الشافي في شرح الكافي المجلد 2

هوية الكتاب

بطاقة تعريف: القزویني، خلیل بن الغازي، 1001 -1089ق.، توشیحگر

عنوان العقد: الکافی .شرح

عنوان المؤلف واسمه: الشافي در شرح اصول الکافي/ خلیل القزویني؛ تحقیق محمدحسین الدرایتي؛ [برای] مكتبة ومتحف ومركز التوثيق التابع للمجلس الإسلامي.

تفاصيل النشر: قم: موسسة دارالحدیث العلمیة والثقافیة، مرکز للطباعه والنشر، 1430ق -= 1388 -

مواصفات المظهر: ج.

فروست : مرکز بحوث دارالحدیث؛ 185

الشروح والحواشی علی الکافی؛ 1

مجموعه آثار الموتمر الدولی الذکری الشیخ ثقه الاسلام الکلینی؛ 1

شابک : دوره: 978-964-493-399-8 ؛ 70000 ریال: ج.1: 978-964-493-400-1

لسان : العربية.

ملحوظة : تم نشر هذا الكتاب من قبل ناشرين مختلفين في سنوات مختلفة.

موضوع : کلینی، محمد بن یعقوب - 329ق. . الکافی -- نقد و تفسیر

موضوع : احادیث شیعه -- قرن 4ق.

معرف المضافة: درایتی، محمدحسین، 1343 -

معرف المضافة: کلینی، محمد بن یعقوب - 329ق. . الکافی. شرح

معرف المضافة: ایران. مجلس شورای اسلامی. کتابخانه، موزه و مرکز اسناد

معرف المضافة: دار الحدیث. مرکز چاپ و نشر

تصنيف الكونجرس: BP129/ک8ک20216 1388

تصنيف ديوي: 297/212

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 1852865

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

بِسْمِ اللّه ِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد للّه ربّ العالمين، والصلاة والسلام على محمّدٍ وآله المعصومين .

أمّا بعد ؛

فيقول الفقير إلى الغنيّ المغني، خليل بن الغازي القزويني، عُفِيَ عنه وعن والديه وإخوانه المؤمنين : قد شرعتُ في شرح كتاب التوحيد من جملة الشرح المسمّى ب«الشافي» بتوفيق اللّه تعالى في حرم اللّه تعالى في جوار الكعبة البيت الحرام _ زاده اللّه تعالى تعظيما _ في سنة سبع وخمسين وألف هجريّة حامدا مصلّيا مسلِّما .

كِتَابُ التَّوْحِيدِ

اشارة

هذا الكتاب الثاني من كتب الكافي لثقة الإسلام أبي جعفر محمّد بن يعقوب بن إسحاق الرازي الكليني رحمه اللّه تعالى، وهي ثلاثة وثلاثون كتابا، أو أربعة وثلاثون إن عدّ كتاب الروضة جزءا من الكافي، وهو مشتمل على خمسة وثلاثين بابا :

الأوّل : باب حدوث العالم وإثبات المحدث .

الثاني : باب إطلاق القول بأنّه تعالى شيء .

الثالث : باب أنّه تعالى لا يُعرف إلاّ به .

الرابع : باب أدنى المعرفة .

الخامس : باب المعبود .

السادس : باب الكون والمكان .

ص: 5

السابع : باب النسبة .

الثامن : باب النهي عن الكلام في الكيفيّة .

التاسع : باب في إبطال الرؤية .

العاشر : باب النهي عن الصفة بغير ما وصف به نفسه جلّ وتعالى .

الحادي عشر : باب النهي عن الجسم والصورة .

الثاني عشر : باب صفات الذات .

الثالث عشر : باب آخَرُ وهو(1) من الباب الأوّل .

الرابع عشر : باب الإرادة أنّها من صفات الفعل وسائر صفات الفعل .

الخامس عشر : باب حدوث الأسماء .

السادس عشر : باب معاني الأسماء واشتقاقها .

السابع عشر : باب آخَرُ وهو من الباب الأوّل ، إلاّ أنّ فيه زيادةً، وهو الفرق ما بين المعاني التي تحت أسماء اللّه تعالى وأسماء المخلوقين .

الثامن عشر : باب تأويل الصمد .

التاسع عشر : باب الحركة والانتقال .

العشرون : باب العرش والكرسيّ .

الحادي والعشرون : باب الروح .

الثاني والعشرون : باب جوامع التوحيد .

الثالث والعشرون : باب النوادر .

الرابع والعشرون : باب البداء .

الخامس والعشرون : باب في أنّه لا يكون شيء في الأرض ولا في السماء إلاّ بسبعة .

السادس والعشرون : باب المشيئة والإرادة . .

ص: 6


1- في «ج» : - «هو» .

السابع والعشرون : باب الابتلاء والاختبار .

الثامن والعشرون : باب السعادة والشقاء .

التاسع والعشرون : باب الخير والشرّ .

الثلاثون : باب الجبر والقدر، والأمر بين الأمرين .

الحادي والثلاثون : باب الاستطاعة .

الثاني والثلاثون : باب البيان والتعريف ولزوم الحجّة .

الثالث والثلاثون : باب [اختلاف الحجّة على عباده].(1)

الرابع والثلاثون : باب حجج اللّه على خلقه .

الخامس والثلاثون : باب الهداية أنّها من اللّه .

اعلم أنّ ما نذكره في مقام تفسير متشابهات القرآن أو متشابهات الأحاديث إبداءُ احتمالٍ، أو نقلٌ ربّما لم يصرّح فيه بالمنقول عنه .

والمراد بكتاب التوحيد كتاب تذكر فيه المسائل المتعلّقة بالتوحيد ، أي بالإقرار بأن لا إله إلاّ اللّه . وهذه المسائل على أربعة أقسام ؛ لأنّها إمّا متعلّقة بالجزء الوجودي ،2للتوحيد، وهو الإقرار بوجود اللّه تعالى ؛ وإمّا متعلّقة بجزئه العدمي، وهو الإقرار بأنّ اللّه واحد، أي لا شريك له في الاُلوهيّة. وكلّ منهما إمّا متعلّقة بأحد الجزءين صريحا، وإمّا متعلّقة به تأويلاً، بأن يكون المقصود فيها بيان لازمه، أو إبطال منافيه .

و«التوحيد» مصدر وحّده: إذا نسبه إلى الوحدة، كعدّله تعديلاً: إذا نسبه إلى العدالة ؛ وذلك لأنّ اللّه تعالى واحد أزلاً وأبدا قبل وجود الموحِّدين .

ولفظ «اللّه » مشتقّ من «إله» على وزن فِعال بمعنى فاعل، من ألَهَهُم _ كنَصَرَ _ أي استحقّ عبادتهم، اُدخل عليه حرف التعريف للعهد، وحذفت الهمزة، فهو جارٍ مجرى العَلَم وليس علما، ومعناه: الذي يستحقّ عبادة كلّ من سواه، ولا يستحقّ غيره عبادته ، .

ص: 7


1- ما بين المعقوفين من الكافي المطبوع .

ويجيء بيانه في ثالث «باب المعبود »(1).

روى ابن بابويه في كتابه في التوحيد في «باب معنى الواحد والتوحيد والموحّد »:

أنّ أعرابيّا قام يوم الجمل إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال : يا أمير المؤمنين، أتقول: إنّ اللّه واحد ؟ فحمل الناس عليه، وقالوا: يا أعرابي أما ترى ما فيه أمير المؤمنين من تقسّم القلب ؟ فقال أمير المؤمنين عليه السلام : «دعوه، فإنّ الذي يريده الأعرابي هو الذي نريده من القوم ».

ثمّ قال : «يا أعرابي، إنّ القول في أنّ اللّه واحد على أربعة أقسام ؛ فوجهان منها لا يجوزان على اللّه عزّ وجلّ، ووجهان يثبتان فيه .

فأمّا اللذان لا يجوزان عليه، فقول القائل: واحد يقصد به باب الأعداد، فهذا ما لا يجوز عليه ؛ لأنّ ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد، أما ترى أنّه تعالى كفّر من قال: ثالث ثلاثة. وقول القائل: هو واحد من الناس يريد به النوع من الجنس ، فهذا ما لا يجوز عليه؛ لأنّه تشبيه، وجلَّ ربّنا عن ذلك وتعالى .

وأمّا الوجهان اللذان يثبتان فيه، فقول القائل: هو _ عزّ وجلّ _ واحد ليس له في الأشياء شبه، كذلك ربّنا ؛ وقول القائل: إنّه _ عزّ وجلّ _ أحديُّ المعنى، يعني به أنّه لا ينقسم في وجود ولا عقل ولا وهم، كذلك ربّنا عزّ وجلّ» . انتهى .(2)

قوله : «نريدهُ من القوم» إشارة إلى أنّ للإقرار بأنّ اللّه واحد جزءين كلاهما واجب :

الأوّل : الإقرار به بظاهر القلب، وهو مشترك بين الفرقة الناجية وغيرهم من أهل القبلة .

الثاني : الإقرار به بباطن القلب ، أي أن لا يجحد لازما من لوازم وحدته تعالى، فإنّ منكر لازم الشيء منكرٌ له في الحقيقة، ولا سيّما إذا كان اللزوم واضحا .

وعليه الحديث القدسي : «لا إله إلاّ اللّه حصني، فمن دخل حصني أمن [من [عذابي » .

ص: 8


1- أي في الحديث 3 من باب المعبود .
2- التوحيد ، ص 83 ، باب معنى الواحد و التوحيد و الموحّد ، ح 3 ؛ الخصال ، ص 2 ، باب الواحد ، ح 1 ؛ معاني الأخبار ، ص 5 ، باب معنى الواحد ، ح 2 .

حيث قال الرضا عليه السلام : «بشروطها، وأنا من شروطها ». رواه ابن بابويه في العيون في آخر باب ما حدّث به الرضا عليه السلام في مربعة نيسابور، إلى آخره .(1)

وقوله : «باب الأعداد »، هو أن يقول في عدّ الدراهم حين الإقباض مثلاً: واحد، اثنان، ثلاثة، وهكذا ، وهذا يستلزم أن يكون للّه ثانٍ في الاُلوهيّة التي هي أخصّ صفاته .

وقوله : «النوع من الجنس »، المراد القسم المتوحّد من كلّي يتشارك أفراده في معنى ، أي في موجود في نفسه في الخارج، سواء كان المعنى تمام الماهيّة، أم بعضها، أم خارجا، كما تقول: زيد واحد من الإنسان، أي لا يشاركه أبناء جنسه في خصائصه، كعلمه وكرمه وشجاعته، وكذا قولك: الإنسان واحد من الحيوان، أو من الماشي .

والتشبيه: القول بأنّ غيره شريك له في معنى، أي في موجود في نفسه في الخارج، سواء كان عرضيّا كالبياض، أم ذاتيّا .

والانقسام في الوجود الانقسام إلى الأجزاء المنفصلة، كانقسام البيت إلى الجدران والسقف ونحو ذلك .

والانقسام في العقل الانقسام إلى الأجزاء المحمولة، أو الأجزاء المقداريّة المتّصلة الغير المتعيّنة في ذهن من يقسمه، كانقسام الجسم المفرد إلى نصف ونصف .

والانقسام في الوهم الانقسام إلى الأجزاء المتّصلة المقداريّة مطلقا، أو المتعيّنة كانقسام الجسم المفرد إلى هذا النصف وذاك النصف . .

ص: 9


1- عيون أخبار الرضا عليه السلام ، ج 1 ، ص 143 ، باب ما حدّث به الرضا عليه السلام فى مربعة نيسابور وهو يريد قصد المأمون ، ذيل ح 4 . وما بين المعقوفين فى المصدر .

ص: 10

الباب الأوّل :باب حدوث العالم وإثبات المحدث

الباب الأوّل بَابُ حُدُوثِ الْعَالَمِ وَإِثْبَاتِ الْمُحْدِثِ

فيه ستّة أحاديث .

في هذا الباب بيان الجزء الوجودي للتوحيد صريحا، والمضاف مقدّر هنا ، أي باب بيان حدوث.

والمراد بالحدوث الحدوث الزماني، فإنّ إطلاق الحدوث على الحدوث الذاتي _ أي على الإمكان الذاتي _ مجرّد اصطلاح من الفلاسفة .(1)

و«العالَم» بفتح اللام بمعنى ما يعلم به، كالخاتم بمعنى ما يختم به . والمراد به النظام المشاهد بالنظر في السماوات والأرضين وما بينهما ، وبعبارة اُخرى: الأجسام وأعراضها التي وجودها بقول: «كُن» أي بلا آلة ولا حركة لفاعلها، كالجريان للماء، والحرارة للنار، والنموّ للشجر ونحو ذلك . والمراد بحدوثه: حدوث كلّ جزء وجزئي منه بلا مادّة أو مثال قديمين، شخصا أو نوعا .

وقوله : «وإثبات » عطف على «حدوث»، وإضافته إلى «المحدث» بكسر الدال إضافة إلى الفاعل ، أي وبيان أنّ مُحدِثَهُ مثبِتُهُ، وهو مأخوذ من أثبته: إذا سخّره، كأنّه شدّه بالثبات بالكسر، وهو سَيْر يشدّ به الرحل .(2) .

ص: 11


1- حكاه الإيجي في المواقف ، ج 1 ، ص 374 عن الحكماء .
2- لسان العرب ، ج 2 ، ص 19 (ثبت) .

فالمراد أنّ محدثه أثبت كلّ جزء وجزئي منه في زمان معيّن، دون ما تقدّمه من الأزمنة، ودون ما تأخّره، أي مع صحّة عدمه فيه، وصحّة وجوده فيما تقدّم، وفيما تأخّر، وفي مكان معيّن دون ما عداه من الأمكنة ؛ أي مع صحّة كونه فيما عداه، سواء كان تعيّن المكان شخصيّا _ كما في الساكن في مكان خاصّ دون مكان آخر _ أم نوعيّا، كما في المتحرّك في مسير خاصّ دون مسير آخر ، والمراد بصحّة الشيء حصول علّته التامّة.

أو مأخوذ من أثبته: إذا علمه حقّ العلم ؛ فالمراد أنّ محدثه حكيم. والمآل واحد .

وفي هذا الباب إبطال لقول مَن قال بقدم العالم .(1) ولقول من قال : إنّ الزمان مقدار حركة الفلك .(2) ولقول من قال : اختصّ حدوث العالم بوقته؛ إذ لا وقت قبله .(3) ولقول من قال : إنّه إنّما يتكامل شروط وجود الحادث حين حدوثه، لا قبله؛ لامتناع تخلّف المعلول عن العلّة التامّة .(4) ولقول من قال : إنّ اللّه تعالى غير متّصف بالقدرة بمعنى صحّة الفعل والترك، بل إنّما يتّصف بالقدرة بمعنى إن شاء فعل، وإن لم يشأ لم يفعل .(5) ولقول من قال : لكلّ فلك نفس تحرّكه، ويتجدّد لها بكلّ دورة كمال، وتشبه بالبارئ تعالى .(6) ولقول من قال : إنّ لكلّ جسم مكانا طبيعيّا .(7)

إن قلت : لِمَ لم يقل: باب وجود صانع العالم، وهو المتعارف بين المتكلِّمين ؟

قلت : للإشارة إلى أنّه كما لا يمكن الوصول إلى معرفة اللّه إلاّ بمعرفة أنّ للعالم .

ص: 12


1- اُنظر: شرح الإشارات ، ج 3 ، ص 131 ؛ تهافت الفلاسفة ، ص 50 ؛ المطالب العالية في العلم الإلهي ، ج 4 ، ص 46 ؛ شرح المواقف ، ج 7 ، ص 229 ؛ معارج الفهم في شرح النظم ، ص 134 .
2- اُنظر: شرح الإشارات ، ج 3 ، ص 177 ؛ المعتبر في الحكمة ، ج 2 ، ص 94 ؛ المباحث المشرقية ، ج 1 ، ص 732 ؛ الأسرار الخفية ، ص 313 .
3- اُنظر كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد ، ص 264 ، تحقيق الآملي ، و ص 182 بتحقيق الزنجاني .
4- كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد ، ص 264 ، ، تحقيق الآملي ، و ص 182 ، بتحقيق الزنجاني .
5- المواقف للإيجي، ج 3 ، ص 74 ، و ص 79 و 121 ؛ شرح المواقف، ج 8 ، ص 49 و ص 56. وانظر الحكمة المتعالية، ج 8 ، ص 307، الموقف الرابع في قدرته.
6- حكاه عن القدماء في الملل والنحل ، ج 2 ، ص 194 ، وحكاه في شرح المقاصد ، ج 2 ، ص 35 عن الإشارات .
7- المواقف للإيجي ، ج 2 ، ص 389 .

صانعاً، لا يمكن الوصول إلى معرفة صانع العالم إلاّ بمعرفة جواز تخلّف المعلول عن العلّة التامّة، وأنّ معلولاته تعالى تخلّفَتْ عنه زمانا، مع أنّه علّة تامّة لأوّلها ، فحدوث العالم تعبير عن هذا التخلّف؛ لأنّهما متساوقان ، ومعنى الصانع هنا يساوق معنى المحدث المثبت .

بيان ذلك : أنّ معنى لفظة «اللّه » من يستحقّ عبادة كلّ من سواه، ولا يستحقّ غيره عبادته . ولا شكّ أنّ هذا الاستحقاق لا يتحقّق في أحد إلاّ إذا كان صانع العالم بمعنى الفاعل له بالقدرة، بمعنى صحّة الفعل والترك ؛ أي إمكان صدور كلّ منهما عنه إمكانا مقابلاً للوجوب السابق والامتناع السابق، والحاصل استجماعه للعلّة التامّة للفعل، وللعلّة التامّة للترك، فإنّها لو كانت بالمعنى الآخر فقط _ وهو كونه بحيث إن شاء فعل، وإن لم يشأ لم يفعل _ لم يوجب استحقاق مدح فضلاً عن العبادة .

وهذا مبنيّ على جواز تخلّف المعلول عن العلّة التامّة ، فمعنى المصنوع المفعولُ الغير الواجب بالوجوب السابق ؛ أي الغير اللازم عقلاً لعلّته التامّة، وأثر الصانع بهذا المعنى لا يكون إلاّ حادثا زمانا بديهةً واتّفاقا من المسلمين والزنادقة ،(1) حتّى أنّه قيل : «إنّ النزاع بين الفريقين في قدرة واجب الوجود بالمعنى المذكور وعدمها عين النزاع في حدوث العالم وقدمه » انتهى .(2) وليس معنى صانع العالم واجبَ الوجود، فمن استدلّ على إثبات الصانع بما يدلّ على إثبات واجب الوجود فقط،(3) فقد وهم وخلط بين المقصود للمسلمين في هذا المقام، والمقصود للفلاسفة .

إن قلت : فيجب على المسلمين في مقام الاستدلال على وجود صانع العالم التعرّضُ لبيان جواز تخلّف المعلول عن العلّة التامّة ليتمّ مقصودهم، وهم لم يتعرّضوا له؛ إنّما استدلّوا بمُدَبَّريّة شيء من العالم كحركة الشمس والقمر على وجود صانع .

ص: 13


1- سيأتي توضيح كلمة «الزنادقة» من المصنف في شرح الحديث الأول .
2- في حاشية «أ» و «ج» : القائل الخفري في حاشية الهيات شرح التجريد (منه دام ظله) .
3- كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد ، ص 391 ، تحقيق الآملي ، و ص 305 ، تحقيق الزنجاني .

العالم ، والمدبّريّة لا تدلّ على المصنوعيّة بالمعنى الذي ذكرتم .

قلت : لا حاجة إلى التعرّض له، فإنّهم إنّما لم يتعرّضوا له اعتمادا على بداهة أنّ ما يجب معه معلوله بالوجوب السابق لا إيجاد له أصلاً، فإنّ العقل المتخلّص من المألوفات الوهميّة يعلم أنّه كما لا يتعلّق إيجاد بالواجب الوجود بالذات، لا يتعلّق إيجاد بالواجب الوجود بالغير وجوبا سابقا بعد وجود ذلك الغير ، فمقصودهم أنّ المُدبَّريّة تدلّ على المفعوليّة، والمفعوليّة تدلّ على المصنوعيّة بالمعنى الذي ذكرنا، المساوقِ للحدوث الزماني .

ومقصودهم من الاستدلال بالمدبّريّة على المفعوليّة إبطال أن يتوهّم أنّ أجزاء العالم واجبة الوجود لذاتها، أو أن يتوهّم أنّ ترتّب أجزاء العالم على عللها كلزوم الزوجيّة للأربعة في عدم تعلّق الإيجاد بها .

ومقصودهم من الاستدلال بالمفعوليّة على المصنوعيّة بيان ما يساوق الحدوث الزماني للعالم ، ولذا قالوا: كلُّ الناس يعرفون قبل التوجّه إلى التشكيكات الموسوسة أنّ الفعل كلّه محدَث، وأنّ الفاعل قبل المفعول، وأنّ المريد قبل الإرادة، وأنّ ما لم يزل لا يكون مفعولاً حديثا وقديما في حالة واحدة .(1)

وقد نَقَل ابن بابويه(2) دعوى بداهة جميع ذلك في كتابه في التوحيد عن الرضا عليه السلام في «باب مجلس الرضا عليه السلام مع سليمان المروزي»(3) ويجيء في خامس باب جوامع التوحيد: «ولافتراق الصانع من المصنوع» مع شرحه .

ويظهر بذلك أنّه لو وجد في الممكنات جوهر مجرّد _ : عقل، أو نفس _ لكان حادثا .

ص: 14


1- في «ج» : «وحده» .
2- في حاشية «أ» : قوله : «وقد نقل» إلى آخره ، نقل الشارح _ قدّس سرّه _ موضع الحاجة في أوّل الثاني عشر . وقوله قدّس سرّه : «و يجيء في خامس» إلى آخره عطف على «وقد نقل» ومراده أنّ قوله : «ولافتراق الصانع من المصنوع» مذكور في تلك الخطبة مع شرحه ودالّ على ما هو المدّعى (منه ، مهدي) .
3- التوحيد ، ص 441 ، باب ذكر مجلس الرضا عليه السلام مع سليمان المروزي متكلّم خراسان عند المأمون في التوحيد .

زمانا ، ويظهر بهذا أنّه لا حاجة في دلائل هذا الباب إلى التصريح بدلالتها على حدوث العالم .

إن قلت : لِمَ لم يجعل المسلمون مقصودهم في هذا المقام بيانَ وجود واجب الوجود حتّى يستدلّوا عليه بما اشتهر من أنّه لا شكّ في وجود موجود، فإن كان واجبا ثبت المطلوب، وإلاّ استلزمه؛ لاستحالة الدور والتسلسل، ونحو ذلك من المناهج المذكورة في كتب المتكلّمين ؟(1) وقد قيل : إنّ هذه المناهج أخصر وأوثق وأشرف من الذي اعتبر فيه حدوث العالم، أو اعتبر فيه إمكانه بشرط الحدوث، أو اعتبر فيه الحركة ؛ انتهى .(2) وهذا يضعّف الدلائل الآتية في هذا الباب .

قلت : لأنّ بيان وجود واجب الوجود لا يكفي في بيان الجزء الوجودي للتوحيد؛ ردّا على الدهريّة ،(3) فإنّ استحقاق العبادة ليس لازما بيّنا لوجوب الوجود؛ لتجويز أن يكون واجب الوجود قدماء من العالم كما هو مذهب بعض الدهريّة ،(4) أو يكون من غير العالم ولا يكون فاعلاً مثبتا ؛ أي قديرا بمعنى من يصحّ منه الفعل والترك، سواء كان موجَبا محضا أم مختارا، بمعنى إن شاء فعل، وإن لم يشأ لم يفعل فقط، كما هو مذهب بعضٍ آخَرَ من الدهريّة، حيث زعموا امتناع تخلّف المعلول عن العلّة التامّة؛(5) غافلين عن أنّه يستلزم عدم استحقاق المدح، فضلاً عن استحقاق العبادة له ، ثمّ فضلاً عن استحقاق عبادة كلّ من سواه له ، وزعموا أنّ حدوث العالم يستلزم تعطيل اللّه تعالى عن جوده؛(6) غافلين عن معنى الجواد في كلّ من إعطائه كبسط الرزق، ومنعه كالتقتير، .

ص: 15


1- حكاه عن الحكماء التفتازاني في شرح المقاصد ، ج 2 ، ص 57 .
2- في حاشية «أ» و «ج» : ذكر مضمونه الخفري في أول حاشية إلهيات الشرح الجديد للتجريد (منه) .
3- سيأتي توضيح الدهريّة في كلام المصنّف لاحقا .
4- حكاه عنهم السيد المرتضى في الملخّص في اُصول الدين ، ص 285 ؛ والعلاّمة في مناهج اليقين ، ص 346 ، وفي الطبعة الاُخرى ص 222 ؛ ومعارج الفهم ، ص 374 .
5- ذكره في معارج الفهم ، ص 281 بعنوان إشكال مع ردّه .
6- في حاشية «أ» : الزاعم ابن سينا في إلهيّات كتاب الشفاء وأتباعه (منه) .

وعن أنّ استكشاف سرّ قدر اللّه تعالى ليس في مقدور البشر ، وعن أنّ من يجب معه معلوله بالوجوب السابق لا جود(1) له في الإعطاء أيضا ، بل لا إيجاد له أصلاً كما بيّنّاه آنفا ؛ فزعمهم هذا فوق كلّ تعطيل .

ويدلّ على ما ذكرنا أنّ دلائل الكتاب والسنّة في هذا المقام ليس فيها شيء من هذه المناهج، والأخصريّةُ ونحوها لو سلّمت فإنّما ترجّح إذا كان المقصود بالاستدلالين واحدا، فليُذكَر بيان وجوب الوجود في باب بيان الصفات، فإنّه لازم بيّن لصانع العالم، فإنّه يجب أن يكون منزّها عن كلّ نقص ، والإمكان الذاتي رأس كلّ نقص .

إن قلت : لِمَ لا يصرّح في بعض دلائل هذا الباب بمصنوعيّة كلّ جزء من العالم، وإنّما يصرّح فيه بمصنوعيّة شيء من العالم للّه تعالى، كحركة الشمس والقمر، وكالموت والحياة وأمثال ذلك ممّا هو مذكور في الكتاب والسنّة ؟

قلت : لأنّه لا حاجة إلى التصريح؛ لظهور بطلان القول بأنّ بعض العالم مصنوع بالمعنى الذي ذكرنا، وبعضَه غير مصنوع ، ولذا لم يقل بالفرق أحد من الزنادقة ، وما صُرّح بمصنوعيّته من العالم في بعض الدلائل أمرٌ يكون المصنوعيّة فيه أظهرَ، فإنّما ذكر ليعلم مصنوعيّة الباقي بالاعتبار السهل التناول بعد فتح الباب .

الأوّل : (أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ ، قَالَ) . هذه الفقرة من زيادة تلامذة المصنّف رحمه اللّه تعالى، كما مضى في أوّل كتاب العقل .

(حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هَاشِمٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمنِ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مَنْصُورٍ ، قَالَ : قَالَ لِي هِشَامُ بْنُ الْحَكَمِ : كَانَ بِمِصْرَ زِنْدِيقٌ) ؛ بكسر الزاي وسكون النون وكسر المهملة وسكون الخاتمة والقاف، معرّب «زن دين»(2) أي مَنْ دينه كدين المرأة، أي سخيف . والمراد بالزنديق الدهري، أي القائل بأنّ الأجسام لا بَدْوَ لها، فليس لها خالق أي مخترع على سبيل الاختيار بلا مادّة سبقت، ولا8.

ص: 16


1- في «أ» : «لا وجود» .
2- القاموس المحيط، ج 3، ص 242؛ تاج العروس، ج 13، ص 201 (زنديق). وانظر فتح الباري، ج 12، ص 238.

احتذاء مثال .(1)

(يَبْلُغُهُ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام أَشْيَاءُ) . دالّةٌ على كمال علمه وجِدّه في نصرة الإيمان باللّه تعالى، وإبطال الزندقة .

(فَخَرَجَ إِلَى الْمَدِينَةِ) . عدّي ب«إلى» لتضمين معنى التوجّه .

(لِيُنَاظِرَهُ) أي ليحتجّ عليه في نفي الخالق للأجسام، كما يشعر به قوله عليه السلام فيما بعد: «ليس لمن لا يعلم حجّة» إلى آخره .

(فَلَمْ يُصَادِفْهُ بِهَا) : بالمدينة (وَقِيلَ لَهُ : إِنَّهُ) أي أبا عبداللّه عليه السلام (خَارِجٌ) من المدينة (بِمَكَّةَ) . خبر بعد خبر، أي إنّه بمكّة الحالَ .

(فَخَرَجَ) من المدينة (إِلى مَكَّةَ وَنَحْنُ مَعَ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ) أي في مكّة، والواو للحال .

(فَصَادَفَنَا) أي صادف الزنديق إيّانا (وَنَحْنُ مَعَ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام فِي الطَّوَافِ). الواو للحال .

(وَكَانَ اسْمَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ ، وَكُنْيَتَهُ) . الواو للحال .(2) (أَبُو عَبْدِ اللّه ِ ، فَضَرَبَ كَتِفَهُ) أي بكتفه .

(كَتِفَ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ) ليتكلّم عليه السلام معه، فيعرّفه اعتقادَه نفيَ الخالق، وعرف عليه السلام ذلك بدون تعريفه، فدرج عليه السلام في الكلام معه، وذكر له أنواعا ثلاثة من الكلام عليه :

النوع الأوّل: تنبيهه على أنّه منكر لما هو مركوز في عقل كلّ عاقلٍ ناظرٍ إذا خُلِّي وعقلَه؛ لكمال ظهور دلائله وكثرتها، وتسميته وتكنيته من أبويه مبنيّ على ذلك، كما في قول أمير المؤمنين عليه السلام : «وهو الذي تشهد له أعلام الوجود على إقرار قلب ذي الجحود»(3) ولا يرد تسمية أبي طالب وعبد مناف بن قصيّ بعبد مناف، فإنّ منافا ليس مأخوذا فيه من اسم صنم، بل هو اسم لأخٍ لقُصيّ انتهت إليه رئاسة قريش بعد أخيه ، .

ص: 17


1- احتذى مثاله : اقتدى به. القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 316 (هذا) .
2- في الحاشية «أ» : قوله : «الواو للحال» إنّما لم يجعلها عاطفة لأنّها لو كانت كذلك لوجب نصب «أبو عبد اللّه » لكونه حينئذٍ خبرا لكان (مهدي) .
3- نهج البلاغة ، ج 1 ، ص 9 ، الخطبة 49 .

وأنّ عبدا ليس بمعنى عابد، وقد يُقال: إنّ اسم عبد مناف بن قصيّ كان منافا، فغيّره بعض الناس لمصلحة ، قال الفرزدق :

ورثتم قناة(1) الملك غير كلالة(1) *** عن ابني مناف(2): عبد شمس وهاشم(3)

وإنّما احتيج إلى هذا النوع لئلاّ يلزم بطلان قاعدة من قواعد الإسلام .

بيان ذلك: أنّ من قواعد الإسلام أنّ الاختلاف بين الناس _ أي اختلافا حقيقيّا مستقرّا _ لا يمكن رفعه إلاّ برسول وكتاب من اللّه تعالى، فيتوهّم الخصم ويقول: إنّ بيننا وبينكم هنا اختلافا حقيقيّا بعد نظر كلٍّ منّا ومنكم، وليس في شيء من دلائلكم على وجود الصانع تمسّك بقول رسول، ولا بكتاب من اللّه ، إمّا لاستلزامه الدور حقيقة، وذلك إذا توقّف العلم بالرسول والكتاب على العلم بوجود الصانع حقيقة ، وإمّا لإيهامه الدور ظاهرا، وذلك إذا توقّف ظاهرا لا حقيقةً.

فيجب أن يُجاب الخصم بأنّ الاختلاف هنا بيننا وبينكم ليس حقيقيّا مستقرّا، ونظيره قوله تعالى في سورة آل عمران : «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللّه ِ الاْءِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْيا بَيْنَهُمْ»(4) ، فإنّه لمّا كان الإسلام ردَّ المختلف فيه اختلافا حقيقيّا مستقرّا إلى محكمات كتاب اللّه ، احتيج إلى قوله : «وَمَا اخْتَلَفَ» إلى آخره ، لدفع الاحتياج في رفع الاختلاف في مدلول محكمات الكتاب الناهية عن اتّباع الظنّ بالاجتهاد إلى محكمات اُخرى، وكتابٍ آخَرَ؛ لئلاّ يلزم الدور أو التسلسل . .

ص: 18


1- في حاشية «أ» : الكلالة من لا ولد له ولا والد، و ما لم يكن من النسب لحا ، أو من تكلل نسبه بنسبك كابن العمّ وشبهه ، أو الإخوة للاُمّ ، أو بنو العمّ الأباعد ، أو ما خلا الوالد والولد ، أو في من العصبة من ورث معه الإخوة للاُمّ . القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 46 (كل) .
2- في حاشية «أ» : عبد مناف أبو هشام و عبد شمس ، والنسبة إليه منافي .
3- أحكام القرآن للجصّاص ، ج 2 ، ص 113 ؛ تفسير الثعلبي ، ج 3 ، ص 270 ؛ مفردات غريب القرآن للراغب ، ص 438 ؛ الصحاح ، ج 5 ، ص 1811 (كلك) .
4- آل عمران (3) : 19 .

(فَقَالَ(1) أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ) للإشارة إلى النوع الأوّل : (مَا اسْمُكَ ؟ فَقَالَ : اسْمِي عَبْدُ الْمَلِكِ ، قَالَ : وَ مَا(2) كُنْيَتُكَ ؟ قَالَ : كُنْيَتِي أَبُو عَبْدِ اللّه ِ ، فَقَالَ لَهُ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : فَمَنْ هذَا الْمَلِكُ الَّذِي أَنْتَ عَبْدُهُ؟) يدلّ على أنّ اللام في «الملك» للعهد لا للجنس .

(أَمِنْ مُلُوكِ الاْءَرْضِ ) . الاستفهام هنا إنكاري ؛ أي أمن الملوك الساكنين في الأرض .

(أَمْ مِنْ مُلُوكِ السَّمَاءِ؟) . «أم» منقطعة بمعنى بل والهمزة؛ ففيه استفهام آخر إنكاري ؛ أي بل أ من الملوك الساكنين في السماء، وهذا على سبيل عدّ الأقسام الغير المحتملة عند المخاطب أيضا .

(وَأَخْبِرْنِي عَنِ ابْنِكَ) الذي قدّره أبواك أقدّراه أنّه على تقدير وجوده .

(عَبْدُ إِلهِ السَّمَاءِ) أي مستحقّ للعبادة ساكن في السماء .

(أَمْ عَبْدُ إِلهِ الاْءَرْضِ؟) أي مستحقّ للعبادة ساكن في الأرض .

(قُلْ مَا شِئْتَ) ؛ أي اختر ما شئت من الشقّين في كلّ سؤال .

(تُخْصَمْ) . مجزوم، وهو على لفظ المجهول من باب ضرب، وهو شاذّ في المغالَبة، والقياسُ ردّه إلى باب نصر ، يُقال : خاصمته أي جادلته، فخصمته أخصمه بالكسر، أي غلبت عليه في الجدل .(3)

والمعنى تَصِرْ مغلوبا مُلزَما؛ لظهور بطلان كلّ من الشقّين، فيثبت المطلوب، وهو أنّ نفسه عبد ملك مَن في السماء والأرض، وابنَه عبد إله مَن في السماء والأرض .

وقيل : أي تَخصِم نفسك،(4) كما سيجيء في حديث العالم الشامي ؛ انتهى . يعني ما في رابع أوّل «كتاب الحجّة» .(5) .

ص: 19


1- في الكافي المطبوع : + «له» .
2- في المطبوع : «فما» .
3- الصحاح ، ج 5 ، ص 1912 (خصم) .
4- في حاشية «أ» : القائل مولى محمّد أمين الإسترآبادي رحمه الله (منه سلمه اللّه ) . وحكاه المازندراني في شرح اُصول الكافي ، ج 3 ، ص 7 بصورة احتمال واستبعده .
5- أي الحديث 4 من باب الاضطرار إلى الحجّة .

(قَالَ هِشَامُ بْنُ الْحَكَمِ) . هذا من كلام عليّ بن منصور .(1)

(فَقُلْتُ لِلزِّنْدِيقِ) لمّا بقي متحيّرا متأمّلاً : (أَمَا تَرُدُّ) ؛ بتشديد الدال، ومفعوله محذوف ؛ أي الجوابَ (عَلَيْهِ؟) .

(قَالَ) أي هشام، وهو أيضا من كلام عليّ بن منصور تكرارا للأوّل .

(فَقَبَّحَ قَوْلِي) ؛ بصيغة الماضي المعلوم من باب التفعيل، أي نسب قولي إلى القبح، وهذا لأنّه لا ينبغي التعجيل على طالب الحقّ، المتأمّلِ لتحرّي الصواب في الجواب .

(فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ) أي للزنديق إمهالاً له في التفكّر وتحرّي الحقّ .(2)

(إِذَا فَرَغْتُ) ؛ بصيغة المتكلّم . (مِنَ الطَّوَافِ ، فَأْتِنَا . فَلَمَّا فَرَغَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام أَتَاهُ الزِّنْدِيقُ ، فَقَعَدَ بَيْنَ يَدَيْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام وَنَحْنُ مُجْتَمِعُونَ عِنْدَهُ) .

النوع الثاني: تنبيهه(3) على أنّه لا يجوز له أن يكون في حدّ الإنكار للصانع وجحده؛ لأنّ غاية ما يقتضي حاله أن يكون منكرا لحدوث العالم وفنائه؛ لأنّه لم ير الحدوث ولا الفناء، وذلك لأنّه لم يثبت دليل يقتضي أنّه لا صانع للعالم، وإنّما ذكر عليه السلام ذلك أوّلاً قبل الدليل على وجود الصانع؛ لأنّ الخلوّ عن الضدّ قبل الشروع في الاستدلال شرط في حصول العلم، أو معين فيه جدّا، ورمز عليه السلام إلى ذلك في ضمن نظيره لئلاّ يقع التصريح من الزنديق في محضر جمع بنفي الصانع، فيشوّش بعضهم المجلس، وينقطع الكلام والاحتجاج .

(فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام لِلزِّنْدِيقِ) للإشارة إلى النوع الثاني :

(أَتَعْلَمُ أَنَّ لِلاْءَرْضِ تَحْتا وَفَوْقا ؟). المراد بالتحت هنا اللغوي، وهو الطرف المقابل لما هو الفوق عندنا .

(قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : فَدَخَلْتَ تَحْتَهَا ؟ قَالَ : لاَ ، قَالَ : فَمَا يُدْرِيكَ) . ما استفهاميّة، أي أيّ فكر واستنباط يُعلمُكَ (مَا تَحْتَهَا ؟) . ما استفهاميّة، أي ما الذي تحتها؛ أو موصولة، أي ما هو تحتها . .

ص: 20


1- أي راوي الحديث .
2- تحرّاه : تعمّده وطلب ما هو أحرى بالاستعمال ؛ وبالمكان : تمكّث . القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 316 (الحروة) .
3- في «أ» : «تنبيه» .

(قَالَ : لاَ أَدْرِي ، إِلاَّ أَنِّي أَظُنُّ) أي بأصالة العدم (أَنْ لَيْسَ تَحْتَهَا شَيْءٌ) . هذا رمز منه إلى ظنّه أن ليس للعالم صانع .

(فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : فَالظَّنُّ) . الفاء للتفريع، واللام للعهد الخارجي ، والمراد الظنّ الذي هو في المنظور .

(عَجْزٌ) ؛ بفتح المهملة وسكون الجيم والزاي خبر المبتدأ .

(لِمَا لاَ تَسْتَيْقِنُ) . اللام للتعليل، والظرف صفة «عجز» و«ما» مصدريّة، و«تستيقن» بصيغة الخطاب للمعلوم، والاستيقان طلب اليقين . والمقصود أنّه على ما ذكرت من الجواب ظهر أنّ ظنّك عجز ناش عن تركك طلب اليقين، ولو طلبت اليقين لوجدته سريعا .

(ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : أَفَصَعِدْتَ السَّمَاءَ ؟ قَالَ : لاَ ، قَالَ : فَتَدْرِي)(1) بالتفكّر والتحرّي والاستنباط . (مَا فِيهَا ؟ قَالَ : لاَ ، قَالَ : عَجَبا لَكَ!). «عجبا» بفتحتين بتقدير حرف النداء، أو مصدر فعل محذوف ؛ أي عجبت عجبا لك .

(لَمْ تَبْلُغِ الْمَشْرِقَ ، وَلَمْ تَبْلُغِ الْمَغْرِبَ) . ظاهره أنّه عليه السلام سأله في صدر الكلام عن بلوغه المشرق والمغرب أيضا، وأجاب، وسأله: هل تدري ما فيهما؟ وأجاب بلا أدري ، لكنّه أسقط الراوي . ويحتمل أن يكون _ بناءً على المعلوم من حاله _ بدون سؤال . وفي كتاب الاحتجاج هكذا: قال : «فأتيت المشرق والمغرب، فنظرت ما خلفهما ؟» قال : لا ، قال : «عجبا لك» إلى آخره .(2)

(وَلَمْ تَنْزِلِ الاْءَرْضَ ، وَلَمْ تَصْعَدِ السَّمَاءَ ، وَلَمْ تَجُزْ هُنَاكَ) . «لم تجز» بضمّ الجيم وسكون الزاي بصيغة المخاطب، و«هناك» منصوب محلاًّ ومفعول به وعبارة عمّا كان الزنديق فيه من الظنّ .

ويحتمل أن يكون «لم تحرّ» بالمهملتين بصيغة المضارع المخاطب المعلوم المعتلّ اللام اليائي من باب التفعّل بحذف إحدى التاءين، والتحرّي قصد الأحْرى .

ص: 21


1- في الكافي المطبوع : «أفتدري» .
2- الاحتجاج ، ج 2 ، ص 72 ، احتجاجه عليه السلام على الزنديق المصري . وفيه : «فالعجب لك» بدل «عجبا لك» .

والأليق . والمراد به هنا التفكّر لطلب اليقين، ويكون «هناك» إشارةً إلى ما كان الزنديق فيه من وجه الأرض، ومنصوبا محلاًّ على الظرفيّة .

(فَتَعْرِفَ) ؛ منصوب بتقدير «أن» بعد النفي .

(مَا خَلْفَهُنَّ) أي ما خلف المشرق والمغرب، والأرض والسماء . والتأنيث لتغليب الأرض والسماء، أو باعتبار البقعة . و«ما خلفهّن» نوع تعبير عن صفات صانع العالم، كالعلم والقدرة والعدل . والمقصود أنّك لو تحرّيت في وجه الأرض، لعرفت صفات صانع العالم، فضلاً عن معرفة كونه .

(وَأَنْتَ جَاحِدٌ بِمَا فِيهِنَّ!).نوع تعبير عن إنكار كون صانع العالم .

(وَهَلْ يَجْحَدُ الْعَاقِلُ) جحدا يتصدّى للحجاج عليه كما أنت عليه؛ حيث جئت من بلدٍ بعيد للحجاج معنا .

(مَا لاَ يَعْرِفُ ؟) أي لا يعرفه ويعتقد خلافه بمجرّد الظنّ الحاصل من أصالة العدم، بدون دلالة ولا أمارة على العدم على حِدة .

(قَالَ الزِّنْدِيقُ : مَا كَلَّمَنِي بِهذَا أَحَدٌ غَيْرُكَ) .إقرارٌ منه بأنّه لا ينبغي له الجحد، وأنّه لو كلّمه بهذا أحد لما جَحَد .

(فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : فَأَنْتَ مِنْ ذلِكَ فِي شَكٍّ) أي فأنت الآنَ صرت في شكّ . والمراد بالشكّ كفّ النفس عن الحكم بشيء لانتفاء اليقين فيه .

(فَلَعَلَّهُ هُوَ) .الضمير الأوّل راجع إلى «ما فيهنّ» باعتبار المنظور ، والثاني من أسماء الصانع للعالم تعالى .

(وَلَعَلَّهُ لَيْسَ هُوَ ) . الضمير الأوّل ل«ما فيهنّ »، والضمير الثاني وهو المستتر في «ليس» للضمير الأوّل ، والضمير الثالث من أسماء الصانع للعالم تعالى ، فهو كالظاهر، فلذا(1) لم يقل بدله: «إيّاه» نظير : «يا مَن ليس هو إلاّ هو»(2) مع أنّ «هو» في الأوّل اسم «ليس» .

ص: 22


1- في «ج» : «ولذا» .
2- مكارم الأخلاق ، ص 346 ؛ الأمان من أخطار الأسفار ، ص 83 ؛ بحار الأنوار ، ج 92 ، ص 158 .

ولا يجوز الإتيان بالضمير المنفصل مع إمكان الضمير المتّصل .

ويحتمل أن يكون من قبيل وضع الضمير المرفوع المنفصل موضع الضمير المنصوب المنفصل استعارةً، نظير ما يجيء في «كتاب الحجّة» في خامس الباب السابع والأربعين، وهو «باب أنّ الأئمّة عليهم السلام يعلمون متى يموتون، وأنّهم لا يموتون إلاّ باختيار منهم» من قول أبي الحسن الأوّل عليه السلام : «إنّ اللّه _ عزّ وجلّ _ غضب على الشيعة، فخيّرني نفسي أو هم، فوقيتهم واللّه بنفسي» .

وهذا بيان لحال الشاكّ قد يصير أحد الطرفين في نفسه راجحا، فيصير من ساعته الطرف الآخر راجحا، كقولهم : أراك تقدّم رِجلاً، وتؤخّر اُخرى .(1)

(فَقَالَ الزِّنْدِيقُ : وَلَعَلَّ ذلِكَ) .لم يجزم بكونه شاكّا، بل رجّح ذلك ؛ أي لعلّ أنا في شكّ، أقام «ذلك» مقام الجملة المركّبة من الاسم والخبر .

(فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : أَيُّهَا الرَّجُلُ ، لَيْسَ لِمَنْ لاَ يَعْلَمُ حُجَّةٌ عَلى مَنْ يَعْلَمُ) ، أي دليل .

(وَلا حُجَّةَ لِلْجَاهِلِ ) أي للذي يحكم بغير المعلوم . والمراد أنّ قبح الحكم بغير المعلوم ضروري، والمنازع مكابر لمقتضى عقله ، فالحاكم بغير معلومه ليس له عذر يدفع به عن نفسه العذاب أو اللوم.

لمّا كان على الجاهل سؤال العالم والاستماع للجواب والتفهّم :

قال: (يَا أَخَا أَهْلِ مِصْرَ ، تَفَهَّمْ عَنِّي ؛ فَإِنَّا) معشرَ المقرّين بأنّ للعالم محدثا مثبتا (لاَ نَشُكُّ فِي اللّه ِ أَبَدا) أي لا يزعجنا الوهم.

النوع الثالث: الاستدلال على أنّ للعالم محدثا مثبتا.

وذكر فيه خمسة أدلّة، مع أنّ الأدلّة عليه أكثر من أن تُحصى، كما يظهر لمن تدبّر في الأدلّة الخمسة؛ والنظرُ في أوّلها: في تسخير الشمس والقمر لينتفع بهما الخلائق، والنظر في ثانيها:(2) في حدوث الحوادث كالموت والحياة ونحوهما وربط الحادث .

ص: 23


1- اُنظر الكشّاف ، ج 3 ، ص 277 ؛ مختصر المعاني ، ص 237 و 246 ؛ تفسير البحر المحيط لأبي حيان الاُندلسي ، ج 7 ، ص 243 .
2- في «ج» : «ثانيهما» .

بالقديم، والنظر في ثالثها: في اختلاف أمكنة الأجسام، والنظر في رابعها: في إنشاء السحاب الثقال، والنظر في خامسها: في انكشاف وجه الأرض المعمور وخروجه من الماء .

الدليل الأوّل :

(أَمَا تَرَى الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) ؛ من رؤية البصر، أو القلب ، وعلى الثاني «يلجان» مفعول ثان .

(وَاللَّيْلَ وَالنَّهَارَ) . الواو الاُولى بمعنى «مع» والثانية للعطف . والمراد أنّ كلّ من رأى حال الشمس والقمر في دورانهما مع حال الليل والنهار في ذهابهما ومجيئهما، علم أنّ ذلك بتدبير مدبّر بقول «كُن» لمصلحة أهل الأرض، وليس للشمس والقمر نفع في الدوران، ولا لليل والنهار في الذهاب والمجيء، كما في سورة إبراهيم : «وَسَخَّرَ لَكُمْ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ»(1) .

(يَلِجَانِ) ؛ بالجيم بصيغة المعلوم المعتلّ الفاء من باب ضرب، والضمير للشمس والقمر ، والجملة استئناف بياني، أو مفعول ثان ل«ترى ». والولوج: الدخول والاستتار، ومنه: الوَلَجة بفتحتين كهف(2) تستر فيه المارّة من مطر وغيره ،(3) والمراد هنا الدخول تحت الأرض .

(فَلاَ يَشْتَبِهَانِ) ؛ بالمعجمة والموحّدة بصيغة المعلوم من باب الافتعال ، يُقال : اشتبه الأمر: إذا أشكل. والفاء للتعقيب؛ يعني لا يحدث بعد الولوج في أمرهما إشكال باعتبار مكانهما ومدّة بقائهما تحت الأرض وساعاتها ودقائقها في أيّ وقت كان، كما هو معلوم عند أهل الرصد والحساب .

(وَيَرْجِعَانِ) إلى فوق الأرض . .

ص: 24


1- إبراهيم (14) : 33 .
2- في «ج» : «لكهف» .
3- تاج العروس ، ج 3 ، ص 509 (ولج) .

(قَدِ اضْطُرَّا) ؛ بضمّ المهملة وشدّ الراء؛ أي سُخّرا لمنافعنا .

(لَيْسَ لَهُمَا مَكَانٌ إِلاَّ مَكَانُهُمَا) ؛ مرفوع بالبدليّة، أو منصوب بالاستثناء . والمراد: مكانهما المعلوم بالرصد والحساب في أيّ وقت كان. وذلك يدلّ على كمال حكمة مدبّرهما وكمال قدرته .

أو المراد بمكانهما ما هما فيه، سواء كان معلوما بخصوصه في أيّ وقت اُريد، أم لا . وحينئذٍ يكون إشارة إلى أنّ فاعل الجسم يستحيل أن لا يكون مدبّرا؛ لأنّ الإمكان شرط تحقّق الجسم، ويستحيل أن يكون جسم واحد في زمان واحد في كلّ واحد من الأمكنة ، فحصول جسم ما في مكان معيّن مع تشابه الأمكنة في الحقيقة والذات يستحيل أن يستند إلى فاعل موجَب، سواء كان طبعا أم غير ذلك . وبهذا يتمّ البرهان، وضمّ باقي المقدّمات للاستظهار وبيان كمال حكمة الصانع تبارك وتعالى .

(فَإِنْ كَانَا يَقْدِرَانِ عَلى أَنْ يَذْهَبَا ، فَلِمَ يَرْجِعَانِ) . الفاء للبيان وزيادة التوضيح . والمراد بالذهاب: الولوج. والاستفهام إنكاري، أي فإن كان الولوج بقدرتهما واختيارهما لداع دعاهما إلى ذلك، استحال أن يرجعا إلى فوق الأرض؛ لأنّا نعلم أنّه ليس لهما نفع يدعوهما إلى دوام دورانهما، فهما مسخّران لغيرهما، وتجويز النفع لهما في ذلك كتجويز النفع للأنهار في جريانها، وللرياح في هبوبها. وهذا سفسطة .

(وَإِنْ كَانَا غَيْرَ مُضْطَرَّيْنِ ، فَلِمَ لاَ يَصِيرُ اللَّيْلُ نَهَارا ، وَالنَّهَارُ لَيْلاً) . الاستفهام إنكاري ، وقوله: «والنهار» بتقدير «ولا النهار »؛ أي إن كانا غير مسخّرين، وجب أن تقف الشمس مثلاً إمّا فوق الأرض، فيصير النهار سرمدا، وإمّا تحت الأرض، فيصير الليل سرمدا ، ويجوز أن لا يقدّر «لا» ويكون المراد صيرورة الليل نهارا في موضع دائما، وصيرورة النهار ليلاً في مقابله دائما .

(اضْطُرَّا _ وَاللّه ِ يَا أَخَا أَهْلِ مِصْرَ _ إِلى دَوَامِهِمَا ، وَالَّذِي اضْطَرَّهُمَا أَحْكَمُ مِنْهُمَا) أي أكمل حكمةً ورعايةً لمصالح العباد ، أو أنفذُ حكما. وإثبات أصل الحكمة أو الحكم لهما بنوع من المجاز، نظير إثبات الطوع للسماء والأرض في قوله في سورة حمآ

ص: 25

السجدة : «قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ»(1) .

(وَأَكْبَرُ ) ؛ بالموحّدة، أي أعظم قدرةً بناءً على أنّ فعله بمحض «كُن ».

(فَقَالَ الزِّنْدِيقُ : صَدَقْتَ) ؛ بصيغة الخطاب إقرارٌ بربّ العالمين .

الدليل الثاني :

(ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ) تقويةً للمدّعى حيث لم يصدر عن الزنديق التصريح بكلمة الإيمان، وأمكن أن يختلج بوهمه شبهة توهّم قِدم العالم، فتمنعه عن التصديق بما علم ، فاستدلّ عليه السلام على الحدوث بما يظهر به ظهورا واضحا الجوابُ عن الشبهة .

(يَا أَخَا أَهْلِ مِصْرَ ، إِنَّ الَّذِي يَذْهَ_بُونَ(2) إِلَيْهِ) ؛ بصيغة الغيبة ، أي يذهب إليه القوم الزنادقة في سبب الحوادث، كالموت والحياة، والريح والسحاب ونحو ذلك . وسيجيء كثير منها في ثانيالباب.

وكونه بصيغة الحاضر لا يناسب قوله(3) سابقا : «صدقت»، ولا قوله(4) لاحقا: «يذهب بهم».

(وَيَظُنُّونَ)(5) ؛ بصيغة الغيبة أيضا . (أَنَّهُ) أي سبب الحوادث (الدَّهْرُ) ؛ بالفتح: ما مضى من الزمان باعتبار ما فيه من الحركات في أين أو وضع أو استعداد لشيء أو نحو ذلك . والدهريّة _ بالفتح ويضمّ _ : القائلون بأنّ الدهر أزلي، قالوا: إنّ الحوادث غير مستندة بلا واسطة إلى فاعل بتدبير يصحّ منه الفعل والترك، بل مستندة إلى موجب بواسطة الحركات والاستعدادات الغير المتناهية في جانب المبدأ الحاصلة في مادّة الأجسام ؛ قال تعالى في سورة الجاثية : «وَقَالُوا مَا هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ»(6) .(7) .

ص: 26


1- فصّلت (41) : 11 .
2- في الكافي المطبوع : «تذهبون» .
3- أي الزنديق .
4- أي أبي عبد اللّه عليه السلام .
5- في الكافي المطبوع : «وتظنّون» .
6- الجاثية (45) : 24 .
7- اُنظر شرح العقيدة الطحاوية ، ص 85 .

واللام في قوله عليه السلام : «الدهر » داخلة على الخبر لإفادة الحصر المذكور في الآية في قوله : «إلاّ الدهر ».

وهذا الظنّ حاصل لهم بشبهة لهم على قدم العالم ذكرها رئيسهم في كتاب الشفاء في أوّل المقالة التاسعة من الإلهيّات، وحاصلها: أنّ الحركة لا تحدث بعدما لم تكن إلاّ لحادث، وذلك الحادث لا يحدث إلاّ بحركة مماسّة لهذه الحركة، ولا نُبالي أيَّ حادث كان ذلك الحادث، كان قصدا من الفاعل أو إرادةً أو علما أو طبعا أو آلةً أو حصولَ وقت أوفق للعمل دون وقت، أو حصول تهيّؤٍ أو استعداد للقابل لم يكن، أو وصول من المؤثّر لم يكن، فإنّه كيف كان فحدوثه متعلّق بالحركة، لا يمكن غير هذا؛ لأنّه إذا كانت الأحوال من جهة العلل كما كانت ولم يحدث البتّة أمر لم يكن، كان وجوب كون الكائن عنها، أو لا وجوبه على ما كان، فلم يجز أن يحدث كائن(1) البتّة، وذلك الأمر لا يمكن أن يكون نفس العلّة الفاعليّة أو القابليّة؛ للزوم التسلسل لاجتماع الفواعل والقوابل في الوجود بخلاف ما يقرّب المعلول من العلّة من الحركة ،(2) فهو ما يقرّب المعلول من العلّة، وهو الحركة، فإذن قد كان قبل كلّ حركةٍ حركةٌ إلى ما لا نهاية له .(3)

فاستدلّ عليه السلام على نقيض مدّعاهم بحيث يصلح لأن يكون نقضا إجماليّا لشبهتهم، ويظهر به منع قولهم: «فلم يجز أن يحدث كائن البتّة» بقوله :

(إِنْ كَانَ الدَّهْرُ) . الجملة خبر «إنّ»، وفيه إقامة الدليل مقام المدلول ؛ أي باطل لأنّه إن كان، إلى آخره .

و«إن» هُنا وفيما بعد بمعنى «إذ» كما في حديث زيارة الموتى : «وإنّا إن شاء اللّه بكم لاحقون».(4) ويحتمل كونها شرطيّة .

(يَذْهَبُ بِهِمْ) أي بالقوم الزنادقة. .

ص: 27


1- في «ج» : «الكائن» .
2- في «ج» : - «لاجتماع القواعل والقوابل في الموجود بخلاف ما يقرب المعلول من العلة من الحركة» .
3- الشفاء ، ص 373 ، الفصل 1 ، انتشارات ناصر خسرو، الطبعة الاُولى .
4- الكافي ، ج 3 ، ص 229 ، باب زيارة القبور ، ح 7 و 8 ؛ الفقيه، ج 1، ص 179، ح 533 و 534؛ كامل الزيارات، ص 532، باب فضل زيارة المؤمنين، ح 12 و 15؛ وسائل الشيعة ، ج 3 ، ص 225 ، ح 3471 و 3472 .

(لِمَ لاَ يَرُدُّهُمْ؟) لِمَ لا يقع الردّ وقت الذهاب بهم بدلاً عنه ، وذلك بأن يكون الذهاب بهم قبل هذا الوقت الذي ذهب بهم فيه .

(وَإِنْ كَانَ يَرُدُّهُمْ ، لِمَ لاَ يَذْهَبُ بِهِمْ) أي لِمَ لا يقع الذهاب بهم وقت ردّهم بدلاً عنه، وذلك بأن يكون الذهاب بهم بعد هذا الوقت الذي ذهب بهم فيه، وتخصيص ذهابهم وردّهم بالذكر في المثال لأنّهما المذكوران في آية الجاثية صريحا .

وحاصل الدليل: أنّ من أجزاء العالم حوادث معلومة الحدوث بالحسّ والعيان يوما فيوما، ولا فاعل لها إلاّ اللّه تعالى بلا توسّط توقّف على حركة واستعداد ونحو ذلك ؛ لأنّ الحوادث لابدّ أن يكون فاعلها مختارا . أمّا أفعال الأحياء ذوي الأبدان كالمَلك والجنّ والإنس وسائر الحيوانات فمستندة إليهم ، وأمّا ما عداها _ وهي المعدودة من العالم كالموت والحياة، وكحدوث النبات في الأرض بعد موتها وفلق الحبّ والنوى ونحو ذلك ممّا يسنده الدهريّة إلى الدهر _ ففاعلها مدبّر للعالم نافذ الإرادة بلا علاج؛ فيكون العالم حادثا كما مرّ في شرح عنوان الباب.

ولا يمكن استنادها إلى الدهر، وإلاّ امتنع وجود حادث، وكذا انتفاؤه، ولم يرتبط حادث بقديم أصلاً ؛ لأنّه ليس للامتداد الزماني أجزاء متخالفة الماهيّة، وكذا حركة الأفلاك في الوضع ونحو ذلك.

مثلاً المادّة المتحرّكة في يومٍ أو شهر أو سنة في استعداد لحادث عند الدهريّة لا يحصل لها في أواخر زمان حركتها إلاّ ما يشارك ما كان حاصلاً لها في أوائله في تمام الماهيّة وفي التشخّص؛ فإنّ كلّ حركة متّصلةٍ قابلةٌ للقسمة إلى غير النهاية ، فلو تغيّرت المادّة، أو حدث حادث آخر في كلّ حدّ، لزم انحصار ما لا يتناهى بين حاصرين وتغيّرُها، أو حدوث حادث آخر في بعض الحدود في الوسط والطرف دون باقيها يثبت المطلوب ، فإنّا نقول: بين كلّ حدّين تغيّرت المادّة فيهما، أو حدث حادث آخر فيهما حدود غير متناهية لم يتغيّر المادّة فيها، ولم يحدث حادث آخر فيها، والفاعل إذا لم يكن مختارا مدبّرا، امتنع أن يخصّص بعض الأجزاء المتشابهة في تمام الماهيّة عن

ص: 28

الباقية بإحداث الحادث فيه دون الباقية، سواء قرب المعلول من العلّة أم بعُدَ؛ لأنّ المفروض أنّهما ليسا بأمرين متخالفين في التشخّص فضلاً عن الماهيّة ، بل هما أمران اعتباريان ، ألا ترى أنّ مغناطيس مثلاً يمتنع أن يجذب طبعه حديدا دون حديد بمجرّد أنّ الأوّل ملك زيد، والثاني ملك عمرو، بخلاف ما إذا كان مختارا .

إن قلت : الحركة في الكيف ممكن وواقع، فللمتحرّك فيه في كلّ آن من زمان حركته كيفيّة مخالفة لما في الآنات السابقة واللاحقة، إمّا في الماهيّة بناءً على أنّها مختلفة بالشدّة والضعف، وقد تقرّر أنّ الأشدّ نوع مباين للأضعف ، وإمّا في التشخّص فقط، وإمّا في العارض الخارجي فقط .

قلت : لا نسلّم إمكان الحركة في نحو الكيف ممّا له وجودان في الخارج: وجود في نفسه، ووجود رابطي ، بل الانتقال فيه دفعي كالانتقال من البياض إلى السواد، ومنشأ الاشتباه قِصر زمان كلّ كيفيّة من الكيفيّات المتواردة ، والدليل عليه أنّه لولاه لزم انحصار ما لا يتناهى من الاُمور الموجودة في أنفسها بين حاصرين، أو كون المتحرِّك في الحرارة _ مثلاً_ خاليا عن الحرارة بالكلّيّة، وكلاهما خلاف البديهة، فلا حركة في العوارض الخارجيّة إلاّ فيما لا وجود له في الخارج إلاّ الوجود الرابطي كالأين والوضع والمحاذاة والكمّ والزمان والقُرب والبُعد ونحو ذلك، فإنّ انحصار ما لا يتناهى منه بين حاصرين ليس بديهيَّ الاستحالة؛ نظير اجتماع العلوم الغير المتناهية والقُدر الغير المتناهية في اللّه تعالى؛ إذ لا حاجة للاُمور التي ليس لها في الخارج إلاّ الوجود الرابطي إلى فاعل وإيجاد وإلاّ لزم أن يتعلّق بالإيجاد نفسه إيجاد آخر، ولا ينافي هذا أن يكون الحركة في بعض تلك الاُمور موجودةً في نفسها في الخارج بأن يكون للحركة في الأين _ مثلاً_ وجودان في الخارج: وجود في نفسه، ووجود رابطي .

(الْقَوْمُ مُضْطَرُّونَ) . المراد بالقوم الزنادقة ، والمقصود إمّا أنّه لا مندوحة(1) لهم عن .

ص: 29


1- في حاشية «أ» : الندح _ ويضمّ _ : الكثرة والسعة ، كالنّدحة والنُدحة والمندوحة . وانظر القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 252 (ندح) .

الإقرار بمدبّر للعالم، محدثٍ لهذه الحوادث، مثبتٍ لكلّ حادث منها في وقته دون سابقه ولاحقه؛ فإنكارهم وجحدهم مع إقرار قلبهم به . وإمّا أنّهم معذّبون في الآخرة، كقوله تعالى في سورة لقمان : «ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ»(1) . وإمّا إشارة إلى حلّ شبهتهم التي نقلناها، فإنّ قولهم: «فلم يجز أن يحدث كائن البتّة»(2) مبنيّ على امتناع تخلّف المعلول عن العلّة التامّة ، وهو ممنوع بل باطل ؛ لأنّه يستلزم أن يكون المختارون مضطرّين في فعلهم، فيلتزموا أنّهم أنفسهم مضطرّون، وهو مكابَرة.

ويحتمل أن يُراد بالقوم المسلمون، أي لا مندوحة لهم عن الإقرار .

الدليل الثالث :

(يَا أَخَا أَهْلِ مِصْرَ ، لِمَ السَّمَاءُ مَرْفُوعَةٌ ، وَالاْءَرْضُ مَوْضُوعَةٌ) . ذكر السماء والأرض على سبيل المثال . أو المراد بالسماء ما فوق الأرض، فيشمل الهواء والماء وما فيهما ؛ يعني أنّ اختصاص كلّ جسم بمكان معيّن شخصا كما في الأرض، أو نوعا كما في الكواكب المتحرّكة في مسير خاصّ دون مسير آخر، وإلى جهة خاصّة دون اُخرى لا يمكن إلاّ بأنّ مدبّرا خلقه في ذلك المكان دون باقي الأمكنة، لأنّ الأمكنة متشابهة في تمام الماهيّة؛ لاتّصال الفضاء الموهوم وعدم امتياز بعضه عن بعض إلاّ بالتمكّن ، ولا يمكن أن يميّز غير المختار بعض المكان عن بعض لكون الجسم فيه دون غيره . أمّا إذا كان غير المختار نفس الجسم، أو جزءه، أو عارضه الشريكين له في المكان فظاهر؛ لبداهة افتراق الحادّ من المحدود، مع ما ذكرنا من تشابه الأمكنة في تمام الماهيّة ، وأمّا إذا كان خارجا، فلتشابه الأمكنة فقط .

إن قلت : يمكن أن يكون بعض الأمكنة دون بعض لازما عقليّا لجسم دون جسم، فلا يحتاج كونه فيه إلى جعل جاعل ، كما أنّ للعلم والقدرة والسمع والبصر والحياة ونحوها من صفات الذات أفرادا متشابهة في تمام الماهيّة، وجملة من أفرادها لوازم .

ص: 30


1- لقمان (31) : 24 .
2- تقدم في كلام ابن سينا .

عقليّة لواجب الوجود لا يحتاج اتّصافه بها إلى جعل جاعل عندكم، وجملة اُخرى من أفرادها للممكنات .

قلت : اللازم العقلي لشيء ليس له أفراد حقيقيّة ؛ أي مختلفة في نفسها ، أي مع قطع النظر عن اختلاف موصوفها أو متعلّقها، إنّما له الحصص التي لا اختلاف بينها، إلاّ اختلاف موصوفها أو متعلّقها ؛ فكلّ من اتّصف بحصّة منها على سبيل اللزوم العقلي، أو بتأثير مؤثّر موجب يجب أن يكون متّصفا بكلّ واحدٍ من الحصص المختلفة باختلاف المتعلّق فقط ، ولا يمكن أن يتبدّل فيه حصّة منها بحصّة اُخرى ، ولذا يجب أن يكون الواجب الوجود تعالى متّصفا بالعلم بكلّ شيء، وبالقدرة على كلّ شيء، وبسماع كلّ صوت، وبإبصار كلّ مبصر، بخلاف الممكن، والمكانُ ليس كذلك ؛ لأنّه يمكن أن يتبدّل مكان جسم مع كون المتمكّن واحدا في الحالتين، فلو لم يكن اختلاف المكانين إلاّ باختلاف الموصوف أو المتعلّق، كاختلاف علمنا وعلم اللّه تعالى، وكاختلاف علم اللّه تعالى بوجود زيد وعلمه بوجود عمرو، لم يكن هذا التبدّل في المكان .

إن قلت : المكان بمعنى البُعد كالامتداد الزماني ؛ أي لا وجود له في الأعيان؛ لأنّه ليس جوهرا ولا عرضا، إنّما له فيها الثبوت النظير للوجود الذهني عند القائلين به، فلا نسلّم أنّه يتبدّل حقيقةً مكان جسم مع كون المتمكّن واحدا، فيجوز أن يكون الاختصاص بالمكان بتبعيّة الاختصاص بوضع معيّن شخصا أو نوعا بالنسبة إلى الأجسام الاُخرى ، ولهذا لا يتصوّر حركة الجسم المحيط بجميع ما عداه من الأجسام في الأين، ولا يتصوّر خلاء إلاّ في داخل الأجسام ، ويقال: أين زيد من عمرو ، والأوضاع مختلفة الحقائق، فيجوز أن يكون بعضها لازما عقليّا، أو مقتضى طبيعة لجسم دون بعض آخر، ودون الأجسام الاُخرى .

قلت : لا يجوز أن يكون الوضع لازما عقليّا؛ لما ذكرنا في المكان من جواز تبدّل أفراده مع بقاء الجسم بعينه .

ص: 31

ثمّ إنّ الوضع من قبيل النسبة، وهي فرع المنتسبين، فلا يكفي في تحقّقه بعض الأجسام، ومجموعها من حيث المجموع لا يمكن أن يجعل لنفسه الوضع بمعنى نسبة بعض أجزائه إلى بعض، لا بنفسه ولا بجزئه ولا بعارضه ؛ لأنّ للجزء والعارض أيضا وضعا، وافتراق الحادّ من المحدود والمؤلّف من المؤلّف بديهيّ .

إن قلت : اختصاص الجسم المحيط بما عداه بمكانه بسبب مقداره اللازم له عقلاً؛ فإنّه لا يسعه مكان آخر، فهكذا إلى الأرض .

قلت : ليس مقدار جسم ولا تشخّصه ولا وجوده لازما عقليّا لذاته؛ لتشابه المقادير في تمام الحقيقة بديهةً ، ويجيء تفصيله في سادس «باب النهي عن الجسم والصورة ».

الدليل الرابع :

(لِمَ لاَ تَسْقُطُ السَّمَاءُ عَلَى الاْءَرْضِ؟). المراد بالسماء السحاب ، ويحتمل أن يُراد ما يشمل الأفلاك ، وحاصله: أنّا نرى كلاًّ من الماء والبَرَد والثلج ونحو ذلك _ إذا لم يكن تحته جسم يكون عمودا له ومانعا من حركته _ يتحرّك إلى سفلٍ، إمّا صريحٍ كما في الساقط، أو غير صريح كما في الجاري على وجه الأرض ، وإذا كان تحته جسم مانع، يحسّ منه مدافعة وميل إلى السفل، ونرى السحاب الثقال تسخّر في الجوّ بغير عمد نراها، سواء كان بمحض القدرة كما في السحاب الساكن، أم بالريح كما في المتحرّك، فإنّ الريح هواء متحرِّك غير مرئيّ، وليس حدوث الريح بنحو طبع الأجسام.

وما يُقال من أنّ سببه نحو التخلخل أو التكاثف ممّا يُضحك الثكلى، فاللّه تعالى هو الذي يُنشئ السحاب الثقال، كما في سورة الرعد(1) «وَ يُمْسِكُ السَّمَآءَ أَن تَقَعَ عَلَى الاْءَرْضِ إِلاَّ .

ص: 32


1- مقتبس من سورة الرعد (13) : 2 . في حاشية «أ» : «قال البيضاوي في تفسير قوله تعالى في سورة الرعد : «اللَّهُ الَّذِى رَفَعَ السَّمَ_وَ تِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا» إلى آخره ، «عمد» أي أساطين جمع عماد كإهاب وأهب أو عمود ، وقرئ : عمد كرسل . «ترونها» صفة لعمد ، أو استئناف للاستشهاد برؤيتهم السموات كذلك ، وهو دليل على وجود الصانع الحكيم ؛ فإنّ ارتفاعها على سائر الأجسام المساوية لها في حقيقة الجرمية ، واختصاصها بما يقتضي ذلك لابدّ وأن يكون بمخصّص ليس بجسم ولا جسماني يرجّح بعض الممكنات على بعض بإرادته» . تفسير البيضاوي ، ج 2 ، ص 332 .

بِإِذْنِهِ» كما في سورة الحجّ .(1)

ويُحتمل أن يُراد بالسماء المطر، وبسقوطها انحدارها مرّة واحدة لا بقطرات وتدريج . وفيه من الدلالة ما لا يخفى .

الدليل الخامس :

(لِمَ لاَ تَنْحَدِرُ الاْءَرْضُ فَوْقُ(2) طِبَاقِهَا) . الحدر _ بالفتح والمهملات _ : الحطّ من علو إلى سفل ، والحدر أيضا الإحاطة بالشيء .(3) والانحدار هنا إمّا مطاوع الأوّل ؛ أي لِمَ لا تنحطّ. وهو ناظر إلى مذهب من يقول : إنّ الأرض كانت كُرَة صغيرة، فدُحيت ومدّت وفرشت، فصارت كأنّها قطعة قريبة من الربع من وجه كرة عظيمة، فكان مجموع الأرض والماء كرة واحدة، مركزها في الماء، وهو مركز ثقل العالم . وإمّا مطاوع الثاني؛ أي لِمَ لا يحاط. وهو ناظر إلى مذهب من يقول من الزنادقة : إنّ الأرض كرة على حدة مركزها مركز ثقل العالم، وأنّ الماء محيط بثلاثة أرباع من الأرض تقريبا، وهو كرة ناقصة .(4)

و«فوق» بالرفع بدل بعض من الأرض .

و«طباق» بكسر المهملة جمع طبقة أو طبق بفتحتين، كرقبة ورقاب، وجبل وجبال .(5) قيل: والسماوات طباق طبقة فوق طبقة، أو طبق فوق طبق ؛ انتهى .(6)

وقيل : لمطابقة بعضها بعضا ؛ انتهى .(7)

وظاهره أنّه ليس بجمع بل مصدر وُصف به، وكأنّه لندور «فعال» في جمع «فعلة» .

ص: 33


1- الحجّ (22) : 65 .
2- في الكافي المطبوع: «فوقَ» بالفتح .
3- كتاب العين ، ج 3 ، ص 178 ؛ لسان العرب ، ج 4 ، ص 172 (حدر) .
4- اُنظر المواقف ، ج 2 ، ص 479 ؛ شرح المقاصد ، ج 1 ، ص 354 .
5- كتاب العين ، ج 5 ، ص 108 ؛ لسان العرب ، ج 10 ، ص 210 (طبق) .
6- أساس البلاغة للزمخشري ، ص 383 (طبق) .
7- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 256 (طبق) .

الصفةِ كطبقة دون الاسم كرقبة الذي يجيء في «كتاب الزكاة» في رابع «باب منع الزكاة»(1) وتاسع عشره وهو الباب الثاني،(2) وفي «كتاب النكاح» في سادس «باب اللواط» وهو الباب المائة وستّة وثمانون ،(3) وثاني «باب من أمكن من نفسه» وهو الباب المائة وسبعة وثمانون : أنّ(4) للأرض التي نحن عليها سبعَ طبقات .(5)

والمشهور في كتب الفلاسفة ومَن تبعهم أنّ للأرض التي نحن عليها ثلاثَ طبقات متلاصقة بعضها فوق بعض : الاُولى: المخالطة بغيرها التي فيها الجبال والمعادن وكثير من الحيوانات والنباتات . الثانية: الطينيّة . الثالثة: المحيطة بالمركز .(6)

والمراد بقوله : «فوق طباقها» الاُولى، فإنّها الأنسب باستعمالات اللغة، وبمقام الاستدلال على الصانع .

وأمّا قوله تعالى في سورة الطلاق : «اللّه ُ الَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنْ الاْءَرْضِ مِثْلَهُنَّ»(7) فيمكن أن يكون المراد بالأرض فيه ما تحت أقدام من في مكّة ، ويشمل كلّ ما تحت اُفق مكّة إلى منتهى المكان، وهي مبنيّة على أنّ السماوات السبع لم يحطن بأرضنا، وإنّما هنّ فوق اُفق مكّة، ولا حركة لهنّ ، والكواكب يسبحون فيهنّ كالحوت في الماء، والطير في الهواء ، وهنّ نصف مدار الكواكب، والنصف الآخر من مدارها سبع أرضين، وهنّ بعض الأرض، ومساوية للسماوات السبع في المقدار، ولا حركة لهنّ أيضا .

وحاصل الدليل : أنّا نرى الأرض أثقل من الماء، والماء أثقل من الهواء ، فإن كان مركز الأرض مركز العالم، فلِمَ لا يحيط الماء بجميع وجه الأرض، ولا يخرج الهواء .

ص: 34


1- الكافي، ج 3، ص 503، باب منع الزكاة، ح 4.
2- الكافي ، ج 3 ، ص 505 ، باب منع الزكاة ، ح 19 .
3- الكافي ، ج 5 ، ص 546 ، باب اللواط ، ح 6 .
4- في «ج» : - «أنّ» .
5- الكافي ، ج 5 ، ص 549 ، باب من أمكن من نفسه ، ح 2 .
6- حكاه العلاّمة في كشف المراد ، ص 12 عن المشهور عند الجمهور ؛ وحكاه العلاّمة المجلسي عن الحكماء في بحار الأنوار ، ج 56 ، ص 389 ، و ج 57 ، ص 97 .
7- الطلاق (65) : 12 .

منه ؟ وإن كان مركز الأرض غير مركز العالم، فلِمَ لا تنحطّ الأرض بحيث ينطبق مركزها على مركز العالم ؟ أي يظهر بذلك أنّ إمساك الماء أو الأرض ليس بفاعل موجب كطبع الماء والأرض ، بل بتدبير مدبّر العالم لتعيش مخلوقاته من الإنسان وسائر الحيوانات ، وقد أجرى عادته فيما أجرى لمصلحة وخرقها في غيره لمصلحة اُخرى ، وليعلم أنّه ربّ كلّ شيءٍ وخالقه.

ولم يقدر الزنادقة الطبيعيّون على تمجمج في دفع هذه الشناعة عن أنفسهم والحمد للّه ، فإنّهم إن قالوا: بعض الأرض أثقل من بعض بكثير، فمركز ثقل الأرض ليس في وسط حجمها، فانكشف بعضها ليبسها كالجزائر في البحر .

قلنا : من خفّف بعضها وثقّل بعضها ؟

وإن قالوا : الأرض كرتان إحداهما مصمتة، والاُخرى على وجه الاُولى كالمتمّم الحاوي والعناصر خمس .

قلنا : من رقّق بعض المتمّم، وغلّظ الباقي ، مع أنّ الطبع واحد ؟

(فَلاَ يَتَمَاسَكَانِ ، وَلاَ يَتَمَاسَكُ مَنْ عَلَيْهَا ؟) . الفاء للبيان، ولذا كان مدخولها مرفوعا، مثل : ألم تسأل الربع القواء فينطق .(1) والربع بالفتح: الدار، والقواء _ بكسر القاف والمدّ _ : الأرض الخالية عن أهلها .

والتماسك: التمالك . قال الجوهري : ما تماسك أن قال ذلك، أي ما تمالك.(2) يعني يبيّن ما ذكر من الأدلّة أنّ السماء والأرض لا يحفظان نفسيهما عن الزوال عن مكانيهما، ويحتاجان إلى مُمسك ، وأهل الأرض لا يحفظون أنفسهم عن الزوال عن أمكنتهم، ولذا يسقطون عن السطح، ويتردّون في البئر ، فكيف يمكن أن يكون أحد منهم .

ص: 35


1- حكاه الطوسي في التبيان ، ج 7 ، ص 336 عن الشاعر وتمامه : ألم تسأل الربع القواء فينطق *** وهل يخبرنك اليوم سملق وحكاه أيضا القرطبي في تفسيره ، ج 12 ، ص 91 ؛ والرضي في شرحه على الكافية ، ج 4 ، ص 66 / 649 ، وفي لسان العرب ، ج 1 ، ص 300 عن ثعلب .
2- الصحاح ، ج 4 ، ص 1608 (مسك) .

ممسكا للسماء والأرض عن الزوال ؟ وهذا مأخوذ من قوله تعالى في سورة فاطر : «إِنَّ اللّه َ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالاْءَرْضَ أَنْ تَزُولاَ وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيما غَفُورا»(1) بأن يكون «زالتا» بمعنى لم يمسكهما؛ تعبيرا عن الملزوم باللازم .

(قَالَ الزِّنْدِيقُ : أَمْسَكَهُمَا اللّه ُ رَبُّهُمَا وَسَيِّدُهُمَا . قَالَ : فَ_آمَنَ الزِّنْدِيقُ) أي صرّح بكلمة الإيمان؛ لأنّه بلغ الدليل في الوضوح إلى هذا الحدّ الذي لا مجال للكلام عليه .

(عَلى يَدَيْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، فَقَالَ لَهُ حُمْرَانُ) ؛ هو ابن أعين : (جُعِلْتُ فِدَاكَ ، إِنْ آمَنَتِ الزَّنَادِقَةُ عَلى يَدَيْكَ فَقَدْ آمَنَ الْكُفَّارُ) . الجزاء محذوف اُقيم دليله مقامه ؛ أي فلا تَعجُّبَ؛ لأنّه قد آمن الكفّار (عَلى يَدَيْ أَبِيكَ) . يريد رسول اللّه صلى الله عليه و آله .

(فَقَالَ الْمُوءْمِنُ الَّذِي آمَنَ عَلى يَدَيْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : اجْعَلْنِي مِنْ تَلاَمِذَتِكَ) أي ممّن تفيدهم علم الدِّين .

(فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : يَا هِشَامَ بْنَ الْحَكَمِ ، خُذْهُ إِلَيْكَ) ؛ أي ضمّه إليك .

(وَعَلِّمْهُ. فَعَلَّمَهُ هِشَامٌ ؛ وَكَانَ(2) مُعَلِّمَ أَهْلِ الشَّامِ وَأَهْلِ مِصْرَ الاْءِيمَانَ ) . هذا كلام عليّ بن منصور .

(وَحَسُنَتْ طَهَارَتُهُ حَتّى رَضِيَ بِهَا أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ) . يمكن أن يكون من كلام عليّ، وأن يكون من كلام هشام .

الثاني : (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي هَاشِمٍ ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَسِّنٍ) . في كتب الرجال أحمد بن الحسن .(3)

(الْمِيثَمِيِّ) ؛ بكسر الميم وسكون الخاتمة وفتح المثلّثة .

(قَالَ : كُنْتُ عِنْدَ أَبِي مَنْصُورٍ الْمُتَطَبِّبِ) ؛ بصيغة اسم الفاعل من باب التفعّل ، قالوا: .

ص: 36


1- فاطر (35) : 41 .
2- في الكافي المطبوع : «فكان» .
3- منتهى المقال ، ج 1 ، ص 242 ، الترجمة 126 .

ليس للتكلّف بل للمبالغة في تعلّم الطبّ .(1)

(فَقَالَ : أَخْبَرَنِي رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِي ، قَالَ : كُنْتُ أَنَا وَابْنُ أَبِي الْعَوْجَاءِ) . اسمه عبد الكريم، كان من تلامذة الحسن البصري، فانحرف عن التوحيد، فقيل له: تركت مذهب صاحبك ودخلت فيما لا أصل له ولا حقيقة ؟ فقال : إنّ صاحبي كان مخلّطا، كان يقول طورا بالقدر، وطورا بالجبر، وما أعلمه اعتقدَ مذهبا دامَ عليه ، كما يجيء في «كتاب الحجّ» في أوّل «باب ابتلاء الخلق واختبارهم بالكعبة» وهو الباب السادس .(2)

(وَعَبْدُ اللّه ِ بْنُ الْمُقَفَّعِ) ؛ بضمّ الميم وفتح القاف وفتح الفاء المشدّدة . وابن المقفّع أوّل من اعتنى في بلاد الإسلام بترجمة كتب أرسطو وغيره المنطقيّة لأبي جعفر المنصور ، وهو فارسي النسب، وله تأليفات اُخرى .(3)

(فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، فَقَالَ ابْنُ الْمُقَفَّعِ : تَرَوْنَ هذَا الْخَلْقَ ؟ _ وَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلى مَوْضِعِ الطَّوَافِ _) أي أشار إلى أهل الطواف جميعا .

(مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ أُوجِبُ) ؛ بصيغة المتكلّم من باب الإفعال .

(لَهُ اسْمَ الاْءِنْسَانِيَّةِ إِلاَّ ذلِكَ الشَّيْخُ الْجَالِسُ _ يَعْنِي أَبَا عَبْدِ اللّه ِ جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ عليهماالسلام _ فَأَمَّا الْبَاقُونَ فَرَعَاعٌ) ؛ كسحاب اسم جمع؛ أي الذين يخدمون بطعام بطونهم، ويتبعون كلّ أحد .(4)

(وَبَهَائِمُ) في البلادة .

(فَقَالَ لَهُ ابْنُ أَبِي الْعَوْجَاءِ : وَكَيْفَ أَوْجَبْتَ هذَا الاِسْمَ) أي اسم الإنسانيّة (لِهذَا الشَّيْخِ دُونَ هوءُلاَءِ ؟). يشير إلى أنّه لا فرق بينه وبينهم .

(قَالَ : لاِءَنِّي رَأَيْتُ عِنْدَهُ مَا لَمْ أَرَهُ عِنْدَهُمْ ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ أَبِي الْعَوْجَاءِ : لاَبُدَّ مِنِ اخْتِبَارِ مَا قُلْتَ فِيهِ) ؛ متعلّق ب_«قلت» . (مِنْهُ) ؛ متعلّق باختبار . .

ص: 37


1- حكى عكس ذلك الزبيدي في تاج العروس ، ج 2 ، ص 179 (طبب) .
2- الكافي ، ج 4 ، ص 197 ، باب ابتلاء الخلق واختيارهم بالكعبة ، ج 1 .
3- عيون الأنباء في طبقات الأطبّاء ، ص 413 ؛ الأعلام للزركلي ، ج 4 ، ص 140 (ابن المقفع) .
4- اُنظر لسان العرب ، ج 8 ، ص 128 (رعع) .

(قَالَ : فَقَالَ لَهُ ابْنُ الْمُقَفَّعِ : لاَ تَفْعَلْ ؛ فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يُفْسِدَ) ؛ من الإفساد ، أو من باب نصر وضرب وحسن . (عَلَيْكَ مَا فِي يَدِكَ) ؛ مفعول «يفسد» أو فاعله . والمراد ما كان يتمسّك به على مذهبه، أو نفس مذهبه .

(فَقَالَ : لَيْسَ ذَا) أي الخوف على هذا .

(رَأْيَكَ ، وَلكِنْ تَخَافُ أَنْ يَضْعُفَ) ؛ بصيغة المعلوم من باب حسن ونصر .

(رَأْيُكَ عِنْدِي فِي إِحْلاَلِكَ) ؛ بالمهملة . (إِيَّاهُ الْمَحَلَّ الَّذِي وَصَفْتَ ، فَقَالَ ابْنُ الْمُقَفَّعِ : أَمَّا) ؛ بفتح الهمزة وتشديد الميم للشرط والتأكيد والتفصيل، لكن اكتفى بذكر أحد الشقّين عن الآخر هنا؛ أو تخفيفها حرف تنبيه واستفتاح .

(إِذَا تَوَهَّمْتَ عَلَيَّ هذَا) . «على» للإضرار؛ أي إذا أسأت توهّمك في حقّي .

(فَقُمْ) . الفاء _ على تشديد الميم _ قيل: جواب لأمّا ، و«إذا» على الأوّل للظرفيّة بدون شرط واستقبال بمعنى حين، وعلى تخفيفها جواب ل«إذا» الشرطيّة .

(إِلَيْهِ) ؛ متعلّق ب«قم» لتضمينه معنى المشي .

(وَتَحَفَّظْ) ؛ بصيغة الأمر من باب التفعّل؛ أي احفظ نفسك .

(مَا اسْتَطَعْتَ) . «ما» حرف مصدريّة زمانيّة بمعنى ما دام، نحو ما دمت حيّا، أصله: مدّة دوامي حيّا، فحذف(1) الظرف وخَلَفته ما وصلتها، كما جاء في المصدر الصريح: جئتك صلاةَ العصر، وآتيك قدومَ الحاجّ، ومنه: «إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الاْءِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ»(2) . ولو كان معنى كونها زمانيّةً أنّها تدلّ على الزمان بذاتها لا بالنيابة، لكانت اسما، ولم تكن مصدريّة .

(مِنَ الزَّلَلِ) ؛ متعلّق ب_«تحفّظ ». و«الزلل» بفتحتين من باب ضرب وعلم: النقصان، تقول : زلّت الدراهم، أي نقصت في الوزن ؛ وفي ميزانه زلل، أي نقصان . والمقصود أمره بسلاطة اللِّسان(3) وتواتر الكلام . والزلل أيضا الزلق في الرأي والمنطق ، ويُقال .

ص: 38


1- في «ج» : «فحذفت» .
2- هود (11) : 88 .
3- في حاشية «أ» : السلط والسليط : الشديد ، واللسان الطويل ، والطويل اللسان . وقد سلط _ ككرم وسمع _ سلاطة (من ق) . القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 365 (سلط) .

أيضا: مقام زلل، أي يُزلُّ فيه .(1)

(وَلاَ تَثْنِي) ؛ بالمثلّثة والنون والخاتمة، بصيغة المضارع المخاطب المعلوم من باب ضرب . وهذا خبر، أي أنا أعلم أنّك لا تعطف في مجلسه .

(عِنَانَكَ) ؛ بكسر المهملة، وهو ما يأخذه الراكب بيده من لجام الفرس ، شبّهه بالفرس أو براكبه. و«العنان» أيضا المعانّة، وهي المعارضة .

(إِلَى اسْتِرْسَالٍ) ؛ متعلّق ب«لا تثني »، يُقال : استرسل إليه: إذا انبسط واستأنس . والمراد به هنا الاستماع والإنصات .

(فَيُسَلِّمُكَ) ؛(2) بالرفع ، يُقال : سلّمت إليه الشيء تسليما وأسلمت، أو أعطيته إيّاه . ويُقال أيضا: أسلمه، أي أسَّرَهُ . والسلم بفتحتين: الأسير؛ لأنّه مستسلم أي منقاد . واستعماله مع «إلى» حينئذٍ لتضمين معنى الضمّ .

(إِلى عِقَالٍ) . العقل: الحبس ، والعقال _ بكسر المهملة وتخفيف القاف _ : حبل يشدّ به البعير، فلا يقدر على المشي ؛(3) وبضمّ المهملة وتشديد القاف: ظَلَعٌ(4) يأخذ في قوائم الدابّة .

(وَسِمَةِ مَا لَكَ وَعَلَيْكَ(5)) ؛ بكسر المهملة وفتح الميم والتاء: أثر الكيّ(6) في الحيوانات، وهو معطوف على عقال، ومضاف إلى ما الموصولة ؛ فالمعنى: ويسلّمك إلى قاعدة تعرف بها مالك وعليك؛ لئلاّ تتكلّم بما لا طائل تحته .

(قَالَ : فَقَامَ ابْنُ أَبِي الْعَوْجَاءِ ، وَبَقِيتُ أَنَا وَابْنُ الْمُقَفَّعِ جَالِسَيْنِ ، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَيْنَا ابْنُ أَبِي .

ص: 39


1- لسان العرب ، ج 11 ، ص 307 ؛ القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 389 (زلل) .
2- في الكافي المطبوع : «فَيُسَلِّمَكَ» بفتح الميم .
3- تاج العروس ، ج 15 ، ص 513 (عقل) .
4- ظلع البعير، كمنع : غمز في مشيه [ الظلاع] كغرب داء في قوائم الدابة لا من سير ولا تعب». القاموس ، ج 3 ، ص 60 (ظلع) .
5- في الكافي المطبوع : «وَسِمْهُ مالك أو عليك» .
6- كواه يكويه كيا : أحرق جلده بحديدة ونحوها . القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 384 (كيى) .

الْعَوْجَاءِ ، قَالَ : وَيْلَكَ يَا ابْنَ الْمُقَفَّعِ) .

الويل: الموت فجأةً، وهو منصوب بإضمار حرف النداء ، وهذا دعاء على المخاطب ، وقد يَرِد للتعجّب، نحو : ويل اُمِّه مِسْعرَ(1) حَربٍ؛ تعجّبا من شجاعته وجرأته وإقدامه، ونصب «مسعر» على التمييز .

(مَا هذَا بِبَشَرٍ) ؛ تعجّبٌ من تفرّسه وإحاطته عليه السلام بأنواع الأدلّة .

(وَإِنْ كَانَ فِي الدُّنْيَا) أي في الجسمانيّات .

(رَوحَانِيٌّ) ؛(2) بفتح الراء أو بضمّها نسبةً إلى الروح بضمّ الراء . والمراد عقل مجرّد من جملة العقول العشرة التي تُثبِتها الزنادقة وتعتقد ثبوت صور جميع الكائنات فيها .(3)

(يَتَجَسَّدُ) أي يتعلّق بالبدن .

(إِذَا شَاءَ ظَاهِرا) ؛ مفعول به ل«شاء» أو حال مؤكّدة عن فاعل «يتجسّد ».

(وَيَتَرَوَّحُ) أي يقطع التعلّق عن البدن .

(إِذَا شَاءَ بَاطِنا ، فَهُوَ هذَا ، قَالَ(4) لَهُ : وَكَيْفَ ذلِكَ ؟ فَقَالَ(5) : جَلَسْتُ إِلَيْهِ) ؛ متعلّق ب«جلست» لتضمينه معنى «توجّهت ».

(فَلَمَّا لَمْ يَبْقَ عِنْدَهُ غَيْرِي ، ابْتَدَأَنِي ، فَقَالَ : إِنْ يَكُنِ الاْءَمْرُ عَلى) أي مبنيّا على (مَا يَقُولُ هوءُلاَءِ) من أنّ للعالم صانعا. هذا إلى آخره ردّ لقوله: «ما منهم أحدٌ اُوجِب له اسم الإنسانيّة» .

(وَهُوَ) أى هضءمر (عَلى مَا يَقُولُونَ ) . الجملة معترضة بين الشرط والجزاء .

(يَعْنِي أَهْلَ الطَّوَافِ) . كلام ابن أبي العوجاء، وهو لتفسير «هؤلاء» وضمير «يقولون ». .

ص: 40


1- والمسعر : موقد نار الحرب. القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 48 (سعر) .
2- في الكافي المطبوع : «رُوحاني» بضمّ الراء .
3- العقول العشرة فرضية فرضها المشّاؤون لتصحيح صدور الكثير من الواحد، وهي مبتنية على وجود الأفلاك التسعة وكونها ذوات نفوس مريدة.
4- في الكافي المطبوع : «فقال» .
5- في الكافي المطبوع : «قال» .

