول الأثر قبالاً للفعل بمعنى التأثير، و لذلك يكون في كلّ واحد من الاُمور المذكورة رضاً بالإيجاب على وجه المطاوعة الّذي هو أيضاً عبارة عن قبول الأثر.

و أمّا المصالحة المشتملة على العوض فاستدلّ لعدم تقديم القبول «بأنّه لمّا كان ابتداء الالتزام بها جائزاً من الطرفين و كان نسبتها إليهما على وجه سواء و ليس الالتزام الحاصل من أحدهما أمراً مغايراً للالتزام الحاصل من الآخر كان البادئ منهما موجباً لصدق الموجب عليه لغة و عرفاً»(2) انتهى. و محصّله: أنّ كلّ من تقدّم من المتصالحين بالإنشاء كان هو الموجب و كان المتأخّر منهما قابلاً، فلا يعقل لقبوله تقديم مع بقائه على وصف القبوليّة.

و لا يخفى ما في هذا التفصيل من التمحّل و التحكّم و ما في دليله من التكلّف و التجشّم، فإنّ القبول في جميع العقود اللازمة و الجائزة عبارة عن الرضا بالإيجاب، غاية الأمر أنّه قد لا يتضمّن التزاماً بشيء من القابل للموجب كما في الرهن و الهبة بغير عوض و المصالحة الغير المشتملة على العوض و الوكالة و العارية، و قد يتضمّن التزاماً منه بشيء للموجب كنقل مال إليه على وجه العوضيّة كما في البيع، أو عوضاً على وجه الشرطيّة كما في المصالحة المشتملة على العوض، و الهبة المعوّضة و النكاح بالنسبة إلى المهر. و إرجاعه في بعضها كالرهن و القرض و الهبة و الصلح بغير عوض إلى الانفعال و اعتبار عنوان المطاوعة فيه لأجل ذلك اعتبار صرف لم يدلّ دليل على ثبوت ذلك الاعتبار في الشرع. و اصطلاح محض لا يترتّب عليه ثمرة في الفروع، إذ الانفعال

ص: 608


1- المكاسب 154:3-155.
2- المكاسب 155:3-156.

بالمعنى الحقيقي المصطلح عليه عند أهل المعقول عبارة عن التأثّر الّذي يقال له «قبول الأثر» قبالاً للفعل الّذي يقال له «التأثير» و هذا التأثّر يترتّب على الفعل بمعنى التأثير قهراً من غير تأثير من المنفعل و لا اعتبار أمر وجودي من قبله كما في الكسر و الانكسار. و الانفعال بهذا المعنى ممّا لا يمكن تحقّقه في شيء من العقود، لأنّ الأثر المقصود منها أثر يترتّب على المجموع من الإيجاب و القبول و لا يكفي فيه أحدهما، و كما أنّ الإيجاب إنشاء للمعنى المقصود في العقد و هو فعل للموجب فكذلك القبول إنشاء للرضا بما أوجبه الموجب و هو فعل للفعل(1) و الأثر المقصود يترتّب على مجموع هذين الفعلين و لا يكفي فيه أحدهما، فجعل أحدهما فعلاً دون الآخر بجعله انفعالاً تحكّم، لما عرفت من أنّه أيضاً فعل و ليس فيه انفعال بالمعنى المذكور إلّا أن يجعل تسميته انفعالاً اصطلاحاً آخر غير ما ذكر فلا مشاحّة في الاصطلاح، و لكنّه اصطلاح لا يترتّب عليه ثمرة في الفروع.

و دعوى: أنّ ثمرته عدم جواز تقديم القبول في العقود المذكورة، يدفعها: أنّ الدليل الّذي استدلّ على هذا الحكم في هذه العقود - و هو أنّ اعتبار القبول في الرهن إنّما هو من جهة تحقّق عنوان المرتهن و لا يصدق الارتهان إلّا بعد تحقّق الرهن، لأنّ الإيجاب إنشاء للفعل و القبول إنشاء للانفعال و نحوه القرض و الهبة - مختلّ الوضع، فإنّ الأثر المقصود في الرهن مثلاً و هو كون العين المرهونة وثيقة بإزاء دين المرتهن بعد حصوله و ترتّبه على مجموع الإيجاب و القبول لزمه صدق كلّ من الارتهان و الراهن و المرتهن دفعة واحدة و في زمان واحد من غير ترتّب بينها، فجعل عنوان المرتهن متأخّراً في تحقّقه عن عنوان الارتهان كجعل تحقّقه متأخّراً عن تحقّق الرهن مكابرة.

و أمّا ما ذكره في وجه عدم تقدّم قبول المصالحة المشتملة على العوض من «أنّ الالتزام المقصود فيها متساوي النسبة إلى المتصالحين فيكون البادئ منهما موجباً و غيره قابلاً...» الخ ففيه: أنّ الفرق بين البيع و المصالحة أنّ العوض في الأوّل الّذي هو الثمن داخل في الماهيّة و مقوّم لها، و العوض المعتبر في الثاني و هو مال المصالحة

ص: 609


1- كذا في الأصل، و الظاهر: للقابل.

خارج عن الماهيّة و يكون اعتباره فيه على وجه الشرطيّة، فالقابل فيه من اعتبر في المال المنتقل عنه إلى صاحبه العوضيّة على وجه الشرطيّة و يقال له «المتصالح» فإن تأخّر عن الموجب في الإنشاء كان قبوله عبارة عن إنشاء الرضا بما تحقّق من الموجب و هو المصالح من نقل ماله إليه على أن يكون ما يخرج عنه من مال المصالحة عوضاً عنه، و إن تقدّم عليه في الإنشاء كان قبوله عبارة عن إنشاء الرضا بما يتحقّق من الموجب من نقل له إليه على أن يكون ما يخرج عنه من مال المصالحة عوضاً عنه، فهو المتصالح في الصورتين فيجوز كلّ من التأخّر و التقدّم في قبوله، فدعوى عدم تصوّر تقديم فيه مع بقائه على وصف القبوليّة مكابرة.

و بالجملة تشخيص القابل عن الموجب في الصلح و البيع و غيرهما أمر عرفي منوط باعتبار المتعاقدين كما اعترف به المفصّل في جملة كلام له بعيد التفصيل المذكور قائلاً: «بأنّ مغايرة الالتزام في قبول البيع لالتزام إيجابه اعتبار عرفي، فكلّ من التزم بنقل ماله على وجه العوضيّة لمال آخر يسمّى مشترياً، و كلّ من نقل ماله على أن يكون عوضه مالاً من آخر يسمّى بائعاً. و بعبارة اُخرى كلّ من ملّك ماله غيره بعوض فهو البائع، و كلّ من ملك مال غيره بعوض ماله فهو المشتري، و إلّا فكلّ منهما في الحقيقة يملّك ماله غيره بإزاء مال غيره، و يملك مال غيره بإزاء ماله»(1).

و قد يجعل الضابط في تشخيص المشتري من البائع مقرونيّة سلعته في العقد بباء المقابلة، فالمشتري في مثل «بعتك داري بدارك و قبلت دارك بداري» هو مالك الدار الثانية المقرونة بالباء.

المسألة الثانية: في اشتراط الموالاة بين الإيجاب و القبول،

و هذا الشرط كما قيل لم يذكره الأكثرون و إنّما ذكره جماعة أوّلهم الشيخ في المبسوط(2) في باب الخلع و تبعه العلّامة(3) في جملة من كتبه و بعده الشهيدان(4) و المحقّق(5) الثاني و الفاضل(6) المقداد.

و قد يعبّر عن الموالاة باتّصال القبول بالإيجاب، و يفسّران بأن لا يتخلّل بينهما سكوت

ص: 610


1- المكاسب 156:3.
2- المبسوط 362:4.
3- القواعد 4:2 و 80.
4- الدروس 264:2 و 191:3، و المسالك 9:6 و 384:9.
5- جامع المقاصد 59:4.
6- التنقيح 24:2.

و لا كلام. و قد يقيّد السكوت بالطويل، فلا يضرّ القليل كمقدار نفس و نحوه. و عن المحقّق الثاني تقييد الكلام بكونه «أجنبيّاً» و إن قلّ و لو نحو ذكر سبحان اللّٰه، خلافاً لبعض العامّة كالشافعي فقال: «بأنّه لا يضرّ قول الزوج بعد الإيجاب: الحمد للّٰه و الصلاة على رسول اللّٰه قبلت نكاحها»(1) و احترز بالتقييد عن غير الأجنبيّ و هو ما يرتبط بالعقد كوصف الثمن أو المثمن و شرط الخيار و شرط التعجيل في ردّ الثمن أو تسليم المثمن و ضرب الأجل أو تعيينه في النسيئة و السلم و نحوه، فإنّه غير قادح. و قد يدّعى على ذلك إطباقهم.

و عن قواعد الشهيد في بيان مدرك الموالاة «و هي مأخوذة من اعتبار الاتّصال بين المستثنى و المستثنى منه»(2).

و اُورد عليه بأنّ الإيجاب و القبول ليسا من المستثنى و المستثنى منه، فكيف يقال يكون موالاتهما مأخوذة من اعتبار الاتّصال بينهما؟.

و يدفعه: عدم كون مراده بذلك كون العقد الكلام المركّب من الإيجاب و القبول من جنس الكلام الاستثنائي، بل مراده كون شرط الموالاة هنا مأخوذاً من دليل شرط الاتّصال في الكلام الاستثنائي، و مرجعه إلى الاستدلال على الاشتراط بوحدة المناط، فإنّ مناط اعتبار الاتّصال بين المستثنى و المستثنى كون المركّب منهما كلاماً واحداً فيعتبر عرفاً فيه هيئة اتّصاليّة، فإذا تخلّل بينهما سكوت طويل أو كلام أجنبيّ زالت الهيئة الاتّصاليّة فلم يرتبط المستثنى بالمستثنى به فيكون لغواً، و هذا المناط جارٍ في العقد المركّب من الإيجاب و القبول فإنّه أيضاً يعدّ في نظر العرف كلاماً واحداً و إن قام جزءاه بشخصين، فيعتبر فيهما عند العرف هيئة اتّصاليّة، و السكوت الطويل أو الكلام الأجنبيّ يخلّ بها فلا يرتبط القبول بالإيجاب فيكون لغواً. و قد يجعل ذلك من باب الجواب المعتبر عرفاً اتّصاله بالسؤال، فلو تخلّل بينهما سكوت طويل أو كلام أجنبيّ لم يرتبط الجواب بالسؤال، و كذلك القبول بالنسبة إلى الإيجاب، و المراد به أيضاً كونه بمنزلته لوحدة المناط لا كونه جواباً على الحقيقة.

ص: 611


1- المجموع 307:17.
2- القواعد و الفوائد 234:1.

ثمّ إنّه لا يدرى أنّ الموالاة عند معتبريها هنا هل هي معتبرة في الموضوع فلا يصدق العقد و لا البيع و لا التجارة على ما لم يتّصل قبوله بإيجابه فلا يتناوله أدلّة الصحّة من قوله تعالى: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» و «أَحَلَّ اَللّٰهُ اَلْبَيْعَ » و «إِلاّٰ أَنْ تَكُونَ تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ » أو أنّها معتبرة في الحكم أعني الصحّة و ترتّب الأثر إمّا بدعوى عدم الدليل عليها بناءً على انصراف أدلّتها إلى المتعارف الشائع وقوعه و هو ما اتّصل قبوله بإيجابه أو بدعوى الدليل على عدم الصحّة فلا بدّ أن يكون الدليل لو كان بحيث ينهض لتخصيص العمومات المذكورة ؟ احتمالات:

منشأها اختلاف كلمة المتعرّضين للمسألة و اختلاف مؤدّيات الوجوه المتمسّك بها لاعتبار هذا الشرط، فإنّ قضيّة التمسّك بكون الإيجاب و القبول كالمستثنى و المستثنى منه أو كالجواب و السؤال في كون العقد المركّب منهما كلاماً واحداً عند العرف و يعتبر فيه عندهم صورة اتّصاليّة و الفصل بينهما تخلّ بالهيئة الاتّصاليّة و بعد فواتها لا يرتبط القبول بالإيجاب فيلغو فلا يكون مفيداً، كونها معتبرة في الموضوع، إذ معنى عدم كونه مفيداً عدم إفادته بعد اللغويّة لتحقّق العقد أو البيع أو التجارة عن تراضٍ .

و قضيّة التمسّك بانصراف أدلّة الصحّة إلى المعهود المتعارف دون غيره و ليس إلّا ما اتّصل قبوله بإيجابه لأنّه الغالب وجوده و الشائع وقوعه في جميع الأمصار و الأعصار حتّى زمان صدور الخطاب و ما لم يتّصل قبوله بإيجابه نادر فلا يتناوله أدلّة الصحّة، كونها معتبرة في الحكم، مع كون الجهة في اعتبارها فيه عدم الدليل على الصحّة بدونها.

و قضيّة التمسّك بأنّ العقد يعتبر فيه الصراحة - بأن يكون صريح الدلالة على إنشاء المعنى المقصود من الموجب و إنشاء الرضا بما أوجبه الموجب من القابل، و لا يكون صريحاً إلّا ما اتّصل قبوله بإيجابه، لأنّ القبول الغير المتّصل محتمل لغير إنشاء الرضا بما أوجبه الموجب، إمّا لاحتمال العدول من الموجب، أو لاحتمال كونه رضا بما يتحقّق من الموجب في المستقبل، لا بما تحقّق منه في الماضي من القابل - كونها معتبرة في الحكم، لقيام الدليل على عدم الصحّة بدونها، و هو أنّ الشرط ينتفي بانتفائه.

غير أنّ هذا الوجه الأخير أضعف الوجوه المتمسّك بها هنا، لمنع صغراه تارةً إمّا لعدم اطّراد احتمال العدول في الموجب، أو لعدم اطّراد احتمال قصد إنشاء الرضا

ص: 612

بما يتحقّق كما لو اُخذ في عبارة القبول ما يوجب كونه صريحاً في الرضا بما تحقّق.

و منع كبراه اُخرى إمّا لعدم اعتبار الصراحة في الصحّة كما اخترناه في محلّه المتقدّم بل هي معتبرة في اللزوم، أو لأنّ الصراحة على تقدير اعتبارها في الصحّة - كما تقدّم تفسيرها سابقاً - عبارة عن كون دلالة الصيغة على العنوان المقصود منها بالوضع ليخرج به المجاز و الكناية، لا الصراحة بالمعنى المرادف للنصوصيّة، و قيام أحد الاحتمالين إن صحّ و اطّرد يرفع النصوصيّة، لا أنّه يوجب المجازيّة في صيغة الإيجاب و لا صيغة القبول كما هو واضح، إلّا أن يراد بالمجازيّة ما يلزم في المركّب باعتبار الوضع التركيبي بفوات الهيئة الاتّصاليّة.

و قد يفصّل في كونها شرطاً في الموضوع أو للحكم بين العقد أو البيع و التجارة، فيقال: بأنّه لو كان حكم الملك و اللزوم منوطاً بصدق العقد عرفاً - كما هو مقتضى التمسّك بآية الوفاء بالعقود و بإطلاق كلمات الأصحاب في اعتبار العقد في اللزوم بل الملك - فما ذكر من كون الموالاة معتبرة في العقد حسن، فإنّ المعاقدة لا يصدق إذا كان الفصل مفرطاً في الطول كسنة أو أزيد. و إن كان منوطاً بصدق البيع أو التجارة عن تراضٍ فلا يضرّه عدم صدق العقد، أي لا يضرّ الحكم المنوط بصدق البيع أو التجارة، أو لا يضرّ صدق البيع أو التجارة عدم صدق العقد.

و هذا غير جيّد، لأنّ القبول إذا صار لغواً بتخلّل الفصل و غير مفيد باعتبار اللغويّة فلا يتفاوت فيه الحال بين العقد و البيع و التجارة، فلا يفيد تحقّق شيء من ذلك.

فالأقوى حينئذٍ اشتراط الموالاة في الصحّة، للوجهين الأوّلين، و يؤيّدهما الوجه الثاني(1) و إن كان باعتبار كون النكتة في عدم انصراف أدلّة الصحّة إلى ما لم يتّصل قبوله بإيجابه عدم تحقّق موضوع العقد و لا البيع و لا التجارة ليتناوله العمومات و الإطلاقات.

ثمّ إنّه كما أنّ مدرك اعتبار الموالاة هو العرف فتحديدها أيضاً موكول إلى العرف، فالسكوت الغير المفرط كمقدار نفس و ما يقرب منه و كذلك السعال و العطاس و الكلام الأجنبيّ في غير مدّة طويلة كما لو قال «اسقني» و ما أشبه ذلك غير مضرّ في نظر

ص: 613


1- كذا في الأصل.

العرف. و من ثمّ قد يقال: بأنّه يجوز الفصل بين الإيجاب و القبول بما لا يجوز بين كلمات كلّ واحد منهما، و يجوز بين الكلمات بما لا يجوز بين الحروف كما في الأذان و القراءة.

المسألة الثالثة: في المطابقة بين الإيجاب و القبول

الّتي عدّها من شروط صحّة العقد جماعة(1) تبعاً للشيخ في المبسوط(2) و ليس المراد بها المطابقة بينهما في اللفظ بحسب المادّة بأن يكون قبول بعت ابتعت، و قبول شريت اشتريت، لعدم اعتبار المطابقة بهذا المعنى قولاً واحداً، فيجوز اشتريت في قبول بعت، و ابتعت في قبول شريت، و في النكاح قبلت النكاح في قبول زوّجت، و قبلت التزويج في قبول أنكحت. بل المراد به ورود القبول على ما ورد عليه الإيجاب على الوجه الّذي ورد.

و بعبارة اُخرى أن يعتبر في مورد القبول ثمناً و مثمناً و مشترياً كلّما اعتبره الموجب في مورد إيجابه ذاتاً و وصفاً و شرطاً و كمّاً و زماناً و مكاناً و غير ذلك من القيود و الخصوصيّات. فلو قال البائع «بعتك داري بمائة» لم يصحّ الجواب بأنّه «اشتريتها لموكّلي» و لو قال «بعت موكّلك» لم يصحّ الجواب بأنّه «اشتريتها لنفسي» و لو قال «بعتك العبد» لم يصحّ الجواب ب «اشتريت الجارية» و لو قال «بعت الجارية الحبشيّة» لم يصحّ الجواب ب «اشتريت الروميّة» و لو قال «بعتك الفرس بمائة» لم يصحّ الجواب ب «اشتريت الفرس و الحمار بمائة» و لو قال «بعتك الفرس بمائة دينار» لم يصحّ الجواب ب «اشتريته بألف درهم» و لو قال «بعته بعشرة دراهم» لم يصحّ الجواب ب «اشتريته بدينار» و لو قال «بعته بمائة» لم يصحّ الجواب «بخمسين».

و الأصل في هذا الشرط أنّ القبول عبارة عن الرضا بما أوجبه الموجب، و لا يتحقّق إلّا مع المطابقة، إذ مع عدمها كان رضا بغير ما أوجبه.

و قد يقرّر الدليل بأنّ قضيّة آية التجارة عن تراضٍ كون التراضي شرطاً في الصحّة، و هو تفاعل يعتبر في صدقه حصول الرضا من الجانبين، فإذا ورد القبول على غير ما ورد عليه الإيجاب فقد رضي القابل بغير ما رضي به الموجب، فلم يتحقّق التراضي

ص: 614


1- كما في الشرائع 273:2، جامع المقاصد 68:12، كشف اللثام 44:7، نهاية الإحكام 450:2.
2- المبسوط 128:2.

و لزمه الفساد.

و قد يستدلّ أيضاً بعدم شمول أدلّة الصحّة، لعدم صدق [العقد] و لا البيع على ما لم يطابق قبوله لإيجابه فيبقى تحت الأصل المقتضي للفساد. أمّا عدم صدق العقد فلأنّ الربط المعنوي غير حاصل فيما لو قال البائع «بعتك هذا الفرس بمائة» فقال المشتري «اشتريت الحمار بمائة» و لا فيما لو قال البائع «بعتك هذين العبدين بمائة» فقال المشتري «اشتريت أحدهما بخمسين» و لا فيما لو قال «بعتك هذا بشرط كذا بكذا» فقال المشتري «اشتريته لا بشرط كذا».

و لا يفرّق في ذلك بين كون البعض ممّا يباع في ضمن الكلّ تبعاً كرجل الفرس مثلاً أو أصالة كنصف الدار أو إحدى الصفقتين، و أمّا ما يرى من الصحّة في البعض في مسألة تبعّض الصفقة كما لو باع مملوكاً و غير مملوك - كالشاة مع الكلب أو الخنزير - فيصحّ في المملوك دون غيره فإنّما هو بدليل من الخارج، و إلّا فمقتضى القاعدة عدم الصحّة فيه أيضاً.

و أمّا عدم صدق البيع فلأنّه لو قال المشتري «اشتريت أحد هذين» أو «اشتريت الحمار» أو «اشتريته بمائة» بعد ما أوجب البائع في المجموع أو في الفرس أو بألف لا يقال إنّه باع ذلك أو باع بكذا، فما أوجبه الموجب في الصور المذكورة و نظائرهما لم يقبله القابل، و ما قبله القابل لم يوجبه الموجب، فلم يتحقّق بينهما ربط و لا بيع و لا تجارة، و إذا انتفى الصدق انتفى شمول الأدلّة من قوله تعالى «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» و «أَحَلَّ اَللّٰهُ » و «إِلاّٰ أَنْ تَكُونَ تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ » و قضيّة ذلك بقاء كلّ في ملك صاحبه و عدم حصول نقل و لا انتقال.

ثمّ إنّ هاهنا فروعاً كثيرة ينبغي الاطّلاع عليها، فلو قال «بعتك هذين بمائة» و اتّحدا جنساً و تساويا قيمة فقال المشتري «اشتريت أحدهما بخمسين» لم يصحّ من جهة الجهالة في المبيع و من جهة عدم المطابقة، فإنّ الإيجاب وقع على المجموع بإزاء المجموع، و ربّما يكون في الانضمام غرض للموجب و هو غير حاصل مع عدم الانضمام. و لو قال «اشتريت هذا بعينه بخمسين» يفسد بالجهة الثانية، و لو قال البائع «بعتك إيّاهما هذا بخمسين و هذا بخمسين» فقبل أحدهما بخمسين أو هذا بخمسين لم

ص: 615

يصحّ من الجهتين في الاُولى و من الثانية في الثانية، و لو قال المشتري «اشتريت أحدهما بستّين أو أربعين» فسد من الجهتين مضافاً إلى جهة ثالثة، و هي عدم كون الثمن ممّا ذكر في الإيجاب فيكون قبولاً لما لا إيجاب فيه.

نعم لو قال «بعتك هذا بخمسين، و هذا بخمسين» فقبل أحدهما المعيّن صحّ في جميع الجهات، و لو قبل أحدهما لا بعينه احتمل الصحّة و الأقرب الفساد، لعدم ورود القبول على ما ورد عليه الإيجاب من المتعيّن. و القاعدة في القيميّات تقتضي اعتبار التعيين، و لو اشترى نصف الصفقة مشاعاً بأن يقبل نصفها على سبيل الإشاعة بنصف الثمن المسمّى في الإيجاب احتمل الصحّة فيحصل الشركة، و الأقرب خلافه لعدم المطابقة.

و ممّا ذكر تبيّن حال غير المتحدين جنساً و غير متساوي القيمة مع اتّحاد الجنس، فإنّ عدم المطابقة فيهما أولى بالقدح من المتحدين المتساويين، فلو جمع بين الدار و الثوب مع تساويهما قيمة فقال «بعتك إيّاهما بألف» فقال المشتري «قبلت أحدهما بخمسمائة، أو قبلت هذا بخمسمائة» لم يصحّ للجهالة و عدم المطابقة في الأوّل، و لعدم المطابقة في الثاني. فلو قال «بعتك إيّاهما بمائة» و لكن قيمة أحدهما تساوي سبعين و الآخر ثلاثين فقال «قبلت أحدهما بسبعين أو ثلاثين أو قبلت هذا بسبعين أو ذلك بثلاثين» لم يصحّ إمّا للجهالة في المبيع و الثمن أو في أحدهما أو لعدم المطابقة في الجميع.

و لو قال في المثليّات «بعتك برطلين من الصبرة بمائة» فقال «قبلت رطلاً بخمسين أو أربعين أو ثلاثين» لم يصحّ أمّا في الأوّل لعدم المطابقة، و في الأخيرين له و لعدم تعيّن الثمن في العقد. و لو قال «بعتك رطلين أحدهما بخمسين و الآخر بستّين» فقال «قبلت أحدهما» لم يصحّ ، و كذلك لو قال «قبلت هذا» لعدم المطابقة. و لو قال «بعتك رطلاً بخمسين و رطلاً آخر بخمسين» مثلاً فقبل أحدهما بأحدهما صحّ لعدم المنافاة.

و كذلك في القيميّات مع تساوي القيمة، كما لو قال «بعتك إيّاهما هذا بخمسين و هذا بخمسين» فقال «اشتريت هذا بخمسين».

و من الفروع ما وقع فيه نوع اختلاف في كلامهم و إن صار الكلمة بالأخرة واحدة، مثل أنّه لو قال «بعتك هذين بألف» فقال «قبلت أحدهما بخمسمائة» صرّح جماعة(1)

ص: 616


1- كما في المبسوط 128:2، الدروس 191:3، جامع المقاصد 60:4.

بعدم الصحّة، و عن جامع المقاصد احتمال الصحّة «لأنّه في قوّة عقدين» وردا على شيئين فقبل المشتري أحدهما. و فيه ضعف لا يخفى على المتأمّل، كما تنبّه هو عليه أيضاً لأنّ الإيجاب وقع على المجموع، و قد يكون للبائع غرض في الانضمام لم يحصل مع الانفراد فلا تراضي.

و مثل أنّه لو قال «بعتكما هذا بألف» فقال أحدهما «قبلت نصفه بنصف الثمن» فصرّح جماعة(1) بأنّه لم يقع، و عن التذكرة(2) أنّه استشكل فيه ثمّ قرب الصحّة و ثبوت الخيار للبائع، و عن المختلف «أنّهما الأقوى»(3) أمّا الصحّة فلأنّ البائع إنّما قصد تمليك كلّ واحد منهما نصف المبيع و قد أتى باللفظ الدالّ عليه وضعاً فيجب الحكم بالصحّة، كما لو قال «بعتكما هذا العبد بألف نصفه مثلاً بخمسمائة و نصفه الآخر بخمسمائة» و أمّا ثبوت الخيار فلأنّ البائع قصد تمليك كلّ واحد بشرط تملّك آخر فإذا فقد الشرط وجب له الخيار.

و فيه: أنّ التراضي بالنسبة إلى البائع حصل في المجموع بالمجموع و مع عدم المطابقة لا تراضي، فإنّ في الانضمام غرضاً له و هو لا يحصل مع الانفراد فلا رضا له، و لا ينتقض ببيع ما يملك و ما لا يملك كالشاة و الكلب، حيث إنّه يصحّ في الأوّل و يفسد في الثاني بحصول التراضي منهما في المجموع و حصول السبب المؤثّر بتمامه من الإيجاب و القبول مع التطابق بينهما بالنسبة، و انتفاء الصحّة في البعض إنّما هو من جهة انتفاء شرط التأثير بالنسبة إلى ذلك البعض لا من جهة انتفاء المطابقة.

المسألة الرابعة: في اشتراط العقد بالتنجيز،

و هو أن لا يكون معلّقاً على شيء بأداة الشرط، فالتعليق مبطل له في العقود اللازمة و الجائزة، ذكره الشيخ و الحلّي في المبسوط(4) و السرائر(5) و العلّامة في القواعد(6) و النهاية(7) و الشهيدان في القواعد(8)و تمهيد(9) القواعد و المحقّق الثاني و فخر الدين في جامع المقاصد(10) و شرح الإرشاد(11)

ص: 617


1- كما في المبسوط 128:2-129، الخلاف 40:3 المسألة 58، نهاية الإحكام 450:2 تلخيص المرام: 338، المهذب 111:3.
2- التذكرة 10:10.
3- المختلف 186:5.
4- المبسوط 399:2، و الخلاف 354:3 المسألة 23.
5- السرائر 99:2.
6- القواعد 349:2.
7- نهاية الإحكام 451:2.
8- القواعد و الفوائد 79:2.
9- تمهيد القواعد: 533.
10- جامع المقاصد 180:8.
11- شرح الإرشاد: 46.

و نسب إلى جميع من تأخّر عن العلّامة، و نسبه في التذكرة(1) إلى علمائنا مؤذناً بدعوى الإجماع عليه في باب الوكالة، و عن تمهيد القواعد(2) دعوى الإجماع على عدم صحّة تعليق العقود على شرط، قيل و قد تلوح هذه الدعوى عن كاشف اللثام(3) و عن فخر الدين في باب الوكالة من شرح الإرشاد «أنّ تعليق الوكالة على الشرط لا يصحّ عند الإماميّة و كذا غيره من العقود لازمة كانت أو جائزة»(4) قيل و ظاهر المسالك في مسألة اشتراط التنجيز في الوقف «الاتّفاق عليه»(5) و الظاهر عدم الخلاف فيه كما اعترف به غير(6) واحد.

و المراد بالشيء المعلّق عليه في معقد كلامهم على ما صرّح به جماعة أعمّ ممّا كان متوقّع الوقوع في المستقبل بحيث يحتمل عدمه كما لو قال: بعتك هذا بكذا إن قدم الحاج أو إن جاء زيد و ما أشبه ذلك و يسمّى شرطاً، و ما كان متيقّن الوقوع فيه كما لو قال: بعتك هذا بكذا إن طلعت الشمس أو إن دخل يوم الجمعة و نحو ذلك و يسمّى صفة، و هما اصطلاحان لهم في هذا المقام و إلّا فهما بكليهما على الاصطلاح الاُصولي مندرجان في الشرط، و لعلّ المراد من الشرط في معقد إجماعي التمهيد و شرح الإرشاد ما هو بحسب الاصطلاح الاُصولي أعني ما يعمّ القسمين. و قد اضطربت كلمتهم في جهة المنع فالمستفاد من أكثرها صراحة و ظهوراً أنّ المنع شرعي ثبت بالإجماع، و معناه أنّ التنجيز في العقود شرط تعبّدي ثبت بالإجماع على مانعيّة التعليق من الصحّة.

و قد يستشمّ من بعضهم كون المنع عقليّاً، و من ذلك ما عن القواعد(7) و التمهيد(8)للشهيدين من تعليل عدم الصحّة «بأنّ الانتقال مشروط بالرضا و لا رضا إلّا مع الجزم و لا جزم مع التعليق لأنّه معرضة عدم الحصول، قالا: و لو قدّر علم حصوله كالمعلّق على الوصف الّذي يعلم حصوله عادةً كطلوع الشمس، لأنّ الاعتبار بجنس الشرط دون أنواعه و أفراده اعتباراً بالمعنى العامّ دون خصوصيّات الأفراد كما في نظائرها من

ص: 618


1- التذكرة 10:10.
2- تمهيد القواعد: 533.
3- كشف اللثام 47:7.
4- حكاه عنه في المفتاح الكرامة 527:7.
5- المسالك 357:5.
6- كما في التحرير 284:1، و الكفاية: 140، و المفاتيح 207:3.
7- القواعد و الفوائد 79:2.
8- تمهيد القواعد: 533.

القواعد الكلّيّة المعلّلة باُمور حكميّة تتخلّف في بعض مواردها الجزئيّة».

أقول: الحقّ أنّ المنع شرعي لكن لا بالبيان المذكور بل ببيان آخر موافق للتحقيق و النظر الدقيق، و هو أنّ التعليق يخرج الصيغة في الإيجاب و القبول عن مقتضى الوضع الشرعي، فإنّ مقتضى الوضع الشرعي في صيغتي الإيجاب و القبول أن يقصد الموجب بصيغة «بعتك» مثلاً إيجاد المعنى المقصود أعني نقل ملك العين، و القابل بصيغة «قبلت» مثلاً إيجاد الرضا بما أوجبه الموجب، بحيث يكون السبب التامّ المؤثّر في وجود المعنى المقصود الّذي يقال له ترتّب الأثر نفس الصيغتين، و لذا يقال للعقود و الإيقاعات أنّها أسباب شرعيّة قرّرها الشارع، و إطلاق السبب على الصيغة شائع في كلامهم، و التعليق بأحد الوجهين يخرجها عن كونها سبباً و مؤثّراً إلى جعل الشيء المعلّق عليه سبباً مؤثّراً في وجود المعنى المقصود.

و الأصل في ذلك ما حقّق في الاُصول من أنّ الجملة الشرطيّة بما اُخذ فيها من التعليق تفيد سببيّة الشرط للجزاء، كما في قولنا: إن جاءك زيد فأكرمه أو أكرم زيداً إن جاءك، فإنّه يدلّ على كون مجيء زيد سبباً لوجوب إكرامه فيوجد الوجوب عند وجوده و ينتفى عند انتفائه، و على هذا فقول الموجب «بعتك هذا بكذا إن قدم الحاجّ أو إن طلعت الشمس» مع قول القابل «قبلت» يقتضي بطبعه باعتبار وضع الجملة الشرطيّة كون السبب المؤثّر في النقل و الانتقال هو قدوم الحاجّ أو طلوع الشمس لا نفس الصيغة، و بالجملة الموجب و القابل بما يأخذان من التعليق يقصدان السببيّة و التأثير من الشرط المعلّق عليه لا من نفس الصيغة، و هو خلاف الوضع الشرعي في العقود و الإيقاعات، لأنّ الشارع إنّما جعل السبب المؤثّر نفس الصيغة لا أمراً آخر غيرها فوجب البطلان، و الظاهر أنّ هذا هو مدرك الإجماع على عدم صحّة تعليق العقود على الشرط لازمة أو جائزة.

و بما قرّرناه في وجه مانعيّة التعليق يعلم أمران

: أحدهما:

الفرق بين قولي الموكّل: أنت وكيلي في بيع عبدي إن دخل يوم الجمعة، و أنت وكيلي في بيع عبدي في يوم الجمعة، المصرّح في كلامهم من غير خلاف بصحّة

ص: 619

الثاني و بطلان الأوّل، بل العلّامة في التذكرة(1) ادّعى الإجماع على الحكمين لا لما ذكره جماعة من أنّ التعليق في الأوّل في أصل الوكالة و في الثاني في الموكّل فيه، للعلم بأنّ المعنى المقصود في العبارتين واحد، و هو إيقاع البيع في يوم الجمعة، بل لأنّه لا تعليق في الثاني بالمعنى المتقدّم، و هو التعليق بأداة الشرط المقتضي للسببيّة في الشرط المعلّق عليه لا في نفس الصيغة، فالأثر المقصود فيه و هو نيابة الوكيل أو صيرورته نائباً عن الموكّل يترتّب على نفس الصيغة، و قوله «في يوم الجمعة» تقييد للإذن في التصرّف، و مفاده حصول الإذن في هذا المقدار أعني بيع العبد في يوم الجمعة. بخلاف الأوّل فإنّه تعليق حقيقة و يصرف الصيغة عن مقتضى وضعها الشرعي إلى جعل دخول يوم الجمعة سبباً.

و في معنى الثاني على ما ذكره في التذكرة أيضاً ما لو قال: أنت وكيلي في بيع عبدي إذا قدم الحاجّ ، بناءً على كون «إذا» للتوقيت لا شرطيّة. و في معناه أيضاً ما لو قال: وكّلتك في بيع العبد و لا تبعه إلّا في يوم الجمعة، كما ذكره فيها و صرّح بكونه صحيحاً. و قد يحكى عنه دعوى الإجماع على عدم صحّة ما لو قال: أنت وكيلي و لا تبع عبدي إلّا في يوم الجمعة، و لم نجده في التذكرة، و لعلّه منقول عن كتاب آخر له.

و عن جماعة(2) الاعتراف في توجيه عدم الصحّة فيه بأنّه في معنى التعليق، و هذا واضح المنع، إذ لا مقتضي فيه للتعليق، بل الظاهر أنّ وجهه أنّ قوله «أنت وكيلي» لا يكفي في انعقاد الوكالة فيبطل لعدم ذكر الموكّل فيه معه، و قوله «و لا تبع...» الخ لا يصلح كونه تعرّضاً لذكر الموكّل فيه لأنّ واو الاستئناف يقطع ما بعدها عمّا قبلها فلا يرتبط ذلك بسابقه، و إن كان الاستثناء من المنع يفيد الإذن إلّا أنّه أيضاً لا يكفي في انعقاد الوكالة، لوضوح الفرق بين الإذن في التصرّف مطلقاً و بين الوكالة. و يظهر الفائدة في الأحكام الخاصّة بالوكالة فإنّها لا تجري في مطلق الإذن.

و ثانيهما:

وجه استثناء التعليق على ما هو من أركان العقد أو شرائط مورده من المبيع أو الثمن أو البائع أو المشتري مثلاً، كما لو قال: إن كان هذا لي أو ملكي فبعته

ص: 620


1- التذكرة 114:2، و العبارة منقولة بالمعنى.
2- كما في المسالك 240:5، و مفتاح الكرامة 527:7.

بكذا، أو بعتك إيّاه بكذا إن قبلت أو إن رضيت، و إن كنت وليّاً على هذه الصغيرة فزوّجتها منك على مهر كذا، و إن كان هذا عبدي فبعته بكذا أو فهو حرّ، و إن متّ فاعطوا فلاناً كذا أو ثلث مالي له، و إن كانت هند زوجتي فهي طالق، و إن كان هذا ملكي فقد وقفته على كذا، إلى غير ذلك من الأمثلة الّتي يلوح من عباراتهم في أبواب متفرّقة عدم خلافهم في عدم قدح هذا التعليق، بل ربّما وقع في بعض كلماتهم في بعض الأمثلة دعوى الإجماع.

فأصل الحكم ممّا لا إشكال فيه، بل الكلام في وجه الفرق بين الموارد المستثناة و المستثنى منه.

و قد يقال في الفرق: إنّ الموجود في الموارد المذكورة هو التعليق على الواقع في الحال و هو غير قادح، و هو في المستثنى منه تعليق على ما يقع في المستقبل و هو القادح. و فيه ما لا يخفى، فإنّا نطالبهم بلمّ هذا الفرق و سرّه، و السرّ فيه أنّ التعليق في الموارد المستثناة تعليق صوري، لأنّ كون المعلّق عليه ركناً في العقد أو شرطاً في مورده أو جزءاً للسبب يصرف الجملة الشرطيّة عن اقتضاء سببيّة الأمر المعلّق عليه، فيبقى نفس الصيغة على مقتضى وضعها الشرعي، و الأصل - فيما ذكرناه ما تقرّر في الاُصول أيضاً - في مثل إن قبضت في المجلس صحّ الصرف، من أنّه لا يفيد السببيّة لثبوت كون القبض في المجلس شرطاً لصحّة الصرف فهذا قرينة تصرف الجملة الشرطيّة عمّا هي ظاهرة فيه.

فتلخّص ممّا ذكرنا أنّ التعليق المنافي للتنجيز المخلّ بصحّة العقد إنّما هو التعليق الحقيقي، لأنّه الّذي يصرف الصيغة في العقد أو الإيقاع عن مقتضى وضعها الشرعي، لا التعليق الصوري المتحقّق في التعليق على الأركان و الشرائط و هكذا ينبغي أن يحقّق المقام و هو فضل اللّٰه يؤتيه من يشاء.

تذنيب: لو قبض المشتري ما ابتاعه بالعقد الفاسد لم يملكه و كان مضموناً عليه،

تذنيب: لو قبض المشتري ما ابتاعه بالعقد الفاسد لم يملكه و كان مضموناً(1) عليه،

و هذه قاعدة ذكرها جماعة(2) في هذا المقام أو في باب الغصب أو في كلا البابين على

ص: 621


1- في الأصل: مقبوضاً.
2- كما في المسالك 154:3، و 174:12، و جامع المقاصد 324:6، و الكفاية: 260، و التذكرة 290:10، جامع المقاصد 61:4.

اختلاف مشاربهم. و ينبغي التعرّض أوّلاً لبيان أجزاء القاعدة فمن جملتها «القبض» و المراد منه إثبات اليد على [العين] و الاستيلاء عليه بحيث يتسلّط على التصرّف فيها كيف شاء و التقلّب به حيث أراد على حدّ ما هو معتبر في الغصب ليترتّب عليه الضمان، فلا يكفي فيه مجرّد التخلية بينه و بين العين و إن لم يتمكّن من التصرّف فيه أو لم يثبت يده عليه، و لا بدّ أن يكون المقبوض عيناً شخصيّة سواء كانت بنفسها مورداً للعقد أو كان قبضها منوطاً بالمعاملة الوفائيّة عن الكلّي.

و «المشتري» مثال أو مراد منه ما يعمّ البائع و هو المدفوع إليه المال ثمناً كان أو مثمناً، إذ الحكم لا يختصّ بالمشتري بمعناه الأخصّ بوحدة المناط و اتّحاد الطريق.

في المقبوض بالعقد الفاسد
اشارة

و المراد ب «العقد الفاسد» ما حكم بفساده شرعاً، إمّا في أصله كما لو كان الفساد لاختلاف شرط من شروط الصحّة سواء كانت من شروط الصيغة أو المتعاقدين أو العوضين، أو لفساد شرط مأخوذ في متنه، أو لسبب آخر كما لو كان فضوليّاً و لم يلحقه إجازة المالك بل لحقه ردّه.

و قد ذكر الأصحاب في هذه القاعدة حكمين، أحدهما: أنّ القابض لا يملك العين المقبوضة، و وجهه واضح لا يحتاج إلى البيان و لا إلى إقامة دليل، فإنّ الفساد المفروض للعقد معناه عدم دخول العين المقبوضة في ملك القابض. و أمّا الضمان فله في كلام الأصحاب إطلاقات، فقد يراد منه اشتغال الذمّة بمثل مال أو قيمته كما في الإتلاف يقال:

إنّ المتلف يضمن المثل أو القيمة، و قد يراد منه وجوب ردّ المال بعينه أو بمثله أو بقيمته كما في ضمان الغاصب حيث يجب عليه ردّ العين مع بقائها أو مثله أو قيمته مع تلفها، و قد يراد منه التعهّد بمال من غير مشغول به و هو بهذا المعنى عقد مستقلّ و معاملة برأسها.

و قضيّة كون ردّ العين على تقدير البقاء أولى بالوجوب من ردّ المثل أو القيمة في صورة التلف أن يكون المراد به في المقام هو المعنى الثاني، خصوصاً على مقتضى كلام من جعل المقبوض بالعقد الفاسد كالمغصوب، و منه ما عن السرائر من «أنّ البيع الفاسد يجري عند المحصّلين مجرى الغصب في الضمان»(1).

ص: 622


1- السرائر 285:2.

و قضيّة كون وجوب ردّ العين في صورة البقاء من أحكام ملك العين و عدم دخولها بالعرض في ملك المشتري فلا كلام لأحد في وجوبه بل الكلام و الخلاف لو كان فإنّما هو في وجوب ردّ المثل أو القيمة على تقدير التلف أن يكون المراد به المعنى الأوّل، و لذا فسّره بعض مشايخنا(1) بكون تلفه عليه.

ثمّ إنّ القابض مع الدافع إمّا جاهلان بالفساد، أو عالمان به، أو القابض جاهل و الدافع عالم، أو بالعكس.

و القول بالضمان في جميع الصور الأربع لجماعة منهم الشيخان في المقنعة(2)و النهاية(3) و المبسوط(4) و الخلاف(5) و الفاضلان في الشرائع(6) و جملة من كتب العلّامة(7) و غيرهما(8) ممّن تأخّر عنهما نظراً إلى إطلاق كلامهم، بل قيل: هو المعروف حتّى أنّه لم نقف ممّن قبل ثاني الشهيدين في المسالك من احتمل خلاف الضمان في شيء من صور المسألة.

نعم هو في الكتاب احتمل في صورتي علم الدافع عدم الضمان احتمالاً، ثمّ عدل بعده إلى القول بالضمان في جميع الصور، لأنّه قال عند شرح عبارة الشرائع: «لا إشكال في ضمانه إذا كان جاهلاً بالفساد، لأنّه أقدم على أن يكون مضموناً عليه فيحكم عليه به و إن تلف بغير تفريط... إلى أن قال: و لا فرق مع جهله بين كون البائع عالماً بالفساد أو جاهلاً مع احتمال عدم الضمان لو علم لتسليطه على إتلافه مع علمه بكونه باقياً على ملكه، و كذا لو كانا عالمين بالفساد، و لو كان البائع جاهلاً به و المشتري عالماً فالضمان أولى، و الأقوى ثبوته في جميع الصور»(9) انتهى. حتّى عنه في كتاب الغصب إطلاق دعوى «الاتّفاق على أنّه يضمن»(10) و عن الشيخ(11) في باب الرهن و في موضع من البيع(12) الإجماع عليه صريحاً، و قد عرفت عن الحلّي(13) نسبته إلى المحصّلين

ص: 623


1- المكاسب 180:3.
2- المقنعة: 607.
3- النهاية: 402.
4- المبسوط 149:2.
5- الخلاف 158:3 المسألة 251.
6- الشرائع 13:2.
7- التذكرة 292:10. و الإرشاد 362:1.
8- كما في جامع المقاصد 6:4، و المسالك 154:3.
9- المسالك 154:3.
10- المسالك 174:12.
11- المبسوط 204:2.
12- المبسوط 105:2.
13- السرائر: 285.

مؤذناً بدعواه، و عن الكفاية(1) في باب الغصب أنّه مقطوع به في كلام الأصحاب.

و في مقابل الإطلاق المذكور ربّما فصّل في المسألة تفصيلاً، و هو على وجوه ثلاث:

الأوّل: ما اختاره في مفتاح الكرامة بقوله «إذا تقرّر هذا فإن كانا جاهلين بالفساد فلا إشكال في ضمان كلّ منهما ما صار إليه لأنّه إنّما وقع الرضا بزعم الصحّة، كما أنّه لا إشكال في إباحة التصرّف و عدم الضمان إذا كانا عالمين بالفساد و كان من نيّتهما المعاطاة، و أمّا إذا علم أحدهما و جهل الآخر فلا ريب في ضمان غير الجاهل مال الجاهل»(2).

الثاني: ما عن مجمع الفائدة من أنّه قوّى في صورة الجهل عدم الضمان، ثمّ قال:

«و مع علم الآخر أقوى»(3) و هذا يقتضي ضمان العالم مع علم الدافع أيضاً أو مع جهله.

الثالث: ما عن الشيخ الغروي في شرحه للقواعد، و هو أنّ الضمان إنّما يثبت إذا كان قصدهما تعلّق الملك بالناقلين حقيقة في الجاهلين حتّى يثبت الإقدام على الضمان من الجانبين، فلو خلّي من جانب واحد كان الدافع إليه مضيّعاً لماله، و كذلك في صورة العالمين لو أوقعا عناداً أو ابتداعاً أو اختراعاً، تعليلاً بأنّ العقود المبتدعة المخترعة كبيع الحصاة و الملامسة و المنابذة و نحوها من المخترعات لا تثمر ملكاً و لا إباحة و لو علم بالفساد(4). و الظاهر أنّه يرجع إلى التفصيل الأوّل.

و إن شئت بملاحظة ما تقدّم من تعميم المشتري بالقياس إلى البائع فعبّر عن القاعدة بأنّ المقبوض بالعقد الفاسد مضمون على قابضه، و هذا يتناول المعاطاة الفاسدة أيضاً، بل فاسد سائر العقود المعاوضيّة من الصلح و الإجارة و الهبة المعوّضة بل النكاح الفاسد بالقياس إلى المهر المقبوض، لعموم القاعدة و عدم اختصاصها بالبيع.

و أمّا مدرك القاعدة فممّا استدلّ أو يمكن أن يستدلّ به، و ممّا هو صحيح أو غير صحيح وجوه:
الأوّل: الإجماعات المنقولة

- المتقدّم إلى جملة منها الإشارة - المعتضدة بالشهرة العظيمة المحقّقة و المحكيّة بل ظهور الإجماع من تتبّع كلمة الأصحاب في أبواب

ص: 624


1- الكفاية: 260.
2- مفتاح الكرامة 541:12.
3- مجمع الفائدة 192:8.
4- شرح القواعد: 52.

العقود، فإنّها تفيد الظنّ البالغ حدّ الاطمئنان الّذي هو مناط الاستنباط في الأدلّة الظنّيّة و به الكفاية.

الثاني: قاعدة الإقدام الّذي قد يعبّر عنه بقاعدة التضمين،

و قد يعبّر أيضاً بقاعدة التعويض. و تقريرها: أنّ القابض للمال بالعقد الفاسد أقدم على أن يكون مضموناً عليه بعوض، و إذا لم يسلم له العوض المسمّى بعدم إمضاء الشارع إيّاه من جهة فساد العقد رجع إلى العوض الواقعي من مثل أو قيمة.

تمسّك بها جماعة منهم ثاني الشهيدين في المسالك(1) و قبله الشيخ في مواضع [من] مبسوطه(2) إلّا أنّه عبّر عن الإقدام بالدخول، و قرّره بأنّه دخل على أن يكون المال مضموناً عليه بالعوض، فإذا لم يسلم له العوض المسمّى رجع إلى المثل أو القيمة.

و توضيحها: أنّ الدافع و القابض لمّا تراضيا و تواطئا على العقد الفاسد و لو مع علمهما أو علم أحدهما بالفساد التزما بلوازم العقد الّتي منها ضمان كلّ منهما عوض ما قبضه، و هذا هو معنى إقدام كلّ منهما على الضمان للعوض، و المفروض عدم سلامة العوض المسمّى بسبب عدم إمضاء الشارع له، فوجب على القابض ردّ ما قبضه بعينه إن كان باقياً و إلّا وجب ردّ مثله أو قيمته.

و هذا ينحلّ إلى الاستدلال بقياس ينتظم من صغرى و كبرى، و هو أنّ القابض قد أقدم على ضمان المال بعوض لم يسلم له العوض، و كلّ من أقدم على ضمان المال بعوض لم يسلم له العوض وجب عليه عوضه الواقعي من مثل أو قيمة.

و اُجيب(3) عنه: بما يرجع إلى منع الصغرى، و هو أنّهما إنّما أقدما و تواطئا على ضمان خاصّ و هو الضمان بالعوض المسمّى لا بمطلق العوض، و المفروض انتفاء الخصوصيّة بعدم إمضاء الشارع لهذا الضمان الخاصّ ، و الجنس لا يبقى بعد انتفاء الفصل، و مطلق الضمان أعني الضمان بمطلق العوض ممّا لم يتواطآ و لم يقدما عليه حتّى يتقوّم بخصوصيّة اُخرى و هو الضمان بالعوض الواقعي مثلاً أو قيمة، فالضمان بالمثل أو القيمة حيثما ثبت تابع لدليله و ليس ممّا أقدم عليه المتعاقدان.

ص: 625


1- المسالك 56:4.
2- المبسوط 58:3، 65، 85، 89.
3- المكاسب 188:3-189.

و يمكن دفعه: بأنّ الإقدام على الضمان بمطلق العوض بل العوض الواقعي بالخصوص ممّا لا ينبغي إنكاره، فإنّ من القضايا المركوزة في أذهان الناس من أهالي جميع الملل و الأديان أنّه لا يخرج مال أحد إلى غيره في غير مقام الهديّة و العطيّة و الهبة و الصدقة مجّاناً و بلا عوض، بل لا بدّ له من عوض و لا يكون إلّا عوضاً واقعيّاً، و هذه كما يرشد إليه الوجدان الغنى عن إقامة البرهان مركوزة في ذهني المتعاقدين في عقود المعاوضة صحيحها و فاسدها، و ارتكازها في ذهنيهما هو الداعي لهما إلى التعويض و التزام كلّ بدفع العوض إلى صاحبه، فهما متوافقان على هذه القضيّة المركوزة في الذهن، و هذا هو معنى إقدامهما على الضمان بمطلق العوض بل خصوص العوض الواقعي.

نعم بعد توافقهما عليها يتواطآن في متن العقد المفروض وقوعه فيما نحن فيه على وجه الفساد على العوض المسمّى، و كأنّه تراضٍ منهما و تواطؤ على إبدال العوض الواقعي بالعوض المسمّى، و المفروض بحكم فساد العقد عدم إمضاء الشارع تواطأهما عليه فيبقى تواطؤهما على مطلق العوض بل خصوص الضمان بالمثل أو القيمة.

فصغرى الدليل ممّا يدرك بالوجدان فلا مجال لإنكارها، و من أنكرها فقد كابر وجدانه.

نعم بقي الكلام في كبرى الدليل و إثبات الدليل عليها فإنّه لا يخلو عن خفاء و إن كان ظاهر اقتصار المتعرّضين للجواب عن الدليل على منع الصغرى أنّه لا كلام على تقدير ثبوت الصغرى في الكبرى بل هي جارية عندهم مجرى المسلّمات الّتي لا يمكن الاسترابة فيها، غير أنّ العمدة بيان دليلها، فإنّ مفادها يرجع إلى دعوى أنّ الدافع يملك عوض ما دفعه من المثل أو القيمة في ذمّة القابض، و عليه يتفرّع ضمان أحدهما على معنى وجوب ردّه إلى الدافع لأنّه ملكه، و ظاهر أنّ تملّكه له في ذمّة القابض يقتضي سبباً، و ذلك السبب إمّا أن يكون هو العقد المفروض كونه فاسداً أو هو القبض المتحقّق بعده بانفراده، أو تلف العين بانفراده، أو القبض المتعقّب للتلف على معنى كون السبب هو المجموع منهما. و لا سبيل إلى الأوّل لأنّ فاسد العقد ما لا يترتّب عليه أثر فلا يعقل كونه سبباً مؤثّراً في تملّك شيء في الذمّة، و لا إلى الثاني و إلّا لزم جواز الرجوع بالمثل أو القيمة و لو مع بقاء العين أيضاً و هو باطل بالضرورة، و لا إلى الثالث و إلّا لزم ضمان

ص: 626

المشتري بتلف العين المعقود عليها قبل القبض و هو باطل لأنّه في ضمان البائع، فتعيّن الرابع.

فيؤول الكبرى إلى أن يقال: إنّ كلّ من أقدم على ضمان مال بعوض لم يسلم له يضمن مثله أو قيمته، لأنّ قبض ذلك المال المتعقّب لتلفه في يده علّة و سبب لتملّك الدافع مثله أو قيمته في ذمّته، و هذه السببيّة كما ترى حكم شرعي يقتضي وسطاً.

و يمكن القول بأنّه يكفي فيه أيضاً القضيّة المركوزة في الأذهان و لكن بانضمام إمضاء الشارع لها، فإنّها من الفطريّات الّتي مرجعها إلى كون معتقد العامّة بحسب الفطرة عدم خروج مال أحد إلى غيره إلّا بعوضه الّذي هو إمّا المثل أو القيمة الواقعيّة و قد أمضاه الشارع، كما يكشف عنه تقرير أهل بيت العصمة الكاشف عن رضاهم الملازم لحقّيّة معتقد العامّة أو السيرة الّتي مرجعها إلى إجماع العامّة على الاعتقاد بمضمون القضيّة الكاشف عن رضا المعصومين بها الكاشف عن إمضاء الشارع، و توسيط الإقدام حينئذٍ لبيان أنّ المالك لم يسقط ضمان ماله عن القابض حيث أقبضه بالعقد الفاسد كما أسقطه بمقتضى «الناس مسلّطون على أموالهم» في الإباحات و الهدايا و الهبات و الصدقات و غيرها ممّا لا يضمن فيه القابض للمال المدفوع إليه بالمثل و القيمة بالتصرّفات الإتلافيّة.

و بالجملة المراد بالإقدام المأخوذ وسطاً في الدليل إنّما هو عدم إسقاط المالك ضمان ماله المدفوع إلى القابض عنه، و مبناه على أنّ الضمان بالمثل أو القيمة هو الأصل في المال، و سقوطه يحتاج إلى إسقاط من المالك، و لا مدرك للأصل المذكور إلّا القضيّة المركوزة في الأذهان المجمع عليها الّتي أمضاها الشارع. فدليل الإقدام على الضمان المترتّب على القبض المتعقّب للتلف تمام، لتماميّة صغراه و كبراه معاً.

و لا فرق في الضمان بين كونهما عالمين بالفساد أو جاهلين به أو مختلفين مع علم الدافع و جهل القابض أو بالعكس، لوحدة المناط و اطّراده في جميع الصور.

و توهّم: احتمال عدم الضمان في صورتي علم الدافع، ضعيف، و تعليله بتسليط الدافع القابض على إتلافه مع علمه ببقاء ملكه عليل، لوضوح أنّ المسقط للضمان إنّما هو تسليطه على الإتلاف مجّاناً و هو غير متحقّق فيما نحن فيه، لبناء العقد على المعاوضة و أخذ العوض، و إن علم بعدم دخوله في ملكه بحيث لو لم يدفع ماله إلى القابض جزماً

ص: 627

فهو من إبدال ماله بعوض رضي به، و إذا فرض عدم إمضاء الشارع لهذا الإبدال بقي المال المدفوع في ضمان القابض بعوضه الواقعي. و عدم إمضاء الشارع للإبدال ليس إسقاطاً لهذا الضمان، كما أنّ علم الدافع بعدم الإمضاء ليس إسقاطاً له، و قد عرفت أنّ الضمان هو الأصل، و سقوطه يحتاج إلى إسقاط المالك و هو غير متحقّق في مفروض المقام، بشهادة ما ذكر من أخذ العوض الفاسد الّذي لولاه لم يدفع إلى القابض.

و أضعف من الاحتمال المذكور احتمال عدم الضمان مع جهل القابض كما احتمله المحقّق الأردبيلي في مجمع الفائدة(1) لشبهة رجوع المغرور إلى من غرّ. و وجه ضعفه:

أنّ الجهل بالفساد في القابض على تقدير كونه عذراً حتّى مع التقصير إنّما يوجب عدم كونه ما دام الجهل مخاطباً بردّ المثل أو القيمة، و هذا لا ينافي ملك الدافع ذلك المثل أو القيمة في ذمّته لتحقّق سببه و هو القبض مع التلف، و كونه حكماً وضعيّاً لا يختلف بالعلم و الجهل و بذلك يندفع شبهة الغرور و رجوعه إلى الغار، بل المقام عند التحقيق ليس من مجاري رجوع المغرور إلى من غرّ.

نعم ربّما يشكل الحال في مسألتين:

أحدهما: ما لو باع بلا ثمن و أقبض المبيع ثمّ تلف في يد المشتري، فإنّه من البيع الفاسد و المال المقبوض مقبوض بالعقد الفاسد، و لا يجري فيه قاعدة الإتلاف المقتضية للضمان.

و اُخراهما: شراء المغصوب مع علم المشتري بالغصب، و عدم لحوق إجازة المالك الّذي اشتهر بينهم أنّه لا يرجع على البائع بالثمن المدفوع إليه، و في تذكرة العلّامة «أنّه قول علمائنا»(2) مؤذناً بدعوى الإجماع عليه، و إطلاقه يقتضي منع المشتري من الرجوع على البائع حتّى مع بقاء العين أيضاً، و ربّما حكي عن بعضهم التصريح بذلك أيضاً. و ذهب جماعة من المتأخّرين و متأخّريهم إلى التفصيل بين تلف العين فلا يرجع و بقائها فيرجع، و هذا أيضاً من المال المقبوض بالعقد الفاسد و لا ضمان فيه. و الفرق بين المسألتين أنّ الاُولى لا يجري فيها قاعدة الإقدام المقتضية للضمان أصلاً، و الثانية يجري فيها القاعدة، و لا حكم لها على القول المذكور المدّعى عليه الإجماع.

ص: 628


1- مجمع الفائدة 192:8.
2- التذكرة 18:10.

و يمكن الذبّ عن الإشكال في المسألة الاُولى، بأنّ غاية ما هنالك عدم جريان قاعدة الإقدام لا عدم كون المبيع في ضمان المشتري، فإن كان في سائر أدلّة الضمان ما ساعد على الضمان فيه كخبر على اليد أو غيره فلا إشكال، و إلّا فلا إشكال أيضاً لأنّ الضمان في المال المقبوض بالعقد الفاسد إنّما يثبت من باب القاعدة و هي قابلة للتخصيص، و يكفي في تخصيصها سقوط ضمان ما نحن فيه بإسقاط المالك حيث باع بلا ثمن.

و أمّا المسألة الثانية فيمكن الذبّ عن الإشكال فيها أيضاً أوّلاً: بأنّ القول بعدم رجوع المشتري على البائع و إن كان مشتهراً إلّا أنّه صدر من قائليه على خلاف القواعد خصوصاً مع بقاء العين، و يجوز مخالفته عملاً بالقواعد، كما خالفه المحقّق على ما حكي عنه في بعض تحقيقاته من مصيره إلى جواز الرجوع مطلقاً، فلا داعي إلى الالتزام به إلّا أن يكون إجماعاً كما أومأ إليه في التذكرة، و لكن في ثبوته نظر لمخالفة المحقّق.

و ثانياً: بأنّه لو سلّم الإجماع بناءً على عدم قدح خلاف المحقّق فيه، لزم منه تخصيص القاعدة أيضاً بالقياس إلى هذا المورد، و لا ضير فيه بعد وضوح المخصّص.

و ثالثاً: بأنّ عدم رجوع المشتري على البائع لا ينافي ضمان البائع، فإنّ قصارى ما هنالك ثبوت الإجماع على أنّ المشتري لا يرجع لا على أنّ البائع لا يضمن، و الأوّل حكم تكليفي صرف و هو حرمة الرجوع و المطالبة على المشتري عقوبة عليه من الشارع حيث دخل في المال المغصوب مع العلم بغصبيّته، و هذا لا ينافي بقاء ملكه في الثمن و حرمة تصرّفات البائع فيه و وجوب ردّه إليه عيناً مع البقاء أو مثلاً أو قيمة مع التلف. و لو ردّه جاز له أخذه، و له نظائر كثيرة:

منها: المال الّذي حلف عليه المنكر على خلاف الواقع مع علمه باستحقاق المدّعي له، فإنّ المدّعي بعد الحلف لا يجوز له مطالبته بذلك المال و لا مقاصّته أيضاً من سائر أموال المنكر الحالف، و الحالف أيضاً لا يجوز التصرّف فيه و يجب عليه دفعه إلى مستحقّه، و إذا دفعه جاز له أخذه.

الثالث: قاعدة الاحترام

المستفادة من الأخبار الدالّة على كون مال المسلم و عمله و عرضه و دمه محترماً، و كما لا يهراق دمه اقتراحاً و عدواناً فكذلك لا يذهب ماله إلى غيره مجّاناً، و ترى الأصحاب في أبواب المعاملات و العقود يتمسّكون بها لإثبات

ص: 629

الضمان بثمن المثل أو اُجرة المثل أو مهر المثل في جملة من العقود الفاسدة، فالمال الّذي قبضه المشتري أو البائع في العقد الفاسد لكونه من مال المسلم المفروض احترامه يجب عليه ردّه إلى مالكه مع بقاء عينه، أو ردّ مثله أو قيمته في صورة التلف.

أقول: و يمكن الخدشة فيه بأنّ احترام مال المسلم كدمه و إن كان مسلّماً، و لكن في نهوضه دليلاً على الضمان بالمثل أو القيمة في صورة التلف نظر، لأنّ احترام الشيء عبارة عن عدم جواز انتهاكه فالمحترم هو ما لا يجوز انتهاكه، و الانتهاك هو تناول الشيء و التعرّض له بما لا يحلّ ، و حاصله تناول الشيء بغير وجه شرعي مجوّز له، فحاصل معنى كون المال المعقود بالعقد الفاسد أنّه لا يجوز أخذه و لا التصرّف فيه بعد الأخذ و لا إمساكه و عدم ردّه إلى مالكه لأنّ كلّ ذلك انتهاك و تناول له بما لا يحلّ و من غير وجه شرعي، و قصارى ما فيه وجوب ردّه ما دامت عينه باقية، و لا يقتضي ذلك وجوب ردّ مثله أو قيمته على تقدير التلف، لأنّ الاحترام بالمعنى المذكور ليس بعين الضمان بالمثل و القيمة و لا من لوازمه، و كونه ملزوماً له يتوقّف على ثبوت الملازمة بينهما بدليل آخر و لا يفي بإثباتها أدلّة الاحترام.

و بالجملة غاية ما ينساق من أدلّة الاحترام إنّما هو حكم تكليفي معلّق على بقاء عين المال، و كلامنا في الضمان الّذي هو حكم وضعي معلّق على تلف العين، و أحدهما ليس بعين الآخر، و ثبوت الملازمة بينهما يحتاج إلى دليل آخر غير أدلّة الملزوم، و إن شئت زيادة توضيح لذلك فنظّره على حرمة أكل المال بالباطل المستفادة من آية «لاٰ تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ إِلاّٰ أَنْ تَكُونَ تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ » (1) فإنّها غير الضمان بالمثل أو القيمة بعد التلف، فلا يمكن إثبات الضمان بنفس هذه الآية، و لذا لم يتمسّك أحد منهم في شيء من موارد الضمان لإثباته بهذه الآية. و من هذا الباب أيضاً احترام دم المسلم فإنّ أقصى ما يقتضيه ذلك هو عدم جواز انتهاكه و التعرّض له بإراقته من دون مسوّغ شرعي، و أمّا وجوب القصاص أو الدية بعد ما اُهريق فهو حكم آخر يتوقّف ثبوته على دليل آخر، و لا يفي بإثباته نفس أدلّة الاحترام.

ص: 630


1- النساء: 29.
الرابع: الخبر المشهور المستدلّ به على الضمان في أكثر موارده

و هو قوله صلى الله عليه و آله و سلم:

«على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي»(1) كما في جملة من العبارات، أو «حتّى تؤدّيه» كما في بعض العبارات، أو «حتّى تؤدّيه إلى أهله» كما في عبارة ثالثة. و هذا الخبر باعتبار السند و إن كان عامّياً بل مرسلاً أيضاً بل مقطوع الإسناد على ما هو مذكور في كتب القوم، إلّا أنّه مشهور بين الفريقين مجمع عليه عندهما متلقّى بالقبول لدى كافّة الأصحاب حتّى القائلين من القدماء - كالسيّدين و الحلّي و أضرابهما - بعدم قبول الأخبار إلّا في مواضع العلم بصدورها لتواتر أو احتفاف بقرائن القطع، فهو من الأخبار المقطوع بصدورها، فلا ينبغي التأمّل فيه من حيث السند، لانجبار ضعفه بالعامّيّة و الإرسال و غيرهما بما ذكر بل بالقطع بصدوره.

بل العمدة في إنهاضه دليلاً على الضمان التكلّم في دلالته المتوقّف على النظر في معاني مفرداته و معناه التركيبي، فنقول: إنّ مفرداته كلمة «على» و هي على ما حقّق في العلوم العربيّة و صرّح به في كتب اللغة للاستعلاء، و هو على ما ذكره النحاة و إن انقسم إلى الحسّي و المعنوي الّذي قد يعبّر عنه بالمجازي، إلّا أنّه حقيقة ظاهراً في الحسّي الّذي قد يعبّر عنه بالركوبي، كما في «زيد على فرسه أو على السفينة» و قد يعبّر عنه بالحملي و هو أن يكون المستعلي محمولاً و مدخولها حاملاً له، و هذا أعمّ . من الأوّل لصدقه في مثل «زيد على السطح» دون الركوبي و هو أن يكون المستعلي راكباً و مدخولها مركوباً، و الظاهر أنّها حقيقة في الأعمّ و أيّاً ما كان فله لوازم كثيرة قد يكنّى في الاستعمال بها، لها كلّ في مقامه المناسب له.

فمنها: الثقل على معنى كون ثقل الراكب على المركوب و ثقل المحمول على الحامل، و منه عليّ دَين و عليه قضاء أو قصاص أو دية أو نحو ذلك، و معناه أنّ ثقله المعنوي من جهة كونه مخاطباً بأدائه عليه.

و منها: اللزوم على معنى كون الراكب أو المحمول لازماً لمركوبه أو حامله، و منه و «عَلَى اَللّٰهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُتَوَكِّلُونَ » (2) و «توكّلت على اللّٰه» و معناه لزوم العبد في حوائجه

ص: 631


1- عوالي اللآلي 106/224:1.
2- إبراهيم: 12.

و مآربه لذيل رحمة ربّه، و يعبّر عنه بالانقطاع عن الخلق و الاعتماد على الخالق، و منه أخذ عليك زيداً أي ألزمه، و قد يجعل من هذا الباب مثل عليه قضاء أو قصاص أو دية.

و منها: التفوّق على معنى كون المستعلي متفوّقاً على مدخولها كما في الراكب و المحمول، و منه قوله تعالى: «فَضَّلْنٰا بَعْضَهُمْ عَلىٰ بَعْضٍ (1) و فَضَّلْتُكُمْ عَلَى اَلْعٰالَمِينَ » (2).

و منها: التطلّع على معنى كون المستعلي مطلعاً على مدخولها كما في الراكب و المحمول أيضاً، و منه قوله تعالى: «أَوْ أَجِدُ عَلَى اَلنّٰارِ هُدىً » (3).

و هذه اللوازم كلّها يعبّر عنه بالاستعلاء المعنوي لعدم كونه مدركاً إلّا في الذهن و عند العقل، و كونه مجازيّاً باعتبار كون اللازم خارجاً عن الملزوم الّذي وضع له اللفظ و كون إطلاق اللفظ عليه من باب الكناية و المجاز الّذي يتحقّق بذكر الملزوم و إرادة اللازم.

و هي في الخبر ليست على حقيقتها قطعاً لاستحالة كلّ من الركوب و الحمل، و لا أنّها كناية عن التفوّق و التطلّع جزماً. و في كونها كناية عن الثقل كما في عليه دَين، أو عن اللزوم كما في عليك زيداً و توكّلت على اللّٰه وجهان، من صحّة كلّ منهما، و الظاهر أنّهما متلازمان، فإنّ كون ثقل المال المأخوذ على آخذه يلزمه كونه لازماً عليه غير منفكّ منه، كما أنّ لزومه له يلزمه كون ثقله عليه فيصحّ الحمل على كلّ منهما، و المطلب يثبت بكلّ و لا قرينة على التعيين.

ثمّ إنّ «على» مع مجرورها من قبيل الظرف المقدّر عامله، و الأصل فيه كونه من ألفاظ العموم على ما حقّقه النحاة نظراً إلى الظهور اللفظي، فيكون التقدير «ثبت على اليد أو كان عليه» و احتمال كونه فعلاً خاصّاً كوجب أو فرض مدفوع بما ذكر، مضافاً إلى أنّه لا يلائمه الفاعل الّذي هو عبارة عن المال و هو من الأعيان فلا يضاف إليه الوجوب أو الفرض كما هو الحال في التحليل و التحريم. و بذلك اندفع الخدشة في الدلالة على الضمان بأنّ كلمة «على» ظاهرة في الحكم التكليفي فلا تدلّ على الضمان الّذي هو حكم وضعي، فإنّ هذا الظهور إنّما يسلّم فيما اُسند الظرف إلى فعل من أفعال المكلّفين، و هو هاهنا مضاف إلى المال كما في عليه دَين. و لو قدّر معه ما يصحّ إضافة

ص: 632


1- البقرة: 253.
2- البقرة: 47.
3- طه: 10.

الوجوب أو الفرض إليه من فعل المكلّف كالردّ أو التأدية ليكون التقدير وجب أو فرض ردّه أو تأديته، ففيه - مع أنّ التقدير و الإضمار خلاف الأصل - أنّه لا يلائمه قوله «حتّى تؤدّي» بل فسد معه المعنى رأساً، لأنّ الردّ و التأدية بمعنى، فيكون التقدير: وجب أو فرض على اليد ردّ ما أخذته أو تأدية ما أخذته حتّى تؤدّيه، و فيه ما فيه.

ثمّ «اليد» و إن كانت حقيقة في الجارحة المخصوصة إلّا أنّ الحقيقة متعذّرة هنا لوجهين:

الأوّل: أنّ الثقل و اللزوم في معنى كلمة الاستعلاء إنّما يعتبران بالقياس إلى صاحب الجارحة لا إلى نفسها.

الثاني: أنّ جملة «أخذت» ظاهرة في الإسناد إلى الفاعل الحقيقي، و لا يكون إلّا صاحب اليد لأنّه فاعل الأخذ و الاستيلاء حقيقة، و الجارحة المخصوصة كغيرها من الفم و الرجل آلة لا أنّه فاعل. و من ذلك ينقدح وجه ثالث و هو أنّ الأخذ الموجب للضمان كما يتأتّى باليد كذلك يتأتّى بالفم و بالرجل و بغيرهما من الجوارح و غيرها، فيكون المراد بها صاحبها كالإنسان تسمية للكلّ باسم الجزء، كما في إطلاق الرقبة عليه، و النكتة فيه كون هذا الجزء ممّا يغلب به وقوع أخذ المال و الاستيلاء فيكون كالجزء المقوّم، كما في إطلاق العين على ربيئة القوم لأنّ الشغل المطلوب من الربيئة و هو التطلّع على العدوّ و إنّما يتأتّى غالباً بواسطة العين.

ثمّ إنّ كلمة «ما» فاعل للظرف باعتبار عامله المقدّر، و هي كناية عن المال المأخوذ، فإمّا أنّها نكرة موصوفة و الجملة المتلوّة لها صفة، أو موصولة و الجملة المتلوّة صلة، و حيث لا قرينة للعهد في جملة الصفة أو الصلة فيوجب ذلك ظهور كلمة «ما» في المعنى الجنسي، فيكون الجملة صفة للجنس أو كالصفة له و هو من أسباب العموم، كما في قوله تعالى: «وَ لاٰ طٰائِرٍ يَطِيرُ بِجَنٰاحَيْهِ » (1) فيشمل الحكم كلّ مال مأخوذ، و بذلك يندفع الشبهة في عموم الموصول. و في الكناية بهذه الكلمة عن المال لطف بليغ في الدلالة على أنّ منافع الحرّ لا تدخل في ضمان من أتلفها، لكونها بحسب الوضع لغير

ص: 633


1- الأنعام: 38.

ذوي العقول فلا يصرف إلى غيرها من دون قرينة. و لا ينتقض ذلك بالمملوك من عبد أو أمة، لأنّه باعتبار صفة المملوكيّة يعدّ من غير ذوي العقول.

و أمّا جملة «أخذت» فلكونها من الأفعال المسندة إلى ذوي الشعور و الإرادة كانت ظاهرة في الأخذ الاختياري، و هو ما حصل عن قصد و إرادة، فخرج به الأخذ الغير الاختياري فإنّه بمقتضى هذا الظاهر لا يوجب ضمان اليد، كالثوب إذا أطارته الرياح حتّى وقع في يد إنسان فألقاه من حينه على الأرض، و المال المغصوب إذا وضعه الغاصب في يد غيره قهراً عليه فألقاه في الأرض.

ثمّ إنّها ظاهرة في حدوث الأخذ، و يدلّ على كون الموجب للضمان هو الأخذ الحادث، فيخرج به استمرار القبض كالمبيع إذا لم يردّه البائع مع التمكّن بعد العقد، و كذلك الثمن فإنّه و إن كان يجب عليهما ردّه و كان كلّ منهما في ضمان من هو بيده حتّى أنّه لو تلف قبل القبض ضمن المثل أو القيمة بضابطة «كلّ مبيع تلف قبل القبض فهو من مال بائعه» إلّا أنّ هذا الضمان لا بدّ له من دليل آخر و لا يفي به خبر «على اليد» و نحوه الوديعة إذا مات المالك فإنّها تنتقل بالموت إلى الورثة و تخرج عن كونها وديعة، و يكون حينئذٍ في ضمان الودعي، و لكن لا بدّ له من مدرك آخر غير هذا الخبر، لانتفاء الأخذ الحادث.

و فيما لو أطارته الريح حتّى وقع في يد إنسان أو ما وضعه الغاصب قهراً في يده، فأمسكه بقصد الفساد فتلف في يده ففي ضمانه المثل أو القيمة من جهة هذا الخبر و عدمه وجهان: من أنّ الإمساك ليس بحدوث أخذ، و من أنّه يعدّ في العرف ابتداء أخذ، و لعلّه الأظهر.

و هل يعتبر في الأخذ الموجب للضمان كونه بغير إذن المالك، أو كونه على وجه العدوان و نيّته الفساد، أو لا يعتبر شيء من ذلك، بل لو حصل بإذن من المالك أو رضاه كان موجباً للضمان ؟ احتمالات، أظهرها أخيرها، نظراً إلى الإطلاق. و من ثمّ كان المقبوض بالسوم في ضمان قابضه، و كذلك المقبوض بالعقد الفاسد عند الأصحاب استناداً إلى هذا الخبر.

و أمّا «تؤدّيه» فالمراد به الأداء الكافي في فراغ الذمّة و الخروج عن العهدة، و هو

ص: 634

التخلية بينه و بين المالك بحيث يتمكّن من أخذه و التصرّف فيه فلا يكفي غيره.

و المراد من «أهله» ربّ المال أو من يقوم مقامه من وكيل له أو وليّ إجباري أو شرعي له، فلا يكفي الأداء إلى غيرهما.

و كلمة «حتّى» للغاية، و مفاده استمرار الحكم إلى غاية التأدية. و في تغيية الحكم بغاية التأدية لطف بليغ في الدلالة على ضمان المثال أو القيمة في صورة التلف، لكون المعنى أنّ ثقل المال المأخوذ أو لزومه مستمرّ إلى أن يحصل التأدية، و ظاهر أنّ التلف ليس بتأدية حتّى يرتفع به الثقل و اللزوم. و قضيّة بقائهما حال التلف و بعده كونه مخاطباً بتأدية المثل في المثلي و القيمة في القيمي، لتعذّر تأدية العين.

و بالتأمّل في ذلك يندفع ما أورده الفاضل النراقي(1) من منع دلالة الخبر على ضمان المثل أو القيمة في صورة التلف، بل غايته الدلالة على ضمان العين استناداً إلى وجهين:

أحدهما: الموصول مع صلته و هو قوله عليه السلام: «ما أخذت» فإنّه يدلّ على أنّ المضمون هو ما أخذته اليد، و لا يكون إلّا العين، لعدم كون شيء من المثل و القيمة بعد تلف العين ممّا أخذته اليد.

و ثانيهما: ضمير «تؤدّيه» محذوفاً و مذكوراً فإنّه لعوده إلى الموصول الّذي هو كناية عن العين المأخوذة يدلّ على أنّ الّذي يجب تأديته هو العين، لوضوح أنّ دفع المثل أو القيمة ليس أداءً لما أخذته اليد، بل لا دلالة في لفظ الخبر على صورة التلف فضلاً عن دلالته على حكمها من ضمان المثل أو القيمة.

و وجه الاندفاع: أنّ الخبر كما يدلّ باعتبار الموصول وصلته على كون ما أخذته اليد مضموناً، فكذلك يدلّ باعتبار الغاية على كون هذا الضمان مستمرّاً إلى أن يحصل تأديته إلى المالك باعتبار دلالته على استمرار الثقل و اللزوم المدلول عليهما بكلمة الاستعلاء إلى هذه الغاية، و معناه كون رافع الثقل و اللزوم و الضمان هو التأدية، و ذكرنا أنّ التلف المفروض تحقّقه ليس تأدية له ليرتفع به الضمان و الثقل. و قضيّة استمراره إلى الغاية المذكورة أن يحصل تأديته بردّ المثل أو القيمة، لتعذّر ردّ العين.

ص: 635


1- المستند 294:14.

لا يقال: إنّ التلف و إن لم يكن تأدية إلّا أنّه يحتمل كونه كالتأدية رافعاً للثقل الّذي هو عبارة عن الضمان، و هذا الاحتمال يوجب الشكّ في بقاء الضمان و ارتفاعه. فغاية ما هنالك للمستدلّ أن يتمسّك لإثبات البقاء باستصحاب الحالة السابقة، و الاستصحاب مع الشكّ في قدح العارض كالاستصحاب مع الشكّ في عروض القادح حجّة. و يرد عليه بطلان الاستصحاب في خصوص المقام لعدم بقاء موضوع المستصحب بدليل عدم كون القضيّة المشكوكة باعتبار الموضوع بعين القضيّة المتيقّنة، فإنّ موضوع القضيّة المتيقّنة هو عين المال الّذي أخذته اليد و موضوع القضيّة المشكوكة مثله أو قيمته و كلّ منهما غير المال المأخوذ فلا معنى للاستصحاب.

لأنّا نقول: أوّلاً لا حاجة في تتميم الاستدلال بالخبر على ضمان المثل أو القيمة إلى توسيط التمسّك بالاستصحاب ليخدشه نحو ما ذكر، بل المستند في إثبات البقاء و الاستمرار بعد التلف هو الظهور المستند إلى الإطلاق، فإنّ قوله: «حتّى تؤدّيه» في الدلالة على استمرار الثقل و الضمان إلى زمان حصول التأدية مطلق بالقياس إلى صورتي تلف العين و بقائها، و لا ريب أنّ الظهور الناشئ من الإطلاق المذكور كافٍ في ثبوت بقاء الضمان و استمراره حال التلف و بعده إلى أن يحصل تأديته بردّ المثل أو القيمة الملازم لنفي رافعيّة التلف من غير حاجة إلى الاستصحاب.

و ثانياً: على تقدير الحاجة إلى الاستصحاب نقول بصحّة التمسّك به بمنع عدم بقاء موضوع المستصحب، فإنّ المال المكنّى عنه بالموصول في الوضع العرفي اسم للقدر الجامع بين العين و عوضه من المثل في المثلى و القيمة في القيمي، كما يكشف عنه الصدق العرفي في قضيّة قول المالك «أعط مالي» عند مطالبة ماله المغصوب عن غاصبه في صورتي بقاء عينه في يد الغاصب و تلفه في يده، فإنّ المال المطلوب صادق في كلتا الصورتين، و مطالبته بإضافة المال إلى نفسه صحيحة فيهما، مع أنّ المقصود المطويّ في الضمير في صورة البقاء مطالبة العين الموجودة و في صورة التلف مطالبة عوضه الدائر بين المثل أو القيمة، و لو استردّ العوض مثلاً أو قيمة منه في صورة التلف يقول: أخذت مالي، و لا يصحّ تكذيبه، و ليس هذا كلّه إلّا من جهة كون المال في العرف و العادة عبارة عمّا يعمّ العين و العوض الواقعي. و الأصل في ذلك ما قدّمنا توضيحه في

ص: 636

تتميم قاعدة الإقدام من القضيّة المركوزة في الأذهان، من أنّه لا يذهب مال أحد إلى غيره مجّاناً و بلا عوض بل لا بدّ له من عوض لا يكون إلّا المثل أو القيمة، و على هذا فالثقل و الضمان الّذي هو المستصحب من أوّل الأمر كان متقوّماً بالقدر الجامع الّذي هو مع بقاء العين متقوّم بها و مع تلفها متقوّم بعوضها مثلاً أو قيمة، فاستصحاب الثقل أو الضمان المتقوّم بالقدر الجامع المتقوّم مع التلف بالعوض ليس من استصحاب الشيء مع عدم بقاء موضوع المستصحب، و كون المأخوذ هو العين لا ينافي تقوّم ثقلها بها من حيث إنّها أحد فردي القدر الجامع الّذي مرجعه إلى تقوّمه بالقدر الجامع على وجه يكون العين أصلاً في مقام الردّ و التأدية على تقدير بقائها و العوض فرعاً.

و بالتأمّل فيما بيّنّاه يظهر وجه اندفاع الوجه الثاني ممّا تمسّك به الفاضل المتقدّم، فإنّ الضمير محذوفاً أو مذكوراً و إن كان عائداً إلى ما أخذته اليد، إلّا أنّه باعتبار المفهوم العامّ العرفي يعمّ العوض مثلاً أو قيمة فيكون دفع كلّ منهما على تقدير تلف العين أداءً لما أخذته اليد. و بما بيّنّاه من استظهار الإطلاق من الغاية بالقياس إلى صورتي بقاء العين و تلفها يندفع ما ذكره الفاضل أخيراً من قوله: «بل لا دلالة في لفظ الخبر على صورة التلف...» الخ فإنّ الإطلاق المتناول للصورتين في الدلالة على استمرار الحكم إلى غاية حصول الأداء كافٍ في الدلالة على صورة التلف و على حكمها كما لا يخفى على المتأمّل المنصف. هذا تمام الكلام في بيان معاني مفردات الخبر و أجزائه.

و أمّا معناه التركيبي: فقد يورد عليه بالإجمال، لأنّ الجمل المؤوّلة إلى الإنشاء لا ظهور لها في الإيجاب، و لو سلّم فهو حكم تكليفي و الضمان حكم وضعي. و فيه - مع أنّ المحقّق في محلّه من ظهور الجمل المذكورة في إنشاء الوجوب - أنّه لا داعي هنا إلى التأويل، بل لو حمل قضيّة الخبر على الإخبار ليكون من باب بيان الواقع تمّ المقصود، فيكون تقديره في حاصل المعنى «أنّه ثبت على الإنسان ما أخذه أي ثقله و استمرّ إلى أن يؤدّيه أي يؤدّي المال المأخوذ بالمعنى الجامع للعين و العوض» و هذا كما ترى عين الضمان.

الخامس: «قاعدة ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده»

تمسّك بها جماعة(1) و نحن

ص: 637


1- كما في غاية المراد 36:2، المسالك 154:3، جامع المقاصد 61:4، مجمع البرهان 192:8.

قد بسطنا الكلام في تحقيق هذه القاعدة في رسالة منفردة فلا نطيل القول فيها هنا، بل الّذي ينبغي أن يذكر هنا هو أنّا في غناء عن التمسّك بها و جعلها دليلاً على حدة على ضمان المال المقبوض بالعقد الفاسد، بناءً على ما تقدّم من تعميم العقد لكلّ عقد فاسد من عقود المعاوضة فيساوق القاعدة المذكورة لما نحن فيه، مع كون مدركها على ما يستفاد من كلامهم جميع ما عرفته من أدلّة ما نحن فيه من الإجماعات المنقولة، و قاعدة الإقدام، و قاعدة الاحترام، و قاعدة ضمان اليد، و على هذا فهي على مذاقنا لا تصلح مدركاً لما نحن فيه. نعم على مذاق من اقتصر فيما نحن فيه على ضمان المقبوض بالبيع الفاسد كما في عبارة الشرائع(1) و غيره(2) ممّن تبعه فلا بأس بأخذها مدركاً له من باب تفريع الحكم الجزئي على الكلّي و الخاصّ على العامّ .

ثمّ إنّ في المقام فروعاً كثيرة تذكر في طيّ مسائل:
المسألة الاُولى: أنّ ردّ المال المقبوض بالعقد الفاسد إلى مالكه

كما هو مقتضى ضمان العين هل يجب فوراً - كما جزم به شيخنا قدس سره قائلاً: «و الظاهر أنّه ممّا لا خلاف فيه على تقدير عدم جواز التصرّف فيه»(3) فيأثم بالتأخير من غير عذر - أو على التراخي فلا يأثم بالتأخير كما يظهر من الشيخ فيما حكي عنه في المبسوط من عدم الإثم في قبضه معلّلاً «بأنّه قبضه بإذن مالكه»(4) نظر [اً إلى] انّ تعليله يقتضي عدم الإثم في إمساكه أيضاً لأنّ القبض إذا كان بإذن المالك فجميع الأفعال المترتّبة عليه الّتي منها الإمساك أيضاً تكون بإذنه، بل عن التحرير(5) التصريح بعدم الإثم في إمساكه، و كذلك عن السرائر(6) ناسباً له إلى الأصحاب مؤذناً بدعوى الإجماع عليه ؟ قولان، أقواهما الأوّل:

إمّا لأنّ الإمساك تصرّف في مال الغير بغير إذنه فيحرم، و هو يلازم وجوب ردّه فوراً. و يدلّ على حرمة التصرّف قول الحجّة عجّل اللّٰه فرجه المرويّ مرسلاً: لا يجوز لأحد أن يتصرّف في مال غيره إلّا بإذنه»(7). و توهّم: أنّه مأذون فيه لأنّه قبضه بإذن المالك و هو يلازم الإذن في جميع الأفعال المترتّبة عليه و منها الإمساك و إن صدق عليه

ص: 638


1- الشرائع 13:3.
2- كما في الإرشاد 362:1، و جامع المقاصد 61:4.
3- المكاسب 199:3.
4- المبسوط 149:2.
5- التحرير 277:2.
6- السرائر 285:2.
7- الوسائل 4/386:25 باب 1 من أبواب الغصب.

التصرّف، مدفوع بأنّه إنّما دفعه إليه على وجه التعويض و إذا لم يسلم له العوض كما هو مقتضى فساد العقد انتفى الإذن في كلّ من القبض و التصرّف و الإمساك.

أو لأنّه من الأفعال المتعلّقة بالعين الّتي دلّ على تحريمها عموم قوله عليه السلام: «لا يحلّ مال امرئ مسلم لأخيه إلّا عن طيب نفسه»(1) فإنّ الحلّ المنفيّ المضاف إلى العين يقتضي عدم الحلّ في جميع الأفعال المتعلّقة بها الّتي منها الإمساك و إن بنينا على عدم صدق التصرّف عليه. و توهّم: أنّ القبض إذا كان عن طيب نفسه فجميع الأفعال المترتّبة عليه أيضاً يكون عن طيب نفسه، يدفعه ما عرفت من عدم سلامة العوض الموجبة لانتفاء طيب النفس حتّى عن القبض فضلاً عن سائر الأفعال المترتّبة عليه. و أمّا النسبة إلى الأصحاب المؤذنة بدعوى الإجماع على ما سمعته عن السرائر، فضعّفت تارةً بعدم ثبوتها، و اُخرى بتنزيلها على صورة الجهل بالفساد. و كذلك نسبة عدم الإثم في القبض إلى المبسوط. و على المختار فليس للمشتري حبسه لاسترداد الثمن كما نصّ عليه في التذكرة(2) لمنافاته وجوب الردّ فوراً، فقضيّة عبارة التذكرة أيضاً هي فوريّة الردّ.

المسألة الثانية: لو توقّف ردّ العين على مئونة كأُجرة الحمّال أو الدابّة أو نحو ذلك

ففي كون المئونة على القابض مطلقاً كما صرّح به في التذكرة(3) و عن جامع المقاصد أيضاً «لوجوب ما لا يتمّ الواجب إلّا به»(4) أو على المالك مطلقاً - لمنع توقّفه على تحمّل القابض للمئونة لأنّه كما يتأتّى بتحمّل القابض كذلك يتأتّى بتحمّل المالك فلا يكون ممّا لا يتمّ الواجب إلّا به، و الأصل براءة ذمّة القابض عنها خصوصاً إذا كثرت، لأدلّة نفي الضرر - أو أنّها عليه إذا قلّت لا إذا كثرت لأدلّة نفي الضرر كما احتمله شيخنا(5) قدس سره ؟ وجوه، أقواها الأوّل، لقوّة دليله، و ضعف دليلي الآخرين.

أمّا ضعف أوّلهما: فلأنّ تحمّل المالك لها لا يمنع مقدّمية تحمّل القابض و لا يرفع وجوب المقدّمة، غاية الأمر أنّه حيثما حصل كان مسقطاً لوجوب المقدّمة المقدورة، فالمقدّميّة مشتركة بين المقدورة و الغير المقدورة، و الوجوب المقدّمي يحصل في الاُولى

ص: 639


1- الوسائل 3/120:5، ب 3 مكان المصلّي، عوالي اللآلي 309/113:2.
2- التذكرة 180:10.
3- التذكرة 293:10.
4- جامع المقاصد 435:4.
5- المكاسب 199:3.

و الثانية مسقطة.

و أمّا ضعف ثانيهما: فأوّلاً لأنّ أدلّة نفي الضرر لو جرت هنا و قضت بنفي وجوب المئونة على القابض فلا يتفاوت فيها الحال بين قليل الضرر و كثيره، فإنّ تحمّل المئونة القليلة أيضاً ضرر.

و ثانياً: لأنّ وجوب ما لا يتمّ الواجب إلّا به حكم عقلي لا يقبل التخصيص، و التفصيل موجب له فيبطل.

لا يقال: إنّ ما لا يتمّ الواجب إلّا به إنّما يتمّ إذا كان الواجب مطلقاً لا مشروطاً، و من الجائز كون الردّ واجباً مشروطاً بحصول تحمّل المئونة من المالك أو غيره ممّن عدا القابض، فلا يجب مقدّمته على القابض لعدم وجوب ذي المقدّمة ما لم يحصل شرط وجوبه.

لأنّا نقول: إنّ فوريّة وجوب الردّ المسبّبة عن حرمة الإمساك تقضي بكون الردّ واجباً مطلقاً، لأنّ دليل حرمة الإمساك إنّما قضى بالحرمة مطلقاً.

المسألة الثالثة: أنّ العين المقبوضة بالعقد الفاسد قد يصاحبها اُمور في القبض تبعاً، فهل يتبعها في الضمان على معنى كونها مضمونة على القابض،

كما أنّ العين الّتي هي مورد العقد مضمونة عليه أو لا؟ فنقول: إنّ هذه الاُمور المصاحبة على قسمين:

أحدهما: ما يدخل في ملك القابض تبعاً لملك العين على تقدير صحّة العقد - كصوف الغنم و شعر المعز، و أغصان الشجر و أوراقه فيما كان لأوراقه ماليّة كورق التوت و ورق السدر، و نغل الدابّة، و ثياب العبد على القول بدخولها في المبيع تبعاً و ما أشبه ذلك - و لا إشكال في كونها كالعين مضمونة و لا أظنّ خلافاً في ذلك، لعين ما دلّ على ضمان العين من الأدلّة المتقدّمة الّتي عمدتها خبر «على اليد» فإنّ الاُمور المذكورة كالعين من مال الغير و باقية في ملك المقبض، و كما أنّها تتبع العين في الملك على تقدير صحّة العقد فكذلك تتبعها في الضمان على تقدير فساد العقد.

و ثانيهما: الاُمور الّتي لا تتبع العين في الملك و لا تنتقل إلى قابض العين على تقدير صحّة العقد و لكن تقبض تبعاً لقبض العين لكون قبضها من مقدّمات قبض العين، على معنى كون قبضها ممّا يتوقّف عليه قبض العين - كماعون الدهن أو الدبس، و قربة الماء

ص: 640

أو الخلّ ، و عدل المتاع أو الطحين، و صندوق العنب و ما أشبه ذلك، و كذلك الدابّة المستأجرة الّتي يقبضها المستأجر للتوصّل إلى قبض المنفعة و استيفائها في الإجارة الفاسدة - فقد يحكى فيها قول بالضمان تبعاً لضمان العين تعليلاً بأنّ المالك لم يقبضها مجّاناً و بلا عوض فيكون مضمونة على قابضها.

و ضعّف: بأنّها و إن لم يقبضها المالك مجّاناً إلّا أنّه لم يقبضها على وجه التعويض أيضاً بل إنّما أقبضها للتوصّل إلى إقباض العين، فتكون في يد قابضها أمانة كما في صورة صحّة العين، و من حكم الأمانات عدم كونها مضمونة إلّا مع التفريط أو التعدّي، غاية الأمر كون الأمانة فاسدة لفساد العقد فيشكّ في ضمان عوضها مثلاً أو قيمة على تقدير تلفها من غير تفريط و لا تعدّ، و الأصل براءة الذمّة لعدم الدليل على الضمان كما لا ضمان فيه على تقدير صحّة العقد، مضافاً إلى قاعدة «ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفساده».

و ممّا بيّنّاه انقدح أنّ ثمر البحث هنا يظهر في صورة التلف بلا تفريط و لا تعدّ، فلو لم تتلف بأن تكون باقية في يد قابضها لا ينبغي الاسترابة في وجوب ردّها إلى المالك، كما أنّها لو تلفت بالتفريط أو التعدّي لا ينبغي التأمّل في ضمان أعواضها مثلاً أو قيمة.

المسألة الرابعة: إنّه لو كان للعين المقبوضة منفعة استوفاها المشتري

- كركوب الدابّة، و استخدام العبد، و لبس الثوب، و سكنى الدار و ما أشبه ذلك - ففي المنفعة فعليه عوضها الّذي يقال له اُجرة المثل كما عليه بعض مشايخنا(1) ناسباً له إلى المشهور، و عدمه كما عن الوسيلة(2)؟ قولان. و قد يستظهر ممّا ذكره الحلّي في السرائر من كون هذا المال بمنزلة المغصوب الاتّفاق عليه، لمكان الاتّفاق على ضمان منافع المغصوب المستوفاة.

و استدلّ عليه بعموم قوله: «لا يحلّ مال امرئ مسلم إلّا عن طيب نفسه»(3) بناءً على صدق المال على المنفعة، و لذا يجعل ثمناً في البيع و مهراً في النكاح.

و فيه: نظر بل منع، لأنّ نفي الحلّيّة يلازم الحرمة أو عينها، و أيّاً ما كان فهو غير الضمان الّذي هو حكم وضعي، فلا يثبت به الحكم الوضعي إلّا إذا ثبت بينهما ملازمة، و ثبوتها يحتاج إلى دليل من إجماع أو نصّ غير هذا الخبر الّذي هو دليل الملزوم

ص: 641


1- المكاسب 201:3.
2- الوسيلة: 255.
3- عوالي اللآلئ 309/113:2.

فلا يفي بالملازمة.

و إذا كان مبنى الاستدلال به على صدق المال على المنفعة كان الاستدلال بقوله عليه السلام «من أتلف مال الغير فهو ضامن» أولى و أسدّ. و أولى منه الاستدلال بعموم خبر «على اليد ما أخذت» بناءً على ما تقدّم في شرحه من أنّ الموصول كناية عن المال المأخوذ، و اليد عن صاحبها من إطلاق الجزء على الكلّ ، و الأخذ عن الاستيلاء، و ظاهر أنّ المستوفي للمنفعة استولى عليها فكانت عليه و ذمّته مشغولة حتّى تؤدّيها بردّ عوضها.

و عن الوسيلة(1) الاحتجاج بأنّ «الخراج بالضمان» كما في النبويّ المرسل(2)و الخراج عبارة عن الفائدة فيصدق على المنفعة، و الباء للسببيّة أي المنفعة تذهب بسبب الضمان أي في مقابله، و معناه كونها في مقابلة ضمان العين. و حاصل تفسير الخبر أنّ من تقبّل شيئاً لنفسه و ضمنه فخراجه له، و المشتري لمّا أقدم على ضمان المبيع و تقبّله على نفسه بتقبيل البائع و تضمينه إيّاه على أن يكون الخراج له مجّاناً، كان اللازم من ذلك أن يكون خراجه له على تقدير الفساد، كما أنّ الضمان عليه على هذا التقدير أيضاً. و الحاصل أنّ ضمان العين لا يجتمع مع ضمان الخراج، و مرجعه إلى أنّ الفائدة و الغنيمة بإزاء الغرامة. قال شيخنا قدس سره: و هذا المعنى مستنبط من أخبار كثيرة متفرّقة مثل قوله في مقام الاستشهاد على كون منفعة المبيع في زمان الخيار للمشتري: «أ لا ترى أنّها لو احترقت كانت من مال المشتري»(3) و نحوه في الرهن(4) و غيره(5).

و اُجيب: بأنّ الضمان الّذي يوجب كون الخراج للضامن هو ما أقدم عليه المتبايعان و أمضاه الشارع كضمان الثمن المسمّى في البيع الصحيح، و لذا يقع فوائد المبيع و منافعه للمشتري مجّاناً و بلا عوض، و ما أقدم عليه المتبايعان في العقد الفاسد من ضمان الثمن المسمّى لم يمضه الشارع بحكم فساد العقد، و ما ورد على المشتري من ضمان العين و عوضه الواقعي مثلاً أو قيمة حكم قهريّ جاء من قبل الشارع من دون إقدامهما عليه

ص: 642


1- الوسيلة: 255.
2- عوالي اللآلئ 89/219:1.
3- الوسائل 3/20:18، ب 18 أبواب الخيار، التهذيب 780/176:7.
4- الوسائل 6/387:18، ب 5 أحكام الرهن، التهذيب 764/172:7.
5- المكاسب 202:3.

و لا التزام المشتري به، نظير ضمان المقبوض بالسوم و ضمان المغصوب.

و ربّما نقض ما ذكر في معنى الرواية بالعارية المضمونة، من حيث إقدام المستعير على ضمانها مع عدم كون خراجها له لعدم تملّكه المنفعة، و إنّما تملّك الانتفاع الّذي عيّنه المالك. و لا يخلو عن شيء.

و اُورد على القول المذكور أيضاً بما ورد(1) في شراء الجارية المسروقة من ضمان قيمة الولد و عوض اللبن بل عوض كلّما انتفع بها. و ردّ بأنّ الكلام في البيع الفاسد الحاصل بين مالكي العوضين من جهة أنّ مالك العين جعل خراجها للمشتري بإزاء ضمانها بالثمن، لا ما كان فساده من جهة التصرّف في مال الغير قيل(2): و أضعف من ذلك الإيراد عليه بصحيحة أبي ولّاد(3) المتضمّنة لضمان منفعة المغصوب المستوفاة ردّاً على أبي حنيفة القائل: «بأنّه إذا تحقّق ضمان العين و لو بالغصب سقط كراها»(4) كما يظهر من تلك الصحيحة.

نعم لو كان القول المذكور موافقاً لقول أبي حنيفة في إطلاق القول «بأنّ الخراج بالضمان» انتهضت الصحيحة و ما قبلها ردّاً عليه.

المسألة الخامسة: في ضمان المنافع الغير المستوفاة الفائتة على مالك العين في يد قابضها بالعقد الفاسد و عدمه،

و بما أخذناه في العنوان يظهر الفرق بين هذه المسألة و المسألة السابقة، فإنّ الموجب للضمان في المنافع المستوفاة إنّما هو إتلاف المنفعة، و محلّ البحث في هذه المسألة تلف المنفعة من غير إتلاف، لأنّ المفروض عدم استيفاء من بيده العين و إنّما تلفت في يده، فهل هو كالإتلاف في كونه موجباً للضمان أو لا؟ فيه خلاف على أقوال، ضبطها بعض مشايخنا و جعلها خمسة:

أوّلها: الضمان مطلقاً نسبه في موضع(5) إلى المشهور، و في آخر قال: «و كأنّه للأكثر».

ص: 643


1- الوسائل 502/204:21، ب 88 نكاح العبيد و الإماء، التهذيب 276/64:7.
2- المكاسب 203:3.
3- الوسائل 1/390:25، ب 7 أبواب الغصب، التهذيب 943/215:7.
4- المغني لابن قدّامة 501:5، بداية المجتهد 231:2.
5- المكاسب 204:3-206.

الثاني: عدم الضمان كما عن الإيضاح(1).

الثالث: الضمان مع جهل البائع بالفساد و عدمه مع علمه به، كما عن بعض(2) من كتب على الشرائع.

الرابع: التوقّف في هذه الصورة كما استظهره جامع المقاصد(3) و العميدي(4) من عبارة القواعد(5).

الخامس: التوقّف مطلقاً كما عن الدروس(6) و المسالك(7) و التنقيح(8) و عليه شيخنا المتقدّم قائلاً: «إنّ للتوقّف في المسألة مجالاً كما في المسالك تبعاً للدروس و التنقيح»(9).

و الأقوى هو القول بالضمان مطلقاً، لعين ما تقدّم في المسألة السابقة من عموم خبر «على اليد» بناءً على كون الأخذ عبارة عن الاستيلاء، فإنّ من استولى على العين و تمكّن من جميع تصرّفاتها و استيفاء منافعها صدق أنّه استولى على منافعها، و حيث تلفت المنافع تحت يده ضمن عوضها. و أمّا سائر الوجوه المحتملة هنا من عموم خبر «لا يحلّ مال امرئ...» الخ، و خبر «من أتلف مال الغير» و قاعدتي «الاحترام و الإقدام» فكلّها مدخولة. و أضعف من الجميع توهّم تناول منقول الإجماع في عبارة التذكرة قائلاً: «منافع الأموال من العبد و الثياب و العقار و غيرها مضمونة بالتفويت و الفوات تحت اليد العادية، فلو غصب عبداً أو جارية أو عقاراً أو حيواناً مملوكاً ضمن منافعه سواء أتلفها بأن استعملها أو فاتت تحت يده بأن بقيت مدّة في يده لا يستعملها عند علمائنا أجمع»(10) انتهى. بناءً على كون مراده من اليد العادية مقابل اليد الحقّة لبعد هذا البناء خصوصاً مع ملاحظة تفريع الغصب.

المسألة السادسة: قد ظهر أنّ العين إذا تلفت و كانت مثليّة تضمن بالمثل على ما هو المعروف من مذهب الأصحاب،

و قد يقال «بلا خلاف» إلّا ما يحكى عن ظاهر الإسكافي(11)

ص: 644


1- إيضاح الفوائد 194:2.
2- لم نقف عليه
3- جامع المقاصد 324:6-325.
4- كنز الفوائد 676:1.
5- القواعد 238:2-239.
6- الدروس 194:3.
7- المسالك 154:3.
8- التنقيح 32:2.
9- المكاسب 206:3-207.
10- التذكرة 381:2.
11- حكاه في المختلف 131:6، و الشهيد في غاية المراد 398:2.

و قد يعبّر عنه «بالإجماع» كما عن جامع المقاصد(1) و عن غاية المراد(2) «أطبق الأصحاب على ضمان المثلي بمثله إلّا ما يظهر من ابن الجنيد».

و قد يقال في مذهبه: إنّ كلامه محتمل لأن يكون المالك مخيّراً في ضمان المثلي بين الأخذ بالمثل أو بالقيمة و لتعيّن القيمة إلّا إذا رضي المالك بالمثل عبارته المحكيّة في باب الغصب «إنّ ترك المغصوب ضمن قيمته أو مثله إن رضي صاحبه».

و مبنى الاحتمالين احتمال رجوع القيد إليهما، و احتمال رجوعه إلى الأخير.

و قد تعرّض الأصحاب لتعريف المثلي دون القيمي اكتفاءً في اتّضاح حاله باتّضاح حال المثلي باعتبار قرينة المقابلة.

و اختلفت كلماتهم في تعريف المثلي غاية الاختلاف، و أجودها كما اعترف به غير واحد تعريفه بما يتساوى قيمة أجزائه كما في الشرائع(3) و عن الشيخ(4) و ابن زهرة(5)و العلّامة(6) و غيرهم(7) و في كلام غير واحد(8) وصفه بالمشهور. و ظنّي أنّه لو عبّر مكان القيمة بالقيم كان أولى. و قد يعبّر عن أصل التعريف بما يتساوى أجزاؤه من حيث القيمة، و المراد بأجزائه كما قيل: «ما يصدق على كلّ اسم الحقيقة»(9) كما أنّ المراد بتساوي الأجزاء من حيث القيمة «تساويها فيها من حيث المقدار» و يلزم من ذلك أن يتساوى الأجزاء أيضاً من حيث المقدار إذ لو لا تساويها كذلك لم تتساو من حيث القيمة، و قضيّة هذا كلّه أن يكون نسبة قيمة كلّ جزء إلى قيمة المجموع كنسبة نفس كلّ جزء إلى نفس المجموع، و هذا ما يقال له بتساوي الأجزاء من حيث القيمة في النسبة.

و قد يفسّر ذلك بأن يكون قيمة كلّ بعض بالنسبة إلى قيمة البعض الآخر كنسبة نفس البعضين من حيث المقدار، و لذا قيل في توضيحه: «أنّ المقدار منه إذا كان يستوي قيمة نصفه فنصفه يستوي نصف تلك القيمة»(10) و من هنا رجّح الشهيد كون المصوغ

ص: 645


1- جامع المقاصد 345:6.
2- غاية المراد 398:2.
3- الشرائع 239:3.
4- المبسوط 59:3.
5- الغنية: 278.
6- القواعد 227:2-228.
7- كما في المهذّب البارع 251:4، و المقتصر: 342.
8- كما في المسالك 208:2، الكفاية: 257، الرياض 23:14.
9- المكاسب 210:3.
10- الرياض 23:14 و المسالك 208:2.

من النقدين قيميّاً قال: «إذ لو انفصلت نقصت قيمتها»(1) قال شيخنا قدس سره بعد نقل هذه الكلمات: «قلت: و هذا يوجب أن لا يكون الدرهم الواحد مثليّاً، إذ لو انكسر نصفين نقص قيمة نصفه عن قيمة المجموع إلّا أن يقال: إنّ الدرهم مثليّ بالنسبة إلى نوعه، و هو الصحيح و لذا لا يعدّ الجريش مثلاً للحنطة، و لا الدقاقة مثلاً للاُرز، و من هنا يظهر أنّ كلّ نوع من أنواع الجنس الواحد، بل كلّ صنف من أصناف نوع واحد مثلي بالنسبة إلى أفراد ذلك النوع أو الصنف.

فلا يرد ما قيل(2): من أنّه [إن] اُريد التساوي بالكلّيّة، فالظاهر عدم صدقه على شيء من المعرّف إذ ما من مثلي إلّا و أجزاؤه مختلفة في القيمة كالحنطة، فإنّ قفيزاً من حنطة تساوي عشرة و من اُخرى تساوي عشرين. و إن اُريد في الجملة فهو في القيمي موجود كالثوب و الأرض(3) انتهى. قال: و قد لوّح هذا المورد في آخر كلامه إلى دفع إيراده بما ذكرنا، من أنّ كون الحنطة مثليّة معناه أنّ كلّ صنف منه متماثل الأجزاء و متساوية القيمة، لا بمعنى أنّ جميع أبعاض هذا النوع متساوية في القيمة فإذا كان المضمون بعضاً من صنف فالواجب دفع مساويه من هذا الصنف، لا القيمة و لا بعض من صنف آخر.

لكنّ الإنصاف أنّ هذا خلاف ظاهر كلماتهم، فإنّهم يطلقون المثلي على جنس الحنطة و الشعير و نحوهما، مع عدم صدق التعريف عليه. و إطلاق المثلي على الجنس باعتبار مثليّة أنواعه أو أصنافه و إن لم يكن بعيداً، إلّا أنّ انطباق التعريف على الجنس بهذا الاعتبار بعيد جدّاً، إلّا أن يُهملوا خصوصيّات الأصناف الموجبة لزيادة القيمة و نقصانها كما التزمه بعضهم، غاية الأمر وجوب رعاية الخصوصيّات عند أداء المثل عوضاً عن التالف أو القرض، و هذا أبعد.

هذا مضافاً إلى أنّه يشكل اطّراد التعريف بناءً على هذا، بأنّه [إن] اُريد تساوي الأجزاء من صنف واحد من حيث القيمة تساوياً حقيقيّاً، فقلّما يتّفق ذلك في الصنف الواحد من النوع، لأنّ أشخاص ذلك الصنف لا يكاد يتساوى في القيمة لتفاوتها

ص: 646


1- المسالك 209:2.
2- مجمع الفائدة 525:10-526.
3- المكاسب 210:3-211.

بالخصوصيّات الموجبة لزيادة الرغبة و نقصانها كما لا يخفى.

و ان اُريد تقارب أجزاء ذلك الصنف من حيث القيمة و إن لم يتساو حقيقة، تحقّق ذلك في أكثر القيميّات، فإنّ لنوع الجارية أصنافاً متقاربة في الصفات الموجبة لتساوي القيمة، و بهذا الاعتبار يصحّ السّلَم فيها، و لذا اختار العلّامة في باب القرض من التذكرة:

أنّ ما يصحّ فيه السّلَم من القيميّات، مضمون في القرض بمثله(1) و قد عدّ الشيخ في المبسوط(2) الرطب و الفواكه من القيميّات، مع أنّ كلّ نوع منها مشتمل على أصناف متقاربة في القيمة بل متساوية عرفاً.

ثمّ لو فرض أنّ الصنف المتساوي من حيث القيمة في الأنواع القيميّة عزيز الوجود بخلاف الأنواع المثليّة، لم يوجب ذلك إصلاح طرد التعريف، نعم يوجب ذلك الفرق بين النوعين في حكمة الحكم بضمان المثلي بالمثل و القيمي بالقيمة»(3) انتهى كلام الشيخ قدس سره.

و الّذي ينبغي أن يقال في تحقيق المقام: هو أنّه لا جدوى في الإطناب بالتكلّم في تعريف المثلي بمثل ما عرفت و غيره، مع أنّه لا يكاد يوجد تعريف له ممّا ذكره الأصحاب و غيرهم يكون سليماً عمّا يرد عليه في طرده أو في عكسه، بل العمدة في المقام بيان مفهومي المثلي و القيمي حسبما يستفاد من النسبة، فنقول: إنّ المثلي باعتبار هذه النسبة عبارة عن المال المنسوب إلى المثل، و انتساب المال إلى المثل إنّما هو باعتبار كون ضمان تالفه بالمثل، و من ذلك يعلم وجه انتساب المال إلى القيمة في القيمي، و المثل المأخوذ طرفاً في النسبة في المثلي لغة و عرفاً عبارة عن «شبه الشيء و شبيهه» فإمّا أن يراد به ما يماثل التالف و يشابهه في الجنس، أو في النوع أو في الجنس، أو في الخصوصيّات الّتي لها مدخليّة في رغبات الناس احتمالات.

