تاريخ النّياحة على الإمام الشهيد الحسين بن علي عليهما السلام المجلد 2

هوية الكتاب

المؤلف: السيد صالح الشهرستاني

المحقق: الشيخ نبيل رضا علوان

الناشر: دار الزهراء

الطبعة: 1

الموضوع : سيرة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل البيت (عليهم السلام)

تاريخ النشر : 1419 ه.ق

الصفحات: 104

نسخة غير مصححة

تاريخ النياحة علی الإمام الشهيد الحسين بن علي عليهماالسلام

تأليف: السيد صالح الشهرستاني

1325 - 1395 ه

الجزء الثاني

تحقيق و إعداد: الشيخ نبيل رضا علوان

ص: 1

اشارة

شهرستاني، صالح 1904 - 1974.

تاريخ النياحة علی الإمام الشهيد الحسين بن علي عليهماالسلام / تأليف: السيد صالح الشهرستاني؛ تحقيق و إعداد: الشيخ نبيل رضا علوان. - قم: انصاريان 1382 - 1424.

2 جلد در یك مجلد (ج1 - 152، ج2 - 104ص.)

كتابنامه بصورت زیرنویس.

شابك: 7-468-438-964

1.حسین بن علي عليهماالسلام، امام سوم، 4 - 61ق. - سوگواریها.

2. سوگواریها - تاریخ.

3. واقعه عاشوراء، 61ق.

الف. علوان، نبيل رضا، محقق.

ب. عنوان.

2ت9ش/ 4, 41 BP

297/953

1382

تاريخ النياحة علی الإمام الشهيد الحسين بن علي عليهماالسلام

الجزء الأول والثاني

المؤلف: السيد صالح الشهرستاني

تحقيق وإعداد: نبيل رضا علوان

الناشر: مؤسسة انصاريان للطباعة والنشر - قم

الطبعة الأولی 2003 - 1424 - 1382

المطبعة: صدر - قم

الكمية: 2000 دورة

عدد الصفحات: 256 ص.

حجم الغلاف: متوسط

ردمك: 7-468-438-964

جميع حقوق الطبع محفوظة ومسجلة للناشر

مؤسسة انصاريان للطباعة والنشر

جمهورية ايران الإسلامية

قم - شاع الشهداء - فرع 22

ص.ب 187

هاتف: 7741744 (251) (98)

فاكس: 7742647

البريد الالكتروني: ansarian@noornet.net

www.ansariyan.org www.ansariyan.net

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 3

ص: 4

الفصل الحادي والعشرون: موقف العباسيين من النياحة على الحسين علیه السلام

بعد أندثار الحكم الأموي حدثت فترة تنفس للشيعة قصيرة ، حيث انفسح لهم المجال نوعاً ما لزيارة المرقد الشريف بكربلاء وإقامة المناحات حوله ، وإظهار حزنهم في العشرة الأولى من محرم ، وخاصة في يوم عاشوراء ، وإعادة الذكريات الأليمة لهذا اليوم المشؤوم ، ولكنها كانت فترة قصيرة حيث لحقتها فترة الحكم العباسي الذي كانت مكافحته للنهضة الحسينية أعظم بكثير من مقاومة الحكم الأموي.

وقد جر الحكم العباسي على المرقد الشريف في كربلاء وزائريه والوافدين عليه ومقيمين المناحات والمآتم على الحسين علیه السلام ما لم يجره الأمويون أيام سلطانهم ؛ لأن العباسيين الذين لم يتسن لهم قتل الحسين والتمثيل به عمدوا الى النيل من قبره المقدس ومثواه الشريف والموالين له ، فأمعنوا في القبر تخريباً وإهانة ، وحالوا ما وسعهم دون إعادة ذكريات مقتله الأليم ، وإقامة المآتم والمناحات عليه.

وكان من بين الذين يمكن أن نجعلهم في مقدمة الخلفاء العباسيين في ذلك هو أبو جعفر المنصور الدوانيقي الذي كان أول ما أمر به هو هدم قبر الحسين علیه السلام ومنع الزوار من زيارته وإقامة المآتم والمناحات حوله وفي الجهات الأخرى ، بخلاف سلفه أبي العباس السفاح الذي ساير الشيعة كثيراً ؛ ليستعين بهم ضد بقايا الأمويين ، إذ سمح لهم بإقامة شعائرهم ومآتمهم ، وبزيارة قبر الحسين علیه السلام ، وإقامة

ص: 5

العزاء عند قبره ، وفي دورهم ، ومجتمعاتهم ومحافلهم.

كما أن الخليفة المهدي الذي خلف المنصور قد تساهل مع شيعة علي علیه السلام ، وأمر بأن تعاد سقيفة قبر الامام علیه السلام ، وفسح المجال للشيعة الموالين لآل البيت بزيارة القبر الكريم ، وإقامة المآتم عنده ، وفي دورهم ومجتمعاتهم ، وسهل لهم أمر الشخوص الى القبر الشريف وزيارته.

أما الهادي فنظراً لقلة مدة خلافته لم يرو التاريخ شيئاً عن سوء معاملته للعلويين ، ومنعه إقامة المناحة على قبر الحسين علیه السلام .

ولكن هارون الرشيد الذي خلف المهدي أمر بهدم القبر المطهر ، وكرب موضعه ، وقص شجرة السدرة التي كانت بجوار القبر من جذورها سنة «171 ه» ، ومنع إقامة المآتم والمناحات ، سواء على القبر ، أو في دور ومجتمعات الشيعة ومجالس العزاء.

وبقيت الحال على هذه الوتيرة حتى توفي هارون الرشيد في خراسان ودفن بطوس سنة «193 ه» وأصبح ابنه الأمين يتساهل مع الشيعة الى حد ما ، وجدد بناء سقيفة قبر الحسين علیه السلام وسمح لهم بإقامة المآتم والمناحات على القبر وغيره.

كما أخذ المأمون يساير الشيعة ، وخفف من وطأة الضغط عليهم وسمح تدريجياً للوافدين على الطف بزيارة قبر الامام الشهيد علیه السلام وإقامة المآتم حوله ، كما فسح المجال للشيعة في مختلف البلدان الاسلامية بإقامة العزاء والمناحات على الامام الشهيد في أيام السنة ، وخاصة خلال العشرة الأولى من محرم كل سنة.

وفي خلافة المعتصم والواثق كان العلويون في رخاء وحرية الى حد ما من حيث عدم الضغط عليهم. كما كانت وفود الزوار من شيعة آل النبي صلی اللّه علیه و آله ترد على عهديهما جماعات وأفراداً على قبر الامام الشهيد علیه السلام في كربلاء ، وتقوم بدورها في إقامة مجالس العزاء والمناحات على ذلك القبر الطاهر وعلى سائر قبور الشهداء ، وعقب هارون الرشيد في مطاردة الشيعة حفيدة المستهتر جعفر المتوكل ، الذي

ص: 6

افتتح أعماله في الخلافة بمطاردة شيعة علي بن أبي طالب علیه السلام وتضييق السبيل عليهم ، ومنع إقامة أية مناحة أو مأتم على الحسين الشهيد علیه السلام وهدم قبره الشريف عدة مرات ، ثم كربه وحرثه وأسال الماء عليه ، وأقام المراصد والمسالح على السبل المنتهية الى المثوى الطاهر ، وحجز زائريه عن زيارته ، وعاقبهم بالقتل والتمثيل بهم أفضع تمثيل ، كل ذلك على يد قائده ديزج اليهودي.

ولكن ابنه المنتصر عارض أباه في كلّ ذلك ، بل أعاد قبر الامام الشهيد علیه السلام الى ما كان عليه ، وأصلح القبور حوله ، وأطلق الحرية للشيعة في زيارة مثوى الإمام ، وإقامة المآتم والمناحات حوله ، وفي دورهم ومحلات عبادتهم. كما أمر بإقامة ميل يستدل به الزائر على قبر الامام الشهيد.

وفي عهده تزايد وفود الزوار ولا سيما العلويون منهم على زيارة قبر الامام الحسين وإقامة المآتم والعزاء حوله ، ثم السكنى بجواره.

وكان في مقدمة هؤلاء المجاورين السيد إبراهيم المجاب الضرير الكوفي الجد الأعلى لكثير من الأسر العلوية في العالم. وقد وضع السيد إبراهيم الحجر الأساس لمجالس العزاء والمآتم والمناحات الدائمة على الامام الحسين حول قبره المطهر ، بصورة منتظمة ، وبترتيب منسق ، ونزل المجاب كربلاء سنة «247 ه».

أما الخلفاء الذين خلفوا المنتصر فكانوا من الضعف ومن سوء التدبير وعدم تسلطهم على السلطة الزمنية بحيث لم يبق لهم حول ولا قوة على مجريات الأمور ، وكانوا يقنعون بلقب الخلافة وإدارة بعض الشؤون الدينية ، وإلقاء الخطبة باسمهم على المنابر ، أما شؤون الدولة وإدارة البلاد فكانت تسير القهقرى ، خاصة بعد استفحال نفوذ الأتراك الذين اصطفاهم الخلفاء لدرء بعض الأخطار. ثم أصبحت الأمور بعد ذلك يبد الأمراء البويهيين لمدة «133» سنة ، أي من سنة «334 ه» الى سنة «467 ه» ، ثم انتقلت منهم الى يد السلجوقيين الأتراك لمدة «108» سنة ، أي من «467 ه» الى «575 ه».

ص: 7

ومن أجل ذلك فقد كانت حرية إقامة العزاء الحسيني تتبع مذهب وسياسة هذه السلطات الحاكمة عملياً في البلاد ، كالبويهيين ، والسلوقين الأتراك وغيرهم.

وفي عهد الناصر لدين اللّه الذي ولي الخلافة سنة «575 ه» ، والذي أراد أن يعزز شؤون الخلافة ويسترجع السلطة من يد السلاجقة ويعيد هيبتها ، فقد تنفس الشيعة الصعداء بعض الشيء ، وأطلقت لهم الحرية في إقامة المآتم والمناحات على الحسين علیه السلام . وكان هذا الخليفة يعطف على العلويين ، ويمنع إيذاءهم ومطاردتهم قدر الامان. كما قد أجرى إصلاحات كثيرة على مشهد الامامين علیهماالسلام في الكاظمية ، وسمح بإقامة العزاء والمآتم ، ولا سيما في عشرة عاشوراء في الكرخ ببغداد ، وخاصة في المشهد الكاظمي.

وكذا من جاء بعده من الخلفاء ، كالظاهر بأمر اللّه ، والمستنصر باللّه ، الذي آل الأمر اليه سنة «623 ه» وكان مثل جده الناصر مسايراً للشيعة ، لا يمانع من إقامة شعائر المناحة على الامام الشهيد علیه السلام .

أما المستعصم الذي انقرضت على عهده الخلافة العباسية سنة «656 ه» فكان ضعيف الرأي والسلطان ، وكان يساير الشيعة ويظهر ميلاً إليهم أحياناً ، ويزور قبور أئمتهم ويعتني بها ، ويأمر بعمرانها وإجراء الاصلاحات فيها ، ويسمح بإقامة المناحات والمآتم على الحسين علیه السلام ، كما كان يقع أحياناً تحتا ضغط المتعصبين من علماء السنة وحاشيته وخاصة ابنه أبو العباس أحمد الحاقد على الشيعة فيتقدم بمنع إقامة المناحة على الامام الشهيد علیه السلام ، وقراءة مقتله يوم عاشوراء بججة الحيلولة دون نشوب الفتنة بين الطرفين.

وهكذا كان عزاء الحسين ومأتمه رغم جميع المطاردات والمخالفات قائماً كل عام في موسمه في شهر محرم الحرام على عهد الخلفاء العباسيين. وإنما تختلف ظروفه من حيث التقلص والاتساع ، والقوة والضعف ، كما مر أعلاه ، ولكنه في جميع

ص: 8

الأحوال كان يزداد تمكناً في النفوس واستقراراً في القلوب.

وبعد أن اتسعت دائرة التشيع صار الموالون لآل الرسول صلی اللّه علیه و آله يقيمون العزاء باسم « النياحة » أو « الرثاء » ، بمشاهد الأئمة علیهم السلام من عترته ، أو بمحضر من يوثق بتشيعه وموالاته ، أو في المجتمعات العامة وفي الاسواق والشوارع. وقد أصبح اسم النائح في القرن الثالث الهجري وما بعده علماً لمن يرثي الحسين أو يقيم النياحة عليه ، وصارت مجتمعات النياحة لا تقام فقط في العراق بل تعدته الى سائر الاقطار الاسلامية ، كمصر ، وإيران ، وأنحاء من الجزيرة العربية.

وأنقل فيما يلي بعض المرويات عن مواقف الخلفاء العباسيين حيال النياحة على الحسين ، مستقاة من أوثق المصادر ، ومرتبة حسن ترتيب السنوات :

1 - جاء في الصفحة «184» من موسوعة أعيان الشيعة القسم الأول عند بحثه عن أول قبة أو سقيفة أقيمت على قبر الحسين علیه السلام من قبل قبيلة بني أسد على زمن الأمويين قوله :

« وبقيت هذه القبة الى زمن الرشيد فهدمها وكرب موضع القبر ، وكان عنده سدرة فقطعها. وقال السيد محمد بن أبي طالب الحسيني الحائري فيما حكى عن كتاب « تسلية الخواطر وزينة المجالس » : وكان قد بني عليه مسجد ، ولم يزل كذلك بعد بني أمية وفي زمن العباسيين إلا على زمن هارون الرشيد ، فإنه خربه ، وقطع السدرة التي كانت نابتة عنده ، وكرب موضع القبر ... ». ويوجد الى الآن باب من أبواب الصحن الشريف يسمى باب السدرة ولعل السدرة كانت عنده أو بجنبه (1).

ص: 9


1- أقول : ان الحي المجانب لباب السدرة في كربلاء هو الحي الذي تقع فيه بيوتنا « أسرة الشهرستاني » منذ أكثر من «240» سنة لأن جدنا الأعلى السيد الميرزا محمد المهدي الموسوي الشهرستاني المتوفى في 12 صفر 1216 ه- ، بعد هجرته في طفولته من إصفهان الى كربلاء حوالي سنة 1150 ه- ، استوطن هذه المدينة وسكن هذا الحي الذي كان يعرف بحي آل عيسى ، وابتاع فيها بستان السيد بهاء الدين بموجب وثيقة البيع الرسمية ، المؤرخة سنة 1188 ه- ، وقسمها الى بيوت سكنها هو وأولاده وأحفاده. وهي لا زالت في تصرفنا. وأهمها الدار الكبيرة التي == أوقفتها والمرحوم والدي الحاج السيد إبراهيم الشهرستاني في حياته وجعلناها « حسينية الشهرستاني ». وتقع في إحدى هذه الدور بئر عميقة جداً يقال انها كانت قد حفرت منذ السنوات الأولى التي أخذت وفود الزوار والبكائين تفد على قبر الامام للاستفادة منها. كما أن بجنبها سدرة قد يتجاوز عمرها ال- «500» سنة. وتبعد هذه الدور بضع عشرات من الأمتار فقط عن القبر الشريف. ويفصلها في الوقت الحاضر عن المشهد المطهر شارع فقط. وهذه الحسينية يقام فيها مأتم الامام الشهيد على طول السنة ، وخاصة في محرم وصفر وشهر رمضان من كل سنة.

2 - في الصفحة «27» من رسالة « نزهة الحرمين في عمارة المشهدين » لمؤلفها السيد حسن الصدر الكاظمي ، ما نصه :

« ولم يزل مشهد الحسين علیه السلام معموراً الى أيام الرشيد ، أخرج الشيخ محمد بن الحسن الطوسي شيخ الطائفة في أماليه (1) حديث كرب الرشيد قبر الحسين علیه السلام رواه باسناده الى المصفن عن يحيى بن مغيرة الرازي ، قال : كنت عند جرير بن عبد الحميد إذ جاء رجل من أهل العراق ، فسأله جرير عن خبر الناس. فقال : تركت الرشيد وقد كرب قبر الحسين علیه السلام وأمر أن تقطع السدرة التي فيه فقطعت ، فرفع جرير يده الى السماء وقال : اللّه أكبر ، جاءنا فيه حديث عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أنه قال : لعن اللّه قاطع السدرة ثلاثاً ، فلم نقف على معناه حتى الآن : لأن القصد بقطعه تغيير مصرع الحسين حتى لا يقف الناس على قبره ... ».

3 - جاء في الصفحة «543» من كتاب « مقاتل الطالبيين » عن معاملة من خلف هارون الرشيد الى عهد المعتصم والواثق للعلويين ، ما نصه :

« وكان آل أبي طالب مجتمعين بسر من رأى في أيامه تدور الأرزاق عليهم حتى تفرقوا في أيام المتوكل ... ».

وفي هامش هذه الصفحة نقلاً عن أبي الفداء 2 / 39 وابن الأثير 7 / 11 ،

ص: 10


1- امالي الطوسي : 333.

ما يلي :

« ولما توفي المعتصم وجلس الواثق في الخلافة أحسن الى الناس ، واشتمل على العلويين ، وبالغ في إكرامهم والإحسان اليهم ، والتعهد لهم بالأموال ... ».

أقول : لقد بويع الواثق سنة «227 ه» ، ومات سنة «232 ه» ، وكما مر في صدر هذا الفصل : إن هذين الخليفتين قد مهدا السبيل لزوار قبر الحسين في كربلاء ، وازالا عن طريقهم العقبات في إقامة المناحات والمآتم على الامام الشهيد.

4 - جاء في الصفحتين «36 و 37» من المجلد «7» من الكامل لابن الأثير عند ذكر حوادث سنة «236 ه» ما نصه :

« في هذه السنة أمر المتوكل بهدم قبر الحسين بن علي علیهماالسلام وهدم ما حوله من المنازل والدور ، وأن يبذر ويسقى موضع قبره ، وأن يمنع الناس من إتيانه ، فنادى بالناس في تلك الناحية : من وجدناه عند قبره بعد ثلاثة حبسناه في المطبق ، فهرب الناس وتركوا زيارته وخرب وزرع. وكان المتوكل شديد البغض لعلي بن أبي طالب علیه السلام ولأهل بيته. وكان يقصد من يبلغه عنه أنه يتولى علياً وأهله بأخذ المال والدم.

وكان من جملة ندمائه عبادة المخنث ، وكان يشد على بطنه تحت ثيابه مخدة ، ويكشف رأسه وهو أصلع ، ويرقص بين يدي المتوكل والمغنون يغنون :

قد أقبل الأصلع البطين ، خليفة المسلمين.

يحكي بذلك علياً علیه السلام والمتوكل يشرب ويضحك ، ففعل ذلك يوماً والمنتصر - ابنه - حاضر ، فأومأ الى عبادة يتهدده ، فسكت خوفاً منه. فقال المتوكل : ما حالك؟ فقام وأخبره. فقال المنتصر : يا أمير المؤمنين : إن الذي يحكيه هذا الكاذب ويضحك منه الناس هو ابن عمك وشيخ أهل بيتك وبه فخرك ، فكل أنت لحمه إذا شئت ولا تطعم هذا الكلب وأمثاله فيه. فقال المتوكل للمغنين : غنوا جميعاً :

غار الفتى لابن عمه - رأس الفتى في حر أمه.

ص: 11

فكان هذا من الأسباب التي استحل بها المنتصر قتل أبيه المتوكل.

وقيل : إن المتوكل كان يبغض من تقدمه من الخلفاء المأمون والمعتصم ، والواثق في محبة علي وأهل بيته ، وإنما كان ينادمه ويجالسه جماعة قد اشتهروا بالنصب والبغض لعلي ، منهم علي بن الجهم الشاعر الشامي من بني شامه بن لؤي ، وعمرو بن فرخ الرخجي ، وأبو السمط من ولد مروان بن أبي حفصة من موالي بني أمية ، وعبد اللّه بن محمد بن داود الهاشمي المعروف بابن أترجه. وكانوا يخوفونه من العلويين ، ويشيرون عليه بإبعادهم والإعراض عنهم والإساءة اليهم ، ثم حسّنوا اليه الوقيعة في أسلافهم الذين يعتقد الناس بعلو منزلتهم في الدين ، ولم يبرحوا به حتى ظهر منه ما كان فغطت هذه السيئة جميع حسناته ... ».

5 - قال ابن خلكان ما يلي :

لما هدم المتوكل قبر الحسين في سنة «246 ه» قال البسامي علي بن محمد الشاعر البغدادي المشهور :

تاللّه إن كانت أمية قد أتت *** قتل ابن بنت نبيها مظلوماً

فلقد أتاه بنو أبيه بمثله *** هذا لعمرك قبره مهدوماً

اسفوا على أن لا يكونوا شايعوا *** في قتله فتتبعوه رميماً (1)

6 - جاء في الصفحة «30» من رسالة « نزهة أهل الحرمين » المار ذكرها ما نصه :

وكذلك ما ذكره الملك المؤيد اسماعيل أبو الفداء في تاريخه « مختصر أخبار البشر » قال ما لفظه : ثم دخلت سنة «236 ه» في هذه السنة أمر المتوكل بهدم قبر الحسين بن علي بن أبي طالب علیهماالسلام وهدم ما حوله من المنازل ، ومنع الناس من إتيانه. انتهى موضع الحاجة من كلامه. وكذلك محمد بن شاكر بن أحمد الكتبي في

ص: 12


1- وفيات الاعيان لابن خلكان 3 : 365.

« فوات الوفيات » قال ما لفظه :

« وكان المتوكل قد أمر سنة «236 ه» بهدم قبر الحسين علیه السلام وهدم ما حوله من الدور ، وأن يعمل مزارع ويحرث ، ومنع الناس عن زيارته ويبقى صحراء ، وكان المتوكل معروفاً بالنصب فتألم المسلمون لذلك ، وكتب أهل بغداد شتمه على الحيطان ، وهجاء الشعراء ».

7 - وجاء في الصفحة نفسها من تلك الرسالة : « وفي أمالي شيخ الطائفة محمد بن الحسن الطوسي : أسند مصنفناً عن القاسم بن أحمد بن معمر الأسدي الكوفي ، وكان له علم بالسير وأيام الناس. قال : بلغ المتوكل جعفر بن المعتصم أن أهل السواد يجتمعون ينينوى لزيارة قبر الحسين فيصير الى قبره منهم خلق كثير ، فأنفذ قائداً من قواده وضم اليه كثيفاً من الجند كثيراً ليكرب قبر الحسين علیه السلام ويمنع الناس عن زيارته والاجتماع الى قبره ، فخرج القائد الى الطف ، وعمل ما أمره ، وذلك سنة «237 ه» فنادى أهل السواد له واجتمعوا عليه ، وقالوا : لو قتلنا عن آخرنا لما أمسك من بقي منا عن زيارته ، ورأوا من الدلائل ما حملهم على ما صنعوا ، فكتب بالأمر الى الحضرة ، فورد كتاب المتوكل الى القاعد بالكف عنه والمسير الى الكوفة ، مظهراً أن مسيرته اليها في مصالح أهلها ، والانكفاء الى المصر فمضى الامر على ذلك ، حتى إذا كانت سنة «247 ه» ، فبلغ المتوكل أيضاً مسير الناس من أهل السواد والكوفة الى كربلاء لزيارة قبر الحسين ، وأنه قد كثر جمعهم لذلك وصار لهم سوق كبير ، فأنفذ قائداً في جمع كبير من جنده ، وأمر منادياً ينادي ببراءة الذمة ممن زار قبره ، وهدم القبر وحرث أرضه وانقطع الناس عن الزيارة ، وعمد على التتبع لآل أبي طالب والشيعة ، ففعل ولم يتم له ما قدره ... » (1).

8 - وجاء في الصفحة «31» من الرسالة نفسها ما عبارته :

ص: 13


1- امالي الطوسي 1 : 337.

« أما المنتصر ابن المتوكل فأمر بعمارة الحائر ، وبنى ميلا على المرقد الشريف أيام تملكه ، كما نص المجلسي وغيره ، وكان تملكه ستة أشهر ... ».

9 - وأورد الطوسي في الأمالي 1 : 337 عن عبيد اللّه بن دانية الطوري ما نصه :

« قال : حججت سنة «247 ه» فلما صدرت من الحج وصرت الى العراق زرت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام على حال خيفة من السلطان ، ثم توجهت الى زيارة قبر الحسين علیه السلام ، فإذا هو قد حرث أرضه ، وفجر فيها الماء وأرسلت الثيران والعوامل في الأرض ، فبعيني وبصري كنت أرى الثيران تساق في الأرض فتنساق لهم حتى إذا حاذت القبر حادث عنه يميناً وشمالاً ، فتضرب بالعصى الضرب الشديد فلا ينفع ذلك ، ولا تطأ القبر بوجه ، فما امكننى الزيارة ، فتوجهت الى بغداد وأنا أقول : تاللّه إن كانت أمية ... » الخ.

أقول : إن هذا الأمر كان للمرة الثانية ، وكانت المرة الأولى سنة «237 ه» ، كما مر.

10 - وف الجزء 1 : 158 من كتاب المجالس السنية عند ذكر إقدام المتوكل على حرث قبر الحسين سنة «237 ه» ، وسنة «247 ه» ، وامتناعه في الأولى عن الحرث خشية ثورة الشعب ، وإقدامه عليه سنة «247 ه» ، ما نصه :

« حتى كانت سنة «247 ه» فبلغ المتوكل أيضاً مصير الناس من أهل السواد والكوفة الى كربلاء لزيارة قبر الحسين ، أنه قد كثر جمعهم لذلك وصار لهم عون كثير. فأنفذ قائداً في جمع كثير من الجند ، وأمر منادياً ينادي : أن برئت الذمة ممن زار قبر الحسين ، وأمر بنبش القبر ، وحرث أرضه وانقطع الناس عن الزيارة ».

الى أن يقول الأمين في المجالس السنية :

« ولما كان بعض المحبين قد حضر لزيارة الحسين حين أمر المتوكل بحرث

ص: 14

القبر الشريف فلم تمكنه الزيارة فتوجه نحو بغداد وهو يقول :

تتبعوكم وراموا محو فضلكم *** وخيّب اللّه من في ذلكم طمعا

أني وفي الصلوات الخمس ذكركم *** لدى التشهد للتوحيد قد شفعا

11 - في الصفحة «636» من كتاب « مقاتل الطالبيين » السالف الذكر ما نصه :

« أيام المنتصر كان المنتصر يظهر الميل الى أهل هذا البيت ويخالف أباه في أفعاله ، فلم يجر منه على أحد منهم قتل أو حبس ولا مكروه ، فيما بلغنا ، واللّه أعلم ».

12 - وفي الصفحة «75» المجلد السابع من الكامل لابن الأثير ، طبع لندن ، سنة «1865 م» في تاريخ حياة المنتصر ، المتوفى سنة «248 ه» ، ومعاملته للعلويين ما لفظه :

« كان المنتصر عظيم الحلم ، راجح العقل ، غزير المعروف ، راغباً في الخير ، جواداً ، كثير الانصاف ، حسن العشرة ، وأمر الناس بزيارة قبر الحسين علیه السلام فأمّن العلويين وكانوا خائفين أيام أبيه المتوكل وأطلق وقوفهم ، وأمر برد فدك الى ولد الحسن والحسين ابني علي بن ابي طالب علیهم السلام ».

13 - جاء في الصفحة «186» من كتاب « أعيان الشيعة » المجلد الرابع ، القسم الأول ما عبارته :

« وقام بالأمر بعد المتوكل ابنه المنتصر ، فعطف على آل أبي طالب وأحسن اليهم ، وصرف فيهم الأموال وأعاد القبور في أيامه. وذكر غير واحد من المؤرخين بأنه أمر الناس بزيارة قبر الحسين ؛ وإقامة العزاء على الحسين علیه السلام ».