(فَقَدْ سَلِمُوا وَعَطِبْتُمْ) ؛ بصيغة المعلوم من باب علم . والعطب بفتحتين: الهلاك .

(وَإِنْ يَكُنِ الاْءَمْرُ عَلى مَا تَقُولُونَ) من أنّه ليس للعالم صانع .

(_ وَلَيْسَ كَمَا تَقُولُونَ _) . استعملَ هنا الكاف بدل «على» لإفادة أنّ الحقّ لا يشبه قول الزنادقة أصلاً .

(فَقَدِ اسْتَوَيْتُمْ ، وَهُمْ. فَقُلْتُ لَهُ : يَرْحَمُكَ اللّه ُ) . هذا على عادة أهل الزمان، وقد يصدر عن الجاحد للّه تعالى ، ويجيء مثله في الحديث الآتي .

(وَأَيَّ شَيْءٍ نَقُولُ ؟ وَأَيَّ شَيْءٍ يَقُولُونَ ؟ مَا قَوْلِي وَقَوْلُهُمْ إِلاَّ وَاحِدا) . نصب خبر «ما» مع انتقاض النفي ب«إلاّ» ممّا جوّزه يونس(1) من النحاة وأنشد :

وما الدهر إلاّ منجنونا(2) بأهله وما صاحب الحاجات إلاّ مُعذّبا(2)

وجوّزه الفرّاء بشرط كون الخبر وصفا . وفي «باب القدرة» من التوحيد لابن بابويه «واحد» بالرفع.(3) أنكر الزنديق إنكاره(4) للصانع .

(فَقَالَ : وَكَيْفَ يَكُونُ قَوْلُكَ وَقَوْلُهُمْ وَاحِدا وَهُمْ يَقُولُونَ : إِنَّ لَهُمْ مَعَادا وَثَوَابا وَعِقَابا ، وَيَدِينُونَ) أي وذلك مبنيّ على أنّهم يدينون (بِأَنَّ فِي السَّمَاءِ(5) إِلها).

«في» هنا للظرفيّة المجازيّة، نحو قوله : «قُلْ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِى الْقُرْبَى»(6) ، ونحو : اللّهُمَّ احفظني في أهلي ؛ أو للمصاحبة، وهي التي تحسن في موضعها «مع» نحو : «قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ»،(7) أي مع اُمم ونحو : «فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ .

ص: 41


1- هو يونس بن حبيب اللغوي، كان عثماني الهوى كما في أمالي الشيخ الطوسي ص 608 ، ح 4 سؤال يونس النحوي من الخليل بن أحمد عن عليّ . وانظر قاموس الرجال ، ج 11 ، ص 164 . 2 . المنجنون : الدولاب يستقى عليه ، أو المحالة يسنى عليها . القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 270 (جنن) .
2- حكاه الرضي في شرحه على الكافية ، ج 2 ، ص 187 ؛ عمدة القاري ، ج 9 ، ص 283 .
3- التوحيد ، ص 127 ، باب القدرة ، ح 4 .
4- في حاشية «أ» : «إنكاره مفعول به لأنكر» .
5- في حاشية «أ» : وفي باب القدرة من كتاب التوحيد «للسماء» بدل «في السماء» .
6- الشورى (42) : 23 .
7- الأعراف (7) : 38 .

فِي زِينَتِهِ»(1) أي معها .

(وَأَنَّهَا عُمْرَانٌ) ؛ بضمّ المهملة وسكون الميم مصدر كشكران وكفران وغفران، من عمر المكان كنصر وحسن وعلم عمارةً بالكسر: ضدّ خرب، فهو عامر؛ استعمل بمعنى الفاعل للمبالغة، لمّا كان الدار التي لها مدبّر عامرا، استعمل لفظ اللازم في الملزوم . والمراد أنّ لها مدبّرا وحافظا ، ويحتمل أن يكون المراد أنّها مسكن الملائكة .

(وَأَنْتُمْ تَزْعُمُونَ) . الزعم مثلّثة من باب نصر: القول الحقّ والباطل، وأكثر ما يقال فيما يشكّ فيه .

(أَنَّ السَّمَاءَ خَرَابٌ) ؛ بفتح المعجمة مصدر خرب المكان كعلم: إذا فسد، فهو خرب ، ودار خربة؛ استعمل في الموضع الخرب .(2)

(لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ ؟!) . صفة «خراب» للتفسير، أو خبر آخر . والمراد بالأحد الإله أو الملك .

(قَالَ : فَاغْتَنَمْتُهَا) أي تلك الكلمة (مِنْهُ)؛ حيث لم يكتف بدعوى وجود الصانع، بل ضمّ إليه دعوى التكليف والمعاد والثواب والعقاب ، أو حيث ذكرها عليه السلام بدون تصريح منّي باعتقادي .

(فَقُلْتُ لَهُ : مَا مَنَعَهُ _ إِنْ كَانَ) . لم يقل «لو كان» خوفا من التصريح بالاعتقاد .

(الاْءَمْرُ كَمَا يَقُولُونَ _) أي أهل الطواف .

(أَنْ يَظْهَرَ لِخَلْقِهِ) . يريد بالظهور نصب الدلائل الواضحة ، وهذا إشارة منه إلى أنّ اعتقادكم بوجود الصانع لم يحصل إلاّ بقول من ادّعى أنّه رسول منه، وأنتم تزعمون أنّ عليه دليلاً خفيّا .

ويحتمل أن يكون المراد بالظهور كونَه محسوسا مرئيّا ، وحينئذٍ كان قوله: «و كيف احتجب» من قبيل حمل كلام الخصم على غير مراده مبالغةً في امتناع مراده، كما يجيء .

ص: 42


1- القصص (28) : 79 .
2- في حاشية «أ» : «وفيه إشارة إلى ما ذهب إليه الفلاسفة من استحالة الخرق والالتيام والسكون والحركة المستقيمة في الفلكيّات ومن أنّ إيجاد العالم بعنوان الإيجاب ، فلا يستحقّ موجده حمدا فضلاً عن العبادة» .

نظيره في سادس «باب في إبطال الرؤية» .

(وَيَدْعُوَهُمْ إِلى عِبَادَتِهِ) بعد نصب الدلائل الواضحة .

(حَتّى لاَ يَخْتَلِفَ مِنْهُمُ) : من خلقه (اثْنَانِ) . المراد بالاختلاف الاختلاف لأجل عدم الدليل الواضح .

(وَلِمَ احْتَجَبَ عَنْهُمْ وَأَرْسَلَ إِلَيْهِمُ الرُّسُلَ) أي لم ينصب دليلاً واضحا قبل إرسال الرسل على نفسه، وإنّما احتجّ على وجوده بقول الرسل وبيانهم لدليل خفيّ، كما زعم الفلاسفة ومَن تبعهم أنّه مبنيّ على إبطال التسلسل في الاُمور المتعاقبة، أو إثبات احتياج الممكن في البقاء إلى مؤثّر، ونحو ذلك من المقدّمات الدقيقة جدّا .(1)

(وَلَوْ بَاشَرَهُمْ بِنَفْسِهِ) أي لو نصب لهم أدلّة واضحة قبل إرسال الرُّسل . (كَانَ أَقْرَبَ إِلَى الاْءِيمَانِ بِهِ ) .

هذا من قبيل دليل المعتزلة على وجوب اللطف على اللّه ،(2) ويجيء إبطاله في «باب الاستطاعة»، ولم يتعرّض عليه السلام هنا له لئلاّ يتوهّم أنّ الواقع خفاء الدليل .

(فَقَالَ لِي : وَيْلَكَ ، وَكَيْفَ احْتَجَبَ عَنْكَ مَنْ أَرَاكَ قُدْرَتَهُ فِي نَفْسِكَ ؟!). يريد أنّه تعالى نصب أدلّة واضحة على أنّه المدبِّر للعالم قبل إرسال الرسل ؛ ومن تلك الدلائل ما في نفسك، ولم يقل: «أراك وجوب وجوده» بدل «أراك قدرته» إشارةً إلى أنّ إثبات الصانع بإثبات حدوث العالم عنه بالقدرة، لا بإثبات وجوب الوجود .

(نُشُوءَكَ وَلَمْ تَكُنْ) . النشوء بضمّ النون والمعجمة والواو والهمز كالحدوث وَزْنا ومعنىً، مصدر نشأ كمنع وحسن، أي حيي. وهو منصوب على أنّه بدل تفصيل لقوله : «قدرته» والواو للحال أجرى الاتّصال مجرى المقارنة .

وهذا إلى آخره راجع إلى ما فصّلناه في الدليل الثاني من أوّل الباب، لكن أجراه في قسم من الحوادث التي ليست تحت مقدور المخلوقين، وهي ما في أنفسنا ليستنبط .

ص: 43


1- اُنظر المسالك في اُصول الدين ، ص 52 ؛ معارج الفهم ، ص 212 ؛ الحكمة المتعالية ، ج 8 ، ص 12 .
2- حكاه في شرح المواقف ، ج 8 ، ص 168 .

منها حكم سائرها، كما فيما يجيء في ثالث الباب(1) من قوله : «إنّي لمّا نظرت إلى جسدي» إلى آخره .

ويحتمل أن يكون المراد علمنا برعايته المصالح مفصّلاً في كلّ حادث في أنفسنا، ونبني الكلام على هذا الاحتمال ؛ لظهور الأوّل، فنقول :

دلالة هذا على الصانع باعتبار أنّ تولّد الإنسان المصوَّر بالصورة، المبعّض إلى الأعضاء والأجزاء المشتملة على الحِكَم والمصالح، الذكرِ أو الاُنثى من المنيّ البسيط الذي يصلح لكلّ صورة وأجزاء، واُنثى وذكر، لا يمكن بديهةً أن يكون بسبب غير ذي علم وحكمة؛ فيكون عن قادر .

(وَكِبَرَكَ بَعْدَ صِغَرِكَ) . دلالة هذا باعتبار أنّ الإنسان حين تولّده ليس قادرا على جلب المنافع ودفع المضارّ، والاغتذاء بكلّ غذاء ، فإعداد اللبن _ المناسب لبدنه باعتبار الرطوبة في ثدي اُمّه لمعاشه _ ، وإلهامه مصّ الثدي، وتحنين الوالدين عليه ونحو ذلك ممّا يتوقّف عليه كبر الإنسان _ ولولاه لم يَعِش طفل أصلاً _ ليس إلاّ بتدبير وحكمة وقدرة .

(وَقُوَّتَكَ بَعْدَ ضَعْفِكَ) . دلالة هذا باعتبار أنّ الإنسان إذا كبر في الجملة، نبت له أضراس ليغتذي الغذاء المناسب لبدنه باعتبار اليبوسة القويّة المقوّية، وتهيّأ له أسباب القوّة على النسق المشاهد ليسعى في العمارة والزراعة والتجارة، ونحو ذلك ممّا يتوقّف عليه التمدّن، ولولاه لم يحصل للإنسان تعيّش، ولا يمكن أن يكون ذلك عن غير ذي علمٍ وقدرة وحكمة .

(وَضَعْفَكَ بَعْدَ قُوَّتِكَ) . دلالة هذا باعتبار أنّ نقص القُوى حين الشيخوخة مشتمل على حكمة؛ لأنّه مذكِّر للموت ومُؤنسٌ له، ولو كان الإنسان باقيا على قوّة الشباب، لم يحصل لمن نشأ بعده دخلٌ في الدنيا، واستقلّ بالتصرّف في أمواله دون ولده، ولم يحتج إلى خادم، فيختلّ كثير من معاش الناس . وفيه من الحكمة ما لا يخفى ، فلا يصدر عن غير ذي علمٍ وقدرة وحكمة . .

ص: 44


1- أي الحديث 3 من باب حدوث العالم و إثبات المحدث .

(وَسُقْمَكَ بَعْدَ صِحَّتِكَ) . دلالة هذا باعتبار أنّ الأمراض أكثرها في الأعزّة المخدومين، دون المغفول عنهم، وفي موضع يوجد فيه الأطبّاء دون القرى والصحاري ، وقد وضع لكلّ مرض دلالات في بدن الإنسان، وعوارضُ باعتبار اللون والقارورة وحركة النبض ونحو ذلك؛ فهو بتدبير مدبّر.

(وَصِحَّتَكَ بَعْدَ سُقْمِكَ) . دلالة هذا باعتبار أنّ حصول الصحّة ليس منوطا بالأدوية المستعملة عند الأطبّاء، بل ربّما كان المغفول عنه أقرب إلى الصحّة، والتصدّقات والأدعية أشدُّ تأثيرا في إزالة كثير من الأمراض؛ فليس ذلك إلاّ بتدبير مدبّر، كما في قوله تعالى حكاية: «وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ»(1).

(وَرِضَاكَ بَعْدَ غَضَبِكَ) . دلالة هذا باعتبار أنّ الإنسان قد يرضى بفعل لم يكن ليرضى به، بل يحلف على الاجتناب عنه، كالأفعال الخسيسة وكالصناعات الدنيّة؛ فعلم أنّه بتدبير مدبّر.

(وَغَضَبَكَ بَعْدَ رِضَاكَ) . دلالة هذا باعتبار أنّ الإنسان قد ينقلع عن مرضيّ له لم يكن ينقلع عنه؛ فعلم أنّه بتدبير مدبّر.

(وَحَزَنَكَ بَعْدَ فَرَحِكَ) . دلالة هذا باعتبار أنّ الإنسان قد يعرض له حزن لا يعلم له سببا أصلاً؛ فعلم أنّه بتدبير مدبّر.

(وَفَرَحَكَ بَعْدَ حَزَنِكَ) . دلالة هذا باعتبار أنّ الإنسان قد يعرض له فرح لا يعلم له سببا أصلاً؛ فعلم أنّه بتدبير مدبّر.

(وَحُبَّكَ بَعْدَ بُغْضِكَ) . دلالة هذا باعتبار أنّ الإنسان قد يحبّ شخصا مبغوضا له، ولا يعلم له سببا أصلاً؛ فعلم أنّه بتدبير مدبّر.

(وَبُغْضَكَ بَعْدَ حُبِّكَ) . دلالة هذا باعتبار أنّ الإنسان قد يبغض محبوبا له، ولا يعلم له سببا أصلاً؛ فعلم أنّه بتدبير مدبّر.

(وَعَزْمَكَ بَعْدَ أَنَاتِكَ) . يُقال: تأنّى في الأمر، أي تنظّر وترفّق، والاسم: الأناة مثل قناة، .

ص: 45


1- الشعراء (26) : 80 .

وأصل الهمزة الواو من الونى بفتح الواو وفتح النون والألف، وبسكون النون والخاتمة: الضعف والفتور.(1)

دلالة هذا باعتبار أنّ الإنسان قد يعزم على فعل لم يكن ليعزم عليه لمصالح نفسه، لا لغضبه له، فينكشف عن صلاح كالتجارات والأسفار النافعة للناس، وكثيرا ما يخرج الإنسان من بيت بلا سبب وفي غير وقت خروجه، فينهدم البيت؛ فعلم أنّ ذلك بتدبير مدبّر.

ولا يوجب ذلك الجبرَ، كما سيجيء في «باب في أنّه لا يكون شيء في الأرض ولا في السماء إلاّ بسبعة».(2)

(وَأَنَاتَكَ بَعْدَ عَزْمِكَ) . دلالة هذا باعتبار أنّ الإنسان قد يفسخ عزما لم يكن ليفسخ، وأكثر ذلك حين إخباره غيره عن نفسه أنّه سيفعل كذا بدون استثناء؛ فعلم أنّ ذلك بتدبير مدبّر.

وفي كتاب التوحيد لابن بابويه _ رحمه اللّه تعالى _ في «باب في أنّه عزّ وجلّ لا يعرف إلاّ به»:

أنّ رجلاً قام إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال: يا أمير المؤمنين، بماذا عرفت ربّك؟ قال: «بفسخ العزم ونقض الهمّ، لمّا هممت فحِيلَ بيني وبين همّي، وعزمتُ فخالف القضاء عزمي، علمت أنّ المدبِّر غيري».(3)

(وَشَهْوَتَكَ بَعْدَ كَرَاهَتِكَ) ؛ بفتح الكاف من باب علم. دلالة هذا باعتبار أنّ الإنسان قد يشتهي الطعام والشراب والجماع والنوم وغير ذلك، ولو كان كارها لهذه دائما لاختلّ النظام؛ ففي الاشتهاء رعاية مصالح لا تخفى، فليس إلاّ بتدبير مدبّر.

(وَكَرَاهَتَكَ بَعْدَ شَهْوَتِكَ) . دلالة هذا باعتبار أنّ الاشتهاء لو كان دائميّا لاختلّ النظام؛ ففي الكراهة رعاية مصالح لا تخفى، فليس إلاّ بتدبير مدبّر.

(وَرَغْبَتَكَ بَعْدَ رَهْبَتِكَ) . هما بالفتح من باب علم: الإرادة والخوف. دلالة هذا باعتبار .

ص: 46


1- تاج العروس ، ج 19 ، ص 172 (أنى) .
2- الكافي ، ج 1 ، ص 149 ، باب في أنه لا يكون شيء في السماء والأرض إلاّ بسبعة .
3- التوحيد ، ص 288 ، باب أنّه عزّوجلّ لا يعرف إلاّ به ، ح 6 .

أنّ الإنسان مجبول على أن يرغب في المنافع ولا يرهب، أي لا يخاف منها، ولو كان راهبا من كلّ شيء لاختلّ النظام؛ ففي الرغبة رعاية المصالح، فليس إلاّ بتدبير مدبّر.

(وَرَهْبَتَكَ بَعْدَ رَغْبَتِكَ) . دلالة هذا باعتبار أنّ الإنسان مجبول على الخوف للمضارّ وما هو مظنّتها، كالمواضع المظلمة الموحشة؛ وفيه من المصالح ما لا يخفى، فليس إلاّ بتدبير مدبّر.

والظاهر من العبارة أنّ المرغوب فيه والمرهوب شيءٌ واحد، والاختلاف في الأوقات، لكن رعاية المصلحة فيه غير معلومة لنا مفصّلاً.

(وَرَجَاءَكَ بَعْدَ يَأْسِكَ) . دلالة هذا باعتبار أنّ الإنسان قد يرجو من غيره نفعا، فيراعي جانبه، وتترتّب عليه مصالح، فلولا الرجاء لاختلّ النظام؛ فليس إلاّ بتدبير مدبّر.

(وَيَأْسَكَ بَعْدَ رَجَائِكَ) . دلالة هذا باعتبار أنّ الإنسان لو كان راجيا من كلّ أحد، أو من أحد دائما ومن جميع الجهات لاختلّ النظام، وتحبّس كلّ نفس؛ ففي اليأس في الجملة راحة ومصالح لا تخفى، فليس إلاّ بتدبير مدبّر.

(وَخَاطِرَكَ) . أي وخطور خاطرك ببالك. والخاطر بصيغة اسم الفاعل: ما حصل في الذهن؛ من خطر ببالي كذا _ كنصر وضرب _ : إذا تحرّك في القلب ونشأ.

(بِمَا لَمْ يَكُنْ فِي وَهَمِكَ(1)) . الباء للسببيّة. والوهم بالفتح: الذهن.

وهذا إشارة إلى أنّ خطور الخاطر بالبال على قسمين:

الأوّل: ما كان بسبب حصول ملزومه أو مقتضيه ضرورةً(2) في البال، كخطور الزوجيّة بعد حصول الأربعة في الذهن.

الثاني: ما كان بسببٍ هو غير حاصل في البال، بل يخطر بغتةً.

والمقصود في الاستدلال القسم الثاني، فإنّه يدلّ على أنّه بسبب إلهام مدبّر.

(وَعُزُوبَ مَا أَنْتَ مُعْتَقِدُهُ عَنْ ذِهْنِكَ). العزوب _ بضمّ المهملة والزاي والموحّدة _ .

ص: 47


1- في الكافي المطبوع : «وَهْمِك» بالجزم .
2- في «ج» : - «ضرورة» .

مصدر باب نصر وضرب: الغيبة. والاعتقاد: شدّ الشيء بالقلب لئلاّ ينسى.

دلالة هذا باعتبار أنّ الإنسان قد يصرّ على حفظ شيء وينساه؛ فليس إلاّ بتدبير مدبّر.

روى ابن بابويه في كتابه في التوحيد في باب الاستطاعة عن عمرو _ رجلٍ من أصحابنا _ عمّن سأل أبا عبداللّه عليه السلام فقال له: إنّ لي أهلَ بيت قدريّة يقولون: نستطيع أن نعمل كذا وكذا، ونستطيع أن لا نعمل، قال: فقال أبو عبداللّه عليه السلام : «قُل له: هل تستطيع أن لا تذكر ما تكره، وأن لا تنسى ما تحبّ؟ فإن قال: لا، فقد ترك قوله، وإن قال: نعم، فلا تكلّمه أبدا، فقد ادّعى الربوبيّة».(1)

(وَمَا زَالَ يُعَدِّدُ) . التعديد: التكثير في العدّ.

(عَلَيَّ) ؛ بفتح الياء المشدّدة.

(قُدْرَتَهُ) أي آثار قدرة الصانع، فإنّ المقصود بإثبات الصانع إثبات قدرته، كما سبق في شرح عنوان هذا الباب.

(الَّتِي هِيَ فِي نَفْسِي، الَّتِي لاَ أَدْفَعُهَا) أي لا يمكنني دفعها وإنكارها؛ لضروريّتها.

(حَتّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ) أي صانع العالم (سَيَظْهَرُ) مشاهدا محسوسا (فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ).

هذا على سبيل المبالغة في الظهور بالبرهان، والحمد للّه الذي برهانه أن ليس شأن ليس فيه شأنه.

الثالث: (حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ الاْءَسَدِيُّ _ رَحِمَهُ اللّه ُ(2) _ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْبَرْمَكِيِّ) ؛ بفتح الموحّدة وسكون المهملة وفتح الميم؛ نسبةً إلى جدّ يحيى بن خالد، وهم البرامكة.(3)

(الرَّازِيِّ) ؛ بالمهملة والزاي؛ نسبةً إلى الريّ بغير قياس. .

ص: 48


1- التوحيد ، ص 352 ، باب الاستطاعة ، ح 22 .
2- في الكافي المطبوع : - «رحمه اللّه » .
3- وهو وزير هارون الرشيد ، سمّ مولانا الكاظم عليه السلام بأمر هارون العباسي . اُنظر قاموس الرجال ، ج 11، ص 46 ، الترجمة 8330 .

(عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ بُرْدٍ) ؛ بضمّ الموحّدة وسكون الراء المهملة والدال المهملة.

(الدِّينَوَرِيِّ)؛ بكسر المهملة وسكون الخاتمة وفتح النون وفتح الواو والمهملة؛ نسبةً إلى بلد قرب همذان.(1)

(عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللّه ِ الْخُرَاسَانِيِّ خَادِمِ الرِّضَا عليه السلام ، قَالَ: دَخَلَ رَجُلٌ مِنَ الزَّنَادِقَةِ عَلى أَبِي الْحَسَنِ عليه السلام وَعِنْدَهُ جَمَاعَةٌ، فَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ عليه السلام ) إيناسا للزنديق إلى الإصغاء إلى الحقّ.

(أَيُّهَا الرَّجُلُ، أَ رَأَيْتَ) ؛ بهمزة الاستفهام وصيغة الخطاب، بمعنى «أخبرني».

(إِنْ كَانَ الْقَوْلُ) أي الحقّ (قَوْلَكُمْ) . هو نفي الصانع المترتّب عليه نفي الشرائع.

(وَلَيْسَ هُوَ) أي القول (كَمَا تَقُولُونَ) . زاد كاف التشبيه للدلالة على أنّ قولهم بعيد عن الحقّ.

(أَ لَسْنَا وَإِيَّاكُمْ) ؛ الواو بمعنى «مع».

(شَرَعا) ؛ بفتح المعجمة وفتح الراء، ويجوز سكونها أيضا، يُقال: هم في هذا الأمر شرع، أي متساوون، لا فضل لأحدهم على الآخر، وهو مصدر يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع، والمذكّر والمؤنّث.

(سَوَاءً)؛ بفتح المهملة والمدّ، يُقال: هما في هذا الأمر سواء، وإن شئت سواءان، و«هم سواء» للجمع، و«هم أسواء» أي متساوون.

(لاَ يَضُرُّنَا مَا صَلَّيْنَا) . «ما» مصدريّة.

(وَصُمْنَا، وَزَكَّيْنَا) . يُقال: زكّى ماله تزكية: إذا أدّى عنه زكاته.

(وَأَقْرَرْنَا؟) بوجود الصانع للعالم؛ وذلك لأنّ الحياة منقطعة، فبعد زوالها لا يبقى أثر، وفرق بين من فعل هذه الأشياء، ومن لم يفعل على رأي الزنادقة. .

ص: 49


1- دينور : مدينة من أعمال الجبل قرب قرميسين ، ينسب إليها خلق كثير ، وبين الدينور وهمذان نيف وعشرون فرسخا ، ومن الدينور إلى شهرزور أربع مراحل، وهي كثيرة الثمار والزروع، وأهلها أجود طبعا من أهل همذان . معجم البلدان ، ج 2 ، ص 545 .

(فَسَكَتَ الرَّجُلُ) للتأمّل فيما قال.

(ثُمَّ قَالَ أَبُو الْحَسَنِ عليه السلام ) بعد مدّة ومُهلة لتأمّله (: وَإِنْ كَانَ الْقَوْلُ) أي الحقّ (قَوْلَنَا) وهو وجود الصانع المترتّب عليه بالمعجز ثبوت الشرائع، وأنّ منكري الصانع والشرائع مخلّدون في النار، والمصدّقين مخلّدون في الجنّة.

(وَهُوَ) أي القول الحقّ (قَوْلُنَا) . لم يزد كاف التشبيه هنا _ وقد زاد في السابق _ للدلالة على أنّ قولنا هو الحقّ بعينه، ليس إلاّ.

(أَلَسْتُمْ قَدْ هَلَكْتُمْ وَنَجَوْنَا؟ فَقَالَ: رَحِمَكَ اللّه ُ، أَوْجِدْنِي) ؛ من أفعال القلوب اُلغي بالاستفهام؛ أي أعلمني. (كَيْفَ هُوَ؟). اسم استفهام مأخوذ من الكيف بالفتح: القطع والفصل، وهو هنا سؤال عن الكيفيّة(1) بمعنى خصوصيّة لشيء موجودةٍ في نفسها في الخارج، عارضةٍ له؛ فهي غير الأين.

وقد يُطلق على أعمّ ممّا ذكر، كما يجيء في سادس الثاني(2) في شرح قوله: «فله كيفيّة» إلى آخره، ويجيء فيه أيضا قوله: «لأنّ الكيفيّة جهة الصفة والإحاطة» مع شرحه.

توهّم السائل أنّ المقرّين بالصانع يعتقدون أنّه جسم ذو كيفيّة.(3)

(وَأَيْنَ هُوَ؟). سؤالٌ عن صفة له، وهي خصوصيّة المكان. توهّم أنّ المقرّين بالصانع يعتقدون أنّه جسم في مكان دون مكان.

(قَالَ(4): وَيْلَكَ) . مرَّ معنى الويل في ثاني الباب.

(إِنَّ الَّذِي ذَهَبْتَ إِلَيْهِ) من أنّا نعتقد أنّ الربّ ذو أين وكيفيّة (غَلَطٌ) .

استدلّ على كونه غلطا بقوله: (هُوَ أَيَّنَ) ؛ بشدّ الخاتمة بصيغة الماضي من باب .

ص: 50


1- كيف : سؤال عن الأحوال ؛ تقول : كيف زيد، تريد السؤال عن صحّته وسقمه وعسره ويسره . مجمع البحرين ، ج 4 ، ص 90 (كيف) .
2- أي الحديث 6 من باب إطلاق القول بأنّه شيء .
3- في حاشية «أ» : «الأظهر ما في الصافي من أنّها خصوصيّة حاصلة للشيء بالنسبة إلى شيء آخر باعتبار تمكّنه من مكان» .
4- في الكافي المطبوع : «فقال» .

التفعيل. والمراد بالتأيين إمّا تخصيص الشيء بمكان، وإمّا جعل المكان المخصوص مكانا لشيء. والمآل واحد.

(الاْءَيِّنَ(1)) ؛ إمّا بشدّ الخاتمة المكسورة على فيعل، ويمكن تخفيفها على أنّه كَسيِّدٍ وسَيْدٍ؛ أي المتمكّن في مكان محدود معيّن، وإمّا بتخفيفها على الأصل.

(وَكَيَّفَ) ؛ بشدّ الخاتمة مأخوذ من الكيف بالفتح: القطع، يُقال: كيّفه تكييفا إذا قطعه تقطيعا، وهو للمبالغة، والمراد بالتكييف هنا إمّا إعطاء كلّ شيء كيفيّةً،(2) وإمّا جعل كلّ كيفيّة كيفيّةً لشيء. والمآل واحد.

(الْكَيِّفَ(3)) ؛ إمّا بشدّ الخاتمة المكسورة على فيعل، ويمكن تخفيفها على أنّه كسيّد وسيدٍ؛ أي ذا الكيفيّة، وإمّا بتخفيفها على الأصل، أي الكيفيّة.

(بِلاَ كَيْفٍ) . الظرف متعلّق بكلّ من الفعلين على سبيل التنازع، و«كيف» بسكون الخاتمة بالجرّ والتنوين؛ أي مع عدم الكيف لتأيينه وتكييفه. أو مبنيّ على الفتح حكاية استفهام؛ أي بحيث لا يصحّ السؤال بكيف عن تأيينه وتكييفه، لأنّه ليس لهما خصوصيّة معلومة لنا على حِدة؛ لأنّهما ليسا من الأفعال البدنيّة العلاجيّة المحسوسة، بل بمحض نفوذ الإرادة.

فحاصل الدليل أنّه تعالى خالق كلّ ذي أين وكلّ ذي كيفيّة بمحض نفوذ الإرادة، وافتراق الخالق من مخلوقه بديهيّ، ويجيء توضيحه في سادس «باب جوامع التوحيد» عند قوله: «فمن وصف اللّه فقد حدّه» إلى آخره.

ويحتمل على الجرّ والتنوين أن يكون المراد مع عدم الكيف له تعالى، وحينئذٍ يُقال: إنّ الظرف متعلّق بالفعل الثاني فقط. وأنّه لم يقل في الأوّل «بلا أين» إشارةً إلى أنّ نفي الأين .

ص: 51


1- في الكافي المطبوع : «الأيْن» بسكون الياء .
2- في حاشية «أ» : «وفي الصافي : التكييف إعطاء كيفيّة لشيء ، سواء كان بإحداث الكيفيّة في ذلك الشيء ، أو بإحداث ذلك الشيء الذي يتكيّف بتكييف هذا المحدث أو بتكييف غيره ، فلا يلزم من ذلك أن يكون العبد فاعلاً لحركاته» .
3- في الكافي المطبوع : «الكيف» بسكون الياء .

عنه في الظهور بحيث لا حاجة إلى ذكره، بخلاف نفي الكيف. ويوافق ذلك أنّه يجيء في أوّل «باب الكون والمكان» مثل هذه العبارة، ولم يترك فيه قوله «بلا أين» في الأوّل.(1)

إن قلت: ينافي هذا ما يجيء في سادس الباب الثاني(2) من قوله: «ولكن لابدّ من إثبات أنّ له كيفيّةً لا يستحقّها غيره؟»

قلت: لا منافاة؛ لأنّ الكيفيّة قد تُطلق مجازا على أعمّ ممّا مرّ، وهو المراد فيما يجيء.

(فَلاَ يُعْرَفُ بِالْكَيْفُوفِيَّةِ)(3) . تفريعٌ للنتيجة على الدليل باعتبار بداهة مغايرة الخالق لمخلوقه، وأصلها وأصل الكيفيّة من «كيف» في الاستفهام، وهو اسم مُبهم غير متمكّن مبنيّ على الفتح، وقد يستعمل استعمالَ الاسم المتمكّن في الذي يُقال في جواب كيف، ويدخل عليه الألف واللام، ويُعرب(4) بالحركات الثلاث، وقد يشتقّ منه المصدر بإدخال ياء النسبة إلى «كيف» والهاء المصدريّة، فيستعمل في الوصف المذكور، وهذا إمّا بدون تكرار لام الفعل كما في «الكيفيّة» وإمّا بتكرارها وتوسّط الواو بينهما كما في «الكيفوفيّة» ومثله «الكينونيّة». ويجيء في رابع «باب الكون والمكان».

(وَلاَ بِأَيْنُونِيَّةٍ) أي بالجواب عن السؤال بأين. واشتقاقها كما مرّ في الكيفوفيّة.

(وَلاَ يُدْرَكُ بِحَاسَّةٍ) . إشارةٌ إلى أنّ حكمك فيه تعالى بالكيف والأين مبنيّ على زعمك فيه تعالى(5) أنّه يُدرك بحاسّة.

(وَلاَ يُقَاسُ بِشَيْءٍ) . إشارةٌ إلى أنّ زعمك فيه تعالى أنّه يُدرك بحاسّة مبنيّ على قياسك إيّاه بالأشياء المدركة بالحواسّ.

(فَقَالَ الرَّجُلُ) استدلالاً على أنّه يُدرك بحاسّة. .

ص: 52


1- في حاشية «أ» : «ونقل هذا الحديث في العيون هكذا : هو أيّن الأين وكان بلا أين ، وكيّف الكيف وكان بلا كيف . وهو أحسن» . عيون أخبار الرضا عليه السلام ، ج 2 ، ص 120 ، باب 11 ، ح 28 . وفيه : «هو أيّن الأين وكان ولا أين ، وكيّف الكيف وكان ولا كيف» .
2- أي الحديث 6 من باب إطلاق القول بأنّه شيء .
3- في حاشية «أ» : «الظاهر كما في نسخ التوحيد والعيون : «بكينونية منكرة» . وفي كلاهما كما في الكافي .
4- في «ج» : «ويعرف» .
5- في ج : - «فيه تعالى» .

(فَإِذا) . هي «إذن» بالنون؛ لأنّها حرف مكافاة وجواب، لكنّها كُتبت بالألف كما هو عند البصريّين إشعارا بصورة الوقف، لأنّك إذا وقفت على إذن، أبدلت من نونه ألفا؛ تشبيها لها بالمنوّن المنصوب.

وعند الكوفيّين أنّها تُكتب بالنون اعتبارا باللفظ، للفرق بينها وبين «إذا» الشرطيّة والفجائيّة في الصورة.

وقال بعضهم: يوقف عليها أيضا بالنون، وذهب بعض إلى أنّها اسم منوّن، وتنوينها عوض عن المضاف إليه، تأويلها: إذ(1) كان الأمر كما ذكرت.

ويحتمل أن يكون بالألف الليّنة لفظا أيضا للمفاجأة، نحو: خرجت فإذا زيدٌ قائم، وحينئذٍ لا تقع في الابتداء، فهي هنا جزاء شرط، كقوله تعالى: «ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنْ الاْءَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ».(2)

وحذف هنا الشرط لدلالة قوله: «إذا لم يدرك» إلى آخره عليه.

وهي حرف عند الأخفش، وظرف مكان عند المبرّد، وظرف زمان عند الزجّاج.(3)

ويرجّح الأوّل قولهم: «خرجت فإذا إنّ زيدا بالباب» بكسر «إنّ» لأنّ «إنّ» لا تعمل ما بعدها فيما قبلها.

(إِنَّهُ) ؛ بكسر الهمزة وشدّ(4) النون؛ لأنّ «إذا» تختصّ بالجملة. ويجوز الفتح على الابتداء، وتقديرُ خبر مبتدأ، أي «حاصل».

(لاَ شَيْءٌ(5)) ؛ بالرفع والتنوين خبرُ «إنّ»؛ لأنّهما جعلا كاسم واحد. والمراد بالشيء الموجودُ المعتدّ به، أي لا يصلح لأن يكون ربّا. ويحتمل أن يكون المراد به الموجودَ مطلقا.

(إِذَا لَمْ يُدْرَكْ بِحَاسَّةٍ مِنَ الْحَوَاسِّ) . شرطيّة، وجزاؤها محذوف، يدلّ عليه سابقه؛ أي .

ص: 53


1- في «ج» : «إذا» .
2- الروم (30) : 25 .
3- اُنظر شرح الرضي على الكافية ، ج 4 ، ص 39 .
4- في «ج» : «وتشديد» .
5- في الكافي المطبوع : «لا شيءَ» بالفتح .

إذا لم يدرك بحاسّة من الحواسّ كان لا شيئا.

وهذا استدلال منه على نفي ربوبيّة ما زعمه المخاطب ربّا، ويحتمل أن يكون استدلالاً على نفي وجوده مطلقا.

(فَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ عليه السلام : وَيْلَكَ، لَمَّا عَجَزَتْ حَوَاسُّكَ عَنْ إِدْرَاكِهِ، أَنْكَرْتَ رُبُوبِيَّتَهُ، وَنَحْنُ إِذَا عَجَزَتْ حَوَاسُّنَا عَنْ إِدْرَاكِهِ، أَيْقَنَّا أَنَّهُ رَبُّنَا) .

حاصله منع أنّه إذا لم يدرك بحاسّة كان لا شيئا البتّة، أو منع دلالة عدم الإدراك بحاسّة على كونه لا شيئا مستندا بأنّ لازم أحد النقيضين أو شرطَه يستحيل أن يكون ملزوما، أو دليلاً على الآخر، وعدم الإدراك بحاسّة لازم للربوبيّة، وشرط لليقين بالربوبيّة، وليس مقصوده عليه السلام أنّ عدم الإدراك بالحواسّ دليل على الصانعيّة.

ولا يخفى أنّ هذا صريح في أنّه لا مجرّد سوى اللّه ، فيبطل قول الزنادقة بتجرّد العقول العشرة والنفوس الناطقة.(1)

(بِخِلاَفِ شَيْءٍ مِنَ الاْءَشْيَاءِ) . خبر آخر ل«أنّ» أو استئناف بياني، فهو خبر مبتدأ محذوف؛ أي هو بخلاف، لمّا كان في الخلاف معنى النفي كان «شيء» نكرة في سياق النفي، أي ليس بينه وبين شيء مشتركٌ ذاتي، فلا يمكن أن تُدرِكه الحواسّ، كما يجيء بيانه في أوّل الثاني.(2)

(قَالَ الرَّجُلُ: فَأَخْبِرْنِي(3) مَتى كَانَ؟).

في «باب الردّ على الثنويّة والزنادقة»(4) من توحيد ابن بابويه،(5) وفي «باب ما جاء عن الرضا عليه السلام من الأخبار في التوحيد» من عيون أخبار الرضا عليه السلام بعد هذه العبارة هكذا:

(قَالَ أَبُو الْحَسَنِ عليه السلام : أَخْبِرْنِي مَتى لَمْ يَكُنْ؛ فَأُخْبِرَكَ مَتى كَانَ؟ قَالَ الرَّجُلُ: فَمَا .

ص: 54


1- الشفاء ، ج 2 ، ص 264 (الطبعة الاولى) . وحكاه الإيجي في المواقف ، ج 2 ، ص 690 .
2- أي الحديث 1 من باب إطلاق القول بأنّه شيء .
3- في «ج» : - «فأخبرني» .
4- في «أ»: «باب القدرة» بدل من «باب الردّ على الثنوية والزنادقة» .
5- التوحيد ، ص 251 ، باب الردّ على الثنويّة والزنادقة ، ح 3 .

الدَّلِيلُ عَلَيْهِ؟) انتهى.(1)

وهذا ساقط من قلم ناسخ الكافي. وحاصله أنّ السؤال ب«متى كان» إنّما هو في الحوادث، وهو قديم.

(قَالَ أَبُو الْحَسَنِ عليه السلام ) في الدليل عليه:

(إِنِّي لَمَّا نَظَرْتُ إِلى جَسَدِي، وَلَمْ يُمْكِنِّي فِيهِ زِيَادَةٌ وَلاَ نُقْصَانٌ فِي الْعَرْضِ وَالطُّولِ، وَدَفْعِ الْمَكَارِهِ عَنْهُ، وَجَرِّ الْمَنْفَعَةِ إِلَيْهِ، عَلِمْتُ أَنَّ لِهذَا الْبُنْيَانِ) أي الجسد أو العالم. والمآل واحد.

(بَانِيا، فَأَقْرَرْتُ بِهِ) . حاصله ما مضى في ثاني الباب.

(مَعَ مَا أَرى) . بعدما استدلّ بالآيات في الأنفس، شرع في الاستدلال بالآيات في الآفاق:

(مِنْ دَوَرَانِ الْفَلَكِ بِقُدْرَتِهِ) . الدوران _ بفتح المهملة وفتح الواو _ : الحركة في محيط الدائرة ونحوه، كحركة الشمس والقمر وسائر النجوم. والفلك _ بفتح الفاء وفتح اللام _ جمع فلكة بسكون اللام، وهي ما استدار شكله. والمراد هنا الشمس والقمر وسائر النجوم. ومضى بيانه في الدليل الأوّل من أوّل الباب.

ويبعد كون المراد بالفلك السماءَ المحيطةَ بالأرض؛ لأنّا لا نرى دورانها، بل لا دوران لها، كما مضى في شرح الدليل الخامس من أوّل الباب.

(وَإِنْشَاءِ السَّحَابِ، وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ) أي تغييرها من جهة إلى اُخرى، أو من مكان إلى آخر، فإنّ كلّ واحد من أمثال ذلك من الحوادث دالّ على محدث العالم المثبت، كما مضى في الدليل الرابع من أوّل الباب. وما ذكره الطبيعيّون من الأسباب الطبيعيّة للسحاب وللرياح كالتبخّر وكالتخلخل والتكاثف ممّا تضحك منه الثكلى.

(وَمَجْرَى) ؛ مصدر ميمي، أو اسم مكان.

(الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ) : السيّارات أو جميعها، فإنّ اختصاص كلّ منها بمجرى خاصّ مع تشابه الأمكنة والجهات في تمام الحقيقة _ كما مضى في الدليل الثالث من .

ص: 55


1- عيون أخبار الرضا عليه السلام ، ج 2 ، ص 120 ، باب 11 ، ح 28 . وهذه العبارة موجود في أكثر مخطوطات الكافي والمطبوع منه .

أوّل الباب _ دليل على محدث العالم المثبت، وأنّ اللّه يأتي بالشمس من المشرق.

(وَغَيْرِ ذلِكَ مِنَ الاْآيَاتِ) أي الدلائل على قدرة فاعلها على كلّ شيء.

(الْعَجِيبَاتِ) أي الخارجة عن أن يتوهّم أنّها فعل الطبائع.

(الْمُبَيِّنَاتِ) ؛ بالموحّدة والخاتمة والنون بصيغة المفعول من باب التفعيل، أو الفاعل منه، أو من باب الإفعال.

(عَلِمْتُ) . إنشاء في موضع «شهدت» و«أشهد».

(أَنَّ لِهذَا) أي للنظام المشاهد في السماوات والأرض وما بينهما.

(مُقَدِّرا) ؛ أي مدبِّرا.

(وَمُنْشِئا) . اسم فاعل من الإنشاء، أي محدثا له من كتم العدم؛ لما مرَّ في عنوان الباب من أنّ المدبّر الفاعل لا يكون إلاّ محدثا.

الرابع: (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ الْخَفَّافِ، أَوْ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: إِنَّ عَبْدَ اللّه ِ الدَّيَصَانِيَّ) ؛ بفتح المهملة وفتح الخاتمة والمهملة والألف والنون، أي الملحد، يُقال: داص يديص ديصانا، أي مالَ وحاد.(1)

(سَأَلَ هِشَامَ بْنَ الْحَكَمِ، فَقَالَ لَهُ: أَلَكَ رَبٌّ؟) أي فاعل مجرّد مدبّر لكلّ ما عداه، ولا مجرّد سواه، كما مضى في ثالث الباب من قوله عليه السلام : «إذا عجزت حواسّنا عن إدراكه أيقنّا أنّه ربّنا».

(فَقَالَ: بَلى) أي نعم. وإنّما قال «بلى» في جواب السؤال بالإثبات _ مع أنّها حرف وضعت لترك النفي _ لأنّ السائل يعتقد النفي.

(قَالَ: أَقَادِرٌ هُوَ؟) أي على كلّ شيء واقع. ومعنى القدرة استجماع العلّة التامّة للفعل، والعلّةِ التامّة للترك.

(قَالَ: نَعَمْ، قَادِرٌ قَاهِرٌ) . إنّما قال هنا «نعم» لأنّ السائل لم يعتقد نفي القدرة عن الربّ بعد فرض تحقّقه. .

ص: 56


1- الصحاح ، ج 3 ، ص 1040 ؛ القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 304 (داص) .

(قَالَ: يَقْدِرُ أَنْ) أي على أن.

(يُدْخِلَ) ؛ بصيغة المضارع المعلوم من باب الإفعال.

(الدُّنْيَا) ؛ مؤنّث الأدنى، أي القربى. والمراد بها السماء السابعة العُليا؛ لأنّها أعلى ممّا في جوفها، وكلّ أعلى أقرب إلى اللّه تعالى بنوع من المجاز، كما في قوله تعالى في سورة الصافّات: «إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ».(1)

(كُلَّهَا الْبَيْضَةَ ) . هي مفعولٌ ثانٍ ل«يدخل» و«البيضة» واحد بيض الطائر، وهو شامل لبيض العصفور والحمام ونحوهما.

(لاَ يُكَبِّرُ(2)) ؛ بصيغة المضارع المعلوم للغائب من باب التفعيل، والجملة حال عن فاعل «يدخل» أو للغائبة من باب حسن، والجملة حال عن البيضة، وإن كانت بدون واو الحال ولا ضمير مع اشتراط أحدهما في الجملة الحاليّة إذا كانت مضارعا منفيّا، وذلك لأنّ التكرار يقوم مقام الضمير كما في قوله تعالى: «الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ».(3)

(الْبَيْضَةَ(4)) ؛ مفعول به ل«يكبّر» أو فاعله.

(وَلاَ يُصَغِّرُ(5) الدُّنْيَا؟)؛ بصيغة المضارع المعلوم من باب التفعيل، أو باب حسن، وهو عطف انسحاب فيجوز خلوّه عن الضمير وما يقوم مقامه على تقدير كون صاحب الحال «البيضة».

مقصود الديصاني الاستدلال على تجرّد النفس الناطقة الإنسانيّة ليبطل به القاعدة الإسلاميّة، وهي أنّه لا مجرّد سوى اللّه تعالى، وهذا الاستدلال مأخوذ من كلام أرسطو في كتاب النفس،(6) وحاصله: أنّه لو كان النفس الناطقة جسما لزم أن لا يعرف جسما أكبر .

ص: 57


1- الصافّات (37) : 6 .
2- في الكافي المطبوع : «تَكْبُرُ» .
3- الحاقّة (69) : 1 و 2 .
4- في الكافي المطبوع : «البيضةُ» بالضم .
5- في الكافي المطبوع : «تَصْغُرُ» .
6- حكاه في الشفاء (الطبيعيات) ، ج 2 ، ص 197 ؛ المطالب العالية في العلم الإلهي ، ج 7 ، ص 189 ؛ المباحث المشرقية ، ج 2 ، ص 399 ؛ المحصّل ، ص 543 ؛ معارج الفهم في شرح النظم ، ص 544 .

منها؛ لأنّه يستلزم دخول الأكبر كلّه في حيّز الأصغر بدون تكبير ولا تصغير، وهو محال بالذات؛ وذلك لأنّ إدراك الجسم جسما لا يتصوّر إلاّ بمماسّة الأوّل جميع أجزاء الثاني.

(قَالَ هِشَامٌ: النَّظِرَةَ) ؛ بفتح النون وكسر المعجمة: التأخير والإمهال؛ أي أطلب منك النظرة.

(فَقَالَ لَهُ: قَدْ أَنْظَرْتُكَ حَوْلاً) ؛ بالفتح، أي سنةً. توهّم أنّه لا يقدر على جوابه أحدٌ.

(ثُمَّ خَرَجَ عَنْهُ. فَرَكِبَ هِشَامٌ إِلى أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، فَاسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ) أي للدخول عليه.

(فَأَذِنَ لَهُ) ؛ بفتح الهمزة أو ضمّها.

(فَقَالَ لَهُ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللّه ِ،(1) أَتَانِي عَبْدُ اللّه ِ الدَّيَصَانِيُّ بِمَسْأَلَةٍ لَيْسَ الْمُعَوَّلُ) ؛ مصدر ميمي من باب التفعيل.

(فِيهَا إِلاَّ عَلَى اللّه ِ وَعَلَيْكَ، فَقَالَ لَهُ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : عَمَّا ذَا سَأَلَكَ؟ فَقَالَ: قَالَ لِي: كَيْتَ وَكَيْتَ) ؛ لفظ محمّد بن إسحاق، كنّى بهما عن الحكاية بتمامها، و«كيت» _ بفتح الكاف وسكون الخاتمة وفتح المثنّاة فوق وكسرها وضمّها _ لا تستعمل إلاّ مكرّرة بواو العطف.

(فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : يَا هِشَامُ،(2) كَمْ حَوَاسُّكَ؟ قَالَ: خَمْسٌ) . هي: الباصرة، واللامسة، والذائقة، والسامعة، والشامّة.

وظاهر هذا إبطال ما أثبته الفلاسفة من الحواسّ الخمس الباطنة، وزعموا أنّ الحواسّ عشر،(3) ويؤيّده ما يجيء في الآتي من قوله عليه السلام : «لا يدرك بالحواسّ الخمس».

(قَالَ: أَيُّهَا أَصْغَرُ؟ قَالَ: النَّاظِرُ) أي الباصرة. والناظر ما في المقلة من السواد الأصغر الذي فيه إنسان العين، وصِغره بالنسبة إلى محلّ اللامسة والذائقة ظاهر، وأمّا بالنسبة إلى محلّ السامعة والشامّة، فإمّا باعتبار أنّ فضاء الصِماخ والمنخر أكبر من الناظر، وهما محلاّن لهما في الظاهر، وإمّا باعتبار الحقيقة. .

ص: 58


1- في النسختين : + «صلى اللّه عليه و آله» .
2- في النسختين : - «يا هشام» .
3- حكاه في شرح المقاصد ، ج 2 ، ص 22 ؛ الحكمة المتعالية ، ج 9 ، ص 56 .

(قَالَ: وَكَمْ) . تمييزه محذوف، أي كم ذرعا.

(قَدْرُ النَّاظِرِ؟ قَالَ: مِثْلُ الْعَدَسَةِ أَوْ أَقَلُّ مِنْهَا) . ويجيء في «كتاب الأطعمة» في ثاني «باب الحمّص»(1) وثالثه أنّ العدس هو الحمّص في لغة أهل الحجاز، وحَبٌّ معروف أصغر من الحمّص في لغة أهل العراق؛ يعني إنّي عارف بأنّه ليس ممّا يقاس بالذرع.

(فَقَالَ لَهُ: يَا هِشَامُ، فَانْظُرْ أَمَامَكَ وَفَوْقَكَ وَأَخْبِرْنِي بِمَا تَرى. فَقَالَ:) أي نظر، فقال:

(أَرى سَمَاءً وَأَرْضا وَدُورا) ؛ بضمّ المهملة وسكون الواو: جمع «دار».

(وَقُصُورا) ؛ جمع «قصر».

(وَبَرَارِيَ وَجِبَالاً وَأَنْهَارا. فَقَالَ لَهُ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : إِنَّ الَّذِي قَدَرَ أَنْ يُدْخِلَ الَّذِي تَرَاهُ الْعَدَسَةَ). المراد مثل العدسة.

(أَوْ أَقَلَّ مِنْهَا قَادِرٌ أَنْ يُدْخِلَ الدُّنْيَا كُلَّهَا الْبَيْضَةَ لاَ يُصَغِّرُ(2) الدُّنْيَا وَلاَ يُكَبِّرُ(3) الْبَيْضَةُ) .

(فَأَكَبَّ هِشَامٌ) . يُقال: كبّه كنصره وأكبّه، أي صرعه لوجهه فأكبّ هو. وهذا من النوادر أن يكون «فَعَلَ» متعدّيا البتّة، و«أفعل» لازما.

(عَلَيْهِ) : على أبي عبداللّه عليه السلام .

(وَقَبَّلَ يَدَيْهِ وَرَأْسَهُ وَرِجْلَيْهِ، وَقَالَ: حَسْبِي يَا ابْنَ رَسُولِ اللّه ِ، وَانْصَرَفَ إِلى مَنْزِلِهِ) . حسبي _ بفتح الحاء وسكون السين المهملتين والموحّدة _ مضاف إلى ياء المتكلّم خبر مبتدأ محذوف؛ أي هذا كاف لي، يعني تفطّنت بما أشرتَ إليه، ولا حاجة لي إلى تفصيله.

حاصل الجواب: النقض الإجمالي بحيث يظهر منه الحلّ أيضا، وتقرير النقض أنّه لو تمّ هذا الاستدلال، لزم أن لا يدرك الناظر جسما أكبر منه؛ لأنّ الناظر جسم بالاتّفاق، وبطلان اللازم ضروري.

وتقرير الحلّ: أنّ إدراك الناظر جسما أكبر منه إن كان بدخول الأكبر في حيّز الأصغر .

ص: 59


1- الكافي ، ج 6 ، ص 342 ، باب الحمّص ، ح 2 .
2- في الكافي المطبوع : «تَصْغُرُ» .
3- في الكافي المطبوع : «تَكْبُرُ» .

باعتقاد الزنادقة، فليكن إدراك النفس الناطقة جسما أكبر منها كذلك، وإن كان بغير دخولٍ، ظهر منع قولهم: إنّ إدراك الجسم جسما لا يتصوّر إلاّ بمماسّة الأوّل لجميع(1) أجزاء الثاني.

(وَغَدَا عَلَيْهِ الدَّيَصَانِيُّ) أي أتاه بكرةً؛ لِما حدث في نفسه من الاضطراب والخوف من أن يجيب عنه أبو عبداللّه عليه السلام ، أو لإظهار التبختر والتعجيز.

والغدوة _ بالضمّ _ : ما بين صلاة الغداة وطلوع الشمس، والغدوّ نقيض الرواح.

(فَقَالَ لَهُ: يَا هِشَامُ، إِنِّي جِئْتُكَ مُسَلِّما، وَلَمْ أَجِئْكَ مُتَقَاضِيا لِلْجَوَابِ. فَقَالَ لَهُ هِشَامٌ: إِنْ كُنْتَ جِئْتَ) . زيادة «كنت» لنقل مدخول «إن» عن الاستقبال إلى الماضي.

(مُتَقَاضِيا، فَهَاكَ) . «ها» مقصورةً وممدودةً اسم فعل بمعنى «خذ» وتلحق بها كاف الخطاب.

(الْجَوَابَ)؛ منصوب على المفعوليّة.

(فَخَرَجَ الدَّيَصَانِيُّ عَنْهُ) بعد سماع الجواب.

(حَتّى أَتى بَابَ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ) ، لِما عرف من أنّ الجواب من عنده عليه السلام .

(فَاسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ، فَأَذِنَ لَهُ، فَلَمَّا قَعَدَ، قَالَ لَهُ: يَا جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ، دُلَّنِي عَلى مَعْبُودِي ) أي على ما تزعم أنّه يجب عليَّ عبادتهُ، وهو المحدث للعالم المثبت.

(فَقَالَ لَهُ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : مَا اسْمُكَ؟). إيناس له بالإصغاء إلى الدليل، وإشارة إلى أنّ العلم بالصانع مركوز في كلّ ذهن عاقل، وكلّ واحدٍ منهم ملهم بالنظر في برهان يفضي به إلى علم، وإنّما إنكار الجاحد له باللسان دون الجنان.

(فَخَرَجَ عَنْهُ، وَلَمْ يُخْبِرْهُ بِاسْمِهِ، فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: كَيْفَ؟)(2) ؛ أي لِمَ لم تخبره باسمك؟

(قَالَ: لَوْ كُنْتُ قُلْتُ لَهُ: عَبْدُ اللّه ِ، كَانَ يَقُولُ: مَنْ هذَا الَّذِي أَنْتَ لَهُ عَبْدٌ؟ فَقَالُوا لَهُ: عُدْ إِلَيْهِ، وَقُلْ لَهُ: يَدُلُّكَ عَلى مَعْبُودِكَ، وَلاَ يَسْأَلُكَ عَنِ اسْمِكَ فَرَجَعَ إِلَيْهِ. فَقَالَ لَهُ: يَا جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ، دُلَّنِي عَلى مَعْبُودِي، وَلاَ تَسْأَلْنِي عَنِ اسْمِي، فَقَالَ لَهُ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : «اجْلِسْ» وَإِذَا) ؛ .

ص: 60


1- في «ج»: «جميع».
2- في الكافي المطبوع : + «لَم تُخْبِرْه بِاسْمِكَ؟» .

للمفاجأة. (غُلاَمٌ) ؛ مبتدأ. (لَهُ) ؛ صفة للمبتدأ. (صَغِيرٌ ) ؛ صفة اُخرى. (فِي كَفِّهِ بَيْضَةٌ يَلْعَبُ بِهَا) ؛ الجملة خبر المبتدأ.

(فَقَالَ لَهُ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : نَاوِلْنِي يَا غُلاَمُ الْبَيْضَةَ، فَنَاوَلَهُ إِيَّاهَا . فَقَالَ(1) أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : يَا دَيَصَانِيُّ، هذَا حِصْنٌ) . الحصن _ بكسر الحاء وسكون الصاد _ في الأصل كلّ موضع له سور مع سوره.

(مَكْنُونٌ) أي مستور من جميع الجهات ليس له باب أصلاً؛ لئلاّ يخرج منه مصلح ولا يدخل فيه مُفسد.

(لَهُ جِلْدٌ غَلِيظٌ) لئلاّ ينكسر بأدنى شيء، وليس غلظته بحيث لا ينكسر في وقت الانفلاق لخروج الفرخ.

(وَتَحْتَ الْجِلْدِ الْغَلِيظِ جِلْدٌ رَقِيقٌ ) لئلاّ يتحرّك ما فيه بشدّة تحريك البيضة، فلا يتشوّش ولا يختلط الماءآن غالبا.

(وَتَحْتَ الْجِلْدِ الرَّقِيقِ ذَهَبَةٌ مَائِعَةٌ) فهي متشابهة الأجزاء.

(وَفِضَّةٌ ذَائِبَةٌ) فهي أيضا متشابهة الأجزاء، الميع والذوب واحد، وهو خلاف الانجماد، إلاّ أنّ الذائب أرقّ وأسرع سيلانا.

(فَلاَ) . الفاء للتفريع على ما قبله؛ لاشتماله على ذكر الجلد الرقيق وكون الذهبة أغلظ من الفضّة. أو للتعقيب والتعجّب باعتبار اشتمال ما قبله على المَيْع والذوب، والتعجّب في «ثمّ» يكون أكثر منه في الفاء.

(الذَّهَبَةُ الْمَائِعَةُ تَخْتَلِطُ بِالْفِضَّةِ الذَّائِبَةِ) بأن يتحرّك شيء من الفضّة إلى مكان الذهبة.(2)

(وَلاَ الفِضَّةُ الذَّائِبَةُ تَخْتَلِطُ بِالذَّهَبَةِ الْمَائِعَةِ) بأن يتحرّك شيء من الفضّة إلى مكان الذهبة.

(فَهِيَ عَلى حَالِهَا) أي الحصن. والتأنيث باعتبار البيضة، والفاء للتفريع على ما قبلها باعتبار اشتمالها على ذكر الكِنّ والجلدين. .

ص: 61


1- في الكافي المطبوع : + «له» .
2- في «ج» : «الذهبة إلى مكان الفضة» بدل من «الفضّة إلى مكان الذهبة» .

والمراد بحالها الحال اللائقة بها، الدالّة على حكمة فاعلها بقول: «كُن».

(لَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا خَارِجٌ مُصْلِحٌ؛ فَيُخْبَرُ عَنْ صَلاَحِهَا، وَ لم يَدْخُلْ(1) دَخَلَ فِيهَا مُفْسِدٌ؛ فَيُخْبَرَ عَنْ فَسَادِهَا) . استئناف بياني لقوله: «فهي على حالها». والمراد أنّها غير فاقدة لشيء مصلح لها؛ أي شيء رُوعي فيه الحكمة، ولم تشتمل على مفسد؛ أي شيء هو خلاف مقتضى الحكمة.

وقوله: «فيخبر عن صلاحها» تفريع على النفي، فهو مرفوع مثل: لم يخرج من قلب زيد شرط للإيمان فيدخلُ الجنّة. والفعل بصيغة المجهول من باب الإفعال، والظرف نائب الفاعل. والمراد أنّ كلّ عاقل يخبر عن أنّها مشتملة على جميع ما ينبغي لها من المصالح.

وقوله: «فيخبر عن فسادها» تفريع على المنفيّ، فهو منصوب، مثل: لم يدخل في قلب زيد مناف للإيمان فيدخلَ النار. والفعل هنا أيضا بصيغة المجهول من باب الإفعال، والظرف نائب الفاعل. والمراد أنّه لا يخبر عاقل عن أنّها مشتملة على شيء لا يوافق حكمة فاعلها.

(لاَ يُدْرى ألِلذَّكَرِ(2) خُلِقَتْ أَمْ لِلاْءُنْثى) ، لتشابهها وتشابه جزءيها.

(وَ(3) تَنْفَلِقُ عَنْ مِثْلِ أَلْوَانِ الطَّوَاوِيسِ) ؛ جمع طاووس: طائرٌ معروف ذو ألوان عجيبة.

(أَتَرى لَهَا مُدَبِّرا؟) . الاستفهام تقريري؛ أي معلوم ضرورةَ أنّ هذه الاختلافاتِ في الكيف، الحاصلةَ في أجزاء منّي الديكة والدجاجة حين كونه حصنا، وحين كونه مثل الطواويس ليس من طبع المنّي، ولا من غيره ممّا لا علم له، كيف لا وقد رُوعي فيما نحن فيه جميع تلك الحِكَم والمصالح، وأنّه على تقدير القول بالمدبّر ليس مدبّرها الدجاجةَ الموكّلة بها، ولا الإنسانَ، ولا نحوَ ذلك من المباشرين، بل مدبّرها من ليس له في تدبيره آلة ومباشرة وفعل علاجي، فيستحيل عليه النقض بديهةً، ويكون قادرا على كلّ ممكن؛ لأنّ التعذّر نقص، فيكون كلّ جزء من العالم حادثا؛ لأنّ القديم غير مقدور كما مرّ في شرح عنوان الباب. .

ص: 62


1- في الكافي المطبوع : «ولا دَخَلَ» .
2- في الكافي المطبوع : «للذكر» .
3- في الكافي المطبوع : - «و» .

(فَأَطْرَقَ مَلِيّا) ؛ بفتح الميم وكسر اللام وتشديد الخاتمة؛ أي طويلاً من الزمان ليتفكّر في الشقوق، ويتعرّف الحقّ.

(ثُمَّ) بعد مدّة (قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللّه ُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ(1) أَنَّ مُحَمَّدا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّكَ إِمَامٌ وَحُجَّةٌ(2) مِنَ اللّه ِ عَلى خَلْقِهِ). عرف ذلك من مباحثاته قبل ذلك مع العلماء المنتسبين إلى الإسلام والفرق بين أجوبتهم وجوابه عليه السلام .

(وَأَنَا تَائِبٌ مِمَّا كُنْتُ فِيهِ) من الزندقة.

الخامس: (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبَّاسِ بْنِ عَمْرٍو الْفُقَيْمِيِّ) ؛ بضمّ الفاء وفتح القاف وسكون الخاتمة نسبة إلى فقيم دارم، والنسبة إلى فقيم كنانة _ الذين هم نسَأة الشهور(3) في الجاهليّة _ فُقَمي بحذف الخاتمة.(4)

(عَنْ هِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ فِي حَدِيثِ الزِّنْدِيقِ الَّذِي أَتى أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ) قوله: (وَكَانَ مِنْ قَوْلِ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام :) لفظُ هشام؛ كأنّ الزنديق قال قبل بيان حدوث العالم وإثبات المحدث: لو كان للعالم محدِث مثبتِ جاز كون المحدث المثبت له اثنين.

فاستدلّ عليه السلام على نفيه بثلاثة أدلّة: النظر في أوّلها: في قدرة المحدث، وفي ثانيها: في علمه، وفي ثالثها: في إرادته.

الدليل الأوّل:

(لاَ يَخْلُو قَوْلُكَ: «إِنَّهُمَا اثْنَانِ» مِنْ أَنْ يَكُونَا قَدِيمَيْنِ) . حاصله أنّ المحدث المثبت للعالم يستحيل بديهةً أن يكون ناقصا، والاثنينيّة فيه يستلزم النقص؛ لأنّه لو كانا اثنين فلا شكّ أنّ كلاًّ منهما قديم؛ لأنّ الاحتياج في الوجود إلى الغير أصل كلّ نقص، فلم يكن .

ص: 63


1- في الكافي المطبوع : - «أشهد» .
2- في النسختين : «حجّة» بدون الواو .
3- قال الجوهرى : «ورجل ناسئ وقوم نسأة ، مثل : فاسق وفسقة ، وذلك أنّهم كانوا إذا صدروا عن منى يقوم رجل من كنانة فيقول : أنا الذي لا يردّ لي قضاء ، فيقولون : أنسئنا شهر ، أي آخرّ عنّا حرمة المحرم واجعلها في صفر ؛ لأنّهم كانوا يكرهون أن تتوالى عليهم ثلاثة أشهر لا يغيّرون فيها ؛ لأنّ معاشهم كان من الغارة فيحلّ لهم المحرم». الصحاح ، ج 1 ، ص 77 (نسأ) .
4- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 160 ؛ تاج العروس ، ج 17 ، ص 543 (فقم) .

أحد الشريكين من محدَثات الآخر. وهذا إشارة إلى إبطال مذهب المجوس في الاثنينيّة، وهو أنّ صانع الخيرات بلا آلة «يزدان» وهو اللّه تعالى، وصانع الشرور بلا آلة «أهرَمَنْ» وهو الشيطان. وأهرمن من محدثات يزدان، وكلّ منهما مستقلّ في القدرة على فعله.(1)

وحينئذٍ نقول: لا يخلو هذان القديمان من أن يكونا:

(قَوِيَّيْنِ) أي مستقلّين بالقدرة على كلّ ممكن في نفسه، سواء كان موافقا للمصلحة أم مخالفا.

(أَوْ يَكُونَا ضَعِيفَيْنِ) ولو في ممكن من الممكنات، أي غير مستقلّين بالقدرة على ممكنٍ مّا في نفسه.

(أَوْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا قَوِيّا) على كلّ ممكن في نفسه (وَالاْآخَرُ ضَعِيفا) في ممكن من الممكنات.

(فَإِنْ كَانَا قَوِيَّيْنِ، فَلِمَ لاَ يَدْفَعُ). الاستفهام للإنكار، أي يدفع البتّة (كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ) عن الشركة (وَيَتَفَرَّدَ بِالتَّدْبِيرِ؟).

لأنّ كون كلّ منهما قويّا في مقدور واحد مشتملٌ على التدافع، أي التنافي، فضلاً عن كون كلّ منهما قويّا في كلّ ممكن؛ لأنّ معنى القوّة والقدرة بالاستقلال كون شخص بحيث لو أراد أيّ مقدور به من فعل وترك، لم يقدر غيره على منافي مراده، فقوّة كلّ منهما في كلّ ممكن مستلزمة لضعف الآخر في كلّ ممكن، وأن لا يصدر عن الآخر ممكن إلاّ بتمكين الأوّل إيّاه وعدم إرادته ضدّه، وهذا تفرّد بالتدبير في كلّ ممكن.

ويحتمل أن يُراد بدفع كلّ منهما صاحبَه دفعُه عن القوّة، أو عن إرادته ضدّ مراد الأوّل. ومآل الكلّ واحد.

وفي هذا إشارة إلى إبطال مذهب المجوس مرّةً اُخرى، وإلى إبطال مذهب أشباه المجوس من هذه الاُمّة، وهم المعتزلة القائلون باستقلال العبد في قدرته على .

ص: 64


1- مجمع البيان ، ج 4 ، ص 125 ؛ معارج الفهم ، ص 379 ؛ المواقف ، ج 3 ، ص 65 ؛ شرح المواقف ، ج 8 ، ص 44 ؛ نقد المحصّل ، ص 131 (طبع مصر) ؛ تفسير الرازي ، ج 13 ، ص 113 .

فعله الاختياري.(1)

وإنّما التزموا ذلك لحكمهم بتقدّم قدرة العبد على وقت الفعل والترك ، والقدرة لا يمكن تحقّقها إلاّ مع استجماع العلّة التامّة حقيقةً أو حكما؛ وهو أن يكون ما لم يوجد بعدُ من المقدورات منها باختياره. وسيجيء تفصيل المبحث في أوّل «باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين» وثاني «باب الاستطاعة».

(وَإِنْ زَعَمْتَ أَنَّ أَحَدَهُمَا قَوِيٌّ) أي على كلّ ممكن في نفسه (وَالاْآخَرَ ضَعِيفٌ) أي في ممكن ما.

(ثَبَتَ أَنَّهُ) أي المحدث المثبت للعالم (وَاحِدٌ كَمَا نَقُولُ؛ لِلْعَجْزِ الظَّاهِرِ فِي الثَّانِي). يعني أنّ الضعف _ وإن كان مجامعا لأصل القدرة _ مستلزم للعجز عن ممكن ما في نفسه استلزاما ظاهرا؛ لأنّ القادر على فعلٍ الضعيفَ فيه عاجزٌ عن عدم ضدّه في وقته، أي هو باختيار غيره؛ إن شاء فعل الضدّ وأخرجه عن أصل القدرة، وإن شاء لم يفعل ويكون قادرا حينئذٍ. وظاهر أنّ العجز نقص، وبطلان الشقّ الثالث مستلزم لبطلان الشقّ الثاني بطريقٍ أولى، ولذا لم يذكره.

الدليل الثاني:

(وَإِنْ(2) قُلْتَ: إِنَّهُمَا اثْنَانِ، لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَكُونَا مُتَّفِقَيْنِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ) أي أن يكون كلّ منهما محدثا لكلّ ما أحدثه الآخر. وبطلان هذا ظاهر؛ لأنّ تعلّق إيجادين بموجود واحد شخصي بسيط بديهيُّ الاستحالة، ولذا لم يتعرّض لإبطاله.

(أَوْ مُفْتَرِقَيْنِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ) أي أن لا يكون واحد منهما محدثا لشيء ممّا أحدثه الآخر أصلاً.

ولم يتعرّض لشقّ ثالث هو أن يكونا متّفقين من جهة ومفترقين من جهة؛ لأنّه .

ص: 65


1- شرح الاُصول الخمسة ، ص 390 . وحكاه السيّد المرتضى في الذخيرة في علم الكلام ، ، ص 88 ؛ وشرح جمل العلم والعمل ، ص 97 ؛ والشيخ الطوسي في الاقتصاد فيما يتعلّق بالاعتقاد ، ص 104 ؛ والعلاّمة في معارج الفهم في شرح النظم ، ص 262 .
2- في الكافي المطبوع : «فإن» .

شريك للأوّل في المفسدة، وللثاني أيضا.

(فَلَمَّا رَأَيْنَا). هذا لإبطال الشقّ الثاني.

(الْخَلْقَ) ؛ مصدر بمعنى المفعول، أي العالم، وهو الأجسام وصفاتها التي ليست باختيارنا.

(مُنْتَظِما، وَالْفُلْكَ(1)) ؛ بالضمّ: السفينة.(2)

(جَارِيا، وَالتَّدْبِيرَ وَاحِدا، وَاللَّيْلَ وَالنَّهَارَ) أي مجيء كلّ منهما خلف الآخر وزيادته ونقصانه.

(وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، دَلَّ صِحَّةُ الاْءَمْرِ وَالتَّدْبِيرِ، وَائْتِلاَفُ) ؛ بالرفع عطف على «صحّة».

(الاْءَمْرِ عَلى) ؛ صلة «دلّ».

(أَنَّ الْمُدَبِّرَ) أي المحدث للعالم بتدبير (وَاحِدٌ).

توضيحه: أنّ هذا الشقّ يستلزم أن يكون كلّ منهما جاهلاً بما يفعله الآخر، وبما يتركه، فيكون وجود كلّ جزء من العالم اتّفاقيّا لم يراع فاعله في فعله إيّاه حكمةً أصلاً، وهذا يؤدّي إلى أن لا يكون النظام المشاهد منتظما؛ لأنّه لولاه فإمّا أن يكون كلّ منهما عالما حين فعله شيئا من النظام المشاهد بأنّه لو تركه لفعله الآخر، لحكمة كلّ منهما، وإمّا أن يكون عالما بأنّه لو تركه لتركه الآخر أيضا.

وهما باطلان:

أمّا الأوّل فلأنّ إحداث أحدهما ذلك المعلول عبث حينئذٍ؛ لأنّ كلاًّ منهما مستقلّ بالقدرة، وإنّما يفعل للحكمة لا لنفع راجع إليه، فإحداث أحدهما ذلك المعلول ليس أولى بوجه من تركه إيّاه مع إحداث الآخر إيّاه. .

ص: 66


1- في الكافي المطبوع : «والفَلَكَ» . وفي حاشية «أ» : «الفُلك _ بضمّ فاء وسكون لام _ : كشتى ، واينجا استعاره شده براى معاش آدميان وسائر حيوانات ، بنابر تشبيه دنيا به دريا» .
2- في حاشية «أ» : «صحّ اتّصاف الفلك بالجاري بدون التاء، كما اتّصف بالمشحون في قوله تعالى في سورة الشعراء : «فَأَنجَيْنَ_هُ وَ مَن مَّعَهُ فِى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ» قال الطبرسي رحمه الله في مجمعه : فخلّصناه ومن معه في السفينة المملوّة من الناس وغيرهم من الحيوانات» .

وأمّا الثاني فلأنّه يكون ترك الآخر له مع ترك الأوّل قبيحا وخلاف الحكمة، فيستلزم علم كلّ منهما بنقص في الآخر.

الدليل الثالث:

(ثُمَّ يَلْزَمُكَ) ؛ بفتح الخاتمة من باب علم. وإنّما زاد هذا ولم يقل: «وإن ادّعيت اثنين فلابدّ من فرجة» إلى آخره، إشارةً إلى أنّ هذا الدليل شريك مع الدليل الثاني في الشقّين، وإنّما الفرق في إبطال الشقّ الثاني منه بدليل آخر، فهو معطوف بالمعنى على قوله: «فلمّا رأينا الخلق» إلى آخره.

(إِنِ ادَّعَيْتَ) ؛ بكسر الهمز شرطيّة، أو بفتحها مصدريّة، والمصدر نائب ظرف الزمان؛ أي حين ادّعيت، أو بتقدير اللام، أي لأن ادّعيت.

(اثْنَيْنِ) مفترقين من كلّ جهة.

(فُرْجَةٌ) ؛ بالضمّ فاعل «يلزمك»، وأصلها الشقّ بين أجزاء الحائط. والمراد هنا ثالث يعيّن بعض أجزاء العالم لواحدٍ منهما، وبعضا آخر من أجزاء العالم للآخَر منهما، تشبيها لهما بجسمين بينهما جسم.

(مَّا) ؛ للإيهام.(1)

(بَيْنَهُمَا حَتّى يَكُونَا) أي المدبّران.

(اثْنَيْنِ) ؛ لامتناع الإرادة والترجيح من جهة الأوّلين، فإنّ كلاًّ منهما مستقلّ بالقدرة، غنيّ من كلّ جهة، إنّما يريد شيئا للحكمة لا لنفع راجع إليه، فلو لم يكن فرجة كان فعله هذا لبعض دون البعض الآخر ترجيحا بلا مرجّح، نظير ما فرضوه في نحو: رغيفي الجائع.

(فَصَارَتِ الْفُرْجَةُ ثَالِثا بَيْنَهُمَا، قَدِيما مَعَهُمَا ، فَيَلْزَمُكَ) بالخاتمة (ثَلاَثَةٌ) ؛ بالرفع، أي فيلزم خلاف الفرض، وهو أن يكون المدبّر ثلاثة، لأنّه لو لم يكن التعيين والتمييز صادرا عن الثالث على سبيل التدبير، كان على سبيل الإيجاب، كالتأثيرات الطبيعيّة عندهم؛ فيلزم أن لا يكون أحدهما قادرا أصلاً؛ لأنّ أثر الطبيعة لو أمكن تحقّقه وجب .

ص: 67


1- في «ج» قد تقرأ : «للإبهام» .

بوجوب سابق، وإلاّ لم يوجد. وأيضا يلزم أن يكون الثالث ناقصا ومن أجزاء العالم، وهذا باطل؛ لأنّه كالحاكم على الأوّلين، فهو أولى بأن يكون مدبّرا للعالم منهما.

(فَإِنِ ادَّعَيْتَ) أي بعد لزوم الثالث (ثَلاَثَةً، لَزِمَكَ مَا قُلْتُ فِي الاِثْنَيْنِ) ؛ أي ثمّ ننقل الكلام إلى الثلاثة، فنقول: لابدّ من الفرجة بينهم حتّى يكونوا ثلاثة.

(حَتّى يَكُونَ بَيْنَهُمْ فُرْجَتَانِ(1)) أي فلابدّ من فرجتين بينهم إحداهما لتمييز أثر أوّلهم عن ثانيهم،(2) والاُخرى لتمييز أثر ثانيهم عن ثالثهم.(3)

(فَيَكُونُوا خَمْسَةً) أي فيلزم خلاف الفرض. وإنّما لم يكتف عليه السلام بعد نقل الكلام إلى الثلاثة بالاحتياج إلى فرجة واحدة للتمييزين حتّى يكون المجموع أربعة لا خمسة، وإن كان المطلوب _ وهو لزوم خلاف الفرض والإفضاء إلى التسلسل _ حاصلاً به أيضا؛ تشبيها لهم بالأجسام المترتّبة وضعا؛ أو لأنّ هناك ثلاثةَ تمييزات، وتخصيصُ واحد منها بمميّز كما هو اللازم أوّلاً، وإشراك اثنين منها بواحد مع اتّحاد النسبة تحكّم.

(ثُمَّ يَتَنَاهى) أي يبلغ (فِي الْعَدَدِ إِلى مَا لاَ نِهَايَةَ لَهُ فِي الْكَثْرَةِ) أي ثمّ ننقل الكلام إلى الخمسة وهكذا، ويلزم خلاف الفرض في كلّ مرتبة، ويلزم التسلسل أيضا. هذه هي الأدلّة الثلاثة على نفي الشريك له تعالى في صنع العالم.(4) .

ص: 68


1- في الكافي المطبوع : «حتّى تكون بينهم فرجة» .
2- في حاشية «أ» : «وهو الفرجة المذكورة سابقا» .
3- في حاشية «أ» : «وأمّا تمييز أثر أوّلهم عن ثالثهم فهو فعل ثانيهم» .
4- في حاشية «أ» : «وأما الردّ على الثنوية من الكتاب فقوله عزّوجلّ : «مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَ مَا كَانَ مَعَهُ و مِنْ إِلَ_هٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَ_هِ بِمَا خَلَقَ وَ لَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَ_نَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ» فأخبر اللّه تعالى أن لو كان معه آلهة لا نفرد كلّ منهم بخلقه، ولأبطل كلّ منهم فعل الآخر ، وحاول منازعته فأبطل تعالى إثبات إلهين خلاقين بالممانعة وغيرها ، ولو كان ذلك لثبت الاختلاف وطلب كلّ إله أن يعلو على صاحبه ، فإذا شاء أحدهم أن يخلق إنسانا وشاء الآخر أن يخلق بهيمة اختلفا وتباينا في حال واحد ، واضطرّهما ذلك إلى التضادّ والاختلاف والفساد ، وكلّ ذلك معدوم ، فإذا بطلت هذه الحال كذلك ثبتت الوحدانيّة بكون التدبير واحدا والخلق متّفقا غير متفاوت ، والنظام مستقيما . وأبان سبحانه لأجل هذه المقالة ومن قاربهم إلى أنّ الخلق لا يصلحون إلاّ بصانع واحد ، فقال : «لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللّه ُ لَفَسَدَتَا» ثم نزّه نفسه فقال : «سُبْحَ_نَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ» فالدليل على أنّ الصانع واحد ، حكمة التدبير وبيان التقدير. رسالة المحكم والمتشابه لعلم الهدى رحمه اللّه » .

واعلم أنّ المشهور أنّ قوله تعالى في سورة الأنبياء: «أَمْ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنْ الاْءَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ * لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللّه ُ لَفَسَدَتَا»(1)، وقوله تعالى في سورة المؤمنين: «مَا اتَّخَذَ اللّه ُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ»(2) لنفي الشريك في صنع العالم، وذلك بإرجاع قوله: «لفسدتا» وقوله: «لذهب» إلى الدليل الثاني، وإرجاع قوله: «ولعلا» إلى الدليل الأوّل.

وهو ممنوع؛ لاحتمال(3) كون الآيتين كقوله تعالى في سورة التوبة: «اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابا مِنْ دُونِ اللّه ِ»(4) نفيا للشريك في الحكم في اُمور الدِّين، ونهيا عن الاختلاف فيها،(5) بأن يُراد بالإله من يحكم فيها من عند نفسه، ويُتَّبعُ بدون إجازة الأعلى منه، وبالفساد ما يترتّب على الاختلاف فيها، وبالولد من يحكم فيها من عند نفسه مع الإجازة، وبالذهاب بما خلق الفرحُ به، كقوله تعالى في سورة المؤمنين: «كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ»(6)، وبالخَلَق الكذبُ، وبالعلوّ الاستعلاء، كقوله تعالى في سورة القَصَص: «تِلْكَ الدَّارُ الاْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّا فِي الاْءَرْضِ وَلاَ فَسَادا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ»(7).

(قَالَ هِشَامٌ: فَكَانَ مِنْ سُوءَالِ الزِّنْدِيقِ أَنْ قَالَ: فَمَا الدَّلِيلُ عَلَيْهِ؟) يعني ثبت أنّه لو كان للعالم محدثِ مثبِت لكان واحدا، ولكن ما الدليل على أصل وجوده؟ .

ص: 69


1- الأنبياء (21) : 21 _ 22 .
2- المؤمنون (23) : 91 .
3- في حاشية «أ» : «قوله قدّس سرّه : (لاحتمال) إلى آخره . هذا الاحتمال موافق لما ذكره في توضيح خطبة عند قوله : وجعل بقاء أهل الصحّة والسلامة بالأدب والتعليم ؛ فتذكر . (مهدي)» .
4- التوبة (9) : 31 .
5- في حاشية «أ» : «في ثاني السادس والثلاثين من كتاب التوحيد لابن بابويه عن هشام بن الحكم قال : قلت لأبى عبد اللّه عليه السلام : ما الدليل على أنّ اللّه واحد . قال : اتّصال التدبير وتمام الصنع ، كما قال عزّوجلّ : «لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللّه ُ لَفَسَدَتَا» ولا يبعد حمله على ما ذكره الشارح _ أيّده اللّه _ بأن يكون المراد أنّ اتصال التدبير وتمام الصنع يدلّ على وحدة الحاكم المستحقّ للعبادة ، ويؤيّده أنّ السائل إنّما سأل عن دليل وحدة المستحقّ للعبادة ، لا عن دليل وحدة صانع العالم» . التوحيد ، ص 250 باب (36) الردّ على الثنوية والزنادقة ، ح 2 .
6- المؤمنون (23) : 53 .
7- القصص (28) : 83 .

(فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : وُجُودُ)؛ مصدر «وجده»: إذا أدركه، وهو خبر مبتدأ محذوف، أي الدليل وجود؛ أو مبتدأ.

(الاْءَفَاعِيلِ) ؛ جمع اُفعولة،(1) وهي الفعل العجيب؛ تقول: إنّ الرُشا تفعل الأفاعيل وتنسئ إبراهيم وإسماعيل؛ أي الأعاجيب.(2)

والمراد بها كلّ ما فيه الحكمة من العالم، فلا يمكن أن يكون بلا فاعل، ولا أن يكون فاعله بلا تدبير ككون الجبال أوتادا؛ أي لئلاّ يتحرّك الأرض التي جعل مركز ثقلها في وسطها؛ إمّا تقديرا، وذلك إن كانت الأرض كقطعة من وجه كرة، كما هو ظاهر الخطابات الشرعيّة كدحو الأرض(3) ومدّها وفرشها؛(4) وإمّا تحقيقا، وذلك إن كانت كرةً تامّة مصمتة، كما زعمه الفلاسفة(5) بالأمواج والعواصف(6) حركة وضعيّة هي الزلزلة، وذلك بجعل الجبال صخورا لا تتفتّت بالرياح، وجعلها أوتادا للأرض مغروزة في الهواء الذي فيه معاوقة في الجملة، وفي الماء الذي فيه معاوقة أكثر، فتجبر تلك المعاوقة باعتبار كثرة الجبال جدّا ما كاد(7) أن يحصل من الزلزلة بالرياح والأمواج، فإنّ زلزلة الأرض بجميعها تحتاج حينئذٍ إلى خرق هواء كثير وماء كثير جدّا، وإذا نسف اللّه الجبال نسفا(8) وقع زلزلة الساعةَ، وكخلق الهواء المعاوق في الجملة في الجوّ،(9) فإنّه لو .

ص: 70


1- في تاج العروس : «اُفعول» .
2- تاج العروس ، ج 15 ، ص 585 (فعل) .
3- دحا اللّه الأرض بدحوها ويدحاها دحوا : بسطها. القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 327 (دحا) .
4- كما في سورة النازعات (79) : 30 ، وسورة الحجر (15) : 19 ، وسورة قآ (50) : 7 ، وسورة الذاريات (51) : 48 .
5- المواقف ، ج 2 ، ص 437 ؛ الحكمة المتعالية ، ج 5 ، ص 169 ؛ المبدأ والمعاد ، ص 497 ؛ بحار الأنوار ، ج 56 ، ص 389 .
6- عصفت الريح تعصف : اشتدّت . وفي يوم عاصف ، أي تعصف فيه الريح ؛ فاعل بمعنى مفعول . القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 176 (عصف) .
7- في حاشية «أ» : «مفعول : تجبر» .
8- نسف البناء ينسفه : قلعه من أصله . والجبال : دكّها وذرأها . القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 199 (نسف) .
9- في حاشية «أ» : «الجوّ على ما في القاموس داخل البيت ، والمراد هنا بين السماء والأرض» .

كان خاليا لم يكن للطير طيران في الجوّ لا بصفٍّ(1) ولا بقبضٍ، فما يمسكهنّ إلاّ الرحمن، وكخلق الإنسان وأعضائه وعروقه وأحشائه وعضلاته وآلات القبض والبسط ونحو ذلك ممّا لا يتأتّى من شيء غير ذي علمٍ وحكمة.

ويحتمل أن يُراد بالأفاعيل الحوادث التي يعلم كلّ ناظر فيها أنّها ليست بسبب من الطبائع؛ لكمال ظهور أمرها كتصريف الرياح العواصف، وتسخير السُّحب الثقال القواصف(2) ونحو ذلك، سواء علم الحكمة فيه، أم لا.

ويحتمل أن يُراد بالأفاعيل كلّ حادثٍ من حوادث العالم. ويرجع الدليل إلى ما حرّرناه في الدليل الثاني من أوّل الباب.

(دَلَّتْ) .(3) استئناف بياني للجملة السابقة، أو خبر «وجود» والتأنيث باعتبار المضاف إليه.

(عَلى أَنَّ صَانِعا) أي صانعا عظيما، وهو ما لا يكون فعله بآلة ومباشرة وفعل علاجي، ولا يمكن فيه نقص.

(صَنَعَهَا، أَلاَ تَرى أَنَّكَ إِذَا نَظَرْتَ إِلى بَنَاءٍ(4)) ؛ بفتح الموحّدة والنون والمدّ مصدر استعمل في المفعول، أي ما بني كقصر وبيت.

(مَشِيدٍ(5)) ؛ بفتح الميم وكسر المعجمة وسكون الخاتمة، أو بضمّ الميم وفتح المعجمة وتشديد الخاتمة المفتوحة. والشيد بالكسر: كلّ شيء طليتَ به الحائط من جصّ أو ملاط. وبالفتح المصدر تقول: شاده يشيده شيدا، أي جصَّصَه. والمشيد: المعمول بالشيد كقوله تعالى: «وَقَصْرٍ مَشِيدٍ»(6)، والمُشَيَّد بالتشديد: المطوّل(7) كقوله .

ص: 71


1- الصفّ : أن يبسط الطائر جناحيه . القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 162 (صفف) .
2- قصف الرعد وغيره قصيفا : اشتدّ صوته . القاموس ، ج 3 ، ص 185 (قصف) .
3- في حاشية «أ» : «في كتاب التوحيد : (وجود الأفاعيل التي دلّت) فوجود خبر مبتدأ محذوف ودلّت صلة التي» .
4- في الكافي المطبوع : «بناء» بكسر الباء .
5- في الكافي المطبوع : «مُشَيَّد» .
6- الحجّ (22) : 45 .
7- غريب الحديث لابن سلام ، ج 2 ، ص 73 ؛ الصحاح ، ج 2 ، ص 495 ؛ لسان العرب ، ج 3 ، ص 244 (شيد) .

تعالى: «فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ».(1)الشعراء (26) : 23 _ 27 .(2)

(مَبْنِيٍّ) أي مرعيّ في بنائه المصالحُ من التناظر بين أجزائه وأبوابه ونحو ذلك.

(عَلِمْتَ أَنَّ لَهُ بَانِيا) أي علمت أنّه ليس من فعل غير ذي علمٍ كالطبيعة، وأنّ له بانيا ماهرا في البناء.

(وَإِنْ كُنْتَ لَمْ تَرَ الْبَانِيَ وَلَمْ تُشَاهِدْهُ؟) . المشاهدة: المعاينة، وهي الرؤية المتكرّرة؛ أي لم تشاهد بناءه المبنيّ.(3)

(قَالَ: فَمَا هُوَ؟). سؤال عن حقيقته.

(قَالَ: شَيْءٌ) أي كائن في نفسه في الخارج.

(بِخِلاَفِ الاْءَشْيَاءِ) أي لا يعرف بحقيقته، إنّما يُعرف بنعوته؛ لأنّه خلاف الأشياء. وحاصل الدليل ما يجيء في أوّل الباب الثاني(4) في شرح قوله: «وكيف تدركه الأوهام وهو خلاف ما يعقل» إلى آخره. ونظيره قوله تعالى حكايةً عن فرعون وموسى قال: «وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالاْءَرْضِ... قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمْ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ»(4)؛ لتوهّمه أنّ الجواب غير مطابق للسؤال، ومعنى المخالفة لها أن لا يكون بينهما مشترك ذاتي، وهو ما يفهم من قوله: «غير أنّه» إلى آخره.

(أَرْجِعْ) ؛ بصيغة المتكلّم وحده، أي أقصد.

(بِقَوْلِي) أي بشيء بخلاف الأشياء.

(إِلى إِثْبَاتِ مَعْنىً) أي كائن في الخارج في نفسه.

(وَأَنَّهُ) أي وإلى أنّ ذلك المعنى وهو كالتفسير لقوله: «معنى».

(شَيْءٌ بِحَقِيقَةِ الشَّيْئِيَّةِ) . إلى هنا مرجع قوله: «شيء» وما بعده مرجع قوله: «بخلاف الأشياء». .

ص: 72


1- النساء
2- : 78 .
3- في حاشية «أ» : «مفعول له لبنائه» .
4- أي الحديث 2 من باب إطلاق القول بأنّه شيء .

والمراد «بحقيقة الشيئيّة» أن يكون له مائيّةٌ وإنّيّة متغايران حقيقةً، أي أن لا يكون نفس الإنّيّة؛ لأنّها أمر اعتباري معدوم في الخارج لا يمكن أن يقوم بنفسه.(1)

فهذا ردّ للقول بأنّه تعالى وجود قائم بنفسه قياما مجازيّا بمعنى عدم القيام بالغير.

ويحتمل أن يكون المراد بحقيقة الشيئيّة ما وضع له لفظ الشيئيّة في اللغة، وهو الذي يفهمه كلّ من عرف اللغة من الصبيان وغيرهم؛ إذ ليس حقيقة الشيئيّة وراء هذا المفهوم لكلّ أحد، وهو ثبوت الوجود لغيره.

فهذا ردّ للقول بأنّ لفظ «الشيء» و«الموجود» فيه تعالى مجاز،(2) وللقول بأنّ ما نفهمه من لفظ «الشيئيّة» و«الوجود» عرضي للأفراد، وحقيقة الشيئيّة والوجود أمرٌ آخر هو عين ذاته تعالى.(3) وسيجيء تفصيل إبطاله في سادس الباب الثاني.(4)

(غَيْرَ) ؛ بالنصب أو الفتح للاستثناء المنقطع، استدراك عمّا قبله لدفع ما تتسارع الأذهان العامّيّة(5) إليه بسبب إطلاق لفظ «شيء» عليه من التشبيه.

(أَنَّهُ) ؛ بالفتح والتشديد، والضمير للّه .

(لاَ جِسْمٌ) ؛ مرفوع على خبريّة «أنّ» و«لا» للنفي مهملة. والمراد بالجسم هذا الطويل العريض العميق، لا من حيث يلاحظ له شكل حسن، ولا لطافة وصفاء؛ فإنّه من حيث الشكل يسمّى «صورة» ومن حيث اللطافة والصفاء «جوهرا».

(وَلاَ صُورَةٌ) . أصل الصورة الشكل، وهو هيئة الإنسان وغيره. والمراد هنا الطويل العريض العميق من حيث إنّ له شكلاً حسنا. ويجيء في «باب النهي عن الجسم والصورة».

(وَلاَ يُحَسُّ) ؛ بالمهملتين مضاعف مبنيّ للمفعول من باب نصر، أو باب الإفعال، معطوف على قوله: «لا جسم»، استدلال على أنّه لا يصحّ السؤال عن حقيقته ب«ما هو» .

ص: 73


1- في «ج» : «هذا» .
2- اُنظر الحكمة المتعالية ، ج 7 ، ص 349 .
3- اُنظر الحكمة المتعالية ، ج 7 ، ص 349 .
4- أي الحديث 6 من باب إطلاق القول بأنّه شيء .
5- في حاشية «أ» : «كذا أفاد سلمه اللّه » .