ينبغي القطع ببطلان ما عدا الأخير للزوم عدم اطّراد المثلي على غيره، إذ ما من قيمي إلّا و له ما يماثله و يشابهه في الجنس بل و في النوع أيضاً، و وجود ما يماثله و يشابهه في الصنف أيضاً كثير في القيميّات، و كلّ مثلي يوجد ما يماثله و يشابهه في الخصوصيّات الّتي لها مدخليّة في الرغبات، و لو اتّفق نادراً ما لا يوجد له مثل بهذا

ص: 647


1- التذكرة 5:2.
2- المبسوط 99:3.
3- المكاسب 210:3-213.

المعنى فهو مندرج فيما تعذّر له المثل، و سيأتي حكمه. و يغلب في القيمي عدم وجود المماثل و المشابه في جميع الخصوصيّات، و لو اتّفق نادراً وجود المماثل على هذا الوجه فلا عبرة به إذ النادر بمنزلة المعدوم، و العبرة بما هو الغالب من عدم وجود المماثل و المشابه، فيكون الضمان في كلّ من الغالب و النادر بالقيمة. فتعيّن أن يكون المراد هو الأخير محافظة على الطرد، و لأنّ الّذي يظهر من كلماتهم في الضمان بالمثل و هو المصرّح به في كلام غير واحد، و منه ما عرفت هو رعاية المماثلة و المشابهة في جميع الخصوصيّات الّتي لها مدخليّة في الرغبات، و حيث إنّ مدرك كون ضمان المثلي بالمثل و القيمي بالقيمة فكلّ ما انعقد الإجماع على كونه مثليّاً فلا إشكال، كما أنّ كلّما انعقد الإجماع على كونه قيميّاً فلا إشكال.

نعم: يشكل الحال في الموارد المشتبهة باعتبار وقوع الاختلاف في المثليّة و القيميّة، كما في الذهب و الفضّة الغير المسكوكين لما عن الشيخ(1) من التصريح بكونهما من القيميّات و عن ظاهر غيره(2) كونهما مثليّين، و الحديد و النحاس و الرصاص لما عن ظاهر عبائر المبسوط(3) و الغنية(4) و السرائر(5) من كونها قيميّة و عن عبارة السرائر كونها صريحة في «أنّ اُصول هذه الأشياء مثليّة و إن كان المصوغ منها قيميّاً» و لما عن الشيخ من المبسوط(6) من التصريح بكون «الرطب و العنب قيميّاً، و التمر و الزبيب مثليّاً» و عن المختلف(7) الاستشكال في الفرق بينهما، و نقل شيخنا قدس سره عن بعض(8) من قارب عصره التصريح «بكون الرطب و العنب مثليّين»(9) و عن موضع من جامع المقاصد «أنّ الثوب مثلي»(10) و المشهور خلافه، إلى غير ذلك من موارد الخلاف، و نحوها سائر الموارد المشتبهة، فهل الأصل فيها الضمان بالمثل أو بالقيمة أو تخيير

ص: 648


1- المبسوط 61:3.
2- كما في الشرائع 240:3، التحرير 139:2، التذكرة 384:2، المختلف 122:6، الدروس 116:3، و الكفاية: 258.
3- المبسوط 60:3.
4- الغنية: 278.
5- السرائر 480:2.
6- المبسوط 99:3-100.
7- المختلف 135:6.
8- صرّح به المحقّق القمىّ في جامع الشتات 543:2-544.
9- المكاسب 216:3.
10- جامع المقاصد 250:6.

المالك أو تخيير الضامن ؟.

فقد يقال: لا يبعد أن يقال: إنّ الأصل تخيير الضامن لأصالة براءة ذمّته عمّا زاد على ما يختاره، إلّا أن يقوم الإجماع على خلافه، فالأصل تخيير المالك لأصالة عدم براءة ذمّته بدفع ما لا يرضى به المالك.

و يخدشه: أنّ المقام ليس من الشكّ من التكليف، و لا ممّا يؤول إليه من الشكّ في المكلّف به كما لو دار الأمر فيه بين الأقلّ و الأكثر، بل من الشكّ في المكلّف به الدائر بين المتباينين و هما الضمان بالمثل أو بالقيمة، نظراً إلى أنّ المثل من حيث مثليّته في مقابل القيمة، لا باعتبار قيمته ليئول مع القيمة المقابلة له إلى الأقلّ و الأكثر، فلا يجري أصل البراءة بل الأصل هو تخيير المالك لأصالة الاشتغال، فإنّ يقين الشغل بأداء عوض العين التالفة يستدعي يقين البراءة، و لا يحصل إلّا بأداء ما يرضى به المالك فيجب.

و يخدشه أيضاً: أنّ الضابط في جريان أصل الاشتغال وجود القدر المتيقن ممّا يحصل به الامتثال و هو غير موجود في محلّ المقال، لدوران الأمر بين المحذورين، و هما تعيين المثل بحيث لم يكن للمالك مطالبة القيمة و لا للضامن الامتناع منه، و تعيين القيمة بحيث لم تكن للمالك مطالبة المثل و لا للضامن الامتناع منها، فلا يمكن البراءة اليقينيّة.

و قيل: يمكن أن يقال: إنّ القاعدة المستفادة من إطلاقات الضمان في المغصوبات و الأمانات المفرّط فيها و غيرها هو الضمان بالمثل لأنّه أقرب إلى التالف من حيث الماليّة و الصفات، ثمّ بعده بقيمة التالف من النقدين و شبههما لأنّه أقرب إليه من حيث الماليّة، و لأجل الاتّكال إلى هذا الظهور أهمل الشارع بيان الحكم للموارد المشتبهة مع عموم البلوى بها.

أقول: و يساعد عليها ظاهر خبر «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه» فإنّ الثقل المستفاد من كلمة على - كما قرّرناه - مستصحب إلى أن يحصل التأدية بما هو أقرب إلى العين في الماليّة و الصفات، و مع تعذّره يعدل إلى ما هو أقرب إليه في الماليّة و هو القيمة. فقد تلخّص من جميع ما ذكرناه أنّ ما أجمع على كونه مثليّاً يضمن بالمثل و تعني به ما يماثل التالف و يشابهه في الجنس و النوع و الصنف و الصفات الّتي لها مدخليّة في الرغبات، سواء ساوى قيمته قيمة التالف أو نقص عنها أو زاد عليها.

ص: 649

و توهّم: الضرر على المالك في صورة نقصان القيمة، يدفعه أنّ ماله الّذي في ذمّة الضامن هو المثل كائناً ما كان لا القيمة. كما أنّ توهّم لزومه على الضامن في صورة الزيادة، يندفع بأنّ ما خوطب بردّه هو ذلك لا القيمة نظير الدين في ذمّة المديون في القرض، فإنّ اختلاف القيمة لا يعدّ ضرراً.

و ما أجمع على كونه قيميّاً يضمن بالقيمة و إن وجد له مثل أو كان مثله في ذمّة الضامن، لعدم كون بنائهم فيه على التهاتر القهري.

و ما يشكّ في كونه قيميّاً أو مثليّاً يلحق بالمثلي. و قد يقيّد بعدم اختلاف قيمتي المدفوع و التالف، و أمّا مع الاختلاف فيلحق بالقيمي. و وجهه غير واضح، و لعلّه ما تقدّم في وجه أصالة الضمان بالمثل من كون مناطه كون المثل أقرب إلى التالف في الماليّة، فإذا نقص المثل من حيث القيمة وجب العدول إلى قيمة التالف رعاية إلى الأقرب إليه من حيث الماليّة.

و يشكل بأنّ مناط الأصل المذكور هو الأقربيّة من حيث الماليّة و الصفات معاً، و العدول إلى القيمة فيما نحن فيه و إن كان محصّلاً للأقربيّة من حيث الماليّة إلّا أنّه مفوّت للأقربيّة من حيث الصفات، و قد يكون مطلوب المالك المرغوب فيه عنده هو الصفات لا الماليّة، كما أنّه قد يكون مطلوبه المرغوب فيه هو الماليّة لا الصفات، فلا بدّ من طرح إحدى الأقربيّتين فيما نحن فيه، و الطرح ليس من وظيفة الضامن بل من وظيفة المالك، لأنّ كلاًّ منهما في صورة الإمكان حقّه، فالوجه حينئذٍ إناطة تعيين أحد الأمرين من المثل الموافق للتالف في الصفات أو القيمة الموافقة لها في الماليّة باختيار المالك هذا، مضافاً إلى أصالة عدم براءة ذمّة الضامن بدفع ما لا يرضى به المالك.

نعم يمكن أن يقال: إنّ العبرة في أقربيّة المثل إلى التالف ليست بالماليّة و القيمة، بل بالمماثلة و المشابهة له في الجنس و النوع و الصنف و الصفات، و مع وجود المثل بهذا المعنى كان مال المالك المضمون به و لا يتسلّط على مطالبة غيره و لو مع اختلاف القيمتين و نقصان قيمة المثل عن قيمة التالف، و لذا حكموا على ما حكي بأنّ تنزّل قيمة المثل حين الدفع عن يوم التلف لا يوجب الانتقال إلى القيمة، بل عن بعضهم أنّه احتمل ذلك مع سقوط المثل في زمان الدفع عن الماليّة كالماء عند شاطئ البحر و الثلج في

ص: 650

الشتاء. و على هذا كلّه فللمالك مطالبة مثل ماله في كلّ مكان يكون و لو في غير مكان التلف، لعموم «الناس مسلّطون» من غير فرق في صورة اختلاف المكانين بين كون قيمته في مكان المطالبة أزيد من قيمته في مكان التلف أو لا، كما حكي عن ظاهر السرائر(1) و التذكرة(2) و الإيضاح(3) و الدروس(4) و جامع المقاصد(5) و عن السرائر «أنّه الّذي يقتضيه عدل الإسلام و الأدلّة و اُصول المذهب.

و على هذا فما عن القواعد من «أنّه لو لم يوجد المثل إلّا بأكثر من ثمن المثل ففي وجوب الشراء تردّد»(6) لا وجه له، بل الوجه هو وجوب الشراء و إن صار قيمته أضعاف قيمة التالف يوم تلفه، سواء كان صيرورته كذلك لارتفاع قيمته السوقيّة أو لعدم وجوده إلّا عند من يبيعه بأكثر من ثمن المثل و لو لعناد أو غرض آخر له، و عن الخلاف نفي الخلاف، و إطلاقه يشمل الصورتين قائلاً: «إذا غصب ماله مثل كالحبوب و الادهان فعليه مثل ما تلف في يده يشتريه بأيّ ثمن كان بلا خلاف»(7) و يدلّ عليه إطلاق النصّ و الفتوى، و يؤيّده فحوى حكمهم بأنّ تنزّل قيمة المثل حين الدفع عن يوم التلف لا يوجب الانتقال إلى القيمة. و توهّم: الفرق بين الصورتين بدعوى إمكان التردّد في الصورة الثانية تعليلاً بأنّ بذل ما يزيد مالك المثل بإزائه يعدّ ضرراً في العرف، تحكّم.

المسألة السابعة: لو تعذّر المثل في المثلي
اشارة

فله صور:

الاُولى: أن يتواطأ المالك و الضامن على القيمة فلا إشكال فيه، لعموم «الناس مسلّطون على أموالهم» المقتضي لسلطنة المالك على إبدال ماله في ذمّة الضامن بقيمته، و إذا دفعها الضامن برئت ذمّته.

الثانية: أن يتواطآ على الصبر و الانتظار إلى أن يوجد المثل و إن طال مدّة الصبر، فإذا وجد وجب دفعه. و لا إشكال فيه، لأجل العموم المذكور، و أصالة براءة الضامن عن القيمة.

الثالثة: أن يطالب المالك قيمة المثل المتعذّر في العاجل و الضامن لا يرضى بها آمراً له بالصبر إلى أن يوجد المثل تعليلاً بأنّ حقّك فيه لا في القيمة، فقد يقال: بأنّ مقتضى القاعدة مع مطابقة المالك وجوب دفع القيمة، لأنّ منع المالك ظلم و إلزام

ص: 651


1- السرائر 480:2.
2- التذكرة 383:2.
3- الإيضاح 178:2.
4- الدروس 113:3.
5- جامع المقاصد 260:6.
6- القواعد 227:2-228.
7- الخلاف 415:3 المسألة 29.

الضامن بالمثل منفيّ بالتعذّر فوجبت القيمة جمعاً بين الحقّين، و لقوله تعالى: «فَمَنِ اِعْتَدىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اِعْتَدىٰ عَلَيْكُمْ » (1) فإنّ الضامن إذا اُلزم بالقيمة مع تعذّر المثل لم يعتد عليه أزيد ممّا اعتدى.

أقول: إن كان إجماعاً فلا كلام، و إلّا ففيه نظر، لضعف الوجهين:

أمّا القاعدة فلأنّ منع المالك عن مطالبته للصبر و الانتظار إلى وجود المثل الّذي حقّه فيه لو كان ظلماً، فإلزام الضامن بدفع القيمة مع كون ما في ذمّته المثل لا القيمة أولى بكونه ظلماً، بل الإنصاف أنّ الثاني ظلم دون الأوّل، بل هو كإنظار المديون المعسر إلى اليسار، نعم منع المالك عن حقّه مطلقاً حتّى المثل المتعذّر في زمان وجوده ظلم.

و أمّا الآية فلأنّها على تقدير وفائها بالضمان المالي فمفادها الرخصة في الاعتداء بمثل ما اعتدى، لا المنع من أزيد ممّا اعتدى، و قد بيّنّا سابقاً أنّ المثل في متفاهم العرف ظاهر فيما يماثل الشيء و يشابهه من جميع الجهات، فلا يشمل القيمة فالإلزام بها و إن لم يصدق عليه الاعتداء بأزيد ممّا اعتدى إلّا أنّه لم يصدق عليه الاعتداء بمثل ما اعتدى، فالرخصة المستفادة من الآية لا يشملها.

لا يقال: إنّ المنع عن الاعتداء بأزيد ممّا اعتدى ينساق من تبادر المماثلة في المقدار من المثل، لأنّ هذا المتبادر من جملة الجهات الّتي يتبادر من المثل المماثلة فيها، و من جملتها الجنس و النوع و المثل و الصفات الّتي لها مدخليّة في الرغبات.

الرابعة: أن لا يطالب المالك قيمة ماله بل يصبر إلى وجود المثل، و لكنّ الضامن لا يرضى به بل يريد دفع القيمة، هل له إلزام المالك بقبولها؟ الظاهر العدم، لأصالة بقاء حقّ المالك في المثل، و عدم سقوط حقّه عن المثل مع عدم الدليل على إلزامه بقبولها.

و قد يعلّل أيضاً بأنّ المتيقّن أنّ دفع القيمة علاج لمطالبة المالك، و جمع بين حقّه بتسليطه على المطالبة و حقّ الضامن بعدم تكليفه بالمعذور أو المعسور، أمّا مع عدم المطالبة فلا دليل على سقوط حقّه عن المثل.

و هذا مبنيّ على تماميّة القاعدة المذكورة في الصورة السابقة، و قد سمعت المناقشة

ص: 652


1- البقرة: 149.

فيها. و أمّا عدم الدليل على سقوط حقّ المالك عن المثل فحقّ لا سترة عليه.

ثمّ بعد ما وجبت القيمة إمّا للتواطؤ أو على القول بوجوبها مع مطالبة المالك مطلقاً، فهل المعتبر فيها قيمة يوم الدفع، أو قيمة يوم التعذّر، أو قيمة يوم المطالبة، أو قيمة يوم تلف العين ؟ احتمالات، و ربّما يذكر فيه احتمالات اُخر سيأتي بيانها، إلّا أنّ المشهور كما حكي(1) المنسوب إلى الأكثر و هو الأقوى كون العبرة فيها بقيمة يوم الدفع، كما نسب التصريح به إلى المحقّق(2) و هو ظاهر المحكيّ عن التذكرة(3)و الإيضاح(4) و هو أنّ المثل لا يسقط بالإعواز، أ لا ترى أنّ المغصوب منه لو صبر إلى زمان وجدان المثل ملك المطالبة به و إنّما المصير إلى القيمة وقت تغريمها(5) انتهى.

و علّل الحكم بأنّ المثل ثابت في الذمّة إلى ذلك الزمان و لا دليل على سقوطه بتعذّره كما لا يسقط الدين بتعذّر أدائه، و هو المستفاد أيضاً من عبارتي التذكرة و الإيضاح لمكان قولهما «لو صبر إلى زمان وجدان المثل ملك المطالبة به» و فيه نوع قصور.

و الأولى أن يقال: إنّ انتقال المثل المضمون به المفروض تعذّره إلى القيمة إنّما هو بإبداله بالقيمة، و هو إنّما يتحقّق في زمان الدفع الّذي هو وقت إقباض القيمة.

و عن جماعة كالحلّي في البيع الفاسد(6) و العلّامة في التحرير في باب القرض(7)و المسالك(8) اعتبار قيمة يوم التعذّر، و علّلوه بأنّه وقت الانتقال إلى القيمة.

و فيه من المصادرة على المطلوب ما لا يخفى، مع توجّه المنع إلى دعوى كونه وقت الانتقال إلى القيمة، فإنّ الانتقال إليها مبنيّ على الإبدال و هو يتحقّق في وقت الدفع، كما في انتقال الزكاة المتعلّقة بالعين إلى ذمّة المالك بتقبّلها بقيمتها الّذي يوجب الانتقال إلى القيمة في الذمّة وقت التقبّل، فيكون العبرة فيها بقيمة ذلك الوقت.

و ممّا بيّنّاه ينقدح ضعف احتمال كون العبرة بقيمة يوم المطالبة، إذ الانتقال إلى القيمة إذا كان منوطاً بالإبدال فهو لا يتحقّق بمجرّد مطالبة المالك، غاية الأمر أنّه

ص: 653


1- حكاه السيّد المجاهد في المناهل: 8.
2- القواعد 226:2.
3- التذكرة 383:2.
4- الإيضاح 175:2.
5- الإيضاح 175:2.
6- السرائر 285:2.
7- تحرير الأحكام 200:1.
8- المسالك 174:3.

يستحقّ مطالبتها و هي بمجرّدها لا توجب الانتقال المذكور بحيث ينقلب المثل المضمون قيمته في الذمّة.

على أنّا نقول في توضيح بطلان هذا الاحتمال و سابقه: إنّ القيمة المنتقل إليها إمّا قيمة المثل المتعذّر، أو قيمة العين التالفة، فإن كان الأوّل فلا مناص من اعتبار قيمة يوم الدفع لأنّه لا يسقط عن الذمّة و لو بحكم الأصل إلّا بأداء عوضه و هو القيمة، و إن كان الثاني فلا محيص من اعتبار قيمة يوم تلف العين، فالواسطة من اعتبار قيمة يوم المطالبة و اعتبار قيمة يوم التعذّر منتفية.

و من ذلك ظهر بطلان اعتبار أعلى القيم بجميع محتملاته. و ما ذكرناه من المختار هو مقتضى الأصل و القاعدة، و لا يقدح فيه لو ثبت اعتبار شيء ممّا عدا قيمة يوم الدفع بدليل خاصّ في بعض الفروض، فإنّه من باب تخصيص القاعدة.

و أمّا تحقيق أنّ القيمة المنتقل إليها هو قيمة المثل المتعذّر لا قيمة العين التالفة، فلأنّ كونها قيمة العين التالفة معناه كون المضمون به من حيث تلف العين هو القيمة لا المثل، و هذا لا يتمّ إلّا بدعوى انقلاب المثلي في مسألة تعذّر المثل قيميّاً. و هذه الدعوى لكونها على خلاف مقتضى دليل كون ضمان المثلي بالمثل تحتاج إلى دليل و لا دليل عليها. و توهّم: الدليل عليها من فرض كون تعذّر المثل حاصلاً من حين تلف العين، بتقريب أنّ الخطاب بردّ المثل حينئذٍ مع تعذّره تكليف بالممتنع و هو قبيح، فهذا الخطاب بقبحه ساقط و لازمه توجّه الخطاب إلى ردّ القيمة و لا يعنى من انقلاب المثلي قيميّاً إلّا هذا. يدفعه: أنّ هذا مع أنّه لا يتّفق إلّا في فرض نادر لا يوجب التكليف بالممتنع إلّا إذا فرض المثل المتعذّر من حين تلف العين بحيث لا يرجى وجوده في الأزمنة المتأخّرة أيضاً بأن يكون تعذّره دائميّاً، إذ مع كونه بحيث يوجد في الأزمنة المتأخّرة لا يكون الخطاب به تكليفاً بالممتنع، إذ ليس المراد من الخطاب به أداؤه حال تعذّره بل أداؤه حين يوجد، نظير الأمر المشروط بالفعل حال عدم وجوده الّذي لا يقصد منه الإتيان بالفعل حال عدم وجود الشرط بل الإتيان به بعد وجود الشرط، فإذا فرض الانقلاب المذكور في صورة التعذّر الدائمي فنحن نلتزم به إلّا أنّه لا يوجب كون الحكم الكلّي في مسألة تعذّر المثل في المثلي هو الانتقال إلى القيمة على أنّها

ص: 654

قيمة العين التالفة لا قيمة المثل المتعذّر، بل غايته أنّه حكم جزئي يلتزم به في بعض الفروض النادرة بدليله من باب تخصيص القاعدة المذكورة حسبما أشرنا إليه.

و لكن العلّامة في القواعد قال في باب الغصب: «و لو تلف المثلي في يد الغاصب و المثل موجود فلم يغرّمه حتّى فقد ففي القيمة المعتبرة احتمالات:

الأوّل: أقصى قيمته من يوم الغصب إلى التلف، و لا اعتبار بزيادة قيمة الأمثال.

الثاني: أقصى قيمته من وقت تلف المغصوب إلى الإعواز.

الثالث: أقصى القيم من وقت الغصب إلى الإعواز.

الرابع: أقصى القيم من وقت الغصب إلى وقت دفع القيمة.

الخامس: القيمة يوم الإعواز».

و قال المحقّق الثاني في ترجيح الاحتمال الخامس: «هذا هو الأصحّ ، لأنّ الواجب هو المثل، فإذا دفع بدله اعتبرت البدليّة حين الدفع فحينئذٍ يعتبر القيمة»(1) انتهى.

و العلّامة هاهنا لم يرجّح شيئاً إلّا أنّه قبل أن يذكر عنوان هذه الاحتمالات بأسطر متضمّنة لذكر فروع قال: «و غير الحيوان يجب ضمانه بالمثل إن كان مثليّاً، و هو ما تتساوى قيمة أجزائه، فإن تعذّر فالقيمة يوم الإقباض لا الإعواز»(2) و علّله المحقّق المذكور في شرحه بما يوافق ما ذكره في وجه ترجيح الاحتمال الخامس بقوله: «و ذلك لأنّ الواجب في الذمّة هو المثل فعند إرادة التسليم ينتقل إلى القيمة لو تعذّر المثل، فلو وجبت القيمة وقت الإعواز لكان إذا تمكّن من المثل بعد الإعواز و لم يسلّم العوض لا يجزئ تسليم المثل، لاستقرار القيمة في الذمّة و الأصل بقاؤها و التالي بطلانها»(3) انتهى.

و الظاهر أنّه فرض التعذّر هاهنا أيضاً بعد وجوده حال تلف العين، فالموضعان سيّان من حيث كون المفروض ما إذا طرأ تعذّر المثل بعد وجوده في بعض أزمنة التلف، لا ما تعذّر المثل ابتداءً من حين التلف.

ثمّ إنّ الظاهر أنّ ضمير «قيمته» في الاحتمال الأوّل يعود إلى المثل كما فهمه المحقّق المذكور، لا إلى «المغصوب» لشهادة وحدة سياق الاحتمالات الخمس من حيث إنّ

ص: 655


1- جامع المقاصد 255:6.
2- القواعد 226:2.
3- جامع المقاصد 245:6.

المبحوث عنه المطلوب معرفة قيمته هو المثل، و لا ريب أنّ ضمير «قيمته» في الاحتمال الثاني ظاهر كالصريح في العود إلى المثل، كما أنّ القيمة في بقيّة الاحتمالات ظاهرة في قيمة المثل فيبعد إرجاعه إلى المغصوب كما عن الشارحين، مضافاً إلى استلزامه الاستخدام فيه و في ضمير الاحتمال الثاني، و هو خلاف ظاهر لا داعي إلى ارتكابه.

و الاستشهاد له بقوله: «و لا اعتبار بزيادة قيمة الأمثال» مع قوله: «من يوم الغصب إلى يوم التلف» بدعوى أنّ المفهوم منه من يوم غصبه إلى يوم تلفه.

يدفعه: أنّ المثل المتعذّر بعد ما كان جارياً مجرى المغصوب في الوجوب، و تعذّره جارياً مجرى تلف المغصوب كما عليه مبنى الاحتمال الأوّل على ما ستعرفه، صحّ أن يقال: إنّ المعتبر زيادة قيمته من وقت الغصب إلى يوم التلف. و لا اعتبار بزيادة قيمة الأمثال، و لا ينافيه كون المفهوم من يوم الغصب إلى يوم التلف من يوم غصبه إلى يوم تلفه كما لا يخفى على المتدبّر.

و ممّا يؤيّد ما رجّحناه عبارة التذكرة فإنّه على ما حكي قال في بيان الاحتمال الأوّل: «إنّ الواجب أقصى قيمته من يوم الغصب إلى التلف و لا اعتبار بزيادة قيمة أمثاله بعد تلفه كما في المتقوّمات، و لأنّ المثل جارٍ في الوجوب مجرى المغصوب، فإذا تعذّر صار بمنزلة تلف المغصوب، و المغصوب إذا وجب قيمته وجب أكثر ما كانت من حين الغصب إلى حين التلف»(1) انتهى. قال المحقّق المذكور: و التعليل الثاني كالصريح في أنّ المراد قيمة المثل.

و كيف كان فقد عرفت أرجح الاحتمالات، و أقواها هو الاحتمال الخامس، و قد سمعت وجهه. و أمّا الاحتمالات الأربع الاُولى فقد ذكر لها وجوه مزيّفة:

فوجه الاحتمال الأوّل ما ذكره العلّامة في العبارة المتقدّمة المحكيّة عن التذكرة و ملخّصه: أنّ المثل في مسألة التعذّر يجري مجرى المغصوب في الوجوب، و تعذّره بمنزلة تلف المغصوب، و حكم المغصوب أنّه إذا تلف و وجب قيمته وجب أعلى قيمه من حين الغصب إلى وقت التلف.

ص: 656


1- التذكرة 383:2.

و فيه: منع المقدّمتين، أمّا المقدّمة الاُولى فلأنّ المثل يجري مجرى المغصوب في الوجوب من حين تلف المغصوب لا من حين غصبه، و أمّا المقدّمة الثانية فلمنع كون تعذّر المثل بمنزلة تلف العين إلّا أنّه كان تعذّره ابتداءً من حين تلف المغصوب و لا يرجى وجوده فيما بعد أصلاً، فحينئذٍ ينقلب المثلي قيميّاً فيجب أعلى قيمه من يوم الغصب إلى يوم التلف، لا إذا طرأ تعذّره بعد ما كان موجوداً حال تلف المغصوب، و لذا لو تمكّن من المثل بعد ذلك كان للمالك مطالبته و يجب على الضامن تأديته، فما دام لم يأخذ المالك القيمة فالمثل باقٍ في الذمّة، و تعذّره لا يسقطه عن الذمّة و لو بحكم الاستصحاب و أصالة البقاء.

و وجه الاحتمال الثاني ما قرّره المحقّق المذكور من «أنّ انتقال الحكم إلى البدل الّذي هو المثل إنّما هو حين تلف المغصوب، إذ مع وجوده يجب ردّه و بعد تعذّره انتقل الفرض إلى القيمة»(1) انتهى.

و فيه: أنّ انتقال الحكم إلى المثل حين تلف المغصوب و إن كان مسلّماً إلّا أنّه لا ينتج اعتبار أعلى القيم من ذلك الحين إلى التعذّر، إلّا بانضمام مقدّمة اُخرى إليه، و هي كون تعذّر المثل بمنزلة تلفه، و هذا التنزيل موضع منع لعدم الدليل عليه.

و وجه الاحتمال الثالث: ما ذكره أيضاً بقوله: «و وجهه يعلم من الوجهين في الاحتمالين الأوّلين، فإنّ المثل لمّا جرى مجرى المغصوب كانت قيمته في جميع أزمان ضمان المغصوب مضمونة إلى زمان تعذّره»(2) و ملخّصه: أنّ المثل جارٍ مجرى المغصوب في وجوبه من حين الغصب و تعذّره بمنزلة تلفه.

و فيه: منع المقدّمتين، و سند المنع ما عرفت من أنّ المثل إنّما يجب حين تلف المغصوب لا من حين غصبه، و إنّ تعذّر المثل لا يوجب سقوطه عن الذمّة كما عرفت فهو مستصحب فيها إلى أن يحصل المسقط، و مسقطه القيمة يوم الإسقاط، و هو يوم الدفع لا يوم التعذّر.

و وجه الاحتمال الرابع: ما ذكره أيضاً من «أنّ قيمة المثل معتبرة من زمان وجوبه

ص: 657


1- التذكرة 383:2.
2- جامع المقاصد 255:6.

أو وجوب مبدله فإنّها مضمونة لضمان أصلها، فيجب الأقصى تفريعاً على إيجاب أعلى القيم في القيمي»(1).

و فيه: منع التفريع لعدم دليل عليه، و منع كون قيمة المثل معتبرة من زمان وجوبه أو وجوب مبدّله، و منع كونها مضمونة لضمان أصلها بل المضمون من حين تلف المضمون هو المثل، و لا يسقط بتعذّره بل بالإسقاط في زمانه و هو يوم الإقباض لا الإعواز.

ثمّ إنّه قد عرفت أنّ المأخوذ في عنوان الاحتمالات المذكورة في عبارة القواعد صورة وجود المثل حين تلف المغصوب ثمّ إعوازه في بعض أزمنة ما بعد التلف، و قضيّة ذلك عدم جريان الاحتمالات فيما لو تعذّر المثل ابتداءً على معنى حصول التلف حال إعواز المثل و تلفه. و في جامع المقاصد أنّه يتعيّن حينئذٍ قيمة يوم التلف على معنى قيمة التالف يوم تلفه، و كأنّه لانقلاب المثلي حينئذٍ قيميّاً، و وجّه بعدم تنجّز التكليف بالمثل عليه في وقت من الأوقات. و يرد عليه أنّه يتمّ كما ذكرناه سابقاً في الإعواز الدائمي و إلّا فلا حجر من التكليف به كما في الأمر المشروط بالفعل حال عدم وجود الشرط.

و على هذا فما قيل في وجه عدم تنجّز التكليف به من «أنّ أدلّة وجوب المثل ظاهرة في صورة التمكّن و إن يكن مشروطاً به عقلاً فلا تعمّ صورة العجز، نعم إذا طرأ العجز فلا دليل على سقوط المثل و انقلابه قيميّاً» إن اُريد به عدم شمولها صورة العجز الدائمي لظهورها في صورة التمكّن من المثل ابتداءً و إن طرأ العجز بعده أو التمكّن منه بعد إعوازه و تعذّر فحسن، و إلّا فغير جيّد.

و لذا اُورد على المحقّق فيما ذكره «من تعيّن قيمة التالف يوم تلفه لصورة تعذّر المثل ابتداءً » من أنّ اللازم ممّا ذكره أنّه لو ظفر المالك بالمثل قبل أخذ القيمة لم يكن له مطالبته، و لا يظنّ على أحد أنّه يلتزمه.

و الظاهر أنّه إيراد على إطلاق كلامه و إلّا فمع الإعواز الدائمي لو اتّفق لا يجري عثور المالك بالمثل حتّى ينظر في حكمه، و أنّه هل له مطالبته أم لا؟

ص: 658


1- جامع المقاصد 255:6.
ثمّ بقي من مسألة انتقال الحكم من المثلي إلى القيمة لتعذّر المثل اُمور ينبغي ذكرها من باب الفروع:
الأوّل: أنّ الموجب لانتقال الحكم هل هو إعواز المثل أو تعذّره ؟

احتمالان، نظراً إلى اختلاف عبارات الأصحاب في التعبير تارةً بالإعواز و اُخرى بالتعذّر، حتّى أنّ العلّامة في عبارة القواعد عبّر ب «الإعواز» كما سمعت، و في عبارة التذكرة عبّر ب «التعذّر» و المحقّق الثاني(1) في شرح عبارة القواعد المشتملة على ذكر الاحتمالات الخمس المتقدّمة عبّر مكان الإعواز ب «التعذّر».

و الفرق بينهما أنّ الإعواز بحسب المفهوم أخصّ من التعذّر، لأنّ التعذّر قد يكون بغير إعواز كما لو كان المثل موجوداً عند من لا يبيعه و لو بأزيد من ثمن المثل.

و يمكن أن يقال بأنّ اختلاف العبارات في مجرّد التعبير لا في المعنى، إمّا بإرجاع الإعواز إلى معنى التعذّر، أو بإرجاع التعذّر إلى معنى الإعواز. و الأظهر الأوّل لوحدة المناط، فإنّ مناط انتقال الحكم عدم التمكّن من أداء المثل و لو كان لعدم إمكان الوصلة إليه مع فرض وجوده عند من لا يبيعه أصلاً.

الثاني: أنّ المراد بإعواز المثل على ما عن العلّامة في التذكرة «أن لا يوجد في البلد و ما حوله»

الثاني: أنّ المراد بإعواز المثل على ما عن العلّامة في التذكرة «أن لا يوجد في البلد و ما حوله»(2)

و عن المسالك(3) «أنّه زاد قوله ممّا ينقل عادةً منه إليه» و يشكل بأنّ هذا التحديد ممّا لا دليل عليه من نصّ أو إجماع فلا يكون مقبولاً.

و عن جامع المقاصد «الرجوع فيه إلى العرف» و هذا أيضاً غير واضح، لأنّ الرجوع إلى العرف إنّما يستقيم في معرفة موضوعات الأحكام المأخوذة في النصوص أو معاقد الإجماعات، و الإعواز لم يرد ذكره في نصّ بل هو واقع في كلام الفقيه. نعم لو ثبت الإجماع على انتقال الحكم إلى القيمة عند إعواز المثل كان للإرجاع إلى العرف وجه، و لكنّه غير واضح.

فالوجه حينئذٍ ما قيل: من أنّ مقتضى عموم «وجوب أداء مال الناس»(4)

ص: 659


1- جامع المقاصد 254:6-255.
2- التذكرة 383:2.
3- المسالك 183:12.
4- الوسائل 1/385:25، ب 1 من أبواب الغصب، التهذيب 541/225:6.

و «تسلّطهم على أموالهم»(1) أعياناً خارجيّة كانت أم أعواضاً في الذمّة وجوب تحصيل المثل أينما كان و لو كان في تحصيله مئونة كثيرة، و لذا يجب شراؤه على تقدير وجوده بأيّ ثمن يكون(2). و يؤيّده أنّ العلماء إذا كانوا بين معبّر بالإعواز و معبّر بالتعذّر كان المتيقّن الرجوع إلى الأخصّ و هو التعذّر لأنّه المجمع عليه.

و قد يستأنس لما عن التذكرة بما ورد في بعض أخبار السّلَم(3) من أنّه إذا لم يقدر المسلم إليه على إيفاء المسلم فيه تخيّر المشتري، إذ من المعلوم أنّ المراد بعدم القدرة ليس التعذّر العقلي المتوقّف على استحالة النقل من بلد آخر، بل الظاهر منه عرفاً ما عن التذكرة(4) و فيه نظر.

الثالث: أنّ المثل إذا كان معدوماً في صورة الإعواز،

فقيمته لدفعها إنّما تعرف بتقدير وجوده، و قد يشكل الأمر فيما اختلف قيمته بحسب اختلاف حالاته على تقدير وجوده الدائرة بين العزّة و الابتذال و المتوسّط بينهما، كالعنب مثلاً في أوائل بلوغه و أواخر شيوعه و المتوسّط بينهما، و له في كلّ حالة قيمة و أعلى قيمه قيمة حالة عزّته، و الظاهر أنّ العبرة بقيمة حالة عزّته تحصيلاً للمبرئ اليقيني، فإنّ المثل على مفروض المسألة لا يسقط عن الذمّة إلّا بإسقاط، و مسقطه المبرا لها دفع القيمة و المتيقّن منه إنّما هو قيمة حالة العزّة.

و لكن ينبغي أن يراعى العادة في كلّ من وجوده المقدّر و قيمته المفروضة، بأن يقدّر وجوده في زمان يعتاد وجوده فيه و لو عزيزاً فلا يكفي الوجود الغير المعتاد كبعض الفواكه الّذي يقتنى إلى غير موسمه الّذي يعتاد وجوده فيه، و أن يكون القيمة المفروضة له بحيث يعتاد بذلها في البيع و الشرى لغرض عادي يرغب لأجله الراغبون

ص: 660


1- عوالي اللآلئ: 99/222.
2- المكاسب 235:3-236.
3- الوسائل 7/305:18، ب 1 أبواب السلف، التهذيب 124/29:7.
4- التذكرة 383:2.

في بيع هذا الجنس و شرائه، فلا عبرة بتقدير وجوده عند من يستغني عن بيعه بحيث لا يرغب في بيعه إلّا بعوض لا يرغب في بذله الراغبون في هذا الجنس بمقتضى رغبتهم إلّا لغرض غير عادي الجأهم إلى بذل هذا العوض، مثل مداواة مريض مشرف على الهلاك أو إهدائه إلى سلطان و نحوه، بل لو وجد هذا الفرد من المثل لم يقدح في صدق التعذّر الموجب لانتقال الحكم إلى القيمة، و من هنا ما قيل: «من أنّ كلّ موجود لا يقدح وجوده في صدق التعذّر لا عبرة بتقدير وجوده عند عدمه»(1).

الرابع: قد تقدّم أنّ المثل في صورة وجوده و تمكّن الضامن من أدائه فللمالك مطالبة الضامن به في أيّ مكان ظفر عليه

و لو في بلد آخر غير بلد الضمان الّذي هو بلد التلف، حتّى أنّه لو توقّف ردّه على شرائه وجب الشراء و لو بأزيد من ثمن المثل، و كذلك كان له المطالبة بالقيمة في صورة إعوازه بل تعذّره في أيّ مكان يكون و لو غير بلد الضمان و التلف، إلّا أنّ هذا الحكم على تقدير مساواة قيمتي بلد التلف و بلد المطالبة ممّا لا إشكال فيه. نعم يشكل الأمر فيما لو كان أحدهما مخالفاً للآخر في القيمة فهل يتعيّن قيمة بلد التلف، أو قيمة بلد المطالبة، أو أعلى القيمتين ؟ وجوه. أشار إليها بعض مشايخنا من غير ترجيح، و يمكن ترجيح الأخير تحصيلاً للمبرئ اليقيني حسبما بيّنّاه في الفرع الثالث.

ثمّ إنّه حكى شيخنا قدس سره عن مبسوط الشيخ تفصيلاً لا يكاد ينطبق على ما نحن فيه قال - عقيب ذكر الوجوه -: «و فصّل الشيخ في المبسوط(2) في باب الغصب بأنّه إن لم يكن في نقله مئونة كالنقدين فله المطالبة بالمثل سواء كانت القيمتان مختلفتين أم لا، و إن كان في نقله مئونة فإن كانت القيمتان متساويتين كان له المطالبة أيضاً، لأنّه لا ضرر عليه في ذلك، و إلّا فالحكم أن يأخذ قيمة بلد التلف أو يصبر حتّى يوفّيه بذلك البلد»(3) انتهى.

و فيه لأنّ ظاهر كلام الشيخ أنّه ذكر ذلك التفصيل لصورة وجود العين المغصوبة و بقائها في بلد الغصب و المالك ظفر على الغاصب في بلد آخر سواء كانت مثليّة أو قيميّة بدليل ضمان الحيلولة الّذي ذكره في آخر كلامه و غيره من القرائن الاُخر الّتي يجدها المتأمّل في كلامه، فإنّه قال: «إذا غصب منه مالاً مثلاً بمصر فلقيه بمكّة فطالبه به لم يخل من أحد أمرين: إمّا أن يكون لنقله مئونة، أو لا مئونة لنقله، فإن لم يكن لنقله

ص: 661


1- المكاسب 237:3.
2- المبسوط 76:3.
3- المكاسب 237:3-238.

مئونة كالأثمان فله مطالبته به سواء كان الصرف في البلدين مختلفاً أو متّفقاً لأنّه لا مئونة في نقله في العادة، و الذهب لا يقوّم بغيره و الفضّة لا تقوّم بغيرها إذا كانا مضروبين. و إن كان لنقله مئونة لم يخل من أحد أمرين: إمّا أن يكون له مثل، أو لا مثل له، فإن كان له مثل كالحبوب و الأدهان نظرت، فإن كانت القيمتان في البلدين سواء كان له مطالبته بالمثل لأنّه لا ضرر عليه في ذلك، و إن كانت القيمتان مختلفتين فالحكم فيما له مثل و فيما لا مثل له سواء، فللمغصوب منه إمّا أن يأخذ من الغاصب بمكّة قيمته بمصر، و إمّا أن يدع حتّى يستوفي منه ذلك بمصر لأنّ في النقل مئونة و القيمة مختلفة فليس له أن يطالبه بالفضل، فإن صبر فلا كلام، و ان أخذ القيمة ملكها المغصوب منه، و لم يملك الغاصب ما غصب، لأنّ أخذ القيمة لأجل الحيلولة لا بدلاً عن المغصوب كما لو غصب عبد فأبق فأخذنا منه قيمته فإنّ القيمة تملك منه، و لم يملك الغاصب العبد، فإن عاد إلى مصر و الشيء قائم بحاله انتقض ملكه عن القيمة الّتي أخذها و عاد إلى عين ماله كما قلناه في العبد الآبق»(1) انتهى.

و مراده من النقل الّذي قسّمه إلى ما لا مئونة له و ما له مئونة، هو نقل الشيء المغصوب من بلد الغصب إلى بلد المطالبة، فإن لم يكن له مئونة وجب على الغاصب المطلوب منه المال المغصوب بعينه نقله من بلد الغصب إلى بلد المطالبة، إذ المفروض أنّه لا ضرر عليه في نقله من جهة عدم مئونة فيه، فلا يتوهّم الانتقال إلى المثل لعدم تلف العين و لا ضرر في نقلها و لا إلى القيمة، لأنّ قيمة المسكوك من الذهب و الفضّة لا يكون إلّا مثله و قد لغى اعتباره حينئذٍ، فليتدبّر.

الخامس: هل يعدّ خروج المثل في المثلي عن الماليّة بسقوطه عن القيمة من إعوازه و تعذّره الموجب لانتقال الضمان منه إلى القيمة،

كالماء على شاطئ البحر إذا غصبه و أتلفه في مفازة له فيها قيمة، و الجمد في الشتاء إذا غصبه و أتلفه في الصيف أم لا؟ الأقوى الأوّل، بل هو المتعيّن كما جزم به بعض مشايخنا، و قال: «بل حكي(2) عن بعض نسبته إلى الأصحاب و غيرهم» قال: «و المصرّح به في محكيّ التذكرة(3)

ص: 662


1- المبسوط 76:3.
2- حكاه في مفتاح الكرامة 252:6 عن جامع المقاصد 258:6.
3- التذكرة 384:2.

و الإيضاح(1) و الدروس(2) قيمة المثل في تلك المفازة و في الصيف، و يحتمل آخر مكان أو زمان سقط المثل فيه عن المالية»(3).

السادس: لو أخذ المالك قيمة المثل بعد إعوازه أو تعذّره ثمّ تمكّن الضامن منه،

فالظاهر عدم عود المثل إلى الضمان لسقوطه عن الذمّة بدفع قيمته فعوده يحتاج إلى دليل و الأصل عدمه، وفاقاً لكلّ من تعرّض للمسألة كالعلّامة(4) و غيره(5) هذا على المختار من اعتبار قيمة يوم الدفع، و كذلك على قول من يزعم انقلاب المثلي قيميّاً بتعذّر مثله بل بطريق أولى، و أمّا على قول من يزعم أنّ تعذّر المثل بمنزلة تلفه فيصير المثل بذلك قيميّاً فقد يحتمل وجوب المثل عند وجوده و التمكّن من ردّه، لأنّ القيمة حينئذٍ بدل الحيلولة عن المثل، و سيأتي أنّ حكمه عود المبدل عند انتفاء الحيلولة، و فيه إشكال.

المسألة الثامنة: في القيمي المقبوض بالعقد الفاسد الّذي تقدّم أنّ ضمانه عند تلفه بالقيمة
اشارة

و حكي(6) عليه الاتّفاق، و يدلّ عليه الأخبار المتكثّرة المتفرّقة في كثير من القيميّات الّتي منها صحيحة أبي ولّاد الآتية في ضمان البغل، و منها رواية تقويم العبد، و منها رواية السفرة، و غير ذلك من الأخبار الكثيرة.

و ينبغي أن يعلم أنّه قد تقدّم في تعريف المثلي أنّ الأولى في تعريفه أن يقال: «إنّه ما وجد له ما يماثله و يشابهه من جميع الجهات حتّى الصفات الّتي لها مدخليّة في الرغبات، و قد ظهر من تضاعيف المسألة السابعة أنّ المثلي قد يتعذّر مثله و لا يوجد له المثل بالمعنى المذكور، و حينئذٍ صحّ أن يقال في ضابط المثلي: «إنّه ما يغلب فيه وجود

ص: 663


1- الإيضاح 177:2.
2- الدروس 113:3.
3- المكاسب 238:3.
4- القواعد 228:2.
5- كما في الدروس 113:3، المسالك 259:2، جامع المقاصد 255:6.
6- لم نعثر على حكاية الاتّفاق، نعم استظهر السيّد المجاهد عدم الخلاف بين الأصحاب المناهل: 298.

ما يماثله و يشابهه في جميع الجهات حتّى الصفات الّتي لها مدخليّة في الرغبات» فلا ينافيه ما يتّفق نادراً من إعواز المثل و عدم وجوده.

و على هذا فالقيمي بمقتضى المقابلة هو «ما يغلب فيه عدم وجود ما يماثله و يشابهه في جميع الجهات حتّى الصفات» فلا ينافيه ما يتّفق نادراً من وجود المثل له بالمعنى المذكور، خصوصاً في الكرباسات و غيرها ممّا يتّخذ منها الأثواب، خصوصاً ما كان المغصوب من الكرباس ذراع من ثوب و مثله من ذلك الثوب باقٍ موجود، فالمدار في كلّ من المثلي و القيمي على غلبة وجود المماثل و عدم وجوده، و قد عرفت حكم المورد النادر من المثلي من انتقال الحكم فيه من المثل إلى القيمة.

و أمّا المورد النادر من القيمي ففي انتقال الحكم فيه من القيمة إلى المثل إشكال:

من عدم الدليل عليه، و الأصل يقتضي عدمه.

و يخدشه أنّ الأصل المذكور إنّما يتّجه لو كان المضمون به من أوّل الأمر في القيمي الّذي وجد له مثل هو القيمة ثمّ ادّعي انتقال الضمان من القيمة إلى المثل، و ليس كذلك، لمكان الشكّ في شمول دليل كون ضمان القيمي بالقيمة لمثل هذا الفرض لكمال ندرته. و العمدة من دليله الإجماع المنقول و القدر المتيقّن من معقده ما لا يوجد له مثل، و الأخبار متفرّقة كلّ منها مخصوص بمورد خاصّ ، فليس فيها عموم أو إطلاق يتمسّك بهما على عموم الحكم لما وجد له نادراً مثل، فلا مجرى للأصل المذكور. و لمّا كانت المسألة من دوران المكلّف به بين المتباينين فلا يجري فيه أصل الاشتغال أيضاً، و أصل البراءة أيضاً أولى بعدم الجريان لعدم كون الشكّ ابتداءً في التكليف و لا أنّه يؤول إليه.

نعم يمكن إجراء الأصل المتقدّم في اشتباه المثلي و القيمي هنا، و يؤيّده آية «فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اِعْتَدىٰ » (1) و نفي الضرر(2) لما قيل من أنّ خصوصيّات الحقائق قد تقصد إلّا أن يحقّق إجماع على خلافه، و يؤيّده إطلاق الفتاوي في الضمان بالقيمة المتناول لصورة تيسّر المثل. و بالجملة فالمسألة قويّة الإشكال.

و كيف كان فقد اختلفوا في تعيين القيمة المضمون بها في القيميّات على أقوال، فعن الشيخين(3) و أتباعهما(4) اعتبار قيمة يوم التلف، و عن الشهيدين في الدروس(5)و الروضة(6) نسبته إلى الأكثر.

ص: 664


1- البقرة: 194.
2- الوسائل 5/429:25، ب 12 أبواب إحياء الموات، الكافي 8/294:5.
3- المبسوط 72:3، الخلاف 403:3 المسألة 14، المقنعة: 607.
4- المهذّب: 443:1، الوسيلة: 276، السرائر 325:2.
5- الدروس 113:3.
6- الروضة 41:7.

و عن جماعة منهم العلّامة في التحرير الاستدلال عليه «بأنّ الانتقال إلى البدل إنّما هو يوم التلف إذ الواجب قبله ردّ العين»(1).

و اورد عليه «بأنّ يوم التلف يوم الانتقال إلى القيمة، أمّا كون المنتقل إليها قيمة يوم التلف فلا»(2).

و يندفع: بأنّ القيمة المنتقل إليها ليست أمراً موهوماً و اعتباريّاً صرفاً، بل هو أمر مقدّر مع العين التالفة يعرفه أهل المعاملة، فالمراد بها قيمتها المقدّرة حين التلف الّتي يعرفها أهل المعاملة و لا تكون إلّا قيمة يوم التلف. و قد يقرّر الدفع بأنّ ضمان العين معناه كونها في عهدته حتّى يردّها، و إذا تلفت وجب تداركها ببدلها، و المراد بالبدل ما يعادلها و يساويها في الماليّة حال التلف و لا يكون إلّا قيمة يوم التلف، و على هذا فالأصل في كلّ قيمي أن يكون ضمانه عند تلفه بقيمة يوم التلف إلّا ما خرج منه بالدليل، فلا ينافيه كون ضمان المغصوب بقيمته يوم الغصب في قول، أو أعلى قيمة من يوم الغصب إلى يوم التلف لأنّه مخرج من الأصل بالدليل. نعم إن تمّ ما عن الحلّي من دعوى «الاتّفاق على كون المبيع بالبيع الفاسد بمنزلة المغصوب إلّا في ارتفاع الإثم»(3)كان كالمغصوب مخرجاً عن الأصل، للحوقه به في الحكم على القولين فيه. و على هذا فالأقوال في تعيين قيمة المبيع بالبيع الفاسد ثلاثة، أحدها ما عرفت، و الآخران كالقولين في المغصوب، و لمّا كان مدرك الحكم في المغصوب صحيحة أبي ولّاد جرى الحكم المستفاد منها في المبيع أيضاً، إمّا لاتّفاق الحلّي إن تمّ لأنّه اتّفاق على عدم الفصل بينه و بين المغصوب إلّا في ارتفاع الإثم، أو لما قيل من أنّ الصحيحة تكشف عن أنّ الضمان في القيميّات التالفة بقيمة يوم القبض سواء كان قبضاً عدوانيّاً كالغصب أو لا كما في المبيع بالبيع الفاسد.

و ينبغي ذكر الصحيحة بتمام فقراتها، و هي ما رواه الشيخ في الصحيح عن أبي ولّاد قال: «اكتريت بغلاً إلى قصر بني هبيرة ذاهباً و جائياً بكذا و كذا، و خرجت في طلب غريم لي، فلمّا صرت قرب قنطرة الكوفة خبّرت أنّ صاحبي توجّه إلى النيل، فتوجّهت

ص: 665


1- التحرير 139:2.
2- المناهل: 298.
3- السرائر 326:2.

إلى نحو النيل فلمّا أتيت النيل خبّرت أنّه توجّه إلى بغداد، فاتّبعته و ظفرت به و فرغت ممّا بيني و بينه، و رجعت إلى الكوفة، و كان ذهابي و مجيئي خمسة عشر يوماً، فأخبرت صاحب البغل بعذري، و أردت أن أ تحلّل منه فيما صنعت و اُرضيه، فبذلت له خمسة عشر درهماً فأبى أن يقبل، فتراضينا بأبي حنيفة، و أخبرته بالقصّة و أخبره الرجل، فقال لي: ما صنعت بالبغلة ؟ قلت: رجعته سليماً، قال: نعم، بعد خمسة عشر يوماً، قال:

فما تريد من الرجل ؟ قال: اُريد كراء بغلي فقد حبسه عليّ خمسة عشر يوماً، فقال: إنّي ما أرى لك حقّاً، لأنّه اكتراه إلى قصر بني هبيرة فخالف فركبه إلى النيل و إلى بغداد فضمن فيه البغل و سقط الكراء، فلمّا ردّ البغل سليماً و قبضته لم يلزمه الكراء، قال:

فخرجنا من عنده و أخذ صاحب البغل ليسترجع، فرحمته ممّا أفتى به أبو حنيفة و أعطيته شيئاً و تحلّلت منه، و حججت تلك السنة فأخبرت أبا عبد اللّه عليه السلام بما أفتى به أبو حنيفة، فقال: في مثل هذا القضاء و شبهه تحبس السماء ماءها و تحبس الأرض بركاتها، فقلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: فما ترى أنت جعلت فداك ؟ قال: أرى له عليك مثل كري البغل ذاهباً من الكوفة إلى النيل و ذاهباً من النيل إلى بغداد و مثل كري البغل من بغداد إلى الكوفة و توفّيه إيّاه، قال: قلت: جعلت فداك، فقد علفته بدراهم، فلي عليه علفه ؟ قال: لا، لأنّك غاصب، قال: أ رأيت لو عطب البغل أو أنفق أ ليس كان يلزمني ؟ قال: نعم، قيمة بغل يوم خالفته، قلت: فإن أصاب البغل عقرٌ أو كسر أو دَبَرٌ؟ قال:

عليك قيمة ما بين الصحّة و العيب يوم تردّه عليه، قلت: فمن يعرف ذلك ؟ قال: أنت و هو، إمّا أن يحلف هو فيلزمك و إن ردّ عليك اليمين فحلفت على القيمة لزمك ذلك، أو يأتي صاحب البغل بشهود يشهدون أنّ قيمة البغل حين اكترى كذا و كذا فيلزمك...»(1). الخبر.

و دلالته على اعتبار قيمة يوم الغصب في موضعين:

أحدهما: قوله «نعم قيمة بغل يوم خالفته» فإنّ يوم المخالفة هو يوم الغصب و هو اليوم الّذي توجّه فيه إلى نحول النيل. و لا يرد على تنوين «بغل» أنّه يفيد الاكتفاء بقيمة أيّ بغل و لو كان أدون من مورد السؤال، إذ الظاهر أنّ التنوين للعوض عوضاً عن

ص: 666


1- الوسائل 1/119:19، ب 17 أبواب الإجارة، التهذيب 943/215:7.

المضاف إليه و هو الضمير العائد إلى المالك، كضمير «خالفته» لا للتنكير، و التقدير قيمة بغله يوم خالفته.

و ثانيهما: قوله «و يشهدون أنّ قيمة البغل حين اكترى كذا و كذا» بناءً على أنّ حين الاكتراء هو يوم المخالفة، إذ الظاهر باعتبار قرينة المقام خروجه من الكوفة إلى القنطرة يوم الاكتراء، و ليس بين الكوفة و القنطرة الّتي هي محلّ المخالفة إلّا مسافة قليلة، فالاكتراء و المخالفة وقعا في يوم واحد.

و المراد بقيمة ما بين الصحّة و العيب تفاوت ما بين قيمتي الصحيح و المعيب الّذي يقال له الأرش.

و «يوم تردّه» ظرف لقوله «عليك» و يحتمل كونه قيداً للعيب فإنّه كثيراً يزداد يوماً فيوماً فيزداد نقصان قيمته معيباً في يوم الردّ بذلك يزداد التفاوت بين القيمتين.

قوله «فمن يعرف ذلك» يعني به كون التفاوت بين القيمتين مجهولاً جهالة مؤدّية إلى الاختلاف بين المالك و الغاصب، مثل أن يدّعي الغاصب كونه عشرة و المالك كونه ثلاثين، فبيّن الإمام عليه السلام له ميزان القضاء بينهما، و هو الأمر الدائر بين حلف المالك على ما ادّعاه من القيمة أو ردّه اليمين إلى الغاصب فيحلف على ما ادّعاه و بين إقامة المالك البيّنة.

و ربّما يشكل التوفيق بينهما بحيث يطابق كلّ منهما موازين القضاء، و ذلك لأنّه لو كان حلف المالك باعتبار قاعدة تقديم قول المالك مع يمينه نظراً إلى أنّه أعرف بقيمة بغله يوم اكترى فهذا و إن طابقت القاعدة إلّا أنّه لا يلائمه قوله «أو يأتي صاحب البغل بشهود يشهدون...» الخ لأنّ إقامة البيّنة في مسألة تقديم قول المالك مع يمينه من وظيفة صاحبه لا من وظيفة المالك. و لو كان جعل إقامة البيّنة من وظيفته باعتبار كون مسألة اختلافهما من مسألة الدعوى و الإنكار لكون المالك يدّعي قيمة زائدة و الغاصب ينكر الزيادة، و بضابطة «البيّنة على المدّعي» كان إقامة البيّنة من وظيفته فذلك و إن طابقت القاعدة غير أنّه لا يلائمها تقديم حلفه أوّلاً ثمّ ردّه إن شاء إلى الغاصب، لأنّ اليمين في الدعوى و الإنكار من وظيفة المنكر، و إن ردّها على المدّعي فحينئذٍ يحلف المدّعي لا أنّه يحلف أوّلاً أو يردّه إلى المنكر.

و يمكن الذبّ بجعل كلمة «أو» في قوله «أو يأتي بشهود» لنحو من التنويع

ص: 667

لا التخيير و لا الترديد الملازم للشكّ ، و المراد بالتنويع جعل واقعة اختلاف المالك و الغاصب في مورد السؤال على قسمين:

أحدهما: كون الاختلاف بينهما في دعوى نقصان قيمة صحيح البغل يوم تعيّبه باعتبار تنزّل القيمة السوقيّة بأن يدّعي الغاصب النقصان و أنّ قيمته حين التعيّب ثلاثون فصار بالعيب عشرين و تفاوت ما بينهما عشرة، و أنكره المالك بدعوى بقائه على قيمته يوم الاكتراء و هو خمسون و تفاوت ما بينهما ثلاثون، مع اتّفاقهما على كون قيمته يوم الاكتراء خمسين، و لا ريب في أنّ اليمين حينئذٍ وظيفة المالك لأنّه المنكر فإمّا أن يحلف أو يردّ اليمين إلى الغاصب المدّعي لنقصان القيمة.

و ثانيهما: أن يكون اختلافهما في قيمة الصحيح من يوم الاكتراء مع اتّفاقهما على عدم نقصان القيمة حين التعيّب، بأن يدّعي المالك كون قيمته خمسين و الغاصب كونها ثلاثين منكراً للزيادة ثمّ صيرورتها بالعيب عشرين و ما بينهما على قول المالك ثلاثين و على قول المنكر عشرة، فيكون جعل البيّنة وظيفة له على القاعدة، فكأنّه عليه السلام بالعطف المتوسّط بين المعطوف و المعطوف عليه قال: إن كان واقعة اختلافهما على الوجه الأوّل يحلف المالك لأنّه المنكر للنقصان أو يردّ اليمين إلى الغاصب، و إن كان على الوجه الثاني يقيم المالك البيّنة لأنّه مدّعي الزيادة و الغاصب ينكرها، و إنّما أمره بإقامة البيّنة و لم يأمر الغاصب بها في الصورة الاُولى لعجزه عنها لندرة اتّفاق من يطّلع على نقصان القيمة الّذي ادّعاه في ظرف مدّة خمسة عشر يوماً و البغل بيده في تلك المدّة، و تمكّن المالك عن إقامتها على ما ادّعاه من قيمة يوم الاكتراء لكثرة المطّلعين عليها من أهل البلد كما لا يخفى. و كيف كان فالرواية واضحة الدلالة على اعتبار قيمة يوم الضمان الّذي هو في المغصوب يوم الغصب و في المبيع يوم القبض.

و لعلّه المراد من يوم البيع في المحكيّ عن المفيد(1) و القاضي(2) و الحلبي(3) من اعتبار قيمة يوم البيع نظراً إلى غلبة وقوع القبض في وقت البيع.

و لمّا كان مورد الرواية هو المغصوب فالتعدّي منه إلى البيع يحتاج إلى وسط، و هو

ص: 668


1- المقنعة: 593.
2- نقله عنه في المختلف 244:5.
3- الكافي في الفقه: 353.

إمّا الاتّفاق المتقدّم عن الحلّي، أو دعوى كشف الصحيحة عن معنى التدارك و الغرامة في المضمونات و كون العبرة في جميعها بيوم الضمان كما هو أحد الأقوال.

و الأوّل يخدشه الموهونيّة بمصير الأكثر إلى اعتبار يوم التلف كما عرفت، فإمّا أنّ أصل الاتّفاق المدّعى لا أصل له، أو أنّ المنزلة المأخوذة في معقده يراد بها المشاركة في بعض الأحكام غير هذا الحكم.

و الثاني أيضاً مخدوش بمنع الكشف المذكور إن اُريد به كونه كذلك بمقتضى الدلالة العرفيّة، إذ ليس في الصحيحة لفظ عامّ و لا مطلق يعمّ ما عدا المغصوب أيضاً، و بدونها يرجع دعوى الكشف إلى كونها رجماً بالغيب.

فالقول باعتبار يوم القبض في المبيع لمخالفته الأصل و خلوّه عن دليل مخرج ضعيف، و أضعف منه القول باعتبار أعلى القيم من حين الغصب في المغصوب إلى التلف كما عن ثاني الشهيدين(1) و العجب استشهاده لذلك بالصحيحة مع عدم شهادة فيها صراحة و لا ظهوراً. و ربّما استدلّ (2) له بأنّ العين مضمونة في جميع تلك الأزمنة الّتي منها زمان ارتفاع قيمته. و هذا أضعف من أصل القول، إذ لو اُريد من كون العين مضمونة في جميع الأزمنة كونها مضمونة بقيمتها فهو خلاف ضمان العين لأنّ المراد به كون العين في عهدة الغاصب ما دامت موجودة فيجب تأديتها مع وجودها و إلّا وجب تداركها بالقيمة، و هذا هو مفاد خبر «على اليد ما أخذت» و إن اُريد كونها مضمونة بنفسها و حينئذٍ فإن اُريد من اعتبار قيمة يوم الارتفاع ما لو اتّفق تلف العين في ذلك اليوم فهو حقّ لا سترة عليه، إلّا أنّه ليس إلّا اعتبار القيمة يوم التلف لأنّها قد تكون أعلى القيم إذا اتّفق التلف يوم ارتفاع القيمة.

و إن اُريد اعتبارها و لو اتّفق التلف في غير يوم الارتفاع فهو أوّل المسألة و لا دليل عليه، و التقرير المذكور في الدليل لا ينهض بإثباته.

ص: 669


1- المسالك 209:2، الروضة 43:7.
2- استدلّ بذلك الفاضل المقداد في التنقيح 70:4، و ابن فهد في المهذّب البارع 254:4 و الشهيد في المسالك 209:2.

و قد يوجّه الاستدلال المدّعى فيه كون العين مضمونة في جميع الأزمنة بأنّ العين إذا ارتفعت قيمتها في زمان و صار ماليّتها مقوّمة بتلك القيمة، فكما أنّه إذا تلفت حينئذٍ يجب تداركها بتلك القيمة، فكذا إذا حيل بينها و بين المالك حتّى تلفت، إذ لا فرق مع عدم التمكّن منها بين أن تتلف أو تبقى. نعم لو ردّت تدارك تلك الماليّة بنفس العين، و ارتفاع القيمة السوقيّة أمر اعتباري لا يضمن بنفسه، لعدم كونه مالاً و إنّما هو مقوّم لماليّة المال و به تمايز الأموال قلّة و كثرة.

و فيه: أنّ المعتبر في ضمان الحيلولة عدم تمكّن الغاصب من ردّ العين مع وجودها لا عدم تمكّن المالك من التصرّف، على أنّه لو كان بناء الضمان بالقيمة على الحيلولة وجب ضمان قيمة يوم الغصب لحصول الحيلولة من حينه، فتأمّل.

و أضعف من الاستدلال المذكور على هذا القول الاستدلال بأصالة الاشتغال لاشتغال ذمّته بحقّ المالك و لا يحصل البراءة منه إلّا بالأعلى، كما عن السرائر(1)و غيره(2). و وجه الضعف أنّ المقام ممّا يجري فيه أصل البراءة لرجوع الشكّ إلى التكليف بالزائد، و معه لا حكم لأصالة الاشتغال.

فروع:
الأوّل: لو زادت قيمة العين بعد تلفها في بعض أزمنة ما بعد التلف فلا عبرة بها على الأقوال،

خصوصاً لو كان ذلك بعد دفع القيمة المضمونة، كقيمة يوم التلف على المختار، و قيمة يوم الغصب أو أعلى القيم على القولين الآخرين لسقوطها عن الذمّة بالدفع، أو توجّه الخطاب بالقيمة المضمونة إن كان حصول الزيادة قبل الدفع، فالخطاب بالقيمة الزائدة تحتاج إلى دليل و هو مفقود فالأصل عدمه، و عن الشرائع(3) هنا التردّد، و وجهه غير واضح، و ما يوجّه(4) له من «أنّه لعلّه من جهة احتمال كون القيمي مضموناً بمثله و دفع القيمة إنّما هو لإسقاط المثل» و لا خفاء في ضعفه، إذ لو اُريد بضمان القيمي بمثله ما قد يتّفق في بعض الفروض النادرة من وجود مثل للعين التالفة، ففيه أنّ الضمان

ص: 670


1- السرائر 481:2.
2- كما في الرياض 31:14، المناهل: 299.
3- الشرائع 240:3.
4- قاله الشهيد في الروضة 40:7.

بالمثل حينئذٍ حسن، و لكن بناء المسألة في هذا الفرع ليس على هذا الفرض النادر، و مع هذا فالترديد لا معنى له لتعيّن المثل حينئذٍ نظراً إلى الأصل الّذي قدّمناه سابقاً، و لو اُريد كونه كذلك مطلقاً فهو خلاف ما تقدّم من الأدلّة على كون ضمان القيمي بقيمته.

الثاني: أنّ الخلاف المتقدّم بحسب الأقوال الثلاثة إنّما هو فيما لو كان اختلاف القيم بحسب الأزمنة،

و أمّا إذا كان بحسب الأمكنة كما إذا كان في محلّ الضمان بعشرة و في مكان التلف بعشرين و في مكان المطالبة بثلاثين، فالظاهر كما قيل(1) اعتبار قيمة مكان التلف كزمانه لأنّ ماليّة الشيء تختلف بحسب الأماكن، و دفع القيمة تدارك لماليّته فتعتبر بحسب قيمة مكان التلف، كما يعلم ذلك بملاحظة المعاملة بالبيع و الشراء و غيرهما، فلو طالب البائع قيمة بلد آخر في ثمن عينه في البيع كان مستنكراً عند أهل العرف.

الثالث: أنّ ما تقدّم من الخلاف و الأقوال الثلاث إنّما هو فيما إذا ارتفعت القيمة السوقيّة المختلفة بسبب تفاوت رغبات الناس،

و أمّا إذا كان حاصلاً من زيادة في العين فقيل(2): إنّ الظاهر عدم الخلاف في ضمان أعلى القيم، و هو الوجه، لا لأنّ قيم العين التالفة مختلفة بل لأنّ زيادة القيمة في بعض أزمنة الضمان لأجل الزيادة العينيّة الحاصلة فيها الّتي هي بمنزلة الجزء لها بل جزء في الحقيقة، و العين تضمن بجميع أجزائها، فإذا تلفت الزيادة تضمن بقيمتها، كما أنّه إذا تلفت العين تضمن بقيمتها، و مجموع القيمتين هو قيمة المجموع. و من هنا يعلم أنّ التعبير عنه بأعلى القيم مسامحة.

و في كون العبرة في قيمة الزيادة بقيمة يوم تلفها، أو بقيمة يوم ضمانها، أو بأعلى القيم من يوم ضمانها إلى يوم التلف، وجوه، يمكن بناؤها على الخلاف المتقدّم في تلف نفس العين، فعلى المختار ثمّة يتّجه اعتبار يوم التلف هنا أيضاً.

الرابع: في حكم تلف العين في القيمي بل المثلي أيضاً من حيث ضمانها بالقيمة أو المثل تعذّر الوصول إليها و إن لم تهلك

- كما إذا سرق أو غرق أو ضاع أو أبق أو أخذه متسلّط غصباً بحيث لا يتمكّن من استنقاذه عنه من سلطان و نحوه - للأدلّة المقرّرة في أبواب الأمانات المضمونة و غيرها الدالّة على الضمان بهذه الأشياء. و هل يعتبر في

ص: 671


1- المكاسب 256:3.
2- كما في المسالك 209:2، و الروضة 44:7.

التعذّر الموجب للضمان بالقيمة أو المثل حصول اليأس من الوصول إليها، أو يكفي عدم رجاء وجدانها و إن احتمل الوجدان، أو يكفي مطلق التعذّر و لو مع العلم بوجدانها في مدّة يتضرّر المالك من انتظارها و الصبر إليها طويلة كانت المدّة أو قصيرة ؟ وجوه، و قيل:

ظاهر أدلّة ما ذكر من الاُمور الموجبة للضمان هو أحد الأوّلين، و لكن ظاهر إطلاق الفتاوى هو الأخير، كما يظهر من إطلاقهم «بأنّ اللوح المغصوب في السفينة إذا خيف من نزعه غرق مال لغير الغاصب انتقل ضمانه إلى القيمة حتّى تبلغ الساحل»(1).

و يؤيّده أنّ فيه جمعاً بين الحقّين حقّ الضامن نظراً إلى فرض رجوع الصحّة إلى ملك الضامن عند التمكّن من العين، و حقّ المالك نظراً إلى أنّ تسلّط الناس على أموالهم الّذي فرض كونه في عهدة الضامن يقتضي جواز مطالبة الخروج عن عهدته عند تعذّر نفسه، نظير ما تقدّم في تسلّطه على مطالبة القيمة للمثل المتعذّر في المثلي. نعم يعتبر في زمان التعذّر كونه مدّة معتدّاً بها يتضرّر المالك بالصبر إلى زوال العذر في نظر العرف، فلا عبرة بالزمان القليل الّذي لا يوجب الصبر فيه ضرراً في نظر العرف. ثمّ إنّ معنى كون تعذّر الوصول إلى العين في حكم تلفها كونه مثله في أصل الضمان بالقيمة لا في جميع الأحكام، و يتفرّع عليه أمران:

أحدهما: أنّ ثبوت القيمة مع التعذّر ليس كثبوته مع التلف في كون دفعها حقّاً للضامن، بحيث إذا دفعها وجب على المالك قبولها و ليس له الامتناع من قبولها، بل هو حقّ للمالك فله الامتناع و الصبر إلى زوال العذر، عملاً بقاعدة تسلّط الناس على أموالهم، و حكي عن الشيخ في المبسوط(2) التصريح به.

و ثانيهما: أنّ المال المبذول مع التلف يملكه مالك العين، و في التعذّر يحتمل عدم الملك بل غايته الإباحة المطلقة على معنى جواز جميع التصرّفات له من غير أن يدخل في ملكه إلّا أن يتلف العين كما في المعاطاة على القول بالإباحة ما دامت العين باقية و عن الفاضل القمّي(3) في مسائل شتاته الجزم بهذا الاحتمال، خلافاً لمن ذهب إلى

ص: 672


1- صرّح بذلك العلّامة في القواعد 207:1، و التذكرة 396:2.
2- المبسوط 87:3.
3- جامع الشتات 106:1.

دخوله في ملكه بلا خلاف، كما عن المبسوط(1) و الخلاف(2) و الغنية(3) و السرائر(4)و قيل(5): «إنّ ظاهرهم إرادة نفي الخلاف بين المسلمين».

و لعلّ الوجه فيه أنّ التدارك لا يتحقّق إلّا بذلك، و علّل أيضاً بأنّ معنى ضمان العين ذهابها من مال الضامن و لازم ذلك إقامة مقابله من ماله مقامه ليصدق ذهابه من كيسه.

و فيهما نظر، و لذا استشكل المحقّق و الشهيد الثانيان في الملك على ما حكي عنهما فقال أوّلهما: «إنّ هنا إشكالاً، فإنّه كيف يجب القيمة و يملكها الآخذ و يبقى العين على ملكه، و جعلها في مقابلة الحيلولة لا يكاد يتّضح معناه»(6) و قال ثانيهما: «إنّ هذا لا يخلو عن إشكال من حيث العوض و المعوّض على ملك المالك من دون دليل واضح، و لو قيل بحصول الملك لكلّ منهما متزلزلاً و توقّف تملّك المغصوب منه للبدل على اليأس من العين و إن جاز له التصرّف كان وجهاً في المسألة»(7) انتهى.

و لعلّه مبنى إشكال الأوّل أيضاً على لزوم الجمع بين العوض و المعوّض. و إن كان قد يذبّ عن ذلك بأنّ دفع القيمة هاهنا ليس معاوضة ليلزم الجمع بين العوض و المعوّض، فالمبذول هنا كالمبذول مع تلف العين في عدم البدل له. و فيه نظر فإن كان إجماعاً فلا منازعة، و إلّا فالقول بعدم الملك لا يخلو عن قوّة، للأصل، و يعضده ظاهر مفهوم بدل الحيلولة فإنّ معنى الحيلولة أنّ الغاصب حال بين العين و المالك و منعه من التصرّفات فيه و الانتفاعات به، و أخذ القيمة ليتدارك بها ذلك و ينتفع بها المالك بدل انتفاعاته بعينه. و هذا كما ترى لا يقتضي أزيد من إباحة التصرّفات و جواز عموم الانتفاعات، و دخولها في ملكه يحتاج إلى دليل.

الخامس: ربما يتوسّط بين تلف العين و تعذّر الوصول إليها اُمور:
منها: ما منع المالك شرعاً بفعل الغير من الانتفاع بعينه مطلقاً

كالحيوان المقصود به ظهره من الخيل و البغال و الحمير إذا وطأه إنسان، فإنّ الواطئ إذا كان غير المالك يغرم

ص: 673


1- المبسوط 95:3.
2- الخلاف 412:3 المسألة 26.
3- الغنية: 282.
4- السرائر 486:2.
5- المكاسب 259:3.
6- جامع المقاصد 261:6.
7- المسالك 210:2.

قيمته للمالك و يملكها قولاً واحد، و يجب إخراج الموطوء إلى بلد آخر لا يعرف فيه و يباع في ذلك البلد. و في عود ثمنه إلى المالك أيضاً، أو إلى الغارم، أو لا إليهما بل يتصدّق به ؟ أقوال مقرّرة في بابي الأطعمة و الحدود، فتحقيق المسألة موكول إلى محلّه، و إن كان الأوّل أضعفها، و أقوى الأخيرين أوّلهما، و هو أوسط الأقوال.

و قد يوجّه بعدم بعد انكشاف انتقال العين إلى الغارم من حكم الشارع بوجوب غرامة قيمته للمالك.

و منها: ما قامت من العين بسبب فعل الغير معظم الانتفاعات بها الّتي بها قوام ماليّتها،

و اللازم من ذلك خروجها عن الماليّة كالماء المغصوب المستعمل في الوضوء قبل العلم بالغصبيّة إذا علم بها بعد الفراغ، أو بعد الغسل و قبل المسح مع بقاء الرطوبة و الأجزاء المائيّة في الأعضاء المغسولة، فإنّه يضمن قيمته للمالك عوضاً عن المنافع الفائتة فيملكها المالك، و في بقاء العين المتفرّقة في الأعضاء على ملكه و خروجها عن ملكه قولان، و يظهر الفائدة في جواز المسح بعد العلم بالغصبيّة بالبلّة الباقية و إن لم يأذن فيه المالك، و عدم جوازه إلّا بإذنه.

و التحقيق أنّ المناقشة في بقائها على ملكه مع التغريم بقيمة الجميع بلزوم الجمع بين العوض و المعوّض عنه، ضعيفة بما عرفت من كون القيمة بدل المنافع الفائتة، كما أنّ توهّم الملازمة بين زوال الماليّة و زوال الملكيّة، ضعيف بمنع الملازمة. فأصالة البقاء تساعد على القول بالبقاء، إلّا أن يتحقّق من العرف كون المفروض بمنزلة التلف - على معنى كون تفرّق أجزاء الماء في أعضاء المتوضّئ مع تساقط جملة كثيرة منها على الأرض بحيث يتعذّر جمعها و الانتفاع بها ممّا يعدّ تلفاً في نظر العرف و هو مخرج لها عن الملكيّة - و ليس ببعيد، إلّا أنّ الأحوط رعاية إذن المالك للمسح بالبلّة الباقية.

و منها: الخيوط المغصوبة الّتي خاط بها الغاصب ثوبه،

و قد تكلّم الأصحاب في حكمها في مسألتين:

إحداهما: ما لو طلب المالك نزعها و إخراجها عن الثوب، فهل يجب النزع مطلقاً كما عن القواعد قائلاً: «و لو طلب المالك نزعها و ان أفضى إلى التلف وجب، ثمّ يضمن

ص: 674

الغاصب النقص، و لو لم يبق لها قيمة غرم جميع القيمة»(1) أو لا يجب كذلك كما عن مجمع البرهان من اختيار عدم وجوب النزع حتّى أنّه قال: «يمكن أن لا يجوز ويتعيّن القيمة لكونه بمنزلة التلف، و حينئذٍ يمكن جواز الصلاة في هذا الثوب المخاط، إذ لا غصب فيه يجب ردّه كما قيل بجواز المسح بالرطوبة الباقية من الماء المغصوب الّذي حصل العلم به بعد إكمال الغسل و قبل المسح»(2) أو يفصّل بين ما لو لم تخرج الخيوط بالإخراج عن القيمة فيجب النزع و ما لو خرجت عن القيمة فلا يجب ؟ احتمالات، لا يبعد المصير إلى أخيرها.

بل عن المسالك «أنّ ظاهرهم عدم وجوب إخراج الخيط المغصوب عن الثوب بعد خروجه عن القيمة بالإخراج، فتعيّن القيمة فقط»(3).

و هذا الظهور و إن كان لا يساعد عليه ظاهر عبارة القواعد إلّا أنّه لو تمّ لقضى بأنّ الخلاف في قولين، و أنّ محلّه ما لو لم يخرج الخيط بإخراجه عن القيمة و إن نقصت قيمته.

و كيف كان فالوجه مع عدم خروجه عن القيمة هو وجوب الإخراج لو طلبه المالك، لعموم «الناس مسلّطون على أموالهم» و «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه» و إطلاق القول بكونه بمنزلة التلف كما عرفته عن مجمع البرهان غير مسموع، و لعلّه منزّل على الصورة الاُخرى، و هي ما لو خرج بالإخراج عن القيمة. و حينئذٍ ففي جواز الصلاة في الثوب المخاط به وجهان: من خروجه عن ملك المالك كما عليه مبنى كلام المجمع، و عدمه كما عن المسالك التصريح به، و هو الأظهر لمنع صدق التلف عرفاً و العين موجودة في الثوب، غاية الأمر تعذّر انتفاع المالك بها و الحال هذه، و لأجل ذا يغرم له الغاصب قيمته من باب ضمان الحيلولة و الأصل بقاء ملكه، فلا يجوز حينئذٍ إلّا بإذن المالك. و هذا هو المسألة الثانية المتقدّم إليها الإشارة في قولنا، و قد تكلّم الأصحاب في حكمها في مسألتين.

و منها: ما لو خرج العين بفعل الغير عن الماليّة مع بقاء حقّ الأولويّة للمالك

كالخلّ المغصوب إذا صار في يد الغاصب خمراً فإنّه يغرم للمالك قيمته. و في وجوب ردّ العين

ص: 675


1- القواعد 235:2.
2- مجمع البرهان 521:10.
3- المسالك 207:2.

مع القيمة كلام، و عن القواعد(1) الاستشكال فيه، قيل: «و لعلّه من استصحاب وجوب ردّها، و من عدم بقاء موضوع المستصحب بناءً على أنّه الملك إذ لم يجب إلّا ردّه و هو غير باقٍ . و يخدشه أنّ الموضوع في نظر العرف هو هذا الشخص و المفروض بقاؤه، فعلى القول بأنّ بقاء الموضوع في الاستصحاب موكول إلى نظر العرف يتّجه الاستصحاب، و لذا لو عاد خلّاً ردّ إلى المالك بلا خلاف يظهر»(2). فالمتّجه وجوب ردّ العين مع القيمة، و حينئذٍ فلو عاد بعد الردّ خلاًّ لا يلزم الجمع بين العوض و المعوّض، لأنّ الخلّ الثاني مال جديد أعطاه اللّٰه سبحانه المالك لا أنّه المال الأوّل، فتأمّل.

ص: 676


1- القواعد 233:2.
2- المكاسب 265:3.

المقصد الثاني في شروط المتعاقدين مالكين كانا أو وكيلين أو وليّين أو مختلفين،

اشارة

و قد ذكروا لهما شروطاً ثلاث: البلوغ، و العقل، و الاختيار في مقابل الإكراه، فهاهنا مباحث:

المبحث الأوّل في البلوغ،
اشارة

و هو أن يبلغ الطفل حدّاً يتكوّن معه الماء الدافق في بدنه، و يعلم في الذكر باستكماله خمسة عشر سنة و بالاحتلام و بنبات الشعر، و في الاُنثى باستكمال تسعة سنين و نبات الشعر و الحيض و الحمل، فإنّ كلّاً ممّا ذكر علامة تكشف عن سبق البلوغ.

و المشهور أنّه شرط في صحّة العقد فعقد الصبيّ باطل بل قولاً واحداً في غير المميّز، و قد يدّعى ضرورة سائر الملل و الأديان، و كذلك في غير المميّز الغير البالغ عشراً، و كذلك المميّز البالغ عشراً على المشهور شهرة عظيمة بل بلا خلاف.

عدا ما عزي إلى الشيخ(1) من القدماء و إلى المحقّق الأردبيلي(2) و بعض من تبعه من متأخّري(3) المتأخّرين من القول بصحّة عقده مع الوصفين.

و في النسبة إلى الشيخ كلام لأنّه على ما حكي صرّح في الخلاف(4) و المبسوط(5)بعدم صحّة بيع الصبيّ و شرائه أذن له الوليّ أو لم يأذن. نعم قال في ثانيهما: «و روي أنّه إذا بلغ عشر سنين و كان رشيداً كان جائز التصرّف» و ظاهره أنّه لم يعمل بها، فانحصر

ص: 677


1- المبسوط 163:2.
2- مجمع البرهان 152:8.
3- كما في الرياض 216:8، المفاتيح 46:3.
4- الخلاف 178:3 المسألة 294.
5- المبسوط 162:2.

الخلاف في الأردبيلي فصحّ (1) مع مخالفته دعوى الإجماع على عدم الصحّة كما عن الغنية(2) صريحاً، و عن الفاضل المقداد في كنز العرفان(3) ظاهراً، حيث نسب عدم صحّة عقد الصبيّ إلى أصحابنا، و ممّن صرّح بالإجماع العلّامة في التذكرة قائلاً على [ما حكي] «أنّ الصغير محجور عليه بالنصّ و الإجماع سواء كان مميّزاً أو لا في جميع التصرّفات، إلّا ما استثني كعبادته و إسلامه و إحرامه و تدبيره و وصيّته و إيصاله الهديّة و إذنه في الدخول على خلاف في ذلك»(4) انتهى.

و مستند البطلان - بعد الأصل و هو أصالة عدم ترتّب الأثر و الإجماعات المنقولة المعتضدة بالشهرة العظيمة - الروايات
اشارة

و هي قسمان:

أحدهما: الرواية النبويّة المرويّة بطرق العامّة و الخاصّة المعمول بها عند الفريقين «رفع القلم عن ثلاثة:

عن الصبيّ حتّى يحتلم، و عن المجنون حتّى يفيق، و عن النائم حتّى يستيقظ»(5) و ذكرها الصدوق في الخصال(6) و الأصحاب في كتب الاستدلال.

و وجه الاستدلال: أنّ قوله: «رفع القلم» كناية عن سلب جميع الأحكام الّتي تكتب بالقلم حتّى الأحكام الوضعيّة الّتي منها صحّة عقوده و إيقاعاته، و معناه أنّ الصبيّ لا يكتب عليه الأحكام تكليفيّة كانت أو وضعيّة، و قضيّة ذلك أن لا يصحّ عقده أيضاً.

و فيه نظر: إذ لو اُريد به أنّ الأحكام لا تكتب عليه في اللوح المحفوظ، فحمل رفع القلم عليه مع بعده في نفسه لا يلائمه عطف النائم عليه و كونه أحد الثلاثة بل يأباه، لضرورة أنّ الأحكام المكتوبة في اللوح المحفوظ بأسرها ثابتة في حقّه، غير أنّه ما دام نائماً لا يتوجّه إليه الخطاب لقبح خطاب الغافل.

و لو اُريد به أنّها لا تكتب عليه في صحائف الأعمال الّتي يباشر الكتابة فيها الملكان - الرقيب و العتيد - ففيه أنّ صحائف الأعمال ليست محلّاً لكتابة الأحكام بل كتابتها ليست من شغل الملكين، بل شغلهما ثبت الأعمال من الحسنات و السيّئات.

و على هذا فمعنى رفع قلم الكتابة عن الصبيّ أنّه لا يكتب عليه من الأعمال الأفعال

ص: 678


1- كذا في الأصل، و الظاهر: فصحّح.
2- الغنية: 210.
3- كنز العرفان 102:2.
4- التذكرة 73:2.
5- عوالي اللآلي 48/209:1.
6- الخصال 93:1.

و التروك الّتي هي في حقّ غيره من المكلّفين سيّئات و كذلك الصبيّ بعد بلوغه، و حاصله أنّه لا يكتب عليه إثم في أعماله، و هو كناية عن نفي المؤاخذة و العقوبة و غيرهما من آثار الإثم و المعصية، و هو يستلزم نفي أصل التكليف الإلزامي و الخطاب التكليفي، على معنى أنّ الصبيّ ما لم يحتلم لم يتوجّه إليه خطاب تكليفي و لم يجعل عليه تكليف إلزامي، و هذا لا ينافي ثبوت الأحكام الوضعيّة في حقّه أيضاً الّتي منها صحّة عقده و إيقاعه، و لذا يضمن بإتلافه مال الغير، غاية الأمر أنّه لا يخاطب بردّ ما ضمنه حتّى يبلغ، أو أنّه يخاطب به وليّه، و كذلك المجنون و النائم.

و ثانيهما: الروايات الخاصّة الإماميّة،

و العمدة منها و أظهرها دلالة روايتان:

إحداهما: رواية حمزة حمران قال: «سألت أبا جعفر عليه السلام قلت له: متى يجب على الغلام أن يؤخذ بالحدود التامّة و تقام عليه و يؤخذ بها؟ قال: إذا خرج عنه اليتم و أدرك، قال: فلذلك حدّ يعرف به، فقال: إذا احتلم أو بلغ خمس عشر سنة أو أشعر أو أنبت قبل ذلك اُقيمت عليه الحدود التامّة و اُخذ به و اُخذت له، قلت: فالجارية متى يجب عليها الحدود التامّة و تؤخذ بها و تؤخذ لها؟ قال: إنّ الجارية ليست مثل الغلام أنّ الجارية إذا تزوّجت و دخل بها و لها تسع سنين ذهب عنها اليتم و دفع إليها مالها و جاز أمرها في الشراء و البيع و اُقيمت لها الحدود التامّة و اُخذ لها و بها، قال: و الغلام لا يجوز أمره في الشراء و البيع و لا يخرج من اليتم حتّى يبلغ خمس عشر سنة أو يحتلم أو يشعر أو ينبت قبل ذلك»(1).

و اُخراهما: رواية ابن سنان «متى يجوز أمر اليتيم ؟ قال: حتّى يبلغ أشدّه، قال: ما أشدّه ؟ قال: احتلامه»(2). و في معناهما روايات اُخر.

و في الرواية الاُولى موضعان من الدلالة على عدم جواز أمر الصبيّ في الشراء و البيع على معنى عدم نفوذهما و عدم ترتّب الأثر عليهما بالنسبة إلى الجارية و إلى الغلام، إلّا أنّه بالنسبة إلى الجارية بالمفهوم و بالنسبة إلى الغلام بالمنطوق.

ص: 679


1- الوسائل 1/360:17، ب 14 أبواب عقد البيع، الكافي 1/197:7.
2- الوسائل 5/412:18، ب 2 كتاب الحجر، الخصال: 3/495.

و في الرواية الثانية وجهان من الدلالة، فتارةً باعتبار تقرير المعصوم حيث إنّ سؤال الراوي ب «متى» يكشف عن أنّه كان معتقداً بأنّ في اليتيم زمانين: أحدهما ما لا يجوز فيه أمره، و الآخر ما يجوز فيه أمر [ه] فسأل عن تميّز الثاني عن الأوّل، و كان في تعرّض الإمام عليه السلام في الجواب لبيان الزمان الّذي جاز فيه أمره تقرير للسائل على معتقده. و اُخرى باعتبار قول المعصوم حيث قال: «حتّى يبلغ أشدّه» فإنّه بالمفهوم يدلّ على أنّه ما لم يبلغ أشدّه لم يجز أمره. و جواز الأمر عبارة عن مضيّ فعله و شغله، على معنى نفوذ تصرّفاته و ترتّب الآثار عليه. و شموله لعقوده و إيقاعاته إنّما هو بترك الاستفصال كما هو واضح. فدلالة الروايتين على المطلب حسبما بيّنّاه واضحة. و لو كان في سنديهما ضعف و قصور فينجبر بالعمل و الشهرة العظيمة، فلا ينبغي التكلّم في سنديهما.

نعم ربّما يناقش فيهما باعتبار الدلالة، و يقال: بأنّ جواز الأمر في هذه الروايات ظاهر في استقلاله في التصرّف لأنّ الجواز مرادف للمضيّ فلا ينافي عدمه ثبوت الوقوف على الإجازة، كما يقال بيع الفضولي غير ماضٍ بل موقوف، و يشهد له الاستثناء في بعض تلك الأخبار بقوله: «إلّا أن يكون سفيهاً» فلا دلالة لها على سلب عبارته، و أنّه إذا ساوم وليّه متاعاً و عيّن له قيمته و أمر الصبيّ بمجرّد إيقاع العقد مع الطرف الآخر كان باطلاً، و كذا لو أوقع إيجاب النكاح أو قبوله لغيره بإذن وليّه(1) انتهى.

و فيه: منع الظهور المذكور، و تعليله بمرادفة الجواز للمضيّ عليل، و دلالة نفيه بقول مطلق على سلب عبارته واضحة، لأنّه ظاهر في الجواز المطلق الغير المتوقّف على إجازة الغير، كما أنّ المضيّ ظاهر في المضيّ المطلق الغير المتوقّف على إمضاء الغير فلا يصرف عنه إلى الجواز المعلّق المتوقّف على إجازة الغير إلّا لقرينة، كما في مثال البيع الفضولي فإنّ حمل غير ماضٍ على المعلّق من المضيّ إنّما هو لقرينة بل موقوف، و لولاه لم يكن له ظهور في المعلّق منه المتوقّف على الإمضاء، فقضيّة إطلاق نفي جواز أمره في روايات الباب سلب عبارته و عدم ترتّب أثر عليها، حتّى فيما ساوم وليّه المتاع و عيّن قيمته و أمره بمجرّد إيقاع العقد مع الطرف الآخر، و كذلك في إيقاعه إيجاب

ص: 680


1- المكاسب 277:3-278.

النكاح أو قبوله لغير بإذن الوليّ .

و ممّا يرشد إلى ما بيّنّاه من الظهور في نفي الجواز المطلق ما في الروايات من تعليق جواز أمره في الشراء و البيع ببلوغه تسع سنين في الجارية و خمس عشر سنة في الغلام، فلو كان لإذن الوليّ أو إجازته مدخليّة في جوازه قبل البلوغ وجب تعليقه بكلّ من الأمرين، بأن يقول: لا يجوز أمره حتّى يجيزه وليّه، أو يبلغ خمس عشر سنة، لورودها في مقام الحاجة و عدم جواز تأخير البيان عن وقتها.

و قد يقال: بأنّه لا يبعد بناء المسألة على أنّ أفعال الصبيّ و أقواله شرعيّة أم لا؟ كما عن المحقّق الثاني «فحكم بأنّها غير شرعيّة و أنّ الأصحّ بطلان العقد»(1) و هذا غير واضح، إذ لو اُريد بأفعاله و أقواله ما يكون من قبيل المعاملات من العقود و الإيقاعات و الإقرارات فشرعيّتها عين المسألة فبناء المسألة عليها ممّا لا معنى له، و إن اُريد ما يكون من قبيل العبادات ففيه منع ابتناء المسألة على شرعيّة عباداته ممنوع، لأنّ معنى شرعيّة عباداته على القول بها رجحان عباداته عند الشارع و مطلوبيّتها لديه بحيث يترتّب عليها الثواب و يعود الثواب إلى أبويه، و هذا لا يلازم شرعيّة عباداته وضعاً في العقد أو الإيقاع بحيث يترتّب عليها الآثار الشرعيّة أصلاً، بل الملازمة يحتاج ثبوتها إلى دليل عليها من نصّ أو إجماع و المفروض انتفاؤه.

و استدلّ أهل القول بصحّة عقده إذا بلغ عشراً أو إذا كان مميّزاً مطلقاً بوجوه غير تامّة:
منها: إطلاقات أدلّة صحّة البيع و الشراء و غيره من العقود،

كقوله تعالى: «أَحَلَّ اَللّٰهُ اَلْبَيْعَ » و قوله عليه السلام: «البيّعان بالخيار ما لم يفترقا» و نحوهما عدا قوله تعالى: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» فإنّه خطاب تكليفي يستحيل توجّهه إلى الصبيّ ، فلا يصحّ الاستدلال بعمومه على صحّة عقوده.

و توهّم: أنّه يتضمّن حكمين: تكليفي و هو وجوب الوفاء، و وضعي و هو الصحّة، و المستحيل توجّهه إلى الصبيّ هو الأوّل دون الثاني، فيجوز الاستدلال به بالنسبة إلى الثاني، أو أنّ الأمر هنا إرشادي معرّى عن الطلب، فالمقصود به الإرشاد إلى اللزوم

ص: 681


1- جامع المقاصد 194:5.

المقابل للجواز اللذين هما من الأحكام الوضعيّة فلا مانع من شموله للصبيّ فيصحّ الاستدلال به حينئذٍ.

يدفعه: بأنّ الحكم الوضعي تابع، و من المستحيل انفكاكه عن متبوعه، فثبوت أحدهما يستلزم ثبوت الآخر و نفيه يستلزم نفيه، فالتفكيك بينهما غير صحيح. و كما أنّ توجيه التكليف إلى الصبيّ غير صحيح فكذلك توجيه الخطاب إليه و لو كان إرشاديّاً غير صحيح، مع أنّ قوله تعالى: «يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا» قبل قوله: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» قرينة واضحة على أنّ الخطاب مع البالغين الكاملين الموصوفين بالإيمان فلا يدخل فيه الأطفال.

و فيه: مع أنّ آية «أَحَلَّ اَللّٰهُ اَلْبَيْعَ » أيضاً خطاب تكليفي سيّما مع ملاحظة عطف «وَ حَرَّمَ اَلرِّبٰا» يجب الخروج عن الإطلاق أو العموم بالروايات الخاصّة المعتضدة بالإجماعات المنقولة و الشهرة العظيمة.

و منها: قوله تعالى: «وَ اِبْتَلُوا اَلْيَتٰامىٰ حَتّٰى إِذٰا بَلَغُوا اَلنِّكٰاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوٰالَهُمْ »

و منها: قوله تعالى: «وَ اِبْتَلُوا اَلْيَتٰامىٰ حَتّٰى إِذٰا بَلَغُوا اَلنِّكٰاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوٰالَهُمْ » (1)

فإنّه تعالى أمر بدفع أموال اليتامى إليهم عند استيناس الرشد و هو يعمّ ما قبل البلوغ لأنّ الرشد كثيراً يحصل قبله.

و فيه: ابتناء الدلالة على الوجه المذكور على جعل «حتّى» عاطفة مع تقدير ما يكون معطوفاً عليه قبلها بحيث يكون ما بعدها جزءاً ممّا قبلها المقدّر ليكون التقدير «اِبْتَلُوا اَلْيَتٰامىٰ في جميع أوقاتهم حتّى وقت بلوغهم النكاح فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً في أيّ وقت من هذه الأوقات فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوٰالَهُمْ » و هذا غير واضح، حيث لم نقف من أهل العربيّة و لا من أهل التفسير أنّه التفت إلى هذا الاعتبار مع استلزامه للحذف و التقدير الّذي ينفيه الأصل و يأباه ظهور الهيئة الكلاميّة في عدم حذف شيء من أجزائه، بل الوجه أنّها إمّا جارّة للغاية و يكون «إذا» بعدها في محلّ الجرّ بها كما عن ابن مالك في هذه الكلمة إذا دخلت على «إذا» الشرطيّة، و منه قوله تعالى: «وَ سِيقَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِلىٰ جَهَنَّمَ زُمَراً حَتّٰى إِذٰا جٰاؤُهٰا فُتِحَتْ أَبْوٰابُهٰا» (2) فيكون تقدير الآية «وَ اِبْتَلُوا اَلْيَتٰامىٰ إلى وقت بلوغهم النكاح فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوٰالَهُمْ » و يكون

ص: 682


1- النساء: 6.
2- الزمر: 71.

الفاء للتعقيب بلا مهلة، و معناه أنّه إن آنستم منهم في وقت بلوغهم النكاح رشداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوٰالَهُمْ ، أو ابتدائيّة للدلالة على كون ما بعدها كلاماً مستأنفاً مع كون إذا في محلّ النصب بشرطها أو جوابها كما عن الجمهور، و اختاره ابن هشام في هذه الكلمة إذا دخلت على إذا و يكون تقدير الآية حينئذٍ «اِبْتَلُوا اَلْيَتٰامىٰ حَتّٰى إِذٰا بَلَغُوا اَلنِّكٰاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ في ذلك الوقت رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوٰالَهُمْ » بتقريب ما عرفت من كون الفاء للتعقيب بلا مهلة، و يكون قوله: «فَادْفَعُوا» جواباً بالشرطين، نظير ما لو قيل: إذا جاءك زيد فإن سلّم عليك فأكرمه، فالآية على التقديرين تدلّ على وجوب دفع أموال اليتامى إليهم بشرطين «البلوغ و الرشد» كما فهمه و صرّح به الطبرسي في مجمع البيان(1) فلا دلالة فيها على مطلوب المستدلّ .

و أمّا ما قد يقال في توجيه الاستدلال بها: من أنّه تعالى أمر باختبار اليتامى و امتحانهم لاستعلام رشدهم و هو إنّما يحصل بالبيع و الشراء، فأمره تعالى باختبارهم بالبيع و الشراء يقتضي صحّة ما صدر منهم من الأمر، إذ لا معنى للأمر باختبارهم بذلك مع عدم وقوعه صحيحاً. و هذا أضعف من سابقه، لعدم انحصار طريق الاختبار في ذلك، بل له طرق كثيرة يعرفها أهل الاختبار.

و منها: الرواية المرسلة المتقدّمة عن الشيخ في المبسوط.

و فيه: أنّها ضعيفة بالإرسال، و إعراض الأصحاب أو المعظم عنها، و بأنّ الراوي لها - و هو الشيخ أيضاً - لم يعمل بها كما عرفت.

و منها: السيرة المستمرّة المستقرّة على أنّ الصبيان يتعاملون في الأسواق و يبيعون و يشترون فتدلّ على صحّة جميع ذلك منهم.

و فيه: أنّ السيرة إن اُريد بها سيرة الصبيان بأنفسهم فهي ليست بشيء، و إن اُريد بها سيرة البالغين المكلّفين بدعوى استقرارها على المعاملة مع الأطفال ببيع أو شراء، ففيه:

أنّ السيرة في محلّ ثبوتها إجماع عملي و لا إجماع هنا، إذ المتعاملون مع الأطفال ليسوا إلّا جمعاً من العوامّ المتسامحين في دينهم غير مبالين من المعاملات الفاسدة

ص: 683


1- مجمع البيان 233:3-234.

و أكل الأموال المحرّمة مع احتراز الصلحاء المتّقين المتورّعين العارفين للمسائل و كذلك أهل العلم و الفقهاء عن المعاملة مع الأطفال، حتّى أنّ العلماء و الوعّاظ و ناشري المسائل ينكرون على المتعاملين معهم و يمنعونهم من باب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر في منابرهم و مجالسهم و محافلهم و يذكرون المنع في رسائلهم العمليّة لعمل العوامّ .

و منها: صحّة وصيّته و عتقه و تدبيره و طلاقه إذا بلغ عشراً،

فإذا صحّ منه هذه الاُمور صحّ سائر العقود إمّا لعدم القول بالفصل أو لوحدة المناط، فإنّ الأسباب الشرعيّة من باب واحد و إذا صحّ البعض صحّ البعض الآخر.

و فيه: منع عدم القول بالفصل، فإنّ الصحّة في الاُمور المذكورة ليست بإجماعيّة و القائل بها مفصّل و المناط غير معلوم، و ما ذكر في توجيهه لا يرجع إلى محصّل إلّا دعوى المساواة، فالتعدّي من حكم أحد المتساويين إلى آخر قياس. هذا كلّه في عدم صحّة عقود الصبيّ و معاملاته و تصرّفاته على وجه الإجمال.

و أمّا تفاصيل هذا الإجمال الّتي وقع في أكثرها الخلاف ففيها مسائل:
المسألة الاُولى: في أنّ الوليّ إذا أذن الصبيّ في إيقاع العقد فهل يقع صحيحاً على معنى كون إذن الوليّ مصحّحة للعقد الصادر منه أو لا؟

فيه خلاف إلّا أنّ المشهور على ما حكي عدم الصحّة و اختاره العلّامة في التذكرة(1) و نقله عن الشافعي(2) و أحمد في إحدى الروايتين. خلافاً لأبي حنيفة و أحمد في الرواية الاُخرى فصحّحاه مع إذن الوليّ (3)و عزي اختياره إلى ولد العلّامة(4) منّا، و إلى الشيخ النجفي في شرحه للقواعد على ما يظهر من عبارته القائلة بعد المنع عن صحّة عقده أصالة و وكالة بأنّه «نعم ثبت الإباحة في معاملة المتميّزين إذا جلسوا مقام أوليائهم أو تظاهروا على رءوس الأشهاد حتّى يظنّ أنّ ذلك من إذن الأولياء خصوصاً في المحقّرات. ثمّ قال: و لو قيل بتملّك الآخذ منهم لدلالة مأذونيّته في جميع التصرّفات فيكون موجباً قابلاً لم يكن بعيداً»(5) انتهى.

ص: 684


1- التذكرة 11:10.
2- المجموع 155:9-158، الوسيط 12:3.
3- بدائع الصنائع 135:5، الوسيط 12:3.
4- الإيضاح 55:2.
5- شرح القواعد 41:2 في هامش الرقم 1 قال الشارح في كشف الغطاء 255:1-256.

و الأقوى ما هو المشهور، لنا إطلاق ما تقدّم من الروايات و الإجماعات المعتضد بالشهرة العظيمة الظاهر في عموم المنع و البطلان و مسلوبيّة العبارة بالذات المفيد لشرطيّة البلوغ مطلقاً و هو مفقود مع إذن الوليّ أيضاً، و قيامها مقام الشرط المفقود يحتاج إلى دليل مفقود أيضاً.

و عن أبي حنيفة الاستدلال بأنّ المقتضي للصحّة موجود و المانع مفقود، إذ ليس إلّا الحجر و إذن الوليّ يرفعه.

و يزيّفه منع وجود المقتضي تارةً ، و منع فقدان المانع اُخرى:

أمّا الأوّل: فلأنّ المقتضى إن اُريد به نفس العقد، ففيه: أنّه إنّما يقتضي الصحّة إذا جامع الشروط، و المقام فاقد لبعضها و هو البلوغ، و كون إذن الوليّ قائمة مقامه أوّل المسألة. و إن اُريد به العمومات القاضية بصحّة العقود، ففيه: أنّها مع تسليم تناولها لعقود الصبيّ مخصّصة بدليل شرطيّة البلوغ مع عدم دليل على قيام الإذن مقامه. و إن اُريد به أصالة الصحّة في أفعال المسلم و أقواله، ففيه: أنّ أصالة الصحّة ليست مشرّعة بأن تفيد عدم شرطيّة البلوغ أو قيام إذن الوليّ مقامه، و إنّما هي ملحقة لما اشتبه حاله من جهة الشكّ في تحقّق الشرائط الثابتة للعقد الصحيح و نحوه به.

و أمّا الثاني: فلأنّ الحجر على ما اعترف به المستدلّ كان متيقّن الثبوت، و كون الإذن رافعة له يحتاج إلى الثبوت بدليل مفقود في المقام فيستصحب.

و عن فخر المحقّقين أنّ عقده المقترن بإذن الوليّ بمنزلة عقد الوليّ فيصحّ .

و يزيّفه - مع أنّه بظاهره مصادرة أو قياس - أنّه إن اُريد أنّه بمنزلة عقد الوليّ في إفادة الصحّة، ففيه: أنّ عقد الوليّ إنّما يصحّ لاجتماعه شروط الصحّة، و منها كونه معتبر العبارة في نظر الشارع، و قد عرفت أنّ الصبيّ مسلوب العبارة و كون إذن الوليّ مصلحة لها لا يسلّم إلّا الدليل و لا دليل. و إن اُريد أنّه بمنزلته في الدلالة على رضاه، ففيه: أنّ مناط صحّة عقد الوليّ ليس مجرّد رضاه بل اجتماعه الشروط الّتي منها الرضا و منها البلوغ، و المقام ليس منه لعدم ثبوت قيام الإذن مقام البلوغ بالدليل. هذا كلّه في عقد الصبيّ .

و هل ينفذ سائر تصرّفاته الغير العقديّة كدعواه في مجلس المرافعة و إقراره و قبضه

ص: 685

المال كقبض الوقف و قبض العين الموهوبة و قبض الدين من المديون له و قبض ما اُعطي من خمس أو زكاة و قبض الوديعة و الأمانة الشرعيّة ؟ فهل يفيد صحّة الوقف و الهبة ؟ و هل يبرأ القبض في الأمثلة الاُخر و إقباضه و إيصاله الهديّة إلى المهدي إليه و إذنه في الدخول في البيت و نحو ذلك ممّا لا يحصى و إن أذن له الوليّ في هذه التصرّفات، أو لا ينفذ شيء من تصرّفاته المذكورة ؟ و هو الوجه، لعموم ما دلّ على مسلوبيّة عبارته و عدم جواز شيء من اُموره و إن أذن له الوليّ ، وفاقاً لشيخنا الاُستاد قائلاً: «بأنّ مقتضى ما تقدّم من الإجماع المحكيّ في البيع و غيره من العقود و الأخبار المتقدّمة بعد انضمام بعضها إلى بعض عدم الاعتبار بما يصدر من الصبيّ من الأفعال المعتبر فيها القصد إلى مقتضاها كإنشاء العقود أصالة و وكالة و القبض و الإقباض و كلّ التزام على نفسه من ضمان أو إقرار أو نذر أو إيجار»(1).

و قال في التذكرة: «فروع:

الأوّل: لو اشترى الصبيّ و قبض أو استقرض و أتلف فلا ضمان عليه، لأنّ التضييع من الدافع، فإن كان المال باقياً ردّه، و على الوليّ استرداد الثمن و لا يبرأ البائع بالردّ إلى الصبيّ ، و به قال الشافعي.

الثاني: كما لا يصحّ تصرّفاته اللفظيّة كذا لا يصحّ قبضه، و لا يفيد حصول الملك في الهبة و إن اتّهب الوليّ له و لا لغيره و إن أمره الموهوب منه بالقبض. و لو قال مستحقّ الدين للمديون: سلّم حقّي إلى هذا الصبيّ ، فسلّم قدر حقّه، لم يبرأ عن الدين و بقى المقبوض على ملكه و لا يضمنه الصبيّ ، لأنّ البراءة تستند إلى قبض صحيح و لم يثبت.

و لو فتح الصبيّ الباب و أذن في الدخول عن إذن أهل الدار و أوصل هديّة إلى إنسان عن إذن المهدي فالأقرب الاعتماد، لتسامح السلف فيه»(2) انتهى.

هذا على ما في النسخة الحاضرة عندنا، و ربّما يحكى عنه علاوة على ما سمعت مع اختلاف يسير في بعض ألفاظ ما سمعت، فحكى عقيب قوله: و بقى المقبوض على ملكه، هكذا «و لا ضمان على الصبيّ لأنّ المالك ضيّعه حيث دفعه إليه و بقى الدين لأنّه

ص: 686


1- المكاسب 284:3.
2- التذكرة 12:10.

في الذمّة و لا يتعيّن إلّا بقبض صحيح، كما لو قال: ارم حقّي في البحر، فرمى مقدار حقّه. بخلاف ما لو قال للمستودع: سلّم مالي إلى الصبيّ أو ألقه في البحر، لأنّه امتثل أمره في حقّه المعيّن. و لو كانت الوديعة للصبيّ فسلّمها إليه ضمن و إن كان بإذن الوليّ ، إذ ليس له تضييعها بإذن الوليّ . و قال أيضاً: لو عرض الصبيّ ديناراً على الناقد لينقده أو متاعاً إلى مقوّم ليقوّمه فأخذه لم يجز له ردّه إلى الصبيّ بل على وليّه إن كان، فلو أمره الوليّ بالدفع إليه فدفعه إليه برئ من ضمانه إن كان المال للوليّ و إن كان للصبيّ فلا، كما لو أمره بإلقاء مال الصبيّ في البحر فإنّه يلزمه ضمانه. و إذا تبايع الصبيان و تقابضا و أتلف كلّ واحد منهما ما قبضه، فإن جرى بإذن الوليّين فالضمان عليهما، و إلّا فلا ضمان عليهما بل على الصبيّين و يأتي في باب الحجر تمام الكلام. و لو فتح الصبيّ الباب و أذن في الدخول على أهل الدار، أو أدخل الهديّة إلى إنسان عن إذن المهدي فالأقرب الاعتماد لتسامح السلف فيه»(1) انتهى.

أقول: في التعليل بالنسبة إلى الأمرين الأخيرين نظر، إذ لو اُريد بتسامح السلف في الاعتماد على قول الصبيّ قلّة مبالاتهم في أمر الدين حيث اعتمدوا على ما لا ينبغي الاعتماد عليه، فهو مع ما فيه من كونه في معنى تفسيقهم أنّه لا يكشف عن الجواز، و إن اُريد به عدم مداقّتهم ليتحرّوا في تحصيل العلم، فيكشف ذلك عن جواز الاعتماد على هذا الخبر في خصوص الأمرين، و ان لم يفد الأمرين ففيه منع واضح، لأنّ هذا الخبر في غالب موارده محفوف بقرينة العلم بالصدق، فاعتماد السلف إنّما كان على العلم بالصدق لا على نفس خبر الصبيّ و إن لم يعلم صدقه، فالوجه في الأمرين أنّ خبره ما لم يفد العلم بصدقه بمعونة قرائن الحال و المقام لم يجز أخذ الهديّة منه و لا الدخول في البيت، فالمدار على العلم بصدقه لا على نفس الخبر الغير المفيد له.

و أمّا وكالته عن الوليّ في إجراء العقد إيجاباً أو قبولاً على ماله أو على مال الوليّ لنفسه أو لغيره أو عن غير الوليّ لنفسه أو لثالث، فالوجه فيها أيضاً عدم صحّة الوكالة و عدم صحّة عقده بموجب هذه الوكالة الفاسدة، لعموم ما دلّ على مسلوبيّة عبارته

ص: 687


1- نهاية الاحكام 454:2.

و عدم جواز أمر من اُموره من النصّ و الفتوى المعتضدين بإطلاق الإجماعات المنقولة و الشهرة العظيمة من غير خلاف من أهل القول بعدم صحّة عقوده، و لذا يذكرون في باب الوكالة البلوغ من شروط الوكيل المعتبرة في الصحّة من غير خلاف يظهر و لا نقل قول بالخلاف ثمّة.

و ليس في الروايات ما يدلّ على خلاف ذلك عدا ما رواه في الكافي عن محمّد ابن عيسى عن سلمة الخطّاب عن حسن بن عليّ بن يقطين عن عاصم بن حميد عن إبراهيم بن أبي يحيى عن أبي عبد اللّه عليه السلام «قال: تزوّج رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم اُمّ سلمة، و المزوّج لها ابنه أبو سلمة زوّجها إيّاه و هو صبيّ لم يبلغ الحلم»(1) وجه الدلالة أنّ أبا سلمة ربيب رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم زوج اُمّه إيّاه و هو غير بالغ، فلو لا وكالة الصبيّ صحيحة في إجراء عقد النكاح لما كان لذلك وجه.