14 - جاء في كتاب « بغية النبلاء » المار ذكره ما نصه :

كانت ببغداد نائحة مجيدة حاذقة تعرف بخلب تنوح بقصيدة الناشئ ، فسمعناها في دور بعض الرؤساء لأن الناس إذ ذاك كانوا لا يتمكنون من النياحة

ص: 15

إلا بعزّ سلطان أو سراً لأجل الحنابلة ، ولم يكن النوح إلا مراثي الحسين وأهل البيت علیهم السلام فقط ، من غير تعريض بالسلف.

قال : فبلغنا أن البريهاري قال : « بلغني أن نائحة يقال لها خلب تنوح ، اطلبوها فاقتلوها ».

أقول : إن البربهاري توفي سنة «329 ه» وكان الحادث أعلاه سنة 323 ه-

15 - وفي « بغية النبلاء » ايضاً صفحة «161» ما نصه :

« قال : الخالع ... قال : كنت مع والدي سنة «346 ه» وأنا صبي في مجلس الكبوذي ، في المسجد الذي بين الوارقين والصاغة ببغداد ، وهو غاص بالناس ، وإذا رجل قد وافى وعليه مرقعة ، وبين يديه سطيحة وركوة ، ومعه عكاز ، وهو شعت ، فسلم على الجماعة بصوت رفيع ، ثم قال : أنا رسول فاطمة الزهراء صلوات اللّه عليها. فقالوا : مرحباً بك وأهلاً ورفعوه. فقال : أتعرفون لي أحمد المزوق النائح؟ فقالوا : ها هو جالس. فقال : رأيت مولاتنا علیهاالسلام في النوم فقالت لي : امض الى بغداد وأطلبه وقل له : نح علي ابني بشعر الناشئ الذي يقول :

بني أحمد قلبي لكم يتقطع *** بمثل مصابي فيكم ليس يسمع

وكان الناشئ حاضراً فلطم لطماً عظيماً على وجهه ، وتبعه المزوق والناس كلهم ، وكان أشد الناس في ذلك الناشئ ثم المزوق ، ثم ناحوا بهذه القصيدة في ذلك اليوم الى أن صلى الناس الظهر وتقوض المجلس وجهدوا بالرجل أن يقبل شيئاً منهم فقال : واللّه لو أعطيت الدنيا ما أخذتها ، فإنني لا أرى أن أكون رسول مولاتي علیهاالسلام ثم آخذ عن ذلك عوضاً ، وانصرف ولم يقبل شيئاً قال : ومن هذه القصيدة ، وهي بضعة عشر بيتاً :

عجبت لكم تفنون قتلاً بسيفكم *** ويسطو عليكم من لكم كان يخضع

كأن رسول اللّه أوصى بقتلكم *** وأجسامكم في كل أرض توزّع

أقول : أما الناشئ فهو علي بن عبد اللّه بن وصيف ، أبو الحسن ، المولود سنة

ص: 16

« 271 ه- » ، والمتوفى سنة «365 ه» والمدفون في مقابر قريش - الكاظميين - وكان يعمل الصفر ويخرمه ، وله فيه صنعة بديعة ، وكان شاعراً يمدح أهل البيت فسمي شاعرا أهل البيت.

16 - جاء في « إرشاد الأريب » لمؤلفه ياقوت الحمومي ، صفحة «335» المجلد «5» ما نصه :

« وحدثنا الخالع قال : اجتزت بالناشئ يوماً وهو جالس في السرّاجين. فقال لي : قد عملت قصيدة وقد طلبت ، وأريد أن تكتبها بخطك حتى أخرجها. فقلت : أمضي في حاجة وأعود ، وقصدت المكان الذي أردته وجلست فيه ، فحملتني عيني فرأيت في منامي أبا القاسم عبد العزيز الشطرنجي النائح ، فقال لي : أحب أن تقوم فتكتب قصيدة الناشئ البائية ، فإنا قد نحتاجها بالمشهد ، وكان هذا الرجل قد توفي وهو عائد من الزيارة ، فقمت ورجعت اليه وقلت : هات البائية حتى أكتبها فقال : من أين علمت أنه بائية وما ذكرت بها أحداً؟ فحدثته بالمنام ، فبكى ، وقال : لا شك أن الوقت قد دنا فكتبتها ، وكان أولها :

رجائي بعيد والممات قريب *** ويخطئ ظني والمنون تعيب

وهي في رثاء الامام الشهيد علیه السلام ».

17 - جاء في كتاب « الأنوار الحسينية » لمؤلفه الشيخ محمد رضا كاشف الغطاء قال :

« زار كربلاء الشريف الرضي سنة «386 ه» وشاهد قوماً يبكون ويتضرعون عند قبر الحسين علیه السلام فهرول اليهم وأخذ يرثي الحسين بقصيدته المشهورة ».

18 - روى صاحب كتاب « القمقام » فرهاد ميرزا بسنده عن الشيخ ابن حكيم عبد اللّه بن إبراهيم ، جامع ديوان الرضي قال : زار الشريف الرضي كربلاء لآخر مرة ، ورثى الحسين عند قبره بقصيدة مشهورة ، وهي آخر ما انشده من

ص: 17

الشعر ، فلذا لم تثبت في ديوانه فنثبت مطلعها :

كربلا لازلت كرباً وبلا *** ما لقى عندك آل المصطفى

كم على تربك لما صرعوا *** من دم سال ومن دمع جرى

أقول : وللسيد الرضي هذه الأبيات في بكاء الحسين :

لو رسول اللّه يحيى بعده *** قعد اليوم عليه للعزا

يا رسول اللّه لو عاينتهم *** وهم ما بين قتل وسبا

لرأت عيناك منهم منظراً *** للحشى شجواً وللعين قذا

19 - نقل كتاب « المواكب الحسينية » لمؤلفه عبد الرزاق الحائري الاصفاني ، عن كتاب « عمدة الأخبار » صفحة «43» ما نصه :

« إن السيد المرتضى رحمه اللّه زار الحسين بكربلاء في يوم عاشوراء سنة «396 ه» مع جمع من أصحابه وتلامذته ، فوجد هناك جمعاً من الأعراب يضربون على الخدود ، ويلطمون على الصدور ، وينوحون ويبكون ، فدخل معهم السيد مع تلامذته وهو يلطم على صدره ورأوه ينشد :

« كربلاء لا زلت كرباً وبلا ... » الى آخر القصيدة المنظومة من قبل أخيه الشريف الرضي ».

20 - جاء في حوادث سنة «401 ه» من كتاب « مرآة الجنان وعبرة اليقظان » لمؤلفه اليافعي ، في أول الجزء الثاني منه ، ما نصه :

« إن القادر باللّه العباسي أبطل عاشوراء الرافضة ، وأباد الحرامية والشطار ».

21 - جاء في « تاريخ المشهد الكاظمي » لمؤلفه الشيخ محمد حسن آل ياسين ما نصه :

« وفي سنة (441 ه) منع الشيعة من إقامة ما جرت العاعدة بفعله يوم عاشوراء في المشهد الكاظمي وغيره ، وحدثت على أثر ذلك فتنة كبرى ، لعلها

ص: 18

كانت مفتاح القتن التي ستأتي الاشارة اليها ... ».

وقد أيد هذا الحادث كتاب « تاريخ الامامين الكاظميين » لجعفر نقدي.

22 - جاء في الصفحة «70» من كتاب « عمران بغداد » لمؤلفه السيد محمد صادق الحسيني ( نشأة ) ما يلي :

« منع النوح على آل البيت ونتائجه. وفي سنة «422 ه» منع أهل الكرخ عن إتيان ما جرت عادتهم بفعله يوم عاشوراء ، من النوح على الامام الحسين علیه السلام فلم يقبلوا ، فجرت بينهم وبين السنة فتنة عظيمة ، قتل فيها كثير من الناس ، ولم ينفصل الشر بينهم حتى عبر الأتراك الكرخ وخربوا خيامهم هناك ».

23 - يروي ابن الجوزي في « المنتظم » المجلد التاسع ، صفحة «207» ما عبارته :

« إن دبيس بن صدقة بن منصور الأسدي زار قبر الحسين في كربلاء سنة «513 ه». وكان شجاعاً ، أديباً ، شاعراً ، ملك الحلة بعد والده وحكمها زهاء «17» عاماً ، قتل سنة «529 ه» بتحريض السلطان مسعود السلجوقي. ولما ورد كربلاء دخل الى الحائر الحسيني باكياً حافياً ، متضرعاً الى اللّه أن يمن عليه بالتوفيق وينصره على أعدائه ، ولما فرغ من مراسم الزيارة أمر بكسر المنبر الذي كان يخطب عليه باسم الخليفة العباسي عند صلاة الجمعة ، قائلاً : لا تقام في الحائر الحسيني صلاة الجمعة ، ولا يخطب هنا لأحد ».

24 - جاء في الصفحة «96» من كتاب « تاريخ كاظمين » المار ذكره بعد ذكر حادث عودة الخليفة المسترشد باللّه من التنكيل بدبيس بن صدقة الى بغداد ، ما تعريبه عن اللغة الفارسية :

« وعند وصول الخليفة الى بغداد أقام سلطانها المهرجانات والأفراح لذلك ، وقد صادف يوم دخوله بغداد يوم العاشر من محرم سنة «517 ه» - «1123 م» وإقامة مراسم العاشوراء والعزاء الحسيني من قبل الشيعة على فاجعة كربلاء. وقد

ص: 19

استغل الرعاع من أهالي بغداد هذه المناسبة وقيام الشيعة بأداء شعارات احزانهم وما اعتادوا عليه من إقامة المأتم الحزين ، فتوجهوا نحو المشهد الكاظمي ودخلوه عنوة وشرعوا في نهب محتوياته الثمينة ... ».

25 - في الصفحة «86» من كتاب « عمران بغداد » السالف الذكر ما نصه :

« أما الحوادث الداخلية المهمة التي حدثت في عهد الناصر ببغداد فهي : أن الشيعة أخذت بالظهور شيئاً فشيئاً ، حتى عادوا بإقامة المأتم بأمر الوزير هبة اللّه بن علي ».

أقول : إن الخليفة الناصر لدين اللّه حكم من سنة «575 ه» الى سنة «622 ه».

26 - وفي كتاب « الحوادث الجامعة » لابن الفوطي ، صفحة «152» و «155» قال :

« وفي سنة «640 ه» حدث حريق في مشهد سامراء فأتى على ضريحي الهادي والحسن العسكري علیهماالسلام فتقدم الخليفة المستنصر باللّه بعمارة المشهد المقدس والضريحين الشريفين وإعادتهما الى اجمل حالاتهما ... » الخ.

أقول : توفي المستنصر في «10» جمادي الثانية سنة «640 ه».

27 - وفي الصفحة «185» من الكتاب نفسه يقول : « وفي 17 رجب سنة 641 قصد المستعصم مشهد موسى بن جعفر علیهماالسلام وكان يوماً مطيراً ، ونزل عن مركوبه من باب سور المشهد ، وانحدر في 4 شعبان الى زيارة سلمان رحمه اللّه ».

وفي الصفحة «244» منه : « إن المستعصم أمر سنة «647 ه» بعمارة سور مشهد موسى بن جعفر علیهماالسلام ».

وفي الصفحة «257» منه : « إن المستعصم زار النجف بعد أن لبس سراويل الفتوة من أمير المؤمنين علیه السلام فلبس الخليفة السراويل عند الضريح الشريف ، وذلك سنة 649 ه- ».

ص: 20

28 - جاء في « الحوادث الجامعة » ايضاً ، صفحة «183» ما نصه :

« وفي سنة 641 تقدم المستعصم ، الى جمال الدين عبد الرحمن بن الجوزي المحتسب ، بمنع الناس من قراءة المقتل في يوم عاشوراء ، والإنشاد به في سائر المحال بجانبي بغداد ، سوى مشهد موسى بن جعفر علیهماالسلام ».

وفي الصفحة «248» منه أيضاً يقول : « وفي محرم سنة «648 ه» تقدم المستعصم بمنع أهل الكرخ والمختارة من النياحة والانشاد ، وقراءة مقتل الحسين ، خوفاً من تجاوز ذلك الى ما يؤدي الى وقوع الفتنة ... ».

29 - جاء في الصفحتين «115 و 116» من كتاب « تاريخ كاظمين » باللغة الفارسية ، لميرزا عباس فيض ما ترجمته :

« والذي ساعد على انتشار العمران في المشهد الكاظمي هو إقبال البغداديين على السكنى هناك ، على عهد الخليفة المستعصم باللّه ؛ لأن هذا الخليفة كان قد أوعز الى جمال الدين عبد الرحمن بن يوسف الجوزي بأن يمنع إقامة العزاء الحسيني والمأتم على الامام الشهيد علیه السلام في جميع أنحاء البلاد عدا المشهد الكاظمي ، حيث أطلق الحرية لسكانه بإقامة الحداد الذي اعتادوا عليه ، والنياحة على الحسين علیه السلام . وهكذا منع الشيعة في بغداد حتى عن قراءة المقتل وإنشاد قصائد الرثاء وإقامة النياحات والعزاء بصورة علنية ؛ لذلك انتقل كثير من هؤلاء الشيعة الى المشهد الكاظمي واستوطنوه ، حيث كانت الحرية قد أطلقت فيه لإقامة هذا المأتم ، وحتى أن كثيراً من سكان سائر مدن العراق كانوا يفدون على هذا المشهد في شهري محرم وصفر من كل سنة للاشتراك في الأحزان الحسينية ، ويمكثون فيه طيلة هذين الشهرين ».

30 - جاء في كتاب « التشيع والشيعة » المار ذكره ، ما نصه :

« وكان الكرخ في بغداد على عهد العباسيين وبعدهم محلة الروافض ، وكانوا قد كثروا فيها ، فأخذوا يبارون العامة في الاحتفال بالمراسم والاعياد ، وبنوا على

ص: 21

قبور أئمتهم في النجف وكربلاء والكرخ وسامراء ، وجعلوها مشاهد ومزارات ، واتخذوا إقامة النياحات على الحسين أيام عاشوراء سنة لهم ».

31 - جاء في الصفحة «176» من مجلة « تاريخ إسلام » باللغة الفارسية العدد المؤرخ محرم «1388 ه» عند ذكر المدعو أبو العباس أحمد ، الابن الأكبر للخليفة المستعصم ، آخر الخلفاء العباسيين وولي عهده وحقد هذا على الشيعة ما ترجمته :

« وكان الكثير من ملازمي أبي العباس بن المستعصم يلقنونه باستمرار بلزوم إيذاء الشيعة في بغداد والإضرار بهم ، حتى أدى الأمر الى أن يخرج من حالته الطبيعية وأصبح كشعلة نار ضد الشيعة ، وأوعز خلافاً لمشيئة أبيه الى فرقة من الجيش المدجج بالسلاح بالإغارة على محلة الشيعة في الكرخ ، حيث أوغلوا في قتل الرجال والنساء والشيوخ والاطفال وسلب أموالهم ونهبها ، وحتى أن الجنود أسروا كثيراً من الهاشميات في هذه المحلة وسبوهن الى أماكن لم يعلم بها أحد ».

* * *

ص: 22

الفصل الثاني والعشرون: النياحة على الامام الحسين علیه السلام بعد العباسيين

أما النياحة وإقامة شعائر العزاء على الامام الحسين علیه السلام بعد انقراض الدولة العباسية وزوال ملكها ، فكانت تقع أيضاً تحت عوامل سياسة الحكومات المختلفة التي تتولى السلطة على مقدارات العراق ، من حكام عرب ، أو فرس ، أو أتراك ، أو غيرهم. فمنهم من كان شيعياً ، ومنهم من كان سنياً ، ومنهم من كان علمانياً لا دين ولا مذهب له. وقد استطاع الشيعة في كثير من الأزمان على هذا العهد أن يتنفسوا الصعداء وأن ينالوا قسطاً وفيراً من حريتهم في إقامة شعائرهم ، من النوح وإقامة المأتم على الحسين علیه السلام ، اما لكون السلطة القائمة شيعية الحكام ، أو لكونها مؤلفة من حكام ضعفاء من غير الشيعة لا تستطيع الضغط على هذه الفرقة المسلمة. فمثلاً عندما تولى السلطة على العراق الملوك الصفويون أو غيرهم من الحكام الايرانيين كان الإقبال على إقامة هذه المآتم والنياحات عظيماً ، وكانت حرية الشيعة في إحياء هذه الذكرى الأليمة مضمونة ، وقد غالى الشيعة في إقامتها ، والعكس بالعكس ، كلما قويت السلطة السنية في العراق كالحكومة العثمانية وقع الضغط على الشيعة ، ومنعوا عن إقامة المناحات ومزاولة شعائرهم التقليدية فيها ؛ الأمر الذي كان يضطرهم الى إقامتها وإحياء ذكرياتها سراً وداخل البيوت ، وفي سراديب الدور ، وتحت طائلة الخوف والجزع والتقية.

وعلى سبيل المثال أقول : إن الشيعة كانوا على زمن الأسرة الايلخانية ،

ص: 23

وخاصة على عهد ملكها محمد خدا بنده ، المتوفى سنة «715 ه» ، الذي كان أول من جاهر من ملوك هذه الاسرة بالتشيع لآل البيت ، وأول من أمر بتخليد اسماء الائمة الاثني عشر ، فنقشت اسماؤهم على مسكوكاته.

وكذا على عهد ابنه أبي سعيد. وأيضاً على عهد الأسرة الجلائرية ، ثم عهد الملوك الصفويين ، ومنهم الشاه إسماعيل الذي ناصر الشيعة وأعلن المذهب الشيعي في إيران والعراق رسمياً. وكذا على عهد بعض السلاطين العثمانيين كالسلطان سليمان القانوني المتوفى سنة «941 ه» ، الذي زار كربلاء والنجف. وكذا على عهد عدد من الأمراء الشيعة الآخرين ، الذين حكموا بعض أنحاء العراق ، على عهد عدد من الأمراء الشيعة الآخرين ، الذين حكموا بعض أنحاء العراق ، كدولة بني مزيد في الحلة وبني شاهين في البطيحة ، وبني حمدان وآل المسيب في الموصل ونصيبين.

أجل على عهد هؤلاء الملوك والأمراء صار الشيعة يتمتعون بحريتهم في إقامة المأتم الحسيني ، غير أنه على زمن سائر الخلفاء العثمانيين بعد استعادة العراق من الصفويين ، وخاصة السلطان مراد الرابع العثماني ، الذي أسرف في قتل الشيعة وسفك دمائهم ، وإحراق كتبهم وتعذيبهم ، فقد منعت إقامة هذه المآتم ، وطورد القائمون بها ، بيد أن من خلفه من السلاطين أطلقوا بعض الحرية للشيعة في إحياء ذكريات الحزن على الحسين ، وإقامة شعائره ، بمختلف المظاهر ومتنوع التقاليد التي درجوا عليها وتعودوا على إقامتها سراً ثم علناً منذ العهدين الأموي والعباسي. وإنما كانوا يقيمونها على ذينك العهدين تحت الستار والتقية ، عدا على زمن بعض الخلفاء العباسيين الذين سمحوا لهم بإقامتها علناً كما مر في الفصل السابق. وفي هذه العهود صار الشيعة يقيمونها بصورة علنية وفي الأماكن العامة وغيرها ، فيبكي المجتمعون فيها على مصاب الامام الحسين واستشهاده بتلك الحالة المفجعة وينوحون عليه بقريض من الشعر ، ينشأه وينشئه الناشد منهم ، الذي كان يطلق عليه اسم « النائح » أو « خطيب المنبر الحسيني ».

ص: 24

وفيما يلي فقرات مما ذكره المؤرخون عن إقامة شعائر العزاء على الحسين بعد العباسيين الى أوائل الحرب العالمية الأولى :

1 - ذكر كتاب « الحوادث الجامعة » لمؤلفه ابن الفوطي ضمن حوادث سنة «698 ه» ، عن إطلاق الحرية للشيعة في إحياء ذكرى استشهاد الحسين علیه السلام وإقامة المناحات عليه على عهد السلطان غازان ، قوله :

« ثم توجه - أي السلطان غازان - الى الحلة ، وقصد زيارة المشاهد الشريفة في النجف وكربلاء ، وأمر للعلويين والمقيمين بها بمال كثير. ثم أمر بحفر نهر بأعلى الحلة فحفر وسمي بالنهر الغازاني ... » الخ.

ويستطرد الكتاب فيقول :

« ثم توجه غازان للحلة ، وقصد مشهد علي في النجف فزار ضريحه الشريف ، وأمر للعلويين بشيء كثير. ثم مضى الى مشهد الحسين بكربلا وفعل مثل ذلك ، وعاد الى أعمال الحلة وقوسان متصدياً وزار قبر سلمان الفارسي ، وأمر للفقراء المقيمين هناك بمال ».

2 - وجاء في الكتاب « ومضات من تاريخ كربلاء » للسيد سلمان هادي آل طعمة صفحة «32» عند ذكر هجوم جيش تيمور لنك على بغداد ، ومناجزة سلطانها أحمد الجلايري ودخولهم سنة «795 ه» الجانب الشرقي من بغداد « الرصافة » قوله :

« أما أمراء تيمور بعد استيلائهم على خزائن السلطان توجهوا قاصدين زيارة مرقد أبي عبد اللّه الحسين بكربلاء ، يتبركون به ، ويستجمعون قواهم. وبعد فراغهم من مراسم الزيارة أجزلوا بالنعم والهدايا على السادة العلويين الملازمين لقبر أبي عبد اللّه الحسين علیه السلام ثم رحلوا بعد أن مكثوا فيها بعض اليوم ، واشتركوا في بعض المناحات المقامة على الامام الغريب ... » الخ.

3 - جاء في الصفحة «39» من كتاب « ثورة الحسين » لمؤلفه الشيخ محمد

ص: 25

مهدي شمس الدين عن موقف العثمانيين من مجزرة كربلاء واستشهاد الحسين ، قوله :

« وفي العصور التالية لاحق العثمانيون هذه المآتم ومنعوا من إقامتها في أحيان كثيرة فكانت تقام سراً. وفيما بعد العثمانيين لوحقت هذه المآتم ثم منعتها السلطة في بعض الأحيان ، وقيدتها بقيود كثيرة ثقيلة في أحيان أخرى لأجل إفراغها من محتواها النقدي للسلطة القائمة ... » الخ.

4 - جاء في الصفحة «60» من كتاب « تاريخ التعليم في العراق في العهد العثماني » تأليف عبد الرزاق الهلالي ، ما نصه :

« ولا بد من الاشارة في هذا الباب الى أن كتاتيب البنات كانت تكثر في العتبات المقدسة ، والمدن التي أكثريتها من الشيعة ، بسبب ما تحتمه الضرورة من وجود ملايات يقرأن مقتل الحسين في شهر محرم أو في الأشهر الأخرى ، أو قراءة المواليد في المناسبات النسوية المختلفة ... » الخ.

5 - وجاء في الصفحة «126» من الكتاب نفسه ، المطبوع في بغداد ، سنة 1959 م ، قوله :

« أما الشعر في المناطق الشيعية فقد تأثر نتيجة للتعصب الذي كانت تبديه السلطة الحاكمة ضدهم ، واتجه وجهة لم يتجه لها الشعراء من أبناء السنة. لذا كان الشعر في مدح الامام الحسين يمثل التيارات الصاخبة ، التي كانت تعتلج في نفوس الناس ويحاولون أن يأتوا بالجيد من النظم ، الرصين من العبارة ... » الخ.

* * *

ص: 26

الفصل الثالث والعشرون: تأثير النياحة على الحسين علیه السلام في الاقطار العالمية

الآن وقد انتهيت من سرد حوادث تاريخ العزاء الحسيني والنياحة عليه ، وإحياء ذكرى مجزرته في كربلاء منذ بدئها حتى العصور الأخيرة ، وكذا الأدوار التي مرت عليها في مختلف القرون والعصور والمراحل التي اجتازتها من مد وجزر على أيدي الحكام وأصحاب السلطة ، وتمسك الموالين لآل بيت النبوة بهذا التقليد ، الذي أصبح لديهم من مستحبات شؤونهم التي يتقيدون بها في شهري محرم وصفر من كل سنة ، وفي العشرة الأولى من محرم بالأخص ، وكذا في بعض أيام الاسبوع على طول السنة ، مما عودوا أنفسهم عليها ، وتوارثها الخلف عن السلف.

وحيث إن إحياء هذه الذكرى الحزينة وإقامة شعائرها التقليدية ، قد تعدت المركز الرئيسي للحادث المحزن - أي العراق - الى سائر البلدان الاسلامية ، وحتى كثير من الأصقاع غير الاسلامية ، فإني أفضل أن أختم رسالتي هذه بسرد بعض ما يجري في هذه الأقطار خلال شهري محرم وصفر من كل سنة ، أو العشرة الأولى من محرم ، أو يوم عاشوراء فقط ، من إحياء ذكرى هذا الحادث المحزن.

إن كل من جاب عواصم وحواضر ومدن الأقطار الاسلامية في أرجاء المعمورة ، سيما المجتمعات الشيعية في هذه الأقطار وبالأخص منها العراق ، والبلاد العربية الأخرى ، والهند ، وإيران ، وأفغانستان ، وغيرها من الأقاليم الآسيوية ، وبعض بلدان افريقية وجد المباني ، الفخمة ، والعمارات الكبيرة مقامة ، وتدعى عند

ص: 27

العرب « الحسينية » وعند الهنود « إمام بهره » وعند الفرس « مأتم سراً أو حسينية أو تكية » وسائر الأقطار تسميها باسمها العربي « الحسينية » وفي هذه المباني التي يوقفها أصحابها على إقامة النياحات فيها على الإمام الحسين علیه السلام ويوقفون عليها أوقافاً كثيرة وصدقات جارية ، تنفق إراداتها وأرباحها على إدارة هذه الحسينية. وفي هذه المباني تقام مجالس العزاء والنياحة لذكرى الامام الشهيد علیه السلام . وفي هذه المجالس التي تغص بالمجتمعين والمستمعين من شتات المسلمين يرقى الخطيب المنبر ، فيفتتح كلامه بسرد آي من الذكر الحكيم ، وتفسير علومها من أحاديث الرسول الكريم صلی اللّه علیه و آله والأئمة الطاهرين علیهم السلام ثم يتلو تاريخ مجزرة كربلاء ، منذ البداية حتى النهاية ، موجزاً أو تفصيلاً ، حسب مقتضيات المجلس وظروفه.

وهذا الخطيب الذي يطلق عليه في أكثر البلدان العربية والاسلامية اسم « خطيب المنبر الحسيني » أو « روضة خوان » هو خطيب جرد نفسه لخدمة النياحة على الحسين علیه السلام وآله ، وأحياناً النوح على مصائب سائر الأئمة علیهم السلام أيضاً وقد جعل مهنته في الحياة هذه الخدمة الشريفة.

أما كلمة « رضوان خوان » فمشتقة من لفظتين عربية وفارسية ، فالروضة مأخوذة من اسم كتاب « روضة الشهداء » تأليف المولى الحسين بن علي الكاشفي ، المعروف بالواعظ البيهقي ، المتوفى سنة «910 ه» و « خوان » فارسية بمعنى « القراءة » وتأتي جملة « روضة خوان » بمعنى « قارئ الروضة ».

وقد جرت العادة أن توزع في هذه المجالس النياحية في أولها أو في آخرها المبردات ، أو الشاي أو القهوة ، أو بعض المأكولات التي تتناسب وتلك المشروبات حسب فصول السنة من برد أو حر ، ونفقات هذه المجالس تبذل من موقوفات الواقفين أو من خيرات أصحاب البر.

