سيّد المرسلين صلّى اللّه عليه وآله المجلد 2

هوية الكتاب

المؤلف: الشيخ جعفر السبحاني

المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي

الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي

الطبعة: 1

الموضوع : سيرة النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) وأهل البيت (عليهم السلام)

تاريخ النشر : 1412 ه.ق

الصفحات: 780

نسخة غير مصححة

المكتبة الإسلامية

محاضرات الاستاذ للحقّق الشيخ جعفر السبحاني

سيد المرسلين صلی اللّه عليه وآله

دراسة تحليلية شاملة للشخصية والسيرة المحمدية في شتی أبعادها الاجتماعية والرسالية والسياسية والعسكرية

بقلم جعفر الهادي

الجزء الثاني

مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة

ص: 1

اشارة

سبحاني تبريزي، جعفر، 1308 ش.

سيّد المرسلين صلی اللّه عليه وآله / تأليف جعفر السبحاني. -- مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرفة 1412 ق. = 1370 ش.

ج1 -- (مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة. 390).

عربی.

شابك الدورة 6-396-470-964-978

ISBN 978-964-470-396-6

فهرست نويسی بر اساس اطلاعات فيپا.

ج1 (چاپ چهارم: 1429 ق = 1387 ش).

كتابنامه.

2ج (چاپ اوّل: 1413ق = 1371ش).

1. محمّد (صلی اللّه عليه وآله)، پیامبر اسلام، 53 قبل از هجرت - 11ق.الف. جامعۀ مدرسین حوزۀ علميۀ قم ، دفتر انتشارات اسلامی ب. عنوان.

9س 2س / 9 / 22 BP

297/193

كتابخانۀ ملّی ایران 1146-71م

سيد المرسلين صلی اللّه عليه وآله

(ج1)

تأليف: الاُستاذ المحقق آية اللّه الشيخ جعفر السبحاني

تعريب: الاُستاذ الشيخ جعفر الهادي

الموضوع: السيرة النبوية

طبع ونشر: مؤسسة النشر الإسلامي

عدد الصفحات: 700

الطبعة: الرابعة

المطبوع: 1000 نسخة

التاريخ: 1429 ه.ق.

شابك ج1: 2-716-470-964-978

ISBN 978-964-470-716-2

مؤسسة النشر الإسلامي

التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة

ص: 2

المقدمة

اشارة

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

مميّزات النهضة الالهية وخصائصها

اشارة

خصيصة « الخلود » والعمق في شخصية رسول الاسلام

المصادر الاولى والأصيلة للكتابة عن سيرة النبيّ :

تشبه نهضة « الأنبياء » الالهية التي قام بها رسل اللّه وسفراؤه لتخليص البشرية من براثن الأوهام ، والخرافات ، ولانقاذها من جور المستكبرين وظلم الظالمين أكثر شيء بأمواج البحر التي تبدأ بدوائر صغيرة محدودة ، ولكنّها كلما ابتعدت عن مركز الدائرة ازدادت اتساعا واتساعا ، واشتدت قوتها اكثر فاكثر.

إن الانقلاب المعنويّ العريض والتحوّل الروحيّ العظيم الذي وضعت اسسه في أرض مكة على يدي رسول الاسلام العظيم أضاء بشعاعه ونوره الباهر في اليوم الاوّل غار حراء وثم منزل خديجة وبعض البيوت المتواضعة في مكة فقط ، ولكنه اتسع نطاقه بمرور الزمان ، حتى عمّ في مدة ليست بالطويلة شرق الارض وغربها ، ودوّى نداء التوحيد في منطقة واسعة جدا من العالم ( ابتداء من فرنسة وانتهاء بجدار الصين وما وراءه ) (1).

ص: 3


1- لقد كتبت هذه المقدّمة وما بعده خلال تواجدي في الصين عام 1408 وقد جئت إليها في مهمة استطلاعية وتبليغية اسلامية ، وقد زرت في نفس الفترة التي كنت فيها مشتغلا بكتابة هذه المقدمة المسجد الجامع في - بكين - العاصمة ، والتقيت بامام ذلك المسجد الذي رحّب بي وبمن كان معي أشد ترحيب ، واتحفني بنسخة من ترجمة القرآن الكريم باللغة الصينية ، وزرت خلال وجودي في ذلك المسجد قبر رجلين مسلمين من ايران أحدهما تاجر ، والآخر عالم جاءا إلى الصين في القرن السادس الهجري ، ونشرا الاسلام في بكين وما حولها ، وقد نصبت عند قبرهما لوحتان من المرمر نقش عليهما اسمهما ، وخصوصياتهما بالاحرف العربية. وهناك تذكرت حديث رسول اللّه صلی اللّه عليه وآله «اطلبوا العلم ولو بالصين». قلت في نفسي: لعل رسول اللّه صلی اللّه عليه وآله كان يقصد فيما يقصد في هذا الحديث دفع المسلمين إلى نشر مبادئ الاسلام في تلك البلاد العريضة التي تضم خمس سكان العالم. وقد قام المسلمون الغيارى على دينهم، الحريصون على نشره وبثه بهذه المهمة فيما سبق وأدوا ما كان عليهم. فماذا فعلنا نحن؟ وهل ترى يجوز أن يجهل خمس سكان العالم دين اللّه، ولا ينعموا بخيراته؟! أم هل ترى يجوز في شريعة الانصاف أن يعاني ذلك الشعب الكبير من الاباطرة الطغاة في الماضي، ومن الانظمة والايديولوجيات الجائرة الملحدة في الحاضر، هذا والنبي صلى اللّه عليه وآله كان يحرص على هداية فرد واحد، والقرآن يقول: «من أحياها فكأنما أحيى الناس جميعاً» ؟؟ هل خصصت نهضة الانبياء الالهية برقعة صغيرة من الارض هي الجزيرة العربية، وما حولها ؟ أم أنها رحمة للعالمين جميعاً؟ سؤال نطرحه على ابناء الاسلام دعاةً ورعايا، حكومات وشعوباً لعلهم يتفكرون ؟ (جعفر الهادي).

إن مؤسّسي هذا النوع من النهضات الدينية (1) يتمتعون - من حيث الاخلاق والفضائل الانسانية - بخصيصة الخلود واللانهاية فان الزمن يكشف باستمرار عن أبعاد أوسع وآفاق جديدة من شخصياتهم فهي تتسع كلما تقادم بها العهد تماما كأمواج البحر ، وكأن الأنبياء نسخة ثانية من الطبيعة ، فكما أننا كلما أمعنا أكثر في الطبيعة ظهرت لنا منها حقائق اكثر ، وانكشفت لنا رموز وأسرار جديدة لم نعهدها من قبل فهكذا شخصيات الأنبياء والمرسلين ، وسفراء اللّه الى البشرية.

وتتجلى هذه الحقيقة أكثر - فأكثر كلما تعاظمت شخصية من تلك الشخصيات -.

وخلاصة القول أننا كلما ازددنا تعمقا وامعانا فيهم. اكتشفنا أسرارا كثيرة ، وحقائق جديدة عن حياتهم.

ويدل على كلامنا هذا تلك المؤلفات الكثيرة الوافرة التي كتبها علماء التاريخ وأصحاب السير ، قديما وحديثا ، حول رسول الاسلام العظيم صلی اللّه علیه و آله ولكن مع ذلك كله كلما تقادم العهد به ، وكلما اتسعت النظرات وازدادت عمقا

====

2.

ص: 4


1- المقصود من الدين هو المنهاج الواسع الشامل الذي يتكفل سعادة البشرية في الحياتين الدنيا والأخرى وليس مجرد سلسلة من الطقوس الفارغة الخاوية كما هو الحال في المسيحية الحاضرة.

اكتشف المحققون مزيدا من الآفاق ، وجديدا من الابعاد في هذه الشخصية الإلهية.

ولقد كان تعاطي السيرة النبوية والحديث حولها في البداية منحصرا ( أو بالاحرى مقتصرا ) على مشاهدات أصحاب النبيّ صلی اللّه علیه و آله ومسموعاتهم.

ومع ظهور جيل جديد يدعى بالتابعين بعد وفاة النبيّ صلی اللّه علیه و آله اتخذت الاحاديث والسنن الاسلاميّة ، وتفاصيل الحياة النبويّة ، وقصص غزواته وحروبه رونقا جديدا ، وأحسّ الجيل الجديد برغبة شديدة في أخذ الاحاديث الاسلامية ، والتعرف على الحوادث التي وقعت في عصر النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، وأيّام حياته من مولده إلى وفاته.

وكلما ازدادت حالات الوفاة ، في أوساط الصحابة والتابعين الذين كانوا يشكّلون المنبع الأوّل والمصدر الأصيل لهذا النوع من العلوم الاسلامية ، اتسع الاهتمام بالسيرة وما شابهها وتعاظمت الرغبة فيها وتزايد عطش المسلمين إلى اخذ ومعرفة الأحاديث التي تتضمن بيان خصوصيات حياة رسول الاسلام صلی اللّه علیه و آله ، وجزئيات سيرته الطاهرة. هذا من جانب.

ومن جانب آخر كان تشدّد الخليفة الثاني (1) ، ومنعه عن كتابة أحاديث النبيّ صلی اللّه علیه و آله قد أوجب أن يندثر كثير من الأحاديث الاسلامية ، التي سمعها بعض أصحاب النبيّ صلی اللّه علیه و آله وتدفن تحت التراب بموتهم.

ولقد استمر منع الخليفة عن كتابة الحديث النبوي وبقي ساري المفعول لمدة طويلة بعد وفاته (2) ، حتى أتى الى الحكم خليفة معتدل السيرة من الأمويين هو : « عمر بن عبد العزيز » فأمر - في رسالة وجّهها الى أبي بكر بن حزم حاكم المدينة

ص: 5


1- تقييد العلم : ص 48 - 53.
2- لم يترك نهي الخليفة أي أثر على علماء الشيعة الذين كانوا يتبعون عليا علیه السلام ، فقد عمدوا في فترة محدودة الى تدوين وضبط الأحاديث ، وحفظوا كنوزا عظيمة من علوم اهل البيت النبوي ، للتوسع في هذا المجال راجع كتاب « تأسيس الشيعة لعلوم الاسلام ».

وقاضيها - بكتابة احاديث النبيّ صلی اللّه علیه و آله خوفا من اندراس العلم وزواله (1).

أئمة السيرة :

ومن حسن الحظ أن الخليفة الثاني لم يمنع إلاّ من تدوين وكتابة الأحاديث النبويّة ، فلم يشمل هذا المنع كتابة الحوادث والوقائع التي وقعت في عصر الرسالة.

ولهذا الّفت في تلك الفترة كتب كثيرة عن حياة رسول الاسلام صلی اللّه علیه و آله ، وأوّل من كتب حول وقائع عصر الرسالة ، وأرخ حوادث الصدر الأوّل من الاسلام هو : « عروة بن الزبير بن العوّام » الصحابي المعروف الذي توفي عام 92 أو 96 من الهجرة (2)

ثم عمد بعد جماعة في المدينة وآخرون في البصرة الى جمع وتدوين تفاصيل السيرة ، وحروب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وغزواته ، وبيان هذا الأمر على نحو التفصيل خارج عن نطاق هذه الدراسة.

ولقد كانت هذه الكتب والمؤلفات هي المنبع والاساس للكتب التي دوّنت فيما بعد في صورة كتب السيرة النبويّة ، أو تاريخ الاسلام.

وقد بدأ تدوين سيرة النبيّ الاكرم صلی اللّه علیه و آله بشكل جميل وبصورة بديعة منذ أوائل المنتصف الثاني من القرن الثاني الاسلامي ، وكان من بين من قام بجهد مشرف ومشكور في هذا المجال العالم الشيعي الكبير محمد بن اسحاق المتوفى عام 151 فهو أول من استخرج تفاصيل الوقائع الاسلامية من كتب الماضين ، ومن

ص: 6


1- ارشاد الساري في شرح صحيح البخاري : ج 1 ص 195 و 196.
2- تأسيس الشيعة لعلوم الاسلام : ص 233. اختلفت الاقوال في من هو أول من صنف في علم المغازي والسير في الاسلام. فقال السيوطي في كتاب الاوليات بأنه عروة بن الزبير. وقال الافندي في كشف الظنون أنه محمد بن اسحاق. والحق انه لا الاول ولا الثاني بل عبيد اللّه بن أبي رافع فانه تقدمهما في التصنيف في السير والمغازي.

ثنايا رواياتهم ومنقولاتهم وألفها واخرج شيئا جامعا حول السيرة النبويّة إلى عالم الكتب والمؤلّفات.

كما أن أوّل من ضبط ودوّن غزوات رسول الاسلام بشكل مفصّل هو الواقدي صاحب « المغازي » و « فتوح الشام » المتوفى عام 207 ه (1).

وقد لخّصت سيرة ابن اسحاق على يد ابن هشام أبي محمد عبد الملك المتوفى عام 218 ه وعرفت فيما بعد بسيرة ابن هشام ( أو السيرة الهشامية ) وهو الآن معدود من مصادر التاريخ الاسلامي وسيرة النبيّ الاكرم صلی اللّه علیه و آله الموثقة.

ولو أننا تجاوزنا هذه الشخصيات لكان لشخصيتين اخريين سهم كبير في تدوين وتسجيل تاريخ حياة رسول الاسلام ، وهما :

1 - محمد بن سعد الكاتب الواقدي المتوفى عام 230 ه مؤلف « الطبقات الكبرى » الذي أورد فيه سيرة النبيّ الإكرام صلی اللّه علیه و آله وأصحابه على نحو التفصيل.

وقد طبع هذا الكتاب في لندن مؤخرا ، كما اعيد طبعه في لبنان في 9 مجلدات.

2 - محمد بن جرير الطبري المتوفى عام 310 ه مؤلف كتاب « تاريخ الامم والملوك ».

على أن تثمين جهود هذه الثلة من الكتّاب والمؤلفين لا يعني بالضرورة أن كل ما أدرجوه في مؤلفاتهم هو الثابت الصحيح ، بل تحتاج مؤلفاتهم - كغيرها من المؤلفات ، والكتب - إلى التحقيق الواسع والتمحيص الدقيق.

ثم ان حركة التأليف حول شخصية رسول الاسلام صلی اللّه علیه و آله

ص: 7


1- عدّ الشيخ الطوسي في رجاله ابن اسحاق من تلامذة الامام جعفر الصادق علیه السلام ، وتوجد نسخة خطية من سيرته في مكتبة مدرسة الشهيد المطهري بطهران حسب ما كتب صاحب الذريعة في ج 12 ص 281 فيها.

وسيرته استمرت بعد ذلك طيلة القرون الاسلامية اللاحقة. ونحن اليوم أمام مكتبة زاخرة من الكتب ، والدراسات ، المختلفة في أحجامها ومستوياتها ، والمتنوعة في طرائقها وأساليبها ، التي ألّفت حول رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وهذا إنما يدل على خصيصة العمق واللانهاية التي اتسمت بها شخصية النبيّ صلی اللّه علیه و آله الخالدة العظيمة.

وقد أراد صاحب هذه الدراسة أن يقدم للجيل الحاضر شرحا ناطقا عن حياة رسول الاسلام العظيم ، في حدود ما تسمح به إمكاناته المحدودة ، ولم يأل جهدا - لتحقيق هذا الهدف على وجه أفضل - في مراجعة كتب الفريقين المعتبرة ، وان اكتفى بذكر عدد قليل من المصادر عند التأليف ، وقد بيّنا عذرنا من هذا في الجزء الأوّل من هذه الدراسة.

ولقد تناول الجزء الأول من هذا الكتاب حوادث مكة من بدء نشأتها إلى نهاية السنوات الثلاث عشرة الاولى من عصر الرسالة أي ما قبل الهجرة ، وها هو الجزء الثاني وهو يتناول حوادث العشر سنوات للهجرة الشريفة ، ومن اللّه التوفيق.

قم المقدّسة - الحوزة العلمية

جعفر السبحاني

21 شعبان 1392 ه-

ص: 8

حوادث السنة الأولى من الهجرة

اشارة

حوادث السنة الأولى من الهجرة (1)

26

أوّل عمل ايجابيّ للنبيّ في المدينة

عقد ميثاق تعايش بين المسلمين وغيرهم :

حملت وجوه فتية الانصار المستبشرة ، المبتهجة ، بمقدم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله والاستقبال العظيم الذي قام به أغلبية الأوسيّين والخزرجيين له حملته صلی اللّه علیه و آله ، على أن يعمد قبل أي شيء إلى تأسيس مركز عام لتجمّع المسلمين فيه في الأوقات المختلفة ، وللقيام بالاعمال التربوية والتثقيفية ، والسياسية والعسكرية في رحابه.

كما أن عبادة اللّه الواحد تقع في طليعة البرامج التي جاء بها رسول الاسلام ولذا رأى من اللازم أن يعمد قبل أي عمل آخر الى بناء معبد للمسلمين حتى يتسنى لهم أن يعبدوا اللّه ويذكروه فيه في أوقات الصلوات.

أجل كانت الحاجة إلى مثل هذا المركز شديدة فلا بد من مكان ليجتمع اعضاء حزب الاسلام ( حزب اللّه ) كل اسبوع في يوم معين فيه ، ويتشاوروا في

ص: 9


1- لا بدّ أنك أيها القارئ الكريم تتذكر جيدا أننا قصدنا من السنة الاولى للهجرة الاشهر العشرة المتبقية التي قضى رسول اللّه شهرين منها في مكة وحطّ في الباقي من شهرها الثالث ( أي ربيع الاول ) على أرض يثرب ، بناء على هذا تكون السنة الاولى من الهجرة تسعة أشهر فقط ، وتبدأ السنة الهجرية الثانية من شهر محرم الحرام ( وليس من اثنى عشر ربيع الاول ).

شئون الاسلام والمسلمين ومصالحهم ، وليجتمع فيه عامة المسلمين مضافا إلى هذا اللقاء الاسبوعيّ مرتين كل عام لأداء صلاة العيد ، فكان المسجد الذي بناه كأول عمل قام به بعد قدومه المدينة.

فلم يكن المسجد على عهد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله للعبادة فقط بل كانت تلقى فيه كل أنواع العلوم والمعارف الاسلامية الشاملة للأمور التربوية وغيرها.

لقد كان يعلّم فيه كل التعاليم والمواد الدينية والعلمية ، حتى الأمور المرتبطة بالقراءة والكتابة.

وقد بقيت أغلب المساجد على هذا المنوال حتى مطلع القرن الرابع الهجريّ الاسلاميّ ، فقد كانت في غير أوقات الصلاة تتحول الى مراكز لتدريس العلوم المتنوعة (1).

وربما اتخذ مسجد المدينة صورة المركز الأدبيّ ، عند ما كان يلقي فيه كبار فصحاء العرب وبلغاؤهم قصائدهم المنسجمة مع التعاليم الاخلاقية والمعايير الاسلامية بين يدي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كما فعل « كعب بن زهير » إذ ألقى قصيدته المعروفة « بانت سعاد » عند النبيّ صلی اللّه علیه و آله في المسجد ، وأعطاه النبيّ الكريم صلی اللّه علیه و آله صلة جيّدة ، وخلع عليه بخلعة عظيمة (2).

أو كما كان يفعل « حسان بن ثابت » الذي كان يدافع بشعره عن حوزة الاسلام والمسلمين اذ كان يلقي بعض قصائده في المسجد عند رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

ص: 10


1- راجع صحيح البخاري : ج 1 كتاب العلم ، بل حتى عند فصل المراكز العلمية عن المساجد في ما بعد ، بقيت المدارس تبنى وتشيّد الى جانب المساجد فكان هذا العمل يجسد الصلة الوثيقة بين العلم بالدين.
2- السيرة النبوية : ج 2 ص 503 قال أنشد كعب بن زهير رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في المسجد : بانت سعاد.

ولقد كانت مجالس الدرس والتعليم في مسجد المدينة على عهد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله تتسم بروعة كبيرة بحيث عند ما شاهد وفد ثقيف مشهدا من مشاهدها انبهروا به ، وعجبوا بشدة لاهتمام المسلمين بتعلم الاحكام واكتساب المعارف والعلوم (1).

كما انه كانت تمارس الامور القضائية والفصل بين الخصومات ، واصدار الحكم على المجرمين في المسجد ، فكان المسجد يومذاك بمنزلة محكمة ( بكل معنى الكلمة ) أي أنها تقوم بكل ما تقوم بها المحاكم اليوم.

هذا مضافا إلى أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كان يلقي خطبه الحماسية والجهادية لتعبئة المسلمين من أجل مجاهدة الكفار والمشركين في المسجد.

ولعل من حكمة الاجتماع في المسجد لاجل تحصيل المعارف وتعلم العلوم هو أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أراد بذلك أن يثبت عمليا أن العلم والدين توأمان لا ينفكان فكلما كان هناك مركز للايمان وجب ان يكون محلا للعلم أيضا.

وأما ممارسة القضاء والقيام بالخدمات الاجتماعية ، واتخاذ القرارات العسكرية في المسجد فقد كان لأجل أن يعلن للجميع بأن دينه ليس مجرد أمر معنوي لا يتصل بالامور الدنيوية ولا تهمه قضايا الحياة وشئون المعيشة المادية ، بل هو دين شامل كامل لا يحض الناس على التقوى ، ولا يدعوهم إلى الايمان إلاّ ويهتم أيضا بشئونهم المعيشية وإصلاح أوضاعهم الاجتماعية. فليس هو بالتالي يهتمّ بجانب ويغفل جانبا ، بل هو دين شامل جامع يتكفل الأمور المادية والمعنوية معا.

ولقد كان هذا التلاقي والانسجام ( بين العلم والإيمان ) محطّ اهتمام المسلمين ونصب أعينهم دائما حتى بعد ما اتخذت المراكز التعليمية والمؤسسات العلمية البحتة شكلا مستقلا وصار لها محل خاص تدرس فيه ، فانهم ظلوا يبنون

ص: 11


1- تاريخ الخميس : ج 2 ص 136.

الجامعات الى جانب الجوامع ويشيّدون المعاهد الى جانب المساجد ليثبتوا للعالم أن هذين الأمرين اللذين يكفلان إسعاد الحياة والانسان لا يمكن أن ينفصلا ، ويبتعد بعضها عن بعض.

مع عمار بن ياسر في بناء المسجد النبويّ :

لقد ابتاع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الارض التي بركت فيها ناقته يوم قدومه المدينة ، من أصحابها بعشرة دنانير لإقامة مسجد فيها. واشترك كافة المسلمين في تهيئة موادّه الانشائية وبناه ، وعمل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله نفسه في تشييدها أيضا. فكان صلی اللّه علیه و آله ينقل معهم اللبن ، والحجارة ، وبينما هو صلی اللّه علیه و آله ذات مرة ينقل حجرا على بطنه استقبله « اسيد بن حضير » فقال : يا رسول اللّه اعطني أحمله عنك.

قال صلی اللّه علیه و آله : لا ، اذهب فاحمل غيره (1).

وبهذا الاسلوب العملي كشف رسول الاسلام العظيم عن جانب من برنامجه الرفيع ، إذ بيّن بعمله أنه رجل عمل وليس رجل قول ، رجل فعل وليس رجل كلام ، وكان لهذا أثره الفعّال في نفوس أتباعه.

فقد أنشد أحد المسلمين بهذه المناسبة يقول :

لئن قعدنا والنبيّ يعمل *** فذاك منّا العمل المضلّل (2)

وكان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يردّد وهو يبني ويعمل : لا عيش إلاّ عيش الآخرة ، اللّهمّ ارحم الأنصار والمهاجرة.

وقد كان « عثمان بن عفان » ممن يهتمّ بنظافة ثيابه ، ويحرص على أن يمنع عنها الغبار والتراب ، فلم يعمل في بناء المسجد لهذا السبب ، فاخذ عمار ينشد أبياتا تعلّمها من أمير المؤمنين عليّ علیه السلام ، وفيها تعريض بمن لا يعمل ويحرص على ثيابه أن لا تتسخ بالغبار :

ص: 12


1- بحار الأنوار : ج 19 ص 112.
2- السيرة النبوية : ج 1 ص 496.

لا يستوي من يعمر المساجدا *** يدأب فيها قائما وقاعدا

ومن يرى عن الغبار حائدا (1)

وقد أغضب مفاد هذه الابيات عثمان بن عفان ، فقال لعمار مهدّدا : قد سمعت ما تقول منذ اليوم يا ابن سمية ، واللّه إني لأراني سأعرض هذه العصا لأنفك أي أضربك بها ، وفي يده عصا!!

فلما عرف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بكلام عثمان غضب وقال :

« ما لهم ولعمّار ، يدعوهم إلى الجنّة ، ويدعونه إلى النار.

إنّ عمارا جلدة ما بين عينيّ وأنفي .. » (2).

وكان « عمار » فتى الاسلام القوي ، يحمل قدرا كبيرا من اللبن والاحجار في بناء المسجد ولا يكتفي بحمل شيء قليل منها.

فكان البعض يستغل طيب قلبه واخلاصه فيثقله باللبن والاحجار.

ويروى أن اصحاب النبيّ صلی اللّه علیه و آله جعل يحمل كل واحد لبنة لبنة وعمار يحمل لبنتين لبنتين لبنة عنه ولبنة عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله محبة منه لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله (3).

وذات مرة رآه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقد حمّلوه ثلاث لبن أو احجار ثقيلة فشكا إليه عملهم وقال : يا رسول اللّه قتلوني يحملون عليّ ما لا يحملون فنفض رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وفرته (4) وكان رجلا جعدا وهو يقول قولته التاريخية :

« ويح ابن سمية ليسوا بالذين يقتلونك ، انما تقتلك الفئة الباغية » (5).

ص: 13


1- السيرة النبوية : ج 1 ص 496 ، وتاريخ الخميس : ج 1 ص 345 والسيرة الحلبية : ج 2 ص 76 ومع ان ابن اسحاق صرّح باسم عثمان بن عفان ولكن ابن هشام الذي لخصّ سيرة ابن اسحاق امتنع عن تسمية عثمان. وقال صاحب المواهب الدنية : المراد في هذه الابيات عثمان بن مظعون ، راجع هامش سيرة ابن هشام أيضا.
2- تاريخ الخميس : ج 1 ص 345.
3- السيرة الحلبية : ج 2 ص 71 ، البداية والنهاية : ج 2 ص 217.
4- اي شعر راسه.
5- المصدران السابقان

وقد كان هذا الخبر الغيبي من الدلائل القوية على نبوة الرسول الكريم صلی اللّه علیه و آله وصدق دعواه ، وصحة إخباراته ، فقد وقع ما أخبره كما أخبر ، فقد قتل « عمّار » وهو في التسعين من عمره في معركة صفين عند ما كان يقاتل جيش الشام بين يدي علي علیه السلام ، فقتله أنصار معاوية ، وقد أحدث هذا الخبر الغيبي أثرا عجيبا في حياة المسلمين فقد جعله المسلمون معيارا لمعرفة الحق ، أي كانوا يعرفون حقانية أي جهة من الجهات وأي طرف من الأطراف في الصراعات والنزاعات بانضمام عمّار إليه.

وعند ما قتل عمّار في ساحة القتال بصفين ، دبّ في أهل الشام اضطراب عجيب.

فالذين كانوا في شك في حقانية « عليّ » علیه السلام وموقفه في هذه الحرب بفعل الدعاية المضادة التي كان يقوم بها معاوية ومساعده عمرو بن العاص ضد الامام قد انتبهوا على خطائهم وعرفوا بمقتل « عمّار » على أيدي أنصار معاوية بأن عليا على حق وأن معاوية وجماعته هي الفئة الباغية التي أخبر عنها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

ومن هؤلاء « خزيمة بن ثابت » الأنصاريّ الذي خرج مع الإمام عليّ علیه السلام لقتال معاوية ، ولكنّه كان متردّدا في مقاتلته ، بيد أنه جرد سيفه بعد مقتل « عمّار » على أيدي أهل الشام ، وحمل عليهم (1).

ومنهم « ذو الكلاع » الحميري الذي خرج على رأس عشرين ألف مقاتل وهم تمام رجال قبيلته ، مع معاوية لمحاربة الامام عليّ علیه السلام وكان معاوية يعتمد على نصرته اعتمادا كبيرا ، حتى أنه لم يقدم على اتخاذ قرار الحرب إلاّ بعد أن اطمأنّ الى تأييده له ، ومشاركته في قتال علي علیه السلام .

فقد صدم القائد المخدوع بشدة عند ما سمع بوجود « عمّار » في معسكر الامام « علي ».

ص: 14


1- المستدرك على الصحيحين : ج 3 ص 385 ووقعة صفين لابن مزاحم.

فأراد رجال معاوية أن يموهوا الأمر ، ويشوشوه عليه فقالوا : ما لعمار ولصفين؟ فذلك ما يقوله أهل العراق وما يبالون من الكذب.

ولكن ذا الكلاع لم يقتنع بهذا فقال لعمرو بن العاص : يا أبا عبد اللّه أما قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « إن عمارا تقتله الفئة الباغية »؟

فقال عمرو : أجل ، ولكن ليس عمار في رجال علي.

فقال ذو الكلاع : فلا بدّ اذن أن أعرف ذلك بنفسي.

ثم أمر رجالا بأن يتحقّقوا من الأمر. وفي هذه اللحظة الحساسة ادرك معاوية وعمرو خطورة الموقف اذ لو تحقق ذو الكلاع من وجود عمّار في معسكر « علي » أو عرف بمقتله بين يديه علیه السلام إذن لأحدث ذلك شرخا كبيرا وتمزقا فضيعا في جيش الشام ، من هنا تمت تصفية ذو الكلاع فورا اذ قتل بصورة غامضة (1).

إن اشتهار هذا الحديث لدى محدثي السنة والشيعة ليغنينا عن استعراض مصادره ، واسناده.

فقد روى الامام احمد بن حنبل أنه لما قتل عمار بن ياسر دخل عمرو بن حزم على عمرو بن العاص فقال قتل عمّار وقد قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : تقتله الفئة الباغية فقام عمرو بن العاص فزعا يرجع ( أي يقول : إنا لله وإنا إليه راجعون ) حتى دخل على معاوية ، فقال معاوية : ما شأنك؟ قال : قتل عمّار فقال معاوية : قد قتل عمّار فما ذا؟ قال عمرو : سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : تقتله الفئة الباغية فقال له معاوية : أو نحن قتلناه انما قتله علي وأصحابه جاءوا به حتى القوه بين رماحنا ( وسيوفنا ) (2).

ولكن لا يخفى أن هذا التأويل الباطل الذي لجأ إليه ابن أبي سفيان لتهدئة جنود الشام ، ليس مقبولا عند اللّه تعالى قط ، كما لا يقبل به أيّ عاقل لبيب.

فإنّ هذا هو الاجتهاد في مقابلة النص ، وهو مما لا قيمة له أبدا ، فان هذا

ص: 15


1- وقعة صفين : 377 و 387.
2- مسند الامام احمد بن حنبل : ج 4 ص 198.

النوع من الاجتهاد في مقابلة الآيات والروايات الصريحة هو الذي سبّب في أن يعمد فريق من المجرمين والجناة إلى تبرير جرائمهم وفضائعهم بحجة « الاجتهاد » ، وتحت غطائه.

وإليك نموذجا من هذا الأمر :

ضئر أرأف من والدة!!

لا يجد المرء عبارة أفضل من هذه تعرّف حقيقة مؤرخ القرن الثامن الهجري ( ابن كثير الشامي مؤلف البداية والنهاية ).

فقد انبرى هذا الرجل الى الدفاع عن معاوية في كتابه اذ قال : لا يلزم من تسمية أصحاب معاوية بغاة تكفيرهم ، لأنهم وان كانوا بغاة في نفس الأمر فانهم كانوا مجتهدين فيما تعاطوه من القتال وليس كل مجتهد مصيبا ، بل المصيب له أجران ، والمخطئ له أجر واحد ( ثم يقول ) وأما قوله : يدعوهم الى الجنة ويدعونه الى النار فان عمّارا وأصحابه يدعون أهل الشام إلى الالفة واجتماع الكلمة ، وأهل الشام يريدون ان يستأثروا بالأمر دون من هو أحق به ، وان يكون الناس أوزاعا على كل قطر امام برأسه ، وهذا يؤدي إلى افتراق الكلمة واختلاف الأمة فهو لازم مذهبهم وناشئ عن مسلكهم وان كانوا لا يقصدونه!! (1)

ونحن لم نجد اسما يناسب هذا العمل إلاّ التحريف للحقائق.

فان مؤيدي الفئة الباغية مع كل ما اوتوا من قدرة على إخفاء الحقائق وطمسها لم يستطيعوا إنكار هذه الحقيقة ، ولكن مؤرخا مثل ابن كثير عمد - رغم ورود هذا الحكم الغيبي في شأن تلك الفئة - الى تحريف بارد قد غفلت تلك الفئة هي ذاتها عنه!!

يقول أحمد بن حنبل : دخل رجلان على معاوية يختصمان في رأس عمّار يقول

ص: 16


1- البداية والنهاية : ج 2 ص 218.

كل واحد منهما أنا قتلته ، فقال عبد اللّه بن عمرو : ليطيب به أحدكما نفسا لصاحبه فاني سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : تقتله الفئة الباغية قال معاوية : فما بالك معنا؟ قال : ان أبي شكاني إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقال : اطع أباك ما دام حيا ، ولا تعصه ، فأنا معكم ولست اقاتل (1).

إن اعتذار « عبد اللّه بن عمرو بن العاص » يشبه تأويل ابن كثير الشامي الذي يقول : إن معاوية قاتل « عليا » في صفين اجتهادا وايمانا ، وإن أخطأ في اجتهاده ، وذلك لأن إطاعة الوالد واجبة ما لم تجر الى مخالفة الشرع ، فهذا هو القرآن الكريم يقول :

« وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما » (2).

كما ان الاجتهاد إنما يصح إذا لم يكن في المقام نصّ صريح ، ورد عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، ولهذا كان اجتهاد معاوية وعمرو بن العاص وامثالهما باطلا مرفوضا ، لكونه في مقابلة النصّ النبويّ.

ولو أننا فتحنا باب الاجتهاد هكذا بدون أية ضوابط لكان جميع المشركين والمنافقين معذورين في معارضتهم ، ومحاربتهم لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، كما لا بدّ - حينئذ - أن نقول : إن يزيد والحجاج وأشباههما كانوا معذورين في سيفكهم لدماء الأئمة المعصومين ، والصالحين من المسلمين ، بل ومأجورين في عملهم هذا.

* *

انتهى النبيّ صلی اللّه علیه و آله والمسلمون من بناء المسجد ، وظل يوسّع فيه كل عام شيئا فشيئا.

وقد بني الى جانب المسجد صفة ليسكن فيها الفقراء والمهاجرون المحرومون.

وكلّف « عبادة بن الصامت » بأن يعلّمهم الكتابة ، وقراءة القرآن.

ص: 17


1- مسند احمد بن حنبل : ج 2 ص 164 و 165.
2- العنكبوت : 8.

التآخي ؛ أو أعظم معطيات الايمان :

لقد فتح تمركز المسلمين في المدينة فصلا جديدا في حياة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

فقد كان صلی اللّه علیه و آله قبل دخوله المدينة لا يهمّه إلاّ جذب القلوب والدعوة إلى دينه ، ولكنه اليوم عليه أن يعمل - كصاحب دولة محنّك - على حفظ كيانه وكيان جماعته ، ولا يسمح للأعداء الداخليين والخارجيين بالتسلّل والنفوذ في صفوفهم ، ولكنه كان يواجه في هذا السبيل ثلاث مشاكل كبرى :

1 - خطر قريش وعامة الوثنيين في شبه الجزيرة العربية.

2 - خطر يهود يثرب الذين كانوا يقطنون داخل أو خارج المدينة ويمتلكون ثروة كبيرة.

3 - الاختلاف الذي كان بين أتباعه من المهاجرين وبين الأوس والخزرج.

وحيث إن المهاجرين والانصار قد نشئوا في بيئتين مختلفتين ، لهذا كان من الطبيعي أن يختلفوا في طريقة المعاشرة ، وآداب السلوك ، واسلوب التفكير اختلافا كبيرا.

هذا مضافا إلى أن الأوس والخزرج الذين كانوا يشكّلون جماعة الأنصار كانوا هم يعانون من رواسب عداء قديم وبقايا ضغائن نشأت خلال حروب موية طويلة استغرقت مائة وعشرين سنة بلا انقطاع.

ومع وجود مثل هذه التناقضات والأخطار المحتملة لم يكن مواصلة الحياة الدينية ، والسياسية المستقرة أمرا ممكنا قط.

ولكن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله تغلّب على كل هذه المشكلات بطريقة حكيمة ، غاية في الحنكة والابداع.

فبالنسبة إلى المشكلتين الأوليين فقد عالجهما بالقيام بأعمال سيأتي ذكرها في المستقبل.

وأما بالنسبة إلى مشكلة التناقضات بين فئات وأصناف جماعته فقد عالج

ص: 18

تلك المشكلة بحذق كبير ، وتدبير رائع جدا.

فقد امر من جانب اللّه تعالى بأن يؤاخي بين المهاجرين والأنصار.

فجمعهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ذات يوم وقال لهم :

« تآخوا في اللّه أخوين أخوين ».

وقد ذكرت المصادر التاريخيّة الاسلامية ، مثل « السيرة النبوية » لابن هشام (1) اسماء كلّ متآخيين من المهاجرين والأنصار.

وبهذا الاسلوب كرّس رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الوحدة السياسية والمعنوية بين المسلمين وقوّى اسسها ودعائمها.

وقد سببت هذه الوحدة ، وهذا التآخي الواسع في أن يقرّر حلا للمشكلتين الاوليين بسرعة وسهولة.

منقبتان عظيمتان :

ولقد ذكر أكثر مؤرّخي السنة والشيعة ومحدّثيهم في هذا الموضع منقبتين عظيمتين ، نذكرهما نحن هنا أيضا : لقد آخى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بين ثلاثمائة من أصحابه من المهاجرين والأنصار وهو يقول : يا فلان أنت أخ لفلان.

ولما فرغ من المؤاخاة ، قال له علي علیه السلام ، وهو يبكي :

« يا رسول اللّه آخيت بين أصحابك ولم تؤاخ بيني وبين أحد »؟

فقال له رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقد أخذ بيده :

« أنت أخي في الدنيا والآخرة » (2).

وقد ذكر القندوزي الحنفي هذه القضية بنحو أكثر تفصيلا اذ قال :

فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لعلي :

« والذي بعثني بالحق نبيا ما أخّرتك إلاّ لنفسي ، فأنت مني بمنزلة هارون من

ص: 19


1- السيرة النبوية : ج 1 ص 504 - 507.
2- المستدرك على الصحيحين : ج 3 ص 14.

موسى إلاّ أنه لا نبيّ بعدي ، وأنت أخي ووارثي » (1).

غير ان ابن كثير شكّك في صحة هذا الرواية (2) ، وحيث إن هذه التشكيك نابع من نفسيّته الخاصة ، ولا يقلّ تفاهة وبطلانا من اعتذاره ودفاعه عن معاوية وزمرته الباغية عن قتل الصحابي العظيم عمار بن ياسر لهذا نرجح أن نصرف النظر عن النقاش فيه ، ونترك القضاء والحكم عليه للقارئ المنصف ، والمتتبع العدل.

منقبة أخرى لعليّ علیه السلام :

فرغ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من بناء المسجد ، وقد بنيت منازله ومنازل أصحابه حول المسجد ، وكلّ شرع منه بابا إلى المسجد ، وخطّ لحمزة خطا فبنى منزله فيه ، وشرع بابه الى المسجد وخط لعليّ بن أبي طالب مثل ما خط لهم فبنى منزله فيه وشرع بابه إلى المسجد ، فكانوا يخرجون من منازلهم فيدخلون المسجد من تلك الابواب.

وفجأة نزل جبرئيل على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقال :

« يا محمّد إنّ اللّه يأمرك أن تأمر كلّ من كان له باب إلى المسجد أن يسدّه ولا يكون لأحد باب إلى المسجد إلاّ لك ولعليّ علیه السلام ».

يقول ابن الجوزي : فأوجد هذا الامر ضجة عند البعض ، وظنوا أنّ هذا الاستثناء قد نشأ عن سبب عاطفي ، فخطب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في الناس وقال فيما قال :

« واللّه ما أنا أمرت بذلك ، ولكنّ اللّه أمر بسدّ أبوابكم وترك باب عليّ » (3).

وخلاصة القول أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قضى عن طريق المؤاخاة

ص: 20


1- ينابيع المودة : ص 56 ، ونظيره في السيرة النبوية.
2- البداية والنهاية : ج 2 ص 226.
3- تذكرة الخواص : ص 46 ، بتصرف بسيط.

الاسلاميّة بين أصحابه من الأنصار والمهاجرين على الاختلافات القديمة التي كانت رواسبها باقية بين المسلمين إلى ذلك اليوم ، وبذلك حل مشكلة من المشاكل الثلاث التي مرّ ذكرها.

معاهدة الدفاع المشترك بين المسلمين ويهود يثرب :

كانت المشكلة الثانية التي يواجهها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في المدينة هي مشكلة يهود يثرب الذين كانوا يقطنون المدينة وخارجها وكانوا يمسكون بأزمة التجارة والاقتصاد في تلك المنطقة.

لقد كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يدرك جيدا أنه ما لم تصلح الأوضاع الداخلية في المدينة وما لم يضمّ الى صفوفه يهود يثرب ، وبالتالي ما لم يقم وحدة سياسية عريضة في مركز حكومته ، لم تتهيأ لشجرة الاسلام أن تنمو ، ولن يتهيّأ له صلی اللّه علیه و آله أن يفكر في أمر الوثنيين والوثنية في شبه الجزيرة العربيّة ولا يستطيع معالجة المشكلة الثالثة أعني قريش بخاصة.

وبكلمة واحدة ما لم يستتبّ الأمن والاستقرار في مقر القيادة لن يمكن الدفاع ضدّ العدوّ الخارجي.

ولقد قام بين يهود المدينة والمسلمين في بداية هجرتهم إليها نوع من التفاهم لأسباب خاصة ، لأنّ كلا الجانبين كانا موحّدين يعبدان اللّه ، ويرفضان الأوثان ، وكان اليهود يتصوّرون أنهم يستطيعون - إذا اشتد ساعد المسلمين ، وقويت شوكتهم - أن يأمنوا حملات المسيحيين الروم ، هذا من جانب ، ومن جانب كان بينهم وبين الأوس والخزرج علاقات عريقة ومواثيق قديمة.

من هنا حاول النبيّ صلی اللّه علیه و آله أن يكرّس هذا التفاهم ، ويبلوره بعقد معاهدة تعايش ، ودفاع مشترك بين الأنصار والمهاجرين وقّع عليها يهود المدينة أيضا (1).

ص: 21


1- المقصود منهم يهود الأوس والخزرج ، وأما يهود بني النضير ، وبني قينقاع ، وبني قريظة فقد عقد النبيّ صلی اللّه علیه و آله معهم معاهدة مستقلة سنذكرها.

وقد احترم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في تلك المعاهدة دين اليهود وثروتهم في اطار شرائط معيّنة.

وقد أدرج كتّاب السيرة والمؤرّخون النصّ الكامل لهذه المعاهدة في كتبهم (1).

ونظرا لأهميّتها الخاصّة ، ولأنها تعتبر مستندا تاريخيّا حيّا ، قويّ الدلالة ، ولكونها تكشف عن مدى التزام رسول الاسلام العظيم صلی اللّه علیه و آله بمبادئ الحرية والنظم والعدالة ، ومبلغ مراعاته واحترامه لها في الحياة ، ولأنها تكشف لنا كيف أنها أوجدت جبهة متحدة قوية في وجه الحملات الخارجية نذكر هنا نقاطها الحسّاسة ونسجّلها كواحد من أكبر الانتصارات السياسية التي أحرزتها الحكومة الاسلامية الناشئة في العالم ذلك اليوم.

أعظم معاهدة تاريخية :

اشارة

بسم اللّه الرحمن الرحيم

هذا كتاب من محمّد النبيّ صلی اللّه علیه و آله بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم ، فلحق بهم ، وجاهد معهم.

« البند الاوّل »

1 - إنّهم أمّة واحدة من دون الناس ، المهاجرون من قريش على ربعتهم ( أي على الحال التي جاء الاسلام وهم عليها ) يتعاقلون بينهم ( أي يدفعون دية الدم ) وهم يفدون عانيهم ( أسيرهم ) بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

2 - وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الاولى ، كلّ طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين ، وهكذا بنو ساعدة وبنو الحارث ، وبنو جشم ، وبنو النجار ، وبنو عمرو بن عوف وبنو النبيت ، وبنو الأوس كلّ على ربعتهم

ص: 22


1- مثل السيرة النبوية : ج 1 ص 501.

( والحال التي جاء الاسلام وهم عليها من حيث التعاون على الديات الى اولياء المقتول ، ودفع الفدية معا لفك الأسير ).

3 - وإنّ المؤمنين لا يتركون مفرحا ( أي مثقلا بالدين وكثير العيال ) بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل ( أي دفع دية او فداء أسير ).

4 - وإنّ المؤمنين المتقين ( يد واحدة ) على من بغى منهم ، او ابتغى دسيعة ( عظيمة ) ظلم أو إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين ، وأنّ أيديهم عليه جميعا ولو كان ولد احدهم.

5 - وأن لا يحالف مؤمن مولى ( أي عبد ) مؤمن دونه ( أي دون إذنه ).

6 - وأن لا يقتل مؤمن مؤمنا في كافر ( أي قصاصا لمقتل كافر على يدي ذلك المؤمن ) ولا ينصر كافرا على مؤمن.

7 - وانّ ذمة اللّه واحدة ( تشمل جميع المسلمين بلا استثناء ) يجير عليهم أدناهم ( فاذا أجار عبد مسلم كافرا قبلت إجارته واحترم أمانه ).

8 - وإنّ المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس.

9 - وإنّه من تبعنا من يهود فانّ له النصر والاسوة غير مظلومين ، ولا متناصرين عليهم.

10 - وإنّ سلم المؤمنين واحدة لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل اللّه إلاّ على سواء وعدل بينهم ( فلا يجوز لأحد أن ينفرد بعقد معاهدة صلح مع أحد من غير المسلمين إلاّ بموافقة المسلمين ).

11 - وإنّ كلّ غازية غزت معنا يعقّب بعضها بعضا ( أي يتناوب المسلمون في المشاركة في الجهاد ) ، وانّ المؤمنين يبيء بعضهم على بعض بما نال دماءهم في سبيل اللّه ( أي يراق منهم الدم على السواء لا أن يتعرض للقتل بعض دون بعض ).

12 - وإنّ المؤمنين المتقين على أحسن هدى وأقومه.

13 - وأن لا يجير مشرك ( من مشركي المدينة ) مالا لقريش ، ولا نفسا ، ولا يحول دونه على مؤمن ( أي لا يمنعه من مؤمن ).

ص: 23

14 - وإنّه من اعتبط مؤمنا ( أي قتل من المؤمنين مؤمنا بلا جناية منه توجب قتله ) قتلا عن بيّنة فانّه قود به ( أي يقتل بقتله قصاصا ) إلاّ أن يرضى وليّ المقتول.

وانّ المؤمنين عليه كافّة ، ولا يحلّ لهم إلاّ قيام عليه.

15 - وإنّه لا يحلّ لمؤمن أقرّ بما في هذه الصحيفة ، وآمن باللّه واليوم الآخر ، أن ينصر محدثا ( صاحب بدعة ) ولا يؤويه وأنه من نصره ، وآواه فعليه لعنة اللّه وغضبه يوم القيامة ، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل.

16 - وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فان مرده إلى اللّه عزّ وجلّ وإلى محمّد صلی اللّه علیه و آله .

« البند الثاني »

17 - وإنّ اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين ( ودفاعا عن المدينة ).

18 - وإنّ يهود بني عوف أمة من المؤمنين ( وبنو عوف قبيلة من قبائل الأنصار ) لليهود دينهم وللمسلمين دينه ، مواليهم وأنفسهم ، إلاّ من ظلم واثم ، فانه لا يوتغ ( لا يهلك ) الاّ نفسه وأهل بيته ( والسبب في هذا هو أن أهل بيت الرجل يتبعونه ويؤيّدونه في فعله غالبا وعادة ).

والمراد من هذا الاستثناء هو أن العلاقات والاتحاد يبقى قائما بين تلك الطائفة من اليهود وبين المسلمين ما دام لم يكن ثمة ظالم ومعتد.

19 - وإنّ ليهود بني النجار ، وبني الحارث وبني ساعدة ، وبني جشم ، وبني الأوس وبني ثعلبة ، وبني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف ، من الحقوق والامتيازات.

وإن جفنة بطن من ثعلبة ( أي تلك القبيلة فرع من هذه ) ، وانّ لبني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف.

20 - وإنّ البرّ دون الإثم ( أي أن يغلب حسناتهم على سيّئاتهم ).

21 - وإنّ موالي ثعلبة ( أي المتحالفين معهم ) كأنفسهم.

ص: 24

22 - وإنّ بطانة يهود ( أي خاصتهم ) كأنفسهم.

23 - وأنه لا يخرج منهم أحد ( من هذه المعاهدة ) إلاّ باذن محمّد صلی اللّه علیه و آله .

24 - وإنّه لا ينحجر على ثأر جرح ( اي لا يضيع دم حتى الجرح ) ، وان من فتك ( بأحد ) فبنفسه فتك ، وأهل بيته إلاّ من ظلم ( أي إلاّ إذا كان المفتوك به ظالما ).

25 - وإنّ على اليهود نفقتهم ، وعلى المسلمين نفقتهم ، وانّ بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة ( أي أن على كل جماعة من المسلمين واليهود أن يقوم بنصيبه من نفقات الحرب ).

26 - وإنّ بينهم النصح والنصيحة ( أي أن تكون العلاقات على هذا الاساس ) والبر دون الاثم.

27 - وإنّه لم يأثم امروء بحليفه ( أي لا يحق لأحد أن يظلم حليفه وأن النصر للمظلوم ( لو فعل أحد ذلك ).

28 - وإنّ يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة ( أي أنّ داخل المدينة حرم ومأمن لجميع من وقّع على هذه الصحيفة ).

29 - وإنّ الجار ( وهو من يدخل في أمان أحد ) كالنفس غير مضارّ ولا آثم ، ( فلا يجوز إلحاق ضرر به ).

30 - وإنّه لا تجار حرمة إلاّ باذن أهلها.

31 - وإنّه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فان مردّه إلى اللّه عزّ وجلّ وإلى محمّد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وإنّ اللّه على اتّقى ما في هذه الصحيفة وأبرّه ( أي انّه تعالى ناصر وولي لمن التزم بهذه المعاهدة ).

32 - وإنّه لا تجار قريش ولا من نصرها.

« البند الثالث »

33 - وإن بينهم ( أي بين اليهود والمسلمين ) النصر على من دهم يثرب

ص: 25

( فعليهم معا أن يدافعوا عن المدينة ضدّ المعتدين ).

34 - واذا دعوا ( أي دعي المسلمون اليهود ) الى صلح يصالحونه ، ويلبسونه ، فانهم يصالحونه ويلبسونه.

وإنّهم اذا دعوا ( أي اذا دعى اليهود المسلمين ) الى مثل ذلك ( الصلح ) فانه لهم على المؤمنين إلاّ من حارب في الدين.

فعلى اليهود أن يوافقوا على كل صلح يعقده المسلمون مع الأعداء ، وهكذا على المسلمين أن يقبلوا بكل صلح يعقده اليهود مع الاعداء إلاّ إذا كان ذلك العدوّ ممن يخالف الاسلام ويعاديه ويتآمر عليه.

35 - وإنّ يهود الأوس مواليهم وأنفسهم على مثل ما لأهل هذه الصحيفة.

« البند الرابع »

36 - وإنّه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم وآثم. ( فلا يمكن لأحد أن يتستر وراءه ليتخلّص من العقاب إذا ارتكب خطيئة وجناية ).

37 - وإنّه من خرج ( من المدينة ) آمن ، ومن قعد آمن بالمدينة إلاّ من ظلم أو أثم.

ثم ختمت هذه المعاهدة بالعبارة التالية :

« وإنّ اللّه جار لمن برّ واتّقى ، ومحمّد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله » (1).

إنّ هذه المعاهدة السياسية التاريخية التي أدرجنا هنا أهم مقاطعها تعدّ نموذجا كاملا لرعاية الاسلام ، وحرصه على مبدأ حرّية الفكر والاعتقاد ، ومبدا الرفاه الاجتماعي العام ، وضرورة التعاون في الامور العامة ، بل وتوضّح هذه المعاهدة - فوق كلّ ذلك - حدود صلاحيّات واختيارات القائد ، ومسئوليّة كلّ الموقّعين عليها ، وعلى أمثالها.

على أنه وإن لم يشترك يهود « بني قريظة » و « بني النضير » و « بني قينقاع »

ص: 26


1- السيرة النبوية : ج 1 ص 503 و 504 ، الاموال : ص 125 - 202.

في إبرام هذه المعاهدة والتوقيع عليها ، بل شارك فيها يهود الأوس والخزرج فقط ، إلاّ أنّ تلك الطوائف اليهودية ( الثلاث ) قد وقعت فيما بعد مع قائد المسلمين وزعيمهم على معاهدات مماثلة أهم بنودها هي :

أن لا يعينوا على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ولا على أحد من أصحابه بلسان ولا يد ولا بسلاح ولا بكراع ( أي الخيل وغيرها من المراكب ) في السر والعلانية لا بليل ولا بنهار ، اللّه بذلك عليهم شهيد ، فإن فعلوا فرسول اللّه في حلّ من سفك دمائهم ، وسبي ذراريهم ، ونسائهم ، وأخذ أموالهم.

وقد كتب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لكلّ قبيلة منهم كتابا على حدة على هذا الغرار ، ثم وقع عليها « حي بن أخطب » عن قبيلة بني النضير ، و « كعب بن أسد » عن بني قريظة ، و « المخيريق » عن قبيلة بني قينقاع (1).

وبهذا ساد الأمن يثرب وضواحيها بعد أن اعتبرت المنطقة حرما آمنا.

والآن جاء دور أن يعالج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله المشكلة الاولى ، يعني قريش لأنه ما دام هذا العدوّ يعرقل حركة الدعوة ، ويقف سدّا أمام تبليغ الاسلام ، فلن يوفّق لنشر هذا الدين وتطبيق أحكامه ، وتعاليمه المباركة. ممارسات اليهود الإجهاضية :

لقد تسبّبت تعاليم الاسلام الرفيعة وأخلاق الرسول العظيم في أن يتزايد عدد المنتمين الى الاسلام يوما بعد يوم ، وتزداد بذلك قوّة الاسلام العسكرية والاقتصادية والسياسية.

وقد أحدث هذا التقدم المتزائد الباهر قلقا وضجة عجيبة في الأوساط اليهودية الدينية ، لأنهم كانوا يتصوّرون أنهم يستطيعون بدعمهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وتقويته وتأييده جرّه إلى صفوفهم ، ولم يكونوا يتصوّرون قط أنّ

ص: 27


1- بحار الأنوار : ج 19 ص 110 و 111. احتفظ في ذاكرتك أيها القارئ الكريم هذا القسم من المعاهدة الثانية لأن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عاقب اليهود بسبب نقضهم لهذه المعاهدة.

النبيّ صلی اللّه علیه و آله سيحصل بذاته على قوة تفوق قوة اليهود والنصارى ، من هنا بدءوا بممارسة الأعمال الاجهاضية مثل طرح الاسئلة الدينية العويصة على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بغية زعزعة إيمان المسلمين بنبيّهم ، ولكن جميع هذه المخططات باءت بالفشل ولم تترك أي أثر في صفوف المسلمين المتراصة وايمانهم العميق برسول الاسلام.

وقد جاءت بعض هذه المناظرات والمجادلات في سورة البقرة وسورة النساء.

ويستطيع القارئ العزيز - من خلال قراءة - آيات هاتين السورتين والتمعن فيهما أن يقف على مدى العناد واللجاج الذي كان يبديه اليهود.

فمع أنهم كانوا يتلقون من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على أجوبة واضحة لكلّ واحد من اسئلتهم كانوا يتهرّبون من الانضواء تحت راية الاسلام ، ويحجمون عن الاعتراف به ، وكانوا يقولون في مقام الردّ على دعوة النبيّ إياهم إلى اعتناق الاسلام :

« قلوبنا غلف ».

أي لا نفهم ما تقول!! (1).

اسلام عبد اللّه بن سلام :

هذه المناظرات والمجادلات وان كانت لا تزيد غالبية اليهود إلاّ تعنّتا وعنادا ، ولكنها كانت تسبّب أحيانا يقظة البعض وإقبالهم على الاسلام ، مثل « عبد اللّه ابن سلام ».

فقد أسلم ابن سلام الذي كان من علماء اليهود وأحبارهم ، برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بعد سلسلة من المناظرات والمجادلات المطولة (2).

ولم يمض وقت كبير على اسلام ابن سلام إلاّ والتحق به عالم آخر من علماء

ص: 28


1- للوقوف على نص هذه المناظرات راجع السيرة النبوية : ج 1 ص 530 - 572 ، بحار الأنوار : ج 9 ص 303 فما بعد.
2- للوقوف على نص هذه المناظرات راجع السيرة النبوية : ج 1 ص 530 - 572 ، بحار الأنوار : ج 9 ص 303 فما بعد.

اليهود هو « المخيريق ».

وكان عبد اللّه بن سلام يعلم بأنه سيذمّه قومه من اليهود اذا عرفوا باسلامه وترك دينهم ، من هنا طلب من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن يكتم عن الناس إسلامه ، ريثما يحصل أولا على اعتراف من قومه بعلمه وتقواه ، وبمعرفته وصلاحه قائلا : « يا رسول اللّه إن يهود قوم بهت ، وأني أحبّ أن تدخلني في بعض بيوتك ، وتغيّبني عنهم ثم تسألهم عنّي حتى يخبروك كيف أنا فيهم قبل أن يعلموا بإسلامي فإنهم إن علموا به بهتوني وعابوني ».

فأدخله رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في بعض بيوته وأخفاه عن الانظار ثم قال لليهود الداخلين عليه :

« أيّ رجل الحصين بن سلام فيكم؟ ».

قالوا : سيدنا وابن سيدنا ، وحبرنا وعالمنا ، فخرج عليهم « عبد اللّه بن سلام » من مخبأه وقال لهم : يا معشر يهود اتّقوا اللّه واقبلوا ما جاءكم به ، فو اللّه إنّكم لتعلمون أنه لرسول اللّه تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة باسمه وصفته ، فاني أشهد أنه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وأؤمن به واصدّقه وأعرفه.

فغضب اليهود من مقالته ، وقالوا له : كذبت ووقعوا فيه ، وعابوه ، وبهتوه (1).

خطة أخرى للقضاء على الحكومة الاسلامية :

لم تضعف مجادلات اليهود واسئلتهم العويصة عقيدة المسلمين وايمانهم برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فحسب ، بل تسبّبت في أن تتضح مكانته العلمية ، وقيمة معارفه الغيبية للجميع أكثر من ذي قبل.

ففي ظلّ هذه المجادلات والمحاورات رغب جماعات كبيرة من الوثنيين واليهود في الاسلام فآمنوا برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وصدّقوه.

من هنا دبّر اليهود مؤامرة أخرى وهي التذرّع باسلوب « فرّق تسد » ، لالقاء

ص: 29


1- السيرة النبوية : ج 1 ص 516.

الفرقة في صفوف المسلمين.

فقد رأى دهاة اليهود وساستهم أن يستغلّوا رواسب الاختلافات ، ويؤججوا نيران العداء القديم بين الأوس والخزرج الذي زال بفضل الاسلام ، وبفضل ما أرساه من قواعد الاخوة والمساواة والمواساة والمحبة ، بعد أن كانت مشتعلة طوال مائة وعشرين عاما متوالية ، ليستطيعوا بهذه الطريقة تمزيق صفوف المسلمين بإثارة الحروب الداخلية بينهم ، والتي من شأنها ابتلاع الاخضر واليابس والقضاء على الجميع دون ما استثناء.

ففيما كان نفر من أصحاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم ، يتحدثون فيه إذ مرّ عليهم « شاس بن قيس » وهو يهودي شديد العداء للإسلام ، عظيم الكفر ، شديد الضغن على المسلمين ، فغاظه ما رأى من الفة الأوس والخزرج ، واجتماعهم وتواددهم ، وصلاح ذات بينهم على الاسلام بعد الذي كان بينهم من العداوة الطويلة في الجاهلية ، فأمر فتى من يهود كان معهم فقال له : اعمد إليهم فاجلس معهم ، ثم اذكر يوم بعاث (1) وما كان قبله وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا وتبادلوا فيه من الاشعار!! ايقاعا بين هاتين الطائفتين من الأنصار ، وإثارة لنيران الاحقاد الدفينة ، والعداوات الغابرة.

ففعل ذلك الغلام اليهودي ما أمره به « شاس » فتكلم القوم عند ذلك ، وتنازعوا ، وتفاخروا ، وتواثب رجلان من القبيلتين على الركب وأخذ كل منهما يهدّد الآخر ، وتفاقم النزاع ، وغضب الفريقان وتصايحا ، وقاما إلى السلاح وكاد أن يقع قتال ودم بعد أن ارتفعت النداءات القبلية بالاستغاثة والاستنجاد على عادة الجاهلية فبلغ ذلك رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وعرف بمكيدة اليهود ، ومؤامرتهم الخبيثة هذه ، فخرج الى تلك الجماعة المتصايحة من الأوس والخزرج في جمع من أصحابه المهاجرين فقال :

ص: 30


1- قد مرّ ذكر هذه الوقعة وقلنا : هو يوم اقتتلت فيه الأوس والخزرج وكان الظفر يومئذ للأوس على الخزرج.

« يا معشر المسلمين ، اللّه اللّه أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم للإسلام ، وأكرمكم به ، وقطع به عنكم أمر الجاهليّة ، واستنقذكم به من الكفر ، وألّف بين قلوبكم؟؟ ».

فعرف القوم أنها مؤامرة مبيّتة من اليهود اعداء الاسلام والمسلمين ، وكيد خبيث منهم ، فندموا على ما حدث ، وبكوا وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضا ، ثم انصرفوا مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله سامعين مطيعين ، وأطفأ اللّه عنهم كيد أعدائهم (1).

إلاّ أن مؤامرات اليهود لم تتوقف عند هذا الحدّ ، ولم تنته بهذا ، فقد اتسعت دائرة خيانتهم وجنايتهم ، ونقضهم للعهد وأقاموا علاقات سرية وخاصة مع مشركي الأوس والخزرج ، ومع المنافقين والمترددين في اسلامهم واعتقادهم ، واشتركوا بصورة صريحة في اعتداءات قريش على المسلمين ، وفي الحروب التي وقعت بين الطرفين ، وكانوا يقدّمون كل ما أمكنهم من الدعم والمساعدة للوثنيين ، ويعملون لصالحهم!!

وقد جرت هذه النشاطات السرّية والعلنية المضادّة المعادية للاسلام والمسلمين ، وهذا التعاون المشؤوم مع مشركي قريش ، جرت إلى وقوع مصادمات وحروب دامية بين المسلمين والطوائف اليهودية أدت في المآل إلى القضاء على الوجود اليهودي في المدينة.

وسيأتي ذكر هذه الحوادث في وقائع السنة الثالثة والرابعة من الهجرة ، وسيتضح هناك كيف أن الجماعة اليهودية ردت على الجميل الذي تعكسه كلتا المعاهدتين من أولهما الى آخرهما ، بنقض العهد ، ومعاداة الاسلام والمسلمين ، والتآمر ضدّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله خاصّة ، وبنصرة أعدائه ، ودعم خصومه ، الأمر الذي أجبر النبيّ صلی اللّه علیه و آله على تجاهل تلك المعاهدات الودية والانسانية ومن ثم محاربتهم ، وإخراجهم من المدينة وما حولها والقضاء على

ص: 31


1- السيرة النبوية : ج 1 ص 555 - 557.

ما تبقى من كياناتهم الشريرة.

لقد أقام رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في المدينة من ربيع الأول من السنة الأولى للهجرة إلى شهر صفر من السنة الثانية حتى بنى المسجد والبيوت والمنازل المحيطة بها ، وقد أسلم في هذه الفترة كل من تبقى من الأوس والخزرج ، ولم يبق دار من دور الانصار إلاّ أسلم أهلها ، ما عدا بعض العوائل والفروع ممن بقوا على شركهم ، ولكنهم أسلموا بعد معركة بدر (1).

ص: 32


1- السيرة النبوية : ج 1 ص 500.

حوادث السنة الثانية من الهجرة

اشارة

27

مناورات عسكرية واستعراضات حربية

اشارة

الهدف من هذا الفصل هو شرح وبيان الأسرار الكامنة وراء سلسلة الاستعراضات الحربية ، والمناورات العسكرية ، التي قام وأمر بها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

فقد بدأت هذه المناورات منذ الشهر الثامن من الهجرة واستمرت حتى شهر رمضان من السنة الثانية ، وتعد في الحقيقة أول مناورات عسكرية ، وعروض حربيّة قام بها المسلمون.

إن التفسير الصحيح لهذه الوقائع ، وبيان رموزها وأسرارها انما يتيسّر اذا طالعنا نص ما كتب حول هذه الوقائع في المصادر التاريخية من دون زيادة أو نقصان ثم نعرض على القارئ الكريم رأي المحققين من المؤرخين فيها.

وإليك فيما يأتي خلاصة هذه الحوادث :

1 - لم يكن يمض على إقامة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في المدينة أكثر من ثمانية أشهر عند ما عقد النبيّ أوّل لواء لقائد عسكريّ شجاع هو « حمزة بن عبد المطلب » وقد أمّره على ثلاثين رجلا من المهاجرين بعثهم الى سواحل البحر الأحمر حيث الطرق التجارية التي تمر فيها قافلة قريش التجارية ، فالتقوا قافلة قريش في « العيص » فيها أبو جهل في ثلاثمائة رجل من أهل مكة ، فاصطفّوا

ص: 33

للقتال ، ولكنهما تفرقا ولم يقع قتال لوساطة قام بها « مجديّ بن عمرو » الذي كان حليفا للفريقين ، فانصرف حمزة راجعا الى المدينة ، وتوجّه أبو جهل في غيره وأصحابه إلى مكة (1).

تهديد خطوط قريش التجارية

غزوة بدر :

انقضت السنة الاولى من الهجرة بكل حوادثها الحلوة والمرة ، والمسرّة والمحزنة ، ودخل النبيّ وأصحابه العام الثاني من الهجرة.

والسنة الثانية من الهجرة تتضمن حوادث عظيمة وباهرة ، ومن أبرزها حادثتان تحظيان بمزيد من الاهمية احداهما : تغيير القبلة والأخرى وقعة بدر الكبرى.

ولكي تتضح أسباب وعلل معركة بدر نذكر سلسلة من الوقائع التي وقعت قبلها ، اذ بتحليلها ودراستها تتضح أسباب معركة بدر.

لقد كان من بين الحوادث التي وقعت في أواخر السنة الاولى وبدايات السنة الثانية من الهجرة : بعث « الدوريات العسكرية » الى خطوط قريش التجارية (2) والآن يجب أن نرى ما هو هدف الحكومة الاسلامية من هذه البعوث

ص: 34


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 222 فما بعد ، بحار الأنوار : ج 19 ص 186 - 190 ، امتاع الاسماع : ص 51 ، الكامل في التاريخ : ج 2 ص 77 و 78 والمغازي للواقدي : ج 1 ص 9 - 19.
2- لقد بعث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله دوريات عسكرية عديدة إلى ضواحي المدينة وأطرافها لتهديد قوافل قريش التجارية. وقد كان ينبغي - طبقاً للترتيب الموضوعي والتسلسل التاريخي أن نذكر بعض السرايا مثل سرية حمزة وسرية عبيدة بن الحارث في فصل وقائع السنة الأولى للهجرة، بيد أنه لوجود مناسبة بينها وبين حوادث السنة الثانية ذكرناها في أحداث السنة الثانية. هذا مضافاً الى أن ابن هشام - تبعاً لابن أسحاق يرى وقوع هذه الحوادث في السنة الثانية من الهجرة وان كان الواقدي يعتبر بعضها من حوادث السنة ة الأولى .

العسكرية.

هناك مصطلحان رائجان في كتابات المؤرخين وكتّاب السيرة أكثر من أي مصطلح آخر وهما لفظة : « الغزوة » و « السرّيّة » (1).

والمقصود من « الغزوة » تلك العمليات العسكرية التي كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يشارك فيها بنفسه ، ويتولى قيادتها بشخصه.

على حين يكون المقصود من « السريّة » إرسال مجموعات عسكرية وفرق وكتائب نظاميّة لا يشترك فيها رسول اللّه بنفسه بل يؤمّر عليها أحد قادته العسكريّين ويوجّهها إلى الوجهة التي يريدها.

وقد احصيت غزوات النبيّ صلی اللّه علیه و آله فكانت (27) أو (26) غزوة.

ويعود الاختلاف في العدد الى أن بعض المؤرخين يعتبر غزوة « خيبر » وغزوة « وادي القرى » اللتين حدثتا تباعا ومن دون فاصلة غزوتين والبعض الآخر عدّهما غزوة واحدة (2).

وقد وقع نظير هذا الخلاف في تعداد سرايا النبيّ صلی اللّه علیه و آله أيضا فأحصى المؤرخون (35) ، (36) ، (48) ، وحتى (66) سرية.

ويعود هذا الاختلاف إلى أن بعض السرايا لم يحسب لها حساب لقلّة أفرادها ، ولهذا حدث هذا الاختلاف في العدد.

من هنا كلّما ذكرنا لفظ السرّية قصدنا منه ما لم يشارك فيه النبيّ ، وكلما ذكرنا لفظ الغزوة قصدنا منه ما شارك فيه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بنفسه.

وقد أحجمنا عن ذكر السرايا إلاّ سرايا السنوات الاولى من الهجرة لأن في بيان هذه الطائفة من السرايا أثرا مهما في تفسير بعض الغزوات مثل غزوة « بدر ».

وإليك بيان هذه السرايا والغزوات وشرح تفاصيلها.

ص: 35


1- راجع المحبّر : ص 110 - 116.
2- مروج الذهب : ج 2 ص 287 و 288.

2 - في نفس الوقت الذي بعث فيه رسول اللّه سريّة حمزة ، عقد لواء آخر لعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب ، وبعثه في ستين راكبا من المهاجرين بهدف التعرض لقافلة قريش التجارية ، فسار حتى بلغ ماء بالحجاز بأسفل « ثنية المرة » (1).

فلقي بها جمعا عظيما من قريش يبلغ مائتين بقيادة أبي سفيان ، ولكن لم يكن بينهم قتال إلاّ أن « سعد بن أبي وقاص » رمي يومئذ بسهم ، كما أنه التحق رجلان مسلمان كانا في صفوف أبي سفيان بالمسلمين وقد خرجا مع الكفار وجعلا ذلك وسيلة للوصول الى المسلمين والالتحاق بهم (2).

3 - بعث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في شهر ذي القعدة في السنة الاولى من الهجرة سريّة اخرى بقيادة « سعد بن أبي وقاص » على رأس ثمانية أشخاص آخرين من المهاجرين للتحقيق في تنقلات قريش ورصد تحرّكاتها خارج المدينة ، فخرجوا حتى بلغوا منطقة « الخرّار » ولكنهم لم يجدوا أحدا فعادوا إلى المدينة (3).

النبيّ صلی اللّه علیه و آله يلاحق قريشا بنفسه :

4 - في شهر صفر من السنة الثانية للهجرة استعمل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على المدينة « سعد بن عبادة » وأناط إليه ادارة امورها الدينية وخرج بنفسه مع جماعة من المهاجرين والأنصار ، لملاحقة ركب قريش التجاري واعتراضه ، وعقد معاهدة موادعة مع « بني ضمرة » حتى بلغ الابواء ، ولكنه لم يلق أحدا من قريش ، فرجع صلی اللّه علیه و آله هو ومن معه إلى المدينة (4).

5 - وفي شهر ربيع الأول من السنة الثانية للهجرة استعمل صلی اللّه علیه و آله مرة اخرى على المدينة : « السائب بن عثمان » أو « سعد بن معاذ » وخرج نحو على رأس مائتين من الرجال يريد قريشا حتى بلغ بواط ( وهو جبل من جبال

ص: 36


1- المحبر : ص 116.
2- السيرة النبوية : ج 1 ص 591.
3- المحبر : ص 116.
4- تاريخ الخميس : ج 1 ص 363 نقلا عن ابن اسحاق.

بقرب ينبع على بعد 90 كيلومترا من المدينة تقريبا ) ولكنه لم يظفر بقافلة قريش التي كان يقودها « أميّة بن خلف » وعلى رأس مائة رجل من قريش ، فرجع الى المدينة.

6 - وفي منتصف شهر جمادى الاولى من السنة الثانية للهجرة جاء الخبر أن قافلة قريش التجارية تخرج من مكة بقيادة أبي سفيان تريد الشام للتجارة ، وقد جمعت قريش كل أموالها في تلك القافلة ، فخرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في جمع من أصحابه لاعتراضها حتى بلغ « ذات العشيرة » وقد استعمل على مكة هذه المرّة « أبا سلمة بن عبد الأسد » ، وبقي صلی اللّه علیه و آله في ذات العشيرة إلى أوائل شهر جمادى الآخرة ينتظر قافلة قريش ، ولكنه لم يظفر بها ، ثم وادع فيها بني مدلج وعقد معاهدة عدم اعتداء ذكرتها المصادر التاريخية بالنص (1).

وقال ابن الأثير : في هذه الغزوة ( والمكان ) نزل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وجماعته في بواط عند عين فنام علي وعمّار فوجدهما رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله نائمين في رقعاء من التراب فايقظهما ، وحرّك عليّا فقال : قم يا أبا تراب ألا اخبرك باشقى الناس : أحيمر ثمود عاقر الناقة ، والذي يضربك على هذه [ يعني قرنه ] فيخضّب هذه منها [ يعني لحيته ] (2).

7 - بعد أن رجع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الى المدينة بعد اليأس من قافلة قريش لم يقم بالمدينة الاّ ليالي قلائل لا تبلغ العشر حتى هاجم « كرز بن جابر الفهري » على ابل أهل المدينة ومواشيهم التي كانت قد سرحت للرعى بالغداة.

فخرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في طلبه وقد استعمل على المدينة زيد بن حارثة حتى بلغ واديا من ناحية بدر وفاته كرز بن جابر فلم يدركه ثم رجع صلی اللّه علیه و آله ومن معه الى المدينة فأقام بها بقية جمادى الآخرة ورجبا

ص: 37


1- السيرة النبوية : ج 1 ص 598 ، تاريخ الخميس : ج 1 ص 363.
2- الكامل : ج 2 ص 112 والمستدرك على الصحيحين : ج 3 ص 140 و 141.

وشعبان (1).

8 - وفي شهر رجب من السنة الثانية للهجرة بعث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله « عبد اللّه بن جحش » على رأس ثمانية رجال من المهاجرين لملاحقة قافلة قريش التجارية ، وقد كتب له كتابا بالمهمة الّتي يجب ان ينفّذها ، وأمره أن لا ينظر فيه قائلا له :

« قد استعملتك على هؤلاء النفر فامض حتّى إذا سرت ليلتين فانشر ( إي افتح ) كتابي ثم امض ( اي نفّذ ) لما فيه ».

ثم عيّن له رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الوجهة التي يجب أن يتوجّه إليها.

فانطلق عبد اللّه ورفقاؤه وساروا يومين كاملين كما أمرهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ثم فتح عبد اللّه كتاب النبيّ صلی اللّه علیه و آله وقرأ ما فيه ، فاذا فيه :

« إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتّى تنزل نخلة بين مكّة والطائف على اسم اللّه وبركته فترصّد بها قريشا ، وتعلّم ( أي حصّل ) لنا من أخبارهم ولا تكرهنّ أحدا من أصحابك (2) وامض لأمري فيمن تبعك ».

فلما قرأ الكتاب قال لاصحابه : قد أمرني رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن امضي إلى نخلة أرصد بها قافلة قريش حتّى آتيه منهم بخبر ، وقد نهاني أن استكره أحدا منكم ، فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق ، ومن كره ذلك فليرجع فأمّا أنا فماض لأمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ومن أراد الرجعة فمن الآن.

ص: 38


1- السيرة النبوية : ج 1 ص 601 ، الطبقات الكبرى : ج 2 ص 9 ، وقد عدّ بعض المؤرخين هذه الحادثة ضمن الغزوة التي عرفت في التاريخ باسم غزوة صفوان أو غزوة بدر الاولى.
2- يقال إنه كان الجنود - الى حين الحرب العالمية الثانية - إذا انتهوا من خدمتهم العسكرية تسلّم إليهم مع وثيقة الانتهاء من الخدمة العسكرية رسالة مغلقة مختومة يؤمر الجندي فيها بالمحافظة عليها كأمانة عسكرية لا يجوز له فتحها إلاّ عند حالات النفير العام ، والعمل بمضمونها وقد سبق النبيّ صلی اللّه علیه و آله إلى هذا التكتيك العسكريّ في أعماله النظامية.

فقال أصحابه اجمعون : نحن سامعون مطيعون لله ولرسوله ولك فسر على بركة اللّه حيث شئت ، فسار هو ومن معه لم يتخلّف منهم أحد حتى جاء نخلة فوجد قافلة لقريش يرأسها « عمرو بن الحضرمي » وهي عائدة من الطائف الى مكة ، فنزل المسلمون بالقرب منهم ، ولكي لا يكتشفهم العدوّ ، ولا يعرف بأمرهم ومهمّتهم حلقوا رءوسهم ليتصوّر العدو أنهم عمّار يعتزمون الذهاب الى مكة للعمرة

فلما رآهم رجال قريش على هذه الحال اطمأنوا وأمنوا جانبهم وقالوا : عمّار لا بأس عليكم منهم.

ثم تشاور المسلمون فيما بينهم في جلسة عسكرية للنظر فيما يجب عمله فتبين لهم : أنهم إذا تركوا القوم ( أي قريشا ) في تلك الليلة ( وكانت آخر ليلة من شهر رجب ) لدخلوا الحرم ، ولم يمكن قتالهم فيه ، وان خرج الشهر الحرام.

فأجمعوا على قتل من قدروا عليه منهم ، وأخذ ما معهم ، من هنا باغتوا تلك القافلة ، ورمى « واقد بن عبد اللّه » قائدها « عمرو بن الحضرمي » بسهم فقتله ، وفرّ رجاله إلاّ نفرين هما : « عثمان بن عبد اللّه » و « الحكم بن كيسان » حيث أسرهما المسلمون ، وعاد عبد اللّه بن جحش وأصحابه بالقافلة مع ما فيها من أموال قريش والاسيرين إلى المدينة.

ولما قدموا على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله المدينة وأخبروه بأنهم قاتلوا القوم في الشهر الحرام ( رجب ) انزعج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من تصرف قائد المجموعة وعدم استفساره لما يجب أن يفعله بشدّة وقال :

« ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام ».

وقد استخدمت قريش هذه القضية كسلاح دعائيّ ضدّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله واشاعت بأنّ « محمّدا » وأصحابه قد استحلّوا الشهر الحرام وسفكوا فيه الدم وأخذوا الاموال كما أنه تشاءم اليهود بهذه القضية وأرادوا أن يثيروا فتنة ، وعاب المسلمون على « عبد اللّه بن جحش وأصحابه » فعلتهم هذه. هذا من جانب ومن جانب آخر وقّف النبيّ صلی اللّه علیه و آله الاموال والأسيرين

ص: 39

وابى أن يأخذ من كل ذلك شيئا وبقي ينتظر الوحي.

وفجأة نزل جبرئيل بهذه الآية :

« يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ » (1).

أي إن كنتم قتلتم في الشهر الحرام ، فقد صدّوكم عن سبيل اللّه مع الكفر به وصدّكم عن المسجد الحرام ، واخراجكم منه وأنتم اهله أكبر عند اللّه من قتل من قتل منهم « والفتنة أكبر من القتل » أي ما كانوا يرتكبونه من فتنة المسلم في دينه حتّى يردّونه الى الكفر بعد إيمانه أكبر عند اللّه من القتل.

ولما نزل القرآن بهذا الأمر ، وفرّج اللّه تعالى عن المسلمين ما كانوا فيه من الخوف والحيرة قبض رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الأموال ، والأسيرين وقسمها بين المسلمين ، وكانت أول غنيمة غنمها المسلمون.

وبعثت قريش الى النبيّ صلی اللّه علیه و آله في فداء أصحابهم فقال النبيّ صلی اللّه علیه و آله :

« لن نفديهما حتّى يقدم صاحبانا ».

يعنى رجلين من المسلمين كانا قد اسرا من قبل قريش ، قد اشتركا في هذه العمليّة ولكنهما أضلا طريقهما في الصحراء فأسرتهما رجال من قريش.

وهكذا أبى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن يطلق سراح أسيري قريش لقاء فدية إلاّ إذا أطلق المشركون أسيري المسلمين. قائلا لموفدي قريش :

« إنّي أخاف على صاحبيّ فإن قتلتم صاحبيّ قتلت صاحبيكم ».

فاضطرت قريش إلى الافراج عن المسلمين الأسيرين ، ومع وصولهما الى المدينة أفرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عن أسيري قريش.

ومن حسن الحظ أنّ إحدى ذينك الأسيرين أسلم ورجع الآخر إلى مكة (2).

ص: 40


1- البقرة : 217.
2- المغازي : ج 1 ص 13 - 18 ، السيرة النبوية : ج 1 ص 603 - 605.

ما ذا كان الهدف من المناورات العسكرية؟

لقد كان الهدف الاساسي من بعث وتوجيه السرايا ، وعقد الاتفاقيات والمعاهدات العسكرية مع القبائل القاطنة على خطوط التجارة المكية هو ايقاف قريش على قوة المسلمين العسكرية ، واشتداد ساعدهم ، وخاصة عند ما كان النبيّ صلی اللّه علیه و آله يشترك بنفسه في العمليات ، ويترصّد مع مجموعات كبيرة من أنصاره تحركات قريش الاقتصادية ، ويعترض قوافلها التجارية.

لقد كان رسول الاسلام صلی اللّه علیه و آله يريد بذلك إفهام حكومة مكة الوثنية بأن جميع طرق التجارة المكية هي في متناول يده ، وأنه يستطيع - متى شاء - أن يشلّ اقتصاد المكيين بتعريض خطوطهم وطرقهم التجارية ، للتهديد الجدّي.

ولقد كانت التجارة أمرا حيويّا وحساسا جدا بالنسبة إلى أهل مكة ، وكانت البضائع التي تنقل منها إلى الطائف والشام تشكّل اساس الاقتصاد المكّي ، فاذا كانت هذه الخطوط تتعرض للتهديد من قبل العدوّ وحلفائه مثل « بني ضمرة » و « بني مدلج » فان ذلك كان يعني انهدام وانهيار حياتهم.

لقد كان الهدف من بعث تلك الدّوريات العسكرية هو : أن تعرف قريش بأن طريق تجارتها الرئيسية هي الآن تحت رحمة المسلمين ، فاذا استمرّوا في معاداتهم للاسلام وللمسلمين وحالوا دون انتشار الاسلام ، والدعوة إليه ، واستمروا في ايذاء من تبقّى من المسلمين المستضعفين والعجزة في مكة واضطهادهم ، قطع المسلمون شريان اقتصادهم.

والخلاصة أنّ الهدف كان هو أن تعيد قريش النظر في مواقفها في ضوء الحالة الجديدة ، والتهديد العسكريّ الاسلامي الجدّي ، وتترك للمسلمين الحرية في الدّعوة إلى عقيدتهم ، وتفتح الطريق لزيارة بيت اللّه الحرام ، ونشر التوحيد ليستطيع الاسلام بمنطقه القويّ ، والمحكم أن ينفذ في القلوب ، ويتجلّى نور الاسلام ويشعّ على جميع نقاط شبه الجزيرة العربية ، وربوعها ، وبخاصة منطقة

ص: 41

الحجاز مركز الجزيرة ، وقلبها النابض.

فان المتكلم مهما كان قويّ المنطق ، سديد البرهان وأنّ المربّي والمرشد مهما كان مخلصا مجدا فانّه لا يستطيع أن يحرز اي نجاح في تنوير العقول ، وتهذيب النفوس وبث الفكر الصحيح إذا لم تتوفّر له حرية العمل ، ولم تتهيأ له البيئة المطمئنّة وأجواء الحرّية والديمقراطية.

ولقد كان الاضطهاد والكبت وسلب الحريات التي كانت تمارسها قريش هي الموانع الكبرى أمام تقدّم الاسلام وسرعة انتشاره ونفوذه ، وكان الطريق الى كسر هذا السدّ ، وإزالة هذا المانع ينحصر في تهديد اقتصادها وتعريض خطوطها التجارية ، للخطر ، وكانت هذه الخطة تتحقق فقط عن طريق القيام بتلك المناورات العسكرية والاستعراضات الحربية ، والعمليات الاعتراضية.

نظرية المستشرقين :

ولقد وقع المستشرقون عند تحليلهم لهذه العمليّات في خطأ كبير ، وتفوّهوا نتيجة ذلك بكلام يخالف القرائن والشواهد الموجودة في التاريخ.

فهم يقولون : لقد كان هدف النبيّ صلی اللّه علیه و آله من مصادرة أموال قريش ، والسيطرة عليها هو تقوية نفسه.

في حين أنّ هذا الرأي لا يلائم نفسيّة أهل يثرب لأنّ الغارة ، وقطع الطريق ، واستلاب الأموال ، من شيم الاعراب أهل البوادي ، البعيدين عن روح الحضارة ، وقيم المدنية وأخلاقها ، بينما كان مسلمو يثرب عامة ، أهل زرع ، وفلاحة ، ولم يعهد منهم أن قطعوا الطرق على القوافل ، أو سلبوا أموال القبائل التي كانت تعيش خارج حدودها.

وأما حروب الأوس والخزرج فقد كان لها أسباب وعلل محليّة ، وقد كان اليهود هم الذين يؤججون نيرانها ، بغية إضعاف القوى والصفوف العربية وتقويه نفسها وموقعها.

ومن جانب آخر لم يكن المسلمون المهاجرون الذين كانوا حول الرسول

ص: 42

صلی اللّه علیه و آله ينوون ملافاة ما خسروه ، رغم أنّ ثرواتهم وممتلكاتهم كانت قد صودرت من قبل المكيين ، ويدل على ذلك أنهم لم يتعرضوا بعد معركة « بدر » لأيّة قافلة تجارية لقريش.

كيف لا وقد كان الهدف وراء أكثر هذه البعوث والارساليات العسكرية هو تحصيل وجمع المعلومات ، عن العدوّ وتحركاته وخططه ، والمجموعات التي لم يكن يتجاوز عدد أفرادها غالبا الثمانية أو الستين أو الثمانين رجلا لا يمكنها قطع الطريق ، واستلاب الاموال ، ومصادرة القوافل التجارية الكبرى التي كان يقوم بحراستها رجال أكثر عددا وأقوى عدّة من تلك السرايا ، بأضعاف المرات غالبا.

فاذا كان الهدف هو الحصول على المال والثروة من هذا الطريق فلما ذا خصّت قريش بذلك ، ولم يعترض المسلمون تجارة غيرهم من القبائل المشركة؟ ولما ذا لم يمس المسلمون شيئا من أموال غير قريش.

واذا كان الهدف هو الغارة ، وقطع الطريق واستلاب الأموال ، فلما ذا كان النبيّ صلی اللّه علیه و آله يبعث المهاجرين فقط ، ولا يستعين بأحد من الأنصار في هذا المجال غالبا؟

وربما قال هؤلاء المستشرقون : ان المقصود من هذه العمليات الاعتراضية كان هو الانتقام من قريش ، لأنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله وأصحابه تعرّضوا على أيدي المكيين لألوان التعذيب والاضطهاد والأذى ، فدفعتهم غريزة الانتقام والثأر - بعد أن حصلوا على القوة - الى تجريد سيوفهم ، للانتقام من الذين طالما اضطهدوهم ، وليسفكوا منهم دما!!

ولكن هذا الرأي لا يقل في الضعف والوهن والسخافة عن سابقه ، لأنّ الشواهد والقرائن التاريخية الحيّة العديدة ، تكذّبه وتفنّده ، وتوضّح - بجلاء - أن الهدف من بعث تلك السرايا والدوريات العسكرية لم يكن أبدا القتال والحرب ، والانتقام وسفك الدماء.

وإليك ما يدلّ على بطلان هذه النظرية :

ص: 43

أوّلا : اذا كان هدف النبيّ صلی اللّه علیه و آله من بعث تلك المجموعات العسكرية هو القتال واستلاب الاموال واخذ المغانم ، وجب أن يزيد في عدد أفراد تلك المجموعات ، ويبعث كتائب - عسكرية مسلّحة ، ومجهزة تجهيزا قويا ، إلى سيف البحر ، وشواطئه على حين نجد أنه صلی اللّه علیه و آله بعث مع « حمزة بن أبي طالب » ثلاثين شخصا ، ومع « عبيدة بن الحارث » ستين شخصا ، ومع « سعد بن أبي وقاص » أفرادا معدودين لا يتجاوزون العشرة ، بينما كانت قريش قد أناطت حراسة قوافلها إلى أعداد كبيرة جدا من الفرسان ، تفوق عدد أفراد المجموعات العسكرية الاسلامية.

فقد واجه « حمزة » ثلاثمائة ، وعبيدة مائتين رجلا من قريش ، وقد ضاعفت قريش من عدد المحافظين والحرس على قوافلها خاصة بعد أن عرفت بالمعاهدات والتحالفات التي عقدها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مع القبائل القاطنة على الشريط التجاريّ؟!

هذا مضافا إلى أنّه لو كان قادة هذه البعوث والدوريات مكلّفين بمقاتلة العدوّ فلما ذا لم يسفك من أحد قطرة دم في أكثر تلك البعوث والعمليات ولما ذا انصرف بعضهم لوساطة قام بها « مجدي بن عمرو » بين الطرفين؟!

ثانيا : ان كتاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الذي كتبه لعبد اللّه بن جحش شاهد حيّ على أن الهدف لم يكن هو القتال ، والحرب.

فقد جاء في ذلك الكتاب : « انزل نخلة بين مكة والطائف فترصّد بها قريشا وتعلم ( اي حصّل ) لنا من أخبارهم ».

إن هذه الرسالة توضّح بجلاء أنّ مهمة عبد اللّه وجماعته لم تكن القتال قط ، بل كانت جمع المعلومات حول العدوّ وتنقلاته وتحركاته ، أي مهمة استطلاعية حسب.

واما سبب الصدام في « نخلة » ومصرع عمرو الحضرمي فقد كان القرار الذي أخذته الشورى العسكرية التي عقدتها نفس المجموعة ، وليس بقرار وأمر من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

ص: 44

ومن هنا انزعج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بمجرد سماعه بنبإ هذا الصدام الدموي ولا مهم على فعلتهم وقال :

« ما أمرتكم بقتال ».

ويؤيّد هذا ما ورد في مغازي الواقدي عن سليمان بن سحيم أنه قال : ما أمرهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بالقتال في الشهر الحرام ، ولا غير الشهر الحرام إنما أمرهم أن يتحسّسوا أخبار قريش (1).

والعلة في أن النبيّ صلی اللّه علیه و آله كان يختار لهذه الدوريات والبعوث رجالا من المهاجرين دون الأنصار هي أن الانصار قد بايعوا في العقبة على الدفاع ، أي أن معاهدتهم مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كانت معاهدة دفاعية تعهّدوا بموجبها بأن يمنعوه من أعدائه ويدافعوا عنه إذا قصده عدوّ.

من هنا ما كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يريد أن يفرض عليهم مثل هذه المهمات ، ويبقى هو في المدينة ، ولكنه عند ما خرج - فيما بعد - بنفسه أخذ معه جماعة من رجال الانصار تقوية لروابط الاخوة والوحدة بين المهاجرين والأنصار ، ولهذا كان رجاله في غزوة « بواط » أو « ذات العشيرة » يتكونون من الأنصار والمهاجرين.

وعلى هذا الاساس يتضح بطلان نظرية المستشرقين حول الهدف من بعث الدوريات العسكرية.

كما أنّ بالتأمل والامعان في ما قلناه يتضح أيضا بطلان ما قالوه في هذا المجال في تلك العمليات التي شارك فيها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بنفسه ، إذ أن الذين خرجوا معه ما كانوا ينحصرون في المهاجرين خاصه بل كانوا خليطا من المهاجرين والأنصار ، والحال أن الأنصار لم يبايعوا النبيّ على القيام بأية عملية هجوميّة ابتدائية ، بل كل ما بايعوا عليه النبيّ كما قلنا هو : العمل الدفاعي ،

ص: 45


1- المغازي : ج 1 ص 16.

فكيف يصح أن يدعوهم النبيّ صلی اللّه علیه و آله إلى عمليات قتالية ابتدائية هجوميّة.

وتشهد بما نقول حادثة وقعة بدر التي سنشرحها في ما بعد ، فما لم يعلن الأنصار عن موافقتهم على قتال قريش لم يقرر النبيّ صلی اللّه علیه و آله الحرب ، في تلك الواقعة.

هذا والسبب في تسمية أصحاب السير والتواريخ هذا النوع من العمليات التي خرج فيها النبيّ بنفسه ( غزوة ) وان لم يقع فيها قتال وغزو ، هو أنّهم أرادوا أن يجمعوا كل الحوادث تحت عنوان واحد ، وإلاّ فلم يكن الهدف الاساسيّ من هذه العمليات هو الحرب والقتال ، أو السيطرة على الأموال وسلبها.

ص: 46

28

تحويل القبلة من بيت المقدس الى الكعبة

اشارة

لم يكن قد مضى على هجرة النبيّ صلی اللّه علیه و آله إلى المدينة عدة أشهر إلاّ وبدأت نغمة معارضة اليهود للنبيّ صلی اللّه علیه و آله تظهر شيئا فشيئا!!

وفي الشهر السابغ عشر من الهجرة بالضبط (1) أمر اللّه تعالى نبيّه صلی اللّه علیه و آله بالأمر المؤكّد القاطع بأن يتحول إلى الكعبة ويتخذها من الآن فصاعدا قبلة له وللمسلمين كافة ، فيتوجهون الى المسجد الحرام في أوقات الصلوات.

هذا هو مجمل القصة ، وإليك بيانها على وجه التفصيل.

صلّى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ثلاثة عشر عاما كاملة في مكة نحو بيت المقدس.

وبعد الهجرة الى المدينة كان الأمر الإلهيّ له هو أن يبقى على الحالة من حيث القبلة ، أي بأن يصلي الى بيت المقدس ، كما كان يفعل في مكة.

وقد كان هذا الاجراء نوعا من المحاولة لاقامة التعاون والتقارب بين الدينين

ص: 47


1- الطبقات الكبرى : ج 1 ص 241 و 242 ، إعلام الورى باعلام الهدى : ص 71 و 72. ويقول ابن هشام في السيرة النبوية : ان القبلة صرفت عن الشام إلى الكعبة في رجب على رأس سبعة عشر شهرا من مقدم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله المدينة ( السيرة النبوية : ج 1 ص 606 ) ويرى ابن الاثير أن ذلك حدث في منتصف شهر شعبان ( الكامل : ج 2 ص 80 ).

القديم والجديد ، ولكن تنامي قوة المسلمين واشتداد ساعدهم أحدث رعبا كبيرا ، وأوجد قلقا واسعا في أوساط اليهود القاطنين في المدينة لأن تقدّم الاسلام والمسلمين المطرد كان يدلّ على أن الدين الاسلامي سيعمّ في أقرب وقت كل أنحاء شبه الجزيرة العربية ، وستتقلّص ( بل تزول ) في المقابل قوة اليهود وسلطانهم ، ومكانتهم ، من هنا نصب أحبار اليهود العداوة لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وعمدوا إلى ممارسة سلسلة من الأعمال الإجهاضية والإيذائية.

لقد أخذوا يؤذون رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله والمسلمين بمختلف أنحاء الطرق وبشتى الوسائل والسبل ، والمعاذير والحجج ومن جملتها التذرع بقضيّة صلاة النبيّ صلی اللّه علیه و آله والمسلمين الى بيت المقدس.

فكانوا يقولون معيّرين إياه : أنت تابع لنا تصلي الى قبلتنا!!

أو كانوا يقولون : تخالفنا يا محمّد في ديننا وتتبع قبلتنا (1).

فشقّ هذا الكلام على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله واغتم لذلك غما شديدا فكان يخرج من بيته في منتصف الليل ويتطلع في آفاق السماء ينتظر من اللّه أمرا ووحيا في هذا المجال كما تفيد الآية الآتية :

« قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها » (2).

ويستفاد من الآيات القرآنية في هذا المجال أنه كان لتغيير القبلة مضافا إلى الردّ على دعوى اليهود سبب آخر أيضا.

وهو أن هذه المسألة كانت من المسائل الاختبارية التي اراد اللّه تعال بها ان يمتحن المسلمين ، ويميّز المؤمن الواقعي الحقيقي عن أدعياء الايمان ، المنتحلين له كذبا ونفاقا ، وأن يعرف النبيّ صلی اللّه علیه و آله به من حوله معرفة جيدة لأن إتباع النبيّ صلی اللّه علیه و آله في الأمر الثاني الذي نزل على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في أثناء الصلاة ( وهو التوجه إلى المسجد الحرام ) كان علامة قوية

ص: 48


1- مجمع البيان : ج 1 ص 255 أو : ما درى محمّد وأصحابه أين قبلتهم حتى هديناهم.
2- البقرة : 144.

من علامات الايمان والتسليم ، والاخلاص والوفاء للدين الجديد.

بينما كانت مخالفته علامة قوية من علامات النفاق والتردّد كما يصرّح القرآن الكريم بنفسه بذلك اذ يقول :

« وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ » (1).

ومن المسلّم أنه يمكن الوقوف على حكم اخرى لهذا الأمر ( أي صرف القبلة من الشام الى الكعبة ) إذا تتبعنا تاريخ الاسلام بشكل أوسع ، وطالعنا أوضاع شبه الجزيرة العربية.

ويمكن الاشارة الى بعض هذه الحكم مضافا الى ما ذكرناه :

أولا : أن الكعبة التي رفعت قواعدها على يدي بطل التوحيد وناشر لوائه النبيّ العظيم « ابراهيم الخليل » علیه السلام كانت موضع احترام وتقديس من المجتمع العربي ، فقد كان العرب يحبون الكعبة ويعظمونها غاية التعظيم على ما هم عليه من الشرك والفساد ، فكان اتخاذه قبلة من شأنه كسب رضا العرب ، واستمالة قلوبهم ، وترغيبهم في الاسلام تمهيدا لاعتناق دين التوحيد ونبذ الاوثان والاصنام.

وأيّ هدف ، وأية غاية ترى أسمى وأجلّ من أن يؤمن المشركون المعاندون المتخلفون عن ركب الحضارة والمدنية ، وينتشر الاسلام بسببهم في كل أنحاء العالم.

ثانيا : أن الابتعاد عن اليهود الذين لم يكن يؤمل في إذعانهم للاسلام ، وايمانهم برسالة ( محمّد ) ذلك اليوم كان يبدو أمرا ضروريا ، لأنهم كانوا يقومون بأعمال ايذائية ضد الاسلام والمسلمين ويطلعون على رسول اللّه صلّى اللّه عليه

ص: 49


1- البقرة : 143. ويمكن بيان هذه العلة بصورة أخرى وهي إنما أمر بالصلاة الى بيت المقدس لأن مكة وبيت اللّه الحرام كانت العرب آلفة بحجها فأراد اللّه أن يمتحن بغير ما آلفوه ليظهر من يتبع الرسول ممن لا يتبعه. ( راجع مجمع البيان : ج 1 ص 222 و 223 ).

وآله بين الفينة والأخرى بأسئلة عويصة يشغلونه بها ، يظهرون بها - حسب تصورهم - أنهم يعرفون أمورا كثيرة وأنهم علماء ، وبذلك يضيّعون على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الوقت ، ويشغلونه عن مهامه الكبرى.

فكان تغيير القبلة واحدا من مظاهر الابتعاد عن اليهود واجتنابهم ، تماما مثل نسخ صوم يوم عاشوراء الذي تم لنفس هذا الغرض.

فقد كانت اليهود تصوم يوم عاشوراء قبل الاسلام ، فأمر النبيّ صلی اللّه علیه و آله المسلمون بأن يصوموا هذا اليوم أيضا ، ثم نسخ الأمر بصوم عاشوراء وفرض مكانه صوم شهر رمضان (1).

وعلى كل حال فان الاسلام الذي يتفوق على جميع الأديان ، يجب أن تتجلى فيه هذه الحقيقة بحيث يغدو أمر تكامله وتفوقه باديا للعيان ، واضحا للجميع.

وفي هذه الحالة تصوّر بعض المسلمين أن ما أتوا به من صلاة وعبادة وهم متجهين إلى بيت المقدس كان باطلا إذ قالوا : كيف بأعمالنا التي كنا نعمل في قبلتنا الأولى ، أو حال من مضى من أمواتنا وهم كانوا يصلون الى بيت المقدس؟!

فنزل الوحي الإلهي يقول :

« وَما كانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ » (2).

ومع ملاحظة هذه الاعتبارات وبينما كان النبيّ صلی اللّه علیه و آله قد انتهى من الركعة الثانية من صلاة الظهر ، نزل عليه جبرئيل ، وأمره بأن يتوجه بالمصلّين معه حدب المسجد الحرام.

وجاء في بعض الاخبار أنّ جبرئيل أخذ بيد النبيّ صلی اللّه علیه و آله وأداره نحو المسجد الحرام ، فتبعه الرجال والنساء الذين كانوا يأتمون به في

ص: 50


1- مجمع البيان : ج 1 ص 273.
2- البقرة : 143. والمراد من الايمان هنا هو العمل وهو من الموارد التي استعمل فيها لفظ الايمان واريد به العمل.

المسجد (1).

فتحوّل الرجال مكان النساء والنساء مكان الرجال فكان أول صلاته الى بيت المقدس ، وآخرها الى الكعبة.

ومنذ ذلك الحين جعلت الكعبة المعظمة - زاد اللّه من شرفها - قبلة مستقلة للمسلمين يتوجهون إليها في كثير من واجباتهم وشعائرهم الدينية (2).

هذا والغريب أن اليهود الذين كانوا قبل نزول الأمر بالتحوّل من بيت المقدس الى الكعبة المعظمة يفتخرون على المسلمين بأنهم يصلّون على قبلة اليهود ، لما حوّل المسلمون إلى الكعبة المعظمة ، وامروا بالصلاة إليها دون بيت المقدس أخذوا يعيبون على المسلمين التوجه إلى نقطة ما في الأرض فردّ اللّه عليهم بقوله :

« سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ » (3).

أي ان اللّه فوق الزمان والمكان ، والتوجه إلى نقطة خاصة في حالة العبادة انما هو لمصالح اجتماعية خاصة فالصلاة الى الكعبة توجّه الى اللّه كالصلاة الى بيت المقدس سواء بسواء.

كرامة علمية لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله :

وما ينبغي الاشارة إليه هنا هو : أن العرض الجغرافي للمدينة - طبقا لمحاسبات علماء الفلك القدامى - هو 25 درجة ، وطولها 75 درجة و 20 دقيقة ، ولهذا كانت قبلة المدينة لا توافق محراب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الباقي على حالته السابقة الى الآن في مسجده الشريف ، وقد سبّب هذا الاختلاف حيرة لدى بعض المتخصصين في هذا العلم ، وربما دفعهم إلى ارتكاب توجيهات وتبريرات لرفع هذا الاختلاف.

ص: 51


1- بحار الأنوار : ج 19 ص 201 عن من لا يحضره الفقيه.
2- كالصلاة والذبح ودفن الموتى ، والدعاء وغير ذلك.
3- البقرة : 142.

ولكن القائد المعروف بسردار الكابلي أثبت في الآونة الأخيرة - طبقا للمقاييس المعروفة اليوم - أن خط المدينة الجغرافي على عرض 24 درجة و 57 دقيقة وطول 39 درجة و 59 دقيقة (1).

وتكون نتيجة هذه المحاسبة هي أن قبلة المدينة تكون في نقطة الجنوب تماما وتنحرف عن نقطة الجنوب ب 45 دقيقه فقط.

وهذا الاستخراج الفلكي للقبلة ينطبق على محراب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أفضل تطبيق ، ويعدّ هذا من كرامات النبيّ الاكرم صلی اللّه علیه و آله حيث توجه في حالة الصلاة (2) من بيت المقدس الى الكعبة بصورة دقيقة ومن دون أي انحراف ولا جزئي مغتفر وذلك من دون أية محاسبة فلكيّة ، وعلميّة.

وقد أخذ جبرئيل بيده وحوّل وجهه نحو الكعبة المعظمة كما أسلفنا (3).

ص: 52


1- تحفة الأجلّة في معرفة القبلة : ص 71 طبعة 1359.
2- من لا يحضره الفقيه للصدوق : ج 1 ص 178.
3- وقد نقل الحرّ العاملي في وسائل الشيعة : في أبواب القبلة ج 3 ص 215 و 216 حادثة تحوّل النبيّ صلی اللّه علیه و آله في الصلاة من بيت المقدس الى المسجد الحرام فراجع.

29

معركة بدر

اشارة

معركة « بدر » من معارك الاسلام الكبرى ومن حروبه البارزة ، وقد اكتسب الذين شاركوا في هذه المعركة منزلة خاصة بين المسلمين فيما بعد.

فالواقعة التي كان يشارك فيها فرد أو عدة أفراد من المجاهدين في « بدر » أو اذا كانوا يشهدون على أمر قال المسلمون : ووافقنا عليه البدريون.

أجل إن الذين شاركوا في معركة بدر من أصحاب النبيّ صلی اللّه علیه و آله يدعون بالبدريين ، ولم يكن هذا إلاّ لاهميّة تكلم الوقعة التاريخية.

وتتضح علة هذه الأهميّة إذا نحن استعرضنا تفاصيل هذه الوقعة.

لقد قلنا في ما سبق أنه بلغ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في منتصف جمادى الآخرة من السنة الثانية للهجرة ، أن قافلة قريش التجارية خرجت من مكة إلى الشام بقيادة « أبي سفيان بن حرب ».

فخرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لملاحقتها إلى « ذات العشيرة » وتوقّف هناك إلى مطلع الشهر التالي ، ولم يعثر على تلك القافلة ، وقد كان وقت عودة القافلة معلوما تقريبا ، فقد كانت قافلة قريش تعود من الشام إلى مكة في أوائل الخريف.

ومن المعلوم أنّ أوّل خطوة على طريق الانتصار في مثل هذه المحالات هو

ص: 53

تحصيل اكبر قدر من المعلومات حول العدوّ لأنّ قائد الجيش ما لم يعرف شيئا عن استعدادات العدوّ ، ونقطة تمركزه وتواجده ، ومعنويات أفراده ، فانه ربما ينهزم وينكسر في أول مواجهة.

ولقد كان من أساليب النبيّ الاكرم صلی اللّه علیه و آله الرائعة في جميع الحروب والمعارك التي ستقرأ تفاصيلها هو جمع المعلومات حول مدى استعداد العدوّ ، ومبلغ تهيّؤه ومكان تواجده ، وتمركزه ، وهذه مسألة تحظى والى اليوم بأهميّة خاصّة في الحروب العالمية والمحلية ، بل وترصد لها ميزانيّات كبرى ، وتستخدم أجهزة عريضة في عالمنا الحاضر ، كما هو معلوم للجميع ، وكما أشرنا الى ذلك فيما سبق.

وقد بعث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عينا له على قافلة قريش اسمه « عدي » - حسب رواية المجلسي (1) - أو « طلحة بن عبيد اللّه » و « سعيد بن زيد » حسب ما قال صاحب « حياة محمّد » نقلا عن المصادر التاريخيّة (2) ، لإخباره عن مسير تلك القافلة ، وعدد حرّاسها ورجالها ونوعية البضائع المحمّلة.

فلما عاد العين أخبر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله :

1 - بأن قافلة قريش قافلة كبرى شارك فيها كلّ أهل مكّة ، حتى أنه ما من قرشيّ أو قرشية بمكة له مثقال فصاعدا إلاّ بعث به في تلك القافلة.

2 - إنّ البضائع يحملها ألف بعير وأنّ قيمتها تبلغ خمسين ألف دينار.

3 - وأنه يقودها « أبو سفيان بن حرب » في أربعين رجلا.

وحيث إن أموال المسلمين المهاجرين إلى المدينة كانت قد صودرت في مكة على أيدي قريش من هنا كان الوقت مناسبا جدا لأن يأخذ المسلمون أموال قريش في تلك القافلة ، ويحتفظوا بها ريثما تفرج قريش عن أموال المسلمين المهاجرين المصادرة بمكة ، فاذا لجّوا وأصرّوا في مصادرة أموال المسلمين قسّم

ص: 54


1- بحار الأنوار : ج 18 ص 217.
2- المغازي : ج 1 ص 19.

المسلمون في المقابل أموال قريش المأخوذة فيما بينهم وتصرفوا فيها كغنائم حرب من هنا قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لهم :

« هذا عير قريش ( أي قافلتهم ) فيها أموالهم ، فاخرجوا إليها لعلّ اللّه ينفلكموها » (1).

من هنا استخلف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في المدينة « عبد اللّه بن أمّ مكتوم » للصلاة بالناس ، والقيام بالشؤون الدينية ، و « أبا لبابة » للقيام بالشؤون السياسية.

ثم خرج من المدينة في ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا لمصادرة أموال قريش أو بالاحرى توقيفها وحبسها.

النبيّ يتوجه الى منطقة ذفران :

النبيّ يتوجه الى منطقة ذفران (2) :

لقد ترك رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله المدينة بعد أن أتاه خبر عن تحرك قافلة قريش ، قاصدا وادي ذفران حيث طريق القافلة في يوم الاثنين ، الثامن من شهر رمضان ، وقد عقد رايتين سلّم إحداهما إلى مصعب بن عمير ، والاخرى ( وتسمى العقاب ) إلى علي بن أبي طالب علیه السلام .

ولقد كانت المجموعة التي خرج بها النبيّ صلی اللّه علیه و آله تتألّف من اثنين وثمانين من المهاجرين ، ومائة وسبعين من الخزرج ، وواحد وستين من الأوس ، وكان عندهم ثلاثة أفراس فقط.

ص: 55


1- المغازي : ج 1 ص 20.
2- وادي ذفران الذي كان يمرّ به قافلة قريش التجارية يقع على مرحلتين من بدر. وقد ذكر ابن هشام في سيرته جميع المراحل التي طواها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله من المدينة إلى ذفران ومنه إلى بدر الذي ارتحل اليه رسول اللّه بعد أن بلغه نبأ تحرك قافلة قريش. وبدر كان موسماً من مواسم العرب يجتمع لهم به سوق كل عام يتبايعون فيه ويتفاخرون على غرار سوق عكاظ، وكان يقع على طريق مكة والمدينة والشام. (راجع السيرة النبوية : ج 1 ص 613 - 618).

ولقد بلغ حبّ الشهادة عند الاشخاص في المجتمع الاسلامي يومئذ مبلغا عجيبا حتى أنّ فتيانا دون الحلم اشتركوا في هذه المعركة ، وردّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله بعضهم إلى المدينة لمّا استصغرهم (1).

إن كلام رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يفيد بانه صلی اللّه علیه و آله قد وعدهم بالرخاء والانفراج في المعيشة وذلك عن طريق السيطرة على أموال قريش ، وأخذ بضائعها ، وكان المسوّغ لهذا العمل هو ما سبق أن ذكرناه ، وهو أن قريشا كانت قد صادرت كل أموال المهاجرين المسلمين في مكة ، منقولها وغير منقولها ، ومنعت من دخولهم مكة ، وخروجهم منها.

ومن الواضح أن يسمح العاقل لنفسه - أيّا كان - بأن يعامل عدوه بمثل هذه المعاملة التي عامله بها العدوّ.

وأساسا يجب أن نعلم أنّ سبب هجوم المسلمين على قافلة قريش هو أنهم قد ظلموا وقهروا ، الأمر الذي يذكره القرآن الكريم أيضا ، ولذلك يسمح للمسلمين بأن يقاتلوا عدوّهم ويعترضوا تجارتهم إذ يقول :

« أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ » (2).

ولقد كان أبو سفيان قد عرف - عند توجهه بالقافلة إلى الشام - أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يترصد القافلة ، ولهذا اتخذ كافة الاحتياطات عند قفوله ورجوعه من الشام ، فكان يسأل القوافل عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وكان إذا رأى أحدا منهم سأله : هل أحسست أحدا؟!

ص: 56


1- المغازي : ج 1 ص 21. ورويأنه كان الرجل يساهم أباه في الخروج مع النبي صلى اللّه عليه وآله رغبةً في الجهاد في سبيل اللّه والشهادة فكان ممن ساهم «سعد بن خيثمة» وأبوه في الخروج إلى بدر، فقال سعد لأبيه : انه لوكان غير الجنة آثرتك به إني لأرجو الشهادة في وجهي هذا. فقال خيثمة : آثرني، وقرمع نسائك ! فابى سعد. فقال خيثمة: إنه لابدَّ لأحدنا من أن يقيم فاسْتَهما (أي اقترعا) فخرج سهم سعد فقتل ببدر(المصدر).
2- الحج : 39.

وكان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قد خرج مع أصحابه من المدينة ، يلاحق قافلة قريش ، وقد نزل في وادي ذفران.

ولما أحسّ أبو سفيان بذلك أحجم عن الاقتراب الى منطقة بدر ولم ير بدّا من أن يخبر قريشا بالخطر الذي يحدق بتجارتهم ، وأموالهم ، ويطلب مساعدتهم ، فاستأجر رجلا يدعى « ضمضم بن عمرو الغفاري » وأمره بأن يجدع بعيره ( يقطع أنفه ) ويحوّل رحله ، ويشقّ قميصه من قبله ودبره ويصيح الغوث! الغوث ، ويخبر قريشا أنّ محمّدا تعرّض لتجارتهم!!

فخرج ضمضم سريعا إلى مكّة ، ولمّا قدمها وقف ببطن الوادي يصيح بأعلى الصوت : يا معشر قريش اللطيمة اللطيمة (1) ، أموالكم مع أبي سفيان قد تعرّض لها محمّد في أصحابه ، لا أرى ان تدركوها ، الغوث الغوث (2).

فأثار هذا المنظر المثير ، واستغاثات ضمضم المتتابعة أهل مكة ، فتجهزوا سراعا ، وتهيّأوا للخروج ، وأعدّ كل صناديد قريش ورجالها المقاتلون أنفسهم للتحرّك نحو المدينة إلاّ أبو لهب الذي لم يشترك في هذا الخروج ، وارسل مكانه « العاصي بن هشام » لقاء أجر قدره أربعة آلاف درهم.

وأراد « أميّة بن خلف » هو الآخر أن يتخلّف لاسباب خاصّة ، فقد قيل له : أن محمّدا يقول : لأقتلنّ أميّة بن خلف (3).

فرأى أشراف قريش وسادات مكة أن تخلف رجل مثله يضرّ بقريش ويوهن من عزيمة الجيش ، فقرروا إثارته وتحريكه فأتاه عقبة بن أبي معيط وأبو جهل وهو جالس في المسجد بين ظهرانيّ قومه ، بمجمرة يحملانه فيها نار وعود يتبخّر به حتى وضعاها بين يديه ثم قالا له :

« يا أميّة استجمر فإنّما أنت من النساء »!

ص: 57


1- اللطيمة : الابل التي تحمل الاقمشة والعطور ، والنداء يعني : ادركوا اللطيمة ادركوها.
2- الكامل في التاريخ : ج 2 ص 81 ، المغازي : ج 1 ص 31 ، بحار الانوار : ج 19 ص 216.
3- المغازي : ج 1 ص 35.

فغضب أميّة ، وهاجت به الحمية ، فتجهز من فوره ، وخرج مع الناس (1).

وخلاصة القول أنه اوعبت قريش لمّا سمعت بتعرض قافلتها وأموالها للخطر من قبل النبيّ صلی اللّه علیه و آله وأصحابه ، فكانوا بين رجلين إما خارج أو باعث مكانه رجلا ، وما بقي أحد من عظماء قريش إلاّ أخرج مالا لتجهيز الجيش ، وأخرجوا معهم المغنيات يضربن بالدفوف ويهيّجن الرجال للقتال.

المشكلة التي كانت تواجهها قريش :

ولما اعلن عن موعد الرحيل تذكرت قريش بأن بينهم وبين قبيلة « بني بكر » عداء قديما ، فخافوا أن يوجهوا إليهم ضربة من الخلف ، أو يحملوا على نسائهم وذراريهم في مكة في غياب منهم فكاد ذلك يثنيهم عن الخروج.

وقد كان العداء بين قريش وبني بكر يعود إلى دم سفك بينهم في قصة ذكرها ابن هشام وغيره من كتّاب السيرة (2).

ولكن سراقة بن جعشم المدلجي - وكان من أشراف بني كنانة وهم من بني بكر - طمأنهم ، ووعدهم بأن لا تأتيهم بنو بكر من خلفهم بشيء يكرهونه ، ولما اطمأنّوا خرجوا صوب المدينة سراعا.

وكان النبيّ صلی اللّه علیه و آله وأصحابه قد خرجوا من المدينة لاعتراض قافلة قريش التجارية ، وهبطوا في وادي ذفران ، وبقوا هناك ينتظرون مرورها ، ولكنه فجأة بلغه خبر جديد غيّر أفكار قادة الجيش الاسلامي ، وفتح - في الحقيقة - فصلا جديدا في حياتهم.

فقد أتاه الخبر عن مسير قريش باتجاه المدينة لحماية قافلتها التجارية ، وأن جيشها قد وصل إلى مشارف المنطقة التي يتواجد فيها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأصحابه ، وأن طوائف متعددة قد ساهمت وشاركت في تكوين هذا الجيش.

ص: 58


1- تاريخ الطبري : ج 2 ص 138 ، الكامل في التاريخ : ج 2 ص 82 ، المغازي : ج 1 ص 35 و 36.
2- السيرة النبوية : ج 1 ص 610 و 611 ، المغازي : ج 1 ص 38 و 39.

فوجد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله والقائد الاعلى للمسلمين نفسه أمام خيارين :

إما أن يقاتل ، ولكنّه لم يخرج هو أو أصحابه الذين مرّ ذكرهم إلاّ لمصادرة أموال قريش ، فلم يكونوا متهيّئين لمقاتلة الجيش المكّي الكبير ، لا من حيث العدد ، ولا من حيث العدّة.

وإما أن يرجع إلى المدينة من حيث أتى ، وهذا يعني أن ينهار كلّ ما كسبوه من الهيبة والمهابة ، بفضل المناورات العسكرية ، والعروض النظامية السابقة.

وبخاصة إذا تقدم العدوّ نحو المدينة في ظل هذا الانسحاب واجتاح مركز الإسلام « المدينة المنورة ».

فرأى النبيّ صلی اللّه علیه و آله أن لا ينسحب ، بل يقاتل العدوّ بما عنده من العدة القليلة والعدد القليل ويقاوم حتى اللحظة الأخيرة والنفس الأخير.

والجدير بالذكر أنّ أكثر الذين كانوا مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كانوا من شبّان الأنصار وكان عدد المهاجرين لا يتجاوز 82 شخصا.

وكانت بيعة العقبة التي بايع فيها الأنصار رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بيعة على الدفاع عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وحمايته لا القتال والحرب.

اي انهم بايعوه صلی اللّه علیه و آله على أن يمنعونه في المدينة فلا يصل إليه أحد من أعدائه وهو بينهم.

أمّا أن يخرجوا معه الى خارج المدينة لقتال العدوّ فلم يبايعوا النبيّ صلی اللّه علیه و آله على مثل ذلك فما ذا يفعل القائد الأعلى للمسلمين.

إنه لم ير مناصا من استشارة الناس الذين معه ، ومعرفة رأيهم في ما يجب اتخاذه من طريقة حل لهذه المشكلة.

النبيّ يعقد شورى عسكرية :

وهنا وقف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في تلك الجماعة وقال : أشيروا

ص: 59

عليّ أيّها الناس.

فقام أبو بكر وقال : يا رسول اللّه إنّها قريش ، وخيلاؤها ما آمنت منذ كفرت ، ولا ذلّت منذ عزّت ولم نخرج على أهبة الحرب!!

وهذا يعني أنه رأى من الصالح ان ينسحبوا الى المدينة ، ولا يواجهوا قريشا.

فقال له رسول اللّه : اجلس.

ثم قام عمر بن الخطاب ، وكرّر نفس مقالة أبي بكر ، فأمره النبيّ صلی اللّه علیه و آله بالجلوس أيضا.

ثم قام « المقداد بن عمرو » وقال : يا رسول اللّه امض لما أراك اللّه فنحن معك ، واللّه لا نقول لك كما قالت بنو اسرائيل لموسى : اذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا هاهنا قاعدون.

ولكن اذهب أنت وربّك فقاتلا ، وإنا معكما مقاتلون.

فو الّذي بعثك بالحقّ لو سرت الى برك الغماد ( وهو موضع بناحية اليمن ) لجالدنا معك من دونه ، حتى تبلغه ، ولو أمرتنا أن نخوض جمر الغضا ( أي النار المتقدة ) وشوك الهراس ( وهو شجر كبير الشوك ) لخضناه معك.

فقال له رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله خيرا ودعا له به.

إخفاء الحقائق وكتمانها :

إذا كان اخفاء الحقائق ، والتعتيم عليها وسترها ، والتعصب الباطل أمرا مشينا من كلّ من ألّف وكتب ، فإنّه ولا شك أقبح من المؤرّخ ، المؤتمن على التاريخ وحقائقه.

فان على المؤرخ أن يكون مرآة صادقة للأجيال القادمة لا يكدرها غبار التعصب ، وغشاوة التحريف والتبديل والكتمان للحقائق.

ولقد ذكر ابن هشام (1) والمقريزي (2) والطبري (3) ما وقع في الشورى

ص: 60


1- السيرة النبوية : ج 1 ص 615.
2- إمتاع الاسماع : ص 74.
3- تاريخ الطبري : ج 2 ص 140.

العسكرية التي عقدها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأدرج فيها ما قاله المقداد ، وقاله سعد بن معاذ في كتبهم على وجه التفصيل ، ولكنهم أحجموا عن إدراج ما قاله أبو بكر وعمر وإنما قالوا : وقال فلان وأحسن ، وقال فلان واحسن!!

وهنا نسأل ذينك المؤرخين اذا كان ما قاله فلان وفلان حسنا أرضى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فلما ذا تركوا ذكره على نحو التفصيل كما فعلوا بالنسبة إلى كلام مقداد وسعد.

بلى ؛ إنهما لم يقولا إلاّ ما ذكرناه قبل قليل ، ليس غير. وإذا كان أولئك المؤلفون يكتمون الحقائق ، فقد أظهرها الآخرون وسجلوا نص ما قاله الرجلان (1) ، ولم يكن قولا حسنا ولا كلاما طيبا ، بل كان كلامهما مثبطا ، ينمّ عن خوف ، ووحشة ، فهما صوّرا قريشا قوة لا تقهر ، وجيشا لا يدحر ، غير آبهين بما تترك كلماتهم من الأثر السيئ في نفوس المسلمين في ذلك الظرف الدقيق ، واللحظة الخطيرة!!

وإنك أيها القارئ لتستطيع أن تعرف مدى انزعاج النبيّ صلی اللّه علیه و آله من مقالتهما ، مما ذكره الطبري نفسه في الصفحة ذاتها ، فان الشيخين كما تلاحظ ، كانا أوّل من نطقا في تلك الشورى ، ثم تكلّم بعدهما المقداد ، وسعد بن معاذ.

فان الطبري يروي عن ابن مسعود أنه قال : لقد شهدت من المقداد مشهدا لئن أكون أنا صاحبه احبّ إليّ مما في الارض من شيء كان رجلا فارسا وكان

ص: 61


1- المغازي : ج 1 ص 48 ، السيرة الحلبية : ج 2 ص 160 ، بحار الأنوار : ج 19 ص 217. قال الواقدي: ثم قال عمر: يارسول اللّه أنها واللّه قريش وعزّها، واللّه ماذلت منذ عزّت، واللّه ما آمنت منذ كفرت، واللّه لا تسلم عزّها أبداً، ولتقاتلنَّك فاتهب لذلك أهبته، وأعد لذلك عدته ! ! ! كما جاء في صحيح مسلم : ج 5 ص 170 باب غزوة بدر ومسند أحمد : ج 3 ص 219 بطريقين انه حين بلغ النبي صلى اللّه عليه وآله اقبال ابي سفيان شاور أصحابه، فتكلم أبو بكر فاعرض عنه، ثم تكلم عمر فاعرض عنه .

رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله اذا غضب احمارّت وجنتاه ، فاتاه المقداد على تلك الحال (1) فقال : أبشر يا رسول اللّه فو اللّه لا نقول لك كما قالت بنو اسرائيل لموسى : « اذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا هاهنا قاعدون ، ولكن اذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا معكما مقاتلون » (2).

ولقد كان ذلك المجلس مجلس استشارة وتبادل للرأي وكان لكل أحد الحقّ في أن يدلي برأيه ، ويطرح نظره على القائد الأعلى ، ولكنّ مجريات الاحداث أثبتت أن مقداد كان أقرب إلى الصواب ، وأكثر توفيقا في اصابة الحق من ذينك الرجلين.

وقد أشار القرآن الكريم إلى تخوف بعض المسلمين من مواجهة العدوّ في هذه الموقعة إذ قال سبحانه :

« كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ » (3).

وقال تعالى :

« يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ » (4).

قرار الشورى الحاسم أو رأي زعيم الأنصار :

كانت الآراء التي طرحت آراء شخصيّة وفردية على العموم ، والحال أن الهدف الاساسيّ من عقد تلك الشورى كان هو الحصول على رأي الأنصار ، فلمّا لم يدل الأنصار برأيهم لم يمكن لتلك الشورى أن تتخذ رأيا حاسما ، وتبت في أمر.

من هنا أعاد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قوله : « أشيروا عليّ أيها

ص: 62


1- أي وهو غاضب من مقاله وتثبيط من تقدماه.
2- تاريخ الطبري : ج 2 ص 140.
3- الانفال : 5.
4- الانفال : 6.

الناس » وهو يريد الأنصار.

فقام سعد بن معاذ الأنصاري وقال : واللّه لكأنك يا رسول اللّه تريدنا؟

فقال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : أجل.

فقال سعد : بأبي أنت وأمّي يا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إنا قد آمنّا بك ، وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به حق من عند اللّه ، وأعطيناك مواثيقنا وعهودنا على السمع والطاعة فامض يا رسول اللّه لما اردت فنحن معك ، فو الذي بعثك بالحق ، لو استعرضت بنا هذا البحر (1) فخضته لخضناه معك ما تخلّف منا رجل واحد ، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا.

إنا لصبر في الحرب ، صدق في اللقاء لعلّ اللّه يريك منّا ما تقرّ به عينك فسر بنا على بركة اللّه ، وصل من شئت ، واقطع من شئت وخذ من أموالنا ما شئت ، وما أخذت من أموالنا أحبّ إلينا مما تركت.

فسّر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بقول سعد ونشّطه ذلك ، وأزال سحابة اليأس من النفوس ، وأشعل ضياء الأمل في القلوب.

ولهذا لم يفرغ ذلك الأنصاريّ البطل والقائد المؤمن الشجاع من مشورته الشجاعة إلاّ وأصدر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أمره بالرحيل قائلا : « سيروا على بركة اللّه وابشروا فانّ اللّه قد وعدني إحدى الطائفتين ولن يخلف اللّه وعده.

واللّه لكأنّي الآن أنظر الى مصارع القوم ».

وتحرك الجيش الاسلاميّ بقيادة النبيّ الاكرم صلی اللّه علیه و آله ونزل عند آبار « بدر » (2).

تحصيل المعلومات حول العدوّ :

مع أنّ المبادئ العسكريّة والتكتيكات الحربية في الوقت الحاضر تختلف

ص: 63


1- يقصد البحر الأحمر.
2- المغازي للواقدي : ج 1 ص 48 ، السيرة النبوية : ج 1 ص 615.

عما كانت عليه في العصور الغابرة اختلافا كبيرا إلاّ أنّ مسألة تحصيل المعلومات حول العدوّ ومعرفة أسراره العسكرية ، ومدى استعداداته ومبلغ قواه التي يستخدمها ، ودرجة معنويات أفراده لا تزال على أهميتها وقيمتها ، لم تتغير من هذه ، بل ازدادت أهمية في العصر الحاضر - كما أسلفنا -.

فهي تشكل الآن أيضا مفتاحا في الحروب ، ومنطلقا للانتصارات العسكرية.

على أن هذه المسألة قد اتخذت اليوم صبغة التعليم والتمرين ، فقد أصبح لها اليوم كتب ومعاهد تتولى تعليم طرائق التجسس العسكري واساليبه ، كما ويعزي قادة المعسكر الغربي والشرقي الكثير من نجاحاتهم إلى نجاحهم في توسعة دوائر التجسس ومنظماته التي تستطيع اطلاع أصحابها على معلومات دقيقة ومفصّلة عن خطط العدو وقواه ، واماكن تمركزه وتواجده ، وخطوط إمداده ، وتموينه تمهيدا لإفشال تحركاته أو إجهاضها فورا.

من هنا استقر الجيش الاسلاميّ في منطقة تلائم مبادئ التستر بشكل كامل ، ومنع عن أي عمل من شأنه انكشاف أسراره ، كما أن فرقا مختلفة ومتعددة كلّفت بتحصيل وجمع المعلومات عن قريش وقافلتها وجيشها.

فكانت المعلومات التي توفرت لدى القيادة الاسلامية هي كالتالي :

الف / انّ النبيّ نفسه ركب هو ورجل من قادة جيشه حتى وقف على شيخ من العرب فسأله عن قريش وعن محمّد وأصحابه وما بلغه عنهم فأخبرهم بأن محمّد وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا ، وانه إن كان صدق الذي أخبرني فهم اليوم بمكان كذا وكذا للمكان الذي كان به رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وان قريشا خرجوا يوم كذا وكذا ، وانه ان كان الذي أخبره صدقه فهم اليوم بمكان كذا وكذا للمكان الذي فيه قريش.

وهكذا عرف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله نقطة تواجد قريش ، واستقرار قواتهم.

باء / بعث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله جماعة « الزبير بن العوام » و « سعد

ص: 64

بن أبي وقاص » بقيادة عليّ علیه السلام الى ماء بدر يلتمسون له الخبر ، فأصابوا إبلا يستقي عليها الماء لقريش فيها غلامان أحدهما لبني الحجاج والآخر لبني العاص فأتوا بهما إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فسألهما النبيّ عن قريش فقالا : هم واللّه وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى.

فقال لهما رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : كم القوم وما عدّتهم فقالا : لا ندري ، كثير. فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : كم ينحرون ( من الابل ) كل يوم؟ قالا : يوما تسعا ويوما عشرا.

فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : القوم فيما بين التسعمائة والألف.

ثم سألهما : فمن فيهم من أشراف قريش؟

قالا : عتبة بن ربيعة ، وأبو البختري بن هشام ، وحكيم بن حزام وشيبة بن ربيعة وأبو جهل بن هشام وأميّة بن خلف و .. و ..

فأقبل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على أصحابه وقال :

« هذه مكّة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها » (1).

جيم / كلّف شخصان بالدخول الى قرية بدر وتقصّي الحقائق حول قافلة قريش فيها فمضيا حتى نزلا بدرا فأناخا ابلهما الى تلّ قريب من الماء ، ثم تظاهرا بأنّهما يريدان أن يستسقيا ، وكان على الماء جاريتين تستسقيان وتقول إحداهما للاخرى : إنما تأتي القافلة غدا أو بعد غد فأعمل لهم ثم أقضيك الذي لك.

فقال لها « مجدي بن عمرو الجهني » ، وكان على مقربة منهما : صدقت ثم خلص بينهما.

فسرّ صاحبا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لما سمعا فعادا في سرّية كاملة إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأخبراه بما سمعا (2).

والآن وبعد أن أصبح رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عارفا بوقت ورود القافلة ، ومكان تواجد قريش ، معرفة دقيقة عمد إلى ترتيب المقدمات اللازمة.

ص: 65


1- السيرة النبوية : ج 1 ص 617.
2- السيرة النبوية : ج 1 ص 617.

كيف هرب أبو سفيان؟

لقد تعرّض أبو سفيان قائد قافلة قريش لدى توجّهه بها إلى الشام للملاحقة من قبل مجموعة من المسلمين ، ولهذا فانه كان يعلم جيدا بأنهم سوف يتعرضون له عند قفوله من الشام أيضا.

ولهذا عند ما وصل بقافلة قريش إلى المنطقة الخاضعة للمراقبة الاسلامية أراحها في منطقة بعيدة عن متناول أيدي المسلمين ودخل هو قرية « بدر » يتجسس ، ويسأل عن أخبار رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فالتقى « مجدي بن عمرو » على ماء بدر فسأله : هل أحسست أحدا؟ ( ويقصد هل رأيت أحدا من عيون محمّد ورجاله؟ ).

فأجابه مجدي قائلا : ما رايت أحدا انكره ، إلاّ أني قد رأيت راكبين قد أناخا الى هذا التلّ ثم استقيا في شنّ لهم ، ثم انطلقا.

فأتى أبو سفيان مناخهما ، فأخذ من أبعار بعيريهما ، ففتّه ، فاذا فيه النوى فقال : هذه - واللّه - علائف يثرب. هذه عيون محمّد وأصحابه ، ما أرى القوم إلاّ قريبا.

فرجع إلى أصحابه سريعا وحرّك القافلة من فوره ، وابتعد عن بدر وأخذ بها جهة ساحل البحر الأحمر كما أنه كلّف أحدا بإخبار قريش فورا ، بأنّ قافلتهم أفلتت من يد محمّد وأصحابه ، وأن أموالهم نجت فليرجعوا وليتركوا محمّدا تكفيه العرب.

ص: 66

الصورة

خارطة معركة بدر

دليل الخارطة :

1 - القلعة 2 - مدينة بدر 3 - النخيل 4 - مسجد العريش 5 - بيوت بدر

ص: 67

علم المسلمين بإفلات قافلة قريش :

عرف المسلمون بإفلات قافلة قريش ، وانتشر هذا النبأ بينهم بسرعة ، فاغتمّ من خرج مع المسلمين يريد الحصول على شيء من تلك الأموال ، فقال اللّه تعالى تثبيتا لهم وتسكينا لقلوبهم :

« وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ. لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ » (1).

إختلاف قريش في القتال :

عند ما وافى رسول أبي سفيان قريشا وهم بالجحفة ، وأبلغهم رسالة أبي سفيان وطلب منهم الرجوع إلى مكة حدث بين رجال قريش اختلاف عجيب.

وقال بنو زهرة والأخنس بن شريق وكانوا حلفاء على الرجوع قائلين : قد خلصت أموال سيد بني زهرة : « مخرمة بن نوفل » وانما نفرنا لنمنعه وماله ، فلا حاجة بأن نخرج في غير منفعة.

ورجع طالب ( ابن أبي طالب ) إلى مكة وكان قد استكره على الخروج من مكة ، وذلك بعد مشاجرة بينه وبين رجل من قريش قال له :

« واللّه لقد عرفنا يا بني هاشم ، وإن خرجتم معنا أن هواكم لمع محمّد » (2).

وأما أبو جهل فقد أصرّ على مواصلة التقدّم نحو المدينة ، وعدم الرجوع إلى مكّة خلافا لطلب أبي سفيان ، قائلا :

واللّه لا نرجع حتى نرد بدرا فنقيم عليه ثلاثا فننحر الجزر ( الأباعر ) ونطعم الطعام ، ونسقي الخمر ، وتعزف لنا القيان والمغنيات ، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا ، وجمعنا فلا يزالون يهابوننا أبدا بعدها ، فامضوا!!

ص: 68


1- الانفال : 7 و 8.
2- السيرة النبوية : ج 1 ص 619.

فحملت كلمات أبي جهل المغرية قريشا على مواصلة التقدم نحو المدينة ، ونزلت في مكان مرتفع (1) خلف كثيب.

وأمطرت السماء مطرا غزيرا فأصاب قريشا منه ما لم يقدروا على أن يرتحلوا معه ، ومنعهم من مزيد التقدم.

بينما لم يحدث المطر أي مشكلة في العدوة الدنيا للمسلمين ولم يمنع من تحركهم بل كان بحيث لبد الأرض حتى ثبتت أقدامهم (2).

و « بدر » منطقة واسعة يتكون جنوبها من مكان مرتفع ( العدوة القصوى ) وشمالها من مكان منخفض منحدر ( العدوة الدنيا ) وكانت في هذا الوادي الواسع بضع آبار وعيون ماء ، فكان منزلا للقوافل ينزلون فيه ويستقون ، ويستريحون ردحا من الزمن.

وهنا تقدم « الحباب بن منذر » وكان فارسا مجربا وعسكريا محنكا باقتراح الى النبيّ صلی اللّه علیه و آله إذ قال : يا رسول اللّه أرأيت هذا المنزل منزلا أنزلكه اللّه ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟

فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « بل هو الرأي والحرب والمكيدة ».

فقال : يا رسول اللّه فان هذا ليس بمنزل فانهض بالناس حتّى أدنى ماء من القوم ، فنزله فنغوّر ( أي ندفن العين ) ما وراء القلب ، ثم نبني عليه حوضا فنملؤه ماء ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون.

فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لقد أشرت بالرأي.

فنهض رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ومن معه فسار حتى إذا أتى أدنى ماء من القوم نزل عليه ، ثم أمر بالقلب ( الآبار ) فغوّرت ، وبنى حوضا على القليب الذي نزل عليه فملئ ماء ثم قذفوا فيه الآنية.

إن هذه الحادثة تكشف جيّدا على اهتمام رسول الإسلام بالمشاورة ،

ص: 69


1- وهو ما يسمى بالعدوة القصوى.
2- ويقال كان المطر ينزل على قريش كأفواه القرب وعلى أصحاب رسول اللّه رذاذا بقدر ما لبد الأرض.

واحترامه لآراء الآخرين واتساع صدره لاقتراحاتهم ، والأخذ بما يفيد منها دون تكبّر أو انزعاج (1). « العريش » أو غرفة القيادة :

وقيل إن سعد بن معاذ تقدم هو الآخر بمقترح عسكري رائع وهو بناء واقامة برج لرسول اللّه يقود منه العمليات ويشرف على سيرها ويكون مأمنا له من كيد الاعداء فقال : يا رسول اللّه ألا نبني لك عريشا تكون فيه ، ونعد عندك ركائبك ، ثم نلقى عدوّنا فان أعزّنا اللّه وأظهرنا على عدوّنا ، كان ذلك ما أحببنا ، وان كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا فقد تخلّف عنك أقوام يا نبيّ اللّه ما نحن بأشد لك حبا منهم ، ولو ظنوا أنك تلقى حربا ما تخلفوا عنك ، يمنعك اللّه بهم ، يناصحونك ويجاهدون معك.

فأثنى عليه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ودعا له بخير ، ثم بني له صلی اللّه علیه و آله عريش فوق مكان مرتفع مشرف على ساحة القتال والحرب ، وكان سعد وجماعة من فتيان الأنصار يحرسونه في بعض حالات القتال!! (2).

نظرة الى مسألة « العريش » :

ان مسألة بناء العريش لرسول اللّه ، وحراسة سعد بن معاذ وجماعة من فتيان الأنصار له هو مما ذكره ورواه الطبري في تاريخه نقلا عن ابن اسحاق وتبعه الآخرون في ذلك ، ولكن هذه القصة لا يمكن القبول بها لاسباب هي :

أوّلا : أن هذا العمل يفتّ في عضد الجنود ، ويضعف من معنوياتهم القتالية لأن معناه أن القائد يفكر في وسيلة لنجاة نفسه دون أن يفكر في نجاة جنوده ، ومثل هذه القيادة لا يمكنها ان تستحوذ على قلوب جنودها ، وتجعلها مطيعة لأوامرها.

ص: 70


1- السيرة النبوية : ج 1 ص 620 ، تاريخ الطبري : ج 2 ص 144.
2- تاريخ الطبري : ج 2 ص 145 ، السيرة النبوية : ج 1 ص 620.

ثانيا : أنّ هذه القصة تتنافى مع الاخبار القطعية التي بشر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بها المسلمين في ضوء ما نزل عليه من آيات.

فهو صلی اللّه علیه و آله قبل أن يواجه المسلمون قريشا قال لأصحابه الذين خرجوا معه من المدينة وعدهم إحدى الطائفتين ، أي إما الظفر بقافلة قريش التجارية قطعا ، أو الانتصار على الجيش المكي حتما ويقينا إذ قال اللّه تعالى :

« وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ » (1).

وإنما اقدم على بناء العريش لرسول اللّه - بناء على رواية الطبري - في الوقت الذي كانت قافلة قريش قد أفلتت وهربت من أيدى المسلمين ، ولم يبق الاّ الجماعة المسلحة التي خرجت لحماية القافلة ، وكان المسلمون يعلمون - طبقا لذلك الوعد الإلهي القاطع - أنهم سينتصرون على تلك الجماعة الكافرة : « ويقطع دابر الكافرين » فلم يكن المجال مجال تردد وشك.

وبهذا يكون حديث هزيمة المسلمين في هذه المواجهة ولزوم بناء عريش لحماية النبيّ واعداد ابل سريعة السير عند العريش لينجو صلی اللّه علیه و آله عليها بنفسه حديثا باطلا لا مبرّر له ، ولا مسوّغ.

يقول ابن سعد نقلا عن عمر بن الخطاب قال : لما نزلت « سيهزم الجمع ويولّون الدبر » قلت : وأي جمع يهزم ومن يغلب؟ فلما كان يوم بدر نظرت الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يثب في الدرع وثبا وهو يقول : « سيهزم الجمع ويولّون الدبر » فعلمت ان اللّه تبارك وتعالى سيهزمهم (2).

ومع هذا هل يحتمل أن يدور في خلد النبيّ صلی اللّه علیه و آله وأصحابه شيء حول الهزيمة أو يحدثوا أنفسهم بالفرار؟

ثالثا : أن النبيّ الذي يصف الامام عليّ علیه السلام موقفه وحالته عند اشتداد ضراوة القتال لا تنسجم أبدا ولا تلائم هذا التكتيك الذي لا يتسم

ص: 71


1- الأنفال : 7.
2- الطبقات الكبرى : ج 2 ص 25.

بالشجاعة والثبات.

يقول عليّ علیه السلام :

« كنّا إذا احمرّ البأس اتّقينا برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فلم يكن أحد منّا أقرب إلى العدوّ منه » (1).

فهل يفكر مثل هذه الشخصيّة التي يصفها أول تلامذة مدرسته ، وأقرب صحابته إليه بمثل هذا الوصف ، في الفرار ، أو اتخاذ الاحتياطات اللازمة لذلك.

نحن نعتقد أن بناء العريش لم يكن إلاّ من باب إعداد غرفة للعمليّات ولمراقبة سير القتال من مكان مشرف على ساحة القتال ، لأن القيادة ما لم تكن مشرفة على ساحة القتال لا يمكنها أن تتصرف بواقعية واتقان ، ولا يمكنها أن تقود الجنود والحشود من منطلق الواقع القتالي والعسكري.

من هنا لم يكن الهدف من العريش ان صحّ أصل القصة هو الإعداد والتحسب للفرار وما شاكل ذلك.

تحرك قريش باتجاه بدر :

في صبيحة السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة ، ارتحلت قريش من وراء الكثيب وانحدرت إلى وادي بدر ، فلما رآها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال :

« اللّهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها ، وفخرها تحادّك وتكذّب رسولك.

اللّهمّ فنصرك الّذي وعدتني به ، اللّهمّ أحنهم (2) الغداة ».

قريش تتشاور في القتال :

استقرت قوى قريش في منطقة من أرض بدر استعدادا للمواجهة ، وحيث

ص: 72


1- نهج البلاغة لعبده : الكلمات القصار الكلمة 214 ، ويقول السيد الرضي رضی اللّه عنه : معنى ذلك أنه اذا عظم الخوف من العدوّ ، واشتد عضاض الحرب فرع المسلمون الى قتال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بنفسه فينزل اللّه عليهم النصر به ويؤمنون ممّا كانوا يخافونه بمكانه.
2- أي اهلكهم.

أنهم لم يكونوا يعرفون شيئا عن عدد أفراد المسلمين ومبلغ استعداداتهم ، لذلك كلفوا « عمير بن وهب الجمحيّ » - وكان فارسا ماهرا في الاحصاء والتخمين - بأن يحزر ( ويقدر بالحدس ) عدد أصحاب محمّد.

فاستجال بفرسه حول عسكر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ثم رجع الى قريش وقال : ثلاثمائة رجل يزيدون أو ينقصون ، ولكن أمهلوني حتى انظر أللقوم كمين ، أو مدد.

فضرب في الوادي حتى أبعد ولكنه لم ير شيئا.

فرجع الى قريش ثانية وهو يحمل لهم خبرا مرعبا إذ قال : ما وجدت شيئا ( أي كمينا او مددا وراء المسلمين ) ولكني قد رأيت يا معشر قريش البلايا (1) تحمل المنايا ، نواضح (2) يثرب تحمل الموت الناقع (3) ، قوم ليس معهم منعة ولا ملجأ إلاّ سيوفهم.

واللّه ما أرى أن يقتل رجل منهم حتّى يقتل رجلا منكم ، فاذا اصابوا منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك فروا رأيكم!!!

وروى الواقدي عبارات عمير بنحو آخر إذ قال : قال عمير : واللّه ما رأيت جلدا ولا عددا ولا حلقة ولا كراعا ، ولكني رأيت قوما لا يريدون أن يئوبوا الى أهليهم ، قوما مستميتين ليست لهم منعة ولا ملجأ إلاّ سيوفهم ، زرق العيون كأنهم الحصى تحت الحجف (4) (5).

وروى المجلسي ما قاله عمير بنحو ثالث إذ قال : قال عمير : ما لهم كمين ولا مدد ، ولكن نواضح يثرب قد حملت الموت الناقع أما ترونهم خرسا لا يتكلمون يتلمظون تلمّظ الافاعي ما لهم ملجأ إلاّ سيوفهم ما أراهم يولون حتى يقتلوا ، ولا يقتلون حتّى يقتلوا بعددهم فارتئوا رأيكم (6).

ص: 73


1- وهي جمع بلية وهي الناقة او الدابة.
2- الابل يستقى عليها الماء.
3- الموت الثابت البالغ في الافناء.
4- الحجف جمع الحجفة وهي الترس.
5- المغازي : ج 1 ص 62.
6- بحار الأنوار : ج 19 ص 224.

اختلاف قادة قريش في امر القتال :

أوجدت كلمات عمير الفارس الشجاع ضجة كبرى بين رجال قريش وسادتها وزعمائها ، وانتاب الجميع خوف بالغ ورعب شديد من المسلمين.

فمشى حكيم بن حزام الى عتبة بن ربيعة ليقنعه بالعدول عن مقاتلة المسلمين ، فقال له : يا أبا الوليد إنّك كبير قريش وسيّدها ، والمطاع فيها ، هل لك إلى أن لا تزل تذكر فيها بخير الى آخر الدهر ، ترجع بالناس وتحمل أمر ( دم ) حليف عمرو بن الحضرمي ، وما أصاب محمّد من ماله ببطن نخلة (1) إنكم لا تطلبون من محمّد شيئا غير هذا الدم والمال؟!

فاقتنع عتبة برأي حكيم ، فجلس من فوره على جمله ، ووقف يخطب في المشركين من قريش بنطق جميل وبليغ يقول : يا قوم أطيعوني ولا تقاتلوا هذا الرجل وأصحابه ( يعني رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ) ، يا معاشر قريش أطيعوني اليوم واعصوني الدهر ، إن محمّدا له آل ( أي قرابة ) وذمة وهو ابن عمكم فخلّوه والعرب ، إنكم واللّه ما تصنعون بأن تلقوا محمّدا وأصحابه شيئا ، واللّه لئن اصبتموه لا يزال الرجل ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه قتل ابن عمه أو خاله أو رجلا من عشيرته ، فارجعوا وخلّوا بين محمّد وسائر العرب ، فان أصابوه فذاك الذي أردتم وان كان غير ذلك ألفاكم ولم تعرضوا منه ما تريدون (2).

وانطلق حكيم بن حزام الى أبي جهل وأخبره برأي عتبة ومقالته ، هذا وأبو جهل يهين درعه ، فانزعج أبو جهل من مقالة عتبة وموقفه انزعاجا شديدا وثارت ثائرته حسدا على عتبة ، وتعنتا عن الحق (3) ، وبعث من فوره رجلا إلى عامر بن الحضرمي أخي عمرو الذي قتل في غزوة عبد اللّه بن جحش بنخلة

ص: 74


1- إشارة الى ما جرى في سرية عبد اللّه بن جحش.
2- المغازي : ج 1 ص 63 ، السيرة النبوية : ج 1 ص 623 ، بحار الأنوار : ج 19 ص 224.
3- قال صاحب المغازي : فحسده أبو جهل حين سمع خطبته وقال : ان يرجع الناس من خطبة عتبة يكن سيد الجماعة ، وعتبة انطق الناس!!!

وقال له : هذا حليفك ( عتبة ) يريد أن يرجع بالناس وقد رأيت ثأرك بعينك ، فقم وانشد خفرتك (1) ومقتل ( أو دم ) أخيك.

فقام عامر وكشف عن رأسه ، وأخذ يحثو التراب على رأسه ، وصاح مستغيثا وا عمراه وا عمراه ، تحريكا للناس وإثارة لمشاعرهم.

فهاج الناس لمنظر عامر وثارت مشاعرتهم لندبته ، وأجمعوا على الحرب ، وتناسوا اقتراح عتبة ، ونصيحته البليغة الحكيمة لهم.

ولكن عتبة هذا الذي كان يميل الى اعتزال الجيش وترك الحرب ، هاجت مشاعره هو الآخر فقام من فوره ولبس لامة حربه واستعد لقتال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأصحابه (2).

وهكذا نجد كيف يتضاءل نور العقل عند هبوب رياح العاطفة الملتهبة ، والمشاعر الثائرة الباطلة وتنطفئ شعلة الفكر ، ولا يعود يضيء لصاحبه درب المستقبل حتى أن الرجل الذي كان قبل قليل داعية السلام ، والتعايش الاخوي يتحول تحت تأثير ذلك الهياج العاطفي ، العابر ، الاحمق إلى أول مبادر الى القتال وسفك الدماء وازهاق الارواح!!!

ما الذي حتّم القتال؟

لما أبصر الاسود بن عبد الأسد المخزومي وكان رجلا شرسا سيئ الخلق - الحوض الذي بناه المسلمون عند البئر لشربهم قال : اعاهد اللّه لاشربن من حوضهم أو لا هدمنّه أو لأموتنّ دونه!!

ثم خرج من بين صفوف المشركين وشد حتى دنا من الحوض فاستقبله حمزة ، ولما التقيا ضربه بسيفه حمزة فاطار قدمه ، وهو دون الحوض فوقع على الأرض تشخب رجله دما ثم حبا الى الحوض حتى اقتحم فيه يريد ان يشرب منه أو ان

ص: 75


1- اي اطلب من قريش الوفاء بخفرتهم وعهدهم لك لأنه كان حليفا لهم.
2- السيرة النبوية : ج 1 ص 623 ، بحار الأنوار : ج 19 ص 224.

يبر يمينه ، فاتبعه حمزة فضربه حتى قتله في الحوض.

فتسببت هذه الحادثة في أن يصبح القتال امرا مسلّما وحتميا ، لانه ليس ثمة شيء يقدر على تحريك المشاعر ، واثارة العواطف ودفع الناس للقتال كسفك الدم.

فالذين كان الغيظ والحنق على المسلمين يكاد يقتلهم ، وكانوا يبحثون عن ذريعة يشعلون بها نيران الحرب ويفجّرون فتيلها قد حصلوا الآن على ما يريدون (1).

المبارزات الفردية أولا :

كان التقليد المتّبع عند العرب في الحروب أن يبدأ القتال بالمبارزات الفرديّة ثم تقع بعدها الحملات الجماعية.

فلما قتل الاسود المخزومي خرج ثلاثة فرسان من صناديد قريش المعروفين من صفوف الجيش المكي ودعوا الى المبارزة.

وهؤلاء الصناديد الثلاثة هم :

1 - عتبة (2).

2 - شيبة.

وهما ابنا ربيعة بن عبد شمس.

3 - الوليد بن عتبة بن ربيعة.

فأخذوا يجولون في ميدان القتال ويدعون الى المبارزة ، فخرج إليهم من المسلمين فتية من الأنصار ثلاثة وهم « عوف » و « معوذ » ابنا الحارث و « عبد اللّه بن رواحة ».

ص: 76


1- تاريخ الطبري : ج 2 ص 147 و 148.
2- وعتبة هذا هو الذي اقترح الانسحاب وعدم القتال كما عرفت. ويروى انه لما خرج قال له حكيم بن حزام : أبا الوليد مهلا ، مهلا تنهى عن شيء وتكون أوّله!! ( المغازي : ج 1 ص 67 ).

ولما عرف عتبة أنهم من رجال المدينة قال : ما لنا بكم من حاجة.

ثم نادى مناديهم : يا محمّد ، أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا.

فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله :

« قم يا عبيدة بن الحارث وقم يا حمزة ، وقم يا عليّ ».

فقاموا ، وخرجوا للمبارزة ، ولما دنوا منهم ، سألهم عتبة عن أسمائهم فعرّف أبطال الاسلام أنفسهم وذكروا أسماءهم.

فقال رجال المشركين الثلاثة : نعم أكفاء كرام.

ويرى البعض أنه بارز كلّ من هؤلاء الثلاثة من كان على سنّه من الكفار فبارز عليّ علیه السلام الوليد ( خال معاوية بن أبي سفيان ) وبارز حمزة ( وهو أوسطهم ) عتبة ( جدّ معاوية لامّه ) وبارز عبيدة ( وهو أسنّ الثلاثة ) شيبة وهو أسنّ الكفار الثلاثة.

غير أن ابن هشام يقول : بارز « حمزة » شيبة ، وبارز « عبيدة » عتبة ، وبارز « عليّ » الوليد بن عتبة (1).

وهذا يعني أن حمزة ( الاوسط في السن ) قاتل الاسنّ من الكفار.

فأيّ القولين هو الأصح؟

إن ملاحظة أمرين توضح الحقيقة في هذا المجال :

الأوّل : إن المؤرخين كتبوا : أن عليا وحمزة قتلا خصميهما في الحال ، ثمّ ساعدا عبيدة على قتل خصمه (2).

الثاني : إن الامام أمير المؤمنين علیه السلام كتب في كتاب له الى معاوية :

« وعندي السيف الذي اعضضته بجدّك وخالك وأخيك في مقام

ص: 77


1- راجع لمعرفة كلا الرأيين سنن البيهقي : ج 3 ص 276.
2- تاريخ الطبري : ج 2 ص 148 ، السيرة النبوية : ج 1 ص 625 قال : وكرّ حمزة وعليّ بأسيافهما على عتبة.

واحد » (1).

فمن هذا الكتاب يتضح بجلاء أن الامام علیه السلام شارك - في قتل جدّ معاوية ( أي عتبة ) هذا من جانب.

كما أننا نعلم من جانب آخر أن كلا من حمزة وعليا قد قتل خصمه في اللحظة الاولى من المبارزة. فاذا كان خصم حمزة هو عتبة ( جدّ معاوية ) لم يكن - حينئذ - أي معنى لقول الامام علیه السلام : « أنا قتلت جدك ».

فلا مناص من أن نقول : إن الذي بارز حمزة هو شيبة ، وأن الذي بارز عبيدة هو عتبة ليصح حينئذ أن يقال أن عليا وحمزة ، ذهبا - بعد الفراغ من قتل خصميهما - الى عتبة وكرّا بأسيافهما عليه وقتلاه ، ثم احتملا صاحبهما « عبيدة » وأتيا به الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله (2).

وبهذا تترجح النظرية الثانية ، والقاضية بعدم التكافؤ بين أسنان كلّ من المتبارزين.

الهجوم العامّ :

إثر مقتل صناديد قريش الثلاثة في المبارزة الفردية بدأ الهجوم العام.

فتزاحف الناس ودنا بعضهم من بعض ، وقد أمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أصحابه أن لا يحملوا حتى يأمرهم ، وأن يكتفوا برمي القوم بالنبال إذا اقتربوا منهم ليمنعوا من تقدّم العدوّ.

ثم نزل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من برج القيادة ( العريش ) وعدل صفوف أصحابه وفي يده سهم يعدّل القوم. فمر بسوّاد بن غزية ، وهو متقدم من الصف ، فطعن في بطنه بالسهم الذي معه وقال له : استو يا سوّاد.

ص: 78


1- نهج البلاغة قسم الكتب الرقم 64 واعضضته به جعلته يعضه.
2- ثم إن المقصود من أخ معاوية الذي أشار الامام علي في كلمته الى قتله هو حنظلة بن أبي سفيان بن حرب راجع السيرة النبوية : ج 1 ص 708 وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 18 ص 19.

فقال : يا رسول اللّه أوجعتني وقد بعثك اللّه بالحق والعدل فأقدني ( أي اقتصّ ) لي من نفسك. فكشف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عن بطنه وقال : استقد ( أي أنت اقتصّ ) فاعتنقه سوّاد وقبّل بطنه صلی اللّه علیه و آله فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : ما حملك على هذا؟

قال : يا رسول اللّه حضر ما ترى ( من القتال ) فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك.

فدعا له رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بخير (1).

ثم إن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بعد أن عدّل الصفوف رجع الى غرفة العمليّات ( العريش ) فدخله وتوجّه إلى ربه بقلب مفعم بالإيمان يناشده ما وعده من النصر وقال في مناجاته لربه في تلك اللحظات :

« اللّهمّ إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبدا » (2).

ولقد سجّلت المصادر التاريخية الاسلامية تفاصيل وجزئيات الهجوم العام ، الى درجة ما ، إلاّ أنّ من المسلّم المقطوع به أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كان ينزل من العريش أحيانا ويحرّضهم على القتال والمقاومة. فقد قال في احدى هذه المرات :

« والّذي نفس محمّد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر ، إلاّ أدخله اللّه الجنّة ».

ولقد كانت كلمات القائد الاعلى هذه تفعل فعلتها في النفوس ، فتثير الهمم ، وتوجد شوقا عجيبا الى الشهادة في المقاتلين المسلمين ، حتى أن أحدهم ويدعى « عمير بن الحمام » أخو بني سلمة قال للنبيّ صلی اللّه علیه و آله وفي يده تمرات ياكلهنّ يا رسول اللّه : بخ بخ ، أفما بيني وبين أن أدخل الجنّة إلاّ أن يقتلني هؤلاء.

ص: 79


1- السيرة النبوية : ج 1 ص 626
2- السيرة النبوية : ج 1 ص 627 ، تاريخ الطبري : ج 2 ص 149.

ثم قذف التمرات من يده وأخذ سيفه ، فقاتل القوم حتى قتل (1).

ثم إن النبيّ صلی اللّه علیه و آله أخذ حفنة من الحصباء فاستقبل بها قريشا ثم قال :

« شاهت الوجوه ».

ثم نفحهم بها ، وأمر أصحابه ، فقال : شدّوا (2).

ولم يمض وقت طويل حتى ظهرت بوادر انتصار المسلمين على أعدائهم المشركين فقد انتاب المشركين خوف ورعب شديدان ، وأخذوا ينهزمون أمام زحف المسلمين.

فقد كان المسلمون يقاتلون عن ايمان ، واخلاص ويعلمون بأنهم ينالون السعادة قتلوا أو قتلوا ، فلم يرهبوا شيئا ، وما كان يمنعهم شيء عن التقدم والإقبال.

رعاية الحقوق :

لقد كان لا بدّ من رعاية الحقوق بالنسبة الى طائفتين في معسكر المشركين :

الاولى : اولئك الذين احسنوا إلى المسلمين في مكة ، ودافعوا عنهم كأبي البختري الذي كان ممن قام في نقض الصحيفة الظالمة التي سبق الحديث عنها.

الثانية : أولئك الذين اكرهوا على الخروج من المشركين إلى بدر ، وكانوا يرغبون في قرارة أنفسهم في الاسلام مثل معظم رجال بني هاشم كالعباس بن عبد المطلب عم النبيّ صلی اللّه علیه و آله .

مصرع أميّة بن خلف :

ولقد اسّر « اميّة بن خلف » وابنه على يد عبد الرحمن بن عوف واذ كان بينه

ص: 80


1- السيرة النبوية : ج 1 ص 627.
2- المصدر السابق : ص 628 ، البداية والنهاية : ج 2 ص 284.

وبين أمية صداقة بمكة طلب أميّة من عبد الرحمن أن يخرجه من أرض المعركة لكي لا يقتل هو وولده ، او ليعدّا من الأسرى.

فرضى عبد الرحمن بذلك ، وبينما هو يقودهما إذ أبصر بلال بهم وكان اميّة هو الذي يعذب بلالا بمكة على ترك الاسلام ، فيخرجه الى رمضاء مكة إذا حميت فيضجعه على ظهره ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره ثم يقول : لا تزال هكذا حتى تفارق دين محمّد فيقول بلال : أحد ، أحد.

فلما رآه بلال في الأسر وقد أقدم عبد الرحمن على حمايته والذب عنه وهو يريد نجاته وولده ، صاح مستصرخا المسلمين : يا أنصار اللّه رأس الكفر اميّة بن خلف لا نجوت إن نجا.

فأحاط المسلمون باميّة وولده من كل جانب وقطّعوهما بسيوفهم حتى فرغوا منهما (1).

وقد نهى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عن قتل أبي البختري الذي كان له دور مشرف في نقض الحصار الاقتصادي الذي ضربته قريش على المسلمين في مكة ، وكان لا يؤذي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فلقيه رجل من المسلمين يدعى « المجذر » فأراد أسره واستبقاءه ريثما يأخذه الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ليرى فيه رأيه ، ولكنّه نازل المجذّر ، وأبى إلاّ القتال ، فاقتتلا فقتله المجذّر.

ثم ان المجذّر أتى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقال : والذي بعثك بالحق لقد جهدت عليه أن يستأسر فآتيك به فأبى إلاّ أن يقاتلني فقاتلته فقتلته (2).

خسائر بدر في الأرواح والاموال :

لقد قتل في معركة « بدر » من المسلمين أربعة عشر رجلا ، وقتل من المشركين سبعون واسر سبعون من أبرزهم : النضر بن الحارث ، وعقبة ابن أبي معيط ، وأبو

ص: 81


1- السيرة النبوية : ج 1 ص 632.
2- السيرة النبوية : ج 1 ص 629 و 630 وراجع الطبقات الكبرى : ج 2 ص 23.

غرة ، وسهيل بن عمرو والعباس ، وأبو العاص بن الربيع ( صهر النبيّ ) (1).

ثم دفن شهداء بدر في جانب من أرض المعركة ، وقبورهم باقية إلى الآن.

ثم أمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بأن يلقى بقتلى المشركين في البئر.

وبينما كان يسحب عتبة بن ربيعة الى البئر نظر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في وجه « أبي حذيفة » ابن عتبة فاذا هو كئيب ، قد تغيّر لونه فقال صلی اللّه علیه و آله : يا أبا حذيفة لعلك قد دخلك من شأن أبيك شيء؟!

فقال : لا واللّه يا رسول اللّه ، ما شككت في ابي ولا في مصرعه ، ولكنني كنت أعرف من أبي رأيا وحلما وفضلا فكنت أرجو أن يهديه ذلك إلى الاسلام ، فلمّا رأيت ما أصابه وذكرت ما مات عليه من الكفر بعد الّذي كنت أرجو له ، أحزنني ذلك!!.

فدعا له رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بخير (2).

إن هذه القصة لتكشف عن مدى حبّ المسلمين لدينهم ، ورغبتهم الصادقة في أن يهتدي إليه الناس كما تكشف أيضا عن أنهم كانوا يقدّمون المعيار الديني على المعيار العائلي إذا تعارضا.

ما أنتم باسمع منهم :

لقد انتهت معركة بدر بانتصار عظيم في جانب المسلمين وهزيمة نكراء في جانب المشركين.

فقد غادر المشركون ساحة القتال هاربين صوب مكة مخلّفين وراءهم سبعين قتيلا من صناديدهم وساداتهم وفتيانهم الشجعان وسبعين أسيرا.

ولما أمر النبيّ بإلقاء قتلى المشركين في القليب (3) وقف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عند القليب وأخذ يخاطب القتلى واحدا واحدا ويقول :

ص: 82


1- السيرة النبوية : ج 1 ص 706 و 708 ، المغازي : ج 1 ص 138 - 173.
2- السيرة النبوية : ج 1 ص 640 و 641.
3- القليب : البئر.

« يا أهل القليب ، يا عتبة بن ربيعة ، ويا شيبة بن ربيعة ، ويا اميّة بن خلف ، ويا أبا جهل ( وهكذا عدّد من كان منهم في القليب ) هل وجدتم ما وعدكم ربّكم حقا ، فإنّي قد وجدت ما وعدني ربّي حقّا ».

فقال له بعض أصحابه : يا رسول اللّه أتنادي قوما موتى؟

فقال صلی اللّه علیه و آله :

« ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوني ».

وكتب ابن هشام يقول : إنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال يوم هذه المقالة :

« يا أهل القليب بئس عشيرة النبيّ كنتم لنبيّكم كذّبتموني وصدّقني الناس ، وأخرجتموني وآواني الناس ، وقاتلتموني ونصرني الناس ، ( ثم قال : ) هل وجدتم ما وعدكم ربّي حقّا؟ » (1).

الشعر يخلّد هذه القصة :

يعتبر هذا الموضوع من القضايا الثابتة والمسلّمة في التاريخ الاسلاميّ ، فقد ذكره جميع المحدّثين والمؤرخين من الشيعة والسنة ، وقد ذكرنا طائفة من مصادره في الهامش.

وقد كان من دأب حسان بن ثابت شاعر عصر الرسالة ان ينشد أبياتا في كل واقعة من وقائع الاسلام البارزة وبذلك يقوي من عزيمة المسلمين ويشد من أزرهم لأن الشعر يجلي البطولات ويكرم المواقف ويخلد الامجاد ويحافظ على المفاخر ويكسبها طابعا أبديا ولهذا يعد وسيلة جيدة لتقوية المعنويات ، وإبطال مفعول الحرب الباردة والنفسية التي يقوم بها العدوّ.

وقد طبع ديوان « حسان » لحسن الحظ ، ويمكن لنا أن نقف على الكثير من ايام الإسلام وامجاده من خلال قصائده ، وابياته المدرجة فيه.

ص: 83


1- السيرة النبوية : ج 1 ص 639 ، السيرة الحلبية : ج 2 ص 179 و 180 وغيرهما.

وقد أنشد حسان قصيدة بائية رائعة حول وقعة بدر الكبرى يشير في بعض ابياتها الى هذه الحقيقة اعني قصة القليب إذ يقول :

يناديهم رسول اللّه لمّا *** قذفناهم كباكب في القليب

ألم تجدوا كلامي كان حقّا *** وأمر اللّه يأخذ بالقلوب؟

فما نطقوا ولو نطقوا لقالوا *** صدقت وكنت ذا رأي مصيب!

على أنه لا توجد عبارة اشد صراحة من ما قاله رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في المقام حيث قال : « ما أنتم بأسمع منهم ».

وليس ثمة بيان أكثر إيضاحا وأشدّ تقريرا لهذه الحقيقة من مخاطبة النبيّ صلی اللّه علیه و آله لواحد واحد من أهل القليب ، ومناداتهم بأسمائهم وتكليمهم كما لو كانوا على قيد الحياة.

فلا يحقّ لأيّ مسلم مؤمن بالرسالة والرسول أن يسارع الى إنكار هذه القضية التاريخية الاسلامية المسلّمة ، ويبادر قبل التحقيق ويقول : إن هذه القضية غير صحيحة لانها لا تنطبق على موازين عقلي المادي المحدود.

وقد نقلنا هنا نص هذا الحوار ، لكي يرى المسلمون الناطقون باللغة العربية كيف أنّ حديث النبيّ صلی اللّه علیه و آله يصرح بهذه الحقيقة بحيث لا توجد فوقه عبارة في الصراحة ، والدلالة على هذه الحقيقة.

ومن أراد الوقوف على مصادر هذه القصة فعليه أن يراجع ما ذكرناه في الهامش ادناه (1).

ص: 84


1- إن تكلم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مع رءوس الشرك الموتى الذين القيت اجسادهم في البئر من مسلمات التاريخ والحديث ، وقد اشار الى هذا من بين المحدثين والمؤرخين : صحيح البخاري : ج 5 في معركة بدر ص 76 و 77 - 86 و 87 ، صحيح مسلم : ج 8 كتاب الجنة باب مقعد الميت ص 163 ، سنن النسائي ج 4 باب أرواح المؤمنين ص 89 و 90 ، مسند الامام أحمد : ج 2 ص 131 ، السيرة النبوية : ج 1 ص 639 ، المغازي : ج 1 غزوة بدر ص 112 ، بحار الأنوار : ج 19 ص 346.

بعد معركة بدر :

يعتقد كثير من المؤرخين المسلمين أن المبارزات الفردية ومن بعدها القتال الجمعي في غزوة بدر استمر حتى زالت الشمس وانتهت المعركة بفرار المشركين وأسر جماعة منهم. ثم بعد أن فرغ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأصحابه من دفن شهداء المسلمين صلى بالناس العصر في بدر ثم غادر ارض بدر قبل غروب الشمس من ذلك اليوم ، هذا وقد كلّف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله اشخاصا بجمع الغنائم من أيدي الناس.

وهنا واجه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله اول اختلاف بين أصحابه في كيفية تقسيم الغنائم ، فقد كان كلّ فريق يرى نفسه أولى من غيره بها ، نظرا لدوره في تلكم المعركة.

فالذين كانوا يحرسون عريش رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مخافة أن يكرّ عليه العدو كانوا يرون أن عملهم لا يدانيه في الاهمية أي عمل آخر ، لأنهم كانوا يحرسون القائد ، ويحافظون على مقرّ القيادة.

وبينما كان الذين جمعوا الغنائم يرون أنهم الأحق لأنهم جمعوها ، فيما كان الذين قد قاتلوا العدو ولا حقوه وطاردوه يقولون : واللّه لو لا نحن ما أصبتموه ، إنا لنحن الذين شغلنا عنكم القوم حتى أصبتم ما أصبتم (1).

ولا ريب أن أسوأ ما يصيب أي جيش هو أن يدبّ الخلاف بين قطعاته وأفراده ، فينفرط عقده وتتلاشى وحدته.

من هنا بادر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله للقضاء على هذه الآمال والمطامع المادية وبغية اسكات كل تلك الاصوات إلى إيكال جمع الغنائم وحملها ، والمحافظة عليها إلى « عبد اللّه بن كعب المازني » وأمر جماعة من أصحابه أن يعينوه ريثما يفكّر في طريقة تقسيمها. لقد كان قانون العدل والإنصاف يقضي بأن

ص: 85


1- المغازي : ج 1 ص 98 و 99.

يشترك جميع أفراد ذلك الجيش في تلك الغنائم ، لأنهم ساهموا بأجمعهم في تلك المعركة ، وكان لكل منهم دور ومسئولية فيها ، فما كان لفريق أن يحرز نجاحا من دون أن يقوم الآخرون بأدوارهم.

من هنا قسّم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الغنائم بينهم - في أثناء الطريق - على قدم المساواة ، وفرز لذوي الشهداء أسهما منها.

ولقد أثارت طريقة النبيّ صلی اللّه علیه و آله في تقسيم الغنائم ( وذلك بقسمتها على جميع المشاركين معه في معركة بدر بالتساوي ) سخط « سعد بن أبي وقاص » فقال : يا رسول اللّه أيعطى فارس القوم الذي يحميهم مثل ما يعطى الضعيف؟ فقال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : « ثكلتك أمّك ، وهل تنصرون إلاّ بضعفائكم » (1).

وهو صلی اللّه علیه و آله يقصد أن هذه الحرب لم تكن إلاّ لأجل الدفاع عن الضعفاء ، ورفع الحيف عنهم ، وانه صلی اللّه علیه و آله لم يبعث إلاّ لإزالة هذه الفوارق والامتيازات الظالمة ، وإلاّ لاجل اقرار المساواة في الحقوق بين الناس.

هذا ورغم أن خمس الغنيمة هي بنص آية الخمس (2) لله ولرسوله ولذي القربى واليتامى وابن السبيل من أهل بيته صلی اللّه علیه و آله إلاّ أنه صلی اللّه علیه و آله لم يخمّس غنائم « بدر » بل وزّع الخمس على المشاركين في بدر أيضا.

على أنه يمكن أن تكون آية الخمس لم تنزل آنذاك بعد ، أو أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كان يتمتع باختيارات خاصة ، فصرف النظر عن أخذ الخمس لنفسه وقرباه ، تكثيرا لأسهم المجاهدين ، وذلك ولا ريب خطوة حكيمة جدا وخاصة في أول مواجهة عسكرية مع العدوّ (3).

ص: 86


1- المغازي : ج 1 ص 99.
2- الانفال : 1.
3- وجاء في بعض المصادر التاريخية ان النبيّ صلی اللّه علیه و آله ضرب من الغنائم أسهما لاشخاص لم يحضروا بدر ولم يشتركوا في القتال مع رغبتهم في ذلك وذلك إما لامور أصابتهم عند الخروج إلى بدر او لقيامهم بمهمات ، تتعلق بامور مراقبة العدو في الطرق او للقيام بمهمات ادارية داخل المدينة.

قتل أسيرين في اثناء الطريق :

ولما كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في « الصفراء » (1) وهي أحد المنازل على طريق بدر - المدينة عرض عليه الاسرى فأمر بقتل النضر بن الحارث وكان من أعداء المسلمين الالداء.

وأمر بأن يضرب عنق عقبة بن أبي معيط إذ كان بعرق الظبية.

وهنا ينطرح سؤال وهو : إن حكم الاسلام في أسرى الحرب هو أنّهم عبيد للمسلمين والمجاهدين ، يباعون ويشترون باثمان مناسبة فلما ذا حكم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في شأن هذين الأسيرين بحكم آخر؟.

ثم إنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله الذي خاطب المسلمين في « بدر » في الأسرى الذين بأيديهم وأوصاهم بهم خيرا قائلا :

« استوصوا بالاسارى خيرا ».

كيف اتخذ مثل هذا القرار في حق بعضهم؟

يقول أبو عزيز ، وكان صاحب لواء في جيش قريش : كنت أسيرا في أيدي رهط من الأنصار حين أقبلوا بي من بدر فكانوا إذا قدّموا غداءهم وعشاءهم خصّوني بالخبز ، وأكلوا التمر والخبز عندهم قليل والتمر زادهم ، وذلك لوصية رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله اياهم بنا ، ما تقع في يد رجل منهم كسرة خبز إلاّ نفحني بها فأستحي فاردّها على أحدهم فيردّها عليّ ، وكانوا يحملوننا ويمشون (2)!!

مع ملاحظة هذه الامور لا بدّ من الاذعان بأن قتل هذين الأسيرين كان مما تقتضيه المصالح الاسلامية العامة ، لا أنه كان بدافع الانتقام ، فقد كان ذانك الأسيران من رءوس الكفر ، ومن مخطّطي الخطط الجهنّميّة ضد الاسلام

ص: 87


1- المغازي : ج 1 ص 6.
2- السيرة النبوية : ج 1 ص 645 ، المغازي : ج 1 ص 119.

والمسلمين ، وضدّ الرسالة والرسول ، وكانا ممن يؤلبون القبائل ضدّ رسول الاسلام ، فلعله لو كان النبيّ صلی اللّه علیه و آله يفرج عنهم ويطلق سراحهم عادوا الى تدبير المؤمرات ضدّ الاسلام ، والمسلمين ، وعملا على تخطيط الخطط ، وتأليب القبائل ، فلم يكن بد من تصفيتهم والقضاء عليهم.

بشائر النبيّ الى المدينة :

كلّف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله « عبد اللّه بن رواحة » ، و « زيد بن حارثة » بأن يسبقاه الى المدينة ، ليبشّرا المسلمين بما حققه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأصحابه في بدر من الانتصار الكاسح والفتح المبين ، ويخبرا أهلها بمصرع رءوس الكفر والشرك كعتبة وشيبة وأبي جهل وأبي البختري وأميّة ، ونبيه ومنبه و .. و ..

فما قدم المبعوثان الى المدينة الا والمسلمون عائدون من دفن ابنة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله زوجة عثمان بن عفان فامتزجت الافراح بالاحزان ، واختلط السرور بانتصار النبيّ وأصحابه بالحزن على موت ابنة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

وقد أرعب المشركون واليهود والمنافقون بخبر انتصار المسلمين الساحق على قريش ، وراحوا يحاولون تكذيبه ، وتفنيده حتى إذا دخل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله المدينة ودخل بعده أسرى قريش أصبح الخبر قطيعا مسلّما ، فباءت محاولات المنافقين بالفشل.

المكيّون يعرفون بمقتل أسيادهم :

كان « الحيسمان الخزاعي » أول من قدم مكة واخبر الناس باحداث « بدر » الدامية وبمصرع طائفة كبيرة من سادة قريش على أيدي المسلمين.

يقول أبو رافع الذي كان غلاما للعباس بن عبد المطلب آنذاك ثم أصبح من أصحاب النبيّ وعلى فيما بعد : كنت غلاما للعباس ، وكان الاسلام قد دخلنا

ص: 88

أهل البيت ، فأسلم العباس وأسلمت أمّ الفضل وأسلمت ، وكان العباس يهاب قومه ويكره خلافهم وكان يكتم إسلامه ، وكان ذا مال كثير متفرق في قومه ، وكان أبو لهب قد تخلّف عن بدر ، فلما جاءه الخبر عن مصاب أصحاب بدر من قريش كبته اللّه وأخزاه ، ووجدنا في أنفسنا قوة وعزة.

وقد كنت رجلا ضعيفا وكنت أصنع السهام والنبال أنحتها في حجرة زمزم فو اللّه بينما أنا جالس فيها أنحت سهامي وعندي أمّ الفضل جالسة وقد سرّنا ما جاءنا من الخبر عن هزيمة قريش ، إذ أقبل أبو لهب يجرّ رجليه بشرّ حتى جلس عند طنب (1) الحجرة فكان ظهره إلى ظهرى ، فبينما هو جالس إذ قال الناس : هذا أبو سفيان فقال أبو لهب : هلمّ إليّ فعندك لعمري الخبر.

فجلس إليه والناس قيام عليه فقال : يا ابن أخي أخبرني كيف كان أمر الناس؟

قال أبو سفيان : واللّه ما هو إلاّ أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا يقودوننا كيف شاءوا ، ويأسروننا كيف شاءوا ، وأيم اللّه مع ذلك ما لمت الناس ، لقينا رجالا بيضا على خيل بلق بين السماء والأرض ، واللّه ما تبقي شيئا ولا يقوم لها شيء.

يقول أبو رافع : فرفعت طنب الحجرة ، ثم قلت : تلك واللّه الملائكة.

فرفع أبو لهب يده فضرب بها وجهي ضربة شديدة (2).

اشتراك العباس عمّ النبيّ في بدر :

يبقى أن نعرف أن مسألة اشتراك العباس عمّ النبيّ في غزوة بدر من مشكلات التاريخ وغوامضه ، فهو من الذين اسرهم المسلمون في بدر فهو من جانب يشارك في الحرب ، ومن جانب آخر يحضر في بيعة العقبة ، ويدعو أهل المدينة إلى حماية النبيّ صلی اللّه علیه و آله ونصرته.

ص: 89


1- الطنب : الطرف.
2- السيرة النبوية : ج 1 ص 646 و 647.

فكيف يكون هذا؟

إن الحل يكمن في ما قاله أبو رافع غلام العباس نفسه : كان العباس قد أسلم ولكنه كان يهاب قومه ويكره خلافهم ويكتم اسلامه ، مثل أخيه أبي طالب لاقتضاء المصالح الاسلامية ذلك ، ومن هذا الطريق كان يساعد النبيّ صلی اللّه علیه و آله ويخبره بمخططات العدو ونواياه وتحركاته واستعداداته كما فعل ذلك في معركة « احد » أيضا (1). فقد كان أول من أخبر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بتحرك قريش وخططهم واستعداداتهم.

وقد أفجع مقتل سبعين رجلا من رجال مكة وفتيان قريش أكثر البيوت والعوائل في مكة ، وسلبهم البهجة والفرح ، والنشاط والحركة ، وتحولت مكة برمتها الى مأتم كبير ، وناحت قريش على قتلاها (2).

المنع من النوح والبكاء في مكة :

غير أنّ أبا سفيان عمد - لا بقاء أهل مكة على حالة الحنق والغضب - الى منع النوح والبكاء على القتلى وحث الناس باستمرار على الاستعداد للثأر والانتقام من محمّد وأصحابه فقال : يا معشر قريش لا تبكوا على قتلاكم ، ولا تنح عليهم نائحة ولا يبكهم شاعر ، واظهروا الجلد والعزاء فانكم إذا نحتم عليهم وبكيتموهم بالشعر أذهب ذلك غيظكم ، فأكلّكم ذلك عن عداوة محمّد وأصحابه .. ولعلكم تدركون ثأركم.

ولكي يلهب أبو سفيان مشاعر الناس أكثر فأكثر أو يبقي على سخونتها على الأقل ، قال : والدهن والنساء عليّ حرام حتى أغزو محمّدا.

وكان « الأسود بن المطلب » اصيب له ثلاثة من ولده : زمعة وعقيل والحارث بن زمعة ، فكان يحب أن يبكي على قتلاه ، ولكنه ما كان يستطيع

ص: 90


1- السيرة الحلبية : ج 2 ص 217.
2- المغازي : ج 1 ص 122. قال : لم تبق دار بمكة إلاّ فيها نوح.

ذلك لمنع أبي سفيان من النواح والبكاء على القتلى.

فبينما هو كذلك إذ سمع نائحة من الليل فقال لغلامه - وقد ذهب بصره وعمي - : هل بكت قريش على قتلاها لعليّ أبكي على زمعة ، فان جوفي قد احترق.

فذهب الغلام ورجع إليه فقال : إنما هي امرأة تبكي على بعيرها قد أضلّته ، فأنشد الأسود بن المطلب حينها يقول :

أتبكي أن يضل لها بعير *** ويمنعها من النوم السهود

فلا تبكي على بكر (1) ولكن *** على بدر تقاصرت الجدود

على بدر سراة بني هصيص *** ومخزوم ورهط أبي الوليد

وبكّي ان بكيت على عقيل *** وبكيّ حارثا اسد الاسود (2)

القرار الأخير حول مصير الاسارى :

في هذه المعركة بالذات أعلن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عن قرار تاريخي عظيم ورائع هو : أن من علّم من الاسرى عشرة من صبيان الغلمان والصبيان من أولاد الأنصار الكتابة والقراءة كان ذلك فداؤه وخلّي عن سبيله من غير أن يؤخذ منه مال (3).

وان من دفع فدية قدرها أربعة آلاف درهم إلى ألف درهم خلي سبيله وان من كان فقيرا لا مال له افرج عنه دون فداء.

فأحدث هذا النبأ في مكة لدى عوائل الاسرى حركة عجيبة ودفعهم الى التفكير في تقديم الفداء الى المسلمين ، واطلاق اسراهم.

فهيّأ كل واحد منهم ما استطاع وقدم المدينة يفدي اسيره.

وعند ما افرج عن سهيل بن عمرو لقاء فدية قال عمر بن الخطاب لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : يا رسول اللّه دعني أنزع ثنيتي سهيل بن عمرو ( أي أسنانه

ص: 91


1- البكر : الفتى من الابل.
2- السيرة النبوية : ج 1 ص 648.
3- السيرة الحلبية : ج 2 ص 193.

الامامية ) ويدلع لسانه فلا يقوم عليك خطيبا في موطن أبدا.

فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « لا امثل به فيمثل اللّه بي وان كنت نبيا » (1).

وتلك لفتة انسانية أخرى من لفتات النبيّ العظيم الكثيرة في المعارك.

وقد كان في الاسارى أبو العاص بن الربيع زوج ابنة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : زينب.

وكان أبو العاص من رجال مكة المعدودين مالا وأمانة وتجارة ، وقد تزوّج بزينب ابنة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في الجاهلية.

ولما جاء الاسلام آمنت خديجة برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وآمنت بناته ، ( ومنهن زينب ) كذلك وشهدن أن ما جاء به الحق ، ودنّ بدينه ، وثبت أبو العاص على شركه ، وكان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لا يقدر على أن يفرّق بينهما.

وقد اشترك أبو العاص هذا في معركة بدر مع قريش ، وأسر بأيدي المسلمين.

فلمّا بعث أهل مكة في فداء أسراهم بعثت زينب بنت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في فداء أبي العاص بن الربيع بمال وبعثت فيه بقلادة لها كانت خديجة قد أهدتها إليها ليلة دخول أبي العاص بها ( ليلة زفافها ).

فلما رأى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله تلك القلادة تذكّر زوجته الوفية خديجة علیهاالسلام وما اسدته الى الاسلام من خدمات وقدمته من تضحيات ، وبكى بكاء شديدا.

فالتفت الى المسلمين وقال : إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها ، وتردوا عليها

ص: 92


1- السيرة النبوية : ج 1 ص 649 ، والمغازي : ج 1 ص 107 يقول صاحب المغازي في صفحة 105 من نفس الجزء : كان عمر ( رض ) يحض على قتل الاسرى لا يرى أحدا في يديه أسير إلا امر بقتله!!

ما لها فافعلوا.

فقالوا : نعم يا رسول اللّه ، نفديك بأنفسنا وأموالنا.

فأطلقوه ، وردوا عليها الذي لها وبذلك احترم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حقوق المسلمين وما يرجع إليهم من أموال بل أنها واللّه أعظم مظهر من مظاهر الديمقراطية ، ( ان صح التعبير ) فالنبيّ مع أن له ما له من الولاية على المسلمين يقترح عليهم الافراج عن زوج زينب ويترك الامر لاختيارهم.

ثم إن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أخذ على أبي العاص الميثاق بأن يخلي سبيل زينب ، ويبعثها الى المدينة.

ففعل أبو العاص ما تعهّد به ، وبعث زينب الى المدينة.

ثم إن أبا العاص نفسه أسلم أيضا وقدم المدينة ، وردّ عليه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله زينب بالنكاح الاول أو بنكاح جديد (1)

رسول الاسلام ومكافحة الامية :

كما أنه يتبين من قصة الاسرى الذين اطلق سراحهم لقاء تعليم أولاد المسلمين الكتابة والقراءة مدى اهتمام الاسلام بالثقافة والتثقيف ، والوعي والنوعية ، فان معرفة القراءة والكتابة بداية التثقيف والنوعية.