و فيه أوّلاً: ضعف سند الرواية لسلمة الخطّاب البراوستاني نسبة إلى براوستان، فإنّ النجاشي(2) و الخلاصة(3) ذكرا أنّه كان ضعيفاً في حديثه، و زاد الخلاصة قال الغضائري:

إنّه كان يكنّى أبا محمّد و ضعّفه. نعم ربّما يذكر أمارات لو لا الجرح الصريح كانت ظاهرة في اعتبار روايته غير أنّها لا تنهض لمعارضة الجرح.

و ثانياً: أنّها ممّا لم يعمل بها الأصحاب كما يفصح عنه ما عرفت من جعلهم البلوغ شرطاً في الوكيل، فتسقط عن درجة الاعتبار و إن صحّحنا السند، مع ما ذكر فيها من التأويلات المخرجة لها عن صلاحية الدلالة، مثل احتمال كون أبو سلمة واسطة بينهما لا مجرياً للعقد وكالة عن اُمّه. و لو سلّم فمن المحتمل كونه قد نسخ. و لو سلّم فمن المحتمل كونه من الخصائص كهبة المرأة نفسها منه، فإنّه يوجب حلّ البضع بمجرّد ذلك من غير عقد.

المسألة الثانية: هل يستثنى من قاعدة عدم صحّة عقد الصبيّ و عدم نفوذ تصرّفاته معاملاته ببيع أو شراء في الأشياء الحقيرة أو لا؟

المشهور العدم فلا فرق في عدم

ص: 688


1- الوسائل 1/295:20، ب 16 عقد النكاح و أولياء العقد، الكافي 7/3391:5.
2- رجال النجاشى: 187.
3- خلاصة الأقوال في معرفة الرجال: 354.

الصحّة بين الأشياء الخطيرة و الأشياء الحقيرة، و هو الأقوى، عملاً بإطلاق النصّ و الفتوى و الإجماعات المنقولة. خلافاً لما عن المحدّث الكاشاني من قوله: «الأظهر بيعه و شراؤه فيما جرت العادة به من الأشياء اليسيرة دفعاً للحرج»(1) انتهى.

و هذا كما ترى نقض لإطلاق الأدلّة و دفع لعموم قوله: «الغلام لا يجوز أمره في البيع و الشراء حتّى يبلغ خمس عشرة سنة»(2) فلا بدّ له من دليل و لا دليل، و التعليل بدفع الحرج عليل لمنع الملازمة، إذ لا يستريب أحد في أنّه لو لا معاملات الأطفال في الأشياء اليسيرة لا يلزم حرج أصلاً، سواء اُريد بالنفي في قولنا لو لا منع الأطفال من البيع و الشراء أو منع البالغين المكلّفين من المعاملة معهم ببيع أو شراء منهم أو منع الأولياء من نصب الأطفال في الأسواق للبيع و الشراء، فدعوى لزوم الحرج تحرّج من غير أن يكون هناك حرج.

لا يقال: إنّ دليل المسألة هو ما أشار إليه بقوله «فيما جرت به العادة» فإنّ جريان العادة عبارة عن استقرار السيرة بذلك، لمنع استقرار السيرة الكاشفة أيضاً فإنّها في موارد وجودها إجماع عملي يكشف عن رأي المعصوم و رضاه، و هو ليس بمتحقّق هنا، إذ الناس أصناف:

منهم: العلماء و المجتهدون خلفاً عن سلف، و نقطع بأنّهم لا يتعاملون مع الصبيان أصلاً لا في الأشياء الخطيرة و لا الحقيرة.

و منهم: الصلحاء المتورّعون المتّقون من العوامّ العارفين بالمسائل، و نقطع بأنّهم أيضاً يحترزون عن المعاملة مع الصبيان حتّى في الأشياء الحقيرة.

و منهم: العوامّ الجاهلون بالمسائل و بعدم صحّة عقد الصبيّ و عدم نفوذ تصرّفاته، و هم قد يتعاملون مع الصبيان و لكن لجهلهم بحكم المسألة.

و منهم: العوامّ الغير المبالين في اُمور دينهم فيتعاملون مع الأطفال و يبيعون و يشترون منهم، لعدم مبالاتهم من العقود الفاسدة و أكل الأموال المحرّمة، و هم الّذين يشترون الأموال المسروقة مع العلم بالسرقة، و الّذين يأكلون الربا، و الّذين يبيعون

ص: 689


1- المفاتيح 46:3.
2- الوسائل 1/360:17، ب 14 عقد البيع، الكافي 1/197:7.

و يشترون الأشياء الموزونة و المكيلة من دون وزن وكيل، و الّذين يبيعون و يشترون من دون مراعاة لمعلوميّة الثمن و لا تعيين جنسه، و هم الذين يتعاملون مع الظلّام فيأخذون منهم الأموال المحرّمة مع العلم بالحرمة. فأين إجماع المسلمين على المعاملة معهم في الأشياء اليسيرة حتّى ينعقد به السيرة المستمرّة.

المسألة الثالثة:

في أنّ السيّد صاحب الرياض(1) قد صحّح معاملات الصبيّ في الأشياء الحقيرة إذا كان بمنزلة الآلة لمن له أهليّة التصرّف في المال، لاستقرار السيرة و استمرارها بذلك.

و هذا القول محدث منه رحمه الله و لم يسبقه إليه أحد ممّن تقدّمه ظاهراً فيكون ضعيفاً، و يكفي في ضعفه أنّ الآليّة مفهوم اعتباري و أمر انتزاعي لم يؤخذ عنواناً في الأدلّة الشرعيّة، و لم يرتّب عليه حكم في الشريعة و لم يوجد له أثر في نصوص الباب و فتاوى الأصحاب الّتي هي معاقد الإجماعات، فلا يترتّب عليها أثر في المقام فلا تصلح مصحّحة لمعاملة الصبيّ الصادرة على وجه الآليّة لا على وجه الاستقلال إلّا لدليل و لا دليل عليه.

و التمسّك باستقراء السيرة بذلك إن اُريد به أنّ السيرة مستمرّة من قديم الأيّام على استعمال الصبيان في المعاملات على وجه الآليّة لا على الاستقلال، ففيه ما لا يخفى إذ المعتبرون من المسلمين كالعلماء و الصلحاء من العوامّ لا يستعملون الأطفال في المعاملات أصلاً لا بالاستقلال و لا على وجه الآليّة، و أمّا الباقون فالأكثرون منهم لا يراعون جهة الآليّة و لا يلتفتون إليها حين البعث أو النصب و الأخذ و الإعطاء فلا يبقى إلّا الأقلّون منهم و لا يتحقّق بعملهم إجماع عملي بين المسلمين.

و إن اُريد به أنّ المعاملة الواقعة بتوسّط الصبيّ على وجه الآليّة بأن يكون الصبيّ واسطة بين الفاعل و المنفعل و هو المعاملة القائمة بالكاملين اللذين هما الفاعل ممّا استقرّت السيرة على تصحيحها و ترتيب الآثار عليها، ففيه منع استقرار السيرة على التصحيح إلّا على تقدير كون المعاملة المفروضة جامعة لشروط الصحّة الّتي منها أن يقصد كلّ من الكاملين عند رفع كلّ من العوضين إلى الصبيّ ليوصله إلى صاحبه إنشاء

ص: 690


1- الرياض 217:8.

تمليكه من صاحبه عوضاً و منها اتّصال القبول بالإيجاب بعدم تخلّل فصل زماني طويل بينهما، و من المعلوم ضرورة عدم اطّراد تحقّق هذه الشروط سيّما الأخير إذا كان أحد الكاملين المرسل للصبيّ في بيته و الآخر في السوق و كان بينهما مسافة بعيدة إلّا أن يلتزم بسقوط اعتبار شرط الاتّصال في المعاطاة، بدعوى أنّه كما ثبت مشروعيّة أصل المعاطاة بالسيرة فكذلك يثبت عدم اعتبار الاتّصال فيها بالسيرة، و مرجعه إلى أنّ الاتّصال إنّما يعتبر في البيع بالصيغة المخصوصة لا في المعاطاة بدلالة السيرة على ذلك، فيشكل الحال حينئذٍ في تماميّة السيرة بحيث تكشف عن رضا المعصوم، لعدم معلوميّة كونها قديمة مستمرّة من أعصار أهل بيت العصمة إلى يومنا هذا. فجعل هذه المعاطاة الّتي لا اتّصال فيها بين إيجابها و قبولها الفعليّين من الكاملين الغائب كلّ منهما عن صاحبه، بيعاً صحيحاً مفيداً للملك استناداً إلى السيرة مع خروجها عن معاملة الصبيّ في غاية الإشكال.

نعم لو جعلت من الإباحة المشروطة بإباحة إذا علم كلّ منهما من جهة القرائن برضا صاحبه بالتصرّف في ماله المدفوع إليه بواسطة الصبيّ نظير الهديّة الواصلة إليه بواسطته لم يكن بعيداً. لكنّ الأقرب بالتقوى و الأوفق بطريقة الاحتياط الّذي هو سبيل النجاة هو مراعاة التوكيل، بأن يوكّل أحد الكاملين صاحبه خصوصاً في واقعة خاصّة أو عموماً، في أنّه عند مجيء الصبيّ من قبله و إتيانه بالثمن يبيع المتاع منه و يقبل البيع من قبله فيسلّمه للصبيّ ليوصله إليه.

ص: 691

المبحث الثاني في العقل و هو ثاني شروط المتعاقدين المعتبرة في صحّة العقد،
اشارة

و فرّع عليه عدم صحّة عقد المجنون و المغمى عليه و السكران، و ربّما يستشكل في التفريغ نظراً إلى أنّ العقل يطلق على معنيين:

أحدهما: ما يتميّز به الإنسان عن سائر أنواع الحيوان، و هو القوّة العاقلة الإنسانيّة و هي الملكة النفسانيّة الّتي يصدر منها الآثار على وجه الاعتدال، و هو أن يشبه الأفعال و التروك الصادرة من صاحبها بأفعال العقلاء و تروكهم.

ثانيهما: الحالة النفسانيّة المترتّبة على المعنى الأوّل و هو التعقّل المفسّر بالإدراك الفعلي للمنافع و المضارّ و التمييز بين المصالح و المفاسد، و الفرق بين المعنيين مع اشتراكهما في كونهما من الكيفيّات النفسانيّة، أنّ الأوّل من قبيل الملكات و الثاني من قبيل الحالات، فلو اُريد به في محلّ الاشتراط المعنى الأوّل لم يصحّ تفريع عدم صحّة عقد المغمى عليه و السكران عليه لأنّهما ليسا بفاقدين للمعنى الأوّل بل المعنى الثاني، و لو اُريد به المعنى الثاني لم يصحّ تفريع عدم صحّة عقد المجنون عليه، لأنّ ظاهرهم كونه باعتبار انتفاء القوّة العاقلة. و لكنّ الأمر في دفعه سهل، فإنّ شرط الصحّة هو التعقّل و هو لا ينافي ظهور كلامهم في كون عدم الصحّة في المجنون لكونه فاقداً للقوّة العاقلة، نظراً إلى أنّ انتفاء التعقّل قد يكون لفقد المقتضي، و قد يكون لوجود المانع، أما الأوّل فكما في المجنون لأنّ القوّة العاقلة بالنسبة إلى التعقّل و الإدراك الفعلي من باب المقتضي لا العلّة التامّة، و أمّا الثاني فكما في المغمى عليه و السكران لأنّ كلاًّ من الإغماء و السكر مانع من التعقّل و الإدراك الفعلي.

ص: 692

و السرّ في كون التعقّل معتبراً في الصحّة أنّ العقد بمعنى الربط المعنوي بين المتعاقدين لا يتحقّق إلّا بتعقّل كلّ منهما و إدراكه لمدلول الإيجاب و القبول، و الدليل على الشرطيّة مضافاً إلى ذلك الإجماع بقسميه، بل المنقول منه على ما في كلامهم مستفيض، و قد اعترف بعضهم بأنّ الدليل منحصر في الإجماع.

نعم قد يستدلّ عليه مضافاً إلى الإجماع بالخبر النبويّ المتقدّم في شرط البلوغ «رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبيّ حتّى يبلغ، و عن المجنون حتّى يفيق، و عن النائم حتّى يستيقظ»(1) بناءً على أنّ المراد رفع جميع الأحكام الّتي منها صحّة العقود.

و فيه: منع الدلالة عليه بسند متقدّم في البلوغ، و ملخّصه: أنّ ظاهر الخبر بملاحظة إضافة الرفع إلى القلم رفع قلم الكتابة، و معناه أنّه لا يكتب عليه في صحيفة الأعمال من الأفعال و التروك الصادرتين عنه ما لو صدر من البالغ العاقل كان من السيّئات كالقتل و الجناية و الضرب و الشتم، و أكل المال المحرّم و ترك الصلاة و الصوم و ما أشبه ذلك، و اللازم منه أن لا يؤاخذ بتلك الأفعال و التروك، و هذا لا يلازم عدم صحّة عقوده.

و من طريق هذا المنع يعلم منع الدلالة أيضاً فيما لو استدلّ بالخبر المرويّ عن قرب الإسناد بسنده عن أبي البختري عن أبي جعفر عليه السلام عن أبيه عليه السلام عن عليّ عليه السلام أنّه قال: «المجنون و المعتوه الّذي لا يفيق، و الصبيّ الّذي لم يبلغ عمدهما خطأ يحمله العاقلة، و قد رفع عنهما القلم»(2).

فإنّ رفع القلم هنا أيضاً ظاهر في رفع قلم الكتابة لسيّئاتهما في صحائف الأعمال، و هذا لا يلازم عدم صحّة عقودهما، إلّا أن يستظهر الدلالة من ذلك باعتبار كونه لتعليل الحكم المستفاد من قوله: «عمدهما خطأ» نظراً إلى أنّ العمد هنا عبارة عن القتل العمدي الصادر منهما عن قصد و رويّة، و معنى كون قصدهما خطأ» أنّه بمنزلة العدم في نظر الشارع، على معنى أنّه لم يعتبر قصدهما و لم يرتّب عليه الآثار الشرعيّة المترتّبة على القصد، و لذا رفع عنه القصاص و جعل الدية على العاقلة، و قضيّة ذلك من جهة

ص: 693


1- عوالي اللآلي 48/209:1.
2- الوسائل 2/90:29، ب 36 أبواب القصاص في النفس، قرب الإسناد: 569/155.

عموم العلّة المنصوصة أن لا يكون قصدهما معتبراً في العقود أيضاً. و لكن ذلك مبنيّ على التزام تحقّق القصد من المجنون و أنّ عدم صحّة عقده باعتبار كون هذا القصد كلا قصد، و مرجعه إلى أنّ القصد الّذي هو ملاك صحّة العقود على ما سيأتي هو القصد الناشئ عن القوّة العاقلة و الملكة النفسانيّة لا مطلق القصد و إن لم ينشأ منها، فليتدبّر.

فرعان:
أحدهما: إذا أوجب أحد المتعاقدين و هو عاقل و صاحبه غير عاقل

و لمّا فرغ أفاق صاحبه فقبل عاقلاً، أو أنّه لمّا فرغ جنّ فقبل الآخر حال جنونه، فقد يقال فيه بالصحّة.

و لا يخلو عن إشكال، لظهور معاقد الإجماعات في اعتبار وجود العقل لكلّ من الموجب و القابل حال تلفّظه بما هو وظيفته من صيغتي الإيجاب و القبول و تلفّظ صاحبه بما هو وظيفته أيضاً، مع أنّ الربط المعنوي لا يتحقّق بينهما إلّا على تقدير تعقّل كلّ منهما و فهمه لمدلولي الصيغة الصادرة منه و الصيغة الصادرة من صاحبه.

ثانيهما: لو وقع العقد و التقابض بين ناقصين

كصبيّين أو مجنونين أو صبيّ و مجنون فتلف ما في يد كلّ منهما بإتلافه أو بغير إتلافه كان الضمان عليهما إن لم يأذنهما وليّهما في التعاقد، و على وليّهما إن أذنهما فيه لأنّه السبب بإذنه في الإتلاف و التلف. و قد يفرّط في تضمين الوليّين و إن لم يأذنهما فيه إذا اطّلعا و علما بإرادتهما و قصّرا في منعهما لأنّ الوليّ منصوب لحفظ المولّى عليه و حفظ ماله فتلفه يستند إلى تقصيره، و ليس ببعيد.

و لو وقع العقد و التقابض بين كامل و ناقص لا ضمان على الناقص، لأنّ الكامل ضيّع ماله حيث دفعه إلى الناقص و سلّطه على إتلافه، بخلاف الكامل فإنّه يضمن مال الناقص لعموم «على اليد» و عموم «من أتلف».

ص: 694

المبحث الثالث في الاختيار الّذي جعله الأصحاب ثالث شروط المتعاقدين المعتبرة في الصحّة، و فرّعوا عدم صحّة عقد المكره.
و ليعلم أنّ الاختيار له معنيان:
أحدهما: ما يقابل الجبر،

و هو أن يكون الفاعل مجبوراً في فعله، و منه أفعال العباد على مذهب الجبريّة القائلة بكونهم مجبورين في أفعالهم لاستناد صدورها إلى إرادة قديمة و هي إرادة اللّٰه سبحانه من دون إرادة منهم أو مع إرادة غير مؤثّرة، خلافاً للعدليّة القائلين بكونهم مختارين في أفعالهم لصدورها عنهم بإرادة حادثة و هو إرادة العبد من دون مدخليّة للإرادة القديمة فيها. و الاختيار بهذا المعنى ملاك التكاليف الشرعيّة، و عليه مدار اتّصاف الأفعال بالحسن و القبح، و هو مناط الثواب و العقاب.

ثانيهما: ما يقابل الإكراه،

و هو أن يكون الحامل له على الفعل توعيد الغير و تهديده على تركه بقتل أو جناية أو ضرب أو أخذ مال منه بقهر و نحو ذلك، فالاختيار أن يكون الحامل له على الفعل شيء من الدواعي العادية الباعثة على صدوره عن رضاه و طيب نفسه. و المراد به في محلّ البحث هو هذا المعنى على ما يقتضيه كلمة الأصحاب نصوصيّة و ظهوراً، و لأنّهم باعتبار هذا الشرط احترزوا عن عقد المكره.

و استدلّ على الشرطيّة بعد الأصل بالإجماع و الكتاب و السنّة.
أمّا الإجماع

فبقسميه، بل المنقول منه مستفيض.

ص: 695

و أمّا الكتاب

فقوله تعالى: «إِلاّٰ أَنْ تَكُونَ تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ » (1) يدلّ على أنّ كلّ تجارة ليس فيها تراض و رضاً نفساني فأكل المال المأخوذ من جهتها أكل بالباطل، و لا يكون كذلك إلّا من جهة البطلان، بناءً على أنّ بطلان عقد المكره باعتبار انتفاء الرضا لا غير.

و أمّا السنّة:

فقوله عليه السلام: «لا يحل مال امرئ إلّا عن طيب نفسه»(2) بناءً على ما عرفت من كون بطلانه باعتبار انتفاء الرضا و طيب النفس.

و استدلّ أيضاً بالنبوي المتّفق عليه بين المسلمين المعمول به عند الفريقين العامّة و الخاصّة «رفع عن اُمّتي تسعة، و ذكر منها ما استكرهوا عليه»(3) و لا ينافيه ظهوره في رفع المؤاخذة، لأنّ المراد به رفع المؤاخذة على مخالفة الإلزامات الشرعيّة الحاصلة في الواجبات، و يكون كناية عن ارتفاع أصل الإلزامات بسبب طروء إحدى الأعذار التسعة الّتي منها الإكراه، فيدلّ بعمومه على رفع الإلزام في عقد المكره إذا امتنع بعد العقد عن ردّ المثمن أو الثمن إلى صاحبه عند ارتفاع الإكراه بعد العقد و قبل الردّ بموت المكره و نحوه، و هو يستلزم عدم صحّة العقد و عدم انتقال المال عن المكره إلى صاحبه بذلك العقد.

و استدلّ أيضاً بالأخبار(4) الواردة في بطلان طلاق المكره مع انضمام الإجماع المركّب و عدم القول بالفصل.

و العمدة في المقام هو التكلّم في تحقيق موضوع المسألة الّذي هو مورد الأدلّة و معقد الإجماعات المنقولة،

فنقول: إنّ العقد اللفظي مشتمل على لفظ و هو الصيغة المخصوصة كصيغة «بعت» مثلاً في البيع، و على مدلول مادّي و هو معنى «البيع» و على مدلول هيئي و هو المعنى الإنشائي أعني إيجاد معنى البيع و إيقاعه بنفس الصيغة، و على مدلول التزامي هو الحاصل من المعنى الإنشائي أعني مضمون العقد الواقع في الخارج كتمليك العين المستتبع لتملّكها من حيث إنّه الواقع في الخارج، و هو المقصود بالأصالة و المطلوب بالذات من إجراء العقد. و من المعلوم أنّ العقد المشتمل على الاُمور

ص: 696


1- النساء: 29.
2- عوالي اللآلئ 309/113:2.
3- عوالي اللآلئ 131/232:1.
4- الوسائل 6/86:22، ب 37 مقدّمات الطلاق.

المذكورة لا ينعقد صحيحاً إلّا بقصود أربع على معنى توقّف انعقاده على هذه القصود، و هي القصد إلى التلفّظ بهذا اللفظ الخاصّ ، و القصد إلى مدلوله المادّي، و القصد إلى مدلوله الهيئي أعني قصد الإنشاء و هو إيجاد المدلول المادّي و إيقاعه حال التلفّظ بنفس الصيغة المتلفّظ بها، و القصد إلى وقوع ما قصد إيقاعه في الخارج و قد يعبّر بالقصد إلى وقوع مضمون العقد في الخارج. و لا ريب أنّ قصد الإيقاع لا يستلزم قصد الوقوع في الخارج، نعم انتفاء قصد الوقوع يستلزم انتفاء الوقوع في الخارج، و هو يستلزم عدم تحقّق الإيقاع و إن قصد، لأنّ صدق الإيقاع باعتبار تحقّق الوقوع في الخارج فإذا لم يتحقّق لانتفاء القصد إليه لم يصدق الإيقاع فلا يبقى إلّا قصده.

و كيف كان فإذا انتفى القصد إلى التلفّظ كالصيغة الصادرة من النائم أو الغافل أو الغالط، أو القصد إلى المدلول المادّي كما إذا صدرت من الهاذل أو المورّي في بعض فروضهما و لو باعتبار إرادة معنى لفظ آخر في التورية كالإجارة أو الصلح أو النكاح، أو القصد إلى المدلول الهيئي كما في الهاذل أو المورّي في فرض آخر و لو باعتبار إرادة الإخبار لا الإنشاء فلا عقد. و لو انتفى القصد إلى وقوع المضمون في الخارج فلا نفوذ بل يقف النفوذ على لحوق الرضا به بلحوق الإجازة الكاشفة عنه.

و بهذا يعلم أنّ القصد الرابع يغاير غيره ممّا قبله ذاتاً، بكونه عبارة عن الرضا المقابل للكراهة، و المراد به عدم كراهة وقوع مضمون العقد في الخارج و يطلق عليه لفظ الاختيار. قال في المجمع: «قوله و رضيت بالشيء رضا اخترته، و ارتضيته مثله»(1)و هما معاً بمعنى طيب النفس، و لذا قال في المجمع أيضاً: «قول العرب طاب لي هذا أي فارقته المكاره و طاب له العيش فارقه المكاره»(2) و حاصل معنى مفارقة المكاره إيّاه أن لا يكرهه، و منه قوله عزّ من قائل: «فَانْكِحُوا مٰا طٰابَ لَكُمْ مِنَ اَلنِّسٰاءِ » (3) و طبت به نفساً و طابت نفسي به يراد بهما رضا النفس به أي كونه بحيث لا تكرهه النفس، فطيب النفس بالقياس إلى مضمون العقد رضاها بوقوعه في الخارج و عدم كراهتها إيّاه.

و وصفاً بإمكان حصول كلّ ممّا قبله بمجرّد الإكراه بأن يكون الحامل له على قصد

ص: 697


1- مجمع البحرين 187:1 (رضا).
2- مجمع البحرين 111:2.
3- النساء: 3.

التلفّظ بالصيغة أو قصد معناها المادّي أو الهيئي هو التخلّص عن الضرر المتوعّد به بخلاف القصد بمعنى الرضا و الاختيار و عدم الكراهة، لعدم إمكان حصوله بمجرّد الإكراه بل حصوله منوط بدواعي نفسانيّة أو دواعي خارجيّة موجبة لرجحان وقوع مضمون العقد في الخارج على عدم وقوعه الّذي هو الحامل على الرضا به و الباعث على ارتفاع الكراهة، و لا ريب أنّ الإكراه ليس منها بل الإكراه ما دام باقياً لا يعقل حصول و زوال الكراهة، فإنّه عبارة عن حمل الغير على أمر كرهاً أي حمله على ما يكرهه. و من هنا يقال: إنّ الإكراه على القصد غير ممكن، إذ لا يصحّ تنزيل القصد في هذه القصد إلى ما عدا القصد بمعنى الرضا بوقوع مضمون العقد في الخارج.

و قد اضطربت كلمة الأصحاب في أنّ الجهة المقتضية لبطلان عقد المكره هل هي انتفاء القصد إلى مدلوله، أو انتفاء الرضا من المكره ؟ فقد يسند إلى ظاهر جماعة منهم الشهيدان(1) أنّ المكره قاصد إلى اللفظ غير قاصد إلى مدلوله، بل يظهر ذلك من بعض كلمات العلّامة(2) أيضاً، و ظاهر هذه العبارة كما ترى اعتبار انتفاء القصد إلى مطلق المدلول في عقد المكره. و لذا قد يعترض عليهم أخذاً بظاهر كلامهم بعدم كون المنتفى عن عقد المكره - الّذي هو موضوع المسألة و معقد الأدلّة - هو القصد إلى المدلول بل المنتفي عنه إنّما هو الرضا.

و قد يوجّه كلامهم بعدم كون المراد من القصد إلى المدلول المدّعى انتفاؤه في عقد المكره القصد إلى مطلق المدلول حتّى المعنى المادّي و الهيئي و هو الإنشاء، بل القصد إلى وقوع مضمون العقد في الخارج فإنّه أيضاً من مدلول العقد.

و هذا هو الصحيح بوجوه:

منها: ما عرفت سابقاً من أنّهم فرّعوا عدم صحّة عقد المكره على شرطيّة الاختيار، و قد عرفت لاحقاً أنّ الاختيار و الرضا لمعنى و هما مع طيب النفس لمعنى، و يراد من الجميع ما يقابل الكراهة، و رجع ذلك إلى أنّ شرط صحّة العقد المعتبر وجوده في المتعاقدين هو الرضا و أنّ كراهة المالك مانع، و من المعلوم أنّه يكره الأثر و وقوعه

ص: 698


1- كما في الدروس 192:3، المسالك 156:3، الروضة 226:3-227.
2- التحرير 51:2.

في الخارج فيكون فساد عقده لانتفاء الرضا لا غير.

و منها: ما سيأتي من أنّ المشهور المدّعى عليه الاتّفاق صحّة عقد المكره و نفوذه بلحوق الرضا الملازم لارتفاع الكراهة، و ظاهر أنّ لحوق الرضا المتأخّر إنّما يصحّحه إذا كان المنتفى عنه هو الرضا بعد تحقّق القصد إلى المعنى المادّي و الهيئي معاً، لا إذا كان فاقداً لهذا القصد أيضاً فإنّه حينئذٍ يصير بمنزلة ما يصدر من الهازل و المورّي و لا يعقل أن يصحّحه الرضا المتأخّر. و السرّ في الفرق أنّ العقد سبب للأثر المترتّب عليه و قصد معنى اللفظ مادّة و هيئة معتبر في تحقّق ذات السبب فإذا انتفى انتفى ذات السبب، و الرضا المتأخّر لا يعطيه الوجود بخلاف الرضا مع تحقّق شرط تحقّق الذات، فإنّه شرط لتأثيره فإذا انتفى انتفى التأثير لا الذات، و إذا لحقه الرضا أو الإجازة الكاشفة عن الرضا يؤثّر أثره، غاية الأمر رجوع ذلك إلى أنّ هذا الشرط للتأثير لا يعتبر فيه المقارنة للعقد، و لا ضير فيه إذا ساعد عليه الدليل.

و منها: ما يجده المتتبّع في تضاعيف كلماتهم، من أنّ عقد المكره يجري عندهم في البطلان و الصحّة مع الإجازة الكاشفة عن الرضا مجرى عقد الفضولي، و لا ريب أنّ عقده فاقد لرضا المالك لا القصد إلى مدلول اللفظ مادّة أو هيئة و كذا ما يجري مجراه.

و أيضاً يوجد في مطاوي عباراتهم التعبير عن الشرط المفقود في عقد المكره تارةً بالقصد إلى مدلول اللفظ، و اُخرى بالرضا مكان القصد، و ثالثة بالقصد و الرضا معاً في موضع واحد أو موضعين من كتاب واحد، و من ذلك ما في الرياض من نقل تعليلهم لصحّة عقده بعد الإجازة «بأنّه بالغ رشيد قاصد إلى اللفظ دون مدلوله، و إنّما منع عدم الرضا، فإذا زال أثّر العقد كعقد الفضولي حيث انتفى القصد إليه من مالكه مع تحقّق القصد إلى اللفظ في الجملة، فلمّا لحقته إجازة المالك [أثّرت] و لا يعتبر مقارنته للعقد للأصل، بخلاف العقد المسلوب بالأصل كعبارة الصبيّ فلا يجبره إجازة الوليّ و لا رضاه بعد بلوغه»(1) انتهى.

فلاحظ ما في عبارة الدليل، أوّلاً: من فرض انتفاء القصد إلى مدلول اللفظ، و ثانياً:

ص: 699


1- الرياض 218:8.

حصر الجهة المقتضية للمنع في عدم الرضا، و ثالثاً: جعل المفقود في عقد الفضولي القصد إليه من مالكه، و هذا كلّه يعطي مرادفة الرضا للقصد إلى مدلول اللفظ عندهم، و لا يتمّ إلّا إذا كان مدلول اللفظ مراداً به الأثر المعبّر عنه بمضمون العقد.

و منها: أنّهم حكموا بعدم وجوب التورية في التفصّي عن الإكراه توصّلاً إلى إفساد العقد الصادر منه، و السرّ فيه أنّه في عقده إن لم يكن كارهاً لوقوع مضمونه في الخارج فهو ليس بمكره و عقده خارج عن موضوع عقد المكره، و حينئذٍ فإن ورّى كان فساده من جهة التورية لا من جهة عقد مكره، و إن كان كارهاً فكراهته كافية في فساده من غير حاجة إلى التورية لكون الرضا المرادف للاختيار من شروط الصحّة و هو لا يجامع الكراهة.

فبجميع ما ذكرنا ظهر وجه صحّة التوجيه المتقدّم لكلام الجماعة من كون المكره قاصداً للّفظ غير قاصد لمدلوله، و يجري نحوه فيما ذكره العلّامة في التحرير من أنّه لو اُكره على الطلاق فطلّق ناوياً فالأقرب وقوع الطلاق إذ لا إكراه على القصد انتهى.

و حاصله أنّ هذا الطلاق من جهة تحقّق نيّة الطلاق على معنى قصد وقوع أثره في الخارج ليس من طلاق المكره، ليفسد من جهة النصوص الدالّة على فساد طلاق المكره. و قوله: «إذ لا إكراه على القصد»(1) يعني أنّ طلاق المكره المحكوم على فساده ما اُكره على القصد على معنى كون الإيعاد بالإضرار على ترك الطلاق موجباً لوقوعه عن كره و لا عن طيب نفس، و هذا ليس كذلك لوقوعه عن قصد وقوع أثره.

ثمّ ينبغي الكلام في موضوع المكره، و ما يعتبر في تحقّق الإكراه و ما لا يعتبر، فنقول: إنّ المكره مفعول من الإكراه و هو إفعال من الكره فبضابطة أنّه يعتبر في صدق المشتقّ تحقّق المبدأ لا بدّ في صدق المكره من تحقّق الإكراه المتوقّف على تحقّق الكره، فنقول: إنّ ظاهر كلماتهم يعطي اتّفاقهم على اعتبار الإيعاد في تحقّقه، بأن يكون الحامل له على إجراء العقد إيعاد الغير بالإضرار على تركه، فمن لا إيعاد من الغير في عقده فليس بمكره، و إن كان الحامل له على العقد خوف التضرّر بتركه - كما لو باع ملكه أو عقاره أو متاعه دفعاً للضرر المترتّب على ترك البيع - فإنّه ليس من عقد

ص: 700


1- التحرير 51:2.

المكره و لا إشكال في صحّته، لصدوره باختياره و رضاه و عن طيب نفسه و إن كان الباعث عليه خوف الضرر، بل أكثر البيوع الصادرة من الناس و لا سيّما أهل الأسواق و لا سيّما التجّار إنّما تصدر لخوف الضرر بتركها.

و يعتبر في تحقّقه أيضاً كون الإيعاد على ترك العقد على معنى كون المتوعّد على تركه نفس العقد لا أمراً آخر حاملاً للعاقد على اختيار العقد، فمن اُوعد على ترك دفع مال كالظالم إذا طلب منه مالاً ظلماً و أوعده على عدم دفعه، و توقّف دفعه على بيع بعض أمواله أو أملاكه أو عقاراته، فباعه للتفصّي عن الضرر المتوعّد به على عدم دفع المال، فبيعه ليس من عقد المكره و لا إشكال في صحّته، لحصوله باختياره و عدم كرهه في أصل البيع و إن كان مكرهاً في دفع المال، و هذا أيضاً كثير شائع وقوعه بين الناس.

ثمّ إنّهم اعتبروا في تحقّق موضوع الإكراه شروطاً ثلاث ذكروها في كتاب الطلاق في باب طلاق المكره: و هي أن يكون المكرِه - بالكسر - قادراً على فعل ما أوعد به من قتل أو جرح أو ضرب أو حبس أو إهانة أو استخفاف أو هتك عرض، و غلبة ظنّ المكرَه - بالفتح - على أنّه يفعل ما أوعده به، و أن يكون ما أوعده به مضرّاً بخاصّة نفسه أو متعلّقه كأبيه و ابنه و اُمّه و أخيه.

و السرّ في اعتبار هذه الاُمور أنّ الأصل في أفعال الإنسان هو الاختيار و يعبّر عنه ب «أصالة الاختيار» و مدركها الغلبة، و أنّ الظاهر من العقد الصادر من البالغين الكاملين هو تحقّق القصود الأربع المتقدّمة الّتي رابعها قصد وقوع الأثر في الخارج و الرضا به و طيب النفس فيه و عدم الكره فيه. فلا بدّ في صدق كون العاقد مكرهاً و تحقّق الكراهة فيه عند الإيعاد بالإضرار على تركه العقد من حصول ما يزاحم أصالة الاختيار و الظهور اللفظي، و يوجب الخروج عنهما بظهور عدم الاختيار و تحقّق الكره - أعني ما يكشف عن الكره و عدم الاختيار - و ليس إلّا الإيعاد المقترن بالاُمور الثلاث، ضرورة أنّ إيعاد من لا يقدر على فعل ما أوعد به، أو إيعاد من لا يغلب على الظنّ أنّه يفعل ما أوعد به، أو الإيعاد بما لا يكون مضرّاً بخاصّة نفس العاقد أو متعلّقه لا يكشف عن الكره و عدم الاختيار، فيكون الأصل و الظهور اللفظي على حالهما و يجب الأخذ بهما و مقتضاهما الصحّة.

و هل يعتبر في موضوع الإكراه عجز المكرَه عن التفصّي عن الضرر المتوعّد به

ص: 701

بما لا يوجب ضرراً آخر، فمن يقدر على دفعه بفرار أو مقاومة أو استعانة و لم يدفعه فهو ليس بمكره أو لا؟ فعن جماعة(1) منهم الشهيد(2) الثاني اعتباره، و قيل بالعدم.

و ليعلم أنّ الصور المتصوّرة في المقام أربعة، لأنّ المكرَه إمّا أن يدور أمره على سبيل منع الخلوّ بين أن يأتي بالفعل المكره عليه أو يمكّن نفسه عن تحمّل الضرر المتوعّد به، أو بين أن يأتي بالفعل المكره عليه أو يمكّن نفسه عن تحمّل الضرر المتوعّد به أو يدفع الضرر بما يوجب ضرراً آخر مساوٍ للأوّل أو أشدّ منه أو أخفّ منه، أو بين أن يأتي بالفعل المكره عليه أو يمكّن نفسيه من تحمّل الضرر المتوعّد به أو يدفعه بما لا يوجب ضرراً آخر أو بين أن يأتي بالفعل أو يمكّن نفسه من تحمّل الضرر أو يدفعه بما يوجب ضرراً آخر أو بما لا يوجب ضرراً آخر.

و لا ريب في تحقّق الإكراه في الصورة الاُولى بل هو محلّ وفاق، و كذلك الثانية لأنّ القدرة على دفع الضرر المتوعّد به بما يوجب ضرراً آخر في معنى عدم القدرة على دفع نوع الضرر فكونه مكرهاً حينئذٍ أيضاً محلّ وفاق، و ليس ذلك نظير دوران الأمر بين قبيحين أو ضررين أحدهما أشدّ من الآخر، لأنّ وجوب اختيار الأقلّ حينئذٍ إنّما هو لانحصار الأمر في ارتكاب أحدهما و لم يكن مناص عنه، و محلّ الكلام ليس منه لأنّ الغرض دفع الضررين معاً بالإقدام على الفعل المكره عليه، و لا ريب أنّه يصدق عرفاً أنّه مكره في فعله، و لذا قيّد جماعة(3) من الفحول القدرة على الدفع بما لا يوجب ضرراً آخر.

و أمّا الصورتان الاُخريان فكلّ منهما من محلّ النزاع، و مرجع الكلام فيهما إلى أنّ القدرة على دفع الضرر بما لا يوجب ضرراً آخر، فمن لم يدفعه و اختار الإتيان بالفعل المتوعّد على تركه هل يكشف عن الاختيار و الرضا به و عدم كراهته أو لا؟ فنقول: إنّ الإكراه الّذي رتّب عليه الحكم في الشرعيّات قسمان:

أحدهما: ما اعتبر في رفع الأحكام التكليفيّة في الواجبات و المحرّمات، و هو الإكراه المسوّغ لتناول المحظورات و ترك المفروضات، بحيث لا يكون آثماً و لا مؤاخذاً

ص: 702


1- كما في الحدائق 159:25، و المستند 267:14.
2- المسالك 18:9-19.
3- كما في المستند 268:14.

و لا مخاطباً بكفّارة و غيرها من الآثار المترتّبة على مخالفة التكليف الإلزامي، كما لو اُكره على شرب الخمر أو أكل المال الحرام أو ترك الصلاة أو صيام نهار رمضان و ما أشبه ذلك، و هذا ممّا لا إشكال بل الظاهر أنّه لا خلاف في أنّه يعتبر في تسويغه المحظورات عجزه عن التفصّي عن الضرر المتوعّد به، و مناطه توقّف دفع ضرر المكره على ارتكاب المكره عليه من فعل محرّم أو ترك فريضة، و عليه يحمل الإكراه في حديث رفع المؤاخذة «عمّا استكرهوا عليه».

و ثانيهما: الإكراه الرافع لآثار المعاملات، و هذا هو محلّ البحث، فنقول: إنّه ربّما يستظهر عدم اعتبار العجز من رواية عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال: «لا يمين في قطيعة رحم، و لا في جبر، و لا في إكراه، قلت: أصلحك اللّٰه، و ما الفرق بين الجبر و الإكراه ؟ قال: الجبر من السلطان، و يكون الإكراه من الزوجة و الاُمّ و الأب و ليس ذلك بشيء...»(1) الخبر. فإنّ المقابلة و بيان الفرق ظاهر في أنّ المراد بالجبر ما يبلغ حدّ الإلجاء و الاضطرار، و لا يكون إلّا حيث لم يكن له طريق إلى التخلّص، و لذا خصّه بالسلطان الّذي يغلب فيه ذلك. فيكون الإكراه دونه و هو ما لا يبلغ الحدّ المذكور، و لذا أضافه إلى الزوجة و الاُمّ و الأب الّذين يغلب فيهم وجود طريق التخلّص.

و فيه: نظر، لمنع كون نظر الإمام في بيان الفرق إلى ما ذكر، بل إلى اعتبارات اُخر مثل أنّ السلطان يأمر بما يخاف الضرر على تركه من دون توعيد، بخلاف الإكراه الّذي لا بدّ فيه مع الأمر من التوعيد، أو أنّ جعل الجبر من السلطان باعتبار كونه عند العرف جابراً فأمره بخلاف العدل مع التوعيد على الترك جبر، بخلاف الزوجة و الاُمّ و الأب لعدم صدق الجابر عليهم، أو أنّ الجبر أمر بخلاف العدل مع خوف الضرر على المخالفة من غير توعيد، بخلاف الإكراه الّذي هو أمر مع التوعيد، فلا ظهور للرواية على عدم اعتبار العجز في موضوع الإكراه.

فالحقّ في المقام ما عليه الجماعة من اعتبار العجز عن التفصّي في مفهوم الإكراه لشهادة التبادر الوجداني و الاستقرائي بذلك، فإنّ المتبادر المنساق من لفظ الإكراه

ص: 703


1- الوسائل 1/235:23، ب 16 كتاب الأيمان، التهذيب 1053/286:8.

و تصاريفه مثل «أكرهته على كذا و أكرهني على كذا و ما أشبه ذلك» هو أمر الإنسان بفعل مع التوعيد على تركه بما يعدّ في العرف ضرراً من قتل أو جرح أو ضرب أو حبس أو شتم أو هتك عرض أو إتلاف بحيث لم يتمكّن المأمور من التفصّي عادةً بوجه من الوجوه إلّا فعل المأمور به، فيعتبر فيه الأمر بالفعل و التوعيد على تركه و العجز عن التفصّي إلّا بفعل المأمور به.

و كما أنّه لا إكراه مع انتفاء أصل الأمر و إن كان الحامل على الفعل دفع الضرر المترتّب على تركه كبيع الدار لدفع الضرر المترتّب على ترك البيع أو مع عدم كون الفعل الصادر منه نفس المأمور به المتوعّد على تركه بل من مقدّماته كبيع الدار لدفع ثمنه إلى ظالم يطلب منه مالاً ظلماً، فكذلك لا إكراه فيما يقدر المأمور من التفصّي عن الضرر بغير فعل المأمور به، فالأمر الحامل له على الفعل حينئذٍ ليس من موضوع الإكراه عرفاً، فلا يرتفع به حكم تكليفي فيما لو تحقّق بالنسبة إلى ما رتّب عليه [الأحكام] التكليفيّة كالحرمة في شرب الخمر و غيره، و لا حكم وضعي فيما لو تحقّق فيما رتّب عليه الأحكام الوضعيّة كالصحّة في البيع و نحوه.

و السرّ في انفهام العجز أنّ الظاهر المتبادر من التوعيد على ترك المأمور به كون الضرر المتوعّد به مترتّباً على ترك المأمور به بعينه كما في أمر الشارع مع التوعيد بالعقاب على المخالفة، و هذا يقتضي اعتبار العجز عن التفصّي، إذ مع القدرة عليه كان الضرر المتوعّد به مترتّباً على ترك المأمور به و ترك التفصّي معاً لا على ترك المأمور به بعينه. و قضيّة ذلك أن يكون مختاراً في إتيانه بالمأمور به، كما أنّه لو أقدم على التفصّي كان مختاراً فيه، و الّذي يكشف عن كونه مختاراً في التفصّي - مضافاً إلى الصدق العرفي - أنّ التفصّي مسقط عن الفعل المأمور به لا أنّه بدل له، لأنّ الآمر لم يأمره بأحد الأمرين من فعل المأمور به أو التفصّي عن الضرر على وجه التخيير، فإنّه لو كان كذلك لم يكن مختاراً لا في التفصّي على تقدير الإقدام عليه و لا في فعل المأمور به على تقدير الإقدام عليه، و إنّما أمره بفعل المأمور به بعينه، و وجود المسقط يوجب صدق كونه مختاراً في فعله كما أنّه مختار في فعل التفصّي.

و بالتأمّل في ذلك يظهر أنّه لا فرق في صدق الإكراه عرفاً في محلّ العجز عن

ص: 704

التفصّي بين كون المأمور به المكره عليه أمراً واحداً شخصيّاً كما لو قال: «بع دارك و إلّا لأقتلنّك» أو أمرين على وجه التخيير الّذي صرّح به الآمر كما لو قال: «بع دارك أو طلّق زوجتك و إلّا لأقتلنّك» فاختار بيع الدار، أو أمراً كلّيّاً حكم العقل بالتخيير بين أفراده كما لو قال: «بع واحداً من عبيدك و إلّا لأقتلنّك» و عنده عبيد متعدّدون فباع واحداً معيّناً منهم، فإنّه في الجميع مكره في نظر العرف. و بالجملة تعدّد المكره على أحدهما أو كلّيّته لا يمنع من تحقّق موضوع الإكراه، و لا يرفع صدق اسم المكره عرفاً فيما إذا اختار أحد الفردين المخيّر فيهما بنصّ الآمر أو بحكم العقل.

ثمّ إنّه هل يعتبر في الإكراه المانع من صحّة العقد مع العجز عن التفصّي عن الضرر العجز عن التورية لدهشة أو جهل بطريق التورية فالعقد مع القدرة عليها لا يدخل في عقد المكره، أو لا يعتبر العجز منها فالعقد من القادر عليها ليس بخارج عن عقد المكره ؟ قولان، عزي(1) ثانيهما إلى الأكثر، و هو ظاهر النصّ و الفتاوى و معاقد الإجماع في عقد المكره، و ظاهر خصوص النصوص الواردة في طلاق المكره و عتقه. و قيل بالأوّل. و الصحيح ما عليه الأكثر.

و القول بالاعتبار إمّا أن يراد به اعتبار العجز عنها في موضوع الإكراه و صدق اسم المكره كالعجز عن التفصّي، أو يراد به اعتباره في حكم الإكراه و هو إبطاله العقد على معنى كونه شرطاً تعبّديّاً فيه.

و أيّاً ما كان فهو غير سديد، أمّا الأوّل: فلأنّ مناط موضوع الإكراه بالنسبة إلى المعاملة كونها لا عن طيب نفس و رضا بوقوع مضمون العقد و أثره في الخارج، و هذا يجامع كلاًّ من عدم قصد ظاهر اللفظ مادّة أو هيئة و قصد خلاف ظاهره مادّة و هيئة و قصد ظاهره كذلك، و قضيّة ذلك عدم توقّف تحقّق موضوعه و صدق اسمه على التورية، سواء اُريد بها عدم قصد الظاهر أو قصد خلاف الظاهر.

و أمّا الثاني: فلأنّ جعل العجز عن التورية شرطاً تعبّديّاً تقييد في نصوص الباب و فتاوى الأصحاب و معاقد إجماعاتهم، و هو يحتاج إلى دليل من نصّ أو إجماع،

ص: 705


1- المكاسب 313:3.

و لا دليل عليه، مضافاً إلى أنّه ممّا لا يرجع إلى محصّل و لا يفيد أثراً، لما عرفت من أدلّة بطلان عقد المكره كون الاختيار بالمعنى المرادف للرضا و طيب النفس شرط مستقلّ لصحّة العقد فانتفاؤه كافٍ في البطلان فيلغو اعتبار العجز عن التورية، فالقدرة عليها لا تنافي الإكراه موضوعاً و حكماً، و لا ينافيه ما اشتهر بين الأصحاب من وجوب التورية في الإكراه على الإتيان بكلام خبري غير مطابق حذراً عن الكذب المقتضي لاعتبار العجز عنها، لأنّ المقصود بذلك إحراز الاضطرار إلى الكذب المسوّغ له الرافع لحرمته، و هو مع القدرة على التورية من دون مراعاتها غير متحقّق، فيكون في إتيانه بالخبر الغير المطابق قد فعل محرّماً فيكون آثماً. و هذا ممّا لا مدخل له في الإكراه المعتبر في رفع الآثار الوضعيّة المترتّبة على صيغ العقود و الإيقاعات، لكفاية انتفاء طيب النفس و الرضا النفساني في ذلك.

و بهذا يعلم الحال في الكلام الخبري الصادر عن الإمام على وجه التقيّة كما لو قال:

«غسل الرجلين في الوضوء واجب» فإنّ مصلحة التقيّة في نحوه تتأدّى تارةً بإرادة الظاهر من باب بيان خلاف الواقع، و اُخرى بإرادة خلاف الظاهر من باب التورية كأن يريد من الغسل معنى المسح مجازاً من غير قرينة، و هل يجوز له الأمران، أو يتعيّن عليه الثاني و مرجعه إلى وجوب التورية عليه عليه السلام في الكلام الصادر عنه على وجه التقيّة أو لا؟ و قيل بالأوّل إذ لا اضطرار إلى الكذب مع إمكان التورية فيه فيكون مع عدم التورية قد فعل محرّماً و هو لا يناسب عصمته. و الوجه عندنا على ما حقّقناه في الاُصول هو التفصيل بين كون مصلحة التقيّة ملحوظة في حقّ الإمام فوجب عليه التورية حذراً عن الكذب المنافي لعصمته، أو في حقّ السائل باعتبار اختلاطه مع المخالفين فوجب إرادة الظاهر ليعرف السائل حكمه المبنيّ على التقيّة، و هو وجوب غسل الرجلين عليه في الوضوء ما دامت التقيّة قائمة في حقّه فليتدبّر.

ثمّ إنّ في المقام فروعاً تذكر في طيّ مسائل:
المسألة الاُولى: قد ذكرنا سابقاً أنّ الإكراه الرافع لأثر العقد كما يتحقّق لشخص على فعل واحد كذلك يتحقّق لشخص على أحد الفعلين تخييراً

كأن يقول: «بع دارك أو طلّق زوجتك و إلّا قتلتك» فباع داره فيقال عرفاً إنّه مكره على بيع داره لأنّه أحد

ص: 706

البدلين المكره على أحدهما، و قد يتحقّق أيضاً لأحد الشخصين على فعل واحد كفاية كأن يقول: «ليبع أحدكما داره و إلّا لأقتلنّكما» فباع أحدهما فإنّه مكره على بيع داره عرفاً.

المسألة الثانية: أنّ الإكراه قد يتحقّق للمالك العاقد،

و قد يتحقّق للمالك دون العاقد، و قد يتحقّق للعاقد دون المالك.

أمّا الصورة الاُولى: فقد تقدّمت أمثلتها الّتي منها أن يقول للمالك: «بع دارك و إلّا قتلتك» فباع مكرهاً، و لا إشكال في كونه من عقد المكره.

و أمّا الصورة الثانية: فكأن يقول للمالك: «وكّل فلاناً لأن يبيع دارك و إلّا قتلتك» فوكّله مكرهاً فباع الفلان، و الوجه فيه كون البيع خارجاً عن عقد المكره إذ لا إكراه للعاقد على عقده بل للمالك على توكيله، فعلى تقدير عدم تحقّق الوكالة بسبب الإكراه فالعقد المفروض داخل في عقد الفضولي و يلحقه حكمه. و ليس من هذا الباب ما لو قال للمالك: «بع دارك و إلّا قتلتك» فقال المالك لغيره: «أنت وكيل في بيع داري» فباعها الوكيل، إذ المالك ليس بمكره على التوكيل، كما أنّ العاقد ليس بمكره على البيع، فكلّ من عقد الوكالة و عقد البيع يقع صحيحاً لأنّ المالك مختار في توكيله لأصالة الاختيار و القصد، و إذا صحّ عقد الوكالة ترتّب عليه صحّة عقد البيع لكونه من بيع الوكيل، إلّا أن يقال: بأنّ قول المكره «بع دارك و إلّا قتلتك» إكراه على أحد الأمرين من المباشرة للبيع و توكيل الغير فيه فيكون مكرهاً في توكيله كما أنّه على تقدير مباشرة البيع كان مكرهاً عليه، و فيه منع واضح لعدم الانفهام العرفي.

و أمّا الصورة الثالثة: فلها فروض ثلاث:

الأوّل: أن يقول: «بع داري و إلّا قتلتك» فباعها مكرهاً، و مثله ما لو قال: «طلّق زوجتي و إلّا قتلتك» فعن ثاني الشهيدين في المسالك احتمال عدم الصحّة نظراً إلى أنّ الإكراه أسقط حكم اللفظ كما لو أمر المجنون بالطلاق فطلّقها، ثمّ ذكر الفرق بينهما «بأنّ عبارة المجنون مسلوبة، بخلاف المكره فإنّ عبارته مسلوبة لعارض تخلّف القصد، فإذا كان الآمر قاصداً لم يقدح إكراه المأمور»(1) انتهى. و هذا هو الوجه الصحيح لوقوع

ص: 707


1- المسالك 22:9.

العقد من المكره مقروناً برضا المالك و طيب نفسه فكان صحيحاً، بل هذا أولى بالصحّة من عقد المالك المكره عليه إذا رضى به لاحقاً.

الثاني: ما لو قال للوكيل في بيع الدار لا للموكّل: «بع دار فلان و إلّا قتلتك» فباع الوكيل مكرهاً فذكر في المسالك «فيه وجهين: من تحقّق الاختيار في الموكّل المالك، و من سلب عبارة المباشر»(1). أقول: الأوجه الصحّة، لمقارنة العقد لرضا المالك و طيب نفسه، و لا أثر معه لكراهة العاقد الوكيل.

الثالث: ما لو قال لأجنبيّ : «بع دار فلان و إلّا قتلتك» فباع مكرهاً. و الوجه فيه كونه من عقد الفضولي فيلحقه حكمه، و الفرق بينهما بأنّ العاقد الفضولي قاصد للأثر، و هذا غير قاصد لا يوجب فرقاً في الحكم بعد لحوق الإجازة.

المسألة الثالثة: لو أكرهه على بيع عبد معيّن من عبديه اسمه المبارك فباع البشير،

أو أكرهه على بيع الواحد المعيّن فباعه و غيره معاً، أو أكرهه على بيع واحد غير معيّن منهما فباعهما، أو أكرهه على بيعهما فباع أحدهما، أو أكرهه على بيع الدار فباع نصفها، فالصور أربعة أو خمسة، فهل هو في الجميع من عقد المكره أو لا في البعض، أو لا في شيء منها؟

و ينبغي الإشارة إلى ضابط كلّي يعرف به حقيقة الحال فيها، و هو أنّه قد ذكرنا سابقاً أنّ العقد إذا صدر عن الإنسان الكامل كان ظاهراً في قصد اللفظ و قصد المعنى مادّة و هيئة و قصد وقوع الأثر في الخارج، و الإكراه الحامل على إجرائه حيثما تحقّق قرينة مقام تزاحم ظهوره الأخير و تصرفه إلى خلافه بكشفها في نظر العرف عن كون الحامل له على إجرائه إنّما هو خوف الضرر المتوعّد و قصد دفعه لا غيره من الدواعي النفسانيّة، و هذا هو معنى كشفها عن كراهة وقوع الأثر و عدم طيب النفس و الرضا به، و من المعلوم ابتناء كشفه عن ذلك و دلالته عليه في نظر العرف بحيث ينهض قرينة صارفة للّفظ عن ظاهره على عدم اكتنافه بخصوصيّة اُخرى باعتبار خصوص تزاحمه

ص: 708


1- المسالك 23:9.

و تمنعه عن الدلالة على ما ذكر، و منشأ الإشكال في الصور المذكورة هو الإشكال في كون خصوصيّة المقام المكتنفة بالقرينة المذكورة مانعة من دلالتها على الكراهة و انتفاء طيب النفس و عدمه.

و إذا عرفت هذا فنقول:

أمّا الصورة الاُولى: فالخصوصيّة المكتنفة بالقرينة في مقام أمثلة هذه الصورة عدول المكره عمّا اُكره عليه من بيع العبد المعيّن إلى بيع غيره، و الحقّ فيها إنّها تزاحم دلالة القرينة على الكراهة و انتفاء طيب النفس بالقياس إلى بيع غير المعيّن المكره عليه، و لذا يصحّ عرفاً أن يقال: إنّه غير مكره في بيع البشير و أنّه مختار فيه، فالعقد الواقع بالنسبة إليه باقٍ على ظهوره في قصد وقوع الأثر فيكون صحيحاً بلا إشكال.

و أمّا الصورة الثانية: فالخصوصيّة المكتنفة فيها بالقرينة إنّما هو الجمع بين المعيّن المكره عليه و بين غيره بالبيع، فهل تزاحم دلالة القرينة على الكراهة و انتفاء طيب النفس فيهما معاً أو لا تزاحمها فيهما معاً، أو تزاحمها بالقياس إلى غير المكره عليه و لا تزاحمها بالنسبة إلى المكره عليه ؟ وجوه، أوجهها الأخير لشهادة الوجدان و الصدق العرفي، فيصحّ أن يقال: إنّه ليس بمكره على بيع البشير و لا يصحّ ذلك بالقياس إلى بيع المبارك، بل يقال: إنّه مكره عليه، فيصحّ الأوّل و يفسد الثاني.

لا يقال: إنّ الصحّة و الفساد وصفان متضادّان، و العقد واحد فكيف يتّصف بوصفين متضادّين، لأنّا نقول: لا منافاة بينهما هنا لتعدّد المتعلّق، فإنّ الصحّة عبارة عن تأثير العقد في تحقّق الأثر بالنسبة إلى البشير كما أنّ الفساد عبارة عن عدم تأثيره في تحقّق الأثر بالنسبة إلى المبارك، و مناط تأثيره في الأوّل و عدم تأثيره في الثاني وجود طيب النفس في بيع البشير و انتفاؤه في بيع المبارك، هذا كلّه فيما إذا باعهما بعقد واحد من باب الصفقة الواحدة.

و أمّا لو باعهما بعقدين على التعاقب، فإن قدّم بيع الشيء المكره عليه ثمّ باع الآخر فلا إشكال في عدم دلالة القرينة على الكره بالنسبة إلى الثاني فهو ليس من عقد المكره بخلاف الأوّل، و إن قدم غير المكره عليه ثمّ باع المكره عليه فهل هذه الخصوصيّة تمنع القرينة عن الدلالة مطلقاً نظراً إلى أنّه لو كان الحامل له على بيعه خوف الضرر المتوعّد به و قصد دفعه لناسب تقديمه فالعدول عنه إلى التأخير يكشف عن أنّ الحامل له غيره

ص: 709

من الدواعي النفسانيّة، أو لا تمنعها مطلقاً نظراً إلى الصدق العرفي لصحّة أن يقال: إنّه مكره على بيع المبارك و ليس بمختار، أو يفصّل بين ما لو كان بيع غير المكره عليه مقدّماً على بيع المكره عليه محصّلاً لغرض الأمر بإسقاطه المأمور به في نظره فلا يبقى إكراه في بيع المكره عليه فيكون صحيحاً و بين ما لو لم يكن محصّلاً لغرضه في الأمر ببيع المكره عليه فيكون من عقد المكره فيفسد؟ وجوه، و لا يبعد تقوية الأخير. و يعلم كونه محصّلاً و عدمه باعتبار الخارج، و لو شكّ فمحلّ إشكال من حيث إفضائه إلى الشكّ في دلالة القرينة على الكراهة و عدمها، و مرجعه إلى إجمال القرينة و هو ربّما يسري إلى العقد بالنسبة إلى ظهوره في قصد وقوع الأثر كتعقّب الأمر للحظر الموجب لإجماله.

و أمّا الصورة الثالثة: فاستشكله العلّامة في التذكرة(1) و فصّل بعض مشايخنا «بأنّ بيع العبدين إن كان تدريجاً فالظاهر وقوع الأوّل مكرهاً دون الثاني، مع احتمال الرجوع إليه في التعيين سواء ادّعى العكس أم لا. و لو باعهما دفعةً احتمل صحّة الجميع لأنّه خلاف المكره عليه و الظاهر أنّه لم يقع شيء منهما عن إكراه، و بطلان الجميع لوقوع أحدهما مكرهاً عليه و لا ترجيح، و الأوّل أقوى»(2).

أقول: وجه ظهور الأوّل أنّ أمر المكره ببيع أحدهما من غير تعيين قرينة مقام تزاحم ظهور العقد بالنسبة إلى بيع الأوّل، و يدلّ على وقوعه لا عن طيب نفسه، و لا تدلّ عليه بالنسبة إلى بيع الثاني فيرجع فيه إلى ظاهر اللفظ، مضافاً إلى أنّه لا يقال عرفاً: إنّه مكره على بيع الثاني بل يقال: إنّه مختار فيه.

و وجه الثاني: و هو احتمال الرجوع إليه في التعيين و إن ادّعى العكس أنّه كما اُكره على بيع أحدهما فكذلك يقال عرفاً بعد بيعهما تدريجاً: إنّه كان مكرهاً على بيع أحدهما و إنّما يكون كذلك باعتبار انتفاء طيب النفس عن أحدهما و هو أمر قلبي لا يعلم إلّا من قبله، فيقبل قوله في التعيين عملاً بعموم قبول دعوى المدّعي فيما لا يعلم إلّا من قبله. و هذا أوجه.

و وجه الثالث: و هو صحّة الجميع أنّه كان مكرهاً على بيع أحدهما، و الواقع منه في

ص: 710


1- التذكرة 14:10.
2- المكاسب 324:3.

الخارج بيعهما معاً و ليس بمكره عليه عرفاً، فيرجع إلى أصالة الاختيار و ظهور اللفظ في قصد وقوع الأثر.

و وجه الرابع: و هو بطلان الجميع أنّه و إن كان مكرهاً على بيع أحدهما إلّا أنّ بيعهما معاً لا ينافي صدق أنّه كان مكرهاً على بيع أحدهما، و لكنّه غير معيّن و لا مرجّح، فيحكم ببطلان الجميع لعدم إمكان الترجيح بلا مرجّح.

و فيه: نظر، لإمكان الرجوع إليه في التعيين، لأنّ انتفاء طيب نفسه عن بيع أحدهما لا يعلم إلّا من قبله فيقبل قوله و هو المرجّح. فالأقوى صحّته في أحدهما و يرجع إليه في التعيين. و لو ادّعى الكراهة فيهما معاً لم يقبل، لعدم دلالة القرينة عليه فيبقى ظهور اللفظ سليماً. و لو امتنع عن التعيين يجبره الحاكم.

و أمّا الصورة الرابعة: فقال شيخنا «بأنّه إن باع النصف بعد الإكراه على الكلّ بقصد النصف الآخر امتثالاً للمكره - بناءً على شمول الإكراه لبيع المجموع دفعتين - فلا إشكال في وقوعه مكرهاً عليه، و إن كان لرجاء أن يقنع المكره بالنصف كان أيضاً إكراهاً، لكن في سماع دعوى البائع ذلك مع عدم الأمارات نظر»(1) انتهى.

لعلّ وجه النظر احتمال وقوع بيع النصف لداع آخر من الدواعي النفسانيّة الخارجة عن الإكراه. و يشكل بأنّ هذا الاحتمال مع تسليم شمول الإكراه لبيع المجموع دفعتين متدرّجتين ممّا لا يلتفت إليه، لأنّ مبناه على ظهور أمر المكره من جهة إطلاق البيع في إرادة بيع المجموع كيفما اتّفق سواء كان دفعةً أو دفعتين، و هذا الظهور كافٍ أمارة على صدق دعوى البائع، فإنّ العدول عن البيع دفعة إليه(2) دفعتين بمقتضى الظهور المذكور لا يكون إلّا لقصد بيع النصف الآخر فيما بعد، أو لرجاء أن يقنع المكره بالنصف الأوّل، و الاحتمال الآخر خلاف الظاهر. و مثل هذين الوجهين بيعهما معاً دفعتين متعاقبتين من غير فصل بينهما.

المسألة الرابعة: قد ظهر من تضاعيف كلماتنا السابقة أنّ الإكراه الرافع للحكم التكليفي أخصّ من الإكراه الرافع للحكم الوضعي و هو الصحّة في المعاملات،

فإنّ

ص: 711


1- المكاسب 324:3-325.
2- كذا في الأصل، و الظاهر: إلى.

الأوّل يعتبر فيه البلوغ إلى حدّ الإلجاء و الاضطرار بخلاف الثاني، فلو اُكره على أحد الأمرين من «شرب الخمر أو أكل لحم الخنزير» فارتكب إحدى الخصوصيّتين كان من الإكراه الرافع لحرمته، من جهة الاضطرار إليه باعتبار الاضطرار إلى القدر المشترك، فإنّ القدر المشترك بين المحرّمين محرّم و لا مندوحة عنه من جهة الفرار عن الضرر المتوعّد به، فاختيار أحد الخصوصيّتين لا يرفع أثر الإكراه، بخلاف ما لو قال: «اشرب الخمر أو اشرب الماء و إلّا قتلتك» فاختار شرب الخمر فإنّه حينئذٍ فعل محرّماً فكان آثماً و إن كان مكرهاً على القدر المشترك بينهما، فإنّ القدر المشترك بين المحرّم و المباح ليس بمحرّم فلم يضطرّ إلى فعل المحرّم، لأنّ له مندوحة عنه و هو أن يختار للفرار عن الضرر المتوعّد به فعل المباح.

و نحوه ما لو قال: «بع دارك أو اشرب الخمر» فاختار شرب الخمر فإنّه لم يضطرّ إليه و إن كان مكرهاً عليه لمكان المندوحة باختيار البيع فيكون آثماً، فهذا ممّا لم يتحقّق فيه الإكراه الرافع للحكم التكليفي، و أمّا لو اختار البيع فهو من الإكراه الرافع للحكم الوضعي لأنّه إن اختار بدله يترتّب عليه الضرر الاُخروي و هو العقاب، و إن اختار ترك البدلين معاً يترتّب عليه الضرر الدنيوي و هو الضرر المتوعّد به فلا محيص له عن البيع دفعاً للضررين فيكون مكرهاً عليه عرفاً و لغة، لأنّ الحامل له الفرار من بدله و وعيد المكره المضرّين معاً.

و من هذا الباب ما لو اُكره على البيع أو إعطاء مال غير مستحقّ عليه بأن يقول: «بع دارك أو أعطني مائة درهم و إلّا قتلتك» فاختار البيع فإنّه إنّما فعله فراراً عن الضرّ المتوعّد به و أخذ المال الّذي هو أيضاً ضرر غاية الأمر هنا كون الضررين دنيويّين، بخلاف ما لو اُكره على البيع أو إعطاء مال مستحقّ عليه كأداء دَين أو إنفاق زوجة و ما أشبه ذلك، كأن يقول: «بع دارك أو أدّ دَينك أو أنفق على زوجتك و إلّا قتلتك» فاختار البيع فإنّه حينئذٍ ليس بمكره عليه، لأنّه ليس للفرار عن الضررين ضرر البدل و ضرر الوعيد، فإنّ البدل و هو أداء الدين أو إنفاق الزوجة طريق تخلّص عن الضرر المتوعّد، به فإذا اختار البيع كان مختاراً فيه.

و فيه نظر: لأنّ أداء الدين أو إنفاق الزوجة بدل لا أنّه مسقط، فاختيار كلّ منهما

ص: 712

لا يخرجه عن صدق كونه مكرهاً على أحدهما و إن كان أحدهما حقّاً و الآخر غير حقّ ، و لذا لو اختار أداء الدين أو إنفاق الزوجة يقال: إنّه أداء دَين أو إنفاق زوجة حصل لا عن طيب نفس، و لزم منه أنّه لو اختار البيع كان واقعاً لا عن طيب نفسه.

و أمّا ما يقال: من أنّه لو اُكره على بيع مال أو إيفاء مال مستحقّ لم يكن إكراهاً، لأنّ القدر المشترك بين الحقّ و غيره إذا اُكره عليه لم يقع باطلاً و إلّا لوقع الإيفاء أيضاً باطلاً، فإذا اختار البيع صحّ لأنّ الخصوصيّة غير مكره عليها و المكره عليه و هو القدر المشترك غير مرتفع الأثر.

ففيه: أنّ إيفاء الدين لكونه أداءً لحقّ الغير لم يؤثّر الكراهة و انتفاء طيب النفس في بطلانه، و المفروض عدم كونه من قبيل العقد ليكون الرضا و طيب النفس معتبراً في صحّته، بخلاف البيع لو اختاره فإنّه عقد و الكراهة رافعة لصحّته، إلّا أن يلتزم فيه بعدم الكراهة، و فيه منع واضح، فكون أحد البدلين حقّاً لا يخرج القدر المشترك بينهما عن حدّ الإكراه، فيكون الحامل له على فعل كلّ منهما الفرار عن الضرر المتوعّد به لا غير، و هو آية الكراهة و انتفاء طيب النفس.

نعم لو أكرهه على غير حقّ مع التوعيد بحقّ ، كأن يقول: «بع دارك و إلّا أخذت منك دَيني أو ديتي» فهو خارج عن موضوع الإكراه رأساً، لعدم كون ما توعّد به مضرّاً به، فلا يكون حامله على البيع هو الفرار عن الضرر، بل حبس حقّ الغير أو تأخير أدائه و هو من الدواعي النفسانيّة الخارجة عن الإكراه الموجبة لتحقّق الرضا و طيب النفس في اختيار البيع.

و يمكن أن يقال في الفرع السابق: إنّ الحامل له على اختيار البيع هو المجموع المركّب من الفرار عن الضرر المتوعّد به و منع ذي الحقّ عن حقّه، و هذا أمر ربّما يرفع الكراهة و يوجب طيب النفس في البيع، و غاية ما هنالك الشكّ فيرجع إلى أصالة الاختيار و ظهور اللفظ لسلامته عمّا يزاحمه من طرف القرينة لمزاحمة الخصوصيّة لها، فالمتّجه حينئذٍ وقوع البيع صحيحاً.

المسألة الخامسة: في الإكراه بحقّ

كما لو أكره الحاكم من عليه حقّ للغير على بيع مال أو ملك أو عقار له في إيفاء حقّ الغير من أداء دَين أو ردّ دية أو إنفاق زوجة أو

ص: 713

نحو ذلك من الأمثلة الّتي ذكرها في المسالك، فالمصرّح به في كلام جماعة منهم ثاني الشهيدين وقوع البيع صحيحاً من حينه، و ظاهرهم بل هو صريح بعضهم عدم وقوفه على لحوق رضا المالك و إجازته. و وجّه بأنّ رضا المالك هنا ملغى و مرجعه إلى تخصيص أدلّة اشتراط الصحّة برضاه، أو لأنّ رضا الحاكم قائم مقام رضاه، كما أنّ رضا الوليّ في بيع مال الصبيّ و رضا الوكيل في بيع مال الموكّل قائم مقام رضا المولّى عليه و الموكّل.

و قد يستشكل بأنّ صحّة البيع مع عدم رضا المالك مقارناً و لاحقاً ممّا لم نتحقّق معناه، بل الوجه هنا تولّي الحاكم للبيع لا أمر المالك به لأنّه وليّ الممتنع، فإنّ المالك لمّا امتنع من إيفاء حقّ الغير و هو متوقّف على بيع مال له فيتولّاه الحاكم.

و ظنّي أنّ هذا الاستشكال ممّا لا يرجع إلى محصّل، لأنّ رضا الحاكم إذا صلح أن يؤثّر في صحّة العقد الصادر منه مع عدم رضا المالك فيصلح أن يؤثّر في صحّة العقد الصادر من المالك مكرهاً عليه، و دليل الملازمة عموم الولاية فإنّه على تقدير ثبوته يقتضي التسوية بين المقامين. و الظاهر أنّ مراد الجماعة من الاستثناء بيان أنّ الإكراه بحقّ الصادر من الحاكم لا يؤثّر في عدم صحّة العقد المكره عليه و وقوفه على لحوق الرضا المتأخّر من المالك، لا بيان أنّ الحاكم ليس له تولّي العقد، نعم يتعيّن عليه التولّي إذا امتنع المالك من المباشرة مع الإكراه أيضاً.

المسألة السادسة: عن الفاضلين و الشهيدين و فخر الإسلام و غير [ه] أنّ المكره إذا رضي بما فعل نفذ و يترتّب عليه الأثر،

المسألة السادسة: عن الفاضلين(1) و الشهيدين(2) و فخر الإسلام(3) و غير [ه] أنّ المكره إذا رضي بما فعل نفذ و يترتّب عليه الأثر،

و نسب(4) إلى المشهور بين المتأخّرين، و نحوه ما في مفتاح الكرامة(5) إلّا أنّه أطلق، و في الرياض(6) كما عن الحدائق(7)«ظاهرهم الاتّفاق عليه» و نقل دعوى [الإجماع] عن شرح القواعد(8) أيضاً. خلافاً للمحقّق الأردبيلي في مجمع الفائدة قائلاً: «بأنّ الظاهر عدم صحّته بذلك»(9) و عن

ص: 714


1- كما في الشرائع 14:2، و القواعد 17:2، و التحرير 164:1.
2- كما في الدروس 192:3، و المسالك 155:3-156، الروضة 226:3.
3- الإيضاح 413:2.
4- المكاسب 328:3.
5- مفتاح الكرامة 554:12.
6- الرياض 218:8.
7- الحدائق 373:18.
8- شرح القواعد 43:2.
9- مجمع الفائدة 158:8.

الكفاية «أنّ فيه إشكالاً»(1) و تظهر عن المحكيّ عن جامع المقاصد التأمّل فيه قائلاً:

«إن كانت المسألة إجماعيّة فلا بحث، و إلّا فللنظر فيها مجال»(2).

حجّة المشهور على ما يستفاد من كلماتهم وجود المقتضي للصحّة، و فقد مانعه:

أمّا الأوّل: فالإطلاقات و العمومات مثل «أَحَلَّ اَللّٰهُ اَلْبَيْعَ » و «تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ » و «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» فإنّ موردها ما اجتمع شرائط الصحّة رضا المالك و طيب نفسه، و عقد المكره الملحوق به رضا المالك فيشمله الإطلاقات و العمومات.

و أمّا الثاني: فلأنّه لا مانع إلّا دعوى اعتبار مقارنة للعقد.

و يدفعها أوّلاً: النقض بعقد الفضولي لانتفاء المقارنة فيه أيضاً.

و ثانياً: أنّ اعتبار المقارنة ممّا لا شاهد له من الأدلّة بحيث ينهض لتقييد المطلقات و تخصيص العمومات، فيرجع إلى الأصل المقرّر لنفي الشرطيّة في المعاملات.

و إلى هذا الطريق من الاستدلال ينحلّ ما نقله السيّد في الرياض من التعليل «بأنّه بالغ رشيد قاصد إلى اللفظ دون مدلوله، و إنّما منع عدم الرضا فإذا زال أثّر العقد أثره كعقد الفضولي»(3).

و قد يقرّر بأنّه عقد حقيقي فيؤثّر أثره مع اجتماع باقي شرائط البيع و هو طيب النفس، و اُيّد بأدلّة نفوذ عقد الفضولي بلحوق الرضا و الإجازة لوحدة المناط و هو الرضا المتأخّر الغير المقارن، بل بفحوى تلك الأدلّة فإنّ الإجازة المتأخّرة في عقد الفضولي عبارة عن إمضاء المالك الغير، و معناه طيب النفس بمضمونه و إذا أثّر طيب النفس بمضمون عقد الغير في صحّته فطيب نفسه بمضمون عقده أولى بالتأثير.

و توهّم: وجود الفارق و هو أنّ عقد الفضولي غير خالٍ عن الرضا و طيب النفس رأساً و هو رضا العاقد و طيب نفسه بخلاف ما نحن فيه لخلوّه عنهما رأساً، يدفعه: أنّ الشارع لم يعتبر رضا غير المالك، لا على أنّه مؤثّر تامّ ، و لا على أنّه جزء للمؤثّر فيكون ملغى على معنى كون وجوده بمثابة عدمه، فهو مع عقد المكره يتساويان من حيث خلوّهما عن مقارنة الرضا و طيب النفس.

ص: 715


1- الكفاية: 89.
2- جامع المقاصد 62:4.
3- الرياض 218:8.

نعم هاهنا كلام آخر و هو دعوى اعتبار المقارنة في مفهوم العقد، و يلزمه أن لا يكون عقد الفضولي عقداً على الحقيقة، و لا أظنّ أحداً يرضى بذلك، و يردّه مضافاً إلى ذلك منع اعتبارها في مفهومه، فإنّ العقد مفهومه الربط المعنوي الّذي يوجده المتعاقدان فيما بينهما، و يكفي فيه التلفّظ بالصيغة مع القصد إليه و إلى المعنى المادّي و الإنشاء و الرضا بوقوع الأثر و أن حصل ذلك الأخير متأخّراً عن التلفّظ.

لا يقال: إنّ الربط لا يتحقّق إلّا بعد حصول الارتباط و هو لا يحصل إلّا بوقوع الأثر في الخارج، و المفروض أنّ وقوعه في الخارج إنّما هو حين لحوق الرضا فيكون الربط المستتبع للارتباط المتوقّف على وقوع الأثر متحقّقاً حين الرضا، و قضيّة ذلك أن يكون العقد هو الرضا لا غير، و هذا باطل بضرورة من العرف و اللغة، لأنّ تحقّقه من ذلك الحين مسلّم، و لكن لا لأنّ الرضا نفس العقد بل لأنّه جزء أخير من العلّة التامّة المركّبة من التلفّظ و القصود المذكورة، و بدون البعض لا ربط و إن حصل الرضا و طيب النفس بوقوع الأثر في الخارج.

و مستند القول بمنع نفوذ عقد المكره بلحوق الرضا على ما يوجد في كلماتهم نقلاً و تحصيلاً اُمور:

منها: النقض بما يصدر من الهاذل، مع أنّهم لم يقولوا بصحّته بعد لحوق الرضا.

و منها: قوله تعالى: «إِلاّٰ أَنْ تَكُونَ تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ » (1) يدلّ على اعتبار كون العقد واقعاً عن التراضي.

و منها: النبويّ (2) المشهور الدالّ على رفع أحكام العمل المكره عليه، و منه عقد المكره، و من حكمه المرفوع بالإكراه نفوذه بلحوق الرضا.

و في الجميع من الضعف ما لا يخفى:

أمّا الأوّل: فلأنّ ما يصدر من الهاذل و هو فاعل السخريّة و التهكّم خالٍ عن قصد المعنى المادّي أو عن قصد الإنشاء على وجه منع الخلوّ من حين التلفّظ، فهو خالٍ عمّا هو العمدة من أركان العقد و الرضا اللاحق لا يعطيه الوجود حتّى يؤثّر، بخلاف عقد المكره الّذي قد عرفت سابقاً أنّه لخلوّه عن الرضا و طيب النفس صار محلّ كلام عندهم،

ص: 716


1- النساء: 29.
2- الوسائل 2/249:8، ب 30 أبواب الخلل، الفقيه 132/36:1.

لأنّ قرينة المقام و هو الفرار عن الضرر المتوعّد به لا تزاحم من ظهورات اللفظ إلّا ظهوره في الرضا و طيب النفس بمضمونه، فهو قبل لحوق الرضا متأهّل للصحّة و النفوذ.

و أمّا الثاني: فلأنّ كون التجارة واقعة عن تراضٍ صادقة مع الرضا المتأخّر، إذ التجارة تتحقّق من حينه، مع منع دلالة الآية على عدم صحّة ما لم يكن وقوعه عن تراضٍ ، لأنّها لو دلّت لدلّت باعتبار مفهوم الوصف و هو خلاف التحقيق، مع أنّه عند معتبريه مقيّد بعدم ورود القيد مورد الغالب، و لذا لا مفهوم في قوله تعالى: «وَ رَبٰائِبُكُمُ اَللاّٰتِي فِي حُجُورِكُمْ » (1) و دعوى كونه هنا للاحتراز لا شاهد لها. و توهّم الدلالة من جهة مفهوم الحصر، يندفع بأن لا حصر في الآية، لأنّ الاستثناء منقطع غير مفرّغ لكون المستثنى منه مذكوراً و عدم كون المستثنى من جنسه.

و أمّا الثالث: فلظهور الرواية في رفع المؤاخذة أو رفع الأحكام الموجبة للمؤاخذة، و حاصل معناه أنّ الأعمال الّتي إذا صدرت في غير مقام الإكراه يؤاخذ بها، فهي بحيث إذا صدرت عن إكراه لا يؤاخذ بها كالأفعال المحرّمة المكره عليها، و هو كناية عن كون الإكراه رافعاً لحرمتها، و هذا المعنى لا يشمل عقد المكره، إذ ليس الكلام في أنّ عقد المكره محرّم أم لا؟ و أنّه آثم في فعله و أنّه يؤاخذ عليه أم لا؟ بل في أنّه إذا لحقه الرضا هل ينفذ أو لا؟ فلا يكون مشمولاً لحديث رفع المؤاخذة أو الأحكام الموجبة للمؤاخذة.

و ينبغي التنبيه على اُمور:
الأوّل: هل يعتبر في الرضا اللاحق بالعقد لحوقه بسرعة و بلا فصل زماني أو لا،

بل إذا لحقه بعد فصل زماني طال أم لا؟ ظاهر إطلاق الأكثر و هو ظاهر النصوص الثاني.

و ربّما قيل بالأوّل و لازمه بطلان العقد بتخلّل الفصل بينه و بين الرضا، تعليلاً بأنّ الكراهة المتخلّلة بينه و بين الرضا يجري مجرى الردّ في عقد الفضولي، و كما أنّ الردّ مبطل لعقد الفضولي و لا ينفعه الإجازة بعد الردّ فكذلك الكراهة مبطلة لعقد المكره فلا ينفعه الرضا بعدها.

و فيه: أنّ مبنى نفوذ عقد المكره بعد لحوق الرضا على كون الرضا شرطاً لا على كون الكراهة مانعة و إلّا لبطل من حينه، و معنى عدم كونها مانعة أن لا تأثير لها في

ص: 717


1- النساء: 23.

البطلان، فكيف تكون جارية مجرى الردّ في الفضولي ؟

لا يقال: القدر المسلّم من عدم المانعيّة هو في الكراهة المقارنة للعقد، و كلامنا في الكراهة المتأخّر عنه المتخلّلة بينه و بين الرضا، لأنّ مانعيّة الكراهة المتأخّرة على معنى كونها مؤثّرة في البطلان مع تسليم عدم كونها مؤثّرة حال العقد يحتاج إلى دليل دلّ على أنّ الشارع جعلها مؤثّرة، و لا دليل عليه، و الأصل عدمه، بل عدم تأثيرها السابق مستصحب.

لا يقال: كون هذه الكراهة مؤثّرة في البطلان باعتبار ما يقارنها و هو عدم الرضا الّذي هو عدم شرط و لا ريب أنّ المشروط عدم عند عدم شرطه، لابتنائه على كون شرط الصحّة هو الرضا المتّصل بالعقد و هو أوّل المسألة، بل الشرط هو أصل الرضا قارن العقد أو لا، اتّصل به أو لا، طال الزمان الفاصل أو لا؟.

الثاني: إنّما يبطل عقد المكره أي يخرج عن تأهّله للصحّة و ترتّب الأثر كعقد الفضولي بالردّ،

و تفصيل القول في الردّ و ما به يتحقّق الردّ يأتي في باب الفضولي، و بيانه هنا على وجه الاختصار أنّ الردّ إمّا قولي كقول «رددت العقد أو فسخته أو أبطلته أو أفسدته أو رفعته» أو فعلي و هو أن يفعل المالك في المبيع مثلاً ما ينافي وقوع أثر العقد فيه و هو نقل الملك، كإتلافه أو نقله إلى الغير أو عتقه أو تزويجه و ما أشبه. و قد يعدّ من الردّ الامتناع من الرضا، و ليس ببعيد.

الثالث: الكلام في كون الرضا المتأخّر المصحّح لعقد المكره ناقلاً أو كاشفاً بالكشف الحقيقي أو الحكمي

كالكلام في إجازة الفضولي، و تحقيق القول في ذلك و ترجيح أحد الأقوال يأتي مشروحاً في باب الفضولي، و لا بأس بالإشارة إلى ما هو الحقّ هنا، فنقول: إنّ الأصل و الظاهر يساعدان على النقل، أمّا الأصل فهو أصالة عدم حصول الملك و عدم ترتّب الأثر إلى أن يلحقه الرضا، و أمّا الظاهر فظهور النصّ كتاباً و سنّة كقوله تعالى: «إِلاّٰ أَنْ تَكُونَ تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ » (1) و قوله عليه السلام: «لا يحلّ مال امرئ إلّا عن طيب نفسه»(2) لظهورهما في كون التجارة و حلّيّة المال ناشئة عن نفس الرضا، لا عن أمر منتزع عنه عارض للعقد، و هو تعقّبه للرضا، كما تكلّف القائل(3) بالكشف

ص: 718


1- النساء: 29.
2- عوالي اللآلئ 309/113:2.
3- المكاسب 334:3.

كونه شرطاً، تخلّصاً عن محذور تأخّر الشروط عن المشروط.

و قد يقال: إنّ مقتضى الأصل هنا و في الفضولي هو الكشف، لأنّ مقتضى الرضا بالعقد السابق هو الرضا بما أفاده من نقل الملك حين صدوره، فأمضاه الشارع للرضا بهذا المعنى و هو النقل من حين العقد، و ترتّب الآثار عليه لا يكون إلّا بالحكم بحصول الملك في زمان النقل.

و فيه: منع كون العقد السابق مفيداً لنقل الملك حين صدوره، بل المفيد له على هذا الوجه هو العقد الجامع للشروط الّتي منها الرضا المقارن له و هو فاقد له، فلم يفد حين صدوره نقل الملك و إن اشتمل على قصد إنشاء نقله، بل هو متأهّل لأن يؤثّر في نقل الملك بعد الرضا، فالرضا عبارة عن الرضا بوقوع نقل الملك في الخارج، و قولنا «في الخارج» ظرف لوقوع نقل الملك و إمضاء الشارع تابع له، و معناه حكم الشارع بوقوع نقل الملك في الخارج على حسبما قصده المالك.

و قد يستدلّ على القول بالكشف بأنّه على القول بالنقل «ما قصد لم يقع و ما وقع لم يقصد» و هو باطل لضابطة أنّ العقود تابعة للقصود، و بيان الملازمة أنّ العاقد قصد نقل الملك حين العقد و هو على النقل غير واقع، و ما وقع من نقل الملك حين الرضا غير مقصود.

و هذا أضعف من سابقه، لابتنائه على الخلط بين قصد إنشاء نقل الملك و قصد وقوع نقل الملك في الخارج، و ما قصده العاقد هو الأوّل لا الثاني، فلا يلزم ما ذكر.

و أضعف من ذلك ما استدلّ به أيضاً، من أنّ الرضا يؤثّر في صحّة العقد، و ظرف الصحّة هو العقد لا الزمان المتأخّر بل الزمان المتأخّر ظرف للرضا.

و فيه: أنّ الصحّة عبارة عن وقوع نقل الملك في الخارج و الرضا يؤثّر فيه، لا بمعنى أنّه المؤثّر التامّ بل بمعنى أنّه جزء المؤثّر باعتبار كونه شرطاً، و المؤثّر التامّ هو العقد المقصود به التلفّظ و المعنى و الإنشاء الملحوق به الرضا، فزمان الرضا من تتمّة زمان المؤثّر التامّ ، و نقل الملك حاصل فيه لا في زمان العقد الخالي عن الرضا.

الرابع: هل يعتبر في الرضا المتأخّر اللاحق بالعقد أن يكون باللفظ، أو يكفي الرضا النفساني المنقدح في الضمير،

و على الأوّل فهل يعتبر في اللفظ كونه عربيّاً؟ احتمالات، أجودها الأوّل، و هو كفاية الرضا النفساني و عدم اعتبار لفظ معه، لأنّ اعتبار الرضا في

ص: 719

العقد باعتبار كونه من شروط الصحّة، و الشرط نفس الرضا لا اللفظ الدالّ عليه، و لذا لا يعتبر في الرضا المقارن للعقد لفظ آخر سوى لفظ العقد، فالمكره إذا انقدح في نفسه الرضا نفذ عقده فيما بينه و بين اللّٰه سبحانه و وجب عليه أن يرتّب عليه الآثار. نعم لمّا كان رضاه أمراً نفسانيّاً لا يطّلع عليه غيره إلّا بواسطة ما يكشف فيعتبر لاطّلاع غيره عليه حتّى يرتّب غيره أيضاً آثاره عليه وجود كاشف عنه، و لا ينحصر الكاشف في اللفظ بل كثيراً ما يكون أمراً آخر غير اللفظ، كالتصرّف في الثمن المقبوض، و مطالبة الثمن الغير المقبوض، و تسليم المبيع أو الثمن و ما أشبه ذلك. نعم قد ينحصر الكاشف في اللفظ و يسمع دعواه في الرضا، لأنّه لا يعلم إلّا من قبله.

الخامس: إذا مات العاقد المكره قبل الرضا بما فعله، فهل يبطل و يخرج عن تأهّله للصحّة لكون الموت كالردّ مبطلاً أو لا؟

و يظهر الثمرة في رضا الوارث إذا لحق عقد المورّث فهل يجدي في نفوذه أو لا؟ و مبنى المسألة على أنّ الرضا المصحّح لعقد المكره هل هو كالخيار لذي الخيار ينتقل بالموت إلى الوارث أو لا؟ و الّذي يساعد عليه النظر هو الثاني، لعدم كون الرضا من قبيل الحقوق حتّى ينتقل بالإرث، بل هو كإجراء العقد على الملك و المال، و نقله إلى الغير و سائر التصرّفات فيه من توابع الملك و السلطنة على المال، و لذا لا يقبل الانتقال إلى الغير بالصلح و لا السقوط بالإسقاط.

فتعيّن بطلان العقد بالموت، لتعذّر لحوق الشرط، و المشروط عدم عند عدم الشرط.

السادس: هل للطرف الغير المكره أن يفسخ العقد قبل لحوق رضا المكره، أو لا؟

الظاهر أنّه على القول بالنقل لا ينبغي التأمّل في الفسخ إذ لا مانع منه إلّا اللزوم و هو فرع على الصحّة و هي غير حاصلة بالفرض، بخلافه على القول بالكشف لأنّ العقد متزلزل بين الصحّة و الفساد باعتبار أنّ الشرط على هذا القول هو الأمر الاعتباري المعبّر عنه بتعقّب العقد للرضا، و هو إمّا حاصل في علم اللّٰه فالعقد حينئذٍ صحيح لازم في الواقع و لا يقبل الفسخ، أو غير حاصل في علم اللّٰه فالعقد فاسد و لا فائدة في فسخه، فلو فسخ و الحال هذه لا يمكن الحكم بانفساخه لكونه دائراً بين اللزوم و الفساد فلا تأثير للفسخ على التقديرين، و سيأتي مزيد تحقيق في نظيره في باب الفضولي.

ص: 720

[ختم المقام] من شروط المتعاقدين القصد
اشارة

و ينبغي ختم المقام ببيان ما ظهر حكمه على الإجمال في تضاعيف المسألة، و هو القصد المعتبر في العقد المنحلّ إلى قصد التلفّظ و قصد المعنى المادّي كالبيع في بعت و قصد المعنى الإنشائي فإنّه أيضاً من شروط المتعاقدين، و لقد اُهمل ذكره صريحاً في الشرائع و ذكره صريحاً في القواعد، و لعلّ وجه إهمال الشرائع إحالة اعتباره إلى وضوحه أو الاكتفاء بذكره ضمناً في ضمن الاختيار، فإنّه بحسب المرتبة متأخّر عن القصد بأنواعه الثلاث، و كيف كان فلا ينبغي الاسترابة في كونه شرطاً بلا خلاف يظهر، فما لم يقصد فيه إلى اللفظ - كما في الغافل و الغالط و نحوهما - أو إلى المعنى كما في الهاذل، أو الإنشاء كما فيه أو في المتورّي يقع فاسداً من حينه بلا خلاف يظهر، سواء قصد معنى آخر كالإجارة و نحوها و الإخبار أو لا؟ للأصل الّذي لا تزاحمه هنا الأصل الاجتهادي المستنبط من العمومات ك «أَحَلَّ اَللّٰهُ اَلْبَيْعَ » و «تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ » و «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» لأنّ عموم الحكم فرع على تحقّق موضوع البيع و التجارة و العقد و ليس شيء منها متحقّقاً بدون القصد المذكور كما هو واضح، مضافاً إلى الإجماع الّذي يعلم بالتتبّع في أبواب العقود و الإيقاعات و من ذلك ما يشتهر أنّ العقود تتبع القصود.

و قد يستدلّ بأخبار النيّة، كقوله عليه السلام: «لا عمل إلّا بنيّة»(1) «و إنّما الأعمال بالنيّات و إنّما لكلّ امرئ ما نوى»(2) بتقريب أنّ النيّة لغة هو القصد، و إجراء العقد عمل، و هو بدون القصد ليس بعقد بناءً على نفي الحقيقة، أو ليس بصحيح بناءً على نفي الصحّة الّذي هو أقرب المجازات إلى الحقيقة.

ص: 721


1- الوسائل 1/46:1، ب 5 مقدّمات العبادات، الكافي 1/169:2.
2- الوسائل 10/48:1، ب 5 مقدّمات العبادات، أمالي الطوسي 231:2.

و فيه: نظر يظهر وجهه بمراجعة رسالتنا المنفردة في بيان أحكام الواجب و أقسامه، و ينبغي تفصيل القول في القضيّة المشتهرة المتقدّم إليها الإشارة، و هي أنّ العقود تابعة للقصود ببيان أنّ القصد الّذي يتبعه العقد أيّ قصد و كم هو و متعلّقه الّذي هو المقصود أيّ شيء؟ و بيان ما يعتبر قصده و ما لا يعتبر، و ما يضرّ، قصده و ما لا يضرّ و ما يفيد قصده و ما لا يفيد،

فنقول: الأشياء الّتي يصلح قصدها في العقود أنواع:
منها: الاُمور المعتبرة في ماهيّة العقد و ذاته من حيث كونه لفظاً خاصّاً،

كالتلفّظ و المعنى مادّة و هيئة، فهل يعتبر قصدها في انعقاد العقد و تحقّق ذاته أو لا؟.

و منها: الاُمور المعتبرة في ماهيّته من حيث تقوّمه بمحلّ تأثيره و مورد أثره الّتي يعبّر عنها بأركان العقد،

و قد يقال لها ضروريّات العقد كالمتعاقدين و العوضين في عقود المعاوضة، فهل يعتبر قصد تعيين هذه الاُمور؟ بأن يقصد الموجب قابلاً معيّناً و القابل موجباً معيّناً، و هما يقصدان مبيعاً معيّناً و ثمناً معيّناً في البيع، فلو قال الموجب: «بعت داري بمائة» من دون قصد إلى قابل معيّن، فقال أحد: «قبلت» أو قال الموجب: «بعتك» قاصداً إلى معيّن، فقال القابل: «قبلت» من دون قصد إلى موجب معيّن للذهول عن التعيين، أو قال الموجب: «بعتك بمائة» من دون قصد إلى مبيع معيّن، فقال المشتري:

«قبلت» ثمّ عيّنا المبيع، أو قال البائع: «بعتك داري» من دون قصد إلى ثمن معيّن، فقال المشتري: «قبلت» ثمّ عيّنا الثمن.

و منها: الاُمور الّتي هي لوازم عقليّة لتأثير العقد كانتقال ملك المعوّض إلى مالك العوض،

و انتقال ملك العوض إلى مالك المعوّض، و هل قصد ذلك شرط فيه أو لا؟ و على الثاني فهل قصد خلافه - بأن يقصدا انتقال ملك المعوّض إلى غير مالك العوض كولده مثلاً أو يقصدا انتقال ملك العوض إلى غير مالك المعوّض كولده - مانع أو لا؟ و على الثاني فهل معنى عدم المانعيّة وقوع الانتقال على حسبما قصداه أو وقوع القصد المذكور لغواً و انتقال ملك كلّ من العوضين يقع لمالك العوض الآخر قهراً على خلاف ما قصد؟.

و منها: الأحكام المترتّبة على العقد،

كحلّيّة البضع في عقد النكاح، و استحقاق الزوجة للنفقة، و وجوب القسم بين الزوجات على الزوج، و لحوق الولد، و التوارث بين الزوجين، و حرمة الجمع بين الاُختين، و حرمة نكاح الخامسة و نحو ذلك، و إباحة

ص: 722

التصرّف في المثمن أو الثمن في البيع، و اللزوم، و ضمان الدرك، و الشفعة، و خيار المجلس، و خيار ثلاثة أيّام في الحيوان و ما أشبه ذلك، فهل يعتبر في ترتّب هذه الأحكام قصدها أو لا؟.

و منها: الاُمور الّتي لو لا قصدها لا يقتضي العقد لو خلّي و طبعه ترتّبها عليه

- كإرث الزوجة و استحقاقها النفقة في عقد الانقطاع، و خيار فسخ النكاح في غير الأسباب الموجبة له و نحو ذلك - فهل قصدها يفيد ترتّبها عليه أو لا؟.

و ينبغي لتنقيح المطلب و بيان ما هو الحقّ في هذه المقامات أن يبيّن ضابطاً كلّيّاً، و هو أنّه قد ذكرنا سابقاً أنّ العقد بحسب العرف و اللغة عبارة عن الربط المعنوي الّذي توجده المتعاقدان فيما بينهما، و هو في البيع و الاشتراء أن يجعل أحدهما ملك عينه لصاحبه بإزاء مال صاحب ليكون ملكه له عوضاً عن عينه، و لقد شاع في لسان الفقهاء إطلاقه على الصيغة المركّبة من الإيجاب و القبول، كما يرشد إليه التتبّع في كلماتهم في سائر أبواب العقود، و من كلماتهم تصريحهم بأنّ العقد مركّب من الإيجاب و القبول، و لا ريب أنّ المركّب هو مجموع صيغتي الإيجاب و القبول ك «بعت و اشتريت» و هذا ليس بوضع عرفي لانحصاره في الربط المعنوي و لا بوضع شرعي لعدم ثبوت الحقيقة الشرعيّة في لفظ العقد، بل هو عرف فقهائي حصل لمناسبة السببيّة من تسمية السبب باسم المسبّب. و لقد اعتبر الفقهاء في هذا المعنى العرفي الخاصّ قصد التلفّظ و قصد المعنى المادّي و قصد المعنى الإنشائي، لصحّة سلب اسم العقد عندهم عن الخالي عن القصود الثلاث، كما في الصيغة الصادرة عن الغافل أو الغالط أو الهاذل أو المورّي.

نعم لم يعتبر فيه مقارنة الرضا و هو قصد وقوع الأثر في الخارج، كما يشهد به إطلاقهم العقد على عقد المكره من غير صحّة سلبه عنه عندهم، فالقصود الثلاث المذكورة معتبر في تحقّق ماهيّة العقد بالمعنى العرفي الفقهائي و القصد الرابع معتبر في تأثيره.

و لقد جعل الشارع هذا المعنى العرفي الخاصّ أعني الصيغة المركّبة من الإيجاب و القبول المقرونة بالقصود الثلاث مع قصد وقوع الأثر سبباً للعقد بالمعنى العرفي اللغوي و هو الربط المعنوي، ضرورة أنّ المتعاقدين بواسطة الصيغة المركّبة بشرائطها مع شرط قصد وقوع الأثر في الخارج يوجدان الربط المعنوي المذكور، و ظاهر أنّ هذا

ص: 723

المعنى لا يتأتّى و لا يترتّب على الصيغة المركّبة إلّا بأن الموجب و القابل معاً إلى المعوّض المعيّن و العوض المعيّن، و يقصد الموجب قابلاً معيّناً و القابل موجباً معيّناً، فإنّ جعل الموجب ملك عينه للقابل بإزاء مال القابل ليصير له عوضاً عن عينه مع قبول القابل - على معنى إنشائه الرضا بما صنعه الموجب - يتضمّن القصد إلى تعيين المعوّض و العوض منهما، و القصد إلى تعيين القابل من الموجب، و القصد إلى تعيين الموجب من القابل.

فهذه القصود الأربع بعد حصول الصيغة المركّبة المقرونة بشروطها المذكورة معتبرة في تحقّق ماهيّة العقد بمعنى الربط المعنوي. و لكنّ الكلام في أنّ هذه القصود الأربع عين قصد المعنى المادّي و قصد المعنى الإنشائي و قصد وقوع الأثر في الخارج و الاختلاف بينهما إنّما هو في مجرّد العبارة، أو أنّها قصود انتزاعيّة تنتزع من القصود الثلاث المذكورة المعتبرة في السبب، أو أنّها قصود مغايرة لها و لوازم منها؟ أوجه، أوجهها الأخير فإنّها على ما يرشد إليه التأمّل قصود مستقلّة هي لوازم للقصود الثلاث المعتبرة في السبب، فإنّ المعنى المادّي لقول البائع «بعتك داري بمائة» عبارة عن تمليك العين بعوض، و معناه الهيئي عبارة عن إيجاد نقل ملك هذه العين إلى المشتري بإزاء المائة، و أثره عبارة عن انتقال ذلك الملك في الخارج إلى المشتري بإزاء انتقال ملك المائة في الخارج إلى البائع، فالبائع بتلك الصيغة يقصد باعتبار مادّة البيع تمليك داره بعوض المائة بقصد إيجاد نقل ملكه في الدار إلى المشتري من الهيئة مع قصده لوقوع انتقال الملك له في الخارج بعوض انتقال ملك المائة إليه فيه، و المشتري بقوله «اشتريت» يقصد إنشاء الرضا بما صنعه البائع من نقل ملك العين إليه لوقوع الانتقال له بإزاء وقوع انتقال المائة إليه في الخارج. و هذه القصود يستلزم القصد منهما إلى المعوّض المعيّن و العوض المعيّن، و القصد من الموجب إلى القابل المعيّن، و من القابل إلى الموجب المعيّن قصداً تفصيليّاً أو إجماليّاً.

و بجميع ما ذكر يتبيّن ما هو الحقّ في المقام الأوّل، و ما هو الحقّ في المقام الثاني، كما يتبيّن بالتأمّل فيما تبيّن في المقامين ما هو الحقّ في المقام الثالث، و هو وقوع انتقال ملك كلّ من العوضين لمالك العوض الآخر، فإنّ العقد بمعنى الربط المعنوي على الوجه المتقدّم بطبعه يقتضي ذلك مع كونه مقصوداً للمتعاقدين قصداً إجماليّاً، و هذا هو معنى

ص: 724

قاعدتهم المعروفة المعبّر عنها بأنّ «مقتضى المعاوضة وقوع ملك كلّ من العوضين لمالك العوض الآخر» فإنّ ذلك مأخوذ في مفهوم المعاوضة الّتي هي مفاعلة من العوض، و لا تتحقّق إلّا بتبادل ملكي العوضين. و من هنا عرّف البيع أهل اللغة ب «مبادلة مال بمال» فإنّ المبادلة لا تصدق إلّا بصيرورة مال كلّ من البائع و المشتري بدلاً عن مال الآخر.

و قضيّة

ذلك كلّه أنّه لو قصد البائع بنقل عين غيره إلى المشتري لينتقل ثمن المشتري إليه كما في البائع الفضولي، أو قصد المشتري بجعل مال غيره ثمناً لينتقل عين مال البائع إليه كما في المشتري الفضولي، أو قصد البائع نقل عينه إلى المشتري لينتقل الثمن من المشتري إلى غيره كولده مثلاً، أو قصد المشتري بجعل ماله ثمناً انتقال عين البائع إلى غيره كولده مثلاً، أن يقع ذلك القصد بجميع صوره الأربع لكونه على خلاف مقتضى المعاوضة و على خلاف مقتضى العقد بطبعه المقتضى للقصد الإجمالي لوقوع كلّ عوض بدلاً عن العوض الآخر لغواً غير مؤثّر فيما قصد.

و من هنا ربّما توهّم وقوع التعارض بين القاعدة المشار إليها و قاعدة تبعيّة العقود للقصود، لكون مفاد كلّ منافياً لمفاد الاُخرى، فإنّ قاعدة المعاوضة تقتضي دخول كلّ عوض في ملك مالك العوض الاُخر لا غيره، و مقتضى قاعدة تبعيّة العقود للقصود وقوع البيع في الصور المذكورة على حسب ما قصد من دخول العوض أو المعوّض في ملك غير مالك الآخر. فجمع بينهما بضابطة ورود الأصل الثانوي على الأصل الأوّلي و حكومة القاعدة الثانويّة على القاعدة الأوّليّة، بتقريب: أنّ قاعدة المعاوضة أخصّ مورداً من قاعدة التبعيّة فتحكم عليها بإخراج موردها عن عمومها، فيكون مفاد القاعدتين بعد الجمع بينهما أنّ العقود تابعة للقصود إلّا فيما قصد حصول الأثر في أحد العوضين لغير مالك العوض، فإنّه يحصل لمالك العوض و إن قصد خلافه تحقيقاً لمفهوم المعاوضة و إحرازاً للعوضيّة و البدليّة.

أقول: و يمكن منع التعارض من أصله، بدعوى أنّ المراد من القصود الّتي يتبعها العقود القصود الّتي هي مقوّمات للعقد اللفظي كقصد التلفّظ و قصد المعنى مادّة و هيئة، و العقد المعنوي كقصد الأركان من المعوّض و العوض و الموجب و القابل و وقوع ملك العوض لمالك المعوّض و بالعكس ليس من أركان العقد بل فائدته، فلا يكون قصده من

ص: 725

مقوّماته فلا يندرج في قاعدة التبعيّة.

و الفرق بين هذا الاعتبار و الاعتبار السابق أنّ ما سبق دفع للمنافاة بطريق التخصيص، و هذا دفع لها بطريق التخصّص.

و لا ينتقض قاعدة المعاوضة بما يكثر وقوعه في عقد النكاح من جعل المهر المسمّى فيه من مال غير الزوج من أبيه أو غيره فإنّه يدخل في ملك الزوجة مع أنّ الزوجيّة غير حاصلة لمالكه الأصلي، لعدم كون عقد النكاح من عقود المعاوضة، فاعتبار المهر فيه ليس على وجه العوضيّة و البدليّة - و لذا صحّ بلا اعتبار مهر كما في مفوّضة البضع - بل إنّما يعتبر على وجه الشرطيّة فيكون خارجاً عن ماهيّة المعاوضة، و لذا يتعدّى صيغة «أنكحت و زوّجت» بالنسبة إلى المهر بكلمة الاستعلاء للتنبيه على الشرطيّة، لا بكلمة المقابلة المفيدة للعوضيّة.

و من هذا القبيل ما يعتبر شرطاً في عقد البيع من مال آخر خارج عن الثمن لغير البائع، كأن يقول: «بعتك الدار بمائة، و شرطت عليك هذا الثوب لزيد» فإنّ زيداً يملكه مع عدم كونه مالكاً لأحد العوضين. و السرّ فيه أنّ هذا المال المشترط به خارج عن حقيقة المعاوضة، لكونها متقوّمة بالمبيع و الثمن، و هذا شرط خارج عنهما.

و على هذا فلو قال الراهن للمرتهن: «بعه لنفسك» أو قال المالك لمن يستقرض منه مالاً: «بعه بشرط الخيار لنفسك» أو دفع مالاً إلى من يطلب منه الطعام، و قال: «اشتر به طعاماً لنفسك» فإن أراد به البيع أو الاشتراء عنه مع الإذن في التصرّف في الثمن أو المثمن لم يناف قاعدة المعاوضة، لكونه توكيلاً في البيع أو الاشتراء. و إن أراد به وقوع البيع أو الاشتراء عن نفسه ليقع ملك الثمن أو المثمن له لا للمالك ينافيها، فلو باع أو اشترى حينئذٍ بقصد وقوع الملك لنفسه لم يؤثّر فيما قصد، بل الوجه فيه وقوع القصد لغواً مع وقوع الأثر للمالك.

و من ثمّ يقال: إنّ حكمهم ببطلان البيع في مثال الرهن و اشتراء الطعام معناه عدم وقوعه للمخاطب، لا أنّ المخاطب إذا قال: «بعته لنفسي أو اشتريته لنفسي» لم يقع لمالكه إذا أجازه، فإنّ حكمهم بصحّة بيع الفضولي أو شرائه لنفسه و وقوعه للمالك يدلّ على عدم تأثير قصد وقوعه لغير المالك.

ص: 726

ثمّ اعلم: أنّ التعيين المعتبر في المعوّض و العوض عبارة عن العهد بمعنى المعهوديّة، بأن يكون كلّ منهما معهوداً عند المتعاقدين بأحد أسبابه الّتي منها الحضور، و منها الذكر و الوصف، و هو يتأتّى على وجهين:

أحدهما: العهد باعتبار كون كلّ منهما أو أحدهما شخصاً معيّناً في الخارج.

و ثانيهما: العهد باعتبار إضافة كلّ منهما أو أحدهما إلى ذمّة شخص معيّن، و من هنا ينقسم مورد العقد بالنسبة إلى العوضين إلى الجزئي الحقيقي الموجود في الخارج و الكلّي المعتبر وجوده في الذمّة، فالعقد باعتبار المورد المنقسم إلى العين الشخصيّة و العين الكلّيّة يصحّ في صور أربع:

الاُولى: أن يرد على عين شخصيّة بإزاء عين شخصيّة كأن يقول البائع: «بعتك هذا الكرّ من الطعام بهذا الألف» و يقول: «المشتري اشتريت هذا بهذا».

الثانية: أن يرد على عين كلّيّة في ذمّة البائع بإزاء عين كلّيّة في ذمّة المشتري، كأن يقول: «بعتك كرّ طعام في ذمّتي بألف في ذمّتك» و يقول المشتري: «اشتريت».

الثالثة: أن يرد على عين شخصيّة بإزاء عين كلّيّة في الذمّة، كأن يقول: «بعتك هذا الكرّ بألف في ذمّتك» و يقول المشتري: «اشتريت».

الرابعة: أن يرد على عين كلّيّة في الذمّة بإزاء عين شخصيّة كأن يقول: «بعتك كرّ طعام في ذمّتي بهذا الألف» و يقول المشتري: «اشتريت».

و حينئذٍ فلو ورد على عين مبهمة بإزاء عين مبهمة كأن يقول: «بعتك كرّ طعام بألف» من دون اعتبار كون الأوّل في ذمّة البائع و لا في ذمّة موكّله، و كون الثاني في ذمّة المشتري و لا في ذمّة موكّله، و يقول المشتري: «اشتريت» بطل. و كذلك لو ورد على عين معيّنة بإزاء عين مبهمة. أو على عين مبهمة بإزاء عين معيّنة، و السرّ في البطلان عدم تحقّق العقد بمعنى الربط المعنوي مع الإبهام و لو في أحد العوضين، فإنّ المراد به الربط المعنوي بين المالين و هو يتبع العهد بأحد الوجهين، فالإبهام و لو في أحدهما مانع عن تحقّقه كما لا يخفى.

و أمّا التعيين المعتبر في المتعاقدين فلا يكون إلّا بكون كلّ منهما شخصاً معهوداً للآخر في الخارج فلا يمكن فيهما الكلّيّة، فلو قال البائع: «بعتك كرّ طعام في ذمّة رجل

ص: 727

بألف في ذمّة امرأة» بطل، و كذلك لو قال: «بعتك كرّ طعام» متردّداً بين اعتبار كونه في ذمّته أو في ذمّة موكّله إذا اجتمع فيه جهتا الأصالة و الوكالة بألف في ذمّتك، أو قال:

«بعتك كرّ طعام في ذمّتي بألف» متردّداً بين اعتباره في ذمّة المشتري أو في ذمّة وكيله إذا اجتمع فيه جهتا الأصالة و الوكالة، أو قال: «بعتك كرّ طعام بألف» متردّداً فيهما معاً، لعدم تحقّق العقد بمعنى الربط المعنوي سواء اعتبرنا حصوله بين المالين أو بين المتعاقدين كما يظهر بالتأمّل.

و من هنا يعلم عدم صحّة عقد النكاح فيما اعتبر الناكح أو المنكوحة كلّيّاً كما لو قال: «أنكحت امرأة من رجل على مهر كذا» أو قال: «أنكحت هذه المرأة من رجل على مهر كذا» أو قال: «أنكحت امرأة من هذا الرجل على مهر كذا» أو قال وليّ الصغيرة لوليّ الصغير: «أنكحت بنتي لابنك على مهر كذا» و له بنات متعدّدة من دون تعيين أو للقابل بنين متعدّدين من دون تعيين. و السرّ في البطلان أنّ العهد المعنوي في عقد النكاح لا بدّ و أن يحصل بين الناكح و المنكوحة، و هو عبارة عن الزوجيّة الّتي إذا حصلت بين شخصين من الذكور و الاُنثى صحّ أن يقال لأحدهما الزوج و للآخر الزوجة، و هذه كما ترى غير حاصلة في الأمثلة المذكورة و نظائرها، إذ لا أحد صحّ أن يقال له الزوج أو الزوجة. و أيضاً فإنّ الإنكاح و التزويج في مادّتي «أنكحت و زوّجت» عبارة عن المعنى الّذي يقال له في الترجمة الفارسيّة «زن را شوهر دادن يا مرد را زن دادن» و هذا كما ترى غير حاصل في الأمثلة المذكورة و نظائرها الّتي ضابطها إبهام أحد المتعاقدين أو كليهما. فظهر الفرق بين عقد البيع و عقد النكاح في جواز كون مورد الأوّل كلّيّاً و عدم جوازه في الثاني.