وقد ثبت مما أوردته في الفصول السابقة أن إقامة العزاءالحسيني والنياحة على الامام الحسين علیه السلام وآله وصحبه ترقى بتأريخها الى عهد قديم ، أي القرن الأول

ص: 28

الهجري ، والى زمن وقوع هذه الفجيعة العظمى ، أي منذ استشهاد الامام علیه السلام وما يقرب من عهد الصحابة والتابعين لهم. وكما قلت في تلك الفصول : إن هذا العزاء كان في أول أمره محدوداً جداً وصغير الحجم ، وكان يقام تحت التستر والخفاء والتقية ، كما أن إقامة هذه النياحة على الامام الشهيد لم تكن كما يتصوره البعض من مستحدثات القرون الوسطى والأخيرة ، مدعين أنها تولدت على عهد الملوك الصفويين ، وإنما هي قديمة ولكنها على زمن الصفويين اتسع نطاقها ، واشتد إقبال الناس عليها.

وكما مر في تلك الفصول أيضاً : انه كلما توسع المذهب الشيعي في العراق أو سائر البلدان العربية والاسلامية ، وخفت وطأة السلطات المعادية له ، كلّما اشتد الموالون لآل الرسول صلی اللّه علیه و آله بإقامة ذلك العزاء وتلك النياحة ، تحت اسم الرثاء أو النياحة خاصة في مشاهد الأئمة الاطهار علیهم السلام . وكما أثبت التاريخ أن جذور هذه النياحات والمآتم كانت في العراق ثم اتسع نطاقها وامتدت الى الشعوب والأمم الأخرى ، كمصر على عهد الفاطميين ، وإيران على عهد الصفويين ، وسوريا والموصل ولبنان على عهد الحمدانيين ، والمغرب الأفريقي على عهد العلويين والادريسيين ، والهند على عهد كثير من راجات الشيعة وملوكهم.

ولذلك أبدأ بوصف موجز جداً لما كان ولم يزل يجري في البلاد العربية ، ثم البلدان الاسلامية والاقطار العالمية ، من مراسم وشعارات مجالس الحزن ومجتمعات النياحة على الحسين علیه السلام وبعض ما تناقلته المؤلفات وأقلام الكتاب من مغزى هذه الفاجعة العظيمة :

1 - جاء في الصفحة «135» من كتاب « نهضة الحسين » لمؤلفه السيد هبة الدين الحسيني الشهرستاني ، ما عبارته :

« وامتدت جاذبية الحسين علیه السلام وصحبه من حضرة الحائر الى تخوم الهند وأعماق العجم ، وما وراء الترك والديلم والى أقصى من مصر والجزيرة والمغرب

ص: 29

الأقصى يرددون ذكرى فاجعته بممر الساعات والايام ، ويقيمون مأتمه في رثائه ومواكب عزائه ، ويجدون في إحياء قضيته في عامة الانام ، ويمثلون واقعته في ممر الأعوام ... » الخ.

2 - قال جرجي زيدان في ختام روايته « غادة كربلاء » ما نصه :

« لا شك أن ابن زياد ارتكب بقتل الحسين جريمة كبرى لم يحدث أفظع منها في تاريخ العالم ، ولا غرو إذا تظلم الشيعة لقتل الحسين وبكوه في كل عام ، ومزقوا جيوبهم وقرعوا صدورهم أسفاً عليه ، لأنه قتل مظلوماً ».

3 - جاء في الصفحة «162» من كتاب « نهضة الحسين » في طبعته الخامسة ، بقلم نجل المؤلف السيد جواد هبة الدين الحسيني الشهرستاني ، ما نصه :

« اهتمام الأقطار الاسلامية بعزاء الحسين : وهكذا أصبح المسلمون في اليوم العاشر من محرم كل عام يحتفلون بذكرى عاشوراء ، إحياء لذكرى شهيد الطف الامام الحسين علیه السلام في جميع الأقطار الاسلامية .. ويعتبر هذا اليوم عطلة رسمية لدى معظم هذه الدول ، ويشترك كثير من رؤوساء الدول الاسلامية في مراسيمه.

وحين تمر هذه الذكرى بالمسلمين في العشرة الأولى من محرم أو في اليوم العاشر منه ، فإنه تغمر غالبية العالم الاسلامي موجة من الأسى ، ويخيم عليه سحاب من الحزن كأن الامام الحسين قد قتل حديثاً ، وكأن أشلاء آله وأنصاره لا تزال على منظرها المؤلم فوق تلك الترب ، وكأن دم أولئك الضحايا من الشهداء لم يزل يفور على تلك الأرض .. فيثير في نفوس المسلمين كل تلك المشاعر والأحزان ، مما جعلت معظم الحكومات العربية والاسلامية تحافظ على حرمة هذه المناسبة ، وتلاحظ شعور المسلمين نحوها ... ومن أجل ذلك تصدر أوامرها بغلق دور اللّهو واللعب ، وحانات الخمور والشرب والمسارح ، وأمثالها مما تحمل طابع اللّهو والطرب ، كما تقلص على غرارها ما في برامج الأذاعة والتلفزيون خلال العشرة الأولى من المحرم ببرامج تتسم بالطابع الديني والروحي والعلمي ، مجرداً من

ص: 30

كل أسباب اللّهو والطرب ... كل ذلك رعاية لشعور المسلمين ، واحتراماً لمكانة هذه الذكرى. كما هو الحال في العراق وإيران وفي الهند والباكستان وعديد من الدول الاسلامية الأخرى ...

والمسلمون إذ يحتفلون بهذه الذكرى الدامية ببالغ الاسى وعظيم الألم ، إنما يشيدون فيها بموقف الامام الحسين في ساحة الطف ، ويمجدون مواقف آله وأصحابه وما قدموه في ذلك الموقف ، من جسيم التضحية ، وعظيم البسالة التي أدهشت الأجيال ، وأذهلت التاريخ.

ثم هم إذ يعبرون في إيحائهم لهذه الذكرى الدامية عن شعورهم نحو الامام الشهيد ، فانهم يختلفون في هذا التعبير حسب معتقداتهم فيه وفي حركته ، واستشهاده ؛ وباختلاف مداركهم وعاداتهم.

فمنهم من يعتبره عيداً مجيداً ؛ لأن الفضيلة فيه قد انتصرت على الرذيلة ، وأن الامام بموقفه ذاك من يزيد قد أسند تعاليم جده سيد الرسل ... وجدد مجد شريعته السمحاء ... كما هو الحال لدى المسلمين في بعض أنحاء المغرب العربي بشمال افريقية ، الذين يعتزون بهذه الذكرى.

ومنهم من يندفع مع العاطفة الى إيلام نفسه وإيذائها بمختلف الوسائل والأساليب ، كضرب نفسه بالسلاسل أو بالتطبير ، ظناً منه أن هذا النحو من الأيذاء من دلائل المواساة أو الاقتداء بأولئك الشهداء ... كما هو الحال في بعض أنحاء العراق ، وإيران ، والهند ، والباكستان ».

ويستطرد الكاتب كلامه في الصفحة «164» من كتاب فيقول :

« والى جانب ما تقدم تلبس مدن العتبات المقدسة في العراق وإيران ، والمساجد المهمة والأماكن المتبركة في الهند والباكستان وغيرها من الأقطار والمناطق التي يتعصب أهلها في الحب والولاء لآل البيت النبوي حلة من السواد ، كشعار الحزن والحداد ... وتبتعد عن مظاهر الزينة والبهرجة ، ومباعث الأنس

ص: 31

والانشراح.

هذه هي الحالة في العشرة الأولى من شهر محرم الحرام عند المسلمين بالنسبة لهذه الذكرى إن لم يكن الشهر كله من كل عام. وفي الأقطار الاسلامية كالعراق ، وإيران ، والهند ، والباكستان الى ما بعد العشرين من صفر ، حيث تستكمل هذه الذكرى يومها الأربعين. ولها زيارتها الخاصة ، ومراسيمها المختصة في كربلاء بالعراق ... حيث يؤمها أكثر من مليون زائر في يوم واحد لزيارة قبر الحسين علیه السلام والطواف حول ضريحه في ذكرى اربعينه .. وتطوف المواكب الزاخرة حول مشهده لليمن والبركة ».

4 - جاء في الصفحة «280» من « موسوعة العتبات المقدسة » قسم كربلاء ، ما نصه :

« أن الكاتبة الانجليزية القديرة ( فرايا ستارك ) كانت قد كتبت فصلاً صغيراً عن عاشوراء في كتابها المعروف باسم « صور بغدادية » وتبدأ هذا الفصل بقولها : إن الشيعة في جميع أنحاء العالم الاسلامي يحيون ذكرى الحسين ومقتله ويعلنون الحداد عليه في عشرة محرم الأولى كلها ، حتى يصل بهم مد الأحزان البطيء الذي يستولي على أنفسهم الى أوجه بمواكب العزاء التي تخرج في اليوم الأخير ، حاملة النعش بجثته المذبوحة ».

ثم تشير الكاتبة الى مواكب العزاء والسبايا التي تمثل فيها وقائع معركة كربلاء كلها ، وهي تقول :

« إن هذه المواكب التي تقام في بغداد والمدن المقدسة يعرف مجيئها من بعيد ، بصوت اللطم على الصدور العارية ».

5 - جاء في الصفحة «297» من الموسوعة سالفة الذكر قسم كربلاء ، نقلاً عن رحلة « جون أشر » الانجليزي منقولاً عن المؤرخ « غيبون » بعد سرد مجزرة كربلاء ، فيقول :

ص: 32

« إن الشيعة من المسلمين في العالم يقيمون في كل سنة مراسيم العزاء الأليمة تخليداً لبطولة الحسين واستشهاده فينسون أرواحهم فيها من شدة ما ينتابهم من الحزن والأسى ».

6 - نقلت مجلة « العلم » النجفية عن جريدة « حبل المتين » الفارسية التي كانت تصدر في الهند مقالاً كتبه الدكتور جوزف الفرنسي ، عن المسلمين في أنحاء العالم وتقسيمهم الى فرقتين : شيعية وسنية ، وما اتصف به الشيعة من التقية ، قال فيه :

« ويقيم الشيعة المآتم تحت الستار ، يبكون فيها على الحسين ، فأثرت هذه المآتم في قلوب هذه الطائفة الى حد أنه لم يمر عليها زمن طويل حتى بلغت الأوج في الشرق ، ودخل في هذه الطائفة بعض الوزراء وكثير من الملوك والخلفاء ، فبعضهم أخفى ذلك تقية ، وبعضهم أظهره جهاراً ».

ويستطرد الكاتب الفرنسي فيقول :

« ويمكن القول بأنه لا يمضي قرن أو قرنان حتى يزيد عدد الشيعة على عدد سائر فرق المسلمين. والعلة في ذلك هي إقامة هذه المآتم التي جعلت كل فرد من أفرادها داعية الى مذهبه ، اليوم لا توجد نقطة من نقاط العالم يكون فيها شخصان من الشيعة إلا ويقيمان فيها المأتم ، ويبذلان المال والطعام ، رأيت في ميناء « مارسال » في الفندق شخصاً واحداً عربياً شيعياً من أهل البحرين ، يقيم المأتم منفرداً ، جالساً على الكرسي ، بيده الكتاب يقرأ ويبكي ، وكان قد أعد مائدة من الطعام فرقها على الفقراء.

هذه الطائفة تصرف في هذا السبيل الأموال على قسمين : فبعضهم يبذلون في كل سنة من أموالهم خاصة في هذا السبيل بقدر استطاعتم ما يقدر بالملايين من الفرنكات ، والبعض الآخر من أوقاف خصصت لإقامة هذه المآتم ، وهذا المبلغ طائل جداً ».

ص: 33

ثم يواصل الكاتب الفرنسي كلامه ويقول :

« فلهذا ترك جمع غفير من عرفاء هذه الفرقة أسباب معاشهم واشتغلوا بهذا العمل ، فهم يتحملون المشاق ليتمكنوا من ذكر فضائل كبراء دينهم ، والمصائب التي أصابت أهل هذا البيت ، بأحسن وجه وأقوى تقرير على رؤوس المنابر وفي المجالس العامة. وبسبب هذه المشاق التي أختارتها هذه الجماعة في هذا الفن يفوق خطباء هذه الفرقة على جميع الطوائف الاسلامية ».

ويستطرد الكاتب فيقول :

« إن العدد الكثير الذي يرى اليوم في بلاد الهند من الشيعة هو من تأثير إقامة هذه المآتم. فرقة الشيعة حتى في زمن السلاطين الصفوية لم تسع في ترقي مذهبها بقوة السيف بل ترقت هذا الترقي المحير للعقول بقوة الكلام الذي هو أشد تأثيراً من السيف ، ترقت اليوم هذه الفرقة في أداء مراسيمها المذهبية بدرجة جعلت ثلثي المسلمين يتبعونها في حركاتها ، جم غفير من الهنود والفرس وسائر المذاهب أيضاً شاركوهم في أعمالهم ».

ويواصل الكاتب قوله بهذه العبارة :

« ومن جملة الأمور السياسية التي ألبسها روساء فرقة الشيعة لباس المذهب منذ عدة قرون ، وصارت مؤثرة جدً لجلب قلوبهم وقلوب غيرهم ، هي أصول التمثيل باسم المأتم والتعزية في مأتم الحسين ».

ويقول الكاتب بعد ذلك :

« فرقة الشيعة حصلت من هذه النكبة على فائدة تامة ، فألبست ذلك لباس المذهب. وعلى كل حال فالتأثير الذي يلزم أن يحصل على قلوب العامة والخاصة في إقامة العزاء والمأتم قد حصل :

فمن جهة يذكرون في مجالس قراءة التعزية المتواصلة وعلى المنابر المصائب التي وردت على رؤساء دينهم ، والمظالم التي نزلت على الحسين مع تلك

ص: 34

الأحاديث المشوقة الى البكاء على مصائب آل الرسول ، فبيان تلك المصائب للأنظار أيضاً له تأثير عظيم ، ويجعل العام والخاص من هذه الفرقة راسخ العقيدة فوق التصور. وهذه النكات الدقيقة أصبحت سبباً في أنه لم يسمع بأحد من هذه الفرقة من ابتداء ترقي مذهب الشيعة أنه ترك دين الاسلام ، أو دخل في فرقة إسلامية أخرى. هذه الفرقة تقيم المآتم بأقسام مختلفة ، فتارة في مجالس مخصوصة ومقامات معينة ، وحيث إنه في أمثال هذه المجالس المخصوصة والمقامات المعينة يكون اشتراك الفرق الأخرى معهم أقل ، أوجدوا المآتم بوضع خاص ، فعملوا في الأزقة والأسواق ، وداروا به بين جميع الفرق. وبهذا السبب تتأثر قلوب جميع الفرق منهم ومن غيرهم بذلك الأمر الذي يجب أن يحصل من البكاء. ولم يزل هذا العمل شيئاً فشيئاً يورث توجه العام والخاص اليه حتى أن بعض الفرق الاسلامية الأخرى وبعض الهنود قلدوا الشيعة فيه ، واشتركوا معهم في ذلك. وهذا العمل في الهند أكثر رواجاً منه في جميع الممالك الاسلامية ، كما أن سائر فرق الاسلام هناك أكثر اشتراكاً مع الشيعة في هذا العمل من سائر البلاد.

ويظن أن هذا العمل بين الشيعة قد جاء من ناحية سياسة السلاطين الصفوية ، الذين كانوا أول سلسلة استولت على السلطة بقوة المذهب ، ورؤساء الشيعة الروحانيون أيدوا هذا العمل ، وأجازوه شيئاً فشيئاً.

ومن جملة الأمور التي صارت سبباً في ترقي هذه الفرقة وشهرتها في كل مكان ، هو إزادة أنفسهم بالرأي الحسن ، بمعنى أن هذه الطائفة بواسطة مجلس المآتم واللطم والدوران وحمل الأعلام في مأتم الحسين جلبت اليها قلوب باقي الفرق ، بالجاه والاعتبار ، والقوة والشكوكة ».

ويختم الكاتب كلامه بقوله :

« لهذا نرى أنه في كل مكان ولو كانت جماعة من الشيعة قليلة ، يظهر عددها في الأنظار بقدر ما هي عليه مرتين ، وشوكتها وقدرتها بقدر ما هي عليها

ص: 35

عشرات المرات وأكثر أسباب معروفية هؤلاء القوم وترقيهم هي هذه النكبة.

ومصنفو أوربا الذين كتبوا تفصيل مقاتلة الحسين وأصحابه وقتلهم ، مع أنه ليس لهم عقيدة بهم قط ، أذعنوا بظلم قاتليهم وتعديهم ، وعدم رحمتهم ، ويذكرون أسماء قاتليهم بالاشمئزاز ، وهذه الأمور طبيعية لا يقف أمامها شيء ، وهذه النكبة من المؤيدات الطبيعية لفرقة الشيعة ».

7 - جاء في الصفحة «200» من كتاب « المجالس السنية » المار ذكره ، نقلاً عن رسال الحكيم والفيلسوف الالماني في رسالته عن النهضة الحسينية وتأثيرها على العالم الاسلامي ، قول هذا الفيلسوف عن تأثير إقامة المآتم الحسينية على حياة المسلمين وتقدمهم ، قوله :

« وليس لواحدة من الروابط الروحانية التي بين المسلمين اليوم تأثير في نفوسهم كتأثير إقامة مآتم الحسين ، فإذا دام انتشار وتعميم هذه المآتم بين المسلمين مدة قرنين آخرين لا بد أن تظهر فيهم حياة سياسية جديدة ، وان الاستقلال الباقي للمسلمين اليوم نصف أسبابها هو اتباع هذه النكبة وسنرى اليوم الذي يتقوى فيه سلاطين المسلمين تحت ظل هذه الرابطة ، وبهذه الوسيلة سيتحد المسلمون في جميع أنحاء العالم تحت لواء واحد ؛ لأنه لا يرى في جميع طبقات الفرق الاسلامية من ينكر ذكر مصائب الحسين وينفر منها بسبب ديني ، بل للجميع رغبة طبيعية بشكل خاص في أداء هذه المراسيم المذهبية ، ولا يرى في المسلمين المختلفين في العقائد سوى هذه النكبة الاتحادية.

الحسين أشبه الروحانيين بحضرة المسيح ، ولكن مصائبه كانت أشد وأصعب. كما أن أتباع الحسين كانوا أكثر تقدماً من أتباع المسيح في القرون الأولى ، فلو أن المسيحيين سلكوا طريقة أتباع الحسين ، أو أن أتباع الحسين لم تمنعهم من ترقياتهم عقبات من نفس المسلمين ، لسادت إحدى الديانتين في قرون عديدة جميع المعمورة ، كما أن من حين زوال العقبات عن طريق أتباع الحسين

ص: 36

أصبحوا كالسيل المنحدر يحيطون بجميع الملل وسائر الطبقات ».

8 - جاء في الصفحة «381» من « موسوعة العتبات المقدسة » قسم كربلاء ، ما نصه :

« في سنة 1943 م » كتب المستر ستيون لويد - خبير الآثار القديمة في بغداد لعدة سنوات - كتابه الموجز عن تاريخ العراق ، باسم « الرافدان » وقد حلل في عدة من صفحاته تحليلاً بارعاً موقف الامام علي من معاوية ، وخرج منه الى مقتل الحسين في كربلاء ، وهو يقول :

« إن الفظاعة التي اقترفت في المعركة ، والفزع الذي أصاب المسلمين بقتله ؛ يكونان أسس المسرحية الأليمة التي تثير الطوائف الشيعية في العالم الاسلامي كله الى حد الحنق الديني في عشرة عاشوراء من كل سنة ».

وبعد أن يستطرد الكاتب في سرد حادث استشهاد الامام الحسين وآله وصحبه يقول :

« وتعد قبورهم - أي قبور الأئمة الأطهار علیهم السلام - في الفرات الأوسط وخراسان نماذج بديعة للفن الاسلامي الرفيع ، كما يعد كل واحد منها حججاً للزوار الشيعة ».

والخلاصة : فانه أينما وجدت الأسر الشيعية على اختلاف قومياتها ومللها ، ولغاتها ، وجدت معها مراسيم العزاء الحسيني ، ومآتمه ، وشعائره ، ومواكبه ، ومجالسه ، ونياحاته بصورها المختلفة ، وأنواعها المتعددة ، وبمظاهرها الموسعة أو تشكيلاتها المحدودة ، وبصورة خفية أو علنية ، حسب ظروف تلك الأسر الاجتماعية.

وتقام هذه المناحات على الحسين علیه السلام من قبل الشيعة على الغالب في العشرة الأولى من المحرم ، وبالأخص يوم العاشر منه في كل سنة.

وحين يهل هلال شهر محرم يستعد المسلمون الشيعة في مختلف أنحاء

ص: 37

المعمورة للتعبير عن شعورهم إزاء هذه الذكرى الدامية ، حيث يحتفلون بهذه المناسبة الأليمة ، متذكرين مصارع آل النبي صلی اللّه علیه و آله في مجزرة الطف ، في حزن عميق ، وشجن عظيم ، ومستعرضين مواقف الحسين ومن استشهد معه بما يناسبها من الإشادة والتكريم.

أكرر في هذا المقام وأقول : إن من يتصور أن هذه الشعائر والمظاهر في العزاء الحسيني إنما هي من محدثات العصور الأخيرة فإنه على خطاء لأن هذا التعبير عن شعور التأثير والتألم تجاه مصرع الحسين علیه السلام - كما مر في الفصول السابقة - إنما يرتقي في تاريخه الى القرن الأول الهجري ، غير أنه كان في أول أمره محدوداً جداً وصغير الحجم ، يقام بمحضر أخص الناس بالحسين والأئمة الأطهار ، للتخفيف عن عظم المصاب.

* * *

ص: 38

الفصل الرابع والعشرون: النياحة على الحسين علیه السلام في القرون الاخيرة

ألف - في العراق :

ففي العراق ، وهو مهد مجلس العزاء والسبايا ، والحزن والألم ، والنياحة والمواكب الحزينة على الامام الحسين وخاصة في مدن العتبات المقدسة في كربلاء والنجف والكاظمية وسامراء ، تقام هذه المجالس والمجتمعات وتسير المواكب على أتم وجه في العشر الأولى من أيام وليالي محرم ، وفي سائر أيام شهري محرم وصفر ، وفي بعض أيام الاسبوع.

وفيما يلي أقوال بعض الكتاب في ذلك :

1 - جاء في الصفحة «164» من كتاب « نهضة الحسين » السالف الذكر عن إقامة المأتم على الامام الحسين في العراق خلال هذا القرن بقلم نجل المؤلف السيد جواد الشهرستاني ما نصه :

« ومما تجدر الاشارة اليه على أثر تطور العزاء الحسيني واتساعه عن طريق اللطم والضرب بالسلاسل وما اليها ، وما أظهره شباب الكاظمية عام 1360 ه- - 1941 م الى المرحوم الوالد السيد هبة الدين الحسيني الشهرستاني من تأثرهم لهذا التطور المشين ، والذي يكمن وراءه من الإظرار بهذا العزاء وبأهداف سيد الشهداء علیه السلام ، فاقترح عليهم تطويره الى إقامة حفلات وإلقاء قصائد تشيد بالذكرى وتؤبن شهداءها ، وتبنى هذا الأمر لعدة سنوات ، ساهم فيها كثير من

ص: 39

أعلام القطر العراقي ، وأساتذة الجامعات وقادة الرأي وشباب البلد ، من شعراء وخطباء ، كان لها أكبر الأثر في جذب النفوس اليها ، ساهمت بنقل هذه الحفلات حية عبر الأثير عن طريق الإذاعة من صحن الامامين الكاظميين صبيحة العاشر من محرم في كل عام ، وكان يحضرها عشرات الآلاف من المستمعين الى جانب الهيئات الرسمية ، وممثلي الدول الاسلامية ، مما أعطت أروع صورة محترمة عن هذه الذكرى الى المستمعين ، وكان الشعراء والخطباء يتبارون في الرثاء والابداع فيه ، مما تغذي الفكر الاسلامي والشعر العربي باسلوب لم يكن معروفاً من قبل .. ويوجه الرأي العام الى أسرار نهضة الامام الحسين والعوامل النفسية والروحية التي حملته للصمود والاستشهاد ... » الخ.

وبعد أن يصف الكاتب السيد جواد مواكب العزاء في العراق ، ولا سيما في مدن العتبات المقدسة فيه ، وما يجري فيها من مراسيم وعادات أدخلت على هذه المواكب والتعازي والمآتم خلال القرون الثلاثة الأخيرة ، يقول في الصفحة «168» من الكتاب ما عبارته :

« وكانت الهيئات الرسمية في العراق وإيران والهند والباكستان تحضر هذه التعازي وتشهد ما يجري فيها كل عام ، وتتخذ كافة الاحتياطات الأمنية فيها حتى تنتهي هذه المراسيم بسلام.

وفي سنة «1936 م» ، وعلى أثر حدوث اصطدامات دموية بين المواكب العزائية ، أصدرت وزارة ياسين الهاشمي في العراق أمراً بمنع إقامة التشابيه ومواكب السلاسل والتطبير منعاً باتاً .. ومنع لعدة سنوات.

إلا أن الجهات الرسمية عادت سنة «1947 م» فسمحت لمواكب التطبير بالظهور ، وكذلك مواكب الضرب بالسلاسل .. وتوسع الأمر وشمل مواكب الشبيه ، حيث أخذت بالظهور من سنة «1952 م» في العراق. ومع توالي السنوات توسعت وأخذ الشبيه شكله الموسع في السنوات الأخيرة في مختلف أنحاء العراق ،

ص: 40

الى جانب الأقطار الاسلامية المذكورة ».

وجاء في هامش الصفحة نفسها قوله :

« وتقام مجالس العزاء الحسيني إضافة إلى شهري محرم وصفر في شهر رمضان ، وذلك في لياليه وفي سائر أيام السنة على سبيل النية والنذر لحاجة من الحاجات قضاها اللّه ، فيقيم صاحبها مجلس عزاء ليوم واحد ، أو لثلاثة أيام في الأسبوع ، أو عشرة أيام ، أو أكثر حسب ما نوى ، وتوزع فيها الخيرات للفقراء والمساكين. وكثيراً ما يرافق مجالس العزاء الحسيني إطعام أو خيرات للحاضرين ».

2 - نقلت « موسوعة العتبات المقدسة » قسم كربلاء صفحة «380» عن الكاتبة الانجليزية المس « فرياستارك » في كتابها « صور بغدادية » في فصل النجف ، عند ذكر قصة مجزرة كربلاء ، قولها :

« وهي من القصص القليلة التي لا استطيع قراءتها قط من دون أن ينتابني البكاء ... » الخ.

3 - جاء في الصفحة «371» من « موسوعة العتبات المقدسة » قسم كربلاء في فصل : « كربلاء في المراجع الغربية » ما لفظه :

« وقد كتب عن مأساة كربلاء كذلك ، ومحرم الحرام بوجه عام ، المستر « توماس لايل » الذي اشتغل في العراق معاوناً للحاكم السياسي في الشامية والنجف ، في 1918 - 1921 م ومعاوناً لمدير الطابو في بغداد ، وحاكماً في محاكمها المدنية ، في كتابه « دخائل العراق » ما يقرب من عشرين صفحة ، وهو يقول بعد أن شهد مواكب العزاء ولطم اللاطمين فيها :

« ولم يكن هنالك أي نوع من الوحشية أو الهمجية ولم ينعدم الضبط بين الناس. فشعرت - وما زلت أشعر - بأنني توصلت في تلك اللحظة الى جميع ما هو حسن وممتلئ بالحيوية في الاسلام ، وأيقنت بأن الورع الكامن في أولئك الناس ،

ص: 41

والحماسة المتدفقة منهم بوسعهما أن يهزا العالم هزاً فيما لو وجها توجيهاً صالحاً ، وانتهجا السبل القويمة ، ولا غرو ، فلهؤلاء الناس عبقرية فطرية في شؤون الدين » الخ.