ولا بدّ أن نقول هنا أيضا أن اطلاق الاسارى العارفين بالقراءة والكتابة لقاء تعليم صبيان المسلمين تعد أول عملية لمكافحة الامية التي اهتم بها العالم الحاضر.

ففي الوقت الذي كانت الكثير من الدول في عصر الاسلام الاول تمانع من تثقيف أبنائها ورعاياها - كما مرّ عليك في دراسة أوضاع الامبراطوريتين الفارسية والرومية - أعلن رسول الاسلام ان من لم يكن معه فداء وهو يحسن الكتابة دفع إليه عشرة من غلمان المدينة ( أي صبيانها ) يعلمهم الكتابة فاذا تعلموا كان ذلك فداءه .. وما أعظمها من خطوة ثقافية وحضارية.

ص: 93


1- السيرة النبوية : ج 1 ص 651 - 659 ، بحار الأنوار : ج 19 ص 348 و 349.

كلام لابن أبي الحديد في المقام :

يقول العلاّمة ابن أبي الحديد : قرأت على ( استاذي ) النقيب أبي جعفر البصري العلوي هذا الخبر ، فصدّقه وقال : أترى أبا بكر وعمر لم يشهدا هذا المشهد؟ أما كان يقتضي التكريم والاحسان أن يطيّبا قلب فاطمة علیهاالسلام ، ويستوهب لها من المسلمين ( أي يستوهب فدكا من المسلمين ويردّه عليها )؟

أتقصر منزلتها عند رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من منزلة زينب أختها وهي سيدة نساء العالمين؟!

هذا إذا لم يثبت لها حق لا بالنحلة ولا بالارث؟

فقلت له : فدك بموجب الخبر الذي رواه أبو بكر قد صار حقا من حقوق المسلمين ، فلم يجز له أن يأخذه منهم.

فقال : وفداء أبي العاص قد صار حقا من حقوق المسلمين ، وقد أخذه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله منهم.

فقلت : رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله صاحب الشريعة ، والحكم حكمه ، وليس أبو بكر كذلك.

فقال : ما قلت هلاّ أخذه أبو بكر من المسلمين قهرا فدفعه إلى فاطمة علیهاالسلام وإنما قلت : هلاّ استنزل المسلمين عنه ، واستوهبه منهم لها ، كما استوهب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فداء أبي العاص؟ أتراه لو قال : هذه بنت نبيكم صلی اللّه علیه و آله قد حضرت لطلب هذه النخلات افتطيبون عنها نفسا؟ كانوا منعوها ذلك؟!

فقلت له : قد قال قاضي القضاة أبو الحسن عبد الجبار بن أحمد نحو ذلك. قال : إنهما لم ياتيا بحسن في شرع التكريم ، وان كان ما أتياه حسنا في الدين!!

أي ان ما فعلاه وان كان يوافق موازين الدين - حسب تصور القاضي - ولكنه لا يناسب شأن فاطمة وتكريمها لمقامها ولمكانها من أبيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه

ص: 94

وآله (1).

هذا وقد أمر اللّه نبيّه الكريم بأن يعلن للاسرى بأن الباب مفتوح على وجوههم لينضموا الى صفوف المسلمين ، فينعموا بالاسلام فيعيد اللّه عليهم أفضل مما أخذ منهم ويغفر لهم ذنوبهم ، إذ يقول تعالى :

« يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ » (2)

وبذلك فتح الاسلام باب الأمل أمام الاسارى ، وكشف عن نزعته الانسانية ، وأيضا عن رغبته الصادقة في هداية البشرية ، ونجاتها.

كما ضرب بذلك مثلا في الحكمة وحسن السياسة لم يسبق له مثيل.

على انه هدّد الاسرى من ناحية اخرى إذا أساءوا ، وعادوا بعد الخلاص من الاسر إلى التآمر ضد الإسلام.

إذ قال :

« وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ » (3).

وبذلك جمع بين الحزم والحكمة ، واللين الحكيم والشدّة المعقولة.

القرآن يتحدث عن بدر :

ولقد ذكّر القرآن الكريم المسلمين ، ولا يزال يذكّرهم بالانتصار الكبير الذي تحقق للمؤمنين في بدر بفضل ثبات المقاتلين ونصر اللّه وتأييده الغيبي إذ قال :

« إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ

ص: 95


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج 3 ص 334 - 352 ولابن أبي الحديد كلام آخر يشبه هذا في اهدار من أسقط جنين زينب فراجع.
2- الانفال : 70 و 71.
3- الانفال : 70 و 71.

هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ* إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ* وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً ، وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ » (1).

وقال تعالى :

« قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ » (2).

وقال تعالى أيضا :

« إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ » (3).

وقوله تعالى :

« إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ * إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ » (4).

وقال سبحانه أيضا :

« وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ* إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ* بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ ، هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ * وَما جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ* لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ

ص: 96


1- الانفال : 42 و 44.
2- آل عمران : 13.
3- الانفال : 9.
4- الانفال : 11 - 12.

كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ » (1).

وفي هذه الآيات تصريحات واضحة بما كان عليه المسلمون في معركة بدر من حيث قلة العدة والعدد ، وبأبرز الامدادات الغيبية الإلهية التي ساعدت المسلمين على الانتصار على أعدائهم المشركين ، الذين كانوا يفوقونهم في العدة والعدد والسلاح والرجال مع التأكيد على أن ذلك الانتصار العظيم جاء نتيجة ثبات المسلمين واستقامتهم ، وصبرهم وإخلاصهم.

وأبرز تلك الامدادات الغيبية هي :

1 - مع أن الاعداء كانوا متمركزين في العدوة العليا وهي أعلى الوادي والمسلمين في أسفل الوادي ، وكان ذلك من شأنه أن يعزز موقع الكفار لإمكان مراقبة المسلمين من مكان مرتفع كما كان من شأنه أن يجعل هجوم المسلمين على الكفار أمرا صعبا ، ولكن كفة الحرب رجحت مع ذلك لصالح المسلمين.

2 - إنهم لو كانوا على ميعاد مع العدو ، ومع العلم التفصيلي بحجم امكانياته البشرية والقتالية لامتنع عامة المسلمين عن مقابلة المشركين ، ولكن شاء اللّه أن لا يعرف المسلمون شيئا مفصلا عن المشركين ، مسبقا ، بل يواجه المسلمون الأمر الواقع ، فيتحقق ما أراد اللّه من الانتصار على قريش. والى هذا اشار سبحانه بقوله :

« وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ ».

3 - تقليل عدد المسلمين في أعين المشركين وتقليل عدد المشركين في أعين المسلمين في أول القتال لكي يستقل الاعداء قوة المسلمين ، ولكي لا يهاب المسلمون الاعداء ويستعظموا عددهم ، وإليه يشير تعالى بقوله :

« إِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ ».

4 - تكبير عدد المسلمين في أعين الكفار في أثناء القتال وإليه يشير تعالى بقوله :

ص: 97


1- آل عمران : 123 - 127.

« يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ ».

5 - الإمداد بالملائكة المردفين المسوّمين.

6 - النعاس الذي ألقاه اللّه على المسلمين فجدد نشاطهم ، وضاعف من قوتهم.

7 - نزول المطر عليهم والذي طهّرهم من الاقذار ومكّنهم من الاغتسال عما أصاب بعضهم من حدث ، وثبّت الأرض الرمليّة تحت أقدامهم ، وقد أشار سبحانه إلى كل ذلك في الآية 11 من سورة الانفال.

8 - تثبيت قلوب المؤمنين بواسطة الملائكة.

9 - القاء الرعب في قلوب الكفار والى هذين النوعين من الإمداد الغيبي أشار بقوله : « فثبّتوا الّذين آمنوا سألقي في قلوب الّذين كفروا الرّعب ».

كما ويشير القرآن الكريم في هذا السياق إلى دور الشيطان في هزيمة الكفار فهو الذي يغري وهو الذي يخذل عند اللقاء يقول سبحانه :

« وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ » (1).

كما أن القرآن يتحدث أيضا عن حالة المشركين عند ما أتوا إلى بدر لمواجهة المسلمين وما كانت تنطوي عليه نفوسهم فيقول :

« وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ وَاللّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ » (2).

كما ويعزي هزيمتهم إلى سبب رئيسي وحقيقي وهو مشاققة اللّه ورسوله إذ يقول :

« ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ » (3).

ص: 98


1- الانفال : 48.
2- الانفال : 47.
3- الانفال : 13.

وينبغي الاشارة في ختام هذا العرض التفصيلي - نوعا ما - لوقعة بدر إلى تكتيكات النبيّ صلی اللّه علیه و آله الحربية ، وإلى أساليبه الحكيمة في تقوية معنويات المسلمين وإلى جانب تنظيم صفوفهم ، ممّا لا يسع المجال لذكره على وجه التفصيل الكامل.

ص: 99

30

زواج سيدة النساء فاطمة بنت رسول اللّه

اشارة

زواج سيدة النساء فاطمة بنت رسول اللّه (1)

إن الرغبة الجنسيّة حالة تظهر عند البلوغ لدى كل انسان ، وربما تنحرف بالشاب وتهوي به في أحضان الفساد والسقوط الاخلاقي إذا لم تتوفر له أجواء التربية الصحيحة ولم تتح له الفرصة المناسبة ، والمسير الصحيح لتنفيذ تلك الرغبة ، والاستجابة لها بصورة صحيحة.

وان خير وسيلة للحفاظ على العفة الفردية والحياء العام ، وتجنيب الفرد والمجتمع مفاسد وأخطار الانحراف الجنسيّ هو الزواج.

فان الاسلام يحتّم على الرجل والمرأة - تأكيدا لحكم الفطرة وتمشّيا مع ناموس الطبيعة البشرية - أن يتزوجا طبقا لضوابط خاصّة تضمن سلامة الزيجة ودوامها.

وقد جاء هذا التأكيد ، والحديث في الكتاب العزيز ، والسنة الشريفة بمختلف الصور ، وتحت مختلف العناوين :

فقد جاء في الكتاب العزيز :

« وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ » (2).

ص: 100


1- كان زواج فاطمة بعد وقعة بدر ، راجع بحار الأنوار : ج 43 ص 79 و 111.
2- النور : 32.

وقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في هذا الصدد :

« تزوّجوا فانّي مكاثر بكم الامم غدا في القيامة » (1).

وقال أيضا :

« من أحب أن يلقى اللّه طاهرا مطهّرا فليلقه بزوجة » (2).

مشاكل الزواج في العصر الحاضر :

على أن مشاكل الزواج في عصرنا الحاضر لا تنحصر - وللاسف - في مشكلة واحدة أو مشكلتين.

فالرجال والنساء اليوم يقدمون على الزواج - غالبا - في ظروف صعبة ، وأوضاع رديئة ، وتنتهي أكثر الزيجات بسبب تلك الظروف والاوضاع وبسبب ، ما يلابسها من مستلزمات قاسية وثقيلة بالطلاق والافتراق بعد سلسلة من الخلافات والمنازعات.

فتلك هي صحف البلاد تحمل في أبوابها الاجتماعية كلّ يوم عشرات الانباء والأخبار عن الجرائم الزوجية وتعالج عشرات المشاكل في مجال العائلة.

ولكن أكثر هذه المشاكل والمصائب تدور حول قضية واحدة ، وهي أن الفتيان والفتيات في مجتمعاتنا الحاضرة ليسوا بصدد تشكيل عائلة تضمن سعادتهم الواقعية.

فالبعض يهمّه من الزواج أن يصل عن طريق إلى المناصب الراقية الحساسة.

والبعض الآخر يهمّه من الزواج الحصول على الثروة والمال.

وقلّما يفكر المقدمون على الزواج ، وتأسيس العائلة في امور هامة وجوهرية كالعفة والطهر ، وإذا لوحظ هذا الجانب فإنما يلاحظ بصورة هامشية ، لا أساسية.

ويدل على ذلك أن الشباب يتنافس غالبا على التزوج بفتيات من العوائل المعروفة ذات المكانة والشهرة الاجتماعية والمالية ، والحال أنه يمكن أن تكون

ص: 101


1- وسائل الشيعة : ج 14 ص 3 و 6.
2- وسائل الشيعة : ج 14 ص 3 و 6.

تلك الفتيات غير متصفات بالاخلاق النبيلة ، ولا يكنّ من حيث الجانب المعنوي بالنوع الجيد ، الجدير بالاهتمام ، الصالح للاقتران به.

فما أكثرهن الفتيات الفاضلات ، الطيبات هنا وهناك في زوايا المجتمع اللائي لا يهتم بهن الشباب ، لفقرهنّ ، وقلة ذات ايديهن. او لعدم شهرة عوائلهن.

على أن الأسوأ من ذلك كلّه ما اصبح يكلّفه الزواج في عصرنا الحاضر من نفقات باهضة نتيجة تزايد التقاليد المبتدعة في مجال إقامة الاعراس وحفلات القران والزواج ، الأمر الذي أصبح يرهق كاهل الزوجين ، ويتعب عائلتيهما ، مثل مشكلة المهور الباهضة ، وما شابه ذلك مما هو في تصاعد مستمر في بلادنا ، الأمر الذي دفع بالبعض الى ترك الزواج ، واشباع غرائزهم الجنسيّة بالوسائل غير المشروعة ، ومن ثم شيوع اللاابالية ، والاباحية في المجتمعات.

رسول الاسلام يكافح هذه المشاكل عمليّا :

تلك طائفة من المشاكل الاجتماعية التي كانت ولا تزال موجودة في كل مجتمع بنسب خاصة.

ولم تكن الفترة التي عاصرها رسول الاسلام بمستثناة من هذا الأمر فقد كانت هناك في المجتمع في عصر النبيّ صلی اللّه علیه و آله مشاكل مماثلة في الزواج.

فقد كان أشراف العرب لا يزوّجون بناتهم إلاّ لمن كان من قبيلة ذات مال وشوكة ، ومكانة وقوة ، ويردّون كل خاطب لبناتهن يكون على غير هذه الصفة.

وقد كان الأشراف ، يصرّون - تبعا لتلك العادة - على أن يتزوّجوا بابنة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله السيدة فاطمة لانهم كانوا يتصوّرون أن النبيّ لن يتشدد في هذا الأمر ، بل يكفيه أنهم ذو ثروة ومكانة اجتماعية مرموقة.

وكانوا يتصوّرون أنهم يمتلكون كلّ ما يهمّ الفتاة وأباها من الامكانيات المادية ، كيف لا والنبيّ صلی اللّه علیه و آله لم يتشدد في زواج ابنتيه الاوليين :

ص: 102

زينب ورقية.

ولكنهم غفلوا عن أن هذه الفتاة ( أي فاطمة الزهراء سلام اللّه عليها ) تختلف عن اختيها السابقين.

إنها - كما تدل عليه آية المباهلة - (1) ذات مقام رفيع ، وشأن كبير.

لقد أخطأ خطّاب فاطمة علیهاالسلام في هذا التصور ، وما كانوا يعلمون أن زوج فاطمة وقرينها لا يمكن أن يكون إلاّ كفؤها في التقوى والفضل ، والايمان والاخلاص ، فاذا كانت فاطمة - بحكم آية التطهير - معصومة من الذنب وجب أن يكون زوجها هو الآخر معصوما والا لم يكن كفؤها المناسب.

وليس المال وليست الثورة ملاك هذا التكافؤ.

لقد قال الاسلام : « إذا خطب إليكم كفؤ فزوّجوه ».

ويفسر هذا التكافؤ بالمماثلة والتكافؤ في الايمان والتقوى ، والطهارة والعفاف ، لا في المال والثروة (2).

ولقد كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مأمورا من جانب اللّه تعالى أن يقول لكل من خطب إليه « فاطمة » من اولئك الرجال : « أمرها بيد اللّه » وهو بهذه الاجابة يكشف القناع عن الحقيقة إلى درجة ما.

ولقد أدرك أصحاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن زواج « فاطمة » ليس أمرا سهلا وبسيطا ، وأنه ليس لمن كان من الرجال وان بلغ من الثراء ، والمكانة الاجتماعيّة أن يحظى بالزواج منها ، فان زوج « فاطمة » ليس إلاّ من يشابهها من حيث الأخلاق والفضائل ، والصدق والايمان ، والطهر ، والاخلاص ، بل ويلي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في السجايا الكريمة والصفات الرفيعة ،

ص: 103


1- آل عمران : 61.في قضية المباهلة اصطحب رسول اللّه صلی اللّه عليه وآله علياً والحسن والحسين وفاطمة دون غيرها من النساء وسيأتي مفصل هذه القصة.
2- راجع الوسائل : ج 14 ص 50 - 52.

والخلق العظيم.

ولا تجتمع هذه الصفات والمواصفات إلاّ في « علي » علیه السلام لا سواه.

وللتأكد من هذه الحقيقة اقترح بعض الصحابة على ( عليّ ) علیه السلام أن يخطب الى النبيّ فاطمة صلوات اللّه عليهما (1).

وكان علي علیه السلام يريد ذلك في نفسه ، ويرغب إليه من كل قلبه إلاّ أنه كان ينتظر الفرصة المناسبة ليقدم على هذا الأمر.

فاتى علي علیه السلام بنفسه إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ولما رآه رسول اللّه قال : ما جاء بك يا أبا الحسن ، حاجتك.

فمنع الخجل عليا من البوح بمطلبه وسكت ، وأطرق برأسه الى الارض ، حياء من النبيّ صلی اللّه علیه و آله .

فقال له رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : لعلك جئت تخطب فاطمة؟ فأجاب علي علیه السلام بكلمات ضمّنها رغبته في الزواج من فاطمة بنت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

ولقد كان هذا النمط من الخطبة علامة واضحة لما كان بين رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وبين علي علیه السلام ، من الاخوة والصفاء ، ولما تحلّى به الجانبان من اخلاص وودّ. وما أروعها من ظاهرة. حقا انّ المبادئ والانظمة التربوية لم تستطع أن تعلّم الشباب الذين يقدمون على الخطبة الى أحد مثل هذه الحرية ، المقرونة بالتقوى ، والايمان والاخلاص.

لقد وافق رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على طلب علي علیه السلام وقال :

« يا عليّ أنه لقد ذكرها قبلك رجال فذكرت ذلك لها فرأيت الكراهة في وجهها ، ولكن على رسلك حتى أخرج إليك ».

ثم دخل صلی اللّه علیه و آله على فاطمة ، فذكر لها الأمر ، وأن عليا علیه السلام خطبها إليه قائلا :

ص: 104


1- بحار الأنوار : ج 43 ص 93.

« إن علي بن أبي طالب من قد عرفت قرابته ، وفضله واسلامه ، واني قد سألت ربي أن يزوّجك خير خلقه ، وأحبهم إليه ، وقد ذكر من أمرك شيئا فما ترين؟ ».

فسكتت فاطمة سلام اللّه عليها ، ولم ير رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في وجهها كراهة فقام وهو يقول :

« اللّه أكبر ، سكوتها إقرارها » (1).

ولكن عليّا علیه السلام لم يكن يملك آنذاك إلا سيفا ، ودرعا فقط.

فأمره رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بأن يبيع درعه ، ويهيئ بثمنه عدة الزواج وجهاز العروس ، فباع علي علیه السلام درعه ، وأتى بثمنه الى النبيّ صلی اللّه علیه و آله وسكب المال بين يديه (2).

فقبض صلی اللّه علیه و آله قبضة الدراهم ، ودعا بلالا فأعطاه فقال :

« ابتع لفاطمة طيبا ».

ثم أعطى صلی اللّه علیه و آله بقية تلك الدراهم إلى أبي بكر وعمّار بن ياسر وأمرهما أن يبتاعا لفاطمة ما يصلحها من ثياب وأثاث البيت ، وما شاكل ذلك من احتياجات العروسين.

ففعلا ذلك واشتريا ما أمرهما به رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فكان جهاز فاطمة كالتالي :

جهاز فاطمة :

1 - قميص بسبعة دراهم.

2 - خمار (3) بأربعة دراهم.

ص: 105


1- نفس المصدر السابق.
2- وفي رواية عن عليّ علیه السلام : فسكبت الدراهم في حجره فلم يسألني كم هي ولا أنا أخبرته.
3- الخمار : مقنعة.

3 - قطيفة سوداء لا تكفي لتغطية كلّ البدن.

4 - سرير مزمّل بشريط ( أي مصنوع من جريد النخل واليافه ).

5 - فراشان من خيش (1) مصر ، حشو أحد هماليف ، وحشو الآخر من صوف الغنم.

6 - اربع مرافق (2) اثنان من الصوف واثنان من الليف.

7 - ستر.

8 - حصير هجري.

9 - رحى لليد.

10 - مخضب (3) من نحاس.

11 - سقاء من أدم.

12 - قعب للبن.

13 - شنّ (4) للماء.

14 - مطهرة مزفّته (5).

15 - جرّة خضراء.

16 - كيزان خزف.

فلما عرض المتاع على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله جعل يقلّبه بيده ويقول :

« اللّهمّ بارك لقوم جلّ آنيتهم الخزف » (6).

إن في مهر فاطمة امورا تدعو إلى التأمل حقا ، أبرزها مقدار ذلك المهر.

فمهرها هو مهر السنّة وهو خمسمائة درهم (7).

إن هذه الزيجة - في الحقيقة - خير درس للآخرين ، للفتيان والفتيات الذين يئنون من ثقل المهر وبهاضته وربما يئنون من قيود الزواج وشروطه.

ص: 106


1- الخيش : نسيج خشن من الكتان.
2- المرفقة : الوسادة.
3- المخضب : اناء للمسك والطيب.
4- الشنّ : القربة.
5- مطلية بالزفت.
6- بحار الأنوار : ج 43 ص 94 ، كشف الغمة : ج 1 ص 359.
7- وسائل الشيعة : ج 5 ص 18.

ان البيئة الزوجية يجب أن تكون - أساسا - بيئة دفء وحنان ، بيئة اخلاص مودة. بيئة سلام ووفاق فهذا هو ما يسعد الحياة الزوجية ويوفر للزوجين عيشا هانئا محببا.

أما المهور الثقيلة ، والنفقات الباهضة والجهاز المكلف فلا تؤدي إلاّ إلى تعكير صفو الحياة الزوجية ، والتقليل من بريق الرابطة العائلية ، وبالتالي لا تضمن مستقبل الزواج ودوامه ، والمحافظة عليه من الهزات.

إن أولياء الفتيات - في عصرنا الحاضر يعمدون بغية دعم مكانة فتياتهم وتقوية مركزهن وضمان مستقبلهن إلى فرض سلسلة طويلة وثقيلة من الشروط والقيود ومنها المهر الباهض على العريس حنى لا يستطيع أن يقوم بطلاق زوجته تحت دوافع الهوى والشهوة ، أو كلما سولت له نفسه ذلك ، على حين أن هذا الاجراء لا يضمن بقاء الرابطة الزوجية ، ودوامها بل العلاج الحقيقي والناجع هو اصلاح الوضع الاخلاقي للشباب ، ورفع مستواهم المعنوي.

يجب أن تكون بيئتنا الثقافية والاجتماعية من الطهر والنقاوة بحيث لا يوجد في رحابها امثال هذه النوازع الشريرة عند شبابنا ، والا لبلغ الأمر إلى نقطة تستعد فيه الفتاة الى بذل مهرها للنجاة بنفسها من البيت الزوجي.

مراسم الزواج تقام ببساطة :

ثم بعد أن عقد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لعلي علیه السلام على فاطمة علیهاالسلام في رحاب مسجده على مرأى ومسمع من المسلمين وفي جو يسوده الفرح والابتهاج والسرور قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لعلي علیه السلام هيّئ منزلا حتى تحوّل فاطمة إليه ، فأخذوا منزل أحد الصحابة بصورة مؤقتة ، وحوّلت فاطمة إلى علي علیه السلام في منزل ذلك الصحابي الجليل ، في زفاف جميل مبارك وقد صنع علي طعاما من لحم وتمر وسمن واطعم المسلمون جميعا تقريبا ، وساد الناس فرح عظيم لم يشهد له نظير.

عن ابن بابويه : أمر النبيّ صلی اللّه علیه و آله بنات عبد المطلب ونساء

ص: 107

المهاجرين والأنصار أن يمضين في صحبة فاطمة سلام اللّه عليها وان يفرحن ، ويرجزن ويكبرن ويحمدن ولا يقولن ما لا يرضى اللّه.

قال جابر : فأركبها على ناقته - وفي رواية على بغلته الشهباء - وأخذ سلمان زمامها والنبيّ وحمزة وعقيل وجعفر وأهل البيت يمشون خلفها مشهرين سيوفهم ونساء النبيّ صلی اللّه علیه و آله قدامها يرجزن ، فانشأت أم سلمة تقول :

سرن بعون اللّه جاراتي *** واشكرنه في كل حالات

واذكرن ما أنعم رب العلى *** من كشف مكروه وآفات

فقد هدانا بعد كفر وقد *** انعشنا رب السماوات

وسرن مع خير نساء الورى *** تفدى بعمات وخالات

ثم إن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لما دخلوا الدار أنفذ إلى علي علیه السلام ثم دعا فاطمة سلام اللّه عليها فأخذ يدها وقد علاها الاستحياء وتصبب منها العرق خجلا ، بل وقد تعثرت من شدة خجلها فقال لها رسول اللّه : « أقالك اللّه العثرة » (1).

ووضعها في يده وقال :

« بارك اللّه في ابنة رسول اللّه يا علي نعم الزوجة فاطمة ، ويا فاطمة نعم الزوج علي ».

ثم أخذ بيده اناء فيه ماء وصب منه على رأس فاطمة وبدنها ودعا لهما قائلا :

« اللّهم اجمع شملهما ، والّف بين قلوبهما ، واجعلهما وذريتهما من ورثة جنة النعيم وارزقهما ذرية طاهرة طيبة مباركة ، واجعل في ذريتهما البركة ، واجعلهم أئمة يهدون بأمرك إلى طاعتك ، ويأمرون بما يرضيك.

اللّهم انّهما أحبّ خلقك إليّ ، فاحبهما واجعل عليهما منك حافظا ، وانّي اعيذهما بك وذريتهما من الشيطان الرجيم » (2).

ص: 108


1- بحار الأنوار : ج 43 ص 96.
2- بحار الأنوار : ج 43 ص 114 - 118.

وبذلك أبدى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من نفسه في تلك الليلة صفاء واخلاصا لم يعرف له نظير حتى في مجتمعاتنا الحاضرة رغم ما حققته من تكامل ورشد.

ثم إن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عدد لفاطمة فضائل علي كما ذكر لعلي فضائل فاطمة وانها « لو لم يخلق علي لما كان لها كفؤ » (1). ثم ذكر لهما وظائفهما وواجباتهما العائلية فأوكل إلى فاطمة ما هو في داخل البيت من شئون وأوكل إلى علي ما هو من شئون الخارج.

ولا بدّ أن نذكر هنا قصة هامة أداء لحق فاطمة ، وبيانا لمقامها.

يقول أنس بن مالك : إن النبيّ صلی اللّه علیه و آله كان يمر ببيت فاطمة ستة أشهر إذا خرج الى الفجر فيقول :

« الصلاة يا أهل البيت ، انما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيرا » (2).

هذا وقد كانت هذه الزيجة أفضل زيجة في الاسلام وأكثرها بركة وخيرا ، فقد عاش هذان القرينان الطاهران جنبا الى جنب في وئام ووداد ، في حياة زوجية طاهرة يسودها الاحترام المتقابل ، والاخلاص الكامل من بدايتها إلى نهايتها.

وقد أنجبا أفضل الاولاد والبنات أبرزهم : الامام الحسن والامام الحسين علیهماالسلام سبطا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الاثيران لديه ، والمقربان إليه ، وزينب بنت علي التي رافقت أخاها في وقعة كربلاء الدامية وكان لها مواقف عظيمة ومشرفة في الرعاية للحق والعدل ، ونصرة الاسلام ، وغيرهم من الاولاد ذكورا واناثا.

وقد بقي كلا الزوجين ( علي وفاطمة ) حتى آخر اللحظات عارفين بمكانة

ص: 109


1- مسند احمد بن حنبل : ج 2 ص 259.
2- الدر المنثور : ج 5 ص 199.

الآخر ، فكلاهما من أهل البيت الذين اذهب اللّه عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ، وكلاهما من القربى الذين أمر بمودتهم ولهذا لم يتزوّج علي علیه السلام على الزهراء امرأة اخرى الا بعد وفاتها ، كما فعل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بالنسبة إلى خديجة ، وفاء لحقها ، واحتراما لمقامها.

لكن بعض الايادي دسّت - مع الأسف - في التاريخ أباطيل للتقليل من شأن هذين الزوجين الطاهرين ، والحط من مكانتهما ، فنسبت إليهما التنازع ، والتشاجر ، أو نسبت إلى فاطمة شكاية عليّ علیه السلام الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأوردت في هذه المجال روايات مختلقة ، لا أساس لها من الصحة ، تفندها أخلاق علي وفاطمة وتقواهما وزهدهما ، وتكذّبها ما جاء في شأنهما وجلالة قدرهما من الآيات القرآنية والاحاديث النبوية.

وقد استند أعداء الاسلام التقليديين إلى امثال هذه الروايات لمسخ صورة الاسلام الحنيف وتشويه سمعة رجاله العظماء ونسائه الخالدات الطيبات.

فهذا هو المستشرق النصراني الحاقد الاستاذ اميل درمنغم في كتابه المليء بالاباطيل : « حياة محمّد » ترجمة الاستاذ محمّد عادل زعيتر بعد ان يلصق برسول السلام تهما عجيبة ويصفه بالبدويّ الحمس ، يقع في علي وفاطمة علیهماالسلام !!

فتارة يقول : إن فاطمة كانت عابسة دون رقية جمالا ، ودون زينب ذكاء ، وإنها لم تكن ترغب في عليّ لانها كانت تعدّ عليا دميما محدودا مع عظيم شجاعته!! وان عليا كان غير بهيّ الوجه .. وو .. مع أنه كان تقيا شجاعا صادقا وفيا مخلصا صالحا مع توان وتردد!!

وكان إذا عاد إلى منزله من العمل بشيء من القوت قال لزوجته فاطمة عابسا : كلي واطعمي الاولاد!! وأن عليا كان يحرد بعد كل منافرة ويذهب لينام في المسجد وكان حموه يربّته على كتفه ويعظه ويوفّق بينه وبين فاطمة إلى حين ، وممّا حدث أن رأى النبيّ ابنته في بيته ذات مرة وهي تبكي من لكم عليّ لها!!

ص: 110

ثم يقول : إن محمّدا - مع امتداحه قدم علي في الاسلام ارضاء لابنته - كان قليل الالتفات إليه وكان صهر النبيّ الامويان : عثمان الكريم وأبو العاصي أكثر مداراة للنبيّ من عليّ ، وكان علي يألم من عدم عمل النبيّ على سعادة ابنته ومن عدّ النبيّ له غير قوّام بجليل الأعمال فالنبيّ وان كان يفوّض إليه ضرب الرقاب كان يتجنب تسليم قيادة إليه!! (1)

إلى غير ذلك من الترهات والسخافات التي الصقها تارة إلى رسول اللّه الاكرم محمّد صلی اللّه علیه و آله ، واخرى إلى حبيبه وابن عمه ووصيه الامام علي بن أبي طالب علیه السلام .

إن أفضل اجابة على هذه الافتعالات هو ما كتبه العلامة الاميني حيث يقول :

كلّ ما في الكتاب من تلكم الأقوال المختلقة ، والنسب المفتعلة إن هي إلاّ كلم الطائش ، تخالف التاريخ الصحيح ، وتضادّ ما أصفقت عليه الامّة الإسلاميّة ، وما أخبر به نبيّها الأقدس.

هل تناسب تقولاته في فاطمة مع قول أبيها صلی اللّه علیه و آله : فاطمة حوراء إنسيّة كلّما اشتقت إلى الجنّة قبّلتها؟! (2)

أو قوله صلی اللّه علیه و آله : ابنتي فاطمة حوراء آدميّة؟! (3)

أو قوله صلی اللّه علیه و آله : فاطمة هي الزهرة؟! (4)

أو قول أمّ أنس بن مالك؟! : كانت فاطمة كالقمر ليلة البدر أو الشمس كفر غماما ، إذا خرج من السحاب بيضاء مشربة حمرة ، لها شعر أسود ، من أشدّ الناس برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله شبها ، واللّه كما قال الشاعر :

بيضاء تسحب من قيام شعرها *** وتغيب فيه وهو جثل أسحم (5)

ص: 111


1- هذه المقتطفات اخذت من كتاب حياة محمّد : ص 197 - 199.
2- تاريخ الخطيب البغدادي : ج 5 ص 86.
3- الصواعق : ص 96 ، اسعاف الراغبين : ص 172 نقلا عن النسائي.
4- نزهة المجالس : ج 2 ص 222.
5- جثل الشعر : كثر والتف واسود فهو جثل : سحم فهو اسحم : اسود.

فكأنّها فيه نهار مشرق *** وكأنّه ليل عليها مظلم (1)

ولقبها الزهراء المتسالم عليه يكشف عن جليّة الحال.

وهل يساعد تلك التحكمات في ذكاء فاطمة وخلقها قول أمّ المؤمنين خديجة رضي اللّه عنها : كانت فاطمة تحدّث في بطن امّها ، ولمّا ولدت فوقعت حين وقعت على الأرض ساجدة رافعة اصبعها؟! (2).

أو يلائمها قول عائشة : ما رأيت أحدا أشبه سمتا ودلا وهديا وحديثا برسول اللّه في قيامه وقعوده من فاطمة ، وكانت إذا دخلت على رسول اللّه قام إليها فقبّلها ورحّب بها ، وأخذ بيدها وأجلسها في مجلسه؟! (3)

وفي لفظ البيهقي في السنن ج 7 ص 101 : ما رأيت أحدا أشبه كلاما وحديثا من فاطمة برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الحديث.

وهل توافق مخاريقه في الامام عليّ صلوات اللّه عليه ، وعدم بهاء وجهه ، وعدّ فاطمة له دميما وكونه عابسا مع ما جاء في جماله البهيّ : انّه كان حسن الوجه كأنّه قمر ليلة البدر ، وكأنّ عنقه إبريق فضّة (4) ضحوك السنّ (5) فإن تبسّم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم؟! (6).

وأين هي من قول أبي الأسود الدؤلي من أبيات له؟! :

إذا استقبلت وجه أبي تراب *** رأيت البدر حار الناظرينا (7)

ص: 112


1- مستدرك الحاكم : ج 3 ص 161.
2- سيرة الملا ، ذخائر العقبى : ص 45 ، نزهة المجالس : ج 2 ص 227.
3- اخرجه الحافظ ابن حبان كما في ذخائر العقبى 40 م ، والحافظ الترمذي وحسنه ، والحافظ العراقي في التقريب كما في شرحه له ولابنه ج 1 ص 150 ، وابن عبد ربه في العقد الفريد : ج 2 ص 3 ، وابن طلحة في مطالب السئول : ص 7 ، اسعاف الراغبين : ص 171.
4- كتاب صفين : ص 262 ، الاستيعاب : ج 2 ص 469 ، الرياض النضرة : ج 2 ص 155 ، نزهة المجالس : ج 2 ص 204.
5- تهذيب الاسماء واللغات للامام النووي.
6- حلية الأولياء : ج 1 ص 84 ، تاريخ ابن عساكر : ج 7 ص 35 ، المحاسن والمساوى : ج 1 ص 32.
7- تذكرة السبط : ص 104.

نعم :

حسدوا الفتى إذ لم ينالوا فضله *** فالناس أعداء له وخصوم

كضرائر الحسناء قلن لوجهها *** حسدا وبغضا : إنّه لدميم

أو يخبرك ضميرك الحرّ في علي ما سلقه الرجل به من ( التواني والتردّد )؟! وعليّ ذلك المتقحم في الأحوال ، والضارب في الأوساط والأعراض في المغازي والحروب ؛ وهو الذي كشف الكرب عن وجه رسول اللّه في كلّ نازلة وكارسة منذ صدع بالدين الحنيف ، إلى أن بات على فراشه وفداه بنفسه ، إلى أن سكن مقرّه الأخير.

أليس عليّ هو ذلك المجاهد الوحيد الذي نزل فيه قوله تعالى : « أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ ». وقوله تعالى : « وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللّهِ ». (1).

فمتى خلى عليّ عن مقارعة الرجال والذبّ عن قدس صاحب الرسالة حتى يصحّ أن يعزى إليه توان أو تردّد في أمر من الامور؟! غير ان القول الباطل لا حدّ له ولا أمد.

وهل يتصوّر في أمير المؤمنين تلك العشرة السيّئة مع حليلته الطاهرة؟! والنبيّ يقول له : أشبهت خلقي وخلقي وأنت من شجرتي التي أنا منها (2).

وكيف يراه النبيّ صلی اللّه علیه و آله أفضل امّته أعظمهم حلما ، وأحسنهم خلقا ، ويقول : عليّ خير أمّتي أعلمهم علما وأفضلهم حلما؟! (3).

ويقول لفاطمة : إنّي زوّجتك أقدم أمّتي سلما ، وأكثرهم علما ، وأعظمهم حلما؟! (4).

ص: 113


1- راجع الجزء الثالث من « الغدير » : ص 47 ، 53 ط ثاني.
2- تاريخ بغداد للخطيب : ج 11 ص 171.
3- الطبري ، الخطيب ، الدولابي. كما في كنز العمال : ج 6 ص 153 و 392 و 398.
4- مسند احمد : ج 5 ص 26 ، الرياض النضرة : ج 2 ص 194 ، ذخائر العقبى : ص 78 ، مجمع الزوائد : ج 9 ص 101 ، 114 وصححه ووثق رجاله.

ويقول لها : زوّجتك أقدمهم سلما ، وأحسنهم خلقا؟! (1).

يقول هذه كلّها وعشرته تلك كانت بمرأى منه ومسمع ، أفك الدجّالون ، كان عليّ علیه السلام كما أخبر به النبيّ الصادق الأمين.

وهل يقبل شعورك ما قذف به الرجل [ فضّ اللّه فاه ] عليّا بلكم فاطمة بضعة المصطفى؟! وعليّ هو ذاك المقتص أثر الرسول وملأ مسامعه قوله صلی اللّه علیه و آله لفاطمة : إنّ اللّه يغضب لغضبك ، ويرضى لرضاك (2).

وقوله صلی اللّه علیه و آله وهو آخذ بيدها : من عرف هذه فقد عرفها ، ومن لم يعرفها فهي بضعة منّي ، هي قلبي وروحي التي بين جنبيّ ، فمن آذاها فقد آذاني (3).

وقوله صلی اللّه علیه و آله : فاطمة بضعة منّي ، يريبني ما رابها ، ويؤذيني ما آذاها (4).

وقوله صلی اللّه علیه و آله : فاطمة بضعة منّي ، فمن أغضبها فقد أغضبني (5).

وقوله صلی اللّه علیه و آله : فاطمة بضعة منّي ، يقبضني ما يقبضها ، ويبسطني ما يبسطها (6).

ص: 114


1- أخرجه أبو الخير الحاكمي كما في الرياض النضرة : ج 2 ص 182.
2- مستدرك الحاكم : ج 3 ص 154 وصححه ، ذخائر العقبى : ص 39 ، تذكرة السبط : ص 175 مقتل الخوارزمي : ج 1 ص 52 ، كفاية الطالب : ص 219 ، شرح المواهب للزرقاني : ج 3 ص 202 ، كنوز الدقائق للمناوي : ص 30 ، أخبار الدول للقرماني هامش الكامل : ج 1 ص 185 ، كنز العمال : ج 7 ص 111 عن الحاكم وابن النجار ، تهذيب التهذيب : ج 12 ص 443 ، الاصابة : ج 4 ص 378 ، الصواعق : ص 105 ، الاسعاف : ص 171 عن الطبراني ، ينابيع المودة : ص 173.
3- الفصول المهمة : ص 150 ، نزهة المجالس : ج 2 ص 228 ، نور الابصار : ص 45.
4- صحاح البخاري ومسلم والترمذي ، مسند أحمد : ج 4 ص 328 ، الخصائص للنسائي : ص 35 ، الاصابة : ج 4 ص 378.
5- صحيح البخاري ، خصائص النسائي : ص 35.
6- مسند أحمد : ج 4 ص 323 و 332 ، الصواعق : ص 112.

وهل يقصر امتداح النبيّ عليّا بقدم إسلامه؟! حتّى يتفلسف في سرّه ويكون ذلك إرضاء لابنته ، على أنّ امتداحه بذلك لو كان لتلك المزعمة لكان يقتصر صلی اللّه علیه و آله على قوله لفاطمة في ذلك وكان يتأتّى الغرض به ، فلما ذا كان يأخذ صلی اللّه علیه و آله بيد عليّ في الملأ الصحابي تارة ويقول : إنّ هذا أوّل من آمن بي ، وهذا أوّل من يصافحني يوم القيامة؟ ولما ذا كان يخاطب أصحابه اخرى بقوله : أوّلكم واردا عليّ الحوض أوّلكم اسلاما عليّ بن أبي طالب؟!

وكيف خفي هذا السرّ المختلق على الصحابة الحضور والتابعين لهم باحسان فطفقوا يمدحونه علیه السلام بهذه الاثارة كما يروى عن سلمان الفارسي ، أنس بن مالك ، زيد بن أرقم ، عبد اللّه بن عبّاس ، عبد اللّه بن حجل ، هاشم بن عتبة ، مالك الاشتر ، عبد اللّه بن هاشم ، محمد بن أبي بكر ، عمرو بن الحمق ، أبو عمرة عديّ بن حاتم ، أبو رافع ، بريدة ، جندب بن زهير ، أمّ الخير بنت الحريش.

وهل القول بقلّة التفات النبيّ إلى عليّ يساعده القرآن الناطق بأنّه نفس النبيّ الطاهر؟! او جعل مودّته أجر رسالته؟!

أو قوله صلی اللّه علیه و آله في حديث الطير المشويّ الصحيح المرويّ في الصحاح والمسانيد : اللّهم ائتني بأحبّ خلقك إليك ليأكل معي؟!

أو قوله صلی اللّه علیه و آله لعائشة : إنّ عليّا أحبّ الرجال إليّ ، وأكرمهم عليّ ، فاعرفي له حقّه وأكرمي مثواه؟! (1)

أو قوله صلی اللّه علیه و آله : أحبّ الناس إليّ من الرجال عليّ؟! (2)

أو قوله صلی اللّه علیه و آله : عليّ خير من أتركه بعدي؟! (3)

أو قوله صلی اللّه علیه و آله : خير رجالكم عليّ بن أبي طالب ، وخير

ص: 115


1- أخرجه الحافظ الخجندي كما في الرياض : ج 2 ص 161 ، وذخائر العقبى : ص 62.
2- وفي لفظ : أحب أهلي ، من حديث اسامة.
3- مواقف الايجي : ج 3 ص 276 ، مجمع الزوائد : ج 9 ص 113.

نساءكم فاطمة بنت محمّد؟! (1)

أو قوله صلی اللّه علیه و آله : عليّ خير البشر فمن أبى فقد كفر (2)

أو قوله صلی اللّه علیه و آله : من لم يقل عليّ خير الناس فقد كفر؟! (3)

أو قوله صلی اللّه علیه و آله : في حديث الراية المتّفق عليه : لاعطينّ الراية غدا رجلا يحبّه اللّه ورسوله ويحبّ اللّه ورسوله؟

أو قوله صلی اللّه علیه و آله : عليّ منّي بمنزلة الرأس ( رأسي ) من بدني أو جسدي؟ (4)

أو قوله صلی اللّه علیه و آله : عليّ منّي بمنزلتي من ربّي؟ (5).

أو قوله صلی اللّه علیه و آله : عليّ أحبّهم إليّ وأحبّهم إلى اللّه (6).

أو قوله صلی اللّه علیه و آله لعليّ : أنا منك وأنت مني. أو : أنت منّي وأنا منك؟ (7)

أو قوله صلی اللّه علیه و آله : عليّ منّى وأنا منه ، وهو وليّ كلّ مؤمن بعدي؟ (8)

أو قوله صلی اللّه علیه و آله في حديث البعث بسورة البراءة المجمع على

ص: 116


1- تاريخ بغداد للخطيب : ج 4 ص 392.
2- تاريخ الخطيب عن جابر ، كنوز الحقائق هامش الجامع الصغير : ج 2 ص 16 ، كنز العمال : ج 6 ص 159
3- تاريخ الخطيب البغدادي : ج 3 ص 192 عن ابن مسعود ، كنز العمال : ج 6 ص 159.
4- تاريخ الخطيب : ج 7 ص 12 ، الرياض النضرة : ج 2 ص 162 ، الصواعق : ص 75 م - الجامع الصغير للسيوطي ، شرح العزيزي : ج 2 ص 417 ، فيض القدير : ج 4 ص 357 ، نور الأبصار : ص 80 ، مصباح الظلام : ج 2 ص 56.
5- الرياض النضرة : ج 2 ص 163 ، السيرة الحلبية : ج 3 ص 391.
6- تاريخ الخطيب : ج 1 ص 160.
7- مسند أحمد : ج 5 ص 204 ، خصائص النسائي : ص 36 و 51.
8- مسند أحمد : ج 5 ص 356 وأخرجه جمع من الحفاظ باسناد صحيح

صحته : لا يذهب بها إلاّ رجل منّي وأنا منه (1)

أو قوله صلی اللّه علیه و آله : لحمك لحمي ودمك دمي والحقّ معك؟ (2)

أو قوله صلی اللّه علیه و آله : ما من نبيّ إلاّ وله نظير في امّته وعليّ نظيري؟ (3)

أو ما صحّحه الحاكم وأخرجه الطبراني عن أمّ سلمة قالت : كان رسول اللّه إذا أغضب لم يجترئ أحد أن يكلّمه غير عليّ؟ (4)

أو قول عائشة : واللّه ما رأيت أحدا أحبّ إلى رسول اللّه من عليّ ولا في الأرض امرأة كانت أحبّ إليه من امرأته؟ (5)

أو قول بريدة وأبيّ : أحبّ الناس إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من النساء فاطمة ومن الرجال عليّ؟! (6)

أو حديث جميع بن عمير قال : دخلت مع عمّتي على عائشة فسألت أيّ الناس أحبّ إلى رسول اللّه؟! قالت : فاطمة. فقيل : من الرجال؟ قالت : زوجها ، إن كان ما علمت صوّاما قوّاما؟ (7)

وكيف كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقدّم الغير على عليّ في الالتفات إليه؟! وهو أوّل رجل اختاره اللّه بعده من أهل الأرض لمّا اطّلع

ص: 117


1- خصائص النسائي : ج 8.
2- المحاسن والمساوى : ج 1 ص 31 ، كفاية الطالب : ص 135 ، مناقب الخوارزمي : ص 76 و 83 و 87 ، فرائد السمطين : في الباب 2 و 27.
3- الرياض النضرة : ج 2 ص 164.
4- مستدرك الحاكم : ج 3 ص 130 ، الصواعق : ص 73 ، تاريخ الخلفاء للسيوطي : ص 116.
5- مستدرك الحاكم : ج 3 ص 154 وصححه ، العقد الفريد : ج 2 ص 275 ، خصائص النسائي : ص 29 ، الرياض النضرة : ج 2 ص 161.
6- خصائص النسائي : ص 29 ، مستدرك الحاكم : ج 3 ص 155 صححه وهو والذهبي ، جامع الترمذي : ج 2 ص 227.
7- جامع الترمذي : ج 2 ص 227 ط هند ، مستدرك الحاكم : ج 3 ص 157 ، وجمع آخر.

عليهم كما أخبر به صلی اللّه علیه و آله لفاطمة بقوله : إنّ اللّه اطّلع على أهل الأرض فاختار منه أباك فبعثه نبيّا ، ثمّ اطّلع الثانية فاختار بعلك فأوحى إليّ فأنكحته واتّخذته وصيّا (1).

وبقوله صلی اللّه علیه و آله : إن اللّه اختار من أهل الأرض رجلين أحدهما أبوك والآخر زوجك (2).

وإنّي لا يسعني المجال لتحليل كلمة الرجل : وكان صهرا النبيّ الامويّان. إلخ : وحسبك في مداراة عثمان الكريم حديث أنس عن رسول اللّه لمّا شهد دفن رقيّة ابنته العزيزة وقعد على قبرها ودمعت عيناه فقال : أيّكم لم يقارف الليلة أهله؟! فقال أبو طلحة : أنا. فأمره أن ينزل في قبرها.

قال ابن بطّال : أراد النبيّ صلی اللّه علیه و آله أن يحرم عثمان النزول في قبرها وقد كان أحقّ الناس بذلك لأنّه كان بعلها وفقد منها علقا لا عوض منه لأنّه حين قال علیه السلام : أيّكم لم يقارف الليلة أهله؟! سكت عثمان ولم يقل : أنا. لأنّه قد قارف ليلة ماتت بعض نسائه ، ولم يشغله الهمّ بالمصيبة وانقطاع صهره من النبيّ صلّى اللّه عليه [ وآله ] وسلّم عن المقارفة فحرم بذلك ما كان حقّا له وكان أولى به من أبي طلحة وغيره. وهذا بيّن في معنى الحديث ولعلّ النبيّ صلّى اللّه عليه [ وآله ] وسلّم قد كان علم ذلك بالوحي فلم يقل له شيئا لأنّه فعل فعلا حلالا غير أنّ المصيبة لم تبلغ منه مبلغا يشغله حتّى حرم ما حرم من ذلك بتعريض غير صريح (3).

وما عساني أن أقول في أبي العاص الذي كان على شركه إلى عام الحديبيّة ، واسر مع المشركين مرّتين ، وفرّق الإسلام بينه وبين زوجته زينب بنت النبيّ صلی اللّه علیه و آله ستّ سنين ، وهاجرت مسلمة وتركته لشركه ، ولم ترد

ص: 118


1- اخرجه الطبراني عن أبي ايوب الأنصاري كما في اكمال كنز العمال : ج 6 ص 153 ، واخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد : ج 9 ص 165 عن علي الهلالي.
2- المواقف للايجي : ص 8
3- الروض الانف : ج 2 ص 107.

قطّ بعد إسلامه كلمة تعرب عن صلته مع النبيّ ومداراته له فضلا عن مقايسته بعليّ أبي ذرّيّته وسيّد عترته.

وقد اتّهم الرجل نبيّ الإسلام بعد العمل على سعادة ابنته الطاهرة المطهّرة بنصّ الكتاب العزيز ، ويقذف عليّا بالتألّم من ذلك ، وكان صلی اللّه علیه و آله إذا أصبح أتى باب عليّ وفاطمة وهو يقول : يرحمكم اللّه إنّما يريد اللّه ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيرا. وكان لم يزل يقول : فاطمة أحبّ الناس إليّ.

ويقول : أحبّ الناس إليّ من النساء فاطمة.

ويقول : أحبّ أهلي إليّ فاطمة.

وكان عمر يقول لفاطمة : واللّه ما رأيت أحدا أحبّ إلى رسول اللّه منك (1).

وما أقبح الرجل في تقوّله على النبيّ صلی اللّه علیه و آله بعدّه لعليّ غير قوّام بجليل الأعمال. وقد وازره وناصره وعاضده بتمام معنى الكلمة بكلّ حول وطول من بدء دعوته إلى آخر نفس لفظه ، فصار بذلك له نفسا وأخا ووزيرا ووصيّا وخليفة ووارثا ووليّا بعده ، وكان قائده الوحيد في حروبه ومغازيه ، وهو ذلك الملقّب بقائد الغرّ المحجّلين وحيا من اللّه العزيز في ليلة أسرى بنبيّه من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى (2).

وممّا يعجّب بل ويؤسف أن نجد العقاد كاتب النيل الكبير يذهب هذا المذهب ، وينحو هذا المنحى ذاته من سيدة نساء العالمين فاطمة بنت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأمّ الامامين الهمامين الحسن والحسين علیهماالسلام ، فيسطر في كتابه « فاطمة الزهراء والفاطميّون » (3) شيئا من هذه العبارات والمقالات التافهة التي لا يليق بكاتب مثله عرف بالتحقيق والفهم ، ان يدرجها في مؤلفه.

ص: 119


1- مستدرك الحاكم : ج 3 ص 150 وصححه.
2- مستدرك الحاكم : ج 3 ص 138 وصححه ، الرياض النضرة : ج 2 ص 177 ، شمس الاخبار : ص 39 ، أسد الغابة : ج 1 ص 69 ، مجمع الزوائد : ج 9 ص 121.
3- راجع ص 32 و 33.

ولا يجاب على ما كتبه العقاد ومن حذى حذوه إلا بما مرّ في كلام العلاّمة والمحقق الخبير الاميني رحمه اللّه . ففيه كفاية لمن تحرّى الحقيقة عن أهل البيت علیهم السلام .

هذا وينبغي ان نذكّر القارئ الكريم بنفس ما كتبه العقاد في كتابه ومما يعتبر شهادة دامغة تفند ما بدر منه من قول غير لائق في شأن علي والزهراء ، فهو يقول : في كل دين صورة للانوثة الكاملة المقدسة يتخشع بتقديسها المؤمنون كأنّما هي آية اللّه فيما خلق من ذكر وانثى.

فاذا تقدست في المسيحية مريم العذراء ففي الاسلام لا جرم تتقدس صورة فاطمة البتول.

ثم يقول : من الواضح البين ان الزهراء اخذت مكانها الرفيع بين اعلام النساء في التاريخ لانها بنت نبي وزوجة امام وأم شهداء (1).

فاذا كانت هذه هي صورة الزهراء البتول ، فكيف يصدّق العقل ما حاكته أيدي الدسّ في تاريخ هاتين القمتين الطاهرتين من قمم الاسلام الشامخة؟!

ص: 120


1- راجع : ص 51 و 52.

31

جرائم « بني قينقاع »

اشارة

كانت معركة « بدر » بمثابة طوفان شديد ضدّ الوثنية في قلب شبه الجزيرة العربية.

طوفان اقتلع بعض جذور الوثنية العريقة ، فقد قتل طائفة من صناديد قريش ، واسرت اخرى وهرب الباقون بمنتهى الذل والصغار ، وانتشر خبر هزيمة جيش قريش المتغطرس في جميع أنحاء وربوع الجزيرة العربية.

ولكن ساد بعد هذا الطوفان المرعب ، شيء من الهدوء والمقرون بالاضطراب والقلق. هدوء كان منشؤه التفكير في مستقبل شبه الجزيرة العام وما تخبئه الايام القادمة لسكانها على أثر التحول الجديد.

وكانت مخاوف القبائل الوثنية ، ويهود يثرب الاثرياء ويهود خيبر ووادي القرى تزداد يوما بعد يوم من تقدم الاسلام المطّرد ، وتعاظم شوكته ، واشتداد أمر حكومته الفتية ، وكان جميع هؤلاء يجدون مستقبلهم مهددا بخطر جديّ ، بعد أن كانوا لا يتصورون أن يكسب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله المهاجر من مكة كلّ هذه النجاحات الباهرة ، وأن يبلغ من القوة ذلك المبلغ ، بحيث يقهر بقواه المحدودة قوة قريش الكبرى ويكسر شوكتها العريقة!!

وكان يهود بني قينقاع الذين يقطنون داخل المدينة ، ويمسكون بخيوط اقتصادها ، أشدّ خوفا من غيرهم ، واكثر قلقا على مستقبل أمرهم ، لأنهم كانوا يخالطون المسلمين مخالطة كاملة وكان وضعهم يختلف عن وضع يهود خيبر ووادي القرى الذين كانوا يعيشون خارج المدينة بعيدا عن مركز قوة المسلمين ومنطقة حاكميتهم!!

ص: 121

من هنا بدأ يهود بني قينقاع قبل غيرهم من طوائف اليهود العائشة في تلك الديار بتدبير المؤامرات ، وممارسة الأعمال الإيذائية ضدّ المسلمين والقيام بالحرب الباردة ( الإعلامية ) ضدّهم ، وذلك بنشر الأكاذيب وبثّ المعلومات الكاذبة ، واطلاق الشعارات القبيحة ، وانشاد القصائد التي من شأنها الاساءة الى المسلمين وتحقيرهم ، وتخريب معنوياتهم.

وبهذا يكون اليهود قد بدءوا عمليّا بنقض معاهدة التعايش السلمي التي ذكرناها سلفا ، والتي عقدها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله معهم في إبّان قدومه المدينة.

ولم تكن هذه الحرب الباردة الشريرة لتبرر تصدي القوى الاسلامية لها بالحرب الساخنة ، واستعمال السلاح ، لأن ما يمكن حله بسلاح المنطق لا يحبذ أن يعالج بمنطق السلاح ، وخاصة أن الرد الساخن والمسلح يؤدي إلى زعزعة الأمن والاستقرار في المدينة ، والحال أن المحافظة على الوحدة السياسية ، واستتباب الأمن والاستقرار في المدينة كان مما يهمّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله جدا وهو يواجه أعداء أشداء من الخارج.

فلم يكن من مصلحة الاسلام والمسلمين تفجير الموقف في عاصمة الاسلام ، يومئذ.

ولهذا - وبغية اتمام الحجة على يهود بني قينقاع - وقف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ذات يوم في سوقهم بعد أن جمعهم فيه ثم قال لهم :

« يا معشر يهود احذروا من اللّه مثل ما نزل بقريش من النقمة ، وأسلموا ، فانكم قد عرفتم انّي رسول اللّه ( أو أني نبي مرسل ) تجدون ذلك في كتابكم وعهد اللّه إليكم ».

وهنا نزل قول اللّه تعالى :

« قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ. قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللّهُ

ص: 122

يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ » (1).

ولكن اليهود المغرورين المتكبرين لم يشكروا نصيحة النبي هذه أو يسكتوا حسب ، بل ردوا عليه بعناد ولجاج وصلافة قائلين : يا محمّد انك ترى انا قومك لا يغرنّك أنك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب ، فاصبت منهم فرصة ، إنا واللّه ولئن حاربناك لتعلمنّ أنّا نحن الناس ( أو أنّا واللّه أصحاب الحرب ، ولئن قاتلتنا لتعلمنّ أنك لم تقاتل مثلنا )!! (2)

فلم تترك كلمات يهود « بني قينقاع » الجوفاء ، وتشدقهم الفارغ بقوتهم وقدرتهم على القتال والمواجهة أدنى اثر في نفوس المسلمين.

ولكن النبيّ صلی اللّه علیه و آله قد أتم عليهم الحجة ، فلم يعودوا معذورين حسب السياسة الاسلامية ، وقد أصبح ساعتئذ من اللازم الاحتكام إلى منطق السلاح بعد أن لم ينجع سلاح المنطق ، ولم يقنع اليهود بضرورة تغيير مواقفهم ، والتخلي عن مؤامراتهم وخططهم الايذائية ضد النبيّ صلی اللّه علیه و آله والمسلمين.

أجل لا بد من استخدام القوة مع هؤلاء اليهود الصلفين المتعنتين والاّ ازدادوا صلافة ، وكثرت اعتداءاتهم.

ولهذا أخذ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ينتظر الفرصة المناسبة لتأديب تلك الجماعة المتعنتة الوقحة.

لهيب الحرب يبدأ من شرارة :

قد تجر بعض الحوادث الصغيرة إلى سلسلة من التحولات والاحداث في الاجتماعات الكبرى. يعني أن تتسبب حادثة جزئية في انفجار الحوادث الكبرى ، فيصفي كلّ من طرفي النزاع حسابه مع الطرف الآخر ، انطلاقا من علل واسباب اخرى ، وليست تلك الحادثة الجزئية.

ص: 123


1- آل عمران : 12 و 13.
2- المغازي : ج 1 ص 175 و 176.

فللمثال نشأت الحرب العالمية الاولى وهي إحدى اكبر الحوادث التاريخية في حياة البشر من حادثة صغيرة تذرعت بها الدول الكبرى ، وتلك الحادثة الصغيرة التي اشعلت فتيل الحرب العالمية الاولى هي اغتيال « الارشيدوق فرانسيز فريديناند » ولي عهد النمافي سراييفو.

فقد وقعت هذه الحادثة في 28 من شهر يونيو عام 1914 وبعد شهر وعدة أيام بدأت الحرب العالمية الاولى بهجوم الالمان على بلجيكا ، وافرزت هذه الحرب المدمرة الشاملة عن مقتل عشرة ملايين وجرح عشرين مليونا من البشر (1).

ولقد انزعج المسلمون من صلافة يهود بني قينقاع ، وردهم الوقح على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وهو يخاطبهم بأدب ينصحهم ، وكانوا يتوقعون أن يقوم اليهود بعمل عدائي ليثوروا ضدهم ، ويؤدبوهم.

وبيناهم على هذه الحال إذ تعرضت امرأة من العرب لاعتداء من اليهود فاشعل هذا الحادث الموقف.

وإليك مفصل تلك الحادثة :

جاءت امرأة من العرب الى سوق بني قينقاع فجلست عند صائغ تبيع حليّا لها أو تشتري ، وكانت تبالغ في ستر وجهها عن اليهود ، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها ، فأبت فعمد رجل من يهود بني قينقاع إليها وجلس من ورائها ، وهي لا تشعر فعقد أسفل ثوبها إلى ظهرها ، فلما قامت المرأة بدت عورتها ، فضحكوا منها فصاحت ، فوثب رجل من المسلمين الى ذلك الرجل اليهودي فقتله ، فاجتمعت بنو قينقاع ، وشدّوا على المسلم فقتلوه ، فاستصرخ أهل المسلم القتيل المسلمين على اليهود ، فغضب المسلمون غضبا شديدا.

ولقد كان من الطبيعي أن يثب الرجل المسلم على ذلك اليهودي الوقح الشرير الذي فعل بالمرأة العربية ذلك الصنع ، فان قضية « الأعراض » قضية حياتية وحساسة في أي مجتمع ، فهي قضية شرف ، وقد كان هذا الأمر يحظى في المجتمع

ص: 124


1- الموسوعة العربية الميسرة : ص 700.

العربيّ خاصة بأهمية كبرى ، وخاصة عند البدو الرحل منهم ، فكم من دماء جرت لعدوان على عرض ديس أو تعرض للتحرش.

من هنا أزعج وضع تلك المرأة الغريبة وحالها المؤلم واضطرابها الرجل المسلم ، وأشعل غيرته فوثب على اليهودي المعتدي وقتله.

وكان من الطبيعي أيضا أن لا يمرّ هذا العمل دون رد من اليهود فيثب اليهود بأجمعهم على ذلك المسلم الغيور ويقتلوه ، ويريقوا دمه بأجمعهم.

نحن هنا لا يهمّنا أن نعرف أن قتل ذلك الرجل اليهودي لازدرائه بامرأة كان أمرا صحيحا منطقيا يتفق مع الموازين أم لا ينطبق.

ولكنّه ما من شك في أن وثوب مئات من الرجال واجتماعهم على قتل رجل مسلم واحد ، وإراقة دمه ، عمل بالغ الشناعة والقبح.

من هنا تسبّب انتشار هذا الخبر ( اي مقتل رجل مسلم واحد على أيدي مجموعة كبيرة من الرجال بصورة مفجعة ) في إثارة المسلمين ونفاذ صبرهم ، ودفعهم إلى العزم على حسم الموقف حسما كاملا وبالتالي هدم قلعة الفساد على رءوس أصحابها القتلة.

فاحس « بنو قينقاع » بخطر الموقف ، وأدركوا انه لم يعد من الصالح أن يبقوا في أسواقهم ، ويواصلوا البيع والشراء ، وقد تلبّد الجوّ بالغيوم الداكنة على أثر العمل الفضيع والجناية الكبرى التي ارتكبوها.

من هنا تركوا أسواقهم بسرعة ، وعادوا إلى قلاعهم المحصّنة ، وتحصّنوا فيها ، وكان ذلك منهم انسحابا خانعا بعد ذلك التشدّق الصلف!!

ولقد أخطئوا هذه المرة أيضا إذ ظنوا انهم مانعتهم حصونهم ، من انتقام اللّه. ولو أنهم اعتذروا لخطئهم ، وأظهروا الندامة لكانوا يجلبون رضا المسلمين ، ويحصلون على عفو النبيّ صلی اللّه علیه و آله وهم يعرفون خلقه العظيم ؛ وصفحة الكريم.

إلاّ أن تحصّنهم كان آية عنادهم ، واعلانهم الحرب ، ونصبهم العداء الصريح للاسلام والنبيّ والمسلمين.

ص: 125

فأمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بمحاصرتهم ، ومنع من دخول أيّ امداد إليهم ، كما منع من اتصالهم بأي أحد خارج حصونهم.

فحصرهم في حصونهم خمس عشرة ليلة أشدّ الحصار ، حتى قذف اللّه في قلوبهم الرعب ، وفقدوا القدرة على المقاومة ، ورضوا بأن ينزلوا عند حكم النبيّ صلی اللّه علیه و آله فيهم!!

وأراد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن يؤدب تلك الجماعة التي كانت أول من نقض العهد ونبذ الميثاق تأديبا قاسيا ، يكون عقابا لهم وعبرة لغيرهم.

ولكن « عبد اللّه بن أبي بن سلول » الذي كان من منافقي المدينة ويتظاهر بالاسلام ، أصرّ على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بأن يحسن معاملتهم ، ولا يأخذهم بما فعلوا لحلف ومودة كانت بينه وبين يهود من السابق ، فانصرف النبيّ صلی اللّه علیه و آله عن ما كان يريد من تأديبهم الشديد ، وعقوبتهم على كره منه (1) ولكن أمر بأن يجلوا من المدينة ، ولا يبقوا فيها شريطة أن يتركوا أسلحتهم ، وأموالهم ، ودروعهم.

فنزلوا على حكم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وكلّف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أحد المسلمين بقبض أموالهم وأسلحتهم ، وكلّف « عبادة بن الصامت » باجلائهم من حصونهم فعجّل عبادة في ترحيلهم وإجلائهم.

فخرجوا من المدينة ولحقوا بمنطقة تدعى « أذرعات » وهي بلد في اطراف الشام.

ص: 126


1- هذا مع العلم ان القرآن الكريم ندّد بمثل هذه الوساطة الذي قام بها ذلك الرجل المنافق رغم تخفيف النبيّ صلی اللّه علیه و آله معاقبة اليهود ورسم للمسلمين منهجا في التعامل مع اليهود والنصارى إذ قال : فانه منهم نخشى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ * وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ» (المائدة: 51 - 53).

وباجلاء « بني قينقاع » عادت الوحدة السياسية الى المجتمع في المدينة.

وكانت الوحدة السياسية هذه المرة مقرونة بالوحدة الدينية إذ كان المسلمون يشكلون الاغلبية الساحقة في المدينة فلم يكن لغيرهم فيها شأن يذكر (1).

تقارير جديدة تصل الى المدينة :

اشارة

من المعلوم أن الاخبار تنتشر بين الناس بسرعة في المناطق الصغيرة ، على العادة.

من هنا فان انباء أكثر المؤامرات والتحركات المعادية للاسلام التي كانت تقع في المناطق المختلفة من شبه الجزيرة كانت تصل بسرعة - وعبر المسافرين المحايدين أو الاصدقاء المترصدين - الى مركز القيادة الاسلامية في المدينة.

هذا مضافا الى أن هذا النوع من المعلومات كان يحظى لدى رسول الاسلام باهمية كبرى ، فيرصد لها من يأتي بها أولا بأول ، ولهذا كانت اكثر التحركات والمؤامرات يقضى عليها في مهدها بفضل الردّ السريع والمناسب الذي كانت القيادة الاسلامية تقوم به في ضوء المعلومات الواردة إليها ، أو التي حصلت عليها.

فبمجرّد أن تتضمن هذه المعلومات ، إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله خبرا مفاده أن إحدى القبائل تعد قوة ، وتستعدّ للهجوم على المدينة كان صلی اللّه علیه و آله يبادر الى بعث سرية أو يقود هو بنفسه مجموعة مناسبة لمحاصرة تلك القبيلة ، وافشال مؤامرتها ، وابطال تدبيرها قبل أن تستطيع فعل شيء ، وكان هذا هو اسلوب المباغتة الذي استطاع به رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن يقضي على كثير من التحركات المعادية في مهدها.

وإليك مختصرا عن بعض تلك الغزوات التي وقعت في السنة الثانية من الهجرة :

ص: 127


1- المغازي : ج 1 ص 177 ، الطبقات الكبرى : ج 2 ص 28 و 29.
1 - غزوة قرقرة الكدر :

1 - غزوة قرقرة الكدر (1) : كانت المنطقة التي تتمركز فيها قبيلة « بني سلم » تدعى « الكدر ».

وقد بلغ النبيّ صلی اللّه علیه و آله أن القبيلة المذكورة تهيّئ ، وتعدّ العدة للهجوم على مركز الاسلام وعاصمته ( المدينة ). فخرج رسول اللّه بنفسه من المدينة بعد أن استخلف عليها أحد أصحابه وأوكل إليه إدارة المدينة في غيابه ، وكان الذي استخلفه هذه المرّة « ابن أمّ مكتوم » ، وخرج على رأس قوة عسكرية إلى مركز تلك القبيلة فلما سمعوا بمسير القوى الاسلامية إليهم تفرقوا ، وعاد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى المدينة من غير قتال.

ثم بعث سرية بقيادة فارس من فرسانه يدعى « غالب بن عبد اللّه » إلى نفس تلك المنطقة ، فوقع بينه وبينهم قتال محدود وعاد « غالب » الى المدينة ظافرا بعد أن استشهد ثلاثة من رجاله.

2 - غزوة السويق :

كان عرب الجاهلية إذا نذروا ينذرون نذورا غريبة.

فقد نذر أبو سفيان بعد معركة بدر أن لا يقارب زوجته ما لم يثأر (2) من المسلمين لقتلى بدر فكان عليه أن يقوم بهجوم على المدينة ، ويقاتل النبيّ وأصحابه ليفي بنذره!!

فخرج من مكة في مائتي راكب فجاء بني النضير ليلا ، يطلب مشورة من أحبار اليهود.

فلما كان في وقت السحر خرج فمر بالعريض فوجد رجلا من الانصار مع أجير له فقتل الأنصاريّ ، وقتل أجيره ، وحرّق بيتا وحرثا لهم بارشاد من كبير اليهود « سلام بن مشكم » ورأى أن يمينه قد حلّت ، ثم ذهب هاربا ، وخاف

ص: 128


1- قرقرة الكدر : ناحية بين المعدن وبين المدينة ، ( الطبقات ).
2- المغازي : ج 1 ص 182 ، الطبقات : ج 2 ص 30.

ملاحقة المسلمين له.

فعرف به النبيّ صلی اللّه علیه و آله فندب أصحابه فخرجوا في أثره ، وجعل أبو سفيان وأصحابه يتخففون فيلقون أكياس السويق ( وهو القمح المقلّى المطحون الملتوت بالسمن أو العسل ) ، وهي عامة زادهم ، فجعل المسلمون يمرّون بها فيأخذونها.

فسميت تلك الغزوة بغزوة السويق لهذا الشأن.

3 - غزوة ذي أمرّ :

بلغ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن قبيلة غطفان تجمع أفرادها ، وتتأهب للعدوان على المدينة المنورة ، فخرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على رأس أربعمائة وخمسين رجلا.

فلما سمع العدو بمسير رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إليهم خافوا خوفا شديدا فهربوا إلى رءوس الجبال ، فرارا من النبيّ والمسلمين.

فخرج النبيّ صلی اللّه علیه و آله إليهم يبحث عنهم فلم يلاق أحدا منهم ، وقد غيّبوا سرحهم وذراريهم في ذرى الجبال خوفا وفرقا.

فنزل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله « ذا أمرّ » (1) وعسكر معسكره هناك ، فأصابهم مطر كثير ، فذهب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ناحية ليقضي حاجة ، فأصابه ذلك المطر فبلّ ثوبه ، وقد جعل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وادي « ذي أمرّ » بينه وبين أصحابه ، ثم نزع ثيابه فنشرها لتجف ، وألقاها على شجرة ، ثم اضطجع تحتها ، والأعراب ينظرون الى كلّ ما يفعل.

فقالت الأعراب لدعثور وكان سيّدها وأشجعها : قد أمكنك محمّد ، وقد انفرد من أصحابه ، حيث إن غوّث بأصحابه لم يغث حتى تقتله.

فاختار سيفا من سيوفهم صارما ثم أقبل مشتملا على السيف حتى قام على

ص: 129


1- واد بطريق فيد إلى المدينة. وفاء الوفاء : ج 2 ص 249.

رأس النبيّ صلی اللّه علیه و آله بالسيف مشهورا ، ورسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مستلق على قفاه.

فقال بنبرة خشنة مهددة : ما يمنعك منّي اليوم؟ قال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : اللّه.

فكان لهذه الكلمة أثر عجيب في نفس دعثور بحيث ارعب ، ووقع السيف من يده ، فأخذه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقام به على رأسه ، فقال : ومن يمنعك منّي اليوم.

فقال : لا أحد.

ثم قال : فأنا أشهد أن لا إله إلاّ اللّه ، وأنّ محمّدا رسول اللّه ، واللّه لا أكثر عليك جمعا أبدا.

فأعطاه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله سيفه ثم أدبر ، ثم أقبل بوجهه على النبيّ صلی اللّه علیه و آله وقال : أما واللّه لانت خير منّي.

قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : أنا أحق بذلك منك.

فأتى قومه ، وقصّ عليهم ما جرى له مع النبيّ ، وأنّه أسلم ، ودعا قومه الى الاسلام.

أجل يكتب المؤرخون في هذا المقام أن الرجل أسلم من فوره ، ويجب أن نعلم أنه لم يسلم خوفا وفرقا وتحت بارقة السيف لأنه بقي ثابتا ومستمرا في اسلامه بعد ذلك وأخذ يدعو قومه كما أسلفنا وهذا يدل على أنه أسلم عن طواعية ورغبة. وان اسلامه كان لتنبّه فطرته ، ويقظة وجدانه ، فانّ فشله غير المتوقع ، ونجاة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله التي تمت بطريقة خارقة للعادة جعلته ينتبه الى عالم آخر ، وعرف بأن لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ارتباطا بعالم آخر ، وأنه مؤيّد بالتالي بقوة عليا ، وراء هذا العالم المادي.

ولهذا السبب - وليس لسواه - أسلم ، وقبل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله اسلامه ، وبعد أن مشى خطوات ردّ الى النبيّ سيفه الذي أعاده إليه النبيّ قبل ذلك واعتذر إليه.

ص: 130

وقال : أنت أولى بهذا السيف لأنّك قائد هذه السرية المصلحة. (1)

قريش تغيّر مسير تجارتها :

تعرضت سواحل البحر الاحمر للخطر من قبل عناصر الجيش الاسلامي وحلفائهم ، ولم يعد من الممكن مواصلة التجارة وارسال القوافل التجارية عبرها.

من هنا تشاورت قريش فيما بينها ، ودرست أوضاعها في ظل هذه المستجدات ، واتفقت على أنه لو تركت التجارة لهلكت رءوس أموالها وفنيت ، وكان عليها أن تسلّم للمسلمين.

وان واصلت التجارة لم تحرز في هذا المجال نجاحا ما دامت الطريق غير آمنة ، وما دام يمكن أن تتعرض أموالها للمصادرة على أيدي المسلمين كلما عثروا عليها.

فاقترح أحدهم التجارة إلى الشام عن طريق العراق فاستحسنوا رأيه جميعا ، وتهيّأت القافلة للحركة في الخط الجديد وتولّى أبو سفيان وصفوان بنفسيهما مهمة الاشراف على تلك القافلة وادارتها ، واستخدما رجلا من بني بكر يدعى « فرات ابن حيان » ليدلّهما على الطريق.

قال المقريزي في امتاع الاسماع : سمع رجل من المدينة ( وهو سليط بن النعمان ) بخبر خروج صفوان بن أمية في عيره وما معهم من الاموال فخرج من ساعته وأخبر النبيّ صلی اللّه علیه و آله فأرسل زيد بن حارثة في مائة راكب فاصابوا العير ، وأفلت أعيان القوم ، فقدموا بالعير فخمّسها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فبلغ الخمس عشرين ألف درهم ، وقسّم ما بقي على أهل السريّة ، وكان فيمن اسر فرات بن حيّان فأسلم (2).

ص: 131


1- المناقب : ج 1 ص 164 ، المغازي : ج 1 ص 194 - 196.
2- الإمتاع الاسماع : ج 1 ص 112.

حوادث السنة الثالثة من الهجرة

اشارة

32

الدفاع عن الحرّية

غزوة احد أو الدفاع عن الحرّية عند جبل احد :

اشارة

لم تكن السنة الهجرية الثالثة بأقل من السنة الثانية من حيث وقوع الحوادث والوقائع الملفتة للنظر فيها.

فاذا وقعت في السنة الثانية من الهجرة غزوة « بدر » فقد وقعت في السنة الثالثة منها غزوة « احد » وهما من أعظم معارك الاسلام وغزواته.

على أن غزوة « احد » لم تكن الغزوة الوحيدة التي وقعت في السنة الثالثة ، بل وقعت أيضا غزوات اخرى (1) الى جنب طائفة من السرايا ، التي اخترنا منها سرية واحدة وغزوتين فقط.

1 - سرية محمّد بن مسلمة :

لقد وصل نبأ انتصار المسلمين في معركة « بدر » عن طريق رجلين من المسلمين.

ولم يكن الجيش الاسلامي الظافر قد وصل الى المدينة بعد ، عند ما انزعج « كعب بن الاشرف » - الذي كانت أمه من يهود « بني النضير » وكان شاعرا قويا ، وخطيبا بارعا - من الفتح الذي أصابه النبيّ صلی اللّه علیه و آله والمسلمون في « بدر » فقال : واللّه لئن كان محمّد أصاب أشراف العرب وملوك الناس ( ويعني سادة قريش وصناديدهم الذين قتلوا في بدر على أيدي المسلمين لبطن

ص: 132


1- مثل غزوة بحران وغزوة حمراء الأسد.

الأرض خير من ظهرها!! وبدأ يبث الأكاذيب والشائعات في المدينة ومضى يشكك في انتصارات المسلمين في بدر.

وقد كان يسيء الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في قصائده حتى قبل معركة « بدر » ويحرّض الناس على المسلمين.

ثم إنه لما تيقن الخبر خرج حتى قدم مكة وجعل يحرّض قريشا على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وقد أنشد في هذا المجال أشعارا يبكي فيها أصحاب القليب من قريش وقد ذكرتها المصادر التاريخية (1).

ثم رجع كعب هذا الى المدينة فشبّب (2) بنساء المسلمين حتى آذاهم!!

ولا شك أنه بهذه المواقف المعادية كان من أظهر مصاديق المفسد في الارض ، الأمر الذي آل إلى أن يقرّر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله التخلص منه ، وكفاية المسلمين شره ، وقد أوكل هذه المهمة الصعبة الى « محمد بن مسلمة ».

وقد خطّط « ابن مسلمة » للتخلص من « كعب » خطة رائعة ، وألّف لتنفيذها فريقا كان من بينهم « أبو نائلة » الأخ الرضاعي لكعب بن الأشرف ، ليمكن من هذا الطريق التمويه على كعب وتنفيذ الخطة المذكورة.

فخرج أبو نائلة إلى كعب وجلسا يتحادثان ، ويتبادلان الشعر.

ثم إن أبا نائلة قال لكعب - بعد ان طلب منه أن يخرج كل من كان هناك من ذويه وأهله - : إني قد جئتك في حاجة إليك اريد ذكرها لك فاكتم عني ، وإني كرهت ان يسمع القوم كلامنا ، فيظنون! لقد كان قدوم هذا الرجل ( يعني رسول اللّه ) علينا من البلاء ، وحاربتنا العرب ، ورمتنا عن قوس واحدة ، وقطّعت السبل عنا حتّى جهدت الانفس ، وضاع العيال ، أخذنا بالصدقة ولا نجد ما نأكل.

فقال كعب : قد واللّه كنت احدّثك بهذا يا ابن سلامة إن الامر سيصير الى ما أقول.

ص: 133


1- المغازي : ج 2 ص 121 - 122.
2- راجع السيرة النبويّة : ج 2 ص 52.

فقال أبو نائلة : إنّ معي رجالا من أصحابي على مثل رأيي ، وقد أردت أن آتيك بهم فنبتاع منك طعاما ، أو تمرا وتحسن في ذلك إلينا ، ونرهنك ما يكون لك فيه ثقة.

فقال كعب : وما ذا ترهنونني يا أبا نائلة ، أبناءكم ونساءكم؟؟!

فقال أبو نائلة : لقد أردت أن تفضحنا وتظهر أمرنا ، ولكنا نرهنك من الحلقة ( أي السلاح ) ما ترضى به.

فرضي كعب بن الاشرف بذلك.

وإنما قال أبو نائلة هذا القول لابن الاشرف حتى لا يستغرب إذا رأى السلاح بيد الرجال الذين سيأتون معه.

ثم خرج أبو نائلة من عند ابن الاشرف على ميعاد ، فاتى أصحابه ، فأخبرهم بما دار بينه وبين كعب ، فأجمعوا أمرهم على أن يأتوه إذا أمسى لميعاده ، ثم أتوا الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عشاء وأخبروه ، فمشى معهم حتى اتى البقيع ، ثم وجّههم ، ثم قال :

« امضوا على بركة اللّه وعونه اللّهم أعنهم ».

فمضوا حتى أتوا ابن الاشرف ، فلمّا انتهوا إلى حصنه هتف به أبو نائلة ، وكان ابن الاشرف حديث عهد بعرس ، فوثب من فراشه ، فأخذت امرأته بناحية ملحفته وقالت : أين تذهب ، إنك رجل محارب ، ولا ينزل مثلك في هذه الساعة؟؟

فقال ابن الاشرف : ميعاد ، إنما هو أخي أبو نائلة.

ثم نزل إليهم فحيّاهم ، ثم جلسوا فتحدثوا ساعة حتى اطمأن إليهم.

ثم قالوا له : يا ابن الاشرف : هل لك أن تتمشّى الى شعب العجوز ( وهو موضع قرب المدينة ) فنتحدث فيه بقيّة ليلتنا.

فخرجوا يتماشون حتى ابتعدوا عن حصنه ، وبينما هم كذلك إذ أدخل أبو نائلة يده في رأس كعب ثم شم يده فقال : ويحك ما أطيب عطرك هذا يا ابن الاشرف ، ثم مشى ساعة ، ثم كرّر هذا العمل ثانية حتى اطمأن ثم مشى ساعة

ص: 134

ثم عاد لمثلها فأخذ بفود رأسه وقال : اضربوا عدوّ اللّه ، فضربوه بسيوفهم ، وطعنه أبو نائلة بخنجر في بطنه ، وصاح صيحة ثم وقع على الارض ولم تنفعه استغاثاته.

ثم عاد هذا الفريق الفدائي إلى المدينة من فورهم ولما بلغوا « بقيع الغرقد » كبّروا ، وقد قام رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله تلك الليلة يصلّي ، فلما سمع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله تكبيرهم بالبقيع كبّر ، وعرف أنهم قد قتلوه.

وبهذا أعلنوا عن نجاح عمليّتهم الفدائية الجريئة التي أراحت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأصحابه من شرّ ذلك المفسد الخطير الذي لم يفتأ عن إيذاء النبيّ صلی اللّه علیه و آله وتناول أعراض المسلمين في أشعاره ... (1).

اغتيال مفسد آخر :

وكان أبو رافع سلام بن أبي الحقيق اليهودي يظاهر كعب بن الاشرف على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ويقوم بنفس الدور الخبيث الذي كان يقوم به ابن الاشرف من الايذاء والازعاج للنبيّ صلی اللّه علیه و آله والمسلمين. فقام فريق فدائي آخر من المسلمين باغتياله على غرار اغتيال صاحبه في عملية فدائية جسورة على نحو ما رواه ابن الأثير في كتابه : الكامل في التاريخ بصورة مفصلة (2).

وقد كانت هاتان العمليتان وامور اخرى من أسباب اندلاع معركة « احد ».

وقد حان الأوان الآن أن نستعرض تفاصيل هذه الواقعة الكبرى!

قريش تتكفل نفقات الحرب :

كانت بذور الرغبة في الانتقام والثأر من المسلمين قد بذرت في مكة من زمان وقد ساعدت خطة المنع من البكاء والنياحة على القتلى على اذكاء روح الانتقام هذه لدى قريش.

ص: 135


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 51 - 56 ، المغازي : ج 1 ص 184 - 190.
2- الكامل في التاريخ : ج 2 ص 101.

كما أن تعذّر مرور قافلتها التجارية عبر طريق مكة - المدينة - الشام ، واضطرارها الى سلوك طريق العراق للسفر الى الشام زاد هو الآخر من سخطها وانزعاجها.

ولقد أجج مقتل « كعب بن الاشرف » من أوار هذا الحقد ، وأوقد لهيبه في النفوس.

من هنا اقترح « صفوان بن أميّة » و « عكرمة بن أبي جهل » على أبي سفيان ومن كانت له في قافلة قريش التجارية مشاركة ، أن يدفع كل واحد منهم مبلغا من المال لتسديد نفقات الحرب قائلين : يا معشر قريش إن محمدا قد وتركم ، وقتل خياركم ، فأعينونا بهذا المال على حربه ، فلعلّنا ندرك منه ثأرنا بمن أصاب منّا.

ولقد لقي هذا الاقتراح قبولا من أبي سفيان وتقرّر الإعداد للحرب فاجتمعت قريش لحرب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حتى فعل أبو سفيان ذلك.

وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الموضوع كما ذكر كيف أن قريشا لم تحصد من هذا الإنفاق الا الخيبة والخسران اذ قال تعالى :

« إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ » (1).

وحيث إن زعماء قريش كانوا يعرفون بقوة المسلمين وقد رأوا من كثب استقامتهم وثباتهم في معركة « بدر » لهذا قرروا أن يتألف جيشهم هذه المرة من صناديد أكثر القبائل العربية وشجعانها البارزين وأبطالها المعروفين.

فكلّف « عمرو بن العاص » وعدة أشخاص آخرين بأن يؤلّبوا العرب على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ويجمعوا أبطالها وصناديدها ، للمشاركة في الجيش الكثيف والمنظم الذي اعتزمت قريش على تسييره لقتال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله والمسلمين ، وغزوهم وبأن يخبروهم بأن قريشا قد تكفّلت نفقات هذه المعركة.

وقد أثمرت نشاطات « عمرو » ورفاقه في هذا السبيل.

ص: 136


1- الانفال : 36 ، وراجع السيرة النبوية : ج 2 ص 60 ، مجمع البيان : ج 2 ص 541 ، السيرة الحلبية : ج 2 ص 217.

فقد استطاعوا بعد محاولات واسعة أن يضمّوا إلى جيش قريش أبطالا وصناديد من بني كنانة وتهامة ، فخرجت قريش وهم أربعة آلاف بمن انضم إلى صفوفهم من تلك القبائل (1).

وقد كان هذا هو عدد الرجال الذين شاركوا في هذه المعركة ، ولو أضفنا إليهم عدد النساء اللواتي شاركن فيها لتجاوز العدد ما ذكرناه.

على أنه لم يكن من عادة العرب أن يشركوا نساءهم في الغزو ويخرجوهن معهم إلى القتال ، ولكن نساء مكة الوثنيات شاركن مع رجالهن في هذه المعركة على خلاف عادة العرب ، وكان الهدف من أخذهن هو أن يحرّضن الرجال على القتال والصمود ، ويمنعن المقاتلين من الفرار ، ويذكّرن بقتلى بدر ، ويشعلن الحماس في النفوس بدق الدفوف ، وإنشاد الأشعار المثيرة للهمم والداعية إلى الثأر ولأن فرار الرجال كان يعني أن تقع النسوة في الأسر ، وهو ما كان يأباه العربي آنذاك. فتكون الغيرة والحمية على العرض سببا للمقاومة والصمود.

كما أنه اشترك في هذه المعركة طائفة من العبيد والرقيق طمعا في العتق الذي وعدوا به إن نصروا أسيادهم وقاتلوا بين أيديهم ، وذلك مثل « وحشي » وكان غلاما حبشيا لمطعم بن جبير يقذف بحربة له قذف الحبشة قلّما يخطئ بها فقال له سيده : أخرج مع الناس فإن نلت محمدا أو عليّا أو حمزة فأنت عتيق (2).

وعلى أية حال استطاعت قريش أن تجهّز بعد جهد كبير جيشا كبيرا قويا يتألف من سبعمائة دارع ، وثلاثة آلاف فارس ، ومشاة كثيرين ، وقد خرجوا بعدة وسلاح كثير.

الاستخبارات ترفع تقريرا الى النبيّ :

فلما اجمعت قريش على المسير كتب العباس بن عبد المطلب (3) كتابا يضم

ص: 137


1- اختلف علماء التفسير والتاريخ كعلي بن ابراهيم والشيخ الطبرسي في إعلام الورى ، وابن هشام والواقدي في عدد المشركين والكفار في هذه المعركة ، وما ذكرناه هو الاقرب الى الحقيقة.
2- بحار الأنوار : ج 20 ص 96.
3- وكان العباس كما أسلفنا ممن أسلم وآمن برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في مكة ولكنه ظلّ يكتم ايمانه ليتمكن من البقاء بين قريش ورصد تحركاتهم واخبار النبيّ صلی اللّه علیه و آله بنواياهم. راجع السيرة الحلبية: ج10 ص 198.

تقريرا مفصلا عن نوايا واستعدادات قريش ، وختمه واستأجر رجلا من بني غفار واشترط عليه أن يقطع الطريق إلى المدينة في ثلاثة أيام ويوصل تلك الرسالة إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

فقدم الغفاري المدينة فلم يجد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وانما وجده في بستان خارجها فدفع إليه كتاب العباس المختوم ، فقرأه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله واطلع على ما فيه ، ولكنه كتم محتواها عن أصحابه (1).

روى العلامة المجلسي عن الامام ابي عبد اللّه الصادق علیه السلام أنه قال : كان مما منّ اللّه عزّ وجلّ على رسوله صلی اللّه علیه و آله أنه كان لا يقرأ ولا يكتب ، فلما توجّه أبو سفيان الى « احد » كتب العباس إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله فجاءه الكتاب وهو في بعض حيطان المدينة فقرأه ولم يخبر أصحابه ، وأمرهم أن يدخلوا المدينة فلما دخلوا المدينة أخبرهم (2).

جيش قريش يتحرك باتجاه المدينة :

تحرّك جيش قريش باتجاه المدينة ، وبعد قطع مسافة معينة وصلت طلائعه إلى الابواء ، وهي المنطقة التي دفنت فيها والدة النبيّ صلی اللّه علیه و آله السيدة « آمنة بنت وهب » فقال فتية من قريش : تعالوا ننبش قبر أم محمّد ، فانّ النساء عورة ، فان يصب من نسائكم أحد قلتم هذه رمة امّك ، فان كان برّا بامّه كما يزعم فلعمري ليفادينكم برمة أمّة ، وان لم يظفر بأحد من نسائكم فلعمري ليفدين رمة امّه بمال كثير إن كان بها برّا.

ص: 138


1- المغازي : ج 1 ص 203 ، ويرى بعض المؤرخين أن مبعوث العباس قدم بالرسالة المدينة وكان النبيّ ساعتها في المسجد فأعطى النبيّ الرسالة إلى أبي بن كعب فقرأها عليه ، وقد روى الواقدي هذا الوجه أيضا ( ج 1 ص 204 ) ومع أن النبيّ لم يعهد منه أن قرأ رسالة فيكون الوجه الاول أقرب الى الحقيقة.
2- بحار الأنوار : ج 20 ص 111.

واستشار أبو سفيان أهل الرأي من قريش في ذلك فاستقبحوه وشجبوه بشدة وقالوا :

لو فعلنا ذلك نبشت بنو بكر وخزاعة ( وهم أعداء قريش ) موتانا (1).

وبعث النبيّ صلی اللّه علیه و آله ليلة الخميس الخامس من شهر شوال ، السنة الثالثة من الهجرة ، « أنسا » و « مونسا » ابني « فضالة » للتجسس على قريش خارج المدينة ، واخباره صلی اللّه علیه و آله بتحركاتهم ، فأخبرا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله باقتراب جيش المشركين إلى المدينة ، وانهم قد سرحوا إبلهم وخيولهم ترعى في مراعي المدينة.

كما أخبر « الحباب بن المنذر » هو الآخر باقتراب جيش المشركين إلى المدينة ، وان طلائع ذلك الجيش قد استقر على مقربة من جبل احد ، وكان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قد بعث الحباب سرا وقال له : لا تخبرني بين أحد من المسلمين إلاّ أن ترى قلة.

وبخبر الحباب تأكّد ما أخبر به ابنا فضالة.

وحيث إن المسلمين كانوا يخافون على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من العدو ، أن يهاجموه ليلا ، لذلك باتت وجوه الأوس والخزرج ( الانصار ) ليلة الجمعة وعليهم السلاح في المسجد بباب النبيّ صلی اللّه علیه و آله يحرسونه ، وحرست المدينة تلك الليلة حتى أصبحوا.

منطقة « احد » :

كان الوادي الطويل الكبير الذي يصل طريق الشام التجارية باليمن يسمى آنذاك ب- « وادي القرى » ، وكانت القبائل العربية من اليهود وغير اليهود تقطن في كل منطقة تتوفر فيها ظروف المعيشة ومستلزمات الحياة ، ولهذا نشأت على طول هذا الخط « قرى » بسبب وجود مناطق خصبة فيه وقد سوّرت بأسوار من الحجارة ،

ص: 139


1- المغازي : ج 1 ص 206.

وكانت يثرب مركز هذه القرى وامها وهي التي سميت في ما بعد بمدينة الرسول ، ومن ثم « المدينة » تخفيفا واختصارا.

وكان على كل قادم من مكة إلى المدينة ، أن يدخل من جنوب يثرب وحيث إن أرض هذه المنطقة ذات طبيعة صخرية لذلك يكون عبور الجيش من خلالها أمرا عسيرا وفي غاية الصعوبة.

من هنا عمدت قريش - عند ما وصل جيشها الى مشارف المدينة - تحاشت هذه المنطقة ، ودخلت من شمال المدينة ، واستقرت في وادي العقيق في سفوح جبل « احد » ، وقد كانت هذه المنطقة لعدم وجود نخيل فيها ، ولسهولة أرضها ، أفضل مكان للعمليات العسكرية ، وخير ميدان للقتال والحرب.

وقد كانت المدينة عرضة للخطر من هذه الناحية لأنه قلّما كان المرء يرى فيها موانع طبيعية.

نزلت قوى المشركين عصر يوم الخميس في الخامس من شوال من السنة الثالثة من الهجرة عند جبل « احد ».

وبقي النبي ذلك اليوم وليلته في المدينة ، وفي يوم الجمعة أقدم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على عقد شورى عسكرية ، واستشار قادة جيشه وأهل الخبرة والرأي من أصحابه في كيفية مواجهة العدو ، والتكتيك الذي يجب أن يتبعه المسلمون (1).

المشاورة في كيفية الدفاع :

كان النبيّ صلی اللّه علیه و آله قد امر من جانب اللّه تعالى أن يشاور أصحابه في الامور العسكرية وما يشابهها ويشركهم في قراراته وخططه التي يتخذها في المجالات المذكورة ، ليعطي بذلك درسا كبيرا للمسلمين ، ويوجد بين أصحابه وأتباعه روح الديمقراطية ( الصحيحة ) وتحري الحق ، والموضوعية.

ص: 140


1- لم تكن هذه هي المرة الأولى والأخيرة التي شاور النبيّ فيها أصحابه وقد ذكرنا عدة موارد من هذا النوع من التشاور والهدف منه في كتابنا : معالم الحكومة الاسلامية.

ولكن هل كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله نفسه يستفيد من هذه المشاورة؟ وينتفع بآرائهم ونظرياتهم ، ومقترحاتهم ، أم لا؟.

لقد أجاب علماء العقيدة ورواد علم الكلام الاسلامي من مختلف الطوائف على هذا السؤال في مؤلفاتهم ودراساتهم ، وللقارئ الكريم إذا أراد الوقوف على الجواب أن يراجع تلكم المصنفات.

لكن الذي لا يمكن انكاره في المقام هو : أن هذه المشاورات سيرة حية تركها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من بعده ، ولقد كانت هذه السيرة مؤثرة جدا بحيث استخدم الخلفاء والأمراء من بعده من اسلوب التشاور والشورى ، وكانوا يستفيدون على هذا الاساس من آراء الامام علي علیه السلام ونظرياته السامية في الامور العسكرية ، والمشكلات الاجتماعية التي كانت تطرأ على حياة المسلمين.

المشاورات العسكرية :

لما سمع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله باقتراب قريش الى المدينة وقف في تلك الشورى التي كانت جمعا كبيرا من صناديد أصحابه ، وقادة جيشه وجنوده وقال بصوت عال : « أشيروا عليّ » (1).

وهو يطلب بذلك من اولئك الجنود والقادة أن يدلوا بآرائهم في كيفية مواجهة العدو ، وطريقة الدفاع عن حوزة الاسلام وصرح التوحيد المهددة من قبل قريش والمتحالفين معهم من أحزاب الشرك ، وأتباع الوثنية.

فقام « عبد اللّه بن ابي بن سلول » وكان من منافقي المدينة ، وطرح فكرة التحصّن في داخل المدينة ، والقتال فيها على غرار حرب الشوارع. وذلك بأن لا يخرج المسلمون من المدينة بل يبقوا داخلها ، ويستخدموا أبراجها وسطوحها لمقاتلة العدوّ ودفعه فترمي النساء العدوّ بالأحجار من السطوح ، ويقاتل الرجال أفراده في الشوارع والأزقة قائلا : يا رسول اللّه كنا نقاتل في الجاهلية فيها ، ونجعل النساء

ص: 141


1- راجع الخطبة 134 من نهج البلاغة.

والذراري في هذه الصياصي ونجعل معهم الحجارة ، ونشبك المدينة بالبنيان فتكون كالحصن من كلّ ناحية وترمي المرأة والصبي من فوق الصياصي والآطام ، ونقاتل بأسيافنا في السكك ( أي الطرقات ).

يا رسول اللّه إن مدينتنا عذراء ما فضّت علينا قط ، وما خرجنا إلى عدوّ قط إلاّ أصاب منّا. فانهم ان أقاموا أقاموا بشر محبس ، وان رجعوا رجعوا خائبين مغلوبين.

وكان هذا رأي الأكابر من أصحاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من المهاجرين والأنصار ، إلاّ أن الفتيان من المسلمين وبخاصة من لم يشهد منهم بدرا وكانوا يشكلون الاغلبية شجبوا هذا الرأي بشدة ، ورفضوه بقوة وطلبوا من رسول اللّه الخروج إلى العدو ، ورغبوا في الشهادة ، وأحبّوا لقاء العدو.

وقالوا : إنّا نخشى يا رسول اللّه أن يظن عدوّنا أنا كرهنا الخروج إليهم جبنا عن لقائهم فيكون هذا جرأة منهم علينا ، وقد كنت يوم بدر في ثلاثمائة رجل فظفّرك اللّه عليهم ، ونحن اليوم بشر كثير ، قد كنا نتمنى هذا اليوم وندعوا اللّه به فقد ساقه اللّه إلينا في ساحتنا.

وقال « حمزة » بطل الاسلام العظيم : لا أطعم اليوم طعاما حتى اجالدهم بسيفي خارجا من المدينة (1).

الاقتراع من أجل الشهادة!! :

وقام خيثمة أبو سعد بن خيثمة - وهو شيخ يقظ البصيرة - وقال : ان قريشا مكثت حولا تجمع الجموع ، وتستجلب العرب في بواديها ، ومن تبعها من أحابيشها ، ثم جاءونا قد قادوا الخيل وامتطوا الابل ، حتى نزلوا بساحتنا فيحصرونا في بيوتنا ، وصياصينا ، ثم يرجعون وافرين لم يكلموا ، فيجرّئهم ذلك علينا حتى يشنوا الغارات علينا ، ويصيبوا أطرافنا ، ويضعوا العيون والارصاد علينا ، مع ما قد صنعوا بحروثنا ،

ص: 142


1- المغازي ج 1 ص 211 وبحار الانوار ج 125 من المعلوم أن نظرية عبد اللّه بن أبي لم تخلو من الخطر ، إذ لم يكن من البعيد ان يستفيد العدوّ بعد دخوله في المدينة من بيوت المنافقين. وأن يتعاون معهم يهود المدينة أيضا فتكون حينئذ الضربة القاضية للاسلام والمسلمين.

ويجترئ علينا العرب حولنا ، حتى يطمعوا فينا إذا رأونا لم نخرج إليهم ، فنذبهم عن جوارنا ، وعسى اللّه أن يظفّرنا بهم ، فتلك عادة اللّه عندنا ، أو تكون الاخرى : الشهادة.

لقد أخطأتني وقعة بدر ، وقد كنت عليها حريصا ، لقد بلغ من حرصي أن ساهمت (1) ابني على الخروج فخرج سهمه فرزق الشهادة ، وقد كنت حريصا على الشهادة وقد رأيت ابني البارحة في النوم في أحسن صورة يسرح في ثمار الجنة وأنهارها ، وهو يقول : الحق بنا ترافقنا في الجنة ، فقد وجدت ما وعدني ربي حقا.

وقد واللّه يا رسول اللّه أصبحت مشتاقا الى مرافقته في الجنة ، وقد كبرت سني ورقّ عظمي ، وأحببت لقاء ربّي فادع اللّه يا رسول اللّه أن يرزقني الشهادة ومرافقة سعد في الجنة!!! (2).

إن هذا الذي ذكرناه ليس سوى نموذج واحد من مواقف كثيرة تجدها أيّها القارئ الكريم في صفحات التاريخ الاسلامي المشرقة فهناك الكثير من هؤلاء الفدائيين المخلصين الذين آلوا على أنفسهم أن يدافعوا عن حياض العقيدة وشرف الدين ، ورزقوا الشهادة في نهاية المطاف.

إن الايديولوجية التي لا تعتمد على اسس الايمان باللّه واليوم الآخر قلما تنتج جنديا فدائيا مخلصا مثل خيثمة ، ومن شاكله.

إن روح الفداء والتفاني والايثار بالنفس والتضحية بالغالي والرخيص ، التي تدفع بالجندي إلى أن يطلب الشهادة في سبيل إعلاء كلمة الحق ، وإعزاز التوحيد باصرار وشوق لا توجد إلاّ في مدرسة الأنبياء والمرسلين ، ولا تحصل الاّ في ضوء تربيتهم.

واما في المجتمعات المادية كالمجتمعات الحاضرة التي تهتم أكبر اهتمام بتحسين أحوال العسكريين حيث إن الهدف من الحروب والمعارك لم يكن قط إلاّ الحصول على وضع معيشي أفضل ، فانّه لا يهم الجنود فيها إلاّ الحفاظ على أرواحهم وحياتهم

ص: 143


1- اي اجريت القرعة بيني وبين ولدي.
2- المغازي : ج 1 ص 212 و 213.

فذلك هو أكبر هدف لديهم ، ومن هنا تندر عندهم روح التفاني والتضحية.

وأما في مدرسة الأنبياء فان المعارك والحروب لا يهدف منها إلاّ ابتغاء رضا اللّه سبحانه ، فلو انحصر ذلك في الشهادة أقدم عليها الجندي المسلم من دون خوف أو وجل ، وعرّض نفسه لجميع الاخطار من دون تلكؤ أو ابطاء.

حصيلة الشورى :

لقد أخذ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله برأى الاكثرية التي كانت ترجح الخروج من المدينة لمقاتلة العدوّ ، ورجح هو صلی اللّه علیه و آله البقاء في المدينة وقتال العدو داخلها ، إذ لم يكن من الصالح - بعد ما اقترحه قادة جيشه البارزين مثل حمزة ، وسعد بن عباده ونظرائهم ، وأصروا عليه - أن يأخذ برأي عبد اللّه بن أبيّ بن سلول المنافق.

هذا مضافا الى أن حرب الشوارع والمدن غير المنظم في داخل سكك المدينة وأزقتها الضيقة ، واشتراك النسوة في الأمور الدفاعية ، والجلوس في البيت ، والسماح للعدو بأن يفعل ما يريد آية العجز ، والوهن ، وهو أمر لا يليق بالمسلمين ، ولا يتلاءم مع الانتصار العظيم الذي كسبوه في معركة « بدر » ، وهزموا به عدوهم الغاشم القويّ.

إن محاصرة المدينة وسيطرة العدوّ على مداخلها وطرقاتها ، وسكوت جنود الاسلام على ذلك من شأن أن يقتل الروح القتالية ، والفروسية في أبناء الاسلام المجاهدين.

ويمكن أن يكون « عبد اللّه بن أبيّ بن سلول » قد أضمر في نفسه نيّة سيئة ضد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأنه بهذا الاقتراح ( أي البقاء في المدينة وعدم الخروج لمجابهة العدوّ ، ومواجهته بشجاعة ) كان يريد - في الحقيقة - أن يوجّه ضربة الى النبيّ صلی اللّه علیه و آله !!

النبيّ يلبس لامة الحرب :

بعد أن تعيّنت كيفية مواجهة العدو والدفاع ، دخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه

ص: 144

وآله بيته ولبس لامته ، وقد لبس الدرع فأظهرها وحزم وسطه بمنطقة من حمائل سيف من أدم واعتم وتقلّد السيف ، وخرج من بيته.

فأثار هذا المشهد المسلمين وهزهم بشدة وتصور بعضهم بأن إصرارهم على النبيّ صلی اللّه علیه و آله بالخروج من المدينة لم يكن فيه للنبيّ رضا ، وخشوا أنهم قد استكرهوه على هذا الأمر ، فندموا على ذلك ، وقالوا معتذرين : يا رسول اللّه ما كان لنا أن نخالفك فاصنع ما بدا لك ( أو : ما كان لنا أن نستكرهك والأمر الى اللّه ثم إليك ).

فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله :

« ما ينبغي لنبيّ إذا لبس لامته أن يضعها حتّى يقاتل » (1).

النبيّ يخرج من المدينة :

ثم إن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله صلّى بالناس الجمعة وخرج على رأس ما يزيد على ألف مقاتل قاصدا احد ، وذلك بعد أن قال لهم :

« انظروا إلى ما أمرتكم به فاتّبعوه امضوا على بركة اللّه فلكم النصر ما صبرتم » (2).

وقد أجاز رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يومئذ لمن لم يبلغوا الحلم بأن يخرجوا معه كسمرة ورافع وكان راميا جيدا ، ورد اسامة بن زيد وعبد اللّه بن عمر بن الخطّاب (3).

ثم إن جماعة من اليهود كانوا متحالفين مع عبد اللّه بن ابي بن سلول قرّروا أن يشتركوا في هذه المعركة ويخرجوا مع المسلمين ، ولكن النبيّ صلی اللّه علیه و آله لم يسمح بذلك لأسباب خاصة.

ص: 145


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 23 ، المغازي : ج 1 ص 214 ، الطبقات الكبرى : ج 2 ص 38.
2- المغازي : ج 1 ص 214.
3- السيرة النبوية : ج 2 ص 66.

وسار النبيّ وأصحابه حتى اذا كانوا بمنطقة بين المدينة واحد تسمى « الشوط » انعزل عنه « عبد اللّه بن أبي بن سلول » وعاد بثلث الناس كلهم من الأوس المتحالفين معه إلى المدينة بحجة أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أخذ برأي الفتية والشباب ، ورفض اقتراحه وهو البقاء في المدينة.

ومن هنا لم يشترك في هذه المعركة لا اليهود ولا حزب النفاق.

ثم إن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأصحابه كانوا يرغبون في أن يسلكوا أقرب الطرق إلى معسكرهم من هنا اضطروا الى أن يمروا عبر بستان لمنافق من منافقي المدينة يدعى « مربع بن قيظي » وكان ضريرا ، فامتنع من ذلك ، واساء بالقول الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فابتدره أصحاب النبيّ ليقتلوه فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله :

« لا تقتلوه ، فهذا الأعمى أعمى القلب ، أعمى البصر » (1).

جنديان فدائيان :

استعرض رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله جيشه في منطقة تدعى بالشيخين (2) ، وكانت الوجوه المشتاقة إلى الجهاد تلمع كما تلمع أشعة السيوف ، وتعكس إصرارا كبيرا على قتال الكفار ، ومجاهدة المشركين.

ولقد كان جيش رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الذي خرج بهم لمجابهة قريش عند جبل احد يتألف من مقاتلين يتفاوتون في الأعمار تفاوتا كبيرا.

ففيهم الشيخ الكبير الطاعن في السن وفيهم الشاب الفدائيّ الذي لم يتجاوز الخامسة عشرة.

ولقد كان الدافع الذي يحرك الجميع الى ذلك هو تعشق الكمال الذي

ص: 146


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 65 ، المغازي : ج 2 ص 218.
2- ولقد كان من عادة النبيّ صلی اللّه علیه و آله واسلوبه في جميع المعارك استعراض جيشه على الدوام ، وعدّهم ، وتسريح بعض العناصر الضعيفة احيانا.

ما كان ليتوفر إلاّ في ظلّ الدفاع عن صرح التوحيد المقدس ، ليس إلاّ.

ولإثبات هذه الحقيقة نشير هنا الى قصة شيخ كبير السن ، وشاب لم يمض من عرسه إلاّ ليلة واحدة!!

1 - كان « عمرو بن الجموح » رجلا شيخا أعرج شديد العرج وقد اصيب في رجله في حادثة. وكان له بنون أربعة مثل الاسود ، يشهدون مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله المشاهد ، فلما كان يوم « احد » أراد ان يخرج مع النبيّ صلی اللّه علیه و آله وقد أبت نفسه أن تفوته الشهادة ، وأن يجلس في بيته ولا يشترك مع رسول اللّه في تلك المعركة ، وإن اشترك بنوه الأربعة فيها.

فأراد أهله وبنوه حبسه وقالوا له : إنّ اللّه عزّ وجل قد عذرك ، ولم يقتنع بمقالتهم ، وأتى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقال : إنّ بنيّ يريدون أن يحبسوني عن هذا الوجه والخروج معك فيه ، فو اللّه إنّي لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه في الجنّة.

فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله له :

« أمّا أنت فقد عذرك اللّه ولا جهاد عليك » (1).

ثم قال صلی اللّه علیه و آله لبنيه وقومه :

« لا عليكم أن لا تمنعوه ، لعلّ اللّه يرزقه الشهادة ».

فخلّوا عنه ، وخرج وهو يقول : اللّهمّ ارزقني الشهادة ولا تردني الى أهلي.

وقد كان موقف هذا المجاهد الأعرج من مشاهد معركة « احد » العظيمة ، ومن قصصها الرائعة ، فقد كان يحمل - وهو على ما هو عليه من العرج - على الاعداء ويقول : « أنا واللّه مشتاق إلى الجنّة » وابنه يعدو في أثره حتّى قتلا جميعا (2).

ص: 147


1- لقول اللّه تعالى : « لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ » ( الفتح : 17 ).
2- السيرة النبوية : ج 2 ص 90 و 91 ، المغازي : ج 1 ص 265.

2 - « حنظلة » وهو شاب لم يكن قد جاوز الرابعة والعشرين من عمره آنذاك. وهو ابن « أبي عامر » عدوّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله والذي كان مصداقا لقول اللّه تعالى « يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ ».

فقد اشترك والده أبو عامر الفاسق في معركة « احد » إلى جانب قريش ضد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وكان ممن يكيدون للاسلام وممن حرّض قريشا ضدّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله واستمرّ في معاداة الاسلام حتى النفس الأخير ، ولم يأل جهدا في هذا السبيل.

وقد كان أبو عامر هذا هو السبب الرئيسيّ وراء حادثة مسجد « ضرار » التي سيأتي تفصيلها في حوادث السنة التاسعة من الهجرة.

غير أن علاقة الابوة والبنوة وما يتبعها من احاسيس لم تصرف حنظلة عن الاشتراك في حرب ضد أبيه ، ما دام أبوه على باطل وهو ( أي حنظلة ) على الحق فيوم خرج النبيّ مع أصحابه الى « احد » لمواجهة قريش كان حنظلة يريد البناء بزوجته ليلته ، فقد تزوج بابنة « عبد اللّه بن ابيّ بن سلول » وكان عليه أن يقيم مراسيم الزفاف والعرس في الليلة التي خرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى « احد » في صبيحتها المنصرمة.

ولكنه عند ما سمع مؤذن الجهاد ، ودوّى نداؤه في اذنه بحيّر في ما يجب أن يفعله ، فلم يجد مناصا من أن يستأذن من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بان يتوقف في المدينة ليلة واحدة لاجراء مراسيم العرس ويقيم عند عروسته ثم يلتحق بالمعسكر الاسلامي صبيحة الغد من تلك الليلة.

وقد نزل في هذا الشأن - على رواية العلاّمة المجلسي - قوله تعالى :

« إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ » (1).

ص: 148


1- النور : 62.

فأذن له رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله (1).

فبات حنظلة عند عروسته تلك الليلة ودخل بها ، ولما اصبح خرج من فوره وتوجه إلى « احد » وهو جنب.

ولكنه حينما اراد أن يخرج من منزله بعثت امرأته الى أربعة نفر من الأنصار ، واشهدت عليه أنه قد واقعها.

فقيل لها : لم فعلت ذلك؟

قالت : رأيت هذه الليلة في نومي كأنّ السماء قد انفرجت فوقع فيها حنظلة ، ثم انضمت فعلمت أنها الشهادة ، فكرهت أن لا اشهد عليه.

ولما حضر حنظلة القتال نظر إلى أبي سفيان على فرس يجول بين العسكر ، فحمل عليه ، فضرب عرقوب فرسه ، فاكتسعت الفرس وسقط أبو سفيان إلى الأرض ، وصاح : يا معشر قريش أنا أبو سفيان ، وهذا حنظلة يريد قتلي ، وعدا أبو سفيان ، وجرى حنظلة في طلبه ، فعرض له رجل من المشركين فطعنه ، فمشى الى ذلك المشرك فطعنه فضربه وقتله ، وسقط حنظلة الى الأرض بين حمزة وعمرو بن الجموح وعبد اللّه بن حزام وجماعة من الأنصار ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله :

« رأيت الملائكة تغسّل حنظلة بين السماء والارض بماء المزن في صحائف من ذهب » (2).

فكان يسمى غسيل الملائكة أو حنظلة الغسيل.

وكانت الأوس تعدّ حنظلة من مفاخرها فكانت تقول : « ومنا حنظلة غسيل الملائكة ».

وكان أبو سفيان يقول : حنظلة بحنظلة ويقصد بالأوّل حنظلة غسيل الملائكة وبالثاني ابنه حنظلة الذي قتل يوم بدر (3).

ص: 149


1- بحار الأنوار : ج 20 ص 57.
2- اسد الغابة : ج 2 ص 59 و 60 ، بحار الأنوار : ج 20 ص 57 وغيرهما.
3- اسد الغابة : ج 2 ص 59 و 60 ، بحار الأنوار : ج 20 ص 57 وغيرهما.

إنه حقا عجيب أمر هذين العروسين ( الزوجين ) فبينما كانا هما في أعلى درجات التفاني في سبيل الحق كان والداهما ، من اعداء رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وخصومه الالداء.

فعبد اللّه بن أبيّ بن سلول ( والد العروس ) كان رأس المنافقين في المدينة ، وكان أبو عامر الفاسق والد العرّيس الذي كان يسمى في الجاهلية بالراهب معاديا أشد العداء لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقد التحق بالمشركين في مكة ، كما حرّض « هرقل » لضرب الحكومة الاسلامية الفتية في المدينة ، ثم اشترك في معركة احد ضدّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقاتل المسلمين قتالا شديدا (1).

العسكران يصطفّان :

في صبيحة اليوم السابع من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة اصطفّت قوى الاسلام أمام قوى الشرك المعتدية ، وكان جيش التوحيد قد جعل ظهره الى احد كمانع طبيعيّ يحفظ الجيش من الخلف. وقد كان في جبل احد ثغرة كان من الممكن أن يتسلل منها العدوّ ويباغت المسلمين من الخلف ، ويوجّه إليهم ضربة قاضية.

ولهذا عمل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى وضع جماعة من الرماة عند تلك الثغرة ، وأمّر عليهم « عبد اللّه بن جبير » وقال :

انضح الخيل عنّا بالنبل ، واحموا لنا ظهورنا ، لا يأتونا من خلفنا ، والزموا مكانكم لا تبرحوا منه ، إن كانت لنا أو علينا ، فلا تفارقوا مكانكم ».

ولقد أثبتت حوادث « احد » التي وقعت في ما بعد أهمية هذه الثغرة عسكريا ، فقد كانت هزيمة المسلمين بعد انتصارهم في بداية المعركة نتيجة تجاهل الرماة لأمر النبيّ واخلاء ذلك الموقع الإستراتيجي ، الأمر الذي سمح للعدوّ بأن يباغت المسلمين في حركة التفافية سريعة ، ويحمل عليهم ، ويوجه عليهم ضربة قوية!!

ص: 150


1- أسد الغابة : ج 2 ص 59 و 60 ، بحار الأنوار : ج 20 ص 57 وغيرهما.

إنّ أمر النبيّ المؤكد والمشدّد للرماة بأن لا يخلوا أماكنهم في الجبل حيث الثغرة المذكورة يكشف عن معرفته الكاملة بقواعد القتال وقوانين الحرب ، وبما يصطلح عليه اليوم بالتكتيك العسكري.

بيد أن نبوغ القائد العسكري لا يكفي وحده لإحراز الانتصار إذا كان الجنود يعانون من عدم الانضباطية ، وعدم التقيد بأوامر القائد.

ولقد أشار القرآن الكريم إلى الترتيبات الميدانية التي قام بها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عند استقرار جنود الإسلام في أرض المعركة بأحد ، وتعيينه لمكان كل قطعة من قطعات الجيش الإسلامي إذ قال : « وإذ غدوت من أهلك تبوّئ المؤمنين مقاعد للقتال واللّه سميع عليم » (1).

رفع معنويات الجنود وتقوية عزائمهم :

لم يكن النبيّ صلی اللّه علیه و آله ليغفل في المعارك والحروب عن تقوية العنصر الروحي لدى الجنود ، وما يصطلح عليه الآن بالروح المعنوية ، أو المعنويات العسكرية.

ففي هذه المرة أيضا لما اصطفّ سبعمائة مقاتل مسلم أمام ثلاثة آلاف من المقاتلين المشركين المدججين بالسلاح ، خطب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في المسلمين خطبة رفع بها من معنويات المسلمين ، وذلك بعد ان نظم صفوفهم وسوّاها.

فلقد كتب « الواقدي » المؤرخ الاسلامي الكبير في هذا الصدد ما يلي :

جعل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الرماة خمسين رجلا على « عينين » عليهم « عبد اللّه بن جبير » ، وجعل « احدا » خلف ظهره ، واستقبل المدينة ، ثم جعل صلی اللّه علیه و آله يمشى على رجليه يسوّي تلك الصفوف ، ويبوّئ أصحابه

ص: 151


1- مجمع البيان : ج 4 ص 495 ، الكشاف : ج 1 ، ص 346 - 347.

للقتال يقول تقدّم يا فلان ، وتأخر يا فلان ، حتى أنه ليرى منكب الرجل خارجا فيؤخره ، فهو يقوّمهم كأنما يقوم بهم القداح.

ثم قام صلی اللّه علیه و آله فخطب الناس فقال :

« يا أيّها الناس ، أوصيكم بما أوصاني اللّه في كتابه من العمل بطاعته ، والتناهي عن محارمه ، ثم إنكم اليوم بمنزل أجر وذخر. لمن ذكر الذي عليه ، ثم وطّن نفسه له على الصبر واليقين والجدّ والنشاط فانّ جهاد العدوّ شديد ، شديد كريه ، قليل من يصبر عليه ، إلاّ من عزم اللّه رشده ، فان اللّه مع من أطاعه ، وإنّ الشيطان مع من عصاه ، فافتحوا أعمالكم بالصبر على الجهاد ، والتمسوا بذلك ما وعدكم اللّه ، وعليكم بالذي أمركم به ، فانّي حريص على رشدكم فإن الاختلاف والتنازع والتثبيط من أمر العجز والضعف ممّا لا يحبّ اللّه ، ولا يعطي عليه النصر ولا الظفر.

وإنّه قد نفث في روعي الروح الأمين إنّه لن تموت نفس حتّى تستوفي أقصى رزقها ، ولا ينقص منه شيء وأن ابطأ عنها ... المؤمن من المؤمنين كالرأس من الجسد اذا اشتكى تداعى عليه سائر الجسد والسلام عليكم » (1).

العدوّ ينظّم صفوفه :

نظم أبو سفيان قائد المشركين صفوف جنوده وقسّمهم إلى ثلاثة أقسام : الرماة ، وجعلهم في الوسط ، والميمنة واستعمل عليهم خالد بن الوليد ، والميسرة ، واستعمل عليهم عكرمة بن أبي جهل. وقدّم جماعة فيهم حملة الألوية والرايات.

ثم قال لأصحاب الرايات وكانوا جميعا من بني عبد الدار : إنا إنما اتينا يوم بدر من اللواء ، وإنّما يؤتى القوم من قبل لوائهم ، فالزموا لواءكم وحافظوا عليه ، أو خلوا بيننا وبينه فانا قوم مستميتون موتورون ، نطلب ثارا حديث العهد.

ص: 152


1- المغازي : ج 1 ص 221 - 223.

فشقّ هذا الكلام على « طلحة بن أبي طلحة » وكان شجاعا ، وهو أوّل من حمل راية لقريش ، فاندفع من فوره الى ساحة القتال ، وطلب المبارزة ، متحديا بذلك أبا سفيان.

الإثارة النفسيّة وإلهاب الحماس :

قبل أن يبدأ القتال أخذ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله سيفا بيده وقال : - وهو يثير بذلك همم جنوده -.

« من يأخذ هذا السيف بحقّه »؟ فقام إليه رجال ، فأمسكه عنهم حتى قام إليه أبو دجانة الأنصاري ، فقال : وما حقّه يا رسول اللّه؟

قال : « أن تشرب به العدوّ حتى ينحني ».

قال : أنا آخذه يا رسول اللّه بحقّه.

فأعطاه إياه ، وكان أبو دجانة رجلا شجاعا ، يختال عند الحرب اذا كانت ، وكان اذا أعلم ، أعلم بعصابة له حمراء ، فاعتصب بها علم أنه سيقاتل ، فلما أخذ السيف من يد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أخرج عصابته تلك فعصّب بها رأسه ، وجعل يتبختر بين الصفّين. فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « انها لمشية يبغضها اللّه إلاّ في هذا الموطن » (1).

حقا إن مثل هذه الاثارة النفسية ، وهذا التحريك القويّ للهمم أمر ضروري لجيش يقاتل دفاعا عن الحق والقيم ، ولا يدفعه إلى ذلك سوى العقيدة ، وحب الكمال.

إنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله لم يهدف بعمله إثارة أبي دجانة وحده ، بل كان صلی اللّه علیه و آله يهدف بذلك إثارة الآخرين ، وإفهامهم بأن عليهم أن يبلغوا في الشجاعة والبطولة ، والجرأة والإقدام هذا المبلغ.

يقول « الزبير بن العوّام » وهو كذلك رجل شجاع : وجدت في نفسي حين

ص: 153


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 66 و 67.

سألت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله السيف فمنعنيه ، وأعطاه أبا دجانة وقلت : أنا ابن صفيّة عمته ، ومن قريش وقد قمت إليه فسألته إياه ، فاعطاه إياه وتركني! واللّه لانظرنّ ما يصنع. فأتبعته فأخرج عصابة له حمراء ، فعصّب بها رأسه ، فقالت الانصار : أخرج أبو دجانة عصابة الموت ، وهكذا كانت تقول له اذا تعصّب بها.

فخرج وهو يقول :

أنا الّذي عاهدني خليلي *** ونحن بالسفح لدى النخيل

ألاّ أقوم الدهر في الكيّول (1) *** أضرب بسيف اللّه والرّسول

فجعل لا يلقى أحدا إلاّ قتله ، وكان من المشركين رجل لا يدع لنا جريحا إلاّ ذفّف عليه ، فجعل كلّ واحد منهما يدنو من صاحبه ، فدعوت اللّه أن يجمع بينهما ، فالتقيا ، فاختلفا ضربتين ، فضرب المشرك أبا دجانة ، فاتقاه بدرقته ، فعضت بسيفه ، وضربه أبو دجانة ، فقتله ، ثم رأيته قد حمل السيف على مفرق « هند بنت عتبه » ثم عدل السيف عنها ، فقلت : اللّه ورسوله أعلم.

ثم إن أبا دجانة أوضح عمله هذا فقال : رأيت انسانا يخمش الناس خمشا شديدا فصمدت له ، فلما حملت عليه السيف ولول فاذا امرأة ، فأكرمت سيف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن أضرب به امرأة (2).

القتال يبدأ :

بدأ القتال بما فعله أبو عامر الفاسق الذي كان قد هرب من المدينة مباعدا لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كما أسلفنا ، وكان من الأوس ، وقد فرّ معه خمسة عشر رجلا من الأوس بسبب معارضته للاسلام.

وقد تصوّر أبو عامر هذا أن الأوس إذا رأوا يوم احد تركوا نصرة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فلما التقى العسكران يومئذ نادى أبو عامر : يا معشر الأوس ، أنا أبو عامر.

ص: 154


1- الكيّول : آخر الصفوف في الحرب.
2- السيرة النبوية : ج 2 ص 68 و 69.

قالوا : فلا أنعم اللّه بك عينا يا فاسق. فلما سمع ردّ الأوس تركهم ، واعتزل الحرب بعد قليل (1).

ثم إن هناك مواقف وتضحيات عظيمة قام بها رجال معدودون في معركة احد معروفة بين المؤرخين ، أبرزها ، وأجدرها بالاجلال تضحيات علي علیه السلام ومواقفه الكبرى في ذلك اليوم.

فهو صاحب اللواء والراية في هذه الموقعة الكبرى.

قال الشيخ المفيد في الارشاد : تلت بدرا غزاة احد وكانت راية رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بيد أمير المؤمنين علیه السلام فيها ومما يدل على ذلك ما رواه يحيى بن عمارة قال : حدثني الحسن بن موسى بن رباح مولى الانصار قال حدثني أبو البختري القرشي ، قال : كانت راية قريش ولواؤها جميعا بيد قصى ثم لم تزل الراية في يد ولد عبد المطلب يحملها منهم من حضر الحرب حتى بعث اللّه رسوله صلی اللّه علیه و آله فصارت راية قريش وغيرها الى النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، فأقرها في بني هاشم فأعطاها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى علي بن أبي طالب علیه السلام في غزاة ودان وهي أول غزاة حمل فيها راية في الاسلام مع النبيّ ثم لم تزل معه في المشاهد ببدر وهي البطشة الكبرى في يوم احد وكان اللواء يومئذ في بني عبد الدار فاعطاه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مصعب بن عمير فاستشهد ووقع اللواء من يده فتشوفته القبائل فأخذه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فدفعه إلى علي بن أبي طالب علیه السلام فجمع له يومئذ الراية واللواء (2).

وقد ورد عن ابن عباس ما يؤيد ذلك فقد روى أنه قال : لعلي أربع خصال ليس لأحد من العرب غيره ( هو ) أول عربي وعجمي صلّى مع النبيّ صلی اللّه علیه و آله وهو الذي كان لواؤه معه في كل زخف ... (3).

ص: 155


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 67.
2- الارشاد : ص 43 ، بحار الأنوار : ج 20 ص 80.
3- ترجمة الامام علي بن أبي طالب من تاريخ مدينة دمشق المعروف بتاريخ ابن عساكر : ج 1 ص 142.

كما عن قتادة : ان علي بن ابي طالب كان صاحب لواء رسول اللّه يوم بدر وفي كل مشهد (1).

ثم إنه كانت راية قريش مع طلحة بن أبي طلحة العبدري ( وكان يدعى كبش الكتيبة ) فبرز ونادى : يا محمّد تزعمون أنكم تجهزونا بأسيافكم الى النار ، ونجهزكم بأسيافنا الى الجنّة ، فمن شاء أن يلحق بجنته فليبرز إليّ فبرز إليه علي علیه السلام وهو يقول :

يا طلح إن كنتم كما تقول *** لكم خيول ولنا نصول

فاثبت لننظر ايّنا المقتول *** وأيّنا أولى بما تقول

فقد أتاك الأسد المسئول

بصارم ليس به الفلول *** ينصره القاهر والرسول

ثم تصاولا بعض الوقت قتل بعده طلحة بضربة علي علیه السلام القاضية.

فأخذ الراية اخوان آخران لطلحة فخرجا لقتال علي علیه السلام على التناوب فقتلا جميعا على يديه علیه السلام .

هذا ويستفاد من كلام لعلي علیه السلام قاله في أيام الشورى التي انعقدت بعد موت الخليفة الثاني.

فقد قال الامام علیه السلام في مجلس ضم كبار الصحابة في تلك المناسبة :

« نشدتكم باللّه هل فيكم أحد قتل من بني عبد الدار تسعة مبارزة كلّهم يأخذ اللواء ، ثم جاء صوأب الحبشي مولاهم وهو يقول لا أقتل بسادتي إلاّ محمدا ، قد ازبد شدقاه ، واحمرّت عيناه ، فاتّقيتموه ، وحدتم عنه ، وخرجت إليه ، فلما أقبل كأنه قبة مبنيّة فاختلفت أنا وهو ضربتين ، فقطعته بنصفين وبقيت عجزه وفخذاه قائمة على الأرض ينظر إليه المسلمون ويضحكون منه ».

قالوا : اللّهم لا (2).

ص: 156


1- ترجمة الامام علي بن أبي طالب من تاريخ مدينة دمشق المعروف بتاريخ ابن عساكر : ج 9 ص 142.
2- الخصال : ص 560.

أجل ان قريشا كانت قد ادخرت لحمل الراية تسعة رجال من شجعان بني الدار وقد قتلوا جميعا على يد الامام علي علیه السلام على التوالي فبرز غلامهم وقتل هو أيضا (1).

المقاتلون بدافع الشهوة!!

من الأبيات التي كانت تتغنّى بها « هند بنت عتبة » زوجة أبي سفيان ومن كان معها من النساء في تحريض رجال قريش وحثهم على القتال واراقة الدماء والمقاومة ، ويضربن معها الدفوف والطبول يتبين ان تلك الفئة لم تكن تقاتل من أجل القيم الرفيعة كالطهر والحرية ، والخلق الانساني بل كانت تقاتل بدافع الشهوة الجنسية ومن أجل الوصول إلى المآرب الرخيصة.

فقد كانت الأغاني والأبيات التي ترددها تلك النساء اللائي كنّ يضربن بالدفوف خلف الرجال على نحو خاص هي :

نحن بنات طارق *** نمشي على النمارق

إن تقبلوا نعانق *** أو تدبروا نفارق

ولا شك أن الفئة التي تقاتل من أجل الشهوات ، ويكون دافعها الى الحرب والقتال هو الجنس واللذة ، وبالتالي لا تهدف سوى الوصول إلى المآرب الرخيصة فان حالها تختلف اختلافا بيّنا وكبيرا عن حال الفئة التي تقاتل من أجل هدف مقدس كاقرار الحرية ، ورفع مستوى الفكر ، وتحرير البشرية من براثن الجهل وأسر الخضوع للاوثان.

ولا شك أن لكل واحدة من تلك الدوافع آثارها المناسبة في روح المقاتل وسلوكه.

ولهذا لم يمض زمان طويل إلاّ ووضعت قريش أسلحتها على الارض وولّت هاربة من أرض المعركة بعد أن اصيبت باصابات قوية بفضل صمود وتضحيات رجال مؤمنين شجعان كعليّ وحمزة وأبي دجانة والزبير و ... مخلّفة وراءها غنائم

ص: 157


1- وقد ذكر المجلسي قصة مصرع هؤلاء في البحار : ج 20 ص 81 - 82.

وأموالا كثيرة ، وأحرز المسلمون بذلك انتصارا عظيما على عدوهم القوي في تجهيزاته ، الكثير في افراده (1).

الهزيمة بعد الانتصار :

قد يتساءل سائل : لما ذا انتصر المسلمون اولا؟

لقد انتصروا لأنهم كانوا يقاتلون ، ولا يحدوهم في ذلك شيء حتى لحظة الانتصار إلاّ الرغبة في مرضاة اللّه ، ونشر عقيدة التوحيد ، وإزالة الموانع عن طريقها ، فلم يكن لهم أي دافع ماديّ يشدّهم إلى نفسه.

وقد يتساءل : ولما ذا انهزموا أخيرا؟

لقد انهزموا لأنّ أهداف أكثر المسلمين ونواياهم قد تغيّرت بعد تحقيق الانتصار ، فقد توجهت أنظارهم الى الغنائم التي تركها قريش في أرض المعركة ، وفروا منهزمين. لقد خولط اخلاص عدد كبير من المسلمين ، ونسوا على أثره أوامر النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، وتعاليمه ، فغفلوا عن ظروف الحرب.

وإليك فيما يأتي تفصيل الحادث :

لقد ذكرنا عند بيان الأوضاع الجغرافية لمنطقة احد أنه كان في « جبل احد » شعب ( ثغرة ) وقد كلّف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله خمسين رجلا من الرماة بمراقبة ذلك الشعب ، وحماية ظهر الجيش الاسلامي ، وأمّر عليهم « عبد اللّه بن جبير » ، وكان قد أمر قائدهم بأن ينضحوا الخيل ويدفعوها عن المسلمين بالنبل ويمنعوا عناصر العدوّ من التسلّل من خلالها ولا يغادروا ذلك المكان انتصر المسلمون او انهزموا ، غلبوا أو غلبوا.

وفعل الرماة ذلك فقد كانوا في أثناء المعركة يحمون ظهور المسلمين ، ويرشقون خيل المشركين بالنبل فتولّى هاربة ، حتى إذا ظفر النبيّ وأصحابه ، وانكشف المشركون منهزمين ، لا يلوون على شيء ، وقد تركوا على أرض المعركة

ص: 158


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 68 ، تاريخ الطبري : ج 2 ص 194.

غنائم وأموالا كثيرة ، وقد تبعهم بعض رجال المسلمين ممن بايع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على بذل النفس في سبيل اللّه ومضوا يضعون السلاح فيهم حتى أجهضوهم عن العسكر أما أكثر المسلمين فقد وقعوا ينتهبون العسكر ويجمعون الغنائم تاركين ملاحقة العدوّ وقد اغمدوا السيوف ، ونزلوا عن الخيول ظنا بأن الأمر قد انتهى.

فلما رأى الرماة المسئولون عن مراقبة الشعب ذلك قالوا لأنفسهم : ولم نقيم هنا من غير شيء وقد هزم اللّه العدوّ فلنذهب ونغنم مع إخواننا.

فقال لهم أميرهم ( عبد اللّه بن جبير ) : ألم تعلموا أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال لكم : احموا ظهورنا فلا تبرحوا مكانكم ، وإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا ، وإن رأيتمونا غنمنا فلا تشركونا احموا ظهورنا؟

ولكن أكثر الرماة خالفوا أمر قائدهم هذا وقالوا : لم يرد رسول اللّه هذا ، وقد أذلّ اللّه المشركين وهزمهم.

ولهذا نزل أربعون رجلا من الرماة من الجبل ودخلوا في عسكر المشركين ينتهبون مع غيرهم من المسلمين الاموال وقد تركوا موضعهم الإستراتيجي في الجبل ، ولم يبق مع عبد اللّه بن جبير إلاّ عشرة رجال!!

وهنا استغل « خالد بن الوليد » الذي كان مقاتلا شجاعا ، قلّة الرماة في ثغرة الجبل ، وكان قد حاول مرارا أن يتسلل منها ولكنه كان يقابل في كل مرة نبال الرماة ، فحمل بمن معه من الرجال على الرماة في حملة التفافيّة وبعد أن قاتل من بقي عند الثغرة وقتلهم بأجمعهم انحدر من الجبل وهاجم المسلمين الذين كانوا منشغلين بجمع الغنائم ، وغافلين عما جرى فوق الجبل ، ووقعوا في المسلمين ضربا بالسيوف وطعنا بالرماح ، ورميا بالنبال ، ورضخا بالحجارة ، وهم يصيحون تقوية لجنود المشركين.

فتفرقت جموع المسلمين ، وعادت فلول قريش تساعد خالدا وجماعته ، وأحاطوا جميعا بالمسلمين من الأمام والخلف ، وجعل المسلمون يقاتلون حتى قتل منهم سبعون رجلا.

إن هذه النكسة تعود إلى مخالفة الرماة لأوامر النبيّ صلی اللّه علیه و آله تحت تأثير المطامع المادية وتركهم ذلك المكان الإستراتيجي عسكريا والذي اهتم به القائد الاعلى صلی اللّه علیه و آله ، وأكد بشدة على المحافظة عليه ، ودفع أيّ

ص: 159

هجوم من قبل العدوّ عليه. وبذلك فتحوا الطريق - من حيث لا يشعرون - للعدوّ بحيث هاجمتهم الخيل بقيادة خالد بن الوليد ، فدخل إلى أرض المعركة من ظهر الجيش الاسلامي ، ووجه الى المسلمين تلك الضربة النكراء!!

ولقد ساعد خالدا في هذا « عكرمة بن أبي جهل » الذي حمل هو الآخر بمن كان معه من الرجال على المسلمين ، وساد على صفوف المسلمين في هذه الحال الهرج والمرج ، وعمت فوضى لا نظير لها ساحة المعركة ، ولم ير المسلمون مناصا من أن يدافعوا عن أنفسهم متفرّقين ، ولكن عقد القيادة لما قد انفرط بسبب هذه المباغتة العسكرية لم يستطع المسلمون إحراز أي نجاح في الدفاع ، بل تحمّلوا - كما أسلفنا - خسائر كبرى في الأرواح ، وقتل عدد من المسلمين على أيدي اخوانهم من المسلمين خطأ ومن دون قصد.

ولقد صعّدت حملات خالد وعكرمة من معنويات المشركين ، ونفخت فيهم روحا جديدة فعادت قواتهم الهاربة المنهزمة قبل قليل ، ودخلت ساحة المعركة ثانية ، وساعدت جماعة منهم خالدا وعكرمة وحاصروا المسلمين من كل ناحية وقتل جمع كبير من المسلمين بسبب ذلك!!

شائعة مقتل النبيّ :

وفي هذا الأثناء حمل « الليثي » (1) وكان من صناديد قريش وأبطالها على مصعب بن عمير حامل لواء الاسلام في تلك المعركة وهو يظن أنه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وتبودلت بينهما طعنات وضربات حتى قتل « مصعب » بضربه قاضية من الليثي ، وكان المسلمون يومئذ ملثّمون ، ثم صاح : قتلت محمّدا ، أو قال ألا قد قتل محمد ، ألا قد قتل محمد.

فانتشر هذا الخبر في جموع المسلمين كالنار في الهشيم وعلمت قريش بذلك فسروا بذلك سرورا عظيما ، وارتفعت الاصوات في ساحة القتال تنادي : ألا قد

ص: 160


1- هو عبد اللّه بن قمئة الليثي.

قتل محمّد ، ألا قد قتل محمّد.

ولقد زاد هذا الخبر الكاذب من جرأة العدوّ فتحركت جحافله وأفراده نحو المسلمين يسعى كل واحد منهم أن يقتطع من جسم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عضوا ، وبذلك ينال فخرا في أوساط المشركين!!

وبقدر ما ترك هذا الخبر الكاذب من أثر ايجابي في نفوس المشركين ، ترك أثرا سيئا جدا في نفوس المسلمين ، وأضعف معنوياتهم بشدة بحيث تخلّى عدد كبير من المسلمين عن القتال ، ولجئوا إلى الجبل فرارا بأنفسهم ، ولم يثبت الاّ عدد قليل لا يتجاوز أصابع اليد من الرجال.

هل يمكن أن ينكر أحد فرار البعض؟

لا يمكن أبدا أن ينكر أحد فرار أصحاب النبيّ صلی اللّه علیه و آله إلاّ من يعدّون بالاصابع في تلك المعركة ، ولا يمنع كونهم صحابة ، أو كونهم أصبحوا في ما بعد ذوي مكانة أو مناصب في المجتمع الإسلامي في ما بعد ، من القبول بهذه الحقيقة التاريخية المرّة.

فهذا هو ابن هشام المؤرخ الاسلامي الكبير يكتب في هذا الصدد قائلا : انتهى أنس بن النضر عمّ أنس بن مالك إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد اللّه في رجال من المهاجرين والأنصار ، وقد ألقوا بايديهم (1) فقال : ما يجلسكم؟ ( اي ما يقعدكم عن القتال والمقاومة ).

قالوا : قتل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

قال : فما ذا تصنعون بالحياة بعده؟ فموتوا على ما مات عليه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

ثم عاد الى المشركين فقاتلهم حتى قتل.

أو قال : حسب رواية كثير من المؤرخين : - ان كان محمد قد قتل فان ربّ محمّد لم يقتل ، وما تصنعون بالحياة بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقاتلوا على

ص: 161


1- اي استسلموا.

ما قاتل عليه رسول اللّه ، وموتوا على ما مات عليه ثم قال : اللّهم إنّي اعتذر إليك مما يقوله هؤلاء ، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء ثم شد بسيفه على الكفار فقاتل حتى قتل.

ويروي ابن هشام عن أنس بن مالك ( ابن أخ انس بن النضر ) لقد وجدنا بأنس بن النضر يومئذ سبعين جراحة فما عرفه إلاّ اخته عرفته ببنانه (1).

وكتب الواقدي في مغازيه يقول :

حدثني ابن أبي سبرة عن أبي بكر بن عبد اللّه بن أبي جهم واسم أبي جهم عبيد قال : كان خالد بن الوليد يحدث وهو بالشام يقول : الحمد لله الذي هداني للاسلام ، لقد رأيتني ورأيت عمر بن الخطاب حين جالوا وانهزموا يوم احد وما معه أحد وأنّي لفي كتيبة خشناء فما عرفه منهم أحد غيري فنكبت عنه وخشيت إن أغريت به من معي أن يصمدوا له فنظرت إليه موجّها إلى الشعب (2).

وقد بلغ الانهزام والضعف النفسي ببعض الصحابة في هذه المعركة بحيث أخذ يفكر في التبري من الاسلام لينجو بنفسه فقال : ليت لنا رسولا إلى عبد اللّه بن أبي فيأخذ لنا أمانا من أبي سفيان!! (3).

القرآن يكشف عن بعض الحقائق :

إن الآيات القرآنية تمزق كل حجب الجهل والتعصب التي اسدلت على هذه المسألة ، وتفيد بوضوح أن طائفة من أصحاب النبيّ صلی اللّه علیه و آله اعتقدوا بأن ما أخبر به رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من الظفر ، والنصر لا أساس له من الصحة ، فان اللّه تعالى يقول في هذا الصدد :

« وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ » (4).

وفي امكانك أيها القارئ الكريم أن تحصل على الحقائق المكتومة في هذا

ص: 162


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 83 راجع تفسير المنار : ج 4 ص 102.
2- المغازي : ج 1 ص 237.
3- بحار الأنوار : ج 20 ص 27
4- آل عمران : 154.

المجال بالتمعن في آيات من سورة آل عمران (1).

فهذه الآيات تكشف بصورة كاملة عن عقيدة الشيعة حول أصحاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

فان الشيعة تعتقد بأنه لم يكن جميع صحابة النبيّ صلی اللّه علیه و آله أوفياء لعقيدة التوحيد ، متفانين في سبيله ، بل كان منهم الضعيف في ايمانه والمنافق ، والمتردد ، ومع ذلك لم يكن المؤمنون الأتقياء والصالحون الأبرار قلة أيضا.

ومن العجيب والمؤسف أن يسعى بعض الكتاب من أهل السنة اليوم إلى التغطية على كثير من المواقف والاعمال المشينة التي بدرت من بعض الصحابة كالذي مرّ عليك في معركة احد ، ويحاول تجاوزها بنوع من التبرير البعيد عن روح الحقيقة كمحاولة للمحافظة على شأن جميع الصحابة ، ومكانتهم على حين أن هذه التبريرات الفجة ، وهذا التعصب اللامنطقي لا يمكنها أن تمنع من رؤية الحقيقة كما هي.

فأي كاتب يستطيع إنكار مفاد هذه الآية التي تصرح قائلة :

« إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ » (2).

إن هذه الآية تقصد اولئك الّذين رآهم أنس بن النضر ، ومن شابههم من الذين تركوا ساحة المعركة ، ولجئوا إلى الجبل ، وجلسوا يفكّرون في نجاة أنفسهم!!

والأوضح من الآية السابقة قول اللّه تعالى :

« إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ » (3).

إن اللّه تعالى يعاتب ويوبّخ الّذين تذرّعوا - لفرارهم من المعركة - بنبإ مقتل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على يد العدوّ ، وراحوا يفكرون في الحصول على أمان من أبي سفيان بواسطة عبد اللّه بن أبي اذ يقول :

« وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ » (4).

ص: 163


1- الآيات : 121 - 180.
2- آل عمران : 153.
3- آل عمران : 155 و 144.
4- آل عمران : 155 و 144.
التجارب المرة :

إن في أحداث معركة « احد » ووقائعها تجارب مرة واخرى حلوة فهذه الحوادث والوقائع تثبت بجلاء صمود واستقامة جماعة ، وضعف وهزيمة آخرين.

كما أنه يستفاد من ملاحظة الحوادث التاريخية أنه لا يمكن اعتبار جميع المسلمين الذين عاصروا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أتقياء عدولا بحجّة أنهم صحبوا النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، لأن الذين أخلّوا مراكزهم على الجبل ، يوم احد وعصوا أمر النبيّ صلی اللّه علیه و آله في تلك اللحظات الخطيرة ، وجرّوا بفعلهم على المسلمين تلك المحنة الكبرى ، كانوا أيضا ممّن صحبوا النبيّ صلی اللّه علیه و آله .

يقول المؤرخ الاسلاميّ الكبير الواقدي في هذا الصدد : « بايع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يوم احد ثمانية على الموت : ثلاثة من المهاجرين علي وطلحة والزبير ، وخمسة من الأنصار » فثبتوا وهرب الآخرون (1).

وكتب العلامة أبن أبي الحديد المعتزلي أيضا : حضرت عند محمد بن معد العلوي الموسوي الفقيه على رأي الشيعة الإمامية رحمه اللّه في داره بدرب الدواب ببغداد في سنة 608 هجرية ، وقارئ يقرأ عنده مغازي الواقدي ، فقرأ : حدثنا الواقدي عن ابن أبي سبرة عن خالد بن رياح عن أبي سفيان مولى ابن أبي أحمد عن محمد بن مسلمة قال : سمعت اذناي ، وأبصرت عيناي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول يوم احد ، وقد انكشف الناس الى الجبل وهو يدعوهم وهم لا يلوون عليه ، سمعته يقول :

« إليّ يا فلان ، إليّ يا فلان أنا رسول اللّه ».

فما عرّج عليه واحد منهما ، ومضيا!! فأشار ابن معد إليّ أي اسمع.

فقلت : وما في هذا؟ قال : هذه كناية عنهما. ( أي اللذين تسنّما مسند الخلافة

ص: 164


1- المغازي : ج 2 ص 240.

بعد النبيّ صلی اللّه علیه و آله )

فقلت : ويجوز أن لا يكون عنهما لعله عن غيرهما.

قال : ليس في الصحابة من يحتشم من ذكره بالفرار ، وما شابهه من العيب ، فيضطرّ القائل إلى الكناية إلاّ هما.

قلت له : هذا ممنوع.

فقال : دعنا من جدلك ومنعك ، ثم حلف أنه ما عنى الواقدي غيرهما ، وأنه لو كان غيرهما لذكرهما صريحا (1).

كما أنّ العلاّمة ابن أبي الحديد ذكر في شرحه لنهج البلاغة أيضا اتفاق الرواة كافة على أن عثمان لم يثبت في تلك اللحظات الحساسة يوم احد (2).

وستقرأ في الصفحات القادمة ما قاله رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عن امرأة مجاهدة متفانية في سبيل الرسالة الاسلامية تدعى « نسيبة المازنية » دافعت عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يوم احد.

فقد لمّح رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في كلامه عنها وعن موقفها العظيم يومذاك ، إلى ما يقلّل من شأن الذين فرّوا من المعركة.

نحن لا نريد هنا الاساءة إلى أيّ واحد من صحابة النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، بل غاية ما نتوخّاه هو الكشف عن الحقيقة ، وإماطة اللثام عن الواقع ، فبقدر ما نستنكر ، ونقبّح فرار من فرّ ، نكبر صمود من صمد وثبات من ثبت ممن سنأتي على ذكرهم في الصفحات القادمة ، وهذا هو ما تمليه علينا روح التحليل الصادق أو تقتضيه أمانة النقل ، وما يسمى بالامانة التاريخية على الأقل.

خمسة يتحالفون على قتل النبيّ :

في تلك اللحظات التي تشتت فيها جيش المسلمين ، وانفرط عقده ، وفي الوقت الذي تركزت فيه أن حملات المشركين من كل ناحية على رسول اللّه صلّى

ص: 165


1- شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد ج 15 ص 23 و 24.
2- المغازي : ج 1 ص 278 و 279.

اللّه عليه وآله تعاهد خمسة أنفار من صناديد قريش المعروفين أن يضعوا نهاية لحياة النبيّ الاكرم صلی اللّه علیه و آله ويقضوا عليها مهما كلّفهم من الثمن (1).

وهؤلاء هم :

1 - عبد اللّه بن شهاب الذي جرح جبهة النبيّ صلی اللّه علیه و آله .

2 - عتبة بن أبي وقاص الذي رمى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بأربعة أحجار فكسر رباعيته صلی اللّه علیه و آله ، وجرح باطنها ، من الجهة اليمنى.

3 - ابن قميئة الليثي الذي رمى وجنتي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وجرحهما بحيث غاب حلق المغفر في وجنته صلی اللّه علیه و آله فأخرجها أبو عبيدة الجراح بأسنانه فكسرت ثنيتاه العليا والسفلى.

4 - عبد اللّه بن حميد الذي قتل على يد بطل الإسلام أبي دجانة وهو يحمل على النبيّ صلی اللّه علیه و آله .

5 - ابيّ بن خلف وكان من الذين قتلوا بيد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله نفسه.

فهو واجه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عند ما وصل صلی اللّه علیه و آله إلى الشعب ، وقد عرفه بعض أصحابه وأحاطوا به ، فجعل يصيح بأعلى صوته : يا محمّد لا نجوت ان نجوت ، وحمل على النبيّ صلی اللّه علیه و آله ولما دنا تناول رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الحربة من « الحارث بن الصمّة » ، ثم انتفض انتفاضة شديدة وطعن « ابيّا » بالحربة في عنقه ، وهو على فرسه ، فجعل ابيّ يخور كما يخور الثور!

ومع أن ما أصاب ابيّا من جراحة كان يبدو بسيطا ، إلاّ أنه تملّكه رعب وخوف شديدان إذ لم ينفعه معهما تطمينات رفاقه ، ولم يذهب عنه الروع بكلامهم ، وكان يقول : واللات والعزى لو كان الذي بي بأهل ذي المجاز (2) لماتوا أجمعون.

ص: 166


1- المغازي : ج 1 ص 243.
2- كان ذو المجاز سوقا من أسواق العرب وهو عن يمين الموقف بعرفة قريبا من كبكب ( معجم ما استعجم على ما في حواشي المغازي : ص 508 ).

أليس قال : ( أي النبيّ يوم كان بمكة ) أنا أقتلك إن شاء اللّه ، قتلني واللّه محمّد!!

وقد فعلت الطعنة ، وكذا خوفه فعلتهما فمات في منطقة تدعى سرف ( وهو موضع على ستة أميال من مكة ) فيما كانت قريش قافلة من احد الى مكة (1).

حقا إن هذا ينمّ عن منتهى الدناءة والخسة في خلق قريش وموقفها ، فمع أنها كانت تعرف صدق رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وتعترف به ، وتنكر أن يكون قد صدر منه كذب في قول ، أو خلف في وعد ، كانت تعاديه أشدّ العداء ، وتمدّ نحوه يد العدوان ، وتبغي مصرعه ، وتسعى إلى اراقة دمه!!

كما أنه من جهة اخرى يدل على شجاعة رسول الاسلام صلی اللّه علیه و آله وبطولته ومقدرته الروحية الكبرى ، من ناحية اخرى ، وثباته في عمله من ناحية ثالثة.

أجل لقد كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يدافع عن رسالته السماوية ، وعن حياض عقيدته التوحيدية العظمى ، ويصمد لاعداء صمود الجبال الرواسخ مع أنه ربما دنا من الموت وكان منه قاب قوسين أو أدنى.

ومع أنه كان صلی اللّه علیه و آله يرى أن كل همّ المشركين وكل حملاتهم موجهة نحوه بشخصه ، إلاّ أنه لم يشهد أحد منه أي قول أو فعل يشعر بتوجسه واضطرابه ، ولقد صرح المؤرخون بهذا الأمر فقد كتب المقريزي ونادى المشركون بشعارهم [ يا للعزى ، يا لهبل ] فارجعوا في المسلمين قتلا ذريعا ، ونالوا من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ما نالوا. ولم يزل صلی اللّه علیه و آله شبرا واحدا بل وقف في وجه العدوّ ، وأصحابه تثوب إليه مرة طائفة وتتفرق عنه مرة ، وهو يرمي عن قوسه أو بحجر حتى تحاجزوا (2).

نعم غاية ما سمع من صلی اللّه علیه و آله هو ما قاله عند ما كان يمسح الدم

ص: 167


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 84 ، المغازي : ج 1 ص 251.
2- امتاع الاسماع : ج 1 ص 131 ، المغازي : ج 2 ص 240.

عن وجهه المبارك اذ قال :

« كيف يفلح قوم خضّبوا وجه نبيّهم بالدّم وهو يدعوهم إلى اللّه؟! » (1).

إن هذه العبارة الخالدة تكشف عن عمق رحمة النبيّ صلی اللّه علیه و آله وعاطفته حتى بالنسبة إلى اعدائه الألدّاء.

بينما تكشف كلمة قالها علي علیه السلام عن شجاعته صلی اللّه علیه و آله الفائقة إذ قال :

« كنّا إذا احمر البأس اتقينا برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فلم يكن احد أقرب منّا إلى العدوّ منه » (2).

من هنا فان سلامة النبيّ الاكرم صلی اللّه علیه و آله في الحروب تعود في أكثر أسبابها إلى حسن دفاعه عن دينه ، وعن نفسه ، والى شجاعته في المعارك.

ولقد كانت ثمة علل وأسباب صانت هي الاخرى حياة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من أن يلحقها خطر أو ضرر ، الا وهو تضحية وتفاني تلك القلة القليلة من أصحابه الأوفياء الذين بذلوا غاية جهدهم للحفاظ على حياة رسول الاسلام العظيم صلی اللّه علیه و آله وبذلك أبقوا على هذا المشعل الوقاد ، وهذا السراج المنير.

لقد قاتل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يوم احد قتالا شديدا ، فرمى بالنبل حتى فني نبله وانكسرت سية قوسه ، وانقطع وتره (3).

على أن الّذين دافعوا عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لم يتجاوز عددهم عدد أصابع اليد (4) ، وحتى هذه القلة القليلة المدافعة ثباتهم معه جميعا غير مقطوع به من منظار علم التاريخ ، ومن زاوية التحقيق التاريخي.

نعم ما هو متفق عليه بين المؤرخين ، وأرباب السير هو ثبات أفراد قلائل نعمد هنا إلى ذكر أسمائهم ومواقفهم بشيء من التفصيل.

ص: 168


1- بحار الأنوار : ج 20 ص 102.
2- نهج البلاغة : فصل في غريب كلامه رقم 9.
3- الكامل في التاريخ : ج 2 ص 107.
4- شرح نهج البلاغة : ج 15 ص 20 و 21.
الدفاع الموفق أو النصر المجدّد :

لو أننا أسمينا هذه المرحلة من تاريخ الاسلام بمرحلة النصر المجدّد لما قلنا جزافا ، فان المقصود من هذا الانتصار هو أن المسلمين استطاعوا - وخلافا لتوقعات العدو الحاقد - أن يصونوا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من خطر الموت الذي كاد أن يكون محققا ، وهذا هو انتصار مجدّد أصابه جند الاسلام.

أما إذا عزونا هذا الانتصار إلى جيش الاسلام برمّته فان ذلك انما هو لأجل تعظيم مقام المجاهدين المسلمين ، وإلاّ فان ثقل هذا الانتصار العظيم وقع على عاتق عدد معدود جدا من رجال الاسلام الذين صانوا حياة الرسول الاكرم عن طريق المخاطرة بحياتهم ، وتعريضها للخطر الجدي.

وفي الحقيقة فإنّ بقاء الدولة الاسلامية ، وبقاء جذوة هذا الدين المبارك مشتعلة إنما هو نتيجة تضحيات تلكم القلة القليلة المتفانية في سبيل اللّه ورسوله.

وإليك فيما يلي استعراضا إجماليا لتضحيات اولئك الرجال المتفانين في سبيل العقيدة والدين :

1 - إن أول وأبرز الرجال الصامدين الثابتين على طريق الجهاد والتضحية في هذه الواقعة هو شاب بطل لم يتجاوز ربيعه السادس والعشرين من عمره ... ، هو الذي رافق رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من سني صغره وبدايات حياته وحتى لحظة وفاة الرسول الاكرم صلی اللّه علیه و آله .

إن بطل الاسلام الاكبر وان ذلك الفدائي الواقعي هو الامام « عليّ بن أبي طالب » علیه السلام الذي تحفظ ذاكرة التاريخ الاسلامي عنه الكثير الكثير من مواقف التضحية والفداء في سبيل نشر الاسلام والدفاع عن حوزة التوحيد ، وارساء دعائمه.

وفي الاساس ان هذا الانتصار المجدّد - على غرار الانتصار الأول - إنما جاء نتيجة لبسالة وبطولة هذا المجاهد المتفاني في سبيل الاسلام ذلك لأن السبب الجوهري في هزيمة قريش وفرارها في بداية المعركة كان هو سقوط لوائها بعد

ص: 169

مقتل كل حملة اللواء على يد الامام علي علیه السلام ، وبالتالي نتيجة للرعب الذي القي في قلوبهم لما رأوا من تساقط صناديدهم الواحد تلو الآخر ، الأمر الذي سلبهم القدرة على المقاومة.

إن الكتّاب المصريين المعاصرين الذين تناولوا حوادث التاريخ الاسلامي بالتحليل والدراسة ، لم يعطوا عليا علیه السلام - وللأسف - حقه في هذه الموقعة ، أو على الأقلّ لم يذكروا ما اتفق عليه المؤرخون ، وتطابقت في اثباته التواريخ ، بل جعلوا تضحيات الإمام عليّ علیه السلام ومواقفه الشجاعة والعملاقة في عداد مواقف الآخرين ، وفي مستواها.

من هنا ينبغي أن نسلّط بعض الضوء على تضحيات ذلك الفدائيّ الواقعيّ ، وذلك البطل الشجاع الذي شهدت له ساحات الوغى مواقف لا نظير لها في العظمة ، والسمو.

1 - يقول ابن الاثير في تاريخه (1) : كان الذي قتل أصحاب اللواء علي - قاله ابو رافع - ، ( قال ) فلما قتلهم أبصر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله جماعة من المشركين فقال لعليّ : احمل عليهم ، فحمل عليهم ففرّقهم ، وقتل منهم ، ثم أبصر جماعة اخرى فقال له : احمل عليهم ، فحمل عليهم وفرّقهم وقتل منهم ، فقال جبرئيل : يا رسول اللّه هذه المواساة ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إنه مني وأنا منه ، فقال جبرئيل : وأنا منكما قال : فسمعوا صوتا :

« لا سيف إلاّ ذو الفقار ولا فتى إلا علي » (2).

وقد شرح ابن أبي الحديد هذه القضية بتفصيل أكثر اذ كتب في شرحه لنهج البلاغة يقول : لما فرّ معظم أصحاب النبيّ صلی اللّه علیه و آله يوم احد كثرت عليه كتائب المشركين وقصدته كتيبة من بني كنانة ، ثم من بني عبد مناة بن

ص: 170


1- الكامل : ج 2 ص 107.
2- ومثله في تاريخ الطبري : ج 2 ص 197 ، ميزان الاعتدال : ج 3 ص 324 ، لسان الميزان : ج 4 ص 406.

كنانة فيها بنو سفيان بن عويف ، وهم خالد بن ثعلب وأبو الشعثاء بن سفيان وأبو الحمراء بن سفيان وغراب بن سفيان ، وانها لتقارب خمسين فارسا وهو ( أي علي علیه السلام ) راجل ، فما زال يضربها بالسيف تتفرق عنه ، ثم تجتمع عليه هكذا مرارا حتى قتل بني سفيان بن عويف الأربعة وتمام العشرة منها ممن لا يعرف اسماؤهم.

ثم نقل ما قاله جبرئيل ، ثم كتب يقول : قلت وقد روى هذا الخبر جماعة من المحدثين وهو من الاخبار المشهورة وقفت عليه في بعض نسخ مغازي محمد بن اسحاق ورايت بعضها خاليا عنها ، وسألت شيخي عبد الوهاب بن سكينة عن هذا الخبر ، فقال : خبر صحيح.

فقلت له : فما بال الصحاح ( أي مثل صحيح البخاري ومسلم وما شاكلهما ) لم تشتمل عليه؟

قال : أو كلّ ما كان صحيحا تشتمل عليه كتب الصحاح؟ كم قد أهمل جامعوا الصحاح من الأخبار الصحيحة؟! (1).

2 - ولقد اشار الامام علي علیه السلام نفسه في كلام مفصل له مع رأس اليهود إلى هذا الموقف اذ قال :

« ذهب النبيّ صلی اللّه علیه و آله وعسكر بأصحابه في سد احد واقبل المشركون إلينا فحملوا علينا حملة رجل واحد واستشهد من المسلمين من استشهد ، وكان ممّن بقي من الهزيمة ، وبقيت مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ومضى المهاجرون والانصار الى منازلهم من المدينة كلّ يقول قتل النبيّ صلی اللّه علیه و آله وقتل أصحابه ، ثم ضرب اللّه عزّ وجلّ وجوه المشركين ، وقد جرحت بين يدي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله نيفا وسبعين جراحة ، منها هذه ، وهذه ».

ثم انه علیه السلام ألقى رداءه ، وأمرّ يده على جراحاته ، وقال :

« وكان منّي في ذلك ما على اللّه عزّ وجلّ ثوابه إن شاء اللّه » (2).

ص: 171


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج 14 ص 250 و 251.
2- الخصال : ص 368.

وقد بلغ عليّ علیه السلام - حسب رواية علل الشرائع - من كثرة ضربه لطوائف المشركين الذين كانوا يحملون على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يوم احد ، ان انكسر سيفه ، فجاء الى النبيّ صلی اللّه علیه و آله وقال : يا رسول اللّه إنّ الرجل يقاتل بسلاحه وقد انكسر سيفي ، فأعطاه علیه السلام سيفه ذا الفقار فما زال يدفع به عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فقال جبرئيل في حقه وفي سيفه ما مرّ (1).

وقد اشار ابن هشام في سيرته إلى العبارة التي نادى بها جبرئيل إذ قال : وحدثني بعض أهل العلم ان ابن أبي نجيح قال : نادى مناد يوم احد : لا سيف إلاّ ذو الفقار ولا فتى إلاّ عليّ (2).

كما عد ابن هشام في سيرته (3) القتلى من المشركين في احد (22) رجلا ، وقد ذكر أسماءهم واحدا واحدا وذكر قبائلهم ، وغير ذلك من خصوصياتهم ، وقد قتل منهم (12) رجلا بيد علي علیه السلام ، وقتل البقية بايدي المسلمين ، ونحن نعرض هنا عن ذكر اسماء اولئك المقتولين رعاية للاختصار.

هذا ونحن نعترف بأننا لم نستطع بيان كل ما قام به علي علیه السلام من خدمات كبرى في هذه الصفحات القلائل على نحو ما جاء في كتب الفريقين السنة والشيعة وبخاصة في موسوعة بحار الأنوار.

إن ما نستفيده من مطالعة الروايات والأخبار الثابتة والمتعددة في هذا المجال هو انه لم يثبت أحد في معركة « احد » كما ثبت علي علیه السلام (4).

2 - أبو دجانة ، وهو البطل المسلم الثاني بعد الامام علي علیه السلام في الصمود ، والتضحية ، والبسالة والفداء دفاعا عن حياة النبيّ الأكرم صلی اللّه علیه و آله .

فقد بلغ من حرصه على حياة النبيّ صلی اللّه علیه و آله ودفاعه عنه أن

ص: 172


1- علل الشرائع : ص 7 ، بحار الانوار : ج 20 ص 71.
2- السيرة النبوية : ج 2 ص 100.
3- السيرة النبوية : ج 2 ص 127 و 128.
4- بحار الأنوار : ج 20 ص 84.

جعل من نفسه ترسا يقي النبيّ صلی اللّه علیه و آله من سيوف الكفار ورماحهم ، وسهامهم وأحجارهم ، وقد وقعت سهام كثيرة في ظهره ولكنه ظل مترسا بجسمه دون النبيّ ، وبذلك حافظ على حياته الشريفة (1).

وقد جاء أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال له يوم « احد » بعد ان فرّ وانهزم أصحاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وحاصره الكفار من كل جانب يا أبا دجانة أما ترى قومك ، قال : بلى ، قال : « الحق بقومك وأنت في حل من بيعتي ، أمّا عليّ فهو أنا وأنا هو ».

فبكى أبو دجانة بكاء مرا وقال :

لا واللّه ، لا جعلت نفسي في حل من بيعتي إني بايعتك ، فالى من أنصرف يا رسول اللّه الى زوجة تموت ، أو ولد يموت ، او دار تخرب ، او مال يفنى ، أو أجل قد اقترب؟

فرّق له النبيّ صلی اللّه علیه و آله فلم يزل يقاتل حتى اثخنته الجراحة وهو في وجه و « عليّ » في وجه ، فلما سقط احتمله علي علیه السلام فجاء به إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله فوضعه عنده فقال : يا رسول اللّه أوفيت ببيعتي؟ قال : نعم (2).

وقد ذكر في كتب التاريخ أشخاص آخرون كعاصم بن ثابت ، وسهل بن حنيف ، وطلحة بن عبيد اللّه ، وغيرهم ممن يبلغ - حسب بعض الكتب - 36 شخصا ادعي أنهم ثبتوا ولم يفروا ، إلاّ أنّ ما هو مسلم به تاريخيا هو ثبات علي علیه السلام وأبي دجانة ، وحمزة وامرأة تدعى أم عامر ، وأما ثبات غير هؤلاء الأربعة فامر مظنون بل ومشكوك في بعضهم.

3 - حمزة بن عبد المطلب ، عمّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وكان من شجعان العرب ومن المعروفين ببطولاته في الاسلام ، وهو الذي أصرّ على أن

ص: 173


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 82.
2- بحار الأنوار : ج 20 ص 107 و 108 عن روضة الكافي : ص 318 - 322.

يخرج المسلمون من المدينة ويقاتلوا قريشا خارجها.

ولقد دأب حمزة على حماية رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من أذى المشركين والوليين في اللحظات الخطيرة ، والظروف القاسية من بدء الدعوة المحمدية بمكة.

وقد ردّ على أبي جهل الذي كان قد أذى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بشدة ، وضربه ضربه شج بها رأسه في جمع من قادة قريش ولم يجرأ احد على مقابلته.

لقد كان حمزة مسلما مجاهدا وبطلا فدائيا متفانيا في سبيل الاسلام ، فهو الذي قتل « شيبة » وشيبة من كبار صناديد قريش وابطالها ، في بدر كما قتل آخرين ، ولم يهدف إلاّ نصرة الحق ، والفضيلة ، وإقرار الحرية في حياة الشعوب والامم.

ولقد كانت هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان تحقد عليه أشدّ الحقد ، وقد عزمت على أن تنتقم من المسلمين لأبيها مهما كلّف الثمن.

فأمرت « وحشيا » وهو غلام حبشي لجبير بن مطعم الذي قتل هو الآخر عمّه في بدر بأن يحقق غرضها ، وأملها كيفما استطاع ، وقالت له : لئن قتلت محمدا أو عليا أو حمزة لاعطينّك رضاك.

فقال وحشي لها : أمّا محمد فلا أقدر عليه ، وأما علي فوجدته رجلا حذرا كثير الالتفات فلا أطمع فيه ، وأما حمزة فاني أطمع فيه لأنه اذا غضب لم يبصر بين يديه.

يقول وحشي : ولما كان يوم احد كمنت لحمزة في أصل شجرة ليدنوا مني ، وكان حمزة يومئذ قد أعلم بريشة نعامة في صدره ، فو اللّه إني لأنظر إليه يهدّ الناس بسيفه هدا ما يقوم له شيء ، فهززت حربتي - وكان ماهرا في رمي الحراب - حتى إذا رضيت منها دفعتها عليه ، فوقعت في ثنته ( وهي أسفل البطن ) حتى خرجت من بين رجليه ، وذهب لينوء نحوي ، فغلب ، وتركته واياها حتى مات ، ثم أتيته فأخذت حربتي ثم رجعت الى العسكر فقعدت فيه ، ولم يكن لي بغيره حاجة ، وانما قتلته لأعتق.

ص: 174

فلما قدمت الى مكة اعتقت ثم اقمت حتى إذا افتتح رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مكة هربت الى الطائف فمكثت بها. فلما خرج وفد الطائف إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ليسلموا تعيّت عليّ المذاهب ، فقلت : ألحق بالشام أو اليمن ، أو ببعض البلاد ، فو اللّه إني لفي ذلك من همّي إذ قال لي رجل : ويحك إنه واللّه ما يقتل أحدا من الناس دخل في دينه ، وتشهّد شهادته.

فلما قال لي ذلك ، خرجت حتى قدمت على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله المدينة ، فلم يرعه إلاّ بي قائما على رأسه أتشهّد بشهادة الحق ، فلمّا رآني قال : أو حشي؟!

قلت : نعم يا رسول اللّه.

قال : اقعد فحدّثني كيف قتلت حمزة ، فحدثته بما جرى له معه ، فلما فرغت من حديثي قال : ويحك! غيّب عني وجهك فلا أرينّك.

أجل هذه هي الروح النبويّة الكبرى ، وتلك هي سعة الصدر التي وهبها اللّه تعالى لنبيه صلی اللّه علیه و آله قائد الاسلام الأعلى ، ومعلم البشرية الاكبر ، تراه عفى عن قاتل عمه ، مع أنّه كان في مقدوره أن يعدمه بمائة حجة وحجة!!

يقول وحشي : فكنت أتنكّب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حيث كان لئلاّ يراني ، حتى قبضه اللّه صلی اللّه علیه و آله .

فلما خرج المسلمون الى قتال مسيلمة الكذاب خرجت معهم ، وأخذت حربتي التي قتلت بها حمزة ، فلمّا التقى الناس رايت مسيلمة الكذاب قائما في يده السيف ، وما أعرفه ، فتهيأت له ، وتهيّأ له رجل من الأنصار من الناحية الاخرى ، كلانا يريده فهزرت حربتي حتى إذا رضيت منها دفعتها إليه ، فوقعت فيه ، وشد عليه الأنصاري فضربه بالسيف.

هذا هو ما ادّعاه وحشي ، بيد أنّ هشام قال في سيرته : بلغني أن وحشيا لم يزل يحدّ في الخمر حتى خلع من الديوان فكان عمر بن الخطاب يقول : قد علمت أنّ اللّه تعالى لم يكن ليدع قاتل حمزة (1).

ص: 175


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 72 و 73.
4 - أمّ عمارة :

لا ريب أن الجهاد الابتدائي مرفوع عن المرأة ساقط عنها في نظر الاسلام ، ولهذا عند ما أوفدت نساء المدينة امرأة الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لتتحدّث معه حول الحرمان من هذه العبادة الكبرى ، فجاءت إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقالت : يا رسول اللّه نحن نقوم بكل ما يحتاج إليه الرجال في حياتهم ، ليجاهدوا ببال فارغ ، فلم حرمنا نحن من هذه الفضيلة؟!

فأجابها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قائلا : « إنّ حسن التبعّل يعدل ذلك كله » ، وهو صلی اللّه علیه و آله يشير إلى أن لهذا المنع أسبابه الطبيعية والوظيفية في طبيعة المرأة وخلقتها ، وليس هو بالتالي يعني حرمانها من شيء فان قيامها على الوجه الصحيح بخدمة زوجها وتربية أولادها تعدل الجهاد في سبيل اللّه (1).

بيد أن بعض النسوة المجرّبات ربما كن يخرجن من المدينة لمساعدة جنود الاسلام كسقي العطاشى ، وغسل ثياب المقاتلين ، وتضميد الجرحى. وبذلك كنّ يقدّمن خدمة مؤثرة في نصرة المسلمين ودعمهم.

تقول أمّ عمارة ( نسيبة المازنية ) : خرجت أول النهار الى « احد » وأنا أنظر ما يصنع الناس ، ومعي سقاء فيه ماء ، فانتهيت الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وهو في الصحابة ، والدولة والريح للمسلمين.

فلما انهزم المسلمون انحزت الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فجعلت أباشر القتال وأذبّ عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بالسيف ، وأرمي بالقوس حتى خلصت إليّ الجراح.

( تقول راوية هذا الكلام ) فرأيت على عاتقها جرحا أجوف له غور ، فقلت : يا أمّ عمارة من أصابك بهذا؟.

قالت : أقبل ابن قميئة وقد ولّى الناس عن رسول اللّه ، يصيح : دلّوني على

ص: 176


1- اسد الغابة : ج 5 ص 398.

محمد ، لا نجوت إن نجا. فاعترض له مصعب بن عمير وناس معه ، فكنت فيهم فضربني هذه الضربة ، ولقد ضربته على ذاك ضربات ، ولكنّ عدوّ اللّه كان عليه درعان. هذا والنبيّ صلی اللّه علیه و آله ينظر إليّ ، فنظر الى جرح على عاتقي ، فصاح بأحد اولادي وقال : « امّك امّك اعصب جرحها ». فعاونني عليه.

ثم إنها رأت أن ابنها جرح فاقبلت إليه ومعها عصائب في حقويها قد أعدّتها للجراح فربطت جرحه والنبيّ صلی اللّه علیه و آله ينظر ، ثم قالت لولدها : انهض يا بني فضارب القوم.

فأعجب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله باستقامتها وثباتها وايمانها وقال :

« ومن يطيق ما تطيقين يا أمّ عمارة »؟!

وفي الأثناء اقبل الرجل الذي ضرب ولدها فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله هذا ضارب ابنك فاعترضت له ، وحملت عليه كالأسد المغضب وضربت ساقه فبرك.

فازداد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إعجابا بشجاعتها وتبسّم حتى بدت نواجذه وقال : « استقدت يا أمّ عمارة الحمد لله الذي ظفّرك وأقرّ عينك من عدوّك ».

وعند ما نادى منادي النبيّ صلی اللّه علیه و آله الى حمراء الأسد ، بعد معركة احد ، وطلب من الجرحى أن يخرجوا لملاحقه جيش المشركين ، شدّت عليها ثيابها وقد كان بها جراح عديدة أعظمها الجرح الذي على عاتقها فما استطاعت بسبب نزف الدم ، فأرادت أن تخرج مع العسكر منعتها جراحها الباهضة من ذلك ، فلما رجع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من غزوة حمراء الاسد ما وصل الى بيته حتى أرسل إليها عبد اللّه بن كعب المازني يسأل عنها فرجع إليه يخبره بسلامتها ، فسرّ النبيّ بذلك.

ولقد أثار موقف هذه المرأة البطلة الثابتة على درب الايمان سرور النبيّ واعجابه فقال في حقها مشيدا بموقفها البطل ومعرضا بفرار من فرّ وهروب من هرب في معركة احد :

ص: 177

« لمقام نسيبة بنت كعب اليوم خير من فلان وفلان ».

وكانت نسيبة قد طلبت من النبيّ صلی اللّه علیه و آله يوم احد بعد أن أشاد النبيّ صلی اللّه علیه و آله بصلابتها ومواقفها أن يدعو لها بمرافقته في الجنة فقال النبيّ صلی اللّه علیه و آله داعيا لها ولأهل بيتها :

« بارك اللّه عليكم من أهل بيت رحمكم اللّه. اللّهم اجعلهم رفقائي في الجنّة ».

وقال ابن أبي الحديد معلقا على عبارة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « لمقام نسبية اليوم خير من مقام فلان وفلان » قلت : ليت الراوي لم يكنّ هذا الكناية ، وكان يذكر من هما بأسمائهما حتى لا يترمى الظنون إلى امور مشتبهة ، ومن أمانة الحديث أن يذكر الحديث على وجهه ولا يكتم منه شيئا فما باله كتم اسم هذين الرجلين (1).

ولكننا نعتقد أن الرجلين هما من الشخصيات التي تسنمت مراكز القيادة العليا بعد وفاة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقد أحجم الراوي عن التصريح بأسمائهما إما احتراما أو تقية وخوفا.

بقية واقعة « احد » :

لقد آلت تضحيات ثلة قليلة ومعدودة من رجال الاسلام المتفانين وبسالتهم الى الابقاء على حياة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وحفظها من الخطر القطعي الحتمي.

ومن حسن الحظ أن أكثر أفراد العدوّ قد تصوروا يومئذ أن النبيّ صلی اللّه علیه و آله قد قتل ، ومضوا يفتشون عن جسده بين القتلى ، ودفعت الحملات التي كان يقوم بها أقلية من المشركين على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قد ردّت على

ص: 178


1- شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد : ج 14 ص 265 - 267 ، المغازي : ج 1 ص 269 و 270 ، بحار الأنوار : ج 20 ص 134.

اعقابها بفضل ثبات علي علیه السلام وأبي دجانة وأنفار آخرين ( احتمالا ) وقد رأى النبيّ صلی اللّه علیه و آله أن من الصالح في تلك اللحظات أن لا ينتشر تكذيب شائعة مقتل النبيّ صلی اللّه علیه و آله لكي لا يصرّ العدو على البقاء في أرض المعركة مع ما كان عليه المسلمون من التشتت والتفرق ، والمحنة ، ومن هنا صعد هو وبعض أصحابه إلى الشعب في جبل احد.

وفي خلال ذلك سقط رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في حفيرة في الجبل حفرها أبو عمار الفاسق للمسلمين ، فأخذ علي علیه السلام بيد النبيّ صلی اللّه علیه و آله وأخرجه منها ، وكان أوّل من عرف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من المسلمين ، « كعب بن مالك » وقد رأى عينيه صلی اللّه علیه و آله تزهران من تحت المغفر فنادى بأعلى صوته : يا معشر المسلمين ، أبشروا هذا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فأشار إليه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن أنصت.

وذلك لأن انتشار خبر سلامة النبيّ صلی اللّه علیه و آله كان من شأنه أن يدفع المشركين - كما قلنا - الى مواصلة حملاتهم على المسلمين ، بهدف استئصال شأفتهم ولهذا أمر النبيّ صلی اللّه علیه و آله كعبا بالسكوت ، فسكت كعب.

وأخيرا وصل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الى فم الشعب ، ولما عرف المسلمون بحياته صلی اللّه علیه و آله سروا بذلك وأخذوا يتجمّعون عنده ، وهم يظهرون الندامة من تركه بين الاعداء ، والفرار بأنفسهم الى الجبل ، وأخرج أبو عبيدة الجرّاح حلقتي المغفر من وجه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وجاء علي علیه السلام بماء في درقته فغسل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وجاء علي علیه السلام بماء في درقته فغسل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله به الدم عن وجهه وصبّ منه على رأسه وقال :

« اشتدّ غضب اللّه على من دمّى وجه نبيّه » (1).

العدوّ يحاول استغلال الفرصة :

في الوقت الذي واجه المسلمون فيه هزيمة كبرى انهارت بها الكثير من

ص: 179


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 83.

المعنويات اغتنم العدوّ الفرصة للترويج عن معتقداته ، فأطلق شعارات متعددة ضد عقيدة التوحيد ، كان من شأنها أن تغري البسطاء ، والضعفاء في الايمان وتؤثر فيهم ، وتزلزل إيمانهم. فليست هناك حالة لبثّ العقائد وتسريبها إلى النفوس أفضل من حالة الانهزام والنكسة ، والبلاء والمصيبة ، ففي حالة كهذه يبلغ الضعف النفسي لدى المصاب والمنكوب حدّا يفقد معه العقل سيطرته على الانسان بحيث يفقد على أثر ذلك قدرة التمييز بين الحق والباطل وفي هذه الصورة تصبح مسألة بثّ الدعايات السيئة وزرعها في النفوس واستثمارها مسألة بسيطة ، اذ يكون الانسان في هذه الحالة أكثر تقبلا وأيسر قبولا.

من هنا عمد أبو سفيان وعكرمة فرفعا أصناما كبيرة على الايدي بعد الحاق الهزيمة بالمسلمين ، وأظهروا الفرح والسرور وأخذوا ينادون بأعلى أصواتهم - مستغلين هذه الفرصة - : « اعل هبل ، اعل هبل »!!

ويعنون بذلك الشعار أن الانتصار الذي أحرزه المشركون إنما هو بفضل الصنم : هبل ، وبالتالي بفضل الوثنية التي تدين بها أهل مكة. ولو كان ثمة إله سواه ، وكانت عقيدة التوحيد على حق لانتصر المسلمون ، ولما خلص إليهم من المحنة ما خلص

فادرك رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عمق الخطر الذي يكمن في الاسلوب الذي أخذ العدوّ يمارسه في مثل هذه اللحظة الحساسة ، وما سيتركه ذلك من أثر سيئ في النفوس ، وبخاصة الضعيفة منها. ولهذا تناسى كل أوجاعه ومصاعبه وأمر عليّا والمسلمين فورا بأن يجيبوا منادي الشرك بشعار مضاد قوي ، فقال : قولوا :

« اللّه أعلى واجلّ ، اللّه اعلى واجلّ ».

أي انّ هذه الهزيمة ليست نابعة من عقيدة التوحيد ، بل هي ناشئة من انحراف بعض الجنود عن أوامر القائد وتعليماته العسكرية الحكيمة.

وبيد أن أبا سفيان لم يكف عن اطلاق شعاراته ، والمضيّ في الدعاية لمعتقده الباطل فقال : نحن لنا العزّى ولا عزى لكم!!

ص: 180

فأمر النبيّ صلی اللّه علیه و آله بأن ينادي المسلمون بشعار مضاد لشعار أبي سفيان ، مشابه له في الوزن والسجع فقال : قولوا :

« اللّه مولانا ولا مولى لكم ».

أي اذا كنتم تعتمدون على صنم مصنوع من الحجر والخشب ، فاننا نعتمد على اللّه الخالق ، القادر والعلي الاعلى.

فنادى منادي الشرك ثالثا : يوم بيوم بدر. فأمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بان يجيبه المسلمون.

« لا سواء قتلانا في الجنة ، وقتلاكم في النار ».

فكان لشعارات المسلمين القوية الرادعة التي كان يرددها المئات ، أثرها العجيب في نفس رأس الشرك أبي سفيان الذي بدأ هذه الحملة النفسية والحرب الباردة بغية تحطيم ايمان المسلمين ، ورأى كيف ارتد كيده إلى نحره ولهذا انزعج بشدة وقال : ألا إن موعدكم بدر للعام القابل.

ثم انصرف إلى أصحابه ، وغادروا جميعا أرض المعركة راجعين إلى مكة (1).

وكان على المسلمين الآن - وفيهم مئات الجرحى والمصابين وسبعون قتيلا - أن يصلّوا الظهر والعصر فصلى بهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله جلوسا ، وصلّوا معه جلوسا ، لما أصابهم من الضعف ، ثم أمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بدفن الشهداء ، ومواراتهم الثرى عند جبل احد.

نهاية المعركة :

وضعت الحرب أوزارها ، وتباعد الجانبان ، وقد تحمّل المسلمون من الخسائر في الارواح ثلاثة أضعاف ما تحمّله المشركون. وكان عليهم أن يبادروا إلى دفن الشهداء على النحو الذي أمرهم به الدين.

ولكنهم فوجئوا بأمر فضيع ، فقد اغتنمت نسوة من قريش وفي طليعتهن هند

ص: 181


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 94.

زوجة ابي سفيان فرصة انشغال المقاتلين المسلمين وارتكبن بحق الشهداء الابرار ، جناية فظيعة لم يعرف لها تاريخ البشرية مثيلا ، فهن لم يكتفين بالانتصار الظاهري بل عمدن إلى التمثيل بشهداء المسلمين ، تمثيلا مروعا فخمشن وجوههم ، وقطّعن الأنوف ، وجدعن الاذان ، وسملن العيون ، وقطعن أصابع الأيدي والأرجل ، والمذاكير ، وصنعن منها القلائد والاساور ، نكاية بالمسلمين ، واطفاء للحقد الدفين ، وبذلك الحقن بهنّ وبأوليائهنّ عارا لا ينسى.

فان جميع الامم والشعوب - متفقة على أن الميت الذي لا يستطيع دفاعا عن نفسه ، ولا يتوقع منه ضرر يجب احترامه ، ويحرم اهانته وان كان عدوا. ولكن هندا زوجة أبي سفيان ومن كان برفقتها من نساء المشركين مثّلن بأجساد القتلى شر تمثيل ، وصنعن مما قطّعن منها الاساور والقلائد ، وبقرت « هند » بالذات صدر حمزة بطل الاسلام الفدائيّ ، وأخرجت كبده ، ولاكته بين أسنانها ولكنها لفظته ولم تستطع أكله.

وقد بلغ هذا العمل من القبح ، والسوء أن تبرّأ منه أبو سفيان وقال : « في قتلاكم مثلة لم آمر بها » (1).

وقد عرفت هند بسبب فعلتها الشنيعة هذه بآكلة الاكباد ، ودعي أبناؤها في ما بعد ببني آكلة الاكباد.

ولما أبصر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حمزة بن عبد المطلب ، ببطن الوادي وقد بقر بطنه عن كبده ، ومثّل به فجدع أنفه واذناه ، حزن حزنا شديدا وغاضه تمثيلهم به فقال :

« ما وقفت موقفا قطّ أغيظ إليّ من هذا! ».

ثم إنّ المؤرّخين يتفقون على أنّ المسلمين تعاهدوا في ذلك الموقف ( وربما نسب هذا إلى النبيّ نفسه ) لئن أظفرهم اللّه بالمشركين يوما أن يمثّلوا بهم مثلة لم يمثّلها أحد من العرب أو يمثلوا بدل الواحد ثلاثين.

ص: 182


1- السيرة الحلبية : ج 2 ص 244.

ولم يمض زمان حتى نزل جبرئيل بقوله تعالى :

« وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ » (1).

ولقد كشف الاسلام مرة اخرى ومن خلال هذه الآية - التي تتضمن أصلا اسلاميا في مجال القضاء مسلما به - عن وجهه الانسانيّ العاطفيّ ، وأظهر للجميع بأن الدين الاسلامي ليس شريعة انتقام ، وثأر ، فهو يعلّم أتباعه بأن لا يغفلوا في أشدّ اللحظات والحالات النفسية هياجا وغضبا عن قانون العدالة ، والحق ، وبهذا يكون الاسلام قد راعى مبادئ العدالة والانصاف على الدوام ، وصانها من الانهيار ، والسقوط.