بأنّه لا يعقل كنه ذات ما ليس بجسماني ضرورةً؛ إذ طريق ضروريّة الذات منحصر في الإحساس وتنبّه المشاركات والمباينات في المحسوسات.

(وَلاَ يُجَسُّ) ، بالجيم مبنيّ للمفعول من باب نصر من جسّ: إذا تفحّص عن باطن الاُمور؛ أي لا يعقل كنه ذاته نظرا؛ إذ التعقّل النظري إنّما يُكتسب من التعقّل الضروري، وطريقه منحصر في الإجساس. وقد مرّ نفيه عنه تعالى آنفا، ويجيء في ثاني السابع(1) «غير محسوس ولا مجسوس».

(وَلاَ يُدْرَكُ) ؛ بصيغة المجهول من باب الإفعال؛ أي لا يدرك شخصه. ويحتمل المعلوم.

(بِالْحَوَاسِّ الْخَمْسِ) ؛ جمع حاسّة: السمع والبصر والشمّ والذوق واللمس.

(لاَ تُدْرِكُهُ الاْءَوْهَامُ) أي لا تصيبه على حدة _ أي لا بدلالة أثره عليه، ولا بوحي إلى نبيّ _ خطراتُ القلوب، فَصَله؛(2) لأنّه دليل على أنّه لا يدرك بالحواسّ بطريقٍ أولى.

(وَلاَ تَنْقُصُهُ) . النقص من باب نصر يجيء متعدّيا كهذا، ولازما. والمراد به نحو الهَرَم بعد الشباب.

(الدُّهُورُ) ؛ جمع دهرٍ: الزمان الطويل.

(وَلاَ تُغَيِّرُهُ الاْءَزْمَانُ) . التغيّر هنا نحو الشباب بعد الصَبوة.(3) وللحديث تتمّة يجيء في سادس الباب الثاني.(4)

السادس: (مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ ، قَالَ : حَدَّثَنِي)؛ من زيادات التلامذة. (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْبَرْقِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ النُّعْمَانِ، عَنِ ابْنِ مُسْكَانَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ فَرْقَدٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ، قَالَ: كَفى لاِءُولِي الاْءَلْبَابِ) . جمع «لبّ» بضمّ اللام: العقل. .

ص: 74


1- أي الحديث 6 من باب النسبة.
2- كذا في «أ». و في «ج» : «فضلة» واللّه أعلم .
3- «الصبوة» : جهلة الفتوة . والصبي: من لم يفطم بعد . القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 351 (صبا) .
4- أي الحديث 6 من باب إطلاق القول بأنّه شيء .

(بِخَلْقِ) . الخلق: التقدير، تقول: خلقت الأديم:(1) إذا قدّرته قبل القطع.(2)

(الرَّبِّ) . ربّ كلّ شيءٍ: مالكه. والربّ اسم من أسماء اللّه عزّ وجلّ، ومعناه ربّ العالمين، ولا يُقال في غيره إلاّ بإضافة.

(الْمُسَخِّرِ) ؛ بكسر المعجمة المشدّدة، صفة «خلق»؛ استدلال بتسخيره تعالى السحاب والرياح والشمس والقمر ونحو ذلك لمنافع الناس بلا آلة ومباشرة.

(ومَلْكِ(3) الرَّبِّ) ؛ الملك بفتح الميم وسكون اللام مصدر بمعنى العزّ والغلبة على المملكة، والاسم بضمّ الميم.

(الْقَاهِرِ) . صفة «ملك»؛ استدلال بملكوت السماوات والأرض كرفع السماء بغير عمدٍ وفرش الأرض، وأنّه لا يُبدِّل حكمته الوسائل، ويعجِز عن معارضته كلّ أحد.

(وَجَلاَلِ الرَّبِّ) . الجلال: العظمة.

(الظَّاهِرِ) . صفة «جلال»؛ استدلال بعظمته في مخلوقاته؛ أي خلقه اُمورا عظيمة، وهو ظاهر عند كلّ عاقل.

(وَنُورِ الرَّبِّ) أي النور الذي خلقه الربّ لمنافع الناس كنور الشمس والقمر والنجوم.

(الْبَاهِرِ) . صفة «نور» يُقال: بهرَ القمر: إذا أضاء حتّى غلب ضوؤه ضوءَ الكواكب. وبهرَ فلان أترابَه:(4) إذا غلبهم حُسنا.(5) استدلالٌ بالحِكَم المَرعيّة في خلق الأنوار الباهرة.

(وَبُرْهَانِ الرَّبِّ) . البرهان _ بضمّ الموحّدة وسكون المهملة _ : الحجّة، وقد برهن عليه، أي أقام عليه الحجّة.

(الصَّادِقِ) . صفة «برهان»؛ استدلالٌ بحججه على خلقه من الأنبياء والأئمّة .

ص: 75


1- «الأديم»: أجلد أو أحمره أو مدبوغه. القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 73 (أدم) م ق .
2- الصحاح ، ج 4 ، 147 (خلق) .
3- في الكافي المطبوع : «ومُلك» بضمّ الميم .
4- الترب، بالكسر : من ولد معك ، وهي تربى . القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 39 (ترب) .
5- تاج العروس ، ج 6 ، ص 120 (بهر) .

المعبّرين عنه، الصادقين في جميع أحكامهم، فإنّ خلقهم ليس على مجرى أفعال الطبيعة، وصدقهم في كلّ أحكام الشرع من الخوارق، كما قال تعالى: «كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ».(1) وهو من أعظم الدلائل على صانع العالم البريء من كلّ نقص.

(وَمَا أَنْطَقَ بِهِ أَلْسُنَ الْعِبَادِ) من اللغات واللهجات المختلفة، وآلات التنطّق بها، والمخارج للحروف والصوت المقارن بحيث يعرف الصبيّ في أوائل سنّه صوت اُمّه عن جميع ما عداها. والحكمة في هذا لا يخفى.

(وَمَا أَرْسَلَ بِهِ الرُّسُلَ) أي خوارق العادات المقارنة للدعوى؛ فإنّها دالّة على الصانع قبل إخبار الرسل به أيضا.

(وَمَا أَنْزَلَ عَلَى الْعِبَادِ ) من الاُمور الخارجة عن أفعال الطبيعة كالطوفان، وطير أبابيل، وحسر الفيل عن الحرم، والعذاب على الاُمم السالفة في الدنيا، ونحو ذلك.

(دَلِيلاً عَلَى الرَّبِّ) القادر على كلّ شيء. (عَزَّ وَجَلَّ) . .

ص: 76


1- التوبة (9) : 119 .

الباب الثاني: باب إطلاق القول بأنّه تعالى شيء

الباب الثاني بَابُ إِطْلاَقِ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ تعالى شَيْءٌ

فيه سبعة أحاديث.

الإطلاق: الإباحة؛ مأخوذ من الطلق بالكسر، وهو الحلال. والمصدر مضاف إلى المفعول، ومضى في الخطبة قول المصنّف: «على ما أطلقه العالم عليه السلام ». والإطلاق أيضا ضدّ التقييد.

و«الشيء» ذات ثبت له الكون الخارجي في نفسه.

ففي هذا الباب بيان أمرين:

الأوّل: أنّ له تعالى مائيّةً وإنّيّةً، أي ذاتا وكونا متغايرين حقيقةً؛ أي لا يحمل أحدهما على الآخر مواطاةً بدون تجوّز، وهو بإبطال التعطيل؛ أي إبطال القول بأنّه تعالى محض الكون، كما توهّمه المعتزلة والفلاسفة،(1) وصحّحه بعضهم بأنّه تعالى الوجود القائم بنفسه قياما مجازيّا بمعنى عدم القيام بالغير،(2) وهذا يستلزم القول بأنّه تعالى معدوم حقيقةً؛ لبداهة أنّ المفهوم لكلّ أحد من الكون ومرادفاته في اللغات أمرٌ اعتباري لا يحمل على الكائن في الخارج في نفسه مواطاةً، لا حملَ ذاتيٍّ، ولا حملَ عرضيٍّ.

الثاني: أنّه تعالى غير مقيّد بشيءٍ آخر، أي لا تحلّ فيه المعاني، كما توهّمه الأشاعرة؛ أو المراد أنّه غير مقيّد لا بحلول المعاني، ولا بأن يمكن لغيره تعالى تعيين ذاته، أي كنهُه غير معلوم لغيره، وكذا تشخّصه، فيثبت أنّ الحقّ في أسمائه وصفاته تعالى الأمر بين

ص: 77


1- اُنظر الحكمة المتعالية ، ج 8 ، ص 15 ؛ المبدأ والمعاد ، ص 122 .
2- في حاشية النسختين : «هو الدواني في حاشية شرح التجريد (منه دام ظلّه)» .

الأمرين: مذهب المعتزلة ومذهب الأشاعرة، كما أنّ الحقّ في أفعال العباد الأمر بين الأمرين: الجبر والقدر. وسيجيء في «باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين» وكما أنّ الحقّ في حقيقة الإيمان المنجي من الخلود في النار الأمر بين الأمرين: مذهب المرجئة(1) ومذهب الوعيديّة.(2) ومضى بيانه في «باب التقليد» من «كتاب العقل» لمّا كان التعطيل منافيا صريحا للإقرار بمحدث العالم ومثبته، ذكر هذا الباب عقيب الأوّل لكمال الربط.

الأوّل: (مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، عَنْ)؛ من زيادات التلامذة. (عَلِيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ أَبِي نَجْرَانَ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عليه السلام ) ؛ هو الجواد عليه السلام .

(عَنِ التَّوْحِيدِ) أي معنى «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ».

(فَقُلْتُ). الفاء للتعقيب؛ أي بعد بيان معنى أحد بلا فصل.

(أَتَوَهَّمُ) . الهمزة للمتكلّم، والاستفهام مقدّر؛ أي أأتصوّر في مقام التوحيد.

(شَيْئا؟) أي ذاتا ثبت له الكون، فيكون له تعالى مائيّة وإنّيّة متغايران حقيقةً كسائر الأشياء، ومعادل الاستفهام أن يقول: أم هو نفس الكون والشيئيّة.

وحاصل السؤال أنّ اعتقاد أنّ اللّه تعالى شيء هل يجامع التوحيد المأمور به، أم لا؟

(فَقَالَ: نَعَمْ) . هذا لإبطال التعطيل، وما بعده إلى قوله: «في الأوهام» لإبطال التقييد.

(غَيْرَ) ؛ منصوب صفة «شيئا» لأنّ «نعم» في حكم تكرار الجملة، وهذا جارٍ مجرى الاستدراك عن قوله: «نعم».

(مَعْقُولٍ) . العقل ضدّ الإطلاق؛ من عقله كنصر وضرب: إذا أمسكه وحبسه؛ يعني أنّه تعالى غير متصوّر بنفسه وكنهه.

(وَلاَ مَحْدُودٍ) أي ولا محاط بسطح؛ وكأنّه إشارة إلى أنّه لو كان معقولاً لكان .

ص: 78


1- كلمة المرجئة تطلق على جماعة متعدّدة، والجماعة المناسبة هنا هي القائلة بأنّه لا تضرّ مع الإيمان معصيته كما لا تنفع مع الكفر الطاعة . وقيل : هم القائلون بتأخير حكم صاحب الكبيرة إلى يوم القيامة ، فلا يقضى عليه بحكم ما في الدنيا من كونه من أهل الجنّة أو من أهل النار . الملل والنحل للشهرستاني ، ج 1 ، ص 139 .
2- هم القائلون بأنّ مرتكب الكبيرة لابدّ وأن يخلّد في النار . كشف المراد ، ص 562 ، وفي طبعة تحقيق الزنجاني ، ص 442 ، وفي طبعة تحقيق السبحاني، ص 280 .

محدودا، كما في قولك: زيد غير عاصٍ ولا معذّب. وهو المراد بما في أوّل خطبة من نهج البلاغة من قوله: «ومَن أشار إليه فقد حدّه»(1) إذ المراد بالإشارة إليه عقله.

وحاصل الجواب: أنّ توهّمه شيئا لا ينافي التوحيد المأمور به؛ إنّما ينافيه توهّمه شيئا معقولاً.

(فَمَا) . تفريعٌ على قوله: «غير معقول ولا محدود».

(وَقَعَ وَهْمُكَ عَلَيْهِ) أي أدركه وأصابه. «وهمُك» بمعنى «ذهنك».

(مِنْ شَيْءٍ) . «من» للتبيين، مثل: «مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ»(2).

(فَهُوَ) أي الصانع تعالى (خِلاَفُهُ) .

خلاف الشيء: مغايره الذي ليس أمر ذاتي مشتركا بينهما. وهذا ناظر إلى قوله: «غير معقول». وإلى هذا اُشير فيما روي عن أبي جعفر عليه السلام أنّه قال: «كلّ ما ميّزتموه بأوهامكم في أدقّ معانيه فهو(3) مخلوق مصنوع مثلكم، مردود إليكم، ولعلّ النمل الصغار تتوهّم أنّ للّه تعالى زُبانيين فإنّ ذلك كمالها، وتتوهّم أنّ عدمهما نقصان لمَن لا يتّصف بهما، وهكذا حال العقلاء فيما يصفون اللّه تعالى به» انتهى.(4)

فالمراد بالتمييز بالوهم إدراك الوهم إيّاه، والمراد بالوصف وصفه تعالى بأوهامهم، وهو المنهيّ عنه فيما يجيء في «باب النهي عن الصفة بغير ما وصف به نفسه» قال تعالى: «سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ»(5). ولقد زلَّ قدم مَن توهّم أنّ مراده عليه السلام أنّه لا اعتماد على اعتقاد أنّ اللّه تعالى عالم بجميع المعلومات، قادر على جميع الممكنات، وهكذا في سائر الأسماء الحُسنى والصفات العلى، وإنّما كلّف الإنسان به لأنّه لا يسعه معرفة اللّه إلاّ بما عَرَفه وألِفه من كمالات نفسه، وذلك لأنّ هذا التوهّم ذهابٌ إلى مذهب .

ص: 79


1- نهج البلاغة ، ج 1 ، ص 15 باب المختار من خطب أمير المؤمنين عليه السلام .
2- البقرة (2) : 106 .
3- في «ج» : - «فهو» .
4- شرح نهج البلاغة لابن ميثم البحراني ، ج 1 ، ص 110؛ بحار الأنوار، ج 66، ص 293 .
5- الصافّات (37) : 180 .

السوفسطائيّة(1) المنكِرين للعلوم.

(وَ(2)لاَ يُشْبِهُهُ شَيْءٌ) ؛ بصيغة المعلوم من باب الإفعال؛ أي لا يماثله في الاسم الجامد المحض كالبلّور والزمرّد. وهذا ناظر إلى قوله: «ولا محدود».

(وَلاَ تُدْرِكُهُ الاْءَوْهَامُ) . المراد بالأوهام هنا أذهان أهل البدع والأهواء، كالأشاعرة المدّعين أنّهم يرون اللّه بأعينهم في الآخرة.(3) وقد يستعمل الأوهام مطلقة.

(وَ(4)كَيْفَ تُدْرِكُهُ الاْءَوْهَامُ وَهُوَ خِلاَفُ مَا يُعْقَلُ، وَخِلاَفُ مَا يُتَصَوَّرُ فِي الاْءَوْهَامِ؟!). استدلال بقوله تعالى في سورة الأنعام: «لاَ تُدْرِكُهُ الاْءَبْصَارُ»،(5)في حاشية «أ» : «محمّدبن إسماعيل هذا هو البرمكي صاحب الصومعة عند الصدوق رحمه الله ». الوافي ، ج 1 ، ص 333 .(6) ويجيء في التاسع والعاشر والحادي عشر من «باب في إبطال الرؤية».

والمراد ب«ما يعقل» ما يتصوّر في أذهان أهل الحقّ. وذكر قسمي الأذهان على حدة للإشارة إلى أنّه إذا لم يدركه أذهان أهل الحقّ، لم يدركه أذهان أهل الباطل بطريقٍ أولى.

(إِنَّمَا يُتَوَهَّمُ شَيْءٌ غَيْرُ مَعْقُولٍ وَلاَ مَحْدُودٍ) . إعادة للحقّ بعنوان الحصر ليثبت الأمر بين الأمرين بعد ما ثبت بطلان الأمرين؛ أي حدّي التعطيل والتقييد ليكون فذلكةً للمبحث، فهو استئناف بياني.

الثاني: (مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ،(6) عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْحَسَنِ، عَنْ بَكْرِ بْنِ صَالِحٍ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: سُئِلَ أَبُو جَعْفَرٍ الثَّانِي عليه السلام : يَجُوزُ) ؛ بصيغة المضارع المعلوم الغائب من باب نصر بتقدير القول والاستفهام. .

ص: 80


1- السفسطة : قياس مركّب من الوهميّات ، والغرض منه إفحام الخصم وإسكاته . والسوفسطائية : فرقة ينكرون الحسيّات والبديهيّات وغيرها ، الواحد : سوفسطائي . المعجم الوسيط ، ج 1 ، ص 433 .
2- في الكافي المطبوع : - «و» .
3- اُنظر المواقف للإيجي ، ج 3 ، ص 158 و 160 و 175 ؛ شرح المواقف ، ج 8 ، ص 117 و 121 ؛ معارج الفهم في شرح النظم ، ص 338 ، ولا بأس بالنظر لكتاب رؤية اللّه في ضوء الكتاب والسنّة للسبحاني .
4- في الكافي المطبوع : - «و» .
5- الأنعام
6- : 103 .

(أَنْ يُقَالَ لِلّهِ: إِنَّهُ شَيْءٌ؟) أي ذات ثبت له الكون بدون اعتبار خصوصيّة في الذات، كما قالوا في مفهوم المشتقّات، فللاستفهام هنا معادلان:

الأوّل: أن يُقال: إنّه تعالى نفس الكون.

الثاني: أن تعتبر في ذاته خصوصيّة مدركة لنا.

(قَالَ: نَعَمْ، يُخْرِجُهُ) ؛ بالخاتمة للمضارع، والضميرُ المرفوع المستتر للقول، والمنصوبُ البارز للّه .

(مِنَ الْحَدَّيْنِ: حَدِّ التَّعْطِيلِ، وَحَدِّ التَّشْبِيهِ(1)) . الحدّ: الطرف، والتعطيل: الإخلاء وترك الشيء ضياعا. والمراد به الإخلاء من الوجود بأن يُقال: إنّه تعالى نفس الوجود؛ وذلك لبداهة أنّه لا يفهم من الوجود ومرادفاته في اللغات إلاّ أمر اعتباري مشترك معنوي بين جميع الموجودات، غير ممكن القيام بنفسه.

وإنكارُ هذا بالقول بأنّه تعالى وجودٌ قائم بنفسه قياما مجازيّا بمعنى عدم القيام بالغير، أو بالقول بأنّ الوجود مشترك(2) لفظي خروجٌ عن جبلّة الإنسان، والتشبيهُ القولُ بأنّه تعالى جسم، وذلك بالقول بأنّه يمكن لغيره تعالى إدراك ذاته تعالى كما فصّل في أوّل الباب.

والمراد بإخراجه من الحدَّين جعله بين الحدّين، وجملة «يخرجه» إلى آخره استئناف بيانيّ تعليلي، يعني لولا هذا القول لدخل في حدّ التعطيل أو حدّ التشبيه، ولو جعل معادل الاستفهام الأوّل فقط، كان المراد أنّه لولا هذا القول لم يخرج من الحدّين معا وإن كان خارجا من الثاني. .

ص: 81


1- في حاشية «أ» : «لما ذلّ السؤال على أنّ السائل إنّما نفى التشبيه عن اللّه _ جلّ جلاله _ أجاب عليه السلام بقوله : يخرجه من الحدّين ، وإلاّ فإطلاق الردّ عليه إخراج له من حدّ التعطيل فقط ، فينبغي أن يقال : شيء لا كالأشياء». الوافي ، ج 1 ، ص 334 .
2- بمعنى أنّ الوجود فيه تعالى غير الوجود في غيره .

الثالث: (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى، عَنْ يُونُسَ، عَنْ أَبِي الْمَغْرَاءِ) ؛ بفتح الميم وسكون المعجمة والمهملة والقصر أو المدّ، اسمه: حميد بن المثنّى.(1)

(رَفَعَهُ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ، قَالَ: قَالَ: «إِنَّ اللّه َ خِلْوٌ مِنْ خَلْقِهِ، وَخَلْقَهُ خِلْوٌ مِنْهُ) . الخلو _ بكسر المعجمة وسكون اللام: الخالي، والمراد بالخلق المخلوق. والفقرة الاُولى ردّ على القائلين بحلول الحوادث فيه تعالى،(2) والفقرة الثانية ردّ على الحلوليّة من الصوفيّة القائلين بأنّه تعالى يحلّ في الأولياء،(3) ومن النصارى القائلين بأنّه تعالى حلَّ في عيسى،(4) وكلتا الفقرتين ردّ على الاتّحاديّة من الصوفيّة القائلين بأنّه تعالى متّحد مع كلّ مخلوق، ومن النصارى القائلين بأنّه تعالى متّحد مع عيسى.(5)

(وَكُلُّ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ «شَيْءٍ») أي كائن في نفسه (فَهُوَ مَخْلُوقٌ) أي محدث زمانا، سواءً كان باعتبار وجوده في نفسه في الخارج، أم في الذهن عند القائلين بالوجود الذهني.

(مَا خَلاَ اللّه َ) ؛ بالنصب على الاستثناء. وهذه الفقرة إبطال للتعطيل، فإنّها تدلّ على أنّه يقع عليه تعالى اسم «شيء» كما يقع على مخلوقه، فهو شيء بحقيقة الشيئيّة، أي له تعالى مائيّة وإنّيّة متغايران حقيقةً كالمخلوقات، وهي منضمّةً إلى سابقها تدلّ على إبطال حلول المعاني القديمة فيه تعالى.

الرابع: (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ الْبَرْقِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّضْرِ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ يَحْيَى الْحَلَبِيِّ، عَنِ ابْنِ مُسْكَانَ، عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَعْيَنَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام .

ص: 82


1- رجال النجاشي ، ص 133 ، الترجمة 340 ؛ الفهرست للطوسي ، ص 114 ، الترجمة 236 ؛ رجال الطوسي ، ص 192 ، الترجمة 245 . وانظر معجم رجال الحديث ، ج 7 ، ص 309 ، الترجمة 4097 .
2- مثل الكرامية ، كما حكاه عنهم الأسفرائيني البغدادي في الفرق بين الفرق ، ص 173 ، والعلاّمة في معارج الفهم في شرح النظم ، ص 361 .
3- حكاه عنهم الرازي في تفسيره الكبير ، ج 11 ، ص 191 ، و ج 24 ، ص 128 . وانظر الفتوحات المكيّة ، ج 2 ، ص 334 .
4- حكاه الرازي في تفسيره ، ج 16 ، ص 28 .
5- تفصيل الكلام في معارج الفهم في شرح النظم ، ص 363 ؛ تلخيص المحصّل للطوسي ، ص 260 .

يَقُولُ: إِنَّ اللّه َ خِلْوٌ مِنْ خَلْقِهِ، وَخَلْقَهُ خِلْوٌ مِنْهُ، وَكُلُّ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ «شَيْءٍ» مَا خَلاَ اللّه َ، فَهُوَ مَخْلُوقٌ) . مضى معناه آنفا.

(وَاللّه ُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) أي ما خلا اللّه تعالى. وضمّ هذا للتصريح بأنّ المراد بقوله: «مخلوق» إنّه مخلوق للّه تعالى.

(تَبَارَكَ الَّذِي) . البركة بفتحتين: كثرة النماء والسعادة، ونقْله إلى التفاعل يفيد مبالغة، ويُقال: تبارك اللّه بمعنى اتّصف بكلّ كمال، كما أنّ «تعالى اللّه » بمعنى تنزّه عن كلّ نقص، فلا يستعملان في غير اللّه ، وضمّ هذا لدفع ما يتوهّم من السابق، وهو اشتراك الوجود معنىً بينه وبين خلقه من التشبيه، وللإشارة إلى حسن التجوّز في التعميم في خالق كلّ شيء، وهذا التعميم وقع في القرآن أيضا؛ أي ليس يُقاس تعالى بغيره، فهو مستثنى استثناءً ظاهرا وإن لم يذكر الاستثناء.

ونظير هذا ما رواه ابن بابويه في معاني الأخبار عن أبي عبداللّه عليه السلام أنّه سأله رجل عن قول رسول اللّه صلى الله عليه و آله : «ما أظلّت الخضراء ولا أقلّت الغبراء(1) على ذي لهجةٍ(2) أصدق من أبي ذرّ» وقال: فأين رسول اللّه وأمير المؤمنين؟ وأين الحسن والحسين؟ قال عليه السلام : «إنّا أهلُ بيتٍ لا يُقاس بنا أحد».(3)

(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) . اقتباس من سورة الشورى،(4) والكاف للتشبيه.

و«مثل» مُقحمٌ للمبالغة وكونه كدعوى شيء ببرهانه كقولك: مثلك لا يبخل، أي أنت لا تبخل لأنّك على صفةِ كذا، وكلّ من كان على صفةِ كذا لا يبخل، فهو كدعوى له ببرهان. ومثل الشيء ما كان متّفقا معه في كلّ واحدةٍ من صفاته بأن يكون علمه _ مثلاً _ على قدر علمه لا ينقص عنه، وكذا قدرته ونحوهما.

والمراد بشبيه مثله تعالى شيء يصلح لأن يكون زوجا له بأن يكون كلّ منهما جسمانيّا، أو يكون كلّ منهما مجرّدا، بقرينة قوله فيما قبل: «جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجا .

ص: 83


1- الخضراء: كناية عن السماء . والغبراء. كناية عن الأرض . وأقلّت، أي حملت ورفعت .
2- في حاشية «أ» : «اللهجة، ويحرّك : اللسان» . الصحاح ، ج 1 ، ص 339 (لهج) .
3- معاني الأخبار ، ص 178 ، باب معنى قول النبي صلى الله عليه و آله ما أظلّت الخضراء و . . . ، ح 2 .
4- الشورى (42) : 11 .

وَمِنْ الاْءَنْعَامِ أَزْوَاجا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ».(1)

والبطلة يقولون: معنى الآية كما أنّه ليس مثله موجودا ليس شيء غيره موجودا، فيعطون «ليس» حكمَ «كان» التامّةِ، أو يقدّرون الخبر، واللام في «السميع البصير» تفيد الحصر، وهو تقوية للنفي ببيان أنّ السمع والبصر _ اللذين هما أظهر الحواسّ والكمالات وطرق العلم _ ليسا خالصين في غيره تعالى، فإنّهما فيه مشوبان بالصمم والعمى.

بيانه: أنّه ليس كلّ صوت مسموعا للإنسان _ مثلاً _ بل يحتاج سماعه إلى شروط مشهورة، وهو فيما تحقيق الشروط إنّما يسمعه بعد حدوثه بزمان قليل أو كثير بحسب قرب المسافة وبُعدها، فيظنّ أنّه حادث حين سمعه، وأنّه ليس كلّ جسم مرئيّا للإنسان، بل يحتاج رؤيته إلى شروط مشهورة، وهو فيما تحقّق الشروط إنّما يراه على قدر زاوية الجليديّة،(2) وهي مختلفة بحسب قُرب المسافة وبُعدها مع اتّحاد المرئيّ، فيظنّه على قدر ليس عليه كما في رؤيته الكواكب ونحوها، وكذا يختلف الظنّ بلون المرئيّ كثيرا بحسب اختلاف الليل والنهار والأوضاع كما هو المجرّب.

الخامس: (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَطِيَّةَ) ؛ بفتح العين المهملة وكسر الطاء المهملة وتشديد الخاتمة.

(عَنْ خَيْثَمَةَ) ؛ بفتح المعجمة وسكون الخاتمة وفتح المثلّثة.

(عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ، قَالَ: إِنَّ اللّه َ خِلْوٌ مِنْ خَلْقِهِ، وَخَلْقَهُ خِلْوٌ مِنْهُ، وَكُلُّ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ «شَيْءٍ» مَا خَلاَ اللّه َ تَعَالى، فَهُوَ مَخْلُوقٌ، وَاللّه ُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) . مضى معناه آنفا.

السادس: (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَمْرٍو الْفُقَيْمِيِّ، عَنْ هِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : أَنَّهُ قَالَ لِلزِّنْدِيقِ حِينَ سَأَلَهُ) أي قال له سائلاً: (مَا هُوَ؟). الضمير للّه تعالى. .

ص: 84


1- الشورى (42) : 11 .
2- الجليدية هي رطوبة صافية كالبَرَد . والجليد مستديرة في العين ، بها يتحقّق البصر . قانون لابن سينا ، ج 2 ، ص 108 ، فصل في تشريح العين .

(قَالَ) تكرار للأوّل.

(هُوَ شَيْءٌ بِخِلاَفِ الاْءَشْيَاءِ، ارْجِعْ بِقَوْلِي إِلى إِثْبَاتِ مَعْنىً، وَأَنَّهُ شَيْءٌ بِحَقِيقَةِ الشَّيْئِيَّةِ ، غَيْرَ أَنَّهُ لاَ جِسْمٌ وَلاَ صُورَةٌ، وَلاَ يُحَسُّ وَلاَ يُجَسُّ، وَلاَ يُدْرَكُ بِالْحَوَاسِّ الْخَمْسِ، لاَ تُدْرِكُهُ الاْءَوْهَامُ، وَلاَ تَنْقُصُهُ الدُّهُورُ، وَلاَ تُغَيِّرُهُ الاْءَزْمَانُ) .

مضى مع شرحه في خامس الأوّل؛(1) كرّره في هذا الباب؛ لأنّ قوله: «شيء» لإبطال التعطيل، وقوله: «بخلاف الأشياء» لإبطال التشبيه، وليظهر أنّ هذا مع ما مضى فيه رواية واحدة، وللرواية تتمّة اُخرى يجيء في أوّل أوّل كتاب الحجّة.(2)

(فَقَالَ لَهُ السَّائِلُ). مقصوده الاعتراض على قوله: «لا جسم ولا صورة».

(فَتَقُولُ)؛ بتقدير الاستفهام، وبالخطاب.

(إِنَّهُ سَمِيعٌ بَصِيرٌ؟ قَالَ: هُوَ سَمِيعٌ، بَصِيرٌ؛ سَمِيعٌ) أي لكن هو سميع (بِغَيْرِ جَارِحَةٍ، وَبَصِيرٌ بِغَيْرِ آلَةٍ) . المقصود أنّه سميع لا بجارحة، وبصير لا بآلة، وإنّما لم يجبه هكذا، مع أنّ فيه التصريحَ الذي لا يحتاج إلى التفسير الآتي، لأنّه ليس فيه تصريح ببطلان أن يكونا ببعضه الذي ليس بجارحة ولا آلة، أو بصفة موجودة في الخارج في نفسها، ويحتمل أن يكون وجهه أن يبيّن له تفسير ما يُقال أيضا في هذا المقام كثيرا، ولا تصريح فيه.

(بَلْ يَسْمَعُ بِنَفْسِهِ، وَيُبْصِرُ بِنَفْسِهِ، لَيْسَ قَوْلِي: إِنَّهُ سَمِيعٌ يَسْمَعُ بِنَفْسِهِ، وَبَصِيرٌ يُبْصِرُ) أي وبصير يبصر (بِنَفْسِهِ أَنَّهُ شَيْءٌ، وَالنَّفْسُ شَيْءٌ آخَرُ) أي مغايرٌ له حقيقةً لظاهر الباء، فإنّه يقتضي المغايرة بين الفاعل وما دخلت عليه.

(وَلكِنْ أَرَدْتُ عِبَارَةً) أي تعبيرا (عَنْ نَفْسِي) أي عمّا في نفسي بلفظ مع ضيق الألفاظ المستعملة لا في مجاز فيه.

(إِذْ كُنْتُ مَسْؤُولاً، وَإِفْهَاما) ؛ عطف على «عبارةً».

(لَكَ؛ إِذْ كُنْتَ سَائِلاً، فَأَقُولُ) أي فاُعبّر عمّا في نفسي بتعبير آخر حتّى ينضمّ إلى .

ص: 85


1- أي الحديث 5 من باب حدوث العالم .
2- أي الحديث 1 من باب الاضطرار إلى الحجّة .

التعبير الأوّل ويتّضح المراد.

(إِنَّهُ سَمِيعٌ بِكُلِّهِ) . لمّا كان لفظة «بكلّه» أبعد من احتمال أن يكون المراد منه ببعضه من لفظة «بنفسه» ضمّ ذلك.

(لاَ أَنَّ) . احتاط مرّةً اُخرى لئلاّ يتوهّم أنّ المراد بالكلّ ما هو مركّب من الأجزاء.

(الْكُلَّ مِنْهُ) ؛ اسم «أنّ»، و«من» بمعنى «في»، والضمير للّه .

(لَهُ بَعْضٌ ) . الضمير للكلّ، والجملة خبر «أنّ».

(وَلكِنِّي أَرَدْتُ إِفْهَامَكَ، وَالتَّعْبِيرُ عَنْ نَفْسِي، وَلَيْسَ مَرْجِعِي) ؛ بكسر الجيم مصدر ميمي، أي قصدي (فِي ذلِكَ) أي في التعبير عمّا في نفسي.

(إِلاَّ إِلى أَنَّهُ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، الْعَالِمُ الْخَبِيرُ ). ضمّ هذين على سبيل المثال والإشارة إلى أنّ ما قلنا في السمع والبصر جارٍ في جميع صفات ذاته.

(بِلاَ اخْتِلاَفِ الذَّاتِ) أي بدون أن يكون فيه جزء دون جزء.

(وَلاَ اخْتِلاَفِ الْمَعْنى) أي بدون أن يكون فيه موجود في نفسه في الخارج، دون موجود آخر في نفسه في الخارج، سواء كانا ذاتا وصفةً، أم غيرهما.

ويتحصّل من الكلام أنّ الباء للآلة المجازيّة تشبيها له تعالى بالآلة، ويكفي فيه التغاير الاعتباري.

(قَالَ لَهُ السَّائِلُ: فَمَا هُوَ؟) ليس مقصود السائل _ بإعادة هذا السؤال بعد ما ذكره سابقا وسمع الجواب بأنّه تعالى لا يعرف بكنهه _ السؤالَ عن كنهه تعالى، بل مقصوده السؤال عن أقرب أسمائه إلى كنهه، أي أسمائه المختصّة به تعالى، سواء كان فيها عَلَم شخصي _ كما هو المشهور بين المخالفين لنا في لفظة اللّه (1) _ أم لم يكن كما هو الحقّ.

(قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : هُوَ الرَّبُّ، وَهُوَ الْمَعْبُودُ) أي المستحقّ للعبادة (وَهُوَ اللّه ُ) .

حاصل الجواب: أنّ من أقرب أسمائه ثلاثة، وهي نعوتٌ مختصّة به تعالى، واُمور اعتباريّة ليست بمعانٍ؛ بناءً على أنّ ثبوت نعت لشيء لا يستلزم ثبوت المثبَت في نفسه .

ص: 86


1- المواقف ، ج 3 ، ص 305 ؛ تفسير الرازي ، ج 12 ، ص 156 ؛ وج 21 ، ص 219 ؛ وج 32 ، ص 56 .

في الخارج، ومن تلك النعوت الربّ، بمعنى مالك كلّ شيء، وحاكم كلّ نزاع، ويكفي في أن يكون هو المعبودَ لا غيره، ومن تلك النعوت اللّه ، ولفظة «اللّه » أصلها إلآه على فعال بمعنى فاعل، أي مستحقّ للعبادة، ولام التعريف للعهد، ومفادها: الذي هو خالق الأجسام وصانعها.

(وَلَيْسَ قَوْلِيَ: «اللّه ُ») أي قولي: «وهو اللّه » (إِثْبَاتَ هذِهِ الْحُرُوفِ). المراد بإثبات هذه الحروف الحكم بأنّها دالّة عليه تعالى بلا توسّط نعت له تعالى بأن يكون المركّب منها عَلَما شخصيّا له.

(أَلِفٍ وَلاَمٍ وَهاءٍ ) ؛ مجروراتٍ؛ لأنّها بدل تفصيل ل«هذه الحروف» وألف تشمل(1) الهمزة في أوّل لفظة اللّه ، واللّيّنةَ التي قبل آخره.

(وَلاَ رَاءٍ وَلاَ بَاءٍ) . الواو الاُولى للحال، والثانية للعطف، و«لا» في الموضعين لنفي الجنس، وذكر الجملة الحاليّة دفعا لتوهّم أنّ المراد بإثبات هذه الحروف الحكم بوجودها في أنفسها في الخارج، ونصّا على ما ذكرنا في المراد منه، فإنّ المخالفين لنا لم يذهبوا إلى كون لفظة «الربّ» علما شخصيّا له تعالى.

(وَلكِن أرْجِعُ(2)) ؛ بصيغة المتكلّم وحده من باب ضرب، أي أقصد بقولي: «هو اللّه ».

(إِلى مَعْنىً) أي إلى موجود في نفسه في الخارج.

(وَشَيْء خَالِقِ الاْءَشْيَاءِ وَصَانِعِهَا، وَنَعْتِ هذِهِ الْحُرُوفِ) ؛ قوله: «وشيء» _ بفتح المعجمة وسكون الخاتمة والهمز _ عطف على «معنى» ومضاف، والمراد ب«خالق الأشياء» لفظ خالق الأشياء، وكذا المراد ب«صانعها» بالجرّ، والمراد ب«شيء خالق الأشياء» المفهوم الذي وضع له لفظ خالق الأشياء باعتبار أنّ اللفظ المهمل ليس له شيء، وكذا المراد بشيء صانعها.

وقوله: «ونعت» بفتح النون وسكون المهملة والمثنّاة فوق مضافٌ ومجرور بالعطف على شيء عطفَ التفسير. .

ص: 87


1- في «ج»: «تشتمل».
2- في الكافي المطبوع : «ارْجِعْ» .

وقوله: «هذه الحروف» تركيب توصيفي وإشارة إلى حروف لفظة «اللّه » أو لفظ «خالق الأشياء» أو لفظ «صانعها». ومآل الكلّ واحد؛ فإنّ الأخيرين كالمرادف للام العهد في «اللّه » والاكتفاء بهما اقتصارٌ اعتمادا على ظهور المراد وإشارةً إلى مناط دفع شبهة المخالفين حيث قالوا: لو لم يكن لفظة «اللّه » علما شخصيّا، لما أفاد قولنا: لا إله إلاّ اللّه التوحيد، والمقصود أنّ المعنى خارج عمّا وضع له هذه الحروف؛ إنّما هو مدلول التزامي لها كما هو مشهور بين أهل العربيّة من أنّ الذات خارج عن مفهوم وُضع له المشتقّات.

(وَهُوَ) ؛ مبتدأ، أي ما سألت عن أقرب أسمائه بما هو.

(الْمَعْنى) ؛ خبر المبتدأ، واللام للحصر؛ أي دون نعت هذه الحروف.

(سُمِّيَ بِهِ) ؛ خبر آخر، ونائب الفاعل ضمير مستتر راجع إلى المبتدأ، والضمير المجرور راجع إلى «نعت هذه الحروف» أي وُسِمَ به، وجعل مدلولاً عليه به. ويمكن أن يكون «هو» ضمير الشأن، و«المعنى» مبتدأً و«سمّي به» خبره.

(اللّه ُ، وَالرَّحْمنُ ، وَالرَّحِيمُ، وَالْعَزِيزُ ، وَأَشْبَاهُ ذلِكَ) ؛ مبتدأ ومعطوفات على المبتدأ.

(مِنْ أَسْمَائِهِ) ؛ خبر المبتدأ، والضمير للمعنى في قوله: «وهو المعنى».

والمقصود تأكيد أنّه لا فرق بين لفظة «اللّه » وبين سائر الأسماء في أنّه ليس علما شخصيّا.

(وَهُوَ الْمَعْبُودُ جَلَّ وَعَزَّ) . الضمير للمعنى، والمقصود أنّه لا يجوز عبادة اسم من أسمائه.

(قَالَ لَهُ السَّائِلُ: فَإِنَّا لَمْ نَجِدْ مَوْهُوما إِلاَّ مَخْلُوقا) . الفاء للتعقيب، و«إنّا» بكسر الهمزة وتشديد النون، والتقدير: «فأقول: إنّا».

و«لم نجد» بالجيم ومهملة من الوجدان بضمّ الواو وسكون الجيم.

والموهوم: ما تعلّق به الوهم، سواء كان بكنهه أم بوجهه، وسواء كان بالهذيّة أم بغيرها. مراده أنّ الوجدانيّات من أقسام الضروريّات، وكما نعلم بالوجدان حين تعلّق وهمنا بشيء أنّ لنا موهوما، نعلم بالوجدان أنّ ذلك الموهوم مخلوق، فيبطل قولكم في إثبات الصانع.

ص: 88

(قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : لَوْ كَانَ ذلِكَ كَمَا تَقُولُ، لَكَانَ التَّوْحِيدُ عَنَّا مُرْتَفِعا؛ لاِءَنَّا لَمْ نَكْلَفْ(1) غَيْرَ مَوْهُومٍ) . «ذلك» إشارة إلى الموهوم. و«كما تقول» عبارة عن المنحصر في معلوم المخلوقيّة بالوجدان، واللام في «التوحيد» للعهد الخارجي، وهو عبارة عن مضمون قوله عليه السلام : «هو الربّ، وهو المعبود، وهو اللّه » إلى آخره، أو عبارة عن مضمون جميع ما ذكر في جواب السائل في هذا الحديث.

والمرتفع بكسر الفاء: المسلوب والمنتفي.

و«لم نكلف» معلوم باب علم من الكَلف بالفتح، وهو ارتكاب العمل مع شغل قلب ومشقّة.(2) وفي كتاب التوحيد لابن بابويه: «لم نتكلّف».(3) ومآلهما واحد.

قال ابن الأثير في النهاية:

فيه: «اكْلفُوا من العمل ما تطيقون». يُقال: كَلِفت بهذا الأمر أكْلَف بهِ: إذا وَلِعْتَ به وأحببتهُ. وقال: وكلِفته: إذا تحمّلتُهُ، وقال: وتكلَّفت الشيء: إذا تجشّمته على مشقّة. وقال: والكَلْف: الولوع بالشيء مع شغل قلب ومشقّة.(4)

وحاصل الجواب: أنّه لو كان كلّ موهوم معلومَ المخلوقيّة بالوجدان، لكان ما صدر عنّا سابقا من التوحيد غيرَ صادر عنّا، لأنّه تعلّق وهمنا به، ولم نعلم(5) بالوجدان مخلوقيّته، والعلم بالوجدانيّات يجب أن يكون مشتركا بين جميع العقلاء، غير مختصّ ببعض دون بعض.

(وَلكِنَّا نَقُولُ: كُلُّ مَوْهُومٍ بِالْحَوَاسِّ مُدْرَكٍ بِهِ(6) تَحُدُّهُ الْحَوَاسُّ وَتُمَثِّلُهُ؛ فَهُوَ مَخْلُوقٌ) . استدراك عن إنكار كون كلّ موهوم مخلوقا.

والمراد بالحواسّ الخمس: السمع، والبصر، والشمّ، والذوق، واللمس. .

ص: 89


1- في الكافي المطبوع: «نُكَلَّفْ» للمجهول.
2- لسان العرب ، ج 9 ، ص 307 (كلف) .
3- التوحيد ، ص 246 ، باب الردّ على الثنويّة والزنادقة ، ح 1 . وفيه : «نكلف» بدل «نتكلف» .
4- النهاية ، ج 4 ، ص 197 (كلف) .
5- في «ج» : «تعلم» .
6- في الكافي المطبوع : «بها» .

و«مدرك به» اسم مفعول بالجرّ صفة موضحة ل_«موهوم بالحواسّ» والباء للآلة، وضمير «به» للوهم المذكور في ضمن موهوم.

و«تحدّه» بالحاء المهملة وشدّ الدال المهملة معلوم باب نصر، والجملة خبر المبتدأ، وتمثيل الحواسّ إيّاه أن يعلم بالحواسّ أنّ له شكلاً خاصّا.

والفاء للتفريع.

(إِذْ كَانَ النَّفْيُ هُوَ الاْءِبْطَالَ وَالْعَدَمَ ، وَالْجِهَةُ الثَّانِيَةُ: التَّشْبِيهُ؛ إِذْ كَانَ التَّشْبِيهُ هُوَ صِفَةَ الْمَخْلُوقِ الظَّاهِرِ التَّرْكِيبِ وَالتَّأْلِيفِ) .

الظاهر أنّه سقط من قلم الناسخين هنا شيء، وفي كتاب التوحيد لابن بابويه وفي كتاب الاحتجاج للطبرسي هكذا: «وَلاَبُدَّ مِنْ إِثْبَاتِ صَانِعٍ للاْءَشْيَاءِ خَارِج مِنَ الْجِهَتَيْنِ الْمَذْمُومَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا: النَّفْيُ؛ إِذْ كَانَ النَّفْيُ هُوَ الاْءِبْطَالَ» إلى آخره،(1) ف_«إذ» في الموضعين لتعليل «مذمومتين»، «هو» في الموضعين ضمير الفصل؛ يجوز نصب «الإبطال» عند من يلغي ضمير الفصل، ورفعه على أنّه خبر «هو»(2) عند من لا يلغي.

و«العدم» بالضمّ وبضمّتين، وبفتحتين مصدر عدمه كعلم: إذا فقده.

و«الجهة» مثلّثة الجيم: الطرف. ومضى إخراجه تعالى من حدّي التعطيل والتشبيه في ثاني الباب.

«صفة» مصدر وصفه: إذا أخبر عنه، ويجوز نصبه ورفعه كما مرّ.

«المخلوق» مضاف إليه والإضافة إلى المفعول.

«الظاهر» بالجرّ صفة «المخلوق» أي الواضح التركيب بالجرّ على أنّه مضاف إليه لفظا وفاعل معنى.

و«التأليف» بالجرّ على العطف، أو بالنصب على أنّ الواو بمعنى «مع». والمراد المخلوق الذي ظاهر أنّه ركبه وألفه غيره. .

ص: 90


1- التوحيد ، ص 246 ، باب الردّ على الثنويّة والزنادقة ، ح 1 . وفيه : «الأشياء» بدل «للأشياء» ؛ الاحتجاج ، ج 2 ، ص 70 ، وفيه : «الأشياء خارجا» بدل «للأشياء خارج» .
2- في «أ» : «وهو» .

وهنا أربعة احتمالات:

الأوّل: أن يكون المراد بالتركيب جمع أجزائه بعضها مع بعض إلى أن يبلغ مقدارا خاصّا مع احتمال الزيادة والنقصان، كما يجيء توضيحه في سادس «باب النهي عن الجسم والصورة» عند قوله: «الجسم محدود متناه» إلى آخره.

والمراد بالتأليف النضد، أي جمع كلّه مع الأجسام الاُخرى على نسبة خاصّة بتخصيص كلّ جسم بمكان خاصّ، كما مضى توضيحه في الدليل الثالث من أوّل الباب.

الثاني: أن يراد عكس ذلك.

الثالث: أن يُراد بكلّ منهما جمع الأجزاء.

الرابع: أن يُراد بكلّ منهما جمع كلّه مع الأجسام.

(فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ إِثْبَاتِ الصَّانِعِ) . لمّا استدلّ على كون الصانع على تقدير وجوده خارجا من الجهتين، وكان دليل إبطال جهة التشبيه دليلاً على إثبات الصانع أيضا، فرّعه عليه.

(لِوُجُودِ الْمَصْنُوعِينَ) . الوجود مصدر «وجده» كوعده؛ أي أدركه، والإضافة إلى المفعول، أي لأنّا نجد المصنوعين وهم العقلاء من الأجسام والجسمانيّات الظاهرة التركيب والتأليف، أو المراد أعمّ، وغَلَّب العقلاء على غيرهم.

(وَالاِضْطِرَارِ) ؛ بالجرّ معطوف على «وجود» أي اضطرارنا.

(إِلَيْهِمْ) أي إلى المصنوعين.

(أَنَّهُمْ مَصْنُوعُونَ) ؛بفتح الهمزة بدل اشتمال عن الضمير في «إليهم» أي ولاضطرارنا إلى أنّهم مصنوعون، ومعناه: لعلمنا البتّة بكونهم مصنوعين، وحينئذٍ لا ينافي كون العلم نظريّا، إذ هو واضح الدليل، فكأنّ الدليل لوضوحه جَبَرَ على العلم، وقد اُشير إلى وضوح الدليل في قوله: «الظاهر التركيب». ويحتمل أن يكون معناه: لعلمنا الضروري بكونهم مصنوعين.

(وَأَنَّ صَانِعَهُمْ غَيْرُهُمْ) ؛ بفتح الهمزة والتشديد معطوف على «أنّهم» أو على «وجود».

(وَلَيْسَ مِثْلَهُمْ) . معطوف على «غيرهم» عطفَ تفسير؛ أي ليس محدودا ممثّلاً.

(إِذْ كَانَ مِثْلُهُمْ) . دليلٌ على قوله: «وليس مثلهم» أو على قوله: «وأنّ صانعهم» إلى آخره.

ص: 91

(شَبِيها بِهِمْ) أي شريكا لهم (فِي ظَاهِرِ التَّرْكِيبِ وَالتَّأْلِيفِ) .

مضى معناه آنفا، وهو من إضافة الصفة إلى الموصوف، أو قوله: «ظاهر» منّون، وقوله: «التركيب» بدل، أو عطف بيان على ما جوّزه الزمخشري في قوله تعالى: «فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ»(1)في «ج» : - «لا صانع» .(2)، مع كون الأوّل نكرة، والثاني معرفة.(3)

حاصل الدليل أنّ صانع الجسم لا من مادّة سبقت لا يمكن أن يكون جسما؛ لأنّه لا يجيء الأشياء للجسم إلاّ بالمباشرة والمعالجة، ولا صانع(3) لا من مادّة سبقت يجب أن لا يكون فيه نقص من وجه، فيجب أن يكون نافذ الإرادة، كما يجيء في آخر الحديث. ولو كان حاصل الدليل أنّه لو كان صانعه جسما لزم التسلسل، لم يتمّ الدليل إلاّ بإثبات أنّ الممكن يحتاج في البقاء إلى فاعله، أو امتناع التسلسل في المتعاقبة أيضا.

(وَفِيمَا يَجْرِي) . عطفٌ على «في ظاهر التركيب»، وهو بفتح ياء المضارعة من الجريان، والضمير المستتر ل«ما» ويجوز ضمّها من الإجراء والضمير المستتر لظاهر، والعائد المنصوب محذوف.

(عَلَيْهِمْ) أي بدون اختيارهم (مِنْ حُدُوثِهِمْ). بيانٌ لما.

(بَعْدَ إِذْ) أي بعد وقت، فهو تصريح بالحدوث الزماني لدفع توهّم كفاية الحدوث الدهري، المساوق للحدوث الذاتي، المساوق للإمكان الذاتي.

(لَمْ يَكُونُوا ) أي أصلاً، لا بصورتهم ولا بمادّتهم؛ لأنّ الدليل السابق جارٍ في كلّ واحدٍ من الجسمانيّات.

(وَتَنَقُّلِهِمْ) ؛ بالمثنّاة فوق وفتح النون وضمّ القاف المشدّدة، معطوف على «حدوثهم» أي وقابليّتهم للانتقال وإن لم ينتقلوا، أو جعل الجائز المقدور لصانعهم عليهم كالواقع، كقولك: الحمد للّه الذي صغّر جسم البعوض، وكبّر جسم الفيل، أو فيه تغليب الإنسان في مبتدأ فطرته إلى كماله على غيره. .

ص: 92


1- آل عمران
2- : 97 .
3- الكشّاف ، ج 1 ، ص 447 .

(مِن صِغَرٍ إِلى كِبَرٍ، وَسَوَادٍ إِلى بَيَاضٍ، وَقُوَّةٍ إِلى ضَعْفٍ، وَأَحْوَالٍ) . يجوز عطفها على «صغر» وعلى «كبر». والمآل واحد.

(مَوْجُودَةٍ) ؛ من الوجود المقابل للفقد؛ أي غير مجهولة لأحد.

(لاَ حَاجَةَ بِنَا إِلى تَفْسِيرِهَا؛ لِبَيَانِهَا) أي لظهورها.

(وَوُجُودِهَا) ؛ ضدّ الفقد، أي وعلم كلّ أحد بها، وهنا مقدّمة مطويّة؛ أي وهذا محال في خالق الأجسام لا من شيء؛ لأنّه نقص.

(قَالَ السَّائِلُ: فَقَدْ حَدَدْتَهُ إِذْ أَثْبَتَّ وُجُودَهُ). الحدّ بالفتح مصدر باب نصر: التمييز والإحاطة.

وهذا مناقشة في قوله عليه السلام : «فلم يكن بدّ من إثبات الصانع» بأنّه يتضمّن إثبات وجود له منضمّ إليه انضمام البياض إلى الجسم، فيتضمّن تمييزك إيّاه عن عارضه، أو إحاطة ذهنك به.

(قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : لَمْ أَحُدَّهُ) . لم يقل: «لم اُثبت وجوده» لأنّ إثبات مفهوم كما يُطلق على الحكم بكونه موجودا في نفسه في الخارج وهو المتبادر لغةً، يُطلق على الحكم بكونه قائما بشيء في الخارج، وهو عليه السلام قد أثبت وجوده بهذا المعنى، لكنّه لا يستلزم المحدوديّة؛ لأنّ قيام الاُمور الاعتباريّة بذاته تعالى لا يستلزم أن يكون تعالى محدودا، إذ ليس وجودها في الخارج وجودَها في أنفسها، بل وجودَها الرابطي فقط، والمحدوديّة إنّما يلزم إثبات الصفة بمعنى الحكم بوجود الصفة في نفسها في الخارج، لأنّها لا تكون إلاّ للجسمانيّات.

(وَلكِنِّي أَثْبَتُّهُ) ؛ بتشديد التاء بصيغة الماضي، فيه بيان الفرق بين إثبات ذاته وإثبات صفته بالمعنى المبتادر لغةً من الإثبات، وفيه إشارة إلى أنّه عليه السلام لم يثبت وجوده بهذا المعنى.

(إِذْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ النَّفْيِ وَالاْءِثْبَاتِ مَنْزِلَةٌ) . استدلالٌ على أنّه تعالى شيء بحقيقة الشيئيّة بأنّه لولاه لكان معدوما بحقيقة العدم؛ إذ ليس بين المنزلتين منزلة، والنزاع بين القائلين بالحال وغيرهم لفظي؛ لتخصيصهم «الموجود» و«المعدوم» بالذات اصطلاحا، دون غيرهم.

(قَالَ(1) السَّائِلُ: فَلَهُ) . الفاء للتفريع والاستفهام مقدّر. .

ص: 93


1- في الكافي المطبوع : + «له» .

(إِنِّ_يَّةٌ) ؛ بكسر الهمز والنون المشدّدة المكسورة والياء المشدّدة، منسوبٌ إلى «إنّ» للتحقيق مع الهاء المصدريّة، أي كونٌ.

(وَمَائِيَّةٌ؟). منسوبٌ إلى «ما» الاستفهام مع زيادة همزة بعد ألفها، والهاء المصدريّة بعد الياء المشدّدة، وقد يُقال لها: ماهيّة أيضا؛ أي أفله كون وذات متغايران؟ بأن لا يحمل أحدهما على الآخر مواطأةً حقيقة.

(قَالَ: نَعَمْ، لاَ يَثْبُتُ(1)) ؛ بصيغة المعلوم من باب نصر، أو المجهول من باب الإفعال من الإثبات الذي ليس بينه وبين النفي منزلة، والجملة استئناف للاستدلال على قوله: «نعم».

(الشَّيْءُ) سواء كان واجبا بالذات، أم ممكنا.

(إِلاَّ بِإِنِّ_يَّةٍ وَمَائِيَّةٍ) . أي متغايرين حقيقةً وإن كانا متّحدين مجازا، وهو المراد للمحقّقين من القائلين بعينيّة صفات ذاته تعالى له.(2)

(قَالَ(3) السَّائِلُ: فَلَهُ كَيْفِيَّةٌ؟). الفاء للتفريع على أن يكون له إنّيّة ومائيّة متغايرتان، ومضمونه خبر. والمراد بالكيفيّة الخصوصيّة التي يمتاز بها الشيء عن غيره، وهي على قسمين:

الأوّل: ما يمتاز به الشيء في نفسه، وباعتبار ذاته عن غيره من الذوات.

الثاني: ما يمتاز به الشيء في عارضه الموجود في الخارج عمّا ليس له هذا العارض.

(قَالَ عليه السلام : لاَ؛ لاِءَنَّ الْكَيْفِيَّةَ جِهَةُ الصِّفَةِ وَالاْءِحَاطَةِ) .

«لا» هنا لنفي ما بعدها؛ كما في قولك: أكرمت زيدا لا لأنّه فاضل، ولكن لخوفي منه.

و«الجهة» مثلّثة الجيم: الطريق. والمقصود نفي القسم الثاني من الكيفيّة، بناءً على أنّه لا يمكن أن يتحقّق إلاّ فيما يمكن صفته؛ أي بيان حقيقته باسم جامد. والإحاطة به أي إدراك الوهم إيّاه كالجسم.

(وَلكِنْ لاَبُدَّ مِنَ الْخُرُوجِ مِنْ جِهَةِ التَّعْطِيلِ وَالتَّشْبِيهِ) . استدراكٌ عن نفي القسم الثاني .

ص: 94


1- في الكافي المطبوع : «يُثْبَتُ» المجهول من باب الإفعال .
2- اُنظر نهج الحقّ وكشف الصدق ، ص 64 ، صفاته عين ذاته ؛ ومعارج الفهم ، ص 389 .
3- في الكافي المطبوع : + «له» .

من الكيفيّة لإثبات القسم الأوّل منها، وتقدير الكلام: ولكن لأنّه لابدّ.

والمقصود أنّه لو لم يكن له القسم الأوّل من الكيفيّة، لزم النفي والتعطيل، فقوله: «والتشبيه» إمّا بالجرّ عطف على «التعطيل» وإمّا بالنصب، والواو بمعنى «مع».

(لاِءَنَّ) . استدلالٌ على وجوب الخروج من الجهتين.

(مَنْ نَفَاهُ) أي من نفى أن يكون له كيفيّة بالمعنى الأوّل.

(فَقَدْ أَنْكَرَهُ وَدَفَعَ رُبُوبِيَّتَهُ وَأَبْطَلَهُ) . إنكاره جحد كونه مستحقّا للعبادة، وهو لازم لدفع الربوبيّة؛ أي دفع كونه مالكا لكلّ شيء، وهو لازم للإبطال؛ لأنّ المعدوم حقيقةً لا يكون ربّا، فلا يكون إلها.

(وَمَنْ شَبَّهَهُ بِغَيْرِهِ) ؛ بالقول بأنّ له كيفيّةً بالمعنى الثاني.

(فَقَدْ أَثْبَتَهُ بِصِفَةِ الْمَخْلُوقِينَ الْمَصْنُوعِينَ) ؛ هي أن يكون جسما محدودا ممثّلاً.

(الَّذِينَ لاَ يَسْتَحِقُّونَ الرُّبُوبِيَّةَ) ؛ لأنّهم لا يملكون لأنفسهم دفع ضرر ولا جلب نفع دون مالكهم.

(وَلكِنْ) . هذا الكلام تكرار وبدل لقوله: «ولكن لابدّ من الخروج» إلى آخره، للتصريح على المراد.

(لاَ بُدَّ مِنْ إِثْبَاتِ أَنَّ لَهُ كَيْفِيَّةً) أي القسم الأوّل منها.

(لاَ يَسْتَحِقُّهَا غَيْرُهُ) أي لا تتحقّق بتمامها في غيره.

(وَلاَ يُشَارَكُ فِيهَا) ؛ بفتح الراء إمّا بأن يكون فيه ضمير مستتر راجع إلى اللّه ، وإمّا بأن يكون الظرف قائما مقام الفاعل؛ أي ولا تتحقّق(1) ببعضها في غيره.

(وَلاَ يُحَاطُ بِهَا) . الظرف قائم مقام الفاعل؛ أي لا يحيط شيء بها إحاطةَ الجسم بجسم آخر، أو المكان بالمتمكّن، أو نحو ذلك.

(وَلاَ يَعْلَمُهَا غَيْرُهُ) أي ولا يدرِك كنهها لا بالضرورة، ولا بالنظر.

(قَالَ السَّائِلُ: فَيُعَانِي الاْءَشْيَاءَ بِنَفْسِهِ ؟). الفاء للتفريع على ما ذكره عليه السلام في قوله: «لوجود .

ص: 95


1- في «ج» : «يتحقّق» .

المصنوعين» إلى آخره، والاستفهام مقدّر. والمعاناة: تحمّل التعب في فعل.

(قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : هُوَ أَجَلُّ) ؛ يعني أنّ المعاناة نقص لا يمكن أن تتحقّق في صانع الجسم بلا مادّة سبقت، فمصنوعاته صادرةٌ عنه بلا معاناة.

(مِنْ أَنْ يُعَانِيَ الاْءَشْيَاءَ) أي من أن لا يكون فعله بمحض الإرادة والمشيئة بل (بِمُبَاشَرَةٍ وَمُعَالَجَةٍ) ؛ إذ المباشرة فعل البدن، وكذا المعالجة.

وفيه دلالة على أنّ المعاناة لا يمكن إلاّ في البدن.

(لاِءَنَّ ذلِكَ صِفَةُ الْمَخْلُوقِ) أي لأنّه صفة الأجسام المخلوقة، أي المدبّرة المحدودة في «أين» و«كم»، أو لأنّه نقص لا يكون في الخالق الذي قد دلّ الدليل على أنّه بريء من كلّ نقص.

(الَّذِي لاَ تَجِيءُ) أي(1) لا يأتي طائعا كما في قوله تعالى في سورة فصّلت: «فَقَالَ لَهَا وَلِلاْءَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعا أَوْ كَرْها قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ»(2).

(الاْءَشْيَاءُ لَهُ) أي إذا أرادها.

(إِلاَّ بِالْمُبَاشَرَةِ وَالْمُعَالَجَةِ، وَهُوَ) أي صانع الجسم بلا مادّة سبقت (مُتَعَالٍ) أي عن كلّ نقص (نَافِذُ الاْءِرَادَةِ وَالْمَشِيئَةِ) .

ذكر «المشيئة» بعد «الإرادة» هنا للترقّي؛ لأنّ المشيئة قبل الإرادة، كما يجيء في باب البداء.

(فَعَّالٌ لِمَا يَشَاءُ) .

السابع: (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى، عَمَّنْ ذَكَرَهُ، قَالَ: سُئِلَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام : أَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللّه َ تعالى شَيْءٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، يُخْرِجُهُ مِنَ الْحَدَّيْنِ: حَدِّ التَّعْطِيلِ، وَحَدِّ التَّشْبِيهِ) .

مضى شرحه في ثاني الباب. .

ص: 96


1- في «ج» : «أو» .
2- فصّلت (41) : 11 .

الباب الثالث: باب أنّه تعالى لا يعرف إلاّ به

اشارة

الباب الثالث بَابُ أَنَّهُ تعالى لاَ يُعْرَفُ إِلاَّ بِهِ

فيه ثلاثة أحاديث، وشرح من المصنّف.

و«يعرف» بصيغة المجهول من باب ضرب، وفيه ضمير راجع إلى اللّه تعالى. والباءللسببيّة، والاستثناء مفرّغ، أي لا يعرف ربوبيّته إلاّ بإلهامه تعالى كلَّ من بلغ حدّ التمييز ورأى السماء والأرض وسائر ما خَلَق اللّه من شيء ربوبيَّته، كما في قوله تعالى في سورة والشمس: «فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا»(1)، وقوله في سورة الأعراف: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا».(2)

وفي كلّ شيء له شاهد يدلّ على أنّه واحد(3)

الأوّل: (عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَمَّنْ ذَكَرَهُ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حُمْرَانَ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ السَّكَنِ) ، بفتح المهملة، وفتح الكاف.

ص: 97


1- الشمس (91) : 8 .
2- الأعراف (7) : 172 . 3 . هذا البيت محكي عن الشاعر أبي إسحاق إسماعيل بن القاسم الملقّب بأبي العتاهية المولود سنة 130ق بعين التمر. اُنظر تاج العروس ، ج 19 ، ص 62 ؛ أعيان الشيعة ، ج 3 ، ص 397 عن ديوانه ص 122 المطبوع في بيروت . وحكاه عن الشاعر عليّ بن إبراهيم القمّي في تفسيره ، ج 2 ، ص 267 ، والطبرسي في جوامع الجامع ، ج 3 ، ص 429 ؛ ومجمع البيان ، ج 9 ، ص 260 ؛ وج 10 ، ص 316 ، وابن المنير الإسكندري في كتاب الإنصاف فيما تضمنه الكشّاف ، ج 2 ، ص 526 .

(عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : قَالَ: قَالَ أَمِيرُ الْمُوءْمِنِينَ عليه السلام : اعْرِفُوا اللّه َ بِاللّه ِ) . صورته أمر، ومعناه النهي عن الوسواس في تحصيل معرفة اللّه بتتبّع ما قاله الفلاسفة وأتباعهم من الدور والتسلسل ونحو ذلك.(1)

ويمكن أن يحمل عليه قوله تعالى في سورة الشورى: «وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِى اللّه ِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ»(2).

(وَالرَّسُولَ بِالرِّسَالَةِ) أي بأنّ ربوبيّته تعالى يستلزم أن يرسل رسولاً إلى من لم يوحَ إليه، كما يجيء في «كتاب الحجّة» في ثاني الأوّل(3) من قوله: «إنّ من عرف أنّ له ربّا فقد ينبغي(4) له أن يعرف أنّ لذلك الربّ رضا وسخطا، وأنّه لا يعرف رضاه وسخطه إلاّ بوحيٍ أو رسولٍ، فمن لم يأته الوحي فقد ينبغي له أن يطلب الرسل، فإذا لقيهم عرف أنّهم الحجّة، وأنّ لهم الطاعةَ المفترضة».

(وَأُولِي الاْءَمْرِ بِالاْءَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالْعَدْلِ وَالاْءِحْسَانِ) أي بأنّ ربوبيّته تعالى يستلزم أن ينصب بعد الرسل وقبل مجيء شريعة جديدة حجّةً للأمر بالمعروف والعدل والإحسان؛ لئلاّ يكون للناس على اللّه حجّة بعد الرسل، فيجب على الناس بعد الرسول طلب ذلك الحجّة، فإذا رأوه عرفوه، كما يجيء في «كتاب الحجّة» في ثاني الأوّل أيضا بعد ما سبق من قوله: «وقلت للناس: أليس تزعمون أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله كان هو الحجّة من اللّه على خلقه؟ قالوا: بلى، قلت: فحين مضى رسول اللّه صلى الله عليه و آله (5) مَن كان الحجّةَ على خلقه؟ فقالوا: القرآن، فنظرت في القرآن، فإذا هو يخاصم به المرجئ(6) والقدري والزنديق .

ص: 98


1- حكاه الإيجي في المواقف ، ج 3 ، ص 73 ؛ وحكاه الرازي في المحصّل ، ص 342 ؛ والمحقّق في المسلك في اُصول الدين ، ص 52 ؛ والعلاّمة في معارج الفهم ، ص 212 .
2- الشورى (42) : 16 .
3- أي الحديث 2 من باب الاضطرار إلى الحجّة .
4- في المصدر : «فينبغي» .
5- في «ج» : - «رسول اللّه » .
6- المرجئة : فرقة من فرق الإسلام يعتقدون أنه لا يضرّ مع الإيمان معصية ولا ينفع مع الكفر طاعة .

الذي لا يؤمن به حتّى يغلب الرِّجال بخصومته، فعرفت أنّ القرآن لا يكون حجّة إلاّ بقيّم، فما قال فيه من شيء كان حقّا، فقلت لهم: مَن قيّم القرآن؟ فقالوا: ابن مسعود قد كان يعلم، وعمر يعلم، وحذيفة يعلم، قلت: كلَّه؟ قالوا: لا، فلم أجد أحدا يُقال: إنّه يعرف ذلك كلّه إلاّ عليّا صلوات اللّه عليه، وإذ كان الشيء بين القوم فقال هذا: لا أدري، وقال هذا: لا أدري، وقال هذا: لا أدري وقال هذا: أنا أدري، فأشهد أنّ عليّا عليه السلام كان قيّم القرآن، وكانت طاعته مفترضة، وكان الحجّةَ على الناس بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وأنّ ما قال في القرآن فهو حقّ».(1)

الشرح:

(وَ مَعْنى قَوْلِهِ عليه السلام : «اعْرِفُوا اللّه َ بِاللّه ِ»). هذا عنوان ما بعده، بقرينة ذكر «يعني» فيما بعده، وظاهر ذكر الواو في قوله: «ومعنى» أنّ المقصود بيان معنى آخر لمعرفة اللّه باللّه غيرِ ما يفهم منه، بقرينة ما بعده كما ذكرنا في شرحه.

وحاصله: أنّ المراد معرفة اللّه بتشبيهه بنفسه بمعنى نفي تشبيهه(2) بغيره، نظير قولهم: الجوهر ما قام بنفسه بمعنى أنّه لم يقم بغيره، وهذا المعنى هو الموافق لما يجيء في رابع الخامس عشر(3) من قوله: «من زعم أنّه يعرف اللّه بحجاب» إلى آخره.

(يَعْنِي أَنَّ اللّه َ خَلَقَ الاْءَشْخَاصَ) ؛ هي الأجسام العظيمة كالسماء ونحوها، يُقال: رجل شخيص، أي جسيم؛ أو المراد أفراد الإنسان.

(وَالاْءَنْوَارَ) ؛ هي الأجسام الظاهرة بنفسها، المظهرة لغيرها، كالشمس والقمر والكواكب والنار؛ أو المراد الحجج المعصومون.

(وَالْجَوَاهِرَ وَالاْءَعْيَانَ) . عبّر بهما عن روح الإنسان وسائر بدنه.

(فَالاْءَعْيَانُ: الاْءَبْدَانُ، وَالْجَوَاهِرُ: الاْءَرْوَاحُ) . نَشْرٌ على عكس ترتيب اللفّ، والنكتة

ص: 99


1- الحديث 2 من باب الاضطرار إلى الحجّة .
2- في «ج» : «تشبيه» .
3- أي الحديث 4 من باب حدوث الأسماء .

الإشارة إلى أنّ مجموعهما لردّ مذهب واحد من المشبّهة هو تشبيهه تعالى بنحو الشابّ الموفّق في سنّ أبناء ثلاثين، كما يجيء في ثالث العاشر.(1)

(وَهُوَ _ جَلَّ وَعَزَّ _ لاَ يُشْبِهُ جِسْما) أي بدنا (وَلاَ رُوحا).

وأمّا قوله: (وَلَيْسَ لاِءَحَدٍ فِي خَلْقِ الرُّوحِ الْحَسَّاسِ الدَّرَّاكِ أَمْرٌ وَلاَ سَبَبٌ، هُوَ الْمُنْفَرِدُ(2) بِخَلْقِ الاْءَرْوَاحِ وَالاْءَجْسَامِ) ، فإنّما ذكره لدفع توهّم أن يكون لشيء من العالم خالق آخر مجرّد، فيتوهّم أن يكون اللّه تعالى شبيها به.

والأمر: الخلق بمحض الإرادة، مأخوذ من قوله تعالى: «إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ».(3)

والسبب بفتحتين: الحبل وما يتوصّل به إلى غيره، والمراد به هنا الخلق بمباشرة ومعالجة.

(فَإِذَا نَفى) ؛ بصيغة الماضي المعلوم من باب ضرب، وفيه ضمير راجع إلى العارف المفهوم من «اعرفوا».

(عَنْهُ الشَّبَهَيْنِ: شَبَهَ الاْءَبْدَانِ، وَشَبَهَ الاْءَرْوَاحِ) . هذا على سبيل المثال، وفيه إشعار بأنّ نفي الشبهين هو العمدة.

(فَقَدْ عَرَفَ اللّه َ بِاللّه ِ) أي بتشبيهه بنفسه. ومضى معناه.

(وَإِذَا شَبَّهَهُ بِالرُّوحِ أَوِ الْبَدَنِ أَوِ النُّورِ) . لم يذكر الشبه بالأشخاص هنا أيضا للإشارة إلى ظهور بطلانه.

(فَلَمْ يَعْرِفِ اللّه َ بِاللّه ِ). قال ابن بابويه في كتابه في التوحيد في «باب أنّه عزّ وجلّ لا يعرف إلاّ به» بعد نقل هذا الشرح عن محمّد بن يعقوب، وبعد ذكر أحاديث لم يذكرها محمّد بن يعقوب في هذا الباب:

قال مصنّف هذا الكتاب رضى الله عنه : القول الصواب في هذا الباب هو أن يُقال: عرفنا اللّه باللّه لأنّا .

ص: 100


1- أي الحديث 3 من باب النهي عن الصفة بغير ما وصف به نفسه تعالى.
2- في الكافي المطبوع: «المتفرِّد».
3- يآس (36) : 82 .

إن عرفناه بعقولنا، فهو عزّ وجلّ واهِبُها، وإن عرفناه عزّ وجلّ بأنبيائه ورسله وحججه عليهم السلام ، فهو عزّ وجلّ باعثهم ومرسلهم ومتّخذهم حججا، وإن عرفناه بأنفسنا فهو عزّ وجلّ محدثها، فبه عرفناه.(1) وقد قال الصادق عليه السلام : «لولا اللّه ما عُرِفنا، ولولا نحن ما عُرِفَ اللّه ». ومعناه لولا الحجج ما عرف اللّه حقّ معرفته، ولولا اللّه ما عرف الحجج. انتهى.(2)

ثمّ قال ابن بابويه:

ولو استغنى في معرفة التوحيد بالنظر عن تعليم اللّه عزّ وجلّ وتعريفه، لما أنزل اللّه عزّ وجلّ ما أنزل من قوله: «فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَآ إِلَ_هَ إِلاَّ اللَّهُ»(3)، ومن قوله: «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ»(4)، إلى آخرها، ومن قوله: «بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالاْءَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ»إلى قوله: «وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ»(5)التوحيد ، ص 291 .(6)، وآخرِ الحشر وغيرِها من آيات التوحيد. انتهى.(6)

الثاني: (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عُقْبَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ سِمْعَانَ) ؛ بكسر المهملة وفتحها، وسكون الميم والمهملة وألف ونون.

(عَنْ أَبِي رُبَيْحَةَ) ؛ بضمّ المهملة، وفتح الموحّدة، وسكون الخاتمة ومهملة.

(مَوْلى رَسُولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله ) . الظاهر أنّ اسمه: رباح بفتح المهملة والموحّدة والألف ومهملة.

(قَالَ: سُئِلَ أَمِيرُ الْمُوءْمِنِينَ عليه السلام : بِمَ عَرَفْتَ رَبَّكَ؟ قَالَ: بِمَا عَرَّفَنِي نَفْسَهُ) . الباء أوّلاً وثانيا .

ص: 101


1- فى حاشية «أ» : « ويجيء في كتاب الحجّة في ثاني الثاني عشر أنّه قال أبو عبداللّه عليه السلام : الأوصياء هم أبواب اللّه عزّ وجلّ التي يؤتى منها ، ولولاهم ما عرف اللّه عزّ وجلّ ، وبهم احتجّ اللّه _ تبارك وتعالى _ على خلقه . انتهى» .
2- التوحيد، ص 290، باب أنّه عزّوجلّ لا يرعف إلاّ به، ذيل ح 10.
3- محمّد (47) : 19 . وفي المخطوطين «هو» بدل «اللّه » .
4- الإخلاص (112): 1.
5- الأنعام
6- : 101 .

للسببيّة. «ربّك» أي إنّ لك ربّا لا يشرك في حكمه أحدا، ولا يجوز العبادة إلاّ له. «ما» مصدريّة. «عرّفني» معلوم باب التفعيل. «نفسه» بالنصب مفعول به.

(قِيلَ: وَكَيْفَ عَرَّفَكَ نَفْسَهُ؟ فَقَالَ(1): لاَ يُشْبِهُهُ صُورَةٌ) . هذا إلى آخره بيان اللوازم البيّنة للربوبيّة.(2)

(وَلاَ يُحَسُّ بِالْحَوَاسِّ، وَلاَ يُقَاسُ بِالنَّاسِ، قَرِيبٌ فِي بُعْدِهِ). «في» بمعنى «مع» أي لا يستلزم بُعده منّا _ بمعنى عدم الشبه بينه وبين خلقه _ أن لا يكون قريبا منّا بظهور الدلالة عليه، أو بعلمه بكلّ شيء.

(بَعِيدٌ فِي قُرْبِهِ) . إنّما ذكر ذلك مع أنّه معلوم من سابقه؛ احتياطا بتكرار نفي التشبيه ببيان أنّ قربه منّا لا يستلزم التشبيه.

(فَوْقُ(3) كُلِّ شَيْءٍ، وَلاَ يُقَالُ: شَيْءٌ فَوْقَهُ) . تصحيحٌ لبُعده. و«فوق» بالرفع من الظروف المتمكِّنة، والفوقيّة بالعلّيّة لكلّ شيء، أو بالقدرة على كلّ شيء، ومقول القول جملة قولِه: «شيء فوقه». وإنّما جاز وقوع النكرة مبتدأً لأنّها هنا في حكم ما في سياق النفي.

(أَمَامُ(4) كُلِّ شَيْءٍ، وَلاَ يُقَالُ: لَهُ أَمَامٌ) . تصحيحٌ أيضا لبعده تعالى. و«أمام» بفتح الهمزة بالرفع من الظروف المتمكّنة، أي قبل كلّ شيء بالزمان. ومقول القول جملة قولِه: «له أمام».

(دَاخِلٌ فِي الاْءَشْيَاءِ لاَ كَشَيْءٍ دَاخِلٍ فِي شَيْءٍ ) . تصحيحٌ أيضا لبُعده ببيان أنّ دخوله في الأشياء إنّما هو بكونه شيئا بحقيقة الشيئيّة، أو بعلمه بكلّ شيء، لا كجسماني داخل في جسماني.

(وَخَارِجٌ مِنَ الاْءَشْيَاءِ لاَ كَشَيْءٍ خَارِجٍ مِنْ شَيْءٍ) . تصحيحٌ أيضا لبعده بأنّ خروجه .

ص: 102


1- في الكافي المطبوع : «قال» .
2- في «ج» : «لشواهد الربوبيّة». وفي حاشية «أ» : «الشواهد الربوبيّة في الآفاق والأنفس» بدل «اللوازم البينة للربوبيّة» .
3- في الكافي المطبوع : «فوقَ» بفتح الأخير .
4- في الكافي المطبوع : «أمامَ» بفتح الأخير .

من الأشياء إنّما هو بتباين ذاته مع ذواتها، لا كجسماني خارج من جسماني.

(سُبْحَانَ مَنْ هُوَ هكَذَا وَلاَ هكَذَا غَيْرُهُ) . أي كلّ ما عداه تعالى له دخول مكاني وكذا خروجه، وقس عليهما الباقي.

(وَلِكُلِّ شَيْءٍ مَبْتَدَأٌ(1)) ؛ بفتح المهملة، مرفوع على الابتداء، وخبره الظرف المتقدّم عليه. وإنّما ذكره ليكون دليلاً على قوله: «ولا هكذا غيره». والمراد بالمَبتدأ الحدّ، أي لكلّ شيء غيره تعالى حدّ معيّن يبتدأ منه وجوده، إمّا واحد كالكرة، وإمّا متعدّد كالمكعّب. وهذا لإبطال قول الفلاسفة القائلين بقدم العالم، وبتجرّد العقول والنفوس.(2)

الثالث: (مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ شَاذَانَ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَحْيى، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ حَازِمٍ، قَالَ: قُلْتُ لاِءَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : إِنِّي نَاظَرْتُ قَوْما، فَقُلْتُ لَهُمْ: إِنَّ اللّه َ _ جَلَّ جَلاَلُهُ _ أَجَلُّ) أي أظهر وأوضح؛ مأخوذ من الجلّ بالكسر ضدّ الدقّ، أو من الجليل ضدّ الحقير.(3)

(وَأَكْرَمُ) (4) أي أعزّ. كأنّ الخفيّ _ الذي يحتاج في إثباته إلى دقّة نظر وطول فكر ومناظرة _ فيه ذلّة.

(مِنْ أَنْ يُعْرَفَ بِخَلْقِهِ) . الباء للآلة؛(5) أي من أن يعرف ربوبيّته بتعليم خلقه كالأنبياء والرُّسل ونحوهم.

(بَلِ) ؛ للإضراب والإبطال، كقوله سبحانه: «بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ»(6).

(الْعِبَادُ) أي المصطفَون، وهم الرُّسل والأئمّة عليهم السلام .

(يُعْرَفُونَ بِاللّه ِ) ؛ بصيغة المجهول من باب ضرب؛ أي يعرف رسالتهم وإمامتهم .

ص: 103


1- في الكافي المطبوع : «مُبتدأ» بضمّ الأوّل .
2- اُنظر الحكمة المتعالية ، ج 6 ، ص 2 _ 7 لترى قول الفلاسفة في قدم العالم وحدوثه .
3- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 350 (جلّ) .
4- في الكافي المطبوع : «وأعزّ وأكرم» بدل «وأكرم» .
5- في «ج» : «للسببية» .
6- الأنبياء (21) : 26 .

بمعرفة ربوبيّة اللّه ، كما بيّنّاه في شرح أوّل الباب.

ويحتمل أن يكون «يعرفون» بصيغة المعلوم؛ أي يعرفون اللّه باللّه ؛ ومضى معناه.

والأوّل أوفق بتتمّته التي تجيء في «كتاب الحجّة» في ثاني الأوّل(1) وخامس عشر الثامن.(2)

(فَقَالَ: رَحِمَكَ اللّه ُ). تصديقٌ لمناظرته. .

ص: 104


1- أي الحديث 2 من باب الاضطرار إلى الحجّة .
2- أي الحديث 15 من باب فرض طاعة الأئمّة .

الباب الرابع: باب أدنى المعرفة

الباب الرابع بَابُ أَدْنَى الْمَعْرِفَةِ

فيه أربعة أحاديث.

المراد بالمعرفة هنا الاعتراف، أي الإقرار، وبأدناها ما لا يجتزأ في الحكم بالإسلام في باب معرفة الخالق بدونه؛ لكونه متعلّقا بضروريّات دين الإسلام، ومذكورا في محكمات القرآن ونحوها.

الأوّل: (مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، عَنْ عَبْدِ اللّه ِ بْنِ الْحَسَنِ الْعَلَوِيِّ؛ وَعَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ(1)، عَنِ الْمُخْتَارِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُخْتَارِ الْهَمْدَانِيِّ جَمِيعا، عَنِ الْفَتْحِ بْنِ يَزيدَ(2)، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ عليه السلام ) . الفتح من أصحاب الرِّضا عليه السلام موافقا لما يجيء(3) في «كتاب النكاح» في ثالث «باب وقوع

ص: 105


1- في «أ» : «عن عليّ بن إبراهيم» بدل «وعليّ بن إبراهيم». وفي حاشية «أ» : «قوله : عن عليّ بن إبراهيم. وكذا في نسخ الشافي موافقا لأكثر المتون ، وفي شرح الفاضل المازندراني أصلح مآله «وعليّ» بالواو بدل «عن» وهو أصوب بدليل لفظ «جميعا» وأنّ المصنّف رحمه الله يروى عن عليّ بن إبراهيم بلا واسطة، وأنّ ما يجيء في باب وقوع الولد ، كتاب النكاح هكذا : عليّ بن إبراهيم عن المختار بن محمّد المختار ومحمّد بن الحسن عن عبد اللّه بن الحسن جميعا عن الفتح بن يزيد، قال : سألت أبا الحسن الرضا عليه السلام عن الشروط في المتعة ، الحديث . ويوافقه ما يجيء في أوّل الثاني عشر من هذا الكتاب (مهدي)» .
2- في الكافي المطبوع : - «بن يزيد» .
3- في حاشية «أ»: «ردّ على صاحب كشف الغمّة حيث عدّه من أصحاب الهادي عليه السلام (منه)» . وفي مكان آخر : «قوله : موافقا لما يجيء، إلى آخره، قد ذكرنا الحديث في الحاشية السابقة ، ثم إنّ الفاضل المازندراني أصلح مآله بعد نقل اختلاف أصحاب الرجال في أنّ أبا الحسن الذي روى عنه الفتح الرضا هو أمّ الهادي عليهماالسلام ، أيّد الأوّل بأنّ الصدوق رحمه الله روى هذا الحديث في عيون أخبار الرضا عليه السلام في باب ما جاء عن الرضا عليه السلام من الأخبار في التوحيد ، ويظهر منه أنّه غفل أو تغافل عما قدّمه في الديباجة من أنّ المراد بأبي الحسن على الإطلاق هو الكاظم عليه السلام حيث قال فيه عند قول المصنف : «وقد قال العالم عليه السلام » : من دخل في الإيمان إلى آخره ، المراد بالعالم هنا موسى بن جعفر عليهماالسلام . وقيل : هو المراد من العالم إذا اطلق . ويقال : والكاظم أبو الحسن على الإطلاق وأبو الحسن الأوّل والعبد الصالح وأبو إبراهيم . ويقال : أبو الحسن الثاني للرضا عليه السلام ، وأبو الحسن الثالث للهادي عليه السلام ، وأبو عبد اللّه للصادق عليه السلام ، وأبو جعفر على الإطلاق وأبو جعفر الأوّل للباقر عليه السلام ، وأبو جفعر الثاني للجواد عليه السلام ، والماضي وأبو محمّد للعسكري عليه السلام انتهى . وقد عرفت الآن أنّ ما ذكره ثمّة ليس مطّردا . ويدلّ على عدم الإطّراد أيضا إنّا لم نجد من أصحاب الرجال من يجوّز أن يكون الفتح من أصحاب الكاظم عليه السلام (مهدي)» .

الولد»(1).

(قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ أَدْنَى الْمَعْرِفَةِ، فَقَالَ: الاْءِقْرَارُ بِأَنَّهُ لاَ إِلهَ) أي لا مستحقّ للعبادة (غَيْرُهُ، وَلاَ شِبْهَ(2) لَهُ) . شبه الشيء _ بالكسر وبالتحريك، وكأمير _ ما يصلح لأن يكون زوجا له بأن يكون كلّ منهما جسمانيّا، أو يكون كلّ منهما مجرّدا. وهذا ردّ على المجسّمة والفلاسفة.

(وَلاَ نَظِيرَ لَهُ) ، النظير: المناظر؛ أي المضادّ. وهذا ردّ على المجوس؛ حيث جعلوا إبليس مضادّا للّه تعالى(3)، وعلى المعتزلة المفوّضة،(4) كما سيجيء في «باب الاستطاعة».

(وَأَنَّهُ) . تكراره هنا للإشارة إلى أنّ ما قبله صِفات سلبيّة، وما بعده ثبوتيّة.

(قَدِيمٌ) أي مستمرّ الكون(5) في جانب الماضي إلى غير النهاية. وهذا ردّ على من قال في حدوث العالم واختصّ الحدوث بوقته،(6) إذ لا وقت قبله مرادا به أنّه لا استمرار قبل العالم أصلاً.

(مُثْبِتٌ)(7) ؛ بكسر الباء؛ أي فعّال لما يريد؛ من أثبته: إذا شدّه بالثبات بالكسر، وهو .

ص: 106


1- الكافي ، ج 5 ، ص 464 ، باب وقوع الولد ، ح 3 .
2- في «ج» : «شبيه» .
3- نظريّة المجوس تجدها في رسائل المرتضى ، ج 3 ، ص 284 ؛ والمواقف للإيجي ، ج 3 ، ص 65 ؛ ومجمع البيان ، ج 4 ، ص 125 ؛ وتفسير الرازي ، ج 13 ، ص 113 .
4- لا بأس بمراجعة كتاب لبّ الأثر في الجبر والقدر (محاضرات الإمام الخميني رحمه الله ) للتعرف على نظريّة المفوّضة .
5- في «ج» : «الوجود» .
6- في حاشية «أ» : «القائل صاحب التجريد (منه)» .
7- في الكافي المطبوع : «مُثْبَتُ» بفتح الباء .

سير يشدّ به الرَّحْل. أو معناه عالم بما يفعل وما يترك؛ من أثبته: إذا عرفه حقّ المعرفة، فمعناه حكيم؛ أو بفتحها، أي أبديٌّ استُعير من الرَّحْل المشدود بالثبات. أو معناه أنّه محكوم عليه بأنّه شيء بحقيقة الشيئيّة.

(مَوْجُودٌ) أي حاضر عند الشدائد، يُجيب دعوة الداع إذا دعاه، فالوجود هنا مقابل للفقد؛ يُقال: وجدتُ الشيء وأنا واجده، وهو موجود، وهذا مشتمل على أنّه سميعٌ بصير.

وقوله: (غَيْرُ فَقِيدٍ ) بيانٌ ل«موجود» للتصريح بالعموم.

(وَأَنَّهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ). مضى شرحه في رابع «باب إطلاق القول بأنّه تعالى شيء».

الثاني: (عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ طَاهِرِ بْنِ حَاتِمٍ) ؛ ابن ماهويه القزويني.

(فِي حَالِ اسْتِقَامَتِهِ). كان مستقيما ثمّ تغيّر وأظهر الغلوّ.

(أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى الرَّجُلِ) ذكره الشيخ في أصحاب الرضا عليه السلام ،(1) وقال: غال كذّاب أخو فارس،(2) ثمّ ذكره في باب من لم يرو عن أحد من الأئمّة عليهم السلام .(3)

(مَا الَّذِي لاَ يُجْتَزَأُ فِي مَعْرِفَةِ الْخَالِقِ بِدُونِهِ؟ فَكَتَبَ إِلَيْهِ: لَمْ يَزَلْ عَالِما وَسَامِعا) أي سميعا، كما في كتاب التوحيد لابن بابويه،(4) فإنّ السماع من صفات الفعل، والسمع من صفات الذات. .

ص: 107


1- في حاشية «أ» : «قوله (في أصحاب الرضا عليه السلام ) يوافق ما ذكره الاُستاذ المحقّق رضى الله عنه في ضيافة الاخوان، وما في حواشي الفاضل النائيني لهذا الكتاب ، وما في كتابي الرجال للفاضل الإسترابادي رحمه الله عن طاهر بن حاتم بن ماهويه قال : كتبت إلى الطيّب _ يعني أبا الحسن عليه السلام _ ، ما الذي لا يجتزأ في معرفة الخالق جلّ جلاله بدونه؟ فكتب : ليس كمثله شى ء ، لم يزل سميعا وعليما وبصيرا، وهو الفعّال لما يريد. ويظهر منه أنّ من روى عنه من هو غير سهل وغير اللذين نقل عنه كتاب الرجال . ثمّ الفاضل المازندراني _ أصلح اللّه مآله _ بعد ذكر نسب طاهر وتوضيح ماهويه _ بفتح الهاء والواو ومذهبه كما في المتن _ قال : وطاهر من أصحاب أبي عبد اللّه وأصحاب أبي الحسن موسى أخوه فارسي من أصحاب الرضا عليه السلام ، ثم قال في شرح الحديث كتب إلى الرجل هو الكاظم أو الصادق عليهماالسلام ، انتهى» .
2- رجال الشيخ ، ص 359 ، أصحاب أبي الحسن الرضا عليه السلام .
3- رجال الشيخ ، ص 428 ، باب ذكر أسماء من لم يرو عن أحد من الأئمّة عليهم السلام .
4- التوحيد ، ص 197 ، ضمن الحديث 9 .

(وَبَصِيرا، وَهُوَ الْفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ) أي لما يريد فعله. والمعنى: أنّه نافذ الإرادة لا يمتنع عن إرادته شيء.

الثالث: (وَسُئِلَ(1) أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام عَنِ الَّذِي لاَ يُجْتَزَأُ بِدُونِ ذلِكَ) ؛ من وضع الظاهر موضع المضمر؛ أي بدونه.

(مِنْ مَعْرِفَةِ الْخَالِقِ، فَقَالَ: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وَلاَ يُشْبِهُهُ شَيْءٌ، لَمْ يَزَلْ عَالِما، سَمِيعا، بَصِيرا) . ظهر معناه ممّا مرّ.

الرابع: (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ يُوسُفَ بْنِ بَقَّاحٍ) ؛ بفتح الموحّدة، وشدّ القاف والألف والمهملة.

(عَنْ سَيْفِ بْنِ عَمِيرَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام يَقُولُ: إِنَّ أَمْرَ اللّه ِ) أي أفعاله (كُلَّهُ عَجِيبٌ) أي حسن حكيم.

(إِلاَّ) ؛ بالكسر والتشديد عاطفة بمنزلة الواو؛ أي خصوصا، أو بالفتح والتخفيف تنبيه.

(أَنَّهُ) ؛ بالفتح أو الكسر.

(قَدِ احْتَجَّ عَلَيْكُمْ بِمَا قَدْ عَرَّفَكُمْ) أي في محكمات القرآن ونحوها.

(مِنْ نَفْسِهِ) في صفاته وأفعاله.

وهذا الحديث هو المعيار لأدنى المعرفة، وجميع ما ذكر في الأحاديث السابقة من قبيل بيان الشيء بمثاله، وبهذا يندفع الاعتراض بأنّ الأحاديث في «باب أدنى المعرفة» مختلفة بالزيادة والنقصان، ولا يجوز الاختلاف في أدنى المعرفة. .

ص: 108


1- في حاشية «أ» : «قوله : (وسئل) إلى آخره . جوّز الفاضل النائيني _ رفع قدره _ أن يكون هذا من تتمّة مكاتبة طاهر بن حاتم ، وأن يكون حديثا مستأنفا مرسلاً . وقال الفاضل المازندراني : الظاهر أنّه ليس من تتمّة المكاتبة ، ويؤيّده أنّ الصدوق رحمه الله روى هذه المكاتبة بعينها ولم يذكر هذه اللاحقة. انتهى . وأنت عرفت كما نقلنا مخالفة التوقيع المروي من توحيد الصدوق كما في المتن (مهدي)» .

الباب الخامس: باب المعبود

الباب الخامس بَابُ الْمَعْبُودِ

فيه أربعة أحاديث.

لمّا كان تعيين ما يستحقّ العبادة من ذاته تعالى وأسمائه مناسبا للأبواب السابقة، ألحقه بها.

الأوّل: (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى بْنِ عُبَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ، عَنِ ابْنِ رِئَابٍ ، وَعَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ: مَنْ عَبَدَ اللّه َ بِالتَّوَهُّمِ(1)) أي بإيقاع الوهم عليه على وجه الإدراك له على حدة، أي لا بمحض التصوّر بالوجه.