4 - جاء في الصفحة «193» من « موسوعة العتبات المقدسة » قسم كربلاء ، ما نصه أيضاً :

« فيليب حتى وكربلاء : وقد أورد الاستاذ فيليب حتى أستاذ التاريخ الاسلامي في جامعة برستن بأمريكا ، ذكر كربلاء في مواضع من كتابه المشهور « تاريخ العرب » باللغة الانجليزية. ففي الصفحة «183» يقول ما ترجمته :

« إن حشود الزوار التي ما تزال تتدفق الى مشهد علي في النجف ومشهد ولده الحسين - سيد القديسين والشهداء عند الشيعة - في كربلاء القريبة من النجف ، والمسرحية الدينية التي تمثل سنوياً في العاشر من محرم في العالم الشيعي بأسره ، كل ذلك يشهد على أن الموت قد ينفع القديس أكثر من الحياة ».

وبعد أن يوجز الاستاذ « حتى » قصة استشهاد الامام الشهيد وصحبه وآله يقول :

« وقد أوجد المسلمون الشيعة - إحياء لذكرى استشهاد الحسين - عادة مراسيم الحزن في العشرة الأولى من محرم الحرام سنوياً ، ووضعوا مسرحية عاطفية دينية تؤكد صراعه البطولي وآلامه. وهذه المسرحية الدينية السنوية تمثل في فصلين ، يعرف الأول « عاشوراء » : يمثل في الكاظمية على مقربة من بغداد ، إحياء لذكرى المعركة ، والفصل الثاني بعد العاشر من محرم بأربعين يوماً في كربلاء ، وعنوانه : مرد الرأس » (1) الخ.

وبمناسبة ذكر يوم « مرد الرأس » ويوم الاربعين ، أقول : إن احياء ذكرى هذا

ص: 42


1- إن مراسيم العزاء في يوم عاشوراء تقام في كربلاء وسائر البلدان في العراق ، وفي الأقطار الاسلامية ، ولم تقتصر على الكاظمية. ومر تفصيل ذلك في الفصول السابقة.

اليوم - الذي سبق وفصلت الكلام عنه في فصل سابق - يقام في أكثر المدن في البلدان الاسلامية ، وخاصة التي تسكنها الجاليات الشيعية ، ولكن مظاهر إحياء هذه الذكرى تتجلى أكثر فأكثر في مدينة كربلاء التي حدثت فيها المجزرة الفجيعة.

وأنقل تالياً أقوال بعض الكتاب في وصف ما يجري في هذا اليوم بكربلاء :

جاء في الصفحة «146» من كتاب « تاريخ كربلاء وحائر الحسين » للسيد الجواد الكليدار عن هذا اليوم الحزين قوله :

« زيارة الأربعين : وهي في يوم 20 صفر من كل سنة وهي من أعظم زيارات كربلاء ، إذ تحتشد فيها مئات الألوف من الزائرين ، الذين يشدون الرحال اليها من مختلف الأقطار الاسلامية القريبة والنائية ، فيزورها خلق عظيم ، على الأخص من المدن العراقية من الشمال الى الجنوب ، فتسير فيها المواكب العظيمة باسم « موكب الأنصار » يتراوح عدد من يسيرون في كل موكب فيما بين خمسمائة وألف نسمة. فيخرج كل موكب من العزاء بكل سكينة ووقار ، في مظهر من الحزن العميق البادي على الوجوه ، حاسري الرؤوس وحافيي الأقدام ، ومرتدين الملابس السود علامة الحداد ، يبكون ويلطمون على الصدور والخدود ، يعزون النبي صلی اللّه علیه و آله بقتل سبطه الحسين علیه السلام محتجين على جفاء الأمة له ، وتخفق الرايات السود شعار العزاء والحزن أمام كل موكب ، وقد كتب عليها - بالكتابة الواضحة - اسم الموكب والبلد الذي ينتمون اليه ».

6 - جاء في الصفحة «165» من كتاب « نهضة الحسين » وصفاً لبعض أنواع المواكب الحسينية في العراق المعروف بالشبيه يوم الأربعين ، أدرج خلاصته تالياً :

« وهناك لون آخر من العزاء الحسيني المسمى بالشبيه. وقد ظهر بادئ الأمر في القرن العاشر الهجري على هيئة حصان مغطى بكفن مدمى وفيه بعض النبال ، يتقدم مواكب اللطم كأنه حصان الحسين علیه السلام بعد المعركة ...

ثم توسع الى خيول متعددة على نفس الشاكلة ترافق المواكب .. ثم ظهرت

ص: 43

شخصية الحر الرياحي ومعه بعض قادة الجيش الأموي برفقة هذه الخيول أمام المواكب ، وظهرت شخصية الامام علي بن الحسين السجاد في حالة رجل عليل مكبل بالأغلال على صهوة جواده ، وسط الموكب يوم الأربعين من صفر ، يردد ما قاله حين دخل المدينة .. والناس تلطم من فرط التأثر لمشهده ، ثم تطور بالتدريج الى ظهور الهوادج والنساء فيها كأنهن السبايا عائدين من الشام عبر العراق الى المدينة ، ويمرون بأرض الطفوف في كربلاء يوم زيارة الأربعين .. والجماهير الغفيرة تلطم متأثرة من هذا المنظر المفجع يتذكرون الموقف نفسه .. ثم تطور هذا العزاء بتوالي السنين بظهور أشخاص يتقمصون دور أصحاب الحسين وعدد من آل الرسول صلی اللّه علیه و آله يتقدمون مواكب العزاء ، ومعهم شبيه قادة الجيش الأموي .. وفي أواخر القرن الثاني عشر وأوائل الثالث عشر الهجري ، برزت شخصية الحسين وسط الشبيه ، يتقدم موكب العزاء ومن خلفه شخصية أخيه العباس ».

ويستطرد الكاتب كلامه ويقول :

« وتطور موكب الشبيه الذي كان يأخذ مسيره عبر الشوارع والطرقات ، ومن وسط الجموع الغفيرة من المشاهدين الى الساحة الرئيسية في المدينة ، أو الى وسط الصحن في المراقد المتبركة حيث تجري هناك صورة مصغرة لتلك المعركة التاريخية .. وبتوالي السنين توسع هذا اللون من العزاء الى إقامة صرح له وسط الصحن أو الميدان ، وبجواره خيام تمثل خيام أهل البيت ».

ثم يتوسع الكاتب الى شرح هذا اللون من المواكب العزائية والمآتم الحسينية ، مما لا أجد حاجة الى نقلها كلها ، لأنها معروفة لدى قراء العربية بأقطارهم المختلفة .. كما أن مثل هذه المواكب تسير في كثير من البلدان الاسلامية وخاصة إيران والهند ، ولكن بصورة أضيق أحياناً ، وبشكل أوسع حيناً آخر.

ومن أهم المواكب العزائية التي تؤم كربلاء في اليوم الثاني عشر من المحرم كل عام - أي اليوم الثالث على قتل الامام الشهيد وصحبه - مواكب عزاء سكان

ص: 44

قرية « طويريج » الواقعة على بعد عشرة أميال شرقي مدينة كربلاء ، على شاطئ نهر الفرات ، والتي تعرف بالهندية. إذ منذ الصباح الباكر في هذا اليوم تحتشد مواكب هذه القرية ، مهرولة بجموعها نحو كربلاء وكلما اقتربت من هذه المدينة التحقت بها جموع بقية عشائر وسكان القصبات والدساكر والتجمعات العشائرية التي تمر بها ، فيتألف منها حوالي مائة ألف نسمة ، من الرجال والنساء ، والشيوخ والشباب والأطفال ماشين على الأقدام ، يصلون كربلاء عند زوال ذلك اليوم ، وهم ما بين معول وصارخ ، وباك ومفجوع ، ولاطم. ويشترك معهم في ضواحي مدينة كربلاء سكانها ثم يدخلون صحن الامام الحسين ، ثم يدورون حول ضريح الامام الشهيد ، ثم يتوجهون الى ضريح أخيه العباس ، وبعدها يمرون ببعض شوارع المدينة الى أن يصلوا الى محل مخيم الامام الحسين علیه السلام وهناك يعيدون ذكرى فاجعة الطف ، ثم يتفرقون.

أما منشأ هذا الموكب الذي يرتقي بتاريخه الى أكثر من ثلاثة قرون ، فهو أن المشتركين فيه يعتقدون بأنهم يمثلون أفخاذ بني عامر من عشائر بني أسد الذين حضروا ساحة القتال عصر اليوم الثاني عشر من المحرم سنة 61 ه- ، بعد أن غادرها جيش ابن سعد في اليوم الحادي عشر منه ، متوجهاً الى الكوفة ومعه الرؤوس والسبايا ، ودفنوا أجداث الشهداء بعد أن بقيت هذه الأجساد ليلتين وثلاثة أيام في العراء ، وهذه المواكب التي تفد بجموعها على كربلاء ، وتشترك في هذا اليوم في مأتم الامام الشهيد ، إنما تحيي ذكرى أجدادها الاشاوس من عشائر بني أسد.

ويذكر المعمرون ان مبدأ هذا العزاء شرع منذ أكثر من 300سنة ، حيث أخذت العشائر القاطنة في المنطقة الواقعة بين الحلة وكربلاء ، بالقرب من قرية « طويريج » ، تأتي عند زوال اليوم الثاني عشر من المحرم كل سنة الى كربلاء ، وتشترك في العزاء الحسيني على شكل جماعات صغيرة.

ص: 45

وكان العلامة السيد محمد المهدي الطباطبائي بحر العلوم ، المتوفى سنة 1212 ه- في النجف ، يتقدم في بعض السنوات هذه الجماعات النائحة في وفودها على كربلاء ، وعندما سئل عن سبب اشتراكه في هذا العزاء أجاب : إنه رأى في المنام الامام الثاني عشر صاحب الزمان «عج» مشتركاً في هذا العزاء ، فآثر أن يكون من المشتركين فيه.

كما ذكر أن بعض كبار الشعراء - كالكعبي - وعظماء المجتهدين من فقهاء الشيعة ، كالشيخ زين العابدين المازندراني وغيرهما كانوا يشتركون فيه من ضواحي مدينة كربلاء.

ولقد تطور هذا العزاء المتحرك من تلك المسافات البعيدة الى أن أصبح كما هو عليه الآن ، وأطلق عليه اسم عزاء « بني أسد ».

7 - يقول الدكتور السيد علي الوردي في الصفحة «386» من كتابه « مهزلة العقل البشري » حول مجزرة الطف والعزاء الحسيني ، ما نصه :

« لم يكد معاوية يموت حتى حدثت حادثة هزة المجتمع الاسلامي هزاً عنيفاً ، تلك هي مأساة كربلاء التي قتل فيها الحسين بن علي. وهذه الحادثة أنتجت آثاراً اجتماعية بالغة قلماً تجد لها مثيلاً في التاريخ ».

ويستطرد الكاتب فيقول :

« كانت شهادة الحسين تتمة لشهادة أبيه العظيم. وقد يصح أن نقول : إن مأساة كربلاء أضافت الى مأساة الكوفة لوناً جديداً ، ولولاها لما أحس الناس بأهمية تلك المبادئ الاجتماعية التي نادى بها علي في حياته. فقد صبغ الحسين مبادئ أبيه بالدم ، وجعلها تتغلغل في أعماق القلوب تغلغلاً عميقاً ... ».

ويواصل الكاتب كلامه في الصفحة «387» ويقول : « يحتفل الشيعة في أيامنا هذه بمقتل الحسين أحتفالاً ضخماً ، فهم يذرفون فيه الدمع الغزير ويلدمون الصدور والظهور ، ويجرحون الرؤوس. ولنا أن نقول إن احتفال الشيعة هذا قد

ص: 46

أمسى طقوسياً » الخ.

8 - بحث الدكتور علي الوردي في بعض فصول كتابه « دراسة في طبيعة المجتمع العراقي » موضوع التوزيع الطائفي في العراق ، وتطرق خلاله الى اشتراك الطائفة السنية مع الشيعة في العزاء الحسيني ومواكبه ، فقال مثلاً عند إشارته الى التوزيع الطائفي في منطقة ديالى صفحة «236» ما نصه :

« وربما جاز القول بأن التعايش السلمي في منطقة ديالى بين الطائفتين غير قليل وليس في النادر أن نرى محلة سنية تشارك محلة شيعية في بعض مواكبها ومجالسها الحسينية ، وقد تشاركها أيضاً في تقديس مراقدها وأئمتها ».

وعندما تطرق الكاتب الى هذا التعايش في مدن المنطقة الرسوبية في العراق كمدينة الناصرية في الصفحة نفسها قال :

« فأخذوا - أي أفراد الطائفة السنية - يشاركون في مواكب الشيعة ويحضرون مجالسهم. وربما أخرج بعضهم مواكب خاصة بهم. وهذا يدل على أنهم سائرون في سبيل التشيع تدريجياً ... » الخ.

ثم يصف الكاتب في الصفحة «237» من كتابه هذه المواكب ويقول :

« فقد اعتاد الشيعة في العشرة الأولى من شهر محرم أن يخرجوا بالمواكب العظيمة إحياء لذكرى مقتل الحسين. وهذه المواكب تسير في الطرقات وفيها الأعلام والطبول والبوقات ، وتقرأ فيها القصائد العامية الحزينة وتلطم فيها الصدور ، أو تضرب الظهور بالسلاسل ، وفي اليوم العاشر تخرج مواكب التطبير ... » الخ.

ثم يستطرد الكاتب فيقول :

« ومجالس التعزية ، فإن كل وجيه أو غني من الشيعة يميل الى إقامة مجلس يقرأ فيه مقتل الحسين لمدة عشرة أيام ، خصوصاً في شهري محرم وصفر من كل عام. ومن يشهد هذه المجالس ، ويستمع الى القصائد الحزينة التي يلقيها الخطباء

ص: 47

فيها ، والى وصفهم مقتل الحسين وأولاده واخوته وأقربائه ، يحس بالميل الى البكاء ... » الخ.

9 - جاء في الصفحة «69» من كتاب « السيد محسن الأمين ، سيرته - بقلمه وأقلام آخرين » وهو المجلد الأربعون من موسوعته « أعيان الشيعة » عند وصفه بعض عادات النجفيين التي شاهدها أثناء إقامته الدراسية في النجف خلال العقد الثاني من القرن الرابع عشر الهجري ووصفه مجالس العزاء وإقامتها فيها من قبل الرجال والنساء قوله :

« والنساء أيضاً يجلسن للعزاء منفردات عن الرجال ، ولهن نوائح صناعتهن النياحة على الأموات وعلى الحسين علیه السلام في أيام عاشوراء وغيرها ، ومنهن من تنشد الشعر الزجلي ارتجالاً ومجالسهن منفردة عن مجالس الرجال ، وكانت رئيستهن نائحة تسمى ملا وحيدة - بتشديد الياء - وكانت تنشد الشعر الزجلي للنياحة ارتجالاً ، ولها مجموعة كبيرة من إنشائها في الحسين علیه السلام ».

ب - في سورية ولبنان

أما في سورية ولبنان وتوابعهما ، فإن النياحة على الامام الحسين الشهيد كانت في مد وجزر ، منذ أن وطئت أقدام السبايا بالشام سنة 61 ه- ومثولها بين يدي يزيد ، كما مر تفصيل ذلك في فصل سابق. وقد أخذت الأوساط الشامية وغيرها من المدن السورية واللبنانية منذ ذلك التاريخ تقيم المآتم والمناحات على فاجعة كربلاء في الدور وأماكن العبادة المخصصة لها بصورة علنية أو سرية حسب الظروف التي تفرضها السلطة القائمة والحكومة المسيطرة على الحكم من إطلاق الحرية للجاليات الشيعية أو الضغط عليها.

ومن الملوك الذين تنفس الشيعة الصعداء على عهدهم في هذه البلاد الملوك الحمدانيون الذين كانوا على مذهب الشيعة ، والذين لهم مواقف مشهودة في خدمة

ص: 48

هذا المذهب ، وخاصة على عهد الملك عبد اللّه بن حمدان ، الذي كان له السهم الأوفر في إقامة معالم هذا المذهب في المناطق التي كان يملكها أولئك الملوك الشيعة.

ومما ساعد على انتشار مذهب الشيعة في هذه البلدان ، وخاصة في القرون التي أعقبت القرن الثالث الهجري ، قيام الحكم البويهي في العراق وإيران ، والحكم الفاطمي في مصر ، والحكومات التي أعقبت الحكم الحمداني في سورية ولبنان وما جاورهما ، كبني مروان وغيرهم من الأمراء ، وحتى حلول الحكم العثماني ، وكلما اشتد ساعد الشيعة في هذه البلاد كلما انتشرت شعائر إقامة العزاء الحسيني والنياحات عليه ، خاصة في بيروت ، ودمشق ، وحلب ، وصور ، وصيدا ، وطرابلس ، وبعلبك ، والنبطية ، وبنت جبيل وغيرها من القرى والدساكر.

أما على العهد العثماني فقد أخذ ضغط السلطات العثمانية يشتد على الشيعة في مدن سوريه ولبنان الكبرى ، مما اضطر أفراد هذه الجالية إلى الانسحاب منها والهجرة الى الأقطار المجاورة أو الى القرى النائية في منطقة جبل عامل التي أصبحت بصورة تدريجية مقراً رئيسياً للشيعة في البلاد السورية واللبنانية ، وصاروا يقيمون فيها مراسيم العزاء الحسيني ومواكبه النياحية في شهري محرم وصفر وسائر أيام السنة.

وفيما يلي نبذ مما عثرت عليه في بطون الكتب عن هذه النياحات على عهد عزة الشيعة في تلك الديار :

1 - جاء في الصفحة «69» من كتاب « خطط جبل عامل » لعلامة الفقيد السيد محسن الأمين ، ما عبارته :

« ويوجد في حلب مشهد ينسب الى الحسين علیه السلام وله أوقاف جمة يصرف ريعها على الإطعام يوم عاشوراء ، وهي باقية الى الآن ، لكن أهل حلب يصرفونه على الإطعام في ذلك اليوم بعنوان أنه يوم عيد لا يوم حزن. والظاهر أن هذه الأوقاف من الشيعة الذين كانوا بحلب ، أما المشهد فلا نعلم أصله ، وربما كان من

ص: 49

زمن سيف الدولة ».

2 - وجاء في الصفحة «149» من الكتاب نفسه ، ما لفظه :

« حسينيات جبل عامل - جمع حسينية - وهي : بمثابة تكية منسوبة الى الامام الحسين السبط الشهيد ، لأنها تبنى لإقامة عزائه فيها. وأصل الحسينيات من الايرانيين والهنود ، بنوها في بلادهم ، وبنوها في العراق ايضاً ، ووقفوا لها الأوقاف ، وجعلوا لكل منها ناظراً وقواماً. وهي : عبارة عن دار ذات حجر وصحن فيها منبر يأوي اليها الغريب ، وتقام فيها الجماعة ، وينزلها الفقراء ، ويقام فيها عزاء سيد الشهداء في كل أسبوع في يوم مخصوص وفي عشرة المحرم ، وتختلف حالتها في الكبر والصغر ، والاتقان وكثرة الريع ، باختلاف أحوال منشئيها. وهذه لم تكن معروفة قبل عصرنا في جبل عامل ... » الخ.

ويستطرد الكتاب فيقول :

وأول حسينية أنشئت في جبل عامل ، هي « حسينية النباطية التحتا » ثم أنشئت عدة حسينيات في صور ، والنبطاية الفوقا ، وكفر رمان ، وبنت جبيل ، وحاروف ، والخيام ، والطيبة ، وكفر صبر ، وغيرها .. ». الخ.

وتجمع الشيعة في جبل عامل وقراه ساعد كثيراً بمرور الأيام على انتشار مجالس العزاء الحسيني وإقامة النياحات فيها ، إحياء هذه الذكرى المؤلمة على طول السنة ، وخاصة في شهري محرم وصفر ، وبالأخص العشرة الأولى من المحرم.

3 - جاء في الصفحة «215» من الجزء الأول ، من كتاب « هكذا عرفتهم » لمؤلفه جعفر الخليلي ، عند تعرفه على العلامة السيد محسن الأمين ، ووصف مواقفه الاصلاحية في الشؤون الدينية ، وخاصة في موضوع العزاء الحسيني علیه السلام ثم زيارته له في مدينة دمشق في إحدى زياراته لسورية قائلاً :

« ودعاني السيد محسن في تلك الزيارة لحضور مجلس من مجالس المآتم الحسينية تقام في تلك الليلة بدمشق فقلت له :

ص: 50

إنني أشكوا التخمة ، لكثرة ما حضرت هذه المجالس وما سمعت من أحاديثها قال : ولكنك ستسمع في هذا المجلس مالم يكن قد سمعت ... وسترى خطباء جدداً أعددتهم لمثل هذا ، وأنا أسعى لإعداد المزيد منهم. ثم قال : وإنني ألزمك بالحضور في هذه الليلة ، فإياك أن تتخلف ، ولكني خرجت ولم أعد.

وبعد يومين أو ثلاثة زرته في بيته المذكور فلامني على عدم حضوري المجلس في تلك الليلة ... » الخ.

4 - ولا زالت شعائر إحياء هذه الذكريات الحزينة تقام في كثير من الأنحاء والمدن في سوريا ولبنان ، وخاصة الأخيرة منها ، وبالأخص المناطق التي تقيم فيها الجاليات الشيعية ، كجبل لبنان ، وبيروت ، ودمشق ، وتقام هذه المآتم عادة في العشرة الأولى من محرم ، وتتجلى بأسمى مظاهرها يوم عاشوراء ، الذي تقام فيها الاحتفالات الحزينة الشاملة وخاصة الحفلة التي تقيمها الجمعية الخيرية الاسلامية العاملية التي يحضرها كبار الشخصيات الرسمية والأهلية في لبنان ، وتلقى فيها الخطب التي يستعرض فيها الخطباء الحادث المؤلم في كربلاء وملابساته ، وما جرى فيه من ظلم وعسف على آل بيت المصطفى صلی اللّه علیه و آله .

وفي سنة 1393 ه- - 1973 م ، قررت الحكومة اللبنانية جعل يوم عاشوراء - اي العاشر من محرم كل سنة - عطله رسمية في جميع أنحاء لبنان ، تعطل فيها جميع الدوائر الرسمية ، والمؤسسات الأهلية ، والأسواق والأعمال. وهذه هي المرة الأولى في تاريخ لبنان تقدم فيه حكومة لبنان على جعل يوم عاشوراء الحسين يوم عطلة رسمية .. كما أفادت الأنباء أن سكان مدينة ( النبطية ) في لبنان التي يقيم الشيعة بصورة خاصة في محرم كل سنة فيها ذكرى مهيبة لمصرع الامام الحسين علیه السلام قد طبروا روؤسهم هذه السنة يوم عاشوراء ، وذلك ضمن شعائر الحزن الذي أقاموه ، والمواكب العزائية التي سيروها في ذلك اليوم الحزين ، وقدر عدد المطبرين (400) رجل.

ص: 51

5 - جاء في الصفحة «25» في كتاب « السيد محسن الأمين ، سيرته » السالف الذكر عند وصفه لدراسته الأولية في بنت جبيل سنة 1301 ه- ووصول الشيخ موسى شرارة اليها من النجف في تلك السنة قوله :

« وأحيا - أي الشيخ موسى - إقامة العزاء لسيد الشهداء ورتب لذلك مجالس على طريقة العراق ».

ثم يستطرد السيد الأمين في الصفحة «26» من الكتاب واصفاً المجالس العزائية التي تقام ليلاً في هذه المدينة اللبنانية لإحياء ذكرى استشهاد الحسين وذلك في العشرة الأولى من محرم كل سنة ويقول :

« وفي اليوم العاشر منه تعطل الأعمال الى ما بعد الظهر ويقرأ مقتل أبي مخنف ثم تزار زيارة عاشوراء ثم يؤتى بالطعام الى المساجد ، وفي الغالب يكون من الهريسة ، فيأتي كل انسان بقدر استطاعته ، فيأكل منه الفقراء ، ويأكل منه قليلاً الأغنياء للبركة ، ويفرق منه على البيوت. كل ذلك تقرباً الى اللّه - تعالى - عن روح الشهيد أبي عبد اللّه الحسين علیه السلام . أما القرى التي ليس فيها نسخة المجالس فيقتصر على قراءة المقتل يوم العاشر ويقرأ منه في ليلتين أو ثلاث قبل ليلة العاشر ، كل ليلة شيئاً - حتى يكون الباقي الى يوم العاشر خاصة بالمقتل وحده. وكانت المجلس التي أنشأها الشيخ موسى على ما فيها من عيوب أصلح بكثير مما تقدمها. وكانت مبدأ الإصلاح لمجالس العزاء الحسيني ... » الخ.

وجاء في الصفحة «73» من الكتاب نفسه عند بحث الأمين موضوع عودته من النجف الى دمشق في شعبان سنة 1319 ه- وإحساسه بلزوم قيامه بالاصلاحات الدينية والاجتماعية فيها قوله :

« 3 - مجالس العزاء - أي العزاء الحسيني - وما يتلى فيها من أحاديث غير صحيحة وما يصنع في المشهد المنسوب الى زينب الصغرى المكناة بأم كلثوم في قرية راوية من ضرب الرؤوس بالسيوف والقامات وبعض الأفعال المستنكرة ،

ص: 52

وقد صار ذلك كالعادة التي يعسر استئصالها ، لا سيما إنها ملبسة بلباس الدين ».

ويستطرد في كلامه ويقول في الصفحة «75» منه : « أما الأمر الثالث وهو اصلاح إقامة العزاء لسيد الشهداء علیه السلام فكان فيه خلل من عدة جهات ».

وبعد أن يفصل الكلام عن أسلوب إصلاح هذا الخلل يقول في الصفحة «77» من الكتاب :

« وكانت هذه الأعمال تعمل في المشهد المنسوب الى السيدة زينب بقرب دمشق .. » الخ.

لقد نقلت هذه النبذ عن الامام الثقة السيد محسن الأمين لتأكيد الدلالة على أن إقامة المأتم الحسيني ومراسمه والنياحة على الامام الحسين علیه السلام كانت مستمرة في دمشق ولم تنقطع منذ سنة «60 ه» التي أتي بالسبايا اليها بعد قتل الحسين علیه السلام في كربلاء كما مر في صدر هذا البحث.

ج - سائر بلدان الجزيرة العربية :

أما في سائر بلدان الجزيرة العربية وأقطارها كاليمن ، الذي كان أهله أول من تشيع لعلي بن أبي طالب وأهل بيته علیهم السلام والحجاز ، وحضر موت ، والكويت ، والبحرين ، ومسقط ، وعمان ، وقطر ، والاحساء ، والقطيف ، وبقية النواحي ، فإنه وإن لم يكن تقام شعائر الحزن على الامام الحسين بصورة موسعة فيها ، كما هي الحالة في العراق ولبنان والأقطار الاسلامية الأخرى ، إلا أن مجالس التعزية التي تنشد فيها المراثي ، وتتلى من على المنابر قصة المجزرة المفجعة في كربلاء ، من قبل خطباء المنابر ، في الحسينيات ومحلات العبادة والدور ، تعقد طوال أيام شهري محرم وصفر ، وخاصة في العشرة الأولى من شهر محرم كل سنة ، من قبل الشيعة فيها. وغالبية هؤلاء الخطباء يفدون على هذه البلدان من العراق وإيران ، وبالأخص على الكويت ، والبحرين ، ومسقط ، وقطر ، وقطيف ، التي تسكنها

ص: 53

جاليات شيعية كبيرة قبل حلول شهر محرم بعدة أيام ، استعدداً للاشتراك في تلك المجالس الحزينة ، وسرد قصة مقتل الامام الشهيد وصحبه وآله. وأما مشاهد السبايا والهوادج ، واللطم ، والضرب على الرؤوس والوجوه والصدور ، فقليلاً ما تبدو للشخص في هذه البلدان ، لو استثنيا يوم عاشورا فقط.