ولقد أصرّت صفية أخت حمزة أنّ ترى جثمان أخيها ، إلاّ أنّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله أمر ابنها الزبير أن يحبسها ويصرفها عن ذلك لكي لا ترى ما بأخيها فلا تحتمل الصدمة.

فقالت صفية : قد بلغني أن قد مثّل بأخي وذلك في اللّه ، فما أرضانا بما كان من ذلك! لاحتسبنّ ولأصبرنّ إن شاء اللّه.

فأخبر الزبير رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بمقالتها فقال صلی اللّه علیه و آله : خلّ سبيلها ، فأتته ، فنظرت إليه فصلّت عليه ، واسترجعت ، واستغفرت له ، ثم أمر به رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فدفن (2).

حقا أن قوّة الإيمان أعظم القوى ، فهي تحبس الانسان وتحفظه في أصعب الحالات ، وتفيض على صاحبه حالة من السكينة والوقار.

ثم إن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله صلى على شهداء أحد الأبرار ، وأمر بدفنهم واحدا واحدا أو اثنين اثنين ، وأمر بأن يدفن « عمرو بن الجموح » و « عبد اللّه بن عمرو » في قبر واحد.

ص: 183


1- النحل : 126.
2- السيرة النبوية : ج 2 ص 97.

قائلا :

« ادفنوا هذين المتحابّين في قبر واحد » (1).

آخر ما نطق به سعد بن الربيع :

كان سعد بن الربيع من صحابة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الأوفياء ، وكان رجلا مؤمنا مخلصا ، عظيم الوفاء والحبّ لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وقد اصيب في « احد » اثنتا عشرة اصابة قاضية فسقط على الأرض.

فمرّ عليه رجل يدعى مالك بن الدخشم فقال له : أما علمت أن محمدا قد قتل؟ فقال سعد : اشهد أن محمّدا قد بلّغ رسالة ربه ، فقاتل أنت عن دينك فان اللّه حيّ لا يموت (2).

ثم إنه قد مرّ عليه رجل من الانصار وهو في هذه الحال وبعد أن وضعت الحرب أوزارها فقال لسعد : إنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أمرني أن أنظر أفي الاحياء أنت أم في الأموات؟ فقال سعد : أنا في الأموات فابلغ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عنّي السلام ، وقل له : إن سعد بن الربيع يقول لك جزاك اللّه عنا خيرا ما جزى نبيا عن امته وأبلغ قومك عنّي السلام ، وقل لهم : إن سعد بن الربيع يقول لكم : إنه لاعذر لكم عند اللّه إن خلص الى نبيكم صلی اللّه علیه و آله ومنكم عين تطرف.

ثم لم يبرح ذلك الانصاري حتى قضى سعد بن الربيع نحبه ، فجاء الأنصاري الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأخبره بما قال. فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله :

« رحم اللّه سعدا نصرنا حيّا واوصى بنا ميتا » (3).

إنّ حبّ الانسان لنفسه ، أو ما يصطلح عليه العلماء بحبّ الذات من الغرائز

ص: 184


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 98 ، بحار الأنوار : ج 20 ص 131.
2- السيرة النبوية : ج 2 ص 95 ، بحار الأنوار : ج 20 ص 12.
3- السيرة النبوية : ج 2 ص 95 ، بحار الأنوار : ج 20 ص 12.

القوية المتأصلة في كيان الانسان بحيث لا يمكن لأي أحد أن يغفل عنها مهما كانت الظروف وهي بالتالي من القوة والهيمنة على وجود الانسان بحيث يضحّى في سبيلها بكل شيء.

ولكن قوة الايمان وحبّ الانسان للعقيدة ، وتعشقه للمعنويات أقوى وأشدّ تأثيرا من ذلك ، فهذا الجنديّ الشجاع لم يكن بين - حسب ما تفيده النصوص التاريخية - وبين الموت في ذلك الوقت سوى لحظات ، ومع ذلك نجده ينسى نفسه ، ويفكر في حياة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الذي كان يعتبره أقوى سبب لبقاء الدين ، ودوام الشريعة ، وهذا هو الهدف المقدّس الذي قاتل من أجله سعد البطل ، ولهذا لا يحمل ذلك الرجل الأنصاري سوى رسالة واحدة إلى أصحاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يحثهم فيها على السهر على حياة النبيّ صلی اللّه علیه و آله والعمل معه على تحقيق أهدافه ، في ارساء دعائم التوحيد.

النبيّ يعود الى المدينة :

كانت الشمس تميل نحو المغرب وكانت تستعد للملمة أشعتها الذهبية من صفحة الكون ، وكان السكون والصمت يخيم على كل مكان من الأرض.

في مثل هذه اللحظات كان على المسلمين المقاتلين أن يعودوا بجرحاهم الى منازلهم في المدينة ليستعيدوا قواهم ، ويجدّدوا نشاطهم ، ويضمدوا جرحاهم.

ولهذا صدرت أوامر من جانب النبيّ صلی اللّه علیه و آله بالتوجه نحو المدينة.

فلما كانوا بأصل الحرة قال صلی اللّه علیه و آله : اصطفوا فنثني على اللّه ، فاصطف الرجال صفين خلفهم النساء ثم دعا فقال :

اللّهم لك الحمد كله ، اللّهم لا قابض لما بسطت ، ولا باسط لما قبضت ، ولا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا هادي لمن اضللت ولا مضلّ لمن هديت ، ولا مقرّب باعدت ولا مباعد لما قرّبت.

اللّهم انّي أسألك من بركتك ، ورحمتك وفضلك وعافيتك.

اللّهم انّي أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول.

ص: 185

اللّهم انّي أسألك الأمن يوم الخوف والغنى يوم الفاقة عائذا بك.

اللّهم من شرّ ما أنطيتنا وشرّ ما منعت منّا.

اللّهم توفّنا مسلمين.

اللّهم حبّب إلينا الايمان ، وزيّنه في قلوبنا ، وكرّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان ، واجعلنا من الراشدين.

اللّهم عذّب كفرة أهل الكتاب الذين يكذبون رسولك ويصدّون عن سبيلك.

اللّهم أنزل عليهم رجسك وعذابك إله الحق. آمين (1).

وقد كان هذا العمل خطوة مهمة جدا من الناحية النفسية فقد أمدّ هذا الدعاء نفوس المسلمين المصابين بطاقة روحية ضخمة مما كان من شأنه تخفيف وطأة الهزيمة وتقوية عزائم المسلمين ، كما علّمهم أن يلجئوا إلى اللّه تعالى في كلّ حال.

فدخل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ومعه أصحابه من الانصار والمهاجرين الذين شاركوا في تلك المعركة المدينة.

وكانت أكثر بيوت المدينة قد تحوّلت الى مناجات ومآتم ، يرتفع منها أصوات بكاء الامهات والازواج والبنات اللائي أصبن في رجالهنّ وأوليائهنّ ، وآبائهنّ.

ولما مرّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على منازل بني عبد الاشهل وسمع ندبة النساء ، وبكاءهنّ حزن وانحدرت دموعه على خديه وقال :

« لكنّ حمزة لا بواكي له » (2).

فلما عرف سعد بن معاذ واسيد بن حضير بذلك أمرا جماعة من نسائهم بأن يذهبن فيبكين على عمّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

فلما سمع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بكاءهنّ على حمزة خرج عليهن وهنّ على باب مسجده يبكين عليه فقال :

ص: 186


1- امتاع الاسماع : ج 1 ص 162 و 163.
2- السيرة النبوية : ج 2 ص 99.

« ارجعن يرحمكنّ اللّه فقد آسيتنّ بأنفسكنّ ».

وقيل لما سمع صلی اللّه علیه و آله بكاءهنّ قال :

« رحم اللّه الأنصار ، فانّ المواساة منهم ما علمت لقديمة .. مروهنّ فلينصرفن » (1).

ذكريات مثيرة عن امرأة مؤمنة :

إن للنسوة المؤمنات صفحات مشرقة ، وعجيبة في تاريخ الاسلام ، لأننا قلما نجد لها نظيرا في عالم المرأة اليوم.

ومن تلك النسوة المؤمنات ذوات المواقف الرائعة والعجيبة في صدر الاسلام المرأة الدينارية ، التي اصيب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله باحد.

فانّها لما نعوا لها مصرع رجالها قالت : فما فعل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؟

قالوا : خيرا يا أمّ فلان ، هو بحمد اللّه كما تحبّين.

قالت : أرونيه حتى أنظر إليه؟

فاشير لها إليه حتى إذا رأته قالت : كل مصيبة بعدك جلل ( اي صغيرة ) (2).

ما أعظم تلك الاستقامة ، وما أعظم ذلك الايمان الذي يجعل من الانسان طودا راسخا ثابتا في وجه العواصف والاعاصير.

نموذج آخر من النسوة المجاهدات :

لقد أشرنا في الصفحات الماضية بصورة إجمالية إلى قضية « عمرو بن الجموح » الذي آلى على نفسه أن يشارك في الجهاد مع ما كان به من العرج

ص: 187


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 99 ، امتاع الاسماع : ج 1 ص 163 و 164.
2- السيرة النبوية : ج 2 ص 99.

الموجب لسقوط الجهاد كما عرفت.

فقد شارك هذا المسلم الصادق والمؤمن المجاهد في معركة احد ، ومضى يقاتل في الصف الاول من المجاهدين ، وشارك ابنه « خلاّد بن عمرو بن الجموح » وأخو زوجته « عبد اللّه بن عمرو » (1) في هذا الجهاد المقدس ، واستشهدوا جميعا في تلك المعركة أيضا.

فخرجت « هند » زوجته وهي بنت عمرو بن حزام ، عمة جابر بن عبد اللّه الأنصاري الى « احد » وحملت أجسادهم على بعير وتوجهت بها نحو المدينة ، بمنتهى الجلادة ، ورباطة الجأشى.

وعند ما فشى في المدينة أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قتل باحد خرجت النسوة ، يتأكّدن من هذا النبأ ، فالتقت هند ببعض نساء النبيّ صلی اللّه علیه و آله - وهي عائدة من احد - فسألنهنّ عن النبيّ صلی اللّه علیه و آله فقالت : خيرا ، أمّا رسول اللّه فصالح ، وكلّ مصيبة بعده جلل ، واتخذ اللّه من المؤمنين شهداء ، وقرأت قول اللّه تعالى : « وَرَدَّ اللّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً ... » !!

فسألوا : من هؤلاء؟

قالت : أخي ، وابني خلاّد ، وزوجي عمرو بن الجموح!!

فقلن لها : فأين تذهبين بهم؟

قالت : إلى المدينة اقبرهم بها .. ثم زجرت بعيرها تحثه على السير قائلة : حل .. حل في نبرة صامدة.

ومرة اخرى يظهر في هذه الصفحة الناصعة من تاريخ الاسلام نموذج حيّ آخر من مشاهد الثبات والصمود ، والاستقامة ، وتجاوز المصائب ، وتحمّل الآلام والشدائد في سبيل الهدف المقدّس ، وكلّ ذلك من فعل الايمان ، ونتائجه.

إن المذاهب المادية لا ولن تستطيع تربية أمثال هذه النسوة والرجال المتفانين في سبيل العقيدة ، بمثل هذا التفاني العظيم.

ص: 188


1- وهو عبد اللّه بن عمرو بن حرام بن ثعلبة بن حرام الأنصاري.

على أن هؤلاء لم يقاتلوا من أجل المآرب المادية ، وانما قاتلوا من أجل الهدف ، وهو إعلاء كلمة الدين واقامة صرح التوحيد ، ومحو الوثنية والشرك.

هذا وفي بقية هذه القصة ما هو أعجب من اولها ، وهو أمر ، لا يمكن أن يدرك بالمقاييس المادية ، والأسس التي ينطلق منها أصحاب الاتجاه المادي في تحليل القضايا التاريخية. وانما يهضمها - فقط - من يؤمن بعالم آخر وراء العالم الماديّ الصرف ، ويصدّق بتأثيره في هذا العالم ، وبالتالي لا يقبل بها إلاّ من يصدّق بقضية الإعجاز والمعجزة ، ويذعن لها ويعترف بصحتها من غير تلكّؤ وابطاء.

وإليك هذه البقية :

لمّا زجرت هند بعيرها لتدخل به المدينة برك البعير في مكانه.

فقالت النسوة التي كنّ هناك : لعلّه برك لما عليه.

فقالت هند : ما ذاك به ، لربما حمل ما يحمل البعيران ، ولكنّي أراه لغير ذلك. فزجرته ثانية ، فقام ، فلما وجّهت به إلى المدينة برك ، فوجهته راجعة الى احد فاسرع.

فرجعت إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله فأخبرته بذلك ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : فانّ الجمل مأمور. هل قال ( يعني : عمرو بن الجموح ) شيئا؟

قالت : إنّ عمرا لمّا وجّه إلى احد استقبل القبلة ، وقال : اللّهم لا تردّني إلى أهلي خزيا ، وارزقني الشهادة!!

قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « فلذلك الجمل لا يمضي. إنّ منكم يا معشر الأنصار من لو أقسم على اللّه لابرّه ، منهم عمرو بن الجموح ، يا هند ما زالت الملائكة مظلة على أخيك من لدن قتل إلى الساعة ينظرون أين يدفن » ، ثم مكث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حتى قبرهم ، ثم قال : « يا هند قد ترافقوا في الجنة جميعا ، عمرو بن الجموح ، وابنك خلاّد ، وأخوك عبد اللّه ».

قالت هند : يا رسول اللّه فادع لي عسى أن يجعلني معهم (1).

ص: 189


1- امتاع الاسماع : ج 1 ص 146 - 148.

ثمّ إنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله دخل بيته فلما أبصرت به بنته العزيزة « فاطمة » ورأت ما أصابه من الجراح ذرفت عيناها بالدموع ، فأعطى رسول اللّه سيفه لابنته ( الزهراء ) حتى تغسله.

وقال الاربلي المؤرخ الشيعي المعروف الذي كان يعيش في القرن السابع الهجري : كان علي يجيء بالماء في ترسه ، وفاطمة تغسل الدم وأخذ حصيرا فاحرقه وحشى به جرحه (1).

وفي الامتاع لما رأت فاطمة الدم لا يرقأ - وهي تغسله وعلي يصب الماء عليها بالمجنّ - أخذت قطعة حصير فأحرقته حتى صار رمادا ثم الصقته بالجرح فاستمسك الدم ويقال : داوته بصوفة محترقة (2).

لا بدّ من ملاحقة العدو :

لقد كانت الليلة التي استقرّ فيها المسلمون في منازلهم بالمدينة بعد يوم احد ليلة جدّا خطيرة وحساسة.

فالمنافقون واليهود وأتباع عبد اللّه بن أبي قد سرّوا لما أصاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأصحابه سرورا كبيرا ، وأظهروا القول السيئ ، وقالوا : ما اصيب نبي هكذا قط.

وكان أنين الجرحى والمكلومين وبكاء الموتورين في رجالهم ونياحهم يسمع من أكثر بيوت المدينة.

والأخطر من كلّ هذا هو التخوّف من أن يقوم المنافقون واليهود بعملية خيانية ضد الاسلام والمسلمين في تلك الظروف.

أو أن يعرّضوا وضع العاصمة الاسلامية الثابت ، والوحدة السياسية القائمة في المدينة للخطر بايجاد الاختلاف والتشتت على الاقل.

إن ضرر الاختلافات الداخليّة أشد بكثير من حملات العدوّ الخارجي ، وان

ص: 190


1- كشف الغمة : ج 1 ص 189.
2- امتاع الاسماع : ج 1 ص 137 و 138.

انهيار الوحدة والانسجام في الجبهة الداخلية أخطر بكثير من تعرّض البلاد لهجوم من الخارج.

من هنا كان يتعيّن على النبيّ صلی اللّه علیه و آله أن يرهب العدو الداخلي ، ويفهمه بأنّ قوى التوحيد لم تفقد انسجامها وتماسكها وانّ أيّة خطوة أو نشاط معاد يهدّد أساس الاسلام للخطر سيسحق بشدة في اللحظة الأولى.

ولهذا أمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بأن يخرج في نفس الليلة لملاحقة العدوّ ( أي مشركي مكة ).

فكلّف النبيّ صلی اللّه علیه و آله رجلا بأن ينادي في كل مناطق المدينة :

« ألا عصابة تشدّد لأمر اللّه تطلب عدوّها ، فانّها أنكأ للعدوّ وأبعد للسمع.

ألا لا يخرجن معنا الاّ من حضر يومنا بالامس ».

أو قال : « يا معشر المهاجرين والأنصار من كانت به جراحة فليخرج ، ومن لم يكن به جراحة فليقم ».

وانما خرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كما أسلفنا ليرهب العدوّ وليبلغهم أنه خارج في طلبهم فيظنوا به قوّة ، وأن الذي أصابهم لم يوهنهم عن عدوّهم (1).

على أن لهذا التقييد ، ولهذا النهي عن خروج غير الجرحى ، أو من لم يشترك في احد ، عللا أو حكما لا تخفى على العارفين بالسياسة ، والرموز العسكرية.

ويمكن الاشارة الى بعضها :

أولا : انّ هذا التحديد ، وبالتالي الاقتصار على من شارك في معركة احد هو نوع من التعريض بمن امتنع من المشاركة في تلك المعركة ، وفي الحقيقة هو نوع من تجريدهم من صلاحية المشاركة في الدفاع المقدّس.

ثانيا : إنّ هذا التحديد هو نوع من عقاب المشاركين في معركة احد ، لأنّهم بتجاهلهم لتعاليم القيادة ، وانصرافهم بسرعة الى المطامع المادية ، والغفلة عن ملاحقة العدوّ في حينه تسببوا في توجيه تلكم الضربة النكراء الى الاسلام ،

ص: 191


1- مجمع البيان للطبرسي : ج 2 ص 535 - 541.

ولذلك يجب عليهم انفسهم ملافاة تلك الخسارة ، وترميم ذلك العطب ، لكيلا يعودوا إلى مثل ذلك ، ولا يتجاهلوا أوامر القيادة ، ونحن نعلم أن الانضباطية والتقيد الكامل بالاوامر هو أهم عنصر في نجاح الامور العسكرية (1).

بلغ نداء مؤذن النبيّ صلی اللّه علیه و آله مسامع شاب من بني الاشهل كان قد شهد احدا مع رسول اللّه ، فخرج هو وأخوه وهما جريحان مع رسول اللّه لطلب العدوّ ، وقد قال أحدهما للآخر : أتفوتنا غزوة مع رسول اللّه.

وقد خرجا دون أن تكون لهما دابة يركبانها وكلاهما مصابان بجروح ثقيلة ، فكان الأيسر منهما يحمل الآخر مسافة ، فاذا تعب مشيا مسافة ، ثم عاد الى حمله حتى انتهيا الى ما انتهى إليه المسلمون (2).

حمراء الأسد

حمراء الأسد (3) :

خرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بأصحابه الى حمراء الاسد ( وهي تبعد عن المدينة بثمانية أميال ) وقد استخلف على المدينة « ابن أمّ مكتوم ».

وهناك مرّ به « معبد بن أبي معبد الخزاعي » رئيس بني خزاعة ، وكانت خزاعة مسلمهم ومشركهم يومذاك ذات علاقات طيبة جدا مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله والمسلمين وكانوا لا يخفون عن النبيّ شيئا.

فتقدم معبد رئيسهم وعزّى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بما أصابه ، وهو يومئذ مشرك قائلا : يا محمّد أما واللّه لقد عزّ علينا ما أصابك ، ولوددنا أنّ اللّه عافاك فيهم.

ثم خرج معبد حتى لقي أبا سفيان ومن معه بمنطقة تدعى بالروحاء وقد

ص: 192


1- كلا هذين الوجهين يستقيمان إذا قلنا بان النبيّ خرج بكل من شارك في احد لا أنه اقتصر على الجرحى ، كما تصرح به بعض النصوص التاريخية.
2- امتاع الاسماع : ج 1 ص 168 ، السيرة النبوية : ج 2 ص 101.
3- لقد عدّ البعض خروج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الى حمراء الاسد لملاحقة العدوّ غزوة مستقلة ، وذكرها البعض الآخر في ذيل معركة احد.

عزموا على الرجوع الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأصحابه للكرة عليهم ، واستئصالهم ، والقضاء عليهم بالمرة.

فلما رأى أبو سفيان معبدا ( وكان معبد قد استهدف من خروجه الى أبي سفيان وجماعة المشركين القيام بخدمة لصالح النبيّ صلی اللّه علیه و آله وأصحابه ) قال : ما وراءك يا معبد ، وما ذا عندك من الاخبار؟

فقال معبد : - وهو يريد إرعاب قريش وصرفهم عن الرجوع الى المدينة - محمّد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم ار مثله قط ، يتحرّقون عليكم تحرقا قد اجتمع معه من كان تخلّف عنه في يومكم ، وندموا على ما صنعوا ، فيهم من الحنق وشدة الغيظ عليكم شيء لم ار مثله قط!!

فقال أبو سفيان : - وقد أرعب بشدة من هذا النبأ - ويحك ما ذا تقول؟

قال معبد : واللّه ما أرى ان ترتحل حتى أرى نواصيّ الخيل.

قال أبو سفيان : فو اللّه لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل بقيّتهم!

قال معبد : فاني أنهاك عن ذلك.

وقد تركت كلمات معبد ، ووصفه لقوة المسلمين وعزمهم الشديد على توجيه ضربة الى الكفار أثرها في نفس أبي سفيان الذي تملّكه خوف شديد ، دعاه إلى الانصراف عن الرجوع الى المدينة ثانية ، والعزم على القفول الى مكة (1).

ومضى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بأصحابه حتى عسكروا ليلا بحمراء الاسد ، فامر بأن يوقد المسلمون النيران فأوقدوا خمسمائة نار حتى ترى من المكان البعيد ، وذهب صوت معسكرهم ونيرانهم في كل وجه ، وتصور العدو أن النبيّ جاءهم في جيش عظيم ، فتشاوروا حول الرجوع الى المدينة فنهاهم صفوان عن ذلك ، فانصرفوا (2).

ص: 193


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 102 ، امتاع الاسماع : ج 1 ص 169 و 170.
2- الطبقات الكبرى : ج 2 ص 49.
لا يخدع مؤمن مرّتين :

هذا هو معنى قول النبيّ الاكرم صلی اللّه علیه و آله :

« المؤمن لا يلدغ من جحر مرّتين ».

ولقد قاله رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عند ما أسّر المسلمون أبو عزّة الجمحي في طريق عودتهم من حمراء الاسد على نحو الصدفة ، وأراد النبيّ ضرب عنقه فاستقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وطلب منه العفو وكان قد أسر ببدر قبل ذلك ، ثم منّ عليه النبيّ وأطلق سراحه مشترطا عليه أن يكفّ عن المؤامرة ضد النبيّ والمشاركة في قتاله ، ولكنه عاد الى مكة ، وشارك في قتال النبيّ مرة اخرى في احد.

فقال له رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، لما طلب العفو ثانية :

« واللّه لا تمسح عارضيك بمكة بعدها وتقول : خدعت محمّدا مرتين ، إنّ المؤمن لا يلدغ من جحر مرّتين ».

ثم أمر بضرب عنقه ، وضرب عنقه (1).

وأخيرا انتهت معركة احد وقد قدم المسلمون فيها سبعين ، أو اربعة وسبعين ، أو واحدا وثمانين شهيدا على روايات مختلفة ، بينما لم يتجاوز عدد قتلى قريش اثنين وعشرين.

وقد نشأت هذه النكسة المرّة بسبب تجاهل الرماة لتعليمات الرسول القائد على النحو الذي قرأت.

ص: 194


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 104 ، نلفت نظر القارئ الكريم الى أننا قد ذكرنا في الهوامش مصادر أهم الحوادث في معركة احد وفي إمكان القارئ الكريم لو أراد التوسع ان يراجع المصادر التالية التي اعتمد عليها المؤلف : وهي : الطبقات الكبرى لابن سعد : ج 2 ص 36 - 49 ، المغازي : ج 1 ص 199 - 340 ، شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد : ج 14 ص 14 - 218 وج 5 ص 60 ، وبحار الأنوار : ج 20 ص 14 - 146 ، وامتاع الاسماع : ج 1 ص 113 - 166 ، السيرة النبوية : ج 2 ص 60 - 168.

وقد وقعت معركة احد يوم السبت السابع من شهر شوال من السنة الثالثة للهجرة النبوية الشريفة ، هذا مضافا الى غزوة حمراء الاسد التي استمرت إلى يوم الجمعة من ذلك الاسبوع نفسه ، فتكون قضايا ووقائع هذه الغزوة في الرابع عشر من شهر شوال من نفس تلك السنة.

ميلاد الامام الحسن السبط :

هذا وقد ولد في هذه السنة ( اي السنة الثالثة من الهجرة ) سبط رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الاكبر الإمام الحسن بن علي علیه السلام في منتصف شهر رمضان من تلك السنة ، واجرى له رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مراسيم ولادة خاصة ذكرها أصحاب الحديث وتجد تفصيلها في سيرة الائمة من أهل البيت النبوي الطاهرين.

ص: 195

حوادث السنة الرابعة من الهجرة

اشارة

33

فاجعة فريق المبلّغين

اشارة

فاجعة فريق المبلّغين (1)

لقد ظهرت الآثار السياسية لنكسة المسلمين في معركة « احد » بصورة واضحة بعد الحرب.

فمع أن المسلمين أظهروا مقاومة رائعة أمام العدوّ المنتصر ومنعوا من رجعته الى المدينة وتحقيق أهدافه الخطيرة في استئصال المسلمين إلا أن التحريكات الداخليّة والخارجية ضدّ الاسلام بهدف القضاء على هذا الدين ، ورجاله قد تصاعد مدّها في أعقاب حادثة « احد ».

وقد تجرّأ منافقو المدينة ، ويهودها والمشركون المتواجدون في شتى النقاط البعيدة خارج المدينة على أثر ذلك ، وبدءوا يحيكون المؤامرات ضدّ الاسلام والمسلمين ويجمعون الاسلحة والرجال لشن الحروب والغارات على المدينة.

وقد استطاع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وبمهارة كبيرة إطفاء كلّ تلك التحريكات ، كما واستطاع قمع تحرّكات القبائل القاطنة خارج المدينة التي كانت تنوي الهجوم على المدينة وذلك بارسال السرايا والمجموعات القوية من المجاهدين.

وفي هذا الاثناء بلغ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله نبأ مفاده أن قبيلة بني أسد تنوي الهجوم على المدينة وتسخيرها ، وقتل المسلمين ، ونهب أموالهم ، فبعث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من فوره جماعة من المقاتلين يبلغ عددهم (150)

ص: 196


1- وقعت حادثة قتل المبلّغين في الشهر السادس.

رجلا بقيادة « أبي سلمة » الى منطقة تجمع المتآمرين.

ثم إنه صلی اللّه علیه و آله أوصاهم بأن يخفوا مقصدهم الأصلي ، ويسلكوا طريقا آخر غير الطريق المتعارف ، ويقيموا نهارا ويسيروا ليلا ، ليعمّوا على القوم.

وقد فعل « أبو سلمة » وجماعته ما أوصاهم به رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فكانوا يسيرون الليل ، ويكتمون النهار ، حتى وردوا المنطقة فاحاطوا ببني أسد في عماية الصبح ، وقضوا على المؤامرة في مهدها ، وعادوا غانمين موفورين إلى المدينة ، وقد وقعت هذه الحادثة في شهر المحرّم على رأس خمسة وثلاثين شهرا من الهجرة (1).

خطة ما كرة للفتك بالمبلّغين :

كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقوم بافشال بارسال السرايا والمجموعات العسكرية جميع مؤامرات المتآمرين ضد الاسلام ، كما أنه كان يقوم الى جانب ذلك ببعث المجموعات التبليغية الى القبائل ، والجماعات وبذلك يجلب قلوب المحايدين منهم نحو العقائد الاسلامية.

وكان المبلّغون والدعاة الذين كانوا من قراء القرآن الكريم ، ومن الملمين بالاحكام الاسلامية والتعاليم النبوية يبدون استعدادا عجيبا للقيام بهذه المهمّة الصعبة ولو كلّفت حياتهم فكانوا ينقلون تعاليم الاسلام إلى الناس في المناطق النائية ، والاماكن البعيدة بأوضح بيان وأوضح اسلوب.

ولقد كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ببعثه للمجموعات العسكرية من جانب ، وارساله للفرق التبليغية من جانب آخر يقوم - في الحقيقة - بوظيفتين هامتين من وظائف المنصب النبوي.

ص: 197


1- المغازي : ج 1 ص 340 ، وامتاع الاسماع : ج 1 ص 170 ، ولا بدّ أنك أيها القارئ الكريم تتذكر أن السنة الثالثة للهجرة تنتهي عند انتهاء الشهر الرابع والثلاثين ، وتكون حوادث الشهر الخامس والثلاثين متعلقة بالسنة الرابعة من الهجرة.

فهو ببعثه للسرايا والمجموعات العسكرية كان يقصد في الحقيقة القضاء على محاولات التمرّد ، والتآمر التي كانت في مرحلة التحقق والتكوّن لكي يتسنى للمجموعات التبليغية في ظل الأمن والحرية الدعوة إلى الاسلام ، والقيام بوظيفتها الاساسية ألا وهي ارساء دعائم الحكومة الاسلامية في القلوب ، وتنوير الافكار ، وايقاظ العقول.

ولكن بعض القبائل المتوحّشة ، والمنحطّة أخلاقيا وفكريّا كانت تتحايل على المجموعات التبليغية التي كانت تمثل القوى المعنوية للاسلام ، والتي لم يكن لها هدف سوى نشر التوحيد ، واقتلاع جذور الكفر والوثنية ، وكانوا يقتلونهم بصورة فضيعة ومفجعة.

وفيما يلي نلفت نظر القارئ الكريم إلى قصة مجموعة من الدعاة والمبلّغين الذين لقوا هذا المصير وكان عددهم يبلغ ستة أشخاص حسب رواية ابن هشام (1) ، أو عشرة أشخاص حسب رواية ابن سعد (2).

الغدر بالدعاة الى الإسلام وقتلهم :

لقد مشت جماعة من قبيلتي « عضل » و « القارة » إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقالوا - وهم يضمرون المكر - يا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إن فينا إسلاما فاشيا فابعث معنا نفرا من أصحابنا يقرءوننا القرآن ، ويفقهوننا في الاسلام.

فرأى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن من واجبه الاستجابة لمطلب تلك الجماعة التي كانت تمثل قبائل كبرى ، وكما رأى المسلمون أيضا أن من واجبهم أن يستفيدوا من هذه الفرصة مهما كلّف الثمن.

من هنا بعث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله جماعة بقيادة « مرثد بن أبي مرثد

ص: 198


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 169 ، وقال في امتاع الاسماع : ج 1 ص 174 انهم سبعة اشخاص.
2- الطبقات الكبرى : ج 2 ص 55.

الغنويّ » مع تلك الجماعة إلى القبائل المذكورة.

فخرج هؤلاء المبلغون ووفد القبيلتين من المدينة متوجّهين الى حيث تتواجد « عضل » و « قارة » ، ولمّا كانوا بماء يسمى الرجيع تقطن عنده قبيلة تدعى « هذيل » كشف مندوبو القبيلتين عن نواياهم الشرّيرة ، واستصرخوا هذيلا وكمينا من رجالهم ، وكانوا مائة رام وبأيديهم السيوف فاحاطوا بالدعاة يريدون أسرهم ثم قتلهم وابادتهم!!

فلم ير المبلّغون بدّا - وهم محاطون بتلك الجماعات المسلحة - من اللجوء الى سيوفهم والدفاع عن أنفسهم.

ولكن العدوّ قال : ما نريد قتالكم ، وما نريد إلاّ ان نصيب منكم من أهل مكة ثمنا ، ولكم عهد اللّه وميثاقه لا نقتلكم!!

فنظر الدعاة بعضهم الى بعض ، وقرر أكثرهم المقاومة وعدم الرضوخ لهذا العرض الغادر ، والخطة الماكرة ، وقال أحدهم : إني نذرت أن لا أقبل جوار مشرك (1) ثم جعلوا يقاتلون القوم قتال الرجال الابطال ، حتى قتلوا إلاّ ثلاث هم : « زيد بن دثنّة » ، و « خبيب بن عديّ » ، و « عبد اللّه بن طارق البلويّ » فقد أغمد هؤلاء سيوفهم وسلّموا ، فأخذوا ووثّقوا بأوتار قسيّهم ، ولكن « عبد اللّه » ندم على فعله ، فنزع يده من رباطه ثم أخذ سيفه ، وراح يقاتلهم حتى قتلوه رميا بالحجارة ، وقد انحازوا عنه وهو يشدّ فيهم وينفرجون عنه ، ودفن في مر الظهران.

ثم أخذوا الأسيرين الآخرين « خبيب » و « زيد » وقدموا بهما مكة فباعوهما لأهل مكة!!

فأمّا زيد بن الدثنّة فقد اشتراه « صفوان بن أميّة » وقتله ثأرا لابيه ، ولقتله قصة عجيبة سطر فيها أروع آيات المقاومة والوفاء والاخلاص.

فقد اشتراه « صفوان بن أميّة » كما أسلفنا ليقتله بأبيه ، وقد حبسه صفوان في الحديد ، وكان يتهجّد بالليل ويصوم بالنهار ، ولا يأكل شيئا مما اتى به من

ص: 199


1- أو قالوا : واللّه لا نقبل من مشرك عهدا ولا عقدا أبدا ( السيرة النبوية : ج 2 ص 170 ).

الذبائح ، وهو في الاسر والحبس.

ثم إنه اخرج إلى « التنعيم » (1) ليصلب على مرأى حشد كبير من الناس.

فرفعوا له جذعا ، فقال : دعوني أصلّي ركعتين ، فصلّى ركعتين ، ثم حملوه على الخشبة ثم جعلوا يقولون له : يا زيد ارجع عن دينك المحدث ، واتّبع ديننا ، ونرسلك فيقول : واللّه لا افارق ديني أبدا.

فقال له أبو سفيان فرعون مكة وأشدّ المتآمرين على الاسلام ومدبر أغلب الحروب ضد رسول اللّه ، والمسلمين : أنشدك باللّه يا زيد أيسرّك أن محمّدا في أيدينا مكانك وأنت في بيتك؟. فقال زيد بشجاعة ووفاء عظيمين : ما يسرّني أنّ محمّدا اشيك بشوكة واني في بيتي ، وجالس في أهلي!!!

وقد كان لهذه الكلمة أثر الصاعقة في نفس طاغية مكة أبي سفيان فقال : ما رأينا أصحاب رجل قطّ أشدّ حبّا من أصحاب محمّد بمحمّد!!

ولم تمض لحظات إلاّ وصار « زيد » على خشبة الاعدام وطارت روحه الى خالقها ، ومضى ذلك المسلم الوفيّ ، والمؤمن الشجاع شهيد الثبات في طريق العقيدة ، والدفاع عن حياض الدين (2).

واما « خبيب » فقد حبس مدة من الزمان حتى قرّر ندوة مكة قتله ، فخرجوا به الى التنعيم ليصلبوه وخرج معه النساء والصبيان والعبيد وجماعة من أهل مكة ، فقال لهم : إن رأيتم ان تدعوني حتى أركع ركعتين فافعلوا ، فقالوا دونك فاركع.

فركع ركعتين أتمّهما وأحسنهما ثم اقبل على القوم وقال : أما واللّه لو لا أن تظنّوا أنّي إنما طوّلت جزعا من القتل لاستكثرت من الصلاة!!

ثم رفعوه على خشبة ثم وجّهوه الى المدينة ، وأوثقوه رباطا ، ثم قالوا له : ارجع عن الاسلام ، نخلّ سبيلك.

ص: 200


1- التنعيم ابتداء الحرم ومنها يحرم المعتمرون للعمرة المفردة.
2- السيرة النبوية : ج 2 ص 172 ، المغازي : ج 2 ص 362 ، امتاع الاسماع : ج 1 ص 174 و 175.

قال : لا واللّه ما أحبّ أنّي رجعت عن الاسلام وأنّ لي ما في الأرض جميعا.

فقالوا : أمّا واللات والعزّى لئن لم تفعل لنقتلنّك!

فقال : إن قتلي في اللّه لقليل ، فلمّا أبى عليهم وقد جعلوا وجهه من حيث جاء ( أي نحو المدينة ) ، قال : أما صرفكم وجهي عن القبلة ، فان اللّه يقول : « فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ » ثم قال : اللّهم إني لا أرى إلاّ وجه عدوّ ، اللّهم أنه ليس هاهنا أحد يبلّغ رسولك السلام عنّي فبلّغه أنت عنّي السلام.

ثم دعا على القوم وقال : اللّهم أحصهم عددا واقتلهم بددا ، ولا تغادر منهم أحدا.

ثم دعوا أبناء من أبناء من قتل ببدر فوجدوهم أربعين غلاما ، فأعطوا كل غلام رمحا ، ثمّ قالوا هذا الّذي قتل آباءكم ، فطعنوه برماحهم طعنا خفيفا فاضطرب على الخشبة فانقلب ، فصار وجهه الى الكعبة ، فقال : الحمد لله الّذي جعل وجهي نحو قبلته التي رضي لنفسه ولنبيه وللمؤمنين!!

فأثارت روحانيته الكبرى ، وطمأنينته العظيمة غيض أحد المشركين الحاضرين ، وهو « عقبه بن الحارث » وتملكه غضب شديد من إخلاصه للاسلام فأخذ حربته وطعن بها خبيبا طعنة قاضية ، قتلته ، وهو يوحّد اللّه ويشهد أن محمّدا رسول اللّه.

ويروي ابن هشام أن خبيبا أنشد قبل مقتله أبياتا عظيمة نذكر هنا بعضها :

إلى اللّه أشكو غربتي ثمّ كربتي *** وما أرصد الأحزاب لي عند مصرعي

فذا العرش صبّرني على ما يراد بي *** فقد بضّعوا لحمي وقد ياس مطمعي

وذلك في ذات الاله وأن يشأ *** يبارك على أوصال شلو ممزّع

وقد خيّروني الكفر والموت دونه *** وقد هملت عيناي من غير مجزع

وما بي حذار الموت أني لميّت *** ولكن حذاري جحم نار ملفّع

فو اللّه ما أرجو إذا متّ مسلما *** على أي جنب كان في اللّه مصرعي

فلست بمبد للعدوّ تخشعا *** ولا جزعا إنّي إلى اللّه مرجعي

ص: 201

وقد أحزنت هذه الحادثة الاليمة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وكذا جميع المسلمين.

وأنشد فيهم « حسان بن ثابت » أبياتا ذكرها ابن هشام في سيرته ، كما أنه هجا هذيلا في أبيات اخرى لارتكابهم هذه الجريمة النكراء (1).

ولقد خشي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن تتكرر مثل هذه الجريمة النكراء ، وبذلك يواجه رجال التبليغ والدعوة الذين كان يعدهم بصعوبة بالغة مصاعب في سبيلهم ، ويتعرضوا لخسائر لا تجبر ، وعمليات غدر واغتيال اخرى.

وقد بقي جثمان هذا المسلم المجاهد على الخشبة مدة من الزمن ، يحرسه جماعة من المشركين حتى قام رجلان قويّان شجاعان من المسلمين بانزاله من فوق الصليب ليلا ، ومن ثم دفنه بأمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله (2).

جريمة بئر معونة :

وفي شهر صفر من السنة الرابعة وقبل أن يصل نبا مصرع الدعاة المذكورين واستشهادهم على أيدي المشركين في منطقة الرجيع الى النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، قدم أبو براء العامري المدينة فدعاه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الى الاسلام فلم يسلم ولكنّه قال للنبيّ صلی اللّه علیه و آله يا محمّد إني ارى أمرك حسنا ، فلو بعثت رجالا من أصحابك إلى أهل « نجد » فدعوهم إلى أمرك رجوت أن يستجيبوا لك فان هم اتبعوك فما أعز أمرك.

فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : إنّي اخشى عليهم أهل نجد.

قال أبو براء : لا تخف ، أنا لهم جار ، فابعثهم فليدعو الناس الى أمرك.

فبعث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أربعين رجلا من خيار المسلمين من أصحابه ممن حفظوا القرآن وعرفوا احكام الاسلام ، وأمّر عليهم « المنذر بن

ص: 202


1- المغازي : ج 1 ص 354 - 362 ، السيرة النبوية : ج 2 ص 169.
2- سفينة البحار : ج 1 ص 372.

عمرو » ، فساروا حتى نزلوا ببئر معونة وهي بين أرض بني عامر وحرّة بني سليم وهم يحملون من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كتابا إلى عامر بن الطفيل أحد زعماء « نجد » ، وكلّف أحد المسلمين بايصال ذلك الكتاب إلى عامر ، فلما أتاه الكتاب لم ينظر فيه حتى عدا على الرجل ( حامل الكتاب ) فقتله ، ثم استصرخ بني عامر على المبلّغين ، فأبوا أن يجيبوه إلى ما دعاهم إليه ، وقالوا : لن ننقض عهد أبي براء ، وقد عقد لهم عقدا وجوارا.

فاستصرخ عليهم قبائل بني سليم فأجابوه إلى ذلك فخرجوا حتى نزلوا حيث نزل جماعة الدعاة ، فأحاطوا بهم في رحالهم ، فلما رأوهم أخذوا سيوفهم ، ثم قاتلوهم حتى قتلوا عن آخرهم بعد أن أبدوا مقاومة كبرى ، وبسالة عظيمة ، ولم يكن يتوقع منهم غير ذلك.

فانّ مبعوثي النبيّ صلی اللّه علیه و آله لم يكونوا مجرد رجال فكر وعلم فقط ، بل كانوا رجال حروب ، وأبطال معارك ، ولذا رفضوا الاستسلام للمعتدين ، واعتبروا ذلك عارا لا يليق بالمسلم الحرّ الأبيّ ، فقاتلوهم حتى استشهدوا جميعا ، إلاّ كعب بن زيد ، فانه جرح فعاد بجراحه الى المدينة ، وأخبر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بما جرى لأصحابه على أيدي قبائل بني سليم المشركة الغدرة.

فحزن رسول اللّه والمسلمون جميعا لهاتين الحادثتين ، المفجعتين اشد الحزن بل ولم يجد على قتلى مثل ما وجد عليهم ، وبقي رسول اللّه يذكر شهداء بئر معونة ردحا من الزمان (1)

هذا ولقد كانت هاتان الحادثتان المؤسفتان المؤلمتان جميعا من نتائج النكسة التي أصابت المسلمين في « احد » والتي جرّأت القبائل خارج المدينة على قتل رجال المسلمين ودعاتهم غدرا ومكرا.

كيد المستشرقين وجفاؤهم :

إن المستشرقين الذين دأبوا على نقد أبسط سوء يتعرض له مشرك على أيدي

ص: 203


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 183 - 187 امتاع الاسماع : ج 1 ص 170 - 173.

المسلمين فينالون من الاسلام والمسلمين أشدّ نيل ، ويصرّون على أن يؤكّدوا على أن الاسلام لم ينتشر إلاّ بالسيف والقهر ، التزموا صمتا عجيبا تجاه هاتين الحادثتين المؤلمتين المفجعتين ، ولم ينبسوا في هذا المقام ببنت شفة أبدا ، وكأن شيئا من هذا لم يقع ، وكأن ما وقع لا يستأهل اهتماما وحديثا.

ترى أيّ نظام من أنظمة العالم القديم والجديد يجيز أن يقتل الدعاة والمبشرون ورجال العلم والفكر ، والتعليم والتثقيف.

إذا كان الاسلام قد تقدّم بالسيف - كما يدّعي رجال الاستشراق - فلما ذا تخاطر جماعات التبليغ والدعوة هذه بأنفسها وتزهق أرواحها في سبيل نشر الاسلام ، والدعوة السلمية الفكرية إليه.

إنّ هاتين الحادثتين تنطويان على نقاط حيوية ، وعبر مفيدة جدا ، فان قوة الايمان لدى تلك الجماعات ، وعمق تفانيها ، وتضحيتها ، وبسالتها تستحق إعجاب المسلمين ، واكبارهم. كما وتعتبر من أفضل الدروس وابلغها لهم.

المؤمن لا يلدغ من جحر مرّتين :

لقد أثارت حادثتا « الرجيع » و « بئر معونة » المفجعتان اللتان جرتا إلى مصرع مجموعة كبيرة من خيرة الدعاة والمبلّغين موجة من الحزن والأسى في المسلمين وتركت أثرا مؤلما في أوساطهم.

وهنا يتساءل القارئ : لما ذا أقدم النبيّ صلی اللّه علیه و آله على إرسال المجموعة الثانية من المبلّغين الى « نجد » مع أنه حصل على تجربة مرّة؟! ألم يقل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله :

« لا يلدغ المؤمن من جحر مرّتين ».

إن الإجابة على هذا السؤال تتضح من خلال مراجعة النصوص التاريخية لأن المجموعة الثانية قد بعثت في جوار من أبي براء ( عامر بن مالك بن جعفر ) والذي كان رئيسا لقبيلة بني عامر ، ولم تفعل قبيلته ما خالف جوار رئيسهم ولم يشتركوا في تلك الجريمة وقد بقي أبو براء نفسه في المدينة تأكيدا لجواره ، ريثما

ص: 204

يرجع فريق التبليغ إلى المدينة.

لقد كانت خطة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله خطة مدروسة وصحيحة لأن جماعة المبلّغين الثانية لم تقتل على يد قبيلة أبي براء ، ومع أن ابن أخيه عامر بن الطفيل قد استصرخ قبيلة أبي براء التي كانت قبيلته أيضا ، ضدّ جماعة المبلّغين إلاّ أن قبيلة أبي براء أبت أن تنفر معه ، ولم يستجب لندائه أحد منهم بل قالوا : لن يخفر جوار أبي براء. ولما أيس منهم استصرخ قبيلة اخرى لا تمتّ إلى قبيلة أبي براء بصلة ، فاقدمت تلك القبائل على محاصرة الدعاة الأربعين ومقاتلتهم.

ثم إن جماعة المبلّغين المذكورة كانت قد بعثت عند مغادرتها المدينة وتوجهها الى منطقة أبي براء رجلين من رجالها هما : عمرو بن أميّة و « حارث بن الصمة » (1) ليرعيا إبل الجماعة ويحافظا عليها ، وبينما كان الرجلان يقومان بواجبهما اذ أغار عليهما « عامر بن الطفيل ». فقتل حارث بن الصمة ، واطلق سراح عمرو بن اميّة.

فعاد عامر الى المدينة ، في اثناء الطريق التقى رجلين من العامريين فرافقهما وأمهلهما حتى اذا ناما وثب عليهما فقتلهما ، وهو يرى بأنه انتقم لزملائه من المسلمين من بني عامر ، وقد أخطأ في تصوره هذا لأن بني عامر لم تخفر جوار سيدها أبي براء ولم تنقض أمانة كما أسلفنا ، ولم يشترك في جريمة قتل الدعاة الأربعين.

فلما قدم على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأخبره الخبر ، حزن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لذلك وقال لعمرو :

« بئس ما صنعت ، قتلت رجلين كان لهما مني أمان وجوار ، لا دفعن ديتهما ».

ولكن الاجابة الاكثر وضوحا على هذا الاعتراض ( او السؤال ) هو ما يذكره ابن سعد صاحب الطبقات إذ يقول : وجاء رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله خبر أهل بئر معونة ، وجاءه تلك الليلة أيضا مصاب خبيب بن عديّ ومرثد بن أبي مرثد (2).

ص: 205


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 168 وصاحب السيرة يرى انه المنذر بن محمد.
2- الطبقات الكبرى : ج 2 ص 52 و 53.

34

غزوة « بني النضير »

اشارة

لقد فرح منافقو المدينة ويهودها بانتكاسة المسلمين في معركة « أحد » كما فرحوا أيضا بمصرع رجال التبليغ والدعوة ، فرحا بالغا وباتوا يتحيّنون الفرصة لإثارة القلاقل والفتن في المدينة لإفهام القبائل خارجها بأنه لا توجد أية وحدة سياسيّة وانسجام اجتماعيّ في مركز الاسلام ، وعاصمة الحكومة الاسلامية ، وأن في مقدور الأعداء الخارجيين أن يجهزوا على حكومة الاسلام الفتية ، ويقضوا عليها بسهولة!!

ولكي يقف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على نوايا ودخائل يهود بني النضير مشى في جماعة من أصحابه إلى حصنهم.

على أن الهدف الظاهري المعلن عنه كان هو الاستعانة بهم في دية العامريّين اللذين قتلا خطأ على يد « عمرو بن أميّة » كما أسلفنا ، وذلك بموجب الاتفاقيّة المعقودة بين رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وبين اليهود وكذا بني عامر وغيرهم والقاضية بالتعاون معا في تسديد الدية في مثل هذه الموارد.

فلما وصل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الى حيث يسكن بنو النضير ، وكلّمهم في أن يعينوه في تلك الدية ، رحبوا به ظاهرا ، ووعدوا بأن يلبّوا مطلبه ، ثم إنهم خاطبوه قائلين : يا أبا القاسم نعينك على ما احببت. ثم دعوه إلى أن يدخل في بيوتهم ، ويقضي يومه فيها ، قائلين : قد آن لك أن تزورنا ، وأن تأتينا ، اجلس حتى نطعمك ، فلم يقبل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بتلبية مطلبهم ، بل

ص: 206

جلس مستندا الى جدار بيت من بيوتهم واخذ يكلمهم (1).

ثم إن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله احسّ بشرّ من ذلك الترحيب الحارّ الذي قابلته به رجال بني النضير ، والذي رافق حركات مشبوهة منهم!!

هذا مضافا إلى أنه صلی اللّه علیه و آله شاهدهم وقد خلا بعضهم إلى بعض يتناجون ويتهامسون الأمر الذي يدعو الى الشك ، ويورث سوء الظن!!

وقد كان سوء الظن هذا في محله ، فقد قرر سادة يهود - لمّا أتاهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في رهط قليل من أصحابه - أن يتخلصوا منه باغتياله والغدر به على حين غفلة منه صلی اللّه علیه و آله ، فانتدبوا أحدهم وهو « عمرو بن جحاش » لتنفيذ هذه الجريمة ، وذلك بأن يعلو على البيت الذي استند رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى جداره فيلقى عليه صخرة تقتله.

إلاّ أنّ هذه المؤامرة انكشفت - ولحسن الحظ - قبل تنفيذها ، إما من خلال حركات اولئك اليهود الخبثاء ، المشبوهة ، أو بخبر أتى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من السماء ، كما يروي ابن هشام والواقدي في مؤلفيهما.

فنهض رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله سريعا ، كأنه يريد حاجة ، وتوجه من توّه إلى المدينة دون أن يخبر أصحابه الذين أتوا معه ، بقصده.

وبقي أصحابه هناك ينتظرون عودته من حاجته دون جدوى.

وندمت يهود على ما صنعت ، واضطربت لذلك اضطرابا شديدا ، واصابتها حيرة شديدة فيما يجب أن تقوم به.

فمن جهة خشيت أن يكون رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قد علم بمؤامرتهم وتواطئهم ، فيقدم على تأديبهم لنقضهم ميثاق التعايش السلميّ ، ولتواطئهم القبيح ، ومكرهم السيئ.

ومن ناحية اخرى أخذت تفكّر في أن تنتقم من أصحابه الموجودين هنا إن هو فاتهم ، ولكنها خشيت أن يؤدي ذلك إلى مزيد من تأزّم الموقف ، وان ينتقم

ص: 207


1- يقول صاحب المغازي : إن النبيّ جاء بني النضير في ناديهم ج 1 ص 364.

رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حينئذ منهم قطعا ويقينا.

وفيما هم في هذه الحالة من الاضطراب والتحيّر قرر أصحاب النبيّ صلی اللّه علیه و آله العودة إلى المدينة بعد أن يئسوا من رجعته إليهم من حاجته ، فلقوا رجلا مقبلا من المدينة فسألوه عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقال : رأيته داخلا المدينة ، فأقبلوا حتى انتهوا إليه صلی اللّه علیه و آله وعرفوا بمؤامرة اليهود إذ قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لهم لما قالوا : يا رسول اللّه قمت ولم نشعر :

« همّت اليهود بالغدر بي ، فأخبرني اللّه بذلك فقمت » (1).

بما ذا يجب أن تقابل هذه الجريمة؟

والآن ما ذا يجب أن يقوم به رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله تجاه هذه الزمرة الخائنة المتآمرة؟ تلك الزمرة التي تنعم بما وفّرتها لهم الحكومة الاسلامية من أمن وحرية ، ويحافظ جنود الاسلام على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم ، كما يفعلون الفعل ذاته بالنسبة إلى أنفسهم وأموالهم وأعراضهم على حد سواء.

تلك الزمرة التي كانت ترى كل آثار النبوة ودلائلها في حياة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأعماله ، وأقواله تماما على نحو ما قرأت عنه في كتبها وأسفارها ، ولكنها بدل أن تردّ الجميل بالجميل وتقابل الاحسان بالاحسان ، وبدل أن تحسن ضيافته وقد نزل عليهم ضيقا تتآمر لقتله غيلة وغدرا دون ما خجل ولا حياء!!

ما هو ترى ما تقتضيه العدالة في هذا الصعيد وفي هذه الحال؟

وما ذا يجب أن يفعل المرء حتى يمنع من تكرار مثل هذه الحوادث ، ويستأصل جذور مثل هذه الجرائم؟

إن الطريق المنطقي هو ما أختاره رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وفعله.

فقد أمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله المسلمين بالتهيّؤ لحربهم ، والسير إليهم ،

ص: 208


1- الطبقات الكبرى : ج 2 ص 57 ، امتاع الاسماع : ج 1 ص 178.

ثم دعا محمد بن مسلمة وأمره بأن يذهب إلى بني النضير ، ويبلغ سادتهم ، من قبله رسالة.

فخرج محمد بن مسلمة الأنصاري الاوسي (1) الى بني النضير وقال لسادتهم : إنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أرسلني إليكم يقول :

« قد نقضتم العهد الّذي جعلت لكم بما هممتم به من الغدر بي.

اخرجوا من بلادي فقد أجّلتكم عشرا فمن رئي بعد ذلك ضربت عنقه ».

فأحدثت هذه الرسالة الشديدة اللّهجة والساخنة المضمون انكسارا عجيبا في يهود بني النضير ، وأخذوا يتلاومون ، وأخذ يحمّل كل واحد منهم الآخر مسئولية هذه القضية.

فاقترح عليهم أحد سادتهم أن يعتنقوا الاسلام ، ويؤمنوا برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ولكن عنادهم منعهم من القبول بهذا الاقتراح. وعمتهم حالة يرثى لها من الحيرة ، والانقطاع ، فقالوا لمبعوث النبيّ صلی اللّه علیه و آله : يا محمّد ما كنّا نرى أن يأتي بهذا رجل من الاوس.

ويقصدون أنه كان بيننا وبين الأوس حلف فما بالك تريد حربنا الآن.

فقال محمد بن مسلمة : تغيّرت القلوب.

وقد كان هذا الاجراء متطابقا مع ما جاء في ميثاق التعايش الذي عقده رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مع يهود يثرب ابان دخوله المدينة ، وقد وقع عليه عن اليهود بني النضير حيي بن أخطب ، وقد نقلنا في ما سبق النصّ الكامل لهذا الميثاق وها نحن ندرج هنا قسما منه ليتضح ما ذكرناه.

جاء في أحد بنود الميثاق ( العهد ) :

« ألاّ يعينوا ( أي بنو النضير وبنو قريظة وبنو قينقاع ) على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ولا على أحد من أصحابه بلسان ولا يد ولا بسلاح ولا بكراع في السرّ والعلانية لا بليل ولا بنهار واللّه بذلك عليهم شهيد ، فان فعلوا فرسول اللّه في حل

ص: 209


1- المغازي : ج 1 ص 366.

من سفك دمائهم ، وسبي ذراريهم ، ونسائهم ، وأخذ أموالهم » (1).

المستشرقون ودموع التماسيح :

لقد أبدى المستشرقون حزنهم وأسفهم لما جرى في هذه القضية ، وذرفوا دموع تماسيح ، وأبدوا دقّة وشفقة أكثر مما تبديه والدة تجاه وليدها ، على اليهود الخونة الناقضين العهد ، الناكثين للايمان ، واعتبروا الإجراء الذي اتخذه النبيّ صلی اللّه علیه و آله بحقهم بعيدا عن روح الانصاف وسنن العدل!!

والحق أن هذه الاعتراضات والانتقادات لا تنبع من منطلق السعي لمعرفة الحقيقة ، لأننا عند مراجعتنا لنص الميثاق الذي أدرجناه للقارئ الكريم نرى الحقيقة على غير ما يتصورون ويصورون فاننا نعرف أن الجزاء الذي جازى به رسول اللّه يهود بني النضير هو في الحقيقة أقلّ من الجزاء المنصوص عليه في ذلك الميثاق بدرجات.

إن هناك اليوم مئات الجرائم والمظالم التي يرتكبها أسياد هؤلاء المستشرقين في الشرق والغرب دون أن يعترض عليها أي واحد من هؤلاء المستشرقين الرحماء ، أدعياء الدفاع عن حقوق الانسان!!!

أما عند ما يقوم رسول الاسلام بتنفيذ عقوبة - هي في الحقيقة - اقل بكثير من ما هو منصوص عليه في الميثاق بحق زمرة خائنة متآمرة ناقضة للعهد تتعالى أصوات حفنة من الكتاب المدفوعين بأغراض معينة ودوافع خاصة بالاعتراض ، والانتقاد.

دور حزب النفاق أيضا :

كان خطر المنافقين - وكما أسلفنا - أكبر من خطر اليهود لأن المنافق يطعن من الخلف وتحت غطاء من الصداقة ، ويتستر وراء قناع الصحبة والزمالة.

ص: 210


1- بحار الأنوار : ج 19 ص 111.

وقد كان رأس هذا الحزب هو « عبد اللّه بن أبي » و « مالك بن أبي » و .. و ..

ولمّا سمع هؤلاء المنافقون بما يلقاه بنو النضير من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أرسلوا إليهم من يقول لهم : لا تخرجوا من دياركم وأموالكم ، وأقيموا في حصونكم ، فان معي ألفين من قومي وغيرهم من العرب ، يدخلون معكم حصنكم فيموتون من آخرهم قبل أن يوصل إليكم وتمدكم قريظة فانه لن يخذلونكم ، ويمدّكم حلفاؤكم من غطفان؟!

ولقد جرّات هذه الوعود بني النضير ، فانصرفوا عن فكرة الرضوخ لمطلب النبيّ صلی اللّه علیه و آله فأغلقوا أبواب حصونهم ، وأعدّوا عدة الحرب ، وعزموا على أن يقاوموا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مهما كلّف الثمن ، ولا يسمحوا للمسلمين بأن يسيطروا على بساتينهم وممتلكاتهم دون عوض.

فنصحهم أحد كبرائهم وهو « سلام بن مشكم » وشكك في وعود عبد اللّه بن أبي ، واعتبرها وعودا جوفاء ، وقال : ليس رأي ابن أبيّ بشيء ، فهو واللّه جلاؤنا من أرضنا ، وذهاب أموالنا ، أو سباء ذرارينا مع قتل مقاتلينا.

إلاّ أن « حيي بن أخطب » أبي إلاّ محاربة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وحث الناس على المقاومة والصمود ، وأرسل الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : إنا لا نبرح من دارنا وأموالنا فاصنع ما أنت صانع!!

فعرف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله برسالة « عبد اللّه بن ابي » إلى بني النضير ، وو عوده لهم ، فاستخلف ابن أمّ مكتوم على المدينة ، وسار صلی اللّه علیه و آله في أصحابه مكبّرا لمحاصرة بني النضير فصلّى صلاة العصر بفضائهم واستقر في الطريق بين « بني النضير » وبين « بني قريظة » ليقطع بذلك سبيل الاتصال بين هذين الفريقين ، وحاصر بني النضير ست ليال - حسب رواية ابن هشام - (1) أو خمسة عشر يوما حسب روايات آخرين ، ولكن اليهود تحصنوا منه في الحصون ، وأظهروا المقاومة ، والإصرار على الامتناع ، فأمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله

ص: 211


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 191 ، وهذا من التكتيكات العسكرية التي كان النبيّ صلی اللّه علیه و آله يستعملها ليقطع خطوط الارتباط بين الجماعات المتعاونة.

بقطع النخيل المحيطة بتلك الحصون ، وإلقاء النار لييأس اليهود من البقاء في تلك المنطقة ما دامت بساتينهم أعدمت ، وافنيت.

فتعالت نداءات اليهود تقول : يا محمّد ، قد كنت تنهى عن الفساد ، وتعيبه على من صنعه ، فما بال قطع النخل وتحريقها؟!

فردّ اللّه تعالى عليهم بقوله :

« ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ » (1).

هذا من جهة ومن جهة اخرى خذلهم عبد اللّه بن أبيّ ، فلم يأتوهم ، كما اعتزلتهم قريظة فلم تعنهم بسلاح ولا رجال.

وقد ذكر القرآن الكريم هذا الخذلان إذ قال تعالى :

« أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ. لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ. لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ » (2).

وقد كشفت الآيات الحاضرة - إلى جانب ما ذكر - عن نفسية اليهود الجبانة ، والتي انهارت أيضا بسبب معنويات المسلمين القوية حتى أنهم رغم اجتماعهم وعددهم الكبير يخافون من مواجهة المسلمين فلا يقاتلونهم إلاّ من وراء أسوار الحصون ، وجدران القلاع القوية خائفين مذعورين ، ومرعوبين ، وهم الى جانب كل ذلك يعانون من اضطراب وقلق وتفرق كلمة في الواقع.

وأخيرا رضخ اليهود لمطلب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وسألوه أن يجليهم ، ويكفّ عن دمائهم على أن يكون لهم ما حملت الابل من أموالهم إلاّ السلاح

ص: 212


1- الحشر : 5.
2- الحشر : 11 - 14.

والدروع ، فرضي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بذلك.

فاحتملوا من أموالهم أكبر قدر ممكن ، حتى أن الرجل منهم يقلع باب بيته فيضعه على ظهر بعيره ، ثم يخرب بيته بيديه!!

فخرج جماعة منهم إلى خيبر ، وسارت جماعة اخرى منهم الى الشام.

وقد خرجت تلك الزمرة الذليلة المسكينة وهم يضربون بالدفوف ، ويزمّرون بالمزامير ، وقد البسوا نساءهم الثياب الراقية ، وحليّ الذهب ، مظهرين بذلك تجلّدا ليغطوا على هزيمتهم ، ويروا المسلمين أنهم غير منزعجين من مغادرتهم تلك الديار!!

مزارع بني النضير تقسّم بين المهاجرين فقط :

إن ما يغنمه جنود الاسلام دون قتال وهو ما يسمى بالفيء يعود أمره الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله خاصة يضعه حيث يشاء ويصرفه فيما يرى من مصالح الاسلام لقوله تعالى :

« ما أَفاءَ اللّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ » (1).

وقد رأى النبيّ صلی اللّه علیه و آله أن من الصالح أن يقسم المزارع والممتلكات التي غنمها من بني النضير على المهاجرين دون الأنصار ، لحرمانهم من ممتلكاتهم وثروتهم في مكة بسبب الهجرة منها الى المدينة ، وكانوا في الحقيقة ضيوفا على الأنصار طوال هذه المدة ، وقد أيّد « سعد بن معاذ » و « سعد بن عبادة » هذا الرأي ، ومن هنا قسّم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله جميع تلك المزارع والممتلكات على المهاجرين خاصّة ، ولم يصب أحد من الأنصار منها شيئا الا رجلان كانا محتاجين هما : « سهل بن حنيف » ، و « أبو دجانة » ، الانصاريين وحصل بذلك انفراج في أحوال المسلمين عامة ، وأعطى « سعد بن معاذ » سيف

ص: 213


1- الحشر : 7.

رجل من زعماء بني النضير وكان سيفا معروفا.

يقول المقريزي :

فلما غنم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من بني النضير بعث ثابت بن قيس بن شماس فدعا الانصار كلّها - الاوس والخزرج - فحمد لله وأثنى عليه ، وذكر الانصار وما صنعوا بالمهاجرين وانزالهم اياهم في منازلهم ، وآثرتهم على أنفسهم ثم قال صلی اللّه علیه و آله :

« ان أحببتم قسمت بينكم وبين المهاجرين ما أفاء اللّه عليّ من بني النضير وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في مساكنكم وأموالكم ، وان أحببتم أعطيتهم وخرجوا من دوركم »؟

فقال سعد بن عبادة وسعد بن معاذ : رضينا وسلّمنا يا رسول اللّه.

فقسّم رسول اللّه ما أفاء اللّه عليه ، على المهاجرين دون الانصار إلاّ رجلين كانا محتاجين .. الخ (1).

وقد وقعت هذه الحادثة في شهر ربيع الأول في السنة الرابعة من الهجرة ونزلت سورة الحشر في هذا الشأن ، والتي جاء في مطلعها قوله تعالى :

« هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللّهِ فَأَتاهُمُ اللّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ » (2).

هذا ويعتقد أكثر المؤرخين المسلمين أنه لم يسفك في هذه الحادثة ، أي دم ، ولكن المرحوم الشيخ المفيد يكتب في ارشاده : انه وقع ليلة فتح حصون بني النضير قتال محدود قتل فيه عشرة من اليهود وكان ذلك هو السبب في فتح تلكم الحصون (3).

ص: 214


1- امتاع الاسماع : ج 1 ص 182 و 183.
2- الحشر : 2.
3- الارشاد : ص 47 و 48.

وقال المقريزي : وفقد علي رضی اللّه عنه في بعض الليالي فقال النبيّ صلی اللّه علیه و آله : انه في بعض شأنكم ، فعن قليل جاء برأس « عزوك » وقد كمن له حتى خرج في نفر من اليهود يطلب غرّة من المسلمين وكان شجاعا راميا فشدّ عليه علي رضی اللّه عنه ، فقتله وفرّ اليهود (1).

ص: 215


1- امتاع الاسماع : ج 1 ص 180.

35

تحريم الخمر ذات الرقاع ، بدر الصغرى

1 - تحريم الخمر :

كانت الخمور ، وعلى العموم جميع المسكرات ولا تزال من أشد الاوبئة الاجتماعية التي تهدد أمن وسلامة المجتمعات البشرية وتجر إليها أكبر الأخطار ويكفي في خطورة هذا السمّ القاتل أنه يعادي أكبر ما يميّز البشر عن ما سواه من الاحياء ، ذلكم هو العقل ، فان الخمرة هو العدوّ الأول لهذه الموهبة الالهية التي في سلامتها ضمان سعادة الانسان.

إن الفارق بين الانسان وبين سائر الاحياء هو القوة العاقلة التي يمتلكها الانسان دون غيره ، وتكون المسكرات من أعدى أعداء هذه القوة ، من هنا كان المنع من تعاطي الخمور والمسكرات من أبرز البرامج التي جاء بها الأنبياء ، وكانت الخمور محرمة في جميع الشرائع السماوية (1).

ص: 216


1- عام 1339 هجري زار الدكتور آرشه تونك رئيس منظمة مكافحة الخمور ايران ، وقد سرّ لما سمع أن الاسلام يحرم تعاطي المسكرات. وقد كان يحب أن يلتقي بزعيم المذهب الشيعي يومئذ : (آية اللّه السيد البروجردي) ليتعرف على رأي الاسلام في الخمور والمسكرات، فاصطحبه أحد الدكاترة المعروفين في طهران إلى منزل السيد البروجردي في مدينة «قم»، وبعد الاستئذان تشرف بلقاء السيد، وقد حضر العلامة الطباطبائي في ذلك المجلس وكنت أنا ووالدي حاضرين هناك كذلك. فكان أول سؤال طرحه الدكتور هو: لماذا حرم الاسلام المسكرات؟ فقال الامام البروجردي: يكفي أن أشير لك من بين العلل الكثيرة إلى علة واحدة وهي أن الخمرة تحطم العقل الذي به يمتاز الانسان عن سائر الاحياء ويتميز عليهم. كما اوضحناه اعلاه.

ولقد كانت معاقرة الخمور من الآفات التي كانت متفشية ومتجذرة في المجتمع العربي في شبه الجزيرة العربيّة بحيث كانت معالجتها تحتاج الى وقت طويل ، واسلوب مدروس ، ولم تكن الظروف والاحوال في ذلك العهد لتسمح بأن يعلن رسول الاسلام عن تحريم الخمر دفعة واحدة ومن دون آية مقدمات ، وممهّدات لذلك ، بل كان يتحتم عليه أن يعالج هذا الوباء الاجتماعيّ من خلال إعداد الناس لمرحلة التحريم النهائي والقطعي تماما كما يفعل الطبيب بالنسبة إلى المرضى الذين طال بهم المرض ، وتجذر.

من هنا حرّمت الخمر في أربع مراحل تدريجية ضمن آيات أربع أظهرت الاستياء من الخمر لكن لا على نمط واحد ، بل بدأت من مرحلة مخفّفة حتى انتهت إلى مرحلة الاعلان عن التحريم القطعي.

إنّ التمعن في هذه الآيات تكشف لنا عن كيفيّة الاسلوب النبويّ في التبليغ والإرشاد ، والدعوة والهداية ، وينبغي للخطباء ، والكتاب أن يتبعوا هذا الاسلوب المؤثر والمفيد في معالجة الأدواء الاجتماعية المزمنة ، ويكافحها بهذا الشكل حتى يحصلوا على أفضل النتائج.

إن الشرط الاساسي لمكافحة ناجحة لأيّ خلق وسلوك فاسد هو إيقاظ المجتمع وإيقافه أوّلا على أضرار ذلك السلوك ، ومفاسده ، وتذكيره بآثاره السيئة ليحصل لدى المجتمع - بذلك - الاستعداد الروحي بل والدافع الباطني إلى خوض معركة أساسية وجذرية ضدّ ذلك السلوك الفاسد ، والخلق الذميم ، ويكون الناس هم الضمانة لا نجاح هذه المهمة. وذلك لأن ردّ المعتاد عن عادته كالمعجز كما في الحديث الشريف (1).

كيف والعرب كانوا يعشقون الخمرة حتى أن الرجل منهم ربما كان يوصي بأن يدفن الى جنب كرمة لتسقى عظامه بالخمر.

يقول أحدهم :

ص: 217


1- مفاتيح الغيب : ج 2 ص 263.

اذا مت فادفني الى جنب كرمة *** تروّي عظامي بعد موتي عروقها(1)

من هنا اعتبر القرآن الكريم اتخاذ الخمر من التمور والاعناب - في مجتمع كان تعاطي الخمر جزء أساسيا من حياته - مخالفا للرزق الحسن ، وبذلك ايقظ العقول العافية ، إذ قال :

« وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً » (2).

إنّ القرآن أعلن - في المرحلة الاولى من مراحل النهي عن تعاطي الخمر - أن اتخاذ المسكر من التمر والعنب لا يعد من الارتزاق الحسن بل الارتزاق الحسن هو تناول التمر والعنب على حالتهما الطبيعية.

إن هذه الآية : أعطت هزة ذكيّة للعقول وهيّأت الطبائع المنحرفة لمرحلة أقوى في مسيرة تحريم الخمر حتى يتسنى لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن يشدد من نبرته ، ويعلن عن طريق آية اخرى أنّ النفع المادي القليل ، الذي تعود به الخمر ويأتي به القمار ، ليس بشيء بالقياس الى أضرارهما الكبرى وأخطارهما العظيمة ، وقد تم الكشف عن هذه الحقيقة في قوله تعالى :

« يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما » (3).

ولا ريب أن مجرد المقارنة بين النفع والضرر ، وكذا الوقوف على زيادة الضرر على النفع كاف لايجاد النفور والاشمئزاز لدى العقلاء ، والداعين من الخمر وما شاكلها ، وشابهها.

إلاّ أن جماهير الناس وعامتهم لن يقلعوا عن هذه العادة الشريرة المتجذرة ما لم يسمعوا نهيا صريحا وقاطعا عنها.

فها هو عبد الرحمن بن عوف رغم نزول هذه الآية قد استضاف جماعة من الصحابة وأحضر على المائدة خمرا ، فأكلوا ، وشربوا الخمر ، ثم قاموا الى الصلاة ، فأخطأ أحدهم في القراءة وهو سكران خطأ غيّر من مراد اللّه تعالى في ما قرأ من

ص: 218


1- أي ما يسكر.
2- النحل : 67.
3- البقرة : 219.

الآية ، فقد تلا سورة « الكافرون » ، وبدل أن يقول : « لا أعبد ما تعبدون » قرأ : « أعبد ما تعبدون ». فاضطربت تلك الجماعة لهذا الأمر ، وخشيت أن تكون ارتكبت بذلك أمرا عظيما!!

وقد هيّأ هذا الحادث الناس ليحرّم تعاطي الخمر في ظروف وحالات خاصة على الاقل.

من هنا جاء الاعلان عن حرمة تعاطي الخمر قبل الصلاة ، وأعلن القرآن الكريم بصراحة أنه لا يجوز لمسلم أن يصلّي في حالة السكر ، وقد أعلن عن هذا التشريع الالهيّ في قول اللّه تعالى :

« يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ » (1).

ولقد بلغ من تأثير هذه الآية ، وفاعليتها أن هجر جماعة من المسلمين تعاطي الخمر بالمرّة بحجة أن ما يضرّ بالصلاة يجب ان يطرد من حياة المسلم نهائيا.

ولكن البعض بقي يتعاطاها حتى أنّ رجلا من الأنصار دعا جماعة الى مائدة أحضر فيها الخمر - رغم نزول الآية الحاضرة - فلما شربوا وأسكروا حمل بعضهم على بعض ، وجرح بعضهم بعضا فشكوا أمرهم إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، وكان الخليفة الثاني لم يزل يشرب الخمر إلى ذلك معتقدا عدم كفاية الآية الحاضرة في التحريم القطعيّ لها ولهذا رفع يديه إلى السماء وقال : اللّهم بيّن لنا بيانا شافيا في الخمر.

ولا يخفى أن هذه الحوادث والوقائع المؤسفة قد هيّأت الارضية بشكل رائع لتقبّل مسألة تحريم الخمر تحريما كاملا وقاطعا ، من هنا نزل قوله تعالى يعلن عن هذه الحرمة القطعية :

« يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ » (2).

ص: 219


1- النساء : 43.
2- المائدة : 90.

وقد دفع هذا البيان البليغ القاطع أن يقلع عن الخمر نهائيا من كان يشربها حتى تلك الساعة بحجة عدم وجود نهي صريح وقاطع عنها.

وقد جاء في كتب السنة والشيعة أن الخليفة الثاني قال بعد سماع هذه الآية : انتهينا يا ربّ (1)!!

وقفة عند « البيان الشافي » :

قلنا إن الخليفة الثاني لم يقتنع بعد سماع الآيات الثلاث بحرمة الخمر ، بل بقي ينتظر بيانا شافيا يكشف عن التحريم القطعي ، حتى اقنعته الآية الرابعة بحرمة الخمور والمسكرات ، وقد كان حكم اللّه تعالى في هذه الآية هو : أنّ الخمر « رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلّكم تفلحون » ولكن المتغربين ، وهواة المادية الغربية في عصرنا لم تقنعهم كل هذه الآيات بحرمة الخمر ، حتى الآية الرابعة الصريحة في هذا الأمر ، فيقولون لا بدّ أن يعلن عن هذا التحريم بلفظة : حرام أو حرّمت ، والاّ لم يمكن القطع بحرمة الخمر!!

إن هذه الزمرة التابعة لأهوائها ، الأسيرة لشهواتها الحرام ، لا تريد في الحقيقة إلاّ أن تظل عاكفة على الخمر أبدا ، ومن هنا تطرح مثل المعاذير وتتوسل بمثل هذه التحججات الجوفاء.

على أن القرآن الكريم قد استعمل لفظ الحرام بشكل ما في شأن الخمر إذ قال : « وإثمهما أكبر من نفعهما » (2).

وقد حرّم تعالى جميع أنواع الإثم في آية اخرى إذ قال :

« قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ » (3).

وبعبارة اخرى : لقد بين اللّه تعالى في آية اخرى الموضوع ، وهو أن الخمر ( التي تسمّى إثما أيضا ) قد حرّمت.

ص: 220


1- مستدرك الوسائل : ج 4 ص 143 ، روح المعاني : ج 7 ص 15.
2- البقرة : 219.
3- الاعراف : 33.

فهل ينتظر هواة الغرب بعد هذا البيان الواضح والتحريم الصريح بيانا كافيا شافيا؟!

وفي الحقيقة نحن لا نحتاج إلى مثل هذا الاستدلال أبدا فالآيات الأربع المتقدمة التي وصفت الخمر بأنها « رجس » وأنها نظير « الميسر » ، وأنها « عمل شيطاني » ، مناقض للفلاح ، وسبب « للعداوة » و « البغضاء » ، قد أعلنت عن حرمتها بصورة واضحة لا إبهام فيها ، ولا غموض ، وهي بالتالي أقوى بيان لمن تدبّر وأنصف ، وتجرّد عن الاهواء والأغراض المريضة.

وهنا لا بدّ أن نذكّر بنقطة هامة وهي أن النبيّ الاكرم صلی اللّه علیه و آله استطاع ان يطهّر في هدى هذه الآيات الأربع ، بيئته ومجتمعه من أدران هذه العادة الشريرة ، ويقوم المؤمنون أنفسهم بتنفيذ هذا الحكم من دون قهر أو إجبار ، بينما لم يستطع العالم الغربي رغم كل ما يملك من الإمكانات الماديّة العريضة ، وأجهزة الدعاية الواسعة أن يخطو خطوة ناجحة في هذا الطريق ، فقد اخفقت كل خططه ، أمام هذا السمّ القاتل ، والفشل الذي أصاب الولايات المتحدة في مكافحة المشروبات الروحية في أعوام 1933 - 1935 أمر معروف للجميع ، وله قصة عجيبة يمكن أن يقف عليها القارئ الكريم في مصادرها (1).

رواية مختلقة :

ومن عجيب الأمر أن يروي بعض المفسرين عند تفسير قوله تعالى : « ولا تقربوا الصلاة وانتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون » رواية جاء فيها أن امام المتقين علي بن أبي طالب علیه السلام كان ضمن جماعة شربوا الخمر ثم قاموا الى الصلاة فقرأ أمامهم غلطا : « اعبد ما تعبدون » فانزل اللّه تعالى هذه الآية : « لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ».

نقول إن من العجيب أن تنسب إلى الامام علي علیه السلام مثل هذه

ص: 221


1- راجع ما ذا خسر العالم بانحطاط المسلمين : ص 80 وغيره.

النسبة وهو الطاهر المطهّر بحكم آية التطهّر (1) وهو الذي نشأ وترعرع في احضان سيد المرسلين صلی اللّه علیه و آله الذي كان يتجنب الخمر ، حتى قبل نزول النهي الصريح عنها ، هذا وعلي علیه السلام المعروف بحكمته وفهمه وعلمه عارف بما للمسكر من تبعات خطيرة.

نعم من العجيب أن نصدق بأن عليا علیه السلام شرب الخمر ، وهناك في الجاهلية ( وقبل الاسلام ) من حرّم الخمر على نفسه لكونه يذهب بالعقل ، ويؤول بالمرء الى ما لا يحمد.

ففي السيرة الحلبية كان عبد اللّه بن جدعان من جملة من حرّم الخمر على نفسه في الجاهلية أي بعد ما كان مغرما بها وسبب ذلك أنه سكر ليلة فصار يمدّ يده على ضوء القمر ليمسكه فضحك منه جلساؤه ثم اخبروه بذلك حين صحا فحلف أن لا يشربها أبدا.

وكان عثمان بن مظعون ممّن حرّم الخمر على نفسه في الجاهلية أيضا وقال : لا أشرب شيئا يذهب عقلي ، ويضحك بي من هو أدنى مني ، ويحملني على أن انكح كريمتي من لا اريد (2).

وورد عن الامام محمد الباقر علیه السلام قال : أوحى اللّه تعالى إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله اني أشكر لجعفر بن أبي طالب علیه السلام أربع خصال.

فدعاه النبيّ صلی اللّه علیه و آله فأخبره فقال : لو لا أن اللّه تبارك وتعالى أخبرك ما أخبرتك :

ما شربت خمرا قط لاني لو شربتها زال عقلي.

وما كذبت قط لان الكذب ينقص المروة.

وما زنيت قط لأني خفت إذا عملت عمل بي.

ص: 222


1- الاحزاب : 33 ، راجع تفاسير الفريقين ومجاميعهم الحديثية.
2- السيرة الحلبية : ج 1 ص 130.

وما عبدت صنما قط لأني علمت أنه لا يضر ولا ينفع.

فضرب النبيّ صلی اللّه علیه و آله على عاتقه وقال : « حق لله تعالى أن يجعل لك جناحين تطير بهما مع الملائكة في الجنّة » (1).

نعم هذا هو موقف من هو أقل مرتبة ومنزلة من الإمام علي علیه السلام من الخمر ، ولو في العهد الجاهلي ، وقبل تحريمها في الاسلام.

لكن يد الوضع والدس أبت إلاّ أن تختلق رواية في المقام ، فقد جاءت في جامع البيان للطبري روايتان نذكرهما سندا ومتنا ليقف القارئ على ما تعانيان من مآخذ :

1 - حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا عبد الرحمن قال حدثنا سفيان عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن عن علي أنه كان هو وعبد الرحمن ورجل آخر شربوا الخمر فصلى بهم عبد الرحمن فقرأ : يا أيها الكافرون فخلط فيها فنزلت : لا تقربوا الصلاة وانتم سكارى.

2 - حدثني المثنى قال حدثنا الحجاج بن المنهال قال حدثنا حماد عن عطاء بن السائب عن عبد اللّه بن حبيب أن عبد الرحمن بن عوف صنع طعاما وشرابا فدعا نفرا من أصحاب النبيّ صلی اللّه علیه و آله فأكلوا وشربوا حتى تملّوا فقدّموا عليا يصلّي بهم المغرب فقرأ : قل يا أيها الكافرون اعبد ما تعبدون وأنتم عابدون ما أعبد وأنا عابد ما عبدتم. لكم دينكم ولي دين. فأنزل اللّه تبارك وتعالى هذه الآية : « لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ » (2).

والروايتان - مضافا إلى ما يرد عليهما من الاشكال - تعانيان من مؤاخذات متعددة أبرزها الاشكال في سندهما ، فكلتا الروايتان تنتهيان إلى عطاء بن السائب ، وهو مطعون في وثاقته وديانته ، وفي حفظه وحديثه ، وإليك ما قال عنه أئمة علم الرجال :

ص: 223


1- الدرجات الرفيعة : ص 70 نقلا عن الامالي لابن بابويه.
2- جامع البيان في تفسير القرآن للطبري : ج 5 ص 61.

قال عنه الذهبي : عطاء بن السائب أحد علماء التابعين ، تغيّر بأخرة وساء حفظه.

قال عنه أحمد : من سمع منه قديما فهو صحيح ، ومن سمع منه حديثا لم يكن بشيء.

وقال عنه يحيى بن معين : لا يحتج به.

وقال أحمد بن أبي خيثمة عن يحيى : حديثه ضعيف.

وقال عنه أبو حاتم : محلّه الصدق قبل أن يخلّط.

وقال النسائي : ثقة في حديثه القديم لكنه تغيّر.

وقال ابن عليّة : قدم علينا عطاء بن السائب البصرة ، فكنا نسأله ، فكان يتوهّم ، فنقول له : من؟ فيقول : اشياخنا ميسرة ، وزاذان ، وفلان.

وقال الحميدي ، حدثنا سفيان ، قال : كنت سمعت من عطاء بن السائب قديما ، ثم قدم علينا قدمة فسمعته يحدث ببعض ما كنت سمعت ، فخلّط فيه ، فاتقيته واعتزلته.

واضاف الذهبي : « ومن مناكير عطاء ... » (1).

أجل هذا هو عطاء في منظار علماء الرجال ، انه سيئ الحفظ ، ضعيف مخلّط له مناكير ، يتوهّم ، تغيّر بأخرة ، وقد ظهرت آثار الوهم وسوء الحفظ والتخليط هذا في روايتيه هاتين. فهو تارة يقول أن عليا علیه السلام كان مأموما في هذه القصة ( كما في الرواية الاولى ) وتارة يقول كان علیه السلام إماما للجماعة.

وهذه الرواية من مناكيره ، وأوهامه بلا ريب ، إذ كيف يصح أن ينسب إلى رجل لازم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الطيّب الطاهر منذ نعومة أظفاره ، شرب الخمر ، والائتمام برجل دونه في الفضل ، أو إمامته للجماعة وتخليطه في قراءة سورة عظيمة من سور القرآن الكريم؟!

ولنستمع معا إلى ما يقوله إمام المتقين علي بن أبي طالب علیه السلام عن

ص: 224


1- ميزان الاعتدال : ج 3 ص 70 - 73.

فترة صباه في كنف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فانه أفضل ردّ على هذه الرواية ونظائرها : قال علیه السلام :

« قد علمتم موضعي من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بالقرابة القريبة ، والمنزلة الخصيصة ، وضعني في حجره وأنا ولد يضمّني الى صدره ، ويكنفني في فراشه ، ويمسّني جسده ويشمّني عرفه ، وكان يمضغ الشيء فيلقمنيه وما وجد لي كذبة في قول ، ولا خطلة في فعل ، ولقد قرن اللّه به صلی اللّه علیه و آله من لدن كان فطيما أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم ، ومحاسن أخلاق العالم ، ليله ونهاره ، ولقد كنت اتبعه إتباع الفصيل أثر أمه ، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علما ، ويأمرني بالاقتداء به » (1).

هذا وأغلب الظن ان الذين اختلقوا هذه الرواية لما وجدوا أمثال هذه القبائح في حياة بعض الصحابة أرادوا ان يساووا بين الامام علي علیه السلام وغيره ، فاختلقوا هذه الفرية الوقحة.

ومما يثير الاستغراب أن يقع بعض الكتّاب والمفكّرين المعاصرين في نفس ما وقع القدامى من الخطأ في هذا المجال ، ويذكر هاتين الروايتين في تفسيره للقرآن الكريم ، مع كل هذه المؤاخذات عليهما حتى في صورة النقل ، كما فعل سيد قطب في تفسيره « في ظلال القرآن » (2) ، إذ ليس كل ما هو مذكور في كتب الاقدمين يصح نقله ، ويجوز تكراره. وبخاصة من دون تعليق وتكذيب.

غزوة ذات الرقاع :

قيل إنما سمّيت هذه الغزوة ، وهذا الجهاد المقدس بالرقاع ، لأنّ المسلمين مرّوا بأرض بقع سود ، وبقع بيض كأنها مرقعة برقاع مختلفة.

وربما قيل لأن الحجارة أوهنت أقدام المجاهدين فكانوا يلفّون على أرجلهم

ص: 225


1- نهج البلاغة : الخطبة رقم 192.
2- عند تفسير قوله تعالى : « لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى ».

الخرق ، والرقاع فسمّيت هذه الغزوة بذات الرقاع (1).

وعلى كل حال فان هذه الغزوة لم تكن ابتدائية تماما مثل بقية الغزوات ، بل كانت لإطفاء شرارة كانت على شرف الاشتعال ، والانفجار ، وبالضبط جاءت لتقضي على تحركات واستعدادات عدائية كان يقوم بها بنو محارب وبنو ثعلبة وكلاهما من قبائل غطفان.

وقد كان من دأب النبيّ وسياسته أن يبثّ أشخاصا أذكياء إلى المناطق المختلفة ليأتوا له بالأخبار عن كل ما يستجدّ على ساحة الجزيرة العربية ، وفي أوساط القبائل.

فأتاه الخبر ذات مرة أن القبيلتين المذكورتين تنويان جمع الاسلحة والرجال لاجتياح المدينة وغزوها ، فسار إليهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على رأس مجموعة من رجاله وأصحابه حتى نزل نخلا بنجد قريبة من مكان العدو (2).

فدفعت سوابق المسلمين الجهادية ، وما سطروه في المعارك والمواقف من قصص المقاومة والصمود والبسالة والاستقامة ، وما حققوه من انتصارات ساحقة حيّرت سكّان الجزيرة العربية من أقصاها إلى أقصاها.

لقد دفعت كل هذا العدوّ إلى الانسحاب ، واللجوء الى رءوس الجبال ، وقد خافوا ألاّ يبرح رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حتى يستأصلهم.

وقد صلّى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بالمسلمين في هذه الغزوة صلاة الخوف ، التي بيّن اللّه تعالى كيفيتها في سورة النساء الآية 102.

وأغلب الظن أن العدوّ كان في هذه الغزوة قويا في تجهيزاته وقواه ، وان الاوضاع العسكرية قد وصلت الى مرحلة خطيرة مما سبّب الخوف ، ولكن الانتصار كان في المآل من نصيب المسلمين.

ص: 226


1- السيرة النبوية ، الهوامش : ج 2 ص 204.
2- امتاع الاسماع : ج 1 ص 188.

مواقف خالدة في هذه الغزوة :

يروي المؤرخون والمفسرون المسلمون كابن هشام (1) وأمين الاسلام الطبرسي (2) قصصا عجيبة ، وحوادث مثيرة للاعجاب وقعت في هذه الغزوة تكشف عن عمق مروءة النبيّ صلی اللّه علیه و آله مع أعدائه ، وقد نقلنا نظير هذا في غزوة ذي أمر ، من هنا نحجم عن ذكر ذلك في هذه الدراسة رعاية للاختصار ، ولكن نلفت نظر القارئ الكريم إلى القصة التالية التي تكشف عن صمود المسلمين واخلاصهم لدينهم.

الحرّاس الصامدون :

مع أن جيش الاسلام قد عاد الى المدينة من هذه الغزوة من دون قتال ولكنّه أصاب مع ذلك بعض الغنائم ، واستراح في شعب في أثناء الطريق ، وبات ليلته هناك ، ثم كلّف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله رجلين بحراسة الجيش ليلا يدعيان : « عباد » و « عمار » ، فقسم الرجلان الليل بينهما ، فنام أحدهما وسهر الآخر يحرس الجيش ، وكان الذي سهر أول الليل هو « عباد ».

ثم إن رجلا من العدوّ خرج في أثر المسلمين ، وكان يقصد أن يريق دما أو يصيب شيئا ويعود الى محله.

وقام « عباد » يصلّي ، وأقبل ذلك الرجل يطلب غرّة فلما رأى « عباد » سواده من قريب قال ذلك الرجل في نفسه : نعلم اللّه أنّ هذا لطليعة القوم ، وحرسهم ففوّق له سهما ورماه به فأصاب عبادا ولكن عبّادا نزع السهم ووضعه ، وثبت قائما يصلّي فرماه العدوّ بسهم آخر ، فأصابه فانتزعه وثبت قائما فرماه بثالث فنزعه ، فلما غلب عليه الدم ركع وسجد ، ثم قال لصاحبه : اجلس فقد اصبت ، فجلس عمّار ، فلمّا رأى الاعرابي أن عمارا قد قام علم أنهما قد علما

ص: 227


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 205 - 209.
2- مجمع البيان : ج 3 ص 103.

به ، : فقال عمّار : أي أخي ما منعك أن توقظني به في أول سهم رمى به؟!

قال : كنت في سورة أقرأها وهي سورة الكهف ، فكرهت أن أقطعها حتى أفرغ منها ، ولو لا أني خشيت أن اضيّع ثغرا أمرني به رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ما انصرفت ولو أتى على نفسي (1).

وهكذا صمد هذا المسلم واستمر في صلاته غير مبال بما اصابته من السهام.

بدر الثانية :

لما أراد أبو سفيان أن ينصرف يوم « احد » نادى : موعدنا وموعدكم بدر الصفراء العام القابل نلتقي فيه فنقتتل.

ولهذا أمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله المسلمين بأن يتهيّئوا للدفاع على أنفسهم وقد مر على وقعة « احد » عام واحد.

وكان أبو سفيان الذي كان يرأس قريش آنذاك يواجه في ذلك الوقت مشاكل داخلية مختلفة فكره الخروج الى رسول اللّه في الموعد الذي ضربه لمقاتلة المسلمين ، واتفق أن قدم مكة في تلك الايام « نعيم بن مسعود » الذي كانت بينه وبين أبي سفيان علاقات صداقة خاصة ، فجاءه أبو سفيان وقال له : إنّي وعدت محمّدا وأصحابه يوم « احد » أن نلتقي نحن وهو ببدر الصفراء على رأس الحول ، وقد جاء ذلك ، ولا يصلح أن نخرج إليه العام.

فقال نعيم : ما أقدمني إلاّ ما رأيت محمّدا وأصحابه يصنعون من إعداد السلاح والكراع ، وقد تجلّب إليه حلفاء الأوس ، فتركت المدينة أمس وهي كالرمّانة.

فزاد ذلك من مخاوف أبي سفيان ، وضاعف من كراهته للخروج الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله . وتقرر بالتالي أن يعود نعيم إلى المدينة ويحذر المسلمين من الخروج للموعد ، ويخذّلهم.

وعاد « نعيم » إلى المدينة ، وراح يرعّب أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه

ص: 228


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 208 ، المغازي : ج 1 ص 397.

وآله ويخوّفهم من الخروج إلى أبي سفيان إلاّ أن كلامه لم يترك أي أثر في نفس رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فخرج صلی اللّه علیه و آله في ألف وخمسمائة مقاتل من أصحابه ، وقد خرجوا ببضائع لهم ، وتجارات حتى انتهوا الى « بدر » وقام السوق السنوي هناك فباعوا واشتروا في موسم بدر وربحوا كثيرا ثم تفرّق الناس ، ولكن النبيّ وأصحابه بقوا هناك ثمانية أيام ينتظرون أبا سفيان وجيشه.

وقد كان هذا الاجراء اجراء عسكريا حكيما ورائعا إذ أظهر قوة النبيّ وعزيمته وقوة أصحابه وعزيمتهم ، ولهذا كان له أثر قوي في نفوس الاعداء.

فلما بلغت أنباء خروج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأصحابه الى بدر ، لم ير حكّام مكة المشركون بدّا من الخروج إلى بدر حفاظا على ماء الوجه ، فخرج أبو سفيان والمشركون بتجهيزات كافية إلى مرّ الظهران ، ولكنهم عادوا من منتصف الطريق إلى مكة بحجة الغلاء والقحط ، فاعترض صفوان بن اميّة على أبي سفيان وقال : قد واللّه نهيتك يومئذ أن تعد القوم ، وقد اجترءوا علينا ، ورأوا انا قد أخلفناهم ، وانما خلفنا الضعف عنهم (1).

ولادة السبط الأصغر لرسول اللّه :

وفي الثالث من شهر شعبان من هذه السنة ( الرابعة من الهجرة ) ولد السبط الثاني لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الامام الحسين بن عليّ (2) ، كما توفيت « فاطمة بنت أسد » والدة الإمام علي علیه السلام (3).

وفي هذا العام بالذات أمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله زيد بن حارثة أن يتعلم السريانية من اليهود (4).

ص: 229


1- المغازي : ج 1 ص 384 - 390 ، وقد وقعت هذه الحادثة في الشهر الخامس والاربعين بعد الهجرة.
2- تاريخ الخميس : ج 1 ص 467.
3- تاريخ الخميس : ج 1 ص 467.
4- إمتاع الاسماع : ص 187 ، تاريخ الخميس : ج 1 ص 464.

حوادث السنة الخامسة من الهجرة

اشارة

حوادث السنة الخامسة من الهجرة (1)

36

من أجل تحطيم التقاليد الخاطئة

اشارة

تعتبر معركة « الاحزاب » ، وقصة بني قريظة ، وزواج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بزينب بنت جحش من أروع الحوادث التاريخية التي وقعت في السنة الخامسة من الهجرة.

وأوّل هذه الحوادث - كما عليه المؤرخون المسلمون - هو زواج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بالمرأة المذكورة.

وقد ذكر القرآن الكريم تفاصيل هذه القضية ضمن الآيات ( 4 ، 6 ، 36 ، الى 40 ) من سورة « الاحزاب » ، ولا يبقى - حينئذ - مجال لأكاذيب المستشرقين ودسائسهم ومختلقاتهم الواهية.

ونحن هنا ندرس هذه القضية على ضوء أصح المصادر والينابيع التاريخية الاسلامية التي لم تطلها أيدي العبث والتحريف ، والمسخ ، والتشويه ، ألا وهو القرآن الكريم ، ثم بعد ذلك نتحدث حول ما قاله المستشرقون ومن لف لفهم ،

ص: 230


1- يرى مؤلف كتاب تاريخ الخميس أن هذه الحادثة وقعت في شهر ذي القعدة من السنة الخامسة للهجرة ولكن هذا الرأي يبدو غير صحيح من وجهة نظر المحاسبة الاجتماعية ، لأن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كان منشغلا بغزوة « الاحزاب » ، و « بني قريظة » من 24 شهر شوال من السنة الخامسة الى 19 من شهر ذي الحجة من نفس السنة فيكون تحقق مثل هذا الزواج في مثل هذه الظروف أمرا مستبعدا جدا ، واذا كان الزواج من زينب يعدّ من حوادث السنة الخامسة لزم ان يكون قد تحقق قبل الحادثتين المذكورتين ، ولهذا عمدنا الى ذكر هذه الحادثة قبل تينيك الواقعتين.

ونحى منحاهم في التعامل مع تاريخ السيرة النبوية.

من هو زيد بن حارثة؟

كان زيد شابا سرقه قطّاع الطرق من الأعراب وهو صغير من قافلة ، وباعوه عبدا في سوق عكاظ ، وقد اشتراه حكيم بن حزام لعمّته خديجة بنت خويلد ، وقد أهدته خديجة لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بعد زواجها منه.

ولقد دفعت سيرة النبيّ صلی اللّه علیه و آله الحسنة ، وأخلاقه الفاضلة وسجاياه النبيلة زيدا هذا في أن يحب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حبا شديدا ، حتى أنه عند ما جاء أبوه الى مكة يبحث عنه ، وعلم بوجوده عند النبيّ صلی اللّه علیه و آله مشي إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وطلب منه أن يعتقه ، ويعيده إليه ، ليعيده بدوره إلى أمه ويلحقه بأقربائه ، فابى زيد إلاّ البقاء عند رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وفضّل ذلك على المضي مع أبيه ، والعودة إلى وطنه ، وعشيرته ، وقد خيّره رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في المكث عنده أو الرحيل مع أبيه إلى وطنه.

على أن ذلك الانجذاب والحب كان متبادلا بين زيد ورسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فكما أن زيدا كان يحب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ويحب أخلاقه وخصاله ، كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يحب زيدا كذلك لنباهته وأدبه حتى أنه أعتقه وتبنّاه ، فكان الناس يدعونه زيد بن محمد بدل زيد بن حارثة ، ولكي يتأكد ذلك وقف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ذات يوم وقال لقريش :

« يا من حضر اشهدوا أن زيدا هذا ابني » (1).

وقد بقي هذا الحب المتبادل بين زيد ، وبين رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى أن استشهد هذا المسلم الصادق والمؤمن المجاهد في معركة مؤته ، فحزن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لمصرعه كما حزن لولد من أولاده.

ص: 231


1- اسد الغابة : ج 2 ص 235 وكذا الاستيعاب والإصابة مادة : زيد.

زيد يتزوج بابنة عمة النبيّ :

لقد كان من أهداف رسول الاسلام العظيم صلی اللّه علیه و آله هو أن يخفف من الفواصل بين طبقات المجتمع وفئاته ، ويقارب بينها قدر الامكان ، ليعيش البشر جميعا تحت لواء الانسانية والتقوى إخوة متحابّين لا تبعد بعضهم عن بعض مقاييس الثروة والنسب ، بل يكون الملاك في التفاضل هو الأخلاق الفاضلة والسجايا الانسانية.

من هنا كان يجب التعجيل في ازالة التقاليد العربية البالية التي كانت تقضي بأن لا يتزوج بنات السادة والاشراف بأبناء الطبقات الضعيفة والفقيرة.

وأي وسيلة لضرب هذا التقليد القبيح الظالم وتحقيق المساواة الكاملة أفضل من أن يبدأ النبيّ صلی اللّه علیه و آله في تحطيم هذا التقليد بأقربائه وذويه ليقدّم بذلك درسا عمليا للامة في هذا المجال ، فقام بتزويج عتيقه « زيد بن حارثة » من شريفة من بني هاشم وهي ابنة عمته زينب بنت جحش حفيدة عبد المطلب ليعلم الناس أنه يجب عليهم الاقلاع عن تلك التقاليد الجاهلية الظالمة بسرعة ، ويعرفوا أن النبيّ صلی اللّه علیه و آله هو أوّل من نفّذ في حق ذويه ما كان يردّده من قوله : « لا فضل لأحد على أحد إلاّ بالتقوى » و « إنّ المؤمن كفؤ المؤمن ».

ولأجل تحطيم ذلك التقليد الجاهليّ الخاطئ ذهب رسول اللّه بنفسه إلى منزل زينب ، وخطبها لزيد ، فلم تبد زينب وأخوها رغبة في هذا الأمر في الوهلة الاولى لأنّ الأفكار الجاهلية كانت لا تزال مترسبة في قلوبهم ، ومن ناحية اخرى كان الرد على النبيّ صلی اللّه علیه و آله أمرا صعبا ولهذا تذرّعا بعبودية « زيد » السابقة وحاولا بذلك التخلّص من مطلب النبيّ صلی اللّه علیه و آله .

فلم يلبثا أن نزل قوله تعالى يشجب رد زينب وأخيها لطلب النبيّ صلی اللّه علیه و آله :

« وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ

ص: 232

مِنْ أَمْرِهِمْ ، وَمَنْ يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً » (1).

فتلاها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عليهم فورا فدفع إيمان زينب وأخيها الصادق برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأهدافه المقدسة إلى أن تبادر زينب إلى الاعلان عن رضاها ورضا أخيها بهذا الزواج ، فتزوّجت ابنة شريف قوم « زينب » بعتيق رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله زيد وبذلك طبّق رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله واحدا من أعظم مناهج الاسلام الحيّة ، وآدابه الانسانية الرفيعة ، وحطّم عمليا واحدة من أقبح السنن الجاهلية ، وأكثرها تخلفا واجحافا.

زيد يطلق زوجته :

إلا أن هذا الزواج لم يدم طويلا ، فقد آل إلى الطلاق ، والافتراق ويعزى البعض ذلك إلى نفسيّة « زينب » وسلوكها الحاد حيث كانت ربما تذكر لزيد دنوّ حسبه ، وعلوّ حسبها ، وبذلك كانت تمرّ في ذائقته طعم الحياة وتسبب انزعاجه.

ولكن يحتمل أن السبب وراء هذا الطلاق كان هو زيد نفسه ، فان تاريخ حياته يشهد بأنه كان يعاني من روح العزلة ، وعدم الالفة ، فقد اتخذ أزواجا متعددة وطلقهنّ ( إلا الاخيرة منهن حيث استشهد عنها وهي في حبالته ) فيكون هذه الطلقات المتعددة دليلا على عدم القدرة على الانسجام مع زوجاته ، لحالة نفسيّة كان يعاني منها.

ويشهد بذلك أيضا خطاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الحادّ ، له ، فان النبيّ صلی اللّه علیه و آله لمّا عرف بأن زيدا يبغي طلاق زوجته زينب غضب وقال : « أمسك عليك زوجك واتّق اللّه » (2).

ولو كان الذنب كلّه ذنب زوجته زينب لما كان يعدّ تطليقها عملا مخالفا للتقوى.

ص: 233


1- الاحزاب : 36.
2- الاحزاب : 37.

ومهما يكن فقد طلق زيد زينبا وافترقا ، ثم تزوج بها النبيّ صلی اللّه علیه و آله بعد ذلك.

زواج النبيّ بمطلقة متبناه لابطال سنة جاهلية اخرى :

ولكن قبل أن ندرس العلة الاساسية لهذا الزواج لا بد أن نلقي نظرة فاحصة إلى مسألة النسب الذي يعدّ مقوما مهما من مقومات المجتمع الصحيح.

وبعبارة اخرى وأكثر تحديدا لا بد أن ندرس الفرق الجوهري بين الولد الحقيقي ، وبين المتبنى.

وتوضيحا لهذا الأمر نقول :

كان يوجد في المجتمع العربي الجاهلي أبناء لا يعرف لهم آباء أو لهم آباء معروفون ، وكان الرجل يعجبه أحد هؤلاء فيتبناه ويدعوه ابنه ، ويلحقه بنسبه وتصير له حقوق البنوة وملحقاتها.

ولما كان هذا شذوذا عن الاساس الطبيعي للاسرة أبطله الاسلام وذلك لأن الولد الحقيقي ينتمي إلى أبيه بجذور تكوينية ، فالوالد هو - في الحقيقة - المنشأ المادي لوجود ابنه ، ويرث الولد من والده ووالدته الكثير من صفاتهما الجسمية والروحية ، وبذلك يكون امتدادا طبيعيا لوالديه.

وعلى أساس هذه الوحدة الطبيعية ، ووحدة الدّم يتوارث الآباء والأبناء ، وتترتب أحكام خاصة في مجال الزواج والطلاق ، والتحليل والتحريم.

وبناء على هذا فان مثل هذا الموضوع الذي ينشأ من جذور تكوينية واقعية ، لا يوجد أبدا باللفظ واللسان.

ولهذا قال اللّه سبحانه في الكتاب العزيز في معرض الردّ على من يتصور المتبنّى ولدا حقيقيا لمجرد ادعاء البنوة :

« وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ. ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ

ص: 234

ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللّهُ غَفُوراً رَحِيماً » (1).

فلا يكون الابن المتبنى والولد الحقيقي في صعيد الموضوع سيان أبدا ، فكيف في صعيد الاحكام كالتوارث ، والزواج والطلاق وما شابه ذلك.

فاذا ورث الولد الحقيقي من ابيه او بالعكس أو حرمت زوجة الولد الحقيقي على أبيه بعد طلاقها من زوجها لا يمكن أن نقول أن الابن المتبني يشبهه ويشترك معه في هذه الاحكام أبدا.

ومن المسلم به أنّ مثل هذا التشريك في الحقوق والشؤون مضافا إلى كونه لا يستند الى أساس معقول وصحيح هو نوع من العبث بعامل النسب ، وهو العنصر المهم في المجتمع السليم الصحيح.

وعلى هذا الاساس إذا كان التبني بدافع العاطفة أمرا مستحسنا ومقبولا ، إلاّ أنّه إذا كان بهدف إشراكه في سلسلة من الأحكام الاجتماعية التي هي من شئون الولد الحقيقي وحقوقه يعد أمرا بعيدا وغريبا جدا عن المحاسبات العلمية ، والاسس الموضوعية.

ولقد كان المجتمع العربي - كما اسلفنا - يعدّ الابن بالتبني كالولد الحقيقي دون فرق ، وقد كلّف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من جانب اللّه تعالى بأن يقضي على هذا التقليد الجاهلي والسنة الخاطئة باجراء عملي صارخ وذلك بالتزوج بزينب مطلّقة متبناه « زيد » ، ويمحي من حياة المجتمع العربي هذا التقليد القبيح بالعمل الذي يفوق القول ، ووضع القانون ، في التأثير ، والفاعلية. ولم يكن لهذه الزيجة غير هذا السبب.

لقد كان هذا التقليد أمرا مقدّسا في المجتمع العربي بشكل كبير جدّا بحيث لم يكن أحد ليجرأ على نقضه ومخالفته والتزوج بمطلّقة دعيّه (2) لقبحه في نظر العرب لذلك دعا اللّه سبحانه نبيّه الى القيام بهذا العمل الخطير ، إذ قال :

ص: 235


1- الأحزاب : 4 و 5 ، راجع تفسير الميزان : ج 16 ص 290 و 291.
2- الدعيّ هو الابن المتبنى وجمعه أدعياء.

« وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً » (1).

إن هذا الزواج مضافا إلى كونه استهدف منه تحطيم سنّة جاهليّة مقيتة ( سنة عدم الزواج بمطلقة المتبنى ) واعادة العلاقات العائلية الى وضعها الصحيح يعتبر من أقوى مظاهر المساواة في الإسلام ، لأن النبيّ الاكرم صلی اللّه علیه و آله تزوّج بمطلّقة عتيقه وقد كان مثل هذا العمل مخالفا لشؤون المجتمع يومذاك.

ولقد أثار هذا الاقدام الشجاع موجة من الاعتراض والنقد من جانب المنافقين ، وأصحاب العقول الضيّقة ، فقد طرحت هذه المسألة في الاوساط والنوادي وأخذوا يشنعون بها على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ويقولون : لقد تزوّج محمّد بمطلّقة دعيّه.

فأنزل اللّه تعالى في الرد على تلكم الافكار والاقوال الباطلة قوله :

« ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً » (2).

على أن القرآن لم يكتف بهذا البيان بل امتدح نبيّه الذي نفّذ حكم اللّه بشجاعة كاملة بقوله :

« ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللّهُ لَهُ سُنَّةَ اللّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللّهِ قَدَراً مَقْدُوراً. الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللّهَ وَكَفى بِاللّهِ حَسِيباً » (3).

وخلاصة المفاد لهاتين الآيتين هي أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كغيره من الأنبياء يبلّغ رسالات اللّه ولا يخاف لوم اللائمين ، وكيد المنافقين ، وإرجاف المرجفين.

ص: 236


1- الأحزاب : 37.
2- الأحزاب : 40.
3- الأحزاب : 38 و 39.

هذه هي فلسفة تزوّج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بزينب بنت جحش مطلّقة دعيّه ومتبناه وعتيقه زيد بن حارثة في ضوء القرآن الكريم.

المستشرقون وقضية تزوّج النبيّ بزينب :

إن زواج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بزينب مطلّقة زيد بن حارثة - كما لاحظت - قضية بسيطة خالية عن أي إبهام أو غموض.

ولكنّ جماعة من المستشرقين تذرّعوا بها لإغراء البسطاء ومن شاكلهم غير الملمّين بالتاريخ الاسلامي وأرادوا بذلك إضعاف إيمان الذين لا يعرفون السيرة النبويّة حقّ المعرفة ، فانّنا يجب أن ندرس ما قالوه في هذا المجال ، ونكشف للقارئ الكريم عن مواطن الدسّ والتحريف فيه.

ولا يخفى أن الاستعمار البغيض لم يكتف للسيطرة على بلادنا باستخدام القوة العسكرية ، والسلاح الاقتصادي بل ربما دخلها متسترا بقناع العلم والتحقيق ، فقد سعى - ولم يزل - لفرض أسوأ هيمنة فكرية شاملة وتبعيّة ثقافيّة مقيتة على شعوبنا وفق تخطيط دقيق ومدروس وهذا هو ما يسمّى بالاستعمار الفكري ، والثقافي.

وفي الحقيقة فان المستشرق هو طليعة ذلك الاستعمار ، بل وجيشه المتقنع بقناع العلم والمعرفة الذي ينفذ إلى أعماق المجتمع ، ويتسلسل إلى اوساط المفكرين والمثقفين وينفث سمومه القاتلة ، ويحذر العقول ، ويمهّد النفوس للاستعمار السافر ، والمكشوف.

ويمكن أن لا يرتضي كثير من الكتّاب وعشّاق القلم والثقافة في الغرب منطقنا هذا فيعمدوا الى رمينا بالتحجر ، والعصبيّة والتخلف ويتصوروا باننا نقول ما نقوله بدافع العصبيّة القومية أو الدينية ، ولكنّ كتابات المستشرقين وإخفاءهم المتعمّد والكثير للحقائق ، وتحريفهم ودسّهم المكشوف في تاريخ الاسلام حينا والخفيّ حينا آخر يشهد بوضوح أنّ دافعهم في كثير ممّا كتبوا ليس حبّ العلم وتحرّي المعرفة ، فان أكثر ما كتبوه ممزوج بطائفة من أفكارهم المعادية للاسلام ، ولرسول

ص: 237

اللّه والمسلمين (1).

ويشهد على هذه النزعة - بجلاء ووضوح - موقفهم من زواج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بزينب بنت جحش وما نسجوه من قضايا خياليّة حول هذه القضية ، التي وقعت بهدف إبطال سنة باطلة ، فأعطوها صبغة قصص الحب وأساطير الغرام على طريقة القصّاصين والروائيين وديدنهم ، وعمدوا إلى حكاية تاريخية مختلقة وضخّموها ونفخوا فيها ونسبوه إلى أطهر إنسان عرفه العالم البشري.

وعلى كل حال فان أساس هذه الاسطورة عبارات نقلها ابن الأثير (2) ومن قبله الطبري (3) وبعض المفسّرين ، وهي أنه : خرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يريد زيدا وعلى الباب ستر من شعر فرفعته الريح فرآها وهي حاسرة فأعجبته!!!

ولكن المستشرقين بدل أن يتحققوا من سند هذه الأقوال ، لم يكتفوا بنص ما ذكره اولئك المؤرّخون والمفسرون ، بل الصقوا به الكثير الكثير حتى تحوّلت تلك الجمل العابرة إلى قصة تشبه أقاصيص ألف ليلة وليلة.

إنّ من المؤكّد أنّ الذين يعرفون سيرة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الطاهرة يدركون أنّ هذا التاريخ إنّما هو في أصله وفرعه من نسج الخيال ، وصنع الأوهام ، وانها تخالف ما في صفحات التاريخ النبويّ الوضاءة النقيّة مخالفة كاملة ، الى درجة أن علماء معروفين كالفخر الرازي والآلوسي كذّبوا هذه القصة بشكلها الذي ذكرها ابن الاثير والطبري بصراحة كاملة وقالوا : إن هذه الرواية رواية باطلة زوّرها واختلقها أعداء الاسلام ، وراجت في كتب المؤلفين المسلمين (4).

فكيف يمكن القول بأنّ هذه القصة وبهذه الكيفية كانت مما يعتقد بصحته

ص: 238


1- للتاكّد الأكثر من هذا الأمر ( راجع كتاب المستشرقون ).
2- الكامل في التاريخ : ج 2 ص 121 ، جامع البيان في تفسير القرآن : ج 22 ص 10.
3- الكامل في التاريخ : ج 2 ص 121 ، جامع البيان في تفسير القرآن : ج 22 ص 10.
4- مفاتيح الغيب : ج 25 ص 212 ، روح المعاني : ج 22 ص 23 و 24.

ابن الأثير ، والطبريّ في حين أن هناك العشرات ممن نقلوا خلافها وبرّأوا ساحة النبيّ العظيم صلی اللّه علیه و آله من هذه المساوئ.

وعلى أية حال فإننا نشير في الصفحات التالية دلائل اختلاق هذا القسم من التاريخ ، ونعتقد أن القضية في واقعها وحقيقتها واضحة جدا ، واغنى من ان ندافع عنها.

وإليك أدلّتنا :

أولا - ان التاريخ المذكور يخالف المصدر الاسلامي الاصيل وهو ( القرآن الكريم ) لأنّ القرآن بشهادة الآية (37) من سورة الأحزاب تصرّح بأنّ زواج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من زينب كان لأجل إبطال سنة جاهلية باطلة وهي السنّة القاضية بأنه لا يحق لأحد أن يتزوج مطلقة دعيّه ، خاصة وأنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فعل ذلك بأمر اللّه سبحانه وليس بدافع من الرغبة الشخصية ، والحب الشخصي ، ولم يكذّب ذلك أحد في صدر الاسلام.

فاذا كان ما قاله القرآن الكريم مخالفا للحقيقة لسارع اليهود والنصارى والمنافقون الى نقده وتفنيده ، ولأحدثوا ضجة بسبب ذلك ، في حين أنّ مثل هذا لم يؤثر من أعداء الاسلام الذين كانوا يتحيّنون الفرص للايقاع برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وتلويث سمعته.

ثانيا - أن « زينب بنت جحش » هي تلك المرأة التي اقترحت على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الزواج بها قبل أن يتزوج بها « زيد » ولكن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أصرّ على ان تتزوج غلامه المعتق زيدا رغم رغبتها في الزواج من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

فلو كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يحبّ الزواج بها - وهو يعرفها طبعا - لما وجد مانعا من ذلك عند ما طلبت منه الزواج بها ، فلما ذا لم يتزوج بها؟ ولما رفض طلبها؟.

أجل ، انه لم يتزوج بها ولم يجب مطلبها بل ألحّ عليها أن تتزوج بشخص آخر رغم أنه أحسّ برغبة شديدة لدى زينب في الزواج منه لا من غيره.

ص: 239

وبعد تكذيب هذا القسم المحرّف من التاريخ الاسلامي لا يبقى مجال لتعليقات وأوهام جنود الاستعمار وطلائعه المغرضين.

إننا نبرّئ ساحة رسول الاسلام العظيم صلی اللّه علیه و آله من أمثال هذه الترّهات والنسب الرخيصة ونرى أن ساحته المقدسة أجلّ من أن ننقل كلمات هذا الفريق من الكتّاب المغرضين الحاقدين في حقّ نبيّ بقي مكتفيا بزوجة تكبره بثمانية عشر عاما ، الى أن بلغ سن الخمسين.

من هنا نعرض عن ذكر أقوالهم.

ولا بأس بأن نذكر هنا ما كتبه جماعة من المحققين المصريين الذين أشرفوا على طباعة « التاريخ الكامل » لابن الأثير تعليقا على ما أدرجه في هذا المجال :

هذه رواية باطلة زوّرها الملاحدة ، واختلقها أذهان أعداء الدين الاسلامي ليطعنوا في نبي الاسلام عليه وعلى آله الصلاة والسلام ، وهل يعقل : انه لا يعرف ابنة عمته التي كان ولي زواجها إلى مولاه زيد؟ وانما دسائس الزنادقة ، ومبشّري المسيحية قد تغلغلت في نفوس العلماء من حيث لا يعلمون ، فافتكروا في رواية الخبر ، فاتخذوه أساسا ، وأعرضوا عن كتاب اللّه وعن قول اللّه تعالى من أنّ اللّه أعلمه بأنها صارت زوجه قبل أن استشاره زيد في طلاقها.

والعجيب أن ابن الأثير مع جلالة قدره ينقل هذه الرواية المزيّفة التي هي طعن صريح في رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وقد قلّد في روايته هذه ابن جرير قبله ، وكلاهما وقع في هوّة الضلالة من حيث لا يشعر ، ولو عرضت كل رواية على كتاب اللّه تعالى لما أقدم أحد على مثل هذا الإفك العظيم!!

إن زينب هي وهبت نفسها لرسول اللّه فزوّجها من مولاه ، ثم تزوجها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله « كي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم اذا قضوا منهن وطرا » ، فاذن كان الزواج لأجل التشريع ، وكان عمليّا ، لشدة نفرة أهل الجاهلية من هذا الزواج من النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، لانهم يعدّون المتبنى ولدا صريحا أو في مرتبته.

ص: 240

قال الفخر الرازي : وفيه إشارة إلى أنّ التزويج من النبيّ صلی اللّه علیه و آله لم يكن لقضاء شهوة النبيّ صلی اللّه علیه و آله بل لبيان الشريعة بفعله ، انتهى.

ونحن نعتب عليه أيضا إذ جعله اشارة ولم يجعله صريحا وبما أن روح التقليد الأعمى قد اشتدّ بين المسلمين منذ زمن بعيد فالحكاية التي أوردها المؤلف نقلها كثير من المفسرين غير مفكرين بما فيها من طعن في الدين لإفادتها أن الشريعة الاسلامية عبارة عن إتباع أهواء أو تنفيذ شهوات تنزهت عن ذلك كله ، ويرحم اللّه السيّد الآلوسي حيث قال في تفسيره : وحاصل العتاب : لم قلت « امسك عليك زوجك » ، وقد أعلمتك أنها ستكون من أزواجك وهو مطابق للتلاوة ، لأنّ اللّه أعلم أنه مبدئ ما أخفاه عليه الصلاة والسلام ولم يظهر غير تزويجها منه فقال : « زوّجناكها » فلو كان الضمير محبتها وارادة طلاقها ، ونحو ذلك لأظهره جلّ وعلا ، وللقصّاص في هذه القصّة كلام لا ينبغي أن يجعل في حيّز القبول ، انتهى.

ثم أورد الروايات المزيفة التي تشبه ما أورده المؤلف ( أي ابن الأثير ) محذرا الناس منها ومن أمثالها التي لا تروج إلاّ على الحمقى والمغفلين انتهى. راجع هامش الكامل في التاريخ ج 2 ص 121. طبعة القاهرة ادارة الطباعة المنيرية عام 1349 ه.

توضيح عبارتين :

هذا واستكمالا للبحث ، واتماما للفائدة ندرج نص الآية التي نزلت في هذا المجال ، والتي تسبّبت جملتان منها في إثارة الشكوك لدى بعض الجاهلين بحقائق السيرة النبويّة الزكية ، ونعطي بعض التوضيحات اللازمة حولهما : وإليك نص الآية أولا :

« وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللّهَ ».

ص: 241

وفيما يلي الجملتان اللتان تحتاجان الى التوضيح :

« وتخفي في نفسك ما اللّه مبديه ».

فما ذا كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يخفي في نفسه وقد أظهره اللّه وأبداه بعد كل تلك النصيحة التي نصح بها صلی اللّه علیه و آله زيدا؟

ربما يتصوّر أحد أنّ الأمر الذي كان يخفيه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله هو رغبة النبيّ صلی اللّه علیه و آله في تطليق زيد زوجته زينب أي أنه وان كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ينهى زيدا في الظاهر عن تطليق زينب ، إلا أنه كان في سرّه يرضى بذلك بل يرغب فيه ليتسنّى له بعد ذلك أن يتزوجها هو.

ولا شك أنّ هذا الاحتمال غير صحيح مطلقا لأن النبيّ صلی اللّه علیه و آله إذا كان يبطن مثل هذا الأمر ، فلما ذا لم يبد اللّه سبحانه نيّته هذه بآيات اخرى ، في حين أنه سبحانه وعد في هذه الجملة بأن يظهر ما كان يخفيه رسول اللّه في نفسه إذ قال تعالى : « مَا اللّهُ مُبْدِيهِ »؟!

ولهذا قال المفسرون : إن المقصود مما كان يخفيه هو الوحي الالهي الّذي أنزله اللّه عليه ، وتوضيح ذلك هو : أنّ اللّه تعالى أوحى إليه بأن زيدا سيطلّق زوجته رغم نصيحة النبيّ ، وأنه صلی اللّه علیه و آله سيتزوج بها من بعده لإبطال سنّة جاهلية مقيتة ( وهي حرمة الزواج بمطلّقة الدعيّ ).

ومن هنا كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حين نصيحته لزيد ونهيه عن تطليق زينب زوجته ملتفتا ومنتبها إلى هذا الوحي الالهيّ أيضا ، ولكنه أخفى هذا الوحي عن زيد وغيره ، ولكن اللّه تعالى أخبر النبيّ في نفس تلك الجملة بأنه تعالى سيبدي للناس ما يخفيه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في قلبه ، وأن الامر لن يبقى خافيا على أحد بإخفائه صلی اللّه علیه و آله له.

ويشهد بهذا المعنى أنّ القرآن الكريم اظهر الامر في ذيل نفس هذه الآية إذ قال :

« فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ

ص: 242

فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولاً » (1).

فمن هذا التعقيب يستفاد أن ما كان يخفيه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله هو الوحي الالهي ، بأنه عليه أن يتزوج بزوجة دعيّه بعد طلاقها لإبطال سنة جاهلية خاطئة.

2 - واما الجملة الثانية التي هي بحاجة الى التوضيح فهي قوله تعالى : « وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ ». غير أن هذا القسم من الآية هي الجملة الثانية الأقلّ إيهاما وغموضا من الجملة السابقة بدرجات ، لأن تجاهل سنّة عريقة متجذرة في بيئة منحرفة ( وهي الزواج بمطلّقة الدعيّ ) يقترن - بطبيعة الحال وحتما - بحرج نفسيّ يزول ويرتفع لدى الأنبياء بتوجههم إلى الأمر الالهي ..

واذا كان النبيّ صلی اللّه علیه و آله يعاني من حرج نفسيّ شديد من هذه القضيّة فانما هو لأجل أنه صلی اللّه علیه و آله كان يتصوّر أن جماعة العرب الذين لم يكن عهدهم بالإسلام طويلا ، لم يمر على انقطاعهم عن عاداتهم وتقاليدهم الجاهلية سوى زمن قصير سيقولون : إن النبي ارتكب عملا سيّئا ، والحال أن الامر ليس كما يعتقدون.

قال العلامة الطباطبائي في هذا الصدد : قوله : « لكي لا يكون على المؤمنين حرج في ازواج أدعيائهم لمّا قضوا منهن وطرا » تعليل للتزويج وبيان مصلحة للحكم. وقوله : و « كان أمر اللّه مفعولا » مشير الى تحقق الوقوع وتأكيد للحكم.

ومن ذلك يظهر أن الذي كان النبيّ صلی اللّه علیه و آله يخفيه في نفسه هو ما فرض اللّه له أن يتزوجها لا هواها ، وحبه الشديد لها وهي بعد مزوّجة كما ذكره جمع من المفسرين ، واعتذروا بأنها حالة جبليّة لا يكاد يسلم منها البشر فإن فيه أولا : منع أن يكون بحيث يقوى عليه التربية الإلهية. وثانيا : أنه لا معنى حينئذ للعتاب على كتمانه وإخفائه في نفسه فلا مجوّز في الإسلام لذكر حلائل الناس

ص: 243


1- الاحزاب : 37.

والتشبّب بهن (1).

ولما كانت المسألة مسألة وضع قانون جديد لهذا مضى القرآن الكريم يؤكدها ويزيل عنصر الغرابة عنها فقال تعالى : « ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللّهُ لَهُ سُنَّةَ اللّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللّهِ قَدَراً مَقْدُوراً الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللّهَ ، وَكَفى بِاللّهِ حَسِيباً. ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللّهَ ذِكْراً كَثِيراً. وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً. هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً. تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً. يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً. وَداعِياً إِلَى اللّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً. وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللّهِ فَضْلاً كَبِيراً. وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ وَكَفى بِاللّهِ وَكِيلاً » (2).

ففي هذه الآيات اشارة إلى :

1 - أن ما قام به النبي من التزوج بزينب كان بأمر اللّه ، وكان على سبيل سنّ قانون وتشريع سنة ولكن بصورة عملية ، وإن ذلك القانون علم اللّه ضرورتها وقدرها وزمانها ومكانها.

2 - أن زيدا ليس ابن محمّد صلی اللّه علیه و آله انما هو متبنّاه ودعيّه بل هو ابن والده حارثة واقعا وحقيقة وليس ذلك إلاّ تقرير وتأكيد للحقيقة التي سبقت الاشارة إليها في قوله تعالى : « وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ».

3 - أن ما قام به رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من التزوج بمطلّقة متبنّاه هو جزء من تشريعه الذي يشرّعه بأمر اللّه وإذنه تعالى لتسير عليه البشرية ، وفق آخر رسالة السماء الى الأرض ، لا أنه أمر واقع بدافع شخصي.

ص: 244


1- تفسير الميزان : ج 16 ص 343.
2- الاحزاب : 38 - 48.

4 - إن اللّه هو الذي يعلم ما يصلح لهذه البشرية وما يصلحها وهو الذي فرض على النبيّ ما فرض ليحلّ للناس ازواج أدعيائهم اذا ما قضوا منهن وطرا وانتهت حاجتهم منهن واطلقوا سراحهن. قضى اللّه هذا وفق علمه بكل شيء ، ومعرفته بالاصلح والاوفق من النظم والشرائع.

5 - إن ما سنّه اللّه للمسلمين وما اختاره تعالى للامة الاسلامية في مجال العلاقات العائلية يريد بها الخير والخروج من الظلمات إلى النور ، فعليهم ان يذكروه ويشكروه أبدا ودائما ، فانه سيكون لهم لو أطاعوه وسبّحوه وذكروه شأن في الملأ الاعلى فهو يصلي عليهم وملائكته ، ويذكرهم هناك بالخير ، وانما يفعل كل هذا من منطلق الرحمة والعناية بهم.

6 - أن وظيفة النبي صلی اللّه علیه و آله في المسلمين هي ( الشهادة ) عليهم ، فليحسنوا العمل ، وهي ( التبشير ) لهم بما ينتظر العاملين من رحمة وغفران ، و ( الانذار ) للغافلين المسيئين بما ينتظرهم من عذاب ونكال ، و ( الدعوة الى اللّه ) لا إلى دنيا أو مجد أو عزة قومية أو عصبيّة جاهلية ، وذلك باذن اللّه فما هو بمبتدع ، ولا بقائل من عنده شيئا.

7 - ان على النبي صلی اللّه علیه و آله أن يبشّر المؤمنين المطيعين لاوامر اللّه بأن لهم فضلا كبيرا ، ولا يطيع الكافرين ، والمنافقين ، وألاّ يحفل أذاهم له وللمؤمنين ، وان يتوكل على اللّه وحده وهو بنصره كفيل ، وهو يوحي بأن المنافقين أرجفوا بالنبي صلی اللّه علیه و آله في هذه القضية ، ارجافا عظيما.

وكل هذه الامور توحي بأن تغيير تلك السنة الجاهلية ( عدم الزواج بمطلّقة المتبنّى ) كانت عملية صعبة فاحتاجت إلى كل هذا التعقيب ، وبالتالي تثبيت اللّه للنفوس فيه ، كي تتلقى ذلك الأمر بالرضى والقبول والتسليم ، وهذا هو الحال عند سنّ القوانين المهمّة والخطيرة.

ص: 245

37

غزوة الاحزاب

اشارة

غزوة الاحزاب (1)

لقد قاد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في السنة الخامسة مجموعة من الغزوات ، كما وبعث سلسلة من السرايا لافشال المؤامرات التي كانت في طور الانعقاد أو التكوين أو التي كانت محتملة من جانب العدو.

وإليك فيما يأتي بعض غزوات السنة الخامسة :

1 - غزوة دومة الجندل :

1 - غزوة دومة الجندل (2) :

بلغ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أنّ بدومة الجندل جمعا كثيرا وأنهم يظلمون من مرّ بهم من المسافرين والتجار ، وأنهم يريدون أن يدنوا من المدينة ، فخرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في ألف من المسلمين ، فكان يسير الليل ويكمن النهار أخذ بعنصر الاستتار والسرية على عادته.

ولما دنا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من دومة الجندل وعرف به تلك الجماعة تفرقوا من فورهم فلم يجد صلی اللّه علیه و آله بها أحدا ، فأقام بها أيّاما وبثّ السرايا والدوريّات وفرّقها حتى غابوا عنه يوما ثم رجعوا إليه ، ولم يصادفوا من

ص: 246


1- ذكر ابن هشام في سيرته أن هذه الغزوة وقعت في شهر شوال من السنة الخامسة للهجرة ، وحيث إن غزوة الأحزاب انتهت في الرابع والعشرين من شهر ذي القعدة ، وطالت محاصرة المدينة شهرا واحدا لذلك يجب أن نقول إن هذه المعركة بدأت منذ الرابع والعشرين من شهر شوال تقريبا.
2- المغازي : ج 1 ص 402 ، السيرة النبوية : ج 3 ص 213 ودومة الجندل منطقة بين دمشق والمدينة ( الطبقات الكبرى : ج 2 ص 44 ).

تلك الجماعة أحدا.

ثم إن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عاد إلى المدينة في العشرين من شهر ربيع الثاني ، من دون ان يقاتل (1).

* * *

2 - غزوة الخندق ( الأحزاب ) :

أجلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يهود بني النضير في السنة الرابعة من الهجرة كما قلنا بسبب نقضهم للميثاق ، وسيطر على قسم من أموالهم وممتلكاتهم ، واضطرّت بنو النضير إلى أن تذهب الى « خيبر » وتسكن هناك ، أو تسير الى الشام.

وقد كان إجراء النبيّ صلی اللّه علیه و آله هذا متطابقا مع ما جاء في الميثاق المعقود بينه وبين يهود يثرب.

وقد دفع هذا الإجراء بسادة بني النضير وزعمائهم الى التآمر ضدّ الإسلام ، فقدموا مكة ، وحرّضوا قريشا على حرب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وإليك مفصل هذه الغزوة :

عبّأ المشركون العرب ، واليهود قواهم في هذه المعركة ضدّ الاسلام.

فقد شكّلوا اتّحادا نظاميا قويا وحاصروا المدينة مدة شهر واحد ، وبما أن أحزابا مختلفة اشتركت في هذه المعركة سميت هذه المعركة بمعركة الأحزاب ، وربما سمّيت بمعركة « الخندق » لأن المسلمين احتفروا خندقا حول المدينة عظيما ، دفاعا عنها ، ومنعا للكفار عن اجتياحها.

ولقد كان زعماء بنى النضير وبنى وائل - كما أسلفنا - هم المحرّكون الأصليّون لهذه الحرب ، والمشعلون الرئيسيون لفتيلها.

ص: 247


1- امتاع الاسماع : ج 1 ص 193 و 194.

فانّ الضربة القوية التي تلقاها يهود بني النضير من المسلمين ، والتي اضطرّوا على أثرها الى مغادرة المدينة ، فسكن بعضهم خيبر ، دفعهم إلى ان يخطّطوا بصورة جهنمية ودقيقة لاستئصال شأفة الاسلام ، والقضاء عليه. وانها لخطّة عجيبة حقا ، فقد جعلوا المسلمين يواجهون طوائف متعددة وأحزاب مختلفة لم يعرف لها تاريخ العرب مثيلا!!

كما أن في هذه الخطة كان اليهود هم أنفسهم المموّلون الاساسيون لطوائف العرب العديدة ، فقد أمدّوهم بأموال كبيرة ، وهيّئوا كل ما يحتاجون إليه من حاجات ومعدات!!

وكانت الخطة كالتالي : قدم جماعة من سادة بني النضير مثل « سلام بن أبي الحقيق » و « حيي بن أخطب » في نفر من بني النضير على قريش مكة ، فدعوهم إلى حرب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقالوا : إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله ، فلقد جئنا لخالقكم على عداوة محمّد وقتاله.

وقال حيي بن أخطب : إن محمّدا قد وتركم ووترنا وأجلانا من المدينة من ديارنا وأموالنا ، وأجلا بني عمّنا بني قينقاع فسيروا في الأرض ، واجمعوا حلفاءكم وغيرهم حتى نسير إليهم ، فقد بقي من قومي بيثرب سبعمائة مقاتل وهم بنو قريظة ، وبينهم وبين محمّد عهد وميثاق وأنا أحملهم على نقض العهد بينهم وبين محمّد ويكونون معنا عليهم ، فتأتونه انتم من فوق وهم من أسفل.

فأثّرت كلمات اليهود وما قاله « حيي بن اخطب » في نفوس المشركين الحانقين على رسول اللّه ، واصحابه ، واستحسنوا خطتهم ، وابدوا استعدادهم للخروج إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقتاله. ولكنهم قبل أن يوافقوا اليهود على ذلك الرأي سألوهم قائلين : يا معشر اليهود انكم أهل الكتاب الأوّل ، والعلم ، أخبرونا عما اصبحنا نحن فيه ومحمّد ، افديننا خير أم دين محمّد؟

ويجب أن نرى الآن بما أجابت هذه الطائفة ( التي كانت ولا تزال تعد نفسها حامل لواء التوحيد ، الوحيد في العالم ) اولئك المشركين الجهلة الذين

ص: 248

وصفوا اليهود بالعلم والمعرفة ، وطلبوا منهم حل مشكلتهم؟! « أجل لقد قال اليهود بوقاحة كبيرة : بل دينكم خير من دينه ، وأنتم أولى بالحق ، إنكم لتعظّمون هذا البيت ، وتقومون على السقاية ، وتنحرون البدن ، وتعبدون ما كان عليه آباؤكم ، فانتم أولى بالحق منه!!! (1).

ولقد أضافت اليهود بهذه الاجابة الوقحة وصمة عار اخرى الى سجلّهم الاسود ، وزادوا تاريخهم المشؤوم سوادا ، وسوء.

ولقد كانت هذه الغلطة فضيعة ، وقبيحة الى درجة أنّ الكتّاب اليهود تأسّفوا لوقوعها ، في ما بعد.

فهذا هو الدكتور اسرائيل يكتب في كتابه : ( تاريخ اليهود في بلاد العرب ) حول هذا الموقف المشين جدا قائلا : « كان من واجب هؤلاء ألا يتورّطوا في مثل هذا الخطأ الفاحش ، والا يصرّحوا امام زعماء قريش بأن عبادة الاصنام أفضل من التوحيد الاسلامي ولوأدى بهم الأمر الى عدم اجابة مطالبهم كان من واجبهم أن يضحّوا بحياتهم وكل عزيز لديهم في سبيل ان يخذلوا المشركين ، هذا فضلا عن أنهم بالتجائهم إلى عبدة الاصنام انما كانوا يحاربون أنفسهم ويناقضون تعاليم التوراة » (2).

وفي الحقيقة أن هذا المنطق هو الذي يتوسّل به الساسة الماديون اليوم لإنجاح مقاصدهم ، وتحقيق مآربهم. فهم يعتقدون - بكل جدّ - أن عليهم - لتحقيق أهدافهم - التوسل بكل وسيلة ممكنة مشروعة كانت أو غير مشروعة ، وهذا هو مقولة « الغاية تبرر الوسيلة » التي طرحها ميكافيلي ، وبالتالي فان « الاخلاق » في منظور هذه الجماعة هو ما يخدم مصالحهم ويحقق أغراضهم ليس إلاّ.

إن القرآن الكريم يتحدث عن هذه الواقعة المرة فيقول :

« أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَ

ص: 249


1- بحار الأنوار : ج 20 ص 217.
2- حياة محمّد : ص 329.

يَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً. أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ ، وَمَنْ يَلْعَنِ اللّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً » (1).

ولقد ترك كلام أدعياء العلم والدين هؤلاء ، أثرا عجيبا في نفوس المشركين وعبدة الاوثان ، فأظهروا موافقتهم على خطّة اليهود الجهنمية وهو تأليف جيش من قبائل متعددة لمقاتلة المسلمين وحدّدوا معهم موعدا للتوجه الى المدينة ، لتحقيق ذلك الغرض المشؤوم.

فخرج مثيرو الفتنة ومشعلو الحرب ( اليهود ) من مكة بقلوب مملوءة سرورا ، وغبطة ، وساروا الى نجد ، ليتصلوا بقبيلة غطفان - وكانت من اعدى اعداء الاسلام - فاستجلبوا موافقة قبائل غطفان : بني فزار ، وبني مرّة ، وبني اشجع ، شريطة أن يعطونهم تمر خيبر ، لمدة سنة ، بعد الانتصار على المسلمين ، ولكن تحركات قريش في مجال ضمّ القبائل الى ذلك الجيش لم ينته الى هذا الحد فقد راسلت قريش حلفاءها من بني سليم وراسلت غطفان حلفاءها من بني اسد ، ودعوهم إلى المشاركة في هذه الحرب ، فاستجابت لهم تلك القبائل ، وتحركت جميع هذه الفئات والاحزاب في جيش كبير هائل قدمت عناصره من مختلف نقاط الجزيرة ، نحو المدينة في يوم معين وهي تبغي اجتياح مركز الاسلام ، واستئصال شأفته!! (2).

استخبارات المسلمين ترفع تقريرا للقيادة :

منذ أن سكن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في المدينة كان يبعث بجواسيسه وعيونه النشطين الاذكياء الى مختلف مناطق الجزيرة ، لتقصّي الأخبار ، ومراقبة الأوضاع ، وإخبار النبي صلی اللّه علیه و آله بكلّ ما يحصلون عليه في هذا المجال أولا بأول.

فقدم أحدهم على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأخبره بخروج تلك القوة

ص: 250


1- النساء : 51 و 52.
2- المغازي : ج 2 ص 443.

الكبيرة ومسيرها إلى المدينة ، وبهدفها ، وتاريخ خروجها ، ووصولها إلى مشارف يثرب.

فرعا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أصحابه فورا وأخبرهم خبر عدوّهم ، وشاورهم في الامر ، ليستفيدوا من تجارب « احد » ، فاقترح جماعة منهم اسلوب التحصن ، والقيام بالدّفاع من داخل القلاع والحصون ، ولكن هذا العمل لم يكن كافيا لأن جيش العدوّ كان كثيفا وكبيرا جدا وكان من المحتمل بقوّة أن تقوم عناصره الكثيرة ، الكبيرة في عددها بهدم الحصون والقلاع ، والقضاء على المسلمين ، فلا بد اذن من اتخاذ وسيلة تمنع العدوّ من الاقتراب الى المدينة أصلا.

فقال سلمان الفارسي الذي كان عارفا بفنون القتال عند الفرس معرفة كاملة : يا رسول اللّه إنّا اذا كنّا بأرض فارس ، وتخوّفنا الخيل ، خندقنا حولنا ، فهل لك يا رسول اللّه أن تخندق؟ (1)

وفي رواية اخرى أنه قال : يا رسول اللّه نحفر خندقا يكون بيننا وبينهم حجابا ، فلا يمكنهم أن يأتونا من كل وجه ، فانا كنّا معاشر العجم في بلاد فارس اذا دهمنا دهم من عدونا نحفر الخنادق فيكون الحرب من مواضع معروفة (2) ، ( أي محدودة ).

فاعجب رأى سلمان المسلمين جميعا ، وكان لهذا التكتيك أثر جوهري وبارز جدا في حفظ الاسلام وصيانة المسلمين.

ومن الجدير بالذكر أن النبي صلی اللّه علیه و آله خرج بنفسه يدرس المنطقة ميدانيا ولكى يحدّد المنطقة التي يمكن ان ينفذ من خلالها العدو فقرر ان يحفروا الخندق من ناحية « احد » الى « راتج » وكان سائر المدينة مشبك بالبنيان والنخيل لا يتمكن العدو منها ، وعلّم الموضع الذي يجب ان يحفر بخط خطّه على

ص: 251


1- المغازي : ج 2 ص 445 ، تاريخ الطبري : ج 2 ص 234.
2- بحار الأنوار : ج 20 ص 218.

الأرض.

ولكي يتم هذا الامر بنظام وسرعة جعل على كلّ عشرين خطوة ، وثلاثين خطوة جماعة من المهاجرين والانصار يحفرونه ، فحملت المساحي والمعاول ، وبدأ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله نفسه وأخذ معولا فحفر في موضع المهاجرين بنفسه ، وعليّ علیه السلام ينقل التراب من الحفرة حتى عرق رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وعيي (1) وهو يقول :

« لا عيش إلاّ عيش الآخرة ، اللّهم اغفر للأنصار والمهاجرة ».

وقد كشف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بعمله هذا عن جانب من نهج الاسلام واسلوبه ، وفي ذلك تنشيط الامة وتقوية لعزائمهم في مجال القيادة واخلاق القائد ، وأفهم المجتمع الاسلامي أنّ على القائد الاسلاميّ ، وعلى إمام الامة أن يشارك الناس في آلامهم كما يشاركهم في آمالهم ويسعى أبدا الى التخفيف عن كاهلهم بمشاركته العملية في الأعمال ، ولهذا لما نظر الناس إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يحفر نشطوا واجتهدوا في الحفر ، ونقلوا التراب ، ولما كان اليوم الثاني بكّروا في العمل ، وكان ذلك النشاط العظيم عاملا في أن يندفع يهود بني قريظة أيضا إلى مساعدتهم فأعاروهم المساحي والفؤوس والأوعية الكبيرة لنقل التراب (2).

وكان المسلمون يومئذ يعانون من نقص وضيق شديدين في المواد الغذائية ، ومع ذلك كان أصحاب المكنة والثراء من المسلمين يمدّونهم بالطعام وغيره (3).

وربما عرضت للمسلمين وهم يحفرون في الخندق صخرة عظيمة عجزوا عن كسرها وإزالتها ، فأخبروا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بذلك فأخذ معولا فكسرها وأزالها.

ص: 252


1- وجاء في تاريخ الخميس : ج 1 ص 489 انه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) كان ينقل التراب حتى اغبرّ بطنه.
2- السيرة الحلبية : ج 1 ص 311.
3- السيرة الحلبية : ج 1 ص 312.

أما طول الخندق فكان بالنظر الى عدد العاملين في حفرها - وقد كان المسلمون يومئذ ثلاثة آلاف حسب المشهور ، وكان كل عشرة يحفرون (40) ذراعا - هو (12000) ذراعا اي ما يقارب خمس كيلومترات ونصف الكيلومتر ، وأما العرض فكان بحيث لا يقدر الفرسان الماهرون من عبوره بالقفز بأفراسهم ، فيكون عرضه بطبيعة الحال ما يقارب خمسة أمتار وعمقه خمسة أمتار أيضا.

القولة النبوية الخالدة في شأن سلمان :

عند ما قسّم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله المهاجرين والانصار جماعات جماعات ، وأوكل الى كل جماعة حفر موضع من الخندق ، تنافس الناس يومئذ في سلمان الفارسي وأراد كل أن يضمّه الى صفّه ، فقال المهاجرون : سلمان منا وقالت الأنصار : سلمان منا ونحن أحق به!!

فبلغ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قولهم فقال قولته الخالدة في شأن سلمان يومذاك :

« سلمان منّا أهل البيت » (1).

ثم إنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بقى الى جانب الخندق ستة ليال بأيّامها حتى فرغ المسلمون من عمل الخندق غير أن المنافقين تخاذلوا في هذه القضيّة وكانوا يتذرعون بأعذار مختلفة ليتملّصوا من العمل في الخندق ، وربما كانوا يذهبون إلى منازلهم من دون أن يستأذنوا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

أما المؤمنون الصادقون فكانوا يعملون باستمرار ، واذا ما احتاجوا إلى الذهاب إلى منازلهم أحيانا ، أو جدّ لهم عذر استأذنوا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فأذن لهم ثم عادوا الى الخندق فور أن يرتفع عذرهم ، وقد ذكر القرآن الكريم هذه القضية في سورة النور في الآيات 62 و 63 اذ يقول تعالى :

ص: 253


1- المغازي : ج 2 ص 446 ، الكامل في التاريخ : ج 2 ص 122.

« إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ».

مقاتلوا العرب واليهود يحاصرون المدينة :

وتتابعت أرتال الجيش العربيّ على منطقة « احد » وعلى مقربة من الخندق الذي كان قد تمّ انجازه قبل ستة أيام وقد كان الكفّار ومن لف لفّهم يتوقعون أن يلتقوا جنود الإسلام عند جبل « احد » ، ولكنهم لم يلقوا أحدا منهم هناك فتقدموا نحو المدينة حتى وصلوا الى الخندق ، فلما نظروا الى الخندق الذي كان أشبه بحصن منيع يحفظ المدينة من الخطر ، فوجئوا به وقالوا : هذه مكيدة ما كانت العرب تعرفها قبل ذلك ان هذا من تدبير الفارسي الذي معه.

العدد الدقيق لقوات الطرفين :

كان جيش العرب لا يتجاوز في عدده عشرة آلاف ، وقد استقروا خلف الخندق وسيوفهم تلمع وهي تخطف بلمعانها الابصار!

وكان عدد المشاركين في هذه الجيش من قريش وحدها - على رواية المقريزي في الامتاع - ( 4 آلاف ) مقاتل ، معهم (300) فرس و (1500) بعير.

وقد التحق بهم بنو سليم - وهم من حلفاء قريش - في (700) رجل في مر الظهران وكان من قبيلة بني فزارة (1000) مقاتل ومن قبائل اخرى. مثل اشجع وبني مرة كل واحد منهما (400) مقاتل ، والباقي وهم ما يقارب (3500) مقاتل من بقية القبائل ، وعلى هذا الاساس لم يكن المجموع ليتجاوز عشرة

ص: 254

آلاف ، وقد استقروا جميعا في مكان آخر.

وأمّا عدد المسلمين فكان لا يتجاوز ثلاثة آلاف ، وقد نزلوا في سفح جبل سلع وهو موضع مرتفع ، مشرف على الخندق وخارجه ، إشرافا كاملا بحيث يمكن معه مراقبة جميع تحركات العدوّ ونشاطاته منه.

وقد وكل النبيّ صلی اللّه علیه و آله جماعة من أصحابه بحفظ الممرّات ونقاط العبور على الخندق ومراقبة تحركات العدوّ ، ورصد عناصره. وبذلك كان المسلمون يملكون متراسا قويا طبيعيا ، وغير طبيعي ، اذ أن سائر المدينة كان مشبكا بالبنيان ، والنخيل كما أسلفنا.

لقد حاصر الكفار « المدينة » ما يقرب من شهر واحد ، ومكثوا خلف الخندق متحيّرين ، ولم يستطع أن يعبر منهم الخندق الاّ أفراد معدودون ، فمن كان يفكر في العبور رماه المسلمون بالحجارة ، فولّى هاربا!!

وللمسلمين في هذه الفترة قصص جميلة ومواقف رائعة مع عناصر الجيش العربي المعتدي ذكرتها صحائف التاريخ الاسلامي في مواضعها (1).

خطر البرد ، وتناقص الغذاء والعلف :

صادفت غزوة الخندق فصل الشتاء وكانت المدينة قد أصيبت في تلك السنة بقلة الغيث ، ولذلك كانت تعاني من نقص في الطعام.

كما أن طعام المشركين لم يكن هو الآخر يكفي لمدة طويلة ، ولم يكن أحد منهم يتصور أن عليه أن يمكث خلف الخندق مدة شهر واحد ، بل كان المشركون - جميعا - يرون - بادئ الامر - أنهم سيقضون بهجوم واحد واسع ، على جنود الاسلام ، ويجتاحون المدينة ، ويستأصلون المسلمين!!

ولقد أدرك مثيرو هذه الحرب العدوانية ( اليهود ) هذه المشكلة بعد أيام ،

ص: 255


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 225 - 228.

فقد عرفوا بأن مضىّ الزمان سيقلّل من مقدرة سادة الجيش العربي وقادته على مقاومة القرّ ، وقلة العلف وتناقص الطعام ، ومن هنا فكروا في الاستعانة بيهود بني قريظة داخل المدينة ، ليشعلوا فتيل الحرب من داخل المدينة ، وبذلك يمهّدوا السبيل لجيش العرب لغزو المدنية ، واجتياحها من الخارج!!

حيي بن أخطب يدخل حصن بني قريظة :

كان بنو قريظة الطائفة اليهودية الوحيدة التي بقيت في المدينة تعايش المسلمين في سلام وأمن ، وكانوا يحترمون الميثاق الذي عقدوه مع النبي صلی اللّه علیه و آله ، احتراما كاملا.

فرأى « حييّ بن أخطب » أن طريق الانتصار يتوقف على الاستعانة بمن في داخل المدينة لصالح المعتدين العرب وذلك بأن يدعو يهود بني قريظة الى نقض العهد الذي عاهدوا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله به. ليشعل بذلك حربا بين المسلمين ويهود بني قريظة ويشغل المسلمين بفتنة داخلية ، وبذلك يمهّد لانتصار المشركين الذين يحاصرون المسلمين خلف الخندق.

وانطلاقا من هذه الفكرة أتى « حييّ » الى حصن بني قريظة ودق عليهم الباب وعرّف نفسه ، فأمر رئيس بني قريظة « كعب بن الاسد » بان لا يفتحوا له الباب ولكنه أصر ، وقال : ما يمنعك من فتح الباب إلا جشيشتك ( أي خبزك ) الذي في التنور تخاف أن اشاركك فيها فافتح فانّك آمن من ذلك. فأثارت تلك الكلمات الجارحة حمية كعب فأمر بأن يفتحوا له باب الحصن ، ففتحوا له ، فدخل مثير الحرب المشؤوم « حييّ » وقال لكعب : يا كعب لقد جئتك بعزّ الدهر ، هذه قريش في قادتها وسادتها مع حلفائهم من كنانة ، وهذه فزارة مع قادتها وسادتها ، وهذه سليم وغيرهم ، ولا يفلت محمّد وأصحابه من هذا الجمع أبدا وقد تعاقدوا وتعاهدوا الاّ يرجعوا حتى يستأصلوا محمّدا ومن معه ، فانقض العهد بينك وبين محمّد ، ولا تردّ رأيي.

ص: 256

فأجابه كعب قائلا : لقد جئتني - واللّه - بذلّ الدهر ، وبسحاب يبرق ويرعد وليس فيه شيء ، وأنا في بحر لجي لا أقدر على أن أريم داري ومالي معي ، والصبيان والنساء ، اني لم أر من محمّد إلاّ صدقا ووفاء فارجع عنّي ، فانه لا حاجة لي فيما جئتني به.

ولكن حييّ بن أخطب لم يزل يراوض كعبا ويخاتله ويلحّ عليه كما يفعل صاحب الإبل الجامع الذي يستصعب عليه ، حتى اقنعه بنقض عهد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وهيّا لذلك ، فقال : أنا أخشى أن لا يقتل محمّد وتنصرف قريش إلى بلادها ، فما ذا نفعل حينذاك؟ فوعده حيي أن يدخل معه حصنه ليصيبه ما أصابه ان لم يقتل محمّد صلی اللّه علیه و آله .

فقال كعب : دعني اشاور رؤساء اليهود فدعا رؤساء اليهود وشيوخهم ، وخبرهم الخبر ، وحيى حاضر ، وقال لهم كعب : ما ترون؟ فقالوا : أنت سيدنا ، والمطاع فينا ، وصاحب عهدنا وعقدنا فان نقضت نقضنا معك وإن أقمت أقمنا معك ، وإن خرجت خرجنا معك.

فقال « الزبير بن باطا » وكان شيخا كبيرا مجرّبا قد ذهب بصره : قد قرأت في التوراة التي أنزلها اللّه في سفرنا يبعث نبيّا في آخر الزمان ، يكون مخرجه بمكة ، ومهاجره في هذه البحيرة ... يبلغ سلطانه منقطع الخفّ والحافر فان كان هذا ( أي محمّد ) هو فلا يهولنّه هؤلاء ولا جمعهم ، ولو ناوى على هذه الجبال الرواسي لغلبها.

فقال أخطب من فوره : ليس هذا ذاك ، ذلك النبي من بني إسرائيل ، وهذا من العرب من ولد اسماعيل ، ولا يكونوا بنو اسرائيل أتباعا لولد اسماعيل أبدا ، لأنّ اللّه فضّلهم على الناس جميعا وجعل فيهم النبوة والملك ، وليس مع محمّد آية ، وإنّما جمعهم جمعا وسحرهم!!

ولم يزل يقنّع بهم ، ويقلّبهم عن رأيهم ، ويلحّ عليهم حتى أجابوه ، ورضوا بأن ينقضوا العهد الذي بينهم وبين رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

فقال : أخرجوا الكتاب الذي بينكم وبين محمّد ، فأخرجوه ، فأخذه ومزقه ،

ص: 257

وقال : قد وقع الأمر ، فتجهّزوا وتهيّأوا للقتال ، وبذلك جعلهم أمام الامر الواقع الذي ظنوا أنه لا مفرّ منه!! (1)

النبي يعرف بنقض بني قريظة للعهد :

بلغ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عن طريق جواسيسه الاذكياء نقض بني قريظة للعهد ، في مثل ذلك الظرف الحساس ، فغمه غما شديدا. فأمر من فوره « سعد بن معاذ » و « سعد بن عبادة » - وكانا من خيرة رجاله الشجعان ومن قادة جيشه الممتازين ، كما أنهما كانا رئيسي الأوس والخزرج - بأن يحصّلا له على معلومات دقيقة عن هذا الحادث ، وأسبابه وملابساته ، وأنه اذا كان هناك خيانة ونقض للعهد فعلا أن يخبّراه وحده فقط ولا يخبرا أحدا به ويقولا : عضل والقارة لكيلا لا يفتّ ذلك أعضاد المسلمين ولا يضعف من معنوياتهم ، وأما إذا لم تكن هناك خيانة ، فيكذّبا الأمر بصراحة.

فذهب الرجلان ، واقتربا إلى حصن بني قريظة ، فأشرف عليهما كعب من داخل الحصن ، فشتم سعدا وشتم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وبذلك أظهر نقضه للعهد والميثاق فأجابه سعد - بالهام غيبي - : إنّما أنت ثعلب في جحر ، لتولّينّ قريش ، وليحاصرنّك رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ولينزلنك على الصغار والذلّ وليضربنّ عنقك.

ثم رجعا إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقالا له : عضل والقارة. فكبّر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قائلا برفيع صوته : « اللّه أكبر أبشروا يا معشر المسلمين بالفتح » (2).

وهذه العبارات تكشف عن مبلغ شجاعة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله

ص: 258


1- المغازي : ج 2 ص 456 ، بحار الأنوار : ج 20 ص 222 و 223.
2- المغازي : ج 2 ص 459.

وعمق سياسته ، فقد قالها لكي لا تضعف معنوية المسلمين ، ولا يتملكهم الخوف إذا سمعوا بنقض بني قريظة للعهد ، وهم في تلك الظروف الحرجة الشديدة أحوج ما يكونون إلى المعنويات العالية ، والاحساس بروح النصر.

تجاوزات بني قريظة الاولية :

كانت الخطة المبدأية لبني قريظة تقضي بأن يبدءوا عملهم الخياني بالاغارة على المدينة ، وإرعاب النساء والاطفال الموجودين في البيوت والمنازل ، وقد نفذت مراحل من هذه الخطة تدريجا!!

فقد أخذ بعض صناديد بني قريظة يحومون حول بيوت المسلمين التي فيها اطفالهم ونساؤهم بصورة مشبوهة!!

تقول « صفية بنت عبد المطلب » عمة النبيّ صلی اللّه علیه و آله : كنت في فارع ، حصن حسان بن ثابت وكان حسان بن ثابت معنا فيه ، مع النساء والصبيان ، فمرّ بنا رجل من يهود. فجعل يطيف بالحصن ، وقد حاربت بنو قريظة ، وقطعت ما بينها وبين رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وليس بيننا وبينهم أحد يدفع عنا ، ورسول اللّه صلی اللّه علیه و آله والمسلمون في نحور عدوّهم ، لا يستطيعون أن ينصرفوا عنهم إلينا إن أتانا آت ، فقلت لحسان : إن هذا اليهوديّ كما ترى يطيف بالحصن ، وإنّي واللّه ما آمنه أن يدل علينا من وراءه من يهود ، وقد شغل عنا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وأصحابه ، فانزل إليه فاقتله ، قال : يغفر اللّه لك يا ابنة عبد المطلب واللّه لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا ، فلما قال لي ذلك احتجزت (1) ( أي شددت وسطي ) ثم أخذت عمودا ، ثم نزلت من الحصن إليه فضربته بالعمود حتى قتلته ، فلما فرغت منه رجعت الى الحصن فقلت : يا حسان انزل إليه فاسلبه فانه لم يمنعني من سلبه ، إلاّ أنه رجل فقال حسان : ما لي بسلبه

ص: 259


1- وفي رواية : اعتجرت.

حاجة يا ابنة عبد المطلب!! (1).

ولما بلغ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عن طريق عيونه على اليهود أنهم نقضوا ما بينه وبينهم من العهد وانهم طلبوا من قريش الف رجل ومن غطفان ألف رجل ليغيروا على المدينة عبر حصن اليهود ، وكان ذلك في ما كان المسلمون منشغلين بحراسة الخندق ، فعظم بهذا الخبر البلاء وصار الخوف على الذراري أشد من الخوف على أهل الخندق ، بعث النبي صلی اللّه علیه و آله مسلمة بن أسلم وزيد بن حارثة في خمسمائة رجل يحرسون المدينة ويظهرون التكبير تحفظا على الجواري من بني قريظة (2).

الإيمان في مواجهة الكفر :

لقد خاض المشركون حروبا عديدة ضدّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قبل معركة الأحزاب ، ولكن العدوّ في جميع تلك المعارك والحروب كان من طائفة أو قبيلة واحدة ، ولم يكن من عموم الجزيرة العربية ، ومن عموم القبائل ، أي الاسلام لم يواجه في تلك الحروب والوقائع عدوانا شاملا من سكان الجزيرة.

وحيث إن أعداء الاسلام رغم الجهود الكبيرة لم ينجحوا في القضاء على الحكومة الاسلامية الفتيّة ، قرروا هذه المرة أن يستأصلوا الاسلام عن طريق اتّحاد عسكري عريض ، يضم كل قبائل الجزيرة العربية المشركة ، ويرموا المسلمين بآخر سهم في جعبتهم ، من هنا عمدوا الى تعبئة أكبر قدر من المقاتلين ، واستصرخوا أكبر قدر من القبائل وتحركوا في جمع لم يعرف له تاريخ العرب والجزيرة من نظير نحو المدينة لتحقيق ذلك الهدف المشؤوم. ولو لا تدبير المسلمين للدفاع عن المدينة لحقق العدوّ الحاقد أهدافه.

ولهذا جلب أعداء الاسلام معهم أكبر صنديد من صناديد العرب ، وأشهر

ص: 260


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 228.
2- السيرة الحلبية : ج 1 ص 315.

بطل من أبطالهم ورأسوه عليهم ، وهو عمرو بن عبد ود العامري ليشدّوا به أزرهم ، ويحققوا بسببه ما كانوا يأملونه من الظفر.

وعلى هذا الاساس كانت معركة الأحزاب مواجهة كاملة بين كل الكفر وكلّ الايمان ، وخاصة عند ما تبارز بطل الاسلام وبطل الكفر وتواجها في ساحة القتال.

ولقد كان الخندق الذي احتفره المسلمون سلفا من عوامل إخفاق المشركين ، وكان العدوّ يحاول أن يعبر هذا الخندق فتطيف فرسانهم به ليل نهار ولكن دون جدوى ، لانهم كانوا يواجهون في كل مرة سهام الحرس الذي وكلهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بحراسة الخندق ، ورصد محاولات العدو لاجتيازه وافشالها فورا ، وأيضا بفضل تدابير النبي القائد نفسه.

كان الشتاء وبرده القارص في تلك السنة وتناقص الطعام ، والعلف يهدد جيش المشركين ، وأنعامهم ، وخيولهم فاستقرض حيي بن أخطب من بني قريظة عشرين بعيرا محملة شعيرا وتمرا وتبنا تقوية لقريش ، ولكن دورية من المسلمين صادفتها في أثناء الطريق فصادرتها وأتوا بها الى النبي صلی اللّه علیه و آله فتوسع بها أهل الخندق (1).

وذات يوم من أيام الانتظار وراء الخندق كتب أبو سفيان الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كتابا يقول فيه : إني احلف باللات والعزى لقد سرت إليك في جمعنا وإنّا نريد ألاّ نعود إليك أبدا حتى نستأصلكم فرأيتك قد كرهت لقاءنا ، وجعلت مضايق وخنادق ، فليت شعري من علمك هذا؟ فان نرجع عنكم فلكم منّا يوم كيوم احد تبقر فيه النساء (2).

فكتب إليه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « من محمّد رسول اللّه إلى أبي سفيان بن حرب ... أمّا بعد فقديما غرّك باللّه الغرور ، أما ما ذكرت أنك سرت

ص: 261


1- السيرة الحلبية : ج 2 ص 323.
2- المغازي : ج 2 ص 492.

إلينا في جمعكم ، وانك لا تريد أن تعود حتى تستأصلنا فذلك أمر اللّه يحول بينك وبينه ، ويجعل لنا العاقبة وليأتينّ عليك يوم تدافعني بالراح ، ولياتينّ عليك يوم أكسر فيه اللات والعزّى واساف ، ونائلة ، وهبل حتى اذكّرك ذلك » (1).

ولقد وقعت إجابة الرسول الاكرم صلی اللّه علیه و آله التي كانت تنبئ عن قوة إرادته وشدة عزيمته ، وتصميمه القاطع موقع السهم في قلب زعيم المشركين ، وحيث إن قريش كانت تعتقد بصدق رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فانّها اصيبت بهذا الرد الحاسم في عزيمتها ونفسيتها ، ولكنها مع ذلك لم تكفّ عن مواصلة عدوانها.

وذات ليلة عزم « خالد بن الوليد » على أن يعبر بجماعته الخندق ولكنه اضطرّ الى التراجع عند ما واجه مقاومة شجاعة من مائتين من المسلمين بامرة « اسيد بن حضير » وقد كلّفهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بالقيام على شفير الخندق ، ودفع المشركين ومنعهم من العبور!!

ثم ان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لم يكن ليغفل عن تقوية عزائم المقاتلين المسلمين ورفع معنوياتهم ، ولهذا كان يهيّئهم بخطبه الحماسية ، وكلماته المشجعة ، الحاثة على الجهاد والاستقامة والدفاع عن حياض العقيدة والايمان ، والذود عن صرح الحرية ، والعدل.

فقد وقف ذات يوم خطيبا في اجتماع كبير من المسلمين وقال - بعد أن حمد اللّه وأثنى عليه -.

« أيّها النّاس إذا لقيتم العدوّ فاصبروا واعلموا أنّ الجنّة تحت ظلال السيوف » (2).

أبطال من العرب يعبرون الخندق :

لبس خمسة من شجعان المشركين هم : « عمرو بن عبد ود العامري » ، « عكرمة

ص: 262


1- امتاع الاسماع : ج 1 ص 239 و 240.
2- السيرة الحلبية : ج 2 ص 323.

بن أبي جهل » ، « هبيرة بن وهب » ، « نوفل بن عبد اللّه » ، و « ضرار بن الخطاب » لامة الحرب ، ووقفوا أمام بني كنانة في غرور عجيب ، وقالوا : تهيّأوا يا بني كنانة للحرب ، فستعلمون من الفرسان اليوم؟

ثم ضربوا خيولهم فعبرت بهم الخندق من مكان ضيق قد أغفله المسلمون ، ولكنهم بادروا إلى محاصرة تلك الثغرة ومنع غيرهم من العبور.

وكان الموضع الذي وقف فيه اولئك الشجعان الخمسة الذي عبروا الخندق للمبارزة يقع بين الخندق وجبل سلع حيث تمركز جنود الاسلام (1).

ثم أخذوا يدعون المسلمين إلى البراز ، في كبرياء وغرور كبيرين ، وهم يقطعون ذلك الموضع جيئة وذهابا بخيولهم!!

بيد أنّ أشجع اولئك الخمسة وأجرأهم وأعرفهم بفنون القتال وهو : « عمرو بن عبد ود العامري » تقدم ، وأخذ يرتجز داعيا المسلمين الى النزال والبراز قائلا :

ولقد بححت من النداء *** بجمعكم هل من مبارز

ووقفت إذ جبن المشجّع *** موقف البطل المناجز

إنّي كذلك لم أزل *** متسرّعا نحو الهزاهز

إن السماحة والشجا *** عة في الفتى خير الغرائز

فأحدثت نداءات عمرو الرهيبة حالة من الرعب ، والوجل الشديدين في معسكر المسلمين ، وسكت الجميع ، ولم ينبسوا ببنت شفة رهبة وخوفا منه.

فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله :

« أيكم يبرز إلى عمرو أضمن له الجنة »؟

وقد قالها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ثلاث مرات ، وفي كلّ مرة يقوم عليّ علیه السلام ويقول : انا له يا رسول اللّه ، والقوم ناكسوا رءوسهم (2) او كأنّ المسلمين يومئذ على رءوسهم الطير لمكان عمرو وشجاعته ، كما يقول الواقدي (3).

ص: 263


1- تاريخ الطبري : ج 2 ص 239 ، الطبقات الكبرى : ج 2 ص 28.
2- تاريخ الخميس : ج 1 ص 486.
3- المغازي : ج 2 ص 470.

ولا بدّ أن تحلّ هذه المشكلة بيد علي علیه السلام فارس ميادين الحرب المقدام ، وكان كذلك ، فلما أبدى عليّ علیه السلام استعداده الكامل لمقاتلة عمرو أعطاه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله سيفه وعممه بيده ، ووجّهه صوب عمرو وقد دعا له قائلا : اللّهم أعنه عليه. وقال أيضا :

« اللّهم إنّك أخذت منّي عبيدة بن الحارث يوم بدر ، وحمزة بن عبد المطلب يوم احد ، وهذا أخي علي بن أبي طالب ربّ لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين » (1).

فبرز عليّ علیه السلام إلى عمرو يهرول في مشيته ، مبادرا إليه دون ابطاء ، وهنا قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كلمته الخالدة في تلك المواجهة :

« برز الإيمان كله إلى الشرك كلّه » (2) وارتجز علیه السلام قائلا :

لا تعجلنّ فقد أتاك *** مجيب صوتك غير عاجز

ذونيّة وبصيرة *** والصدق منجي كل فائز

إني لأرجو أن اقيم *** عليك نائحة الجنائز

من ضربة نجلاء يبقى *** ذكرها عند الهزاهز

وقد كان عليّ علیه السلام مسربلا بالحديد لا يرى منه إلاّ عيناه من تحت المغفر ، فأراد عمرو أن يعرف من برز إليه فقال : من أنت؟

قال : أنا عليّ بن أبي طالب.

فقال عمرو : إنّي أكره أن اريق دمك ، واللّه إن أباك كان لي صديقا ونديما ، ما أمن ابن عمك حين بعثك إليّ أن اختطفك برمحي هذا فأتركك شائلا بين السماء والأرض لا حيّ ولا ميت.

فقال عليّ علیه السلام : لكنني ما أكره واللّه أن أهريق دمك ، وقد علم ابن

ص: 264


1- كنز الفوائد : ص 137.
2- تاريخ الخميس : ج 1 ص 486 و 487 ، بحار الأنوار ، ج 20 ص 215.

عمي أنّك إن قتلتني دخلت الجنة ، وأنت في النّار ، وإن قتلتك فانت في النّار وأنا في الجنة.

فضحك عمرو وقال مستهزئا : كلتاهما لك يا عليّ ، تلك إذا قسمة ضيزى. ( أي ناقصة جائرة ).

يقول ابن أبي الحديد : كان شيخنا أبو الخير يقول اذا مررنا في القراءة عليه بهذا الموضع : واللّه ما أمر عمرو بن عبد ود عليا علیه السلام بالرجوع إبقاء عليه ، بل خوفا منه ، فقد عرف قتلاه ببدر واحد ، وعلم أنه إن ناهصه قتله ، فاستحيا أن يظهر الفشل فأظهر الإبقاء ، وإنه لكاذب فيه (1).

ثم إن عليا علیه السلام ذكّر عمرا بعهد قطعه على نفسه فقال له :

يا عمرو إنّك كنت تقول في الجاهلية : لا يدعوني أحد الى واحدة من ثلاث خصال إلا أجبته إلى واحدة منها وأنا أعرض عليك ثلاث خصال فأجبني إلى واحدة.

قال عمرو : أجل ، فهاتها يا عليّ.

قال : تشهد أن لا إله الاّ اللّه ، وانّ محمّدا رسول اللّه ، وتسلم لرب العالمين.

فقال عمرو : نحّ عني هذا.

قال عليّ علیه السلام : فالثانية أن ترجع إلى بلادك ، فان يك محمّد صادقا فأنتم أعلى به عينا وان يك غير ذلك كفتكم ذؤبان العرب أمره.

فقال عمرو في غرور عجيب : اذا تتحدّث نساء قريش بذلك ، وينشد الشعراء فيّ أشعارها اني جبنت ، ورجعت على عقبي في الحرب ، وخذلت قوما رأسوني عليه.

فقال له علي علیه السلام : فالثالثة أن تنزل إليّ فانك راكب وأنا راجل ، حتى انابذك.

ص: 265


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج 19 ص 20.

فقال عمرو : هذه خصلة ما ظننت أن أحدا من العرب يسومني عليها ، ثم وثب عن فرسه ، ولكي يرعب عليّا علیه السلام عرقب قوائم فرسه على عادة العرب في الجاهلية (1).

تصاول البطلين :

وهنا بدأ تصاول شديد بين البطلين ، وارتفعت بينهما عجاجة حجبت الرؤية ، وانما كان الناس يسمعون فقط صوت اصطكاك السيوف والدروع الحديدية وغيرها ، وبعد فترة من التصاول بين ذينك البطلين العملاقين ضرب « عمرو » « أمير المؤمنين عليا » علیه السلام بالسيف على رأسه ، فاتقاه علي علیه السلام بالدرقة فقطعها ، وشجّت الضربة رأسه ففاجأه عليّ علیه السلام بضربة قوية على ساقيه فقطعهما جميعا ، ثم انكشفت العجاجة فنظر المسلمون فاذا عليّ علیه السلام على صدر عدوّ اللّه يريد أن يذبحه. وارتفع صوت عليّ بالتكبير من بين العجاجة يعلن عن انتصاره ، ومقتل عمرو.

فألقى هلاك فارس العرب الاكبر « عمرو بن عبد ود » رعبا عجيبا في نفوس بقيه الابطال والشجعان الذين عبروا معه الخندق ، فهربوا راجعين الى معسكرهم ، إلاّ « نوفل » الذي سقط فرسه في الخندق ، وهوى هو إلى الارض بشدة ، فرماه حرس الخندق بالحجارة فقال : قتلة أجمل من هذا ، ينزل إليّ بعضكم فأقاتله ، فنزل إليه عليّ علیه السلام فضربه حتى قتله في الخندق (2).

فهيمن الخوف والرعب على كل أرجاء المعسكر العربي المشرك ، وبهت أبو سفيان أكثر من غيره.

ثم إنه كان يتصور أن المسلمين سيمثّلون بجسد « نوفل » انتقاما لحمزة الذي

ص: 266


1- المغازي : ج 2 ص 470 و 471.
2- بحار الأنوار ، ج 20 ص 256 ، تاريخ الطبري : ج 2 ص 240.

مثل به في احد ، فبعث إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من يشتري جثته بعشرة آلاف فقال النبيّ صلی اللّه علیه و آله .

« هو لكم ، لا ناكل ثمن الموتى » (1).

قيمة هذه الضربة :

لقد قتل عليّ علیه السلام - حسب الظاهر - رجلا شجاعا لا أكثر ، بيد أنه بضربته لعمرو وبقتله إياه أحيا - في الحقيقة - كل من أرعبته نداءات عمرو المهدّدة ، من المسلمين ، والقى رعبا كبيرا في نفوس جيش قوامه ( 000 / 10 ) رجل تعاهدوا وتعاقدوا على محو الاسلام واستئصال الحكومة الاسلامية الفتية. ولو أن الانتصار كان يحالف عمرا لعرفنا حينئذ قيمة هذه التضحية الكبرى التي قام بها عليّ علیه السلام .

وعند ما عاد عليّ علیه السلام ظافرا منتصرا قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله :

« ضربة علي يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين ».

وقيل إنه قال :

« لو وزن اليوم عملك بعمل جميع امة محمّد لرجح عملك على عملهم وذاك أنه لم يبق بيت من المشركين إلا وقد دخله ذل بقتل عمرو ، ولم يبق بيت من المسلمين إلاّ وقد دخله عز بقتل عمرو » (2).

وبذلك كشف عن أهمية الضربة التي أوقعها علي علیه السلام بعمرو في تلك الواقعة.

لماذا التنكر لهذا الموقف؟

ويحق لنا هنا أن نستغرب تنكر بعض المؤرخين أو تجاهلهم لهذا الموقف

ص: 267


1- بحار الأنوار ، ج 20 ص 205.
2- بحار الأنوار : ج 20 ص 216 ، مستدرك الحاكم : ج 3 ص 32.

العظيم الذي أدى إلى هزيمة المشركين ، والاحزاب في معركة الخندق هزيمة نكراء ، كل واحد بشكل من الاشكال وصورة من الصور :

فهذا ابن هشام رغم اسهابه في بعض الامور التاريخية ممّا لا قيمة له بعد أن يذكر مقتل « عمرو » على يد بطل الاسلام الخالد عليّ علیه السلام من دون أن يذكر ما قاله النبي صلی اللّه علیه و آله عند مطالبة عمرو بالمنازل والمبارز ، ذكر أبياتا قالها عليّ عليه في المقام ثم يشكك في نسبتها إليه علیه السلام (1).

وهكذا ابن الاثير رغم اهتمامه بالدقائق التاريخية ووصفه لكتابه بالكامل نجده يحاول التقليل من أهمية هذا الموقف بصورة اخرى وهو أن عليّا خرج ضمن مجموعة لمقاتلة عمرو وليس وحده.

ولكن المعلّقين على الطبعة المنيرية للكامل والتي أشرف عليها فضيلة الاستاذ عبد الوهاب النجار لم يرق لهم هذا الصنيع ، وأبت عليهم ضمائرهم الحرّة أن يتركوا الرواية على حالها فقالوا في الهامش : وروى السهيلي عن ابن اسحاق أن عمرا دعا المسلمين للمبارزة وعرض رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الأمر ثلاث مرات ولا يقوم إلاّ عليّ كرم اللّه وجهه ، وفي الثالثة قال له : انه عمرو قال : وان كان عمرا ، فنزل إليه ، وقتله وكبّر فكبّر المسلمون فرحا بقتله (2).

وهذا ابن تيمية يحاول التنقيص من هذه الفضيلة ولكن بالضرب على وتر آخر حيث قال ان قول النبي صلی اللّه علیه و آله في شأن عليّ علیه السلام لما قتل عمرا : « قتل عليّ لعمرو بن ود أفضل من عبادة الثقلين » من الاحاديث الموضوعة التي لم ترد في شيء من الكتب التي يعتمد عليها بسند ضعيف ، وكيف يكون قاتل كافر أفضل من عبادة الثقلين ... ثم قال : بل ان عمرو بن ود لم يعرف له ذكر إلاّ في هذه الغزوة.

فهو يحاول التقليل من شأن عمرو ، والايحاء بأنه لم يكن شيئا ، فلا يكون

ص: 268


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 225.
2- الكامل في التاريخ : ج 2 ص 124.

لقتله أهمية.

ولكن صاحب السيرة الحلبية الذي ينقل كل هذه العبارات عن ابن تيمية يرد عليه قائلا : ويرد قوله : « ان عمرو بن ود هذا لم يعرف له ذكر إلاّ في هذه الغزوة » قول الأصل : وكان عمرو بن عبد ود قد قاتل يوم بدر حتى اثبتته الجراحة فلم يشهد يوم احد فلما كان يوم الخندق خرج معلما ( أي جعل له علامة ) ليعرف مكانه ويرى.

ويرده أيضا ما تقدم من أنه نذر أن لا يمسّ رأسه دهنا حتى يقتل محمّدا صلی اللّه علیه و آله .

واستدلاله : وكيف يكون إلى آخره ، فيه نظر لان قتل هذا كان فيه نصرة للدين وخذلان الكافرين (1).

وما قاله صاحب السيرة الحلبية عن مشاركة عمرو في معركة بدر يوافق ما جاء في الكامل لابن الاثير الجزء 2 الصفحة 124 ويوافق أيضا ما جاء في السيرة النبويّة الجزء 2 الصفحة 225.

مروءة عليّ علیه السلام وشهامته :

ولقد أحجم عليّ علیه السلام عن سلب « عمرو بن عبد ود » درعه ، وكان درعا غالية الثمن ليس للعرب ، درع خير منها ، وقد فعل ذلك مروءة ، وترفعا ، فاعترض عليه بعض ، حتى أن عمر بن الخطاب قال له : هلا استلبته درعه فانه ليس في العرب درع مثلها؟ (2).

ولما عرفت اخت عمرو بمقتله سألت عمن قتله ، فاخبروها بأن عليا علیه السلام هو الذي قتله فقالت لم يعد موته إلاّ على يد كفؤ كريم ، لا رقأت دمعتي إن هرقتها عليه ، قتل الابطال ، وبارز الاقران ، وكانت منيته على يد كفؤ

ص: 269


1- السيرة الحلبية : ج 2 ص 320.
2- السيرة الحلبية : ج 2 ص 320.

كريم من قومه ما سمعت بأفخر من هذا يا بني عامر.

ثم انشأت تقول :

لو كان قاتل عمرو غير قاتله *** لكنت أبكي عليه آخر الأبد

لكنّ قاتل عمرو لا يعاب به ***

من كان يدعى قديما بيضة البلد(1)

وقد ذكر عليّ علیه السلام صنيعه هذا في أبيات أنشأها يوم الخندق إذ قال :

أعليّ تقتحم الفوارس هكذا؟ *** عنّي وعنها خبّروا أصحابي

أرديت عمرا إذ طغى بمهنّد *** صافي الحديد مجرّب قضاب

فصددت حين تركته متجدّلا *** كالجذع بين دكادك وروابي

وعففت عن أثوابه ولو انّني *** كنت المقطّر بزّني أثوابي(2)

والآن حان أن نرى إلى أيّ مصير آل أمر معسكر المشركين بعد مقتل فارس العرب وشجاعها البارز.

جيش العرب يتفرق في موقفه :

لم يكن دافع جيش العرب ومن عاونهم ومالأهم من اليهود الى محاربة الاسلام واحدا ، فاليهود كانوا يخشون من اتساع رقعة الحكومة الاسلامية الفتيّة ، المتزائد ، واما دافع قريش فكان هو العداء القديم للاسلام والمسلمين. وأما قبائل « غطفان » و « فزارة » وغيرها من القبائل فلم يحرّكها إلاّ الطمع في محاصيل « خيبر » التي وعدهم بها اليهود.

فعلى هذا الاساس لم يكن محرّك « الأحزاب » المشاركة في جيش الشرك أمرا واحدا ، فقد كان محرّك الطوائف الأخيرة أمرا ماديا ، ولو أنّ هذا الهدف تحقّق عن طريق المسلمين لعادت هذه القبائل إلى أوطانها مسرورة راضية ، وخاصّة أن البرد ، وقلّة الطعام ، والعلف ، وطول مدّة المحاصرة قد أوجدت في

ص: 270


1- مستدرك الحاكم : ج 3 ص 33.
2- المستدرك على الصحيحين : ج 3 ص 32.

نفوسهم كللا ومللا ، من جهة ، وعرّضت أنعامهم لخطر الهلاك والفناء من ناحية اخرى.

من هنا كلّف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله جماعة بأن يتصلوا بهذه القبائل ( الأخيرة ) ويذكروا لهم بأنّ المسلمين مستعدّون لإعطائهم ثلث تمر المدينة إن هم تركوا قريشا وعادوا إلى ديارهم ، فأعدّوا عهدا وجاءوا به إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ليمضيه ، ولكنه شاور فيه سعد بن معاذ ، وسعد بن عبادة قبل أن يمضيه ، فقالا : يا رسول اللّه إن كان أمرا من السماء فامض له ، وان كان أمرا لم تؤمر فيه فان الرأي عندنا هو السيف ، فإنهم ما طمعوا بهذا منّا قطّ في الجاهلية أن يأخذوا تمرة ، الا بشرى أو قرى ، فحين أتانا اللّه تعالى بك ، وأكرمنا بك ، وهدانا بك نعطي الدنيّة؟ لا نعطيهم أبدا إلاّ السيف؟

فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مبيّنا علة إقدامه على مثل هذا الصلح : « إني رأيت العرب رمتكم عن قوس واحدة ، فقلت ارضيهم ولا أقاتلهم ، الآن قد عرفت ما عندكم فكونوا على ما أنتم عليه ، فان اللّه تعالى لن يخذل نبيّه ، ولن يسلمه حتى ينجز له ما وعده » (1).

فمحى سعد بن معاذ ما في الصحيفة باذن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقال : ليجهدوا علينا (2).

وبهذا كشف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عن صفحة اخرى من سياسته الحكيمة ، فقد كان إقدامه على ثني القبائل المتحالفة مع قريش في جيش الاحزاب باعطاء بعض التنازلات المادية ( لا المعنوية ) وتحييدها خطوة سياسية وعسكرية صحيحة ، ورائعة ، وكان مشورته مع أصحابه من الانصار ( خاصة ) عملا حكيما أيضا لانه استشار بذلك هممهم ، وشدّ من عزائمهم ، فوعدوا

ص: 271


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 223 ، بحار الأنوار : ج 20 ص 252.
2- امتاع الاسماع : ج 1 ص 236 وجاء فيه انه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) استشار سعد بن معاذ وسعد بن عبادة خفية.

بالصمود والمقاومة في ذلك الظرف العصيب وعدم تقديم اية تنازلات ولهذا انصرف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عن ما اراد أولا ، فكان مجموع هذه الخطوات عملا حكيما جدا ، يكشف عن حنكة سياسية عظيمة ، ودراية عسكرية عميقة.

العوامل التي فرقت كلمة « الاحزاب » :

هناك عوامل عديدة تسببت في تفرق الجيش العربي الذي زحف إلى المدينة لاجتياحها ، وانقسام الاحزاب على أنفسهم ، وإليك أبرزها :

1 - إن أول عامل من تلك العوامل هو تكلم مبعوثي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مع سادة غطفان وفزارة ، لأن هذه المعاهدة وإن لم توقع إلاّ أنها لم تنقض ، فتسبّب ذلك في أن يختلفوا مع قريش في الرأي ، أي اجتياح المدينة وبشكل من الاشكال وان لا يقدموا على أي إجراء عسكريّ مع غيرهم انتظارا للتوقيع على تلك المعاهدة ، ولهذا كلّما طلبت القيادة القرشية منهم الهجوم الشامل اعتذروا ببعض الاعذار تملّصا من ذلك الطلب.

2 - مصرع « عمرو بن عبد ود » فارس العرب الأكبر الذي كان الأغلبية في ذلك الجيش يعلّقون عليه آمالهم في الانتصار على المسلمين. فلما قتل تملّك الجميع رعب غريب وانهارت آمالهم ، وبخاصة عند ما هرب زملاؤه الشجعان من وجه عليّ علیه السلام خوفا ، ورهبة.

3 - ما لعبه « نعيم بن مسعود » الذي أسلم حديثا ، من دور في إلقاء روح الشك والفرقة بين يهود بني قريظة وجيش « الاحزاب » ، فقد قام بهذا الدور بشكل رائع ، تماما كما يفعله الجواسيس المنظّمون في عصرنا الحاضر ، بل كان ما فعله أفضل وأكبر تأثيرا وعطاء.

فقد أتى « نعيم » هذا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقال يا رسول اللّه ؛ قد أسلمت ، وإن قومي لم يعلموا باسلامي ، فمرني بما شئت.

ص: 272

فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله « إنما أنت فينا رجل واحد ، فخذّل عنّا ما استطعت ( أي ادخل بين القوم حتى يخذّل بعضهم بعضا ). فان الحرب خدعة ».

فخرج نعيم حتى أتى بني قريظة ، وكان لهم نديما في الجاهليّة ، فقال : يا بني قريظة قد عرفتم ودّي ، وخاصّة ما بيني وبينكم.

قالوا : صدقت ، لست عندنا بمتّهم.

فقال : إنّ قريشا وغطفان ليسوا كأنتم ، البلد بلدكم ، فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم ، لا تقدرون على أن تحولوا منه إلى غيره ، وان قريشا وغطفان قد جاءوا لحرب محمّد وأصحابه ، وقد ظاهرتموهم عليه ، وبلدهم وأموالهم ونساؤهم بغيره ، فليسوا كأنتم ، فان رأوا نهزة أصابوها ، وإن كان غير ذلك لحقوا ببلادهم ، وخلّوا بينكم وبين محمّد ، ولا طاقة لكم به. إن خلا بكم فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رهنا من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم ، على أن تقاتلوا معهم محمّدا حتى تناجزوه.

فقالوا : لقد أشرت بالرأي.