(فَقَدْ كَفَرَ) أي لم يعبد اللّه أصلاً. وحصر عبادته في غيره تعالى كما يفهم من تقديم المفعول في قوله تعالى في سورة الزمر: «قُلْ أَفَغَيْرَ اللّه ِ تَأْمُرُونَنِى أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ»(2).

(وَمَنْ) أي ومن لم يعبد بالتوهّم لكن (عَبَدَ الاِسْمَ(3)) أي ما وضع له لفظ «اللّه » و«الخالق» و«العالم» ونحوها، وهو المفهوم الحاصل في الذهن وهو جزء الكلام النفسي المدلول عليه بالكلام اللفظي.

ص: 109


1- في حاشية «أ» : «بالتوهّم؛ يعني من غير جزم بوجوده ، أو بما يتوهّمه من مفهوم اللفظ ، أي عبد الصورة الوهميّة التي تحصل في ذهنه من مفهوم اللفظ» . الوافي ، ج 1 ، ص 346 .
2- الزمر (39) : 64 .
3- في حاشية «أ» : «ومن عبد الاسم ، أي اللفظ الدالّ على المسمّى ، أو ما يفهم من اللفظ من الأمر الذهني دون المعنى ، أي ما يصدق عليه اللفظ أعني المسمّى الموجود في خارج الذهن . والحاصل أنّ الإسم وما يفهم منه غير المسمّى ؛ فإنّ لفظ الإنسان مثلاً ليس بإنسان ، وكذا ما يفهم من هذا اللفظ ممّا يحصل في الذهن ؛ فإنّه ليس له جسميّة ولا حياة ولا نطق ولا شيء من خواصّ الإنسانيّة» . الوافي ، ج 1 ، ص 346 .

(دُونَ الْمَعْنى) ؛ بفتح الميم، وسكون المهملة، وفتح النون والقصر: اسم مكان؛ أي المقصد، أو بكسر النون، وشدّ الخاتمة: اسم مفعول؛ أي المقصود، أي دون الموجود في نفسه في الخارج، المقصودِ تصوّره بالوجه بإيقاع الاسم عليه. فالفرق بين المعنى والمسمّى أنّه يعتبر في المعنى كون الاسم خارجا عنه، وجها من وجوهه، ولا يعتبر في المسمّى ذلك.

(فَقَدْ كَفَرَ) ؛ إذ لم يعبد اللّه أصلاً.

(وَمَنْ عَبَدَ الاِسْمَ وَالْمَعْنى) . هذا حال من ادّعى أنّ صفاته تعالى موجودة في أنفسها في الخارج وهم الأشاعرة.(1)

(فَقَدْ أَشْرَكَ) مع اللّه غيره ممّا لا يستحقّ العبادة؛ لأنّ صفة الكمال الموجودة في نفسها في الموصوف أكبر من الموصوف، كما يشير إليه قوله تعالى: «لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللّه َ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ»(2)، وقد مرَّ بيانه في ثالث الثالث والعشرين من «كتاب العقل(3)» فهي أولى من ذات اللّه حينئذٍ باستحقاق العبادة.

(وَمَنْ عَبَدَ الْمَعْنى بِإِيقَاعِ الاْءَسْمَاءِ) أي حملها (عَلَيْهِ بِصِفَاتِهِ) . الباء للملابسة. والفرق بين الصفة والاسم أنّ الاسم ما يحمل على الشيء مواطأةً كالعالم وذو القوّة، والصفةَ ما يحمل على الشيء لا مواطأة، بل بتوسّط ما يشتقّ منه، أو بتوسّط «ذو» كالعلم والقوّة المحمولين بتوسّط حمل العالم وذو القوّة؛ أي مع إرادته صفاته لا يجعل بعض أسمائه علما لذاته.

(الَّتِي وَصَفَ بِهَا نَفْسَهُ) أي لم يتجاوز في المختلف فيه اختلافا حقيقيّا مستقرّا إلى وصفه بغير ما وصف به نفسه في محكمات القرآن بخصوصه كالعلم والقدرة، أو بعمومه كما في الأمر بسؤال أهل الذِّكر فيما لم يعلم بالبيّنات والزبر. وهذا ردّ على الذين يلحدون في أسمائه.(4) .

ص: 110


1- شرح المواقف ، ج 8 ، ص 18 ؛ شرح العقيدة الطحاوية ، ص 129 . وانظر الفتوحات المكّيّة ، ج 1 ، ص 680 .
2- المائدة (5) : 73 .
3- أي الحديث 3 من باب الأخذ بالسنّة وشواهد الكتاب .
4- فيه إشارة إلى قوله تعالى في سورة الأعراف (7) : 180 «وَلِلَّهِ الأَسْمَآءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِىآ أَسْمَ_آئِهِ» .

(فَعَقَدَ) أي شدّ وربط، وفيه ضمير «مَن».

(عَلَيْهِ) . الضمير راجع إلى «المعنى». ويجوز رجوعه إلى مصدر «عبد» أو إلى «الإيقاع».

(قَلْبَهُ) ؛ مفعول «عقد». والمراد بعقد القلب إمّا الإخلاص في العبادة، وإمّا الطوع القلبي المعبَّر عنه في حدّ الإيمان بالتصديق، وهو غير العلم كما سيجيء في ثالث «باب في إبطال الرؤية».

(وَنَطَقَ بِهِ) . راجع إلى ما رجع إليه ضمير «عليه».

(لِسَانُهُ) ؛ فاعل «نطق». وهو إشارة إلى أنّ الإقرار معتبر في الإيمان الكامل، بقرينة قوله: «حقّا».

(فِي سِرِّ أمْرِهِ(1) وَعَلاَنِيَتِهِ) . نَشْرٌ على ترتيب اللفّ.

(فَأُولئِكَ أَصْحَابُ أَمِيرِ الْمُوءْمِنِينَ حَقّا) .

الثاني: (وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ بدل قوله: «فَأُولئِكَ أَصْحَابُ» إلى آخره : «أُولئِكَ هُمُ الْمُوءْمِنُونَ حَقّا») .

الثالث: (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّضْرِ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ: أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام عَنْ أَسْمَاءِ اللّه ِ وَاشْتِقَاقِهَا). من قبيل: أعجبني زيد وحسنه؛ أي سأل عن اشتقاق أسماء اللّه .

ويحتمل أن يكون المسؤول عنه كلّ واحدٍ من نفس الأسماء واشتقاقها، وكأنّ ذلك بعد سماعه أنّ الأسماء ليست أسماء ذات بذاته بأن تكون أعلاما أو بعضها علما، بل هي مشتقّات، أي ملحوظ في وضعها وإطلاقها عليه تعالى دلالتها على الصفات.

ويحتمل أن يكون المراد بالاشتقاق معناه اللغوي؛ أي أخذها من أصل، سواء كانت أعلاما أم لا.

ويبعّده قوله: «والإله يقتضي مألوها» إلى آخره. .

ص: 111


1- في الكافي المطبوع : «سرائره» بدل «سرّ أمره» .

(اللّه ُ) ؛ بتقدير القول. إنّما خصّ اللّه بالذِّكر لكثرة الخلاف فيه بين الناس.

قال في القاموس: «واختلف فيه على عشرين قولاً ذكرتها في المباسيط أصحّها عَلَم غير مشتقّ» انتهى.(1)

وقال الجوهري:

لاه يليه ليها: تستّر. وجوّز سيبويه أن يكون لاهٌ أصل اسم اللّه ، قال الشاعر: لاهه الكبار، أي إلاهه(2). اُدخلت عليه الألف واللام، فجرى مجرى الاسم العَلَم كالعبّاس والحسن، إلاّ أنّه يخالف الأعلام من حيث كان صفة. انتهى.(3)

(مِمَّا) . متعلّقٌ ب«مشتقّ» أي من أيّ شيء. وإثبات ألفها مع دخول الجارّ عليه شاذّ.

(هُوَ مُشْتَقٌّ؟ قَالَ: فَقَالَ لِي: يَا هِشَامُ، اللّه ُ مُشْتَقٌّ مِنْ إِلهٍ ) ؛ على وزن فعال بمعنى فاعل؛ من ألههم كنصر إذا استحقّ عبادتهم، اُدخل عليه في الجلالة حرف التعريف للعهد،(4) ».

ص: 112


1- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 280 (أله) .
2- في حاشية «أ» : «قوله : (لاهه الكبار) هذا جزء بيت لابن جني أو الأعشى وتمامه : حلفة من أبي رياح *** يسمعها لاهه الكبار الحلفة: واحد الحلف بمعنى القسم، ورواية القاف بدل الفاء تحريف . وأبو رياح : اسم رجل . والكبار _ بضمّ الكاف وتخفيف الباء _ بمعنى العظيم ، كما نصّ عليه العيني في شرح شواهد الألفية ، وهو نعت لاهه . وروي: «يشهدها» مكان «يسمعها» . وروي «لاهم» بالميم بدل الهاء الثانية . قال العيني : وفيه شذوذان ؛ أحدهما : استعماله في غير النداء ؛ لأنّه فاعل يسمعها ، والآخر تخفيف ميمه وأصله التشديد . انتهى . ولقائل أن يقول : لعلّ أصالة التشديد مختصّة بالنداء (مهدي)» .
3- الصحاح ، ج 6 ، ص 2248 (ليه) .
4- في حاشية «أ»: «قوله: قدّس سرّه (للعهد)، إلى آخره المراد به إمّا العهد الخارجي، كما سيصرح به في الباب السادس عشر في شرح حديث الحسن بن راشد. وإمّا العهد العلمي، وهو الأنسب. ومآلهما واحد؛ فإنّ الثاني من أصناف الأوّل، بناءً على أنّ مرادهم بالعهد الخارجي القسيم للجنس والاستغراق. والعهد الذهني ما قصد يمد قوله فرد معين من الحقيقه، سواء كان التعيين بسبب سبق الذكر صريحا أو كناية، وهو المسمىّ بالعهد الذكري، وقد اجتمعا في قوله تعالى: «وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالاْءُنثَى» إذا الاُنثى إشارة إلى ما صرّح به سابقا في قولها: «رَبِّ إِنِّى وَضَعْتُهَآ أُنثَى» والذكر إشارة إلى ما سبق ذكره كناية في قولها: «رَبِّ إِنِّى نَذَرْتُ لَكَ مَا فِى بَطْنِى مُحَرَّرًا» فإنّ «ما» وإن كان يعمّ الذكور والإناث، لكن التحرير _ وهو أن يعتق الولد لخدمة بيت المقدس _ إنّما كان للذكور؛ صرّح بذلك التفتازاني في المطوّل. أو كان التعيين بسبب حضور مدخولها، وهو المسمّى بالعهد الحضوري. وزعم بعض أنّها لا تدخل إلاّ على الزمان الحاضر، أو المنادي، أو المشار إليه نحو: الآن، ويا أيّها الرجل، وهذا الرجل. وتفصيله في مغني لابن هشام. أو كان التعيين لسبب سبق علم المتكلّم والمخاطب به، وهو المسمّى بالعهد العلمي، كما في قوله تعالى «بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ» وقوله تعالى: «تَحْتَ الشَّجَرَةِ» وقوله تعالى: «إِذْ هُمَا فِى الْغَارِ» صرح بذلك الأزهري في التصريح (مهدي)».

فجرى مجرى العلم؛ أي الذي يستحقّ عبادة كلّ مَن سواه، ولا يستحقّ غيره عبادته. ونظيره إمام مَن أمّهم: إذا تقدّمهم. وقيل: إله بمعنى مألوه. انتهى.(1)

وهذا كما قيل في إمام: إنّه بمعنى مفعول؛ أي من يؤتمُّ به.(2) ويبطله قوله:

(وَالاْءِلهُ) ؛ بالرفع على الابتداء، واللام للجنس.

(يَقْتَضِي) أي يستلزم استلزامَ أحد المتضايفين للآخر.

(مَأْلُوها) أي من عبادته واجبة مستحقّة بالفتح. استدلالٌ على أنّ هذا الاسم ليس عين المسمّى بأنّ الأمر النسبي لا يمكن أن يكون علميّا، ولا أن يكون ذاتا أو ذاتيّا لموجود في نفسه في الخارج.

وسيجيء في رابع «باب جوامع التوحيد»: «كان ربّا إذ لا مربوب، وإلها إذ لا مألوه» مع شرحه.

(وَالاِسْمُ غَيْرُ الْمُسَمّى) . لمّا بيّن أنّ اللّه ليس عين مسمّاه، أراد أن يعمّم ويبطل القول بأنّ اسما من أسمائه عين المسمّى، ومضى بيانه في أوّل الباب. وأمّا مغايرة اللفظ للمسمّى، فأظهر من أن يحتاج إلى بيان.

(فَمَنْ عَبَدَ) . تفريعٌ على قوله: «والاسم غير المسمّى».

(الاِسْمَ دُونَ المَعْنى، فَقَدْ كَفَرَ وَلَمْ يَعْبُدْ شَيْئا) أي شيئا معتدّا به مستحقّا للعبادة؛ لأنّه مفهوم اعتباري غير موجود في الخارج في نفسه.

(وَمَنْ عَبَدَ الاِسْمَ وَالْمَعْنى، فَقَدْ كَفَرَ وَعَبَدَ اثْنَيْنِ) أي شيئين معتدّا بهما بزعمه؛ .

ص: 113


1- الصحاح ، ج 6 ، ص 2223 ؛ لسان العرب ، ج 13 ، ص 469 (إله) .
2- الصحاح ، ج 6 ، ص 2223 ؛ لسان العرب ، ج 13 ، ص 469 (إله) .

لاعتقاده أنّ الاسم موجود في نفسه في المعنى. ومضى بيانه في شرح أوّل الباب، أو شيئين مطلقا.

(وَمَنْ عَبَدَ الْمَعْنى دُونَ الاِسْمِ، فَذَاكَ التَّوْحِيدُ) أي فعمله التوحيدُ الحصرُ؛ لأنّ التوحيد يشتمل على أمرين:

الأوّل: الإقرار باستحقاق العبادة لمن يستحقّها. وهذا غير متحقّق فيمن عبد الاسم دون المعنى.

الثاني: الإقرار بأنّه لا يستحقّ العبادة إلاّ إله واحد. وهذا غير متحقّق فيمن عبد الاسم والمعنى.

(أَ فَهِمْتَ يَا هِشَامُ؟ قَالَ: فَقُلْتُ:(1) زِدْنِي) بيانا. زاد عليه السلام البيانَ بالاستدلال على أنّه ليس كلّ اسم له تعالى ولا بعض أسمائه عينَ المسمّى.

(قَالَ: إِنَّ لِلّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْما(2)) . تخصيص هذا العدد بالذِّكر مع أنّه يجيء أكثر منه في أوّل «باب حدوث الأسماء» مماشاةٌ مع المخالفين؛ لأنّه موافق لرواياتهم أيضا.

(فَلَوْ كَانَ الاِسْمُ هُوَ الْمُسَمّى، لَكَانَ كُلُّ اسْمٍ مِنْهَا إِلها) أي لَتحقّق تسعة وتسعون إلها غير ذات اللّه .

وهذا الدليل مبنيّ على مقدّمات:

الاُولى: أنّ المفهومات التسعة والتسعين متغايرة ضرورةً.

الثانية: أنّه لو كان الاسم عين المسمّى، لكان المسمّى عين صفة فيه تعالى؛ لظهور بطلان كون اسم عين مسمّاه، والمسمّى عين ذاته تعالى، أو عين ذات مخلوقة له تعالى.

أمّا الأوّل، فلأنّه لم يحصل، بل لا يمكن لنا إدراك شخصه تعالى ولا إدراك كنه ذاته، مع أنّا ندعوه بكلّ من هذه الأسماء. وإليه يشير في قوله: «وكلّها غيره» إلى آخره. .

ص: 114


1- في «ج» : «قلت» .
2- في حاشية «أ» : «روى محمّد بن بابويه رحمه الله في الباب التاسع والعشرين بإسناده عن عليّ عليه السلام قال ، قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : للّه عزّوجلّ تسعة وتسعون اسما؛ من دعا اللّه بها استجاب له، ومن أحصاها دخل الجنّة» . التوحيد ، ص 195 ، ح 9 .

وأمّا الثاني، فلأنّ كون اسم شيء عينَ مباينٍ له سفسطة.

الثالثة: أن يكون الصفة فيه تعالى يستلزم كونها قديمة وصفة كمال؛ لاستحالة حلول الحوادث فيه تعالى.

الرابعة: أنّ كمال الشيء لو كان صفة فيه، لكان أكبر وأولى باستحقاق العبادة من الموصوف. ومضى في أوّل الباب ما يوضح هذا الدليل.

(وَلكِنَّ اللّه َ مَعْنىً) أي مقصود التصوّر بالوجه.

(يُدَلُّ) ؛ بصيغة المجهول استئنافٌ لبيان كونه تعالى معنى، أو صفةً موضحة ل_«معنى».

(عَلَيْهِ) . الظرف قائم مقام الفاعل.

(بِهذِهِ الاْءَسْمَاءِ) ؛ لأن يعلم بالوجه. وهذا إشارة إلى ما تقرّر من الفرق بين العلم بالشيء بالوجه والعلم بوجه الشيء؛ بأنّ الثاني تصوّر بالكنه، بخلاف الأوّل؛ وإلى أنّ ما نحن فيه من الأوّل.

(وَكُلُّهَا) أي كلّ واحد منها (غَيْرُهُ) أي لا يمكن أن يكون اسم من أسمائه عينَ مسمّاه، والمسمّى عين ذاته تعالى.

(يَا هِشَامُ، الْخُبْزُ اسْمٌ لِلْمَأْكُولِ، وَالْمَاءُ اسْمٌ لِلْمَشْرُوبِ، وَالثَّوْبُ اسْمٌ لِلْمَلْبُوسِ، وَالنَّارُ اسْمٌ لِلْمُحْرِقِ) . اللام في المأكول ونظائره للعهد.

وهذا استدلال على قوله: «وكلّها غيره» أي كلّ واحدٍ من هذه الأسماء عين الذات المسمّى؛ لأنّه من أسماء الأجناس، ويستحيل أن تتصادق في شيء واحد، ونعلم بديهةً أنّ اسما من أسماء اللّه تعالى ليس من هذا القبيل، فهو غير الذات.

(أَ فَهِمْتَ يَا هِشَامُ، فَهْما تَدْفَعُ بِهِ) . إشارة إلى أنّ ذكر هذه الأسماء على سبيل المثال، فهكذا أعلام الأشخاص والأجناس.

(وَتُنَاضِلُ) ؛ بالنون والمعجمة؛ أي تجادل وتخاصم.

(بِهِ أَعْدَاءَنَا) . تسميتهم أعداءً أو نواصبَ كتسمية الذين قالوا: إنّ اللّه ثالث ثلاثة من النصارى أعداءَ اللّه مع دعواهم أنّهم أحبّ أحبّائه.

(وَالْمُلحِدينَ) في أسمائه تعالى.

ص: 115

(مَعَ اللّه ِ _ عَزَّ وَجَلَّ _ غَيْرَهُ؟). استعمال «مع» هنا لتضمين «الملحدين» معنى «العابدين» أو نحو ذلك.

(قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَقَالَ: نَفَعَكَ اللّه ُ بِهِ، وَثَبَّتَكَ) ؛ بشدّ الموحّدة.

(يَا هِشَامُ . قَالَ هِشَامٌ: فَوَ اللّه ِ ، مَا قَهَرَنِي أَحَدٌ فِي التَّوْحِيدِ حَتّى قُمْتُ مَقَامِي هذَا) أي حتّى بلغت مرتبتي هذه ببركة دعائه، أو بيانه عليه السلام ، أو حتّى وقفت في هذا المكان، أي إلى الآنَ.

وهذا الحديث سيجيء بأدنى تغيير في «باب معاني الأسماء واشتقاقها».

الرابع: (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ مَعْرُوفٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ أَبِي نَجْرَانَ، قَالَ: كَتَبْتُ إِلى أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ، أَوْ قُلْتُ لَهُ: جَعَلَنِي اللّه ُ فِدَاكَ، نَعْبُدُ) ؛ بتقدير الاستفهام. (الرَّحْمنَ الرَّحِيمَ الْوَاحِدَ الاْءَحَدَ الصَّمَدَ؟)؛ يعني الأسماء، أو هو مجمل يحتمل المسمّى بها أيضا، فيحتاج إلى تفصيل في الجواب.

(قَالَ: فَقَالَ: إِنَّ مَنْ عَبَدَ الاِسْمَ دُونَ الْمُسَمّى بِالاْءَسْمَاءِ ) أي دون أن يعبد الذات الخارج عن هذه الأسماء المتصوّر بهذه الأسماء تصوّرا بالوجه.

(فَقَدْ أَشْرَكَ) أي عبد متعدّدا؛ ضرورةَ تغاير المفهومات.

(وَكَفَرَ) أي لم يعبد المستحقّ للعبادة.

(وَجَحَدَ) المستحقّ للعبادة.

(وَلَمْ يَعْبُدْ شَيْئا) أي شيئا معتدّا به، مستحقّا للعبادة. ومضى بيانه في أوّل الباب وثالثه.

(بَلِ اعْبُدِ) ؛ بصيغة الأمر من باب نصر.

(اللّه َ الْوَاحِدَ الاْءَحَدَ الصَّمَدَ) أي الذات المعهود الذي يصدق عليه الأسماء وكلّها غيره.

وفيه إشعار بأنّ لفظة «اللّه » جارٍ مجرى العَلَم؛ باعتبار أنّ اللام فيه للعهد، كما مرّ في ثالث الباب.

وللتصريح بهذا المعنى قال:

(الْمُسَمّى) ؛ بدل الكلّ، أو عطف البيان.

ص: 116

(بِهذِهِ الاْءَسْمَاءِ) الأربعة.

(دُونَ الاْءَسْمَاءِ) أي لا تعبد الأسماء.

(إِنَّ الاْءَسْمَاءَ صِفَاتٌ) أي ليس شيء منها ذاتا، وهو احتراز عن أن يكون اسم منها عين المسمّى، والمسمّى عينَ ذاته تعالى، أو عينَ ذات مخلوقة له تعالى.

(وَصَفَ) أي اللّه تعالى (بِهَا نَفْسَهُ) تعالى؛ أي ليست قديمة باعتبار وجودها في أنفسها. وهو احتراز عن أن يكون اسم عين المسمّى، والمسمّى عينَ صفة فيه تعالى، فتكون قديمةً. ومضى بيانه في أوّل الباب.

ص: 117

الباب السادس: باب الكون والمكان

الباب السادس بَابُ الْكَوْنِ وَالْمَكَانِ

فيه تسعة أحاديث.

«الكون» هنا مصدر «كان» التامّة، نحو: كان اللّه ولم يكن معه شيء. والمراد الإنّيّة.

و«المكان» بفتح الميم الزائدة ظرف الكون، مثل الامتداد الغير المتناهي الذي فيه كون اللّه تعالى، ويسمّى باعتبار الماضي أزلاً، وباعتبار المستقبل أبدا، ومثل الوقت والحين، وهو الامتداد المنقطع في جانب الماضي، سواء كان منقطعا في جانب المستقبل أيضا أم لا. ويجيء نفيه عن اللّه تعالى في ثالث الباب في قوله: «ولا ابتدع لمكانه مكانا». ومثل الموضع الذي يكون للجسم. ويجيء نفيه عن اللّه تعالى في سادس الباب وثامنه.(1)

الأوّل: (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، قَالَ: سَأَلَ نَافِعُ بْنُ الاْءَزْرَقِ)؛ بسكون الزاي وفتح المهملة.

(أَبَا جَعْفَرٍ عليه السلام ، فَقَالَ: أَخْبِرْنِي عَنِ اللّه ِ مَتى كَانَ؟ فَقَالَ: مَتى لَمْ يَكُنْ حَتّى أُخْبِرَكَ مَتى كَانَ؟). لمّا كان السؤال ب«متى» إنّما هو عن وقت حدوث الحادث، فإذا وقع عن قديم لم يستحقّ الجواب، كان ما ذكره عليه السلام في موضع الجواب بيانا لعدم استحقاق الجواب.

(سُبْحَانَ مَنْ لَمْ يَزَلْ) . إثبات لقدمه، وهي ناقصة.

(وَلاَ يَزَالُ) . إثباتٌ لدوامه، وهي أيضا ناقصة.

ص: 118


1- سيجيء بعد خمس صفحات .

(فَرْدا) . خبر «لم يزل» و«لا يزال» على سبيل التنازع؛ أي أحدا غير ذي أجزاء، ولا شريك في ذاته.

(صَمَدا) : سيّدا مصمودا إليه في القليل والكثير، كما سيجيء في أوّل(1) «باب تأويل الصمد». وهو مفعول فعل محذوف بتقدير «أعني». ويحتمل كون «فردا» خبرَ «لم يزل»، و«صمدا» خبرَ «لا يزال» على اللفّ والنشر المرتّب. ولو جعل «صمدا» هنا بمعنى «قادر» أو بمعنى «غنيّ» أمكن كونه خبرا ثانيا للفعلين.

(لَمْ يَتَّخِذْ صَاحِبَةً) ؛ زوجة، أو المراد أمرٌ مشارك له في القدم، والتأنيث باعتبار السماء ونحو ذلك ممّا قالت الزنادقة بقدمه، وأنّه يتسبّبُ به إلى توليد الحوادث.

(وَلاَ وَلَدا) أي مشاركا له في الحقيقة حاصلاً منه، أو ما صدر عنه بالإيجاب، كما قالته الزنادقة في الحوادث اليوميّة.(2)

الثاني: (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي نَصْرٍ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلى أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا عليه السلام مِنْ وَرَاءِ نَهَرِ بَلْخَ ) . هو جيحون، وبلخ متّصل به في جانب خراسان، وفي جانبه الآخر بخارا وسمرقند وأمثالهما، وهي ما وراء النهر.(3)

(فَقَالَ : إِنِّي أَسأَلُكَ عَنْ مَسْأَلَةٍ ، فَإِنْ أَجَبْتَنِي فِيهَا بِمَا عِنْدِي ) . الباء للمصاحبة، و«ما عندي» عبارة عن الشبهات المشهورة المنقولة عن الجبريّة والزنادقة الفلاسفة القائلين بامتناع تخلّف المعلول عن العلّة التامّة.(4)

(قُلْتُ بِإِمَامَتِكَ، فَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ عليه السلام : سَلْ عَمَّا شِئْتَ . فَقَالَ: أَخْبِرْنِي عَنْ رَبِّكَ مَتى) . .

ص: 119


1- في «أ» : - «أول» .
2- مراد الفلاسفة القائلين أنّ اللّه موجب لخلق الأشياء ، وهي موجودة قديمة بقدمه .
3- ذكر ذلك السيوطي في الديباج على مسلم ، ج 6 ، ص 185 ؛ وفيات الأعيان ، ج 6 ، ص 427 .
4- امتناع تخلّف المعلول عن العلّة التامّة أمر مسلّم بين الفلاسفة . راجع شرح الأسماء الحسنى للسبزواري ، ج 2 ، ص 29 ؛ شرح المقاصد ، ج 1 ، ص 301 ؛ وج 2 ، ص 58 و 109 .

بدلَه «أين» في رواية ابن بابويه في كتابه في التوحيد،(1) وكأنّه تحريف مبنيّ على الغفلة عمّا نذكره.

(كَانَ؟) أي قبل خلْق ما خلَق.

(وَكَيْفَ كَانَ؟ وَعَلى أَيِّ شَيْءٍ كَانَ اعْتِمَادُهُ) في خلق ما خلق؟

وهذا إشارة إلى ما في شبههم من أنّه لا يمكن حدوث شيء إلاّ بحدوث شرط من أجزاء علّته التامّة.

(فَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ عليه السلام : إِنَّ اللّه َ _ تَبَارَكَ وَتَعَالى _ أَيَّنَ) ؛ بشدّ(2) الخاتمة بصيغة الماضي المعلوم من باب التفعيل، مشتقّ من الأين بسكون الخاتمة بمعنى الحين.

(الاْءَيِّنَ(3)) ؛ بشدّ الخاتمة المكسورة على وزن فيعل كسيّد؛ أي ذا الأين بسكون الخاتمة بمعنى ذي الحين.

(بِلاَ أَيْنٍ) ؛ بفتح الهمزة وكسرها، وسكون الخاتمة منوّنا؛ أي بلا حين. ففي القاموس: «الأين: الإعياء، والحيّة، والرجل، والحِمْل، والحين، ومصدر آن يئين أي حان، وآن أَينك ويكسر، وآنُك حان حينك» انتهى.(4)

ولذا يقابل بحيث في ثاني عشر «باب النهي عن الصفة بغير ما وصف به نفسه جلّ وتعالى»؛ ويقابل بمكان في سابع «باب جوامع التوحيد».

(وَكَيَّفَ) ؛ بتشديد الخاتمة بصيغة الماضي المعلوم من باب التفعيل، مشتقّ من الكيف بسكون الخاتمة، وهو خصوصيّة لشيء كائنةٌ في نفسها في الخارج، عارضة له.

(الْكَيِّفَ)(5) ؛ بشدّ الخاتمة المكسورة. .

ص: 120


1- التوحيد ، ص 125 ، باب القدرة ، ح 3 ؛ عيون أخبار الرضا عليه السلام ، ج 2 ، ص 107 ، باب ماجاء عن الرضا عليه السلام من الأخبار في التوحيد ، ح 6 .
2- في «ج» : «بتشديد» .
3- في الكافي المطبوع : «الأيْنَ» بدون تشديد الياء .
4- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 200 (الأين) .
5- في الكافي المطبوع : «الكيف» بدون تشديد الياء .

(بِلاَ كَيْفٍ) ؛ بسكون الخاتمة منوّنا، أو مبنيّ على الفتح حكايةً. والمآل واحد.

(وَكَانَ اعْتِمَادُهُ عَلى قُدْرَتِهِ) . حاصل الجواب: أنّ القدرة القديمة للعالم بكلّ شيء وكلّ مصلحة كافية في خلق أوّل الحوادث وما بعده، ولا حاجة إلى حدوث شرط. وهذا تحقيق الحقّ في ربط الحادث بالقديم.

(فَقَامَ إِلَيْهِ الرَّجُلُ ، فَقَبَّلَ رَأْسَهُ، وَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللّه ُ، وَأَنَّ مُحَمَّدا رَسُولُ اللّه ِ، وَأَنَّ عَلِيّا وَصِيُّ رَسُولِ اللّه ِ ، وَالْقَيِّمُ بَعْدَهُ بِمَا أقَامَ(1) بِهِ) . وضمير «به» عائد إلى «ما».

(رَسُولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله ، وَأَنَّكُمُ الاْءَئِمَّةُ الصَّادِقُونَ، وَأَنَّكَ الْخَلَفُ مِنْ بَعْدِهِمْ) .

الثالث: (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ ، عَن الْقَاسِمِ بْنِ مَحَمَّدٍ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ ، قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلى أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ، فَقَالَ لَهُ : أَخْبِرْنِي عَنْ رَبِّكَ مَتى كَانَ؟ فَقَالَ : وَيْلَكَ) . الويل: الموت فجأة، وهو منصوب بإضمار حرف النداء.

(إِنَّمَا يُقَالُ لِشَيْءٍ لَمْ يَكُنْ) ؛ صفة ل«شيء».

(مَتى كَانَ) ؛ مقول القول.

(إِنَّ رَبِّي _ تَبَارَكَ وَتَعَالى _ كَانَ) . تامّةٌ للاستمرار في الماضي إلى غير النهاية، نحو كان اللّه ولم يكن معه شيء. والجملة استئناف لبيان عدم استحقاق هذا السؤال للجواب الحقيقي.

وأوضح عليه السلام الحقّ خمس مرّات ليرتفع اشتباه السائل بالكلّيّة،

الاُولى: قوله: (وَلَمْ يَزَلْ حَيّا) ؛ بفتح الزاي من الأفعال الناقصة، أو «كان» ناقصة «ولم يزل» معطوف على «كان» و«حيّا» خبر لهما على سبيل التنازع، وحينئذٍ ابتداء الاُولى من قوله: «إنّ ربّي» وإنّما ذكر هذا إلى آخره لئلاّ يحمل الكون هنا على الحدوث، ولدفع توهّمٍ هو أنّ الكون كما يستعمل في الوجود قد يستعمل في الحياة، فأراد عليه السلام أنّه كما لم يكن وجوده حادثا، كذلك لم يكن حياته حادثا، فلم يصحّ هذا السؤال باعتباره أيضا، .

ص: 121


1- في الكافي المطبوع : «قام» .

ولا ينافي ذلك تغيّر صفة فعله، كما يجيء في قوله: «قبل أن ينشئ» وقوله: «بعد إنشائه».

(بِلاَ كَيْفَ)(1) ؛ إمّا بالبناء على الفتح حكايةً، وإمّا بالجرّ والتنوين؛ أي بلا كيف لربّي تعالى أو لحياته. وتفسير الكيف مضى في شرح ثاني الباب.

(وَلَمْ يَكُنْ لَهُ «كَانٌ»(2)) ؛ اسم منوّن مأخوذ من فعلٍ ماضٍ من الأفعال التامّة أو الناقصة كالقيل والقال، أو فعل محكيّ. والأوّل أنسب بما يجيء في «كتاب الحجّة» في تاسع «مولد النبيّ صلى الله عليه و آله » عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: «إنّ اللّه كان إذ لا كان، فخلق الكان والمكان».

والمراد أنّ الكلام حادث ف_«كان» أيضا حادث. أو المراد أنّه لم يتغيّر في صفة ذات أصلاً، لا في الحياة ولا في غيرها؛ إذ لم يكن ممّن يُقال فيه: كان كذا فصار كذا، يقال في الوعظ: كأنّك واللّه قد كنتَ وصرتَ إلى كان وكنت، أي صرت إلى أن يقال عنك: كان فلان كذا،(3) وتقول: كنت كذا،(4) والكنتيّ ككرسيّ: الكبير العمر؛ لأنّه يقول كثيرا: كنت كذا وكذا.(5)

(وَلاَ كَانَ لِكَوْنِهِ) . اللام للسببيّة، والكون: الإنّيّة، والضمير للّه .(6)

(كَوْنُ كَيْفٍ) ؛ بالإضافة. وهذه الجملة لإبطال مذهب الصفاتيّة كالأشاعرة القائلين بأنّ صفاته تعالى كالعلم والقدرة كائنة في أنفسها في الخارج، ومن مقولة الكيف، وهي صادرة عنه بالإيجاب؛ أي كونها مترتّبة على محض كونه بدون توسّط قدرة وإرادة. وهذا المذهب قول بتعدّد القدماء.(7) وبطلانه واضح بالأدلّة العقليّة والنقليّة.

(وَلاَ كَانَ لَهُ) أي لربّي (أَيْنٌ) . مرفوعٌ منوّن؛ أي حين، كما مرّ في السابق. .

ص: 122


1- في الكافي المطبوع: «كَيْفٍ» بتنوين الكسر في آخره.
2- في الكافي المطبوع : «كانَ» .
3- النهاية ، ج 4 ، ص 212 (كون) .
4- في «ج» : - «و» .
5- لسان العرب ، ج 13 ، ص 369 (كان) .
6- في حاشية «أ» : «والأولى الضمير لربّي ؛ لأنّه المذكور في اللفظ ، وهكذا في المواضع الخمس الآتية في الفقرة الثانية (مهدي)» .
7- حكاه عن الأشاعرة العلاّمة في كشف المراد ، ص 402 ؛ وفي طبعة تحقيق الزنجاني ص 314 .

(وَلاَ كَانَ فِي شَيْءٍ) محيط به.

(وَلاَ كَانَ عَلى شَيْءٍ) يكون ثقله عليه.

(وَلاَ ابْتَدَعَ لِمَكَانِهِ مَكَانا) . مضى معنى المكان في شرح عنوان الباب. والمراد إبطال قول من زعم أنّ اختصاص أوّل الحوادث بوقته؛ لأنّه ليس قبله وقت ولا امتداد وبقاء هو مكان اللّه تعالى، فمكانه ومكان الحوادث واحد، وتقدّمه على أوّل الحوادث تقدّم بالذات فقط.

(وَلاَ قَوِيَ) ؛ كرضي، أي ولا حصل له زيادة قدرة.

(بَعْدَ مَا) ؛ مصدريّة.

(كَوَّنَ الاْءَشْيَاءَ) ؛ بتشديد الواو.

(وَلاَ كَانَ ضَعِيفا) أي ناقص القدرة.

(قَبْلَ أَنْ يُكَوِّنَ شَيْئا) ؛ فهو ذو القوّة المتين، وقوّته قبل تكوين الأشياء كقوّته بعد تكوين الأشياء.

(وَلاَ كَانَ مُسْتَوْحِشا قَبْلَ أَنْ يَبْتَدِعَ شَيْئا، وَلاَ يُشْبِهُ) ؛ بصيغة معلوم باب الإفعال.

(شَيْئا مَذْكُورا) أي محفوظا ذهنيّا بأن يكون متصوّرا في الأذهان بشخصه أو بكنهه.

وفي رواية ابن بابويه في كتابه في التوحيد بدل «مذكورا»: «مكوّنا».(1)

(وَلاَ كَانَ خِلْوا) ؛ بكسر المعجمة وسكون اللام، أي خاليا.

(مِنْ الْمُلْكِ) ؛ بضمّ الميم وسكون اللام: السلطنة.

(قَبْلَ إِنْشَائِهِ) ؛ لأنّ مناط الملك القدرة المعلومة، وهي حاصلة له قبل الإنشاء.

وفي رواية ابن بابويه: «خلوا من القدرة على الملك».(2)

وإضافة «إنشاء» إلى الضمير إضافة إلى المفعول، أي قبل إنشاء شيء.

(وَلاَ يَكُونُ مِنْهُ) : من الملك (خِلْوا بَعْدَ ذَهَابِهِ) أي ذهاب شيء، أو ذهاب كلّ شيء، .

ص: 123


1- التوحيد ، ص 173 ، باب نفي المكان ، ح 2 . وفي حاشية «أ» : «مكنونا» .
2- التوحيد ، ص 173 ، باب نفي المكان ، ح 2 .

فإنّه لمّا كان الذهاب كالنفي، كان «شيء» كالنكرة في سياق النفي.

ويجوز أن يكون الضمير في «ذهابه» راجعا إلى الإنشاء، ويكون ضمير «إنشائه» راجعا إلى اللّه بأن يكون إضافةً إلى الفاعل، ويكون المراد بذهاب الإنشاء ذهاب المُنشَأ.

الثانية: قوله:

(لَمْ يَزَلْ) ؛ بفتح الزاي ناقصة.

(حَيّا بِلاَ حَيَاةٍ) : كائنة في الخارج في نفسها حقيقة، أو باعتبار شرط لها غير الذات. وإنّما ذكر ذلك إشعارا بأنّ التغيّر في الحياة إنّما يتصوّر على تقدير وجودها.

(وَمَلِكا) ؛ بفتح الميم وكسر اللام.

(قَادِرا) . صفة موضحة جارية مجرى التفسير.

(قَبْلَ أَنْ يُنْشِئَ شَيْئا) . الظرف متعلّق ب«لم يزل» باعتبار كون خبره «ملكا قادرا».

(وَمَلِكا) ؛ بفتح الميم وكسر اللام معطوفٌ على «ملكا» الأوّلِ.

(جَبَّارا) . صفة موضحة جارية مجرى التفسير. ومعنى الجبر هنا أنّ فعله بمحض نفوذ الإرادة ليس من الأفعال العلاجيّة.

(بَعْدَ إِنْشَائِهِ) . الظرف متعلّق ب«لم يزل» باعتبار كون خبره «ملكا جبّارا». وحين الإنشاء داخل في هذا الشقّ عرفا، والضمير للّه .

(لِلْكَوْنِ) . الظرف متعلّق بالإنشاء، واللام للعهد الخارجي؛ أي كون الممكن كالنظام المشاهد.

(فَلَيْسَ) . تفريعٌ على قوله: «لم يزل حيّا بلا حياة» إلى آخره.

(لِكَوْنِهِ كَيْفٌ) . مضى شرح مضمونه في الاُولى.

(وَلاَ لَهُ) أي للّه (أَيْنَ(1)) . مبنيٌّ على الفتح حكايةً، أو مرفوع.

(وَلاَ لَهُ) أي للّه (حَدٌّ) أي أن يحيط به مقدار لا يتجاوزه.

(وَلاَ يُعْرَفُ) أي اللّه (بِشَيْءٍ) أي بموجود، سواء كان جسمانيّا أم مجرّدا. .

ص: 124


1- في الكافي المطبوع : «أيْنٌ» .

(يُشْبِهُهُ) ؛ من باب الإفعال؛ أي يشاركه في معنى. ويجيء بيانه في أوّل السابع عشر(1) عند قوله: «إنّما التشبيه في المعاني، فأمّا في الأسماء فهي واحدة».

وهذا التقييد للإشارة إلى أنّ معرفة ربوبيّته تحصل بالنظر في كلّ مخلوق، كما في سورة الأعراف: «أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالاْءَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّه ُ مِنْ شَىْ ءٍ»(2).

(وَلاَ يَهْرَمُ لِطُولِ الْبَقَاءِ) ؛ كيعلم، والضمير للّه . والمقصود أنّه لا يختلف الصدور عنه صعوبةً وسهولة باعتبار الهرم وضدّه. والهَرَم محرّكةً: أقصى الكِبَر.(3) والمراد به هنا ضعف الهرم.

(وَلاَ يَصْعَقُ لِشَيْءٍ) ؛ كيعلم؛ أي لا يفزع لخوف فيضعف ويضطرب، أو لا يغشى عليه، أو لا يموت. والمعنى: لا يمكن أن يصعق.

(بَلْ لِخَوْفِهِ تَصْعَقُ الاْءَشْيَاءُ كُلُّهَا) . لام «الأشياء» للجنس، أو للعهد الخارجي.

وعلى الأوّل نسبة الخوف والصَعْق إلى الجمادات تمثيل لعظمته تعالى، كما في سورة الأحزاب: «إِنَّا عَرَضْنَا الاْءَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالاْءَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا».(4)

وعلى الثاني المراد بالأشياء الأشياء الصَعِقَة، وهي مَن في السماوات ومن في الأرض إلاّ من شاء اللّه ، كما في سورة النمل: «وَيَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِى السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِى الاْءَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللّه ُ»(5)، وفي سورة الزمر: «وَنُفِخَ فِى الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِى السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِى الاْءَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللّه ُ».(6)

الثالثة: قوله:

(كَانَ حَيّا) ؛ ناقصة. .

ص: 125


1- أي الحديث 2 من باب آخر وهو من الباب الأوّل.
2- الأعراف (7) : 185 .
3- لسان العرب ، ج 12 ، ص 607 (هرم) .
4- الأحزاب (33) : 72 .
5- النمل (27) : 87 .
6- النمل (27) : 68 .

(بِلاَ حَيَاةٍ حَادِثَةٍ) أي كائنةٍ في نفسها في الخارج. وهذا التعبير من قبيل وضع نفي اللازم في مقام نفي الملزوم للإشارة إلى اللزوم، كما يجيء بيانه في سادس الثاني والعشرين(1) عند قوله: «وشهادتهما جميعا بالتثنية الممتنع منه الأزل».

(وَلاَ كَوْنٍ) . مصدر كان الناقصة أو التامّة. وعلى الأوّل المراد كونه حيّا.

(مَوْصُوفٍ) . صفة مقيّدة لكونٍ؛ أي متقدّر بقدر معيّن. ويجيء نظيره في حادي عشر العاشر(2) في قوله: «إنّ اللّه لا يوصف [وكيف يوصف؟(3)] وقد قال في كتابه: «وَمَا قَدَرُوا اللّه َ حَقَّ قَدْرِهِ»(4)في حاشية «أ» : «أي بفتح الهمزة وكسرها ، كما مرّ في ثاني هذا الباب . وهو مجرور؛ لكونه معطوفا على : لاحياة . (مهدي)» .(5)، فلا يوصف بقدر إلاّ كان أعظم من ذلك».

(وَلاَ كَيْفٍ) أي كيفيّة. ومضى تفسيرها وتقسيمها إلى قسمين في سادس الثاني(6) عند قوله: «فله كيفيّة؟ قال عليه السلام : لا لأنّ الكيفيّة جهة الصفة والإحاطة».

(مَحْدُودٍ) أي محاط، وهو صفة مقيّدة ل_«كيف» للاحتراز عن القسم الأوّل من قسمي الكيفيّة.

(وَلاَ أَيْنٍ) ؛ بالفتح والكسر(6) منوّنا؛ أي حين.

(مَوْقُوفٍ) أي محبوس (عَلَيْهِ) . الضمير للأين، والمعنى: أين لا يكون اللّه في غيره، وهو صفة موضحة ل«أين».

(وَلاَ مَكَانٍ جَاوَرَ شَيْئا) . مضى تفسير «المكان» في شرح عنوان الباب، وهو أعمّ من الموضع.

و«جاور» بالجيم والمهملة. و«شيئا» بفتح المعجمة وسكون الخاتمة والهمز، .

ص: 126


1- أي الحديث 6 من باب جوامع التوحيد .
2- أي الحديث 11 من باب النهي عن الصفة بغير ما وصف به نفسه تعالى .
3- مابين المعقوفين من المصدر .
4- الأنعام
5- : 91 .
6- أي الحديث 6 من باب إطلاق القول بأنّه شيء .

والجملة صفة مقيّدة ل«مكان» يعني ولا مكان محدود، فإنّ المحدود من جملة المكان مجاور لمكان ملاصق به ولما في ذلك المكان. فهذا(1) موافق لما يجيء في حادي عشر الثامن(2) من قوله: «هو في كلّ مكان، وليس في شيءٍ من المكان المحدود».

(بَلْ حَيٌّ يَعْرِفُ)(3) ؛ بصيغة المعلوم من باب ضرب، صفة موضحة ل«حيّ» للإشارة إلى أنّ الكيف ونحوه ليس مناط حقيقة الحياة. ويجيء في ثاني الباب الآتي «عارف بالمجهول».

(وَمَلَكٌ) ؛ بالفتح، وككتف: ذو المُلك؛ بالضمّ.

(لَمْ يَزَلْ) ؛ بفتح الزاي ناقصة.

(لَهُ الْقُدْرَةُ وَالْمُلْكُ) ؛ بالضمّ: السلطنة والعظمة.

(أَنْشَأَ مَا شَاءَ حِينَ شَاءَ بِمَشِيئَتِهِ ) . استئنافٌ لبيان تقدّم قدرته وملكه على وقت الفعل. ويجيء تفصيله في ثاني «باب الاستطاعة».

(لاَ يُحَدُّ) أي لا يحاط بمقدار لا يتجاوزه.

(وَلاَ يُبَعَّضُ) ؛ بصيغة المجهول من باب التفعيل؛ أي لا ينقسم إلى أجزاء عقليّة، ولا إلى أجزاء مقداريّة.

(وَلاَ يَفْنى) . يُقال: فني فلان _ كرضي وسعى _ : إذا هرم. والفاني: الشيخ الكبير. وفنيالشيء: إذا عدم.

الرابعة: قوله:

(كَانَ أَوَّلاً بِلاَ كَيْفٍ، وَيَكُونُ آخِرا) أي باقيا بعد فناء ما عداه.

(بِلاَ أَيْنٍ) أي بلا حين. وتخصيص الكيف بالأوّل والأين بالآخر لأنّ معارضة الوهم للعقل قبل حدوث الأجسام أكثرها في الكيف، وبعد فنائها في الأين أيضا، فلمّا نفى .

ص: 127


1- في «ج» : «وهذا» .
2- أي الحديث 11 من باب النهي عن الكلام في الكيفيّة . ورقم الحديث في الكافي المطبوع : «9» وترقيم الحديث ب_ «11» خاصّ بملاّخليل القزويني .
3- في الكافي المطبوع : «يُعرَف» .

الكيف أوّلاً _ ويعلم منه نفيه آخرا أيضا _ اكتفى في الآخر بنفي الأين.

إن قلت: قوله: «ويكون» يدلّ على سبق الأوّليّة له على الآخريّة، وهذا مناف لما في نهج البلاغة من قول أمير المؤمنين عليه السلام : «الذي لم يسبق له حالٌ حالاً، فيكون أوّلاً قبل أن يكون آخرا؟»(1).

قلت: سَبْق أوّليّته على آخريّته إمّا باعتبار سبق حال فيه من كيف وكمّ على حال اُخرى فيه، أو لا. والمراد بما في نهج البلاغة نفي الأوّل. ويجيء في خامس السادس عشر.(2) والمراد هنا إثبات الثاني.

(وَ«كُلُّ شَىْ ءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ»(3)). سيجيء تفسيره في أوّل «باب النوادر» وثانيه.

«لَهُ الْخَلْقُ». هذا إلى آخره اقتباس من سورة الأعراف.(4)تتمّة الآية 54 من سورة الأعراف .(5)

«الخلق»: التقدير؛ تقول: خلقت الأديم: إذا قدّرته قبل القطع(6). ولا يلزم أن يكون الخالق لشيء مكوّنا له، والمراد بإطلاق الخلق التقدير من جميع الوجوه، وهو مختصّ باللّه تعالى.

«وَالاْءَمْرُ» أي الحكم؛ إذ لا حكم إلاّ للّه . أو المراد كون الخلق بمحض نفوذ الإرادة بلا فعل علاجي وتعب؛ مأخوذا من قوله تعالى في سورة يآس: «إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ»(7). وحينئذٍ يمكن أن يكون المراد بالخلق مطلق التدبير، ويكون التخصيص المفهوم من تقديم الظرف باعتبار المجموع.

«تَبَارَكَ اللّه ُ رَبُّ الْعَالَمِينَ»(7). .

ص: 128


1- نهج البلاغة ، ص 96 ، الخطبة 65 .
2- أي الحديث 5 من باب معاني الأسماء واشتقاقها .
3- القصص (28) : 88 .
4- الأعراف
5- : 54 . وهذا ليس اقتباس ، بل هي آية ؛ إلاّ أن يكون مقصوده من الاقتباس إدراج الكلام القرآني في كلامه .
6- الصحاح ، ج 4 ، ص 1470 (خلق) .
7- يآس (36) : 82 .

الخامسة: قوله:

(وَيْلَكَ أَيُّهَا السَّائِلُ ، إِنَّ رَبِّي لاَ تَغْشَاهُ) أي لا تعرضه، أو لا تدركه (الاْءَوْهَامُ) ؛ جمع «وَهم» بالفتح، وهو الغلط في الحساب ونحوه؛ أو هو الخاطر.

(وَلاَ تَنْزِلُ بِهِ الشُّبَهَاتُ) ؛ بضمّ المعجمة، وفتح الموحّدة وإسكانها وضمّها، جمع «شبهة» بالضمّ: الالتباس. والمراد أنّ اللّه بالغ أمره، لا يشتبه عليه شيء.

(وَلاَ يُجَارُ) من شيء؛ بالجيم على ما في أكثر النسخ؛ إمّا بضمّ ياء المضارعة والألف من الإجارة، يُقال: أجاره اللّه من العذاب، أي أنقذه؛ وإمّا بفتحها والهمز، يقال: جأر _ كمنع _ جأرا وجؤارا:(1) إذا رفع صوته بالدعاء، وتضرّع واستغاث.(2) وفي بعض النسخ بالمهملة، وبفتح ياء المضارعة، من باب علم، من الحيرة.

(وَلاَ يُجَاوِرُهُ(3) شَيْءٌ ) أي مجاورة مكانيّة.

(وَلاَ تَنْزِلُ(4) بِهِ الاْءَحْدَاثُ) ؛ جمع حدث بفتحتين: نوائب الدهر وبلاياه.

(وَلاَ يُسْأَلُ عَنْ شَيْءٍ) أي لا يجوز لأحد الاعتراضُ عليه في شيء فَعَلَه، أو الاستكشاف عن سرّ قدر ما قدَّر، وخلق ما خَلَقَ؛ لأنّه يتعالى عن أذهان الخلائق، ومعلوم أنّ ربّنا الذي أعطى كلّ شيءٍ خلقه، أي ما يليق به من الخلق والتدبير؛ لرعاية الحكمة في كلّ ما خلق.

(وَلاَ يَنْدَمُ عَلى شَيْءٍ) . جارٍ مجرى عطف التفسير.

(وَ«لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ») . اقتباس من آية الكرسيّ،(5) وهو فيها استئناف لبيان قوله: «القيّوم».

والسنة: الإعياءُ الحاصل من الأعمال الشاقّة، والنعاسُ. والأوّل أوفق بما سيجيء في .

ص: 129


1- في «ج» : «وجؤرا» .
2- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 384 (جأر) .
3- في الكافي المطبوع : «ولا يجاوزه» .
4- في الكافي المطبوع : «ولا ينزل» .
5- البقرة (2) : 255 . والظاهر أنّ مقصوده من الاقتباس إدراج الكلام القرآني في كلامه .

«كتاب العشرة» في الثاني والرابع من «باب الجلوس».(1) وعلى الثاني المراد أنّه لا تصرفه عن كونه قيّوما _ أي قائما بكلّ ما يحتاج إليه كلّ شيء _ سنةُ المخلوقين، بل ولا نومهم؛ لأنّ المحتاج المخلوق له تعالى لا ينحصر في ذوات الأنفس، وحاجة ذوات الأنفس لا تنحصر فيما يعرضونه على اللّه ، ويطلبونه منه في يقظتهم، بل له كلّ شيء، كما يدلّ عليه الاستئناف البياني بقوله:

(«لَهُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الاْءَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَاتَحْتَ الثَّرى») . هذا مأخوذ من سورة طه.(2)

وفي القاموس: «الثرى: الندى والترابُ النَّدِيُّ، أو الذي إذا بُلَّ لم يَصِر طينا [لازبا[ كالثَرياء ممدودةً، والخيرُ، والأرضُ» انتهى.(3)

فيمكن أن يكون المراد هنا الخيرَ، ويكون عبارة عن القدرة، ويكون المراد بما تحت الثرى كلّ مقدور.

ولا ينافي هذا ما في «كتاب الروضة» في حديث الحوت على أيّ شيء هو؟ : أنّ الأرض على الحوت، والحوت على الماء، والماء على صخرة، والصخرة على قرن ثور أملس، وهو على الثرى وعند ذلك ضلّ علم العلماء.(4) لكن لا يُوافق .

ص: 130


1- الكافي ، ج 2 ، ص 661 ، باب الجلوس ، ح 2 و 4 . وفي حاشية «أ» : «(قوله : في الثاني والرابع) إلى آخر ثاني ذلك الباب بعد الإسناد هكذا : عن أبي حمزة الثمالي قال : رأيت عليّ بن الحسين عليهماالسلام قاعدا واضعا إحدى رجليه على فخذه ، فقلت : إنّ الناس يكرهون هذه الجلسة ويقولون : إنّها جلسة الربّ ، فقال : إنّي إنّما جلست هذه الجلسة للملالة ، والربّ لا يملّ ولا تأخذه سنة ولا نوم . وخامس ذلك الباب بعد الإسناد هكذا : عن حمّاد بن عثمان قال : جلس أبو عبد اللّه عليه السلام متورّكا رجله اليمني على فخذه اليسرى ، فقال له رجل : جعلت فداك هذه جلسة مكروهة . فقال : لا ، إنّما هو شيء قالته اليهود لما أن فرغ اللّه عزّوجلّ من خلق السموات والأرض واستوى على العرش جلس هذه الجلسة ليستريح . فأنزل اللّه عزّوجلّ : «اللَّهُ لاَآ إِلَ_هَ إِلاَّ هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ» وبقى أبو عبداللّه عليه السلام متورّكا كما هو (مهدي)» .
2- طآه (20) : 6 .
3- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 308 (ثرى) .
4- الكافي ، ج 8 ، ص 89 ، ح 55 .

هذا(1) ما في «كتاب الروضة» في حديث زينب العطّارة(2)؛ واللّه أعلم.

الرابع: (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ أَبِيهِ رَفَعَهُ، قَالَ: اجْتَمَعَتِ الْيَهُودُ إِلى) . ضمّن «اجتمع» معنى «توجّه».

(رَأْسِ الْجَالُوتِ) . الرأس: سيّد القوم ومقدّمهم، و«جالوت» اسم أعجمي؛ أي مقدّم بني الجالوت في العلم.

(فَقَالُوا لَهُ: إِنَّ هذَا الرَّجُلَ عَالِمٌ فِي الْمُسْلِمِينَ يُقَالُ فِي عِلْمِهِ أشْيَاء عَجِيبَةٌ(3) _ يَعْنُونَ أَمِيرَ الْمُوءْمِنِينَ عليه السلام _ فَانْطَلِقْ بِنَا إِلَيْهِ ؛ نَسْأَلْهُ) ؛ بالجزم، أي للامتحان أو الإلزام.

(فَأَتَوْهُ، فَقِيلَ لَهُمْ: هُوَ فِي الْقَصْرِ) ؛ بالفتح: المنزل، أو كلّ بيت من حجر.

(فَانْتَظَرُوهُ حَتّى خَرَجَ، فَقَالَ لَهُ رَأْسُ الْجَالُوتِ: جِئْنَاكَ نَسْأَلُكَ) ؛ بالرفع بإضمار «أن» وإهمالها، أي لأن نسألك؛ أو حال مقدّرة، أو استئناف بياني للتعليل، أو بالنصب على إضمار «أن» وإعمالها.

(قَالَ(4): سَلْ يَا يَهُودِيُّ، عَمَّا بَدَا لَكَ) أي سنح لك أن تسأل عنه.

(فَقَالَ: أَسْأَلُكَ عَنْ رَبِّكَ: مَتى كَانَ؟). ليس هذا السؤال مبنيّا على اعتقاد حدوث الربّ، بل هو مبنيّ على أنّ مذهب اليهود كالزنادقة الفلاسفة قِدَم العالم مستندا بامتناع تخلّف المعلول عن العلّة التامّة، وأنّه لو كان العالم حادثا _ كما ذهب إليه أهل الإسلام _ لزم أن يكون الربّ حادثا؛ إذ لو كان قديما لتوقّف حدوث أوّل الحوادث على حدوث شرط، كقصد أو شوق غاية، وهو خلاف الفرض ومستلزم للتسلسل؛ يعني إذا كان العالم حادثا _ كما زعمتم _ فمتى كان الربّ؟ .

ص: 131


1- في حاشية «أ» : «قوله : (لكن لايوافق) إلى آخره وذلك لأنّ في فقرات حديثها هكذا : والسبع والديك والصخرة والحوت والبحر المظلم والهواء والثرى بمن فيه ومن عليه عند السماء الاُولى كحلقة في فلاة فيّ» .
2- الكافي ، ج 8 ، ص 153 ، ح 143 .
3- في الكافي المطبوع : - «في المسلمين يقال : في علمه أشياء عجيبة» .
4- في الكافي المطبوع : «فقال» .

(فَقَالَ) أمير المؤمنين عليه السلام في جوابه خمس جمل:

الاُولى: (كَانَ بِلاَ كَيْنُونِيَّةٍ) . «كان» تامّة، والكينون بفتح الكاف وسكون الخاتمة ونونين بينهما واو: الكائن الحادث، أصله الكيَّنون بفتح الخاتمة وتشديدها، فيعلول من الكون، كالديموم من الدوام، بدليل أنّه لولا ذلك لقيل: كونون ودوموم، لأنّهما من الواوي، وأيضا لم يثبت في كلامهم فعلول بالفتح، واُضيف إليه هنا ياء مشدّدة للنسبة، ثمّ تاء للمصدريّة، كما في الديموميّة، وكما في الكيفوفيّة والأينونيّة. وقد مضيا في ثالث الأوّل،(1) والمشهور في كتب اللغة «كينونة» و«ديمومة» بدون الياء المشدّدة؛(2) أي بلا حدوث. وهذا إشارة إلى نفي اللزوم الذي توهّمه السائل.

الثانية: (كَانَ بِلاَ كَيْفَ،(3) كَانَ) . «كان» في الموضعين تامّة، و«كيف» مبنيّ على الفتح. والمراد أنّ أذهان الخلائق قاصرة عن إدراك أزله بلا أزليّة العالم، كما يجيء في خامس الثاني والعشرين(4) من قوله عليه السلام : «أزله نهي(5) لمجاوِل الأفكار».

الثالثة: (لَمْ يَزَلْ بِلاَ كَمْ(6) وَبِلاَ كَيْفَ(7) كَانَ) ؛ «لم يزل» بفتح الزاي ناقصة خبرها الظرف. و«كم» بفتح الكاف وسكون الميم، استفهاميّة استعملت فيما يُقال في جواب الاستفهام الحقيقي، نحو: علمت أين زيد. و«كيف» مبنيّ على الفتح. و«كان» عاملُ كلٍّ مِن «كم» و«كيف». فالمراد: بلا كم كان، وبلا كيف كان.

الرابعة: (لَيْسَ لَهُ قَبْلٌ، هُوَ قَبْلَ الْقَبْلِ بِلاَ قَبْلٍ وَلاَ غَايَةٍ وَلاَ مُنْتَهىً) .

«قبل» في المواضع الأربعة بفتح القاف وسكون الموحّدة، وفي الأوّل والرابع بمعنى شرط حادث يتوقّف عليه صدور أوّل الحوادث عنه. .

ص: 132


1- أي الحديث 3 من باب حدوث العالم وإثبات المحدث .
2- الصحاح ، ج 6 ، ص 2190 ؛ لسان العرب ، ج 13 ، ص 364 (كون) .
3- في الكافي المطبوع : «كَيْفٍ» .
4- أي الحديث 5 من باب جوامع التوحيد .
5- في المصدر : «نهية» .
6- في الكافي المطبوع : «كَمٍّ» .
7- في الكافي المطبوع : «كَيْفٍ» .

وقوله: «هو قبل القبل بلا قبل» استئناف بياني للسابق؛ أي هو مقدّم على أوّل الحوادث بلا توقّف صدور أوّل الحوادث عنه على شرط حادث، كما مضى في ثاني الباب من قوله عليه السلام : «وكان اعتماده على قدرته».

وهذا مناط دفع شبه اليهود والفلاسفة، وبه يظهر جواز تخلّف المعلول عن العلّة التامّة في الأفعال الاختياريّة، وتفصيله في المقدّمة الثانية من الحاشية الاُولى من حواشينا على عدّة الاُصول.(1)

و«لا» في قوله: «ولا غاية» وفي قوله: «ولا منتهى» مزيدة لتأكيد النفي. والغاية: النفع الحاصل للفاعل بسبب فعله.

و«منتهى» مجرور تقديرا ومنوّن، والمراد به الغاية المقصودة بالذات، ويُقال لها: غاية الغايات. ونفيه هنا بعد نفي الغاية من قبيل قوله تعالى في سورة يونس: «وَلاَ أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ»(2)، وفي سورة القمر: «وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ»(3)، وفي سورة المجادلة: «وَلاَ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ»(4).

الخامسة: (انْقَطَعَتْ عَنْهُ الْغَايَةُ وَهُوَ غَايَةُ كُلِّ غَايَةٍ) . هذه لتأكيد نفي الغاية المذكورِ(5) في الرابعة، وذلك لأنّ الأوهام العامّيّة تستبعد أن يكون فعل بلا غاية.

وقوله: «وهو غاية كلّ غاية» إشارة إلى ما في سورة التوبة من قوله تعالى: «وَرِضْوَانٌ مِنْ اللّه ِ أَكْبَرُ»(6). والمراد أنّ كلّ نفع دنيوي أو اُخروي للعباد سهل في جنب رضاه تعالى، ورضاه منتهى مراتب الغايات. .

ص: 133


1- الحاشية الاُولى للمصنّف على عدّة الاُصول غير مطبوعة . اُنظر مقدّمة عدّة الاُصول ، ج 1 ، ص 4 . وهي أوسع حواشي المصنّف على العدّة .
2- يونس (10) : 61 .
3- القمر (54) : 53 .
4- المجادلة (58) : 7 .
5- في حاشية «أ»: «صفة لنفي الغاية (سمع)».
6- التوبة (9) : 72 .

(فَقَالَ رَأْسُ الْجَالُوتِ: امْضُوا بِنَا) ؛ الباء للملابسة.

(فَهُوَ أَعْلَمُ مِمَّا يُقَالُ فِيهِ). الفاء للبيان، وقوله: «ممّا يقال فيه» لرعاية معنى «فهو أعلم»؛ لأنّه بمعنى: فعلمه أكثر. المتتبّع الخبير بأساليب الكلام يعرف أنّه لم يجتمع مثل هذه المعاني الكثيرة الدقيقة مع مثل هذه الألفاظ القليلة البليغة بعد كلام اللّه تعالى ورسوله عليه السلام في غير كلام أمير المؤمنين وأولاده الأحد عشر عليهم السلام .

الخامس: (وَ بِهذَا الاْءِسْنَادِ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي نَصْرٍ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْمَوْصِلِيِّ) ؛ بفتح الميم، وسكون الواو، وكسر المهملة.(1)

(عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ: جَاءَ حِبْرٌ) ؛ بكسر المهملة وفتحها وسكون الموحّدة: العالم بتحبير الكلام والعلم، أي تحسينه.(2)

(مِنَ الاْءَحْبَارِ) أي من أحبار اليهود.

(إِلى أَمِيرِ الْمُوءْمِنِينَ عليه السلام ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُوءْمِنِينَ، مَتى كَانَ رَبُّكَ؟)

(فَقَالَ لَهُ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ) . «الثكل» بالضمّ وبفتحتين مصدر باب علم: فقدان الولد؛ وامرأة ثاكل وثكلى.(3) وهذا دعاء عليه بالموت، وليس المقصود أن تكون له اُمّ ثاكل حقيقةً.

(وَمَتى لَمْ يَكُنْ حَتّى يُقَالَ: مَتى كَانَ؟ كَانَ رَبِّي قَبْلَ الْقَبْلِ بِلاَ قَبْلٍ) . ظاهر ممّا مرّ في رابع الباب.

(وَبَعْدَ الْبَعْدِ) . «بعد» منصوب على الظرفيّة، وهو معطوف على «كان» لا على خبرها، فالمعنى: ويكون بعد البعد. والمراد بالبعد: آخر الحوادث المتسلسلة المعروفة.

(بِلاَ بَعْدٍ) ؛ لردّ توهّم أنّ انتفاء الحوادث المتسلسلة المعروفة بالمرّة(4) إنّما يكون .

ص: 134


1- في حاشية «أ» : «نسبة إلى الموصل كمجلس ، وهو أرض بين العراق والجزيرة . والموصلان هي والجزيرة على ما في القاموس» ج 4 ، ص 65 .
2- لسان العرب ، ج 4 ، ص 158 ؛ مجمع البحرين ، ج 1 ، ص 444 (حبر) .
3- النهاية ، ج 1 ، ص 217 (ثكل) .
4- في حاشية «أ» : «متعلّقة بانتفاء ، يعني انتفاءها بتمام أجزائها وجزئيّاتها (مهدي)» .

لحدوث مانع عنها خارجٍ عن جنسها وعن سلسلتها. وفي نهج البلاغة في خطبة أوّلها: «ما وحّده من كيّفه»(1) و«أنّه سبحانه يعود بعد فناء الدنيا وحده، لا شيء معه كما كان قبل ابتدائها، كذلك يكون بعد فنائها بلا وقت ولا مكان ولا حين ولا زمان، عُدِمَتْ عند ذلك الآجال والأوقات، وزالت السنون والساعات» انتهى.(2)

لمّا كان لفظ الوقت والحين والزمان والأجل إنّما يطلق على هذا الامتداد باعتبار أنّه ظرف للحادث، فلا يستلزم نفيها نفي الامتداد رأسا بقرينة «ثمّ» في قوله بعده: «ثمّ يعيدها بعد الفناء» إذا لم تكن للتعجّب.

(وَلاَ غَايَةَ وَلاَ مُنْتَهى لِغَايَتِهِ) . ضمير «غايته» للّه ، وهو ظاهر ممّا مرّ في شرح رابع الباب.

(انْقَطَعَتِ الْغَايَاتُ) أي العلل الغائيّة المترتّبة التي تكون للعابدين في عباداتهم.

(عِنْدَهُ) أي عند ربّي.

(فَهُوَ) . تفريعٌ على الانقطاع عنده؛ أي فربّي تعالى.

(مُنْتَهى كُلِّ غَايَةٍ) أي غاية الغايات.

(فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُوءْمِنِينَ، أَفَنَبِيٌّ أَنْتَ؟). أشارةٌ إلى أنّه لا يُعلم ذلك كذلك إلاّ بالوحي.

(فَقَالَ: وَيْلَكَ، إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ) العبد كما يُطلق على العابد يُطلق على القنّ(3) ومعناه هنا مطيع كمال الإطاعة كالقِنّ.

(مِنْ عَبِيدِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله ) . فيه تصديق لما أشار إليه الحِبر،(4) وإثبات للواسطة.

السادس: (وَرُوِيَ أَنَّهُ سُئِلَ عليه السلام ). يحتمل رجوعه إلى أبي عبداللّه عليه السلام وإلى أمير المؤمنين عليه السلام .

(أَيْنَ كَانَ رَبُّنَا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ سَمَاءً وَأَرْضا؟ فَقَالَ عليه السلام : أَيْنَ سُوءَالٌ عَنْ مَكَانٍ ) أي عن .

ص: 135


1- نهج البلاغة ، ص 272 ، الخطبة 186 .
2- نهج البلاغة ، ص 276 ، الخطبة 186 .
3- في حاشية «أ» : «القِنّ بالكسر: عبدٌ مُلِكَ هو وأبواه ، للواحد والجمع ، أو هو يجمع أقنانا وأقِنّة ، أو هو الخالص العبودة بيّن القنونة والقنانة» . القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 261 (قنّ) .
4- في «ج» : «الخبر» .

موضعِ ما لا يمكن كونه إلاّ في موضع.

(وَكَانَ اللّه ُ وَلاَ مَكَانَ) أي ولا موضع أصلاً؛ فليس اللّه ممّا لا يمكن كونه إلاّ في موضع، فلا يصحّ فيه هذا السؤال.

السابع: (عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَمَاعَةَ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ: قَالَ رَأْسُ الْجَالُوتِ لِلْيَهُودِ: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ عَلِيّا عليه السلام مِنْ أَجْدَلِ النَّاسِ) . الجدل: المناظرة.

(وَأَعْلَمِهِمْ، اذْهَبُوا بِنَا إِلَيْهِ لَعَلِّي أَسْأَلُهُ عَنْ مَسْأَلَةٍ، وَأُخَطِّئُهُ) ؛ بصيغة المتكلّم وحده من باب التفعيل، أي أنسبه إلى الخطأ.

(فِيهَا) . يمكن أن يكون هذا الكلام صدر من مقدّم آخَرَ ليهود آخرين غير ما مضى في رابع الباب بأن يكون قبله أو بعده بزمان طويل.

(فَأَتَاهُ) مع اليهود (فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُوءْمِنِينَ، إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْ مَسْأَلَةٍ، قَالَ عليه السلام : سَلْ عَمَّا شِئْتَ، قَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُوءْمِنِينَ، مَتى كَانَ رَبُّنَا؟ قَالَ لَهُ: يَا يَهُودِيُّ، إِنَّمَا يُقَالُ: «مَتى كَانَ» لِمَنْ لَمْ يَكُنْ؛ فَكَانَ)؛ معطوف على «لم يكن».

(«مَتى كَانَ») . «متى» هنا ظرف ل«كان» للتعميم في الوقت، فهذا بمعنى في أيّ وقت كان؛ أي سواء كان زمان حدوثه قبل هذا الزمان الذي نحن فيه بقليل أم بكثير. ونظيره في التعميم في المكان أضرب زيدا أين كان، «وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ».(1)

(هُوَ كَائِنٌ). استئناف بياني.

(بِلاَ كَيْنُونِيَّةِ) . مضى في رابع الباب.

(كَائِنٍ) ؛ بالجرّ على الإضافة، أي بلا حدوث يكون للكائن، كأنّه عليه السلام توسّم من اليهودي إنكارا لذلك وتعجّبا وإرادة أن يقول: كيف يكون شيء أزليّا وبلا كينونيّة على تقدير حدوث العالم، فقال:

(كَانَ بِلاَ كَيْفَ(2) يَكُونُ) . «كيف» مبنيّ على الفتح للاستفهام الإنكاري؛ أي بلا تعجّب .

ص: 136


1- النساء (3) : 89 .
2- في الكافي المطبوع : «كَيْفٍ» .

وإنكار بأن يُقال: كيف يكون، أي كيف يمكن أو يتصوّر هذا.

(بَلى) . إثباتٌ لما توسّم منه إنكاره؛ أي بلى يكون (يَا يَهُودِيُّ، ثُمَّ بَلى) يكون (يَا يَهُودِيُّ، كَيْفَ يَكُونُ لَهُ قَبْلٌ؟!) استئنافٌ بياني لبيان قوله: «بلى».

(هُوَ قَبْلَ الْقَبْلِ بِلاَ غَايَةٍ ، وَلاَ مُنْتَهى غَايَةٍ) . مضى في رابع الباب ما يوضحه.

(وَلاَ غَايَةٍ(1) إِلَيْهَا) . «غاية» بالجرّ والتنوين. و«إليها» بكسر الهمزة وفتح اللام وسكون الخاتمة، والضمير الراجع إلى «غاية» نعت لغاية. و«إلى» بمعنى «مع»، أي ليس له غايتان في مرتبة. ونفي هذا بعد نفي ما سبق كنفي منتهى الغاية بعد نفي الغاية. ومضى بيانه في رابع الباب.

(انْقَطَعَتِ الْغَايَاتُ عِنْدَهُ، هُوَ غَايَةُ كُلِّ غَايَةٍ) . مرَّ نظيره في خامس الباب.

(فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ دِينَكَ الْحَقُّ ، وَأَنَّ مَن) . في بعض النسخ «ما».

(خَالَفَهُ بَاطِلٌ) . عرف ذلك بعلمه بأنّ العرب لا عهد لهم بكتاب، فضلاً عن تعلّم المسائل الإلهيّة، ولا سيّما الغامضات التي يدقّ خفاؤها(2) عن ذهن المشغولين بها بغير استناد إلى وحي كالفلاسفة، فعلم أنّه معجز.

ويمكن أن يكون المراد بدينه ما عليه الإماميّة، وعرف ذلك بامتحان الغاصبين لحقّه.

الثامن: (عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ رَفَعَهُ، عَنْ زُرَارَةَ، قَالَ: قُلْتُ لاِءَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام : أَكَانَ اللّه ُ وَلاَ شَيْءَ غَيْرُهُ؟(3) قَالَ: نَعَمْ، كَانَ وَلاَ شَيْءَ . قُلْتُ: فَأَيْنَ كَانَ يَكُونُ؟). تقول: كان زيد يفعل كذا: إذا أخبرت عن استمرار فعله في جانب الماضي.

(قَالَ: وَكَانَ مُتَّكِئا فَاسْتَوى جَالِسا) ؛ لسماعه منه شيئا عظيما.

(وَقَالَ: أَحَلْتَ) أي قست اللّه تعالى على غيره، أو وصفته بمُحال؛ من(4) أحال الرجل: إذا أتى بالمحال وتكلّم به. .

ص: 137


1- في الكافي المطبوع : «غايةَ» .
2- في حاشية «أ» : «فاعل يدق ، والغرض المبالغة في الخفاء (سمع منه)» .
3- في الكافي المطبوع : - «غيره» .
4- في «ج» : - «من» .

(يَا زُرَارَةُ ، وَسَأَلْتَ عَنِ الْمَكَانِ) أي الموضع (إِذْ لاَ مَكَانَ) .

التاسع: (عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْوَلِيدِ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَصْرٍ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْمَوْصِلِيِّ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ: أَتى حِبْرٌ مِنَ الاْءَحْبَارِ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَتى كَانَ رَبُّكَ؟ قَالَ: وَيْلَكَ، إِنَّمَا يُقَالُ: «مَتى كَانَ» لِمَا لَمْ يَكُنْ) في وقت ما (فَأَمَّا مَا كَانَ) أي دائما (فَلاَ يُقَالُ: «مَتى كَانَ»، كَانَ قَبْلَ الْقَبْلِ بِلاَ قَبْلٍ، وَبَعْدَ الْبَعْدِ بِلاَ بَعْدٍ، وَلاَ مُنْتَهى غَايَةٍ) : ولاغاية. مضى في خامس الباب.

(لِتَنْتَهِيَ غَايَتُهُ). اللام متعلّق بالمنفيّ، وهذا لدفع توهّم صحّة نفي منتهى غاية مطلقا، وذلك لأنّه تعالى منتهى غايات العابدين كما مرّ، وهذا القيد مراد في قوله: «ولا منتهى غاية» في سابع الباب.

(فَقَالَ لَهُ: أَنَبِيٌّ أَنْتَ؟ فَقَالَ: لاِءُمِّكَ الْهَبَلُ) . دعاءٌ عليه بالموت. والهبل بفتح الهاء وفتح الموحّدة مصدر قولك: هبِلَتْهُ اُمّه _ كعلم _ أي ثكِلتهُ.(1)

(إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ مِنْ عَبِيدِ رَسُولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله ) . .

ص: 138


1- النهاية ، ج 5 ، ص 240 ؛ لسان العرب ، ج 11 ، ص 686 (حبل) .

الباب السابع: باب النسبة

الباب السابع بَابُ النِّسْبَةِ

فيه أربعة أحاديث.

النسبة بكسر النون وسكون المهملة والموحّدة مصدر باب نصر وضرب، ذكر النسب كأن يُقال: زيد بن عمرو. والمراد هنا نسبة الربّ، وهي ذكر ما يقوم مقام نسبه كما في سورة الإخلاص؛ إذ لا نسب له حقيقةً.

ويجيء في «كتاب الصلاة» في أوّل «باب النوادر»: «اقرأ يا محمّد نسبة ربّك تبارك وتعالى «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» إلى قوله: اقرأ «إِنَّ_آ أَنزَلْنَ_هُ» فإنّها نسبتك ونسبة أهل بيتك إلى يوم القيامة».(1)

الأوّل: (أَحْمَدُ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَحْيى، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ: إِنَّ الْيَهُودَ سَأَلُوا رَسُولَ اللّه ِ صلى الله عليه و آله ، فَقَالُوا: انْسِبْ) ؛ كانصر واضرب.

(لَنَا رَبَّكَ) أي اذكر لنا ما يقوم مقام نسبه.

(فَلَبِثَ) ؛ كعلم.

(ثَلاَثا) أي ثلاث ساعات؛ ولو كان المقصود الأيّام لقال: ثلاثة.

(لاَ يُجِيبُهُمْ) . لعلّ المصلحة في تأخير الوحي بيانه تعالى للناس أنّه ينبغي للجاهل بشيء أن يسكت عنه ما دام لم يعلم.

ص: 139


1- الكافي ، ج 3 ، ص 485 ، باب النوادر ، ح 1 .

(ثُمَّ نَزَلَتْ: «قُلْ هُوَ اللّه ُ أَحَدٌ» إِلى آخِرِهَا) . يستفاد أنّ المقول لهم في قوله: «قل» اليهود، وأنّ الضمير راجع إلى النسب.

الثاني: (وَ رَوَاهُ) أي روى مضمونه (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ. وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى) . كذا في النسخ، والمظنون أنّ الواو هنا من زيادة الكاتب، وأنّ هذا استئناف سند الحديث الثاني، وما قبله متعلّق بالحديث الأوّل، فيكون المراد بقوله: «ورواه»: روى لفظه.

(عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنِ ابْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عَمْرٍو النَّصِيبِيِّ) ؛ بفتح النون وكسر المهملة وسكون الخاتمة والموحّدة، نسبةً إلى نصيبين على لفظ جمع نصيب، وهو اسم بلد.(1)

(عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام عَنْ «قُلْ هُوَ اللّه ُ أَحَدٌ» فَقَالَ: نِسْبَةُ اللّه ِ) . تسميته نسبة اللّه ونسبة الربّ باعتبار أنّه مذكور جوابا عن السؤال عن نسبه تعالى.

(إِلى خَلْقِهِ أَحَدا، صَمَدا) ؛ منصوبان على التمييز، أو بفعل مقدّر؛ أي ذكر اللّه في نسبته أحدا صمدا. لمّا كان معنى الأحد الفرد المتفرّد، ومعنى الصمد المصمود إليه في الحوائج _ من صمده إذا قصده(2) _ وكان لهذين الوصفين لوازم، أراد أن يبيّن لوازمهما، فقوله:

(أَزَلِيّا) ، ناظرٌ إلى معنى «أحد» وهو منصوب بفعل مقدّر؛ أي يعني أزليّا، أو بالتفسير؛ أي أزليّا،(3) والمراد متفرّدا في الوجود عمّا عداه بالأزليّة. وقوله:

(صَمَدِيّا) ، ناظرٌ إلى معنى الصمد، والنسبة للمبالغة كالأحمري؛ أي مستحقّا لأن يصمد إليه في الحوائج. وقوله:

(لاَ ظِلَّ لَهُ يُمْسِكُهُ ، وَهُوَ يُمْسِكُ الاْءَشْيَاءَ بِأَظِلَّتِهَا) ، ناظرٌ إلى معنى «أحد» يُقال: فلان .

ص: 140


1- هي مدينة عامرة من بلاد الجزيرة على جادة القوافل من الموصل إلى الشام، بينها وبين سنجار تسعة فراسخ ، وبينها وبين الموصل ستّة أيّام . معجم البلدان ، ج 5 ، ص 288 (نحيبين) .
2- الفروق اللغويّة لأبي هلال ، ص 289 ، الرقم 1157 ؛ لسان العرب ، ج 3 ، ص 258 (صمد) .
3- في النسختين : «أي أي أزليّا» .

يعيش في ظلّ فلان، أي في كنفه وحفظه، أي ليس له معين ينضمّ إليه ويحفظه، وهو يحفظ الأشياء مع حافظيها الظاهرة، أو بسببهم، كخلقه تعالى جبلّة الأبوين على العطوفة للولد ونحو ذلك.

وفيه إشارة إلى قوله تعالى في سورة النحل: «أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللّه ُ مِنْ شَىْ ءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنْ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدا للّه ِِ وَهُمْ دَاخِرُونَ»،(1) أفرد اليمين لأنّ المحافظ للشيء بقصد الخير أقلّ من محافظهِ لا بقصد الخير. وقوله:

(عَارِفٌ بِالْمَجْهُولِ، مَعْرُوفٌ عِنْدَ كُلِّ جَاهِلٍ) ، ناظرٌ إلى معنى الصمد.

ومعنى «عارف» عالم مجرّدا عن تجدّد العلم؛(2) أي عالم بما يجهله غيره من ضمائر .

ص: 141


1- النحل (16) : 48 . في حاشية «أ» : «أي أو لم ينظروا إلى المخلوقات التي لها ظلال متفيّئة عن أيمانها وشمائلها ، أي عن جانبي كلّ واحد منها ؛ استعارة من يمين الإنسان وشماله . ولعلّ توحيد اليمين وجمع الشمائل باعتبار اللفظ والمعنى ، كتوحيد الضمير في ضلاله ، وجمعه في قوله : «سُجَّدا للّه ِِ وَهُمْ دَاخِرُونَ» وهما حالان من الضمير في ظلاله . والمراد من السجود الاستسلام ، سواء كان بالطبع أو الاختيار ، و «سجّدا» حال من الظلال. و«هم داخرون» حال من الضمير ، والمعنى : يرجع الظلال بارتفاع الشمس وانحدارها أو باختلاف مشارقها ومغاربها بتقدير اللّه تعالى من جانب إلى جانب منقادة لما قدّر لها من التفيؤ أو واقعة على الأرض ملتصقة لها على هيئة الساجد . والأجرام في أنفسها أيضا داخرة ، أي صاغرة منقادة لأفعال اللّه تعالى فيها . وجمع «داخرون» بالواو؛ لأنّ من جملتها من يعقل ، أو لأنّ الدخور من أوصاف العقلاء . وقيل : المراد باليمين والشمائل يمين الفلك وهو جانبه الشرقي ؛ لأنّ الكواكب تظهر منه آخذة في الارتفاع والسطوع ، وشماله هو الجانب الغربي المقابل له ؛ فإنّ الظلال في أوّل النهار يبتدي من المشرق واقعة على الربع الغربي من الأرض ، وعند الزوال يبتدئ من المغرب واقعة على الربع الشرفي من الأرض . (بيضاوي)» . أنوار التنزيل ، ج 2 ، ص 405 .
2- في حاشية «أ» : «قوله قدّس سرّه : مجرّدا عن تجدد العلم» لعلّه إشارة إلى بطلان ما زعمه التفتازاني في المطوّل و أضرابه في معني المعرفة حيث قال في أوائل الفنّ الأوّل : المعرفة يقال لإدراك الجزئي أو البسيط والعلم للكلّ أو المركب ، ولذا يقال : عرفت اللّه ، دون : علمته ، وأيضا المعرفة يقال لإدراك مسبوق بالعدم أو للأخير من الإدراكين ، شيء واحد إذا تخلل بينهما عدم بأن أدرك أولاً ثمّ ذهل عنه ثم أدرك ثانيا» . والعلم الإدراك المجرّد من هذين الاعتبارين ، ولذا يقال : اللّه تعالى عالم ، ولايقال : عارف ؛ انتهى . وذلك لأنّ كلام الإمام عليه السلام أعدل شاهد في هذا المقام وعديله في الشهادة ما في الخطبة الاُولى من نهج البلاغة في قوله عليه السلام : أحال الأشياء لأوقاتها ، إلى قوله عليه السلام : عارفا بقرائنها وأحنائها ؛ انتهى . والمعنى عارفا بما يقترن بها على وجه التركيب أو المجاورة أو العروض والأحناء بحاء مهملة والنون ، جمع : حنو بالكسر بمعنى الجانب ؛ فلا تغفل (مهدي)» .

الخلق وحوائجهم، وهو معروف عند كلّ جاهل به منكرٍ(1) له؛ لأنّ من ينكره إنّما ينكر بلسانه مع إقرار قلبه به،(2) كما في نهج البلاغة من قوله عليه السلام : «فهو الذي تشهد له أعلام الوجود، على إقرار قلب ذي الجحود»؛(3) فكلّ خلقه في الحقيقة يرفع حوائجه إليه في اضطراره إذا راجع قلبه. ويمكن أن يُراد بالجاهل نحو الأطفال المميّزين. وقوله:

(فَرْدَانِيّا، لاَ خَلْقُهُ فِيهِ، وَلاَ هُوَ فِي خَلْقِهِ، غَيْرُ مَحْسُوسٍ وَلاَ مَجْسُوسٍ، لاَ تُدْرِكُهُ الاْءَبْصَارُ) ، ناظرٌ إلى معنى «أحد».

والفردانيّ نسبة إلى الفرد، وزيادة الألف والنون للمبالغة؛ أي فرد الذات ليس خلقه فيه بأن يكون موصوفا بصفة موجودة في الخارج في نفسها، وليس هو في خلقه لا بالحلول، ولا بالأين، ولا بالجزئيّة لمركّب حقيقي، ولا بالاتّحاد وأمثال ذلك.

قوله: «غير محسوس» بالحاء المهملة، أي لا يعقل ذاته ضرورة.

وقوله: «ولا مجسوس» بالجيم، أي ولا يعقل ذاته نظرا، كما مضى في خامس الأوّل.(4)

وقوله: «لا تدركه» استئنافٌ للإشارة إلى أنّه لو كان محسوسا لكان بالأبصار؛ لظهور بطلان تعلّق الحواسّ الاُخر به، أو تخصيص بعد تعميم للاهتمام؛ لوقوع الخلاف المشهور فيه.(5) وقوله:

(عَلاَ فَقَرُبَ ، وَدَنَا فَبَعُدَ، وَعُصِيَ فَغَفَرَ، وَأُطِيعَ فَشَكَرَ) ، ناظرٌ إلى معنى الصمد؛ أي مع علوّه وربوبيّته قريب من أذهان الناظرين في ملكوت السماوات والأرض وما خلق اللّه .

ص: 142


1- في «ج» : «منكرا» .
2- في «ج» : - «به» .
3- نهج البلاغة ، ص 53 ، الخطبة 49 .
4- أي الحديث 5 من باب حدوث العالم وإثبات المحدث .
5- في حاشية «أ» : «متعلّق بوقوع» .

من شيء، ومع دنوّه من أذهاننا بعيد عن صفاتنا الرذيلة وعمّا لا يليق به، كإثبات الشريك في التكوين بمحض قول: «كُن»، أو في استحقاق العبادة، أو في الاسم الجامد المحض. والفاء التعقيبيّة هنا باعتبار معرفتنا بذلك، وهو تعالى يغفر العصيان ويشكر الطاعة، فهو المستحقّ لرفع الحوائج إليه. وقوله:

(لاَ تَحْوِيهِ أَرْضُهُ، وَلاَ تُقِلُّهُ سَمَاوَاتُهُ، حَامِلُ الاْءَشْيَاءِ بِقُدْرَتِهِ، دَيْمُومِيٌّ، أَزَلِيٌّ) ، ناظرٌ إلى معنى «أحد» يُقال: حواه بالمهملة إذا غلبه وملكه، وأجواه بالجيم إذا أحزنه، ويُقال: أقلّه إذا جعله مستقلاًّ مستبدّا، أي لا يحصل له بسبب معصية أهل أرضه مغلوبيّة أو حُزن، ولا يحصل له بسبب إطاعة أهل سماواته رفعة شأن؛ لأنّه حامل كلّ شيء لا بجارحة بل بقدرته؛ لأنّه ديمومي، أي لا يتغيّر؛ نسبة إلى «ديمومة» مصدر دام الشيء يدوم ويدام دوما ودواما وديمومة، أي أبدي.

وتكرار «أزليٌّ» هنا لبيان «ديمومي» لأنّ ما ثبت(1) قدمه امتنع عدمه، أو لكمال مناسبته مع «ديمومي». وقوله:

(لاَ يَنْسى وَلاَ يَلْهُو، وَلاَ يَغْلَطُ وَلاَ يَلْعَبُ، وَلاَ لاِءِرَادَتِهِ فَصْلٌ، وَفَصْلُهُ جَزَاءٌ، وَأَمْرُهُ وَاقِعٌ) ، بيانٌ آخر لقوله: «لا تحويه» إلى آخره، أو ناظر إلى معنى الصمد؛ يُقال: نسِيَه _ كرضي _ : إذا ذهب علمه به عن ذهنه بالكلّيّة، ويُقال: لَها عنه _ كدعا ورضي _ : إذا غفل وترك ذكره، ويُقال: غلط _ كعلم _ في الحساب وغيره: إذا لم يعرف وجه الصواب فيه.

واللَعب _ بالفتح والكسر، وككتف مصدر باب علم _ : ضدّ الجدّ.

ومعنى «عدم فضل لإرادته» إن كان بالمعجمة أنّها تستلزم المراد، وإن كان بالمهملة أنّ إرادته ليست فاصلة بين شيء وشيء بأن تتعلّق بطاعة دون معصية، فإنّ كلّ(2) واقع بإرادته تعالى حتّى معاصي العباد، كما يجيء في أوّل «باب في أنّه لا يكون شيء في الأرض ولا في السماء إلاّ بسبعة». أو المراد أنّه قادر على كلّ شيء لا يمتنع عن إرادته شيء دون شيء. .

ص: 143


1- في «ج» : «يثبت» .
2- في «ج» : «كان» .

وقوله: «وفصله» بالمهملة، لمّا كان نفي الفصل المنسوب إلى الإرادة منسوبا إلى المريد، وقد نُسِب الفصل إلى اللّه تعالى في قوله تعالى: «إِنَّ اللّه َ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»(1)، وبه سمّي يومُ القيامة يومَ الفصل، قال: «وفصله جزاء» للمطيعين بالجنّة، وللعاصين بالنار؛ دفعا لتوهّم المناقضة.

ثمّ عاد إلى تقوية أن ليس لإرادته فصل وقال: «وأمره واقع»، والأمر مأخوذ من قوله تعالى: «إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ»(2)، ويجيء تحقيقه في حادي عشر «باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين». والمراد بالوقوع وقوعه باعتبار المأمور والمأمور به، ومناسبة هذه الأوصاف لرفع الحوائج إليه ظاهرة.

ويجوز أن يكون قوله: «ولا لإرادته» إلى آخره، منفصلاً عمّا قبله، وتمهيدا لقوله بعده: «لم يلد» إلى آخره، والمعنى حينئذٍ أنّه ليس لإرادته شيئا فصلُ شيءٍ عن ذاته وإخراجه منها حتّى يمكن أن يكون بعض ما أراد ولدا له.

(«لَمْ يَلِدْ» فَيُورِثَ(3)) ؛ بكسر الراء.

(«وَلَمْ يُولَدْ»فَيُشَارِكَ(4)) ؛ بكسر الراء.

(«وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوا أَحَدٌ») .

الثالث: (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ النَّضْرِ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ حُمَيْدٍ ) ؛ كزبير، أو كأمير.

(قَالَ: سُئِلَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ عليهماالسلام عَنِ التَّوْحِيدِ) أي عن إفراد المعبود الحقّ بحيث يمتاز عن غيره: هل يمكن أن يكون بمعرفته بشخصه، أو بكنه ذاته، أم لا؟ بل يكتفى فيه بمعرفته بأسمائه وصفاته المختصّة به وكلّها غيره وهو مستور بها، فإنّها وجهه لا كنهه؟ .

ص: 144


1- الحجّ (22) : 17 .
2- يآس (36) : 82 .
3- في الكافي المطبوع : «فيورَث» بفتح الراء .
4- في الكافي المطبوع : «فيشارَك» بفتح الراء .

(فَقَالَ : إِنَّ اللّه َ _ عَزَّ وَجَلَّ _ عَلِمَ أَنَّهُ يَكُونُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ أَقْوَامٌ مُتَعَمِّقُونَ) أي طالبون للنزول إلى عمق أسمائه وصفاته تعالى لإدراك كنه ذاته أو شخصه كالمجسّمة وكالأشاعرة الطالبين لرؤيته تعالى.

(فَأَنْزَلَ(1) تَعَالى «قُلْ هُوَ اللّه ُ أَحَدٌ» وَالاْآيَاتِ مِنْ سُورَةِ الْحَدِيدِ إِلى قَوْلِهِ: «وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ»(2)) يحتمل أن يكون أوّلها: «هو الأوّل» أو أوّل السورة، فهي قوله تعالى: «سَبَّحَ للّه ِِ مَا فِى السَّمَوَاتِ وَالاْءَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالاْءَرْضِ يُحْييِ وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * هُوَ الاْءَوَّلُ وَالاْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَىْ ءٍ عَلِيمٌ * هُوَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالاْءَرْضَ فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِى الاْءَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللّه ُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالاْءَرْضِ وَإِلَى اللّه ِ تُرْجَعُ الاْءُمُورُ * يُولِجُ اللَّيْلَ فِى النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِى اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ»(3).