وقد وصف بعض الكتاب وخاصة الافرنج منهم ما شاهده من هذه المشاهد المؤلمة والمظاهر الحزينة ، في كتاباتهم ومذكراتهم ، أنقل منها نبذة على سبيل المثال :

1 - جاء في الصفحة «380» من « موسوعة العتبات المقدسة » الجزء الأول - قسم كربلاء - نقلاً عن الكاتبة الانجليزية « فرايا ستارك » في كتابها « صور بغدادية » عما شاهدته في الكويت من مجالس التعزية التي تقيمها النساء فيها ، بعد أن تصف هذه المجالس ، قولها :

« ويؤخذ الأطفال الايرانيون الموجودون في الكويت الى الملاّ في يوم العاشر من محرم ليمرر تحت ذقونهم امراراً رمزياً سكينته الكبيرة ، دلالة على فروض التضحية والفداء ».

ثم تعقب الكاتبة على ذلك قائلة :

« وهكذا تمر الحقيقة الناصعة من الميثولوجيا الى الديانة الحقة ، ومن الديانة الى التصوف. ومن المفيد أن تجدهم يتمسكون اليوم بهذه الطقوس البسيطة التي تدل على أول يوم فتحنا فيه أعيننا للوجود في هذا العالم ، لئلا ننسى الأخوة الانسانية ».

أما في الأردن وفلسطين وإن لم تسكنها جاليات شيعية تقوم بأداء شعارات الحزن والنياحة على الامام الحسين علیه السلام فيها حسب العرف المتبع عند الشيعة لكن العادة جرت عند الأسر العريقة من مختلف الطوائف الاسلامية منذ عهد بعيد وحتى الآن بالإنفاق على الفقراء والمعوزين يوم العاشر من المحرم « العاشوراء الحسيني » بما يتوفر لديها من الطعام ، كما تطبخ في هذا اليوم طبخة حساء تتألف

ص: 54

من بعض البقولات والحبوب والبصل ثم تعرض على كل عابر للتناول منها ولو قليلاً جداً ، ويفرق منها على البيوت ، والجميع يتناولون ولو ملعقة منها للبركة والثواب ، وكثير من العائلات تعطل أعمالها اليومية في هذا اليوم الحزين ، وتمتنع خاصة عن عملية الغسيل ، منتهجين في ذلك نهج السيدة الجليلة أم سلمة زوجة الرسول الأعظم صلی اللّه علیه و آله حينما نعي اليها الامام الحسين علیه السلام .

* * *

ص: 55

ص: 56

الفصل الخامس والعشرون: النياحة على الحسين علیه السلام في سائر أقطار القارة الاسيوية

الف - في ايران :

أما في ايران فمنذ أن وصلها نبأ الحادث المحزن باستشهاد الامام الحسين علیه السلام وآله وصحبه ، فقد عمت الأحزان الأوساط الايرانية من شعبية ورسمية ، نظراً لأواصر المصاهرة التي ربطت الايرانيين الفرس بأسرة الامام الحسين علیه السلام بتزوجه الأميرة شهربانو « شاهزنان » بنت الملك يزدجرد ، التي ولدت له الامام علي بن الحسين زين العابدين علیه السلام ، مضافاً الى ولاء كبار رجال إيران للامام علي بن أبي طالب وآله وبيته ، كسلمان الفارسي وغيره. ثم تحولت هذه الأحزان بصورة تدريجية الى مناحات ومآتم محدودة في داخل الدور وفي المجتمعات الخاصة ، وتطورت بعد ذلك ، حيث اتسعت دائرتها وأخذت تقام بصورة علنية على شكل إنشاد المراثي ، وذكر واقعة الاستشهاد ، بالاستناد الى المرويات على ألسنة الثقات ، ويحدثنا التاريخ بأن كثيراً من رؤساء قبيلة الأشاعرة وأفخاذها اضطروا الى الهجرة من الكوفة الى اصفهان ثم الى « قم » الحالية وضفاف نهرها للانتجاع ، بعد أن قتل الحجاج بن يوسف الثقفي زعيمهم الأكبر محمد بن سائب الأشعري ، وبعد أن أخذت النكبات تترى عليهم من قبل الحجاج وعمال الأمويين.

ومنذ استقرار هؤلاء المهاجرين التابعين للامام علي علیه السلام وآله في هذه الناحية خلال مدة عشر سنوات - أي من سنة «73 ه» الى سنة «83 ه» - شرعوا

ص: 57

بإقامة أسس بناء مدينة « قم » ونشر العمران فيها ، كما بدأوا فور سكناهم هنا بإقامة المآتم والمناحات في مجتمعاتهم الخاصة ومجالسهم السرية على شهيد الطف علیه السلام خاصة أنهم كانوا قريبي عهد بالفاجعة وتفاصيلها وملابساتها ، مرددين فيها ما جرى على الامام الحسين علیه السلام وآله في مذبحة عاشوراء.

ولقد استمر هؤلاء الأشاعرة الشيعة على إحياء ذكرى الطف الحزينة في يوم عاشوراء من محرم كل سنة وإقامة العزاء فيه ، ثم تناقل الخلف عن السلف هذا التقليد الحزين ، الى أن حلت الآنسة فاطمة بنت الامام موسى بن جعفر علیهماالسلام وأخت الامام علي بن موسى الرضا علیهماالسلام هذه المدينة سنة «201 ه» آتية من مدينة الرسول صلی اللّه علیه و آله وقاصدة أخاها الامام الرضا علیه السلام في مرو بخراسان ، ولكن الأجل لم يمهلها فكانت مدة إقامتها في هذه المدينة «17» يوماً مريضة طريحة الفراش في دار موسى بن الخزرج بن سعد الأشعري ، وبعد وفاتها دفنت في أرض كانت لهذا المضيف الجليل ، وأصبح قبرها روضة فيما بعد وللآن يقصده الميع للزيارة والتبرك وإقامة المأتم الحسيني حوله.

وبعد دفن هذه العلوية العذراء التي اشتهرت ب- « معصومة قم » تعاظمت سلطة الشيعة الأشعريين في هذه الناحية واتسع نطاق إقامة مآتم ذكرى شهيد الطف الحزينة بين مختلف طبقات سكان هذه المدينة وما جاورها من القرى والقصبات.

وهكذا كان الاشاعرة المهاجرون من الكوفة الى هذه الناحية في إيران من الأوائل الذين بذروا بذور التشيع لآل علي علیه السلام فيها ، مستغلين موضوع استشهاد الامام علیه السلام بكربلاء ومقيمين مآتمه وعزاءه ومجالس النياحة عليه.

أما في مرو بخراسان فعلى عهد الامام الثامن علي بن موسى الرضا علیهماالسلام الذي بدأ منذ أخريات القرن الثاني وأوائل القرن الثالث الهجري ، فقد تعززت نهضة إقامة المآتم والمناحات واحياء ذكرى استشهاد الحسين علیه السلام ، بالأخص وأن

ص: 58

سياسة المأمون العباسي كانت تميل الى مسايرة العلويين وإطلاق الحرية لهم في إقامة شعائر الحزن والعزاء على الامام الشهيد. وقد مر ذكر تفصيل ذلك في الفصل الخاص بالمناحة على عهد الامام الرضا وابنه الامام محمد التقي علیهماالسلام .

وبعد استشهاد الامام علي بن موسى الرضا علیهماالسلام في طوس تبلورت حركة إقامة المناحات وحفلات العزاء على الامام الشهيد في إيران ، وتطورت بتطور سياسة الحكومات التي كانت تتولى السلطة في أنحاء إيران ومناطقها المختلفة بين القوة والضعف. فكانت هذه الحركة تسير سيرها المدي في بعض الاصقاع التي كانت تحكمها السلطة الموالية لآل بيت النبي صلی اللّه علیه و آله ، كالامراء البويهيين ، وتسير سيرها الجزري في الأقاليم الأخرى التي تتولى السلطة فيها حكومة تعادي العلويين وتناهضهم ، وقد استمرت هذه الحالة الى أن استولى على الحكم في إيران الملوك الصفويون ، الذين استطاعوا أن ينشئوا في إيران حكومة مركزية تسيطر على جميع الأقاليم الايرانية ، وأن يوجدوا في هذه البلاد وحدة متماسكة تحكمها حكومة مركزية قوية واحدة ، هي الدولة الصفوية.

وقد اهتم ملوك هذه الدولة الشيعية اهتماماً عظيماً بالعزاء الحسيني ومأتمه في داخل البيوت وخارجها ، وفي المساجد ، والتكايا ، والمعابد ، والأسواق ، والشوارع ، والساحات العامة ، وحتى في البلاط ودوائر الدولة ، كما تنوعت وتشعبت اساليب هذه المناحات وعمت جميع طبقات الشعب ، وأصبحت تقاليد متأصلة في النفوس ، كما أن الحكومات التي خلفت الدولة الصفوية في إيران كالأفشارية والزندية سارت على نفس نهج تلك الدولة ، في إحياء هذه الذكرى الحزينة ، وإقامة شعائرها ومتابعة تقاليدها. وخاصة على عهد الملوك القاجاريين وحتى الوقت الحاضر.

وأدرج فيما يلي بعض ما عثرت عليه في بطون الكتب والأسفار عما تقدم ذكره في هذا الأمر :

ص: 59

1 - جاء في كتاب « الشيعة والتشيع » للسيد أحمد الكسروي ما نصه :

« فمن الواضح أن الشيعة قد رجوا من ذكر مصاب الحسين والنوح عليه فوائد لهم ، والظاهر من أقوال المؤرخين أن إقامة شعائر المأتم ، وإحياء ذكرى مصائب آل علي علیهم السلام وإنشاد المراثي وإقامة العزاء على الحسين ، قد راجت في ايران لأول مرة على أيدي البويهيين ، وأن أحمد معز الدولة رحل من إيران الى بغداد سنة 334 وأعلن المذهب الشيعي فيها رسمياً ».

2 - وجاء في الصفحة «87» من الكتاب نفسه ما نصه :

« ثم لما قام الصفويون في إيران أشاعوا المناحة بين الايرانيين ؛ فأقبل العامة عليها إقبالاً عاماً ، وكبرت وظهرت فيها أعمال ضرب الجسد بالسلاسل ، وجرح الرأس ، وإقفال البدن ، وغير ذلك مما لا حاجة الى عدها ... » الخ.

3 - وجاء في الصفحة «88» منه ما عبارته :

ففي أيام القاجاريين في إيران كانت إقامة المأتم والاحتفال بمصاب الحسين شغلاً شاغلاً للشيعة ، يقضون نصفاً من ساعاتهم فيها ، وكان الناس يزيدهم إقبال عليها ما كانوا يسمعون من الاحاديث في فضل البكاء ، فقد روي عن أئمة الشيعة أنه : « من بكى أو أبكى أو تباكى وجبت له الجنة » فمن المسلّم عند الشيعة أن البكاء على الحسين من أفضل العبادات ، وأن من بكى عليه غفر اللّه ذنوبه ولو كانت عدد الرمال ... » الخ.

4 - ولقد سمعت من بعض المعمرين الذين أدركوا عهد قيام الملك ناصر الدين شاه ، كبير ملوك السلسلة القاجارية ، في زيارته. للعتبات المقدسة في العراق ، سنة 1287 ه- ، أنه حينما كان يزور مشهد الامام الحسين علیه السلام وهو عند ضريحه المطهر ، إذ خطب أمامه أحد خطباء المنبر الحسيني خطبة مؤثرة جداً عن الفجيعة الحسينية ، وتطرق أثناء كلامه الى كلمة يقال انها بدرت يوم عاشوراء من الامام الحسين علیه السلام في أحرج ساعاته ، وهي : « هل من ناصر ينصرني؟ » فقال الخطيب

ص: 60

صارخاً : أن ناصرك قد أتى ، وهو الآن بين يديك لينصرك فضج الجميع بالبكاء ، وكان نحيب ناصر الدين شاه وبكاؤه أعظم منهم وأنه رفع تاجه من رأسه وألقاه بحرارة أمام الضريح من شدة التأثير.

5 - جاء في الصفحة «220» من كتاب « جولة في ربوع الشرق الأدنى » لمؤلفه محمد ثابت المصري ، المطبوع في القاهرة سنة «1934 م» ، عند زيارته لمدينة مشهد الرضا في إيران وهي حاضرت اقليم خراسان ما نصه :

« أما شهرا محرم وصفر فأيام حداد ، لا يدار فيها لهو ولا موسيقى ، ويحيون 2 لياليها بجلسات الحداد ، يستمعون لقصص علي والحسين وهم يبكون. وغالب البيوت تراعي ذلك ليلة الجمعة من كل أسبوع حتى في غير هذين الشهرين ، وفي يوم عاشوراء - العاشر من المحرم - تقام حفلات في البلاد كلها لمأساة الحسين ».

ويستطرد الكاتب فيقول :

« خرجت من حرم الامام الرضا الى الفناء واذا في كل ركن من أركانه عالم - خطيب - يرتقي منبراً وحوله خلق كثير جلوس على الأرض في وجوم وشبه ذهول ، وهو يقص عليهم أنباء علي والحسن والحسين والأسرة الشريفة كلها ، وجميعهم يبكون ، وكلما أشار في قوله الى الفاجعة صاحوا عالياً ولطموا جباههم ، وخدودهم في قرقعة مؤلمة ، ومنهم الطفل ، والمراهق ، والسيد ، والعجوز ،والكهل الفاني والمثقف ، والأمي الجاهل ، وكنت أعجب لسيل دموعهم وبكائهم المر. وذلك الوعظ وقراءة المقتل يظل طوال اليوم في جميع أركان الأفنية ... » الخ.

ويواصل الكاتب كلامه فيقول :

« وبعد صلاة الغروب أخذ العلماء يقصون على الناس نبأ فاجعة علي والحسين ، والجماهير حولهم ».

6 - جاء في الصفحة «207» من كتاب « تاريخ خلفاي فاطمى » باللغة الفارسية ، تأليف المرحوم عبد الرحمن سيف آزاد ، ضمن البحث عن أجداد آقا

ص: 61

خان الاسماعيلي ، وانتقالهم بعد استيلاء هولاكوا المغولي على قلعة « الموت » قرب قزوين في ايران مركزهم الأصلي الى قرية « انجيدان » من قرى مدينة « أراك » بوسط ايران ، ما ترجمته :

« من الآثار القيمة التي لا زالت قائمة في الحسينية العائدة للشاه خليل الأول في انجيدان - انگيدان بالكاف الفارسية - والتي يحافظ عليها سكان هذه الناحية حتى الآن بكل احترام وتكريم ، هو تمثال نخلة كبيرة جداً وصلبة ، مصنوعة من مادة رخامية ، يرفعها سكان انجيدان في كل سنة أيام عاشوراء وفي مواسم إقامة العزاء الحسيني على أيديهم وفي مقدمة الأعلام والجهازات الأخرى العائدة لسائر القرى ، والسير بهذه النخلة ، يتبعهم الألوف من المشتركين في مراسم العزاء بكل إخلاص وحزن في مختلف القرى حتى يصلوا الى القرب من مدينة « اراك » ، وفي ضواحيها يتبرك الجميع بها بكل احترام وتعظيم. وبعد الانتهاء من مراسم العزاء خلال عشرة عاشوراء تعاد النخلة الى مكانها في حسينية الشاه خليل الأول للحفظ ».

7 - لقد ذكرت الصحف الطهرانية بمناسبة إقامة العزاء الحسيني في مدينة مشهد في العشرة الأولى من محرم ، سنة 1392 ه- ، ما ترجمته :

« إنه لأول مرة في تاريخ ايران تفد على مدينة مشهد أول جماعة منظمة بمواكبها الحزينة ، ومؤلفة من نخبة نساء مدينة بروجود ، تشكل السبايا والمواكب الحسينية وتسير في شوارع مدينة مشهد وفي أفنية صحن الامام الرضا علیه السلام ، على غرار مواكب الرجال ، وتنشد الأهازيج الحزينة وترثي الامام الشهيد وتضرب على الصدور وتنفش الشعور وهي مجللة بالسواد ».

8 - جاء في الصفحة «370» من « موسوعة العتبات المقدسة » قسم كربلاء نقلاً عن كتاب « تاريخ ايران » باللغة الانجليزية ، لمؤلفه السر برسي سايكس ، عن مجزرة كربلاء بعد بيان الحادث المفجع مفصلاً ، ما نصه :

ص: 62

« إن هذه الفاجعة كانت أساساً لتمثيل المسرحية الأليمة سنوياً ، ليس في ايران التي تعتبر العقيدة الشيعية مذهباً رسميا فيها فقط ، بل في كثير من البلاد الآسيوية التي يتيسر فيها وجود المسلمين الشيعة أيضاً. وقد شاهدت هذه المأساة تمثل أمامي مرات عديدة في ايران ، ولذلك يمكنني أن أعترف وأقر بأن الاستماع الى ولولة النساء الصارخة ، ومشاهدة الحزن الذي يغشى الرجال كلهم ، يؤثر تاثيراً عميقاً في المرء بحيث لا يسعه إلا أن يصب نقمته على الشمر ويزيد بن معاوية ، بقدر ما يصبه سائر الناس الحاضرين. والحقيقة أن هذه المسرحية الأليمة تدل على قوة عاطفية جامحة تمتلئ بالحزن والأسى الذي لا يمكن أن تقدر بسهولة ، وأن المناظر التي شهدتها بأم عيني ستبقى غير منسية في مخيلتي ما دمت في قيد الحياة ».

9 - وجاء في الصفحة «7» من مجلة « نامه استان قدس رضوي » العدد المؤرخ 1391 ه- ، وهي المجلة التي تصدرها باللغة الفارسية سدانة مشهد الامام الرضا في خراسان ، ضمن مقال طويل ما ترجمته :

« كان البويهيون من الشيعة المخلصين وقد بذلوا جهدهم من الصميم لنشر المذهب الشيعي واشاعة أحكامه ومبادئه. وقد نقل المؤرخون أن إقامة شعائر المأتم الحسيني وإحياء ذكرى مصائب آل علي علیهم السلام وإنشاد المراثي وإقامة العزاء على الحسين الشهيد قد راجت رواجاً عاماً في إيران لأول مرة على عهد البويهيين ، كما أن أحمد معز الدولة رحل من ايران الى بغداد سنة «334 ه» وأعلن المذهب الشيعي فيها رسمياً ، وأمر بلعن معاوية على المنابر في بغداد ، كما أمر سنة «352 ه» بإقامة الحداد على الحسين يوم عاشوراء وغلق الحوانيت والأسواق فيه ، ولبس الناس في هذه اليوم السواد وناحت النسوة فيه على الحسين مشعثات الشعر ».

ص: 63

ب - في تركية :

وفي الصقع التركي الذي كان يحكمه العثمانيون الى ختام الحرب العالمية الأولى ، ثم الحكومة الجمهورية التركية العلمانية الحالية ، فأينما وجد أفراد من الشيعة وجدت معهم هذه المآتم والنياحات على الامام الحسين وآله وصحبه ، وان كانت على صورة مصغرة وفي البيوت.

وقد نقل لي بعض زوار العتبات المقدسة في العراق من الأتراك ، من سكان القسم الشرقي من الأناضول ، عند مرورهم عبر طهران الى العراق لأداء مراسم زيارة مشاهد الأئمة علیهم السلام في كربلاء والنجف والكاظمية وسامراء ، وهم في الغالب من المزارعين في تلك المناطق التركية النائية المحاذية لآذربيجان الايرانية ، نقلوا بأنهم يقيمون المآتم والنياحات على الامام الشهيد في بعض أيام الأسبوع طيلة السنة ، في الدور وفي مجالس خاصة يشترك فيها من يكون حاضراً ، ويلقي فيها خطيب المنبر الحسيني ما يناسب المقام والمجلس ، من مآثر الامام الحسين علیه السلام وسائر الأئمة الاثني عشر ، ويختم كلامه ببيان نبذة عن مجزرة كربلاء واستشهاد آل بيت النبي فيها. أما في العشرة الأولى من محرم ، ولا سيما في يومي تاسوعاء وعاشوراء ، وفي يوم العشرين من شهر صفر « الأربعين » ولياليها ، فتقام المناحات بتفصيل في مختلف الأماكن والقرى هناك ، ويتلى المقتل ويشترك الرجال والنساء والشيوخ والشباب وغيرهم بإحياء هذه الذكريات الحزينة ، وحتى أن كثيراً من أبناء السنة يشتركون مع الشيعة في هذه المراسيم والشعارات الحزينة.

وأضاف ذلك الزائر : بأن الشيعة في هذه المناطق التركية ، ولا سيما الصوفية منهم على الطريقة البكتاشية التي تميل الى الشيعة ، ينتظرون سنتهم ويعدون أيامها ولياليها ، مغتنمين فرصة حلول شهري محرم وصفر ليعدوا العدة فيهما للسفر الى العراق عن طريق ايران لاداء فروض زيارة أضرحة ائمتهم علیهم السلام في العتبات

ص: 64

المقدسة ، والاشتراك في مراسيم العزاء التي تقام في هذه العتبات ، وخاصة في كربلاء ، وبذلك يكونون قد أدوا واجباً دينياً ، ورفعوا حملاً عن كاهلهم. وأما سبب زيارتهم لهذه العتبات عن طريق ايران ، فهو رغبتهم في انتهاز الفرصة لزيارة ضريح الامام الثامن علي بن موسى الرضا علیهماالسلام في مشهد « خراسان » وهم في طريقهم الى العراق.

وختم الزائر المذكور كلامه هذا بقوله : إن سكان هذه المناطق الشرقية من الأناضول ، السائرين على مذهب الشيعة ، هم من بقايا الأتراك الآذربيجانيين ، ممن اضطرتهم ظروف الحروب المتوالية بين الايرانيين والعثمانيين في القرون الماضية الى الهجرة من آذربيجان الايرانية الى الأناضول التركية.

وفيما يلي أدرج النبذة التالية عن النياحة في تركيا :

1 - جاء في الصفحة «198» من كتاب « المجالس السنية في ذكرى مصائب العترة النبوية » المار ذكره ، نقلاً عن رسالة للدكتور « ماربين » الألماني في فلسفة نهضة الحسين وثورته الكبرى ومأتمه ، مما يدل على إقامة النياحات على الإمام الشهيد في تركيا قوله :

« حضرت مجالس إقامة العزاء على الحسين علیه السلام مراراً في إسطانبول ، مع مترجم خاص ، فسمعتهم يقولون : الحسين الذي هو إمامنا ومقتدانا ، وطاعته وإتباعه واجبان علينا ، لم يتحمل الضيم ، ولم يدخل في طاعة يزيد ؛ ولأجل حفظ شرفه وعلو حسبه وارتفاع مقامه ، بذل نفسه ، بذل أولاده ، بذل عياله ، واستعاض عن ذلك بحسن الذكر في الدنيا والشفاعة في الآخرة والتقرب من اللّه ، وقد خسر أعداؤه الدنيا والآخرة ... » الخ.

وكانت مجالس النياحة والعزاء على الحسين الشهيد تقام أيضاً في اسطنبول ، خاصة في يوم عاشوراء من كل سنة من قبل الجاليات الشيعية المقيمة في هذه المدينة الكبرى ، ويحضرها أحياناً جماعات من السنة ولا سيما الرجال الرسميون ،

ص: 65

مواساة منهم للجاليات الشيعية.

ج - في الأفغانستان :

أما في بلاد الافغان فحيث أن الجالية الشيعية كثيرة العدد فيها وتناهز الملليوني نسمة تقريباً ، وهي من ذرية أولئك الخراسانيين الموالين لآل الرسول صلی اللّه علیه و آله الذين هاجروا من طوس وسائر مدن خراسان الى أفغانستان واستوطنوا مدنها ، ولا سيما مدن قندهار ، وهراة ، وبشاور ، وكابل ، ومزار شريف ، وجلال آباد وغيرها ، وذلك بعد استشهاد الامام الرضا علیه السلام في مدينة طوس سنة 203 ه- ، وضغط الحكومات السنية التي توالت على الحكم في خراسان وما جاورها من البلدان عليهم. فأن هؤلاء قد بقوا متمسكين بموالاتهم لآل البيت علیهم السلام ، واستمروا على ما كان قد اعتاد عليه آباؤهم وأجدادهم من إحياء ذكرى فجيعة كربلاء ومجزرة الطف ، وقد اتسع نطاق هذه الذكرى وإقامة مجالس العزاء ومجتمعات النياحة على الحسين فيها سراً وعلناً بمرور الزمن حتى اصبح من أهم تقاليد الشيعة في افعانستان خاصة على عهد إمارة طاهر الشيعية في هراة ، وبعض وزراء الشيعة من افغانستان. وكانت ولم تزل هذه المجالس العزائية تقام في المدن الأفغانية الرئيسية التي تسكنها الاسر الشيعية ، وبالأخص المدن والقرى والدساكر التي تقع على الحدود الأيرانية وحتى أن في بعض البلدان أنشئت الحسينيات وأقيمت المزارات خصيصاً لإقامة مجالس العزاء الحسيني ومواكب الحزن فيها.

ومنها : « مزار شريف » المقام في قرية خيران من قرى مدينة « بلخ » ، ذلك المزار الذي يدّعي الأفغانيون أنه مثوى جسد الامام علي بن أبي طالب علیه السلام حيث نقل من النجف بعد مرور ما يقرب من قرن على مدفنه فيها الى هذه القرية. وتقام في ساحة هذا المزار والتكية المجاورة له أيام العشرة الأولى من المحرم كل سنة

ص: 66

النياحات ومجالس العزاء ومواكب الحزن على الامام الحسين علیه السلام ويشترك فيها أبناء السنة أيضاً.

ومن أكبر ملوك الأفغان الذي كان يشجع العزاء الحسيني فيها الملك محمود ، الذي كان يميل الى الشيعة ، وعاش في القرن الثالث عشر الهجري.

وقد وقع بيدي قبل أكثر من ربع قرن ، الجزء الأول من كتاب باللغة الفارسية مطبوع في كابل ، باسم : « تاريخ مزار شريف واقع در بلخ » أي « تاريخ مزار شريف الواقع في بلخ » لمؤلفه السيد حافظ نور محمد ، وهو من القطع الكبير ، ويقع في «105» صفحة ، ويتضمن تفاصيل عن كيفية نقل رفات الامام علي بن أبي طالب الى القرية المذكروة - كما يدعى - ومعتقدات الأفغانيين عموماً في ذلك ، وتبركهم بهذا المزار ، وذكر الموقوفات الجسيمة التي أوقفت من قبل السلاطين والعظماء والسراة والأثرياء عليه. وفي بعض صفحات هذا الكتاب المزود بتصاوير كثيرة عن قباب ومآذن وضريح المزار المذكورة ذكر عما تقام في أرجائه وأفنائه من مجالس الذكر والدعاء ، ومنها مجالس العزاء على الامام الحسين علیه السلام .