ثم خرج حتى أتى قريشا ، فقال لأبي سفيان بن حرب ومن معه من رجال قريش : قد عرفتم ودّي لكم ، وفراقي لمحمّد ، وانه قد بلغني أمر قد رأيت عليّ حقا أن أبلغكموه ، نصحا لكم فاكتموا عني. فقالوا : نفعل.

قال : اعلموا أنّ معشر اليهود قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمّد ، وقد أرسلوا إليه إنا قد ندمنا على ما فعلنا ، فهل يرضيك أن نأخذ من القبيلتين ، من قريش وغطفان رجالا من اشرافهم فنعطيكم فتضرب أعناقهم ، ثم نكون معك على من يبقى منهم حتى نستأصلهم؟ فأرسل إليهم : أن نعم ، فإن بعثت إليكم يهود يلتمسون منكم رهنا من رجالكم ، فلا تدفعوا إليهم منكم رجلا واحدا.

ثم خرج حتى أتى غطفان فقال : يا معشر غطفان ، إنكم أصلي وعشيرتي ، وأحب الناس إليّ ، ولا أراكم تتهموني ، قالوا : صدقت ما أنت عندنا بمتهم ، قال

ص: 273

فاكتموا عني ، قالوا : نفعل فما أمرك ، ثم قال لهم مثل ما قال لقريش وحذّرهم ما حذّرهم.

وهكذا أدّى « نعيم » وظيفته بأحسن صورة ثم دخل سرا في جيش المسلمين ، واشاع بين المسلمين أنّ بني قريظة تنوي أخذ رجال من المشركين لتسليمهم الى النبي والمسلمين.

وقد كان يقصد من اشاعة هذا النبأ أن يبلغ مسامع رؤساء العرب وقادتهم.

مبعوثو قريش يمشون إلى بني قريظة :

ولما كانت ليلة السبت قرّر أبو سفيان ان يحسم الموقف بشكل من الأشكال فأرسل إلى بني قريظة جماعة من سادة قريش وغطفان فقالوا لهم : إنا لسنا بدار مقام قد هلك الخف والحافر ، فاغدوا للقتال حتى نناجز محمّدا ، ونفرغ ممّا بيننا وبينه.

فأرسل بنو قريظة إليهم : إن اليوم يوم السبت ، وهو يوم لا نعمل فيه شيئا ، وقد كان أحدث فيه بعضنا حدثا فأصابه ما لم يخف عليكم ، ولسنا مع ذلك بالذي نقاتل معكم محمّدا حتى تعطونا رهنا من رجالكم يكونون بأيدينا ثقة لنا حتى نناجز محمّدا ، فاننا نخشى إن ضرستكم الحرب ، واشتدّ عليكم القتال أن تسرعوا إلى بلادكم وتتركونا ، والرجل في بلدنا ولا طاقة لنا بذلك منه.

فلما رجعت الرسل بما قالت بنو قريظة قالت قريش وغطفان : واللّه إن الّذي حدّثكم نعيم بن مسعود لحق.

فارسلوا إلى بني قريظة من يقول لهم : إنا واللّه لا ندفع إليكم رجلا واحدا ، فان كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا.

فقالت بنو قريظة - حين انتهت الرسل إليهم بهذا : إن الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحق ، ما يريد القوم إلاّ أن يقاتلوا فان رأوا فرصة انتهزوها ، وان كان

ص: 274

غير ذلك أسرعوا إلى بلادهم وخلّوا بيننا وبين محمّد. في بلدنا (1).

وهكذا انسحبت بنو قريظة من الأحزاب وأوقع اللّه التخاذل بينهم ، وتفرّقوا ، وتمزق شملهم ، وكان ذلك من عوامل فشل الاحزاب ، وتقهقرهم ورجوعهم خائبين.

آخر العوامل لهزيمة الكفار :

لقد انضمت العوامل المذكورة إلى عامل آخر يمكن تسميته - في الحقيقة - بالامداد الغيبيّ ففرقت جماعة الاحزاب ، وشتّتّ جماعتهم وذلك العامل هو أن اللّه تعالى بعث عليهم فجأة الريح والعاصفة ، واشتدّ البرد ، وكان اشتداد الريح كبيرا بحيث أكفأ قدورهم ، واقتلع خيامهم ومضاربهم ، وأطفأ أضواءهم ، وأوجد حريقا في الصحراء.

وهنا أمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حذيفة أن يعبر الخندق ، ويأتيه بخبر عن أحوال المشركين ومن مالأهم من الاحزاب.

يقول حذيفة : فذهبت فدخلت في القوم والريح وجنود اللّه تفعل ما تفعل بهم لا تقرّ لهم قدرا ، ولا نارا ولا بناء ، فسمعت أبا سفيان يقول ، وقد قام في جماعة من قريش : يا معشر قريش إنكم واللّه ما أصبحتم بدار مقام ، لقد هلك الكراع والخفّ ، وأخلفتنا بنو قريظة ولقينا من شدّة الريح ما ترون ما تطمئنّ لنا قدر ، ولا تقوم لنا نار ، ولا يستمسك لنا بناء ، فارتحلوا إني مرتحل.

ثم قام إلى جمله - وهو معقول - فجلس عليه ثم ضربه فوثب به على ثلاث ، فو اللّه ما أطلق مقاله إلاّ وهو قائم من شدّة الدهش والخوف!!

ولم يسفر الصبح إلاّ وأسرعت قريش وغطفان عائدين إلى بلادهم يجرّون أذيال الخيبة ، ولم يبق منهم أحد هناك.

ص: 275


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 339 - 231 ، تاريخ الطبري : ج 2 ص 242 و 243.

وهكذا انتهت معركة الاحزاب في الرابع والعشرين من شهر ذي القعدة من السنة الخامسة للهجرة (1).

القرآن الكريم ومعركة الاحزاب

ولقد أشار القرآن الكريم إلى أبرز النقاط في معركة الأحزاب ( الخندق ) ضمن سبع عشرة آية وها نحن ندرجها برمتها ونشير باختصار إلى ما تضمنته من حقائق :

« يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً. إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللّهِ الظُّنُونَا. هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً. وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً. وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللّهِ مَسْؤُلاً. قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً قَدْ يَعْلَمُ اللّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً. أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللّهِ يَسِيراً يَحْسَبُونَ

ص: 276


1- تاريخ الطبري : ج 2 ص 244 ، امتاع الاسماع : ج 1 ص 239.

الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً. لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللّهَ كَثِيراً. وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً لِيَجْزِيَ اللّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً وَرَدَّ اللّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً ». (1).

ويمكن تقسيم هذه الآيات الى ثلاثة أقسام :

القسم الاول وهي الآيات التي ترسم الوضع العام للمسلمين عند ما أتتهم عساكر الاحزاب.

القسم الثاني وهي الآيات التي تتعرض لذكر موقف المنافقين وضعاف الايمان.

القسم الثالث وهي الآيات التي تتعرض لذكر موقف المؤمنين الصادقين.

وإليك بيانا لمفاد هذه الآيات على وجه الاختصار.

1 - تبدأ هذه المجموعة من الآيات بتذكير المؤمنين - في الآية الاولى - بنعمة اللّه عليهم أن ردّ عنهم الجيش الذي قصد استئصالهم لو لا عناية اللّه ومدده العظيم ، وفي هذا إشعار قوي بأن اللّه هو الذي يحمي القائمين على دعوته ومنهجه من عدوان الكافرين والمتآمرين.

2 - ثم تشرح الآية الثانية الحالة العسكرية الخطيرة التي كان يواجهها المسلمون ، فهم محاصرون من قبل الاعداء والمتواطئين معهم من كل جهة محاصرة

ص: 277


1- الأحزاب : 9 - 25.

ألقت الرعب في قلوب الكثيرين من أهل المدينة فزاغت الابصار هولا ، وبلغ القلوب الحناجر خوفا ، وظنّ البعض أن ما أعطاهم اللّه ورسوله من الوعد بالتأييد والنصرة لم يكن صحيحا.

3 - ثم تحدثت الآية الثالثة عن الابتلاء والاختبار الذي أفرزه هذا الوضع الخطير ، فقد ابتلى المسلمون في هذه الواقعة ، وتملكهم خوف شديد.

4 - ولكن المنافقين ، والذين في قلوبهم مرض كانوا أشد هولا وخوفا حتى أن ذلك الكرب والهول أخرج خبيئة نفوسهم ، فشككوا في وعود اللّه الصادقة ، وقالوا : ما وعدنا اللّه إلاّ غرورا ، فهو خدعنا إذ وعدنا بالغلبة على أعدائنا.

5 - ولم يكتف المنافقون باشاعة هذه التشكيكات بين المسلمين بل دعوا أهل المدينة إلى الانسحاب من الميدان إلى داخل المدينة ، وبالتالي حرّضوهم على ترك الصفوف. واحتجوا لذلك بالخوف على النساء والصبيان من كيد الاعداء قائلين : « بيوتنا عورة » وهم لا يريدون إلاّ الفرار جبنا وخوفا.

6 - ثم تكشف الآية السادسة والسابعة عن حقيقة ما في نفوس اولئك المنافقين ، فهم لا يريدون الانسحاب إلى داخل المدينة للمحافظة على الذراري والصبيان ، انما هو نقض العهد ، وخلف الوعد وفقدان الايمان القلبي فهم اذا دخل عليهم العدوّ المدينة وطلبوا منهم الرجوع عن الاسلام لرجعوا إلى الكفر دون تأخير. ولكن اللّه سيسألهم عن العهد الذي أعطوه من قبل بأن يثبتوا امام العدو ، وكان عهد اللّه مسئولا ».

7 - ثم إن اللّه تعالى يوبخهم - في الآية في الآيات اللاحقة - على موقفهم المتخاذل هذا ، ويقول لهم : بأن الفرار والانسحاب لن ينجيهم من الموت ان كان مقدّرا عليهم ، وحتى لو عاشوا أياما فلن يعيشوها في خير وأمان.

كما ويقول لهم : بأن اللّه لا يخفى عليه ما يقومون به من تخذيل وعرقلة لمسيرة الاسلام الصاعدة ، ولا تخفى عليه سبحانه مواقفهم في أوقات المحنة ، من كف الايدى عن مساعدة المؤمنين ، أو سلقهم بألسنتهم وتحميلهم عوامل المحنة والشدة ،

ص: 278

حتى بعد الانتصار.

وهنا يبدو ويبرز دور المنافقين ، وتظهر حالاتهم العجيبة في الحرب والسلم.

فهم يخافون خوفا شديدا ، وهم يظنون باللّه ظن السوء وهم يشيعون الخوف وروح الهزيمة في الناس وهم ينسحبون ويدعون إلى الانسحاب من الصفوف وهم مستعدون في كل وقت للارتداد والرجوع عن الاسلام الى الكفر ، وهم بالتالي اشحة بخلاء ، في نفوسهم كزازة على المسلمين كزازة بالجهد وكزازة بالمال وكزازة بالعواطف والمشاعر على السواء.

8 - إنهم لكونهم لم تخالط قلوبهم بشاشة الايمان ولم يهتدوا بنوره يفقدون الشجاعة والقوة حتى بعد ذهاب عوامل الخوف والهول.

فهم ما يزالون يرتعشون ، ويتخاذلون ، ويأبون أن يصدقوا أن الاحزاب قد ذهبت وولّت مهزومة. ويودون لو أن الاحزاب دخلت المدينة أن لا يكونوا فيها مبالغة في النجاة من الأهوال!!

9 - ولكن في مقابلة هذا الفريق المتخاذل الجبان يرسم القرآن الكريم في الآيات 21 إلى 25 صورة المؤمنين الصادقين وفي مقدمتهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله القدوة الحسنة لجميع المسلمين في جميع الحالات والظروف.

فان هذه الجماعة المؤمنة الصادقة لما رأت الاحزاب قالت : هذا ما وعدنا اللّه ورسوله ، هذا الهول لا بد أن يجيء فيه النصر فهو وعد اللّه الصادق المحقق.

فصمدوا وصدقوا ما عاهدوا اللّه عليه ، فجزاهم اللّه بصدقهم إذ ردّ الذين كفروا بغيظهم ، لم ينالوا خيرا وكفى اللّه المؤمنين القتال ، وكان اللّه قويا عزيزا خلافا لما ظنه المنافقون ، وتوهموه.

وقد كانت هذه الواقعة في منظور القرآن الكريم امتحانا عظيما ، واختبارا دقيقا للنفوس والقلوب وهو امتحان لا بد منه حتى يتميز الصادق عن المنافق ، والموفون بعهدهم والناقضون له.

كما أن هذه الواقعة وما جاء حولها من الآيات كشفت عن أن وعود اللّه

ص: 279

صادقة ومحققة اذا توفرت شرائطها ، ومقدماتها ، ومنها استخدام الوسائل الطبيعية المناسبة ، والاتكال على اللّه واستمداد العون منه.

وفي هذه الآيات إشارة إلى دور ما يسمى الآن بالطابور الخامس وإلى خطورة الشائعات السيئة في المجتمع ، وبخاصة في ظروف الحرب.

كما أن فيها اشارة إلى كيفية مواجهة هذه الشائعات والتعامل مع فعاليات هذا الفريق الخطر.

ولقد لا حظنا خلال ما مضى من السيرة كيف أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كان يبطل بتكتيكاته العسكرية مفعول تلك النشاطات التخريبية والمضرة.

فقد كان يعتمد اسلوب الدعاء ، والذكر ، والتشجيع ، والتكبير ، وارسال الدوريات العسكرية والعمل المباشر والمشاركة الفعلية في عمليات الدفاع والحراسة وما شاكل ذلك ممّا ذكرناه وممّا لم تسع هذه الدراسة لذكره.

ص: 280

حوادث السنة الخامسة من الهجرة

اشارة

38

سقوط آخر أوكار الفساد والمؤامرة

اشارة

أقدم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في السنة الاولى من هجرته الى المدينة ، على تنظيم وعقد ميثاق تعايش بين سكان المدينة وما حولها ، بغية إنهاء جميع أشكال الاختلاف ، والتنازع ، والصراع الداخليّ.

وقد تعهّد الأوسيّون والخزرجيّون ، عامة واليهود من تينك القبيلتين أن يدافعوا عن المدينة وما حولها ، وقد مرّ النص الكامل لهذا الميثاق على القارئ الكريم فيما سبق (1).

هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى عقد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بينه وبين يهود المدينة ميثاقا آخر ينصّ على أنّ مختلف الطوائف اليهودية تتعهد بأن لا تلحق أيّ ضرر وأذى برسول اللّه وأصحابه ، ولا تمدّ أعداءهم بالخيل والسلاح ، وأنها لو فعلت شيئا من ذلك يكون لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الحق في أن يقتلهم ، ويسبي نساءهم وأبناءهم.

إلاّ أنّ جميع الطوائف اليهودية الثلاث نقضت الميثاق المذكور بشتى العناوين والصور ، وتجاهلت بنوده ، ومواده!

فقد قتل « بنو قينقاع » مسلما ، وخطّطت « بنو النضير » لاغتيال رسول اللّه

ص: 281


1- راجع صفحة 21 من هذا الجزء.

صلی اللّه علیه و آله ، وأجبرهم على الجلاء من المدينة وأخرجهم من البيئة الاسلامية.

وتعاونت « بنو قريظة » مع جيش المشركين لضرب المسلمين ، وطعنهم من الخلف ، والآن يجب أن نرى كيف يوبخ رسول اللّه بني قريظة على نقضهم للميثاق.

قوات الاسلام تحاصر بني قريظة :

لم يكن الصبح قد أسفر بعد عند ما غادرت آخر مجموعة من جنود « الأحزاب » أرض المدينة قافلة إلى بلادها مرعوبة فزعة للغاية.

كما أن آثار التعب والارهاق لم تكن قد فارقت بعد ملامح المسلمين ، ومع ذلك فقد أمر اللّه نبيه صلی اللّه علیه و آله بأن يعالج قضيّة « بني قريظة » بصورة نهائية ، فأذّن مؤذّن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وصلّى النبيّ صلی اللّه علیه و آله بالمسلمين صلاة الظهر ، ثم نادى منادي النبي صلی اللّه علیه و آله في الناس : من كان سامعا مطيعا فلا يصلينّ العصر إلاّ ببني قريظة!

ثم إن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قدّم « عليّ بن أبي طالب » برايته (1) ، وخرج معه جنود الإسلام الشجعان ، فحاصروا حصون « بني قريظة » ، فأخبرهم ديرانيهم بنشاط المسلمين ، فبادروا إلى اغلاق أبواب الحصون ، والتحصّن في داخلها ، ونشبت الحرب بين بني قريظة والمسلمين من اللحظات الاولى فقد أخذ اليهود يشتمون رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقالوا فيه مقالة قبيحة فرجع عليّ علیه السلام بالمسلمين فالتقى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في الطريق وقد كره أن يسمع النبي صلی اللّه علیه و آله أذاهم وشتمهم وحاول أن يثني رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من الاقتراب إلى حصن بني قريظة قائلا : لا عليك أن تدنو

ص: 282


1- زاد المعاد : ج 2 ص 73 ، وامتاع الاسماع : ج 1 ص 243.

من هؤلاء الاخابث.

فلما عرف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بسبب ذلك قال : لو رأوني لم يقولوا من ذلك شيئا فلما دنا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من حصونهم قال لهم :

« هل أخزاكم اللّه وأنزل عليكم نقمته »؟

وقد كانت ردة فعل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الشديدة غير متوقعة لليهود ، ومن هنا قالوا : يا أبا القاسم ما كنت جهولا .. وهم يريدون بذلك إطفاء مشاعره الملتهبة ضدّهم (1).

فأثارت كلمتهم هذه عاطفة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بحيث رجع من غير اختيار ، وسقط رداؤه من كتفه.

اليهود يتشاورون حول الموقف :

تشاور يهود بنو قريظة وهم معتصمون بحصونهم في الموقف ، وقد شارك فيه « حيي بن أخطب » مثير معركة الأحزاب ، فانه لم يذهب إلى خيبر بعد أن وضعت الحرب - في معركة الاحزاب - أوزارها وولى العرب المشركون بل دخل في حصون بني قريظة.

هذا وقد طرح زعيم بني قريظة ثلاثة اقتراحات وطلب من الجميع أن يتفقوا على واحدة منها لمعالجة الموقف :

1 - أن يؤمنوا برسول اللّه ، ويصدّقونه لأنه قد تبيّن لهم أنه نبي مرسل ، وأنه الّذي يجدونه في كتابهم ، وبذلك يأمنون على دمائهم وأموالهم ونسائهم وأبنائهم.

2 - أن يقتلوا أبناءهم ونساءهم ثم يخرجوا إلى محمّد وأصحابه يقاتلونهم ، فإذا هلكوا ، هلكوا ولم يتركوا وراءهم نسلا يخشى عليه ، وإن انتصروا تزوجوا

ص: 283


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 234 ، تاريخ الطبري : ج 2 ص 245 و 246.

من جديد ، ووجدوا أبناء.

3 - ان الليلة هي ليلة السبت ، وانه عسى أن يكون محمّد وأصحابه قد منوهم فيها ، لعلمهم بأن اليهود لا يقاتلون في السبت ، فلينزلوا من الحصون لعلهم يصيبون من محمّد وأصحابه على حين غفلة.

ولكن المشاورين رفضوا جميع هذه الطروحات وقالوا : لا نفارق حكم التوراة أبدا ، ولا نستبدل به غيره ، وقالوا : ان نقتل أبناءنا ونساءنا فما خير العيش بعدهم ، وقالوا : لا نقاتل ليلة ليلة السبت ، محمّدا وأصحابه نفسد سبتنا علينا ، ونحدث فيه ما لم يحدث من كان قبلنا إلاّ من قد علمت ، فأصابه ما لم يخف عليك من المسخ (1).

إن هذا الحوار يساعدنا على فهم نفسية تلك الجماعة ( ونعي اليهود ) ، وخصالهم وأخلاقهم الفاسدة.

فإن رفض الاقتراح يكشف عن أنهم كانوا جماعة معاندة ، لجوجة ، لأنهم إذا كانوا حقا يعرفون صدق نبوة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله - كما قال زعيمهم - لم يكن لوقوفهم سبب الا العناد والعتوّ ، واللجاج.

واما الاقتراح الثاني وما دار حوله من كلام فيشهد - بجلاء - على أن تلك الطائفة كانت جماعة قاسية ، لا تعرف للرحمة والحنان معنى ، لان قتل الاطفال والنساء الابرياء لا يمكن من دون قسوة شديدة.

هذا مضافا إلى أن المشاورين آنذاك رفضوا هذا المقترح لا بدافع الرحمة والشفقة على الأطفال والنساء ، بل لأن الحياة لا تعود لذيذة بعد فقدهم هذا هو ما قالوه. ولم يقل أي واحد منهم : وما ذا جنى الاطفال والنساء حتى نقتلهم ونذبحهم ، ولو أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله - تمكن منهم - لم يقتلهم ، فكيف نعمد نحن ( الآباء الرحماء ) إلى ارتكاب مثل هذه الجريمة بحقهم. فنفسك دماءهم

ص: 284


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 236.

من غير جرم ولا جناية؟

وأما الاقتراح الثالث فيكشف عن أنهم لم يكونوا يعرفون جيدا مدى علم رسول الاسلام صلی اللّه علیه و آله بفنون القتال ، والدفاع وكانوا يتصورون أن القائد الأعلى للاسلام لا يراعي قواعد الحذر والاحتياط ليلة السبت ويومه ، وخاصة في مواجهة أعداء خونة ، أخوان غدر ومكر ، أمثال اليهود الناقضين للعهود ، الناكثين للمواثيق.

ان دراسة وتقييم معركة « الاحزاب » تثبت ندرة وجود الاذكياء والفطنين بين هذه الجماعة ، والاّ لكانوا يتمكنون من حفظ كيانهم حتى من الناحية السياسية في تلك الظروف من دون أن ينحازوا إلى أيّ واحد من طرفي الصراع ( الاسلام والشرك ).

أي أنه كان من الممكن أن يتخذوا جانب الحياد الكامل ، ويبقوا متفرجين لما يدور بين محمّد ، وجيش المشركين ، وبهذا يبقوا محافظين على كيانهم ووجودهم ، انتصر من انتصر وغلب من غلب.

ولكنهم خدعوا بتسويلات « حيي بن أخطب » ووسوساته وانحازوا الى جيش العرب المشركين فتورطوا في مثل تلك الورطة ، وهي أن يتخلوا - في النهاية - عن مساعدة قريش بعد شهر كامل من التعاون معهم ، والرضوخ لخطة « نعيم بن مسعود » ، وإخبار قريش بأنهم لن يتعاونوا معهم ضدّ رسول الاسلام ما لم تسلم قريش بعض شخصياتها إليهم ، لغرض الاحتفاظ بهم في حصونهم كوثيقة!!

لقد غاب عن تلك الزمرة المعاندة اللجوجة أنهم قد تعاونوا ضدّ رسول الاسلام في بداية الأمر ، فاذا قطعوا علاقاتهم مع قريش ، وترك جيش المشركين ساحة المعركة إذا أحسّ بالعجز عن تحقيق أي انتصار ، وعاد الى بلاده ، فان بني قريظة بأجمعهم سيكونون حينئذ في قبضة المسلمين.

فلو كانوا يملكون شيئا من الرؤية السياسية الصحيحة لكان عليهم أن يعلنوا لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله - فور قطع العلاقات مع قريش - عن ندامتهم على

ص: 285

نقض الميثاق الذي عقدوه من قبل مع النبي صلی اللّه علیه و آله ويعتذروا إليه ممّا بدر منهم لينجوا من الخطر - في صورة انتصار المسلمين على الكفار - ولكن الشقاء أصابهم عند ما قطعوا العلاقات مع جيش قريش ، ولم يلتحقوا بالمسلمين ، ولم يعتذروا إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

على أنه لم يكن في مقدور النبيّ صلی اللّه علیه و آله أن يترك بني قريظة - بعد هزيمة جيش العرب - على حالهم ، ويغض النظر عن موقفهم إذ لم يكن من المستبعد ، أن يفكر العرب في مناسبة اخرى في تسيير جيش ضخم ومنظم آخر لاجتياح المدينة ، ويتمكنوا مع مساعدة بني قريظة من استئصال الاسلام.

فكان يهود بني قريظة يعتبرون - في الحقيقة - العدوّ الداخلي الذي يهدّد كيان الاسلام من الداخل ، وعلى هذا كان من الواجب معالجة الامر مع بني قريظة ، وحلّ هذه المسألة الخطيرة بالنسبة الى المسلمين من الاساس.

خيانة أبي لبابة :

لقد طلب يهود بني قريظة بعد محاصرة النبي صلی اللّه علیه و آله لهم ، أن يبعث إليهم « أبا لبابة » الأوسي ليتشاوروا معه في الموقف ، وقد كان أبو لبابة حليفا لليهود قبلى دخول الاسلام إلى المدينة ، فأرسله رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إليهم ، فلما رأوه قام إليه الرجال وجهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه وقالوا : يا أبا لبابة أترى أن ننزل على حكم محمّد؟

قال : نعم - وأشار بيده إلى حلقه - يريد أنهم سوف يقتلهم ولن يحقن دماءهم ، لو سلّموا.

لقد كان أبو لبابة يعلم أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لن يوافق على بقاء هذه الزمرة الشريرة الخائنة الخطرة على دين التوحيد ، إلاّ أن أبا لبابة قد خان بفعله هذا المسلمين ، ومصالح الاسلام العليا ، وأفشى سرّا كان عليه أن يكتمه قبل وقوعه ، ولهذا ندم على فعله ندما شديدا ، فخرج من حصن بني قريظة وهو

ص: 286

يرتجف ويقول : إنّي خنت اللّه ورسوله صلی اللّه علیه و آله ، وانطلق على وجهه ، ولم يأت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله والمسلمين وهم ينتظرون رجوعه إليهم - وربط نفسه في المسجد بعمود من أعمدته ، وقال لا أبرح مكاني هذا حتى يتوب اللّه عليّ ما صنعت!!

ويقول المفسرون : فنزل في خيانة أبي لبابة قول اللّه تعالى :

« يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ » (1).

فلما بلغ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله خبر أبي لبابة ، وكان قد استبطأه قال : أما أنه لو جاءني لاستغفرت له ، فأما إذ قد فعل ما فعل فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب اللّه عليه.

وبقي أبو لبابة مرتبطا بالاسطوانة ، وكانت ابنته أو زوجته تأتيه في مواعيد الصلاة ، وتحلّ رباطه ، فيصلّي ثم تعيد الرباط.

فلما كان السحر من اليوم السابع نزلت توبة أبي لبابة بواسطة ملك الوحي - على رسول اللّه وهو في بيت أمّ سلمة ، والآية التي نزلت في توبته هي قوله تعالى :

« وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ » (2).

فلما نظرت أمّ سلمة إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وهو مستبشر يضحك قال صلی اللّه علیه و آله لها :

« لقد تيب على أبي لبابة إن شئت فبشريه ».

فقامت إليه وهو مرتبط بالجذع في المسجد وقالت له : يا أبا لبابة أبشر فقد تاب اللّه عليك.

فلما عرف الناس بذلك أرادوا أن يطلقوه فقال : لا واللّه حتى يكون رسول اللّه

ص: 287


1- الأنفال : 27.
2- التوبة : 102.

صلی اللّه علیه و آله هو الذي يطلقني.

فلما مر عليه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله خارجا إلى صلاة الصبح أطلقه (1).

ولا شك إن زلّة أبي لبابة كانت بسبب عواطفه تجاه يهود بني قريظة ، فقد سلبه بكاء رجالهم ونسائهم ، وصبيانهم واستغاثتهم العاطفية القدرة على ضبط النفس ، فكشف سرّا من أسرار المسلمين كان عليه أن يكتمه ، ولكنّ قوة الايمان باللّه والخشية من عذابه أكبر وأعلى من كل شيء الى درجة أنها دفعت بابى لبابة إلى أن يندم على فعله ذلك الندم العجيب ، ويعمد - لجبران تلك الخيانة - الى ما فعل من الانابة ، والاستغفار ، الأمر الذي تكون نتيجته أن لا تراود مثل هذه الفكرة نفسه مرة اخرى قط.

إلى أيّ مدى ذهب الطابور الخامس في مشاغبته؟

خرج « شأس بن قيس » اليهودي من الحصن ليتحادث مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله نيابة عن بني قريظة ، فطلب من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ان يسمح ليهود بني قريظة بأن يحملوا معهم أموالهم ويخرجوا من المدينة كما فعل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مع بني النضير ، فأبى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقال : « لا ، إلاّ أن تنزلوا على حكمي ».

فقال شأس : لك الاموال والسلاح وتحقن دماءنا ، فابى النبي صلی اللّه علیه و آله ورفض هذا الاقتراح أيضا.

وهنا يطرح السؤال التالي نفسه وهو : لما ذا رفض رسول الاسلام صلی اللّه علیه و آله مقترحات مندوب بني قريظة؟!

إن السبب واضح ، فانه لم يكن من المستبعد أن تقدم هذه الزمرة - بعد

ص: 288


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 237 و 238.

خروجها من قبضة المسلمين - على تحريك العرب المشركين الوثنيين ضدّ الاسلام والمسلمين على نحو ما فعلت بنو النضير ، وتعرّض المجتمع الاسلامي والدولة الاسلامية الفتية لأخطار كبرى جدا ، وتسبب في سفك دماء كثيرة.

ولهذا لم يوافق رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على اقتراحات مندوب بني قريظة ، وعاد شأس إلى الحصن ، واخبر قومه بمقالة رسول اللّه عليه وآله ، ورفضه لمقترحاته.

فقرر بنو قريظة التسليم للمسلمين من دون أي قيد أو شرط.

أو الرضا بما يحكم به سعد بن معاذ الأوسي - وكان حليفا لهم - في حقهم.

ولهذا عمدوا الى فتح باب الحصن ، ودخل عليّ علیه السلام على رأس كتيبة خاصة من المسلمين الحصن وجرّدوا بني قريظة من السلاح ، وحبسوهم في منازل « بني النجار » ليتقرر مصيرهم فيما بعد.

وحيث إن يهود بني قينقاع قد اسروا على أيدي جنود الاسلام ، ثم عفي عنهم بوساطة من الخزرج وبخاصة « عبد اللّه بن ابي » ، وانصرف النبي صلی اللّه علیه و آله عن إهراق دمهم فيما مضى ، لذا ضغط الاوسيون المتحالفون مع بني قريظة على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأصرّوا عليه اصرارا شديدا بأن يعفو عن بني قريظة الذين كانوا متحالفين مع الأوس من قبل أن يقدم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله المدينة ، وذلك منافسة للخزرج ، ولكن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قاوم هذا الطلب ، وقال لهم :

« ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيهم رجل منكم »؟

قالوا : بلى.

قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فذاك إلى « سعد بن معاذ » فهو يحكم فيهم.

والطريف أن اليهود قد قبلوا هم أيضا بما يحكم به سعد بن معاذ فقد بعث بنو قريظة الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله - كما يروى ابن هشام (1) والشيخ

ص: 289


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 240.

المفيد (1) - : يا محمّد ننزل على حكم سعد بن معاذ.

وكان سعد آنذاك يتداوى في خيمة لامرأة تدعى « رفيدة » من سهم أصابه في معركة الخندق ، وكانت رفيدة تداوي الجرحى في سبيل اللّه ، وكان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يعود سعدا بين الحين والآخر ، فلما حكّمه في بني قريظة أتاه فتيان الأوس ، وحملوه على حمار وقد وطئوا له بوسادة من أدم وكان رجلا جسيما جميلا ، ثم أقبلوا معه الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فلما طلع سعد على رسول اللّه والناس حوله صلی اللّه علیه و آله جلوس ، قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله :

« قوموا إلى سيّدكم ».

فقام الناس على أرجلهم صفين احتراما لسعد ، وحيّاه كل واحد منهم ، حتى انتهى إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وقد طلب منه رجال قومه مرارا أن يحسن الحكم في حلفائهم : يهود بني قريظة ، ويخلّصهم من خطر الموت والقتل قائلين : يا سعد أجمل إلى مواليك فأحسن فيهم فان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قد حكّمك فيهم لتحسن فيهم.

ولكن سعدا حكم في ذلك المجلس - رغم كل ذلك الالحاح ، والضغط - بأن يقتل رجال اليهود ، وتقسّم أموالهم ، وتسبى ذراريهم ونساؤهم (2).

تقييم ما استند إليه سعد في حكمه :

ليس من شك في أنه اذا غلبت عواطف القاضي وأحاسيسه على عقله ، تعرض جهاز القضاء للفوضى والاختلال ، وانتهى الى تمزق المجتمع وسقوطه ،

ص: 290


1- الارشاد : ص 50 وأيضا راجع زاد المعاد : ج 2 ص 73 ، امتاع الاسماع : ج 1 ص 246.
2- السيرة النبوية : ج 2 ص 240 ، المغازي : ج 2 ص 510 ، زاد المعاد : ج 2 ص 73 و 74.

وانهيار كل شيء ، لارتباط كل شيء بالعدالة وارتباط العدالة بالقضاء والمؤسسة القضائية.

إن العواطف تشبه الى حد بعيد الشهية الكاذبة التي تزيّن في نظر صاحبها كل مضر مهلك في حين إذا غلبت هذه العواطف والمشاعر العقل سحقت مصالح الفرد والمجتمع ، أو أضرت به أشدّ وأبلغ إضرار.

إنّ عواطف سعد وأحاسيسه ومشاعره ، ومنظر صبيان ونساء بني قريظة المحزن ، وأوضاع رجالهم التي كانت تثير الاشفاق وهم في الحبس ، وملاحظة الرأي العام في قبيلة الأوسيين الذين كانوا يلحّون على سعد أن يحسن الحكم والرأي في بني قريظة ، كل هذه الاعتبارات كان من شأنها أن تجعل القاضي فريسة العاطفة ، فيصدر حكمه على أساس من تقديم مصالح أقلية خائنة مشاغبة على مصالح الاكثرية ( أي عامة المسلمين ) ويبرّئ بني قريظة الجناة الخونة ، أو يخفف عن عقوبتهم أكبر قدر ممكن ، على الأقلّ ، أو يسلّم لإحدى المقترحات السابقة.

إلاّ أن منطق العقل ، وحرية القاضي واستقلاله في الحكم والقضاء ومراعاة المصالح العامة كل ذلك قاد سعدا إلى ناحية اخرى ، فحكم بأن يقتل رجال تلك الزمرة المتآمرة الخائنة ، وتصادر أموالهم ، وتسبى نساؤهم وأطفالهم.

وقد استند هذا الحاكم في حكمه هذا إلى الامور التالية :

1 - أن يهود بني قريظة قد تعهّدوا للنبي صلی اللّه علیه و آله قبل مدّة بأنهم لو تآمروا ضدّ الإسلام ، والمسلمين ، وناصروا أعداء التوحيد ، واثاروا الفتن والقلاقل ، وألبوا على المسلمين كان للمسلمين الحق في قتلهم ومصادرة أموالهم وسبي نسائهم (1).

وقد رأى بأنه لو حكم بمعاقبة اليهود حسب هذا الميثاق لم يصدر حكما مخالفا

ص: 291


1- ولقد مرّ عليك نص هذا الميثاق الذي وقع عليه كعب بن الاسد رئيس بني قريظة.

للعدالة ، ولم يرتكب ظلما.

2 - إن هذه الزمرة الناقضة للميثاق أخلّت بأمن المدينة في ظل حراب القوى المشركة ، فترة من الزمن ، وهاجمت منازل المسلمين ، ولو لا مراقبة النبيّ صلی اللّه علیه و آله للاوضاع وحراسة من عيّنهم من جنود الاسلام للحفاظ على أمن المدينة ، لفعلت تلك الزمرة الأفاعيل ولارتكبت أسوأ الفضائع والفجائع ، ولو أتيح لهم أن يسيطروا على المدينة لقتلوا رجال المسلمين وصادروا أموالهم ، وسبوا نساءهم وأطفالهم.

ومن هنا رأى سعد بن معاذ في نفسه بأنه لو قضى فيهم بمثل هذا القضاء لما خالف الحق وأطفالهم.

3 - من المحتمل جدا أن سعد بن معاذ رئيس الأوس الحلفاء ليهود بني قريظة ، والذين كانت بينهم علاقات ودّ ومحبّة كان مطّلعا على قوانين اليهود ، الجزائية في هذا المجال ، فإن التوراة تنص بما يلى : « حين تقرب من مدينة لكي تحاربها استدعاها إلى الصلح. فان اجابتك إلى الصلح وفتحت لك فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ، ويستعبد لك. وان لم تسالمك بل عملت معك حربا فحاصرها. واذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحدّ السيف ، واما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة كل غنيمتها فتغتنمها لنفسك » (1).

ولعلّ سعدا فكر في نفسه بأن القاضي المرضيّ والمقبول لدى الجانبين لو عاقب المعتدين حسب شريعتهم ما فعل إلاّ ما يقتضيه العدل والانصاف.

4 - والذي نتصوره هو أن أكبر أسباب هذا الحكم هو أن « سعد بن معاذ » رأى بام عينيه أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عفا عن بني قينقاع المعتدين بناء على طلب من الخزرجيين ، واكتفى - من عقابهم - باخراجهم من المدينة ، واجلائهم

ص: 292


1- التوراة : سفر التثنية الفصل العشرون 10 - 14.

عنها ولكن تلك الزمرة التي شملها عفو النبيّ لم تكن تغادر أراضي الاسلام حتى بدأت بالمشاغبة والمؤامرة الدنيئة ضدّ الاسلام ، فذهب كعب بن الأشرف الى مكة ، وأخذ يتباكى - دجلا وخداعا - على قتلى بدر ، ويذرف عليهم دموع التماسيح ، ولم يفتأ عن تأليب قريش ضد رسول الاسلام وأصحابه حتى عزمت قريش على تسيير جيشها نحو المدينة ، وكانت واقعة « احد » التي استشهد فيها اثنان وسبعون من خيرة أبناء الاسلام ، ورجاله.

وهكذا فعلت بنو النضير المتآمرون الخونة ، الذين عفا عنهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله واكتفى من عقابهم بمجرّد اجلائهم عن المدينة ، ولكنهم قابلوا هذا الموقف الانساني ، بتأليب القبائل العربية المشركة ضدّ الاسلام ، والمسلمين ، وكوّنوا اتحادا نظاميا بينها ، وألفوا منها جيشا قويا ساروا به الى عاصمة الاسلام ( المدينة ) ، فكانت وقعة ( الاحزاب ) التي لو لا حنكة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وخطة حفر الخندق لقضي على الاسلام بسببها منذ الايام الاولى ، ولما بقي من ذلك الدين خبر ولا أثر ولقتل آلاف الناس.

لقد لاحظ سعد بن معاذ كل هذه الاعتبارات ، فلم تسمح له التجارة الماضية بأن يستسلم لعواطفه ، ويضحّي بمصالح الآلاف في سبيل الحفاظ على مصالح أقلية لأنه كان من المسلّم به أن هذا الفريق سيقوم في المستقبل بايجاد تحالف عسكري أوسع ، وسيثير ويؤلب قوى العرب ضد الاسلام ، ويعرّض مركز الاسلام ، ومحوره الاساسي للخطر من خلال تدبير مؤامرات اخرى.

وعلى هذه الأساس رأى بأن وجود هذه الزمرة يضرّ المجتمع الاسلامي مائة بالمائة وأيقن بأن هذه الزمرة لو أتيح لها أن تخرج من قبضة المسلمين لما فتأت لحظة عن المؤامرة ولواجه المسلمون بسببها أخطارا كبرى.

ومن المحقق أنه اذا لم تكن في المقام هذه الجهات والاعتبارات لكان إرضاء الرغبة العامة في الابقاء على بني قريظة أو التخفيف في عقابهم أمرا في غاية الأهمية بالنسبة إلى سعد بن معاذ ، فان رئيس أي قوم ، أو جماعة أحوج ما يكون

ص: 293

إلى تأييد قومه وجماعته وكسب رضاهم ودعمهم ، ولا ريب أن عدم الاستجابة لمطلبهم ، وتجاهل توصياتهم يوجّه أكبر ضربة لسيد القوم ورئيسهم ، ولكن سعدا ( رئيس الأوس ) أدرك أن جميع هذه التوصيات والوساطات تخالف مصالح الآلاف من المسلمين ، من هنا آثر عدم الحياد عن حكم العقل ، والمنطق ، على رضا قومه عنه.

هذا وإن الّذي يشهد بدقة نظر سعد ، وصواب رأيه ، وصحة تشخيصه وتقديره للأمر أنه عند ما اتي بحيي بن أخطب ليضرب عنقه فوقعت عينه على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : ما لمت نفسي في عداوتك ، ولكنه من يخذل اللّه يخذل. أي لو لا خذلان اللّه لليهود لاستمرّوا في معاداة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وتدبير المؤامرات ضده.

ثم أقبل على الناس فقال : يا أيّها الناس لا بأس بأمر اللّه ، ملحمة كتبها اللّه على بني إسرائيل.

ثم إنه قتل في هذه الواقعة من النساء امرأة واحدة لأنها ألقت برحى من فوق الحصن فقتلت به أحد المسلمين ، فقتلت قصاصا.

وكان بين المحكوم عليهم بالقتل رجل اسمه « الزبير بن باطا » شفع له رجل من المسلمين يدعى ثابت بن قيس ، فلم يقتل ، واخلي سبيل زوجته وأولاده ، واعيدت إليه أمواله ، وأسلم أربعة من بني قريظة ، وقسّمت غنائم العدوّ بين المسلمين بعد إخراج الخمس منها ، واخراج ما يرتبط بالامور الادارية الاسلامية العامة.

وقد اعطي للفارس سهمان ، وللراجل سهم واحد ، وسلّم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أموال « الخمس » إلى زيد بن حارثة ليذهب بها إلى نجد ويشتري بها العتاد ، والسلاح ، والخيل ، وغيرها من أدوات الحرب (1).

ص: 294


1- تاريخ الطبرى : ج 2 ص 250 ، السيرة النبوية : ج 2 ص 241 ، زاد المعاد : ج 2 ص 74.

وهكذا انتهت مشكلة بني قريظة في التاسع عشر من شهر ذي الحجة من السنة الخامسة للهجرة ، وقد نزلت في شأن هذه الواقعة الآيات 26 - 27 من سورة الاحزاب اذ يقول سبحانه :

« وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً. وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً ».

وقد استشهد « سعد بن معاذ » الذي سبق أن جرح في معركة الخندق بعد حادثة بني قريظة هذه (1)

ص: 295


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 250 - 254.

حوادث السنة السادسة من الهجرة

اشارة

39

أعداء الاسلام تحت المراقبة المشدّدة

اشارة

أعداء الاسلام تحت المراقبة المشدّدة (1)

لم تنقض السنة الهجرية الخامسة إلاّ وقد انتهت فتنة « الاحزاب » و « بني قريظة » ، وقضي عليهما بالكامل ، وأصبحت المدينة وضواحيها برمتها في قبضة المسلمين وتحت سيطرتهم ، وازدادت قواعد الحكومة الاسلامية الفتية رسوخا وثباتا ، وساد هدوء نسبي في المنطقة التي تخضع للحكومة الاسلاميّة ، غير أن هذا الهدوء كان هدوء موقتا ، وكان على قائد المسلمين الأعلى أن يراقب أحوال العدو وأوضاعه ، وتحركاته ليقضي في المهد على كل مؤامرة ضدّ الاسلام بما اوتي من قوى وامكانيات.

ولقد سمح الهدوء الذي ساد المنطقة للنبيّ صلی اللّه علیه و آله بأن يقمع بعض مشعلي فتنة « الاحزاب » الذين هربوا من قبضة المسلمين بعد رحيل « الاحزاب ».

فلقد قتل « حيي بن أخطب » الذي كان من مشعلي معركة الأحزاب ، في غزوة بني قريظة ، ولكن رفيقه « سلاّم بن أبي الحقيق » كان لا يزال يعيش في خيبر ، ولا شكّ في أن هذا العنصر الخطر لم يكن ليفتأ لحظة واحدة عن إثارة وتأليب « الأحزاب » مرّة اخرى ضدّ الاسلام ، وخاصة أن العرب الوثنيين كانوا

ص: 296


1- يستفاد من السيرة النبوية : ج 3 ص 291 ط 1355 أن خطة اغتيال « سلاّم » كانت قبل نهاية السنة الهجرية الخامسة ، ولكن بالنظر إلى أن قضية بني قريظة حدثت في التاسع عشر من شهر ذي الحجة يستبعد هذا الرأى.

مستعدين لشن حرب على الاسلام ، وكان من المحتمل إذا نوفرت هناك جهة تتكفل نفقات الحرب ، أن تتكرر قضية الاحزاب مرة اخرى.

على أساس هذه المحاسبات كلّف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله (1) مجموعة من شجعان الخزرج وفوارسهم بأن يصفّوا هذا العنصر الخطر ، الجريء والحاقد ، بشرط أن لا يتعرّضوا لأحد من أبنائه وزوجاته.

فخرجوا حتى قدموا خيبر ، فدخلوا خيبر ليلا ولم يدعوا بابا في الدار الا أغلقوه على أهله حتى لا يحس بهم أحد إذا صاح واستغاث بأحد ، ثم تسللوا إلى غرفته وكانت في الطابق الاعلى ، فطرقوا باب حجرته ، فخرجت إليهم امرأته وقالت : من أنتم؟ قالوا : ناس من العرب نلتمس الميرة ، ففتحت الباب وسمحت لهم بالدخول عليه من دون التحقق من أمرهم ، فدخلوا في غرفته وابتدروه وهو على فراشه بأسيافهم بعد أن أغلقوا باب الغرفة على أنفسهم ، وقضوا على ذلك المفسد الشرير الذي طالما أزعج المسلمين بفتنه ومؤامراته ، ثم خرجوا ، وانحدروا من الدرج واختبئوا في ممرّ مائي من خارج الحصن الى داخله ، فصاحت زوجته ، واستغاثت بالجيران ، فأوقد اليهود النيران ، واشتدوا في طلب تلك الجماعة الفدائية المسلمة ، ولكن من دون جدوى ، وعند ما يئسوا من القبض عليهم رجعوا الى صاحبهم المقتول ، وقد بلغ من جرأة المسلمين أن بعثوا أحدهم ليدخل بين اليهود في خيبر ويأتي لهم بخبر ابن أبي الحقيق ، لأنهم كانوا يظنون بأنه لا يزال على قيد الحياة.

فدخل ذلك الرجل بين اليهود فوجدهم وامرأته حول ابن أبي الحقيق ، وفي يدها المصباح تنظر في وجهه ، وتحدثهم ، وتقصّ عليهم ما جرى ، ثم أقبلت عليه

ص: 297


1- إن السبب أو الحكمة في تكليف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الخزرج بهذه المهمة هو أن الاوس قاموا بعملية مشابهة في حق « كعب بن الأشرف » اليهودى الخطر فأراد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إقامة توازن في كسب المفاخر بين تينك القبيلتين ولذلك أوكل مهمة تصفية هذا اليهودي المفسد إلى رجال الخزرج.

تنظر في وجهه ثم قالت : فاظ ( أي مات ) وإله يهود.

فعاد إلى رفاقه وأخبرهم بنجاح عمليّتهم وهلاك عدوّ اللّه : « سلام بن أبي الحقيق » على أيديهم ، فخرجوا في تلك الليلة من مخبأهم وعادوا إلى المدينة وأخبروا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بما جرى (1).

أهل الرأي من قريش يهاجرون الى الحبشة :

توجه جماعة من أهل الرأي في قريش الذين أخافهم تقدّم الاسلام ، وانتشاره المطرد بشدة ، الى البلاط الحبشي ليقطنوا ويقيموا في الحبشة فقد قالوا : الرأي أن نلحق بالنجاشي فنكون عنده ، فان ظهر « محمّد » على قومنا كنا عند النجاشي ، فإنا أن نكون تحت يديه أحب إلينا من أن نكون تحت يدي محمّد وإن ظهر قومنا فنحن من عرفوا فلن يأتينا منهم إلاّ خير.

وخرجت هذه الجماعة وفيهم « عمرو بن العاص » بهدايا كثيرة من الحجاز قاصدة أرض الحبشة ، وبلاط النجاشيّ بالذات.

وصادف دخولهم على « النجاشي » ورود « عمرو بن اميّة الضمري » مبعوث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وحامل كتابه إلى النجاشي يوصيه فيه بجعفر بن أبي طالب ، والمهاجرين الآخرين من رفقائه.

فقال « عمرو بن العاص » : لو دخلت على « النجاشيّ » بالهدايا وسألته عمرو بن اميّة فاعطانيه ، فضربت عنقه.

فدخل « عمرو بن العاصي » على « النجاشيّ » ، وسجد له - على النحو الذي كان متبعا - فسأله النجاشيّ عن حاله ، ثم قال : هل أهديت إليّ من بلادك شيئا؟

قال ابن العاص : نعم أيها الملك ، قد أهديت إليك ادما كثيرا ، ثم قال : أيها

ص: 298


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 274 و 275.

الملك اني قد رأيت رجلا خرج من عندك ( ويقصد مبعوث رسول اللّه ) وهو رسول عدوّ لنا ، فاعطنيه لأقتله ، فإنه قد أصاب من أشرافنا وخيارنا.

فغضب النجاشيّ لمقالة ابن العاص غضبا شديدا فصفعه صفعة كادت أن تكسر أنفه ، ثم قال : أتسألني أن اعطيك رسول رجل يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى لتقتله. ويحك يا عمرو أطعني واتبعه فانه واللّه لعلى الحق ، وليظهرنّ على من خالفه كما ظهر موسى على فرعون وجنوده ، ثم قال : أفتبايعني له على الاسلام؟

يقول عمرو بن العاص : فقلت نعم ، فبسط يده فبايعته على الاسلام ، ثم خرجت إلى أصحابي ، وقد حال رأيي عما كان عليه ، وكتمت أصحابي إسلامي (1).

الوقاية من تكرار التجارب المرة :

تركت حادثة « الرجيع » المرّة التي قتل فيها جماعة من قبائل « عضل » و « القارة » من بني لحيان ثلة من دعاة الاسلام غدرا ومن دون رحمة ، بل وسلّمت رجلين منهم بقوا على قيد الحياة إلى قريش فصلبتهما قريش صبرا انتقاما من رسول اللّه والمسلمين.

لقد تركت هذه الفاجعة المأساوية المؤلمة ألما شديدا في نفوس المسلمين ، وأحدثت جرحا عميقا في ضمائرهم وأدت إلى توقف حركة الارشاد والتبليغ والدعوة.

ولكن في الظروف المستجدة التي استطاع الاسلام أن يزيل - بعد الأحزاب وبني قريظة - كل العراقيل والعقبات عن سبيل المسلمين رأى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن من الضروري تأديب بني لحيان لتعتبر بقية القبائل ، فلا يؤذوا بعد ذلك فرق الدعوة وبعثات التبليغ الاسلامي.

ص: 299


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 276 و 277.

فاستخلف مكانه لإدارة شئون المدينة « ابن أمّ مكتوم » في الشهر الخامس من السنة الهجرية السادسة ولم يظهر لأحد ما يقصده ، بل خرج يظهر أنه يريد الشام ليصيب « بني لحيان » على غفلة منهم ، فلما وصل الى طريق مكة عرّج حتى نزل بمنطقة تدعى غراب وهي منازل بني لحيان ، وقد كان بنو لحيان قد عرفوا بمسير النبي إليهم فحذروه ، وتمنعوا في رءوس الجبال.

وكان غزو المسلمين هذا ، وجبن العدو قد تركا أثرا نفسيا قويا ، فأحدث رعبا في قلوب أعداء الإسلام.

واستكمالا لهذا الهدف العسكريّ الهامّ عمد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى القيام بسلسلة من المناورات العسكرية ، واستعراض القوة القتالية في جنوده ليرهب أعداء اللّه القريب منهم والبعيد ولتسمع بهم قريش خاصة فيذعرهم ، فنزل في مائتي راكب من أصحابه حتى نزل عسفان على مقربة من مكة وقد قال من قبل :

« لو هبطنا عسفان لرأى أهل مكة أنا قد جئنا مكة ».

ثم بعث فارسين من أصحابه حتى بلغا كراع الغميم ( وهو موضع بناحية الحجاز بين مكة والمدينة وهو واد أمام عسفان بثمانية أميال ). ثم عاد مع أصحابه إلى المدينة (1).

هذا وكان جابر بن عبد اللّه الأنصاري يقول : سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول حين رجوعه من هذه الغزوة :

« ... أعوذ باللّه من وعثاء السفر وكآبة المنقلب وسوء المنظر في الأهل والمال » (2).

غزوة ذي قرد :

لم يقم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في المدينة بعد عودته من الغزوة

ص: 300


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 279 و 280.
2- تاريخ الطبري : ج 2 ص 254 ، المغازي : ج 2 ص 535 ، إمتاع الاسماع : ج 1 ص 259 و 260.

السابقة إلاّ ليالي قلائل حتى أغار « عيينة من حصن الفزاري » بمساعدة بني غطفان ، على إبل لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كانت ترعى في منطقة تدعى الغابة ( وهي موضع قرب المدينة من ناحية الشام ) كانت مرعى أهل المدينة ، وكان فيها آنذاك رجل من بني غفار ، وامرأة مسلمة له ، فقتلوا الرجل ، وأخذوا معهم المرأة والإبل.

وكان أول من أخبر الناس بذلك رجل يدعى سلمة بن عمرو بن الأكوع الأسلمي وكان قد غدا يريد الغابة متوشحا سيفه وقوسه ونبله ، يريد الصيد ، حتى إذا علا « ثنية الوداع » نظر إلى بعض خيول المغيرين ، فصعد على تلّة سلع وصرخ مستغيثا ومستنجدا : وا صباحاه ،

ثم خرج يشتد في آثار القوم ( المغيرين ) فجعل يردّهم بالنبل ، ولكن المعتدين لاذوا بالفرار.

وكان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أول من سمع صراخ ابن الاكوع واستغاثاته ، فصرخ صلی اللّه علیه و آله هو مستغيثا : الفزع ، الفزع. فأسرع جماعة من الفرسان برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فلما اجتمعوا عنده أمّر عليهم « سعد بن زيد الاشهليّ » وقال له :

« اخرج في طلب القوم ، حتى الحقك في الناس ».

فخرج الفرسان المسلمون في طلب القوم ، وخرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من ورائهم ، حتى أدركوا القوم في ذي قرد ، فوقع بين المسلمين ، وبين المغيرين قتال قليل قتل فيه من المسلمين رجلان ، ومن المعتدين ثلاثة ، واستنقذت المرأة ، وبعض الابل المسروقة ، ولكن العدوّ لجأ إلى غطفان ، فأقام رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في تلك المنطقة يوما وليلة ، تخويفا للعدوّ ، ولم ير من الصالح ملاحقة العدوّ رغم إصرار بعض المسلمين على ملاحقتهم ، واستنقاذ بقية السرح ( الابل ).

ص: 301

ثم رجع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قافلا حتى قدم المدينة (1) وكانت هذه الغزوة في الثالث من ربيع الاوّل من السنة السادسة من الهجرة (2).

النذر غير المشروع

واقبلت المرأة الغفارية المسلمة التي استنقذت من أيدي المغيرين على ناقة من إبل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حتى قدمت على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأخبرته بما جرى ثم قالت : يا رسول اللّه إني قد نذرت إن نجّاني اللّه على هذه الناقة ، أن أنحرها فآكل كبدها وسنامها.

فتبسم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقال :

« بئس ما جزيتيها أن حملك اللّه عليها ونجاك ثم تنحرينها ، انه لا نذر في معصية ، ولا فيما لا تملكين إنّما هي ناقة من إبلي فارجعي إلى أهلك على بركة اللّه » (3).

وبذلك بيّن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حكما في مجال النذر ، وهو أن النذر لا يصح في مال الغير ، فلا نذر إلاّ في ملك.

والقصة إلى جانب ذلك تكشف عن الخلق العظيم الذي كان يتحلى به قائد الاسلام الأعلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ولطفه بأصحابه واتباعه ، حيث جابه المرأة المذكورة برفق ولطف ، وبصّرها بما لها وما عليها في منتهى التواضع والشفقة.

ص: 302


1- تاريخ الطبري : ج 2 ص 255 ، المغازي : ج 2 ص 537 و 549.
2- امتاع الاسماع : ج 1 ص 260 و 261.
3- السيرة النبوية : ج 2 ص 381 - 289 ، الطبقات الكبرى : ج 2 ص 133 ، امتاع الاسماع : ج 1 ص 263 قال صاحب الامتاع : وكانت الناقة هي القصواء ، والقصواء اسم ناقة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

حوادث السنة السادسة من الهجرة

اشارة

40

تمرّد بني المصطلق

اشارة

لقد بلغت قوة المسلمين العسكرية في السنة الهجرية السادسة حدا ملفتا للنظر ، بحيث تمكن جماعة خاصة منهم أن يترددوا على المناطق القريبة من مكة بمنتهى الحرية ، ومن دون خوف ، بيد أن هذه القوة العسكرية لم تكن كافية للسيطرة على المناطق التي كان يتواجد فيها القبائل المشركة ، ومصادرة أموالهم وممتلكاتهم.

واذا كان المشركون لا ينتزعون المسلمين حريتهم ، وكانوا يسمحون لأن تجري النشاطات التبليغية من دون منع أو معارضة لما كان رسول الاسلام صلی اللّه علیه و آله يقدم على شراء الاسلحة ، وبعث السرايا ، والمجموعات العسكرية ، ولكن حيث ان نشاطات المسلمين التبليغية ، ومجموعات الارشاد والدعوة كانت تتعرض باستمرار للمضايقة ، والاذى ، بل والاغتيال من قبل العدو ، لذلك كان رسول الاسلام صلی اللّه علیه و آله مضطرا بحكم العقل والفطرة أن يقوي من قدرات الاسلام الدفاعية.

لقد كانت العلل والأسباب الواقعيّة لأكثر الحروب التي وقعت إلى السنة الهجرية السادسة بل حتى آخر لحظة من حياة رسول الاسلام صلی اللّه علیه و آله تتلخص في إحدى الامور التالية :

1 - الردّ على اعتداءات المشركين الغادرة ، مثل معركة « بدر » و « احد » و

ص: 303

« الخندق ».

2 - تأديب وعقاب الظالمين الذين قتلوا رجالا أبرياء من المسلمين ، أو قتلوا جماعات الدعوة والتبليغ في البراري والقفار النائية ، أو عرّضوا كيان الاسلام للخطر بنقضهم عهودهم ، وتتمثل هذه الحروب في الغزوات الثلاثة ضدّ الطوائف اليهودية الثلاث ( بني قينقاع ، بني النضير ، بني قريظة ) وبني لحيان.

3 - افشال واحباط المؤامرات ، أو محاولات التمرد التي كانت على شرف الانعقاد في القبائل التي كانت تنوي بجميع الرجال والاسلحة غزو المدينة ، واكتساح عاصمة الاسلام ، واستئصال المسلمين ، وكانت أكثر الحروب الصغيرة والمناوشات العابرة ناشئة من هذا العامل الأخير.

غزوة بني المصطلق :

كان بنو المصطلق من قبائل « خزاعة » المتحالفة مع قريش.

وقد بلغ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن الحارث بن أبي ضرار زعيمها يعدّ العدّة ، ويجمع الرجال المقاتلين لمحاصرة المدينة وغزوها ، فقرّر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بأن يقضي على هذه المؤامرة في مهدها كما كان يفعل دائما.

ولهذا أرسل أحد أصحابه وهو : « بريدة » إلى أرض بني المصطلق ليأتي بأخبارهم ، فذهب بريدة ، ودخل فيهم وتحادث - في هيئة متنكرة - مع رئيسهم وعرف بنيته ، ثم عاد إلى المدينة واخبر رسول الاسلام صلی اللّه علیه و آله بما رآه وسمعه ، وأن بني المصطلق عازمون على المسير إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لمحاصرة المدينة.

فخرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في جمع من أصحابه حتى لقيهم عند ماء يدعى « المريسيع » ، ونشبت الحرب بينهم وبين المسلمين ، ولكن صمود المسلمين وبسالتهم التي كانت قد أرعبت قلوب قبائل العرب تسبب في أن

ص: 304

لا يطول القتال بين المسلمين وبين « بني المصطلق » فتفرق جيش العدو بأن قتل منهم عشرة رجال ، كما وقتل رجل مسلم خطأ ، فأصاب المسلمون غنائم كثيرة وسبوا جماعة كبيرة من نساء بني المصطلق (1).

هذا وان النقاط والدروس المفيدة في هذه الواقعة تتمثل في السياسة الحكيمة التي مارسها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في حوادث هذه الغزوة ، ممّا سنذكر بعضها عما قريب.

وقد شبّ في هذه المنطقة ولأوّل مرّة خلاف بين المهاجرين والأنصار ، كاد أن يأتي بنتائج مروّعة أبسطها أن توجّه ضربة قوية إلى الاتحاد الحاصل بين المسلمين نتيجة هوى البعض وهو سهم لو لا تدبير النبي صلی اللّه علیه و آله وحكمته ، الرشيدة التي أنهت كل شيء ، وابقت على روح التآخي بين المسلمين.

وتعود جذور هذه الحادثة إلى تزاحم رجلين من المسلمين على البئر بعد ان وضعت الحرب أوزارها.

فقد ازدحم « جهجاه بن مسعود » وهو من المهاجرين و « سنان بن وبر الجهني » وهو من الأنصار على الماء فاقتتلا ، فصرخ الجهني - مستغيثا بقبيلته على عادة الجاهليين - : يا معشر الأنصار ، وصرخ جهجاه : يا معشر المهاجرين ، وكاد أن يتقاتل المسلمون من الفريقين فيما بينهم في هذه الحادثة ، وفي هذا المكان البعيد عن عاصمة الاسلام ومركزه ، ويتعرض بذلك كيانهم للسقوط والانهيار ، لأنهم تواعدوا على القتال كل فريق انتصارا الصريحة.

فلما عرف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بذلك قال :

« دعوها فإنها منتنة » (2).

أي أن هذا النوع من الاستغاثة ولمثل هذا الدافع ما هو إلاّ من دعوى

ص: 305


1- تاريخ الطبري : ج 2 ص 260 ، امتاع الاسماع : ج 1 ص 195 و 196.
2- السيرة النبوية : ج 1 ص 290 ( الهامش ).

الجاهلية ، وقد جعل اللّه المؤمنين إخوة وحزبا واحدا ، فانما ينبغي أن تكون الدعوة للمسلمين ، وإلاّ كانت جاهلية ، لا قيمة لها في الإسلام (1).

وبذلك قضى النبي الحكيم على الفتنة في مهدها ، وجنّب المسلمين أخطارها.

منافق حاول إشعال الموقف :

أجل لقد استطاع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بهذا الاستنكار الشديد أن يطفئ نار الاختلاف والتنازع فكيف الفريقان ( القبيلتان ) عن استئناف التنازع والتقاتل.

إلاّ أن « عبد اللّه بن ابي » رئيس حزب المنافقين بالمدينة ، والذي كان يكنّ حقدا كبيرا على الإسلام وقد شارك في تلك الغزوة طمعا في الغنيمة ، أظهر - في هذه الحادثة - حقده ، وضغينته على الإسلام ، وقال لرهط من أهل المدينة كانوا عنده آنذاك : هذا ما فعلتم بأنفسكم ، أحللتموهم بلادكم ، وقاسمتموهم أموالكم أما واللّه لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا الى غير داركم ، لقد نافرونا ( أي المهاجرين ) وكاثرونا في بلادنا ، واللّه ما أعدنا وجلابيب قريش إلاّ كما قال الأول : سمّن كلبك يأكلك ، أما واللّه لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعز منها الأذل ( ويقصد بالأذل المهاجرين )!!!

فتركت كلمات « ابن ابي » أمام تلك الجماعة التي كانت لا تزال تعاني من بقايا عصبية جاهلية ، أثرها في نفوسهم ، وكادت توجه ضربة قاضية إلى صرح الوحدة الاسلاميّة ، والاخوة الايمانية التي كانت تشدّ المسلمين - أنصارا ومهاجرين - بعضهم ببعض كالبنيان المرصوص.

ومن حسن الحظ أن فتى غيورا من فتيان المسلمين هو زيد بن الارقم

ص: 306


1- راجع هوامش السيرة النبوية : ج 2 ص 290.

لما سمع بهذه الكلمات المثيرة للشغب والفتنة رد على « ابن ابي » بكلمات قوية شجاعة اذ قال : أنت واللّه الذليل القليل المبغض في قومك ، ومحمّد في عزّ من الرحمن ، ومودّة من المسلمين ، واللّه لا احبّك بعد هذا أبدا.

ثم نهض ومشى إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأخبره الخبر ، فرده رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ثلاث مرات حفظا للظاهر ، قائلا : لعلّك وهمت يا غلام ، لعلّك غضبت عليه ، لعلّه سفّه عليك.

ولكن زيدا كان يؤكّد على صحة ما أخبر به رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من مقالة المنافق الخبيث « عبد اللّه بن ابي » ، وتحريكه للناس ضد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

وهنا طلب عمر بن الخطاب من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن يقتل « ابن ابي » قائلا : مر به عبّاد بن بشر فليقتله (1).

ولكن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أجاب عمر بقوله :

« فكيف يا عمر إذا تحدّث الناس أن محمّدا يقتل أصحابه ، لا » (2).

ولقد مشى « عبد اللّه بن ابي » إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حين بلغه أنّ « زيد بن الارقم » قد بلّغ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ما سمع منه ، فحلف

ص: 307


1- تثبت دراسة حياة الخليفة الثاني أنه لم يبد في أية معركة من معارك الاسلام قوة وبسالة ، بل كان في صف المتقاعدين دائما. ولكن كلما أسّر المسلمون أحدا كان هو اول من يقترح على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بقتله ونذكر للمثال ما يلي : أ - هذا المورد الذي طلب فيه من رسول اللّه أن يُقتل ابن أبي. ب- طلبه من النبي بأن يُقتل حاطب بن أبي بلتعة الذي تجسس لصالح المشركين من أهل مكة في فتح مكة. ج - طلبه من رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله بقتل أبي سفيان الذي جاء به العباس عم النبي صلى اللّه عليه وآله إلى خيمة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله قبيل فتح مكة، وغير ذلك من الموارد التي سبقت أو التي تأتي.
2- امتاع الاسماع : ج 1 ص 202.

باللّه : ما قلت ما قال ، وقال بعض من حضر من أهل الرأي من أصحابه دفاعا عن ابن ابي : يا رسول اللّه عسى أن يكون الغلام قد اوهم في حديثه ولم يحفظ ما قال الرجل.

ولكن الامر لم ينته إلى هذا ، فقد كان هذا نوعا من الهدوء المؤقت تماما كالهدوء الذي يسبق العاصفة ، الذي لا يمكن الاطمئنان إليه.

فقد كان يتوجب على قائد المسلمين الأعلى أن يقوم فورا بما يؤدي إلى أن ينسى الطرفان هذه القصة نهائيا ، ولهذا أمر بالرحيل في ساعة من النهار لم يكن صلی اللّه علیه و آله يرتحل فيها عادة.

فجاءه « اسيد بن حضير » ، وقال : يا رسول اللّه لقد رحت في ساعة منكرة ما كنت تروح في مثلها؟

فقال له رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله :

« أو ما بلغك ما قال صاحبكم؟ زعم أنه إن رجع الى المدينة أخرج الاعز منها الاذل »؟

فقال اسيد : فأنت واللّه يا رسول اللّه تخرجه إن شئت ، هو واللّه الذليل ، وأنت العزيز ، ارفق به يا رسول اللّه ، فو اللّه لقد جاء اللّه بك وان قومه لينظمون له الخرز ليتوّجوه ، وأنه ليرى أنك قد استلبته ملكا.

ثم أمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بالرحيل فارتحل الناس ، وسار بهم النبي صلی اللّه علیه و آله يومهم ذاك حتى أمسى ، وليلتهم تلك حتى أصبح ، من دون أن يسمح لهم بالنزول والاستراحة ، إلاّ للصلاة ، وسار بهم في اليوم هكذا حتى آذتهم الشمس وسلبوا القدرة على مواصلة السير فأذن لهم بالاستراحة ، فنزل الناس ، ولم يلبثوا ان وجدوا مسّ الارض فوقعوا نياما من شدة التعب ، وقد نسوا كل شيء من تلك الذكريات المرّة ، وكان هذا هو ما يريده النبي صلی اللّه علیه و آله ، فقد سار بهم ليل نهار من دون توقف ليشغلهم عن الحديث الذي كان من

ص: 308

« عبد اللّه بن ابي » المنافق المفتّن (1)

صراع بين الايمان والعاطفة :

كان عبد اللّه ابن « عبد اللّه بن ابي » من فتيان الإسلام الشجعان ، ومن فرسانه البواسل ، وكان - كما تقتضيه تعاليم الإسلام - يبر بأبيه المنافق أكثر من غيره ، ولكنه عند ما عرف بما تفوّه به أبوه في شأن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وظن أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله سيقتل أباه جاء الى النبي صلی اللّه علیه و آله وقال : يا رسول اللّه انه قد بلغني أنك تريد قتل « عبد اللّه بن ابي » ، فيما بلغك عنه فإن كنت لا بدّ فاعلا فمرني به فانا أحمل إليك رأسه ، فو اللّه لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبرّ بوالده مني ، وإني أخشى أن تامر به غيري ، فيقتله فلا تدعني نفسي انظر إلى قاتل عبد اللّه بن أبي يمشي في الناس فاقتله ، فأقتل ( رجلا ) مؤمنا بكافر فأدخل النار!!

إن حديث هذا الفتى يعكس - في الحقيقة - أعظم تجليات الإيمان وآثاره في النفس ، والروح الانسانية.

لما ذا لم يطلب من النبي صلی اللّه علیه و آله أن يعفو عن أبيه؟! لأنّه كان يعلم أن ما يفعله رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إنما هو بأمر اللّه تعالى ، ولكن ابن عبد اللّه كان يرى نفسه في صراع روحيّ حادّ.

فمن جانب كانت تدعوه عواطف البنوة والابوّة والأخلاق العربيّة أن ينتقم ممّن يقتل أباه ، ويسفك بالتالي دم مسلم.

ومن جانب آخر توجب عوامل اخرى مثل ضرورة استتباب الأمن والطمأنينة في البيئة الاسلامية أن يقتل رأس المنافقين « ابن أبي » ، انه صورة من صور الصراع بين مقتضى الايمان ، ومقتضى العاطفة.

ص: 309


1- تاريخ الطبري : ج 2 ص 261 و 262 ، مجمع البيان : ج 10 ص 292 - 295.

ولقد اختار عبد اللّه بن عبد اللّه بن ابي طريقا ثالثا في هذا الصراع ، يضمن مصالح الإسلام من جهة ، ويحافظ على مشاعره من أن تجرح على أيدي الآخرين من جهة اخرى ، وذلك بأن يكون هو الذي ينفّذ حكم الاعدام في أبيه المنافق المشاغب.

وهذا العمل وان كان شاقا مؤلما إلاّ أن قوة الايمان باللّه والتسليم لأمره سبحانه كانت تفيض عليه قدرا كبيرا من الطمأنينة والسكون.

ولكن النبي الرحيم صلی اللّه علیه و آله قال ردا على سؤال واقتراح عبد اللّه بن عبد اللّه بن أبي :

« بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا »!!!

وهذا الكلام الذي يكشف عن سمو أخلاق النبيّ صلی اللّه علیه و آله ومبلغ رحمته ، أدهش المسلمين جميعا فتوجهوا باللوم والعتاب الحادّ إلى المنافق « عبد اللّه بن أبي » ، ولحقه بسبب ذلك ذل شديد بين الناس ما وراءه ذل ، وهوان ما وراءه هوان ، واحتقره الناس حتى انه لم يعد أحد يعبأ به ، ويقيم له وزنا.

لقد علّم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله المسلمين في هذه الحوادث دروسا مفيدة جدا ، وأظهر جانبا من سياسة الاسلام الحكمية ، والرشيدة.

فقد تحطم « عبد اللّه بن أبي » رئيس المنافقين بعد هذه الحادثة ، ولم يعد له أي دور ، بل عاش بقية حياته مهانا محتقرا بين الناس بعد أن رأى الناس إيذاءه المستمر لرسول اللّه ، وعفو النبي صلی اللّه علیه و آله عنه ، واغضاءه عن مساوئه.

وقد قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لعمر بن الخطاب ذات يوم حين بلغه احتقار الناس لابن ابي ذلك الاحتقار ، وسقوط محله في القلوب :

« كيف ترى يا عمر ، أما واللّه لو قتلته يوم قلت لي : اقتله ، لارعدت له انف ، لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته ».

فقال عمر : قد واللّه علمت لأمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أعظم بركة

ص: 310

من أمري (1).

الزواج المبارك :

كانت « جويرية » بنت الحارث بن أبي ضرار رئيس بني المصطلق من جملة السبايا التي وقعت في أيدي المسلمين في غزوة بني المصطلق ، فأقبل أبوها الحارث بفداء ابنته إلى المدينة فلما كان في وادي العقيق نظر إلى الإبل التي جاء بها لفداء ابنته فرغب في بعيرين منها فغيّبها في شعب من شعاب العقيق ، ثم أتى إلى النبي صلی اللّه علیه و آله وقال : يا محمّد أصبتم ابنتي وهذا فداؤها ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

« فأين البعيران اللذان غيّبتهما بالعقيق في شعب كذا وكذا »؟!

فلما سمع الحارث بهذا الخبر الغيبي على لسان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله آمن هو ووالده به ، وأسلم اناس آخرون من قومه كانوا معه ، وأرسل إلى البعيرين فجاء بهما ، فدفع الإبل إلى رسول اللّه ودفعت إليه ابنته « جويرية » فأسلمت هي أيضا.

ثم خطبها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى أبيها ، فزوّجه اياها ، وأصدقها أربعمائة درهم.

فلما بلغ الناس أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله تزوّج جويرية بنت الحارث وكان بأيديهم بعض الاسرى من بني المصطلق قالوا : أصهار رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فأطلقوا ما كان بأيديهم من اولئك الاسرى وكانوا مائة عائلة ، فما علم امرأة اعظم بركة على قومها منها ، فقد اعتق بتزويجه اياها مائة أهل بيت من بني

ص: 311


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 292 و 293 وفي السيرة الحلبية : ج 2 ص 291 : لأرغدت له أنوف ، وتعني هذه القولة النبوية الشريفة : ان النبي لو كان يأخذ باقتراح عمر بقتل عبد اللّه بن أبي لدافع عنه اناس حمية وعصبية ، ولكنه اليوم وبعد أن خذله الناس أنفسهم لو أمر النبي اولئك المدافعين بقتله. لقتلوه دون إبطاء.

المصطلق.

وهكذا اطلق جميع أسرى بني المصطلق الذين كانوا بأيدي المسلمين رجالا ونساء بفضل ذلك الزواج المبارك ، أو قل بفضل هذه السياسة الاجتماعية الحكيمة ، وعادوا الى قبيلتهم (1).

الفاسق يفتضح :

كان إسلام بني المصطلق اسلاما نابعا من قناعة ورغبة لأنهم لم يجدوا من المسلمين خلال مدّة الأسر إلاّ حسن المعاملة والإحسان والعفو حتى أنه تم اطلاق جميع الأسرى ببعض الذرائع وعادوا إلى قبيلتهم وأهليهم.

ثم إن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أرسل إليهم « وليد بن عقبة بن أبي معيط » لجباية زكاتهم ، فلما سمعوا بقدومه خرجوا إليه راكبين ليكرموه وليؤدوا إليه ما عليهم من الزكاة ، فلما سمع بهم هابهم ، فرجع إلى رسول اللّه مسرعا فأخبره بأن القوم همّوا بقتله ، وأنهم منعوه ما قبلهم من صدقتهم ، فطلب المسلمون غزوهم ، وفي الاثناء قدم وفد من بني المصطلق على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقالوا : يا رسول اللّه سمعنا برسولك حين بعثته إلينا فخرجنا إليه لنكرمه ، ونؤدي إليه ما قبلنا من الصدقة فأسرع راجعا فبلغنا أنه زعم لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أنّا خرجنا إليه لنقتله وو اللّه ما جئنا لذلك. فنزلت في هذا الشأن الآية السادسة من سورة الحجرات تؤيد مقالة بني المصطلق وتصف الوليد بالفسق ، اذ يقول تعالى :

« يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ » (2).

ص: 312


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 295 ، امتاع الاسماع : ج 1 ص 198 و 199.
2- السيرة النبوية : ج 2 ص 296 و 297.

41

قصة الإفك

اشارة

بقي رئيس حزب النفاق عبد اللّه بن ابي يواصل تجارته بالجواري ، والإماء ويضعهن تحت تصرف الرجال للزنا بهن ، ليجني من هذا الطريق أرباحا طائلة.

حتى بعد دخول الاسلام في المدينة.

فعند ما نزلت آيات تحريم الزنا كان ذلك الفاسق يمارس حرفته القذرة ، حتى أن إماءه ضقن بهذا العمل الفاجر ذرعا ، فشكين إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقالت إحداهن : إن سيّدي يكرهنى على البغاء.

فنزل قوله تعالى في شجب هذا العمل الدنيء : « وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا » (1) (2).

ولقد أراد رجل يعبث بعفاف النساء كهذا ، أن يسيء إلى امرأة ذات مكانة وشخصية في المجتمع الاسلامي (3) ، ويتهمها بالزنا نكاية بالمؤمنين ، والمؤمنات ، وبغيا وحسدا.

ص: 313


1- النور : 33.
2- مجمع البيان : ج 4 ص 141 ، الدر المنثور : ج 5 ص 46.
3- اخترنا هذا التعبير لورود نوعين من شأن النزول في المقام بحيث لم يتأكد للمؤلف من هي المقصودة هنا ، وستقرأ في الصفحات القادمة أدلة عدم ثبوت من عيّنه البعض. إن ما يستفاد من الآيات والروايات المرتبطة بهذه القصة تفيد إجمالاً أن إمرأة ذات مكانة في المجتمع الاسلامي آنذاك تعرضت لاتهام المنافقين لها ، وأما من هي تلك المرأة على وجه التعيين فذلك مالا يمكن البت فيه، على وجه القطع واليقين.

حقا إن معاداة النفاق للايمان من أشدّ أنواع المعاداة ، فان العدوّ المشرك والكافر يعمد دائما إلى إشفاء غيظه واطفاء غضبه وحنقه باستخدام عدائه في جميع الموارد والاوقات.

ولكن المنافق الذي يتظاهر بالايمان ، ويتستر بالاسلام حيث انه لا يمكنه التظاهر بعدائه ، فان عداءه الباطني يتراكم ويتصاعد حتى يصل أحيانا إلى حدّ الانفجار ، لهذا ينطلق المنافق في كيل التهم من دون حساب أو ميزان تماما كما يفعل المجانين.

ونرى مثل هذه الحالة في عبد اللّه بن ابي.

ولقد ظهرت ذلّة « عبد اللّه بن ابي » رئيس حزب النفاق في واقعة بني المصطلق ، وقد منعه ابنه من دخول المدينة ، ولم يسمح له بدخولها إلاّ بوساطة من النبي صلی اللّه علیه و آله ، وهكذا آل مصير رجل كان يحلم بالملوكية والسلطان الى أن يمنعه أخصّ أقربائه عن الدخول إلى مسقط رأسه ، فيما كان يطلب هو من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن يكف عنه ولده.

إن من الطبيعي أن يعمد رجل مثل هذا إلى فعل كل ما يشفي غليله ويذهب غيظه ، ومن ذلك ترويج الشائعات الكاذبة انتقاما من المجتمع الاسلامي.

فعند ما يعجز العدوّ عن المواجهة المباشرة يعمد إلى حبك الشائعات ، وترويجها واشاعتها ليستطيع من خلال ذلك ، توجيه ضربة نفسيّة إلى المجتمع ، وكذا بلبلة الرأي العام ، وإشغاله بالتوافه وصرفه عن القضايا المهمة والمصيرية.

إن سلاح الشائعات من الأسلحة المدمرة التي يمكن أن تستخدم في تشويه سمعة الأفراد الصالحين ، وابعاد الناس عنهم.

المنافقون يتهمون شخصا نقيّ الجيب :

يستفاد من الآيات النازلة في قضيّة « الإفك » أن المنافقين اتهموا شخصا

ص: 314

بريئا كان يتمتع في المجتمع الاسلامي آنذاك بتهمة الزنا ، تحقيقا لمآربهم الدنيئة ، واضرارا بالمجتمع الاسلاميّ ، وقد ردّهم القرآن وشجب عملهم بشدّة قل نظيرها ، وأبطل خطتهم.

فمن هو - ترى - ذلك البريء؟ ان في ذلك خلافا بين المفسرين ، فالاكثرون على أنها « عائشة » زوجة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ويرى الآخرون أنها « مارية » القبطية أم إبراهيم وزوجة رسول اللّه أيضا لقد ذكروا أسبابا مختلفة لنزول هذه الآيات لا تخلو من عن إشكال. وها نحن ندرس القول الذي يذهب إلى أن المراد في هذه الآيات هو : « عائشة » وتوضيح ما يصح وما لا يصح في هذا المجال :

دراسة القول الأوّل :

يرى المحدّثون والمفسرون من أهل السنة أن نزول آيات « الإفك » يرتبط بعائشة ، ويذكرون في هذا المجال رواية مفصّلة لا يتلاءم بعضها مع عصمة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ومن هنا لا يمكن القبول بهذا القول على اطلاقه.

وها نحن نذكر ما يتلاءم من هذه القصة مع عصمة النبي صلی اللّه علیه و آله ثم نستعرض آيات الإفك ، ثم نشير إلى القسم الذي يخالف عصمته صلی اللّه علیه و آله في هذا القول.

إن اسناد هذه الرواية تنتهي برمتها إلى « عائشة » (1) نفسها ، فهي تقول : كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه ، فأيّهن خرج سهمها خرج بها معه ، فلما كانت غزوة بني المصطلق أقرع بين نسائه كما كان يصنع عادة فخرج سهمي عليهن معه فخرج بي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فلما فرغ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من سفره ذلك وجه قافلا حتى إذا كان قريبا من المدينة نزل منزلا ، فبات به بعض الليل ، ثم أذن في الناس بالرحيل ، فارتحل

ص: 315


1- راجع الدر المنثور : ج 5 ص 24 - 34.

الناس وخرجت لبعض حاجتي ، وفي عنقي عقد لي ، فيه جزع ظفار ، ( أي خرز يمني ) فلما فرغت انسلّ من عنقي ولا أدري فلما رجعت إلى الرحل ذهبت التمسه في عنقي فلم أجده ، وقد أخذ الناس في الرحيل ، فرجعت إلى مكاني الذي ذهبت إليه ، فالتمسته حتى وجدته ، وجاء القوم خلا في الذين كانوا يرحّلون لي البعير ، وقد فرغوا من رحلته ، فأخذوا الهودج ، وهم يظنون أني فيه كما كنت أصنع ، فاحتملوه ، فشدّوه على البعير ولم يشكّوا أني فيه ، ثم اخذوا رأس البعير ، فانطلقوا به ، فرجعت إلى العسكر وما فيه من داع ولا مجيب ، قد انطلق الناس.

فتلففت بجلبابي ، ثم اضطجعت في مكاني ، وعرفت أن لو قد افتقدت لرجع إليّ. فو اللّه إني لمضطجعة اذ مرّ بي صفوان السلمي ( وهو من فرسان الاسلام ) وقد كان تخلّف عن العسكر لبعض حاجته ، فلم يبت مع الناس ، فرأى سوادي ، فأقبل حتى وقف وقد كان يراني قبل أن يضرب علينا الحجاب ، فلما رآني قال : إنا لله وإنا إليه راجعون ظعينة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وأنا متلففة في ثيابي. قال : ما خلّفك يرحمك اللّه. فما كلّمته ، ثم قرّب البعير فقال : اركبي ، واستأخر عنّي فركبت ، وأخذ برأس البعير ، فانطلق سريعا يطلب الناس ، فو اللّه ما أدركنا الناس ، وما افتقدت حتى أصبحت ، ونزل الناس فلما اطمأنوا طلع الرجل يقود بي ، فقال أهل الإفك ما قالوا ؛ وارتعج العسكر ( أي شكوا فيّ ) وو اللّه ما اعلم بشيء من ذلك. حتى نزلت آيات « الإفك » تبرئني ممّا اتهمني به المنافقون.

هذا القسم من شأن النزول الذي لخصناه لك من قصّة مفصّلة يمكن تطبيقها مع آيات « الإفك » ، وليس فيه ما ينافي عصمة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

وإليك الآيات التي نزلت في هذا المجال :

« إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ

ص: 316

عَظِيمٌ لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ. لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ وَلَوْ لا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ. إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللّهِ عَظِيمٌ. وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ » (1).

أبرز النقاط في آيات « الإفك » :

يستفاد من القرائن أن هذه التهمة كانت نابعة أساسا من المنافقين أي أنه من كيدهم ، وإليك هذه القرائن :

1 - يقال : إن المراد من قوله سبحانه : « وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ » هو « عبد اللّه بن ابي » رئيس المنافقين ، وكبيرهم.

2 - لقد عبّر تعالى في الآية الحادية عشرة عن الذين اتهموا المرأة بلفظ : « عصبة » وهذه العبارة تستعمل في الجماعة المنظّمة ، التي يربطها هدف واحد وتحدوها غاية واحدة وتفيد أنهم كانوا متعاونين ومتعاضدين في المؤامرة ولم يكن مثل هذه الجماعة بين المسلمين إلاّ المنافقون.

3 - ان « عبد اللّه بن ابي » بسبب منعه من الدخول إلى المدينة ، بقي عند مدخل المدينة ، فلمّا شاهد عائشة وهي راكبة بعير صفوان استغل الفرصة للايقاع برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله اشفاء لغيظه ، فبادر إلى استعمال سلاح التهمة والبهتان ، وقال إن زوجة النبيّ صلی اللّه علیه و آله باتت مع اجنبى في تلك الليلة وو اللّه ما نجا منهما من الإثم أحد.

ص: 317


1- النور : 11 - 16.

4 - إنه تعالى يقول في نفس الآية ( أي الحادية عشرة ) : « لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ».

والآن يجب أن نرى كيف لا يكون اتّهام مؤمن طاهر الجيب شرا للمؤمنين بل يكون خيرا لهم؟

إن سبب ذلك هو أنّ هذه القصة كشفت القناع عن نوايا المنافقين ومقاصدهم الشرّيرة وافتضحوا برمّتهم ، هذا مضافا إلى أنّ المسلمين أخذوا من هذه القضية دروسا مفيدة ، مذكورة في محلها.

الزوائد في هذه القصة :

اشارة

هذا القدر من القصة يمكن تطبيقه مع القرآن الكريم ، ولا يتنافى مع عصمة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ولكن البخاري روى بين ثنايا هذه القصة امورا - نقلها عنه الآخرون في الاغلب - تعاني من إشكالين أساسيين هما :

1 - منافاتها لمقام النبوة والعصمة صلی اللّه علیه و آله :

فقد روى البخاري عن عائشة نفسها قولها :

لما قدمنا المدينة لم ألبث أن اشتكيت شكوى شديدة ( أي مرضت ) ولا يبلغني من ذلك شيء وقد انتهى الحديث الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وإلى أبويّ لا يذكرون لي منه قليلا ولا كثيرا إلاّ أنّي قد أنكرت من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بعض لطفه بي ، وكنت إذا اشتكيت رحمني ولطف بي ، فلم يفعل ذلك بي في شكواي تلك ، فأنكرت ذلك منه ، كان إذا دخل عليّ وعندي امّي تمرضني قال : كيف تيكم ، لا يزيد على ذلك. حتى اذا نقهت من وجعي بلغني ما قاله المنافقون فيّ ، فمرضت مرة اخرى فقلت يا رسول اللّه لو أذنت لي فانتقلت إلى أمّي فمرضتني ، فقال : لا عليك ، فانتقلت إلى امّي ، فقلت لامّي : يغفر اللّه لك تحدّث الناس بما تحدّثوا به ، ولا تذكرين لي من ذلك شيئا ، فقالت : أي بنيّة هوّني

ص: 318

عليك الشأن فو اللّه لقلما كانت امرأة حسناء عند رجل لها ضرائر إلاّ كثّرن ، وكثر الناس عليها. (1)

ثم إن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله شاور « اسامة بن زيد » في الامر ، فأثنى عليّ خيرا وقاله ، ثم قال : يا رسول اللّه أهلك ولا نعلم منهم إلاّ خيرا ، وهذا الكذب والباطل!!

وشاور عليّا فقال : يا رسول اللّه إن النساء لكثير ، وانّك لقادر على أن تستخلف ، وسل الجارية ، فانّها ستصدّقك ( إي جارية عائشة ) فدعا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بريرة ليسألها ، فقالت : واللّه ما أعلم إلاّ خيرا ، وما كنت اعيب على عائشة شيئا.

إن هذا القسم من الرواية يتنافى بقوة مع عصمة النبي صلی اللّه علیه و آله لانه يكشف عن أن النبي وقع فريسة بأيدي الشائعات الكاذبة إلى درجة أنه غير سلوكه مع عائشة ، وشاور أصحابه فيها!!

إن مثل هذا الموقف مع شخص بريء لا يوجد على تهمته أي دليل ليس فقط يتنافى مع مقام العصمة النبوية ، بل يتنافى حتى مع مقام مؤمن عادي لأنه من المؤمنين ليس من الجائز أبدا أن تغيّر الشائعات سلوك مسلم عاديّ تجاه شخص منهم ، وحتى لو تركت تلك الشائعات تأثيرا في نفس المسلم ، فليس من الجائز أن تحدث مثل ذلك التغيير والانقلاب في نظرته وسلوكه.

إن القرآن الكريم يوبّخ في الآية 12 و 14 من سورة النور اولئك الذين وقعوا فريسة الشائعات وظنّوا الظن السوء إذ يقول تعالى :

« لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ »؟!

ص: 319


1- صحيح البخاري : ج 6 تفسير سورة النور ص 102 و 103 وكذا الجزء 5 ص 118 السيرة النبوية : ج 2 ص 299

« وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ »؟! (1).

فاذا صحّ هذا القسم من الرواية المذكورة في شأن النزول لزم أن نقول : ان هذا العتاب الشديد وهذا التوبيخ الصارخ كان يعمّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أيضا ، والحال أن مقام النبوة الذي يلازم العصمة لا يسمح لنا بأن نقول بأن هذا الخطاب والتوبيخ موجّهين إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

من هنا لا مناص من رفض كل هذه الرواية المذكورة في شأن النزول الذي يتنافى مع عصمة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أو القبول بالقسم الذي لا يتنافى منها مع عصمة النبي صلی اللّه علیه و آله ورفض ما يتنافى معها.

2 - سعد بن معاذ توفي قبل حادثة « الإفك » :

ويروي البخاري في صحيحه في ذيل شأن النزول عن عائشة نفسها : بعد أن سأل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بريرة عن أمري ، فقالت فيّ خيرا وصعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله المنبر فحمد اللّه وأثنى عليه وقال : « من يعذرني ممن يؤذيني في أهلي ( أي من يؤدبه ) ويقولون لرجل ، واللّه ما علمت على ذلك الرجل إلاّ خيرا ، وما كان يدخل بيتا من بيوتي إلاّ معي ويقولون عليه غير الحق ».

فقام « سعد بن معاذ » وقال : أنا اعذرك منه يا رسول اللّه إن يك من الأوس آتك برأسه ، وإن يك من إخواننا من الخزرج فمرنا بأمرك نمضي لك.

فثقل هذا الكلام على « سعد بن عبادة » وغضب منه ، فقام وقال : كذبت لعمر اللّه ، لا تقتله ولا تقدر على قتله (2).

ص: 320


1- أي لما ذا - عند ما سمعتم بهذا الافتراء - لم تظنوا بأنفسكم خيرا وقلتم : هذا إفك ، ولما ذا - عند ما سمعتم بهذا الكلام - لم تقولوا هذا بهتان لا يجوز ان نتكلم به.
2- كان « سعد بن معاذ » رئيس الاوس و « سعد بن عبادة » رئيس الخزرج ، وكانت بين هاتين القبيلتين منافسة قديمة ، وكان « عبد اللّه بن أبي » خزرجيا ، فاعتبر « سعد بن عبادة » كلام « سعد بن معاذ » تعريضا بالخزرج وحطا من شأنهم.

فقام اسيد بن حضير - وهو ابن عم سعد بن معاذ - وقال : كذبت واللّه لنقتلنّه وأنفك راغم. فانك منافق تجادل عن المنافقين ، واللّه لو نعلم ما يهوى رسول اللّه من ذلك في رهطي الأدنين ما رام رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مكانه حتى آتيك برأسه ، ولكني لا أدري ما يهوى رسول اللّه.

ثم تغالظوا ، وقام آل الخزرج من جانب ، وآل الأوس من جانب آخر ، وكادوا أن يشتبكوا ورسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على المنبر ، فأشار رسول اللّه إلى الحيّين جميعا أن اسكتوا ، ونزل عن المنبر فهدّأهم وخفضهم حتى انصرفوا ...

هذا القسم من القصة المذكورة في رواية البخاري غير صحيح ، ولا يتلاءم مع التاريخ الثابت الصحيح لأن « سعد بن معاذ » كان قد مات بعد إصدار حكمه في بني قريظة متأثرا بجرح أصابه في معركة « الاحزاب » ، وقد وقعت حادثة « الإفك » بعد واقعة بني قريظة ، وقد صرّح البخاري نفسه بهذا في صحيحه ( ج 5 ص 113 ) في باب « معركة الاحزاب وبني قريظة » ، فكيف يمكن والحال هذه أن يحضر مجلس رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ويجادل سعد بن عبادة في قصة الإفك التي وقعت بعد واقعة بني قريظة بعدة شهور؟! (1)

لقد ذهب المؤرخون الى أن معركة الخندق ثم واقعة بني قريظة وقعتا في شهر شوال من السنة الخامسة للهجرة ، فتكون النتيجة ان قضية بني قريظة انتهت في التاسع عشر من شهر ذي الحجة ، وقد توفي سعد بن معاذ في أعقاب هذه الحادثة مباشرة لمّا انفجر به جرحه (2) في حين وقعت غزوة بني المصطلق في شهر شوال

ص: 321


1- نفس المصدر السابق ، والجدير بالذكر أن ابن هشام لم يذكر في سيرته « سعد بن معاذ » ، ولكنه روى جدال اسيد مع سعد بن عبادة راجع السيرة النبوية : ج 2 ص 300 ، وهكذا فعل ابن الاثير في الكامل في التاريخ : ج 2 ص 134 ، ولكن المغازي ذكر القصة كاملة ، واتى باسم سعد بن معاذ راجع : ج 2 ص 431.
2- السيرة النبوية : ج 2 ص 250.

من السنة السادسة (1).

أجل إنّ ما هو مهمّ في المقام هو أن نعرف أنّ حزب النفاق حاول أن يزلزل النفوس ، ويبلبلها ببهت امرأة صالحة ذات مكانة في المجتمع الاسلامي يومذاك.

وقد فسر قوله : « الّذي تولى كبره » أي الذي تحمل القسط الاكبر من هذه العملية الخبيثة بعبد اللّه بن ابي ، فهو الذي قاد هذه العملية الرخيصة والخطرة كما صرحت بذلك عائشة نفسها أيضا.

الرواية الاخرى في سبب النزول :

وتقول هذه الرواية أن الآيات الحاضرة نزلت في « مارية القبطيّة » زوجة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ووالدة إبراهيم.

فان هذه الرواية تقول : لما مات إبراهيم بن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حزن عليه حزنا شديدا ، فقالت عائشة : ما الذي يحزنك عليه؟ ما هو إلاّ ابن جريح ، فبعث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عليّا صلوات اللّه عليه وأمره بقتله ، فذهب علي صلوات اللّه عليه ومعه السيف ، وكان جريح القبطي في حائط ( أي بستان ) ، فضرب « علي » باب البستان ، فأقبل جريح له ليفتح الباب ، فلما رأى عليّا صلوات اللّه عليه ، عرف في وجهه الغضب ، فأدبر راجعا ولم يفتح باب البستان ، فوثب علي علیه السلام على الحائط ونزل إلى البستان ، وأتبعه ، وولّى جريح مدبرا ، فلما خشي أن يرهقه ( أي يدركه ) صعد في نخلة وصعد « علي » في أثره ، فلما دنا منه رمى بنفسه من فوق النخلة ، فبدت عورته ، فاذا ليس له ما للرجال ولا له ما للنساء ، فانصرف عليّ علیه السلام إلى النبي صلی اللّه علیه و آله

ص: 322


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 297 ، ولعلّه فطن ابن هشام لهذه الناحية فترك ذكر سعد بن معاذ ، بينما غفل عنها البخاري في صحيحه ، راجع شروح البخاري منها : فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر : ج 8 ص 471 و 472 للوقوف على اضطراب الشرّاح في معالجة هذا التناقض.

فقال له : يا رسول اللّه إذا بعثتني في الأمر أكون كالمسمار المحمى في الوبر أم أتثبّت؟

قال : لا بل تثبت.

قال : والذي بعثك بالحق ما له ما للرجال وما له ما للنساء.

فقال : الحمد لله الذي صرف عنا السوء أهل البيت.

وهذه الرواية التي نقلها « المحدث البحراني » في « تفسير البرهان » ج 2 ص 126 - 127 و « الحويزي » في تفسير « نور الثقلين » ج 3 ص 581 - 582 ضعيفة وغير مستقيمة من حيث المفاد ، وهو ضعف ظاهر لا يحتاج الى البيان ولذلك.

ومن هنا لا يمكن القبول بها في شأن نزول هذه الآيات.

فالمهم هو وقوع أصل هذه الحادثة ، كان من كان المتّهم في هذه الحادثة.

ص: 323

42

رحلة سياسيّة دينيّة

اشارة

كانت السنة الهجرية السادسة بكل حوادثها المرة والحلوة تقترب من نهايتها عند ما رأى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في المنام أنه دخل البيت ( الكعبة ) وحلق رأسه ، وأخذ مفتاح البيت ، وعرّف مع المعرفين ، فقصّ صلی اللّه علیه و آله هذه الرؤيا على أصحابه وتفاءل به خيرا (1).

ولم يلبث أن أمر أصحابه بالتهيّؤ للعمرة ، ودعا القبائل المجاورة التي كانت لا تزال على شركها وكفرها الى مرافقة المسلمين في هذه السفرة ، ولهذا شاع في جميع أنحاء الجزيرة العربية أن المسلمين سيتجهون في شهر ذي القعدة صوب مكة يريدون العمرة.

ولقد كانت هذه السفرة الروحانية تنطوي - مضافا إلى العطاء الروحاني والمعنوي - على مصالح اجتماعية وأهداف سياسية ، فقد عززت مكانة المسلمين في شبه الجزيرة العربية ، وتسببت في انتشار دين التوحيد في أوساط المجتمع العربي آنذاك ، وذلك :

أولا : لأنّ القبائل العربية المشركة كانت تتصوّر أن النبي الاكرم صلی اللّه علیه و آله يخالف كل عقائد العرب ، وتقاليدهم الشعبية ، والدينية حتى فريضة الحج ، والعمرة التي كانت تعد من ذكريات الاسلاف ومواريثهم.

ص: 324


1- مجمع البيان : ج 9 ص 126.

من هنا كانوا يخافون رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ويتوجسون خيفة من دينه ، وعقيدته ، ولكن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله استطاع في هذه المناسبة - باشتراكه ، واشتراك أصحابه في مراسيم العمرة أن يخفف هذا الخوف لدى القبائل المشركة إلى حدّ كبير ، وأن يوضح بعمله أنّ رسول الإسلام لا يعارض زيارة بيت اللّه الحرام ، والفريضة المذكورة التي تعد من طقوسهم الدينية ، وتقاليدهم المذهبية ، بل يعتبرها فريضة مقدسة ، فهو مثل والد العرب الاكبر « إسماعيل بن إبراهيم الخليل » علیهماالسلام يعمل على المحافظة على هذه التقاليد الدينية ، وبهذا استطاع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن يستقطب قلوب من كان يتوهم أن رسالة « محمّد » ودعوته ، ودينه يعارض جميع شئونهم وتقاليدهم وأعرافهم الدينية ، والشعبية ، ويخالفها مخالفة مطلقة ، ويقلّل من خوفهم ، واستيحاشهم.

ثانيا : إذا استطاع المسلمون أن يحرزوا في هذا السبيل نجاحا ، ويؤدوا مناسك العمرة في المسجد الحرام بحرية ، أمام أعين الآلاف من المشركين ، فان عملهم هذا بنفسه سيكون تبليغا ناجحا للإسلام ، لأن أخبار المسلمين ستنتشر بواسطة المشركين الذين قدموا مكة من جميع المناطق لاداء مناسك العمرة ، فسيحملون أنباء ما رأوه وشاهدوه من أفعال المسلمين الرشيدة ، وأخلاقهم الفاضلة ، إلى أوطانهم لدى عودتهم من مكة إلى بلادهم ، وبهذا ينتشر نداء الإسلام في تلكم المناطق التي لم يستطع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ان يبعث إليها الدعاة والمبلغين حتى ذلك الحين ، ويترك هذا الأمر أثره المطلوب.

ثالثا : إن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ذكّر الناس في المدينة بحرمة الأشهر الحرم وقال صلی اللّه علیه و آله : وأمر المسلمين بأن لا يحملوا معهم من الاسلحة شيئا إلاّ السيف الذي يحمله كل مسافر معه.

ولقد جلب هذا الامر عواطف كثير من الغرباء عن الإسلام نحو هذا الدين ، وغيّر من نظرتهم السلبية تجاه دعوة الإسلام ، لأنهم شاهدوا بام أعينهم أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يحرّم القتال في هذه الاشهر ، ويدافع بنفسه عن

ص: 325

هذه السنّة الدينية القديمة ويدعو إلى رعايتها خلافا لكل الدعايات التي كانت تبثها قريش عن أن الاسلام لا يحترم هذه الأشهر ، ويجيز الاقتتال وسفك الدماء فيها.

لقد فكر القائد الاسلاميّ مع نفسه بانه لو أصاب المسلمون في هذا السبيل أيّ نجاح ، فانهم يكونون قد حققوا أملا قديما من آمالهم التي طالما تشوقوا إلى تحقيقها.

كما أنه سوف يستطيع المهاجرون الذي طال بعدهم عن وطنهم ، وأهليهم ، أن يزوروا ذويهم وأقربائهم. هذا إذا سمحت قريش لهم بدخول مكة.

وأمّا إذا منعتهم قريش عن الدّخول في الحرم فان مكانة قريش ستتعرض - حينئذ - لخطر السقوط في العالم العربي ، وسيلومهم العرب على ذلك ، لأن جميع ممثلي القبائل العربية المحايدة سترى كيف عاملت قريش جماعة مسالمة أرادت دخول مكة لأداء مراسيم العمرة ، وزيارة الكعبة المعظمة ، ولا تحمل معها أيّ سلاح إلاّ ما يحمله المسافر في سفره عادة ، في حين يرتبط المسجد الحرام بالعرب كافة ، وانما تقوم قريش بمجرّد سدانته ، وادارة شئونه.

وهنا تتجلى حقانية المسلمين بشكل واضح ، ويتضح عدوان قريش وينكشف للجميع بطلان مواقفها ، فلا تستطيع قريش بعد ذلك أن تواصل تأليبها للقبائل العربية ضدّ الإسلام ، وعقد تحالفات عسكرية واتحاد نظاميّ مع قواها المحاربة المسلمين لانها قد منعت الزوّار المسلمين أمام أعين الآلاف من الحجيج والزائرين من حقهم المشروع.

لقد لا حظ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كلّ هذه الجوانب وغيرها فامر المسلمين بالتوجّه نحو مكة ، وأحرم الف واربعمائه (1) أو الف وستمائة (2) أو الف وثمانمائة (3) في « ذي الحليفة » وقلّد سبعين بدنة ( بعيرا ) وبهذا أعلن عن هدفه من تلك الرحلة.

ص: 326


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 309.
2- مجمع البيان : ج 2 ص 288.
3- روضة الكافي : ص 322.

ولقد أرسل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عينا له ليخبره عن قريش إذا وجدهم في أثناء الطريق.

ولما كان رسول اللّه بعسفان ( وهي منطقة بين الجحفة ومكة ) أتاه رجل خزاعيّ كان يتقصى الاخبار لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقال : يا رسول اللّه هذه قريش قد سمعت بمسيرك ، فعاهدوا اللّه أن لا تدخلها أبدا وهذا « خالد بن الوليد » في خيلهم ( وكانوا مائتين ) قد قدّموها الى كراع الغميم. ( وهي موضع بين مكة والمدينة أمام عسفان بثمانية أميال ).

فلما سمع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بعزم قريش على منعه ومنع اصحابه من العمرة قال :

« يا ويح قريش ، لقد أكلتهم الحرب ما ذا عليهم لو خلّوا بيني وبين سائر العرب ، فان هم أصابوني كان الذي أرادوا ، وإن أظهرني اللّه عليهم دخلوا في الإسلام وافرين ، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة ، فما تظنّ قريش ، فو اللّه لا أزال اجاهد على الذي بعثني اللّه به حتى يظهره اللّه به ، أو تنفرد هذه السالفة (1) ( أي أقتل أو أموت ).

ثم طلب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من يدلّه على طريق آخر غير الطريق الذي هم بها لكي يتجنب مواجهة طليعة قريش بقيادة « خالد بن الوليد ».

فتعهّد رجل من بني أسلم بذلك فسلك برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأصحابه طريقا وعرا كثيرة الحجارة بين شعاب حتى انتهوا إلى منطقة سهلة تدعى بالحديبية ، فبركت هناك ناقة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقال صلی اللّه علیه و آله : « ما هذا لها عادة ، ولكن حبسها حابس الفيل بمكة » (2).

ثم أمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الناس أن ينزلوا في ذلك المكان فنزلوا.

ص: 327


1- السالفة : صفحة العنق ، وكنى بهذه الجملة عن الموت لأنّها لا تنفرد عمّا يليها الاّ بالموت.
2- بحار الانوار : ج 20 ص 329 وغيره. وقد أشار بهذا الكلام إلى واقعة الفيل.

ولما علمت طليعة قريش بمسير رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، لحقت به ، حتى اقتربت منه وحاصرت موكبه ورجاله فكان على النبيّ صلی اللّه علیه و آله اذا أراد أن يواصل سيره باتجاه مكة ان يخترق صفوف رجال قريش ، فيسفك دماءهم ، ويعبر على أجسادهم ، وحينئذ كان الجميع يرى أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لا يهدف العمرة والزيارة بل يريد الحرب والقتال ، فكان مثل هذا العمل يسيء إلى سمعة النبي صلی اللّه علیه و آله ويضر بهدفه السلميّ.

ثم إن قتل هؤلاء النفر من طليعة قريش لا يزيل جميع الموانع من طريقه ، لأن قريشا كانت تبعث بإمدادات مستمرة ، ولم يكن لينته إلى هذا الحدّ.

هذا مضافا إلى أن المسلمين ما كانوا يحملون معهم حينذاك - إلاّ ما يحمله المسافر العاديّ من السلاح ، ومع هذه الحال لم يكن القتال أمرا صحيحا ، وحكيما بل كان يجب ان تحلّ المشكلة عن طريق التفاوض.

ولهذا عند ما نزل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في تلك المنطقة قال :

« لا تدعوني قريش اليوم إلى خطّة يسألونني فيها صلة الرحم إلاّ أعطيتهم إياها » (1).

ولقد بلغ كلام رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله هذا مسامع الناس ، وكان من الطبيعي أن يسمع به العدو أيضا ، ولهذا بعثوا برجال من شخصيّاتهم إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ليتعرفوا على هدفه الاصلي من هذا السفر.

مندوبو قريش عند النبي صلی اللّه علیه و آله :

بعثت قريش بعدة مندوبين إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ليتعرفوا على مقصده وهدفه في هذا السفر.

وكان أول أولئك المبعوثين هو : « بديل بن ورقاء الخزاعي » الذي أتى

ص: 328


1- تاريخ الطبري : ج 2 ص 270 - 272.

رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في رجال من خزاعة فكلّموه نيابة عن قريش وسألوه : ما الذي جاء به؟ فقال لهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله :

« إنّا لم نجيء لقتال أحد ، ولكنّا جئنا معتمرين ».

فرجعوا إلى قريش وأخبروهم بأن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لم يات لقتال وإنما جاء معتمرا زائرا لبيت اللّه ، ولكن قريشا لم يصدقوهم وقالوا : وإن كان جاء ولا يريد قتالا فو اللّه لا يدخلها علينا عنوة أبدا ، ولا تحدّث بذلك عنّا العرب.

ثم بعثوا « مكرز بن حفص » فسمع من النبي صلی اللّه علیه و آله ما سمعه سابقه ، فعاد وصدّق ما أخبر بديل قريشا به ، ولكن قريشا لم تصدق مكرزا أيضا كما لم تصدّق سابقه.

فبعثت في المرة الثالثة الحليس بن علقمة (1) وكبير رماة العرب ، لحسم الموقف ، فلما رآه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مقبلا قال :

« إن هذا من قوم يتألّهون ( أي يعظمون أمر اللّه ) فابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه ».

فلما رأى الحليس ، الهدي يسيل عليه من عرض الوادي في قلائده ، وقد أكل أوباره من طول الحبس عن محلّه ، رجع إلى قريش ، ولم يصل إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إعظاما لما رأى ، فقال لهم : يا معشر قريش واللّه ما على هذا حالفناكم ، ولا على هذا الّذي عاقدناكم ، أيصدّ عن بيت اللّه من جاء معظما له وقد ساق الهدي معكوفا إلى محلّه؟! ، والذي نفس الحليس بيده لتخلّنّ بين محمّد وما جاء له ، أو لأنفّرنّ بالأحابيش نفرة رجل واحد ، وهكذا امتنع الحليس من مواجهة رسول اللّه بالقوة واستخدام العنف معه لصده ، وقد لاحظ بأم عينيه ان النبي صلی اللّه علیه و آله والمسلمين لا يريدون إلاّ العمرة والزيارة لا القتال

ص: 329


1- لقد جاء الحليس إلى النبي بعد عروة الثقفي حسب رواية الطبري في تاريخه : ج 2 ص 276.

والحرب ، بل عاد يهدد قريشا اذا هي أرادت صدّه عن ذلك.

فشق هذا الكلام وهذا التهديد على قريش وخافوا من مخالفته ، فقالوا : مه ، كفّ عنا يا حليس حتّى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به.

ثمّ بعثوا أخيرا « عروة بن مسعود الثقفي » وكان رجلا لبيبا تطمئن قريش إلى درايته وحكمته وخيره وكان لا يحبّ أن يمثّل قريشا في هذه المفاوضات لما رآه من معاملتهم مع الممثلين السابقين ، ولكن قريشا تعهدت له بان تقبل بما تقول ، وأعلنت له عن ثقتها الكاملة به ، وبما سيخبر به ، وبأنه غير متّهم عندهم.

فخرج من عندهم حتى أتى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فجلس بين يديه ثم قال : يا محمّد جمعت أو شاب الناس ( أي أخلاطهم ) ثم جئت بهم إلى أهلك وقبيلتك ، إنها قريش قد خرجت معها العوذ المطافيل ، قد لبسوا جلود النمور ، يعاهدون اللّه لا تدخلها عليهم عنوة أبدا ، وأيم اللّه لكأنّي بهؤلاء قد انكشفوا عنك غدا ، ( أو قال : أن يفرّوا عنك ويدعوك ).

وعند ما بلغ ابن مسعود في كلامه إلى هذا قال له أبو بكر وكان جالسا خلف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : أنحن ننكشف عنه ، وندعه؟

لقد كان « عروة » كأيّ دبلوماسيّ ماكر ، يحاول إضعاف معنويات أصحاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بكلامه ، وروغانه.

وأخيرا انتهت المباحثات دون جدوى. وهنا جعل « عروة » يتناول لحية رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ازدراء به صلی اللّه علیه و آله ، والمغيرة بن شعبة - وكان واقفا على رأس رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله - يقرع يده إذا تناول لحية النبي صلی اللّه علیه و آله ويقول اكفف يدك عن وجه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قبل أن لا تصل إليك.

فسأل عروة : يا محمّد من هذا؟ فقال النبي صلی اللّه علیه و آله : هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة ( ويبدو أن جميع من كان حول النبي آنذاك أو بعضهم كانوا مقنعين رعاية للظروف الأمنية ).

ص: 330

فغضب عروة وقال : « أي غدر ، وهل غسلت سوءتك إلاّ بالأمس » وكان المغيرة قد قتل قبل إسلامه ثلاثة عشر رجلا من بني مالك من ثقيف فودى عروة المقتولين وأصلح الأمر.

فقطع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الكلام على عروة وقال له مثل ما قال لبديل ورفيقيه ، وأنه لم يات يريد حربا ، بل جاء يريد العمرة ، ولاجل أن يرى عروة مكانته بين أصحابه وأتباعه ، قام صلی اللّه علیه و آله وتوضأ أمامه ، فرأى عروة بام عينيه كيف أنه لا يتوضّأ إلاّ وتسابق أصحابه على التقاط القطرات المتناثرة من وضوئه ، فرجع إلى قريش وقال لهم : يا معشر قريش إنّي قد جئت كسرى في ملكه ، وقيصر في ملكه ، والنجاشيّ في ملكه ، وإنّي واللّه ما رأيت ملكا في قوم قطّ مثل محمّد في أصحابه ، ولقد رأيت قوما لا يسلمونه لشيء قط فروا رأيكم (1).

رسول اللّه يبعث مندوبا الى قريش :

لم تثمر الاتصالات التي جرت بين مبعوثي قريش ، وبين رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فكان من الطبيعي أن يتصور رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أنّ مبعوثي قريش لم يستطيعوا نقل هدفه إلى قريش ، وإسماعهم الحقيقة ، وأن اتهامهم لهم بالجبن والكذب منعهم من قبول ما قد أخبروا به ، ولهذا قرّر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن يبعث هو مندوبا عنه إلى رءوس الشرك ليوضّح لهم هدف رسول الاسلام من هذا السفر ، وأنه ليس إلاّ زيارة بيت اللّه وأداء مناسك العمرة لا غير.

فاختار رجلا لبيبا حازما من بني خزاعة يدعى « خراش بن اميّة » فبعثه إلى قريش بمكّة وحمله على بعير يقال له « الثعلب ». ليبلّغ أشرافهم عنه ما جاء له من

ص: 331


1- المغازي : ج 2 ص 598 ، امتاع الاسماع : ج 1 ص 287.

الزيارة والعمرة ، فدخل مكة ، وبلّغ سادة قريش رسالة النبي صلی اللّه علیه و آله ولكن قريشا - خلافا لكل الأعراف الدولية والاجتماعية قديما وحديثا. والقاضية بحصانة السفراء وضرورة احترام كل مما يمت إليهم بصلة من ممتلكاتهم عمدت الى جمل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الذي امتطاه سفير النبي صلی اللّه علیه و آله إلى مكة فعقروه عدوانا ، وكادوا أن يقتلوا سفير النبي صلی اللّه علیه و آله نفسه ، ولكن وساطة جماعة من قادة العرب ادت إلى أن تخلّي قريش سبيله حتى أتى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

إن هذا العمل الدنيء أثبت - بوضوح - أن قريشا لم تكن تريد السلام بل كانت دائما في صدد اشعال قتيل الحرب.

ولم تلبث قريش أن كلّفت خمسين رجلا من فتيانها بالطواف بعسكر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بغية أخذ شيء من أمواله ، أو أسر بعض أصحابه لو أتيح لهم ذلك ، ارعابا للمسلمين وتخويفا لهم. ولكن هذه الخطة فشلت فشلا ذريعا ، فان هؤلاء لم يصيبوا شيئا بل أسرهم المسلمون جميعا وأتى بهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فعفا عنهم ، وخلّى سبيلهم مع أنهم كانوا قد رموا في عسكر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بالحجارة والنبل.

وبهذا ثبت رسول الاسلام صلی اللّه علیه و آله مرة اخرى أنه يحب السلام ويسعى إليه ، وانه جاء معتمرا لا معتديا ولا محاربا (1).

النبي يبعث سفيرا آخر الى قريش :

رغم كل هذه الامور ورغم كلّ التصلّب والتعصّب الذي أبدته القيادة القرشية المشركة ضدّ الاسلام والمسلمين وضد محاولات رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله السلميّة لم ييأس رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من تحقيق السلام

ص: 332


1- تاريخ الطبري : ج 2 ص 278.

فقد كان يريد - واقعا - أن يعالج المشكلة من طريق المفاوضات ، ومن طريق تغيير التصورات التي كان يحملها اشراف قريش وسادتها المتعنتين المتصلبين عن رسول اللّه ودعوته.

ومن هنا كان يجب هذه المرّة أن يختار صلی اللّه علیه و آله رجلا لم تخض يده في دماء قريش ، ولهذا لم يصلح « علي بن أبي طالب » ولا « الزبير » ولا غير هم من فرسان الاسلام وشجعانه الذين جالدوا صناديد قريش في ميادين القتال وأردوا فريقا منهم صرعى ، لمثل هذه السفارة ، وهذه المهمة.

ولهذا تقرر - بعد التأمل. انتداب « عمر بن الخطاب » لهذه المهمة ، أي الذهاب الى مكة ، والتحدث الى سادة قريش ، ورؤسائها ، لأنه لم يكن قد أراق من المشركين حتى ذلك اليوم ولا قطرة دم ، ولكن « عمر » اعتذر عن تحمل هذه المسئولية ، والقيام بهذه المهمة المحفوفة بالمخاطر قائلا : يا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ؛ إني أخاف قريشا على نفسي ، وليس بمكة من بني عديّ ( وهم عشيرته ) من يمنعني ، ولكني ادلّك على رجل أعزّ بها مني ، « عثمان بن عفان ». ( لكونه أمويا بينه وبين أبي سفيان زعيم قريش قرابة ) (1).

فدعا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله « عثمان بن عفان » فبعثه إلى « أبي سفيان » وأشراف قريش ، ليخبرهم أنه لم يأت لحرب ، وأنه انما جاء زائرا لهذا البيت ومعظما لحرمته.

فخرج عثمان الى مكة ، فلقيه « أبان بن سعيد بن العاص » حين دخل مكة ، أو قبل أن يدخلها فحمله بين يديه ، ثم أجاره حتى بلّغ رسالة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فانطلق « عثمان » حتى أتى أبا سفيان وأشراف قريش فبلغهم عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ما أرسله به ، فقالوا لعثمان حين فرغ من رسالة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إليهم : إن شئت أن تطوف بالبيت فطف ،

ص: 333


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 315.

فامتنع عثمان عن الطواف احتراما لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

ثم إن قريشا احتبست عثمان عندها ، ولعلّهم فعلوا ذلك ريثما يتوصلوا إلى حلّ ثم يطلقوه ليبلّغ الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله رأيهم.

بيعة الرضوان :

إلاّ أن إبطاء مبعوث النبيّ صلی اللّه علیه و آله عن العودة من مكة أوجد قلقا شديدا في نفوس المسلمين ، خاصّة وأنه شاع أن عثمان قد قتل ، فثارت ثائرة المسلمين ، واستعدّوا للانتقام من قريش وعمد النبي صلی اللّه علیه و آله أيضا إلى مخاطبتهم قائلا :

« لا نبرح حتى نناجز القوم ».

وذلك تقوية لارادة المسلمين ، وتحريكا لمشاعرهم الطاهرة.

وفي هذه اللحظات الخطيرة ، وفي ما كان الخطر على الابواب ، وبينما لم يكن المسلمون متهيئين للقتال قرر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن يجدّد بيعته مع المسلمين.

فجلس رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله تحت شجرة ، وأخذ أصحابه يبايعونه على الاستقامة والثبات والوفاء واحدا واحدا ، ويحلفون له أن لا يتخلوا عنه أبدا ، وأن يدافعوا عن حياض الإسلام حتى النفس الأخير ، وقد سمّيت هذه البيعة ببيعة « الرضوان » التي جاء ذكرها في قوله تعالى :

« لَقَدْ رَضِيَ اللّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ ، فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً » (1).

فاتضح موقف المسلمين بعد هذه البيعة ، فإمّا أن تسمح لهم قريش بدخول مكة لزيارة بيت اللّه المعظّم ، وإمّا أن تتصلّب في موقفها الرافض فيكون بينهم

ص: 334


1- الفتح : 18.

القتال والحرب (1).

وبينما كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في هذه الحال اذ طلع عليهم « عثمان بن عفان » ، وكان ذلك بنفسه طليعة سلام كان يريده رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

فأخبر عثمان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن الذي يمنع قريشا من السماح لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بدخول مكة هو اليمين التي الزموا بها انفسهم أن لا يدعوه يدخل مكة هذا العام وانهم سيبعثون إليه من يتفاوض معه بهذا الشأن.

سهيل بن عمرو يفاوض رسول اللّه :

بعثت قريش - في المرة الخامسة - « سهيل بن عمرو » الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقد كلّفته بانهاء المشكلة ضمن شروط خاصّة سنقرؤها في ما يأتي.

فأقبل « سهيل بن عمرو » على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ولما رآه النبي صلی اللّه علیه و آله قال : قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل.

فلما انتهى « سهيل » إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله تكلّم في المسألة كما يتكلّم أي دبلوماسيّ بارع ، فقال وهو يحاول إثارة عواطف النبي صلی اللّه علیه و آله وأحاسيسه :

يا أبا القاسم إن مكة حرمنا وعزّنا ، وقد تسامعت العرب بك إنك قد غزوتنا ومتى ما تدخل علينا مكة عنوة تطمع فينا فنتخطّف ، وإنا لنذكّرك الحرم ، فان مكة بيضتك التي تفلّقت عن رأسك.

فقال له رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « فما تريد »؟

ص: 335


1- ولقد كان لهذه البيعة في نفسها أثرا سياسيا مهما في نفس العدو ، يقول الواقدي : فلما رأت عيون قريش سرعة الناس إلى البيعة وتشميرهم إلى الحرب اشتدّ رعبهم وخوفهم وأسرعوا إلى القضية ( ج 2 ص 604 ). وراجع امتاع الاسماع : ج 1 ص 291 أيضا.

قال : اريد أن أكتب بيني وبينك هدنة على أن اخلّيها لك في قابل (1) فتدخلها ، ولا تدخلها بخوف ولا فزع ، ولا سلاح إلاّ سلاح الراكب ، السيف في القراب.

فقبل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بعقد مثل هذا الصلح.

وهكذا أدّت مفاوضات « سهيل » مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى عقد صلح شامل وواسع بين قريش وبين المسلمين.

ولقد تشدد « سهيل » في شروط هذا الصلح كثيرا ، حتى كاد أن ينتهي هذا التشدّد إلى قطع المفاوضات أحيانا ، ولكن حيث إن الطرفين كانا يرغبان في الصلح والموادعة ، لهذا كانا يستأنفان التحاور والتفاوض مرة اخرى ، بعد كلّ أزمة تطرأ على المباحثات.

وأخيرا انتهت مفاوضات الجانبين - رغم كل ما أبداه مندوب قريش من التصلّب - الى عقد وثيقة موادعة وهدنة نظّمت في نسختين ووقع عليها الجانبان.

ويروي كافّة المؤرخين وأرباب السير أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله استدعى عليّا علیه السلام ، وامره أن يكتب تلك الوثيقة قائلا له : اكتب « بسم اللّه الرحمن الرحيم » فكتب « عليّ » ذلك فقال سهيل : لا أعرف هذا ، ولكن أكتب : باسمك اللّهم!!

فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : اكتب : باسمك اللّهم وامح ما كتبت.

ففعل « علي » ذلك.

ثم قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : أكتب « هذا ما صالح عليه رسول اللّه سهيل بن عمرو ».

فقال سهيل ، لو أجبتك في الكتاب إلى هذا لأقررت لك بالنبوّة فامح هذا الاسم واكتب : محمّد بن عبد اللّه ( أو قال : لو شهدت انك رسول اللّه لم اقاتلك.

ص: 336


1- أي افرغ لك مكة في العام القادم لتدخلها.

ولكن أكتب اسمك واسم ابيك ).

ولم يرض بعض من حضر من المسلمين في هذه النقطة بأن يرضخ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لمطالب « سهيل » الى هذه الدرجة ، ولكن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الذي كان يلاحظ مصالح عليا غفل عنها ذلك البعض كما سنذكرها فيما بعد رضي بمطلب « سهيل » ، وقال لعليّ علیه السلام : امحها يا عليّ.

فقال عليّ علیه السلام بأدب بالغ : يا رسول اللّه إن يديّ لا تنطلق لمحو اسمك من النبوة.

فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : فضع يدي عليها ، فمحى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بيده كلمة : رسول اللّه نزولا عند رغبة « سهيل » مفاوض قريش (1).

ان التسامح الذي أبداه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في تنظيم وثيقة الصلح هذه لا يعرف له نظير في تاريخ العالم كله ، لأنه اظهر بجلاء أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لم يقع فريسة بيد الاهواء والاغراض الشخصية والعواطف والاحاسيس العابرة ، وكان يعلم أن الحقائق لا تتبدّل ولا تتغيّر بالكتابة والمحو ، من هنا تسامح مع مفاوض قريش « سهيل » الذي تصلّب في مطاليبه غير المشروعة كثيرا ، حفاظا على أصل الصلح. وحرصا على السلام. التاريخ يعيد نفسه :

ولقد ابتلي علي علیه السلام تلميذ النبي الأول بمثل هذه التجربة المرّة بعد

ص: 337


1- الارشاد : ص 60 ، اعلام الورى : 106 ، بحار الأنوار : ج 20 ص 368 وقد اخطأ الطبري في هذا المقام اذ قال : في احدى رواياته لهذه الحادثة : قال لعلى علیه السلام : امح « رسول اللّه » ، قال : لا واللّه لا أمحاك أبدا فأخذه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وليس يحسن يكتب فكتب مكان « رسول اللّه » : محمّد. و هكذا نسب الكتابة إلى شخص رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ونحن نعلم انه أمي لا يحسن الكتابة، وقد حققنا هذه المسألة في المجلد الثالث من موسوعة مفاهيم القرآن 319-374.

رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

فيوم امتنع علي علیه السلام عن محو كلمة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عن اسم النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال له النبي صلی اللّه علیه و آله :

يا عليّ إنّك أبيت أن تمحو اسمي من النبوّة فو الّذي بعثني بالحق نبيّا لتجيبنّ أبناءهم إلى مثلها وأنت مضيض مضطهد » (1)

ولقد بقيت هذه القضية في ذاكرة عليّ علیه السلام ، حتى إذا كان يوم « صفين » وخدع أصحاب الامام عليّ علیه السلام بالاسلوب الماكر الذي اتبعه جيش الشّام الذي قاتل عليّا علیه السلام بقيادة معاوية بن أبي سفيان ومساعدة عمرو بن العاص ، وأجبروا الامام علیه السلام على عقد الصلح مع معاوية فشكّل الجانبان لجنة لتنظيم وثيقة ذلك الصلح ، كلّف « عبيد اللّه بن رافع » كاتب الامام من جانب الامام عليّ علیه السلام بأن يكتب وثيقة الصلح ، فكتب :

« هذا ما تقاضى عليه أمير المؤمنين علي » قال عمرو بن العاص ممثل معاوية في تلك المفاوضات : لو علمنا أنك أمير المؤمنين لم ننازعك!!

وهكذا طالب عمرو بن العاص بحذف عبارة أمير المؤمنين.

وطال الكلام والتشاجر في هذا الموضوع ، ولم يكن الامام علي يريد ان يعطي حجة للبسطاء من أصحابه ، ولهذا لم يرضخ لهذا المطلب ، ولكنه بعد إلحاح من أحد قادة جيشه سمح بأن يمحى لقب « أمير المؤمنين » من اسمه ثم قال : « اللّه اكبر سنة بسنة ».

وهو بذلك يشير إلى حديث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله له يوم الحديبية (2).

ص: 338


1- الكامل في التاريخ : ج 2 ص 138 ، بحار الأنوار : ج 20 ص 353.
2- الكامل في التاريخ : ج 3 ص 162 ، راجع المصدر لتقف على القصة بكاملها ولتقف على ما دار بين الامام وابن العاص.

نصّ صلح الحديبية :

وأخيرا عقدت اتّفاقية صلح وهدنة بين رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقريش تضمنت المواد والشروط التالية :

1 - تعهّد المسلمون ، وقريش بترك الحرب عشر سنين يأمن فيهن الناس ، ويكف بعضهم عن بعض.

2 - من أتى محمّدا من قريش بغير إذن وليّه ردّه عليهم ، ومن جاء قريشا ممّن مع محمّد لم يردّوه عليه.

3 - من أحبّ أن يدخل في عقد محمّد وعهده ( أي يتحالف معه ) دخل فيه ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه.

4 - انّ محمّدا يرجع بأصحابه إلى المدينة عامه هذا ولا يدخل مكة ، وانما يدخل مكة في العام القابل في أصحابه فيقيم فيها ثلاثة أيام ، لا يدخل فيها بسلاح إلاّ سلاح المسافر ، السيوف في القرب (1).

5 - أن لا يستكره أحد على ترك دينه ويعبد المسلمون اللّه بمكة علانية وبحرية ، وان يكون الاسلام ظاهرا بمكة وان لا يؤذي أحد ولا يعيّر (2).

6 - لا إسلال ( سرقة ) ولا إغلال ( خيانة ) بل يحترم الطرفان أموال الطرف الآخر ، فلا يخونه ولا يسرق منه (3).

7 - أن لا تعين قريش على محمّد وأصحابه أحدا بنفس ولا سلاح (4).

هذا هو نص وثيقة « صلح الحديبية » ، وقد جمعنا بنوده من المصادر المتنوعة

ص: 339


1- السيرة الحلبية : ج 3 ص 21.
2- بحار الأنوار : ج 20 ص 352.
3- مجمع البيان : ج 9 ص 117 أو : « من قدم مكة من أصحاب محمّد حاجّا أو معتمرا أو يبتغي من فضل اللّه فهو آمن على دمه وماله ، ومن قدم المدينة من قريش مجتازا إلى مصر أو الشام فهو آمن على دمه وماله ».
4- بحار الأنوار : ج 20 ص 352.

التي أشرنا الى بعضها في الهامش ، وقد كتبت هذه الوثيقة في نسختين ، ثم وقع عليها جماعة من شخصيات قريش ، والمسلمين وشهدوا عليها واعطيت نسخة الى « سهيل بن عمرو » ممثل قريش ، وتركت نسخة عند رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

نشيد الحرية :

لقد كان كل عاقل لبيب يحسن تقدير الامور يسمع نشيد الحريّة من ثنايا هذا الصلح التاريخيّ ، ومع أن كل بنود هذه المعاهدة جديرة بالاهتمام والاكبار ، إلاّ أن النقطة التي تستحق الاهتمام والتقدير أكثر من سواها هي المادّة الثانية في هذا الصلح ، وهي المادّة التي أزعجت بعض الصحابة يوم انعقاد تلك المعاهدة.

فقد انزعج صحابة النبي صلی اللّه علیه و آله من هذا التمييز الصارخ ، وقالوا حول قرار القيادة الحكمية المتمثلة في قائد محنّك كرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ما كان ينبغي أن لا يقولوه ، في حين تعتبر هذه المادة من أعظم بنود الوثيقة إذ تعكس نظرة رسول الاسلام ، وتفكيره حول كيفيّة تبليغ الاسلام ، وإشاعته ونشره ، فانه يظهر منها - وبجلاء - مدى احترام رسول الاسلام لمبدإ الحرية.

ولقد قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في معرض الاجابة على من اعترض من صحابته على البند القاضي بتسليم كل مسلم فرّ من قريش إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله والمسلمين إلى قريش ، دون العكس قائلا :

« من جاءهم منّا فأبعده اللّه ومن جاءنا منهم رددناه إليهم فلو علم اللّه الاسلام من قلبه جعل له مخرجا ».

وأراد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن الذي يهرب من جماعة المسلمين ويلجأ إلى المشركين فلا قيمة لإيمانه وإسلامه ، إذ أن ذلك يدل على أنه لم يؤمن بهذه الدين حق الإيمان فلا داعي لأن يعاد إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إذ

ص: 340

لا اكراه في الدين وأما من هرب من المشركين الى المسلمين فلو علم اللّه منه الصدق لنجاه حتما.

ولقد كانت نظرية النبي صلی اللّه علیه و آله ورأيه متطابقا كل التطابق مع موازين العقل والمنطق السليم ، وقد تجلت صوابيته وحقانيته مع مضيّ الزمن في ما بعد ، لانه لم يمض زمن طويل إلاّ وقريش - وبعد سلسلة من الحوادث المؤسفة - طلبت بنفسها إلغاء هذه المادّة كما سيأتي بيانه في ما بعد.

إن هذه المادة تعد ردا قاطعا على تقوّلات وتخرّصات المستشرقين المغرضين الذين يصرّون على القول بانّ الاسلام انتشر بالسيف.

إنهم حيث لا يتحملون رؤية هذا الامتياز العظيم الذي كسبه الاسلام الحنيف ، حيث انتشر في مدة قصيرة جدا في شتى نقاط العالم وبقاعه ، حتى كاد أن يعمّ المعمورة كلّها ، ولهذا اضطروا إلى إعزاء انتشار الاسلام الى عامل استخدام القوة ، وقالوا : ان الاسلام انتشر بالقوة ، ليشوهوا بذلك ملامح الاسلام ، ويخفوا الحقيقة خلف غطاء من الاراجيف ، في حين أن هذا الميثاق الذي عقد في الجزيرة العربية أمام اعين المئات من المسلمين وغير المسلمين يعكس بجلاء روح الاسلام وحقيقة تعاليمه السامية ، ومع هذا يكون من مجانبة الواقع القول بأن الاسلام انتشر بقوة السيف. لا بالدعوة الحرة ، والتبليغ والارشاد.

هذا ولقد تحالفت قبيلة خزاعة - مع المسلمين في ضوء المادة الثالثة من الميثاق ، بينما تحالفت قبيلة بني كنانة - وكانوا أعداء تقليديّين لخزاعة مع قريش.

آخر الجهود للحفاظ على عملية الصلح :

كانت مقدمات الميثاق المذكور ، وبنوده توحي بصورة جليّة وكاملة بأن أكثرها قد فرضت فرضا على المسلمين ، فلو أن رسول الاسلام صلی اللّه علیه و آله قبل بامحاء كلمة « رسول اللّه » من اسمه ، وبدأ الميثاق بعبارة « باسمك اللّهم » على عادة الجاهليين بدل البسملة الكاملة فان غايته من ذلك كانت هي الحفاظ على

ص: 341

الصلح ، واقرار الأمن في الجزيرة العربية.

ولو ان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله رضي بأن يسلّم المسلمين الهاربين من قبضة المشركين الى جماعة المسلمين ، ويعيدهم الى القيادة الوثنية في مكة فان بعض ذلك كان بسبب تصلّب سهيل ممثل قريش وتعنته ، ولو أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ما كان يرضخ لهذا الشرط ( استجابة لرغبة الرأي العام الاسلامي الذي كان مخالفا لمثل هذا الشرط ومعارضا لاعادة المسلمين الهاربين من مكة إلى قريش ، وحفاظا على حقوق اولئك الأشخاص الهاربين ) لتعطّلت عملية السلام ، ولما تحقق الصلح ، ولفاتت المسلمين هذه النعمة الكبرى التي انطوت على آثار عظيمة في المستقبل كما أثبتت الوقائع في ما بعد.

من هنا قاوم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كل الضغوط من جهة ، وتحمل عملية فرض هذا الشرط من جهة اخرى ، ليصل الى المقصد الأعلى والهدف الاكبر الذي تتضاءل تجاهه هذه المتاعب.

ولو كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يراعي الرأي العام ويلاحظ حقوق هذه الجماعة ، لكان « سهيل » يتسبب - بسبب تصلبه الارعن - في اشتعال نائرة الحرب.

والقصّة التالية تشهد بما نقول :

حينما انتهت مفاوضات السلام ، وبينما كان الامام علي علیه السلام يكتب وثيقة الموادعة والصلح دخل أبو جندل بن سهيل في مجلس النبي صلی اللّه علیه و آله وهو يرسف في الحديد.

فتعجب الجميع من حضوره هناك ، اذ كان محبوسا في سجن أبيه سهيل ( المفاوض ) مدة طويلة.

ولم يكن لابي جندل من ذنب إلاّ أنه اختار التوحيد عقيدة ، والاسلام دينا ، ورفض الوثنية والشرك وكان يحب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حبا شديدا فحبسه أبوه.

ص: 342

وكان أبو جندل قد بلغه أمر المفاوضات هذه ، فهرب من محبسه وانفلت الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله سالكا إليه طرقا وعرة في الشعاب ، والوديان.

فلما رأى « سهيل » ابنه أبا جندل وقد هرب من سجنه ، ولجأ إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله قام إليه فضرب وجهه ، واخذ بتلابيبه ثم قال : يا محمّد لقد تمت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا ، وهذا يا محمّد أول من أقاضيك عليه أن ترده.

ولا شك أن كلام « سهيل » كان باطلا ، ولا مبرر لطلبه ، لأن الميثاق لم تتم كتابته على الورق ، ولم يوقع عليه الطرفان ، ولم ينته - بالتالي - من مراحله النهائية والأخيرة بعد ، فكيف يمكن الاستناد إليه ، ولهذا أجابه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قائلا :

« إنا لم نرض ( نقض ) بالكتاب بعد » (1)

فقال سهيل : إذا واللّه لا اصالحك على شيء أبدا ، حتى ترده إليّ ، ولم يزل يصرّ على كلامه ورفضه هذا حتى أنزعج اثنان ممّن رافقه من شخصيات قريش هما مكرز وحويطب من تصلب سهيل وتشدده.

ثم قاما وأخذا أبا جندل من أبيه وأدخلاه خيمة وقالا : نحن نجيره.

ولقد فعلا ذلك حتى ينهيا ذلك التنازع ، والجدال ، ولكن إصرار سهيل على موقفه ، أبطل تدبيرهما اذ قال : يا محمّد لقد لجّت القضية بيني وبينك قبل ان ياتيك هذا (2).

فاضطرّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى أن يقوم بآخر سعي في طريق الحفاظ على الهدنة والصلح الذي كان له أثر عظيم في انتشار الاسلام ، ولهذا رضى بردّ أبي جندل إلى والده ، لإعادته الى مكة ، ثم قال لذلك المسلم الاسير تطييبا لخاطره :

ص: 343


1- بحار الأنوار : ج 20 ص 334.
2- السيرة الحلبية : ج 3 ص 21 لجّت : وجبت وتمت.

« يا أبا جندل ، اصبر واحتسب ، فان اللّه جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا ، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحا ، وأعطيناهم على ذلك ، وأعطونا عهد اللّه ، وإنا لا نغدر بهم ».

وانتهت جلسة المفاوضات ، وتمّ التوقيع على نسختي الميثاق ، وعاد سهيل ورفاقه إلى مكة ، ومعهم « أبو جندل » ابن سهيل في جوار مكرز وحويطب ، ونحر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ما كان معه من الهدي (1) في نفس ذلك المكان وحلق فنحر جماعة من المسلمين وحلقوا (2).

تقييم عاجل لصلح الحديبية :

بعد أن فرغ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من عقد صلح الحديبية بينه وبين رءوس الشرك ، وبعد أن توقف في أرض الحديبية مدة 19 يوما عاد هو وأصحابه الى المدينة ، وعاد المشركون إلى مكة.

هذا وقد نشبت مشاجرات ومشادات كلامية حين تنظيم ذلك الميثاق وكتابته ، بين أصحاب النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، فمنهم من كان يعتبر ذلك الصلح في صالح الاسلام ، وقليل منهم كان يعدّه مضرا بمصلحة الاسلام والمسلمين.

ولقد انقضى الآن أكثر من أربعة عشر قرنا على عقد ذلك الصلح التاريخي العظيم فلندرس معا تلك المعاهدة بموضوعية وتجرد ، ونستعرض طرفا من تلك الاعتراضات والمجادلات لنقف على معطيات تلك العملية ، ونتائجها.

ان الذي نراه هو : ان هذا الصلح كان في صالح الاسلام مائة بالمائة ، وانه هو الذي جعل أمر انتصار الاسلام قطعيّا ،

ص: 344


1- أي الابل التي ساقها معه.
2- تاريخ الطبري : ج 2 ص 281 ، بحار الأنوار : ج 20 ص 353 ، السيرة النبوية : ج 2 ص 318. امتاع الاسماع : ج 1 ص 394 و 395.

لا شك فيه ، وإليك أدلة هذا الرأي :

1 - إن حملات قريش المتتابعة على المسلمين ، والتحريكات الداخلية والخارجية التي أشرنا إليها في حوادث « احد » و « الاحزاب » على نحو الاختصار ، لم تترك للنبي صلی اللّه علیه و آله فرصة لنشر الاسلام بين القبائل ، وفي المناطق المختلفة خارج شبه الجزيرة العربية.

من هنا كان صلی اللّه علیه و آله يصرف اكثر اوقاته الثمينة في الدفاع والعمل على إفشال المؤامرات الخطرة التي كان العدوّ الداخلي والخارجيّ يحيكها باستمرار.

ولكن النبي صلی اللّه علیه و آله فرغ باله بعد عقد صلح الحديبية مع قريش من ناحية الجنوب ، فتهيّأت الأرضية لانتشار الاسلام في المناطق الاخرى.

وقد ظهر أثر هذا الهدوء والاستقرار بعد سنتين من عقد تلك المعاهدة ، فقد كان مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في الحديبية ألف وأربعمائة ولكنه عند ما توجّه إلى مكة لفتحها بعد عامين خرج معه عشرة آلاف ، وكان هذا التفاوت من نتائج صلح الحديبية مباشرة ، لأن بعض الناس كانوا يخشون قريشا فلا يلتحقون بالمسلمين لذلك السبب ، ولكن بعد أن اعترفت قريش بالكيان الاسلاميّ بصورة رسمية ، وأعطيت للقبائل الحرية الكاملة للانضمام إلى المسلمين زال الخوف المذكور عن كثير من القبائل ، فاستطاع المسلمون أن يستغلوا تلك الفرصة ويقوموا بنشاط تبليغي ودعوة واسعة إلى الاسلام.

2 - إن النتيجة الثانية التي حصل عليها المسلمون من هذه المعاهدة هي زوال الستار الحديدي الذي كان قد ضربه المشركون بين الناس وبين الاسلام ، فقد سمح ذلك الصلح بالسفر الى المدينة فكان الناس في سفرهم الى المدينة يحتكون بالمسلمين ويلتقون بهم ، فيتعرفون على تعاليم الاسلام السامية.

ولقد أثار نظم المسلمين ، واخلاصهم ، وطاعة المؤمنين الكاملة لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إعجاب المشركين كما أثارت نظافة المسلمين ، في أوقات الصلاة خاصة ، وصفوفهم المتلاحمة أثناء هذه العبادة المباركة ، وخطب رسول اللّه

ص: 345

صلی اللّه علیه و آله الرائعة ، واللذيذة ، وآيات القرآن الكريم البليغة ، والسهلة في نفس الوقت رغبة قوية في نفوس الكفار إلى الاسلام.

هذا مضافا إلى أن المسلمين استطاعوا بعد عقد ذلك الميثاق السفر إلى مكة وشتى نقاط الجزيرة بحجج مختلفة ، والاتصال بذويهم وأقاربهم ، والتحدث معهم في أمر الاسلام وتعاليمه المقدسة المحبّبة ، وقوانينه وآدابه الرائعة ، وما جاء به من حلال وحرام.

وقد تسبّبت كل هذه الامور في أن يلتحق كثير من رءوس الشرك والكفر كخالد بن الوليد وعمرو بن العاص بالمسلمين ، ويعتنقوا ذلك الدين قبل فتح مكة ، وأن تساعد هذه المعرفة بحقائق الاسلام ، والاطّلاع على مزاياه وفضائله على تسهيل عملية فتح مكة ، وانهيار صرح الوثنية فيها من دون أيّة مقاومة من أهل مكة ، بحيث سيطر المسلمون عليها بسهولة وأقبلت أفواج الناس تدخل في دين اللّه راغبة كما ستعرف تفاصيل ذلك في حوادث السنة الثامنة.

إن هذا الانتصار العظيم كان نتيجة الاتصالات التي اجراها المسلمون مع ذويهم وأصدقائهم في مكة خلال تردّدهم المتكرر بعد زوال الخوف والحصول على الحرية في الدعوة بفضل صلح الحديبية.

3 - إن الاتصال برءوس الشرك أثناء عقد اتفاقية السّلام مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في الحديبية ، ساعد على ازالة كثير من العقد النفسية التي كانوا يعانون منها تجاه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، لأن أخلاق النبي الرفيعة ، وحلمه وصبره أمام تعنت قادة المشركين وتصلبهم وعتوهم ، وسعيه الحثيث وحرصه الصادق على تحقيق السلام ، أثبت لهم بأن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله معدن عظيم من معادن الخلق الانساني الكريم.

فبالرغم من أنه صلی اللّه علیه و آله قد أصيب على أيدي قريش بخسائر فادحة ، وناله منهم أذى كثير ، إلا أن فؤاده كان طافحا بمشاعر اللطف ، والحب والحنان على الناس.

ص: 346

لقد رأت قريش بام عينيها كيف أنه صلی اللّه علیه و آله خالف في عقد ميثاق الصلح آراء جماعة من أصحابه ، المعارضة لبعض بنود الاتفاقية رغبة منه في تحقيق السلام ، وكيف آثر الحفاظ على حرمة المسجد الحرام على هواه ، ورغبته الشخصية.

إن هذا النوع من السلوك أبطل مفعول جميع الدعايات السيئة التي كانت تروّج ضد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ومواقفه وخلقه ، وأفكاره واثبتت للجميع أنه حقا رجل سلام ، وداعية خير للبشرية ، وأنه حتى لو سيطر على مقاليد الجزيرة العربية ، لما عامل أعداءه الاّ بالحسنى واللطف ، لأنه لم يكن مشكوكا فيه بأنه لو كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يخوض حربا ضد قريش في ذلك اليوم لغلبها وهزمها شر هزيمة كما يصرح بذلك القرآن الكريم أيضا اذ يقول :

« وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً » (1).

ومع ذلك أبدى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله تسامحا كبيرا ، وأعلن عن عطفه ، وحنانه للمجتمع العربيّ ، وبذلك أبطل كل الدعايات التي كانت تروّج ضدّه ، وضدّ دعوته العظيمة المباركة.

من هنا نهتدي إلى مغزى ما قاله الامام الصادق جعفر بن محمّد علیهماالسلام عن أهمية هذا الصلح حيث قال :

« وما كان قضية أعظم بركة منها » (2).

إن الحوادث اللاحقة أثبتت أن اعتراض عدد ضئيل من صحابة النبي صلی اللّه علیه و آله وفي مقدمتهم عمر بن الخطاب على هذا الصلح كان باطلا ولا مبرر له.

وقد أدرج أرباب السير والتاريخ جميع هذه الاعتراضات ، كما تنقل ردّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله عليها ، ويمكن للوقوف عليها مراجعة السيرة النبوية

ص: 347


1- الفتح : 22.
2- الكافي : ج 8 ص 326.

لابن هشام ، وامتاع الاسماع وغيرهما ان قيمة هذه المعاهدة تتجلى من ان النبي صلی اللّه علیه و آله لم يصل الى المدينة حتى نزلت سورة الفتح التي وعدت المسلمين وبشّرتهم بالانتصار ويمكن اعتبار هذا العمل مقدمة لفتح مكة كما يقول تعالى : « إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً » (1).

قريش تصرّ على إلغاء أحد بنود المعاهدة :

لم يمض زمان طويل حتى أجبرت الحوادث المرّة قريشا على أن تبعث إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من يطلب منه إلغاء المادة الثانية من معاهدة صلح الحديبية ، وهي المادة التي أغضبت بعض صحابة النبي صلی اللّه علیه و آله وأثارت سخطهم ، وقبل بها رسول اللّه تحت إصرار من « سهيل » ممثل قريش في مفاوضات الحديبية.

تلك المادة التي تقول : على الحكومة الاسلامية أن تعيد كل مسلم هارب من مكة إلى حكومة مكة ، ولكن لا يجب على قريش أن تعيد كل هارب من المسلمين إلى مكة ، إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

وقد أثارت هذه المادة - المجحفة في الظاهر - سخط البعض واعتراضهم ، ولكن النبي صلی اللّه علیه و آله قال لابي جندل في وقته :

« إنّ اللّه جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا ».

ثم إن مسلما آخر يدعى « أبو بصير » كان قد حبسه المشركون ردحا طويلا من الزمن استطاع أن يفرّ من محبسه ويصل الى المدينة ، وقد وصلها سعيا على قدميه ، فكتب شخصيتان من شخصيات قريش هما : « أزهر » و « الأخنس » كتابا إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يطلبان منه إعادة أبي بصير إلى قريش

ص: 348


1- بحار الأنوار : ج 20 ص 263 نقلا عنن اعلام الورى ، وزاد المعاد في هدى خير العباد : ج 2 ص 126.

ويذكّر انه بالمعاهدة وأرسلاه مع رجل من بني عامر يرافقه غلامه ، فدفع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله « أبا بصير » إلى الرجلين عملا بالمعاهدة قائلا :

« يا أبا بصير إنّا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت ( أي من العهد ) ولا تصلح لنا في ديننا الغدر وإن اللّه جاعل لك ولمن معك من المسلمين فرجا ومخرجا » (1).

فقال أبو بصير : يا رسول اللّه تردّني إلى المشركين؟!

فقال له رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ثانية :

« انطلق يا أبا بصير ، فان اللّه سيجعل لك مخرجا ».

ثم دفعه إلى العامريّ وصاحبه فخرج معهما باتجاه مكة.

فلما كانوا بذي الحليفة ( وهي قرية تبعد عن المدينة بستة أميال يحج منها بعض أهل المدينة ) صلّى أبو بصير ركعتين صلاة المسافر ثم مال إلى أصل جدار فاتّكأ عليه ، ووضع زاده الذي كان يحمله وجعل يتغدّى وقال لصاحبيه في لهجة الصدّيق : ادنوا فكلا؟ فأكلا معه ثم آنسهم ثم قال للعامري : ناولني سيفك انظر إليه إن شئت أصارم هو أم لا؟ فناوله العامري سيفه وكان أقرب إلى السيف من أبي بصير ، فجرّد أبو بصير السيف وقتل به العامريّ في اللحظة ، فهرب الغلام يعدو نحو المدينة خوفا ، وسبق أبا بصير الى المدينة ، وأخبر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بما جرى لسيّده العامريّ ، فبينا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله جالس في أصحابه والغلام عنده يقصّ عليه ما جرى إذ طلع أبو بصير ، فدخل على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في المسجد وقال : وفت ذمّتك ، وأدّى اللّه عنك ، وقد أسلمتني بيد العدوّ ، وقد امتنعت بديني من أن افتن.

ثم إن أبا بصير بعد أن قال هذا الكلام خرج من عند رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وغادر المدينة ، ونزل ناحية على ساحل البحر ، على طريق قافلة قريش

ص: 349


1- المغازي : ج 2 ص 625.

إلى الشام ، تسمى « العيص ».

وعرف المسلمون الذين حبسوا بمكة بهذا التطوّر ، ففرّ منهم سبعون رجلا ، وانضمّوا إلى أبي بصير وكانوا ممن نالهم على يد قريش أشدّ العذاب والعنت ، فلا حياة ولا حرية لهم.

من هنا قرّروا أن يتعرضوا لقافلة قريش التجارية ويغيروا عليها ، أو يقتلوا كل من وقعت يدهم عليه من قريش.

وقد لعبت هذه الجماعة دورها بصورة رائعة جدا بحيث أقلقت بال قريش ، وسلبت منها الرقاد إلى درجة أنهم كتبوا إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يطلبون منه إلغاء هذه المادة ( أي المادة الثانية ). بموافقة الطرفين وقد أعلنوا موافقتهم على إلغائها ، واعادة أبي بصير وجماعته إلى المدينة والكف عن التعرض لتجارة قريش.

فوافق رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على إلغاء تلك المادة ، وطلب من المسلمين في منطقة « العيص » القدوم الى المدينة.

وبهذا توفّرت فرصة طيبة لجميع المسلمين ، كما عرفت قريش أنها لا تستطيع سجن المؤمن ، وحبسه في القيد ، وان تقييده وحبسه أخطر بكثير من إطلاق سراحه ، لأنه سيفرّ ذات يوم وهو يحمل روح الانتقام على سجّانه.

النساء المسلمات لا يسلّمن إلى قريش :

بعد أن تم الاتفاق والتوقيع على معاهدة صلح الحديبية هاجرت « أمّ كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط » في تلك المدة ، فخرج أخواها « عمارة » و « الوليد » ابنا عقبة حتى قدما على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يسألانه أن يردّ اختهما عليهما بالعهد الذي بينه وبين قريش في الحديبية ، فلم يفعل ذلك رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقال لهما :

« إن اللّه نقض العهد في النساء » (1).

ص: 350


1- المغازي : ج 2 ص 631 ، السيرة النبوية : ج 2 ص 323.

وقد نزل قوله تعالى يوضح حكم هذا الامر :

« يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا » (1).

كانت هذه قصّة « الحديبية » ، وقد استطاع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في ظلّ الهدوء والأمن اللذين تحققا بسبب معاهدة الحديبية أن يراسل قادة العالم وزعماءه ، وأن يبلّغ نبأ دعوته إلى مسامع شعوبهم ، وستقف على مفصل هذا القسم من تاريخ الاسلام المشرق في الفصل القادم.

ص: 351


1- الممتحنة : 10.

حوادث السنة السابعة من الهجرة

اشارة

43

النبيّ يعلن عن رسالته العالمية

اشارة

لقد أراحت معاهدة الحديبية بال رسول الاسلام صلی اللّه علیه و آله من ناحية الجنوب ( أي مكة ) ، وقد آمن برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ولبّى دعوته في ظل الهدوء والأمن والاستقرار الحاصل بسبب هذا الصلح جماعة من زعماء العرب. ورجالها البارزين.

واغتنم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله هذه الفرصة ففتح على ملوك العالم وزعماء القبائل ، ورجال الدين المسيحي يومذاك باب المراسلة ، فكاتبهم ووجّه إليهم رسائل كثيرة عبر رسله وسفرائه ، وقد عرض فيها عليهم رسالته ودعوته التي كانت يومذاك لا تخرج عن صورة العقيدة البسيطة وكان في مقدورها أن تضم تحت لواء التوحيد ، وفي اطار التعاليم الاخلاقية والانسانية كل البشرية.

وقد كانت هذه هي الخطوة الاولى التي خطاها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بعد 19 عاما من الصراع مع قريش العاتية.

ولو أن الاعداء الداخليين لم يشغلوه بالصراعات والحروب لاستطاع رسول الاسلام ان يقوم بتوجيه دعوته الى شعوب العالم آنذاك قبل هذا الوقت ، ولكن الحملات الظالمة والمضايقات الشديدة التي قام بها العرب الوثنيون الجهلة طوال ما يقرب من عقدين من عمر الرسالة أجبرت رسول الاسلام صلی اللّه علیه و آله على أن يصرف قسما عظيما من أوقاته الغالية في ترتيب شئون الدفاع عن حياض الاسلام وكيان المسلمين.

ص: 352

إن الرسائل التي وجّهها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الى الامراء والسلاطين ، وإلى رؤساء القبائل ، والشخصيات الدينية والسياسية البارزة داخل الجزيرة العربية وخارجها لدعوتهم إلى الاسلام تكشف عن طريقته في الدعوة والتبليغ ، والارشاد والهداية.

وبين أيدينا الآن نصوص 185 (1) رسالة وكتاب من مكاتيب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ورسائله التي دعا فيها من أرسلها إليهم ، إلى الإسلام ، أو كتبه التي تشكّل معاهداته ومواثيقه صلی اللّه علیه و آله التي أعطاها أو عقدها مع الاطراف المختلفة وقد جمعها ، وضبطها أرباب السير وكتّاب التاريخ وهي تكشف برمتها عن أن اسلوب الاسلام في الدعوة والتبليغ يعتمد على المنطق والبرهان ، لا على السيف والقهر وعلى الاقناع لا الاكراه.

فيوم اطمأن بال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأمن جانب قريش وحلفائها ، وجّه نداءه الالهي إلى مسامع البشرية في العالم وذلك عن طريق ارسال الرسائل ، أو بعث المبلغين والدعاة إلى شتى أنحاء العالم.

إن نصوص هذه الرسائل ، والاشارات الموجودة في خلالها ، ونصائحه التي كان يوجّهها صلی اللّه علیه و آله إلى الناس ، والتسامح الذي كان يبديه من نفسه خلال عقد الاتفاقيات وإبرام المعاهدات مع الاجانب ، تشكّل برمتها شواهد قاطعة ، ودامغة ضدّ نظرية المستشرقين الذين أرادوا مسخ وجه الاسلام

ص: 353


1- لقد اجتهد علماء الاسلام في جمع واحصاء رسائل النبي الاكرم صلی اللّه علیه و آله وكتبه قدر المستطاع ، وإن أكمل المصادر الحاضرة من حيث الاستقصاء وسعة التتبع كتابان يتسمان بأهمية كبرى في هذا المجال وهما : أ - الوثائق السياسية تأليف البرفيسور محمد حميد اللّه حيدرآبادي، الاستاذ بجامعة باريس. ب - مكاتيب الرسول تأليف العلامة المحقق المحترم الشيخ علي الاحمدي. والكتاب الأخير يمتاز بتحقيقات وتحليلات أدبية وتاريخيه وسياسية إسلامية في غاية الأهمية.

المشرق ، بكيل الاتهامات الباطلة له ، والزعم بأن تقدّم الاسلام وانتشاره كان بفعل القهر ، وبقوة السيف ، وتحت عامل الفرض والاجبار واننا لنأمل أن نوفّق ذات يوم لدراسة وتقييم تلك الرسائل والكتب واستجلاء هذه النقاط المذكورة واستخراج خطوط السياسة النبوية ومعالم الدعوة المحمدية. من ثنايا تلكم الرسائل والكتب التاريخية الخالدة لنستطيع من خلال هذا العمل بيان اسلوب الاسلام في نشر دينه في شتى نقاط العالم.

الرسالة المحمّدية كانت عالمية :

الرسالة المحمّدية كانت عالمية : (1)

ينظر بعض الجهلة إلى مسألة عالمية الرسالة المحمّدية بنظر الشك والترديد ، وهم يتبعون في مثل هذه النظرة الجاهلة ما يروّجه بعض الكتاب العملاء ، وفي مقدمة هؤلاء المغرضين مستشرق معاد للإسلام هو « السير ويليم موير » الذي يقول : إن موضوع عالمية الرسالة المحمّدية قد ظهر وتبلور في ما بعد ، وأن محمّد اقتصر في دعوته من بدء رسالته إلى لحظة وفاته على العرب ، ولم يكن « محمّد » يعرف أي مكان غير الجزيرة العربية.

ولقد اتّبع هذا المستشرق نهج أسلافه الإنجليز ، وحاول التعتيم على الحقيقة في مقابلة الآيات الكثيرة التي تشهد - بجلاء - بأن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كان يدعو البشر عامة إلى التوحيد والاعتقاد برسالته وقال : انّ محمّدا كان يقتصر في دعوته على العرب خاصة.

ونحن هنا ندرج بعض الآيات التي تشهد بأن رسالة الاسلام ، وأن الدعوة المحمّدية كانت منذ بداية ظهورها دعوة عالمية ، ويمكن مراجعة كتب التفسير والعقائد للوقوف على المزيد من التوضيح في هذا المجال.

ص: 354


1- هاهنا مسألتان يجب التمييز بينهما : أ- عالمية الرسالة المحمدية. ب - خاتمية الرسالة المحمدية. و في الأولى تعالج مسألة عالمية رسالة النبي محمد، وعدم عالميتها وانه صلى اللّه عليه وآله هل كان مبعوثاً لخصوص سكان الجزيرة العربية أم لعموم البشر، وللنّاس كافة، في حين أن المحور في المسألة الثانية هو أنه صلى اللّه عليه وآله هل هو آخر نبي أو لا على انه يمكن ان يقول البعض ان دينه كان عالمياً إلا أن نبوته لم تكن خاتمة النبوات بل سيأتي بعده نبي آخر وشريعة أخرى. من هنا لابد من البحث - في النبوة الخاصة - حول كلتي المسألتين بصورة مستقلة، وقد بحثنا المسألتين في الجزء الثالث من مفاهيم القرآن بصورة موسعة.

آيات تدل على عالمية الرسالة المحمّدية :

1 - « وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً » (1).

2 - « وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ »(2) .

3 - « لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا »(3) .

4 - هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ »(4) .

والآن نسأل هذا الكاتب الإنجليزي : كيف تقول - مع هذه الدعوة العالمية - أن موضوع عالمية الرسالة الاسلامية قد ظهر وتبلور في ما بعد.

فهل مع وجود هذه الآيات ونظائرها ومع وجود سفراء رسول اللّه ومبعوثيه الى المناطق النائية ، والبلاد البعيدة ، وإلى نصوص الرسائل التي بقيت مسجلة في صفحات التاريخ عن رسول الإسلام صلی اللّه علیه و آله وخاصة ما بقي منها محفوظا بعينه الى الآن في المتاحف العالمية الكبرى يبقى مجال لأن يشك أحد في عالمية رسالته.

والعجيب أن الكاتب المذكور يكتب بكل وقاحة قائلا : ان محمّدا لم يكن

ص: 355


1- سبأ : 28.
2- القلم : 52.
3- يس : 70.
4- التوبة : 33.

يعرف غير الحجاز ، في حين أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله سافر يوم كان في ربيعه السادس عشر مع عمه أبي طالب الى الشام كما سافر الى الشام في تجارة خديجة في سنّ الخامسة والعشرين ، مع قافلة قريش التجارية.

حقا ان من العجيب العجاب أننا كلّما قرأنا في التاريخ أن شابا يونانيا ( هو الاسكندر المقدوني ) كان يريد أن يسيطر على العالم ، أو نسمع أن ناپليون بونابرت كان يفكر في أن يكون امبراطور العالم الوحيد لم يبعثنا كل ذلك على الاستغراب والدهشة ولكن كلما يسمع فريق من المستشرقين بأن قائد المسلمين الأعلى وجّه دعوة الاسلام - وبأمر اللّه - الى زعماء عصره العالميّين الذين كان بينهم وبين قومه علاقات تجارية عريقة انكروا ذلك وبوقاحة ، واعتبروه أمرا محالا.

رسل الاسلام الى المناطق النائية :

طرح رسول الاسلام قضية دعوة الملوك والامراء الى الاسلام على شورى كبيرة من أصحابه كغيرها من المسائل المهمة فقال :

« أيها الناس ان اللّه قد بعثني رحمة وكافّة فلا تختلفوا عليّ كما اختلف الحواريّون على عيسى بن مريم ».

فقال أصحابه : وكيف اختلف الحواريون يا رسول اللّه؟ قال :

« دعاهم إلى الذي دعوتكم إليه ، فأما من بعثه مبعثا قريبا فرضي وسلم واما من بعثه مبعثا بعيدا فكره وجهه وتثاقل ».

ثم إن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله اختار ستة أشخاص من خيرة أصحابه وكتب معهم كتبا إلى الملوك تضمنت دعوته العالمية ، وبعثهم إلى مختلف نقاط الأرض.

وهكذا توجّه سفراء الهداية ورسل الدعوة المحمّدية في يوم واحد إلى إيران ، والروم ، والحبشة ، ومصر واليمامة ، والبحرين ، والحيرة ، ( الاردن ) وسوف نقرأ معا

ص: 356

مفصل ما احتوته رسائله صلی اللّه علیه و آله (1).

وعند ما فرغ من كتابة الرسائل المذكورة قال بعض ذوي الاطلاع والعلم بأحوال بلاطات الملوك آنذاك قالوا لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يا رسول اللّه : إن الملوك لا يقرءون كتابا إلاّ مختوما ، فاتخذ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يومئذ خاتما من فضة ، فصّه منه ، نقشه ثلاثة أسطر : محمّد رسول اللّه ، في الاعلى لفظة الجلالة وتليه كلمة رسول ثم يليه اسمه الشريف ، وختم به الكتب.

ولم يكتف بهذا بل ختم تلك الرسائل بالشمع أو الطين إمعانا في السرية ، والحفاظ عليها من التزوير (2).

أوضاع العالم أيام إبلاغ الرسالة العالمية :

كانت الامبراطوريتان ( الرومية والفارسية ) تقتسمان آنذاك قيادة العالم ، وكانت الحروب قائمة بين ذينك المعسكرين على قدم وساق ، ومنذ زمن بعيد.

فلقد بدأ الصراع على النفوذ بين إيران والروم منذ عهد الهخامنشيين ، واستمرّ حتى عصر الساسانيين ملوك ايران.

فكان الشرق تحت النفوذ الايراني ، كما كانت العراق واليمن وشيء من آسيا الصغرى تعدّ من توابع الامبراطورية الإيرانية ومستعمراتها.

وأمّا الامبراطورية الرومية فقد كانت منقسمة يومذاك إلى معسكرين شرقي وغربي لأن « تئودوز الكبير » امبراطور الروم قسم بلاده في سنة (395) ميلادية بين ولديه ، ومن هنا ظهرت الروم الشرقية والروم الغربية.

وقد انقرضت الروم الغربية على أيدي متوحشي وبرابرة شمال اوربا ، ولكن

ص: 357


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 606 ، الطبقات الكبرى : ج 1 ص 264 ، السيرة الحلبية : ج 3 ص 241 - 242 ، بحار الأنوار : ج 20 ص 382.
2- السيرة الحلبية : ج 3 ص 240 و 241.

الروم الشرقية التي كان مركزها يومذاك « القسطنطنية » وكانت تسيطر على الشام ومصر ، فكانت تسيطر أبان ظهور الاسلام على قدر كبير من مقاليد السياسة العالمية إلى أن فتحت القسطنطنية عام (1453) على يد السلطان محمّد الثاني « محمّد الفاتح » ، وبذلك غربت شمس دولة الروم الشرقية ، واضمحلّت نهائيا.

وقد كانت أرض الحجاز محاصرة بين هذين القطبين ومحاطة بهاتين القوتين العظيمتين ، ولكن حيث أن أراضي الحجاز لم تكن أراض خصبة ، وكان أهلها في الأغلب من الرحّل المتفرقين في البراري والقفار ، لذلك لم تبد كلتا الامبراطوريتين رغبتهما في الاستيلاء على تلك الأراضى ، فقد كانت النخوة والظلم ، والحروب التي اتسمت بها طبيعة وحياة تينك الدولتين تمنعهما من الاطلاع على أي تغيير اجتماعي أو تحول سياسي يقع في هذه المنطقة من العالم.

فهم لم يكونوا يتصوّرون قط أن يتمكن شعب - كان بعيدا عن روح الحضارة والمدنية - من وضع نهاية لإمبراطوريّتهم ، بفضل ما أوتوا من ايمان ، وإنارة النقاط التي كانت ترزح في ظلام جور السلطات الرومية وظلمها بنور الإسلام المشرق ، ولو كانوا يعرفون شيئا عن هذه النهضة المشرقة وهذا الانفجار المعنوي العظيم في بدء حدوثه لقضوا عليه في أوّل الأمر ، ولم يتركوه يمتد إلى ملكهم ، ويقلب كل شيء رأسا على عقب.

رسول النبي صلی اللّه علیه و آله في أرض الروم :

كان قيصر الرّوم قد عاهد اللّه إذا غلب الفرس أن يسير الى بيت المقدس من عاصمته : « القسطنطنية » مشيا على القدم للزيارة ، شكرا لله ، وقد وفى بنذره هذا بعد انتصاره على إيران ، وسار مشيا على القدم إلى بيت المقدس.

فكلّف « دحية الكلبي » بإيصال كتاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الى قيصر ، وكان دحية قد سافر مرارا الى الشام ، وكان عارفا بمناطقها وعاداتها معرفة كاملة ، وكان إلى ذلك جميل الصورة حسن السيرة ، ولهذا كان جديرا بتحمل هذه

ص: 358

المسئولية الخطيرة لائقا لها.

وقد توجّه إلى « القسطنطنية » رأسا بعد أن كلّفه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بايصال كتابه إلى قيصر ، ولكنه ما أن وصل إلى بصرى ( من مدن الشام ) إلاّ وبلغه أن قيصرا قد فارقها قاصدا بيت المقدس ولهذا بادر الى الاتصال بحاكم بصرى (1) : « الحارث بن أبي شمر » واخبره بالمهمة الخطيرة التي جاء من اجلها.

يقول مؤلف الطبقات الكبرى : بعث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله دحية بن خليفة الكلبي الى قيصر يدعوه إلى الاسلام ، وكتب معه كتابا ، وأمره أن يدفعه إلى عظيم بصرى ليدفعه إلى قيصر ، ( ولعل النبي صلی اللّه علیه و آله كان يعرف بمغادرة قيصر لعاصمة ملكه أو لعل ذلك الأمر كان مراعاة لامكانيات دحية المحدودة ، وكون السفر الى قسطنطنية كان يتطلب جهدا كبيرا أو لا يخلو من محاذير ).

فدفعه عظيم بصرى إليه وهو يومئذ بحمص ، وذلك بان استدعى عدي بن حاتم ووجهه مع سفير النبيّ صلی اللّه علیه و آله ليوصل كتابه إلى قيصر ، فذهب به إليه ، ولما أراد الدخول على قيصر قال قومه لدحية : اذا رأيت الملك فاسجد له ، ثم لا ترفع رأسك حتى يأذن لك.

فقال دحية : لا افعل هذا أبدا ، ولا أسجد لغير اللّه! ( أي انني قد جئت لتحطيم هذه السنن الجاهلية المقيتة فكيف أخضع لها ، انما جئتكم من قبل نبي لا بلّغ ملككم بأن عهد عبادة البشر قد انقضى وانتهى وأنه لا يحق السجود إلاّ لله وحده ، فكيف يمكنني ذلك وأنا أحمل هذه الرسالة التوحيدية إليكم؟! ) (2).

ولقد أعجب قوم قيصر بمنطق دحية القوي ، وموقفه الصلب ، فقال له رجل منهم : أنا أدلك على أمر يؤخذ فيه كتابك ، ولا تسجد له ، ضع صحيفتك تجاه

ص: 359


1- كانت بصرى مركز محافظة حوران التي كانت تعدّ من مستعمرات قيصر. وكان الحارث بن أبي شمر - وبصورة عامة - جميع ملوك بني غسان ، من ولاة قيصر على تلك المناطق.
2- الطبقات الكبرى ، ج 1 ص 259.

المنبر فان أحدا لا يحركها حتى يأخذها هو ، ثم يدعو صاحبها فشكر دحية الرجل ، وأخذ بنصيحته ، وفعل ما اشار به.

فلما أخذ قيصر الكتاب وجد عليه عنوان كتاب العرب فدعا الترجمان الذي يقرأ بالعربية فاذا فيه :

« بسم اللّه الرحمن الرحيم. من محمّد بن عبد اللّه إلى هرقل عظيم الرّوم سلام على من اتبع الهدى.

أمّا بعد فانّي أدعوك بدعاية الاسلام أسلم تسلم يؤتك اللّه اجرك مرّتين. فإن تولّيت فإنّما عليك إثم الأريسيّين (1) ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ، ألاّ نعبد إلاّ اللّه ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون اللّه ، فإن تولّوا فقولوا اشهدوا بانّا مسلمون محمّد رسول اللّه ».

قيصر يحقّق حول النبي :

احتمل حاكم الروم اللبيب أن يكون كاتب هذه الرسالة هو : « احمد الموعود » الذي بشرت به الانجيل والتوراة ، ولهذا قرّر أن يحقق حول شخصيته ، ويتعرف على خصوصيات حياته ، الدقيقة.

فبعث أحدا إلى الشام فورا ليأتي له بقريب لمحمّد ، أو من يعرف شيئا عنه. حتى يسأله عن شخصية رسول الاسلام صلی اللّه علیه و آله فاتفق أن كان أبو سفيان بن حرب يومذاك بالشام للتجارة في ركب من قريش ، فأخذهم

ص: 360


1- بين العلماء في تفسير هذه اللفظة خلاف ، فيقول ابن الاثير : قيل هم الخدم والخول وقال بعض : هم الاكّارون ( أي الفلاحون ) لأن اكثر الناس يومذاك كانوا من الفلاحين ، وهم اطوع الناس للحاكم. و يؤيد هذا الرأي الاخير أنه جاء في بعض النسخ (الكامل: ج 2 ص 145) كلمة الا كارين بدل الاريسيين والأكار هو المزارع، واحتمل البعض أن يكون الاريسيون طائفة كانت تعيش في الروم.

صاحب شرطة « قيصر » إلى بيت المقدس ، فادخلهم على « قيصر » في مجلسه وحوله عظماء الروم.

فقال قيصر : أيّكم أقرب نسبا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟.

فقال أبو سفيان : أنا أقربهم نسبا.

فقال قيصر : أدنوه منّي ، وقرّبوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره ، ثم قال لترجمانه : قل لهم : إني سائل هذا عن هذا الرجل ، فان كذّبني فكذّبوه.

ثم طرح قيصر على أبي سفيان الاسئلة التالية :

1 - كيف نسب محمّد فيكم؟

هو فينا ذو نسب.

2 - فهل قال هذا القول منكم أحد قبله؟

لا.

3 - فهل كان في آبائه من ملك؟

لا.

4 - فأشراف الناس اتّبعوه أم ضعفاؤهم؟

بل ضعفاؤهم.

5 - أيزيدون أم ينقصون؟

بل يزيدون.

6 - فهل يرتدّ منهم أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟

لا.

7 - فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟

لا.

8 - فهل يغدر؟

لا.

9 - فهل قاتلتموه؟

ص: 361

نعم.

10 - فكيف كان قتالكم ايّاه؟

الحرب بيننا وبينه سجال ، ينال منّا ، وننال منه.

11 - فما ذا يأمركم؟

اعبدوا اللّه وحده ، ولا تشركوا به شيئا ، واتركوا ما يقول آباؤكم ، ويأمرنا بالصلاة والصدقة والعفاف والصلة ، ويأمرنا بالوفاء بالعهد وأداء الأمانة.

فقال قيصر للترجمان قل لأبي سفيان ومن معه : إن كان ما تقول حقا فسيملك موضع قدميّ هاتين فهذه صفة نبيّ ، وقد كنت اعلم أنه خارج لم اكن أظنّه منكم ، فلو أنّي أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاه ، ولو كنت عنده لغسلت قدميه!!

فاعترض ابن أخي قيصر على كتاب رسول اللّه وقال لعمه : قد ابتدأ بنفسه وسمّاك صاحب الروم.

فقال قيصر : واللّه انك لضعيف الرأي. أترى أرمي بكتاب رجل يأتيه الناموس الاكبر ، وهو أحق أن يبدأ بنفسه ، ولقد صدق أنا صاحب الروم ، واللّه مالكي ، مالكه.

قال أبو سفيان : فلما فرغ من قراءة الكتاب ارتفعت الاصوات عنده ، وكثر اللغط ، فأمر بنا فاخرجنا قال : قلت لأصحابي حين خرجنا : لقد أمر أمر ابن أبي كبشة ، أنه ليخافه ملك بني الأصفر.

وروى أيضا أن أبا سفيان قال : لما سألني قيصر عن رسول اللّه جعلت ازهّد له شأنه ، واصغّر له أمره واقول له : أيها الملك ، ما يهمّك من أمره ، إن شأنه دون ما يبلغك ، وجعل قيصر لا يلتفت إلى ذلك ، ثم قال : أنبئني عما أسألك من شأنه (1).

ص: 362


1- بحار الأنوار : ج 20 ص 384 - 386 ، تاريخ الطبري : ج 2 ص 290 و 291.

أثر رسالة النبي إلى قيصر :

لم يكتف قيصر بالمعلومات التي حصلها من أبي سفيان حول رسول الاسلام صلی اللّه علیه و آله بل كتب إلى أحد علماء الروم وأساقفتهم يسألهم عن هذا الأمر.

فأجابه ذلك الاسقف : هذا النبي الذي كنا ننتظره ، بشرنا به عيسى بن مريم.

فعمد قيصر إلى خطة ليجسّ بها نبض قومه ، ويختبرهم ويعرف ما اذا كانوا يرضون باسلامه أولا ، فجمع عظماءهم في صومعة له بحمص فقال : يا معشر الروم هل لكم في الفلاح والرشد ، وان يثبت لكم ملككم وتتبعون ما قال عيسى بن مريم.

فقالت الروم : وما ذاك أيها الملك؟

قال : تتبعون هذا النبي العربي.

فثاروا في وجهه ، ورفعوا الصليب ، فلما رأى منهم ذلك يئس من اسلامهم وخافهم على نفسه وملكه ، فسكنهم ثم قال : إنما قلت لكم ما قلت اختبركم لأنظر كيف صلابتكم في دينكم ، فقد رأيت منكم الذي احبّ. فسكنوا ورضوا عنه.

ثم أمر باكرام دحية ، وكتب جوابا على رسالة النبي صلی اللّه علیه و آله وأرسله مع دحية وارسل بهدية الى النبي صلی اللّه علیه و آله (1).

سفير النبيّ في البلاط الإيراني :

يوم توجّه سفير رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بكتابه إلى البلاط الإيراني

ص: 363


1- الطبقات الكبرى : ج 1 ص 259 - 260 ، السيرة الحلبية : ج 3 ص 245 - 246 ، الكامل في التاريخ ج 2 ص 144 ، بحار الأنوار : ج 20 ص 379.

كان الملك الذي يحكم هذه الأرض الواسعة هو « خسروا برويز » ثاني ملك بعد انوشيروان ، الذي جلس على العرش الملكي الإيراني مدة 32 عاما قبل الهجرة النبوية المباركة.

وقد واجهت حكومة هذا الملك خلال مدة سلطانه أنواعا عديدة من الحوادث المرة والحلوة ، وكانت مكانة ايران في عهده تعاني من الاضطراب ، وعدم الاستقرار بشكل ملحوظ.

وقد امتدّ النفوذ الإيراني ذات يوم حتى شمل آسيا الصغرى ، وامتدّ الى مشارف القسطنطنية ، وأتى بصليب عيسى الذي كان أقدس شيء عند النصارى إلى طيسفون ( المدائن ) ، فطلب سلطان الروم الصلح وبعث سفيرا من قبله الى البلاط الإيراني لعقد معاهدة الصلح.

بيد أنّ سوء تدبير الملوك في تلك الدولة العظمى ، وانغماسهم في اللذة والمجون أكثر من المتعارف تسبب في أن تصبح ايران على حافة السقوط والانهيار في أواخر العهد الساساني ، فقد خرجت المستعمرات من تحت النفوذ الإيراني الواحدة تلو الاخرى ، واجتاح العدو الروميّ الاراضي الايرانية إلى الاعماق ، ووصل الأمر بخسروبرويز امبراطور ايران الى أن يهرب من وجه الروم الغزاة ، وقد أثار هذا الهروب الخانع وهذه الهزيمة المنكرة سخط الشعب يومذاك ، فقتل بيد ابنه « شيرويه ».

ويعزي محلّلوا التاريخ القديم تخلّف إيران وضياع قوتها إلى غرور قادتها وحكامها وميلهم الى البذخ والترف ، وبلهنية العيش ورغد الحياة ، والزينة واللذة. ولو كان ذلك الملك يتلقى رسالة السلام التي عرضها الاسلام بالصورة اللائقة لبقيت عظمة إيران على حالها في ظل هذا السلام دون أن يصيبها ما أصابها.

ولو أن رسالة رسول الاسلام لم تترك أثرا حسنا في نفس « خسروا برويز » يومذاك فان ذلك لم يكن لتقصير أو عيب في تلك الرسالة أو في سلوك حاملها

ص: 364

الى البلاط الايراني ، بل كان لنفسيّة ذلك الحاكم المغرور ، المنحرفة ، وأنانيته الطاغية ، التي لم تسمح له بالتفكير بعض اللحظات في كتاب رسول الاسلام صلی اللّه علیه و آله كما فعل « قيصر » ، أو غيره. بل لم يمهل المترجم حتى ينتهي من قراءة كتاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، إنما صاح به في تلك الاثناء ، وأخذ منه رسالة النبي صلی اللّه علیه و آله ومزّقها بوقاحة بالغة ، واسلوب بالغ في الجفاف ، وسوء الادب.

وإليك تفصيل الحادث :

في مطلع السنة الهجرية السابعة بعث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله احد فرسانه الشجعان وهو « عبد اللّه بن حذافة السهمي » ، الى ايران وكتب معه كتاب إلى « خسروا پرويز » ملك ايران يومذاك يدعوه فيه الى الاسلام وامره أن يدفع الكتاب الى كسرى نفسه وإليك نص هذه الرسالة :

« بسم اللّه الرّحمن الرّحيم من محمّد رسول اللّه إلى كسرى عظيم فارس. سلام على من اتبع الهدى وآمن باللّه ورسوله ، واشهد أن لا إله الاّ اللّه وحده لا شريك له ، وأنّ محمّدا عبده ورسوله. أدعوك بدعاية اللّه ، فإني أنا رسول اللّه كافة لا نذر من كان حيّا ، ويحقّ القول على الكافرين أسلم تسلم ، فان أبيت فعليك اثم المجوس ».

فلما دخل سفير النبي صلی اللّه علیه و آله على « خسروا برويز » أمر بأن يؤخذ منه كتاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ولكن عبد اللّه بن حذافة قال : لا حتى أدفعه إليك كما امرني رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ثم دنا وسلّم الكتاب فدعى كسرى بمترجمه ليقرأ الكتاب ، فلما قرأه ، فاذا فيه : من محمّد رسول اللّه الى كسرى عظيم فارس أغضبه حين بدأ رسول اللّه بنفسه ، وصاح ، وأخذ الكتاب ، فمزّقه قبل أن يعلم ما فيه وقال : يكتب إليّ بهذا.

ثم أمر باخراج حامل الكتاب من قصره ، فاخرج عبد اللّه بن حذافة السلمي ، ولما رأى ذلك قعد على راحلته وسار حتى وصل إلى النبي صلّى اللّه

ص: 365

عليه وآله ، فاخبره الخبر ، فغصب النبيّ صلی اللّه علیه و آله من موقف كسرى فدعا عليه قائلا : اللّهم مزّق ملكه (1).

نظرية اليعقوبي :

ويختلف ابن واضح الاخباري المعروف باليعقوبي في تاريخه - مع عامة المؤرخين - : قرأ كتاب النبي صلی اللّه علیه و آله ثم كتب كتابا إليه جعله بين سرقتي حرير وجعل فيهما مسكا ، فلما دفعه الرسول إلى النبي فتحه فاخذ قبضة من المسك فشمّه ، وناوله أصحابه ، وقال : لا حاجة لنا في هذا الحرير ، ليس من لباسنا ، وقال : لتدخلنّ في أمري أو لآتينّك بنفسي ومن معي ، وأمر اللّه اسرع من ذلك. (2)

ولكن هذا رأي ينفرد به اليعقوبي ولا يوافقه عليه أحد من أرباب السير إلاّ احمد بن حنبل الذي يقول : أهدى كسرى لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقبل منه (3).

أوامر « خسرو » إلى واليه على اليمن :

تقع أرض اليمن الخصبة في جنوب مكة ، وكان ملوكها وحكامها ولاة منصوبين من قبل البلاط الايراني بأجمعهم ، وكان الذي يحكم اليمن يوم مراسلة النبي لقادة العالم وملوكه رجل يدعى « باذان » فكتب طاغية ايران المغرور « خسرو » بعد أن مزّق رسالة النبيّ إلى عامله باليمن ( باذان ) :

بلغني أن في أرضك رجلا يتنبّأ فاستتبه ، فان تاب والاّ فابعث به إليّ.

فبعث « باذان » رجلين من فرسانه يدعى أحدهما : « فيروز » والآخر « خرخسره » وكتب معهما كتابا إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يأمره فيه أن

ص: 366


1- الطبقات الكبرى : ج 1 ص 260.
2- تاريخ اليعقوبي : ج 1 ص 66.
3- مسند احمد بن حنبل : ج 1 ص 96.

ينصرف معهما إلى كسرى أو أن يجبراه على الرجوع الى دين آبائه وان أبى قتلوه وأرسلوا برأسه الى الملك حسب رواية ابن حجر في الاصابة.

إن رسالة كسرى إلى « باذان » يكشف عن جهل هذا الحاكم ، وعدم معرفته بما كان يجري في بلاده ومستعمراته ، فقد بلغ من جهله أنه لم يكن يعلم أن هذا الرجل الذي يدّعي النبوة (1) قد مضى على ادعائه النبوة أكثر من 19 عاما.

ثم إن الذي ادعى النبوة في منطقة نائية ، وانتشر دينه ، وأصبح من القوة والشوكة بحيث يجرأ على مراسلة الامبراطور ، ودعوته إلى دينه لا يمكن أخذه واحضاره إلى اليمن بواسطة رجلين. وأن الأمر - بالتالي - لن يتم بمثل هذه السهولة ، والبساطة ، التي تصورها.

وعلى كل حال لما قدم مبعوثا « باذان » المدينة ودخلا على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قدّما رسالة « باذان » إليه صلی اللّه علیه و آله وقالا : لقد بعثنا « باذان » إليك لتنطلق معنا ، فان فعلت كتب فيك إلى ملك الملوك بكتاب ينفعك ، ويكف عنك به ، وإن أبيت فهو من قد علمت ، فهو مهلكك ومهلك قومك ومخرب بلادك.

وكانا قد دخلا على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقد حلقا لحاهما وأطلقا شواربهما ، فاستمع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى كلامهما ، وقبل أن يجيب على مطلبهما دعاهما إلى الاسلام ، وقد كره النظر إليهما لما كانا عليه من الهيئة فقال لهما : من أمركما بهذا؟! قالا : أمرنا بهذا ربّنا ( يعنيان كسرى ) فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله :

« لكنّ ربّي أمرني بإعفاء لحيتي وقصّ شاربي » (2).

فأرعبتهما هيبة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وجلال محضره ، بحيث أخذا

ص: 367


1- حسب تعبير كسرى.
2- الكامل في التاريخ : ج 2 ص 146.

يرتجفان عند ما عرض رسول اللّه الاسلام عليهما.

ثم قال لهما رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله :

« ارجعا حتّى تأتياني غدا ».

وفي هذه الاثناء أتى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الخبر من السماء أن اللّه عزّ وجلّ قد سلّط على كسرى ابنه شيرويه ، فقتله في شهر كذا وكذا وكذا لكذا ، وكذا من الليل.

فلما حضر الرجلان ( مبعوثا باذان ) عند رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من غد قال لهما رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله :

« إنّ ربّي قد قتل ربّكما ليلة كذا وكذا من شهر كذا وكذا. بعد ما مضي من الليل كذا وكذا سلّط عليه شيرويه فقتله » (1)

وكانت الليلة التي ذكرها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله هي ليلة الثلاثاء العاشر من شهر جمادى الاولى سنة سبع من الهجرة.