و بالتأمّل في جميع ما قرّرناه في المقامات الثلاث يعلم ما هو الحقّ في المقام الرابع، و هو أنّه لا يعتبر في ترتّب الأحكام المترتّبة على العقود قصدها بل تترتّب قهراً قصد ترتّبها أو لم يقصد، لعدم كونها من أركان العقد ليكون قصدها من مقوّماته، بل هي أحكام رتّبها الشارع على موضوعات يحرزها العقود، فإذا تحقّق الموضوع لزمه أن يترتّب عليه موضوعه و إن لم يقصد ترتّبه كسائر الأحكام المترتّبة على موضوعاتها بلا مدخليّة لقصد المكلّف في ترتّبها.

ص: 728

و من ذلك علم ما هو الحقّ في المقام الخامس أيضاً، و هو عدم التأثير في قصد عدم ترتّب ما يترتّب على العقد بطبعه، و لا في قصد ترتّب ما لا يترتّب على العقد بطبعه، أمّا الأوّل فلما عرفت من أنّ ترتّب ما ذكر يتبع تحقّق موضوعه، و كما أنّ قصد ترتّبه ليس شرطاً بل يترتّب قهراً، و كذلك قصد عدم ترتّبه ليس مانعاً. و أمّا الثاني فلأنّ الشارع لم يجعل للعقد و لا الموضوع المحرز به نحو ذلك الأثر فلا تأثير لقصد ترتّبه، لأنّ قصد المكلّف لا يجعل غير المجعول مجعولاً.

فظهر بجميع ما قرّرناه حقيقة المراد من قضيّة تبعيّة العقود للقصود، و أنّ القصود الّتي يتبعها العقود هي القصود المقوّمات للعقد اللفظي، و هي قصد التلفّظ و قصد المدلول مادّة و هيئة، أو العقد المعنوي و هي قصد وقوع الأثر في الخارج، و قصد تعيين العوضين و المتعاقدين.

ص: 729

فصل و من شروط المتعاقدين على ما ذكره الأصحاب الحرّيّة،
اشارة

و احترزوا بها عن بيع المملوك - ذكراً كان أو اُنثى - و اشترائه و صلحه و سائر عقوده بدون إذن سيّده. و ينبغي تحرير المقام بما يتشخّص به موضوع المسألة عن غيره، فنقول: إنّ تصرّفات المملوك الّتي رتّب عليها الشارع أحكاماً و آثاراً على قسمين:

أحدهما: ما يترتّب عليه الآثار قهراً أذن فيه السيّد أو لم يأذن و رضي به أم لم يرض، و هي التصرّفات الغير الإنشائيّة المندرجة في الأسباب الخارجة عن العقود و الإيقاعات، كغسله لثوب الغير أو بدنه و جنايته و قتله، فإنّه لو جنى على حرّ أو رقّ يترتّب عليه أحكامه الشرعيّة المقرّرة في محلّه قهراً من غير توقّف له على إذن السيّد و رضاه، و كذلك إتلافه مال الغير أو غصبه فإنّه يضمن بذلك مطلقاً، غاية الأمر أنّه لا يطالب بردّ العوض إلّا بعد التحرّر لأنّه ما لم يتحرّر لا مال له و أنّ جميع ما في يده لو كان لسيّده.

و أمّا لو أتلف مال سيّده أو غصبه فالمصرّح به في كلامهم أنّه لا يضمن لسيّده بلا خلاف يظهر، و قد نقل عليه الإجماع أيضاً كما عن التنقيح(1) و علّله جماعة بأنّه ملك للسيّد و لا يعقل تعلّق الملك بالملك، و هذا التعليل عليل لا لما عن المحقّق الأردبيلي من المناقشة فيه تمسّكاً بالعمومات المقتضية للضمان كعموم «من أتلف مال الغير فهو ضامن» و عموم «على اليد ما أخذت» لوضوح فساده - فإنّ العلّة و هي عدم

ص: 730


1- التنقيح 67:4.

المعقوليّة المدّعاة في التعليل لو كانت مسلّمة فدفعها بالتمسّك بالعمومات غير صحيح، لأنّها بنفسها تنهض مخصّصة للعمومات لأنّها حكم عقلي لا يزاحمها العموم - بل لمنع عدم المعقوليّة الّذي هو في معنى الاستحالة العقليّة فإنّ العقل لا يستحيل تعلّق الملك بالملك بل الشرع أيضاً لا يأباه، كيف و قد وقع في الشرع كما في مال الكتابة الّذي يملكه السيّد في ذمّة المكاتب خصوصاً المكاتب المشروط. فالوجه في دليل عدم الضمان هو الإجماع المنقول المعتضد بعدم ظهور الخلاف بل ظهور الإجماع.

و ثانيهما: ما لا يترتّب عليه الأثر إلّا بإذن السيّد سابقاً أو لاحقاً، كبيعه و شرائه و صلحه و سائر عقوده بل مطلق إنشاءاته حتّى الإيقاعات، و محلّ الكلام في المقام هو هذا القسم لا القسم الأوّل. و هذا القسم من التصرّفات قد يتكلّم في جوازها التكليفي و عدمه، و قد يتكلّم في جوازها الوضعي و هو الصحّة و ترتّب الأثر و عدمه.

أمّا الجهة الاُولى: فالظاهر أنّه لا إشكال بل لا خلاف في عدم جوازها من دون إذن السيّد فيعصي بها و إن وقعت في مال غير السيّد كما لو باع مال الغير أو اشترى لنفسه في ذمّته، لأنّه بنفسه و بدنه و جميع أعضائه و جوارحه حتّى لسانه ملك لسيّده، فتصرّفه في نفسه و بدنه فعلاً و في لسانه قولاً ما لم يكن مأذوناً فيه بالإذن الصريح أو الفحوى أو شاهد الحال تصرّف في ملك الغير من دون إذن مالكه، فيكون قبيحاً عقلاً و محرّماً شرعاً، بل لا يختصّ القبح و الحرمة من هذه الجهة بتصرّفاته الإنشائيّة، بل يعمّ سائر أفعاله و أقواله الغير المأذون فيها من السيّد.

عدا ما استثنى بدليل عقل، كضروريّات عيشه و لوازم حياته من التنفّس في الهواء و التحيّز في مكان ما و ما أشبه ذلك.

أو بدليل شرع كما في واجباته الشرعيّة من صلاته و صومه و طهارته.

أو بسيرة كالأعمال أو الأقوال الجزئيّة الّتي ليس لها عوض و قيمة - كسلامه و كلامه العادي، و دلالته إلى طريق و تعريفه لأحد، و أخذه شيئاً من الأرض و دفعه إلى صاحبه، و إعانته في الحمل، و نحوه، و ما أشبه ذلك، ممّا لم يتعلّق به اُجرة من أفعال العقلاء - لقضاء السيرة القطعيّة المستمرّة بين المسلمين المنتهية إلى أعصار الأئمّة و زمان صادع الشريعة بجواز هذه التصرّفات و إن لم يكن أذن فيها السيّد.

ص: 731

و يمكن كون الجهة المسوّغة لها شهادة حال السيّد الّتي هي من أقسام الإذن، و عليها مدار السيرة، و حينئذٍ فلو منع السيّد عنها وجب اتّباعه فلو خالف أثم.

و كيف كان فجهة الجواز التكليفي في تصرّفات المملوك الإنشائيّة و غيرها أيضاً خارجة عن محلّ البحث، بل البحث إنّما هو في الجواز الوضعي و عدمه، و الحرّيّة المعتبرة في شروط المتعاقدين معتبرة في الجواز الوضعي. و قضيّة كونها شرطاً توقّف الجواز على إذن السيّد سابقاً أو لاحقاً.

فليعلم أنّ المملوك في عقده بدون إذن سيّده ليس كالصبيّ ليقع تصرّفه من أصله باطلاً، و لا كالحرّ المالك ليقع تصرّفه من حينه صحيحاً نافذاً، بل هو كالحرّ الفضولي واسطة بينهما، فيمتاز عن الصبيّ بكون الصبيّ كالمجنون مسلوب العبارة فليس في تصرّفه العقدي أهليّة التأثير و لا شأنيّة الصحّة بخلافه، و عن الحرّ المالك بكون تصرّف الحرّ صحيحاً صحّة فعليّة فتصرّفه العقدي ببيع أو اشتراء أو صلح في ذمّته أو في مال سيّده أو في مال غير سيّده متأهّل للصحّة و التأثير، و من شأنه أن يترتّب عليه الأثر إلّا أنّ ترتّبه فعلاً عند مشترطي الحرّيّة يقف على إذن السيّد سابقاً أو لاحقاً، و هذا هو المعروف من مذهب الأصحاب.

و من هنا يعلم أنّ الحرّيّة من شروط المتعاقدين ليست كالبلوغ و العقل لأنّهما شرطان لأهليّة التأثير و شأنيّته، بخلاف الحرّيّة فإنّ الأهليّة و الشأنيّة حاصلة بدونها فهي شرط لفعليّة التأثير، فتكون في إخراجها لعقد المملوك بدون إذن السيّد كالاختيار المخرج لعقد المكره لفقده الرضا و طيب النفس.

و قد يستشمّ من بعض العبارات كون إذن السيّد بالنسبة إلى عقد المملوك معتبرة في جوازه التكليفي لا الجواز الوضعي، فليس في عقده الصادر منه من دون إذن السيّد في مال الغير إلّا العصيان، و إلّا فجوازه الوضعي حاصل بدون إذنه، بل هو ظاهر الشيخ في شرح القواعد حيث إنّه في شرح عبارة القواعد «ليس للمملوك أن يبيع أو يشتري» قال: «ليس يباح للمملوك أن يبيع أو يشتري لغير سيّده إلّا بإذن السيّد» فإنّه على ما حكي ظاهر كالصريح في أنّ الموقوف على إذن السيّد إنّما هو إباحة التصرّف و جوازه التكليفي، و أصرح منه كلامه في الصور الّتي فرضها للمسألة:

ص: 732

«منها: ما لو باع لغير سيّده بدون إذن السيّد و لا إذن المالك يكون عاصياً فضوليّاً، فلو أجاز بعد ذلك المالك صحّ و لو أجاز السيّد لم ينفع، لأنّ العصيان قد تحقّق سابقاً من جهة تصرّفه في ملك الغير و هو نفسه بغير إذن مالكه.

و منها: ما لو باع بإذن المالك دون السيّد صحّ ، و يكون عاصياً، بل و لو كان مع نهي السيّد لم يقدح في الصحّة أيضاً لتعلّقه بأمر خارج عن المعاملة.

و منها: ما لو باع بإذن السيّد دون المالك يكون فضوليّاً غير عاصٍ ، فيقف الصحّة على إجازة المالك.

و منها: ما لو باع بإذنهما صحّ و لا عصيان»(1) انتهى ملخّصاً.

و ظاهر إطلاق كلام الأصحاب أنّه لا فرق في تصرّف المملوك ببيع أو اشتراء بين وقوعه على مال السيّد أو على مال غيره أو عدم وقوعه على مال أحد، كما لو اشترى شيئاً في ذمّته بل هو صريح جماعة منهم الشيخ المتقدّم في عبارته المذكورة.

و بالتأمّل فيما ذكرناه ظهر أنّ البحث في عقد المملوك ليس من جهة كونه فضوليّاً حتّى يتوجّه إليه أنّ إفراده بالبحث مع اندراجه في عنوان عقد الفضولي الآتي ممّا لا وجه له لكون البحث في عقد الفضولي مغنياً عن البحث عنه بانفراده، إذ ليس النظر هنا إلى حيثيّة وقوع التصرّف في مال الغير سيّداً كان أو غيره و هذا هو جهة الفضوليّة، بل إلى حيث كونه تصرّفاً في نفسه و لسانه و هو ملك لسيّده و قد تصرّف فيه بغير إذن مالكه، و هذه حيثيّة اُخرى غير حيثيّة الفضوليّة، و يظهر الثمرة فيما إذا اشترى شيئاً في ذمّته بغير إذن السيّد أو باع مال الغير بإذنه دون إذن سيّد بل ما لو باع مال الغير بغير إذنه و إذن سيّده، فهل يتوقّف على إجازتين أو على إجازة واحدة و هي إجازة المالك فقط و لا يتوقّف على إجازة السيّد؟ ففي المقام جهتان من البحث:

إحداهما: توقّف الجواز الوضعي لتصرّف المملوك ببيع أو اشتراء أو نحوهما من حيث كونه تصرّفاً في ملك السيّد على إذن السيّد و عدمه.

و اُخراهما: كفاية الإجازة اللاحقة من السيّد في جوازه الوضعي أعني نفوذه

ص: 733


1- شرح القواعد 66:2-67.

و ترتّب الأثر عليه و عدمه.

فأمّا الجهة الاُولى: فالظاهر توقّف نفوذ تصرّفاته الإنشائيّة على إذن السيّد سابقاً أو لاحقاً، فبدونها تقع فاسدة، للأصل، و الإجماع الّذي نقله سيّد الرياض(1) في كتاب الحجر، و لقوله عزّ من قائل: «ضَرَبَ اَللّٰهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لاٰ يَقْدِرُ عَلىٰ شَيْ ءٍ » (2)«وَ هُوَ كَلٌّ عَلىٰ مَوْلاٰهُ » فإنّ قوله: «لاٰ يَقْدِرُ عَلىٰ شَيْ ءٍ » (3) صفة بعد صفة للجنس على حدّ قوله تعالى: «وَ لاٰ طٰائِرٍ يَطِيرُ بِجَنٰاحَيْهِ » (4) و حاصله أنّ عدم القدرة على شيء من لوازم ماهيّة العبوديّة، و لفظة «شيء» نكرة في سياق النفي مفيدة للعموم، فتدلّ باعتبار العموم على أنّ العبد المملوك لا يقدر على إجراء العقد و غيره من التصرّفات الإنشائيّة لأنّه أيضاً شيء، و ظاهر أنّ ليس المراد بالقدرة المنفيّة هنا القدرة العقليّة ليكون نفيها إثباتاً للامتناع لكونه دفعاً للضرورة و تكذيباً للحسّ ، فإنّا نرى بالضرورة و نشاهد بالحسّ أنّ جميع مقدورات الأحرار مقدورة للعبيد فتحمل على إرادة الاستقلال. و حاصل مفاد الآية حينئذٍ أنّ العبد المملوك ليس كالحرّ ليكون مستقلّاً في تصرّفاته بحيث لا يتوقّف شيء من تصرّفاته في نفسه على إذن غيره و إجازته بل لا يستقلّ في شيء من تصرّفاته، و هو كناية عن توقّف نفوذ تصرّفاته على إذن السيّد.

لا يقال: إنّ القدرة العقليّة إذا تعذّرت يحمل القدرة المنفيّة على القدرة الشرعيّة ليكون نفيها إثباتاً للمنع الشرعي، و قضيّة ذلك أن يكون عقده بدون إذن سيّده ممنوعاً بالمنع الشرعي، على معنى كونه منهيّاً عنه و النهي يقتضي الفساد، و قضيّة ذلك أن يقع عقده فاسداً من حين وقوعه. لأنّ إرادة المنع الشرعي بهذا المعنى يأباه ما ورد في تصحيح نكاحه بعد إجازة السيّد من الروايات، و من ذلك قوله عليه السلام: «لم يعص اللّٰه و إنّما عصى سيّده فإذا أجاز جاز»(5).

نعم ربّما أمكن المناقشة في الدلالة بحمل القدرة المنفيّة على المالكيّة، و إطلاق عدم القدرة على شيء عدم ملك شيء، يقال في مقام إظهار الفقر: «لا أقدر على شيء»

ص: 734


1- الرياض 254:9.
2- النحل: 75 و 76.
3- النحل: 75 و 76.
4- الأنعام: 38.
5- الوسائل 1/11:21، ب 24 نكاح العبيد و الإماء، التهذيب 1432/351:7.

أي لا أملك شيئاً، فتكون الآية في مقام بيان عدم مالكيّة المملوك شيئاً حتّى أنّ ما في يده لمولاه. و حاصل معناها حينئذٍ أنّه إذا حاز حطباً أو حشيشاً ليتملّك لا يملك، و لو قبل هبة أو وصيّة ليتملّك الموهوب أو الموصى به لا يملك، حتّى أنّه لو مات مورّث له لا يملك الإرث. و على هذا فالآية خارجة عن محلّ المقام فيسقط بها الاستدلال.

و يمكن دفعها بالروايات الّتي منها المرويّ عن الفقيه بسنده عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام و أبي عبد اللّه عليه السلام قالا: «المملوك لا يجوز نكاحه و لا طلاقه إلّا بإذن سيّده، قلت: فإن كان السيّد زوّجه بيد من الطلاق ؟ قال: بيد السيّد «ضَرَبَ اَللّٰهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لاٰ يَقْدِرُ عَلىٰ شَيْ ءٍ » فشيء الطلاق»(1) فإنّ استشهاد الإمام عليه السلام لنفي قدرته على الطلاق بالآية يأبى عن كون المراد بالقدرة المنفيّة هو الملك، و لو سلّم فوجب حمل الملك على ما يعمّ ملك الطلاق، لا خصوص الملك المعتبر في الأموال و حاصله السلطنة، فمعنى أنّه «لاٰ يَقْدِرُ عَلىٰ شَيْ ءٍ » أنّه لا يتسلّط على شيء حتّى إجراء العقد و إيقاع الطلاق، و مرجعه إلى نفي استقلاله في التصرّفات الّتي منها تصرّفاته الإنشائيّة، فليتدبّر.

و أمّا الجهة الثانية: ففي كفاية الإجازة المتأخّرة من السيّد في نفوذ تصرّفاته الإنشائيّة إشكال: من أنّ المنع هنا ليس لحيثيّة راجعة إلى العوضين اللذين يتعلّق بكلّ منهما حقّ المالك له فله أن يرضى بما وقع على ماله من التصرّف و له أن لا يرضى، بل لحيثيّة راجعة إلى نفس الإنشاء الصادر من المملوك من حيث كونه تصرّفاً في نفسه الّذي هو ملك لسيّده. و وجه الفرق بينهما أنّ الإجازة على الحيثيّة الاُولى إنّما تتعلّق بمضمون العقد و هو انتقال المال بعوض فيقع للمجيز، و على الثانية تتعلّق بأصل الإنشاء من حيث كونه تصرّفاً خاصّاً في ملك الغير من دون إذنه فلا تنفع في رفع قبحه العقلي و لا في زوال تحريمه الشرعي الموجب للإثم و العصيان.

و من عموم أدلّة وجوب الوفاء بالعقود المقتضي لنفوذ التصرّفات و ترتّب الآثار عليها، و لا ينافيه عدم استقلال العبد في تلك التصرّفات المستفاد من الآية المتقدّمة

ص: 735


1- الوسائل 1/101:22، ب 45 أبواب مقدّمات الطلاق، التهذيب 1419/347:7.

حسبما مرّ الإشارة إليه، لأنّ قصارى ما يستلزمه عدم الاستقلال هو ثبوت مدخليّة للمولى فيها لا اشتراط نفوذها و ترتّب الأثر عليها بإذنه السابق حتّى أنّه لو شكّ في الاشتراط كان التمسّك بالعموم لنفيه متّجهاً. و هو الأقوى، للعموم، و يؤيّده الأخبار الواردة في نكاحه الدالّة على أنّه لمولاه إن شاء أجاز و إن شاء لم يجز بل فرّق بينهما، و منها ما تقدّم من تعليل الصحّة بعد الإجازة بأنّه «لم يعص اللّٰه و إنّما عصى سيّده فإذا أجاز جاز».

نعم ربّما يشكل الحال في هذا التعليل من جهة أنّ نفي عصيان اللّٰه لا يجامع ما تقدّم من قبح الإنشاء عقلاً و تحريمه شرعاً، من جهة كونه تصرّفاً غير مأذون فيه من مالكه خصوصاً على طريقة من يحمل العصيان في قضيّتي النفي و الإثبات على عدم الإذن لا مخالفة الخطاب، دفعاً للتدافع عمّا بينهما، فيكون معناه أنّه لم يأت بما لم يأذن فيه اللّٰه بل أتى بما لم يأذن فيه السيّد فإذا أجاز صحّ .

و يمكن الذبّ عنه بحمل العصيان المنفيّ بالنسبة إليه تعالى على إرادة أنّ هذا العقد من حيث كونه هذه المعاملة الخاصّة ليس ممّا نهى عنه اللّٰه تعالى ليكون من المعاملة المنهيّ عنها لنفسها و يكون النهي مقتضياً لفساده بل عصى سيّده الّذي نهاه عنه، و هذا لا ينافي قبحه و لا حرمته من حيث كونه تصرّفاً في ملك السيّد من دون إذنه، و هذا النهي لا يقتضي الفساد حتّى ينهض مخصّصاً للعمومات المقتضية للصحّة لتعلّقه بأمر خارج عن المعاملة، لوضوح أنّ التصرّف في ملك الغير من دون إذن المالك أمر خارج عن المعاملة، حتّى أنّ مخالفة السيّد المنهيّ عنها أيضاً أمر خارج عن المعاملة.

فلا يرد أنّ معصية السيّد تستلزم معصية اللّٰه تعالى فكيف ينفى أوّلاً، فإنّ المنفيّ هو المعصية اللازمة من النهي عن النكاح من حيث كونه هذه المعاملة الخاصّة، فيكون حاصل معنى التعليل منطوقاً و مفهوماً أنّه إذا عصى اللّٰه في عقد باعتبار كونه في نفسه ممّا نهي عنه كان باطلاً لعدم تصوّر رضا اللّٰه بما سبق من معصيته، و أمّا إذا لم يعص اللّٰه و عصى سيّده أمكن رضا سيّده فيما بعد بما لم يرض به سابقاً فإذا رضي به و أجاز صحّ .

و محصّله أنّ معيار الصحّة في معاملة المملوك بعد كون المعاملة في نفسها ممّا لم ينه عنه الشارع هو رضا سيّده بوقوعه سابقاً أو لاحقاً، و أنّه إذا عصى سيّده بمعاملة

ص: 736

ثمّ رضي السيّد بها صحّت. فما قيل: من أنّ معصية السيّد لا يزول حكمها برضاه بعده و أنّ الرضا اللاحق غير نافع، كما نقل عن طائفة من العامّة(1) غير سديد.

و عن الشيخ في شرح القواعد(2) الاستشهاد بهذه الرواية و غيرها في قوله المتقدّم بصحّة عقد العبد، و إن لم يسبقه إذن و لم يلحقه إجازة بل و مع سبق النهي أيضاً، لأنّ غاية الأمر هو عصيان العبد و إثمه في إيقاع العقد و التصرّف في لسانه الّذي هو ملك للمولى، لكنّ النهي مطلقاً لا يوجب الفساد خصوصاً النهي الناشئ عن معصية السيّد، كما يومئ إليه هذه الأخبار الدالّة على أنّ معصية السيّد لا تقدح بصحّة العقد.

و ردّ بأنّ الروايات واضحة الدلالة على أنّ الصحّة من جهة ارتفاع كراهة المولى و تبدّله بالرضا بما فعله العبد، و ليس ككراهة اللّٰه عزّ و جلّ بحيث يستحيل رضاه بعد ذلك بوقوعه السابق، فكأنّه قال: «لم يعص اللّٰه» حتّى يستحيل تعقّبه للإجازة و الرضا، و إنّما عصى سيّده فإذا أجاز جاز، فقد علّق الجواز صريحاً على الإجازة، و يدلّ بالمفهوم على عدم الجواز بعدم الإجازة.

أقول: و الأظهر في معنى هذه الروايات كما بيّنّاه أن يحمل نفي معصية اللّٰه على انتفاء النهي عن معاملة العبد في نفسها، فلا يكون عقده من المعاملة المنهيّ عنها لنفسها حتّى يوجب النهي الفساد. و هذا لا ينافي كونها منهيّاً عنها من حيث إنّها تصرّف في ملك المولى بغير إذنه، أو من حيث كونها معصية للمولى لأنّ كلاًّ من ذلك أمر خارج عن حقيقة المعاملة، و النهي عنها باعتبار الأمر الخارج لا يوجب الفساد. و بالجملة النهي المتصوّر بالنسبة إلى عقد العبد على وجوه: النهي عنه في نفسه ليكون من المعاملة المنهيّ عنها لنفسها، و النهي عنه من حيث كونه تصرّفاً غير مأذون فيه، و النهي عنه من حيث كونه معصية للسيّد إمّا بمعنى عدم إذنه فيه أو بمعنى كونه مخالفة لنهيه، و المنفيّ بقوله عليه السلام: «لم يعص اللّٰه» هو الوجه الأوّل، و هو لا ينافي ثبوت النهي على الوجه الثاني أو الثالث.

و دعوى: أنّ قوله: «لم يعص اللّٰه» مطلق و إطلاقه يقتضي انتفاء النهي بجميع وجوهه

ص: 737


1- الوسائل 1/114:21، ب 24 نكاح العبيد و الإماء، التهذيب 1432/351:7، المغني لابن قدامة 515:6.
2- شرح القواعد 69:2.

فما معنى الفرق و التفصيل، مدفوعة بأنّ إطلاق الدليل اللفظي لا يعارض الحكم العقلي و لا يدافع الضرورة، و حرمة التصرّف في ملك الغير من دون إذنه تنشأ من القبح العقلي، و حرمة معصيته السيّد ثابتة بضرورة الدين، فإنّ من ضروريّاته حرمة معصية العبيد لمواليهم، فقضيّة الجمع بينه و بينهما تقييد الإطلاق بالنهي النفسي الغير المنافي لثبوت القبح العقلي و التحريم الضروري. نعم ربّما يتّجه الدعوى المذكورة في الجملة إن صحّ منع القبح العقلي من هذا النحو من التصرّف، كما يلوح ذلك عن بعض مشايخنا(1) حيث منع في أثناء كلامه حرمة هذا النوع من التصرّفات الجزئيّة تمسّكاً بالسيرة المستمرّة على مكالمة العبيد و نحو ذلك من المشاغل الجزئيّة، إلّا أنّها لا تتمّ بالنسبة إلى حرمة معصية السيّد، لكون الضرورة المثبتة لها ممّا لا يمكن الاسترابة و التشكيك فيها.

فرع: لو أمره أحد باشتراء نفسه من مولاه عنه بمال فذهب إلى مولاه و قال: «أمرني أو وكّلني فلان بأن أشتري نفسي منك عنه بكذا»

فإن قال المولى: «أنت مأذون في قبول الوكالة» ثمّ قال: «بعتك من فلان بكذا» فقال العبد: «قبلت أو اشتريت» فلا إشكال في الصحّة، لسبق الإذن في قبول الوكالة على البيع إيجاباً و قبولاً.

و إن قال: «بعتك من فلان بكذا» من دون سبق الإذن صريحاً، فقال العبد: «قبلت» فالظاهر أيضاً وفاقاً لجماعة منهم الفاضلان في القواعد(2) و الشرائع(3) الصحّة، لأنّ قول السيّد «بعتك» مع كونه إيجاباً للبيع إجازة ضمنيّة للعبد في قبوله الوكالة بناءً على أنّه في ذهابه إلى سيّده ليشتري نفسه قصد قبول الوكالة و هو قبول فعلي يكفي في باب الوكالة، أو أنّه مع كونه إيجاباً للبيع إذن ضمني للعبد في قبول الوكالة بناءً على عدم قصده القبول بالفعل المذكور.

فقول العبد: «قبلت» قبول للبيع حصل بعد قبول الوكالة المأذون فيه، لا بمعنى أنّ القبول حصل في ضمن قبول البيع حتّى يقال إنّ جزءاً من لفظ «قبلت» و لو أوّل حرف منه حصل قبل تماميّة الوكالة، بل بمعنى أنّ إخراج العبد نفسه في معرض قبول البيع بعد إيجاب السيّد قبول فعلى، غاية الأمر عدم اتّصال القبول بإيجاب الوكالة و هو غير

ص: 738


1- المكاسب 341:3.
2- القواعد 352:2.
3- الشرائع 198:2.

قادح في باب الوكالة، كما لا يقدح عدم قابليّة العبد للقبول في زمان الإيجاب من جهة عدم انعقاد الوكالة بعد، لأنّ هذا الشرط ليس على حدّ غيره من الشروط كالبلوغ و العقل حتّى يعتبر وجوده من حين الشروع في الإيجاب مستمرّاً إلى الفراغ عن القبول، بل هو كإذن مالك الثمن في المشتري الفضولي إذا حصل بعد إيجاب البيع و قبل قبوله يكفي حصوله في الأثناء.

و عن القاضي ابن البرّاج القول ببطلان البيع في المسألة، تعليلاً بأنّ عبارة العبد عبارة السيّد فيتّحد الموجب و القابل.

و التعليل عليل، إذ لو أراد به أنّ عبارة العبد عين عبارة السيّد، فهو مكابرة للوجدان و مدافعة للبداهة. و لو أراد به أنّ عبارته بمنزلة عبارة السيّد في الأحكام، فكما أنّ عبارة «قبلت» إذا صدرت من السيّد بعد الإيجاب كان من اتّحاد الموجب و القابل فكذا ما هو بمنزلته. ففيه أوّلاً: منع المنزلة و المشاركة في الأحكام، إذ لا دليل عليها. [و ثانيا]: منع البطلان من جهة اتّحاد الموجب و القابل بالذات، لأنّ التغاير بالاعتبار كافٍ في الصحّة.

و أضعف منه الاسترابة في الصحّة باعتبار اتّحاد المبيع و المشتري، و هو خلاف القانون المقرّر في البيع من لزوم تغايرهما، و لذا عدّ أركانه أربعة المتعاقدان و العوضان.

و وجه الضعف عدم كون المشتري هو العبد فإنّه قابل على حسب الوكالة و المشتري هو الموكّل، هذا كلّه إذا أمره بالاشتراء من المولى.

و لو أمره بالاشتراء من وكيل المولى، فعن جماعة منهم المحقّق و الشهيد الثانيان في جامع المقاصد(1) و المسالك(2) عدم الصحّة، لعدم الإذن من المولى في قبول الوكالة.

و يمكن القول بالصحّة فيه أيضاً بدعوى تحقّق الرضا من المولى بوكالة عبده من إطلاق توكيل وكيله في بيع عبده، فإنّ إطلاق الوكالة يقتضي الرضا ببيعه من الأصيل أو من الوكيل مع إطلاقه في الوكيل بالنسبة إلى عبده أو غيره.

فلا حاجة إلى توجيه الصحّة بأنّ غاية ما هنالك النهي عن قبول الوكالة باعتبار التصرّف في ملك الغير و هو لا يوجب الفساد سيّما إذا كان باعتبار أمر خارج عن

ص: 739


1- جامع المقاصد 68:4.
2- المسالك 153:3.

حقيقته، حتّى يردّ بأنّ وجه المنع ليس هو النهي بل عدم استقلال العبد في شيء من تصرّفاته المستفاد من آية أنّه «لاٰ يَقْدِرُ عَلىٰ شَيْ ءٍ » المقتضي لاعتبار إذن السيّد سابقاً أو لاحقاً في الصحّة و النفوذ، و المفروض أنّ الإذن غير حاصل. و إن كان يمكن دفع هذا الردّ بما استكشفناه من إطلاق الوكالة من تحقّق الرضا من السيّد بوكالة عبده كرضاه بوكالة غيره، و لكنّ المسألة بعد محلّ تأمّل من جهة خفاء الفرد، فليتدبّر.

ص: 740

فصل و من شروط المتعاقدين أن يكونا مالكين، أو ممّن يقوم مقام المالك،
اشارة

كالوكيل أو الوصيّ أو الوليّ الإجباري كالأب و الجدّ، أو الوليّ الشرعي كالحاكم و أمينه. و قد يعبّر بكون العاقد مالكاً أو من يقوم مقامه، و لا ضير فيه بناءً على إرادة المعنى الجنسي الشامل للواحد و الاثنين.

و في الشرائع عبّر ب «أن يكون البائع مالكاً أو ممّن له أن يبيع عن المالك، كالأب و الجدّ و الوكيل و الوصيّ و الحاكم و أمينه، فلو باع ملك غيره وقف على إجازة المالك أو وليّه على الأظهر»(1).

و لعلّ إفراد البائع بالذكر مع جريان الفضولي في سائر العقود لمراعاة التعرّض للعقد الفضولي في كتاب البيع، و لا يخلو عن مسامحة و إن كان قد يوجّه بحمله على إرادة المثال الغير المنافي لعموم الحكم سائر العقود.

و في تعبيره بالبائع مسامحة اُخرى نظراً إلى جريان الفضولي في المشتري أيضاً، كما لو اشترى سلعة بمال الغير ثمناً أو بعوض في ذمّة الغير.

و قد يوجّه ذلك بحمل «البائع» على إرادة ما يعمّ المشتري لشيوع إطلاقه عليه في كلامهم، و من ذلك ما في قولهم: «كلّ مبيع تلف قبل قبضه فهو من مال بائعه» لإجماعهم على جريان ذلك الحكم في سلعة المشتري و عدم اختصاصه بسلعة البائع، فيحمل البائع على إرادة ما يعمّ المشتري كما يحمل المبيع على ما يعمّ السلعتين. و بالجملة

ص: 741


1- الشرائع 14:2.

اشتراط المالكيّة في المشتري أيضاً متّفق عليه بينهم كاشتراطها في البائع، و ينهض ذلك قرينة على إرادة المعنى العامّ .

و هاهنا مسامحة اُخرى في لفظ «المالك» نظراً إلى أنّ العقد قد يجري على ما في الذمّة و هو كلّي بل قد يجري فيما لا وجود له في الخارج حال العقد كما في بيع السلم فيما لا يمكن وجود المبيع إلّا في وقت انصرام الأجل، و الملك وصف وجودي لا يلحق إلّا بالموجود الخارج و لا وجود لما في الذمّة و لا لما ذكر من المثال. و لو وجّه الأوّل بأنّ الجزئي المطابق للكلّي في الذمّة له وجود فإطلاق المالك حينئذٍ امّا باعتبار أنّه يملك المبيع نفسه فيما إذا كان عيناً شخصيّة أو أنّه يملك جزئيّة المطابقة له فيما إذا كان المبيع كلّيّاً في الذمّة، فهو لا يتمشّى في الثاني، فالمسامحة بالنسبة إليه على حاله، و مبنى المسامحة على التوسّع في الاستعمال بإرادة ما يعمّ المالك الحقيقي و المالك المجازي و هو من يملك فيما بعد، فإنّ الإطلاق عليه باعتبار ما يؤول إليه، فيجوز دخوله في الإرادة من باب الاستعمال في عموم المجاز.

ثمّ المالك بالمعنى الحقيقي عبارة عن مالك التصرّف، و ملك التصرّف عبارة عن سلطنة مخصوصة تقتضي جواز التصرّف في المال أيّ تصرّف أصالة لو لا المانع. و احترزنا بقولنا «أصالة» عن الوكيل و الوصيّ و الوليّ ، فإنّ جواز تصرّفهم ليس أصالة بل تبعاً لإذن المالك أو الولاية عليه. و بقولنا «لو لا المانع» عمّن لا يجوز له التصرّف في ماله لمانع من تعلّق حقّ للغير به كحقّ الرهانة في العين المرهونة و حقّ الديّان في المفلس أو صباء أو جنون أو سفه و ما أشبه ذلك، فإنّ عدم جواز التصرّف في هذه الموارد و غيرها لوجود المانع فلا ينافي السلطنة المقتضية له، لأنّ المقتضي قد يجامع وجود المانع.

و المراد ب «المالك» هاهنا هو المالك للتصرّف أصالة أو تبعاً بإذن أو ولاية لو لا المانع، بقرينة أنّهم احترزوا باشتراط المالكيّة عن الفضولي، و هو من لم يكن أحد هؤلاء، و لذا عرّفه الشهيد على ما حكي «بالكامل الغير المالك للتصرّف و لو كان غاصباً»(1) و في معناه ما عن بعض العامّة من تعريفه «بأنّه العاقد بلا إذن من يحتاج إلى إذنه»(2) و احترز

ص: 742


1- غاية المراد: 177.
2- المكاسب 346:3.

بقوله: «بلا إذن» عن الوكيل أو الوصيّ إذا عقد في مال الموكّل أو الموصي، و بقوله: «من يحتاج إلى إذنه» عن المالك و وليّه - كالأب و الجدّ و الحاكم و أمينه - لأنّ الأوّل لا يحتاج في عقده إلى إذن أحد، و الثاني لا يحتاج إلى إذن المالك.

ثمّ إنّ ظاهرهم الاتّفاق على اشتراط المالكيّة بالمعنى الأعمّ - و حينئذٍ ربّما يشكل الحال في عقد الفضولي على القول بصحّته مع الإجازة، فإنّ مقتضى شرطيّة المالكيّة بالمعنى الأعمّ وقوعه باطلاً من أصله كما عليه جماعة(1) فما معنى صحّته مع الإجازة ؟ و يمكن الذبّ بأنّهم اتّفقوا على الاشتراط و اختلفوا في المشروط به و أنّه هل هو تأثير العقد أو استقرار أثره ؟ فمنهم من قال: بأنّ المالكيّة بالمعنى المذكور شرط لتأثير العقد، و لزمه القول ببطلان عقد الفضولي من أصله. و منهم من قال: بأنّها شرط لاستقرار أثره، و لزمه القول بصحّة عقد الفضولي و وقوف استقرار أثره على لحوق الرضا أو الإجازة.

و يشكل بأنّ المستفاد من كلماتهم صراحة و ظهوراً في الاستدلال على صحّة عقد الفضولي أو بطلانه كون مناط الصحّة هو رضا المالك أو إذنه، و رجوع اختلافهم إلى أنّ المعتبر هو الرضا أو الإذن السابق المقارن للعقد خاصّة أو مطلق الرضا و الإذن و لو لاحقاً، و قضيّة ذلك أن يكون شرط استقرار الأثر على القول بالصحّة هو لحوق الرضا أو الإذن الّتي يقال لها الإجازة - لا المالكيّة بالمعنى المذكور.

اللهمّ إلّا أن يقال: بأنّ المالكيّة بهذا المعنى شرط لشرط التأثير لا أنّها في نفسه شرط له، على معنى أنّ شرط الصحّة و التأثير هو الرضا أو الإذن مطلقاً أو بشرط السبق و المقارنة، و لكن يعتبر فيهما كونهما من المالك بالمعنى الأعمّ . و بعبارة اُخرى أنّ العلماء بذكر شرط المالكيّة قصدوا إلى بيان أنّ شرط صحّة العقد و تأثيره هو رضا المالك للتصرّف مطلقاً و لو لاحقاً أو رضاه السابق المقارن لا مطلقاً. هذا غاية ما يمكن أن يقال في الجمع بين كلماتهم في بيان شرط المالكيّة و إناطتهم لصحّة العقد برضا المالك، ثمّ اختلافهم في أنّه مطلق الرضا و لو لاحقاً أو الرضا المقارن بالخصوص، و تفريعهم صحّة عقد الفضولي مع لحوق الإجازة عليها.

ص: 743


1- كما في الإيضاح 416:1-417، و الحدائق 378:18-391، و مجمع البرهان 158:8.

و عن المختلف(1) أنّه جعل ما عدا الملكيّة من الشرائط المتقدّمة شروطاً للصحّة، و الملك أو ما يقوم مقامه شرطاً للزوم. و هذا لا يستقيم على القول ببطلان الفضولي بل و على القول بالصحّة مع التوقّف على الإجازة على القول بكون الإجازة ناقلة، بل على القول بكونها كاشفة أيضاً كما هو واضح.

و كيف كان ففي صحّة بيع الفضولي مع الإجازة قولان، أحدهما: الصحّة، و هو قول الأكثر كما في المسالك(2) و عن المفاتيح(3) و أشهر القولين كما عن الروضة(4) و إيضاح النافع(5) و الأشهر بين المتأخّرين بل مطلقاً كما في الرياض(6) و هو المشهور كما عن مجمع البرهان(7) و الكفاية(8) و الحدائق(9) بل زاد في الأخير «كاد يكون إجماعاً» و عن التذكرة ما ظاهره دعوى الإجماع حيث قال: «إنّه جائز عندنا لكن يكون موقوفاً على الإجازة»(10) و قيل(11) يظهر دعوى الإجماع أيضاً من جامع المقاصد(12) في باب الوكالة.

و القول الآخر: عدم الصحّة، و هو على ما حكي لجماعة، فمن القدماء الخلاف(13)و الغنية(14) و من المتأخّرين فخر الدين في الإيضاح(15) و ظاهر الأردبيلي في مجمع البرهان(16) و السيّد الداماد في صيغ العقود(17) و صاحبا الكفاية(18) و الحدائق(19) و نسب أيضاً إلى ظاهر الوسائل(20).

و ينبغي تحرير المسألة بأنّ البائع الفضولي قد يبيع للمالك، و قد يبيع لنفسه، و على الأوّل فقد لا يسبقه منع من المالك، و قد يسبقه المنع،
اشارة

فهنا مسائل:

المسألة الاُولى: أن يبيع للمالك مع عدم سبق منع منه،
و المشهور فيه الصحّة و استدلّ بوجوه:
اشارة

ص: 744


1- المختلف 53:5.
2- المسالك 192:3.
3- المفاتيح 46:3-47.
4- الروضة 229:3.
5- نقله عنه في مفتاح الكرامة 591:12.
6- الرياض 222:8.
7- مجمع البرهان 157:8.
8- الكفاية: 449.
9- الحدائق 376:18-377.
10- التذكرة 215:10.
11- مفتاح الكرامة 591:12.
12- جامع المقاصد 243:8-244.
13- الخلاف 168:3، المسألة 257.
14- الغنية: 207.
15- الإيضاح 416:1-417.
16- مجمع البرهان 158:8.
17- نقله عنه في الحدائق 377:8.
18- الكفاية: 89.
19- الحدائق 378:18-391.
20- الوسائل 348:12، ب 1 عقد البيع.
منها: أنّه عقد صدر من أهله في محلّه فيكون صحيحاً،

أمّا أنّه عقد فلصدق الاسم عليه عرفاً و خلوّه عن مقارنة إذن المالك لا يوجب سلب اسم العقد و لا البيع عنه، و أمّا أنّه صدر من أهله فلفرض صدوره من الكامل بالعقل و البلوغ و الاختيار، و أمّا أنّه وقع في محلّه فلفرض تحقّق العوضين مع اجتماعهما لشرائط الصحّة، و ليس إلّا عدم مباشرة المالك و الأصل عدم كونها شرطاً، أو عدم مقارنة إذن المالك و الأصل أيضاً عدم الشرطيّة. و اُورد عليهما بمعارضة أصالة عدم ترتّب الأثر.

و يدفعه أوّلاً: أنّ أصالة عدم الشرطيّة واردة على أصالة عدم ترتّب الأثر، لسببيّة شكّه.

و ثانياً: انقطاع أصالة الفساد بعموم «حِلّ البيع» و «وجوب الوفاء بالعقود» و «تجارة عن تراض» و غير ذلك.

و من هنا يندفع أيضاً ما عن غاية المراد(1) من المناقشة في الدليل بكونه من باب المصادرات، و كأنّه لم يلتفت إلى أنّ مستند دعوى الصحّة في عبارة الدليل هو العمومات.

نعم ربّما يورد على الاستدلال بالعمومات بعدم شمولها للأفراد النادرة خصوصاً إذا كانت في غاية الندرة، و البيع الفضولي فرد نادر.

و اُجيب تارة بمنع الصغرى - أعني الندرة - فإنّ الأحبّاء و الأصدقاء و الرفقاء و الوكلاء و الأولياء و العبيد و غيرهم يتصرّفون في أموال غيرهم و يعقدون عليها بالبيع و الشراء و غيرهما فضولاً ثمّ يستأذنون و يستجيزون، فهو طريق معهود مألوف استقرّت السيرة به فكيف يرمى بالندرة كما عن الشيخ الغروي في شرحه للقواعد(2). و اُخرى بمنع الكبرى فإنّ الأصحاب لا يزالون في جميع الأعصار و الأمصار يستدلّون بتلك العمومات على الأفراد النادرة الّتي منها بيع السّلَم و نحوه كما يظهر للمتتبّع في أبواب العقود، فيكون ذلك إجماعاً منهم كاشفاً عن إرادة عموم الحكم بحيث يشمل الأفراد الشائعة و النادرة معاً كما عن سيّد الرياض(3).

و الأولى في الجواب بعد تسليم الندرة أن يقال: إنّ شبهة عدم الانصراف في الأدلّة

ص: 745


1- غاية المراد: 178.
2- شرح القواعد 73:2.
3- الرياض 222:8.

إلى الأفراد النادرة و إن كانت في مثل «أحلّ البيع» ممّا كان أشبه بالمطلقات لا بعد فيها، و لكنّها في مثل «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» ممّا كان من قبيل العمومات خلاف التحقيق، لأنّ عموم العامّ وضعي لا يتفاوت الحال فيه بين الأفراد، فيشمل المتعارفة الشائعة و النادرة بل الأندرة أيضاً.

و منها: فحوى ما دلّ على صحّة الفضولي في النكاح من النصّ المستفيض و الإجماع

كما نقله علم الهدى(1) في الحرّ و العبد، و الحلّي(2) في الحرّ، و الشيخ في الخلاف(3) في العبد، و صحّته فيه مع احتياطهم لكونه في الفروج يستلزم صحّته في البيع و نحوه بطريق أولى. تمسّك به جماعة منهم غاية(4) المراد و الرياض بل في الثاني «أنّه لولاه أشكل الحكم من جهة الإجماعين الآتيين» على المنع(5).

و قد يورد عليه بما محصّله: أنّه إن اُريد بالفحوى ما ينطبق على مفهوم الموافقة، ففيه أنّه يعتبر في مفهوم الموافقة كون أولويّة المسكوت عنه من المنطوق به عرفيّة، على معنى كونها منساقة من الخطاب في متفاهم العرف، كأولويّة ضرب الوالدين بالتحريم من التأفيف المنساقة من آية «فَلاٰ تَقُلْ لَهُمٰا أُفٍّ » (6) و هي فيما نحن فيه ليست عرفيّة بالمعنى المذكور. و إن اُريد به ما ينطبق على القياس بطريق أولى، ففيه أنّه يعتبر فيه كون الأولويّة قطعيّة بأن يكون علّة الحكم في الأصل معلومة مع وجودها في الفرع و كونها فيه أشدّ و آكد، و هي فيما نحن فيه ليست بهذه المثابة لعدم معلوميّة علّة الحكم في النكاح، مع احتمال كون الحكمة فيه شدّة الاستحياء في النساء، فإنّه ربّما يمنعهنّ من التوكيل في التزويج فسوّغ الشارع فيه الفضولي و أوقفه على الإجازة لأنّ أمر الإجازة أسهل و أهون، إذ ليس استحياؤهنّ فيها كالاستحياء في التوكيل.

و يمكن دفعه بأنّ هنا شقّاً ثالثاً، و هو كون المراد بالفحوى هنا الأولويّة الظنّيّة المندرجة في الظنّ المطلق على القول بحجّيّة الظنون المطلقة، و لا ريب في حصول الظنّ الاطمئناني من جهتها بمشاركة البيع و غيره النكاح في صحّة الفضولي مع الإجازة.

ص: 746


1- الناصريّات: 330.
2- السرائر 562:2.
3- الخلاف 266:4، المسألة 18.
4- غاية المراد: 178.
5- الرياض 223:8.
6- الإسراء: 24.

نعم و قد يورد عليها بالنصّ الوارد في الردّ على العامّة الفارقين بين تزويج الوكيل المعزول مع جهله بالعزل و بين بيعه، بالحكم بالصحّة في الثاني لأنّ المال له عوض، و البطلان في الأوّل لأنّ البضع ليس له عوض، فقال الإمام ردّاً عليهم و تنبيهاً على اشتباههم في وجه الفرق: «سبحان اللّٰه ما أجور هذا الحكم و أفسده، فإنّ النكاح أولى و أجدر أن يحتاط فيه، لأنّه الفرج و منه يكون الولد...»(1) الخبر.

و حاصله كون النكاح من جهة الاحتياط المتأكّد فيه أولى بالصحّة من البيع، و قضيّة ذلك أنّه إذا ثبت الفضولي في البيع فهو يستلزم ثبوته في النكاح أيضاً بطريق أولى، لا أنّ ثبوته في النكاح يستلزم ثبوته في البيع بطريق أولى كما عليه مبنى الاستدلال المتقدّم.

و فيه: منع دلالة ذلك على كون الأولويّة في العكس، لعدم كون مستند العامّة في الحكم بصحّة البيع دون النكاح هو أولويّة البيع بالصحّة من النكاح، و لا الاحتياط، بل عدم المبيع من البائع بلا عوض على تقدير البطلان لأنّ له عوضاً، بخلاف النكاح فإنّه على تقدير البطلان يستلزم خروج البضع من الزوجة بلا عوض لأنّ البضع لا عوض له، فليس مقصود الإمام في الردّ عليهم دعوى الأولويّة بين البيع و النكاح و جعل النكاح أولى بالصحّة من البيع لأنّ الاحتياط فيه أشدّ من الاحتياط، بل مقصوده الردّ عليهم ببيان مشاركة النكاح للبيع في وجود المقتضي للصحّة في زعمهم و على طريقتهم في الاعتماد على الاستحسانات الذوقيّة و المصالح المرسلة، فحاصل مراده عليه السلام بيان أنّ البيع كما يوجد فيه المقتضي للصحّة في زعمهم، و هو كون المال له عوض، فكذلك النكاح أيضاً فيه المقتضي للصحّة، و هو كون إبقائه أحوط من إبطاله و أنّه أقرب إلى الاحتياط، و مرجعه إلى إعمال الأولويّة بين إبقاء النكاح و إبطاله لا بين النكاح و البيع، فإنّ إبطال النكاح يستلزم التفريق بين الزوجين فتتزوّج المرأة فعلى تقدير صحّة العقد في نفس الأمر يلزم الزنا بذات البعل و يحصل منه الولد، بخلاف إبقائه فإنّه على تقدير بطلان العقد في نفس الأمر يستلزم الزنا بالمرأة الخالية من المانع، و هو أهون من الزنا

ص: 747


1- الوسائل 2/163:19، ب 2 أبواب الوكالة، التهذيب 506/314:6.

بذات البعل و أقرب بالاحتياط، فيكون إبقاء النكاح أولى و أجدر من إبطاله عند دوران الأمر، فليتدبّر.

و منها: الخبر العامّي المعروف الوارد في قصّة عروة البارقي

حيث دفع إليه النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم ديناراً و قال: «اشتر لنا به شاة للاُضحيّة، فاشترى به شاتين، ثمّ باع إحداهما في الطريق بدينار، فأتى النبيّ بالشاة و الدينار، فقال له رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم: بارك اللّٰه لك في صفقة يمينك»(1) فإنّ بيعه لإحدى الشاتين لعدم كونه مأذوناً فيه وقع فضولاً، و قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «بارك اللّٰه...» الخ إمضاء له، فلو لم يصحّ الفضولي مع الإجازة لم يكن لإمضاء النبيّ معنى. بل قد يقال: بأنّ اشتراءه الشاتين بدينار أيضاً وقع فضولاً، لأنّ المأمور به هو اشتراء شاة بدينار لا اشتراء شاتين فقوله صلى الله عليه و آله و سلم: «بارك اللّٰه...» الخ إجازة لهما. و لو وجّه اشتراؤه الشاتين بحيث خرج عن كونه فضوليّاً بجعله مأذوناً فيه بالفحوى لأنّ من أذن باشتراء شاة بدينار راضٍ باشتراء شاتين بدينار بطريق أولى، لكفى كون بيعه لإحدى الشاتين فضوليّاً.

و اُورد على الاستدلال بالرواية بوجوه، فتارةً : بعدم دلالتها على أنّ عروة اشترى الشاتين للنبيّ لجواز كونه إنّما اشتراهما لنفسه بدينار أعطاه النبيّ أي وهبه و ملّكه لمّا رأى من حاله أنّه لا شيء له ليشتري به الشاة للاُضحيّة و هو يحبّ الاُضحية و لم يكن عنده شيء، غاية ما هنالك حمل الإعطاء على إرادة الهبة لا مجرّد المناولة، و هو شائع في الاستعمالات يقال: عطيّة فلان و عطايا سلطان و ما أشبه. و إتيانه إلى النبيّ بالدينار ليردّه عليه شكراً لنعمته من جهة حصول غرضه و هو تملّكه شاة للاُضحيّة، و لعلّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم لم يقبله بل ردّه إليه خصوصاً على احتمال كون الدينار من الوجوه الّتي يستحقّها عروة فملكه بمجرّد دفع النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم و إن قصد بإعطائه المناولة.

و اُخرى: بأنّ الرواية تتضمّن الغبن الفاحش إمّا لبائع الشاتين أو لمشتري إحداهما على سبيل منع الخلوّ، لأنّ ثمن مثل الشاتين إمّا يكون أزيد من دينار كدينارين مثلاً فيلزم الغبن للبائع، و إن كان دنيا فيلزم الغبن للمشتري. و من المستبعد أن يرضى النبيّ

ص: 748


1- مستدرك الوسائل 245:13، ب 18 أبواب عقد البيع و شروطه، عولي اللآلي 36/205:3.

مع كمال رأفته و شفقته على اُمّته بذلك الغبن، فلا بدّ من اطراح الرواية أو تأويلها بما يوجب خروج موردها عن عنوان الفضولي، أو بما لا يوجب ثبوت المدّعى.

و ثالثة: بأنّها مشتملة على ما لا يقول به أهل القول بصحّة الفضولي من جهات عديدة، و هو أنّهم لا يجوّزون التصرّف قبل لحوق الإجازة و يحرّمونه كتصرّف عروة في الدينار بالإقباض و في الشاتين بالقبض، و في إحداهما بالبيع و الإقباض من المشتري و قبض ديناره، و كيف يقرّره النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم على فعل هذه المحرّمات و لا يذمّه بل يمدحه و يدعو له، فلا بدّ و أن [لا] يكون معاملته اشتراء و بيعاً من باب الفضولي.

و رابعة: بأنّ مورد الرواية من باب حكايات الأحوال الّتي إذا تطرّق إليها الاحتمال كساها ثوب الإجمال فيسقط بها الاستدلال، و من المحتمل كون وكالة عروة مطلقة عامّة لجميع التصرّفات، و لا سيّما على ما قيل فيه من كونه من وكلائه، و لا ينافيه إذنه في هذا التصرّف الخاصّ المستفاد من الأمر باشتراء الخاصّ ، لجواز كونه من الإذن الخاصّ بعد الإذن العامّ ، فلا يمكن بها على حكم الفضولي.

و خامسة: باحتمال كون معاملة عروة في مورد الرواية معاطاتية إباحيّة لا تمليكيّة مندرجة في العقد الفضولي، و قد أرضى مالك الشاتين و مالك الدينار بأن يأتي بهما إلى النبيّ و يقصّ عليه القصّة فإن رضي بما صنعه كانت المعاملة ممضاة و إلّا أرجع إليهما ما أخذ منهما، فتخرج عن محلّ الاستدلال لعدم كونها من العقد الصادر من الفضولي.

و في الجميع ما لا يخفى، أمّا إجمالاً فلأنّ الاحتمالات البعيد المخالفة للظاهر لا يلتفت إليها، و لا تمنع الاستدلال بالظواهر، و إلّا انسدّ باب التمسّك بألفاظ الكتاب و السنّة، إذ ما من ظاهر إلّا و في مقابله احتمال بعيد أو احتمالات بعيدة. و أمّا تفصيلاً فلوضوح ضعف كلّ من الوجوه المذكورة:

أمّا الأوّل: فلظهور إطلاق الإعطاء في المناولة فلا يصرف إلى التمليك و الهبة إلّا لقرينة، و لا قرينة في الرواية بل القرينة قائمة بخلاف ذلك، فإنّ إتيان عروة للشاة و الدينار معاً إلى النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم أقوى شاهد في العرف بكون الاشتراء له صلى الله عليه و آله و سلم لا لنفسه، و ردّ الدينار عليه صلى الله عليه و آله و سلم مع فرض كونه ملكاً له ممّا لا مقتضي له خصوصاً مع احتياجه و استحقاقه، و قصد إظهار شكر نعمته لا يقتضي ذلك لحصوله بحكاية الواقعة و إظهار امتنانه.

ص: 749

و أمّا الثاني: فلأنّ حمل معاملة عروة على المعاملة المحاباتيّة أولى من حملها على معاملة المغابنة، مع منع تحقّق غبن لبائع الشاتين و لا لمشتري شاة واحدة، فإنّ مجاري العادات أنّ كل متاع حال وفوره يتنزّل قيمته و حال قلّته و عزّته تترفّع قيمته، و كثيراً ما يختلف الحال بالوفور و العزّة في زمان قليل، و لا سيّما مورد الرواية و هو أغنام الاُضحية خصوصاً في يوم الأضحى الّتي تتوفّر في أوّل النهار ثمّ تتعزّز بعده بساعة أو أقلّ أو أكثر، فمن الجائز وقوع الاشتراء حال وفورها و طروء العزّة فيما بينه و بين مسيره إلى النبيّ و وقوع بيع الشاة في هذه الحالة.

و أمّا الثالث: فلمنع وقوع بعض التصرّفات المذكورة كدفع الدينار إلى البائع، و منع كون وقوع البعض الآخر كقبض الشاتين على الوجه المحرّم لكونه مأذوناً فيه من البائع، و كذلك أخذه الدينار من المشتري مع احتمال كون عروة جاهلاً قاصراً بحكم المسألة، خصوصاً على تقدير وقوع الواقعة في أوائل الإسلام فلا حرمة حتّى توجب استحقاقه الذمّ و التوبيخ.

و أمّا الرابع: فلاندفاع احتمال الإذن العامّ أو الوكالة المطلقة بالأصل فإنّ الإذن الخاصّ معلوم الحصول، و حصول الإذن العامّ قبله أو بعده غير معلوم، و الأصل عدمه، فيكون المورد من المعاملة الفضوليّة. و لا يرد على الأصل كونه من الاُصول المثبتة لأنّ كونها من العقد التوكيلي أو العقد المأذون يحتاج إلى حصول الوكالة المطلقة أو الإذن العامّ ، و كونها من العقد الفضولي لا يحتاج إلى أمر حادث بل يكفي فيه عدم حصول الوكالة المطلقة و الإذن العامّ قبل هذا الإذن الخاصّ ، و الأصل يحرزه. و بالجملة:

الفضوليّة أمر عدمي هو عبارة عن عدم الإذن في التصرّف، و هو مفهوم عين المستصحب لا أنّه يغايره.

و أمّا الخامس: فلأنّ احتمال المعاطاة الإباحيّة في معاملتي عروة لا يزاحم أصالة الحقيقة في لفظي الاشتراء و البيع و لا قرينة على التجوّز فيهما، مضافاً إلى أنّه من المستبعد في الغاية أن يأمره النبيّ باشتراء الشاة للاُضحيّة الّتي لا تقع إلّا في ملك و هو يأخذ الشاتين بالمعاطاة الإباحيّة ثمّ يدعو له النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بقوله: «بارك اللّٰه لك في صفقة يمينك».

نعم: هاهنا كلام آخر أورده شيخنا قدس سره بقوله: «لا يخفى أنّ الاستدلال يتوقّف على

ص: 750

دخول المعاملة المقرونة برضا المالك في بيع الفضولي، توضيح ذلك: أنّ الظاهر علم عروة برضا النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بما يفعل، و قد أقبض المبيع و قبض الثمن، و لا ريب أنّ الإقباض و القبض في بيع الفضولي حرام لكونه تصرّفاً في مال الغير فلا بدّ إمّا من التزام أنّ عروة فعل الحرام في القبض و الإقباض و هو مناف لتقرير النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم و إمّا من القول بأنّ البيع الّذي يعلم بتعقّبه للإجازة يجوز التصرّف فيه قبل الإجازة بناءً على كون الإجازة كاشفة و سيجيء ضعفه، فيدور الأمر بين ثالث و هو جعل هذا الفرد من البيع و هو المقرون برضا المالك خارجاً عن الفضولي كما قلناه، و رابع و هو علم عروة برضا النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم بإقباض ماله للمشتري حتّى يستأذن، و علم المشتري بكون البيع فضوليّاً حتّى يكون دفعه للمثمن بيد البائع على وجه الأمانة، و إلّا فالفضولي ليس مالكاً و لا وكيلاً فلا يستحقّ قبض المال، فلو كان المشتري عالماً فله أن يستأمنه على المثمن حتّى ينكشف الحال، بخلاف ما لو كان جاهلاً.

و لكنّ الظاهر هو أوّل الوجهين كما لا يخفى، خصوصاً بملاحظة أنّ الظاهر وقوع تلك المعاملة على جهة المعاطاة، و قد تقدّم أنّ المناط فيها مجرّد المراضاة و وصول كلّ من العوضين إلى صاحب الآخر، و حصوله عنده بإقباض المالك أو غيره و لو كان صبيّاً أو حيواناً، فإذا حصل التقابض بين فضوليّين أو فضولي و غيره مقروناً برضا المالكين ثمّ وصل كلّ من العوضين إلى صاحب الآخر و علم برضا صاحبه كفى في صحّة التصرّف، و ليس هذا من معاملة الفضولي لأنّ الفضولي صار آلة في الإيصال و العبرة برضا المالك المقرون به»(1) انتهى.

و هذا بناءً على الظهور الّذي ادّعاه قدس سره في أوّل التوضيح - و لعلّه استظهره من تقريره صلى الله عليه و آله و سلم المستحيل كونه على المحرّم - في كمال المتانة إن قلنا بكفاية مقارنة رضا المالك في خروج البيع عن الفضولي و عدم افتقاره إلى إذنه الصريح، و سيأتي الكلام في تحقيق هذا المقام إن شاء اللّٰه.

و منها: خبر الوليدة المرويّ في الكتب الأربعة

بسند صحيح على الصحيح في غير

ص: 751


1- المكاسب 351:3-353.

الفقيه و موثّق في الفقيه بمحمّد بن الحسن، و سنده على ما في الكافي و التهذيب و الاستبصار عليّ بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي نجران عن عاصم بن حميد عن محمّد ابن قيس عن أبي جعفر عليه السلام قال: «قضى أمير المؤمنين عليه السلام في وليدة باعها ابن سيّدها و أبوه غائب فاستولدها الذي اشتراها فولدت منه غلاماً، ثمّ جاءها سيّدها الأوّل فخاصم سيّدها الآخر، فقال: وليدتي باعها ابني بغير إذني، فقال عليه السلام: الحكم أن يأخذ وليدته و ابنها فناشده الّذي اشتراها، فقال عليه السلام له: خذ ابنه الّذي باعك الوليدة حتّى ينفذ لك البيع، فلمّا أخذه فقال له أبوه: أرسل ابني، فقال: و اللّٰه لا اُرسل إليك ابنك حتّى ترسل ابني، فلمّا رأى ذلك سيّد الوليدة أجاز بيع ابنه...»(1) الحديث.

و دلالته على كون بيع الوليدة فضوليّاً لمكان قوله: «باعها ابني بغير إذني» و على صحّة الفضولي بعد الإجازة لمكان قوله عليه السلام: «الحكم أن يأخذ وليدته و ابنها» و قوله عليه السلام:

«خذ ابنه حتّى ينفذ لك البيع» و قوله: «أجاز بيع ابنه» واضحة لا ينبغي الاسترابة.

نعم ربّما يستشكل في الرواية من جهة اشتمالها على مخالفة قواعد عديدة:

فتارةً : باعتبار ظهورها في تأثير الإجازة بعد الردّ، بتقريب ظهور مخاصمة سيّد الوليدة في الردّ، و أظهر منه حكم الإمام عليه السلام بأنّ الحكم أن يأخذ وليدته فإنّه لو لا سبق الردّ كان البيع متزلزلاً فلم يكن للحكم بأخذ الوليدة منجّزاً من غير تقييد له باختيار الردّ معنى، و كذلك أخذ السيّد لها من دون ردّ غير سديد، و ممّا أجمع أهل القول بصحّة الفضولي عدم تأثير الإجازة بعد الردّ.

و اُخرى: باعتبار اشتمالها على الحكم بأخذ ابن الوليدة، مع ظهور كونه حرّاً من جهة كونه ولد الشبهة، فإنّ ولد الحرّ من أمة الغير إنّما يكون رقّاً إذا كان من زنا لا من شبهة، و المشتري إنّما استولد الوليدة باعتقاد صحّة البيع و دخولها في ملكه، فكيف يحكم الإمام بأخذ الحرّ.

و ثالثة: باعتبار أمره عليه السلام بأخذ المشتري ابن سيّد الوليدة و هو حرّ قطعاً. و دعوى:

أنّه إنّما أخذ للغرامة، ممّا لم نتحقّق معناه، إذ لو اُريد كونه للغرامة عن ولد المشتري فهو

ص: 752


1- الوسائل 1/203:21، ب 88 أبواب نكاح العبيد و الإماء، التهذيب 1960/488:7.

ممّا لا معنى له إذ الحرّ كما هو المفروض لا غرامة له و لو سلّم رقّيّته فهو رقّ لسيّد الوليدة و مع هذا فالحرّ كيف يصير غرامة له، و لو اُريد كونه لغرامة الثمن الّذي أخذ ابن السيّد من المشتري فهو أيضاً لا يقتضي أخذ الحرّ و حبسه بل يقتضي مطالبته و استرداد الثمن منه و مع الامتناع إجبار الحاكم إيّاه على الردّ، مضافاً إلى أنّه لا يلائم قوله عليه السلام:

«حتّى ينفذ لك البيع» فإنّه لو كان لغرامة الثمن وجب أن يقول: «حتّى يردّ إليك الثمن».

هذا: و لكنّ الإنصاف و مجانبة الاعتساف يساعد على عدم استعمال الرواية على مخالفة شيء من القواعد:

أمّا من الجهة الاُولى: فلمنع ظهور الرواية في سبق الردّ، و استظهاره من المخاصمة، يدفعه أنّه إن اُريد به كون المخاصمة في نفسها ردّاً، ففيه أنّ الردّ كما ستعرفه لا يحصل إلّا بصيغة «رددت البيع أو فسخته أو أبطلته أو نحو ذلك» كما صرّح به الشهيد أيضاً في الدروس(1) حتّى أنّه لو قال لم اُجزه أو لا اُجيزه أو لا أرضى به لم يقع الردّ. و إن اُريد به أنّها كاشفة عن سبق الردّ، ففيه المنع أيضاً فإنّ غاية ما يكشف عنه إنّما هو عدم رضاه بالبيع، و هو لا ينافي الصحّة بعد لحوق الإجازة، حتّى انّه لو سبقه منع المالك أيضاً لم يؤثّر في البطلان مع الإجازة اللاحقة كما ستعرفه، و لعلّ سيّد الوليدة مع عدم رضاه بما وقع من بيع ابنه كان متردّداً حين المخاصمة و أخذ الوليدة بين ردّ البيع و إجازته.

و أمّا الجهة الثانية: فلأنّ الحكم بأخذ الوليدة من جهة أنّ كونه عند المشتري قبل إجازة البيع كان بغير حقّ بل كان قبضها و إمساكها و التصرّف فيها و استيلادها كلّها محرّمة فكان من حقّ المالك أن يأخذها حتّى يتبيّن الحال فيما بعد من حصول الردّ أو لحوق الإجازة، و من هنا يعلم الوجه في حكمه عليه السلام بأخذ ابنها لقيام احتمال علم المشتري بكون البيع فضوليّاً، و من ثمّ صار جميع تصرّفاته حتّى استيلاده محرّمة فكان الولد حاصلاً عن زنا فكان رقّاً، فأخذه مع الوليدة إنّما هو لكونه نماء ملكه فكان من حقّ المالك أن يأخذه مع الوليدة حتّى يتبيّن حال البيع.

و أمّا الجهة الثالثة: فلأنّ المشتري لمّا ناشده لأن يجعل له مخلصاً يتوصّل به إلى

ص: 753


1- الدروس 233:3.

إجازة سيّد الوليدة و ابنه بيع ولده حتّى يرجع إليه الابن مع اُمّه، و أمره عليه السلام بأخذ ابن السيّد لأجل أنّه التزم للمشتري أن يأتي له بإجازة أبيه، و كان طريق التوصّل إلى ذلك الحقّ منحصراً فيه، و يكفي في الحمل عليه الاحتمال. فالرواية سليمة عن مخالفة القواعد، و لذا يقال: إنّها تدلّ على صحّة الفضولي بعد الإجازة مع كون الإجازة كاشفة.

و منها: عدّة أخبار مخصوصة واردة في موارد متفرّقة.

كخبر مسمع أبي سيّار المرويّ في التهذيب و الفقيه بسنديهما عن أبي عبد اللّه عليه السلام «إنّي كنت استودعت رجلاً مالاً فجحدنيه و حلف لي عليه، ثمّ إنّه جاءني بعد ذلك بسنين بالمال الّذي كنت استودعته إيّاه فقال: هذا مالك فخذه و هذه أربعة آلاف درهم ربحتها في مالك فهي لك مع مالك و اجعلني في حلّ ، فأخذت المال منه و أبيت أن آخذ الربح منه و أوقفت المال الّذي كنت استودعته و أتيت حتّى أستطلع رأيك فما ترى ؟ قال:

فقال: خذ نصف الربح و أعطه النصف و أحلّه، إنّ هذا رجل تائب و اللّٰه يحبّ التوّابين»(1).

و دلالتها على صحّة المعاملة الفضوليّة بل مع كون الفضولي غاصباً و عدم وقوعها فاسدة من أصلها واضحة، و إن كانت ساكتة عن اعتبار لحوق الإجازة نفياً و إثباتاً، مع إمكان كون أخذ نصف الربح و إعطاء النصف الآخر له الّذي أمر به الإمام عليه السلام إجازة فعليّة.

و عن الفقه الرضوي ما يوافقه أيضاً.

و موثّقة خبر جميل الّذي ذكره المشايخ الثلاث و هو على ما في التهذيب محمّد بن الحسن الصفّار عن معاوية بن حكيم عن محمّد بن أبي عمير عن جميل عن أبي عبد اللّه عليه السلام «في رجل دفع إلى رجل مالاً يشتري به ضرباً من المتاع مضاربة، فذهب فاشترى به غير الّذي أمره، قال: هو ضامن و الربح بينهما على ما شرط»(2).

و هذا أيضاً كسابقه في وضوح الدلالة على صحّة الفضولي و عدم وقوعه من أصله فاسداً، و هذا هو المقصود بالاستدلال، و سكوته عن الدلالة على اعتبار لحوق الإجازة غير قادح، مع احتمال كون جعله الربح بينهما تنبيهاً على الأمر بالإجازة، غاية الأمر

ص: 754


1- الوسائل 1/89:19، ب 10 كتاب الوديعة، التهذيب 793/180:7.
2- الوسائل 9/18:19، ب 1 من كتاب المضاربة، التهذيب 853/193:7.

كون أخذه الربح على ما شرط إجازة فعليّة و لعلّها كافية على ما سيأتي. و الأولى أن يقال: إنّ لحوق الرضا النفساني كافٍ في الإجازة، و هو حاصل بشهادة مجاري العادات بأنّ المالك إذا رأى ترتّب الربح على المعاملة الفضوليّة و هو المقصود في باب المضاربة يرضى بها.

و ما رواه في الكافي في نوادر باب الزكاة عن عليّ بن محمّد عمّن حدّثه عن معلّى ابن عبيد عن عليّ بن أبي حمزة عن أبيه عن أبي جعفر عليه السلام قال: «سألته عن الزكاة تجب عليّ في موضع لا يمكنني أن اُؤدّيها؟ قال: اعزلها، فإن اتّجرت بها فأنت ضامن لها و لها الربح، و إن تَوِيَتْ في حال ما عزلتها من غير أن تشغلها في تجارة فليس عليك، و إن لم تعزلها و اتّجرت بها في جملة مالك فلها بقسطها من الربح و لا وضيعة عليها»(1).

و دلالتها على الصحّة مع السكوت عن اعتبار لحوق الإجازة كسابقيها. و احتمل الشيخ في شرح القواعد على ما حكي أنّ مثل ذلك لا يحتاج إلى الإجازة، لأنّ التصرّف إذا وقع على طبق المصلحة الواقعيّة لا إجازة فيه فلا ينافي الصحّة عدم لحوق الإجازة من المالك، على أنّه لا مالك للزكاة قبل التأدية إلى المستحقّ . و ردّ بأنّ الإجازة على تقدير وقوع المصلحة حاصلة من الإمام، لأنّه وليّ الأمر بل يجب عليه الإجازة حينئذٍ لعموم ولايته على المستحقّين، و من مقتضى ولايته أن يراعي المصلحة و لا يهمل فيها.

و رواية ابن أشيم في العبد المأذون الّذي دفع إليه مال ليشتري به نسمة و يعتقها و يحجّه عن أبيه فاشترى أباه و أعتقه ثمّ تنازع مولى المأذون و مولى الأب و ورثة الدافع و ادّعى كلّ منهم أنّه اشتراه بماله فقال أبو جعفر عليه السلام: «يردّ المملوك رقّاً لمولاه و أيّ الفريقين أقاموا البيّنة بعد ذلك على أنّه اشتراه بماله كان رقّاً له...»(2) الخبر. فإنّ اشتراءه أباه و عتقه وقعا فضولاً لعدم كونهما المأمور به، و قوله: «يردّ المملوك رقّاً لمولاه» إبطال للعتق لبطلان الفضولي في الإيقاعات، و قوله: «و أيّ الفريقين» إلى قوله: «كان رقّاً» تصحيح للاشتراء لأنّه لو لا صحّته كان المملوك رقّاً لمولاه الأوّل، و لا يردّ هنا عدم

ص: 755


1- الوسائل 3/307:9، ب 52 وجوب إخراج الزكاة، الكافي 2/60:4.
2- الوسائل 1/280:18، ب 25 بيع الحيوان، التهذيب 1023/234:7.

الدلالة على اعتبار الإجازة لأنّ مطالبة المبيع كما يكشف عنها التنازع إجازة للبيع.

و صحيحة الحلبي «عن الرجل يشتري ثوباً و لم يشترط على صاحبه شيئاً فكرهه، ثمّ ردّه على صاحبه، فأبى أن يقبله إلّا بوضيعة، قال: لا يصلح له أن يأخذ بوضيعة، فإن جهل فأخذه فباعه بأكثر من ثمنه ردّ على صاحبه الأوّل ما زاد»(1).

بناءً على أنّ المراد من أخذه بوضيعة جهلاً بالمسألة أخذه على وجه الإقالة المشروط فيها الوضيعة فإنّها لفساد الشرط تقع فاسدة، و لزمه بقاء الثوب في ملك المشتري أو أخذه اقتراحاً بوضيعة من دون رعاية إقالة مخرجة عن الملك و لا بيع أو صلح ناقل له ثانياً إلى ملك صاحبه الأوّل و لزمه بقاؤه أيضاً في ملك المشتري، و على أحد الوجهين ينزّل قوله عليه السلام: «لا يصلح له أن يأخذ بوضيعة» الدالّ على الحرمة لا على أخذه بيعاً أو صلحاً بوضيعة الملحق له ببيع المواضعة الّذي لا إشكال في جوازه و صحّته نصّاً و إجماعاً، فعلى أحد الوجهين المذكورين كان بيعه بعد الأخذ فضوليّاً، و الحكم بردّ ما زاد على ثمنه على صاحبه الأوّل أي المشتري مبنيّ على صحّة بيع الفضولي.

و الأخبار الواردة في صحّة نكاح العبد بدون إذن مولاه إذا أجازه المعلّلة «بأنّه لم يعص اللّٰه و إنّما عصى سيّده»(2) بناءً على أنّ المراد بالتعليل بيان أنّ المانع من صحّة النكاح ليس معصية اللّٰه لئلّا يرجى زواله، لأنّ معصية اللّٰه إذا وقعت يستحيل تعقّبها برضاه تعالى بما وقع إذ لا معصية للّٰه تعالى، بل المانع هو عصيان السيّد و هو ممّا يرجى زواله بطروء الرضا بما وقع و تعقّبه بالإجازة، فإنّ السيّد من صفته أنّه لا يرضى بالنكاح حين وقوعه ثمّ يرضى به فيما بعد. و لكنّ الاستدلال بها على حكم الفضولي لا يتمّ إلّا باندراج نكاح العبد في الفضولي، و وجه اندراجه أنّ نكاح العبد بدون إذن مولاه يتضمّن جهتين:

إحداهما: كونه تصرّفاً من العبد في نفسه الّذي هو ملك السيّد، و هو بهذا الاعتبار خارج عن عنوان الفضولي، كما نبّهنا عليه في مسألة تصرّفات المملوك و إن شاركه في اعتبار إجازة السيّد في الصحّة.

ص: 756


1- الوسائل 1/171:18، ب 17 أحكام العقود، التهذيب 241/56:7.
2- الوسائل 1/114:21 و 2، ب 24 نكاح العبيد و الإماء، التهذيب 1432/351:7.

و اُخراهما: وقوعه على مال من السيّد مهراً و هو بهذا الاعتبار مندرج في الفضولي، و الأخبار المشار إليها تدلّ على الصحّة من الجهتين فيندرج فيها المطلق.

و الأخبار(1) الواردة في اتّجار غير الوليّ في مال اليتيم بدون إذن الوليّ المصرّحة بأنّ الربح لليتيم، بناءً على حملها على صورة إجازة الوليّ كما صنعه جماعة(2) تبعاً للشهيد(3) و إلّا فعلى العمل بإطلاقها كما عليه جماعة(4) أيضاً فهي خارجة عن معاملة الفضولي، أو أنّها فضوليّة غير محتاجة إلى الإجازة لوقوعها على طبق المصلحة الواقعيّة كما تقدّم عن الشيخ في شرح القواعد، و قد يحتمل كونها منها أيضاً من حيث أنّ الحكم بالمضيّ إجازة إلهيّة لاحقة للمعاملة و هو الوليّ الحقيقي.

و احتجّ أهل القول ببطلان الفضولي بعد الأصل المقرّر من وجوه
اشارة

- كأصالة عدم جعل الشارع هذا العقد مؤثّراً، و أصالة بقاء ما كان على ما كان من ملك الأعيان و المنافع، و أصالة عدم النقل و الانتقال، و أصالة عدم ترتّب سائر الأحكام - بالأدلّة الأربعة من الكتاب و السنّة و الإجماع و العقل.

أمّا الكتاب:

فقوله تعالى: «لاٰ تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ إِلاّٰ أَنْ تَكُونَ تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ » (5) فإنّ عقد الفضولي ليس من التجارة عن تراضٍ لعدم مقارنته لرضا المالك فيكون التصرّف في المال المأخوذ بسببه من أكل المال بالباطل فيحرم، و لا ينافيه تفسير الباطل على ما ورد في الروايات ب «القمار و الربا و البخس بالميزان و الظلم» بناءً على ظهوره في المثال لا الحصر. و لو جعل كناية عن الجهات الباطلة كما عن المفسّرين فلا إشكال أصلاً، إلّا أنّ الظاهر بناؤه على قراءة «تجارةً » بالنصب خبراً عن «تكون» كما عن أهل الكوفة و اسمها حينئذٍ الضمير العائد إمّا إلى التجارة ليكون التقدير «إلّا أن تكون التجارة تجارة عن تراض» أو إلى الأموال ليكون التقدير «إلّا أن تكون

ص: 757


1- الوسائل 2/87:9 و 7 و 8، ب 2 من تجب عليه الزكاة، التهذيب 65/27:4 و الوسائل 2/257:17 و 3، ب 75 ما يكتسب به، التهذيب 957/343:6.
2- كما في جامع المقاصد 5:3، و المسالك 357:1، و المدارك 20:5 و الحدائق 26:12.
3- الدروس: 229.
4- النهاية: 175، و الشرائع 140:1، و القواعد 51:1، و الرياض 38:5.
5- النساء: 29.

الأموال أموال تجارة عن تراضٍ » بحذف المضاف - كما احتملهما في المجمع - أو إلى الباطل، فلا بدّ من اعتبار تأنيث في معناه رعاية للمطابقة. و أمّا على قراءة الرفع كما عن أكثر القرّاء فلا حاجة إلى هذا الاعتبار لكون «تكون» حينئذٍ من كان التامّة بمعنى «تثبت» و تأنيثه باعتبار تأنيث فاعله و لا ضمير فيه حينئذٍ يعود إلى الباطل ليبعث على اعتبار ضمير في معناه فلا يتمّ الحمل المذكور.

و كيف كان فالجواب عن الاستدلال أنّ الآية باعتبار الاستثناء و المستثنى منه تدلّ على حكمين:

أحدهما: منع أكل المال بالباطل و إن حمل على الجهات الباطلة، و الآخر:

الترخيص في أكل المال بالتجارة عن تراضٍ .

و دلالتها على حرمة التصرّف في المال المأخوذ بسبب عقد الفضولي المستلزمة لبطلانه موقوف على إثبات مقدّمتين، إحداهما: خروجه عن المستثنى و هو التجارة عن تراضٍ ، و اُخراهما: دخوله في المستثنى منه و هو الباطل، و إن حمل على الجهات الباطلة.

و يتطرّق المنع أوّلاً إلى المقدّمة الاُولى، فإنّ عقد الفضولي الملحوق به الإجازة المتأخّرة ممّا يصدق عليه التجارة عن تراضٍ . و دعوى: ظهور «تجارة عن تراضٍ » باعتبار كلمة المجاوزة في مقارنة الرضا، يدفعها منع كون التراضي في الآية من الرضا النفساني، لما حكاه الطبرسي في المجمع «أنّ مذهب الإماميّة و الشافعي و جمع من العامّة أنّ معنى التراضي بالتجارة إمضاء البيع بالتفرّق أو التخاير بعد العقد»(1) و هو إسقاط الخيار من الطرفين، و أيّاً ما كان فهو على هذا التفسير متأخّر عن العقد و يندرج فيه إجازة المالك في الفضولي، فالتفسير المذكور ممّا يصرف الكلمة المذكورة عن ظهورها في اعتبار المقارنة. و لو سلّم الظهور بعدم ثبوت الحكاية فغاية ما تفيده كلمة المجاوزة كون «التجارة عن تراضٍ » على معنى مقارنتها رضا المالك لا كون العقد عن تراضٍ ، و ليس يلزم في كلّ عقد أن يكون تجارة فإنّ التجارة هو اكتساب المال و لا اكتساب في أكثر العقود، و عقد الفضولي قبل لحوق إجازة المالك عقد لا أنّه تجارة،

ص: 758


1- مجمع البيان 37:2.

و إنّما يعتريه التجارة بمعنى الاكتساب على القول بالصحّة عند الإجازة، فالتجارة الطارئة له عند الإجازة اكتساب نشأ عن التراضي بمعنى الرضا النفساني، فهو حين الإجازة تجارة عن تراضٍ فيندرج بهذا الاعتبار في المستثنى. و لكن لا يذهب عليك أنّ هذا الاعتبار لا يتمّ إلّا على القول بالنقل في الإجازة، كما هو واضح.

و ثانياً: على تقدير تسليم المقدّمة الاُولى مطلقاً أو على القول بالكشف في الإجازة يتطرّق المنع إلى المقدّمة الثانية، فإنّ الآية باعتبار المستثنى منه دلّت على حرمة أكل المال في موضوع محرز من غير جهة الآية، و هو كون المال مأخوذاً بسبب الباطل أو بالجهات الباطلة، فلا يندرج فيه المأخوذ بالعقد الفضولي إلّا بعد إثبات بطلان ذلك العقد من أصله بدليل آخر خارج عن الآية، و الآية بنفسها لا تنهض دليلاً على البطلان و لا على كونه من الباطل أو من الجهات الباطلة، لأنّها مسوقة لإعطاء الحكم لا لإحراز الموضوع، فالآية لا تتناول المال المأخوذ بالعقد الفضولي لا بنفي و لا بإثبات، فيبقى الأدلّة المتقدّمة على الصحّة سليمة عن معارضة الآية.

لا يقال: إنّ الآية تدلّ على حصر المبيح لأكل المال في التجارة عن تراضٍ ، فمفهوم الحصر تدلّ على أنّ غير التجارة عن تراضٍ أو التجارة لا عن تراضٍ غير مبيح لآكل مال الغير و إن لحقها الرضا، و من التجارة لا عن تراضٍ هو عقد الفضولي لأنّ المفروض عدم دخوله في المستثنى.

لأنّا نقول: إنّ دلالتها على الحصر ممنوعة لانقطاع الاستثناء كما هو ظاهر اللفظ و المحكيّ صريحاً عن جماعة(1) من المفسّرين، ضرورة عدم كون التجارة عن تراضٍ فرداً من الباطل خارجاً عن حكمه، و إن جعل كناية عن الجهات الباطلة من غير فرق ظاهراً بين القراءتين بالنصب و بالرفع في تجارة كما هو واضح.

و أمّا ما يقال: لتصحيح اتّصال الاستثناء من أنّه متّصل مقصود به التنبيه على خروج التجارة عن تراضٍ عن وصف البطلان بعد إخراجه، فقضيّة الآية تنحلّ إلى كلامين استثناءين، فكأنّه قيل «لا تأكلوا أموالكم بشيء من الجهات إلّا أن تكون الجهة

ص: 759


1- كما في التبيان 178:3، و مجمع البيان 36:2، و الكشّاف 502:1.

تجارة عن تراضٍ » لأنّ كلّ جهة باطلة إلّا التجارة عن تراضٍ ، و إنّما اُوتي في الآية بتلك العبارة رعاية لكمال البلاغة مع أداء المقصود بإعطاء حكمي التكليفي و هو حرمة الأكل و الوضعي و هو بطلان ما عدا التجارة عن تراضٍ بأخصر عباراته، فكان كدعوى الشيء ببيّنة و برهان. و نظير ذلك في كلام البلغاء كثير، و منه ما يقال في العرف: «أهن الفسّاق أو لا تكرمهم إلّا عالم البلد» و يراد به التنبيه على خروج عالم البلد عن وصف لئلّا يشمله الأمر بالإهانة أو النهي عن الإكرام، فكأنّه قيل: لا تكرم أحداً إلّا عالم البلد، لأنّ كلّ أحد فاسق إلّا عالم البلد.

ففيه - مع أنّ هذا الاعتبار لا يتمشّى على قراءة الرفع لعدم رابط في «تكون» يربطه إلى ما قبله - أنّه تأويل مبنيّ على الاستخدام في ضمير الاسم على قراءة النصب بإرادة الجهة بعد تعريتها عن وصف البطلان، و هو مجاز لا داعي إليه في المقام و لا قرينة عليه في الكلام.

فإن قلت: إنّ القرينة عليه كون الوصف علّة للحكم فلا يكون جزءاً من موضوعه بل الموضوع حينئذٍ هو الموصوف لا المجموع منه و من الوصف، و يلزم منه كون مرجع الضمير هو الجهة المعرّاة عن الوصف.

قلت: دعوى علّيّة الوصف ممّا لا شاهد عليه. و توهّم: أنّها من مقتضى تعليق الحكم على المشتقّ . يدفعه: أنّه على ما حقّق غير دالّ عليها، بل غايته الإشعار و هو دون الدلالة فلا يعبأ به، فوجب الأخذ بما هو ظاهر الكلمة و هو موضوعيّة مجموع الذات المتّصفة و وصفها.

فإن قلت: إنّ هنا قرينة اُخرى و هي نصب «تجارة» و هو يقتضي اسماً ل «تكون» عائداً إلى الباطل بمعنى الذات المتّصفة بالبطلان، أو إلى الجهات الباطلة، فإمّا أن يعود حينئذٍ إلى الذات أو الجهات المتّصفة بالوصف، أو إلى الذات أو الجهات المعرّاة عن الوصف، الثاني باطل لضرورة انتفاء الوصف في التجارة عن تراضٍ ، فتعيّن الأوّل و هو المطلوب.

قلت: نصب «تجارةً » ليس بصريح و لا ظاهر في عود ضمير الاسم إلى الباطل، لقيام احتمال عوده إلى التجارة أو إلى الأموال ليكون التقدير «إلّا أن تكون التجارة تجارة عن تراضٍ ، أو إلّا أن تكون الأموال أموال تجارة عن تراضٍ » فحذف المضاف

ص: 760

و اُقيم المضاف إليه مقامه، بل القائلون بالنصب لم يحتملوا سوى هذين على ما في المجمع، مصرّحاً «بأنّ الاستثناء على هذا الوجه أيضاً منقطع»(1) يعني على تقدير النصب، فلا حصر في الآية، و لا مقتضي لدخول عقد الفضولي في المستثنى منه فيكون مسكوتاً عنه.

و لو سلّم دخوله فيه فيكفي في صدق أكل المال بالباطل على التصرّف في المال المأخوذ من جهته قبضه و التصرّف فيه قبل لحوق الإجازة الّذي لا خلاف عند أهل القول بصحّة الفضولي في كونه محرّماً و يشمله النهي المفيد للحرمة بهذا الاعتبار.

و لا ينافيه ارتفاع الحرمة بلحوق الإجازة المبيحة للتصرّفات، لأنّه إنّما يفيد حرمة أكل المال بالباطل من حيث كونه أكلاً له بالباطل، و هذا لا ينافيه ارتفاع الحرمة بلحوق الجهة المبيحة كالتصرّف في المال المأخوذ بالقمار أو المعاملة الربويّة أو البخس بالميزان أو الظلم قد يرتفع حرمته بلحوق الهبة أو إنشاء الإباحة الصريحة أو الإذن الصريح في التصرّف أو نحو ذلك، و من هذا الباب إجازة المالك في الفضولي على ما قضت به أدلّة الصحّة، ففي الحقيقة لا تعارض بين الآية و أدلّة صحّة الفضولي بالإجازة، هكذا ينبغي أن يحقّق المقام.

و أمّا السنّة فعدّة روايات عاميّة و خاصّيّة:

و من الاُولى النبويّ المستفيض نقله و هو قوله لحكيم بن حزام: «لا تبع ما ليس عندك»(2) و في معناه ما في حديث المناهي المذكور في الفقيه من قوله: «و نهى عن بيع ما ليس عندك»(3) و عبّر عنه جماعة(4) بالنهي عن بيع ما ليس عنده.

و وجه الاستدلال أنّ لفظة «عند» ترد لغةً ظرفاً للمكان تارةً ، و الزمان اُخرى، و على التقديرين يراد بها الحضور في المكان أو الزمان، يقال زيد عندنا أي حاضر لدينا في المكان الّذي نحن فيه فهو حقيقتها، و لا ينافيه تفسيرها في كلمات العلماء في غير هذا المقام بالمقارنة، لأنّها هيئة منتزعة عن الشيئين باعتبار حضور أحدهما للآخر.

و لكن ليس المراد بقوله: «ليس عندك» نفي الحضور المكاني ليكون مفاده اعتبار

ص: 761


1- مجمع البيان 78:3.
2- سنن البيهقي 267:5 و 317، سنن النسائي 289:7.
3- الوسائل 4/37:18، ب 2 أحكام العقود، التهذيب 1005/230:7.
4- كما في مفتاح الكرامة 595:12، و الرياض 225:8.

حضور المبيع عند البائع و لو كان مالكاً في مجلس المبايعة في الصحّة ليترتّب عليه بطلان بيع الغائب، لعدم كون الحضور من شرائط الصحّة نصّاً و فتوى، و لا خلاف لأحد في صحّة بيع الغائب. بل هو كناية عن نفي السلطنة على إقباضه و تسليمه.

فالمراد ما لا سلطنة لك على إقباضه و تسليمه، لا لمانع عقلي كعدم القدرة على التسليم بل لمانع شرعي من جهة انتفاء الملك و الولاية على المالك و الوكالة عنه، فيكون مفاده راجعاً إلى مفاد نبويّ آخر من قوله: «لا بيع فيما لا يملك» بعد قوله «لا طلاق فيما لا يملك و لا عتق فيما لا يملك» و قد يروى ذلك بهذه العبارة «لا بيع إلّا فيما يملك» بعد قوله: «لا طلاق إلّا فيما يملك و لا عتق إلّا فيما يملك» بناء على أنّ المراد نفي الملكيّة الفعليّة لا نفي قابليّة الملك ليكون مورده بيع مثل الحرّ و الخنزير و الخمر و ما أشبه ذلك.

فينطبق الجميع على بيع الفضولي الّذي يبيع عين ملك غيره و لا يتسلّط على التصرّف فيه و لا تسليمه الغير بناءً على كون الموصول كناية عن العين الشخصيّة لا العين الكلّيّة للنصّ و الإجماع على صحّة بيع الكلّي المضمون في الذمّة و منه السّلَم.

و النهي يقتضي الفساد، و النفي أيضاً إن كان لنفي الحقيقة كما هو الحقيقة فيثبت به المطلوب أيضاً مع زيادة، و إلّا لا بدّ من حمله على نفي الصحّة لأنّ نفيها أقرب إلى نفي الحقيقة الّذي هو الحقيقة.

و من الثانية: ما في التهذيب في صحيح الصفّار «كتبت إلى أبي الحسن عليه السلام - يعني العسكري - في رجل باع قرية، و إنّما له فيها قطاع أرضين، فهل يصلح للمشتري ذلك و قد أقرّ له بكلّها؟ فوقّع عليه السلام: لا يجوز بيع ما ليس بملك و قد وجب الشراء على ما يملك»(1).

و صحيح محمّد بن القسم بن فضيل «سألت أبا الحسن الأوّل عليه السلام عن رجل اشترى من امرأة من آل فلان بعض قطائعهم و كتب عليها كتاباً بأنّها قد قبضت المال و لم تقبض أ يعطيها أم يمنعها؟ قال: قل له يمنعها أشدّ المنع، فإنّها باعت ما لا تملكه»(2).

و صحيح ابن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام «انّه سأله عن رجل من أهل النيل عن أرض

ص: 762


1- الوسائل 1/339:17، ب 2 عقد البيع و شروطه، التهذيب 667/150:7.
2- الوسائل 2/333:17، ب 1 عقد البيع و شروطه، التهذيب 945/339:6.

اشتراها بفم النيل، و أهل الأرض يقولون هي أرضهم، و أهل الاُستان يقولون هي من أرضنا، قال: لا تشترها إلّا برضا أهلها»(1) فم النيل صدره و ساحله، و النيل نهر كان في قديم الأيّام في العراق نظير ما هو موجود الآن، و الاُستان بضمّ الهمزة أربع كور ببغداد عالي و أعلى و واسط و أسفل، و في نسخة أوسط و أسفل.

و توقيع الحميري المرويّ عن الاحتجاج في السؤال «عن ضيعة للسلطان فيها حصّة مغلوبة، فهل يجوز شراؤها من السلطان أم لا؟ فأجاب عليه السلام: لا يجوز ابتياعها إلّا من مالكها أو بأمره أو رضا منه»(2).

و خبر جرّاح المدائني «لا يصلح شراء السرقة و الخيانة إذا عرفت»(3).

و خبر قرب الإسناد عن عليّ بن جعفر عن أخيه موسى عليه السلام «سألته عن رجل سرق جارية ثمّ باعها يحلّ فرجها لمن اشتراها؟ فقال: لا يحلّ إذا أنبأهم أنّها سرقة و إن لم يعلم به فلا بأس»(4).

و الجواب عن الطائفة الاُولى: بأنّها تكون دلالتها بالعموم قابلة للتخصيص بأدلّة صحّة الفضولي بالإجازة، فتخصّص بما لم يلحقه إجازة المالك.

و قد يجاب بمنع الدلالة فتارةً : بالحمل على أن يبيع غير المالك عيناً شخصيّة للغير عن نفسه ثمّ يمضي ليشتريها و يسلّمها المشتري، كما عن التذكرة قال: «لأنّه صلى الله عليه و آله و سلم ذكره جواباً لحكيم بن حزام، حيث سأله عن أن يبيع الشيء فيمضي و يشتريه و يسلّمه»(5) فإنّ هذا البيع غير جائز و لا نعلم فيه خلافاً للنهي المذكور و للغرر، لأنّ صاحبها قد لا يبيعها.

و اُخرى: بحمل النهي المقتضي للفساد على البطلان، بمعنى عدم ترتّب الأثر المقصود، فإنّ البائع يبيعه عن نفسه و معناه وقوع البيع له، و معنى بطلانه عدم وقوعه له، و هذا لا ينافي وقوعه للمالك إذا أجازه كما يستفاد من كلام بعض مشايخنا(6).

ص: 763


1- الوسائل 3/334:17، ب 1 عقد البيع و شروطه، التهذيب 662/149:7.
2- الوسائل 8/337:17، ب 1 عقد البيع و شروطه، الاحتجاج: 487.
3- الوسائل 7/336:17، ب 1 عقد البيع و شروطه، التهذيب 1089/374:6.
4- الوسائل 12/338:17، ب 1 عقد البيع و شروطه، قرب الإسناد: 114.
5- التذكرة 15:10.
6- المكاسب 367:3.

و ثالثة: بإبداء احتمال كون المراد من قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «لا بيع فيما لا يملك» بيع ما لا يصحّ تملّكه كالحرّ و نحوه لعدم جواز بيعه كما يأتي، أو رجوع النفي إلى اللزوم فيكون المراد «لا بيع لازم إلّا فيما يملك» و من قوله صلى الله عليه و آله و سلم: «لا تبع ما ليس عندك» النهي عن بيع غير المقدور على تسليمه كبيع الطير في الهواء و نحوه، و المقام ليس منه لإمكان القدرة على تسليمه بإجازة صاحبه»(1) كما في الرياض.

و أجاب عنه أيضاً: بمعارضته بكثير من النصوص المعتبرة المجوّزة لبيع ما ليس عنده المعربة عن كون المنع منه مذهب العامّة، ففي الصحيح «عمّن باع ما ليس عنده قال: «لا بأس، قلت: إنّ من عندنا يفسده، قال: و لِمَ؟ قلت: باع ما ليس عنده، قال:

ما يقول في السلف قد باع صاحبه ما ليس عنده...»(2) الخبر.

و هذا في غاية الضعف لقضائه بخروج الخبر من جهة موافقته لمذهب العامّة مخرج التقيّة، و هي من النبيّ غير معقولة.

و عن الطائفة الثانية: بقبول الجميع للتخصيص بأدلّة الصحّة على تقدير تسليم الدلالة، و إلّا فيتطرّق المنع إلى أصل دلالتها على ما ينافي القول بصحّة الفضولي بالإجازة:

أمّا في الخبر الأوّل: فلظهور كون المراد بالجواز المنفيّ نفوذ البيع و لزومه في غير المملوك للبائع، بقرينة قوله عليه السلام: «و قد وجب الشراء على ما يملك» بالنسبة [إلى] مملوكه من الأرضين بناءً على أنّ الوجوب في البيع نفوذه و لزومه.

و أمّا في الثاني: فلأنّ أقصى ما فيه المنع من دفع الثمن إلى البائع لملك الغير و هو ممّا يسلّمه القائلون بصحّة الفضولي، لأنّهم لا يجوّزون للمشتري تسليم الثمن إلى البائع الفضولي.

و أمّا في الثالث: فلظهوره في مسألة السائل المريد لاشتراء أرض في فم النيل عمّن يشتريها مع وقوع التداعي فيها بين الداخل الّذي عبّر عنه بأهل الأرض و الخارج الّذي عبّر عنه بأهل الاُستان، فأجاب الإمام عليه السلام بما وافق القاعدة من تقديم قول ذي

ص: 764


1- الرياض 225:8-226.
2- الوسائل 3/47:18، ب 7 أحكام العقود، الكافي 4/200:5.

اليد حتّى يثبت الخارج حقّه بالبيّنة، فقوله عليه السلام: «لا تشترها إلّا برضا أهلها» كناية عن أنّ المناط المجوّز للاشتراء هو رضا الداخل لا رضا الخارج لتقدّم قول ذي اليد.

و أمّا في الرابع: فلأنّه على خلاف مطلب المستدلّ أدلّ ، من جهة أنّه عليه السلام حصر من يجوز الابتياع منه في أنواع ثلاث: المالك، و من يأمره المالك أي وكيله و مأذونه في البيع، و من رضي بفعله المالك، و هو في مقابلة الوكيل المأذون في البيع لا محمل له إلّا غير الوكيل الّذي لحق فعله رضا المالك، فتأمّل.

و أمّا في الخامس و السادس: فلظهورهما في شراء السرقة على وجه ترتيب الآثار على نفس الشراء من دون مراعاة إجازة المالك، بل الثاني منهما ظاهر كالصريح في المنع عن ترتيب الآثار على نفس الشراء، حيث سأل الراوي عن حلّ وطء الجارية المسروقة، و منع منه المعصوم عليه السلام من علم بإخبار البائع بكونها مسروقة، و القائل بصحّة الفضولي يسلّم هذا المنع قبل الإجازة.

و أمّا الإجماع

فإجماعان منقولان:

أحدهما: ما عن الشيخ في الخلاف مع اعترافه بكون الصحّة مذهب قوم من أصحابنا(1).

و الآخر: ما عن ابن زهرة في الغنية(2) و يعضدهما ما عن الحلّي(3) في باب المضاربة من ادّعاء عدم الخلاف في بطلان شراء الغاصب إذا اشترى بعين المغصوب.

و الجواب: أنّ الإجماع المنقول إنّما يعتبر عندنا حتّى أورث الظنّ الاطمئناني بالحكم الشرعي لا تعبّداً و لا من حيث النبئيّة. و هو فيما نحن فيه لا يورث ظنّاً بادئاً فضلاً عن كونه اطمئنانيّاً، لصيرورته موهوناً من جهات عديدة:

منها: اعتراف الشيخ بكون الصحّة مذهب قوم من أصحابنا.

و منها: ما حكي عنه في موضع آخر من الخلاف(4) من تفصيله في الفضولي بين كون البائع فضوليّاً فصحّحه، و كون المشتري فضوليّاً فأبطله، و هذا يوهن إطلاق نقله الإجماع.

و منها: ذهابه في النهاية(5) الّذي قيل: إنّه آخر مصنّفاته إلى الصحّة، و قيل: آخر

ص: 765


1- الخلاف 168:3، المسألة 275.
2- الغنية: 207.
3- السرائر 415:2.
4- الخلاف: لم نعثر عليه.
5- النهاية: 385.

مصنّفاته الاستبصار، و قد صار فيه أيضاً إلى الصحّة. و هذا عدول منه كاشف عن عدم كون البطلان إجماعيّاً.

و منها: ذهاب معظم القدماء كالقديمين(1) و المفيد(2) و المرتضى(3) و سلّار(4) و ابن برّاج(5) و ابن حمزة(6) إلى الصحّة مع اتّباع المتأخّرين(7) إلّا شذّ منهم و ندر.

و أمّا العقل:

فقرّر بأنّ العقل مستقلّ بقبح التصرّف في مال الغير بدون إذنه، و النقل مطابق له، و من النقل ما في المرويّ عن احتجاج الطبرسي من التوقيع عن مولانا صاحب الأمر عجّل اللّٰه فرجه من قوله عليه السلام: «لا يجوز لأحد أن يتصرّف في مال غيره إلّا بإذنه»(8) و في معناه النبويّ المعروف المتلقّى بالقبول عند الفريقين «لا يحلّ مال امرئ إلّا عن طيب نفسه»(9) و عقد الفضولي في مال الغير تصرّف في ماله بدون إذنه فيكون قبيحاً عقلاً محرّماً شرعاً، و الرضا اللاحق لا يرفع القبح السابق.

و الجواب أوّلاً: منع الصغرى فإنّ مجرّد إجراء العقد على مال الغير من دون ترتيب الآثار عليه و لا قبضه و إقباضه ليس تصرّفاً في العرف، فإنّه في متفاهم العرف عبارة عن استيلاء الإنسان على المال بحيث يقلّبه كيف شاء و حيث أراد، و مجرّد إجراء العقد ليس بتلك المكانة. و هذا المنع نظير ما ذكره أهل القول بالإباحة في الأشياء النافعة الخالية عن أمارة المضرّة قبل ورود الشرع - كالاستظلال بجدار الغير و الاستضاءة بضوئه و الاستنارة بناره و ما أشبه ذلك - في ردّ الحاظرين المتمسّكين على الحظر بكونه تصرّفاً في مال الغير بدونه من منع صدق التصرّف على هذه الأشياء، بل المنع فيما نحن فيه أوضح منه في هذه الأشياء لتحقّق انتفاع و استيفاء منفعة فيها، بخلاف ما نحن فيه الّذي لا منفعة للعاقد الفضولي في إجرائه العقد أصلاً.

و ثانياً: منع كلّيّة الكبرى بعد تسليم الصغرى، لعدم حكم العقل بقبح نحو هذا التصرّف الّذي لا ينتفع به المتصرّف أصلاً، و لا ينتقص بسببه المال أصلاً، و لا يتضرّر به

ص: 766


1- نقله عنهما في المختلف 53:5.
2- المقنعة: 606.
3- الناصرّيات (الجوامع الفقهيّة): 247، المسألة 154.
4- المراسم: 150.
5- المهذّب 194:2.
6- الوسيلة: 249.
7- كما في مجمع البرهان 158:8، و الحدائق 378:18.
8- الوسائل: / 6، ب 3 الأنفال.
9- عوالي اللآلئ 309/113:2.

المالك أصلاً، خصوصاً مع مقارنته لتوقّع لحوق إجازة المالك و رضاه، و لا سيّما مع عدم القصد إلى ترتيب شيء من الآثار حتّى يلحقه الإجازة. و تناول النقل لمثل هذه التصرّفات أيضاً غير واضح. و لو سلّم القبح العقلي و الحرمة الشرعيّة فهو لا ينافي تأهّل العقد لأن يترتّب عليه الآثار بعد الإجازة و لو على جهة الكشف، فإنّ الحرمة لم تتعلّق بالعقد من حيث إنّه هذه المعاملة الخاصّة، بل باعتبار أمر خارج عنه متّحد معه في الوجود، فكونها مقتضية للفساد غير واضح بل واضح المنع كما لا يخفى.

و استدلّ على البطلان أيضاً بوجوه اُخر من الاعتبارات و الوجوه العقليّة و غيرها:
منها: ما عن فخر المحقّقين من أنّ جواز التصرّف بالعقود تابع للملك و معلول له،

منها: ما عن فخر المحقّقين(1) من أنّ جواز التصرّف بالعقود تابع للملك و معلول له،

فلو صحّحنا عقد الفضولي لزم تخلّف المتبوع عن تابعه و العلّة عن معلولها، و اللازم باطل فكذا الملزوم.

و فيه من وضوح الفساد ما لا يخفى، إذ لو اُريد من التصرّف بالعقود مجرّد إجراء العقد و من الملك ملك التصرّف في المال على معنى سلطنة العاقد على التصرّف فيه، فدعوى توقّف جوازه عليه أوّل المسألة، فيكون الدليل مصادرة، سواء كان المراد من الجواز هو الجواز التكليفي و هو الإباحة أو الجواز الوضعي و هو النفوذ و اللزوم.

و لو اُريد بالتصرّف بالعقود مجرّد إجراء العقد و من الملك ملك المال عيناً أو منفعة، فدعوى توقّف جوازه عليه تكليفاً و وضعاً - مع أنّها مصادرة أيضاً - منقوضة بعقد الوليّ و الوكيل، و مردودة بمنع توقّفه على الملك بل يتوقّف على الرضا و لو متأخّراً، نعم يعتبر في الرضا كونه من المالك فهو شرط للشرط كما نبّهنا عليه في مفتتح المسألة.

و لو اُريد بالتصرّف بالعقود التصرّف في المال بسبب العقد الواقع عليه، فجوازه و إن كان موقوفاً على ملك المال فدعوى الملازمة ممنوعة، لأنّ النظر فيها إن كان إلى ما قبل لحوق الإجازة فنحن لا نجوّز التصرّف حينئذٍ حتّى يلزم تخلّف المتبوع و العلّة، و إن كان إلى ما بعد الإجازة فالمتبوع و العلّة و هو الملك غير متخلّف عن التابع و المعلول.

و منها: أنّ القدرة على التسليم شرط في صحّة البيع

و لذا حكموا بفساد بيع العبد

ص: 767


1- الإيضاح 417:1.

الآبق، و الفضولي غير قادر عليه، لمكان المنع الشرعي و هو كالمانع العقلي.

و فيه أوّلاً: النقض ببيع الوكيل إذا كان وكيلاً في إجراء العقد فقط، لا في تسليم المال.

و ثانياً: الحلّ بأنّ المعتبر في الصحّة هو قدرة المالك لا العاقد، و لا ريب أنّ المالك المجيز قادر على التسليم، و المشتري أيضاً في العقد مع الإجازة قادر على التسلّم، و هو كما يأتي في محلّه كافٍ في الصحّة حتّى أنّ بيع العبد الآبق إذا قدر المشتري على التسلّم صحيح.

و منها: أنّ بيع الفضولي موضع غرر لعدم الوثوق عند التعاقد بالتأثير و ترتّب الأثر،

لأنّ لحوق الإجازة مجهول الحصول، فهو بيع في موضع الجهالة فيبطل.

و فيه أوّلاً: النقض بما لو تعاقد المالكان مع الشكّ في الفساد للجهل بشرطيّة شيء في الصحّة و رجعا إلى الحاكم المفتي و سألاه فحكم بالصحّة، فالجهالة بالتأثير حين العقد غير قادحة في الصحّة و ليست من الغرر القادح فيها، و كذلك معاملات الجاهل بشرائط العقد و صحّته إذا طابقت الواقع.

و ثانياً: الحلّ بأنّ الغرر بمعنى الخطر و هو خوف النفس و عدم اطمئنانها بحصول المال على الوجه المقصود الّذي يتفاوت باختلافه الماليّة و الرغبة، و لذا يعتبر كونه معلوماً بجميع جهاته الّتي لها مدخليّة في الماليّة و الرغبة من جنس و وصف و مقدار كيلاً أو وزناً أو ذرعاً أو عدداً أو مساحة و غير ذلك ممّا لا يتسامح فيه عرفاً و في مجاري العادات، و لا ريب أنّ احتمال عدم ترتّب الأثر بل الشكّ فيه بل الظنّ بعدمه أيضاً لا يعدّ غرراً و خطراً، و لا ينافي الاطمئنان و الوثوق بحصوله و لعلّه لكفاية كون المال موجوداً في زمان العقد ممكناً حصوله في يد المشتري عادةً في رفع الخطر و عدم صدق الغرر عرفاً، و لا ريب أنّ الجهل بحصوله من جهة احتمال الفساد لا ينافي الاطمئنان و الوثوق بحصوله عادةً على الوجه المقصود على تقدير الصحّة، و على هذا فلا غرر في عقد الفضولي و لو كان غاصباً و نحوه عقد المكره سيّما مع توقّع لحوق الرضا و ترقّب إجازته. نعم لو كانا قاطعين بعدم إجازة المالك إيّاه فسد من حينه لكن لا من جهة الفضوليّة بل من جهة سفهيّة المعاملة في نحو الصورة المفروضة، مع أنّه قد يكون المتعاقدان أو المشتري فقط قاطعاً بحصول الإجازة.

ص: 768

و منها: أنّ العقود تابعة للقصود،

و من القصد المعتبر فيها قصد وقوع الأثر، و هذا القصد إنّما يتأتّى من المالك و يمتنع حصوله من الفضولي فعقده فاقد لهذا القصد فيكون باطلاً.

و فيه: منع امتناع قصد وقوع الأثر من الفضولي إذا احتمل لحوق إجازة المالك، و لو ظنّ لحوقها فإمكان حصوله منه أظهر، و لو قطع به كان أظهر من سابقه، غاية ما هنالك أنّه لا يؤثّر إلّا بعد لحوق الإجازة لأنّها تتضمّن إمضاء ذلك القصد فيؤثّر حينئذٍ. و لو سلّم امتناعه منه فيكفي حصوله من المالك حين الإجازة الكاشفة عن الرضا النفساني الّذي هو عبارة عن قصد وقوع الأثر، غاية الأمر عدم مقارنته العقد، و لا ضير فيه بعد مساعدة الأدلّة على صحّة الفضولي الكاشفة عن أنّ المعتبر في الصحّة هو أصل الرضا لا مقارنته.

المسألة الثانية: أن يبيع للمالك مع سبق منعه و كراهته،

و قد عزي إلى المشهور(1)صحّته أيضاً.

و قيل بالبطلان هنا، و عن فخر الدين «أنّه حكى عن بعض القائلين بصحّة الفضولي أنّه اعتبر فيها عدم سبق نهي المالك»(2) و معناه البطلان مع سبقه.