وقد صدرت الصفحة الأولى وكذا غلاف الكتاب بالحديث النبوي الشريف : « أنا مدينة العلم وعلي بابها ».

وتكملة للبحث عن النياحة على الامام الحسين في البلاد الأفغانية أنقل تالياً ما ذكره السيد جمال الدين الأسد آبادي المشتهر بالأفغاني في كتابه « تتمة البيان في تاريخ الأفغان » المطبوع سنة 1901 م - 1318 ه- في القاهرة عن الشيعة في أفغانستان وتقاليدهم وشؤونهم وإقامتهم العزاء الحسيني في هذه البلاد :

1 - فقد جاء في الصفحة «150» منه ما نصه :

« وجميع الأفغانيين سنيون ، متمذهبون بمذهب أبي حنيفة لا يتساهلون - رجالاً ونساءً ، وحضريين وبدويين - في الصلاة والصوم ، سوى طائفة « نوري » ، فإنهم متوغلون في التشيع ولهم محاربات شديدة مع جيرانهم السنيين ، ويهتمون

ص: 67

بأمر مأتم الحسين في العشرة الأولى من محرم ، ويضربون ظهورهم وأكتافهم بالسلاسل مكشوفة ».

ويستطرد الكاتب في الصفحة «152» ويقول :

« والأفغانيون مع شدة تعصبهم للدين والمذهب والجنس لا يعارضون غيرهم في حقوقهم ، ولا يتحاشون عن أن يروا شيعياً أو غير مسلم يقيم مراسم دينه ومذهبه ، ولا يمنعون المستحقين منها من نيل المراتب العالية في حكومتهم. فإنك ترى أرباب المناصب في البلاد الأفغانية من الشيعيين « القزل باش ».

وفي الصفحة «165» منه ، عندما يبحث السيد جمال الدين عن القبائل الأفغانية ، ويتطرق الى قبيلة « هزاره » ، يقول :

« وهذه القبيلة على مذهب الشيعة ، إلا فصيلة شيخ علي والجمشيدي. لكنها ليست على شيء من هذا المذهب إلا بغض الخلفاء ، ومحبة علي ، وإقامة مأتم ابنه في عاشوراء ، بضرب السلاسل على الصدور والظهور ، ولا يتقي آحاد هذه القبيلة إظهار مذهبهم ، مع أن التقية من واجبات مذهب الشيعة ، حتى لو سئل أحدهم عن مذهبه لقال بغلو وبدون مبالاة : إني « عبد علي » ولهم زيادة اعتصام بمذهبهم هذا ». ومما يحسن سرده هنا : أن سنياًعرض التسنن على جارية من الشيعة كانت عنده فأبت ، فعزرها وزجرها وألح عليها ، فاستشاطت غيظاً وقالت : « أهون علي أن أكون كلبة ولا أكون سنية ».

وفي الصفحة «170» من الكتاب يذكر المؤلف ما عبارته :

« ومن الطوائف الموجودة في البلاد الأفغانية طائفة الشرفاء « أولاد علي بن أبي طالب » ويلقبون في تلك البلاد بالسيد. وبعض من هذه الطائفة يسكن في « بشنك » من نواحي قندهار ، وبعض منها يسكن ولاية « كنر » الواقعة قرب جلال آباد. ولم يخل شرفاء « كنر » من الكبرياء والعظمة من عهد « بابر شاه » الى يومنا هذا. وللأفغانيين عموماً مزيد اعتقاد بهذه الطائفة. وأما عاداتهم وأخلاقهم

ص: 68

وملابسهم فتماثل عادات الأفغانيين وأخلاقهم وملابسهم ».

ويستطرد الكاتب الجليل كلامه في الصفحة «171» من الكتاب بالتطرق الى طائفة « قزل باش » التي جاءت الى الأفغان مع الملك نادر شاه الايراني ، حين استولى على هذه البلاد ، وهي من أصل ايراني ، ويسكن أفرادها الآن كابل ، وغزنة ، وقندهار ، ويقول :

« وأفراد هذه الطائفة كلهم من الشيعة ، يقيمون مأتم الحسين بن علي بن أبي طالب ، في العشر الأول من محرم ».

ويصف الكاتب أفراد هذه الطائفة بقوله :

« ولهم حذق في الآداب والصنائع والاعمال الديوانية ، ومن أجل ذلك ترى أن المتوظفين في الادارة الملكية الافغانية منهم ، وغالب الامراء يختارونهم لتربية أولادهم ولتعليمهم الأدب والشعر ، ويمتازون بالذكاء والفطنة والنظافة عن بقية سكان البلاد الأفغانية ، ويتصفون بالشجاعة والاقدام ... » الخ.

هذا والأفغانيون الشيعة يقومون بالسفر الى ايران والعراق والحجاز طول السنة ؛ لأداء مراسم زيارة أضرحة الأئمة الاثني عشر في هذه البلدان الثلاثة ، ويزداد عددهم لزيارة العراق عن طريق خراسان بإيران في العشرة الأولى من محرم كل سنة لغرض الاشتراك في شعارات النياحة بكربلاء أيام عاشوراء.

وقد تناقلت الأخبار بأنه لأول مرة في العصر الحديث قام ولي عهد أفغانستان ، ورئيس وزارئها ، وسائر كبار رجال الأفغان الرسميين ، فاشتركوا في حفلات مراسم العزاء التي أقيمت في محرم سنة «1393 ه» في كابل ، من قبل الجالية الشيعية.

د - في تركستان والقفقاز والتبت والصين :

وفي كل من القفقاز وتركستان والصين والتبت وغيرها من البلدان

ص: 69

الآسيوية التي يستوطنها المسلمون ، حيث ان الجالية الشيعية فيها قلة ضئيلة ، فإن شعائر الحزن ومراسم العزاء ومواكبها على الامام الحسين علیه السلام كانت وما زالت تقام فيها في حدود ضيقة جداً ، ولا تتجاوز إقامتها الدور وبعض الحسينيات والمزارات والمساجد.

ففي القفقاز التي كانت حتى قبل 100 سنة تحت الحكم الايراني ، ولا سيما في مدنها المعرة بأكثرية المسلمين فيها ، كنخجوان ، وإيروان ، وباكو ، وتفليس وغيرها ، كانت المناحات ومجالس العزاء ومواكبها تقام فيها بكثرة ، أيام محرم وصفر من كل سنة ، ولا سيما العشرة الأولى من محرم ، وبالأخص يومي تاسوعاء وعاشوراء على غرار ما كان متبعاً في جارة القفقاز الجنوبية ، أي منطقة آذربيجان الايرانية ، ولكن على نطاق أضيق. وقد انتشر أمر تقليد إقامة هذه المراسم العزائية في القفقاز منذ القرون الوسطى ، أي بعد استيلاء إيران عليها.

واستمرت الشيعة في القفقاز على عهد الحكم القيصري بإقامة هذه المناحات حتى انقلاب اكتوبر «1917 م». والقادمون من القفقاز الآن يقولون : إن مجالس العزاء والنوح على الامام الحسين علیه السلام ما زالت تقام في بعض البيوتات الشيعية في نخجوان وباكو ، ولكن تحت الستار وبخفاء تام ي نطاق ضيق جداً.

وفي تركستان وخاصة في مدنها الهامة ، مثل : خيوه ، ومرو ، وعشق آباد ، وسمرقند ، وطشقند ، وبخارى التي لا زالت بعض الجاليات من بقايا الشيعة مستوطنة فيها ، فإن وضع إقامة شعارات العزاء على الحسين علیه السلام لا تختلف كثيراً عن القفقاز ، وإن العائلات الشيعية التي قد لا يتجاوز عددها المئة عائلة في جميع تلك الأصقاع في الوقت الحاضر تقيم مجالس العزاء هذه في دورها بخفاء وخوف ووجل.

وقد انتقلت تقاليد إقامة هذه المراسم العزائية الى تركستان من إقليم خراسان الواقع بجنوبها منذ أوائل القرن الثالث الهجري ، عندما اضطر بعض

ص: 70

أهالي طوس من موالي آل البيت النبوي صلی اللّه علیه و آله الى الهجرة الى بخارى وخيوة ونواحي المتاخمة لها والاستيطان فيها.

ولا زالت آثار بعض الحسينيات التي كانت تقام فيها مجالس العزاء ظاهرة للعيان في مدن تركستان والقفقاز ، مما يدل على أن شعارات إقامة النياحات ومواكب العزاء على الامام الحسين علیه السلام كانت متداولة في تلك الأصقاع حتى انقراض العهد القيصري في روسيا.

أما في إقليم التبت في جنوب الصين فإن ظروف بعض الأسر الشيعية في بلاد الأفغان قد اضطرتها في أواخر القرون الوسطى الى الهجرة اليها والاستيطان فيها ، وإن هذه الأسر بحكم عقيدتها في موالاة آل البيت النبوي علیهم السلام أخذت تقيم مجالس العزاء هذه على الامام الحسين علیه السلام في دورها ، وتعطل أعمالها يومي تاسوعاء وعاشوراء من شهر محرم في كل سنة.

وقد نقل لي بعض طلبة الدين في كربلاء والنجف الذين كانوا يتلقون العلوم الدينية فيهما ، والمنتقلين اليهما من بلادهم « التبت » : بأن أسرهم لا زالت تقيم النياحات ومجالس العزاء على الامام الحسين تحت الخفاء التام ، حيث يجتمع أفراد هذه الأسر الشيعية في دار أحدهم ، ويلقي عليهم خطيب المنبر الحسيني أو أحدهم تفاصيل مجزرة كربلاء حسب ما هو متداول في العتبات المقدسة ، ويجري في هذه المجالس ما يجري في سائر الأقطار الاسلامية ، من البذل والانفاق ، وسكب الدموع ، والنياح ، والبكاء ، والعويل ، والضرب على الصدور ، واللطم على الرؤوس ، والجيوب ، الى غير ذلك من مراسيم العزاء.

أما في بلاد الصين الشاسعة الأرجاء فتقيم الجاليات الشيعية فيها في العشرة الأولى من محرم ، وبالأخص يوم عاشوراء العزاء الحسيني ومأتمه في دورها تحت الستار ، على غرار ما يفعله الشيعة في صقع التبت ، إذ المعروف أن أكثر شيعة الصين قد انتقلوا اليها في الثلاثة أعصر الأخيرة من تركستان وبلاد الأفغان ، عبر صقع

ص: 71

التبت.

وقد رأيت ضمن بعض الاحصائيات عن عدد المسلمين في الصين بعد الحرب العالمية الأولى : أن عدد الشيعة الذين يستوطنون البلاد الصينية لا يتجاوز العشرة آلاف نسمة. وهؤلاء رغم قلتهم الضئيلة متمسكون بتقاليد مذهبهم وطقوسه ، ومنها إحياء ذكرى مجزرة كربلاء واستشهاد الامام الحسين وآله وصحبه فيها ، وإقامة المأتم الحسيني وعزائه أيام عاشوراء ، في دورهم ، وفي مجالسهم ومجتمعاتهم الخاصة ، والانفاق فيها.

ه- - في شبه القارة الهندية :

أما في شبه القارة الهندية - أعني الهند والباكستان - فقد اعتاد سكانها على اختلاف مللهم ونحلهم ، وخاصة المسلمين منهم على إقامة المأتم على الامام الحسين علیه السلام وبذل النفس والنفيس في هذا السبيل منذ أن تسربت أخبار هذه الفاجعة في أواخر القرن الأول الهجري الى تلك الأصقاع ، وأنباء إقامة هذه المهرجانات الحزينة في الهند والباكستان متوفرة منذ أكثر من إثني عشر قرناً ، وقد طفحت الكتب والصحف بذلك ، مما يدل على اهتمام المسلمين وخاصة الشيعة منهم في أنحاء شبه القارة الهندية بهذه المناحات ، وبإقامة المآتم والتعازي ، وتسيير السبايا والهوادج ، وتشكيل مجالس العزاء واجتماعات الحزن في شهري محرم وصفر من كل عام ، ولا سيما في العشرة الاولى من محرم على الامام الحسين وآله وصحبه « رضوان اللّه عليهم ».

هذا وقد تأثر الهندوس والأقوام الهندية الأخرى غير المسلمة بمشاهد هذه المآتم والنياحات وحفلات الحزن ، فسايروا المسلمين فيها ، وأصبحت لديهم من العادات والتقاليد المتمسكين بها في هذين الشهرين ، وحتى أن في بعض المدن والمناطق الهندية أنشأ الهندوس ا لمباني والعمارات وأوقفوها على الامام

ص: 72

الحسين علیه السلام ومناحاته ، وأطلقوا عليها اسم ( الحسينية ) تأسياً بالمسلمين. ويقيمون فيها شعائر الحزن والأسى والمأتم ، وأصبح اسم الحسين علیه السلام لديهم من الأسماء التي يتبركون بها ويقدسونها ، ولا يذكرون هذا الاسم إلا بكل احترام وتعظيم وتجليل.

وأدرج فيما يلي ما توصلت الى العثور عليه من وصف لهذه المناحات في شبه القارة الهندية :

1 - وصف العلامة السيد عبد اللطيف الموسوي الشوشتري (1) في الصفحات المختلفة من مؤلفه القيم « تحفة العالم » باللغة الفارسية عند شرح تجوالة في مختلف أنحاء الهند ، وصف هذه المناحات وإقامة المآتم على الامام الحسين علیه السلام وصفاً دقيقاً ، أقتبس منه نبذاً تلائم بحثي في هذه الرسالة ، مترجماً إياها منه :

« نياح الهنود في دكن - حيدر آباد - : والغريب في هذه المدينة إنه على الرغم من عدم الشعور بالاسلامية فيها ، فان العظماء والأثرياء والهنود فيها يقيمون المآتم العظيمة على الامام الحسين علیه السلام في أماكنها الخاصة. فانهم فور رؤيتهم هلال شهر الأحزان يلبس الجميع لباس الحداد والحزن ، ويلقون جانباً الملذات ولذائذ الحياة ، ومعظمهم يتركون نهائياً تناول المأكولات والمشروبات اللذيذة. وحتى أن بعضهم لا يدعون الطعام يمر في حلقومهم خلال مدة الأيام العشرة الأولى من المحرم ، ويقضون ليلهم ونهارهم في هذه الأيام بترديد النياحات وقراءة المراثي ، باللغات الهندوسية ، أو الفارسية ، كما أن كل إنسان منهم يقوم بأطعام الفقراء والبذل على المساكين ، كل حسب طاقته ، ثم يوزعون ماء الورد بالمجان ، ويسبلونه على المارة في كل زاوية من زوايا الأسواق والشوارع والأزقة ، ويصنعون التماثيل من الخشب أو الورق على شكل الأضرحة المقدسة ، ويمرون أمامها. وبعد انقضاء العشرة الأولى من المحرم يلقون بهذه التماثيل إما في

ص: 73


1- هو العلامة السيد عبد اللطيف بن أبي طالب بن نور الدين بن نعمة اللّه الحسيني الموسوي الجزائري المولود سنة 1172 ه- في ايران. والمتوفى حوالي سنة 1219 ه- في الهند.

الأنهر أو يدفنونها في أماكن معينة من الأرض ، ويطلقون عليها اسم « كربلاء » ، أما في لكنهو ، وبنغاله ، وبنارس التي هي من بلاد الكفر أيضاً فقد شاهدت المشاهد والمناظر المذكورة بأم عيني. والغريب أن المسلمين في بنغاله وبقية المناطق الآهلة بهم يقلدون الهنادكة في تلك الحركات والشعائر ، فهم لا يتناولون الطعام ، ولا يشربون الماء ، أو يقتصرون منهما على أقل ما يمكن ، وفي مجالس المآتم ومجتمعات النياحات يبقون واجمين ، والفريقان يتسابقان في تعذيب الجسد في هذه العشرة الحزينة ، ويخدشون الوجوه ، ويجرحون الصدور ، ويكدمون الرؤوس ويعذبون البدن بالضرب واللطم تعذيباً يفقدون معه وعيهم.

أما في حيدر آباد دكن ، فان المسلمين والهندوس يقومون بحركات ما أنزل اللّه بها من سلطان ، مما لا يستطيع العقل أن يتصورها ، فإن كثيراً من أعزة القوم هناك يقيدون أيديهم وأرجلهم بالسلاسل الحديدية ، ويلقون على عواتقهم مثل هذه السلاسل ، ويقوم رجال من خدمهم بالقبض على رؤوس هذه السلاسل ويسحبون أصحابها كالأسرى والعبيد في مجالس العزاء ومجتمعات النياحة ، وهؤلاء يتمرغلون على الأرض كالبؤساء ، متملقين ومستعطفين ... » الخ.

2 - وجاء في الكتاب نفسه وصف للمأتم الذي يقيمه أحد راجات الهند المعروفين « آصف الدولة » في إحياء ذكرى الامام الحسين علیه السلام ما ترجمته :

« لقد أنشأ آصف الدولة ، ولاءً منه للأئمة الأطهار علیهم السلام ، مقراً عظيماً لإقامة العزاء الحسيني ومسجداً فخماً ، بالقرب من داره وقد أنفق على بنائهما وتزيينهما مبالغ طائلة جداً ، كل ذلك في سبيل إحياء ذكرى استشهاد الامام الحسين علیه السلام وإقامة النياحة عليه ، وقد قيل : إنه لم يكن في الهند كلها بناء أعظم وأوسع وأشرح للصدر من هذا المكان ، أجل إن لشاه جهان مقبرة شامخة في مدينة « أكبر آباد » تسمى « تاج گنج » ويتحدث عنها الناس أحاديث كثيرة تشير الى إعجابهم بها ... ».

ص: 74

ثم يستطرد الكاتب كلامه فيقول :

« إن هذا المقر المخصص لإقامة العزاء الحسيني والمسجد الملاصق له من عجائب الأبنية والعمارات في العالم كله ، ففي كل ساحة من ساحاته «14» قبة شامخة ، وتحت كل قبة ضريح يمثل قبور الأربعة عشر قبراً للمعصومين ، وقد صنعت كل الأضرحة من الفضة الخالصة ، وتضاء هذه الأضرحة أيام العاشوراء ولياليها بأربعمائة أو خمسامائة من الثريا البلورية ، وبألفي ثريا عادية ، وفوانيس بلورية ، وكلها تضاء بالشموع الكافورية ، وقد نصبت عند هذه الأضرحة الساعات الذهبية والفضية بأنواعها المختلفة ، بالإضافة الى سائر الزينات الذهبية المرصعة بالأحجار الكريمة ... ».

ويستطرد الكتاب فيقول :

« أما نفقات هذه الأيام العشرة من شهر محرم لإقامة تلك المآتم فتبلغ ثلاثة « الكاك » (1) من الروبيات ، ولو زاد من هذا المبلغ شيء يوزع على الزوار والفقراء والمستحقين ... ».

3 - نقلت « موسوعة العتبات المقدسة » في صفحتها «373» من المجلد الاول ، قسم كربلاء ، عن كتاب « تاريخ الشيعة في الهند » للدكتور « هوليستر » عن أهمية شهر محرم وإقامة مراسيم العزاء فيه ، ما نصه تالياً :

« إن إحياء مراسيم محرم وطقوسه في الهند قد انتشرت بانتشار الشيعة في البلاد. ويمكن أن تلاحظ في الهند وعلى الأخص في « لكنهو » حيث لا يزال شيء من البهاء والرونق الذين كانت تعرف بهما أيام ملوك « أوده » الأولين ، محتفظاً به حتى اليوم ، من أن البذخ الذي كان يبدو من النوابين الذين صرف أحدهم في سنة من السنين على مراسيم محرم وحفلاته الدينية ثلاثمائة ألف باون قد انتهى أمره ،

ص: 75


1- اللك يساوي 500 الف وحده نقديه.

ومع ذلك فإن الهبات والأوقاف التي أوقفها محمد علي شاه هناك تجعل المراسيم المقامة في محرم اليوم مفعمة بالحيوية والنشاط ، منذ أول ابتدائها من مساء اليوم الذي يتقدم أول يوم منه. كما أن عساف الدولة ملك « أوده » المتوفى سنة «1775 م» ، قد صرف على مراسيم العزاء خلال شهر محرم في إحدى السنين ستة ألكاك روبية ».

ثم يصف الدكتور « هوليستر » كيفية احتفال المسلمين في الهند خلال أيام الحداد العشرة من محرم ، ويعدد أنواع هذه الاحتفالات وأشكالها. فيبدأ بوصف مجالس التعزية التي تقرأ فيها قصة مقتل الحسين بصورة متسلسلة موزعة على عشرة أيام ، مبتدئة بدعوة أهل الكوفة للإمام علیه السلام ، ومنتهية باستشهاده المفجع. يقول :

« إن اليومين الأولين يروى فيهما للمحتفلين المحتشدين تهيؤ الحسين للسفر ، وزيارة المقربين له ، ومذاكراته معهم ، والمشهورات التي قدمت له ، ثم سفره ووصوله الى كربلاء. وتروى في اليوم الثالث أخبار المخيم الذي خيم فيه الحسين وآله وأصحابه ، وتردده ما بينه وبين النهر ، ومذاكرة بني أسد حول دفن القتلى الذين يمكن أو يخرّوا صرعى في ساحة القتال. أما في اليومين الخامس والسادس فتقص على المحتفلين فيها مصائب الامام وصحبه ، والبطولة التي ابداها علي الاكبر قبل استشهاده. وفي اليوم السابع تروى قصة القاسم بن الحسن وبطولته في القتال ، علاوة على قصة زواجه بابنة عمه الحسين. ويخصص اليومان الثامن والتاسع لأخبار العباس وأصحاب الحسين الاثنين والسبعين ، بينما تروى في اليوم العاشر الظروف الأليمة والشكل الفظيع الذي قتل فيه الامام الشهيد ، وهو بيت القصيد من مجالس التعزية كلها ».

ويستطرد « هوليستر » فيقول :

« إن هذه المجالس كما يسميها الهنود المسلمون لا تقام في المساجد والجوامع

ص: 76

التي تخصص للصلاة فقط ، وإنما تقام عادة في أماكن خاصة ، أو « الحسينيات » يطلق على الواحدة منها في الهند : « إمام باره ». وهذه تخصص لمجالس التعزية وحدها في الغالب أيضاً. ويذكر بالمناسبة : أن إحدى « الامام بارات » هذه قد بنيت في « جلال بور » بمبالغ جمعت من حاكة البلد ونساجيه ، بعد أن فرضوا على كل قطعه من منتوجاتهم مبلغ « بيزه » واحدة ويقال : إن « الإمام باره » الكبرى التي شيدت في ( هو كلي ) بالبنغال كانت قد كلفت لكين من الروبيات. وهناك في ( الكنهو ) ثلاث « إمام بارات » كانت ملوك اوده : محمد علي شاه وعساف الدولة وغازي الدين حيدر قد شيدوها بصورة تدعو للاعجاب. ويطلق على التي شيدها غازي الدين اسم : « شاه نجف » لأنها تضم بين جدرانها ضريحاً يعتبر تقليداً لضريح الامام علي في النجف. وعلى الشاكلة نفسها توجد في ( شاء جهانبور ) أيضاً « إمام باره » فيها ضريح يعتبر تقليداً لضريح الحسين كذلك ».

ويصف « هوليستر » ما يسمى في الهند بالتعزية ويعتبرها من أبرز ما يلفت النظر في احتفالات الحداد في الهند أثناء محرم. والظاهر أن كلمة « تعزية » تطلق في شمال الهند على الهيكل المصغر لقبر الحسين ، الذي يحمل مع مواكب العزاء الحسيني في يوم عاشوراء ، وتطلق على هذا في جنوب الهند كلمة - تابوت - ، وقد نشأت عادة حمل هذه الهياكل المصغرة في مواكب العزاء - على ما يقال - منذ أيام تيمور لنك الذي جاء بمثل هذا الهيكل الى الهند من كربلاء نفسها. وتوضع هذه التعازي على اختلاف حجومها ومظاهر الزينة فيها فوق هيكل من الخيزران ، فتحمل على اكتاف الرجال الذين يكونون عادة من الهندوس المستأجرين ، وتزين بأنواع الزينة والزخارف من الخارج ، وقد يعمد الأثرياء والموسرون الى إنشائها من الخشب المغلف بالعاج ، أو الأبنوس ، أو الفضة.

ومما يذكر في هذا الشأن أن أحد ملوك « أوده » كان قد أوصى في انجلترا بصنع « تعزية » مثل هذه من النحاس الأصفر والزجاج الأخضر. وقد شاهد

ص: 77

هوليستر نفسه « تعزية كبيرة » من هذا النوع يبلغ ارتفاعها عشرين قدما ، وذات أربعة طوابق ، ولا تحمل مثل هذه التعزية الكبيرة عادة ، وانما توضع وتزين في أماكن خاصة للتبرك بها.

ويتوسع « هولسيتر » في وصف هذه التعزيات وزينتها وكيفية التبرك بها ، وحملها في المواكب ، وما أشبه ذلك ، ثم يأتي كذلك على ذكر الأعلام التي ترفع بالتفصيل من حيث الشكل واللون والرأس ويقول :

« ان شيعة « لكنهو » محظوظون لأن عندهم وبين ظهرانيهم نفس « البنجة » أوالكف المعدنية التي كانت تعلو علم الحسين بكربلا ، وهي محفوظة في « درگاه » شيد خصيصا لها. أما كيفية أخذها الى الهند فيذكر قصة تروى عنها ، وهي : أن أحد الحجاج الهنود في مكة رآى في المنام ذات ليلة « عباس بن علي » حامل لواء الحسين ، فدله على المكان الذي توجد مدفونة فيه في كربلاء نفسها. وحينما ذهب الحجاج الهندي الى ذلك المكان وجد ( البنجه ) عينها ، فجاء بها الى النواب عساف الدولة عامل لكنهو فعمد هذا الى تشييد مزار خاص لها ، وعهد بسدانته الى الحاج المحظوظ الذي جاء بها من كربلاء بلد الحسين ، وبعد مدة تمرض سعادت علي خان وشفي ، فشيد على أثر ذلك « درگاهاً » أجمل للبنجة المقدسة. ويأتي الناس في اليوم الخامس من محرم الى هذا المركز كل سنة ليلمسوا البنجة بأعلامهم. ويقدر أن الأعلام التي يؤتى بها لهذا الغرض كانت تبلغ في الأيام السالفة حوالي 40 أو 50 ألف علم ».

ويقول « هوليستر » عن المراثي التي تلقى في مواكب العزاء.

« إنها عبارة عن قطع أدبية رائعة في بعض الأحيان ».

ويشير من بينها الى مرثية « المير أنيس » على الأخص التي يقول : « إنها مع ما فيها من طول إغراق في الغلو والمبالغة ، قطعة أدبية بليغة تثير أعمق العواطف وأقوى الأحاسيس ، حينما تقرأ خلال الأيام العشرة كلها ، وتنطوي بين تضاعيفها

ص: 78

على قوة بالغة في الوصف لا بد لأقوى الرجال من أن تدمع عيناه عند سماعها. أما في يوم عاشوراء فتستعد مواكب العزاء للخروج منذ الصباح الباكر في الهند ، وبعد مراسيم مختصرة ترفع « التعزية » العائدة لكل موكب من مكانها في « الامام باره » مع الأعلام ، وتؤخذ مشياً على الأقدام الى حيث تدفن في أماكن ، يطلق على كل منها اسم « كربلاء » ، أما في بومبي فتؤخذ الى البحر وترمى فيه ، لكن « التعزيات » الثمينة والكبيرة تعود بها المواكب الى مكانها الأول ، حيث تحفظ للسنين المقبلة. ويسير الموكب بطيئاً في العادة وعلى خط معين ، لكنه يتوقف عن السير بين حين وآخر لإلقاء المراثي وقراءتها ، ويقوم عدد كبير من الناس خلال السير باللطم على الصدور ، والتنادي بجملة « يا حسين ، يا حسين » بين حين وآخر. بينما يقوم آخرون بضرب ظهورهم يمنة ويسيرة ، بسلاسل الحديد أو الخشب ذي المسامير الحادة ، فيخرجون الدم منها ».