(فَمَنْ رَامَ) أي قصد (وَرَاءَ ذلِكَ) أي خلف ذلك. والمراد شخصه وكنه ذاته تعالى المستور بهذه الأسماء والصفات المختصّة، فإنّ المستور بالشيء يكون خلفه. ويمكن أن يُراد ب«وراء» أمام بفتح الهمزة؛ فإنّه من الأضداد. والمآل واحد، والأخير أنسب بما مرّ في أوّل الأوّل(4) من قوله: «ولم تَجُرْ هناك فتعرف ما خلفهنّ».

(فَقَدْ هَلَكَ) . لأنّه لو كان حسنا لما اكتفى اللّه تعالى بالأسماء والصفات التي كلّها غيره. ويجيء مثله في سابع الباب الآتي.

الرابع: (مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ رَفَعَهُ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ الْمُهْتَدِي، قَالَ: سَأَلْتُ الرِّضَا عليه السلام عَنِ التَّوْحِيدِ) أي عن مقدار ما يجب معرفته منه. .

ص: 145


1- في الكافي المطبوع : + «اللّه » .
2- الحديد (57) : 1 _ 6 .
3- الحديد (57) : 1 _ 6 .
4- أي الحديث 1 من باب حدوث العالم واثبات المحدث .

(فَقَالَ: كُلُّ مَنْ قَرَأَ «قُلْ هُوَ اللّه ُ أَحَدٌ» وَآمَنَ بِهَا، فَقَدْ عَرَفَ التَّوْحِيدَ . قُلْتُ: كَيْفَ يَقْرَؤُهَا؟ قَالَ: كَمَا يَقْرَأُ(1) النَّاسُ، وَزَادَ فِيهِ: كَذلِكَ اللّه ُ رَبِّي، كَذلِكَ اللّه ُ رَبِّي) .

كون «زاد» بلفظ الماضي دليل على أنّه تفسير لقوله: «آمن بها»، وليس من تتمّة الجواب وداخلاً في القراءة. .

ص: 146


1- في الكافي المطبوع : «يقرؤها» .

الباب الثامن :باب النهي عن الكلام في الكيفيّة

الباب الثامن بَابُ النَّهْيِ عَنِ الْكَلاَمِ فِي الْكَيْفِيَّةِ

فيه اثنا عشر حديثا.

المراد بالكيفيّة ذات الصانع تعالى كما مرّ في سادس الثاني(1) من قوله عليه السلام : «ولكن لابدّ من إثبات أنّ له كيفيّة» إلى آخره.

الأوّل: (مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ رِئَابٍ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام : تَكَلَّمُوا فِي خَلْقِ اللّه ِ، وَلاَ تَتَكَلَّمُوا فِي اللّه ِ) أي في ذات اللّه .

(لأِنَّ الْكَلاَمَ فِي اللّه ِ لاَ يَزْدَادُ صَاحِبَهُ إِلاَّ تَحَيُّرا) أي لا يمكن لنا إدراكه.

الثاني: (وَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرى، عَنْ حَرِيزٍ). هذا الحديث موقوف،(2) وحريز بفتح المهملة وآخره زاي من رجال أبي عبداللّه عليه السلام ، وقيل: أبي(3) الحسن عليه السلام أيضا.(4)

(تَكَلَّمُوا فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَلاَ تَتَكَلَّمُوا فِي ذَاتِ اللّه ِ) . «ذات» في الأصل مؤنّثُ ذو بمعنى الصاحب، وتقتضي شيئين: موصوفا ومضافا إليه؛ تقول: امرأة ذات مال، وللثنتين: ذواتا

ص: 147


1- أي الحديث 6 من باب إطلاق القول بأنّه شيء .
2- وهو ما روي عن مصاحب المعصوم من قول أو فعل ، متّصلاً كان أو منقطعا ، وقد يطلق على غير المصاحب مقيّدا، مثل وقفه فلان على فلان . البداية في علم الدراية (رسائل في دراية الحديث) ، ج 1 ، ص 129 .
3- في «ج» : «لأبي» . وفي حاشية «أ» : «هو الكاظم عليه السلام كما في الرجال المتوسّط للفاضل الإسترابادي (منه)» .
4- رجال النجاشي ، ص 144 ، الترجمة 375 . وذكره الطوسي في رجاله ، ص 194 ، الترجمة 273 في أصحاب أبي عبد اللّه عليه السلام ولم يذكره في أصحاب أبي الحسن عليه السلام .

مال، وللجماعة: ذوات مال(1) ثمّ اقتطعوا عنها مقتضيها، وأجروها مجرى الأسماء التامّة المستقلّة بأنفسها غير المقتضية لما سواها فقالوا: ذات متميّزة، وذاتان متميّزتان، وذوات متميّزات، ونسبوا إليها كما هي من غير تغيير علامةَ التأنيث، فقالوا: الصفات الذاتيّة، واستعملوها استعمالَ «النفس» و«الشيء»(2)، وهو المراد هنا، فالمقصود(3) النهي عن الكلام في بيان كنه حقيقة اللّه .

وقد يستعمل «ذات اللّه » بمعنى «أمر اللّه » كما قيل في قول العرب: جعل اللّه ما بيننا في ذاته.(4) وعليه قول أبي تمّام: فيضرب في ذات الإله فيوجِعُ.(5) وهو المراد بما في آخر «كتاب الروضة» عن عليّ بن الحسين عليهماالسلام أنّه كان يقول: «ويل اُمّه فاسقا من لا يزال مماريا، ويل اُمّه فاجرا من لا يزال مخاصما، ويل اُمّه آثما مَن كثر كلامه في غير ذاتِ اللّه عزّ وجلّ» انتهى.(6)

فالمقصود به النهي عن الكلام بالرأي في الأحكام الشرعيّة، فلا منافاة بينهما.

الثالث: (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ الْحَجَّاجِ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ خَالِدٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : إِنَّ اللّه َ _ عَزَّ وَجَلَّ _ يَقُولُ:) في سورة النجم («وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ المُنْتَهى»(7) فَإِذَا انْتَهَى الْكَلاَمُ إِلَى اللّه ِ) أي إلى ذات اللّه (فَأَمْسِكُوا) . .

ص: 148


1- الصحاح ، ج 6 ، ص 2551 ؛ لسان العرب ، ج 15 ، ص 457 ؛ تاج العروس ، ج 20 ، ص 388 (ذو) .
2- البرهان للزركشي ، ج 4 ، ص 278 .
3- في «ج» : «والمقصود» .
4- في حاشية «أ» : «نقله في المغرب (منه دام ظله)» . وانظر البرهان للزركشي ، ج 4 ، ص 278 وحكاه السيّد علي خان في رياض السالكين ، ص 34 عن صاحب التكملة .
5- حكاه عنه الثعالبي في يتيمة الدهر ، ج 4 ، ص 148 ، والزركشي في البرهان ، ج 4 ، ص 278 ، وكلّ البيت : يقول فيبدع ويمشي فيسرع ويضرب في ذات الإله فيوجع وحكاه أيضا البغدادي في خزانة الأدب ، ج 1 ، ص 151 ، والمراد فيضرب بسبب أمر اللّه .
6- الكافي ، ج 8 ، ص 391 ، ح 587 ، وفيه : «وَيْلُمِّه» بدل «ويل اُمّه»؛ وسائل الشيعة ، ج 12 ، ص 237 ، ح 16185 .
7- النجم (53) : 42 .

تفسير للآية بأنّ «إلى» حرف جرّ قدّمت لإفادة الحصر. و«المنتهى» مصدر ميمي، ومدخول «إلى» يكون خارجا عن الحكم، كما أنّ مدخول «من» خارج عنه.

والمراد أنّ الكتاب الذي عُبّر عنه في سابق الآية ب«ذكرنا» في قوله: «فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا»(1) وهو المتولّى عنه في قوله في سابق الآية أيضا: «أَفَرَأَيْتَ الَّذِى تَوَلَّى»(2) تبيانٌ(3) لكلّ شيء سوى ذات اللّه تعالى، فالحجّة قائمة على من تولّى عن ذكر اللّه ، فلم يبق للإنسان المتولّي عن كتاب اللّه ، طريق الاعتذار لدفع الجزاء الأوفى عن نفسه بأنّ بعض الأحكام لم يكن مبيّنا في كتاب اللّه ، وذلك لأنّ محكمات كتاب اللّه اُمّ الكتاب، فهنّ دلالات صريحة على إمامٍ عالم بجميع المتشابهات والأحكام في كلّ زمانٍ، كما مرّ تفصيله في شرح الثاني عشر من أوّل «كتاب العقل». والحاصل أنّه لا انتهاء لتبيان كتاب اللّه إلاّ إلى ذات اللّه ، وإنّما لم يبيّن في كتاب اللّه لعدم إمكان علم الخلائق به.

ثمّ إنّ المشهور بين العامّة في تفسير الآية أنّ المراد أنّ انتهاء الخلائق بعد الموت والحشر إلى اللّه للحساب والثواب والعقاب.(4)

ولا يخفى أنّه على هذا يصير ذكرُ هذه الآية بعد قوله: «وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الاْءَوْفَى»(5) قليل الفائدة.

الرابع: عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ،(6) عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ النَّاسَ لاَ يَزَالُ لَهُمُ(7) الْمَنْطِقُ) أي جائزا لهم .

ص: 149


1- النجم (53) : 29 .
2- النجم (53): 33.
3- خبر «أنّ» في قوله : «والمراد أنّ الكتاب» .
4- جامع البيان للطبري ، ج 27 ، ص 98 ؛ تفسير الثعلبي ، ج 9 ، ص 154 ؛ تفسير السمعاني ، ج 5 ، ص 301 ؛ تفسير البغوي ، ج 4 ، ص 255 .
5- النجم (53) : 40 _ 41 .
6- في «ج» : - «عن أبي أيّوب» .
7- في الكافي المطبوع : «بهم» .

المنطق، أو ثابتا لهم المنطق الصحيح.

(حَتّى يَتَكَلَّمُوا فِي اللّه ِ) أي في كنه ذات اللّه .

(فَإِذَا سَمِعْتُمْ ذلِكَ) أي كلامهم في كنه ذات اللّه .

(فَقُولُوا: لاَ إِلهَ إِلاَّ اللّه ُ الْوَاحِدُ الَّذِي لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) . المراد: قولوا ذلك لهم نهيا لهم عن الكلام في اللّه ، وذلك لأنّه لو أمكن لنا إدراكه تعالى، لكان جسما كالأجسام، كما بيّنّا في أوّل الثاني(1) عند قوله: «فما وقع وهمك عليه من شيء فهو خلافه».

الخامس: (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حُمْرَانَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ الْحَذَّاءِ، قَالَ: قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام : يَا زِيَادُ، إِيَّاكَ وَالْخُصُومَاتِ) . هي الكلام فيما لا ينفعهم في الآخرة، أو لا فيها ولا في الدنيا، أو هي التي تقع بين المرائين من طلبة العلم في المجالس، أو هي كثرة تتبّع الاحتمالات والإفراط في التدقيقات.

(فَإِنَّهَا تُورِثُ الشَّكَّ) فيما يجب الاعتناء به، أو في الضروريّات، أو في المعلومات من اُصول الدين. وهذا مجرّب قد يصرف الإنسان عمره فيما لا يعنيه، ولا يعلم ما يعنيه، وقد يمنع أحد في المجلس ضروريّا مخالفا لما ادّعاه، ويتتبّع احتمالات تورثه الشكّ في ذلك الضروري وفي اليقيني.

(وَتُحْبِطُ الْعَمَلَ) : تُبطل طلبَ العلم بحيث لا يبقى له ثواب عليه.

(وَتُرْدِئُ) ؛ إمّا بالهمز من رَدُؤَ كحَسُنَ، أي فسد؛ وأردأتُه: أفسدته.(2) وإمّا بالياء من ردي كعلم، أي هلك، وأرداه غيره: أهلكه.(3)

(صَاحِبَهَا) أي صاحب الخصومات، فإنّه غير مقبولٍ عند الناس، وهالك في الآخرة. .

ص: 150


1- أي الحديث 1 من باب إطلاق القول بأنّه شيء .
2- الصحاح ، ج 1 ، ص 52 (ردأ) .
3- الصحاح ، ج 6 ، ص 2355 (ردي) .

(وَعَسى أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي الشَّيْءِ(1)) ، كذات اللّه تعالى. وفي بعض النسخ «بالشيء» كإنكار ما علم من الدين ضرورةً.

(فَلاَ يُغْفَرَ) هذا التكلّم (لَهُ؛ إِنَّهُ كَانَ فِيمَا مَضى قَوْمٌ تَرَكُوا عِلْمَ مَا وُكِّلُوا بِهِ) ؛ بصيغة المجهول من التوكيل، يُقال: وكّلتُهُ بأمر كذا توكيلاً: إذا جعلتَه متولّيا له، محافظا عليه. ولو كان بتخفيف الكاف، لقال: ما وُكِل إليهم.

(فَطَلَبُوا(2) عِلْمَ مَا كُفُوهُ) ؛ بتخفيف الفاء بصيغة المجهول، من كفاه إيّاه يكفيه كفاية: إذا أغناه عن مؤونة طلبه؛ أي كفاهم اللّه إيّاه، أو كفاهم ما وكّلوا به إيّاه.

(حَتّى انْتَهى كَلاَمُهُمْ) فيما لا يعنيهم (إِلَى اللّه ِ فَتَحَيَّرُوا ، حَتّى) ؛ هي الداخلة على الجمل.

(إنْ)(3) ؛ بكسر الهمزة مخفّفة من المثقّلة واللام بعدها هي الفارقة، أي إنّه.

(كَانَ الرَّجُلُ لَيُدْعى مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، فَيُجِيبُ مِنْ خَلْفِهِ، وَيُدْعى مِنْ خَلْفِهِ، فَيُجِيبُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) . تمثيلٌ لعدم الربط في كلامهم.

السادس: (وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرى : حَتّى تَاهُوا فِي الاْءَرْضِ) . تمثيل لشدّة تحيّرهم، يُقال: تاه في الأرض يتيه تيها: إذا ذهب متحيّرا.(4)

السابع: (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ مَيَّاحٍ) ؛ بفتح الميم، وتشديد الخاتمة، والمهملة.

(عَنْ أَبِيهِ، قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام يَقُولُ: مَنْ نَظَرَ فِي اللّه ِ: كَيْفَ هُوَ) أي من طلب إدراكه (هَلَكَ) . .

ص: 151


1- في الكافي المطبوع : «بالشيء» .
2- في الكافي المطبوع : «وطلبوا» .
3- في الكافي المطبوع : «أن» .
4- الصحاح ، ج 6 ، ص 2229 ؛ النهاية ، ج 1 ، ص 203 (تيه) .

الثامن: (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى، عَنِ ابْنِ فَضَّالٍ، عَنِ ابْنِ بُكَيْرٍ، عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَعْيَنَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ: إِنَّ مَلِكا عَظِيمَ الشَّأْنِ كَانَ فِي مَجْلِسٍ لَهُ، فَتَنَاوَلَ الرَّبَّ،(1) فَفُقِدَ، فَمَا يُدْرى أَيْنَ هُوَ) .

«ملكا» بفتح الميم وكسر اللام، أي مسلّطا على جمع كثيرين في فنّ، كما يقال لإمرئ قيس: الملك الضلّيل؛ لأنّه كان مسلّطا على شعراء العرب في فنّ الشعر.(2)

«عظيم الشأن» مبالغة في تسلّطه.

«فتناول الربّ» أي أخذ في التكلّم في كنه ذاته.

«ففقد» بفاء وقاف ومهملة، مجهول باب ضرب؛ أي ففقده أصحابه.

الفاء في «فما» للبيان. «يدرى» مجهول، ناقص باب ضرب حكاية الحال الماضية.

ضمير «هو» للملك؛ أي فما يعلم أصحابه موقعه. والمراد أنّه خولط، فخرج كلامه عن الانتظام بعد ما كان منتظما في فنّه.

التاسع: (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنِ الْعَلاَءِ) ؛ بفتح المهملة والمدّ.

(بْنِ رَزِينٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ، قَالَ: إِيَّاكُمْ وَالتَّفَكُّرَ فِي اللّه ِ) أي في كنه ذات اللّه .

(وَلكِنْ إِذَا أَرَدْتُمْ أَنْ تَنْظُرُوا فِي(3) عَظَمَتِهِ) . فيه إشعار بأنّ المتفكّر في اللّه قاصد للنظر في عظمته بوسيلة التفكّر فيه، كما قالوا في قوله تعالى في المشبّهة: «وَمَا قَدَرُوا اللّه َ حَقَّ قَدْرِهِ»(4) أي ما عظّموه حقّ تعظيمه.(5)

(فَانْظُرُوا إِلى عَظِيمِ خَلْقِهِ) . الخَلق هنا مصدر بمعنى التدبير، وإضافة «عظيم» من .

ص: 152


1- في الكافي المطبوع : + «تبارك وتعالى» .
2- لسان العرب ، ج 11 ، ص 394 (ضلال) .
3- في الكافي المطبوع : «إلى» .
4- الأنعام (6) : 91 .
5- القائل صاحب القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 114 (قدر) .

قبيل إضافة الصفة إلى الموصوف كجرد قطيفة؛(1) أي إلى أنّه خالق كلّ مخلوق، فإنّ ذلك طريق النظر في عظمته، لا ما سلكتموه.

ويحتمل أن تكون الإضافة لاميّة، أو الخلق هنا بمعنى المخلوق، والإضافة بمعنى «من».

العاشر: (مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ رَفَعَهُ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : يَا ابْنَ آدَمَ، لَوْ أَكَلَ قَلْبَكَ طَائِرٌ، لَمْ يُشْبِعْهُ) ؛ من باب الإفعال. وهذا كناية عن الصِّغر، وفيه إشعار بعدم تجرّد النفس الناطقة.

(وَبَصَرُكَ لَوْ وُضِعَ عَلَيْهِ خَرْتُ إِبْرَةٍ) . الخَرْت _ بفتح المعجمة وقد تضمّ وسكون المهملة والمثنّاة فوق _ : ثقب الإبرة ونحوها.(2)

(لَغَطَّاهُ) . عبارة عن صغر الناظر.

(تُرِيدُ) أي تطلب بالفكر والنظر، وتدّعي إمكانَ (أَنْ تَعْرِفَ بِهِمَا) أي تدرك بالقلب والبصر.

(مَلَكُوتَ) ؛ بفتح الميم واللام: العزّ والسلطنة. والمضاف محذوف؛ أي ذا ملكوت.

(السَّمَاوَاتِ وَالاْءَرْضِ؟ إِنْ كُنْتَ صَادِقا) في دعواك إمكان أن تعرف بالقلب والبصر ملكوت السماوات والأرض.

(فَهذِهِ الشَّمْسُ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللّه ِ) . «الشمس» صفةٌ ل«هذه» والخبر «خلق»، أو خبرٌ و«خلق» خبر آخر، والجملة جزاء صورةً، وتمهيد للبدل وهو الجزاء حقيقةً، وهو قوله:

(فَإِنْ قَدَرْتَ أَنْ تَمْلاَءَ عَيْنَيْكَ مِنْهَا ، فَهُوَ كَمَا تَقُولُ) . تقدير الكلام فقدرت أن تملأ عينيك منها «وإن قدرت أن تملأ عينيك منها فهو كما تقول» استدلال على عدم إمكان .

ص: 153


1- أي قطيفة جرد ، بمعني قطيفة بالية . والقطيفة : كساء له خمل كما في النهاية ، ج 4 ، ص 84 . وفي شرح الرضي على الكافية ، ج 2 ، ص 244 : «جرد قطيفة كخاتم فضة . وجرد ، أي بال؛ إذ الجرد يحتمل أن يكون من القطيفة ومن غيرها، كما كان خاتم محتملاً أن يكون من الفضّة ومن غيرها» .
2- كتاب العين ، ج 4 ، ص 236 ؛ الصحاح ، ج 1 ، ص 248 ؛ لسان العرب ، ج 2 ، ص 29 (خرت) .

إدراكنا ذاته بأنّ من يعجز عن إحساس مرتبة من كيفيّةٍ لجسماني إلاّ بخرق العادة يستحيل أن يدرك ما ليس بجسماني ولو بخرق العادة، وذكر الشمس للمناسبة باعتبار أنّها نورٌ جسماني، واللّه تعالى نور غير جسماني، فلو استدلّ عليه بأنّ الجسم الصغير إذا بعد بُعدا مفرِطا لا يمكنك إحساسه، فكيف يمكن أن تدرِك اللّه كان تماما.(1)

ويمكن أن يُقال: ليس المقصود الاستدلال على بطلان مدّعى الخصم، بل المقصود ما هو المتعارف بعد إبطال مدّعى شخص بالبرهان العقلي أو النقلي من التعجّب من دعواه، وبيان أنّه ليس هذا موضع التوهّم، فإنّ دواعي الغلط منتفية هنا، فإنّ الجهل المركّب ودعوى الأمر العظيم إنّما يتوهّم فيما كان المباشر عظيما، فيتوهّم منه أنّه يقدر على كذا، أو يكون قادرا على أشياء صعبة لم يعجز عنها، فيتوهّم منه أنّه يقدر على كذا أيضا، وليس ما نحن فيه كذلك. وهذا كأن يدّعي مريض أنّه إن صحّ لقدر على رفع الجبل، فتقول له بعد إبطال مدّعاه: إنّك تموت ضعفا، وتريد أن ترفع الجبل؟ فإن كنت صادقا فارفع هذا الكوز؛ تعني بذلك أنّ دواعي هذا الجهل المركّب _ أي توهّم رفع الجبل _ منتفية حين المرض.

وقوله: «فهو كما تقول» مماشاة؛ فإنّ عدم صحّة الدليل لا يستلزم عدم المدلول. ويمكن أن يحمل الصدق على موافقة الاعتقاد لا على مطابقة نفس الأمر، والمراد أنّ الدعوى هنا بدون اعتقاد.

الحادي عشر: (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنِ الْيَعْقُوبِيِّ(2))؛ بفتح الخاتمة.

(عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا، عَنْ عَبْدِ الاْءَعْلى مَوْلى آلِ سَامٍ) ؛ بالمهملة والألف والميم المخفّفة بطن من لؤي بن غالب.(3) .

ص: 154


1- في حاشية «أ» : «جواب فلو استدلّ» .
2- في الكافي المطبوع : «البعقوبي» بالباء .
3- رجال ابن داود ، ص 127 ، الترجمة 933 .

(عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ: إِنَّ يَهُودِيّا يُقَالُ لَهُ: «سُبُّخْت»(1)) ؛ بضمّ المهملة، وضمّ الموحّدة المشدّدة، وسكون المعجمة، وبالمثنّاة فوق.

وفي رواية ابن بابويه في توحيده أنّه كان فارسيّا، وكان من ملوك فارس.(2)

(جَاءَ إِلى رَسُولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّه ِ) ؛ على عادة ذلك الزمان.

(جِئْتُ أَسْأَلُكَ) ؛ بالرفع أو النصب، كما مرّ في رابع السادس.(3)

(عَنْ رَبِّكَ، فَإِنْ أَنْتَ أَجَبْتَنِي عَمَّا أَسْأَلُكَ عَنْهُ) أي بجواب حقّ. والجزاء محذوف، أي آمنت بأنّك رسول اللّه ، أو كنت معك.

(وَإِلاَّ رَجَعْتَ(4)). بصيغة الخطاب، أي عن دعوى النبوّة؛ أو التكلّم، أي إلى وطني.

(قَالَ: سَلْ عَمَّا شِئْتَ، قَالَ: أَيْنَ رَبُّكَ؟ قَالَ: هُوَ فِي كُلِّ مَكَانٍ ، وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنَ الْمَكَانِ الْمَحْدُودِ) ؛ بالجرّ صفة المكان، أي المتميّز عن أمكنة غيره تعالى، كما مضى في ثالث السادس(5) من قوله: «ولا مكان جاوَرَ شيئا» فكونه في كلّ مكان يرجع إلى إحاطة علمه وحفظه بكلّ شيء: ظاهره وباطنه، موافقا لما في سورة الحديد: «وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ»(6)، وفي سورة النساء: «وَكَانَ اللّه ُ بِكُلِّ شَىْ ءٍ مُحِيطا»(7)، وفي سورة سبأ: «وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَىْ ءٍ حَفِيظٌ»(8).

(قَالَ: وَكَيْفَ هُوَ؟)؛ سؤالٌ عن كنه ذاته.

(قَالَ: وَكَيْفَ) ؛ استفهام إنكار.

(أَصِفُ رَبِّي) أي اُبيّن كنه ذاته. .

ص: 155


1- في الكافي المطبوع : «سُبِحَت» وكذا في بقية الموارد إلى آخر الرواية .
2- التوحيد ، ص 311 ، باب حديث سبحت اليهودي ، ح 2 .
3- أي الحديث 4 من باب الكون والمكان .
4- في الكافي المطبوع : «رجعتُ» بضمّ الأخير .
5- أي الحديث 3 من باب الكون والمكان .
6- الحديد (57) : 4 .
7- النساء (4) : 126 .
8- سبأ (34) : 12 .

(بِالْكَيْفَ)(1) ؛ بالفتح، أي بما يقال على شيء في جواب السؤال عنه ب«كيف».

(وَالْكَيْفَ)(2) ؛ بالفتح.

(مَخْلُوقٌ) ؛ فإنّ كلّ مدرك محسوسٌ، كما مضى في أوّل الثاني،(3) وكلّ محسوس مخلوق.

(وَاللّه ُ لاَ يُوصَفُ بِخَلْقِهِ؟) أي لا يبيَّن كنه ذاته ببيان مخلوقه.

(قَالَ: فَمِنْ أَيْنَ) أي فمن أيّ دليل.

(نَعْلَمُ(4) أَنَّكَ نَبِيُّ اللّه ِ؟ قَالَ: فَمَا بَقِيَ حَوْلَهُ حَجَرٌ وَلاَ غَيْرُ ذلِكَ إِلاَّ تَكَلَّمَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ)؛ بخلق اللّه تعالى ذلك الصوت والكلام من جهته، أو جعله تعالى إيّاه ذا علم أيضا في ذلك الوقت.

(يَا سُبُّخْتَ) ، بتقدير القول.

(إِنَّهُ رَسُولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله ). زاد في الجواب على السؤال، فإنّ الرسالة فوق النبوّة.

(فَقَالَ سُبُّخْتَ : مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ أَمْرا أَبْيَنَ مِنْ هذَا) . الكاف حرفيّة للتشبيه، أو اسميّة بمعنى مثل. وعلى الأوّل الظرف صفة لموصوف محذوف هو مفعول فيه بتقدير «يوما كاليوم»، وعلى الثاني الكاف منصوب المحلّ على الظرفيّة.

وقوله: «أمرا» بفتح الهمز وسكون الميم، أو بالهمز والألف وكسر الميم، وعلى الأوّل هو ضدّ النهي، أو بمعنى الحادثة.

وقوله: «أبين» بالموحّدة والخاتمة أفعل التفضيل بمعنى أوضح، أو بصيغة المضارع المعلوم المتكلّم من باب ضرب بمعنى أنفَصِلُ، وعلى الأوّل هو منصوب مفعولٌ ثانٍ ل«رأيت» أو صفة «أمرا». و«هذا» عبارة عن الأمر الواقع في اليوم.

والمراد بنفي رؤيته أبين منه في غير ذلك اليوم أنّه أبين من كلّ بيّن رأيته في غير .

ص: 156


1- في الكافي المطبوع : «بالكيفِ» .
2- في الكافي المطبوع : «والكيفُ» .
3- أي الحديث 1 من باب إطلاق القول بأنّه شيء .
4- في الكافي المطبوع : «يُعلم» .

ذلك اليوم، كما يُقال: ما رأيت في البلد أفضل من زيد؛ أي هو أفضل من كلّ فاضل فيه.

أو عبارة عن المحسوس الحاضر القريب مطلقا؛ أي هو أظهر من كلّ مشاهد قريب.

ولا ينافي ذلك كون اسم الإشارة ونحوه موضوعا بوضع عامّ لموضوع له خاصّ، فإنّه قد يستعمل في العامّ ولو مجازا، كما يُقال في النداء: يا هذا، وفي الدعاء: يا هو.

وعلى الثاني هذا عبارة عن دين اليهود، وحينئذٍ الظرف في «كاليوم» مفعول ثان ل«رأيت» قدّم على المفعول الأوّل، وهو بتقدير كأمر اليوم. و«أمرا» مفعول أوّل اُخّر، والجملة بعده(1) استئناف بياني.

(ثُمَّ قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللّه ُ، وَأَنَّكَ رَسُولُ اللّه ِ) .

الثاني عشر: (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الْخَثْعَمِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ عَتِيكٍ) ؛ بفتح المهملة، وكسر المثنّاة فوق، وسكون الخاتمة.

(قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عليه السلام عَنْ شَيْءٍ) أي طلبت منه قليلاً (مِنَ الصِّفَةِ) أي بيان الكنه؛ مصدر قولك: وصفتُ فلانا: إذا ذكرتَ ما أدركتَ منه.

(فَرَفَعَ يَدَهُ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ قَالَ: تَعَالَى الْجَبَّارُ، تَعَالَى الْجَبَّارُ) ، عن أن يوصف.

(مَنْ تَعَاطى) أي تناول (مَا ثَمَّةَ(2)) أي الكلام في صفته تعالى (هَلَكَ) . .

ص: 157


1- في حاشية «أ» : «أي الفعلية» .
2- في الكافي المطبوع : «ثمّ» .

الباب التاسع: باب في إبطال الروءية

الباب التاسع بَابٌ فِي إِبْطَالِ الرُّوءْيَةِ

فيه أحد عشر حديثا.

ونقل كلام عن هشام بن الحكم، وكأنّه في تبيين معنى رابع الباب، وفي تقوية التاسع والعاشر والحادي عشر. هذا الباب للردّ على الأشاعرة، وهم تابعون في ذلك للمجسّمة، ويجيء تحرير محلّ النزاع في رابع الباب.

الأوّل: (مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي الْقَاسِمِ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ) ؛ هو الأرمني.(1)

(قَالَ: كَتَبْتُ إِلى أَبِي مُحَمَّدٍ عليه السلام ) ؛ هو الحسن العسكري عليه السلام .

(أَسْأَلُهُ: كَيْفَ يَعْبُدُ الْعَبْدُ رَبَّهُ وَهُوَ لاَ يَرَاهُ؟) أي بالبصر.

(فَوَقَّعَ عليه السلام )؛ بتشديد(2) القاف، أي كتب:

(يَا أَبَا يُوسُفَ، جَلَّ سَيِّدِي وَمَوْلاَيَ وَالْمُنْعِمُ عَلَيَّ وَعَلى آبَائِي أَنْ يُرى) أي بالبصر؛ لأنّه يستلزم أن يكون ذا وضع، وسيجيء بيانه في رابع الباب.

(قَالَ: وَسَأَلْتُهُ) أي في الكتاب.

(هَلْ رَأى رَسُولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله رَبَّهُ؟) أي بالبصر ليلة المعراج كما زعمه الأشاعرة.

ص: 158


1- ذكره النمازي في مستدركات علم رجال الحديث ، ج 8 ، ص 269 ، الترجمة 16415 وقال : «لم يذكروه» ولم يذكر الأرمني .
2- في «ج» : «بشدّ» .

(فَوَقَّعَ عليه السلام : إِنَّ اللّه َ _ تَبَارَكَ وَتَعَالى _ أَرى رَسُولَهُ بِقَلْبِهِ مِنْ نُورِ عَظَمَتِهِ مَا أَحَبَّ) . المراد بعظمته كونه أعظم من أن يرى بالبصر، وبنور عظمته الدلائل الدالّة عليها المنضمّة إلى ما سبقها من الدليل، أو عظيم خلقه كما مضى في تاسع الثامن.(1)

وقوله: «أرى» من مجاز المشاكلة(2) وقرينته «بقلبه». وحاصل الجواب: لم يره، بل رأى أنّه لا يراه، ولا يمكن لأحدٍ رؤيته.

الثاني: (أَحْمَدُ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَحْيى، قَالَ: سَأَلَنِي أَبُو قُرَّةَ) ؛ بضمّ القاف وشدّ المهملة.

(الْمُحَدِّثُ) ؛ بكسر المهملة المشدّدة.

(أَنْ أُدْخِلَهُ عَلى أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا عليه السلام ، فَاسْتَأْذَنْتُهُ فِي ذلِكَ، فَأَذِنَ لِي فَدَخَلَ عَلَيْهِ، فَسَأَلَهُ عَنِ الْحَلاَلِ وَالْحَرَامِ وَالاْءَحْكَامِ حَتّى بَلَغَ سُوءَالُهُ إِلَى التَّوْحِيدِ) أي تنزيه اللّه عمّا لا يليق به.

(فَقَالَ أَبُو قُرَّةَ: إِنَّا رُوِّينَا) ؛ بتشديد الواو بصيغة المجهول، تقول: روّيت الحديث روايةً: إذا حملته ونقلته، وروّيت زيدا الحديث ترويةً: إذا نقلت الحديث لزيد؛ أي روّينا عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله .

(أَنَّ اللّه َ قَسَّمَ(3)) ؛ بتشديد المهملة. والتقسيم: التفريق.

(الرُّوءْيَةَ وَالْكَلاَمَ) أي مجموعهما؛ فالعطف عطف انسحاب.

(بَيْنَ نَبِيَّيْنِ، فَقَسَمَ) ؛ كضرب، أي أفرز وأعطى.

(الْكَلاَمَ لِمُوسى) ، كما في قوله تعالى: «وَكَلَّمَ اللّه ُ مُوسَى تَكْلِيما»(4).

(وَلِمُحَمَّدٍ الرُّوءْيَةَ. فَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ عليه السلام : فَمَنِ) أي لو كانت هذه الرواية عن رسول اللّه .

ص: 159


1- أي الحديث 9 من باب النهي عن الكلام في الكيفية .
2- مجاز المشاكلة : هو ذكر الشيء بلفظ غيره لمصاحبته ذلك الغير تحقيقا أو تقديرا نحو : قالوا اقترح شيئا نجد لك طبخه قلت اطبخوا لي جبّة وقميصا ذكر خياطة الجبّة بلفظ الطبخ لمصاحبته طبخ الطعام . ونحو قوله تعالى : «تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلاَآ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ» .
3- في الكافي المطبوع : «قَسَمَ» بفتح السين .
4- النساء (4) : 146 .

صحيحة، فمن (الْمُبَلِّغُ عَنِ اللّه ِ إِلَى الثَّقَلَيْنِ مِنَ الْجِنِّ وَالاْءنْسِ «لاَتُدْرِكُهُ الاْءَبْصَارُ») هو في سورة الأنعام.(1)

(وَ«لاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْما») هو في سورة طه،(2) و«علما» تمييز، أي لا يحيط علمهم به؛ أي لا يدركونه.

(وَ«لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْ ءٌ»؟) هو في سورة الشورى،(3) ومضى في رابع الثاني؛(4) يعني أنّ الرؤية يستلزم أن يكون جسما، كما سيجيء بيانه في رابع الباب، فيكون له مثل.

(أَ لَيْسَ مُحَمَّدٌ؟). رفعه على أنّه اسم «ليس» وخبره محذوف بتقدير: أليس محمّد المبلِّغ.

(قَالَ: بَلى) ، محمّد المبلِّغ.

(قَالَ: كَيْفَ يَجِيءُ رَجُلٌ إِلَى الْخَلْقِ جَمِيعا ، فَيُخْبِرُهُمْ أَنَّهُ جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللّه ِ، وَأَنَّهُ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللّه ِ) : إلى طاعته (بِأَمْرِ اللّه ِ، فَيَقُولُ: «لاَ تُدْرِكُهُ الاْءَبْصَارُ»، وَ«لاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْما»وَ «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْ ءٌ»ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا رَأَيْتُهُ بِعَيْنِي، وَأَحَطْتُ بِهِ عِلْما) .

إحاطة العلم به اللازمة للرؤية إدراكه على الوجه الجزئي الحقيقي والهذيّة.

(وَهُوَ عَلى صُورَةِ الْبَشَرِ؟!)، حكاية واقعة، فإنّ المخالفين ادّعوا ذلك في رواياتهم، كما يجيء في ثالث «باب النهي عن الصفة بغير ما وصف به نفسه جلّ وتعالى».

ويحتمل أن يكون بناءً على أنّ المرئيّ لا يكون إلاّ ذا أين ووضع وشكل، وهو الصورة، فيكون له مثل من البشر مثلاً، والنشر على ترتيب اللفّ.

(أَمَا تَسْتَحْيُونَ(5)؟). الخطاب لأجل أنّ المخاطب كان معتقدا لصدق الروايات.

(مَا قَدَرَتِ الزَّنَادِقَةُ) . استئناف بياني. .

ص: 160


1- الأنعام (6) : 103 .
2- طآه (20) : 110 .
3- الشورى (42) : 11 .
4- أي الحديث 4 من باب إطلاق القول بأنّه شيء .
5- في «ج» : «يستحيون». وفي الكافي المطبوع : «تستحون» .

(أَنْ تَرْمِيَهُ) أي على أن ترميه.

(بِهذَا) . تقول: رميت زيدا بأمرٍ: إذا نسبته إلى زيد في الخصومة وقذفته.

(أَنْ يَكُونَ) ؛ بدل عن هذا.

(يَأْتِي مِنْ عِنْدِ اللّه ِ بِشَيْءٍ، ثُمَّ يَأْتِي بِخِلاَفِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ) . إشارةٌ إلى أنّه يصير ذا وجهين، وذا لسانين، والمخالفة باعتبار دلالة قوله: «لا تدركه» و«لا يحيطون» على امتناع الإدراك والإحاطة، فلفظة: «ثمّ» للتعجّب، أو على الاستمرار في المستقبل، ويكون الإخبار عن الرؤية بعدهما، فلفظة: «ثمّ» للتراخي في الزمان.

(قَالَ أَبُو قُرَّةَ: فَإِنَّهُ يَقُولُ) في سورة النجم.

(«وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى»؟(1)) قالوا: أي مرّةً اُخرى، فَعْلَة من النزول اُقيمت مقام المرّة، ونصبت نصبَها؛ إشعارا بأنّ الرؤية في هذه المرّة كانت أيضا بنزول جبرئيل المفهوم من قوله قبل: «ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى»(2) توهّم أنّ الضمير المنصوب في «رآه» راجع إلى اللّه تعالى.

(فَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ عليه السلام : إِنَّ بَعْدَ هذِهِ الاْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلى مَا رَأى؛ حَيْثُ) ؛ للتعليل.

(قَالَ: قبل قوله: «وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى» «ماكَذَبَ الفُوءادُ ما رَأى»(3)) «ما» في الاُولى نافية، وفي الثانية موصولة بتقدير «فيما» أو مصدريّة نائبة عن ظرف الزمان؛ أي ما دام رأى. وعلى التقديرين «كذب» مأخوذ من كذبته نفسه: إذا منّته الأمانيّ وخيّلت إليه من الآمال ما لا يكاد يكون. وضمير «رأى» راجع إلى الفؤاد. واللام فيه للعهد على ظاهر ما يجيء، ويجوز أن تكون للجنس بأن يكون المراد أنّه لا يمكن أن يكون جزم الفؤاد بشيء جهلاً مركّبا، بل الجهل المركّب ظنّ، ولم يبلغ مرتبة الجزم.

وإنّما ذكر هذه مع أنّها ليست بعد هذه الآية ليعلم أنّ ما يدلّ على ما رأى غير متعلّق بالنزلة الاُخرى، وليست بيانا للمرئيّ باعتبارها، بل هو متعلّق بالنزلة التي سيق الكلام .

ص: 161


1- النجم (53) : 8 .
2- النجم (53) : 8 .
3- النجم (53) : 11 .

لإثباتها، وهي المتأخّرة زمانا المفهومة من قوله: «ماكَذَبَ الفُوءادُ ما رَأى»، لكن لمّا كان المرئيّ في كلّ من النزلتين عين المرئيّ في الاُخرى، كان الدالّ على المرئيّ في النزلة المسوق لها الكلام عينَ الدالّ على المرئيّ في النزلة الاُخرى.

(يَقُولُ: مَا كَذَبَ فُوءَادُ مُحَمَّدٍ) . «ما» نافية، وظاهره أنّ اللام في الفؤاد للعهد الخارجي، ويمكن أن يكون من قبيل ذكر العمدة المسوق لها الكلام، فلا ينافي أن يكون اللام في الفؤاد للجنس.

(مَا رَأَتْ عَيْنَاهُ) . «ما» نافية، والجملة استئناف بياني للسابقة.

(ثُمَّ أَخْبَرَ بِمَا رَأى) أي بعد قوله: «وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى»، وهذا موضع الاستشهاد.(1)

(فَقَالَ : «ولَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى»؛ اللام هي الموطّئة للقسم؛ أي واللّه لقد رأى الكبرى(2) من آياته. ويجوز أن تكون «الكبرى» صفةً للآيات على أنّ المفعول محذوف؛ أي ما رأى.

(فَآيَاتُ اللّه ِ غَيْرُهُ) . الفاء للبيان، حاصل الجواب إظهار غلط أبي قرّة بوجهين:

الأوّل: أنّ الرائي فؤاد محمّد، لا(3) عيناه.

والثاني: أنّ المرئيّ آية من آيات اللّه ، لا شخصه تعالى. وكأنّ تلك الآية الكبرى النصّ على إمامة أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه، ويجيء في «كتاب الحجّة» في ثالث «باب أنّ الآيات التي ذكرها اللّه عزّ وجلّ في كتابه هم الأئمّة عليهم السلام »كان أمير المؤمنين عليه السلام يقول: «ما للّه عزّ وجلّ آية هي أكبر منّي». .

ص: 162


1- في حاشية «أ» : «في احتجاج الطبرسي رحمه الله في ذيل احتجاجات عليّ عليه السلام عند قوله : احتجاجه عليه السلام على زنديق جاء إليه مستدلاًّ بآي من القرآن متشابهة هكذا : وأمّا قوله : «وَ لَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى» يعنى محمّدا صلى الله عليه و آله حين كان عند سدرة المنتهى حيث لا يجاوزها خلق من خلق اللّه عزّوجلّ ، وقوله في آخر الآية : «مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَ مَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ ءَايَ_تِ رَبِّهِ الْكُبْرَىآ» رأى جبرئيل في صورته مرّتين ، هذه المرّة ومرّة اُخرى ، وذلك أنّ خلق جبرئيل خلق عظيم ، فهو من الروحانيّين الذين لايدرك خلقهم ولا وصفهم إلاّ اللّه رب العالمين» . الاحتجاج ، ج 1 ، ص 243 .
2- في «ج» : + «أي» .
3- في «ج» : «ولا» .

(وَقَدْ قَالَ اللّه ُ) أي ولا يجوز الاستناد إلى ما قلت مع هذه الآية.

(«وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْما»(1) فَإِذَا رَأَتْهُ الاْءَبْصَارُ ، فَقَدْ أحَاطَ(2) بِهِ الْعِلْمَ، وَوَقَعَتِ الْمَعْرِفَةُ) أي وقعت على ذاته تعالى.

(فَقَالَ أَبُو قُرَّةَ: فَتُكَذِّبُ) ؛ بشدّ المعجمة المكسورة.

(بِالرِّوَايَاتِ؟ فَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ عليه السلام : إِذَا كَانَتِ الرِّوَايَاتُ مُخَالِفَةً لِلْقُرْآنِ، كَذَّبْتُهَا) . يُقال: كذّب به تكذيبا: إذا لم يؤمن به؛ وكذّبه تكذيبا: إذا أخبر أنّه كاذب. ففي كلام أبي قرّة إشارة إلى صدق الروايات، وفي كلامه عليه السلام تصريح بكذبها.

(وَمَا أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ) . عطف على القرآن.

(أَنَّهُ) أي من أنّه. ويمكن أن يكون «ما أجمع» مبتدأ و«أنّه» خبره.

(لاَ يُحَاطُ بِهِ) . الظرف قائم مقام الفاعل.

(عِلْما) ؛ مفعول له، أو تمييز للفاعل المحذوف.

(وَ«لاَ تُدْرِكُهُ الاْءَبْصَارُ»(3)حكاه ابن عبد البرّ في كتاب الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمّة الفقهاء ، ص 82 عن الشافعي ، وحكاه الشهرستاني في الملل والنحل ، ج 1 ، ص 100 عن الأشاعرة .(4) وَ«لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْ ءٌ»(5)) . المعنى أنّ المسلمين ما أوّلوا هذه الآيات، بل أجمعوا على ظواهرها، أو أنّهم أجمعوا على أنّها من القرآن.

الثالث: (أَحْمَدُ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى، عَنْ عَلِيِّ بْنِ سَيْفٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدٍ، قَالَ: كَتَبْتُ إِلى أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا عليه السلام أَسْأَلُهُ عَنِ الرُّوءْيَةِ وَمَا تَرْوِيهِ الْعَامَّةُ) ؛ هو أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله رآه ليلة المعراج(6)، وأنّ المؤمنين يرونه في الآخرة.(6)

(وَالْخَاصَّةُ) ؛ هو أنّه لا يمكن رؤيته أصلاً. .

ص: 163


1- طآه (20) : 110 .
2- في الكافي المطبوع : «أحاطت» .
3- الأنعام
4- : 103 .
5- الشورى (42) : 11 .
6- حكاه الفخر الرازي في تفسيره ، ج 25 ، ص 186 بلفظ «قيل» .

(وَسَأَلْتُهُ أَنْ يَشْرَحَ لِي ذلِكَ) أي يبيّن بطلان ما ترويه العامّة، وصدقَ ما ترويه الخاصّة بدليل.

(فَكَتَبَ بِخَطِّهِ: اتَّفَقَ الْجَمِيعُ) أي جميع القائلين بجواز الرؤية بالعين.

(لاَ تَمَانُعَ بَيْنَهُمْ أَنَّ) أي على أنّ.

(الْمَعْرِفَةَ) . اللام للعهد الخارجي؛ أي معرفة اللّه تعالى.

(مِنْ جِهَةِ الرُّوءْيَةِ) . الظرف متعلّق ب«المعرفة».

(ضَرُورَةٌ) ؛ مرفوع، أي ضروريّة. والمراد أنّ فاعلها غير قابلها، بناءً على أنّها غير مولدة من الفكر في شيء.

(فَإِذَا جَازَ أَنْ يُرَى اللّه ُ بِالْعَيْنِ، وَقَعَتِ الْمَعْرِفَةُ ضَرُورَةً) . منصوبٌ حال عن المعرفة، أي اضطرارا؛(1) يعني فثبت بالإجماع المركّب صدقُ هذه الشرطيّة عند القائلين بجواز الرؤية، وعند المنكرين للجواز أيضا.

(ثُمَّ لَمْ تَخْلُ تِلْكَ الْمَعْرِفَةُ) الاضطراريّة (مِنْ أَنْ تَكُونَ إِيمَانا) أي شرطا للإيمان الذي هو الطوع والانقياد.

(أَوْ لَيْسَتْ بِإِيمَانٍ) أي ليست شرطا للإيمان.

(فَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْمَعْرِفَةُ مِنْ جِهَةِ الرُّوءْيَةِ إِيمَانا) أي شرطا للإيمان.

(فَالْمَعْرِفَةُ الَّتِي فِي دَارِ الدُّنْيَا مِنْ جِهَةِ الاِكْتِسَابِ) أي من جهة الاختيار بأن يكون فاعلها قابلَها بناءً على أنّها مولدة من الفكر في شيء.

(لَيْسَتْ بِإِيمَانٍ) أي ليست مقارنة للإيمان.

(لاِءَنَّهَا ضِدُّهُ) أي لأنّ المعرفة الاكتسابيّة ضدّ الإيمان، بناءً على أنّ المشروط بضدّ شيء ضدُّ ذلك الشيء، أو لأنّ الضرورة ضدّ الاكتساب، بناءً على أنّه لا يمكن أن يكون شيء واحد بالنسبة إلى عبد واحد اختياريّا واضطراريّا معا في وقت واحد.

(فَلاَ يَكُونُ فِي الدُّنْيَا مُوءْمِنٌ) أي إلاّ من رآه في الدنيا، وهو نادر جدّا عند القائلين بالرؤية. .

ص: 164


1- في «ج» : «اضطرارية» .

(لاِءَنَّهُمْ لَمْ يَرَوُا اللّه َ عَزَّ ذِكْرُهُ) أي لأنّ جميع المؤمنين لم يروه في الدنيا.

(وَإِنْ لَمْ تَكُنْ تِلْكَ الْمَعْرِفَةُ الَّتِي مِنْ جِهَةِ الرُّوءْيَةِ إِيمَانا، لَمْ تَخْلُ هذِهِ الْمَعْرِفَةُ الَّتِي مِنْ جِهَةِ الاِكْتِسَابِ) أي ما هو قبل الرؤية.

(أَنْ) أي عن أن (تَزُولَ) أي بعد الرؤية؛ لحدوث ضدّها، بناءً على اتّفاق الجميع والإجماع المركّب.

(وَلاَ تَزُولُ) ؛ بالرفع، والواو للحال. وهذا لبيان المقدّمة الاستثنائيّة، أي معلوم أنّ المعرفة الاكتسابيّة لا تزول بالرؤية.

قال الشيخ أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه تعالى في كتاب عدّة الاُصول في فصل في حقيقة العلم وأقسامه:

والعلوم على ضربين: ضروريّ ومكتسب. فحدّ الضروري ما كان من فعل غير العالم به(1) على وجه لا يمكنه دفعه عن نفسه بشكٍّ أو شبهةٍ. وهذا الحدّ أولى ممّا قاله بعضهم من أنّه ما لا يمكن العالمَ دفعه عن نفسه بشكٍّ أو شبهة إذا انفرد، لأنّ ذلك تحرّز لمن اعتقد بقول النبيّ صلى الله عليه و آله : إنّ زيدا فيالدار، ثمّ(2) شاهده، فإنّه لا يمكنه أن يدفع ذلك عن نفسه، ومع هذا فهو اكتساب، وهذا لا يصحّ عندنا؛ لأنّ العلم بالبلدان والوقائع وما جرى مجراهما هذا الحدُّ موجود فيه، وعند كثير من أصحابنا أنّه مكتسب قطعا، وعند بعضهم هو على الوقف، فلا يصحّ ذلك على الوجهين معا _ إلى قوله _ : وأمّا العلم المكتسب فحدّه أن يكون من فعل العالم به، وهذا الحدّ أولى؛ إلى آخره.(3)

(فِي الْمَعَادِ) . متعلّق بقوله: «لا تزول»؛ أي فضلاً عن أن تزول في الدنيا.

(فَهذَا دَلِيلٌ عَلى أَنَّ اللّه َ _ عَزَّ وَجَلَّ ذِكْرُهُ(4) _ لاَ يُرى بِالْعَيْنِ؛ إِذِ الْعَيْنُ تُوءَدِّي إِلى مَا وَصَفْنَاهُ) من الأمر المعلوم البطلان، وهو انتفاء المؤمن في الدنيا، أو زوال المعرفة .

ص: 165


1- في المخطوطتين: «فيه». والمثبت عن المصدر.
2- في المخطوطتين : «في» . والمثبت عن المصدر .
3- عدّة الاُصول ، ج 1 ، ص 13 ، وفي الطبعة الاُخرى، ج 1 ، ص 53 .
4- في الكافي المطبوع : - «ذكره» .

الاكتسابيّة بعد الرؤية.

الرابع: (وَعَنْهُ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: كَتَبْتُ إِلى أَبِي الْحَسَنِ الثَّالِثِ عليه السلام أَسْأَلُهُ عَنِ الرُّوءْيَةِ) أي عن الدليل على أنّه لا يمكن أن يرى اللّه تعالى أحد، لا في الدنيا ولا في الآخرة.

(وَمَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ(1)) أي وعن تحرير محلّ النزاع بين القائلين بإمكانه، والقائلين باستحالته عقلاً.

(فَكَتَبَ عليه السلام : لاَ يجُوزُ(2) الرُّوءْيَةُ) . هذا إلى قوله: «لم يصحّ الرؤية» تمهيد لتحرير محلّ النزاع؛ أي لا يمكن بحسب العادة رؤية أحدنا شيئا في الدنيا.

(مَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الرَّائِي وَالْمَرْئِيِّ هَوَاءٌ) أي فضاء خال؛ شبّه به ما ليس فيه ما يمنع نفوذ البصر.

(يَنْفُذُهُ الْبَصَرُ) أي شعاع البصر، فظاهره يبطل مذهب الانطباع.(3) ويحتمل أن يُراد بنفوذ البصر في الهواء توسّله به إلى الرؤية ولو بالانطباع.

(فَإِذَا انْقَطَعَ الْهَوَاءُ عَنِ الرَّائِي وَالْمَرْئِيِّ) . أي عن المجموع من حيث المجموع. وله في بادئ الرأي ثلاث صور: الاُولى: أن ينقطع عن كلّ منهما؛ الثانية: أن ينقطع عن الرائي فقط؛ الثالثة: أن ينقطع عن المرئيّ فقط.

(لَمْ يصِحَّ(4) الرُّوءْيَةُ) أي لم يصحّ عادةً في رؤية أحدنا شيئا، سواء كانت ممكنة بخرق العادة، أم لا.

(وَكَانَ) . عطفٌ على قوله: «لم يصحّ». وهذا إلى قوله: «وجب الاشتباه» تحرير لمحلّ النزاع. .

ص: 166


1- في الكافي المطبوع : «فيه الناس» .
2- في الكافي المطبوع : «تجوز» .
3- هو مذهب الطبيعيّين القائلين بأنّ الإبصار انطباع شبع المرئي في جزء من الرطوبة الجليوية التي يشبه البَرَد والجمد ؛ فإنّها مثل مرآة ، فإذا قابلها متلوّن مضيء انطبع مثل صورته فيها كما ينطبع صورة الإنسان في المرآة . الحكمة المتعالية ، ج 9 ، ص 178 .
4- في الكافي المطبوع : «تصحّ» .

(فِي ذلِكَ) أي في انقطاع الهواء عنهما (الاِشْتِبَاهُ) أي اشتباه الحقّ بالباطل على جمع من الناظرين واختلافهم في أنّه هل يجوز أن تتحقّق الصورة الثالثة أو الاُولى على خرْق العادة في رؤيتنا شيئا، أم لا؟

فمَن جوّز الثالثة، جوّز أن يرى اللّه أحد من عباده، ومَن جوّز الاُولى، جوّز أن يرى اللّه ذاته، ومَن لم يجوّز شيئا من الصورتين، لم يجوّز شيئا من الرؤيتين، وذلك مع اتّفاقهم على جواز الصورة الثانية، لا على العادة المستمرّة في رؤيتنا شيئا، فإنّ اللّه تعالى يرى الأجسام.

(لاِءَنَّ) . دليلٌ على أنّه محلّ الاشتباه ببيان ما به اشتبه الحقّ على منكريه.

(الرَّائِيَ مَتى سَاوَى الْمَرْئِيَّ فِي السَّبَبِ الْمُوجِبِ بَيْنَهُمَا فِي الرُّوءْيَةِ، وَجَبَ الاِشْتِبَاهُ) . يعني أنّ الناس إذا علموا أنّ العادة في رؤيتنا شيئا أن يكون الرائي كالمرئيّ في الاحتياج في الرؤية إلى اتّصال الهواء به، وعلموا جواز خلاف العادة في الرائي كما في الصورة المتّفق عليها، يحكم وهمهم بجوازه في المرئيّ أيضا بخرق العادة، وذلك بقياس الصورة الثالثة على الثانية، فمن تبع حكم وهمه هذا، اشتبه عليه الحقّ، وتوهّم جواز رؤية كلّ موجود بالعين. كما هو الواقع عند الأشاعرة في رؤية اللّه تعالى،(1) أو باليد والرجل ونحو ذلك كما هو احتمالٌ محضٌ عندهم، وذلك بخرق العادة.

ومعنى «الموجب» _ بكسر الجيم _ الرابطُ، والسبب الموجب هو الهواء، والمساواة فيه الاشتراك في الاحتياج إليه في الرؤية. والظرف متعلّق ب«الموجب».

ويحتمل أن يكون الموجَب بفتح الجيم، أي ما يحكم العقل بوجوبه عادةً في الرؤية، والظرف حينئذٍ مستقرّ حال عن السبب.

وتوضيح تحرير محلّ النزاع: أنّ النفس الناطقة الإنسانيّة لها أنواع من الانكشاف، بعضها بواسطة إحدى الحواسّ الخمس الظاهرة بلا تصرّف، وبعضها بواسطة الحواسّ .

ص: 167


1- اُنظر تفسير الرازي ، ج 3 ، ص 50 ، وص 58 ؛ و ج 13 ، ص 126 _ 131 ؛ شرح المواقف ، ج 8 ، ص 115 .

الخمس الظاهرة مع تصرّف ينسبه الفلاسفة إلى حواسَّ خمسٍ باطنةٍ،(1) وبعضها بلا واسطتهما، كانكشاف الإنسان عند نفسه.

وهذه الأنواع كما أنّها ممتاز بعضُها عن بعض باعتبار امتياز الآلة وعدم الآلة، وباعتبار امتياز بعض الآلات عن بعض يمتاز أيضا باعتبار نفس ذلك الانكشاف؛ مثلاً الانكشاف الحاصل لها لا بآلة ممتازٌ عمّا لها فيه آلةٌ، والانكشاف الحاصل لها بآلة البصر مثلاً ممتاز عن الانكشاف الحاصل لها بآلة اللمس.

والمراد بالرؤية هنا الانكشاف المخصوص بدون اعتبار الآلة المخصوصة، وإن كان لم يحصل لنا في الدنيا إلاّ بها.

فمذهب الأشاعرة أنّ هذا النوع من الانكشاف يجوز تعلّقه بكلّ موجود، فيجوز رؤية نحو الحرارة والأصوات والروائح والطعوم، ويصحّ أن يَرى أعمى صين بقّةَ أندلس، ويرى صوت طيرانها وريحها وطعمها ومزاجها، فقالوا: يجوز لنا أن نرى اللّه ، ونرى علمه وقدرته وسائر صفاته، كلّ ذلك بخرق العادة.(2)

(وَكَانَ ذلِكَ التَّشْبِيهَ) . هذا إلى آخره بيان للدليل العقلي على امتناع أن يرى اللّه أحد، وهو معطوف على قوله: «كان في ذلك الاشتباه».

وقوله: «ذلك» بالمعجمة على لفظ اسم الإشارة، إشارةٌ إلى الدليل العقلي، وهو الذي سأل السائل عنه أوّلاً، وهو اسم «كان» وخبرها «التشبيه». وإنّما أخّر عليه السلام بيان الدليل لأنّ الأولى في ترتيب البحث(3) تقديم تحرير محلّ النزاع على بيان الدليل على الحقّ؛ يعني وكان الدليل تشبيه دليل امتناع الرؤية عقلاً بدليل امتناع السمع واللمس والذوق والشمّ عقلاً.

بيان ذلك: أنّا نقول للقائل بجواز الرؤية على سبيل خرق العادة: هل تجوّز أنت أن .

ص: 168


1- حكاه العلاّمة في كشف المراد (تحقيق الآملي) ، ص 295 ، عن الأوائل .
2- حكاه عن الأشاعرة في المواقف ، ج 3 ، ص 199 ؛ شرح المواقف ، ج 8 ، ص 138 .
3- في «ج» : «المبحث» .

يكون اللّه تعالى مسموعا وملموسا ومذوقا ومشموما على سبيل خَرْق العادة، أم لا؟ فإن قال: نعم، فقد كابر مقتضى عقله؛ لوضوح امتناعه. وإن قال: لا، نقول له: بأيّ دليل عرفت أنّه لا يجوز ولو بخرق العادة؟ ولابدّ له أن يقول: الدليل أنّه يجب في المسموع مثلاً أن يكون ذا وضع، وعَرَضا هو الصوت، فنقول له: هذا في عادتنا في السمع لِمَ لا يجوز أن يسمع غير ذي الوضع، أو غير العَرَض بخرق العادة؟ فإن قال: نعلم بالعقل أنّه لا يجوز ذلك ولو بخرق العادة، قلنا: في الرؤية مثله حرفا بحرف على مذهب من يقول: إنّ المرئيّ هو اللون والضوْء دون الجسم،(1) ونكتفي بذكر الوضع من كلامه على مذهب غيره، ونبدّل العرضَ بالجسم.

(لاِءَنَّ الاْءَسْبَابَ لاَ بُدَّ مِنِ اتِّصَالِهَا بِالْمُسَبِّبَاتِ(2)) . استدلالٌ على أنّ التشبيه دليل [كون[ المراد بالأسباب البراهين التي هي أسباب العلم والحكم بالنتائج، واتّصالها بالتاء المثنّاة المشدّدة المكسورة كما في النسخ. ويمكن أن يكون بسكون الخاتمة، والباء في «بالمسبّبات» بصيغة اسم فاعل باب التفعيل للإلصاق على الأوّل، وللآلة على الثاني، وهي عبارة عن مناطات دلالة البراهين على النتائج يعني أنّ البراهين العقليّة _ التي هي أسباب العلوم بالنتائج _ لابدّ من أن لاتفارق مناط سببيّتها للعلوم بالنتائج في كلّ موضع تحقّقت فيه، وهذا لضرورة وجوب اطّرادها باعتبار ما هو مناط الدلالة؛ مثلاً إذا سلّمتم أنّ زيدا حادث، وأنّ الدليل العقلي على حدوثه أنّه متغيّر، لزمكم أن تسلّموا أنّ عمرا حادث بهذا الدليل؛ إذ خصوصيّة زيد وعمرو لغو ليست داخلة في مناط الدلالة. وهذا نوع من إيناس الخصم بإصغاء الدليل.

فظهر أنّ القائلين بجواز الرؤية لم يذهب وهمهم إليه إلاّ لروايات(3) موضوعة وضع أكثرها المجسّمة، ولألفاظ من القرآن لم يفهموا معناها، فحملوا أنفسهم على المكابرة .

ص: 169


1- اُنظر شرح المواقف ، ج 8 ، ص 124 ؛ كشف المراد (تحقيق الآملي) ص 413 ، وفي طبعة الزنجاني ص 324 .
2- في الكافي المطبوع : «بالمسبَّبات» بفتح الباء المشدّدة .
3- في «ج» : «الروايات» .

لمقتضى العقل، وذلك كما تمسّكت المجسّمة بنحو قوله تعالى: «وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّا صَفّا»(1).

قال الزركشي من الأشاعرة في شرح جمع الجوامع:

وفي الصحيحين في حديث الرؤية «فيأتيهم اللّه في صورة لا يعرفونها فيقول: أنا ربّكم، فيقولون: نعوذ باللّه منك هذا مكاننا حتّى يأتينا ربّنا، فإذا جاء ربّنا عرفناه، فيأتيهم اللّه تعالى في صورته التي يعرفونها، فيقول: أنا ربّكم، فيقولون: أنت ربّنا فيتبعونه».(2) قال الأئمّة: المعنى أنّهم يرون اللّه على ما كانوا يعتقدونه من الصفات التي هو عليها من تنزيهه وتقديسه. وفي حديث آخر: وكيف يعرفونه؟ قال: «إنّه لا شبيه له». انتهى.(3)

يا لهذا التأويل، سبحانه وتعالى عمّا يصفون، يجيء في كلام هشام ما يشبه أن يكون شرحا آخر غير ما ذكرنا لمثل هذا الحديث.

الخامس: (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مَعْبَدٍ، عَنْ عَبْدِ اللّه ِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: حَضَرْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عليه السلام ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ الْخَوَارِجِ) على بني اُميّة بدون إذن الأئمّة عليهم السلام .

(فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا جَعْفَرٍ، أَيَّ شَيْءٍ تَعْبُدُ؟ قَالَ: اللّه َ تَعَالى.(4) قَالَ: رَأَيْتَهُ؟ قَالَ: بَلْ) ؛ إضراب عن الرؤية. (لَمْ تَرَهُ الْعُيُونُ بِمُشَاهَدَةِ الاْءَبْصَارِ) أي بدون قصد مجاز.

(وَلكِنْ) . استدراكٌ لعدم مشاهدة الأبصار. (رَأَتْهُ الْقُلُوبُ) أي آمنت به (بِحَقَائِقِ الاْءِيمَانِ) ؛ جمع حقيقة، وهي الراية تكون في العسكر علامةً لهم، والمراد هنا علامات صحّة الإيمان موافقا لما مضى في «كتاب العقل» في أوّل «باب الأخذ بالسنّة وشواهد الكتاب» وهو آخر الأبواب من قوله: «إنّ على كلّ حقٍّ حقيقةً»، وما يجيء في «كتاب .

ص: 170


1- الفجر (89) : 22 .
2- صحيح البخاري ، ج 7 ، ص 2 _ 5 كتاب الرقاق ؛ و ج 8 ، ص 179 كتاب التوحيد ؛ صحيح مسلم ، ج 1 ، ص 113 ، باب معرفة طريق الرؤية .
3- اُنظر شرح مسلم للنووي ، ج 3 ، ص 19 .
4- في «ج» : - «تعالى» .

الإيمان والكفر» في أحاديث «باب حقيقة الإيمان واليقين» وهو السابع والعشرون.(1)

(لاَ يُعْرَفُ بِالْقِيَاسِ) . استئناف بياني، تقول: قست الشيء بالشيء: إذا قدّرته على قدره؛ أي لا يعرف ذاته بالحدّ التامّ، ويمكن تخفيف الراء وتشديدها.

(وَلاَ يُدْرَكُ بِالْحَوَاسِّ، وَلاَ يُشَبَّهُ) . يجوز تخفيف الموحّدة بأن يكون بصيغة المعلوم، وتشديدُها بأن يكون بصيغة المجهول.

(بِالنَّاسِ) أي بشيء أصلاً. وتخصيصه بالذِّكر للسجع، ولأنّه الواقع عند المشبّهة، كما مضى في ثاني الباب من قوله: «وهو على صورة البشر»، والتشبيه القول بأنّ موجودا في الخارج مشترك معنى بينهما، كما يجيء في أوّل السابع عشر(2) من قوله: «إنّما التشبيه في المعاني» إلى آخره.

(مَوْصُوفٌ) ؛ من وصفت الشيء: إذا بيّنته بما فيه.

(بِالاْآيَاتِ) . الآية: العلاّمة، وجملة حروف من كتاب اللّه ، والأصل أَوَيَة بالتحريك، والأظهر هنا الثانية(3)، ليكون إشارة إلى النهي عن وصفه تعالى بغير ما وصف به نفسه، وليكون قوله:

(مَعْرُوفٌ بِالْعَلاَمَاتِ) ، تأسيسا.

(لاَ يَجُورُ) ؛ بصيغة المعلوم من الجور، وهو الميل عن الصواب، أو بصيغة المجهول من التجوير، وهو النسبة إلى الجور.

(فِي حُكْمِهِ ) : في قضائه وقدره، ويدخل فيه الأحكام الشرعيّة أيضا.

(ذلِكَ اللّه ُ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ. فَخَرَجَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ: «اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ»(4))؛ بالإفراد في قراءة ابن كثير وحفص عن عاصم، وبالجمع في قراءة الباقين.(5) .

ص: 171


1- الكافي ، ج 2 ، ص 52 ، باب حقيقة الإيمان واليقين .
2- أي الحديث 1 من باب آخر وهو من الباب الأوّل .
3- الصحاح ، ج 6 ، ص 2275 (أيا) .
4- الأنعام (6): 124.
5- حكى ذلك الطبرسي في مجمع البيان ، ج 4 ، ص 153 .

وهذا إشارة إلى أنّه عليه السلام من أهل بيت الرسالة العالمين بجميع رسالات اللّه تعالى.(1)

السادس: (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي نَصْرٍ ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْمَوْصِلِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : جَاءَ حِبْرٌ) من أحبار اليهود (إِلى أَمِيرِ الْمُوءْمِنِينَ عليه السلام ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ حِينَ عَبَدْتَهُ؟) أي حين صرت عبدا له، أو حين شرعت في عبادته كالصلاة.

(قَالَ : فَقَالَ: وَيْلَكَ، مَا كُنْتُ أَعْبُدُ) . زيادة «كنت» للدلالة على أنّه يستقبح ذلك.

(رَبّا لَمْ أَرَهُ) . أخرج كلام السائل على خلاف مقتضى الظاهر قصدا إلى المبالغة في استحالة الرؤية بالبصر، فكأنّه لا يقصد.

(قَالَ: وَكَيْفَ رَأَيْتَهُ؟ قَالَ: وَيْلَكَ، لاَ تُدْرِكُهُ الْعُيُونُ فِي مُشَاهَدَةِ الاْءَبْصَارِ، وَلكِنْ رَأَتْهُ الْقُلُوبُ بِحَقَائِقِ الاْءِيمَانِ) . مضى شرحه آنفا.

السابع: (أَحْمَدُ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَحْيى، عَنْ عَاصِمِ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ،قَالَ) أي عاصم (ذَاكَرْتُ) . المذاكرة: المكالمة.

(أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام فِيمَا يَرْوُونَ) ؛ بواوين، أي يروي المخالفون عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله . وفي بعض النسخ بواو واحدة؛ أي يعتقد المخالفون.

(مِنَ الرُّوءْيَةِ، فَقَالَ: الشَّمْسُ) أي نورها (جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءا مِنْ نُورِ الْكُرْسِيِّ، وَالْكُرْسِيُّ) أي نوره (جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءا مِنْ نُورِ الْعَرْشِ، وَالْعَرْشُ) أي نوره (جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءا مِنْ نُورِ الْحِجَابِ، وَالْحِجَابُ) أي نوره (جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءا مِنْ نُورِ السِّتْرِ) ؛ بكسر المهملة وسكون المثنّاة فوقُ. والفرق بين الحجاب والستر أنّ الحاجب للمَلِك قد يكون في داره بعيدا بأبواب عنه، والستر مرخى عنده، فاستُعيرا للقريب والأقرب مرتبةً، وهذا إلزام على المخالفين، فإنّه في رواياتهم،(2) ويجيء في ثالث .

ص: 172


1- في حاشية «أ»: «المراد بها على ما في الصافي كتب اللّه تعالى أو أجزاؤها كالسور والآيات» .
2- فتح الباري ، ج 13 ، ص 354 ، باب قول اللّه تعالى : «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ» ؛ تفسير ابن كثير ، ج 4 ، ص 290 ، تفسير سورة الرحمن ؛ الدر المنثور ، ج 6 ، ص 290 ، تفسير سورة القيامة .

الحادي عشر(1): «احتجب بغير حجاب محجوب، واستتر بغير سترٍ مستور». وتفسير العرش والكرسيّ يجيء في «باب العرش والكرسيّ».

(فَإِنْ كَانُوا صَادِقِينَ) في روايتهم. إشارةٌ إلى أنّهم كذبوا على رسول اللّه صلى الله عليه و آله ترويجا لرأيهم.

(فَلْيَمْلَؤُوا أَعْيُنَهُمْ مِنَ الشَّمْسِ) . مضى شرح مثله في عاشر «باب النهي عن الكلام في الكيفيّة».

(لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ) ؛ حاليّة. والدون: أدنى مكانا من الشيء. والسحاب بالفتح، إن اُريد به الغيم لم يناسب المقام، فلعلّ المراد به ما ينسحب على وجه الأرض من الأجزاء البخاريّة المتوسّطة بين الناظر والشمس بُعَيدَ الطلوع، وقُبيلَ الغروب، فإنّه يمكن أن يملأ العين من الشمس فيهما، فهو من سحبه _ كمنعه _ : إذا جرّه على وجه الأرض.

الثامن: (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى وَغَيْرُهُ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَصْرٍ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا عليه السلام ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله : لَمَّا أُسْرِيَ) ؛ بصيغة المجهول.

(بِي إِلَى السَّمَاءِ، بَلَغَ بِي جَبْرَئِيلُ مَكَانا لَمْ يَطَأْهُ قَطُّ جَبْرَئِيلُ) . وضع الظاهر موضع الضمير لتفخيم المكان، فوطئه ببركته صلى الله عليه و آله ، أو بلغ به إلى حدّه.

(فَكُشِفَ لَهُ) ، بصيغة المجهول.

(فَأَرَاهُ اللّه ُ) ؛ من باب الالتفات؛ أي فكشف لي فأراني اللّه ، أو هو نقل بالمعنى.

(مِنْ نُورِ عَظَمَتِهِ) . المراد جسم هو أعجب ما يكون من الأجسام، وأَدَلُّها على عظمة اللّه تعالى موافقا لما يجيء في «كتاب الحجّة» في ثالث عشر «مولد النبيّ صلى الله عليه و آله ووفاته».(2) أو المراد النور المنقسم إلى أنوار أربعة، كما يجيء في أوّل «باب العرش والكرسيّ». أو المراد النصّ على إمامة أمير المؤمنين موافقا لآية سورة النجم: «وَلَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى»(3)، ومضى في ثاني الباب. .

ص: 173


1- أي الحديث 3 من باب النهي عن الجسم والصورة .
2- الكافي، ج 1، ص 442، باب مولد النبي صلى الله عليه و آله ووفاته، ح 13.
3- النجم (53) : 18 .

(مَا أَحَبَّ) أي ما شاء اللّه ، أو ما أحبَّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله . وهذا تكذيب لروايات المخالفين أنّه صلى الله عليه و آله رأى(1) اللّه ببصره.(2)

وأمّا قوله (فِي قَوْلِهِ تَعَالى(3): «لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الاْءَبْصارَ»(4)القصص (28) : 79 .(5)) فقيل: إنّه كلام مستأنف من محمّد بن يعقوب عنوانا للأحاديث التي بعده؛ أي الكلام في قوله: «لا تدركه» انتهى.(6)

والأظهر على هذا أن يقدّم عليه ما يرويه عن هشام بن الحكم.

ويحتمل أن يكون تتمّة كلام الرضا عليه السلام ويكون «في» بمعنى «مع» نحو: «فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِى زِينَتِهِ».(6)

التاسع: (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجْرَانَ، عَنْ عَبْدِ اللّه ِ بْنِ سِنَانٍ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام فِي قَوْلِهِ: «لاَ تُدْرِكُهُ الاْءَبْصارُ»(7) قَالَ: إِحَاطَةُ الْوَهْمِ) . يعني المراد بالأبصار ما يعمّ أبصار العيون وأبصار القلوب، وبالإدراك التخيّل والتمثّل عند القلوب بأن يجعل له حدّا كإدراكنا للبلاد البعيدة.

(أَ لاَ تَرى إِلى قَوْلِهِ). استشهادٌ بما بعد الآية في سورة الأنعام على أنّ البصر هنا غير حاسّة الرؤية التي في العين.

(«قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ»؟ لَيْسَ يَعْنِي) بقوله: «بصائر» (بَصَرَ الْعُيُونِ) أي ما أخذ».

ص: 174


1- في «ج» : «أري» .
2- تفسير القرطبي ، ج 7 ، ص 56 .
3- فى النسختين: - «تعالى».
4- الأنعام
5- : 103 .
6- في حاشية «أ» : «القائل ميرزا محمّد رحمه الله (منه)» . وانظر الحاشية على اُصول الكافي لرفيع الدين النائيني ، ص 334 .
7- في حاشية «أ» : تمام الآية في سورة الأنعام هكذا «لاَّ تُدْرِكُهُ الاْءَبْصَ_رُ وَهُوَ يُدْرِكُ الاْءَبْصَ_رَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ * قَدْ جَآءَكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ ى وَمَنْ عَمِىَ فَعَلَيْهَا وَمَآ أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ».

من البصر بمعنى بصر العيون؛ أي حاسّة الرؤية التي في العيون، فإنّ البصائر جمع بصيرة بمعنى الحجّة أو الاستبصار، فليس مشتقّا من بصر العيون، كما في قوله: «فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِى الاْءَبْصَارِ»(1)، وفي الدعاء: «يا مقلّب القلوب والأبصار».(2)

(«فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ») تتمّة الآية.

(لَيْسَ يَعْنِي) بقوله: «أبصر» المأخوذ (مِنَ الْبَصَرِ بِعَيْنِهِ) أي البصر الذي هو بعينه، أي في عينه. أو المراد أنّه ليس من البصر المعيّن المخصوص وهو حاسّة الرؤية. ويحتمل أن يكون الأصل من «أبصر بعينه» فما في النسخ تصحيف.

(«وَمَنْ عَمِىَ فَعَلَيْها»)(3) تتمّة الآية.

(لَيْسَ يَعْنِي عَمَى الْعُيُونِ) .

وقوله: (إِنَّمَا عَنى إِحَاطَةَ الْوَهْمِ) ، تأكيدٌ لقوله: ليس يعني بصر العيون.

(كَمَا يُقَالُ). استشهادٌ له حين التأكيد.

(فُلاَنٌ بَصِيرٌ بِالشِّعْرِ، وَفُلاَنٌ بَصِيرٌ بِالْفِقْهِ، وَفُلاَنٌ بَصِيرٌ بِالدَّرَاهِمِ، وَفُلاَنٌ بَصِيرٌ بِالثِّيَابِ) . ومراد القائل مستبصر بها ببصر قلبه.

(اللّه ُ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُرى بِالْعَيْنِ) . فالاقتصار على عدم إدراك بصر العين اكتفاء ببيان أمرٍظاهرٍ كأنّه لا حاجة إلى بيانه.

العاشر: (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِي هَاشِمٍ الْجَعْفَرِيِّ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا عليه السلام ، قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنِ اللّه ِ: هَلْ يُوصَفُ؟) أي هل يصفه العبد من عند نفسه بغير ما وصف تعالى به نفسه فيقول: إنّه جسم أو صورة؟

(فَقَالَ: أَ مَا تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟ قُلْتُ: بَلى ، قَالَ: أَ مَا تَقْرَأُ قَوْلَهُ تَعَالى: «لاَ تُدْرِكُهُ الاْءَبْصارُ وَهُوَ .

ص: 175


1- الحشر (59) : 2 .
2- مصباح المتهجد ، ص 132 و 365 ؛ المصباح للكفعمي ، ص 248 .
3- الأنعام (6) : 104 .

يُدْرِكُ الاْءَبْصارَ»؟(1) قُلْتُ: بَلى، قَالَ: فَتَعْرِفُونَ الاْءَبْصَارَ؟، قُلْتُ: بَلى، قَالَ: مَا هِيَ؟ قُلْتُ: أَبْصَارُ الْعُيُونِ) أي حواسّ الرؤية التي هي في العيون.

(فَقَالَ: إِنَّ أَوْهَامَ الْقُلُوبِ) أي أبصار القلوب. وإنّما سمّاها أوهاما لأنّ الإدراك لا يستعمل إلاّ في التخيّل والتوهّم.

(أَكْبَرُ) ؛ بالموحّدة، أي أهمّ نفيا، أو أعمّ تعلّقا، كما يجيء في حادي عشر الباب.

(مِنْ أَبْصَارِ الْعُيُونِ، فَهُوَ) أي فاللّه ، أو فالمراد.

(لاَ تُدْرِكُهُ الاْءَوْهَامُ، وَهُوَ يُدْرِكُ الاْءَوْهَامَ) . مرّ شرحه في تاسع الباب.

الحادي عشر: (مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ، عَمَّنْ ذَكَرَهُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْقَاسِمِ أَبِي هَاشِمٍ الْجَعْفَرِيِّ، قَالَ: قُلْتُ لاِءَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ) أي الثاني («لاَ تُدْرِكُهُ الاْءَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الاْءَبْصارَ»؟(2)). هو على سبيل الاستفهام التعجّبي، لا الإنكاري؛ أي ألا تدركه الأبصار؟

(فَقَالَ: يَا أَبَا هَاشِمٍ، أَوْهَامُ الْقُلُوبِ أَدَقُّ) أي ألطف وأسرع تعلّقا.

(مِنْ أَبْصَارِ الْعُيُونِ؛ أَنْتَ) . استئنافٌ بياني.

(قَدْ تُدْرِكُ بِوَهْمِكَ السِّنْدَ) ؛ بكسر السين: بلاد، أي تتصوّرها بحدودها ووضعها وقربها وبُعدها بالنسبة إلى مكانك وشكلها ونحو ذلك بالقياس إلى ما رأيته من البلاد.

(وَالْهِنْدَ) . هي أيضا بلاد.

(وَالْبُلْدَانَ) أي وسائر البلدان.

(الَّتِي) ؛ صفة البلدان.

(لَمْ تَدْخُلْهَا) . بصيغة المضارع المخاطب المعلوم من باب نصر.

(وَلاَ تُدْرِكُهَا) . الواو للحال، أو للعطف على «تدرك» والضمير للبلدان.

(بِبَصَرِكَ) أي حين تدركها بوهمك. .

ص: 176


1- الأنعام (6) : 103 .
2- الأنعام (6) : 103 .

(وَأَوْهَامُ الْقُلُوبِ لاَ تُدْرِكُهُ، فَكَيْفَ أَبْصَارُ الْعُيُونِ؟!). حمل أبو هاشم الأبصار في نحو قوله تعالى: «لاَ تُدْرِكُهُ الاْءَبْصارُ» على أبصار العيون، وتعجّب من عدم إدراك أبصار العيون له، فأجاب عليه السلام بما يرفع تعجّبه، ولم يتعرّض لكون المراد بالأبصار ما حمله عليه، أو أعمّ نقل كلام هشام بن الحكم.

(عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ) .(1) الظاهر أنّ صدر كلام هشام إلى قوله: «ولا في حَيّزه» تمهيد لشرح مثل ما مضى في رابع الباب، وقوله: «وإدراك البصر» إلى قوله: «في إنفاذ بصره» شرح لمثل ما مضى في رابع الباب، ولعلّه سمع مثله من بعض الأئمّة الماضين، فإنّه لم يبلغ زمن أبي الحسن الثالث عليه السلام ، ولكن شرحه من عند نفسه بغير ما ذكرنا في شرحه. وقوله: «فأمّا القلب» إلى آخره لعلّه لتقوية التاسع والعاشر والحادي عشر من الباب.

(قَالَ: الاْءَشْيَاءُ لاَ تُدْرَكُ) أي إدراكا على وجه الجزئي الحقيقي والهذيّة، أو على ما يجري مجرى ذلك كتخيّل البلدان كما مرَّ آنفا.

(إِلاَّ بِأَمْرَيْنِ: بِالْحَوَاسِّ، وَالْقَلْبِ؛ وَالْحَوَاسُّ إِدْرَاكُهَا عَلى ثَلاَثَةِ مَعَانٍ) أي أقسام:

(إِدْرَاكا) ؛ منصوب ب«أعني» المقدّرة.

(بِالْمُدَاخَلَةِ ، وَإِدْرَاكا بِالْمُمَاسَّةِ، وَإِدْرَاكا بِلاَ مُدَاخَلَةٍ وَلاَ مُمَاسَّةٍ. فَأَمَّا الاْءِدْرَاكُ الَّذِي بِالْمُدَاخَلَةِ، فَالاْءَصْوَاتُ) تدخل في الصماخ وتُدرك.

(وَالْمَشَامُّ) ؛ جمع مشمومٍ تنفصل من الجسم ذي الرائحة أجزاء لطيفة فتدخل المنخر فتدرك.

(وَالطُّعُومُ)؛ تنفصل من ذي الطعم أجزاء لطيفة، وتغوصُ في جرم اللسان مع الريق، فتدرك، أو يدخُل ذو الطعم نفسه في الفم. .

ص: 177


1- جاء في الحاشية على اُصول الكافي لرفيع الدين النائيني ، ص 336 ما نصّه : «لما أورد الأحاديث المرويّة عن أهل البيت عليهم السلام في نفي الإبصار بالعيون وأوهام القلوب ، ذيّل الباب بما نقل عن هشام بن الحكم الذي هو رأس أصحاب الصادق عليه السلام ورئيسهم في الكلام الذي إنّما يظنّ به أنّ كلامه مأخوذ عن أحاديث أهل البيت وأقوالهم عليهم السلام » .

(وَأَمَّا الاْءِدْرَاكُ بِالْمُمَاسَّةِ، فَمَعْرِفَةُ الاْءَشْكَالِ مِنَ التَّرْبِيعِ وَالتَّثْلِيثِ، وَمَعْرِفَةُ اللَّيِّنِ) ؛ بالكسر مصدر باب ضرب.

(وَالْخُشْنِ(1)) ؛ بضمّ الخاء وسكون الشين المعجمتين، مصدر باب حسن كالخشنة بالضمّ والخشونة.

(وَالْحَرِّ وَالْبَرْدِ. وَأَمَّا الاْءِدْرَاكُ بِلاَ مُمَاسَّةٍ وَلاَ مُدَاخَلَةٍ، فَالْبَصَرُ) أي فإدراك البصر (فَإِنَّهُ) أي البصر (يُدْرِكُ الاْءَشْيَاءَ بِلاَ مُمَاسَّةٍ وَلاَ مُدَاخَلَةٍ فِي حَيِّزِ غَيْرِهِ) ؛ بأن يصير شيء من البصر في حيّز المرئيّ.

(وَلاَ فِي حَيِّزِهِ) أي حيّز البصر، بأن يدخل شيء من المرئيّ في حيّز البصر.

(وَإِدْرَاكُ الْبَصَرِ لَهُ سَبِيلٌ) أي ما يمكن حركة شعاع البصر فيه.

(وَسَبَبٌ) أي ما يتوصّل به إلى الرؤية.

(فَسَبِيلُهُ الْهَوَاءُ ) أي الفضاء الخالي، يُقال لكلّ خال: هواء؛ شُبّه المكان _ الذي فيه جسم شفّاف غير مرئيّ _ بالخالي.

(وَسَبَبُهُ الضِّيَاءُ، فَإِذَا كَانَ السَّبِيلُ مُتَّصِلاً بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَرْئِيِّ) أي لم يكن بينهما جسم كثيف أصلاً.

(وَالسَّبَبُ قَائِمٌ) أي موجود، وهي جملة حاليّة.

(أَدْرَكَ مَا يُلاَقِي) أي ما يلاقيه شعاعه.

(مِنَ الاْءَلْوَانِ وَالاْءَشْخَاصِ) أي الأجسام الكثيفة.

(فَإِذَا حُمِلَ الْبَصَرُ عَلى مَا لاَ سَبِيلَ لَهُ فِيهِ، رَجَعَ رَاجِعا ) . يُقال: حملت زيدا على كذا: إذا كلّفته به. والمعنى: على رؤية ما لا سبيل له فيه؛ أي ما ليس فيه مسامٌّ وفُرَجٌ صغيرة جدّا يدخل فيها شعاع البصر في الجملة، ف«ما» عبارة عن المرآة ونحوها، ولو كان بدل «فيه» «إليه» كان «ما» عبارةً عن باطن المرآة، وكان أوفق لقوله: «فإذا حمل القلب» إلى .

ص: 178


1- في الكافي المطبوع : «الخَشِن» بفتح الخاء وكسر الشين .

آخره، لكن ينتقض بصورة توسّط الجسم الكثيف بين المحمول والمحمول عليه.

(فَحَكى) أي رأى البصر، وسمّاه حكاية لأنّه بواسطة.

(مَا وَرَاءَهُ ) أي ما وراء البصر بمعنى شعاع البصر. و«ما وراءه» : ما يلاقيه في رجوعه وإن كان متوسّطا بين الناظر والمحمول عليه.

(كَالنَّاظِرِ فِي الْمِرْآةِ).

وقوله: (لاَ يَنْفُذُ بَصَرُهُ فِي الْمِرْآةِ) . استئنافٌ بياني.

(فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ سَبِيلٌ، رَجَعَ رَاجِعا) . حالٌ باعتبار أنّ المراد نوعا(1) من الراجع، فإنّ الرجوعات متفاوتة بحسب تفاوت المَرائي والصفاء والجلاء، فكذلك الراجعات.

(يَحْكِي مَا وَرَاءَهُ ، وَكَذلِكَ النَّاظِرُ فِي الْمَاءِ الصَّافِي ) الذي لا يُرى تحتُه.

(يَرْجِعُ) أي يرجع شعاع بصره (رَاجِعا فَيَحْكِي مَا وَرَاءَهُ؛ إِذْ لاَ سَبِيلَ لَهُ فِي إِنْفَاذِ بَصَرِهِ).

لا يخفى أنّه إذا كان مراد هشام إقامة البرهان على عدم إمكان رؤية اللّه تعالى، لم يكد يتمّ؛ لأنّ ما ذكره على طبق العادة في رؤيتنا، والقائلون بإمكان رؤيته تعالى لا يقولون إنّه على طبق العادة.

(فَأَمَّا الْقَلْبُ فَإِنَّمَا سُلْطَانُهُ) أي سلطنته بالإدراك على الوجه(2) الجزئي، أو ما يجري مجراه من التخيّل.

(عَلَى الْهَوَاءِ) أي على ما في الهواء. والمراد بالهواء الفضاء مطلقا؛ أي البُعد الذي فيه الأجسام.

(فَهُوَ يُدْرِكُ جَمِيعَ مَا فِي الْهَوَاءِ وَيَتَوَهَّمُهُ، فَإِذَا حُمِلَ) ؛ بصيغة المجهول.

(الْقَلْبُ عَلى مَا لَيْسَ) أي على إدراك ما ليس (فِي الْهَوَاءِ مَوْجُودا، رَجَعَ رَاجِعا فَحَكى مَا فِي الْهَوَاءِ، فَلاَ يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَحْمِلَ قَلْبَهُ عَلى) إدراكِ (مَا لَيْسَ مَوْجُودا فِي الْهَوَاءِ مِنْ .

ص: 179


1- كذا في النسخ .
2- في «ج» : «وجه» .

أَمْرِ التَّوْحِيدِ) . الظرف متعلّق ب«ليس» أي من جهة أمر التوحيد، والمعنى أنّه لولا ذلك لما استقام أمر التوحيد.

(جَلَّ اللّه ُ وَعَزَّ) عن أن يكون في الهواء. وهو استئناف بياني لأمر التوحيد.

(فَإِنَّهُ إِنْ فَعَلَ ذلِكَ، لَمْ يَتَوَهَّمْ إِلاَّ مَا فِي الْهَوَاءِ مَوْجُودٌ ، كَمَا قُلْنَا فِي أَمْرِ الْبَصَرِ ؛ تَعَالَى اللّه ُ أَنْ يُشْبِهَهُ خَلْقُهُ).

لا يُقال: أمثال هذه قياسات شعريّة لا تصلح للاستدلال.

لأنّا نقول: ليس المقصود الاستدلال، بل التنظير والتقريب إلى الأفهام، والمقصود بالبيان وهو ما يفهم من قوله: «لا ينبغي للعاقل» إلى آخره. ومن قوله: «فإنّه إن فعل ذلك» إلى آخره، أمرٌ بيّن لا حاجة له إلى استدلال.

قيل: لا يُقال: ينتقض ذلك بإدراك النفس الناطقة ذاتها على وجه جزئي.

لأنّا نقول: الكلام في إدراك النفس الناطقة غيرها، أو الكلام في العلم الحصولي لا الحضوري، وهو الذي يكفي في تحقّقه مجرّد حضور المعلوم عند العالم؛ أي عدم غيبوبته عنه.

أو المراد أنّ القلب يتمكّن من إدراك(1) عالم الأجسام على وجه التخيّل والتمثيل، ولايتمكّن من إدراك غير عالم الأجسام على ذلك الوجه. انتهى.(2)

ويمكن الجواب أيضا بمنع تجرّد النفس الناطقة. .

ص: 180


1- في «ج» : + «غير» .
2- اُنظر المواقف ، ج 2 ، ص 672 .

الباب العاشر: باب النهي عن الصفة بغير ما وصف به نفسه تعالى

الباب العاشر بَابُ النَّهْيِ عَنِ الصِّفَةِ بِغَيْرِ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ تَعَالى(1)

فيه اثنا عشر حديثا.

«الصفة» مصدر قولك: وصفت فلانا: إذا بيّنته، سواء كان باسم جامد محض، مثل: هذا بلّور، أم بمشتقّ، نحو: هذا فاضل، أم بما يجري مجرى المشتقّ، مثل: هذا الذي ضرب زيدا.

«غير» هنا بمعنى المنافي، نحو آية سورة النساء: «بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِى تَقُولُ».(2)

و«ما» الموصولة للعهد أو للجنس. وعلى الأوّل عبارة عن نحو قوله تعالى: «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْ ءٌ»(3) ممّا يدلّ على نفي تشبيهه تعالى بالأجسام، كأن يُقال: إنّه تعالى كالبلّورة ونحو ذلك، فليس المقصود بيان عدم استقلال العقل بمعرفة أنّه موجود وواجب الوجود، وأنّه بريءٌ من كلّ نقص في صفات ذاته وصفات فعله، وكذا أنّه عالم وقادر ونحو ذلك.

الأوّل: (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ مَعْرُوفٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجْرَانَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحِيمِ بْنِ عَتِيكٍ) ؛ بفتح المهملة، وكسر المثنّاة فوق، وسكون الخاتمة.

(الْقَصِيرِ، قَالَ: كَتَبْتُ عَلى يَدَيْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَعْيَنَ إِلى أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : أَنَّ قَوْما بِالْعِرَاقِ يَصِفُونَ اللّه َ بِالصُّورَةِ) أي بالشكل (وَبِالتَّخْطِيطِ) أي بامتياز الأعضاء بعضها عن بعض.

ص: 181


1- في النسختين : «جلّ تعالى» .
2- النساء (4) : 81 .
3- الشورى (42) : 11 .

(فَإِنْ رَأَيْتَ) ؛ من الرأي.

(جَعَلَنِيَ اللّه ُ فِدَاكَ أَنْ تَكْتُبَ إِلَيَّ بِالْمَذْهَبِ الصَّحِيحِ مِنَ التَّوْحِيدِ) أي من تنزيه اللّه تعالى عمّا يوجب شركا. وجزاء الشرط محذوف، أي فإن رأيت ذلك أحسنت.(1)

(فَكَتَبَ إِلَيَّ: سَأَلْتَ _ رَحِمَكَ اللّه ُ _ عَنِ التَّوْحِيدِ وَمَا) أي وعمّا.

(ذَهَبَ إِلَيْهِ مَنْ) ؛ موصولة.