و يلوح ذلك من العلّامة في نكاح التذكرة(3) حيث إنّه بعد ما ضعّف سند النبوي «أيّما عبد تزوّج بغير إذن مولاه فهو عاهر»(4) حمله على أنّه نكح بعد منع مولاه و كراهته فإنّه يقع باطلاً، بناءً على ما قيل من أنّ الظاهر أنّه لا يفرّق بين النكاح و غيره.

و يظهر أيضاً ممّن أفسد بيع الغاصب تعليلاً بوجود القرينة الدالّة على الكراهة و عدم الرضا و هو الغصب.

و وجه البطلان من أهل القول ببطلان الفضولي رأساً واضح، فإنّ جميع الأدلّة المتقدّمة للقول بالبطلان آتية هنا بل بطريق أولى و لا حاجة إلى الإعادة، و الجواب عنها هو الجواب المتقدّم.

و أمّا من القائل بصحّة الفضولي في المسألة الاُولى فوجهه لا يخلو من أحد الأمرين: من دعوى فقد المقتضي للصحّة بتخيّل كون أدلّة الصحّة مختصّة بغير هذه الصورة خصوصاً رواية عروة البارقي، أو دعوى وجود المانع بتخيّل أنّ المنع الموجود

ص: 769


1- كما في المكاسب 373:3.
2- الإيضاح 417:1.
3- التذكرة 588:2.
4- سنن البيهقي 127:7.

بعد العقد و لو آناً ما كافٍ في الردّ فلا ينفع الإجازة اللاحقة بعده، بناءً على أنّه يكفي في الردّ مجرّد الكراهة و عدم الرضا الباطني الّذي كشف عنه المنع كما التزمه بعضهم حيث حكم بأنّه إذا حلف الموكّل على نفي الإذن في اشتراء الوكيل انفسخ العقد، لأنّ الحلف عليه أمارة عدم الرضا.

و أيّاً ما كان فهو واضح الدفع:

أمّا الأوّل: فلمنع الاختصاص لعدم انحصار أدلّة الصحّة في رواية عروة، و العمومات جارية في الصورتين، مع ترك الاستفصال المفيد للعموم في صحيحة محمّد ابن قيس في بيع الوليدة، و فحوى أدلّة نكاح العبد بدون إذن سيّده الظاهرة في سبق منع السيّد و لو بشاهد الحال فيما بين الموالي و العبيد، بل هو صريح «و إنّما عصى سيّده» في بعضها، مع جريان الروايات الاُخر في بيع مال اليتيم و المغصوب و مخالفة ربّ المال فيما اشترط عليه الصريح في منعه عمّا عداه.

و أمّا الثاني: فلأنّ المنع السابق الباقي بعد العقد الواقع و لو آناً ما ليس فسخاً لذلك العقد الشخصي و ردّاً له في عرف و لا شرع، لعدم الدليل عليه حتّى لا يفيد الإجازة اللاحقة بعده. و كون مجرّد الحلف على نفي الإذن في اشتراء الوكيل موجباً لانفساخ العقد من دون حاجة إلى الفسخ بعد الحلف غير مسلّم، و لو سلّم فالانفساخ ليس لمجرّد عدم الرضا الّذي يكشف عنه الحلف، بل الانفساخ على الحلف كاشف عن سبق الفسخ اللازم من الخصومة و المؤاخذة السابقة على الحلف، و ينهض ما تقدّم من صحّة عقد المكره بعد لحوق رضا المالك ينهض شاهداً بأنّ كراهة المالك حال العقد و بعد العقد لا يؤثّر في فساد العقد. فالأقوى إذن هو القول المشهور.

المسألة الثالثة: أن يبيع العاقد الفضولي مال الغير أو يشتري بمال الغير لنفسه، على معنى القصد

إلى [أن] يقع الثمن في الأوّل و المثمن في الثاني ملكاً له، إمّا لجهله بالموضوع بتخيّل كون المال له فتبيّن خلافه، أو مع علمه بالموضوع كما في الغاصب بتخيّل الصحّة، و لقد نسب إلى المشهور(1) فيه القول بالصحّة أيضاً، و مرجعه إلى عدم

ص: 770


1- المكاسب 376:3.

الفرق في صحّة الفضولي بين ما لو باع أو اشترى للمالك و بينه لنفسه. و قيل بالمنع، و مرجعه إلى الفرق بين الصورتين بالصحّة في الاُولى و البطلان في الثانية. و قيل بالفرق بين صورتي علم المشتري و جهله، فالصحّة في الثانية دون الاُولى.

و الأقوى هو الصحّة وفاقاً للمشهور، لعموم «أَحَلَّ اَللّٰهُ اَلْبَيْعَ » (1) و خصوص صحيحة الحلبي، و ظهور صحيحة محمّد بن قيس المتقدّمتين(2) و لو سلّم عدم ظهور الثانية فيكفي ظهورها في العموم من جهة ترك الاستفصال، و فحوى ما دلّ على صحّة النكاح في الفضولي حتّى نكاح العبد بدون إذن مولاه.

و ليس للقول بالمنع إلّا وجوه ضعيفة:

منها: النبويّان المتقدّمان، في أحدهما «لا تبع ما ليس عندك» و في الآخر «لا بيع إلّا فيما يملك»(3) و الفضولي يبيع لنفسه ما لا يملكه فيبطل للنهي و النفي.

و الجواب ما تقدّم في المسألة الاُولى من الظهور فيما لا يتعلّق به ملك المسلم كالخمر و المسلم و ما أشبه ذلك، و قبول التخصيص بما إذا لم يلحقه إجازة المالك، و احتمال البطلان بمعنى عدم ترتّب الأثر المقصود للعاقد و هو وقوع البيع له، فهو لا ينافي وقوعه للمالك بعد الإجازة و إن لم يقصده العاقد.

و منها: الأخبار الناهية عن شراء السرقة و الخيانة، و قد تقدّم(4) منها رواية جرّاح المدائني و فيها «لا يصلح شراء السرقة و الخيانة» و المرويّ عن قرب الإسناد في السؤال عن حلّ فرج الجارية المسروقة المبتاعة.

و الجواب - مع عدم ظهور «لا يصلح» في التحريم، و ظهور خبر الجارية سؤالاً و جواباً في التصرّف قبل لحوق إجازة المالك، فالمنع عنه لا ينافي صحّة أصل العقد بعد لحوق الإجازة - بأنّها قابلة للحمل على المنع من ترتيب الآثار الّتي منها جواز التصرّف على نفس الشراء من دون مراعاة الإجازة، بل هو على ما عرفت ظاهر المرويّ عن قرب الإسناد فلتحمل عليه جمعاً.

و منها: أنّ عقد الفضولي يعتبر في صحّته عدم سبق منع المالك و كراهته و هو في بيع

ص: 771


1- البقرة: 275.
2- تقدّم في الصفحة 756 و 752.
3- تقدّما في الصفحة: 761.
4- تقدّم في الصفحة: 763.

الغاصب مفقود غالباً، و قد سمعت عن المحقّق الثاني في «أنّ الغصب قرينة عدم الرضا»(1).

و اُجيب عنه أوّلاً: أنّ الكلام في الأعمّ من بيع الغاصب.

و ثانياً: أنّ الغصب أمارة عدم الرضا بالبيع للغاصب، و هو لا ينافي رضاه به على أن يقع له.

و ثالثاً: قد تقدّم في المسألة الثانية أنّ منع المالك غير مؤثّر، و لا دليل على كونه ردّاً لهذا العقد الشخصي.

و منها: أنّ العقود تابعة للقصود، و المفروض أنّ العاقد الفضولي قصد البيع لنفسه، فإذا أجازه المالك، فإمّا أن يجيزه على أن يقع له لم يصحّ ، لأنّ ما قصد لم يقع و ما وقع لم يقصد. و إن أجازه على أن يقع للعاقد حسبما قصده لم يصحّ ، لخروجه عن عقد المعاوضة، فإنّ البيع من عقود المعاوضة و الأدلّة تصحّحه على هذا الوجه، و المعاوضة بمفهومها تقتضي وقوع كلّ من العوضين لمالك العوض الآخر و هو هاهنا على تقدير الصحّة يقع لغير مالك العوض الآخر، فلا يندرج البيع لأجله في أدلّة الصحّة.

و قد يقرّر بأنّ المالك إمّا أن يجيز البيع على أن يكون العوض للعاقد على حسبما وقع عليه العقد، أو على أن يكون له على خلاف ما قصده العاقد، و لا سبيل إلى شيء منهما، أمّا الأوّل فلخروج الفرض عن قانون المعاوضة المقتضية لانتقال ملك العوض إلى مالك المعوّض، و أمّا الثاني فلأنّ الإجازة إمضاء للعقد السابق فلا بدّ و أن يقع على طبق ما وقع عليه العقد، و مفروض المقام ليس كذلك. فما وقع غير مجاز، و المجاز غير واقع لعدم المطابقة.

و توهّم: عدم الخروج عن قانون المعاوضة بكون الإجازة هبة ضمنيّة إمّا للعين فينتقل بها إلى العاقد آناً ما ثمّ تنتقل منه إلى المشتري لا من المالك، أو للثمن على معنى انتقاله آناً ما إلى المالك بالبيع المجاز ثمّ من المالك إلى العاقد بالهبة الضمنيّة.

يزيّفه منع تحقّق الهبة بالإجازة حيث لم يقصدها المالك بشيء من التقريرين، مع عدم تحقّق القبول من العاقد و هي من العقود فلا يعقل حصولها بدون القبول، مع فوات شرط صحّته و هو قبض العين الموهوبة في بعض الأحيان، إذ لا يعتبر في عقد الفضولي

ص: 772


1- جامع المقاصد 69:4.

كون العين مقبوضة في يده حين العقد.

و عن الفاضل القمّي في أجوبة مسائل شتاته تصحيح العقد بالإجازة على تقدير وقوعها على أن يكون الثمن للمالك «بأنّ الإجازة مصحّحة لبيع لا بمعنى لحوق الإجازة لنفس العقد كما في الفضولي المعهود، بل بمعنى تبديل رضى الغاصب و بيعه لنفسه برضى المالك و وقوع البيع عنه. و قال: نظير ذلك فيما لو باع شيئاً ثمّ ملكه»(1).

و عنه في موضع آخر أنّه «صرّح بأنّ حاصل الإجازة يرجع إلى أنّ العقد الّذي قصد إلى كونه واقعاً على المال المعيّن لنفس البائع الغاصب و المشتري العالم قد بدّلته على كونه على هذا الملك بعينه لنفسي، فيكون عقداً جديداً كما هو أحد الأقوال في المسألة»(2).

و في كلّ من التقريرين من التكلّف الّذي لا يرجع إلى محصّل ما لا يخفى:

أمّا التقرير الأوّل: فلأنّ تبديل الرضى بالرضى إن اُريد به التبديل الحقيقي، فهو غير معقول. و إن اُريد به التبديل التنزيلي على معنى أنّ الشارع نزّل رضى البائع الغاصب منزلة رضى المالك بإجازته، فهو دعوى تحتاج إلى دليل، و أيّ دليل عليها؟ و أمّا تنظيره المقام بما ذكره من بيع شيء ثمّ ملكه فممّا لم نتحقّق معناه.

و أمّا التقرير الثاني: فلأنّه إن اُريد بكون الإجازة على الوجه المذكور عقداً جديداً أنّها بانفرادها إيجاب للبيع من المالك و قبول من المشتري عن المالك، فهو غير متصوّر عقلاً و غير صحيح شرعاً، للإجماع على انحصار كلّ من صيغتي الإيجاب و القبول في ألفاظ مخصوصة ليس منها قول المالك «أجزت».

و إن اُريد به أنّها قائمة مقام الإيجاب و ينضمّ إليها قبول المشتري المتقدّم فيصير المجموع عقداً جديداً و لو لتجدّد أحد جزأيه كما يؤيّده قوله «كما هو أحد الأقوال في الإجازة» فإنّ الظاهر أنّ مراده بذلك القول ما حكي عن كاشف الرموز أنّه نقله عن شيخه من «أنّ الإجازة من مالك المبيع بيع مستقلّ فهو بيع بغير لفظ البيع قائم مقام إيجاب البائع، و ينضمّ إليه القبول المتقدّم من المشتري»(3) - فهو غير صحيح، أمّا أوّلاً:

ص: 773


1- جامع الشتات 319:2، غنائم الأيّام: 554.
2- جامع الشتات 276:2، و غنائم الأيّام: 541.
3- كشف الرموز 455:1-446.

فلعدم المطابقة بين الإيجاب و القبول لعدم موافقة القصدين بالنسبة إلى الثمن.

و أمّا ثانياً: فلعدم الاتّصال العرفي بينهما.

و أمّا ثالثاً: فلعدم تقدّم الإيجاب على القبول.

و أمّا رابعاً: فلعدم دلالة «أجزت» على إيجاب البيع بشيء من الدلالات، مع مخالفته لإجماعهم على حصر الإيجاب في ألفاظ مخصوصة ليس هذا منها. و ما عدا الأوّل من هذه الوجوه يرد على شيخ كاشف الرموز.

و قد يجاب بأنّ قصد المعاوضة مبنيّ على جعل الغاصب نفسه مالكاً حقيقيّاً، و إن كان هذا الجعل لا حقيقة له لكنّ المعاوضة الحقيقيّة المبتنية على هذا الأمر الغير الحقيقي حقيقيّة نظير المجاز الادّعائي في الاُصول، نعم لو باع لنفسه من دون بناء على ملكيّة المثمن و لا اعتقاد له كانت المعاملة باطلة غير واقعة له و لا للمالك، لعدم تحقّق معنى المعاوضة. و لذا ذكروا أنّه لو اشترى بماله لغيره شيئاً بطل و لم يقع له و لا لغيره، و المراد ما لو قصد تملّك الغير للمبيع بإزاء مال نفسه. و عن بعض المحقّقين «أنّ البطلان هنا يستلزم البطلان في المقام، و هو ما لو باع مال غيره لنفسه، لأنّه عكسه»(1). و يندفع بأنّ عكسه هو ما لو باع و قصد تملّك الثمن من دون بناء و لا اعتقاد لتملّك المثمن، و أمّا مع البناء المذكور فلا، و الحاصل أنّ البائع يملّك المثمن بانياً على تملّكه و تسلّطه عليه عدواناً أو اعتقاداً لزم منه بناؤه على تملّك المثمن و التسلّط عليه، و هذا معنى قصد بيعه لنفسه، و حيث إنّ المثمن ملك لمالكه واقعاً فإذا أجاز المالك الواقعي المعاوضة انتقل عوضه إليه، فالإجازة الحاصلة منه متعلّقة بإنشاء الفضولي و هو التملّك المسند إلى مالك المثمن و هو حقيقة نفس المجيز فيلزم من ذلك انتقال الثمن إليه.

و فيه - مع ما فيه من التعسّف و التكلّف الواضح - منع الصغرى أوّلاً، و منع الكبرى ثانياً.

أمّا الأوّل: فلأنّ البناء و الجعل المذكور ممّا لا يكاد يتحقّق في بيع الغاصب، و مجرّد الاعتقاد في غير الغاصب لا يجعل المعاوضة [حقيقيّة]، نظراً إلى أنّها مفاعلة بين ملكي العوضين، و ملك العوض بحسب الواقع منتف عن البائع. و تنظيره بالمجاز الادّعائي في

ص: 774


1- لم نعثر عليه و لكن نقله عنه في المكاسب 378:3.

الاُصول باطل، لأنّ عدم تحقّق ماهيّة المعنى الحقيقي في الفرد الادّعائي حقيقة لا ينافي وقوع استعمال اللفظ في معناه الموضوع له فيكون الاستعمال حقيقة، و لا استعمال للفظ المعاوضة في المقام لئلّا ينافي حقيقيّته عدم تحقّق الملك للبائع حقيقة، و كون الجعل المفروض لا حقيقة له بل هي أمر لبّي ينوط تحقّقه بتحقّق ملكي العوضين للبائع و المشتري، و المفروض عدم تحقّقه للبائع في المثمن، فالمعاملة غير واقعة بين المالكين لتكون معاوضة.

و أمّا الثاني: فلأنّ البائع ادّعى قيام صفة المالكيّة بنفسه ليدخل الثمن في ملكه باعتبار هذه الصفة الّتي لا حقيقة له، و المالك أجاز بيعه ليقع الثمن له لا لمن ادّعى صفة المالكيّة لنفسه على خلاف الواقع فلم يطابق القصدان، فالواقع غير مجاز و المجاز غير واقع.

نعم لو قرّر الاعتبار المذكور بأنّ البائع جعل نفسه نفس المالك ادّعاءً بأن ادّعى كونه زيداً مثلاً لو كان المالك زيداً فباع المال عن نفسه بعنوان أنّه زيد ليقع الثمن له بعنوان الزيديّة فأجازه المالك فقد أجاز بيع زيد عن نفسه لنفسه، كان له وجه، لأنّه أجاز ما وقع. و لكن هذا الاعتبار غير واقع بل مبنيّ على مجرّد الفرض، و فرض الشيء لا تحقّق ذلك الشيء.

و قد يجاب أيضاً: بأنّ إجازة عقد الفضولي موجبة لصيرورة العوض ملكاً للفضولي، و بعبارة اُخرى أنّ العقد الملحوق به الإجازة يوجب صيرورة الثمن للفضولي.

و نسب(1) ذلك إلى الشيخ النجفي في شرحه للقواعد(2) و ذكروا في توجيهه وجوهاً:

منها: أنّ الإجازة هبة ضمنيّة تفيد دخول العين في ملك العاقد آناً ما، فيقع البيع في ملكه و يفيد انتقال الثمن إليه.

و فيه: منع واضح تقدّم ذكره في أوائل المسألة، لعدم القصد إلى الهبة من المجيز، و عدم تحقّق القبول من العاقد، و عدم كون العين مقبوضة له حين استكمال عقد الهبة.

و منها: أنّ الإجازة تنحلّ إلى تمليك المال للفضولي و إمضاء تمليكه الغير، فإنّ قول الفضولي «بعت» ينحلّ إلى تملّك و تمليك، فكأنّه قال: «تملّكت هذا عن فلان ثمّ ملّكته

ص: 775


1- المكاسب 384:3.
2- شرح القواعد 23:2-26.

لك بكذا» فيكون قول المالك «أجزت» إمضاءً لهذين الأمرين، فكأنّه قال: «أجزت تملّكك ثمّ تمليكك.

و فيه - مع أنّ اعتبار إمضاء تمليك الفضولي مع إفادة لفظ «أجزت» تمليك المال له لغو - أنّ الانحلال القهري غير معقول، و الانحلال القصدي غير حاصل لعدم حصول قصد التملّك في «بعت» و لا قصد التمليك في «أجزت» مع عدم دلالة اللفظ على التملّك و التمليك الضمنيّين عرفاً بشيء من الدلالات، و الصحّة بدون القصد و الدلالة و لو اقتضاء غير معقولة. و دعوى: أنّ العمومات شاملة للمفروض، مدفوعة بأنّها إنّما تشمل الفضولي المعهود المشتمل على قانون المعاوضة لا غير.

و منها: أنّ قضيّة بيع مال الغير عن نفسه أو الشراء بمال الغير لنفسه جعل ذلك المال له ضمناً حتّى أنّه على فرض صحّة ذلك البيع أو الشراء تملّكه، قبل آن انتقاله إلى غيره ليكون انتقاله إليه عن ملكه، نظير ما إذا قال: «اعتق عبدك عنّي» أو قال «بع مالي عنك أو اشتر بمالي لك كذا» فهو تملّك ضمني حاصل ببيعه أو شرائه، و نقول في المقام أيضاً:

إذا أجاز المالك صحّ البيع أو الشراء و صحّته يتضمّن انتقاله إليه حين البيع أو الشراء، فكما أنّ الإجازة المذكورة تصحّح البيع أو الشراء كذلك تقضي بحصول الانتقال الّذي يتضمّنه البيع الصحيح، فتلك الإجازة اللاحقة قائمة مقام الإذن السابق قاضية بتمليكه المبيع ليقع البيع في ملكه و لا مانع منه.

و فيه: منع الحكم في الأصل - و هو الإذن السابق - أوّلاً، ثمّ في الفرع و هو الإجازة ثانياً.

أمّا الأوّل: فلأنّ صحّة الإذن في بيع المال لنفسه أو الشراء به لنفسه ممنوعة، لمنافاته مفهوم المعاوضة و المبادلة.

و أمّا الثاني: فلأنّ جعل الإجازة قائمة مقام الإذن السابق قياس مع الفارق، فإنّ الإذن في البيع يحتمل فيه أن يوجب من باب الاقتضاء دخول المال في ملكه و لو آناً ما، بخلاف الإجازة الغير الدالّة عليه و لو من باب الاقتضاء، فإنّها تعلّقت بما وقع من الفضولي، و المفروض أنّه لم يقع إلّا مبادلة مال الغير بمال آخر أو مبادلة مال بمال الغير.

و منها: أنّه لا دليل على اشتراط كون أحد العوضين ملكاً للعاقد في انتقال بدله إليه، بل يكفي أن يكون مأذوناً في بيعه لنفسه أو الشراء به، فلو قال: «بع هذا لنفسك أو

ص: 776

اشتر لك بهذا» ملك الثمن في الصورة الاُولى بانتقال المبيع عن مالكه إلى المشتري و كذا ملك المثمن في الصورة الثانية، و يتفرّع عليه أنّه لو اتّفق بعد ذلك فسخ المعاملة رجع الملك إلى مالكه لا إلى العاقد.

و فيه: أنّ الدليل على الاشتراط هو مفهوم المبادلة و مفهوم البيع الّذي هو «مبادلة مال بمال أو تمليك عين على وجه التعويض» فإنّ معنى المبادلة جعل ملك أحد المالين بدلاً عن ملك المال الآخر، كما أنّ معنى المعاوضة هو جعل ملك أحد المالين عوضاً عن ملك المال الآخر، و المفروض أنّ ملك أحد المالين ليس للفضولي بل لمالكه فلا يتحقّق البدليّة و لا التعويض للفضول، بل لو تحقّق فإنّما يتحقّق للمالك، و لذا صرّح العلّامة في غير موضع على ما حكي «بأنّه لا يتصوّر» كما في موضع أو «لا يعقل» كما في موضع آخر «أن يشتري الإنسان شيئاً لنفسه بمال الغير»(1) بل عن بعضهم في مسألة قبض المبيع ادّعاء «عدم الخلاف في بطلان قول مالك الثمن: اشتر لنفسك به طعاماً»(2) قيل(3) و قد صرّح به الشيخ(4) و المحقّق(5) و غيرهما(6) أيضاً.

و تحقيق المقام: كما بيّنّاه في باب عقد المكره أنّ قولهم «العقود تابعة للقصود» ليس على إطلاقه، بل إنّما هو بالنسبة إلى أركان العقد اللفظي من التلفّظ و المعنى المادّي و المعنى الإنشائي و وقوع الأثر في الخارج، و العقد اللفظي من تعيين المبيع و تعيين الثمن و تعيين الموجب و تعيين القابل، و أمّا تعيين من ينتقل إليه المال فليس من أركانه. فقصد انتقال الثمن إلى مالك المثمن أو انتقال المثمن إلى مالك الثمن ليس شرطاً، و لا قصد انتقال الثمن إلى غير مالك المثمن أو انتقال المثمن إلى مالك الثمن مانعاً، بل المثمن ينتقل إلى مالك الثمن و الثمن إلى مالك المثمن قصد أو لم يقصد، قصد خلافه أو لم يقصد.

و الأصل في ذلك أنّ الصيغة إيجاباً و قبولاً بظهورها النوعي و انفهامها العرفي تقتضي انتقال ملك كلّ من العوضين إلى مالك العوض الآخر قصد أو لم يقصد قصد

ص: 777


1- القواعد 87:2 و 354، التذكرة 166:473:1.
2- ادّعاه صاحب الجواهر 174:23.
3- في المكاسب 387:3.
4- المبسوط 121:2.
5- الشرائع 32:2.
6- كما في المهذّب 387:1، و المسالك 252:3، مفتاح الكرامة 13:

خلافه أو لا، للسيرة المعلومة، و إجماع الفرقة المحقّة. و لذلك ترى المتعاملين أنّهم في العينين الشخصيّين لا يتعلّق غرضهم إلّا بإنشاء تمليك إحداهما في عوض ملك الاُخرى، و لا يلاحظون كون طرفي العقد أصيلين أو وكيلين أو مختلفين، و لا يستفسرون عن أنّه هل عقد لنفسه أو لغيره بل مهما وجدوا العين شخصيّة يقصدون العقد عليها من دون قصد إلى مالكها و لا إلى من ينتقل إليه ملك عوضها.

قيل: و السرّ في ذلك أنّ العقد عبارة عن الربط بين المالين دون المالكين، فإذا كان المالان شخصيّين يحصل الربط بقصد إنشاء تمليك عين في مقابل عين آخر، فيصير أحدهما معوّضاً و الآخر عوضاً، و لا حاجة له بعد ذلك إلى تعيين المالك و قصده، و لا إلى تعيين من ينتقل إليه الملك و قصده.

نعم لو عقد على عين شخصيّة في مقابلة كلّي في الذمّة فلا ينبغي التأمّل في كون تعيين من له الذمّة ركناً و قصده شرطاً، فلو باع بعشرة دراهم في الذمّة أو اشترى بعشرة دراهم كذلك من غير قصد من له الذمّة لم ينعقد، و لذلك ذكروا أنّ الوكيل لو اشترى شيئاً بما [في] ذمّة الموكّل لا بدّ من أن يقصد ذلك بالخصوص، و أنّ الوليّ لو اشتراه بما في ذمّة المولّى عليه من غير قصد لذلك لم يؤثّر شيئاً في ذمّته.

و حجّة المفصّل(1) أمران:

أحدهما: ما نسب الإشارة إليه إلى العلّامة(2) و ولده فخر المحقّقين(3) بالنسبة إلى البطلان في صورة العلم، من أنّهم أطبقوا في بيع الغاصب مع علم المشتري بالغصبيّة على أنّه لو دفع الثمن إلى الغاصب و تلف في يده و رجع عليه المالك بأخذ عين ماله على تقدير البقاء أو عوضه مثلاً أو قيمة على تقدير التلف، لا يرجع على الغاصب بأخذ ثمنه و لا هو مسلّط عليه، و أطلقوا في هذا الحكم، و هذا ينافي صحّة الفضولي لنفسه مع علم المشتري بالحال.

و فيه: أنّهم ذكروا ذلك في بيع الغاصب مع البناء على نفس العقد في التصرّف في المال من دون بناءٍ على رجاء إجازة المالك، و علّلوه بعلّة غير جارية في الفضولي

ص: 778


1- ذكر التفصيل في ص 770.
2- التذكرة 17:10.
3- الإيضاح 417:1.

المبنيّ فيه على لحوق إجازة المالك مع لحوقها أيضاً، و هو أنّ المشتري أقدم على إتلاف ماله حيث دفعه إلى الغاصب و سلّطه على إتلافه مجّاناً، و هذا لا ينافي الصحّة على تقدير إجازة المالك مع علمه بأنّ المالك إمّا يجيز أو لا يجيز فيرجع على ماله عيناً أو عوضاً.

و ثانيهما: أنّه إذا قصد المتبايعان العقد لهما دون المالك مع العلم بالحال كان العقد لا عن قصد إنشاء النقل و التمليك، لأنّ قصد نقل ملك الغير مع العلم بكونه ملكاً للغير لينتقل إليه العوض غير ممكن فيكون فاسداً، لاشتراط الصحّة بقصد إنشاء النقل و التمليك.

و فيه: منع عدم إمكان القصد مع العلم بالموضوع إذا بنى على الجهل بمسألة المعاوضة من اقتضائها بدخول كلّ عوض في ملك مالك العوض الآخر، و قد يكون العالم بالمسألة أيضاً غافلاً عنها حين العقد، مع إمكان منع منافاة العلم لقصد إنشاء النقل كما يظهر بالتأمّل.

و قد يجاب: بإمكان القصد مع البناء على التنزيل و جعل الفضولي نفسه مالكاً ادّعاءً ، و قد ظهر ضعفه.

و ينبغي ختم الباب بذكر اُمور مهمّة:
الأمر الأوّل: أنّ مال الغير المعقود عليه في الفضولي قد يكون عيناً في الخارج و قد يكون كلّيّاً في الذمّة،

و الظاهر على القول بصحّة بيع الفضولي عدم الفرق بينهما في الصحّة مثمناً كان الكلّي أو ثمناً، و تشخيص كونه كلّيّاً في الذمّة يتأتّى تارةً بإضافة الذمّة إلى الغير، بأن يقول «بعت كرّاً من طعام في ذمّة فلان بكذا» أو «بعت هذا بعشرة دراهم في ذمّة فلان» و يقع العقد له فإن أجازه صحّ و إن ردّه بطل، و اُخرى بقصد الفضولي العقد له فكلّ من قصده الفضولي في العقد لينتقل الثمن أو المثمن إليه في الكلّي تعيّن كونه صاحب الذمّة، لضابطة استحالة دخول أحد العوضين في ملك غير من خرج عنه العوض الآخر.

و من فروع هذه الضابطة: أنّ تعيين العوض في الخارج يغني عن قصد من وقع له العقد كما تقدّم.

و منها: أنّ قصد من وقع له العقد يغني عن تعيين صاحب الذمّة بإضافة الثمن الكلّي

ص: 779

إليه، و حينئذٍ فإن أجاز العقد من قصد له وقع له و عليه ردّ ما في ذمّته إلى مالك من خرج عنه العوض. فإن ردّه فهل بطل واقعاً أو وقع للعاقد الفضولي واقعاً؟ قولان:

اختار أوّلهما شيخنا قدس سره قائلاً: «بأنّ مقتضى القاعدة بطلان العقد واقعاً، لأنّ مقتضى ردّ العقد بقاء كلّ عوض على ملك صاحبه، إذ المال في باب الفضولي مردّد بين مالكه الأصلي و من وقع له العقد، فلا معنى لخروجه عن ملك مالكه و تردّده بين الفضولي و من وقع له العقد، و لو صحّ وقوعه للفضولي لم يحتج إلى إجازة و وقع له، إلّا أنّ الطرف الآخر لو لم يصدّقه على هذا العقد و حلف على نفي العلم حكم به على الفضولي، لوقوع العقد له ظاهراً، كما عن المحقّق(1) و فخر الإسلام(2) و المحقّق الكركي(3) و السيوري(4)و الشهيد الثاني(5)» انتهى(6).

و نسب ثانيهما إلى ظاهر إطلاق بعض الكلمات كالقواعد(7) و المبسوط(8) و حكي نسبته أيضاً إلى جماعة(9) في بعض فروع المضاربة.

و لعلّ مبناه على كون العقد عبارة عن الربط بين المالين لا المالكين، فالبائع في صورة كلّيّة المثمن بتمليكه الكلّي بإزاء الثمن الخارجي ليكون عوضاً عنه يربط بينهما قاصداً البيع لزيد مثلاً، و في صورة كلّيّة الثمن بتمليكه العين الخارجي بإزاء الثمن الكلّي يربط بينهما و المشتري يقبله قاصداً الشراء لزيد مثلاً، و إذا لم يجزه زيد انصرف الكلّي في الأوّل إلى ذمّة البائع و في الثاني إلى ذمّة المشتري لعموم وجوب الوفاء بالعقود.

و فيه: أنّ تحقّق الربط بين المالين فرع على تحقّق الارتباط و هو في الفضولي المفروض مراعى بإجازة من قصد له البيع أو الشراء، فإذا ردّه ارتفع الارتباط المراعى فلم يتحقّق الربط فلا يشمله العموم لانتفاء العقد.

ثمّ إنّ العلّامة قال في التذكرة: «لو اشترى فضوليّاً فإن كان بعين مال الغير فالخلاف في البطلان و الوقف على الإجازة، إلّا أنّ أبا حنيفة(10) قال: للمشتري لكلّ حال و إن كان

ص: 780


1- الشرائع 205:2.
2- الإيضاح 347:2.
3- جامع المقاصد 251:8-252.
4- لم نقف عليه في التنقيح.
5- المسالك 300:5، و 379:4.
6- المكاسب 390:3-391.
7- القواعد 247:1.
8- المبسوط 386:2.
9- كما في الشرائع 142:2، و القواعد 247:1، و الرياض 607:1، و الجواهر 384:22.
10- المجموع 261:9، المغني 296:4، الشرح الكبير 18:4.

في الذمّة لغيره، و أطلق اللفظ، قال علماؤنا: يقف على الإجازة، فإن أجاز صحّ و لزمه أداء الثمن، و إن ردّ نفذ عن المباشر، و به قال الشافعي في القديم و أحمد(1) و إنّما يصحّ الشراء لأنّه تصرّف في ذمّته لا في مال غيره، و إنّما وقف على الإجازة لأنّه عقد الشراء له، فإن أجازه لزمه و إن ردّه لزم من اشتراه، و لا فرق بين أن ينقد من مال الغير أو لا، و قال أبو حنيفة: يقع عن المباشر»(2) انتهى.

و وجّه الأصحاب في تصحيح الشراء لمن قصد له على تقدير الإجازة ما قدّمناه من استحالة دخول أحد العوضين في ملك غير من خرج عنه الآخر، و ذلك يوجب صرف الكلّي إلى الغير تبعاً لوقوع الشراء له تبعاً لقصده له، و هذا معنى ما يقال: من أنّ قصد البيع للغير أو إضافته إليه في اللفظ يوجب صرف الكلّي إلى ذمّة ذلك الغير، كما أنّ إضافة الكلّي إليه يوجب صرف البيع أو الشراء إليه و إن لم يقصده أو لم يضفه إليه، و على ذلك مبنى القول بالتنافي بين إضافة البيع إلى غيره و إضافة الكلّي إلى نفسه أو قصده من غير إضافة، و كذا بين إضافة البيع إلى نفسه و إضافة الكلّي إلى غيره.

فلو جمع بين المتنافيين بأن قال: «اشتريت هذا لفلان بدرهم في ذمّتي» أو «اشتريت هذا لنفسي بدرهم في ذمّة فلان» ففي الأوّل يحتمل البطلان لأنّه في حكم شراء شيء للغير بعين ماله، و يحتمل إلغاء أحد القيدين و تصحيح المعاملة لنفسه أو للغير، و في الثاني يحتمل كونه من قبيل شرائه لنفسه بعين مال الغير فيقع للغير بعد إجازته، و مبناه على إلغاء قيد إضافته إلى نفسه كما أنّ مبنى صحّته للمباشر على تقدير الردّ على إلغاء قيد إضافة الكلّي إلى الغير، و لعلّ وجهه عموم آية الوفاء بكلّ عقد، و في صدق العقد مع الردّ نظر، إلّا أن يكون إجماعاً كما هو ظاهر النسبة إلى علمائنا على تقدير شمولها الحكمين، و المسألة لا تخلو عن إشكال.

الأمر الثاني: الظاهر بالنظر إلى إطلاق كلماتهم عدم الفرق في صحّة الفضولي بين وقوعه بالصيغة أو بالمعاطاة

الأمر الثاني(3): الظاهر بالنظر إلى إطلاق كلماتهم عدم الفرق في صحّة الفضولي بين وقوعه بالصيغة أو بالمعاطاة

وفاقاً لشيخنا(4) لعمومات الصحّة مثل «أَحَلَّ اَللّٰهُ اَلْبَيْعَ » (5)و «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» (6) و غيرهما فإنّها كانت شاملة للمعاطاة كما تقدّم في بابها، و للفضولي

ص: 781


1- المجموع 260:9 و المغني 296:4، الشرح الكبير 18:4.
2- التذكرة 15:10-16.
3- في الأصل: الأوّل.
4- المكاسب 394:3.
5- البقرة: 275.
6- المائدة: 1.

أيضاً كما تقرّر في الباب، و يلزم من ذلك شمولها لمعاطاة الفضولي أيضاً بناءً على المختار من كونها بيعاً مفيداً للملك، مضافاً إلى عموم رواية عروة البارقي من جهة ترك الاستفصال، بل قد يدّعي ظهورها في وقوع المعاملة بالمعاطاة، و كذلك ترك الاستفصال في صحيحة محمّد بن قيس في بيع الوليدة و سائر ما تقدّم.

لا يقال: إنّ الإقباض الّذي يحصل به التمليك في المعاطاة محرّم لكونه تصرّفاً في مال الغير بدون إذنه كما هو حكم الفضولي في التصرّف في المال قبل الإجازة فلا يترتّب عليه الأثر. لأنّ المعاملة المعاطاتيّة قد لا تحتاج إلى إقباض المال كما لو باع الكلّي في الذمّة أو اشترى شيئاً بما في الذمّة، مضافاً إلى أنّها قد يقارنها العلم برضى المالك في الإقباض بناءً على أنّها بمقارنة رضاه لا تخرج عن الفضوليّة، و إلى منع اقتضاء النهي للفساد لتعلّقه بأمر خارج و هو وصف كونه بلا إذن، و بأنّ المقصود ترتّب الأثر على الإقباض على أن يكون سبباً مستقلّاً و عدم ترتّب ذلك الأثر لا ينافي ترتّبه عليه على أنّه جزء للسبب.

فإن قلت: إنّ المعاطاة منوطة بالتراضي و قصد إنشاء التمليك، و هما من وظائف المالك و لا يتصوّر صدورهما من غيره، و لذا ذكر الشهيد الثاني «أنّ المكره و الفضولي قاصدان للّفظ دون المدلول، و أنّ قصد المدلول لا يتحقّق من غير المالك»(1).

قلت أوّلاً: أنّه منقوض بالبيع بالصيغة، فإنّ التراضي و القصد معتبران فيه أيضاً، و هما من وظائف المالك على ما ذكرت.

و ثانياً: أنّ القصد يتأتّى من غير المالك أيضاً بالضرورة، و عليه مبنيّ صحّة الفضولي بعد الإجازة فإنّها إمضاء له، و المعاطاة عقد فعلي، و كما أنّ البائع بالصيغة يقصد بقوله إنشاء التمليك فكذلك في المعاطاة يقصد بفعله(2) إنشاء التمليك. و أمّا التراضي فالمفروض حصوله مقارناً من الأصيل، و أمّا من طرف غيره، فإن اُريد بكونه من وظائف المالك أنّ رضا الفضولي غير معتبر هنا بل المعتبر هو رضا المالك، فهو حقّ لا سترة عليه، و لكن مبنى تصحيح المعاطاة الفضوليّة ليس على الاكتفاء برضا الفضولي

ص: 782


1- المسالك 156:3.
2- في الأصل: بقوله.

بل على اعتبار رضا المالك لاحقاً بالمعاملة حين الإجازة الكاشفة عن الرضا. و إن اُريد به أنّ المعتبر مقارنة رضا المالك الّتي لا يتأتّى إلّا بمعاطاته، ففيه المنع كما عليه مبنيّ صحّة الفضولي. و بما ذكرناه اندفع ما نقل عن ثاني الشهيدين.

نعم لو قيل بعدم الصحّة على القول بكونها إباحة لا بيعاً مفيداً للتمليك كان متّجهاً، لأنّ القاعدة في باب الفضولي حرمة التصرّف في المال قبل لحوق الإجازة و هي تنافي الإباحة، و الإجازة اللاحقة على تقدير تضمّنها الإباحة لا تجدي في صحّة المعاطاة من حيث إفادتها الإباحة، لأنّ الإباحة اللازمة من الإجازة إباحة جديدة. و بالجملة إباحة التصرّفات في المال من وظائف المالك، و لا تتأتّى إلّا بالإجازة و لا يعقل فيها الفضوليّة.

الأمر الثالث: الظاهر عدم اختصاص الفضولي بالبيع و النكاح

كما هو المصرّح به في نكاح الروضة(1) على ما حكي، و في الجواهر(2) تبعاً لشيخيه في شرح القواعد(3)و مفتاح الكرامة، قال في الثاني: «و اعلم أنّه يجري في سائر العقود لأنّه إذا ثبت في النكاح و البيع ثبت في جميع العقود إذ لا قائل باختصاص الحكم بهما كما في الروضة ذكر ذلك في كتاب النكاح»(4) انتهى. بل يجري في سائر العقود اللازمة و الجائزة حتّى ما يعتبر في صحّته التقابض كالصرف أو الإقباض كالهبة، و لا ينافيه كون إقباض المال قبل لحوق الإجازة محرّماً لأنّه نهي عن الشرط و هو توصّلي فلا دلالة له على فساد أصل المعاملة مع كونه في الشرط لوصف خارج.

نعم ينبغي القطع بعدم جريانه فيما يتوقّف في صحّته النيّة و قصد القربة المتوقّفة على الأمر كالوقف إذ لا أمر على الفضولي في وقف مال غيره و لو استحباباً، و عن الشهيد في شرح الإرشاد(5) دعوى الإجماع على عدم صحّته فيه، و ربّما يعلّل المنع بكونه من الإيقاعات المجمع على أن لا فضوليّة فيها. و بالجملة فهو إمّا عقد على الأقوى أو إيقاع، على التقديرين ثبت لها جهة عبادة لتوقّف صحّته على النيّة، مع اعتبار مباشرة المالك أو مقارنة رضاه لوقوعه في صحّته ثبت ذلك بالإجماع و نحوه.

و لا فيما ينافي الفضوليّة من حرمة التصرّف قبل الإجازة لمقتضى العقد كالعارية

ص: 783


1- الروضة 141:5.
2- الجواهر 280:22.
3- شرح القواعد 74:2.
4- مفتاح الكرامة 604:12.
5- غاية المراد 425:3.

لمنافاة إباحة الانتفاع لحرمة التصرّف، و كذلك الوكالة الّتي هي استنابة في التصرّف الّتي تتضمّن الإذن فيه، و الإباحة و الإذن اللازمتان من الإجازة إباحة جديدة و إذن مستأنف.

و عن شرح القواعد إجراؤه في غير العقود قائلاً: «و في جري الفضولي فيما جرت فيه الوكالة من العبادات - كالأخماس و الزكوات و أداء النذور و الصدقات و نحوها من مال من وجبت عليه أو من ماله - و فيما قام من الأفعال مقام العقود و نحوه و كذا الإيقاعات ممّا لم يقم الإجماع على المنع فيها وجهان، أقواهما الجواز، و يقوى جريانه في الإجازة، و إجازة الإجازة، و هكذا، و يتفرّع عليها أحكامه كما لا يخفى على ذوي الأفهام»(1) انتهى.

و هو في غاية الإشكال خصوصاً في العبادات، لعدم الأمر في الفضولي الّذي عليها مبنى النيّة الّتي هي من شروط صحّتها، و قبولها النيابة من جهة الوكالة لا يستلزم قبولها النيابة لا من جهة الوكالة، و هو خلاف الأصل و لا دليل عليه هنا.

نعم ربّما اُيّد الجواز بالنصوص الواردة في باب الخمس المشتمل بعضها على تصرّف بعض مواليهم فيه من غير إذنهم عليهم السلام ثمّ طلب الإجازة منهم عليهم السلام فأجازوه، و بالروايات الواردة في باب اللقطة و المال المجهول المالك الآمرة بأنّه يتصدّق عن المالك، فإذا تعيّن و أجاز صحّت الصدقة له، و إلّا وقعت للدافع و عليه ردّ العوض إلى المالك.

و يندفع الأوّل: بأنّ النصوص المذكورة واردة في طلب الحلّ و الإبراء، لا في طلب الإجازة و الإمضاء لفعله في الدفع إلى المستحقّ فضولاً، كما لا يخفى على المتتبّع.

و الثاني: بخروج مورد الروايات المشار إليها عن ضابطة الفضولي، و لذا يجوز التصرّف للمتصدّق عليه في المال بجميع أنواع التصرّفات حتّى الناقلة و المتلفة منها، و لو أتلفه لا رجوع للمالك عليه على تقدير عدم إجازته بل يرجع على الدافع، بل الحقّ أنّ الدافع ليس بفضولي في دفعه بل هو مأذون من المالك الحقيقي فيكون كالوكيل. و قد يجاب بأنّ مضمون تلك الروايات إنّما هو من باب الحكم الشرعي في واقعة خاصّة مخالفة للقواعد و الاُصول و لا دخل له في باب الفضولي حتّى يستدلّ به على صحّة

ص: 784


1- شرح القواعد 85:2.

الفضولي في العبادات الماليّة أو اُيّدت صحّته به، فالحق أنّها لا تقع إلّا من المالك أو وكيله فيعتبر في صحّتها المباشرة أو مقارنة الإذن.

و أمّا إجراء الفضولي في الإيقاعات فهو أيضاً ممّا لا تعرف له وجهاً كيف ؟ و قد قيل بأنّ الأصحاب أجمعوا على عدم صحّته في شيء منها خصوصاً الطلاق الّذي ورد فيه «أنّ الطلاق بيد من أخذ بالساق»(1) فالوجه أنّ منها ما يعتبر فيها المباشرة كالنذر و العهد و اليمين، و منها ما يقبل النيابة من جهة الوكالة لا غير.

و أمّا الأفعال القائمة مقام العقود فإن اُريد بها تقابض المعاطاة فقد مرّ الكلام فيه، و إن اُريد بها إشارة الأخرس فجريه فيها محلّ تأمّل للاسترابة في شمول أدلّته و على تقدير الشمول فلا كلام، و إن اُريد بها غيرهما كقبض الدين و قبض الثمن و قبض الوقف و قبض الهبة و ما أشبه ذلك فضولاً فأمضاه من له ولاية القبض، فالأمر فيه سهل.

الأمر الرابع:
اشارة

في حكم الإجازة من حيث الكشف و النقل، و شروطها، و سائر ما يتعلّق لها، ففيه مباحث:

: المبحث الأوّل: في أنّ القائلين بصحّة الفضولي بعد اتّفاقهم على توقّف الصحّة على الإجازة اختلفوا في كونها كاشفة عن الصحّة، على معنى كشفها عن الانتقال و حصول الملك و ترتّب آثار الملكيّة من حين العقد بحيث كأنّها وقعت حال العقد مقارنة له - كما عن ظاهر جماعة(2) و صريح الشهيد في الدروس(3) و حواشي القواعد(4) و اللمعة(5)و الفاضل المقداد في التنقيح(6) و الكركي في جامع المقاصد(7) و الشيخ إبراهيم القطيفي في إيضاح النافع(8) و الشيخ علي الميسي في الحاشية الميسيّة(9) و المسالك(10)و الروضة(11) و الرياض(12) ناسباً له فيه إلى الأشهر، و عن مجمع البرهان «إنّه مذهب

ص: 785


1- مستدرك الوسائل 3/306:15، ب 25 كتاب الطلاق، درر اللآلئ 2:2.
2- كما في المختصر: 118، و المهذّب البارع 356:2، و كشف الرموز 444:1-445.
3- الدروس 192:3 و 233.
4- حواشي الشهيد: 57.
5- اللمعة: 110.
6- التنقيح 62:2.
7- جامع المقاصد 74:4-75.
8- نقله عنه في مفتاح الكرامة 605:12.
9- نقله عنه في مفتاح الكرامة 605:12.
10- المسالك 158:3.
11- الروضة 229:3.
12- الرياض 124:8.

الأكثر»(1) - أو ناقلة على معنى كونها موجبة للنقل و الانتقال و حصول الملك و ترتّب آثاره من حينها بحيث كان العقد وقع حالها مقارناً لها، كما عن مجمع البرهان(2) و ظاهر فخر الدين في الإيضاح(3) و نسب الميل إليه إلى كاشف اللثام(4) و قد ينسب إلى الكفاية(5) و المدارك(6) في باب الزكاة.

ثمّ القائلون بالكشف بين قائل بالكشف الحقيقي و معناه ما سمعت و هو لأكثرهم، و الكشف الحكمي و هو أن يكشف الإجازة عن ترتّب آثار الملك على العقد من حينه دون حصول نفس الملك بل هو حاصل بالإجازة حينها، و هذا نقل حقيقي في حكم الكشف، و لذا يقال له: الكشف الحكمي.

و من مشايخنا من جعل كاشفيّة الإجازة على وجوه ثلاث قائلاً: «بأنّه قال بكلّ منها قائل أحدها: و هو المشهور الكشف الحقيقي مع الالتزام بكون الإجازة فيها شرطاً متأخّراً، و لذا اعترضهم جمال المحقّقين في حاشية الروضة(7) بأنّ الشرط لا يتأخّر.

و الثاني: الكشف الحقيقي و التزام كون الشرط تعقّب الإجازة لا نفس الإجازة، فراراً عن لزوم تأخّر الشرط عن المشروط. و التزم بعضهم(8) بجواز التصرّف قبل الإجازة لو علم تحقّقها فيما بعد.

الثالث: الكشف الحكمي، و هو إجراء أحكام الكشف بقدر الإمكان مع عدم تحقّق الملك في الواقع إلّا بعد الإجازة»(9).

و قد يجعل القائلون بالنقل أيضاً فريقين:

أحدهما: كون الإجازة ناقلة على أنّها جزء للسبب. و الآخر: كونها ناقلة على أنّها عقد مستقلّ .

و يظهر اختياره من الآبي صاحب كشف الرموز(10). و قد وافق فيه شيخه المحقّق و عبارته على ما حكاه في مفتاح الكرامة في أصل مسألة صحّة الفضولي و بطلانه هكذا

ص: 786


1- مجمع البرهان 159:8.
2- مجمع البرهان 159:8.
3- الإيضاح 28:3.
4- كشف اللثام 103:7.
5- الكفاية: 89.
6- المدارك 27:5.
7- حاشية الروضة: 358.
8- الجواهر 288:22.
9- المكاسب 408:3.
10- كشف الرموز 445:1-446.

«البحث في المسألة يبتني على اقتضاء النهي الفساد و عدمه، فمن قال بالأوّل يلزمه القول بالبطلان إلّا أن يقول: إنّ عقد البيع لا يلزم فيه لفظ مخصوص بل كلّ ما يدلّ على الانتقال، فلو لم يلتزم هذا القول تكون الإجازة بمثابة عقد ثانٍ . ثمّ نقل عن شيخه أنّ النهي في المعاملة لا يقتضي الفساد و أن ليس للبيع لفظ مخصوص و أنّ الشيخين يخالفان في المسألتين، و أنّه هو موافق لشيخه فيهما»(1) انتهى.

و ينبغي التعرّض لبيان ثمرات الأقوال قبل الخوض في تحقيق المقام،
اشارة

و يتمّ ذلك في طيّ مسائل:

المسألة الاُولى: في الثمرة على الكشف الحقيقي بين كون نفس الإجازة شرطاً و كون الشرط تعقّب العقد بها،

فقد يقال: إنّه قد تظهر الثمرة في جواز تصرّف كلّ منهما فيما انتقل إليه بإنشاء الفضولي إذا علم إجازة المالك فيما بعد، و الظاهر أنّ المراد به جواز التصرّف على القول بشرطيّة التعقّب لأنّه يتصرّف في ملكه المعلوم حصوله بالعقد المقرون بشرط تأثيره بخلافه على القول بشرطيّة نفس الإجازة.

و يشكل بأنّ حصول الملك على القول بالكشف الحقيقي مع العلم بلحوق الإجازة فيما بعد مشترك اللزوم، لأنّ الكلام بعد تصحيح تأخّر الشرط في الوجود الخارجي عن المشروط، و الإغماض عن استحالة تقدّم الموقوف على الموقوف عليه عقلاً.

و يمكن الذبّ بالبناء على أحد اُمور:

الأوّل: أن يقال: إنّ الشارع ينزّل الإجازة المتأخّرة في زمان حصولها منزلة الإجازة المقارنة للعقد، فما لم تكن حاصلة لم يكن التنزيل واقعاً فيحكم بعدم حصول الملك ظاهراً، و إن كان في الواقع حاصلاً.

الثاني: أن يقال إنّه ينزّل زمان العقد المفروض انقضاؤه و انعدامه منزلة الموجود حال الإجازة. و مرجعه إلى إعادة المعدوم تنزيلاً.

الثالث: أنّه جعل عدم حصول الشرط في حكم عدم حصول المشروط.

الرابع: أنّ من انتقل إليه المال قبل لحوق الإجازة محجور عليه من التصرّفات فيه

ص: 787


1- مفتاح الكرامة 600:12-601.

و إن كان مالكاً كحجر الراهن في العين المرهونة، لبقاء حقّ و علاقة فيه للمالك الأصيل و إنّما ينقطع علاقته بالكلّيّة بإجازاته، فهو ما دام باقياً مانع من التصرّف كمنع حقّ المرتهن المتعلّق بالرهن. و في الجميع ما لا يخفى و إن كان أوجهها الأخير.

المسألة الثانية: في الثمرة بين الكشف الحقيقي و الكشف الحكمي،

فقيل(1): إنّه يظهر الثمرة فيما لو باع مالك جارية جاريته من فضولي عن غيره، فهو قبل حصول الإجازة تصرّف فيها و وطئها و استولدها، فلا إشكال في أنّ تصرّفه و وطأه كان حراماً(2)في الظاهر لأصالة عدم حصول الإجازة فيما بعد. و حينئذٍ فلو فرض أنّ الغير المشتري له الجارية ردّ العقد فلا إشكال في انكشاف كون وطئه حلالاً في الواقع أيضاً لوقوعه في ملكه، و كون الجارية اُمّ ولد له لحدوث الولد في ملكه فليس له أن يبيعها ما دام الولد. و إن أجازه فعلى القول بالكشف الحكمي فيها فكذلك أيضاً، لحدوث الولد في ملكه كوقوع الوطء في ملكه فليس له بيعها لو عاد إليه الملك بإرث و نحوه. و يحتمل المنع قضيّة لجعل العقد ماضياً يترتّب عليه آثار الملك و إن لم يحصل الملك إلّا بعد الإجازة، و من آثاره حرمة تصرّف غير المالك الحكمي و حرمة وطئه فلا تكون الجارية حينئذٍ اُمّ ولد له، فله أن يبيعها لو عاد إليه الملك كما أنّ للمجيز أن يبيعها لعدم كونه اُمّ ولد له. و على القول بالكشف الحقيقي انكشف كون وطئه حراماً في الواقع لوقوعه في ملك الغير، و عليه عوض البضع من عشر القيمة على تقدير البكارة أو نصف عشر القيمة على تقدير الثيبوبة، و الولد رقّ للمشتري إن كان وطؤه لا عن اشتباه و إلّا فعليه، فله فكّه على المشهور أو دفع قيمته على قول الشيخ و هي ليست باُمّ ولد، فله بيعها إن عاد إليه الملك كما كان للمجيز بيعها.

و قد يعكس هذه الثمرة بفرض الفضوليّة في جانب البائع فوطئ المشتري الجارية قبل إجازة مالكها فأجاز، فإنّ الوطء على الكشف الحقيقي حرام ظاهراً لأصالة عدم الإجازة، حلال واقعاً لكشف الإجازة عن وقوعه في ملكه، و لو أولدها صارت اُمّ ولد على الكشف الحقيقي و الحكمي، لأنّ مقتضى جعل العقد الواقع ماضياً ترتّب حكم

ص: 788


1- المكاسب 410:3-411.
2- في الأصل: حلالاً، و الصواب ما أثبتناه.

وقوع الوطء في الملك. و يحتمل عدم تحقّق الاستيلاد على الحكمي، لعدم تحقّق حدوث الولد في الملك و إن حكم بملكيّته للمشتري بعد ذلك.

و لو نقل المالك اُمّ الولد عن ملكه قبل الإجازة فأجاز بطل النقل على الكشف الحقيقي لانكشاف وقوعه في ملك الغير، مع احتمال كون النقل بمنزلة الردّ و بقى صحيحاً على الكشف الحكمي، و على المجيز قيمته لأنّه مقتضى الجمع بين جعل العقد ماضياً من حين وقوعه و مقتضى صحّة النقل الواقع قبل حكم الشارع بالجعل كما في الفسخ بالخيار مع انتقال متعلّقه بنقل لازم.

المسألة الثالثة: في الثمرة بين الكشف و النقل،
اشارة

و قد ذكروا للثمرة بينهما اُموراً:

منها: النماء المتخلّل بين العقد و الإجازة،

فإنّه على الكشف يقع للمنتقل إليه العين من غير فرق فيه بين الكشف الحقيقي و الكشف الحكمي، و على النقل للمنتقل عنه.

و منها: ما حكي ذكره عن المحقّق الكركي في جامع المقاصد من ظهور الثمرة في فسخ الأصيل لو كان العقد بينه و بين الفضولي،

و نحوه فسخ المجيز لو وقع بين الفضوليّين فأجاز أحدهما قبل صاحبه فأراد الفسخ، فعلى الكشف يقع باطلاً لأنّه صادف غير محلّه، لأنّ من له الإجازة إمّا أن يجيز بعد فسخه أو لا؟ فعلى الأوّل يكشف عن وقوعه بعد لزوم العقد، و على الثاني ينكشف وقوعه بعد فساد العقد، و على التقديرين يقع بلا فائدة بخلافه على القول بالنقل و حينئذٍ فلا يبعد القول بصحّته قياساً له على فسخ الموجب إيجابه قبل لحوق القبول المجمع على قبوله الفسخ لجامع كون كلّ من القبول و الإجازة جزءاً للسبب، فإنّ العقد في الفرع بمنزلة الإيجاب في الأصل.

و استشكله شيخنا قدس سره بأنّه مع كونه قياساً مع الفارق فإنّ المانع من الفسخ إنّما هو اللزوم و هو من مقتضى آية «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» فمحلّه لا بدّ و أن يكون عقداً، و الإيجاب بانفراده ليس عقداً فلا يتناوله الآية فلا لزوم له فلا مانع من قبوله الفسخ، بخلاف ما نحن فيه فإنّه عقد و لا مانع من كونه مشمولاً للآية فتأمّل، فالوجه فيه باعتبار الاُصول عدم قبوله الفسخ لاستصحاب الحالة السابقة و هي الصحّة التهيّئيّة و لا يدري زوالها بالفسخ الطارئ فهو من الشكّ في قدح العارض، و يجري فيه الاستصحاب كعكسه.

و منها: جواز تصرّف الأصيل فيما انتقل عنه على القول بالنقل

لعموم «الناس

ص: 789

مسلّطون على أموالهم» حتّى أنّه جاز له فعل ما ينافي مقتضى العقد بحيث أدّى إلى انفساخه و إن قلنا بعدم قبوله الفسخ القولي، فلو باع جارية من فضولي جاز له وطؤها و إن استولده صارت اُمّ ولد له، و لو زوّجت الحرّة نفسها من فضولي جاز لها التزويج من الغير فلو حصلت الإجازة لم تؤثّر لبقائها بلا محلّ . و بالجملة فعله لما ينافي انتقال المال عنه كما في المثالين يفوّت محلّ الإجازة فينفسخ العقد بنفسه و إن قلنا بأنّ الفسخ القولي غير مؤثّر في الانفساخ. قال شيخنا: «عدم جواز التصرّف على هذا القول أيضاً و لعلّه لجريان عموم وجوب الوفاء بالعقد في حقّ الأصيل و إن لم يجب في الطرف الآخر، و هو الّذي يظهر من المحقّق الثاني في مسألة شراء الغاصب بعين المال المغصوب، حيث قال: لا يجوز للبائع و لا الغاصب التصرّف في العين لإمكان الإجازة سيّما على القول بالكشف(1) انتهى. و فيه: أنّ الإجازة على القول بالنقل لها مدخل في العقد شرطاً أو شطراً، فما لم يتحقّق الشرط أو الجزء لم يجب الوفاء على أحد من المتعاقدين، لأنّ المأمور بالوفاء به هو العقد المقيّد الّذي لا يوجد إلّا بعد قيده»(2) انتهى.

و أمّا على القول بالكشف فعن جماعة كالعلّامة(3) و العميدي(4) و المحقّق الثاني(5)و ظاهر غيرهم عدم جواز التصرّف له، بل قيل: ظاهرهم الإطباق عليه لأنّهم ذكروه كلمة واحدة بلا نقل خلاف فيه. و قد يعلّل بإمكان الإجازة و احتمال خروجه عن الملك و دخوله في ملك الغير. و اعترض عليه بأنّ مجرّد الاحتمال غير قاطع للأصل و استصحاب السلطنة السابقة، و يكفي من الأصل أصالة بقاء الجواز السابق، غاية ما هنالك أنّ هذا التصرّف الجائز ظاهراً بحكم الأصل لو كان منافياً لمقتضى العقد بأن يكون إتلافاً فعليه على تقدير حصول الإجازة دفع العوض مثلاً أو قيمة، و عليه ردّ الاُجرة لو كانت جارية و استخدمها، و دفع عوض البضع لو وطئها بعشر القيمة أو نصفه على تقدير البكارة أو الثيبوبة.

و علّله شيخنا بعموم آية «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» فإنّه تقتضي وجوب الوفاء بالعقد على الأصيل و لزومه من طرفه و عدم كونه مراعى بإجازة الطرف الآخر، بل مقتضاه وجوبه

ص: 790


1- جامع المقاصد 331:6.
2- المكاسب 413:3-414.
3- القواعد 19:2.
4- كنز الفوائد 385:1.
5- جامع المقاصد 331:6.

عليه و إن علم عدم إجازة المالك.

و به يندفع الأصل المذكور، لأنّ العموم دليل اجتهادي، نعم لا لزوم له من الطرف الآخر حتّى يجيز، فإنّ ردّ كان فسخاً له و إن أجاز كان إمضاءً له. و لزوم العقد من أحد الجانبين دون الجانب الآخر ليس بعزيز، كما في موارد الخيار.

لكن هذا كلّه على المشهور في معنى الكشف، من كون نفس الإجازة المتأخّرة شرطاً لكون العقد السابق حينئذٍ مؤثّراً تامّاً و هو الّذي يجب الوفاء به عليه بلا تقييد له بأمر غير حاصل أو مشكوك حصوله قبل الإجازة، كما هو الحال على القول بشرطيّة تعقّب العقد للإجازة لمكان الشكّ في تحقّقه باعتبار الشكّ في حصول الإجازة، فالاعتراض بالأصل المتقدّم على هذا التقدير في محلّه.

و السرّ في اللزوم من طرفه لأجل العموم أنّه التزم على نفسه مقتضى العقد من انتقال ملكه إلى الغير بإخراجه عن نفسه و إدخاله في ملك الغير، فيجب عليه القيام بما التزم على نفسه لأجل العموم، فلا يجوز له التصرّف فيما خرج عنه لحرمة التصرّف في ملك الغير من غير إذنه.

لا يقال: صدق العقد على إنشائه ممنوع لأنّه عبارة عن الربط المعنوي بين المالين و مناطه تحقّق المبادلة و المعاوضة و المفروض خلافه، لأنّا نقول: بتحقّق المبادلة و المعاوضة بإنشائي الأصيل و الفضولي، فإنّ قضيّة كاشفيّة الإجازة حصول الصحّة بنفس العقد و لا يعقل حصولها بدون الانتقال من الجانبين، فكما أنّ مال الأصيل خرج عن ملكه و دخل في ملك صاحبه فكذا مال صاحبه أيضاً، و هذا هو معنى المبادلة و المعاوضة، غاية الأمر أنّه من جانب الأصيل مستقرّ و من الطرف الآخر متزلزل.

فإن قلت: لو صحّ ما ذكرت لجاز للأصيل التصرّف فيما انتقل إليه لفرض دخوله في ملكه بنفس العقد و هو خلاف إجماعهم الظاهر على عدم جواز التصرّف في المال قبل إجازة مالكه.

قلت: لعلّ المنع هنا تعبّدي ثبت على خلاف القواعد، مع إمكان كون المانع بقاء حقّ للمالك في المال نظير حقّ الرهانة و لا ينقطع ذلك الحقّ إلّا بإجازته.

و بعبارة اُخرى أنّ المال و إن خرج عن مالكه و دخل في ملك الغير إلّا أنّ علقته

ص: 791

بالمرّة غير منقطعة، و هي الموجبة له الخيار بين الردّ و الإمضاء فهي المانعة من التصرّف إلى أن يحصل ما يسقطها و هو الإجازة.

و بذلك يندفع ما قيل من أنّ القيام بمقتضى العقد كما يوجب حرمة تصرّف الأصيل فيما انتقل عنه كذلك يوجب جواز تصرّفه فيما انتقل إليه لأنّه مقتضى مبادلة المالين فحرمة التصرّف في المالين ينافي مقتضى العقد و المبادلة، فإنّ ذلك لوجود المانع و هو ما ذكرناه لا لفقد المقتضي.

و هذا في دفع السؤال أولى و أسدّ ممّا قيل في دفعه من أنّ معنى وجوب الوفاء بالعقد على الأصيل هو وجوب القيام بما التزمه على نفسه و هو خروج عينه عن ملكه و انتقاله إلى مالك البدل، و أمّا انتقال البدل إليه فهو ليس ممّا التزمه على نفسه بل هو ما جعله لنفسه، فلا مقتضي في وجوب الوفاء بالعقد لجواز التصرّف فيه، بل يرجع فيه إلى الأصل و هو أصالة عدم الانتقال فإنّ ذلك خلاف الفرض و وارد على خلاف التحقيق.

أمّا الأوّل: فلأنّ الكلام على القول بكاشفيّة الإجازة و مقتضى الكاشفيّة على تقدير حصولها انتقال المالين عن مالكه إلى صاحبه من حين العقد، فنفي انتقال البدل إلى الأصيل بالأصل خلاف فرض الكاشفيّة.

و أمّا الثاني: فلأنّ ما انتقل إليه لو صلح لنفيه بالأصل لكان ما انتقل عنه أيضاً صالحاً لنفيه بالأصل، فنفي أحدهما بالأصل دون الآخر تحكّم.

لا يقال: انتقال البدل إليه معلّق على تقدير لم يعلم تحقّقه و هو حصول الإجازة، لأنّ هذه الجهة مشتركة بين الانتقالين و الشكّ في الانتقال لعدم العلم بحصول الإجازة متساوي النسبة إلى المالين فإجراء الأصل في أحدهما معاً دون الآخر تحكّم. و إجرائه فيهما معاً يقتضي جواز تصرّف الأصيل في ماله و حرمة التصرّف في بدله. و مع الغضّ عن ذلك فنفي انتقال البدل بالأصل يوجب فوات مفهوم المبادلة، و هو يوجب عدم صدق العقد بمعنى الربط المعنوي بين المالين المنوط بتحقّق المبادلة، و يلزم منه عدم شمول عموم وجوب الوفاء بالعقد لما نحن فيه حتّى في حقّ الأصيل بالنسبة إلى ما التزمه على نفسه.

و توهّم: أنّ المبادلة العرفيّة حاصلة و هي كافية في صدق العقد، يدفعه كون الربط المعنوي

ص: 792

منوطاً بالمبادلة الشرعيّة الموقوفة بإدخال كلّ عوض في ملك مالك العوض الآخر.

قال العلّامة في نكاح القواعد: «و لو تولّى الفضولي أحد طرفي العقد ثبت في حقّ المباشر تحريم المصاهرة، فإن كان زوجاً حرمت عليه الخامسة و الاُخت و الاُمّ و البنت إلّا إذا فسخت على إشكال في الاُمّ ، و في الطلاق نظر لترتّبه على عقد لازم فلا يبيح المصاهرة، و إن كانت زوجة لم يحلّ لها نكاح غيره إلّا إذا فسخ، و الطلاق هنا معتبر»(1).

أقول: لعلّ الوجه في ثبوت تحريم المصاهرة في حقّ المباشر و هو الأصيل إذا كان هو الزوج أنّ العقد و إن لم يعلم سببيّته و عدم سببيّته باعتبار دورانه بين تقديرين يكشف أحدهما عن كونه سبباً من حين وقوعه و هو الإجازة على الكشف و الآخر عن عدم كونه سبباً من حينه و هو الفسخ، إلّا أنّه نقل المصاهرة في الموارد الأربعة عن الحلّ و الجواز لتعلّق التحريم فيها بعنوان يكفي في تحقّقه كون العقد في عرضة الصحّة و هو الجمع بين نكاح الأربع لو كان المعقود عليها فضولاً رابعة الأربع و نكاح الخامسة، و الجمع بين الاُختين في النكاح، و الجمع بين العقد على البنت و العقد على الاُمّ ، و الجمع بين العقد على الاُمّ و العقد على البنت.

و وجه الحلّ على تقدير فسخها أنّه يكشف عن عدم وقوعه مؤثّراً، و معناه انكشاف بطلانه من حينه فصارت المعقود عليها كمن لم يعقد عليها، و ارتفع به عنوان الجمع بالنسبة إلى العقد على امرأة اُخرى لعدم كونها خامسة حينئذٍ حتّى لو كانت اُختاً للاُولى أو اُمّاً لها أو بنتاً لها. و وجه الإشكال في تأثير الفسخ بالنسبة إلى الاُمّ إذا كانت المعقود عليها هي البنت، لأنّ الاُمّ بعد العقد على البنت يضاف إليها مع حرمة الجمع حرمة العين و الفسخ إنّما يوجب زوال حرمة الجمع لارتفاع الموضوع و رفعه حرمة العين أيضاً محلّ إشكال، أو أنّ ثبوت هذه الحرمة أيضاً قبل الفسخ موقوف على صدق اُمّهات النساء على اُمّ المعقود عليها فضولاً، و هو محلّ شبهة، فإن كانت حرمة العين حاصلة باعتبار صدق اُمّهات النساء فالفسخ لا يرفعها، و إلّا كشف عن عدم حصولها رأساً.

و أمّا وجه النظر في الطلاق فمن أنّه واضح مترتّب على عقد لازم و هذا ما لم يلحق

ص: 793


1- القواعد 7:2.

الإجازة غير لازم من طرف المعقود عليها فلا يوجب إباحة المصاهرة، و من أنّه طلاق صدر من أهله في محلّه، لكون موقعه كاملاً و العقد من طرفه لازماً، فوجب أن يترتّب عليه مقتضاه، و هو إباحة نكاح الاُخت و البنت.

و ناقش فيه الكركي في جامعه «بأنّه لا نكاح من طرفه فكيف يقع الطلاق منه، و لأنّ الحال لا يخلو من أن تجيز المرأة أو تفسخ، فإن فسخت تبيّن بطلان النكاح و عدم تحريم الاُخت و البنت، و إن أجازت تبيّن صحّة النكاح و لزومه، فيكون الطلاق الواقع صحيحاً فيبيح نكاح البنت و الاُخت، فعلى كلّ من التقديرين يحلّان. ثمّ تنظّر فيه بأنّ الطلاق مع عدم الجزم بالزوجيّة غير مؤثّر، فالحقّ حلّ الجميع بفسخها لا بالطلاق»(1).

قال بعض مشايخنا: «و أمّا مثل النظر إلى المزوّجة فضولاً و إلى اُمّها مثلاً فهو باقٍ تحت الاُصول، لأنّ ذلك من لوازم علاقة الزوجيّة الغير الثابتة بل المنفيّة بالأصل»(2).

و يشكل بأنّ نفيه زوجيّته بالأصل أيضاً ممكن و إجراءه في طرفها دونه تحكّم، فينبغي أن يحلّ المصاهرة بلا حاجة إلى فسخها إلّا أن يذبّ بما نبّهنا عليه من نقل العقد عن الحلّ .

و منها: اشتراط بقاء قابليّة الملك في كلّ من المتبايعين من حين العقد إلى حصول الإجازة و عدمه على القولين،

فلو باع عينه من فضولي ثمّ مات فيما بينه و بين الإجازة فعلى الكشف صحّت الإجازة و كشفت عن صحّة العقد و بالموت ينتقل الثمن إلى الوارث لحصول الملك حال حصول الشرط و هو الحياة، و على النقل بطلت لأنّ الميّت لا يملك و لزمه بطلان العقد من رأسه. و لو باع عبده المسلم أو المصحف من فضولي حال إسلام من له الإجازة فارتدّ قبل الإجازة ثمّ أجاز فعلى الكشف لا يقدح ارتداده في صحّة العقد غاية الأمر أنّه يجيز على بيعهما، و على النقل يبطل لعدم جواز نقل المسلم و المصحف إلى الكافر.

و اعترض(3) عليه بعدم الفرق في عدم الصحّة بين القولين لظهور الأدلّة في اعتبار

ص: 794


1- جامع المقاصد 161:12.
2- المكاسب 417:3-418.
3- اعترض عليه صاحب الجواهر 291:22.

استمرار القابليّة إلى حين الإجازة على القول بالكشف ليكشف الإجازة عن حدوث الملك من حين العقد مستمرّاً إلى حين الإجازة.

و ردّ بأن لا وجه لاعتبار استمرار القابليّة و لا استمرار التملّك المكشوف عنه بالإجازة إلى حينها، كما لو وقعت بيوع متعدّدة على ماله فإنّهم(1) صرّحوا بأنّ إجازة الأوّل توجب صحّة الجميع مع عدم بقاء مالكيّة الأوّل مستمرّاً كما يشعر بعض أخبار المسألة المتقدّمة، حيث إنّ ظاهر بعضها و صريح الآخر عدم اعتبار حياة المتعاقدين حال الإجازة، مضافاً إلى فحوى خبر تزويج الصغيرين كما في صحيح(2) الحذّاء قال:

«سألت أبا جعفر عليه السلام عن غلام و جارية زوّجهما وليّان لهما، و هما غير مدركين ؟ فقال:

النكاح جائز، و أيّهما أدرك كان له الخيار، و إن ماتا قبل أن يدركا فلا ميراث بينهما و لا مهر إلّا أن يكون قد أدركا و رضيا، قلت: فإن أدرك أحدهما قبل الآخر، قال: يجوز ذلك عليه إن هو رضي، قلت: و إن كان الرجل الّذي أدرك قبل الجارية و رضي بالنكاح ثمّ مات قبل أن تدرك الجارية أ ترثه ؟ قال: نعم يعزل ميراثها منه حتّى تدرك فتحلف باللّٰه ما دعاها إلى أخذ الميراث إلّا رضاها بالتزويج ثمّ يدفع إليها الميراث و نصف المهر.

قلت: فإن ماتت الجارية و لم تكن أدركت أ يرثها الزوج المدرك ؟ قال: لأنّ لها الخيار إذا أدركت، قلت: فإن كان أبوها هو الّذي زوّجها قبل أن تدرك قال: يجوز عليها تزويج الأب و يجوز على الغلام، و المهر على الأب للجارية...»(3) الخ.

و المراد بالوليّين في صدره بقرينة ما في ذيله من له الولاية عرفاً كالعمّ و الأخ، أو في المال خاصّة كالحاكم و القيّم و الوصيّ و نحوه.

و منها: ما لو زالت قابليّة الملك و التملّك عن محلّ العقد

كما لو كان عبداً فمات أو خلاًّ فانقلب خمراً قبل الإجازة ثمّ أجاز، فعلى الكشف لا يقدح في الصحّة لحصول

ص: 795


1- كما في المسالك 158:3، و غنائم الأيّام: 543، و مفتاح الكرامة 611:12، و الجواهر 292:22.
2- سند الرواية على ما في التهذيب عن محمّد بن يعقوب عن عدّة من أصحابنا عن سهل بن زياد و محمّد بن يحيى عن أحمد و عليّ بن إبراهيم عن أبيه جميعاً عن ابن محبوب عن عليّ بن رئاب عن عبيدة الحذّاء. منه.
3- الوسائل 1/219:26، ب 11 ميراث الأزواج، التهذيب 1555/388:7.

الملك حال وجوده، و على النقل لغت الإجازة و بطل العقد، لأنّ الميّت لا يملك، و الخمر لا يتملّك و لا ينقل.

و منها: ما حصلت القابليّة للمحلّ قبل الإجازة بعد ما كان غير قابل حال العقد

فأجاز - كما لو كان خمراً فانقلب خلاًّ، أو كان كلب هراش فصار كلب صيد، أو كان اُمّ ولد فمات ولدها - فعلى الكشف كان العقد فاسداً و لم يصحّحه الإجازة، و على النقل صحّ بالإجازة لحصول الملك و النقل و الانتقال حال وجود الشرط.

و فيه: أنّ ظاهر أدلّة الشروط اعتبار حصولها حال العقد، مع أنّ ظاهرهم في باب الفضولي إطباقهم على وجود جميع شرائط الصحّة حال العقد مقارناً له عدا رضا المالك المختلف في اعتبار المقارنة فيه أيضاً و عدمه، فتجدّد القابليّة بعد العقد حال الإجازة لا يصلح ثمرة لبطلان العقد على القولين، و كذا سائر الشروط لو قارن العقد فقدها فتجدّد حصولها عند الإجازة.

و قيل(1) قد يظهر الثمرة في تعلّق الخيارات و حقّ الشفعة و احتساب مبدأ الخيارات، و معرفة مجلس الصرف و السلم و الايمان و النذور المتعلّقة بمال البائع أو المشتري.

و تظهر الثمرة أيضاً في العقود المترتّبة على الثمن أو المثمن و سيأتي بيانه إن شاء اللّٰه.

و إذا عرفت جميع ما ذكر فينبغي التعرّض لذكر أدلّة القولين،
فنقول: استدلّ الأكثر على كاشفيّة الإجازة بوجوه:
الأوّل: ما عن الفخر من «أنّه لو لم تكن الإجازة كاشفة لزم تأثير المعدوم في الموجود

لأنّ العقد حالها عدم»(2) و توضيحه: أنّ الملكيّة الّتي تحصل عند الإجازة أمر وجودي أثّر فيه العقد الّذي صار حال الإجازة معدوماً لأنّه على النقل جزء للسبب، و التالي باطل لامتناع تأثير المعدوم في الموجود، كما حقّق في الكلام، و عليه أكثر المتكلّمين، و بنوا عليه إثبات الصانع فقالوا: لو جاز تأثير المعدوم في الموجود لزم انسداد باب إثبات الصانع، إذ كلّما أردنا إثبات كونه من الاُمور الوجوديّة صانعاً كان للخصم المنكر لوجوده منع ذلك، استناداً إلى جواز تأثير المعدوم في الموجود، و لعلّ

ص: 796


1- شرح القواعد الورقة 62.
2- إيضاح الفوائد 419:1.

هنا أمراً عدميّاً هو المؤثّر في الوجود، و احتياج الممكن إلى المؤثّر لا يلازم كون المؤثّر أمراً وجوديّاً حتّى يلزم وجود الصانع الواجب وجوده عندكم.

و الجواب عنه تارةً : بالنقض بالقبول الّذي هو أيضاً جزء للسبب، و جزؤه الآخر الإيجاب الّذي هو حال القبول معدوم، بل بالجزء الآخر من القبول الّذي عنده يحصل الملكيّة و قد انعدم سائر أجزائه مع الإيجاب، لكون التلفّظ بالصيغة من الاُمور السيّالة فيوجد حرفاً فحرفاً.

و اُخرى: بالحلّ فإنّ معنى امتناع تأثير المعدوم في الموجود امتناع كون المعدوم علّة تامّة للوجود، و عليه مبنى إثبات الصانع لا امتناع كونه جزء من العلّة كيف و قد أطبق المحقّقون من الفقهاء و الاُصوليّين على كون عدم المانع كالشرط جزء من العلّة، و معنى جزئيّته أنّ له مدخليّة في وجود المعلول كالشرط و لا امتناع فيه، و العقد على النقل جزء للسب لا أنّه علّة تامّة. و قد يقال أيضاً بناءً على عدم كون العلل الشرعيّة كالعلل العقليّة بل هي معرّفات بجواز أن يجعل الشارع الأمر العدمي مناطاً للتأثير في الوجود، فتأمّل.

الثاني: ما عنه أيضاً من أنّه لو كانت الإجازة ناقلة لزم وقوع القبول بأيّ لفظ يكون،

و اللازم باطل لأنّه لا يقع إلّا بألفاظ مخصوصة فكذا الملزوم. و كأنّه ذكره قبالاً لمن يظهر منه جعل الإجازة بمنزلة القبول، فجوابه حينئذٍ أنّ هذا القول فاسد في نفسه، و الدليل لا يرد على من يجعلها شرطاً.

الثالث: ما عن جامع المقاصد و الروضة من «أنّ العقد سبب تامّ في الملك،

الثالث: ما عن جامع المقاصد و الروضة(1) من «أنّ العقد سبب تامّ في الملك،

لعموم قوله تعالى: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» (2) و تمامه في الفضولي إنّما يعلم بالإجازة، فإذا أجاز تبيّن كونه تامّاً يوجب ترتّب الملك عليه، و إلّا لزم أن لا يكون الوفاء بالعقد خاصّة بل به مع شيء آخر»(3).

و فيه: أنّه إن اُريد من العقد مجموع الإيجاب و القبول و من كونه سبباً تامّاً كونه علّة تامّة للملك على ما هو المعنى المصطلح عليه عند أهل المعقول، فانّما يسلّم كونه كذلك

ص: 797


1- الروضة 229:3.
2- المائدة: 1.
3- جامع المقاصد 74:4-75.

إذا اجتمع شروط التأثير و فقد موانعه، و بدون أحدهما كان سبباً تامّاً و هو المقتضي القابل لمقارنة فقد بعض شروط التأثير أو فقد بعض موانعه كما هو المعنى المصطلح عليه الاُصولي. و أمّا تبيّن كونه تامّاً بالإجازة فهو أوّل المسألة، لأنّ الإجازة تكشف عن لحوق الرضا الّذي هو من الشروط لا عن مقارنة الرضا فيصير تامّاً عند الإجازة لتأخّر شرط تأثيره، و معه كيف يعقل حصول الأثر قبله، فلا يلزم منه كون ما يجب الوفاء به هو العقد مع شيء آخر بل إنّما يكون الوفاء بالعقد الجامع لشروط التأثير الّذي تحقّق اجتماعه بلحوق الرضا المكشوف عنه بالإجازة خاصّة.

و أضعف من البيان المذكور للدليل تقريره «بأنّ العقد الواقع جامع لجميع الشروط، و كلّها حاصلة إلّا رضى المالك فإذا حصل بالإجازة عمل السبب عمله(1) فإنّ الاعتراف بكون الرضى شرطاً مع الاعتراف بعدم مقارنته العقد اعتراف بكون الإجازة الكاشفة عن تأخّر حصول الشرط عن العقد ناقلة لاستحالة تقدّم المشروط على الشرط.

و دعوى: أنّ الشروط الشرعيّة ليست كالشروط العقليّة بل هي بحسب ما يقتضيه جعل الشارع، فقد يجعل الشارع ما يشبه تقديم المسبّب على السبب كغسل الجمعة يوم الخميس و إعطاء الفطرة قبل وقته، فضلاً عن تقديم المشروط على شرطه كغسل الفجر بعد الفجر لصوم المستحاضة، و غسل العشاءين لصوم اليوم الماضي على القول به.

يدفعها: بأنّ استحالة تقدّم المشروط على الشرط إذا كانت عقليّة فلا يتفاوت فيها الحال بين الشروط العقليّة و الشروط الشرعيّة. و ما ذكر بالنسبة إلى الشروط يشبه بأن يقال:

إنّ التناقض الشرعي بين الشيئين لا يمنع من اجتماعهما، لأنّ النقيض الشرعي ليس كالنقيض العقلي. و هو كما ترى.

و أمّا الاستشهاد للجواز بالأمثلة المذكورة حتّى بالنسبة إلى المسبّب و السبب الشرعيين، ففيه المنع من تقديم المسبّب على السبب في المثالين الأوّلين، ثمّ المنع من تقديم المشروط على الشرط في المثالين الآخرين.

أمّا سند المنع في أوّل المثالين الأوّلين، فلأنّ غسل يوم الخميس لخائف طروء

ص: 798


1- قرّره الشهيد في الروضة 229:3.

العذر في يوم الجمعة مع غسل يوم الجمعة لغير الخائف تكليفان في حقّ مكلّفين، و كلّ منهما يقع في وقته لا أنّ الأوّل يقع قبل وقته، و إطلاق التقديم عليه لأنّ مرجعه لو لا خوف طروء العذر أن يقع يوم الجمعة، كما أنّ إطلاق يوم الجمعة عليه أيضاً بهذا الاعتبار. و في ثانيهما فلأنّ إعطاء الفطرة قبل وقته إن اُريد به إعطاؤها بعنوان الفطرة قبل توجّه الخطاب إليه فجوازه و إجزاؤه محلّ منع، و إن اُريد إعطاؤها المستحقّ قرضاً ليحتسب عليه في الوقت فهو ليس من تقديم المسبّب على الوقت الّذي هو السبب.

و أمّا سنده في المثالين الآخرين فلمنع كون الغسلين من قبيل الشرط المتأخّر عن المشروط، لعدم كون المشروط بهما نفس الصوم المنعقد قبلهما بل صحّته، و الصحّة في العبادة عبارة عن موافقة الأمر بمعنى موافقة المأتيّ به للمأمور به الكلّي، و هي حاصلة باعتبار أنّ المأمور به هو الإمساك المتعقّب لهذين الغسلين.

و دعوى: أنّ الشرط فيما نحن فيه أيضاً هو تعقّب العقد لرضى المالك أو لحوق الرضى به لا نفس الرضى، فالشرط مقارن للعقد و المشروط و هو انتقال ملك العوضين مترتّب عليه و متأخّر عنه، لأنّ العلّة التامّة هو العقد المتعقّب للإجازة و العقد الملحوق بالإجازة، و الصفة الّتي هو الأمر المنتزع مقارنة للعقد و إن كان نفس الإجازة متأخّرة عنه.

يدفعها: أنّ جعل الشرط الأمر المنتزع و إن كان ممكناً إلّا أنّه لمخالفته أدلّة شرطيّة الرضى يحتاج إلى دليل مفقود في المقام، فإنّ ظاهر الآية و الرواية ك «تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ » و «لا يحلّ مال امرئ إلّا بطيب نفسه» كون الشرط نفس الرضى و طيب نفس المالك، لا لحوقه بالعقد و لا تعقّب العقد له.

و توهّم: الفرق في ذلك بين العقد الّذي باشره المالك و من يقوم مقامه، و العقد الّذي باشره الفضولي، و شرطيّة نفس الرضى بمقتضى ظاهر الأدلّة إنّما هو في الأوّل دون الثاني.

يدفعه: أنّ هذا الفرق يحتاج إلى فارق شرعي، و البيان المذكور لكاشفيّة الإجازة لا يفي بذلك.

الرابع: أنّ الإجازة متعلّقة بالعقد فهو رضى بمضمونه،

و ليس إلّا نقل العوضين من حينه.

و فيه: أنّ كون الإجازة متعلّقة بالعقد و كونها عبارة عن الرضا بمضمونه مسلّم، و لكن كون مضمونه نقل العوضين من حينه غير مسلّم.

ص: 799

أمّا أوّلاً: فبالنقض بالقبول الّذي هو أيضاً رضى بمضمون الإيجاب، فوجب أن يكون مضمونه نقل العوضين من حينه لا من حين القبول بل بعد الفراغ منه، و لا نظنّ قائلاً بذلك.

و أمّا ثانياً: فبالحلّ بأنّ مضمون العقد و إن كان نقل العوضين المقصود إنشاؤه حين العقد، و لكنّه بمجرّده لا يستلزم الانتقال الّذي هو أثر العقد، بل يتوقّف استلزامه الانتقال على الرضا المفروض تأخّره عن زمن العقد المقصود به النقل المذكور، و قضيّة تأخّر الشرط تأخّر الانتقال الّذي هو عبارة عن تأخّر ترتّب الأثر، و معناه تأخّر الملك و حصوله حين الإجازة المفروض كونها رضى بمضمون العقد.

و أمّا ما يقال: من أنّ العقد سبب للملك فلا يتقدّم عليه، فممّا لم نتحقّق معناه، فإن اُريد به أنّ العقد مع الملك المسبّب منه من قبيل السبب و المسبّب اللذين يتّحدان ذاتاً و يتغايران بحسب العبارة - نظير الإتيان بالصلاة إلى الجهات الأربع عند اشتباه القبلة و تحصيل العلم بأداء المأمور به الواقعي - و قضيّة اتّحادهما ذاتاً عدم تقدّم السبب على المسبّب، ففيه منع واضح ضرورة تغايرها ذاتاً على معنى تغاير وجوديهما و عدم كونهما نظير ما ذكر، و لذا لا يصحّ الحمل بينهما فلا يقال: العقد ملك و لا الملك عقد، بخلاف ما ذكر فيصحّ الحمل فيه.

و إن اُريد أنّهما مع تغايرهما ذاتاً لا يتقدّم فيهما السبب على المسبّب، فهو أوضح منعاً، ضرورة أنّ قضيّة تغاير وجودي السبب و المسبّب مع ترتّب وجود المسبّب على وجود السبب تأخّر وجوده عن وجود السبب، غاية الأمر أنّه قد يتّصل وجوده من طرف الابتداء بوجود السبب من طرف الانتهاء، و قد يتّصل بوجود آخر شروط تأثيره كما فيما نحن فيه و لذا قد يقال: إنّ الشيء يستند إلى العلّة التامّة أو إلى الجزء الأخير منها.

الخامس: آية وجوب الوفاء بالعقد،

بتقريب أنّ الوفاء بالعقد و العمل بمقتضاه هو الالتزام بالنقل من حين العقد.

و فيه: أنّ الخطاب يتوجّه إلى المالكين و من يقوم مقامهما، فما لم يصدر الإجازة الكاشفة عن الرضا - الّذي هو من شروط تأثير العقد ممّن له الإجازة - لم يتوجّه إليه الخطاب بالوفاء، و إلّا لم يحتج إلى اعتبار إجازته. و المراد من الوفاء بالعقد حينئذٍ هو

ص: 800

الالتزام بالانتقال المترتّب لاحقاً من حين الإجازة على النقل المقصود من العقد بمعنى مجموع الإيجاب و القبول من حينه، على معنى كون النقل مقصود من حين العقد و إن كان الانتقال الّذي هو الأثر المقصود من العقد حاصلاً عند الإجازة.

السادس: الروايات المتقدّمة كصحيح محمّد بن قيس، و أخبار الاتّجار بمال اليتيم،

و خبر مسمع أبي سيّار، و صحيح الحلبي، و صحيح أبي عبيدة الحذّاء.

الأوّل لمكان قوله: «فناشده الّذي اشتراها، فقال له: خذ ابنه الّذي باعك الوليدة حتّى ينفذ البيع لك، فلمّا رآه أبوه قال له: أرسل ابني، قال: لا و اللّٰه، لا اُرسل ابنك حتّى ترسل ابني، فلمّا رأى ذلك سيّد الوليدة أجاز بيع ابنه» يدلّ على عود ولد الوليدة بالإجازة إلى المشتري لا إلى الرقّ لسيّدها، مع أنّه نماء ملكه بناءً على وقوع تصرّفه فيها و استيلاده محرّماً على وجه الزنى لعلمه بالغصبيّة، و عدم كون ابن السيّد مأذوناً في بيعها، و لا يستقيم ذلك إلّا على كاشفيّة الإجازة، لما تقدّم من ظهور الثمرة بينها و بين الناقليّة في النماء المتخلّل بين العقد و الإجازة.

و الثانية بصراحة دلالتها على كون الربح لليتيم، و هذا أيضاً لا يستقيم إلّا على الكشف، ضرورة أنّه على النقل يرجع الربح إلى الأصيل من المتعاقدين في العقود المترتّبة لا إلى اليتيم الّذي هو مالك المال المتّجر به.

و على هذا القياس خبر مسمع الدالّ على استحقاقه أربعة آلاف درهم ربح له حيث أمره عليه السلام بأخذه النصف و إعطائه النصف الآخر للودعي.

و كذلك صحيح الحلبي الدالّ بقوله: «فإن جهل فأخذه فباعه بأكثر من ثمنه، ردّه إلى صاحبه الأوّل ما زاد» على كون ما زاد على الثمن لمالك الثوب المشتري لا لمن اشتراه من بائعه الأوّل الّذي باعه ثانياً جهلاً ببقائه على ملك المشتري.

و صحيح الحذّاء لدلالته على استحقاق الزوجة المدركة بعد موت زوجه الميراث من مال الزوج لا ينطبق أيضاً إلّا على كاشفيّة الإجازة، لأنّ استحقاقها الميراث و كذلك نصف المهر فرع على حصول الزوجيّة الموجبة للاستحقاق قبل الإجازة بنفس العقد.

و أمّا القول بالنقل فلم نقف على مستند له سوى أمرين:
أحدهما: الأصل بالنسبة إلى انتقال المال و خروجه عن ملك مالكه الأصلي

و ترتّب

ص: 801

الآثار فإنّ كلّها اُمور حادثة و المتيقّن حدوثها عند الإجازة، و الأصل عدمه قبلها، و مرجعه إلى أصالة تأخّر الحادث.

و ثانيهما: الاعتبار العقلي

فإنّ الإجازة اِمّا شرط أو سبب، و أيّاً ما كان فلا يتأخّر عن الصحّة لاستحالة تقدّم المشروط أو المسبّب على الشرط أو السبب، و لأجل [هذا] مضافاً إلى ما تقدّم من ضعف ما عدا الروايات من أدلّة القول بالكشف قال شيخنا:

«بأنّ الأنسب و القواعد و العمومات هو النقل ثمّ بعده الكشف الحكمي، و أمّا الكشف الحقيقي مع كون نفس الإجازة من الشروط فإتمامه بالقواعد في غاية الإشكال»(1).

أقول: و التحقيق الموافق للقواعد عندي هو الكشف الحقيقي، لا على أنّ نفس الإجازة شرط، و لا على أنّ الشرط هو الوصف المنتزع المعبّر عنه بتعقّب العقد بالإجازة أو كونه ملحوقاً بالإجازة، بل على [أنّ شرط] الصحّة هو رضى العاقد على معنى قصده لوقوع الأثر في الخارج الممضى بإمضاء المالك و [أنّ ] مقتضى الجمع بين أدلّة شرطيّة الرضا و أدلّة صحّة عقد الوليّ و عقد الوكيل و عقد الفضولي مع الإجازة كون شرط الصحّة رضا العاقد، و هو القدر الجامع بين رضا المالك إذا كان هو المباشر للعقد و رضا وليّه و رضا المأذون من قبله و رضا الفضولي الممضى منه. و الإجازة المتعلّقة بالعقد معناها إمضاؤه بجميع ما تضمّنه من قصود العاقد من قصد التلفّظ، و قصد المعنى المادّي، و قصد المعنى الهيئي و هو الإنشاء، و قصد وقوع الأثر في الخارج المعبّر عنه بالرضا كما تقدّم في عقد المكره. فالشرط على تقدير لحوق الإجازة حاصل في علم اللّٰه سبحانه، و لازمه الصحّة من حينه، و وقوفه على الإجازة لأجل أنّ كونه ممضى من المالك لا يحرز إلّا بها، فهي عند حصولها مع كونها إمضاء كاشفة عن الصحّة و ترتّب الآثار من حين العقد لانكشاف جامعيّته لشروط الصحّة الّتي منها القصود المذكورة الممضاة من المالك، و لأجل ذا أجاب الشيخ في شرح القواعد عن الاستدلال المتقدّم، «بأنّها ليست شرطاً و لا سبباً بل علامة» و معناها الكاشفيّة كما عليه الأكثر.

و بما بيّنّاه تبيّن المعنى المراد من التراضي في آية «تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ » و هو رضا

ص: 802


1- المكاسب 408:3.

المتعاقدين بالمعنى الأعمّ الّذي من أفراده رضا غير المالك الّذي أمضاه المالك فإنّ إمضاءه هنا بمنزلة إذنه للوكيل، و لا يلزم به الخروج عن ظاهر قوله عليه السلام: «لا يحلّ مال امرئ إلّا بطيب نفسه» فإنّ طيب نفسه أعمّ من رضاه المقارن و من إمضائه لرضا غيره، و لذا لا يحلّ التصرّف قبل الإجازة حتّى على الكشف لعدم كون طيب نفسه محرزاً بدونها.

الأمر الخامس: في بقايا أحكام [الإجازة]
اشارة

فليعلم أوّلاً أنّ الإجازة ليست فوريّة بل هي على التراخي ما لم يردّ العقد كما نصّ عليه في مفتاح الكرامة(1) و نقله عن الدروس(2) و التنقيح(3) و الحدائق(4) و الرياض(5) و الظاهر أنّه وفاقي، و في صحيح محمّد ابن قيس دلالة عليه.

و ينبغي أن يقطع بأنّه لا تقع بمجرّد السكوت ما لم يكن معها قرينة كاشفة عن الرضا، كما نصّ عليه في الشرائع بقوله: «و لا يكفي سكوته مع العلم و لا مع حضور البيع»(6) و كذلك العلّامة في جملة من كتبه كالتذكرة(7) و التحرير(8) و نهاية الإحكام(9)و الإرشاد(10) بل في التذكرة دعوى الوفاق عليه قائلاً: «لو باع سلعة و صاحبها حاضر ساكت فحكمه حكم الغائب قاله علماؤنا و أكثر أهل العلم». و علّله الأردبيلي في مجمع البرهان على ما حكي «بأنّ السكوت مع الحضور لا يدلّ على الرضا»(11).

كما ينبغي القطع بوقوعها باللفظ الصريح الدلالة عليها عرفاً كلفظ «أمضيت» أو «أجزت» أو «أنفذت» أو «رضيت» أو نحو ذلك. بل ظاهر خبر عروة البارقي حيث قال صلى الله عليه و آله و سلم: «بارك اللّٰه صفقة يمينك» وقوعها باللفظ الكنائي أيضاً.

و الظاهر وفاقاً لبعض مشايخنا(12) كفاية الفعل الكاشف عرفاً عن الرضا بالعقد كالتصرّف في الثمن و منه إجازة البيع الواقع عليه، و كتمكين الزوجة من الدخول بها إذا زوّجت فضولاً كما صرّح به العلّامة(13) في القواعد.

ص: 803


1- مفتاح الكرامة 609:12.
2- الدروس 193:3.
3- التنقيح 27:2.
4- الحدائق: 263:23.
5- الرياض 218:8.
6- الشرائع 268:2.
7- التذكرة 16:10.
8- التحرير 277:2.
9- نهاية الاحكام 475:2.
10- الإرشاد 360:1.
11- مجمع البرهان 160:8.
12- المكاسب 422:3.
13- القواعد 8:2.

خلافاً لما حكي عن التنقيح(1) من اعتبار اللفظ الدالّ عليها فيها بقوله: «بل لا بدّ من لفظ يدلّ عليها». بعد قوله: «فلا يكفي في الإجازة السكوت مع العلم و لا مع حضور العقد» و تبعه في مفتاح الكرامة بقوله: «و الأصحّ أنّه لا بدّ من اللفظ كما هو صريح جماعة(2) و ظاهر آخرين(3) كما أنّ الردّ لا بدّ فيه من اللفظ»(4).

و عن التنقيح الاستدلال «بأنّها كالبيع في استقرار الملك»(5).

و اُجيب: بأنّه يشبه المصادرة، و الأولى أن يجاب بأنّه قياس و مع الفارق إذ اللفظ معتبر في صيغة البيع ليستقرّ به الملك، و الإجازة إمضاء لرضا العاقد الفضولي المتوقّف تأثيره على ذلك الإمضاء، سواء استقرّ معه الملك كما لو وقع العقد باللفظ، أو لا كما لو وقع بالمعاطاة.

و استدلّ أيضاً بما ورد في الروايات من أنّه: «إنّما يحلّل الكلام و يحرّم الكلام»(6)كما عن شرح القواعد(7).

و جوابه ما ذكرناه مشروحاً في باب المعاطاة، و ملخّصه: أنّ المراد به اشتراط لزوم الشرط في ضمن العقد بتسميته و التلفّظ به في متن العقد، و لا يكفي إضماره و لا التوافق عليه قبل العقد من غير تسمية في متنه.

و قد يستدلّ أيضاً بالمرويّ في التوقيع من قول مولانا الحجّة عجّل اللّٰه فرجه:

«لا يحلّ لأحد التصرّف في مال غيره بدون إذنه»(8) بتقريب: أنّ الإذن عبارة عن إعلام الرضا و لا يكون إلّا بلفظ يدلّ عليه.

و هذا أضعف من سابقه، أمّا أوّلاً: فلأنّه معارض بالنبويّ المتلقّى بالقبول من قوله عليه السلام: «لا يحلّ مال امرئ إلّا بطيب نفسه»(9) بتقريب: أنّ طيب النفس هو الرضا

ص: 804


1- التنقيح 27:2.
2- كما في الدروس 194:3، الروضة 234:3، التنقيح 27:2.
3- كما في الكفاية 449:1، جامع المقاصد 67:4، الإيضاح 420:1.
4- مفتاح الكرامة 629:12.
5- التنقيح 27:2.
6- الوسائل 4/50:18، ب 8 أحكام العقود، التهذيب 216:7.
7- شرح القواعد 13:2.
8- الوسائل 7/540:9، ب 3 الأنفال، الاحتجاج 299:2.
9- سنن الدارقطني 87/25:3، مسند أحمد بن حنبل 72:5.

النفساني مطلقاً.

و أمّا ثانياً: فلأنّه منقوض بإذن شاهد الحال المقطوع به من جهة شهادة الحال، و لا يكون إلّا الرضا النفساني المدلول عليه بشاهد الحال.

و أمّا ثالثاً: فلعدم انحصار إعلام الرضا في دلالة اللفظ عليه، بل أعمّ منه و من دلالة الفعل و غيره.

فالأظهر الأقوى ما هو أشهر القولين من كفاية مطلق ما يدلّ على الرضا النفساني بالعقد الواقع من الفضولي، لفظاً كان أو فعلاً أو غيرهما حتّى السكوت في موضع قرينة المقام الموجبة لكشفه عن الرضا، استظهاراً له من أكثر أخبار الباب، و أكثر كلمات الأصحاب:

أمّا الأوّل: فلأنّ صحيح محمّد بن قيس بسياقه يدلّ على أنّه لا يصدر من سيّد الوليدة سوى إرسال ولدها معها بعد طلب المشتري، و قد أطلق عليه الإجازة بقوله «أجاز بيع ابنه».

و خبر مسمع أبي سيّار ظاهر في عدم صدور شيء من المالك سوى أخذ نصف الأربعمائة ديناراً لنفسه و إعطائه النصف الآخر للودعي التائب الّذي [أمره] الإمام.

و روايات الاتّجار بمال اليتيم بإطلاقها تدلّ على كفاية أخذ الربح لليتيم.

و أقوى ما يدلّ على كفاية مطلق الرضا النفساني و إن دلّ عليه بالسكوت مع القرينة:

الروايات الصريحة بكون سكوت السيّد في نكاح العبد من دون إذنه بعد العلم إقراراً له الّتي منها صحيحة معاوية بن وهب قال: «جاء رجل إلى أبي عبد اللّه عليه السلام فقال: إنّي كنت مملوكاً لقوم، و إنّي تزوّجت امرأة حرّة بغير إذن مواليّ ، ثمّ أعتقوني بعد ذلك فأُجدّد نكاحي إيّاها حين اُعتقت ؟ فقال له: أ كانوا علموا أنّك تزوّجت امرأة و أنت مملوك لهم ؟ فقال: نعم و سكتوا عنّي و لم يغيروا عليّ ، قال: فقال: سكوتهم عنك بعد علمهم إقرار منهم، أثبت على نكاحك الأوّل»(1) فإنّ الإقرار اُريد به الإمضاء و الإجازة و قد أطلق

ص: 805


1- الوسائل 1/117:21، ب 26 نكاح العبيد و الإماء، التهذيب 719/204:8.

على سكوتهم، و ليس إلّا باعتبار كشفه بمعونة قرينة الحال عن الرضا النفساني، إذ لولاه لكان عليهم الردّ لفقد المانع.

و أمّا الثاني: فقد تقدّم في جملة أدلّة كاشفيّة الإجازة استدلال بعضهم بأنّ العقد جامع لجميع شروط التأثير سوى رضا المالك و إذا حصل بالإجازة عمل السبب عمله، مع عدم تعرّض أحد للجواب عنه بعدم كفاية مطلق الرضا بل أجابوا بنهج آخر تقدّم ذكره. و قد تقدّم عن الأردبيلي تعليل عدم كفاية السكوت في انعقاد الإجازة «بأنّه لا يدلّ على الرضا لكونه» أعمّ »(1) كما نسب ذلك أيضاً إلى جماعة(2).

و عن بعضهم(3) أنّه يكفي في إجازة البكر للعقد الواقع عليها فضولاً سكوتها، بتقريب: أن ليس المراد بذلك أنّه لا حاجة إلى إجازتها بل المراد سكوتها إجازة لكشفها بمعونة المقام عن رضاها، و لا ريب أنّه ليس لخصوصيّة في البكر بل لأنّ مناط صحّة العقد هو الرضا النفساني لا غير. و أيضاً فقد تقدّم كفاية الفعل كالتصرّف في الثمن و تمكين الزوجة عن دخول العاقد عليها فضولاً عليها في الإجازة، و من المعلوم أنّه [لا] لخصوصيّة في الفعل ثابتة بالشرع بل بكشفه عن الرضا فهو المناط.

و يؤيّد الجميع ما تقدّم في عقد المكره من صحّته بلحوق الرضا و لم يعتبروا فيه لفظاً، كما يؤيّده أيضاً أنّا لا نعقل فرقاً بين العقد المباشري و العقد الفضولي سوى مقارنة الأوّل لرضا المالك و مفارقة الثاني له، مع كون اختلافهم في صحّة الثاني راجعاً إلى اعتبار المقارنة و عدمه، فإذا ساعدنا أدلّة الصحّة على عدم اعتبار المقارنة بقي كفاية مطلق الرضا، فاعتبار اللفظ و غيره في الإجازة خارج عمّا هو حيثيّة البحث و ما هو المتنازع فيه مع عدم مساعدة دليل عليه، فيبقى أدلّة الصحّة من الأخبار المتقدّمة سليمة عمّا يوجب تخصيصها بما عدا الرضا، و أمّا بالنسبة إليه فالدليل على تخصيصها من جهة عموم التجارة عن تراض، و عدم حلّيّة مال امرئ إلّا بطيب نفسه. و الإجماع واضح.

نعم ربّما يشكل الحال فيما علم رضا المالك ببيع المالك(4) من حين العقد بشهادة حال أو إخبار مخبر صادق أو نحو ذلك، من جهة أنّ قضيّة كفاية الرضا النفساني في

ص: 806


1- مجمع البرهان 160:8.
2- كما في نهاية الإحكام 475:2-476، و الروضة 234:3، و الجواهر 293:22.
3- كما في المسالك 164:7، و الحدائق 263:23، و الرياض 82:2.
4- كذا في الأصل.

الإجازة كفاية الرضا المذكور عن الإجازة المتأخّرة، بل قد يقال: بأنّ ما يؤثّر بلحوقه يؤثّر بمقارنته بطريق أولى، و الظاهر أنّهم لا يلتزمون بذلك، بل ربّما يرد النقض بكراهة المالك حين العقد و بعده و لو آناً ما، فإنّ مجرّد الرضا النفساني إذا كان كافياً في الإجازة كانت الكراهة النفسانيّة أيضاً كافية في الردّ، و الظاهر أنّهم لا يلتزمون بذلك أيضاً.

و يمكن الذبّ عنه بأنّ المعتبر من الرضا [شرعاً] ما يكون إمضاء لرضا العاقد الفضولي و قصده لوقوع الأثر في الخارج، فلا بدّ من إنشائه بعد العقد ما يدلّ عليه من لفظ أو فعل أو غيرهما، و بالجملة الرضا الإنشائي المتعلّق بالعقد الشخصي الواقع في الخارج، فشرط الصحّة في الحقيقة هو رضا العاقد الممضى بإجازة المالك الّتي يكفي فيها رضاه بذلك الرضا و ما سبق في الصورة المذكورة ليس بذلك في شيء لأنّه رضي ببيع ماله أو بوقوع انتقال ماله في الخارج، لا أنّه إمضاء لرضا العاقد و قصده.

ثمّ إنّه يعتبر في صحّة الإجازة و تأثيرها أن لا يسبقها الردّ [لأنّ ] الردّ فسخ للعقد و مع حصوله ينفسخ فلا يبقى محلّ للإجازة لتكون إمضاء له، فلو وقعت بعد الردّ وقعت لغواً، و الظاهر أنّه إجماعيّ . و قد يستدلّ بأنّ الإجازة إنّما تجعل المجيز أحد طرفي العقد و إلّا لم يكن مكلّفاً بالوفاء بالعقد، لأنّ وجوب الوفاء إنّما هو في حقّ العاقدين أو من يقوم مقامهما. و قد تقرّر أنّ من شروط الصيغة أن لا يحصل بين طرفي العقد ما يسقطها عن صدق العقد الّذي هو في معنى المعاهدة و الاُولى أن يقال: بخروجها عن صدق العقد بمعنى الربط المعنوي، و يرجع إلى ما بيّنّاه.

و أمّا ما قد يتوهّم من أنّ صحيحة محمّد بن قيس تقتضي صحّة الإجازة عقيب الردّ، لأنّ أخذ سيّد الوليدة عملاً بحكم الإمام عليه السلام الوليدة و ابنها من المشتري ردّ لبيع ولده و قد أجازه بعد هذا الردّ.

فجوابه: منع كونه دلالة الأخذ على الردّ، لجواز كونه متردّداً بينه و بين الإجازة، و حكم الإمام بأخذهما لأنّ كونها عند المشتري بل تصرّفه فيها بل قبضه أيضاً لكونها قبل الإجازة كانت بغير حقّ ، و أخذ الولد لرعاية كونه رقّاً على تقدير لحوق الردّ بعد ذلك، فكان من حقّ السيّد أن يأخذهما حتّى يظهر الحال من حيث إنّه يجيز بيع الولد بعد ذلك أو يردّه فليتدبّر.

ص: 807

فروع:
الأوّل: إجازة البيع ليست إجازة لقبض الثمن في فضوليّة المبيع و لا لقبض المبيع في فضوليّة الثمن،

فيكون الثمن أو المثمن في ضمان الأصيل حتّى يوصلهما إلى المجيز، و لذا ضعّف العلّامة في المختلف كلام الشيخ(1) حيث حكى عنه «أنّه لو أجاز المالك بيع الغاصب لم يطالب المشتري بالثمن ثمّ ضعّفه بعدم استلزام إجازة العقد لإجازة القبض»(2) انتهى، إلّا إذا أجازهما صريحاً أيضاً أو فهم إجازتهما من إجازة البيع فمضت فيهما أيضاً، و ثمرتها سقوط ضمان الثمن أو المثمن من عهدة الأصيل، هذا فيما إذا كان الثمن شخصاً خارجيّاً.

و أمّا إذا [كان] كلّيّاً في الذمّة فردّ الشخص المطابق إلى الفضولي [قبل] الإجازة ثمّ أجاز البيع و القبض معاً، ففي إفادتها لخروج الكلّي عن ذمّة الأصيل و عدمه وجهان: من استصحاب الحالة السابقة و هو عدم خروجه بالردّ قبل الإجازة، و من أنّ مرجع إجازتهما إلى إمضاء معاملتين إحداهما المعاملة البيعيّة و اُخراهما المعاملة الوفائيّة، و إمضاء الوفاء معناه احتساب ما قبضه الفضولي عمّا في ذمّة الأصيل، و قضى ذلك خروجه عن الذمّة.

و ربّما يجعل إجازة العقد في الصرف و السلم إجازة لقبض الفضولي بعد التفرّق صوناً للإجازة عن اللغويّة، فلو قال: «أجزت العقد دون القبض» ففي بطلان العقد أو بطلان ردّ القبض وجهان.

الثاني: هل يعتبر في صحّة الإجازة مطابقتها للعقد الواقع

كما وقع إطلاقاً و تقييداً و غيرهما أو لا؟ ففي المسألة صور:

الاُولى: أن يقع العقد على صفقة فأجاز المالك بيع بعضها، و كذلك بيع دارين فأجاز بيع إحداهما، فالأقوى الصحّة كما إذا كانت الصفقة بين مالكين فأجاز أحدهما في سهمه، و ضرر المشتري في المقامين ينجبر بخياره.

الثانية: أن يقع على المال بشرط على المالك كشرط الأجل في الثمن و شرط خياطة (2)

ص: 808


1- النهاية 180:2.
2- المختلف 57:5.

ثوب فأجازه المالك مجرّداً عن الشرط، فالوجه فيه عدم الصحّة، لأنّ الواقع و هو المقيّد غير مجاز و المجاز و هو المطلق غير واقع. و لا يقاس ذلك على الصفقة، لانحلال العقد بالنسبة إلى الأجزاء إلى عقدين، و عدم انحلاله بالنسبة إلى المشروط و شرطه.

الثالثة: عكس الثانية و هو أن يقع العقد مطلقاً فأجازه المالك مشروطاً بشرط على الأصيل، ففي صحّة الإجازة مع الشرط إذا رضي به الأصيل - فيكون نظير الشرط الواقع في ضمن القبول إذا رضي به الموجب - أو بدون الشرط لعدم وجوب الوفاء بالشرط الغير المأخوذ في متن العقد حتّى أنّ المأخوذ في ضمن القبول مع رضا الموجب لصحّة الوفاء به إلّا إذا تقدّم القبول على الإيجاب ليرد الإيجاب أيضاً عليه، أو بطلانها أيضاً مع الشرط لأنّه إذا بطل الشرط يبقى المشروط بدونه غير مجاز، وجوه، أوجهها الأخير وفاقاً لبعض المشايخ(1).