ثم يقول « هوليستر » :

« إن نظام « حيدر آباد » كان قد أصدر سنة 1927 م فرماناً يمنع فيه الضرب على الصدور أو الظهور بالسلاسل والمسامير ، خلال شهر محرم في ممتلكاته. وقد تمسح الدموع التي تذرف خلال محرم بالقطن أحياناً ، ويجمع هذا القطن بالذات من قبل الشخص الحزين نفسه أو شخص آخر ، والمعروف عن هذا القطن أنه مفيد لشفاء بعض الأمراض والأوجاع ».

ثم يستطرد « هوليستر » كلامه عن وصف هذه المآتم والأحتفالات العزائية في الهند ويقول :

« إن عدداً غير يسير من أهل السنة والهندوس يشاركون فيها ، ويعتقدون بها كثيراً. والمقول هناك : إن الطبقات الدنيا من الهندوس في مقاطعة « بيهار » يعبدون الحسن والحسين بالفعل ، ويعتبرونهما في صف الآلهة. وإن النساء والرجال من بين الطبقات العليا كذلك مثل « الكياشئا » و « الأنمار والأوالراجيوت »

ص: 79

ينذرون من أجل الحصول على النسل والأولاد أن يقوموا ببعض الأدوار في مواكب محرم ، لعدة سنين ، وخلال مدة حياتهم كلها في بعض الأحيان ، وهؤلاء يمتنعون خلال محرم عن تناول الملح والطعام الحيواني ، ويهجرون جميع وسائل الترف. ويتعتبر مختلف طبقات الهندوس في « بارودا » التعزيات التي تحمل مواكب العزاء أشياء مقدسة ، وهم يمارسون بعض الحركات للتبرك بها ، مثل المرورمن تحتها أو رمي أنفسهم على الأرض في طريقها ».

وتستطرد موسوعة « العتبات المقدسة » كلامها بعد انتهائها من نقل وصف الدكتور « هوليستر » فتقول ما لفظه :

« ولقد روى أحد الصحفيين : أن الهندوس في جنوب الهند من جميع الطبقات - عدا البراهمة - يطلقون على كل علم من أعلام محرم كلمة « بير » ؛ ولهذا صار يدعى علم الامام علي « لال صاحب » كما يعرف عن النساء العقيمات هناك أنهن يرمين بأنفسهن أمام أعلام محرم وينذرون النذور لها للحصول على الأولاد ، وحينما يرزقن بهم يطلقون عليهم أسماء مثل « هوسانا » أي الحسين ، أو فاطمة ، أو فقيراً ، أو ما أشبه.

وقد كان من المعروف في بارودا : أن الرئيس أو « الفيكوار » الهندوسي يرعى مراسيم العزاء في محرم بنفسه ، وأن المهراجا الهندوسي في « غواليور » يقود المواكب كل سنة في عاصمته ويقال : إن منشأ هذا هو أن المهراجا كان قد مرض قبل خمسين أو ستين سنة ، فرأى ذات ليلة من ليالي مرضه الامام الحسين في المنام فقيل له : إنه سوف يشفى ويبل من مرضه في الحال إذا ما أقام مجلساً من مجالس التعزية في محرم باسم الحسين علیه السلام ووزع الصدقات فيه ، وقد فعل ذلك ، فشفي بإذن اللّه ، فبقيت العادة حتى يومنا هذا. لكن المهراجا الحالي من نسله صار يكتفي اليوم بركوب حصان فاره يتقدم به موكب العزاء في يوم عاشوراء ، وتقوم خزينة الدولة هناك بتسديد مصاريف الموكب ».

ص: 80

4 - جاء في الصفحة «131» من كتاب « سفر نامه حاج بير زاده » باللغة الفارسية ، أي « رحلة الحاج بير زاده » من طهران الى لندن ، عند اجتيازه بمدينة بومبي في الهند ، ما ترجمته :

« والشيعة الإثنا عشرية من الهنود والايرانيين في بومبي كثيرون ، ولهم فيها مساجد وحسينيات زاهرة. وفي الهند يطلقون على الحسينية اسم : « إمام باره » يقيمون فيها في أيام شهر محرم وعشرة عاشوراء التعازي والمآتم على الاما الحسين الشهيد علیه السلام ».

أقول : إن الحاج محمد علي بير زاده ، وهو من أعاظم رجال الصفوية في إيران ، قام برحلته تلك سنة «1306 ه».

وقد أثبت التاريخ بمروياته أن اشتداد تمسك سكان شبه القارة الهندية بالعزاء الحسيني وذكراه قد ظهر على أتم صورة خلال القرون الأربعة الأخيرة ، أي بعد أن أصبح تردد الايرانيين ، من علماء وأمراء وادباء وسفراء وتجار وغيرهم ، يزداد على الهند ، وخاصة على عهد السلسلة الصفوية ، التي كانت صلاتها بملوك وأمراء الهند قوية ومستحكمة ، مما أدى الى انتشار المذهب الشيعي في هذه البلاد أكثر فأكثر.

5 - جاء في الصفحة «196» من كتاب « المجالس السنية » المار ذكره ، نقلاً عن رسالة الحكيم الألماني الدكتور ماربين ، عن النهضة الحسينية وأثرها في الاسلام والعالم الاسلامي ما نصه :

« كانت الرئاسة الروحانية بعد الامام الحسين في أولاده واحداً بعد واحد. وهؤلاء أيضاً جعلوا إقامة عزاء الحسين الجزء الأعظم من المذهب ، وألبست هذه النكتة السياسية شيئاً فشيئاً اللباس المذهبي. وكلما ازداد قوة أتباع علي علیه السلام ازداد إعلانهم بذكر مصائب الحسين ، وكلما سعوا وراء هذا الأمر ازدادت قوتهم وترقيهم ، وجعل العارفون بمقتضيات الوقت يغيرون شكل ذكل مصائب الحسين

ص: 81

قليلاً قليلاً فجعلت تزداد كل يوم بسبب تحسينهم وتنميقهم لها ، حتى آل الأمر الى أن صار لها اليوم مظهر عظيم في كل مكان يوجد فيه مسلمون حتى أنها سرت شيئاً فشيئاً بين الأقوام وأهل الملل الاخرى ، خصوصاً في الصين والهند ، وعمدة أسباب تأثيرها في أهل الهند ، هو أن المسلمين جعلوا طريقة إقامة العزاء مشابها لمراسيم إقامة العزاء عند أهل الهند. وقبل مائة سنة لم تكن إقامة عزاء الحسين شائعة في الهند شيوعاً تاماً وظاهرة علناً ، وفي هذه المدة القليلة استوعبت بلاد الهند من أولها الى آخرها ، ويظهر أنها في كل يوم في زيادة. ولعدم اطلاع بعض مؤرخينا على كمية وكيفية هذه المآتم ورواجها استرسلوا في كلامهم علىغير علم ، وجعلوا يصفون إقامة أتباع الحسين لها بأنها أفعال جنون ولم يقفوا أبداً على مقدار ما أحدثته هذه المسألة من التغييرات والتبدلات في الاسلام ، والحس السياسي ، والثوران والهيجان المذهبي ، التي ظهرت في هذه الفرقة من إقامة هذه المآتم لم يرمثلها في قوم من الأقوام. إن من يسبر غور الترقيات التي حصلت في مدة مائة سنة لأتباع علي في الهند - الذين اتخذا إقامة هذه المآتم شعاراً لهم - يجزم بأنهم متبعون أعظم وسيلة للترقي. كما أن أتباع علي والحسين في جميع بلاد الهند كانوا يعدون على الأصابع ، واليوم هم في الدرجة الثالثة بين أهل الهند من حيث العدد ، وكذلك في سائر البلدان. وعندما نقيس منهم دعاتنا « المبشرين » مع صرف تلك القوة والثورة بمنهج دعاة هذه الفرقة ، نرى أن دعاتنا لم يحوزوا العشر من تقدم هذه الفرقة ، رؤساء ديننا وإن كانوا يحزنون الناس بذكر مصائب حضرة المسيح ، ولكنه ليس بذلك الأسلوب والشكل الذي يتخذه أتباع الحسين. ويحتمل أن يكون السبب في ذلك أن مصائب المسيح في جنب مصائب الحسين لا تكون مؤثرة ومشجية للقلب ، بتلك الدرجة التي لمصائب الحسين على مؤرخينا أن يطلعوا على حقائق رسوم وعادات الأغيار ، ولا ينسبونها الى الجنون ».

ثم يستطرد هذا المحقق الألماني ويقول :

ص: 82

« نحن الأوربيين بمجرد أن نرى لقوم حركات ظاهرية في مراسيمهم الملية أو المذهبية ، منافية لعاداتنا ننسبها للجنون والتوحش ، نحن غافلون عن أننا لو سبرنا غور هذه الأعمال لرأيناها عقلية سياسية ، كما نشاهد ذلك في هذه الفرقة الشيعية ، وفي هؤلاء القوم بأحسن وجه. والذي يجب علينا هو أن ننظر الى حقائق عادات وتقاليد كل قوم ، وإلا فإن أهل آسيا أيضاً لا يستحسنون كثيراً من عاداتنا ، ويعدون بعض حركاتنا منافية للآداب ويسمونها بعدم التهذيب ، بل بالوحشية ، وعلاوة على تلك المنافع التي ذكرناها ، والتي هي طبعاً أثر التهيج الطبيعي ، فإنهم يعتقدون أن لهم في إقامة مأتم الحسين درجات عالية في الآخرة ... » الخ.

6 - جاء في الصفحة «79» من المجلد « 56 » من « أعيان الشيعة » ما لفظه :

« كانت للمجالس الحسينية التي تعقد بانتظام خلال شهري محرم وصفر في مدن الهند والباكستان ، وأحياناً أيضاً خلال بقية الشهور الأثر الفعال ، لا في إنماء المعارف الدينية فحسب ، بل في التقدم الخلقي والعقلي والروحي للشيعة ، وبفضل هذه المجالس التي تقام لذكرى شهيد الاسلام العظيم الحسين بن علي علیهماالسلام نبغ بين الشيعة في شبه القارة الهندية خلال الأجيال الطويلة فحول الشعراء والكتاب وأخيراً الخطباء ... » الخ.

7 - جاء في الصفحة «254» من كتاب « دراسة في طبيعة المجتمع العراقي » للدكتور علي الوردي عن النياحة على الحسين في الباكستان ما نصه :

« إن مدينة تيري والمناطق المجاورة لها في الباكستان تحتوي على كثير من الشيعة الذين اعتادوا أن يقيموا المواكب الحسينية في يوم عاشوراء من كل عام. والغريب أن هذه المدينة فيها مدرسة دينية يدرس فيها المذهب الوهابي ويقيم فيها كثير من طلبة العلم ، واسمها « مدرسة الهدى ».

وأخذ الوهابيون يضايقون الشيعة ويهددونهم لكي لا يقيموا المواكب حسب عادتهم في كل عام ؛ فالمواكب في نظرهم بدعة ومروق عن الاسلام. وفي

ص: 83

عام «1962 م» استعد الوهابيون لمنع المواكب بالقوة ، وفي يوم عاشوراء هجم الوهابيون على المواكب بضراوة واستخدموا في هجومهم الأسلحة ، والمعاول ، والمجارف ، والفؤوس ، والخشب ، فسقط المئات من الجرحي والقتلى ، وكانت مذبحة فظيعة. ومما يلفت النظر أن عدداً من أهل السنة قد قتلوا فيها لأنهم كانوا يشاركون الشيعة في مواكبهم ، كما هو الحال في بعض مناطق العراق ».

و - في جنوب شرقي آسيا :

أما في جنوب شرقي آسيا ، وخاصة منها : جزر الهند الشرقية ، وأندونيسيا ، وسومطرة ، والفيليبين ، وملتا ، وجاوة ، التي يكثر فيها المسلمون العلويون الذين هاجروا اليها من حضر موت منذ مئات السنين. فان إقامة حفلات الحزن والعزاء والمناحة على الامام الحسين علیه السلام فيها متداولة على طول السنة ، وبالأخص في العشرة الأولى من شهر محرم كل سنة ، ولا سيما في اليومين التاسع والعاشر منها ، - التاسوعاء والعاشوراء -. وقد بدئ بإقامة مجالس هذه النياحات وشعائر الحزن في تلك الأرجاء والأصقاع منذ أن وطئت أرجل المسلمين من العلويين من أولاد علي العريضي أرضها. وعلى الرغم من مقاومة السلطان القائمة في تلك البلدان ، ولا سيما في جزر الفيليبين للمسلمين وتقاليدهم ، ومنعها لهم من مزاولة فروضهم الدينية ، وعبادتهم وشعائر دينهم ، فإن المسلمين وسيما الشيعة هناك يقيمون هذه المناحات ولو بصورة سرية.

وفيما يلي وصف لبعض ما يقام فيها من هذه الشعائر :

1 - جاء في مقال نشر في العددين 9 - 10 من المجلد «58» من مجلة « العرفان » الصيداوية ، صفحة «1026» المؤرخين ذي القعدة وذي الحجة سنة «1390 ه» بقلم الأستاذ السيد حسن الأمين ، بعنوان : « لمحات من تاريخ الشيعة من أندونيسيا » ما نصه :

ص: 84

« وعلى سبيل المثال يقول العالم الأندونيسي حسين جاجاد ننغرات فذكر انه في اليوم العاشر من المحرم - وهو اليوم الذي يحتفل فيه الشيعة بذكرى استشهاد الحسين - تقوم عائلات عديدة بإعداد طعام خاص يدعونه « بيرسورا » ، وهي كلمة مأخوذة من عاشوراء التي تعني العاشر من المحرم ، وكذلك يدعى شهر المحرم بالجاوية ( سورا ). ونجد أيضاً آثار نفوذ الشيعة في « اتجه » شمالي سومطرا ، إذ يدعى شهر المحرم باسم شهر الحسن والحسين. وفي « مينانج كابو » على الساحل الغربي من سومطرا يدعى شهر المحرم « شهر النعش » ، إشارة لعادة الشيعة واحتفالها بذكرى وفاة الحسين عندما يحملون نعشاً رمزياً ، يسيرون به في الشوارع ، ثم يلقونه في نهر أو مجرى مائي ... » الخ.

ثم يستطرد الكاتب فينقل الجملة التالية عن الكاتب الأندونيسي السيد محمد اسد شهاب ، ضمن البحث عن هجرة العلويين الى جاوة قوله :

« وحتى اليوم لا يزال شهرا المحرم وصفر محترمين عند الكثيرين من الأندونيسيين فلا يقيمون فيهما أفراحاً ، ولا يعقدون زواجاً ، ولا يجرون زفافاً ... » الخ.

2 - وفي الصفحة «70» من المجلد «56» من « أعيان الشيعة » عندما يبحث الكاتب عن تاريخ الشيعة في أندونيسيا يقول ما نصه :

« وقد كان المسلمون الأندونيسيون قديماً يواصلون بعد تأدية فريضة الحج السير الى العراق لزيارة العتبات المقدسة وحضور المأتم الحسيني في كربلاء ... ».

3 - جاء في الصفحة «66» من المجلد «56» من « أعيان الشيعة » أيضاً ما نصه :

« المأتم الحسيني في أندونيسيا : إن رمز البطولة الاسلامية باستشهاد مولانا الامام الشهيد الحسين بن علي علیهماالسلام في شهر المحرم ، له حرمة ممتازة لدى المسلمين في أندونيسيا الى اليوم بوجه عام. ويسمى شهر المحرم « سورا » ، وهذه الكلمة ربما

ص: 85

تحرفت عن كلمة « عاشوراء ». ويطلق على المأتم الحسيني في جزيرة « سومطره » ذكرى التابوت ، وفي اليوم العاشر من المحرم يقام تمثيل رمزي لاستشهاد البطل الاسلامي العظيم الحسين علیه السلام . أما في جزيرة « جاوا » فلهذا اليوم المعظم تقدير خاص وعوائد خاصة ، إذ تطبخ الشوربا فقط على نوعين من اللونين الأحمر والأبيض ، ثم يجمع الأولاد وتقسم الشوربا عليهم ، وهذا رمز للحزن العميق بجمع الاولاد الصغار والأطفال ، وذلك تصويراً لليتم والحزن ، أما اللون الأحمر فهو رمز الدماء الطاهرة المراقة ، واللون الأبيض رمز للاخلاص والتضحية. والى اليوم يعتبر شهرا محرم وصفر من كل سنة عند الكثيرين من الأندونيسيين شهرين محترمين لهما مكانتهما في القلوب ، فلا يقيمون أفراحاً ، ولا يعقدون زواجاً ، ولا يجرون زفافاً ، فالمعتقد السائد : أن من أقام أفراحاً فيهما قد يصيبه نحس. أما في مقاطعة آجيه بسومطره الشمالة ، فيسمى شهر المحرم ، شهر حسن وحسين.

4 - جاء في الصفحة «374» من الجزء التاسع ، من مجلة المرشد البغدادية ، لسنتها الثالثة ، المؤرخ أول رجب «1347 ه» وضمن مقال بقلم « محمد كاظم » عن إقامة النياحات على الامام الحسين علیه السلام في جزر الهند الشرقية ، وخاصة جزيرة سومطره ، ما عبارته :

« لا تزال عادة المأتم جارية في بعض نواحي جزائر الهند الشرقية ، وأغلب المتمسكين بهذه العادة هم من أهالي جزيرة سومطره. وليست هذه المآتم كما يسمونه تابوت على الأصول المتبعة عند الشيعة العلويين. ولكن هذه المآثر - على كل حال - لم تمح بالكلية ، فيظهر جلياً أن المذهب العلوي هو المذهب السائد في هاته الجزر ، بفضل العلويين الذين هاجروا اليها لادخال الشعب الجاوي في الديانة الاسلامية سابقاً.

كان المأتم في هاته الجزر قديماً : أنهم يظهرون حدادهم وحزنهم على سبطي الرسول صلی اللّه علیه و آله في يوم معين ، ويقومون بالمظاهرات التي تنم عن شعورهم نحوهما ؛

ص: 86

ولكن لما تمكنت الحكومة الحالية من الاستيلاء على هاته الجزر ، بدأت تمنع تلك المظاهرات رويداً رويداً حتى اضمحلت خصوصاً في جزيرة جاوه ، وبقيت بعض المدن الصغيرة في سومطره تقيم تلك المآتم.

أو من صنع التابوت وأقام المأتم هم أهل ميناء نقطايا - وإحدى مقاطعات جزيرة سومطره - ، وذلك إظهاراً لحزنهم وتفانيهم في حب سبطي الرسول صلی اللّه علیه و آله ، ثم سرت هذه العادة الى غيرها من المقاطعات المجاورة لها ، كمقاطعة آجيه ، وبقكولين.

يبتدئ المأتم عندهم في أول شهر محرم ، وذلك أنهم يخرجون فيها الى أحد الشواطئ ، ويأخذون منه تراباً ؛ يعنون به التراب الذي لطخ به وجه الحسين علیه السلام أثناء حربه ؛ ويضعونه في أحد الفلوات ، ويحيطونه بسور من خشب ، ويتركونه حتى اليوم التاسع من محرم.

ففي التاسع من محرم يخرجون جميعاً ومعهم الطبول والطاس لأخذ بعض جذور أشجار الموز ليضعوه على ذلك التراب الذي وضعوه في الفلاة ، وقد تحدث عند خروجهم مناوشات بين كل فرقة منهم أثناء سباقهم لأخذ ذلك.

وفي اليوم الثاني - أي العاشر من محرم - يخرجون ومعهم التابوت الصغير ، يسمونه « تابوت لينولنق » لطلب الصدقات من المحسنين ، ويحمل ذلك التابوت ولد عليه لباس أصفر يسمونه « انك مجنون » أي الولد المجنون فإذا وصلوا الى أحد البيوت التف الأولاد حوله ، وأخذوا يصيحون بأعلى صوتهم : « حسن حسين » ؛ كأنهم بذلك يذكرون الناس بما وقع علیهماالسلام ، ولا يزالون كذلك من بيت لآخر حتى الساعة الحادية عشرة نهاراً. وعند الساعة الثانية عشرة نصف النهار - الظهر - يبتدئون بضرب الطبول ، وينشدون الأناشيد المحزنة ، مما يثير العواطف ، والصياح والعويل آخذان في الازدياد من المشاهدين ، لماله من التأثيرات التي تذكّرهم بالفاجعة المشؤومة.

ص: 87

وعند الليل يخرجون بشبه أصابع يعملونها من الخشب ، ويلوون عليه قماشاً أو ورقاً أبيض ، ويضعون عليه الزهور ، يمثلون بذلك أصابع الحسين علیه السلام حين قتله الظالمون في كربلاء ، فاذا دخل الليل ابتدأ الناس يعودون الى القرية زرافات ووحداناً ليشاهدوا ذلك المأتم ، ويتغنون الليلة بالأناشيد الرثائية والوقائع المحزنة الى غير ذلك مما صار على الحسين علیه السلام .

وفي الليلة الثانية يخرجون أيضاً ومعهم تلك الأصابع ، ويضعون عليه شبه العمامة يسمونه « سربان » ، يعملونه من الطين الذي وضعوه في الفلاة ، ويحيطونه بخرق بيضاء يعنون بذلك عمامة الحسين علیه السلام التي استعملها في وقائعه. وفي الليلة الثانية عشرة من المحرم يخرجون بالتوابيت والطبول وغيرها مما يعتادون أخذه معهم ، ويقصدون الى بيت حاكم البلد ، ثم يطوفون البلاد بالتوابيت لأخذ شيء من الصدقات مرة أخرى ؛ وعند وصولهم أمام كل بيت ينشدون أناشيد يسمونها « انك ايندنق » مضمونها : « الحوادث والفظائع التي ارتكبها أعداء أهل البيت علیهم السلام ».

وعند النهار يخرج جميع أهل القرية ، ومع كل طائفة منهم تابوت ، ويمشون به الى أحد الشواطئ واثناء ذلك يرتجزون بأراجيز ، كل فرقة تفتخر بتابوتها ، حتى يصلون الى الشاطئ تقريباً السادسة مساء « المغرب ، فاذا وصلوا اليه رموا جميع التوابيت الى النهر أو البحر ، هنا يرتفع الصياح والبكاء تذكاراً للحسين علیه السلام عندما دفن ، ثم يرجع كل منهم الى محله.

هذه خلاصة العادة التي جرى عليها أهل سومطره ، بما فيها من التبدلات والزيادة والنقصان - حسب تطور الزمان - المخالف لما عليه الشيعة الآن في غيرها من الأقطار النائية ، كالعراق ، وإيران ».

5 - لقد نقل لي ابن أختي المهندس الحاج السيد محمد علي الشهرستاني الذي زار بانكوك عاصمة تايلند في العشرة الأولى من محرم سنة «1394 ه»

ص: 88

قائلاً :

« إن العزاء الحسيني يقام على أتم مظاهره في بانكوك وبعض أنحاء تايلند ، فانه شاهد بأم عينه أقامة مجالس العزاء والمآتم واجتماعات النياحات وقراءة المراثي على الامام الشهيد الحسين بن علي علیهماالسلام في هذه العشرة ، وإنه اشترك بنفسه في بعضها ، وخاصة في المواكب الحزينة ومجالس النياحة التي أقيمت في المساجد والحسينيات الأربع التي انشئت في بانكوك على مرور الزمن ومنذ أن نزلها أحد علماء الشيعة قادماً اليها من إيران على عهد الأسرة الملكية الصفوية منذ أكثر من «400 سنة ».

هذا ويقدر عدد الشيعة في الوقت الحاضر في تايلند بألفي نسمة ، يشترك كلهم في هذه المراسيم العزائية التي تقرأ فيها فاجعة الطف بتفاصيلها ، كما ويلبس في هذه العشرة الحزينة وخاصة يومي التاسوعاء والعاشوراء المشتركون في هذه المناحات اللباس الأسود ، وفي المواكب العزائية يتم اللطم على الصدور والظهور ، والضرب على الرؤوس ، وتسيل فيها الدموع مدراراً ، كما أن تقليد توزيع الخيرات وإطعام المساكين في هذه الشعرة الحزينة ، ولا سيما يومي تاسوعاء وعاشوراء قائم على قدم وساق وبأتم وجه بين مختلف الطبقات هناك.

* * *

ص: 89

ص: 90

الفصل السادس والعشرون: النياحة على الامام الحسين علیه السلام في القارة الافريقية

لقد بحثت في فصل سابق عن كيفية انتقال تقليد إقامة المأتم الحسيني وشعائره ، وتسيير مواكبه في بعض أصقاع القارة الافريقية التي انتقل اليها الاسلام منذ القرن الأول الهجري ، وخاصة القطر المصري وبلدان افريقية الشمالية ، وكذا عن اهتمام الملوك الفاطميين في مصر بهذه المآتم والنياحات ومما لا لزوم لتكراره.

أما في هذا الفصل ، فأورد تالياً بعض ما عثرت عليه في بطون الأسفار والكتب عن إقامة المآتم الحسينية في بلدان القارة الافريقية في مختلف القرون ، وخاصة المتأخرة منها :

1 - نشرت مجلة « الهادي » التي تصدر باللغة العربية في مدينة « قم » بإيران ، في عددها الثاني المؤرخ في ذي القعدة سنة «1391 ه» مقالاً بقلم الدكتور عبد اللطيف السعداني ، من فاس بالمغرب ، تحت عنوان : « حركات التشيع في المغرب ومظاهره » جاء فيه :

« بحلول شهر محرم في كل عام يتغير وجه الحياة في المغرب ، حيث يدع الناس أيام الدعة والاستكانة الى الأهواء ، ويتبدلون بها عودة الى محاسبة النفس فيستيقظ الضمير فيهم ، وتعود الذكرى الى حياتهم الاسلامية ليستنير فيهم واقعهم وما هم عليه ، وتحيي في إيمانهم المعنى الخفي للحقيقة التي انتقلت من الوحي النبوي في آل بيته وأبناء عترته ، تلك هي ذكرى عاشوراء واستشهاد سيدنا الحسين.

ففي هذا الشهر نرى الناس في جميع مدن المغرب في هرج ومرج ، لا يمكن أن

ص: 91

يوصف إلا بأن حدثاً عظيماً قد حل بهم ، وأي حدث أعظم من الفتنة الكبرى التي أدت الى انهيار ذلك الطود العظيم ، حفيد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؟ فاذا هم منصرفون الى القيام بأعمال وتصرفات امتزجت اليوم بكّلهم ، وحلت من السنة محلاً مرموقاً مترقياً ، ولكن الزمن أكسب هذه المناسبة طابع العادة حتى لا يكاد إلا القليل يدرك مغزاها الحقيقي.

غير أن الشيء الذي تعارف عليه أهل المغرب ونظروا اليه نظرة احترام وتقديس ، هو أن شهر المحرم شهر العزاء ، يهيمن فيه الأسى والحزن العميق على القلوب فلا يباح مطلقاً التجمل حتى ولا غسل بيوت أو ثياب ، ولا تزف عروس ، ولا تدق طبول أو تسمع مزامير ، بل إن الناس ليلبسون في هذه المناسبة لباس العزاء في بلاد المغرب ثياباً بيضاً.