فاستغرب الرجلان لخبر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقال : هل تدري ما تقول؟ إنا قد نقمنا منك ما هو أيسر من هذا. فنكتب بها عنك ونخبر الملك ( أي باذان ).

فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله :

« نعم أخبراه ذلك عنّي وقولا له : إن ديني وسلطاني سيبلغ ما بلغ ملك كسرى ، وينتهي إلى منتهى الخفّ والحافر ، وقولا له : إن أسلمت اعطيتك ما تحت يديك ، وملكتك على قومك ».

ثم أعطى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لخرخسرة منطقة ( أي حراما ) فيها ذهب وفضة كان أهداها له بعض الملوك ، فخرجا من عنده حتى قدما على باذان باليمن واخبراه الخبر.

ص: 368


1- الطبقات الكبرى : ج 1 ص 260 ، بحار الأنوار : ج 20 ص 382.

فقال باذان : واللّه ما هذا بكلام ملك وإني لأرى الرجل نبيا كما يقول ، ولننظر ما قد قال ، فلئن كان ما قد قال حقا فانه لا ريب نبي مرسل ، وإن لم يكن فسنرى فيه رأينا.

فلم يلبث أن قدم عليه كتاب شيرويه : أما بعد فاني قد قتلت كسرى ولم اقتله الاّ غضبا لفارس ، لما كان استحل من قتل أشرافهم ، فاذا جاءك كتابي هذا فخذ لي الطاعة ممن قبلك ، وانظر الرجل الذي كان كسرى كتب إليك فيه فلا تهجه حتى يأتيك أمري فيه.

وقد تسبّب كتاب « شيرويه » هذا في أن يعتنق « باذان » الاسلام هو وجميع رجال دولته وكانوا من الفرس ، وكتب إلى رسول الاسلام صلی اللّه علیه و آله يخبره بإسلامه واسلام أعضاء حكومته (1).

سفير النبيّ في أرض مصر :

تعتبر « مصر » مهد الحضارات والمدنيات العريقة ، ومركز سلطان الفراعنة ، وموضع سيادة الاقباط.

ويوم أشرقت شمس الاسلام على أرض الحجاز كانت « مصر » قد فقدت استقلالها ، وقوتها ، وكان المقوقس قد فوض إليه حكم « مصر » من قبل قيصر الروم لقاء 19 مليون دينار يدفعها الى قيصر.

وكان « حاطب بن أبي بلتعة » - وكان فارسا بارعا وله قصة في تاريخ الاسلام سيأتي ذكرها في حوادث السنة الثامنة - احد الستة الذين كلّفوا بابلاغ كتب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى الملوك والرؤساء يومذاك وقد أمره رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بايصال كتابه إلى المقوقس حاكم « مصر ».

وإليك نص كتاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى المقوقس :

ص: 369


1- بحار الأنوار : ج 20 ص 391.

« بسم اللّه الرحمن الرحيم من محمّد بن عبد اللّه إلى المقوقس عظيم القبط ، سلام على من اتبع الهدى.

أما بعد فإني أدعوك بدعاية الاسلام ، أسلم تسلم ، وأسلم يؤتك اللّه أجرك مرّتين ، فإن تولّيت فإنّما عليك إثم القبط « ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد الاّ اللّه ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون اللّه فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون » (1).

فخرج « حاطب » بكتاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حتى قدم « مصر » ، وأراد الدخول على حاكمها ، « المقوقس » علم بأنه يسكن في أحد قصوره الشامخة على ضفاف النهر ، في الإسكندرية ، فركب زورقا ، نقله إلى قصر « المقوقس ».

فلما وصل « حاطب » إلى قصر « المقوقس » أكرمه وأخذ كتاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقرأه ، وفكّر في مضمونه بعض الوقت ، ثم قال لسفير النبي صلی اللّه علیه و آله : ما منعه إن كان نبيّا أن يدعو على من خالفه ( أي من قومه ) وأخرجوه من بلده إلى غيرها أن يسلّط عليهم.

فقال حاطب وكان حكيما فهيما : ألست تشهد أن عيسى بن مريم رسول اللّه؟ فماله حيث أخذه قومه فأرادوا أن يقتلوه أن لا يكون دعا عليهم أن يهلكهم اللّه تعالى حتى رفعه اللّه إليه؟

فأعجب المقوقس - الذي لم يكن يتوقع أن يجابه بهذا المنطق القوى المفحم - برد حاطب وقال له : أحسنت ، أنت حكيم جاء من عند حكيم (2).

فتجرأ حاطب لما رأى هذا الموقف الخاضع من ملك مصر وقال : إنه كان قبلك رجل يزعم أنه الرب الأعلى ( يعني فرعون ) فأخذه اللّه نكال الآخرة

ص: 370


1- السيرة الحلبية : ج 3 ص 249 ، الدر المنثور : ج 1 ص 40 ، أعيان الشيعة : ج 1 ص 244.
2- اسد الغابة : ج 1 ص 362.

والاونى ، فانتقم به ، ثمّ انتقم منه فاعتبر بغيرك ، ولا يعتبر غيرك بك ، ان هذا النبيّ صلی اللّه علیه و آله دعا الناس فكان أشدّهم عليه قريش ، وأعداهم له اليهود ، وأقربهم منه النصارى ولعمري ما بشارة موسى بعيسى عليهما الصلاة والسلام إلاّ كبشارة عيسى بمحمّد صلی اللّه علیه و آله وما دعاؤنا إياك إلى القرآن إلاّ كدعائك أهل التوراة إلى الانجيل ، وكل نبي أدرك قوما فهم امّته ، فالحق عليهم أن يطيعوه ، فانت ممّن أدرك هذا النبيّ ، ولسنا ننهاك عن دين المسيح علیه السلام ولكنا نأمرك به.

وهو يقصد بكلامه الأخير أن الاسلام هو الصورة الاكمل لدين المسيح.

انتهى الحوار بين حاطب سفير النبي صلی اللّه علیه و آله والمقوقس حاكم مصر إلاّ أن المقوقس لم يعطه جوابا قاطعا في ذلك المجلس ، فكان على حاطب أن يلبث في مصر مدة حتى يتلقى جواب كتاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله (1).

ثم طلب المقوقس حاطبا ذات يوم وانفرد به في قصره ، وسأله عن ما جاء به رسول اللّه وإلى مَ يدعو؟ فقال له حاطب : إلى أن نعبد اللّه وحده ، ويأمر بالصلاة ، خمس صلوات في اليوم والليلة ويأمر بصيام رمضان ، وحج البيت ، والوفاء بالعهد ، وينهى عن أكل الميتة والدم .. و ... و ...

فقال له المقوقس : صفه لي.

قال حاطب : فوصفت فأوجزت.

فقال المقوقس : مصدّقا ما ذكره حاطب من أوصاف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : هذه صفته ، وكنت أعلم أن نبيّا قد بقي ، وكنت اظن أن مخرجه بالشام وهناك كانت تخرج الأنبياء من قبله ، فأراه قد خرج في أرض العرب ، في أرض جهد وبؤس ، والقبط لا تطاوعني في اتّباعه ، وسيظهر على البلاد ، وينزل أصحابه من بعد بساحتنا هذه ، حتى يظهروا على ما هاهنا.

ص: 371


1- السيرة الحلبية : ج 3 ص 250.

ثم طلب المقوقس من حاطب أن يكتم أمر هذا الحوار الذي دار بينه وبين حاطب عن قومه قائلا : وأنا لا أذكر للقبط من هذا حرفا واحدا ، ولا أحب أن يعلم بمحادثتي ( أو بمحاورتي ) إياك (1).

ثم إنه اكرم حاطبا مدة اقامته بمصر إكراما بالغا ، وأحسن قراه ، وضيافته (2).

المقوقس يكتب كتابا الى النبيّ :

ثم إنّ حاكم « مصر » المقوقس دعا كاتبه العربيّ ، وأمره أن يكتب كتابا إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله هذا نصه :

بسم اللّه الرحمن الرحيم. لمحمّد بن عبد اللّه من المقوقس عظيم القبط ، سلام عليك ، أما بعد فقد قرأت كتابك ، وفهمت ما ذكرت فيه ، وما تدعو إليه ، وقد علمت أن نبيا قد بقي ، وقد كنت أظن أنه يخرج بالشام وقد أكرمت رسولك ، وبعثت إليك بجاريتين لهما مكان في القبط عظيم ، وبثياب ، وأهديت إليك بغلة لتركبها والسلام عليك (3).

إن الاحترام الذي أبداه « المقوقس » في رسالته المذكورة ، وتقديم اسم النبيّ صلی اللّه علیه و آله على اسمه وكذا هداياه التي بعثها إلى رسول الاسلام صلی اللّه علیه و آله وتكريم سفير النبي صلی اللّه علیه و آله كلها تحكي عن أنّ المقوقس قبل دعوة النبي صلی اللّه علیه و آله في سرّه ولكن حبّه في البقاء في السلطة منعه من التظاهر بايمانه وإسلامه ، ومن الانقياد العمليّ والعلني للاسلام.

خرج « حاطب » بصحبة جماعة من الحرس المحافظين وهو يحمل الهدايا التي بعثها المقوقس من عند المقوقس ولما وصل الى الشام أذن للمحافظين بالانصراف ثم واصل هو سفره ضمن قافلة إلى المدينة ، ولما قدم المدينة على رسول اللّه صلّى

ص: 372


1- سيرة زيني دحلان : ج 3 ص 71.
2- الطبقات الكبرى : ج 1 ص 260.
3- الطبقات الكبرى : ج 1 ص 260.

اللّه عليه وآله سلّم إليه كتاب المقوقس وهداياه قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

« ضنّ بملكه ، ولا بقاء لملكه » (1).

المغيرة بن شعبة في البلاط المصري :

توجه المغيرة بن شعبة الذي كان معروفا بحكمه وعقله ودهائه ، والذي اصبح في ما بعد من رجال السياسة العرب ودهاتها المعروفين.

توجّه في جمع من قبيلة ثقيف إلى البلاط المصري ، فسألهم كبير المصريين ( المقوقس ) :

كيف خلصتم إليّ ، وبيني وبينكم محمّد وأصحابه.

فقال : لصقنا بالبحر.

قال : فكيف صنعتم فيما دعاكم إليه؟

قالوا : ما تبعه منّا رجل واحد.

قال : فكيف صنع قومه؟

قالوا : تبعه أحداثهم ، وقد لاقاه من خالفه في مواطن كثيرة.

قال : فالى ما ذا يدعو؟

قالوا : إلى أن نعبد اللّه وحده ، ونخلع ما كان يعبد آباؤنا ، ويدعو إلى الصلاة ، والزكاة ، ويأمر بصلة الرحم ، ووفاء العهد ، وتحريم الزنا ، والربا ، والخمر.

فقاطعهم المقوقس قائلا : هذا نبي مرسل إلى الناس كافة ، ولو أصاب القبط ، والروم لا تبعوه ، وقد أمرهم بذلك عيسى ، وهذا الذي تصفون منه نعت الأنبياء من قبله ، وستكون له العاقبة حتى لا ينازعه أحد ، ويظهر دينه إلى منتهى الخفّ والحافر.

ص: 373


1- الطبقات الكبرى : ج 1 ص 260 وغيره.

فاستاء رجال ثقيف من هذا الكلام وقالوا بكل صلافة ووقاحة : لو دخل الناس كلّهم معه ما دخلنا معه.

فهزّ المقوقس رأسه ساخرا بهم وقال : أنتم في اللعب (1). بيد ان هذه الرواية لا توافق بقية المصادر التاريخية لان النبي صلی اللّه علیه و آله كاتب ملوك العالم وقادته في السنة السابعة من الهجرة ، على حين كان المغيرة في معركة الخندق قد آمن ، وكان في الحديبية في صفوف المسلمين ، حتى أنه كان بينه وبين مندوب قريش المفاوض عروة بن مسعود الثقفي مشاجرة مر ذكرها عند استعراض قصة الصلح.

وعلى فرض صحة هذه الرواية لا بد من القول بأن المغيرة لم يكن في وفد ثقيف.

وفي الختام ينبغي أن نلفت نظر القارئ الكريم إلى أن الواقدي نقل نص رسالة النبي إلى عظيم القبط بصورة اخرى.

ولكن أسلوب الرسالة وعباراتها تدل على أن هذه الصورة لا أساس لها من الصحة ، لانها تتضمن تهديدا من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لعظيم القبط بالحرب والغزو اذ جاء فيه : « وأمرني ( أي اللّه ) بالإعذار والانذار ، ومقاتلة الكفار حتى يدينوا بديني » (2).

وممّا لا شك فيه أن هذا غير صحيح لأن امكانيات المسلمين في ذلك اليوم لم تكن لتسمح لهم بمقاتلة المكيين فكيف يغزو « مصر » وهي منطقة نائية جدا.

هذا مضافا إلى أن صدور مثل هذا الكلام عن النبي في أول دعوة له إلى الاسلام لا يتلاءم ونفسية وخلق ذلك الرجل العظيم الذي كان يقدّر الظروف آنذاك أفضل من غيره.

* * *

ص: 374


1- السيرة الدحلانية : ج 3 ص 70.
2- فتوح الشام : ج 2 ص 23.

سفير النبيّ صلی اللّه علیه و آله في أرض الذكريات « الحبشة » :

تقع « الحبشة » في آخر إفريقيا الشرقية وتبلغ مساحتها 1800 كيلومترا مربعا ، وعاصمتها اليوم : أديس أبابا.

ولقد تعرّف الشرقيون على هذه الأرض قبل ظهور الاسلام بقرن ، وذلك على أثر هجوم الجيش الايراني الذي تمّ في عهد حكومة الملك الفارسي « انوشيروان » ، وبلغ هذا التعرّف والتردد ذروته في هجرة المسلمين من مكة إلى الحبشة ( الهجرة الأولى والهجرة الثانية ).

ويوم قرر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن يبعث ستة من خيرة رجاله الشجعان إلى نقاط مختلفة ، ونائية من العالم لإبلاغ نداء رسالته العالميّة كلّف : « عمرو بن اميّة الضميري » بأن يأخذ كتابه إلى الحبشة ، ويسلّمه إلى النجاشيّ ملكها العادل الطيب.

على أن الكتاب الذي ستقرأ نصّه قريبا ليس هو الكتاب الوحيد الذي بعثه رسول الاسلام صلی اللّه علیه و آله إلى النجاشي ، بل سبق أن كتب صلی اللّه علیه و آله إليه قبل هذا يوصيه بالمهاجرين المسلمين ، ويطلب منه فيه أن يلطف بهم ، ويرعاهم ، ولا يزال نصّ هذين الكتابين موجودا في المصادر التاريخية الاسلامية (1).

وربما حصل اشتباه بين هذين الكتابين ( الرسالة التي بعثها النبي لابلاغ دعوته العالمية ، والرسالة التي أوصى فيها النجاشي بالمهاجرين ) فخلط بعض المؤرخين بين عبارتيهما.

ويوم قدم سفير النبي بكتاب الدعوة إلى الاسلام ، الحبشة على النجاشي كان بعض المهاجرين المسلمين لا يزالون في أرض الحبشة ، يعيشون في كنف

ص: 375


1- تاريخ الطبري : ج 2 ص 294.

النجاشي وحمايته ، بينما عاد بعضهم من قبل إلى المدينة ، وهم يحملون أجمل الذكريات والخواطر عن عدل حاكمها الطيب « النجاشي » ، ولطفه ، وحسن وفادته.

من هنا كانت أرض الحبشة في نظر المسلمين تعتبر أرض الذكريات الجميلة والخواطر الحلوة ، وكانوا يمدحون حاكمها ويصفونهم بالعدل والاستقامة. ولو اننا لا حظنا في كتاب النبي صلی اللّه علیه و آله إليه نوعا من اللطف ، واللين في القول فان ذلك مردّه إلى معرفة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بنفسية النجاشي وخلقه وحسن موقفه.

فانك لا تجد لتهديدات رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في كتبه ورسائله الاخرى إلى الملوك والزعماء ، بالعقاب الالهي إن رفضوا القبول بدعوته ، وحمّلهم مسئولية شعوبهم في عبارات صريحة وقاطعة ، أيّ أثر في هذا الكتاب.

فقد كتب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى النجاشي ما يلي :

« بسم اللّه الرّحمن الرّحيم. من محمّد رسول اللّه إلى النجاشي ملك الحبشة. سلام عليك ، أحمد اللّه الذي لا إله إلاّ هو الملك القدّوس السلام المؤمن المهيمن ، وأشهد أن عيسى بن مريم روح اللّه وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيّبة الحصينة فحملت بعيسى ، حملته من روحه ، ونفخه ، كما خلق آدم بيده ، وإني أدعوك إلى اللّه وحده لا شريك له والموالاة على طاعته ، وأن تتبعني وتوقن بالذي جاءني ، فإني رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وإنّي أدعوك وجنودك وقد بلّغت ونصحت فاقبلوا نصيحتي والسلام على من اتبع الهدى » (1).

لقد بدأ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كتابه بالتسليم على حاكم الحبشة وأرسل إليه بتحياته الشخصية ، ولكنه لم يفعل هذا في كتاب غيره ، فلم يرسل بتحياته الشخصية الى « كسرى » و « قيصر » و « المقوقس » حكّام إيران والروم

ص: 376


1- السيرة الحلبية : ج 3 ص 248 ، إعلام الورى : ص 45 و 46.

ومصر ، بل بدأ كتبه إليهم بالسلام العام حيث قال : « السلام على من اتبع الهدى ».

ولكنه صلی اللّه علیه و آله سلّم في كتابه هذا ، على النجاشي نفسه ، وقال : « السلام عليك » ، وبهذا خصّه دون غيره من الزعماء والملوك باحترام وتكريم خاصّين.

ولقد أشار صلی اللّه علیه و آله في هذا الكتاب الى جملة من صفات اللّه البارزة التي تدلّ جميعها على تنزهه سبحانه ، وعظمته وجلاله.

ثم أشار إلى مسألة ألوهية المسيح ( التي هي من ولائد التفكير الكنسي المنحطّ ) وردّ على ذلك باستدلال قويّ خاصّ مستلهم من القرآن الكريم. حيث قايس ولادة المسيح علیه السلام بخلقة آدم ، وأثبت ان ولادة شخص من دون أب لو كان دليلا على ألوهيّته ، أو كونه ابنا لله ، لصحّ ذلك في حق آدم ، الذي خلق من غير أب ولا أمّ ، ولكن لا يرى أحد فيه مثل هذا الرأي.

ثم ختم صلی اللّه علیه و آله كتابه هذا باخراج دعوته في لباس النصح والموعظة ، تجنبا من إظهار نفسه بمظهر الآمر.

محاورة سفير النبيّ وحاكم الحبشة :

لما مثل سفير النبي صلی اللّه علیه و آله أمام النجاشيّ قال للنجاشي :

يا أصحمة إنّ عليّ القول ، وعليك الاستماع ، إنّك كأنّك في الرقّة علينا منا ، وكأنّا في الثقة بك منك لأنا لم نظن بك خيرا قط إلاّ نلناه ، ولم نحفظك على شرّ قطّ إلاّ أمنّاه ، وقد أخذنا الحجة عليك من قبل آدم ، والانجيل بيننا وبينك شاهد لا يردّ ، وقاض لا يجور ، وفي ذلك موقع الخير ، واصابة الفضل ، وإلاّ فأنت في هذا النبي الامّي كاليهود في عيسى بن مريم ، وقد فرّق رسله إلى الناس فرجاك لما لم يرجهم له ، وأمنك على ما خافهم عليه لخير سالف ، وأجر ينتظر.

فقال النجاشي : أشهد باللّه أنه للنبي الذي ينتظره أهل الكتاب ، وإنّ

ص: 377

بشارة موسى براكب الحمار ، كبشارة عيسى براكب الجمل ، وانه ليس الخبر كالعيان ، ولكنّ أعواني من الحبشة قليل ، فانظرني حتى أكثر الأعوان ، وأليّن القلوب ولو استطيع أن آتيه لأتيته (1).

رسالة النجاشي إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله :

ثم كتب كتابا إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله هذا نصه :

« بسم اللّه الرّحمن الرّحيم ؛ إلى محمّد رسول اللّه من النجاشي ، سلام عليك يا نبي اللّه ورحمة اللّه وبركاته ، الذي لا إله إلاّ هو ، الذي هداني إلى الإسلام.

أما بعد ، فقد بلغني كتابك يا رسول اللّه فيما ذكرت من أمر عيسى ، فو ربّ السماء والأرض إن عيسى ما يزيد على ما ذكرت ثفروقا (2) إنه كما قلت وقد عرفنا ما بعثت به إلينا ، وقد قرّبنا ابن عمك وأصحابك ، وأشهد أنّك رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقد بايعتك وبايعت ابن عمك وأسلمت على يديه لله ربّ العالمين ، وقد بعثت إليك يا نبيّ اللّه فان شئت أن آتيك لفعلت يا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فإنّي أشهد أنّ ما تقول حق والسلام عليك ورحمة اللّه وبركاته » (3)

ثم إن النجاشي بعث بهدايا خاصّة إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وكتب إليه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بعد ذلك كتابين آخرين أيضا ، وكان في كلّ مرة يحترم كتاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ويقبّله ويضعه على عينيه.

تقييم سريع لمراسلة النبي صلی اللّه علیه و آله قادة العالم :

ربما تصوّر بعض العارفين بأحوال الساسة في ذلك اليوم أن دعوة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لحكّام وشعوب العالم يومذاك كان أمرا خارج المألوف وعملا

ص: 378


1- السيرة الحلبية : ج 3 ص 248 ، الطبقات الكبرى : ج 1 ص 259.
2- الثفروق : الاقماع التي تلزق بالبسر.
3- تاريخ الطبري : ج 2 ص 294 ، بحار الأنوار : ج 20 ص 392.

غير متعارف ، ولكنّ مضيّ الزمان أثبت أنّ ذلك العمل كان من وظائف النبيّ ومهامّه الاساسية.

أولا : ان إرسال ستة سفراء في يوم واحد إلى أنحاء العالم ، محمّلين برسائل قوية مبرهنة أغلق كل باب للشكّ في وجه المخالفين في المستقبل ، فلا مجال لأن يشك أحد هذا اليوم وهو يرى هذا العمل العظيم في عالميّة الرسالة المحمّدية ، فمضافا إلى الآيات الواردة في هذا الصعيد يعدّ إرسال السفراء بنفسه دليلا قاطعا وكبيرا على عالمية الرسالة الاسلامية.

ثانيا : لقد تأثّر جميع الزعماء والملوك والقادة الذين راسلهم النبيّ صلی اللّه علیه و آله ما عدا « خسروا برويز » ملك إيران الذي كان طاغية مستبدا متكبرا ، برسائل النبي صلی اللّه علیه و آله ودعوته ، وأكرموا سفراءه.

كما أن قضية ظهور النبيّ العربي قد أصبح حديث الاوساط والمحافل الدينية بسبب هذا العمل.

لقد أيقظت هذه الرسائل والكتب بمحتوياتها ومضامينها القوية المبرهنة العقول الغافية ، وهزّت الغافلين بشدّة ، وأثارت مشاعر الشعوب العالميّة المتحضرة ، ودفعتهم إلى البحث والتحقيق حول من بشّر به التوراة والانجيل ، كما تسبب في أن يجري العلماء والاساقفة والقساوسة غير المغرضين باتصالات بمن ينتسب إلى هذا الدين ، ويقيموا ارتباطا مع هذه العقيدة بشكل وآخر.

ومن هنا ولأجل هذا تسابقت أفواج وفرق كبيرة من رجال الدين من الشرائع الدينية المختلفة التي كانت سائدة آنذاك في الايام الاخيرة لحياة رسول الإسلام صلی اللّه علیه و آله وبعدها إلى القدوم على المدينة لدراسة أوضاع الدين الجديد ، والتعرف على ماهيته ومنطقه.

ولقد شرحنا في الفصول الماضية وبشكل مفصّل نوع ومدى التأثير الذي تركته رسائل النبي وسفراؤه في نفوس حكّام الرّوم ومصر والحبشة ، وها نحن نواصل بيان بقية التأثيرات التي تركتها مراسلة النبي صلی اللّه علیه و آله لحاكم

ص: 379

الحبشة العادل ، وملكها البار : اصحمة النجاشي.

فقد عمد النجاشيّ بعد تقديم الهدايا إلى سفير النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، إلى ارسال ثلاثين رجلا من القساوسة والاساقفة الاحباش إلى أرض المدينة للتحقيق في أمر الإسلام ، ونبوة محمّد صلی اللّه علیه و آله وليروا من كثب حياته الزاهدة البسيطة ، ولا يتصوروا أنه يعيش كما كان يعيش الملوك والجبابرة في ذلك العصر.

ولما قدم مبعوثو النجاشي المدينة على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله سألوه عن نظريته حول السيّد المسيح علیه السلام فبيّن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عقيدته حول ذلك النبيّ العظيم بقراءة الآية التالية :

« إِذْ قالَ اللّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ : إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ » (1).

وقد كان لهذه الآيات أثر عجيب في نفوس اولئك القساوسة والأساقفة حتى أنهم بكوا عند سماعها من دون اختيار.

وبعد التحقيق الدقيق في دعوة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عاد هذا الفريق من علماء الدين المسيحي إلى الحبشة ، وأخبروا النجاشيّ بما سمعوه وشاهدوه ، فبكى هو أيضا لما سمع من اولئك الرجال (2).

وقد نقل ابن الاثير في « الكامل » و « اسد الغابة » قصة هذا الوفد بصورة اخرى إذ كتب بعد ذكر ما مرّ من رسالة النجاشي باضافة قوله : « وبعثت

ص: 380


1- المائدة : 110.
2- اعلام الورى : ص 46.

إليك بابني أرمى بن الاصحم » فخرج ابن النجاشي في ستين نفسا من الحبشة ( قاصدين المدينة ) في سفينة في البحر ، فلما توسطوا البحر غرقوا كلهم.

ولكن وصول الرسالة التي اشار إليها ابن الاثير إلى الرسول الاكرم صلی اللّه علیه و آله شاهد على أنه لم تحدث مثل هذه الحادثة لمبعوثي النجاشي (1).

كتاب رسول اللّه الى أمير الغساسنة ( بالشام ) :

الغساسنة فرع من قبيلة « الازد » القحطانيين الذين سكنوا « اليمن » مدة طويلة ، وكانت أراضيهم تسقى من سدّ مأرب ، فلما انهدم ذلك السدّ اضطروا إلى الرحيل عن « اليمن » ونزلوا بالشام. فسيطروا على جزء من أراضيها وحكموا فيها ، وانتهى بهم الامر الى تشكيل دولة الغساسنة. التي كانت تحكم تلك الديار تحت نفوذ قياصرة الروم وسيادتهم ، فلما جاء الإسلام أزال نظامهم ، وانتهت حكومتهم ، بعد أن حكم منهم ، اثنان وثلاثون ملكا في مناطق « الجولان » ، و « اليرموك » ، و « دمشق » (2).

وقد بعث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله « شجاع بن وهب » وهو أحد السفراء الستة الذين بعثهم صلی اللّه علیه و آله لابلاغ الرسالة الاسلامية إلى العالم - إلى أرض الغساسنة ، وقد حمّله كتابا إلى ملكها يومذاك « الحارث بن أبي شمر الغساني » ، فخرج شجاع بكتاب النبي إلى الشام لتسليمه الى ملك الغساسنة فانتهى إليه وهو بغوطة دمشق وهو مشغول باعداد المقدمات لاستقبال « قيصر » الذي كان في طريقه إلى زيارة بيت المقدس وفاء للنذر الذي نذره للانتصار على ايران كما مر.

ولهذا لم يستطع « شجاع » من الوصول إلى الأمير الغساني إلاّ بعد انتظار دام

ص: 381


1- اسد الغابة : ج 1 ص 62 ، الكامل في التاريخ : ج 2 ص 145.
2- راجع معجم البلدان ، ومروج الذهب وغيرهما.

ثلاثة أيام ، فاستغلّ « شجاع » هذه الفرصة وصادق فيها حاجب الأمير الغساني فكان يحدّثه عن صفة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأخلاقه وما يدعو إليه من العقيدة الطاهرة ، فأثّرت كلمات « شجاع » تأثيرا عجيبا في نفس ذلك الحاجب الذي كان روميّا حتى أنه رقّ وغلبه البكاء وقال : إنّي قرأت الإنجيل وأجد صفة هذا النبي بعينه ، وأنا أومن به واصدّقه ، وأخاف من « الحارث » أن يقتلني اذا عرف باسلامي وكان يكرم سفير النبي صلی اللّه علیه و آله ويحسن ضيافته طوال تلك المدة ، ويقول إن الحارث يخاف قيصر أيضا.

ثم لما خرج « الحارث » ذات يوم وجلس على عرشه أذن لسفير النبي صلی اللّه علیه و آله بالدخول عليه ، فلما مثل بين يديه دفع إليه كتاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقرأه وكان نصّه كالتالي :

« بسم اللّه الرّحمن الرّحيم من محمّد رسول اللّه إلى الحارث بن أبي شمر ، سلام على من اتبع الهدى ، وآمن به وصدّق ، وإني أدعوك أن تؤمن باللّه وحده لا شريك له يبقى ملكك ».

فانزعج الحارث ممّا قرأ في آخر الكتاب ورمى به جانبا ، وقال : من ينتزع مني ملكي؟ أنا سائر إليه ، ولو كان باليمن جئته ، عليّ بالناس.

وبهذا أمر بإعداد العسكر حالا ليستعرض قوته العسكرية أمام سفير النبي إرعابا وتخويفا له. ولاجل أن يظهر نفسه بمظهر المدافع عن ملك قيصر بادر إلى كتابة رسالة الى « قيصر » يخبره فيها بما عزم عليه من غزو رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله !!

واتفق أن وصلت رسالة الامير الغساني إلى « قيصر » في الوقت الذي كان فيه « دحية الكلبي » سفير النبي إلى الروم في مجلس قيصر ، وكان « قيصر » يحاوره ، ويسأله عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وعن صفته ودينه ، فانزعج « قيصر » من مبادرة الحاكم الغساني العجولة وكتب إليه يمنعه عن السير إلى رسول الاسلام طالبا منه أن يلتقي به في مدينة « ايليا ».

ص: 382

فغيّر موقف « قيصر » الايجابي هذا موقف عميله : الحاكم الغساني السلبي تبعا للمثل القائل « الناس على دين ملوكهم » فبادر من فوره إلى إكرام سفير النبيّ صلی اللّه علیه و آله ومنحه هدايا ثمينة ، ووجّهه نحو المدينة معززا مكرّما وقال له : « اقرأ على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله منّي السلام ».

ولكن النبي صلی اللّه علیه و آله لم يرض بهذا الموقف الدبلوماسي الذي لم يكن ينمّ عن واقع صادق فقال : باد ملكه. أي سيزول ملكه عما قريب. فمات « الحارث » في السنة الهجرية الثامنة أي بعد عام واحد من هذه القضية (1).

سادس السفراء في أرض اليمن :

سادس سفراء النبي هو المبعوث الى أرض اليمامة ( وهي من نجد ) ، وهو سليط بن عمرو.

فقد خرج سليط هذا بكتاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الى « هوذة بن علي » الحنفي ملك اليمامة يدعوه الى الإسلام ولما قدم عليه سلّم الكتاب إليه وفيه.

« بسم اللّه الرّحمن الرّحيم. من محمّد رسول اللّه إلى هوذة بن علي. سلام على من اتّبع الهدى واعلم أن ديني سيظهر إلى منتهى الخفّ والحافر ( أي يعمّ الشرق والغرب ) فأسلم تسلم واجعل لك ما تحت يديك ».

وحيث أن ملك اليمامة ( هوذة ) كان نصرانيا لذلك بعث إليه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله سليطا وكان ممن عاش مدة من الزمن في أرض الحبشة عند ما هاجر إليها فريق من المسلمين فرارا من اضطهاد وفتنة قريش لهم ، وعرف بتقاليد النصارى ومنطقهم ، وكانت تعاليم الاسلام ، وكذا اختلاطه بمختلف الفئات في رحلاته وأسفاره قد صنعت منه رجلا شجاعا قويا وذكيا وقد استطاع بما اوتي

ص: 383


1- السيرة الحلبية : ج 3 ص 255 و 256 ، الطبقات الكبرى : ج 1 ص 261

من قوة المنطق ، والشجاعة أن يقنع بكلامه وحديثه ملك اليمامة عند ما قال له : يا هوذة أنه سوّدتك (1) أعظم حائلة ( أي بالية ) وارواح في النار ، وانما السيّد من متّع بالإيمان ثم زوّد بالتقوى. ان قوما سعد برأيك فلا يشقون به ، وإني آمرك بخير مأمور به ، وأنهاك عن شيء منهيّ عنه.

آمرك بعبادة اللّه ، وأنهاك عن عبادة الشيطان ، فان في عبادة اللّه الجنة ، وفي عبادة الشيطان النار ، فان قبلت نلت ما رجوت وآمنت ما خفت ، وان ابيت فبيننا وبينك كشف الغطاء وهو المطّلع.

كانت ملامح ملك اليمامة المتغيرة المتأثرة توحي بحسن تأثير كلمات سليط سفير النبيّ في نفس ذلك الملك ، ولهذا طلب من سليط أن يمهله مدة حتى يفكر في أمر النبي ودعوته ، وكان من الملوك العقلاء.

وصادف أن قدم اليمامة عليه في ذلك اليوم اسقف كبير من كبار أساقفة الروم ، فتحدث معه « هوذة » في قضية النبي ، ودعوته ، وإليك ما دار بينهما من الحوار.

قال هوذة للاسقف : جاءني كتاب من النبي يدعوني إلى الإسلام فلم اجبه.

فقال الاسقف : لم لا تجيبه.

قال هوذة : ضننت بديني وأنا أملك قومي ، ولئن اتبعته لا أملك.

قال : بلى واللّه لئن اتبعته ليملّكنك ، وان الخير لك في اتباعه ، وأنه للنبيّ العربي الذي بشّر بن عيسى بن مريم علیه السلام . وانه لمكتوب عندنا في الانجيل : محمّد رسول اللّه.

فتركت نصيحة الاسقف وكلماته أثرا عميقا وقويا في نفس ملك اليمامة « هوذة » فاستدعى سفير النبي صلی اللّه علیه و آله وكتب إلى النبي صلّى اللّه

ص: 384


1- يقصد أنّه سوده كسرى وهو في النار.

عليه وآله كتابا هذا نصه : « ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله ، وأنا شاعر قومي وخطيبهم والعرب تهاب مكاني فاجعل إليّ بعض الأمر اتبعك ( أي أنه كان يطلب أن يجعله النبي خليفة له من بعده ).

ولم يكتف « هوذة » بهذا بل بعث وفدا إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بزعامة « مجاعة بن مرارة » ليبلّغ إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله رسالته ويقول له صلی اللّه علیه و آله : ان جعل الأمر له من بعده أسلم وسار إليه ونصره ، وإلاّ قصد حربه.

فلما قدم الرسول على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأخبره بما جرى وقرأ الكتاب على النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال : « لا ولا كرامة ، لو سألني سيابة من الارض ما فعلت اللّهم اكفنيه » (1).

رسائل اخرى لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله :

هذا وان الرسائل والكتب التي بعثها رسول اللّه لغير من ذكرناه من القادة والزعماء والشخصيات الدينية والسياسية اكثر من ما أدرجناه هنا ، وقد استطاع العلماء المحققون أن يجمعوا ويثبتوا في كتب خاصّة صورة 29 رسالة من رسائل الدعوة الى الاسلام التي بعثها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله تركنا إدراجها هنا رعاية للاختصار (2).

ص: 385


1- السيرة الحلبية : ج 3 ص 254 ، الكامل في التاريخ : ج 2 ص 146 ، الطبقات الكبرى : ج 1 ص 262 وسيابة من الأرض أي قطعة من الأرض.
2- راجع مكاتيب الرسول للعلامة الاحمدي ، وغيره من المؤلفات في هذا المجال.

44

قلعة خيبر أو بؤرة الخطر

اشارة

يوم طلع نجم الاسلام في أرض المدينة حقدت اليهود على رسول اللّه ، والمسلمين اكثر من قريش ، وعملت بمختلف الطرق والحيل من اجل القضاء على الاسلام والإيقاع برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأصحابه.

ولقد ابتلي يهود المدينة وما حولها بمصير سيّئ نتيجة أعمالهم وتصرّفاتهم السيئة ، فقتل فريق منهم ، واجلي آخرون مثل قبيلة بني قينقاع وبني النضير من أرض المدينة فسكنوا « خيبر » و « وادي القرى » أو نزلوا باذرعات الشام.

وكانت خيبر منطقة واسعة وخصبة تقع على بعد اثنين وثلاثين فرسخا من المدينة كان قد سكنها اليهود قبل بعثة النبيّ صلی اللّه علیه و آله وبنوا فيها سبع قلاع وحصون قوية لتحصنهم وتحفظهم.

وحيث إن التربة والمناخ في تلك المنطقة كانت قد جعلت من تلك المنطقة مكانا جيدا وصالحا للزراعة جدا ، لذلك كان سكانها اليهود قد حصلوا على مهارة كبرى في امور الزراعة وجمع الثروات ، وتهيئة وسائل الدفاع والقتال ، وإعداد السلاح والقوة.

وكان عدد نفوسها يقارب عشرين الف نسمة بينهم عدد كبير من المقاتلين الشجعان (1).

ص: 386


1- السيرة الحلبية : ج 3 ص 36 ، تاريخ الطبري : ج 2 ص 46.

إن أكبر ذنب اقترفه يهود « خيبر » هو أنهم شجّعوا جميع القبائل العربية على محاربة الحكومة الاسلامية والقضاء عليها ، واستطاع جيش الاحزاب المشرك بمساعدة يهود « خيبر » أن يتحركوا في يوم واحد من مختلف مناطق الجزيرة العربية لاجتياح المدينة واستئصال المسلمين في أكبر تحالف عسكرى واتّحاد نظاميّ من نوعه في ذلك العصر كما سبق وأن عرفت في قصة « معركة الأحزاب » ولكن هذا الجيش المعتدي الظالم تفرّق بفعل تدابير رسول الاسلام الحكيمة وأصحابه بعد شهر من الانتظار خلف الخندق ، وتقهقر وعادت أحزابه ومن جملتهم يهود خيبر متشتتة متفرقة إلى أوطانها تجرّ أذيال الخيبة والخسران ، واستعادت عاصمة الإسلام استقرارها وأمنها.

إن خيانة ، وخباثة ولؤم يهود خيبر حملت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على أن يقضي على بؤرة المؤامرة ومركز الفساد والخطر هذا ، وأن يجرّد سكانها جميعا من السلاح ، لأنه كان يخشى أن يعود هذا الشعب المعاند الخبيث - ببذل الأموال الطائلة - إلى تأليب العرب الوثنيين مرة اخرى ضد المسلمين ويعيدوا قصة الأحزاب مرة اخرى. وخاصة أن تعصّب اليهود لدينهم ومعتقدهم كان أشدّ من تعصّب قريش للوثنية ، ولهذا التعصب كان يسلم ألف مشرك وثنيّ ولا يدع يهودي واحد دينه ، ومعتقده!!

ثم إنّ عاملا آخر حمل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على تحطيم قدرة الخيبريين وشوكتهم ، وانتزاع السلاح منهم ورصد تحريكاتهم بواسطة فرسانه ورجاله ، أنه راسل الملوك والسلاطين ، ودعاهم جميعا وبشكل قوي الى الاسلام ، فلم يكن من المستبعد أن يستغل « كسرى » و « قيصر » يهود خيبر فيتعاونوا جميعا للقضاء على الاسلام والنهضة الاسلامية في مهدها ، أو تحرك اليهود ذينك الملكين ضدّ الاسلام كما حرّكت من قبل المشركين ضدّ هذا الدين ، وتسبّبت في وقوع مشاكل.

خاصة أن الشعب اليهودي كان ضليعا في الحروب التي دارت بين الروم

ص: 387

والفرس في تلك العصور ، وكان اليهود يتعاونون مع أحد الطرفين.

من هنا رأى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ان من الحكمة بل ومن الضرورة بمكان أن يطفئ شرارة الخطر هذه إلى الأبد.

وكانت هذه الفرصة أفضل الفرص لهذا العمل ، لأنّ بال النبيّ كان قد فرغ من ناحية الجنوب ( أي قريش ) بعد صلح الحديبية ، وكان يعلم أنه لو أقدم على عمل ضد اليهود لم تمتد يد من جانب قريش لمساعدتهم ، ولكي يمنع من وصول أيّة مساعدات وامدادات لهم من ناحية قبائل الشمال مثل « غطفان » الذين كانوا أصدقاء ليهود خيبر والمتعاونين معهم في معركة « الأحزاب » نفذ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله خطة سيأتي تفصيلها مستقبلا.

لهذه الاسباب والعوامل والاعتبارات أمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله المسلمين بالتهيّؤ لغزو خيبر آخر مركز من مراكز اليهود في الجزيرة العربية. وقال :

« لا تخرجوا معي إلاّ راغبين في الجهاد أما الغنيمة فلا ».

ثم إن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله استخلف على المدينة « نميلة بن عبد اللّه الليثي » ، ودفع راية بيضاء الى « عليّ بن أبي طالب » علیه السلام وأمر بالتوجه إلى خيبر ، ولكي تسرع الابل في سيرها اذن لعامر بن الاكوع أن يحدو بالابل لان الابل تستحثّ بالحداء ، فأخذ يرتجز قائلا :

واللّه لو لا اللّه ما اهتدينا *** ولا تصدّقنا ولا صلّينا

إنّا إذا قوم بغوا علينا *** وإن أرادوا فتنة أبينا

فأنزلن سكينة علينا *** وثبت الأقدام إن لاقينا

وقد عكست هذه الأبيات الجميلة جانبا من هدف هذه الغزوة ، فهي تفيد أن اليهود ظلمونا ، وأشعلوا نيران الفتنة وقد خرجنا لاطفائها ، وتحملنا في سبيل ذلك عناء هذا السفر.

ولقد سرّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بمضامين هذه الابيات فدعا لابن الاكوع ، وقال : « يرحمك اللّه » وقد استشهد ابن الاكوع هذا في هذه الغزوة.

ص: 388

هذا وقد كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يراعي مبدأ الاستتار في جميع تحركاته العسكرية ، فقد كان يحب أن لا يعرف العدوّ بمسيره ومقصده حتى يفاجئ العدو ويباغته ، ويحاصره قبل أن يستطيع فعل شيء ، هذا مضافا إلى ناحية اخرى وهي أن يظن حلفاء العدوّ الذي يقصده بأنه يقصدهم ويسير إليهم ، فيغلقوا على أنفسهم أبواب منازلهم ولا ينضم بعضهم الى بعض.

وربما تصوّر البعض في هذه الغزوة أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقصد منطقة الشمال ( شمال المدينة ) لتأديب قبائل غطفان وفزارة الذين تعاونوا مع اليهود في معركة الاحزاب ، لما وجدوه متوجها نحو الشمال.

ولكنه عند ما وصل إلى منطقة « الرجيع » عرج بجيشه صوب « خيبر » وبهذا قطع الطريق على أية إمدادات عسكرية من ناحية الشمال إلى خيبر ، بقطع خطّ الارتباط بين قبائل غطفان وفزارة ويهود خيبر ، فمع ان حصار خيبر طال مدة شهر واحد تقريبا لم تستطع القبائل المذكورة ان تمدّ حلفاءها اليهود بأي شيء (1).

ولقد خرج مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الى خيبر ما يقرب من ألف وستمائة مقاتل ، بينهم مائتا فارس (2).

وعند ما أشرف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على خيبر قرأ الدعاء التالي الذي يكشف عن نيته الحسنة :

ص: 389


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 330.
2- الامالى للطوسي : ص 164 ، يذهب ابن هشام في سيرته : ج 2 ص 328 إلى ان خروج النبي صلی اللّه علیه و آله إلى خيبر كان في المحرّم ، وبينما ذهب ابن سعد في الطبقات الكبرى : ج 2 ص 77 إلى انه كان في جمادى الثانية من السنة السابعة ، وحيث ان ارسال الرسل الى الملوك والامراء تم في شهر محرم من هذه السنة ذاتها لذلك يكون الرأي الثاني أقرب إلى الصحة ، وخاصة أن مهاجري حبشة التحقوا برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في خيبر بعد وصول رسالة النبي صلی اللّه علیه و آله إلى النجاشي بوساطة « عمرو بن أميّة » لان ذهاب رسول النبي صلی اللّه علیه و آله إلى الحبشة وعودته مع المهاجرين الى المدينة ثم خيبر بحاجة إلى زمان ، وحيث ان توجه الرسل والسفراء كان في شهر محرم لذلك يجب ان يكون قتال الخيبريين في الاشهر التالية.

اللّهمّ ربّ السماوات وما اظللن

وربّ الارضين وما اقللن

وربّ الشياطين وما اضللن

وربّ الرياح وما أذرين

فإنا نسألك خير هذه القرية وخير أهلها ، وخير ما فيها ونعوذ بك من شرها وشر أهلها وشر ما فيها ».

إن هذا الدعاء وما رافقها من حالة التضرع ، وذلك أمام أعين ألف وستمائة من الجنود الشجعان الذين كان كل واحد منهم شعلة متقدة من الشوق الى القتال في سبيل اللّه يكشف عن أن النبي صلی اللّه علیه و آله لم يكن يهدف من مسيره إلى هذه الأرض الاستعمار أو الانتقام بل جاء من أجل ان يقضي على بؤرة الخطر التي كان من المحتمل أن يتحول في كل لحظة إلى قاعدة انطلاق للمشركين الوثنيين ، حتى لا تهدّد النهضة الاسلامية من هذه الناحية فيما بعد.

وسترى أنت أيّها القارئ الكريم كيف أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بعد فتح القلاع والحصون اليهودية ، وانتزاع السلاح من سكانها المتآمرين المشاغبين فوض إليهم اراضيهم ، واكتفى منهم بأخذ الجزية في مقابل المحافظة على أموالهم وأنفسهم ، وبعد أن ربطهم بمعاهدة قوية ملزمة.

احتلال النقاط والطرق الحساسة ليلا :

كان لكل حصن من حصون خيبر السبعة اسم خاص يعرف به فهى عبارة عن : « ناعم » و « القموص » و « الكتيبة » و « النطاة » ، و « شقّ » و « سطح » ، و « سلالم » ، وربما سمّي بعض هذه الحصون باسم زعيم الحصن وسيّده ، مثل حصن مرحب.

كما أنه كانوا قد بنوا عند كل حصن من تلك الحصون برجا للمراقبة ، ولرصد كل التحركات خارج الحصن ، ولأجل أن ينقل الحراس والمراقبون المستقرون في هذه الأبراج الأخبار إلى داخل الحصن.

ص: 390

وقد كانت تلك البروج والحصون قد شيّدت بحيث يسيطر سكانها على خارج الحصن سيطرة كاملة وكانوا يستطيعون - عن طريق المجانيق (1) وغيرها من آلات الرمي - إبعاد أي عدو ، وافشال أيّة محاولة للاقتراب الى الحصن ، وذلك برميه بالاحجار وما شابهها.

وقد كان بين سكان هذه الحصون البالغ عددهم عشرين ألفا ، ألفان من الفرسان الشجعان والصناديد الابطال الذين توفرت لهم كل ما يحتاجون إليه من الطعام والشراب ، والذين اعدت لهم في المخازن كل ما يحتاجون إليه من الاسلحة والعتاد.

وكانت هذه الحصون من الإحكام والقوة بحيث كان من المستحيل إحداث أيّة ثغرة في حيطانها أيضا ، ومن أراد الاقتراب إليها رمي بالاحجار فجرح بها أو قتل ، فكانت تعدّ هذه الحصون - في الحقيقة - متاريس قوية لمقاتلي اليهود.

لقد واجه المسلمون في هذه الغزوة مثل هذا العدوّ المسلح ، المتمنع بمثل هذه المتاريس القوية ، فكان لا بدّ لفتح هذه القلاع من استخدام تكتيك عسكري دقيق.

ولهذا فان أوّل عمل قام به رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأصحابه في هذا السبيل هو احتلال كل النقاط والطرق الحساسة ليلا.

وقد تم هذا العمل بسرية وسرعة بالغة جدا بحيث لم يعرف به حتى مراقبو الابراج اليقظون أيضا.

ولما كان صبيحة تلك الليلة خرج عمّال خيبر غادين إلى مزارعهم وبساتينهم وهم يحملون مساحيهم ومكاتيلهم واذا بهم يفاجئون بجنود الاسلام الابطال وقد احتلوا بقوة الايمان جميع النقاط الحساسة وسدّوا جميع الطرق عليهم بحيث لو قدّموا شبرا لقبض عليهم ، فأفزعهم ذلك وخافوا خوفا شديدا ، فأدبروا

ص: 391


1- وهي أجهزة حديدية بدائية تقذف الحجر او الحديد.

هرابا وهم يقولون : محمّد والجيش معه. وبادروا فورا إلى إغلاق أبواب الحصون وإحكامها ، وعقدوا شورى عسكرية في داخل حصنهم المركزي.

وعند ما رأى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مساحي اليهود ومكاتيلهم وغيرها من أدوات الهدم قال متفائلا :

« اللّه أكبر خربت خيبر أنّا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين ».

وكانت نتيجة الشورى العسكرية اليهودية في هذه الغزوة هي أن يجعلوا الأطفال والنساء في أحد الحصون ، ويجعلوا الذخيرة من الطعام في حصن آخر ، ويستقر المقاتلون الشجعان على الأبراج ويدافعوا عن كل قلعة وحصن بالأحجار ، ويخرج الابطال الصناديد من كل حصن ويقاتلوا المسلمين خارجه.

كانت هذه هي خطة اليهود لمواجهة جنود الاسلام ، وقد أصروا على تنفيذها حتى آخر لحظة من القتال ولهذا استطاعوا أن يقاوموا في وجه الجيش الاسلامي مدة شهر واحد تقريبا بحيث كانت محاولة فتح كل حصن من تلك الحصون تستغرق عشرة أيام دون نتيجة.

متاريس اليهود تتهاوى :

كانت هناك نقطة لا تحظى بأهمية تذكر من الناحية العسكرية وكان مقاتلو اليهود يسيطرون عليها سيطرة كاملة ، ولم يكن فيها أي مانع من استهداف مخيم المسلمين ورميها من جانب العدو.

ولهذا جاء أحد المقاتلين المسلمين الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وهو « محمّد بن مسلمة » وقال له :

يا رسول اللّه صلّى اللّه عليك ، إنك نزلت منزلك هذا فان كان عن أمر ( الهي ) امرت به فلا نتكلم فيه ، وان كان الرأي تكلمنا؟ يا رسول اللّه دنوت من الحصن ، وإن أهل النطاة مرتفعون علينا وهو أسرع لانحطاط نبلهم فتحوّل يا رسول اللّه الى موضع بريء من النخل والبناء حتى لا ينالنا نبلهم.

ص: 392

فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وهو يراعي واحدا من مبادئ الاسلام العظيمة ( الشورى ) واحترام الآخرين : « بل هو الرأي ، انظر لنا منزلا بعيدا من حصونهم ، بريئا من الوباء نأمن فيه بياتهم » ، فطاف محمّد حتّى انتهى إلى الرجيع ( وهو واد بقرب خيبر ) ثم رجع الى النبي صلی اللّه علیه و آله ليلا فقال : وجدت لك منزلا ، فأمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فحولت خيمة القيادة عند المساء إلى ذلك المكان الاكثر أمانا من بيات اليهود وغدرهم فكان النبي يغدو كل يوم فيقاتل أهل النطاة يومه إلى الليل ثم إذا أمسى رجع الى الرجيع حيث غرفة القيادة ، وكان يناوب بين أصحابه في حراسة الليل في مقامه بالرجيع سبعة أيام (1).

على أنه لا يمكن البتّ في تفاصيل واقعة خيبر ولكن المستفاد من المصادر التاريخية هو أن جنود الاسلام حاصروا القلاع والحصون حصنا تلو حصن ، وحاولوا قطع ارتباط الحصن المحاصر ببقية الحصون تم فتحه ، ثم محاصرة حصن آخر.

ولقد تم فتح هذه الحصون ببطء لأنها كانت مرتبطة ببعضها بارتباط سرّي ، أو كان المقاتلون يدافعون عنها دفاعا مستميتا ، ولكن الحصون التي كان الرعب والخوف يسيطر على مقاتليها وحرّاسها ، أو التي ينقطع ارتباطها بالخارج بصورة كاملة كان يتم السيطرة عليها بسهولة ، وتسفك فيها دماء أقلّ ، ويتقدم العمل فيها بسرعة اكبر.

وان أول حصن فتح على أيدي المسلمين بعد شيء كبير من الجهد - كما يذهب إليه جمع من المؤرخين - هو حصن « ناعم ». ولقد استشهد في فتح هذا الحصن أحد المقاتلين المسلمين البارزين ، يدعى « محمود بن مسلمة » الانصارى ، وجرح خمسون رجلا من مقاتلي الإسلام ، فقد استشهد الفارس المذكور بعد أن رماه اليهود بصخرة كبيرة من فوق الحصن فقتل من فوره ، وقيل إنه توفي بعد ثلاثة أيام - حسب رواية ابن الاثير في اسد الغابة (2) ونقل الجرحى الخمسون إلى

ص: 393


1- السيرة الحلبية : ج 3 ص 39.
2- اسد الغابة : ج 4 ص 334.

منطقة اخرى من المعسكر خصصت لغرض التضميد (1) ، كما انه سمح لبعض نساء بني غفار بأن يأتين الى « خيبر » لمساعدة المسلمين وتضميد الجرحى وتقديم غير ذلك من الخدمات التي يليق بهن في المعسكر ، وقد أظهرت تلك النسوة من أنفسهن تفانيا ، وتضحية عجيبة (2).

ولقد رأت الشورى العسكرية الاسلامية أن يعمد المقاتلون المسلمون - بعد فتح حصن « ناعم » إلى فتح حصن « القموص » الذي كان يرأسه أبناء « أبي الحقيق » ، ولقد فتح هذا الحصن بفضل تفاني جنود الاسلام ، وأسرت منه « صفية بنت حيي بن أخطب » التي صارت فيما بعد من زوجات رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

ولقد قوّى هذان الانتصاران العظيمان معنوية الجنود المسلمين وألقى رعبا شديدا في نفوس اليهود ولكن المسلمين وقعوا في مخمصة شديدة بسبب قلّة المواد الغذائية بحيث اضطروا إلى أن يأكلوا من بعض الانعام المكروهة اللحم ، وقد كان هناك بين حصون اليهود حصن مملوء طعاما الاّ أن المسلمين لم يظفروا به حتى ذلك الحين.

التقوى في ظروف المخمصة الشديدة :

في مثل هذه الحالة التي كان قد استولى فيها جوع شديد على المسلمين ، اضطروا معه إلى تناول لحوم ما كره أكله من الأنعام أتى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله راع أجير لليهود يرعى لهم غنمهم ، ورسول اللّه محاصر لبعض حصون خيبر فقال : يا رسول اللّه اعرض عليّ الاسلام ، فعرضه عليه ، فأسلم ، وكان رسول اللّه لا يحقّر أحدا أن يدعوه إلى الاسلام ويعرضه عليه - فلما أسلم قال : يا رسول اللّه اني كنت أجيرا لصاحب هذه الغنم وهي أمانة عندي فكيف أصنع بها؟ فقال له رسول اللّه

ص: 394


1- السيرة الحلبية : ج 3 ص 40.
2- السيرة النبوية : ج 3 ص 342.

صلی اللّه علیه و آله أمام عيون المئات من جنوده الجياع :

« أخرجها من العسكر ثم صح بها وارمها بحصيات فإنّ اللّه عزّ وجلّ سيؤدّي عنك أمانتك ».

ففعل الراعي ما أمره به رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وخرجت الغنم إلى صاحبها حتى دخلت الحصن كأنّ سائقا يسوقها ، وقد قاتل ذلك اليهودي إلى جانب المسلمين حتى استشهد (1).

أجل لم يكتسب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لقب « الامين » من قومه في فترة شبابه فقط بل كان أمينا في جميع الحالات والظروف وهو القائل :

« ما من شيء كان في الجاهلية إلاّ هو تحت قدمي إلا الامانة فانها مؤداة إلى البر والفاجر » (2) ، وقد بقي تردد القطعان حرا طوال مدة الحصار ولم يفكر ولا واحد من المسلمين بأخذ غنم منها لأنهم تعلّموا الأمانة والتقوى والصدق والورع من معلّمهم الاكبر « محمّد » الصادق الأمين صلی اللّه علیه و آله .

نعم غلب الجوع الشديد على العسكر ذات يوم حتى كادوا أن يهلكوا فأمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بأن تؤخذ شاتان من غنم اليهود اضطرارا ، واطلق البقية لتدخل الحصن بامان (3) ، ولو لا ذلك الاضطرار الذي يباح معه المحذور بقدره لما سمح رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بذلك ، ولما رأى جوع أصحابه وتضوّرهم من شدّة السغب دعا قائلا :

« اللّهم انّك قد عرفت حالهم وان ليست بهم قوة ، وان ليس بيدي شيء اعطهم إياه فافتح عليهم أعظم حصونها عنهم غناء ، وأكثرها طعاما » (4).

ص: 395


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 344 و 345. امتاع الاسماع : ج 1 ص1. 313.
2- مجمع البيان : عند تفسير قول اللّه تعالى : « وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ ... ».
3- السيرة النبوية : ج 1 ص 335 - 336.
4- السيرة النبوية : ج 2 ص 322.

ولم يكن يأذن لاحد من المسلمين بأن يأخذ شيئا من اموال الناس ابدا.

في ضوء كل هذا تتضح دسائس جماعة من المستشرقين في تاريخنا المعاصر فهم يصرّون على القول بأن غزوات الاسلام ومعاركه كانت للإغارة وجمع الغنائم ومصادرة الأموال والسيطرة عليها وان جنوده لم يكونوا يتقيّدون خلال تلك المعارك بمبادئ العدالة والامانة ، وذلك كيد منهم للاسلام ، ومحاولة بغيضة للحط من قيمة الاهداف الاسلامية العليا ، وتشويهها.

ولكن النموذج المذكور هنا ، وأمثاله ممّا يعدّ بالعشرات في صفحات التاريخ الاسلامي تشهد بكذبهم ، فإن النبي صلی اللّه علیه و آله لم يأذن وهو في أشدّ الظروف وأصعبها وجنوده الاوفياء قد غلبهم الجوع ودنوا من الهلاك ، بأن يخون راع في أغنام كان يرعاها ليهودي ، بل أمره بردّها إلى صاحبه وهو في قتال مع اليهود على حين كان يمكنه مصادرتها جملة واحدة.

فتح الحصون الواحد تلو الآخر :

بعد فتح القلاع المذكورة حمل جنود الإسلام على حصن الوطيح ، وسلالم ، ولكنهم واجهوا مقاومة عنيفة من اليهود الذين كانوا يدافعون عنها خارجها ، من هنا لم يستطع جنود الاسلام الأبطال رغم كل التضحيات التي ذكرها كاتب السيرة المعروف ابن هشام في موضع خاص من سيرته - ان يحرزوا انتصارا بل ظلوا يجالدون مقاتلي اليهود أكثر من عشرة أيام ، ولكنهم كانوا يعودون في كل يوم إلى مقرّهم من دون نتيجة.

وذات يوم بعث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أبا بكر واعطاه رايته البيضاء على رأس جماعة من المقاتلين المسلمين لفتح بعض حصون خيبر ، ولكنه رجع ولم يكن فتح وكل من الامير والجنود يلقي باللوم على الآخر ، ويتهمه بالجبن والفرار.

فبعث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في يوم آخر « عمر بن الخطاب » على

ص: 396

رأس جماعة اخرى فكان كرفيقه إذ رجع ولم يحقق فتحا ، بل عاد - حسب ما يروي الطبري - (1) فزعا مرعوبا وهو يصف شجاعة مرحب وقوّته البالغة ، فأغضب هذا العمل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وفرسان الاسلام الابطال وقادة الجيش الاسلامي ، فجمع رسول اللّه صناديد جيشه وقال :

« لاعطينّ الراية غدا رجلا يحبّ اللّه ورسوله ويحبّه اللّه ورسوله يفتح على يديه ليس بفرّار » أو : « كرار غير فرار » حسب نقل الطبري والحلبي (2).

وقد أثارت هذه الجملة الخالدة الحاكية عن فضيلة وشجاعة وتفوّق ذلك الفارس الذي قدر أن يكون الفتح على يديه وتميّزه المعنوي على غيره موجة من الفرح الممزوج بالاضطراب بين أفراد الجيش وقادته الشجعان.

فقد بات كل واحد منهم يتمنى أن يكون هو صاحب هذا النوط الخالد والعظيم ، وان تصيب القرعة اسمه.

ولما بلغ عليا علیه السلام مقالة النبي صلی اللّه علیه و آله هذه وهو في خيمته قال :

« اللّهم لا معطي لما منعت ولا مانع لما أعطيت » (3).

غطّى ظلام الليل كل مكان ، وذهب جنود الاسلام إلى أماكن نومهم ، وبينما بقي الحراس يتحارسون طوال الليل ، ويرصدون أوضاع العدوّ الغادر

ص: 397


1- تاريخ الطبري : ج 2 ص 300.
2- مجمع البيان : ج 9 ص 120 ، السيرة الحلبية : ج 2 ص 37 ، السيرة النبوية : ج 3 ص 334 أمتاع الاسماع : ج 1 ص 314 ولقد انزعج المؤرخ الاسلامي المعروف ابن أبي الحديد من فرار هاتين الشخصيتين فقال في ضمن قصيدة له : وما أنس لا أنس اللّذين تقدّما *** وفرّهما والفرّ قد علما حوب وللراية العظمى وقد ذهبا بها *** ملابس ذلّ فوقها وجلابيب يشلّهما من آل موسى شمر دل *** طويل نجاد السيف أجيد يعبوب ( الغدير : ج 7 ص 201 اقتباسا من القصائد العلويات ).
3- السيرة الحلبية : ج 2 ص 35.

وتحركاته.

وعند الصباح ومع طلوع الشمس التي شقت بأشعتها رداء الظلام ، وأضاءت السهل والجبل ، تجمّع قادة الجيش الاسلامي وصناديده وأبطاله وغيرهم من الرجال وفيهم الاميران المنهزمان بالأمس حول رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وهم يريدون بشوق بالغ أن يعرفوا من سيعطيه الراية اليوم ، وقد تطاول لها أبو بكر وعمر (1).

ولم يطل هذا الانتظار ، فقد كسر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله جدار الصمت هذا عند ما قال : « اين علي »؟!

فقيل يا رسول اللّه به رمد ، وهو راقد بناحية.

فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله :

« ائتوني بعليّ » (2)

إنّ هذه العبارة تكشف عن أن ما أصاب عليا علیه السلام من الرمد كان من الشدة بحيث سلبه القدرة على المشي ، وعاقه عن الحركة.

فأمرّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يده الشريفة على عيني علي علیه السلام ودعا له بخير ، فعوفي من ساعته ، واستعادت عيناه علیه السلام سلامتها افضل ممّا كانت بحيث لم يرمد علیه السلام حتى آخر حياته بفضل تلك المسحة النبوية المباركة.

ثم دفع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله اللواء إلى عليّ علیه السلام ودعا له بالنصر كما أنه أمره بأن يبعث إلى اليهود قبل قتالهم من يدعو رؤساء الحصون الى الاسلام ، فإن أبوا اعتناق الاسلام أخبرهم بوظائفهم في ظل الحكومة الاسلامية وأن عليهم أن يسلّموا أسلحتهم إلى الحكومة الاسلامية ، ويعيشوا بحرية وأمان

ص: 398


1- هذه هي عبارة الطبري : ج 2 ص 300 ، كنز العمال : ج 6.
2- بحار الأنوار : ج 21 ص 28 و 29 ، تاريخ الخميس : ج 2 ص 49.

تحت ظل هذه الحكومة شريطة أن يدفعوا الجزية (1).

واذا رفضوا ذاك وهذا قاتلهم ، ثم قال لعلي الذي أوكل إليه قيادة تلك المجموعة :

« لئن يهدي اللّه بك رجلا واحدا خير من أن يكون لك حمر النعم » (2).

أجل إن النبي الاكرم صلی اللّه علیه و آله يفكّر في هداية الناس حتى في أشد لحظات الحرب ، وهذا يفيد بأن جميع حروب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كانت لهداية الناس لا غير.

الانتصار الكبير في خيبر :

عند ما كلّف عليّ علیه السلام من جانب النبي صلی اللّه علیه و آله بفتح قلعتي سلالم والوطيح ( وهما الحصنان اللذان عجز عن فتحهما الأميران السابقان ووجها بفرارهما ضربة لا تجبر إلى شرف الجيش الاسلامي ) ، ارتدى درعا قويا وحمل معه سيفه الخاص ذا الفقار وراح يهرول بشجاعة منقطعة النظير نحو القلعتين المذكورتين ، والجند خلفه ، حتى ركز الراية التي أعطاها له رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على الأرض تحت الحصن.

ولما رأى اليهود انه دنا من الحصن خرج إليه كبار صناديدهم.

وكان أول من خرج إليه أخو مرحب ويدعى « الحارث » فتقدم إلى عليّ وصوته يدوي في ساحة القتال بحيث تأخر من كان خلف عليّ من شدة الفزع (3).

ولكن لم يمض زمان حتى سقط الحارث على الارض جثة هامدة بضربة قاضية من علي علیه السلام .

ص: 399


1- صحيح مسلم : ج 5 ص 195 ، صحيح البخاري : ج 5 ص 18.
2- السيرة الحلبية : ج 2 ص 37.
3- امتاع الاسماع : ج 1 ص 314 قال : فانكشف المسلمون وثبت علي.

فغضب مرحب بطل خيبر المعروف لمقتل أخيه الحارث وخرج من الحصن وهو غارق في السلاح ، فقد لبس درعا يمانيا ، ووضع على رأسه خوذة منحوتة من حجارة خاصة ، وتقدم الى عليّ علیه السلام كالفحل الصؤول يرتجز ويقول :

قد علمت خيبر أني مرحب *** شاكي السلاح بطل مجرب

إن غلب الدهر فاني أغلب *** والقرن عندي بالدما مخضّب(1)

فأجابه علي علیه السلام مرتجزا وقد أظهر للعدو شخصيته العسكرية في رجزه :

أنا الّذي سمّتني امّي حيدرة *** ضرغام آجام وليث قسورة

عبل الذراعين غليظ القيصرة *** كليث غابات كريه المنظرة

وبعد أن انتهى الطرفان من إنشاد رجزهما تبادلا الضربات بالسيوف والرماح ، فألقت قعقعة السيوف وصوت الرماح رعبا عجيبا في قلوب المشاهدين ، وفجأة هبط سيف بطل الاسلام القاطع على المفرق من رأس « مرحب » بطل اليهود قدّت خوذته نصفين ونزلت على رأسه وشقته نصفين الى أسنانه!!

ولقد كانت هذه الضربة من القوة بحيث افرعت أكثر من خرج مع « مرحب » من أبطال اليهود وصناديدهم ففروا من فورهم ، ولجئوا إلى الحصن ، وبقي جماعة فقاتلوا عليا منازلة فقاتلهم حتى قتلهم جميعا ، ثم لاحق الفارين منهم حتى باب الحصن ، فضربه عند الحصن رجل من اليهود فطاح ترسه من يده فتناول علیه السلام بابا كان على الحصن وانتزعه من مكانه ، فترس به عن نفسه فلم يزل ذلك الباب في يده وهو يقاتل حتى فتح اللّه على يديه ثم القاه من يده حين فرغ ، وقد حاول ثمانية من أبطال الاسلام ومنهم أبو رافع مولى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن يقلبوا ذلك الباب أو يحركوه من مكانه فلم يقدروا على ذلك (2).

ص: 400


1- يروى ابن هشام في سيرته أشعار مرحب بصورة اخرى : ج 2 ص 332.
2- تاريخ الطبري : ج 2 ص 94 ، سيرة ابن هشام : ج 2 ص 349 ، تاريخ الخميس : ج 2 ص 47 - 50.

وهكذا فتحت القلعة التي عجز عن فتحها المسلمون عشرة أيام ، في مدة قصيرة على يد بطل الاسلام الأول « علي بن أبي طالب » علیه السلام .

ويقول اليعقوبي في تاريخه : ان الباب الذي قلعه علي علیه السلام كان من الصخر وكان طوله أربعة اذرع وعرضه ذراعين (1).

ويقول الشيخ المفيد في ارشاده بسند خاص عن امير المؤمنين قصة قلعه ذلك الباب :

« لما عالجت باب خيبر جعلته مجنّا لي فقاتلتهم به ، فلما أخزاهم اللّه وضعت الباب على حصنهم طريقا ثم رميت به في خندقهم ، ولما قال له رجل : لقد حملت منه ثقلا قال علیه السلام :

« ما كان إلاّ مثل جنّتي التي في يدي في غير ذلك المقام » (2).

وقد نقل المؤرخون قضايا عجيبة حول قلع باب خيبر هذا وخصوصياته ومواصفاته ، وعن بطولات علي علیه السلام في فتح هذا الحصن ، وجميعها لا تتمشى ولا تتيسر مع القدرة البشرية المتعارفة ، ولا يمكن أن تصدر منها.

ويقول علي علیه السلام نفسه في هذا الصدد ما يرفع كل شك وإبهام قد يعترض المرء في هذا المجال :

« ما قلعتها بقوّة بشريّة ولكن قلعتها بقوة إلهية ونفس بلقاء ربّها مطمئنة رضية » (3).

تحريف الحقائق :

لو أننا أردنا أن نلتزم بحدود الحق والانصاف لوجب أن نقول انّ « ابن هشام » في سيرته و « الطبري » في تاريخه ذكرا قصة مبارزة علي علیه السلام في يوم

ص: 401


1- تاريخ اليعقوبي : ج 2 ص 46.
2- الارشاد : ص 62 - 65.
3- بحار الأنوار : ج 21 ص 40.

خيبر بصورة مفصلة ، ونقلوا تفاصيلها بصورة دقيقة ، ولكنهما ذكرا في نهاية بحثهما التاريخي قصة خيالية لا أساس لها وهي وان مرحبا قتل على يدي « محمّد بن مسلمة » وقالوا : ويرى البعض أن مرحبا اليهودي قتله محمّد بن مسلمة انتقاما لأخيه الذي قتل عند فتح حصن « ناعم » على أيدي اليهود ، فقد كلّفه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بقتال مرحب فبرز إليه ، فقتله.

إن هذا الاحتمال من الوهن والبطلان بحيث لا يقاوم التاريخ الاسلاميّ المسلم والمتواتر ، هذا مضافا إلى أن هذه الاسطورة التاريخية تعاني من اشكالات ، ومؤاخذات نذكرها للقارئ الكريم :

1 - ان محمّد بن مسلمة لم يكن بذلك الرجل الشجاع ، والبطل الصنديد الذي تؤهله شجاعته لأن يكون فاتح خيبر وقاتل بطلها الاكبر ، فإن التاريخ لا يذكر عنه نموذجا بارزا من بطولته وشجاعته ، إنما كلّف في السنة الثالثة من جانب النبي صلی اللّه علیه و آله فقط بأن يغتال « كعب بن الاشرف » الذي حرّك المشركين والهم ضد الاسلام والمسلمين بعد معركة بدر الكبرى ، وقد بقي ثلاثة أيام بلياليها لا يطعم شيئا خوفا ، فأنكر عليه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله خوفه وسأله عن سبب ذلك فقال : يا رسول اللّه قلت لك قولا لا أدري هل أفينّ به أم لا؟

فلما رأى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله منه ذلك أرسل معه أربعة رجال آخرين ليعينوه في هذه المهمّة ، ويتخلصوا من « كعب » الذي كان يريد إعادة القتال بين المسلمين والمشركين.

فخرجوا إليه في منتصف الليل وقتلوا عدوّ اللّه كعبا وفق خطة خاصة ولكن « محمّد بن مسلمة » جرح أحد رفاقه من شدة الخوف والوحشة التي اصابته ، ولا شك أن صاحب مثل هذه النفسية لا يمكنه أن يبارز صناديد « خيبر » المعروفين وينازلهم.

2 - ان فاتح « خيبر » لم يقاتل مرحبا ويقتله وحده ، بل قاتل بعد مصرع مرحب من كانوا قد جاءوا معه إلى ساحة القتال من شجعان اليهود فلاحق

ص: 402

الفارّين ، ونازل الذين بقوا ولم يفرّوا.

وإليك أسماء من بقوا في ساحة القتال وقاتلوا عليا علیه السلام بعد قتله مرحبا :

1 - داود بن قابوس.

2 - ربيع ابن أبي الحقيق.

3 - أبو البائت.

4 - مرة بن مروان.

5 - ياسر الخيبري.

6 - ضحيج الخيبري.

وكل هؤلاء كانوا من صناديد اليهود وابطالهم ، وكانوا يقاتلون خارج حصن خيبر ويمنعون من أية محاولة لفتح قلاع اليهود في هذه الوقعة.

إن هؤلاء الستة قتلوا على يد علي بن أبي طالب علیه السلام وهم يرتجزون في ساحة القتال ويطلبون المبارز والمناجز (1).

فمن يكون والحال هذه فاتح « خيبر » وقاتل مرحب؟

إذا كان « محمّد بن مسلمة » فانه لا يمكن أن يعود بعد قتل مرحب إلى معسكر المسلمين ويتجاهل اولئك الأبطال خلف مرحب بل لا بد أن يقاتلهم ، في حين اتّفقت كل السير والتواريخ على أن هؤلاء قتلوا جميعا على يد علي بن أبي طالب علیه السلام .

3 - ان هذه الاسطورة التاريخية تتنافى مع الحديث المنقول عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فانه صلی اللّه علیه و آله قال في حق علي علیه السلام : « يفتح اللّه على يديه » مع العلم بأن المانع الاكبر من فتح خيبر كان هو مرحب الذي أجبرت شجاعته الأميرين السابقين على الفرار ، فاذا كان قاتل مرحب هو

ص: 403


1- ناسخ التواريخ : ج 2 ص 282 - 286.

« محمّد بن مسلمة » لزم أن يقول رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله جملته هذه في حق « محمّد بن مسلمة » لا في حق « علي » علیه السلام الذي أعطاه الراية بعد أن قال تلك الجملة : « يفتح اللّه على يديه ».

يقول الحلبي كاتب السيرة المعروف : قيل : القاتل له ( اي لمرحب ) علي كرم اللّه وجهه وبه جزم مسلم رحمه اللّه في صحيحه. قال بعضهم : والاخبار متواترة به وقال ابن الاثير : الصحيح الذي عليه أهل السير والحديث أن عليا قاتله كرم اللّه وجهه (1).

ولقد وقع الطبري في تاريخه ، وابن هشام في سيرته في شيء من الاضطراب والفوضى وكتبا قصة هزيمة ورجوع الرجلين اللذين كلّفا قبل علي علیه السلام بفتح قلاع اليهود بصورة لا تتفق مع مفهوم الجملة التي قالها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في حق علي علیه السلام .

فقد قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في حقه : « وليس بفرّار » (2) يعني أن الذي سوف يعطيه الراية لا يفر أبدا ، ومفهوم هذه الجملة هو أن عليا علیه السلام لا يفرّ ولا يجبن أمام العدوّ كما فر القائدان السابقان ، وهذا يعني أن القائدين السابقين فرّا أمام العدوّ ، وأخليا الساحة ، في حين أن الكاتبين المذكورين لا يذكران مسألة فرار القائدين المذكورين ، وإنما يكتبان رجوعهما كما لو أنهما قد أدّيا وظيفتهما القتالية والعسكرية على الوجه الكامل ، ولكنّهما لم يوفقا للفتح (3).

ثلاث نقاط مشرقة في حياة علي علیه السلام :

ونختم هذا البحث بذكر ثلاث فضائل لفاتح خيبر ذكرها أحد خصومه لها ارتباط بموقفه علیه السلام في خيبر :

ص: 404


1- السيرة الحلبية : ج 3 ص 38 ، وراجع زاد المعاد : ج 2 ص 134 و 135.
2- المغازي : ج 2 ص 653.
3- السيرة النبوية : ج 3 ص 349.

أمر معاوية سعد بن أبي وقاص يوما فقال : ما منعك ان تسبّ أبا التراب؟

فقال : أمّا ما ذكرت ثلاثا قالهنّ له رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فلن أسبّه لأن تكون لي واحدة منهنّ أحبّ إليّ من حمر النعم.

ثم أخذ سعد في عدّ تلك المناقب فقال :

1 - سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه [ وآله ] وسلّم يقول له خلّفه في بعض مغازيه فقال له علي : يا رسول اللّه خلّفتني مع النساء والصبيان؟

فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه [ وآله ] وسلّم.

« أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ، إلاّ أنه لا نبوة بعدي » (1).

2 - وسمعته يقول يوم خيبر :

لاعطين الراية رجلا يحبّ اللّه ورسوله ويحبه اللّه ورسوله. قال فتطاولنا لها فقال : ادعوا لي عليا. فاتي به أرمد فبصق في عينه ، ودفع الراية إليه ، ففتح اللّه عليه (2).

3 - ولما نزلت هذه الآية « فقل تعالوا ندع ابناءنا وابناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل ... » دعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه [ وآله ] وسلّم عليّا وفاطمة وحسنا وحسينا فقال :

« اللّهم هؤلاء أهل بيتي » (3) (4).

عوامل الانتصار :

اشارة

فتحت حصون « خيبر » ، واستسلم اليهود للمسلمين بشروط خاصة ، ولكن يجب أن نرى ما هي العوامل التي ادت إلى هذا الانتصار ، فهذا هو في الحقيقة

ص: 405


1- وهي اشارة إلى واقعة تبوك.
2- وهي اشارة إلى واقعة خيبر.
3- وهي اشارة إلى قصة مباهلة النبي نصارى نجران.
4- صحيح مسلم : ج 7 ص 120.

النقاط الهامة في هذا القسم.

إن انتصار المسلمين الساحق في هذه الغزوة يعود إلى عوامل يمكن الاشارة إليها على نحو الاجمال ثم شرحها بالتفصيل في ما بعد.

1 - التخطيط العسكري والتكتيك الحربي الدقيق.

2 - تحصيل المعلومات ومعرفة أسرار العدو الداخلية.

3 - تفاني الامام علي بن أبي طالب ، وبطولته النادرة. وهنا نحن ندرس هذه الامور الثلاثة على وجه التفصيل :

1 - التخطيط والتكتيك العسكري الدقيق :

لقد هبط الجيش الاسلامي في منطقة قطع بها المسلمون ارتباط اليهود باصدقائهم القدامى ( قبائل غطفان ).

وقد كان بين قبائل غطفان فرسان كثيرون ، ولو استطاعوا أن يعينوا اليهود في هذه الموقعة لما أمكن فتح حصون خيبر.

فان « غطفان » لما سمعت بمسير رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى خيبر خرجوا ليظاهروا اليهود عليه ، ولكنهم ما أن سمعوا الشائعة التي مفادها أن أصحاب محمّد قد قصدوهم من طريق آخر ظنوا انهم سيهاجمون أموالهم وأهليهم فرجعوا من منتصف الطريق على أعقابهم ، وأقاموا في أهليهم وأموالهم وخلّوا بين رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وبين « خيبر ».

يقول المؤرخون : إن هذه الشائعة كانت نتيجة نداء غيبيّ سمعه رجال غطفان فظنوا أن المسلمين داهموا أهليهم (1) ولكنه ليس من المستبعد أن تكون هذه الشائعة من فعل المسلمين المتسترين من قبائل غطفان ، والذين امروا بأن يتظاهروا بالكفر ، ويبقوا في قبائلهم حتى يعينوا إخوانهم المسلمين في اللحظات

ص: 406


1- المغازي : ج 2 ص 651 - 653.

المناسبة.

فخططوا لهذه الموقعة بمهارة كبيرة وكانوا في ذلك ناجحين جدا الى درجة أنّه تسبب في أن تعدل إمدادات غطفان العسكرية لليهود من مواصلة مسيرها إلى « خيبر » ، والعودة إلى أهليهم وترك اليهود وشأنهم.

وقد سبق لهذا نظير في معركة « الاحزاب » يوم امتنعت قبائل غطفان عن نصرة اليهود بسبب شائعة بثها بينهم رجل من المسلمين من بني غطفان يدعى « نعيم بن مسعود » ، وتفرّق على أثره جماعة الاحزاب ، وانفرط عقدهم.

2 - تحصيل المعلومات حول العدوّ :

لقد كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كما أسلفنا مرارا يولي تحصيل المعلومات ومعرفة أسرار العدو ، أهمية كبيرة.

ولهذا بعث قبل محاصرة « خيبر » طليعة من المسلمين وأمّر عليهم « عبّاد بن بشر » ووجّههم إلى « خيبر » ، فالتقوا بيهودي قرب حصون « خيبر » ، وبعد التحقيق معه تبين أنه عين لليهود يتجسّس لهم الاخبار فأخذوه إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فسأله عن أوضاع اليهود في حصون « خيبر ».

فقال : أفتؤمنني يا أبا القاسم على أن اصدقك؟ فأمّنه عباد.

فقال اليهودي : القوم مرعوبون منكم خائفون وجلون لما قد صنعتم بمن كان بيثرب.

ثم قال : خرجت من حصن « النطاة » من عند قوم ليس لهم نظام تركتهم يتسلّلون من الحصن في هذه الليلة الى « الشق » وقد رعبوا منك حتى أنّ أفئدتهم لتخفق ، فاذا دخلت الحصن غدا وأنت تدخله ، قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : إن شاء اللّه ، قال اليهودي إن شاء اللّه أوقفك على حصن اليهود الذي فيه منجنيق مفلكة ودبابتان وسلاح من دروع وبيض وسيوف ، فانصب المنجنيق على حصن الشق وتدخل الرجال تحت الدّبابتين فيحفرون الحصن فتفتحه من

ص: 407

يومك (1).

إن النبي صلی اللّه علیه و آله وإن لم يستخدم هذه الادوات التخريبية إلاّ أن المعلومات التي وقف عليها من ذلك اليهودي الأسير كانت مهمة لأنّها أوضحت نقطة الحملة غدا ، وعرف النبي صلی اللّه علیه و آله أن التغلّب على حصن « النطاة » لا يحتاج الى قوة كبيرة ، وأنه لا بدّ من رعاية المزيد من الحيطة والحذر عند فتح حصن « الشق ».

نموذج آخر : عند فتح إحدى القلاع أتى يهودي إلى النبي صلی اللّه علیه و آله بعد ثلاثة أيام مضت على محاصرتها وقال - ولعلّه لتخليص نفسه - : إنك لو اقمت شهرا ما بالوا ، لهم جدول تحت الأرض يخرجون بالليل فيشربون بها ثم يرجعون إلى قلعتهم فيمنعون منك ، فان قطعت مشربهم عليهم ضجهم.

وفي رواية أن النبي صلی اللّه علیه و آله لم يوافق على قطع الماء عن العدو (2).

وفي اخرى ؛ قطع عليهم مشاربهم موقتا فلم يطيقوا المقام على العطش (3).

3 - تفاني امير المؤمنين :

ولقد ذكرنا تغاني علي بن أبي طالب ، وبطولته في هذه الموقعة بصورة مجملة ، وها نحن ننقل عبارة قالها هو علیه السلام عن هذه المسألة :

وردنا مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله خيبر على رجال من اليهود وفرسانها من قريش وغيرها ، فتلقونا بأمثال الجبال من الخيل والرجال والسلاح ، وهم في أمنع دار وأكثر عدد ، كل ينادي ويدعو ويبادر إلى القتال ، فلم يبرز إليهم من أصحابي أحد إلا قتلوه حتى احمرّت الحدق ، ودعيت إلى النزال ، وأهمّت كل امرئ نفسه ، والتفت بعض أصحابي إلى بعض وكل يقول : يا أبا الحسن انهض.

ص: 408


1- السيرة الحلبية : ج 3 ص 35.
2- ناسخ التواريخ : ج 2 ص 299. المصدر السابق ص 40.
3- الخصال : ص 369.

فأنهضني رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى دارهم فلم يبرز إليّ أحد منهم إلا قتلته ، ولا يثبت لي فارس إلاّ طحنته ، ثم شددت عليهم شدّة الليث على فريسته حتى أدخلتهم جوف مدينتهم مسدّدا عليهم فاقتلعت باب حصنهم بيدي حتى دخلت عليهم مدينتهم وحدي أقتل من يظهر فيها من رجالها ، وأسبي من أجد من نسائها حتى افتتحتها وحدي ولم يكن لي فيها معاون إلاّ اللّه وحده (1).

الرحمة في ساحة القتال :

عند ما افتتح حصن « القموص » سبيت « صفيّة بنت حيي بن أخطب » وامرأة اخرى ، فمر بهما « بلال » على القتلى فصاحت صفية صياحا شديدا جزعة ممّا رأت ، فكره رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ما صنع بلال وقال صلی اللّه علیه و آله :

« أذهبت منك الرحمة؟ تمر بجارية حديثة السنّ على القتلى؟ ».

فقال بلال : يا رسول اللّه ما ظننت أنك تكره ذلك ، وأحببت أن ترى مصارع أهلها (2).

ولم يكتف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بهذا القدر من تطييب خاطر « صفيّة » بل احترمها ، وعيّن لها مكانا خاصا للاستراحة في المعسكر ، واختارها زوجة لنفسه ، وبهذا الطريق أزال آثار ذلك الصنيع السيئ الذي قام به بلال.

لقد تركت أخلاق رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وتعامله الانساني الرفيع مع « صفية » أثرا حسنا في نفسها ، فقد صارت في ما بعد من أزواج النبي صلی اللّه علیه و آله الوفيّات المخلصات ، وقد حزنت عند وفاته ، وبكت له أكثر من بقية ازواجه (3).

ص: 409


1- الخصال : ص 369 باب السبعة.
2- المغازي : ج 2 ص 673 ، تاريخ الطبري : ج 3 ص 302.
3- تاريخ الطبري : ج 2 ص 302.

مصرع كنانة بن الربيع :

منذ أن أجلي « بنو النضير » عن المدينة وسكنوا « خيبر » أحدثوا صندوقا لجمع الأموال لإدارة شئونهم العامة ، ولسد نفقات الحروب ، ولإعطاء دية كل من كان يقتل من بني النضير.

فبلغ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن هذا الكنز وهذه الأموال قد أودعت عند « كنانة بن الربيع » زوج « صفية » ، فلما افتتح صلی اللّه علیه و آله خيبر طلب الربيع وسأله عن كنز اليهود ، فأنكر ذلك فأمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بحبسه ، ثم عرف بعد التحقيق من اليهود ، بمكان ذلك الكنز ، وقد كان بخربة ، إذ قال له يهودي إني رأيت كنانة يطيف بهذه الخربة كل غداة أيام الحرب فأمر رسول اللّه بالخربة فحفرت فاخرج منها بعض ذلك الكنز ، فسأل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله « كنانة » عما بقي فأبي أن يؤديه أو يخبر بموضعه ، فدفعه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى محمّد بن مسلمة فضرب عنقه قصاصا لأخيه الذي قتل في وقع خيبر « محمود بن مسلمة » والذي قتله اليهود بالقاء رحى من حجر من فوق حصونهم على رأسه ، وانما قتل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كنانة بضرب عنقه ، لتواطئه ضدّ الاسلام ، وكتمانه مثل هذا الأمر ، وتأديبا لغيره من اليهود حتى يتورعوا عن حبك المؤامرات ضد رسول الاسلام وضدّ أصحابه ، وضدّ الحكومة الاسلامية ، وكان « كنانة » آخر من قتل من يهود خيبر (1).

تقسيم غنائم الحرب :

بعد افتتاح حصون « خيبر » ، وتجريد العدو من كل أسلحته ، وجمع الغنائم أمر

ص: 410


1- السيرة النبوية : ج 3 ص 337 ، بحار الأنوار : ج 21 ص 33.

رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بأن تجمع الغنائم كلها في مكان واحد ، ثم أمر صلی اللّه علیه و آله رجلا بأن ينادي في الناس :

« أدّوا الخيط والمخيط ، فانّ الغلول عار وشنار ونار يوم القيامة » (1).

ولقد شدّد قادة الاسلام وائمته الحقيقيون على أهميّة الامانة تشديدا بالغا حتى أنهم اعتبروا ردّ الامانة - مهما صغرت ودقت - من علائم الايمان ، والخيانة وعدم ردّها من علائم النفاق.

من هنا عند ما عثر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في رحل مسلم من المقاتلين شيئا من أموال الغنيمة لم يردّها إلى بيت المال لم يصلّ على جنازة ذلك الرجل عند ما استشهد ، وإليك تفصيل هذه الحادثة.

لما انصرف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأصحابه من خيبر ومع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله غلام له ، يقوم له بشئونه ، وفيما كان ذلك يضع رحل النبي صلی اللّه علیه و آله إذ أتاه سهم لا يعلم راميه فأصابه فقتله ، فقال المسلمون : هنيئا له الجنة.

فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله :

« والّذي نفس محمّد بيده إنّ شملته (2) الآن لتحترق عليه في النار ، كان قد غلّها من فيء المسلمين يوم خيبر »!!

فسمع رجل من أصحاب النبي صلی اللّه علیه و آله هذا الكلام فأتاه وقال : يا رسول اللّه ، أصبت شراكين لنعلين لي فقال صلی اللّه علیه و آله « يقدّ لك مثلهما في النار » (3).

وهذه القصة تفضح أيضا دسائس بعض المستشرقين ، لأنهم كانوا يصفون حروب الاسلام ومعاركه العادلة بأنها كانت من أجل الاغارة على أموال الناس

ص: 411


1- وسائل الشيعة : ج باب جهاد النفس الحديث 4 ، المغازي : ج 2 ص 681.
2- الشملة كساء غليظ يلتحف به.
3- السيرة النبوية : ج 2 ص 339 ، امتاع الاسماع : ج 1 ص 323 و 324.

ومصادرتها كما يفعل قطاع الطرق ، متجاهلين عمدا وكيدا الأهداف الإنسانية والالهية العليا لهذه المعارك والغزوات ، والحال أن مثل هذه الانضباطية والنظم والورع ممّا لا يمكن تصوره في قوم همهم الاغارة والنهب والسلب.

إن قائد شعب أو قوم هذا هو همهم وهذه هي همتهم لا يمكن أبدا أن يعتبر ردّ الامانة من واجبات الدين ومن علائم الايمان ، كما لا يمكنه أن يربي أتباعه وأصحابه بمثل هذا التربية الرفيعة ، بحيث يجعله يجتنب عن سرقة صغيرة جدا مثل غلّ شراكي نعلين لا قيمة لهما تذكر.

قافلة من أرض الذكريات :

قبل أن يتوجّه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بالمسلمين الى « خيبر » بعث « عمرو بن أميّة » إلى البلاط الحبشي لغرض إيصال رسالته إلى ملك الحبشة النجاشيّ ، وليطلب منه أن يهيء المقدمات اللازمة لترحيل المسلمين المهاجرين من الحبشة الى المدينة.

فهيّأ النجاشي سفينتين لأولئك المهاجرين بعد أن جهزهم بجهاز حسن وامر لهم بكسوة ، فسارت بهم حتى وصلت إلى السواحل القريبة من المدينة.

ولما علم المسلمون بمسير رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى « خيبر » توجّهوا من فورهم الى « خيبر » فقدموا مع « جعفر بن أبي طالب » على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يوم « خيبر » بعد أن افتتحت جميع حصون اليهود وقلاعهم.

فلما رأى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله جعفر مشى في استقباله (12) خطوة ثم قبّل ما بين عينيه والتزمه وقال :

« ما أدري بأيّهما أنا اسرّ بفتح خيبر أم بقدوم جعفر؟ ».

وفي رواية اخرى قال صلی اللّه علیه و آله :

« لا أدري بأيّهما أنا أشدّ فرحا بقدومك يا جعفر أم بفتح اللّه على أخيك خيبر ». ثم إن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال لجعفر :

ص: 412

« يا جعفر ألاّ امنحك؟ ألا اعطيك ألا أحبوك؟ ».

فظن الناس أنه يعطيه ذهبا أو فضة ، فتشوّف الناس لذلك. فقال له :

أني اعطيك شيئا إن أنت صنعته في كل يوم كان خيرا لك من الدنيا وما فيها ».

ثم علمه صلی اللّه علیه و آله الصلاة المعروفة بصلاة جعفر الطيار (1).

حجم الخسائر وعدد القتلى :

لم يتجاوز عدد قتلى المسلمين في هذه الغزوة 20 شخصا ولكن قتل من اليهود أكثر من هذا بكثير ، وقد سجل التاريخ أسماء 93 رجلا منهم (2).

العفو بعد الانتصار :

المؤمنون باللّه واصحاب المروءات من البشر يعاملون العدو المنهزم المقهور عند الغلبة عليه والظفر به باللطف والحب ، ويعفون عنه ويتناسون روح الانتقام ، أجل إنهم يشملون العدو منذ استسلامه بعطفهم وحنانهم وتلك هي حقيقة اثبتتها وقائع التاريخ الحية.

وكذلك فعل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عند ما تغلب على يهود خيبر فقد عاملهم بعد الانتصار معاملة حسنة ، وشملهم بعفوه ، ولطفه رغم كل ما ارتكبوه في حق رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من ظلم وجناية وتأليب للعرب الوثنيين ضدّ الاسلام ، واشعال حروب كادت أن تودي بالحكومة الاسلامية وتستأصل المسلمين ، وتقضي على جهود رسول الإسلام.

فقد قبل بطلب اليهود بأن يسكّنهم في خيبر كما كانوا ، وأن يترك أراضيهم

ص: 413


1- فروع الكافي : ج 1 ص 129 و 130 ، الخصال : ج 2 ص 82 و 83 ، امتاع الاسماع : ج 1 ص 325.
2- بحار الأنوار : ج 21 ص 32.

وبساتينهم بأيديهم ، على أن يكون له نصف محاصيلها سنويا.

بل إن النبيّ صلی اللّه علیه و آله - كما يروي ابن هشام - هو الذي اقترح هذا الأمر على اليهود ، وترك لهم حرية التصرف في مزارعهم وأراضيهم ليغرسوا أو يزرعوا ما يريدون من الشجر (1).

لقد كان في مقدور النبي صلی اللّه علیه و آله ، كأيّ فاتح آخر ، أن يريق دمهم جميعا ، أو أن يجليهم برمتهم من أراضيهم ، أو يجبرهم على اعتناق الاسلام ، ولكنّه - خلافا لتصور زمرة مغرضة من المستشرقين ، وطلائع الاستعمار الثقافي الذين يتصوّرون ويزعمون بأن الاسلام دين القهر والقوة ، وان المسلمين أجبروا الامم والأقوام المغلوبة على ترك عقائدها ، واعتناق الاسلام لم يفعل مثل هذا العمل قط ، بل تركهم أحرارا في ممارسة شعائرهم ، والبقاء على ما كانوا يعتقدونه من اصول دينهم وفروعه.

ولم يحارب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأصحابه يهود « خيبر » إلاّ لأنّ « خيبر » قد تحوّلت إلى بؤرة خطرة للمؤامرة ، والكيد بالاسلام والمسلمين ، فقد كانوا يمدّون المشركين بكل ما يريدون للقضاء على الحكومة الاسلامية الحديثة التأسيس ، ولهذا اضطر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى مقاتلتهم ، وتجريدهم من أسلحتهم ، حتى يعيشوا تحت ظل الحكومة الاسلامية بمنتهى الحرية ، ويشتغلوا بمشاغلهم في الزراعة ، ويقيموا شعائرهم الدينية من دون أن يجدوا فرصة للمشاغبة والتآمر ضدّ رسالة التوحيد الكبرى ، اذ كانوا يسببون مشاكل كبيرة للمسلمين - في غير هذه الصورة - ويمنعون من تقدّم الاسلام وانتشاره.

وأما الجزية (2) فقد كان لقاء دفاع الحكومة الاسلامية عنهم ، وحمايتهم من الأعداء ، وتوفير الأمن لهم ، إذ كان حماية أموالهم وأنفسهم من وظائف المسلمين.

ثم ان المحاسبة الدقيقة تقودنا إلى أن ما كان يدفعه المسلمون إلى الحكومة

ص: 414


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 337.
2- الجزية ما يؤخذ من أهل الذمّة.

الإسلاميّة من الضرائب الاسلامية كان أكثر بكثير ممّا كان يدفعه اليهود. والنصارى إلى الحكومة الاسلامية بعنوان الجزية.

فقد كان يتوجب على كلّ مسلم أن يدفع الى الحكومة الاسلامية الخمس والزكاة وربما توجب عليه ان يدفع شيئا من أصل ماله لسدّ نفقات واحتياجات الحكومة الاسلامية بينما كان اليهود والنصارى الذين كانوا يعيشون في ظلّ الحكومة الاسلامية في أمن وأمان ويتمتعون بجميع الامتيازات والحقوق الاجتماعية الفردية يدفعون إلى الحكومة الاسلامية الجزية بدل ما كان يدفعه المسلمون ، فالجزية شيء والأتاوة شيء آخر ، على خلاف ما يروّجه بعض الكتاب المغرضين.

ولقد كان عامل الجباية الذي كان يزور خيبر بأمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لتقدير حجم المحاصيل فيها ، ثم تنصيفها رجلا عادلا ورعا إلى درجة أن اليهود أنفسهم أعجبوا بعدله ، واعترفوا بانصافه ، وهو « عبد اللّه بن رواحة » الذي استشهد فيما بعد ، في موقعة « مؤتة ».

فقد كان « ابن رواحة » يخمّن نصيب المسلمين من محاصيل خيبر ، وربما تصوّر اليهود أنه أخطأ في التخمين والخرص ، وخمّن أكثر ممّا هو الحق فقالوا له : تعديت علينا!

فكان عبد اللّه يقول : إن شئتم فلكم وإن شئتم فلنا.

فتقول اليهود - معجبة بهذا الانصاف العظيم والعدل الكبير الذي كان يتحلى به مخرّص الحكومة الاسلامية - : بهذا قامت السماوات والارض (1).

ولقد حصل المسلمون أثناء جمع غنائم « خيبر » على قطعة من التوراة ، فطلبت اليهود من النبي صلی اللّه علیه و آله أن يعيدها إليهم ، فأمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مسئول بيت المال باعادتها إليهم (2).

ص: 415


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 354.
2- المغازي : ج 2 ص 680 ، امتاع الاسماع : ج 1 ص 323.

وهذا يكشف عن احترام رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله للشرائع الاخرى.

سلوك اليهود المتعجرف :

في قبال كلّ هذه الألطاف لم تكف اليهود عن خيانتها وكيدها ، بل ظلّت تخطّط - في الخفاء - للايقاع برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأصحابه ، والحاق الاذى بهم.

ولنقف فيما يأتي على نموذجين من هذا الأمر :

1 - لما اطمأنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قرّرت جماعة من اليهود في الخفاء أن تقضي على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بدس سمّ إليه. فأهدت له « زينب بنت الحارث » زوجة « سلام بن مشكم اليهودي » شاة مشويّة وقد سألت أي عضو من الشاة أحب إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقيل لها الذراع ، فاكثرت فيها من السمّ ، ثم سمت سائر الشاة ، ثم جاءت بها ، فلما وضعتها بين يدي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله . تناول الذراع ، فلاك منها مضغة فلم يسغها ، ومعه « بشر بن البراء بن معرور » قد أخذ منها كما أخذ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فأما بشر فقد ابتلعها ، وأما رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقد لفظها وعرف بأنها مسمومة ، ومات بشر من أكلته التي أكل ثم دعا زينبا ، وقال لها : سمّمت الذراع؟ فاعترفت. فقال لها : ما حملك على ذلك ، قالت : قتلت أبي وعمّي وزوجي ، ونلت من قومي ما نلت فقلت : إن كان ملكا استرحت منه ، وان كان نبيّا فسيخبر.

فعفا عنها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ولم يلاحق من تواطئوا معها (1).

ص: 416


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 337 و 338 والمغازي : ج 2 ص 677 و 678. وامتاع الاسماع : ج 1 ص 323. هذا والمعروف أن النبي صلی اللّه علیه و آله قال في : مرضه الذي مات فيه : إن هذا الأوان وجدت فيه انقطاع أبهري من الأكلة التي أكلت بخيبر ، فإن النبيّ ، وان كان لفظ المضغة إلاّ ان بقايا السمّ اختلط ببزاقه الشريف ، وأثر في جسمه المبارك حتى أودي بحياته المقدسة بعد حين.

لا شك لو أن مثل هذه الحادثة حدثت لغير رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من القادة والزعماء لصبغوا الارض بدماء من ظنوا أنه قصد قتلهم ، أو ملأوا السجون بهم وحبسوهم ، أعواما مديدة او اخضعوهم لاشد انواع التعذيب الجسدي والنفسي كما يحدّثنا بذلك التاريخ القديم والحديث.

إن هذه المؤامرة الدنيئة التي قامت بها امرأة من اليهود جعلت الكثير من أصحاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يسيئون الظن بصفية اليهودية التي أصبحت في عداد ازواج النبي صلی اللّه علیه و آله .

فقد باتوا يتصوّرون أنها ربما أقدمت في ليلة من الليالي على اغتيال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

ولهذا عند ما أعرس رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بها بخيبر أو في أثناء الطريق بات « أبو أيّوب الانصاري » يحرس قبّة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله التي دخل بها بصفية ليلة عرسه بها ، وبقي يطوف بالقبة حتى أصبح رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فلما رأى أبا أيوب قال : مالك يا أبا أيوب؟

قال : يا رسول اللّه خفت عليك من هذه المرأة ، وكانت امرأة قد قتلت أباها وزوجها وقومها وكانت حديثة عهد بكفر ، فخفتها عليك. فشكره رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ودعا له بخير (1).

2 - والنموذج الثاني من جفاء اليهود ، وكيدهم حتى بعد عفو النبي عنهم ، ولطفه بهم أنّ « عبد اللّه بن سهيل » الذي كلّف من جانب النبي صلی اللّه علیه و آله في إحدى السنين بخرص محاصيل خيبر وتقديرها وحمل نصيب المسلمين منها إلى المدينة قتله جماعة مجهولة من اليهود أثناء قيامه بواجبه في خيبر وقد كسروا

ص: 417


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 339 و 340 ، بحار الأنوار : ج 21 ص 33.

عنقه وألقوه في بئر ، فقدم جماعة من زعماء اليهود المدينة ودخلوا على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأخبروه بهذه العملية الغادرة المجهول فاعلها ، وتقدم الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أيضا « عبد الرحمن » اخو عبد اللّه بن سهل وابنا عمّه وكان عبد الرحمن من أحدثهم سنا وكان صاحب الدّم فلما تكلّم قبل ابني عمّه قال رسول اللّه : الكبر الكبر ( أي قدّموا الاكبر للكلام إرشادا إلى الأدب في تقديم الأسنّ وهو خلق يدعو إليه الاسلام ).

فذكروا لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قتل صاحبهم وطلبوا القصاص فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله :

« أتسمّون قاتلكم ، ثم تحلفون عليه خمسين يمينا فنسلّمه إليكم ».

وحمل هذا التعليم النبوي أولياء الدم على أن يجعلوا التقوى والورع نصب أعينهم ولم يستسلموا لثورة العاطفة فقالوا : يا رسول اللّه ما كنّا لنحلف على ما لا نعلم.

فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله :

« أفيحلفون ( أي يحلف اليهود ) باللّه خمسين يمينا ما قتلوه ، ولا يعلمون له قاتلا ، ثم يبرءون من دمه؟ ».

قالوا يا رسول اللّه ما كنا لنقبل أيمان اليهود ، ما فيهم من الكفر أعظم من أن يحلفوا على إثم.

فكتب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى يهود خيبر كتابا فيه : انه قد وجد قتيل بين أبياتكم فدوه ( أي أعطوا ديته ).

فكتبوا إليه يحلفون باللّه ما قتلوه ، ولا يعلمون له قاتلا.

فلما رأى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن المشكلة قد وصلت إلى طريق مسدودة وداه بنفسه من عنده مائة ناقة (1).

ص: 418


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 354 - 356.

وهكذا اثبت النبي صلی اللّه علیه و آله لليهود مرة اخرى بأنه ليس داعية حرب ولا طالب قتال وسفك دماء ، ولو كان كغيره من الزعماء والسياسيين لاتخذ من قصة مقتل عبد اللّه ذريعة للقضاء على حياة تلك الزمرة المعتدية ، المشاغبة المخلّة بالأمن (1)

إن النبي صلی اللّه علیه و آله كما يصرّح بذلك القرآن الكريم ويصفه : نبي الرحمة ، فهو لا يحتكم الى السيف ما لم يبلغ الامر مداه.

حيلة مجازة :

كان في خيبر تاجر يدعى الحجّاج بن علاط السلمي له تجارة مع أهل مكة ، وكان ممّن حضر يوم خيبر. وشاهد لطف النبي ورحمته فأسلم طائعا راغبا.

ولما فرغ المسلمون من أمر « خيبر » أتى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقال : يا رسول اللّه إن لي بمكة مالا متفرقا في تجار مكة فاذن لي يا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن احتال لأخذها ، فأذن له رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بذلك ليستنقذ أمواله من المشركين وغيرهم في مكة.

فقدم مكة ، فرآه رجال قريش اجتمعوا حوله وأخذوا يسألونه عن أمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ولم يكونوا علموا بإسلامه فأجابهم قائلا : لقد هزم محمّد بخيبر هزيمة لم تسمعوا بمثلها قط ، وقتل أصحابه قتل لم تسمعوا بمثله قط ، واسر محمّد اسرا ، وقالت اليهود : لا نقتله حتى نبعث إلى أهل مكة فيقتلوه بين

ص: 419


1- لم تنحصر تعديات اليهود وتجاوزاتهم على ما ذكرناه فلطالما خطّطوا ودبّروا الحيل لالحاق الأذى والضرر بالمسلمين ، ومن جملة ذلك حادث عبد اللّه بن عمر الذي ذهب إلى خيبر في عهد الخليفة الثاني لعقد اتفاقية مع أهلها فاعتدوا عليه بالضرب فلما عرف بذلك عمر رأى أن يجليهم من خيبر لقول رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « لا يجتمعنّ بجزيرة العرب دينان » فقال لصحابة النبي صلی اللّه علیه و آله من كان له حق عند اليهود فليأخذه ثم أجلاهم من خيبر جزاء كيدهم وتآمرهم المستمر. ( المصدر ).

أظهرهم انتقاما لمن أصاب من رجالهم.

ففرح سادة قريش لهذا الخبر الكاذب فرحا شديدا ، ثم قال الحجاج لهم.

أعينوني على جمع مالي بمكة وعلى غرمائي فإني أريد أن اقدم خيبر فأصيب من محمّد وأصحابه قبل أن يسبقني التجار الى ما هنا لك فجمعوا له ماله كاسرع ما يكون.

فلما سمع « العباس بن عبد المطلب » هذا الخبر جاء الى الحجاج وقال يا حجاج ما هذا الخبر الذي جئت به ، فأشار الحجاج إلى العباس بأنّه سيخبره بحقيقة الأمر ، ثم التقى العباس خفية وأخبره بأنه ماكر أهل مكة ، وأنّ النبي ظفر بيهود خيبر ، وطلب من العباس أن يكتم ذلك حتى يغادر مكة ، وينجو بنفسه وماله.

فلما فرغ من جميع ماله كله غادر مكة بسرعة فائقة. فلما مضى على ذلك ثلاثة أيام واطمأنّ العباس من نجاة الحجاج لبس حلة جميلة ، وتعطر وأخذ عصاه ثم خرج حتى أتى الكعبة فتعجبت قريش لذلك ، وظنت أنه فعل ذلك تجلّدا ، فقالت للعباس : يا أبا الفضل هذا واللّه التجلّد لحرّ المصيبة ، قال : كلا ، واللّه الذي حلفتم به ، لقد افتتح « محمّد » خيبر ، وترك عروسا على بنت ملكهم ، وأحرز أموالهم وما فيها ، وأصبحت له ولأصحابه.

فقالوا : من جاءك بالخبر.

فقال : الذي جاءكم بما جاءكم ( ويعني الحجاج الذي احتال عليهم ). ولقد دخل عليكم مسلما ، فأخذ ماله ، وانطلق ليلحق بمحمّد وأصحابه ، فيكون معه.

فغضبت قريش لهذه المكيدة وانزعجت انزعاجا شديدا ، ولكن بعد فوات الأوان ، ولم يلبثوا أن جاءهم خبر انتصارات المسلمين الساحقة على اعدائهم (1).

ص: 420


1- بحار الأنوار : ج 21 ص 34 ، زاد المعاد : ج 2 ص 140 ، والسيرة النبوية : ج 2 ص 345 و 346.

45

قصّة فدك

اشارة

كانت « فدك » منطقة خصبة ، كثيرة الخير ، قرب خيبر ، وهي تبعد عن المدينة بما يقرب من (140) كيلومترا ، وكانت تعتبر بعد حصون خيبر النقطة الهامة التي يعتمد عليها يهود الحجاز (1).

وقد ملأت القيادة الاسلامية - بعد أن هزم اليهود في خيبر ووادي القرى وتيماء الفراغ الذي حصل في شمال المدينة - بالقوة العسكرية الاسلامية.

ولأجل أن تنهي الوجود السياسي اليهودي في هذه المنطقة التي كانت بمثابة منبع خطر ، وبؤرة شغب ضدّ الاسلام ، بعثت القيادة الاسلامية سفيرا الى سادة فدك وزعمائها ، لمعرفة موقفهم فآثر « يوشع بن نون » الذي كان يرأس سكان تلك المنطقة ، الصلح والسلام على الحرب والقتال ، وتعهّد بأن يسلّم كل سنة نصف محاصيل فدك الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله (2).

وأن يعيش هو وقومه من الآن تحت راية الحكومة الاسلامية ، ولا يشاغب ولا يتآمر ضدّ المسلمين ، على أن تتعهد الحكومة الاسلامية - في مقابل هذا المبلغ - بتوفير الأمن في المنطقة.

ص: 421


1- راجع كتاب « مراصد الاطلاع » ج 3 ص 1020 ماده فدك.
2- السيرة النبوية : ج 2 ص 353 ، امتاع الاسماع : ج 1 ص 331 ، فتوح البلدان : ص 42.

حكم الاراضي المفتوحة بلا قتال :

ومن الجدير بالذكر هنا أن الأراضي التي يسيطر عليها المسلمون بالحرب والقتال تعود ملكيتها الى عامة المسلمين ويكون إدارتها بيد القائد الأعلى للامة.

أما الاراضي التي لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب ولم يسيطر عليها المسلمون بالقتال فتكون لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله والامام من بعده خالصة ، فهو يتصرف فيها كما يشاء ويرى ، فله أن يهبها ، وله أن يؤجّرها ، ومن جملة ماله أن يفعل فيها هو أن يهبها لأقربائه فيسدوا بها حاجتهم ، ويديروا بها معيشتهم (1).

وعلى هذا الاساس وهب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فدكا لابنته الطاهرة فاطمة الزهراء ، وقد أريد من إيهاب هذه الارض لها - كما تشهد بذلك القرائن - أمران :

1 - انّ قيادة الامة كانت بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كما صرّح النبي بذلك مرارا ، ل- : « علي بن أبي طالب » ، ومثل هذه المسئولية الثقيلة تحتاج ولا شك الى ميزانية كبيرة ، فكان لعليّ علیه السلام أن يصرف من أموال فدك وعائداتها اذا صارت تحت تصرفه اكبر قدر ممكن ليحفظ به ذلك المنصب ، ويستطيع القيام بمتطلباته.

وكأنّ جهاز الخلافة - بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أدرك هذه الحقيقة ، ولهذا عمد منذ الايام الاولى لوفاة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الى انتزاع فدك من أهل بيت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

2 - لقد كان من الواجب أن تعيش ذرية النبي صلی اللّه علیه و آله التي كان يتمثل مصداقها الكامل في وحيدة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فاطمة الزهراء ،

ص: 422


1- وقد طرحت هذه المسألة في الآية 6 و 7 من سورة الحشر وعولجت في الكتب الفقهية في باب الجهاد تحت عنوان « الفيء » « والأنفال ».

وابنيها الحسن والحسين علیهماالسلام بعد وفاة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بصورة تليق بمقام رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وشرفه ، ومكانته السامية.

ولهذا الهدف وهب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فدكا لابنته فاطمة الزهراء علیهاالسلام .

يقول المفسرون والمحدّثون الشيعة وبعض علماء السنة انه لما نزل قوله تعالى :

« وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ » (1).

دعا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ابنته فاطمة وفوّض إليها فدكا (2) ، وقد روى هذا الأمر ابو سعيد الخدري وهو من كبار صحابة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

ويعترف جميع المفسرين ، سنة وشيعة ، بان هذه الآية نزلت في حق أقرباء رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وابنته الزهراء اظهر وأقوى مصاديق « ذي القربى » ، حتى انه كان على بن الحسين السجاد في الشام بعد واقعة كربلاء ، وسأله بعض الشاميين عن نسبه ، فتلا علیه السلام الآية المذكورة للتعريف بنفسه ، وحيث إن مفاد الآية والمراد بها كان معلوما عند المسلمين كافة قال الشامي متعجبا : وانكم للقرابة الذي أمر اللّه أن يؤتى حقه (3).

وخلاصة القول ان ثمة اتفاقا بين علماء السنة والشيعة في أن هذه الآية قد نزلت في شأن الزهراء وابنيها ، نعم هناك خلاف في ان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وهب ساعة نزول هذه الآية فدكا لابنته فاطمة ، أم لا ، ولقد اتفق علماء الشيعة على الشق الأول ، وذهبوا إلى ان النبي صلی اللّه علیه و آله وهب فدكا عند نزول الآية لفاطمة ووافقهم على ذلك جمع من علماء السنة.

وقد أراد المأمون العباسى ( لسبب ما ) اعادة فدك إلى بني الزهراء فكتب

ص: 423


1- الاسراء : 26.
2- مجمع البيان : ج 3 ص 411 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج 16 ص 268 ، الدر المنثور : ج 4 ص 177.
3- الدّر المنثور : ج 4 ص 176.

الى المحدث المعروف « عبد اللّه بن موسى » وطلب منه أن يرشده في هذا الامر ، فكتب إليه عبد اللّه بن موسى الحديث المذكور الذي يوضح شأن نزول هذه الآية ، فاعاد المأمون فدكا الى أبناء الزهراء ، وذريتها (1) فكتب الخليفة العباسي إلى واليه على المدينة يومذاك بأن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وهب فدكا لابنته فاطمة الزهراء ، وهذا أمر مسلم ، ولا خلاف فيه بين ابناء الزهراء.

وقد جلس المأمون ذات يوم على كرسي خاص للاستماع إلى مظالم الناس وشكاياتهم ، فكانت أول ما أعطي له ، رسالة وصف صاحبها نفسه فيها بأنه يدافع عن الزهراء ، فقرأ المأمون الرسالة وبكى مدة ، ثم قال : من هو المحامي عن الزهراء؟ فقام شيخ كبير ، وقال : أنا هو ذا ، فانقلب مجلس المأمون من مجلس القضاء الى مجلس حوار ومناظرة بين المأمون وبين ذلك الشيخ ، وأخيرا وجد المأمون نفسه مغلوبا محجوجا فأمر رئيس ديوانه بان يكتب كتاب ردّ فدك إلى ابناء الزهراء ، فكتب ذلك الكتاب ، ووشحه المأمون بتوقيعه ، وفي هذه المناسبة قام دعبل الذي حضر ذلك المجلس وأنشأ شعرا هذا مطلعه :

أصبح وجه الزمان قد ضحكا *** بردّ مأمون هاشم فدكا (2)

وليس الشيعة بحاجة - في اثبات ان فدكا كان ملكا طلقا وخالصا للزهراء فاطمة بنت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى الدلائل المذكورة ، لأن الصدّيق الاكبر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام قد صرّح بمالكيته بفدك في إحدى رسائله الى واليه على البصرة عثمان بن حنيف اذ قال :

« بلى كانت في أيدينا فدك من كلّ ما أظلّته السماء فشحّت عليها نفوس قوم ، وسخت عنها نفوس قوم آخرين ونعم الحكم اللّه » (3).

ص: 424


1- مجمع البيان : ج 3 ص 411 عند تفسير قوله تعالى : « « وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ » الاسراء : 27 فتوح البلدان ص 46
2- شرح ابن أبي الحديد : ج 16 ص 217.
3- نهج البلاغة : الكتاب 45.

قصة فدك بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله :

لقد حرمت ابنة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله العزيزة فاطمة من ملكها الخالص ( فدك ) بعد وفاة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لأغراض سياسية خاصة ، وأخرجوا عمالها من تلك الارض ، فعمدت إلى إثبات حقّها واسترداد ملكها من جهاز الخلافة عن طريق القانون.

ففي الدرجة الأولى كانت قرية فدك في يدها ، واليد دليل الملك ، ولكن جهاز الخلافة طلب منها مع ذلك دليلا على كون فدك ملكها ، خلافا لكلّ الموازين القضائية الاسلامية.

إذ لا يطلب من أيّ واحد له يد على شيء ( أي يكون ذلك الشيء تحت تصرفه ) أن يقيم دليلا على ملكيته لذلك الشيء ، ولكن الخلافة لم تعر ليد الزهراء على « فدك » أهمية ، بل طالبتها بان تأتي بشاهد على ملكيته.

ولهذا اضطرت فاطمة الزهراء علیهاالسلام إلى ان تأتي للشهادة على ذلك بشخصيّة ذات مكانة هامة كعليّ علیه السلام وامرأة تدعى أمّ أيمن التي شهد لها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بأنها من نساء الجنة (1).

وبعتيق رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله « رباح » حسب رواية البلاذري (2) ، ولكن جهاز الخلافة لم يعر اهتماما لشهادة هؤلاء الشهود ، وحرم ابنة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من ملكها الذي وهبه اياها والدها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

ولقد كانت « الزهراء » و « علي » وابناهما الحسن والحسين علیهم السلام مطهرين من كل رجس كما صرح بذلك قوله تعالى :

« إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً » (3).

ص: 425


1- الاصابة : ج 4 ص 432.
2- فتوح البلدان : ص 44.
3- الاحزاب : 33 ، راجع كتاب : آية التطهير في احاديث الفريقين : ج 1 و 2.

ولو أن هذه الآية شملت نساء النبي صلی اللّه علیه و آله لكانت فاطمة الزهراء من أوضح مصاديقها قطعا ويقينا ، ولكن الخلافة تجاهلت - مع الأسف - حتى هذا الدليل ، واعتبر الخليفة ادعاءها ادعاء غير مشروع.

وفي المقابل يرى علماء الشيعة أن الخليفة الاول أذعن في نهاية الأمر لصحة رأى الزهراء وصحة ادّعائها وشرعيّته ، وكتب كتابا يصرّح بأن فدكا ملك خالص للزهراء وأعطاها ذلك الكتاب ، ولكن رفيق الخليفة وصاحبه لما صادف الزهراء في اثناء الطريق وعرف بأنها حصلت على اعتراف صريح من الخليفة بملكيتها لفدك أخذ منها ذلك الكتاب واتى به الى الخليفة الاول وقال معترضا على شهادة علي علیه السلام وأم أيمن لها : ان عليا يجرّ إلى نفسه وأم أيمن امرأة.

ثم عمد إلى الكتاب فمحاه وخرقه (1).

هذا ويروي الحلبي في سيرته هذه الحادثة بصورة اخرى اذ يكتب قائلا : ان ابا بكر كتب لفاطمة بفدك ودخل عليه عمر فقال : ما هذا؟ فقال : كتاب كتبته لفاطمة بميراثها من أبيها ، فقال : ممّا ذا تنفق على المسلمين وقد حاربتك العرب كما ترى ، ثم اخذ عمر الكتاب فشقه (2).

ما قاله أحد متكلمي الشيعة ، وهو ان أبي الحديد يقول : قلت لمتكلم من متكلمي الاماميّة يعرف بعلي بن تقي من بلدة النيل : وهل كانت فدك إلاّ نخلا يسيرا وعقارا ليس بذلك الخطير! فقال لي : ليس الأمر كذلك ، بل كانت جليلة جدا ، وكان فيها من النخل نحو ما بالكوفة الآن من النخل ، وما قصد ابو بكر وعمر بمنع فاطمة عنها إلا ألاّ يتقوّى عليّ بحاصلها وغلّتها على المنازعة في الخلافة ، ولهذا اتبعا ذلك بمنع فاطمة وعلي وسائر بني هاشم وبني المطّلب حقّهم في الخمس ، فإنّ الفقير الذي لا مال له تضعف همته ، ويتصاغر عند نفسه ، ويكون مشغولا بالاحتراف والاكتساب عن طلب الملك والرئاسة (3).

ص: 426


1- شرح ابن أبي الحديد : ج 16 ص 374.
2- السيرة الحلبية : ج 3 ص 391.
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ج 16 ص 236.

ويكتب هذا الكاتب في موضع آخر من كتابه أيضا : سألت علي بن الفارقيّ مدرّس المدرسة الغربية ببغداد ، فقلت له : أكانت فاطمة صادقة؟ قال : نعم ، قلت : فلم لم يدفع إليها أبو بكر فدك وهي عنده صادقة؟ فتبسم ، ثم قال كلاما لطيفا مستحسنا مع ناموسه وحرمته وقلة دعابته ، قال : لو أعطاها اليوم فدك بمجرد دعواها لجأت إليه غدا ، وادّعت لزوجها الخلافة ، وزحزحته عن مقامه ، ولم يكن يمكنه الاعتذار والموافقة بشيء ، لانه يكون قد اسجل على نفسه على أنها صادقة فيما تدعي كائنا ما كان من غير حاجة إلى بيّنة ولا شهود. وهذا كلام صحيح ، وان كان أخرجه مخرج الدعابة والهزل (1).

لقد بدأ منع بني الزهراء من فدك في عهد الخليفة الأول ، وبعد ان قضى علي علیه السلام وتسلّم معاوية زمام الامر ، وزع فدكا بين ثلاثة هم : ( مروان بن الحكم وعمرو بن عثمان ، وابنه يزيد ).

ولما ولي الأمر « مروان » سيطر على فدك بصورة كاملة ، ووهبها لابنه عبد العزيز ، واعطاها عبد العزيز لولده « عمر بن عبد العزيز » (2).

وحيث انه كان حاكما معتدل السيرة بين خلفاء بني أميّة لهذا فان أول بدعة أزاحها كان هو اعادة فدك إلى بني فاطمة ، ثم انتزعها الخلفاء الذين توالوا بعده من ايدي بني هاشم ، وكانت بأيديهم حتى يوم انقرضت فيه حكومة الامويين.

وقد اضطرب أمر فدك اضطرابا عجيبا ايام الخلافة العباسية ، فلما ولي أبو العباس السفاح ردّها على عبد اللّه بن الحسن بن الحسن ، ثم قبضها ابو جعفر من بني حسن ، ثم ردّها محمّد المهدي ابنه ، على ولد فاطمة علیهاالسلام ، ثم قبضها موسى الهادي بن المهدي وهارون أخوه ، لاسباب سياسيه خاصة ، حتى وصل الدور إلى المأمون فردها على الفاطميين اصحابها الشرعيين ضمن تشريفات

ص: 427


1- شرح ابن أبي الحديد : ج 16 ص 284.
2- شرح ابن أبي الحديد : ج 16 ص 278.

خاصة وبصورة رسمية.

ثم اضطرب امر فدك من بعده أيضا فربما سلبت من أصحابها وربما ردّت إليهم. وهكذا تراوحت بين السلب والرد.

ولقد استغلّت فدك في عهد الامويين والعباسيين في أغراض سياسية بحتة قبل أن تستغلّ في أغراض اقتصادية.

فلقد كان الخلفاء في صدر الاسلام يحتاجون إلى عائدات فدك المالية ، مضافا إلى انهم انتزعوها من يد عليّ لغرض سياسي ولكن في العصور المتأخرة عن ذلك كثرت ثروة الخلفاء وزادت زيادة هائلة بحيث لم يكونوا بحاجة إلى عائدات فدك ، ولهذا فان عمر بن عبد العزيز لما أعاد فدكا إلى بني فاطمة احتج عليه بنو أميّة واعترضوا قائلين : هجّنت فعل الشيخين ، وإن أبيت إلاّ هذا فامسك الأصل وأقسم الغلّة (1).

فدك في محكمة التاريخ :

إن دراسة وتقييم ملفّ « فدك » تثبت بوضوح أن منع ابنة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من حقها المشروع كان عملا سياسيا بحتا ، أي إنه ما كان يستند إلى أي مبرر شرعي مطلقا ، وان المسألة كانت أوضح من أن تخفى على خليفة العصر.

وقد أوضحت الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء علیهاالسلام هذه الحقيقة في خطابها الساخن البليغ اذ قالت :

هذا كتاب اللّه حكما عدلا وناطقا فصلا يقول : ويرثني ويرث من آل يعقوب (2) وورث سليمان داود (3) وبيّن عزّ وجلّ في ما وزّع من الأقساط وشرع من الفرائض والميراث » (4).

ص: 428


1- شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد : ج 16 ص 278.
2- مريم : 6.
3- النمل : 16.
4- الاحتجاج للطبرسي : ج 1 ص 145.

إن البحث حول دلالة الآيتين على وراثة أبناء النبيّ صلی اللّه علیه و آله عنه ، والحديث الذي رواه الخليفة وحده يوجب اطالة الكلام ، وفي امكان من يحبّ التوسع ان يراجع كتب التفسير المفصلة.

السيطرة على وادي القرى :

ان النبي صلی اللّه علیه و آله لم يضع نهاية لنشاط القوى المضادة للاسلام في هذه المنطقة ( خيبر ) فقط بل رأى ان يتوجه الى وادي القرى التي كان يشكل مركزا آخر من مراكز اليهود. فحاصر بنفسه حصونهم عدة أيام ، حتى فتحها ، ثم عقد بعد الفتح معاهدة مع أهلها على غرار معاهدة « خيبر ».

وبهذا طهرت أرض الحجاز من فتنة اليهود الاوغاد ، وقد جرّدوا من اسلحتهم ووضعوا تحت حماية المسلمين ومراقبتهم الدقيقة (1).

ص: 429


1- الكامل في التاريخ : ج 2 ص 150.

46

عمرة القضاء

عمرة القضاء (1)

كان يحق للمسلمين بعد التوقيع على معاهدة صلح الحديبية أن يدخلوا بعد عام واحد من تاريخ يوم التوقيع مكة ، ثم يغادروها بعد ثلاثة ايام يقيمون فيها شعائر العمرة وكان عليهم بموجب الاتفاق أن لا يحملوا معهم إلاّ سلاح الراكب : السيف في القرب ، ليس غير.

والآن مضى عام واحد على يوم التوقيع على المعاهدة المذكورة ، وآن الاوان ليستفيد المسلمون من هذه المادة في تلك الاتفاقية ، وان يتوجه المسلمون المهاجرون الذين مضى عليهم سبعة أعوام ابتعدوا فيها عن بيوتهم ووطنهم ومسقط رءوسهم ، ورجّحوا الحياة في الغربة ، وتحمل متاعبها على العيش في الوطن للمحافظة على عقيدة التوحيد.

يتوجه مثل هؤلاء مرة اخرى إلى زيارة بيت اللّه الحرام ولقاء الاحباب والأقرباء وتفقّد المنازل والبيوت التي ولدوا فيها وترعرعوا في رحابها.

ص: 430


1- العمرة أعمال خاصة ومناسك معينة يمكن للمرء الاتيان بها طوال اشهر السنة على العكس من أعمال الحج التي يجب أداؤها فقط في شهر ذي الحجة وقد توجه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى مكة في يوم الاثنين السادس من شهر ذي القعدة من السنة الهجرية السابعة. وسميت هذه العمرة عمرة القضاء لانها كانت بدلا عن العمرة التي منع النبيّ والمسلمون عنها في عام الحديبية.

ولهذا عند ما أعلن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بان يستعد من حرم من العمرة في العام الماضي للعمرة ، دب شوق عجيب في نفوس المسلمين ، واغرورقت دموع الفرح في عيونهم ، فخرج مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ألفا شخص بدل ألف وثلاثمائة وهم عدد الذين خرجوا معه في السنة الماضية.

وكان بين الخارجين مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله جمع كبير من شخصيات المهاجرين والأنصار البارزة الذين كانوا يلازمون رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله طول سيره ملازمة الظل لصاحب الظل.

وساق رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في هذه العمرة ستين بدنة وقد قلّدها (1) ، وأحرم من مسجد المدينة واتبعه الآخرون ، وخرج ألفان وهم يلبّون مرتدين أثواب الاحرام يقصدون مكة.

ولقد كان هذا الموكب العظيم من الجلال والمغزى المعنوي بحيث لفت نظر الكثير من المشركين إلى حقيقة الاسلام ومعنويته الرائعة.

ولو قلنا : ان هذا السفر كان - في حقيقته - سفرا تبليغيا ، وان المشتركين فيه كانوا - في حقيقة الامر - طلائع التبليغ والدعوة لما قلنا جزافا ، فان آثار هذا السفر المعنوى ظهرت للتو فقد انبهر بمنظر سلوكهم وعبادتهم ونظامهم الد أعداء الاسلام أمثال « خالد بن الوليد » بطل معركة أحد وعمرو بن العاص داهية العرب فرغبوا في الاسلام ، وأسلموا بعد قليل.

وحيث ان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لم يكن آمنا من غدر قريش فقد كان يحتمل أن يباغتوه ويباغتوا أصحابه في أرض مكة ، ويسفكوا دماء جماعة

ص: 431


1- البدنة الناقة تنحر بمكة والجمع بدن وتقليد البدنة أن يجعل في عنقها نعلا فيعلم أنها هدي.

منهم وهم لا يحملون معهم إلاّ سلاح الراكب اذ لم يكن مسموحا للمسلمين - حسب المعاهدة - أن يأخذوا معهم سلاحا غير ذلك.

من هنا عمد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله تحسبا لأي طارئ إلى تكليف مائتي رجل من المسلمين بالتسلح الكامل ، وأمرّ عليهم « محمّد بن مسلمة » وحملهم على مائة فرس سريع ، وأمرهم بالتوجه صوب مكة أمام القافلة الكبرى ، والاستقرار في منطقة « مرّا لظهران » قرب الحرم ، ينتظرون ورود رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ومن معه.

فعرف عيون قريش الذين كانوا يراقبون تحركات رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بقضية الفرسان المسلّحين المائتين ، واستقرارهم في وادي « مرّ الظهران » ، وأخبروا سادة قريش بالأمر.

فبعثت قريش « مكرز بن حفص » الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ليكلموه في هذا الإجراء فاتى مكرز الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ه اعتراض قريش وانه تعهّد - قبل ذلك - أن لا يدخل مكة إلاّ بسلاح المسافر.

فأجابه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

« لا ندخلها إلاّ كذلك ولكن يكون هؤلاء قريبين منا ».

وقد أفهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مكرزا بهذه العبارة بأن قريش لو استغلّت عدم حمل النبي واصحابه للسلاح الثقيل فباغتتهم أدركتهم هذه القوة الاحتياطية المسلحة القوية المستقرة على مقربة من الحرم ، ومدّوهم بالسلاح والعتاد.

فعاد « مكرز » واخبر قريشا بما سمع من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فادركت قريش حنكة رسول الاسلام وبعد نظره ، وحسن تقديره للامور ،

ص: 432

ففتحت أبواب مكة في وجه المسلمين ، وخرج رءوس المشركين وأهلوهم ومن تبعهم الى رءوس الجبال ، وخلّوا مكة ، وقالوا : لا ننظر إلى محمّد ولا إلى اصحابه ، ولكنهم كانوا يراقبون المشهد من بعيد!! (1)

النبي يدخل مكة :

دخل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وهو على راحلته القصواء وأصحابه متوشحو السيوف محدقون به يلبّون وهم ألفان ، فدوّى صوتهم الموحّد بالتلبية في أرجاء مكة ، وكانت نغمة هذه التلبية الكبرى من الجلال والجمال بحيث بهرت كل سكان مكة ، وسحرت قلوبهم وعطفها نحو المسلمين ، وفي نفس الوقت أرعب اتّحاد المسلمين ، ونظامهم ، والتفافهم حول النبي قلوب المشركين ، ولم يقطع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله تلبيته حتى استلم الركن.

فلما انتهى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الى البيت وهو على راحلته وابن رواحة آخذ بزمامها وقد صف له المسلمون حين دنا من الركن حتى انتهى إليه ، استلم الركن بمحجنه مضطبعا بثوبه على راحلته انشد عبد اللّه بن رواحة يقول :

خلّوا بني الكفّار عن سبيله *** إني شهدت أنه رسوله

حقا وكل الخير في سبيله *** نحن قتلناكم على تأويله

كما ضربناكم على تنزيله *** ضربا يزيل الهام عن مقيله

ويذهل الخليل عن خليله (2)

وطاف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بالبيت المعظم على راحلته ، وهنا أمر

ص: 433


1- امتاع الاسماع : ج 1 ص 337 و 338.
2- زاد المعاد : ج 2 ص 152.

صلی اللّه علیه و آله ابن رواحة ان يردّد هذا الدعاء بلحن ونغم خاص ؛ وان يتبعه المسلمون :

« لا إله إلاّ اللّه وحده وحده ، صدق وعده ، ونصر عبده واعز جنده ، وهزم الاحزاب وحده ».

كانت مكة بجميع مشاعرها في ذلك اليوم تحت تصرف المسلمين ، المسجد ، الكعبة ، الصفا ، المروة ، وغيرها. وقد كانت هذه الشعارات التوحيدية الساخنة في مكان كان طوال سنين مديدة مركزا للوثنية ، والشرك توجّه ضربات روحية قوية إلى نفسيّة سادة المشركين ، وأتباعهم ، ممّا كان يوحي بغلبة « محمّد » صلی اللّه علیه و آله على كل أرجاء الجزيرة العربية حتما ويقينا.

ولما قضى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله نسكه دخل البيت فلم يزل فيه حتى حان الظهر ، فصعد بلال الذي طالما عذّب في هذا البلد بسبب اسلامه فوق ظهر الكعبة بأمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، واذّن لصلاة الظهر.

ولقد كان لهذا المنظر مردود عجيب في نفوس المشركين فبلال واقف في نقطة طالما عدّت فيها الشهادة بالتوحيد وبرسالة محمّد ، ذنبا لا يغتفر ، وجريمة لا ينجو صاحبها من العذاب ، يردد ويردد معه المسلمون ما يردّد من فصول الأذان فصلا فصلا في خشوع وروحانية بالغة.

لقد أزعج أذان بلال المشركين واعداء التوحيد ، حتى قال « صفوان بن أميّة » : الحمد لله الذين أذهب أبي قبل أن يرى هذا ، وقال خالد بن اسيد : الحمد لله الذي أمات أبي ولم يشهد هذا اليوم ، ولم يسمع هذا العبد الحبشيّ يقول ما يقول.

واما « سهيل بن عمرو » فانه لما سمع تكبير بلال غطّى وجهه بمنديل.

إنهم لم ينزعجوا من صوت « بلال » بل أحرجتهم مضامين فصول الأذان التي كانت ضدّ ما يحملونه من المعتقدات الباطلة الموروثة ، وجعلتهم يعانون بسبب

ص: 434

ذلك من عذاب روحي شديد.

ثم ان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حين أراد السعي بين الصفا والمروة سمع بأن قريشا تحدثت بينها أن محمّدا وأصحابه في عسرة وجهد وشدة ، وان الذين هاجروا معه الى المدينة مرضى ، وأنهم صفّوا له عند دار الندوة لينظروا إليه وإلى أصحابه ، فهرول رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله هرولة في المكان المعلّم الآن في المسعى ، وتبعه المسلمين وقد قال لهم قبل ذلك.

« رحم اللّه امرأ أراهم اليوم من نفسه قوة » (1).

وذلك ليبطل ما اشاعته قريش حول المسلمين المهاجرين من الضعف والهزال بسبب ظروف المهجر. وهذا إن دل على شيء فانما يدل على امرين :

أولا : جواز القيام بالأعمال السياسية في موسم الحج.

ثانيا : ان النبي صلی اللّه علیه و آله كان حذرا جدا فكان يبطل كل خطط العدو أولا بأول.

يقول صاحب زاد المعاد : أمر النبي بذلك ليرى المشركون جلدهم وقوتهم ، وكان يكايدهم ( أي يبطل كيدهم ) بكل ما استطاع (2).

ثم ان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بعد أن فرغ من السعي نحر البدن ، ثم قصّر من شعره ، ثم خرج من إحرامه ، وتبعه المسلمون في كلّ ما فعل.

ثم أمر صلی اللّه علیه و آله مائتين من أصحابه بعد أن طافوا بالبيت وانتهوا من مناسك العمرة ان يذهبوا إلى أصحابه بمرّ الظهران فيقيموا على السلاح فيأتي الآخرون فيقضوا مناسكهم ، ففعلوا.

انتهت أعمال العمرة ونسكها ، وذهب المهاجرون إلى منازلهم التي هجروها قبل سبعة أعوام ، ليجدّدوا اللقاء بذويهم وأقربائهم بعد طول فراق ، واستضافوا

ص: 435


1- تاريخ الطبري : ج 2 ص 309 وراجع نظيره في زاد المعاد : ج 2 ص 152.
2- زاد المعاد : ج 2 ص 152. ولنا مقال مفصل في هذا المجال تحت عنوان الحج عبادة وسياسة نشر في مجلة الشهيد فراجع.

جماعة من الأنصار في بيوتهم وفاء لجميلهم وتقديرا لخدماتهم حين قدموا عليهم المدينة بعد الهجرة ، فأسكنوهم واكرموهم في منازلهم وخدموهم سنينا عديدة.

النبي يغادر مكة :

تركت أحوال المسلمين وأوضاع الاسلام وجلال الموكب النبوي وعظمته أثرا بليغا وعجيبا في نفوس سكان مكة المشركين ، فقد تعرفوا على نفسية المسلمين النبيلة الطيبة في هذه الزيارة اكثر من أي وقت مضى وكاد ذلك أن « يفعل » فعلته ، ويحدث انقلابا روحيا في تلك البيئة.

ولما رأى زعماء المشركين أن توقف النبي وأصحابه في مكة سيؤثر في عقائد أهل مكة ويضعف تمسكهم بوثنيتهم ، ويوجد علاقات المحبة بينهم وبين المسلمين ، لهذا بعثوا أحدهم وهو حويطب الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله - بعد انقضاء المدّة المقرّرة للاقامة في مكة في المعاهدة - ليطلب منه مغادرة مكة قائلا : انه قد انقضى اجلك فاخرج عنا.

فانزعج بعض أصحاب النبي صلی اللّه علیه و آله من مقالة مبعوث قريش هذا ، ولكن النبي لم يكن بالذي يخالف ما تعهّد به ، ولهذا أمر بأن ينادى في المسلمين بالرحيل فترك هو والمسلمون مكة فورا.

ولقد تأثرت « ميمونة » اخت أمّ الفضل زوجة العباس ، بما شهدت من مشاعر المسلمين وروحانيتهم فأرسلت إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عن طريق عمّها العباس أنها ترغب في الزواج برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فوافق رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله (1) وتزوجها ، وبهذا قوّى علاقاته مع قريش.

ان رغبة فتاة في الزواج بمن يكبرها بسنين عديدة لدليل واضح على مدى التأثير الروحي والمعنوي الذي تركه النبي والمسلمون في النفوس حتى أن النبي

ص: 436


1- حياة محمد : ص 401.

صلی اللّه علیه و آله لما طلب من مبعوث قريش بأن يمهلوه بعض الوقت ليعرس بين أظهرهم ، ويصنع لهم طعاما يحضروه ، أبوا امهاله خوفا من تعاظم تأثيره في النفوس ، وقالوا له : لا حاجة لنا في طعامك فاخرج عنا (1).

فأمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن يخرج المسلمون من مكة في منتصف النهار ولم يبق بمكة إلى وقت الظهر ، وخلّف ابا رافع ليحمل إليه زوجته « ميمونة » حين يمسي ، فأقام أبو رافع حتى أمسى ، فخرج بميمونة ومن معها فلقوا عناء من سفهاء المشركين ، ولاموا « ميمونة » على فعلها ، ولكن كلامهم لم يؤثر قط في نفسها ، فقد رغبت في الزواج برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بدافع الرغبة في خلقه وسموّ أخلاقه.

وهكذا تحققت رؤيا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الصادقة التي رآها قبل سنة واحدة بأنه دخل البيت ، وحلق راسه ، ونزلت بعد هذه الوقائع الآية 27 من سورة الفتح تتحدث عن تحقق هذا الوعد حيث أخبرت ضمنا عن فتح قريب ، - هو فتح مكة - الذي تحقق في السنة الثامنة من الهجرة اذ يقول سبحانه :

« لَقَدْ صَدَقَ اللّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً » (2).

ص: 437


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 372 ، تاريخ الخميس : ج 2 ص 62 - 65.
2- الفتح : 27.

احداث السنة الثامنة من الهجرة

اشارة

47

معركة مؤتة

اشارة

انقضت السنة الهجرية السابعة ، واستطاع المسلمون بفضل معاهدة صلح الحديبية ان يزوروا معا بيت اللّه المعظم ويعتمروا في أمان ، ويردّدوا في مركز حكومة الوثنيين شعارات قوية لصالح عقيدتهم التوحيدية إلى درجة انهم استطاعوا ان يستميلوا نحو الاسلام قلوب جماعة من سراة قريش وزعماء المشركين امثال « خالد بن الوليد » ، « وعمرو بن العاص » (1) و « عثمان بن طلحة » ، فلم يلبثوا أن جاءوا طائعين راغبين الى المدينة ، واعتنقوا الاسلام وقطعوا علاقاتهم بحكومة مكة الوثنية المشركة التي لم يبق منها إلاّ جسم من دون روح ، وهيكل من دون حياة (2).

وذكر بعض المؤرخين اسلام خالد او ابن العاص في السنة الخامسة من الهجرة.

ولكن هذا غير صحيح قطعا لأن « خالدا » كان يقود في الحديبية مائتين من فرسان قريش ، ونحن نعلم أن اسلام هذين الرجلين تمّ في وقت واحد.

كان ثمت أمن نسبيّ يسود اكثر مناطق الحجاز في أوائل السنة الثامنة ، وكان نداء الاسلام قد وصل إلى اكثر النقاط ولم يبق من نفوذ اليهود شيء ، ولم

ص: 438


1- لقد ذكر الواقدي في مغازيه : ج 2 ص 743 و 745 علة اسلام عمرو بصورة اخرى.
2- الطبقات الكبرى لابن سعد : ج 4 ص 252 - 261.

تعد قريش تهدّد المسلمين من ناحية الجنوب ، ولهذا فكر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في أن يركز دعوته على سكان المناطق الحدودية للشام ، ويستميل الى الاسلام قلوب اولئك الاقوام التي كانت في تلك الايام تعاني من ظلم السلطات الروميّة.

ولهذا الغرض وجّه « حارث بن عمير الازدي » مع كتاب إلى « الحارث بن أبي شمر الغساني » ملك « بصرى » الذي كان حاكم الشامات المطلق يومذاك ، وكان يحكم من جانب قيصر.

فلما نزل مبعوث النبي « مؤتة » عرف به شرحبيل وكان حاكم المناطق الحدودية ، فقبض عليه ، وحقق معه ، فاعترف له بانه يحمل كتابا من جانب رسول الاسلام إلى حاكم الشامات المطلق ( الحارث الغساني ) ، فأمر بان يوثق وقدمه وضرب عنقه صبرا مخالفا بذلك كل الأعراف العالمية القاضية باحترام السفراء وحصانتهم.

فعرف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بذلك وغضب لمقتل رسوله بشدّة وندب الناس فأخبرهم بمقتل سفيره ومن قتله ، ودعا المقاتلين المسلمين الى الخروج للاقتصاص من قاتل « الحارث ».

حادثة أفجع من السابقة :

واتفق أن وقعت في نفس الايام حادثة اخرى افجع من الأولى ، أكّدت عزم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على تأديب سكان المناطق الحدودية الشامية الذين سلبوا دعاة الاسلام حرية العمل والدعوة ، وقتلوا دون رحمة ، وعذرا سفير النبي ، وجماعة الدعوة والتبليغ وإليك مفصل الحادثة الثانية :

بعث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في شهر ربيع الاول سنة ثمان من الهجرة على رأس خمسة عشر رجلا إلى منطقة « ذات أطلاح » من ارض الشام ، خلف وادي القرى لدعوة الناس الى الاسلام ، فخرجوا حتى انتهوا إلى تلك

ص: 439

المنطقة فدعوا أهلها إلى الاسلام فلم يستجيبوا لهم ، ورشقوهم بالنبل فلما رأى أصحاب النبي صلی اللّه علیه و آله ذلك قاتلوهم اشدّ القتال ، حتى قتلوا مؤثرين عز الشهادة على ذل الأسر ، وافلت منهم رجل جريح من القتلى ، فلما جنّ الليل تحامل حتى اتى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فاخبره الخبر فشق ذلك على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

فتسبّب العدوان على دعاة الاسلام وقتلهم في ان يصدر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أمرا بالخروج إلى الجهاد في شهر جمادى ، ووجّه جيشا قوامه ثلاثة آلاف مقاتل لتأديب المتمردين ، ومزاحمي دعاة الاسلام.

فتجمع ثلاثة آلاف بعد الاذان بالجهاد في معسكر خارج المدينة يدعى « الجرف » فخرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بنفسه الى ذلك المعسكر ، وخطب في المقاتلين خطابا ، هذا نصه :

« اغزوا بسم اللّه ادعوهم الى الاسلام فإن فعلوا فاقبل منهم واكفف عنهم والاّ فقاتلوا عدوّ اللّه وعدوّكم بالشام ، وستجدون فيها رجالا في الصوامع معتزلين الناس ، فلا تعرضوا لهم ، وستجدون آخرين للشيطان في رءوسهم مفاحص فاقلعوها بالسيوف ، ولا تقتلنّ امرأة ولا صغيرا مرضعا ولا كبيرا فانيا ، لا تغرقنّ نخلا ولا تقطعنّ شجرا ، ولا تهدموا بيتا » (1).

ثم قال : جعفر بن أبي طالب أمير الناس ، فان قتل فزيد بن حارثة ، فان اصيب زيد فعبد اللّه بن رواحة فإن اصيب عبد اللّه بن رواحة فليرتضى المسلمون بينهم رجلا فليجعلوه عليهم.

ثم امر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله المقاتلين بالتحرك نحو الهدف ، وخرج فشيّعهم مع جماعة من اصحابه حتى « ثنية الوداع » وهناك ودّعهم وكان المسلمون المشيعون يقولون : دفع اللّه عنكم وردكم سالمين غانمين ، صالحين.

ص: 440


1- المغازي : ج 2 ص 757 و 758.

ولكن ابن رواحة أجابهم قائلا :

لكنّني أسأل الرحمن مغفرة *** وضربة ذات فرغ تقذف الزبدا

أو طعنة بيدي حرّان مجهزة *** بحربة تنفذ الاحشاء والكبدا

حتى يقال إذا مرّوا على جدثي *** يا أرشد اللّه من غاز وقد رشدا (1).

وأنت أيها القارئ الكريم يمكنك أن تعرف من خلال هذه الابيات عمق ايمان هذا الفارس القائد وحبه للشهادة في سبيل اللّه.

ثم ان الناس رأوا عبد اللّه بن رواحة لما ودع من ودع بكى ، فقالوا ما يبكيك يا ابن رواحة؟ فقال : أما واللّه ما بي حب الدنيا ، ولا صبابة بكم ولكني سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقرأ آية من كتاب اللّه عزّ وجلّ يذكر فيها النار :

« وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا » (2).

فلست أدري كيف لي بالصدور بعد الورود (3).

خلاف حول من هو الامير الاول؟

لقد كتب بعض المؤرخين : أن الامير الاول كان هو زيد بن حارثة ابن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بالتبني ، ثم جعفر بن أبي طالب ، ثم عبد اللّه بن رواحة ، ولكن محققي الشيعة يرون عكس هذا فهم يعتبرون جعفر بن أبي طالب قائد الجيش وزيدا وعبد اللّه معاونين أو خليفتين له على الترتيب فيجب ان نرى أي الرأي يوافق الحقيقة.

لتحصيل الحقيقة في هذا المجال هناك طريقان :

1 - ان زيد بن حارثة لم يكن يعادل من ناحية التقوى والعلم والمكانة

ص: 441


1- بحار الأنوار : ج 21 ص 60 ، الطبقات الكبرى : ج 2 ص 128.
2- مريم : 71.
3- السيرة النبوية : ج 2 ص 374.

الاجتماعية جعفر بن أبي طالب ( جعفر الطيار ).

يقول ابن الاثير عنه : جعفر بن أبي طالب كان اشبه الناس برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله خلقا وخلقا ، أسلم بعد إسلام أخيه عليّ بقليل. روي أن أبا طالب رأى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم وعليا رضی اللّه عنه يصليان وعليّ عن يمينه ، فقال لجعفر : صل جناح ابن عمك وصلّ عن يساره (1).

وجعفر رأس المهاجرين إلى الحبشة الذين هاجروا إليها حفاظا على دينهم وعقيدتهم من الفتنة وهو الذي استمال قلب النجاشي بما تكلم به عنده من الحجة وقرا عليه آيات من القرآن عن المسيح علیه السلام وأمه مريم ، واثبت كذب مبعوثي قريش لاستعادتهم إلى ارض الحجاز ، وهو الذي وفق لأن يخطب ودّ النجاشي ويكسب حمايته للمهاجرين الملاحقين إلى درجة أنه طرد مندوبي قريش (2).

ان جعفرا هو الشخصية البارزة التي لما رآه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يوم خيبر وقد عاد من الحبشة مشى إليه (12) خطوة وعانقه وضمه وقبّل ما بين عينيه وبكى من فرط الشوق إليه وقال في حقه :

« بايهما اسرّ بقدوم جعفر أم بفتح خيبر ».

إنه هو ذلك الرجل العظيم الذي كان يذكر عليّ علیه السلام ، بعد استشهاده شجاعته وبسالته ، فعند ما سمع عليّ علیه السلام بمبايعة عمرو بن العاص لمعاوية ، وتقرّر أن يوكل معاوية حكومة مصر إلى عمرو إذا غلبا عليا ، غضب عليّ علیه السلام من هذا الامر وتذكر شجاعة عمّه حمزة وأخيه جعفر وقال :

لو أنّ عندي يا ابن حرب جعفرا *** او حمزة القرم الهمام الازهرا

ص: 442


1- اسد الغابة : ج 1 ص 287.
2- اسد الغابة : ترجمة جعفر بن أبي طالب ، وغيره من المصادر في هذا المجال.

رأت قريش نجم ليل ظهرا (1).

فهل مع هذه المواصفات والجهات التي نقلنا قسما منها هنا فقط يجيز العقل أن يفوّض رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قيادة القوات إلى زيد ويجعل جعفر معاونه او خليفته الاول.

2 - ان الأشعار التي انشدها شعراء الاسلام الافذاذ في رثاء هؤلاء القادة بعد استشهادهم حاكية عن ان القائد الاعلى في هذه المعركة الكبرى ( مؤتة ) كان « جعفر » وكان أمر المعاونة والخلافة يرتبط بالرجلين الآخرين ، فهذا « حسان » شاعر عصر الرسالة انشد شعرا بعد أن بلغه استشهاد اولئك القادة بصورته المفجعة قال فيه :

فلا يبعدن اللّه قتلى تتابعوا *** بمؤتة منهم ذو الجناحين جعفر

وزيد وعبد اللّه حين تتابعوا *** جميعا وأسباب المنية تخطر (2)

فكلمة تتابعوا تشهد بجلاء على أن مقتل هؤلاء القادة الذين ذكرهم تمّ على النحو الذي جاء ذكرهم ، يعنى أن جعفرا كان اول الشهداء ثم تلاه في قيادة الجيش الاسلامي ثم الشهادة زيد ، ثم ابن رواحة.

وان اوضح الادلة على ذلك قصيدة « كعب بن مالك » في رثاء شهداء مؤتة ، التي يصرح فيها بان جعفر كان هو القائد الأول ، وقد كان صاحب هذه الأبيات ممن شاهد تفويض أمر القيادة العليا للجيش من جانب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى جعفر.

يقول كعب في قصيدته :

إذ يهتدون بجعفر ولوائه *** قدّام أوّلهم فنعم الأول (3)

إن هذه القصائد الرثائية التي انشدت في أعقاب استشهاد اولئك القادة ، وسلمت من يد التحريف اقوى شاهد على ان ما كتبه مؤرّخو السنّة حول هذا

ص: 443


1- وقعة صفين : ص 49.
2- السيرة النبوية : ج 2 ص 384.
3- السيرة النبوية : ج 2 ص 386.

المطلب يخالف الحقيقة ، وأن الرواة اختلقوا هذا الترتيب لدوافع وأغراض سياسية لا مجال لذكرها ، وبيانها هنا ، وقد تبعهم في ذلك كتّاب السيرة وادرجوه في كتبهم من دون تمحيص وتحقيق.

والعجب أن ابن هشام الذي نقل كل هذه الابيات والقصائد قال : ان جعفر كان المعاون الأول لزيد بن حارثة ، وليس القائد الأعلى للجيش ، وهو كما ترى تناقض مكشوف (1).

جيشا الروم والاسلام يتواجهان :

كانت « الروم » قد اصيبت يومذاك - نتيجة الحروب العديدة والطويلة مع منافستها ايران - بالفوضى ، والهرج والمرج الشديدين.

فمع ان قادة الروم كانوا سكارى من نشوة الانتصار على ايران إلاّ أنهم قد بلغهم شيء كثير عن شجاعة المسلمين وبسالتهم النابعة من إيمانهم والتي كسبوا عن طريقها أمجادا عظيمة ، وكانوا يراقبون على الدوام تحرك جنود الاسلام ونشاطاتهم العسكرية.

ولهذا لما بلغ هرقل قيصر الروم بموعد توجه جنود الاسلام الى ناحية الشام لتاديب عميله شرحبيل الغساني ، أرسل جيشا عظيما وقويا لمواجهة جنود الاسلام البالغ عددهم ثلاثة آلاف.

وقد اعدّ « شرحبيل » حاكم ارض الشام وحده مائة ألف فارس من مختلف القبائل القاطنة في الاراضي الشامية ووجهه الى حدود الشام لإيقاف تقدم الجيش الاسلامي ، وقد أعدّ قيصر قبل ذلك مائة ألف جندي رومي فنزل في منطقة تدعى « مآب » من مدن البلقاء ، واستقرّ هناك كقوة احتياطيّة تتدخل عند اللزوم (2).

ص: 444


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 380.
2- المغازي : ج 2 ص 760 ، السيرة النبوية : ج 2 ص 375.

ولقد كان تجميع هذا القدر الهائل من الجنود والمقاتلين لمواجهة جيش يقلّ عددا بكثير عن هذا القدر نابعا من الانباء التي بلغت قادة الروم والشام عن فتوحات المسلمين وانتصاراتهم الساحقة ، وعن الوقوف على شجاعتهم وبسالتهم التي ذاع صيتها ، وإلاّ فان عشر هذا العدد ، ( أي عشرون ألف ) يكفي لمواجهة ثلاثة آلاف مقاتل مهما كانت شجاعة هؤلاء.

كما أنه لدى المقارنة بين العسكرين كان الجيش الاسلامي أضعف من جيش الروم بكثير ، سواء من ناحية العتاد ، أو من ناحية المعرفة بفنون القتال وتكتيكاته العسكرية ، لان القادة العسكريين الروم كانوا قد كسبوا خبرة حربية واسعة نتيجة المشاركة في الحروب العديدة والطويلة التي دارت بين الروم وبين ايران ، وعرفوا بالتالي مفاتيح الانتصار ، بينما كانت معلومات الجيش الاسلامي الناشئ معلومات بدائية وبسيطة في هذا المجال.

هذا مضافا إلى عدم وجود التكافؤ بين الجيش الاسلامي والجيش الروماني في نوعية المعدّات الحربية والاجهزة القتالية ووسائل النقل وما شابه ذلك.

وفوق هذا وذلك فان القوّة الاسلامية كانت تحارب في أرض غريبة عليها ، وتقوم بدور المهاجم ، بينما كان الرومان يقاتلون في بلادهم دفاعا وهم يتمتعون بجميع مستلزمات القتال ومتطلبات الحرب.

وفي مثل هذه الحالة يجب ان تكون القوة المهاجمة قوية جدا ، بحيث يمكنها ملاقاة سلبيات الظروف غير المساعدة.

ومع هذا فإننا سنرى عما قريب كيف أن قادة الجيش الاسلامي قاوموا وآثروا الصمود والقتال على الهروب والفرار مع انهم كانوا يرون الموت على بعد أقدام معدودة منهم ، وبهذا أضافوا إلى أمجادهم أمجادا اخرى ، وسطروا اسطرا اخرى في سجلّ بطولاتهم.

منذ أن ورد المسلمون المناطق الحدودية للشام عرفوا باستعدادات العدوّ العريضة ، وحجم قدراته العسكرية الواسع فشكّلوا من فورهم شورى عسكرية

ص: 445

فقال البعض : نكتب الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فنخبره الخبر ، فإما يردنا وإما يزيدنا رجالا. وكاد هذا الرأى ان يلقى قبولا من المشاورين الآخرين لو لا أن « عبد اللّه بن رواحة » الذي طلب ساعة خروجه من المدينة من اللّه ان يرزقه الشهادة كما اسلفنا ، شجعهم على الصمود وقال : « واللّه ما كنا نقاتل الناس بكثرة عدد ، ولا بكثرة سلاح ، ولا بكثرة خيول ، إلا بهذا الدين الذي أكرمنا اللّه به ، انطلقوا ، واللّه لقد رأيتنا يوم بدر ما معنا إلاّ فرسان ، ويوم احد فرس واحد ، وإنما هي إحدى الحسنيين ، إما ظهور عليهم ، فذلك ما وعدنا اللّه ووعدنا نبينا ، وليس لوعده خلف ، وإما الشهادة فنلحق بالإخوان نرافقهم في الجنان ».

فقوّت هذه الخطبة الحماسية الصادقة معنويات المقاتلين المسلمين وبثت فيهم روح البسالة والمقاومة.

ثم تواجه الجيشان في منطقة تدعى « مشارف » ولكن جنود الاسلام تأخروا وانسحبوا قليلا لبعض العلل ، ونزلوا في مؤتة. فقسم جعفر بن أبي طالب قائد الجيش ، جنود الاسلام إلى اقسام : مختلفة ، وأمّر على كل قسم اميرا ، ثم بدأت المبارزة الفردية على نحو ما كان متعارفا في حروب العرب ، فكان على جعفر ان ياخذ اللواء بيده ويوجّه صفوف المقاتلين المسلمين ، ويقاتل في نفس الوقت.

ثم اننا نكتشف مدى الشجاعة الروحية وثبات الارادة لتحقيق الهدف من خلال الرجز الذي أنشده « جعفر » خلال القتال فقد أخذ يرتجز ويقول :

يا حبّذا الجنة واقترابها *** طيبة وباردا شرابها

والروم روم قد دنا عذابها *** كافرة بعيدة أنسابها

عليّ إذ لاقيتها ضرابها (1)

ولقد قاتل قائد الجيش الاعلى ( جعفر ) قتالا عظيما ، فلما حاصره الأعداء في ساحة القتال وأيقن بالشهادة وثب الى الارض ثمّ عقر فرسه في الحال لكي

ص: 446


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 378.

لا ينتفع به العدوّ واخذ يقاتل ، وهو آخذ باللواء بيمينه ، فقطعت يمينه فاخذه بشماله فقطعت فاحتضنه بعضديه حتى لا يسقط لواء رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على الأرض حتى قتل وقد وجد به ثمانون جراحة او تزيد!! (1).

فلما قتل « جعفر » أخذ الراية « زيد بن حارثة » معاونه الاول فقاتل ببسالة عظيمة حتى قتل برماح القوم.

فاخذ الراية « عبد اللّه بن رواحة » معاونه الثاني ، ثم تقدّم بها وهو على فرسه ، فجعل يقاتل ويرتجز ، فاحسّ بالجوع أثناء القتال ، وألحّ عليه ، فاتاه رجل بعرق من لحم ليزيل به جوعه ويشدّ به صلبه ، فلم يأكل منه شيئا حتى سمع صوت هجوم العدوّ ، فالقى الطعام من يده ، ثم أخذ سيفه فتقدم فقاتل حتى قتل.

حيرة المقاتلين المسلمين بعد مقتل القادة :

وهنا بدأت حيرة المقاتلين المسلمين ، فقد قتل القائد الأعلى للجيش ومعاوناه وعلى الترتيب الذي ذكر.

ولكن النبي صلی اللّه علیه و آله كان قد تحسّب لهذه الحالة ، وترك أمر اختيار القائد في مثل هذا الوضع إلى الجنود انفسهم ، فأخذ الراية « ثابت بن أقرم » وقال : يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم. فقالوا : أنت ، قال : ما أنا بفاعل ، فاصطلح على « خالد بن الوليد » الذي كان حديث عهد بالاسلام آنذاك.

ولقد كانت الساعة التي انيط فيها القيادة الى خالد ساعة خطيرة وحساسة جدا ، حيث قد تغلّب الخوف والرعب على المسلمين كافة.

فعمد القائد الجديد إلى استخدام تكتيك عسكري لم يعرف له مثيل ، فقد

ص: 447


1- المغازي : ج 2 ص 761. وقد اثابه اللّه بذلك جناحين في الجنة يطير بهما في الجنة وسمى في ما بعد بجعفر الطيار ، راجع السيرة النبوية : ج 2 ص 378.

امر بالعسكر إذا جنّ الليل أن يحدث بعض التغييرات في صفوفه من دون ضجيج فتنتقل الميسرة الى الميمنة ، والميمنة الى الميسرة ، وتتأخر المقدمة الى مكان القلب ، ويتقدم القلب الى موضع المقدمة. ففعل المسلمون ذلك ، واستمرّت هذه التغييرات حتى طلوع الفجر.

كما أنه امر جماعة من المسلمين المقاتلين أن يخرجوا من الجيش ليلا ، ويذهبوا إلى مكان بعيد فاذا اسفر الصبح التحقوا بالمسلمين سريعا وهم يكبّرون حتى يظن العدوّ وصول امدادات عسكرية بشرية جديدة الى المقاتلين المسلمين وقد تسبب هذا التكتيك بنفسه في أن يحجم الجيش الكافر عن مهاجمة المسلمين واستئصالهم ، بعد ان قتل خيرة قادتهم.

فلما كان الصبح ورأى العدو وجوها جديدة ، كما رأوا إمداد المسلمين بمجموعة عسكرية جديدة قالوا : قد جاءهم مدد. فرعبوا وانهزموا فقاتلهم المسلمون ، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة ، وقتل في هذا الاثناء أحد الجنود المسلمين.

ثم ساد الموقف صمت رهيب ، فاستفاد من هذا الصمت والأمن الذي كان يخيم على الجيش فرجعوا من حيث اتوا.

إن اكبر انتصار للمسلمين هو ان قوة قليلة محدودة واجهت جيشا عظيما منظما ثلاثة أيام ، وبالتالي نجوا بأنفسهم ، وكان تدبير الامر الجديد تدبيرا حكيما خلّص المسلمين من موت محتم ، فعادوا سالمين إلى المدينة ، وكان هذا ممّا يشكرون عليه ، ويستحقون الثناء والثناء (1).

الجنود يعودون الى المدينة :

وقبل ان يقدم جنود الاسلام من « مؤتة » المدينة كانت قد وصلت إلى المسلمين أنباء انسحابهم وانباء سيئة عن وضع الجيش ، من هنا ذهب المسلمون الى

ص: 448


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 381 و 388 و 389.

منطقة الجرف لاستقبالهم.

ومع ان عمل القائد الجديد كان تكتيكا حكيما الاّ ان مثل هذا الصنيع حيث انه كان يتنافى مع ما حققه المسلمون من أمجاد مشرقة وتنافي مشاعرهم وبسالتهم الذاتية والاصيلة لذلك استقبلوهم بشعارات نابية وانتقادات جارحة والقوا بالتراب والحجارة في وجوه المقاتلين العائدين ، وقالوا : يا فرّار ، فررتم في سبيل اللّه؟

وقد كانت ردة فعل بعض المسلمين قويّة جدا الى درجة انه اضطر بعض الشخصيات التي شاركت في تلك المعركة إلى ان يقعد في بيته ، ولا يظهر في الملأ ، فكان الناس - إذا خرجوا - يشيرون إليهم بالاصابع ويقولون : ألا تقدمت مع أصحابك؟ (1).

ولقد كانت ردة فعل المسلمين تجاه عملية انسحاب جنود الاسلام الزكية ، كاشفة عن روح الشهامة والجهاد التي أوجدها الايمان باللّه والايمان بيوم القيامة في نفوسهم بحيث صاروا يعدّون القتل والشهادة في سبيل اللّه ، أفضل من الانسحاب والتأخر.

اسطورة بدل التاريخ الصحيح :

حيث إن الامام علي بن أبي طالب علیه السلام قد اشتهر بين المسلمين بأسد اللّه ، لذلك أراد البعض أن ينحتوا تجاه هذا القائد قائدا آخر ، ويمنحونه لقب سيف اللّه ، ولم يكن ذلك إلاّ خالد بن الوليد من هنا قالوا ان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لقب خالد بن الوليد بعد رجوعه من معركة « مؤتة » بسيف اللّه (2)

ولو أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله منح مثل هذا اللقب لخالد في مناسبة

ص: 449


1- المغازي : ج 2 ص 765.
2- السيرة النبوية : ج 2 ص 382 ، السيرة الحلبية : ج 2 ص 79.

اخرى لما كان للبحث والنقاش مجال.

ولكن الاوضاع بعد معركة « مؤتة » ما كانت توجب بل ولا تسمح بأن يعطيه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مثل هذا اللقب ، فهل من يرأس فريقا يسميه المسلمون الفرّار ، ويحثون في وجوههم التراب يحسن أن يعطي في مثل هذه المناسبة لقب سيف اللّه؟ أجل ؛ لو أنّ خالدا كان مظهرا لسيف اللّه في غزوات ومعارك اخرى امكن القبول بذلك ، أما في هذه العركة فلم يكن مظهرا لسيف اللّه ، ولم يصدر منه بعد تقليده إمارة الجيش إلاّ تكتيك نظاميّ حكيم ، ولما وصف هو ومن معه بالفراريون ، خاصة ان ابن سعد يكتب قائلا : فاصطلح الناس على خالد بن الوليد ، فأخذ اللواء ، وانكشف الناس فكانت الهزيمة فتبعهم المشركون فقتل من قتل من المسلمين (1).

إن مختلفي هذه الاسطورة أضافوا لتاكيد مطلبهم هذه الجملة أيضا : قال خالد : لقد اندق يومئذ ( أي يوم مؤتة ) في يدي سبعة أسياف فما ثبت بيدي إلا صفيحة يمانية (2).

ان مختلق هذه الكذبة غفل تماما عن أن خالدا وجنوده لو كانوا ابدوا في هذه المعركة مثل هذه البسالة ولو انجزوا في هذه الحرب مثل هذا العمل العظيم فلما ذا سمّاهم أهل المدينة بالفرّار؟ او لما ذا حثوا التراب في وجوههم؟ ولما وقع الناس في خالد بعينه (3) ، إذ كان من اللازم في هذه الصورة أن يزرعوا طريقهم بالورود ، ويقربوا بين أيديهم القرابين ابتهاجا بعودتهم الظافرة واعجابا بعملهم الجبار!!

النبيّ يبكي بشدة لمقتل جعفر :

لقد بكى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في مقتل ابن عمه « جعفر » بشدة

ص: 450


1- الطبقات : ج 2 ص 129 ، امتاع الاسماع : ج 1 ص 349.
2- اسد الغابة : ج 2 ص 94.
3- السيرة الحلبية : ج 3 ص 68 وغيره.

ولكي تعرف زوجته اسماء بنت عميس بمصرع زوجها دخل عليها ، فقال لاسماء : ايتيني ببني جعفر.

فجاءت بهم إليه فضمّهم وشمهم ، ثم ذرفت عيناه ثم بكى ، فعرفت أسماء بمصرع زوجها فصاحت وبكت ثم خرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى اهله وقال :

« لا تغفلوا آل جعفر من أن تصنعوا لهم طعاما ، فإنّهم قد شغلوا بأمر صاحبهم ».

وكان كلما تذكر جعفرا وزيد بن حارثة بكى (1).

ص: 451


1- بحار الأنوار : ج 21 ص 54 ، المغازي : ج 2 ص 766 والسيرة الحلبية : ج 3 ص 68 ، وامتاع الاسماع : ج 1 ص 351.

48

غزوة ذات السلاسل

منذ أن هاجر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى المدينة ، وأصبحت « المدينة » مركز الإسلام وقاعدته ، وموضع تمركز المسلمين وعاصمتهم ، ظلّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يراقب أوضاع أعداء الاسلام ، ويرصد تحركاتهم ، ومؤامراتهم ، وكان يولي مسألة تحصيل المعلومات المفصّلة عن المتآمرين من المشركين وغيرهم اهتماما كبيرا ، ويعمد دائما إلى اختيار أفضل العناصر لإرسالهم - بمختلف الحجج - إلى نواحي مكة ، وبثّهم في القبائل المشركة المختلفة لتجسس أخبارهم ، والتعرف على نواياهم ، وتدابيرهم.

ولقد استطاع النبي صلی اللّه علیه و آله بفضل الاطّلاع المبكّر والدقيق على المؤامرات التي كانت تحاك ضدّه أن يفشّل الكثير من خططهم.

فقد كان صلی اللّه علیه و آله يباغت العدوّ ، ويحاصره قبل أن يتحرك من مكانه ، عن طريق المجموعات العسكرية التي كان يقودها بنفسه ، أو التي كان يؤمّر عليها أحد أركان جيشه ويوجّهها صوب مكان تجمع العدو ، فيفرّقون جمعهم ، ويشتتون شملهم ، ويقضون على المؤامرة في مهدها ، وبهذا كان الكيان الاسلامي في أمن من خطر الأعداء ، وكان هذا العمل وهذا التدبير يجنّب الطرفين المزيد من إراقة الدماء ، وإزهاق الأرواح.

إنّ الاطّلاع المبكّر على أسرار العدوّ العسكرية ، ومعرفة حجم طاقاته ، ومبلغ استعدادته ، واكتشاف خططه ، وتكتيكاته يعدّ من العوامل الجوهرية ، والمؤثرة في

ص: 452

الظفر والانتصار.

فللدّول الكبرى اليوم أجهزة طويلة وعريضة ، وتشكيلات واسعة ، ومعقّدة لإعداد وتخريج الجواسيس البارعين ، وإرسالهم إلى النقاط والمراكز المطلوب اكتشاف أسرارها ، والتعرف على أوضاعها وخصوصياتها ، وترصد هذه الدول ميزانيات ضخمة لهذا الغرض (1).

وكان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أوّل من ابتكر في تاريخ الاسلام هذا العمل في صورته المنظّمة ، وتبعه في ذلك الخلفاء الذين جاءوا من بعده ، وبخاصّة الامام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب الذي كان يستعين بجواسيس وعيون كثيرين في مجالات مختلفة ، عسكرية ، وإدارية.

فكان علیه السلام إذا نصب واليا على بلد ، جعل عليه عينا يراقب أعماله وتصرّفاته ، ويخبر الإمام بها أوّلا بأوّل ، فكان الإمام يكتب إلى ذلك الوالي ، ويوبّخه على تصرفاته وانحرافاته إن بلغه شيء من ذلك (2).

ولقد كلّف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في السنة الثانية ثمانية رجال من المهاجرين ، بالتوجّه تحت إمرة « عبد اللّه بن جحش » إلى موضع معين ، والنزول فيه ، للتعرف على نشاطات قريش ، ومؤامراتهم.

وقد كان عدم مفاجأة قريش للنبيّ صلی اللّه علیه و آله في معركة « احد » وخروجه المبكّر من المدينة بقواه ، وجنوده ، والنزول في منطقة مناسبة عسكريا خارجها ، وحفره المبكّر أيضا للخندق المعروف في شمال المدينة ، والذي منع العدو ( جيش الأحزاب ) من اقتحام المدينة المنوّرة ، كل ذلك كان نابعا من معرفة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله المسبقة والدقيقة بأسرار العدوّ ، ونواياه ،

ص: 453


1- راجع : كتاب : المخابرات والعالم وغيره.
2- راجع : نهج البلاغة قسم الرسائل والكتب ، رقم 33 و 45 وكتاب الغارات. هذا وقد بحثنا موضوع الاستخبارات والتجسس في النظام الاسلامي بصورة مسهبة في كتابنا: معالم الحكومة الاسلامية، فراجع.

وحجم قواته ، وبالأرض ، وذلك عن طريق عيونه وجواسيسه الاذكياء اللبقين ، اليقظين الذين كانوا يرصدون - بدقة وباستمرار - أوضاع العدوّ ، وتحركاته ، وينقلون معلوماتهم إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وبذلك كانوا يقومون بواجبهم الديني في مجال الحفاظ على عقيدة التوحيد ، وصيانتها من خطر السقوط.

إنّ هذا التدبير الذكيّ ، والطريقة الحكيمة التي ابتكرها وأخذ بها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله تعتبر أكبر درس للمسلمين اليوم ، ودائما.

ولهذا يتوجب على قادة المسلمين المخلصين أن يعرفوا بكل ما يحاك - في بلاد الاسلام او في غيرها من بلاد العالم - من مؤامرات ضدّ المسلمين ، وما يدبّر من خطط لتقويض دعائم الاسلام ، ويبادروا إلى إطفاء شرارات الفتن في مهدها ، وقبل اشتعالها ، وأن يسلكوا نفس المسلك الذي سلكه رسول الاسلام صلی اللّه علیه و آله ليحصلوا على ذات النتيجة ، ولا شك أنّ مثل هذا العمل لا يتيسّر من دون أجهزة مناسبة ، ومن دون تشكيلات خاصّة.

ولقد استطاع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في غزوة « ذات السلاسل » الذي هو موضوع بحثنا الآن ، أن يطفئ نار الفتنة عن طريق استخدام المعلومات الدقيقة التي حصل عليها عن العدوّ.

ولو أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أغلق على نفسه هذا الباب لتحمّل خسائر لا تجبر ، ولتعرّضت الكثير من جهوده المباركة في سبيل نشر الدعوة الاسلامية لخطر الفشل والإخفاق.

تفاصيل هذه الغزوة :

لقد أبلغ العيون وعناصر المخابرات الاسلامية رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بأن آلافا من الناس قد تحالفوا وتعاقدوا في ما بينهم في منطقة تدعى ب- : « وادي اليابس » على التوجّه إلى المدينة المنوّرة للقضاء على الاسلام بكل ما لديهم من قوة ، فإمّا أن يقتلوا في هذا السبيل ، أو يقتلوا « محمّدا » أو فارسه البطل الفاتح

ص: 454

« علي بن أبي طالب »!!

ويقول علي بن إبراهيم في تفسيره : « نزل جبرئيل على محمّد صلی اللّه علیه و آله وأخبره بقصتهم ، وما تعاقدوا عليه وتواثقوا » (1).

غير أنّ شيخ الشيعة ومحققهم الكبير المرحوم « الشيخ المفيد » ( المتوفى عام 413 ه ) يقول : بأنّ أعرابيا جاء إلى النبيّ صلی اللّه علیه و آله ، وأخبره باجتماع قوم من العرب بوادي الرمل (2) للتآمر عليه ، وعلى الاسلام ، ( واضاف ) بأنهم يعملون على أن يبيّتوه بالمدينة (3).

فرأى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن يطلع المسلمين على هذا الأمر ، فأمر مؤذنه بان ينادي : الصلاة جامعة وهي جملة كان يراد منها اجتماع الناس للصلاة واستماع أمر مهمّ وذي بال.

فعلا مؤذن النبي صلی اللّه علیه و آله مكانا مرتفعا ونادى : الصلاة جامعة ، فسارع المسلمون إلى الاجتماع في مسجد النبي صلی اللّه علیه و آله ثم رقى النبيّ صلی اللّه علیه و آله المنبر وقال في ما قال :

« أيّها الناس ، إنّ هذا عدوّ اللّه وعدوّكم قد عمل على أن يبيّتكم فمن لهم؟ ».

فانتدب جماعة أنفسهم لهذا الأمر ، وأمّر عليهم النبيّ صلی اللّه علیه و آله أبا بكر ، فتوجه أبو بكر بتلك المجموعة إلى قبيلة « بني سليم » ، ولما سار بهم مسافة واجه أرضا خشنة وكانت قبيلة « بني سليم » تسكن في شعب واسع ، فلمّا أراد المقاتلون المسلمون ان ينحدروا إلى الشعب عارضهم بنو سليم وقاوموهم ، فلم ير قائد المجموعة بدّا من الانسحاب بمجموعته والرجوع بهم من حيث أتى!!

ص: 455


1- تفسير علي بن ابراهيم : ج 2 ص 334 سورة العاديات.
2- يحتمل أن يكون وادى الرمل هو وادى اليابس نفسه. وذلك للمناسبة بين الوصفين.
3- الارشاد : ص 86.

يقول علي بن إبراهيم في تفسيره : قالوا ( أي بني سليم لابي بكر ) : ما أقدمك علينا؟

قال : أمرني رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن أعرض عليكم الاسلام فان تدخلوا فيما دخل فيه المسلمون لكم ما لهم ، وعليكم ما عليهم ، وإلاّ فالحرب بيننا وبينكم.

فهدّده زعماء تلك القبيلة - وهم يباهون بكثرة رجالهم ومقاتليهم - بقتله وقتل من معه ، فارعب لتهديدهم وعاد بجماعته إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله رغم أن أفراده كانوا يصرّون على مقاتلة بني سليم تنفيذا لأوامر النبي صلی اللّه علیه و آله !!

ولقد أزعجت عودة الجيش الاسلامي بهذه الصورة المهينة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فأمر عمر بن الخطاب أن يتولى قيادة تلك المجموعة ويتوجه بها إلى « وادي اليابس » ، ففعل عمر ذلك.

ولكن العدوّ كان قد ازداد - هذا المرة - يقظة وتحسبا فكمن عناصره عند فم الوادي ، واختبئوا وراء الاحجار والاشجار بحيث يرون المسلمين ، ولا يراهم من المسلمين أحد.

ولهذا خرجوا على المسلمين بغتة عند ما حلّ الجيش الاسلامي بذلك الوادي ، وقابلوهم ببسالة وشجاعة ، فأمر قائد المجموعة الاسلامية أفراده بالانسحاب ، وعاد بهم إلى المدينة مهزوما مذعورا كسابقه ، فلقي من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ما لقيه صاحبه من قبل من الاستياء ، والكراهية.

وهنا قال عمرو بن العاص وكان من دهاة العرب وساسته الماكرين ، وقد كان يومئذ قريب عهد بالاسلام : ابعثني يا رسول اللّه إليهم ، فإن الحرب خدعة ، فلعلّي أخدعهم!

فانفذه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مع جماعة ووصّاه فلما صار إلى الوادي خرج إليه بنو سليم فهزموه ، وقتلوا من أصحابه جماعة!

ص: 456

الامام عليّ ينتدب لقيادة العملية :

هذه الهزائم المتلاحقة أزعجت المسلمين وأحزنتهم بشدة فعمد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى تنظيم مجموعة جديدة واختار لقيادتها « عليّ بن أبي طالب » ، وأعطاه راية.

وطلب عليّ علیه السلام من زوجته « فاطمة » بنت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن تأتي له بالعصابة التي كان يشدّها على جبينه في اللحظات الصعبة ، فتعصّب بها ، فحزنت « فاطمة » لمنظر زوجها وهو يتوجه بمثل هذه الصورة إلى « وادى اليابس » للقيام بأمر خطير ، وبكت إشفاقا عليه ، فسلاّها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وهدّأها ، ومسح الدموع عن عينيها (1).

ثم انّه صلی اللّه علیه و آله شيّع عليّا حتى بلغ معه مسجد الأحزاب ، وعليّ راكب على فرس أبلق ، وقد لبس بردين يمانيّين ، وحمل رمحا هنديا بيده.

ثم توجّه عليّ علیه السلام بأفراده نحو الهدف ، إلاّ أنه سلك طريقا غير الطريق المعروفة ليعمّي على العدوّ ، حتى أن الذين خرجوا معه تصوّروا أنه يقصد العراق ، وقد قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في علي علیه السلام حينما وجّهه لهذه المهمة :

« أرسلته كرارا غير فرّار ».

إن تخصيص « عليّ » علیه السلام بهذه الجملة يكشف عن أن القادة الذين سبقوه في هذه الحادثة لم ينسحبوا فقط ، بل كان انسحابهم مقرونا بالهزيمة القبيحة.

* * *

عوامل انتصار الامام عليّ في هذه الموقعة :

هذا ويمكن أن نلخّص عوامل انتصار الامام عليّ علیه السلام في هذه الموقعة

ص: 457


1- بحار الأنوار : ج 21 ص 81 ، الارشاد : ص 87.

في ثلاثة امور اساسية هي :

1 - أنه علیه السلام أخفى مسيره ووجهته على العدوّ ، فلم يشعر العدوّ بوجهته ومقصده ، لأنّه غيّر مسيره حتى لا يعرف العدو به بواسطة الأعراب من سكان البادية.

2 - أنه علیه السلام اتّبع مبدءا هامّا من مبادئ العمل العسكري ، واستخدم تكتيكا مهمّا من التكتيكات الحربية وهو : مبدأ الكتمان والتستّر ، فقد كان علیه السلام يسير بأفراده ليلا ، ويكمن نهارا ، يستريح خلاله.

وهكذا حتى دنا من ارض العدوّ ، وقبل أن يصل فم الوادي أمر جنوده بالنزول والاستراحة لاستعادة نشاطهم من جهة ، ولكي لا يحسّ العدو بمجيئهم من جهة اخرى.

ولهذا السبب الأخير نفسه أمر علیه السلام جنوده بان يكمّوا أفواه خيولهم حتى لا يشعر العدوّ بوجودهم بصهيلها.

وعند الفجر صلّى « عليّ » علیه السلام بجنوده صلاة الصبح ، ثم صعد بهم الجبل حتى وصل إلى القمة ، ثم انحدر بهم - بسرعة فائقة - إلى الوادي حيث يسكن « بنو سليم » فاحاطوا بهم وهم نيام ، فلم يستيقظوا إلاّ وقد حاصرهم المسلمون ، فاسروا منهم فريقا ، وفرّ آخرون.

3 - شجاعة « عليّ » علیه السلام وبسالته النادرة فهو الذي قتل الشجعان الاربعة المعروفين في تلك الموقعة فارعب العدو إرعابا شديدا فقد معه القدرة على المقاومة في وجه عليّ علیه السلام ففرّ تاركا وراءه شيئا كثيرا من الغنائم (1).

ولقد عاد بطل الاسلام الظافر إلى المدينة بفتح لا سابق له ، فخرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في جماعة من أصحابه لاستقباله ، واستقبال من معه من جنود الاسلام.

ص: 458


1- تفسير فرات الكوفى : ص 222 - 226 ، مجمع البيان : ج 10 ص 538.

وما أن وقعت عينا القائد الفاتح على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حتى ترجّل من فرسه فورا ، فقال له رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وهو يربت على كتفه :

« اركب فانّ اللّه ورسوله عنك راضيان ».

وفي هذه اللحظة بالذات اغرورقت عينا « عليّ » علیه السلام بالدموع استبشارا فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في شأن « عليّ » علیه السلام قولته المعروفة :

« يا عليّ لو لا أنّي اشفق أن تقول فيك طوائف من امتي ما قالت النصارى في المسيح لقلت فيك اليوم مقالا لا تمرّ بملإ من الناس إلاّ أخذوا التراب من تحت قدميك » (1).

ولقد بلغت تضحية « عليّ » علیه السلام وبسالته ، وشجاعته في هذه الواقعة من الأهمية بحيث نزلت فيها سورة كاملة هي سورة العاديات التي يقول سبحانه فيها :

« بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْعادِياتِ ضَبْحاً فَالْمُورِياتِ قَدْحاً فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً ».

إن القسم بخيول الغزاة المغيرين صبحا ، والمشعلين بحوافرها شرارات الفتح والانتصار.

إنّ هذا القسم الحماسيّ الجميل لهو تكريم رائع لبطولات جنود الاسلام في هذه العملية الظافرة ، واكبار بروحهم القتالية العالية.

اعتراض وجواب

هذا ولقد اعترض بعض الملحدين ذات مرّة على هذا النوع من الأيمان

ص: 459


1- الارشاد : ص 84 - 86.

والأقسام في القرآن الكريم وقال ساخرا : وما ذا يعني القسم بالخيول الضابحة ، العادية ، والشرارات المنقدحة من حوافرها؟!

ولقد غاب عن هذا الملحد أن القسم بخيول الغزاة المجاهدين أو القسم بالشرارات المنقدحة من حوافرها بسبب احتكاكها بالصخور في أرض المعركة إنما إشعار بأهمية الجهاد ضدّ الظالمين أعداء البشرية.

إنّ مثل هؤلاء الجنود البواسل ليسوا وحدهم الذين يحظون - في نظر الاسلام - بمنزلة رفيعة ومكانة عالية ، بل خيولهم التي تحملهم في هذا الجهاد المقدّس ، وكذا الشرارات التي تنقدح من حوافرها تحظى بالقداسة والأهمية أيضا.

وأية قيمة - ترى - أعلى من محاربة الظالمين الجائرين ، وانقاذ البشرية من براثن ظلمهم وجورهم ، ومن حيفهم وعسفهم؟؟

إنّ مثل هؤلاء وما يمكّنهم من أهدافهم من الأدوات ، والوسائل مقدّسون جميعا ، لأنهم يحررون - بجهادهم - الانسان من قيود الطغاة ، الظالمين ، ويمهّدون لحاكمية اللّه في الأرض ، واى هدف أعلى واعظم قدسية من هذا الهدف؟

ولقد دعا القرآن الكريم المؤمنين - من خلال تقديس خيول المجاهدين وضبحهم وعدوهم وشرارات حوافرهم - إلى العناية بالجهاد دائما ، وإلى تجميع قواهم ، والاستعداد لكسر القيود التي ترزح على أيدي البشرية وأرجلها وعقولها ، والى تحطيم القلاع التي ضربها الطغاة على الشعوب المغلوب على أمرها.

أجل ؛ إن فرق التحرير والجهاد الاسلامية لا تستحق وحدها التقديس والاكبار بل تستحق خيولها ومراكبها ، وشرارات حوافرها التقديس كذلك.