الثالث: قال الشيخ في شرحه للقواعد: «لو بلغه عقد متعلّق بالعين و آخر بالمنفعة مقترنان

كبيع و إجارة فأجازهما دفعة صحّا و يتخيّر صاحب العين مع عدم العلم، و مع الترتيب و سبق الإجارة كذلك و بالعكس كذلك، مع احتمال بطلانها هذا على الكشف، و على النقل يراعى الترتيب و عدمه في الإجازة دون العقد»(2) انتهى. و وجه مراعاة الترتيب في الإجازة على النقل إن أجازهما دفعة أفادت الإجازة [انتقال العين] إلى المشتري و انتقال المنفعة إلى المستأجر حين الإجازة فصحّا معاً، و إن أجاز الإجارة أوّلاً ثمّ البيع ثانياً كانت إجازة البيع كنقل العين مسلوبة المنفعة فصحّا أيضاً مع تخيّر [صاحب العين] مع عدم علمه، و لو انعكس بطلت إجازة الإجارة لبقائها بلا محلّ ، لأنّها تكون [من باب نقل المنفعة من دون ملك العين] بعد بيع العين الّتي يتبعها المنفعة فوقع عقد الإجارة على غير محلّها [و كذلك] في الصورة الثالثة على الكشف فلأنّه إذا سبق العقد على العين على عقد المنفعة و أجازهما المالك كشفت عن انتقال العين مع منفعتها إلى المشتري قبل عقد الإجارة [فتقع عقد الإجارة] على غير محلّها، و قضيّة ذلك تعيّن بطلانه لا احتماله.

ص: 809


1- المكاسب 430:3.
2- شرح القواعد 100:2.
الأمر السادس: فيما يتعلّق بالمجيز،
اشارة

و لا ينبغي التأمّل في أنّه يشترط في المجيز أن يكون حال الإجازة جائز التصرّف بالبلوغ و العقل و الرشد لينفذ إجازته حتّى لو أجاز بيع ماله فضولاً بأقلّ من ثمن المثل في مرض موته بني نفوذه في الجميع أو في قدر الثلث على القولين في منجّزات المريض، إلّا أنّ الكلام هنا في مسألة اُخرى و هي أنّه هل يشترط في صحّة عقد الفضولي أن يكون له مجيز في الحال و هو من يملك الإجازة بمالكيّة أو ولاية أو لا؟ قولان، استقرب أوّلهما العلّامة في القواعد(1) و نسبه في التذكرة(2) إلى أبي حنيفة(3) و إلى الشافعيّة(4) أيضاً تفريعاً على القديم، و نسب ثانيهما إلى جماعة كالشهيد(5) و ابن المتوّج البحراني(6) و الفاضل المقداد(7) و المحقّق الثاني في جامع المقاصد(8).

و فرّع العلّامة على ما اشترط أمّا لو بيع مال الطفل فبلغ و أجاز قال: «لم ينفذ على إشكال» و مراده أنّ وجوده حين العقد مع عدم قابليّته للإجازة لم ينفع، إذ ليس المراد بوجود المجيز في الحال وجود ذاته بل وجوده بوصف القابليّة، فلو تجدّد له القابليّة بعده ثمّ أجاز لم ينفع.

و اُورد عليه بأنّ الوليّ الجامع لشرائط الولاية قابل للإجازة كما أنّه قابل للبيع، فالمجيز في الحال موجود سواء كان الوليّ إجباريّاً أو حسبيّاً مجتهداً كان أو عدول المؤمنين أو الفسّاق إن لم يكن عدول.

و ردّ تارةً : بأنّه يعتبر في المجيز استمرار قابليّته من حين العقد إلى حين الإجازة، و لا يستمرّ قابليّة الوليّ إلى حين الإجازة لزوال ولايته بعد بلوغ المولّى عليه.

و فيه منع.

و اُخرى: بأنّه لا يوجد له وليّ أصلاً حتّى الحسبي أو لا يمكن الوصول إليه أو لا يطّلع على ما وقع من البيع ليجيزه فلا يمكن إجازته، و هو في معنى عدم قابليّته للإجازة.

ص: 810


1- القواعد 19:2.
2- التذكرة 15:10.
3- المجموع 291:9، بدائع الصنائع 149:5.
4- المجموع 260:9.
5- الدروس 193:3.
6- نقله عنه في مفتاح الكرامة 621:12.
7- التنقيح 26:2.
8- جامع المقاصد 73:4.

و عن القاضي(1) الجواب بأنّ الفرض غير متحقّق على مذهبكم من وجوب وجود إمام في كلّ عصر و هو عندكم موجود و هو وليّ عامّ و له الولاية العامّة، فالمجيز في الحال موجود على مذهبكم.

و يردّ بكونه لكونه غائباً لا يمكن الاطّلاع على إجازته لو أراد أن يجيز، فوجوده بهذا الاعتبار بمثابة عدم وجود المجيز في الحال.

و دفع بأنّ الاطّلاع على إجازته إنّما لا يمكن بطريق حسّي و لكنّه بطريق الحدس من جهة البرهان ممكن، فإنّ الوليّ يجب عليه تنفيذ البيع إذا وقع على وفق مصلحة الطفل، و الإمام لوجوب عصمته لا يخلّ بالواجب، فبملاحظة هاتين المقدّمتين أنّ الإمام أجاز البيع المفروض.

و فيه أوّلاً: منع وجوب إجازة البيع على المصلحة عليه عليه السلام بل على مطلق الوليّ أيضاً.

و ثانياً: أنّه لو تمّ لقضى برفع الحاجة إلى الإجازة من الطفل بعد بلوغه.

و ثالثاً: أنّ الالتزام بإجازته للبيع المفروض بعد وقوعه ليس بأولى عن الالتزام بإذنه في إيقاع البيع عند وقوعه، فيخرج عن موضوع الفضولي.

و رابعاً: أنّ غرض القائل باعتبار وجود المجيز بمعنى من يصلح للإجازة و ما ذكر يقتضي صدور الإجازة منه فعلاً.

و لعلّه لبعض ما ذكر استشكل العلّامة في الفرع المذكور.

كما أنّه لأجل ما ذكر أيضاً عدل فخر المحقّقين(2) أيضاً على ما حكي عنه إلى التمثيل ببيع مال الطفل على خلاف المصلحة فبلغ و أجاز لعدم إمكان الإجازة حينئذٍ حتّى للإمام لاشتراط المصلحة في تصرّفات الوليّ .

و يشكل بأنّ الفساد حينئذٍ من جهة انتفاء شرط المصلحة لا من جهة عدم وجود المجيز في الحال، و إن كان قد يقال في تصحيحه: برجوع الكلام حينئذٍ إلى اشتراط إمكان فعليّة الإجازة من المجيز لا وجود ذات من شأنه الإجازة فإنّه فرض غير واقع في الأموال(3).

ص: 811


1- نقله عنه في المكاسب 432:3-433.
2- الإيضاح 419:1.
3- المكاسب 433:3-434.

و كيف كان فالأقوى ما عليه الجماعة و لعلّه الأكثر من عدم اشتراط وجود المجيز في الحال في نحو المثال، بل العقد بدونه يصحّ إذا لحقه إجازة المالك و هو الطفل بعد بلوغه.

لنا على ذلك وجود المقتضي، و فقد المانع.

أمّا الأوّل: فلشمول العمومات له، مضافاً إلى ما ورد في نكاح الصغيرين، و قد تقدّم.

و أمّا الثاني: فلأنّه لا مانع من الصحّة إلّا ما استدلّ به للقول بالاشتراط، و هو لعدم تماميّته لا يصلح للمنع.

فعن فخر المحقّقين(1) أنّه استدلّ له بوجهين:

أحدهما: أنّ صحّة العقد و الحال هذه ممتنعة، فإذا امتنع في زمان امتنع دائماً. و قد يقرّر بتحليله إلى مقدّمات:

الاُولى: أنّ المعتبر في صحّة عقد الفضولي كونه في أقرب مراتب استعداده و تهيّئه للتأثير.

الثانية: أنّ انتفاء الشرط في زمان يستلزم امتناع الصحّة في ذلك الزمان.

الثالثة: أنّ امتناع الصحّة في زمان يستلزم امتناعها دائماً.

و جوابه: منع المقدّمة الاُولى، فتارةً بأنّه لا يتمّ على القول بالكشف للزومه التأثير الفعلي لا الاستعدادي حتّى ينظر في كونه في أقرب مراتبه أو أبعدها، و لا على القول بالنقل لو وقع العقد قبل بلوغ الطفل بيسير و زمان قليل فبلغه فأجاز. و اُخرى بأنّ الشرط المذكور ممّا لم تتحقّق معناه، إذ لا نعقل لكونه في أقرب الاستعداد للتأثير معنى سوى احتوائه لجميع شروط التأثير سوى رضا المالك المفروض لحوقه متأخّراً طال زمان لحوقه أم قصر، و كون وجود المجيز في الحال من جملة الشروط أوّل المسألة.

فالدليل باعتبار هذه المقدّمة يرجع إلى مصادرة. و بما ذكر ظهر منع المقدّمتين لكون كلّ منهما متفرّعة على سابقتها.

و ثانيهما: لزوم الضرر على المشتري لامتناع تصرّفه في العين، لإمكان عدم الإجازة. و قد يقرّر ذلك بأنّه ممنوع من التصرّفات ما دامت الإجازة غير حاصلة، و هو

ص: 812


1- الإيضاح 419:1.

ضرر عليه خصوصاً مع طول زمان البلوغ و الإجازة.

و جوابه النقض بما له مجيز في الحال سيّما مع طول زمان الإجازة أوّلاً، و أنّه لا يتمّ مع علم المشتري لأنّه أدخل الضرر على نفسه ثانياً، و على تقدير جهله أنّهم لم يلتفتوا إلى هذا الضرر في باب الفضولي و إلّا كان مطّرداً في جميع موارده ما لم يحصل الإجازة، مع إمكان انجباره بالخيار.

ثمّ إنّ مرجع عدم اشتراط وجود المجيز في الحال لتصحيح بيع مال الطفل بإجازته بعد البلوغ إلى أنّه لا يشترط في صحّة بيع الفضولي كون المجيز جائز التصرّف حين العقد، لكن ينبغي أن يعلم أنّ عدم جواز التصرّف في المال قد يكون لفقد المقتضي لجواز التصرّف ككونه مالكاً أو مأذوناً من المالك، و قد يكون لفقد شرط من شروط اقتضاء المقتضي كالبلوغ و العقل و الرشد، و قد يكون لوجود مانع من موانعه كحقّ الغير المتعلّق بالمال كما في الرهن أو نصاب الزكاة.

و لا ينبغي التأمّل في عدم اشتراط جواز التصرّف في المجيز حال العقد لو كان مستند عدم جوازه وجود المانع، فلو باع الراهن الرهن بدون إذن المرتهن ثمّ فكّ الرهن فأجاز بيعه صحّت الإجازة و نفذ البيع، بل الظاهر عدم افتقاره إلى الإجازة لتحقّق شرائط الصحّة حال العقد من المالكيّة و الرضا النفساني و طيب النفس، و إنّما لم يجز له التصرّف لوجود مانع و هو تعلّق حقّ المرتهن، و إذا ارتفع المانع نفذ البيع لكونه نفوذه مراعى بارتفاعه.

و كذا لا ينبغي التأمّل في عدم اشتراطه لو كان مستند عدم جواز التصرّف انتفاء شرط من شروط اقتضاء المقتضي للجواز، فلو باع مال الطفل أو المجنون أو السفيه فضولاً ثمّ بلغ الطفل أو أفاق المجنون أو كمل السفيه فأجاز صحّ و نفذ، للعمومات كما عرفت.

و أمّا لو كان مستند عدم جواز التصرّف فقد المقتضي أعني انتفاء الملك، على معنى عدم كون المجيز حين العقد مالكاً فتجدّد له الملك بانتقاله عن مالكه الأوّل إليه فهو محلّ كلام عندهم. و هو يتضمّن صوراً كثيرة لأنّه قد يبيع غير المالك مال غيره فضولاً لنفسه، و قد يبيعه لغيره، و على التقديرين إمّا يملكه البائع، أو يملكه غيره، و على التقادير إمّا أن يتجدّد ذلك الملك بسبب اختياري كما لو اشتراه بعد العقد، أو بسبب غير اختياري

ص: 813

كما إذا انتقل إليه بالإرث، و على التقادير فإمّا أن يجيز العقد الأوّل بعد تجدّد الملك له، أو لا يجيزه.

و نحن نتكلّم فيما لو باع مال غيره لنفسه ثمّ اشتراه فأجازه، ففي نفوذ البيع هنا و صحّة العقد الأوّل خلاف، فقيل بالصحّة، و هو ظاهر المحقّق في المحكيّ عن المعتبر في باب الزكاة «فيما إذا باع المالك النصاب قبل إخراج حصّة الفقراء أو رهنه، فقال:

صحّ البيع أو الرهن فيما عدا الحصّة. و لو اغترم حصّة الفقراء، قال الشيخ(1) رحمه الله: صحّ البيع و الرهن، و فيه إشكال لأنّ العين مملوكة، و إذا أدّى العوض ملكها ملكاً مستأنفاً فافتقر بيعها إلى إجازة مستأنفة، كما لو باع مال غيره ثمّ اشتراه»(2) انتهى. فإنّ ظاهر هذا الكلام بل صريحه هو صحّة البيع مع الإجازة. و هو خيرة الشهيد في الدروس(3) على ما حكي، و نسب إلى ظاهر المحكيّ عن الصيمري(4) و اختاره شيخنا(5) قدس سره.

و قيل بالبطلان، و هو ظاهر العلّامة في القواعد(6) و نسب إلى المحقّق الثاني في تعليق الإرشاد(7) و نسب شيخنا(8) الميل إليه إلى بعض معاصريه(9) تبعاً لبعض معاصريه(10) و ذهب إليه شيخنا الآخر.

و يظهر ممّا حكاه المحقّق عن الشيخ صحّته و لو مع عدم الإجازة، و لذا استشكل فيما قاله بما تقدّم. و قد ينسب القول بالصحّة مطلقاً أيضاً إلى فخر المحقّقين.

ففي المسألة أقوال ثلاث، و إن شئت قلت: إنّ في محلّ الكلام نزاعين:
اشارة

أحدهما: صحّة البيع مع الإجازة و عدمها، و الآخر صحّته مع عدم الإجازة و عدمها فهاهنا مسألتان:

المسألة الاُولى: في الصحّة و عدمها مع الإجازة.

و استدلّ على الصحّة بأنّ العقد الّذي أوقعه البائع لنفسه عقد صدر من أهله في المحلّ القابل للعقد عليه فيشمله العمومات.

ص: 814


1- المبسوط 208:1.
2- المعتبر 563:2.
3- الدروس 193:3.
4- حكاه المحقّق التستري في مقابس الأنوار: 134.
5- المكاسب 436:3.
6- القواعد 19:2.
7- حاشية الإرشاد: 219.
8- المكاسب 436:3.
9- الجواهر 298:22.
10- مقابس الأنوار: 134.

و هذا على القول بالنقل في الإجازة ممّا لا ينبغي الاسترابة فيه ظاهراً، لأنّ معنى النقل في الإجازة - على ما شرحناه عند البحث عن كونها كاشفة أو ناقلة - هو أنّ رضا العاقد الفضولي بخروج العين عن ملك مالكها و دخولها في ملك المشتري بإزاء ملك مال المشتري المجعول عوضاً لا يؤثّر في ذلك فوجوده بمثابة عدمه، بل المؤثّر فيه رضا المجيز المالك للعين حين الإجازة الكاشفة عنه اللاحقة بالعقد، و حينئذٍ نقول: إنّ العقد الواقع على العين كان في عرضة التأثير على تقدير لحوق رضا المالك لها المكشوف عنه بالإجازة اللاحقة و المفروض لحوقه بإجازة العاقد بعد تملّكه لها. نعم يبقى الكلام في أنّ العقد الثاني المتخلّل بينه و بين الإجازة هل أخرجه عن كونه في عرضة التأثير أم لا؟ و هذا ممّا لا دليل عليه فالأصل بقاؤه على ما كان عليه من كونه في عرضة التأثير.

و دعوى: أنّ تخلّل ذلك العقد فسخ للعقد الأوّل، و معه لا معنى لبقائه في عرضة التأثير.

يدفعها: أنّه إن اُريد بالفسخ هنا أنّ الانفساخ القهري المترتّب على تخلّل العقد الثاني، فهو لا يسلّم إلّا بدليل و لا دليل عليه و الأصل عدمه.

و إن اُريد به الفسخ الاختياري القصدي من المالك. ففيه: أنّه لم يقصد ببيعه فسخ العقد الواقع على عينه فضولاً، خصوصاً إذا لم يطّلع على وقوع ذلك العقد.

و إن اُريد به الفسخ الاختياري من العاقد ففيه: أوّلاً: أنّ الفسخ الموجب لبطلان العقد في الفضولي ليس من وظيفة العاقد بل لو فسخ لم يؤثّر، بل من وظيفة المالك.

و ثانياً: أنّه أيضاً لم يقصد باشترائه فسخ عقده السابق كيف و هو ينافي غرضه في الاشتراء من التوصّل به إلى إجازته لعقده الواقع فضولاً المتوقّفة على كونه مالكاً للعين.

نعم يمكن المناقشة فيه بأنّ مقتضى أدلّة الفضولي صحّته على تقدير لحوق الإجازة الصحيحة به، و الإجازة الصادرة من العاقد بعد اشترائه للعين ليست بصحيحة على كلّ حال، لأنّه يعتبر في صحّة الإجازة المؤثّرة في صحّة العقد مطابقته لمقتضى العقد باعتبار الظهور النوعي العرفي في الصيغة الواقعة على العين، و هو دخول كلّ من العوضين في ملك مالك العوض الاُخر قصد ذلك حين العقد أو لم يقصد قصد خلافه أو لا، و المفروض أنّ العين حال العقد كانت ملكاً لغير العاقد و هو المالك قبل العقد،

ص: 815

فالصيغة الواقعة عليها قد اقتضت بظهورها النوعي دخول الثمن في ملك مالك العين كما اقتضت دخول العين في ملك مالك الثمن، و هذا هو مقتضى العقد، و حينئذٍ فالإجازة الصادرة من العاقد بعد اشترائه العين إن أثّرت ذلك الأثر كان معناه بقاء العين في ملك مالكه الأوّل، و معنى ذلك عدم دخولها في ملك العاقد، و معنى ذلك بطلان العقد الثاني و لزم منه بطلان إجازته لأنّه إجازة من غير المالك حال العقد و حال الإجازة معاً، و إن أثّرت خلاف ذلك الأثر و هو دخول الثمن في ملك العاقد لا في ملك مالك العين حال العقد الأوّل لزم عدم مطابقته لمقتضى العقد الأوّل فتبطل أيضاً.

فإن قلت: لزوم مطابقة الإجازة لمقتضى العقد المجاز أوّل الكلام، إذ لا دليل عليه.

قلت: يكفي في دليل ذلك ظهور أدلّة عقد الفضولي مع الإجازة، فإنّ المنساق منها في متفاهم العرف و لو باعتبار الانصراف هو مطابقة الإجازة لمقتضى العقد فليس فيها مع هذا الانصراف إطلاق يتناول نحو المقام، هذا كلّه على القول بالنقل.

و أمّا على القول بالكشف فيرد على الدليل أنّ العقد الأوّل إمّا أن أثّر أثره أولا، و الثاني هو معنى البطلان الّذي يقول به القائل بعدم الصحّة، و على الأوّل فإمّا أن يكون أثره دخول كلّ من العوضين في ملك مالك العوض الآخر، أو يكون أثره دخول أحدهما في ملك مالك العوض الآخر و دخول الآخر في ملك غير مالك العوض الأوّل، و لا سبيل إلى الثاني لما عرفت من اقتضاء الصيغة بظهورها النوعي، و لا إلى الأوّل لتوقّف تأثيره على تعقّبه للإجازة الصحيحة و لم يتعقّب، لأنّ الإجازة الصحيحة في هذا العقد إجازة المالك قبل العقد و لم تحصل، و الإجازة الحاصلة من العاقد لعدم مطابقتها لمقتضى العقد غير صحيحة، لأنّ العاقد إنّما يجيزه على أن يكون الثمن له و هو خلاف مقتضى العقد، فإنّ الإجازة إمضاء للعقد و رجع الكلام إلى أنّ إجازة العاقد ليست إمضاءً لعقده. فتعيّن أنّه لم يؤثّر أثره و هو عدم الصحّة.

لا يقال: إنّ العقد الثاني من طرف مالك المبيع مع كونه بيعاً لماله إجازة للعقد الواقع عليه فضولاً، و هذه إجازة صحيحة ضمنيّة تعقّبها العقد فصحّ .

لأنّا نجيب أوّلاً: بمنع كونه إجازة ضمنيّة حيث إنّ المالك للعين لم يقصد ببيعه من العاقد إجازة عقده.

ص: 816

و ثانياً: بأنّه لو سلّمنا الإجازة الضمنيّة من باب المماشاة فتعقّب العقد لها يقتضي خروج المبيع عن ملك مالكه الأوّل و دخوله في ملك المشتري كدخول ثمن المشتري في ملك المالك الأوّل، و قضيّة ذلك كون العقد الثاني فضوليّاً لأنّ المالك الأوّل باع ماله من دون إذنه فيحتاج نفوذه إلى إجازة المشتري و هي غير حاصلة، و إجازة العاقد مع عدم كونه إجازة له غير كافية فيبطل، فرجع الكلام إلى أنّ العقد الأوّل بالمعنى الّذي قصد منه و هو صيرورة الثمن ملكاً للعاقد بإزاء ملك المبيع للمشتري لم يصحّ .

و مرجع الجواب على القولين في الإجازة إلى منع صغرى الدليل، و هو كون العقد المفروض عقداً صدر من أهله في المحلّ القابل للعقد عليه، لأنّ العقد الصادر من أهله في محلّه في باب الفضولي لا بدّ و أن يكون منطبقاً على ضوابط عقد الفضولي، و المفروض عدم انطباقه عليها.

و اُجيب أيضاً بوجوه:

أوّلها: أنّ الإجازة حيث صحّت كاشفة على الأصحّ مطلقاً لعموم الدليل الدالّ عليه، و يلزم حينئذٍ خروج المال عن ملك البائع قبل دخوله فيه. أقول: أمّا بيان الملازمة فلأنّ المفروض أنّ المال بالعقد الثاني يدخل في ملك العاقد فلو خرج عن ملكه حين العقد الأوّل و المفروض عدم دخوله في ملكه بعد فهو خروج له عن دخوله فيه، و أمّا الاستحالة فلأنّ خروج المال في الملك مسبوق بدخوله فيه و حيث لا دخول فلا خروج.

و دعوى شمول العمومات، يدفعها أنّ العمومات لا تصير المحال واقعاً و لا ممكناً فلا معنى لشمولها فتعيّن عدم الصحّة.

فإن قلت: يدخل في ملك العاقد حين العقد الأوّل آناً ما ثمّ يخرج عن ملكه في ذلك الحين.

قلت: دخوله في ملكه لا بدّ له من سبب، و المفروض أنّ سببه العقد الثاني، فلو دخل في ملكه حين العقد الأوّل بالعقد الثاني لزم تقدّم المسبّب على سببه، و هو محال.

فإن قلت: يخرج عن ملك مالكه بالعقد الأوّل من غير أن يدخل في ملك أحد، ثمّ يدخل بالعقد الثاني في ملك العاقد آناً ما ثمّ يخرج عن ملكه و يدخل في ملك المشتري بالعقد الأوّل، و الكاشف عنه الإجازة.

ص: 817

قلت: هذا مع أنّه تكلّف واضح كرّ على ما فرّ، إذ المفروض عدم دخوله في ملكه حين العقد الأوّل، فلو خرج عن ملكه في ذلك الحين لزم ما ذكر من المحذور.

فإن قلت: ليس معنى خروجه عن ملكه بالعقد الأوّل أنّه يخرج عنه حينه بل يخرج عنه و يدخل في ملك المشتري حين العقد الثاني بالعقد الأوّل فلا يلزم ما ذكر.

قلت: هذا خلاف معنى الكشف في الإجازة، فإنّ معناه على ما صرّحوا به تحقّق الخروج عن الملك و الدخول في ملك المشتري حين العقد الأوّل لا في الزمان المتأخّر عنه.

إلّا أن يقال: إنّ المعروف من معنى الكشف و إن كان ذلك إلّا أنّه بحسب الواقع أعمّ منه و من تحقّق الخروج عن الملك و الدخول في ملك المشتري بالعقد المفروض وقوعه فضولاً في الزمان المتأخّر عنه كما فيما نحن فيه، و الدليل على التعميم هو الجمع بين العمومات و أدلّة الكشف في الإجازة.

و إلى ما شرحناه و وجّهناه ينظر ما ذكره شيخنا في ردّ الوجه المذكور، بقوله: «فيه منع كون الإجازة كاشفة مطلقاً عن خروج المال عن ملك المجيز من حين العقد حتّى فيما لو كان المجيز غير مالك حين العقد، فإنّ مقدار كشف الإجازة تابع لصحّة البيع، فإذا ثبت بمقتضى العمومات أنّ العقد الّذي أوقعه البائع لنفسه عقد صدر من أهل العقد في المحلّ القابل للعقد عليه، و لا مانع من وقوعه إلّا عدم رضى مالكه، فكما أنّ مالكه الأوّل إذا رضي يقع البيع له، فكذلك مالكه الثاني إذا رضي يقع البيع له، و لا دليل على اعتبار كون الرضا المتأخّر ممّن هو مالك حال العقد، و حينئذٍ فإذا ثبت صحّته بالدليل فلا محيص عن القول بأنّ الإجازة كاشفة عن خروج المالك عن ملك المجيز في أوّل أزمنة قابليّته، إذ لا يمكن الكشف فيه على وجه آخر، فلا يلزم من التزام هذا المعنى على الكشف محال عقلي و لا شرعي حتّى يرفع اليد من أجله عن العمومات المقتضية للصحّة، فإن كان و لا بدّ من الكلام فينبغي في المقتضي للصحّة، أو في القول بأنّ الواجب في الكشف عقلاً أو شرعاً أن يكون عن خروج المال عن ملك المجيز وقت العقد.

و قد عرفت أن لا كلام في مقتضى الصحّة، و لذا لم يصدر من المستدلّ على البطلان، و أنّه لا مانع عقلاً و لا شرعاً من كون الإجازة كاشفة من زمان قابليّة تأثيرها.

و لا يتوهّم أنّ هذا نظير ما لو خصّص المالك الإجازة بزمان متأخّر عن العقد، إذ

ص: 818

التخصيص إنّما يقدح مع القابليّة، كما أنّ تعميم الإجازة لما قبل ملك المجيز - بناءً على ما سبق في دليل الكشف من أنّ معنى الإجازة إمضاء العقد من حين الوقوع أو إمضاء العقد الّذي مقتضاه النقل من حين الوقوع - غير قادح مع عدم قابليّة تأثيرها إلّا من زمان ملك المجيز للمبيع»(1) انتهى.

أقول: يمكن منع المقتضي للصحّة فإنّ العمومات مخصّصة بأدلّة اشتراط الرضا في صحّة العقد، و القدر المتيقّن منه و إن كان رضا المالك المقارن للعقد غير أنّه بملاحظة أدلّة الولاية جعل ذلك الرضا أعمّ من رضا المالك و رضا وليّه، و بملاحظة أدلّة الوكالة جعل ذلك الأعمّ أعمّ من رضا المالك أو وليّه أو وكيل أحدهما، و بملاحظة أدلّة صحّة الفضولي مع الإجازة جعل أعمّ ممّا ذكر و من رضا العاقد الفضولي الّذي أمضاه المالك بالإجازة الّتي هي إمضاء لعقده، و القدر المتيقّن منه رضاه الّذي أمضاه المالك حال العقد.

و أمّا كونه أعمّ منه و ممّا أمضاه المالك بعد العقد فلا يمكن إثباته بالعمومات المخصّصة بالرضا، بل لا بدّ من استظهاره من أدلّة اعتبار الإجازة في عقد الفضولي الدالّة على كون شرط الصحّة هنا رضا العاقد الّذي أمضاه المالك، لكون الإجازة هو إمضاء العقد الواقع فضولاً. و لا يستفاد من تلك الأدلّة أزيد من اعتبار إجازة المالك حين العقد، فإنّ العمدة منها قوله صلى الله عليه و آله و سلم في رواية عروة البارقي: «بارك اللّٰه في صفقة يمينك» و قوله في صحيحة محمّد بن قيس: «خذ ابنه الّذي باعك الوليدة» مع قول الراوي: «فلمّا رأى ذلك سيّد الوليدة أجاز بيع ابنه» فإنّ النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم في الأوّل مالك للثمن حين العقد، و مالك الوليدة في الثاني مالك للمبيع حال العقد، و ليس فيهما عموم و لا إطلاق يتناول غير المورد، فلا يقال: إنّ ذلك تخصيص للعامّ بالمورد.

و لو توهّم إثبات التعميم بالإجماع الّذي هو أيضاً من أدلّة اشتراط الإجازة في عقد الفضولي، لدفعه أنّ القدر المتيقّن من معقد الإجماع هو إجازة من كان مالكاً حين العقد، و أمّا من ملك بعد العقد كنفس العاقد فاندراجه في معقد الإجماع غير ظاهر بل المعلوم خلافه لمكان الخلاف في المسألة، فلا إجماع على كفاية إجازة المالك بعد العقد.

ص: 819


1- المكاسب 438:3-439.

لا يقال: يمكن إثبات التعميم بقوله تعالى: «إِلاّٰ أَنْ تَكُونَ تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ » (1) فإنّ رضا العاقد الفضولي الّذي أمضاه المالك بعد العقد نوع من التراضي فيشمله الآية، لمنع شمول الآية فإنّ «تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ » ليست بلفظ عامّ بل نكرة في سياق الإثبات، و هي لا تفيد العموم و غايته الإطلاق و ينصرف إلى الشائع من أفراد الرضا، و هو رضا المالك حين العقد، فرضا غير المالك حين العقد الّذي أمضاه المالك بعده كنفس العاقد ليس مشمولاً لأدلّة الإجازة في الفضولي، و لزم منه أن لا يكون العقد المقارن لهذا الرضا مشمولاً للعمومات المقتضية للصحّة، لفرض كونها مخصّصة بأدلّة الرضا، فيرجع فيه إلى الأصل الأوّلي و هو أصالة الفساد.

و ثانيها: أنّ صحّة العقد يستلزم عدم صحّته و هو محال، و بيانه أنّ صحّة العقد الأوّل بسبب الإجازة على الكاشفيّة تستلزم مالكيّة العاقد المجيز حال الإجازة، و مالكيّته تستلزم صحّة العقد الثاني و هي تستلزم عدم صحّة العقد الأوّل ليكون المال باقياً على ملك مالكه الأصلي و ينتقل منه إلى العاقد. و قد يقرّر ذلك بأنّ صحّة العقد الأوّل بإجازة الفضولي متوقّفة على مالكيّته، و هي متوقّفة على صحّة العقد الثاني و هي متوقّفة على بقاء المال على ملك مالكه الأصلي، فيكون صحّة الأوّل مستلزمة لكون المال المعيّن ملكاً لمالك و ملكاً للمشتري معاً في زمان واحد و هو محال لتضادّهما، فوجود الثاني و هو كونه ملكاً للمشتري يقتضي عدم الأوّل و هو موجب لعدم الأوّل أيضاً، فيلزم وجوده و عدمه في آن واحد و هو محال.

فإن قلت: مثل هذا لازم في كلّ عقد فضولي لأنّ صحّته متوقّفة على الإجازة المتوقّفة على بقاء ملك المالك، و مستلزمة لملك المشتري كذلك فيلزم كونه بعد العقد ملك المالك و المشتري معاً في آنٍ واحد، فيلزم إمّا بطلان عقد الفضولي مطلقاً، أو بطلان القول بالكشف، فلا اختصاص لهذا الإيراد بما نحن فيه.

قلنا: يكفي في الإجازة ملك المالك ظاهراً و هو الحاصل من استصحاب ملكه السابق، لأنّها في الحقيقة رفع اليد و إسقاط للحقّ ، و لا يكفي الملك الصوري في العقد

ص: 820


1- النساء: 29.

الثاني. و ردّه شيخنا قدس سره «بأنّ القائل بالصحّة ملتزم بكون الأثر المترتّب على العقد الأوّل بعد إجازة العاقد له، هو تملّك المشتري له من حين ملك العاقد، لا من حين العقد الأوّل، و حينئذٍ فتوقّف إجازة العاقد الأوّل على صحّة العقد الثاني مسلّم، و توقّف صحّة العقد الثاني على بقاء المال على ملك مالكه الأصلي إلى زمان العقد مسلّم أيضاً، و لكن دعوى أنّ صحّة الأوّل يستلزم كون المال ملكاً للمالك و المشتري في زمان واحد ممنوعة، لأنّه إنّما يلزم ذلك لو ادّعي وجوب كون الإجازة كاشفة عن الملك حين العقد و هذا ممنوع كما تقدّم، بل يكفي فيها الكشف عن الملك في الزمان المتأخّر عن العقد و هو زمان العقد الثاني»(1).

أقول: مبنيّ ذلك على ما تقدّم من تصحيح العقد بدعوى وجود المقتضي لصحّته و هو العمومات الشاملة له، مع التأويل في الإجازة الكاشفة بجعلها أعمّ من إجازة من كان مالكاً حين العقد الأوّل و من صار مالكاً بعده بالعقد الثاني و هو العاقد، و قد عرفت منع وجود المقتضي للصحّة بمنع شمول العمومات لذلك العقد فيرجع فيه إلى الأصل الأوّلي المقتضي للفساد.

و أمّا ما أورده المورد في السؤال على مطلق الفضولي على القول بالكشف من لزوم كون المال حال الإجازة ملكاً للمجيز و المشتري معاً، فقد يقال عليه بأنّه غير الإشكال الّذي استنتجه من المقدّمات المذكورة و أورده على المستدلّ و هو لزوم كون المال ملكاً للمالك الأصلي و المشتري معاً في زمان واحد و هو زمان العقد، و زيد عليه «بأنّه يلزم بناءً على هذا الإشكال على القول بالكشف اجتماع ملّاك ثلاث على ملك واحد المالك الأصلي و المشتري و العاقد، لوجوب الالتزام بمالكيّة المالك الأصلي ليصحّ منه العقد الثاني، و الالتزام بمالكيّة المشتري لأنّ الإجازة كاشفة، و الالتزام بمالكيّة العاقد أيضاً لأنّ المشتري يتلقّى الملك منه و إلّا لم ينفع إجازته.

ثمّ اعترض على ما أجاب به عن الإشكال الوارد في مطلق الفضولي بأنّه ممّا لا يسمن و لا يغني، لأنّ الإجازة إذا وقعت فإن كشفت عن ملك المشتري قبلها كشفت

ص: 821


1- المكاسب 440:3-441.

عمّا يبطلها، لأنّ الإجازة لا تكون إلّا من المالك الواقعي، و المالك الظاهري إنّما يجدي إجازته إذا لم ينكشف كون غيره مالكاً حين الإجازة، و لذا لو تبيّن في مقام آخر كون المجيز غير مالك لم تنفع إجازته، لأنّ المالكيّة من الشرائط الواقعيّة دون العلميّة»(1).

و أمّا ما ذكره في الفرق بين الإجازة و العقد بكفاية الملك الظاهري في الاُولى دون الثاني، فاُورد عليه بأنّه تحكّم صرف، خصوصاً مع تعليله بأنّ الإجازة رفع لليد و إسقاط للحقّ ، فإنّ مناط كفاية الملك الظاهري عدم تبيّن انتفائه في الواقع، و حيث لم يتبيّن ذلك كفى في المقامين، و حيث تبيّن انتفاؤه لم يكف في المقامين.

أقول: التحقيق أنّ مناط صحّة الإجازة - على القول بالكشف في مطلق عقد الفضولي - كون المجيز مالكاً أصليّاً و هو من كان مالكاً قبل العقد، و لا ينوط باعتبار الملك الظاهري بمقتضى استصحاب الحالة السابقة، لأنّ الاستصحاب مع تبيّن خلاف المستصحب ممّا لا معنى له. و السرّ في كفاية المالكيّة الأصليّة أنّ الإجازة إمضاء للعقد و هو في معنى إمضاء رضا العاقد، و هو إذا كان ممضى بإجازة المالك الأصلي شرط لصحّة العقد، فتحقّقه في الواقع يؤثّر في الصحّة من حين العقد و عدم تحقّقه في الواقع يؤثّر في عدم الصحّة، و الكاشف عنهما إجازة المالك الأصلي و ردّه، فإنّ ردّه كشف عن عدم تحقّق شرط الصحّة في الواقع، و إن أجاز كشف عن تحقّقه في الواقع، إلّا أنّ الفرق حاصل بين الردّ و الإجازة في أنّ الردّ يكون من المالك الأصلي مع بقاء ملكه حال الردّ، و الإجازة يكون منه مع عدم بقاء ملكه حال الإجازة، و لا ضير فيه إذا ساعد عليه الدليل و هو جميع أدلّة اعتبار الإجازة في الفضولي الّتي عمدتها دلالة قوله عليه السلام في صحيحة محمّد بن قيس: «خذ ابنه الّذي باعك الوليدة حتّى ينفّذ لك البيع».

و ثالثها: أنّ الإجازة لمّا كشفت عن صحّة العقد الأوّل و عن كون المال ملك المشتري الأوّل، فقد وقع العقد الثاني على ماله، فلا بدّ من إجازته كما لو بيع المبيع من شخص آخر فأجاز المالك البيع الأوّل، فلا بدّ من إجازة المشتري البيع الثاني أيضاً حتّى يصحّ و يلزم، فعلى هذا يلزم توقّف إجازة كلّ من الشخصين على إجازة الآخر، و توقّف

ص: 822


1- المكاسب 441:3-442.

صحّة كلّ من العقد و الإجازة على إجازة المشتري الغير الفضولي، و هو من الأعاجيب بل من المستحيل، لاستلزام ذلك عدم تملّك المالك الأصيل شيئاً من الثمن و المثمن، و تملّك المشتري الأوّل المبيع بلا عوض إن اتّحد الثمنان، و دون تمامه إن زاد الأوّل، و مع زيادة إن نقص، لانكشاف وقوعه و الثمن له، و قد كان المبيع له أيضاً بما بذله من الثمن و هو ظاهر.

و اُجيب(1) عنه أيضاً بابتنائه على وجوب كون الإجازة كاشفة عن الملك من حين العقد، و هو ممنوع.

أقول: و قد عرفت دفعه و إن كان ما ذكر فاسد الوضع من جهة اُخرى، ملخّصها منع الملازمة، كما يظهر وجهه بالتأمّل.

و رابعها: أنّ من المعلوم أنّه يكفي في إجازة المالك و فسخه فعل ما هو من لوازمهما، و لمّا باع المالك ماله من الفضولي بالعقد الثاني فقد نقل المال عن نفسه و تملّك الثمن، و هو لا يجامع صحّة العقد الأوّل، فإنّها تقتضي ملك المالك للثمن الأوّل، و حيث وقع الثاني يكون فسخاً له و إن لم يعلم بوقوعه، فلا يجدي الإجازة المتأخّرة. و بالجملة حكم عقد الفضولي قبل الإجازة كسائر العقود الجائزة بل أولى منها، فكما أنّ التصرّف المنافي مبطل لها كذلك عقد الفضولي.

أقول: هذا واضح الدفع بأنّا إن لم نعتبر القول في ردّ عقد الفضولي و اكتفينا بالردّ الفعلي فلا أقلّ من اعتبار قصد إنشاء ردّه و فسخه به، و كون المالك ببيعه المال من الفضولي قاصداً لإنشاء فسخ العقد الأوّل أوّل الكلام بل محلّ منع، خصوصاً إذا لم يلتفت بوقوع العقد الأوّل، و بدون قصده لا معنى لالتزام بطلانه و خروجه عن قابليّة الإجازة.

نعم لو علم باعتبار الخارج أنّه قصد ببيعه إنشاء فسخه فلا كلام في بطلانه حينئذٍ، إلّا أنّ ذلك جهة خارجة عن مفروض المسألة، لأنّ الكلام في أنّ البيع المتخلّل بين العقد الأوّل و إجازة الفضولي بعد تملّكه المبيع بما هو بيع من المالك فسخ له و مقتض لبطلانه أم لا؟ و المانع عن ذلك مستظهر و إن رجع المورد إلى أنّ الإجازة حينئذٍ على

ص: 823


1- المكاسب 443:3.

الكشف لا تكشف عن الصحّة و تملّك المشتري الغير الفضولي من حين العقد الأوّل، بل تكشف عن تملّكه بذلك العقد من حين العقد الثاني، و هذا خلاف معنى كشف الإجازة فهو رجوع إلى وجه آخر تقدّم ذكره، و كلامنا على هذا الوجه بعد الإغماض عن الوجه السابق أو البناء على عدم تماميّته.

و قد يقرّر الجواب عن هذا الوجه، «بأنّ فسخ عقد الفضولي هو إنشاء ردّه، و أمّا الفعل المنافي لمضيّه - كتزويج المعقودة فضولاً نفسها من آخر و بيع المالك له المبيع فضولاً من آخر - فليس فسخاً له، خصوصاً مع عدم التفاته إلى وقوع عقد الفضولي، غاية ما في الباب أنّ الفعل المنافي لمعنى العقد مفوّت لمحلّ الإجازة، فإذا فرض وقوعه صحيحاً فات محلّ الإجازة و يخرج العقد عن قابليّة الإجازة، إمّا مطلقاً كما في مثال التزويج، أو بالنسبة إلى من فات محلّ الإجازة بالنسبة إليه كما في مثال البيع، فإنّ محلّ الإجازة إنّما فات بالنسبة إلى الأوّل، فللمالك الثاني أن يجيز.

نعم لو فسخ المالك الأوّل نفس العقد بإنشاء الفسخ بطل العقد من حينه إجماعاً، و لعموم تسلّط الناس على أموالهم بقطع علاقة الغير عنها»(1).

أقول: و في التفصيل في خروج العقد الأوّل عن قابليّة الإجازة و عدمه بين المثالين منع واضح، لا لابتنائه على ما تقدّم من كفاية إجازة المالك الثاني في الصحّة، فالوجه فيهما الخروج عن القابليّة مطلقاً.

و خامسها: أنّه لو باع مال الغير لنفسه و لعلّ المراد أنّه إن وقع الثمن للعاقد على حسبما قصد لا للمالك مع وقوع المبيع للمشتري، فهو خلاف مقتضى مفهوم المعاوضة و خلاف مقتضى الصيغة المقتضية لدخول كلّ من العوضين في ملك مالك العوض الآخر، و إن وقع للمالك على خلاف ما قصده العاقد فهو موقوف على إجازته، و المفروض عدم حصولها فيبطل. و هذا في محلّه.

و سادسها: أنّا حيث جوّزنا بيع غير المملوك مع انتفاء الملك و رضى المالك و القدرة على التسليم، اكتفينا بحصول ذلك للمالك المجيز لأنّه البائع حقيقة، و الفرض هنا عدم

ص: 824


1- المكاسب 444:2-445.

إجازته و عدم وقوع البيع عنه، و هذا راجع إلى سابقه. فهو أيضاً في محلّه.

و سابعها: الروايات المقتضية عموماً أو خصوصاً فساد ذلك العقد.

أمّا الاُولى: فالمستفيضة عن النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم الناهية «عن بيع ما ليس عندك»(1) فإنّ النهي فيها مقتض للفساد. و قد يقرّر وجه الاستدلال بها بأنّ النهي فيها إمّا لفساد البيع المذكور مطلقاً بالنسبة إلى المالك و إلى المخاطب العاقد معاً فيكون دليلاً على فساد عقد الفضولي مطلقاً، و إمّا لبيان فساده بالنسبة إلى المخاطب العاقد خاصّة فيكون دليلاً على عدم وقوع بيع مال الغير لبائعه مطلقاً و لو ملكه فأجاز، بل الظاهر إرادة بيان حكم صورة تملّكه بالخصوص، و إلّا فعدم وقوعه له من دون أن يملكه بعد بيعه ممّا لا يحتاج إلى البيان.

و أمّا الثانية: فعدّة أخبار فيها الصحيح و غيره، كصحيحة ابن مسلم قال: «سألته عن رجل أتاه رجل فقال له: ابتع لي متاعاً لعلّي أشتريه منك بنقد أو نسيئة، فابتاعه الرجل من أجله ؟ قال: ليس به بأس، إنّما يشتريه منه بعد ما يملكه»(2) و وجه الدلالة أنّ قوله عليه السلام: «إنّما يشتريه منه...» الخ تعليل لنفي البأس المقتضي للصحّة، فبمفهوم التعليل يدلّ على ثبوت البأس لو اشتراه منه قبل أن يملكه و هو ظاهر في الفساد لأنّ المفهوم نقيض المنطوق.

و صحيحة منصور بن حازم عن أبي عبد اللّه عليه السلام «في رجل أمر رجلاً ليشتري له متاعاً فيشتريه منه، قال: لا بأس بذلك، إنّما البيع بعد ما يشتريه»(3) و وجه دلالته كسابقه إلّا أنّ عموم التعليل في الأوّل ربّما يتناول الملك بسبب غير اختياري بانضمام أنّ المورد لا يخصّص.

و عموم الخبرين و إن كان يعمّ ابتياع المتاع الشخصي و ابتياع المتاع الكلّي في الذمّة فبالمفهوم يدلّان على الفساد فيهما، إلّا أنّه يخصّصهما بالمتاع الشخصي ما دلّ من الروايات على الصحّة في الكلّي:

كموثّقة إسحاق بن عمّار عن عبد الرحمن بن الحجّاج قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام

ص: 825


1- الوسائل 2/47:18 و 5، ب 7 أحكام العقود، التهذيب 1005/230:7.
2- الوسائل 8/51:18، ب 8 أحكام العقود، التهذيب 220/51:7.
3- الوسائل 6/50:18، ب 8 أحكام العقود، التهذيب 218/50:7.

عن الرجل يشتري الطعام من الرجل ما ليس عنده فيشتري منه حالّاً قال: ليس به [بأس] قلت: إنّهم يفسدونه عندنا، قال: و أيّ شيء يقولون في السلم ؟ قلت: لا يرون به بأساً يقولون هذا إلى أجل فإذا كان إلى غير أجل و ليس عند صاحبه فلا يصلح، فقال:

فإذا لم يكن [إلى] أجل كان أجود، ثمّ قال: لا بأس بأن يشتري الطعام و ليس هو عند صاحبه إلى أجل...»(1) الخ، فإنّه قاضٍ بالصحّة في غير العين الشخصيّة، فيختصّ المحكوم بالفساد بمقتضى مفهوم التعليل في الصحيحين ببيع العين الشخصيّة قبل أن يملكه البائع.

و من الأخبار الخاصّة مصحّحة يحيى بن الحجّاج قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجل قال لي: اشتر هذا الثوب و هذه الدابّة و بعنيها اُربحك كذا و كذا، قال: لا بأس بذلك، اشترها و لا تواجبه البيع قبل أن تستوجبها أو تشتريها»(2).

و رواية خالد بن الحجّاج قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام: الرجل يجيئني فيقول: اشتر هذا الثوب و اُربحك كذا و كذا، قال: أ ليس إن شاء أخذ و إن شاء ترك، قلت: بلى، قال: لا بأس، إنّما يحلّل الكلام و يحرّم الكلام»(3) و غير ذلك من الروايات.

و الجواب عن الأخبار العامّة النبويّة فقد تقدّم عند الاستدلال بها على فساد مطلق عقد الفضولي، و نزيد هنا أنّ الاستدلال ربّما يتمّ لو كان الواقع مكان «عندك» «لك» لظهوره حينئذٍ فيما ليس ملكاً لك بخلاف «عندك» فإنّه ظرف مستقرّ و عامله المقدّر «حاصل أو موجود» فيكون ظاهراً في بيع الكلّي في الذمّة الّذي ليس موجوداً عنده فيشتري الفرد المطابق له و يردّه إلى المشتري، و لمّا كان ذلك مخالفاً لنصوصنا و إجماع أصحابنا فوجب اطراحها أو تأويلها بحمل النهي على الكراهة.

و أمّا الأخبار الخاصّة، فأُجيب(4) عنها تارةً بما ملخّصه: أنّ دلالتها على النهي عن البيع قبل الملك ممّا لا مساغ لإنكاره، و أنّ دلالة النهي على الفساد أيضاً ممّا لا مجال لإنكاره، و أنّ الفساد عبارة عن عدم ترتّب الآثار أيضاً ممّا لا كلام فيه، و لكن يكفي في ذلك عدم ترتّب الآثار المقصودة للمتبايعين، و هو لزوم البيع بحيث يتسلّط المشتري

ص: 826


1- الوسائل 1/46:18، ب 7 أحكام العقود، التهذيب 211/49:7.
2- الوسائل 13/52:18، ب 8 أحكام العقود، التهذيب 250/58:7.
3- الوسائل 4/50:18، ب 8 أحكام العقود، التهذيب 219/50:7.
4- المكاسب 451:3.

على أخذ المبيع و البائع على أخذ الثمن و يجوز لهما التصرّف فيما أخذاه، و هذا لا ينافي قابليّته لأن يترتّب الآثار عليه بالإجازة عقيب التملّك حين الإجازة أو حين التملّك.

و يزيّفه أنّه خروج عن مقتضى فساد النهي لأنّ معنى فساد النهي عدم ترتّب شيء من الآثار على البيع بحيث يكون وجوده بمثابة عدمه، و ما ذكر تفصيل في الآثار بين الآثار الفعليّة بعدم الترتّب و الآثار المتأخّرة بالترتّب، و لا يتحمّله النهي إلّا بإخراجه إلى الإرشاد إلى أنّ الآثار الفعليّة المقصودة لا تترتّب و الآثار المتأخّرة الغير المقصودة تترتّب، و لا يسلّم ذلك إلّا بدليل و لا دليل عليه.

إلّا أن يقال: إنّ ذلك إنّما يتوجّه لو كان هناك نهي لفظي، و المفروض في الأخبار الخاصّة خلافه، لأنّ غاية ما فيها دلالة التعليل بمفهومه على ثبوت البأس في بيع المال قبل أن يملكه البائع، و يكفي في صدقه عدم ترتّب الآثار المقصودة على ذلك، و لا ينافيه قابليّته لأن يترتّب عليه الآثار بالإجازة بعد الملك حينها أو حين الملك.

و اُخرى: بأنّه يجب الاقتصار في الخروج عن عمومات الصحّة على مورد تلك الأخبار و هو وقوع البيع للبائع بمجرّد العقد بالاستقلال من دون حاجة إلى إجازة لا من المالك الأصيل و لا من البائع بعد تملّكه لأنّه الّذي يتبانى عليه المتبايعان، و فساد عقد الفضولي على هذا الوجه ممّا لا كلام فيه، بل الكلام في صحّته و فساده على تقدير إجازة العاقد بعد تملّكه، و لا دلالة في الأخبار على الفساد فيبقى عمومات الصحّة سليمة، و ما ذكرنا كونه مورد الأخبار هو الّذي ذكره العلّامة في التذكرة نافياً للخلاف في فساده قائلاً: «لا يجوز أن يبيع عيناً لا يملكها و يمضي ليشتريها و يسلّمها، و به قال الشافعي و أحمد(1) و لا نعلم فيه خلافاً، لقول النبيّ : لا تبع ما ليس عندك(2) و لاشتمالها على الغرر، فإنّ صاحبها قد لا يبيعها و هو غير مالك لها و لا قادر على تسليمها، أمّا لو اشترى موصوفاً في الذمّة سواء كان حالّاً أو مؤجّلاً، فإنّه جائز إجماعاً»(3) انتهى.

و أصرح منه كلامه فيما تقدّم ذلك عند الجواب عن استدلال أهل القول ببطلان

ص: 827


1- المغني 297:4، الشرح الكبير 19:4.
2- سنن ابن ماجة 2187/737:2، سنن أبي داود 3503/283:3، سنن البيهقي 267:5.
3- التذكرة 16:10.

عقد الفضولي رأساً، و هو قوله: «و الجواب: النهي في المعاملات [لا يقتضي] الفساد، و نصرفه إلى أنّه باع عن نفسه و يمضي فيشتريه من مالكه، لأنّه ذكره جواباً له حين سأله أن يبيع الشيء ثمّ يمضي و يشتريه و يسلّمه، و القدرة على التسليم من المالك موجودة إن أجازه»(1) و حكي عن المختلف(2) أيضاً «الإجماع على المنع» و استدلاله بالغرر و عدم القدرة على التسليم ظاهر بل صريح في وقوع الاشتراء غير مترقّب لإجازة مجيز، بل وقع على وجه يلزم على البائع بعد البيع تحصيل المبيع و تسليمه، فحينئذٍ لو تبايعا على أن يكون العقد موقوفاً على الإجازة فاتّفقت الإجازة من المالك أو من البائع بعد تملّكه لم يدخل في مورد الأخبار و لا في معقد الاتّفاق، و لو تبايعا على أن يكون اللزوم موقوفاً على تملّك البائع دون إجازته، فظاهر عبارة الدروس أنّه من البيع المنهيّ عنه في الأخبار المذكورة حيث قال: «و كذا لو باع ملك غيره ثمّ انتقل إليه فأجاز، و لو أراد لزوم البيع بالانتقال فهو بيع ما ليس عنده، و قد نهى عنه»(3) انتهى.

المسألة الثانية: في الصحّة و عدمها مع عدم الإجازة،

و نحن لمّا بنينا في المسألة الاُولى على عدم الصحّة فلئلّا يصحّ في هذه المسألة طريق الأولويّة، و ذهب شيخنا قدس سره هنا إلى عدم الصحّة مع اختياره الصحّة في الاُولى، قائلاً: بأنّه «قد ظهر ممّا ذكرنا في المسألة المذكورة حال المسألة الاُخرى، و هي ما لو لم يجز المالك بعد تملّكه، فإنّ الظاهر بطلان البيع الأوّل لدخوله تحت الأخبار المذكورة يقيناً، مضافاً إلى قاعدة «تسلّط الناس على أموالهم» و عدم صيرورتها حلالاً من دون طيب النفس، فإنّ المفروض أنّ البائع بعد ما صار مالكاً لم يطب نفسه بكون ماله للمشتري الأوّل، و التزامه قبل تملّكه بكون هذه المال المعيّن للمشتري ليس التزاماً إلّا بكون مال غيره له.

اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ مقتضى عموم وجوب الوفاء بالعقود و الشروط على كلّ عاقد و شارط هو اللزوم على البائع بمجرّد انتقال المال إليه و إن كان قبل ذلك أجنبيّاً لا حكم لوفائه و نقضه، و لعلّه لأجل ما ذكرنا رجّح فخر الدين(4) في الإيضاح بناءً على صحّة الفضولي صحّة العقد المذكور بمجرّد الانتقال من دون توقّف على الإجازة.

ص: 828


1- التذكرة 15:10.
2- حكاه عنه في مقابس الأنوار: 134، المختلف 133:5.
3- الدروس 193:3.
4- الإيضاح 419:1.

قيل(1) و يلوح هذا من الشهيد الثاني في هبة المسالك(2) و قد سبق استظهاره من عبارة الشيخ المحكيّة في المعتبر(3).

لكن يضعّفه: أنّ البائع غير مأمور بالوفاء قبل الملك فيستصحب، و المقام مقام استصحاب حكم الخاصّ ، لا مقام الرجوع إلى حكم العامّ فتأمّل، مضافاً إلى معارضة العموم المذكور بعموم سلطنة الناس على أموالهم و عدم حلّها لغيرهم إلّا عن طيب النفس، و فحوى الحكم المذكور في رواية الحسن(4) بن زياد المتقدّمة في نكاح العبد بدون إذن مولاه و أنّ عتقه لا يجدي في لزوم النكاح لو لا سكوت المولى الّذي هو بمنزلة الإجازة»(5) انتهى كلامه رفع مقامه.

هذا كلّه فيما لو دخل المال المبتاع فضولاً في ملك العاقد الفضولي بسبب اختياري كالاشتراء. و أمّا لو دخل في ملكه بسبب غير اختياري كالإرث كما لو كان البائع ممّن يرث المالك فمات المالك المورّث بعد بيعه من دون أن يجيزه فأجاز البائع الوارث بيعه، ففي صحّته و العدم قولان:

يظهر أوّلهما من إطلاق العلّامة و الشهيد في المختلف و الدروس، قال الأوّل في فصل النقد و النسيئة: «و لو باع عن المالك فاتّفق انتقاله إلى البائع فأجاز فالظاهر أيضاً الصحّة، لخروجه عن مورد الأخبار»(6) و قال ثانيهما: «و كذا لو باع ملك غيره ثمّ انتقل إليه فأجاز»(7).

و عن ظاهر العلّامة في القواعد(8) و التذكرة(9) عدم الصحّة، أو الاستشكال فيها.

و فيه نظر.

و كيف كان فمبنى الخلاف

إن كان

على أنّ عقد الفضولي من العقود الجائزة و من حكمها أنّها تبطل بموت من له التصرّف فيها - كما في الوكالة و العارية و الوديعة فعقد الفضولي أيضاً يبطل بموت المالك - ففيه منع الصغرى و الكبرى معاً:

أمّا الأوّل: فلمنع كونه عقداً جائزاً بل هو عقد حيث صحّ لزم و حيث لم يلزم

ص: 829


1- مقابس الأنوار: 134.
2- المسالك 49:6.
3- تقدّم في الصفحة: 816.
4- الوسائل 3/118:21، ب 26 أحكام العبيد و الإماء.
5- المكاسب 457:3-458.
6- المختلف 132:5.
7- الدروس 193:3.
8- القواعد 19:2.
9- التذكرة 17:10.

لم يصحّ ، لأنّه على تقدير الإجازة صحّ و لزم، و على تقدير الردّ لم يلزم و لم يصحّ ، و هذا هو آية اللزوم، و قبوله الردّ ليس معنى الجواز لأنّه على الكشف في الإجازة مردّد قبلها بين الصحّة الملزومة للّزوم و عدم اللزوم الملازم لعدم الصحّة، و على النقل فيها لم يتمّ بعد و إنّما يتمّ بها و إذا تمّ صحّ و لزم، و قبوله الردّ معناه قبوله البقاء على عدم التمام، فالردّ إبقاء له على عدم التمام فيبطل بهذا الاعتبار بخلاف العقود الجائزة فإنّ بناءها من أوّل الأمر على جواز خروج كلّ من المتعاقدين عن الالتزام بمقتضى العقد من دون أن يكون فيها جهة لزوم.

و أمّا الثاني: فلمنع كلّيّة الكبرى و بطلان كلّ عقد جائز بالموت، و ما يرى في العقود الثلاثة المذكورة من البطلان بالموت فإنّما هو بدليل خاصّ بها، و التعدّي منها إلى عقد الفضولي قياس لا نقول به.

و إن كان

على كون الإجازة من الحقوق المنتقلة بالإرث إلى الوارث كحقّق الخيار و حقّ الشفعة و حقّ قبول الوصيّة عند موت الموصى له لينتقل الموصى به إليه نظراً إلى أنّه مشروط بموت الموصي و قبول الموصى له أو وارثه بعده، ففيه أيضاً منع الصغرى و منع البكرى معاً، على معنى منع كونها حقّاً و منع انتقال كلّ حقّ .

أمّا الأوّل: فلأنّ الحقّ عبارة عن سلطنة مخصوصة لإنسان على غيره من إنسان أو غيره و الإجازة ليست بذلك، فإنّ اعتبارها في عقد الفضولي إنّما هو من جهة كون الرضا من شروط الصحّة، و هو إمّا رضى المالك أو رضى من أمضى رضاه المالك، فهي على القول بالنقل رضى من المالك، و على القول بالكشف إمضاء لرضى العاقد، و لا ريب أنّ الشرطيّة من قبيل الحكم لا الحقّ فلا معنى لانتقاله بالإرث.

و أمّا الثاني: فلمنع كلّيّة الكبرى لأنّ من الحقوق ما لا ينتقل، كحقّ الرجوع في الطلاق، و حقّ القسم بين الزوجات، و حقّ المضاجعة في كلّ أربعة ليال ليلة، فانتقاله في الأمثلة المتقدّمة بالدليل و لا يقاس عليها غيرها.

و الظاهر أنّ الفرق هو أنّ من الحقوق ما كان الموضوع مقوّماً له فإذا ارتفع الموضوع بالموت سقط الحقّ - كحقّ الرجوع و أخويه - و منها ما لا يكون الموضوع مقوّماً له فلا يسقط بارتفاع الموضوع بالموت بل ينتقل إلى الورثة كحقّ الخيار

ص: 830

و أخويه. و كون حقّ الإجازة من قبيل القسم الثاني دون القسم الأوّل يحتاج إلى دليل، و حيث لا دليل عليه فيبقى الشكّ في انتقالها، و الأصل يقتضي العدم.

و إن كان

على توهّم وجود المانع من الصحّة، و هو لزوم المحال لو صحّ بإجازة الوارث من استلزام وجود الشيء عدمه و اجتماع مالكين على ملك واحد في وقت واحد و غير ذلك ممّا تقدّم في المسألة المتقدّمة، ففيه: أنّه لا يتمّ على القول بالنقل في الإجازة لمنع الملازمة، و أمّا على القول بالكشف فيها فقد يدفع الملازمة أيضاً بنحو ما تقدّم في المسألة المتقدّمة، من أنّه إنّما يلزم إن فسّرنا الكشف بكشف الإجازة عن الصحّة و حصول النقل و الانتقال من حين العقد، و أمّا إن فسّرناه بما هو أعمّ منه و من الكشف عن الصحّة في الزمان المتأخّر و هو زمان تملّك العاقد بالإرث فلا، إلّا أنّه يرد عليه ما قدّمناه.

و إن كان

على دعوى وجود المقتضي لصحّة هذا العقد فإنّه عقد صدر من أهله في المحلّ القابل للعقد عليه فيشمله العمومات، ففيه: أنّ كون المال المفروض محلّاً للعقد عليه أمر واضح لا يمكن الاسترابة فيه، و أمّا كون الواقع عليه صادراً من أهله أوّل الكلام، فإنّ العاقد الفضولي إنّما يسلّم كونه أهلاً إذا لحق عقده إجازة من كان مالكاً له قبل العقد. و أمّا صيرورته أهلاً بلحوق إجازة من يرث المالك بعد العقد فيحتاج إلى دليل و أيّ دليل قام بذلك ؟

و الّذي يسهّل الخطب هنا هو أنّه لا ينبغي التأمّل في أنّه إذا مات المالك انتقل بموته إلى العاقد الوارث له شيء، و هو إمّا ملك المبيع، أو سلطنة المالك على إجازة العقد الواقع عليه و على ردّه. و احتمال: عدم انتقال شيء إليه و صيرورته هنا بمثابة الأجنبيّ ، ممّا لا يصغى إليه.

و الظاهر بل المقطوع به على القول بالنقل في الإجازة انتقال ملك المبيع إليه، لعدم خروجه بالعقد عن ملك مورّثه، فيكون ممّا تركه الميّت فينتقل إلى وارثه، و كذلك على القول بالكشف و لكنّ ظاهراً من جهة الاستصحاب، فإنّه لا يدري أنّه لو بقي المالك حيّاً هل كان يختار إجازة العقد الواقع على ماله لتكشف عن خروجه عن ملكه، أو يختار ردّه ليكشف عن بقائه على ملكه، فيشكّ في أنّه بالعقد المتعقّب لموته خرج عن

ص: 831

ملكه أو لا بل هو باق على ملكه ؟ و من المعلوم أنّ الأصل بقاؤه فيكون هذا الملك الظاهري أيضاً ممّا تركه الميّت فينتقل إلى وارثه.

و أمّا سلطنته على الإجازة و الردّ فمشكوك في انتقالها بالإرث، و الأصل عدمه.

لا يقال: إنّ السلطنة على إجازة عقد الفضولي الواقع على المال و ردّه من لوازم ملكه و إذا انتقل الملزوم إلى الوارث لزمه انتقال لازمه أيضاً لأنّ ما هو من لوازم الملك المنتقل إلى الوارث إنّما هو السلطنة على الإجازة و الردّ في العقد الفضولي الّذي يقع على المال بعد ذلك، و أمّا السلطنة على إجازة العقد السابق و ردّه فهي ليست من لوازم ملك الوارث بل أمر زائد عليه و يشكّ في انتقاله مع الملك، و الأصل عدمه.

ثمّ إنّ هاهنا مسألة اُخرى تعرّض لذكرها العلّامة في القواعد(1) و التذكرة(2) قال:

«لو باع مال أبيه بظنّ الحياة و أنّه فضولي فبان أنّه ميّت حينئذٍ فالوجه الصحّة» و ظاهر أنّ ذكر البيع و الأب مثال و إلّا فحكم المسألة يعمّ الصلح و غيره من عقود المعاوضة و بيع مال غير الأب من مورّث آخر له أو أجنبيّ ، فعنوان المسألة على الوجه الكلّي نظراً إلى اتّحاد الدليل هو: ما لو باع مالاً فضولاً باعتقاد أنّه لغيره فبان أنّه كان له فهل يصحّ و ينفذ أو لا؟

و قد عرفت أنّ العلّامة قال: «الوجه الصحّة» و عن المحقّق الثاني في جامع المقاصد(3) عند شرح العبارة حمل الصحّة في كلام مصنّفه على اللزوم، و كأنّه استظهره من إطلاقه حيث لم يعتبر فيه الوقوف على الإجازة، ثمّ قال: «و الأصحّ وقوفه على الإجازة» و احتمل عدم الوقوف تعليلاً بكفاية قصد البيع، و معناه كفاية قصد الجنس بناءً على إلغاء قصد الخصوصيّة و هو كونه فضوليّاً. و حكي عن العلّامة في هبات القواعد ما يومئ إلى كون الصحّة إجماعيّة حيث ذكر ثمّة هبة الولد مال أبيه بظنّ الحياة فبان أنّه حينئذٍ ميّت و ادّعى فيه الإجماع على الصحّة، ثمّ قال: «و كذا لو باع مال أبيه بظنّ الحياة»(4) الخ. بناءً على كون قوله: «و كذا» تشبيهاً للبيع على الهبة في الحكم و مدركه معاً، كما عن مفتاح الكرامة(5). و ربّما منع من كونه تشبيهاً في المدرك لمجرّد الاستبعاد

ص: 832


1- القواعد 190:2.
2- التذكرة 17:10.
3- جامع المقاصد 76:4.
4- القواعد 409:2.
5- مفتاح الكرامة 627:12.

و في المحكيّ عن الكفاية ما يومئ إلى دعوى الشهرة في الصحّة حيث ذكر في باب الهبات هبة الولد مال أبيه بظنّ الحياة فبان أنّه ميّت فقال: «المشهور الصحّة، و كذا لو باع مال أبيه باعتقاد أنّه حيّ ثمّ بان أنّه ميّت»(1) بناءً على أنّه تشبيه في الحكم و الشهرة.

و عن الشهيد في الدروس(2) تعرّضه للمسألة و الحكم فيها بالصحّة من دون دعوى إجماع و لا شهرة.

و عن فخر المحقّقين(3) ما يومئ إلى تردّده في الصحّة حيث ذكر فيها وجهين الصحّة و عدمها و لم يرجّح شيئاً منهما.

ثمّ إنّ للمسألة صورتين، إحداهما: ما لو باع مال غيره لنفسه فبان أنّه له، و اُخراهما: ما لو باعه للمالك - أي لمن اعتقد كونه مالكاً - فبان أنّه له. و إطلاق كلام العلّامة و غيره في الحكم بالصحّة يعمّ الصورتين، غير أنّ في كلام ولده ما هو ظاهر في أنّ معقد المسألة الصورة الثانية حيث إنّه استدلّ على عدم الصحّة بوجوه يأتي نقلها، و منها: أنّه باع عن الأب لا عنه.

و كيف كان فأمّا الصورة الاُولى فأقوى الاحتمالين فيها و أصحّهما الصحّة، لأنّه عقد صدر من أهله في محلّه فيشمله العمومات المقتضية للصحّة، أمّا كونه في محلّه لأنّه وقع على ما هو ملك للعاقد في الواقع، و أمّا كونه صدر من أهله لأنّ المفروض كون العاقد هو المالك في الواقع و اعتقاد كونه لغيره مع فرض عدم مطابقته الواقع غير قادح في الصحّة لأنّ وجوده بمثابة عدمه، فالصحّة ممّا لا ينبغي الاسترابة فيها. نعم إنّما الكلام في لزومه من دون إجازة و عدم لزومه إلّا بالإجازة، و مرجعه إلى أنّه هل يقف لزوم هذا العقد على إجازة العاقد بعد تبيّن كونه مالكاً أو لا؟ و الّذي يترجّح في النظر القاصر عدم وقوفه عليها، فإنّ الإجازة في الفضولي إنّما تعتبر من جهة أنّ رضا المالك شرط للصحّة و ينوب منابه رضى العاقد إذا أمضاه المالك بإجازته العقد، و رضا المالك هاهنا حاصل مقارناً للعقد، لفرض كون العاقد مالكاً فهو ليس من رضا غير المالك حتّى يفتقر إلى إمضاء المالك بإجازته.

ص: 833


1- الكفاية 34:2.
2- الدروس 3:
3- الإيضاح 420:1.

لا يقال: إنّ المالك الّذي هو العاقد إنّما رضى بالعقد على أنّه فضولي لا على أنّه مالكي، و المقصود من الاستدلال تصحيح هذا البيع على أنّه مالكي، لا على أنّه فضولي، فما قصد لم يقع و ما وقع لم يقصد، فلا بدّ من الإجازة لأنّ العقود تتبع القصود.

لأنّا نقول: إنّ الفضوليّة و المالكيّة في العقد ليستا من أركانه، فلا يندرج قصدهما في القصود الّتي تتبعها العقود.

نعم يمكن أن يقال: إنّ ما ذكرت إنّما يتمّ لو كان مبنى العقد على المداقّة بحيث أحرز فيه العاقد كون بيع المال صلاحاً مع موافقته الغرض في الثمن المسمّى فيه، و أمّا لو كان مبناه على المسامحة باعتبار اعتقاد العاقد كونه بيعاً لمال الغير فلم يحرز فيه كون أصل البيع صلاحاً و لا كون الثمن المسمّى فيه موافقاً للغرض، بحيث لو علم كون المال له لم يبعه لعدم كونه صلاحاً أو لم يرض بذلك الثمن لعدم موافقته غرضه. و حينئذٍ فلو اُلزم على البيع من دون اعتبار إجازته لزم الضرر و هو منفيّ في الإسلام، إلّا أن يقال: إنّه ضرر أقدم هو عليه و أدخله على نفسه. و لكن يدفعه أنّه أقدم عليه على أنّ المبيع لغيره فلم يقدم على ضرره من حيث إنّه ضرره، هذا.

و لكن التحقيق أنّ إثبات حقّ الإجازة فيما نحن فيه بقاعدة الضرر ليس في محلّه، لأنّها إنّما يتمسّك بها لإثبات حقّ الخيار لا لإثبات حقّ الإجازة، و الفرق بينهما أنّ حقّ الإجازة يثبت في كلّ عقد يكون متزلزلاً في حدوثه كعقد المكره و عقد الفضولي، و حقّ الخيار يثبت في عقد متزلزل في بقائه، و لذا تراهم أنّهم لإثبات اعتبار الإجازة في عقد الفضولي تمسّكوا بالأدلّة الخاصّة من إجماع أو نصّ لا بقاعدة نفي الضرر، و المفروض في المقام عدم تزلزل العقد في حدوثه لعدم الشكّ في صحّته و تأثيره من حينه، لأنّ تزلزل العقد في الفضولي إنّما نشأ من عدم مقارنته لرضا المالك و هو فيما نحن فيه مقارن لرضاه فلا جهة لكونه متزلزلاً في حدوثه، و اعتقاد كون المال لغيره على خلاف الواقع لا يوجب التزلزل في حدوثه مع مقارنته لشرط التأثير، و تقدير عدم الرضا بتقدير علمه بكون المال له لا يصير الموجود معدوماً.

نعم لو شكّ في تزلزله في بقائه و عدمه و جرى فيه قاعدة نفي الضرر أمكن فيه الالتزام بحقّ الخيار، و هذا لا ينافي عدم وقوف لزومه على الإجازة، كما لا ينافيه

ص: 834

لو ثبت الخيار من جهة هذه القاعدة لظهور غبن أو عيب أو نحو ذلك.

نعم يبقى الكلام في جريانها فيما بني على المسامحة حتّى يثبت بها حقّ الخيار الّذي يكفي في سقوطه الرضا بالعقد و عدمه، و الّذي يساعد عليه النظر هو عدم جريانها هنا لعدم كون الضرر المترتّب على المسامحة بحيث يسند عرفاً إلى اللّٰه سبحانه لو جعل اللزوم لهذا العقد كما في موارد خياري الغبن و العيب، بل إنّما يسند إلى البائع لمسامحته و هو من فعله.

لا يقال: كما أنّ المسامحة هاهنا أمر راجع إلى البائع و من ثمّ يصحّ إسناد الضرر إلى نفسه فكذلك الجهل بالقيمة أو العيب في موارد خيار الغبن أو العيب أمر راجع إلى البائع فينبغي أن يسند الضرر إليه لا إلى اللّٰه لو جعل اللزوم للعقد، لوضوح الفرق بين الفعل الاختياري و الوصف الغير الاختياري، فإنّ اختياريّة الأوّل ممّا يصحّح في نظر العرف إسناد الضرر إلى فاعله، و عدم اختياريّة الثاني ممّا يوجب صرف النظر عنه، و إسناد الضرر إلى جاعل الحكم ففي الأوّل يقال: إنّ البائع سامح في بيعه فأدخل الضرر على نفسه، و في الثاني يقال: إنّه تعالى جعل اللزوم للعقد فأدخل الضرر على العاقد.

و أمّا الصورة الثانية: فالأقوى فيها أيضاً هو الصحّة، لوجود المقتضي و فقد المانع:

أمّا الأوّل: فالعمومات الشاملة للمقام، لكونه عقداً صدر من أهله في محلّه بالتقريب المتقدّم.

و أمّا الثاني: فلأنّه ليس في المقام ما يحتمل كونه مانعاً إلّا ما حكي الاستدلال به على عدم الصحّة عن الإيضاح، من «أنّه إنّما قصد نقل المال عن الأب لا عنه، و لأنّه و إن كان منجّزاً في الصورة إلّا أنّه معلّق في المعنى لأنّ التقدير إن مات مورّثي فقد بعتك، و كالعابث عند مباشرة العقد لاعتقاده أنّ المبيع لغيره»(1).

و ليس شيء منها بشيء و لا يصلح للمانعيّة:

أمّا الأوّل: فلما ذكرناه مراراً من أنّ قصد كونه عنه غير معتبر في الصحّة، و قصد كونه عن غيره غير قادح فيها، بل البيع في وقوعه يتبع ملك المبيع و المفروض كونه له

ص: 835


1- الإيضاح 420:1.

فيقع عنه. و قد يقرّر الجواب بأنّه باع عن الأب على أنّه المالك ففي الحقيقة باع عن المالك، و المفروض أنّه المالك لا الأب، غاية الأمر أنّه أخطأ في اعتقاد كون المالك هو الأب، و الاعتقاد الخطئي لا يصرف البيع عن المالك الحقيقي إلى غيره.

و أمّا الثاني: فلمنافاته الوجه الأوّل أوّلاً، لأنّه يقتضي تقدير حياة أبيه لا موته، و مع الغضّ عن ذلك يتوجّه المنع إلى قصده التعليق المذكور، و تقديره على الوجه المذكور انتزاع تعليق غير مقصود له فلا يكون مؤثّراً في البطلان، و لو سلّم أنّه مضمر له و لكنّه ليس من التعليق المبطل، و هو التعليق في اللفظ على شرط أو صفة بواسطة أداة الشرط من كلمة «إن» و «لو» و ما بمعناهما.

و أمّا الثالث: فلأنّه إنّما يكون كالعابث إذا لم يقصد التلفّظ بالصيغة أو لم يقصد المعنى الإفرادي أو لم يقصد المعنى التركيبي، و محلّ الكلام ما جامع شروط الصحّة، و اعتقاد كون المبيع لغيره لا يؤثّر في انتفاء هذه القصود كلاًّ و لا بعضاً، و إلّا لاطّرد ذلك في مطلق عقد الفضولي، و هو كما ترى.

ثمّ إنّ الكلام في عدم وقوفه على الإجازة نظير ما سبق في الصورة الاُولى فإنّ الإجازة في عقد الفضولي إنّما تعتبر من جهة كون رضا المالك شرطاً في صحّة العقد و ينوب منابه رضى العاقد إذا أمضاه المالك و إجازته إمضاء له، و مفروض المقام مقارن لرضى المالك الحقيقي و لا معنى لاعتبار إمضاء رضائه أو لا دليل عليه، و إلى ذلك يرجع ما عن غير واحد ممّن وافقنا من التعليل بأنّ المالك هو المباشر للعقد فلا وجه لإجازة فعل نفسه.

و عن المحقّق و الشهيد الثانيين(1) وقوفه في الصورتين على الإجازة، و وافقهما بعض مشايخنا قائلاً: «فالدليل على اشتراط تعقّب الإجازة في اللزوم هو عموم تسلّط الناس على أموالهم، و عدم حلّها لغيرهم إلّا بطيب أنفسهم، و حرمة أكل المال إلّا بالتجارة عن تراض. و بالجملة فأكثر أدلّة اشتراط الإجازة في الفضولي جارية هنا...

إلى أن قال: و أمّا أدلّة اعتبار التراضي و طيب النفس فهي دالّة على اعتبار رضى المالك

ص: 836


1- جامع المقاصد 76:4، المسالك 51:6.

بنقل خصوص ماله بعنوان أنّه ماله، لا بنقل مال معيّن يتّفق كونه ملكاً له في الواقع فإنّ حكم طيب النفس و الرضا لا يترتّب على ذلك»(1) انتهى.

و يشكل بأنّ الاستدلال بهذه العمومات لإثبات اللزوم بعد البناء على صحّة أصل العقد ليس في محلّه، أمّا عموم تسلّط الناس على أموالهم فلأنّه يقتضي التسلّط على المال في ابتداء البيع، و أمّا إذا باع المالك الواقعي ماله الواقعي و فرض كون البيع صحيحاً فهو يقتضي خروج المال عن كونه مالاً له، و معه لا يبقى لعموم هذا العامّ محلّ حتّى يستدلّ به على إثبات توقّف اللزوم على الإجازة، بل اللزوم يثبت بعموم «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» من دون اشتراط له بالإجازة. و بناء الاستدلال على كون ذلك المال بعد خروجه عن ملكه مالاً له باعتبار ما كان، يوجب الاستعمال في المعنى الحقيقي و المجازي معاً.

و فيه ما فيه، و أمّا أدلّة اعتبار طيب النفس و التراضي فلأنّها أدلّة يستدلّ بها على اشتراط الصحّة بطيب النفس و التراضي على اشتراط اللزوم بهما، حتّى أنّ الاستدلال بها على اشتراط الإجازة في الفضولي فإنّما هو لإثبات اشتراط صحّة الفضولي بها لا اشتراط اللزوم بها، بل اللزوم لازم للصحّة من جهة عموم وجوب الوفاء بالعقد لا من جهة تلك الأدلّة، فالاستدلال بها لإثبات اشتراط اللزوم بالإجازة بعد الالتزام بأصل الصحّة بدون الإجازة ليس في محلّه بل لا يخلو عن تهافت. فالوجه ما بيّنّاه من عدم اشتراط اللزوم بالإجازة المستأنفة.

و مثل البيع المفروض في الصحّة و اللزوم من دون وقوف على الإجازة ما لو باع مالاً بعنوان الفضوليّة عن المالك أو عن نفسه ثمّ بان كونه وليّاً على المالك باعتبار كونه صغيراً أو وكيلاً عن المالك في بيعه فإنّه صحيح لازم لوجود المقتضي و فقد المانع، و قصد عنوان الفضوليّة غير قادح في الصحّة و لا اللزوم لعدم كون ذلك العنوان من أركان العقد ليؤثّر قصده في عدم الصحّة أو عدم اللزوم إلّا مع الإجازة.

و أمّا عكس المسألة بكلتا صورتيها، و هو ما لو باع مالاً باعتقاد أنّه ماله ثمّ بان أنّه لغيره، فهو مندرج في عقد الفضولي فيلحقه أحكامه الّتي منها توقّف نفوذه على الإجازة،

ص: 837


1- المكاسب 463:3.

و قصد عنوان كونه بيعاً مالكيّاً لا يقدح في لحوق أحكام عقد الفضولي بذلك البيع، لما عرفت من عدم كون هذا العنوان من أركان العقد ليترتّب على قصده أثر، فليتدبّر.

الأمر السابع: فيما يتعلّق بالمجاز.
اشارة

و فيه مسائل:

المسألة الاُولى: يعتبر أن يكون العقد جامعاً لجميع الشروط المعتبرة في تأثيره

ممّا يرجع إلى الصيغة، و ما يرجع إلى المتعاقدين، و ما يرجع إلى العوضين، و يضبطها كون الأصيل و الفضولي معاً كاملين بالعقل و البلوغ قاصدين للتلفّظ و المعنى الإفرادي و المعنى التركيبي - أعني الإنشاء - عالمين بالعوضين جنساً و وصفاً و قدراً مع طهارتهما الأصليّة و الانتفاع بهما و غير ذلك، سوى القدرة على التسليم و الرضا، من غير فرق فيه بين القولين في الإجازة بالكشف و النقل.

أمّا على الأوّل: فلأنّ العقد سبب تامّ للنقل و الانتقال و الإجازة كاشفة عن تماميّته، و لا يعقل التماميّة إلّا باجتماعه جميع الشروط المعتبرة في تأثيره.

و أمّا على الثاني: فلأنّ العقد إمّا تمام السبب و الإجازة من شروط تأثيره، أو جزؤه و الإجازة جزؤه الآخر، و على أيّ تقدير فلا بدّ من اجتماعه للشروط.

و يتفرّع على ما ذكرناه أنّه لا يكفي حصول الشرائط في طرف الأصيل، و لا يقوم مقام حصولها للفضولي - موجباً كان أو قابلاً - حصولها أو حصول جملة منها للمجيز حين الإجازة إلّا شرطان:

أحدهما: القدرة على التسليم، فيكفي حصولها للمجيز حال الإجازة، و لا يعتبر حصولها للفضولي أيضاً، بل لا يمكن ذلك بالنسبة إليه بعد كونه ممنوعاً بحسب الشرع من التصرّف و الإقباض.

و ثانيهما: الرضا بوقوع الأثر في الخارج على القول بالنقل في الإجازة، فيكفي حصوله للمالك المجيز حال الإجازة، و لا يعتبر حصوله للفضولي بل لو حصل كان وجوده بمثابة عدمه.

و مثل القدرة على التسليم إسلام مشتري المصحف و العبد المسلم، فيكفي فيه إسلام من له الإجازة لأنّه المنتقل إليه، و لا يعتبر إسلام الفضولي في اشترائه فلو كان

ص: 838

كافراً مع إسلام من له الإجازة لم يقدح في الصحّة. و لو انعكس الأمر على معنى كون الفضولي مسلماً مع كفر من له الإجازة فالظاهر البطلان، لانتفاء شرط الصحّة فيمن انتقل إليه المبيع. و هل يعتبر في إسلامه حصوله من حين العقد باقياً إلى حال الإجازة، أو يكفي حصوله حال الإجازة فيما لو كان حين العقد كافراً فأسلم فيما بينه و بين الإجازة ثمّ أجاز، أو يفصّل بين القول بالكشف في الإجازة فيعتبر حصوله من حين العقد إلى حال الإجازة و القول بالنقل فيها فيكفي حصوله حال الإجازة ؟ وجوه، أوجهها الأخير، و وجهه واضح.

و هل يعتبر في الشروط المعتبر حصولها حال العقد بقاؤها إلى حال الإجازة أو لا يعتبر ذلك، أو يفصّل بين القولين في الإجازة، أو يفصّل بين شروط المتعاقدين فلا يعتبر و شروط العوضين فيعتبر؟ وجوه.

و التحقيق أن يقال: إنّ من شروط المتعاقدين ما لا يمكن بقاؤه كالقصود المعتبرة في الصيغة، و منها ما لا يعتبر بقاؤه كالكمال فلو جنّ أحدهما أو كلاهما بعد العقد لم يضرّ. و أمّا شروط العوضين فمنها: ما يعتبر بقاؤه على القول بالنقل في الإجازة لا الكشف كالطهارة الأصليّة، فلو بيع العصير فضولاً ثمّ انقلب فيما بين وقوع العقد و لحوق الإجازة خمراً فعلى القول بالكشف لم يضرّ، و على القول بالنقل لم ينفع الإجازة فيبطل العقد. و منها: ما يعتبر بقاؤه مطلقاً كمعلوميّة الجنس أو الوصف أو القدر، فلو طرأ الجهل بنسيانهما الجنس أو النوع أو الوصف لم ينفع الإجازة للزوم الغرر، و يمكن الاكتفاء في رفع الغرر بعلم المجيز لو كان متذكّراً لما وقع عليه العقد، و أمّا مع جهله فالوجه هو البطلان كما ذكرناه، و لكنّ المسألة بعد غير خالية عن شوب الإشكال.

المسألة الثانية: هل يعتبر في المجاز - و هو العقد الواقع في الخارج - أن يكون معلوماً للمجيز بالتفصيل

باعتبار جنسه ككونه بيع داره لا إجارتها أو بالعكس و كونه بيع جاريته لا نكاحها أو بالعكس و باعتبار نوعه ككونه بيعاً لداره لا صلحاً أو بالعكس و باعتبار متعلّقه ككونه بيعاً لداره لا بستانه أو بالعكس و نحو ذلك ممّا يرجع إلى الثمن، أو يكفي كونه معلوماً له بالإجمال بأن يعلم بوقوع عقد في الخارج قابل للإجازة، أو يفصّل بين ما لو علم من حاله أنّه راضٍ بما وقع على جميع تقاديره فيكفي فيه

ص: 839

الإجمال و ما لو علم أنّه غير راضٍ به إلّا في بعض تقاديره فيعتبر التفصيل، أو يفصّل بين القولين بالكشف و النقل في الإجازة فيكفي الإجمال على الأوّل دون الثاني ؟.

و الّذي يساعد عليه النظر أنّه على القول بالنقل يعتبر العلم بالتفصيل لئلّا يلزم الغرر، فإنّ الإجازة إنّما يعتبر حينئذٍ لكون المكشوف عنها بالإجازة شرطاً في تأثير العقد، فهو رضا متأخّر حكمه كحكم الرضا المقارن، فكما يعتبر في الرضا المقارن كما في صورة مباشرة المالك لإجراء كون متعلّقه معلوماً بالتفصيل دفعاً للغرر فكذلك في الرضا المتأخّر أيضاً يعتبر ذلك، و هذا واضح.

و أمّا على القول بالكشف فيفصل بين معلوميّة رضاه بجميع تقادير العقد الواقع فيكفي الإجمال لأنّ الإجازة حينئذٍ إمضاء لرضا العاقد الحاصل بالفرض مقارناً لعلمه بالتفصيل فيكفي في إمضائه الإجمال، و بين معلوميّة عدم رضاه إلّا ببعض التقادير فيعتبر التفصيل لئلّا يلزم إمضاء ما لا يرضى به في الواقع، فليتأمّل.

المسألة الثالثة: في العقود المترتّبة على المثمن أو الثمن أو هما معاً ثمّ لحقها الإجازة،
اشارة

فإن أجاز الجميع صحّ الجميع، و إن أجاز البعض فإن كان من العقود المترتّبة على المثمن صحّ المجاز و ما بعده، و إن كان من العقود المترتّبة على الثمن صحّ المجاز و ما قبله، هكذا ذكره في الروضة(1) تبعاً لجماعة منهم الإيضاح(2) و الدروس(3).

و تنقيح المسألة مع بيان دليل الصحّة في المجاز و ما بعده في الشقّ الأوّل و فيه و ما قبله في الشقّ [الثاني]، و بيان ما اُورد على إطلاق الحكمين،

و التعرّض لما استشكله العلّامة في بعض صور المسألة و غير ذلك يستدعي الكلام في مقامات:
المقام الأوّل: في ترتّب العقود على المثمن

و هو سلعة الفضولي موجباً كان أو قابلاً، كما لو باع دار أحد بكتاب ثمّ باعها المشتري بسيف ثمّ باعها المشتري الثاني بفرس، أو باعها بمائة ثمّ باعها المشتري بمائتين ثمّ باعها المشتري الثاني بثلاثمائة فأجاز المالك أحدها، فإن كان الأخير اختصّ الصحّة به لأنّ بإجازته انتقل ملك الدار عنه إلى المشتري الثاني، و بطل سابقاه لعدم الإجازة، و عقد الفضولي بدون الإجازة

ص: 840


1- الروضة 233:3.
2- الإيضاح 418:1.
3- الدروس 193:3.

باطل. و إن كان المتوسّط صحّ ذلك مع ما بعده لأنّ بإجازته انتقل ملك الدار عنه إلى المشتري الثاني فهو في بيعه إيّاها بالفرس قد باع ملكه، و بطل المتقدّم لعدم إجازته. و إن كان الأوّل صحّ و ما بعده جميعاً، لأنّ بإجازته انتقل ملك الدار عنه إلى المشتري الأوّل، فكان كلّ من المشتريين في بيعهما إيّاها قد باعا ملكهما.

و أورد المحقّق و الشهيد الثانيان(1) على إطلاق ذلك الحكم بأنّه لا يستقيم إلّا على القول بكون الإجازة كاشفة إذ على هذا القول ينكشف بالإجازة خروج المبيع حين العقد المجاز عن ملك المجيز و دخوله في ملك مشتريه فيكون ذلك المشتري و من بعده في بيع ذلك المبيع قد باع ملك ملكه، و أمّا على القول بكونها ناقلة فالمبيع قد خرج عن ملك المجيز حال الإجازة لا حين العقد المجاز فيكون بيع من انتقل إليه حينئذٍ بيعاً له قبل أن يملكه، فصحّته مبنيّة على صحّة ما لو باع مال غيره ثمّ ملكه بعد البيع. و قد تقدّم أنّ فيه وجوهاً ثلاث. البطلان، و الصحّة مع عدم إجازة بائعه، و الصحّة مع وقوفها على إجازته، فعلى القول بالبطلان - كما هو الأقوى - اختصّت الصحّة بالمجاز.

المقام الثاني: في ترتّب العقود على الثمن

و هو سلعة الأصيل المدفوع عوضاً عن سلعة الفضولي، و قد سمعت أنّهم أطلقوا الصحّة في المجاز و ما قبله، و ذلك لأنّه لا يملك الثمن في العقد المجاز إلّا على تقدير تملّكه للأثمان في العقود السابقة عليه، فصحّته تتوقّف على صحّتها بخلاف العقود المتأخّرة لعدم الإجازة، قال في الروضة على إطلاق الحكم المذكور: «هذا إذا بيعت الأثمان في جميع العقود أمّا لو تعلّقت العقود على الثمن الأوّل مراراً كان كالمثمن في صحّة ما اُجيز و ما بعده، و هذا القيد وارد على ما أطلقه الجميع في هذه المسألة كما فصّلناه أوّلاً، مثاله ما لو باع مال المالك بثوب ثمّ باع الثوب بمائة ثمّ باعه المشتري بمائتين ثمّ باعه مشتريه بثلاثمائة فأجاز المالك العقد الأخير فإنّه لا يقتضي إجازة ما سبق بل لا يصحّ سواه، و لو أجاز الوسط صحّ و ما بعده كالمثمن، نعم لو كان قد باع الثوب بكتاب ثمّ باع الكتاب بسيف ثمّ باع السيف بفرس فإجازة بيع السيف بالفرس تقتضي إجازة ما سبقه من العقود، لأنّه إنّما

ص: 841


1- جامع المقاصد 70:4، و المسالك 159:3.

يملك السيف إذا ملك العوض الّذي اشترى به و هو الكتاب و لا يملك الكتاب إلّا إذا ملك العوض الّذي اشترى به و هو الثوب فهنا يصحّ ما ذكروه»(1) انتهى.

أقول: قوله: «و هذا القيد وارد على ما أطلقه الجميع» يمكن منع إطلاق الجميع بأنّ كلامهم مفروض في العقود المترتّبة على الثمن من حيث الثمنيّة، بأن يكون كلّ من العقود المتأخّرة واقعاً على ما هو ثمن في سابقه مثل ما فرضه أخيراً، فما فرضه من تعلّق العقود على الثمن الأوّل مراراً ليس بداخل في إطلاق كلامهم حتّى يرد عليهم القيد.

ثمّ إنّ إطلاقه في بيع الأثمان في جميع العقود بعدم صحّة ما سوى العقد الأخير الّذي أجازه إنّما هو بالنسبة إلى العقود المترتّبة على الثمن الأوّل لا بالنسبة إلى العقد الأوّل الواقع على مال المالك بإزاء الثوب المفروض كونه ثمناً في ذلك العقد، فإنّ ذلك العقد لا بدّ من صحّته ليكون الثوب بسببه ملكاً له حتّى يصحّ العقد الأخير الّذي معنى صحّته دخول ثلاثمائة في ملكه، فيكون إجازة ذلك الأخير متضمّناً لإجازة العقد الأوّل الّذي بيع فيه المال بالثوب، نعم إنّما لا يصحّ بيع الثوب بمائة و بيعه بمائتين لعدم إجازتهما.

المقام الثالث: فيما استشكله العلّامة في القواعد و النهاية،

فإنّه في القواعد بعد ما ذكر أنّ بيع الفضولي موقوف على الإجازة على رأي قال: «و كذا الغاصب و إن كثرت تصرّفاته في الثمن بأن يبيع الغصب و يتصرّف في ثمنه مرّة بعد اُخرى فللمالك تتبّع العقود و رعاية مصلحته، و مع علم المشتري إشكال»(2) انتهى.

و ينبغي الإشارة إلى فقه مسألة بيع الغاصب ليتّضح به وجه الاستشكال، فنقول: إذا باع الغاصب العين المغصوبة و أقبضها المشتري و أخذ منه الثمن ثمّ رجع المالك على المشتري بعينها، فإن كان المشتري جاهلاً بالغصب رجع على الغاصب بثمنه إجماعاً كما في مفتاح الكرامة، و إن كان عالماً به و كان الثمن تالفاً في يد الغاصب ففي الكتاب المذكور أنّه قد أجمع الأصحاب على أنّه لا يرجع على الغاصب بالثمن، و إن كان عينه باقية في يده ففي الكتاب أيضاً أنّ ظاهرهم أيضاً أنّه لا يرجع عليه أيضاً بالثمن، قال:

ص: 842


1- الروضة 233:3.
2- القواعد 19:2، نهاية الإحكام 476:2.

و في ظاهر التذكرة(1) و ظاهر الإيضاح(2) و غيره(3) الإجماع عليه(4).

ثمّ اختلفت الأنظار في محلّ الإشكال حسبما رامه العلّامة، فعن الشهيد في حواشي القواعد يمكن أن يكون الإشكال في صحّة البيع مع الإجازة و في التتبّع معاً، قال: «لأنّ المشتري مع علمه بالغصب يكون مسلّطاً للبائع الغاصب على الثمن فلا يدخل في ملك ربّ العين، فحينئذٍ إذا اشترى به البائع متاعاً فقد اشتراه لنفسه و أتلفه عند الدفع إلى البائع فيتحقّق ملكه للمبيع، فلا يتصوّر نفوذ الإجازة هنا لصيرورته ملكاً للبائع، و ان أمكن إجازة البيع مع عدم احتمال نفوذها أيضاً، لأنّ ما دفعه إلى الغاصب كالمأذون له في إتلافه، فلا يكون ثمناً فلا تؤثّر الإجازة في جعله ثمناً، فصار الإشكال في صحّة البيع و في التتبّع. ثمّ قال: إنّه يلزم من القول ببطلان البيع بطلان إجازة البيع في المبيع، لاستحالة كون المبيع بلا ثمن، فإذا قيل إنّ الإشكال في صحّة العقد كان صحيحاً»(5) انتهى.

و عن القطب الراوندي أنّه جعل الإشكال في التتبّع، قال: «وجه الإشكال أنّ المشتري مع العلم يكون مسلّطاً للبائع الغاصب على الثمن، و لذا لو تلف لم يكن له الرجوع، و لو بقي ففيه الوجهان: فلا ينفذ فيه إجازة الغير بعد تلفه بفعل المسلّط بدفعه ثمناً عن مبيع اشتراه، و من أنّ الثمن عوض عن العين المملوكة و لم يمنع من نفوذ الملك فيه إلّا عدم صدوره عن المالك، فإذا أجاز جرى مجرى الصادر عنه»(6) انتهى.

و عن جامع المقاصد(7) جعل الإشكال في صحّة البيع و ذكر في وجهه نحو ما ذكره الشهيد أخيراً.

و في مفتاح الكرامة بعد نقل كلام عن الإيضاح «أنّه قد تحصّل أنّ هنا مقامين:

الأوّل: هل للمشتري العالم بالغصبيّة مطالبة الغاصب البائع بالثمن مطلقاً سواء بقيت العين في يده أم أتلفها أم ليس له المطالبة مطلقاً أم له مع بقائها خاصّة ؟

ص: 843


1- التذكرة 18:10.
2- الإيضاح 417:1.
3- كما في المسالك 160:3-161.
4- مفتاح الكرامة 612:12.
5- الحواشي النجّاريّة: 57 (مخطوط).
6- نقله عنه في مفتاح الكرامة 613:12.
7- جامع المقاصد 71:4.

الثاني: هل بيع الغاصب مع علم المشتري بالغصب صحيح، فللمالك تتبّع العقود و الإجازة أم ليس بصحيح ؟»(1).

أقول: أمّا التكلّم في المقام الأوّل فله محلّ آخر يأتي في مسألة رجوع المشتري على البائع الفضولي بما اغترم و بثمنه على تقدير ردّ المالك العقد و رجوعه على المشتري بعينه، فإنّهم تكلّموا في رجوع المشتري العالم بالغصب و عدم رجوعه في هذه المسألة.

و أمّا التكلّم في المقام الثاني فقد مضى عند البحث في معمّمات عقد الفضولي، و قد ذكرنا ثمّة أنّه لا فرق في صحّة عقد الفضولي مع الإجازة بين ما لو باع الفضولي للمالك أو لنفسه، كما لو اعتقد المال لنفسه جهلاً أو كان غاصباً، و نقلنا القول ببطلان بيع الغاصب مطلقاً، أو مع علم المشتري بالغصب، و نقلنا أدلّته و دفعناها فلا حاجة إلى الإعادة هنا.

غير أنّه نزيد هنا دفع ما عرفت عن الشهيد من دليل عدم صحّة هذا البيع مع علم المشتري «و هو أنّ ما دفعه المشتري إلى الغاصب من الثمن كالمأذون له في إتلافه فلا يكون ثمناً فلا تؤثّر الإجازة في جعله ثمناً فلا تؤثّر أيضاً في صحّة المبيع لاستحالة المبيع بلا ثمن»(2) فإنّه على إطلاقه غير جيّد، لأنّ لبيع الغاصب مع علم المشتري بالغصب صورتين:

إحداهما: أن يبيع الغاصب و يشتري العالم مع علمها بالفساد و عدم ترقّبهما لإجازة المالك و بنائهما على عدم الاعتناء بشأنه، و مرجعه إلى أنّ الغاصب يجعل البيع الصوري وسيلة للتوصّل إلى الثمن و المشتري يجعله وسيلة للتوصّل إلى العين المغصوبة، و هذا ممّا لا يستريب أحد في بطلانه، و حينئذٍ فالمشتري يصير غاصباً و العين مضمونة عليه حتّى يؤدّيها إلى مالكها، فإذا رجع المالك عليه بالعين فإن كان الثمن في يد الغاصب تالفاً فهو لا يتسلّط على الرجوع عليه بغرامته لأنّه سلّطه على إتلافه مجّاناً، و إن كان باقياً في يده فلا ريب أنّه باقٍ على ملك المشتري، و تسليطه الغاصب على إتلافه مع أنّ المفروض عدم إتلافه له لم يخرجه عن ملكه. و توهّم أنّه يخرجه عن ملك مالكه و إن لم يدخله في ملك الغاصب أيضاً، يدفعه استحالة الملك بلا مالك، و قضيّة الملك أن

ص: 844


1- مفتاح الكرامة 614:12-615.
2- الحواشي النجّاريّة: 57.

يتسلّط المالك على استرجاعه. و لو سلّم قيام احتمال خروجه عن الملك كفى في نفيه استصحاب الحالة السابقة، فيندرج في عموم «الناس مسلّطون على أموالهم» فمقتضى القواعد جواز رجوعه على الغاصب بثمنه المفروض بقاؤه في يده إلّا أن يكون هنا إجماع على المنع، كما استظهره صاحب مفتاح الكرامة(1) فيما تقدّم، و نسب ظهور نقله أيضاً إلى التذكرة و الإيضاح.

ثانيتهما: أن يبيع الغاصب و يشتري المشتري العالم بالغصبيّة مترقّبين لإجازة المالك، ففي مثل ذلك لم يسلّطه على إتلافه مجّاناً فلو أجازه المالك وجب القطع بصحّته، و حينئذٍ فلو ردّه و استرجع عينه من المشتري رجع المشتري أيضاً على الغاصب بثمنه عيناً أو بدلاً، فإذا صحّ على تقدير الإجازة لزمه جواز تتبّع العقود على تقدير ترتّبها.

ثمّ قد عرفت أنّهم في العقود المترتّبة على الثمن المجاز أحدها، أطلقوا الحكم بصحّة المجاز و ما قبله. و هذا بإطلاقه على ما يترجّح غير جيّد، إذ الصور المتصوّرة في إجازة العقد المتأخّر مثلاً فيما لو باع الكتاب بثوب و الثوب بسيف و السيف بفرس ثلاث:

الاُولى: أن يعلم من حال المجيز أنّه قصد بإجازته العقد المتأخّر إجازة ما سبقه من العقود أيضاً. و لا ينبغي الاسترابة في صحّة الجميع حينئذٍ.

الثانية: أن يعلم أنّه قصد إجازة خصوص المتأخّر دون ما سبقه. و الوجه فيها بطلان الجميع، لأنّ معنى صحّة العقد المتأخّر في نحو المثال أن يكون المجيز مالكاً للفرس، و هو موقوف على أن يكون مالكاً للسيف في سابقه، و هو موقوف على أن يكون مالكاً للثوب في العقد الأوّل، و مالكيّته للثوب في هذا العقد و للسيف في العقد الثاني موقوفة على إجازتهما، و المفروض عدم القصد إلى إجازتهما، و الإجازة المتعلّقة بالعقد الأخير لا يرتبط بهما، فهي بالنسبة إلى العقد الأخير من إجازة الأجنبيّ فلا تكون مؤثّرة في ملك ثمن هذا العقد.

فإن قلت: إجازة العقد المتأخّر تدلّ على إجازة العقود المتقدّمة بالدلالة الالتزاميّة الاقتضائيّة، و هي عبارة عن كون المدلول الالتزامي بحيث يتوقّف عليه صدق الكلام أو

ص: 845


1- مفتاح الكرامة 615:12.

صحّته عقلاً أو صحّته شرعاً، و إجازة العقود المتقدّمة ممّا يتوقّف عليه صحّة إجازة العقد المتأخّر.

قلت: الدلالة الالتزاميّة الاقتضائيّة على ما حقّق في محلّه من الدلالات المقصودة، و معناها كون المدلول الالتزامي بحيث يتوقّف على قصده صحّة الكلام و المفروض عدم كون إجازة العقود المتقدّمة مقصودة، فلم يتحقّق بالنسبة إليها دلالة اقتضاء.

فإن قلت: قضيّة انتفاء القصد ثبوت دلالة الإشارة بالنسبة إلى صحّة العقود المتقدّمة، و هي أن يكون المدلول الالتزامي لازماً للمراد و المقصود من إجازة العقد المتأخّر.

قلت: أوّلاً أنّ صحّة العقود المتقدّمة إنّما تكون لازمة للمراد من إجازة العقد المتأخّر على تقدير تحقّق شرط الصحّة و هو الإجازة، و المفروض عدم تحقّقه بعدم قصدها.

و ثانياً: أنّ صحّة العقود المتقدّمة غير مندرجة في ضابط دلالة الإشارة، فإنّها دلالة عقليّة تبعيّة و الحاكم باللزوم فيها العقل بملاحظة الخطاب مع مقدّمة عقليّة من لزوم الكذب أو الإغراء بالجهل أو تكليف ما لا يطاق أو قبح آخر لو لا كونه لازماً للمراد، و لا ريب أنّه لا يلزم بعدم صحّة العقود المتقدّمة(1) لم يلزم في إجازة خصوص العقد المتأخّر شيء ممّا ذكر.

الثالثة: أن يشكّ في قصده إجازة العقود المتقدّمة و عدم قصده لها فهل تلحق هذه الصورة بالصورة الاُولى فيحكم بصحّة الجميع لأصالة الصحّة، أو تلحق بالصورة الثانية فيحكم ببطلان الجميع لأصالة الفساد في المعاملات، أو يفصّل بين أن يعلم أو يحتمل كونه حين إجازة العقد المتأخّر ملتفتاً إلى ما سبقه من العقود فتلحق بالصورة الاُولى، و بين أن يعلم عدم التفاته إلى ما سبقه فبالثانية ؟ أوجه:

أوجهها الأخير، أمّا الصحّة في الأوّلين فلأصالة الصحّة في فعل المجيز و قوله، و يكفي في حمله على الصحّة احتمال قصده إجازة العقود المتقدّمة أيضاً، كما يكفي في احتمال القصد احتمال التفاته حين الإجازة إليها فضلاً عن العلم به. و أمّا البطلان في الثاني فلاستحالة قصد إجازة العقود المتقدّمة من إجازة العقد المتأخّر مع عدم الالتفات إليها.

ص: 846


1- كذا في الأصل.
الأمر الثامن: في أحكام الردّ،
اشارة

و فيه مسائل:

المسألة الاُولى: في بيان ما يتحقّق به الردّ من القول الصريح و القول الغير الصريح و ما بمعناه، و الفعل.

فأمّا القول الصريح في الردّ - كقوله: رددته، أو فسخته، أو أبطلته، أو أفسدته و ما أشبه ذلك - فلا يمكن الاسترابة في تحقّق الردّ به و هو محلّ وفاق، كما أنّه لا ينبغي الاسترابة في عدم تحقّقه بالقول الغير الصريح في الردّ كقوله: ما رضيت به أو لا أرضى به، و ما أجزته، أو لا اُجيزه، و ما أشبه ذلك.

و أولى منه بعدم وقوع الردّ به السكوت الغير الكاشف عن الرضا فإنّه كما لا يكفي في الإجازة فكذلك لا يكفي في الردّ، و كذلك التردّد بين الإجازة و الردّ فإنّه ليس ردّاً، و كذلك الكراهة سواء كانت حادثة بعد العقد أو مقارنة له مع الاطّلاع على العقد و مع عدمه. و كلّ ذلك لأصالة بقاء اللزوم من طرف الأصيل و أصالة بقاء قابليّته للزوم من طرف الفضولي.

و يظهر الثمرة في كون القول الصريح ردّاً و عدم كون ما عداه من الاُمور المذكورة ردّاً في عدم تأثير الإجازة الواقعة بعده على الأوّل، و تأثيرها على الثاني.

و أمّا جواز أخذ العين من المشتري على تقدير إقباضه إيّاها فهو ليس من أحكام الردّ، بل من أحكام عدم الإجازة فيكفي فيه عدم الإجازة، و لذا يكون كلّ من الإقباض و القبض قبل الإجازة محرّماً، كما سبق بيانه.

و أمّا الفعل فعلى أنحاء:

منها: التصرّفات المخرجة للعين عن الملك من إتلاف أو عتق أو نقل بالبيع أو الصلح أو الهبة.

و منها: التصرّفات المنافية لملك المشتري من حين العقد، كاستيلاد الجارية، و إجارة العبد، و تزويج الأمة، و ما أشبه ذلك.

و منها: التصرّفات الغير المخرجة عن الملك و لا المنافية لملك المشتري من حين العقد، كتعريض المبيع للبيع الفاسد.

أمّا النوع الأوّل: فالتصرّفات المخرجة عن الملك و إن لم تكن ردّاً للعقد إلّا أنّ مفادها مفاد الردّ، لأنّها على تقدير وقوعها صحيحة مفوّتة لمحلّ الإجازة لفرض

ص: 847

خروج العين عن ملك المالك فلا تؤثّر إجازته لو حصلت عقيب تلك التصرّفات.

و أمّا النوع الثاني: فالتصرّفات المذكورة فيه و إن لم تكن مخرجة للعين عن قابليّة وقوع الإجازة عليه لبقاء ملك العين، إلّا أنّها مخرجة له عن قابليّة وقوع الإجازة عليه من حين العقد، لفرض وقوعها صحيحة فلا تصحّ مع صحّتها الإجازة الواقعة عليه من حين العقد فيبطل العقد.

و الأصل في ذلك أنّ من حكم عقد الفضولي المجمع عليه عندهم قبوله الإجازة من زمان العقد، و أنّ للمالك أن يتصرّف في ماله قبل الإجازة بجميع أنواع التصرّفات حتّى التصرّفات المذكورة المنافية لملك المشتري من زمان العقد مع كونها صحيحة وفاقاً من القائلين بصحّة عقد الفضولي مع الإجازة، و أنّ صحّة هذه التصرّفات تنافي وقوع الإجازة مؤثّرة من زمان العقد، كما أنّ وقوع الإجازة مؤثّرة من ذلك الزمان ينافي صحّة هذه التصرّفات، و أنّ من حكم المتنافيين أنّه إذا وقع أحدهما مؤثّراً استحال أن يقع الآخر مؤثّراً لامتناع اجتماع المتنافيين. و نتيجة هذه المقدّمات أنّ وقوع هذه التصرّفات صحيحة منافٍ لوقوع الإجازة مؤثّرة من زمان العقد، فإذا وقع أحد المتنافيين صحيحاً فلا بدّ من امتناع وقوع الآخر مؤثّراً، أو من إبطال صاحبه و رفع صحّته، أو كشفه عن كون إيقاعه على غير وجه الصحّة، و لا سبيل إلى الأخيرين، إذ لا دليل من عقل و لا نقل على كون الإجازة المتأخّرة عن التصرّفات الواقعة على وجه مبطلة لها و رافعة لصحّتها، و المفروض أنّها وقعت صحيحة في الظاهر و الواقع فلا معنى لكشف الإجازة المتأخّرة عن البطلان بحسب الواقع، فتعيّن الأوّل.

و لذا يقال: إنّ كلّما يكون باطلاً على تقدير لحوق الإجازة المؤثّرة من حين العقد فوقوعه صحيحاً مانع من لحوق الإجازة مؤثّرة، لامتناع اجتماع المتنافيين.

و توهّم: منع وقوع الإجازة مؤثّرة من حين العقد من أنّ المالك لو انتفع بالعين قبل الإجازة بالسكنى و اللبس و الركوب و ما أشبه ذلك كان عليه اُجرة مثل هذه التصرّفات إذا أجاز بعدها، يدفعه: أنّ كلامنا في التصرّفات المنافية لملك المشتري من زمان العقد على القول بالكشف في الإجازة، و التصرّفات المذكورة ليست منافية لملكه فإذا أجاز كشفت عن وقوعها في ملك المشتري فيجب عليه ردّ اُجرة المثل إليه، بخلاف ما نحن

ص: 848

فيه من التصرّفات المنافية لملكه.

لا يقال: لا دليل على اشتراط قابليّة العقد لتأثير الإجازة من حينه و لذا صحّح جماعة إجازة المالك الجديد فيمن باع شيئاً فضولاً ثمّ ملكه ثمّ أجاز، لاندفاعه باتّفاق أهل الكشف على كون الإجازة مؤثّرة من حين العقد، مع أنّه تقدّم منّا بيان أنّ مقتضى أدلّة الكشف في الإجازة كونها كاشفة من حينه لا في الزمان المتأخّر عنه.

فإن قلت: هذا كلّه إنّما يتمّ على الكشف في الإجازة، و أمّا على النقل فلا، إذ الملك إذا حصل بالإجازة حينها فلا ينافيه التصرّفات السابقة عليه، فيجمع بين صحّتها و تأثير الإجازة من حينها، إلّا أن يدّعى ثبوت الملازمة بين القولين في عدم التأثير، بأن يقال:

كلّما لم تكن الإجازة مؤثّرة من حين العقد على القول بالكشف لم تكن مؤثّرة من حينها على القول بالنقل، فيقع الكلام في ثبوت الملازمة و هو محلّ منع، إذ لا دليل عليها من عقل و لا نقل.