وتبدأ الأسر العلوية هذه المراسيم منذ اليوم الأول من المحرم الى العاشر منه ، أما باقي الشرفاء فيستمرون الى آخر الشهر ، ويطبخ في اليوم المشهود الأكل للتصدق به ، وقد جعلت طبقة التجار هذه المناسبة لبذل المال ، فكان هذا اليوم هو يوم الزكاة في السنة ، لكأنما يرمز ذلك الى محاسبة الأعمال. اما الآخرون فيمسكون عن الأكل في هذا اليوم احتساباً لله ، وما ينفك الحزن غالباً على أحوالهم حتى ليعتقدون أنه غالباً ما يصادف أن يبكي الانسان في هذا اليوم ، يوم عاشوراء بل لتجدنهم سعداء بتلك الدموع الغالية التي تذرف تعبيراً عن الألم لفقدان شهيد الحق.

وأما الأطفال فلهم من هذه الذكرى اللعب ، وتلاحظ من بينها قلل الماء الصغيرة التي تهدى اليهم من ذويهم ، وذلك رمزاً للظماً الذي مات عليه شهيد الذكرى. وأكبر ما يستوقف الملاحظ هو مشاهد المراثي التمثيلية بالمراكز التي تقام كل سنة في مدينة مكناس ، وفاس ، ومراكش.

فكيف استقرت هذه العادات في الحيات المغربية؟ وإلى أي حد تغلغلت

ص: 92

عقيدة المغاربة؟ إن للمغاربة منذ بداية تاريخهم الاسلامي حباً شديداً وتعلقاً كبيراً بآل البيت الأطهار ، وليس أدل على ذلك من مؤازرتهم لهم ، حيث وجدوا عندهم الملاذ الأخير بعد أن حوربوا في بلادهم ويئسوا من البقاء فيها ، فالتجأوا الى بلاد المغرب ، فأيدهم المغاربة ، ونصروهم ، واعترفوا بحقهم. وبذلك تكونت في رحاب المغرب الأقصى وبين ظهراني المغاربة الدولة الهاشمية الإدريسية ، وهي أول دولة علوية تتكون في العالم الاسلامي. كما أن أول دولة شيعية ، وهي الدولة الفاطمية ، نشأت وترعرعت في بلاد المغرب بتونس ... » الخ.

ثم يتحدث الكاتب باسهاب عن انتقال بعض العلويين بعد موقعة فخ في ذي الحجة سنة «169 ه» ، وتشكيل الحكومات العلوية في الشمال الافريقي ، وخاصة في المغرب منذ سنة «172 ه» ، وموالاة سكان هاتيك المناطق لآل البيت ، مما لا مجال للولوج فيه بإسهاب. واكتفي بهذا القدر من هذا المقال الذي تطرق فيه كاتبه الى موضوع النياحة على الامام الحسين الشهيد علیه السلام في المغرب بإجمال ضمن بحثه عن النهضات الشيعية في الشمال الافريقي ، وخاصة في المغرب منذ القرن الثاني للهجرة ، وتمسكها من بداية نشاطاتها بموضوع مقتل الامام الحسين علیه السلام في كربلاء ، ثم اعتبار الشعب المغربي هذا الموضوع عقيدة يقوم باحيائها وتجديد ذكراها كل عام في شهر محرم حتى العصر الحاضر.

2 - جاء في الصفحة «211» من كتاب ( إقناع اللائم ) ما لفظه :

« والذي بلغنا ان الخوارج الاباضية في زنجبار يقيمون مراسيم الحزن يوم عاشوراء ، لا مراسيم الأعياد ، وأنهم بقدر بغضهم لعلي وولده الحسن علیهماالسلام يحبون الحسين علیه السلام لقيامه بالسيف ، ومقاومته للظلم ».

وجاء في الصفحة «62» من المجلد «56» من « أعيان الشيعة » ما نصه : « ولا ننسى كذلك اسم المرحوم علي باتو الذي أدى خدمات كبيرة لدولة زنجبار خلال الفترة بين 1914 - 1918 م ، وقد قال له السلطان ذات يوم : « اختر أنت بنفسك

ص: 93

الجائزة التي تريدها مقابل خدماتك » فأجاب على الفور :

كل ما أريده ان يكون اليوم الحادي والعشرون من الشهر التاسع القمري ، واليوم العاشر من الشهر الأول القمري ، يومي عطلة رسمية ، فوافق السلطان على ذلك. ومنذ ذلك اليوم تعطل الدوائر الرسمية كل سنة ، في ذكرى مقتل الشهيد علي ، ومقتل الشهيد الحسين.

أقول : وهذان اليومان هما : 21 شهر رمضان و 10 شهر محرم من كل سنة.

وقد نقل لي هذه الحكاية أيضاً في طهران أحد مسلمي زنجبار الذي هجرها وأقام في عاصمة ايران وقال : ان علي ناتو كان من كبار تجار زنجبار الأثرياء.

3 - أما في مصر فقد مر في فصل سابق ذكر لتاريخ النياحة على الحسين وشعائرها وتطورها في هذا البلد. اما في القرن الحالي فقد لخص الدكتور علي الوردي في الصفحة «233» من كتابه « دراسة في طبيعة المجتمع العراقي » هذه النياحة بما عبارته :

« وقد شهدت المتصوفة يحتفلون بمولد السيدة زينب والامام الحسين في القاهرة ، فيقومون بحلقات الذكر ، ويخرجون بالمواكب والرايات على منوال يشبه من بعض الوجوه ما يفعله الشيعة في العراق ، احتفالاً بوفيات ائمتهم ... ».

كما جاء في الصفحة «78» من كتاب « السيد محسن الامين - سيرته » المار ذكره عند وصفه رحلته سنة 1321 ه- الى الحجاز لأداء فريضة الحج ماراً بمدينة القاهرة بهذا الصدد قوله :

« وزرنا مشهد رأس الحسين علیه السلام فيها - أي في القاهرة - فخلنا أنفسنا في كربلاء ، لأن ما يفعله المصريون في ذلك المشهد لا ينقص عما يفعله العراقيون الشيعة في كربلاء ، وهو مشهد مبني بناءً متقناً ورأينا فيه مدرساً معمماً جالساً على منبر صغير وحوله تلاميذ يستمعون الى درسه ... ».

* * *

ص: 94

الفصل السابع والعشرون: النياحة على الحسين علیه السلام في القارة الاوروبية

اشارة

وفي القارة الاوروبية وخاصة الاقطار القريبة من الصقع الآسيوي ، وبالأخص بلدان حوض البحر الأبيض المتوسط ، والممالك البلقانية التي كانت ردحا من الزمن تحت سيطرة الامبراطورية العثمانية ، والتي تغلغل فيها المسلمون على مر الدهور والعصور منذ القرون الوسطى ، فقد كانت النياحة على الامام الشهيد الحسين علیه السلام واقامة شعائر العزاء والحزن عليه متداولة فيها الى حد ما ، ثم ان هذا التقليد الحزين قد تسرب من هذه البلدان الى سائر أقطار القارة الأوربية ، وخاصة خلال القرن الأخير ، وعقيب الحرب العالمية الاولى التي ازداد تردد المسلمين عليها ، واقيمت فيها المساجد ودور الضيافات الاسلامية.

وتحدثنا أنباء هذه الاقطار عن اقامة هذه النياحة على الامام الحسين في عواصم ومدن تلك البلدان في العشرة الاولى من محرم.

وفيما يلي وصف بعض هذه الحفلات الحزينة :

الف - في انجلترا:

1- جاء في الصفحة « 369 » من الجزء الثامن ، من السنة الرابعة ، من مجلة « المرشد » البغدادية ضمن مقال مترجم عن الصحف الانجليزية ما عبارته :

« ان أول ذكرى لشهيد الطف أقيم في لندن بمناسبة يوم عاشوراء ، في 17

ص: 95

جون 1929 م ، الموافق 9 محرم 1348 ه- فقد احتفلت بهذه الذكرى الجمعية الاسلامية الغربية في لندن. وكانت هذه أول مظاهرة إسلامية بهذا الشأن تقام في بريطانيا اجتمع فيها كثير من الانجليز الذي اعتنقوا الدين الاسلامي ، ومن المسلمين الهنود والعرب وغيرهم المقيمين في بريطانيا ، والقيت الخطب على المنابر بوصف مجزرة كربلاء واستشهاد الامام علیه السلام ، وأمّ شهادة الامام كانت لأجل توحيد كلمة المسلمين والوئام بين أفرادهم. ثم ذكر فيها نماذج من كارثة الطف وتضحية الإمام علیه السلام وكان احتفالاً حزيناً ، جرت فيه الدموع على مقتل الامام علیه السلام .

وأضافت هذه الصحف في وصف هذا الاحتفال الحزين وقالت :

« ثم قام الرئيس الدكتور عبد اللّه السهروردي ، وذكر نماذجاً من كارثة الطف ، ومثل للحضور ما برز للحسين علیه السلام فيه من الشجاعة والايثار وحب الحق والمثابرة ، وذكر ما كان عليه أهل البيت على عهد الرسول صلی اللّه علیه و آله من العز ، ثم ذكرهم ( بذي الفقار ) سيف الامام علي علیه السلام ، واستدعى من الزعيم « ذو الفقار علي خان » أن يفيد الجمع بخطابه ، فنهض قائلاً : إن شهادة الحسين قد وحدت كلمة الاسلام ، وأحكمت الرابطة بين المسلمين فانفض الجمع ، وكان الاحتفال يضم كثيراً من المسيحيين أيضاً ».

2 - وقد علمت من بعض الثقات الذين يترددون على انجلترا أنه خلال بعض سنوات الستينات من القرن العشرين الميلادي ، قام المسلمون المقيمون في لندن وبعض مدن انجلترا الأخرى ، بتسيير موكب للعزاء الحسيني في شوارعها في يوم عاشوراء ، لطم فيه المشتركون في الموكب وناحوا فيه على الحسين علیه السلام ولم تمنعهم الحكومة البريطانية من أداء هذه الشعائر ، وقد خطب فيه بعض المسلمين من الانجليز عن هذه الفاجعة الأليمة.

3 - وفي محرم سنة 1394 ه- أفادت أنباء لندن بأن ذكرى العزاء الحسيني أقيم أيضاً في بعض الدور التي يقيم فيها المسلمون في لندن خلال يومي التاسع

ص: 96

والعاشر من شهر محرم - التاسوعاء والعاشوراء - ومن بينها دار العلامة السيد محمد المشكاة أستاذ جامعة طهران سابقاً الذي اختار الإقامة في لندن في الآونة الأخيرة.

ولقد اشترك في هذه المجالس النياحية والحفلات الحزينة كثير من المسلمين الانجليز والجاليات الاسلامية في لندن من عرب وإيرانيين وباكستانيين وهنود وسائر القوميات وفي مقدمتهم رجال السلك الدبلوماسي الاسلامي والعربي المعتمدين لدى البلاط البريطاني (1).

ب - في الأندلس ( أسبانيا ) :

1 - جاء في مقال نشرته مجلة الهادي الصادرة في قم بإيران باللغة العربية في عددها الثاني لسنتها الأولى المؤرخ ذي القعدة 1391 ه- بقلم الدكتور عبد اللطيف السعداني ، بفاس « المغرب » تحت عنوان : « حركات التشيع في المغرب ومظاهره » مشيراً الى أثر التشيع في الأندلس ، وإقامة المأتم على الامام الحسين الشهيد علیه السلام فيما نصه :

« ومن حسن حظّنا هذه المرة أن أحد أعلام المفكرين في القرن الثامن الهجري ، لسان الدين ابن الخطيب ، أسعفنا بإشارة ذات أهمية كبرى ، والفضل في ذلك يعود الى إحدى النسخ الخطية الفريدة من مؤلفه التاريخي « أعلام الاعلام فيمن بويع بالخلافة قبل الاحتلام » التي حفظتها لنا خزانة جامعة القرويين بمدينة « فاس » من عاديات الزمن. وبهذه الإشارة تنحل العقدة المستعصية ، وينكشف لنا ما كان غامضاً من قبل ، مما أغفل الحديث عنه المؤرخون مما كان يجري في الأندلس من أثر التشيع ، ذلك أن ابن الخطيب عند حديثه عن دولة يزيد بن

ص: 97


1- كما أفادت الأنباء أن في يوم عاشوراء تسير المواكب في شوارع بريطانيا كأنك في مدينة كربلاء المقدسة فضلاً عن إقامة مجالس العزاء مفصلاً وفي أماكن بعيدة.

معاوية انتقل به الحديث الى ذكر عادات الأندلسيين خاصة في ذكرى مقتل سيدنا الحسين من التمثيل بإقامة الجنائز ، وإنشاد المراثي. وقد أفادنا عظيم الفائدة حيث وصف إحدى هذه المراسيم وصفاً حياً شيقاً ، حتى ليخيل أننا نرى إحياء هذه الذكرى في بلد شيعي. وذكر أن هذه المراثي تسمى الحسينية ، وأن المحفظة عليها بقيت من قبل تاريخ ابن الخطيب الى أيامه ونبادر الآن الى نقل هذا الوصف على لسان صاحبه :

« ولم يزل الحزن متصلاً على الحسين ، والمآتم قائمة في البلاد ، يجتمع لها الناس ويحتفلون لذلك ليلة يوم قتل فيه ، بعد الأمان من نكير دول قتلته ، ولا سيما بشرق الأندلس. فكانوا على ما حدثنا به شيوخنا من أهل المشرق - يعني مشرق الأندلس - يقيمون رسم الجنازة حتى في شكل من الثياب ، يستجنى خلف سترة في بعض البيت ، ويحتفل بالأطعمة ، ويجلب القراء المحسنون ، ويوقد البخور ، ويتغنى بالمراثي الحسنة ».

وفي عهد ابن الخطيب كان ما يزال لهذه المراثي شأن أيضاً ؛ فإنه في سياق حديثه السابق زادنا تفصيلاً وبياناً عن الحسينية وطقوسها ، فقال :

« والحسينية التي يستعملها الى اليوم المسمعون ، فيلوون لها العمائم الملونة ، ويبدلون الأثواب ، كأنهم يشقون الأعلى عن الأسفل بقية من هذا لم تنقطع بعد ، وإن ضعفت. ومهما قيل الحسينية أو الصفة لم يدر اليوم أصلها.

وفي المغرب اليوم ما لا يزال أولئك المسمعون الذين أشار اليهم ابن الخطيب يعرفون بهذا الاسم ، وينشدون ، وكثرت في إنشادهم عل الأخص المدائح النبوية. كما أن الأغنية الأندلسية الشائعة اليوم في بلاد المغرب تشتمل في أكثرها على المدائح النبوية أيضاً » انتهى كلام السعداني.

أقول : ويظهر من هذا الوصف أن النياحة على الامام الحسين وإقامة شعائر الحزن والاسى عليه ، قد تداوله المسلمون في الأندلس منذ أن وطئت أقدام

ص: 98

المسلمين أرض الأندلس وبقيت هذه التقاليد في هذه البلاد الاسلامية النائية حتى القرن الثامن الهجري - كما يستبان من كلام ابن الخطيب - ويستنتج من استعمال كلمة الحسينية التي استعملها المسلمون هناك لإقامة العزاء الحسيني وإنشاد المراثي فيها أنه كان للشيعة شأن يذكر في الأندلس.

هذا وقد نشرت المجلة السالفة الذكر في عددها الثالث لسنتها الأولى المؤرخ صفر 1392 ه- تتمة مقال الاستاذ السعداني ، الذي نقل فيه بعض المراثي على الامام الشهيد ، تلك المراثي التي إن دلت على شيء فإنما تدل على تغلغل المذهب الشيعي في بعض طبقات الشعب في الاندلس والمغرب العربي ، وعلى شدة تعلقهم بالحسين الشهيد ، وقيامهم بمراسيم النوح عليه في ذكراه الأليمة.

إن ما قاله الاستاذ السعداني في ذلك هو ما يلي :

كما أفادنا ابن الخطيب بنقله نموذجاً لهذه المراثي مدى عناية الشعراء بهذا الموضوع. وعرفنا بأحد شعراء الشيعة في الأندلس ، الذي اشتهر برثاء سيدنا الحسين ، وهو أبو البحر صفوان بن إدريس بن إبراهيم النجيي المرسي ( 561 - 598 ه) هذه القصيدة كانت مشهورة وينشدها المسمعون ، وهي كما يلي :

سلام كأزهار الربى يتنسم *** على منزل منه الهدى يتعلم

على مصرع للفاطميين غيبت *** لأوجههم فيه بدور وأنجم

على مشهد لو كنت حاضر أهله *** لعاينت أعضاء النبي تقسم

على كربلاء لا أخلف الغيب كربلا *** وإلا فان الدمع أندى وأكرم

مصارع ضجت يثرب لمصابها *** وناح عليهن الحطيم وزمزم

ومكة والاستار والركن والصفا *** وموقف حج والمقام المعظم

ثم يستطرد الشاعر بإسناد القصيدة على هذا الوتر ، ويقول :

لو أن رسول اللّه يحيى بعيدهم *** رأى ابن زياد أمهكيف تعقم

وأقبلت الزهراء قدس تربها *** تنادي أباها والمدامع تسجم

ص: 99

تقول : أبي هم غادروا ابني نهبة *** كما صاغه قيس وما مج أرقم

سقوا حسنا للسم كاسا روية *** ولم يقرعوا سنا ولم يتندموا

وهم قطعوا رأس الحسين بكربلا *** كأنهم قد أحسنوا حين أجرموا

فخذ منهم ثاري وسكن جوانحاً *** وأجفان عين تستطير وتسجم

أبي وانتصر للسبط واذكر مصابه *** وغلته والنهر ريان مفعم

ويختم الشاعر قصيدته الطويلة تلك بهذه الأبيات :

فيا أيها المغرور واللّه غاضب *** لبنت رسول اللّه أين تيمم؟

ألا طرب يقلى ألا حزن يصطفى *** ألا أدمع تجرى ألا قلب يضرم؟

قفوا ساعدونا بالدموع فأنها *** لتصغر في حق الحسين ويعظم

ومهما سمعتهم في الحسين مراثياً *** تعبر عن محض الأسى وتترجم

فمدوا أكفاً مسعدين بدعوة *** وصلوا على جد الحسين وسلموا

ثم يواصل الأستاذ السعداني كلامه ويقول :

« ونتلمس هذه الحركة فيما بعد عصر مبدع هذه القصيدة الحسينية ، فنعثر على أثر آخر للفكر الشيعي ؛ حيث نلتقي بأحد أدباء الأندلس في النصف الأول من القرن السابع الهجري ، هو القاضي أبو عبد اللّه محمد بن عبد اللّه القضاعي البلنسي ، المقتول في 20 محرم سنة 658 ه- ونقف على اسم كتابين من مؤلفاته العديدة ، موضوعها هو رثاء سيدنا الحسين.

أولهما : « اللجين في رثاء الحسين » ولا يعرف اليوم أثر لهذا الكتاب غير اسمه.

وثانيهما : « درر السمط في أخبار السبط » وكان كل ما بقي من هذا الكتاب هو ما نقله المقري في كتابه : « نفح الطيب من غصن أندلس الرطيب » وقد اعترف المقري بأنه أغفل نقل بعض الفقرات من الكتاب مما يشم منه رائحه التشيع. ثم إنه اكتفى بنقل جزء من الباقي فقط ... » الخ.

ص: 100

الفصل الثامن والعشرون: النياحة على الحسين علیه السلام في القارة الأمريكية

لقد انتقلت مراسيم إقامة العزاء على الامام الحسين علیه السلام بمختلف أنواعها ، من شعائر النياحة ، وإقامة مجالس الحزن ، وتسيير السبايا في الشوارع خلال المائة سنة الأخيرة الى القارة الأمريكية ، حيث انتقلت هذه التقاليد مع المهاجرين المسلمين من عرب وغيرهم ، ممن تركوا ديارهم في آسيا وأفريقية وانتقلوا الى بلدان القارة الأمريكية ، بشطريها الشمالي والجنوبي. وكان كثير من هؤلاء المهاجرين المسلمين من الشيعة الموالين لآل النبي صلی اللّه علیه و آله والمتمسكين بشعائر دينهم وتقاليد مذهبهم ، وخاصة حزنهم على إمامهم الثالث الشهيد ، الحسين بن علي علیهماالسلام ، ومن هؤلاء المهاجرين جماعة من مسلمي لبنان ، وأفراد وأسر من مسلمي الهند والباكستان ، وبعض الايرانيين وغيرهم ، ممن اضطرتهم لقمة العيش إلى ترك مواطنهم والهجرة الى تلك الأصقاع النائية والاستيطان فيها.

وفيما يلي وصف لبعض ما يقوم به هؤلاء من شعائر الحزن في تلك البلدان :

1 - جاء في العدد «515» من مجلة « الاسبوع العربي » المؤرخ 21 / 4 / 1969 م بقلم السيد بهجت منصور ، عن النياحة على الامام الحسين في أمريكا ما عبارته :

« والهودج الكبير الذي يعده المسلمون في امريكا الوسطى وفي مدينة « بورت أو اسباني » إحدى حواضر جزيرة ترينيداد ، الواقعة في البحر الكاريبي ،

ص: 101

من شمال أمريكا الجنوبية بمناسبة إقامة شعائر الحزن على سيد الشهداء علیه السلام ، يزين هذا الهودج بالذهب والفضة ، وبأزهى الألوان الوهاجة وأحلاها. ويشترك المسيحيون والهنود مع المسلمين في احتفالاتهم العظيمة بيوم عاشوراء ، في مسيرة عظيمة ، في طليعتها هذا الهودج الفخم ، وتسير الجماهير وراءه تحف بها الطبول وآلات الموسيقى بأنغامها الحزينة ، تطوف شوارع العاصمة ، وبين تعالي العويل والهتاف بحياة الحسين علیه السلام سيد الشهداء في ذكرى مصرعه ، يلقى الهودج الى البحر الصاخب ، فتحمله الأمواج الى الأعماق الزرقاء المجهولة ، ويعود الجميع الى مجالس العزاء بذكرى الحسين علیه السلام . وأغلب الظن أن هذه الظاهرة انتقلت الى هذه الجزيرة مع الهنود المسلمين ؛ حيث يمارسون على غرارها في الهند ، تعبيراً عن عواطفهم نحو هذه الذكرى المؤلمة ، وعلى هذا النحو في معظم الأقطار الأفريقية والآسيوية يعبر المسلمون عن مشاعرهم حسب تصورهم ومعتقداتهم في هذه المناسبة. ومنهم من ينحو بها كعرض لذلك المسرح الحسين يوم الطف بالمنطق الرزين ، وبأرقى الأساليب الأخاذة بالمشاعر ، مستوحين من قدسية ذلك اليوم التاريخي ضروب العبر وأنواع البطولة والإيمان بالحق ، فينتزعون من ذكراه أروع الصور وأبلغ الدروس وأسمى العظات ، وإن كانت منهم مجرد سرد وترديد ... » الخ.

* * *

ص: 102

تقريظ الجزء الأول من الكتاب

نشرت مجلة « الإخاء » الغراء التي تصدر باللغة العربية في طهران بعددها «326» المؤرخ في 26 ربيع الأول «1394 ه» الكلمة التالية في التعريف بالجزء الأول من هذا الكتاب ومؤلفه :

تاريخ النياحة

للاستاذ السيد صالح الشهرستاني

عرف الأستاذ السيد صالح الشهرستاني بولعه واهتمامه الشديدين في البحث في بطون الكتب - المطبوعة والمخطوطة - واستخراج ما يصلح منها للدراسة والاستزادة في العلم والمعرفة ، ليتحف الراغبين بنتاج فكره وجهده في مقالات يكتبها وكتب يضعها.

ولقد أسهم السيد صالح الشهرستاني لفترة ليست بالقصيرة في الكتابة في مجلة « الإخاء » وكان له الفضل في تعريف قراءها بقضايا تاريخية ولغوية واجتماعية ، فله من أسرة « الإخاء » وافر الشكر وعظيم التقدير.

وقد أهدانا أخيراً الجزء الأول من كتابه القيم وهو بعنوان « تاريخ النياحة على الامام الشهيد الحسين بن علي علیهماالسلام » فتصفحناه ووجدنا فيه ما لم يتطرق اليه باحث من قبل في هذا الشأن ، مما يدل على الجهد الضخم الذي بذله الاستاذ السيد صالح الشهرستاني في استقصاء المعلومات من كتب عديدة اعتمدها مصادر لمؤلفه الجديد ، حتى خرج بهذا الشكل والمضمون.

ولا يسعنا إلا أن نقدم لسيادته شكرنا وتقديرنا ، راجين له الموفقية في أعماله وداعين له بالعمر المديد والصحة والسعادة.

ص: 103

ص: 104

فهرست الجزء الأول

تقديم... 7

مقدمة المحقق... 13

مقدمة المؤلف... 21

الفصل الأول : النبي وأصحابه أول من بكوا الحسين... 23

الفصل الثاني : بكاء علي وفاطمة على ابنهما ( عليهم السلام )... 31

الفصل الثالث : أهل الحجاز يبكون الحسين ( عليه السلام ) عند مفارقته لهم... 37

الفصل الرابع : الحسين علیه السلام يتنبأ الكارثة... 39

الفصل الخامس : الحسين ينعى نفسه ويبكي آله... 45

الفصل السادس : النياحة على آل الحسين ( عليه السلام )... 51

الفصل السابع : أعداء الحسين علیه السلام يبكونه... 55

الفصل الثامن : نساء الحسين يندبنه في ساحة المعركة... 57

الفصل التاسع : بنو أسد تدفن أجساد الشهداء... 63

الفصل العاشر : أهل الكوفة ينوحون على الحسين ( عليه السلام ) وأهله... 65

الفصل الحادي عشر : الشام ومناحتها على الحسين ( عليه السلام ) وأهله... 71

الفصل الثاني عشر : نوح السبايا والصحابة يوم أربعين استشهاد الحسين ( عليه السلام )... 77

الفصل الثالث عشر : مدينة الرسول تندب الحسين علیه السلام وآله... 81

الفصل الرابع عشر : أول نياحة على الحسين علیه السلام وآله في مصر... 91

الفصل الخامس عشر : اول من رثى الحسين ( عليه السلام ) بعد دفنه... 99

الفصل السادس عشر : موقف الأمويين من النياحة على الحسين ( ع )... 107

الفصل السابع عشر : التوابون ينوحون الحسين ( عليه السلام ) ويثورون على الأمويين... 111

الفصل الثامن عشر : بكاء الائمة على الحسين ( عليهم السلام )... 117

الفصل التاسع عشر : نياحة المشايخ والصحابة والعظماء على الحسين ( عليه السلام )... 139

الفصل العشرون : النياحة على الحسين علیه السلام في عهد الأمراء البويهيين... 147

ص: 105

فهرس الجزء الثاني

الفصل الحادي والعشرون : موقف العباسيين من النياحة على الحسين (عليه السلام)... 5

الفصل الثاني والعشرون : النياحة على الامام الحسين (عليه السلام) بعد العباسيين... 23

الفصل الثالث والعشرون : تأثير النياحة على الحسين (عليه السلام) في الاقطار العالمية... 27

الفصل الرابع والعشرون : النياحة على الحسين (عليه السلام) في القرون الاخيرة... 39

الفصل الخامس والعشرون : النياحة على الحسين (عليه السلام) في سائر أقطار القارة الاسيوية... 57

الفصل السادس والعشرون : النياحة على الامام الحسين (عليه السلام) في القارة الافريقية... 91

الفصل السابع والعشرون : النياحة على الحسين (عليه السلام) في القارة الاوروبية... 95

الفصل الثامن والعشرون : النياحة على الحسين (علیه السلام) في القارة الأمريكية... 101

ص: 106

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.