(قِبَلَكَ)؛ بكسر القاف وفتح الموحّدة، أي عندك. والعائد مبتدأ محذوف،(2) أي هو، والظرف خبر عنه.

(فَتَعَالَى) أي فالجواب تعالى (اللّه ُ) عن أن يوصف بالصورة وبالتخطيط.

(الَّذِي «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْ ءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ»(3)) . مضى شرحه في رابع الثاني.(4)

(تَعَالى عَمَّا يَصِفُهُ الْوَاصِفُونَ، الْمُشَبِّهُونَ اللّه َ بِخَلْقِهِ) في الصورة والتخطيط ونحوهما.

(الْمُفْتَرُونَ عَلَى اللّه ِ) . لمّا فرغ من الجواب عن السؤال عمّا ذهب إليه مَنْ قِبلَهُ، شرَعَ في الجواب عن السؤال عن المذهب الصحيح، وقال:

(فَاعْلَمْ _ رَحِمَكَ اللّه ُ _ أَنَّ الْمَذْهَبَ الصَّحِيحَ فِي التَّوْحِيدِ مَا نَزَلَ بِهِ الْقُرْآنُ مِنْ صِفَاتِ اللّه ِ جَلَّ وَعَزَّ) . إشارةٌ إلى قاعدة مذكورة في قوله تعالى في سورة النحل: «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ»(5)، فإنّه يدلّ على أنّ المسائل، أي القضايا الغير .

ص: 182


1- في حاشية «أ» : «قوله : أحسنت ، لعلّ معناه جدت بكتابته ، نظير قوله تعالى «أَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ» إذا لو كان معناه فعلت فعلاً حسنا كما في قولك : إن ضربت زيدا أحسنت ، لم يناسب المقام . ولو قدّر الجزاء كتبته أو مننت عليّ بكتابته أو نحوها كان أظهر كما لا يخفى (مهدي)» .
2- في حاشية «أ» : «قوله : مبتدأ محذوف إلى آخره ، الظاهر أنّه قدّر متعلّق الظرف مفردا ، فيكون التقدير : من هو حاصل قبلك ، إذ لو قدّره جملة لم يحتج إلى تقدير المبتدأ ، ويكون التقدير حينئذٍ من حصل قبلك ، ويكون العائد هو فاعل حصل . وهو أولى ممّا فعله قدّس سره ، إذ يلزم على ما قدّره حذف صدر صلة غير ، أي مع عدم طول الصلة . وهو ضعيف عند جمهور النحاة (مهدي)» .
3- الشورى (42) : 11 .
4- أي في الحديث 4 من باب إطلاق القول بأنّه شيء .
5- النحل (16) : 43 _ 44 .

الضروريّة(1) على ثلاثة أقسام:

الأوّل: ما يمكن أن يستنبط من البيّنات، بحيث لا يبقى اختلاف حقيقي فيه بين المتخاصمين.

الثاني: ما ليس كذلك، وهو مذكور في الزبر؛ أي في محكمات القرآن.

الثالث: ما عدا الأوّلين.

وعلى(2) أنّ حكم الأوّل وجوب الرجوع إلى البيّنات، أو إلى الزبر إن وجدت فيه بخصوصه، أو إلى سؤال أهل الذكر إن تيسّر، أو السكوت. وحكم الثاني وجوب الرجوع إلى الزبر إن وجدت فيه بخصوصه، أو إلى سؤال أهل الذكر إن تيسّر، أو السكوت. وحكم الثالث وجوب سؤال أهل الذكر، أو السكوت. وأمّا قوله:

(فَانْفِ عَنِ اللّه ِ) ؛ إلى قوله: «الواصفون» لبيان(3) القسم الأوّل من الأقسام الثلاثة.

(الْبُطْلاَنَ) أي أن يكون نفس فرد الوجود، ولا يكون له مائيّة وإنّيّة.

(وَالتَّشْبِيهَ) أي أن يكون كالأجسام في الصورة والتخطيط ونحوهما.

(فَلاَ نَفْيَ وَلاَ تَشْبِيهَ ) أي لا يصحّان.

(هُوَ اللّه ُ الثَّابِتُ الْمَوْجُودُ) . ناظرٌ إلى النفي.

(تَعَالَى اللّه ُ عَمَّا يَصِفُهُ الْوَاصِفُونَ) . ناظرٌ إلى التشبيه. وأمّا قوله: _

(وَلاَ تَعْدُوا) ؛ بسكون العين المهملة وتخفيف الدال المهملة المضمومة، أي لا تخاصموا، أو(4) لا تجاوزوا في صفته.

(الْقُرْآنَ؛ فَتَضِلُّوا بَعْدَ الْبَيَانِ) _ فلبيان القسم الثاني الذي وجد فيه محكمات القرآن بخصوصه، والقسم الثالث الذي وجد فيه محكمات القرآن(5) بعمومه. .

ص: 183


1- في «ج» : «البديهية» .
2- عطف على «أنّ المسائل» إلى آخره .
3- في حاشية «أ» : «فلبيان ظ» .
4- في «ج» : «و» .
5- في «ج» : - «بخصوصه والقسم الثالث الذي وجد فيه محكمات القرآن» .

والمراد بالبيان بيان محكمات القرآن طريقة العلم فيهما، كما مرّ في آية سورة النحل، وبالضلال الحكم بدون سلوك طريقة العلم المذكورة في القرآن فيهما.

الثاني: (مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ شَاذَانَ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ ، قَالَ: قَالَ لِي عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ عليهماالسلام : يَا أَبَا حَمْزَةَ، إِنَّ اللّه َ لاَ يُوصَفُ بِمَحْدُودِيْهِ(1)) ؛ بسكون الخاتمة، والضمير الراجع إلى اللّه ، والباء للآلة؛ أي بقياسه على محدوديه؛ أي الأشخاص المقدّرة بمقدار لا تتجاوزه بتدبيره تعالى.

(عَظُمَ) ؛ كحسن.

(رَبُّنَا مِنَ(2) الصِّفَةِ) ، اللام للعهد؛ أي الوصف بمحدوديه.

(وَكَيْفَ(3) يُوصَفُ بِمَحْدُودِيْهِ(4) مَنْ لاَ يُحَدُّ) . الاستفهام للإنكار، والفعلان بصيغة المجهول.

وهذا استدلال على أنّه تعالى لا يوصف بالقياس على محدوديه، لو كان موصوفا كذلك لكان محدودا؛ أي ذا مقدار لم يتجاوزه؛ ضرورةَ أنّ المجرّد لا يقاس بالجسماني.

(وَ«لاَ تُدْرِكُهُ»). عطف تفسير للاستدلال من سورة الأنعام، على أنّه لا يحدّ يعني لا تصيبه على حدة.

(«الاْءَبْصَارُ») أي أبصار العيون وأبصار القلوب.

(«وَهُوَ يُدْرِكُ الاْءَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ»). اللام للحصر؛ أي هو المجرّد. ويجيء تفسير اللطيف في الأوّل والثاني من السابع عشر(5) بالفاعل بلا علاج، وهو يرجع إلى ما ذكرنا.

(«الْخَبِيرُ»(6)؟!) بكلّ شيء حتّى الغيب الذي لا يعلمه الجسماني من عند نفسه. .

ص: 184


1- في الكافي المطبوع : «بمحدوديّة» بتشديد الياء .
2- في الكافي المطبوع : «عن» .
3- في الكافي المطبوع : «فكيف» .
4- في الكافي المطبوع : «بحمدوديّة» بتشديد الياء .
5- أي الحديث 1 و 2 من باب آخر وهو من الباب الأوّل .
6- الأنعام (6) : 103 .

الثالث: (مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْحَسَنِ، عَنْ بَكْرِ بْنِ صَالِحٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْخَزَّازِ) ؛ بفتح المعجمة والزاءين المعجمتين اُولاهما مشدّدة وبينهما ألف: بيّاع الخزّ.

(وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ، قَالاَ: دَخَلْنَا عَلى أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا عليه السلام ، فَحَكَيْنَا لَهُ أَنَّ مُحَمَّدا صلى الله عليه و آله رَأى رَبَّهُ فِي هَيْئَةِ(1) الشَّابِّ) أي حكينا له هذه الرواية تصديقا لها.

وظاهر هذا أنّ الراويين ذهبا إلى مذهب أبي الخطّاب في الغلوّ، حيث كان يقول: جعفر بن محمّد الصادق إله وأنا رسوله،(2) فتوهّما(3) موافقة هشام بن سالم وصاحبيه لهما، مع أنّهم بُرآء من هذا القول؛ فهذا الحديث لا يوجب قدحا فيهم.

(الْمُوَفَّقِ) ؛ بصيغة اسم المفعول، من التوفيق، وهو سلب المنافرة بين شيئين فصاعدا؛ أي المتوافق الأعضاء متناسبها الذي كلّ واحدٍ من أعضائه موافق للباقي ومناسب له. والأصل «الموفّق فيه».

(فِي سِنِّ أَبْنَاءِ ثَلاَثِينَ سَنَةً) . الظرف متعلّق بالموفّق، فإنّ التوفيق في كلّ سنّ غير التوفيق في سنٍّ آخَرَ؛ مثلاً إذا لم يكن على وجه ابن ثلاثين لحيةٌ، ما كان موفّقا.

(وَقُلْنَا: إِنَّ هِشَامَ بْنَ سَالِمٍ وَصَاحِبَ الطَّاقِ) ؛ هو محمّد بن النعمان أبو جعفر الأحول الصرّاف في طاق المحامل بالكوفة.(4)

(وَالْمِيثَمِيَّ) ؛ بكسر الميم وسكون الخاتمة وفتح المثلّثة: أحمد بن الحسن بن إسماعيل بن شعيب بن ميثم.(5)

(يَقُولُونَ: إِنَّهُ أَجْوَفُ إِلَى السُّرَّةِ وَالْبَقِيَّةُ) أي من السرّة إلى الرجلين. .

ص: 185


1- في الكافي المطبوع : + «في صورة» .
2- الوافي بالوفيات ، ج 13 ، ص 215 .
3- في «ج» : «وتوهّما» .
4- رجال النجاشي ، ص 325 ، الرقم 886 ؛ خلاصة الأقوال ، ص 237 ، الرقم 12 ؛ رجال ابن داود ، ص 180 ، الرقم 1463 .
5- اختيار معرفة الرجال ، ج 2 ، ص 768 ، الرقم 889 ؛ رجال الطوسي ، ص 332 ، الرقم 29 .

(صَمَدٌ) أي مصمت ليس له جوف.

(فَخَرَّ سَاجِدا لِلّهِ، ثُمَّ قَالَ: سُبْحَانَكَ مَا عَرَفُوكَ) . ضمير الجمع للراويين وأمثالهما.

(وَمَا(1) وَحَّدُوكَ) أي ما أفردوك بالعبادة إذ(2) عبدوا جسما، وهو غيرك البتّة.

(فَمِنْ أَجْلِ ذلِكَ وَصَفُوكَ) . الوصف إذا لم يتعدّ بالباء يُراد به بيان الشيء بالاسم الجامد المحض كالجسم، وإذا تعدّى بالباء يُراد به أعمّ من ذلك.

(سُبْحَانَكَ لَوْ عَرَفُوكَ، لَوَصَفُوكَ بِمَا وَصَفْتَ بِهِ نَفْسَكَ) أي في القرآن، وهو نفي البطلان والتشبيه، كما مرّ في أوّل الباب.

(سُبْحَانَكَ كَيْفَ طَاوَعَتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ) ؛ مصدريّة. والمصدر نائب ظرف الزمان.

(شَبَّهُوكَ(3) بِغَيْرِكَ؟!) في الصورة والتخطيط والتجويف ونحو ذلك.

(اللّهُمَّ لاَ أَصِفُكَ إِلاَّ بِمَا وَصَفْتَ بِهِ نَفْسَكَ) أي في القرآن.

(وَلاَ أُشَبِّهُكَ بِخَلْقِكَ، أَنْتَ أَهْلٌ لِكُلِّ خَيْرٍ) أي أنت موفّق لكلّ خير، موافقا لما يجيء في سادس السادس والعشرين: وذاك أنّي أولى بحسناتك منك،(4) ومناسبا لآية سورة المدّثّر: «هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى»(5). أو المراد خير الأسماء كلّها لك، كالكريم والرحيم والقادر والعليم.

(فَلاَ تَجْعَلْنِي) بالخذلان (مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ . ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيْنَا، فَقَالَ: مَا تَوَهَّمْتُمْ) أي وقع وهمكم عليه، وباشره وهمكم بإدراك اسم جامد محض له.

(مِنْ شَيْءٍ فَتَوَهَّمُوا اللّه َ غَيْرَهُ) . هذا من قبيل مجاز المشاكلة.(6) والمراد: اعلموا أنّ اللّه غيره. .

ص: 186


1- في الكافي المطبوع : «لا» .
2- في «ج» : «أي» .
3- في الكافي المطبوع : «يُشَبِّهوكَ» .
4- أي الحديث 6 من باب المشيئة والإرادة .
5- المدثّر (74) : 56 .
6- تقدّم توضيحه .

(ثُمَّ قَالَ: نَحْنُ آلَ) ؛ منصوب بالاختصاص،(1) أو مرفوع بالبدليّة أو الخبريّة.

(مُحَمَّدٍ النَّمَطُ الاْءَوْسَطُ) . النمط بفتحتين: القسم من الأقسام؛ والنمط: الجماعة من الناس أمرهم واحد(2) وكلّ منهما محتملٌ هنا.

(الَّذِي لاَ يُدْرِكُنَا الْغَالِي، وَلاَ يَسْبِقُنَا التَّالِي) . هذا شكاية بأنّ الناس مأمورون غاليهم بالرجوع إلى النمط الأوسط، وتاليهم باللحوق بالنمط الأوسط، ولكنّا النمط الأوسط الذي لا يدركنا الغالي؛ أي لا يرجع إلينا فيدركنا، ولا يسبق إلينا التالي. وإنّما حذف «إلى» هنا واُوصل الفعل بنفسه للازدواج مع «يدركنا». وذكر ضمير المتكلّم مع الغير في مقام العائد إلى «الذي» لرعاية جانب المعنى؛ فإنّ اللفظ وإن كان مفردا وغائبا لكنّه عبارة عن جماعةٍ أحدهم المتكلّم.

وقال بعضهم في ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «أنا الذي سمّتني اُمّي حيدرة»(3) إنّه من قبيل الالتفات من الغيبة إلى التكلّم.

(يَا مُحَمَّدُ) . لمّا أبطل اعتقاد المخالفين، أراد أن لا يكذّب لفظ الرواية التي رووه إمّا للمماشاة وفرض الصدق، فإنّ ذلك مظنّة الوصول إلى المخالفين، وتكذيبُ رواياتهم يشوشّهم جدّا ويتناقلونه، أو لغير ذلك، فقال:

(إِنَّ رَسُولَ اللّه ِ صلى الله عليه و آله حِينَ نَظَرَ إِلى عَظَمَةِ رَبِّهِ كَانَ فِي هَيْئَةِ الشَّابِّ الْمُوَفَّقِ، وَسِنِّ أَبْنَاءِ ثَلاَثِينَ سَنَةً) . حمل لفظ الرواية على معنى آخر غير ما فهمه المخالفون، وجعل الظرفين حالين لفاعل «رأى»، وجعل الظرف الثاني معطوفا على الأوّل بحذف .

ص: 187


1- في حاشية «أ» : «قوله آل منصوب إلى آخره ، فعلى أوّل الوجوه الثلاثة وثانيها يكون النمط خبرا ، وعلى ثالثها يكون إمّا خبرا ثانيا أو صفة لآل . هذا ، ويلزم على الوجه الثاني إبدال الظاهر في ظمير المتكلّم ، وهو غير جائز عند غير الأخفش . قال ابن الحاجب : ولا يبدّل ظاهر من مضمر بدل الكلّ إلاّ من الغائب ؛ فتأمّل (مهدي)» .
2- مختار الصحاح ، ص 347 .
3- روضة الواعظين ، ص 130 ؛ مناقب أمير المؤمنين عليه السلام للكوفي ، ج 2 ، ص 500 ؛ مقاتل الطالبيين ، ص 14 . ونقله أحمد في مسنده ، 4 ، ص 52 ؛ ومسلم في صحيحه ، ج 5 ، ص 195 ؛ والحاكم في مستدركه ، ج 3 ، ص 39 . وعجز البيت : «كليث غابات كريه المنظرة» .

العاطف؛ أي وفي سنّ. وهذا حمل لروايتهم على أنّه قبل النبوّة والمعراج، ولو كان بدل الواو هنا «في» وكان الظرف الثاني متعلّقا بموفّق، لكان الحمل صحيحا أيضا، ولم يدلّ على أنّه قبل النبوّة والمعراج، لكنّ النسخ لا تساعد هذا.

(يَا مُحَمَّدُ، عَظُمَ رَبِّي وَجَلَّ أَنْ) أي عن أن (يَكُونَ فِي صِفَةِ الْمَخْلُوقِينَ. قَالَ) أي محمّد.

(قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، مَنْ كَانَتْ رِجْلاَهُ فِي خُضْرَةٍ؟). كأنّه كان مذكورا في تتمّة الرواية، فسأل: مَن هو؟

(قَالَ: ذاكَ مُحَمَّدٌ، كَانَ إِذَا نَظَرَ إِلى رَبِّهِ بِقَلْبِهِ، جَعَلَهُ فِي نُورٍ مِثْلِ نُورِ الْحُجُبِ حَتّى يَسْتَبِينَ لَهُ مَا فِي الْحُجُبِ؛ إِنَّ نُورَ اللّه ِ: مِنْهُ أَخْضَرُ، وَمِنْهُ أَحْمَرُ، وَمِنْهُ أَبْيَضُ، وَمِنْهُ غَيْرُ ذلِكَ) . سيجيء في أوّل «باب العرش والكرسيّ» أنّ منه أصفر وسنبيّنهُ.

ولا يبعد أن يحمل «الحجب» هنا على الأنبياء والأئمّة عليهم السلام .

(يَا مُحَمَّدُ، مَا شَهِدَ لَهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، فَنَحْنُ الْقَائِلُونَ بِهِ) . لا ينافي هذا الحصرَ في الكتاب؛ لأنّ السنّة تفسير للكتاب، وكشف عن المراد به.

الرابع: (عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ بِشْر) ؛ بكسر الموحّدة وسكون المعجمة والمهملة، وفي كتب الرجال «بشير» بالخاتمة بعد الشين.(1)

(الْبَرْقِيِّ) ؛ بفتح الموحّدة وسكون المهملة. وفي كتاب الرجال لابن داود: «الرقّي» بدون الباء مع فتح المهملة، وتشديد القاف.(2)

(قَالَ: حَدَّثَنِي عَبَّاسُ بْنُ عَامِرٍ الْقَصَبَانِيُّ) ؛ بفتح القاف، وفتح المهملة والموحّدة، والنون.

(قَالَ: أَخْبَرَنِي هَارُونُ بْنُ الْجَهْمِ) ؛ بفتح الجيم، وسكون الهاء. .

ص: 188


1- رجال الطوسي ، ص 412 ، الرقم 55 ؛ نقد الرجال ، ج 1 ، ص 108 ، الرقم 19 .
2- رجال ابن داود ، ص 227 ، الرقم 21 و 22 .

(عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عليهماالسلام ، قَالَ : قَالَ: لَوِ اجْتَمَعَ أَهْلُ السَّمَاءِ وَالاْءَرْضِ أَنْ يَصِفُوا اللّه َ بِعَظَمَتِهِ) أي بكنه ذاته، وهو اسمه الجامد المحض الذي عظم عن أن يناله أحدٌ من خلقه. أو المراد تفصيل كمالاته، موافقا لما يجيء في حادي عشر الباب.

(لَمْ يَقْدِرُوا) .

الخامس: (سَهْلٌ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْهَمَذَانِيِّ) ؛ بفتح الميم والمعجمة.

(قَالَ: كَتَبْتُ إِلَى الرَّجُلِ) ؛ يعني أبا الحسن الثالث عليه السلام .

(أءَنَّ مَنْ قِبَلَنَا) أي عندنا (مِنْ مَوَالِيكَ قَدِ اخْتَلَفُوا فِي التَّوْحِيدِ): في التنزيه عن الشريك حيث قالوا بشيءٍ ينافيه.

(فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: جِسْمٌ) أي جسد غير مجوّف.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : صُورَةٌ) أي جسد مجوّف.

(فَكَتَبَ عليه السلام بِخَطِّهِ: سُبْحَانَ مَنْ لاَ يُحَدُّ) أي لا يحيط به مقدار لا يتجاوزه.

(وَلاَ يُوصَفُ) ، أي لا يُدرك كنه ذاته.

(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) . استدلال على أنّه لا يوصف ولا يحدّ لإبطال المذهبين.

(وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ؛ أَوْ قَالَ) بدل «العليم»: (الْبَصِيرُ) . كما في سورة الشورى.(1)

السادس: (سَهْلٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَكِيمٍ، قَالَ: كَتَبَ أَبُو الْحَسَنِ مُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ عليهماالسلام إِلى أَبِي: «أَنَّ اللّه َ أَعْلى وَأَجَلُّ وَأَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُبْلَغَ) ؛ بصيغة المجهول (كُنْهُ صِفَتِهِ) . كنه الشيء: حقيقته، وصفته بيانه باسم جامد محض، أو تفصيل كمالاته. وعلى الأوّل المراد أنّ كلّ بيانه باسم جامد محض باطل. وعلى الثاني المراد ما يجيء في حادي عشر الباب.

(فَصِفُوهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ) في القرآن.

(وَكُفُّوا عَمَّا سِوى ذلِكَ) أي عن طلب كنه صفته.1.

ص: 189


1- الشورى (42): 11.

السابع: (سَهْلٌ، عَنِ السِّنْدِيِّ) ؛ بكسر المهملة، وسكون النون، والمهملة، وشدّ الخاتمة.

(ابْنِ الرَّبِيعِ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ حَفْصٍ أَخِي مُرَازِمٍ، عَنِ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: سَأَ لْتُ أَبَا الْحَسَنِ عليه السلام عَنْ شَيْءٍ مِنَ الصِّفَةِ) أي من بيان اللّه تعالى باسم جامد محض.

(فَقَالَ : لاَ تَجَاوَزْ مَا فِي الْقُرْآنِ) . هو نفي الصفة؛ يعني أنّه لا يجوز الصفة حقيقةً.

الثامن: (سَهْلٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الْقَاسَانِيِّ ، قَالَ: كَتَبْتُ إِلَيْهِ: أَنَّ مَنْ قِبَلَنَا قَدِ اخْتَلَفُوا فِي التَّوْحِيدِ.قَالَ: فَكَتَبَ عليه السلام : سُبْحَانَ مَنْ لاَ يُحَدُّ، وَلاَ يُوصَفُ «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْ ءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ»(1)) .

مضى شرحه في خامس الباب.

التاسع: (سَهْلٌ، عَنْ بَشِير) ؛ بفتح الموحّدة، وكسر المعجمة، والخاتمة.(2)

(بْنِ بَشَّارٍ) ؛ بفتح الموحّدة وشدّ المعجمة.

(النَّيْسَابُورِيِّ، قَالَ: كَتَبْتُ إِلَى الرَّجُلِ). قيل: الهادي عليه السلام .(3)

(أَنَّ مَنْ قِبَلَنَا قَدِ اخْتَلَفُوا فِي التَّوْحِيدِ: فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ:(4) جِسْمٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ:(5) صُورَةٌ. فَكَتَبَ(6): «سُبْحَانَ مَنْ لاَ يُحَدُّ وَلاَ يُوصَفُ، وَلاَ يُشْبِهُهُ شَيْءٌ، وَ«لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْ ءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ»(7)) .

مضى شرحه في خامس الباب. .

ص: 190


1- الشورى (42) : 11 .
2- في «ج» : «بشر ؛ بكسر الموحّدة ، وسكون المعجمة» بدل «بشير ؛ بفتح الموحّدة ، وكسر المعجمة ، والخاتمة» .
3- في حاشية «أ» : «ا م ن (منه)» . الظاهر أنّ المراد منه محمّد أمين الإسترابادى في حاشية على الكافي . وانظر شرح اُصول الكافي للمازندراني ، ج 3 ، ص 212 .
4- في الكافي المطبوع : + «هو» .
5- في الكافي المطبوع: + «هو».
6- في الكافي المطبوع : + «إليّ» .
7- الشورى (42) : 11 .

العاشر: (سَهْلٌ قَالَ: كَتَبْتُ إِلى أَبِي مُحَمَّدٍ عليه السلام سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ وَمِائَتَيْنِ: قَدِ اخْتَلَفَ يَا سَيِّدِي، أَصْحَابُنَا فِي التَّوْحِيدِ: مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: هو جِسْمٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ:(1) صُورَةٌ، فَإِنْ رَأَيْتَ يَا سَيِّدِي، أَنْ تُعَلِّمَنِي مِنْ ذلِكَ مَا أَقِفُ عَلَيْهِ وَلاَ أَجُوزُهُ ، فَعَلْتَ مُتَطَوِّلاً عَلى عَبْدِكَ. فَوَقَّعَ بِخَطِّهِ عليه السلام : سَأَلْتَ عَنِ التَّوْحِيدِ، وَهذَا عَنْكُمْ مَعْزُولٌ) . إنّما أدخل عليه السلام السائل في الخطاب لقوله: «من ذلك» فإنّه يدلّ ظاهره على أنّ التوحيد أحد المذكورين، أو لقوله: «أصحابنا».

(اللّه ُ وَاحِدٌ أَحَدٌ«لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوا أَحَدٌ»(2)، خَالِقٌ وَلَيْسَ بِمَخْلُوقٍ، يَخْلُقُ _ تَبَارَكَ وَتَعَالى _ مَا يَشَاءُ مِنَ الاْءَجْسَامِ وَغَيْرِ ذلِكَ وَلَيْسَ بِجِسْمٍ، وَيُصَوِّرُ مَا يَشَاءُ وَلَيْسَ بِصُورَةٍ، جَلَّ ثَنَاوءُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاوءُهُ أَنْ) أي عن أن (يَكُونَ لَهُ شِبْهٌ) في الجسم أو الصورة. هو خبر مبتدأ محذوف؛ أي هو.

(هُوَ لاَ غَيْرُهُ) أي ليس شيء مدرك لنا كالجسم محمولاً عليه.

(«لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْ ءٌوَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ»(3)) .

مضى شرحه في خامس الباب.

الحادي عشر: (مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنِ الْفَضْلِ بْنِ شَاذَانَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عِيسى، عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ عَبْدِ اللّه ِ، عَنِ الْفُضَيْلِ) ؛ بضمّ الفاء، وفتح المعجمة، والخاتمة.

(بْنِ يَسَارٍ ) ؛ بفتح الخاتمة وتخفيف المهملة.

(قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام يَقُولُ: إِنَّ اللّه َ لاَ يُوصَفُ، وَكَيْفَ يُوصَفُ وَقَدْ قَالَ فِي كِتَابِهِ) في سورة الأنعام والزمر: («وَما قَدَرُوا اللّه َ حَقَّ قَدْرِهِ»(4)؟! فَلاَ يُوَصَّفُ(5) بِقَدَرٍ إِلاَّ كَانَ أَعْظَمَ .

ص: 191


1- في الكافي المطبوع : + «هو» .
2- التوحيد (112) : 3 و 4 .
3- الشورى (42) : 11 .
4- الأنعام (6) : 91 ؛ الزمر (39) : 67 .
5- في الكافي المطبوع : «يوصَف» .

مِنْ ذلِكَ) . يجيء هذا مع تتمّة في «كتاب الإيمان والكفر» في سادس عشر «باب المصافحة»(1) ويظهر منها أنّ «يُوَصَّف» بصيغة المجهول من باب التفعيل، أو باب ضرب. والمراد بالتوصيف أو الوصف: بلوغ أقصى الغاية في كمالاته التفصيليّة، وهو المراد بالقدر أيضا. فقوله: «فلا يوصّف بقدر» أي لا يوصّف بوصف تفصيليّ لكمالاته، وضمير «قدروا» للخلائق أجمعين، أو لجمعٍ سيق الكلام فيهم.

الثاني عشر: (عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ أَوْ عَنْ غَيْرِهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ) . قيل: كأنّه الجوّاني.(2)

(عَنْ عَبْدِ اللّه ِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ: قَالَ : إِنَّ اللّه َ عَظِيمٌ رَفِيعٌ، لاَ يَقْدِرُ الْعِبَادُ عَلى صِفَتِهِ) أي على تفصيل كمالاته، كما مرّ في السابق.

(وَلاَ يَبْلُغُونَ كُنْهَ عَظَمَتِهِ) . أي ما هو حقّه من تفصيل كمالاته.

(«لاَ تُدْرِكُهُ الاْءَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الاْءَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ»(3)). مضى في ثاني الباب، وفيه إشارة إلى ما روي عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال: «لا اُحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك».(4)

(وَلاَ يُوصَفُ) أي لا يبيّن (بِكَيْفٍ) ؛ مجرور منوّن، أي بكيفيّة كائنة في نفسها في الخارج، ذاتيّة أو عارضة(5) له تعالى.

(وَلاَ أَيْنَ) ؛ بالفتح، ويكسر مجرور منوّن، أي ولا حين بأن يُقال: متى كان، كما مضى .

ص: 192


1- الكافي ، ج 2 ، ص 182 ، باب المصافحة ، ح 16 .
2- في حاشية «أ» : «القائل ميرزا محمّد (منه)» .
3- الأنعام (6) : 103 .
4- في مصباح المتهجد ، ص 315 و 838 : «ولا اُحصي نعمتك ولا الثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك» . وفي ص 346 بلفظ آخر . ورواه مسلم في صحيحه ، ج 2 ، ص 51 كما في المتن ؛ سنن ابن ماجة ، ج 2 ، ص 1263 ؛ سنن أبي داود ، ج 1 ، ص 201 ، ح 879 ، باب في دعاء في الركوع .
5- في «ج» : «عرضية» .

في ثاني السادس.(1)

(وَحَيْثٍ) ؛ مجرور منوّن، أي والكون في مكان. ولعلّ ترك تكرار «لا» هنا للإشعار بتلازم «أين» و«حيث» وكونهما من الاُمور الاعتباريّة، دون الكيف.

(وَكَيْفَ أَصِفُهُ بِالْكَيْفِ وَهُوَ الَّذِي كَيَّفَ)؛ بشدّ الخاتمة المفتوحة.

(الْكَيْفَ) ؛ بالفتح، أي الكيفيّة؛ أو بشدّ الخاتمة المكسورة، أي ذا الكيفيّة، وكذا في البواقي.

(حَتّى صَارَ كَيْفا، فَعُرِفَتِ الْكَيْفُ بِمَا كَيَّفَ لَنَا مِنَ الْكَيْفِ؟! أَمْ) ؛ منقطعة بمعنى «بل».

(كَيْفَ أَصِفُهُ بِأَيْنٍ) أي بحينٍ. (وَهُوَ الَّذِي أَيَّنَ الاْءَيْنَ) ؛ بالفتح، أي الحين؛ أو بشدّ الخاتمة المكسورة، أي ذا الحين، وكذا في البواقي.

(حَتّى صَارَ أَيْنا، فَعُرِفَتِ الاْءَيْنُ بِمَا أَيَّنَ لَنَا مِنَ الاْءَيْنِ؟! أَمْ كَيْفَ أَصِفُهُ بِحَيْثٍ وَهُوَ الَّذِي حَيَّثَ الْحَيْثَ)؛ بالفتح، أو بشدّ الخاتمة المكسورة، وكذا في البواقي.

(حَتّى صَارَ حَيْثا ، فَعُرِفَتِ الْحَيْثُ بِمَا حَيَّثَ لَنَا مِنَ الْحَيْثِ؟! فَاللّه ُ _ تَبَارَكَ وَتَعَالى _ دَاخِلٌ فِي كُلِّ مَكَانٍ) لا بالمباشرة (وَخَارِجٌ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) مكاني («لاَ تُدْرِكُهُ الاْءَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الاْءَبْصَارَ»). مضى في ثاني الباب.

(لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) . إشارة إلى أنّ كمال التوحيد نفي تلك الصفات، وكذا كمال التعظيم.

(«وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ»(2)) . مضى في ثاني الباب. .

ص: 193


1- أي الحديث 2 من باب الكون والمكان .
2- الأنعام (6) : 103 .

الباب الحادي عشر: باب النهي عن الجسم و الصورة

الباب الحادي عشر بَابُ النَّهْيِ عَنِ الْجِسْمِ وَ الصُّورَةِ

فيه ثمانية أحاديث.

الجسم بالكسر: الجسد الغير المجوّف؛ والصورة: الجسد المجوّف.

والمراد النهي عن القول بأنّه تعالى جسم، وعن القول بأنّه تعالى صورة.

الأوّل: (أَحْمَدُ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَحْيى، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ، قَالَ: قُلْتُ لاِءَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ الْحَكَمِ يَرْوِي عَنْكُمْ) أي عن بعض قراباتكم.

ولعلّ المرويَّ عنه غير معصوم، فلا قدح فيه على هشام، ولو كان المراد أحد المعصومين، فالقدح راجع إلى ابن أبي حمزة، وهو البطائني. ولعلّه فهم من لفظ هشام هذا، ونقله بالمعنى، أو روى عن غيرهم، وتوهّم أنّه يروي عنهم.

(أَنَّ اللّه َ جِسْمٌ صَمَدِيٌّ) أي لا جوف له (نُورِيٌّ) أي جميل جدّا.

(مَعْرِفَتُهُ) ؛ مبتدأ.

(ضَرُورَةً(1)) أي ضروريّةً، وهو منصوب على أنّه صفة مفعول مطلق محذوف؛ أي معرفته معرفةً ضروريّةً حاصلةٌ بالرؤية.

(يَمُنُّ بِهَا عَلى مَنْ يَشَاءُ مِنْ خَلْقِهِ). الجملة خبر المبتدأ.

وهذا مبنيّ على أنّ المجوّزين للرؤية يقولون: إنّ المعرفة من جهة الرؤية ضرورة،

ص: 194


1- في الكافي المطبوع : «ضرورةٌ» بضمّ الأخير .

كما مضى في ثالث التاسع.(1)

ويجوز رفع «ضرورة» على أنّه خبر المبتدأ وكون الجملة بعده استئنافا بيانيّا، أو صفة بعد صفة. وهذا مبنيّ على أنّه على تقدير تجويز كون بعض الأجسام غير مخلوق لا يمكن معرفته بالاستدلال أصلاً، وما تمسّك به(2) الفلاسفة من إبطال الدور والتسلسل لإثبات الصانع للعالم(3) لا يتمّ؛ لأنّه لا يستلزم كونه صانعا، أي فاعلاً لا بالإيجاب، وأيضا هم يجوّزون التسلسل في الاُمور الغير المجتمعة في جانب المبدأ، ولم يقيموا قبل إثبات الصانع برهانا على احتياج الممكن في البقاء إلى بقاء فاعله.

(فَقَالَ عليه السلام : سُبْحَانَ مَنْ لاَ يَعْلَمُ أَحَدٌ كَيْفَ هُوَ) أي ذاته (إِلاَّ هُوَ «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْ ءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ»لاَ يُحَدُّ)؛ بالمهملتين وشدّ الثانية، مجهول باب نصر؛ أي ليس محصورا في مقدار لا يتجاوزه. وهذا ناظر إلى «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْ ءٌ».

(وَلاَ يُحَسُّ)؛ بالمهملتين، وشدّ الثانية، معلوم باب نصر. والحسّ بالفتح: إلقاء السمع إلى الحسّ بالكسر، أي الصوت الخفيّ، وهو نوع من الحيلة للسماع، وهذا ناظر إلى السميع.

(وَلاَ يُجَسُّ)؛ بالجيم وشدّ المهملة، معلوم باب نصر. والجسّ بالفتح: إحداد النظر إلى شيء للاستثبات. وهذا ناظر إلى البصير.

(وَلاَ يُدْرِكُهُ الْحَوَاسُّ،(4) وَلاَ يُحِيطُ بِهِ شَيْءٌ) : سطح أو ذهن.

(وَلاَ جِسْمٌ وَلاَ صُورَةٌ، وَلاَ تَخْطِيطٌ وَلاَ تَحْدِيدٌ) . «لا» في المواضع الأربعة غير عاملة دخلت على الجملة الاسميّة، فوجب تكرارها. و«جسم» مرفوع منوّن على أنّه خبر مبتدأ محذوف، أي لا هو جسم، وكذا نظائره. .

ص: 195


1- أي الحديث 3 من باب في إبطال الرؤية .
2- في «ج» : - «به» .
3- حكاه عن المحقّقين العلاّمة في معارج الفهم ، ص 211 . وانظر المسلك في اُصول الدين ، ص 52 ؛ والمحصّل للرازي ، ص 342 .
4- في الكافي المطبوع : «لا تدركه الأبصار ولا الحواسّ» .

والتخطيط _ بالمعجمة والمهملتين _ : تمييز أعضاء الجميل بعضِها عن بعض، من القاموس: «المخطّط كمعظّم: الجميل».(1) والمراد به هنا ذو التخطيط، وهو ناظر إلى قوله: «نوري».

والتحديد بالمهملات: تعيين الشيء في جهة ومكان، وذلك إذا كان مرئيّا. والمراد به هنا ذو تحديد، وهو ناظر إلى قوله: «معرفته ضرورة» إلى آخره.

ويحتمل كون «لا» في الأخيرين لنفي الجنس، فيكونا مبنيَّين على الفتح.(2)

الثاني: (مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ حَمْزَةَ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: كَتَبْتُ إِلى أَبِي الْحَسَنِ) يعني الثالث عليه السلام . (أَسْأَلُهُ عَنِ الْجِسْمِ وَالصُّورَةِ، فَكَتَبَ: سُبْحَانَ مَنْ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، لاَ جِسْمٌ) . إمّا من قبيل زيد لا قائم، فيكون خبرا لمبتدأً محذوفٍ؛ وإمّا لبيان تفصيل «شيء».

(وَلاَ صُورَةٌ. وَ رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ إِلاَّ أَنَّهُ لَمْ يُسَمِّ الرَّجُلَ) أي قال: «كتبت إلى الرجل عليه السلام أسأله» إلى آخره.

الثالث: (مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ بَزِيعٍ) ؛ بفتح الموحّدة، وكسر الزاي، وسكون الخاتمة والمهملة.

(عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: جِئْتُ إِلَى الرِّضَا عليه السلام أَسْأَلُهُ عَنِ التَّوْحِيدِ، فَأَمْلى عَلَيَّ). الإملاء أن يقول أحد شيئا ويكتب آخر.

(الْحَمْدُ لِلّهِ فَاطِرِ الاْءَشْيَاءِ) . الفطر: الشقّ، والمراد هنا التمييز بين أنواع الأجسام بعد ما كان أصلُ جميعها الماءَ البسيطَ المتشابه الأجزاء، ومنه قوله تعالى في سورة فاطر: «الْحَمْدُ للّه ِِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالاْءَرْضِ»(3)، ويُقال له: الفتق أيضا، كما في قوله تعالى في سورة الأنبياء: «أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالاْءَرْضَ كَانَتَا رَتْقا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ .

ص: 196


1- القاموس المحيط، ج 2، ص 358 (خط).
2- من قوله : «لا في المواضع الأربعة» إلى هنا ليس في «ج» .
3- فاطر (35) : 1 .

شَىْ ءٍ حَىٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ»(1).

(إِنْشَاءً) . مصدرٌ اُقيم مقام ظرف الزمان، مثل رأيته قدوم الحاجّ. والإنشاء: الاختراع، وهو الخلق بلا مادّة. والمراد أنّه لم يتوسّط زمان طويل بين الإنشاء والفطر.

(وَمُبْتَدِعِهَا) . الابتداع: الإحداث الذي ليس لاحتذاء مثال عن فاعلٍ آخَرَ. والبدعة ضدّ السنّة.

(ابتداءً) ؛ مصدر اُقيم مقام ظرف الزمان.

(بِقُدْرَتِهِ) . ناظر إلى «فاطر الأشياء إنشاءً» فإنّ الفطر مع الخلق بلا مادّة لا يكون إلاّ بكمال القدرة ونفاذ المشيئة. وفيه إشارة إلى الفرق بين قدرة اللّه وقدرة العباد؛ فإنّ تأثير قدرتهم لا يكون إلاّ مع سبق مادّة، بخلاف قدرة اللّه .

(وَحِكْمَتِهِ) أي علمه بوجوه المصلحة. ناظرٌ إلى «مبتدعها ابتداءً» فإنّ الخلق لا لاحتذاء مثال لا يكون إلاّ بكمال العلم بوجوه المصلحة. وفيه إشارة إلى إبطال قول مَن قال: إنّه لو كان العالم حادثا لزم تعطيله تعالى في الأزل.(2) فالنشر على ترتيب اللفّ.

(لاَ مِنْ شَيْءٍ) . الظرف مستقرّ، خبرُ مبتدأ محذوف؛ أي إحداث الأشياء لا من مادّة.

(فَيَبْطُلَ الاِخْتِرَاعُ) أي الإنشاء؛ لأنّ فعله حينئذٍ بعد شأنيّة الوجود. وهذه الفقرة ناظرة إلى «فاطر الأشياء إنشاء».

(وَلاَ لِعِلَّةٍ) . العلّة _ بكسر المهملة _ : السبب؛ وبفتحها: العود إلى الشرب. والمراد على الأوّل المعدّات الغير المتناهية من جانب المبدأ، كما زعمته مشّائيّة الفلاسفة؛ وعلى الثاني الأمثال الغير المتناهية من جانب المبدأ، كما زعمته إشراقيّة الفلاسفة.(3) وسيجيء في «باب جوامع التوحيد» في شرح كلام المصنّف لتوضيح الحديث الأوّل.

(فَلاَ يَصِحَّ الاِبْتِدَاعُ) . هذه الفقرة ناظرة إلى «مبتدعها ابتداءً».8.

ص: 197


1- الأنبياء (21) : 30 .
2- حكى ذلك الإيجي في المواقف ، ج 1 ، ص 363 .
3- حكاه التفتازاني في شرح المقاصد، ج 1، ص 98.

(خَلَقَ) . الخلق: التقدير. والخالق في أسمائه تعالى: المخترع المبتدع؛ فهو استئناف بياني.

(مَا شَاءَ) . ناظرٌ إلى الاختراع؛ أي كلّ ما شاء. ومعناه الاستقلال بالقدرة على الخلق، وملاكه تقدّم القدرة على الخلق على وقت الخلق، كما سيجيء بيانه في ثاني «باب الاستطاعَة».

(كَيْفَ شَاءَ) . ناظرٌ إلى «الابتداع».

(مُتَوَحِّدا بِذلِكَ) أي بخلق ما شاء كيف شاء؛ يعني أنّ غيره من الخالقين لا يخلقون كلّ ما شاؤوا؛ لعدم عموم قدرتهم، ولا يخلقون ما خلقوا كيف شاؤوا؛ لأنّهم ليسوا مستقلّين بالقدرة أصلاً.

(لاِءِظْهَارِ حِكْمَتِهِ) . المقصود إظهار حكمته على الغير؛ لأن يُعلِمَها غيره.

(وَحَقِيقَةِ رُبُوبِيَّتِهِ) . عطفٌ على «حكمته». والحقيقة: ما يحقّ عليك أن تحميه. وربّ كلّ شيء: مالكه، والاسم «الربوبيّة» بالضمّ، وحقيقة ربوبيّته: أنّه خالق كلّ شيء وحاكم كلّ نزاع، فإنّه الذي يجب علينا أن نصدّق به، وندفع عنه الطعن من ربوبيّته.

(لاَ تَضْبِطُهُ الْعُقُولُ) أي لا تحيط بمائيّته.

(وَلاَ يَبْلُغُهُ(1) الاْءَوْهَامُ ) . جمع وَهْم، وهي خطرات القلوب؛ أي ليس ممّا يلمع للقلوب ثمّ يغيب عنها، كما في بعض الأشياء الدقيقة. أو المراد: لا يُدرك شخصه على الوجه الجزئي، أو الجاري مجراه، كما في تخيّل البلاد البعيدة.

(وَلاَ تُدْرِكُهُ الاْءَبْصَارُ) أي أبصار العيون بقرينة المقابلة. ويحتمل أن يُراد الأعمّ منها ومن أبصار القلوب، فيكون تعميما بعد تخصيص.

(وَلاَ يُحِيطُ بِهِ) أي لا يستوعبه.

(مِقْدَارٌ) . أكثر ما يطلق المقدار على الكمّ المتّصل؛ أي ليس محسوسا بغير البصر .

ص: 198


1- في الكافي المطبوع : «لا تبلغه» .

أيضا؛ لأنّه لا يمكن إلاّ فيما له مقدار. وقوله:

(عَجَزَتْ دُونَهُ الْعِبَارَةُ، وَكَلَّتْ دُونَهُ الاْءَبْصَارُ، وَضَلَّ فِيهِ تَصَارِيفُ الصِّفَاتِ) ، نشرٌ على ترتيب اللفّ؛ فالاُولى ناظرة إلى عدم ضبط العقول وعدم بلوغ الأوهام؛ أي لا يبلغ التعبير مائيّته، أو ولا شخصه. والثانية ناظرة إلى عدم إدراك الأبصار. والثالثة ناظرة إلى عدم إحاطة المقدار.

والصفات جمع الصفة بالمعنى المصدري؛ أي بيانه باسم جامد محض، كما أنّ «التصاريف» جمع التصريف بمعنى التغيير. وإنّما سمّي مراتب الصفات تغييراتٍ؛ لأنّ الواصف له بمرتبة من الوصف إذا وصفه وصفا آخر، انتقل من مرتبة إلى اُخرى، فغيّر صفة، أي مرتبة من صفته إلى صفة اُخرى، أي مرتبة اُخرى فوقها.

(احْتَجَبَ) أي اختفى هذا الخفاءَ الشديد.

(بِغَيْرِ حِجَابٍ) . الحَجْب: المنع عن الدخول؛ وحجاب الملك: ما يمنع الغير عن الدخول إليه بغير إذنه، سواء كان بوّابا أو سترا، أو غير ذلك.

(مَحْجُوبٍ) ؛ صفةٌ. وفيه إشارة إلى أنّ شدّة احتجاب ملوك أهل الدنيا لا يكون إلاّ بتعدّد الحُجّاب.

(وَاسْتَتَرَ بِغَيْرِ سِتْرٍ) . هو ما يسدَل على باب البيت الذي فيه الإنسان؛ لمنع الغير عن النظر إليه، أو لنحو ذلك.(1)

(مَسْتُورٍ) . هذا أيضا صفة، ومعناه ظاهر ممّا مرّ.

(عُرِفَ بِغَيْرِ رُوءْيَةٍ) ؛ بضمّ الراء وسكون الهمزة، أي عرف ربوبيّته من غير أن يكون مرئيّا، بل بالعلامات.

(وَوُصِفَ بِغَيْرِ صُورَةٍ) . ليس الباء صلة للوصف، بل للسببيّة؛ أي لا بسبب صورة وهي بدن الإنسان ونحوه ممّا هو مجوّف؛ أي من غير أن يكون له صورة يوصف على حسبها، بل يوصف على استجماعه لصفات الكمال. .

ص: 199


1- في حاشية «أ» : «الستر _ بالكسر _ : واحد الستور . والأستار _ وبالفتح _ مصدر قولك : سترت الشيء : إذا غطيته» .

(وَنُعِتَ) . النعت بيان ما يختصّ به تعالى، ككونه خالق كلّ شيء. والوصف أعمّ، فيتناول نحو العلم.

(بِغَيْرِ جِسْمٍ) أي لا بسبب شيء مصمت غير مجوّف.

(لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ(1) الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ) . أصله: المتعالي، حذفت الياء اكتفاءً بالكسرة، ثمّ يحذف الكسرة في الوقف.

الرابع: (مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ، عَمَّنْ ذَكَرَهُ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْعَبَّاسِ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي نَصْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حُكَيمٍ(2)) ؛ بضمّ المهملة، وفتح الكاف.

(قَالَ: وَصَفْتُ) أي مدحت (لاِءَبِي إِبْرَاهِيمَ عليه السلام قَوْلَ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ) أي ما يُنسَب إليه من أنّه تعالى صورة.

(الْجَوَالِيقِيِّ) : بيّاع الجواليق، بفتح الجيم، جمع جُوالَق بضمّ الجيم وفتح اللام، معرّب «جوال» وهو وعاء يُنسج من الصوف أو الشعر، ويُقال له: اللبيد.(3)

(وَحَكَيْتُ لَهُ قَوْلَ هِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ، إنَّهُ)؛ بالكسر، مقول قول؛ أو بالفتح، بدل «قول».

(جِسْمٌ). ذِكْر الوصف في الأوّل والحكاية في الثاني مبنيّ على(4) أنّ ابن حكيم كان من أصحاب أبي الخطّاب، وتوهّم أنّ ابن سالم يوافقه في التشبيه والصورة معا، وأنّ ابن حكيم يوافقه في التشبيه ويخالفه في الصورة. ويجيء في شرح سادس الباب أنّ الهشامين بريئان من هذين القولين.

(فَقَالَ :(5) لاَ يُشْبِهُهُ شَيْءٌ، أَيُّ فُحْشٍ أَوْ خَنا) . الخنا _ بفتح المعجمة والنون والقصر _ : الهلاك. وخنا الدهر: آفاته. .

ص: 200


1- في الكافي المطبوع : «اللّه » .
2- في الكافي المطبوع : «حكيم» بفتح الحاء وكسر الكاف .
3- النهاية ، ج 1 ، ص 287 (جلق) ؛ لسان العرب ، ج 3 ، ص 388 (لبد) .
4- في «ج» : + «المراد بالوصف هنا المدح و» .
5- في الكافي المطبوع : + «إنّ اللّه تعالى» .

(أَعْظَمُ مِنْ قَوْلِ مَنْ يَصِفُ خَالِقَ الاْءَشْيَاءِ بِجِسْمٍ) أي بأنّه جسم.

(أَوْ صُورَةٍ، أَوْ بِخِلْقَةٍ، أَوْ بِتَحْدِيدٍ) أي تمييز أعضائه بعضها عن بعض.

(وَأَعْضَاءٍ؟ تَعَالَى اللّه ُ عَنْ ذلِكَ عُلُوّا كَبِيرا) .

الخامس: (عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ رَفَعَهُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَرَجِ الرُّخجِيِّ) ؛ بضمّ المهملة وفتح المعجمة والجيم، نسبة إلى قرية بكرمان.(1) قال المطرزي في المغرب: «الرخج إعراب رخذ بوزن زفر، اسم كورة استولى عليها الترك».(2)

(قَالَ: كَتَبْتُ إِلى أَبِي الْحَسَنِ عليه السلام أَسْأَلُهُ عَمَّا قَالَ هِشَامُ بْنُ الْحَكَمِ فِي الجِسْمِ). هو أنّ الجسم أولى بالفاعليّة من الصورة على تقدير التشبيه؛ لأنّه أبسط.

(وَهِشَامُ بْنُ سَالِمٍ فِي الصُّورَةِ). هو أنّ الصورة أولى بالفاعليّة من الجسم على تقدير التشبيه؛ لأنّها أشرف.

(فَكَتَبَ عليه السلام : دَعْ عَنْكَ حَيْرَةَ الْحَيْرَانِ، وَاسْتَعِذْ بِاللّه ِ مِنَ الشَّيْطَانِ، لَيْسَ الْقَوْلُ مَا قَالَ الْهِشَامَانِ) . حيرة الحيران عبارةٌ عن الفكر في أمثال هذا من الوهميّات التقديريّة، فإنّه لا ينفع في الدين ولا في الدنيا. فالمراد بالقول القول النافع، و«ما» موصولة.

السادس: (مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْحَسَنِ، عَنْ بَكْرِ بْنِ صَالِحٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَبْدِ اللّه ِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، قَالَ: سَمِعْتُ يُونُسَ بْنَ ظَبْيَانَ) ؛ بفتح المعجمة، وسكون الموحّدة، والخاتمة.

(يَقُولُ: دَخَلْتُ عَلى أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ هِشَامَ بْنَ الْحَكَمِ يَقُولُ قَوْلاً عَظِيما) . هذا من تخليط يونس بن ظبيان وسوء فهمه، فإنّه كان من أصحاب أبي الخطّاب محمّد بن مقلاص، وكان أبو الخطّاب يدّعي لأبي عبداللّه عليه السلام الربوبيّة، ولنفسه الرسالة، فكان .

ص: 201


1- قال البكري الأندلسي في معجم ما استعجم ، ج 2 ، ص 646 : «رخج بضمّ أوّله وتشديد ثانيه بعده جيم : كورة من كور فارس ، وأصله بالفارسية: رخذ ، فعرّب» . وفي لسان العرب ، ج 2 ، ص 283 : «كورة : مدينة من نواحي كابل ، معرب رفو» . ونقل في تاج العروس ، ج 3 ، ص 383 أنّها قرية ببغداد .
2- حكاه عن المغرب المازندراني في شرح اصول الكافي ، ج 3 ، ص 229 .

قائلاً بالصورة من مذهبي التشبيه،(1) وكان هشام بن الحكم يدفع مذهبه، بأنّه لو صحّ التشبيه لكان اللّه جسما، لا صورة؛ لأنّ الأشياء حينئذٍ شيئان إلى آخره، وحاصله: أنّ الجسم أبسط من الصورة، فهو أولى بالفاعليّة، وهي أولى بالمفعوليّة، وكان هشام بن سالم يعارضه ويقول: الصورة أولى بالفاعليّة حينئذٍ؛ لأنّها أشرف كما ذكر في شرح السابق.

والقرينة على هذا أشياء:

الأوّل: قوله عليه السلام : «والصورة محدودة متناهية» وذلك لأنّ هشاما لم يذهب إلى الصورة بل أبطلها.

الثاني: قول يونس: «فما أقول» فإنّه يدلّ على أنّ يونس كان قائلاً بالصورة.

الثالث: قوله عليه السلام : «كما يقولون»، فإنّ الضمير لأبي الخطّاب وأصحابه، ولو كان المقصود إبطال مذهب هشام كان بدله «كما يقول».

ويظهر بهذا أنّ قوله عليه السلام : «ويله»، إن كان بالضمير ومنادى مضافا، كان للتعجّب من مهارة هشام في الكلام، نظير قولهم: ويل اُمّه مِسعر حربٍ؛(2) تعجّبا من الشجاعة؛ وإن كان بالتاء كان مرفوعا، على أنّه خبر مبتدأ محذوف؛ أي هذا الكلام من هشام ويلة وفضيحة لمذهبكم في الصورة؛ فالاستفهام في قوله: «أما علم» إنكاري؛ واللّه أعلم.

(إِلاَّ أَنِّي أَخْتَصِرُ لَكَ مِنْهُ أَحْرُفا، يَزْعَمُ(3) أَنَّ اللّه َ جِسْمٌ؛ لاِءَنَّ الاْءَشْيَاءَ شَيْئَانِ) أي منحصرة في شيئين لا ثالث لهما.

(جِسْمٌ، وَفِعْلُ الْجِسْمِ، فَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ) . الفاء للترتيب الذكري.

(الصَّانِعُ) أي لفظ الصانع.

(بِمَعْنَى الْفِعْلِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْفَاعِلِ) أي الفاعل لغيره، أو للممكنات. .

ص: 202


1- الملل والنحل ، ج 1 ، ص 179 (الخطابية) .
2- قال ابن الأثير في النهاية ، ج 2 ، ص 367: «في حديث أبي بصير: «ويل اُمّه مسعر حرب لو كان له أصحاب» يقال : سعرت النار والحرب : إذا أو قدتهما . وسعرتهما بالتشديد للمبالغة . والمسعر والمسعار : ما تحرك به النار من آلة الحديد . وانظر ج 5 ، ص 236 . والمراد التعجّب من شجاعته .
3- في الكافي المطبوع : «فزعم» .

(فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : «وَيْلَهُ،(1) أَمَا عَلِمَ أَنَّ الْجِسْمَ مَحْدُودٌ مُتَنَاهٍ) . الحدّ: المنع. ومنتهى الشيء، والتناهي: البلوغ إلى منتهى؛ يعني لكلّ جسم مقدار خاصّ ليس مقداره لازما لذاته عقلاً، فهو محدود؛ أي ممنوع عن الزيادة لم يتجاوز عن حدّه. و«متناه» أي بالغ حدّه لم يتقاصر عن حدّه مع إمكان التجاوز والتقاصر فيه بالنسبة إلى ذاته.

أمّا أنّ لكلّ جسم مقدارا خاصّا، فلبراهين تناهي الأبعاد.

وأمّا أنّه ليس مقداره لازما لذاته عقلاً، فلأنّ كلّ جسم إمّا مفرد وإمّا مركّب من المفردات، والجسم المفرد إمّا مركّب من أجزاء لا تتجزّى، وإمّا متّصل واحد قابل للقسمة الوهميّة لا إلى نهاية. والأوّل باطل لأدلّة إبطال الجزء الذي لا يتجزّى، والثاني ليس مقداره لازما لذاته عقلاً؛ لأنّ نصفه الوهمي مثلاً إذا حصل في الوهم يحمل عليه تمام مهيّة الكلّ، ولا يحمل عليه مقدار الكلّ، ولا الوجود الخارجي، ولا التشخّص الخارجي.

إن قلت: عدم لزوم المقدار لا يدلّ على كلّ من المحدوديّة والتناهي بل على أحدهما.

قلت: أحدهما كافٍ في المدّعى هنا، وإنّما ارتكب الزيادة في الدعوى للإشارة إلى أنّ كلاًّ منهما يستلزم الآخر؛ لتشابه المقادير في تمام المهيّة(2) ضرورةً.

(وَالصُّورَةَ مَحْدُودَةٌ مُتَنَاهِيَةٌ؟). زيادة هذا للإشارة إلى ردّ قول هشام الجواليقي أيضا.

(فَإِذَا احْتَمَلَ الْحَدَّ، احْتَمَلَ) . الفاء للتفريع، والضميران للّه تعالى.

(الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ) . احتمال الحدّ إنّما يستلزم احتمال الزيادة أوّلاً، واحتمال النقصان ثانيا، بناءً على أنّ كلاًّ منهما يستلزم الآخر كما مرّ آنفاً.

والمراد بالزيادة التخلخل الحقيقي، وبالنقصان التكاثف الحقيقي، فلا يتغيّر معهما التشخّص. أو المراد بهما ما يعمّهما وما يتغيّر معه التشخّص. .

ص: 203


1- في الكافي المطبوع : «ويحه» .
2- في «ج» : «الماهية» .

(وَإِذَا احْتَمَلَ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ، كَانَ مَخْلُوقا) أي كان تعيين هذا القدر دون قدر آخر مع احتمال الطبيعة المشتركة لكلّ منهما مستندا إلى خارجٍ عن هذا الجسم مدبّرٍ؛ لأنّه لا يمكن أن يكون ذلك مستندا إلى الطبيعة؛ لما مرّ من اشتراكها(1) بين الجميع، ولا إلى موجبٍ آخَرَ؛ لتشابه المقادير في تمام المهيّة.

(قَالَ: قُلْتُ: فَمَا أَقُولُ؟ قَالَ: لاَ جِسْمٌ) أي لا هو جسم، كما مضى في شرح أوّل الباب.

(وَلاَ صُورَةٌ، وَهُوَ مُجَسِّمُ الاْءَجْسَامِ، وَمُصَوِّرُ الصُّوَرِ ، لَمْ يَتَجَزَّأْ) أي غير منقسم، لا في وجود، ولا في عقل، ولا في وهم؛ لما مرّ آنفا من أنّ المخلوقيّة لازمة للقسمة.

(وَلَمْ يَتَنَاهَ،وَلَمْ يَتَزَايَدْ، وَلَمْ يَتَنَاقَصْ، لَوْ كَانَ كَمَا تَقُولُونَ) ؛ بصفة الخطاب أو الغيبة.

(لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ فَرْقٌ) أي كان الخالق مخلوقا.

(وَلاَ بَيْنَ الْمُنْشِئِ وَالْمُنْشَاَء) أي كان المنشئ منشأ. وإنّما ذكر ذلك لأنّ الخالق بحسب المفهوم أعمّ من المنشئ؛ لأنّ الخالق المدبّر، والمنشئ المحدث.

(لكِنْ هُوَ الْمُنْشِئُ) أي ليس غيره منشئَ جسم، وفاعلاً بلا علاج.

(فَرَّقَ) ؛ بصيغة الماضي المعلوم من باب نصر، والجملة استئناف بياني.

(بَيْنَ مَنْ جَسَّمَهُ) بأن جعل بعضه صغيرا وبعضه أصغر، وبعضه كبيرا وبعضه أكبر.

واختار لفظة «من» على(2) «ما» لأجل أنّهم جعلوه(3) جسما عالما، فأفاد أنّه الفارق بين الأجسام العالمة، وفيه دلالة على نفي تجرّد النفس الناطقة.

(وَصَوَّرَهُ) أي جعل بعضه على صورة حسنة، وبعضه على صورة شوهاء، ويقال: إنّ الأرواح على صور الأبدان، فتسمّى حين المفارقة أبدانا مثاليّة(4).

(وَأَنْشَأَهُ) أي جعل إنشاء بعضه مقدّما، وبعضه مؤخّرا.

(إِذْ كَانَ لاَ يُشْبِهُهُ شَيْءٌ، وَلاَ يُشْبِهُ هُوَ شَيْئا) . ظرف للحصر المفهوم من قوله: «لكن .

ص: 204


1- في «ج» : «اشتراكهما» .
2- في «ج» : + «بعضه» .
3- في «ج» : «جعلوا» .
4- اُنظر عمدة القاري ، ج 19 ، ص 33 ذيل الآية : «وَ يَسْ_ءَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ» .

هو المنشئ» إلى آخره. والفعلان بصيغة المضارع المعلوم من باب الإفعال، أي لو أشبهه شيء في التجرّد ونفوذ الإرادة، لأمكن أن يكون فارقا شريكا للّه ، فلا يصحّ الحصر.

وفيه دلالة على عدم مجرّد سوى اللّه ، ولو أشبه هو شيئا في الجسميّة لكان منشأ مفروقا، لا فارقا.

السابع: (مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْعَبَّاسِ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمنِ الْحَمَّانِيِّ) . منسوبٌ إلى حمّان _ بفتح المهملة وشدّ الميم والنون _ اسم رجل. وقيل في ترجمة يحيى بن عبد الحميد: الحمّاني بكسر المهملة(1).

(قَالَ: قُلْتُ لاِءَبِي الْحَسَنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ عليهماالسلام : إِنَّ هِشَامَ بْنَ الْحَكَمِ زَعَمَ) أي ادّعى وقتا ما قبل وصوله إلى مجلس أبي عبداللّه عليه السلام ، ولو كان المراد بقاءَه عليه لكان القدح راجعا إلى الحسن؛ لأنّه نسب إليه ما ليس فيه، واتّقاه الإمام، أو لنحو ذلك.

(أَنَّ اللّه َ تَعَالى(2) جِسْمٌ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، عَالِمٌ، سَمِيعٌ ، بَصِيرٌ، قَادِرٌ، مُتَكَلِّمٌ، نَاطِقٌ) أي باللسان، فهو أخصّ من المتكلّم.

(وَالْكَلاَمُ وَالْقُدْرَةُ وَالْعِلْمُ يَجْرِي مَجْرى وَاحِدٍ، لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهَا مَخْلُوقا. فَقَالَ عليه السلام : قَاتَلَهُ اللّه ُ ) . قد يُراد بهذا «عاداه» أو «لعنه». وقد يُراد به التعجّب من الشيء، كقولهم: تَرِبَت يداه(3). ولا يُراد به حينئذٍ وقوع الأمر. والمراد به هنا الأخير. وإن اُريد أحد الأوّلين، فضمير «قاتله» راجع إلى القائل بهذا القول حين هو قائل به، لا مطلقا. و«فاعَلَ» يكون بين اثنين في الغالب، وقد يكون للواحد ك«سافرت» و«طارقت». .

ص: 205


1- في حاشية «أ» : «القائل ميرزا محمّد في باب الكنى (منه دام ظله)» .
2- في الكافي المطبوع : - «تعالى» .
3- قال ابن الأثير في النهاية ، ج 1 ، ص 184 : «عليك بذات الدين تربت يداك قرب الرجل إذا افتقر ، أي لصق بالتراب . وأترب : إذا استغنى . وهذه الكلمة جارية على ألسنة العرب لا يريدون بها الدعاء على المخاطب ولا وقوع الأمر به كما يقولون : قاتله اللّه . وقيل : معناها : للّه درك . وقيل : أراد به المثل ليري المأمور بذلك الجدّ ، وإنّه إن خالفه فقد أساء» .

(أَ مَا عَلِمَ أَنَّ الْجِسْمَ مَحْدُودٌ) أي فيناقض قوله بالجسميّة قولَه: «ليس كمثله شيء» كما مرّ في سادس الباب.

(وَالْكَلاَمَ) . منصوبٌ معطوف على الجسم.

(غَيْرُ الْمُتَكَلِّمِ؟). معطوفٌ على «محدود» يعني أنّ الكلام زائد على ذات المتكلِّم؛ لأنّه من صفات الفعل، فليس كالقدرة والعلم، فإنّهما من صفات الذات وعين ذاته تعالى، فالكلام مخلوق دونهما. لمّا كان إبطال كونه جسما مشتملاً على إبطال كونه ناطقا، لم يتعرّض له هنا صريحا.

(مَعَاذَ اللّه ِ) . مصدرٌ مضاف، معناه: أعوذ باللّه معاذا.

(وَأَبْرَأُ إِلَى اللّه ِ مِنْ هذَا الْقَوْلِ) . لم يقل هذا القائل إشارةً إلى رجوعه عنه.

قوله: (لاَ جِسْمٌ، وَلاَ صُورَةٌ، وَلاَ تَحْدِيدٌ) ، لإبطال الجسميّة.

وقوله: (وَكُلُّ شَيْءٍ سِوَاهُ مَخْلُوقٌ) ، لإبطال كون الكلام كالعلم والقدرة.

وقوله: (إِنَّمَا يُكَوَّنُ(1) الاْءَشْيَاءُ بِإِرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ، مِنْ غَيْرِ كَلاَمٍ، وَلاَ تَرَدُّدٍ فِي نَفَسٍ) ؛ بفتح الفاء. (وَلاَ نُطْقٍ بِلِسَانٍ) ، لإبطال كونه ناطقا.

الثامن: (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى، عَنْ يُونُسَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَكِيمٍ، قَالَ: وَصَفْتُ لاِءَبِي الْحَسَنِ عليه السلام قَوْلَ هِشَامٍ الْجَوَالِيقِيِّ وَمَا يَقُولُ فِي الشَّابِّ الْمُوَفَّقِ) . مضى في ثالث العاشر.(2)

(وَوَصَفْتُ لَهُ قَوْلَ هِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ، فَقَالَ: إِنَّ اللّه َ لاَ يُشْبِهُهُ شَيْءٌ) . معناه ظاهر ممّا مضى في أحاديث الباب. ومعنى «يقول»: ينسب إليه أنّه يقول. وبالجملة جلالة قدر الرجلين يوجب تأويل الأحاديث إمّا بما ذكرنا، أو بنحو ذلك؛ للأحاديث الصريحة المعارضة؛ والعلم عند اللّه . .

ص: 206


1- في الكافي المطبوع : «تُكَوَّنُ» .
2- أي الحديث 3 من باب النهي عن الصفة بغير ماوصف به نفسه تعالى .

الباب الثاني عشر: باب صفات الذات

الباب الثاني عشر بَابُ صِفَاتِ الذَّاتِ

فيه ستّة أحاديث.

أي صفات له تعالى وجوديّةٌ ليس لها مصداقٌ موجودٌ في نفسه في الخارج إلاّ ذاته تعالى، فيمتنع اتّصافه تعالى بضدّها، أو يُقال: صفات له وجوديّة يمتنع انفكاكها عنه تعالى.

وسيجيء بيان الحدّين في ذيل «باب الإرادة أنّها من صفات الفعل».

الأوّل: (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ الطَّيَالِسِيِّ) ؛ بفتح المهملة والخاتمة وكسر اللام والمهملة: منسوب إلى طيالسة، جمع «الطيلسان» مثلّثة اللام، وهو ثوب معروف من صوف، والنسبة للبيع.(1)

(عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَحْيى، عَنِ ابْنِ مُسْكَانَ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام يَقُولُ: لَمْ يَزَلِ اللّه ُ _ عَزَّ وَجَلَّ _ رَبُّنَا،(2) وَالْعِلْمُ ذَاتُهُ وَلاَ مَعْلُومَ) .

«لم يزل» بفتح الزاي من الأفعال الناقصة. و«اللّه » مرفوع، و«عزّ وجلّ» جملة معترضة. و«ربّنا» مرفوع بدل أو عطف بيان للّه .

وقوله: و«العلم ذاته» جملة حاليّة اُقيمت مقام خبر «لم يزل»، وهو كائنا نظير ضربي زيدا وهو قائم.

وقوله: «ولا معلوم» معطوف على الجملة الحاليّة، أو جملة حاليّة اُخرى قيد للاُولى.

ص: 207


1- اُنظر لسان العرب ، ج 6 ، ص 124 (طلس) .
2- في الكافي المطبوع : «ربَّنا» بفتح الباء .

ويمكن أن يكون «ربّنا» منصوبا خبر «لم يزل» فيكون راجعا إلى ما سيجيء في رابع «باب جوامع التوحيد» من قوله: «كان ربّا إذ لا مربوب». أو مرفوعا فاعل عزّ وجلّ، فيكون جزء الجملة المعترضة.

(وَالسَّمْعُ ذَاتُهُ وَلاَ مَسْمُوعَ، وَالْبَصَرُ ذَاتُهُ وَلاَ مُبْصَرَ، وَالْقُدْرَةُ ذَاتُهُ وَلاَ مَقْدُورَ) أي هذه الصفات صفات ذاته بالمعنى الذي مضى آنفا، لو كان المراد أنّ مفهوم العلم نفس ذاته لم يكن صحيحا؛ لأنّ مفهوم العلم متصوّر لنا، وذاته غير متصوّر لنا. ولو كان المراد أنّ لمفهوم العلم فردا حقيقيّا هو نفس ذاته تعالى، لم يصحّ؛ لبراهينَ: منها: أنّ مفهوم العلم مشترك معنوي بينه وبين خلقه بحمل الاشتقاق، وليس له في خلقه فرد حقيقي موجود في نفسه في الخارج، فليس له فرد حقيقي موجود في نفسه في الخارج أصلاً؛ لأنّ العقل لا يجوّز ذلك الاختلاف في المشترك المعنوي، وإلاّ لجوّز أن يكون جسم أبيضَ ببياض ليس له فرد حقيقي موجود في نفسه في الخارج.

وتفصيل ذلك في الحاشية(1) الاُولى من حواشينا على عدّة الاُصول.(2)

(فَلَمَّا أَحْدَثَ الاْءَشْيَاءَ وَكَانَ) ؛ تامّة.

(الْمَعْلُومُ، وَقَعَ الْعِلْمُ مِنْهُ عَلَى الْمَعْلُومِ) .

المراد بوقوع العلم على المعلوم تجدّد نسبةٍ بين العلم والمعلوم، لولا تحقّقها لم يكن العلم علما به. وقد يعبّر عن هذا الوقوع بالعلم، وقس على هذا وقوع البصر وغيره.

ويمكن أن يُراد بالوقوع تجدّد وجود متعلّقه في الخارج على حسب ما تعلّق به.

وكأنّ هذا إشارة إلى تفسير آيات، ودفع الإشكال عنها مثل قوله تعالى: «لِنَعْلَمَ أَىُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى»(3)، وقوله: «وَلَمَّا يَعْلَمْ اللّه ُ»(4)، وقوله: «فَعَلِمَ مَا فِى قُلُوبِهِمْ»(5) بأنّ العلم يُطلق .

ص: 208


1- في «ج» : «حاشية» .
2- الحاشية الاُولى للمصنّف على العدّة غير مطبوعة .
3- الكهف (18) : 12 .
4- آل عمران (3) : 142 .
5- الفتح (48) : 18 .

على معنيين: أحدهما: من صفات الذات. والآخر: من صفات الفعل، وهو وقوع العلم بالمعنى الأوّل على المعلوم.

وإشارة أيضا إلى ردّ ما يزعمه الفلاسفة من أنّ علمه تعالى حضوري لا يمكن إلاّ بوجود المعلوم في الخارج، ومن أنّه تعالى لا يعلم الجزئيّات إلاّ عند وقوعها، فأمّا قبل ذلك فإنّه لا يعلم إلاّ المهيّة.(1)

وإشارة أيضا إلى ردّ ما يزعمه اليهود والفلاسفة حيث قالوا: إنّ اللّه تعالى فرغ من الأمر بل علمه واقع على معلومه أزلاً وأبدا في ظرف الدهر، قالوا: أوعية الوجود ثلاثة: السرمد، والدهر، والزمان،(2) وإثبات البداء للّه تعالى لإبطال ذلك، كما يجيء في أحاديث «باب البداء».(3)

(وَالسَّمْعُ عَلَى الْمَسْمُوعِ) . يعبّر عن وقوع السمع على المسموع بالسماع.

(وَالْبَصَرُ عَلَى الْمُبْصَرِ) . يعبّر عن هذا الوقوع بالإبصار.

(وَالْقُدْرَةُ عَلَى الْمَقْدُورِ) .

إن قلت: تحقّق المقدور ليس محقّقا لكون القدرة قدرةً؛ فإنّها متعلّقة بالنقيضين.

قلت: ذلك بانضمام الحكمة، فإنّ الحكيم لو لم يفعل ما يقتضيه المصلحة، كان لعدم قدرته عليه.

(قَالَ: قُلْتُ: فَلَمْ يَزَلِ اللّه ُ مُتَحَرِّكا؟). الفاء للتفريع، ويمكن أن يكون هذا بطريق الاستفهام، وأن يكون بطريق الحكم.

والمراد بالحركة الانتقال من صفة إلى اُخرى. توهّم السائل أنّ العلم إذا كان أزليّا ووقوعه على المعلوم حادثا، كان اللّه منتقلاً من علمٍ إلى آخر، وهذا مبنيّ على أنّ العلم بأنّ الشيء سيوجد غير العلم بوجوده حين يوجد، ويزول الأوّل بالثاني وذلك لتغاير6.

ص: 209


1- حكاه في شرح نهج البلاغة ، ج 7 ، ص 23 عن أرسطوطاليس ؛ والإيجي في المواقف ، ج 3 ، ص 108 عن الفلاسفة ؛ والجرجاني في شرح المواقف ، ج 8 ، ص 74 .
2- شرح المقاصد ، ج 1 ، ص 191 .
3- الكافي، ج 1، ص 146.

المعلومين، وكذا العلم بأنّ الشيء وجد قبل ذلك غير العلم بوجوده حين وجد، ويزول الثاني بالأوّل، فالعلم بالشيء بأنّه سيقع بعد عشر سنين غير العلم بأنّه سيقع بعد خمس سنين مثلاً، ويلزم من ذلك أن يكون اللّه تعالى منتقلاً أزلاً وأبدا من علمٍ إلى آخر، وقس على ذلك الانتقالَ من سمعٍ إلى سمع، ومن بصرٍ إلى بصر، ومن قدرةٍ إلى قدرة. ويمكن أن يكون توهّم السائل مخصوصا بالعلم، فإنّ هذا التوهّم في غيره بعيد جدّا.

(قَالَ: فَقَالَ: تَعَالَى اللّه ُ(1)) . حاصله أنّ العلم بأنّ الشيء سيقع عين(2) العلم بوقوعه حين يقع، وكذا السمع والبصر والقدرة. والدليل عليه أنّ زوال علم لا يمكن إلاّ بالجهل بما علمه بذلك العلم، واللّه يتعالى عن ذلك، وكذا زوال سمع وبصر وقدرة إنّما يكون بصمّ وعمى وعجز تقابلها، وأمّا الانتقال في حصص العلم _ مثلاً _ المختلفةِ باختلاف أمرٍ خارجٌ عن العلم والمعلوم، كالأزمنة الغير المتناهية، فهذا غير متنازع فيه.

(إِنَّ الْحَرَكَةَ) أي انتقال اللّه من صفة إلى صفة (صِفَةٌ) ؛ بالتنوين.

(مُحْدَثَةٌ) ؛ بصيغة اسم المفعول من باب الإفعال، مرفوعٌ نعت «صفة».

(بِالْفَعْلِ(3)) . بفتح الفاء وسكون المهملة مصدر باب منع؛ أي بالتأثير. وهذا إشارة إلى أنّه يمتنع أن يكون القديم موجودا بتأثير مؤثّر ضرورةً، فالزنادقة والأشاعرة القائلون بتعدّد القدماء مكابرون لمقتضى عقولهم لشُبه واهية، ومعارضات وهميّة. وإلى هذا اُشير فيما رواه ابن بابويه في توحيده في باب مجلس الرِّضا عليه السلام مع سليمان المروزي إلى آخره، حيث قال: ثمّ قال الرضا عليه السلام : «يا سليمان، أسألك مسألة» قال: سَلْ جعلت فداك، قال: «أخبرني عنك وعن أصحابك يكلِّمون(4) الناس بما يفقهون ويعرفون، أو بما لا يفقهون ولا يعرفون؟» قال: بل بما يفقهون ويعلمون، قال الرضا عليه السلام : «فالذي يعلم الناس أنّ المريد غير الإرادة، وأنّ المريد قبل الإرادة، وأنّ الفاعل قبل المفعول، وهذا يبطل .

ص: 210


1- في الكافي المطبوع : + «عن ذلك» .
2- في «ج» : «حين» .
3- في الكافي المطبوع : «بالفِعل» بكسر الفاء .
4- في المصدر : «تكلّمون» .

قولكم: إنّ الإرادة والمريد شيءٌ واحد».(1)

(قَالَ: قُلْتُ: فَلَمْ يَزَلِ اللّه ُ مُتَكَلِّما؟). توهّم من أزليّة العلم ونحوه أزليّةَ التكلّم، قياسا على العلم ونحوه.

(قَالَ: فَقَالَ: إِنَّ الْكَلاَمَ صِفَةٌ مُحْدَثَةٌ لَيْسَتْ بِأَزَلِيَّةٍ، كَانَ اللّه ُ _ عَزَّ وَجَلَّ _ وَلاَ مُتَكَلِّمَ) ؛ بكسر اللام أو فتحها، بمعنى المتكلّم به أو المصدر.

ولم يقل: إنّ التكلّم صفة محدثة إشارةً إلى أنّ المتكلّم قد يُطلق على القادر على الكلام، وقد يُطلق على العالم بمعاني الكلام، ولا نزاع لنا في أزليّتهما، لكنّهما داخلان في صفة القدرة والعلم، وما نحن فيه التكلّم بمعنى إحداث الكلام ليصير صفة اُخرى، والكلام صفة حادثة؛ فالتكلّم المساوق له حادث البتّة.

الثاني: (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ، قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: كَانَ اللّه ُ وَلاَ شَيْءَ غَيْرُهُ) ، أي لا شيء موجود في الخارج في نفسه غيره.

(وَلَمْ يَزَلْ عَالِما بِمَا يَكُونُ؛ فَعِلْمُهُ بِهِ) أي بما يكون (قَبْلَ كَوْنِهِ كَعِلْمِهِ بِهِ بَعْدَ كَوْنِهِ) أي ليس بينهما تفاوت بالزيادة والنقصان، ولا بالإجمال والتفصيل. والإشارات فيه كما في أوّل الباب.

الثالث: (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَحْيى، عَنِ الْكَاهِلِيِّ، قَالَ: كَتَبْتُ إِلى أَبِي الْحَسَنِ عليه السلام : فِي دُعَاءٍ: الْحَمْدُ لِلّهِ مُنْتَهى عِلْمِهِ؟) أي حمدا ينتهي منتهى علمه.

(فَكَتَبَ إِلَيَّ: لاَ تَقُولَنَّ مُنْتَهى عِلْمِهِ؛ فَلَيْسَ لِعِلْمِهِ مُنْتَهىً، وَلكِنْ قُلْ: مُنْتَهى رِضَاهُ) . علومه تعالى غير متناهية؛ لعدم تناهي المفهومات، ولا يبطله برهان التطبيق ونحوه، فإنّها إنّما تبطل «لا تناهي» ما له مجموع، وهو الموجود في نفسه في الخارج، فلا يبطل .

ص: 211


1- التوحيد ، ص 446 ، باب مع سليمان المروزي ، ح 1 .

الموجودات الرابطيّة في الخارج، ولا الثابتات في الخارج المعدومة فيه، ولتفصيله محلّ آخر، ورضاه تعالى متناه، فإنّ الرِّضا إنّما يحصل بفعل المكلّف به وهو متناه.

ومناسبة الحديث بالباب باعتبار أنّه يدلّ على أنّ العلم من صفات الذات، إذ لو كان من صفات الفعل لكان متناهيا؛ إذ الحوادث الموجودة في الخارج في نفسها متناهية.

الرابع: (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، عَنْ سَعْدِ بْنِ عَبْدِ اللّه ِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ نُوحٍ: أَنَّهُ كَتَبَ إِلى أَبِي الْحَسَنِ عليه السلام يَسْأَلُهُ عَنِ اللّه ِ عَزَّ وَجَلَّ: أَ كَانَ يَعْلَمُ الاْءَشْيَاءَ قَبْلَ أَنْ خَلَقَ الاْءَشْيَاءَ) .

اشتهر بين الناس شُبَهٌ في العلم التفصيلي له تعالى بكلّ شيء أزلاً وأبدا، وهي الباعثة على هذا السؤال.

(وَكَوَّنَهَا) . الخلق: التقدير، وهو أعمّ من التكوين، وكلّ منهما حادث؛ أمّا التكوين فظاهر، وأمّا الخلق فقط، فلأنّه حينئذٍ عبارة عن فعل أو ترك يعلم تعالى معه صدور فعل أو ترك عن العبد باختياره، وأنّه لولاه لم يصدر عن العبد ذلك، والترك كالفعل تابع للداعي ومصنوع، فكلّ منهما حادث كما مرّ في شرح «باب حدوث العالم». ولا ينافي هذا كونُ عدم الفعل الأزليّ غير تابع للداعي.

(أَوْ لَمْ يَعْلَمْ ذلِكَ حَتّى خَلَقَهَا وَأَرَادَ خَلْقَهَا وَتَكْوِينَهَا) . يدلّ على أنّ الإرادة مع المراد، لا قبله.

(فَعَلِمَ مَا خَلَقَ عِنْدَ مَا خَلَقَ،(1) وَمَا كَوَّنَ عِنْدَ مَا كَوَّنَ؟). هذا ما ذهب إليه بعض الناس حين عجزه عن جواب الشّبه قال: علمه تعالى التفصيلي حادث شيئا فشيئا بحسب حدوث الأشياء، وهو حضوري؛ إذ حصول الصور فيه تعالى محال.

(فَوَقَّعَ بِخَطِّهِ: لَمْ يَزَلِ اللّه ُ تَعَالى(2) عَالِما بِالاْءَشْيَاءِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الاْءَشْيَاءَ كَعِلْمِهِ بِالاْءَشْيَاءِ بَعْدَ مَا خَلَقَ الاْءَشْيَاءَ) . .

ص: 212


1- في «ج» : - «عند ما خلق» .
2- في الكافي المطبوع : - «تعالى» .

لم يتعرّض لدفع الشُّبه المشهورة إشارةً إلى أنّها واهية جدّا، إذ هي مبنيّة على قواعد الفلاسفة التي هي أوهن من بيت العنكبوت، منضمّةٌ إلى معلوم هو أنّ العلم بلا شيء محضٍ محالٌ.

ولقد ذكرنا الشّبه وأجبنا عنها في الحاشية الاُولى من حواشينا على عدّة الاُصول.

الخامس: (عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْزَةَ، قَالَ: كَتَبْتُ إِلَى الرَّجُلِ) ؛ هو أبو الحسن الثالث عليه السلام (أَسْأَلُهُ أَنَّ مَوَالِيَكَ اخْتَلَفُوا فِي الْعِلْمِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَمْ يَزَلِ اللّه ُ عَالِما قَبْلَ فَعْلِ(1)) ؛ بفتح الفاء، وسكون المهملة.

(الاْءَشْيَاءِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لاَ نَقُولُ: لَمْ يَزَلِ اللّه ُ عَالِما؛ لاِءَنَّ مَعْنى «يَعْلَمُ» «يَفْعَلُ») . «معنى» مضاف إلى «يَعلم» و«يفعل» بصيغة المضارع الغائب. فالمراد بالمعنى ما يرجع إليه الشيء ولازمه، فالمراد بالمعنى المفهوم؛ لما علم هذا البعض أنّ العلم بلا شيء محضٍ محالٌ. وتوهُّمُ أنّ المشيّة المطلقة يساوق الوجود توهُّمُ أنّ علمه تعالى بغيره لا يمكن إلاّ مع وجود ذلك الغير في نفسه، وكلّ وجود الغير بفعلهِ تعالى.

(فَإِنْ) . الفاء لبيان الدلالة، أو للتفريع على الدليل.

(أَثْبَتْنَا الْعِلْمَ) أي في الأزل (فَقَدْ أَثْبَتْنَا فِي الاْءَزَلِ مَعَهُ شَيْئا) أي موجودا في نفسه بدون أن يكون فعله تعالى، إن جعل الفاء في «فإن» للبيان؛ أو بأن يكون فعلَه تعالى إن جُعِلت للتفريع.

(فَإِنْ رَأَيْتَ _ جَعَلَنِيَ اللّه ُ فِدَاكَ _ أَنْ تُعَلِّمَنِي مِنْ ذلِكَ مَا أَقِفُ عَلَيْهِ وَلاَ أَجُوزُهُ.) . جزاؤه محذوف، أي تطوّلت.

(فَكَتَبَ بِخَطِّهِ عليه السلام : لَمْ يَزَلِ اللّه ُ عَالِما تَبَارَكَ وَتَعَالى ذِكْرُهُ) .

لم يتعرّض لدفع الشُّبهة إشارةً إلى قبح الخوض في أمثال ذلك؛ لقيام البرهان العقلي والنقلي على علمه تعالى بكلّ شيء، والشبهة لا تفيد الجزم أصلاً، وإنّما تفيد معارضةء.

ص: 213


1- في الكافي المطبوع: «فِعل» بكسر الفاء.

وهميّة لا يُعبَأ بها؛ لأنّ الباطل لجلج مضطرب؛(1) أو إلى ظهور ورود المنع بأنّا لا نسلّم أنّ معنى «يعلم» «يفعل»؛ لجواز ثبوت المعدومات في الخارج.

السادس: (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَبْدِ الصَّمَدِ بْنِ بَشِيرٍ، عَنْ فُضَيْلِ بْنِ سُكَّرَةَ) ؛ بضمّ المهملة، وشدّ الكاف المفتوحة.

(قَالَ: قُلْتُ لاِءَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام : جُعِلْتُ فِدَاكَ، إِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُعَلِّمَنِي هَلْ كَانَ اللّه ُ _ جَلَّ وَجْهُهُ _) . يجيء معنى الوجه في «باب النوادر».(2)

(يَعْلَمُ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ أَنَّهُ) ؛ بفتح الهمزة وشدّ النون، من الحروف المشبّهة بالفعل.

(وَحْدَهُ؟)؛ بفتح الواو وسكون الحاء المهملة والدال المهملة والضمير: مصدر باب ورث، منصوبٌ عند أهل الكوفة على الظرف، أي في وحده؛ وعند أهل البصرة على المصدر، أي يحد وحده.(3) وهو على التقديرين خبر «أنّ».

(فَقَدِ اخْتَلَفَ مَوَالِيكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَدْ كَانَ يَعْلَمُ) أي ذلك (قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ شَيْئا مِنْ خَلْقِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا مَعْنى «يَعْلَمُ» «يَفْعَلُ» ) أي مرجع قولنا: «يعلم غيره» أنّ الغير موجود حتّى يكون معلوما له، فيلزم ذلك أن يكون فعل صادرا عنه.

(فَهُوَ) . الفاء للتفريع إشارة إلى لزوم صدق هذا لما قبله.

(الْيَوْمَ) أي حين خلق الأشياء.

(يَعْلَمُ أَنَّهُ) ؛ بفتح الهمزة، من الحروف المشبّهة بالفعل.

(لاَ غَيْرُهُ) . «لا غير» مرفوع على أنّه خبر «أنّ» ومضاف إلى الضمير الراجع إلى اللّه . والمقصود أنّه لمّا أوجد الغير، علم وجود الغير، وعلم أنّه ليس غيره، أي لم يتّحد مع .

ص: 214


1- في «ج» : - «مضطرب» .
2- أي باب النوادر من كتاب التوحيد .
3- اُنظر تفسير النسفي ، ج 2 ، ص 288 ذيل الآية : «وَ إِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِى الْقُرْءَانِ وَحْدَهُ» .

غيره، كما توهّمه القائلون بالاتّحاد كبعض النصارى حيث قالوا: إنّ اللّه هو المسيح بن مريم،(1) وكبعض الصوفيّة،(2) وليس له جزء محمول عليه، ولا صفة موجودة في نفسها في الخارج محمولة عليه، بناءً على اتّحاد المبدأ والمشتقّ بالذات وتغايرهما بالاعتبار.

(قَبْلَ فِعْلِ الاْءَشْيَاءِ) ؛ يعني أنّ العلم نحو حكاية، والحكاية حادثة، والمحكيّ أزلي.

(فَقَالُوا) أي البعض الأخير. وضمير الجمع لرعاية جانب المعنى، والفاء للبيان، أي قالوا في بيان اللّزوم:

(إِنْ أَثْبَتْنَا أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ عَالِما بِأَنَّهُ لاَ غَيْرُهُ، فَقَدْ أَثْبَتْنَا مَعَهُ غَيْرَهُ فِي أَزَلِيَّتِهِ، فَإِنْ رَأَيْتَ يَا سَيِّدِي أَنْ تُعَلِّمَنِي مَا لاَ أَعْدُوهُ إِلى غَيْرِهِ. فَكَتَبَ عليه السلام : مَا زَالَ اللّه ُ عَالِما تَبَارَكَ وَتَعَالى ذِكْرُهُ) أي بكلّ شيء.

وحاصله منع أنّ معنى «يعلم» «يفعل»؛ لجواز ثبوت المعدومات في الخارج بدون وجود في الخارج، وبيانه تفصيلاً في الحاشية الاُولى من حواشينا على عدّة الاُصول.(3) .

ص: 215


1- حكى القرآن الكريم ذلك عنهم في الآية 17 و 72 من سورة المائدة : «لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوآاْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ...» .
2- حكى الفاضل المقداد في اللوامع الإلهيّة ، ص 160 عن جمع من المتصوّفة بحلوله في قلوب العارفين ، وحكاه العلاّمة في معارج الفهم ، ص 360 عن بعض الصوفيّة .
3- الحاشية الاُولى على عدّة الاُصول للمصنّف غير مطبوعة .

الباب الثالث عشر: باب آخر و هو من الباب الأوّل

الباب الثالث عشر بَابٌ آخَرُ وَ هُوَ مِنَ الْبَابِ الاْءَوَّلِ

فيه حديثان.

والفرق بين هذا الباب والباب الأوّل _ أي الذي قبله _ أنّ المقصود بالذات في الباب الأوّل إثبات أنّ له تعالى صفاتِ ذاتٍ، والمقصود بالذات في هذا الباب أنّ صفات ذاته تعالى عين ذاته بالمعنى الذي ذكرناه في الباب الأوّل.

الأوّل: (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ حَرِيزٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ: عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام أَنَّهُ قَالَ فِي صِفَةِ الْقَدِيمِ: إِنَّهُ وَاحِدٌ، صَمَدٌ، أَحَدِيُّ الْمَعْنى) .

المراد بالمعنى: الموجود في نفسه في الخارج، فإنّه مقصود بحمل الصفات عليه، سواء كان ذاتا أو صفةً أو جزءا لأحدهما.

(لَيْسَ بِمَعَانٍ كَثِيرَةٍ) . المراد بالمعاني هنا: الصفات الموجودة في أنفسها في الخارج المحمولة عليه تعالى، أو ما يشمل الأجزاء أيضا، أو ما يشمل أيضا ما يقوله أهل الاتّحاد كبعض النصارى حيث قالوا: إنّ اللّه هو المسيح بن مريم،(1) وكبعض الصوفيّة.(2)

لمّا كان الأهمّ هنا نفيَ كون صفاته تعالى موجودة في أنفسها في الخارج، جعل نفيه استئنافا مفسّرا ل «أحديّ المعنى»؛ أي ليس ببصير بصرا موجودا في الخارج، ولا

ص: 216


1- تقدّم قبل صفحتين .
2- تقدّم قبل صفحتين .

بسميع سمعا موجودا في الخارج، وعليه فقس.

(مُخْتَلِفَةٍ) أي متغايرة بالذات وحقيقةً، لا متغيّرة بالاعتبار حتّى يُقال: إنّكم أيضا قائلون بالمعاني الكثيرة؛ لأنّ ذات القديم تعالى من حيث إنّه عالم غير ذاته من حيث إنّه قادر وهو معنى.

(قَالَ: قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، يَزْعُمُ) أي يدّعي (قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ أَنَّهُ يَسْمَعُ بِغَيْرِ الَّذِي يُبْصِرُ، وَيُبْصِرُ بِغَيْرِ الَّذِي يَسْمَعُ؟) يعني ما به يسمع وما به يبصر موجودان في الخارج في نفسهما، وهما متغايران.

(قَالَ: فَقَالَ: كَذَبُوا) في زَعمهم (وَأَلْحَدُوا) أي مالوا عن الحقّ في صفاته تعالى، إشارة إلى قوله تعالى: «وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ»(1).

(وَشَبَّهُوا ) أي شبّهوه بخلقه.

(تَعَالَى اللّه ُ عَنْ ذلِكَ؛ إِنَّهُ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ، يَسْمَعُ بِمَا يُبْصِرُ، وَيُبْصِرُ بِمَا يَسْمَعُ) أي بنفس ذاته.

(قَالَ: قُلْتُ: يَزْعُمُونَ أَنَّهُ بَصِيرٌ عَلى) ؛ بنائيّة أو نهجيّة.

(مَا يَعْقِلُونَهُ؟)؛ بالمهملة والقاف.

توهّم السائل من قوله عليه السلام : «وشبّهوا» أنّ مراده التشبيه في الجسميّة والعين والاُذن، فقال: ليس مرادهم بما به يبصر العينَ، وبما به يسمع الاُذنَ حتّى يلزم تشبيه، بل مرادهم أمرٌ يعقلونه، فإنّهم يقولون: إنّ ما نعقله من مفهوم البصر ليس مفهوما اعتباريّا، بل هو موجود في الخارج في نفسه، وهو قائم به بدون آلة وجارحة، وكذا السمع.