ولقد استبدلت تلك الخيول هذا اليوم بالدبّابات والطائرات فهي مقدسة أيضا ، كما كانت خيول الغزاة والمجاهدين في عصر الرسالة ، كما وأن أزير محركاتها ، هو الآخر يحظى بالتقديس كما كانت أنفاس الخيول تحظى بالتقديس في عصر الرسالة لأنها تحقق ذات الهدف ، ونفس الغاية المقدسة وهي : تحرير الانسان من براثن الظلم والطغيان.

ص: 460

هذا هو ملخص غزوة « ذات السلاسل » التي سجّلها وضبطها مفسّرو الشيعة ، ومؤرّخوهم ، ورووها بإسناد صحيحة.

غير أن مؤرّخي أهل السنة كالطبري (1) روى هذه الواقعة بنحو آخر يختلف عما ذكرناه هنا ، اختلافا شاسعا.

ولا يبعد أن يكون « ذات السلاسل » اسما لغزوتين نقل كل واحد من الفريقين : « السنّة والشيعة » واحدة منها ، واعرض عن ذكر الاخرى لأسباب خاصة.

ص: 461


1- تاريخ الطبري : ج 2 ص 315 ، السيرة الحلبية : ج 3 ص 190 و 191 ، والمغازي : ج 2 ص 769 - 774.

49

فتح مكّة

اشارة

قصة « فتح مكّة » من قضايا التاريخ الاسلامي الجديرة بالمطالعة والتأمل ، لما تنطوي عليه هذه الحادثة من دروس وعبر ، ولكونها تعكس - بصدق وجلاء - أهداف رسول الاسلام صلی اللّه علیه و آله المقدّسة ، كما تكشف عن أخلاقه العالية ، وسيرته الحسنة ، واسلوبه الانساني مع الصديق ، والعدوّ.

ففي هذا الفصل من التاريخ يتجلّى ما كان يتحلى به خاتم الأنبياء صلی اللّه علیه و آله من صدق ووفاء ، كما يتبيّن صدق أصحابه ، ووفاؤهم ، واحترامهم لكلّ ما تعهدوا ، والتزموا به للخصم في معاهدة « صلح الحديبية » ، بينما يتضح من جانب آخر نفاق المشركين من قريش ، وخيانتهم في تنفيذ بنود اتفاقية الصلح ، وبالتالي نقضهم للعهد وبالتالي عدم احترامهم لأيّ شيء من الالتزامات!!

إنّ دراسة هذا الفصل تثبت لنا حنكة النبي ، وحسن تدبيره ، وسياسته الحكيمة في فتح أصعب وآخر قلعة من قلاع العدوّ الكافر ، المتصلب في شركه ، وكفره ، والمتمادي في عناده وتعسّفه ، وكأنّ هذا الرجل الالهيّ قد أمضى شطرا من حياته في إحدى المعاهد العسكرية العليا ، فهو يخطط افضل من أي قائد محنّك قدير ، للفتح ، ويكون تخطيطه من الدقة والمتانة ، والعمق والحكمة ، بحيث يصيب المسلمين فتحا عظيما بأقلّ قدر من المتاعب والمشاكل.

وبالتالي يتجلى في هذا القسم من التاريخ الاسلامي الوجه الانسانيّ الرحيم الذي كان يتسم به رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الذي كان يحرص على دماء

ص: 462

أعداء الرسالة الالداء ، وأموالهم ، ويسعى إلى حفظها وصيانتها ، كما لو كانوا أصدقاء لا أعداء.

فهو يعفو بمروءة كبيرة ، وبعد مدى واسع ، ورؤية مستقبليّة عميقة عن قريش ، ويغفر لهم جرائمهم وأذاهم ويصدر عفوا عامّا لم يعرف له تاريخ الفاتحين نظيرا في أسبابه ، وعلله ، وفي ظروفه وملابساته.

وإليك تفاصيل هذه الحادثة الكبرى من بدايتها إلى نهايتها.

تفاصيل فتح مكّة :

لقد قرأنا في ما مضى أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عقد في السنة السادسة معاهدة صلح مع قريش ، نصّت المادة الثالثة منها على : أنّ لكل من قريش والمسلمين أن يتحالفوا مع من شاءوا من القبائل ، فتحالفت « خزاعة » مع المسلمين ، وتعهّد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لخزاعة في هذا التحالف بان يدافع عن أرضهم وأموالهم وأنفسهم كلما تعرّضوا لخطر ، وطلبوا ذلك.

وتحالفت قبيلة « بني كنانة » - وكانوا من أعداء خزاعة التقليديين - مع قريش.

ولقد تم كل هذا في ضوء عقد معاهدة صلح مدتها عشر سنوات تعهّد فيها الطرفان بالحفاظ على الأمن الاجتماعي ، والسلام الشامل في كافة أرجاء الجزيرة العربية.

ولقد تعهّد الطرفان - في هذه المعاهدة - بأن لا يقوم أي واحد منهما بعمليات عسكرية وتحركات عدائية ، لا ضدّ الآخر ، ولا ضدّ حليف الطرف الآخر ، كما لا يحرّك حليفه ضد حليف الطرف الآخر.

ولقد انقضت سنتان من تاريخ التوقيع على هذه المعاهدة ، وعاش الجانبان في هذه الفترة في سلام ورفاه ، وأمن واستقرار إلى درجة أنّ المسلمين استطاعوا - بعد مضيّ سنة واحدة من التوقيع على تلك المعاهدة ، أن يزوروا - بكامل

ص: 463

حريتهم - بيت اللّه الحرام ، في مكة المكرمة ، ويؤدوا مناسك العمرة أمام عيون الآلاف من أعدائهم الوثنيين وهي العمرة التي سميّت بعدئذ بعمرة القضاء كما عرفت.

* * *

ولقد بعث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في شهر جمادى الاولى من السنة الثامنة للهجرة كتيبة قوامها ثلاثة آلاف مقاتل بقيادة ثلاثة فرسان من أركان جيشه ، إلى تخوم الشام وحدودها ، لمعاقبة وتأديب المتمردين والجناة من ولاة الروم وعمّالهم فيها ، وبالضبط أولئك الذين قتلوا دعاة الاسلام - الذين ابتعثهم صلی اللّه علیه و آله للدعوة والتبليغ - من دون ذنب أو جرم.

والجيش الاسلامي وإن استطاع أن ينجو بنفسه من هذه المعركة ، ويخرج منها بسلام ، من دون أن تكلّفه تلك المواجهة خسائر كبرى في الأرواح سوى ثلاثة هم قادة الجيش - على ما مر في قصة غزوة مؤتة - إلاّ أنه ما عاد بانتصار باهر كان يأمله جنود الاسلام المجاهدون ، بل كانت العملية في هذه المعركة اشبه ما تكون بعملية الكرّ والفرّ.

وقد أوجب انتشار هذا النبأ جرأة سادة قريش وسراتها ، فقد تصوروا أن المسلمين تضاءلت فيهم ( أو انعدمت ) روح الفروسية والاقدام ، وروح الشجاعة والبسالة.

من هنا قرّرت قريش أن تخلّ بالأمن والهدوء اللّذين استتبّا بعد اتّفاقية الحديبية ، فبادرت - أوّلا - إلى توزيع الاسلحة على قبيلة « بني بكر » من كنانة ، وإلى تحريضهم على أن يبيّتوا « خزاعة » المتحالفين مع المسلمين ، فيغيروا عليهم ليلا ، ويقتلوا فريقا ، ويأسروا آخرين!!

بل لم تكتف قريش بهذا ، إنما اشترك جماعة من رجالها في هذا العمل الغادر بصورة مباشرة ، وبذلك نقضوا عهدهم الذي أعطوه في الحديبية ، وأخلّوا عمليا بالأمن والسلام ، وأحلّوا الفوضى والقتال ، مكان الاستقرار والهدوء اللذين سادا الجزيرة خلال عامين في أعقاب عقد معاهدة الحديبية!

ص: 464

أجل ، لقد حملت « بنو بكر » ومن ساعدهم من رجال قريش بتحريك من زعامة مكة على « خزاعة » ليلا ، وكان بعضهم نياما ، والبعض الآخر يتهجد ويعبد اللّه ليلا ، فقتلوا من خزاعة جماعة ، وأسروا آخرين ، وغادر - منهم - فريق منازلهم تحت جنح الظلام ، ولجئوا إلى مكة التي كانت للعرب يومئذ منطقة أمن لا يجيزون الاعتداء فيها على لاجئ إليها ، ودخل الذين لجئوا إلى الحرم دار « بديل بن ورقاء » (1) وشكوا إليه ما حلّ بهم على ايدي رجال قريش ، وحلفائهم من بني كنانة ليلا ، من قتل وأسر وتشريد!!

كما وعد المظلومون من خزاعة إبلاغ مظلمتهم إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فارسلوا رئيسهم : « عمرو بن سالم » فقدم المدينة على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فوقف عليه وهو صلی اللّه علیه و آله جالس في المسجد بين ظهرانيي الناس ، وأخبره بما لحق بحلفائه من خزاعة على أيدي بني بكر من كنانة بتحريك وتحريض من قريش ، وأنشد أبياتا يستغيث فيها برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله اذ قال :

يا ربّ إني ناشد محمّدا *** حلف أبينا وأبيه الا تلدا

فانصر هداك اللّه نصرا أعتدا *** وادع عباد اللّه يأتوا مددا

فيهم رسول اللّه قد تجردا *** إن سيم خسفا وجهه تربّدا

في فيلق كالبحر يجري مزبدا *** إنّ قريشا اخلفوك الموعدا

ونقضوا ميثاقك المؤكّدا *** وجعلوا لي في كداء رصدا

هم بيتونا بالوتير هجّدا *** وقتلونا ركّعا وسجّدا

وقد كان « ابن سالم » يعيد البيت الأخير ويكرّره إثارة لمشاعر المسلمين ، ويكرّر عبارة : قتلنا وقد أسلمنا.

ص: 465


1- كان بديل من شخصيات « خزاعة » من ذوي السن والشرف فيهم ، وكان يعيش في مكة ، وكان له من العمر آنذاك 97 عاما ( أمالي الطوسي : ص 239 ).

فانزعج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من قريش لغدرها ونقضها للعهد ، ووعد « خزاعة » بالنصرة ، وقال :

« نصرت يا عمرو بن سالم ».

وقد أفاض هذا الوعد القاطع والقوي حالة من الطمأنينة على قلب مبعوث خزاعة : « عمرو بن سالم » اذ قد تيقّن أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله سينتقم لخزاعة ممن غدروا بها وبيتوها ، وفتكوا بأبنائها ، وبخاصة من قريش التي حرّضت بني بكر على خزاعة ، واشعلت شرارة هذه الفتنة ، وبالتالي كانت السبب الحقيقي وراء هذه الجريمة النكراء ، ولكن ابن سالم ما كان يظن أن هذه المسألة ستنتهي بفتح مكة ، وتقويض دعائم الحكومة الوثنية الجاهلية ، والقضاء عليها إلى الأبد!!

ولم يلبث أن قدم المدينة على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله « بديل بن ورقاء » في جماعة من « خزاعة » ، وأخبروه بما فعلته قريش وبنو بكر من قتل فتيان خزاعة ، ثم عادوا قافلين إلى مكة.

قريش تتوجس خيفة من ردّ النبيّ :

ندمت قريش بشدّة على ما صنعت من تأليب بني بكر على خزاعة ومساعدتهم العملية في العدوان على الأخيرة ، وأدركت للتوّ ، بأنّ هذا الذي صنعته هو نقض للمدّة والعهد الذي بينهم وبين رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وأنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لن يدع هذه الجريمة النكراء تمرّدون ردّ قاطع وحاسم ، ولهذا بادرت إلى إيفاد زعيمها « أبي سفيان بن حرب بن أميّة » إلى المدينة المنورة لتطييب خاطر النبي صلی اللّه علیه و آله ، وتسكين غضبه وتاكيد احترام قريش لمعاهدة الصلح.

فتوجّه أبو سفيان إلى المدينة ، والتقى في « عسفان » بديل بن ورقاء الخزاعيّ وهو عائد من المدينة ، فسأله : هل كان في المدينة؟ وهل أخبر محمّدا بما أصاب

ص: 466

خزاعة؟

فقال بديل : لا ، ولكني سرت في بلاد كعب وخزاعة في قتيل كان بينهم ، فأصلحت بينهم.

قال هذا ، وواصل سيره باتجاه مكة.

ولكن أبا سفيان عمد - لمعرفة ما إذا كان بديل عائدا من المدينة أولا - إلى أبعاد لإبل « بديل » وجماعته ، ففتّها فوجد فيها نوى من تمر المدينة فايقن بأن القوم كانوا في المدينة وأنهم جاءوا محمّدا ، وأخبروه بما جرى.

قدم أبو سفيان المدينة فدخل على ابنته « أم حبيبة » زوجة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فلما أراد أن يجلس على فراش رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله طوته أم حبيبة عنه ، فقال : يا بنيّة ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش ، أم رغبت به عنّي؟!

قالت : بل هو فراش رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأنت رجل مشرك نجس ، ولم أحبّ أن تجلس على فراش رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

وفي امتاع الاسماع أن ابا سفيان لما دخل على ابنته أم حبيبة ذهب ليجلس على فراش رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فطوته دونه وقالت : أنت امرؤ نجس مشرك!

فقال : يا بنيّة! لقد أصابك بعدي شرّ.

قالت : هداني اللّه للاسلام ، وأنت يا أبتي سيد قريش وكبيرها ، كيف يسقط عنك دخولك في الاسلام وأنت تعبد حجرا لا يسمع ولا يبصر!!

قال : يا عجباه! وهذا منك أيضا! أأترك ما كان يعبد آبائي ، واتّبع دين محمّد!؟

أجل هذا هو منطق ابنة رجل حاك مؤامرات عديدة وقاد جيوشا ضد الاسلام طيلة عشرين عاما تقريبا ، وكانت تربطه بام حبيبة رابطة الابوة والبنوة الوثيقة ، ولكن حيث إن تلك المرأة ترعرعت في مهد الاسلام ، ونشأت في مدرسة

ص: 467

التوحيد حصل لها مشاعر دينية قوية جدا حتى أنها رجحت المشاعر الدينية على المشاعر العاطفية الشخصية مقاومة في هذا السبيل رغباتها الذاتية ، وميولها الشخصية.

لقد أنزعج أبو سفيان من سلوك ابنته التي كان يتصور أنها ملجئوها وملاذها الوحيد في المدينة ، فخرج من منزلها فورا ، حتى أتى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فكلّمه حول تجديد العهد ، واستمراره ، فلم يرد عليه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كناية عن عدم اعتنائه به.

فذهب إلى بعض أصحابه صلی اللّه علیه و آله يطلب منهم ان يشفعوا له عند رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأن يقنعوه بتجديد ميثاق الصلح ، ولكن دون جدوى.

وأخيرا دخل على « علي بن أبي طالب » وعنده فاطمة الزهراء علیهاالسلام والحسن والحسين وهما آنذاك غلامان يدبّان بين أيديهما فقال : يا علي ، أنك أمسّ القوم فيّ رحما ، وإني جئت في حاجة فلا أرجعنّ كما جئت خائبا فاشفع لي إلى رسول اللّه.

فقال عليّ علیه السلام : ويحك يا أبا سفيان ، واللّه لقد عزم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على أمر ما نستطيع أن نكلّمه فيه.

فالتفت إلى فاطمة - وهو يحاول إثارتها عاطفيّا - فقال : يا ابنة محمّد هل لك أن تأمري بنيّك هذا فيجير بين الناس فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر؟

ولما كانت فاطمة علیهاالسلام تعرف بنوايا أبي سفيان الشريرة لذلك قالت : ذلك إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إنّهما صبيان وليس مثلهما يجير (1).

فقال أبو سفيان : يا أبا الحسن إني أرى الامور قد اشتدت عليّ ، فانصحني.

فقال علي علیه السلام : ما أجد لك شيئا أمثل من أن تقوم فتجير بين

ص: 468


1- امتاع الأسماع : ج 1 ص 359.

الناس ( أي تعطي الأمان للمسلمين ) ثم الحق بأرضك.

فقال أبو سفيان : أوترى ذلك مغنيا عنّي شيئا؟ قال : لا واللّه ، ما أظنّه ، ولكني لا أجد لك غير هذا.

فقام أبو سفيان في المسجد ، وكان يثق بصدق عليّ في نصيحته ، فقال : أيها الناس ؛ إني قد أجرت بين الناس.

ثم ركب بعيره ، وأنطلق راجعا إلى مكّة ، وأخبر سادة قريش بما صنع ، وذكر نصيحة « عليّ » إياه ، فقال : إنّ عليّا نصحني أن اجير الناس ، فناديت بالجوار.

فقالوا : فهل أجاز ذلك محمّد؟

قال : لا.

قالوا : ويلك واللّه ما زاد الرجل ( ويقصدون عليّا ) على أن لعب بك ، فما يغني عنك ما قلت ، لأن النبي لم يجز أمانه ، وما لا يجيزه الطرفان لا قيمة له في ميزان العهود.

ثم إنّ سادة قريش عقدوا مجلسا من فورهم للتشاور في ما يطفئ غضب المسلمين ، ويثني رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عن عزمه (1).

جاسوس يكتشف!

إنّ تاريخ رسول الاسلام صلی اللّه علیه و آله يكشف عن انه صلی اللّه علیه و آله كان يسعى دائما الى أن يقنع العدوّ بالحق ، ويجعله يستسلم لمنطق الدين ، ولم يكن يهدف قط الانتقام من العدوّ وأبادته.

ففي الكثير من الغزوات والمعارك التي شارك فيها صلی اللّه علیه و آله بنفسه أو السرايا التي بعثها كان الهدف الأساسي هو القضاء على مؤامرة العدو ، وإفشالها ، وتشتيت شمله ، وتفريق اجتماعه قبل ان يقوم بعمل يضر بالاسلام

ص: 469


1- الغازي : ج 2 ص 780 - 794 ، السيرة النبوية : ج 2 ص 389 - 397 ، بحار الأنوار : ج 21 ، ص 102.

والمسلمين ، فقد كان النبي صلی اللّه علیه و آله يعرف جيدا أنه لو ازيلت الموانع ورفعت عن طريق الدعوة الاسلامية لترك منطق الدين الحنيف أثره في المجتمع الحرّ ، وكان يعلم بأن الذين يعقدون الاجتماعات ، ويقيمون التحالفات النظامية ليحولوا دون تقدم الاسلام ، وانتشاره ، لو جرّدوا من أسلحتهم ، وانهيت حالة الحرب بينهم وبين الاسلام ، وتركوا فكرة التغلب على الاسلام عن طريق القوة العسكرية ، وسمعوا منطق الاسلام في جوّ بعيد عن صخب القتال ، لانجذبوا إلى عقيدة التوحيد بدافع الفطرة وهدايتها ، ولاستجابوا لنداء الضمير ، وصاروا من أنصار الاسلام ، ومؤيديه المخلصين الأوفياء.

ولهذا السبب كانت الجماعات والاقوام التي يتغلب عليهم جنود الاسلام ، ثم يتسنى لهم مناخ التفكير الحرّ في العقيدة والتعاليم الاسلامية السامية في جوّ بعيد عن الضوضاء والصخب ، تنجذب إلى الاسلام ، وترغب فيه ، وتعتنق بل تشمّر عن ساعد الجدّ لنشر العقيدة الاسلامية التوحيدية.

وقد تجلّت هذه الحقيقة في موضوعنا الراهن وهو فتح مكة بصورة أكمل وأقوى ، فقد كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يدرك جيّدا لو أنّه فتحت مكة ، وجرّد العدوّ من السلاح ووفرت أجواء حرة آمنة بعيدة عن الكبت والاضطهاد فانه لم يلبث أن يصبح هذا الفريق المعادي والمناهض للاسلام بشدة ، من أنصار هذا الدين ، ومن المجاهدين الصادقين ، الساعين في نشره.

ولهذا يجب التغلب على هذا العدوّ ، وكسر شوكته ، ولكن يجب عدم إفنائه وإبادته ، بل ينبغي تجنب إراقة الدماء ، وازهاق الارواح ما أمكن.

ولأجل الوصول إلى هذه الغاية المقدسة ( الغلبة على العدوّ من دون إراقة الدماء ) استخدم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله اسلوب مباغتة العدوّ.

فقبل أن يفكّر العدوّ في الدفاع عن نفسه ، ويجمع قواه ، ويستعدّ للمواجهة ، كان النبي صلی اللّه علیه و آله يحاصر العدوّ في أرضه ، ويجرّده من سلاحه ، ويجهض محاولته ، ومؤامرته.

ص: 470

على أنّ مبدأ « مباغتة العدو » إنما يمكن الاستفادة منه إذا بقيت جميع الاسرار العسكرية للجانب المباغت طى الكتمان ، وتمت الترتيبات اللازمة في سرية كاملة ، بحيث لم يعرف بها العدوّ ، بل لا يعرف العدو أساسا هل ينوي النبي صلی اللّه علیه و آله الهجوم عليه ، أو لا ، وعلى فرض أنه ينوي ذلك لا يخبر أحدا شيئا عن موعد تحرك الجيش الاسلامي ، ووجهته ، إذ في غير هذه الصورة لا يمكن الاستفادة من مبدأ « مباغتة العدو ».

ولقد أعلن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عن التعبئة العامة لفتح مكة ، وتحطيم أقوى قلعة من قلاع الوثنية وازالة حكومة قريش الظالمة التي كانت تمثّل أقوى مانع في طريق تقدم الدعوة الاسلامية ، وانتشارها وتوسعها ، وقد طلب من اللّه سبحانه في دعائه أن يعمّي على عيون قريش وجواسيسهم فلا يعرفوا بشيء عن حركة المسلمين ومقصدهم اذ قال :

« اللّهم خذ العيون والأخبار من قريش حتى نباغتها في بلادها ».

أو قال :

« اللّهم خذ على قريش أبصارهم ، فلا يروني إلاّ بغتة ، ولا يسمعون بي إلاّ فجأة » (1).

فاجتمع في مطلع شهر رمضان ناس كثيرون من مختلف المناطق خارج المدينة ، وداخلها.

ويذكر المؤرخون جدولا تفصيليا بالطوائف والقبائل التي شاركت في هذا الفتح العظيم ، وإليك ما ذكروه :

المهاجرون : سبعمائة مع ثلاثمائة من الخيل وثلاثة ألوية.

الأنصار : أربعة آلاف مع سبعمائة من الخيل ، وألوية كثيرة.

قبيلة مزينة : ألف مع مائة فرس ، ومائة درع ، ولواءان.

ص: 471


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 397 ، المغازي : ج 2 ص 796.

قبيلة جهينة : ثمانمائة مع خمسين فرسا ، وأربعة ألوية.

قبيلة بني كعب : خمسمائة مع ثلاثة ألوية.

وكان بقية الجيش من قبائل غفار ، واشجع ، وبني سليم (1).

ويقول ابن هشام : كان جميع من شهد فتح مكة من المسلمين عشرة آلاف من بني سليم سبع مائة ، ويقول بعضهم : ألف ، ومن بني غفار أربع مائة ، ومن أسلم أربع مائة ، ومن مزينة ألف وثلاثة مائة نفر ، وسائرهم من قريش ، والأنصار وحلفاءهم وطوائف العرب من تميم ، وقيس وأسد (2).

ولتحقيق مبدأ المباغتة والكتمان وضعت جميع الطرق المؤدية إلى مكة تحت المراقبة الشديدة من قبل عناصر الحكومة الاسلامية ، كما روقب بشدة تردّد المارة والمسافرين بواسطة الحرس (3).

وبينما كان جيش الاسلام يتهيأ للتحرك باتجاه مكة ، نزل جبرئيل على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأخبره بأنّ أحد البسطاء من المسلمين أقدم على إرسال كتاب إلى قريش ، يخبرهم فيه بتوجّه النبي وأصحابه إلى مكة ، وأنّه أعطى ذلك الكتاب إلى امرأة تدعى « سارة » - وكانت مغنية من مغنيات مكة - لتوصله إلى مكة لقاء مال تقبضه.

ولقد كانت « سارة » - كما أسلفنا - مغنية بمكة ، تغنّي لأهل مكة ، وربما شاركت في مجالس العزاء في قريش أيضا ، وقد تعطّل عملها بعد معركة « بدر » ، ومقتل جماعة من رجال قريش ، ودخول الحزن في كل بيوت مكة ، فلم تعد تستطيع أن تغنّي وتطرب ، من ناحية ، ومن ناحية اخرى كان أبو سفيان قد أمر الناس بأن لا يبكوا ، ولا يقيموا المآتم والمناحات على قتلى بدر حتى لا يذهب

ص: 472


1- المغازي : ج 2 ص 800 ، امتاع الاسماع : ج 1 ص 364.
2- السيرة النبوية : ج 4 ص 63.
3- بحار الأنوار : ج 21 ص 130. وامتاع الاسماع : ج 1 ص 361.

غيضهم على « محمّد » صلی اللّه علیه و آله وأصحابه الذين قتلوا رجالا من قريش في بدر.

من هنا تركت « سارة » مكة بعد عامين وقدمت المدينة ، وعند ما عرف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بمجيئها إلى المدينة سألها : هل أسلمت؟ فقالت : لا ، فقال لها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : ولما أتيت إلى المدينة؟ فقالت : إنّي مولاتكم ، وقد أصابني جهد ، وأتيتكم أتعرّض لمعروفكم (1).

فأمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فكسيت وحملت وجهّزت.

ومع أن هذه المرأة قد شملها الاسلام بلطفه ورحمته ولكنها خانت النبي والمسلمين عند ما تطوّعت للقيام بعملية جاسوسية ضد الاسلام والمسلمين بأخذ كتاب « حاطب بن بلتعة » واخفائه في شعر رأسها لتبلغه الى قريش لقاء عشرة دراهم ، مفشية بذلك سرّا للمسلمين ، تضيع - على أثره - جهود النبي صلی اللّه علیه و آله وتفشل خطته!!

ولما عرف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بهذا الأمر إثر خبر من السماء بعث ثلاث رجال من فرسانه الاشاوس هم علي والمقداد والزبير ، ليدركوا المرأة الخائنة ، على طريق مكة ويأخذوا منها ذلك الكتاب الذي يحذّر قريشا ممّا أجمع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عليه.

فخرج الرجال الثلاثة في طلبها مجدّين حتى أدركوها في منطقة تدعى « روضة الخاخ » (2) فاستنزلوها ، وفتشوا عن الكتاب في رحلها فلم يجدوا شيئا ، فسألوها عنه فانكرت فقال لها علي علیه السلام .

« إني أحلف باللّه ما كذب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ولا كذبنا ، ولتخرجنّ لنا هذا الكتاب أو لنكشفنّك » (3).

ص: 473


1- بحار الأنوار : ج 21 ص 136 ، امتاع الاسماع : ج 1 ص 362 و 363.
2- وقال ابن هشام : فادركوها بالخليقة ( ج 2 ص 399 ).
3- السيرة النبوية : ج 4 ص 41 ، وذكر مؤلف الامتاع شخصين فقط هما الامام على والزبير ( ج 1 ص 362 ).

ولما رأت تلك المرأة هذا الجدّ من علي علیه السلام وكانت تعرف أن عليّا لا يتركها حتى ينفّذ أمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قالت : أعرض ، فأعرض عليّ ، فحلّت ضفائر شعرها فاستخرجت الكتاب منها ، فدفعته إليه ، فأتى به رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

فانزعج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لفعل « حاطب » وكان من المسلمين السابقين ، فدعاه من فوره وقال له عاتبا ومستفهما : يا حاطب ما حملك على هذا؟

فحلف حاطب باللّه وبرسوله أنه لم يقصد شرا ، وقال : يا رسول اللّه ، أما واللّه إني لمؤمن باللّه ورسوله ، ما غيّرت ولا بدّلت ، ولكنّي كنت امرأ ليس لي في القوم من أصل ولا عشيرة ، وكان لي بين أظهرهم ولد وأهل فصانعتهم عليه!!

ويستفاد من اعتذار حاطب هذا أن أسياد قريش كانوا يضغطون على من تخلّف في مكة من أقارب المهاجرين وعوائلهم ، ويؤذونهم ، ولا يتركون أذاهم إلاّ إذا حصلوا منهم على أسرار المسلمين بالمدينة.

وهذا الاعتذار وان كان غير وجيه ، لأن ذلك لا يبرر إفشاء أسرار المسلمين لأعدائهم الحاقدين ، غير أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أصفح عنه ، وخلى سبيله لمصالح معينة منها : سابقة « حاطب » في الإسلام.

إلاّ أنّ « عمر بن الخطاب » طلب من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن يضرب عنقه ، فقال له النبي صلی اللّه علیه و آله :

« وما يدريك يا عمر لعلّ اللّه اطّلع يوم بدر على أصحاب بدر فقال : أعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم » (1).

ولكي لا يتكرر مثل هذا العمل الخطر والاثيم أنزل اللّه سبحانه قرآنا بهذا الشأن في عدة آيات اذ يقول :

ص: 474


1- امتاع الاسماع : ج 1 ص 363 وغيره.

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ* إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ* لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ* قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ* رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ* لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ* عَسَى اللّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللّهُ قَدِيرٌ وَاللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ* لا يَنْهاكُمُ اللّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ* إِنَّما يَنْهاكُمُ اللّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (1).

النبي يتحرك باتجاه مكة :

أخذا بمبدإ « المباغتة » كتم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله موعد الحركة ، ووجهتها ، فلم يكن أحد يعرف أين يريد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على وجه التحديد (2).

ص: 475


1- الممتحنة : 1 - 6 ، راجع السيرة النبوية : ج 2 ص 399 ، مجمع البيان : ج 9 ص 269 و 270.
2- المغازي : ج 2 ص 802 ، الامتاع : ج 1 ص 362 قال : وأمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الناس بالجهاز وطوى عنهم الوجه الذي يريد ، فظانّ يظنّ أنه يريد الشام وظان يظنّ ثقيفا وظان يظن هوازن.

وفي اليوم العاشر من شهر رمضان من السنة الثامنة أصدر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أوامره بالخروج ، وكان قد أصدر أوامره للمسلمين كافة من قبل بالاستعداد والتهيؤ للخروج.

ثم إنه استخلف على المدينة رجلا من بني غفار يدعى « أبا رهم » ثم استعرض جيشه خارج المدينة على عادته.

ثم لما كان صلی اللّه علیه و آله بمكان يدعى « الكديد » طلب شيئا من الماء امام المسلمين ، وافطر به في تلك الساعة من النهار ، وامر الجند بان يفطروا اقتداء به هم أيضا.

فافطر اكثر المسلمين ، وأمسك البعض ولم يفطر ظنا بأن الجهاد في حالة الصوم أفضل ، واكبر أجرا ، ولم يعرف هؤلاء السذّج غير المفطرين ، بان النبي صلی اللّه علیه و آله الذي أمر بالافطار في شهر رمضان في تلك الحال ، هو نفسه الذي أمر بالصوم أيضا

فاذا كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قائد حق ودليل سعادة فانه - في كلتا الحالتين - يريد سعادة الناس ، وينشد خيرهم ، فلا معنى إذن لأن يطاع في أمره ، ولا يطاع في نهيه.

وهذا غضب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لامتناع ثلة من المسلمين عن الإفطار كما أمر وقال عنهم : « اولئك العصاة »!! (1).

وأمرهم بأن يفطروا قائلا : « إنكم مصبحوا عدوّكم ، والفطر أقوى لكم ».

إنّ مثل هذا التقدم على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وتجاهل أمره ما هو في الحقيقة إلاّ نوع من الانحراف عن الحق ، وهو يكشف عن ضعف في ايمان الجماعة العاصية ، المتمردة عن أمر النبي صلی اللّه علیه و آله .

ولهذا نزل فيه قرآن يلومهم ، ويوبّخهم على عصيانهم إذ قال سبحانه :

« يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ » (2).

ص: 476


1- وسائل الشيعة : ج 7 ص 124 ، السيرة الحلبية : ج 3 ص 90 ، المغازي : ج 2 ص 802.
2- الحجرات : 1.

هذا وقد كان « العباس بن عبد المطلب » من المسلمين الذين بقوا في مكة بأمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ليتجسس له الأخبار ، ويطلعه على نوايا قريش ، وخططهم أوّلا بأوّل.

وقد تظاهر العباس - بعد فتح خيبر - بإسلامه ، ولكنه بقي محافظا على علاقاته بسادة قريش وزعمائها ، فقرّر أخيرا أن يكون آخر من يهاجر من بيوت المسلمين ، فغادر مكة متوجها إلى المدينة ، وصادف خروجه مسير رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى مكة ، فالتقى ببعض الطريق رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

ولقد كان بقاء العباس بن عبد المطلب في مكة بعد هجرة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مفيدا للجانبين : ( قريش والمسلمين ) فلو لم يكن العباس ، ونشاطاته السياسية ، الذكيّة ، لما تيسّر فتح مكة من دون مقاومة قريش ، ومن دون إراقة دماء وإزهاق نفوس.

من هنا لا يبعد أن يكون خروج العباس من مكة في تلك اللحظات والظروف الخطيرة قد كان هو الآخر بأمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لكي يستطيع القيام بدوره الإصلاحي ، الذي سنأتي على ذكره قريبا.

العفو عند المقدرة :

لقد كانت سوابق رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله المشرفة ، واخلاقه الحميدة ، وصدقه وأمانته ، طوال حياته من الامور الواضحة المعلومة عند أقربائه ، وأبناء عشيرته.

فقد كان الجميع يعلم بأن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لم يرتكب طيلة حياته الشريفة إثما ، ولم يفكر في ذنب ، ولم ينو الاعتداء على أحد ، ولم يقل بلسانه سوءا ولا قبيحا ، ولا خان في امانة ، ولا افشى سرا ولا تخلف عن فضيلة.

ولهذا استجاب لدعوته - في الايام الاولى من دعوته العامة - الاكثرية الساحقة من قبيلته ( بني هاشم ) ، والتفّوا حوله ، وتحمّلوا الدفاع عنه ، ودعم

ص: 477

مواقفه.

ولقد اشار أحد المستشرقين المنصفين إلى هذه الحقيقة ، واعتبرها دليلا على طهارة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وصدقه ونزاهته ، فهو يقول : مهما كان المرء متكتّما متسترا على أعماله وأفكاره فانه لا يستطيع بحال أن يخفي تفاصيل حياته عن ذويه وأقربائه ، ولو كان لمحمد حالات نفسية أو أفعال سيئة لما خفيت على أقربائه ، ولما كانوا ينقادون إليه بمثل هذه السرعة (1).

نعم يستثنى من بني هاشم عدة أشخاص أحجموا عن الايمان برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله والاستجابة لدعوته ، ويمكن الاشارة - في هذا المجال - بعد أبي لهب المعروف بل والمصرح بعداوته في القرآن - إلى « أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب » و « عبد اللّه بن أبي أميّة بن المغيرة » اللذين خاصما رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وعارضا دعوته بشدة ، ولم يكتفيا بعدم الايمان برسالته ، بل منعا من انتشار الحق ، وآذيا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله اشدّ الأذى وألّبا عليه اكثر من أي شخص آخر.

ولقد كان أبو سفيان هذا ابن عمّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأخاه من الرضاعة ، وكان يألف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قبل البعثة ، ولكنه اختلف مع النبي بعد ابتعاثه بالرسالة ، وبنى على مخالفته ومعاداته (2).

وأما عبد اللّه بن أبي اميّة فهو أخو أمّ سلمة ابنة عاتكة عمة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وابنة عبد المطلب.

ولقد حدى انتشار الاسلام في كل أنحاء الجزيرة العربية بهذين الرجلين إلى أن يخرجا من مكة ويلتحقا بالمسلمين.

فقد خرجا قبيل الفتح من مكة ، فلقيا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأصحابه في أثناء الطريق - وعلى وجه التحديد في نقطة تدعى بثنية العقاب ،

ص: 478


1- الأبطال : لكارليل الانجليزى.
2- المغازي : ج 2 ص 806 و 807.

والنبي قاصد مكة ، فاستأذنا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ليدخلا عليه ، وأصرّا على ذلك ، فابى النبي صلی اللّه علیه و آله أن يأذن لهما.

وقد وسّطا أمّ سلمة ، وطلبا منها بلهجة عاطفية أن تشفع لهما عند رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حتى يرضى عنهما ، فكلّمته فيهما ، ولكن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أبى وقال :

« لا حاجة لي بهما ، أما ابن عمّي فهتك عرضي وأما ابن عمّتي وصهري فهو الذي قال بمكة ما قال » (1).

ولما كان « عليّ » علیه السلام أعرف الناس بنفسيّة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأخلاقه ، وبطريقة استعطافه ، فقد كلّمه أبو سفيان في الأمر ، فعلّمه علي بن أبي طالب علیه السلام أن يأتي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من قبل وجهه فيقول :

« قالُوا تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ » (2).

فان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله سيجيبه بما قاله يوسف لاخوته اذ قال لهم :

« قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ » (3).

لأنه صلی اللّه علیه و آله لا يرضى بأن يتفوق عليه أحد في حسن القول.

ففعل أبو سفيان هذا ما أشار عليه الامام علي علیه السلام ودخل من الطريق الذي بيّنه له ، فعفا عنه رسول اللّه كما فعل يوسف باخوته ، فانشد أبو سفيان قصيدة أراد بها أن يكفّر عما سبق منه ، قال فيها :

ص: 479


1- فهو ممن اقترح على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بمكة امورا غير معقولة ، وقد جاء ذكر هذه المقترحات في الآيات : 90 - 93 من سورة الاسراء راجع مجمع البيان : ج 6 ص 439 واسد الغابة : ج 5 ص 213 و 214.
2- يوسف : 91.
3- يوسف : 92.

لعمرك إني يوم أحمل راية *** لتغلب خيل اللات خيل محمّد

فكالمدلج الحيران أظلم ليله *** فهذا أواني حين اهدى فأهتدي (1)

ويكتب « ابن هشام » في سيرته قائلا : قال أبو سفيان ومعه ابنه ، لما أعرض رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عنه وأبى أن يأذن له : واللّه ليقبلنّي ، أو لأخذت بيد ابني هذا فلأذهبنّ في الارض حتى أهلك عطشا وجوعا وأنت أحلم الناس مع رحمي بك » (2).

وقد سبق أن قالت أمّ سلمة لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قد كلّمته في أبي سفيان : بأبي أنت وامّي يا رسول اللّه ألم تقل : أنّ الاسلام يجبّ ما كان قبله؟ فرقّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لهما ، وأذن لهما ، فدخلا ، وقبل اسلامهما (3).

تكتيك رائع لجيش الاسلام :

تقع « مرّ الظهران » على بعد عدة كيلومترات من مكة المكرمة ، وقد قاد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله جيشه العظيم ( وقوامه عشرة آلاف ) حتى مشارف مكة بمهارة بالغة.

ومع أنّ عيون قريش وجواسيسها كانت تتجسّس الأخبار وكان هناك من يعمل لصالح قريش ، ولكنّهم مع ذلك لم يستطيعوا أن يعرفوا شيئا عن نوايا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وهدفه.

ولما وصل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى مشارف مكّة عمد - لإرعاب أهل مكة حتى يتركوا مقاومة المسلمين عند دخول مكة وفتحها ، ويتسنّى لهم تحطيم صرح الوثنية من دون إراقة الدماء - إلى إصدار أمر لجنوده باشعال النيران

ص: 480


1- الاصابة : ج 4 ص 90 ، واسد الغابة : ج 5 ص 213 و 214.
2- السيرة النبوية : ج 2 ص 402.
3- بحار الأنوار : ج 21 ص 114 و 115.

فوق الجبال والتلال ، وللمزيد من تخويف سكان مكة والإظهار بمظهر القوة أمر بأن يشعل كل واحد من الجنود النار وحده ، في شريط طويل على الأرض.

كانت قريش وحلفاؤها يغطّون في نوم عميق آنذاك من جهة ، بينما كانت النيران من جهة اخرى قد غطت كلّ المرتفعات المشرفة على مكة فلم تستيقظ إلا على منظر أرعب قلوبهم ، ولفت أنظارهم.

وفي هذا الاثناء كان بعض سادة قريش ك : « أبي سفيان بن حرب » و « حكيم بن حزام » وغيرهما قد خرجا من مكة يتجسّسون الأخبار.

ففكّر « العباس بن عبد المطلب » الذي لازم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من منطقة الجحفة ، فكر في نفسه بأنه إذا ما اتفق أن واجه جنود الاسلام مقاومة من قريش عند دخول مكة لادّى ذلك إلى ان يقتل جمع كبير من قريش ، ولهذا فان من الأفضل أن يقوم بدور عمليّ لصالح الطرفين ، ويقنع قريشا بالتسليم ، وعدم المقاومة.

فركب بغلة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله البيضاء وتوجه صوب مكة ليخبر قريشا بمحاصرة مكة من قبل جنود الاسلام ، ويخبرهم بكثرة عددهم ، وبمبلغ شجاعتهم وإصرارهم على تحقيق أهداف النبي صلی اللّه علیه و آله ويقنعهم بأنه لا مناص من التسليم للأمر الواقع.

فبينما هو كذلك إذ سمع صوت أبي سفيان وبديل بن ورقاء يتحادثان في جوف الليل فيقول أبو سفيان : ما رأيت كالليلة نيرانا قط ولا عسكرا ، فيقول بديل : هذه واللّه خزاعة حمشتها الحرب.

فيقول أبو سفيان : خزاعة أذلّ وأقلّ من ان تكون هذه نيرانها وعسكرها.

فصاح العباس بأبي سفيان وقال : يا أبا حنظلة.

فقال أبو سفيان : يا لبيك ، أبو الفضل ما لك؟

فقال العباس : هذا رسول اللّه في عشرة آلاف من المسلمين.

فارتعد أبو سفيان لما سمعه من العباس حول عظمة القوة الاسلامية ، فقال وهو

ص: 481

يرتجف ، وتصطكّ اسنانه من الفزع : فما الحيلة فداك أبي وأمي؟

فقال العباس : اركب في عجز هذه البغلة حتى آتي بك رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فاستأمنه لك.

فركب أبو سفيان خلف العباس ، ورجع صاحباه ( حكيم وبديل ) إلى مكة.

ولقد كان مسعى العباس - كما ترى - في مصلحة الاسلام كله ، فقد أرعب شيطان قريش ، وزعيمها وعقلها المدبّر أبا سفيان ، وكان موفقا في هذه الخطوة جدا بحيث لم يعد يفكر أبو سفيان إلاّ في التسليم ، وإلقاء السلاح والكفّ عن المقاومة ، بل ومنعه العباس من العودة إلى مكة ، في نفس الليلة ( ليلة فتح مكة ) وأخذه معه إلى معسكر المسلمين بغية تقييده ، ومنعه من العودة مكة ، إذ كان من المحتمل جدا أن يقع فريسة أفكار المتطرفين في الزعامة المكية فيدبّرون معا خطة لمواجهة جيوش الاسلام ، فيقع - حينئذ - ما لا يحمد عقباه ، من سفك الدماء ، وذهاب الأنفس والارواح.

العباس يصطحب أبا سفيان إلى خيمة النبي :

دخل العباس - وهو على بغلة بيضاء وقد اردف خلفه أبا سفيان - في معسكر المسلمين ، وهو يقصد خيمة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من خلال نيران المسلمين التي أمر النبي صلی اللّه علیه و آله بإشعالها ، وكان كلّما مرّ بنار من نيرانهم قالوا : عمّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فلا يمنعون من مروره ، حتى اذا لقيا عمر بن الخطاب في الاثناء ورأى عمر أبا سفيان خلف العباس على عجز البغلة همّ بقتله في المكان ، ولكن عمّ النبي صلی اللّه علیه و آله أجار أبا سفيان في الحال ، ومنع بذلك عمر من إلحاق الأذى به ، وهو في جواره.

وأخيرا وصل العباس برفقة أبي سفيان الى خيمة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فترجّلا ، فاستأذن العباس رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله للدخول مع أبي سفيان عليه فاذن لهما ، فوقعت مشادة كلامية شديدة بين العباس وعمر بين

ص: 482

يدى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حول أبي سفيان وكان عمر يقول : أبو سفيان عدوّ اللّه فلا بد أن يقتل ، ولكن العباس كان يقول : يا رسول اللّه إنّي قد أجرته ، فقطع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله دابر هذه المناقشة عند ما قال :

« اذهب يا عبّاس إلى رحلك ، فاذا أصبحت فاتني به ».

فذهب العباس بأبي سفيان إلى رحله ، فبات عنده ليلته كما أمر ، فلما أصبح غدى به إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

أبو سفيان بين يدي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله :

لما مثل أبو سفيان عند الصباح بين يدي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في خيمته قال له النبي صلی اللّه علیه و آله :

« ويحك يا أبا سفيان ؛ ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلاّ اللّه؟ ».

فقال أبو سفيان : بأبي أنت وأمي ما أحلمك ، وأكرمك ، وأوصلك واللّه لقد ظننت أن لو كان مع اللّه آله غيره ، لقد أغني عنّي شيئا بعد.

فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله :

« ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أنّي رسول اللّه »؟

قال : بأبي أنت وأمي ما أحلمك ، وأكرمك ، وأوصلك ، أما واللّه فإنّ في النفس منها حتى الآن شيئا!!

فغضب العباس من شك أبي سفيان ، ولجاجته وعناده فقال له : ويحك ، أسلم واشهد أن لا إله الاّ اللّه ، وأن محمّدا رسول اللّه قبل أن يضرب عنقك.

فشهد أبو سفيان شهادة الحق ، فاسلم ودخل في عداد المسلمين.

أن إسلام أبي سفيان الذي حصل في جوّ من الرعب والتهديد وإن لم يكن بالاسلام الذي كان يريده رسول الاسلام صلی اللّه علیه و آله ويطلبه دينه الحنيف ، ولكنّ مصالح معيّنة كانت توجب أن يدخل أبو سفيان في عداد المسلمين كيفما كان ليرتفع بذلك اكبر سدّ ، وينزاح اكبر مانع من طريق الدعوة

ص: 483

الاسلامية ، لأنّ رجالا مثل « أبي سفيان » و « أبي جهل » و « عكرمة » و « صفوان بن أميّة » وغيرهم ، كانوا قد أوجدوا جوّا من الرعب والخوف في مكة استمرّ أعواما عديدة ، فلم يكن يجرأ أحد من المكيّين في مثل هذا الجوّ المشحون بالخوف أن يفكّر في الاسلام ، أو يظهر رغبته في اعتناقه ، والانضواء تحت لوائه.

فإذا لم يكن إسلام أبي سفيان الظاهريّ والسطحيّ مفيدا من حيث الواقع ، ولكنه كان مفيدا جدا لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وللذين كانوا تحت سيطرة أبي سفيان ونفوذ زعامته من جماهير مكة ، وبالتالي لمن كانت له علاقات قربى معه.

ومع ذلك لم يسمح رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بإخلاء سبيل أبي سفيان لأنه لم يكن آمنا - وحتى مع إظهاره الاسلام - من جانبه قبل أن يتمّ فتح مكّة ، ولهذا أمر صلی اللّه علیه و آله عمّه العباس بأن يحبسه بمضيق الوادي عند ممرّ الجنود ليبصر عظمة القوات الاسلامية ، وكثافتها قائلا :

« يا عبّاس احبشه بمضيق الوادي عند خطم الجبل ( أي انفه ) حتى تمرّ به جنود اللّه فيراها ».

ثم إن العباس قال لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : يا رسول اللّه إنّ أبا سفيان هذا رجل يحب الفخر ، فاجعل له شيئا.

واستجاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لهذا الطلب ، ومع أن أبا سفيان كان قد عادى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله والّب ضدّه طيلة عشرين عاما ، وأثار في وجه دعوته الحروب والفتن الكثيرة ، ووجّه بذلك ضربات كثيرة إلى الاسلام والمسلمين ، فمنحه - رغم ذلك ولمصالح خاصة - مقاما ، وقال كلمته التاريخية في حقه ... تلك الكلمة التي تكشف عن عظمة أخلاق رسول الاسلام صلی اللّه علیه و آله وسمو روحه ، وعمق حكمته اذ قال :

« من دخل دار أبي سفيان فهو آمن.

ص: 484

ومن أغلق بابه فهو آمن.

ومن دخل المسجد فهو آمن.

ومن طرح السلاح فهو آمن » (1).

مكة تستسلم من دون إراقة دماء :

تقدّم جيش التوحيد العظيم نحو مكة ، حتى أصبح على مقربة منها.

وقد كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عازما على أن يفتح مكة من دون إراقة دماء ، وإزهاق أرواح ، وأن يسلّم العدوّ من دون أيّة شروط.

وكان من العوامل التي ساعدت على تحقيق هذه الغاية - مضافا إلى عامل التكتم والتستّر ومبدأ المباغتة - أنّ العباس عمّ النبيّ صلی اللّه علیه و آله توجّه إلى مكة كداعية صلح ووسيط سلام بين قريش والنبي صلی اللّه علیه و آله فكان أن أتى بأبي سفيان الى معسكر الاسلام كما أسلفنا ، وبذلك توصّل إلى تحييد أبي سفيان ، ولم يكن في مقدور سادة قريش أن يتخذوا قرارا حاسما من دون أبي سفيان.

وعند ما خضع أبو سفيان أمام عظمة رسول الاسلام الفريدة وأظهر الاسلام ، رأى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن يستفيد منه لإرعاب المشركين اكثر قدر ممكن ، فأمر العباس بأن يحبسه عند مضيق الجبل ليرى بام عينيه حشود المجاهدين من المسلمين - كما أسلفنا - في وضح النهار مع كامل عدّتهم واسلحتهم ، ونظامهم وقوتهم ، فيخبر قريشا بذلك ، فيزيدهم خوفا ورهبة ، فينصرفوا عن فكرة مقاومة الجيش الاسلامي عند دخوله الى مكة.

وفعل العباس ما أمره الرسول الكريم صلی اللّه علیه و آله فحبس أبا سفيان

ص: 485


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 400 و 404 ، مجمع البيان : ج 10 ص 554 - 556 ، المغازي : ج 2 ص 816 - 818 ، شرح نهج البلاغة الحديدي : ج 17 ص 268.

حيث أمر النبي صلی اللّه علیه و آله .

فمرّت القبائل مع راياتها أمام أبي سفيان ، وكانت بعض قطعات الجيش الاسلامي على النحو التالي :

1 - كتيبة قوامها ألف مقاتل من بني سليم بقيادة خالد بن الوليد ، وفيها لواءان ، أحدهما مع « عباس بن مرداس » ، والآخر مع « المقداد ».

2 - فوجان قوامهما خمسمائة مقاتل بقيادة « الزبير بن العوام » الذي كان يحمل معه لواء أسودا ، وكان اكثر أفراد هذا الفوج من المهاجرين.

3 - فوج قوامه ثلاثمائة مقاتل من بني غفار بقيادة « أبي ذر الغفاري » وكان لواؤه معه.

4 - فوج قوامه اربعمائة مقاتل من بني سليم بقيادة « يزيد بن الخصيب » ومعه لواؤه.

5 - فوجان قوامهما خمسمائة مقاتل من بني كعب بقيادة « بشر بن سفيان » ورأيته معه.

6 - كتيبة قوامها ألف مقاتل من بني مزينة ، فيها ثلاثة ألوية ، لواء مع النعمان بن مقرن ، ولواء مع بلال بن الحارث ، ولواء مع عبد اللّه بن عمر.

7 - كتيبة قوامها ثمانمائة مقاتل من جهينة ، فيها أربعة ألوية ، لواء مع « معبد بن خالد » و « سويد بن صخرة » و « رافع بن مكيث » و « عبد اللّه بن بدر ».

8 - فوجان قوامهما مائتا مقاتل من بني كنانة ، وبني ليث وضمرة ، بقيادة « أبي واقد الليثي » ، وكان لواؤهما معه.

9 - فوج قوامه ثلاثمائة ، مقاتل من بني أشجع ، وفيها لواءان أحدهما بيد « معقل بن سنان » والآخر مع « نعيم بن مسعود » (1).

ص: 486


1- لقد سجّل المؤرخ الاسلامي الشهير « الواقدي » عدد أفراد هذه القطعات في تاريخه « المغازي » :ج 3 ص 800 و 801 وص 819 بشكل دقيق ، وقد نقلها عنه ابن أبي الحديد في ج 17 ص 270 و 271.

وعند ما كانت هذه القبائل والقطعات تمرّ ، سأل أبو سفيان العباس عن اسمها ، وخصوصياتها ، فكان العباس يوضح له كل ذلك.

والذي كان يزيد هذا الجيش المنظم جلالا وعظمة أن قادة هذه الافواج والكتائب كانوا اذا مرّوا على العباس وأبي سفيان كبّروا ثلاثا بأعلى أصواتهم وبشكل منظّم ، وكبّر من ورائهم جنودهم بصوت واحد ومنظم أيضا كأكبر شعار اسلامي.

ولقد كان لهذه التكبيرات الهادرة التي كانت تدوّي في وديان مكة ، وتردّدها الجبال والوديان ، أكبر الاثر في نفوس الاصدقاء والاعداء ، فكانت تزيد بهيبتها وجلالها من محبة الاصدقاء للنظام الاسلامي العظيم ، بينما ترهب أعداء اللّه ، وتغرقهم في خوف ورعب شديدين.

هذا وكان أبو سفيان ينتظر بفارغ الصبر عبور الكتيبة التي فيها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ولهذا كان يسأل العباس كلما مرّت قطعة من قطعات الجيش الاسلامي : أفيها محمّد؟ أو ما مضى بعد محمّد؟!

فيقول العباس : لم يمض بعد ، لو رأيت الكتيبة التي فيها محمّد صلی اللّه علیه و آله رأيت الحديد والخيل والرجال وما ليس لأحد به طاقة.

وبينما هما كذلك إذ طلعت كتيبة عظيمة قوامها خمسة آلاف مقاتل ، فيها ألفا دارع فقط ، فيها الرايات والألوية الكثيرة ، فيها المهاجرون والانصار ، مع كل بطن وقبيلة من قبائل الأنصار راية ولواء ، وكانت تسمى كتيبة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الخضراء لأن أفرادها كانوا في الحديد لا يرى منهم إلا الحدق ، وقد ركبوا الخيول العربية الاصيلة ، والحمر من الإبل ، ورسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في وسطها راكب على ناقته القصوى ، وقد أحدق به كبار الشخصيات من

ص: 487

المهاجرين والانصار ، والنبيّ صلی اللّه علیه و آله يحدّثهم.

فارعبت عظمة هذه الكتيبة أبا سفيان ، بشدة ، حتى أنه قال للعباس من دون اختيار : ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة يا أبا الفضل! واللّه يا ابا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيما.

فقال له العباس - بنبرة موبّخة - : ويحك يا أبا سفيان ليس بملك إنّها النبوّة.

فليس هذه العظمة والجلال من أثر الملك المادّي الدنيوي إنما هو هو فعل الرسالة الالهية ، إنه جلال النبوة ، وانه بالتالي من فضل اللّه عزّ وجلّ الذي أدخل الاسلام في قلوب هذه الجماهير المؤمنة ، وهذه الجموع المجاهدة في سبيل اللّه.

أبو سفيان يرجع إلى مكة :

إلى هنا قام العباس بدوره على أفضل صورة ، فقد أرعب أبو سفيان من قوة الاسلام العسكرية الكبرى ، ولهذا رأى النبي صلی اللّه علیه و آله أن يخلّى سبيله ليذهب إلى مكة قبل دخول جنود الاسلام فيها ، فيخبر أهلها بعظمة وقوة الجيش الاسلامي القادم إليهم ، ويحذّرهم من مغبة المقاومة والمواجهة ، ويدلهم على طريق الخلاص والنجاة ، وهو التسليم للأمر الواقع ، والقاء السلاح ، والاستسلام من دون قتال ومقاومة ، ومن دون قيد وشرط ، لأن بمجرد تخويف أهل مكة من دون إرشادهم إلى طريق الخلاص ما كان ليتحقق هدف النبي الاكرم صلی اللّه علیه و آله ، وهو الفتح من دون دماء.

فدخل أبو سفيان مكة ، وقد بات الناس ليلتهم في رعب شديد ، وترقّب رهيب حتى أصبحوا ، ولم يكن بامكانه أن يقرّروا شيئا من دونه ، فلما رأوه قادما أحاطوا به ، فاخذ يشير الى ناحية المدينة ، وقد اصفرّ وجهه ، وانهارت قواه وصرخ بأعلى صوته : يا معشر قريش ، هذا محمّد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به ، أو قال : هذا محمّد في عشرة آلاف فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن. ومن ألقى السلاح فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن ، ومن أغلق بابه فهو آمن.

ص: 488

على أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لم يكتف بهذا بل أضاف إلى الأماكن الثلاثة التي أعلنها للجوء الناس إليها حتى يأمنوا من القتل ، موضعا آخر ، حيث عقد لابي رويحة « عبد اللّه بن عبد الرحمن الخثعمي » لواء وأمره أن ينادي :

« من دخل تحت لواء أبي رويحة فهو آمن » (1).

وقد تسبّب أبو سفيان بندائه في إضعاف المعنويات عند أهل مكة بشدة حتى أنهم انصرفوا عن فكرة المقاومة ، لو كانت ، وأثمرت جهود العباس ومساعيه في الليلة الفائتة ، وأصبح فتح مكة من دون مقاومة في نظر أهل الرأي وعند من ينظر الى واقع الامور ، أمرا مسلّما وقطعيا.

ففزع الناس ، وتفرّقوا ، ولجأ بعضهم إلى دورهم ، والبعض الآخر الى المسجد ، وأسدى أعدى أعداء الرسالة ونعني أبا سفيان ، ونتيجة لتدبير رسول اللّه الحكيم ، أكبر خدمة لجنود الاسلام ، حيث مهّد لهم - بما أوجده في نفوس المكيين وقلوبهم من هزيمة نفسية - طريق الفتح العظيم بسلام ، ومن دون مشاكل تذكر ، اللّهم إلا « هند » زوجة أبي سفيان التي كانت تحرّض الناس على المقاومة ، وراحت تشتم زوجها وتسبّه باقذع الشتائم والسباب ، وتتهمه بالجبن والذل.

بيد أنّ الأمر كان قد قدر ، ولم تعد تنفع أيّة محاولة معاكسة ، ولم تكن تلك الكلمات والأعمال المعارضة سوى هباء في شبك!

ونظير هذا الذي فعلته هند ، ما فعله وقام به بعض الزعماء المتطرفين مثل « صفوان بن أميّة » وعكرمة بن أبي جهل » و « سهيل بن عمرو » ممثّل قريش في صلح الحديبية ، الذين تحالفوا فيما بينهم على أن يعملوا على منع قوات الاسلام من دخول مكة ، وانخدع بهم فريق من البسطاء والمغفلين ، فشهروا السلاح في وجه أول قطعة من قطعات الجيش الاسلامي ، وسدّوا بذلك الطريق عليها في محاولة

ص: 489


1- امتاع الاسماع : ج 1 ص 379.

يائسة لتحقيق مآربهم.

القوات الاسلامية تدخل مكة :

وقبل ان تدخل قوات الاسلام مكة كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قد دعا جميع قادة وامراء جيشه وقال لهم بانه يريد ان يفتح مكة من دون إراقة أيّة دماء ، ولهذا امرهم ان لا يقاتلوا إلاّ من قاتلهم ، إلاّ أنه أمر بقتل عشرة وان وجدوا تحت أستار الكعبة وهم : « عكرمة بن أبي جهل » و « هبار بن الاسود » و « عبد اللّه بن أبي سرح » و « مقيس بن حبابة الكندي » و « الحويرث بن نقيذ » و « عبد اللّه بن خطل » و « صفوان بن أميّة » و « وحشي بن حرب » قاتل حمزة.

و « عبد اللّه بن الزبعرى » و « حارث بن طلالة » واربع نسوة وكان كل واحد من هؤلاء قد قتل أحدا او ارتكب جناية أو شارك في مؤامرة او حرب ضدّ الاسلام والمسلمين (1).

وقد بلغ الأمراء والقادة هذا الأمر إلى جنودهم كافة ، ومع أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كان يعرف مسبّقا بمعنويات المكيين المنهارة ، وعدم قدرتهم على المقاومة ، إلا أنه - مع ذلك - لم يترك جانب الاحتياط والحذر الذي يفرضه العمل العسكري ، عند دخول مكة ، حيث رسم لدخولها خطة دقيقة.

فقد وصل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بجيشه كله إلى « ذي طوى » ( وهو موضع مرتفع كانت ترى منه بيوت مكة ومنازلها ) وهو في كتيبة قوامها خمسة آلاف ، فلما رأى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله منازل مكة اغرورقت عيناه بدموع الشوق والحنين ، فانحنى تواضعا لله تعالى وشكرا ، حتى رأى ما رأى من فتح اللّه ، وكثرة المسلمين حتى مسّت لحيته الشريفة واسطة الرجل أو يقرب منه.

ص: 490


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 410 ، تاريخ الخميس : ج 2 ص 90 - 94 وقد ذكر صاحب تاريخ الخميس تفاصيل ما ارتكبه هذه الجماعة المهدورة دماؤها وما آل إليه أمرهم بعد فتح مكة.

ومراعاة لجانب الحذر والاحتياط فرّق صلی اللّه علیه و آله جنوده فأمر البعض بأن يدخلوا مكة من أسفلها ، وأمر البعض بأن يدخلوها من أعلاها ، ولم يكتف بهذا بل أمر وحدات من الجيش بان تدخل من جميع المداخل والطرق المؤدية إلى داخل مكة.

فدخلت جميع وحدات الجيش الاسلامي وقطعاته وكتائبه وفرقه مكة من دون قتال ومن دون ان تلقى من أهلها مقاومة ، فقد كانت جميع الأبواب مفتحة في وجوههم الاّ المدخل الذي دخل منه « خالد بن الوليد » بفرقته ، فقد عمد جماعة من المكيين بتحريض من « عكرمة » و « صفوان » و « سهيل » على شهر أسلحتهم في وجوه المسلمين ، ورموا بالنبل لمنعهم من دخول مكة ، ووقع قتال بين الجانبين ، ولكن محرّضي هذه الجماعة اختفوا بعد شيء من القتال والمقاومة ، وفرّ الآخرون بعد أن قتل منهم المسلمون اثنى عشر أو ثلاثة عشر شخصا (1).

ومرة اخرى قام أبو سفيان ومن حيث لا يشعر بعمل آخر لصالح الاسلام في هذه الحادثة ، فانه كان لا يزال مرعوبا ممّا رأى من كثرة الحشود العسكرية الاسلامية وقوتها وكان يعلم ان المقاومة لا تجدي نفعا ولا تجرّ على أهل مكة إلاّ الضرر ، ولهذا نادى بأعلى صوته - حقنا للدماء - : يا معشر قريش علام تقتلون أنفسكم؟ من دخل داره فهو آمن ، ومن وضع السلاح فهو آمن ... فلا يدفع محمّدا شيء ، فضعوا اسلحتكم ، وادخلوا في بيوتكم ، واغلقوا عليكم أبوابكم او ادخلوا المسجد ، تسلموا.

فكان لنداء أبي سفيان هذا أثره في نفوس الناس فجعلوا يقتحمون الدور ، ويغلقون عليهم ، ويطرحون السلاح في الطرقات حتى يأخذها المسلمون ، بينما لجأ بعضهم إلى المسجد.

ولما ظهر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على « ثنية أذاخر » نظر إلى لمعان

ص: 491


1- السيرة النبوية : ج 1 ص 408 ، وحسب المغازي : ج 2 ص 825 - 826 قتل ثمان وعشرون رجلا.

السيوف وهي تصعد وتهبط فقال : « ما هذه البارقة؟ ألم أنه عن القتال »؟

فقيل : يا رسول اللّه ، خالد بن الوليد قوتل ، ولو لم يقاتل ما قاتل. فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « قضى اللّه خيرا ».

ثم إن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله دخل مكة من ناحية أذاخر ، وهي أعلى نقطة في مكة في موكب عظيم جليل ، فضرب له قبة من أدم بالحجون ( عند قبر عمّه العظيم أبي طالب ) ليستريح فيها ، وقد أصرّوا عليه صلی اللّه علیه و آله بأن ينزل في بعض بيوت مكة فأبى صلی اللّه علیه و آله (1).

كسر الاصنام وغسل الكعبة :

لقد استسلمت مكة التي كانت مركزا رئيسيا للشرك والوثنية طوال أعوام عديدة ومديدة ، أمام قوات التوحيد الظافرة ، وسيطر جنود الاسلام على جميع نقاط تلك المدينة المقدسة.

ولقد استراح رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في الخيمة التي ضربوها له في الحجون بعض الوقت.

ثم انه صلی اللّه علیه و آله بعد أن اطمأنّ واغتسل ركب راحلته « القصواء » وتوجّه الى المسجد الحرام لزيارة بيت اللّه المعظم والطواف به ، بينما كان يحمل معه السلاح ، والمغفر على رأسه ، وتحيط به هالة من العظمة والجلال ، ويحدق به المهاجرون والانصار ، وقد صفّ له الناس من المسلمين والمشركين ، بعض يغمره الفرح والسرور ، وآخرون يكادون ينفجرون من الغيظ.

ولما انتهى صلی اللّه علیه و آله إلى الكعبة فرآها ومعه المسلمون تقدّم على راحلته ، ولم يترجّل منها لأسباب خاصة فاستلم الركن بمحجنه بدل استلامه بيده ، وكبّر فكبّر المسلمون لتكبيره ، ورجّعوا التكبير حتى ارتجّت مكة لتكبيرهم

ص: 492


1- الامتاع : ج 1 ص 380.

ودوّى صوتهم في الجبال والوهاد ، وسمعه المشركون الذين كانوا قد تفرّقوا فوق الجبال ينظرون إلى ذلك المشهد وقد بلغ من هياج المسلمين ، وهم يطوفون بالبيت من شدة سرورهم جدا كاد أن يمنع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من الطواف بالبيت بفكر هادئ فاشار إليهم صلی اللّه علیه و آله أن اسكتوا ، فسكت الجميع بأمره ، وساد الصمت كل أرجاء المسجد الحرام ، فطاف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بالبيت على راحلته ، وقد أخذ بزمامها « محمّد بن مسلمة » وفيما احتبست الاصوات في الصدور ، واتجهت الأبصار إليه صلی اللّه علیه و آله فوقعت عيناه الشريفتان - في الشوط الأول من طوافه - على الاصنام الكبرى « هبل » و « اساف » و « نائلة » منصوبة فوق الكعبة ، فجعل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كلّما مرّ بصنم منها يشير بقضيب في يده ويقول : « جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا » فيقع الصنم لوجهه.

وأمر صلی اللّه علیه و آله بهبل اكبر أصنام المشركين فحطم وكسر في مرأى من المشركين ، ولقد كان هذا الصنم الكبير يهيمن على عقول الجاهليين في الجزيرة العربية ، ويسيطر على أفكارهم أعواما عديدة.

ولما كسر المسلمون ذلك الصنم قال الزبير لأبي سفيان وكان ينظر إلى ذلك المشهد : يا أبا سفيان لقد كسر هبل ، أما إنك قد كنت منه يوم « احد » في غرور ، حين تزعم أنه قد أنعم.

فقال أبو سفيان : دع هذا عنك يا ابن العوام فقد أرى لو كان مع إله محمّد غيره لكان غير ما كان.

ولما انتهى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من طوافه بالبيت انصرف فجلس ناحية من المسجد ، والناس حوله ، ثم أرسل بلالا إلى « عثمان بن طلحة » يأتيه بمفتاح الكعبة ، وكان عثمان يومذاك سادن الكعبة ، وقد كانت السدانة تتوارث جيلا بعد جيل.

فجاء بلال إلى عثمان فقال : إن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يأمرك أن

ص: 493

تأتي بمفتاح الكعبة ، فاستجاب عثمان ، إلاّ أنّ امّه منعته عن ذلك ، وكان المفتاح يومئذ عندها وقالت له : اعيذك باللّه أن تكون الذي تذهب مأثرة قومه على يديه.

فقال لها عثمان : فو اللّه لتدفعنّه إليّ ، أو ليأتينّك غيري فيأخذ منك ، فسلّمته إياه.

ففتح رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله به باب الكعبة ودخل البيت ، ودخل من بعده صلی اللّه علیه و آله اسامة بن زيد وبلال وعثمان وسادتها ، ثم أمر النبيّ باغلاق باب الكعبة ، ووقف خالد بن الوليد على الباب يذبّ الناس عن الباب.

وكانت جدران الكعبة من الداخل مغطّاة بصور الأنبياء والملائكة وغيرهم ، فأمر النبيّ صلی اللّه علیه و آله بمحوها جميعا ، وغسلها بماء زمزم.

عليّ علیه السلام على كتف النبيّ :

يقول المحدّثون والمؤرّخون : لقد كسرت بعض الأصنام الموضوعة في الكعبة على يد « عليّ بن أبي طالب » وذلك عند ما قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لعليّ علیه السلام :

« اجلس ».

فجلس إلى جنب الكعبة ثم صعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على منكبي ثم قال : انهض بي إلى الصنم ... فحاول أن ينهض فلم يطق.

فلما رأى النبي ضعفه تحته ، قال :

« اجلس ».

فجلس عليّ علیه السلام ثم نزل النبي صلی اللّه علیه و آله عنه ، ثم جلس صلی اللّه علیه و آله ثم قال :

« يا عليّ اصعد على منكبي ».

ص: 494

فصعد عليّ علیه السلام على منكبه ، ثم نهض به فالقى صنم قريش الاكبر ، وكان من نحاس ، ثم ألقى بقيّة الاصنام إلى الارض وحطّمها.

وقد أنشد شاعر الحلة الشهير بابن العرندس ، وهو من شعراء القرن التاسع الهجريّ قصيدة ذكرها فيها هذه الفضيلة بقوله :

وصعود غارب أحمد فضل له

دون القرابة والصحابة أفضلا (1)

ثم ان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أمر بان يفتح باب الكعبة فوقف على الباب ، وأخذ بعضادتى الباب فاشرف على الناس بطلعته المنيرة ومحياه الجميل وقال :

« الحمد لله الّذي صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ».

ولقد كان اللّه سبحانه قد وعد نبيّه الكريم في آية من آيات الكتاب العزيز بأن يعيده الى مسقط راسه اذ قال : « إن الذي فرض عليك القرآن لرادّك إلى معاد قل ربّي اعلم من جاء بالهدى ومن هو في ضلال مبين » (2).

وقد أخبر النبي صلی اللّه علیه و آله بحمده هذا عن تحقّق وعد اللّه له ، وبرهن مرة اخرى على صدقه ، وصحة دعواه.

وفي ما كان الصمت يخيّم على أرجاء المسجد الحرام ، وفي ما كانت الانفاس محتبسة في الصدور ، وتجول في رءوس الحاضرين وانفسهم أفكار مختلفة ، وخواطر شتى ، ويتذكر أهل مكة المشركون ما ألحقوه برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله واتباعه من الأذى والعذاب الشديد ، فتذهب بهم تصوراتهم مذاهب شتى!!

إن الذي سبق لهم أن اشعلوا حروبا كثيرة ضد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقتلوا خيرة شبابه وأصحابه ، بل وتمادوا في غيهم وعدوانهم حتى أنهم تآمروا

ص: 495


1- مسند احمد بن حنبل : ج 1 ص 84 باسناد صحيح ، السيرة الحلبية : ج 3 ص 86. تاريخ الخميس : ج 2 ص 86 و 1. مستدرك الحاكم : ج 2 ص 367 ، وراجع بقية المصادر في موسوعة الغدير : ج 7 ص 10 - 13.
2- القصص : 85.

لاغتياله بالهجوم عليه في منزله ليلا ، وتقطيعه بالسيوف إربا إربا ، ها هم الآن يرون أنفسهم أسرى في قبضته ، وهو صلی اللّه علیه و آله قادر على أن ينتقم منهم كيفما شاء!!

إن من الطبيعي أن يتحدث أهل مكة في أنفسهم وهم يتذكّرون معاداتهم الشديدة والطويلة لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وجرائمهم الكبرى بحقه ، وبحق دعوته ويقول بعضهم : أنه سيقتلنا حتما ، أو يقتل فريقا منا ، ويحبس آخرين ، ويسبي ذريتنا ونساءنا ، جزاء ما فعلنا.

وبينما كانوا - في تلك اللحظات - فريسة هذه الافكار والتصورات الشيطانية ، كسر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله جدار الصمت الرهيب الذي يخيم على أرجاء المسجد الحرام وقال سائلا :

« ما ذا تقولون ... وما ذا تظنون؟! ».

فقال أهل مكة : وقد تملّكتهم حيرة شديدة ، وخوف عظيم وهم قد عرفوا رحمة النبي ورأفته ، ولطفه لطفه ، وخلقه العظيم : نقول خيرا ، ونظن خيرا ، أخ كريم ، وابن أخ كريم ، وقد قدرت.

فقال رسول اللّه ونبي الرحمة صلی اللّه علیه و آله ، وقد سمع هذه العبارات العاطفية :

« فاني أقول لكم كما قال أخي يوسف « قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر اللّه لكم وهو أرحم الراحمين » (1).

وكان أهل مكة قد اطمأنّوا إلى عفو النبي وصفحه قبل ذلك نوعا ما عند ما رأوا ردّ فعله الشديد على أحد قادة جيشه عند ما أخذ ينادي حين دخول مجموعته العسكرية مكة من احدى مداخلها :

اليوم يوم الملحمة *** اليوم تسبى الحرمة

ص: 496


1- المغازي : ج 2 ص 835 ، بحار الأنوار : ج 21 ص 107 و 132 والآية المذكورة هي 92 من يوسف.

فغضب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لهذا الشعار وقال ردا عليه :

« اليوم يوم المرحمة » (1)

كما أنه أمر - لغرض تأديب من أطلق هذا الشعار - بأخذ اللواء منه ، وأعطاه إلى شخص آخر ، وقيل إنّه صلی اللّه علیه و آله عزله عن قيادة المجموعة ، وأمرّ ابنه مكانه ، وكان هذا الأمير هو سعد بن عبادة رئيس الخزرج.

وقد دفع هذا النوع من اللطف والموقف الايجابي الذي لاحظه أهل مكة المشركون أن يأمل الناس المغلوبون في العفو العامّ إلى درجة كبيرة ، خاصّة أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قد أمّن من دخل المسجد الحرام أو بيت أبي سفيان ، أو ألقى السلاح ، أو أغلق على نفسه باب منزله.

كل هذه الامور كانت قد فتحت على أهل مكة بصيصا من الأمل في العفو الشامل.

النبي يعلن عن العفو العام :

ثم إن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أعلن عن العفو العام عن جميع أهل مكة بقوله :

« ألا لبئس جيران النبيّ كنتم ، لقد كذّبتم ، وطردتم ، وأخرجتم ، وآذيتم ، ثم ما رضيتم حتى جئتموني في بلادي تقاتلونني اذهبوا فانتم الطلقاء » (2).

بلال يرفع الأذان على سطح الكعبة :

ثم حان وقت صلاة الظهر ، فعلا مؤذن الاسلام « بلال » الحبشي سطح الكعبة المعظمة ، ورفع في الحاضرين وبصوت عال نداء التوحيد والرسالة

ص: 497


1- المغازي : ج 2 ص 821 و 822.
2- بحار الأنوار : ج 21 ص 106 ، السيرة النبوية : ج 2 ص 412.

( الأذان ) ، فكان كل واحد من المشركين يقول كلاما ، غضبا وحنقا على بلال.

فمنهم من قال : الحمد لله الذي أكرم أبي فلم يسمع هذا البوم!!

وقال أبو سفيان أما أنا فلا أقول شيئا ، لو قلت شيئا لاخبرته هذه الحصباء!! (1).

إن هذا العجوز الخرف المعاند الذي لم يشرق في قلبه نور الإسلام حتى آخر لحظة من حياته ، خلط بين مسألة الاطلاع على الغيب ، وتلقّي الحقائق عن طريق الوحى ، وبين مسألة التجسس الذي يعتمده جبابرة العالم وطغاته.

إن مسألة اطلاع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على قضايا الغيب أمر يحصل بطرق غير عادية ولا متعارفة ، في حين تحصل معرفة جبابرة العالم بمجريات الامور في بلادهم عن طريق استخدام عناصر بشرية ، أو من يسمّون برجال المخابرات والأمن.

وعلى كل حال فان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله صلّى بالمسلمين صلاة الظهر ثم دعا « عثمان بن طلحة » وردّ إليه مفتاح الكعبة ، وقال له :

« هاك مفتاحك يا عثمان ، اليوم يوم بر ووفاء » (2).

وروي أنه صلی اللّه علیه و آله قال :

« خذوها يا بني أبي طلحة تالدة خالدة لا ينزعها منكم أحد إلاّ ظالم » (3).

ولم يكن غير هذا بمتوقع من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

فإن النبي الذي بعثه اللّه سبحانه إلى الناس ليدعوهم إلى أداء الامانة - فيما يدعوهم إليه - وليبلّغهم قوله تعالى : « إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها » من المسلّم أن يكون أول من يلتزم بهذا التعليم الالهي ، فيعيد مثل تلك الامانة الكبرى إلى صاحبها.

ص: 498


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 413.
2- السيرة النبوية : ج 2 ص 412 ، المغازي : ج 2 ص 838 الطبقات الكبرى لابن سعد : ج 2 ص 137.
3- السيرة النبوية : ج 2 ص 412 ، المغازي : ج 2 ص 838 الطبقات الكبرى لابن سعد : ج 2 ص 137.

إنه لم يكن بالذي يهضم حقوق الناس ويدوسها ، في ظل ما أوتي من قوة ، ويقول للناس بكل صراحة : « خذوها يا بني أبي طلحة ، تالدة خالدة لا ينزعها أحد منكم إلا ظالم ».

ثم ان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ألغى جميع مناصب الكعبة التي كانت في الجاهلية إلاّ ما كان نافعا للناس كالسدانة والحجابة ( وهي القيام بشئون أستار الكعبة ) وسقاية الحجيج (1).

النبي يتحدث إلى أقاربه :

ولكي يعرف أقرباء النبي صلی اللّه علیه و آله أن وشيجة القربى التي تربطهم برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لا ترفع عن كاهلهم أيّة مسئولية من المسئوليات ، بل تزيد من مسئوليتهم ألقى فيهم خطابا خاصا بيّن فيه أن رابطة القربى مع النبي صلی اللّه علیه و آله لا تبرّر لأحد من أقربائه بأن يتجاهل قوانين الحكومة الاسلامية ، ويتخذ من انتسابه إلى زعيم هذه الحكومة ذريعة وغطاء لارتكاب ما لا يحل للآخرين كما هو الحال في أنظمة الحكم البشرية.

ولقد شجب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في خطابه هذا الذي خطبه في اجتماع ضمّ رجال بني هاشم وبني عبد المطلب ، كل تمييز ، وتفضيل غير صحيح ، ودعا إلى لزوم العدل ومراعاة المساواة ، بين جميع الطبقات اذ قال :

« يا بني هاشم ، يا بني عبد المطلب إنّي رسول اللّه إليكم ، وإنّي شفيق عليكم ، لا تقولوا : إنّ محمّدا منّا ، فو اللّه ما أوليائي منكم ولا من غيركم إلاّ المتقون فلا أعرفكم تأتوني يوم القيامة تحملون الدنيا على رقابكم ويأتي الناس يحملون الآخرة.

ألا وإني قد أعذرت فيما بيني وبينكم ، وفيما بين اللّه عزّ وجلّ وبينكم وإن

ص: 499


1- بحار الأنوار : ج 21 ، ص 132.

لي عملي ولكم عملكم » (1).

خطاب النبي التاريخي في المسجد الحرام :

اشارة

كان الاجتماع الذي شهده المسجد الحرام يوم فتح مكة اجتماعا عظيما جدا.

المسلمون والمشركون ، والصديق والعدو حضروا بأجمعهم في ذلك الاجتماع ، وكانت تجلل هالة من عظمة الاسلام وعظمة نبيه الكريم صلی اللّه علیه و آله رحاب ذلك المكان المبارك ، وكان الصمت والهدوء ، وحالة من الانتظار والترقب ، تخيم على اجواء مكة.

لقد آن الأوان - الآن - لأن يكشف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله للناس عن الملامح الحقيقية لدعوته المباركة ويوقف ذلك الحشد الهائل المتعطش على معالم رسالته العظمى ، ومبادى دينه الحنيف ، وبالتالي أن يكمل حديثه الذي بدأه قبل عشرين عاما ولكنّه لم يوفق لإتمامه بسبب مضايقات المشركين ، ومعارضتهم ، وبسبب ما أوجدوه من عقبات وعراقيل في طريقه.

ولقد كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ابن تلك المنطقة ، وتلك البيئة ، ولهذا كان عارفا - تمام المعرفة - بأمراض المجتمع العربي ، وأدوائه ، وعلاج تلك الأدواء ودوائها.

لقد كان يعرف صلی اللّه علیه و آله علل انحطاط المجتمع المكيّ واسباب تخلفه عن ركب الحضارة والمدنية ، وعن اللحاق بقافلة التكامل البشري الصاعد.

من هنا رأى أن يضع يده على مواضع الداء في ذلك المجتمع المريض ، وأن يعالج امراض البيئة العربية بشكل كامل ، وكأي طبيب حاذق ، وحكيم ماهر.

ونحن هنا ندرج أبرز المقاطع في الخطاب التاريخي الذي ألقاه سيد المرسلين

ص: 500


1- بحار الأنوار : ج 21 ص 111.

صلی اللّه علیه و آله على الحشود الكبيرة المتجمعة في ذلك اليوم عند بيت اللّه المعظم.

تلك المقاطع التي يعالج كل واحد منها مرضا اجتماعيا خاصا من أمراض المجتمع في ذلك العصر وحتى في عصرنا الحاضر.

1 - التفاخر بالنسب :

كان التفاخر بالنسب والقبيلة والعشيرة من الامراض المستحكمة المتجذرة في البيئة العربية الجاهلية ، وكان من اكبر أمجاد المرء أن ينتسب إلى قبيلة معروفة ، ويتفرع نسبه عن عشيرة بارزة كقريش مثلا :

ولقد قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في خطابه المذكور لإبطال هذه السنّة الجاهلية المقيتة.

« أيّها الناس إنّ اللّه قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتفاخرها بآبائها.

ألا إنّكم من آدم ، وآدم من طين.

ألا إنّ خير عباد اللّه عبد اتّقاه ».

لقد عمد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في خطابه - لإفهام العالم البشري بأن ملاك الشخصية والتفوق انما هو ( التقوى ) والورع فقط - إلى تصنيف الناس الى صنفين لا ثالث لهما ، واعطى الفضيلة والمنزلة لأهل التقوى والورع خاصة.

وبهذا التصنيف الواقعي في ملاكاته أبطل جميع المعايير الخيالية والملاكات والمقاييس المصطنعة إذ قال :

« إنما الناس رجلان :

مؤمن تقي كريم على اللّه.

وفاجر شقيّ هين على اللّه ».

2 - التفاضل بالقومية العربية :

لقد كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يعلم جيدا أن هذه الجماعة من

ص: 501

البشر تعتبر ( العربية ) والانتساب الى العرق العربي من المفاخر الكبرى ، وكانت النخوة العربية قد ترسخت في قلوب تلك الجماعة وعروقها كداء دفين ومرض مزمن ، فقال في خطابه لمعالجة هذا الداء الخبيث وتحطيم هذا الصرح الموهوم :

« إن العربية ليست بأب والد ، ولكنه لسان ناطق ، فمن قصر عمله لم يبلغ به حسبه ».

وهل نجد كلاما أعمق مغزى ، وأوضح مرادا ، وأقوى وقعا في النفوس من هذا الكلام؟!

3 - لجميع أبناء البشر لا لبعض دون بعض :

لقد قال داعية الحرية الحقيقية ، ورائد حقوق الانسان الواقعي بهدف تقوية ودعم مبدأ المساواة بين الافراد والجماعات البشرية :

« إنّ الناس من آدم الى يومنا هذا مثل اسنان المشط ، لا فضل للعربي على العجمي ، ولا للأحمر على الأسود إلاّ بالتقوى ».

وقد ألغى رسول الانسانية الاعظم بهذا البيان الصريح كل انواع التمييز الظالمة ، وكل ألوان التشدد مع الآخرين ، وفعل وبيّن في ذلك العصر ما لم يفعله ولم يبينه ميثاق حقوق الانسان مع كل هذه الضجة الاعلامية التي نشهدها في عالمنا الحاضر.

4 - الحروب الطويلة والاحقاد القديمة :

لقد نشأت الاقوام العربية - نتيجة اشتغالها المستمر بالحروب الداخلية المتلاحقة والطويلة - على الحقد والضغينة.

فقد كانت نيران الحروب مشتعلة في المجتمعات العربية على قدم وساق ومن دون انقطاع.

ولقد واجه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بعد سيطرته الكاملة على الجزيرة

ص: 502

العربية هذه المشكلة.

فقد كان يتوجب عليه - بغية إقرار الأمن والهدوء والحفاظ عليهما في البيئة الاسلامية - أن يبادر الى وضع نهاية لهذه المعضلة ، وأن يعالج هذا الداء المزمن فلم يجد دواء لهذا الداء إلاّ أن يطلب من الناس كافة أن يتنازلوا عمّا لهم من دماء في أعناق الآخرين سفكت في العهد الجاهلي ، وأن تعتبر جميع ملفات العهد القديم باطلة ، ومنتهية ، ليمكن عن هذا الطريق الحيلولة دون إراقة الدماء التي تعرض المجتمع الاسلامي الناشئ للخطر ، وحتى ينتزع من أذهانهم ونفوسهم فكرة الاغارة والقتل العشوائي الذي كان يتم بحجة القصاص في حين كان من الممكن ان يتم بشكل القصاص الحقيقي العادل ، فقال صلی اللّه علیه و آله للوصول إلى مثل هذه الغاية السامية.

ألا إن كلّ مال ومأثرة ودم في الجاهلية تحت قدميّ هاتين ».

5 - الاخوة الاسلامية :

ولقد ارتبط قسم من خطاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في ذلك الحشد العظيم بمسألة اتحاد المسلمين ووحدة كلمتهم ، وحق المسلم على اخيه المسلم.

وقد كان مقصوده صلی اللّه علیه و آله من بيان هذه الحقوق المتبادلة بين المسلمين التي تعتبر من مميزات الدين الاسلامي الحنيف ، هو أن يرغّب غير المسلمين في الاسلام إذا هم سمعوا ورأوا مثل هذه الحقوق ، ومثل هذه العلاقات المتينة بين المسلمين.

فقد قال في هذا الصعيد :

« المسلم أخو المسلم ، والمسلمون إخوة وهم يد واحدة على من سواهم ، نتكافؤ دماؤهم ، ليسعى بذمتهم أدناهم » (1).

ص: 503


1- لقد نقلنا هذه المختارات من : روضة الكافي : ص 246 ، السيرة النبوية : ج 2 ص 412 ، المغازي : ج 2 ص 836 ، بحار الأنوار : ج 21 ص 105 ، شرح ابن أبي الحديد : ج 17 ، ص 281.

معاقبة المجرمين :

ليس من شك في أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كان مظهرا كاملا للانسانية والرحمة ومثلا أعلى في العفو والصفح ، فهو رغم مشاعر بعض المتطرفين الملتهبة ، أصدر عفوه العام عن أهل مكة كافة.

بيد أنه كان هناك بين المكيين عدة أشخاص تجاوزوا الحد في معاداتهم للنبي ومعارضتهم للرسول ، وارتكبوا في هذا السبيل جرائم لا تغتفر ، فلم يكن من الصالح - مع كل ما تسبّبوه من فجائع وفضائع - أن يعيشوا بين المسلمين في أمان وراحة ، إذ كان من الممكن أن يسيئوا استخدام العفو النبويّ فيعودوا إلى مشاغبتهم ، وتآمرهم ضدّ الاسلام مرة اخرى ويتسببوا في ظهور مشاكل أمنية جديدة لا يعرف مداها ، وتبعاتها.

وقد قتل بعض هؤلاء المجرمين على أيدي المسلمين في الطرقات ، ولجأ اثنان منهم إلى بيت « أم هاني » بنت أبي طالب اخت الامام علي علیه السلام ، فلاحقهما « علي » وهو غارق في الحديد لا يعرف ، فدخل بيت أمّ هانئ يطلبهما (1) فواجهت أم هانئ فارسا لا يعرف فقالت : أنا امرأة مسلمة وقد أجرت هذين ، وجوار المسلمة محترم.

وفي اكثر المصادر أنها قالت : يا عبد اللّه أنا أم هاني ابنة عم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله واخت علي بن أبي طالب ، انصرف عن داري.

وهنا عمد الامام علي علیه السلام إلى الكشف عن هويته لتعرفه ، فنزع المغفر عن رأسه ، واسفر عن وجهه.

فما أن وقعت عينا أم هاني على أخيها « علي » بعد فراق طال سنينا عديدة

ص: 504


1- يقول ابن هشام إن الرجلين هما : « الحارث بن هشام » و « زهير بن أبي أميّة بن المغيرة ( السيرة النبوية : ج 2 ص 411 ).

ومديدة إلا وانحدرت منهما دموع الشوق والفرحة ، واعتنقت أخاها ، ثم توجها معا الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ليعطي رأيه في أمانها ، وجوارها فامضى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله جوار تلك المرأة المسلمة ، وأمانها قائلا :

« قد أجرنا من أجرت وأمّنّا من أمّنت فلا يقتلهما » (1).

وقد كان عبد اللّه بن أبي سرح الذي أسلم ثم ارتدّ عن الاسلام احد العشرة الذين أمر النبي بقتلهم ، ولكنه نجا من القتل بشفاعة عثمان له.

قصّة عكرمة وصفوان :

اشارة

ولقد فرّ « عكرمة بن أبي جهل » أحد كبار مثيري الحروب ومشعلي الفتن ضد الاسلام والمسلمين ، إلى اليمن ، إلا أنّه نجا من القتل هو الآخر بشفاعة زوجته ، في قصة مفصلة.

وأمّا « صفوان بن اميّة » فانه مضافا إلى جرائمه الفادحة ، كان قد قتل مسلما انتقاما لأبيه « أميّة بن خلف » الذي قتل على أيدي المسلمين في بدر ، وذلك عند ما صلبه أمام حشد كبير من أهل مكة في وضح النهار ، ولهذا أهدر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله دمه ، فعزم ان يخرج من الحجاز عن طريق البحر فرارا من القتل ، وبخاصة عند ما علم بأنه من جملة العشرة الذين أمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بقتلهم وأهدر دمهم.

فطلب « عمير بن وهب » من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن يعفو عنه ، فقبل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله شفاعته ، وأعطاه عمامته ليدخل بها مكة كعلامة أمان من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ويصطحب معه إلى مكة « صفوان بن أميّة » ، فذهب عمير إلى جدّة ، وأخبر صفوان بذلك ، وقدم به مكة

ص: 505


1- الارشاد : ص 72 إعلام الورى بأعلام الورى : ص 110 ، السيرة النبوية : ج 2 ص 411 ، الطبقات الكبرى : ج 2 ص 144 و 145.

على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فلما وقعت عينا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على كبير المجرمين بل اكبرهم يومئذ قال له ردّا عليه لما سأله قائلا : أن عمير يزعم أنك قد أمنتني؟

« صدقت ، انزل أبا وهب ».

ثم دعاه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الى الاسلام فقال : اجعلنى بالخيار شهرين ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله :

« أنت بالخيار فيه أربعة أشهر » (1).

وبهذا أمهله رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أربعة أشهر كفرصة يفكّر فيها في الاسلام ، ودعوة النبي.

إن دراسة اجمالية وسريعة لهذا الموقف تكشف القناع عن حقيقة مسلّمة في الاسلام وفي تاريخه العظيم يحاول المستشرقون المغرضون إنكارها وإخفاءها ، وهو أن رءوس الشرك كانوا أحرارا في اختيار العقيدة الاسلامية واعتناقها.

فهم اختاروها واعتنقوها بمحض إرادتهم من دون إكراه أو إجبار ، ولا إرعاب أو تخويف ، بل كانت القيادة الاسلامية تسعى دائما إلى أن يتم اعتناق عقيدة التوحيد عن طريق التدبر والتفكير الصحيح ، لاعن طريق الارعاب والتخويف.

هذا هو أبرز حوادث فتح مكة واكثرها عبرة ، وبقي أن نتعرض لذكر حادثتين جديرتين بالاطلاع والتأمل استكمالا لهذه الدراسة.

وتانك الحادثتان هما :

1 - مبايعة النبي نساء مكة :

بعد بيعة « العقبة » كانت هذه هي المرة الاولى التي اخذ رسول اللّه صلّى

ص: 506


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 418 المغازي : ج 2 ص 854.

اللّه عليه وآله البيعة من النساء بشكل ظاهريّ ورسميّ ، ولقد بايعنه على الامور التالية :

1 - أن لا يشركن باللّه شيئا.

2 - ولا يسرقن.

3 - ولا يزنين.

4 - ولا يقتلن أولادهن.

5 - ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهنّ.

6 - ولا يعصين النبي في معروف.

ولقد تمت هذه البيعة بالكيفية التالية وهي : أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أمر بقدح من ماء ثم ألقى في الماء شيئا من الطيب والعطر ثم ادخل يده فيه وتلا الآية (1) التي وردت فيه الامور المذكورة ثم نهض من مكانه وقال صلی اللّه علیه و آله للنساء :

« من أرادت أن تبايع فلتدخل يدها في القدح فاني لا اصافح النساء » (2).

وكانت العلّة في أخذ مثل هذه البيعة - الخاصة في موادها وبنودها - من نساء مكة هي وجود عدد كبير من النسوة الفاسدات بينهن ، فلو أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لم يقدم على أخذ مثل هذه البيعة منهن لكان من المحتمل أن تستأنف تلك النسوة الفاسدات عملهنّ القبيح حتى في السرّ.

وكانت « هند » زوجة أبي سفيان بن حرب ، وأمّ معاوية ذات السوابق السوداء والفاضحة من بين تلك النسوة.

وقد كانت هذه المرأة لفضاضة في طبعها وخشونة ، في سلوكها ، تهيمن على عقلية زوجها أبي سفيان ، ولطالما فرضت عليه آراءها ، حتى أنها يوم قرّر أبو سفيان الاستسلام للأمر الواقع ، ورغّب أهل مكة في السلام حرّضت الناس على القتال

ص: 507


1- الممتحنة : 12.
2- بحار الأنوار : ج 21 ص 113.

وسفك الدماء ومواجهة جنود الاسلام.

إن تحريضات هذه المرأة بالذات هي التي أشعلت نيران الحرب في « احد » ، تلك النيران التي كلّفت ، رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله سبعين شهيدا كان أبرزهم « حمزة » الذي بقرت تلك المرأة الفاسدة الفاجرة الحاقدة وبمنتهى القسوة والفضاضة بطنه ، وشقّت صدره ، واستخرجت كبده ، وقطعته بأسنانها نصفين.

لم يكن لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بدّ من أخذ هذا النوع من البيعة من هذه المرأة وأمثالها في مرأى ومسمع من الناس.

وقد تلا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ما نزل من قوله تعالى من شروط البيعة عليهن ، فلما بلغ إلى قوله : « ولا يسرقن » نهضت هند - وكانت آنذاك متنقبة متنكرة - وقالت : إنّ أبا سفيان رجل ممسك واللّه إني كنت لأصبت من مال أبي سفيان الهنة بعد الهنة وما كنت أدري أكان ذلك حلالا أم لا؟

فنهض أبو سفيان وقال : ما أصبت من مالي فيما مضى وفيما غبر فهو لك حلال.

فعرف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من خلال هذا الحوار بين هند وأبي سفيان أن المتكلمة هي « هند » بنت عتبة فقال صلی اللّه علیه و آله لها سائلا : « وانك لهند بنت عتبة »؟!

قالت : نعم ، فاعف عما سلف عفا اللّه عنك!

ولما بلغ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى قوله تعالى : « ولا يزنين » نهضت هند مرة اخرى وذكرت وهى تبرّئ نفسها من هذه الوصمة ، وذكرت جملة كشفت عن خبيئة نفسها من دون شعور.

فلقد قالت : يا رسول اللّه أو تزني الحرة؟!

لقد كان هذا الدفاع يعدّ - من منظار علم النفس - نوعا من كشف القناع عما في السريرة والافصاح عما في الضمير. وحيث إن هندا كانت تعرف أنها كانت فيما مضى تفعل مثل هذا ، وكانت واثقة من ان الناس عند سماع هذه

ص: 508

العبارة سيلتفتون بانظارهم إليها لذلك لهذا سارعت فورا - ويهدف صرف الأنظار عن نفسها - إلى القول : وهل تزني إلاّ الأمة دون الحرة.

ومن الصدف انه كان من الرجال في ذلك المجلس بعض من سبقت له معها علاقات غير مشروعة في العهد الجاهلي فتعجب من إنكارها ، فضحك حتى استغرق في الضحك ، وتسبّب دفاع هند عن نفسها في المزيد من افتضاحها (1).

هدم بيوت الاصنام بمكة وما حولها :

كانت في مكة وضواحيها بيوت عديدة وكثيرة للاصنام التي كانت تقدّسها ، وتحترمها القبائل المختلفة القاطنة في تلك المناطق ، وحتى يقضي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على جذور الوثنية في أرض مكة قام بارسال فرق عسكرية متعددة إلى تلكم المناطق لهدم تلك المعابد ، والبيوت ، وإزالة الاصنام والاوثان.

كما أنّه صلی اللّه علیه و آله أعلن في مكة نفسها أن من كان في بيته صنم فليكسره ، وفي هذا السياق أرسل « عمرو بن العاص » لتحطيم صنم « سواع » وسعد بن زيد لهدم صنم « منات ».

وتوجه « خالد بن الوليد » على رأس فرقة عسكرية الى « تهامة » لدعوة قبيلة « جذيمة بن عامر » إلى الاسلام ، وهدم صنم « عزى » ، وقد نهاه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حين كلّفه بهذه المهمة عن القتال وإراقة الدماء وبعث معه « عبد الرحمن بن عوف » ليعينه على ذلك.

وكانت قبيلة بني جذيمة قد قتلت عمّ خالد بن الوليد (2) ووالد عبد الرحمن لدى رجوعهما من اليمن في ايام الجاهلية وصادرت أموالهما ، ولهذا كان « خالد »

ص: 509


1- مجمع البيان : ج 5 ص 276.
2- هو الفاكه بن المغيرة بين عبد اللّه بن عمر بن مخزوم راجع للوقوف على اصل هذه الواقعة السيرة النبوية : ج 4 ص 74 وتاريخ اليعقوبي : ج 2 ص 61.

يحقد عليهم.

فلما التقى « خالد » بني جذيمة في أرضهم ، وجدهم قد أخذوا السلاح ، وتهيّأوا لقتاله فأمّنهم وقال لهم : ضعوا السلاح فان الناس قد أسلموا.

فرأى زعماء القوم ان يضع الناس السلاح ، ويسلّموا لجنود الاسلام ، ولكن رجلا من القوم أدرك بفطنته سوء نية خالد ، فقال لزعماء القبيلة : واللّه لا أضع سلاحي أبدا ، فما بعد وضع السلاح إلا الإسار ، وما بعد الإسار الاّ ضرب الاعناق!

ولكن بني جذيمة رفضت قوله ، وأخذت برأي أسيادها فوضعت السلاح ، وامّن الناس ، فأمر خالد جنوده فورا بان يكتّفوا رجال القبيلة ، وباتوا في وثاق.

فلما كان في السحر أمر بأن يقتل فريق منهم ، وأطلق سراح آخرين.

وعند ما بلغ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله نبأ هذه الجريمة النكراء غضب صلی اللّه علیه و آله على خالد غضبا شديدا ، ودعا عليا من فوره ، وأعطاه مبلغا كبيرا من المال وأمره بالتوجه الى بني جذيمة ، وان يدفع دية من قتل أو جرح خالد من رجالهم ، وثمن كل ما خسروه أو فقدوه من أموالهم بدقة وعناية كاملتين.

فودى علي علیه السلام لهم كل ما أصاب خالد ، حتى أنه ليدي ميلغة الكلب ( وهي الاناء الذي يلغ فيه الكلب ) حتى اذا لم يبق شيء من دم ولا مال إلاّ ودّاه بقيت معه بقية من المال ، فدعا رؤساء تلك القبيلة المنكوبة وقال لهم : هل بقي لكم من دم أو مال لم يود لكم؟

فقالوا : لا.

فقال علیه السلام : فاني اعطيكم هذه البقية من المال احتياطا لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ممّا يعلم ولا تعلمون.

ففعل ثم رجع الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فاخبره الخبر فقال صلی اللّه علیه و آله :

ص: 510

« أصبت واحسنت ».

ثم قام رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله واستقبل القبلة قائما شاهرا يديه حتى انه ليرى ممّا تحت إبطيه وقال :

« اللّهم إنّي أبرأ ممّا صنع خالد بن الوليد ».

قالها ثلاث مرات (1).

لقد تلافى علي علیه السلام جميع الخسائر المادية والروحية التي لحقت ببني جذيمة ، وقد أعطى شيئا من ذلك المال لمن ارتاع ، وفزع من صنع خالد وجنوده ، وطيّب خواطرهم وقال : وهذه لروعة القلوب.

وعند ما عرف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بصنيع عليّ علیه السلام وإجراءاته العادلة والانسانية مع بني جذيمة المنكوبين قال في حقه :

« واللّه ما يسرّني يا عليّ أنّ لي بما صنعت حمر النعم (2) ... أرضيتني رضي اللّه عنك ... يا عليّ أنت هادي أمّتي ، ألا إن السعيد كل السعيد من أحبّك وأخذ بطريقتك ، ألا إن الشقيّ كل الشقيّ من خالفك ورغب عن طريقتك إلى يوم القيامة ... » (3).

جرائم اخرى لخالد :

لم تقتصر جرائم خالد التي ارتكبها طيلة حياته الاسلامية في ظاهرها على ما ذكر بل لقد ارتكب جريمة اخرى في أيام حكومة « أبي بكر » اكبر وافضع ممّا مرت ، وإليك خلاصة هذه الواقعة :

لقد ارتدّت بعض القبائل - بعد وفاة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، أو

ص: 511


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 420 ، الكامل لابن الاثير : ج 1 ص 173 و 174 امتاع الاسماع : ج 1 ص 400.
2- الخصال : ص 562.
3- مجالس ابن الشيخ : ص 318.

بالاحرى وفي الحقيقة رفضت الاعتراف بخلافة أبي بكر ، وامتنعت عن أداء الزكاة إليه ، فبعث أبو بكر فرقا عسكرية مختلفة لقمع تلك الجماعات المتمردة.

وبعث خالد بن الوليد على رأس فرقة عسكرية الى قبيلة « مالك بن نويرة » لمقاتلتها بحجة الارتداد ، وكان « مالك » وجميع أفراد قبيلته على استعداد للقتال ، وكانوا يقولون : نحن مسلمون ، فلا معنى لمقاتلتنا.

فمكر بهم خالد على نحو مكره ببني جذيمة في عهد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وأمّنهم ، وطلب منهم إلقاء اسلحتهم ، فلما وضعوا أسلحتهم ، أمر بحبسهم ، ثم قتلهم وقتل زعيمهم المسلم الصالح « مالك بن نويرة » واعتدى على زوجته في نفس الليلة (1).

فهل يصح أن يوصف هذا الرجل - على هذه السوابق السوداء ، ومع هذا الملفّ المخزي - بسيف اللّه ، وأن يعدّ من امراء الاسلام المجاهدين الصالحين؟!! (2).

ص: 512


1- الكامل في التاريخ : ج 3 ص 149 ، أسد الغابة : ج 4 ص 295 تاريخ ابن عساكر : ج 5 ص 105 ، 112 تاريخ ابن كثير : ج 6 ص 321 ، تاريخ الخميس : ج 1 ص 233.
2- لقد ورد ذكر هذه الحادثة في كتب التاريخ في حوادث السنة الأولى من حكومة « أبي بكر » بصورة مفصلة وقد ذكرناها ملخصة.وللوقوف علی تحليل هذه القضية المؤسفة راجع كتاب النص والاجتهاد ص 61 - 75.

50

معركة حنين

اشارة

كانت طريقة رسول لله صلی اللّه علیه و آله عند فتح أيّة منطقة من المناطق هي أن يقوم بنفسه بادارة شئونها السياسية والدينية ما دام هو فيها ، فإذا أراد أن يغادرها عيّن أفرادا صالحين للقيام بتلك الأمور ، وشغل تلك المناصب لأن الناس في تلك المناطق كانوا قد اعتادوا على النظام المباد ، ولم يكن لهم معرفة بالنظام الجديد ، هذا من جهة ، ومن جهة اخرى فإن الاسلام دين متكامل ، ونظام سياسي ، اجتماعي ، أخلاقي ، ومعنوي يستمد قوانينه من منبع الوحي الطاهر ، ويحتاج إيقاف الناس على تلكم القوانين والتعاليم ، وتطبيقها العملي إلى أفراد صالحين متمرسين ومدرّبين على التثقيف والتطبيق الصحيحين ، ليمكنهم إيقاف الناس في تلك المناطق على مبادئ الاسلام واصوله الصحيحة ، وتنفيذ البرنامج السماوي الاسلامي في حياتهم على النحو الصحيح.

وقد فعل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله هذا عند فتح مكة ، فانه صلی اللّه علیه و آله بعد أن قرر مغادرة مكة والمسير إلى قبيلتي « هوازن » و « ثقيف » عيّن « معاذ بن جبل » ليعلّم الناس القرآن ، وأحكام الاسلام ، و « عتاب بن أسيد » الذي كان رجلا مؤهّلا ، لادارة الامور ، والصلاة بالناس جماعة ، ثم غادر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مكة بأصحابه بعد أن مكث فيها خمسة عشر يوما متوجها إلى أرض هوازن (1).

ص: 513


1- الطبقات الكبرى : ج 2 ص 137 ، والمغازي : ج 3 ص 889.

جيش قليل النظير :

كان الجيش الذي ساربه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى هوازن يبلغ (12) ألفا من الجنود المسلحين : عشرة آلاف هم الذين صحبوه من المدينة ، وشاركوا في فتح مكة ، وألفان من رجال وشباب قريش الذين أسلموا بعد الفتح ، وقد أوكل النبي صلی اللّه علیه و آله قيادتهم إلى أبي سفيان (1).

ولقد كان مثل هذا الجيش العظيم والجمع الكبير قليل النظير ، ونادر المثيل في تلك العصور ، وقد صارت هذه الكثرة ذاتها سببا في هزيمته في مبدأ الأمر ، فقد أعجب أفراد هذا الجيش بكثرتهم - على خلاف ما مضى - فتجاهلوا التكتيكات النظامية الدقيقة ، وغفلوا عن خطط العدو ونواياه فكان ذلك داعيا إلى هزيمتهم!! فقد قال أبو بكر لما رأى كثرة المسلمين : لو لقينا بني شيبان ما بالينا ، لن نغلب اليوم من قلة (2).

ولكنه لم يكن يعرف أن الانتصار ليس هو بكثرة الافراد وضخامة الجيش ، بل ان هذا العامل غير مهمّ بالقياس إلى بقية العوامل.

ولقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة اذ قال تعالى :

« لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ » (3).

تحصيل المعلومات العسكرية :

بعد فتح مكة دبّت حركة خاصة في قبائل هوازن وثقيف ، وجرت اتصالات مكثفة بينها ، وكان حلقة الاتصال ، والمدبر الحقيقي لهذه التحركات شاب عرف

ص: 514


1- الطبقات الكبرى : ج 2 ص 139 ، المغازي : ج 3 ص 889.
2- الطبقات الكبرى : ج 2 ص 150 ، المغازي : ج 3 ص 889.
3- التوبة : 25.

بالفروسية والشجاعة يدعى « مالك بن عوف النصري ».

وقد تقرّر بعد سلسلة من الاتصالات والمداولات بين زعماء هوازن وثقيف أن تبادر القبيلتان المذكورتان الى توجيه ضربة قوية الى جيش الاسلام عبر خدعة عسكرية ، قبل أن يغزوها جنود الاسلام في عقر دورها.

فقد اختارت لقيادة هذه المهمة شابا متهورا في العقد الثالث من عمره هو مالك بن عوف النصرى الذي أشرنا إليه عما قريب ، واشترك في هذه الغزوة جميع قبائل هوازن وثقيف بصورة موحّدة.

فكان من تدبير هذا القائد أن اقترح على جيشه أن يجعلوا النساء والاطفال والاموال وراء ظهورهم وعند ما سألوه عن علة ذلك الاجراء قال : اردت من جعل كل رجل أهله وماله وولده ونساءه خلفه حتى يقاتل عنهم (1).

فقبل المشتركون في تلك العملية بأمر قائدهم هذا بالاجماع ، وجعلوا أموالهم وأهليهم خلفهم.

وقد خالف شيخ مجرب حنّكته الحروب منهم يدعى « دريد بن الصمة » هذه الخطة عند ما سمع رغاء البعير ، وثغاء الشاء ، وخوار البقر ، وبكاء الصغير ، وجادل فيها مالكا ، واعتبرها خطة فاشلة من الناحية العسكرية وقال للناس : يا قوم إن هذا فاضحكم في عورتكم ، وممكّن منكم عدوّكم ، وهل يرد المنهزم شيء؟

ولكن مالكا لم يعر كلام هذا الشيخ ونصيحته اهتماما وقال : - وهو يتهمه بالجهل بفنون القتال الحديثة - : أنك قد كبرت ، وكبر علمك ، وحدث بعدك من هو أبصر بالحرب منك.

ولقد اثبت المستقبل صحة ما قاله ذلك الشيخ المحنّك فان إشراك النساء والاطفال والانعام في الحرب ، وإخراجهم إلى ساحة القتال أحدث لمقاتلي

ص: 515


1- المغازي : ج 3 ص 897.

ثقيف وهوازن مشاكل كثيرة ، فيما بعد.

ثم إنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لما سمع بتحركات هاتين القبيلتين بعث « عبد اللّه بن حدرد الأسلمي » ، وأمره أن يدخل في هوازن وثقيف فيقيم فيهم حتى يعرف بنواياهم وخططهم ، ثم يأتيه بخبرهم ، فانطلق الرجل إليهم ثم عاد الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بأخبارهم.

وكان « مالك بن عوف » قائد هوازن وثقيف قد بعث بدوره ثلاثة جواسيس ليتجسسوا له على المسلمين ، ويأتوه بأخبارهم ، فعادوا بأجمعهم فزعين ممّا شاهدوه من قوة المسلمين وكثرتهم.

فقرر قائد العدوّ أن يجبر ضعف جنوده وقلتهم باستخدام الخدع العسكرية ، والتوسل باسلوب المباغتة ليفرق - بهجوم مفاجئ - صفوف المسلمين ، ويهدم نظامهم وانسجامهم ، ويصيبهم بالهرج والمرج ، والفوضى والحيرة ليختلّ باختلال الجيش أمر القيادة ، فلا تتمكن من ضبط الامور ، وتحقيق انتصار على المسلمين.

ولتحقيق هذا الهدف هبط « مالك بن عوف » بجيشه في واد ينحدر الى منطقة « حنين » ، وأمر بأن يختفي الجنود والمقاتلون خلف الصخور والاحجار ، وفي شغاف الجبال ، وكل ما ارتفع من ذلك الوادي ونشز ، حتى إذا انحدر جنود الاسلام في هذا الوادي في غفلة من هذا التدبير خرج رجال هوازن وثقيف من مكامنهم ، وكمائنهم ، ورموا المسلمين الغافلين عن خطة العدو ، بالحجارة والنبل ، ثم يخرج إليهم فريق في أسفل الوادي ويضربونهم بالسيوف!!

تجهيزات المسلمين :

كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عارفا بقوة العدوّ وعناده فدعى « صفوان بن أميّة » قبل مغادرة مكة ، واستعار منه مائة درع بأداتها كاملة عارية مضمونة ، ولبس رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله نفسه درعين كما لبس المغفر والبيضة ، وركب بغلته البيضاء وسار خلف جيشه وسار حتى دنوا جميعا من

ص: 516

الوادي فاستراحوا ليلتهم عند فم الوادي ، ومع غلس الصبح انحدرت كتيبة « بني سليم » بقيادة « خالد بن الوليد » في وادى « حنين » ، وبينما دخل اكثر جنود الاسلام ذلك الوادي حمل عليهم رجال هوازن من كمائنهم في مضيق الوادي وشعابه حملة رجل واحد ، وأخذوا يرشقونهم بالاحجار والنبال ، فالقت أصوات الاحجار والنبال فزعا شديدا في قلوب المسلمين الذين مطروا بالسهام والنبال والاحجار من جانب ، بينما احتوشهم فريق آخر من هوازن بسيوفهم ووقعوا فيهم ضربا وقتلا.

أجل لقد فعلت مكيدة هوازن فعلتها في قلوب المسلمين ، فقد أوحشتها ، وأصابت المسلمين بالفوضى ، وخلخلت صفوفهم فلاذوا بالفرار من دون اختيار ، وقد أخلّوا هم بنظامهم أكثر من ما فعله العدوّ بهم.

ففرح المنافقون في جيش رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لهذا الحادث ، وسروا به سرورا عظيما حتى قال أبو سفيان شامتا : لا ينتهي هزيمتهم دون البحر ، وقال آخر : الا بطل السحر اليوم ، وقال ثالث : لا يجتبرها محمّد وأصحابه ، وعزم رابع على اغتيال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في ذلك الوضع المضطرب وإطفاء شعلة رسالته المقدسة (1).

استقامة النبي ومن ثبت من أصحابه :

لقد ازعج فرار المسلمين الذي كان نابعا - في الدرجة الاولى من الفزع والفوضى التي أصابتهم ، رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وأدرك صلی اللّه علیه و آله بأنه لو تأخّر لحظة واحدة عن فعل ما يجب أن يفعله لتغيّر وجه التاريخ ولتبدّل مسار البشرية ، ولحطّم جيش الشرك جيش التوحيد.

ص: 517


1- المغازي : ج 3 ص 909 - 910 ، السيرة النبوية : ج 2 ص 443 ، امتاع الاسماع : ج 1 ص 411 و 412.

من هنا صاح بأعلى صوته وهو على بغلته :

« يا أنصار اللّه وانصار رسوله أنا عبد اللّه ورسوله ».

قال هذا واندفع ببغلته الى ساحة القتال في المكان الذي جعله « مالك » وجنوده مسرحا لمهاجمة المسلمين ومباغتتهم وقتالهم ، ومشى معه من لازمه في تلك اللحظات وثبتوا معه كعلي بن أبي طالب علیه السلام والعباس بن عبد المطلب ، والفضل بن العباس ، وأبي سفيان بن الحارث الذي لم يغفلوا عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله منذ بدء القتال لحظة واحدة ، وامر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عمّه العباس الذي كان صاحب صوت عظيم أن ينادي في المسلمين الذين كانوا يواصلون فرارهم ، ولا يلوون على شيء :

« يا معشر الانصار ، يا معشر السمرة » (1).

ويقصد من السمرة الشجرة التي كانت عندها بيعة الرضوان ، فكان هذا النداء تذكيرا بتلك البيعة التي تعهدوا فيها لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بان ينصروه حتى الموت.

فبلغت صرخات العباس مسامع المسلمين فثارت حميتهم ، وأخذوا يثوبون الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وهم يقولون : لبيك لبيك.

لقد أوجبت نداءات العباس المتلاحقة التي كانت تخبر وتنبئ في الحقيقة عن سلامة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن تعود الجماعات الهاربة من ساحة القتال الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وهي نادمة على فرارها ندما شديدا ، ونظّموا صفوفهم أمام العدو من جديد أفضل ممّا مضى ، ثم حملوا حملة رجل واحد على العدوّ الغادر بأمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لغسل ما لحق بهم من عار الفرار ، واستطاعوا في أقصر مدة من الوقت ان يجبروا العدوّ على الانسحاب والفرار والرسول القائد صلی اللّه علیه و آله يقول تشجيعا لهم ، وتقوية لمعنوياتهم :

ص: 518


1- ولقد ذكر المغازي في ج 3 ص 902 جانبا من بطولات علي علیه السلام وتضحياته في هذه الموقعة.

« أنا النبي لا كذب

أنا ابن عبد المطلب ».

وقد تسبّب استخدام هذا التدبير العسكري الحكيم في إرعاب رجال هوازن ومن ساعدهم من ثقيف المقاتلين ، بشدة بحيث انهزموا أمام هجوم المسلمين هذا هزيمة قبيحة ومنكرة ، تاركين وراءهم اموالهم ونساءهم وصبيانهم الذين أتوبهم الى ساحة المعركة ، وجعلوهم خلف ظهورهم بناء على أوامر قائدهم مالك - كما أسلفنا ، وفروا بعد أن قتل منهم جماعة إلى منطقة أوطاس ونخلة ، وقلاع الطائف.

غنائم الحرب :

لقد بلغت خسائر المسلمين من الارواح في هذه المعركة ثمانية أشخاص في مقابل أسر ستة آلاف نفر من العدو.

كما وأن المسلمين غنموا في هذه الواقعة أربعة وعشرين ألف بعير ، وأربعين ألف رأس غنم ، وأربعة آلاف اوقية (1) من الفضة.

ثم إن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أمر بأن يؤخذ الاسرى والغنائم الى منطقة تدعى الجعرانة ( وهي ماء بين الطائف ومكة ) وكلّف أشخاصا معيّنين بحراستها وحفظها وجعل الأسرى في بيوت خاصة ، كما أمر بأن تحفظ الغنائم من دون أن يتصرف فيها أحد في ذلك المكان ، ريثما يرى فيها رأيه ، بعد ان يلاحق فلول العدو الذي فرّ الى أوطاس ونخلة والطائف (2).

لقطتان من الخلق النبوي العظيم :

وينبغي ان نشير هنا إلى قصتين تدلان على سمو الاخلاق النبوية ، وعمق

ص: 519


1- الرطل 2564 غرام والاوقية 12 / 1 من الرطل فعلى هذا تكون الاوقية 213 غراما ، وأربعة آلاف أوقية تساوى 852 كيلو غراما.
2- كتب ابن هشام في سيرته أن عدد القتلى في هذه المعركة كان أربعة أشخاص ، ولكن معركة واسعة مثل هذه يتوقع أن يكون قتلاها اكثر من هذا العدد.

الرحمة الاسلامية :

1 - بعد أن أعاد النبي المسلمين الهاربين إلى ساحة المعركة فكرّوا على هوازن وهزموهم هزيمة قبيحة ، قالت أمّ سليم بنت ملحان للنبي صلی اللّه علیه و آله : يا رسول اللّه! ما رأيت هؤلاء الذي أسلموا وفرّوا عنك وخذلوك!! لا تعف عنهم اذا أمكنك اللّه منهم ، تقتلهم كما تقتل هؤلاء المشركين!

فقال صلی اللّه علیه و آله : يا أم سليم! قد كفى اللّه ، عافية اللّه أوسع (1).

وهكذا نجد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يعفو عن أصحابه الهاربين الذين خذلوه في تلك الموقعة.

2 - حنق المسلمون على المشركين في وقعة حنين فقتلوهم حتى اخذوا في قتل الذرية ، فلما بلغ ذلك رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال : ما بال أقوام ذهب بهم القتل حتى بلغ الذرية! ألا لا تقتل الذرية.

فقال اسيد بن الحضير : يا رسول اللّه أليس إنما هم أولاد المشركين!

فقال : أو ليس خياركم أولاد المشركين؟! كل نسمة تولد على الفطرة حتى يعرب عنها لسانها ، وأبواها يهوّدانها أو ينصّرانها (2).

ص: 520


1- امتاع الاسماع : ج 1 ص 409.
2- امتاع الاسماع : ج 1 ص 409.

51

غزوة الطائف

اشارة

« الطائف » من مصايف الحجاز ومن المناطق الخصبة ، الكثيرة الزرع فيها ، وتقع الطائف في الجنوب الشرقي من مكة على بعد (12) فرسخا منها ، وقد كانت ولا تزال بسبب مناخها اللطيف ، وبساتينها المثمرة ، ونخيلها الكثيرة مقصدا بل مركزا وموطنا لطلاب اللذة والراحة من أهل الحجاز.

وقد كانت قبيلة ثقيف التي كانت تعدّ من القبائل العربية القوية الكثيرة العدد تسكن في هذا البلد.

وكانت أعراب ثقيف من الذين شاركوا في معركة « حنين » ضدّ الاسلام والمسلمين ، ثم لجئوا بعد الهزيمة المنكرة التي لحقت بهم على أيدي جنود الاسلام الظافرين إلى بلدهم الذي كان لهم آنذاك فيه حصن قويّ ومنيع.

ولتكميل الانتصار الاسلامي أمر الرسول القائد صلی اللّه علیه و آله بملاحقة الهاربين المنهزمين في معركة حنين.

من هنا كلّف صلی اللّه علیه و آله أبا عامر الأشعري وأبا موسى الأشعري وفريقا من جنود الاسلام بملاحقة من لجأ منهم إلى « أوطاس » فقتل القائد الأوّل في هذه الواقعة ، واستطاع الثاني أن يحرز انتصارا كبيرا على العدو ويفرق جمعه (1).

وأما النبي صلی اللّه علیه و آله نفسه فقد توجه بالبقية من جيشه الى

ص: 521


1- المغازي : ج 3 ص 915 و 916.

الطائف (1) ، ومرّ في طريقه على حصن مالك بن عوف النصرى مثير فتنة « حنين » ورأس المؤامرة ، فهدمه وسوّاه بالأرض.

على أن تهديم حصن « مالك » لم يكن بدافع انتقاميّ بل كان لأجل ان لا يترك وراءه نقطة اعتماد وملجأ للعدوّ.

تحركت أعمدة الجيش الاسلامي الواحدة تلو الاخرى ، واستقرت حول مدينة الطائف.

كان حصن الطائف حصنا منيعا ، مرتفع الجدران ، قوي البنيان ، فيه أبراج للمراقبة مسيطرة على خارج الحصن سيطرة كاملة.

ومنذ أن استقرّ الجيش الاسلامي خارج الطائف بدأ حصاره لها ، غير أنّ الحصار لم يتكامل بعد حتى عمد العدو إلى رمي المسلمين للحيلولة دون تقدّمهم نحو المواقع المرسومة لها ، فقتل بهذا جماعة من المسلمين في بداية هذه الواقعة.

فأمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الجيش بالانسحاب والتراجع التكتيكي الى نقطة بعيدة عند مرمى العدوّ ، والتمركز فيها ريثما تصدر الاوامر الجديدة

وهنا اقترح « سلمان الفارسي » الذي سبق له أن اقترح حفر الخندق في معركة الاحزاب ، وكان ذا خبرة بفنون القتال ، اقترح على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بأن يرمي الحصن بالمنجنيق (2) ، وكان هذا الجهاز الذي كان يستخدم في حروب تلك الأعصر يؤدى نفس دور الدبابة في الحروب الراهنة.

فقام امراء الجيش الاسلامي بنصب المنجنيق بارشاد وتوجيه من سلمان ، وأخذوا يرمون الحصن المذكور وأبراجها الشاهقة بالحجارة طوال عشرين يوما متوالية.

ولكن العدوّ لم يسكت تجاه هذه العمليات القوية التي بدأها المسلمون ،

ص: 522


1- بحار الأنوار : ج 21 ص 163.
2- امتاع الاسماع : ج 1 ص 417.

فزاد من رميه واستمر في ذلك ، فوقعت بين المسلمين بعض الاصابات نتيجة ذلك (1).

والآن يجب أن نرى كيف حصل المسلمون على جهاز المنجنيق ، هذا؟

يرى البعض أن سلمانا هو الذي صنع هذا الجهاز وعلّم المسلمين كيفية استخدامه في هذه الغزوة (2).

ويرى آخرون ان المسلمين حصلوا على هذا الجهاز وغنموه من اليهود في خيبر عند فتح قلاعهم وحصونهم واصطحبوه معهم إلى الطائف واستخدموه في غزوها.

ولا يبعد أن الصحابي الجليل سلمان الفارسي قد ادخل بعض التحسينات على ذلك الذي جلبه المسلمون من خيبر ، وعلّم المسلمين كيفية نصبه واستخدامه في القتال ، فانه يستفاد من التاريخ أن المنجنيق لم يكن منحصرا في المنجنيق الذي حصل عليه من يهود خيبر ، لأن النبي صلی اللّه علیه و آله بعث الطفيل بن عمرو الدوسي لتحطيم أصنام لقبيلة « دوس » في وقت متزامن مع خروجه الى معركة حنين ثم الطائف فعاد الطفل فاتحا مع من خرجوا تحت إمرته من جنود الاسلام الاربعمائة ، وكانوا برمتهم من أبناء قبيلته ، فقد قدم الطائف على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مع عدد واحد من جهاز المنجنيق وعربتين حربيتين خاصتين ، وقد استخدمت هذه الآليات في غزوة الطائف.

شدخ جدار الحصن بالمنجنيق :

كان لا بدّ لاخضاع العدو ودفعه إلى الاستسلام من القيام بحملات واسعة ومن مختلف الاطراف والنواحي ، ولهذا تقرر أن يقوم جنود الاسلام ، مضافا إلى

ص: 523


1- الطبقات الكبرى : ج 2 ص 158.
2- السيرة النبوية : ج 4 ص 126 ، وابن هشام يرى أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله هو اول من أستخدم المنجنيق في الجزيرة العربية.

رمي الحصن بالمنجنيق ، إيجاد ثغرة في الجدار واجه مشكلة كبرى ، لأن السهام والاحجار ، والنيران كانت تنصبّ على رءوس المقاتلين المسلمين كالمطر ، ولم يكن في مقدور أحد منهم الاقتراب والدنوّ من جدار الحصن ، فكان أفضل وسيلة لتحقيق هذا الهدف هو استخدام الدبابة التي كانت في جيوش العالم الكبرى في تلك العصور في صورتها البدائية.

وكانت الدبابة آنذاك تصنع من الخشب وتغطى بجلود البقر ، ويدخل تحتها جماعة من الجنود الاقوياء ثم تتحرك نحو الحصن حتى تدنو إليه ، ويقوم الجنود بعملية إيجاد ثغرة او نقب في جدار الحصن ، فاستخدم نفر من جنود الاسلام الشجعان الاشداء هذا الجهاز بالطريقة المذكورة ، بيد أن العدو قد حال دون هذا العمل إذ ألقى على الدبابة سكك الحديد المحماة بالنار فاخرب سقفها ، واضطرّ أفرادها الى الخروج منها ، فرمتهم ثقيف بالنبل فقتلت منهم رجلا واحدا ولم ينتج هذه التكتيك القتالي ، ولم يتحقق أي نجاح في هذا المجال ، فانصرف المسلمون عن استخدامه (1).

ضغوط اقتصادية ونفسية :

إن تحقيق الانتصار لا ينحصر في مجرد استخدام الطرق والتكتيكات العسكرية ، بل للقائد الحكيم أن يستخدم - لاضعاف قوة العدو وكسر صموده - الضربات والضغوط الاقتصادية ويجبره على الاستسلام.

وقد تكون الضربة النفسية والاقتصادية اقوى مفعولا بدرجات أى إن أثرها تفوق بمراتب عديدة أثر الضربة العسكرية ، والإضرار البدني الذي يلحق بجنود العدو وأفراده.

ولقد كانت أرض الطائف أرض زراعة ، ونخيل وأعناب ، وكانت معروفة

ص: 524


1- المغازي : ج 3 ص 928.

في الحجاز بخصبها ، وكثرة محاصيلها وخيراتها ، لأن أهلها كانوا يجهدون كثيرا في تنمية نخيلهم وأعنابهم ورعايتها ، ويولون الحفاظ عليها اهتماما كبيرا ، ويعطون هذا الأمر القسط الاكبر من جهودهم.

فأعلن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لتهديد المتمردين اللاجئين إلى الحصن ، والمعتصمين به ، بأنه سيعمد إلى قطع أعناب ثقيف ، وإفناء مزارعها إذا واصل المعتصمون بالحصن مقاومتهم ولم يسلموا للمسلمين.

فلم يكترث العدو بهذا التهديد لأنه لم يك يتصور أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله - وهو النبي الذي عرف برحمته ورافته - يستخدم مثل هذه الطريقة.

وفجأة وجدت « ثقيف » أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أصدر أوامره بقطع الأعناب ، واتلاف المزارع وتحريقها ، فوقع المسلمون فيها يقطعون ويحرقون.

فعجّت « ثقيف » لذلك وضجّت ، واستغاثت برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأقسمت عليه بالرحم والقرابة أن يكف عن ذلك ، فتركها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله احتراما لوشيجة القربى التي كانت بينه وبين « ثقيف ».

ان المعتصمين بحصن الطائف وان كانوا من مثيرى معركة حنين والطائف ، وتانك الغزوتان اللتان كلّفتا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الكثير من الخسائر والمتاعب غير أنه صلی اللّه علیه و آله قبل مع ذلك التماس العدو وطلبه هذا ، فابدى وللمرة الاخرى وجه الاسلام الرحيم وكشف عن إنسانيته في التعامل مع العدوّ اللدود في ميدان القتال ، وأمر أصحابه بالكف عن قطع الاعناب وتحريقها.

ثم إن مع ما نعرفه ونعهده من أخلاق رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأساليبه الانسانية في مجال التعامل مع العدوّ ، يمكننا أن ندرك بسرعة أن الامر بقطع الاعناب وتحريق المزارع كان مجرد تهديد ومحاولة ضغط على العدو بحيث إذا لم تنجح هذه الطريقة معه لكفّ عنها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حتما.

* * *

ص: 525

آخر محاولة لفتح حصن الطائف :

كانت قبيلة « ثقيف » جماعة ثريّة ، وذات مال كثير ، وعبيد وإماء كثيرين ، ولكي يحصل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على معلومات دقيقة عن الاوضاع في داخل الحصن ، ويعرف بالتالي حجم امكانات العدو ومدى استعداداته من جهة ، ويوجد الاختلاف في صفوفه من جهة اخرى أمر أن يعلن عن القرار التالي : وينادى : أي عبد نزل من الحصن وخرج إلينا فهو حرّ.

ونفعت هذه الطريقة إلى حدّ ما ، فقد خرج من الحصن بطريقة ماهرة حوالي بضعة عشر رجلا من عبيد ثقيف ورقيقهم ، والتحقوا بصفوف المسلمين فعرف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من خلال التحقيق معهم أنّ المعتصمين بالحصن لا ينوون الاستسلام ، وأنهم مستعدون للمقاومة حتى لو طال الحصار عاما واحدا ، فإنهم قد أعدّوا لمثل هذا الحصار الطويل الطعام الكافي ، ولن يقعوا في أزمة بسبب طول الحصار.

جيش الاسلام يعود الى المدينة :

استخدم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في هذه الغزوة جميع الاساليب والتكتيكات العسكرية المادية والنفسيّة ضدّ العدوّ ، وقد اثبتت التجربة أن فتح الحصن يحتاج إلى مزيد من الصبر والعمل على حين لم تكن ظروف الجيش الاسلامي وامكاناته - يومذاك - لتسمح بذلك القدر من الصبر والترقب ، والانتظار والتوقف ، اكثر ممّا توقف ومكث في تلك المنطقة وذلك :

أولا : لأنه قتل في اثناء هذه المحاصرة (13) مسلما سبعة منهم من قريش ، وأربعة من الانصار ، ورجل واحد من قبيلة اخرى.

هذا مضافا إلى من استشهد من المسلمين في وادي « حنين » إثر هجوم العدوّ الغادر ، وانفراط صفوف الجيش الاسلامي ، والذين لم يذكر التاريخ مع

ص: 526

الأسف أسماءهم ، وخصوصياتهم ، ولهذا كان قد دبّ نوع من التعب في نفوس جنود الإسلام لم يكن من الصالح تجاهله.

وثانيا : أن شهر شوال قد انتهى ، وبدأ شهر ذي القعدة الذي كان معدودا عند العرب من الاشهر الحرم وقد أيّد الاسلام فيما بعد هذه السنّة ، وأكّد حرمة الاشهر الحرم.

من هنا كان من الضروري - حفاظا على هذه السنّة - (1) إنهاء الحصار في أقرب وقت لكي لا تتّهم عرب ثقيف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بمخالفة السنّة الصالحة وخرقها.

أضف إلى ذلك دنوّ حلول موسم الحج ، مع العلم بأن إدارة ذلك الموسم ومناسكه كانت في ذلك العام للمسلمين ، بعد أن كانت - قبل ذلك - تدار بواسطة المشركين وبرعايتهم.

ولا شك أن موسم الحج الذي كان سببا لحصول اجتماع بشريّ عظيم من سكان الجزيرة العربية كان يوفّر اكبر وافضل فرصة لتبليغ الاسلام ، وبيان حقيقة التوحيد ، وكان على النبي صلی اللّه علیه و آله ان يستغل هذه الفرصة العظيمة التي اتيحت له لأوّل مرة ، في مجال الدعوة ، ويستفيد منها اكثر قدر ممكن ويولي اهتمامه لقضايا اخرى اكثر أهميّة وخطورة من فتح حصن واقع في منطقة نائية.

مع أخذ هذه الظروف بنظر الاعتبار ترك الرسول القائد صلی اللّه علیه و آله حصار الطائف وعاد بجيشه إلى الجعرّانة التي جعلها محلا لحفظ أسرى حنين وغنائمها.

ص: 527


1- ويدلّ على هذا الأمر أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ترك مكة متوجها إلى الطائف في الخامس من شهر شوال واستغرقت مدة الحصار عشرين يوما ، وصرفت بقيّة الايام ( وهي خمسة ) في المسير إلى حنين ، وفي المعركة. وقولنا بأن الحصار طال عشرين يوماً يستند إلی رواية نقلها ابن هشام، إلا أن ابن سعد ذكر مدة الحصار أربعين يوماً (الطبقات الكبری ج2 ص158).

حوادث ما بعد الحرب : انتهت حوادث معركة « حنين » و « الطائف » وعاد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من دون تحقيق نتيجة قطعية الى « الجعرانه » لتقسيم غنائم معركة « حنين ».

والغنائم التي حصل عليها المسلمون في معركة « حنين » كانت من اكبر الغنائم التي غنموها طوال المعارك الاسلامية كلّها ، لأن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يوم قدم « الجعرّانة » كان هناك ستة آلاف أسير و (24) ألف من الإبل واكثر من (40) ألف رأس غنم و (852) كيلو غرام من الفضة يحافظ عليها في مركز الغنائم (1) وكان من الممكن أن تسدّد القيادة من هذه الغنائم قسما كبيرا من ميزانية الجيش الاسلامي.

لقد مكث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في « الجعرّانة » ثلاثة عشر يوما ، وفي هذه المدة قسّم تلك الغنائم بطريقة خاصة ملفتة للنظر وجديرة بالتأمل والدراسة.

فقد خلّى سبيل بعض الأسرى ، وتركهم لذوبهم ، وخطّط لاخضاع ( او بالاحرى إسلام ) مالك بن عوف النصري مثير معركة حنين والطائف الهارب ، كما أظهر تقديره وشكره لمواقف الاشخاص في هاتين الغزوتين وخدماتهم ، وجذب بسياسته الحكيمة افئدة أعداء الاسلام ، ورغّبها في عقيدة التوحيد الشريفة ، وأنهى نقاشا حدث بينه وبين جماعة الأنصار حول طريقة تقسيم الغنائم بخطبة جميلة.

وإليك تفصيل الكلام في المواضيع المذكورة :

1 - لقد دأب رسول الاسلام صلی اللّه علیه و آله على احترام حقوق الأفراد ، وتثمين جهودهم مهما ضؤلت ودقّت ، وعلى أن لا يبخس أحدا عمله ، فإذا أحسن

ص: 528


1- الطبقات الكبرى : ج 2 ص 152.

إليه أحد قابل إحسانه بما يزيد عليه أضعافا مضاعفة. وكان ذلك من أبرز صفاته وأخلاقه صلی اللّه علیه و آله .

فقد رضع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وترعرع في قبيلة بني سعد التي هي من قبائل هوازن ، وقد ارضعته امرأة من هذه القبيلة تدعى « حليمة السعدية » ، وقد بقي في تلك القبيلة خمسة أعوام.

وقد شاركت قبيلة بني سعد في معركة حنين ضدّ الاسلام فسبيت بعض نسائهم وأطفالهم على أيدي المسلمين ، كما وقعت بعض أموالهم بأيديهم أيضا ، وقد ندمت على فعلها ندما شديدا.

وقد كانوا يعلمون أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله نشأ وترعرع فيهم ، ورضع بلبن نسائهم هذا من ناحية ، ومن ناحية اخرى كانوا يعرفون أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ملء قلبه الرحمة والمروءة ومعرفة الجميل ، فاذا سنح لهم أن يذكّروه بذلك لأطلق أسراهم حتما.

فقدم أربعة عشر رجلا من رؤسائهم الذين كانوا قد أسلموا جميعا « الجعرانة » على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقد أمّروا على أنفسهم شخصيتين من رجالهم أحدهما هو « زهير بن صرد » والآخر عم للنبي صلی اللّه علیه و آله من الرضاعة ، فقالوا : يا رسول اللّه إنّما في هذه الأسرى من يكفلك من عماتك وخالاتك ، وحواضنك ، وقد حضنّاك في حجورنا وارضعناك بثدينا ، ولقد رايتك مرضعا فما رأيت مرضعا خيرا منك ، ورأيتك فطيما فما رأيت فطيما خيرا منك ، ورأيتك شابا فما رأيت شابا خيرا منك ، وقد تكاملت فيك خلال الخير ، ونحن مع ذلك أهلك وعشيرتك فامنن علينا منّ اللّه عليك.

وقال زهير بن صرد : يا رسول اللّه إنّما في هذه الحظائر عماتك وخالاتك وحواضنك اللاتي كنّ يكفلنك ، ولو أننا ملحنا للحارث بن أبي شمر ، أو النعمان بن المنذر ، ثم نزل منا بمثل الذي نزلت به رجونا عطفه وعائدته علينا وأنت خير المكفولين.

ص: 529

فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لهم :

« إن أحسن الحديث أصدقه ، وعندي من ترون من المسلمين ، فابناؤكم ونساؤكم أحبّ إليكم أم أموالكم »؟

قالوا : يا رسول اللّه خيّرتنا بين أحسابنا وأموالنا وما كنّا نعدل بالأحساب شيئا ، فردّ علينا أبناءنا ونساءنا.

فقال صلی اللّه علیه و آله :

« أما ما لي ولبني عبد المطلب فهو لكم واسأل لكم الناس وإذا صلّيت الظهر بالناس فقولوا : إنا لنستشفع برسول اللّه الى المسلمين ، وبالمسلمين الى رسول اللّه فاني سأقول : لكم ما كان لي ولبني عبد المطّلب فهو لكم وسأطلب لكم إلى الناس ».

فلما صلّى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الظهر بالناس قاموا فتكلموا بالذي أمرهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقالوا : إنا نستشفع برسول اللّه الى المسلمين وبالمسلمين إلى رسول اللّه.

فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم.

وبهذا وهب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لهم نصيبه من الاسرى.

فقال المهاجرون : أمّا ما كان لنا فهو لرسول اللّه.

وقال الانصار : ما كان لنا فهو لرسول اللّه.

وهكذا وهب الانصار والمهاجرون نصيبهم من الاسرى تبعا لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ولم يتأخر عن ذلك إلاّ قليلون مثل « الاقرع بن حابس » و « عيينة بن حصن » فقد امتنعا عن أن يهبا نصيبهما ، ويطلق سراح ما عندهم من السبايا ، فقام رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقال : إن هؤلاء القوم جاءوا مسلمين وقد استأنيت بهم ، فخيّرتهم بين النساء والأبناء ، والأموال ، فلم يعدلوا بالأبناء والنساء ، فمن كانت عنده منهنّ شيء فطابت نفسه أن يردّه فليرسل ،

ص: 530

ومن أبى منكم وتمسك بحقه فليردّ عليهم ، فله بكل انسان ست فرائض ( أي سوف أعطيه بدل الواحد ستا ) من أول ما يفيء اللّه به علينا (1).

فكان لعمل النبي صلی اللّه علیه و آله هذا أثر عظيم في نفوس المسلمين حيث خلّوا سبيل جميع من كان في أيديهم من الاسرى والسبايا إلا امرأة عجوز امتنع « عيينة » من ردّها إلى ذوبها.

وهكذا أثمر عمل صالح غرست شتيلته - قبل ستين عاما - في أرض قبيلة بني سعد على يدى حليمة السعدية ، فاتت اكلها بعد مدة طويلة ، واطلق بفضل ذلك العمل الصالح سراح جميع الاسرى والسبايا من هوازن (2).

ثم ان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله دعا اخته من الرضاعة « الشيماء » (3) وبسط لها رداءه ثم قال : اجلسي عليه ، ورحّب بها ، ودمعت عيناه ، وسألها عن امّه وابيه من الرضاعة ، فاخبرته بموتهما في الزمان ، ثم قال صلی اللّه علیه و آله لها :

« إن أحببت فأقيمي عندنا محبّبة مكرّمة وإن أحببت أن امتّعك وترجعي الى قومك فعلت ».

فقالت : بل تمتّعني وتردّني إلى قومي ، فمتّعها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وردّها الى قومها ، بعد أن أسلمت طوعا ورغبة ، وأعطاها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ثلاثة أعبد وجارية (4).

وقد قوّى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله باخلائه سبيل جميع أسرى هوازن وسباياها من رغبة هوازن في الاسلام ، فاسلموا من قلوبهم ، وهكذا فقدت

ص: 531


1- المغازي : ج 3 ص 949 - 953.
2- الطبقات الكبرى : ج 2 ص 153 و 154 ، السيرة النبوية : ج 2 ص 490 ، والحادثة التاريخية هذه جسّدت مضمون قول اللّه تعالى : « مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ » ( النحل : 97 ).
3- هي الشيماء بنت الحارث بن عبد العزى.
4- البداية والنهاية : ج 2 ص 363 و 364 ، الامتاع : ج 1 ص 413.

« الطائف » آخر حليف من حلفائها.

2 - اسلام مالك بن عوف :

في هذا الأثناء اغتنم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الفرصة ليعالج مشكلته مع « مالك بن عوف النصري » مثير حرب حنين ، عن طريق وفد بني سعد وذلك بترغيبه في الاسلام ، وعزله عن حليفه : « ثقيف ».

ولهذا سألهم عن مالك ما فعل؟ فقالوا يا رسول اللّه هو بالطائف مع ثقيف.

فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله :

« أخبروا مالكا أنّه إن أتاني مسلما رددت عليه أهله وماله وأعطيته مائة من الابل ».

فبلّغ وفد هوازن مالكا كلام رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأمانه المشروط ، فقرّر مالك الذي كان يرى بامّ عينيه تعاظم أمر الاسلام ، واشتداد أزره كما رأى رحمة النبي ولطفه ، أن يخرج من الطائف ، ويلتحق بالمسلمين ، ولكنه كان يخشى أن تعرف « ثقيف » بنيته فتحبسه في الحصن ، ولهذا عمد الى خطة خاصة للفرار ، فقد أمر باعداد راحلته فهيّئت له ، وأمر بفرس له فأتي به إلى الطائف ، فركب فرسه وركّضه حتى أتى راحلته حيث أمر بها أن تحبس فركبها ، فلحق برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فادركه بالجعرانة أو بمكة ، فردّ عليه النبي صلی اللّه علیه و آله أهله وماله ، وأعطاه مائة من الابل كما وعد من قبل ، واسلم فحسن إسلامه ، ثم استعمله رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على من أسلم من قومه وقبائل « ثمالة » و « سلمة » و « فهم ».

وقد انشد « مالك بن عوف » أبياتا عند ما أسلم يصف فيها خلائق رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الكريمة ، ويمدحه أجمل مديح اذ يقول :

ما إن رأيت ولا سمعت بمثله *** في الناس كلّهم بمثل محمّد

أوفى وأعطى للجزيل إذ اجتدي *** متى تشأ يخبرك عما في غد

ص: 532

وإذا الكتيبة عرّدت أنيابها *** بالسمهريّ وضرب كلّ مهنّد

فكأنّه ليث على أشباله *** وسط الهباءة خادر في مرصد

وصار يقاتل بتلك القبائل ثقيفا لا يخرج لهم سرح إلاّ أغار عليه حتى ضيّق عليهم لما حصل عليه من مكانة وعزة في الاسلام ، وبعد أن أدرك قبح موقف « ثقيف » (1).

3 - تقسيم الغنائم :

كان أصحاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يلحّون عليه أن يسرع في تقسيم غنائم الحرب ، ولكي يدلّل النبي الكريم صلی اللّه علیه و آله على حياده الكامل في تقسيم الغنائم قام إلى بعير فأخذ وبرة من سنامه فجعلها بين إصبعيه ثم رفعها ثم قال :

« أيّها الناس واللّه مالي في فيئكم ولا هذه الوبرة إلاّ الخمس ، والخمس مردود عليكم ، فادّوا الخياط والمخيط فإن الغلول ( أي الخيانة في بيت المال ) يكون على أهله عارا ، ونارا ، وشنارا يوم القيامة ».

ثم ان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قسّم أموال بيت المال بين المسلمين ، واما الخمس الذي هو حقه الخاص به فقد وزّعه بين أشراف قريش الحديثي العهد بالاسلام يتألّفهم ، ويتألف بهم قومهم ، فأعطى من هذا المال ل- : أبي سفيان بن حرب ، وابنه معاوية ، وحكيم بن حزام ، والحارث بن الحارث ، والحارث بن هشام ، وسهيل بن عمرو ، وحويطب بن عبد العزى ، والعلاء بن جارية وصفوان بن أميّة ، وغيرهم ممّن كانوا يعادونه الى الأمس القريب من رءوس الشرك ورموز الكفر ، لكلّ واحد منهم مائة بعير (2).

ص: 533


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 491 وعرّدت أي عوّجت.
2- راجع المحبّر : ص 473 ، المغازي : ج 3 ص 944 - 948 ، السيرة النبوية : ج 3 ص 493 ، امتاع الاسماع : ج 1 ص 423.

وقد كان لهذا العطاء السخيّ أثره الطيب والبالغ في نفوس تلك الجماعة التي شملها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله برحمته ، ولطفه ، وعنايته ، وكرمه ، واشتدت رغبتهم في الاسلام.

وهذا الفريق هم من يصطلح عليهم في الفقه الاسلامي بالمؤلفة قلوبهم ، وهم يشكّلون إحدى مصارف الزكاة بنص القرآن الكريم.

ويقول ابن سعد في الطبقات الكبرى بعد ان ذكر قصة هذا التقسيم الخاص للغنائم : وأعطى ذلك كله من الخمس وهو أثبت الاقاويل عندنا (1).

ولقد شق هذا النوع من الاسلوب في تقسيم الغنائم وهذا النمط من البذل الذي مارسه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، شقّ على بعض المسلمين ، وبخاصة الانصار وقد جهلوا بالمصالح التي كان يراعيها ، والأهداف العليا التي كان يتوخّاها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من هذا النوع من البذل والعطاء ( وهو تخصيص حديثي العهد بالاسلام باكثر الغنائم ).

لقد كانوا يتصورون ان التعصب القبلي هو الذي دفع بالرسول القائد صلی اللّه علیه و آله إلى أن يقسم خمس الغنيمة بين أبناء قبيلته حتى أن احدهم ( وهو ذو الخويصرة التميمي ) قال لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بكل وقاحة : يا محمّد قد رأيت ما صنعت في هذا اليوم ، لم أرك عدلت!!

فغضب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من كلامه هذا وقال :

« ويحك إذا لم يكن العدل عندي فعند من يكون »؟!

فطلب عمر بن الخطاب من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن يأذن له بقتله ، فلم يأذن له النبي وقال صلی اللّه علیه و آله :

« دعه فانّه سيكون له شيعة يتعمّقون في الدين ( أي يتتبّعون أقصاه ) حتى

ص: 534


1- الطبقات الكبرى : ج 3 ص 153.

يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرميّة » (1).

وقد كان هذا الرجل - كما قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله زعيم فرقة الخوارج في عهد حكومة الإمام عليّ علیه السلام ، فهو الذي قاد تلك الفرقة الخطرة ، غير أن النبيّ صلی اللّه علیه و آله لم يقدم على عقوبته على ما بدر منه فيما بعد لأن القصاص أو العقاب قبل الجناية يخالف قواعد الإسلام.

ولقد رفع « سعد بن عبادة » شكوى الأنصار حول كيفية تقسيم الخمس إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقال النبي صلی اللّه علیه و آله لسعد : اجمع من كان هاهنا من الأنصار في هذه الحظيرة.

فجمع سعد الانصار في تلك الخطيرة ، فلما اجتمعوا دخل عليهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وعليه جلال النبوة ، وهيبة الرسالة ، فحمد اللّه واثنى عليه بالذي هو أهله ثم قال :

« يا معشر الأنصار ما مقالة بلغتني عنكم وجدة وجدتموها في أنفسكم؟ ألم آتكم ضلاّلا فهداكم اللّه وعالة فاغناكم اللّه ، وأعداء فألّف اللّه بين قلوبكم »؟

قالوا : بلى اللّه ورسوله أمنّ وافضل!

قال :

ألا تجيبوني يا معشر الانصار »؟

قالوا : وما ذا نجيبك يا رسول اللّه ولرسول اللّه المنّ والفضل؟

قال :

« أما واللّه لو شئتم قلتم فصدقتم أتيتنا مكذّبا فصدّقناك ومخذولا فنصرناك

ص: 535


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 496 ، السيرة الحلبية : ج 3 ص 122 ، وفي المغازي : ج 3 ص 948 أن النبيّ صلی اللّه علیه و آله قال فيه : « دعه إنّ له أصحابا يحقّر أحدكم صلاته مع صلاتهم ، وصيامه مع صيامهم ، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ... يخرجون على فرقة من المسلمين ». وراجع امتاع الاسماع : ج 1 ص 425 وجاء في السيرة الحلبية انه أصل الخوارج.

وطريدا فآويناك وعائلا فآسيناك! (1) وجدتم في أنفسكم يا معشر الأنصار في شيء من الدّنيا تألّفت به قوما ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم ، أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير ، وترجعوا برسول اللّه إلى رحالكم؟

والذي نفس محمّد بيده لو لا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار ، ولو سلك الناس شعبا وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار ».

ثم ترحّم على الأنصار وعلى أبنائهم وعلى أبناء أبنائهم فقال :

« اللّهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار ».

وقد كانت كلمات النبي صلی اللّه علیه و آله هذه من القوة والعاطفيّة بحيث أثارت مشاعر الأنصار ، فبكوا بعد سماعها بكاء شديدا حتى اخضلّت لحاهم وابتلّت بالدموع وقالوا : رضينا يا رسول اللّه حظّا وقسما!!!

ثم انصرف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وتفرّقوا (2).

ان هذه القصة تكشف عن عمق حكمة النبي صلی اللّه علیه و آله وعن حنكته السياسيّة البالغة ، وكيف أنه كان يعالج المشاكل باساليب مناسبة وبروح الصدق واللطف.

رسول اللّه يعتمر :

ثم ان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله خرج من الجعرانة معتمرا ، بعد ان قسم الغنائم ، فلما فرغ من عمرته انصرف راجعا الى المدينة ، فقدم المدينة في اواخر شهر ذي القعدة ، أو أوائل شهر ذي الحجة.

ص: 536


1- إن هذا يفيد ان النبي صلی اللّه علیه و آله ما كان ينسى فضل أحد عليه وان كان هو صلی اللّه علیه و آله صاحب الفضل الاكبر على الناس اجمعين.
2- السيرة النبوية : ج 2 ص 498 و 499 ، المغازي : ج 3 ص 957 و 958.

52

لاميّة كعب بن زهير المعروفة

« بانت سعاد ... »

فرغ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في منتصف شهر ذي القعدة ، من السنة الثامنة للهجرة من قسمة غنائم حنين في الجعرانة ، وكان موسم الحج على الأبواب ، وكانت هذه السنة هي السنة الاولى التي كان يتوجب على الحجيج العرب ، مسلمين ومشركين ، أن يقوموا بمناسك الحج تحت رعاية الحكومة الاسلامية.

وكان اشتراك رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في هذه الشعائر يزيد الحج عظمة وجلالا ، وكان من الممكن - وبفضل قيادته الحكيمة - أن تتم في ذلك الحشد الهائل والاجتماع العظيم دعوة صحيحة وقوية وواسعة إلى الاسلام ، بينما كانت ثمة مسئوليات في المدينة تنتظر عودة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وقد مضى على مفارقته المدينة ما يقرب من ثلاثة أشهر ، وكانت الأعمال التي يجب أن يقوم بها هو بنفسه قد تعطّلت طوال هذه المدة.

وبعد دراسة هذه المسألة من جوانبها المختلفة رأى الرسول القائد صلی اللّه علیه و آله أن يكتفي بعمرة ، يغادر بعدها مكة ليصل الى المدينة في أقرب وقت ممكن.

ولكنه صلی اللّه علیه و آله رأى أنه لا بدّ أن يعيّن شخصا صالحا لادارة الامور السياسية والدينية في المنطقة الحديثة العهد بالفتح الاسلامي ( نعني مكة ) حتى لا تحدث في غيابه أزمة فيها ، وحتى تجري الامور على النسق الصحيح والمطلوب.

ص: 537

من هنا استخلف النبي صلی اللّه علیه و آله « عتّاب بن اسيد » على مكة ، وكان عتاب شابا لبيبا يتسم بالصبر والجلد ، وكان له من العمر اذ ذاك عشرون سنة ، وقد قرّر له النبي راتبا قدره درهم واحد كل يوم.

وبهذا العمل ( أي تعيين شاب حديث العهد بالاسلام والايمان في مقتبل العمر ، ولكن كفؤ لتسيير الامور في مكة ، وتفضيله على كثير من الشيوخ وكبار السنّ ) حطّم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله سدّا خياليا ، ومفهوما باطلا في مجال التوظيف والتأمير.

فان جماعة من الناس لما أمّر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله « عتابا » على أهل مكة قالوا : إن محمّدا لا يزال يستخفّ بناحتى ولّى علينا غلاما حدث السنّ ابن ثمانية عشر سنة ، ونحن مشايخ ذو والاسنان فاجابهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بقوله في كتاب كتبه لعتاب :

« لا يحتجّ محتجّ منكم في مخالفته بصغر سنّه ، فليس الاكبر هو الأفضل بل الأفضل هو الاكبر وهو الاكبر في موالاتنا وموالاة أوليائنا ومعاداة أعدائنا فلذلك جعلناه الأمير عليكم والرئيس عليكم فمن أطاعه فمرحبا به ومن خالفه فلا يبعد اللّه غيره » (1).

وبهذا أثبت صلی اللّه علیه و آله عمليا أن حيازة المناصب الاجتماعية إنما تدور فقط حول معيار الأهلية والجدارة ، والكفاءة ، وأنّ صغر السنّ لا يمنع من ذلك اذا كان صاحبه يتمتع بكفاءة عالية.

ثم ان « عتّابا » قام فخطب في الناس فقال : أيّها الناس أجاع اللّه كبد من جاع على درهم ، فقد رزقني رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله درهما كل يوم ، فليست بي حاجة إلى أحد (2).

ص: 538


1- بحار الأنوار : ج 21 ص 122 و 123. امتاع الاسماع : ج 1 ص 432 و 433.
2- السيرة النبوية : ج 2 ص 500.

وأحسن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الاختيار أيضا عند ما عيّن « معاذ بن جبل » ليعلّم الناس القرآن ويفقههم في الدين ، فقد كان معاذ ممن عرف بالفقه ، والمعرفة باحكام القرآن بين أصحاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حتى أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لما بعثه للقضاء ، الى اليمن سأله صلی اللّه علیه و آله : بم تقضي إن عرض قضاء فقال : أقضى بما في كتاب اللّه.

قال : فان لم يكن في كتاب اللّه؟

قال : أقضي بما قضى به الرسول.

قال : فإن لم يكن فيما قضى به الرسول؟

قال : أجتهد رأيي ولا آلو.

فضرب النبي صلی اللّه علیه و آله صدره ، وقال :

« الحمد اللّه الّذي وفّق رسول رسول اللّه لما يرضى رسول اللّه » (1).

قصة كعب بن زهير بن أبي سلمى :

كان « زهير بن أبي سلمى » من شعراء العرب البارعين في العهد الجاهلي ، فهو صاحب إحدى المعلّقات السبع التي بقيت منصوبة في الكعبة المعظّمة حتى قبيل نزول القرآن الكريم ، وكانت تفتخر بها العرب ، وتبدأ معلّقته تلك بقوله :

أمن أمّ أوفى دمنة لم تكلّم *** بحومانة الدرّاج فالمتثلّم

وقد توفي « زهير » قبل عصر الرسالة ، وخلّف ولدين هما : « بجير » ، و « كعب » وكان الأول ممّن آمن برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ونصره ، وأحبّه ، بينما عادى الثاني ( كعب ) رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بشدّة ، وحيث أنه كان ذا قريحة شعرية موروثة قوية ، لهذا كان يهجو رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في قصائده

ص: 539


1- الطبقات الكبرى : ج 2 ص 347 و 348 ، ويكتب الجزري في اسد الغابة : ( ج 3 ص 358 ) كان عتاب رجلا خبيرا صالحا فاضلا.

وأشعاره ويؤلّب الناس ضدّ الإسلام.

ولما قدم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله المدينة في الرابع والعشرين من شهر ذي القعدة كان « بجير » قد شارك مع النبي صلی اللّه علیه و آله في فتح مكة ، وحصار الطائف ، وقد شاهد عن كثب كيف هدّد النبي صلی اللّه علیه و آله بالقتل بعض الشعراء الذين كانوا يهجون رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ويؤلّبون الناس ضدّ الإسلام ، وأهدر دماءهم.

فكتب بهذا إلى أخيه ( كعب ) ونصحه في آخر كتابه قائلا : إن كانت لك في نفسك حاجة فطر الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فانه لا يقتل أحدا جاءه تائبا.

فاطمأنّ كعب بكلام أخيه ، وتوجّه من فوره إلى المدينة فدخل المسجد ورسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يتهيأ لصلاة الصبح ، فصلّى مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لأوّل مرّة ثم جلس إليه ، ووضع يده في يده ، وكان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لا يعرفه ، فقال : يا رسول اللّه إن كعب بن زهير قد جاء ليستأمن منك تائبا مسلما فهل أنت قابل منه إن أنا جئتك به؟

قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : نعم.

قال : أنا يا رسول اللّه كعب بن زهير (1).

ثم أخرج كعب قصيدته اللاميّة العصماء التي مدح فيها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله والتي كان قد أنشأها من قبل ، وانشدها بين يدي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في المسجد ليتلافى بها ما سبق أن بدر منه من هجاء وطعن في سيد المرسلين صلی اللّه علیه و آله (2).

ص: 540


1- روي أنه وثب على كعب - في تلك الحال - رجل من الانصار فقال : يا رسول اللّه دعني وعدوّ اللّه أن أضرب عنقه ، فقال النبي صلی اللّه علیه و آله : دعه عنك فانه قد جاء تائبا نازعا ( عما كان عليه ) السيرة النبوية : ج 2 ص 501.
2- السيرة الحلبية : ج 3 ص 242.

وهذه القصيدة الرائعة هي من أفضل قصائد كعب وقد اعتنى المسلمون بحفظها ونشرها منذ أن أنشدها الشاعر المذكور بين يدي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في المسجد ، وقد شرحها علماء الإسلام كثيرا ، وعدد ابيات هذه اللامية ( أي التي تنتهي قوافيها باللام المضمومة ) 58 بيتا ومطلعها :

بانت سعاد فقلبي اليوم متبول *** متيّم إثرها لم يغد مكبول

لقد بدأ كعب قصيدته هذه - على عادة شعراء العهد الجاهلي ( الذين كانوا يبدءون قصائدهم بمخاطبة محبوبتهم او مخاطبة الاطلال ) - بذكر سعاد زوجته وابنة عمه ، ولقد خصّها بالذكر لطول غيبته عنها ، لهروبه من النبي صلی اللّه علیه و آله فيقول : فارقتني سعاد فراقا بعيدا فقلبي اليوم أسقمه الحبّ ، وأضناه ، فهو ذليل لغيبتها لم يخلص من الأسر والقيد.

ثم يمضي في هذه النمط من الكلام حتى يصل إلى أن يعتذر من صنيعه السيّئ فقال :

نبّئت أنّ رسول اللّه أوعدني *** والعفو عند رسول اللّه مأمول

مهلا هداك الذي أعطاك ناف *** لة القرآن فيها مواعيظ وتفصيل

لا تأخذنّي بأقوال الوشاة ولم *** اذنب ولو كثرت فيّ الأقاويل

إلى أن قال :

إن الرسول لنور يستضاء به *** مهنّد من سيوف اللّه مسلول (1) (2)

ص: 541


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 501 - 514.
2- يقال : إن كعبا عند ما فرغ من إنشاء قصيدته كساه النبي صلی اللّه علیه و آله بردة كانت عليه ، فلما كان زمن معاوية أرسل الى كعب أن بعنا بردة رسول اللّه ، فقال : ما كنت لاوثر بثوب رسول اللّه أحدا ، فلما مات كعب اشتراها معاوية من أولاده بعشرين ألف درهم وهي البردة التي كان يلبسها الخلفاء الامويون والعباسيون ( راجع الكامل في التاريخ ج 2 ص 276 ). وجاء في ناسخ التواريخ الجزء الثالث من المجلد الثاني ان كعبا لما قال « ان النبي لسيف يستضاء به » قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله « إن النبي لنور ».

حزن قارن فرحا :

في أواخر السنة الثامنة للهجرة فقد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كبرى بناته : « زينب » ، وقد تزوّجت زينب قبل البعثة بابن خالتها أبي العاص ، وآمنت بأبيها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بعد البعثة من دون تأخير ، ولكنّ زوجها ظلّ على شركه ، وشارك في « بدر » ضدّ الإسلام والمسلمين ، وأسر في تلك المعركة فخلّى رسول اللّه سبيله ، شريطة أن يبعث بابنته « زينب » إلى المدينة.

وفعل ابن العاص ذلك فجهّز زوجته « زينب » وبعثها برفقة أخيه إلى المدينة ، غير أن سادة قريش عرفوا بذلك ، فكلّفوا من يعيدها إلى مكة ، فلحق بها الرجل في أثناء الطريق ، فضرب هودجها برمحه ففزعت زينب ابنة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله واسقطت حملها من شدّة الفزع ، ولكنها لم تنصرف عن الذهاب الى المدينة ، فقد واصلت سيرها حتى قدمت المدينة وهي عليلة ، وقضت بقية عمرها مريضة حتى توفّيت في أواخر السنة الثامنة من الهجرة.

ولكنّ هذا الحزن قارنه فرح وسرور فقد رزق رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في أواخر نفس ذلك العام ولدا اسماه « ابراهيم » من زوجته « مارية القبطية » ( وهي الجارية التي أهداها المقوقس حاكم مصر إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ).

والجدير بالذكر أنه عند ما بشّرت سلمى ( المولّدة ) رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بذلك ، أعطاها هدية ثمينة ، وعقّ له في اليوم السابع من ولادته ، وحلق شعره ، وتصدّق بوزن شعره ، فضة في سبيل اللّه (1).

ص: 542


1- تاريخ الخميس : ج 2 ص 131.

حوادث السنة التاسعة من الهجرة

اشارة

53

علي بن أبي طالب في أرض طيّ

إسلام عديّ بن حاتم :

انقضت السنة الهجرية الثامنة بكل حوادثها المرّة والحلوة ، فقد سقطت اكبر قاعدة من قاعدة الوثنية والشرك في أيدي المسلمين ، وعاد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى المدينة ظافرا منتصرا على أعداء الإسلام انتصارا كاملا ، وقد هيمنت ظلال القوة العسكرية الإسلامية على اكثر أنحاء الجزيرة العربية ونقاطها.

كما أخذت القبائل العربية المتمرّدة التي لم تكن تتصور إلى ذلك اليوم أن يتحقق مثل هذه الانتصارات لدين التوحيد ، أخذت تفكّر شيئا فشيئا في التقرب الى المسلمين وقبول معتقداتهم ، واعتناق دينهم.

من هنا كانت وفود القبائل العربية المختلفة ، وأحيانا مجموعة من أفراد قبيلة ما بقيادة رئيسها تقدم على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وتعلن عن إسلامها ، وقبولها للرسالة المحمدية.

وقد ازداد قدوم وفود القبائل هذه على عاصمة الإسلام ( المدينة المنورة ) في هذا العام حتى سمّى بعام الوفود (1).

ص: 543


1- لقد سجّل المؤرخ المعروف محمّد بن سعد - في كتابه - خصوصيات واسماء هذه الوفود وتفاصيل القسم الاكبر من تفاصيل ما دار بينها وبين النبي صلی اللّه علیه و آله وما خصّهم به رسول الاسلام من الطف لا يسع المجال لذكره هنا ، وقد ذكر اسماء ثلاثة وسبعين وفدا من تلك الوفود التي وفدت على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله طوال السنة التاسعة من الهجرة او ما قبلها بقليل ( الطبقات الكبرى : ج 1 ص291 - 359 ).

وعند ما قدم وفد من قبيلة « طيّ » وفيهم سيدهم « زيد الخيل » على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وتحادث مع النبي صلی اللّه علیه و آله أعجب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بعقل زيد وحكمته ووقاره فقال عنه :

« ما ذكر لي رجل من العرب بفضل ثم جاءني إلاّ رأيته دون ما يقال فيه إلاّ زيد الخيل ، فانه لم يبلغ كل ما كان فيه ».

ثم سمّاه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله زيد الخير (1).

إن دراسة قصة الوفود ، والإمعان والتدبر في ما دار بينهم وبين رسول الاسلام يفيد بوضوح وجلاء ان الاسلام انتشر في شبه الجزيرة العربية عن طريق الدعوة والتبليغ.

على أن طواغيت ذلك العصر أمثال أبي سفيان وأبي جهل كانوا يحاولون الحيلولة دون انتشار هذا الدين ، فكانت لأجل ذلك حروب النبي صلی اللّه علیه و آله فمضافا إلى أن اكثرها كان لإفشال تلك المؤامرات ، كان الهدف منها

ص: 544


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 577. هذا وينبغي الاشارة هنا وبالمناسبة إلى أنه كان من سيرة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن يغيّر الأسماء القبيحة التي اعتاد الجاهليّون على تسمية أبنائهم بها ايثارا للاسم الحسن ولأن الاسم يورث الاحساس بالشخصية لدى صاحبه على العكس من الاسم القبيح ، وقد ثبت هذا نفسيا ، بل ربما غيّر الاسماء التي قد يشعر معها الانسان بالعظمة ، والفخر والزهو منعا من أن تحدث لأصحابها مثل ذلك. فعن الامام جعفر بن محمّد الصادق عن ابيه علیهماالسلام : إنّ رسول اللّه كان يغيّر الأسماء القبيحة في الرجال والبلدان ( قرب الاسناد ص 45 ) ولهذا غيّر أسماء كثيرة لرجال ونساء فغيّر اسم ابنة لعمر كانت يقال لها عاصية فسماها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله جميلة ( صحيح مسلم : ج 6 ص 173 ) وغيّر اسم غافل بن البكير فسمّاه عاقلا ، وقد روي أن النبي صلی اللّه علیه و آله قال : « إن أوّل ما ينحل احدكم ولده الاسم الحسن » ( بحار الأنوار : ج 23 ص 122 ).

هو قمع أولئك الطواغيت الذين كانوا يصدّون عن سبيل اللّه ويمنعون من دخول مجموعات الدعوة والتبليغ الاسلامية إلى مناطق الحجاز ونجد وغيرها.

إنّ من البديهيّ أن لا يتيسّر انتشار أيّ دين ، وتطبيق أي برنامج إصلاحي من دون تحطيم الطواغيت ، وإزالة الأشواك من طريقه.

ومن هنا نرى أنّ جميع الأنبياء والرسل ، وليس رسول اللّه فقط كانوا يجتهدون قبل أي شيء في تحطيم الطواغيت وإزالة السدود والموانع ، من طريق الدعوة.

ويتحدث القرآن الكريم في سورة خاصة عن قدوم هذه الوفود على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وما حققه الإسلام من فتح وانتصار ساحق اذ يقول :

« بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا جاءَ نَصْرُ اللّهِ وَالْفَتْحُ. وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللّهِ أَفْواجاً. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً » (1).

وبالرغم من هذا الإقبال المتزائد على الإسلام لدى القبائل وقدوم الوفود المتلاحق على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقد قام في السنة التاسعة من الهجرة ببعث عدة سرايا ، ووقعت غزوة واحدة ، وكانت السرايا هذه لأجل إفشال المؤامرات التي كانت تحاك ضدّ الاسلام والمسلمين ، وكانت في الأغلب لهدم الأصنام الكبيرة التي كانت لا تزال القبائل العربية المشركة تقدسها وتعبدها ، ومن جملة هذه السرايا سرية علي بن أبي طالب علیه السلام التي وجّهت إلى أرض « طيّ » بأمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ومن بين ما وقع في السنة التاسعة يمكن الاشارة إلى غزوة « تبوك ».

ففي هذه الغزوة غادر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله المدينة متوجها إلى أرض تبوك ، ولكنه لم يلق فيها أحدا ، فعاد من غير قتال ، إلاّ أنّه مهّد الطريق لفتح البلاد الحدودية لمن يأتي في المستقبل.

ص: 545


1- النصر : 1 - 3.

هدم بيوت الاصنام :

لقد كانت الوظيفة الاساسية الاولى من وظائف النبي صلی اللّه علیه و آله هي : نشر عقيدة التوحيد ، واجتثاث جذور كل نوع من أنواع الشرك ، وقد كان صلی اللّه علیه و آله يسلك - لتحقيق هذه الغاية ، ولارشاد الضالّين والوثنيين - طريق المنطق والاستدلال ، قبل أي شيء فكان يلفت أنظارهم بالأدلة الواضحة والبراهين الساطعة إلى بطلان الشرك والوثنية ، فاذا لم يجد معهم المنطق المبرهن ، والارشاد المستدلّ ، ولجّوا في كفرهم وشركهم سمح لنفسه بأن يتوسّل بالقوة ، ويداوي أولئك المرضى روحا وفكرا والذين يمتنعون عن استعمال الدواء وبمحض اختيارهم ، بالمعالجة الجبرية.

فانّه إذا شاع داء الكوليرا في بلد من البلدان مثلا ، وامتنع فريق من الناس عن قبول تلقيحهم بالمصل اللازم لمكافحة ذلك المرض ، فإنّ المسئول في ذلك البلد يرى لنفسه الحق في أن يجبر تلك الجماعة الضيّقة التفكير التي تعرّض سلامة نفسها وسلامة غيرها للخطر من حيث لا تشعر على الرضوخ لعملية التلقيح المذكورة.

لقد أدرك رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في ضوء تعاليم الوحي أنّ الوثنية أشبه شيء بجرثومة « الكوليرا » تهدم فضائل الانسان ، وشرفه ، وتقضي على مكارم الاخلاق ، وتحطّ من مكانة الانسان الرفيعة ، وتجعله كائنا حقيرا أمام الطين والحجر والموجودات المنحطّة.

وعلى هذا الاساس امر من جانب اللّه تعالى بأن يجتثّ جذور الشرك من كيان ذلك المجتمع الموبوء ، ويزيل كل مظاهر الوثنية ، وكل أنواعها وأشكالها ، واذا ما قاومت جماعة هذا العمل ، وعارضت هذا الاجراء حطّم مقاومته بالقوة العسكرية ، والقبضة الحديدية.

إنّ التفوّق العسكري أعطى لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فرصة بعث

ص: 546

الفرق العسكرية لتحطيم وهدم كل بيوت الأصنام ، وأن لا يبقوا في منطقة الحجاز صنما إلاّ هدّموه.

علي في أرض طيّ :

ولقد كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يعرف من قبل ، أن في قبيلة طيّ صنما كبيرا يقدّس إلى الآن ومن هنا بعث صلی اللّه علیه و آله بطل جيشه الشجاع علي بن أبي طالب علیه السلام على رأس مائة وخمسين فارس إلى أرض طيّ ، وأمره بأن يحطّم صنم طيّ ، ويهدم بيته.

وقد أدرك قائد هذه السرية أن القبيلة المذكورة ستقاوم جنود الاسلام ، وأنّ الأمر لن يتمّ من دون قتال ، ولهذا حمل بأفراده على موضع ذلك الصنم ، عند الفجر والناس نيام ، فاستطاع أن يأسر جماعة من تلك القبيلة ممن قاوم ، وان يعود بهم وبالغنائم الى المدينة وقد فرّ « عديّ بن حاتم الطائي » الذي انضمّ فيما بعد الى صفوف المسلمين ، المجاهدين في سبيل اللّه ، وكان يرأس تلك القبيلة ، حين سمع بتوجه على علیه السلام نحوها.

ولنستمع إلى عديّ الطائي نفسه وهو يقصّ علينا قصة هروبه.

يقول عديّ : ما من رجل كان أشدّ كراهية لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حين سمع به ، منّي.

أمّا أنا فكنت امرأ شريفا ، وكنت نصرانيا ، وكنت اسير في قومي بالمرباع ( أي آخذ الربع من الغنائم لأني سيدهم ) فكنت في نفسي على دين ، وكنت ملكا في قومي لما كان يصنع بي. فلما سمعت برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كرهته ، فقلت لغلام كان لي عربيّ ، وكان راعيا لابلي : لا أبا لك أعدد لي من إبلي أجمالا ذللا سمانا ، فاحتبسها قريبا منّي ، فاذا سمعت بجيش لمحمد قد وطىء هذه البلاد فآذنّي ؛ ففعل ؛ ثم أنه أتاني ذات غداة ، فقال : يا عديّ ما كنت صانعا اذا غشيتك خيل محمّد ، فأصنعه الآن ، فاني قد رأيت رايات ، فسألت

ص: 547

عنها ، فقالوا : هذه جيوش محمّد. قال : فقلت : فقرّب إليّ أجمالي فقرّبها ، فاحتملت بأهلي وولدي ، ثم قلت : ألحق بأهل ديني من النصارى بالشام فسلكت الجوشية (1) وقد تركت أختي في قومي.

ثم تغزو خيل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قومي فتصيب ( اختي ) ابنة حاتم فيمن أصابت ، فقدم بها على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في سبايا من طيّ ، وقد بلغ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله هربي الى الشام.

فجعلت ابنة حاتم في حظيرة بباب المسجد كانت السبايا يحبسن فيه ، فمرّ بها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقامت إليه اختي وكانت امرأة جزلة ، فقالت : يا رسول اللّه هلك الوالد ، وغاب الوافد ، فامنن عليّ منّ اللّه عليك.

قال : ومن وافدك؟

فقالت : عديّ بن حاتم.

قال : الفارّ من اللّه ورسوله؟

ثم مضى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وتركني حتى إذا كان من الغد مرّ بي ، فقلت له مثل ذلك ، وقال لي مثل ما قال بالأمس ، حتى إذا كان من الغد مرّ بي وقد يئست منه ، فاشار إليّ رجل من خلفه أن قومي فكلّميه ، فقامت إليه ، وقالت : يا رسول اللّه هلك الوالد ، وغاب الوافد ، فامنن عليّ منّ اللّه عليك ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله :

« قد فعلت فلا تعجلي بخروج حتى تجدي من قومك من يكون لك ثقة حتى يبلغك إلى بلادك ثم آذنيني ».

تقول اختي : فسألت عن الرجل الذي أشار إليّ أن أكلمه فقيل : علي بن أبي طالب رضوان اللّه عليه.

ثم إن أختي أقامت حتى قدم ركب من بلّي او قضاعة قالت : وأنما اريد أن

ص: 548


1- الجوشية : جبل للضباب قرب ضرية. من أرض نجد.

آتي أخي بالشام. قالت : فجئت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقلت : يا رسول اللّه قد قدم رهط من قومي لي فيهم ثقة وبلاغ.

قالت : فكساني رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وحملني ، واعطاني نفقة ، فخرجت معهم حتى قدمت الشام.

قال عديّ : فو اللّه إني لقاعد في أهلي إذ نظرت إلى ظعينة ( وهي المرأة في هودجها ) تصوّب إليّ تؤمنا قال : فقلت ابنة حاتم ، قال : فإذا هي هي ، فلما وقفت عليّ أخذت في اللوم تقول : القاطع الظالم ، احتملت أهلك وولدك ، وتركت بقيّة والدك عورتك.

فقلت : أي أخيّة ، لا تقولي إلاّ خيرا ، فو اللّه ما لي من عذر ، لقد صنعت ما ذكرت ، ثم نزلت فاقامت عندي فقلت لها ، وكانت امرأة حازمة : ما ذا ترين في أمر هذا الرجل؟

قالت : أرى واللّه أن تلحق به سريعا ، فان يكن الرجل نبيا فللسابق إليه فضله ، وان يكن ملكا فلن تذل في عز اليمن ، وأنت أنت. فقلت : واللّه إنّ هذا الرأي.

قال عديّ : فخرجت حتى أقدم على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله المدينة فدخلت عليه ، وهو في مسجده ، فسلّمت عليه ، فقال : من الرجل؟ فقلت : عديّ بن حاتم ، فقام رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فانطلق بي إلى بيته ، فو اللّه إنه لعامد بي إليه ، إذ لقيته امرأة ضعيفة كبيرة فاستوقفته ، فوقف لها طويلا تكلّمه في حاجتها. فقلت في نفسي : واللّه ما هذا بملك.

ثم مضى بى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حتى إذا دخل بي بيته تناول وسادة من أدم محشوّة ليفا فقذفها إليّ ، فقال : اجلس على هذه ، فقلت : بل أنت فاجلس عليها فقال : بل أنت ، فجلست عليها ، وجلس رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بالأرض ( وهو عظيم الحجاز ) فقلت في نفسي : واللّه ما هذا بأمر ملك ثم قال : إيه يا عديّ بن حاتم ، ألم تك ركوسيّا ( وهو دين بين دين النصارى

ص: 549

والصابئين )؟

قلت : بلى.

قال : أولم تكن تسير في قومك بالمرباع؟

قلت : بلى.

قال : فان ذلك لم يحل لك في دينك.

قلت : أجل واللّه ، وعرفت أنه نبي مرسل ، يعلم ما يجهل ، ثم قال : لعلّك يا عديّ إنما يمنعك من دخول في هذا الدين ما ترى من حاجتهم ، فو اللّه ليوشكنّ المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه ، ولعلّك إنما يمنعك من دخول فيه ما ترى من كثرة عدوّهم وقلة عددهم ، فو اللّه ليوشكنّ أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى تزور هذا البيت ، لا تخاف ، ولعلّك إنما يمنعك من دخول فيه أنّك ترى أنّ الملك والسلطان في غيرهم وأيم اللّه ليوشكن أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فتحت عليهم.

قال عديّ : فاسلمت.

وكان عديّ يقول : قد مضت اثنتان وبقيت الثالثة واللّه لتكوننّ ، قد رأيت القصور البيض من أرض بابل قد فتحت ، وقد رأيت المرأة تخرج من القادسية على بعيرها لا تخاف حتى تحجّ هذا البيت ، وأيم اللّه لتكونن الثالثة ، ليفيضنّ المال حتى لا يوجد من يأخذه (1).

ولقد نقل العلامة الطبرسي في تفسير قوله تعالى : « اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ » (2) اللقاء الذي تمّ بين عدي ورسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ويقول : قال عديّ انتهيت إلى رسول اللّه وهو يقرأ من سورة البراءة هذه الآية « اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ ... » حتى فرغ منها ،

ص: 550


1- المغازي : ج 2 ص 988 و 989 ، السيرة النبوية : ج 2 ص 578 - 581 ، الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة الامامية : ص 352 - 354 ، امتاع الاسماع : ج 1 ص 445.
2- التوبة : 31.

فقلت له : انّا لسنا نعبدهم ، فقال : أليس يحرّمون ما أحلّ اللّه فتحرّمونه ، ويحلّون ما حرّم اللّه فتستحلّونه ، فقلت : بلى ، قال : فتلك عبادتهم (1).

ص: 551


1- مجمع البيان : ج 3 ص 24.

54

غزوة تبوك

اشارة

كانت القلعة القويّة ، الرفيعة الجدران المقامة عند عين ماء على الشريط الحدودي السوري في طريق « حجر » و « الشام » تسمّى تبوكا.

وكانت سورية آنذاك من مستعمرات إمبراطورية الروم الشرقية ، التي كان عاصمتها القسطنطنية.

وكان جميع سكان المناطق الحدودية للشام نصارى على دين المسيح عيسى بن مريم علیه السلام وكان أكثر زعمائها ولاة منصوبين من قبل حاكم الشام الذي كان يمثّل هو بدوره إمبراطور الروم ، ويمتثل أوامره.

ولقد كان لانتشار الاسلام السريع في شبه الجزيرة العربية وفتوحات المسلمين المشرقة في الحجاز صداه في خارج الحجاز ينعكس بالوسائل الموجودة في ذلك اليوم ، وكان ذلك يرعب الأعداء ، ويدفعهم إلى التفكير في حيلة.

ولقد دفع سقوط حكومة « مكة » الوثنية ، واعتناق زعماء الحجاز الكبار للدين الاسلامي ، وبطولات جنود الاسلام الباهرة وبسالتهم وتفانيهم الفريد في طريق عقيدتهم ، بامبراطور الرّوم إلى أن يحشد جموعا كبيرة ، ويتهيّأ لمهاجمة المسلمين وغزوهم بغتة ، لأنّه كان يرى تزلزل سلطانه مع انتشار الاسلام المطّرد ، وكانت مخاوفه تزداد يوما بعد يوم وهو يرى تعاظم القوة الاسلامية العسكرية ، وانتشار نفوذه السياسيّ.

ص: 552

كانت الروم - آنذاك - المنافسة الوحيدة ، والقوية لإيران ، وكانت تملك أعظم قوة عسكرية ، وكانت مغترّة أشدّ الغرور بنفسها ، لما أصابته من فتوحات وانتصارات في معاركها الكبرى مع إيران ، وما ألحقته من هزائم نكراء بإيران في تلك العصور.

وقد كان جيش الروم يتألّف من أربعين ألف فارس وراجل ، وكان مجهّزا بأحدث أسلحة وتجهيزات ذلك العصر ، وقد استقرّ هذا الجيش على الشريط الحدوديّ لأرض الشام ، والتحقت به قبائل عديدة تسكن الحدود مثل قبيلة « لخم » « عاملة » « غسان » « جذام » ، وتقدمت طلائع ذلك الجيش حتى منطقة « البلقاء ».

ولقد بلغ نبأ استقرار فريق من جنود الروم على الشريط الحدودي للشام إلى مسامع النبي صلی اللّه علیه و آله عن طريق القوافل التجارية التي تعمل على طريق الحجاز - الشام فلم ير رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بدّا من أن يردّ على هؤلاء المعتدين ، بجيش عظيم ، ويحافظ بذلك على الدين الّذي قام بفضل الدماء الزكية التي اريقت من أصحابه ، وبفضل تضحياته هو صلی اللّه علیه و آله وهو الآن على أبواب أن يعمّ العالم نوره وهداه ، من ضربات العدوّ المفاجئة.

ولقد بلغ هذا الخبر المقلق أهل المدينة ، وأمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أصحابه بالتهيّؤ لغزو الروم ، والناس في زمان عسرة ، وشدة من الحرّ ، وجدب من البلاد ، وقد طابت الثمار ، والناس يحبّون المقام في ثمارهم وظلالهم ، ويكرهون الشخوص على الحال من الزمان الذي هم عليه.

ولكن الدوافع المعنوية ، وروح الحفاظ على الأهداف المقدّسة ، والجهاد في سبيل اللّه مقدّم - عند عباد اللّه المؤمنين الصالحين - على كل تلك الامور.

تعبئة المقاتلين وتهيئة نفقات الحرب :

كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يعرف على نحو الاجمال مدى وحجم

ص: 553

استعدادات العدوّ ، وطاقاته ، وقدرته على القتال.

من هنا كان مطمئنا إلى أن الانتصار في هذه المعركة بحاجة - مضافا إلى الخلفية المعنوية القوية وهي الايمان باللّه والقتال ابتغاء لمرضاته - الى قوة عسكرية كبيرة جدا ولهذا بعث رجالا إلى مكة ، ونواحي المدينة يدعون المسلمين إلى المشاركة في الجهاد في سبيل اللّه ، ويحثّون أهل الغنى والثروة ، على تهيئة نفقات الجهاد في سبيل اللّه من الزكاة.

وأخيرا أعلن ثلاثون ألفا من المسلمين استعدادهم للمشاركة في هذه الغزوة واجتمعوا في معسكر عند « ثنية الوداع » وتهيّأ قدر كبير من نفقات القتال عن طريق الزكاة ، وكان الجيش الاسلاميّ يتألف من عشرة آلاف فارس ، وعشرين الف راجل.

وقد أمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن تتخذ كل قبيلة راية لنفسها.

المتخلّفون عن القتال :

كانت غزوة « تبوك » خير محكّ لمعرفة المجاهدين الصادقين وتمييزهم عن غير الصادقين من أدعياء الإيمان والمنافقين لأن التعبئة العامّة لهذه الغزوة اعلنت في وقت كان الناس يستعدّون فيه للحصاد من جهة ، وكان الحرّ على أشدّه من ناحية اخرى ، فكشف تخلّف البعض - بالأعذار والحجج المختلفة - القناع عن وجههم الحقيقي ونزلت آيات في ذمّهم جميعها في سورة البراءة.

لقد تخلّف البعض عن المشاركة في هذه الغزوة للاسباب والعلل التالية :

1 - عند ما قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله للجدّ بن قيس ، - وكان من الشخصيات ذات المكانة الاجتماعية المرموقة - :

« أبا وهب هل لك العام تخرج معنا »؟

فقال : يا رسول اللّه أو تأذن لي ، ولا تفتنّي (1) فو اللّه لقد عرف قومي ما أحد

ص: 554


1- أي أخشى الافتتان ببنات الروم فلا تفتني بهنّ يا رسول اللّه.

اشدّ عجبا بالنساء مني ، واني لأخشى إن رأيت بنات بني الأصفر ( الروم ) لا أصبر عليهنّ.

فاعرض عنه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بعد أن سمع منه ذلك العذر الصبياني ، وقد نزل فيه قول اللّه تعالى :

« وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ » (1).

2 - المنافقون : إن جماعة ممن تظاهروا بالإسلام والإيمان وهم منه خلو ، أخذوا يثبّطون الناس عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في غزوة تبوك ، وربما تحجّجوا بشدة الحرّ فقالوا : يغزو محمّد بني الأصفر مع جهد الحال والحرّ ، والبلد البعيد ، إلى ما قبل له به ، يحسب محمّد أن قتال بني الاصفر اللعب ، فنزل فيهم قول اللّه تعالى :

« وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ » (2).

وقد كان بعض المنافقين يخوّفون المسلمين من المشاركة في هذه الغزوة ، وكانوا يقولون في هذا الصدد : تحسبون قتال بني الأصفر كقتال غيرهم ، واللّه لكأنّا بكم غدا مقرّنين في الحبال؟! (3).