قلت: يمكن دعوى ثبوت الملازمة العقليّة بأنّ الإجازة ليست مؤثّرة تامّة، بل العمدة من المؤثّر هو العقد و الإجازة على الكشف محقّقة لشرط تأثيره و هو رضا العاقد الممضى بإمضاء المالك و الإجازة إمضاء، و على القول بالنقل إمّا شرط لتأثيره أو جزء للمؤثّر على معنى كون المؤثّر التامّ هو المجموع من العقد و الإجازة، و حينئذٍ فمعنى كون صحّة التصرّفات المذكورة مانعة من وقوع الإجازة مؤثّرة من حين العقد أنّها أخرجت هذا العقد الشخصي عن كونه في عرضة التأثير، فإذا خرج العقد بتلك التصرّفات عن كونه في عرضة التأثير فلا يتفاوت فيه الحال بين القول بالكشف و القول بالنقل في الإجازة، إذ لا يمكن أن يقال بأنّه على القول بالكشف خرج عن كونه في عرضة التأثير و على القول بالنقل لم يخرج عن كونه في عرضة التأثير، لاستحالة اجتماع المتنافيين، فإذا خرج على الكشف عن كونه في عرضة التأثير فلا بدّ و أن يخرج على النقل أيضاً.

و قضيّة ذلك ثبوت الملازمة المذكورة الّتي ملاكها استحالة اجتماع المتنافيين.

فإن قلت: إنّ المتنافيين إنّما يستحيل اجتماعهما بحسب الواقع، و هو أن يقال: إنّ هذا العقد الشخصي باعتبار القولين يكون في عرضة التأثير في الواقع و لا يكون في عرضة التأثير في الواقع، و هذا مبنيّ على صحّة كلّ من القولين و مطابقته الواقع و هي

ص: 849

مبنيّة على القول بالتصويب، و لمّا كان التصويب باطلاً فلا محالة أحد القولين باطل في الواقع و إن صحّ ظاهراً في نظر قائله، و حينئذٍ فهذا العقد الشخصي على حدّ الانفصال الحقيقي إمّا أن يكون في عرضة التأثير في الواقع أو لا يكون في عرضة التأثير في الواقع و لا استحالة فيه، و المفروض أنّ القائل بالنقل يدّعي كونه في عرضة التأثير.

قلت: قد ذكرنا أنّ التصرّفات المذكورة المفروض صحّتها قد أخرجته عن كونه في عرضة التأثير، فلو كان دائراً بين كونه في عرضة التأثير و عدم كونه في عرضة التأثير لزم منه كون التصرّفات المذكورة دائرة بين الصحّة في الواقع و البطلان كذلك، و هذا باطل بدليل الخلف، إذ لا كلام لأحد في صحّة هذه التصرّفات بل هو محلّ وفاق عند الفريقين، و صحّتها مستلزمة لخروج العقد عن عرضة التأثير في الواقع و معه لا يمكن أن يكون في عرضة التأثير في الواقع على القول بالنقل، و إلّا لزم اجتماع المتنافيين في الواقع و هو محال.

فإن قلت: إنّ التصرّفات و إن كانت صحيحة على القولين إلّا أنّ صحّتها إنّما أخرجت العقد عن كونه في عرضة التأثير لمنافاتها لملك المشتري، و المنافاة إنّما تحصل على القول بالكشف لا على القول بالنقل، فإذا لم تكن منافية لملك المشتري في الزمان المتأخّر عن وقوعها و هو زمان الإجازة لم تكن مؤثّرة في خروج العقد عن كونه في عرضة التأثير في الواقع فلم يثبت الملازمة المدّعاة.

قلت: إنّ من حكم المتنافيين أنّه إذا وقع أحدهما على محلّ في زمان استحال أن يقع الآخر عليه في ذلك الزمان، و ذلك مثل السواد و البياض فإنّ السواد على تقدير وقوعه على الشيء الأبيض كان منافياً لبياضه فيكون البياض الواقع عليه أيضاً منافياً للسواد، و قد ذكرنا أنّ من حكم المتنافيين أنّه إذا وقع أحدهما على محلّ في زمان استحال أن يقع الآخر عليه في ذلك الزمان، و وجه الاستحالة خروج المحلّ في ذلك الزمان عن قابليّته لوقوع الآخر.

و حينئذٍ نقول: إنّ الإجازة على تقدير وقوعها مؤثّرة في زمان التصرّفات المذكورة كانت على القول بالنقل منافية لصحّة التصرّفات في ذلك الزمان فتكون صحّة التصرّفات الواقعة في ذلك الزمان منافية لوقوع الإجازة فيه مؤثّرة على القول بالنقل،

ص: 850

و لمّا كان التقدير تقدير وقوعها صحيحة فيستحيل وقوع الإجازة فيه مؤثّرة لخروج المحلّ و هو العقد في ذلك الزمان عن قابليّته لوقوع الإجازة عليه مؤثّرة، و معنى ذلك خروج العقد في ذلك الزمان عن كونه في عرضة التأثير على القول بالنقل أيضاً، فإذا خرج عن كونه في عرضة في ذلك الزمان لزمه خروجه عن كونه في عرضة التأثير في سائر الأزمنة المتأخّرة عن ذلك الزمان، إذ لا معنى لكون عقد فاسداً في زمان ثمّ يصير صحيحاً في الأزمنة الاُخر المتأخّرة عن ذلك الزمان فثبت الملازمة، و هي أنّ الإجازة كلّما لم تكن مؤثّرة من حين العقد على القول بالكشف لم تكن مؤثّرة من حينها على القول بالنقل.

و أمّا النوع الثالث: و هو التصرّفات الغير المنافية لملك المشتري من حين العقد كتعريض المبيع فضولاً للبيع صحيحاً أو فاسداً، و بيعه فاسداً و ما أشبه ذلك. فلا يخلو إمّا أن لا يكون حين ذلك الفعل ملتفتاً إلى وقوع العقد، أو يكون ملتفتاً إلى وقوعه.

فإن كان الأوّل فلا ينبغي الاسترابة في عدم كونه ردّاً للعقد و لا مبطلاً له، أمّا أنّه ليس ردّاً لافتقاره إلى قصد إنشاء الردّ و هو مع عدم الالتفات محال، و أمّا أنّه ليس مبطلاً لعدم منافاته ملك المشتري من زمان العقد.

و إن كان الثاني فقد يقال: بأنّه مع الالتفات ردّ فعلي للعقد، ملحق بالردّ القولي محتجّاً بوجوه:

الأوّل: صدق الردّ عليه، فيشمله عموم ما دلّ على أنّ للمالك الردّ.

الثاني: أنّ المانع من صحّة الإجازة بعد الردّ القولي موجود في الردّ الفعلي، و هو خروج المجيز بعد الردّ عن كونه بمنزلة أحد طرفي العقد.

الثالث: فحوى الإجماع المدّعى على حصول فسخ ذي الخيار بالفعل كالوطى و البيع و العتق، فإنّ الوجه في حصول الفسخ بهذه الأفعال هي دلالتها على قصد فسخ البيع، و إلّا فتوقّفها على الملك لا يوجب حصول الفسخ بها بل يوجب بطلانه لعدم حصول الملك المتوقّف على الفسخ قبلها حتّى تصادف الملك. و توضيح الفحوى أنّه إذا صلح الفسخ الفعلي لرفع أثر العقد الثابت المؤثّر فعلاً صلح لرفع أثر العقد المتزلزل من حيث الحدوث القابل للتأثير بطريق أولى.

ص: 851

و لا خفاء في ضعف الجميع:

أمّا الأوّل: فلمنع صدق الردّ عرفاً على الفعل المفروض عدم منافاته لصحّة العقد و عدم القصد به إلى إنشاء الردّ. و دعوى: أنّ الالتفات إلى العقد حال الفعل ظاهر في قصد الردّ، يدفعها: منع الظهور لكونه أعمّ فإنّه قد يكون الباعث له على الفعل كراهته للعقد الّتي تقدّم عدم كونها ردّاً، و لو سلّم الظهور أو قام قرينة مقام على القصد المذكور يتطرّق المنع إلى كفاية هذا الفعل و إن قصد به الردّ في تحقّق الردّ و رفع أثر العقد، لما حكاه المستدلّ (1) من بعض معاصريه من ظهور دعوى الاتّفاق على اعتبار اللفظ في الفسخ، و لذا استشكل العلّامة في القواعد(2) في بطلان الوكالة بإيقاع العقد الفاسد على متعلّقها مع الجهل بفساده، و عن الإيضاح(3) و جامع المقاصد(4) تقريره على الإشكال.

و غاية ما هنالك بقاء شكّ في تأثيره في رفع أثر العقد و خروجه عن قابليّة التأثير، و الأصل عدمه.

و أمّا الثاني: فلمنع كون المانع في الردّ القولي ما ذكر، بل خروج العقد عن قابليّة التأثير، و معه لا يقع الإجازة مؤثّرة و لا تصير الفاسد صحيحاً، و كون الفعل المفروض مثله في إخراج العقد عن قابليّة التأثير أوّل المسألة.

و أمّا الثالث: فلمنع الفحوى و الأولويّة، فإنّ الوطء و البيع و العتق إنّما تدلّ على قصد الفسخ لتوقّفها على الملك، فلا بدّ من إعادة الملك السابق برفع الملك اللاحق و لا يكون إلّا بقصد الفسخ، بخلاف الفعل المفروض فإنّه لعدم منافاته صحّة العقد لا يتوقّف على الملك فلا يدلّ على قصد الفسخ. مآل الكلام إلى أنّ القدر المتيقّن من الردّ هو الردّ القولي، و في حكمه ما يفوّت محلّ الإجازة بحيث لا يصحّ وقوعها مؤثّرة من حين العقد.

المسألة الثانية: في أنّه إذا لم يجز المالك بالمعنى الأعمّ من فسخه العقد أو امتناعه من إجازته،

فإن كان ماله في يده فلا حكم له في الرجوع على المشتري، كما أنّ المشتري إن لم يقبض الثمن على البائع الفضولي لا حكم له في الرجوع عليه. و إن كان في يد المشتري بإقباض البائع أو بقبض المشتري بنفسه من دون إقباضه فله انتزاعه

ص: 852


1- المكاسب 481:4.
2- القواعد 365:2.
3- الإيضاح 354:2.
4- جامع المقاصد 282:8.

قولاً واحداً، و هل له زائداً على ماله حقّ آخر يطالبه من المشتري من عوض منافع أو بدل حيلولة أو غير ذلك، أو لا؟

فنقول: إنّ المال إمّا أن يكون ممّا له منافع يستحقّ الاُجرة عليها كالعبد و الجارية و الدار و الدابّة و الثوب، أو لا يكون له منافع كالدينار و الدرهم و العين من الذهب أو الفضّة، و مثّل له في التذكرة(1) بالغنم و الشجر و الطير.

و على الأوّل إمّا أن يكون المشتري قد انتفع به و استوفى منافعه أو لا، و المصرّح به في كلام جماعة كالمبسوط(2) و القواعد(3) و التذكرة(4) و جامع المقاصد(5) و مفتاح الكرامة(6)و غيرها أنّه يستحقّ مطالبة اُجرة المنافع المستوفاة و المنافع التالفة في يد المشتري، و عليه ردّها إليه. و الظاهر أنّه ممّا لا خلاف فيه، و في مواضع عديدة من التذكرة ما ظاهره دعوى الإجماع عليه، بل كلامه في بعض المواضع صريح فيه حيث قال: «منافع الأموال من العبيد و الثياب و العقار و غيرها مضمونة بالتفويت و الفوات تحت اليد العادية... إلى أن قال: بأن بقيت في يده مدّة لم يستعملها عند علمائنا أجمع»(7). و دعوى: أنّ يد المشتري ليست بعادية لظهورها في يد الغاصب، يدفعها: أنّه قبض المال قبل الإجازة من غير استحقاق فيكون يده عادية و يكون هو في تصرّفاته و انتفاعاته غاصباً.

فهذا الإجماع المنقول المعتضد بظهور عدم الخلاف و بفتوى المعتبرين هو الحجّة، مضافاً إلى عموم «على اليد ما أخذت» بناءً على كون المراد من الأخذ هو الاستيلاء، و كما يصدق بالنسبة إلى عين المال أنّ المشتري استولى عليها، فكذلك يصدق ذلك بالنسبة إلى منافعها المستوفاة و منافعها التالفة تحت يده، و في حكمها نماءاتها التالفة تحت يده من ثمرة أو لبن أو غير ذلك.

و هل يستحقّ بدل الحيلولة فيما له منافع و ما ليس له منافع بالنسبة إلى مدّة كون العين في يده ؟ الوجه هو عدم الاستحقاق، لأنّ التقدير تقدير انتزاع عين المال و وصولها إلى يد المالك و هو رافع لموضوع بدل الحيلولة بالنسبة إلى الأزمنة الماضية، فإنّ

ص: 853


1- التذكرة 381:2.
2- المبسوط 381:2.
3- القواعد 19:2.
4- و التذكرة 292:10.
5- جامع المقاصد 77:4، و 326:6.
6- مفتاح الكرامة 633:12-634.
7- التذكرة 381:2.

الحيلولة عبارة عن السلطنة الّتي تفوّت على المالك على التصرّف في ماله بأنواع الانتفاعات و الاكتسابات و الاشتراء بها النفقة و غيرها من ضروريّاته فيما تعذّر انتزاع العين، كما لو كان عبداً فأبق في يد المشتري أو دابّة فشردت في يد الغاصب أو طال مدّة انتزاعها و الوصول إليها مدّة يعتدّ بها في العرف و العادة للانتفاعات و الاكتسابات، كما لو أخرجها المشتري من بلد المالك إلى بلد آخر يطول زمان إحضارها فحينئذٍ يجب عليه أن يدفع إلى المالك بدلها مثلاً في المثلي أو قيمة في القيمي، و إذا دفعه ملكه مالك العين ملكاً مراعى على تمكّنه من عين ماله و وصولها إلى يده فيتصرّف فيه حيث شاء و كيف أراد حتّى أنّه جاز له إخراجه عن يده ببيع أو صلح أو هبة أو غيرها من التصرّفات الناقلة بل المتلفة، فإذا تمكّن من عين ماله زال ملكه عنه و وجب ردّه إلى المشتري مع بقاء عينه و مع عدم بقاء العين يرد عليه مثله أو قيمته، و هذا هو معنى كون انتزاع العين رافعاً لموضوع الحيلولة و هو ملك البدل على تقدير أخذه له فكيف يستحقّه بعد الانتزاع بالنسبة إلى الأزمنة المتقدّمة ؟

و كيف كان فلو أخرجه المشتري إلى بلد آخر كان للمالك أن يطالبه بإحضاره و عليه إحضاره، كما أنّه لو دفعه إلى غيره كان للمالك أن يطالبه باسترداده و عليه استرداده، و لو افتقر إحضاره أو استرداده إلى مئونة وجب عليه بذلها و إن كثرت و زادت على قيمة المال، سواء تمكّن المالك من إحضاره أو استرداده بلا مئونة أو لا؟.

و لو توقّف استرداده إلى مئونة و تمكّن المالك من استرداده بلا مئونة كان له مطالبته بالاسترداد و ليس له أن يأخذ منه مئونة لاسترداده ليباشر بنفسه الاسترداد، و لو لم يتمكّن من استرداده إلّا المالك و لكن مع المئونة كان له أن يأخذ مئونة الاسترداد، و لو تعذّر إحضاره أو استرداده للمشتري كان للمالك أن يأخذ منه بدل الحيلولة مثلاً أو قيمة ليتصرّف فيه و ينتفع به أو يكتسب به إلى أن يتمكّن من عين ماله على معنىً إليه، فيردّ ما أخذه من البدل عيناً أو عوضاً مع عدم بقاء العين إلى المشتري.

هذا كلّه على تقدير بقاء عين المال في يد المشتري أو في يد من دفعه إليه.

و لو لم تكن العين باقية بأن تكون تالفة و في حكم التلف تعذّر الوصول إليها أبداً - كما لو ألقاها إلى البحر أو أخذها ظالم متسلّط و ما أشبه ذلك - كان عليه ضمان

ص: 854

عوضه للمالك مثلاً أو قيمة، لعموم «على اليد» و غيره، بل الظاهر أنّه كضمان العين محلّ وفاق.

المسألة الثالثة: فيما يتعلّق بالمشتري من رجوعه على البائع بثمنه و بما اغترمه للمالك و عدمه،
اشارة

ففيه مقامان:

المقام الأوّل: في رجوعه عليه بالثمن و عدمه،
اشارة

فنقول: إنّه حين الابتياع إمّا أن يكون جاهلاً بالغصبيّة، أو يكون عالماً بها، فإن كان جاهلاً فلا إشكال بل لا خلاف ظاهراً في أنّه يرجع على البائع بالثمن الّذي دفعه إليه فيأخذه عيناً إن كان باقياً و إلّا فعوضه مثلاً أو قيمة، و عن المختلف(1) و شرح الإرشاد(2) لفخر الإسلام الإجماع عليه، و في جواهر(3) شيخنا الإجماع بقسميه، و هو مع كونه إجماعيّاً منصوص عليه في بعض الأخبار كخبر جميل بن درّاج - المدّعى كونه موثّقاً - عن أبي عبد اللّه عليه السلام «في الرجل يشتري الجارية من السوق فيولّدها، ثمّ يجيء مستحقّ الجارية، فقال: يأخذ الجارية المستحقّ ، و يدفع إليه المبتاع قيمة الولد، و يرجع على من باعه بثمن الجارية و قيمة الولد الّتي اُخذت منه»(4).

و هو مع هذا كلّه مطابق للقواعد لأنّه لم يدفع الثمن إلى البائع مجّاناً بل إنّما دفعه عوضاً عن المبيع، فإذا لم يسلّم له العوض و خرج مستحقّاً للغير يستحقّ الرجوع بماله عيناً أو عوضاً، فأصل الحكم ممّا لا ينبغي الاسترابة فيه.

ثمّ ربّما يشكل الحال في أنّه لو أقرّ المشتري حال المبايعة بمالكيّة البائع للمبيع فهل يسقط به استحقاقه الرجوع عليه بثمنه - نظراً إلى أنّه إقرار باستحقاق البائع للثمن فيكون إقراراً بعدم استحقاقه له فلا يستحقّ الرجوع عليه به - أو لا يسقط؟ نظراً إلى ظهور استناده فيه إلى ظاهر اليد فيكون إقراراً بالمالك الظاهري لا باستحقاقه له في الواقع، فإذا تبيّن خلاف الواقع بخروج المبيع مستحقّاً للغير ظهر استحقاقه له في الواقع فيستحقّ الرجوع عليه بأخذه منه، و من ثمّ قال شيخنا قدس سره: «و لا يقدح في ذلك اعترافه

ص: 855


1- المختلف 56:5.
2- شرح الإرشاد للنيلى: 47.
3- الجواهر 301:22.
4- الوسائل 5/592:14، ب 88 نكاح العبيد و الإماء.

بكون البائع مالكاً لأنّ اعترافه مبنيّ على ظاهر يده»(1) و في معناه قول العلّامة في القواعد(2) و التذكرة(3) و نهاية الإحكام(4).

و لا يبطل رجوع المشتري الجاهل بادّعاء الملكيّة للبائع لأنّه يبني على الظاهر، و قال السيّد الشارح في شرح عبارة القواعد: «يريد أنّ المشتري الجاهل إذا ادّعى أنّ هذا المال مال زيد و قد باع عينه(5) ثمّ ثبت أنّه مال الغير لم يمنع قوله ذلك عن الرجوع على زيد، لأنّه بنى في ذلك على الظاهر و إن كان ظاهر قوله ينافي استحقاق الرجوع»(6) انتهى.

ثمّ إنّ العلّامة في القواعد لم يستشكل فيما ذكره من عدم سقوط استحقاقه الرجوع بإقراره السابق و لم يحتمل أيضاً خلافه، و في التذكرة استشكل فيه بقوله: «على إشكال» ينشأ من اعترافه بالظلم فلا يرجع على غير ظالمه، و عنه في نهاية الإحكام احتمال عدم الرجوع لاعترافه بالظلم فلا يرجع على غير ظالمه. و مراده بالظلم الّذي اعترف أخذ الغير المدّعي لكون المال ماله، المال منه. و يرد على إطلاقه أنّه إنّما يكون ظلماً إذا أخذه منه قهراً لمجرّد الادّعاء، و قد يأخذه منه بحقّ كما لو ادّعاه فأقام عليه البيّنة عند الحاكم فأخذه بحكم الحاكم فلا يكون حينئذٍ معترفاً بالظلم لئلّا يستحقّ الرجوع على غير ظالمه، و مع الغضّ عن ذلك فمستنده في اعترافه بالظلم إنّما هو البناء على ظاهر اليد، فكما أنّ إقراره بالملكيّة المستند إليه لا يؤثّر في سقوط استحقاقه الرجوع، فكذلك اعترافه بالظلم المستند إليه لا يؤثّر في سقوط استحقاقه.

ثمّ إنّ شيخنا قدس سره بعد كلامه المتقدّم، قال: «نعم لو اعترف به على وجهٍ يعلم عدم استناده إلى اليد - كأن يكون اعترافه بذلك بعد قيام البيّنة - لم يرجع بشيء، و لو لم يعلم استناد الاعتراف إلى اليد أو إلى غيره، ففي الأخذ بظاهر الحال من استناده إلى اليد أو بظاهر لفظ الإقرار من دلالته على الواقع وجهان»(7).

ص: 856


1- المكاسب 484:3.
2- القواعد 19:2.
3- التذكرة 18:10.
4- نهاية الإحكام 478:2.
5- في هامش الأصل: عنه نسخة بدل.
6- مفتاح الكرامة 640:12.
7- المكاسب 484:3.

أقول: إقرار المشتري الجاهل بمالكيّة البائع قد يستند إلى علمه بكونه مالكاً، و قد يستند إلى سبب صحيح معتبر شرعاً قائم مقام العلم باعتبار كونه مرآتاً للواقع كالبيّنة القائمة عند الحاكم، و قد يستند إلى سبب شرعي مفيد للملكيّة الظاهريّة كاليد و نحوه استصحاب الملكيّة السابقة، و قد يستند إلى سبب غير صحيح كإخبار من لا يعتبر إخباره كالفاسق أو الصبيّ أو المجنون إذا أخبر أحدهم بكونه مالكاً و عوّل عليه المشتري فأقرّ بمالكيّته، و قد لا يعلم استناده إلى أيّ شيء من الاُمور المذكورة.

ثمّ إنّ موضوع الكلام في المسألة لمّا كان هو الجهل بالغصبيّة المقابل للعلم بالمعنى الأعمّ ، من العلم الحقيقي و العلم الشرعي الّذي منه البيّنة العادلة القائمة عند الحاكم المقبولة لديه، فيما لو ادّعى أحد عند اشترائه المال من بائعه المدّعي للمالكيّة أو المأذونيّة عن المالك كونه مالكاً له و أقام عند الحاكم بيّنة عادلة مقبولة، فإنّه حينئذٍ لو اشتراه مع قيام البيّنة المذكورة فإن أخذه المدّعي بعد ذلك منه كان حكمه من حيث رجوعه على البائع بثمنه كحكم المشتري العالم بالغصبيّة، فإن بنينا فيه على عدم استحقاق الرجوع مطلقاً أو إذا لم يكن عين الثمن باقية فهذا أيضاً لا يستحقّ الرجوع كذلك، لأنّ البيّنة المفروضة علم شرعي بالغصبيّة في حقّه و إن لم يحكم الحاكم على طبقها بعد، لأنّ الحقّ يثبت بمجرّد قيامها عنده بحيث تكون مقبولة لديه و لا مدخليّة لحكمه الإنشائي في ثبوت الحقّ ، بل هو إلزام على ردّه إلى صاحبه حتّى يتفرّع إليه عدم جواز نقضه.

و أمّا لو ادّعى أحد المالكيّة في المال من دون إقامته البيّنة أو مع إقامته بيّنة ناقصة - كشهادة عدل واحد، أو شهادة فاسقين، أو شهادة عدل و فاسق، أو بيّنة عادلة عند غير الحاكم، أو عنده مع عدم قبوله إيّاها - فهو غير خارج في شيء من هذه الصور عن عنوان الجاهل بالغصبيّة حتّى في صورة قيام البيّنة العادلة عند غير الحاكم، لأنّ استماع البيّنة في مقام الخصومة بالدعوى و الإنكار أو بالتداعي من وظيفته لا وظيفة غيره.

فنحو هذه البيّنة ليس علماً شرعيّاً في حقّ المشتري، و كذلك ما لم يقبله الحاكم و إن كانت تامّة عند المشتري، فله حينئذٍ اشتراء ذلك المال، و لو تبيّن بعد اشترائه فساد العقد و خروج المال مستحقّاً لمدّعيه حين الاشتراء يرجع على المشتري و يأخذ منه ثمنه.

ص: 857

نعم لو كان عالماً بسبق ملك ذلك الغير المدّعي له و سبق يده عليه بأن علم أنّه كان مالكاً له في سابق الزمان و لكن يجده الآن في يد البائع المدّعي للمالكيّة أو المأذونيّة من المالك رجع الواقعة إلى مسألة تعارض اليدين إحداهما سابقة و الاُخرى لاحقة، فإن بنينا في تلك المسألة على تقديم اليد السابقة استصحاباً للحال، فليس له الاشتراء، و لو اشتراه ثمّ انتزعه منه مدّعيه كان حكمه كحكم المشتري العالم بالغصبيّة، لأنّ القاعدة المقتضية لتقديم اليد السابقة علم شرعي في حقّه. بخلاف ما لو بنينا في تلك المسألة على تقديم اليد اللاحقة اعتباراً للحال و حملاً لها على الصحّة فله الاشتراء ثمّ الرجوع بعده على البائع بثمنه على تقدير خروج المال مستحقّاً لمدّعيه، لعدم خروجه عن عنوان الجاهل بمجرّد ادّعاء المدّعي و لا بمجرّد علمه بسبق ملكه و يده، فليتدبّر.

و إن كان عالماً بالغصبيّة ففي رجوعه على البائع بالثمن مطلقاً، أو عدمه كذلك، أو إذا كان باقياً دون ما لو كان تالفاً، وجوه:

فقيل بأنّه لا يرجع مطلقاً، و هو ظاهر إطلاق الشيخ في النهاية(1) و ربّما عزي الموافقة له إلى بني إدريس(2) و زهرة(3) و حمزة(4) و نسب أيضاً إلى ظاهر السيّد(5) قدس سره و لكنّا لم نجد من كتبهم، و نسبه في التذكرة(6) إلى علمائنا مؤذناً بدعوى الإجماع، و يقرب منه ما عنه في نهاية الإحكام(7) و المختلف(8).

ففي الأوّل: «أطلق علماؤنا ذلك» و في الثاني «قال علماؤنا: ليس للمشتري الرجوع على الغاصب، و أطلقوا القول في ذلك» و نحوه حكي عن ولده في الإيضاح(9)و عنه في موضع آخر نسبته تارةً إلى قول الأصحاب، و اُخرى إلى نصّهم، و ثالثة إلى الأكثر(10) و في المسالك(11) و الرياض(12) و الكفاية(13) نسبته إلى المشهور، و في موضع من الروضة(14) نسبته إلى الأكثر.

و قيل بالرجوع مع البقاء دونه مع التلف كما اختاره العلّامة في كثير من كتبه

ص: 858


1- النهاية: 402.
2- السرائر 266:2.
3- الغنية: 207.
4- الوسيلة: 237.
5- الرياض 229:8.
6- التذكرة 18:10.
7- نهاية الإحكام 478:2.
8- المختلف 55:5.
9- الإيضاح 417:1.
10- الإيضاح 194:2.
11- المسالك 106:3.
12- الرياض 228:8.
13- الكفاية: 89.
14- الروضة 235:3.

كالتذكرة(1) و المختلف(2) و نهاية الإحكام(3) و القواعد(4) و عن ولده في الإيضاح(5)و شرح الإرشاد(6) و اختاره الشهيدان في الدروس(7) و المسالك(8).

و عن المحقّق [الثاني] في جامع المقاصد(9) و عن المحقّق الأردبيلي في مجمع الفائدة(10) التردّد، و ربّما عزي إلى المحقّق في الشرائع(11) لمكان قوله: «و قيل لا يرجع بالثمن مع العلم بالغصب»(12) من غير ترجيح و لا ردّ له.

و أمّا الرجوع مطلقاً فلم نقف على قائل به صريحاً و لم ينقل القول به في كلامهم، نعم احتمله في المسالك ناسباً له إلى المحقّق في بعض فتاويه قال: «و لو لا ادّعاء العلّامة في التذكرة الإجماع على عدم الرجوع مع التلف لكان في غاية القوّة»(13) و استحسنه في الرياض.

و نحن نتكلّم تارةً في حكمه مع البقاء، و اُخرى فيه مع التلف، فيقع الكلام فيهما في مسألتين:
المسألة الاُولى: أنّ الأصحّ الأقوى و الأوفق بالقواعد أنّه يرجع بالثمن مع بقاء عينه،

لنا على ذلك أنّه عين ماله و ملكه فيستحقّ انتزاعه من يد الغاصب لعموم «الناس مسلّطون على أموالهم» إذ المفروض عدم خروجه عن ملكه و لا انتقاله إلى البائع، ضرورة أنّه يحتاج إلى سبب شرعي و ليس بمتحقّق، لأنّه إن كان هو العقد الّذي لم يجزه المالك فالمفروض بطلانه بالفسخ، و إن كان تجارة عن تراض فالمفروض عدم وقوعها بينهما، و إن كان هبة فالمفروض عدم قصدها حين الدفع و لو سلّم قصدها و تحقّق شرائطها فهي أيضاً في غير ذي رحم ما دامت العين باقية قابلة للفسخ و الرجوع، و إن كان الإعراض بدعوى أنّه في دفعه إيّاه إلى البائع مع علمه بعدم استحقاقه له إعراض عن ماله، ففيه أوّلاً: أنّه لم يقصد الإعراض، و لو سلّم فغايته أنّ البائع بقصده التملّك ملكه ملكاً متزلزلاً فإذا عاد المالك و رجع بماله فهو أولى به.

ص: 859


1- التذكرة 18:10.
2- المختلف 56:5.
3- نهاية الإحكام 478:2.
4- القواعد 19:2.
5- الايضاح 417:1.
6- شرح الإرشاد للنيلي: 46.
7- الدروس 193:3.
8- المسالك 154:3.
9- جامع المقاصد 71:4 و 77.
10- مجمع البرهان 164:8-165.
11- الشرائع 13:2.
12- مجمع البرهان 164:8-165.
13- المسالك 154:3.

و دعوى: أنّه سلّطه على إتلافه مجّاناً، يدفعها: أنّ التقدير تقدير عدم تحقّق الإتلاف، و كون التسليط بمجرّده مخرجاً عن الملك أو ناقلاً إلى البائع أوّل المسألة، و يحتاج إلى دليل و هو منتف و الأصل يقتضي عدمه.

حجّة القول بعدم الرجوع: ما أشار إليه في المسالك فإنّه في شرح عبارة الشرائع و قيل: لا يرجع بالثمن مع العلم بالغصب، قال: «هذا هو المشهور بين الأصحاب مطلقين الحكم فيه الشامل لكون الثمن باقياً أو تالفاً، و وجّهوه بكون المشتري قد دفعه إليه و سلّطه عليه مع علمه بعدم استحقاقه له فيكون بمنزلة الإباحة، و هذا يتمّ مع تلفه، أمّا مع بقائه فله أخذه لعموم النصوص الدالّة على ذلك بل يحتمل الرجوع بالثمن مطلقاً، و هو الّذي اختاره المصنّف في بعض تحقيقاته لتحريم تصرّف البائع فيه حيث إنّه أكل مال بالباطل فيكون مضموناً عليه...»(1) إلى آخر ما ذكر.

و قد يجاب أيضاً بالنقض بالمقبوض بالعقد الفاسد من المثمن و الثمن، فإنّ كلاًّ من المتعاقدين يسلّط صاحبه على ماله. و لعلّ المراد نقضه بصورة علمهما بفساد العقد و إلّا كان في غير محلّه.

و التحقيق في الجواب أن يقال: إنّه من جهة التعبير بكونه بمنزلة الإباحة ينتج ضدّ المطلوب، لأنّ كون شيء بمنزلة شيء في الروايات و عبائر العلماء بل في العرف و اللغة أيضاً عبارة عن لحوقه به في حكمه مع عدم دخوله في اسمه، كما يقال: «النبيذ بمنزلة الخمر» و ماء في قوله عليه السلام: «ماء الحمام بمنزلة الجاري» و ما أشبه ذلك، و حينئذٍ نقول: إنّ كون التسليط المذكور بمنزلة الإباحة على تقدير تسليمه معناه أنّه ليس بإباحة اسماً و لكن حكمه حكم الإباحة، و من حكم الإباحة جواز رجوع المالك المبيح إلى ما أباحه مع بقائه و أخذه من المباح له، فالدليل المذكور ينتج جواز الرجوع بالثمن مع بقائه لا عدم جوازه.

و في كلام غير واحد التعبير مكان ما تقدّم بعبارة «فيكون إباحة» و يرد عليه أيضاً أنّه لو سلّمنا كونه إباحة ينتج خلاف المطلوب، مع تطرّق المنع إلى كونه إباحة، لأنّه إمّا

ص: 860


1- المسالك 160:3.

أن يراد به الإباحة المالكيّة كما هو الظاهر، أو الإباحة الشرعيّة على معنى أنّ الشارع أباحه للبائع من جهة تسليط البائع له على إتلافه، و أيّاً ما كان فهو ليس بمسلّم.

أمّا الأوّل: فلأنّ المشتري لا يقصد بدفعه إنشاء الإباحة للبائع خصوصاً مع توقّعه لحوق إجازة المالك، بل إنّما قصد به كونه عوضاً عمّا يأخذه من البائع و لو كان عالماً بالغصبيّة بل بفساد البيع لأنّ علمه ذلك لا ينافي قصد العوضيّة، و لا ريب أنّ قصد العوضيّة بدفعه لا يتضمّن قصد إنشاء الإباحة للبائع مجّاناً.

و أمّا الثاني: فلأنّ الإباحة الشرعيّة تحتاج إلى دليل، و المفروض أنّ المستدلّ لم يأت بما يصلح دليلاً، بل ادّعى كون دفعه تسليطاً و كون التسليط إباحة، و هذا مع منع صغراه مصادرة بالمطلوب في كبراه، لأنّ كون التسليط إباحة شرعيّة أوّل المسألة.

و في مفتاح الكرامة تبعاً للشيخ النجفي في شرحه للقواعد توجيه عدم جواز الرجوع «بأنّ من الجائز أن يكون عدم جواز الرجوع للمشتري عقوبة له حيث دفع ماله معاوضاً به على محرّم، فيكون الغاصب البائع مخاطباً بردّه، فإن بذله أخذه المشتري و إن امتنع منه بقي للمشتري في ذمّته، و إن لم يجز له مطالبته كما هو الشأن فيما لو حلف المنكر كاذباً على عدم استحقاق المال في ذمّته»(1).

و هذا كما ترى أضعف من سابقه، لأنّ كون شيء عقوبة شيء يذكره الأصحاب في بعض المقامات نكتة لحكم شرعي بعد وقوعه و ثبوته و دلالة الدليل عليه، كما ذكروه في باب الحجّ في مسألة إفساد الحجّ فيمن أفاض عن العرفات قبل الغروب و لم يعد، فقد ثبت فيه بالنصّ و الإجماع أنّه يجب عليه إتمام ذلك الحجّ و إعادته أيضاً في العام المستقبل، و وجّهه الأصحاب بأنّ أحدهما عقوبة إمّا الإتمام أو الإعادة في القابل و الآخر مأمور به، و على هذا فالعقوبة فرع على ثبوت عدم جواز الرجوع مطلقاً بالدليل و المفروض عدمه، و الجواز العقلي مع عدم ثبوت عدم الجواز الشرعي لا يصلح دليلاً عليه.

و قد يستدلّ بفتوى الشيخ في النهاية بتقريب: أنّه لا يفتي فيها إلّا بمتون الروايات من غير اختلاف أو مع اختلاف يسير في بعض الألفاظ من غير تغيير للمعنى، فتكون

ص: 861


1- مفتاح الكرامة 618:12.

رواية مرسلة منجبرة هنا بموافقة القدماء، كابن إدريس و ابني زهرة و حمزة و ظاهر السيّد.

و هذا أيضاً كسابقيه في الضعف، لمنع كونها رواية مرسلة، و منع انجبارها على تقدير التسليم بما ذكر لمنع وضوح الموافقة، بل لم نجدها في كتبهم لا في باب البيع و لا في باب الغصب.

و قد يحتمل الاستدلال بالإجماعات المنقولة في عبائر العلّامة في كتبه المتقدّمة و عبارة الإيضاح، المعتضدة بالشهرات المحكيّة المتقدّمة.

و فيه - مع عدم صراحة العبائر المتقدّمة في دعوى الإجماع - أنّها موهونة بمخالفة مدّعيها في صورة بقاء العين، إذ قد عرفت أنّ العلّامة في الكتب المتقدّمة و ولده في الإيضاح مع نسبتهما القول بعدم جواز الرجوع إلى علمائنا أو إلى الأصحاب رجّحا جواز الرجوع مع بقاء العين، و هذا منهما يكشف عن عدم الإجماع عندهما في تلك الصورة بحيث لم يجز مخالفته. و أمّا الشهرات المحكيّة - فمع أنّها محكيّة و ليست محقّقة - فهي أيضاً تتوهّن بالعلم بفساد مدرك المشهور، إذ قد عرفت أنّ مستنده كما ذكره الشهيد(1) و غيره(2) ما تقدّم من تسليط المشتري الموجب لكون دفعه إباحة مجّانية أو بمنزلتها، و قد ذكرنا وجه فساده، و لا عبرة بالشهرة حيث علم فساد مدركها.

المسألة الثانية: المعروف عدم رجوع المشتري على البائع مع تلف ثمنه في يده،

و نقل عليه الإجماع في مفتاح الكرامة(3) و نسب نقله إلى العلّامة في التذكرة(4) و قد عرفت عبارة نقله، و حكي عن جامع المقاصد(5) و مستندهم ما تقدّم من أنّ سلّطه على ماله مجّاناً و بلا عوض.

لا يقال: إنّما دفعه إليه بعوض، و هو المبيع الّذي أخذه منه فإذا لم يسلم له العوض رجع عليه بما دفعه ثمناً، فإذا فرض تلفه في يده استحقّ عوضه مثلاً أو قيمة.

لأنّا نقول: إنّما دفعه إليه بعوض هو مال غيره لا بعوض من ماله ليكون ذمّته مشغولة بعوضه من ماله على تقدير التلف.

ص: 862


1- الدروس 193:3.
2- كما في جامع المقاصد 71:4.
3- مفتاح الكرامة 619:12.
4- التذكرة 18:10.
5- جامع المقاصد 71:4.

لا يقال: بناء المعاملة في بيع الغاصب على ادّعاء مالكيّته للمبيع، فعوض الثمن و إن كان مال الغير في الواقع إلّا أنّه مال ادّعائي للبائع، فالمشتري سلّطه على ماله بعوض هو مال ادّعائي للبائع فيتسلّط عليه بعوض ثمنه من ماله.

لأنّا نقول: إنّ ادّعاء الماليّة لا يوجب ضمانه بعوض الثمن المفروض تلفه في يده إلّا إذا كان ادّعائه بحيث أمضاه الشارع، و المفروض بحكم فساد العقد أنّ الشارع لم يمض ادّعاءه فلا يؤثّر في كون الثمن معوّضاً به من مال البائع ليكون ضامناً بعوضه في ذمّته.

فإن قلت: إنّ المقتضي لضمانه العوض عموم قوله عليه السلام: «على اليد ما أخذت»(1)فإنّه كما يقتضي وجوب ردّ عينه مع البقاء كذلك يقتضي وجوب أداء بدله مع التلف.

قلت: عموم الخبر مخصّص بفحوى ما دلّ على عدم الضمان في موارد الأمانة، كمن استأمنه المالك بدفع ماله إليه لحفظه كما في الوديعة، أو للانتفاع به كما في العارية، أو لاستيفاء منافعه المملوكة له كما في الإجارة، فإنّ الدفع على هذا الوجه - مع عدم كونه تسليطاً على الإتلاف - إذا لم يوجب الضمان فالدفع التسليطي على الإتلاف أولى بعدم كونه موجباً للضمان.

فإن قلت: إنّ البائع حال كون عين الثمن باقية إمّا أن يكون مخاطباً بردّه إلى المشتري أو لا، و الثاني باطل، لقوله تعالى: «لاٰ تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ إِلاّٰ أَنْ تَكُونَ تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ » (2) فإنّ الآية لظهور النهي في التحريم تدلّ على أنّ كلّ أكل للمال بالباطل محرّم، و قد استثني منه أكل المال المستند إلى تجارة عن تراضٍ ، و أكل البائع للثمن على معنى تصرّفاته فيه حال بقائه لم يكن أكلاً له عن تجارة عن تراض، لمكان بطلان بيعه فلا يصدق عليه التجارة عرفاً مع كون المبيع مال الغير، فيكون خارجاً عن المستثنى فيدخل في المستثنى منه فيكون أكلاً للمال بالباطل فيكون محرّماً. و قضيّة كونه محرّماً كونه مخاطباً بردّه إلى المشتري، و إذا كان مخاطباً بردّه مع بقائه كان مخاطباً بردّ عوضه مثلاً أو قيمة مع تلفه، و لا نعني من ضمانه العوض إلّا هذا.

قلت: كونه مخاطباً بردّه حال بقاء عينه إنّما يستتبع ضمانه العوض بعد تلفه إذا

ص: 863


1- عوالي اللآلئ 22/289:1.
2- النساء: 29.

ثبت وجوب ردّ عينه حال البقاء بخبر «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي» الّذي هو دليل على الضمان، و المفروض عدم دلالة الخبر عليه، لأنّ المراد باليد فيه إمّا اليد العادية على معنى الاستيلاء العدواني على مال الغير، أو اليد الغير المأذون فيها على معنى الاستيلاء الغير المأذون فيه على مال الغير، و لذا لا يتناول الخبر يد الأمانة بجميع أقسامها، و استيلاء البائع على الثمن حال بقائه لم يكن استيلاءً عدوانيّاً و لا استيلاءً غير مأذون فيه، لأنّ المشتري إنّما دفعه إليه بطيب نفسه. فإذا لم يدلّ الخبر على وجوب ردّه حال بقائه فلم يدلّ على ضمانه العوض بعد تلفه، و لا ينافيه جواز رجوع المشتري عليه حال البقاء لأنّه غير وجوب ردّه إليه حال البقاء على البائع قبل رجوع المشتري، و لا ملازمة بينهما.

نعم: إذا رجع عليه مع البقاء صار مخاطباً بردّه، فإذا امتنع عن ردّه يصير يده يد عادية أو غير مأذون فيها فيتناوله الخبر حينئذٍ، فإذا اتّفق تلفه و الحال هذه صار ضامناً لعوضه مثلاً أو قيمة، و لكنّ المفروض أنّ المشتري لم يرجع عليه حال بقائه بل رجع بعد تلفه.

و أمّا ثبوت وجوب ردّ العين بالآية حال البقاء بالتقريب المتقدّم و إن كان مسلّماً إلّا أنّه لا يستتبع ضمان العوض بعد تلفه، لأنّ الآية مسوقة لبيان حكم تكليفي و هو تحريم أكل المال بالباطل، و أمّا ضمان العوض مع التلف فهي ساكتة عنه نفياً و إثباتاً، فلا بدّ في إثباته من دليل آخر، و الآية غير وافية بإثباته.

فإن قلت: إنّ ضمان العوض يثبت بقاعدة الإقدام، و هو إقدام البائع على أن يكون الثمن في ضمانه، و لذا دفع المبيع إلى المشتري عوضاً، و قد استدلّ الشيخ(1) بها على الضمان في فساد ما يضمن بصحيحه.

قلت: إنّ البائع إنّما أقدم على ضمان الثمن بمال لغيره مع علم المشتري بكونه لغيره و لم يقدم عليه بمال لنفسه، و الموجب لضمان العوض على تقدير التلف مع عدم سلامة العوض الأوّل إنّما هو الثاني لا الأوّل.

فإن قلت: إنّ الضمان يثبت بقاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» كما استدلّ

ص: 864


1- المبسوط 85:3 و 89.

الأصحاب(1) بها لضمان المقبوض بالعقد الفاسد، و المفروض أنّ الثمن المدفوع إلى البائع بعد فساد البيع بعدم إجازة المالك مقبوض بالعقد الفاسد فيضمنه قابضه، لأنّ ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده، فإذا اتّفق تلفه في يد القابض ضمن عوضه.

قلت: ما نحن فيه ليس من موارد القاعدة، لأنّ معنى «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» أنّ كلّما يضمنه العاقد بمال نفسه في صحيح العقد يضمنه بمال نفسه أيضاً في فاسده، و لا ريب أنّ الغاصب البائع و كذلك العاقد الفضولي على تقدير صحّة العقد بإجازة المالك لا يضمن الثمن بمال لنفسه بل الضامن له على هذا الوجه إنّما هو المالك المجيز، فإذا لم يكن ضامناً له بمال لنفسه على تقدير الصحّة لم يكن ضامناً له بمال لنفسه على تقدير الفساد.

فإن قلت: يثبت الضمان بقوله عليه السلام: «لا يحلّ مال امرئ إلّا بطيب نفسه»(2) بتقريب أنّ المشتري و إن دفع الثمن إلى البائع بطيب نفسه لكن لا على كلّ تقدير بل على تقدير سلامة المبيع و بقائه في يده، فإذا لم يسلم و انتزعه المالك عنه فالمال المدفوع إلى البائع حينئذٍ لم يكن مدفوعاً إليه بطيب نفس مالكه فيكون في ضمانه عيناً و عوضاً على تقديري البقاء و التلف.

قلت: هذه الرواية واردة في مساق الآية المتقدّمة، فيكون مسوقة لبيان حكم تكليفي ساكتة عن الحكم الوضعي و هو الضمان.

فإن قلت: يثبت الضمان بقاعدة نفي الضرر المستفادة من قوله عليه السلام: «لا ضرر و لا ضرار»(3) فلو لم يضمن البائع عوض الثمن يتضرّر به المشتري، و هو منفيّ بعموم الخبر.

قلت: الخبر إنّما ينفي مجعوليّة كلّ حكم يترتّب عليه ضرر المسلم، بحيث يسند الضرر إلى الشارع حيث جعل ذلك الحكم، و الضرر هنا يسند إلى فعل المشتري نفسه حيث دفع ماله إلى من لا يستحقّه و سلّطه على إتلافه في مقابل مال علم بعدم صلاحيته لكونه عوضاً عن ماله، مع أنّه لا جعل هنا و عدم الضمان أمر عدمي ليس قابلاً للجعل

ص: 865


1- كما في جامع المقاصد 61:4، و 324:6، و المسالك 154:3.
2- عوالي اللآلئ 309/113:2.
3- الوسائل 5/429:25، ب 12 إحياء الموات، الكافي 8/294:5.

و إنّما يتعلّق الجعل بالاُمور الوجوديّة، فالضرر لا يترتّب على حكم مجعول حتّى ينفي الخبر مجعوليّته.

و لا يمكن التمسّك لإثبات ضمان العوض باستصحاب الحالة السابقة بدعوى أنّ المشتري حال وجود الثمن في يد البائع كان متسلّطاً على الرجوع به على البائع و بعد تلفه يشكّ في بقاء تلك السلطنة و الأصل بقاؤها، لأنّ الاستصحاب مع عدم بقاء موضوع المستصحب ممّا لا معنى [له]، و الحالة السابقة في زمان اليقين هي السلطنة على عين الثمن و هي غير باقية، و السلطنة على العوض غير ثابتة في الزمان السابق حتّى تستصحب.

و حينئذٍ نقول: إنّه إن شكّ في أمر يرجع إلى المشتري و هو أنّه هل يتسلّط على مطالبة عوض الثمن مثلاً أو قيمة و يستحقّه على البائع ؟ فالأصل عدمه، و إن كان في أمر يرجع إلى البائع و هو أنّه هل يجب عليه ردّ عوض الثمن إلى المشتري ؟ فالأصل براءة ذمّته عنه.

فتلخّص بجميع ما قرّرناه في المسألتين أنّ الأقوى في رجوع المشتري على البائع هو ما عليه العلّامة و متابعوه من التفصيل بين بقاء عين الثمن فيستحقّ الرجوع عليه به و تلفه فلا يستحقّ .

نعم يستثنى عن الحكم الثاني صور أربع:

الاُولى: ما لو باع الغاصب أو الفضولي لنفسه أو للمالك، و اشتراه المشتري بتوقّع إجازة المالك، و اتّفق أنّه لم يجزه و رجع على المشتري و انتزع عنه المبيع.

الثانية: ما لو قبض البائع الثمن بلا إقباض من المشتري اختياراً إمّا قهراً عليه أو بخفية أو بحيلة اُخرى.

الثالثة: ما لو شرط المشتري على البائع رجوعه عليه بثمنه لو رجع المالك عليه بانتزاع المبيع.

الرابعة: ما لو شرط المشتري لنفسه خيار الفسخ.

فهو في جميع هذه يستحقّ الرجوع بثمنه مطلقاً لأنّه لم يدفعه إليه فيها مجّاناً و لم يسلّطه على إتلافه بلا عوض. و لا ينافي هذا الاستثناء إطلاق الجماعة الحكم بعدم الرجوع مع التلف، لأنّ إطلاقهم منزّل على ما عدا الصور المذكورة، بل بمقتضى دليلهم

ص: 866

و هو التسليط المجّاني على الإتلاف منصرف إلى ما عداها، فهم أيضاً موافقون على استثنائها و إن لم يصرّحوا به في كلامهم.

المقام الثاني: في رجوعه عليه بما اغترم للمالك

- من عوض المنافع المستوفاة و الغير المستوفاة، و قيمة النماءات المنتفع بها من لبن أو صوف أو ثمرة، و النماءات التالفة تحت يده، و زيادة قيمة عين المالك على تقدير تلفها الموجب للرجوع بالقيمة - أو للعين من نفقة أو مئونة عمارة أو اُجرة خدمة أو حراسة أو نحو ذلك، و عدمه.

فنقول: إنّه إن كان عالماً بالغصبيّة فالمصرّح به في كلامهم قولاً واحداً أنّه لا يستحقّ الرجوع عليه بما اغترم مطلقاً و قد يدّعى عليه الإجماع بقسميه، لعدم الدليل عليه، فالأصل عدم استحقاقه له كما أنّ الأصل براءة ذمّة البائع عمّا اغترمه. و ليس لأحد أن يتوهّم قضاء قاعدة نفي الضرر باستحقاقه، لأنّه بنفسه أقدم على ضرره و أدخله على نفسه حيث عرّض نفسه للغرامات مع علمه بالغصبيّة.

و إن كان جاهلاً ففيه من حيث عدم حصول نفع في مقابل ما اغترمه - كنفقة الدابّة و مئونة العمارة و زيادة القيمة - و حصول نفع في مقابله كعوض المنافع المستوفاة و نحوها مرحلتان:

المرحلة الاُولى: فيما لم يحصل له في مقابله نفع، و المعروف بين الأصحاب من غير خلاف يظهر أنّه يرجع على البائع بهذا النوع ممّا اغترمه، و عن غصب الكفاية(1)و الرياض(2) نسبته إلى الأصحاب، و في مفتاح الكرامة(3) كما عن شرح الإرشاد(4) لفخر الإسلام دعوى الإجماع عليه، و عن السرائر(5) يرجع قولاً واحداً، و عن المحقّق(6)و الشهيد(7) الثانيين في كتاب الضمان نفي الإشكال عن ضمان البائع لدرك ما يحدثه المشتري إذا قلعه المالك.

و هو الحقّ الّذي لا محيص عنه، لقاعدة الغرر فإنّ البائع لبيعه مال الغير من غير إعلام المشتري غيره أوقعه في هذه الغرامات و المغرور يرجع على من غرّ، مضافاً إلى

ص: 867


1- الكفاية: 260.
2- الرياض 46:14.
3- مفتاح الكرامة 631:12.
4- شرح الإرشاد للنيلي: 47.
5- السرائر 493:2.
6- جامع المقاصد 340:5.
7- المسالك 205:4.

قاعدة نفي الضرر السليمة عن مزاحمة الإقدام، و إلى رواية جميل بن درّاج في خصوص قيمة ولد الجارية المنعقد حرّاً عن أبي عبد اللّه عليه السلام «في الرجل يشتري الجارية من السوق فيولدها، ثمّ يجيء مستحقّ الجارية، قال: يأخذ الجارية المستحقّ و يدفع إليه المبتاع قيمة الولد، و يرجع على من باعه بثمن الجارية و قيمة الولد الّتي اُخذت منه»(1).

و قيل في وجه الدلالة: «إنّ حرّية ولد المشتري إمّا أن يعدّ نفعاً عائداً إليه أو لا، و على التقديرين يثبت المطلوب»(2) و الرواية بقرينة حرّية الولد ظاهرة في جهل المشتري.

و قد يقال: بأنّ في توصيف قيمة الولد بأنّها اُخذت منه نوع إشعار بعلّية الحكم، فيطّرد في جميع موارد ما اُخذت.

و لا ينافيها في الدلالة على الرجوع بقيمة الولد رواية زرارة «في رجل اشترى من سوق المسلمين جارية فخرج بها إلى أرضه فولدت منه أولاداً، ثمّ أتاها من يزعم أنّها له و أقام على ذلك البيّنة، قال: يقبض ولده و يدفع إليه الجارية، و يعوّضه من قيمة ما أصاب من لبنها و خدمتها»(3) لأنّها مسوقة لبيان حكم المشتري مع المالك.

و دعوى: ورودها في مقام البيان بالنسبة إلى المشتري مع المالك و بالنسبة إليه مع البائع أيضاً، فسكوتها في معرض البيان من الجهة الثانية عن بيان رجوع المشتري على البائع بما اغترم دليل على عدم استحقاقه له. يدفعها: أنّ دلالة السكوت من باب الظهور و هو لا يزاحم نصوصيّة الرجوع بقيمة الولد، مع أنّ ما اغترمه في تلك الرواية من قيمة لبن الجارية و خدمتها من قبيل ما حصل في مقابله نفع للمشتري، و عدم الرجوع بها على البائع لا ينافي استحقاقه الرجوع بما لم يحصل في مقابله النفع.

و كذلك لا ينافيها لأجل السكوت رواية زريق المرويّة في الجواهر هكذا قال:

«كنت عند أبي عبد اللّه عليه السلام يوماً إذ دخل عليه رجلان... إلى أن قال: فقال: أحدهما إنّه كان عليّ مال لرجل من بني عمّار و له بذلك ذكر حقّ و شهود، فأخذ المال و لم أسترجع منه الذكر بالحقّ و لا كتبت عليه كتاباً و لا أخذت منه براءة بذلك، و ذلك لأنّي وثقت به، و قلت له: مزّق الذكر بالحقّ الّذي عندك، فمات و تهاون بذلك و لم يمزّقه، و عقيب هذا

ص: 868


1- الوسائل 5/592:14، ب 88 نكاح العبيد و الإماء.
2- المكاسب 494:3.
3- الوسائل: / 4، ب 88 نكاح العبيد و الإماء.

طالبني بالمال ورّاثه و حاكموني و أخرجوا بذلك الذكر بالحقّ و أقاموا العدول فشهدوا عند الحاكم فأُخذت بالمال و كان المال كثيراً فتواريت عن الحاكم، فباع عليّ قاضي الكوفة معيشة لي و قبض القوم المال، و هذا رجل من إخواننا ابتلي بشراء معيشتي، ثمّ إنّ ورثة الميّت أقرّوا أنّ المال كان أبوهم قد قبضه و قد سألوه أن يردّ عليّ معيشتي و يعطونه الثمن في أنجم معلومة، فقال: إنّي اُحبّ أن أسأل أبا عبد اللّه عليه السلام عن هذا، فقال الرجل - يعني المشتري - جعلني اللّٰه فداك كيف أصنع ؟ فقال: تصنع أن ترجع بمالك على الورثة و تردّ المعيشة إلى صاحبها و تخرج يدك عنها، قال: فإذا أنا فعلت ذلك له أن يطالبني بغير هذا؟ قال: نعم له أن يأخذ منك ما أخذت من الغلّة من ثمن الثمار، و كلّ ما كان مرسوماً في المعيشة يوم اشتريتها يجب أن تردّ ذلك، إلّا ما كان من زرع زرعته أنت فإنّ للزارع إمّا قيمة الزرع، و إمّا أن يصبر عليك إلى وقت حصاد الزرع، فإن لم يفعل كان ذلك له، و ردّ عليك القيمة و كان الزرع له، قلت: جعلت فداك فإن كان هذا قد أحدث بناءً أو غرساً؟ قال: له قيمة ذلك، أو يكون ذلك المحدث بعينه يقلعه و يأخذه، قلت: أ رأيت إن كان فيها غرس أو بناء فقلع الغرس و هدم البناء؟ قال: يردّ ذلك إلى ما كان أو يغرم القيمة لصاحب الأرض، فإذا ردّ جميع ما اُخذ من غلّاتها إلى صاحبها و ردّ البناء و الغرس و كلّ محدث إلى ما كان أو ردّ القيمة كذلك يجب على صاحب الأرض أن يردّ عليه كلّ ما خرج منه في إصلاح المعيشة من قيمة غرس أو بناء أو نفقة في مصلحة المعيشة، و دفع النوائب عنها كلّ ذلك فهو مردود إليه...»(1) الخ(2).

المرحلة الثانية: فيما حصل له في مقابله نفع - كأُجرة المنافع المستوفاة من سكنى دار و ركوب دابّة، و استخدام جارية و استيفاء بضعها و قيمة النماءات المنتفع بها من لبن و صوف و ثمرة و نحوها - ففي رجوعه على البائع و عدمه قولان:

أحدهما: أنّه لا يرجع، و هو للشيخ في الخلاف(3) و موضع من المبسوط(4) و الآبي في كشف الرموز(5) على ما نسب إليهم، و هو ظاهر الحلّي أيضاً في السرائر حيث قال:

ص: 869


1- الوسائل 1/340:7، ب 3 عقد البيع و شروطه.
2- «الخ» و الظاهر أنّه لا وجه له، لأنّ الحديث مذكور بتمامه.
3- الخلاف 410:3 مسألة 23.
4- المبسوط 71:3.
5- كشف الرموز 384:2.

«و يرجع المشتري بما غرمه من المنافع الّتي لم يحصل له في مقابلتها نفع إلّا أن يكون المشتري علم أنّه مغصوب»(1).

و ثانيهما: أنّه يرجع عليه كما عن الشيخ في المبسوط(2) أيضاً و الفاضلين في القواعد(3) و الشرائع(4) و النافع(5) و الشهيدين في الدروس(6) و المسالك(7) و الروضة(8)و فخر الإسلام في الإيضاح(9) و شرح الإرشاد(10) و المحقّق الثاني في جامع المقاصد(11)و الأردبيلي في مجمع البرهان(12) و اختاره جماعة(13) من مشايخنا قدّس اللّٰه أرواحهم و في كلام بعضهم كونه المشهور.

و عن غير واحد حكاية القولين من غير ترجيح، فيظهر منهم التردّد. و في مفتاح الكرامة «أنّ القولين يلتفتان إلى أنّه لمّا حصل له نفع و حصل عنده عوضه - كأن سكن الدار و أكل الثمرة و شرب اللبن - كان كأنّه قد اشترى و استكرى فلم يحصل عليه ضرر، و هو أوفق بالأصل، مع عدم معلوميّة صلوح المعارض للمعارضة لعدم وضوح دليل على ترتّب الضمان على الغارّ بمجرّد الغرور و إن لم يلحقه ضرر كما هو المفروض، و لم يثبت انعقاد الإجماع على هذه الكلّيّة بحيث يشمل ما نحن فيه. و إلى أنّه سلّطه عليه بأن يأكله مجّاناً و لا يعطي شيئاً غير ثمن المبيع، و لعلّه لو علم أنّه ليس له لم ينتفع به، فلم يسكن بأُجرة داراً أو لم يشرب بقيمة درّاً. فالظاهر الرجوع، لحصول الضرر، فكان الإجماع متناولاً لذلك، و لأنّه بمنزلة ما لو قدّم إليه طعام الغير فأكله جاهلاً... إلى أن قال: و يدلّ على بعض هذه الأحكام خبر(14) جميل بن درّاج عن أبي عبد اللّه عليه السلام»(15) الخ.

و يظهر من السيّد في الرياض(16) في باب البيع التوقّف لمكان استشكاله في الرجوع، و وجّهه في كتاب الغصب بما ملخّصه «عدم وضوح دليل على ترتّب الضمان على الغارّ

ص: 870


1- السرائر 325:2.
2- المبسوط 88:3.
3- القواعد 124:1.
4- الشرائع 246:3.
5- النافع: 248.
6- الدروس 193:3.
7- المسالك 190:3.
8- الروضة 237:3-238.
9- الإيضاح 420:2-421.
10- شرح الإرشاد للنيلى: 47.
11- جامع المقاصد 76:4-77.
12- مجمع البرهان 164:8.
13- كما في المكاسب 498:3، و الجواهر 301:22.
14- الوسائل 5/492:14، ب 88 نكاح العبيد و الإماء.
15- مفتاح الكرامة 633:12-634.
16- الرياض 228:8.

بمجرّد الغرور و إن لم يلحقه ضرر، كما فيما نحن فيه بمقتضى الفرض، لاستيفائه المنفعة في مقابلة ما غرمه، و الإجماع على هذه الكلّيّة غير ثابت بحيث يشمل نحو مفروض المسألة، نعم ربّما يتوجّه الرجوع حيث يتصوّر له الضرر بالغرور، كما إذا اُخذت منه قيمة المنافع أزيد ممّا يبذله هو في مقابلتها من غير ملكه و نحو ذلك»(1) انتهى.

و ظاهره انحصار دليل ضمان البائع في قاعدة الغرور و أنّ مدرك هذه القاعدة قاعدة نفي الضرر.

و ردّ بأنّ المستفاد من كلمات الأصحاب أنّها قاعدة اُخرى غير مبتنية على الضرر، فتراهم يتمسّكون بها في موارد لا يتحقّق فيها ضرر كما في خيار العيب، فإنّ كلّ عيب لا يعدّ ضرراً بل ربّما يعدّ نفعاً و يوجب منافع كما لو اشترى عبداً فخرج خصيّاً فإنّ الخصاء ربّما يوجب زيادة القيمة و يكون مرغوباً إليه و مطلوباً للعقلاء، و كما لو زوّج الأبرص ببرصاء و هو مغرور فيه و غير عالم بكونها برصاء فإنّه عيب يوجب خياراً له مع عدم كونه ضرراً في العرف و العادة.

و قد يستدلّ للمشهور و هو ضمان البائع الغارّ لما غرمه المشتري المغرور بقاعدتهم المعروفة من «أنّ السبب أقوى من المباشر» فإنّ إتلاف المنافع و إن كان بمباشرة المشتري غير أنّه لمّا كان مغروراً فكان إتلافه مسبّباً عن البائع، فكان البائع هو السبب الّذي هو أقوى من المباشر فيغرم بما غرم به المباشر، لأنّ الفعل في الحقيقة راجع إليه، نظير ما لو دفع غاصب مال الغير إليه بدعوى أنّه ملكه فوهبه له أو أباحه له ليأكله فأكله ثمّ تبيّن كونه مال الغير فجاء المالك و أخذ منه القيمة، فله الرجوع على الغاصب الغارّ لأنّه السبب في إتلافه.

و قد يستدلّ أيضاً: على ضمانه بقاعدة الضرر، فإنّ تغريم من أقدم على إتلاف شيء من دون عوض مغروراً من آخر بأنّ له ذلك مجّاناً من دون الحكم برجوعه على من غرّه في ذلك ضرر عظيم، و مجرّد رجوع عوضه إليه لا يدفع الضرر، و كيف كان فصدق الضرر و إضرار الغارّ به ممّا لا يخفى خصوصاً في بعض الموارد.

ص: 871


1- الرياض 47:14.

و في كلام بعض مشايخنا «لا بدّ من الرجوع إلى قاعدة كون الغارّ سبباً في تغريم المغرور فكان كشاهد الزور في ضمان ما يؤخذ بشهادته، أو قاعدة الضرر، أو الإجماع المدّعى في الإيضاح(1) على تقديم السبب إذا كان أقوى، أو الأخبار الخاصّة الواردة في الموارد المتفرّقة(2) و لا ريب في ثبوت هذه الوجوه فيما نحن فيه»(3).

أقول: ينبغي النظر في تتميم هذه الوجوه و عدمه.

أمّا الوجه الأوّل: فالنظر فيه يقتضي التكلّم تارةً في صغرى قاعدة الغرور، و اُخرى في كبراها.

أمّا الصغرى فالتكلّم فيها تارةً ببيان معنى الغرور و مفهومه عرفاً و لغة، و اُخرى ببيان تحقّق هذا المفهوم في محلّ البحث.

أمّا الأوّل فنقول: إنّ جماعة من أهل اللغة(4) كالجوهري و الفيروزآبادي و ابن السكّيت و الأصمعي و ابن الأثير و الأزهري و الهروي و الطريحي ذكروا لمادّة الغرّ و الغرور و الغرر و الغرّة بالكسر و الغرّة بالضمّ معاني متعدّدة، إلّا أنّ ما يناسب منها مباحث الفروع و يرتبط بمقاصد الفقهاء في المسائل الفرعيّة معنيان:

أحدهما: معنى الغرر و هو الخطر بمعنى الهلاك، و عليه حمل الحديث النبويّ المتلقّى بالقبول عند الخاصّة و العامّة «نهى النبيّ عن بيع الغرر»(5) و هو بيع يكون محلّاً للخطر باعتبار كون أحد العوضين فيه في معرض الهلاك مشرفاً للتلف من جهة عدم الوثوق بالعوض الآخر المقابل له، لقيام احتمال لا يتسامح فيه عند العقلاء و من شأنه أن يحترز عنه في العرف و العادة بحيث من لم يلتفت إليه و لا يعتني به و أقدم على عدم الاحتراز عنه كان محلّاً للتوبيخ و مستحقّاً للّوم عند العقلاء، من جهة تضييعه ماله و تعريضه للتلف و خروجه عنه بلا عوض، أو بعوض غير مطابق لغرضه، إمّا لكون العوض الآخر المقابل في معرض تعذّر الوصول إليه كبيع السمك في الماء و بيع الطير

ص: 872


1- الإيضاح 192:2.
2- الوسائل 4/593:14 و 5 و ب 88 نكاح العبيد و الإماء.
3- المكاسب 499:3-500.
4- كما في القاموس 627:1، و مجمع البيان 422:3-423 (مادّة غرّ).
5- الوسائل 3/448:17، ب 40 آداب التجارة.

في الهواء و بيع الآبق بلا ضميمة و ما أشبه ذلك، أو في معرض عدم الدخول في الوجود الخارجي كبيع الملاقيح و بيع الحمل و الجنين في بطن اُمّه، أو في معرض عدم مطابقته للغرض و المطلوب كبيع ما جهل جنسه أو صنفه أو وصفه، فهذا المعنى خارج عن محلّ البحث لكونه معتبراً في بيع الغرر الّذي يذكر في مقامات اُخر.

و ثانيهما: معنى الغرور و هو على ما في القاموس و غيره «غرّه غرّاً و غروراً و غرّة بالكسر فهو مغرور و غرير خدعه و أطمعه بالباطل، و اغترّ به خدع به»(1) فالغرور بمعنى الخداع و الخدعة و هو في الفارسيّة «فريفتن و فريب دادن» و الغارّ و الغرور بالفتح « فريب دهنده» و المغرور و الغرير «فريب داده شده» و اغترّ به «فريب داده شد» و هذا هو المعنى المراد من الغرور في قاعدة الغرور الّتي يعبّر عنها بأنّ كلّ مغرور يرجع إلى من غرّه.

و أمّا الثاني: فالظاهر بل المقطوع به تحقّق هذا المفهوم فيما نحن فيه، بل الظاهر عدم الخلاف في ذلك عند الأصحاب، إذ لم نقف على أحد ناقش في التمسّك بقاعدة الغرور لتغريم البائع ما اغترمه المشتري للمالك بمنع صغرى القاعدة، بل كلّ من ناقش فيه فإنّما ناقش من جهة الكبرى بمنع قيام دليل تامّ عليها من غير جهة الضرر و الإضرار، فإنّ البائع غرّ المشتري و خدعه حيث باعه مال الغير و لم يعلمه أنّه مال الغير، فهو لجهله زعمه مال نفسه و ملكه من جهة البيع فأتلف منافعه و نماءاته فغرمه المالك بأخذ عوض المنافع و قيمة النماءات منه، فإنّه لو كان عالماً بالغصبيّة لم يكن يشتريه و على تقدير الاشتراء بتوقّع إجازة المالك لم يتلف منه شيئاً حتّى يستقرّ حاله فيكون مغروراً في اشترائه و تصرّفه و إتلافه من البائع فيكون البائع غارّاً.

و قد يقرّر الصغرى بأنّ مفهوم الغرور الموجب للرجوع في باب الإتلاف و إن كان غير منقّح إلّا أنّ المتيقّن منه ما كان إتلاف المغرور لمال الغير و إثبات يده عليه، لا بعنوان أنّه مال الغير بل قصده إلى إتلافه مال نفسه أو مال من أباح له الإتلاف فيكون غير قاصد لإتلاف مال الغير، فيشبه المكره في عدم القصد.

و أمّا الكبرى فالغرض من التكلّم فيها هو النظر في مدرك هذه الكلّيّة ممّا استدلّ به

ص: 873


1- القاموس 627:1.

أو يمكن أن يستدلّ به بحيث يشمل المقام، و يكون نتيجته ضمان البائع الغارّ للمشتري فيما اغترمه للمالك فنقول: إنّه قد استدلّ عليها بوجوه، منها: قاعدة تقديم السبب على المباشر إذا كان أقوى منه المدّعى عليه الإجماع في الإيضاح(1).

و فيه: نظر، أمّا أوّلاً: فلمنع كون البائع السبب لإتلاف المنافع و النماءات أقوى من مباشرة الّذي هو المشتري، فإنّ ملاك تمييز الأقوى منهما من الأضعف هو أنّ التلف المبحوث عنه إن كان بحيث يسند في العرف و العادة إلى السبب لا إلى المباشر بل كان المباشر في نظر العرف بمنزلة الآلة - كما في المكره على إتلاف شيء إكراهاً سالباً لاختياره بحيث صدر الفعل منه بلا قصد و شعور - كان السبب فيه أقوى من المباشر، و إن انعكس الأمر كان المباشر أقوى فيه من السبب.

و لا ريب أنّ المقام ليس من قبيل الأوّل، لأنّ المشتري فيما صدر منه من الإتلافات لا يعدّ في العرف بمنزلة الآلة بل الإتلاف يسند إليه إسناداً حقيقيّاً لا يشوبه شكّ و ريبة، و لو سلّم صحّة إسناده إلى البائع أيضاً لتسبيبه فهو يوجب التساوي لا الأقوائيّة المقتضية لتقديم السبب في الضمان، فالإتلاف يسند إلى كلّ من المشتري و البائع، أمّا الأوّل فلمباشرته، و أمّا الثاني فلتسبيبه، نظير فتح البلد الّذي يصحّ إسناده إلى العسكر لمباشرته و إلى الأمير لتسبيبه.

و أمّا ثانياً: فلأنّ أقوائيّة السبب حيث سلّمناها إنّما ينتج تضمين السبب ابتداءً على معنى إرجاع الضمان المترتّب على الإتلاف الدائر بين السبب و المباشر إلى السبب، و ملخّصه كون البائع الّذي هو السبب الأقوى ضامناً لإعواض ما أتلفه المشتري بحيث يستحقّ المالك الرجوع عليه لا على المشتري و هذا خلاف المطلوب. و بعبارة اُخرى نتيجة قاعدة كون السبب أقوى من المباشر تغريم البائع للمالك، و المقصود من التمسّك بقاعدة الغرور تغريم البائع للمشتري بما اغترمه للمالك لا تغريم البائع للمالك ابتداءً .

و إن شئت قلت: إنّ المالك في أخذه عوض المنافع و قيمة النماءات من المشتري إمّا أن يستحقّ الرجوع على المشتري أو لا يستحقّ الرجوع عليه ؟ فإن كان الأوّل يبقى

ص: 874


1- الإيضاح 192:2.

أقوائيّة السبب بالنسبة إلى البائع بلا فائدة، و إن كان الثاني فكان المالك في رجوعه على المشتري و أخذه العوض و القيمة منه ظالماً فوجب أن يرجع المشتري بما اغترمه عليه لا على البائع، لأنّ كلّ مظلوم يرجع على ظالمه لا على غير ظالمه، فبقى تغريم البائع للمشتري بما اغترمه للمالك بلا دليل.

فإن قلت: أسباب الضمان كثيرة منها المباشرة و منها التسبيب، فالمشتري ضامن للمالك لمباشرته إتلاف منافع عينه و نماءاته، و البائع ضامن للمشتري لتسبيبه فإنّ اغترام المشتري للمالك ضرر بلغه من البائع فكان البائع سبباً لذلك الضرر فيضمنه لأجل ذلك.

قلت: هذا إثبات لتغريم البائع بقاعدة نفي الضرر و سيأتي الكلام فيه، و المقصود من الاستدلال إثباته بقاعدة الغرور المستدلّ عليها بقاعدة تقديم السبب الأقوى على المباشر، و قد عرفت أنّ الدليل لا ينتجه، و إثباته بقاعدة الضرر عدول عن الدليل المستدلّ به.

و منها: قاعدة العَدْوى على معنى العدوان المستفادة من قوله عزّ من قائل: «فَمَنِ اِعْتَدىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اِعْتَدىٰ عَلَيْكُمْ » (1) بتقريب أنّ اغترام المشتري عدوان بلغه من البائع فبمقتضى قوله: «فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اِعْتَدىٰ » (2) يرجع المشتري على البائع و يأخذ منه مثل ما أخذ منه.

لا يقال: اغترام المشتري للمالك ليس اعتداءً لأنّ المالك إنّما غرّمه بحقّ فالآية لا تتناول المقام، لأنّا نقول: إنّ اغترام المشتري له نسبة إلى المالك من حيث إنّه أخذ عوض ما أتلفه و نسبة إلى البائع من حيث إنّه صار سبباً لذلك الاغترام و أخذ الغرامة منه، فهو باعتبار نسبته إلى المالك و إن لم يكن اعتداء إلّا أنّه باعتبار نسبته إلى البائع اعتداء، و الآية تتناوله بهذا الاعتبار لا بالاعتبار الأوّل، و لا يخلو عن وجه.

و منها: قاعدة نفي الضرر المستفادة من قوله عليه السلام: «لا ضرر و لا ضرار في الإسلام»(3) فإنّ اغترام المشتري غرور و ضرر بلغه من البائع فوجب عليه جبرانه بضمانه للمشتري بما اغترمه للمالك.

و فيه: أنّ قاعدة نفي الضرر إن صلحت دليلاً على ضمان البائع لما اغترمه المشتري

ص: 875


1- البقرة: 194.
2- البقرة: 194.
3- سنن البيهقي 69:6.

فهي بنفسها كافية في إثباته و لا حاجة إلى توسيط قاعدة الغرور و ستعرف نهوضها و عدم نهوضها عليه، مع أنّ النسبة بين القاعدتين بحسب الموارد عموم و خصوص من وجه فلا تصلح إحداهما دليلاً على الاُخرى.

و منها: ما اشتهر بينهم من الخبر المعروف و هو «أنّ المغرور يرجع إلى من غرّه»(1)ذكره في العناوين معترفاً بأنّه لم يقف عليه في كتب الأخبار ثمّ قال: «و لكنّ الظاهر من سياق كلامهم أنّه مرويّ و حيث إنّ مضمونه مجمع عليه فلا يحتاج إلى ملاحظة سند و نحوه»(2) انتهى.

و فيه: نظر، بل منع، لأنّ ذلك كما لا يوجد في كتب الأخبار فكذلك لم نقف على ذكره بعنوان الخبريّة في كتب الاستدلال بل المذكور فيها هذا المضمون بعنوان القاعدة و لم يذكره مشايخنا المصنّفين قدّس اللّٰه أرواحهم في تصانيفهم، نعم ذكره في المستند(3)حاكياً نقله عن المحقّق الشيخ عليّ في حاشيته على الإرشاد. و على هذا فلو سلّم وروده خبراً فالإجماع على مضمونه لا يصلح جابراً لضعف سنده من جهة الإرسال، فإنّ غايته أنّه يكشف عن صدور هذا المضمون عن اهل بيت العصمة عليهم السلام و أمّا كشفه عن صدور الخبر المذكور بهذا المتن و تلك العبارة فلا. و هذا نظير الشهرة الجابرة لضعف سند الرواية الضعيفة من حيث إنّ المعتبر في الجبر الشهرة الاستناديّة لا مجرّد الشهرة في الفتوى إذا وافقت مضمون رواية ضعيفة من دون استناد إليها، فإنّه لا يكفي في جبر السند بحيث أوجبت الوثوق و الاطمئنان بصدورها من المعصوم.

و منها: الإجماع المحصّل من تتبّع كلامهم في مقامات الغرور، حيث يحكمون برجوع المغرور على الغارّ فضلاً عن الإجماعات المحكيّة، ذكره أيضاً في العناوين (4)و من مشايخنا(5) أيضاً من ادّعى الاتّفاق عليها مصرّحاً بأنّه يكشف عن وجود دليل معتبر عليها عندهم و إن لم نعثر عليه تفصيلاً. و هذا لا ضير فيه، و موارد هذا الإجماع كثيرة و من موارده ضمان من دفع مالاً إلى غيره بادّعاء المالكيّة فملكه أو أباح له إتلافه

ص: 876


1- سنن البيهقى 219:7.
2- العناوين الفقهيّة 443:2.
3- المستند 296:14.
4- العناوين الفقهيّة 443:2.
5- المكاسب 494:3.

فبان بعد الإتلاف أنّه مال الغير فجاء المالك و غرم المدفوع إليه فيرجع الغريم إلى الدافع بما اغترمه إجماعاً لكونه مغروراً منه، و نحوه ما لو أحضر عنده مال نفسه و هو جاهل به فبان بعد إتلافه كونه مال نفسه فيرجع إلى الدافع و يأخذ عوضه منه لكونه مغروراً منه في إتلافه.

و منها: تغريم من زوّج رجلاً بامرأة على أنّها حرّة أو بنت مهيرة أو باكرة فبانت أمة أو بنت أمة أو ثيّبة بمهرها أو نصف مهرها المأخوذ من الزوج، و كذا مدّعي الوكالة عن رجل في تزويج امرأة فظهر كذبه فإنّه يضمن نصف مهرها لكونه غارّاً.

و أمّا الوجه الثاني(1): فلأنّ عدم ضمان البائع للمشتري فيما اغترمه للمالك في إتلافاته المستندة في تسليط البائع عليها مجّاناً ضرر، و الضرر منفيّ في الإسلام، و نفي عدم الضمان إثبات له فهو المطلوب.

و يشكل بأنّ عدم الضمان أمر عدمي و خبر «لا ضرر و لا ضرار» الّذي هو مدرك القاعدة لا يتناول الاُمور العدميّة، لأنّ مفاده نفي جعل الأحكام الّتي يترتّب عليها ضرر المسلم بحيث يسند الضرر إلى اللّٰه تعالى من حيث إنّه جعلها، فيختصّ بالأحكام الوجوديّة لأنّها مجعولات الشارع، و الاُمور العدميّة ليست من مجعولاته بل و لا قابلة للجعل، فلا تكون مشمولة للخبر.

و يمكن الذبّ بأن ليس في متن الخبر لفظ الجعل و لا الحكم بل كلمة «لا ضرر» لتعذّر حقيقته و هو نفي ماهيّة الضرر حذراً عن الكذب تحمل على نفي الاُمور الموجبة للضرر من الأحكام المعدودة من شرع الإسلام الّتي يتديّن بها المسلمون، بحيث يسند الضرر المترتّب عليها إلى الشارع سواء كانت أحكام وجوديّة أو عدميّة، إذ كما أنّ وجوب الصلوات الخمس في الليل و النهار من شرع الإسلام و يتديّن به المسلمون، فكذلك عدم وجوب ما زاد عليها، و الخبر ينفي ما يعمّهما إذا ترتّب على وجود الأوّل أو عدم الثاني ضرر المسلم بحيث يسند الضرر إليه تعالى من حيث جعله الأوّل و عدم جعله الثاني.

ص: 877


1- تقدّم الوجه الأوّل في ص 872.

و بالجملة الأحكام الضرريّة وجوديّة كانت أو عدميّة، و ضابطها ترتّب الضرر على وجودها أو على عدمها، فكما يجب في حكمة الشارع عدم جعل الأحكام الّتي يلزم من وجودها ضرر المسلم، فكذلك يجب في حكمته جعل الأحكام الّتي يلزم من عدمها ضرر المسلم، و هذا هو مفاد الخبر الوارد في مقام الامتنان الّذي هو بالنسبة إلى الأحكام الوجوديّة عدم جعلها و بالنسبة إلى الأحكام العدميّة جعلها.

و نقول: فيما نحن فيه أنّ عدم ضمان البائع للمشتري فيما اغترمه حكم ضرري يترتّب الضرر على عدمه و يسند الضرر إلى الشارع لعدم جعله الضمان، و ينفيه عموم الخبر و نفيه إثبات لجعل الضمان. و يؤيّده مورد الخبر فإنّ عدم سلطنة الأنصاري على قلع عذق سمرة بن جندب ليمرّ إليها سمرة من دون استئذان الأنصاري ضرر على الأنصاري، كما أنّ سلطنة سمرة على المرور إليها من دون استئذان ضرر عليه، و قد أثبت النبيّ صلى الله عليه و آله و سلم للأنصاري سلطنة القلع نافياً لسلطنة سمرة بقوله: «اذهب فاقلعها وارم بها إليه أنّه لا ضرر و لا ضرار»(1).

لا يقال: عدم ضمان البائع قد يكون باعتبار حكم الشارع بعدمه، و قد يكون بمعنى حكمنا به باعتبار عدم الدليل على وجوده، و الخبر إنّما يكون نافياً له على الأوّل لا على الثاني، لعدم كون الضرر حينئذٍ مسنداً إلى الشارع فلا يعمّه الخبر على الثاني، و هو المراد من عدم ضمان البائع للمشتري لأنّا نفرض قضيّة البائع و المشتري من حيث الضمان و عدمه واقعيّة، و النقيضان كما لا يجتمعان في الواقع كذلك لا يرتفعان في الواقع.

فنقول: إنّ الشارع في الواقع إمّا جعل الضمان على البائع للمشتري فيما اغترمه للمالك أو لم يجعله، و لا سبيل إلى الثاني للزوم الضرر بحيث يسند لزومه إلى الشارع بسبب عدم جعله الضمان و هو منفيّ بعموم الخبر فتعيّن الأوّل، إذ لا واسطة بين الجعل و عدم الجعل و هو المقصود بالاستدلال.

و أمّا الوجه الثالث: و هو الإجماع فقد ذكره شيخنا قدس سره و قال: «إنّه و إن لم يرد في خصوص المسألة إلّا أنّ تحقّقه في نظائر المسألة كافٍ ، فإنّ رجوع آكل طعام الغير إلى

ص: 878


1- الوسائل 3/428:25، ب 12 كتاب إحياء الموات، التهذيب 651/146:7.

من دفعه هبة أو إباحة مورد الإجماع، و كذلك رجوع المحكوم عليه إلى شاهدي الزور بعد رجوعهما عن الشهادة»(1) و مراده قدس سره الإجماع على القاعدة المستنبط من الإجماعات المتحقّقة في الموارد الخاصّة، و هو ضمان كلّ من صار سبباً لضرر الغير بتدليس و نحوه، فلا يضرّه وجود الخلاف في خصوص المسألة لاندراجها في القاعدة المجمع عليها فتأمّل.

و أمّا الوجه الرابع: و هو الأخبار فهي أيضاً و إن لم ترد في خصوص المسألة، إلّا أنّ ورودها في الموارد الجزئيّة من نظائر المسألة كافٍ لاستفادة عموم القاعدة من ملاحظة مجموعها و الإشعارات و التعليلات الواقعة في جملة منها، فإنّ رجوع المحكوم عليه إلى شاهدي الزور مورد للأخبار.

و من الأخبار أيضاً رواية جميل المتقدّمة بناءً على أنّ حرّية الولد نفع حصل لمشتري الجارية في مقابل ما اغترمه من قيمة الولد، و قيل: «إنّ في توصيف قيمة الولد بأنّها اُخذت منه نوع إشعار بعلّة الحكم فيطّرد في سائر ما اُخذت منه»(2).

و منها: رواية أبي عبيدة عن أبي جعفر عليه السلام قال: «في رجل تزوّج امرأة من وليّها فوجد بها عيباً بعد ما دخل بها، قال: فقال: إذا دلّست العفلاء و البرصاء و المجنونة و المفضاة و من كان بها زمانة ظاهرة فإنّها تردّ على أهلها من غير طلاق، و يأخذ الزوج المهر من وليّها الّذي كان دلّسها...»(3) الخ. و التعليق على التدليس و التوصيف به أيضاً يفيد العلّيّة فيطّرد الحكم في جميع موارد العلّة.

و منها: رواية رفاعة بن موسى قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السلام إلى أن، قال: و سألته عن البرصاء؟ فقال: قضى أمير المؤمنين عليه السلام في امرأة زوّجها وليّها و هي برصاء أنّ لها المهر بما استحلّ من فرجها، و أنّ المهر على الّذي زوّجها، و إنّما صار عليه المهر لأنّه دلّسها»(4) و العلّة المنصوصة عامّة لجميع مواردها الّتي منها ما نحن فيه، إلى غير ذلك ممّا يقف عليه المتتبّع.

ص: 879


1- المكاسب 500:3-501.
2- المكاسب 495:3.
3- الوسائل 1/211:21، ب 2 العيوب و التدليس، التهذيب 1699/425:7.
4- الوسائل 2/212:21، ب 2 العيوب و التدليس، التهذيب 1697/424:7.

و أمّا القول بعدم الرجوع فلم نقف له على مستند، و لعلّه الأصل بادّعاء عدم الدليل على استحقاق الرجوع، و قد عرفت الدليل عليه فانقطع به الأصل.

و العجب عن صاحب الحدائق(1) حيث زعم أن لا رجوع للمشتري على البائع بشيء سوى الثمن، و استند في ذلك إلى أنّه لم يذكر شيء من ذلك في خبر زريق المتقدّم مع كونه في مقام بيان.

و اُجيب عنه: بأنّ من لحظ الخبر ظهر له أنّه عليه السلام إنّما كان جوابه فيما سأله السائل على وفق سؤاله، و لم تكن همّة السائل في فقرات سؤاله إلّا في تخليص نفسه و تفريغ ذمّته من حقّ المالك، و من المعلوم أنّه لو لم يسأله ثانياً و ثالثاً لاقتصر عليه السلام على جوابه الأوّل، أ تراك تقدر أن تقول بأنّه عليه السلام لو اقتصر على جوابه الأوّل ليس للمالك إلّا أخذ معيشته، كلّا و لا يظنّ بأحد أن يتفوّه بذلك.

فروع:
الأوّل: لا يعتبر في رجوع المشتري على البائع بما اغترم علم البائع بأنّه مال الغير أو أنّه غير مأذون و لا وكيل،

فلو باعه باعتقاد أنّه مال نفسه أو باعتقاد المأذونيّة أو الوكالة فبان الخلاف ضمن ما اغترمه المشتري للمالك كما هو الظاهر من إطلاق أكثر الفتاوي و صريح العناوين، حيث إنّه في بيان تفصيل قاعدة الغرور قال: «و أمّا لو كان عالماً و لم يكن قاصداً للتغرير و لكنّه أثّر فعله في الغرور فالظاهر صدق الغارّ عليه، و أمّا لو كان جاهلاً بالواقع كمن اعتقد أنّه مال نفسه فبذله لغيره فتبيّن أنّه مال الغير فهل يصدق عليه الغارّ أم لا؟ احتمالان. و مثله ما لو زعم أنّه مأذون في الدفع أو اعتقد أنّه وكيل أو نحو ذلك من الطرق الرافعة للضمان باعتقاده فبان خطؤه، و الّذي يقوى في النظر حينئذٍ أنّ ذلك أيضاً يعدّ غروراً، فإنّ فعله قد غرّ الآخذ»(2) و يظهر ذلك أيضاً من شيخنا في الجواهر حيث قال: «لتعميم الضمان من جهة قاعدة الغرور و إن لم يقصد التغرير»(3) خلافاً لما في مستند النراقي من تخصيصه الضمان بصورة علم البائع «بأنّه مال الغير لتحقّق التغريم و التدليس»(4).

ص: 880


1- الحدائق 393:18-394.
2- العناوين الفقهيّة 441:2.
3- الجواهر 301:22.
4- المستند 296:14.

و تحقيق المقام: أنّ الجهة المقتضية لضمان البائع لما اغترمه المشتري إن كانت تدليسه استناداً إلى أخبار التدليس فالمتّجه عدم ضمان مع الجهل لعدم صدق التدليس بمعنى إخفاء العيب معه، و كذلك إن كانت تغريمه لعدم صدق غرّه بمعنى خدعه معه، و إن كانت تسبيبه لتضرّر المشتري فالمتّجه ضمانه لقاعدة نفي الضرر الّتي لا فرق فيها بين صورتي العلم و الجهل و لا يعتبر فيه قصد الإضرار، و لذا يضمن حافر بئر في الطريق بوقوع أعمى فيها و إن لم يكن بحفره قاصداً له، و يؤيّده بل يدلّ عليه إطلاق قوله عليه السلام في خبر جميل: «و يرجع بقيمة الولد الّتي اُخذ منه».

الثاني: لو تبرّع متبرّع بأداء ما ضمنه المشتري للمالك من الاُجرة و القيمة و سائر ما في عهدته للمالك،

فالوجه سقوط ضمان البائع له و عدم استحقاقه للرجوع عليه بما دفع عنه المتبرّع، لعدم وقوع ضرر مالي عليه و لم يؤخذ منه شيء.

و توهّم: أنّه مغرور من البائع في تصرّفاته و إتلافاتها فيرجع عليه بقاعدة «أنّ المغرور يرجع على من غرّه» مدفوع بأنّ المغرور يستحقّ الرجوع على الغارّ بما اُخذ منه، و مفروض المقام أنّه لم يؤخذ منه شيء، فمجرّد صدق كونه مغروراً غير مفيد.

و أولى منه بعدم استحقاقه الرجوع على البائع لو أبرأه المالك عمّا ضمنه له بإتلافاته و غيرها. و أمّا لو احتسبه عليه خمساً أو زكاة إذا كان من أهل استحقاقهما ففي رجوعه على البائع و عدمه احتمالان، أوّلهما لا يخلو عن قوّة لأنّ الاحتساب بمنزلة أخذ المال منه فكأنّه دفع إليه الخمس أو الزكاة ثمّ اُخذ منه في ما ضمنه فيكون ضرراً، و أولى منه بالرجوع ما لو دفع إليه المالك ما يساوي ما في ذمّته خمساً أو زكاة ثمّ استردّه عمّا في ذمّته، و نحو ما لو دفعه صدقة مستحبّة ثمّ استردّه عمّا في ذمّته.

الثالث: لو تلف عين المبيع في يد المشتري و كان قيمته يوم العقد ما يوازي الثمن المدفوع إلى البائع

فرجع المالك عليه بقيمته فهو يستحقّ الرجوع على البائع بثمنه، و لا يستحقّ الرجوع بالقيمة المأخوذة منه زائدة على الثمن لأنّها بمنزلة المبيع، و لا يجوز الجمع بين العوض و المعوّض.

و لو أنّه رجع بعين المبيع المبتاعة بعشرة و قيمته يوم العقد عشرون فالمشتري لا يستحقّ من البائع ما زاد على العشرة الّتي دفعها إليه ثمناً من العشرة الاُخرى لأنّه

ص: 881

لم يؤخذ منه تلك الزيادة، و المالك إنّما أخذ منه عين ماله. و لو كان العين المبتاعة ما يساوي قيمته عشرين و قد باعها البائع بعشرة فتلفت في يد المشتري و غرمه المالك بعشرين فلا إشكال في أنّه يرجع على البائع بعشرة ثمنه، و هل يرجع بالعشرة الزائدة أيضاً لأنّه ممّا اغترمه للمالك أو لا؟.

فقد يقال: بعدم الرجوع لأنّه إنّما أقدم على ضمان العين و أن يكون تلفه منه، كما هو شأن فاسد كلّ عقد يضمن بصحيحه، و مع الإقدام لا غرور و لذا لم نقل به في العشرة المقابلة للثمن.

و فيه: أنّه فرق واضح بين المقبوض بالعقد الفاسد و ما نحن فيه، إذ لا غرور في الأوّل أصلاً فيكون إقدامه على ضمان العين مؤثّراً في ضمانه للقيمة الواقعيّة و هي عشرون، فلا يأخذ العشرة المدفوعة إلى البائع ثمناً، و يردّ إليه العشرة الاُخرى الزائدة على الثمن، بخلاف ما نحن فيه فإنّه و إن كان أقدم على أن يكون العين في ضمانه فيضمن مع التلف قيمته الواقعيّة و هي عشرون، غير أنّ إقدامه بالنسبة إلى العشرة الزائدة مسبّب عن غروره من البائع فيرجع بها أيضاً على من غرّه، مضافاً إلى أنّ اغترامه لها ضرر عليه مسبّب عن البائع أيضاً فيضمنها له من جهة تسبيبه.

و لو فرض أنّ المالك أخذ من المشتري عشرين قيمة المبيع التالف في يده من غير أن يكون دافعاً للثمن إلى البائع حين قبض المبيع فإنّه حينئذٍ لا يرجع عليه بعشرة الثمن، و إلّا لزم أن يكون تلفه من مال البائع من دون أن يغرمه في ذلك، لأنّه لو فرض صدق البائع في دعوى الملكيّة لم يزل غرامته للبائع للثمن بإزاء المبيع التالف فهذه الغرامة للثمن لم ينشأ عن كذب البائع، و أمّا العشرة الزائدة فإنّما جاء غرامتها من كذب البائع في دعواه فحصل الغرور فوجب الرجوع، هذا إذا كانت زيادة القيمة موجودة حال العقد، و لو تجدّدت بعده فالحكم بالرجوع فيها أولى منه في الزيادة الموجودة حال العقد.

و حكم ما يغرمه بإزاء الأجزاء في التلف حكم المجموع فيرجع في الزائد على ما يقابل ذلك الجزء من الثمن لا فيما يقابله، و في حكم الأجزاء أوصاف العين الّتي يتفاوت بها القيمة إذا زالت عند المشتري فرجع المالك عليه بالتفاوت، كما لو كان عبداً كاتباً أو صانعاً فنسي الكتابة أو الصنعة فيرجع المشتري أيضاً على البائع بما اغترمه

ص: 882

بإزاء الأوصاف، و كذلك لو كان دابّة سمينة فهزلت عند المشتري فيرجع على البائع بما اغترمه للمالك من تفاوت القيمة، لأنّ كلّ هذه غرامات وقعت عليه من تغريم البائع و تسبيبه، هذا كلّه فيما اغترمه للمالك.

و كذلك الحكم فيما اغترمه للعين من النفقات و الاُجرات و المؤن لحفظه أو تربيته أو إصلاحه و عمارته أو رفع مفاسده و علله، كنفقة الدابّة و اُجرة خادمها و نفقة المملوك و مئونة مرضه أو تربيته، و مئونة إصلاح الدار و العقار و عمارتها و رفع مفاسدها، و اُجرة تعليم المملوك و المملوكة لواجباتهما و تعليمها القرآن و الكتابة و رسوم الخدمة و آدابها، و مؤن ختان العبد و ما أشبه ذلك. و ضابطه كلّما يترتّب على ملك العين من صرف المال مع المشروعيّة فيرجع في الجميع على البائع للغرور و تسبيبه الضرر. بخلاف ما لم يكن مشروعاً كما لو غذّى المملوك و المملوكة لحم الخنزير أو الميتة أو شربه الخمر أو سائر المسكرات، أو بذل اُجرة لتعليمه التغنّي أو الرقص و ما أشبه ذلك فلا يرجع فيها من جهة انتفاء الغرور لسبق منع الشارع عنها.

و يرجع أيضاً بما اغترمه في جناية العبد الجاني من الأرش كائناً ما كان و بالغاً ما بلغ، و إن زاد على قيمة رقبته كما هو أحد القولين(1) في المسألة، أو أقلّ الأمرين من الأرش، أو قيمة رقبته على القول الآخر.

و ربّما اُلحق به دية جناية الدابّة كما عن شرح(2) القواعد للشيخ النجفي، فحكم فيها أيضاً بالرجوع.

و ردّ بأنّ جناية الدابّة إن لم تكن ناشئة عن تقصيره في الحفظ أو كانت ناشئة عن جهله بأنّ من شأنها الإفساد فهو حينئذٍ غير ضامن لدية الجناية، فلو اُخذ منه الدية و الحال هذه فقد اُخذت و المظلوم يرجع على ظالمه، و إن كانت ناشئة عن تقصيره في الحفظ يضمن الدية لتقصيره، و لا مدخليّة فيه لغروره فلا رجوع على التقديرين.

و لو بذل في نفقة العبد و كسوته و نفقة الدابّة و غيرها ما زاد على زيه و شأنه، ففي رجوعه بالقدر الزائد إشكال، و لا يبعد الرجوع لصدق الغرور.

ص: 883


1- كما في الخلاف 118:3 مسألة 198.
2- شرح القواعد 238:2.

و لو خرج منه في حفظه أو تربيته أعمال لها اُجرة في العرف و العادة ففي رجوعه بأُجرة تلك الأعمال وجه قويّ ، لاحترام عمل المسلم و قد خرج منه لغروره من البائع.

ثمّ بقي في المقام فائدتان مهمّتان:
الفائدة الاُولى: في أنّ المالك إذا لم يجز بيع الغاصب أو العقد الفضولي كان له الرجوع بماله على كلّ من البائع و المشتري،
اشارة

لتعلّق الضمان بكلّ منهما على طريقة ضمان الأيادي المترتّبة على مال واحد. فإن كانت عين المال موجودة في يد المشتري و رجع عليه المالك و أخذ منه ماله سقط به ضمان البائع، و إن رجع على البائع وجب عليه تخليصه عن المشتري، و إن توقّف على بذل مال و بذل له ما بذل ثمّ ردّه إلى المالك. و إن كانت تالفة في يد المشتري يضمن كلّ منهما بدله مثلاً أو قيمة، و للمالك الرجوع على كلّ منهما على البدل، فإن رجع إلى المشتري و أخذ البدل منه سقط ضمانه عن البائع، و إن رجع على البائع و أخذ البدل منه رجع البائع أيضاً على المشتري و أخذ ما اغترمه للمالك من بدل العين منه لفرض اشتغال ذمّته به، فأداء البدل من اللاحق يوجب سقوطه من السابق و من السابق لا يوجب سقوطه من اللاحق. و ضمان الأيادي المتعاقبة كلّ واحد للعين و بدله إجماعيّ ، و مدركه عموم «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّيه».

و هاهنا إشكال مشهور، و هو أنّ المال المضمون عيناً و بدلاً شيء واحد فكيف يعقل استقراره في ذمم متعدّدة، مع أنّ الموصول في قوله: «على اليد ما أخذت» كناية عن المال و هو شيء واحد، فكيف يكون على كلّ واحد من الأيادي المتعدّدة، و لقد حقّق في فنون المعقول أنّ الشخص الواحد بوحدته الشخصيّة الّذي هو جزئي حقيقي ممّا يمتنع أن يتعدّد بتعدّد محالّه.

و التحقيق في دفع الإشكال منع استلزام ضمان كلّ واحد من الأيادي المتعاقبة لاستقرار مال واحد في ذمم متعدّدة و تعدّد شخص واحد على حسب تعدّد محالّه، فإنّ ضمان كلّ واحد معناه كون كلّ واحد مخاطباً بردّ المال أو بدله مع التلف إلى مالكه، و أيّاً ما كان فالمردود واحد و الخطاب بالردّ متعدّد. و الأصل فيه أنّ ضمان اليد واحدة أو متعدّدة مستفاد من خبر «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي» و طريق الاستفادة ما شرحناه

ص: 884

مبسوطاً في مسألة ضمان المقبوض بالعقد الفاسد.

و ملخّصه: أنّ الاستعلاء المستفاد من كلمة «على» هنا استعلاء معنويّ ، و هو ما يلزم من الاستعلاء الحسّي المفسّر تارةً بالاستعلاء الركوبي، و اُخرى بالاستعلاء الحملي، و لكلّ منهما لوازم كثيرة أوفقها بالمقام هو الثقل على معنى كون ثقل الراكب على مركوبه و ثقل المحمول على حامله، فمعنى كون المال المأخوذ على اليد الآخذة له كون ثقله عليه باعتبار كونه مخاطباً بردّه و أدائه، و هذا الثقل المسبّب عن الخطاب بالردّ و الأداء يتعدّد عند تعدّد الأيادي، و هو لا يستلزم تعدّد أصل المال عيناً و لا بدلاً، فما يستقرّ في الذمم المتعدّدة إنّما هو الردّ و الأداء لا نفس المال عيناً أو بدلاً.

و إن شئت [قلت]: إنّ التعدّد في إضافات المال الواحد باعتبار كون ثقله على كلّ واحد من الأيادي، و من المعلوم أنّ تعدّد إضافات الشيء الواحد الشخصي لا يوجب تعدّد المضاف، بل هو مع تعدّد الإضافات باقٍ على وحدته الشخصيّة كالصوفيّة و المغزوليّة و المنسوجيّة و الملبوسيّة و العبائيّة المعتورة على صوف شخصي متّخذ عباءً ، فللمالك أن يرجع إلى كلّ واحد على البدل و يطالب منه عين ماله على تقدير البقاء و بدله على تقدير التلف، فإن كان عين المال في تقدير البقاء في يد المرجوع إليه يردّه، و إن كان في يد غيره يستردّه و يخلّصه و يردّه. و في تقدير التلف يردّ المرجوع إليه بدله، فإن كان المال قد تلف في يده فلا رجوع له إلى غيره من الأيادي السابقة، و إن كان قد تلف في يد غيره فله أن يرجع إلى من تلف في يده و يأخذ منه ما اغترمه من البدل بالشرط الآتي.

و ما ذكرناه في دفع الإشكال أسدّ و أجود ممّا في زبر غير واحد من الأصحاب المتعرّضين لبيان الإشكال و دفعه، مثل ما في العناوين من قوله: «و الّذي ينبغي أن يقال هنا: إنّ الحكم بظاهر دليل اليد ضمان كلّ واحد منهم و لا ينافيه كون الأداء غاية لأنّا نبيّن بعد ذلك في معنى الأداء أنّه أعمّ من المباشرة، و أنّ المراد منه الوصول إلى صاحب الحقّ بأيّ نحو كان حتّى الإبراء.

فنقول: إذا أدّى أحدهم فقد أدّى عن الباقين لأنّه حقّ واحد، فإذا أدّى سقط الضمان كما لو تبرّع الأجنبيّ ، فيصير ذلك من باب الواجب التخييري في التكاليف على

ص: 885

ما يراه الإماميّة من وجوب الكلّ و السقوط بفعل أحدها و لا مانع من ذلك عقلاً.

فلا يتوهّم: أنّ الواجب التخييري طلب يمكن تعلّقه باُمور متعدّدة يسقط بفعل أحدها بخلاف المقام، فإنّ الحقّ الواحد لا يعقل تعلّقه بالذمم المتعدّدة و ليس ذلك على سبيل التبعيض و التجزية حتّى يمكن، لأنّا نقول لا بأس بأن نلتزم بتعدّد الحقّ في الذمم بظاهر دليل اليد، فإنّ كلاً منهم مشغول الذمّة على المالك بالحقّ ، فإذا أدّى أحدهم جعل اللّٰه ذلك مسقطاً عن الباقين»(1) انتهى.

و لا يخفى ما فيه:

أمّا أوّلاً: فلأنّه جعل ضمان الأيادي المتعاقبة نظير الواجب التخييري مع أنّه أشبه شيء بالواجب الكفائي، لأنّ التعدّد في المكلّف و هو الضامن مع وحدة المال لا في المكلّف به مع وحدة المكلّف.

و أمّا ثانياً: فلأنّ ما نسبه إلى الإماميّة من تفسير الواجب التخييري بوجوب الكلّ و السقوط بفعل أحدها سهو، بل هو قول ضعيف نسب إلى بعض المعتزلة القائل بوجوب الجميع و السقوط بفعل البعض، و أمّا الإماميّة فقالوا: إنّ الواجب التخييري كلّ واحد على البدل فلا يجب الجميع و لا يجوز الإخلال بالجميع و أيّها أتى به فهو نفس الواجب لا بدله.

و أمّا ثالثاً: فلأنّ ما التزمه في المقام من تعدّد الحقّ في الذمم استناداً إلى ظاهر دليل اليد بالنسبة إلى عين المال غير معقول لوحدته الشخصيّة، و بالنسبة إلى بدله مع تلف العين غير صحيح، لأنّ المالك كما أنّه في صورة بقاء العين لا يستحقّ إلّا مالاً واحداً فكذلك في صورة التلف لا يستحقّ إلّا بدلاً واحداً لا أبدالاً متعدّدة.

لا يقال: إنّ البدل مثلاً أو قيمة على تقدير التلف كلّي و من حكم الكلّي أن يتعدّد أفراده فلِمَ لا يجوز أن يتعلّق كلّ فرد منها بذمّة، لأنّه و إن كان كلّيّاً و لكنّه بالنسبة إلى أفراده المتمايزة بالمشخّصات الخارجيّة لا بالنسبة إلى الأفراد المتمايزة بتمايز الذمم.

و دعوى ظهور دليل اليد في الثاني ممنوعة.

ص: 886


1- العناوين الفقهيّة 444:2.

و مثل ما عن فخر الدين(1) و الشهيد(2) أنّهما حكيا عن العلّامة أنّه ذكر في درسه من أنّه لا مانع من ضمان الاثنين على وجه الاستقلال، قال: «و نظيره في العبادات الواجب الكفائي و في الأموال الغاصب من الغاصب.

و هذا غير مفهوم المراد، إذ لو أراد من ضمان الاثنين على وجه الاستقلال ضمان كلّ على وجه يتعدّد المال المضمون فهو محلّ الإشكال. و تنظيره بالغاصب من الغاصب غير صحيح، لأنّه من أفراد المسألة. و توهّم: إرجاعه إلى ما عليه العامّة من باب الضمان من جعله ضمّ ذمّة إلى ذمّة اُخرى فاسد، لأنّه خلاف ما أجمع عليه الأصحاب من جعله عبارة عن نقل المال عن ذمّة إلى ذمّة اُخرى لإجماعهم على بطلان الأوّل، تعليلاً بأنّ المال الواحد لا يتعدّد على حسب تعدّد الذمم.

و إن أراد منه ضمانهما على وجه يتعدّد الخطاب بالردّ و إن لم يتعدّد معه المال، فهو في نفسه و إن كان صحيحاً و تنظيره بالواجب الكفائي و إن كان لا ضير فيه غير أنّه مجمل لم يتعرّض فيه لبيان كيفيّة كلّ واحد على وجه الاستقلال بحيث لا يتعدّد معه المال.

و من مشايخنا من قال: «معنى كون العين المأخوذة على اليد كون عهدتها و دركها بعد التلف عليه، فإذا فرض أيدي متعدّدة تكون العين الواحدة في عهدة كلّ من الأيادي، لكن ثبوت الشيء الواحد في العهدات المتعدّدة معناه لزوم خروج كلّ منها عن العهدة عند تلفه، و حيث إنّ الواجب هو تدارك التالف الّذي يحصل ببذل واحد لا أزيد، كان معناه تسلّط المالك على مطالبة كلّ منهم الخروج عن العهدة عند تلفه، فهو يملك ما في ذمّة كلّ منهم على البدل، بمعنى أنّه إذا استوفي في أحدها سقط الباقي لخروج الباقي عن كونه تداركاً لأنّ المتدارك لا يتدارك... إلى أن قال: و يتحقّق ممّا ذكرنا أنّ المالك إنّما يملك البدل على سبيل البدليّة إذ يستحيل اتّصاف شيء منها بالبدليّة بعد صيرورة أحدها بدلاً عن التالف واصلاً إلى المالك»(3) انتهى.

و لا بأس بشرح بعض فقرات كلامه قدس سره ليتّضح به مرامه ثمّ اتباعه بما يتوجّه إليه، فنقول: إنّ الظاهر في عطف «دركها» على «عهدتها» عدم كونه عطف تفسير كما يوهمه

ص: 887


1- الإيضاح 89:2.
2- لم نعثر عليه في كتبه.
3- المكاسب 505:3-507.

ابتداء النظر، و توضيحه: أنّ العهدة و العهد و الذمّة بحسب أصل اللغة على ما يستفاد من كلام أئمّة اللغة بمعنى، و الأصل في معنى الذمّة المرادفة للعهدة ما عن أبي عبيدة من قوله: الذمّة التذمّم ممّن لا عهد له، و هو أن يلزم الإنسان نفسه ذماماً أي حقّاً يوجّه عليه. و في التفسير من المسامحة ما لا يخفى، إذ قضيّة جعل الذمّة بمعنى التذمّم أن يفسّر التذمّم بالالتزام و هو الحقّ الّذي لا محيص عنه. فالذمّة بحسب أصل اللغة كلّ التزام للإنسان بحقّ على نفسه سواء كان بسبب اختياري من قبله كالنذر و العهد و اليمين و الشرط في ضمن العقد اللازم و الإتلاف و التسبيب للتلف و الإضرار و الغصب و الجناية و ما أشبه ذلك، أو بسبب قهري من الخالق - كالخمس و الزكاة و استطاعة الحجّ و النفقة فيمن يجب عليه إنفاقه و ما أشبه ذلك - أو من المخلوق كالغرور من الغاصب و غيره الموجب لوقوعه قهراً في ضمان مال الغير و نحوه، فالعهدة المرادفة له حينئذٍ بمعنى التعهّد و هو الالتزام بالحقّ أيضاً على الوجه المذكور. فمعنى كون المال الفلاني في ذمّة فلان أو في عهدته كونه في التزامه بحيث يجب عليه الخروج عن الالتزام بأدائه عيناً أو بدلاً على تقدير التلف.

ثمّ الذمّة بالخصوص في عرف أهل الشرع بدليل قوله «اشتغال الذمّة، أو مشغول الذمّة، أو ذمّة فلان مشغولة، أو ذمّتي مشغولة» حيث يسند الاشتغال إلى الذمّة لا العهدة استعيرت عن الالتزام بالحقّ الّذي هو في حاصل المعنى عبارة عن جعل الحقّ لازماً للنفس أو للعنق إلى النفس أو إلى العنق، فمعنى اشتغال ذمّة الإنسان بالحقّ اشتغال نفسه أو عنقه به باعتبار كونه لازماً له.

و الأظهر هو الثاني كما يرشد إليه استعمالات أهل الفرس و غيرهم و تعبيراتهم حيث يعبّرون عن الذمّة ب «گردن» و غيره من مرادفاته ممّا عدا اللغة العربيّة، و إنّما استعيرت إلى العنق لكونه الجزء المقوّم للإنسان. و إنّما خصّصنا الاستعارة إليه بالذمّة، لعدم إسناد الاشتغال في إطلاقات العرف إلى العهدة فلا يقال: اشتغال العهدة و لا عهدة فلان مشغولة و لا عهدتي مشغولة. و إنّما التزمنا الاستعارة، لعدم صحّة إسناد الاشتغال إلى نفس الالتزام. و من الذمّة بمعنى الالتزام بالحقّ اُخذ الذمّة في أهل الذمّة في أهل الكتاب الملتزمين بالفدية و غيرها من الشرائط الموجبة لدخولهم في عنوان

ص: 888

«الصاغرين». و على ما ذكرنا فالذمّة بمعنى التذمّم و العهد و العهدة بمعنى التعهّد و الضمان كلّها عبارة عن الالتزام بالحقّ ، و إن كانت الذمّة تطلق أيضاً على العنق أو النفس.

و أمّا الدرك بالفتح فهو في أصل اللغة بمعنى التبعة، و منه قوله: «إذا لحقك درك فعليّ إصلاحه» و التبعة لغة لمعنيين، أحدهما: ما فيه الإثم أو أصل الإثم، و إطلاقها عليه في الأدعية كثير، و منه «لا تجعل لك عندي تبعة إلّا وهبتها». و الآخر: المظلمة، و الظاهر أنّ المراد بالمظلمة حقوق الناس ترد على الإنسان باعتبار ظلمه لا مطلق الظلم. و هذا هو المناسب للمقام في إطلاقات العرف و أهل الشرع، و لك أن تقول: بأنّه في لسان أهل الشرع استعيرت لكلّ غرامة ماليّة ترد على الإنسان و يتوجّه إليه بسبب من الأسباب الاختياريّة أو القهريّة، و منه ضمان الدرك في باب البيع، و على هذا فالدرك بحسب المعنى يغاير العهدة فلا يكون عطفه للتفسير. و حينئذٍ فتخصيصه لكون العين المأخوذ على اليد الّذي هو عبارة عن ضمان اليد المستفاد من خبر «على اليد ما أخذت» بكون عهدتها بعد التلف عليه، غير واضح الوجه، لأنّ ضمان اليد إنّما يثبت في العين على تقدير البقاء و البدل على تقدير التلف معاً، لا في البدل فقط على تقدير التلف، فإنّ العين أيضاً في عهدة آخذها و التزامه حتّى تؤدّيها و تخرج عن عهدتها بردّها إلى المالك. نعم إذا تلفت يكون بدلها مثلاً أو قيمة في عهدتها و التزامها.