(قَالَ: فَقَالَ: تَعَالَى اللّه ُ) أي هذا أيضا تشبيه ومرادي بالتشبيه هذا.

(إِنَّمَا يُعْقَلُ مَا كَانَ بِصِفَةِ الْمَخْلُوقِ) . دليل على بطلان زعمهم، وحاصله أنّ البصر الذي يعقلونه مخلوق، فإنّه لا يعقل إلاّ ما كان مخلوقا، فلزم التشبيه أي اتّصافه تعالى بالحوادث كخلقه، كما سيجيء في سادس «باب جوامع التوحيد». .

ص: 217


1- الأعراف (7) : 180 .

(لَيْسَ(1) اللّه ُ كَذلِكَ) أي ليس بصيرا على ما يعقلونه، متّصفا بما كان بصفة المخلوق.

الثاني: (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ هِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ، قَالَ : فِي حَدِيثِ الزِّنْدِيقِ _ الَّذِي سَأَلَ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام _ أَنَّهُ قَالَ لَهُ: وتَقُولُ:(2) إِنَّهُ سَمِيعٌ بَصِيرٌ؟ فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : هُوَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ، سَمِيعٌ بِغَيْرِ جَارِحَةٍ، وَبَصِيرٌ بِغَيْرِ آلَةٍ، بَلْ يَسْمَعُ بِنَفْسِهِ، وَيُبْصِرُ بِنَفْسِهِ، وَلَيْسَ قَوْلِي: إِنَّهُ سَمِيعٌ بِنَفْسِهِ أَنَّهُ شَيْءٌ وَالنَّفْسُ شَيْءٌ آخَرُ، وَلكِنِّي أَرَدْتُ عِبَارَةً عَنْ نَفْسِي؛ إِذْ كُنْتُ مَسْؤُولاً ، وَإِفْهَاما لَكَ؛ إِذْ كُنْتَ سَائِلاً، فَأَقُولُ: يَسْمَعُ بِكُلِّهِ لاَ أَنَّ كُلَّهُ لَهُ بَعْضٌ؛ لاِءَنَّ الْكُلَّ لَنَا لَهُ بَعْضٌ ، ولكِنْ أَرَدْتُ إِفْهَامَكَ، وَالتَّعْبِيرَ عَنْ نَفْسِي، وَلَيْسَ مَرْجِعِي فِي ذلِكَ كُلِّهِ إِلاَّ إِلى أَنَّهُ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ، الْعَالِمُ الْخَبِيرُ، بِلاَ اخْتِلاَفِ الذَّاتِ، وَلاَ اخْتِلاَفِ مَعْنىً) .

هذا الحديث مضى في سادس «باب إطلاق القول بأنّه تعالى شيء» وفيه تفاوت لا يحتاج إلى الشرح إلاّ قوله: «لأنّ الكلّ لنا له بعض»، وهو علّة للمنفيّ، أي لا يتوهّم من كون كلّنا ذا جزء كونُ كلّه ذا جزء. .

ص: 218


1- في الكافي المطبوع : «وليس» .
2- في الكافي المطبوع : «أتقول» بدل «وتقول» .

الباب الرابع عشر: باب الإرادة أنّها من صفات الفعل، و سائر صفات الفعل

اشارة

الباب الرابع عشر بَابُ الاْءِرَادَةِ أَنَّهَا مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ، وَ سَائِرِ صِفَاتِ الْفِعْلِ

فيه سبعة أحاديث، وشرح من المصنّف.

أي باب بيان أنّ الإرادة من صفات الفعل أي حادثة بحدوث الفعل، فقوله: «أنّها» بفتح الهمزة بدل اشتمال للإرادة.

وقوله: «وسائر»، بالجرّ معطوف على «الإرادة» أو بالنصب معطوف على اسم «أنّ».

وتفسير صفات الفعل يجيء في كلام المصنّف في ذيل الباب.

وهذا الباب لردّ ما اختاره أبو الحسين(1) من أنّ الإرادة عين الداعي،(2) والأشاعرة من أنّها أمرٌ شبيه بالعزم قديم،(3) ولردّ نحو ذلك في سائر صفات فعله. ولابدّ من تحرير محلّ النزاع لئلاّ يكون النزاع لفظيّا.

فنقول: إنّ المشيئة والإرادة والكراهة والغضب والرحم والرضا والسخط والحبّ والبغض ونحو ذلك ألفاظ مستعملة لغةً وشرعا على طبق اللغة في المخلوقات وفي الخالق تعالى بالاشتراك المعنوي، فلكلّ منها معنى لغوي هو المراد هنا، فإنّه لو اصطلح كلّ منازع على معنى غير ما اصطلح عليه الآخر، لم يكن النزاع

ص: 219


1- هو أبو الحسين البصري المتكلّم على مذهب المعتزلة الساكن في بغداد والدارس فيها ، والمتوفّى سنة 436 هجريّة . تاريخ بغداد ، ج 3 ، ص 10 ؛ وفيات الأعيان ، ج 4 ، ص 271 .
2- حكاه عن أبي الحسين البصري الخواجة في تلخيص المحصّل ، ص 281 ؛ والعلاّمة في معارج الفهم ، ص 299 ؛ والمحقّق اللاهيجي في شوارق الإلهام ، ص 552 عن محقّقي المعتزلة .
3- حكاه عنهم الخواجة في تلخيص المحصّل ، ص 281 ؛ والعلاّمة في أنوار الملكوت ، ص 137 .

معنويّا، والذي يتلخّص من استعمالات أهل اللغة للإرادة أنّها نوع تخصيص لأحد البدلين بالوقوع.

الأوّل: (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْعَطَّارُ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى الاْءَشْعَرِيِّ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ الاْءَهْوَازِيِّ، عَنِ النَّضْرِ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ: قُلْتُ: لَمْ يَزَلِ اللّه ُ مُرِيدا؟) أي للعالم فيما لا يزال.

(قَالَ: إِنَّ الْمُرِيدَ) أي لفعل نفسه (لاَ يَكُونُ) ؛ ناقصة.

(إِلاَّ لِمُرَادٍ) ؛ الظرف خبر «لا يكون» لأنّ الاستثناء مفرّغ، أي إلاّ مريدا لمراد.

(مَعَهُ) أي مع المريد وقت الإرادة.

إن قلت: ينتقض هذا بإرادة العبد شيئا بالعزم عليه.

قلت: هذا إنّما يرد لو جعل اللام في قوله: «المريد» للجنس، وأمّا إذا جعلت للعهد الخارجي، فالمقصود بيان موضع السؤال، وهو اللّه تعالى.

(لَمْ يَزَلِ اللّه ُ عَالِما) ؛ بأنّه سيوجد العالم في وقت كذا، وبوجوه المصالح والمفاسد.

(قَادِرا) على الإيجاد في وقت سيوجده فيه، فإنّ قدرته تعالى على فعل في وقت تتقدّم عليه، بخلاف قدرة العباد. وضمّ هذا لدفع توهّم أنّ العلم ينافي القدرة، كما يجيء في آخر «باب البداء».

ويحتمل أن يُراد أنّه كان قادرا في كلّ وقت من الأزل على أن يفعل العالم فيه وإنّما أخّره لعلمه بوجوه المصالح والمفاسد.

(ثُمَّ أَرَادَ) أي العالم في وقته.

الثاني: (مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْحَسَنِ، عَنْ بَكْرِ) ؛ بفتح الموحّدة مكبّرا.

(بْنِ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَسْبَاطٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ الْجَهْمِ، عَنْ بُكَيْرِ بْنِ أَعْيَنَ، قَالَ: قُلْتُ لاِءَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : عِلْمُ اللّه ِ وَمَشِيئَتُهُ) ؛ بفتح الميم وكسر المعجمة وسكون الخاتمة والهمز،

ص: 220

وقد تُقلب ياءً وتُدغم بمعنى مساوق للقدر المشترك بين الخصال الأربع الاُول(1) من السبع المذكورة في الباب الخامس والعشرين.(2)

(هُمَا مُخْتَلِفَانِ) أي متباينان، لا يصدق أحدهما على الآخر أصلاً.

(أَوْ مُتَّفِقَانِ؟) أي يصدق أحدهما على الآخر في الجملة.

(فَقَالَ: الْعِلْمُ لَيْسَ هُوَ الْمَشِيئَةَ) أي لا شيء من العلم مشيئة، وإنّما عرّف الخبر لأنّ من زعم أنّهما متّفقان ذهب إلى أنّ بعض العلم كلّ المشيئة، أي كلّ مشيئة علمٌ، بدون العكس الكلّي؛ فإنّه زعم أنّ المشيئة هي الداعي، أي العلم بالمصلحة.

(أَ لاَ تَرى أَنَّكَ تَقُولُ: سَأَفْعَلُ كَذَا إِنْ شَاءَ اللّه ُ، وَلاَ تَقُولُ: سَأَفْعَلُ كَذَا إِنْ عَلِمَ اللّه ُ) أي لو كان كلّ مشيئة علما، لاستلزم صحّةُ إن شاء اللّه صحّةَ إن علم اللّه ، وهو غير صحيح أي على الحقيقة دون المجاز؛ فلا ينافي صحّة الحكم بحدوث علمٍ استعمل مجازا في وقوع المعلوم، كما في قوله تعالى: «لِنَعْلَمَ أَىُّ الْحِزْبَيْنِ»(3)، ولمّا يعلم اللّه .

(فَقَوْلُكَ: «إِنْ شَاءَ اللّه ُ» دَلِيلٌ عَلى أَنَّهُ لَمْ يَشَأْ) أي بعض أفراد المشيئة لم يصدر عنه(4) بعدُ؛ لأنّ «إن» ناقلة للماضي إلى المضارع، ولا ينافي ذلك صدور بعض أفراد المشيئة قبل ذلك، كما يجيء في أوّل «باب في أنّه لا يكون» إلى آخره.

(فَإِذَا شَاءَ، كَانَ الَّذِي شَاءَ كَمَا شَاءَ ) .

حاصل الدليل: أنّه إن كان المنازع اصطلح على أن يقول للعلم بالمصلحة إنّها مشيئة، فلا نزاع في الاصطلاح، وإن ادّعى أنّ المشيئة بالمعنى اللغوي الذي ورد عليه القرآن والحديث ليست في اللّه تعالى إلاّ العلم بالمصلحة، فهذا باطل؛ لأنّ العقلاء في محاوراتهم لا يستعملون المشيئة إلاّ في أمرٍ متجدّد صادر عن الشائي بتبعيّة داع، ألا».

ص: 221


1- في «ج» : - «الأوّل» .
2- أي في باب أنّه لا يكون شيء في السماء والأرض إلاّبسبعة.
3- الكهف (18) : 12 .
4- في «ج»: «عنه لم يصدر».

ترى أنّك، إلى آخره.(1)

إن قلت: هذا الدليل يدلّ على أنّ بعض أفراد المشيئة _ وهو المشيئة لفعل الغير _ حادث والمنازع إنّما نزاعه في المشيئة لأفعال نفسه تعالى وتروكه.

قلت أوّلاً: لا يمكن حدوث مشيئة لفعل غيره إلاّ بحدوث مشيئة له لفعل نفسه أو تركه، ألا ترى أنّك تقول: سأفعل كذا إن شاء اللّه ما أفضى إلى فعلي، ولا تقول: إن علم اللّه . ويجيء في رابع الباب ورابع «باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين» ما يوضحه.

وثانيا: إنّ انتفاء الفرق معلوم من استعمالات اللغة، فإنّه يتلخّص من استعمالاتها أنّها صادرة عن الشائي لداع كما مرَّ آنفا، ولذا يقولون: إنّه تعالى قادر إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل، واستعمالات القرآن على طبق ذلك، كما في قوله تعالى في سورة إبراهيم: «إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ»(2).

والذي يتلخّص من استعمالات هذه اللفظة أنّ حدّها أنّها نوع تخصيص بسبب داع لأحد أمرين بينهما بدليّة بالوقوع،(3) وهو أعمّ مفهوما من العزم والإحداث والترك، ومن الأمر والنهي، والميل والشوق والتمنّي ونحو ذلك.

ومن استعمالاتها قوله تعالى في سورة النحل: «لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ»(4)، وقوله فيها: «وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللّه ُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَىْ ءٍ»(5).

(وَعِلْمُ اللّه ِ السَّابِقُ الْمَشِيئَةَ(6)) ؛ بالنصب على المفعوليّة لاسم الفاعل؛ لأنّه مع اللام.(7) ».

ص: 222


1- مراده من قوله : «ألاترى أنّك إلى آخره» أي : ألاترى أنّك تقول : سأفعل كذا إن شاء اللّه ، ولا تقول : سأفعل كذا إن علم اللّه .
2- إبراهيم (14): 19 .
3- في حاشية «أ» : «متعلّق بتخصيص (سمع)» .
4- النحل (16) : 31 .
5- النحل (16) : 35 .
6- في الكافي المطبوع : «للمشيئة» .
7- في حاشية «أ»: «قوله: لأنّه مع اللام، إشارةٌ إلى دفع توهّم هو أنّه لايجوز النصب هنا، لأنّ اسم الفاعل هنا ماض معنى، ومثله لا يعمل النصب على الأصحّ. وحاصل الدفع أنّ عدم الجواز إنّما هو إذا كان اسم الفاعل مجرّدا عن اللام، ولما كان هنا مع اللام جاز عمله النصب على ما بيّن في محلّه؛ فتأمّل (مهدي)».

و«السابق» إمّا بالموحّدة وإمّا بالهمز من ساق يسوق.

فعلى الأوّل ينبغي أن يُراد قصر علم اللّه في السابق قصرَ قلبٍ أي ليس العلم نفس المشيئة، بل هو أمرٌ سابق عليها.

وعلى الثاني ينبغي أن يُراد قصر السائق في علم اللّه ؛ أي علم العباد ليس سائقا لمشيئتهم. فهو إشارة إلى دليل آخر على أنّ العلم ليس هو المشيئة.

تقريره: أنّه لو كان كذلك، لامتنع بالذات انفكاك المشيئة عن العلم. وليس كذلك؛ لأنّ العلم الذي يدّعى أنّه المشيئة إمّا الداعي مطلقا، أو الداعي القويّ. والأوّل باطل؛ لأنّ الداعيين قد يكونان متعارضين متعلّقين بطرفي الفعل والترك من جهتين، كما في قوله تعالى: «وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا»(1)في «ج» : - «منعه» .(2)، والمشيئة لا تتعلّق إلاّ بأحدهما. والثاني قد تتخلّف عنه المشيئة في العباد، فعلمهم بالمصلحة قد لا يسوق منعه(2) المشيئة، فتتعلّق مشيّتهم بما علموا أنّ نقيضه أحسن منه، فلا يتّحدان؛ فعلم أنّ وقوع مشيئة اللّه تعالى على طبق علمه إنّما هو لسوق علم اللّه مشيئته بدليل خارج هو حكمته وعدله، وليس لاتّحاد العلم والمشيئة.

الثالث: (أَحْمَدُ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَحْيى، قَالَ: قُلْتُ لاِءَبِي الْحَسَنِ عليه السلام ) أي الرضا (أَخْبِرْنِي عَنِ الاْءِرَادَةِ) أي عن فرد الإرادة ومصداقها.

وليس المراد السؤال عن نفس مفهومها، فإنّها معلومة من اللغة كما مرّ آنفا، والمراد إرادة الفعل، فإنّ إرادة الترك يسمّى كراهة أي للفعل، كما في قوله تعالى في سورة التوبة: «وَلَكِنْ كَرِهَ اللّه ُ انْبِعَاثَهُمْ»(3)، ولأنّها العمدة، ويعلم إرادة الترك بالمقايسة.

(مِنَ اللّه ِ) أي الصادرة من اللّه . .

ص: 223


1- البقرة
2- : 219 .
3- التوبة (9) : 46 .

(وَمِنَ الْخَلْقِ؟) أي وعن الإرادة من المخلوق، والسؤال عن إرادتهما لفعل نفسهما.

(فَقَالَ(1): الاْءِرَادَةُ مِنَ الْخَلْقِ الضَّمِيرُ) . هو الاسم من أضمرت شيئا في نفسي: إذا أخفيته فيها.

والمراد به هنا العزم، أو الأعمّ منه ومن الميل والشوق والتمنّي والحيلة في التوسّل إلى فعل لنفسه ونحو ذلك. وليس المراد أنّه لا يمكن إرادة شيء في العبد إلاّ بالضمير؛ فإنّه يلزم التسلسل؛ لأنّ الضمير بمعنى العزم من الأفعال الاختياريّة.

(وَمَا يَبْدُو لَهُمْ) أي وما يتجدّد للخلق أن يفعله(2) بدون لزوم واضطرار، فالعائد مستتر في «يبدو». وهو إشارة إلى أنّ الضمير لا يوجب الفعل؛ لجواز أن ينفسخ.

(بَعْدَ ذلِكَ) أي بعد الضمير زمانا.

(مِنَ) ؛ بيانيّة ل«ما».

(الْفَعْلِ(3)) ؛ بالفتح، أي الإحداث للمراد.

(وَأَمَّا مِنَ اللّه ِ تَعَالى، فَإِرَادَتُهُ إِحْدَاثُهُ) أي إحداثه المراد.

(لاَ غَيْرُ ذلِكَ) أي لا يتحقّق فيه ضمير أصلاً.

إن قلت: إذا كان مشيئته تعالى الإحداثَ، كان قولنا: إن شاء اللّه فعل كذا لغوا؛ لاتّحاد الشرط والجزاء فيه؟

قلت: المشيئة لشيء أعمّ من إحداث ذلك الشيء؛ لأنّها تتحقّق(4) بإحداث شيء آخر لأن يفضي إلى ذلك الشيء كما مرَّ آنفا، فلا اتّحاد.

(لاِءَنَّهُ لاَ يُرَوِّئ) ؛ بالمهملة وشدّ الواو والهمز، تقول: روّأت في الأمر تَرْوِئَةً وترويئا(5) بالهمز فيهما: إذا نظرت فيه ولم تعجّل بجواب. والاسم: الرويّة، بفتح الراء وكسر الواو».

ص: 224


1- في الكافي المطبوع : «قال : فقال» بدل «فقال» .
2- في حاشية «أ» : «يفعلوه» ظ .
3- في الكافي المطبوع : «الفِعل» بكسر الفاء .
4- في «ج»: «يتحقق».
5- في «ج»: «تروئا».

وشدّ الخاتمة،(1) جرت في كلامهم بغير همز، وأصلها الهمز.

(وَلاَ يَهُمُّ) ؛ بصيغة المعلوم من المجرّد، من همّ بالشيء يَهُمُّ بالضمّ همّا _ والاسم: الهمّة بكسر الهاء _ : إذا قصده.

(وَلاَ يَتَفَكَّرُ) ؛ بصيغة المعلوم من باب التفعّل. والتفكّر: الانتقال من ضميرٍ إلى ضمير.

(وَهذِهِ الصِّفَاتُ مَنْفِيَّةٌ عَنْهُ، وَهِيَ صِفَاتُ الْخَلْقِ) . أي المخلوق.

(فَإِرَادَةُ اللّه ِ الْفَعْلُ هِيَ(2)) ؛ بالفتح، أي الإحداث للمراد.

(لاَ غَيْرُ ذلِكَ؛ يَقُولُ لَهُ) أي للمراد: («كُنْ» فَيَكُونُ بِلاَ لَفْظٍ، وَلاَ نُطْقٍ بِلِسَانٍ) أي استعمال القول. و«كن» على سبيل الاستعارة التمثيليّة.

(وَلاَ هَمٍّ،(3) وَلاَ تَفَكُّرٍ) ؛ بالجرّ والتنوين.

(وَلاَ كَيْفَ لِذلِكَ) ؛ مبنيّ على الفتح، و«لا» لنفي الجنس، ويحتمل الجرّ والتنوين.

والكيف خصوصيّة موجودة في نفسها تعرض الشيء، يعني لا كيف لذلك القول؛ لأنّه ليس كلاما حقيقةً حتّى يكون موجودا في نفسه ومحلاًّ لموجود آخر، بل محض نفوذ الإرادة.

(كَمَا أَنَّهُ) . الكاف للتعليل، نحو: تجاوز اللّه عنه كما لا يعلم. وضمير «أنّه» للّه أو للشأن.

(لاَ كَيْفَ لَهُ) أي للّه .

الرابع: (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ أُذَيْنَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ: خَلَقَ اللّه ُ الْمَشِيئَةَ بِنَفْسِهَا، ثُمَّ خَلَقَ الاْءَشْيَاءَ بِالْمَشِيئَةِ) أي ليس المشيئة عين الداعي، بل هي أمرٌ تابع للداعي، وصادر بخلق وتدبير. والمشيئة: الإحداث كما مرّ في ثالث الباب. .

ص: 225


1- لسان العرب ، ج 1 ، ص 90 (روأ) .
2- في الكافي المطبوع : «الفِعلِ» بالكسر بدل «هي الفَعل» .
3- في الكافي المطبوع : «همّة» .

وقد بيّن ذلك بحيث يندفع به إشكال يورد في المشهور على حدوث الإحداث، وهو أنّه لو كان كذلك، لكان أيضا ممكنا حادثا محتاجا إلى إحداث آخر وهكذا، ويلزم التسلسل.

وحاصل الدفع: أنّ إحداث الإحداث بنفس ذلك الإحداث لا بإحداثٍ آخَرَ، وسرّه أنّ الصادر عن الفاعل حقيقةً هو المعلول، وليس الإحداث صادرا عنه حقيقةً، بل هو نفس المعلول لكن لا حقيقة، بل بمعنى أنّ مصداقه نفس المعلول، أي هو منتزع عن الفاعل في مرتبة صدور المعلول عنه تبعا للداعي، فإحداث المعلول حقيقةً منسوب إليه بالعرض.

وهذا الإشكال قويّ على أبي الحسين وأتباعه الذين تبعوا الفلاسفة في أنّ الإيجاد مقدّم بالذات على المعلول، فإنّ الإحداث إذا استقلّ بمرتبة على حدة، استحال تحقّقها بدون إحداثٍ آخَرَ يتعلّق به على حدة.

فجوابهم عن الإشكال بأنّ التأثير أمرٌ اعتباري لا حاجة له إلى تأثير، إنّما يتمّ على ما بيّنّاه لا على مذهبهم.

والباء هنا مثلها في قولهم: ماهيّة الشيء ما به الشيء هو هو.

ولفظة «ثمّ» للتعجّب باعتبار أنّ كون إيجادٍ واحدٍ منسوبا إلى حادثين باعتبارين: أحدهما نفسه، والآخر غيره، عجيبٌ.

واعلم أنّه يحتمل أن يكون المراد بالحديث دفع إشكال آخر هو للمعتزلة في قولنا: ما شاء اللّه كان، وما لم يشأ لم يكن، فإنّهم يقولون: يستحيل أن يشاء اللّه قبيحا.

وحاصل الدفع: أنّ خلقه تعالى متعلّق بكلّ واقع من الأفعال والتروك، لكنّه على قسمين:

الأوّل: خلقه لأفعال نفسه أو تروكه تعالى، وهو بمشيئة متعلّقة بها أوّلاً وبالذات.

الثاني: خلقه لأفعال العباد أو تروكهم، وهو بمشيئة متعلّقة بها ثانيا وبالعرض؛ فمعنى مشيئة اللّه لمعاصي العباد أنّه خلق أشياءً بمشيئة لها أوّلاً وبالذات، وعلم أنّها يفضي إلى اختيار العباد المعاصي، فهذه المشيئة بعينها تنسب إلى المعاصي بالعرض؛ لا أنّ له تعالى مشيئةً على حدة منسوبةً على حدة إلى المعاصي.

ص: 226

وهذا الاحتمال ألصق بما روى ابن بابويه في كتاب التوحيد في «باب المشيئة والإرادة» قال: قال أبو عبداللّه عليه السلام : «خلق اللّه المشيئة قبل الأشياء، ثمّ خلق الأشياء بالمشيئة».(1)

إن قلت: كيف يتعلّق الخلق بالمشيئة والخلق أيضا من صفات الفعل؟

قلت: فيه مسامحة، والمراد تعلّقه بما شاء. ويمكن أن يكون المراد بالمشيئة مصداقَ المشيئة، وهو الماء الذي خلق أوّلاً، وكان مادّة سائر الأشياء، كما يجيء في «كتاب الحجّة» في ثاني «باب نادر فيه ذكر الغيب».(2)

الخامس: (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْبَرْقِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى، عَنِ الْمَشْرِقِيِّ) ؛ بفتح الميم، وسكون المعجمة، وكسر المهملة والقاف.

(حَمْزَةَ بْنِ الْمُرْتَفِعِ) ؛ بكسر الفاء.

(عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا، قَالَ: كُنْتُ فِي مَجْلِسِ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام إِذْ دَخَلَ عَلَيْهِ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ) . هو من رؤساء المعتزلة،(3) ويجيء خبث عقيدته في «كتاب الجهاد» في «باب دخول عمرو بن عبيد والمعتزلة على أبي عبداللّه عليه السلام ».(4)

(فَقَالَ لَهُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، قَوْلُ اللّه ِ تَبَارَكَ وَتَعَالى) في سورة طه: («وَ مَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِى فَقَدْ هَوى»(5) مَا ذلِكَ الْغَضَبُ؟ فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام : هُوَ الْعِقَابُ) أي لا الكيفيّة الموجودة في الخارج في نفسها تعتري الإنسان، وتسمّى بالطيش والنزق والخفّة ونحو ذلك.

(يَا عَمْرُو؛ إِنَّهُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ اللّه َ قَدْ زَالَ مِنْ شَيْءٍ) أي من صفة موجودة في الخارج في نفسها هي الرحمة. .

ص: 227


1- التوحيد ، ص 339 ، باب المشيئة والإرادة ، ح 8 .
2- الكافي ، ج 1 ، ص 256 ، باب نادر فيه ذكر الغيب ، ح 2 .
3- ذكره ابن حبان في المجروحين ، ج 2 ،ص 69 وقال : «اعتزل مجلس الحسن ومعه جماعة فسمّوا المعتزلة ، وكان يشتم أصحاب محمّد صلى الله عليه و آله ويكذب في الحديث» .
4- الكافي ، ج 5 ، ص 23 ، باب دخول عمرو بن عبيد والمعتزلة على أبي عبد اللّه عليه السلام .
5- طآه (20) : 81 .

(إِلى شَيْءٍ) أي صفة موجودة في الخارج في نفسها هي الطيش.

(فَقَدْ وَصَفَهُ صِفَةَ) ؛ مفعول مطلق، أو منصوب بنزع الخافض؛ أي بصفة.

(مَخْلُوقٍ، وَ إِنَّ اللّه َ عَزَّوَجَلَّ(1) لاَ يَسْتَفِزُّهُ(2) شَيْءٌ؛ فَيُغَيِّرَهُ) . يُقال: استفزّه(3) الخوف، أي استخفّه وجعله غير مطمئنّ؛ يعني إنّما يكون الرحمة والغضب فيمن يخافُ من شيء، فلا يجريان في اللّه تعالى.

السادس: (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ هِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ فِي حَدِيثِ الزِّنْدِيقِ الَّذِي سَأَلَ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام فَكَانَ مِنْ سُوءَالِهِ: أَنْ قَالَ لَهُ: فَلَهُ رِضا وَسُخْطٌ؟(4)) بالضمّ وضمّتين وفتحتين، مصدر باب علم: الغضب.

(فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : نَعَمْ، وَلكِنْ لَيْسَ ذلِكَ عَلى) نهجيّة (مَا يُوجَدُ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ) أي مصداقهما فيه غير مصداقهما في المخلوقين.

(وَذلِكَ أَنَّ) أي لأنّ (الرِّضَا) أي مصداق الرضا من المخلوق.

(حَالٌ) أي صفة موجودة في نفسها في الخارج.

(تَدْخُلُ عَلَيْهِ) أي على المخلوق.

(فَتَنْقُلُهُ مِنْ حَالٍ) هي مصداق السخط.

(إِلى حَالٍ) هي مصداق الرضا.

(لاِءَنَّ الْمَخْلُوقَ أَجْوَفُ) أي محلّ الصفات والتغييرات.

(مُعْتَمَلٌ(5)) . اسم مفعول من باب الافتعال؛ أي معمول من أصناف من الأجزاء.

(مُرَكَّبٌ) . اسم مفعول من باب التفعيل؛ أي جعل فيه صفات جبليّة كالجُبن والبُخل .

ص: 228


1- في الكافي المطبوع : «تعالى» .
2- في «ج» : «يستفذّه» .
3- في «ج» : «استفذّه» .
4- في الكافي المطبوع : «سَخَط» بفتحتين .
5- في الكافي المطبوع : «معتمِل» بكسر الميم .

والحسد ونحو ذلك وأضدادها.

(لِلاْءَشْيَاءِ فِيهِ مَدْخَلٌ) . هذا نتيجة للأوصاف الثلاثة. والمدخل مصدر ميمي؛ أي يتّصف بالأشياء بعدما لم يتّصف.

(وَخَالِقُنَا لاَ مَدْخَلَ لِلاْءَشْيَاءِ فِيهِ؛ لاِءَنَّهُ وَاحِدٌ) أي لا اختلاف فيه ولا تفاوت ولا زيادة ولا نقصان، كما سيجيء بعد «باب حدوث الأسماء» في أوّل «باب آخر»(1) وهذا ناظر إلى «أجوف».

(وَأَحَدِيُّ الذَّاتِ) . الواو للعطف؛ أي ذاته أحديّ لا أجزاء فيه أصلاً، وهذا ناظر إلى «معتمل».

(وَأَحَدِيُّ الْمَعْنى) . المراد بالمعنى الموجود في نفسه في الخارج، أي ليس فيه صفة موجودة في الخارج في نفسها أصلاً كما أنّه لا جزء له. وهذا ناظر إلى «مركّب»، فالنشر على ترتيب اللفّ.

(فَرِضَاهُ ثَوَابُهُ، وَسَخَطُهُ عِقَابُهُ، مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ يَتَدَاخَلُهُ) أي يداخله. والمراد دخول كلّ جزء من أحدهما في جزء من الآخر.

(فَيُهَيِّجُهُ) ؛ بشدّ الخاتمة.

(وَيَنْقُلُهُ مِنْ حَالٍ) هي الاطمئنان (إِلى حَالٍ) هي الطيش.

(لاِءَنَّ ذلِكَ) أي الشيء المتداخل.

(مِنْ صِفَةِ الْمَخْلُوقِينَ الْعَاجِزِينَ) : الخائفين من وقوع مضرّ يعجزون عن دفعه.

(الْمُحْتَاجِينَ) : الخائفين من فوت نفع يحتاجون إليه، فيستفزّهم الخوفان.

السابع: (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ ، عَنِ ابْنِ أُذَيْنَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ: الْمَشِيئَةُ مُحْدَثَةٌ) ؛ بفتح الدال المخفّفة، أي حادثة. .

ص: 229


1- أي الحديث 1 من باب آخر وهو من الباب الأوّل .

وليس المراد أنّها يتعلّق بها إحداثٌ حقيقةً، إلاّ أن يُراد بالمشيئة مصداقها، وهو الماء، كما ذكرنا في شرح رابع الباب. وهذا للردّ على كونها نفس الداعي.

ويحتمل كسر الدال، أي يستحيل أن لا يحدث ما شاء اللّه كما شاء، فهو للردّ على التفويض. وسيجيء بيانه في أوّل «باب في أنّه لا يكون شيء» إلى آخره، لكن لا يناسب الباب.

الشرح

(جُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي صِفَاتِ الذَّاتِ وَصِفَاتِ الْفِعْلِ) . هذا إلى آخر الباب كلام المصنّف رحمه اللّه .

قيل:(1) حاصل الكلام أنّه ذكر معيارين للتمييز بين صفات الذات وبين صفات الفعل:

أحدهما: أنّ كلّ صفة من صفاته تعالى يوجد هي في حقّه تعالى دون نقيضها، فهي من صفات الذات؛ وكلّ صفة توجد هي ونقيضها في حقّه تعالى، فهي من صفات الفعل.

وثانيهما: أنّ كلّ صفة يمكن أن تتعلّق بها قدرته تعالى وإرادته، فهي من صفات الفعل، وكلّ صفة ليست كذلك، فهي من صفات الذات، انتهى.

(إِنَّ كُلَّ شَيْئَيْنِ) أي صفتين متقابلتين.

(وَصَفْتَ اللّه َ بِهِمَا) أي بكلّ منهما وصفا موافقا لنفس الأمر. وهذا للاحتراز عن شيئين لم يوصف إلاّ بأحدهما، فإنّهما إن كانا جميعا في الوجود، كان ما يوصف به منهما من صفات الذات كالعلم والجهل، وإن لم يكونا جميعا في الوجود، فإن كان ما يوصف به منهما الطرف الوجودي، كان من صفات الذات كالحياة وعدم الحياة، وإن كان ما يوصف به منهما الطرف العدمي، كان من صفات التمجيد والتقديس كالأين وعدم الأين، ولا يسمّى صفة فعل ولا صفة ذات.

ص: 230


1- في حاشية «أ» : «ا م ن (منه سلمه اللّه )». والظاهر أنّ المراد منه محمّد أمين الإسترابادي في حاشيته على الكافي .

(وَكَانَا جَمِيعا فِي الْوُجُودِ). المراد بالوجود مقابل العدم، وبكونهما في الوجود أن يكون لكلّ منهما حصّة من جانب الوجود كالمتقابلين تقابلَ العدم والملكة، أو تقابل التضادّ، أو التضايف.

وهذا للاحتراز عن شيئين: أحدهما:(1) سلب محض للآخر؛ أي تقابلهما تقابل السلب والإيجاب كالعلم وعدم العلم، فإنّ اللّه تعالى يتّصف بكلّ منهما من جهتين، وليس شيء منهما من صفات الفعل، بل الوجودي من صفات الذات، والعدمي لا يسمّى باسم.

أمّا اتّصافه تعالى بالعلم فظاهر، وأمّا اتّصافه تعالى بعدم العلم فإنّه تعالى لا يعلم لنفسه شريكا؛ قال تعالى في سورة يونس: «قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّه َ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِى السَّمَوَاتِ وَلاَ فِى الاْءَرْضِ»(2)، وفي سورة الرعد: «أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِى الاْءَرْضِ»(3)، ولا يعلم في بعض الكفّار خيرا؛ قال تعالى: «لَوْ عَلِمَ اللّه ُ فِيهِمْ خَيْرا لاَءَسْمَعَهُمْ»(4)، وليس كلّ صفات الذات كذلك، فإنّه تعالى لا يتّصف بنقيض الحياة أصلاً.

أو المراد بالوجود القدرة، ومنه الحديث: «لَيُّ الواجد يُحلّ عقوبتَه وعرضَه»(5) أي القادر على قضاء دينه. ويقال: أوجده بعد ضعف، أي قوّاه. فالمراد بكونهما في الوجود كونهما مقدورين للّه تعالى، أو المراد بالوجود المقدور مسامحةً، وبكونهما في الوجود تعلّقهما بمقدور.

إن قلت: هل يجوز أن يكون مراد المصنّف رحمه الله بكونهما في الوجود تعلّقهما .

ص: 231


1- في حاشية «أ» : «هذا مع ما بعده صفة شيئين» .
2- يونس (10) : 18 .
3- الرعد (13) : 33 .
4- الأنفال (8) : 23 .
5- الأمالي للطوسي ، ص 520 ، المجلس 18 ، ح 53 . وعنه في وسائل الشيعة ، ج 18 ، ص 333 ، ح 23792 ؛ تذكرة الفقهاء ، ج 14 ، ص 66 ؛ عوالي اللآلي ، ج 4 ، ص 72 ، ح 44 . ورواه من العامّة أحمد في مسنده ، ج 4 ، ص 222 و ص 389 ؛ والبخاري في صحيحه ، ج 3 ، ص 85 ، كتاب الاستقراض ؛ وابن ماجة في سننه ، ج 2 ، ص 811 ، ح 2427 . والليّ : المطل ، والعقوبة حبسه ، والمغرض الإغلاظ له في القول .

بموجود(1) أو بثابت،(2) أو كون الوصف بكلّ منهما حقّا موافقا لنفس الأمر؟

قلت: لا يجوز؛ لأنّه يلزم أن يكون القدرة بمعنى صحّة الفعل والترك من صفات الفعل؛ لأنّ نقيض قدرته تعالى يتعلّق بنفسه تعالى، وهو موجود وثابت.

(فَذلِكَ) أي كلّ منهما (صِفَةُ فِعْلٍ؛ وَتَفْسِيرُ هذِهِ الْجُمْلَةِ) أي توضيحها بالأمثلة لها ولقسيمها المعلوم منها بالمقايسة، أي صفات الذات.

(أَنَّكَ تُثْبِتُ) ؛ بضمّ تاء المضارعة، أي تَعْلَمُ.

(فِي الْوُجُودِ) أي فيما يتعلّق به الطرف الذي فيه حصّة من جانب الوجود.

(مَا يُرِيدُ) وهو كلّ كائن من الممكنات.

(وَمَا لاَ يُرِيدُ) وهو ما يكرهه، كما في قوله تعالى في سورة التوبة: «وَلَكِنْ كَرِهَ اللّه ُ انْبِعَاثَهُمْ»(3).

(وَمَا يَرْضَاهُ وَمَا يَسْخَطُهُ، وَمَا يُحِبُّ وَمَا يُبْغِضُ). يجيء في سادس «باب النوادر»(4): تفسير للرضا والسخط ونحوهما. ويجيء في خامس «باب المشيّة والإرادة» قوله: «لم يحبّ أن يقال: ثالث ثلاثة ولم يرض لعباده الكفر».

(فَلَوْ كَانَتِ الاْءِرَادَةُ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ) . هي الصفات التي كانت في الوجود، ووصفت اللّه بها ولم تصفه بمقابلاتها التي هي في الوجود.

(مِثْلِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ، كَانَ مَا لاَ يُرِيدُ) أي إثبات ما لا يريد في الوجود.

(نَاقِضا لِتِلْكَ الصِّفَةِ) أي مناقضا لأصل إثباتها، فيلزم اجتماع النقيضين.

(وَلَوْ كَانَ مَا يُحِبُّ) ؛ أي حبّه.

(مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ، كَانَ مَا يُبْغِضُ) أي البغض، أو إثبات ما يبغض. .

ص: 232


1- في حاشية «أ» : «أي في الخارج (سمع)» .
2- في حاشية «أ» : «أي فقي نفس الأمر بناءً على ثبوت المعدومات في نفس الأمر (سمع)» .
3- التوبة (9) : 46 .
4- أي باب النوادر من كتاب التوحيد .

(نَاقِضا لِتِلْكَ الصِّفَةِ؛ أَ لاَ تَرى أَنَّا لاَ نَجِدُ فِي الْوُجُودِ مَا لاَ يَعْلَمُ) ؛ بصيغة المعلوم، وفيه ضمير اللّه ، أي مع قيد يخرجه عن السلب المحض، ويعطيه حصّة من جانب الوجود، كأن يُقال «لا يعلم» ومن شأنه أن يُعلَم.

وإنّما قال: «في الوجود» لئلاّ ينتقض بعدم علمه تعالى بالمنفيّ المحض كالشريك.

(وَمَا لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ ) بأن يُقال: «لا يقدر عليه» ومن شأنه أن يكون مقدورا، ولولا قوله: «في الوجود» لانتقض بعدم قدرته، بمعنى صحّة الفعل والترك على نفسه.

(وَكَذلِكَ صِفَاتُ ذَاتِهِ تعالى) أي مثل ما قلنا في العلم والقدرة سائر صفات ذاته تعالى. وهو إشارة إلى الحدّ الذي ذكرنا آنفا لصفات الذات.

(الأزليّة). إشارة إلى فصل آخر في حدّ صفات الذات بدل قولنا: «ولم تصفه» إلى آخره. فيحصل حدّ آخر لصفات الذات، وهي صفاته التي كانت في الوجود، وكانت أزليّةً.

(لَسْنَا نَصِفُهُ) . استئناف لبيان الحدّين لصفات الذات؛ أي لا نصفه البتّة؛ لقبح هذا الوصف وبطلانه. وهذا ناظر إلى الحدّ الأوّل.

(بِقُدْرَةٍ) على بعض (وَعَجْزٍ) عن آخر. ومعنى العجز عدم القدرة على ما من شأنه أن يكون مقدورا.

(وَذِلَّةٍ(1))؛ بكسر المعجمة، هي عدم القدرة بالاستقلال على ما من شأنه أن يكون مقدورا بالاستقلال، فيجتمع مع أصل القدرة كما في العباد بالنسبة إلى أفعالهم الاختياريّة، ومقابلها العزّة. والمراد: لا نصفه بعزّة بالنسبة إلى بعض، وذلّة بالنسبة إلى آخر.

(وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ). عودٌ إلى مثال صفات الفعل لتوضيح الحدّ الأوّل لصفات الذات.

(يُحِبُّ مَنْ أَطَاعَهُ) أي ينصره، أو يأمر بإطاعته ويثيبه.

(وَيُبْغِضُ مَنْ عَصَاهُ) أي يخذله، أو ينهى عن عصيانه ويعاقبه. .

ص: 233


1- في الكافي المطبوع : «بقدرة وعجز ، وعلمٍ وجهلٍ ، وسفهٍ وحكمةٍ وخطاء ، وعزٍّ وذلة» .

(وَيُوَالِي) أي ينصر (مَنْ أَطَاعَهُ، وَيُعَادِي مَنْ عَصَاهُ، وَإِنَّهُ يَرْضى) عن بعض (وَيَسْخَطُ) على آخر.

(وَيُقَالُ فِي الدُّعَاءِ: اللّهُمَّ ارْضَ عَنِّي، وَلاَ تَسْخَطْ عَلَيَّ).(1) كأنّه لتوضيح الحدّ الثاني بأمثلة قسيمه قدّم على بيان نفس الحدّ الثاني؛ أي كلّ منهما مقدور للّه تعالى وبإرادته.

(وَلاَ يَجُوزُ) . هذا لبيان نفس الحدّ الثاني، وحاصله أنّ الأزلي ليس بقدرة اللّه تعالى ولا بإرادته.

(أَنْ يُقَالَ: يَقْدِرُ أَنْ يَعْلَمَ) أي ما علمه.

(وَلاَ) ؛ للعطف، أي ولا أن يُقال: (يَقْدِرُ أَنْ لاَ يَعْلَمَ) أي ما لم يعلمه كالشريك.

وهذا تأسيس لكن ذكره بتقريب، فإنّ عدم العلم ليس من صفات الذات.

ويمكن أن يكون المراد أنّ عدم علمه بما علمه ليس بقدرته، فيكون تأكيدا؛ لأنّ القدرة نسبتها إلى الطرفين على سواء إلاّ عند الأشعري.(2)

(وَيَقْدِرُ) أي ولا يجوز أن يُقال: يقدر (أَنْ يَمْلِكَ، ولاَ) ؛ للعطف.

(يَقْدِرُ أَنْ لاَ يَمْلِكَ، وَيَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ عَزِيزا حَكِيما، وَلاَ يَقْدِرُ أَنْ لاَ يَكُونَ عَزِيزا حَكِيما، وَيَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ جَوَادا، وَلاَ يَقْدِرُ أَنْ لاَ يَكُونَ جَوَادا، وَيَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ غَفُورا، وَلاَ يَقْدِرُ أَنْ لاَ يَكُونَ غَفُورا) .

لفظة «لا» العاطفة غير موجودة في الفقرة الثانية أيضا من الأمثلة الأخيرة في بعض النسخ، والأولى حذفها في غير المثال الأوّل؛ لأنّ ذكرها في الفقرة الثانية مع حذفها في الاُولى غير حَسَن.

(ولاَ يَجُوزُ أَيْضا أَنْ يُقَالَ). هذا أيضا لتوضيح الحدّ الثاني.

(أَرَادَ أَنْ يَكُونَ رَبّا) . سيجيء تفسير الربّ وأزليّته في رابع «باب جوامع التوحيد». .

ص: 234


1- في الكافي المطبوع : + «وَتَوَلَّنِي وَلاَ تُعَادِنِي» .
2- حكاه عن الأشاعرة الخواجة نصير الدين الطوسي في تلخيص المحصّل ، ص 167 ؛ والعلاّمة الحلّي في معارج الفهم ، ص 274 .

(وَقَدِيما وَعَزِيزا وَحَكِيما وَمَالِكا وَعَالِما وَقَادِرا؛ لاِءَنَّ) أي ليس سرّه إلاّ أنّ (هذِهِ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ، وَالاْءِرَادَةُ مِنْ صِفَاتِ الْفِعْلِ) .

وفيه ردّ على الأشاعرة حيث ذهبوا إلى أنّ قدرته تعالى تابعة لإرادته، كما قيل في تفسير سورة طه(1) عند قوله تعالى: «وَإِنْ تَجْهَرْ»(2).

إن قلت: لا يجوز أيضا أن يُقال: أراد أن يكون مريدا؛ للزوم التسلسل في الإرادات، فيلزم أن لا تكون الإرادة من صفات الفعل؟

قلت: لا يلزم؛ لأنّ هذا ليس حدّا على حدة لصفات الذات، بل لبيان الحدّ الثاني بأنّ كلّ أزليّ ممّا لا يمكن تعلّق الإرادة به، ولا يجب العكس كلّيّا، على أنّا لا نسلّم أنّه لا يجوز أن يُقال: أراد أن يكون مريدا؛ لما مرَّ في رابع الباب من أنّ إرادة الإرادة عين الإرادة.

(أَ لاَ تَرى أَنَّهُ يُقَالُ: أَرَادَ هذَا وَلَمْ يُرِدْ هذَا) أي ممّا من شأنه أن يُراد.

(وَصِفَاتُ الذَّاتِ) . عاد إلى بيان الحدّ الأوّل.

(يُنْفى(3)) ؛ بصيغة المجهول. والمراد أنّه ينفي بالكلّيّة، ولا يمكن أن يتحقّق أصلاً.

(عَنْهُ بِكُلِّ صِفَةٍ مِنْهَا ضِدُّهَا) أي مقابلها الذي هو في الوجود.

(يُقَالُ: حَيٌّ وَعَالِمٌ وَسَمِيعٌ وَبَصِيرٌ وَعَزِيزٌ وَحَكِيمٌ، غَنِيٌّ). ظاهره جعل «عزيز» و«غنيّ» من صفات الذات، ولا ضير؛ لأنّه يختلف استعمالهما، وأراد بهما هنا ما في الوجود. ويحتمل بعيدا أن يكون اصطلاح المصنّف تعميم صفات الذات بحيث تشمل صفات التمجيد أيضا. .

ص: 235


1- تفسير البيضاوي ، ج 3 ، ص 70 قال : «ولمّا كانت القدرة تابعة للإرادة وهي لا تنقكّ عن العلم عقب ذلك بإحاطة علمه تعالى بجليّات الاُمور وخفيّاتها على سواء ، فقال : «وَ إِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ و يَعْلَمُ السِّرَّ وَ أَخْفَى» أي وإن تجهر بذكر اللّه ودعائه فاعلم أنّه غنّي عن جهرك ؛ فإنّه يعلم السرّ وأخفى منه ، وهو ضمير النفس» .
2- طآه (20) : 7 .
3- في الكافي المطبوع : «تَنْفِي» بصيغة المعلوم .

(مَلِكٌ، حَلِيمٌ، عَدْلٌ، كَرِيمٌ؛ فَالْعِلْمُ ضِدُّهُ الْجَهْلُ، وَالْقُدْرَةُ ضِدُّهَا الْعَجْزُ، وَالْحَيَاةُ ضِدُّهَا الْمَوْتُ، وَالْعِزَّةُ ضِدُّهَا الذِّلَّةُ، وَالْحِكْمَةُ) . هي مجموع الفهم، أي الفطانة والعقل، أي التأدّب بالآداب الحسنة بالفكر الصائب ونحوه، كما مضى في «كتاب العقل» في ثاني عشر «باب العقل والجهل».(1)

(ضِدُّهَا الْخَطَأُ) أي في الفكر، فهو ضدّ لها باعتبار اشتمالها على العقل.

(وَضِدُّ الْحِلْمِ الْعَجَلَةُ وَالْجَهْلُ). هو مشترك بين ضدّ العلم وضدّ العقل وضدّ الحلم.

(وَضِدُّ الْعَدْلِ الْجَوْرُ وَالْظُّلْمُ). .

ص: 236


1- في حاشية «أ» : «في ذيل قوله عليه السلام : يا هشام إنّ اللّه يقول في كتابه : «إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ» يعني عقل ، وقال : «وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ» قال : الفهم والعقل» .

الباب الخامس عشر: باب حدوث الأسماء

الباب الخامس عشر بَابُ حُدُوثِ الاْءَسْمَاءِ

فيه أربعة أحاديث.

المراد بالأسماء ما هي أجزاء للكلام النفسي، وتحمل عليه تعالى مواطأةً كالعالم، وهي متّحدة بالذات مع الصفات التي هي مفهومات المبادئ كالعلم، مغايرة لها بالاعتبار.

ولا ينافي حدوث الأسماء بهذا الاعتبار قدمها باعتبار أنّها محكيّ الكلام النفسي، ولا وجود لها في نفسها أصلاً، كما مرّ في سادس الثاني(1) في شرح قوله: «لأنّا لم نكلّف غير موهوم».

وهذا الباب للردّ على الأشاعرة في قولهم بقدم الكلام النفسي من القرآن ونحوه؛(2) لأنّ إثبات حدوث الأسماء يثبت حدوث الكلام بطريقٍ أولى، كما أنّ قدم الكلام يستلزم قدم الأسماء بطريقٍ أولى؛ وللردّ على القائلين بأنّ بعض أسمائه تعالى علم لذاته؛(3) وللردّ على الأشاعرة في قولهم بقدم المعاني القائمة بذاته تعالى بناءً على وجود الأشياء بأنفسها في الأذهان؛(4) وللردّ على المعتزلة القائلين بعينيّة صفاته تعالى له حقيقةً.(5)

ص: 237


1- أي في الحديث 6 من باب إطلاق القول بأنه شيء .
2- المواقف للإيجي، ج 3، ص 140 _ 143؛ حاشية الشريف الجرجاني على الكشّاف، ص 4؛ محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين، ص 250؛ الأربعون في اُصول الدين للرازي، ج 1، ص 249؛ شرح المواقف، ج 8، ص 93. وانظر معارج الفهم للعلاّمة، ص 307.
3- اُنظر تفسير الرازي ، ج 1 ، ص 271 ؛ تفسير البيضاوي ، ج 1 ، ص 34 .
4- المواقف للإيجي ، ج 3 ، ص 85 و 138 و 302 ؛ شرح المواقف ، ج 8 ، ص 36 و 98 و 207 .
5- حكاه عن جماعة من المعتزلة التفتازاني في شرح المقاصد ، ج 2 ، ص 72 . وانظر شرح المواقف ، ج 8 ، ص 45 ؛ ومعارج الفهم للعلاّمة ، ص 389 .

الأوّل: (عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ أَبِي حَمَّادٍ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ يَزِيدَ)؛ بفتح الخاتمة. (عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ: إِنَّ اللّه َ _ تَبَارَكَ وَتَعَالى _ خَلَقَ اسْما) . خلقنا الشيء: تقديرنا إيّاه قبل فعله، وهو في اللّه تعالى المستحيلِ عليه الفكُر إيجادُ أمر ليفضي إليه كإيجاده اللوح المحفوظ ليكتب فيه الإسم.

وقوله: «اسما» بصيغة المفرد؛ أي أمرا يصلح لأن يكون جزءا للكلام النفسي. وهو بيان صفة جامعة لصفاته تعالى جميعا، وهو الاسم الأعظم، وفي الدعاء: «اللّهُمَّ إنّي أسألُكَ باسمك الأعظم الأعظم الأعظم».(1) ووجهه ما يفهم ممّا يجيء في هذا الحديث من أنّه أعظم من كلّ من الأجزاء الأربعة، وكلّ من ثلاثة منها أعظم من كلّ من أجزائه التي هي من الأركان الاثني عشر، وكلّ من الأركان الاثني عشر أعظم من أجزائه التي هي من الأسماء الثلاثمائة والستّين.

(بِالْحُرُوفِ) ؛ متعلّق بمتصوّت.

(غَيْرَ) ؛ بالنصب على أنّه صفة «اسما»، وكذا نظائره، وهو مضاف إلى:

(مُتَصَوَّتٍ) ؛ بالمهملة وفتح الواو المشدّدة والمثنّاة فوق؛ أي ليس خلقه الاسم بإيجاد صوت.

(وَبِاللَّفْظِ غَيْرَ مُنْطَقٍ ) ؛ بفتح المهملة المخفّفة، من أنطق بالشيء: إذا تلفّظ به، أو عرّضه للتلفّظ به.

(وَبِالشَّخْصِ) أي بالمعيّن من الموجود في نفسه في الخارج، أو بالجسم كبدن الإنسان والجنّ والملائكة.

(غَيْرَ مُجَسَّدٍ)؛ بفتح السين المشدّدة، يُقال: صوتٌ مجسّد؛ أي مرقوم على نغمات ولحنة.

(وَبِالتَّشْبِيهِ) باسم آخر له تعالى، أو لخلقه تعالى. .

ص: 238


1- الكافي ، ج 4 ، ص 452 _ 453 ، باب دعاء الدم ، ح 1 و 3 ؛ الفقيه ، ج 2 ، ص 532 ، دعاء الطواف ؛ وص 568 ، ح 3158 ؛ تهذيب الأحكام ، ج 3 ، ص 96 ، ح 30 ؛ وسائل الشيعة ، ج 13 ، ص 463 ، ح 18219 ؛ وص 465 ، ح 18221 .

(غَيْرَ مَوْصُوفٍ) أي غير مبيّن؛ من وصفه: إذا بيّنه. وذلك لأنّه أعظم من كلّ اسم، ولا يشبه الأعلى بالأدنى.

(وَبِاللَّوْنِ غَيْرَ مَصْبُوغٍ) ؛ بالموحّدة والمعجمة، أو بالنون والمهملة. وعلى التقديرين المراد أنّه ليس مكتوبا، فإنّ غالب الكتابة بالمداد، وهذا من المجاز في النسبة، فإنّ الاسم إذا كتب لم يصر بذلك مصبوغا حقيقةً، وقوله:

(مَنْفِيٌّ عَنْهُ) ؛ مبتدأ.

(الاْءَقْطَارُ) . فاعل «منفيّ» قائم مقام الخبر، وهذا صحيح عند الأخفش والكوفيّين وإن لم يكن بعد النفي أو الاستفهام.(1) والأقطار جمع قطر بالضمّ: الناحية.

(مُبْعَدٌ) ؛ على لفظ اسم المفعول، من باب الإفعال أو التفعيل.

(عَنْهُ الْحُدُودُ) أي الأطراف.

(مَحْجُوبٌ) أي ممنوع.

(عَنْهُ حِسُّ كُلِّ مُتَوَهِّمٍ، مُسْتَتِرٌ) ؛ على لفظ اسم الفاعل؛ أي خفيّ.

(غَيْرُ مَسْتُورٍ) أي ليس خفاؤه بأمر سُتر عليه.

(فَجَعَلَهُ) . الفاء للبيان، والضمير المنصوب للاسم.

(كَلِمَةً تَامَّةً) أبي جامعة لجميع أسمائه تعالى.

(عَلى أَرْبَعَةِ أَجْزَاءٍ) أي مبنيّة على أربعة أجزاء.

(مَعا) ؛ اسمٌ بدليل التنوين، وهو حال عن أربعة أجزاء. ومعناه «جميعا» عند ابن مالك.(2) وقال ثعلب: إذا قلت: جاءا جميعا، احتمل أنّ فعلهما في وقت [واحد] أو في وقتين، وإذا قلت: جاءا معا، فالوقت واحد. انتهى.(3) فعلى الأوّل قوله:

(لَيْسَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا(4) قَبْلَ الاْآخَرِ) ، مقيّدٌ لقوله: «معا». وعلى الثاني موضح له، وهو .

ص: 239


1- حكاه عنهما ابن هشام في مغني اللبيب ، ج 2 ، ص 444 .
2- حكاه عنه ابن هشام في مغني اللبيب ، ج 1 ، ص 439 .
3- حكاه عنه ابن هشام في مغني اللبيب ، ج 1 ، ص 439 . ومابين المعقوفين من المغني .
4- في الكافي المطبوع : «منها واحد» . وفي «ج» : «واحد منها» .

استئناف بياني أو حال اُخرى.

ومعنى القبليّة كونه جزءا لآخر.

(فَأَظْهَرَ مِنْهَا ثَلاَثَةَ أَسْمَاءٍ) أي أظهر على المكلّفين منها ثلاثة أجزاء بنصب الأدلّة الدالّة عليها، كوضع ثلاثة؛ ألفاظ لها وإثباتها له تعالى.

(لِفَاقَةِ الْخَلْقِ إِلَيْهَا) . يعني أنّ المقصود بإظهارها أن يعرفوا صانعهم بالوجوه الثلاثة، فيدعوه بها ويعبدوه، لا أن يعرفوا نفس الوجوه الثلاثة؛ لما تبيّن في موضعه من الفرق بين العلم بالشيء بالوجه، والعلم بوجه الشيء.

(وَحَجَبَ مِنْهَا) أي من الأربعة الأجزاء (وَاحِدا ) .

هذا هو المراد بما في نهج البلاغة في خطبة أوّلها: «الحمد للّه الذي بطن خفيّات الاُمور» من قوله عليه السلام : «لم يطلع العقول على تحديد صفته، ولم يحجبها عن واجب معرفته».(1)

(وَهُوَ) أي الواحد المحجوب، أو الاسم الأعظم. ويبعّد هذا قولُه فيما بعد: «وحجب الاسم الواحد» إلى آخره.

(الاِسْمُ الْمَكْنُونُ الْمَخْزُونُ) أي ما اشتهر على ألسنة الداعين في قولهم: «اللّهمّ إنّي أسألك باسمك المكنون المخزون».(2)

والمراد أنّه محجوب عن العامّة، أو محجوب بعضه؛ فلا ينافي إظهار بعضه لخزّان علمه المقرّبين لديه. سيجيء في «كتاب الحجّة» في «باب ما اُعطي الأئمّة عليهم السلام من اسم اللّه الأعظم» أنّ اسم اللّه الأعظم على ثلاثة وسبعين حرفا، واُعطي منها آصف حرفا، واُعطي منها عيسى حرفين، وموسى أربعةً، وإبراهيم ثمانيةً، ونوح خمسة عشر، وآدم خمسة وعشرين، ومحمّد وأهل بيته عليهم السلام اثنين وسبعين، وحرف عند اللّه تبارك وتعالى .

ص: 240


1- نهج البلاغة ، ص 87 ، الخطبة 49 .
2- الفقيه ، ج 1 ، ص 324 ، ح 949 ؛ تهذيب الأحكام ، ج 2 ، ص 108 ، ح 178 ؛ معاني الأخبار ، ص 139 ، باب معنى المخبيات ، ح 1 ؛ وسائل الشيعة ، ج 6 ، ص 485 ، ح 8506 .

استأثر به في علم الغيب.(1)

(فَهذِهِ) ؛ مبتدأ وإشارة إلى الثلاثة.

(الاْءَسْمَاءُ) ؛ خبر المبتدأ؛ أي يرجع إلى إحدى هذه الثلاثة كلّ واحدٍ من الأسماء. ويحتمل أن يكون صفة هذه.

(الَّتِي ظَهَرَتْ ) ؛ صفة الأسماء، أو خبر المبتدأ.

(فَالظَّاهِرُ هُوَ اللّه ُ تَبَارَكَ وَتَعَالى) . يمكن توجيهه بوجهين:

الأوّل: أن يكون الفاء للتفريع على ما سبق باعتبار اشتماله على قوله: «لفاقة الخلق إليها» ويكون «الظاهر» مبتدأ، ويكون «هو» خبر المبتدأ وراجعا إلى ذات صانع العالم، فإنّه مقصود لكلّ ذهن، ويكون «اللّه » بدلاً عن الضمير الغائب أو عطف بيان له؛ أي فالظاهر بهذه الثلاثة؛ يعني فالمقصود بالظهور بالذات بهذه الثلاثة ذات صانع العالم بالوجوه الثلاثة. وإنّما خصّ لفظ «اللّه » لأنّه جارٍ مجرى العَلَم لذاته، وحينئذٍ قوله تبارك وتعالى ليس داخلاً في خبر المبتدأ.

قال ابن فهد في كتاب عدّة الداعي عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: «رأيت الخضر عليه السلام في المنام قبل بدر بليلة، فقلت له: علّمني شيئا اُنصر به على الأعداء؟ فقال: قل: يا هو، يا من لا هو إلاّ هو. فلمّا أصبحت قصصتها على رسول اللّه صلى الله عليه و آله فقال: ياعليّ عُلِّمت الاسم الأعظم، فكان على لساني يوم بدر». وأنّ أمير المؤمنين عليه السلام قرأ «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» فلمّا فرغ قال: «يا هو، يا من لا هو إلاّ هو، اغفر لي، وانصرني على القوم الكافرين». وكان عليه السلام يقول ذلك يوم صفّين وهو يطارد. انتهى.(2)

الثاني: أن يكون الفاء للتعقيب والتفصيل، ويكون «هو» ضمير الفصل، ويكون خبر المبتدأ مجموعَ قوله: «اللّه تبارك وتعالى» يعني فالظاهر من جملة الأربعة ما يفهم من .

ص: 241


1- الكافي ، ج 1 ، ص 230 ، ح 2.
2- عدّة الداعي ، ص 262 ، في الأدعية التي تستدفع بها المكاره . وانظر التوحيد للصدوق ، ص 89 باب تفسير «قل هو اللّه أحد» إلى آخرها ، ح 2 ؛ مجمع البيان ، ج 10 ، ص 486 ، تفسير سورة الاخلاص .

هذا اللفظ من الأسماء فأحدها:(1) ما يدلّ عليه لفظ «اللّه »، وثانيها: ما يفهم من لفظ «تبارك»، وثالثها: ما يفهم من لفظ «تعالى». ولا بأس بكون الأخيرين بلفظ الجملة؛ لأنّه قد يحكى الاسم على ما هو المشهور في استعماله في القرآن ونحوه، كما يجيء في هذا الحديث من قوله: «لاَ تَأْخُذُهُو سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ»(2) ولذا كان الثالث مع حرف العطف دون الثاني. وكما في الدعاء المأثور: «اللّهُمَّ إنّي أسألُكَ باسمك بسم اللّه الرحمن الرحيم».(3) ويؤيّد هذا وجود حرف العطف في الثاني أيضا في بعض النسخ الصحيحة من كتاب التوحيد لابن بابويه هكذا: «فالظاهر هو اللّه وتبارك وسبحان».(4)

وهذا موافق لما روى ابن بابويه في كتاب كمال الدِّين وتمام النِّعمة عن أبي القاسم بن روح قدّس اللّه روحه أنّه سأله رجل: ما معنى قول العبّاس للنبيّ صلى الله عليه و آله : إنّ عمّك أبا طالب قد أسلم بحساب الجمّل، وعقد بيده ثلاثة وستّين؟ فقال: عنى بذلك إله أحد جواد. انتهى.(5)

فإنّ إلها واللّه واحد، وكذا «جواد» و«تبارك» واحد، هو من أعطى كلّ شيءٍ خلقه؛ أي تدبيره اللائق به، وكذا «أحد» و«تعالى» واحد؛ فإنّ المراد بأحد المنفرد عمّا يوجب حاجة كالشريك أو الجزء أو نحو ذلك، وبالمتعالي المنزّهُ عن النقص.

قيل: «أحد»(6) يدلّ على مجامع صفات الجلال كما دلَّ «اللّه » على جميع صفات الكمال؛ إذ الواحد الحقيقي ما يكون منزّه الذات عن أنحاء التركيب والتعدّد وما يستلزم أحدهما كالجسميّة والتحيّز والمشاركة في الحقيقة وخواصّها كوجوب الوجود .

ص: 242


1- في «ج» : «فأحدهما» .
2- البقرة (2) : 255 .
3- تهذيب الأحكام، ج 3، ص 114، دعاء أوّل يوم من شهر رمضان؛ وص 124، ح 268، وداع شهر رمضان؛ مصباح المتهجّد، ص 338، صلاة اُخرى للحاجة؛ وص 664، دعاء اوّل يوم من شهر رمضان.
4- التوحيد ، ص 191 ، باب أسماء اللّه ، ح 3 .
5- كمال الدين ، ص 520 ، الباب الخامس والأربعون ، ح 48 .
6- في «ج» : «أحدا» .

والقدرة الذاتيّة والحكمة التامّة المقتضية للاُلوهيّة. انتهى.(1)

فيشتمل هذه الأسماء الثلاثة إجمالاً على ما ظهر من جميع صفات الذات وجميع صفات الفعل وجميع صفات التمجيد.

وقول الرجل: «وعقد بيده ثلاثة وستّين» مبنيّ على قاعدة وضعها القدماء في صور أصابع اليدين لضبط الواحد إلى عشرة آلاف، وصورة الثلاثة والستّين أن يثني الخنصر والبنصر والوسطى من اليمنى للثلاثة، كما هو المعهود بين الناس في عدّ الواحد إلى الثلاثة، لكن يوضع رؤوس الأنامل في هذه العقود قريبة من اُصولها، وأن يوضع للستّين ظفر إبهام اليمنى على باطن العقدة الثانية للسبّابة، كما يفعله(2) الرُّماة.(3)

(وَسَخَّرَ سُبْحَانَهُ لِكُلِّ اسْمٍ مِنْ هذِهِ الاْءَسْمَاءِ أَرْبَعَةَ أَرْكَانٍ) . التسخير: التذليل، واستعير هنا للتفصيل؛ لأنّ الكلّ مبنيّ على الأجزاء، فكأنّ كلّ جزء منه حامل له كالمركوب للراكب؛ أي وفصل كلّ اسم من الأسماء الثلاثة على أربعة أسماء، كلّ اسم منها جزءٌ من أجزائه، والجزء يسمّى ركنا. ويمكن أن يكون تسميته ركنا باعتبار أنّه أصل للاثني عشر، كما يجيء بُعَيْدَ هذا. وهذا ألصق بقوله:

(فَذلِكَ اثْنَا عَشَرَ رُكْنا، ثُمَّ خَلَقَ لِكُلِّ رُكْنٍ مِنْهَا ثَلاَثِينَ اسْما فِعْلاً) . المراد بالفعل مقابل القوّة، أي ليس متّصلاً بسائر الأسماء حتّى يكون قوّة كنصف الجسم المفرد.

(مَنْسُوبا إِلَيْهَا) أي إلى الأسماء الثلاثة بأن يكون تفصيلاً وتابعا لها، وذلك بتوسّط الأركان الاثني عشر. أو الضمير راجع إلى الأركان باعتبار دلالة قوله: «كلّ ركن» عليها. ويبعّد هذا قوله فيما بعد: «فهي نسبة لهذه الأسماء الثلاثة».

(فَهُوَ) . الضمير راجع إلى مرجع ضمير «هو» في قوله: «فالظاهر هو اللّه » أي فذات اللّه تبارك وتعالى. .

ص: 243


1- تفسير البيضاوي ، ج 5 ، ص 547 ، تفسير سورة الإخلاص .
2- في «ج» : «يفعل» .
3- نقل هذا الكلام مع تفصيل أكثر الشيخ عليّ أكبر غفاري فى حاشيته على معاني الأخبار ، ص 285 باب معنى إسلام أبي طالب بحساب الجمل من هامش النسخة التي تفضّل بها عليه السيد المرعشي .

(الرَّحْمنُ، الرَّحِيمُ، الْمَلِكُ، الْقُدُّوسُ، الْخَالِقُ، الْبَارِئُ) ؛ بالموحّدة وكسر المهملة والهمز: ما لا يشابه مخلوقه.

(الْمُصَوِّرُ «الْحَىُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ» الْعَلِيمُ، الْخَبِيرُ، السَّمِيعُ، الْبَصِيرُ، الْحَكِيمُ، الْعَزِيزُ، الْجَبَّارُ، الْمُتَكَبِّرُ، الْعَلِيُّ، الْعَظِيمُ، الْمُقْتَدِرُ، الْقَادِرُ، السَّلاَمُ، الْمُوءْمِنُ، الْمُهَيْمِنُ ، الْبَارِي) ؛ بالموحّدة وكسر المهملة والخاتمة: المصلح؛ من برى السهم من باب ضرب: إذا نَحَتَهُ.

(الْمُنْشِئُ، الْبَدِيعُ، الرَّفِيعُ، الْجَلِيلُ، الْكَرِيمُ، الرَّازِقُ، الْمُحْيِي، الْمُمِيتُ، الْبَاعِثُ، الْوَارِثُ. فَهذِهِ الاْءَسْمَاءُ وَمَا كَانَ مِنَ الاْءَسْمَاءِ الْحُسْنى حَتّى تَتِمَّ(1) ثَلاَثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ اسْما) ؛ حاصلة من ضرب الاثني عشر ركنا في ثلاثين اسما.

(فَهِيَ) . تكرار لقوله: «فهذه الأسماء» إلى آخره؛ لبُعد العهد.

(نِسْبَةٌ لِهذِهِ الاْءَسْمَاءِ الثَّلاَثَةِ، وَهذِهِ الاْءَسْمَاءُ الثَّلاَثَةُ(2) أَرْكَانٌ) أي دالّة على فعل منسوب إليها.

(وَحَجَبَ الاِسْمَ الْوَاحِدَ) من الأربعة.

(الْمَكْنُونَ الْمَخْزُونَ بِهذِهِ الاْءَسْمَاءِ الثَّلاَثَةِ). الظرف متعلّق بقوله: «حجب» لما أظهر هذه ولم يظهره كانت كالستر عليه.

(وَذلِكَ قَوْلُهُ تَعَالى) أي مدلول قوله تعالى في سورة بني إسرائيل:

(«قُلِ ادْعُواْ اللّهَ») الذي هو جارٍ مجرى العَلَم للذات، أو أوّل الأركان الأوّليّة.

(«أَوِ ادْعُواْ الرَّحْم_نَ») الذي هو أوّل النسب الثلاثمائة والستّين.

(«أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الاْءَسْمَآءُ الْحُسْنَى»(3)) . هذا معنى الحديث.

وأمّا تعيين الأركان الاثني عشر، وتعيين كلّ أربعة أركان من الأركان الاثني عشر .

ص: 244


1- في «أ» : «يتمَّ» .
2- في المخطوطتين: - «وهذه الأسماء الثلاثة».
3- الإسراء (17) : 110 .

لواحد من الثلاثة بعينه، وتعيين الثلاثمائة والستّين اسما، وتعيين كلّ ثلاثين منها لواحد من الاثني عشر بعينه، فخارج عن المعنى الذي يقصد المتكلّم إلقاءه في ذهن السامع، ولعلّه من الغيب الذي لا يعلم بدون توقيف.

الثاني: (أَحْمَدُ بْنُ إِدْرِيسَ ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللّه ِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللّه ِ وَمُوسَى بْنِ عُمَرَ وَالْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عُثْمَانَ، عَنِ ابْنِ سِنَانٍ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا الْحَسَنِ الرِّضَا عليه السلام : هَلْ كَانَ اللّه ُ _ عَزَّ وَجَلَّ _ عَارِفا بِنَفْسِهِ) أي بحقيقتها وكنه ذاتها.

(قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: يَرَاهَا) ؛ بفتح الخاتمة للمضارعة والمهملة، أي هل كان يعرفها معرفةً محيطة بها كالرؤية، بأن تتعلّق بخصوصيّتها على الوجه الجزئي الحقيقي، أو بها وبكنه ذاتها أيضا.

وإنّما ذكر السائل ذلك لأنّ تلك المعرفة مصحّحة لتسمية نفسه باسمٍ عَلَمٍ لها، فهذا ليس مقصودا بالذات بالسؤال، بل هو تمهيد للسؤال في قوله:

(وَيُسْمِعُهَا؟(1)) بالخاتمة المضمومة للمضارعة، وسكون المهملة، وكسر الميم، ومهملة، والمفعول الثاني محذوف؛ أي يسمعها اسما لها. ويمكن أن يكون هنا تحريف من الناسخين بأن يكون الأصل «ويسمّيها».

(قَالَ: مَا كَانَ مُحْتَاجا إِلى ذلِكَ) أي إلى أن يسمعها، أو إلى أن يسمّيها.

(لاِءَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَسْأَلُهَا) أي شيئا.

(وَلاَ يَطْلُبُ مِنْهَا) أي ولم يكن يطلب منها شيئا؛ فهو عطف تفسير على قوله: «يسألها».

(هُوَ نَفْسُهُ، وَنَفْسُهُ هُوَ) . وقوله:

(قُدْرَتُهُ نَافِذَةٌ) ، استئنافٌ بياني؛ دفعا لتوهّم أن يُقال: إنّ الشخص قد يفكّر ويطلب من نفسه الإقدام على أمر تهجم عنه؛ لخوفها من العجز عنه، أو لمشقّةٍ لها فيه وإن كان .

ص: 245


1- في الكافي المطبوع : «وَيَسْمَعُها» .

لفظ الطلب فيه مجازا، وربّما سمّي نفسه حينئذٍ، مع أنّه نفسه ونفسه هو.

(فَلَيْسَ يَحْتَاجُ إلى أَنْ يُسَمِّيَ نَفْسَهُ، وَ لكِنَّهُ اخْتَارَ لِنَفْسِهِ أَسْمَاءً) ؛ جمع «اسم».

(لِغَيْرِهِ يَدْعُوهُ بِهَا) . المراد بالدعاء النداء، كقولنا: «يا اللّه ، يا رحمن، يا رحيم» حين العبادة وطلب الحاجة.

(لاِءَنَّهُ إِذَا لَمْ يَدْعُ بِاسْمِهِ، لَمْ يَعْرِفْ(1)) . الضمير المنصوب لغيره أو للشأن أو للّه ، والفعلان على الأوّل بصيغة المعلوم، وعلى الثاني بصيغة المعلوم أو المجهول، وعلى الثالث بصيغة المجهول. والمراد أنّ الداعي بغير اسمه إنّما يعرف غيره، وإنّما يعبد غيره كالمجسّمة؛ أو المراد أنّه تعالى يعرف نفسه بغير حاجة إلى اسم، بخلاف غيره.

(فَأَوَّلُ مَا اخْتَارَ لِنَفْسِهِ: الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) . الفاء للتفصيل. والمراد أنّ الأوّل «العليّ» ثمّ «العظيم» الذي مضى في أوّل الباب يدلّ على أنّ أوّل أسمائه الاسم الأعظم، ثمّ الأربعة، ثمّ الاثنا عشر، وأنّ «العليّ العظيم» من الأسماء الثلاثمائة والستّين، فوجه الجمع بينهما أنّ الأوّليّة في أوّل الباب باعتبار جعل المبدأ أشمل الأسماء، وهنا باعتبار جعل المبدأ أقدم الأسماء التي يجعلها العبد وسيلة لمعرفة اللّه .

بيان ذلك: أنّ الإنسان إذا بلغ حدّ التمييز، وشرع في النظر في مخلوق بلا حركة ولا آلة ولا علاج، بل بمحض نفوذ الإرادة وقول «كُن» علم أوّلاً أنّ له خالقا برئا من كلّ نقص، وهو المراد بالعليّ، ومتّصفا بكلّ كمال، وهو المراد بالعظيم، ثمّ يتدرّج إلى تفصيل أسماء اللّه تعالى حتّى يبلغ مقصوده، وهو معرفة أنّه اللّه ، أي معرفة أنّه الذي خلق السماوات والأرض بقول «كُن»، وهو المعبود بالحقّ، وإذا بلغ ذلك بلغ أقصى المطلوب منه في معرفة الخالق، وهو معرفة المعبود بالحقّ.

(لاِءَنَّهُ أَعْلَى الاْءَشْيَاءِ كُلِّهَا) . الضمير للعليّ العظيم، و«أعلى» أفعل التفضيل، والمراد: أظهر، استعير من العلوّ المكاني باعتبار أنّ المتوجّه إلى بلد مثلاً إنّما يظهر عليه أوّلاً العمارات المرتفعة. والمراد بالأشياء: الأسماء التي تجعل وسيلة لمعرفة اللّه . .

ص: 246


1- في الكافي المطبوع : «لم يُدْعَ باسمه ، لم يُعرَفْ» بدل «لم يَدْعُ باسمه ، لم يَعْرف» .

(فَمَعْنَاهُ: اللّه ُ، وَاسْمُهُ: الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ) . المراد بالمعنى: المطلوب بالذات، والضميران للّه ، أي فأقصى مطلوبه من غيره معرفة أنّه اللّه ، أي المعبود بالحقّ كما مرّ آنفا. و«اسمه» الذي اختاره لغيره ليكون وسيلة لمعرفة اللّه العليّ العظيم.

ويمكن أن يكون الضميران لغيره، أي فمقصود الغير الذي ينظر في ملكوت السماوات والأرض ويتتبّع الأسماء معرفة اللّه . والاسم الذي يجعله ذلك الغير وسيلة لمعرفة ذلك المقصود هو العليّ العظيم.

(هُوَ أَوَّلُ أَسْمَائِهِ عَلاَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) . ضمير «هو» للعليّ العظيم، وضمير «أسمائه» للغير أو للّه ، والجملة استئناف بياني لقوله: «واسمه العليّ العظيم»، و«علا» فعل ماضٍ مستعار من العلوّ المكاني، والضمير المستتر للعليّ العظيم، و«على» حرف جرّ، و«كلّ شيء» بمعنى كلّ اسم. والمقصود أنّه ليس أوّليّته إلاّ لأنّه أظهر الأسماء عند الناظر في المخلوقات المتتبّع للأسماء.

الثالث: (وَبِهذَا الاْءِسْنَادِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ، قَالَ: سَأَلْتُهُ) أي أبا الحسن الرضا عليه السلام .

(عَنِ الاِسْمِ: مَا هُوَ؟ قَالَ: صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ) . الصفة مصدر وصفه يصفه كضرب: إذا بيّنه ونعته. والمراد هنا ما يبيّن به، والمقصود أنّ كلّ اسم من أسمائه تعالى لبيان وجه من وجوهه، وليس شيء منها عَلَما ولا اسمَ جنس. ويمكن أن يُراد بالصفة ما قام بغيره كالعلم والقدرة، ويكون المقصود بيان أنّ المشتقّ والمبدأ متّحدان بالذات، متغايران بالاعتبار؛ فالعالم هو العلم باعتبار أنّه لذات موصوف به.

الرابع: (مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ، عَنْ بَكْرِ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ صَالِحٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدِ) . قيل: الظاهر «عن خالد» كذا في كتاب التوحيد. انتهى.(1) .

ص: 247


1- في حاشية «أ» : «القائل مولانا محمّد أمين رحمه الله (منه)» . وانظر التوحيد ، ص 192 ، باب أسماء اللّه ، ح 6 .

(ابْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ الاْءَعْلى، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ).

المقصود بهذا الحديث بيان خمسة اُمور:

الأوّل: أنّه ليس اسم من أسمائه تعالى مفهوما عَلَميّا، كما توهّمه الأشاعرة في اللّه أو الرحمن أيضا؛(1) ولا نفسَ ذاته تعالى حقيقةً، كما توهّمه المعتزلة حيث قالوا: هو تعالى العلم القائم بنفسه بمعنى عدم القيام بالغير، وكذا في سائر صفات ذاته.(2)

الثاني: أنّه ليس اسم من أسمائه تعالى موجودا في نفسه في الخارج، قائما به تعالى قياما حقيقيّا، كما توهّمه الأشاعرة القائلون بالمعاني القديمة.(3)

ويظهر بمجموع هذين الأمرين أنّ شيئا من أسمائه ليس قديما.

الثالث: أنّه لا يمكن معرفة كنه ذاته ولا شخصه ولو بأقصى ما بلغ إليه تدقيقات أذهان المخلوقين.

الرابع: أنّه ليس في الممكنات مجرّد، فليس كمثله شيء.

الخامس: بطلان قول الفلاسفة الزنادقة: إنّ كلّ حادث مسبوق بمادّة قديمة متحرّكة لا ابتداء لحركتها، كما نقل عن ابن سينا في أوّل الأوّل(4) عند شرح الدليل الثاني.(5)

وأشار إلى الأمر الأوّل بقوله:

(اسْمُ اللّه ِ غَيْرُهُ) .(6) المراد بالاسم ما هو جزء للكلام النفسي، ويحمل عليه تعالى مواطأةً كالعالم. .

ص: 248


1- اُنظر تفسير الرازي ، ج 1 ، ص 108 ؛ شرح المواقف ، ج 8 ، ص 207 ؛ شرح المقاصد ، ج 2 ، ص 169 .
2- حكاه في تفسير الرازي ، ج 1 ، ص 108 عن المعتزلة ؛ شرح المواقف ، ج 8 ، ص 207 ؛ شرح المقاصد ، ج 2 ، ص 169 .
3- حكاه عن الأشاعرة ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ، ج 1 ، ص 74 ؛ وج 20 ، ص 227 .
4- أي الحديث 1 من كتاب العقل والجهل .
5- الشفاء ، ص 373 ، فضل 1 ، انتشارات ناصر خسرو ، الطبعة الاُولى .
6- في حاشية «أ» : «اسم اللّه غيره ، سواء اُريد به اللفظ ، أو الكتابة ، أو المفهوم الذي يفتقر في وجوده وتعلّقه إلى غيره . وهذا الحكم ظاهر» الوافي ، ج 1 ، ص 468 ، ذيل ح 378 .

وهذا إبطال لكون اسم من أسمائه تعالى عين المسمّى، والمسمّى عينَ ذاته تعالى، كما مضى بيانه في أوّل الخامس.(1)

وأشار إلى الأمر الثاني بقوله:

(وَكُلُّ شَيْءٍ) أي موجود في نفسه.

(وَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ «شَيْءٍ»(2)) ؛ للتعميم من قبيل: «طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ»(3)في «ج» : «ظهره» .(4).

(فَهُوَ مَخْلُوقٌ) أي حادث، سواء كان باعتبار وجوده في نفسه في الأذهان، أم باعتبار وجوده في نفسه في الخارج.

وهذا إبطال لكون اسم من أسمائه عينَ المسمّى، والمسمّى معنىً قائما بذاته تعالى كما مضى بيانه في أوّل الخامس(5) أيضا.

(مَا خَلاَ اللّه َ) . لمّا كان هنا مظنّة أن يتوهّم أنّ الكلام في نحو الألفاظ، لا فيما وضعت الألفاظ له، أشار إلى دفع هذا التوهّم بقوله:

(فَأَمَّا مَا عَبَرَتْهُ(6) الاْءَلْسُنُ) . هو اللفظ، و«عبرت» بالمهملة والموحّدة ومهملة بصيغة المعلوم للغائبة من باب نصر؛ يُقال: عبر النهرَ: إذا مرَّ به وتجاوزه تدريجا. وهذا الوصف لتوضيح الحكم الذي بعده.

(أَوْ عَمِلَتِ الاْءَيْدِي) ؛ هو النقش والكتابة.

(فَهُوَ مَخْلُوقٌ) أي مخلوق البتّة، لا مجال لتوهّم أحد أنّه ليس بمخلوق. وليس كلامنا فيه.

(وَاللّه ُ) ؛ مبتدأ، أي ما وضع له لفظ اللّه . أجرى الكلام في اسم اللّه على سبيل المثال؛ لأنّه قد يتوهّم أنّه عَلَم، فإذا ظهر مغايرته، ظهر(6) مغايرة سائر الأسماء بطريقٍ أولى. .

ص: 249


1- أي في الحديث 1 من باب المعبود .
2- في حاشية «أ» : «ما خلا اللّه ، أي ما خلا ذاته . ومعناه المسمّى باسم اللّه » . الوافي ، ج 1 ، ص 468 ، ذيل ح 378 .
3- الأنعام
4- : 38 .
5- أي في الحديث 1 من باب المعبود .
6- في الكافي المطبوع : «عَبَّرَتْهُ» بالتشديد .

(غَايَةٌ) ؛ خبره. والغاية: الراية. والمراد هنا العلاّمة.

(مِنْ(1)) ؛ بكسر الميم للتبعيض.

(غَايَاتِهِ(2)) ؛ جمع غاية. والضمير راجع إلى اللّه المذكور في قوله: «اسم اللّه غيره».

عاد عليه السلام بعد دفع التوهّم إلى توضيح الأمر الأوّل بدفع توهّمٍ آخَرَ، هو أن يخصّص هذا الحكم بما عدا هذا الاسم، بأن يجعل نفسَ المسمّى أي عَلَما لذاته تعالى، كما توهّمه قوم؛(3) فأفاد أنّ اللّه _ أي ما وضع هذا اللفظ له وهو ما يفهم من إطلاقه _ غايةٌ من غاياته، أي صفة من صفاته كسائر أسمائه. استعار لفظ «الغاية» لصفة من لا يعرف إلاّ بالصفة؛ تشبيها لها بالراية التي هي علامة مَن هي له.

(وَالْمَعْنى(4)) . في بعض النسخ بفتح الميم وسكون المهملة والنون والألف؛ أي الموجود في نفسه الذي يقصد بالغاية. وفي بعض النسخ بضمّ الميم وفتح المعجمة وتشديد الخاتمة والألف، أو بسكون المعجمة وتخفيف الخاتمة والألف. يُقال: غيّيته وأغييتُهُ، أي جعلته ذا غاية؛ فمآل الجميع واحد.

(غَيْرُ الْغَايَةِ) . وقوله:

(وَالْغَايَةُ مَوْصُوفَةٌ) أي بحدٍّ مسمّى، بقرينة التقييد فيما يجيء. وهذا ابتداء دليل على أنّ ذا الغاية هنا غير الغاية؛ أي كلّ مفهوم وضع له لفظ _ وهو ما سمّيناه هنا غايةً _ موصوف؛ أي يمكن بيانه للغير بكنه ما وضع اللفظ له، فإنّ وضع الألفاظ إنّما يكون للإفادة والاستفادة.

(وَكُلُّ مَوْصُوفٍ) أي بحدٍّ مسمّى (مَصْنُوعٌ، وَصَانِعُ الاْءَشْيَاءِ غَيْرُ مَوْصُوفٍ بِحَدٍّ مُسَمّىً) . .

ص: 250


1- في الكافي المطبوع : «مَنْ» بفتح الميم .
2- في الكافي المطبوع : «غاياه» .
3- حكاه الرازي في تفسيره ، ج 1 ، ص 108 عن الحشوية والكرامية والأشعرية ؛ تفسير ابن كثير ، ج 1 ، ص 20 . وانظر تفسير البيضاوي ، ج 1 ، ص 29 .
4- في الكافي المطبوع : «المغيا» .

الحَدّ بالفتح: تمييز الشيء عن الشيء، والحاجز بين شيئين، ومنتهى الشيء. والمراد هنا المائيّة. والمسمّى: المعيّن. والمراد بوصفه بحدّ مسمّى بيانه بشخصه، أو بكنه حقيقته. وهو احتراز عن وصفه بالمائيّة المطلقة، كما مرّ في سادس الثاني(1) من قوله: قال له السائل: فله إنّيّة ومائيّة؟ قال: «نعم لا يثبت الشيء إلاّ بإنّيّة ومائيّة» أي وصانع الأشياء غير مصنوع.

وإنّما عبّر عن هذا المعنى بهذه العبارة إشارةً إلى دليل على قوله: «وكلّ موصوف مصنوع» هو ما بيّنّاه في أوّل الثاني،(2) وحاصله: أنّ المراد بالموصوف المبيّنُ بحدّ مسمّى، وهو إمّا بيانه(3) بشخصه، أو بكنهه، وكلاهما باطل.

وأشار إلى بطلان الأوّل بقوله:

(لَمْ يَتَكَوَّنْ؛ فَيُعْرَفَ كَيْنُونِيَّتُهُ بِصُنْعِ غَيْرِهِ) . استئنافٌ بياني، والتكوّن:(4) التشكّل بشكل، وفي الحديث: «من رآني في المنام فقد رآني؛ فإنّ الشيطان لا يتكوّنني».(5) وفي رواية: «لا يتكوّن في صورتي»(6) أي لا يتشكّل بشكلي، وحقيقته لا يصير كائنا بشكلي. والكينون بفتح الكاف وسكون الخاتمة وضمّ النون: الكائن الحادث، والكينونيّة بزيادة ياء النسبة والتاء للمصدريّة:(7) الحدوث. ومضى في رابع «باب الكون والمكان». والمراد هنا شكله وتشخّصه. والصنع: التدبير، والظرف متعلّق إمّا ب«يعرف» وإمّا ب«كينونيّة». .

ص: 251


1- أي في الحديث 6 من باب إطلاق القول بأنّه شيء .
2- أي في الحديث 1 من باب إطلاق القول بأنّه شيء .
3- في «ج» : «ببيانه» .
4- في «ج» : «التكوين» .
5- النهاية لابن الأثير ، ج 4 ، ص 211 (كون) ؛ مسند أبي يعلى ، ج 11 ، ص 405 ، ح 6530 ؛ الكامل لعبد اللّه بن عدى ، ج 4 ، ص 237 ، ح 1064 ؛ فتوحات المكّيّة ، ج 1 ، ص 537 .
6- النهاية لابن الأثير ، ج 4 ، ص 211 (كون) ؛ مسند أبي يعلى ، ج 11 ، ص 405 ، ح 6530 ؛ الكامل لعبد اللّه بن عدى ، ج 4 ، ص 237 ، ح 1064 ؛ فتوحات المكّيّة ، ج 1 ، ص 537 .
7- في حاشية «أ» : «متعلّق بزيادة (مهدي)» .

وأشار إلى بطلان الثاني بقوله:

(وَلَمْ يَتَنَاهَ إِلى غَايَةٍ إِلاَّ كَانَتْ غَيْرَهُ) أي ولم يكن له في سلسلة أجزاء المحمولات عليه وتتبّع دقائقها إلى أقصى تدقيق المخلوقين انتهاء إلى كنه ذاته، فلا يمكن العلم بكنه ذاته بالنظر.

(لاَ يَذِلُّ(1) مَنْ فَهِمَ هذَا الْحُكْمَ أَبَدا) . خبرٌ عن عدم مذلّته في الدنيا في المباحثات، أو فيها(2) وفي العقبى، أو جملة دعائيّة.

(وَهُوَ التَّوْحِيدُ الْخَالِصُ، فَارْعَوْهُ وَصَدِّقُوهُ) أي صدّقوا به.

(وَتَفَهَّمُوهُ) أي تفكّروا طلبا لفهمه؛ يُقال: تفهّم الكلام: إذا فهمه شيئا بعد شيء.

(بِإِذْنِ اللّه ِ). ذكْر هذا _ مع أنّه لا يكون شيء إلاّ بإذن اللّه _ تعليم أنّ المتفهّم ينبغي أن يعلم ذلك ويتوسّل به، ولا يجعل نفسه مستقلّة في الفكر والتفهّم ليتيسّر له ذلك.

وأشار إلى الأمر الثالث بقوله:

(مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَعْرِفُ اللّه َ بِحِجَابٍ) أي بتشبيهه بحجاب، بكسر المهملة وتخفيف الجيم. وهو في الأصل ما يستتر به، والمراد هنا جسم نوراني يتلألأ ويذهب بالأبصار، كما يجيء في «كتاب الحجّة» في ثالث عشر «مولد النبيّ صلى الله عليه و آله ».(3) ومضى نظيره في سابع التاسع.(4) أو المراد أمرٌ دقيق أدقّ ما بلغ إليه أذهان المخلوقين، وهو مستور عن كلّ ذهن سوى ذهن أوحَديّ الزمان، فكأنّه حجاب نفسه كالهيولى عند القائلين بأنّ كلّ جسم مركّبٌ من الهيولى والصورة.

(أَوْ بِصُورَةٍ) . الصورة بالضمّ: الشكل، والمراد هنا جسم ذو صورة أحسنَ ما يكون من الصور. .

ص: 252


1- في الكافي المطبوع : «يزلّ» .
2- في «أ» : «فيهما» .
3- الكافي ، ج 1 ، ص 442 ، باب مولد النبي صلى الله عليه و آله ووفاته ، ح 13 .
4- أي في الحديث 7 من باب في إبطال الرؤية .

(أَوْ بِمِثَالٍ) . المثال بكسر الميم: المقدار، والمراد هنا جسم ذو مقدار أعظمَ ما يكون من المقادير.

(فَهُوَ مُشْرِكٌ) ؛ قد أشرك معه غيره في استحقاق العبادة.

(لاِءَنَّ حِجَابَهُ وَمِثَالَهُ وَصُورَتَهُ غَيْرُهُ) . الضمائر الثلاثة الاُوَل ل«من زعم» باعتبار أنّه معبوده، أو للّه باعتبار أنّه مخلوقه؛ لأنّه خالق كلّ شيء. وعلى التقديرين الضمير الرابع للّه .

(وَإِنَّمَا هُوَ وَاحِدٌ) أي لا شريك له.

(مُوَحَّدٌ(1)) ؛ بصيغة اسم المفعول من باب التفعيل، أي يجب على المكلّفين نفي الشريك في استحقاق العبادة عنه.

(وَكَيْفَ(2) يُوَحِّدُهُ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ عَرَفَهُ بِغَيْرِهِ؟! وَإِنَّمَا عَرَفَ اللّه َ مَنْ عَرَفَهُ بِاللّه ِ) . أي بتشبيهه بنفسه بمعنى نفي تشبيهه بغيره. وقد مضى في شرح ذيل أوّل الثالث ما(3) يوضح هذا.

(فَمَنْ لَمْ يَعْرِفْهُ بِهِ، فَلَيْسَ يَعْرِفُهُ، إِنَّمَا يَعْرِفُ غَيْرَهُ) ؛ لأنّ اعتقاده يرجع إلى إنكار اللّه تعالى حقيقةً، كما يدلّ عليه الحصر المفهوم من تقديم المفعول في قوله تعالى في سورة الزمر: «قُلْ أَفَغَيْرَ اللّه ِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ».(4)

وأشار إلى الأمر الرابع بقوله:

(لَيْسَ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ شَيْءٌ) . استئناف لبيان أنّ غيره تعالى لا يكون إلاّ من الجسمانيّات حتّى يتصحّح أنّ معرفته بغيره إنكار لصانع العالم؛ أي لا واسطة بينه تعالى وبين الجسمانيّات، فثبت أنّه لا مجرّد إلاّ اللّه ، وليس كمثله شيء. واللام في «المخلوق» إمّا للعهد؛ أي الجسمانيّات، وإمّا للجنس بناءً على أنّ القائلين بالمجرّد قائلون بقدمه، سواء كان عقلاً أو نفسا. وقد ظهر امتناع مجرّد سوى اللّه ، وامتناع قديم سوى اللّه في .