اكتشاف شبكة جاسوسيّة في المدينة :

كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كما أسلفنا يولي مسألة تحصيل المعلومات عن العدو وتحركاته اهتماما كبيرا ، وكان اكثر انتصاراته تعود إلى حسن استخدامه لهذه الوسيلة وبالتالي لمعرفته الدقيقة بتحرّكات العدو ونشاطاته ، وعلى

ص: 555


1- التوبة : 49.
2- التوبة : 81 و 82.
3- امتاع الاسماع : ج 1 ص 450.

هذا الاساس كان يقضي على الكثير من المؤامرات في مهدها.

ولقد بلغ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن ناسا من المنافقين يجتمعون في بيت « سويلم » اليهودي ، ويخطّطون لتثبيط المسلمين عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في هذه الغزوة ، فبعث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله « طلحة بن عبيد اللّه » في نفر من أصحابه لإرهاب اولئك المتآمرين حتى يكفّوا عن التآمر ، وأمره بأن يحرّق عليهم بيت « سويلم ». ففعل طلحة ذلك إذ اقتحم البيت بغتة ، وهم يخطّطون ، ويدبّرون مؤامرة ، واحرق البيت ، ففرّوا وسط ألسنة اللّهب ، وأعمدة الدخان ، وافلتوا ، وانكسرت رجل أحدهم حين الفرار.

وقد كان هذا الاجراء مفيدا في ردع المنافقين المشاغبين عن العودة إلى مثلها حتى قال أحد رءوسهم وهو « الضحّاك بن خليفة » :

كادت وبيت اللّه نار محمّد *** يشيط بها الضحّاك وابن أبيرق

وظلت وقد طبّقت كبس سويلم *** أنوء على رجلي كسيرا ومرفقي

سلام عليكم لا أعود لمثلها *** أخاف ومن تشمل به النار يحرق (1)

3 - البكّاءون : لقد أتى رجال من المسلمين رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كانوا يرغبون في الخروج مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى هذه الغزوة ، وطلبوا منه ما يحملهم عليه من دابّة فقد كانوا أهل حاجة فقراء ، فقال لهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله :

« لا أجد ما أحملكم عليه ».

فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ، ألاّ يجدوا ما ينفقون.

فاذا كان بين أصحاب النبيّ صلی اللّه علیه و آله رجال نافقوا ، وتركوا الخروج مع رسول اللّه متعلّلين بالأعذار السخيفة ، فقد كان إلى جانب ذلك أيضا من كان يبكي بكاء مرّا لعدم تمكّنه من المشاركة في الجهاد المقدس حتى عرفوا

ص: 556


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 517.

في التاريخ الاسلامي بالبكائين ، ونزل فيهم قرآن اذ يقول تعالى :

« وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ » (1).

4 - المتخلفون : ولقد أبطأ بعض أصحاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عن الخروج ، وتخلّفوا لا عن شكّ وارتياب ، أو رغبة عن الجهاد في سبيل اللّه ، وقد كانوا أهل صدق لا يتّهمون في إسلامهم ، إنّما تخلّفوا حتى يلتحقوا بركب النبي صلی اللّه علیه و آله بعد أن يفرغوا من الحصاد والقطاف وهم ( المخلّفون ) الثلاثة حسب تعبير القرآن الكريم الذين فاتتهم غزوة تبوك ، فوبّخهم اللّه تعالى وعاقبهم على تخلّفهم ليكون في ذلك عبرة لمن سواهم كما ستعرف تفصيل ذلك عمّا قريب.

5 - المجاهدون الصادقون : الذين لبّوا نداء رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وتهيّأوا من فورهم للخروج معه في شوق بالغ ، ورغبة عظيمة في الجهاد.

عدم مشاركة « عليّ » في غزوة تبوك :

لقد كان من أبرز فضائل عليّ بن أبي طالب علیه السلام أنه شارك في جميع المعارك ، ولازم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في جميع غزواته ، - وكان هو حامل لوائه في تلك المعارك والغزوات - ما عدا تبوك حيث بقي في المدينة بأمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ولم يشارك في هذا الجهاد المقدس لأن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كان يدرك جيّدا أن بعض المنافقين والمتربّصين ، والمتحينين الفرص من رجال قريش سيستغلّون فرصة غيبة النبي القائد عن المدينة ( مركز الدولة الاسلامية ) فيثيرون فيها فتنة ، ويجهزون على الحكومة الاسلامية الفتية بانقلاب أو ما شابه ذلك ، وأن مثل هذه الفرصة انما تسنح لهم إذا قصد رسول اللّه صلّى

ص: 557


1- التوبة : 92.

اللّه عليه وآله مكانا نائيا ، وانقطع ارتباطه بعاصمة الاسلام ( المدينة )!!

ولقد كانت « تبوك » أبعد نقطة خرج إليها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في جميع غزواته ، فكان يحدس - بقوة - أن تقوم القوى المضادّة للاسلام بقلب الاوضاع في غيابه ، ويجمعوا من يروا رأيهم ويذهب مذهبهم من شتى أنحاء الحجاز ، ويتحدوا لضرب الدولة الاسلامية والقضاء عليها من الداخل.

ولهذا - رغم أنه استخلف « محمّد بن مسلمة » على المدينة - قال للامام « علي بن أبي طالب » :

« أنت خليفتي في أهل بيتي ودار هجرتي وقومي.

يا علي إنّ المدينة لا تصلح إلاّ بي وبك ».

ولقد أزعج بقاء عليّ علیه السلام في المدينة ، المنافقين الذين كانوا يتربّصون بالاسلام الدوائر ، ويتحيّنون الفرصة ، ويفكرون في انقلاب في غيبة النبيّ صلی اللّه علیه و آله لأنهم كانوا يعرفون أنهم لن يعودوا يستطيعون مع وجود عليّ علیه السلام في المدينة ، ومراقبته الدقيقة لتحرّكاتهم ونشاطاتهم فعل أي شيء ممّا كانوا ينوون القيام به ، ولهذا أرجفوا به ، وبثّوا شائعات خبيثة حوله ، بغية إجباره على مغادرة المدينة فقالوا : ما خلّف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عليّا إلاّ استثقالا له ، وتخفّفا منه ، أو : أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله دعاه إلى الخروج لتبوك ، ولكن عليا امتنع من الخروج بحجّة الحرّ الشديد ، وبعد الطريق وإيثارا للدعة والراحة والرفاهية!!

ولإبطال هذه الشائعة الخبيثة ، وتكذيب هذا الكلام ، أخذ علي علیه السلام سلاحه ، وخرج حتى أتى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وهو نازل بالجرف ( وهو موضع على ثلاثة أميال من المدينة ) فقال :

« يا نبي اللّه ، زعم المنافقون أنّك إنّما خلّفتني أنّك استثقلتني وتخفّفت منّي ».

فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حينئذ كلمته التاريخية الخالدة التي تعتبر

ص: 558

من أبرز الادلة وأقواها وأوضحها على إمامة عليّ بن أبي طالب علیه السلام وخلافته بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بلا فصل :

« كذبوا ، ولكنّني خلّفتك لما تركت ورائي فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك أفلا ترضى يا عليّ أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي » (1).

فرجع عليّ علیه السلام الى المدينة المنورة ، ومضى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على سفره (2).

جيش الاسلام يتحرك نحو تبوك :

لقد دأب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إذ خرج لتأديب قوم يكيدون بالاسلام ، ويمنعون من تقدمه وانتشاره أو يقصدون الهجوم على المدينة واجتياحها ، أو إيجاد فتن فيها ، على أن لا يبوح بمقصده ووجهته لجنوده وامراء جيشه ، وأن يسير بالجيش في طريق آخر غير الوجه الذي ينويه باطنا ، حتى لا يعرف به العدو فيهيّأ لمواجهته ، وبذلك يتسنى له صلی اللّه علیه و آله أن يباغت العدوّ ، ويحقّق الانتصار الساحق عليه (3)

غير أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عدل عن هذه السيرة في قضية غزو الروميّين الذين اجتمعوا في حدود الشام وهم يتأهّبون للهجوم على عاصمة الاسلام.

فقد بيّن للناس - منذ أعلن التعبئة العامة - الوجهة التي يقصدها ، وكان السرّ في ذلك هو أن يعرف المجاهدون أهمية هذا السفر وصعوبته ، وأن يحملوا الزاد الكافي والعدة اللازمة.

ص: 559


1- امتاع الاسماع : ج 1 ص 449 و 450.
2- السيرة النبوية : ج 2 ص 520 ، بحار الأنوار : ج 21 ص 207 و 208 ، وللوقوف على دلالة هذا الحديث على امامة امير المؤمنين علیه السلام راجع كتب العقائد والكلام.
3- المغازي : ج 3 ص 990.

هذا مضافا إلى أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كان مضطرّا - لتقوية الجيش الاسلامي - إلى أن يستعين بقبائل « تميم » و « غطفان » و « طيّ » التي كانت تسكن في مناطق بعيدة عن المدينة.

وقد عمد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لهذا الغرض إلى مراسلة زعماء تلك القبائل ، وساداتها كما كتب إلى « عتّاب بن اسيد » أمير مكة الشاب دعا فيه رجال تلك القبائل ، وفتيان مكة إلى المشاركة في هذا الجهاد المقدس (1).

ومثل هذا النوع من الدعوة الصريحة العامة لا ينسجم مع الكتمان والسريّة ، لأنه كان لا بدّ أن يخبر صلی اللّه علیه و آله رؤساء القبائل في هذا الموضوع ، ويذكر لهم أهميّته ، ليحملوا معهم الزاد والعدة اللازمة الكافية.

النبيّ صلی اللّه علیه و آله يستعرض جيشه :

ولما حان موعد تحرك الجيش استعرض رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله جيشه في معسكر المدينة العظيم ، المؤلّف من المؤمنين الفدائيين الغيارى على الإسلام ، والذين فضّلوا المشقة والموت في سبيل الهدف على الاستراحة في الظلال ، والتجارة ، وكسب المال واكتناز الثروة ، وخرجوا يستقبلون الموت في سبيل الدين بقلوب تفيض إيمانا ويقينا.

لقد كان هذا المشهد جميلا ورائعا جدا ، وكان له أثر قوي في نفس المتفرجين.

وفي هذه المناسبة ألقى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله خطبة مهمة ، لتقوية معنويات المجاهدين ، قد شرح فيها هدفه من هذه التعبئة العامة الواسعة.

فبعد أن حمد اللّه وأثنى عليه بما هو أهله قال :

« أيّها الناس! أما بعد ، فإن أصدق الحديث كتاب اللّه وأوثق العرى كلمة

ص: 560


1- بحار الأنوار : ج 21 ص 244.

التقوى وخير الملل ملة إبراهيم علیه السلام وخير السنن سنن محمّد وأشرف الحديث ذكر اللّه وأحسن القصص هذا القرآن وخير الامور عواقبها وشرّ الامور محدثاتها وأحسن الهدى هدي الأنبياء وأشرف القتل قتل الشهداء ».

إلى آخر الخطبة التي وردت بكاملها في المصادر التاريخية والتي ادرج فيها مجموعة كبرى وهامّة من التعاليم الاسلامية الهامة فرغب الناس في الجهاد لما سمعوا هذا من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله (1) ثم أصدر رسول اللّه أوامره للجنود بالتوجه الى ثغور الشام من الطريق الذي عيّنه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

قصة مالك بن قيس :

رجع مالك بن قيس « ابو خيثمة » بعد أن سار رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أياما إلى أهله في يوم حار ، فوجد المدينة فارغة ، وعرف بمسير جنود الإسلام ثم دخل في عريش له ، فوجد امرأتين له قد رشّتا الماء في العريش ، وبردّتا له ماء ، وهيأتا له طعاما ، فلما دخل قام على باب العريش ، فنظر إلى امرأتيه ، وما صنعتا له ، وفكّر في ما فيه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأصحابه من الحال ، وقد انطلقوا إلى جهاد العدوّ في شدّة الحرّ فقال : رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في الشمس والريح والحرّ ، وأبو خيثمة في ظل بارد ، وطعام مهيّأ ، وامرأة حسناء في ماله مقيم؟ ما هذا بالنصف.

ثم قال : لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأصحابه المجاهدين فهيئا لي زادا ، ففعلتا ثم قدّم بعيره فارتحله ، ثم خرج في طلب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حتى أدركه حين نزل تبوك ، وقد لقي في أثناء الطريق أبا خيثمة « عمير بن وهيب الجمحى » وهو يطلب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله (2).

ص: 561


1- المغازي : ج 2 ص 1016 بحار الأنوار : ج 21 ص 210 - 212.
2- السيرة النبوية : ج 1 ص 520 وقد ذكر الواقدي هذه القصة باختلاف يسير ونسبها الى عبد اللّه بن خيثمة.

لقد كان هذا الرجل ممّن لم يوفّق - في بداية الامر - لمرافقة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلاّ أنه التحق بركبه المقدس ونال السعادة العظمى بحسن اختياره الذي يستحق الاكبار والتقدير ، ولم يكن مثل اولئك الذين طلبتهم السعادة ولكنهم رفضوها ، وابتعدوا عنها ، وآثروا البقاء في ضلالهم وشقائهم.

فهذا « عبد اللّه بن ابي » رئيس المنافقين وكبيرهم الذي عزم على أن يشارك مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في هذه الغزوة أقام خيمته في معسكر المسلمين ، ولكنه لخبث سريرته ، وعدائه الشديد للاسلام ونبيّه الكريم صلی اللّه علیه و آله بدّل رأيه ساعة رحيل الجيش الاسلامي ، وعاد الى المدينة مع أصحابه ليقوم بالشغب ، وحيث إن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كان على علم بنفاقه ، وخبث سريرته وكان يدرك جيدا أن مشاركة هذا العنصر المنافق وجماعته في ذلك الجهاد لن تعود على المسلمين بفائدة ، لذلك لم يهتم صلی اللّه علیه و آله بانفصاله عن الجيش الاسلامي ورجوعه الى المدينة.

مصاعب الطريق :

لقد واجه جيش الاسلام في أثناء الطريق متاعب ومشاق كثيرة ، ولهذا سمّي هذا الجيش بجيش « العسرة » ولكن ايمانهم العميق باللّه ، وحبّهم الشديد للهدف المقدس سهّل لهم تلك المصاعب ، وهوّن عليهم تلك المشاق ، التي استقبلوها بصدور رحبة.

وعند ما وصل جيش الاسلام إلى أرض ثمود غطّى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وجهه بثوبه ، واستحثّ راحلته ومرّ على بيوتهم ، وأطلالهم بسرعة وقال لأصحابه :

« لا تدخلوا بيوت الّذين ظلموا إلا وأنتم باكون خوفا أن يصيبكم مثل ما أصابهم ».

وهو بذلك يحث أصحابه على التدبر في أحوال من مضى من الاقوام

ص: 562

والشعوب ، والتفكّر في مصائرهم وما آلوا عليه بسبب عتوّهم وعنادهم ، وتمرّدهم على الحق ، فان ضلال الموت التي كانت تخيّم على تلك الربوع ، والأطلال الصامتة خير عبرة للاجيال والاقوام الاخرى.

ثم نهى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الناس عن أن يشربوا من مائها شيئا ، وأن لا يتوضئوا به للصلاة ، وأن لا يحاس به حيس ، ولا يطبخ به طعام ، وأن العجين الذي عجن به ، أو الحيس الذي فعل به يعلف الإبل ، وأن الطبيخ الذي طبخ به يلقى ، ولا يأكلوا منه شيئا (1).

ففعل الناس ما أمرهم به رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ثم ان الناس ارتحلوا من تلك المنطقة حتى إذا مضى من الليل بعضه وصلوا إلى البئر التي كان يشرب منها ناقة صالح النبي علیه السلام ، فنزلوا عليها بأمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

تعليمات احتياطيّة :

ثم إن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كان يعرف بالرياح الشديدة والسامّة والعواصف القوية التي كانت تهبّ في تلك الأرض بين الحين والآخر ، وتبلغ من الشدة والقوة بحيث ربما تحتمل البعير بصاحبه ، وتلقيه في واد آخر.

ولهذا أصدر صلی اللّه علیه و آله إلى أصحابه تعليمات احتياطية مشدّدة فأمرهم بأن يعقلوا آبالهم ولا يخرج أحد منهم في تلك الليلة وحده ، بل يخرج من خبائه مع صاحبه.

وقد اثبتت التجارب والاحداث فيما بعد أن التعليمات الاحتياطية النبوية المذكورة كانت مفيدة جدا ، لأن شخصين من بني ساعدة من الّذين كانوا في ركب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله تجاهلا هذه التعليمات فخرجا منفردين من

ص: 563


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 521 و 522 ، السيرة الحلبية : ج 3 ص 134 و 135.

خبائهما ليلا ، فاختنق أحدهما لشدة الرياح ، بينما احتملت الريح الرجل الآخر ، وضربت به الجبل ، ولما علم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بذلك انزعج بشدّة وقال :

« ألم أنهكم أن يخرج منكم أحد إلاّ ومعه صاحبه » (1).

هذا وقد استعمل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على حرس العسكر « عباد بن بشر » فكان يطوف في أصحابه على العسكر.

ثم اصبح الناس ولا ماء معهم ، وحصل لهم بسبب العطش ما كاد يقطع رقابهم ، حتى حمل ذلك بعضهم على نحر إبلهم ليشقوا اكراشها ، ويشربوا ماءها ، بينما صبر آخرون ، وانتظروا حصول الماء على ظمأ شديد ، وقلوب ملتهبة عطشا.

ولقد أعان اللّه تعالى الذي كان قد وعد نبيّه الكريم بالنصر أصحابه المسلمين الأوفياء ، مرة اخرى إذ أرسل سحابة فمطرت حتى ارتوى الناس ، واحتملوا ما يحتاجون إليه.

علم رسول اللّه بالمغيّبات :

لا شك في أن في مقدور رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن يطلع على الغيب ممّا يخفى على الناس ، ويخبر به كما يصرح القرآن الكريم بذلك ، إلاّ أنّ هذا العلم لا ريب محدود ، ويحتاج إلى تعليم اللّه سبحانه. يقول تعالى :

« عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ » (2).

من هنا يمكن أن تخفى على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في بعض الاحايين ، أبسط الامور ، كأن يفقد مفتاحا ، أو يضيّع مالا ولا يعرف بمكانه ومصيره ، بينما يقدر صلی اللّه علیه و آله أن يعلم بأخفى الامور الغيبية واشدها غموضا فيثير حيرة

ص: 564


1- السيرة الحلبية : ج 3 ص 134 ، السيرة النبوية : ج 2 ص 522.
2- الجن : 26 و 27.

الناس ودهشتهم وعجبهم.

والسبب في كل ذلك هو ما ذكرناه ، فان مشيئة اللّه سبحانه لو تعلّقت بأن يعلم نبيّه بشيء من عالم الغيب ويخبر به علم وأخبر ، وإلاّ كان صلی اللّه علیه و آله كغيره من أفراد البشر العاديين.

وفي ضوء هذا البيان لا بد أن ننظر الى القصة التالية :

لما كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ببعض الطريق إلى تبوك ضلّت ناقته ، فخرج أصحابه في طلبها ، فقام أحد المنافقين ، وقال : أليس محمّد يزعم أنه نبي ، ويخبركم عن خبر السماء ، وهو لا يدري أين ناقته؟

فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وهو يكشف النقاب ببيانه الرائع :

« إن رجلا قال : هذا محمّد يخبركم أنه نبيّ ويزعم أنه يخبركم بأمر السماء ، وهو لا يدري أين ناقته؟ وإني واللّه ما أعلم إلاّ ما علّمني اللّه ، وقد دلّني اللّه عليها وهي في هذا الوادي في شعب كذا وكذا وقد حبستها شجرة بزمامها فانطلقوا حتى تأتوني بها ».

فذهب بعض الصحابة من فورهم ، وجاءوا بها (1).

إخباره بمغيّب آخر :

لقد تخلّف أبو ذر عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إذ أبطأ به بعيره ، فانتظره المسلمون ريثما يقوم بعيره ، ولكن دون جدوى فترك أبو ذر البعير ، وأخذ متاعه فحمله على ظهره ثم خرج يتبع أثر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ماشيا ، ونزل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في بعض منازله ونزل المسلمون ليستريحوا فيه بعض الوقت ، وفجأة لاح من بعيد رجل ، فلما نظر إليه ناظر من المسلمين قال : يا رسول اللّه هو واللّه أبو ذر ، فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله :

ص: 565


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 523 ، امتاع الاسماع : ج 1 ص 456.

« رحم اللّه أبا ذر يمشي وحده ويموت وحده ويبعث وحده » (1).

وقد كشف المستقبل عن صحة هذه النبوءة ، فقد توفي أبو ذر في صحراء « الربذة » ، وعنده ابنته بعيدا عن الناس في حالة مأساوية (2).

لقد تحققت نبوءة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في معركة تبوك بعد ثلاثة وعشرين عاما ، فقد نفي هذا الصحابي المجاهد الصادق إلى الشام ثم الى الربذة لا لشيء إلاّ لأنّه جهر بالحق ، وطالب بالعدل ، وفقد قواه وطاقاته البدنية شيئا فشيئا حتى غدى طريح الفراش ، في تلك المنطقة الوعرة.

وفيما كان يمضي الدقائق الاخيرة من حياته الحافلة بالاحداث والتطورات ، وامرأته جالسة عنده ترمق محيّاه المشرق المتعب وقد عرق جبينه ، وهي تمسح بيدها العرق وتبكي قال لها : ما يبكيك؟

فقالت : أبكي أنه لا يد لي بتغييبك ( أي ليس لي من يعيننى على دفنك ، أوليس عندي ثوب يسعك كفنا )!

فارتسمت على شفتي أبي ذر ابتسامة مرّة وقال : لا تبكي عليّ ، فاني سمعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ذات يوم وأنا عنده في نفر يقول : ليموتنّ رجل منكم بفلاة من الأرض تشهده عصابة من المؤمنين ( ثم قال : ) فكلّ من كان معي في ذلك المجلس مات في جماعة وقرية ، فلم يبق منهم غيري ، وقد أصبحت بالفلاة أموت فراقبي الطريق ، فانك سوف ترين ما أقول لك فاني واللّه ما كذبت ولا كذبت.

قال هذا وفاضت روحه المباركة (3).

* * *

ولقد صدق أبو ذر ، فقد كانت ثمة قافلة من المسلمين تضم شخصيات

ص: 566


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 525.
2- المغازي : ج 3 ص 1000 و 1001.
3- اسد الغابة : ج 1 ص 302 ، الطبقات الكبرى : ج 4 ص 223 ، حلية الاولياء : ج 1 ص 302.

كبرى مثل « عبد اللّه بن مسعود » و « حجر بن عدي » و « مالك الاشتر » تتقدم نحو تلك المنطقة.

رأى « عبد اللّه » من بعيد مشهدا عجيبا ... مشهد جسد بلا روح على قارعة الطريق ، وعند ذلك الجسد امرأة وصبيّ وهما يبكيان.

فعطف « عبد اللّه » زمام راحلته نحو ذينك الشخصين وتبعه من معه في القافلة أيضا ، وما أن وقعت عينا عبد اللّه على ذلك الجسد حتى عرف صاحبه ، فهذا هو رفيقه وأخوه في الاسلام أبو ذر!!

فاغرورقت عيناه بالدموع ، ووقف عند جثمان أبي ذر ، وتذكّر نبوءة رسول الاسلام صلی اللّه علیه و آله في غزوة تبوك وقال : رحم اللّه أبا ذر يمشي وحده ، ويموت وحده ، ويبعث وحده ».

ثم صلى ابن مسعود على أبي ذر ، ثم واراه الثرى ، وبعد أن فرغ من دفنه ، وقف مالك الاشتر عند قبره وقال :

اللّهمّ إنّ هذا صاحب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عبدك في العابدين ، وجاهد فيك المشركين ، لم يغيّر ولم يبدّل لكنّه رأى غريبا منكرا فغيّره بلسانه وقلبه ، حتى جفي ونفي وحرم واحتقر ثم مات وحيدا غريبا (1).

وقد اشار السبكى في ابيات له إلى هذا كما في السيرة الحلبية :

وعاش أبو ذر كما قلت وحده *** ومات وحيدا في بلاد بعيدة

ص: 567


1- ذكر المؤرخون قصة وفاة أبي ذر ودفنه بصور مختلفة ، فيستفاد من بعض المصادر التاريخية أن أبا ذر كان على قيد الحياة عند ما قدمت القافلة المذكورة وتحدث مع رجالها ، ولكن بعض المصادر الاخرى تنص على أنه مات قبل قدوم تلك القافلة الى تلك المنطقة كما أنه صرح البعض أن زوجة أبي ذر وابنه حملا جثمانه إلى قارعة الطرق بينما قال آخرون أن زوجته وابنه جلسا على قارعة الطريق ودلاّ القافلة على محل جثمانه الطاهر ، راجع للوقوف على ذلك الطبقات الكبرى : ج 4 ص 34 - 232 ، والدرجات الرفيعة : ص 53.

جيش الإسلام في أرض تبوك :

حلّ جيش التوحيد في مطلع شهر شعبان سنة تسع من الهجرة في أرض تبوك ، ولكن دون أن يرى أثرا عن جيش الروم ، وكأنّ جنود الروم لمّا علموا بكثرة جنود الاسلام ، وبشهامتهم وتضحيتهم النادرة التي شهدوا نموذجا منها عن كثب في معركة « مؤتة » رأوا من الصالح ان ينسحبوا إلى داخل بلادهم ولا يواجهوا المسلمين ، ويثبتوا بذلك عمليّا نبأ اجتماعهم ضدّ المسلمين ، ويتظاهروا بأنه لم تراودهم فكرة الهجوم على المسلمين قط ، وأن هذا النبأ لم يكن إلاّ شائعة لا أكثر ، فيثبتوا من هذا الطريق حيادهم بالنسبة للحوادث والوقائع التي تحدث في الجزيرة العربية (1).

في هذه اللحظة جمع رسول الاسلام صلی اللّه علیه و آله قادة جيشه الكبار ، وتبعا للاصل الاسلامي « وشاورهم في الأمر » تحادث معهم حول التقدّم في أرض العدوّ أو الرجوع إلى المدينة وشاورهم في ذلك.

فكانت نتيجة التشاور هي أنّ على الجيش الاسلامي الذي تحمّل مشاق كثيرة في هذه السفرة ، أن يعود إلى المدينة ، ليستعيد نشاطه ، وقواه ، هذا مضافا إلى أن المسلمين حققوا هدفهم السامي من هذه السفرة وهو تفريق جيش الروم وتبديد اجتماعهم بعد القاء الرعب الشديد في قلوبهم ، وقد يبقى هذا الرعب في قلوب الروميين إلى مدة مديدة بحيث يصرفهم عن فكرة تسيير جيش للهجوم على المسلمين ، وهذا القدر من النتيجة التي من شأنها أن تضمن أمن الحجاز من ناحية الشمال ردحا من الزمن تكفي للمسلمين فعلا حتى يقضي اللّه ما يقضي في المستقبل.

ص: 568


1- يكتب الواقدي في المغازي : ج 3 ص 1014 و 1015 أقام رسول اللّه بتبوك عشرين ليلة وهكذا يقول : إن النبي بعد أن صلى الفجر ذات يوم جمع الناس ، فخطب فيهم خطبة بليغة ضمّنها مواعظ وتعاليم عظيمة كثيرة ثم ادرج نص الخطبة.

ولقد اضاف كبار المشيرين - حفاظا على مكانة الرسول القائد ، وإشعارا بان رأيهم هذا قابل للأخذ والرد - قائلين : إن كنت امرت بالسير فسر (1).

فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله :

« لو امرت به ما استشرتكم فيه ».

وهكذا احترم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله آراء مشاوريه ورضى بالعودة إلى المدينة (2).

وحيث كان هناك حكام وولاة يعيشون في المناطق الحدودية السورية والحجازية لهم نفوذ كبير في قبائلهم ومناطقهم ، وكانوا جميعا نصارى ، ولهذا كان من المحتمل بقوة أن يستغل الروم قواهم ضد الاسلام ، ويحملوا بمساعدتهم على الحجاز.

ولهذا كان يتعين أن يعقد معهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله معاهدة عدم اعتداء ، ليأمن جانبهم ويحصل على أمن أوسع ، فأجرى صلی اللّه علیه و آله اتصالات مباشرة مع اولئك الحكّام والولاة الذين كانوا يعيشون على الشريط الحدودي على مقربة من تبوك وعقد معهم معاهدات عدم تعرض واعتداء بشروط خاصة كما أرسل مجموعات إلى النقاط النائية عن تبوك ليحقق بذلك مزيدا من الأمن للمسلمين.

لقد اتصل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله شخصيا بزعماء « أيلة » و « أذرح » و « الجرباء » ، وتمّ عقد معاهدة عدم تعرّض واعتداء بين الجانبين. و « أيلة » مدينة ساحلية تقع على ساحل البحر الأحمر ، ولا تبعد عن الشام كثيرا ، وكان زعيم تلك المنطقة هو « يوحنا بن رؤبة » ، فهو يوم اتي به إلى النبي صلی اللّه علیه و آله وعليه صليب من ذهب على عادة النصارى ، قدّم لرسول اللّه صلّى اللّه عليه

ص: 569


1- المغازي : ج 3 ص 1019.
2- السيرة الحلبية : ج 3 ص 142.

وآله فرسا أبيضا ، وأعلن عن طاعته لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فاحترمه النبي واكرمه ، وصالحه ، وكساه بردا يمينا.

وقد قبل « يوحنا » هذا أن يبقى على نصرانيته شريطة أن يدفع للنبي جزية قدرها ثلاثمائة دينار سنويا وعلى أن يحسن إلى من يمرّ على أيلة من المسلمين وكتب له رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كتاب أمان وقّعه الطرفان ، وإليك نص الكتاب المذكور :

« بسم اللّه الرحمن الرحيم ، هذا أمنة من اللّه ومحمّد النبيّ رسول اللّه ليوحنا بن رؤبة وأهل أيلة لسفنهم وسياراتهم في البرّ والبحر ، لهم ذمة اللّه وذمة محمّد رسول اللّه ولمن كان معهم من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر ، ومن أحدث حدثا ، فانه لا يحول ماله دون نفسه ، وأنه طيّبة لمن أخذه من الناس وانه لا يحلّ أن يمنعوا ماء يردونه ولا طريقا يريدونه من برّ وبحر.

هذا الكتاب يكشف عن قاعدة مهمّة في السياسة الاسلامية وهي أن أيّ شعب أراد أن يسالم المسلمين وفرّ الاسلام له كل أمن وسلام (1).

ثم إن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله صالح بقية الحكام الحدوديين مثل سادة أقوام « أذرح » و « جرباء » التي كانت تتمتع باهمية استراتيجية ، وبذلك ضمن أمن المنطقة الاسلامية من ناحية الشمال.

بعث خالد إلى دومة الجندل :

على طريق تبوك كانت تقع منطقة عامرة خضراء ذات أشجار وزروع ومياه جارية تضم حصنا منيعا ، وتبعد عن الشام بما يقرب من خمسين فرسخا ، تسمى « دومة الجندل » (2) وكان يحكمها يومذاك رجل مسيحي يدعى « اكيدر بن

ص: 570


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 526 ، السيرة الحلبية : ج 3 ص 141 ، بحار الأنوار : ج 21 ص 160.
2- يقول الواقدي في المغازي : ج 3 ص 1025 تقع دومة الجندل على عشرة اميال من المدينة.

عبد الملك ».

وحيث أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كان يخشى هجوما آخر من الروم ، والاستعانة بحاكم دومة المسيحي وبهذا يعرّضون أمن الحجاز للخطر ، لذلك رأى صلی اللّه علیه و آله أن يستفيد من قوته الحاضرة أكبر قدر ممكن فبعث مجموعة من المقاتلين بقيادة خالد بن الوليد الى المنطقة المذكورة لتطويعها وتطويع حاكمها.

فتوجه خالد مع فرسانه الى دومة الجندل حتى اقتربوا إلى حصنها ، وكمنوا قريبا منه.

وفي تلك الليلة خرج « اكيدر » وأخوه « حسان » من الحصن ومعه نفر من اهل بيته للصيد فلما ابتعدوا عن الحصن حاصرهم خيل خالد وأسروا « اكيدرا » بعد قليل من القتال والمواجهة ، وقتل اخوه « حسان » ولجأ البقية إلى الحصن ، واعتصموا به ، فصالح خالد « اكيدرا » على أن يطلب له ولقومه الأمان من رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لقاء أن يفتح أبواب الحصن في وجوه المسلمين ويلقي أهلها الاسلحة.

فأمر اكيدر الذي كان يثق بصدق المسلمين واحترامهم لوعودهم وعهودهم ، أمر قومه أن يفتحوا أبواب الحصن ويسلّموا للمسلمين ، ويلقوا اسلحتهم ويتركوا القتال ، وكانت الاسلحة تبلغ أربعمائة درع ، وأربعمائة رمح وخمسمائة سيف ثم توجه خالد باكيدر وقومه وما حصل عليه من الغنائم الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فخلبت منظر الديباج المخوّص بالذهب عيون جماعة من طلاب الدنيا. فاخذوا يتلمسونه بأيديهم ويتعجّبون منه فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وهو لا يكثرث بتلك الثياب :

« فو الّذي بنفسي لمناديل الجنة أحسن من هذا ».

لقد حضر « اكيدر » عند رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وامتنع عن قبول الاسلام إلاّ أنه رضي بأن يعطي الجزية للمسلمين ، وصالحه النبي صلّى اللّه

ص: 571

عليه وآله على ذلك وكتب له كتابا ، ثم أهدى له صلی اللّه علیه و آله هدية واستعمل على حرسه « عباد بن بشر » ليوصله الى دومة الجندل سالما (1).

تقييم إجمالي لغزوة تبوك :

إن النبي الاكرم صلی اللّه علیه و آله وإن لم يلق في هذا السفر الشاق كيدا ولم يواجه العدوّ ، ولم يقاتل إلاّ أنّ هذه السفرة عادت عليه بسلسلة من الفوائد المعنوية والروحية هي :

أولا : صعود مكانة وسمعة الجيش الاسلاميّ ، فقد زاد من عظمته وقوته في قلوب سكان الحجاز ، وحكّام المناطق الحدودية السورية ، وعرف الصديق والعدوّ أن المقدرة العسكريّة الاسلاميّة بلغت من القوة والعظمة بحيث أصبح في مقدورها أن تواجه اكبر القوى العالمية وتقارعها ، وتلقي الرعب والخوف في قلوبها.

إن انتشار هذا الموضوع بين القبائل العربية التي عجنت جبلّتها بروح التمرّد والطغيان أوجب أن تتخلى عن فكرة الطغيان والمعارضة ، والتآمر ضدّ الاسلام ردحا من الزمن ، وأن لا تفكّر في هذه الامور.

ولهذا السبب أخذت وفود القبائل التي لم تخضع للاسلام حتى ذلك اليوم تفد تباعا على رسول الاسلام صلی اللّه علیه و آله بعد رجوعه من تبوك الى المدينة ، وتظهر لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله طاعتها وخضوعها حتى سمّي ذلك العام بعام الوفود لضخامة عدد تلك الوفود والبعثات التي قدمت المدينة على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

ثانيا : ضمن المسلمون عن طريق عقد المعاهدات المختلفة المتعدّدة مع حكّام المناطق الحدودية الحجازية والسورية أمن هذه المنطقة ، واطمأنوا بسببها إلى أنهم سوف لن يتعاونوا مع جيش الروم ، ولن يدخلوا مع تلك الدولة في مؤامرة ضدّ

ص: 572


1- الطبقات الكبرى : ج 2 ص 166 ، بحار الأنوار : ج 21 ص 246.

الاسلام والمسلمين.

ثالثا : مهّد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بهذا السفر الشاق الطريق لفتح الشام ، فقد عرف قادة جيشه طرق هذه المنطقة ومشاكلها ، وعلمهم كيفية تجييش الجيوش الكبرى في وجه القوى العظمى في ذلك العصر ، من هنا كانت الشام وسورية هي أوّل منطقة فتحها المسلمون بعد وفاة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

رابعا : تميّز المؤمن عن المنافق في هذه التعبئة العامة وحصلت عملية تصفية وفرز كبيرة وعميقة في جماعة المسلمين.

المنافقون يخطّطون لاغتيال النبي :

أقام رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مدة بضع عشرة يوما في تبوك (1) وبعد أن بعث خالد إلى « دومة الجندل » توجه بالمسلمين الى المدينة. ولدى العودة تآمر (12) منافقا ثمانية منهم من قريش والباقي من أهل المدينة لاغتيال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في أثناء الطريق وقبل أن يصل إلى المدينة ، وذلك بتنفير ناقة النبي صلی اللّه علیه و آله في عقبة بين المدينة والشام ليطرحوه في واد كان هناك. وعند ما وصل الجيش الاسلامي إلى بداية تلك المنطقة ( العقبة ) قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله :

« من شاء منكم أن يأخذ بطن الوادي فإنّه أوسع لكم ».

فأخذ الناس بطن الوادي ، ولكن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أخذ طريق العقبة فيما يسوق « حذيفة بن اليمان » ناقة النبي ، ويقودها « عمار بن ياسر » فبينما هم يسيرون إذ التفت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى خلفه ، فرأى في ضوء

ص: 573


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 527 وذهب ابن سعد في الطبقات انه مكث بتبوك عشرين يوما ( ج 2 ص 168 ).

ليلة مقمرة فرسانا متلثمين لحقوا به من ورائه لينفّروا به ناقته ، وهم يتخافتون ، فغضب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وصاح بهم وأمر حذيفة أن يضرب وجوه رواحلهم. قائلا : اضرب وجوه رواحلهم.

فأرعبهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بصياحه بهم إرعابا شديدا ، وعرفوا بان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله علم بمكرهم ومؤامرتهم ، فاسرعوا تاركين العقبة حتى خالطوا الناس.

يقول حذيفة : فعرفتهم برواحلهم وذكرتهم لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وقلت : يا رسول اللّه ألا تبعث إليهم لتقتلهم؟ فاجابه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في لحن ملؤه الحنان والعاطفة :

« إن اللّه أمرني أن اعرض عنهم ، واكره أن يقول الناس أنّه دعا اناسا من قومه وأصحابه إلى دينه فاستجابوا له فقاتل بهم حتى ظهر على عدوّه ثمّ أقبل عليهم فقتلهم ولكن دعهم يا حذيفة فانّ اللّه لهم بالمرصاد » (1).

وقد أنزل اللّه سبحانه إثر هذه الحادثة الآية 65 من سورة التوبة التي قال تعالى فيها : « ولئن سألتهم ليقولنّ إنّما كنّا نخوض ونلعب » (2).

النية تقوم مقام العمل :

ليس ثمة مشهد أعظم جلالا من مشهد جيش فاتح يعود إلى أحضان الوطن ، كما ليس هناك أمر ألذّ وأهنأ عند الجندي المجاهد من الغلبة على العدوّ ، التي تحفظ أمجاده ، وتضمن بقاء كيانه ، وسلامته ، وقد تجلّى هذان الأمران عند عودة الجيش الاسلامي المنتصر إلى المدينة.

لقد دخل الجيش الاسلامي الفاتح المدينة بجلال عظيم بعد أن طوى المسافة

ص: 574


1- المغازي : ج 3 ص 1042 - 1045 ، مجمع البيان : ج 3 ص 46 بحار الأنوار : ج 21 ص 247 ، الدرجات الرفيعة : ص 298 و 299 وامتاع الاسماع : ج 1 ص 477.
2- راجع مجمع البيان : ج 3 ص 46.

بين « تبوك » و « المدينة » ، وكانت تغمر جنود الاسلام فرحة كبيرة ، وتظهر على كلماتهم وأعمالهم أمارات الاعتزاز لما أحرزوه من غلبة على العدوّ ، ومن أداء لحق الجندية ، وكان السبب واضحا لأنّهم أرعبوا دولة قويّة سبق لها أن هزمت الامبراطورية الايرانية ، فهم أخافوا الروم التي انسحبت من تبوك قبل وصول المسلمين إليها ، وهم طوّعوا حكّام وزعماء المدن والمناطق الحدودية السورية والحجازية ، وأخضعوهم للدولة الاسلامية.

لا شكّ أنّ الغلبة على العدوّ فخر عظيم أصاب هذا الجيش ، وكان طبيعيا أن يفتخر أفراد هذا الجيش ويتباهوا على الذين تخلّفوا في المدينة من دون عذر ، ولكن حيث أن مثل هذا النمط من التفكير وهذه العودة الظافرة كان من الممكن أن يوجد غرورا لدى البعض فيسيئوا إلى بعض الذين تخلّفوا في المدينة الذين بقوا فيها لعذر وقلوبهم مع جنود الاسلام ، ويشاركونهم بافئدتهم في أفراحهم ، وأتراحهم لهذا التفت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وهم على مشارف المدينة وقد توقّفوا خارج المدينة بعض الوقت :

« إنّ بالمدينة لأقواما ما سرتم سيرا ولا قطعتم واديا إلاّ كانوا معكم ».

قالوا يا رسول اللّه : وهم بالمدينة؟

قال : « نعم ، حبسهم العذر » (1).

أجل أنهم كانوا يتشوّقون إلى الجهاد هذا الواجب الاسلامي الكبير ، ولكن العذر منعهم من الاشتراك فيه.

إن النبي الاكرم بهذه العبارة المقتضبة اشار - في الحقيقة - إلى واحد من البرامج الاسلامية التربوية ، وذكّر بأن النية الطيبة والفكر الصالح يقوم مقام العمل الصالح الطيب ، وأن الذين يحرمون من القيام بالأعمال الصالحة لافتقادهم القدرة عليها أو فقدان الامكانيات يمكنهم أن يشاركوا الآخرين في

ص: 575


1- السيرة الحلبية : ج 3 ص 163 ، بحار الأنوار : ج 20 ص 219.

ثواب العمل الصالح اذا نووا ذلك ، واشتاقوا إليه قلبيا.

إذا كان الاسلام يهتمّ باصلاح الظاهر ، فانه يهتمّ أكثر باصلاح القلب والفكر ، باصلاح الباطن والسريرة ، لأن اصلاح العقيدة وطريقة التفكير هو منبع جميع الاصلاحات ، وأعمالنا كلها وليدة أفكارنا ونوايانا.

إذا خفّف النبي الاكرم بقوله هذا من غلواء المجاهدين وغرورهم ، وحفظ مكانة المعذورين من المخلفين فلا يلحق بهم هوان إلاّ أنه قرّر في نفس الوقت أن يوبّخ المتخلفين من دون عذر ويلقّنهم درسا لن ينسوه ، وللنموذج ننقل هنا قصة ثلاثة من المتخلّفين.

أخذ المتخلّفين بالعقاب النفسيّ :

يوم اعلن في المدينة عن التعبئة العامة تخلّف ثلاثة من المسلمين في المدينة هم : « هلال بن أميّة » ، و « كعب بن مالك » و « مرارة بن الربيع » فقد حضر هؤلاء عند رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لدى خروجه إلى تبوك واعتذروا إليه بمعاذير عن الاشتراك في الجهاد ، فاعتذر أحدهم ، بأن الوقت هو وقت إدراك الثمر ، وأنهم سيلتحقون بجيش الاسلام إذا فرغوا من الحصاد والقطاف.

إن هؤلاء وامثالهم ممن يريدون الدين والدينار ، وتهمّهم مصالحهم المادية الشخصية والاستقلال السياسي معا يعانون من نظرة ضيقة وقصيرة تعادل اللذائذ الماديّة العابرة بالحياة الانسانية الشريفة ، التي تتحقق تحت لواء الاستقلال الفكريّ والسياسيّ والثقافي ، بل ربما رجّحوا الاولى على الثانية.

ولهذا كان على النبي صلی اللّه علیه و آله - بعد العودة - أن يؤدب مثل هذه العناصر حتى لا تسري عدوى هذه الحالة المرضيّة إلى الآخرين.

إنهم لم يتخلّفوا عن هذا الجهاد فحسب ، بل لم يعملوا بالعهد الذي أعطوه لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أيضا ، فإنهم انشغلوا بالتجارة ، وجمع المال حتى فوجئوا بعودة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله المظفّرة إلى المدينة فبادروا عند

ص: 576

ذلك لملاقاة ما بدر منهم من تخلّف إلى الحضور عند رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله للتسليم عليه وتقديم التهاني إليه كما فعل الآخرون.

إلاّ أنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أعرض بوجهه عنهم ولم يكترث بهم ، وعند ما تحدث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بالكلام في ذلك الاجتماع العظيم وسط موجة من الفرح والابتهاج كان أوّل ما قاله هو :

« لا تكلمنّ أحدا من هؤلاء الثلاثة ».

ومع أن عدد المتخلفين كان يقارب التسعين شخصا ، إلا أن اكثرهم حيث كانوا من المنافقين ، ولم يكن يتوقع منهم أن يشاركوا المسلمين في جهاد العدوّ لهذا تركّز ثقل هذه القطيعة على هؤلاء المسلمين الثلاثة الذين كان بعضهم سبق منه أن اشترك في غزوة بدر مثل « مرارة » و « هلال » ، وكانت لهم شخصية ومكانة بين المسلمين!!

ولقد تركت سياسة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الحكيمة التي كانت جزء لا ينفك من دينه أثرا عجيبا ، فقد تعطّلت التجارة والأخذ والعطاء مع المتخلفين ، وكسدت بضائعهم ، ولم يشترها أحد ، وقطع أقرب أقرباء المخلّفين روابطهم وعلاقتهم مع المخلفين المذكورين اتّباعا لأوامر النبي صلی اللّه علیه و آله ، وتركوا حتى الحديث العابر معهم.

ففعلت مقاطعة الناس للمخلفين فعلتها ، وضغطت عليهم نفسيا بشدة حتى ضاقت عليهم الأرض على رحابتها في نظرهم كما يقول القرآن الكريم.

« حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ » (1).

ولكن هؤلاء الثلاثة المقرون بفراسة كاملة أدركوا أن العيش في البيئة الاسلامية لا يمكن إلا بالالتحاق الحقيقي بصفوف المسلمين ، وأنه لا دوام لحياة الأقليّة الصغيرة أمام الاكثرية القاطعة ، وبخاصة اذا كانت الأقلية تتألف من

ص: 577


1- التوبة : 118 ، وتذكر التفاسير كيفية توبتهم وإنابتهم على وجه التفصيل فليراجعها من يريده.

جماعة مشاغبة ومغرضة.

هذه المحاسبات من جانب ، والانجذاب الفطريّ من جانب آخر دفعت بهؤلاء المخلفين إلى العودة إلى حظيرة الايمان الواقعي ، وأن يظهروا ندمهم على فعلهم القبيح بالتوبة الى اللّه ، والانابة إليه ، وقبل اللّه تعالى توبتهم ، وأخبر نبيّه الكريم بعفوه عنهم فبادر النبيّ صلی اللّه علیه و آله من فوره إلى الاعلان عن عفوه ورفع المقاطعة عنهم (1).

قصة مسجد الضّرار :

كانت « المدينة » و « نجران » تعتبران بالنسبة إلى أهل الكتاب منطقتين واسعتين ومركزيتين في شبه الجزيرة العربية ، فقد كانوا يتمركزون في هاتين المنطقتين اكثر من أي مكان آخر ، ولهذا اعتنق فريق من عرب الأوس والخزرج الدين المسيحي واليهودي.

ويبدو أن « ابا عامر » والد « حنظله غسيل الملائكة » المستشهد في غزوة احد ، كان قد رغب في الدين المسيحي في العهد الجاهلي ، فانسلك في صفوف الرهبان ، فلمّا ظهر نجم الاسلام من افق المدينة بعد هجرة النبي إليها ، واحتوى الدين الجديد الأديان الاخرى انزعج « أبو عامر » من هذه الظاهرة بشدة ، فشرع بصدق في التعاون مع منافقي الأوس والخزرج. وقد عرف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بخططهم التخريبية ، وأراد اعتقاله ، فخرج « أبو عامر » من المدينة الى مكة ، ومن مكّة الى الطائف ، وهرب من الطائف بعد سقوطها إلى الشام ، واخذ يقود من هناك شبكة تجسّسيّة لحزب المنافقين.

ص: 578


1- السيرة الحلبية : ج 3 ص 165 ، بحار الأنوار : ج 10 ص 119 وهذا النوع من المحاربة التي سلكها النبي مع المخلفين علّم المسلمين درسا كبيرا ومفيدا في مقابل الاقليات الصغيرة ، وهو لا يحتاج إلاّ إلى الاخلاص والاتحاد والعزم هذا ويذكر الواقدي في المغازي : ( ج 3 ص 1049 - 1056 ) قصة هؤلاء المخلفين بصورة اكثر تفصيلا ممّا ذكرناه هذا.

وقد كتب الى المنافقين في المدينة في إحدى رسائلهم ان استعدّوا وابنوا مسجدا في قباء في مقابل مسجد المسلمين وصلّوا فيه في أوقات الصلاة ليمكنكم - تحت غطاء أداء الفرائض - التحدث حول الامور المتعلقة بالاسلام والمسلمين ، وكيفية تنفيذ المؤامرات الحزبية ضدهم.

لقد كان « ابو عامر » على غرار أعداء الاسلام في العصر الحاضر يرى أن أفضل وسيلة لهدم واستئصال الدين في بلد يسوده الدين هو الاستفادة من نفس سلاح الدين ، ومن المعلوم أنه يمكن توجيه الضربة إلى الدين باسم الدين أكثر من أيّ عامل أو وسيلة اخرى.

لقد كان « ابو عامر » يعلم أن النبي صلی اللّه علیه و آله لا يسمح لحزب المنافقين بإقامة مركز لهم مطلقا إلاّ إذا كان لذلك صبغة دينية ، وكان تحت عنوان مسجد.

عند ما كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يتجهّز إلى « تبوك » أتاه جماعة من المنافقين وطلبوا منه ان يسمح لهم ببناء مسجد في محلتهم بقباء بحجة أن ذوي العلة والحاجة لا يمكنهم أن يقطعوا المسافة بين قباء ومسجد النبي للصلاة معه صلی اللّه علیه و آله في الليلة المطيرة والليلة الشاتية ، فأوكل النبي صلی اللّه علیه و آله أمر النظر في طلبهم الى ما بعد العودة من تبوك (1).

غير أن حزب النفاق بادروا الى اختيار نقطة من الأرض في قباء ، واسرعوا في اقامة مركز لهم تحت غطاء المسجد ولما عاد النبي صلی اللّه علیه و آله من تبوك حضروا عنده وطلبوا منه أن يصلي فيه ركعتين ليسبغوا بذلك الشرعيّة على مركزهم ، وفي هذا الاثناء نزل جبرئيل على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأخبره بحقيقة هذا الأمر ، وسمّاه في آيات نزل بها على النبي بمسجد الضرار ، ووصفه بأنه مركز بني لايجاد الفرقة بين المسلمين ، والتآمر عليهم إذ يقول تعالى :

ص: 579


1- المغازي : ج 3 ص 1046.

« وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ » (1).

فأمر النبي صلی اللّه علیه و آله فورا بإحراق ذلك المسجد وتسويته بالأرض فحرّق وهدّم وسوّي بالأرض وتحوّل مكانه إلى مزبلة فيما بعد (2).

إن تحريق وهدم مسجد الضرار كانت ضربة قاضية لحزب النّفاق فمنذئذ تلاشت وشائج وروابط ذلك الحزب الخبيث ، وهلك حاميهم الوحيد عبد اللّه بن أبي بعد شهرين من غزوة تبوك.

ولقد كانت غزوة تبوك آخر الغزوات الاسلامية التي شارك فيها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إذ لم يشارك صلی اللّه علیه و آله بعدها في أي قتال.

ص: 580


1- التوبة : 107 و 108.
2- السيرة النبوية : ج 2 ص 530 ، بحار الأنوار : ج 20 ص 253.

55

وفد ثقيف في المدينة

اشارة

انتهت غزوة تبوك بكل مشاكلها ، ومتاعبها الكثيرة وعاد جنود الاسلام المجاهدون الى المدينة بابدان متعبة من وعثاء السفر ، وبعد الطريق ، ولم يلق جنود الاسلام كيدا ولم تحصل بينهم وبين الجيش الرومي اية مواجهة كما ولم يواجهوا عدوا طوال ذلك الطريق ، ولم يغنموا غنيمة. من هنا اعتبر بعض السذّج من المسلمين تسيير هذا الجيش الضخم عملا لغوا وعبثا ، وذلك لأنهم لم يعرفوا بالآثار والنتائج غير المرئية لهذه الحركة العسكرية الواسعة ، ولم يمض وقت كبير إلاّ واتضحت نتائجها ، فقد أسلمت على أثر هذه المناورة العسكرية العظمى أشد القبائل عداء وعنادا للاسلام ، وخضعت لسلطان المسلمين ، بايفاد مندوبيها ووفودها إلى المدينة ، وإظهار الطاعة والاسلام عن طريقها ، كما أنها عمدت الى فتح أبواب حصونها الحصينة في وجه المسلمين ليحطّموا أصنامها وأوثانها ، وينصبوا على حطامها ألوية التوحيد.

ان الجماعات السطحية التفكير القصيرة النظر تهتم - عادة - بالنتائج المرئية الحاضرة ، فمثلا إذا واجه جنود الاسلام خلال الرحلة عدوّا ، وقاتلوه وقضوا عليه ، وغنموا غنائم من أمواله قالت هذه الجماعة : لقد حققت هذه العملية العسكرية نتائج باهرة!!

ولكن أصحاب الرؤية العميقة والنظرة البعيدة يحلّلون الامور على غير هذا النمط ، فهم يمتدحون أي عمل يخدم الهدف والنتيجة النهائية ويعتبرونه نجاحا باهرا.

ص: 581

ومن حسن الاتفاق أن غزوة تبوك خدمت هدف النبي صلی اللّه علیه و آله وهو اجتذاب الاقوام العربية الى الاسلام - خدمة كبرى - ، لأنه قد شاع في جميع انحاء الجزيرة العربية أن الروميين ( الذين غلبوا الايرانيين الذين طالما سادوا نصف المعمورة في ذلك الوقت وحكموا حتى اليمن وما حولها في آخر حروبهم ، واستعادوا منهم صليبهم واعادوه إلى بيت المقدس ) ارعبوا بالقوة الاسلامية الكبرى ، وانصرفوا عن مقابلة جنود الاسلام.

لقد دفع هذا النبأ اشدّ القبائل عنادا ، والتي كانت حتى يوم أمس غير مستعدة للتعايش مع الاسلام والخضوع له ، دفعها إلى أن تغيّر من مواقفها المتعنتة المتصلبة ، وتفكّر في التعاون والتعايش مع المسلمين ، ولكي تسلم من عدوان القوى الكبرى في ذلك اليوم ( إيران والروم ) انضوت تحت لواء الاسلام ، واعلنت عن انتمائها إليه. وإليك فيما يلي نموذج من هذه التطورات التي حدثت في مواقف تلك القبائل العربية المعادية للاسلام.

وقوع الفرقة والاختلاف في قبيلة ثقيف :

كانت قبيلة ثقيف معروفة بطغيانها وعنادها العجيب بين القبائل العربية ، ولقد قاوموا حصار الجيش الاسلامي لهم مدة شهر واحد معتصمين بحصونهم في الطائف ولم يسلّموا (1).

هذا وكان « عروة بن مسعود الثقفي » وهو أحد سادة ثقيف قد علم بانتصار المسلمين الكبير في أرض تبوك ، فقدم على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قبل أن يدخل المدينة ، وأسلم على يديه واستأذنه في أن يذهب إلى الطائف ، ليدعو قبيلته إلى دين التوحيد فحذره رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من مخاطر هذا العمل لأنه صلی اللّه علیه و آله كان يعرف أنّ فيهم نخوة الامتناع الذي كان

ص: 582


1- المغازي : ج 2 ص 922 - 938.

منهم.

وقال له : انهم قاتلوك.

فقال عروة : يا رسول اللّه أنا أحبّ إليهم من أبكارهم ، ( أو من أبصارهم ) ، وكان فيهم كذلك محبّبا مطاعا.

ولقد كان قوم عروة وسائر قادة ثقيف لم يدركوا بعد ما أدركه عروة من عظمة الاسلام ، وكان فيهم نخوة وكبر يمنعانهم من الخضوع للحق.

ولهذا قررّت أن ترشق بالنبال والسهام أول داعية أتاها ليدعوها إلى الاسلام ... وهكذا رشقوا بالنبال « عروة » في الوقت الذي كان يدعوهم إلى الاسلام ، فقال وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة : كرامة اكرمني اللّه بها ، وشهادة ساقها اللّه إليّ (1).

وفد ثقيف :

ندم رجال ثقيف - بعد مقتل عروة - على فعلهم هذا بشدة وعرفوا بأن الحياة لم تعد ممكنة وميسّرة لهم في قلب الحجاز الذي رفعت على جميع مناطقه ألوية التوحيد وخاصّة بعد أن أصبحت جميع المراعي والطرق التجارية تحت رحمة المسلمين ، فقرّروا في ندوة مشاورة عقدت لدراسة مشكلاتهم أن يبعثوا مندوبا من قبلهم إلى المدينة ليتفاوض مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ويعلن له عن استعداد قومه لاعتناق دين التوحيد ضمن شروط معيّنة ، واتفقوا على إيفاد « عبدياليل » إلى المدينة وابلاغ رسالتهم إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ولكن عبد ياليل رفض القيام بهذه المهمّة وقال : لست فاعلا ذلك حتى ترسلوا معي رجالا ، لأنه كان لا يثق بثبات رأيهم ، وكان يخشى أن يصنعوا به ما صنعوا بعروة بن مسعود. فاتفقوا ان يبعثوا معه خمسة رجال من ثقيف ليقوموا جميعا بالقدوم

ص: 583


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 537 و 538.

على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله والتفاوض معه.

توجه هذا الوفد السداسيّ إلى المدينة ، ونزلوا بعد طيّ مسافة خارج المدينة عند قناة فألفوا عندها المغيرة بن شعبة الثقفي يرعى خيولا لأصحاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

فلما رأى المغيرة زعماء قبيلته وعرف هدفهم وثب يشتد الى المدينة ليبشّر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بعد أن ترك الخيول عند الثقفيين ، وليخبره بقرار قبيلة ثقيف التي طال عنادها ، فلقيه أبو بكر قبل أن يدخل على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فاخبره المغيرة عن ركب ثقيف ، فرجاه أبو بكر أن يسمح له بتبشير النبي صلی اللّه علیه و آله قبل أن يحدثه المغيرة بالأمر ففعل المغيرة فدخل أبو بكر على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فأخبره بقدومهم عليه وأنهم جاءوا ليعتنقوا الاسلام بشروط ، فأمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله باكرامهم ، وضرب لهم قبة في ناحية مسجده ، وكلّف خالد بن سعيد بالقيام بشئون ضيافتهم.

ثم حضر وفد ثقيف عند رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ومع أن المغيرة كان قد علّمهم كيف يحيّون رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فانهم حيّوه بتحية الجاهلية تكبّرا منهم وغرورا ثم أخبروا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله برأي ثقيف وأضافوا أنهم مستعدون لاعتناق الاسلام ضمن شروط خاصة ، سوف يعرضونها عليه في جلسة تالية.

واستمرت مفاوضات وفد ثقيف مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عدة أيّام ، وكان « خالد بن سعيد » هو الذي يمشي بينهم وبين رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في هذه المفاوضات.

شروط وفد ثقيف :

قبل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كثيرا من شروط ثقيف حتى انه ضمن لاهل الطائف - ضمن ذلك العهد - أمن منطقة الطائف وما يرتبط بالطائفيين من

ص: 584

أراض ، ولكن بعض شروطهم كانت غير صحيحة ، ووقحة الى درجة أن النبي صلی اللّه علیه و آله غضب بسببها ، ولا بأس بأن نتعرض لذكر بعض هذه الشروط :

قال وفد ثقيف : ان قبيلة ثقيف مستعدة لان تعتنق الاسلام شريطة أن يترك بيت أصنامهم على حاله ، وأن يعبدوا « اللات » وهو صنم القبيلة الاكبر مدة ثلاث سنين فأبى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

فلما رأوا غضب النبي واباءه أخذوا يتنازلون عن المدة التي ذكروها سنة سنة وهو يأبى عليهم حتى سألوا شهرا واحدا ، فابى عليهم أن يدعها ولا يوما.

ولقد كان مثل هذا الطلب من النبي صلی اللّه علیه و آله الذي كان نشر التوحيد ، وهدم بيوت الاصنام ، وتحطيم الاوثان يشكل هدفه الاساسي كان طلبا مخجلا جدا ، ولقد كان مثل هذا الطلب يكشف عن أنهم كانوا يريدون إسلاما لا يضر بمصالحهم الماديّة وميولهم الباطنية ، أما إذا كان غير هذا فلن يقبلوه ولن يرضوا به.

ولهذا عند ما عرف وفد ثقيف بقبح مطلبهم هذا بادروا إلى التعلل والاعتذار بأنهم إنما أرادوا بذلك إرضاء نسائهم وذراريهم وسفهاء قبيلتهم ، حيث إنهم يكرهون أن يروّعوا قومهم بهدمها حتى يدخلهم الاسلام ، فاذا أبى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عليهم ذلك فليبعث معهم شخصا من غير قبيلتهم ليهدمها ، فوافق النبي صلی اللّه علیه و آله على هذا الشرط ، لأنّ النبي صلی اللّه علیه و آله كان يريد محو وازالة جميع المعبودات الباطلة عن الحياة البشرية سواء أتمّ هذا على أيدي الطائفيين أم على أيدي غيرهم.

والشرط الآخر هو أن يعفيهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من الصلاة.

فلقد كانوا يتصوّرون أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يمكنه التصرّف في الأحكام الإلهية كما يفعل قادة أهل الكتاب ، حسب زعمهم ، حيث كانوا يكلّفون جماعة بهذه الاحكام ، بينما يعفون جماعة اخرى منها ، وذلك غفلة منهم عن

ص: 585

أنّه صلی اللّه علیه و آله يتبع الوحي الالهيّ ، ولا يمكنه التغيير فيه قيد شعرة.

إن هذا الشرط كان يكشف عن انه لم يكن قد ترسّخت في أفئدتهم روح التسليم المطلق بعد ، وأنّ اعتناقهم للاسلام كان نتيجة ظروف ساقتهم إلى اسلام ظاهريّ سطحيّ ، وإلاّ فلا داعي ولا مبرّر للايمان ببعض ما جاء في الاسلام دون بعض ، فيقبلوا شيئا ويرفضوا شيئا آخر.

إن الاسلام ، والايمان باللّه إن هو إلاّ نوع من التسليم الباطني الروحيّ ، والخضوع القلبي الذي يقبل المرء في ظلّه جميع التعاليم والدساتير الإلهية عن طواعية ورغبة ، وفي مثل هذه الحالة لا غير لا تجد فكرة التبعيض في التعاليم الإلهية طريقا إلى روح إنسان ومخيّلته.

ولأجل هذا قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في جوابهم :

« لا خير في دين لا صلاة فيه » (1).

إن المسلم الذي لا يسجد ولا يركع لله تعالى في اليوم والليلة ولامرة واحدة ، ولا يذكر ربّه لا يكون مسلما بالمعنى الصحيح.

هذا وعند ما اتفق الطرفان على شروطهما نظمت معاهدة تشمل المواد والشروط المتّفق عليها ، وقّع عليها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، وحينئذ أذن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لوفد ثقيف بالعودة إلى قومهم ، واختار منهم أحدثهم سنا وهو « عثمان بن أبي العاص » الذي كان أحرصهم على التفقه في الإسلام ، وتعلّم القرآن خلال وجوده بالمدينة فأمّره عليهم ، وجعله نائبا دينيا ، وسياسيا عنه في قبيلة ثقيف وأوصاه - فيما أوصاه - بأن يصلّي بالناس جماعة مراعيا أضعفهم قائلا له :

« يا عثمان تجاوز (2) في الصلاة وأقدر الناس بأضعفهم فانّ فيهم الكبير

ص: 586


1- السيرة الحلبية : ج 3 ص 317.
2- تجاوز : أي خفف الصلاة وأسرع بها.

والصغير والضعيف وذا الحاجة ».

ثم كلّف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله « أبا سفيان بن حرب » ، و « المغيرة بن شعبة » بالتوجّه الى الطائف مع وفد ثقيف لهدم الاصنام فيها ، أجل إن أبا سفيان الذي كان وحتى يوم أمس من حفظة الأصنام وهو الذي أراق في سبيلها أنهرا من الدّماء ، يمشي الآن إلى الطائف وهو يحمل فأسه ومعوله لتحطيم الأصنام فيها ، ويحوّلها الى تلّ من الحطب ، ويبيع ما يتعلق بها من ذهب وفضّة وحليّ ليقضى بأموالها ديون « عروة » و « الأسود » حسب اوامر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله (1).

ص: 587


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 537 - 543 ، السيرة الحلبية : ج 3 ص 216 - 218 ، ولقد وردت قصة وفد ثقيف في كتاب « اسد الغابة » : ج 1 ص 216 وج 3 ص 406 أيضا.

حوادث السنة التاسعة من الهجرة

اشارة

56

إعلان البراءة من المشركين في منى

اشارة

في أواخر السنة التاسعة من الهجرة نزل أمين الوحي جبرئيل على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بعدة آيات من سورة التوبة ( سورة البراءة ) ، وكلّف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بأن يبعث بها رجلا إلى مكّة ليتلوها مع عهد ذي أربعة بنود في موسم الحج.

ولقد رفع الأمان في هذه الآيات عن المشركين ، والغيت جميع العهود ( إلاّ العهود والمواثيق التي التزم بها أصحابها ولم ينقضوها ) ، وابلغ إلى رءوس الشرك وأتباعهم أن عليهم أن يوضحوا مواقفهم من الحكومة الاسلامية التي تقوم على اساس التوحيد - وذلك خلال أربعة أشهر ، وإذا لم يتركوا الشرك والوثنية خلال هذه الأشهر الاربعة نزعت منهم الحصانة ، ورفع عنهم الأمان.

عند ما ينتهي المستشرقون إلى هذه القصة وهذا الفصل من التاريخ الاسلامي يصوبون رماح حملاتهم إلى الاسلام ويعتبرون هذا الموقف الحاسم والحكيم مخالفا لمبدإ الحريّة الاعتقادية ، ولكنهم اذا طالعوا صفحات التاريخ الاسلامي من دون أيّ تعصب وانحياز ، ودرسوا الدوافع الحقيقية وراء هذا الاجراء ، والتي ذكرت في هذه السورة ، وفي النصوص التاريخية لسلموا من كثير من هذه الاخطاء ، ولصدّقوا واعترفوا بأن هذا العمل لا ينافي حرية العقيدة التي يحترمها عقلاء العالم ، أبدا وإليك فيما يأتي الدوافع وراء صدور هذا العهد ( البراءة ).

1 - كان التقليد السائد عند العرب في العهد الجاهلي هو أن على زائر

ص: 588

الكعبة ان يعطي الثوب الذي يدخل به الى مكة المكرمة للفقير ويطوف بثوب آخر ، واذا لم يكن له ثوب آخر ، فان عليه أن يستعير ثوبا ويطوف به حتى لا يضطرّ إلى الطواف عريانا ، وإن لم يمكنه ان يستعير ثوبا طاف بالبيت المعظم عاريا ، بادي السوأة.

وقد دخلت امرأة ذات جمال كبير ، ذات يوم المسجد الحرام ، وحيث أنّها لم تك تملك ثوبا آخر ، لذلك اضطرّت تبعا لذلك التقليد الجاهليّ الخرافي أن تطوف عارية بالبيت المعظّم ، ومن الواضح أنّ مثل الطواف الفاضح أي الطواف بالجسد العاري في أقدس بقعة من بقاع العالم على مرأى من جموع الطائفين بالبيت ينطوى على نتائج سيّئة بالغة السوء.

2 - لقد نزلت الآيات الاولى من سورة التوبة بعد أن انقضت عشرون سنة على بعثة النبي الكريم صلی اللّه علیه و آله ، وفي هذه المدة كان منطق الاسلام القوي حول المنع من الوثنية والشرك قد بلغ الى مسامع المشركين في شبه الجزيرة العربية فاذا كانت جماعة قليلة منهم لا يزالون يصرّون على الشرك والوثنية لم يكن ذلك إلاّ عن عصبية وعناد.

من هنا كان الوقت قد جان لأن يستخدم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله آخر علاج لإصلاح ذلك المجتمع المنحرف ، وأن يستعين بمنطق القوّة لضرب كل مظاهر الوثنيّة ، وأن يعتبرها نوعا من العدوان على الحقوق الالهية والإنسانية ، وبهذه الطريقة يقضي على منبع ومنشأ مئات العادات السيئة في المجتمع.

ولكن المستشرقين الذين اعتبروا هذا العمل مخالفا لمبدإ حرية الاعتقاد الذي هو أساس الدين الاسلامي وقاعدة المدنية الراهنة ، قد غفلوا عن هذه النقطة لأن مبدأ حرية العقيدة محترم ما دام لا يضرّ بسلامة الفرد والمجتمع ، إذ في غير هذه الصورة يجب مخالفتها حتما بحكم العقل وسيرة جميع المفكّرين.

فإذا كان في أورپا اليوم مثلا جماعة من الشباب المنحرفين ينادون بحرية العري انطلاقا من افكار منحرفة فاسدة وقاموا - على أساس أن إخفاء بعض

ص: 589

الأقسام من الجسد يثير الفضول ويوجب تحريك الغريزة ويسبب فساد الاخلاق - بتشكيل نوادي العري السرية ، فهل يسمح الفكر الانساني الرشيد بأن يسمح لمثل هذه الجماعة بأن تفعل ما تريد تحت قناع حرية العقيدة ، ويقول : إن الاعتقاد أمر محترم ، أو أن العقل يقضي بان نحارب مثل هذه الفكرة الحمقاء حفاظا على سعادة تلك الجماعة نفسها ، وسعادة المجتمع وهذا الموقف ممّا لا يتخذه الاسلام فحسب بل هو موقف جميع العقلاء في العالم من جميع الاتجاهات والحركات الهدامة التي تهدّد مصالح المجتمع بالخطر ، فهم يحاربونها بلا هوادة ، وهذه الحرب هي في الحقيقة هي محاربة المعتقدات الحمقاء لدى الجماعات المنحطة.

إن الوثنية ليست سوى حفنة من الأوهام والخرافات التي تستتبع مئات العادات الدنيئة ، وقد بذل رسول الاسلام جهودا كبرى وكافية في سبيل هدايتهم ، وبعد أن انقضى اكثر من عشرين عاما من دعوته كان الوقت قد حان لاستئصال جذور الفساد باستخدام القوة العسكرية كآخر وسيلة.

3 - ومن جانب آخر فان الحج هو أكبر العبادات والشعائر الاسلامية ولم تكن الصراعات والمواجهات التي وقعت بين الاسلام ورءوس الشرك لتسمح حتى يوم نزول هذه السورة بأن يعلّم الرسول الكريم المسلمين مناسك الحج على الوجه الصحيح وبعيدا عن أيّ نوع من أنواع الشوائب والزوائد.

من هنا كان يتوجب أن يقوم النبي الكريم بنفسه بالمشاركة في هذا المؤتمر الاسلامي العظيم ، ويعلّم المسلمين هذه العبادة الكبرى بصورة عمليّة ، ولكن النبيّ صلی اللّه علیه و آله انما كان يمكنه المشاركة في هذه المراسم والمناسك اذا خلّت منطقة الحرم الإلهي ونواحيها من كافة المشركين الذين أعطوا مقام العبودية والعبادة للأصنام الخشبية ، والحجرية ، ويطهّرها من كل معالم الشرك والوثنية ، ويصبح الحرم الإلهي خالصا للموحدين والعباد الواقعيين.

4 - إن جهاد النبي لم يك له أيّ ارتباط بحرية العقيدة ، فالعقيدة ليست شيئا يمكن أن يفرض على أحد ، ويوجد او يمحى بالقهر. إن روح الانسان ونفسه

ص: 590

هو مركز الاعتقاد ومقرّه ، وظرفه ومكانه ، وهو لا يخضع لأي قهر أو تسخير ، وإن ظهور العقائد في منطقة الضمير يتوقف على سلسلة من المقدمات والأوليّات التي توجب حصول العقيدة ، وظهور العقيدة وحصولها من دون تلك المقدمات أمر محال.

وعلى هذا الأساس فإن مسألة الاعتقاد لا تخضع للقهر ، ولا تقبل الفرض ، بل كان نضال النبي ينحصر في النضال ضدّ مظاهر هذه العقيدة وهي عبادة الاوثان.

من هنا هدم كل بيوت الاصنام ، وحطّم الأوثان بينما ترك الانقلاب في العقائد والضمائر لعامل الزمن الذي كان مروره يستتبع - لا محالة - مثل هذا التطور والتحول والانقلاب.

ان العوامل الاربعة المذكورة دفعت برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى أن يستدعي أبا بكر ثم يعلّمه الآيات الاولى من سورة التوبة ويأمره بأن يذهب برفقة اربعين رجلا من المسلمين (1) الى مكة ، ويتلو هذه الآيات التي تتضمن البراءة من المشركين في يوم الأضحى على مسامع الناس.

فتهيأ أبو بكر للقيام باداء هذه المهمة ، وتوجه نحو مكة ، إلاّ أنه لم يلبث أن نزل أمين الوحي على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله برسالة من اللّه سبحانه وهي :

« إنّه لا يؤدّي عنك إلاّ أنت أو رجل منك ».

ولهذا استدعى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عليّا وأخبره بالخبر ثم قال له : اركب ناقتي العضباء والحق أبا بكر فخذ براءة من يده ، وامض بها الى مكة وانبذ بها عهد المشركين إليهم ، أي اقرأ على الناس الوافدين إلى منى من شتى انحاء الجزيرة العربية براءة بما فيها النقاط الاربعة التالية :

ص: 591


1- وقد ذكر الواقدي انهم كانوا ثلاثمائة ( المغازي : ج 3 ص 1077 ).

1 - أن لا يدخل المسجد مشرك.

2 - أن لا يطوف بالبيت عريان.

3 - أن لا يحجّ بعد العام مشرك.

4 - أنّ من كان له عند رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عهد فهو له إلى مدته ، أي إنّه محترم ميثاقه وماله ونفسه إلى يوم انقضاء العهد ، ومن لم يكن له عهد ومدة من المشركين فإلى أربعة أشهر فإن أخذناه بعد أربعة أشهر قتلناه ، وذلك بدءا من هذا اليوم ( العاشر من شهر ذي الحجة ).

إي إن على هذا الفريق من المشركين أن يحددوا موقفهم من الحكومة الاسلامية ، فإمّا أن ينضووا الى صفوف الموحدين ، وينبذوا وراء ظهورهم كل مظاهر الشرك ويحطموها ، وإما أن يستعدوا للقتال مع المسلمين (1).

فخرج علي علیه السلام على ناقة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله العضباء مع جماعة منهم « جابر بن عبد اللّه » الأنصاري حتى ادرك أبا بكر في الجحفة فأبلغه أمر النبي صلی اللّه علیه و آله فدفع أبو بكر آيات البراءة إلى علي علیه السلام .

ويروي محدّثو الشيعة وجماعة من محدّثي السنّة أن الامام علي بن أبي طالب قال لأبي بكر : أمرني رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن اخيّرك بين أن تسير معي أو ترجع إليه فرجّح أبو بكر العودة الى المدينة على المسير مع علي علیه السلام الى مكة ... : بل أرجع إليه ، وعاد إلى النبي صلی اللّه علیه و آله ، فلما دخل عليه قال : يا رسول اللّه إنك أهلتني لأمر طالت الاعناق إليّ فيه ، فلمّا توجهت له رددتني عنه ، ما لي أنزل فيّ قرآن؟!

فقال له النبي صلی اللّه علیه و آله : لا ولكنّ الأمين جبرئيل هبط إليّ عن اللّه عزّ وجلّ بأنّه لا يؤدّي عنك إلا أنت أو رجل منك ، وعليّ منّي ، ولا يؤدّي عنّي إلاّ عليّ » (2).

ص: 592


1- فروع الكافي : ج 1 ص 326.
2- الارشاد : ص 37.

إلاّ أن بعض روايات أهل السنّة تفيد أنّ أبا بكر أنيط إليه امارة الحجيج في ذلك العام ، بينما كلّف علي علیه السلام وحده بمهمة قراءة آيات البراءة والنقاط الاربعة المذكورة على الناس يوم الحج الاكبر بمنى (1).

دخل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام مكة وفي اليوم العاشر من شهر ذي الحجة ، صعد على جمرة العقبة وقرأ على الناس الآيات الثلاث عشرة من صدر سورة التوبة ( البراءة ) وأذان رسول اللّه المتضمن للنقاط الاربعة ، رافعا صوته به ، بحيث يسمعه جميع من حضر ، وذلك بمنتهى الشجاعة والجرأة ، وأخبر المشركين الذين لا عهد ولا مدة لهم مع النبي صلی اللّه علیه و آله بأن لهم أن يسيحوا في الارض أربعة أشهر ابتداء من يوم قراءة ذلك الاعلان ، فاذا انقضت هذه المدة قتلوا اذا وجدوا على الشرك ، فعليهم أن يبادروا خلال هذا الأجل المضروب إلى تطهير بيئتهم من كل أنواع الوثنية وإلاّ سلبت عنهم الحصانة ، ورفع عنهم الأمان.

لقد كان أثر هذه الآيات وهذا الأذان النبويّ هو أنه لم يمض على قراءتهما أربعة اشهر إلاّ وأقبل المشركون على اعتناق عقيدة التوحيد أفواجا افواجا ، وهكذا استأصلت جذور الوثنية في شبه الجزيرة العربية في أواسط السنة العاشرة من الهجرة.

تعصّب بغيض في تحليل هذا الحدث :

لا ريب أن عزل أبي بكر عن مقام إبلاغ آيات البراءة ، وتنصيب علي بن أبي طالب مكانه لأداء تلك المهمة بأمر اللّه تعالى يعدّ من ابرز فضائل علي ومناقبه المسلّمة التي لا تقبل الانكار والشك ، ولكن جماعة من الكتّاب المتعصبين وقعوا في الخطأ والانحراف مع ذلك عند تحليل ودراسة هذه الحادثة.

ص: 593


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 546 وراجع للوقوف على المصادر العديدة لهذه القضية الغدير : ج 6 ص 338 - 350.

فهذا « الآلوسي البغدادي » يكتب في تفسيره عند دراسة وتحليل هذه الحادثة : النكتة في نصب الامير كرم اللّه تعالى وجهه مبلّغا نقض العهد في ذلك المحفل ان الصّديق رضي اللّه تعالى عنه لما كان مظهرا لصفة الرحمة والجمال كما يرشد إليه ما تقدم في حديث الاسراء ولما كان علي كرم اللّه وجهه والذي هو أسد اللّه ومظهر جلاله فوض إليه نقض عهد الكافرين الذي هو من آثار الجلال وصفات القهر (1).

إن هذا التفسير النابع من منبع التعصّب لا ينسجم مع كلام رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لأنه قال عند الإجابة على أبي بكر : « إنّ هذه الآي لا يؤدّيها إلاّ أنا أو رجل منّي » أي لا يصلح لأدائها غير هذين الرجلين وليس في هذا الكلام أي اشارة إلى الرأفة والشجاعة.

هذا مضافا إلى أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله المظهر الكامل للرحمة والرأفة وبناء على ما قاله الآلوسي يجب أن لا يكلف حتى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بابلاغ هذه الآيات ، على حين أن الوحي قال : هذه الآيات لا يؤديها إلاّ أنت أو رجل منك ».

ولقد برّر جماعة اخرى هذا المطلب بنحو آخر فقالوا : لقد كان التقليد المتّبع عند العرب في نقض العهود مهما كانت هو ان يقدم نفس الموقّع على العهد أو أحد أنسبائه على نبذ العهد ونقضه ، اذ في غير هذه الصورة كان المتعارف عندهم أن يبقى العهد على حاله ، وحيث إن علي بن أبي طالب كان من اقرباء النبي لهذا كلّف بإبلاغ هذه الآيات التي تضمنت نبذ العهد.

ولكن هذا التفسير والتوجيه غير مقنع ، لأنه كان ثمة بين أقرباء رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من هو أقرب إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مثل عمّه العباس ، فلما ذا لم يكلّف بابلاغ آيات البراءة ، ونبذ العهد الى المشركين.

ص: 594


1- روح المعاني : ج 10 ص 45 تفسير سورة التوبة.

ثم لما ذا لم يتبع النبي صلی اللّه علیه و آله هذه العادة من أول الأمر وهو العارف بتقاليد مجتمعه؟

إذا أردنا أن نقضي في هذه القضية التاريخية بالقضاء المحايد المنصف وجب أن نقول : إن علة هذا العزل ، والنصب لم يكن لا دافع الرغبة في المقام ، والطموح الى السلطة ، ولا وشيجة القربى مع علي علیه السلام بل كان الغرض من هذا التغيير هو الكشف عمليا عن أهليّة أمير المؤمنين علي علیه السلام وصلاحيّته للقيام بالمهامّ المتعلّقة بالحكومة الاسلامية ، وليعلم الناس أنه عديل النبي صلی اللّه علیه و آله في الجوانب الروحية ، وفي مجال الأهليّة ، والصلاحية.

وانه اذا ما غابت شمس الرسالة بعد حين وجب أن تسلّم مقاليد الحكم ، وازمّة التصرّف في المسائل والامور المتعلّقة بشئون الخلافة الى عليّ علیه السلام إذ لا يصلح لهذا العمل الخطير سواه ، وانه يجب أن لا يقع المسلمون بعد وفاة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في الإشكال والتشتت ، والاختلاف والحيرة في هذا الأمر ، لأنهم قد رأوا بام عينهم كيف نصب « علي » من جانب النبي بأمر اللّه تعالى لنبذ العهود مع المشركين ، الذي هو من صلاحيات واختيارات ، الحاكم الاسلامي وشئونه.

ص: 595

حوادث السنة العاشرة من الهجرة

اشارة

57

في رثاء الولد العزيز

اشارة

« يا إبراهيم إنّا لن نغني عنك من اللّه شيئا إنّا بك لمحزونون تبكي العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الربّ ، ولو لا أنّه وعد صادق وموعود جامع فانّ الآخر منّا يتبع الأول لوجدنا عليك يا إبراهيم وجدا شديدا ما وجدناه » (1).

هذه العبارات قالها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في رثاء ولده العزيز « إبراهيم » في اللحظات التي كان يلفظ فيها أنفاسه الأخيرة في حجر أبيه الرحيم ، وبينما كان الوالد العظيم واضعا شفتيه على خدّ ابنه ، ويودّعه بروح ملؤها المشاعر والعواطف ، من جانب ، وراضية بالتقدير الإلهي.

إنّ حبّ الأولاد والأبناء من أرفع وأظهر تجلّيات الروح الانسانية ، كما انه خير دليل على سلامة الروح ولطافتها.

لقد كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول دائما : « اكرموا أولادكم » (2) وذهب إلى أبعد من ذلك إلى درجة أنّه اعتبر مودّة الأبناء والعطف عليهم من مكارم أخلاقه ومحاسن سجاياه (3).

ففي السنين والأعوام الماضية واجه النبي الاكرم صلی اللّه علیه و آله مصيبة

ص: 596


1- السيرة الحلبية : ج 3 ص 311 بحار الأنوار : ج 22 ص 157.
2- بحار الأنوار : ج 104 ص 95 عن مكارم الاخلاق.
3- المحجة البيضاء : ج 3 ص 366.

افتقاد ثلاثة من أولاده هم : « القاسم والطاهر ، والطيب » (1) وثلاث من بناته وهن : « زينب » و « رقيّة » و « أمّ كلثوم » ولقد حزن لفقدهم حزنا شديدا وكانت « فاطمة » هي البنت الوحيدة التي بقيت له من زوجته الكريمة خديجة.

لقد بعث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في السنة السادسة من الهجرة سفراء إلى البلاد المختلفة خارج الجزيرة العربية وكان من جملة الكتب التي أرسلها إلى الامراء والملوك هي رسالته إلى حاكم مصر يدعوه فيها إلى الاسلام ، وإلى عقيدة التوحيد ، وهذا الحاكم وإن لم يلبّ نداء النبيّ في الظاهر ، ولم يقبل دعوته إلاّ أنه اجاب على كتاب النبي باجابة حسنة مضافا إلى أنه أرسل إليه صلی اللّه علیه و آله هدايا منها جارية تدعى « مارية ».

ولقد نالت هذه الجارية فيما بعد شرف تزوج النبي الكريم بها وولدت له ابنا سماه « إبراهيم » أحبّه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حبّا شديدا.

ولقد خفّفت ولادة إبراهيم الكثير من الاحزان التي كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يعاني منها بسبب افتقاده لأولاده الستة ، واشعلت في نفس النبي صلی اللّه علیه و آله بصيصا من الأمل ، ولكن هذا البصيص من الأمل سرعان ما غاب بعد ثمانية عشر شهرا ، وانطفأ.

لقد خرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من بيته ذات يوم لعمل ، وعند ما عرف بتدهور خطير في صحة ولده الحبيب الوحيد « إبراهيم » عاد من فوره الى منزله ، واخذ ابنه من حضن أمه ، وفيما كانت تعلو ملامحه علامات الغم والاضطراب نطق بهذه العبارات.

إن حزن النبي صلی اللّه علیه و آله وبكاءه في موت ابنه « إبراهيم » دليل حيّ على عاطفته الانسانية التي استمرت حتى بعد وفاة ذلك الولد الحبيب ، وإن إظهار تلك العواطف والإعراب عن الحزن والأسى كان يكشف عن روح

ص: 597


1- بحار الأنوار : ج 22 ص 166 ، ولكن بعض علماء الشيعة قالوا : أولاده الذكور من خديجة اثنان فقط راجع ج 22 ص 151 من بحار الأنوار.

رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله العاطفية التي كانت تبرز من دون اختيار فيما دلّ تجنب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله التكلم بما يسخط اللّه في هذه المصيبة المؤلمة على إيمانه ورضاه بالتقدير الالهيّ الذي لا مفرّ لأحد منه.

اعتراض غير وجيه :

استغرب عبد الرحمن بن عوف الأنصاري من بكاء النبيّ على ولده « إبراهيم » ، فاعترض على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : أو لم تكن نهيت عن البكاء ، وأنت تبكي؟

إن هذا المعترض لم يكن جاهلا بمبادئ الاسلام وقواعده الرفيعة فحسب ، بل كان غافلا حتى عن العواطف والمشاعر الانسانية الخاصّة التي أودعتها يد الخالق في ضميره أيضا.

إن جميع الغرائز الانسانية خلقت في الكيان البشري لأهداف خاصة ويجب ان يتجلى كل واحد منها في وقته المناسب وموقعه اللازم ، فالشخص الذي لا يحزن لفقد أحبّائه وأعزّائه ولا يغتم لفراقهم ، ولا تدمع عيناه لذلك ، وبالتالي إذا لم يظهر من نفسه أية ردة فعل عند فراقهم لم يكن سوى قطعة من الصخر ، ولا يستحق اسم الانسانية.

ولكن ثمة نقطة مهمة وجديرة بالانتباه ، وهي أنّ هذا الاعتراض وان كان اعتراضا غير موجّه ، إلاّ أنه يكشف عن وجود حرية كاملة ، وديمقراطية حقيقية في المجتمع الإسلامي الحديث التأسيس إلى درجة أنّ شخصا عاديّا من الناس تجرّأ على أن ينتقد عمل قائده بمطلق الحريّة ومن دون خوف أو وجل ، وسمع الجواب.

ومن هنا قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله :

« لا ، إنّما هذا رحمة ، ومن لا يرحم لا يرحم » (1).

ص: 598


1- بحار الأنوار : ج 22 ص 151.

او قال :

« لا ، ولكن نهيت عن خمش وجوه وشقّ جيوب ورنة شيطان » (1).

ولقد كلّف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (2) بتجهيز « إبراهيم » وغسله وكفنه وتحنيطه ، ثم إنّ النبي صلی اللّه علیه و آله شيّعه مع جماعة من أصحابه ، ومضى حتى انتهى به إلى قبره في البقيع.

ثم إن النبي صلی اللّه علیه و آله رأى في قبر « إبراهيم » خللا فسوّاه بيده ثم قال :

« إذا عمل أحدكم عملا فليتقن » (3).

مكافحة الخرافات :

عند ما مات إبراهيم بن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله انكسفت الشمس فتصوّر البعض ممن جهل سنن الطبيعة وقوانين العالم الطبيعيّ أن الشمس انكسفت لموت إبراهيم.

ولا شك أنّ مثل هذا التصور الباطل وان كان قضية خيالية ووهما سخيفا إلاّ أنه كان من شأنه أن ينفع النبي ، ويعزّز مكانته في المجتمع الذي طالما آمن بالخرافة وعشقها.

ولو أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كان قائدا عاديا وماديّا لكان من الجائز أن يؤيّد صحّة هذا التصور ليكتسب من وراء ذلك عظمة وقوة.

ولكن النبي صلی اللّه علیه و آله على عكس هذه التوقّع رقى المنبر ، وأطلع الناس على حقيقة الأمر وقال :

ص: 599


1- السيرة الحلبية : ج 3 ص 310 و 311.
2- بحار الأنوار : ج 22 ص 156 ، وروي في السيرة الحلبية ان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كلّف الفضل بن العباس ( ابن عم النبي ) بتجهيز إبراهيم.
3- بحار الأنوار : ج 22 ص 157.

« أيّها الناس إن الشمس والقمر آيتان من آيات اللّه تجريان بأمره مطيعان له فلا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته » (1).

إن النبي الكريم صلی اللّه علیه و آله على عكس ما يفعله النفعيون الوصوليون الذين لا يكتفون بتفسير الحقائق وتجييرها لمصالحهم ، واستخدامهم لمآربهم ، بل طالما يحاولون استغلال جهل الناس ونزعهم إلى الخرافات لصالحهم.

إنّ رسول الاسلام على عكس هذه الجماعة لم يكتم الحقيقة ، ولم يستفد من جهل الناس وغفلتهم لصالح نفسه.

ولو أن النبي صلی اللّه علیه و آله كان يسبغ في ذلك اليوم لباس الصحة على مثل هذه الفكرة الباطلة وهذا التصور الخيالي لم يمكنه أن يطرح نفسه قائدا خالدا للبشرية ورسولا مختارا من جانب خالق الطبيعة ، والمؤسس الحقيقي لقوانين العالم الماديّ ، في العالم الراهن الذي كشف فيه القناع عن اسرار الطبيعة ، واتضحت فيه قوانين العالم الماديّ ونواميسه ، وعلل الكسوف والخسوف وغيرهما من تفاعلات الطبيعة.

إن دعوة النبي الاكرم لم تكن مختصة بجماعة العرب كما أنها لا تخضع لحدود زمانية أو مكانية ، فلو أنه كان نبي الاقوام والاجيال الغابرة ، فهو كذلك نبيّ عصر الفضاء ، وقائد عصر اكتشاف أسرار الطبيعة ورموزها.

إن احاديث هذا النبي العظيم ، وكلماته من القوة ، والمتانة ومن الصحة ، والاتصاف بالواقعية بحيث لم يتطرق إليها أي إشكال حتى مع التطورات العلمية الاخيرة التي قلبت كثيرا من معارف البشر القديمة رأسا على عقب.

ص: 600


1- المحاسن : ص 313 ، السيرة الحلبية : ج 3 ص 310 و 311.

58

وفد نجران في المدينة

اشارة

تقع « نجران » بقراها السبعين التابعة لها ، في نقطة من نقاط الحجاز واليمن الحدودية ، وكانت هذه المنطقة في مطلع ظهور الاسلام المنطقة الوحيدة التي غادر أهلها الوثنية لأسباب معيّنة واعتنقوا المسيحية (1) من بين مناطق الحجاز.

وقد كتب رسول الاسلام كتابا إلى اسقف نجران (2) « أبو حارثة » يدعو أهلها فيه الى الاسلام يوم كتب كتبا إلى ملوك العالم ورؤسائه.

وإليك مضمون هذا الكتاب :

« بسم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب من محمّد رسول اللّه إلى أسقف نجران وأهل نجران إن أسلمتم فإنّي أحمد إليكم اللّه إله إبراهيم واسحاق (3) ويعقوب أمّا بعد فإني أدعوكم الى عبادة اللّه من عبادة العباد ، وأدعوكم إلى ولاية اللّه من ولاية العباد ، فان أبيتم فالجزية ، فان أبيتم فقد آذنتكم بحرب والسلام ».

واضافت بعض المصادر التاريخية الشيعية أن النبي الاكرم صلی اللّه علیه و آله كتب في ذلك الكتاب الآية المرتبطة بأهل الكتاب (4) والتي تدعوهم إلى عبادة اللّه الواحد القهار.

ص: 601


1- ذكر الياقوت الحموي في معجم البلدان : ج 5 ص 266 - 277 علل اعتناقهم للمسيحية.
2- الاسقف معرب كلمة يونانية هي ايسكوپ وتعني الرقيب والمناظر وهو اليوم منصب اعلى من منصب القسيس.
3- بحار الأنوار : ج 21 ص 285.
4- المراد من تلك الآية هو قوله تعالى : « قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً » ( آل عمران : 64. الاقبال : ص 494 ).

قدم سفير رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله نجران وسلّم كتابه المبارك الى أسقف نجران ، فقرأ ذلك الكتاب بعناية ودقة متناهية ، ثم شكّل جماعة للمشاورة وتداول الأمر واتخاذ القرار مكوّنة من الشخصيات البارزة الدينية وغير الدينية ، وكان أحد أعضاء هذه المجموعة « شرحبيل » الذي عرف بعقله ونبله ، وتدبيره وحكمته ، فقال في معرض الاجابة على استشاره الاسقف اياه : قد علمت ما وعد اللّه ابراهيم في ذرية اسماعيل من النبوّة ، فما يؤمنك أن يكون هذا الرجل ، ليس لي في النبوة رأي ، لو كان أمر من امور الدنيا أشرت عليك فيه وجهدت لك.

فقرر المتشاورون ان يبعثوا وفدا إلى المدينة للتباحث مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ودراسة دلائل نبوته ، فاختير لهذه المهمة ستون شخصا من أعلم أهل نجران وأعقلهم ، وكان على رأسهم ثلاثة اشخاص من اساقفتهم هم :

1 - « أبو حارثة بن علقمة » اسقف نجران الأعظم والممثل الرسمي للكنائس الروميّة في الحجاز.

2 - « عبد المسيح » رئيس وفد نجران المعروف بعقله ودهائه ، وتدبيره.

3 - « الأيهم » وكان من ذوي السن ومن الشخصيات المحترمة عند أهل نجران (1)

قدم هذا الوفد المسيحي المدينة ودخلوا المسجد على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وهم يلبسون أزياءهم الكنسيّة ويرتدون الديباج والحرير ، ويلبسون خواتيم الذهب ويحملون الصلبان في اعناقهم ، فأزعج منظرهم هذا وخاصة في المسجد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فشعروا بانزعاج النبي ولكنّهم لم يعرفوا سبب ذلك ، فسألوا « عثمان بن عفان » و « عبد الرحمن بن عوف » وكانت بينهم صداقة قديمة ، فقال الرجلان لعلي بن أبي طالب : ما ترى يا أبا الحسن في هؤلاء القوم؟

قال : أرى أن يضعوا حللهم هذه وخواتيمهم ثم يعودون إليه.

ص: 602


1- السيرة الحلبية : ج 3 ص 211 و 212.

ففعلوا ذلك ثم دخلوا على النبي صلی اللّه علیه و آله فسلّموا عليه فرد علیهم السلام ، واحترمهم ، وقبل بعض هداياهم التي أهدوها إليه صلی اللّه علیه و آله ، ثم إن الوفد - قبل ان يبدءوا مفاوضاتهم مع النبي صلی اللّه علیه و آله قالوا : إن وقت صلاتهم قدحان واستأدنوه في أدائها ، فاراد الناس منعهم ولكن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله اذن لهم وقال للمسلمين : دعوهم فاستقبلوا المشرق ، فصلّوا صلاتهم (1).

وبذلك اعطى النبي صلی اللّه علیه و آله درسا في التسامح الديني يدفع افتئات اعداء الاسلام على هذا الدين. مفاوضات وفد نجران مع النبي :

لقد نقل طائفة من كتّاب السيرة ، والمحدثين الاسلاميين نصّ الحوار الذي دار بين وفد نجران المسيحي ورسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ولكن المرحوم السيد ابن طاوس نقل نص هذا الحوار وقضية المباهلة بنحو أدقّ واكثر تفصيلا ممّا ذكره الآخرون من المحدثين والمؤرخين.

فقد ذكر جميع خصوصيات المباهلة من البداية الى النهاية نقلا عن كتاب المباهلة لمحمد بن المطلب الشيباني (2). وكتاب عمل ذي الحجة للحسن بن اسماعيل (3) ، غير أن نقل جميع تفاصيل هذه الواقعة التاريخية الكبرى التي قصّر حتى في الاشارة إليها اشارة عابرة بعض أصحاب السير أمر خارج عن نطاق هذا الكتاب ، ولهذا فاننا نكتفى بنقل جانب من هذا الحوار الذي نقله رواه الحلبي في

ص: 603


1- السيرة الحلبية : ج 3 ص 212.
2- هو محمّد بن عبد اللّه بن محمّد بن عبيد اللّه بن البهلول بن همام بن المطلب المولود عام 297 ه والمتوفى عام 387 ه.
3- من اراد الوقوف على خصوصيات هذه الواقعة التاريخية فليراجع كتاب الاقبال للمرحوم السيد ابن طاوس ص 496 - 513.

سيرته (1).

عرض رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على وفد نجران وتلا عليهم القرآن ، فامتنعوا وقالوا : قد كنّا مسلمين قبلك.

فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : كذبتم ، يمنعكم من الإسلام ثلاث : عبادتكم الصليب ، وأكلكم لحم الخنزير ، وزعمكم أنّ لله ولدا.

فقالوا : المسيح هو اللّه لأنه أحيا الموتى ، وأخبر عن الغيوب ، وأبرأ من الأدواء كلها ، وخلق من الطين طيرا.

فقال النبي صلی اللّه علیه و آله هو عبد اللّه وكلمته ألقاها الى مريم.

فقال أحدهم : المسيح ابن اللّه لأنّه لا أب له.

فسكت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عنهم فنزل الوحي بقوله تعالى :

إنّ مثل عيسى عند اللّه كمثل آدم خلقه من تراب » (2).

فقال وفد نجران : إنا لا نزداد منك في أمر صاحبنا إلاّ تباينا ، وهذا الأمر الذي لا نقرّه لك ، فهلمّ فلنلاعنك أيّنا أولى بالحق فنجعل لعنة اللّه على الكاذبين (3).

فانزل اللّه عزّ وجلّ آية المباهلة على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله :

« فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ » (4).

فدعاهم إلى المباهلة ، فقبلوا ، واتفق الطرفان على ان يقوما بالمباهلة في اليوم اللاحق.

ص: 604


1- السيرة الحلبية : ج 3 ص 239.
2- آل عمران : 59.
3- بحار الأنوار : ج 21 ص 320 ، ولكن آية المباهلة ، وكما يستفاد من السيرة الحلبية تفيد ان النبي هو الذي اقترح المباهلة ابتداء كما تفيد عبارة « تعالوا ندع ابناءنا ... ».
4- آل عمران : 61.

خروج النبي للمباهلة :

تعتبر قصة مباهلة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مع وفد نجران من حوادث التاريخ الإسلاميّ المثيرة والجميلة ، وهي وإن قصّر بعض المفسّرين والمؤرخين في رواية تفاصيلها ، وتحليلها ، إلاّ أنّ ثلة كبيرة ، من العلماء كالزمخشري في الكشاف (1) والإمام الفخر الرازي في تفسيره (2) وابن الاثير في الكامل (3) أعطوا حق الكلام في هذا المجال وها نحن ننقل هنا نصّ ما كتبه الزمخشري في هذا المجال :

حان وقت المباهلة ... وكان النبي صلی اللّه علیه و آله ووفد نجران قد اتفقا على أن يجريا المباهلة خارج المدينة ، في الصحراء ... فاختار رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من المسلمين ومن عشيرته وأهله أربعة أشخاص فقط وقد اشترك هؤلاء في هذه المباهلة دون غيرهم ، وهؤلاء الاربعة لم يكونوا سوى على بن أبي طالب علیه السلام وفاطمة الزهراء بنت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله والحسن والحسين لأنه لم يكن بين المسلمين من هو أطهر من هؤلاء نفوسا ، ولا أقوى وأعمق إيمانا.

طوى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله المسافة بين منزله ، وبين المنطقة التي تقرر التباهل فيها في هيئة خاصة مثيرة ، فقد غدا محتضنا الحسين (4) آخذا بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه وعلي خلفها ، وهو يقول : إذا دعوت فأمّنوا.

كان زعماء وفد نجران ورؤساؤهم قد قال بعضهم لبعض - قبل أن يغدو

ص: 605


1- ج 1 ص 382 و 383.
2- مفاتيح الغيب : ج 2 ص 471 و 472.
3- ج 2 ص 112.
4- جاء في بعض الروايات أن النبي غدا آخذا بيد الحسن والحسين تتبعه فاطمة وبين يديه عليّ ( بحار الأنوار : ج 21 ص 338 ).

رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى المباهلة : انظروا محمّدا في غد ، فإن غدا بولده وأهله فاحذروا مباهلته ، وإن غدا بأصحابه فباهلوه فانه ليس على شيء. وهم يقصدون أن النبي إذا جاء إلى ساحة المباهلة محفوفا بابهة مادية ، وقوة ظاهرية ، تحف به قادة جيشه وجنوده فذلك دليل على عدم صدقه ، وإذا أتى بولده وأبنائه بعيدا عن أيّة مظاهر مادية وتوجه إلى اللّه بهم وتضرع الى جنابه كما يفعل الأنبياء دلّ ذلك على صدقه لأنّ ذلك آكد في الدلالة على ثقته بحاله واستيقانه بصدقه ، حيث استجرأ على تعريض أعزته ، وأفلاذ كبده ، وأحبّ الناس إليه لذلك ، ولم يقتصر على تعريض نفسه له ، وعلى ثقته بكذب خصمه.

وفيما كان رجال الوفد يتحادثون في هذه الامور اذ طلع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله والاغصان الاربعة من شجرته المباركة بوجوه روحانية نيّرة فاخذ ينظر بعضهم إلى بعض بتعجب ودهشة ، كيف خرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بابنته الوحيدة ، وأفلاذ كبده وكبدها المعصومين للمباهلة ، فادركوا أن النبي صلی اللّه علیه و آله واثق من نفسه ودعوته وثوقا عميقا ، اذ ان المتردد غير الواثق بدعوته لا يخاطر بأحبائه واعزته ويعرضهم للبلاء السماوي.

ولهذا قال اسقف نجران : يا معشر النصارى إني لأرى وجوها لو شاء اللّه أن يزيل جبلا من مكانه لازاله بها ، فلا تباهلوا فتهلكوا ، ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة (1).

* * *

ص: 606


1- يروى العالم الشيعي الكبير السيد ابن طاوس في كتاب « الاقبال » : أقبل الناس من أهل المدينة من المهاجرين والأنصار ، وغيرهم من الناس في قبائلهم وشعاراتهم من راياتهم واحسن شاراتهم وهيئتهم ... ولبث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في حجرته حتى متع النهار ثم خرج آخذا بيد على والحسن والحسين أمامه ، وفاطمة علیهاالسلام من خلفهم فاقبل بهم حتى أتى الشجرتين فوقف بينهما من تحت الكساء على مثل الهيئة التي خرج بها من حجرته ، ثم أرسل الى وفد نجران ليباهلهم.

إنصراف وفد نجران عن المباهلة :

لما رأى وفد نجران هذا الأمر ( وهو خروج النبي باحبّته واعزته ) وسمعوا ما قاله اسقف نجران تشاوروا فيما بينهم ثم اتفقوا على عدم مباهلة النبي صلی اللّه علیه و آله ، معلنين عن استعدادهم لدفع الجزية للنبي كل سنة ، لتقوم الحكومة الاسلامية في المقابل بالدفاع عن أنفسهم وأموالهم ، فقبل النبي صلی اللّه علیه و آله بذلك ، وتقرّر أن يتمتع نصارى نجران بسلسلة من الحقوق في ظل الحكومة الإسلامية لقاء مبالغ ضئيلة يدفعونها سنويا ، ثم قال النبي صلی اللّه علیه و آله :

« أما والّذي نفسي بيده لقد تدلّى العذاب على أهل نجران ، ولو لاعنوني لمسخوا قردة وخنازير ولأضرم الوادي عليهم نارا ولاستأصل اللّه تعالى نجران وأهله ».

عن عائشة : إن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله خرج ( أي يوم المباهلة ) وعليه مرط (1) مرجّل من شعر أسود ، فجاء الحسن فادخله ثم جاء الحسين فادخله ، ثم فاطمة ، ثم عليّ ، ثم قال : « إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً » (2).

ثم يقول الزمخشري في نهاية هذا الكلام : وفيه دليل لا شيء أقوى منه على فضل أصحاب الكساء علیهم السلام ، وفيه برهان على صحة نبوة النبي صلی اللّه علیه و آله ، لأنه لم يرو أحد من موافق ولا مخالف أنهم أجابوا إلى ذلك.

صورة العهد النبويّ لأهل نجران :

سأل وفد نجران النبيّ صلی اللّه علیه و آله أن يكتب مقدار الجزية التي اتفق على دفعها من قبل أهالى نجران الى النبي صلی اللّه علیه و آله في كتاب ، وأن

ص: 607


1- كساء.
2- الاحزاب : 33.

يضمن النبي صلی اللّه علیه و آله أمن نجران في ذلك الكتاب ، فكتب أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب بأمر النبي كتابا هذا نصه :

« بسم اللّه الرحمن الرحيم. هذا ما كتب النبي محمّد رسول اللّه لنجران وحاشيتها ، إذ كان له عليهم حكمة في كل ثمرة وصفراء وبيضاء وسوداء ورقيق فأفضل عليهم وترك ذلك لهم : ألفي حلة من حلل الأواقي في كل رجب ألف حلة ، وفي كل صفر ألف حلة ، كل حلة أوقية ، وما زادت حلل الخراج أو نقصت عن الأواقي فبالحساب ، وما نقصوا من درع أو خيل أو ركاب أو عرض أخذ منهم بالحساب ، وعليهم في كل حرب كانت باليمن ثلاثون درعا ، وثلاثون فرسا ، وثلاثون بعيرا عارية مضمونة لهم بذلك ، وعلى أهل نجران مثواة رسلي ( واستضافتهم ) شهرا فدونه ، ولهم بذلك جوار اللّه وذمة محمّد النبي رسول اللّه على أنفسهم وملتهم وارضهم واموالهم وبيعهم ورهبانيتهم على أن لا يعشّروا ولا يأكلوا الربا ولا يتعاملوا به فمن أكل الربا منهم بعد ذلك فذمّتي منه بريئة » (1).

اكبر فضيلة :

تعتبر واقعة المباهلة وما نزل فيها من القرآن أكبر فضيلة تدعم موقف الشيعة على مر التاريخ. لأن ألفاظ الآية النازلة في المباهلة ومفرداتها تكشف عن مكانة ومقام من باهل بهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله والذين يتخذهم الشيعة قادة لهم.

فهذه الآية اعتبرت الحسن والحسين ابناء لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وفاطمة الزهراء المرأة الوحيدة التي ترتبط برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ويصدق عليها عنوان « نسائنا ». وقد عبّر عن عليّ علیه السلام بانفسنا فكان علي علیه السلام تلك الشخصية العظيمة بحكم هذه الآية بمنزلة نفس رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ترى أية فضيلة أعظم وأسمى من أن ترتفع مكانة المرء من

ص: 608


1- فتوح البلدان : ص 76 ، امتاع الاسماع : ص 502 واعلام الورى : ص 78 و 79.

الناحية المعنوية ارتفاعا وتسمو سموا عظيما حتى أنه يوصف صاحبها بانه بمنزلة نفس النبي (1).

أليست هذه الآية شاهد صدق على أفضلية أمير المؤمنين علي علیه السلام على جميع المسلمين.

لقد ذكر الفخر الرازي الذي عرف الجميع اسلوبه في الابحاث الكلاميّة ومواقفه من القضايا المرتبطة بالإمامة ، ذكر استدلال الشيعة بهذه الآية ثم أورد على هذا الاستدلال اعتراضا قليل الأهمية ممّا لا يخفى جوابه على أرباب العلم وأهل المعرفة.

هذا ويستفاد من الأحاديث الواردة عن ائمة أهل البيت أنّ المباهلة لا تختص بالنبي الاكرم بل يجوز أن يتباهل كل مسلم في القضايا الدينية مع من يخالفه ويجادله فيها ، وقد جاءت طريقة المباهلة والدعاء المخصوص بها في كتب الحديث ، وللوقوف على هذا الامر يراجع كتاب « نور الثقلين » (2).

ص: 609


1- وقد استند رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلى هذه الآية في قوله : « علي مني كنفسي ».
2- نور الثقلين : ج 1 ص 291 و 292 ، وراجع أيضا الكافي ج 2 كتاب الدعاء باب المباهلة ، وقد اشار العلامة الطباطبائي في احدى رسائله إلى هذه الموضوع أيضا ، ويعتبره من معاجز الاسلام الخالدة.

59

تأريخ المباهلة عاما وشهرا ويوما

اشارة

إن حادثة المباهلة من قضايا التاريخ الاسلامي المعروفة المتواترة التي جاء ذكرها في كتب التفسير ، والتاريخ والحديث بصورة مبسوطة ومفصّلة لمناسبة واخرى ، وتتلخص هذه القصة فيما يلي :

لقد كتب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله - يوم راسل ملوك العالم وامراءه يدعوهم الى الاسلام - كتب كتابا الى اسقف نجران « ابو حارثة » دعا فيه أهل نجران إلى الاسلام ولما تسلّم أبو حارثة كتاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله شاور جماعة من اصحابه ، فاشاروا عليه بأن يبعثوا وفدا يمثلون أهل نجران إلى المدينة ، ليتفاوضوا مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عن كثب.

وفعلا قدم الوفد المذكور المدينة ، والتقى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وبعد مداولات ومفاوضات كثيرة اقترح النبي الاكرم صلی اللّه علیه و آله على ذلك الوفد المباهلة بأمر اللّه سبحانه ، بأن يخرج الجميع ( الطرفان ) إلى الصحراء ، ويدعو كل واحد من الجانبين على الآخر فرضوا باقتراح رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ولكنّهم أحجموا عن المباهلة لما شاهدوا ما عليه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من حالة معنوية ، وروحانية عظيمة ، حيث أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله اصطحب معه إلى المباهلة أربعة انفار من أفضل أحبته وأعزته ، وتقرّر أن ينضوي نصارى نجران تحت مظلة الحكومة الاسلامية وهم على دينهم شريطة أن يدفعوا جزية ( وهي مبلغ ضئيل ).

ص: 610

هذه هي خلاصة قضية المباهلة التي لا يستطيع انكارها وإخفاءها أي مفسّر أو مؤرخ على النحو الذي ذكر ، والآن يجب أن نرى متى وفي أي يوم وشهر وعام وقعت هذه الحادثة الاسلامية الكبرى.

عام المباهلة حسب المشهور :

يقول مؤلف كتاب مكاتيب الرسول في هذا الصدد : لا خلاف عند المؤرخين ان كتاب الصلح كتب سنة عشرة من الهجرة ، فيكون سنة المباهلة نفس هذه السنة أيضا ، لان كتاب الصلح هذا انما كتب عند ما أحجم الوفد النجراني النصراني من مباهلة النبي صلی اللّه علیه و آله .

وقد ادرج نص كتاب الصلح هذا في مصادر عديدة نذكر بعضها في الهامش (1).

الشهر واليوم الذي وقعت فيه المباهلة :

إن المشهور بين العلماء هو أن المباهلة وقعت في اليوم الخامس والعشرين من شهر ذي الحجة ، وذهب المرحوم الشيخ الطوسي إلى أنها وقعت في اليوم الرابع والعشرين من ذلك الشهر ، وروى في كتابه دعاء خاصا في هذه المناسبة (2).

واما المرحوم السيّد ابن طاوس فقد نقل حول يوم المباهلة أقوالا ثلاثة ، وذكر بأن أصح تلك الأقوال والروايات هو القائل بان يوم المباهلة هو الرابع والعشرون من شهر ذي الحجة ، وقد ذهب البعض إلى أنه اليوم الواحد والعشرون بينما ذهب آخرون إلى أنه اليوم السابع والعشرون (3).

ص: 611


1- تاريخ اليعقوبي : ج 2 ص 65 ، الدر المنثور : ج 2 ص 38.
2- مصباح المتهجد : ص 704.
3- الإقبال : ص 743.

ثم انه رحمه اللّه روى في آخر كتابه (1) قصة المباهلة بصورة مفصّلة لم ترد في أي كتاب أو مؤلّف آخر ، ونوّه بأن محتويات هذا الباب اقتبست من الكتابين التاليين :

1 - كتاب المباهلة تأليف أبي المفضل محمّد بن عبد المطلب الشيباني (2).

2 - كتاب عمل ذي الحجة تصنيف الحسن بن اسماعيل بن أشناس (3).

إلى هنا اتضح أن يوم المباهلة على المشهور هو اليوم الرابع والعشرون أو الواحد العشرون أو الخامس والعشرون أو السابع والعشرون من شهر ذي الحجة.

وأمّا رأينا حول التاريخ الدقيق لهذه الواقعة من حيث العام والسنة.

إن خلاصة القول هي أنّ هذه الأقوال والآراء حول عام ويوم المباهلة لا توافق النقول التاريخية الاخرى التي يتسم بعضها بطابع القطعية إلى حدّ بعيد ، وإليك ادلتنا على ذلك فيما يلي :

رأينا حول عام المباهلة :

1 - لقد جاء في ختام الكتاب الذي بعثه النبيّ صلی اللّه علیه و آله الى اسقف نجران عبارة : « وإن أبيتم فالجزية » ، وقد جاءت لفظة الجزية في القرآن الكريم

ص: 612


1- الاقبال : ص 743.
2- لم ينقل المرحوم السيد نسبه بصورة صحيحة ، فقد ذكر النجاشي نسبه على النحو التالي : محمّد بن عبد اللّه بن محمّد بن عبد اللّه بن بهلول بن الهمام بن المطلب وعلى هذا الاساس يكون جده المطلب وليس عبد المطلب كما انه يكون المطلب جده الخامس. وينبغي الاشارة هنا إلى أن لمحمّد بن عبد اللّه - حسب ما يرى النجاشي - فترتين من الحياة ، كان في إحداهما موثوقا به ، وفي الاخرى غير موثوق به وهذا يقول : اجتنب الرواية عنه الاّ عند ما يروى الثقات عنه ايام استقامته وصلاحه ( راجع فهرست النجاشي ص2. 282 ).
3- جاء ذكره في اسناد الصحيفة السجادية وهو من مشايخ الطائفة الامامية وقد توفي عام 460 ه وقد نقل احاديث المباهلة ( راجع الذّريعة ج 15 ص 344 ).

في سورة التوبة والظاهر أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله استخدم هذه الجملة واللفظة في الكتاب المذكور اتباعا للآية المذكورة ، وقد نزلت سورة التوبة قبيل غزوة تبوك بقليل ، وقد وقعت هذه الغزوة بعد شهر رجب من السنة التاسعة.

وبناء على هذا يبعد أن يكون رسول اللّه قد كتب لأهل نجران كتابا ، بعثوا بجوابه إليه صلی اللّه علیه و آله بعد عام ونصف العام على يد وفدهم.

إن هذه الواقعة التاريخية تحكي عن أن هذه الحادثة قد وقعت في السنة العاشرة من الهجرة.

2 - اتفق كتّاب السيرة على أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بعث عليّا علیه السلام إلى اليمن للقضاء وتعليم الاحكام الدينية ، وقد مكث علي علیه السلام هناك ردحا من الزمان لأداء مهامّه المخوّلة إليه ، وعند ما علم بتوجه النبي صلی اللّه علیه و آله الى مكة للحج ، خرج هو أيضا إلى مكة على رأس جماعة من أهل اليمن ، فلقي النبيّ بمكة ، وقدّم إليه الف حلة من البز كان قد أخذها من أهل نجران من باب الجزية التي فرضت وكتبت عليهم في معاهدة الصلح (1).

إن هذه القضية التاريخية تفيد ان واقعة المباهلة وكتابة العهد لا ترتبط بالسنة العاشرة من الهجرة ، وذلك لأن أهل نجران تعهدوا في وثيقة الصلح أن يدفعوا الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في كل سنة ألفي حلة ( مخيّطة وغير مخيّطة ) ، الف حلة منها في شهر رجب ، والف حلة اخرى في شهر صفر (2).

فاذا سلّمنا بأن وثيقة الصلح كتبت في شهر ذي الحجة وجب أن نقول ان المقصود منه هو شهر ذي الحجة من الاعوام السابقة على السنة العاشرة.

لأنه كيف يمكن أن نقول بأن كتابة وثيقة الصلح ، وتنفيذها بواسطة الامام

ص: 613


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 602 و 603 ، الارشاد : ص 89.
2- الطبقات الكبرى : ج 1 ص 348 ، والارشاد : ص 92.

علي علیه السلام قد تمّا معا في السنة العاشرة.

وإذا ارتضينا القول المشهور حول اليوم والعام الذي كتبت فيهما وثيقة الصلح ، امكن في هذه الصورة أن يكون عقد الصلح قد تمّ في السنة العاشرة ، ولكن يجب أن نرجع تاريخ كتابته إلى ما قبل شهر رجب لأن الفرض هو أن الامام عليا علیه السلام قد استلم أول قسط من الجزية المقررة في شهر رجب في السنة العاشرة.

والخلاصة أنه مع ملاحظة هذه القضية التاريخية ( وهي أن الامام عليا استلم القسط الاول من الجزية من أهل نجران في شهر رجب وسلمه إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في مكة في شهر ذي الحجّة ) وجب أن نختار احد القولين التاليين :

الف : إذا سلّمنا بان يوم وشهر تنظيم وثيقة الصلح هو شهر ذي الحجة وجب ان نقول إن المقصود منه هو أشهر ما قبل السنة العاشرة.

باء : إذا ترددنا في يوم وشهر كتابة الصلح على نحو التردد في تحديد عامه ، أمكن في هذه الصورة ان نقول بان يوم المباهلة وكذا يوم تنظيم وثيقة الصلح يرتبطان باشهر ما قبل شهر رجب من السنة العاشرة للهجرة.

* * *

زمن المباهلة يوما وشهرا :

إلى هنا اتضح انه من غير الممكن ان يكون عام المباهلة هو السنة العاشرة من الهجرة حتما ، إلاّ في صورة واحدة وهي أن نغيّر رأينا في اليوم والشهر اللذين تمت فيهما كتابة وثيقة الصلح.

وقد حان الحين الآن لأن نحدّد تاريخ المباهلة من حيث اليوم والشهر في ضوء الاحداث والوقائع التاريخية ، فنقول : إن الشهر واليوم اللّذين وقعت فيهما قضية المباهلة هما - حسب ما هو مشهور بين العلماء كما أسلفنا - شهر ذي الحجة

ص: 614

واليوم الرابع والعشرون أو الخامس والعشرون ، وعلى قول : الحادي والعشرون ، أو السابع والعشرون من ذلك الشهر.

والآن يجب أن نرى هل تنطبق هذه الاقوال على غيرها من الحوادث التاريخية القطعية أم لا؟

إن الدراسة التالية تثبت لنا أن قضية المباهلة من غير الممكن أن تكون قد وقعت في شهر ذي الحجة من السنة العاشرة مطلقا ، لأنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قد توجّه الى مكة المكرمة لتعليم مناسك الحج في السنة العاشرة من الهجرة ، وفي اليوم الثامن عشر من هذا الشهر ( وهو يوم الغدير ) نصب في منطقة غدير خم التي تبعد عن الجحفة (1) بميلين (2) ، عليا خليفة على المسلمين من بعده.

ولم تكن حادثة الغدير بالحادثة التي تنتهي ذيولها في يوم واحد ليتابع النبي سفره الى المدينة فورا لأن النبي - بشهادة التاريخ - أمر بعد نصب علي علیه السلام للخلافة أن يجلس علي في خيمة ، وان يدخل عليه المسلمون الحاضرون ثلاثة ثلاثة ، ويهنئونه بالخلافة والإمرة وقد استمر هذا العمل حتى الليلة التاسعة عشرة من شهر ذي الحجة ، وقد هنّأت « امهات المؤمنين » عليا علیه السلام في نهاية

ص: 615


1- « الجحفة » على وزن طعمة تقع على بعد ثلاثة منازل من مكة وسبعة منازل من المدينة وتبعد عن البحر الاحمر بستة اميال تقريبا وتقرب من رابغ التي تقع الآن على الطريق بين مكة والمدينة راجع كتاب التحرير للنووى والتهذيب له أيضا ، هذا ويقول الياقوت الحموي في مراصد الاطلاع ص 109 : ان الجحفة تقع على بعد أربعة أميال من مكة وهي ميقات أهل مصر والشام ، وتبعد عن البحر بستة أميال ، وعن غدير خم بميلين. وهي الآن تبعد عن مكة - حسب المقاييس الحديثة - بمائتين وعشرين كيلومترا ويقول المسعودي في كتابه « التنبيه والاشراف » ص221- 222 أيضا : أن غدير خم يقرب من الماء المعروف بالخرار بناحية الجحفة ، وولد علي رضی اللّه عنه وشيعته يعظمون هذا اليوم.
2- الميل عبارة عن ثلاثة آلاف ذراع ، والفرسخ عبارة عن تسعة آلاف ذراع وقيل : ان الميل عبارة عن أربعة آلاف ذراع ، والفرسخ عبارة عن اثنى عشر الف ذراع ، وعلى أيّة حال فان الميل ثلث الفرسخ ، وثلاثة اميال تعادل فرسخا كاملا ( راجع القاموس مادة : ميل ).

مراسيم التهنئة (1).

من هنا لا يمكن القول بان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله غادر ارض غدير خم في اليوم التاسع عشر ، خاصة ان تلك المنطقة كانت المحل الذي تتشعب فيه طرق المدنيين والمصريين والعراقيين ، وبناء على هذا لا بدّ أن الجماعات المختلفة الاوطان التي كانت تريد التوجه إلى أوطانها قد ودّعت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ولا شك أن عملية التوديع هذه قد أوجبت مكث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في أرض الغدير مدة أطول.

وحتى لو فرضنا - افتراضا - أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله توجه نحو المدينة في اليوم التاسع عشر ، فهل يمكن ان نقول - في ضوء المحاسبات التي نملكها من التاريخ حول مقدار طيّ هذه المسافة - أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قدم المدينة في اليوم الرابع والعشرين أو الخامس والعشرين ، واخذ بمقدمات قضية المباهلة ثم كتب وثيقة الصلح بينه وبين أهل نجران؟ ، كلا حتما ، لأن المسافة بين مكة والجحفة كما ذكرنا في الهامش المتقدم هي ثلث المسافة بين مكة والمدينة.

ويجب أن نرى الآن كم كان يستغرق من الزمن مجموع سفر القوافل - آنذاك - من مكة المكرمة الى المدينة المنورة؟

لا توجد هنا أيّة وثيقة توضح ذلك إلاّ حديث سفر النبي الاكرم صلی اللّه علیه و آله نفسه الذي وضعه التاريخ تحت تصرفنا فان التاريخ يقول : إنّ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قطع هذه المسافة عند هجرته من مكة الى المدينة في مدة تسعة أيام (2).

ص: 616


1- جاء تفصيل مراسم التهنئة في موسوعة الغدير : الجزء 1 ص 245 - 257.
2- غادر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله مكة مهاجرا الى المدينة في الليلة الرابعة من شهر ربيع ، ووصل إلى محلة « قبا » حوالي الظهر في اليوم الثاني عشر من نفس ذلك الشهر ، وتدلّ القرائن على أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قطع هذه المسافة بسرعة بسبب ملاحقة قريش له ( السيرة النبوية : ج 2 ص 399 ، الطبقات الكبرى : ج 1 ص 135 ).

كما أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قطع هذه المسافة في مدة أحد عشر يوما (1).

وسبب التفاوت بين هاتين الرحلتين هو أن النبي صلی اللّه علیه و آله قطع المسافة المذكورة في الرحلة الاولى برفقة شخصين ، بينما قطع تلك المسافة في الرحلة الثانية بصحبة جيش قوامه عشرة آلاف رجل ، ومن الطبيعي أن تتم الحركة في الصورة الثانية بصورة اكثر بطؤا.

ولنفترض أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله غادر أرض « غدير خم » في اليوم التاسع عشر ، فاننا إذا اتخذنا تسعة ايام مقياسا لتقييمنا وجب أن نقول أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لا بدّ أنه قطع المسافة بين الجحفة والمدينة في ستة أيام لأن المسافة بينهما هي ثلثا مجموع المسافة بين مكة والمدينة ، وبالتالى دخل المدينة في اليوم الرابع والعشرين.

واذا اعتبرنا الثاني ( أي احد عشر يوما ) انه هو المقياس وجب أن يقطع تلك المسافة ( أي بين الجحفة والمدينة ) في سبعة ايام ونصف اليوم ، فيكون - حسب القاعدة - قد قدم المدينة في اليوم السادس والعشرين حوالى الظهر منه.

فهل يمكن القول - في ضوء هذه المحاسبة - بأن قضية المباهلة وقعت في اليوم الرابع والعشرين أو الخامس والعشرين او السابع والعشرين.

إن بطلان هذا القول ، وخلوّه عن الصحة يتضح اكثر اذا عرفنا بأن وفد نجران قبلوا بالتباهل بعد سلسلة من المفاوضات والمداولات ، وقد انصرفوا عن التباهل في المآل ووقّعوا على وثيقة صلح بينهم وبين النبي صلی اللّه علیه و آله ، تحت شروط خاصة.

فإن أعضاء الوفد المذكور دخلوا المدينة وهم يرتدون ثيابا راقية من الديباج والحرير ، وفي أيديهم خواتيم من ذهب ، وعلى صدورهم صلبان من ذهب ، وتوجه

ص: 617


1- بحار الأنوار : ج 22 ص 19.

فور قدومهم - وعلى هذه الهيئة - إلى مسجد النبي صلی اللّه علیه و آله ولكن النبي واجههم بالكره بسبب الهيئة التي دخلوا بها عليه.

فانتهى هذا اللقاء من دون عمل شيء وتفرق أعضاء الوفد ، وهم في حيرة من موقف النبي صلی اللّه علیه و آله فالتقى الوفد عليا علیه السلام وسألوه عن سبب استياء النبي واعراضه عنهم ، فأخبرهم الامام علي علیه السلام بأن عليهم أن ينزعوا تلك الثياب والحليّ عنهم ، ويدخلوا على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بثياب عادية حتى يرتاح إليهم النبيّ ويستقبلهم بوجه منبسط.

فعاد أعضاء الوفد ودخلوا على النبي صلی اللّه علیه و آله ثانية ولكن بثياب عادية خالية عن الزينة والحليّ ، فاستقبلهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ببشاشة خاصة ، ورحّب بهم ترحيبا كبيرا ، ثم سألوا النبي صلی اللّه علیه و آله أن يؤدوا صلاتهم في المسجد ، فاذن لهم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بذلك ، ثم دخلوا مع النبي صلی اللّه علیه و آله في مناظرات ومناقشات مفصّلة ، وبعد مناظرات مفصلة ذكرها اكثر المفسرين والمؤرخين ومنهم ابن هشام في سيرته (1) اتفقوا على أن يحسموا الأمر بالمباهلة ، وحدّد يوم المباهلة.

ولما كان ذلك خرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في ذلك اليوم مع ابنته الزهراء وصهره عليّ بن أبي طالب ، وسبطيه الحسن والحسين ، إلى الصحراء للمباهلة مع وفد نجران.

ولكن وفد نجران بعد أن رأوا النبي ومن معه وما هم عليهم من البساطة والجلال انصرفوا عن الدخول في المباهلة ورضخوا طائعين لدفع جزية سنوية الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

فهل هذه الوقائع التي استغرقت - كما يقول بعض المؤرخين - اربعة مجالس يمكن أن تكون قد تمّت في يوم واحد؟

ص: 618


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 575 ، مجمع البيان : ج 1 ص 410.

إن المحاسبات تقضي وتفيد بأن مراسيم المباهلة ، وكتابة وثيقة الصلح من غير الممكن أن تكون قد وقعت في اليوم الواحد والعشرين أو الرابع والعشرين ، أو الخامس والعشرين أو السابع والعشرين من شهر ذي الحجة من السنة العاشرة للهجرة.

هذا مضافا إلى أن « نجران » مدينة حدودية بين الحجاز واليمن ، ولا بد أن تردّد القبائل كان من شأنه ان ينقل الى مسامع النجرانيين أنباء وجود رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في مكة لاداء مناسك الحج ، ولهذا فان من المستبعد ان يكون وفد نصارى نجران قد اقدم على التوجه إلى المدينة للحضور عند رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قبل التأكّد الكامل من عودته إلى المدينة والاستقرار الكامل فيها.

هل كانت قضية المباهلة في السنة التاسعة؟

هنا يمكن أن يقال بأن قضية المباهلة وقعت في شهر ذي الحجة من السنة التاسعة ، وقد ذهب إلى هذا الرأي بعض المؤرخين أيضا (1).

ولكن المحاسبات التاريخية تثبت أيضا بطلان هذا الرأى ، وذلك لأن الامام عليا الذي كان من الشاهدين لقضية المباهلة ، كما أنه هو الذي كتب وثيقة الصلح بيده الشريفة كان قد كلّف في التاسع من شهر ذي الحجة من هذه السنة ( التاسعة ) من قبل النبي صلی اللّه علیه و آله بمهمة إبلاغ آيات البراءة - على

ص: 619


1- جاء ذكر هذا عند تفسير سورة التوبة. نقل صاحب الغدير : في ج 6 ص1. 321 هذا الرأى من اثنين وسبعين شخصا من علماء السنة ، وكأن قضية المباهلة بين النبي ووفد نجران وقعت في آخر هذه الستة ( التاسعة ) ، لأنه ورد أن هذا الأمر قدتم في شهر ذي الحجة بعد فتح مكة ، ولا بد ان المراد بذي الحجة ليس هو ذو الحجة من عام حجة الوداع وهي السنة العاشرة التي وقعت فيها قضية الغدير فاذن هو ذو الحجة من السنة السابقة على عام الغدير واستغرقت اربعة مجالس ( بتلخيص ).

المشركين في يوم الحج الاكبر بمنى ، وفي الحقيقة كانت السنة الثانية التي كانت قد انيطت امارة الحج وادارة امر الحجيج إلى المسلمين ، وكان قد اختير أمير المؤمنين أميرا على الحج فيها.

ونحن نعلم أن مناسك الحج تنتهى في اليوم الثاني عشر من شهر ذي الحجة ، ولا شك أن شخصية بارزة ومسئولة كالامام علي علیه السلام الذي كان يرأس الحج في ذلك العام من غير الممكن أن يكون قد غادر مكة في اليوم الثالث عشر ويتوجه الى المدينة وهو الذي كانت له أقرباء وانسباء كثيرون في مكة ، هذا مضافا إلى أن حركة الحجيج لم تكن في تلك العصور حركة انفرادية حتى يستطيع كل واحد منهم أن يقطع الفيافي القفراء والصحاري القاحلة الموحشة بمفرده فكان على من يريدون الحج ان يتوجّهوا بصورة جماعية الى مكة أو يغادروها إلى بلادهم.

ولهذا فان عليّا علیه السلام مهما اسرع وجدّ في السير قافلا الى المدينة ، وقطع المسافة بين مكة والمدينة بسرعة فائقة فانه من غير الممكن أن يكون قدم المدينة قبل اليوم الرابع والعشرين ، ولهذا كيف يمكن أن يقوم بارشاد وفد نجران ودلالتهم على ما يجب ان يفعلوه حتى يستقبلهم النبي ببشاشة ويرحّب بهم ، ويشهد المباهلة مع المتباهلين.

إن الشواهد والادلة التاريخية تشهد بان النظرية المشهورة حول زمن المباهلة ( يوما وشهرا وعاما ) لا تحظى بالاعتبار الكافي ، ولا بدّ - لمعرفة زمن هذه الحادثة التي هي من مسلّمات القرآن والتفسير والحديث - من مزيد التحقيق ، ومزيد الدراسة ، والتقصّى.

وهنا يبقى سؤال لا بدّ من الإجابة عليه وهو : كيف اختار المشهورون من العلماء مثل هذه النظرية حول يوم المباهلة وشهرها وعامها.

والجواب هو : أن المرحوم الشيخ الطوسي اختار هذا القول استنادا الى رواية مسندة نقلها في كتابه ولكن في سند الحديث المذكور رجالا غير ثقات في نظر

ص: 620

علماء الرجال ، نظراء :

1 - محمّد بن أحمد بن مخزوم استاذ التلّعكبريّ في الحديث فهو ممن لم يوثّق (1).

2 - الحسن بن على العدويّ وقد ضعّفه العلامة (2).

3 - محمّد بن صدقة العنبرى وقد وصفه الشيخ الطوسى بالغلوّ (3).

وقد ذكر المرحوم السيد ابن طاوس في كتاب « الاقبال » امورا تتعلق بالمباهلة نقلا عن كتاب أبي المفضل وقد ذكرنا في الهامش ( ص 2073 ) أن ابا المفضل له فترتان في حياته ، فهو موثق في حال وغير موثق في حال آخر ، ولا يدرى في أي حال من الحالين كتب أبو المفضل قضايا المباهلة ، واخذها عنه العلماء.

كما ان السيّد استند في كتابه المذكور ( ص 743 ) على حديث مرفوع ( وهو ما فيه نقص في رجال سنده ) ، وذكر في ضوئه ان يوم المباهلة هو اليوم الرابع والعشرون على حين لا تقوم مثل هذه الرواية باثبات المدعى.

ص: 621


1- وان حاول المامقاني في تنقيح المقال توثيقه لكونه استاذ حديث.
2- تنقيح المقال : ج 1 ص 294.
3- رجال الشيخ الطوسي : ص 39.

60

1 - تقييم البراءة من المشركين ، 2 - وفود القبائل في المدينة

اشارة

تركت البراءة القوية التي أعلنها امير المؤمنين علي علیه السلام في موسم الحج في السنة التاسعة بمنى بامر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله والتي أعلن فيها بصراحة وبصورة رسمية ان اللّه ورسوله بريئان من المشركين والوثنيين ، وأن على المشركين أن يضعوا حدّا لشركهم خلال أربعة أشهر فإما أن يسلموا ويكفّوا عن عبادة الاصنام ويهجروها ، وإما أن يستعدوا لمواجهة شاملة.

لقد ترك إعلان هذه البراءة الصريحة أثرها العميق والسريع ، فقد ارتبكت القبائل العربية القاطنة في شتى أنحاء الجزيرة العربية التي كانت بسبب عنادها ولجاجتها ترفض الخضوع لمنطق القرآن والاستجابة لنداء التوحيد وتصر على المضي في عاداتها الشنيعة ، والعكوف على الاوهام والخرافات وعبادة الاصنام والأوثان.

لقد ارتكبت هذه القبائل ، على اثر تلك البراءة الصريحة القوية ، فعمدت إلى إيفاد وفود ومندوبين من جانبها إلى المدينة عاصمة الإسلام ، وقد دار بين كل واحد من هذه الوفود وبين رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حوار خاص.

وقد ذكر ابن سعد في الطبقات الكبرى (1) مواصفات وخصوصيات اثنين

ص: 622


1- الطبقات الكبرى : ج 2 ص 291 - 330.

وسبعين وفدا من تلك الوفود.

إن توافد هذه البعثات والوفود العجيب وخاصة في أعقاب إعلان البراءة يكشف عن أن مشركى العرب فقدوا في السنة العاشرة من الهجرة كل حصين يمنعهم عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، والاّ لكانوا يلجئون إليه ، ويتظاهرون على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

ولم تنته المدة المضروبة ( اربعة أشهر ) بعد إلاّ ودخلت كل مناطق الحجاز وكل أقوامها تحت راية التوحيد ، ولم يبق في الحجاز بيت تعبد فيه للاصنام والاوثان ظاهرا حتى أن فريقا من سكان اليمن والبحرين واليمامة انتبهوا الى الاسلام فاقبلوا عليه واعتنقوه.

محاولة اغتيال النبي :

عرفت قادة بني عامر من بين القبائل العربية - يومئذ - بالشر والطغيان ، وقد اعتزم ثلاثة اشخاص منهم هم : « عامر » و « أربد » و « جبار » على أن يدخلوا المدينة راس وفد من بني عامر ، ويتظاهروا بالتفاوض مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ثم يغدروا به في المجلس ويغتالوه.

وكانت الخطة تقضى : بأن يتحدث « عامر » الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ويفاوضه ، وفيما هو يفعل ذلك يبادر « أربد » الى ضرب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بسيفه.

ولم يخبر بقية اعضاء الوفد بنوايا هؤلاء الثلاثة وخطتهم ، ولهذا أعلنوا لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عن رغبتهم الصادقة في الاسلام ، ووفائهم لشخص النبي صلی اللّه علیه و آله ، ولكن « عامرا » احجم عن أي نوع من انواع

ص: 623

التظاهر بالإسلام في ذلك المجلس وكان يصرّ على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أن يخلو به في مكان آخر ليتحدث معه على انفراد تمهيدا لتنفيذ الخطة المشؤومة وهو ينظر الى أربد وينتظر منه ما كان أمره به واتفقا عليه ، ولكنه لا يزداد نظرا إلى « اربد » إلاّ ويزداد « اربد » حيرة ودهشة هذا ورسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول لعامر كلما قال : خالّني : لا واللّه حتى تؤمن باللّه وحده لا شريك له.

فلما أيس « عامر » من « اربد » ، وكأنّ « اربدا » كلما عزم أن يجرد سيفه ويهجم على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله هاب النبي ، ومنعته عظمته ومهابته ، فانصرف عن نيته ، قال عامر وهو يترك مجلس النبي صلی اللّه علیه و آله : أما واللّه لأملأنّها عليك خيلا ورجالا وهو بذلك يكشف عن عناده وعتوه.

فقابله رسول اللّه بحلم كبير ، ولم يرد على كلامه وتهديده وانما اكتفى بأن دعا عليه وعلى صاحبه بعد أن غادر مجلس النبي صلی اللّه علیه و آله .

ولقد استجاب اللّه لدعاء نبيه سريعا فقد خرج هو وصاحبه راجعين إلى بلادهم حتى اذا كانوا في اثناء الطريق بعث اللّه الطاعون في عنق « عامر » فقتله ذلك المرض الوبيء في بيت امرأة من بني سلول في صورة فضيعة ، وحالة سيئة.

وأما « اربد » فارسل اللّه عليه وعلى جمله صاعقة وهو في الصحراء فاحرقتهما ، وقد تسببت هاتان الحادثتان الفضيعتان اللتان أصابتا عدوّين لدودين من أعداء النبي صلی اللّه علیه و آله في أن يزداد تعلق بني عامر برسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ويتضاعف حبهم له صلی اللّه علیه و آله .

أمير المؤمنين في ربوع اليمن :

لقد مكّن اقبال اهل الحجاز على الاسلام ، وأمن النبي صلی اللّه علیه و آله

ص: 624

جانب القبائل العربية ، مكّن النبي من العمل على مدّ شعاع الاسلام إلى البلاد المتاخمة للحجاز.

فكان أول ما فعل صلی اللّه علیه و آله في هذا الصعيد هو بعث أحد أصحابه العلماء وهو « معاذ بن جبل » الى اليمن ليبلّغ إلى اهلها نداء التوحيد ويشرح لهم معالم الاسلام وتعاليمه المقدسة ، وقد أوصاه بوصايا كثيرة ومفصلة منها قوله صلی اللّه علیه و آله .

« يسّر ولا تعسّر وبشّر ولا تنفّر وإنك ستقدم على قوم من أهل الكتاب يسألونك ما مفتاح الجنة : فقل شهادة أن لا إله الاّ اللّه وحده لا شريك له ».

ويبدو أن معاذا رغم انه كان ملمّا بالكتاب العزيز والسنة النبوية وتعاليمها واحكامها ، إلا انه لما سألته امرأة عن حق الزوج على الزوجة لم يملك لها جوابا مقنعا ، ولهذا رأى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بأن يوجه الى اليمن تلميذه المتميز « علي بن أبي طالب » علیه السلام حتى يتمكن في ضوء دعوته الدائبة ، واحاديثه المبرهنة ، وما يمتلك من شجاعة أدبية نادرة ، وقوة عقلية متميزة من نشر الإسلام العظيم في تلك الربوع.

هذا مضافا إلى أن النبيّ صلی اللّه علیه و آله كان قد بعث « خالد بن الوليد » (1) الى اليمن من قبل ليزيل المشكلات التي كانت تعرقل تقدّم الاسلام في تلك الديار ولكنه لم يوفّق في مدة بقائه لعمل شيء في هذا المجال (2).

فاستدعا النبي صلی اللّه علیه و آله عليا علیه السلام وأخبره بأنه يريد أن يذهب الى اليمن ليدعو أهلها إلى الإسلام ، وليخمّس ركازهم ، ويعلّمهم

ص: 625


1- صحيح البخاري : ج 5 ص 163.
2- السيرة الحلبية : ج 3 ص 264.

الاحكام ، ويبين لهم الحلال والحرام ، وإلى أهل نجران ليجمع صدقاتهم ويقدم عليه بجزيتهم ، فقال علي علیه السلام بتواضع بالغ :

« يا رسول اللّه تبعثني وأنا شاب أقضي بينهم ولا أدري ما القضاء » أي ما فعلته قبل هذا.

فضرب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بيده في صدر عليّ علیه السلام وقال :

« اللّهم اهد قلبه وثبّت لسانه ».

ثم قال صلی اللّه علیه و آله :

« يا عليّ لا تقاتلنّ أحدا حتى تدعوه وأيم اللّه لئن يهدي اللّه على يديك رجلا خير لك ممّا طلعت عليه الشمس وغربت ولك ولاؤه يا علي ».

ثم أوصاه صلی اللّه علیه و آله بوصايا أربع هامة إذ قال :

يا علي أوصيك :

1 - بالدّعاء فإن معه الإجابة.

2 - وبالشكر فانّ معه المزيد.

3 - وإيّاك أن تخفر عهدا أو تعين عليه.

4 - وأنهاك عن المكر ، فانه لا يحيق المكر السيّئ إلاّ بأهله ، وأنهاك عن البغي ، فانه من بغي عليه لينصرنه اللّه ».

ولقد بقي علي علیه السلام يقوم بالقضاء طيلة ايام اقامته في اليمن بصورة عجيبة محيّرة ، وقد دونت اكثر اقضيته في كتب التاريخ والحديث.

هذا ويروي « البراء بن عازب » وكان من الذين صحبوا عليا علیه السلام في سفره هذا الى اليمن انه لما انتهى علي علیه السلام ومن معه إلى أوائل أهل اليمن ، وبلغ القوم الخبر ، فخرجوا إليه صفّ عليّ علیه السلام الجنود الذين كانوا

ص: 626

قد استقروا هناك من قبل بقيادة خالد بن الوليد ، ثم صلّى بهم صلاة الفجر ، ثم دعا قبيلة همدان كلّها ، وكانت اكبر القبائل اليمنية ، ليقرأ عليهم كتاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فحمد اللّه ، واثنى عليه ، ثم قرأ على القوم كتاب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فاسلمت همدان كلها في يوم واحد متأثرة بجلال المشهد ، وحلاوة البيان ، وعظمة المنطق النبوي ، فكتب امير المؤمنين علیه السلام بذلك إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فلمّا قرأ كتابه استبشر وابتهج وخرّ ساجدا شكرا لله تعالى ثم رفع رأسه وجلس وقال :

« السلام على أهل همدان. السلام على أهل همدان ».

ثم تتابع - على أثر اسلام همدان - أهل اليمن على الاسلام (1).

ص: 627


1- الكامل في التاريخ : ج 2 ص 305 ، بحار الأنوار : ج 21 ص 360 - 363.

61

حجة الوداع

اشارة

تعتبر مراسيم الحج ومناسكه من أعظم العبادات الاسلامية الجماعية التي يؤديها المسلمون ، جلالا وابهة ، وذلك لأنّ أداء مراسيم الحج ومناسكه في كل سنة مرة واحدة يمثّل بالنسبة للامة الإسلامية أكبر مظاهر الاتحاد ، والوحدة ودليلا كاملا على الترفع على المناصب والدرجات وتكون نموذجا بارزا للمساواة بين جميع أبناء البشر ، وسبيلا إلى تقوية أواصر الاخوة المتينة بين المسلمين ، فاذا كان المسلمون لا ينتفعون بهذه المائدة الكبرى التي منحها ربهم لهم ، واذا كانوا لا يستفيدون من هذا المؤتمر الاسلامي السنوي العظيم ( الذي يمكنه بحقّ أن يجيب ويعالج الكثير من مشكلاتنا الاجتماعية ، ويكون نقطة تحول عميق في حياتنا ) استفادة كاملة لائقة ، فانّ ذلك ليس - وبدون ريب او شك - ناشئا من قصور في القانون الاسلامي ، بل هو دليل على قصور قادة المسلمين وتقصير حكامهم الذين لا يولون هذه المراسم وهذا الموسم العظيم اهتماما مناسبا ، ولا يفكرون في استغلاله على الوجه المطلوب.

فمنذ أن فرغ إبراهيم الخليل علیه السلام من اقامة صرح الكعبة المعظّمة ودعا الموحّدين إلى زيارتها ، والحج إليها لم تزل هذه البنية الشريفة كعبة القلوب ، ومطاف الشعوب والاقوام والجماعات الموحّدة التي تأتي إليها كل عام من شتى نقاط العالم ، ومن مختلف انحاء الجزيرة العربية ، ويؤدّون عندها المناسك التي علّمها إياهم النبي العظيم إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا السّلام.

ص: 628

ولكن تقادم العهد ، وانقطاع شعب الحجاز عن قيادة الأنبياء ، وأنانية قريش ، وسيادة الوثنية على عقول العرب أوجب أن تتعرض مراسم الحج ومناسكه - من حيث الزمان والمكان - لعملية تحريف وتغيير ، وان تفقد صبغتها الحقيقية ووجهها الواقعيّ.

لهذه الجهات امر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في السنة العاشرة من الهجرة ، ومن قبل اللّه سبحانه ان يشارك في مراسم الحج شخصيا ، ويقوم بتعليم مناسك الحج للناس ، ويوقفهم على واجباتهم في هذه العبادة الكبرى عمليا ، كما يقوم بإزالة كلّ ما علق بها من زوائد طيلة السنوات الغابرة ، ويعيّن حدود « عرفات » و « منى » ويوم الإفاضة منها ولهذا فانّ السفر كان سفرا ذا طابع تعليمي ، قبل أن يكون ذا طابع سياسيّ واجتماعي.

أمر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في الشهر الحادي من العام العاشر للهجرة ( أي شهر ذي القعدة ) بأن ينادى في المدنية وبين القبائل بأن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقصد مكة للحج هذا العام ، فاحدث هذا الاعلان شوقا وابتهاجا عظيمين في نفوس جمع كبير من المسلمين ، فتهيّأ عدد هائل منهم لمرافقة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وضربت مضارب وخيم كثيرة خارج المدينة المنورة بانتظار حركة النبي صلی اللّه علیه و آله وتوجّهه الى مكة (1).

وفي اليوم السادس والعشرين من شهر ذي القعدة خرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من المدينة متوجها الى مكة وقد استخلف مكانه في المدينة أبا دجانة الانصاري ، وقد ساق معه ما يزيد عن ستين بدنة.

وعند ما بلغ الموكب النبوي العظيم إلى « ذي الحليفة » ( وهي نقطة فيها مسجد الشجرة أيضا ) أحرم بلبس قطعتين عاديتين من القماش الأبيض من مسجد الشجرة ، ودخل الحرم ، ولبّى عند الاحرام قائلا :

ص: 629


1- السيرة الحلبية : ج 3 ص 389.

« لبّيك اللّهم لبّيك لبّيك لا شريك لك لبّيك إنّ الحمد والنعمة لك والملك لبّيك لا شريك لك لبّيك ».

وهو بذلك يلبي نداء إبراهيم ، كما أنّه صلی اللّه علیه و آله كان يكرّر هذه التلبية كلّما شاهد راكبا ، أو علا مرتفعا من الأرض ، أو هبط واديا.

ولما شارف مكة قطع التلبية المذكورة.

وفي اليوم الرابع من شهر ذي الحجة ، دخل صلی اللّه علیه و آله مكة المكرمة وتوجّه نحو المسجد الحرام رأسا ، ثم دخله من باب بني شيبة وهو يحمد اللّه ويثني عليه ويصلي على إبراهيم علیه السلام .

ثم بدأ من الحجر الأسود فاستلمه (1) أولا ، ثم طاف سبعة أشواط حول الكعبة المعظمة ، ثم صلى ركعتين خلف مقام إبراهيم وعند ما فرغ من صلاته سعى بين الصفا والمروة (2) ثم التفت إلى حجاج بيت اللّه الحرام وقال :

« من لم يسق منكم هديا فليحلّ وليجعلها عمرة ( أي فليقصّر أي يأخذ من شعره وظفره فيحلّ له ما حرم عليه بالاحرام ) ومن ساق منكم هديا فليقم على إحرامه ».

وقد كره البعض هذا واعتذروا بانه يعزّ عليهم ( أولا يلذّ لهم ) أن يخرجوا من الاحرام فيحلّ لهم ما يحرم على المحرم فيلبسوا الثياب ويقربوا النساء ويتدهنوا ورسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على إحرامه أشعث أغبر.

ص: 630


1- المراد من الاستلام هو مسح الحجر الاسود باليدين قبل الشروع بالطواف وفلسفة هذا العمل هي أن هذا الحجر كان يقف عليه ابراهيم لدى بناء جدران الكعبة واقامتها ورفعها ، واستلامه نوع من تجديد الميثاق مع الخليل علیه السلام والعمل على نصرة عقيدة التوحيد على نحو ما فعل ابراهيم. ولقد اعتمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله في الفترة المدنية مرتين، إحداهما في السنة السابعة والأخرى في السنة الثامنة بعد فتح مكة، وكانت هذه ثالث عمرة يقوم بها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله مع الحج (الطبقات الكبرى : ج 2 ص 174).
2- الصفا والمروة جبلان على مقربة من المسجد الحرام والسعي هو المشي بينهما ابتداء من الصفا وانتهاء بالمروة.

وربّما قالوا : لا يصحّ هذا ، كيف تقطر رءوسنا من الغسل (1) ونحن زوّار بيت اللّه؟

فالتفت النبي صلی اللّه علیه و آله الى عمر وكان ممن بقى على احرامه وقال له : ما لي أراك يا عمر محرما؟ أسقت هديا؟

قال عمر : لم أسق.

فقال النبي : فلم لا تحلّ وقد أمرت من لم يسق بالإحلال؟

قال عمر : واللّه يا رسول اللّه لا أحللت وأنت محرم.

فغضب النبي لموقف الناس المتلكي هذا وقال :

« لو كنت استقبلت من أمري ما استدبرت لفعلت كما أمرتكم ».

وهو صلی اللّه علیه و آله يعني : أنني لو كنت أعلم بالمستقبل ولو عرفت بموقف الناس المتردّد وخلافهم هذا من قبل لما سقت الهدي ، ولفعلت ما فعلتموه من عدم سوق الهدي ، ولكن ما ذا عساي أن أفعل الآن وقد سقت الهدي ، ولا يمكنني الإحلال من الإحرام ، فيجب عليّ أن أبقى على إحرامي « حتى يبلغ الهدي محلّه » أي أنحر هديي بمنى كما أمر اللّه سبحانه ، وأما أنتم فمن لم يسق الهدي منكم فانّ عليه أن يحلّ إحرامه ، واحسبوها عمرة ، ثم أحرموا للحج مرة اخرى (2).

الامام علي يعود من اليمن :

لما علم علي علیه السلام بتوجه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الى مكة

ص: 631


1- هذه العبارة كناية عن مقاربة الازواج وغسل الجناية لان مقاربتهن هي أحد محرمات الحرام وترتفع هذه الحرمة بالتقصير وهو أخذ شيء من شعر الرأس أو اللحية أو تقليم الظفر.
2- بحار الأنوار : ج 21 ص 319 ، وهذه القصة توقفنا على تعنّت فريق من الصحابة وتمرّدهم على تعليمات النبي وأوامره الاكيدة وهم يعلمون أنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى وثمة شواهد وموارد اخرى كثيرة على الموضوع ، وقد جمعها المغفور له العلامة السيد عبد الحسين شرف الدين العاملي في كتاب اسماه « النص والاجتهاد ».

للمشاركة في مراسم الحج خرج هو وجنوده وقد ساق معه (34) هديا للمشاركة في الحج ، واصطحب حللا من بزّ اليمن وحريرها قد أخذها من اهل نجران وهي الجزية التي تقرّر دفعها الى النبي صلی اللّه علیه و آله .

ولقد تعجل عليّ علیه السلام إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله واستخلف على جنده الذين خرجوا معه إلى الحج رجلا من أصحابه لقيادتهم حتى مكة ، فالتحق برسول اللّه ولقيه على مشارف مكة فسر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله به ، وبما أحرزه من نجاحات في مهمته التي بعثه بها إلى أرض اليمن ، وقد أخبر بها النبي صلی اللّه علیه و آله على وجه التفصيل.

فلما فرغ من بيان اخبار سفره قال له رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : انطلق فطف بالبيت ، وحلّ كما حلّ أصحابك.

فقال علي : يا رسول اللّه إني اهللت كما أهللت.

فسأله النبي صلی اللّه علیه و آله عن كيفية إهلاله ساعة أحرم للحج فقال علي علیه السلام : يا رسول اللّه إني قلت حين أحرمت : اللّهم إني اهلّ بما أهلّ به نبيّك وعبدك ورسولك محمّد صلی اللّه علیه و آله .

قال النبي وقد أخبره بانه يشاركه في الحكم ما دام أهلّ بهذه الكيفية : فهل معك هدي؟

قال علي : نعم وهو يشير إلى الهدي الذي ساقه معه من اليمن.

فاشركه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في الحكم ، وثبت على إحرامه مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حتى فرغا عن الحج ونحر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الهدي عن نفسه ، كما نحر علي هديه أيضا (1).

ثم إن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أمر عليا علیه السلام بأن يرجع إلى جنوده الذين فارقهم ، ويصطحبهم الى مكة ، فلما رجع علي علیه السلام إليهم

ص: 632


1- الارشاد : ص 92 ، ان هذا يدل على أن النية الاجمالية كافية ولا يلزم وقوف الناوى على تفاصيل العمل وجزئياته.

وجد أن الرجل الذي استخلفه على اولئك الجنود قد عمد فكسا كلّ رجل من القوم حلة من البزّ الذي كان قد أخذه علي من أهل نجران ليسلّمها الى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فانزعج من هذا التصرّف غير المشروع وقال له : ويلك ما هذا؟

قال : كسوت القوم ليتجملوا به اذا قدموا في الناس بمكة فقال علي علیه السلام : ويلك! أنزع قبل أن تنتهي إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، فانتزع ذلك الرجل الحلل من الجنود ، وردّها إلى مكانها مع الأشياء الاخرى من جزية أهل نجران.

فانزعج جماعة من اولئك الجنود ممن يزعجهم العدل والنظام دائما ويريدون أن تسير الامور وفق أهوائهم ومشتهياتهم وان خالفت سنن الحق ومبادئ العدالة ، وأبدوا شكواهم من ما صنع بهم من استرداد الحلل والثياب.

ولما قدموا على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بمكة اشتكوا عليا علیه السلام فقام رسول اللّه خطيبا في الناس وقال :

« أيّها الناس ، لا تشكوا عليا ، فو اللّه إنه لأخشن في ذات اللّه ( أو في سبيل اللّه ) من أن يشكى » (1).

مراسم الحج تبدأ :

انتهت أعمال العمرة ، وكان النبي صلی اللّه علیه و آله يكره أن ينزل ويمكث في دار أحد في المدة التي بين العمرة والحج ولهذا أمر بأن تضرب له خيمة خارج مكة.

لقد حلّ اليوم الثامن من شهر ذي الحجة ، فخرج زوّار بيت اللّه الحرام في ذلك اليوم من مكة إلى أرض عرفات ليقفوا في اليوم التاسع وهو يوم عرفة من ظهر ذلك اليوم وحتى الغروب منه.

ص: 633


1- السيرة النبوية : ح 4 ص 603 وفي البحار : ج 21 ص 385 : أمر النبيّ صلی اللّه علیه و آله مناديا أن ينادي في الناس : « ارفعوا ألسنتكم عن عليّ فانه خشن في ذات اللّه غير مداهن في دينه ».

وقد قصد النبي عرفات أيضا في اليوم الثامن من شهر ذي الحجة ( الذي يدّعى يوم التروية أيضا ) من طريق منى ، وتوقّف في « منى » إلى طلوع الشمس من اليوم التاسع ثم ركب بعيره ، وتوجه نحو عرفات ، ونزل في خيمة كانت قد ضربت له في مكان يدعى « نمره ».

وقد ألقى في ذلك الاجتماع الهائل خطابا تاريخيا هاما وهو على ناقته.

خطاب النبيّ التاريخي في حجة الوداع :

... في ذلك اليوم الذي كانت عرفات تشهد فيه اجتماعا عظيما وحشدا بشريا هائلا ، لم يشهد مثله شعب الحجاز من قبل حتى ذلك اليوم ، كان نداء التوحيد وشعار الاسلام يدوّي في ربوع تلك المنطقة التي كانت فيما مضى من الزمان موطن المشركين ومسكن الوثنيين ولكنها قد تحولت الآن إلى قاعدة الموحّدين ، وملتقى عباد اللّه المؤمنين.

في هذه المنطقة بالذات ( أي أرض عرفات ) نزل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وصلّى الظهر والعصر وهو يؤم مائة الف ، ثم خطب فيهم خطابه التاريخيّ وهو راكب على راحلته ، وكان أحد اصحابه - وكان رفيع الصوت قويه - يكرر كلماته صلی اللّه علیه و آله ليسمعه آخر من في ذلك الحشد.

لقد بدأ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ذلك الخطاب هكذا :

« أيّها الناس اسمعوا قولي واعقلوه فاني لا أدري لعلّي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا.

أيّها الناس إنّ دماءكم واموالكم (1) عليكم حرام إلى أن تلقوا ربّكم ».

وتأكيدا لحرمة أموال المسلمين ودمائهم قال صلی اللّه علیه و آله لربيعة بن أميّة :

ص: 634


1- في الخصال : ج 2 ص 487 أيضا : وأعراضكم.

« قل يا أيّها الناس إن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يقول : هلاّ تدرون أيّ شهر هذا »؟

فاجابوا : الشهر الحرام الذي يحرم فيه القتال واراقة الدماء. فقال النبي صلی اللّه علیه و آله لربيعة :

« قل لهم : إن اللّه قد حرّم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة شهركم هذا ».

ثم قال صلی اللّه علیه و آله لربيعة :

« قل : يا أيّها الناس إن رسول اللّه يقول هل تدرون أيّ بلد هذا؟ »

فاجابوا جميعا : البلد الحرام ، الذي يحرم فيه القتال والعدوان. فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لربيعة :

« قل لهم : إن اللّه قد حرّم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربّكم كحرمة بلدكم هذا ».

ثم قال صلی اللّه علیه و آله لربيعة :

« قل لهم : هل تدرون أي يوم هذا؟ ».

فأجابوا بأجمعهم : يوم الحج الاكبر.

فقال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لربيعة :

« قل لهم : إنّ اللّه قد حرّم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربّكم كحرمة يومكم هذا.

أيّها الناس : إن كل دم كان في الجاهلية موضوع ، وإن أول دمائكم أضع دم ابن ربيعة بن الحارث ( وكان من أقرباء النبي ) ».

وهكذا ألغى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عادة الثارات الجاهلية المشؤومة وبدأ بأقربائه.

ثم قال صلی اللّه علیه و آله :

« إنّكم ستلقون ربّكم فيسألكم عن أعمالكم وقد بلّغت فمن كانت

ص: 635

عنده أمانة فليؤدّها إلى من ائتمنه عليها.

أيّها الناس إنّ كل ربا موضوع ولكن لكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون وإنّ ربا عباس بن عبد المطلب موضوع كله.

أيها الناس إن الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه أبدا ، ولكنه إن يطع فيما سوى ذلك فقد رضي به ممّا تحقرون من أعمالكم ( أو رضي منكم بمحقّرات الأعمال ) ، فاحذروه على دينكم.

أيّها الناس إن النسيء (1) زيادة في الكفر يضلّ به الذين كفروا يحلّونه عاما ويحرّمونه عاما ليواطئوا عدّة ما حرّم اللّه فيحلّوا ما حرّم اللّه ويحرّموا ما أحلّ اللّه وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق اللّه السماوات والأرض وإن عدة الشهور عند اللّه اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاثة متوالية ( ذو القعدة وذو الحجة وشهر المحرم ورجب ).

أيّها الناس إن لكم على نسائكم حقا ولهنّ عليكم حقا :

لكم عليهم أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه ( أي لا تضيّفن في بيوتكم من تكرهونه ).

وعليهن أن لا يأتين بفاحشة مبيّنة فإن فعلن فان اللّه قد أذن لكم أن تهجروهنّ في المضاجع ، وتضربوهنّ ضربا غير مبرّح ، فان انتهين فلهنّ رزقهنّ وكسوتهن بالمعروف واستوصوا بالنساء خيرا فإنّهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهنّ شيئا ، وإنكم انما أخذتموهنّ بأمانة اللّه واستحللتم فروجهنّ بكلمات اللّه فاعقلوا أيها الناس قولي فاني قد بلّغت وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلّوا أبدا أمرا بيّنا كتاب اللّه وسنة نبيّه (2)

أيها الناس اسمعوا قولي واعقلوه تعلّمنّ أنّ كل مسلم أخ للمسلم وإنّ

ص: 636


1- شرحنا النسيء في ص 83 من هذا الكتاب فراجع.
2- لقد اوصى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الامة في هذه الخطبة التاريخية بالكتاب والسنة ، ولكنه أوصى في خطبة الغدير وفي اخريات حياته بالكتاب والعترة ، وحيث ان هذين الحديثين وردا في واقعتين فلا تنافي بينهما ، لانه يصح ان يجعل النبي صلی اللّه علیه و آله السنة عدلا للكتاب في واقعة ، ويوصى بالعترة والخلفاء من أهل بيته في موضع آخر ويؤكد على اتباعهم الذي هو أخذ بالسنّة أيضا. و قد تصور بعض اعلام السنة كالشيخ محمود شلتوت في تفسيره ان النبي صلى اللّه عليه وآله تحدث بمثل هذا الكلام في واقعة واحدة فقط، ولهذا جعل لفظ «عترة» في الهامش نسخة بدل في حين لانحتاج الى مثل هذا التصحيح ابدأ لانه لا تعارض بين النقلين أساساً ليعالج بهذه الطريقة .

المسلمين إخوة فلا يحلّ لامرئ من أخيه إلاّ ما أعطاه عن طيب نفس منه فلا تظلمنّ أنفسكم ألا فليبلّغ شاهدكم غائبكم لا نبيّ بعدي ولا أمّة بعدكم (1).

« ألا كل شيء من أمر الجاهليّة تحت قدمي موضوع »(2) .

وهنا قطع النبي صلی اللّه علیه و آله خطابه ، ورفع سبّابته نحو السماء ( كعلامة على الشهادة ) وهو ينكتها الى الناس وقال :

« اللّهم اشهد

اللّهم اشهد

اللّهم اشهد » (3)

* * *

ولقد مكث رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في عرفات حتى غروب اليوم التاسع ، وعند ما اختفى قرص الشمس عن الافق ، واظلمّ الفضاء بعض الشيء ركب ناقته ، وافاض إلى المزدلفة وامضى فيها شطرا من الليل ولم يزل واقفا من الفجر إلى طلوع الشمس في المشعر ، ثم توجّه في اليوم العاشر إلى « منى » وأدّى مناسكها من رمي الجمار والذبح والتقصير ثم توجّه نحو مكة لأداء بقية مناسك الحج.

ص: 637


1- الخصال : ص 487.
2- بحار الأنوار : ج 21 ص 405.
3- امتاع الاسماع : ج 1 ص 523 والطبقات الكبرى : ج 2 ص 184.

وهكذا علّم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الناس مناسك الحج بصورة عملية ، وحدّد أو أكّد على مشاعره بصورة دقيقة.

ويطلق على هذه الحجة التاريخية في كتب التاريخ والحديث « حجة الوداع » تارة ، و « حجة البلاغ » اخرى ، و « حجة الإسلام » ثالثة ، وإنما يطلق كل عنوان من هذه العناوين على هذه الحجة لمناسبة لا تخفى على القارئ البصير (1).

هذا ونلفت نظر القرّاء الكرام في خاتمة هذا الفصل إلى أن المشهور بين المحدثين هو أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ألقى هذا الخطاب التاريخي الخالد في يوم عرفة ولكن يذهب بعض المؤرّخين إلى أن هذه الخطبة القيت في اليوم العاشر من شهر ذي الحجة ، ويرى آخرون أن النبي صلی اللّه علیه و آله خطب خطبا عديدة في هذه الحجة مستغلا كل فرصة سانحة لابلاغ مبادئ رسالته الإلهية.

هذا وقد وقعت في أثناء هذه الرحلة المقدسة قضايا ووقائع لطيفة وجديرة بالدرس والتأمل والتملي ، وقد تركنا ذكرها هنا رعاية للاختصار (2).

ص: 638


1- راجع امتاع الاسماع : ج 1 ص 510 هذا ولعلّ الوجه في تسمية هذه الحجة بالوداع لانها آخر حجة للنبي صلی اللّه علیه و آله وبالبلاغ هو نزول قوله تعالى « يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ » في أعقابها وبالتمام والكمال هو نزول قوله تعالى : « الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ».
2- راجع بحار الأنوار : ج 1 ص 378 - 413 ، امتاع الاسماع : ج 1 ص 510 - 534.

62

إكمال الدين الإسلامي بتعيين الخليفة

اشارة

الخلافة حسب عقيدة علماء الشيعة الإمامية منصب إلهيّ يعطى من قبل اللّه تعالى لأفضل أفراد الامة ، وأصلحهم ، وأعلمهم ، والفرق الواضح بين الامام والنبيّ هو : أن النبي مؤسس قواعد الشريعة ، وهو الذي يوحى إليه ، وينزل عليه الكتاب من السماء ، والامام وان كان لا يتمتع بأي واحد من هذه الشؤون إلاّ أنه مضافا إلى شئون الحكومة والقيادة هو المبيّن لما جاء به رسول اللّه من الدين ممّا لم يوفق - بسبب الظروف المعاكسة او عدم الفرص المناسبة - لبيانه أو اظهاره ، وترك مهمة بيانه على عاتق اوصيائه وخلفائه.

وعلى هذا الاساس فان الخليفة - من وجهة نظر عقيدة الشيعة الإمامية ليس مجرد حاكم زمنيّ للمسلمين وليس المطبق لقوانين الشريعة المقدسة والحافظ للحقوق الاجتماعية ، والحارس لثغور المسلمين وحدود بلادهم المدافع عنها ، فحسب بل هو علاوة على كل ذلك الموضح لما خفي من معالم الدين ، والمكمّل المبيّن لذلك الجانب من أحكام الشريعة وقوانينها الذي لم يبيّن من قبل مؤسس الشريعة لبعض الاسباب.

أمّا الخلافة في عقيدة أهل السنة فهي منصب عاديّ وليس الهدف منها إلاّ حفظ الكيان الظاهري والشؤون المادية للامة الإسلامية ، ولخليفة لا ينصب إلاّ باختيار الناس وانتخابهم أحدا لشغل منصب الحكم والقضاء وإدارة الامور السياسية والاقتصادية وما شابهها ، وذكر تفصيل ما بيّنه صاحب الشريعة من

ص: 639

الأحكام على نحو الاجمال.

وأما بيان ما لم يوفق النبي لبيانه لأسباب خاصة فهو يرتبط بعلماء الإسلام وفقهاء المسلمين فهم يعالجون ما يستجدّ للناس من مشكلات فقهية ودينية من هذا النوع عن طريق الاجتهاد ، والرأى.

وعلى أساس هذا الاختلاف في الموقف من قضية الخلافة وحقيقتها والنظرة إليها انشطرت الامة الاسلامية إلى طائفتين واتجاهين لا يزالان باقيان إلى هذا اليوم.

وبناء على النظرية الاولى يكون الامام مشاركا للنبيّ في بعض شئونه ، فيشترط في الإمام أيضا ما يشترط في النبي. وإليك الشرائط المعتبرة في النبي ، التي تشترط في الإمام أيضا :

1 - يجب أن يكون النبي معصوما ، يعني أن لا يحوم حول الإثم والمعصية طول حياته أبدا ، ولا يزلّ أو يخطأ في بيان أحكام الدين وحقائقه ، وعند الاجابة على أسئلة الناس واستفساراتهم الدينية ، ويشترط في الامام ذلك أيضا ، والدليل في الموردين واحد.

2 - يجب أن يكون النبي أعلم الناس بالشريعة ، ويجب أن لا يخفى عليه شيء من مسائل الشريعة مطلقا ، وهكذا يجب أن يكون الامام اعلم الناس باحكام الدين ومسائله لكونه مكمّلا أو مبينا لما لم يبيّن من مسائل الشريعة في زمن النبي.

3 - إن النبوة منصب تعيينى وليس منصبا انتخابيا ، بمعنى أنّ النبي لا يكون نبيا إلاّ اذا عيّنه اللّه وابتعثه ، ونصب في مقام النبوة من جانبه سبحانه ، لأنه تعالى دون سواه يميّز المعصوم عن غير المعصوم ، وهو سبحانه دون غيره يعلم من بلغ درجة العصمة عن الخطأ والمعصية في ظل العناية الربانية الغيبية الخاصة ، بحيث يعرف كل تفاصيل الدين وجزئياته.

إن هذه الشرائط الثلاثة كما هي معتبرة في النبي ، كذلك هي معتبرة ومشترطة في خليفته والقائم مقامه.

ص: 640

ولكن بناء على النظرية الثانية لا يشترط أيّ شيء من هذه الشروط المعتبرة في النبي ، في الخليفة فلا تجب العصمة ، ولا العدالة ، ولا يجب العلم والاحاطة بالشريعة ولا يشترط فيه التعيين من جانب اللّه ، والارتباط بعالم الغيب ، بل يكفي في استحقاق الخلافة أن يكون الشخص قادرا في ظلّ ذكائه ، ومشورة المسلمين على حفظ الكيان الاسلاميّ ، وقادرا على إقرار الأمن في البلاد بتطبيق قوانين الشريعة الجزائية ، كما ويتمكن من توسيع رقعة الأرض الاسلامية في ظل الدعوة الى الجهاد.

وعلينا الآن ان نعالج هذه المسألة ( أي هل الخلافة والامامة منصب تنصيصي أو انتخابي وهل على النبي ان يعيّن بنفسه من يخلفه ، أو يوكل الامر الى الامة لتختار من تريد ). وندرسها في ضوء المحاسبات الاجتماعية ليلمس القارئ بوضوح أنّ الأحوال والظروف الاجتماعية كانت توجب أن يقوم النبي صلی اللّه علیه و آله بتعيين خليفته في حياته ويحلّ بذلك مشكلة الخلافة من بعده ، ولا يوكل الأمر إلى الأمة.

وإليك توضيح هذا القسم وبيانه :

إقتضاء المحاسبات الاجتماعية في مسألة الخلافة :

اشارة

لا شك في أن الدين الاسلامي دين عالمي ، وشريعة خاتمة ، وقد كانت قيادة الامة الاسلامية من شئون النبي الاكرم صلی اللّه علیه و آله ما دام على قيد الحياة ، وكان عليه أن يوكل مقام القيادة من بعده إلى أفضل أفراد الامة واكملهم.

إن في هذه المسألة وهي هل أن منصب القيادة بعد النبي صلی اللّه علیه و آله هل هو منصب تنصيصي تعييني أو انه منصب انتخابي اتجاهين :

فالشيعة يرون أن مقام القيادة منصب تنصيصي ولا بد أن يتعيّن خليفة النبي من جانب اللّه سبحانه.

ص: 641

بينما يرى أهل السنة أن هذا المنصب منصب انتخابي جمهوري ، أي أن على الامة أن تقوم بعد النبي باختيار فرد من أفرادها لادارة البلاد.

إن لكل من الاتجاهين المذكورين دلائل ذكرها أصحابهما في الكتب العقائدية ، إلا أنّ ما يمكن طرحه هنا هو تقييم ودراسة المسألة في ضوء دراسة وتقييم الظروف السائدة في عصر الرسالة فان هذه الدراسة كفيلة باثبات صحة هذا الاتجاه او ذلك.

إن تقييم الأوضاع السياسية خارج المنطقة الاسلامية وخارجها في عصر الرسالة يقضي بأن خليفة النبيّ كان لا بدّ أن يعيّن من جانب اللّه تعالى ولا يترك الأمر من دون مثل هذا التعيين الالهي ، فإن المجتمع الاسلامي كان مهدّدا على الدوام من جانب الخطر الثلاثي ( الروم - إيران - المنافقون ) بشنّ الهجوم الكاسح ، وإلقاء بذور الفساد والاختلاف بين المسلمين.

كما أن مصالح الامة كانت توجب أن يوحّد صفوف المسلمين في مواجهة الخطر الخارجي وذلك بتعيين قائد سياسيّ من بعده ، وبذلك يسدّ الطريق على نفوذ العدوّ في جسم الامة الاسلامية والسيطرة عليها ، وعلى مقدراتها.

وإليك بيان وتوضيح هذه المطلب :

لقد كانت الامبراطورية الروميّة احد اضلاع المثلث الخطر الذي يحيط بالكيان الاسلامي ويتهدده من الخارج والداخل.

وكانت هذه القوة الرهيبة تتمركز في شمال الجزيرة العربية ، وكانت تشغل بال النبي القائد على الدوام حتى إن التفكير في امر الروم لم يغادر ذهنه وفكره حتى لحظة الوفاة ، والالتحاق بالرفيق الأعلى.

وكانت اولى مواجهة عسكرية بين المسلمين ، والجيش المسيحيّ الرومي وقعت في السنة الهجرية الثامنة في أرض فلسطين وقد آلت هذه المواجهة إلى مقتل القادة العسكريين البارزين الثلاثة وهم : « جعفر الطيار » ، و « زيد بن حارثة » و « عبد اللّه بن رواحة ».

ص: 642

ولقد تسبّب انسحاب الجيش الاسلاميّ بعد مقتل القادة المذكورة إلى تزايد جرأة الجيش القيصري المسيحي فكان يخشى بصورة متزايدة أن تتعرض عاصمة الاسلام للهجوم الكاسح من قبل هذا الجيش.

من هنا خرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في السنة العاشرة للهجرة على رأس جيش كبير جدا إلى حدود الشام ليقود بنفسه أيّة مواجهة عسكرية ، وقد استطاع الجيش في هذه الرحلة الصعبة المضنية أن يستعيد هيبته الغابرة وتجدّد حياته السياسية.

غير أنّ هذا الانتصار المحدود لم يقنع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فأعدّ قبيل مرضه جيشا كبيرا من المسلمين وأمّر عليهم « اسامة بن زيد » وكلّفهم بالتوجه إلى حدود الشام ، والحضور في تلك الجبهة.

أما الضلع الثاني من المثلّث الخطير الذي كان يتهدد الكيان الاسلامي فكان الامبراطورية الايرانية ( الفارسية ) وقد بلغ من غضب هذه الامبراطورية على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ومعاداتها لدعوته أن أقدم امبراطور ايران « خسرو ابرويز » على تمزيق رسالة النبي ، وتوجيه الاهانة الى سفيره باخراجه من بلاطه والكتابة إلى واليه وعميله باليمن بان يوجه إلى المدينة من يقبض على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، أو يقتله ان امتنع!!

و « خسرو » هذا وإن قتل في زمن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إلاّ أن موضوع استقلال اليمن - التي رزحت تحت استعمار الامبراطورية الايرانية ردحا طويلا من الزمان - لم يغب عن نظر ملوك إيران آنذاك ، وكان غرور اولئك الملوك وتجبّرهم ، وكبرياؤهم لا يسمح بتحمّل منافسة القوة الجديدة ( القوة الاسلامية ) لهم.

والخطر الثالث كان هو خطر حزب النفاق الذي كان يعمل بين صفوف المسلمين في صورة الطابور الخامس ، على تقويض دعائم الكيان الاسلامي من الداخل إلى درجة أنهم قصدوا اغتيال رسول اللّه ، في طريق العودة من تبوك إلى

ص: 643

المدينة.

فقد كان بعض عناصر هذا الحزب الخطر يقول في نفسه : ان الحركة الاسلامية سينتهي أمرها بموت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ورحيله وبذلك يستريح الجميع (1).

ولقد قام أبو سفيان بن حرب بعد وفاة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بمكيدة مشئومة لتوجيه ضربة الى الامة الاسلامية من الداخل ، وذلك عند ما أتى عليا علیه السلام وعرض عليه ان يبايعه في مقابلة من عيّنه رجال السقيفة ، ليستطيع بذلك تشطير الامة الاسلامية الواحدة إلى شطرين متحاربين متقاتلين فيتمكن من التصيّد في الماء العكر.

ولكن الامام عليا علیه السلام أدرك بذكائه البالغ نوايا أبي سفيان الخبيثة ، فرفض مطلبه وقال له كاشفا عن دوافعه ونواياه الشريرة :

« واللّه ما أردت بهذه إلاّ الفتنة وانك واللّه طالما بغيت للإسلام شرا ... لا حاجة لنا في نصيحتك »!! (2).

ولقد بلغ دور المنافقين التخريبي من الشدة بحيث تعرّض القرآن لذكرهم في سور عديدة هي سورة آل عمران ، والنساء ، والمائدة ، والانفال ، والتوبة ، والعنكبوت ، والاحزاب ، ومحمّد ، والفتح ، والمجادلة ، والحديد ، والمنافقين ، والحشر.

فهل مع وجود مثل هؤلاء الاعداء الخطرين والاقوياء الذين كانوا يتربّصون بالاسلام الدوائر ، ويتحيّنون الفرص للقضاء عليه يصحّ أن يترك رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله امته الحديثة العهد بالاسلام ، الجديدة التأسيس من دون ان يعيّن لهم قائدا دينيا سياسيا.

إن المحاسبات الاجتماعية تقول : انه كان يتوجب ان يمنع رسول الاسلام

ص: 644


1- الطور : 30.
2- الكامل في التاريخ : ج 2 ص 222 ، العقد الفريد : ج 2 ص 249.

بتعيين قائد للامة ، من ظهور أيّ اختلاف وانشقاق فيها من بعده ، وان يضمن استمرار وبقاء الوحدة الاسلامية بايجاد حصن قوى وسياج دفاعى متين حول تلك الامة.

إن تحصين الامة ، وصيانتها من الحوادث المشؤومة ، والحيلولة دون حدوث ظاهرة مطالبة كل فريق الزعامة لنفسها دون غيرها ، وبالتالي التنازع على مسألة الخلافة والزعامة لم يكن ليتحقق إلاّ بتعيين قائد للامة ، وعدم ترك الامور للقدر.

إن المحاسبة الاجتماعية تهدينا إلى صحة نظرية « التنصيص على القائد بعد رسول اللّه » ، ولعلّ لهذا الجهة ، ولجهات اخرى طرح رسول الاسلام مسألة الخلافة في الايام الاولى من ميلاد الرسالة الاسلامية وظلّ يواصل طرحها والتذكير بها طول حياته حتى الساعات الأخيرة منها حيث عيّن خليفته ونصّ عليه بالنص القاطع الواضح الصريح في بدء دعوته ، وفي نهايتها أيضا.

وإليك بيان كلا هذين المقامين :

1 - النبوة والامامة توأمان :

بغضّ النظر من الأدلة العقلية على صحة المحاسبة الاجتماعية التي تثبت حقانية الرأى الأول بصورة قطيعة هناك أخبار وروايات وردت في المصادر المعتبرة تثبت صحة الموقف والرأى الذي ذهب إليه علماء الشيعة ، وتصدقه ، فقد نص النبي صلی اللّه علیه و آله على خليفته من بعده في الفترة النبوية من حياته مرارا وتكرارا ، واخرج موضوع الامامة من مجال الانتخاب الشعبى ، والرأى العام.

فهو لم يعيّن ( ولم ينص على ) خليفته ووصيه من بعده في اخريات حياته فحسب ، بل بادر إلى التعريف بخليفته ووصيّه في بدء الدعوة يوم لم ينضو تحت راية رسالته بعد سوى بضع عشرات من الاشخاص ، وذلك يوم أمر من جانب اللّه العلي القدير أن ينذر عشيرته الاقربين من العذاب الالهي الاليم ، وأن يدعوهم

ص: 645

إلى عقيدة التوحيد قبل ان يصدع برسالته للجميع ويبدأ دعوته العامة للناس كافة.

فجمع أربعين رجلا من زعماء بني هاشم وبني المطلب ثم وقف فيهم خطيبا فقال :

« أيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم ».

فاحجم القوم ، وقام عليّ علیه السلام ، واعلن مؤازرته وتأييده له ، فاخذ رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله برقبته والتفت الى الحاضرين وقال :

« إنّ هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم » (1).

وقد عرف هذا الحديث عند المفسرين والمحدثين ب- : « حديث يوم الدار ، و « حديث بدء الدعوة ».

على أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لم يكتف بالنص على خليفته في بدء رسالته ، إنما صرح في مناسبات شتى ، في السفر والحضر ، بخلافه علي علیه السلام من بعده ولكن لا يبلغ شيء من ذلك في الاهمية والظهور والصراحة والحسم ما بلغه حديث الغدير.

2 - قصة الغدير :

لما انتهت مراسيم الحج ، وتعلم المسلمون مناسكه عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، قرّر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الرحيل عن مكة ، والعودة الى المدينة ، فأصدر أمرا بذلك.

ولما بلغ موكب الحجيج العظيم إلى منطقة « رابغ » (2) التي تبعد عن

ص: 646


1- تاريخ الطبري : ج 2 ص 216 ، الكامل في التاريخ : ج 2 ص 62 و 63 وقد مر مفصله في هذه الدراسة فراجع.
2- رابغ تقع الآن على الطريق بين مكة والمدينة.

« الجحفة » (1) بثلاثة أميال نزل أمين الوحي جبرئيل على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بمنطقة تدعى « غدير خم » وخاطبه بالآية التالية : « يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ » (2).

إن لسان الآية وظاهرها يكشف عن أن اللّه تعالى ألقى على عاتق النبي صلی اللّه علیه و آله مسئولية القيام بمهمة خطيرة ، وأي أمر اكثر خطورة من أن ينصب عليا علیه السلام لمقام الخلافة من بعده على مرأى ومسمع من مائة ألف شاهد.

من هنا أصدر رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أمره بالتوقّف ، فتوقفت طلائع ذلك الموكب العظيم ، والتحق بهم من تأخّر.

لقد كان الوقت وقت الظهيرة ، وكان الجو حارا الى درجة كبيرة جدا ، وكان الشخص يضع قسما من عباءته فوق رأسه والقسم الآخر منها تحت قدميه ، وصنع للنبي صلی اللّه علیه و آله مظلة وكانت عبارة عن عباءة القيت على أغصان شجرة ، ( سمرة ) وصلّى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بالحاضرين الظهر جماعة ، وفيما كان الناس قد احاطوا به صعد صلی اللّه علیه و آله على منبر اعدّ من أحداج الإبل وأقتابها ، وخطب في الناس رافعا صوته وهو يقول :

« الحمد لله ونستعينه ونؤمن به ونتوكّل عليه ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، الذي لا هادي لمن ضلّ ولا مضلّ لمن هدى وأشهد ان لا إله إلاّ هو وأن محمّدا عبده ورسوله.

أمّا بعد ، أيّها الناس قد نبّأني اللطيف الخبير أنّه لم يعمّر نبي إلاّ مثل نصف الذي قبله ، وإني أوشك أن ادعى فأجيب وأني مسئول وانتم مسئولون فما ذا انتم قائلون؟

ص: 647


1- من مواقيت الاحرام وتنشعب منها طرق المدنيين والمصريين والعراقيين.
2- المائدة : 67.

قالوا : نشهد أنّك قد بلّغت ونصحت وجهدت فجزاك اللّه خيرا قال صلی اللّه علیه و آله :

« ألستم تشهدون أن لا إله إلاّ اللّه وأنّ محمّدا عبده ورسوله وأنّ جنّته حق وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها وأنّ اللّه يبعث من في القبور »؟

قالوا : بلى نشهد بذلك.

قال صلی اللّه علیه و آله :

« اللّهمّ اشهد ».

ثم قال صلی اللّه علیه و آله :

« إنّي تارك فيكم الثقلين ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا أبدأ ».

فنادى مناد : بأبي أنت وأمّي يا رسول اللّه ، وما الثقلان؟

فقال صلی اللّه علیه و آله :

« كتاب اللّه سبب طرف بيد اللّه وطرف بأيديكم فتمسكوا به والآخر عترتي وإنّ اللطيف الخبير نبّأني أنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض فلا تقدموهما فتهلكوا ولا تقصّروا عنهما فتهلكوا ».

وهنا أخذ بيد « عليّ » علیه السلام ورفعها حتى رؤي بياض آباطهما وعرفه الناس اجمعون ثم قال :

« أيّها الناس من أولى الناس بالمؤمنين من انفسهم؟ ».

قالوا : اللّه ورسوله أعلم.

فقال صلی اللّه علیه و آله :

« إن اللّه مولاى وأنا مولى المؤمنين وأنا أولى بهم من أنفسهم فمن كنت مولاه فعليّ مولاه (1) ، اللّهمّ وال من والاه ، وعاد من عاداه وانصر من نصره ، واخذل من خذله واحب من احبه وابغض من ابغضه وادر الحق معه حيث دار » (2).

ص: 648


1- لقد كرر النبي صلی اللّه علیه و آله هذه العبارة ثلاث مرات دفعا لأي التباس أو اشتباه.
2- راجع للوقوف الكامل على مصادر هذا الحديث المتواتر موسوعة الغدير للعلامة الاميني.

واقعة الغدير خالدة الى الأبد :

لقد تعلّقت المشيئة الربانية بأن تبقى واقعة الغدير التاريخية في جميع القرون والعصور كتاريخ حيّ يجتذب القلوب والافئدة ، ويكتب عنه الكتّاب الاسلاميون في كل عصر وزمان ويتحدثون حوله في مؤلفاتهم المتنوعة في مجال التفسير والتاريخ والحديث والعقائد ، كما يتحدث حوله الخطباء في مجالس الوعظ ومن فوق صهوات المنابر ، ويعتبرونها من فضائل الإمام « علي » الذي لا يتطرق إليها أي شك أو ريب.