ثمّ الظاهر من قوله: «فإذا استوفي أحدها سقط الباقي لخروج الباقي عن كونه بدلاً أن يتعدّد بدل التالف في أوّل تعلّقه بالعهدات و الذمم» و هذا أيضاً غير واضح الوجه، بل التحقيق أنّ التعدّد في الالتزام لا في البدل الملتزم به، بأنّ الشارع جعل لكلّ مال في الواقع بدلاً واحداً، و معنى كونه في العهدات المتعدّدة التزام كلّ من المتعدّدين بردّ ذلك البدل الواقعي الواحد إلى مالكه، و لوحدته في الواقع جاء البدليّة في ملك المالك له في ذممهم، فهو يرجع على وجه البدليّة على كلّ منهم أراد و يطالب منه البدل الواحد الواقعي، فإذا أخذه منه سقط الالتزام و الخطاب بالأداء من الباقين لبقائه بلا موضوع، فالساقط عنهم هو الالتزام و الخطاب بأداء بدل التالف لا نفس البدل لارتفاع موضوع الخطاب.

ثمّ اعلم: أنّ ضمان اليد في الأيادي المتعدّدة معناه أنّ كلّ واحد منهم بأخذه مال الغير و استيلائه عليه يضمن الأمر الدائر بين العين و البدل إلّا أنّه يضمن العين منجّزاً

ص: 889

و البدل معلّقاً على تلف العين لأنّ المالك لا يملك البدل إلّا بعد تلف العين، فلا يستحقّ مطالبة البدل ما دامت العين باقية يمكن الوصول إليها، و إذا تلفت العين فله الرجوع إلى كلّ واحد منهم على البدل سواء كان من تلف المال في يده أو غيره، فإن رجع إلى من تلف المال في يده و أخذ منه البدل فإن كان مغروراً من سابقه بأن كان جاهلاً بالغصبيّة رجع إليه بما اغترمه للمالك من البدل، و إن لم يكن مغروراً من سابقه باعتبار علمه بالغصبيّة لم يرجع إليه بما اغترمه لاستقرار الضمان عليه، و إن رجع على غير من تلف المال في يده و أخذ منه بدل التالف فإن كان غارّاً لمن تلف المال في يده لا يرجع إليه بما اغترمه من البدل، إذ لا معنى لرجوعه إلى من لو رُجِعَ إليه لرَجَع إليه، و إن لم يكن غارّاً له رجع عليه أو على غيره من الوسائط، و إن لم يتلف في يده كما هو المصرّح به في كلامهم، و الظاهر أنّ هذا الحكم محلّ وفاق فلا كلام فيه.

و إنّما الكلام و الإشكال في وجه استحقاقه للرجوع بما دفعه إلى المالك من بدل التالف على كلّ واحد من الأيادي اللاحقة على البدل ممّن تلف المال في يده و من غيره من الوسائط، فإنّه في معنى ضمان كلّ واحد من اللواحق للسابق الدافع لبدل التالف إلى مالكه بعد الرجوع عليه لا للمالك، لخروجهم عن ضمانه بحصول أداء بذل ماله من الدافع، و إن شئت قلت: إنّه من انقلاب ضمان كلّ منهم للمالك ببدل التالف إلى ضمان كلّ منهم للسابق الدافع للبدل بما دفعه لا ببدل التالف. و محلّ الإشكال هو حدوث الضمان الثاني لا عدم بقاء الضمان فإنّه على القاعدة، إذ لا معنى لبقاء ضمان بدل التالف للمالك بعد ارتفاع موضوعه، بضابطة أنّ البدل المتدارك لا يتدارك ثانياً.

فقد يقال في وجه رجوعه - أي رجوع غير من تلف المال في يده إلى من تلف في يده على تقدير رجوع المالك إليه - إنّ ذمّة من تلف بيده مشغولة للمالك بالبدل، و إن جاز له إلزام غيره باعتبار الغصب بأداء ما اشتغلت ذمّة من تلف بيده، فيملك حينئذٍ من أدّى البدل بأدائه ما للمالك في ذمّة من تلف بيده بالمعاوضة الشرعيّة القهريّة، و بناه على الفرق بين من تلف بيده و بين غيره في أنّ خطاب الأوّل بأداء البدل ذمّي و خطاب الثاني به شرعي إذ لا دليل على شغل ذمم متعدّدة بمال واحد، و حينئذٍ يرجع عليه

ص: 890

و لا يرجع هو. هكذا وجّهه شيخنا في الجواهر(1) في باب الغصب.

و اعترض عليه شيخنا الآخر أوّلاً: بأنّه لا وجه للفرق بين من تلف المال بيده و بين غيره في الخطاب بجعله في الأوّل ذمّياً و في الثاني شرعيّاً، و المفروض أنّه لا خطاب فيهما إلّا خبر «على اليد ما أخذت» و دلالته على الضمان بالنسبة إليهما على نهج سواء.

و ثانياً: بأنّه لا يكاد الفرق بين الخطاب الشرعي بالأداء و الخطاب الذمّي.

و ثالثاً: بأنّه لا يكاد يعرف خلاف من أحد في كون كلّ من ذوي الأيدي مشغول الذمّة بالمال فعلاً ما لم يسقط بأداء أحدهم أو إبراء المالك، نظير الاشتغال بغيره من الديون في إجباره على الدفع أو الدفع عنه من ماله، و تقديمه على الوصايا، و الضرب فيه مع الغرماء، و مصالحة المالك عنه مع آخر إلى غير ذلك من أحكام ما في الذمّة.

و رابعاً: بأنّ تملّك غير من تلف المال بيده لما في ذمّة من تلف المال في يده بمجرّد دفع البدل لا يعلم له سبب اختياري و لا قهري، بل المتّجه سقوط حقّ المالك عمّن تلف في يده بمجرّد أداء غيره، لعدم تحقّق موضوع التدارك بعد تحقّق التدارك.

و خامساً: بأنّ اللازم ممّا ذكره أن لا يرجع الغارم فيمن لحقه في اليد العادية إلّا إلى من تلف في يده، مع أنّ الظاهر خلافه فإنّه يجوز له أن يرجع إلى كلّ واحد ممّن بعده.

نعم لو كان غير من تلف بيده فهو يرجع إلى أحد لواحقه إلى أن يستقرّ على من تلف في يده(2).

و وجّهه شيخنا المعترض بما ملخّصه مع تحرير منّا: بأنّ كلّ واحد من اللواحق يضمن لشخصين على البدل: أحدهما المالك فيضمن كلّ واحد له بدل التالف، و الآخر السابق على تقدير رجوع المالك عليه، فيضمن كلّ واحد له ما دفعه إلى المالك، فضمانهم للمالك تنجيزي فعلي و للسابق تعليقي لكونه معلّقاً على دفعه البدل إلى المالك، و لذا لا يجوز له الدفع إليه قبل دفعه إلى المالك، كما أنّ المضمون عنه لا يدفع إلى الضامن قبل دفع الضامن إلى المالك.

و إن شئت عين عبارته فلاحظ قوله: «إنّ الوجه في رجوعه هو أنّ السابق اشتغلت

ص: 891


1- الجواهر 34:37.
2- المكاسب 509:3-510.

ذمّته له بالبدل قبل اللاحق، فإذا حصل المال في يد اللاحق فقد ضمن شيئاً له بدل، فهذا الضمان يرجع إلى ضمان واحد من البدل و المبدل على سبيل البدل، إذ لا يعقل ضمان المبدل معيّناً من دون البدل، و إلّا خرج بدله عن كونه بدلاً، فما يدفعه الثاني فإنّما هو تدارك لما استقرّ تداركه في ذمّة الأوّل، بخلاف ما يدفعه الأوّل فإنّه تدارك نفس العين معيّناً إذا لم يحدث له تدارك آخر بعد، فإن أدّاه إلى المالك سقط تدارك الأوّل له، و لا يجوز دفعه إلى الأوّل قبل دفع الأوّل إلى المالك، لأنّه من باب الغرامة و التدارك فلا اشتغال للذمّة قبل فوات المتدارك، و ليس من قبيل العوض لما في ذمّة الأول.

فحال الأوّل مع الثاني كحال الضامن مع المضمون عنه في أنّه لا يستحقّ الدفع إليه إلّا بعد الأداء.

و الحاصل: أنّ من تلف المال في يده [ضامن] لأحد الشخصين على البدل من المالك و من سبقه في اليد، فيشتغل ذمّته إمّا بتدارك العين، و إمّا بتدارك ما تداركها، و هذا اشتغال شخص واحد بشيئين لشخصين على البدل، كما كان في الأيدي المتعاقبة اشتغال ذمّة أشخاص على البدل لشيء واحد لشخص واحد»(1).

و يشكل: بأنّه قدس سره لم يأت في كلامه بدليل الضمان المذكور، و لم يتعرّض لبيان أنّه من أيّ قسم من أقسام الضمان، نظراً إلى أنّه ليس من ضمان الغصب بالمعنى الأعمّ الّذي يقال له ضمان اليد، لأنّ اللاحق لم يغصب مالاً للسابق، و لا من ضمان الإتلاف بالمباشرة لأنّه لم يتلف مالاً للسابق، و لا من ضمان التسبيب للتلف لعدم تسبيبه لتلف مال للسابق، و لا من ضمان التفريط و لا التعدّي كما في الأمانات لعدم مال في يده للسابق على سبيل الأمانة حتّى يتحقّق منه ترك ما وجب فعله فيه و هو التفريط أو فعل ما حرّم فعله فيه و هو التعدّي، و لا من ضمان الغرور لعدم كون السابق مغروراً من اللاحق.

و بالجملة: لا كلام لنا في أنّ اللاحق يضمن لكلّ من المالك و السابق على تقدير الرجوع عليه، فللمالك يضمن بدل التالف، و للسابق المرجوع عليه يضمن ما دفعه إلى المالك. و لكنّ الكلام في أنّ ضمانه للسابق المرجوع عليه هل هو من توابع ضمان اليد،

ص: 892


1- المكاسب 508:3-509.

أو أنّه ضمان مستقلّ أثبته دليل آخر غير دليل ضمان اليد؟ نظير ضمان السابق الغارّ لكلّ من المالك و اللاحق المغرور على تقدير رجوع المالك، فيضمن للمالك بدل التالف و للّاحق المغرور بما اغترمه للمالك، و هذا ضمان أثبته قاعدة «أنّ المغرور يرجع على من غرّه» فهو ضامن للمالك بغصبه و للّاحق بتغريره.

فنقول: يمكن أن يقال بأنّه من توابع ضمان اليد المستفاد من خبر «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي» بملاحظة الغاية الموجودة فيه، فإنّ قوله: «على اليد» يدلّ على كون ثقل المال المأخوذ على آخذه، و الغاية تدلّ على استمرار ذلك الثقل إلى غاية الأداء عيناً أو بدلاً على تقدير التلف من الآخذ، فما لم يؤدّ البدل على تقدير التلف إمّا إلى المالك لو رجع عليه أو إلى السابق المرجوع عليه، و أيّاً ما كان فلا يخرج عن كونه أداءً للبدل، غير أنّه في ظرف التحليل على الأوّل كان بدلاً للتالف، و على الثاني بدلاً لبدل التالف، فما لم يحصل الأداء منه بأحد الوجهين كان الثقل باعتبار خطابه بالأداء باقياً عليه. و لا ينتقض ذلك بأداء المتبرّع أو بإبراء المالك، لكون كلّ منهما قائماً مقام أدائه مسقطاً لخطابه بالأداء و رافعاً للثقل المذكور عنه.

و يمكن أن يكون ضماناً مستقلّاً ثبت بقاعدة نفي الضرر، فإنّ ضمان السابق للمالك على تقدير الرجوع عليه مع عدم استحقاقه للرجوع على اللاحق بما دفعه إلى المالك من بدل التالف حتّى على من تلف المال بيده ضرر عليه مسند إلى اللّٰه سبحانه حيث حكم بضمانه و عدم استحقاقه، و الضرر منفيّ بعموم قوله عليه السلام: «لا ضرر و لا ضرار» بناءً على أنّ مفاده نفي مجعوليّة الحكم الضرري الّذي يترتّب عليه ضرر المسلم، و معنى نفيه هنا نفي الحكم بعدم استحقاق السابق الدافع لبدل التالف إلى المالك للرجوع إلى اللاحق، و نفيه إثبات لاستحقاقه و هو المطلوب.

و يمكن أن يستدلّ لهذا الضمان بالأدلّة النافية للظلم عن اللّٰه سبحانه من العقل و النقل، فإنّ حكمه تعالى بضمان السابق المرجوع إليه للمالك ببدل التالف و عدم استحقاقه للرجوع على اللاحق خصوصاً من تلف المال بيده مع عدم كونه غارّاً و لا ضارّاً و عدم تحقّق في يده ظلم عليه، و الظلم قبيح عقلاً و منفيّ نقلاً بقوله تعالى:

ص: 893

«إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يَظْلِمُ اَلنّٰاسَ شَيْئاً (1) وَ أَنَّ اَللّٰهَ لَيْسَ بِظَلاّٰمٍ لِلْعَبِيدِ» (2) و ما أشبه ذلك. و قضيّة قبحه عقلاً و نفيه نقلاً أن لا يحكم تعالى بعدم استحقاق السابق للرجوع على اللاحق بما دفع إلى المالك، فيثبت به استحقاقه و هو يلازم ضمان اللاحق له بما دفعه. فهذه وجوه ثلاث لإثبات هذا الضمان، أوجهها الأوّل، و دونه الثاني، و دونهما الثالث.

تذنيب: لو كانت العين في يد المشتري على تقدير عدم إجازة المالك تالفة

يرجع المالك ببدلها مثلاً لو كانت من المثليّات أو قيمة لو كانت القيميّات، و هذا هو الأصل الكلّي المجمع عليه في ضمان البدل و لا كلام فيه. و إنّما الكلام في تعيين القيمة في القيمي أ هو قيمة يوم التلف، أو قيمة يوم القبض الّذي هو في باب الفضولي أعمّ من الغصب باعتبار علم المشتري بالفضوليّة أو الغاصبيّة و جهله بهما، أو أعلى القيم من قيمة يوم القبض إلى يوم التلف ؟ و لقد سبق منّا الكلام في تحقيق هذا المقام مشروحاً في باب ضمان المقبوض بالعقد الفاسد، و ذكرنا ثمّة أنّ الأصل في ضمان القيمة هو قيمة يوم التلف لأنّه يوم انتقال الضمان من العين إلى القيمة إلّا فيما أخرجه الدليل، كما في العين المغصوبة المختلف في تعيين قيمتها المضمونة بين قيمة يوم الغصب و أعلى القيم من يوم الغصب إلى يوم التلف على قولين، و منشأ الاختلاف اختلاف النظر في فقه صحيحة أبي ولّاد المتقدّمة في الباب المذكور، و نحن قد استظهرنا في موضعين منها الدلالة على اعتبار قيمة يوم الغصب. فمن هنا يعلم أنّ المتّجه فيما نحن فيه هو التفصيل بين ما لو كان المشتري في قبضه غاصباً باعتبار علمه بالفضوليّة أو الغاصبيّة فيضمن قيمة يوم القبض عملاً بالصحيحة، و ما لو لم يكن غاصباً باعتبار جهله بهما فيضمن قيمة يوم التلف عملاً بالأصل.

الفائدة الثانية: في أنّه لو باع الفضولي مال غيره مع مال نفسه، فهل يصحّ فيهما، أو يبطل فيهما، أو يصحّ في ماله و يبطل في مال غيره ؟
اشارة

و لقد عبّر في الشرائع عن العنوان «بأنّه لو باع ما يملك و ما لا يملك مضى بيعه فيما يملك، و كان فيما لا يملك موقوفاً على الإجازة»(3) و قضيّة كلامه هو الصحّة في الجميع على تقدير الإجازة. و هذا لازم

ص: 894


1- يونس: 44.
2- آل عمران: 182.
3- الشرائع 15:2.

كلّ من يقول بصحّة الفضولي مع الإجازة. و هو الحقّ الّذي لا محيص عنه بناءً على المختار.

فلا ينبغي التكلّم في عنوان هذه المسألة من حيث كون البائع بالنسبة إلى بعض المبيع فضوليّاً، إذ لا يتفاوت في بحث الفضولي من حيث الصحّة مع الإجازة و البطلان رأساً بين كون العاقد فضوليّاً في الجميع أو في البعض، و أدلّة القول بالصحّة مع أدلّة القول بالبطلان جاريتان في المقامين، و لم يعهد قول بالتفصيل من أحد أيضاً. فالمقصود الأصلي في عنوان هذا المقام إنّما هو التكلّم في البيع المذكور بالنسبة إلى مال البائع على تقدير عدم إجازة مالك بعض المبيع في ماله، و هو من جهات:

الجهة الاُولى: في صحّته و فساده بالنسبة إلى البعض الّذي هو مال البائع،

فنقول:

المعروف من مذهب الأصحاب هو القول بالصحّة فيقسّط الثمن على المجموع و يأخذ البائع حصّته منه. و في الرياض(1) و جواهر(2) شيخنا نفي الخلاف في الصحّة، مع استظهار الإجماع عليها في الثاني، و يظهر دعواه من تذكرة(3) العلّامة حيث نسب القول بالصحّة إلى علمائنا، قبالاً للشافعي النافي للصحّة، بل عن غنية(4) ابن زهرة دعوى الإجماع عليه صريحاً، و عن شرح القواعد(5) للشيخ النجفي الاستدلال عليها بالإجماع محصّلاً و منقولاً.

و لم نقف على قائل بالبطلان من أصحابنا و لا على من احتمله إلّا المحقّق الأردبيلي، فاحتمل البطلان فيه على تقدير عدم إجازة المالك، و احتمله(6) أيضاً على القول ببطلان الفضولي رأساً، و استند له إلى أنّ التراضي الّذي هو شرط لصحّة التجارة بحكم آية «لاٰ تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ إِلاّٰ أَنْ تَكُونَ تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ » (7) إنّما حصل في المجموع و هو غير حاصل، و ما حصل من البعض لم يحصل فيه التراضي.

و قضيّة ذلك خروج البيع بالنسبة إلى مال البائع عن المستثنى و دخوله في المستثنى منه، فيكون أخذ بعض الثمن بإزاء بعض المبيع أكلاً للمال بالباطل. و لأجل ذلك قد

ص: 895


1- الرياض 229:8.
2- الجواهر 320:22.
3- التذكرة 218:10.
4- الغنية: 209.
5- شرح القواعد 114:2.
6- مجمع البرهان 162:8.
7- النساء: 29.

يقال: بأنّ الأصل في المقام هو البطلان، مراداً به الأصل الاجتهادي المستفاد من الآية.

و قد يدّعى فيه الأصل الأوّلي العملي و هو أصالة عدم ترتّب الأثر و عدم النقل و الانتقال و بقاء الملك السابق و عدم تجدّد ملك لاحق، للاسترابة في عموم آية «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» من جهة الاسترابة في صدق العقد على هذا البيع بالنسبة إلى بعض المبيع، بتقريب أنّ العقد عبارة عن الشدّ و الربط بين المالين المبيع و الثمن، و إنّما حصل ذلك في المجموع في مقابل المجموع و المفروض عدم حصول المجموع، و ما حصل من البعض ليس ممّا شدّه و ربطه المتعاقدان بجزء الثمن.

و يمكن الاسترابة في عموم «أَحَلَّ اَللّٰهُ اَلْبَيْعَ » أيضاً، لأنّ قصد إنشاء تمليك العين إنّما حصل بالنسبة إلى المجموع بإزاء المجموع، و أمّا الجزء من المبيع فلم يقصد البائع إنشاء تمليكه بإزاء جزء من الثمن، فيرجع في حكمه إلى أصالة الفساد.

و كيف كان فقد أجاب السيّد في [الرياض] عن احتمال البطلان «بأنّ البائع مأمور بالوفاء بالعقد في ماله، و عدم إجازة المالك لا يرفع الأمر المستقرّ في الذمّة» و كأنّه رام بذلك التمسّك باستصحاب الحالة السابقة على ردّ المالك و هو وجوب الوفاء بالعقد على البائع في ماله الثابت قبل لحوق ردّ المالك في ماله، فإنّ الاستصحاب مع الشكّ في قدح العارض كالاستصحاب مع الشكّ في عروض القادح في الحجّيّة.

و فيه - مع أنّه لا يتوجّه إليه إلّا على بعض تقارير الشبهة، و هو الاستناد في احتمال البطلان إلى منع عموم آية «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» لا إلى انتفاء التراضي - أنّك إمّا أن تقول بكون صحّة البيع في مال البائع مرتبطة بصحّته في مال غيره قطعاً، أو تقول بعدم كونها مرتبطة بها قطعاً، أو تقول بأنّي أشكّ في الارتباط و العدم و هو يوجب الشكّ في بقاء الحالة السابقة و ارتفاعها فنستصحب. و لا مجال للاستصحاب في شيء من التقادير، أمّا على التقدير الأوّل: فلأنّ عدم إجازة المالك البيع في ماله مع فرض الارتباط بعنوان كما يكشف عن انتفاء الصحّة في ماله فكذلك يكشف عن انتفائها في مال البائع قطعاً و معه لا معنى للاستصحاب، و الأصل فيه أنّ ارتفاع أحد المنتسبين يستلزم ارتفاع المنتسب الآخر، و هذا حكم عقلي قطعي وارد على الاستصحاب رافع لموضوعه.

ص: 896

و أمّا على التقدير الثاني: فلأنّ المناسب لدفع الشبهة ممّن يدّعي القطع بعدم الارتباط إقامة الدليل على نفيه لا التمسّك بالاستصحاب، فإذا ساعد دليل على صحّة البيع في مال البائع و عدم ارتباطها بصحّته في مال الغير فارتفع به موضوع الاستصحاب أيضاً.

و أمّا على التقدير الثالث: فلأنّ الشكّ في الارتباط يوجب الشكّ في وجوب الوفاء على البائع من أوّل الأمر و هو من الشكّ الساري، و لا معنى للاستصحاب مع سريان الشكّ ، كما حقّقناه في الاُصول.

فالحقّ أنّ القول بالصحّة ممّا لا مدفع له، لنا عموماً جميع عمومات الصحّة، و خصوصاً صحيحة صفّار.

أمّا الأوّل: فأوّلاً آية «تِجٰارَةً عَنْ تَرٰاضٍ » و دعوى: أنّ التراضي إنّما حصل في مجموع المبيع بإزاء مجموع الثمن لا في الجزء بإزاء الجزء، يدفعها: أنّ التراضي في الكلّ يتضمّن التراضي في كلّ جزء من أجزائه، بل لا معنى لوجود الكلّ إلّا وجودات أجزائه، أ لا ترى أنّ صبغ الثوب المشتمل على أجزاء يتضمّن صبغ كلّ واحد من تلك الأجزاء، و لا يعقل من أحد أن يقول: إنّ الصبغ في الكلّ بمعنى مجموع الأجزاء لا في كلّ جزء جزء.

لا يقال: إنّ التراضي بالنسبة إلى كلّ جزء إنّما حصل بشرط انضمامه إلى الجزء الآخر، و الشرط في مفروض المقام منتف، و انتفاء الشرط يستلزم انتفاء المشروط. لأنّا نقول: إنّ التراضي بالنسبة إلى مال البائع إنّما حصل في حال انضمامه إلى مال الغير لا بشرط انضمامه إليه، فالانضمام لا مدخليّة له في التراضي و لا يوجب تقييد العقد به، على أنّ المعتبر في الشروط المأخوذة في العقود الموجبة لتقييد العقد بمورد حصول الشرط هو ما صرّح به في متن العقد، و لا يكفي الشرط المطويّ في ضمير المتعاقدين من دون ذكره صريحاً في العقد، بل هو في نظر الشارع ملغى فيبقى التراضي على إطلاقه.

فإن قلت: لو لم يكن للانضمام مدخليّة في التراضي كيف يثبت خيار تبعّض الصفقة للمشتري في صورة الجهل ؟.

قلت: ثبوت هذا الخيار ليس من جهة مدخليّة الانضمام في التراضي و إلّا كان مقتضاه بطلان العقد رأساً لا ثبوت الخيار الّذي هو فرع على صحّة العقد، بل الخيار إنّما

ص: 897

يثبت من جهة قاعدة نفي الضرر لئلّا يتضرّر المشتري بعدم حصول جزء المبيع، إذ كثيراً ما يكون في الهيئة الاجتماعيّة غرض للمشتري فيتضرّر بعدم حصول غرضه.

و ثانياً: آية وجوب الوفاء بالعقد، فإنّ ربط مجموع المالين بالثمن المسمّى يتضمّن ربط كلّ منهما بما يقابله من الثمن، بل هو بملاحظة أنّ الكلّ لا وجود له إلّا وجودات أجزائه عينه، فالعقد صادق على ربط البائع ماله بما يقابله من الثمن فيشمله عموم الآية.

و توهّم: لزوم تحقّق عقود متعدّدة على حسب تعدّد الأجزاء، و هو باطل لشهادة الحسّ بأنّه ليس إلّا عقداً واحداً.

يدفعه: أنّ العقد إن اُريد به مصطلح الفقهاء و هو الصيغة المخصوصة و لذا يقولون بأنّه مركّب من الإيجاب و القبول، فالملازمة ممنوعة بالبداهة، بل الّذي يلزم هو تأثير العقد بهذا المعنى في بعض الأجزاء بإزاء ما يقابله من الثمن و عدم تأثيره في البعض الآخر و لا ضير فيه. و إن اُريد به المعنى اللغوي و هو الربط - كما بيّنّاه - فهو في تعدّده و اتّحاده أمر اعتباري منوط باعتبار المعتبر، فإن أخذ مقيساً إلى الكلّ بما هو كلّ يقال له ربط واحد، و إن أخذ مقيساً إلى كلّ واحد من الأجزاء فهو ربطات متعدّدة، فبطلان اللازم على هذا التقدير ممنوع لأنّ المحسوس عند الوجدان هو التعدّد.

و ثالثاً: آية «أَحَلَّ اَللّٰهُ اَلْبَيْعَ » فإنّ تمليك العين على وجه التعويض المتعلّق بالمالين بإزاء الثمن المسمّى متعلّق بكلّ منهما بإزاء ما يقابله من الثمن، فالبائع ملّك عين ماله بما يقابله من الثمن، فهو بيع حقيقة فيشمله العموم أيضاً.

و قد يستدلّ أيضاً على الصحّة بوجوه غير تامّة: مثل الخبر المرويّ من قوله عليه السلام:

«الميسور لا يسقط بالمعسور»(1). و قوله عليه السلام أيضاً: «ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه»(2).

و أنّ الأسباب الشرعيّة كالأسباب العقليّة تؤثّر في القابل و لا تؤثّر في غير القابل، و ذلك كالنار مثلاً إذا أصابت شجراً أو حجراً فإنّها تحرق الشجر و لا تحرق الحجر، و كذلك الأسباب الشرعيّة فيؤثّر العقد في مال البائع لأنّه قابل للتأثير و لا يؤثّر في مال غيره لعدم قبوله بعدم إجازته التأثير.

ص: 898


1- عوالي اللآلئ 58:4.
2- عوالي اللآلئ 58:4.

و في الأوّل: أنّه مخصوص بموارد التكليف و هي العبادات و غيرها من الواجبات المركّبة إذا تعذّر بعض أجزائها لعذر عقلي أو شرعي فصار بهذا الاعتبار معسوراً و باقي الأجزاء الّتي لم يطرأها عذر عقلاً و لا شرعاً ميسور، و مفاد الرواية حينئذٍ أنّ هذا الميسور لا يسقط بالمعسور، على معنى أنّ التكليف لا يسقط عن الجزء الغير المتعذّر بسقوطه عن الجزء المتعذّر.

و هذا هو معنى الخبر الآخر أيضاً، و حاصله: أنّ كلّ عبادة مركّبة إذا لم يدرك كلّ أجزائها لطروء عذر عقلي أو شرعي لا يترك كلّها حتّى أجزائها الّتي لم يطرأها عذر، أي لا يجوز ترك أجزائها الباقية و يجب الإتيان بها.

و محلّ البحث من موارد الوضع لأنّ الكلام في صحّة البيع في مال البائع بعد فساده في مال غيره بعدم إجازته، و الصحّة و الفساد من الأحكام الوضعيّة فلا يتناوله الخبران.

و إن اُوّل بإرجاعه إلى موارد التكليف بالنظر إلى وجوب الوفاء بالعقد فيقال: إنّ وجوب الوفاء بالعقد في مال البائع الّذي هو ميسور لا يسقط بسقوطه في مال غيره الّذي صار معسوراً بعدم إجازته فيتناوله الخبران، لورد عليه أنّ هذا متّجه لو كان الخطاب بالوفاء متوجّهاً إلى شخص واحد و هو البائع كما في موارد التكليف و محلّ البحث ليس كذلك، لأنّ وجوب الوفاء في بعض المبيع خطاب البائع و في البعض الآخر خطاب غيره على تقدير إجازته، و لمّا كان التقدير تقدير عدم الإجازة فلم يتوجّه إليه خطاب الوفاء بالعقد فلا ميسور و لا معسور بالنسبة إليه و لا بالنسبة إلى البائع. نعم يبقى الكلام في أنّه هل توجّه ذلك الخطاب إلى البائع في ماله أو لا؟ و هو أوّل المسألة فكيف يشمله الخبران!!.

و لو قيل: إنّ وحدة المخاطب في خطاب الوفاء بالعقد متحقّقة بالنسبة إلى المشتري، فيصدق في حقّه أنّ تكليفه بالوفاء بالعقد بالنسبة إلى مال البائع لكونه ميسوراً لا يسقط عنه بسقوطه في مال غيره لصيرورته بعدم إجازته معسوراً.

لقلنا: إنّ وفاء المشتري بالعقد على تقدير صحّته بالنسبة إلى جزئي المبيع عبارة عن إقباضه الثمن و تسليمه إيّاه إلى مالكي المبيع، و لم يتعذّر عليه شيء بل هو متمكّن عن تسليم كلّ من حصّتي مالكي المبيع، غير أنّه لمّا لم يجز مالك أحد جزئيه العقد في ماله ارتفع موضوع الوفاء بالنسبة إليه، فسقط عن المشتري وجوب الوفاء بالنسبة إليه

ص: 899

من جهة ارتفاع موضوعه و هو العقد، لا من جهة صيرورة تسليم حصّته من الثمن معسوراً عليه فلا يشمله الخبران.

و في الثالث: أنّه بين قياس و مصادرة، إذ لو اُريد بكاف التشبيه التفريع بمعنى إلحاق الفرع على الأصل بإجراء حكم الأسباب العقليّة في الأسباب الشرعيّة لجامع بينهما و هو السببيّة، ففيه: أنّه قياس و ليس من مذهبنا.

و لو اُريد به التنظير على معنى أنّه كما أنّ الأسباب العقليّة تؤثّر في القابل و لا تؤثّر في غيره فكذلك الأسباب الشرعيّة، ففيه: أنّه مصادرة، إمّا لمنع كون مال البائع بعد عدم إجازة مالك غيره العقد قابلاً لتأثير العقد فيه فلا بدّ من إثبات القابليّة فيه بالدليل، أو لأنّ مجرّد قابليّة المحلّ لتأثير العقد فيه لا يلازم فعليّة التأثير، بل فعليّة التأثير تحتاج إلى إثبات بالدليل. فالوجوه الثلاثة لإثبات صحّة البيع في مال البائع كلّها ضعيفة.

و أضعف منها: ما عن الشافعي القائل بالفساد، من الاستناد إلى أنّ اللفظة الواحدة لا يتأتّى تبعيضها، فإمّا أن يغلب الصحيح على الفاسد أو بالعكس، و الثاني أولى، لأنّ تصحيح العقد في الفاسد ممتنع و إبطاله في الصحيح غير ممتنع، و لأنّه لو باع درهماً بدرهمين أو تزوّج بأُختين حكم بالفساد، و لأنّ الثمن المسمّى يتوزّع عليهما و لا يدرى حصّة كلّ واحد منهما عند العقد، فيكون الثمن مجهولاً و صار كما يقال: بعتك عبدي هذا بما يقابله من الألف إذا وزّعت عليه و على عبد فلان، فإنّه لا يصحّ .

و يندفع الأوّل: بأنّ تصحيح العقد في الفاسد أي فيما فرض كونه فاسداً بالنسبة إليه و إن كان ممتنعاً و لكن إبطاله في الصحيح أي فيما فرض صحيحاً بالنسبة إليه ممّا لا موجب له. و توهّم: لزوم تبعيض اللفظة الواحدة، يندفع بأنّه ليس من تبعيض اللفظة الواحدة، بل هو من تأثيرها في بعض المبيع لاحتوائه شرائط التأثير، و عدم تأثيرها في البعض الآخر لعدم احتوائه بعض الشرائط و هو إجازة المالك، و لا محال فيه.

و يندفع الثاني: بأنّ بيع درهم بدرهمين لكونه ربى فاسد، فإمّا أن يحكم بفساده في أحدهما دون الآخر أو يحكم به فيهما، و الأوّل باطل للزوم الترجيح من غير مرجّح فتعيّن الثاني. و العقد في تزويج اُختين لكونه جمعاً بين الاُختين فاسد، و الحكم بالفساد في إحداهما ترجيح بلا مرجّح فتعيّن الحكم به فيهما معاً، و الحكم بصحّة العقد في مال

ص: 900

البائع لاجتماع شرائط الصحّة و عدم صحّته في مال غيره لانتفاء بعض شرائط الصحّة فيه ليس ترجيحاً بلا مرجّح.

و يندفع الثالث: بأنّ الثمن المسمّى ثمن المجموع و هو معلوم، و لا يعتبر معلوميّة حصّة كلّ واحد من الأجزاء من الثمن بعد إمكان استعلامها بالقسمة و ملاحظة النسبة، و هذا ليس من قبيل المثال المفروض، إذ الألف لم يعتبر ثمناً باعتبار عدم كون عبد فلان داخلاً في المثمن فلا بدّ و أن يكون ثمن عبد البائع معلوماً، و ما يقابله من الألف مجهول حين العقد.

ثمّ إنّ جمعاً من الأصحاب قيّدوا صحّة البيع في مال البائع بأن لا يتولّد من عدم إجازة مالك بعض المبيع مانع شرعي من الصحّة، من لزوم بيع الآبق بلا ضميمة، أو لزوم ربى، أو غير ذلك، و إلّا فسد لعدم صحّة بيع الآبق من دون ضميمة كما لو باع عبده الآبق مع عبد غيره الّذي ليس بآبق فلم يجزه مالكه، و لعدم صحّة البيع الربوي كما لو باع درهماً له مع فلس لغيره بدرهمين فلم يجزه مالك الفلس، فلو أخرج قيمة الفلس من الدرهمين بالتوزيع بقي فيما يقابل درهم البائع من الدرهمين أزيد من درهم، و هو بيع جنس بالجنس مع زيادة.

الجهة الثانية: في أنّ البائع بعد ما صحّ البيع في ماله يأخذ بحصّته من الثمن،
اشارة

و لا بدّ لاستعلام الجهة و معرفته من طريق، و يختلف ذلك بحسب اختلاف صور المبيع في كونه بمجموعه قيميّاً أو مثليّاً أو ملفّقاً من القيمي و المثلي، فهاهنا مسائل ثلاث:

المسألة الاُولى: في بيان طريق معرفة حصّة البائع من الثمن فيما إذا كان المثمن بمجموع جزئيه من القيميّات،

فنقول: إنّ طريق معرفة الحصّة إنّما هو التقسيط، و قد اختلفت عبارات الأصحاب في بيان كيفيّته اختلافاً فاحشاً و اضطربت كلماتهم اضطراباً شديداً، و لا فائدة مهمّة في التعرّض لنقل عباراتهم المختلفة و كلماتهم المضطربة، بل المهمّ إنّما هو بيان الطريق الواقعي المنضبط لكيفيّة التقسيط بحيث لا يتخلّف و لا يستتبع ظلماً و إجحافاً و لا تنازعاً و لا محذوراً آخر، فنقول: إنّ لها طريقين:

أحدهما: أن يقوّم المالان متفرّقين و بعبارة اُخرى أن يقوّم كلّ منهما منفرداً، ثمّ تنسب قيمة أحدهما إلى مجموع القيمتين فيؤخذ من الثمن المسمّى بتلك النسبة

ص: 901

فما خرج فهو الحصّة.

و ثانيهما: أن يقوّم المالان مجتمعين و بعبارة اُخرى يقوّم مجموعهما معاً، ثمّ يقوّم أحدهما منفرداً ثمّ تنسب تلك القيمة إلى قيمة المجموع فيؤخذ من الثمن المسمّى بتلك النسبة فما خرج فهو الحصّة. و هذان الطريقان يتّحدان و لا يختلفان في غالب موارد المسألة.

نعم قد يحصل الاختلاف بينهما فيما لو كان للهيئة الاجتماعيّة مدخليّة في زيادة القيمة بحيث يزيد من جهتها قيمة المجموع على مجموع قيمتيهما، كمصراعي الباب و زوجي الخفّ و ما أشبه ذلك، كما لو كان الثمن المسمّى ثلاثة و كان قيمة المجموع أربعة، و قيمة كلّ واحد منفرداً واحداً، فمجموع القيمتين اثنان، و يزيد عليه قيمة المجموع باثنين، و نسبة الواحد [إلى] مجموع القيمتين بالنصف و إلى قيمة المجموع بالربع، و بسبب اختلاف النسبة يتفاوت الحصّة أيضاً، لأنّ حصّة البائع على نسبة النصف نصف الثلاثة واحد و نصف، و على نسبة الربع ربع الثلاثة و هو ثلاثة أرباع واحد، و الأوّل يزيد عليه بمثله و هو حصّته من الزيادة الحاصلة من الهيئة الاجتماعيّة الّتي لم تسلّم للمشتري في صورة عدم الإجازة فلا يستحقّها البائع، فلو أخذها و الحال هذه لزم خروجها من المشتري بلا عوض و هو إجحاف و ظلم عليه.

و طريق التخلّص عنه إنّما هو التقسيط على حسب نسبة قيمة ماله إلى قيمة مجموع المالين لا إلى مجموع القيمتين، فنحن نتكلّم أوّلاً في كيفيّة التقسيط بالنسبة إلى غالب الموارد الّتي لم يكن للهيئة الاجتماعيّة مدخليّة في زيادة القيمة و نقصانها، و قد عرفت أنّ طريقها أن يقوّم كلّ من المالين منفرداً ثمّ تنسب قيمة مال البائع إلى مجموع القيمتين، فيبقى للبائع من الثمن ما هو على حسب تلك النسبة، و مثاله على ما ذكروه ما إذا كان الثمن المسمّى ثلاثة دنانير و قوّم المملوك و هو مال البائع بقيراط و غيره بقيراطين، فيرجع المشتري بثلثي الثمن و يستردّهما من البائع على تقدير دفعه إليه، أو يرجع البائع على المشتري بثلث الثمن و يطالبه منه على تقدير عدم دفعه، و إنّما لم يقسّط الثمن على العينين ابتداءً ، لأنّهما قد لا يكونان متماثلين كعبد و فرس مثلاً فتعذّر التقسيط حينئذٍ، و فيما كانا متماثلين فكثيراً ما لا يتساوى قيمتاهما فيتعذّر التقسيط أيضاً فلا بدّ في التقسيط من التقويم توصّلاً إلى التمكّن منه في جميع الفروض.

ص: 902

و إنّما اعتبر في التقويم نسبة قيمة أحد المالين كمال البائع إلى مجموع القيمتين لا إلى نفس الثمن و أخذ القيمة منه بتلك النسبة، لئلّا يفتقر إلى تقويمين تحرّزاً عن الإجحاف و الظلم بالنسبة إلى البائع أو إلى المشتري، فإنّ الثمن المسمّى قد ينقص عن مجموع القيمتين و قد يزيد عليه، فلو اُخذ قيمة المملوك على حسب نسبتها إلى الثمن لا إلى مجموع القيمتين لزم أن يخرج من المشتري إلى البائع شيء بلا عوض على الأوّل، و أن يبقى من حقّ البائع شيء عند المشتري، و مثاله ما لو كان الثمن أربعين و قوّم مال البائع بعشرين و المال الآخر بثلاثين و مجموعهما خمسون، و نسبة عشرين إلى خمسين خمسان، فلو أخذ البائع من الثمن على حسب تلك النسبة كان حصّته ستّة عشر خمسي أربعين، و لو أخذ على حسب نسبة عشرين إلى أربعين كان حصّته تمام عشرين، و هو يزيد على الأوّل بأربعة و هو من مال المشتري يخرج إليه بلا عوض، أو كان الثمن ستّين مع كون قيمة كلّ من المالين كما ذكر، فلو أخذ البائع من الثمن على حسب نسبة عشرين إلى خمسين كان حصّته أربعة و عشرين خمسي ستّين، و لو أخذ على حسب نسبة عشرين إلى الثمن كان حصّته عشرين ثلث ستّين فيبقى من حقّه في ذمّة المشتري أربعة فيلزم الظلم بالنسبة إليه.

و أيضاً فلو قسّط الثمن على حسب ما قوّم المملوك بأن يأخذ البائع من الثمن عين قيمة ماله من دون مراعاة النسبة لزم - مضافاً إلى الإجحاف - التنازع، و ذلك لأنّ قيمة مال البائع بعد عدم إجازة المالك قد تساوى الثمن، و قد تزيد عليه، و قد تنقص منه.

فعلى الأوّل لو كانت العبرة بعين القيمة يلزم الإجحاف على المشتري لو قلنا بأنّه لا يرجع بما يقابل قيمة ما لم يجز البيع فيه من المبيع، لخروج جزء من ثمنه بلا عوض و هو الّذي دفعه في مقابل الجزء الغير المجاز من المبيع، و لو قلنا بأنّه يرجع لزم التنازع فيما لو كان قيمة كلّ من المالين عشرة و الثمن المسمّى أيضاً عشرة، و لو خصّص العشرة لزم الترجيح بلا مرجّح، مضافاً إلى أنّه لو خصّصناه بالمشتري لزم مع الإجحاف على البائع الجمع بين العوض و المعوّض، لأنّه يأخذ مال البائع و يمنعه من عوضه و هو جمع بين العوض و المعوّض، بل يلزم التنازع على تقدير إجازة المالك مضافاً إلى لزوم الترجيح بلا مرجّح لو خصّص بأحدهما.

ص: 903

و مثله الكلام في لزوم المحذورين على الثاني و هو زيادة القيمة على الثمن، مضافاً إلى لزوم محذور آخر و هو استحقاق البائع على المشتري القدر الزائد على الثمن من غير الجهة العقديّة، فيكون من قبيل تملّك مال بلا سبب شرعي، إذ المفروض تحقّق السبب بالنسبة إلى المسمّى، و القدر الزائد خارج منه فلا بدّ في التقسيط من ملاحظة النسبة، ثمّ يقسّط الثمن على حسب تلك النسبة لئلّا يلزم شيء من المحاذير.

و ضابطه الكلّي أن يلاحظ مجموع القيمتين بعد تقويم كلّ من المالين منفرداً، و ينسب إليه قيمة كلّ منهما فيؤخذ من الثمن بإزاء كلّ مال بتلك النسبة سواء كان المأخوذ بتلك النسبة لكلّ مال مساوياً لقيمته منفرداً أو أزيد منها أو أنقص منها، فلو قوّم المالان كلّ بخمسة و الثمن عشرة يقسّط العشرة نصفين، و لو قوّم أحدهما بأربعة و الآخر بستّة يقسّط العشرة أخماساً، و لو قوّم أحدهما بثلاثة و الآخر بأربعة يقسّط العشرة أسباعاً، و لو قوّم أحدهما باثنين و الآخر بثلاثة قسّط العشرة أخماساً، و لو قوّم أحدهما باثنين و الآخر بأربعة قسّط العشرة أثلاثاً، و لو قوّم أحدهما بواحد و الآخر بثلاثة قسّط الثمن أرباعاً و هكذا. و إن شئت مثالاً لمزيد التوضيح فافرض الثمن اثني عشر و قيمة أحد المالين ثلاثة و الآخر ستّة فاجمع القيمتين فيحصل تسعة، و انسب الثلاثة إلى التسعة فيكون ثلاثة، فيكون ما يقابله من الثمن أربعة لأنّه ثلث اثني عشر، و من هنا يعلم أنّه يكفي في التقسيط نسبة إحدى القيمتين إلى المجموع، لأنّه إذا عرفت هذه النسبة و اُخذ من الثمن على حسبها يبقى الباقي منه في مقابلة قيمة المال الآخر، و إن لم يعلم أنّ نسبتها إلى المجموع ما ذا.

فظهر بما قرّرناه أنّ الطريق المذكور موافق للعدل و يقتضيه الاعتبار و طريقة الشارع، و هو كما يجري على تقدير عدم الإجازة يجري على تقدير الإجازة أيضاً بلا فرق بينهما، غاية الأمر أنّ الثمن على الأوّل بين البائع و المشتري، و على الثاني بين البائع و المجيز.

و لكن قد يشكل الحال فيما لم يكن كلّ من جزئي المبيع متموّلاً بانفراده لعدم قيمة له في العرف و العادة إذا اُخذ منفرداً، بل المجموع المركّب متموّل و القيمة متقوّمة بالمجموع فحينئذٍ لا يمكن تقويم كلّ واحد منفرداً حتّى يلاحظ النسبة بين إحدى

ص: 904

القيمتين و مجموع القيمتين، فيتعذّر التقسيط بناءً على هذا الطريق، و ذلك نظير حمل حطب بين جماعة لكلّ واحد عودة خشب لا قيمة لها، أو رطل حنطة بينهم لكلّ واحد حبّة لا قيمة لها، أو قطعة أرض بينهم لكلّ واحد منها شبر لا قيمة له.

فقد يقال: بأنّ الثمن في مثل ذلك يقسّط على حسب الملكيّة و عدد رءوس الشركاء، فلو كان المبيع بين اثنين يقسّط الثمن نصفين أو بين ثلاثة فأثلاثاً أو بين أربعة فأرباعاً، و هكذا من غير فرق بين تساوي الحقوق في المقدار وزناً أو مساحة، و بين اختلافها كاختلاف أعواد الحطب في الطول و القصر، و اختلاف حبّات الحنطة في الكبر و الصغر، و اختلاف أبعاض الأرض في تماميّة الشبر و نقصانه و الزيادة بما لا يبلغ حدّ الماليّة، فإنّ نحو هذا الاختلاف غير ضائر، إذ ليس في الشرع ميزان منضبط لرفعه فيكون مغتفراً، و له في الشرعيّات نظائر كثيرة، كما لو جنى اثنان على واحد، و اجتمع اثنان على إتلاف مال واحد مع اختلافهما في زيادة التأثير و قلّته، فإنّ الدية في الأوّل و الضمان في الثاني عليهما بالسويّة.

و فيه: نظر، أمّا أوّلاً: فلأنّ ذلك على تقدير تماميّته إنّما يصحّ في صورة إجازة المالك، و أمّا في صورة عدم الإجازة فلا للزوم بيع ما ليس بمال، و بذل المال في مقابلة ما ليس بمال و هذا خلف من جهة المعاملة السفهيّة، فالوجه فيه بطلان البيع رأساً. و هذا في الحقيقة يندفع بمفهوم التقييد المتقدّم في كلام جماعة من الأصحاب، و هو تقييد صحّة البيع في مال البائع على تقدير عدم إجازة مالك بأن لا يتولّد من عدم الإجازة مانع من الصحّة، إذ المفروض عدم انحصار المانع الشرعي فيما تقدّم من الربويّة و الإباق، بل من الموانع الشرعيّة عن صحّة البيع خروج الشيء عن الماليّة.

و أمّا ثانياً: فلإمكان الاعتبار الرافع لتفاوت الاختلاف على طبق الطريق المتقدّم بالتضعيف، و هو تكرير الواحد مراراً عديدة فيكرّر كلّ جزء من المبيع مراراً عديدة حتّى يبلغ الحاصل مبلغ الماليّة فيقوّم مبلغ كلّ جزء ثمّ يجمع القيم ثمّ تنسب قيمة مبلغ حقّ البائع إلى مجموع القيم، و أيّ نسبة حصلت تكون هذه النسبة ميزاناً فيقسط الثمن بين الأجزاء على حسب تلك النسبة، و يخرج الحصّة الواقعيّة من دون إجحاف.

و بمراعاة هذا الاعتبار يندفع الإشكال أيضاً فيما لو باع ماله منضمّاً إلى ملك غيره ممّا

ص: 905

لا يتموّل بانفراده و أجازه المالك، فلا يلزم إجحاف على البائع لو كرّر ماله مع ملك الغير مراراً حتّى يبلغ ملك الغير مبلغ الماليّة، فينسب قيمة مبلغ مال البائع إلى مجموع القيمتين فيأخذ البائع من الثمن على حسب تلك النسبة، فما بقي منه فهو حصّة المالك.

هذا كلّه على تقدير عدم مدخليّة الهيئة الاجتماعيّة في زيادة القيمة.

فأمّا إذا كان لها مدخليّة في زيادة القيمة، فلا كلام ظاهراً لأحد في أنّ طريق التقسيط فيه على تقدير إجازة المالك كما تقدّم من تقويم كلّ واحد منفرداً و نسبة قيمة أحدهما إلى مجموع القيمتين و الأخذ من الثمن على حسب تلك النسبة، و إنّما الكلام في صورة عدم إجازة المالك فاختلف الأصحاب في أنّ طريق التقسيط هل هو أن يقوّم كلّ منهما منفرداً تنسب قيمة أحدهما إلى مجموع القيمتين و يؤخذ من الثمن بتلك النسبة - كما عن جامع المقاصد(1) و الميسيّة(2) و المسالك(3) و الروضة(4) و الرياض(5)و الحدائق(6) - أو أن يقوّما مجتمعين و تنسب قيمة أحدهما إلى قيمة المجموع و يؤخذ من الثمن بتلك النسبة كما عن آخرين ؟

و يظهر الثمرة في زيادة حصّة البائع من الثمن و نقصانها، إذ على الطريق الأوّل يزيد حصّته منه عليها على الطريق الثاني، فلو كان قيمة المجموع اثني عشر مثلاً و قوّم كلّ منهما بأربعة و نصف، و الثمن ستّة و مجموع القيمتين تسعة، فلو أخذ البائع من الثمن على حسب نسبة أربعة و نصف إلى التسعة كان حصّته ثلاثة نصف الستّة، و لو أخذ منه على حسب نسبة أربعة و نصف إلى اثني عشر كان حصّته اثنين و ربعاً ربع الستّة و نصف ربعه، لأنّه نسبة قيمة ماله إلى اثني عشر قيمة المجموع.

و لو قوّما منفردين على التفاوت، بأن كان قيمة مال البائع منفرداً ثلاثة، و قيمة المال الآخر ستّة، كان مجموع القيمتين أيضاً تسعة، فالبائع إذا أخذ من الثمن بمقتضى نسبة الثلاثة إلى التسعة و هو الثلاث كان حصّته منه اثنين ثلث الستّة، و إذا أخذ منه بمقتضى نسبته إلى اثني عشر و هو الربع كان حصّته منه واحداً و نصفاً ربع الستّة، فمرجع قول الأوّلين إلى أنّ البائع يستحقّ من الثمن على تقدير عدم إجازة المالك قدر ما يستحقّه

ص: 906


1- جامع المقاصد 78:4.
2- نقله عنه في مفتاح الكرامة 647:12.
3- المسالك 162:3.
4- الروضة 239:3-240.
5- الرياض 232:8.
6- الحدائق 402:18.

مع الإجازة، و لازمه أن يقولوا إنّ البيع مع عدم إجازة المالك يبطل في قدر ما يستحقّه من الثمن مع الإجازة، فلا يتفاوت الحال في طريق التقسيط بين صورتي إجازة المالك و عدم إجازة مع مدخليّة الهيئة الاجتماعيّة في زيادة القيمة، كما هو كذلك مع عدم المدخليّة.

و احتجّوا عليه كما في مفتاح الكرامة «بأنّه لا يستحقّ مالك كلّ واحد حصّته إلّا منفردة فلا يستحقّ ما يزيد باجتماعهما»(1).

و قد يقرّر بأنّ كلاًّ منهما يستحقّ حصّة ماله منفرداً، و الهيئة الاجتماعيّة ليست مملوكة لأحد، و مقتضى استحقاق البائع لحصّة ماله منفرداً أن ينسب قيمة ماله منفرداً إلى المجموع منها و قيمة المال الآخر.

و قرّره في الرياض «بأنّه لا يستحقّ مالك كلّ واحد ماله إلّا منفرداً، و حينئذٍ فيقوّم كلّ منهما منفرداً و ينسب قيمة أحدهما إلى مجموع القيمتين و يؤخذ من الثمن بتلك النسبة، دون أن ينسب إلى قيمتهما مجتمعين»(2).

فمبنى كلامهم على ما يقتضيه بياناتهم في الاحتجاج كسائر كلماتهم على عدم كون الهيئة الاجتماعيّة الحاصلة من انضمام المالين مملوكة فليس لها قسط من الثمن، فإذا لم تسلّم للمشتري بعدم إجازة غير البائع لم يسقط من الثمن شيء، فيستحقّ البائع مع عدم الإجازة قدر ما يستحقّه مع الإجازة، و قضيّة ذلك أن يكون مبنى كلام الآخرين على توهّم كون الهيئة الاجتماعيّة مملوكة لهما لتقوّمها بماليهما فيكون لها قسط من الثمن، فإذا لم تسلّم للمشتري من جهة عدم إجازة غير البائع يسقط من الثمن قسطها، فتقويمهما مجتمعين ثمّ نسبته قيمة أحدهما إلى قيمة المجموع، و الأخذ من الثمن بتلك النسبة إنّما هو لاستعلام ما يسقط من الثمن في مقابل الهيئة الاجتماعيّة، و ما يبقى للبائع بعد سقوط ما يقابل الهيئة، فرجع النزاع في المقام إلى النزاع في أنّ الهيئة الاجتماعيّة هل هي مملوكة و لها قسط من الثمن فيبقى قسطها مع سلامتها للمشتري و يسقط مع عدم سلامتها أو لا؟

و الأصحّ هو الثاني لا لما قيل: من أنّ البيع يبطل في مال الغير مع عدم إجازته

ص: 907


1- مفتاح الكرامة 647:12.
2- الرياض 231:8.

بحصّته من الثمن الّتي كان يستحقّها مع الإجازة، فيستحقّ البائع مع عدم الإجازة بحصّته الّتي كان يستحقّها مع الإجازة لعدم الملازمة.

و لا لما قيل: من أنّ المشتري على تقدير عدم الإجازة يقوم مقام المالك على تقدير إجازته، فكما أنّ المالك يستحقّ من الثمن ما يقتضيه نسبة قيمة ماله إلى مجموع القيمتين، فالمشتري أيضاً يستردّ منه على تقدير عدم إجازة المالك ما يقتضيه تلك النسبة، فتبقى للبائع أيضاً من الثمن ما يقتضيه، لأنّه دعوى بلا دليل، فالاستناد إليه من غير دليل نوع مصادرة.

و لا لما قد يستند إليه من أصالة عدم سقوط شيء عن حصّة البائع من الثمن، و هو القدر الزائد على ما يقتضيه نسبة قيمة ماله إلى قيمة المجموع، أعني الثلاثة أرباع في المثال المتقدّم، على تقدير كون قيمة ماله منفرداً أربعة و نصفاً و النصف على تقدير كونها ثلاثة، لأنّها معارضة بأصالة عدم ثبوت ذلك القدر الزائد من أصله، فإنّ القدر المقطوع بثبوته للبائع من الثمن اثنان و ربع على التقدير، و واحد و نصف على التقدير الثاني، و الزائد و هو الثلاثة أرباع أو النصف مشكوك في ثبوته له و الأصل عدمه، بل إطلاق المعارضة مسامحة، فإنّ أصالة عدم سقوط هذا القدر الزائد غير صحيحة لسريان شكّه، فإنّ الشكّ إنّما هو في الحدوث لا في البقاء بعد إحراز تيقّن الحدوث.

بل لأنّ الهيئة الاجتماعيّة أمر اعتباري حصل من انضمام أحد المالين إلى الآخر، و الملك لا بدّ له من سبب و هو قبل الانضمام لم يكن حاصلاً، و لا دليل من عقل و لا نقل على أنّ انضمام أحد المالين إلى الآخر من الأسباب المملّكة للهيئة الاجتماعيّة المتقوّمة، و غاية ما هنالك الشكّ في طروء الملك لها و الأصل عدمه. و لا يمكن معارضته بأصالة عدم استحقاق البائع للقدر الزائد من الثمن على ما يقتضيه نسبة قيمة ماله إلى قيمة المجموع، لورود أصالة عدم الملك عليها باعتبار سببيّة شكّه كما يظهر بأدنى تأمّل.

لا يقال: إنّ السبب المقتضي لطروء الملك للهيئة الاجتماعيّة إنّما هو العقد الواقع على المجموع، و لا يقدح كونه ملكيّة حاصلة بعد العقد لفرض انتفائها قبل العقد و لو بحكم الأصل، بل الملكيّة المفيدة في المقام إنّما هو ما حصل بعد العقد، لأنّه إذا سلمت

ص: 908

الهيئة للمشتري بإجازة مالك أحد المالين حصل له ملكها فيستحقّ عليه البائع و المجيز ما يقابلها من الثمن، و إذا لم تسلم له الهيئة بعدم إجازة مالك أحد المالين سقط ملكها فيسقط ما يقابلها من الثمن.

لأنّا نقول: إنّ ملك شيء بعد العقد تابع لملكه قبل العقد، فإنّ الشيء ما لم يكن ملكاً للبائع قبل العقد كيف يصير ملكاً للمشتري بعده، و بالجملة ملك الشيء للمشتري بعد العقد تابع لكونه ملكاً للبائع قبل العقد، فإنّ المشتري يتلقّى الملك من البائع كما يقتضيه أيضاً تعريف البيع بنقل العين أو انتقالها، فإنّ البائع ينقل إلى المشتري ملك عينه لا ذات عينه، و قد فرضنا أنّ الهيئة الاجتماعيّة قبل العقد لم تكن مملوكة لأحد و لو بحكم الأصل.

لا يقال: نفي مملوكيّة الهيئة الاجتماعيّة قبل العقد ممّا يبطله دليل الخلف، لأنّ مفروض المسألة مدخليّة الهيئة الاجتماعيّة في زيادة القيمة، فإنّ قضيّة هذه المدخليّة أن تقع زيادة القيمة في مقابلتها، و لا يستقيم ذلك إلّا إذا كانت الهيئة مملوكة، و إلّا بطل ما فرض من مدخليّة الهيئة الاجتماعيّة في زيادة القيمة.

لأنّا نقول: ليس المراد من مدخليّة الهيئة في زيادة القيمة أنّها معتبرة على وجه الموضوعيّة حتّى يقابلها جزء من الثمن، بل الزيادة حاصلة في قيمة العينين بسببها فهي معتبرة على وجه الداعي، و السرّ فيه أنّ اختلاف قيمة الشيء كثرة و قلّة إنّما هو باعتبار اختلاف رغبات الناس فيه كثرة و قلّة، و هو باعتبار الاختلاف في حصول الفائدة المقصودة و عدم حصولها، و كلّ ما يحصل به الفائدة المقصودة منه تكثر الرغبة في اشترائه فيكثر قيمته، و كلّما لا يحصل به الفائدة المقصودة منه يقلّ الرغبة في اشترائه فيقلّ قيمته.

و من هذا القبيل مصراعا الباب و زوجا الخفّ و غيرهما ممّا للهيئة الاجتماعيّة فيه مدخليّة في زيادة القيمة، فإنّ الفائدة المقصودة من الباب شيء لا يحصل إلّا بمجموع مصراعيه و هو سدّ المدخل و المخرج، و من الخفّ شيء لا يحصل إلّا بمجموع زوجيه و هو ستر الرجلين و حفظ الأذى عن باطن القدمين، فيكثر الرغبة في اشتراء الباب بمجموع مصراعيه فيكثر قيمتهما، و في اشتراء الخفّ بمجموع جزئيه فيكثر قيمتهما،

ص: 909

بخلاف أخذ جزء كلّ منهما فإنّه لعدم حصول الفائدة المقصودة يقلّ الرغبة في اشترائه فيقلّ قيمته، و كم من هذا القبيل في الأشياء، و منها العقارات كالدار و الحانوت و البستان و ما أشبه ذلك، فإنّ الدار إذا بيعت بجميع أجزائها يكثر الرغبة في اشترائها فيكثر قيمتها، بخلاف ما إذا بيع نصفها أو ثلثها أو ربعها مثلاً، فإنّه لقلّة الرغبة في اشترائه يكون قيمته أقلّ ممّا يقابله من القيمة المبذلة في مقابل الكلّ .

و ممّا يرشد إلى ما بيّنّاه من أنّ اعتبار الهيئة الاجتماعيّة إنّما هو على وجه الداعي لا على وجه الموضوعيّة فلا يقابلها جزء من الثمن أنّها كما قد تكون لها مدخليّة في زيادة قيمة العينين، فكذلك قد تكون لها مدخليّة في نقصان قيمة العينين كالجارية و اُمّها أو اُختها إذا تساوت قيمتاهما منفردتين مع لزوم هلاكة كلّ منهما بالتفريق على الفرض، فالبائع لا يبيعهما إلّا مجتمعتين و المشتري لا يرغب إلّا في اشتراء إحداهما فلا محالة ينقص قيمة منهما ببيعهما معاً، كأن يكون كلّ منهما منفردة عشرة و قيمة مجموعهما خمسة عشر مثلاً، و كما أنّ النقص بسبب الهيئة الاجتماعيّة حصل في قيمة كلّ من العينين، فكذلك الزيادة الحاصلة بسببها حصلت في قيمة كلّ من العينين.

و قد تكون لها مدخليّة في زيادة قيمة أحدهما دون الآخر كالجارية و ولدها الرضيع مع كونه لغير البائع مثلاً فإنّ الاُمّ قيمتها مع الانفراد و مع الانضمام إلى الولد واحدة، و لكن قيمة الولد تزيد إذا بيع منضمّاً إلى الاُمّ بخلاف ما لو بيع منفرداً، و ليس لأحد أن يقول: إنّ الزيادة هنا تقع في مقابلة الهيئة الاجتماعيّة، لضرورة أنّها زيادة في قيمة الولد لكونه مع الاُمّ ، كما لو كان قيمة كلّ منهما منفرداً أربعة و نصفاً، و قيمتهما مجتمعين اثنى عشر مع كون الزائد على التسعة الّذي هو مجموع القيمتين زيادة في قيمة الولد و الثمن ستّة.

و يشكل الحال في نحو هذه الصورة لو بنى كيفيّة التقسيط على ما تقدّم، من ملاحظة نسبته قيمة أحد المالين إلى مجموع القيمتين بعد تقويم كلّ منهما منفرداً، للزوم الظلم على الغير على تقدير إجازته و على المشتري على تقدير عدم الإجازة، من جهة شركة البائع في الزيادة المفروض كونها زيادة في قيمة مال الغير فهي إمّا للبائع وحده أو للمشتري كذلك، و لم نجد لأصحاب القول بنسبة أحد المالين إلى مجموع القيمتين

ص: 910

نصّاً في ذلك، و يمكن القول بكون هذه الصورة عندهم مستثنى من تلك القاعدة، فتنسب قيمة مال البائع إلى قيمة المجموع لتقع الزيادة بتمامها في الطرف الآخر للغير أو للمشتري دفعاً للظلم.

و يمكن إعمال طريق آخر في التقويم، و هو أن يقوّم المالان تارةً منفردين و اُخرى مجتمعين، ثمّ تنسب مجموع القيمتين إلى قيمة المجموع، فيؤخذ من الثمن قدراً بتلك النسبة في مقابل المالين و يكون الباقي بإزاء الهيئة، ثمّ يقسّط القدر المأخوذ بإزاء المالين بين البائع و الغير أو المشتري بنسبة قيمة أحدهما إلى مجموع القيمتين، فيكون ما بإزاء مال الغير مع ما بإزاء الهيئة للغير أو للمشتري، و يكون للبائع ما بإزاء ماله وحده، ففي المثال المذكور تنسب التسعة إلى اثني عشر، و يؤخذ من الستّة باعتبار تلك النسبة ثلاثة أرباعه و هو أربعة و نصف بإزاء المالين، و يبقى من اثني عشر ربعه بإزاء الهيئة، فيكون الربع الباقي من الستّة و هو واحد و ربع في مقابل الهيئة ثمّ يقسّط الأربعة و النصف بين البائع و الغير أو المشتري بالنصف، لأنّه نسبة أربعة و نصف قيمة كلّ من المالين منفردين إلى التسعة بمجموع القيمتين، فيكون حصّة البائع اثنين و ربعاً، و يبقى للغير أو المشتري ما بإزاء المال الآخر مع ما بإزاء الهيئة ثلاثة و ثلاثة أرباع، و هذا الطريق جارٍ في صور مدخليّة الهيئة الاجتماعيّة في زيادة قيمة المالين أيضاً على القول بملاحظة نسبة قيمة أحد المالين إلى قيمة مجموعها المبنيّ على مملوكيّة الهيئة و كون قسط من الثمن لها، كما أشار إليه صاحب الكفاية(1) فليتدبّر.

و ليس لهذا القول ما يستند إليه إلّا ما قد يستشمّ من بعض العبائر، من أنّ هيئة الاجتماع ملحوظة في العقد، ضرورة أنّ المشتري بذل الثمن بإزاء المجموع، و العقد أيضاً وقع على المجموع من حيث المجموع، فلا بدّ و أن يلاحظ أيضاً في التقويم و تنسب قيمة أحدهما إلى قيمة المجموع.

و يزيّفه: أنّ ملاحظة الهيئة في العقد مع بذل الثمن بإزاء المجموع و إن كان مسلّماً إلّا أنّه على وجه الداعي، على معنى أنّ الهيئة تدعو المشتري إلى بذل الثمن لحصول

ص: 911


1- الكفاية: 182.

الفائدة المقصودة في المجموع، لا على وجه الموضوعيّة تكون جزءاً من المبيع و بعضاً من مورد العقد حتّى يقابلها جزء من الثمن.

و قد يستند أيضاً إلى لزوم الظلم على المشتري فيما إذا كان جاهلاً بكون البائع فضوليّاً أو غاصباً، لأنّه إنّما بذل الثمن بإزاء المجموع و لم يحصل له المجموع، فخروج بعض ما بإزاء الهيئة منه إلى البائع ظلم.

و يندفع أوّلاً: بالنقض بصورة علمه بالحال فلا ظلم عليه، لأنّه بنفسه أقدم على إدخال الظلم على نفسه حيث بذل الثمن بإزاء المجموع مع عدم اطمئنانه بأنّه يسلّم له.

و ثانياً: بمعارضته بلزوم الظلم على البائع لو منع ممّا بإزاء الهيئة لعدم تقصيره و لا إتلافه شيئاً على المشتري، و إنّما أراد له شيئاً لم يسلم له من جهة الغير لا من جهته و لا خفاء ما فيه.

و ثالثاً: بأنّ ضرر الظلم عليه ينجبر بخياره، فإن اختار الفسخ فلا ضرر، و إن اختار الرضا بالعقد فهو السبب لضرره.

ثمّ لو كان المالان لمالك واحد باعهما غيره فأجاز المالك في أحدهما دون الآخر فاحتمل فيه في الروضة وجهين، قائلاً: «أمكن فيه ما أطلقوه مع احتمال ما قيّدنا» أراد بما أطلقوه تقويمهما مجتمعين ثمّ نسبة قيمة أحدهما، و بما قيّده ما ذكره فيما كان للهيئة الاجتماعيّة مدخليّة من تقويمهما منفردين ثمّ النسبة إلى مجموع القيمتين. و يقرب منه ما في المسالك من قوله: «لو فرض كونهما لمالك واحد كما لو باع الفضولي المصراعين معاً فأجاز مالكهما في أحدهما دون الآخر، ففي تقديرهما مجتمعين كالغاصب أو منفردين كما لو كانا لمالكين نظر» و مبنى الاحتمالين كما أشار إليه على ما قد يحكى من أنّه قد يفرّق بين تعدّد الغاصب و اتّحاده في صورة الغصب ضرورة عدم ضمان الغاصب هيئة الاجتماع مع تعدّد المالك لعدم كونها مستحقّة لأحدهما، بخلاف ما لو اتّحد المالك فإنّها حينئذٍ من توابع ملكه.

و فيه: أنّ مبنى الفرق المذكور أيضاً على ما بيّنّاه في توجيه مدخليّة هيئة الاجتماع في مدخليّة القيمة فلا جهة للتردّد، بل الوجه هو تعيين تقويمهما منفردين ليدخل الزيادة الحاصلة بسبب الاجتماع في ما يقابل العينين من الثمن، فإنّ ضمان الغصب

ص: 912

بالقيمة مع اتّحاد المالك يتعلّق بقيمة المجموع لكون الاجتماع موجباً لزيادة قيمتي العينين، و هذا هو معنى كون هيئة الاجتماع حينئذٍ من توابع ملكه، بخلاف صورة تعدّد المالك فإنّ الغصب بالنسبة إلى كلّ مالك يتعلّق بملكه منفرداً و لا تأثير للهيئة حينئذٍ فيقوم كلّ منهما منفرداً.

المسألة الثانية: فيما لو كان المبيع من ذوات الأمثال كالحنطة و التمر و نحوهما،

و المراد أن يكون مال كلّ من البائع و الغير مثليّاً، فإمّا أن يتّحدا قدراً و وصفاً من حيث الجودة و الرداءة كرطلين من الحنطة الجيّدة لكلّ منهما رطل، أو يختلفا قدراً و يتّحدا وصفاً كثلاثة أرطال من الحنطة الجيّدة لأحدهما رطل و للآخر رطلان، أو يتّحدا قدراً و يختلفا وصفاً كرطلين من الحنطة أحدهما جيّدة لأحدهما و الآخر رديئة للآخر، أو يختلفا قدراً و وصفاً كثلاثة أرطال من الحنطة رطل لأحدهما جيّدة و رطلان للآخر من الرديئة فالصور أربع.

ففي الاُولى و الثانية: و ضابطهما اتّحاد الوصف اتّحد القدر أيضاً أو اختلف يقسّط الثمن على أجزاء المثمن من غير تقويم، فإن كان لكلّ منهما رطل قسّط نصفين، و إن كان لأحدهما رطل و للآخر رطلان قسّط أثلاثاً أو ثلاثة أرطال قسّط أرباعاً أو أربعة أرطال قسّط أخماساً، و هكذا، لأنّ التقويم إنّما يحتاج إليه لاختلاف الأجزاء في القيمة و قضيّة اتّحاد الوصف تساويها قيمة.

و في الثالثة و الرابعة: و ضابطهما اختلاف الوصف اتّحد المقدار أو اختلف لا بدّ من تقويمهما ثمّ التقسيط على حسب النسبة، كما تقدّم في ذوات القيم لأنّ الاستغناء عن التقويم إنّما هو لتساوي الأجزاء في القيمة، و قضيّة اختلاف الوصف اختلاف القيمة فلا مناص من التقويم لتعذّر التقسيط، و مثل اختلافهما في الوصف اختلافهما في الجنس كالحنطة و التمر اتّحد المقدار كرطل حنطة لأحدهما و رطل تمر للآخر، أو اختلف كرطل حنطة و رطلي تمر فلا مناص من التقويم لتغاير القيمة.

المسألة الثالثة: فيما لو كان المبيع بأحد جزئيه مثليّاً و بجزئه الآخر قيميّاً،
اشارة

كما لو كان لأحدهما حنطة و للآخر سيف أو فرس أو نحو ذلك، و هذا أيضاً من جهة لزومهما الاختلاف في القيمة لا مناص فيه من التقويم ثمّ التقسيط على حسب النسبة،

ص: 913

هذا كلّه مع إشاعة الثمن الموجبة للشركة. و أمّا مع إفرازه كما لو باع المالين أحدهما بدنانير و الآخر بدراهم، أو أحدهما بهذا الفرس و الآخر بذاك الفرس، أو أحدهما بدنانير و الآخر بفرس، و هكذا فلا حاجة إلى تقويم و لا تقسيط، بل يختصّ بكلّ منهما ما يقابل ماله فيأخذ كلّ ما يختصّ به، و في صورة عدم إجازة المالك يرجع إلى المشتري ما يقابل مال المالك الغير المجيز. و بالجملة: البائع يأخذ ما يقابل ماله، و المقابل الآخر يأخذه المالك المجيز أو يستردّه المشتري.

و مثله ما لو كان الثمن مثليّاً لا على سبيل الإشاعة كما لو باعهما برطلين من الحنطة أحدهما بهذا الرطل و الآخر بذلك الرطل، فكلّ يأخذ ما يخصّه ممّا يقابل ماله اتّحدا في الوصف أو اختلفا.

و أمّا لو كان مثليّاً على سبيل الإشاعة كرطلين أو ثلاثة أرطال من حنطة إذا بيع بهما المالان، فإن اتّفقا في الوصف يتقاسمانه على حسب النسبة بين ماليها، و إن اختلفا فيه كما لو بيعا برطلين أحدهما أجود و الآخر أردأ يقسّط كلّ منهما منفرداً على حسب النسبة بين ماليهما فيأخذ كلّ نصفاً من الأجود و نصفاً من الأردأ على تقدير تساوي ماليهما في القيمة أو في المقدار، و الأوّل في القيمي و الثاني في المثلي، و مع عدم إجازة المالك يستردّ المشتري نصفاً من هذا و نصفاً من ذاك.

فائدة مهمّة: لو كان دار مثلاً مشتركة بين اثنين فباع أحدهما نصفها

بقوله للمشتري: بعتك نصف الدار، فإن ظهر بقرينة حال أو مقال إرادته النصف المملوك له أو نصف غيره فلا كلام، و إن لم يظهر قرينة على إحدى الخصوصيّتين فهل يصرف لفظ النصف على النصف المملوك له خاصّة أو يحمل على النصف المشاع بين نصفيهما؟ أعني نصف الدار المشتركة بينهما على سبيل الإشاعة ليكون المبيع نصفاً من نصفه المملوك له و نصفاً من نصف شريكه حتّى يقف نفوذه فيه على الإجازة، فالّذي رجّحه جماعة كالعلّامة في القواعد(1) و عنه في نهاية الإحكام(2) و ولده في الإيضاح(3) و جامع المقاصد(4) في البيع و الصلح و الوصايا و المسالك(5) في الصلح هو الأوّل، و عن الأخير

ص: 914


1- القواعد 20:2.
2- نهاية الإحكام 479:2.
3- الإيضاح 421:1.
4- جامع المقاصد 80:4، و 101:10، و 433:5-434.
5- المسالك 271:4-271.

نسبته إلى الأصحاب مؤذناً بدعوى الإجماع عليه، و ربّما يومئ إليه ما عن فخر الدين من الإجماع على أنّه لو قال: «بعت غانماً» و اللفظ مشترك بين عبده و عبد غيره انصرف إلى عبده، و كذا ما نحن فيه و إن كان اللفظ هنا متواطئاً لا مشتركاً، بناءً على أنّ مراده من ذكر الإجماع في المشترك ثمّ إلحاق المتواطئ به بيان الكاشف عن مدرك الحكم في المقامين.

و كيف كان فلم نقف على من رجّح الاحتمال الآخر صريحاً و لا على نقل قول به صريحاً، نعم إنّما ذكره جماعة احتمالاً. فما رجّحه الجماعة هو الصحيح، لظهور اللفظ من باب الانصراف العرفي في النصف المملوك للبائع، و يقرّر ذلك الظهور من وجهين:

أحدهما: أنّ لفظ النصف عند إطلاقه و إن كان متساوي النسبة إلى النصف المملوك للافظه و النصف الغير المملوك له، إلّا أنّه في مقام تصرّف اللافظ بما يحتمل كونه تصرّفاً في غير المملوك ينصرف في متفاهم العرف إلى التصرّف في المملوك له، و مرجعه إلى انصراف المطلق بمفهومه إلى النصف المقيّد بكونه للبائع، و بعبارة اُخرى إطلاق لفظ النصف في مقام التصرّف فيه بالبيع ينصرف إلى النصف المقيّد و هو نصف البائع. و إن شئت قلت: إنّ مبنى هذا الظهور على كون التصرّف دليلاً على الملك كما هو الأصل الكلّي، و البيع تصرّف.

و ثانيهما: انصراف البيع فيما يحتمل كونه مال البائع أو مال غيره إلى كونه بيعاً لماله، و لا يصرف إلى بيع مال غيره إلّا لقرينة موجبة للعلم بأنّه باع مال غيره وكالة أو ولاية أو فضولة، و لذا يرجع المشتري في بيع الفضولي و بيع الغاصب إلى البائع بما اغترمه للمالك إذا كان جاهلاً بالفضوليّة و الغصب لكونه مغروراً، لاعتقاده بأنّ البائع باعه مال نفسه، فإنّ هذا الاعتقاد الّذي هو مناط الجهل ممّا لا موجب [له] إلّا الظهور المذكور.

و أمّا الاحتمال الآخر فلا مستند له إلّا أنّ اللفظ صالح لملكه و لملك غيره و لذا يقبل التقييد بكلّ منهما بأن يقال: «بعت نصفي» أو «بعت نصف غيره» فوجب أن يحمل على الإشاعة على معنى النصف المشاع بين النصفين عملاً بالإطلاق النافي لكلّ من التقييدين، و لأنّ الشارع لم يجعل صحّة التصرّف قرينة في المجازات و المشتركات، كما لو قال «أعطوه حماراً» و لا حمار له و إنّما له عبد بليد فإنّه لا يصرف إليه محافظة على

ص: 915

الوصيّة عن البطلان، على معنى أنّ صحّة الوصيّة لا تنهض قرينة على التجوّز في لفظ الحمار بإرادة البليد.

و في الأوّل: أنّه لا معنى له إلّا دعوى الظهور الإطلاقي، و ما ذكرناه ظهور تقييدي و هو وارد على الظهور الإطلاقي.

و في الثاني: أنّ الموجب للحمل على النصف المملوك فيما نحن فيه ليس صحّة التصرّف، كيف و هي بناءً على صحّة الفضولي أعمّ منه و من الحمل على نصف الغير، بل الموجب له الظهور الانصرافي في متفاهم العرف حسبما قرّرناه.

هذا في مقام البيع، و أمّا لو قال في مقام الإقرار: «نصف الدار لك و النصف الآخر لي و لشريكي» فقالوا: إنّه يصرف إلى النصف المشاع بين ما في يده و ما في يد شريكه من النصفين، فيبقى منهما ربع له ممّا في يده و ربع لشريكه ممّا في يد الشريك، و حينئذٍ فإن كذّبه الشريك فله ثلث ما في يده و للمقرّ له ثلثاه، لأنّ الشريك لتكذيبه المقرّ في إقراره بكون النصف ممّا [في] يده و هو الربع و النصف ممّا في يد الشريك و هو الربع أيضاً للمقرّ له نفذ تكذيبه في حقّه و هو إتلاف على المقرّ و المقرّ له كلّ ثلث ماله فبالنسبة إلى المقرّ له ثلث النصف و بالنسبة إلى المقرّ ثلث ربعه و مجموعهما الربع المقرّ به في ما في يد الشريك فيعود إليه، فيكون للشريك نصف و للمقرّ له ثلثا النصف الآخر و للمقرّ ثلثه، و المسألة من اثني عشر لأنّه أقلّ عدد يخرج منه ثلث الربع صحيحاً، أو لأنّ المقرّ أتى في كلامه بثلاث كسور و هي النصف و الثلث و الربع، أمّا الأوّل فواضح، و أمّا الأخيران فلأنّ قوله «لك النصف و النصف الآخر لي و لشريكي» يتضمّن الإقرار بأنّ الشركة بيني و بينك بالثلث و الثلثين و بيني و بين شريكي بالمثل فلي نصف النصف و هو الربع و لشريكي، و من مخارج هذه الكسور اثنان و هو داخل في الأربعة فيكتفي بالأربعة للتداخل و يصرف الأربعة في الثلاثة للتباين فيحصل اثني عشر ستّة للشريك من جهة تكذيبه المقرّ الّذي هو إتلاف عليهما ثلث مالهما و هو ثلاثة من التسعة فتلف على المقرّ واحد من ثلاثة و على المقرّ له اثنان من ستّة، فبقى له أربعة و للمقرّ اثنان و هو شركة بينهما في النصف بالثلث و الثلثين لزمت على المقرّ بموجب إقراره.

و السرّ في حمله في مقام الإقرار على الإشاعة ظهور المطلق عند تجرّده عن

ص: 916

القرائن في إرادة المطلق، و هو النصف المعرّى عن القيدين فيتساوى نسبته إلى النصفين فيحمل على النصف المشاع بينهما، و لا مقتضي لصرفه عن المطلق إلى المقيّد بخلاف ما تقدّم من مسألة البيع فإنّ صرفه إلى المقيّد لوجود المقتضي المقرّر بأحد الوجهين المتقدّمين و هذا المقتضي بكلّ من وجهيه غير موجود في مقام الإقرار.

و توهّم: أنّ الإقرار بكون نصف الدار للمقرّ له تصرّف فيه فيكون ظاهراً في الملك.

يدفعه: منع صدق التصرّف عرفاً على الإقرار، فإنّه إخبار بملك الغير في الواقع، و غايته أنّه متعلّق بالمال، و لا يقال على الإخبار عن الشيء بشيء بكونه تصرّفاً في المخبر به، و لذا لو فرض مسألة بيع النصف في العين المشتركة بحيث لم يجر فيه المقتضي المتقدّم لحمله على المطلق، كما لو كان البائع لنصف الدار المشتركة وكيلاً أو وليّاً عن مالك النصف فالنصف المبيع حينئذٍ يحمل على الإشاعة المقتضية للشركة في الثمن على تقدير الإجازة.

و توهّم: أنّ كون البائع وكيلاً أو وليّاً قرينة على إرادة المقيّد، يندفع بأنّ قرينة التقييد كقرينة المجاز لا بدّ و أن تكون معاندة للإطلاق، و لا يعاند الوكالة و لا الولاية لإرادة المطلق من النصف و لا المقيّد الآخر.

تذنيب: لو باع ما يقبل التملّك و ما لا يقبل التملّك صفقة واحدة بثمن مبذول بإزاء المجموع،

كعبد و حرّ و شاة و خنزير و خلّ و خمر، فالمعروف من مذهب الأصحاب من غير خلاف يعرف صحّته فيما يقبل و البطلان في غيره، و عن الخلاف(1) و الغنية(2)إجماع الفرقة عليه.

و عن جماعة منهم كشف الرموز(3) و التنقيح(4) و الحواشي(5) المنسوبة إلى الشهيد تقييده بجهل المشتري بالموضوع أو بالحكم، و أمّا مع علمه بهما فالمتّجه البطلان كما حكي ذلك عن الشافعي(6) و يلوح الميل إليه من العلّامة في التذكرة حيث نقل البطلان مع علم المشتري عن الشافعي قال: «إنّه ليس عندي بعيداً من الصواب»(7).

ص: 917


1- الخلاف 145:3 المسألة 232.
2- الغنية: 230.
3- كشف الرموز 446:1.
4- التنقيح 27:2.
5- نقله عنه في مفتاح الكرامة 661:12.
6- المجموع 469:9 و 473.
7- التذكرة 565:1.

فالمسألة ذات قولين الصحّة مطلقاً، و التفصيل بين صورتي الجهل فالصحّة و العلم فالبطلان.

و قد يعمّم العنوان أو حكمه بالقياس إلى كلّ جزء للمبيع بطل فيه البيع لفقد شرط من شروط الصحّة و إن كان ممّا يملكه المسلم - كما لو باع مملوكه المقدور على تسليمه مع ما ليس مقدوراً على تسليمه، أو مملوكه المعلوم مع ما جهل جنسه أو وصفه و ما أشبه ذلك - تعليلاً بأنّ مناط المسألة إنّما هو تبعّض الصفقة اللازم من بطلان البيع في بعض المبيع و بطلان البيع فيه، كما أنّه قد يكون لعدم قبوله الملك فكذلك قد يكون من جهة كونه فاقداً لبعض شروط العوضين و إن كان قابلاً للملك. و ليس ببعيد.

و كيف كان فاستدلّ على الصحّة في المملوك خصوصاً بصحيح محمّد بن الحسن الصفّار الواردة في بيع القرية بحدودها الّتي للبائع منها قطاع أرضين و قد قال الإمام عليه السلام في جوابه: «لا يجوز بيع ما لا يملك و قد وجب الشراء فيما يملك»(1).

و عموماً بقاعدة الصحّة المستنبطة من العمومات.

و نوقش في الأوّل: بانصرافه إلى ما يقبل التملّك نظراً إلى القرية الّتي هي ملك لأربابها كقطاع أرضي البائع. و دفعت بأنّ خصوص المورد لا يخصّص العامّ الّذي هو الموصول، و على هذا فالإمام عليه السلام في مقام إعطاء قاعدة عامّة فيما يملك، فتعمّ المورد و غيره و منه ما نحن فيه.

و فيه: أنّه حسن لو قرأ الفعلان بصيغة المجهول لا بصيغة المعلوم و كلّ محتمل، و لعلّ الثاني أظهر الاحتمالين بملاحظة قوله عليه السلام: «و قد وجب الشراء» بصيغة المضي الظاهرة في واقعة شخصيّة وقعت، و غاية ما يسلّم من عموم الموصول هنا كونه في المورد، و هو مال الغير المقابل للتملّك، فتأمّل.

و نوقش في الثاني أيضاً: بأنّ التراضي و التعاقد إنّما وقع على المجموع الّذي لم يمضه الشارع قطعاً، فالحكم بالإمضاء في البعض مع عدم [كونه] مقصوداً إلّا في ضمن المركّب يحتاج إلى دليل آخر سوى العمومات. و تندفع بأنّ الشارع إنّما لم يمض

ص: 918


1- الوسائل 1/339:17، ب 2 عقد البيع و شروطه، التهذيب 667/150:7.

التراضي في المجموع باعتبار أحد جزأيه لا باعتبار كلّ من جزأيه، و هو لا ينافي إمضاءه التراضي في الجزء الآخر، و يكفي في إثباته العمومات.

و دعوى: أنّ التراضي وقع على المجموع بإزاء المجموع لا على البعض، قد زيّفناها في المسألة السابقة، فعليك بمراجعة ما سبق و لا حاجة إلى الإعادة، فالعمدة في دليل الصحّة هي العمومات المعتضدة بالإجماعين المتقدّمين عن الخلاف و الغنية، و يؤيّدها خبر الصفّار.

و بقى الكلام فيما تقدّم عن الجماعة من تقييد الحكم بجهل المشتري بالموضوع أو الحكم احترازاً عن العالم بهما لكون المتّجه فيه البطلان رأساً، فإنّهم علّلوه بإفضاء العلم بهما إلى الجهل بثمن المملوك حين العقد. و قد يجاب عنه تبعاً للشهيد بمنع الملازمة، لأنّ المشتري القادم على بذل الثمن بإزاء المجموع مع علمه بعدم سلامة البعض له قادم على بذل تمام الثمن بإزاء المملوك فقط، فالبائع يستحقّ الثمن بتمامه و هو معلوم كما صرّح به الشهيد في محكيّ الحواشي المنسوبة إليه حيث قال: «إنّ هذا الحكم مقيّد بجهل المشتري بعين المبيع أو حكمه و إلّا لكانت البذل بإزاء المملوك ضرورة أنّ القصد إلى الممتنع كلا قصد» انتهى.

و لا خفاء في ضعفه، لأنّ القصد إلى الممتنع بحسب الشرع غايته أنّه ممّا لم يمضه الشارع، و هذا لا يقضي بعدم قصده في الشراء إلى المجموع، لأنّه قد يكون له غرض في اشتراء الحرّ أو الخنزير أو الخمر و لو فاسداً و عصياناً فلم يكن قادماً على بذل الثمن بإزاء المملوك فقط، فجهالة قسطه من الثمن في محلّه.

فالأولى في الجواب منع بطلان اللازم، إذ الجهل في باب العقود إنّما يمنع من الصحّة حيث أفضى إلى الغرر بمعنى الخطر و هو الهلاك الّذي هو في طرفي المعاوضة عبارة عن تلف المال. و حاصله كون باذله حال العقد على خطر و خوف تلف في ماله المبذول، لكون عوضه في معرض تعذّر الوصول إليه كالطير في الهواء و السمك في الماء، أو في معرض عدم دخوله في الوجود كالجنين في بطن اُمّه، أو في معرض عدم مطابقته لمطلوبه من بذل الثمن بإزائه، كالمجهول جنسه أو وصفه، و لا ريب أنّ جهالة

ص: 919

قسط المملوك ليست بتلك المكانة لعلمه بسلامة المملوك من المبيع له مع إمكان استعلام قسطه من معلوميّة مجموع الثمن، و إن افتقر إلى توسيط تقويم ثمّ تقسيط، و مرجعه إلى كفاية معلوميّة الكلّ في إحراز معلوميّة البعض بحيث معه الغرر كما يرشد إليه خبر الصفّار باعتبار كون كفاية معلوميّة الكلّ في إحراز معلوميّة البعض بالنسبة إلى المبيع معتقداً للبائع، و قد قرّر الإمام عليه السلام على معتقده بقوله: «و قد وجب الشراء فيما يملك» فالمشتري ليس على خطر حال العقد في بذله الثمن فلا غرر.

و لو اُريد من الجهل بالثمن في قضيّة التعليل ما يلزمه الغرر، رجع ما ذكرناه في الجواب إلى منع الملازمة.

ثمّ إنّ طريق استعلام قسط المملوك من الثمن هو ما تقدّم في المسألة السابقة من تقويم كلّ من الجزءين بانفراده، و نسبة قيمة المملوك إلى مجموع القيمتين و الأخذ من الثمن بتلك النسبة.

و أمّا معرفة قيمة غير المملوك، فطريقها على ما صرّحوا به في الحرّ أن يقدّر عبداً بصفاته من الكبر و الصغر و البياض و السواد و غيرها ممّا له دخل في القيمة و الرغبة فيقوّم العبد الموصوف بتلك الصفات مع رعاية زمان العقد و مكانه لأنّ لهما دخلاً فاحشاً في اختلاف القيمة.

و أمّا في الخمر و الخنزير فذكروا أنّهما يقوّمان بقيمتهما عند مستحلّيهما. و استشكل بأنّه إن تمّ فإنّما يتمّ مع علم المشتري بالعين لا مع جهله، لأنّه مع الجهل قد بيع منه الخنزير و الخمر بعنوان الشاة و الخلّ فبان الخلاف، و قضيّة ذلك أن يقدّرا شاة و خلاًّ فيقوّم الشاة و الخلّ لا الخنزير و الخمر. و لذا جزم بعض هنا بوجوب تقويمهما قيمة الشاة و الخلّ ، و هذا جيّد.

و استشكل أيضاً حيث يقوّمان قيمة الخنزير و الخلّ بأنّ المقوّم لا بدّ و أن يكون عدلاً حيث إنّ التقويم من قبيل الشهادة الّتي يعتبر في قبولها العدالة بل التعدّد معها فلا بدّ في التقويم من عدلين، و لا يمكن إحرازهما في المستحلّين لأنّهم كفّار و الكافر ليس بعادل. و دفع على ما في كلام جماعة بإمكان إحرازهما في مسلمين سبقهما الكفر أو

ص: 920

عاشرا أهل الكفر فاطّلعا على حالهما عندهم. و في المسالك(1) و الرياض(2) جواز الاعتماد على قول جماعة منهم يؤمن تواطؤهم على الكذب بحيث حصل منه العلم أو الظنّ الغالب المقارب للعلم. و هذا حيث حصل من أخبارهم العلم حسن، و في غيره ممّا حصل منه الظنّ ضعيف و إن قارب العلم، لابتناء الاكتفاء به على القول بحجّية الظنّ في الموضوعات الخارجيّة، و هو خلاف التحقيق.

و في بعض العبارات تجويز الرجوع في معرفة قيمة الخمر إلى العصاة من المسلمين فإنّ له عند شاربيه و بائعيه قيمة، و يمكن للعدول من المسلمين الاطّلاع عليها. و لا يخلو عن إشكال، لأنّ القيمة المضروبة له عند العصاة لم يظهر من الشارع إمضاؤها و ترتيب حكم عليها في شيء من الموارد لعدم كونه مالاً في طريقة الإسلام بخلاف المستحلّين فإنّه مال عندهم، فيكون المعتبر في التقويم قيمته عندهم، فليتدبّر إن شاء اللّٰه.

ص: 921


1- المسالك 163:3.
2- الرياض 232:8.

ص: 922

الفهرس

كتاب المتاجر معنى التجارة و أقسامها 4

الباب الأوّل: التجارة المحرّمة من الأعيان، الأعيان النجسة 10

حكم بيع الخمر 30

حكم التكسّب بالمسكرات الجامدة 46

بيع الميتة 52

بيع الدم 66

بيع أبوال و أرواث ما لا يؤكل لحمه 73

حكم بيع الأرواث الطاهرة 76

الأبوال الطاهرة 79

في التكسّب بالمنيّ 88

التكسّب بالكافر 89

التكسّب بالخنزير 90

التكسّب بالكلب 95

بيع المائعات النجسة، العصير العنبي 110

المضاف المتنجّس بالملاقاة 114

ص: 923

الأدهان المتنجّسة 120

الباب الثاني: في الأعيان الّتي منافعها المقصودة محرّمة 136

بيع أواني الذهب و الفضّة 146

تذنيب: لو باع العنب أو الخشب ممّن يعملها خمراً أو صنماً 157

حكم المعاوضة على الجارية المغنّية و كلّ عين مشتملة على صفة يقصد منها الحرام 163

إجارة المسكن أو السفينة أو الحمولة للمحرّمات 165

بيع السلاح لأعداء الدين 170

لا فرق في التحريم بين المشركين و الخوارج 173

هل يلحق بأعداء الدين قطّاع الطريق ؟ 173

يلحق السروج بالسلاح في الحكم 174

هل البيع من أعداء الدين حيث يحرم فاسد أيضاً أو لا؟ 174

الباب الثالث: عدم جواز التكسّب بما لا ينتفع به من الأشياء 176

في جواز التكسّب بالعلق 185

في التكسّب بالمسوخ 185

إذا اشتبه حال المسوخ من حيث اشتماله على منفعة عقلائيّة و عدمه 191

في أنّ المسوخ تقبل التذكية 192

في التكسّب بالسباع 192

الباب الرابع: التكسّب بما يحرم في نفسه 199

عمل صور المجسّمة 200

لا فرق في التحريم بين هيئة القائم و الجالس و المضطجع 205

نقص الصورة ببعض أجزائها لا ينفع في رفع تحريم عملها 205

لا يحرم عمل بعض أجزاء الحيوان 206

حكم تصوير نصف الحيوان 206

لو شرع بالتصوير بقصد التمام ثمّ بدا له في عدم الإتمام 206

ص: 924

لو بدأ بالتصوير قاصداً للناقصة فبدا له الإتمام 206

في لحوق تصوير صورة الملك و الجنّ بتصوير صورة الحيوان 206

لو صوّر صورة تخيّلها صورة حيوانيّة و لا مماثل لها بين أنواع الحيوانات 206

لو اشترك اثنان في تصوير الصورة 206

جواز اقتناء الصورة مجسّمة كانت و غيرها 207

معنى الغناء 208

حكم الغناء 215

في منع استثناء الغناء في قراءة القرآن 220

منع استثناء الغناء في المراثي 224

غناء المغنّية في الأعراس 227

حكم الحُداء 227

تحريم معونة الظلمة 229

في النوح بالباطل 234

في حفظ كتب الضلال 237

هجاء المؤمنين 241

في الغيبة 245

يعتبر في الغيبة كونه بالقول 247

يعتبر في الغيبة غياب المغتاب 249

يعتبر في الغيبة أن يكون ما يذكر في غيابه سوءاً و ذمّاً 249

يعتبر في الغيبة كون العيب ثابتاً للمغتاب 250

يعتبر في الغيبة كون ذكر الرجل بعينه لسامع يفهمه 251

يعتبر في الغيبة كراهة المغتاب 251

يعتبر في الغيبة تعيين المغتاب 253

يعتبر الحصر في الغيبة 254

ص: 925

لا فرق في الغيبة بين ما لو كان ما يذكر فيه من العيب عيباً في بدنه أو نسبه أو... 255

حكم الغيبة 255

حكم غيبة المخالف 257

في استثناء المتجاهر 260

من مستثنيات الغيبة تظلّم المظلوم 263

من مستثنيات الغيبة استفتاء المظلوم 268

من مستثنيات الغيبة تحذير المؤمن 269

استثناء نصح المستشير 270

استثناء جرح الشاهد و الراوي من الغيبة 272

من مستثنيات الغيبة الشهادة عند الحاكم بالقتل أو شرب الخمر أو... 273

استثناء ما يدخل في الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر من الغيبة 277

من مستثنيات الغيبة تفضيل بعض العلماء عن بعض 277

استثناء ذمّ المؤمن و ذكر معائبه لحفظ دمه أو عرضه أو ماله من الغيبة 278

من مستثنيات الغيبة نفي النسب عمّن يدّعي نسباً ليس له 278

استثناء ذمّ الأولاد و العيال تأديباً لهم من الغيبة 280

من المستثنيات ذكر المؤمن باسمه المعروف المشعر بالذمّ كالأعور و الأعرج و... 281

رضى المغتاب باغتيابه هل يكون مبيحاً للاغتياب أو لا؟ 282

حرمة استماع الغيبة 285

في ردّ الغيبة 290

في استحلال الغيبة و الاستغفار لصاحبها 292

في السحر: معرفة موضوع السحر و حقيقته 293

أنواع السحر و أقسامه 297

هل السحر أمر ممكن أم لا؟ 300

هل السحر أمر واقع أم لا؟ 303

ص: 926

في حكم السحر 305

في حرمة عمل السحر 306

هل استثني من السحر شيء أم لا؟ 309

في تعلّم السحر 318

في تعليم السحر و التكسّب به و كفر مستحلّه 319

في الشعبذة 320

في الكهانة 323

في القيافة 330

في التنجيم: تعريف التنجيم 333

في ما يتعلّق بالأجرام الفلكيّة و الكواكب 334

ما يتعلّق بالأجرام العلويّة و حركاتها 336

في نقل الأخبار المتعلّقة بالتنجيم 337

مضارّ التنجيم 339

في تحريم علم النجوم و تعلّمه 341

في القمار: تعريف القمار 345

في تحريم القمار 346

اللعب بآلات القمار من الاثنين مع الرهن و العوض 346

هل يحرم الحضور في مجلس القمار و النظر إليه ؟ 348

في اللعب بآلات القمار من غير رهن 349

اللعب بغير الآلات المعمولة في القمار مع الرهان 352

في الغش: معنى الغشّ 355

في حرمة الغشّ 357

في حكم الغشّ من حيث فساد المعاملة و عدمه 360

في تحريم النجش 363

ص: 927

تدليس الماشطة 364

تزيين الرجل بما يحرم عليه 367

يحرم على النساء لبس الثياب المختصّة بالرجال 368

يجب على الخنثى تجنّب الزينتين المختصّتين بالرجال و النساء 368

الباب الرابع: في التكسّب بالواجبات، موضوع المسألة 369

أنواع الواجبات و المستحبّات 371

في القول بجواز التكسّب بالواجبات 377

أدلّة القول بمنع التكسّب بالواجبات 378

تحقيق المسألة أي التكسّب بالواجبات 380

مقدّمات الواجب كنفس الواجب في حرمة أخذ الاُجرة عليها 389

يجوز أخذ الاُجرة على إرضاء اللباء 390

لا يجوز أخذ الاُجرة على تحمّل الشهادة و لا على أدائها 390

عدم جواز أخذ الاُجرة على القضاء 392

في تحريم الرشوة 393

أخذ الاُجرة على المندوبات 402

عدم جواز أخذ الاُجرة على الأذان و لا على الصلاة جماعة 405

جواز ارتزاق المؤذّن من بيت المال 407

جواز أخذ الاُجرة على إجراء عقد النكاح 408

مسائل مهمّة: 1 - بيع المصحف 408

2 - جوائز الظلمة 413

أحكام مال المجهول المالك 425

تذنيب: في أخذ الخراج و المقاسمة من السلطان الجائر 434

مسائل مهمّة: 1 - اشتراط قبض السلطان أو عامله في جواز القبول منه مجّاناً أو بعقد 441

ص: 928

2 - الرخصة الحاصلة من الأئمّة مختصّة بالآخذ المتقبّل 442

3 - هل يشترط جواز الأخذ من الجائر في أزمنة الغيبة بإذن الحاكم الشرعي 448

4 - فيما يعتبر و ما لا يعتبر في الجائر 451

5 - لا يعتبر في حلّ الخراج أن يكون المأخوذ منه ممّن يعتقد في الجائر استحقاقه للأخذ منه 455

6 - هل يعتبر في حلّ الخراج كون الآخذ من أهل استحقاق ما يأخذه من المال أو لا؟ 456

7 - يشترط في جواز تناول المقاسمة أو الخراج من الجائر كونهما مأخوذين على الأراضي الخراجيّة 458

8 - يشترط في كون الأرض خراجيّة اُمور 459

تتمّة: ليس للخراج قدر معيّن 470

كتاب البيع

في تعريف البيع 472

البيع يطلق على معانٍ 475

هل للصيغة المخصوصة تأثير خاصّ باعتبار كونها معتبرة في اللزوم أو الصحّة أو في صدق الاسم أو لا؟ 482

في مدخليّة الصيغة المخصوصة في صدق الاسم 489

في مدخليّة الصيغة المخصوصة في الصحّة 496

في مدخليّة الصيغة أو مطلق اللفظ في اللزوم 518

التنبيه على اُمور:

1 - اللزوم في البيع و الجواز في المعاطاة ليسا عبارتين عن مجرّد الحكم التكليفي 525

2 - الجواز في المعاطاة نظير الجواز في الهبة لا الجواز في مواضع الخيار 525

3 - هل الجواز في المعاطاة من لواحق الملك أو من عوارض سببه 526

4 - هل قصد اللزوم حين التقابض يوجبه أو لا؟ 526

ص: 929

5 - جواز الرجوع في المعاطاة يسقط بالإسقاط أم لا؟ 527

6 - للمعاطاة إحدى و عشرون صورة، هل هذه الصور كلّها محلّ للنزاع 529

مسائل:

أ - يعتبر في المعاطاة قصد إنشاء التمليك و التملّك 529

ب - هل يعتبر في المعاطاة حصول القبض من الجانبين أو يكفي من أحدهما 535

ج - هل تعتبر الشرائط المعتبرة في صحّة البيع مطلقاً، أو لا تعتبر مطلقاً، أو تعتبر على القول بالملك و لا تعتبر على القول بالإباحة ؟ 539

د - في جريان المعاطاة في سائر العقود اللازمة و الجائزة 543

7 - في ملزومات المعاطاة 548

مسائل:

1 - في تلف تمام كلّ من العينين 548

2 - لو تلفت إحدى العينين بتمامها 553

و لو تلف بعض إحدى العينين 557

3 - في نقل ملك كلّ من العينين إلى غير من هي بيده نقلاً لازماً 559

4 - في تغيير العينين معاً أو إحداهما 562

اُمور مهمّة:

1 - في ما يتعلّق بالمنافع المستوفاة من العين و النماءات المتجدّدة بعد المعاطاة 565

2 - المعاطاة في نفسها معاملة جائزة و يعرضها اللزوم 567

3 - هل يكفي الإشارة المفهمة في المعاطاة أم لا؟ 571

مسائل في الإشارة و ما يعتبر فيها و ما لا يعتبر فيها 571

صيغة البيع: ما يتعلّق بصيغة البيع من حيث موادّ ألفاظها 577

مسائل:

1 - في اشتراط العربيّة و عدمه 577

2 - في اعتبار الصراحة في صيغة البيع و عدمه 581

ص: 930

3 - في بيان الألفاظ المخصوصة المستعملة في إيجاب البيع و في قبوله 590

ما يشترط في الهيئة المعتبرة في كلّ من الإيجاب و القبول بانفراده 598

يعتبر في الصيغة أن تكون جملة فعليّة 598

في اشتراط الماضويّة 598

ما يشترط في الهيئة التركيبيّة الحاصلة من الإيجاب و القبول و فيه مسائل: 601

1 - هل يشترط تقديم الإيجاب على القبول أو لا؟ 601

في بيان ضابط تشخيص المشتري من البائع 610

2 - في اشتراط الموالاة بين الإيجاب و القبول 610

3 - في المطابقة بين الإيجاب و القبول 614

4 - في التعليق و التنجيز 617

في المقبوض بالعقد الفاسد 621

المقبوض بالعقد الفاسد، قاعدة الإقدام 625

المقبوض بالعقد الفاسد، قاعدة الاحترام 629

المقبوض بالعقد الفاسد، تحقيق خبر اليد 631

مسائل في المقبوض بالعقد الفاسد:

1 - هل يجب ردّ المال المقبوض بالعقد الفاسد فوراً أم لا؟ 638

2 - مئونة الردّ على القابض أو المالك 639

3 - هل الاُمور المصاحبة للعين تابعة لها في الضمان 640

4 - في المنافع المستوفاة للعين المقبوضة بالعقد الفاسد 641

5 - في ضمان المنافع الغير المستوفاة الفائتة على مالك العين 643

6 - في ضمان المثل في المثلي 644

7 - لو تعذّر المثل في المثلي 651

8 - في القيمي المقبوض بالعقد الفاسد 663

في تعيين القيمة في القيمي أ هي أعلى القيم أو غيرها؟ 664

ص: 931

فروع:

1 - لو زادت قيمة العين بعد تلفها في بعض أزمنة ما بعد التلف فلا عبرة بها 670

2 - في اختلاف القيمة بحسب الأمكنة 671

3 - إذا كان ارتفاع القيمة حاصلاً من زيادة في العين 671

4 - تعذّر الوصول إلى العين في حكم تلفها 671

5 - ربّما يتوسّط بين تلف العين و تعذّر الوصول إليها اُمور 673

في شروط المتعاقدين:

شروط المتعاقدين، البلوغ 677

مسائل في معاملات الصبيّ :

1 - إذا أذن الوليّ للصبيّ فهل يقع عقده صحيحاً أم لا؟ 684

2 - معاملات الصبيّ في الأشياء الحقيرة 688

3 - هل تصحّ معاملات الصبيّ إذا فرض آلة لمن له أهليّة التصرّف ؟ 690

شروط المتعاقدين، العقل 692

شروطه المتعاقدين، الاختيار 695

في المكرَه و ما يعتبر في تحقّق الإكراه و ما لا يعتبر 700

يعتبر في الإكراه العجز عن التفصّي 701

لا يعتبر في الإكراه العجز عن التورية 705

مسائل:

1 - كما يتحقّق الإكراه لشخص على فعل واحد كذلك يتحقّق لشخص على أحد الفعلين 706

2 - قد يتحقّق الإكراه للمالك العاقد و قد يتحقّق للمالك دون العاقد و قد يتحقّق للعاقد دون المالك 707

3 - لو أكرهه على بيع عبد معيّن اسمه المبارك فباع البشير أو أكرهه... 708

4 - الإكراه الرافع للحكم التكليفي أخصّ من الإكراه الرافع للحكم الوضعي 711

5 - حكم الإكراه بحقّ 713

ص: 932

6 - إذا رضي المكرَه بما فعل نفذ و يترتّب عليه الأثر 714

التنبيه على اُمور:

هل يعتبر في الرضى اللاحق لحوقه بسرعة و بلا فصل زماني أو لا؟ 717

في أنّ الردّ إمّا قوليّ أو فعليّ 718

في أنّ الرضا المتأخّر المصحّح لعقد المكره ناقل أو كاشف 718

هل يعتبر في الرضا المتأخّر أن يكون باللفظ أو يكفي الرضا النفساني ؟ 719

موت المكرَه مبطل للعقد كالردّ أم لا؟ 720

هل للطرف الغير المكرَه أن يفسح العقد قبل لحوق رضا المكرَه أو لا؟ 720

شروط المتعاقدين، القصد 721

تفصيل القول في قاعدة أنّ العقود تتبع القصود 722

شروط المتعاقدين، الحرّيّة 730

من شروط المتعاقدين أن يكونا مالكين أو ممّن يقوم مقام المالك 741

في بيع الفضولي 743

مسائل في بيع الفضولي:

1 - أن يبيع للمالك مع عدم سبق منع منه 744

أدلّة القول ببطلان الفضولي 757

2 - أن يبيع للمالك مع سبق منعه و كراهته 769

3 - أن يبيع العاقد الفضولي مال الغير أو يشتري بمال الغير لنفسه 770

اُمور مهمّة:

الأمر الأوّل: أنّ مال الغير المعقود عليه في الفضولي قد يكون عيناً و قد يكون كلّيّاً 779

الأمر الثاني: عدم الفرق في صحّة الفضولي بين وقوعه بالصيغة أو بالمعاطاة 781

الأمر الثالث: عدم اختصاص الفضولي بالبيع و النكاح 783

الأمر الرابع: في حكم الإجازة من حيث الكشف و النقل و شروطها و ما يتعلّق لها 785

الإجازة كاشفة أو ناقلة 785

ص: 933

أقسام الكشف 786

الإجازة جزء للسبب أو عقد مستقلّ 786

مسائل في ثمرات الأقوال:

1 - في الثمرة على الكشف الحقيقي بين كون الإجازة شرطاً و كون الشرط تعقّب العقد بها 787

2 - في الثمرة بين الكشف الحقيقي و الكشف الحكمي 788

3 - في الثمرة بين الكشف و النقل 789

في أدلّة القائلين بكاشفيّة الإجازة 796

في أدلّة القائلين بالنقل 801

القول المختار في الكشف و النقل 802

الأمر الخامس: في بقايا أحكام الإجازة 803

فروع:

الأوّل: إجازة البيع ليست إجازة لقبض الثمن في فضوليّة المبيع و لا لقبض المبيع في فضوليّة الثمن 808

الثاني: هل يعتبر في صحّة الإجازة مطابقتها للعقد الواقع كما وقع إطلاقاً و تقييداً أو لا؟ 808

الثالث: لو بلغه عقد متعلّق بالعين و آخر بالمنفعة فأجازهما دفعة صحّا 809

الأمر السادس: في ما يتعلّق بالمجيز 810

لو باع مال غيره ثمّ اشتراه فأجازه 814

لو باع مال أبيه بظنّ الحياة فبان أنّه ميّت 832

الأمر السابع: فيما يتعلّق بالمجاز، و فيه مسائل: 838

1 - يعتبر أن يكون العقد جامعاً لجميع الشروط المعتبرة في تأثيره 838

هل يعتبر في الشروط المعتبر حصولها حال العقد بقاؤها إلى حال الإجازة أم لا؟ 839

2 - هل يعتبر في المجاز أن يكون معلوماً للمجيز بالتفصيل ؟ 839

3 - في العقود المترتّبة على المثمن أو الثمن أو هما معاً ثمّ لحقها الإجازة 840

ص: 934

الأمر الثامن: في أحكام الردّ، و فيه مسائل: 847

1 - ما يتحقّق به الردّ 847

2 - إذا لم يجز المالك و كان ماله في يده أو يد المشتري هل له زائداً على ماله حقّ آخر أو لا؟ 852

3 - في ما يتعلّق بالمشتري من رجوعه على البائع بثمنه و بما اغترمه للمالك و عدمه 855

رجوع المشتري على البائع بما اغترم 867

رجوع المشتري على البائع الفضولي بما اغترم، قاعدة الغرور 872

رجوع المشتري على البائع الفضولي بما اغترم، للمالك 880

رجوع المشتري على البائع الفضولي بما اغترمه للعين 883

للمالك إذا لم يجز البيع الرجوع على البائع و المشتري 884

للمالك إذا لم يجز البيع الرجوع على البائع و المشتري، معنى العهدة و الذمّة 887

للمالك إذا لم يجز البيع الرجوع على البائع و المشتري، معنى الدرك 889

معنى ضمان اليد في الأيادي المتعدّدة 889

في أنّ الاعتبار في ضمان قيمة العين التالفة بقيمة يوم التلف أو غيرها 894

لو باع الفضولي مال غيره مع مال نفسه 894

إذا قال أحد الشريكين: بعتك نصف الدار، هل يحمل على النصف المملوك له أو النصف المشاع 914

لو باع ما يقبل التملّك و ما لا يقبل التملّك بصفقة واحدة بثمن مبذول بإزاء المجموع 917

ص: 935

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.