ولم يقتصر هذا على الكتّاب والخطباء بل استلهم الشعراء من هذه الواقعة الكبرى التي فجرت بالتفكير حول هذه الحادثة ، وبالاخلاص لصاحب الولاية ينابيع التعبير في وجودهم فأنشئوا أروع القصائد ، وجادت قرائحهم بأنواع مختلفة من القصيد الجميل ، وخلّفوا لمن بعدهم وبلغات مختلفة آثارا أدبية ولائية خالدة.

ولهذا قلّما نجد حادثة تاريخية حظيت في العالم البشري عامة وفي التاريخ الاسلامي والامة الاسلامية خاصة بمثل ما حظيت به واقعة الغدير ، وقلما استقطبت اهتمام الفئات المختلفة من المحدّثين والمفسرين والكلاميين والفلاسفة ، والشعراء والأدباء ، والكتّاب والخطباء ، وارباب السير والمؤرخين كما استقطبت هذه الحادثة ، وقلّما اعتنوا بشيء مثلها اعتنوا بها.

إن من أسباب خلود هذه الواقعة الكبرى ودوام هذا الحديث هو : نزول آيتين من آيات القرآن الكريم فيها (1) ، فما دام القرآن الكريم باقيا مستمرا يتلى آناء الليل وأطراف النهار تبقى هذه الحادثة في الاذهان والنفوس ولا تمحو خاطرتها من العقول والقلوب.

ص: 649


1- المائدة : 67 و 3.

وحيث أن المجتمع الاسلاميّ في العصور الغابرة وكذا الطائفة الشيعية كانوا يعتبرون هذا اليوم عيدا كبيرا من الأعياد الدينية ، وكانوا يقيمون فيها ما يقيمونه من المراسيم في الاعياد الاسلامية لهذا فان هذه الحادثة التاريخية ( حادثة الغدير ) قد اتخذت طابع الابديّة والخلود الذي لا تمحى معه خاطرتها من الأذهان والخواطر.

هذا ويستفاد من مراجعة التاريخ بوضوح أن اليوم الثامن عشر من شهر ذي الحجة الحرام كان معروفا بين المسلمين بيوم عيد الغدير وكانت هذه التسمية تخطى بشهرة كبيرة إلى درجة أن ابن خلّكان يقول حول « المستعلي بن المستنصر » : فبويع في يوم غدير خمّ وهو الثامن عشر من شهر ذي الحجة سنة 487 (1).

وقال في ترجمة المستنصر باللّه العبيدي : وتوفي ليلة الخميس لا ثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة سنة سبع وثمانين واربعمائة ، قلت : وهذه هي ليلة عيد الغدير اعني ليلة الثامن عشر من شهر ذي الحجة وهو غدير خم (2).

وقد عدّه ابو ريحان البيروني في كتابه « الآثار الباقية » ممّا استعمله أهل الاسلام من الأعياد (3).

وليس ابن خلّكان وابو ريحان البيروني ، هما الوحيدان اللذان صرّحا بكون هذا اليوم هو عيد من الاعياد ، بل هذا الثعالبيّ قد اعتبر هو الآخر ليلة الغدير من الليالي المعروفة بين المسلمين (4).

إن عهد هذا العيد الاسلامي وجذوره ترجع إلى نفس يوم « الغدير » لأن النبي صلی اللّه علیه و آله أمر المهاجرين والانصار بل أمر زوجاته ونساءه في ذلك

ص: 650


1- وفيات الأعيان : ج 1 ص 60.
2- وفيات الأعيان : ج 1 ص 60.
3- ترجمة الآثار الباقية : ص 395 الغدير : ج 1 ص 267.
4- ثمار القلوب : ص 511.

اليوم بالدخول على « عليّ » علیه السلام وتهنئته بهذه الفضيلة الكبرى.

يقول زيد بن ارقم : كان أول من صافق النبي صلی اللّه علیه و آله وعليا : أبو بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وباقي المهاجرين والانصار وباقي الناس (1).

الدلائل الاخرى على أبديّة الغدير :

ويكفي في أهميّة هذا الحدث التاريخي أنّ هذه الواقعة التاريخية رواها مائة وعشرة صحابيّ ، على أن هذه العبارة لا تعني أنّ رواية هذه الواقعة اقتصرت على هؤلاء المائة والعشرة من ذلك الحشد الهائل بل يعني أن هؤلاء جاء ذكرهم في كتب أهل السنّة ومصنفاتهم.

صحيح أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ألقى خطابه المذكور الذي تضمّن نصب عليّ علیه السلام للخلافة في مائة الف او يزيدون من الناس ولكن كثيرا منهم كانوا قد أتوا من مناطق نائية من الحجاز ولهذا لم يروعنهم هذا الحديث ، كما ان كثيرا من الذين حضروا ذلك المشهد التاريخي العظيم رووا ونقلوا للآخرين هذا الحديث ولكن التاريخ لم يوفق لذكر أسمائهم ، أو إذا تمّ ذلك لكن لم يصل إلينا.

ثم إنّه روى هذا الحديث في القرن الثاني الاسلاميّ وهو عصر التابعين تسعة وثمانون تابعيا.

وقد بلغ عدد من روى حديث « الغدير » في القرون اللاحقة في كتابه من علماء أهل السنة وفضلائهم ثلاثمائة وستون شخصا ، وصحّحه جمع كبير منهم واعترفوا بتواتره.

ففي القرن الثالث رواه اثنان وتسعون عالما.

وفي القرن الرابع رواه أربعة واربعون.

ص: 651


1- راجع مصدره في الغدير : ج 1 ص 270.

وفي القرن الخامس رواه أربعة وعشرون.

وفي القرن السادس رواه عشرون.

وفي القرن السابع رواه واحد وعشرون.

وفي القرن الثامن رواه ثمانية عشر.

وفي القرن التاسع رواه ستة عشر.

وفي القرن العاشر رواه أربعة عشر.

وفي القرن الحادي عشر رواه اثنا عشر.

وفي القرن الثاني عشر رواه ثلاثة عشر.

وفي القرن الثالث عشر رواه اثنا عشر.

وفي القرن الرابع عشر رواه عشرون عالما.

ولم يكتف البعض بنقل ورواية هذا الحديث في كتبهم ومؤلّفاتهم بل ألّفوا حوله رسائل أو كتبا مستقلة.

وقد ألّف المؤرخ الاسلامي الكبير « الطبري » كتابا في هذا المجال أسماه « الولاية في طرق حديث الغدير » روى فيه هذا الحديث عن النبي بخمس وسبعين سندا.

ولقد روى « ابن عقدة » في رسالة « الولاية » هذا الحديث بمائة وخمسين حديثا.

وروى أبو بكر محمّد بن عمر البغدادي المعروف بالجمعاني هذا الحديث بخمس وعشرين سندا.

كما روى من علماء الحديث هذه الواقعة نظراء :

أحمد بن حنبل الشيباني ب- 40 سندا

ابن حجر العسقلاني ب- 25 سندا

الجزري الشافعي ب- 80 سندا

أبو سعيد السجستاني ب- 120 سندا

ص: 652

الأمير محمّد اليمني ب- 40

النسائي ب- 250 سندا

أبو العلاء الهمداني ب- 100 سندا

أبو العرفان الحبان ب- 30 سندا

وبلغ عدد من ألّف رسالة خاصة أو كتابا مستقلا حول هذه الواقعة وخصوصياتها وتفاصيلها 26 شخصا ولعلّ هناك غيرهم ممن ألّف كتابا أو رسالة مستقلّة حول هذه الحدث التاريخي الهامّ لم يذكر التاريخ أسماءهم ، أو ضاعت مؤلفاتهم مع التطورات التي طرأت على الامة الإسلامية وضيّعت الكثير من تراثها الفكريّ خلال عمليات الاغارة والنهب أو الهدم والإحراق ( ولقد اقتبسنا كل هذه الاحصاءات من كتاب الغدير الجزء الاول ).

ولقد كتب علماء الشيعة كتبا قيمة حول هذه الواقعة أجمعها واشملها كتاب « الغدير » بقلم العلامة الجليل والكاتب الاسلامي القدير المرحوم آية اللّه الشيخ الأميني رحمه اللّه ، والذي يقع في أحد عشر مجلدا في ما يقرب من ستة آلاف صفحة ، وقد استفدنا كثيرا من تلك الموسوعة في تنظيم الفصل الحاضر.

ثم ان النبي صلی اللّه علیه و آله لم يلبث ان نزل عليه قوله تعالى بعد نصبه عليا لإمرة المسلمين في تلك الواقعة :

« الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً » (1).

فكبّر النبي صلی اللّه علیه و آله بصوت عال ثم أضاف قائلا :

« الحمد لله على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضى الربّ برسالتي ، وولاية عليّ بن أبي طالب من بعدى ».

ثم نزل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من ذلك المنبر المصنوع من حدائج

ص: 653


1- المائدة : 1 و 3.

الابل وأمر امير المؤمنين عليّا علیه السلام أن يجلس في خيمة وأمر أطباق الناس وكلّ من حضر المشهد من امته ومنهم الشيخان ومشيخة قريش ووجوه الأنصار كما أمر امّهات المؤمنين بالدخول على أمير المؤمنين علیه السلام وتهنئته على تنصيبه لمنصب الامامة والخلافة بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

ففعل الناس ذلك وانكبّوا على « علي » علیه السلام بايديهم وكان أول من صافق وهنأ عليّا أبو بكر وعمر واصفين إياه بالولاية.

وهنا قام « حسان بن ثابت الأنصاري » شاعر الاسلام واستأذن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في أن ينشد شعرا بهذه المناسبة ، فأذن له رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قائلا : قل على بركة اللّه.

فقام حسان وقال :

يناديهم يوم الغدير نبيهم *** بخم وأسمع بالنبيّ مناديا

وقد جاءه جبريل عن أمر ربّه *** بأنّك معصوم فلا تك وانيا

وبلّغهم ما انزل اللّه ربهم *** إليك ولا تخشى هناك الأعاديا

فقام به إذ ذاك رافع كفّه *** بكف عليّ معلن الصوت عاليا

فقال فمن مولاكم ووليّكم *** فقالوا ولم يبدوا هناك تعاميا

إلهك مولانا وأنت وليّنا *** ولن تجدن فينا لك اليوم عاصيا

فقال له : قم يا عليّ فإنني *** رضيتك من بعدي إماما وهاديا

فمن كنت مولاه فهذا وليّه *** فكونوا له أنصار صدق مواليا

هناك دعا اللّهم وال وليّه *** وكن للذي عادى عليّا معاديا

فيا ربّ انصر ناصريه لنصرهم *** امام هدى كالبدر يجلو الدياجيا

ولقد كان هذا الحديث على مدى التاريخ الاسلامي اكبر دليل على أفضلية علي علیه السلام على جميع صحابة النبي صلی اللّه علیه و آله كافة ، حتى أن أمير المؤمنين عليا علیه السلام احتج به مرارا فقد احتج به في مجلس الشورى الذي عقد لتعيين الخليفة عقيب وفاة الخليفة الثاني ، وفي أيام خلافة عثمان وفي أيام

ص: 654

خلافته علیه السلام أيضا ، كما أن شخصيات كثيرة من وجوه المسلمين احتجوا به على منكري حق عليّ وأفضليته وكان ذلك دأبهم دائما وأبدا.

ص: 655

حوادث السنة العاشرة من الهجرة

اشارة

63

1 - المتنبئون كذبا ، 2 - التفكير في أمر الروم

اشارة

1 - المتنبئون كذبا (1) [ أدعياء النبوة ]

بعد الانتهاء من مراسم تعيين الخليفة في « غدير خم » انفصلت جموع الحجيج المشاركة في مراسم « حجة الوداع » من الوافدين من الشام ومصر ، عن النبي صلی اللّه علیه و آله في أرض الجحفة والذين شاركوا في هذه المراسم من « حضرموت » و « اليمن » انفصلوا عنه في هذه النقطة أو في نقطة سابقة وقفلوا راجعين إلى أوطانهم.

ولكنّ العشرة آلاف الذين خرجوا مع رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عادوا مع النبي صلی اللّه علیه و آله إلى المدينة ، ووصلوها قبل أن تأتي السنة العاشرة من الهجرة على نهايتها.

كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله والمسلمون فرحين جدا لانتشار الاسلام في شتى نقاط الجزيرة العربية ، ولانتهاء عهد الحاكمية الوثنيّة والشرك في كل مناطق الحجاز ، وبالتالى لزوال جميع الموانع والعراقيل التي كانت تحول دون نفوذ الإسلام ، وانضواء الناس تحت لوائه المبارك.

لم يكن شهر ذي الحجة من السنة العاشرة قد انتهت بعد يوم قدم نفران من « اليمامة » المدينة ، وسلّما كتابا من « مسيلمة » الذي عرف فيما بعد ب- « مسيلمة

ص: 656


1- كانت مراسلة مسيلمة للنبي صلی اللّه علیه و آله في نهايات السنة الهجرية العاشرة وكذا ادعاء الاسود العنسي للنبوة ، وقد دمجنا ذكرهما في حوادث الفصل الثالث والستين تقليلا لفصول هذا الكتاب.

الكذّاب » إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

ففتح أحد كتاب النبي صلی اللّه علیه و آله الرسالة وقرأها عليه فكان مضمونها ان شخصا باليمامة يدعى « مسيلمة » يدّعي النبوة ويشرك نفسه مع رسول الإسلام في أمر الرسالة ، ويريد من خلال كتابه أن يبلغ النبيّ صلی اللّه علیه و آله بذلك ، ويعرّفه بنبوته.

وقد اثبتت كتب السير والتواريخ الاسلامية نصّ الكتاب المذكور.

ويوحي اسلوب الرسالة المذكورة بأنّ صاحبها اراد تقليد الاسلوب القرآني في البيان والتعبير ولكن محاولته باءت بالفشل فلم يستطع تقليده ، واتى بعبارات خاوية خالية من روح ، يفوقها الكلام العادي في القوة بدرجات.

فلقد كتب « مسيلمة » في كتابه هذا : (1).

أما بعد ، فاني قد اشركت في الأمر معك ، وان لنا نصف الأرض ، ولقريش نصف الارض ، ولكنّ قريشا قوما يعتدون.

ولما وقف رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على مضمون الرسالة ، التفت إلى من حملها إليه وقال : « أما واللّه لو لا أنّ الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما لأنكما أسلمتما من قبل وقبلتما برسالتي فلم اتبعتما هذا الاحمق وتركتما دينكما ».

ثم ان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أملى على كاتبه كتابا إلى مسيلمة قصير المحتوى ، مفحم المفاد. وإليك نصّ رسالة النبي صلی اللّه علیه و آله :

« بسم اللّه الرحمن الرحيم.

من محمّد رسول اللّه إلى مسيلمة الكذّاب السلام على من اتبع الهدى.

أما بعد فانّ الارض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين » (2).

ص: 657


1- ومن شدة جهله أنه لم يبدأ كتابه باسم اللّه ، بل ولم يفعل ما فعله حتى المشركون في العهد الجاهليّ.
2- السيرة النبوية : ج 2 ص 600 و 601 وتكفي مقارنة بين نص الكتابين في معرفة حقيقة الشخصين.

لمحة عابرة عن هوية مسيلمة :

كان مسيلمة من الأشخاص الذين وفدوا على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في المدينة في السنة العاشرة من الهجرة وأسلم في من اسلم ، ولكنه بعد أن عاد إلى موطنه ادّعى النبوة ، وأجابه طائفة من السذّج والبسطاء ، وربما من المتعصبين من قومه. ولم يكن نجاح دعوته الباطلة في « اليمامة » دليلا على شخصيته الواقعية ، بل التفّ حوله فريق ممن تبعه تعصبا وحمية مع أنهم علموا بكذبه ، وزيف دعوته إذ كانوا يقولون : « كذّاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر » وقد قال هذه العبارة أحد اتباعه لما سأل مسيلمة ذات مرة : من يأتيك؟ قال : رحمان ، قال : أفي نور أو في ظلمة؟ فقال : في ظلمة ، فقال أشهد أنّك كذاب وأن محمّدا صادق ولكن كذّاب ربيعة احبّ إلينا من صادق مضر (1).

إن من المسلّم أنّ الرجل قد ادعى النبوّة ، وتبعه على ذلك فريق من قومه ، ولكنه لم يثبت قط أنه تصدّى لمعارضة القرآن ، وما اثر عنه - في النصوص التاريخية - من عبارات وجمل في معارضة القرآن لا يمكن أن تكون من كلام رجل فصيح كمسيلمة لأن عباراته العادية واحاديثه الأخرى في غاية البلاغة والإتقان ، فكيف تصدر منه هذه العبارات الضعيفة.

ولهذا يمكن القول بأن ما نقل عنه - على غرار ما نقل عن معاصره « الاسود بن كعب العنسي » الذي ادعى النبوة معه في اليمن - إنما هي امور نسبت إليه ، والصقت به الصاقا لاسباب خاصّة لان عظمة القرآن وبلاغته الفائقة في حدّ لا يجرأ معها أحد على التفكير في معارضة القرآن ومقابلته ، ويعلم كل عربيّ بحكم فطرته الالهية أنّ هذا الاسلوب الجذّاب وأنّ عظمة المعاني القرآنية وسمّوها تجعل القرآن الكريم فوق حدود الطاقة البشرية ، فكيف يحاول أحد معارضته ومقابلته.

ص: 658


1- تاريخ الطبري : ج 2 ص 508 ويقصد بالاول مسيلمة وبالثاني رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

ثم ان مواجهة المرتدين من العرب كان أول ما قام به الخلفاء بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ولهذا حوصرت منطقة « مسيلمة » من قبل جنود الاسلام ، وضيّق عليه الحصار شيئا فشيئا ، حتى اذا اتضحت هزيمة ذلك الكذاب ، قال له بعض اتباعه السذج : أين ما كنت تعدنا ( من النصر الالهي ) فقال مسيلمة : أما الدين فلا ، قاتلوا عن أحسابكم.

ولكن الدفاع عن الاحساب والكرامة لم يجد مسيلمة ولا اتباعه شيئا ، فقد قتل هو وفريق منهم في بستان على أيدي المسلمين ، وانتهت بذلك خرافة نبوته المدّعاة (1).

إن هذه العبارة القصيرة تكشف عن انه كان رجلا فصيحا وناطقا بليغا ، كما انها تفيد انه لم يكن صاحب تلك العبارات الباردة الخاوية التي نسبت إليه - في التاريخ والسيرة - في معارضة القرآن الكريم.

التفكير في أمر الروم :

مع أن ظهور مثل هؤلاء المتنبئين الكذبة في شتى مناطق الحجاز كان خطرا على وحدة أهلها الدينية ، فان التفكير في أمر الروم الذين كانت الشامات وفلسطين من مستعمراتهم آنذاك - كان يستأثر باهتمام رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله اكثر من غيره لأنه كان يعلم بأنّ القادة اللائقين في اليمامة واليمن قادرين على مواجهة المتنبئين ، ولهذا قضي على « الاسود العنسي » وهو رجل آخر ادّعى النبوة كذبا في عهد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وذلك بعد يوم من وفاة النبي على والي اليمن.

لقد كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله متيقنا وواثقا من أن الدولة الرومية التي تلاحظ اتساع رقعة النفوذ الاسلامي الصاعد ، والتي رأت كيف أن رسول

ص: 659


1- تاريخ الطبري : ج 2 ص 514 - 516.

الاسلام استطاع أن يقتلع جذور اليهودية من الحجاز ، وفرض الجزية على فريق النصارى يدفعونها للحكومة الاسلامية ، غاضبة لذلك اشدّ الغضب.

لقد كان النبي صلی اللّه علیه و آله منذ أمد بعيد يعتبر خطر الروم خطرا جديّا لا يمكن التغاضي عنه واحتقاره ، ولهذا السبب نفسه وجه في السنة الثامنة من الهجرة جيشا كبيرا قوامه ثلاثة آلاف بقيادة « جعفر بن أبي طالب » و « زيد بن حارثة » و « عبد اللّه بن رواحة » إلى تخوم الشام حيث يسيطر الروم ، وقد استشهد في هذه المعركة القادة الثلاثة ، وقفل الجيش الاسلامي راجعا إلى المدينة من دون انتصارات بتدبير من خالد بن الوليد.

وفي السنة التاسعة عند ما بلغه نبأ استعداد الروم لمهاجمة الحجاز وهو آنذاك في المدينة خرج صلی اللّه علیه و آله بشخصه على رأس جيشه قوامه ثلاثون ألفا إلى تبوك ، وعاد من دون مواجهة إلى المدينة.

ولهذا كان هذا الخطر جديا في نظر النبي صلی اللّه علیه و آله .

ومن هنا فانه صلی اللّه علیه و آله لما عاد من « حجة الوداع » الى المدينة هيّأ جيشا من المهاجرين والانصار اشرك فيه اشخاصا معروفين بارزين مثل أبي بكر وعمر وأبي عبيدة وسعد بن الوقاص و. و. وأمر بأن يشارك فيه كل من هاجر إلى المدينة خاصة (1).

ثم ان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لتحريك مشاعر المجاهدين عقد بيده (2) لواء لأسامة بن زيد الذي أمّره على ذلك الجيش. وقال له :

ص: 660


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 642 ، النص والاجتهاد : ص 12.
2- يذهب كتّاب السنّة إلى أن النبي عقد اللواء المذكور في 26 صفر ، وحيث أن وفاة النبي صلی اللّه علیه و آله حسب روايتهم كانت في 12 ربيع الاول لهذا فان من الممكن ان تقع الحوادث التي سيأتي ذكرها مستقبلا تدريجا في مدة 16 يوما ، ولكن حيث أن الشيعة يرون تبعا لما رواه عترة النبي أن وفاة النبي صلی اللّه علیه و آله كانت في 28 صفر لهذا يجب أن يكون عقد اللواء قد تمّ قبل 26 صفر بمدة ليمكن وقوع كل هذه الحوادث الكثيرة في هذه المدة.

« سر الى موضع قتل ابيك فاوطئهم الخيل فقد وليتك هذا الجيش ، فاغز صباحا وشنّ الغارة على أهل ابنى » (1).

فاعطى « اسامة » اللواء الى « بريدة » وعسكر بالجرف (2) ليلتحق به جنود الاسلام أفواجا أفواجا ، وليتحرك الجميع في وقت واحد.

لقد اختار رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لقيادة هذا الجيش شابا في مقتبل العمر ، وأمّره على طائفة كبيرة من شيوخ الانصار والمهاجرين ، ولقد أراد صلی اللّه علیه و آله من فعله هذا أمرين :

أولا : أن يجبر - من خلال ذلك - ما لحق من المصيبة باسامة بسبب مقتل والده « زيد بن حارثة » الذي استشهد في معركة مؤتة مع الروم ، وليرفع من شخصيته.

ثانيا : أراد أن يؤكد قانونه في مجال التوصيف وتوزيع المناصب والمسئوليات ويجعل ذلك على اساس الكفاءة والشخصية القيادية ان المناصب والمسئوليات الاجتماعية لا تحتاج إلى غير الكفاءات والموهّلات ولا ترتبط بحال بالعمر والسن. لقد فعل النبي ذلك حتى يهيّى الشباب الذين يتمتعون بالموهّلات الكافية لتسلّم المسئوليات الاجتماعية الثقيلة ويحلموا أن المناصب والمهامّ - في النظام الاسلامي - ترتبط ارتباطا مباشرا بالكفاءة والمؤهلات القيادية ، لا العمر والسنّ.

ثم ان الاسلام الواقعي هو الانضباطية الشديدة والانقياد الكامل تجاه التعاليم الالهية السامية ، والمسلم الحقيقي هو من ينقاد لتعاليم اللّه تعالى واوامره تعاليمه ويقبل بها من كل قلبه كجندي في ساحة القتال ، سواء أكانت له فيها نفع أم لا ، وسواء أكانت تضرّ به أم لا ، وسواء أكانت مطابقة لأهوائه ومطامحه أم لا.

ص: 661


1- « ابنى » من مناطق البلقاء وتقع في الأراضي السورية وقرب مؤتة بين « عسقلان » و « الرملة ».
2- منطقة واسعة على بعد ثلاثة أميال مدينة من جانب الشام.

ولقد بيّن الامام علي علیه السلام حقيقة الاسلام في عبارة موجزة ولكن بليغة ومعبرة اذ قال : « الاسلام هو التسليم » (1).

إن الذين يؤمنون ببعض تعاليم الاسلام دون بعض ، كلما واجهوا ما لا يوافق اهواءهم الباطنية منها اعترضوا عليه وحاولوا التملّص من المشاركة في تنفيذه بشتى المعاذير والحجج.

لا شك أن هذا الفريق يفتقر إلى روح الانضباطية ، والتسليم الواقعيّ والانقياد الكامل الذي يمثل روح الاسلام وأساسه.

لقد كان تأمير قائد شاب يدعى « اسامة بن زيد » الذي لم يكن يتجاوز يومذاك - العشرين عاما (2) شاهد صدق على ما نقول ، لأنّ تأميره على لفيف من الصحابة يكبرون عنه في العمر أضعافا شقّ على البعض ، لأنهم اعترضوا على الاجراء ، وطعنوا في اسامة ، واطلقوا عبارات تكشف جميعها عن افتقارهم لروح الانقياد والطاعة والتسليم الذي يجب أن يتحلى بها الجندي المسلم تجاه قائد الاسلام الأعلى ( النبي ) ، واوامره وتعييناته.

ولقد كان محور كلامهم هو أن النبي أمّر شابا صغير السنّ على شيوخ من الصحابة (3).

ولكنهم غفلوا عن المصالح والأهداف التي توخّاها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من هذا الإجراء ، وكانوا يقدّرون كل عمل بعقولهم الضيقة المحدودة ، ويقيسونه بمقايسهم الشخصية.

فرغم أنهم لمسوا من قريب كيف أن النبي صلی اللّه علیه و آله كان يحرص على تعبئة هذا الجيش وبعثه ، ولكن عناصر مشبوهة أخّرت حركة الجيش المذكور

ص: 662


1- نهج البلاغة : قصار الحكم 125.
2- ذهب البعض مثل السيرة الحلبية إلى انه كان في السابعة عشرة من عمره وذهب آخرون إلى انه كان في الثامنة عشرة من عمره. المهم انهم اتفقوا على انه لم يتجاوز العشرين سنة.
3- الطبقات الكبرى : ج 2 ص 190.

من معسكر « الجرف » وتوجهه إلى النقطة المطلوبة ، وكانت تسعى لعرقلة هذه المهمة.

وبعد يوم من عقد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله اللواء لاسامة تمرّض صلی اللّه علیه و آله بشدة وأصابه صداع شديد تركه طريح الفراش واستمر هذا المرض عدة أيام حتى قضى صلوات اللّه عليه.

وقد علم رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في مرضه أنّ هناك من تخلّف عن جيش اسامة وأن هناك من يعرقل توجّهه نحو المنطقة التي عيّنها ، وأن هناك بالتالي من يطعن في اسامة فغضب صلی اللّه علیه و آله لذلك غضبا شديدا ، وخرج وهو يلتحف قطيفة ، وقد عصّب جبهته بعصابة إلى مسجده ليتحدث إلى المسلمين من قريب ، ويحذّرهم من مغبّة هذا التخلّف ، فصعد المنبر على ما هو عليه من حمّى شديدة وبعد أن حمد اللّه واثنى عليه قال :

« أمّا بعد أيّها الناس فما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميرى اسامة ، ولئن طعنتم في إمارتي اسامة لقد طعنتم في إمارتي أباه من قبله وأيم اللّه كان للإمارة خليقا وإن ابنه من بعده لخليق للإمارة ، وإن كان لمن أحبّ الناس إليّ وانّهما لمخيلان لكل خير ، واستوصوا به خيرا فانه من خياركم ».

ثم نزل صلی اللّه علیه و آله ودخل بيته واشتدت به الحمى ، فجعل يقول لمن يعوده من أصحابه :

« أنفذوا بعث اسامة » (1).

ولقد بلغ من إصرار رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله على بعث جيش اسامة انه كان يقول وهو في فراش المرض :

« جهزوا جيش اسامة ، لعن اللّه من تخلّف عنه » (2).

وقد تسببت هذه التاكيدات في أن يحضر جماعة من المهاجرين والأنصار

ص: 663


1- الطبقات الكبرى : ج 2 ص 190.
2- الملل والنحل : ج 1 المقدمة الرابعة ص 23.

عند رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله للتوديع والخروج عن المدينة تلقائيا والالتحاق بجيش اسامة في معسكره بالجرف.

وفيما كان اسامة يتهيّأ للتوجه بجيشه إلى حيث أمر الرسول الكريم صلی اللّه علیه و آله بلغ بعض الصحابة الحاضرين في الجيش انباء عن تدهور صحة النبي صلی اللّه علیه و آله فتسببت في عدولهم عن الحركة حتى كان يوم الاثنين ، فحضر اسامة عند رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ليودّعه فرأى آثار التحسن بادية على ملامح النبي صلی اللّه علیه و آله .

فقال له رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله حاثا اياه على المبادرة والمسارعة في الخروج :

« اغد على بركة اللّه » (1).

فعاد اسامة إلى المعسكر وأمر بالتحرك فورا ، ولكن الجيش لم يكن قد غادر « الجرف » بعد ، حتى جاء نبأ من المدينة بأن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يحتضر ، فعمد من كانوا يبحثون عن حجة للتخلف عن جيش اسامة ، والذين حاولوا خلال ستة عشر يوما أن يعرقلوا توجهه بشتى المعاذير والحجج إلى التوسل هذه المرة بقضية احتضار النبي صلی اللّه علیه و آله وعادوا إلى المدينة فورا ، وعاد الجيش برمته هو الآخر إلى المدينة متجاهلين - جميعا - أوامر النبي صلی اللّه علیه و آله بالخروج.

ولم يتحقق أحد آمال النبي الاكرم صلی اللّه علیه و آله في أيام حياته بسبب اللاانضباطية التي ابداها فريق من شيوخ القوم واعيان الجيش.

الاعذار غير المقبولة :

إن خطأ كبيرا كهذا ارتكبه بعض من تسلّم أمور الخلافة بعد رسول اللّه

ص: 664


1- الطبقات الكبرى : ج 2 ص 190.

صلی اللّه علیه و آله وسموا أنفسهم خلفاء النبي لا يمكن أن يبرّر أبدا.

ولقد أراد بعض علماء السنة أن يبرّروا هذا التخلف بطرق ووجوه مختلفة إلاّ أنهم عجزوا - رغم ذلك - أن يخرجوا عذرا مقبولا ودليلا مرضيا لأولئك المتخلفين عن جيش اسامة.

وللاطلاع على ما نحت لذلك من أعذار سقيمة راجع « المراجعات » (1). و « النص والاجتهاد » (2).

الاستغفار لأهل البقيع :

كتب فريق من اصحاب السيرة ان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله خرج في الليلة التي توفي في صبيحتها مع أبي مويهبة خادمه إلى البقيع مع ما كان عليه من شدة الحمّى والوجع ليستغفر لأهل البقيع (3).

ولكن المؤرخين الشيعة يرون أن النبي صلی اللّه علیه و آله يوم أحس بالوجع اخذ بيد « عليّ » علیه السلام وخرج معه إلى البقيع وخرج خلفه جماعة فقال لمن خرج معه :

« إنّي امرت أن استغفر لأهل البقيع ».

وعند ما جاء البقيع سلّم على أهل القبور هناك وقال :

« السلام عليكم أهل القبور ليهنئكم ما أصبحتم فيه ممّا أصبح الناس فيه اقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع بعضها بعضا يتبع آخرها أوّلها ».

ثم استغفر ودعا لأهل البقيع طويلا ثم التفت إلى عليّ علیه السلام وقال : يا عليّ إنّي خيّرت بين خزائن الدنيا والخلود فيها أو الجنّة فاخترت لقاء ربّي والجنّة. إن جبرئيل كان يعرض عليّ القرآن كلّ سنة مرّة وقد عرضه عليّ العام مرّتين ولا

ص: 665


1- المراجعة 90 و 91.
2- ص 15 - 16.
3- الطبقات الكبرى : ج 2 ص 204.

أراه إلاّ لحضور أجلي » (1).

انّ الذين ينظرون إلى الكون من المنظار المادي البحت ويحصرون كل الوجود في أطار المادة وآثارها ، فالوجود عندهم يساوق المادة قد يتردّدون في قبول هذا الأمر ، ويقولون : كيف يمكن مخاطبة الأرواح؟ وكيف يمكن الاتّصال بهم؟

كيف يمكن أن يعرف المرء بموته وأجله؟

ولكن الذين كسروا جدار المادية هذا واعتقدوا بوجود الروح المجردة عن البدن المادي العنصري لا ينكرون مسألة الارتباط والاتصال بالارواح (2) ، ويعتبرونه امرا ممكنا وواقعيا.

ثم ان النبي الذي يتحلى بالعصمة في مجال ارتباطه بعالم الوحي والعوالم المجرّدة من المادة ، يمكنه - على وجه القطع واليقين - أن يخبر عن حلول أجله بأمر اللّه واذنه وإخباره إياه.

ص: 666


1- بحار الأنوار : ج 22 ص 466 و 472 ، الطبقات الكبرى : ج 2 ص 204.
2- طبعا نحن لا نعترف بكل ما يدعيه ادعياء الاتصال بالارواح فان لذلك طريقه الصحيح ، وأسلوبه المشروع.

حوادث السنة الحادية عشرة من الهجرة

اشارة

64

الكتاب الذي لم يكتب

اشارة

تعدّ الايام الاخيرة من حياة رسول الاسلام صلی اللّه علیه و آله من اكثر حقول التاريخ الاسلامي أهميّة وحساسية ودقة.

لقد مرّ الاسلام والمسلمون في تلك الايام بساعات مؤلمة ، وحرجة.

إن مخالفة بعض الصحابة الصريحة لاوامر النبي صلی اللّه علیه و آله وتخلّفهم عن جيش اسامة كل ذلك كان يكشف عن نشاطات سرية تنبئ عن عزمهم المؤكّد على الاستيلاء على زمام الحكومة والإمارة والقيادة السياسية في المجتمع الاسلامي بعد رحيل النبي صلی اللّه علیه و آله وإزاحة الخليفة الذي نصبه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في الغدير للإمارة عن مسند الحكم.

ولقد كان النبي صلی اللّه علیه و آله نفسه عارفا بنواياهم على نحو الاجمال ولهذا كان يصرّ على خروج جميع أعيان الصحابة في جيش اسامة ومغادرة المدينة فورا لمقاتلة الروم ، لكي يعطل بذلك خطتهم.

ولكن دهاة السياسة اعتذروا عن الخروج مع اسامة بحجج ومعاذير معينة ، لكي يستطيعوا من تنفيذ خططهم بل وعرقلوا مسير الجيش المذكور حتى توفي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

فعادوا إلى المدينة - بعد توقّف دام 16 يوما - على أثر تدهور صحة النبي واحتضاره ، فلم يتحقق ما كان يريده رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من تفريغ المدينة منهم ، فلا يكون أحد منهم فيها يوم وفاته ليستطيع خليفته المنصوب للامارة

ص: 667

يوم غدير خم ( نعنى الامام عليا ) من تسلم زمام الحكم دون منازع ومزاحم من المعارضين السياسيين.

إنهم لم يكتفوا فقط بالعودة إلى المدينة بل حاولوا أن يحولوا دون أي عمل من شأنه أن يؤدي إلى دعم وتثبيت منصب الامام علي وخلافته لرسول اللّه بلا فصل ، فحاولوا منع النبي صلی اللّه علیه و آله وصرفه عن البحث في هذه المسألة بشتى الوسائل ، والسبل.

فعمد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الذي عرف بنشاط بعض زوجاته من بنات بعض اولئك الصحابة ، المشين ، عمد إلى الخروج إلى المسجد مع ما كان عليه من الحمّى والوجع ، ووقف إلى جانب المنبر وقال للناس بصوت عال سمع خارج المسجد :

« أيّها الناس سعّرت النار ، وأقبلت الفتن كقطع الليل المظلم ، وإنّي واللّه ما تمسّكون عليّ بشيء ، اني لم احلّ إلاّ ما أحلّ اللّه ، ولم احرّم إلاّ ما حرّم اللّه » (1).

إنّ هذه العبارة تكشف عن القلق الشديد الذي كان يحمله النبي صلی اللّه علیه و آله على مستقبل الاسلام بعد وفاته ، فما هو المقصود - ترى - من النار التي سعرت؟

أليس هي فتنة الاختلاف والافتراق التي كانت تنتظر المسلمين ، والتي اشتعلت بعد وفاة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وتعالى لهيبها ، ولا يزال ذلك اللّهيب مشتعلا ، وتلك النار مستعرة؟! ايتوني بقلم وقرطاس :

كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يعرف بما يجرى من نشاطات خارج

ص: 668


1- السيرة النبوية : ج 2 ص 654 ، الطبقات الكبرى : ج 2 ص 215 و 216.

منزله للسيطرة على مقاليد الحكم ، ولهذا قرر بغرض الحيلولة دون انحراف مسألة الخلافة من محوره الأصلي والحيلولة دون ظهور الاختلاف والافتراق - أن يدعم مكانة عليّ ويعزر امارته وخلافته وخلافة أهل بيته ، وذلك بأن يثبت الأمر في وثيقة حيّة وخالدة تضمن بقاء الخلافة في خطها الصحيح.

من هنا يوم جاء بعض الصحابة لعيادته اطرق برأسه إلى الارض ساعة ثم قال بعد شيء من التفكير وقد التفت إليهم :

« ايتوني بدواة وصحيفة اكتب لكم كتابا لا تضلون بعده ».

فبادر عمر وقال : ان رسول اللّه قد غلبه الوجع ، حسبنا كتاب اللّه (1).

فناقش الحاضرون رأى الخليفة ، فخالفه قوم وقالوا : هاتوا بالدواة والصحيفة ليكتب النبي ما يريد ، وناصر آخرون عمر وحالوا دون الاتيان بما طلبه النبي ، ووقع تنازع بينهم وكثر اللغط فغضب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بشدة لتنازعهم ولما وجّه إليه من كلمة مهينة ، وقال :

« قوموا عني لا ينبغي عندي التنازع »

قال ابن عباس بعد نقل هذه الواقعة المؤلمة المؤسفة : « الرزيّة كلّ الرزيّة ما حال بيننا وبين كتاب رسول اللّه » (2).

إن هذه الواقعة التاريخية قد نقلها فريق كبير من محدثي الشيعة والسنة ومؤرخيهم وتعتبر روايتها - حسب قواعد فنّ الدراية والحديث - من الروايات المعتبرة الصحيحة غاية ما في الأمران اغلب محدّثي أهل السنة نقلوا كلام « عمر » بالمعنى لا باللفظ ، ولم يورد نص الكلمات الجارحة النابية التي نطق بها في ذلك

ص: 669


1- الملل والنحل : ج 1 المقدمة الرابعة ص 22. طبعا لم يكن الهدف من « اكتب » أن يكتب النبي بيده ذلك الكتاب فالنبي لم يكتب شيئا في حياته أبدا كما هو مبحوث في ابحاث أميّة النبي بل المقصود هو الإملاء على كاتب.
2- صحيح البخاري كتاب العلم : ج 1 ص 22 وج 2 ص 14 ، صحيح مسلم : ج 2 ص 14 مسند أحمد : ج 1 ص 325 ، الطبقات الكبرى : ج 2 ص 244 ، الملل والنحل : ج 1 ص 22.

المجلس المقدس.

ولا يخفى أن الإحجام عن نقل نص عبارته ليس لأجل أن العبارات التي تفوه بها تعدّ إهانة لمقام النبوة ، بل ان هذا التصرف لأجل الحفاظ على مقام الخليفة ومكانته حتى لا يسيء الآخرون النظرة إليه اذا عرفوا بما قاله في حق رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

من هنا عند ما بلغ أبو بكر الجوهري مؤلف كتاب « السقيفة » في كتابه إلى هذا الموضع من القضية قال عند نقل كلام عمر هكذا : وقال عمر كلمة معناها أن الوجع قد غلب على رسول اللّه (1).

ولكن بعضا آخر عند ما يريد نقل ما قاله الخليفة لا يصرّح باسمه حفظا لمقامه فيقول : فقالوا : هجر رسول اللّه (2).

إن من المسلّم ان مثل هذه العبارة الجارحة النابية لو صدرت عن أي شخصية مهما كان مقامها لعدّت ذنبا لا يغتفر لأن النبي صلی اللّه علیه و آله بنص القرآن مصون من أي نوع من انواع الخطأ والاشتباه والهذيان فهو لا ينطق إلاّ بالوحي.

إن اختلاف الصحابة لدى رسول اللّه الطاهر المعصوم صلی اللّه علیه و آله وفي محضره كان عملا سيئا ، ومشينا إلى درجة أن احدى أزواجه صلی اللّه علیه و آله اعترضت على هذه المخالفة وقالت من وراء حجاب : ألا تسمعون النبي صلی اللّه علیه و آله يعهد إليكم؟ ائتوا رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بحاجته.

فقال عمر : اسكتن فانكن صويحبات يوسف. اذا مرض عصرتنّ اعينكنّ. واذا صحّ أخذتنّ بعنقه (3).

ص: 670


1- شرح نهج البلاغة الحديدي : ج 2 ص 20.
2- صحيح مسلم : ج 1 ص 14 ، مسند أحمد : ج 1 ص 355.
3- كنز العمال : ج 3 ص 138 ، الطبقات الكبرى : ج 2 ص 244. وفي الطبقات : ان النبي قال ( في الرد على عمر ) هنّ خير منكم

ان بعض المتعصبين وان التمسوا لمخالفة الخليفة لطلب النبي اعذارا (1) في الظاهر إلاّ انّهم خطّئوا كلامه الذي قال فيه « حسبنا كتاب اللّه » ، واعتبروه كلاما غير صحيح ، وصرّحوا جميعا بأن الركن الاساسي للاسلام هو السنة النبوية ، ولا يمكن أن يغني كتاب اللّه الامة الاسلامية عن احاديث رسول الاسلام صلی اللّه علیه و آله واقواله.

ولكن الاعجب من كل ذلك أن الدكتور « هيكل » مؤلف كتاب « حياة محمّد » (2) ضمن دفاعه عن الخليفة كتب يقول : ما فتئ ابن عباس بعدها يرى أنهم أضاعوا شيئا كثيرا بأن لم يسارعوا إلى كتابة ما أراد النبيّ إملاءه. أمّا عمر فظلّ ورأيه أن قال اللّه في كتابه الكريم : « ما فرّطنا في الكتاب من شيء » (3).

فلو أنه لاحظ ما قبل هذه الجملة القرآنية وما بعدها لما فسرها بمثل هذا التفسير ، ولما أيّد الخليفة في مقابل نصّ النبي المعصوم المطاع ، لأن المقصود من الكتاب في الآية هو الكتاب التكويني ، وصفحات الوجود ، فان لكل نوع من الانواع في عالم الوجود صفحة من كتاب الصنع ، وتشكل كل الصفحات غير المعدودة كتاب الخليقة والوجود وإليك نص الآية :

« وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ » (4).

وحيث أن ما قبل الجملة التي استدل بها يرتبط بخلقة الدواب والطيور ، ويرتبط ما بعدها بموضوع الحشر في يوم القيامة يمكن القول بصورة قاطعة بان المراد من الكتاب في الجملة المستدل بها والذي لم يفرّط فيه من شيء هو الكتاب التكويني ، وصفحة الخلق.

ص: 671


1- رد العلامة المجاهد السيد شرف الدين في كتاب المراجعات المراجعة 86 جميع هذه الاعذار بصورة رائعة.
2- حياة محمّد : ص 501.
3- الانعام : 38.
4- الانعام : 38.

ثم اننا لو قبلنا بأن المقصود من الكتاب هو القرآن الكريم فان من المسلّم أن فهم هذا الكتاب - وبحكم تصريحه - يحتاج إلى بيان النبي وهدايته كما يقول :

« وأنزلنا إليك الذكر لتبيّن للناس ما نزل إليهم » (1).

تأمل في هذه الآية فانها لا تقول « لتقرأ » بل تقول بصراحة : « لتبيّن ».

وعلى هذا الاساس اذا كان كتاب اللّه كافيا لم نحتج إلى توضيح النبي وبيانه احتياجا شديدا (2).

ولو كان حقا أن الامة الاسلامية لا تحتاج إلى النبي فلما ذا كان حبر الامة وعالمها الكبير ابن عباس يقول : يوم الخميس وما ادراك ما يوم الخميس ثم جعل تسيل دموعه حتى رؤيت على خده كأنها نظام اللؤلؤ وقال : قال رسول اللّه ايتونى بالكتف والدواة أو اللوح والدواة اكتب لكم كتابا لن تضلّوا بعده أبدا ... فقالوا ... (3).

فمع هذا الحزن الذي كان يبديه ابن عباس ، مضافا إلى الاصرار الذي أظهره رسول اللّه كيف يمكن القول بان القرآن يغني الامة الاسلامية من هذه الوصية ( أو الكتاب ) الذي كان النبي يريد كتابته.

والآن إذا كان النبي لم يوفق لكتابة الكتاب واملائه فهل يمكن ان نحدس - في ضوء القرائن القطعية - ما ذا كان ينوي النبيّ كتابته في هذه الرسالة؟

ما ذا كان الهدف من الكتاب؟

إن الطريقة الجديدة والقويمة في تفسير القرآن الكريم التي اصبحت اليوم موضع عناية المحققين والعلماء في هذا العصر هو رفع إبهام الآية واجمالها في موضوع معين بواسطة آية اخرى تتحدث عن ذلك الموضوع ذاته ولكنها أوضح من الاولى

ص: 672


1- النحل : 44.
2- ان بيان مدى حاجة القرآن إلى بيان النبي خارج عن نطاق هذه الرسالة ، فاطلبه في محله.
3- مسند احمد : ج 1 ص 355. صحيح البخاري : كتاب الجزية ج 4 ص 65 و 66.

دلالة ومفادا ، وبعبارة اخرى الاستعانة في تفسير آية بآية اخرى.

إن هذه الطريقة لا تختصّ بتفسير آيات القرآن بل تنسحب على الأحاديث والروايات الاسلامية أيضا اذ يمكن رفع الاجمال عن حديث بحديث مشابه ، لأن القادة الكبار يتحدثون في موضوع مهمّ وخطير بصورة مؤكدة ومكررة لا تتشابه ولا تتحد في دلالتها ، فقد تكون دلالتها على الآية واضحة وقد يكون بيان المقصود فيها بالاشارة والكناية حسب المقتضيات.

قلنا ان النبي صلی اللّه علیه و آله طلب من اصحابه وهو في فراش المرض دواة وصحيفة ليملي عليهم شيئا لا يضلّون بعده أبدا ثم تسبب التنازع الذي حدث بين الحاضرين في ان ينصرف من كتابة ما اراد.

يمكن أن يسأل سائل : ما ذا كان يريد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كتابته في ذلك الكتاب.

إن الاجابة على هذا السؤال واضحة لأنه مع أخذ الأصل الذي ذكرناه في مطلع البحث بنظر الاعتبار يجب القول بأن هدف النبي لم يكن الاّ تعزيز الوصيّة ودعم خلافة الامام أمير المؤمنين عليّ علیه السلام وامرته والتأكيد على لزوم اتباع اهل بيته الذي صرح به النبي صلی اللّه علیه و آله في الغدير وغيره.

وهذا المطلب يستفاد من حديث الثقلين المتفق عليه بين محدثى السنة والشيعة ، لأن النبي صلی اللّه علیه و آله قال في شأن الكتاب الذي نوى كتابته : انه يبتغي كتابة شيء لا يضلون بعده ابدا. وقد جاءت هذه العبارة بعينها في حديث الثقلين اذ يقول رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله معتبرا عدم الضلال بعده معلولا لاتباع الكتاب والعترة اذ قال :

« إنّي تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا : كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي » (1).

ص: 673


1- صحيح الترمذي : ج 5 ص 328 ح 3874 جامع الاصول : ج 1 ص 187 راجع المراجعات : المراجعة 8.

ألا يمكن بعد ملاحظة هذين الحديثين والتشابه الموجود بينهما الحدس - بصورة قطعية - بان ما كان يهدفه رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله من طلب الدواة والصحيفة هو مفاد كتابة حديث الثقلين ، أو ما هو أعلى ممّا يفيده حديث الثقلين وهو تعزيز ودعم ولاية الامام علي علیه السلام وخليفته مباشرة وبلا فصل وهو الذي عيّنه للإمارة والخلافة في الثامن عشر من شهر ذي الحجة عند مفترق طرق الحجاج المدنيين والعراقيين والمصريين والحجازيين وأعلن عن ذلك بصورة شفاهية.

هذا مضافا إلى أن مخالفة من شكّل شورى الخلافة في سقيفة بني ساعدة بعد وفاة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ورشح رفيقه القديم للخلافة بصورة خاصة بعد رحيل رسول اللّه إلى ربّه ، وحصل هو بدوره على اجرته عند موت الأوّل بصورة نقديّة وعينه للخلافة خلافا لجميع القواعد والاصول ، خير شاهد على أن القرائن التي كانت في مجلس النبي وكلامه كانت تكشف عن أن النبي صلی اللّه علیه و آله كان يريد أن يملي علي كاتبه امرا يتعلق بخلافة المسلمين والامارة والقيادة التي اثبتها لعلي واهل بيته الطاهرين في احاديثه وخطبه.

ولهذا خالف القوم الحضور هذا المطلب بشدة وحالوا دون الاتيان بالقلم والقرطاس بوقاحة ، وخالفوا كتابة شيء ، وإلاّ فلما ذا أصرّوا في مخالفتهم ... وارتكبوا ما ارتكبوا.

لما ذا لم يصرّ النبي في كتابة الكتاب؟

كان في إمكان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله رغم معاكسات جماعة من أصحابه أن يطلب كاتبه ويكتب الكتاب الذي كان يريد ، فلما ذا لم يتصرف هكذا ، ولم يستغل مكانته القويّة بل امتنع عن ذلك؟

إن الاجابة على هذا السؤال واضحة : فلو أن النبي كان يصرّ على كتابة الكتاب لأصرّوا في الاساءة الى النبي الذي قالوا عنه انه غلبه الوجع أو هجر ،

ص: 674

ولعمد أنصارهم إلى اشاعة وبثّ هذا الأمر الرخيص ، وصنعوا لاثباته الافاعيل فكانت تتسع رقعة الاساءة إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في هذه الحالة وتستمرّ ، فتفقد الرسالة أثرها المنشود.

من هنا عند ما قال البعض للنبي - ملافاة لما لحق به من الأذى - أبعد الذي قلتم؟ فقال :

« أبعد الذي قلتم؟ لا ولكن اوصيكم بأهل بيتي خيرا » (1).

ملافاة الأمر وتداركه :

إن مخالفة بعض الصحابة الصريحة وإن صرفت النبي عن الكتابة إلاّ انه بلّغ مقصوده من طريق آخر ، فهو - بشهادة التاريخ - بينما كان يعاني المرض ، والوجع الشديدين ، خرج إلى المسجد وهو متوكئ على « علي بن أبي طالب » و « ميمونة » مولاته فجلس على المسجد ثم قال :

« يا أيّها الناس إنى تارك فيكم الثقلين ».

وسكت ، فقام رجل فقال : يا رسول اللّه ما هذان الثقلان؟ فغضب حتى احمرّ وجهه ثم سكن ، قال :

« ما ذكرتهما إلاّ وأنا اريد أن أخبركم بهما ولكن ربوت فلم استطع ، سبب طرفه بيد اللّه ، وطرف بايديكم ، تعلمون فيه كذى ، ألا وهو القرآن ، والثقل الأصغر أهل بيتى ».

ثم قال :

« وأيم اللّه إني لأقول لكم هذا ورجال في اصلاب أهل الشرك أرجى عندي من كثير منكم ».

ثم قال :

ص: 675


1- بحار الأنوار : ج 22 ص 469 نقلا عن الارشاد واعلام الورى.

« واللّه لا يحبّهم عبد إلاّ أعطاه اللّه نورا يوم القيامة حتى يرد عليّ الحوض ، ولا يبغضهم عبد إلاّ احتجب اللّه عنه يوم القيامة » (1).

هذا وقد روى ابن حجر العسقلاني تدارك ما فات بصورة اخرى ، ولا تنافي بين الصورتين ، اذ يمكن وقوع كليهما.

انه يقول : قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لاصحابه وقد امتلأت بهم الحجرة وهو في مرضه الذي قبض فيه :

« أيّها الناس يوشك أن أقبض قبضا سريعا ، فينطلق بي ، وقد قدمت إليكم القول معذرة إليكم ألا إنّي مخلف فيكم كتاب اللّه ربي عزّ وجلّ وعترتي أهل بيتي ».

ثم أخذ بيد على علیه السلام فقال :

« هذا عليّ مع القرآن والقرآن مع علي ، خليفتان نصيران ، لا يفترقان حتى يردا عليّ الحوض فاسألهما ما ذا خلّفت فيهما » (2).

فمع أن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ذكر حديث الثقلين (3) قبل مرضه في مواضع متعددة وبألفاظ مختلفة ، ولفت نظر الناس إلى أهميّة هذين الثقلين ، ولكنه لفت الأنظار مرة اخرى وهو في فراش المرض أمام جمع اصحابه الذين حالوا دون كتابة ما اراد إلى عدم افتراق القرآن والعترة يمكن الحدس بأن الهدف من التكرار هو تدارك ما فات من كتابة الكتاب الذي لم يوفق لكتابته.

ص: 676


1- بحار الأنوار : ج 22 نقلا عن مجالس المفيد.
2- الصواعق المحرقة : الباب 9 من الفصل الثاني ص 57 وكشف الغمة : ص 43.
3- حديث الثقلين من الروايات المتفق عليها بين الشيعة والسنة وقد نقل عن الصحابة باكثر من 60 طريقا يقول ابن حجر العسقلاني في الصواعق ص 136 : وقد خصص المرحوم مير حامد حسين الهندي قسما من موسوعته « العبقات » بذكر اسناده حديث الثقلين ودلالته. وقد طبعت في ستة أجزاء مؤخرا.

تقسيم الدنانير :

دأب رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في مجال بيت المال أن يوزع أمواله في أقرب فرصة سانحة بين الفقراء والمحتاجين.

وعند ما كان في فراش المرض تذكّر أن هناك دنانير عند إحدى زوجاته فطلبها فورا ، فاحضرتها عنده فاخذها صلی اللّه علیه و آله بيده وقال :

« ما ظنّ محمّد باللّه لو لقي اللّه وهذه عنده؟ انفقيها ».

ثم أمر عليا علیه السلام فتصدّق بها (1).

غضب النبي من الدواء الذي سقي :

لما كانت أسماء بنت عميس وهي من قريبات « ميمونة » زوجة النبي صلی اللّه علیه و آله ، والتي اقامت ايام الهجرة زمنا في الحبشة تعلّمت من أهلها صنع عقار مركب من النباتات والاعشاب المختلفة ، فلما اشتكى واغمى عليه تصورت ان الذي دهاه هو داء : « ذات الجنب » ، وكانوا في الحبشة يداوون هذا المرض بذلك العقار ، فعمدت إلى معالجته بذلك الدواء ، بصبّ شيء منه في فم النبي صلی اللّه علیه و آله ولما أفاق وعرف بما صنعوا غضب وقال :

« ما كان اللّه ليسلّط عليّ ذات الجنب » (2).

وداع النبي مع أهله :

خرج رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في أيام مرضه إلى مسجده مرارا يصلّي بالناس ، ويذكّرهم امورا.

وذات يوم من أيام مرضه اخرج الى مسجده معصوب الرأس متكئا على

ص: 677


1- الطبقات الكبرى : ج 2 ص 238 و 239.
2- الطبقات : ج 2 ص 235.

« علي » علیه السلام بيمنى يديه وعلى الفضل باليد الاخرى فصعد المنبر فحمد اللّه واثنى عليه ثم قال :

« أما أيها الناس فان قد حان مني خفوق بين اظهركم فمن كانت له عندى عدة فليأتني أعطه اياها ، ومن كان له عليّ دين فليخبرني به ».

فقام إليه رجل فقال : يا رسول اللّه ان لي عندك عدة ، اني تزوجت فوعدتني ان تعطيني ثلاثة أواقي.

فقال صلی اللّه علیه و آله انحلها يا فضل ثم نزل وعاد إلى بيته.

فلما كان يوم الجمعة - ثلاثة ايام قبل وفاته - صعد المنبر فخطب وقال فيما قال :

« أيّ رجل كانت له قبل محمّد مظلمة إلاّ قام فالقصاص في دار الدنيا أحبّ إليّ من القصاص في دار الآخرة على رءوس الملائكة والاشهاد ».

فقام إليه رجل يقال له سوادة بن قيس فقال : انك لما اقبلت من الطائف استقبلتك وأنت على ناقتك العضباء وبيدك القضيب الممشوق فرفعت القضيب وأنت تريد الراحلة فاصاب بطني.

فقال صلی اللّه علیه و آله لبلال : قم الى منزل فاطمة فائتني بالقضيب الممشوق.

ان طلب النبي صلی اللّه علیه و آله هذا بان يقتص منه من له ذلك لم يكن مجرد مجاملة اخلاقية بل كان صلی اللّه علیه و آله يريدان ينبه الناس إلى أهمية مثل هذه الحقوق جدا (1) ولما أتى بالقضيب إلى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله قال صلی اللّه علیه و آله : اين الشيخ؟ قال سوادة : ها انا ذا يا رسول اللّه بابي أنت وأمي فقال صلی اللّه علیه و آله :

ص: 678


1- هذا مضافا إلى ان ضرب بطن سوادة بالقضيب من قبل النبي لم يكن عمدا ولهذا لم يكن له الحق إلاّ في اخذ الدية دون القصاص ، مع ذلك أراد النبي أن يلبي طلبه لما قال اريد ان اقتص.

« فاقتصّ منّي حتى ترضى ».

فقال سوادة : فاكشف لي عن بطنك.

ثم انه وسط دهشة الصحابة وحزنهم وغمهم وبكائهم تقدم سوادة إلى النبي وقال : أتأذن لي ان اضع فمي على بطنك؟ فاذن له ، فقال اعوذ بموضع القصاص من بطن رسول اللّه ، وقبّل بطن النبي وصدره الشريف. فدعا له رسول اللّه وقال :

اللّهم اعف عن سوادة بن قيس كما عفى عن نبيك محمّد (1).

ص: 679


1- مناقب آل أبي طالب : ج 1 ص 235.

65

اللحظات الأخيرة

اشارة

كان القلق والاضطراب يلفّ المدينة المنورة بأسرها فصحابة النبي يحيطون ببيت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بعيون باكية وقلوب حزينة ليطّلعوا على صحته ، وكانت تخرج من منزله بين الحين والآخر أخبار عن اشتداد مرضه ، وتفاقم وجعه ، لتقضي على كل أمل بتحسّن حالته ، وتجعل الناس على يقين بانه لم يبق من حياة رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله الاّ سويعات قلائل ، وانه سرعان ما تنطفئ الشعلة المقدسة ، التي أنارت العالم بضيائها.

كان فريق من الصحابة يودّون أن يزوروا نبيّهم وقائدهم من قريب ولكن تدهور صحته ما كان ليسمح لذلك ، فلم يكن من الممكن ان يتردد على غرفته إلاّ أهل بيته خاصة.

ولقد كانت ابنته الكريمة ووديعته الوحيدة فاطمة الزهراء علیهاالسلام جالسة عند فراش ابيها ، تنظر إلى وجهه المشرق كانت ترى كيف ان عرق الموت يتحدر على جبينه وخده مثل حبات اللؤلؤ ، فراحت تردد أبياتا من الشعر وقلبها يعتصره الحزن ، ويملأ عيونها دموع الاسى والحزن ويكاد يخنقها الغصة :

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه *** ثمال اليتامى عصمة للارامل

وفي هذه اللحظات بالذات فتح رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله عينيه وقال لابنته الزهراء بصوت خافت :

يا بنيّة هذا قول عمّك أبي طالب لا تقوليه ولكن قولي :

ص: 680

« وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ » (1).

النبي يتحدث مع ابنته الزهراء :

لقد كشفت التجربة عن ان عواطف الشخصيات الكبرى تجاه ابنائهم تتضاءل اثر تراكم النشاطات وتزايد الاهتمامات والهموم ، لأنّ الاهداف الكبرى ، والاهتمامات العالمية تشغل بالهم وفكرهم إلى درجة لا تترك لهم مجالا لمشاعرهم العاطفية بالظهور والتجلّي ، بيد أنّه يستثنى الشخصيات الروحانية والمعنوية الكبرى من هذه القاعدة فهم مع ما يشغل بالهم من الاهداف الكبرى ، والاهتمامات العالية ، والشواغل اليومية الكثيرة يمتلكون روحا كبرى ونفسية طيبة سامية فلا يمنعهم عمل عن آخر ، ولا يشغلهم شغل عن آخر ، فلا مكان للضمور العاطفي عندهم ، ولا مكان للجمود الاحساسيّ في حياتهم الاجتماعية والعائلية.

إن محبة النبي صلی اللّه علیه و آله لابنته الوحيدة فاطمة كانت من ابرز التجليات العاطفية الانسانية في شخصية النبي الاكرم صلی اللّه علیه و آله ، ولهذا لم يعهد أن يسافر رسول اللّه من دون أن يودع ابنته ، كما لم يعهد أن يرجع المدينة من دون ان يزور ابنته قبل أي أحد ، كما كان يحترمها عند زوجاته احتراما لائقا بها ويقول لاتباعه :

« فاطمة بضعة منّي فمن أغضبها أغضبني » (2).

كما أن رؤية فاطمة كانت تذكرة باشد نساء العالمين طهرا ووفاء ، وعطفا ولطفا ، ( خديجة ) التي تحملت في سبيل أهداف زوجها المقدس متاعب كبيرة ،

ص: 681


1- آل عمران : 144.
2- صحيح البخاري : ج 5 ص 21.

وبذلت ثروتها كلها في سبيل تلك الاهداف باخلاص ورغبة.

كانت فاطمة الزهراء علیهاالسلام تلازم فراش والدها النبي صلی اللّه علیه و آله طوال ايام مرضه ، ولا تفارقه لحظة واحدة ، وفجأة أشار النبي إلى ابنته يطلب منها ان تقرب رأسها إلى فمه ليحدّثها ، فانحنت فاطمة حتى صار رأسها قريبا من فمه الشريف ثم راح النبي صلی اللّه علیه و آله يحادثها بصوت ضئيل ولم يعرف من كان هناك ما ذا قاله رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لابنته الطاهرة في تلك النجوى.

وانما شاهدوا الزهراء تبكي بشدة لما انتهى والدها من حديثه وسالت دموعها بغزارة ، ولكنهم شاهدوا ان النبي اشار إليها مرة اخرى وحدثها بشيء فسرّت فاطمة وتهلّلت اسارير وجهها ، وتبسمت مستبشرة.

فاثارت هاتان الحالتان المتضادتان المتزامنتان الحضور وبعثتهم على التعجب والدهشة ، فلما سألوها عن سرّ ذلك الحزن ، وهذه الفرحة ، وطلبوا منها ان تذكر لهم علة هاتين الحالتين المتضادتين قالت :

« ما كنت لافشي سرّه ».

ثم بعد أن قضى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله كشفت الزهراء علیهاالسلام عن الحقيقة بناء على اصرار عائشة وقالت : اخبرني رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله انه قد حضر اجله وانه يقبض في وجعه هذا ، فبكيت ، ثم اخبرني أني أول اهله لحوقا به فضحكت (1).

مسواك النبي قبيل وفاته :

كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله يستاك كل ليلة قبل النوم كما كان يستاك بعد ان يستيقظ من نومه وكان مسواك النبي من شجرة الأراك التي تنفع

ص: 682


1- الطبقات الكبرى : ج 2 ص 247 ، الكامل ، ج 2 ص 219.

جدا في تقوية اللثة ، وإزالة الاوساخ وبقايا الطعام عن الاسنان.

وذات يوم دخل اخو عائشة عبد الرحمن على رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ليعوده وبيده سواك اخضر فنظر النبي إليه - وهو في يده - نظرا عرف أنه يريده فقال عبد الرحمن : يا رسول اللّه تريد أن أعطيك هذا السواك. فقال نعم ، فقدّمه إلى النبي فورا فاخذه صلی اللّه علیه و آله واستاك به أحسن استياك ، ونظف اسنانه به بدقة وعناية بالغة (1).

وصايا النبي صلی اللّه علیه و آله قبيل رحيله :

كان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله خلال فترة مرضه ووجعه يولي إعطاء التعاليم والتذكير بما فيه هداية الناس اهتماما بالغا ، فقد كان يوصي بالصلاة ورعاية الرقيق في الايام الاخيرة من حياته الشريفة ويقول :

« الصّلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم ، ألبسوا ظهورهم وأشبعوا بطونهم وألينوا لهم القول » (2).

وقد سأل كعب الاحبار عمر بن الخطاب بعد وفاة رسول اللّه وفي ايام خلافة الأخير ما كان آخر ما تكلّم به رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله فقال عمر : سل عليّا. فسأل عليا علیه السلام :

فقال امير المؤمنين علیه السلام :

« أسندته إلى صدري فوضع رأسه على منكبي فقال : الصلاة الصلاة.

فقال كعب : كذلك آخر عهد الأنبياء وبه امروا وعليه يبعثون (3).

وقد فتح النبي صلی اللّه علیه و آله عينيه في آخر لحظة من حياته الشريفة وقال :

ص: 683


1- الطبقات الكبرى : ج 2 ص 234 ، السيرة النبوية : ج 2 ص 654.
2- الطبقات الكبرى : ج 2 ص 254.
3- الطبقات الكبرى : ج 2 ص 262.

« أدعوا لي أخي ».

فعرف الجميع بأنه يريد عليا علیه السلام فدعوا له عليا فقال :

« ادن منّي ».

فدنا منه عليّ علیه السلام فاستند إليه فلم يزل مستندا إليه يكلّمه (1).

فلم يلبث أن بدت عليه صلی اللّه علیه و آله علامات الاحتضار.

سأل رجل ابن عباس : هل توفّي رسول اللّه في حجر أحد قال : توفي وهو لمستند إلى صدر علي.

فقال السائل : قلت : فان عائشة قالت : توفي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بين سحرى ونحرى.

فكذبها ابن عباس وقال : أتعقل؟ واللّه لتوفّى رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله وأنه لمستند إلى صدر عليّ وهو الذي غسّله ، وأخي الفضل بن عباس (2).

وقد صرح أمير المؤمنين علي علیه السلام في إحدى خطبه حيث قال :

« ولقد قبض رسول اللّه وإنّ رأسه لعلى صدري ... ولقد وليت غسله والملائكة أعواني » (3).

وينقل بعض المحدثين أن آخر جملة قالها رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله في آخر لحظة من حياته الشريفة هي جملة : « لا ، إلى الرفيق الأعلى » ، وكأنّ ملك الموت خيّره عند قبض روحه الشريفة في أن يصحّ من مرضه ويبقى أو يلبي دعوة ربّه ، ويلتحق بالرفيق الأعلى ، فعبر بجملته هذه عن رغبته في اللحاق بربه ، ليعيش مع الذين أشار إليهم قوله سبحانه :

« فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ

ص: 684


1- الطبقات الكبرى : ج 2 ص 263.
2- المصدر : ج 2 ص 263.
3- نهج البلاغة : الخطبة 197.

وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً » (1).

قال النبي صلی اللّه علیه و آله هذا ولفظ أنفاسه الشريفة (2).

يوم الوفاة :

في منتصف يوم الاثنين الثامن والعشرين من شهر صفر (3) طارت روح النبي الاكرم المقدّسة إلى بارئها ، والى جنان الخلد ، فسجّى ببرد يماني ، ووضع في حجرته بعض الوقت ، وارتفعت صرخات العيال ، وعلا بكاء الاقارب فعرف من كان في خارج المنزل أن النبي صلی اللّه علیه و آله قد قضى ، فلم يلبث أن انتشر نبأ وفاته في كل أنحاء المدينة التي تحولت بسرعة إلى مناحة كبرى ، ومأتم عظيم.

فصاح الخليفة الثاني خارج البيت ولأسباب خاصّة أنّ النبي لم يمت انما عرج بروحه كما عرج بروح موسى ، وانه لا يموت رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ! وأصرّ على هذا الموقف وهدّد كل من يخالف ذلك ، وكاد أن يوافق عليه فريق من الناس لو لا أن أحد الصحابة تلا عليه قول اللّه سبحانه :

« وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ ».

حتى فرغ من الآية ، فسحب عمر موقفه ، مستغربا من وجود مثل هذه الآية قائلا : هذا في كتاب اللّه؟ (4)

ثم قام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب علیه السلام بتغسيل جسد النبي الطاهر وكفنه لأن النبي صلی اللّه علیه و آله كان قد قال : « يغسلنى أقرب

ص: 685


1- النساء : 69.
2- إعلام الورى : ص 83.
3- وهو ما اتفق عليه محدثو الشيعة ومؤرخوهم ، ونقل في السيرة النبوية ج 2 ص 658 بصورة : قيل.
4- الطبقات الكبرى : ج 2 ص 267.

الناس إلىّ » ولم يكن ذلك سوى عليّ علیه السلام .

ولما فرغ « علي » من تغسيل النبي صلی اللّه علیه و آله كشف الازار عن وجهه صلی اللّه علیه و آله وقال والدموع تنهمر من عينيه الشريفتين :

« بأبي أنت وأمّي طبت حيّا وطبت ميتا ، انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت أحد ممّن سواك من النبوة والانباء. ولو لا أنّك أمرت بالصبر ، ونهيت عن الجزع لأنفذنا عليك ماء الشؤون ولكان الداء مماطلا ، والكمد محالفا وقلاّ لك ، ولكنّه ما لا يملك ردّه ولا يستطاع دفعه! بأبي أنت وامّي اذكرنا عند ربك ، واجعلنا من بالك؟ » (1).

ثم ان الامام أمير المؤمنين « علي بن أبي طالب » علیه السلام كان أوّل من صلّى على جثمان رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ثم صلّى عليه المسلمون جماعة جماعة ، ثم تقرر دفنه صلی اللّه علیه و آله في حجرته المباركة.

فقام أبو عبيدة الجراح وزيد بن سهل بحفر قبر له صلی اللّه علیه و آله وإعداده ثم دفن صلی اللّه علیه و آله في تلك الحفرة على يد أمير المؤمنين علي علیه السلام يساعده في ذلك الفضل والعباس.

وهكذا غربت شمس أعظم شخصية غيّرت مسار التاريخ البشري بتضحياته الكبرى وجهوده المضنية ، واعظم رسول الهي فتح امام الانسانية صفحات جديدة ومشرقة من الحضارة والمدنية.

ولكن ظهرت على الساحة برحيله مشكلات عديدة كان لها أثر في استمرار رسالته ، ومواصلة أهدافه التي من أهمها مسألة الخلافة وموضوع القيادة في المجتمع الاسلامي وقد بدت بعض بوادر الاختلاف في الاوساط الاسلامية حتى قبل رحيله.

غير أن هذا القسم وإن كان قسما مهما وخطيرا من تاريخ الاسلام ، فهو

ص: 686


1- نهج البلاغة : الخطبة رقم 235.

خارج عن اطار بحثنا هذا ( وهو دراسة وتحليل الشخصية المحمدية وحياة النبي الرسالية والسياسية والعسكرية ).

من هنا فاننا نختم حديثنا هذا بالشكر لله تعالى على هذه النعمة الكبرى ، والحمد لله رب العالمين (1).

قم المقدّسة - الحوزة العلمية

جعفر السبحاني

شعبان المعظم 1390 ه-

ص: 687


1- ثم تدوين هذه المحاضرات وتوثيقها وتحقيقها في شهر شعبان المعظم عام 1409 هجرية في مدينة قم والحمد لله رب العالمين. جعفر الهادي

ص: 688

الفهارس

اشارة

1 - فهرس الآيات القرآنية

2 - فهرس الاحاديث الشريفة

3 - فهرس الأشعار

4 - فهرس الأعلام

5 - فهرس القبائل والامم

6 - فهرس الكنى والألقاب

7 - فهرس الوقائع والايام

8 - فهرس الاماكن والبلدان

9 - فهرس المذاهب والأديان ونظم الحكم

10 - فهرس الموضوعات العلمية المبحوثة ضمنا

11 - فهرس المصادر

12 - فهرس المواضيع

ص: 689

ص: 690

(1) فهرس الآيات القرآنية

البقرة - 2

الآية رقمها الصفحة

( فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ ) 115 201

( سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ ) 142 51

( وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها ) 143 49

( وَما كانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ ) 143 50

( قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ ) 144 48

( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ) 207 113

( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ ) 217 40

( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ) 219 218

( وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما ) 219 220

آل عمران - 3

( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ ) .. 12 122

( قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا ) .. 13 96

( إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ .. ) 59 604

( فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ .. ) 61 604

( فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ .. ) 61 405

( قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ ) 64 601

( وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ ) 121 151

ص: 691

( وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ .. ) 123- 127 90

( وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ) 144 163 ، 681 ، 685

( إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ ) 152 163

( وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ ) 154 162

( إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ ) 155 163

النساء - 4

( لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى ) 43 219، 221، 223 ، 225

( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ ) 51 249

( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ ) 58 498

( فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمْ ) 69 684

المائدة - 5

( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ .. ) 1 - 3 653

( فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا ) 24 62

( مَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً ) 32 127

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى ) 51 - 53 126

( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) 67 647

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ ... ) 90 219

( إِذْ قالَ اللّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ ) 110 380

الأنعام - 6

( وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ .. ) 38 677

الأعراف - 7

( قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها ) 33 230

( فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا ) 44 783

ص: 692

الأنفال - 8

( كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِ ) 5 62

( يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ ... ) 6 62

( إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ ) 9 96

( فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا ) 12 98

( إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ ... ) 11 - 12 96

( ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللّهَ وَرَسُولَهُ ) 13 98

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللّهَ وَالرَّسُولَ ) 27 287

( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا ) 36 136

( إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا ) 42 - 43 95

( وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ ) 42 97

( وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً ) 44 97

( وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ ) 47 98

( وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ ) 48 98

( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى ) 70 95

( وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللّهَ مِنْ قَبْلُ ) 71 95

( وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ ) 87 68

التوبة - 9

( أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ) 19 113

( وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً ) 107- 108 580

( لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ ) 25 514

( اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً ) 31 550

( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى ) 33 355

( وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي ) 49 555

ص: 693

( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ ) 65 574

( وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ ) 81 - 82 555

( وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ ) 92 557

( تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ ) 92 556

( وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا .. ) 102 287

( حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ) 118 577

يوسف - 12

( قالُوا تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنا ) 91 479

( قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ) 92 479 و 496

النحل - 16

( وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ) 44 672

( وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً ) 67 218

( مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ ) 98 531

( وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ ) 126 183

الإسراء - 17

( وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ ... ) 26 423

مريم - 19

( يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) 6 428

( وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها ) 71 428

الحج - 22

( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ) 39 56

النور - 24

( إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ ) 11 316 و 318

( لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ ) 12 - 14 219

( وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ ) 32 100

ص: 694

( وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ ) 33 313

( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ ) 62 148 و 254

النمل - 27

( وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ ) 16 428

القصص - 28

( إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ ) 85 495

العنكبوت - 29

( وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ) 8 17

الروم - 30

( يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ ) 31 148

الأحزاب - 33

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ ... ) 9 - 25 276

( بُيُوتَنا عَوْرَةٌ ... ) 13 287

( وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ ... ) 26 - 27 295

( إِنَّما يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ) 33 425 و 607

( وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللّهُ ... ) 36 - 37 232

( وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللّهُ مُبْدِيهِ ) 37 243

( فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً ) 37 243

( ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللّهُ لَهُ ... ) 38 - 39 236 و 244

( ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ ) 40 236

سبأ - 34

( وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ ) 28 355

يس - 36

( لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ ) 70 355

ص: 695

الفتح - 48

( إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً ) 1 348

( لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ ) 17 147

( لَقَدْ رَضِيَ اللّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ ) 18 334

( وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ) 22 347

( لَقَدْ صَدَقَ اللّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا ) 27 437

الحجرات - 49

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللّهِ وَرَسُولِهِ ) 1 476

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ ) 6 312

الحشر - 59

( هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ ) 2 214

( ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً ) 5 212

( ما أَفاءَ اللّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى ) 7 213

( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ ) 11 - 14 212

الممتحنة - 60

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي ) 6 - 9 475

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ ) 10 351

( أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللّهِ ) 12 507

القلم - 68

( وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ ) 52 355

العاديات - 100

( وَالْعادِياتِ ضَبْحاً. فَالْمُورِياتِ قَدْحاً ) 1 - 2 459

النصر - 110

( إِذا جاءَ نَصْرُ اللّهِ وَالْفَتْحُ ... ) 1 - 3 545

ص: 696

(2) فهرس الأحاديث الشريفة

نصّ الحديث القائل الصفحة

أبا وهب هل لك العام تخرج معنا ( النبي ) 554

أ تسمون قاتلكم ثم تحلفون عليه ( النبي ) 418

أحب الناس الي من الرجال عليّ ( النبي ) 120

أخبروا مالكا انه إن اتاني مسلما ( النبي ) 532

اخرجوا من بلادي فقد أجلتكم عشرا ( النبي ) 209

أخرجها من العسكر ثم صح وارمها ( النبي ) 395

ادعوا لي أخي ( النبي ) 684

ادفنوا هذين المتحابين في قبر واحد ( النبي ) 184

إذا خطب إليكم كفو فزوجوه ( النبي ) 103

اذهب يا عباس الى رحلك ( النبي ) 483

اذهبت منك الرحمة ( النبي ) 409

ارجعا حتى تأتياني غدا ( النبي ) 368

ارجعن يرحمكن اللّه ( النبي ) 187

أرسلته كرارا غير فرار ( النبي ) 457

اركب فان اللّه ورسوله عنك راضيان ( النبي ) 459

استفدت يا أمّ عمارة ( النبي ) 177

استوصوا بالاسارى خيرا ( النبي ) 87

ص: 697

أسندته الى صدري فوضع رأسه على منكبي ( علي ) 683

السلام على أهل همدان ( علي ) 627

السلام عليكم يا أهل القبور ( علي ) 665

اشتدّ غضب اللّه في دم وجه نبيه ( علي ) 179

اكرموا اولادكم ( النبي ) 596

الصلاة الصلاة وما ملكت ايمانكم ( النبي ) 683

الصلاة يا أهل البيت ( النبي ) 109

اطلبوا العلم ولو بالصين ( النبي ) 132

اغزوا باسم اللّه وادعوهم الى الاسلام ( النبي ) 440

اغد على بركة اللّه ( النبي ) 664

الحمد لله الذي صدق وعده ( النبي ) 495

الحمد لله الذي وفق رسول اللّه ( النبي ) 539

الحمد لله ونستعينه ونؤمن به ( النبي ) 647

ألاّ إن كل مال ومأثرة ودم في الجاهلية ( النبي ) 503

ألاّ ترضون يا معشر الاوس ( النبي ) 289

اللّه أعلى وأجل ( النبي ) 180

اللّه أكبر ابشروا يا معشر المسلمين ( النبي ) 258

اللّه أكبر خربت خيبر ( النبي ) 392

اللّه مولانا ولا مولى لكم ( النبي ) 181

ألستم تشهدون أن لا إله إلاّ اللّه ( النبي ) 648

ألم أنهكم ان يخرج منكم أحد ( النبي ) 564

اللّهم ائتني بأحب خلقك إليك ( النبي ) 115

اللّهم اجمع شملهما والّف بين قلوبهما ( النبي ) 108

اللّهم ارحم الانصار وابناء الانصار ( النبي ) 536

اللّهم إن تهلك هذه العصابة ( النبي ) 79

ص: 698

اللّهم انزل عليهم رجسك ( النبي ) 186

اللّهم إنك اخذت مني عبيده ( النبي ) 264

اللّهم إنك قد عرفت حالهم ( النبي ) 365

اللّهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد ( النبي ) 508

اللّهم أني اسألك الأمن يوم الخوف ( النبي ) 186

اللّهم أني اسألك كله ( النبي ) 185

اللّهم اهد قلبه وثبت لسانه ( النبي ) 626

اللّهم بارك لقوم جل آنيتهم الخزف ( النبي ) 106

اللّهم خذ على قريش أبصارهم ( النبي ) 471

اللّهم خذ العيون والاخبار عن قريش ( النبي ) 471

اللّهم رب السماوات وما اظللن ( النبي ) 390

اللّهم هؤلاء اهل بيتي ( النبي ) 405

اللّهم هذه قريش قد أقبلت ( النبي ) 72

اللّهم وال من والاه ( النبي ) 648

إليّ يا فلان إليّ يا فلان أنا رسول اللّه ( النبي ) 146

اليوم يوم المرحمة ( النبي ) 497

أما أنت فقد عذرك اللّه ( النبي ) 147

أما أيها الناس فانه قد حان خفوق مني ( النبي ) 678

أما بعد أيها الناس ما مقالة بلغتني ( النبي ) 663

أما والذي نفسي بيده لقد تدلى العذاب ( النبي ) 607

أما ما لي وبني عبد المطلب فهو لكم ( النبي ) 530

أما واللّه لو شتم لقلتم فصدقتم ( النبي ) 535

أمك امك اعصب جرحها ( النبي ) 177

أحب أهلي إليّ فاطمة ( النبي ) 119

ان أحببت فاقيمي عندنا محببة ( النبي ) 531

ص: 699

أنا أحق بذلك منك ( النبي ) 130

أنا النبي لا أكذب ... ( النبي ) 519

إنا لم نجئ لقتال أحد ولكننا جئنا معتمرين ( النبي ) 329

أنا لم نرض ( النبي ) 343

أنت بالخيار فيه اربعة عشر ( النبي ) 506

أنت خليفتي في أهل بيتي ( النبي ) 558

انطلق فطف بالبيت ( النبي ) 632

انظروا الى ما امرتكم به ( النبي ) 145

ان بالمدينة لا قواما ( النبي ) 575

إن حسن التبعل يعدل ذلك كله ( النبي ) 176

إن ربي قد قتل ربكما ليلة كذا وكذا ( النبي ) 368

إن رجلا قال هذا محمد يخبركم أنه نبي ( النبي ) 565

إن رسول اللّه كان يغير الأسماء القبيحة ... ( الصادق ) 544

إنكم ستلقون ربكم فيسألكم ( النبي ) 635

إن اللّه اختار من أهل الارض رجلين ( النبي ) 118

إن اللّه امرني ان اعرض عنهم ( النبي ) 574

إنما أنت فينا رجل فخذل عنا ( النبي ) 273

إنه لا يؤدي عنك إلاّ أنت أو رجل منك ( النبي ) 591

إنها مشية يبغضها اللّه إلاّ ... ( النبي ) 153

إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم ( النبي ) 646

إني امرت ان استغفر لأهل البقيع ( النبي ) 665

إني تارك فيكم الثقلين. ( النبي ) 648 ، 673

إني رأيت العرب رمتكم ( النبي ) 271

أو ما بلغك ما قال صاحبكم ( النبي ) 308

أوحى اللّه تعالى الى رسول اللّه إن أشكر لجعفر ( الباقر ) 222

ص: 700

اولئك العصاة ( النبي ) 476

ايتوني بقلم وقرطاس ( النبي ) 668

ايتوني بدواة وصحيفة ( النبي ) 669

أيّ رجل الحصين بن سلام فيكم ( النبي ) 29

أيّ عبد نزل من الحصن وخرج إلينا فهو حر ( النبي ) 526

أيكم يبرز الى عمرو وأضمن له الجنة ( النبي ) 263

أين علي؟ ايتوني بعلي ( النبي ) 398

أيها الناس اسمعوا قولي ( النبي ) 634

أيها الناس أما بعد فانّ أصدق الحديث ( النبي ) 560

أيها الناس إن الشمس والقمر آيتان ( النبي ) 600

أيها الناس إن كل ربا موضوع ( النبي ) 636

أيها الناس سعرت النار واقبلت الفتن ( النبي ) 668

أيها الناس إن اللّه قد أذهب عنكم نخوة ( النبي ) 501

أيها الناس إن اللّه قد بعثني رحمة ( النبي ) 356

أيها الناس ان هذا عدو اللّه وعدوكم ( النبي ) 455

أيها الناس لا تشكوا عليا ( النبي ) 633

أيها الناس واللّه ما لي في فيئكم ( النبي ) 533

أيها الناس يوشك أن اقبض ( النبي ) 676

بئس ما جزيتها ( النبي ) 302

بارك اللّه في ابنة رسول اللّه ... ( النبي ) 108

بارك اللّه عليكم من أهل بيت ( النبي ) 178

برز الايمان كله الى الشرك كله ( النبي ) 264

بسم إله ابراهيم واسحاق ويعقوب ( النبي ) 601

بل نترفق به ونحسن صحبته ( النبي ) 310

بل هو الرأي أنظر لنا منزلا بعيدا ( النبي ) 393

ص: 701

تآخوا في اللّه ( النبي ) 19

تزوجوا فاني مكاثر بكم الامم ( النبي ) 101

جهزوا جيش اسامة ( النبي ) 662

خذها يا ابن ابي طلحة تالدة ( النبي ) 499

خير رجالكم علي بن ابي طالب ( النبي ) 115

خير نسائكم فاطمة بنت محمد ( النبي ) 115

رأيت الملائكة تغسل حنظلة ( النبي ) 149

دعه عنك فانه جاء تائبا ( النبي ) 540

دعوها فانها منتنة ( النبي ) 305

رحم اللّه ابا ذر يمشي وحده ( النبي ) 566

رحم اللّه امرأ أراهم اليوم من نفسه قوة ( النبي ) 435

رحم اللّه سعدا نصرنا حيا ... ( النبي ) 184

سلمان منا أهل البيت ( النبي ) 253

ضربة علي يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين ( النبي ) 267

علي أحبهم الي وأحبهم الى اللّه ( النبي ) 116

علي خير البشر فمن ابى فقد كفر ( النبي ) 116

علي خير من اتركه بعدي ( النبي ) 115

علي مني بمنزلة الرأس من بدني ( النبي ) 116

علي مني بمنزلتي من ربي ( النبي ) 116

علي مني وأنا منه وهو ولي كل مؤمن ( النبي ) 116

غيب عني وجهك فلا ارينك ( النبي ) 175

فاطمة بضعة مني فمن اغضبها فقد اغضبني ( النبي ) 682

فاين البعيران اللذين غيبتهما بالعقيق ( النبي ) 311

فان اللّه سيجعل لك مخرجا ( النبي ) 349

فاقتص مني حتى ترضى ( النبي ) 679

ص: 702

فكيف يا عمر اذا تحدث الناس ان محمدا يقتل ( النبي ) 307

فلذلك الجمل لا يمضي ( النبي ) 189

فلم لا تحل وقد أمرت من لم يسبق ( النبي ) 631

فو الذي بنفسي لمناديل الجنة أحسن ( النبي ) 571

قد اجرنا من أجرت وآمنا من أمنت ( النبي ) 505

قد استعملتك على هؤلاء النفر ( النبي ) 308

قد علمتم موضعي من رسول اللّه ( علي ) 225

قد فعلت فلا تعجلي بخروج ( النبي ) 548

قوموا الى سيدكم ( النبي ) 290

قوموا عني لا ينبغي عندي التنازع ( النبي ) 668

كنا اذا أحمر البأس اتقينا برسول اللّه ( علي ) 72 و 168

كذبتم ، يمنعكم من الاسلام ثلاث ( النبي ) 604

كذبوا ، ولكنني خلّفتك لما تركت ( النبي ) 559

كيف ترى يا عمر ، اما واللّه لو قتلته ( النبي ) 310

لا امثل به فيمثل اللّه بي وان كنت نبيا ( النبي ) 92

لا اجد ما احملكم عليه 556

لا إنما رحمه 596

لئن يهدي اللّه بك رجلا واحدا 399

لا تخرجوا معي الا راغبين في الجهاد ( النبي ) 388

لا تدعوني قريش اليوم الى خطة .. ( النبي ) 328

لا تغفلوا آل جعفر ( النبي ) 451

لا تقتلوه فهذا الاعمى أعمى القلب .. ( النبي ) 146

لا تكلمن أحدا من هؤلاء ( النبي ) 577

لا حاجة لي بهما ، اما ابن عمي ( النبي ) 479

لا خير في دين لا صلاة فيه ( النبي ) 586

ص: 703

لا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار ( النبي ) 181

لاعطين الراية غدا ( النبي ) 397

لا عليكم ان لا تمنعوه لعل اللّه يرزقه الشهادة ( النبي ) 147

لا عيش إلاّ عيش الآخرة ( النبي ) 252

لكن حمزة لا بواكي له ( النبي ) 186

لكن ربي أمرني باعفاء لحيتي وقص شاربي ( النبي ) 367

لكنني ما اكره واللّه ان اهريق دمك ( علي ) 264

لا نبرح حتى نتاجر القوم 334

لا ندخلها إلاّ كذلك 432

لا ولكن نهيت عن خمش وجوه ( النبي ) 599

لا يحتج محتج منك في مخالفته ( النبي ) 538

لا يذهب بها إلاّ رجل مني وانا منه ( النبي ) 117

لحمك لحمى ودمك دمى والحق معك ( النبي ) 117

لقد تيب على ابي لبابة ( النبي ) 287

لو امرت به ما استشرتكم فيه ( النبي ) 569

لو كنت استقبلت من امري ما استدبرت ( النبي ) 631

ما انتم باسمع لما اقول منهم ( النبي ) 83

ما أجد لك شيئا أمثل من ان تقوم ( النبي ) 468

ما ذا تقولون وما ذا تظنّون ( النبي ) 496

ما ذكر لي رجل بفضل من العرب ( النبي ) 544

ما ظن محمد باللّه لو لقي اللّه وهذه عنه ( النبي ) 677

ما لي أراك يا عمر محرما ( النبي ) 630

ما كان اللّه ليسلّط عليّ ذات الجنب ( النبي ) 677

ما لهم ولعمار يدعوهم الى الجنة ويدعونه الى النار ( النبي ) 13

ما من نبي إلاّ وله نظير في امته ( النبي ) 117

ص: 704

ما وقفت موقفا قط اغيظ إليّ ( النبي ) 182

ما ينبغي لنبي اذا لبس لامته أن ( النبي ) 145

المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين ( النبي ) 194

من أحب ان يلقى اللّه طاهرا مطهرا ( النبي ) 101

من ارادت ان تبايع فلتدخل يدها ( النبي ) 507

من جاءهم منا فابعده اللّه ( النبي ) 340

من دخل دار ابي سفيان فهو آمن ( النبي ) 484

من دخل تحت لواء أبي رويحة فهو آمن ( النبي ) 489

من شاء منكم ان يأخذ بطن الوادي ( النبي ) 573

من لم يقل عليّ خير الناس فقد كفر ( النبي ) 116

من ياخذ هذا السيف بحقه ( النبي ) 153

من محمد رسول اللّه الى كسرى ( النبي ) 365

من محمد بن عبد اللّه الى المقوقس ( النبي ) 370

من محمد بن عبد اللّه الى ملك الحبشة ( النبي ) 376

من محمد رسول اللّه الى الحارث بن ابي شمر ( النبي ) 382

من محمد رسول اللّه الى هوذة بن علي ( النبي ) 382

من محمد رسول اللّه الى مسيلمة الكذاب ( النبي ) 657

نشدتكم باللّه هل فيكم احد قتل ( علي ) 156

نصرت يا عمرو بن سالم ( النبي ) 466

هاك مفتاحك يا عثمان ( النبي ) 498

هذا ما صالح عليه رسول اللّه ( النبي ) 336

هذا ما كتب النبي محمد رسول اللّه لنجران ( النبي ) 608

هل أخزاكم اللّه وانزل عليكم نقمته ( النبي ) 283

همت اليهود ... ( النبي ) 208

هو لكم لا نأكل ثمن الموتى ( النبي ) 267

ص: 705

وانك لهند بنت عتبة ( النبي ) 508

وأيم اللّه اني لأقول لكم هذا ( النبي ) 675

وردنا مع رسول اللّه خيبر ( علي ) 408

وعندي السيف الذي اعضضته ( علي ) 77

وكان مني في ذلك ما على اللّه عز وجلّ ثوابه ( علي ) 171

واللّه لا يحبّهم عبد إلاّ أعطاه اللّه ( النبي ) 676

واللّه وما اردت بهذه إلاّ الفتنة ( علي ) 644

واللّه ما أنا أمرت بذلك ولكن اللّه أمر بسدّ ابوابكم ( النبي ) 20

واللّه ما يسرني يا علي أن لي ( النبي ) 511

والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم ( النبي ) 79

والذي نفس محمد بيده ان شملته ( النبي ) 411

وما يدريك يا عمر لعل اللّه اطلع على اهل بدر ( النبي ) 474

ومن اغلق بابه فهو آمن ( النبي ) 485

ومن يطيق ما تطيقين يا أمّ عمارة ( النبي ) 177

ويح ابن سمية ... انما تقتلك الفئة الباغية ( النبي ) 13

ويحك اذا لم يكن العدل عندي ( النبي ) 534

ويحك اسلم واشهد ان لا إله إلاّ اللّه ( النبي ) 482

ويحك يا ابا سفيان ألم يأن لك ( النبي ) 482

يا أهل القليب بئس عشيرة النبي ( النبي ) 83

يا أنصار اللّه وانصار رسوله ( النبي ) 518

يا أيها الناس أوصيكم بما اوصاني اللّه ( النبي ) 152

يا أيها الناس إني تارك فيكم الثقلين ( النبي ) 675

يا علي اصعد على منكبي ( النبي ) 494

يا علي أنك أبيت أن تمحو اسمي ( النبي ) 338

يا علي لا تقاتلن أحدا حتى تدعوه الى الاسلام ( النبي ) 626

ص: 706

يا علي لو لا أني أشفق أن تقول طوائف ( النبي ) 459

يا عمرو انك كنت تقول في الجاهلية ( علي ) 265

يا من حضر أشهد هذا ان زيدا ابني ( النبي ) 231

يا معشر الأنصار ما مقالة بلغتني عنكم ( النبي ) 535

يا معشر المسلمين اللّه اللّه أبدعوى الجاهلية ( النبي ) 31

يا معشر يهود احذروا من اللّه ( النبي ) 122

يا ويح قريش لقد أكلتهم الحرب ( النبي ) 327

يسر ولا تعسر وبشر ولا تنفر ( النبي ) 625

يفتح اللّه على يديه ( النبي ) 403

ص: 707

(3) فهرس الأشعار

أتبكي أن يضلّ لها بعير 91

إذ يهتدون بجعفر ولو أنّه 443

إذا استقبلت وجه أبي تراب 112

إذا متّ فادفنّي الى جنب كرمة 218

أصبح وجه الزمان قد ضحكا 424

أعلي تقتحم الفوارس هكذا 270

اليوم يوم الملحمة 496

الى اللّه أشكو غربتي ثم كربتي 201

امن أم أوفى دمنة تكلم 539

أنا الذي سمّتني أمي حيدرة 400

أنا الذي عاهدني خليلي 154

بانت سعاد فقلبي اليوم متبول 541

بيضاء تسحب من قيام شعرها 105

حسدوا الفتا اذا لم ينالوا فضله 107

خلّوا بني الكفار عن سبيله 433

سرن بعون اللّه جاراتي 108

فلا يبعدن اللّه قتلي تتابعوا 443

قد علمت خيبر أني مرحب 400

ص: 708

كادت وبيت اللّه نار محمد 556

لئن قعدنا والنبي يعمل 12

لا تعجلن فقد أتاك مجيب 264

لا يستوي من يعمر المساجد 13

لعمرك أني يوم أحمل راية 480

لكني أسأل الرحمن مغفرة 441

لو أن عندي يا ابن حرب جعفرا 442

لو كان قاتل عمر وغير قاتله 270

ما أن رأيت ولا سمعت بمثله 532

نحن بنات طارق 157

وابيض يستسقى الغمام بوجهه 680

وصعود غارب أحمد فضل له 495

وعاش أبو ذرّ كما قلت وحده 567

وما أنس لا انس اللذين تقدما 397

ولقد بححت من النداء 263

واللّه لو لا اللّه ما اهتدينا 377

يا حبّذا الجنة واقترابها 446

يا رب اني ناشد محمدا 465

يا طلح إن كنتم كما نقول 156

يناديهم رسول اللّه لما 84

يناديهم يوم الغدير نبيهم 654

ص: 709

(4) فهرس الأعلام

- أ -

اربد ( العامري ) 623

أزهر 348.

آذرم 569 ، 570.

آرشه تونك ( الدكتور ) 216.

ابان بن سعيد بن العاص 333.

ابراهيم بن رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) 542 ، 596 ، 597 ، 598 ، 599.

ابراهيم الخليل ( النبي ) 49 ، 315 ، 322 ، 325 ، 561 ، 599 ، 602 ، 628 ، 630.

ابن أبي أحمد 164.

ابن أبي الحديد 94 ، 164 ، 165 ، 170 ، 178 ، 194 ، 265 ، 397 ، 423 ، 426 ، 487.

ابن أبي الحقيق 297.

ابن ابي سبرة 162 ، 164.

ابن الأثير 37 ، 47 ، 135 ، 170 ، 238 ، 239 ، 241 ، 268 ، 269 ، 321 ، 360 ، 393 ، 404 ، 442 ، 511 ، 605.

ابن اسحاق 7 ، 13 ، 34 ، 36 ، 70 ، 268.

ابن أمّ مكتوم 128 ، 192 ، 211 ، 300.

ابن بابويه 107.

ابن تيمية ( الحراني ) 268 ، 269.

ص: 710

ابن جرير 240.

ابن حجر العسقلاني 322 ، 367 ، 652 ، 676.

ابن حذيفة 76.

ابن الجوزي 20.

ابن خلكان 65.

ابن رواحة 415 ، 433 ، 434 ، 440 ، 441 ، 443 ، 446 ، 447 ، 660.

ابن سعد ( صاحب الطبقات ) 71 ، 189 ، 205 ، 389 ، 438 ، 498.

ابن سلامة 450 ، 527 ، 534 ، 573 ، 622.

ابن سهيل 342 ، 343 ، 344.

ابن شماس 214.

ابن طلحة 112.

ابن عباس 155 ، 669 ، 671 ، 672 ، 684 ، 686.

ابن عبد ربه 112.

ابن العرندس 495.

ابن عقدة 652.

ابن العوام 493.

ابن كثير الشامي 16 ، 17 ، 20 ، 512.

ابن قميئة الليثي 166 ، 176.

ابن مزاحم 14.

ابن مسعود 61 ، 116.

ابن مسلمة ( محمد ) 43 ، 133 ، 164 ، 209 ، 392 ، 402 ، 404 ، 410 ، 432 ، 493 ، 558.

ابن هشام 7 ، 13 ، 19 ، 34 ، 45 ، 47 ، 58 ، 60 ، 83 ، 130 ، 161 ، 162 ، 172 ، 198 ، 201 ، 202 ، 207 ، 211 ، 227 ، 246 ، 268 ، 289 ، 293 ، 298 ، 299 ، 300 ، 306 ، 321 ، 322 ، 348 ، 389 ، 396 ،

ص: 711

400 ، 401 ، 404 ، 414 ، 444 ، 472 ، 473 ، 480 ، 504 ، 519 ، 523 ، 523 ، 527 ، 618.

ابن واضح الاخباري 366.

أبيّ بن خلف 165.

أحمد بن حنبل 15 ، 16 ، 17 ، 84 ، 109 ، 113 ، 366 ، 495 ، 662 ، 669 ، 670 ، 672.

أحمد بن ابي خيثمة 224.

الاخنس بن شريق 348.

اربد 623 ، 624.

أرمى بن الاصحم 381.

اساف ( صنم ) 493.

اسامة بن زيد 115 ، 145 ، 319 ، 494 ، 643 ، 660 ، 661 ، 662 ، 663 ، 664 ، 665 ، 667.

اسرافيل ( الدكتور ) 249.

اسكندر المقدوني 356.

اسماعيل ( النبي ) 602.

الاسود الثقفي 587.

الاسود بن عبد الاسد المخزومي 75 ، 76.

الاسود بن كعب 656 ، 658 ، 659.

الاسود بن المطلب 90 ، 91.

اسيد بن حضير 12 ، 186 ، 262 ، 308 ، 321 ، 520.

الاقرع بن حابس 530.

أكيدر بن عبد اللّه 570 ، 571.

أميّة بن خلف 37 ، 57 ، 58 ، 81 ، 83 ، 89.

أميّة بن المغيرة 478.

ص: 712

أنس بن مالك 109 ، 115 ، 118 ، 161 ، 162.

انس بن النضر 161 ، 162 ، 163.

أنو شيروان 264 ، 375.

- ( ب ) -

باذان 366 ، 367 ، 368 ، 369

بجير بن زهير 539 ، 540.

بديل بن ورقاء 328 ، 465 ، 466 ، 467 ، 481 ، 482.

بريدة 115 ، 116 ، 304 ، 661.

البراء بن عازب 626.

بشير بن البراء بن معرور 416.

بشير بن سفيان 486.

بلال بن الحارث 486.

بلال الحبشي 81 ، 104 ، 409 ، 434 ، 493 ، 497 ، 678.

( ت )

تئودوز الكبير 357.

( ث )

ثابت بن أرقم 447.

ثابت بن قيس 214 ، 294.

ثمالة الثقفي 532.

( ج )

جابر بن عبد اللّه الانصاري 188 ، 300 ، 592.

جبار ( العامري ) 623 ، 624.

جبرائيل ( الملك ) 20 ، 52 ، 170 ، 171 ، 172 ، 183 ، 455 ، 472 ، 592 ، 597 647 ، 665.

جدّ بن قيس 554.

ص: 713

جديمة بن عامر 905.

جعفر بن أبي طالب 108 ، 222 ، 298 ، 412 ، 413 ، 441 ، 442 ، 443 ، 446 ، 447 ، 450 ، 451 ، 642 ، 660.

جعفر الصادق ( الامام ) 126 ، 138 ، 347 ، 544.

جميع بن عمير 117.

جندب بن زهير 115.

جهجاه بن مسعود 305.

( ح )

الحارث بن ابي شمر الغساني 359 ، 381 ، 382 ، 383 ، 529.

الحارث بن أبي ضرار 304.

الحارث بن الحارث 533.

الحارث بن زمعة 90 ، 91.

الحارث بن عمير الازدي 439.

الحارث بن الصمّة 165 ، 205.

الحارث بن طلال 490.

الحارث بن هلال 504 ، 523.

الحارث ( اخو مرحب ) 399.

حاطب بن بلتعة 307 ، 369 ، 370 ، 371 ، 473 ، 474.

الحافظ بن حنان 112.

الحباب بن منذر 69 ، 139.

الحجاج بن علاط السلمي 419 ، 420.

الحجاج بن يوسف الثقفي 17.

حجر بن عدي 567.

حرب بن أميّة 466.

حذيفة بن اليمان 573.

ص: 714

الحسن بن اسماعيل 603 ، 613.

الحسن بن علي ( الامام ) 103 ، 109 ، 119 ، 423 ، 425 ، 468 ، 605 ، 606 ، 607 ، 608 ، 618.

الحسن بن علي العلوي 621.

الحسن بن موسى 155.

حسان بن ثابت 10 ، 83 ، 84 ، 202 ، 259 ، 443 ، 571 ، 654.

الحسمان الخزاعي 88.

الحسين بن علي ( الامام ) 103 ، 109 ، 119 ، 229 ، 423 ، 425 ، 468 ، 605 ، 606 ، 607 ، 608 ، 618.

الحكيم بن حزام 74 ، 76 ، 231 ، 481 ، 482 ، 533.

الحكيم بن كيسان 39.

الحلس بن علقمة 329 ، 330.

حمزة بن عبد المطلب 24 ، 33 ، 36 ، 44 ، 75 ، 77 ، 78 ، 108 ، 142 ، 144 ، 149 ، 157 ، 182 ، 186 ، 264 ، 442 ، 490 ، 508.

حنظلة بن ابي سفيان 78 ، 148 ، 149.

حنظلة ( غسيل الملائكة ) 578.

حويرث بن نقيذ 490.

حيي بن اخطب 27 ، 209 ، 211 ، 248 ، 256 ، 257 ، 261 ، 283 ، 294 ، 296 ، 394.

( خ )

خالد بن اسيد 434.

خالد بن ثعلب 171.

خالد بن رياح 164.

خالد بن سعيد 584.

خالد بن الوليد 152 ، 159 ، 160 ، 162 ، 212 ، 227 ، 262 ، 346 ، 431 ،

ص: 715

439 ، 447 ، 448 ، 450 ، 486 ، 491 ، 494 ، 509 ، 510 ، 517 ، 571 ، 626 ، 660.

حبيب بن عديّ 199 ، 200 ، 201 ، 205.

خراش بن أميّة 331.

خزيمة بن ثابت 14.

خرخسره 366 ، 368.

خسرو پرويز 364 ، 365 ، 379 ، 643.

خلاء بن عمرو بن الجموح 188.

خيثمة 56 ، 142.

( د )

داود بن قابوس 403.

دحية الكلبي 256 ، 359 ، 360 ، 362 ، 382.

دعبل 424.

دعثور 129.

دريد بن الصمة 515.

( ذ )

ذو الخويصرة التميمي 534.

ذو الفقار 172 ، 399.

ذو الكلاع الحميري 14 ، 15.

( ر )

رافع بن مكيث 486.

ربيع بن ابي الحقيق 402.

ربيعة بن الحارث ( ابن ) 635.

ربيعة بن عبد شمس 76.

رفيده 290.

ص: 716

( ز )

زاذان 224.

الزبير بن باطا 257 ، 294 ، 333.

الزبير بن العوام 64 ، 157 ، 164 ، 183 ، 473 ، 486 ، 493 ، 651.

زهير بن أبي سلمى 539.

زهير بن أبي أميّة 60.

زهير بن صرد 529.

زيد بن أرقم 115 ، 306 ، 307 ، 651.

زيد بن حارثة 37 ، 90 ، 131 ، 229 ، 231 ، 232 ، 233 ، 235 ، 237 ، 239 ، 240 ، 242 ، 244 ، 294 ، 387 ، 388 ، 389 ، 407 ، 441 ، 444 ،

447 ، 451 ، 642 ، 660 ، 661.

زيد بن الخيل 544.

زيد بن دثنة 199 ، 200.

زيد بن سهيل 200.

( س )

السائب 36.

سراقة بن جعشم 58.

سعد بن أبي وقاص 36 ، 44 ، 64 ، 86 ، 405 ، 660.

سعد بن معاذ 36 ، 61 ، 63 ، 70 ، 186 ، 213 ، 258 ، 271 ، 289 ، 290 ، 291 ، 292 ، 293 ، 294 ، 295 ، 320 ، 321 ، 322.

سعد بن عبادة 36 ، 144 ، 213 ، 214 ، 258 ، 271 ، 320 ، 321 ، 497 ، 535.

سعيد بن خيثمة 56 ، 143 ، 561.

سعيد بن زيد 54.

سعيد بن الربيع 184 ، 185.

ص: 717

سعيد بن زيد الأشهلي 301 ، 509.

سفيان الثوري 223 ، 224.

سلمان الفارسي 108 ، 115 ، 251 ، 253 ، 522 ، 523.

سلام بن ابي الحقيق 248 ، 296 ، 298.

سلام بن مشكم 128 ، 211 ، 416.

سلمة بن عمرو بن الاكوع 301.

سليمان بن سحيم 45.

سليط بن عمرو 383.

سليط بن النعمان 131.

سمرة 647.

سنان 305.

سواد بن غزيه 78 ، 79.

سوادة بن قيس 678 ، 679.

سواع ( صنم ) 509.

سويد بن صخرة 486.

سهيل بن حنيف 173 ، 313.

سهيل بن عمرو 83 ، 91 ، 335 ، 336 ، 340 ، 348 ، 434 ، 491.

سيد قطب 225.

( ش )

شاس بن قيس 30 ، 288.

شجاع بن وهب 381.

شرحبيل 602.

شيبة بن ربيعة 76 ، 77 ، 78 ، 83 ، 90 ، 174.

شيرويه 364 ، 368 ، 369.

* * *

ص: 718

(ص)

صفوان بن أميّة 38 ، 131 ، 136 ، 192 ، 199 ، 229 ، 317 ، 434 ، 484 ، 489 ، 490 ، 491 ، 505 ، 516 ، 533.

( ض )

الضحاك بن خليفة 556.

ضرار بن الخطاب 263.

ضمضم بن عمرو الغفاري 57.

( ط )

طالب 68.

الطاهر 597.

طلحة بن أبي طلحة 53 ، 156 ، 164.

طلحة بن عبد اللّه 54 ، 161 ، 173 ، 556.

طفيل بن عمرو الدوسي 523.

الطيب 597.

(ع)

العاص بن هشام 57 ، 87.

عاصم بن ثابت 173.

عامر بن الحضرمي 74 ، 75.

عامر بن الطفيل 203 ، 205.

عامر بن مالك بن جعفر 204.

عباد بن بشير 227 ، 407 ، 572.

عبادة بن الصامت 17 ، 126.

عباس بن عبد المطلب 48 ، 80 ، 82 ، 88 ، 89 ، 90 ، 137 ، 138 ، 307 ، 436 ، 477 ، 481 ، 482 ، 483 ، 484 ، 518 ، 686.

ص: 719

عباس بن مرداس 486 ، 488.

عبد الجبار بن احمد 94.

عبد الحسين شرف الدين ( السيد ) 632.

عبد الرحمن بن عوف 80 ، 81 ، 218 ، 223 ، 418 ، 509 ، 589 ، 602 ، 683.

عبد اللّه بن أبي سلول 126 ، 141 ، 142 ، 144 ، 145 ، 146 ، 148 ، 150 ، 162 ، 163 ، 211 ، 212 ، 289 ، 306 ، 309 ، 310 ، 311 ، 313 ، 317 ، 321 ، 322 ، 370 ، 478 ، 490 ، 562.

عبد اللّه بن ابي رافع 135 ، 338.

عبد اللّه بن أمّ كلثوم 55.

عبد اللّه بن بدر 486.

عبد اللّه بن جحش 38 ، 39 ، 44 ، 74 ، 453.

عبد اللّه بن جدعان 222.

عبد اللّه بن حارثة 642.

عبد اللّه حبيب 223.

عبد اللّه بن حجل 115.

عبد اللّه بن حدرد الاسلمي 516.

عبد اللّه بن حذافة السهمي 365.

عبد اللّه بن حزام 149.

عبد اللّه بن حسن 427.

عبد اللّه بن حميد 165.

عبد اللّه بن حنظلة 149 ، 481.

عبد اللّه بن الخزرج 309.

عبد اللّه بن خيبر 150 ، 151 ، 158 ، 159.

عبد اللّه بن رواحة 76 ، 90 ، 415 ، 433 ، 434 ، 440 ، 446 ، 447.

عبد اللّه بن الزبعرى 490.

ص: 720

عبد اللّه بن سلام 28 ، 29.

عبد اللّه بن سهيل 417 ، 418 ، 419.

عبد اللّه بن شهاب 165.

عبد اللّه بن طارق 199.

عبد اللّه بن العباس 115.

عبد اللّه بن عبد الرحمن الخثعمي 489.

عبد اللّه بن عمر بن الخطاب 145 ، 419 ، 486.

عبد اللّه بن عمرو 183 ، 188.

عبد اللّه بن عمرو بن حزام 17 ، 189.

عبد اللّه بن عمرو بن العاص 17.

عبد اللّه بن عمرو بن مخزوم 509.

عبد اللّه بن قمئة الليثي 22.

عبد اللّه بن كعب المازني 85 ، 177.

عبد اللّه بن مسعود 567.

عبد اللّه بن موسى 424.

عبد اللّه بن هاشم 115.

عبد العزيز 427.

عبد المطلب 107 ، 182 ، 206 ، 232 ، 264 ، 308 ، 314 ، 478 ، 580 ، 612.

عبد ياليل 583.

عبيد اللّه بن أبي رافع 6.

عبيدة بن الحارث 34 ، 36 ، 77.

عبيد اللّه بن بهلول 612.

عتاب بن اسيد 513 ، 538 ، 560.

عتبة بن ابي الوقاص 165.

عتبة بن ربيعة 74 ، 75 ، 76 ، 78 ، 82 ، 83 ، 508.

ص: 721

عثمان بن حنيف 424.

عثمان بن أبي العاص 586.

عثمان بن طلحة 438 ، 492 ، 498.

عثمان بن عبد اللّه 39.

عثمان بن عفان 12 ، 13 ، 88 ، 165 ، 333 ، 334 ، 335 ، 505 ، 602.

عثمان بن مظعون 651.

عدي بن حاتم 115 ، 359 ، 547 ، 549 ، 550.

عروة بن الزبير بن العوام 6 ، 135.

عروة بن مسعود الثقفي 330 ، 331 ، 374 ، 582 ، 583 ، 587.

عطاء بن السائب 223 ، 224.

عقبة بن أبي معيط 57 ، 81.

عقبة بن الحارث 201.

عقيل 90 ، 108.

عكرمة بن أبي جهل 136 ، 152 ، 160 ، 180 ، 262 ، 484 ، 489 ، 490 ، 491 ، 505.

العلاء بن جارية 533.

علي بن ابراهيم 137.

علي بن أبي طالب علیه السلام 12 ، 14 ، 15 ، 17 ، 19 ، 37 ، 55 ، 65 ، 71 ، 73 ، 88 ، 103 ، 104 ، 105 ، 107 ، 109 ، 110 ، 111 ، 112 ، 113 ، 115 ، 117 ، 120 ، 133 ، 134 ، 141 ، 155 ، 156 ، 157 ، 164 ، 168 ، 169 ، 170 ، 171 ، 172 ، 179 ، 190 ، 215 ، 221 ، 222 ، 223 ، 224 ، 225 ، 229 ، 263 ، 264 ، 265 ، 266 ، 267 ، 268 ، 269 ، 270 ، 272 ، 282 ، 289 ، 319 ، 322 ، 333 ، 336 ، 337 ، 338 ، 342 ، 388 ، 397 ، 399 ، 400 ، 401 403 ، 404 ، 405 ، 406 ، 422 ، 426 ، 427 ، 428 ، 441

ص: 722

442 ، 453 ، 455 ، 458 ، 459 ، 468 ، 469 ، 473 ، 474 ، 479 ، 494 ، 504 ، 510 ، 511 ، 518 ، 535 ، 545 ، 557 ، 558 ، 592 ، 593 ، 594 ، 595 ، 599 ، 602 ، 605 ، 607 ، 608 ، 609 ، 614 ، 615 ، 618 ، 619 ، 620 ، 622 ، 626 ، 627 ، 632 ، 633 ، 635 ، 644 ، 647 ، 651 ، 654 ، 662 ، 665 ، 668 ، 673 ، 674 ، 675 ، 678 ، 683 ، 684 ، 685 ، 686.

على الاحمدي ( الشيخ ) 353 ، 385.

علي بن تقي 426.

علي بن الحسين ( الامام ) 423.

علي بن الفارقي 427.

علي بن الهلالي 118.

عمار بن ياسر 12 ، 13 ، 14 ، 15 ، 16 ، 20 ، 37 ، 105 ، 227 ، 228 ، 573.

عمارة 350.

عمر بن الخطاب 60 ، 61 ، 71 ، 91 ، 92 ، 94 ، 119 ، 134 ، 135 ، 161 ، 162 ، 175 ، 219 ، 220 ، 269 ، 307 ، 310 ، 333 ، 398 ، 419 ، 426 ، 456 ، 474 ، 482 ، 483 ، 631 ، 660 ، 669 ، 670 ، 683 ، 685.

عمر بن عبد العزيز 134 ، 427 ، 428.

عمرو بن اميّة 205 ، 206 ، 298 ، 375 ، 384 ، 412.

عمرو بن الجموح 147 ، 149 ، 179 ، 183 ، 188 ، 189.

عمرو بن جحاش 207.

عمرو بن حزم 15.

عمرو بن الحضرمي 39 ، 44 ، 74.

عمرو بن الحمق 115.

عمرو بن سالم 465.

ص: 723

عمرو بن العاص 14 ، 15 ، 136 ، 298 ، 299 ، 338 ، 346 ، 431 ، 438 ، 443 ، 456 ، 509.

عمرو بن عبد ود العامري 261 ، 262 ، 263 ، 264 ، 265 ، 266 ، 267 ، 268 ، 272.

عمرو بن عثمان 427.

عمير الفارس 74.

عمير الحمام 79.

عمير بن وهب 73 ، 161 ، 505.

عيسى بن مريم ( النبي ) 263 ، 264 ، 370 ، 371 ، 376 ، 377 ، 378 ، 384 ، 551.

العيص 350.

عيينة بن حصن الفزاري 301 ، 530.

- غ -

غالب بن عبد اللّه 128.

غافل بن البكير 544.

- ف -

الفاكة بن المغيرة 509.

فرانسيز فريديناند ( الارشيدوق ) 124.

الفخر الرازي 238 ، 241 ، 605 ، 609.

فرعون 200 ، 299 ، 369 ، 370.

فيروز 366.

الفضل بن العباس 240 ، 518 ، 599 ، 684 ، 686.

فهم 532.

- ق -

القصواء ( الناقة ) 492.

ص: 724

القاسم بن رسول اللّه 597.

قيصر 231 ، 260 ، 261 ، 265 ، 269 ، 362 ، 363 ، 376 ، 381 ، 382 ، 387 ، 444.

- ك -

كارليل ( توماس ) الانجليزي 478.

كرز بن جابر 37.

كسرى 331 ، 365 ، 366 ، 367 ، 368 ، 369 ، 387.

كعب بن الاسد 27 ، 256 ، 258 ، 291 ، 467.

كعب بن الاشرف 132 ، 134 ، 135 ، 136 ، 293 ، 297 ، 402.

كعب بن زهير 10 ، 539 ، 540.

كعب بن زيد 203.

كعب بن مالك 178 ، 442 ، 576.

كنان بن الربيع 410.

- م -

المأمون 424 ، 427.

مالك بن ابي 211.

مالك الاشتر 115 ، 567.

مالك بن الدخشم 184.

مالك بن عوف 359 ، 364 ، 375 ، 515 ، 523 ، 528 ، 532.

مالك بن قيس 561.

مالك بن نويرة 512.

محمد بن اسحاق 6 ، 171.

محمد بن ابي بكر 115.

محمد بن احمد المخزومي 621.

محمد بن بشارة 222.

ص: 725

محمد بن جرير 130.

محمد بن عبد اللّه 603 ، 612.

محمد بن عمر البغدادي 652.

محمد بن سعيد 71 ، 543.

محمد بن مسلمة 133.

محمد بن المطلب الشيباني 603 ، 612.

محمد بن صدقة العنبري 612.

محمد بن علي الباقر ( الامام ) 222.

محمد بن معد العلوي 164 ، 177.

محمد الثاني ( السلطان ) 358.

محمد حسين هيكل 671.

محمد حميد اللّه ( البروفيسور ) 353.

محمد عادل ( الاستاذ ) 110.

محمد عثمان كريم 111 ، 118.

محمد الفاتح 358.

محمد اليمني ( الامير ) 653.

محمد المهدي ( العباسي ) 427.

محمود شلتوت ( الشيخ ) 637.

محمود بن سلمة 393 ، 410.

مجاعة بن مرارة 385.

مجدة بن عمرو 34 ، 44 ، 66.

مخرمة بن نوفل 68.

المخيريق 27 ، 29.

مربع بن قيض 146.

مرحب 400 ، 401.

ص: 726

مرارة بن الربيع 576 ، 577.

مرتد بن ابي مرتد 114 ، 205.

مرة بن مروان 402.

مروان بن الحكم 427.

المستعلى بن المستنصر 650.

مسلمة بن اسلم 260.

مسيلمة الكذاب 656 ، 657 ، 659.

مصعب بن عمير 55 ، 155 ، 160.

مطعم بن جبير 137.

مقداد بن عمرو 60 ، 61 ، 62 ، 473 ، 486.

معاذ بن جبل 513 ، 539 ، 625.

معاوية بن ابي سفيان 14 ، 15 ، 16 ، 17 ، 20 ، 51 ، 77 ، 78 ، 338 ، 424 ، 507 ،

532 ، 541.

مقيس بن صبابة الكندي 490.

معبد بن أبي معبد الخزاعي 192 ، 193.

معبد بن خالد 486.

معقل بن سنان 486.

المغيرة بن شعبة 330 ، 331 ، 334 ، 373 ، 374 ، 584 ، 587.

المقوقس 371 ، 372 ، 373 ، 374 ، 376 ، 542.

مكرز بن حفص 329 ، 432.

مناة ( صنم ) 509.

منذر بن عمرو 202.

منذر بن محمد 205.

ميسرة 224.

موسى ( النبي ) 20 ، 60 ، 62 ، 299 ، 371 ، 378.

ص: 727

موسى الهادي بن المهدي 427.

- ن -

نائلة ( صنم ) 493.

ناپليون بونابرت 356.

النضر بن الحارث 81 ، 87.

النعمان بن المقرن 486.

النعمان بن المنذر 529.

نعيم بن مسعود 228 ، 272 ، 273 ، 274 ، 285 ، 407 ، 486.

نميلة بن عبد اللّه الليثي 388.

نوفل بن عبد اللّه 263 ، 266.

- ه- -

هارون 427.

هاشم بن عتبة 115.

هبار بن الاسود 490.

هبل ( صنم ) 167 ، 180 ، 493.

هرقل 151.

هبيرة بن وهب 263.

هلال بن أميّة 576 ، 577.

هوذة بن علي 383 ، 384 ، 385.

- و -

واقد بن عبد اللّه 39.

وحشي بن حرب 137 ، 174 ، 175 ، 490.

الوليد بن عقبة بن ابي معيط 312.

الوليد بن عتبة 76 ، 77.

ويليم مويير ( السير ) 354.

ص: 728

ياسر 15.

يحيى بن عمارة 155.

يحيى بن معين 224.

يزيد بن الخصيب 486.

يزيد 17 ، 427.

يوحنا بن رؤبة 569.

يوشع بن نون 421.

النساء :.

آمنة بنت وهب 138.

أسماء بنت عميس 451 ، 677.

جميلة ( بنت عمر ) 544.

جويرية بنت الحارث بن ابي ضرار 311.

حليمة السعدية 529 ، 531.

خديجة بنت خويلد 3 ، 92 ، 93 ، 110 ، 231 ، 356 ، 597 ، 681.

رقية بنت رسول اللّه 103 ، 110 ، 118 ، 597.

زينب بنت جحش 230 ، 232 ، 233 ، 235 ، 237 ، 238 ، 239 ، 240 ، 242.

زينب بنت رسول اللّه 92 ، 94 ، 104 ، 109 ، 110 ، 118 ، 542 ، 597 ..

سلمى 542.

شيماء بنت الحارث 531.

صفية بنت حيي بن أخطب ( زوجة النبي ) 394 ، 409 ، 410 ، 417.

صفية بنت عبد المطلب ( عمة النبي ) 183 ، 259.

عائشة بنت ابي بكر 112 ، 115 ، 117 ، 122 ، 315 ، 317 ، 318 ، 319 ، 320 ، 322 ، 607 ، 682 ، 683 ، 684.

عاتكة 488.

عاصية 544.

ص: 729

فاطمة بنت أسد 229.

فاطمة الزهراء بنت رسول اللّه 94 ، 103 ، 104 ، 105 ، 106 ، 107 ، 108 ، 109 ، 110 ، 112 ، 113 ، 114 ، 115 ، 117 ، 118 ، 119 ، 120 ، 190 ، 422 ، 423 ، 424 ، 427 ، 457 ، 468 ، 497 ، 605 ، 606 ، 607 ، 608 ، 618 ، 678 ، 680 ، 682.

مارية القبطية ( زوجة النبي ) 315 ، 322 ، 542 ، 597.

مريم بنت عمران 120 ، 376 ، 442.

ميمونة ( زوجة النبي ) 436 ، 437 ، 675 ، 677.

نسيبة المازنية 165 ، 176.

هند بنت عتبة 63 ، 154 ، 174 ، 181 ، 182 ، 185 ، 188 ، 489 ، 507 ، 508.

ص: 730

(5) فهرس القبائل والامم

أذرح ( قبيلة ) 569.

أسد ( قبيلة ) 196 ، 472.

الاوس ( قبيلة ) 9 ، 18 ، 21 ، 22 ، 24 ، 26 ، 27 ، 30 ، 31 ، 32 ، 42 ، 55 ، 139 ، 146 ، 149 ، 154 ، 155 ، 209 ، 214 ، 228 ، 258 ، 281 ، 286 ، 289 ، 290.

أيلة ( قبيلة ) 292 ، 320 ، 321 ، 569 ، 578.

ثمالة ( قبيلة ) 532.

بنو اسرائيل 60 ، 62 ، 257 ، 294.

بنو أسد 197 ، 250.

بنو اشجع 250 ، 486.

بنو الأصفر 362 ، 555.

بنو أميّة 427 ، 428 ، 434.

بنو بكر 59 ، 131 ، 139 ، 465 ، 466.

بنو ثعلبة 24 ، 226.

بنو جذيمة 510 ، 511 ، 512.

بنو جشم 22 ، 24.

بنو الحارث 22 ، 24.

بنو الحجاج 65.

ص: 731

بنو حسن 427.

بنو خزاعة 193 ، 331 ، 341 ، 463 ، 464 ، 465 ، 481.

بنو الزهراء 427.

بنو زهرة 68.

بنو ساعدة 22 ، 24 ، 563 ، 674.

بنو سعد 529 ، 532.

بنو سلمة 73.

بنو الشطيبة 24.

بنو سليم 128 ، 250 ، 254 ، 303 ، 455 ، 456 ، 458 ، 472 ، 485 ، 517.

بنو شيبان 514.

بنو ضمرة 36 ، 41.

بنو عامر 203 ، 204 ، 205 ، 270 ، 349 ، 623.

بنو العاص 59.

بنو عبد الاشهل 186 ، 192.

بنو عبد الدار 153 ، 155 ، 156 ، 157.

بنو عبد المطلب 499 ، 646.

بنو عبد مناة 170.

بنو عدى 333.

بنو عمرو بن عوف 22.

بنو عوف 22 ، 24 ، 80.

بنو غسان 359 ، 553.

بنو غطفان 129 ، 211 ، 226 ، 250 ، 270 ، 272 ، 273 ، 274 ، 278 ، 301 ، 388 ، 389 ، 407 ، 560.

بنو غفار 138 ، 301 ، 394 ، 472 ، 476 ، 486.

بنو فزارة 250 ، 254 ، 256 ، 270 ، 272 ، 389.

ص: 732

بنو قريظة 21 ، 26 ، 27 ، 209 ، 211 ، 212 ، 230 ، 248 ، 252 ، 256 ، 258 ، 260 ، 261 ، 272 ، 273 ، 274 ، 275 ، 282 ، 283 ، 285 ، 286 ، 288 ، 289 ، 290 ، 291 ، 292 ، 293 ، 294 ، 295 ، 296 ، 304 ، 321.

بنو قينقاع 21 ، 26 ، 27 ، 121 ، 122 ، 124 ، 125 ، 127 ، 209 ، 248 ، 281 ، 289 ، 292 ، 304 ، 386.

بنو كنانة 58 ، 137 ، 170 ، 263 ، 341 ، 463 ، 464 ، 465 ، 486.

بنو كعب 472.

بنو لحيان 299 ، 300 ، 304.

بنو ليث 486.

بنو مالك 321.

بنو مدلج 37 ، 41.

بنو المصطلق 304 ، 305 ، 311 ، 312 ، 314.

بنو مرة 250 ، 254.

بنو النبيت 22.

بنو النجار 22 ، 24 ، 389.

بنو النضير 21 ، 26 ، 27 ، 128 ، 132 ، 206 ، 207 ، 209 ، 210 ، 211 ، 214 ، 215 ، 247 ، 248 ، 281 ، 288 ، 289 ، 293 ، 304 ، 386 ، 410.

بنو مزينة 486.

الخزرج ( قبيلة ) 9 ، 18 ، 21 ، 27 ، 30 ، 31 ، 32 ، 42 ، 55 ، 139 ، 214 ، 245 ، 258 ، 279 ، 281 ، 289 ، 292 ، 302 ، 321 ، 387 ، 389 ، 497 ، 578.

بنو وائل 247.

جرباء ( قبيلة ) 569 ، 570.

تميم ( قبيلة ) 472 ، 560.

ثقيف ( قبيلة ) 11 ، 373 ، 374 ، 514 ، 515 ، 516 ، 519 ، 521 ، 524 ، 525 ،

ص: 733

526 ، 527 ، 532 ، 533 ، 582 ، 584 ، 585 ، 587.

جهينة ( قبيلة ) 472.

جذام ( قبيلة ) 553.

خزاعة ( قبيلة ) 139 ، 304 ، 327 ، 329 ، 464 ، 466 ، 467.

دوس ( قبيلة ) 523.

ربيعة ( كذاب ) 658.

سلمة ( قبيلة ) 532.

سويلم ( قبيلة ) 556.

طي ( قبيلة ) 544 ، 545 ، 547 ، 560.

لخم ( قبيلة ) 553.

فهم ( قبيلة ) 532.

قريش ( قبيلة ) 18 ، 22 ، 23 ، 24 ، 25 ، 27 ، 31 ، 36 ، 37 ، 38 ، 39 ، 40 ، 41 ، 42 ، 43 ، 44 ، 45 ، 46 ، 53 ، 54 ، 55 ، 56 ، 57 ، 58 ، 59 ، 60 ، 61 ، 64 ، 66 ، 69 ، 71 ، 73 ، 74 ، 75 ، 76 ، 78 ، 80 ، 81 ، 87 ، 89 ، 90 ، 91 ، 92 ، 97 ، 121 ، 131 ، 133 ، 136 ، 137 ، 138 ، 139 ، 140 ، 141 ، 142 ، 146 ، 148 ، 149 ، 153 ، 154 ، 155 ، 156 ، 157 ، 158 ، 160 ، 165 ، 166 ، 169 ، 174 ، 181 ، 193 ، 194 ، 228 ، 231 ، 247 ، 248 ، 249 ، 250 ، 254 ، 256 ، 257 ، 258 ، 260 ، 262 ، 265 ، 270 ، 271 ، 272 ، 273 ، 274 ، 275 ، 285 ، 286 ، 304 ، 326 ، 327 ، 328 ، 330 ، 331 ، 332 ، 333 ، 334 ، 335 ، 336 ، 337 ، 339 ، 340 ، 341 ، 342 ، 345 ، 346 ، 347 ، 348 ، 349 ، 350 ، 352 ، 253 ، 356 ، 360 ، 371 ، 374 ، 383 ، 386 ، 387 ، 388 ، 408 ، 419 ، 420 ، 431 ، 432 ، 435 ، 436 ، 437 ، 439 ، 442 ، 443 ، 448 ، 453 ، 462 ، 463 ، 464 ، 465 ، 466 ، 469 ، 471 ، 472 ، 473 ، 474 ، 477 ، 480 ، 481 ، 482 ،

ص: 734

485 ، 488 ، 489 ، 491 ، 495 ، 501 ، 514 ، 526 ، 542 ، 616 ، 629 ، 657.

قيس ( قبيلة ) 472.

بنو هاشم 68 ، 80 ، 155 ، 232 ، 426 ، 427 ، 477 ، 478 ، 499 ، 646.

هوازن ( قبيلة ) 513 ، 514 ، 515 ، 516 ، 517 ، 519 ، 520 ، 529 ، 531 ، 532.

ولد اسماعيل 257 ، 325.

ص: 735

(6) الكنى والألقاب

« الكنى »

الرجال :

أبو الاسود الدؤلي 112.

أبو أيوب الأنصاري 118 ، 417.

أبو البائت 403.

أبو البحتري 88 ، 155.

أبو البراء العامري 202 ، 203 ، 204 ، 205.

أبو بكر بن أبي قحافة 60 ، 61 ، 94 ، 104 ، 330 ، 396 ، 398 ، 426 ، 427 ، 455 ، 456 ، 511 ، 512 ، 524 ، 563 ، 584 ، 591 ، 592 ، 594 ، 651 ، 652 ، 654 ، 660.

أبو بكر الجوهري 670.

أبو بكر بن حزم 55 ، 134.

أبو بصير 348 ، 349 ، 350.

أبو تراب 405.

أبو جعفر البصري 94.

أبو جعفر المنصور 427.

أبو جندل 342 ، 343 ، 344 ، 348.

أبو جهل 33 ، 34 ، 68 ، 69 ، 83 ، 88 ، 136 ، 173 ، 174 ، 263 ، 484 ، 544.

ص: 736

ابو جهم العبيدي 162.

ابو حاتم 224.

ابو حارثة 601 ، 602 ، 610 ، 680.

ابو الحسن 94 ، 104 ، 408.

ابو الخير الحاكمي 114.

ابو العقيق 394.

ابو حمراء بن سفيان 171.

ابو الخير 265.

أبو دجانة الانصاري 153 ، 154 ، 157 ، 165 ، 173 ، 179 ، 213.

ابو ذر الغفاري 486 ، 565 ، 567.

ابو رافع 89 ، 90 ، 115 ، 135 ، 170 ، 437.

ابو ريحة 489.

ابو سعيد بن خيثمة 148.

ابو سعيد السجستاني 652.

ابو سفيان بن الحارث 478 ، 518.

ابو سفيان 15 ، 36 ، 37 ، 53 ، 57 ، 61 ، 66 ، 68 ، 89 ، 90 ، 91 ، 128 ، 129 ، 131 ، 136 ، 138 ، 139 ، 149 ، 152 ، 153 ، 157 ، 162 ، 163 ، 164 ، 174 ، 180 ، 181 ، 192 ، 193 ، 200 ، 228 ، 229 ، 266 ، 273 ، 274 ، 275 ، 307 ، 333 ، 338 ، 360 ، 361 ، 362 ، 466 ، 467 ، 469 ، 472 ، 478 ، 479 ، 480 ، 481 ، 482 ، 483 ، 484 ، 485 ، 486 ، 487 ، 488 ، 489 ، 491 ، 492 ، 497 ، 498 ، 508 ، 514 ، 517 ، 518 ، 533 ، 544 ، 587 ، 644.

ابو سلمة 37 ، 197.

ابو الشعثاء بن سفيان 171.

ابو طالب 90 ، 333 ، 356 ، 442 ، 485 ، 492 ، 504.

ص: 737

ابو طلحة 118.

ابو العاص 82 ، 93 ، 94 ، 109 ، 118 ، 542.

ابو عامر 148 ، 154 ، 250 ، 578 ، 579.

ابو العباس السفاح 428.

ابو عبيدة الجراح 165 ، 169 ، 686.

ابو العرفان الحبان 653.

ابو عزيز 87.

ابو عزه الجمحي 82 ، 194.

ابو عمرة 115.

ابو العلاء الهمداني 652.

ابو الفضل 481 ، 488 ، 612.

ابو لبابة 55 ، 286 ، 287 ، 288.

ابو لهب 57 ، 89 ، 478.

ابو المفضل 621.

ابو موسى الاشعري 521.

ابو نائلة 133 ، 134 ، 135.

ابو واقد الليثي 486.

ابو الوليد 74 ، 76.

النساء :

ابنة حاتم الطائي 549.

أم أنس ( بن مالك ) 111.

أم أيمن 425 ، 426.

أم حبيبة 467.

أمّ سلمة 108 ، 117 ، 287 ، 278 ، 479 ، 480.

ص: 738

أمّ سليم بن ملحان 520.

أم عامر 173.

أمّ الفضل 89 ، 436.

أمّ كلثوم بنت رسول اللّه 597.

أمّ كلثوم بنت عقبة 350.

أم هاني 504.

« الألقاب »

الآلوسي 238 ، 241 ، 594.

ابن طاوس ( السيد ) 603 ، 606 ، 611 ، 621.

الافندي صاحب كشف الظنون 6.

الاميني 111 ، 120 ، 648 ، 653.

البحراني ( المحدث ) 323.

البخاري 318 ، 320 ، 321 ، 322.

البختري 80 ، 81.

البروجردي ( السيد ) 216.

الترمذي ( الحافظ ) 112.

التلعكبري 621.

الثعالبي 650.

الجزري الشافعي 652.

الحلبي 397 ، 426 ، 603.

الحموي ( الياقوت ) 601.

الحميدي 224.

الخجندي ( الحافظ ) 109.

الدولابي 107.

ص: 739

الدينارية ( المرأة ) 187.

الرضي ( السيد ) 72.

الزمخشري 605 ، 607.

السيوطي 6.

شرف الدين 671.

الطباطبائي ( العلاّمة ) 216 ، 243 ، 609.

الطبري 52 ، 60 ، 61 ، 71 ، 239 ، 337 ، 404 ، 652.

الطوسي ( الشيخ ) 7 ، 137 ، 611 ، 620 ، 621.

كعب الاحبار 683.

القندوزي 19.

العامري 349.

العاملي ( الحرّ ) 52 ، 138.

العراقي ( الحافظ ) 112.

العقاد ( عباس محمود ) 118.

المامقاني 621.

المجلسي ( العلاّمة ) 54 ، 73 ، 148 ، 157.

المسعودي 615.

المطهري ( الاستاذ ) 7.

المفيد ( الشيخ ) 155 ، 214 ، 290 ، 401 ، 455.

المقريزي 60 ، 131 ، 167 ، 214 ، 215 ، 254.

النجاشي 231 ، 298 ، 299 ، 375 ، 376 ، 377 ، 378 ، 380 ، 412 ، 442 ،

612.

النسائي 653.

الهيثمي 118.

ص: 740

الواقدي ( صاحب السيرة المتوفى 151 ) 7 ، 61 ، 63 ، 137 ، 138 ، 151 ، 162 ، 164 ، 165 ، 207 ، 263 ، 278 ، 286 ، 291 ، 374 ، 438 ، 561.

الواقدي ( صاحب الطبقات المتوفى 230 ) 7.

ص: 741

(7) فهرس الوقائع والايام

الاحزاب ( معركة ) 230 ، 231 ، 245 ، 261 ، 270 ، 271 ، 275 ، 276 ، 279 ، 282 ، 283 ، 285 ، 293 ، 296 ، 299 ، 522.

بيعة العقبة 45 ، 59 ، 506 ، 507.

بنو المصطلق ( غزوة ) 315 ، 321.

تبوك ( غزوة ) 404 ، 445 ، 554 ، 555 ، 558 ، 561 ، 565 ، 566 ، 569 ، 570 ، 572 ، 573 ، 575 ، 576 ، 579 ، 580 ، 581 ، 582 ، 613.

حجة الوداع ( البلاغ ) 619 ، 638 ، 656.

حمراء الاسد 192 ، 193 ، 194 ، 195.

الخندق ( معركة ) 251 ، 252 ، 253 ، 254 ، 255 ، 260 ، 261 ، 262 ، 263 ، 266 ، 268 ، 269 ، 270 ، 274 ، 275 ، 276 ، 290 ، 293 ، 295 ، 304 ، 387 ، 522.

خيبر 35 ، 121 ، 175 ، 213 ، 247 ، 270 ، 283 ، 296 ، 297 ، 386 ، 387 ، 388 ، 389 ، 391 ، 394 ، 396 ، 400 ، 402 ، 404 ، 405 ، 406 ، 407 ، 408 ، 410 ، 411 ، 412 ، 413 ، 414.

ذات الرقاع ( غزوة ) 226.

ذات السلاسل ( سرية ) 416 ، 454.

صفين ( معركة ) 14 ، 15 ، 443.

قرقرة الكدر ( غزوة ) 128.

مؤتة ( معركة ) 439 ، 443 ، 449 ، 450 ، 468.

ص: 742

(8) فهرس الأماكن والبلدان

آسيا الصغرى 357 ، 364.

احد 90 ، 132 ، 135 ، 138 ، 139 ، 140 ، 145 ، 146 ، 147 ، 148 ، 149 ، 150 ، 151 ، 155 ، 158 ، 162 ، 163 ، 164 ، 165 ، 168 ، 171 ، 172 ، 173 ، 176 ، 177 ، 179 ، 181 ، 183 ، 184 ، 187 ، 188 ، 189 ، 190 ، 191 ، 194 ، 196 ، 203 ، 206 ، 228 ، 251 ، 254 ، 261 ، 265 ، 267 ، 293 ، 303 ، 345 ، 453 ، 493 ، 508 ، 578.

آديس آبابا 375.

الاردن 265.

الاسكندرية 360.

أبنى 661.

أوربا 357.

أوطاس 521.

إيران 132 ، 216 ، 266 ، 267 ، 281 ، 353 ، 356 ، 357 ، 358 ، 363 ، 364 ، 365 ، 444 ، 445 ، 642.

بئر معونة 203 ، 204 ، 563.

باريس 352.

البحر الأحمر 64 ، 67 ، 569 ، 615.

البحرين 356 ، 623.

ص: 743

بدر 32 ، 38 ، 43 ، 45 ، 53 ، 55 ، 56 ، 57 ، 63 ، 65 ، 66 ، 67 ، 68 ، 69 ، 71 ، 80 ، 82 ، 84 ، 86 ، 87 ، 88 ، 89 ، 92 ، 97 ، 121 ، 128 ، 143 ، 144 ، 149 ، 201 ، 228 ، 229 ، 269 ، 293 ، 303 ، 402 ، 472 ، 505 ، 542 ...

بصرى 359.

البصرة 414.

بغداد 113 ، 116 ، 164 ، 427.

البقيع 134 ، 135.

بكين ( عاصمة الصين ) 3.

بلجيكا 118.

البلقاء 553.

بيت اللّه الحرام 41 ، 49 ، 329 ، 339 ، 430 ، 438 ، 464 ، 492 ، 589 ، 631 ، 633.

بيت المقدس 42 ، 47 ، 48 ، 49 ، 50 ، 51 ، 347 ، 354 ، 361 ، 381 ، 582.

تبوك 552 ، 643 ، 660.

تهامة 509.

ثنية أذاخر 491.

ثنية المرة 17.

ثنية الوداع 301 ، 440 ، 554.

الجزيرة العربية 4 ، 18 ، 21 ، 41 ، 48 ، 49 ، 121 ، 217 ، 226 ، 250 ، 324 ، 341 ، 342 ، 345 ، 347 ، 353 ، 354 ، 360 ، 371 ، 372 ، 374 ، 387 ، 388 ، 434 ، 463 ، 478 ، 493 ، 503 ، 523 ، 527 ، 543 ، 544 ، 552 ، 559 ، 568 ، 578 ، 582 ، 589 ، 591 ، 593 ، 597 ، 622 ، 628 ، 642 ، 656.

الجحفة 327 ، 617 ، 647 ، 656.

ص: 744

الجرف 440 ، 558 ، 663 ، 664.

الجعرانة 528 ، 529 ، 532 ، 536 ، 537.

الجندل 570 ، 571 ، 572 ، 573.

الجولان 381.

الحبشة 137 ، 144 ، 156 ، 174 ، 298 ، 356 ، 375 ، 376 ، 378 ، 380 ، 381 ، 383 ، 388 ، 412 ، 442 ، 677.

الحجاز 42 ، 298 ، 300 ، 356 ، 358 ، 369 ، 438 ، 442 ، 505 ، 521 ، 525 ، 545 ، 547 ، 549 ، 552 ، 553 ، 558 ، 568 ، 569 ، 571 ، 572 ، 575 ، 601 ، 602 ، 619 ، 623 ، 624 ، 625 ، 629 ، 634 ، 651 ، 656 ، 659 ، 660 ، 674.

حجر 552.

الحجر الاسود 620.

الحديبية 118 ، 327 ، 344 ، 345 ، 346 ، 348 ، 350 ، 351 ، 352 ، 374 ، 388 ، 430 ، 462 ، 464 ، 483 ، 489.

حضرموت 656.

حراء ( غار ) 3.

حنين 516 ، 517 ، 520 ، 521 ، 522 ، 523 ، 525 ، 526 ، 528 ، 529 ، 532.

الحيرة 356.

خيبر 35 ، 393 ، 401.

دار الندوة 345.

دمشق 155 ، 156 ، 381.

ذو الحليفة 326 ، 629.

ذو طوى 490.

ص: 745

الربذة 566.

الرملة 661.

رابغ 646.

الرجيع 389 ، 393.

روضة الخاخ 473.

زمزم ( بئر ) 83 ، 494.

سطح ( قلعة ) 390.

سقيفة بني ساعدة 674.

سورية 569 ، 572 ، 573 ، 575 ، 661.

الشام 14 ، 15 ، 16 ، 37 ، 41 ، 47 ، 50 ، 53 ، 55 ، 56 ، 67 ، 68 ، 120 ، 125 ، 136 ، 139 ، 162 ، 165 ، 175 ، 213 ، 247 ، 300 ، 301 ، 338 ، 339 ، 350 ، 356 ، 358 ، 359 ، 360 ، 386 ، 423 ، 433 ، 439 ، 440 ، 444 ، 445 ، 464 ، 475 ، 548 ، 549 ، 552 ، 553 ، 566 ، 569 ، 570 ، 573 ، 578 ، 615 ، 643 ، 656 ، 660 ، 661.

الشق ( حصن ) 390 ، 407 ، 408.

الصفا ( جبل ) 434 ، 435 ، 630.

الصفراء 87.

صفين 14 ، 338.

الصين 126.

الطائف 38 ، 41 ، 44 ، 175 ، 519 ، 520 ، 522 ، 523 ، 524 ، 527 ، 528 ، 532 ، 540 ، 578 ، 583 ، 584 ، 587 ، 678.

طهران 7.

طيسفون 364.

الظهران 432 ، 480.

العراق 15 ، 125 ، 136 ، 357 ، 616 ، 674.

ص: 746

عرفات 629 ، 636.

عسفان 300.

عسقلان 616.

العقبة 573.

عكاظ ( سوق ) 231.

فدك 94 ، 246 ، 421 ، 424 ، 425 ، 426 ، 427 ، 428.

فرنسا 126.

فلسطين 642 ، 659.

القادسية 550.

القاهرة 241.

قبا 579 ، 616.

قسطنطنية 358 ، 359 ، 364 ، 553.

قم 131 ، 216.

القموص ( حصن ) 390 ، 394 ، 409.

الكديد 426.

كربلاء 423.

الكعبة المعظمة 47 ، 50 ، 51 ، 53 ، 201 ، 324 ، 434 ، 493 ، 494 ، 495 ، 497 ، 498 ، 499 ، 539 ، 589 ، 630.

الكوفة 426.

لبنان 7.

لندن 7.

المدائن 364.

المدينة 5 ، 6 ، 9 ، 10 ، 11 ، 12 ، 18 ، 21 ، 23 ، 24 ، 25 ، 26 ، 31 ، 32 ، 34 ، 36 ، 37 ، 39 ، 40 ، 42 ، 47 ، 48 ، 49 ، 51 ، 52 ، 54 ، 55 ، 56 ، 57 ، 58 ، 59 ، 60 ، 67 ، 68 ، 69 ، 71 ، 77 ، 87 ، 88 ، 89 ، 91 ،

ص: 747

93 ، 121 ، 122 ، 126 ، 127 ، 128 ، 129 ، 131 ، 132 ، 133 ، 134 ، 135 ، 136 ، 139 ، 140 ، 141 ، 142 ، 144 ، 145 ، 146 ، 148 ، 150 ، 151 ، 154 ، 155 ، 156 ، 171 ، 174 ، 175 ، 176 ، 185 ، 186 ، 188 ، 189 ، 191 ، 192 ، 193 ، 196 ، 197 ، 199 ، 200 ، 201 ، 202 ، 203 ، 204 ، 205 ، 206 ، 207 ، 208 ، 211 ، 213 ، 227 ، 228 ، 246 ، 248 ، 250 ، 251 ، 254 ، 255 ، 256 ، 259 ، 260 ، 271 ، 272 ، 278 ، 279 ، 281 ، 282 ، 286 ، 288 ، 289 ، 292 ، 293 ، 296 ، 298 ، 300 ، 301 ، 302 ، 304 ، 306 ، 308 ، 313 ، 314 ، 315 ، 317 ، 318 ، 325 ، 327 ، 339 ، 344 ، 345 ، 348 ، 349 ، 350 ، 358 ، 372 ، 376 ، 379 ، 380 ، 381 ، 382 ، 383 ، 386 ، 387 ، 389 ، 410 ، 412 ، 418 ، 421 ، 424 ، 431 ، 435 ، 436 ، 438 ، 440 ، 446 ، 448 ، 450 ، 452 ، 453 ، 454 ، 455 ، 456 ، 458 ، 466 ، 467 ، 468 ، 473 ، 476 ، 477 ، 488 ، 492 ، 514 ، 522 ، 536 ، 537 ، 540 ، 542 ، 543 ، 545 ، 547 ، 549 ، 553 ، 554 ، 557 ، 558 ، 559 ، 560 ، 561 ، 562 ، 565 ، 568 ، 569 ، 572 ، 573 ، 575 ، 576 ، 578 ، 579 ، 581 ، 583 ، 584 ، 589 ، 592 ، 602 ، 605 ، 606 ، 610 ، 615 ، 616 ، 617 ، 619 ، 620 ، 623 ، 629 ، 643 ، 644 ، 646 ، 656 ، 660 ، 661 ، 664 ، 667 ، 674 ، 680 ، 681 ، 686.

المروة ( جبل ) 434 ، 435 ، 630.

المسجد الاقصى 113.

المسجد الحرام 47 ، 48 ، 50 ، 119 ، 325 ، 326 ، 434 ، 492 ، 493 ، 495 ، 496 ، 497 ، 628.

مسجد الأحزاب 457 ..

مسجد الشجرة 629.

ص: 748

مسجد ضرار 148 ، 569.

مسجد العريش 67.

مصر ( بلاط ) 339 ، 356 ، 358 ، 369 ، 370 ، 371 ، 373 ، 374 ، 377 ، 379 ، 442 ، 542 ، 615 ، 616 ، 647 ، 656 ، 674.

مكة المكرمة 3 ، 8 ، 9 ، 33 ، 34 ، 37 ، 38 ، 39 ، 40 ، 41 ، 44 ، 47 ، 49 ، 53 ، 55 ، 56 ، 57 ، 58 ، 65 ، 67 ، 68 ، 81 ، 82 ، 88 ، 90 ، 91 ، 92 ، 121 ، 128 ، 133 ، 135 ، 136 ، 137 ، 140 ، 150 ، 174 ، 175 ، 180 ، 181 ، 191 ، 193 ، 194 ، 199 ، 200 ، 213 ، 228 ، 229 ، 231 ، 247 ، 248 ، 250 ، 257 ، 293 ، 300 ، 303 ، 307 ، 324 ، 325 ، 326 ، 327 ، 331 ، 332 ، 333 ، 334 ، 335 ، 339 ، 342 ، 343 ، 344 ، 345 ، 346 ، 348 ، 349 ، 352 ، 366 ، 419 ، 420 ، 429 ، 430 ، 431 ، 432 ، 433 ، 434 ، 436 ، 437 ، 438 ، 452 ، 464 ، 465 ، 467 ، 469 ، 470 ، 471 ، 472 ، 473 ، 474 ، 475 ، 477 ، 478 ، 479 ، 480 ، 481 ، 484 ، 485 ، 487 ، 488 ، 489 ، 490 ، 491 ، 492 ، 495 ، 496 ، 497 ، 500 ، 504 ، 505 ، 506 ، 507 ، 509 ، 513 ، 514 ، 516 ، 519 ، 521 ، 537 ، 538 ، 540 ، 542 ، 552 554 ، 560 ، 578 ، 588 ، 589 ، 591 ، 613 ، 614 ، 615 ، 616 ، 619 ، 620 ، 629 ، 630 ، 631 ، 632 ، 633 ، 646.

منى 620 ، 630 ، 634 ، 637.

ناعم ( حصن ) 390 ، 392 ، 394 ، 402.

نجد 203 ، 204 ، 250 ، 294 ، 383 ، 445 ، 548.

نجران 405 ، 578 ، 601 ، 602 ، 603 ، 604 ، 605.

النطاة ( حصن ) 407 ، 408 ، 606 ، 607 ، 610 ، 611 ، 612 ، 613 ، 614 ، 616 ، 617 ، 619 ، 620 ، 626 ، 633 ، 636.

الهند 111.

ص: 749

وادي الرمل 455.

وادي ذفران 57 ، 58.

وادي القرى 35 ، 121 ، 139 ، 386 ، 418 ، 421 ، 439.

وادي اليابس 454 ، 455 ، 456 ، 457.

يثرب 9 ، 17 ، 21 ، 22 ، 25 ، 27 ، 42 ، 66 ، 73 ، 121 ، 140 ، 209 ، 251 ، 247 ، 248.

اليرموك 381.

اليمامة 356 ، 384 ، 623 ، 657 ، 658.

اليمن 175 ، 335 ، 357 ، 366 ، 367 ، 368 ، 381 ، 382 ، 505 ، 509 ، 539 ، 549 ، 601 ، 613 ، 619 ، 623 ، 624 ، 625 ، 626 ، 632 ، 637 ، 643 ، 656 ، 659.

ص: 750

(9) فهرس المذاهب والأديان ونظم الحكم

الامامية ( الشيعة ) 172 ، 612 ، 660.

الروم ( الامبراطورية الرومية ) 21 ، 93 ، 356 ، 357 ، 358 ، 360 ، 361 ، 362 ، 363 ، 364 ، 369 ، 373 ، 376 ، 379 ، 381 ، 382 ، 387 ، 431 ، 444 ، 445 ، 446 ، 464 ، 552 ، 553 ، 554 ، 555 ، 568 ، 571 ، 572 ، 581 ، 582 ، 602 ، 632 ، 642.

الساسانيون 357 ، 364.

السنة ( أهل ) 172 ، 423 ، 659 ، 660 ، 661 ، 667.

الصابئون 550.

العباسيون 427 ، 428 ، 541.

الغساسنة 382 ، 383.

الفاطميون 118 ، 338 ، 427.

الفرس 93 ، 357 ، 358 ، 575 ، 643.

القياصرة ( الروم ) 643.

المستشرقون 42 ، 43 ، 46 ، 110 ، 147 ، 160 ، 203 ، 230 ، 238 ، 341 ، 353 ، 354 ، 356 ، 396 ، 411 ، 414 ، 478 ، 506 ، 588 ، 589.

النصارى ( المسيحيون ) 4 ، 28 ، 120 ، 239 ، 240 ، 304 ، 352 ، 364 ، 371 ، 380 ، 405 ، 415 ، 442 ، 547 ، 552 ، 559 ، 571 ، 578 ، 602 ، 603 ، 604 ، 606 ، 607 ، 610 ، 619 ، 629 ، 642 ، 643.

ص: 751

اليهود 18 ، 21 ، 22 ، 23 ، 24 ، 25 ، 26 ، 28 ، 29 ، 30 ، 31 ، 39 ، 43 ، 45 ، 47 ، 48 ، 49 ، 50 ، 82 ، 88 ، 121 ، 122 ، 123 ، 124 ، 125 ، 126 ، 132 ، 135 ، 139 ، 142 ، 145 ، 146 ، 206 ، 207 ، 208 ، 209 ، 210 ، 211 ، 212 ، 214 ، 215 ، 247 ، 249 ، 250 ، 252 ، 255 ، 257 ، 259 ، 260 ، 270 ، 272 ، 273 ، 282 ، 284 ، 285 ، 286 ، 287 ، 288 ، 289 ، 290 ، 291 ، 292 ، 297 ، 298 ، 304 ، 321 ، 377 ، 387 ، 388 ، 389 ، 390 ، 391 ، 392 ، 393 ، 394 ، 395 ، 396 ، 398 ، 399 ، 400 ، 402 ، 404 ، 405 ، 406 ، 407 ، 413 ، 414 ، 415 ، 416 ، 417 ، 418 ، 419 ، 421 ، 429 ، 438 ، 442 ، 523 ، 556 ، 578 ، 660.

ص: 752

(10) فهرس الموضوعات العلمية المبحوثة ضمنا

1 - مميزات النهضة الالهية وخصائصها 3

2 - دور المساجد في الاسلام 9

3 - خطأ المستشرقون في تفسير المناورات العسكرية 42

4 - كرامة علمية لرسول اللّه في مسألة القبلة 51

5 - اهمية الزواج في الاسلام ومشاكل الزواج المعاصرة وعلاجها 100

6 - المستشرقون والاساءة الى النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) في قصة زينب 237

7 - عالمية الرسالة المحمدية 354

8 - فدك وحكم الاراضي المفتوحة بلا قتال 422

9 - نوعية علم رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بالمغيبات 564

10 - مكافحة الاسلام للخرافة 599

11 - الخلافة من منظار السنة ، والشيعة 639

12 - الارتباط بالارواح في ضوء مكالمة أهل البقيع 665

ص: 753

(11) فهرس المصادر

1 - الآثار الباقية للبيروني

2 - الأبطال لتوماس كارلايل

3 - ابو طالب مؤمن قريش للخنيزي

4 - الإتحاف للشبراوي

5 - الاحتجاج للطبرسي

6 - إحياء العلوم للغزالي

7 - أخبار أصفهان لابي نعيم الاصفهاني

8 - الاخبار الطوال للدينوري

9 - الارشاد للمفيد

10 - إرشاد الساري للقسطلاني

11 - از پرويز تا جنكيز لتقي زاده

12 - الاستغاثة لأبي القاسم الكوفي

13 - الاستيعاب لابن عبد البر

14 - اسد الغابة لابن الاثير الجزري

15 - الاسفار الاربعة لصدر الدين الشيرازي

16 - اسلام وجاهليت ( بالفارسية ) للنوري

17 - الاشارات والتنبيهات لابن سينا

18 - الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر

ص: 754

19 - أصالة روح ( بالفارسية ) لصاحب الدراسة

20 - الاصنام للكلبي

21 - اعلام النساء لكحالة

22 - إعلام الورى بأعلام الورى للطبرسي

23 - أعيان الشيعة للسيد محسن العاملي

24 - الأغاني للراغب الاصفهاني

25 - الاقبال لابن طاوس

26 - الامالي للطوسي

27 - الامالي للصدوق

28 - الامامة والسياسة لابن قتيبة

29 - إمتاع الاسماع للمقريزي

30 - الاحوال لابن سلام

31 - الانجيل

32 - أنيس الاعلام لفخر الاسلام

33 - اوائل المقالات للمفيد

34 - ايران در عهد ساسانيان ( بالفارسية ) ارتو كريستن سن

( ب )

35 - بحار الانوار للمجلسي

36 - البداية والنهاية لابن كثير

37 - برهان رسالة ( بالفارسية ) صاحب الدراسة

38 - بلوغ الادب في معرفة احوال العرب للآلوسي

( ت )

39 - التاج الجامع للاصول لناصف

40 - تاريخ اجتماعي ايران ( بالفارسية ) لجماعة من المؤلفين

41 - تاريخ الامم والملوك للطبري

ص: 755

42 - تاريخ بغداد للبغدادي

43 - تاريخ تمدن ايران در عهد ساسانيان ( بالفارسية ) لذبيح اللّه صفا

44 - تاريخ الخلفاء للسيوطي

45 - تاريخ الخميس للديار بكري

46 - تاريخ سني ملوك الارض والأنبياء لحمزة الاصفهاني

47 - تاريخ العرب لفيلب

48 - تاريخ علوم وادبيات در ايران ( بالفارسية ) لصفا

49 - تاريخ القرآن للزنجاني

50 - تاريخ اليعقوبي لليعقوبي

51 - تأسيس الشيعة لعلوم الاسلام للصدر

52 - تحرير الاحكام للعلامة الحلي

53 - التحرير للنووي

54 - تحف العقول لابن شعبة الحراني

55 - تحفة الأجلة في معرفة القبلة للكابلي

56 - تذكرة الخواص لسبط ابن الجوزي

57 - التراتيب الدراية للكتاني

58 - الترغيب والترهيب للمنذري

59 - تفسير ابو الفتوح الرازي

60 - تفسير البرهان للبحراني

61 - تفسير التبيان للطوسي

62 - تفسير روح المعاني للآلوسي

63 - تفسير صحيح آيات مشكلة ( بالفارسية ) صاحب الدراسة

64 - تفسير الدر المنثور للسيوطي

65 - تفسير الطبري للطبري

66 - تفسير مفاتيح الغيب للفخر الرازي

ص: 756

67 - تفسير الكشاف للزمخشري

68 - تفسير العياشي للعياشي

69 - تفسير فرات الكوفي لفرات الكوفي

70 - تفسير في ظلال القرآن لسيد قطب

71 - تفسير القرطبي للقرطبي

72 - تفسير القمي للقمي

73 - تفسير مجمع البيان للطبرسي

74 - تفسير المنار لعبده - رشيد رضا

75 - تفسير الميزان للطباطبائي

76 - تفسير نور الثقلين للحويزي

77 - التقريب للحافظ العراقي

78 - تقييد العلم للبغدادي

79 - التنبيه والاشراف للمسعودي

80 - تنقيح المقال للمامقاني

81 - التوراة

82 - تهذيب الاصول لصاحب الدراسة

83 - تهذيب الاسماء واللغات للنووي

84 - تهذيب التهذيب للعسقلاني

( ث )

85 - ثمار القلوب للثعالبي

( ج )

86 - جغرافياى كشورهاى اسلامي ( بالفارسية ) الفقيهي

87 - جمهرة خطب العرب لصفوة

88 - جهان بيني اسلامي ( بالفارسية ) للشهيد المطهري

ص: 757

( ح )

89 - حجة الذاهب الى ايمان ابي طالب لفخار بن معد

90 - حلية الاولياء لابي نعيم الاصفهاني

91 - حياة محمد لهيكل

( خ )

92 - الخرائج والجرائح للراوندي

93 - الخصائص للنسائي

94 - الخصال للصدوق

( د )

95 - دائرة المعارف وجدي

96 - در مكتب وحي لصاحب الدراسة

97 - الدرجات الرفيعة للسيد علي خان المدني

98 - الذريعة الى تصانيف الشيعة لآغا بزرك الطهراني

99 - ديوان أبي طالب

( ذ )

100 - ذخائر العقبى للطبري

( ر )

101 - بزرك رسالت ( بالفارسية ) لصاحب الدراسة

102 - رجال الشيخ الطوسي

103 - الروض الانف للسهيلي

104 - روضة الكافي للكليني

105 - روضة المتقين للمجلسي

106 - الرياض النضرة لمحبّ الدين الطبري

( ز )

107 - زاد المعاد لابن القيم

ص: 758

( س )

108 - سفينة البحار للقمي

109 - السقيفة ( كتاب ) لابي بكر الجوهري

110 - سنن البيهقي للبيهقي

111 - سيرة الملائي لعمر بن محمد

112 - السيرة النبوية لابن هشام

113 - السيرة النبوية لدحلان

114 - السيرة الحلبية للحلبي

( ش )

115 - شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد

(ص)

116 - صحيح البخاري / للبخاري

117 - صحيح الترمذي / للترمذي

118 - صحيح مسلم / ل مسلم

119 - الصحيفة السجادية / للامام السجاد (عليه السلام)

120 - الصواعق المحرقة / للهيثمي

( ط )

121 - الطبقات الكبرى لابن سعد

(ع)

122 - عبقات الانوار لمير حامد

123 - عدة الاصول للطوسي

124 - العقد الفريد لابن عبد ربه

125 - علل الشرائع للصدوق

126 - عمدة الطالب لابن المهنا

127 - عيون اخبار الرضا للصدوق

ص: 759

128 - عيون الاثر لابن سيد الناس

129 - عيون المجالس

( غ )

130 - الغارات للثقفي

131 - الغدير للاميني

( ف )

132 - فتوح البلدان للبلاذري

133 - فتوح الشام للواقدي

134 - فرائد السمطين للجويني

135 - الفصول المهمة لابن الصباغ

136 - الفهرست للنجاشي

137 - الفهرست لابن النديم

( ق )

138 - القاموس المحيط للفيروزآبادي

139 - قرب الاسناد للحميرى

140 - قرة العيون المبصرة للحنفي

( ك )

141 - الكامل في التاريخ لابن الاثير

142 - الكافي اصولا وفروعا للكليني

143 - كشف الظنون لخليفة

144 - كشف الغمة للاربلي

145 - كشف المراد للعلاّمة الحلي

146 - كشف اليقين للعلاّمة الحلي

147 - كفاية الطالب للكنجي

ص: 760

149 - كنز الفوائد للكراجكي

150 - كنوز الحقائق للمناوي

151 - كنوز الدقائق للمناوي

( ل )

152 - اللئالى المصنوعة للسيوطي

153 - لسان الميزان لابن حجر

154 - اللوامع الالهية للفاضل المقداد

( م )

155 - ما ذا خسر العالم بانحطاط المسلمين للندوي

156 - المباهلة ( كتاب ) لابي المفضل الشيباني

157 - المبدأ والمعاد للملا صدرا

158 - المحجة البيضاء للفيض

159 - مجالس ابن الشيخ للطوسي

160 - المجالس للمفيد

161 - المحاسن والمساوى للبيهقي

162 - المحبّر لمحمد بن حبيب

163 - مروج الذهب للمسعودي

164 - المراجعات لشرف الدين

165 - المسند لابن حنبل

166 - المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري

167 - مصباح الظلام للدمياطي

168 - مصباح المتهجد للطوسي

169 - معالم العترة للجنابذي

170 - معجم البلدان للحموي

171 - المفصل في تاريخ العرب للدكتور جواد علي

ص: 761

172 - مقتل الخوارزمي للخوارزمي

173 - المغازي للواقدي

174 - مفاهيم القرآن لصاحب الدراسة

175 - مقاتل الطالبيين لابي الفرج الاصفهانى

176 - مقدمة ابن خلدون

177 - مكاتيب الرسول للأحمدي

178 - مكارم الاخلاق للطبرسي

179 - الملل والنحل للشهرستاني

180 - من لا يحضره الفقيه للصدوق

181 - مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب

181 - المناقب للخوارزمي

182 - مناهل العرفان للزرقاني

183 - المنتقى لابن تيمية

184 - منهاج السنة لابن تيمية

185 - المواهب اللدنية للقسطلاني

186 - المواقف للايجي

187 - الموسوعة العربية الميسرة لجماعة من المؤلفين

188 - ميزان الاعتدال للذهبي

( ن )

189 - ناسخ التواريخ لسپهر

190 - نزهة المجالس للصفوري

191 - النص والاجتهاد للسيد شرف الدين

192 - النهاية لابن الاثير

193 - نهج البلاغة للشريف الرضي

194 - نور الابصار للشبلنجيّ

ص: 762

( و )

195 - الوثائق السياسية للبروفيسور حميد اللّه

196 - وسائل الشيعة للحر العاملي

197 - فاء الوفاء للسمهودي

198 - وفيات الأعيان لابن خلكان

199 - وقعة صفين لابن مزاحم

200 - الولاية في طرق حديث الغدير للطبري

( ه- )

201 - الهدى الى دين المصطفى للبلاغي

( ي )

202 - ينابيع المودة للقندوزي

ص: 763

(12) فهرس المواضيع

26 - أوّل عمل ايجابيّ للنبيّ في المدينة

وقائع السنة الاولى من الهجرة

9 - 32

عقد ميثاق تعايش بين المسلمين وغيرهم ... 9

مع عمار بن ياسر في بناء المسجد النبويّ ... 12

ضئر أرأف من والدة ... 16

التآخي ؛ أو أعظم معطيات الايمان ... 18

منقبتان عظيمتان ... 19

منقبة أخرى لعليّ علیه السلام ... 20

معاهدة الدفاع المشترك بين المسلمين ويهود يثرب ... 21

أعظم معاهدة تاريخية ... 22

ممارسات اليهود الإجهاضية ... 27

خطة أخرى للقضاء على الحكومة الاسلامية ... 29

27 - مناورات عسكرية واستعراضات حربية

وقائع السنة الثانية من الهجرة

33 - 46

تهديد خطوط قريش التجارية ... 34

النبيّ صلی اللّه علیه و آله يلاحق قريشا بنفسه ... 36

ما ذا كان الهدف من المناورات العسكرية ... 41

ص: 764

نظرية المستشرقين حول هذه المناورات ... 42

28 - تحويل القبلة

من بيت المقدس الى الكعبة

47 - 52

كرامة علمية لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ... 51

29 - معركة بدر

53 - 99

النبيّ يتوجه الى منطقة ذفران ... 55

المشكلة التي كانت تواجهها قريش ... 58

النبيّ يعقد شورى عسكرية ... 59

إخفاء الحقائق وكتمانها ... 60

قرار الشورى الحاسم أو رأي زعيم الأنصار ... 62

تحصيل المعلومات حول العدوّ... 63

كيف هرب أبو سفيان ... 66

علم المسلمين بإفلات قافلة قريش ... 68

إختلاف قريش في القتال ... 68

« العريش » أو غرفة القيادة ... 70

نظرة الى مسألة العريش ... 70

تحرك قريش باتجاه بدر ... 72

قريش تتشاور في القتال ... 72

اختلاف قادة قريش في امر القتال ... 74

ما الذي حتّم القتال؟ ... 75

المبارزات الفردية أولا ... 76

أي القولين هو الأصح حول المبارزين؟ ... 77

الهجوم العامّ ... 78

ص: 765

رعاية الحقوق ... 80

مصرع أميّة بن خلف ... 80

خسائر بدر في الأرواح والاموال ... 81

ما أنتم باسمع منهم ... 82

الشعر يخلّد هذه القصة ... 83

بعد معركة بدر ... 85

قتل أسيرين في اثناء الطريق ... 87

المكيّون يعرفون بمقتل أسيادهم ... 88

بشائر النبي الى المدينة ... 88

اشتراك العباس عمّ النبيّ في بدر ... 89

المنع من النوح والبكاء في مكة ... 90

القرار الأخير حول مصير الاسارى ... 91

رسول الاسلام ومكافحة الامية ... 93

كلام لابن أبي الحديد في المقام ... 94

القرآن يتحدث عن بدر ... 95

30 - زواج سيدة النساء

100 - 120

مشاكل الزواج في العصر الحاضر ... 101

رسول الاسلام يكافح هذه المشاكل عمليّا ... 102

جهاز فاطمة ... 105

مراسم الزواج تقام ببساطة ... 107

31 - جرائم بني قينقاع ( اليهود )

121 - 131

لهيب الحرب يبدأ من شرارة ... 123

تقارير جديدة تصل الى المدينة ... 127

ص: 766

غزوات في هذه السنة ... 127

1 - غزوة قرقرة الكدر ... 128

2 - غزوة السويق ... 128

3 - غزوة ذي أمر ... 129

قريش تغيّر مسير تجارتها ... 131

32 - الدفاع عن الحرية ( أو معركة احد )

حوادث السنة الثالثة من الهجرة

132 - 195

سرية محمّد بن مسلمة لاغتيال كعب بن الأشرف ... 132

اغتيال مفسد آخر ... 135

قريش تتكفل نفقات الحرب ... 135

الاستخبارات ترفع تقريرا الى النبيّ ... 137

جيش قريش يتحرك باتجاه المدينة ... 138

منطقة احد ... 139

المشاورة في كيفية الدفاع ... 140

الاقتراع من أجل الشهادة ... 142

حصيلة الشورى ... 144

النبيّ يخرج من المدينة ... 145

جنديان فدائيان ... 146

العسكران يصطفّان ... 150

رفع معنويات الجنود وتقوية عزائمهم ... 151

العدوّ ينظّم صفوفه ... 152

الإثارة النفسيّة وإلهاب الحماس ... 153

القتال يبدأ ... 154

المقاتلون بدافع الشهوة ... 157

ص: 767

الهزيمة بعد الانتصار ... 158

شائعة مقتل النبيّ ... 160

هل يمكن أن ينكر أحد فرار البعض ... 161

القرآن يكشف عن بعض الحقائق ... 162

التجارب المرة ... 164

خمسة يتحالفون على قتل النبيّ ... 165

الدفاع الموفق أو النصر المجدّد ... 169

حمزة بن عبد المطلب ... 173

العدوّ يحاول استغلال الفرصة ... 179

نهاية المعركة ... 181

آخر ما نطق به سعد بن الربيع ... 184

النبيّ يعود الى المدينة ... 185

ذكريات مثيرة عن امرأة مؤمنة ... 187

نموذج آخر من النسوة المجاهدات ... 187

لا بدّ من ملاحقة العدو ... 190

حمراء الأسد ... 192

لا يخدع مؤمن مرّتين ... 194

ميلاد الامام الحسن السبط ... 195

33 - فاجعة فريق المبلّغين

196 - 205

خطة ما كرة للفتك بالمبلّغين ... 197

الغدر بالدعاة الى الإسلام وقتلهم ... 198

دور حزب النفاق أيضا ... 201

جريمة بئر معونة ... 202

ص: 768

كيد المستشرقين ... 203

المؤمن لا يلدغ من جحر مرّتين ... 204

34 - غزوة بني النضير

206 - 215

بما ذا يجب أن تقابل هذه الجريمة ... 208

المستشرقون ودموع التماسيح ... 210

مزارع بني النضير تقسّم بين المهاجرين فقط ... 213

35 - تحريم الخمر

غزوة ذات الرقاع ، غزوة بدر الصغرى

216 - 229

1 - تحريم الخمر ... 216

وقفة عند « البيان الشافي » في الخمر ... 220

رواية مختلقة ... 221

2 - غزوة ذات الرقاع ... 225

مواقف خالدة في هذه الغزوة ... 227

الحرّاس الصامدون ... 227

3 - غزوة بدر الثانية ... 228

ولادة السبط الأصغر لرسول اللّه ... 229

36 - من أجل تحطيم التقاليد الخاطئة

حوادث السنة الخامسة من الهجرة

230 - 245

زواج النبي (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بمطلقة دعيّه زيد ... 230

من هو زيد بن حارثة ... 231

زيد يتزوج ببنت عمة النبي ( زينب بنت جحش ) ... 232

زيد يطلّق زوجته زينب ... 233

ص: 769

زواج النبيّ بمطلقة متبناه لابطال سنة جاهلية ... 234

المستشرقون وقضية تزوّج النبيّ بزينب ... 237

توضيح الحقيقة وردّ الشبهة ... 239

37 - غزوة الأحزاب

بعض غزوات السنة الخامسة

246 - 280

1 - غزوة دومة الجندل ... 246

2 - غزوة الخندق ( الأحزاب ) ... 247

استخبارات المسلمين ترفع تقريرا للقيادة ... 250

القولة النبوية الخالدة في شأن سلمان ... 253

مقاتلوا العرب واليهود يحاصرون المدينة ... 254

العدد الدقيق لقوات الطرفين ... 254

خطر البرد ، وتناقص الغذاء والعلف ... 255

النبي يعرف بنقض بني قريظة للعهد ... 258

تجاوزات بني قريظة الاولية ... 259

الإيمان في مواجهة الكفر ... 260

أبطال من العرب يعبرون الخندق ... 262

تصاول البطلين ... 266

ضربة عليّ (عليه السلام) لعمرو وقيمة هذه الضربة ... 267

لما ذا التنكر لهذا الموقف؟ ... 267

مروءة عليّ علیه السلام وشهامته ... 269

جيش العرب يتفرق في موقفه ... 270

العوامل التي فرقت كلمة الاحزاب ... 272

مبعوثو قريش يمشون إلى بني قريظة ... 274

آخر العوامل لهزيمة الكفار ... 275

ص: 770

القرآن الكريم ومعركة الاحزاب ... 276

38 - سقوط آخر اوكار الفساد والمؤامرة

281 - 295

قوات الاسلام تحاصر بني قريظة ... 282

اليهود يتشاورون حول الموقف ... 283

خيانة أبي لبابة ... 286

إلى أيّ مدى ذهب الطابور الخامس في مشاغبته؟ ... 288

حكم سعد في بني قريظة وتقييم ما استند إليه ... 290

39 - أعداء الاسلام تحت المراقبة المشدّدة

حوادث السنة السادسة من الهجرة

296 - 302

أهل الرأي من قريش يهاجرون الى الحبشة ... 298

الوقاية من تكرار التجارب المرة ... 299

النذر غير المشروع ... 302

40 - تمرّد بني المصطلق

303 - 312

غزوة بني المصطلق ... 304

منافق حاول إشعال الموقف ... 306

صراع بين الايمان والعاطفة ... 309

41 - قصة الإفك

313 - 323

الفاسق يفتضح ... 313

المنافقون يتهمون شخصا نقيّ الجيب ... 314

أبرز النقاط في آيات الإفك ... 317

الزوائد في هذه القصة ... 318

ص: 771

1 - منافاتها لمقام النبوة والعصمة صلی اللّه علیه و آله ... 318

2 - سعد بن معاذ توفي قبل حادثة الإفك ... 320

42 - رحلة سياسية دينيّة

324 - 351

مندوبو قريش عند النبي صلی اللّه علیه و آله ... 328

رسول اللّه يبعث مندوبا الى قريش ... 331

النبي يبعث سفيرا آخر الى قريش ... 332

سهيل بن عمرو يفاوض رسول اللّه ... 335

التاريخ يعيد نفسه ... 337

نصّ صلح الحديبية ... 339

نشيد الحرية ... 340

آخر الجهود للحفاظ على عملية الصلح ... 341

والقصّة التالية تشهد بما نقول ... 342

تقييم عاجل لصلح الحديبية ... 344

قريش تصرّ على إلغاء أحد بنود المعاهدة ... 348

النساء المسلمات لا يسلّمن إلى قريش ... 350

43 - النبيّ يعلن عن رسالته العالمية

حوادث السنة السابعة من الهجرة

352 - 385

الرسالة المحمّدية كانت عالمية ... 354

آيات تدل على عالمية الرسالة المحمّدية ... 355

رسل الاسلام الى المناطق النائية ... 356

أوضاع العالم أيام إبلاغ الرسالة العالمية ... 357

رسول النبي صلی اللّه علیه و آله في أرض الروم ... 358

ص: 772

قيصر يحقّق حول النبي ... 360

أثر رسالة النبي إلى قيصر ... 363

سفير النبيّ في البلاط الإيراني ... 363

نظرية اليعقوبي ... 366

سفير النبيّ في أرض مصر ... 369

المقوقس يكتب كتابا الى النبيّ ... 372

سفير النبيّ صلی اللّه علیه و آله في أرض الذكريات « الحبشة » ... 375

محاورة سفير النبيّ وحاكم الحبشة ... 377

تقييم سريع لمراسلة النبي صلی اللّه علیه و آله قادة العالم ... 378

كتاب رسول اللّه الى أمير الغساسنة ( بالشام ) ... 381

سادس السفراء في أرض اليمن ... 383

رسائل اخرى لرسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ... 385

44 - قلعة خيبر أو بؤرة الخطر

386 - 420

احتلال النقاط والطرق الحساسة ليلا ... 390

متاريس اليهود تتهاوى ... 392

التقوى في ظروف المخمصة الشديدة ... 394

فتح الحصون الواحد تلو الآخر ... 396

الانتصار الكبير في خيبر ... 399

تحريف الحقائق ... 401

ثلاث نقاط مشرقة في حياة علي علیه السلام ... 404

عوامل الانتصار ... 405

1 - التخطيط والتكتيك العسكري الدقيق ... 406

2 - تحصيل المعلومات حول العدوّ ... 407

3 - تفاني امير المؤمنين ... 408

ص: 773

الرحمة في ساحة القتال ... 409

مصرع كنانة بن الربيع ... 410

تقسيم غنائم الحرب ... 410

قافلة من أرض الذكريات ( الحبشة ) ... 412

حجم الخسائر وعدد القتلى ... 413

العفو بعد الانتصار ... 413

سلوك اليهود المتعجرف ... 416

حيلة مجازة ... 419

45 - قصة فدك

421 - 429

حكم الاراضي المفتوحة بلا قتال ... 422

قصة فدك بعد رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ... 425

فدك في محكمة التاريخ ... 428

السيطرة على وادي القرى ... 429

46 - عمرة القضاء

430 - 437

النبي يدخل مكة ... 433

النبي يغادر مكة ... 436

47 - معركة مؤتة

السنة الثامنة من الهجرة

438 - 451

حادثة أفجع من سابقتها ... 439

خلاف حول من هو الامير الاول ... 441

جيشا الروم والاسلام يتواجهان ... 444

حيرة المقاتلين المسلمين بعد مقتل القادة ... 447

ص: 774

الجنود المسلمون يعودون الى المدينة ... 448

اسطورة بدل التاريخ الصحيح ... 449

النبيّ يبكي بشدة لمقتل جعفر ... 450

48 - غزوة ذات السلاسل

452 - 461

تفاصيل هذه الغزوة ... 454

الامام عليّ ينتدب لقيادة العملية ... 457

عوامل انتصار الامام عليّ في هذه الموقعة ... 457

اعتراض وجواب ... 459

49 - فتح مكة

462 - 512

تفاصيل فتح مكّة ... 463

قريش تتوجس خيفة من ردّ النبيّ ... 466

جاسوس يكتشف ... 469

النبي يتحرك باتجاه مكة ... 475

العفو عند المقدرة ... 477

تكتيك رائع لجيش الاسلامي ... 480

العباس يصطحب أبا سفيان إلى خيمة النبي ... 482

أبو سفيان بين يدي رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ... 483

مكة تستسلم من دون إراقة دماء ... 485

أبو سفيان يرجع إلى مكة ... 488

القوات الاسلامية تدخل مكة ... 490

كسر الاصنام وغسل الكعبة... 492

عليّ علیه السلام على كتف النبيّ ... 494

النبي يعلن عن العفو العام ... 497

ص: 775

بلال يرفع الأذان على سطح الكعبة ... 497

النبي يتحدث إلى أقاربه ... 499

خطاب النبي التاريخي في المسجد الحرام ... 500

التفاخر بالنسب ... 501

التفاضل بالقومية ... 501

لجميع أبناء البشر لا لبعض دون بعض ... 502

الحروب الطويلة والاحقاد القديمة ... 502

الاخوة الاسلامية ... 503

معاقبة المجرمين ... 504

قصّة عكرمة وصفوان ... 505

مبايعة النبي نساء مكة ... 506

هدم بيوت الاصنام بمكة وما حولها ... 509

جرائم اخرى لخالد ... 511

50 - معركة حنين

513 - 520

جيش قليل النظير ... 514

تحصيل المعلومات العسكرية ... 514

تجهيزات المسلمين ... 516

استقامة النبي ومن ثبت من أصحابه ... 517

لقطتان من الخلق النبوي العظيم ... 519

51 - غزوة الطائف

521 - 536

شدخ جدار الحصن بالمنجنيق ... 523

ضغوط اقتصادية ونفسية ... 524

آخر محاولة لفتح حصن الطائف ... 526

ص: 776

جيش الاسلام يعود الى المدينة ... 526

حوادث ما بعد الحرب ... 528

اسلام مالك بن عوف ... 532

تقسيم الغنائم ... 533

رسول اللّه يعتمر ... 536

52 - لامية كعب بن زهير المعروفة

537 - 542

حزن قارن فرحا ... 542

53 - عليّ بن أبي طالب في أرض طيّ

حوادث السنة التاسعة من الهجرة

543 - 551

إسلام عديّ بن حاتم الطائي ... 543

هدم بيوت الاصنام ... 546

علي في أرض طيّ ... 547

54 - غزوة تبوك

552 - 580

تعبئة المقاتلين وتهيئة نفقات الحرب ... 553

المتخلّفون عن القتال ... 554

اكتشاف شبكة جاسوسيّة في المدينة ... 555

عدم مشاركة « عليّ » في غزوة تبوك ... 557

جيش الاسلام يتحرك نحو تبوك ... 559

النبيّ صلی اللّه علیه و آله يستعرض جيشه ... 560

قصة مالك بن قيس ... 561

مصاعب الطريق ... 562

تعليمات احتياطيّة ... 563

ص: 777

علم رسول اللّه (صلی اللّه عليه وآله وسلم) بمغيبات واخباره بها ... 564

جيش الإسلام في أرض تبوك ... 568

بعث خالد إلى دومة الجندل ... 570

تقييم إجمالي لغزوة تبوك ... 572

المنافقون يخطّطون لاغتيال النبي ... 573

النية تقوم مقام العمل ... 574

أخذ المتخلّفين بالعقاب النفسيّ ... 576

قصة مسجد الضّرار ... 578

55 - وفد ثقيف في المدينة

581 - 587

وقوع الفرقة والاختلاف في قبيلة ثقيف ... 582

شروط وفد ثقيف ... 584

56 - إعلان البراءة من المشركين في منى

588 - 595

تعصّب بغيض في تحليل هذا الحدث ... 593

57 - في رثاء الولد العزيز

حوادث السنة العاشرة من الهجرة

596 - 600

اعتراض غير وجيه ... 598

مكافحة الخرافات ... 599

58 - وفد نجران في المدينة

601 - 609

مفاوضات وفد نجران مع النبي ... 603

خروج النبي للمباهلة ... 605

انصراف وفد نجران عن المباهلة ... 607

ص: 778

صورة العهد النبويّ لأهل نجران ... 607

اكبر فضيلة ... 608

59 - تأريخ المباهلة عاما وشهرا ويوما

610 - 621

عام المباهلة حسب المشهور ... 611

الشهر واليوم الذي وقعت فيه المباهلة ... 611

رأينا حول عام المباهلة ... 612

زمن المباهلة يوما وشهرا ... 614

هل كانت قضية المباهلة في السنة التاسعة؟ ... 619

60 - تقييم البراءة من المشركين

وفود القبائل في المدينة

622 - 627

محاولة اغتيال النبي ... 623

أمير المؤمنين في ربوع اليمن ... 624

61 - حجة الوداع

628 - 638

الامام علي (عليه السلام) يعود من اليمن ... 631

مراسم الحج تبدأ ... 633

خطاب النبيّ التاريخي في حجة الوداع ... 634

62 - إكمال الدين الاسلامي بتعيين الخليفة

639 - 655

اقتضاء المحاسبات الاجتماعية في مسألة الخلافة ... 641

الوقائع التاريخية تؤيد المحاسبات ... 645

النبوة والامامة توأمان ... 645

قصة الغدير ... 646

ص: 779

واقعة الغدير خالدة الى الأبد ... 649

الدلائل الاخرى على أبديّة الغدير ... 651

63 - المتنبئون كذبا

التفكير في أمر الروم

656 - 666

لمحة عن مسيلمة الكذاب ... 658

التفكير في أمر الروم ... 659

الاعذار غير المقبولة ... 664

الاستغفار لأهل البقيع ... 665

64 - الكتاب الذي لم يكتب

حوادث السنة الحادية عشرة من الهجرة

667 - 679

ايتوني بقلم وقرطاس ... 668

ما ذا كان الهدف من الكتاب؟ ... 672

لما ذا لم يصرّ النبي في كتابة الكتاب؟ ... 674

ملافاة الأمر وتداركه ... 675

تقسيم الدنانير ... 677

غضب النبي من الدواء الذي سقي ... 677

وداع النبي مع أهله ... 677

65 - اللحظات الأخيرة

680 - 687

النبي يتحدث مع ابنته الزهراء ... 681

وصايا النبي صلی اللّه علیه و آله قبيل رحيله ... 683

يوم الوفاة ... 685

الفهارس ... 689

ص: 780

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.