ص: 253


1- في الكافي المطبوع : «مُتَوَحِّدٌ» .
2- في الكافي المطبوع : «فكيف» .
3- أي في الحديث 1 من باب أنّه تعالى لا يعرف إلاّ به .
4- الزمر (39) : 64 .

شرح عنوان الباب الأوّل.(1) ويمكن أن يكون المراد أنّه ليس شيء مشتركا ذاتيّا بين الخالق والمخلوق.

وأشار إلى الأمر الخامس بقوله:

(وَاللّه ُ خَالِقُ الاْءَشْيَاءِ لاَ مِنْ شَيْءٍ كَانَ) أي لا من مادّة قديمة؛ للزوم التسلسل في الحوادث المتعاقبة، وللزوم تعدّد الواجب الوجود؛ لما مرّ في شرح عنوان الباب الأوّل من أنّ القديم لا يتعلّق به إيجاد، فلا يكون المادّة قديمة.(2)

(وَاللّه ُ يُسَمّى بِأَسْمَائِهِ وَهُوَ غَيْرُ أَسْمَائِهِ، وَالاْءَسْمَاءُ غَيْرُهُ) . تأكيد وإعادة للأمر الأوّل. .

ص: 254


1- أي باب حدوث العالم وإثبات المحدث .
2- في «ج» : «قديما» .

الباب السادس عشر: باب معاني الأسماء و اشتقاقها

الباب السادس عشر بَابُ مَعَانِي الاْءَسْمَاءِ وَ اشْتِقَاقِهَا

فيه اثنا عشر حديثا، أوّلها ينحلّ إلى حديثين، وكذا رابعها.

والمراد ب«معاني الأسماء» هنا المفهومات التي وضعت الأسماء لها. و«اشتقاقها» عطف على المعاني. والضمير للأسماء، أي بيان ما وضع له الأسماء، وبيان أنّ كلّ الأسماء من المشتقّات، أي ليس فيها عَلَم شخصي ولا اسم جنس.

الأوّل: (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ يَحْيى، عَنْ جَدِّهِ الْحَسَنِ بْنِ رَاشِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللّه ِ بْنِ سِنَانٍ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام عَنْ تَفْسِيرِ «بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَ_نِ الرَّحِيم» قَالَ(1): «الْبَاءُ بَهَاءُ اللّه ِ، وَالسِّينُ سَنَاءُ اللّه ِ، وَالْمِيمُ مَجْدُ اللّه ِ(2) _ وَرَوى بَعْضُهُمْ). الظاهر أنّ الضمير راجع إلى «عدّة»، والمقصود أنّه روى بدل «الميم مجدُ اللّه »:

(الْمِيمُ مُلْكُ اللّه ِ) . ليس المقصود أنّ هذه الحروف مستعملة في هذه المعاني، بل المقصود أنّ المتكلّم بكلام يستعمله في معنى قد يركّبه من حروف مناسبة لأوصافه، ويقصد أداء الأوصاف إلى ذهن المخاطب، كما تقول حكايةً عن بخيل لئيم: «بلّ فلان»(3).

ص: 255


1- في الكافي المطبوع : «فقال» .
2- في حاشية «أ» : «اُشير بهذا التفسير إلى علم الحروف ؛ فإنّه علم شريف يمكن أن يستنبط منه جميع العلوم والمعارف ، كلّ_يّاتها وجزئيّاتها ، إلاّ أنّه مكنون عند أهله ، وكان الرحمن إنّما هو من الرحمة التي وسعت كلّ شيء ، والرحيم من الرحمة التي يختصّ بها من يشاء من عباده» . الوافي ، ج 1 ، ص 469 ، ذيل ح 379 .
3- لا يخفى عليك أنّ الباء في «بلّ» مأخوذة من بخيل ، واللام مأخوذة من لئيم ، وقد تبدل هذه الكلمة ويستعمل غيرها أو قريب منها مثل «رطب» .

وقد يركّبه من حروف غير مناسبة لأوصافه؛ لعدم قصده إلى الأوصاف، كما تقول حكايةً عنه: «رطب فلان». ولا شكّ أنّ الكلام الأوّل أبلغ وأعلى مرتبةً من الثاني.

ونظير ذلك قوله تعالى في وصف الشجرة الملعونة في القرآن وهم بنو اُميّة: «وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَانا كَبِيرا»(1).

وربّما يقصَدُ بكلام واحد معانٍ مختلفة غير متعارضة، وبذلك يصير في أعلى طبقات البلاغة، كما قالوا في تعدّد بطون القرآن.

(وَاللّه ُ إِلهُ كُلِّ شَيْءٍ) . ظاهره أنّ اللام هنا للعهد الخارجي.

(الرَّحْمنُ بِجَمِيعِ خَلْقِهِ) أي مخلوقاته حيث يعطي كلاًّ منها ما يليق به من الخلق، أي التدبير.

(وَالرَّحِيمُ بِالْمُوءْمِنِينَ خَاصَّةً) ؛ حيث يسدّدهم ويغفر لهم ذنوبهم وهو وليّهم.

الثاني: (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّضْرِ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ: أَنَّهُ سَأَلَ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام عَنْ أَسْمَاءِ اللّه ِ وَاشْتِقَاقِهَا: اللّه ُ مِمَّا هُوَ مُشْتَقٌّ؟ فَقَالَ: يَا هِشَامُ ، اللّه ُ مُشْتَقٌّ مِنْ إِلهٍ، وَإلهُ(2) يَقْتَضِي مَأْلُوها، وَالاِسْمُ غَيْرُ الْمُسَمّى، فَمَنْ عَبَدَ الاِسْمَ دُونَ الْمَعْنى، فَقَدْ كَفَرَ وَلَمْ يَعْبُدْ شَيْئا؛ وَمَنْ عَبَدَ الاِسْمَ وَالْمَعْنى، فَقَدْ أَشْرَكَ وَعَبَدَ اثْنَيْنِ؛ وَمَنْ عَبَدَ الْمَعْنى دُونَ الاِسْمِ، فَذَاكَ التَّوْحِيدُ، أَفَهِمْتَ يَا هِشَامُ؟

قَالَ: قُلْتُ: زِدْنِي، قَالَ: لِلّهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ اسْما، فَلَوْ كَانَ الاِسْمُ هُوَ الْمُسَمّى ، لَكَانَ كُلُّ اسْمٍ مِنْهَا إِلها ، وَلكِنَّ اللّه َ مَعْنىً يُدَلُّ عَلَيْهِ بِهذِهِ الاْءَسْمَاءِ وَكُلُّهَا غَيْرُهُ.

يَا هِشَامُ، الْخُبْزُ اسْمٌ لِلْمَأْكُولِ، وَالْمَاءُ اسْمٌ لِلْمَشْرُوبِ، وَالثَّوْبُ اسْمٌ لِلْمَلْبُوسِ، وَالنَّارُ اسْمٌ لِلْمُحْرِقِ؛ أَفَهِمْتَ يَا هِشَامُ فَهْما تَدْفَعُ بِهِ، وَتُنَاقِلُ(3) بِهِ أَعْدَاءَنَا) ؛ بالنون والقاف بصيغة المضارع المخاطب المعلوم من باب المفاعلة، أو من باب التفاعل بحذف إحدى التاءين. .

ص: 256


1- الإسراء (17) : 60 .
2- في الكافي المطبوع : «الإله» .
3- في الكافي المطبوع : «تُناضِل» .

والمناقلة والتناقل: سرعة نقل الشيء من حالة إلى اُخرى، والمراد هنا الإسكات وإلزام الحقّ.

(الْمُلحِدِينَ(1) مَعَ اللّه ِ عَزَّ وَجَلَّ غَيْرَهُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ: نَفَعَكَ اللّه ُ بِهِ وَثَبَّتَكَ يَا هِشَامُ .

قَالَ(2): فَوَ اللّه ِ، مَا قَهَرَنِي أَحَدٌ فِي التَّوْحِيدِ حَتّى قُمْتُ مَقَامِي هذَا). مضى هذا في ثالث «باب المعبود» بأدنى تغيير.

الثالث: (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْبَرْقِيِّ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ يَحْيى، عَنْ جَدِّهِ الْحَسَنِ بْنِ رَاشِدٍ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ عليه السلام ، قَالَ: سُئِلَ عَنْ مَعْنَى اللّه ِ، فَقَالَ: اسْتَوْلى عَلى مَا دَقَّ وَجَلَّ) .(3) يعني أنّ اللام في «اللّه » للعهد الخارجي؛ أي الإله الذي خلق السماوات والأرض بقول: «كُن» وهو الغالب الذي بيده أزمّة الاُمور كلّها، صغيرها وكبيرها.

الرابع: (عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ هِلاَلٍ )، بكسر الهاء (قَالَ: سَأَلْتُ الرِّضَا عليه السلام عَنْ قَوْلِ اللّه ِ(4): «اللَّهُ نُورُ السَّمَوتِ وَالاْءَرْضِ»(5) فَقَالَ: هَادٍ لاِءَهْلِ السَّمواتِ،(6) وَهَادٍ لاِءَهْلِ الاْءَرْضِ) .

(وَفِي رِوَايَةِ الْبَرْقِيِّ: هُدى مَنْ فِي السَّمَاءِ، وَهُدى مَنْ فِي الاْءَرْضِ) . مآل الروايتين واحد، والمراد بالهداية إراءة طريق العلم بأحكامه في الحلال والحرام ببعث الرُّسل، وإنزال الكتب، وتعيين الأوصياء، وإراءة حظر اتّباع الظنّ والاختلاف عن رأي، ونحو ذلك.

الخامس: (أَحْمَدُ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَحْيى، عَنْ .

ص: 257


1- في الكافي المطبوع : «المتّخذين» .
2- في الكافي المطبوع : + «هشام» .
3- في حاشية «أ» : «لما كان اللّه اسما للذات الأحديّة القيوميّة ، فسّر بما يختصّ به الذات ، وهو استيلاؤها على الدقيق والجليل» الوافي ، ج 1 ، ص 470 ، ذيل ح 380 .
4- في الكافي المطبوع : + «عزّوجلّ» .
5- النور (24): 35.
6- في الكافي المطبوع : «السماء» .

فُضَيْلِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنِ ابْنِ أَبِي يَعْفُورٍ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام عَنْ قَوْلِ اللّه ِ عَزَّ وَجَلَّ ) في سورة الحديد:

(«هُوَ الاْءَوَّلُ وَ الاْآخِرُ»(1) وَقُلْتُ: أَمَّا «الاْءَوَّلُ» فَقَدْ عَرَفْنَاهُ، وَأَمَّا «الاْآخِرُ» فَبَيِّنْ لَنَا تَفْسِيرَهُ. فَقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ إِلاَّ يَبِيدُ(2)) ؛ يُقال: باد الشيء: إذا هلك.

(أَوْ يَتَغَيَّرُ) أي يزيد في أجزائه وينقص.

(أَوْ يَدْخُلُهُ التَّغَيُّرُ) أي يمكن فيه أن يتغيّر من نقصان في أجزائه إلى زيادة، أو من زيادة في أجزائه إلى نقصان.

(وَالزَّوَالُ) أي يمكن فيه أن يبيد.

(أَوْ يَنْتَقِلُ مِنْ لَوْنٍ إِلى لَوْنٍ، وَمِنْ هَيْئَةٍ) أي شكل. وإنّما عُطف بالواو ولم يعطف ب«أو» كما سبق إشارةً إلى أنّ قوله: «أو ينتقل» إلى آخره قسيم لما قبله، فإنّ ما قبله باعتبار الأجزاء والذات، وهو إلى آخره باعتبار العوارض.

(إِلى هَيْئَةٍ، وَمِنْ صِفَةٍ) أي موجودة في نفسها في الخارج (إِلى صِفَةٍ، وَمِنْ زِيَادَةٍ) في صفته (إِلى نُقْصَانٍ، وَمِنْ نُقْصَانٍ) في صفته (إِلى زِيَادَةٍ إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ؛ فَإِنَّهُ لَمْ يَزَلْ وَلاَ يَزَالُ بِحَالَةٍ وَاحِدَةٍ) أي ليس فيه إمكان تغيّر(3) موجود في نفسه في الخارج.

(هُوَ الاْءَوَّلُ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ الاْآخِرُ عَلى) نهجيّة (مَا لَمْ يَزَلْ) أي على ما كان أوّلاً؛ أي لا يمكن فيه التغيّر(4) بحسب ذاته. وهذا ناظر إلى قوله: «إلاّ يبيد» إلى قوله: «والزوال».

(وَلاَ تَخْتَلِفُ عَلَيْهِ الصِّفَاتُ) أي لا يمكن اختلاف صفة موجودة في الخارج فيه؛ لأنّه ليس له صفة كذلك. وهذا ناظر إلى قوله: «أو ينتقل» إلى قوله: «إلى زيادة».

(وَالاْءَسْمَاءُ(5)). وقوله: (كَمَا تَخْتَلِفُ عَلى غَيْرِهِ) ، إشارةٌ إلى دفع توهّم أنّه لا يتغيّر عليه .

ص: 258


1- الحديد (57) : 3 .
2- في الكافي المطبوع : «أن يبيدَ» بدل «يبيدُ» .
3- في «ج» : «تغيير» .
4- في «ج» : «التغيير» .
5- في «أ» : «للأسماء» .

الصفات والأسماء أصلاً، فإنّه يختلف عليه صفات الفعل وأسماء بحسبها.

فالمقصود أنّه لا يختلف عليه الصفات الموجودة في أنفسها في الخارج.

(مِثْلُ الاْءِنْسَانِ) أي بدن الإنسان (الَّذِي يَكُونُ تُرَابا مَرَّةً، وَمَرَّةً لَحْما وَدَما، وَمَرَّةً رُفَاتا) . الرفات: كلّ ما دقَّ وكسر.

(وَرَمِيما) أي عظما باليا متفتّتا.

(وَكَالْبُسْرِ الَّذِي يَكُونُ مَرَّةً بَلَحا ، وَمَرَّةً بُسْرا، وَمَرَّةً رُطَبا وَمَرَّةً تَمْرا) .

التمر في أوّل بدوه يسمّى «طلعا» بفتح المهملة وسكون اللام ومهملة، ثمّ «خلالاً» بفتح المعجمة وتخفيف اللام، ثمّ «بلحا» بفتح الموحّدة وفتح اللام ومهملة، ثمّ «بسرا» بضمّ الموحّدة وسكون المهملة ومهملة، ثمّ «رطبا» ثمّ «تمرا».

وقيل: البلح قبل الخلال.(1)

(فَتَتَبَدَّلُ عَلَيْهِ الاْءَسْمَاءُ وَالصِّفَاتُ، وَاللّه ُ _ عَزَّوَجَلَّ(2) _ بِخِلاَفِ ذلِكَ) . حاصل تفسيره إرجاع معنى الآخر إلى سلبي هو عدم التغيّر أصلاً، أو وجودي هو البقاء على ما كان أوّلاً.

السادس: (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنِ ابْنِ أُذَيْنَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ مَيْمُونٍ الْبَانِ) ؛ بالموحّدة والألف وتخفيف النون، وهو في الأصل اسم شجر لحَبّ ثمره دهن طيّب،(3) أو هو بتشديد النون من بنّ بالمكان من باب ضرب، أي أقام،(4) كأبَنَّ. والبَنّة بالفتح: الريح الطيّبة والمنتنة.(5)

(قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام وَقَدْ سُئِلَ عَنِ الاْءَوَّلِ وَالاْآخِرِ، فَقَالَ: الاْءَوَّلُ لاَ عَنْ أَوَّلٍ) ؛ بالجرّ والتنوين. .

ص: 259


1- الصحاح ، ج 1 ، ص 356 (بلح) .
2- في الكافي المطبوع : «جلّ وعزّ» .
3- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص203 ؛ مجمع البحرين ، ج 2 ، ص 398 (البون) .
4- معجم مقاييس اللغة ، ج 1 ، ص 192 ؛ تاج العروس ، ج 18 ، ص 70 (بنن) .
5- كتاب العين ، ج 8 ، ص 372 ؛ النهاية ، ج 1 ، ص 157 ؛ لسان العرب ، ج 13 ، ص 58 (بنن) .

(قَبِلَهُ)(1) ، بصيغة الماضي المعلوم من باب علم، والضمير المستتر راجع إلى «اللّه » والبارز راجع إلى «أوّل»، والجملة نعتُ «أوّل».

والمقصود نفي أن يكون أوّليّته باعتبار أمر موجود في الخارج حلّ فيه تعالى في الزمان الماضي، ويفنى بعد ذلك.

(وَلاَ عَنْ بَدِيء(2)) ؛ بفتح الموحّدة وكسر المهملة وسكون الخاتمة والهمز، وقد يشدّد الخاتمة بعد قلب الهمز: الحادث المخلوق.

والمراد هنا أمر موجود في نفسه يحلّ فيه تعالى.

(سَبَقَهُ) ؛ بصيغة الماضي المعلوم من باب نصر وضرب، والضمير المستتر راجع إلى «اللّه » والبارز إلى «بَدِيء»، والجملة نعت «بَدِيء».

والمقصود نفي أن يكون أوّليّته تعالى باعتبار سبق ذاته بدون صفة موجودة في نفسها على حدوث صفة موجودة في نفسها فيه تعالى.

(وَالاْآخِرُ لاَ عَنْ نِهَايَةٍ) ؛ بكسر النون والخاتمة والتاء: الغاية؛ أو بضمّ النون. وقيل: بكسرها والهمز والضمير الراجع إلى اللّه : الارتفاع. وحاصلهما واحد.

والمقصود نفي أن يكون آخريّته تعالى باعتبار بلوغه غاية وكمالاً لم يكن في الزمان الماضي.

(كَمَا يُعْقَلُ مِنْ صِفَةِ الْمَخْلُوقِينَ) ، مثل قولنا: ما لابن آدم والفخر، إنّما أوّله منيّ، وآخره منيّة.

(وَلكِنْ قَدِيمٌ ، أَوَّلٌ، آخِرٌ، لَمْ يَزَلْ، وَلاَ يَزَالُ،(3) بِلاَ بَدْءٍ وَلاَ نِهَايَةٍ) ، يعني ليس أوّليّته قبل آخريّته، فإنّ المراد بمجموعهما عدم التغيّر(4) في حال من أحواله. ويوافق هذا ما في .

ص: 260


1- في الكافي المطبوع : «قَبْلَهُ» .
2- في الكافي المطبوع : «بَدْء» .
3- في الكافي المطبوع : «يزول» .
4- في «ج» : «التغيير» .

نهج البلاغة من خطبة أمير المؤمنين عليه السلام : «الذي لم يسبق له حال حالاً، فيكون أوّلاً قبل أن يكون آخرا».(1)

(لاَ يَقَعُ عَلَيْهِ الْحُدُوثُ ) . استئناف لبيان ما سبق، وهذا ناظر إلى قوله: «قديم». وإن جعل «الحدوث» جمع حادث كقُعود جمع قاعد(2)، كان ناظرا إلى «أوّلٌ، آخِرٌ». وقوله:

(وَلاَ يَحُولُ مِنْ حَالٍ إِلى حَالٍ) ، ناظرٌ إلى قوله: «أوّل، آخر»، ومعناه ما مرّ في خامس الباب.

(خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) . تحقيق لأوّليّته وآخريّته بالمعنى المذكور بأنّه لولا ذلك لم يكن خالقا لكلّ شيء.

السابع: (مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ رَفَعَهُ إِلى أَبِي هَاشِمٍ الْجَعْفَرِيِّ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ أَبِي جَعْفَرٍ الثَّانِي عليه السلام ، فَسَأَلَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: أَخْبِرْنِي عَنِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالى، لَهُ أَسْمَاءٌ وَصِفَاتٌ فِي كِتَابِهِ) . مضى تفسير الأسماء والصفات في شرح أوّل الخامس،(3) ومضى في شرح ثالث الخامس عشر(4) أنّهما متّحدان بالذات، متغايران بالاعتبار.

(وَأَسْمَاوءُهُ) . في كتاب التوحيد لابن بابويه «فأسماؤه» بالفاء.(5)

(وَصِفَاتُهُ هِيَ هُوَ؟ فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام : إِنَّ لِهذَا الْكَلاَمِ وَجْهَيْنِ) أي يحتمل هذا الكلام معنيين:

(إِنْ كُنْتَ تَقُولُ: «هِيَ هُوَ» ، أَيْ إِنَّهُ ذُو عَدَدٍ وَكَثْرَةٍ) ، بأن يكون المراد حمل مفهومات تلك الألفاظ على ذاته حملَ الذاتي على الشيء حتّى يصير ذاته ذا أجزاء متعدّدة(6) كثيرة ضرورةَ تغاير مفهومات الألفاظ. .

ص: 261


1- نهج البلاغة ، ص 96 ، الخطبة 65 .
2- في حاشية «أ» : «ومنه قوله تعالى في سورة البقرة «وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ» (مهدي)» . والآية سورة البقرة (2) : 125 .
3- أي في الحديث 1 من باب المعبود .
4- أي في الحديث 3 من باب حدوث الأسماء .
5- التوحيد ، ص 193 ، باب أسماء اللّه تعالى و . . . ، ح 7 .
6- في «ج» : «متعدد» .

(فَتَعَالَى اللّه ُ عَنْ ذلِكَ؛ وَإِنْ كُنْتَ تَقُولُ: هذِهِ الصِّفَاتُ وَالاْءَسْمَاءُ لَمْ تَزَلْ) أي قديمة.

(فَإِنَّ) ؛ بكسر الهمزة وتشديد النون.

(«لَمْ تَزَلْ») أي لفظ «لم تزل» باعتبار ما يفهم منه.

(مُحْتَمِلٌ) ؛ بصيغة اسم الفاعل.

(مَعْنَيَيْنِ . فَإِنْ قُلْتَ) أي فإن أردت.

(لَمْ تَزَلْ عِنْدَهُ فِي عِلْمِهِ وَهُوَ مُسْتَحِقُّهَا) أي مستحقّ الأسماء والصفات.

(فَنَعَمْ؛ وَإِنْ كُنْتَ تَقُولُ: لَمْ يَزَلْ تَصْوِيرُهَا) أي جعلها ذات صور بإيجادها في نفسها في ذهن، أو في خارج الذهن.

(وَهِجَاوءُهَا) ؛ بكسر الهاء والجيم والمدّ مصدر ناقص باب نصر، أي عدّها واحدا فواحدا، كما يكون في الاُمور الموجودة في أنفسها.

(وَتَقْطِيعُ حُرُوفِهَا) أي تفصيل حدودها، وتمييز كلّ واحدٍ منها عن الباقي، كما يكون في الاُمور الموجودة في أنفسها.

(فَمَعَاذَ اللّه ِ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ شَيْءٌ) موجود في نفسه (غَيْرُهُ، بَلْ كَانَ اللّه ُ وَلاَ خَلْقَ، ثُمَّ خَلَقَهَا) أي الأسماء والصفات (وَسِيلَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ، يَتَضَرَّعُونَ بِهَا إِلَيْهِ، وَيَعْبُدُونَهُ وَهِيَ) أي الأسماء والصفات (ذِكْرُهُ، وَكَانَ اللّه ُ وَلاَ ذِكْرَ، وَالْمَذْكُورُ بِالذِّكْرِ هُوَ اللّه ُ الْقَدِيمُ الَّذِي لَمْ يَزَلْ، وَالاْءَسْمَاءُ وَالصِّفَاتُ مَخْلُوقَاتٌ، وَالْمَعَانِي) .

الواو بمعنى «مع». والمراد بالمعاني مفهومات سائر ألفاظ كتاب اللّه ، كمفهوم الأرض والسماء والبرّ والبحر ونحو ذلك. ولا يستلزم ذلك أن تكون الصفات الموجودة في الخارج وجودا(1) رابطيّا فقط، القائمة بذاته تعالى قياما حقيقيّا مخلوقات(2) كما تقرّر في محلّه.

(وَالْمَعْنِيُّ) ؛ بكسر النون وشدّ الخاتمة، أو بفتح النون والألف؛ أي المقصود بالذات. .

ص: 262


1- في حاشية «أ» : «مصدر للموجودة (مهدي)» .
2- في حاشية «أ» : «خبر تكون في قوله : أن تكون الصفات (مهدي)» .

(بِهَا) ؛ أي بالأسماء والصفات.

(هُوَ اللّه ُ) . مضى تفسيره في أوّل الخامس عشر(1) عند قوله: «فالظاهر هو اللّه ».

وهذا إشارة إلى ما تقرّر في محلّه من الفرق بين العلم بالشيء بالوجه، والعلمِ بوجه الشيء، وإلى أنّ ما نحن فيه من الأوّل، لا الثاني.

(الَّذِي لاَ يَلِيقُ بِهِ الاِخْتِلاَفُ وَلاَ الاِئْتِلاَفُ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُ وَيَأْتَلِفُ الْمُتَجَزِّئُ، فَلاَ يُقَالُ: اللّه ُ مُخْتَلِفُ وَلاَ(2) مُوءْتَلِفٌ، وَلاَ اللّه ُ قَلِيلٌ ولاَ كَثِيرٌ، وَلكِنَّهُ الْقَدِيمُ فِي ذَاتِهِ) أي لو كان مؤتلفا وقليلاً أو كثيرا، لكان غير قديم ومخلوقا. وقوله:

(لاِءَنَّ) ، استدلالٌ على قوله: «لا يُقال: اللّه مختلف» إلى قوله: «ولا كثير».

(مَا سِوَى الْوَاحِدِ مُتَجَزِّئٌ) أي لا متجزّئ إلاّ ما لم يكن واحدا.

(وَاللّه ُ وَاحِدٌ، لاَ مُتَجَزِّئٌ وَلاَ مُتَوَهَّمٌ بِالْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ ) أي ولا يتصوّر فيه القلّة والكثرة. وقوله:

(وَكُلَّ) ، ناظرٌ إلى قوله: «ولكنّه القديم في ذاته» ودليل عليه باعتبار ما فسّرناه به، فهو منصوب معطوف على اسم «إنّ».

(مُتَجَزِّئٍ أَوْ مُتَوَهَّمٍ بِالْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ، فَهُوَ مَخْلُوقٌ دَالٌّ عَلى خَالِقٍ لَهُ؛ فَقَوْلُكَ). الفاء تفريعيّة؛ أي إذا ثبت أنّه ليس معهُ شيء غيره في الأزل أي موجود في نفسه، ثبت أنّ قولك:

(«إِنَّ اللّه َ قَدِيرٌ» خَبَّرْتَ) . التخبير والإخبار بمعنى، والعائد إلى المبتدأ محذوف، أي خبرّت به.

(أَنَّهُ لاَ يُعْجِزُهُ) ؛ من الإعجاز.

(شَيْءٌ، فَنَفَيْتَ بِالْكَلِمَةِ) أي بالكلام، كما تقول: كلمة التوحيد.

(الْعَجْزَ، وَجَعَلْتَ الْعَجْزَ سِوَاهُ) أي غير محمول عليه. وإنّما عبّر عن هذا بذاك لأنّ حمل القدرة التي تقابل العجز حمل لصفة الذات التي هي عين الذات بالمعنى الذي مضى ذكره. .

ص: 263


1- أي في الحديث 1 من باب حدوث الأسماء .
2- في الكافي المطبوع : - «مختلف ولا» .

(وَكَذلِكَ قَوْلُكَ: «عَالِمٌ» إِنَّمَا نَفَيْتَ بِالْكَلِمَةِ الْجَهْلَ ) أي إنّما المقصود بالكلمة نفي الجهل.

(وَجَعَلْتَ الْجَهْلَ سِوَاهُ) .

قد يتوهّم(1) من أمثال هاتين العبارتين أنّ المقصود أنّ القدرة والعلم ونحوهما من صفات ذاته تعالى يرجع إلى معان سلبيّة.

وهذا خلاف البديهة، بل مقصوده عليه السلام أنّه ليس إثبات القدرة أو العلم له تعالى إثباتا لآلة أو قلب، ولا إثباتا لأمرٍ موجود في نفسه قائم به، كما يشير إليه بقوله بعد ذلك: «لطيف بلا كيف»، بل إثبات محض ما يقابل العجز أو الجهل؛ أي أمر لولا ثبوته لكان العجز أو الجهل ثابتا؛ إذ لا واسطة بين القدرة والعجز، ولا بين العلم والجهل.

ويمكن أن يكون المراد الفرق بين علم اللّه وعلم العباد مع اشتراك العلم معنى بينهما، بأنّ إثبات العلم للعباد لا ينفي عنهم الجهل بالكلّيّة، بخلاف إثبات العلم للّه تعالى؛ فإنّ المتقابلين أي العلم والجهل يجتمعان في العباد من جهتين، بخلاف اللّه ؛ وكذا الكلام في القدرة.

(وَإِذَا أَفْنَى اللّه ُ الاْءَشْيَاءَ ) بعد ذلك. وهو الذي اُشير إليه في نهج البلاغة في خطبة أوّلها: «ما وحّده من كيّفه» من قول أمير المؤمنين عليه السلام «و أنّه سبحانه يعود بعد فناء الدنيا وحده لا شيء معه، كما كان قبل ابتدائها كذلك يكون بعد فنائها» الخطبة.(2)

(أَفْنَى الصُّورَةَ وَالْهِجَاءَ وَالتَّقْطِيعَ) أي التي حدثت في أذهان العباد من صورة الأسماء والصفات وهجائها وتقطيع حروفها على ما مرّ تفسيره آنفا.

(وَلاَ يَزَالُ مَنْ لَمْ يَزَلْ عَالِما) أي بلا كيف.

(فَقَالَ الرَّجُلُ: فَكَيْفَ سَمَّيْنَا رَبَّنَا سَمِيعا؟). الفاء في قوله: «فكيف» للتفريع؛ أي إذا لم يكن معه تعالى شيء غيره في الأزل لم يكن مسموع ولا سمع، فكيف يسمّى سميعا.

وهذا مبنيّ على الخلط بين السميع والسامع، وبين السمع المعقول في الرأس وغيره. .

ص: 264


1- في حاشية «أ» : «المتوهم مولانا محمّد أمين الإسترابادي رحمه الله » .
2- نهج البلاغة ، ص 276 ، الخطبة 186 .

(فَقَالَ). أجاب عليه السلام ، فدفع توهّمه الأوّل بقوله:

(لاِءَنَّهُ لاَ يَخْفى عَلَيْهِ مَا يُدْرَكُ بِالاْءَسْمَاعِ) ، يعني ليس السميع من يسمع، بل من لو وقع مسموع لَسمع. ودفع توهّمه الثاني بقوله:

(وَلَمْ نَصِفْهُ بِالسَّمْعِ الْمَعْقُولِ) أي المعروف (فِي الرَّأْسِ. وَكَذلِكَ سَمَّيْنَاهُ بَصِيرا؛ لاِءَنَّهُ لاَ يَخْفى عَلَيْهِ مَا يُدْرَكُ بِالاْءَبْصَارِ مِنْ لَوْنٍ أَوْ شَخْصٍ) أي جسم (أَوْ غَيْرِ ذلِكَ) ، من نحو صِغَر وكِبَر، وقُرب وبُعد.

(وَلَمْ نَصِفْهُ بِبَصَرِ لَحْظَةِ الْعَيْنِ. وَكَذلِكَ سَمَّيْنَاهُ لَطِيفا؛ لِعِلْمِهِ بِالشَّيْءِ اللَّطِيفِ مِثْلِ الْبَعُوضَةِ) ؛ واحدة البعوض، وهي البقّ.

(وَأَخْفى مِنْ ذلِكَ، وَمَوْضِعِ النُّشُوءِ) ؛ بالنون والمعجمة المضمومتين وسكون الواو والهمز، مصدر باب منع وحسن؛ أي موضع الحدوث، وهو آلة التوالد من الذَّكر والاُنثى ، ويمكن أن يكون بكسر النون وسكون المعجمة والواو بمعنى شمّ الريح، وموضعه الشامّة.

(مِنْهَا) أي من البعوضة وأخفى.

(وَالْعَقْلِ) بقدر ما تجلب به منافعها، وتدفع به مضارّها.

(وَالشَّهْوَةِ؛ لِلسِّفَادِ(1)) ؛ بكسر المهملة والفاء والألف والمهملة، مصدر باب ضرب وعلم: نزو الذكر على الاُنثى.(2)

(وَالْحَدَبِ) ؛ بفتح المهملتين والموحّدة، مصدر باب علم: التعطّف.

(عَلى نَسْلِهَا، وَإِقَامِ) ؛ بكسر الهمزة، مصدر قولك: أقام بالمكان إقامةً وإقاما: إذا لزم.

(بَعْضِهَا عَلى بَعْضٍ) أي على ولده لحفظه.

(وَنَقْلِهَا الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ إِلى أَوْلاَدِهَا فِي الْجِبَالِ وَالْمَفَاوِزِ) ؛ جمع «مفازة» وهي البّريّة؛ سمّيت بذلك لأنّها مَهلكةُ مَن فاز أي هلك، أو تفاؤلاً بالسلامة. والفوز من فاز، .

ص: 265


1- في الكافي المطبوع : «السَّفاد» بفتح السين .
2- الصحاح ، ج 2 ، ص 489 (سفد) .

أي نجا وظفر بالخير.

(وَالاْءَوْدِيَةِ) ؛ جمع «واد» على غير قياس، إنّما يجمع على أفعلة فعيل مثل سريّ وأسرية للنهر.

(وَالْقِفَارِ) ؛ بكسر القاف والفاء جمع «قفر» بالفتح، وهو(1) المفازة التي لا نبات فيها ولا ماء.

(فَعَلِمْنَا أَنَّ خَالِقَهَا لَطِيفٌ بِلاَ كَيْفٍ) أي بلا أمر موجود في الخارج في نفسه عارض له تعالى، والظرف قيد للعلم لا للمعلوم.

(وَإِنَّمَا الْكَيْفِيَّةُ لِلْمَخْلُوقِ الْمُكَيَّفِ. وَكَذلِكَ سَمَّيْنَا رَبَّنَا قَوِيّا لاَ بِقُوَّةِ الْبَطْشِ). هو السطوة والأخذ بالعنف.

(الْمَعْرُوفِ مِنَ الْمَخْلُوقِ، وَلَوْ كَانَتْ(2) قُوَّتُهُ قُوَّةَ الْبَطْشِ الْمَعْرُوفِ مِنَ الْمَخْلُوقِ، لَوَقَعَ التَّشْبِيهُ) في الجسميّة.

(وَلاَحْتَمَلَ الزِّيَادَةَ ) في مقدار جسمه.

(ومَا احْتَمَلَ الزِّيَادَةَ احْتَمَلَ النُّقْصَانَ) . قد مرّ شرحه في سادس «باب النهي عن الجسم والصورة».

(وَمَا كَانَ نَاقِصا) أي ما احتمل النقصان.

(كَانَ غَيْرَ قَدِيمٍ) ؛ لأنّ ما ثبت قِدَمه امتنع عدمه.

(وَمَا كَانَ غَيْرَ قَدِيمٍ كَانَ عَاجِزا) ؛ لأنّه مخلوق مدبّر وجوده بقدرة خالقه الغالب عليه، لا يمكنه الامتناع عن تدبيره. وقد دلّ الدلائل على وجود صانع للعالم بريء من كلّ نقص.

(فَرَبُّنَا _ تَبَارَكَ وَتَعَالى _ لاَ شِبْهَ لَهُ وَلاَ ضِدَّ، وَلاَ نِدَّ) أي لا مثل.

(وَلاَ كَيْفَ، وَلاَ نِهَايَةَ، وَلاَ بِبَصَّارِ(3) بَصَرٍ ) . الذي في النسخ بالموحّدتين: اُولاهما .

ص: 266


1- في «ج» : «وبالفتح هو» بدل «بالفتح وهو» .
2- في «ج» : «كان» .
3- في الكافي المطبوع : «ولا تَبْصارَ» .

مكسورة جارّة، وثانيتهما مفتوحة، وشدّ المهملة؛ أي ليس ببصّار بصر، وهو كلام برأسه؛ اُعطي «لا» حكم(1) «ليس»؛ لمضارعتها لها في النفي كقول الأخطل:

وشارب مُربحٍ بالكأس نادمني(2) لا بالحَصور(2) ولا فيها بساّآرٍ(3)

ولعلّه بالمثنّاة فوقُ المفتوحةِ، أو المكسورة وسكون الموحّدة، مصدر باب التفعيل، أو اسم المصدر كتكرار بالفتح والكسر، يُقال: بصر به كعلم وحسن: إذا رآه. وبصّر به بالتشديد للمبالغة.

(وَمُحَرَّمٌ عَلَى الْقُلُوبِ أَنْ تُمَثِّلَهُ) أي لا يتأتّى من القلوب تمثيله أي تصويره بصورة.

(وَعَلَى الاْءَوْهَامِ أَنْ تَحُدَّهُ، وَعَلَى الضَّمَائِرِ أَنْ تُكَوِّنَهُ ) أي أن تتصوّره على ما هو كائن عليه. والمعنى: أن يعلم مائيّته.

(جَلَّ وَعَزَّ عَنْ إِدَاتِ) . أصلها «إدوات» حذفت الواو لمناسبة «سمات».

(خَلْقِهِ ، وَسِمَاتِ بَرِيَّتِهِ، وَتَعَالى عَنْ ذلِكَ عُلُوّا كَبِيرا) .

الثامن: (عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ، عَنِ ابْنِ مَحْبُوبٍ، عَمَّنْ ذَكَرَهُ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ عِنْدَهُ: اللّه ُ أَكْبَرُ، فَقَالَ عليه السلام : اللّه ُ أَكْبَرُ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ؟ فَقَالَ: مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : حَدَدْتَهُ) أي حصرت اللّه أكبر في بعض معناه؛ إذ معناه فوق هذا وأشمل منه.

(فَقَالَ الرَّجُلُ: كَيْفَ أَقُولُ؟ قَالَ: قُلْ: اللّه ُ أَكْبَرُ مِنْ أَنْ يُوصَفَ) أي من أن يعرف كنه كبريائه وعظمته.

أفعل التفضيل قد يستعمل للمفاضلة بين شيئين محقّقين مشتركين في المشتقّ منه، .

ص: 267


1- في حاشية «أ» : «(لا) مفعول أول قائم مقام الفاعل، (حكم) مفعول ثان مهدي» . 2 . نادمه منادمة ونداما : جالسه على الشراب . القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 180 (نوم) .
2- الحصور : الضيق الصدر . القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 9 (حصر) .
3- ذكر صدره الخليل الفراهيدي في كتاب العين ، ج 3 ، ص 114 عن الأخطل ، وذكره بتمامه في ج 7 ، ص 289 ، وفيه : «بسوار» بدل «بسآر» . وذكره ابن السكّيت في ترتيب إصلاح المنطق ، ص 16 ، وفيه : «بسوار» ؛ وابن قتيبة في غريب الحديث ، ج 2 ، ص 105 ؛ والجوهري في الصحاح ، ج 2 ، ص 632 .

كقولك: زيد أطول من عمرو، أو أقصر منه. وقد يستعمل للتبعيد عن وصف، كقولك: زيد أجلّ من أن يتكلّم فيه أو أدنى منه. والمفضّل عليه هنا غير محقّق بل مفروض، وهو نفس المفضّل باعتبارٍ آخَرَ، كأنّك تقول: هو أجلّ ممّن تصوّرته بالوصف الفلاني، وفرضته أنّه هو.

والمقصود هنا بيان أنّ لفظ «اللّه أكبر» لمّا كان مفتتح كلّ صلاة، ومفتتح الأذان والإقامة والتعقيب، وكان الاهتمام به أعظم من الاهتمام بما عداه من الأذكار، كان الأنسب به أن يكون من القسم الثاني؛ لأنّه لو كان من القسم الأوّل كان مفاده يسيرا سهلاً لا يصلح لهذا الاهتمام.

فالمراد أنّ اللّه أكبر من أن يعرف العباد قدر عظمته، كقوله: «وَمَا قَدَرُوا اللّه َ حَقَّ قَدْرِهِ»(1). ومضى بيانه في سادس العاشر وحادي عشره وثاني عشره.(2)

فلا منافاة بين هذا الحديث وبين ما يجيء في «كتاب الحجّ» في ثاني «باب دخول المسجد الحرام» من قوله: «اللّه أكبر، أكبر من خلقه، وأكبر ممّن أخشى وأحذر».(3)

ولا ينافي أيضا قوله تعالى: «أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ»(4)؛ فإنّ خلاف طوائف الجبريّة باعث للاهتمام بإثبات خالق في الجملة في هذا المقام.

التاسع: (وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى، عَنْ مَرْوَكِ) ؛ بفتح الميم وسكون المهملة وفتح الواو، اسمه: صالح.(5)

(بْنِ عُبَيْدٍ) ، مصغّرا.

(عَنْ جُمَيْعِ) ؛ بضمّ الجيم، وفتح الميم، وسكون الخاتمة.

(بْنِ عُمَيْرٍ) ؛ بضمّ المهملة، وفتح الميم، وسكون الخاتمة. .

ص: 268


1- الأنعام (6) : 91 .
2- أي في الحديث 6 و 11 و 12 من باب النهي عن الصفة بغير ما وصف به نفسه .
3- الكافي ، ج 4 ، ص 404 ، باب الدعاء عند استقبال الحجر واستلامه ، ح 2 .
4- المؤمنون (23) : 14 .
5- رجال النجاشي ، ص 425 ، الرقم 1142 ؛ خلاصة الأقوال ، ص 281 ، الرقم 17 .

(قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : أَيُّ شَيْءٍ اللّه ُ أَكْبَرُ؟) أي ما معناه.

(فَقُلْتُ: اللّه ُ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، فَقَالَ: وَكَانَ ثَمَّ) أي في جنب كبريائه وعظمته تعالى (شَيْءٌ) يقاس بينه وبين اللّه .

(فَيَكُونَ) أي اللّه (أَكْبَرَ مِنْهُ؟). يعني إنّ هذا وإن كان حقّا، لكن ليس معناه منحصرا فيه لسهولته، فلا ينبغي الاهتمام به، كما مرَّ بيانه في شرح السابق.

(فَقُلْتُ: فَمَا هُوَ؟) أي فما معناه.

(قَال: اللّه ُ أَكْبَرُ مِنْ أَنْ يُوصَفَ) . مضى معناه آنفا.

العاشر: (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام عَنْ «سُبْحَانَ اللّه ِ» فَقَالَ: أَنَفَةٌ لِلّهِ) . الأنفة _ بالهمز والنون والفاء المفتوحات _ : الحميّة والغيرة؛ يُقال: أنف من الشيء كعلم أنفا وأنفةً: إذا كرهه وشرف نفسه عنه.(1) وبالقاف: التعجّب.(2)

وعلى الأوّل معنى الكلام: أنفة ثابتة لنا لأجل اللّه تعالى، وذلك حين نذكره تعالى بذلك ونريد أنّه منزّه عمّا يصفه الواصفون المشبّهون له بخلقه. ويحتمل أن يُقال: أنفة ثابتة للّه في تعليمه خلقه، أو التكلّم به في القرآن. وفي بعض النسخ «أنفة اللّه ».

وعلى الثاني(3) كان أوفق بما يجيء في «كتاب الصلاة» في خامس «باب أدنى ما يجزئ من التسبيح» من قوله: «ألا ترى أنّ الرجل إذا عجب من الشيء قال: سبحان اللّه ».(4)

الحادي عشر: (أَحْمَدُ بْنُ مِهْرَانَ، عَنْ عَبْدِ الْعَظِيمِ بْنِ عَبْدِ اللّه ِ الْحَسَنِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَسْبَاطٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ مَوْلى طِرْبَالٍ) ؛ بكسر الطاء، وسكون الراء المهملتين، والموحّدة.

(عَنْ هِشَامٍ الْجَوَالِيقِيِّ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام عَنْ قَوْلِ اللّه ِ(5) : «سُبْحَانَ اللَّهِ» : مَا يُعْنى .

ص: 269


1- النهاية ، ج 1 ، ص 76 ؛ لسان العرب ، ج 9 ، ص 15 (أنف) .
2- كتاب العين ، ج 5 ، ص 221 ؛ الصحاح ، ج 4 ، ص 1447 (أنق) .
3- في حاشية «أ» : «هو أن يكون بالقاف» .
4- الكافي ، ج 3 ، ص 329 ، ح 5 .
5- في الكافي المطبوع : + «عزّوجلّ». وفي «ج» : - «اللّه » .

بِهِ؟ قَالَ: تَنْزِيهُهُ) . أي عمّا يصفه الواصفون المشبّهون له بخلقه.

الثاني عشر: (عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ؛ وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى جَمِيعا، عَنْ أَبِي هَاشِمٍ الْجَعْفَرِيِّ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ الثَّانِيَ عليه السلام : مَا مَعْنَى «الْوَاحِدِ»؟)

أي في أمثال آية سورة الرعد: «قُلْ اللّه ُ خَالِقُ كُلِّ شَىْ ءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ»(1).

(فَقَالَ: إِجْمَاعُ الاْءَلْسُنِ عَلَيْهِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ، كَقَوْلِهِ(2): «وَ لَ_ل_ءِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ»(3) ) .

«إجماع» مبتدأ، و«الألسن» جمع لسان، وعبارة عن ألسن المشركين، وذكر الألسن إشارة إلى أنّ أهل الألسن لايطاوعون(4) هذا الإجماع، فكأنّ ألسنَهم مقهورةٌ على هذا الإجماع من قهّار. وضمير «عليه» للّه .

و«بالوحدانيّة» خبر المبتدأ، والباء للسببيّة. و«الوحدانيّة» مبالغة الوحدة، وهي التفرّد في خلق كلّ شيء، أو في خلق ما وجوده بمحض نفوذ الإرادة، وقولِ: «كُن» يعني عليه السلام إنّ إجماع الألسن على الاعتراف بوجود اللّه وبأنّه خالقهم، إنّما هو بسبب تلك الوحدانيّة التي اُخذ منها الواحد، سئل عليه السلام عن المشتقّ فأجاب بتفسير مبدأ الاشتقاق؛ لظهور أنّ المقصود بالذات تفسير المبدأ، فإنّ معنى المشتقّ معلوم من اللغة لكلّ أحد. .

ص: 270


1- الرعد (13) : 16 .
2- في الكافي المطبوع : + «تعالى» .
3- الزخرف (43) : 87 .
4- في حاشية «أ» : «أي لا ينقادون لما يقولون ولا يرضون به ، فلا ينافي ذلك علمهم به كما في قوله تعالى في سورة النمل : «وَجَحَدُواْ بِهَا وَ اسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ» (مهدي)» . والآية في سورة النمل (27) : 14 .

الباب السابع عشر: باب آخر و هو من الباب الأوّل إلاّ أنّ فيه زيادة و هو...

الباب السابع عشر بَابٌ آخَرُ وَ هُوَ مِنَ الْبَابِ الاْءَوَّلِ إِلاَّ أَنَّ فِيهِ زِيَادَةً وَ هُوَ الْفَرْقُ مَا بَيْنَ الْمَعَانِي الَّتِي تَحْتَ أَسْمَاءِ اللّه ِ وَأَسْمَاءِالْمَخْلُوقِينَ

فيه حديثان.

«ما» موصولة بتقدير «فيما» أو مفعول «الفرق» وإن كان إعمال المصدر المعرّف باللام قليلاً نحو ضعيف النكايةِ أعداءَه؛(1) أو زائدة.

هذا الفرق هنا مقصود بالذات، دون الباب الأوّل، ولا ينافي ذلك كونه مذكورا في سابع الباب الأوّل؛ فإنّه بالتبع.

الأوّل: (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الْمُخْتَارِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُخْتَارِ الْهَمْدَانِيِّ) ؛ بسكون الميم والمهملة.

(وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، عَنْ عَبْدِ اللّه ِ بْنِ الْحَسَنِ الْعَلَوِيِّ جَمِيعا، عَنِ الْفَتْحِ بْنِ يَزِيدَ الْجُرْجَانِيِّ) ، بضمّ الجيم الاُولى وسكون المهملة، نسبة إلى جرجان معرّب گُرگان، وهو استرآباد وتوابعهُ؛ أو إلى جرجانيّة، وهي قصبة بلاد خوارزم.(2)

ص: 271


1- قال الرضي في شرحه على الكافية ، ج 3 ، ص 410 : «جوّز سيبويه والخليل إعمال المصدر المعرّف باللام مطلقا نحو قوله : ضعيف النكاية أعداءه يخال الفرار يراخي الأجل وانظر شرح ابن عقيل ، ج 2 ، ص 95 .
2- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 181 ؛ تاج العروس ، ج 3 ، ص 312 (جرج) .

(عَنْ أَبِي الْحَسَنِ عليه السلام ) ، هو الرضا عليه السلام .(1)

(قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ، السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، الْوَاحِدُ الاْءَحَدُ الصَّمَدُ «لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوا أَحَدٌ»(2)، لَوْ كَانَ كَمَا يَقُولُ الْمُشَبِّهَةُ) أي الذين قالوا: إنّ اللّه جسم أو صورة كالمخلوقات.

(لَمْ يُعْرَفِ الْخَالِقُ مِنَ الْمَخْلُوقِ ، وَلاَ الْمُنْشِئُ مِنَ الْمُنْشَاَء، لكِنَّهُ الْمُنْشِئُ، فَرَقَ(3)) ؛ بصيغة الماضي المعلوم من باب نصر، أو باب التفعيل للتكثير.

(بَيْنَ مَنْ جَسَّمَهُ وَصَوَّرَهُ وَأَنْشَأَهُ؛ إِذْ كَانَ لاَ يُشْبِهُهُ شَيْءٌ، وَلاَ يُشْبِهُ هُوَ شَيْئا) . مضى شرحه في سادس «باب النهي عن الجسم والصورة».

(قُلْتُ: أَجَلْ) ؛ بالهمز والجيم المفتوحتين وسكون اللام، حرف تصديق.

(جَعَلَنِيَ اللّه ُ فِدَاكَ لكِنَّكَ قُلْتَ: الاْءَحَدُ الصَّمَدُ، وَقُلْتَ: لاَ يُشْبِهُهُ شَيْءٌ، وَاللّه ُ وَاحِدٌ، وَالاْءِنْسَانُ وَاحِدٌ، أَ لَيْسَ قَدْ تَشَابَهَتِ الْوَحْدَانِيَّةُ؟). المراد بالأحد ما لا نظير له، وذكر «الصمد» هنا استطراد، والمراد بتشابه الوحدانيّة تساويها فيهما بأن لا يكون بمحض اشتراك اللفظ.

أشكل عليه أمران فذكرهما في سؤالين: الأوّل: أنّه كيف يكون أحدا والوحدانيّة متشابهةٌ. الثاني: أنّه كيف لا يشبهه شيء والوحدانيّة متشابهة؟

(قَالَ: يَا فَتْحُ، أَحَلْتَ) . يمكن أن يكون من باب الإفعال، إمّا من أحال الرجل: إذا أتى بالمحال وتكلّم به؛ وإمّا من أحال الشيء: إذا جعله حائل اللون، يُقال: حال لونه: إذا تغيّر واسوَدَّ وأحاله غيره؛ وإمّا من أحال الشيء من مكان إلى مكان: إذا نقله، يُقال: حال من مكان إلى آخر؛ أي تحوّل وأحاله غيره؛ وإمّا من أحال بدَينه على آخر. والاسم: الحوالة؛ تشبيها للقياس بالحوالة. .

ص: 272


1- في «ج» : «هو الهادي أو الرضا عليه السلام » بدل «هو الرضا عليه السلام » .
2- الإخلاص (112) : 4 و 5 .
3- في الكافي المطبوع : «فَرَّقَ» بتشديد الراء .

ويمكن أن يكون الهمزة للاستفهام، و«حُلتَ» بضمّ الحاء، أي صرت حائل اللون، أو تحوّلت من مكان إلى آخر.

ويؤيّد آخر الاحتمالات قوله:

(ثَبَّتَكَ اللّه ُ) ؛ جملة دعائيّة.

(إِنَّمَا التَّشْبِيهُ فِي الْمَعَانِي) أي إنّما التشبيه المقصود بالنفي هنا التشبيه في المعاني، والمراد بالمعنى الموجودُ في الخارج في نفسه مطلقا، سواءً كان ذاتيّا كالجسميّة، أو عارضا كاللون؛ أي أن يكون موجودا في الخارج في نفسه، مشتركا بين هذا وذاك.

(فَأَمَّا فِي الاْءَسْمَاءِ) أي فأمّا التشبيه في مفهومات الألفاظ وما وضعت له لغةً من المفهومات الانتزاعيّة؛ أي التي ليس لمبادئ اشتقاقها فرد حقيقي إنّما لها الحصص فقط.

(فَهِيَ وَاحِدَةٌ) . هذا من إقامة دليل الشيء مقامه؛ أي فليس مقصودا بالنفي لأنّها واحدة، أي ألفاظ الأسماء مشتركة معنى بين اللّه وخلقه، وليس إطلاقها عليهما بالحقيقة والمجاز، ولا بالاشتراك اللفظي.

(وَهِيَ دَلاَلَةٌ عَلَى الْمُسَمّى) أي عنوانات له ليست داخلة في ذاته.

والمراد بالمسمّى المعنى الذي يدلّ عليه بهذه الأسماء، وهو ذات اللّه تعالى، كما مرّ في ثاني «باب المعبود» من قوله: «ولكنّ اللّه معنى يدلّ عليه بهذه الأسماء».

(وَذلِكَ) . بيانٌ لاختلاف المعنى وذي العنوان.

(أَنَّ الاْءِنْسَانَ وَإِنْ قِيلَ: وَاحِدٌ ) بالمعنى اللغوي الحقيقي المشترك.

(فَإِنَّهُ يُخْبَرُ) ؛ هذا القول.

(أَنَّهُ جُثَّةٌ وَاحِدَةٌ وَلَيْسَ بِاثْنَيْنِ) أي جثّتين.

(وَالاْءِنْسَانُ نَفْسُهُ) أي في حدّ ذاته (لَيْسَ بِوَاحِدٍ) أي غير منقسم أصلاً.

(لاِءَنَّ أَعْضَاءَهُ مُخْتَلِفَةٌ ، وَأَلْوَانَهُ مُخْتَلِفَةٌ، وَمَنْ أَلْوَانُهُ مُخْتَلِفَةٌ غَيْرُ وَاحِدٍ) أي ليس غير منقسم أصلاً.

(وَهُوَ أَجْزَاءُ) ؛ أي مركّب من أجزاء.

ص: 273

(مُجَزَّأَةٍ(1)) ؛ بصيغة اسم المفعول من باب التفعيل، مضاف إليه.

(لَيْسَتْ بِسَوَاءٍ). الجملة صفة «أجزاء». و«ليست» من الأفعال الناقصة. و«بسواء» بحرف الجرّ وفتح المهملة والمدّ، أي بمتشابهة في الحقيقة. أو «ليست» بالموحّدة بصيغة الماضي المعلوم من باب علم، و«بسُوء» بضمّ الموحّدة وضمّ المهملة وسكون الواو والهمز، مصدر باب منع وعلم، مفعول «ليست» أي اُنسا وايتلافا.

(دَمُهُ غَيْرُ لَحْمِهِ، وَلَحْمُهُ غَيْرُ دَمِهِ، وَعَصَبُهُ غَيْرُ عُرُوقِهِ، وَشَعْرُهُ غَيْرُ بَشَرِهِ، وَسَوَادُهُ غَيْرُ بَيَاضِهِ، وَكَذلِكَ سَائِرُ جَمِيعِ الْخَلْقِ) . الكاف للتشبيه، فالمراد أنّ جميع الخلق لا يخلو عن اختلاف في أجزائه أو أعراضه الموجودة في الخارج في أنفسها، وظاهره إبطال المجرّدات.

والمراد بالسائر هنا البقيّة،(2) وقد يستعمل بمعنى الجميع. والأوّل من السؤر مهموز، والثاني من الأجوف.

(فَالاْءِنْسَانُ وَاحِدٌ فِي الاِسْمِ، وَلاَ وَاحِدٌ فِي الْمَعْنى، وَاللّه ُ _ جَلَّ جَلاَلُهُ _ هُوَ وَاحِدٌ) في المعني (لاَ وَاحِدَ) في المعنى (غَيْرُهُ، لاَ(3) اخْتِلاَفَ فِيهِ) أي ليس فيه أجزاءٌ مختلفة.

(وَلاَ تَفَاوُتَ) أي ليس له صفات متفاوتة.

(وَلاَ زِيَادَةَ وَلاَ نُقْصَانَ) في أجزائه الفرضيّة المقداريّة الغير المختلفة؛ إذ لا أجزاء له كذلك أيضا.

(فَأَمَّا الاْءِنْسَانُ الْمَخْلُوقُ) ؛ صفة الإنسان.

(الْمَصْنُوعُ) ؛ صفة بعد صفة.

(الْمُوءَلَّفُ) ؛ صفة اُخرى، أو جواب إمّا بتقدير القول والمبتدأ، أي فيقال: هو المؤلّف. قال ابن هشام في مُغني اللبيب بعد بيان وجوب الفاء في جواب أمّا:

فإن قلت: فقد حذفت في التنزيل في قوله تعالى: «فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ .

ص: 274


1- في «أ» : «مجزَّءٍ» . وفي الكافي المطبوع : «أجزاءٌ مجزّاةٌ» .
2- في حاشية «أ» : «بقرينة إضافته إلى الجميع (سمع)» .
3- في «ج» : «ولا» .

أَكَفَرْتُمْ»(1)في حاشية «أ» : «المتوهّم مولانا محمّد أمين الإسترابادي رحمه الله تعالى (منه)» .(2). قلت: الأصل: فيقال لهم: أكفرتم، فحذف القول استغناء بالمقول، فتبعته الفاء في الحذف، وربّ شيء يصحّ تبعا ولا يصحّ استقلالاً.(3)

(مِنْ أَجْزَاءٍ) ؛ جواب «أمّا» أو لغو متعلّق بالمؤلّف.

(مُخْتَلِفَةٍ وَجَوَاهِرَ شَتّى غَيْرَ أَنَّهُ بِالاِجْتِمَاعِ شَيْءٌ وَاحِدٌ) .

اعلم أنّه قد يتوهّم(3) من هذه العبارات وأمثالها أنّ إطلاق نحو «الواحد» على اللّه وعلى غيره بالاشتراك اللفظي، أو بالحقيقة والمجاز. وهذا خلاف البديهة، والمراد ما ذكرنا.

(قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، فَرَّجْتَ عَنِّي فَرَّجَ اللّه ُ عَنْكَ، فَقَوْلَكَ: اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ فَسِّرْهُ لِي كَمَا فَسَّرْتَ الْوَاحِدَ) .

اللطف _ بضمّ اللام وسكون المهملة، مصدر باب حسن _ : الدقّة، وهو ضدّ الغلظة، سواء كان باعتبار العلم بدقائق الاُمور والنفوذ في بواطن ما في الدهور، أو باعتبار الجسم والصِغَر.

والخُبرُ _ بضمّ المعجمة وكسرها وسكون الموحّدة والمهملة، مصدر باب حسن _ : عِلمُ الفاعل بدقائق ما يتعلّق بفعله. فَهُما في اللّه تعالى متلازمان، فتفسير أحدهما يُغني عن تفسير الآخر.

(فَإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّ لُطْفَهُ عَلى خِلاَفِ لُطْفِ خَلْقِهِ) أي مع علمي باشتراك اللطف بالمعنى اللغوي بينهما معنىً أعلم أنّه مقول بالتشكيك، فالحصّة التي فيه تعالى أقوى من حصص خلقه.

(لِلْفَصْلِ) أي بين ذاته وذواتهم، فإنّه خالق وهم مخلوقون.

ويحتمل أن تكون اللام للعهد؛ أي الفصل الذي ذكرت أنّه واحدٌ بالمعنى، لا واحد بالمعنى(4) غيره؛ فإنّه يفهم منه أنّه لا آلة له. .

ص: 275


1- آل عمران
2- : 186 .
3- مغني اللبيب ، ج 1 ، ص 56 (أمّا) .
4- في حاشية «أ» : «الأولى (في المعنى) في الموضعين» .

(غَيْرَ أَنِّي أُحِبُّ أَنْ تَشْرَحَ ذلِكَ لِي، فَقَالَ: يَا فَتْحُ، إِنَّمَا قُلْنَا: اللَّطِيفُ؛ لِلْخَلْقِ اللَّطِيفِ) أي الدقيق.

(لِعِلْمِهِ(1)) ؛ متعلّق بالخلق.

(بِالشَّيْءِ اللَّطِيفِ) أي الدقيق.

(أَ وَلاَ تَرى) . الواو للعطف على مقدّر، كأنّه قال: ألا ترى دقائق خلقه في نحو السماوات والأرضين، فإنّها مع عِظَمها روعي في خلقها دقائق لا تُحصى ولا ترى.

(وَفَّقَكَ اللّه ُ وَثَبَّتَكَ إِلى أَثَرِ صُنْعِهِ فِي النَّبَاتِ اللَّطِيفِ) أي الصغير (وَغَيْرِ اللَّطِيفِ) ؛ فإنّ العروق الدقاق التي في الأوراق العظيمة ممّا يتحيّر الناظر فيه والمتأمّل له في لطف صانعه، ويعلم أنّها بلا علاج ولا أداة ولا آلة.

(وَمِنَ الْخَلْقِ اللَّطِيفِ) . دليل آخر، والواو للاستئناف النحوي، أو للعطف على «أولاترى» إلى آخره، عطفَ الخبر على الإنشاء. والظرفُ مستقرّ خبر مقدّم على المبتدأ.

(وَمِنَ الْحَيَوَانِ) . عطفٌ على «من الخلق» عطفَ المفصّل على المجمل.

(الصُّغَارِ) ؛ بضمّ الصاد، أي الصغير.

(وَمِنَ الْبَعُوضِ) ؛ بفتح الموحّدة، أي البقّ.

(وَالْجِرْجِسِ ) ؛ بكسر الجيم وسكون المهملة وكسر الجيم الثانية والمهملة: البعوض الصغار.(2)

(وَمَا هُوَ أَصْغَرُ مِنْهَا) أي من الجرجس من أنواع البعوض، أو من حيوان آخر.

(مَا) ؛ موصولة، وهي مبتدأ مؤخّر.

(لاَ تَكَادُ(3)) . «كاد» من أفعال المقاربة وهو موضوع لدنوّ حصول الخبر، وهو من باب علم. .

ص: 276


1- في الكافي المطبوع : «ولعلمه» .
2- الصحاح ، ج 3 ، ص 913 ؛ لسان العرب ، ج 6 ، ص 37 (جرجس) .
3- في الكافي المطبوع : «لا تكاد» .

وقال بعض النحاة: إنّ إثبات «كاد» نفي، ونفيه إثبات.(1)

والأوّل حقّ؛ لأنّ إثبات «كاد» دالّ على نفي مضمون خبره؛ لأنّ القرب من الفعل لا يكون إلاّ مع انتفاء الفعل. والثاني خطأ مبنيّ على الخلط بين نفي القرب وقرب النفي، أو على توهّم أنّ الإثبات هنا نفي مطلق، ونفي النفي المطلق يكون إثباتا.

والجواب: أنّ الإثبات هنا نفي خاصّ، ونفي النفي الخاصّ ليس إثباتا، بل ربّما كان من آكد النفي كما فيما نحن فيه.

وقد يستدلّ على أنّ نفيه إثبات بتخطئة الشعراء ذا الرمّة(2) في قوله:

إذا غيّر الهَجْر(3) المحبّين لم يكده(3) رسيس(4) الهوى من حبّ ميَّةَ يَبرَحُ(5)

بقولهم: نراه قد برح حتّى أدّى ذلك إلى أن غيَّر ذو الرمّة «لم يكد» إلى «لم أجد». والجواب أن نخطّئهم ونصوّب ذا الرمّة في بديهته، وقد خطّأ المخطّئين وذا الرمّة في رويّته من قال حين سمع تلك الحكاية: أصابت بديهتُه، وأخطأت رويّتُهُ.(6)

(تَسْتَبِينُهُ) . تقول: استبنت الشيء: إذا عرفته بيّنا.

(الْعُيُونُ) . اللام للعهد؛ أي العيون المعهودة الجارية في حدّتها على العادة.

(بَلْ لاَ يَكَادُ يُسْتَبَانُ) لعين أصلاً، ولو كانت أحدّ من العيون المعهودة. ونائب الفاعل ضمير مستتر راجع إلى «ما».

(لِصِغَرِهِ) . الضمير راجع إلى «الخلق اللطيف» وما عطف عليه، أو إلى «ما». .

ص: 277


1- شرح الرضي على الكافية ، ج 4 ، ص 223 ، دخول النفي على كاد .
2- هو غيلان بن عقبة بن مسعود الشاعر المعروف بذي الرمّة . وقد وردت أقوال في سبب تكنيته بذي الرمّة ، من أرادها فليرجع لترجمته في تاريخ مدينة دمشق ، ج 48 ، ص 142 ، الترجمة 5566 . 3 . في المصادر : «النأي» بدل «الهجر» .
3- في «ج» : «يكد» .
4- في حاشية «أ» : «الرسيس : ابتداء الحبّ» . و في كتاب العين ، ج 7 ، ص 191 هو الشيء الثابت اللازم مكانه .
5- حكاه في كتاب العين ، ج 7 ، ص 191 (الرسّ) ؛ غريب الحديث لابن سلام ، ج 4 ، ص 426 ؛ الأمالي للسيّد المرتضى ، ج 2 ، ص 12 ؛ الكشّاف ، ج 3 ، ص 69 .
6- شرح الرضي على الكافية ، ج 4 ، ص 225 ، دخول النفي على كاد .

(الذَّكَرُ) ؛ بالرفع بدل، أو عطف بيان ل«ما».

(مِنَ الاُْنْثى) . «من» للفصل، وهي الداخلة على ثاني المتضادّين، والظرف صفة للذكر؛ لأنّ اللام فيه للعهد الذهني.

ولو جعل الظرف لغوا متعلّقا بقوله: «يستبان» وجعل نائب الفاعل الذكر، لكان توجيه الترقّي في «بل» مشكلاً؛ لأنّه إذا لم تستبن العيون نفسه كان عدم استبانتها الذكر(1) من الاُنثى بطريقٍ أولى.

وإن اُريد عدم استبانته لعين أصلاً، لحصل التساوي؛ لتعارض الجهتين، فكيف يصحّ الترقّي؟ ولَناقَضَ(2) قوله: «لا تكاد تستبينه العيون» قولُهُ: «فلمّا رأينا» إلى آخره، إلاّ على قول من قال:(3) إنّ نفي «كاد» إثبات. وقد مرّ ما فيه.

وحاصل المعنى: ومن الخلق اللطيف وهو الحيوان الصغار إلى آخره، ذكره من حيث إنّه منفصل من الاُنثى أي ممتاز عنه، أو من أحوال الخلق اللطيف انفصال ذكره من الاُنثى، وكذا قوله:

(وَالْحَدَثُ) ؛ بالمهملتين المفتوحتين؛ أي الحادث.

(الْمَوْلُودُ مِنَ الْقَدِيمِ. فَلَمَّا رَأَيْنَا صِغَرَ ذلِكَ) . الإشارة إلى الحيوان الصغار والبعوض والجرجس وما هو أصغر منها.

(فِي لُطْفِهِ) أي لطف ذلك. و«في» بمعنى «مع» كما في قوله تعالى في سورة القصص: «فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِى زِينَتِهِ».(4)

والمراد بلطفه فعلُهُ الدالّ على اهتدائه للاُمور الدقيقة، ويفسّره قوله:

(وَاهْتِدَاءَهُ) . عطف على «لطفه» للبيان والتفصيل. .

ص: 278


1- مفعول لاستبانتها.
2- عطف على قوله : «لكان توجيه». وقوله: «قوله» معفول لناقض ، وفاعله قوله: «فلما رأينا» إلى آخره .
3- في حاشية «أ» : «لا يخفى أنّه على هذا الوجه لا يستقيم تعليل عدم الاستبانة بقوله : لصغره ؛ تأمل» .
4- القصص (28) : 79 .

(لِلسِّفَادِ(1)) ؛ بكسر المهملة: نَزْوُ الذكر على الاُنثى.(2)

(والْهَرَبَ مِنَ الْمَوْتِ، وَالْجَمْعَ لِمَا يُصْلِحُهُ) ؛ من باب الإفعال ضدّ «يفسده». ويحتمل أن يكون من باب نصر، بأن يكون الأصل «يصلُحُ» له أي ينفعه.

(وَمَا فِي لُجَجِ الْبِحَارِ) . معطوفٌ على «ما يصلحه» للبيان والتفصيل، أو على «صغر ذلك» أي ورأيناها(3) في لجج البحار من ذلك.

(وَمَا فِي لِحَاءِ) ؛ بكسر اللام والمهملة والمدّ: قشر.(4)

(الاْءَشْجَارِ وَالْمَفَاوِزِ) أي وما في المفاوز.

(وَالْقِفَارِ) ؛ بكسر القاف جمع «قفر» بفتحها وسكون الفاء: الخلأ من الأرض.

(وَإِفْهَامَ) ؛ بكسر الهمزة، مصدر باب الإفعال للتعريض، مثل أولد الحامل:

إذا دنا وقت ولادتها.

وهذا إشارة إلى أنّ الحيوانات لا تفهم جميع مقاصد أمثالها في منطقها، إنّما تفهم قدرا يكفيها لمعاشها، وفوات الباقي عنها لا يُخِلّ بمعاشها.

ويمكن أن يكون بمعنى التفهيم وتبليغ الرسالة، كما يصدر عن عُمّال أمير النحل وعمّال أمير الحيتان ونحوهما.

وعلى التقديرين هو منصوب بالعطف على «صغر».

وفي كتاب التوحيد لابن بابويه «وفهم».(5)

(بَعْضِهَا). الضمير راجع إلى مرجع ضمير «منها» أو «إليه» وإلى ما هو أصغر من الحيوانات.

(عَنْ بَعْضٍ مَنْطِقَهَا). استعار المنطق للأفعال الدالّة على مقاصدها من الأصوات .

ص: 279


1- في الكافي المطبوع : «للسَّفاد» بفتح السين .
2- الصحاح ، ج 2 ، ص 489 (سفد) .
3- في «ج» : «رأينا ما» بدل «رأيناها» .
4- النهاية ، ج 4 ، ص 243 (لحا) .
5- التوحيد ، ص 186 ، باب أسماء اللّه ، ح 1 .

ونحوها، كقوله: «عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ»(1).

(وَمَا يَفْهَمُ بِهِ أَوْلاَدُهَا عَنْهَا). عطفٌ على «منطقها» عطفَ الخاصّ على العامّ.

(وَنَقْلَهَا الْغِذَاءَ). عطفٌ على السفاد.

(إِلَيْهَا ) أي إلى أولادها.

(ثُمَّ)؛ للتعجّب.

(تَأْلِيفَ)؛ بالنصب معطوف على صِغَر.

(أَلْوَانِهَا ). وقوله:

(حُمْرَةٍ)؛ بالجرّ بيان ل «ألوانها».

(مَعَ صُفْرَةٍ ، وَبَيَاضٍ مَعَ حُمْرَةٍ). وفي كتاب التوحيد لابن بابويه «وبياضا» بالنصب،(2) وحينئذٍ «حمرة» أيضا منصوب على أنّه حال من ألوانها.

(وَأنْهِ مَا لاَ يَكَادُ(3) عُيُونُنَا تَسْتَبِينُهُ). الواو للاستئناف النحوي، وهذه إلى قوله: «أيدينا» معترضة.

و«أنْهِ» _ بفتح الهمزة وسكون النون وكسر الهاء _ أمرٌ من(4) ناقص باب الإفعال، مأخوذٌ من النهي، ضدّ الأمر، ومعناه: اُترك. يُقال: أنهى الرجل كذا: إذا(5) انتهى عنه كأنّه جعله ناهيا له عن ارتكابه.

وقال ابن الأثير في النهاية:

وفيه: «قلت: يارسول اللّه ، هل من ساعة أقربُ إلى اللّه ؟ قال: نعم، جوف الليل الآخِر فصلِّ حتّى تصبح، ثمّ أَنْهِهْ حتّى تطلع الشمس». قوله: «أنهه» بمعنى انته، وقد أنهى الرجل إذا انتهى، فإذا أمرت قلت: أنهِهْ، فتزيد الهاء للسكت، كقوله تعالى: «فَبِهُدَاهُمُ .

ص: 280


1- النمل (27) : 16 .
2- اُنظر التوحيد، ص 186، باب أسماء اللّه ، ح 1.
3- في الكافي المطبوع : «وأنّهُ ما لا يكاد» .
4- في «ج» : - «من» .
5- في «ج» : «أي» .

اقْتَدِهْ»(1)، فأجرى الوصلَ مُجْرَى الوقفِ. انتهى.(2)

ومقصود الإمام عليه السلام أنّ في باطن تلك الحيوانات من الأحشاء وآلات القبض والبسط ونحوها اُمورا لا يمكنني بيانها لك مفصّلاً؛ لأنّها غير محسوسة، فلا يبلغها فهمك، فاتركها ولا تطلب منّي بيانها. وهذا نوع من الكلام فيه تهويل وتعظيم وإشارة إلى رعاية دقائق الحكمة بحيث لا يُعدّ ولا يُحصى.

ويمكن أن يكون مأخوذا من النهاية؛ يُقال: أنهى الرجل كذا: إذا أبلغه.(3)

والأوّل أنسب بالمقام.

وفي كتاب التوحيد لابن بابويه بعد قوله: «مع حمرة»: «وما لا يكاد» إلى آخره،(4) وحينئذٍ هو معطوف على «تأليف» أو على «ألوانها» أي وتأليف أعضائها التي لا تكاد.

(لِدَمَامَةِ خَلْقِهَا لاَ تَرَاهُ عُيُونُنَا، وَلاَ تَلْمِسُهُ أَيْدِينَا). الظرف متعلّق ب«لا يكاد»(5) أو ب«لا تراه ولا تلمسه». وعلى الأوّل جملة «لا تراه» استئناف بياني، وعلى الثاني المجموع استئناف بياني.

و«الدمامة» بفتح المهملة: القِصَر والصِغَر. وضمير «خلقها» لمرجع ضمير «ألوانها». والضميران الآخران ل_«ما».

وقوله: «لا تلمسه أيدينا» أي لا يمكن معرفتُهُ باللمس.

(عَلِمْنَا)؛ جواب «فلمّا».

(أَنَّ خَالِقَ هذَا الْخَلْقِ لَطِيفٌ، لَطُفَ)؛ كحسن.

(بِخَلْقِ مَا سَمَّيْنَاهُ بِلاَ عِلاَجٍ) أي بلا جسم خارج عن البدن يكون وسيلة لفعلٍ كالدواء للطبيب، والقَدُوم للنجّار. .

ص: 281


1- الأنعام (6) : 90 .
2- النهاية ، ج 5 ، ص 139 (نها) .
3- النهاية ، ج 5 ، ص 139 (نها) .
4- التوحيد، ص 186، باب أسماء اللّه و... ، ح 1.
5- في «ج» : «لا تكاد» .

(وَلاَ أَدَاةٍ) أي وبلا جسم داخل في البدن يكون تحريكه وسيلة لفعلٍ كعضلات القبض والبسط والجوارح.

(وَلاَ آلَةٍ) أي وبلا حالة موجودة في نفسها في الخارج يكون إحداثها وسيلة لفعل كحركة الروح الإنساني لتحريك عَضَلةٍ وعضوٍ لاستعمال علاج مثلاً.

(وَإنَّ(1))؛ بكسر الهمزة للتحقيق، أو بفتحها للعطف على «أنّ خالق».

(كُلَّ صَانِعِ شَيْءٍ فَمِنْ شَيْءٍ) أي من مادّة (صَنَعَ، وَاللّه ُ الْخَالِقُ اللَّطِيفُ الْجَلِيلُ). ذكره لئلاّ يُتوهّم من اللطفِ الصِغَرُ.

(خَلَقَ وَصَنَعَ لاَ مِنْ شَيْءٍ): لا من مادّة.

وحاصل الفرق بين لطف اللّه ولطف خلقه بأمرين: الأوّل: عدم العلاج والأداة، بل بمحض القدرة التي لا يمتنع منها دقيق ولا جليل، والعلم الذي لا يخفى معه دقيق ولا جليل. الثاني: عدم المادّة.

الثاني: (عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ مُرْسَلاً، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا عليه السلام قَالَ: قَالَ: اعْلَمْ _ عَلَّمَكَ اللّه ُ الْخَيْرَ _ أَنَّ اللّه َ _ تَبَارَكَ وَتَعَالى _ قَدِيمٌ، وَالْقِدَمُ صِفَتُهُ الَّتِي دَلَّتِ الْعَاقِلَ) أي من عقل كنه المراد من القدم، وأنّه يرجع إلى معنى سلبي هو عدم انقطاع زمان وجوده في جانب الماضي، لا إلى معنى وجودي هو تحقّقه في زمان خاصّ يسمّى أزلاً، حتّى يتوهّم أنّه يمكن أن يوجد اللّه تعالى شيئا فيه، فيكون أثره أيضا قديما.

(عَلى أَنَّهُ لاَ شَيْءَ قَبْلَهُ ) أي لم يصدر عن شيء.

(وَلاَ شَيْءَ مَعَهُ) أي لم يصدر عنه شيء.

(فِي دَيْمُومَتِهِ(2))؛ بفتح المهملة وسكون الخاتمة وضمّ الميم وسكون الواو وفتح الميم والمثنّاة فوقُ والضميرِ؛ أي في دوامه. والظرف متعلّق بالنفي الأخير.

والحاصل أنّ تعقّل مفهوم القدم يرشد إلى أنّه لا يمكن أن يكون ما هو قديم معلولاً .

ص: 282


1- في الكافي المطبوع : «وأنّ» بفتح الهمزة .
2- في الكافي المطبوع : «ديموميّته» .

لشيء، ولا علّة لقديمٍ آخَرَ، والنفي الثاني لازم للنفي الأوّل.

(فَقَدْ بَانَ) أي ظهر (لَنَا بِإِقْرَارِ الْعَامَّةِ) أي إقرار المخالفين بأنّه تعالى قديم.

(مُعَجِّزَةِ(1))؛ بالجرّ صفة للعامّة. وهي إمّا بالمهملة والجيم والمهملة، بصيغة اسم الفاعل، من باب التفعيل أو الإفعال. والتعجير والإعجار: التوسيع. وإمّا بالزاي بصيغة اسم المفعول، من باب التفعيل أو الإفعال. ومآل الكلّ واحد.

(الصِّفَةِ)؛ بالجرّ مضاف إليه لمعجرة. وعلى الأوّلين اللام للعهد الخارجي؛ أي الصفة التي هي القدم. والمراد القائلون بأنّ القدم يسع متعدّدا.

وعلى الأخيرين اللام للجنس، أو للاستغراق. والمراد القائلون بأنّ صفاته تعالى موجودات في أنفسها في الخارج، قائمة به، قديمة معه، لم تزل معه في ديمومته.

(أَنَّهُ لاَ شَيْءَ قَبْلَ اللّه ِ، وَلاَ شَيْءَ مَعَ اللّه ِ فِي بَقَائِهِ). يعني القول والإقرار بالقدم يستلزم ذلك.

(وَ بَطَلَ قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَهُ أَوْ كَانَ مَعَهُ شَيْءٌ).

الضمير في «قبله» و«معه» راجع إلى اللّه تعالى، فزعم أنّه كان قبله شيء مفروض استظهارا وإشارةً إلى أنّ زعْم أنّه معه شيء كزعم أنّه كان قبله شيء.

ويحتمل أن يكون الضمير راجعا إلى القديم المطلق.

(وَذلِكَ). استدلالٌ على أنّ القدم إذا عُقل حقَّ تعقّله، عُلم أنّه ينافي التعدّد بأن يكون أحدهما معلولاً للآخر.

(أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَعَهُ شَيْءٌ فِي بَقَائِهِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ خَالِقا لَهُ). المراد بالخالق هنا المؤثّر في وجود الشيء، سواء كان بالإيجاب أو بالاختيار. وإنّما لم يقل «فاعلاً» إشارةً إلى أنّ فعله لا يكون إلاّ بالاختيار، فهو رمز إلى دليل آخر على عدم تعداد القديم.

(لاِءَنَّهُ لَمْ يَزَلْ مَعَهُ، فَكَيْفَ يَكُونُ خَالِقا لِمَنْ لَمْ يَزَلْ مَعَهُ؟!). تصريحٌ بما أشار إليه بقوله: «للعاقل» يعني أنّه ليس مفهوم القدم أمرا وجوديّا بأن يكون للقديم ظرف معيّن يؤثّر .

ص: 283


1- في الكافي المطبوع : «مُعْجِزَةَ» .

فيه في قديم آخَرَ، بل مفهوم القدم أمرٌ عدمي هو عدم انقطاع زمان الوجود في جانب الماضي، وهو المراد بقوله: «لم يزل معه»، فلا يمكن التأثير فيه.

وينبّه عليه أنّه لو كان مع اللّه معلول له قديم، لكان تعالى مقدّما بالذات على استمرار معلوله بتقدّم واحد غير مستمرّ؛ أي باعتبار وجود واحد شخصي له تعالى من حيث إنّه مقدّم على الإيجاد واستمراره بحيث يكون كلّ جزء من الاستمرار بعد ذلك الوجود، فله تعالى باعتبار هذا التقدّم حصول في مرتبة من مراتب نفس الأمر، فحصوله من هذه الحيثيّة إمّا حين بقاء المعلول، أو حين حدوثه؛ إذ لا يخرج شيء على تقدير قدم استمرار الزمان عن مقارنة حدّ من الزمان وإن لم يكن زمانيّا. وهذا بديهيّ وقد اُشير إليه بقولهم أعمّ القضايا الفعليّة المطلقة العامّة.

والأوّل مُحال؛ لاستلزامه خلاف الفرض والفردَ المحال من تحصيل الحاصل. والثاني يستلزم أن يكون القديم حادثا.

(وَلَوْ كَانَ قَبْلَهُ شَيْءٌ، كَانَ الاْءَوَّلَ ذلِكَ الشَّيْءُ ، لاَ هذَا ، وَكَانَ الاْءَوَّلُ) أي ذلك الشيء (أَوْلى بِأَنْ يَكُونَ خَالِقا للأوّل) أي لهذا الذي فرضناه أوّلاً أنّه أوّل. وهذا على سبيل الاستظهار والإشارة إلى عدم الفرق بين القبليّة والمعيّة، كما مرّ آنفا.

(ثُمَّ وَصَفَ نَفْسَهُ _ تَبَارَكَ وَتَعَالى _ بِأَسْمَاءٍ). لمّا أثبت عليه السلام أنّ صفاته تعالى ليست موجودات في الخارج في أنفسها، أراد أن يدفع بذلك الشبهةَ الناشئة عن اشتراك الأسماء معنى بينه تعالى وبين خلقه.

وحاصل الشبهة أنّ ذلك الاشتراك يستلزم أن يكون له تعالى مثل.

وحاصل الدفع أنّ ذلك الاشتراك إنّما يستلزم المثليّة إذا كان مصداق الصفة الموجود في الخارج في نفسه مشتركا بينه تعالى وبين خلقه ثابتا له أزلاً ولخلقه فيما لا يزال، فينافي ما ذكرنا من استحالة أن يكون معه شيء في ديمومته. وليس كذلك، فإنّه اشتراك في مفهوم الصفات الانتزاعي، لا في معناها، أي مصداقها الموجود في الخارج في نفسه.

(دَعَا الْخَلْقَ _ إِذْ خَلَقَهُمْ وَتَعَبَّدَهُمْ). التعبّد: الاستعباد أي اتّخذهم عبيدا.

(وَابْتَلاَهُمْ _). سيجيء معنى الابتلاء في «باب الابتلاء والاختبار».

ص: 284

(إِلى أَنْ). الظرف متعلّق بقوله: «دعا» أي أمر الخلق بأن.

(يَدْعُوهُ بِهَا)؛ بأن يقولوا: يا اللّه ، يا سميع، ونحو ذلك.

(فَسَمّى نَفْسَهُ سَمِيعا، بَصِيرا، قَادِرا، قَائِما، نَاطِقا، ظَاهِرا، بَاطِنا، لَطِيفا، خَبِيرا، قَوِيّا، عَزِيزا ، حَكِيما، عَلِيما، وَمَا أَشْبَهَ هذِهِ الاْءَسْمَاءَ).

وقوله:

(فَلَمَّا رَأى ذلِكَ مِنْ أَسْمَائِهِ)، شروعٌ في تقرير الشبهة.

(الْغَالُونَ)؛ بالمعجمة _ أي الذين تجاوزوا في الأسماء حدّها حيث جعلوا مفهوماتها موجوداتٍ في الخارج في أنفسها _ أو بالقاف؛ أي المبغضون لنا أهلَ البيت.

(الْمُكَذِّبُونَ) بنا أهلَ البيت.

(وَقَدْ سَمِعُونَا نُحَدِّثُ عَنِ اللّه ِ أَنَّهُ لاَ شَيْءَ مِثْلُهُ)؛ بأن يثبت لهما أمر موجود في الخارج في نفسه.

(وَلاَ شَيْءَ مِنَ الْخَلْقِ فِي حَالِهِ)؛ بأن يثبت للخلق جميع صفاته تعالى.

ويحتمل أن يكون المراد بالمعطوف هو المراد بالمعطوف عليه بأن يكون العطف للتفسير.

(قَالُوا: أَخْبِرُونَا إِذَا زَعَمْتُمْ أَنَّهُ لاَ مِثْلَ لِلّهِ وَلاَ شِبْهَ لَهُ). نشر على ترتيب اللفّ، أو عطف تفسير.

(كَيْفَ شَارَكْتُمُوهُ فِي أَسْمَائِهِ الْحُسْنى، فَتَسَمَّيْتُمْ بِجَمِيعِهَا؟! فَإِنَّ فِي ذلِكَ) أي التسمّي بأسمائه جميعا.

(دَلِيلاً عَلى أَنَّكُمْ مِثْلُهُ فِي حَالاَتِهِ كُلِّهَا). وهذا في صورة انحصار حالاته في هذه الأسماء.

(أَوْ فِي بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ). وهذا في صورة عدم الانحصار.

(إِذْ جَمَعْتُكُمُ الاْءَسْمَاءُ الطَّيِّبَةُ(1)). وقوله: .

ص: 285


1- في الكافي المطبوع : «جمعتم الأسماءَ الطيّبةَ» .

(قِيلَ لَهُمْ)، شروعٌ في تقرير الجواب.

(إِنَّ اللّه َ _ تَبَارَكَ وَتَعَالى _ أَلْزَمَ الْعِبَادَ) أي خلقهم على وجه يلزمهم.

(اسْما(1))؛ بصيغة المفرد، أو الجمع.

(مِنْ أَسْمَائِهِ) أي لا جميع الأسماء. وهذا دفع لأن يكون شيء من الخلق في حاله.

(عَلَى اخْتِلاَفِ الْمَعَانِي). ليس المراد بالمعاني مفهومات الأسماء، أي التي استعملت الأسماء فيها من حقائقها اللغويّة أو العرفيّة أو نحو ذلك؛ لأنّها مشتركة معنىً، وإنكاره مكابرة؛ بل المراد بالمعاني المصداقات، أي الاُمور الموجودة في الخارج في أنفسها، المصحّحة لحمل المفهومات على الذات كالخرت(2) في الإنسان، وكالذات في اللّه تعالى.

(وَذلِكَ كَمَا يَجْمَعُ الاِسْمُ الْوَاحِدُ مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ). الكاف للتشبيه، أي اختلاف المعنى فيما نحن فيه شبيه باختلاف المعنى في الحقيقة والمجاز، والفرق أنّ فيما نحن فيه اتّفاقا في المدلولين، أي فيما يستعمل فيه اللفظ، سواء كان معنىً حقيقيّا للّفظ كالعالم، أو مجازيّا كالقائم ونحوه، إنّما الاختلاف في المعنيين فقط، وفي الحقيقة والمجاز يختلف المعنيان والمدلولان معا.

(وَالدَّلِيلُ عَلى ذلِكَ) أي على المشبّه به.

(قَوْلُ النَّاسِ) أي تكلّمهم بالمجاز.

(الْجَائِزُ عِنْدَهُمُ الشَّائِعُ، وَهُوَ) أي المجاز.

(الَّذِي خَاطَبَ اللّه ُ بِهِ الْخَلْقَ، فَكَلَّمَهُمْ بِمَا يَعْقِلُونَ) أي لولا أن يكون المجاز في كلامهم لما عقلوا.

(لِيَكُونَ عَلَيْهِمْ حُجَّةً فِي تَضْيِيعِ مَا ضَيَّعُوا). وقوله:

(فَقَدْ يُقَالُ)، بيانٌ لقول الناس.

(لِلرَّجُلِ: كَلْبٌ، وَحِمَارٌ، وَثَوْرٌ، وَسُكَّرَةٌ، وَعَلْقَمَةٌ) أي حنظل (وَأَسَدٌ، كُلُّ ذلِكَ) أي .

ص: 286


1- في الكافي المطبوع : «أسماءً» .
2- الخرت : ثقب الإبرة والفأس والاُذن ونحوها ، والجمع «خروت» و «أخرات» . الصحاح ، ج 1 ، ص 248 (خرت) .

الأسماء (عَلى خِلاَفِهِ)؛ أي واقع على خلاف معناه. والضمير ل_«كلّ».

(وَحَالاَتِهِ). الواو بمعنى «مع» أو هو على مذهب من يجوّز العطف على الضمير المجرور بدون إعادة الجارّ.(1) والمراد بالحالات المدلولاتُ التي استعمل فيها.

(لَمْ تَقَعِ الاْءَسَامِي عَلى مَعَانِيهَا الَّتِي كَانَتْ بُنِيَتْ عَلَيْهَا(2))؛ استئنافٌ بياني لقوله: «كلّ ذلك على خلافه وحالاته».

(لاِءَنَّ الاْءِنْسَانَ لَيْسَ بِأَسَدٍ وَلاَ كَلْبٍ). ومن أقوى أمارات المجاز صحّة السلب.

(فَافْهَمْ ذلِكَ) أي التشبيه (رَحِمَكَ اللّه ُ).

اعلم أنّه توهّم بعضٌ من أمثال هذه العبارات أنّ المعانيَ اللغويّة لتلك الأسماء مفقودة في حقّه تعالى، فإطلاق تلك الألفاظ عليه تعالى بطريق المجاز اللغوي أو العقليّ. انتهى.(3)

وهذا من أبعد البعيد في نحو العلم والقدرة.

(وَإِنَّمَا سُمِّيَ اللّه ُ تَعَالى بِالْعِلْمِ). فيه وضْع المشتقّ منه موضعَ المشتقّ مسامحةً.

وهذا شروع في تفصيل بيان اختلاف المعنى فيما نحن فيه، وقد بيّن في العلم أنّ مصداقه نفس ذاته لا أمر ينضمّ إليه، فيصير بسببه عالما، وقد دلّ على ذلك بدليلين:

الأوّل: أنّ علمه تعالى ليس بحادث ليكون بسبب مصداق منضمّ، وهو في قوله: «وإنّما سمّي» إلى قوله: «إلى الجهل».

والثاني: أنّ علمه ليس مخصوصا ببعض المعلومات دون بعض، ليكون بسبب مصداق منضمّ، وهو في قوله: «وإنّما سُمّي» إلى آخره.

(بِغَيْرِ عِلْمٍ حَادِثٍ عَلِمَ بِهِ الاْءَشْيَاءَ). الباء للاستعانة باعتبار التغاير الاعتباري. .

ص: 287


1- حكاه الرضي في شرحه على الكافية ، ج 1 ، ص 522 عن الكوفيّين حيث قال : «قال الكوفيّون : يجوز في السعة العطف على الضمير المجرور بلا إعادة الجارّ ، والبصريّون يجوّزونه للضرورة، وأمّا في السعة فيجوّزونه بتكلّف» .
2- في «أ» : «عليه» .
3- اُنظر شرح اُصول الكافي للمازندراني ، ج 4 ، ص 47 ؛ والحاشية على اُصول الكافي لرفيع النائيني ، ص 407 .

(وَاسْتَعَانَ بِهِ عَلى حِفْظِ مَا يُسْتَقْبَلُ مِنْ أَمْرِهِ) عن الفساد.

(وَالرَّوِيَّةِ)؛ بفتح المهملة وكسر الواو وشدّ الخاتمة، عطفٌ على «حفظ» للتبيين.

(فِيمَا يَخْلُقُ مِنْ خَلْقِهِ). وقوله:

(وَيَفْسِدُ(1))؛ بفتح ياء المضارعة وبرفع الفعل، جملةٌ معطوفة على «عَلِم به» فهي أيضا صفة «عِلْمٍ» والعائد إلى الموصوف اسم الإشارة.

(مَا مَضى مِمَّا أَفْنى)؛ بصيغة المعلوم، أي أفناه اللّه .

(مِنْ خَلْقِهِ، مِمَّا لَوْ لَمْ يَحْضُرْهُ ذلِكَ الْعِلْمُ). وقوله:

(وَتَغَيَّبَهُ(2))؛ بالمعجمة والخاتمة والموحّدة، بصيغة الماضي المعلوم من باب التفعّل.(3) والضمير المستتر للّه ، والبارز لذلك العلم أي فقده؛ أو بالمهملة والنون بصيغة المضارع المعلوم من باب الإفعال بالرفع، جملةٌ حالية عن «ذلك» بتقدير «وهو يعيّنه». والضمير المستتر ل«ذلك العلم» والبارز للّه ، وهو قيد للمنفيّ لا للنفي.

(كَانَ جَاهِلاً ضَعِيفا، كَمَا أَنَّا لَوْ)؛ مزيدة، كما في قولهم: أن لو كان كذا. وليست موجودة في كتاب التوحيد لابن بابويه.(4)

(رَأَيْنَا عُلَمَاءَ الْخَلْقِ إِنَّمَا سُمُّوا)؛ بصيغة المجهول.

(بِالْعِلْمِ لِعِلْمٍ حَادِثٍ؛ إِذْ كَانُوا قَبْلهُ(5) جَهَلَةً ، وَرُبَّمَا فَارَقَهُمُ الْعِلْمُ بِالاْءَشْيَاءِ، فَعَادُوا إِلَى الْجَهْلِ. وَإِنَّمَا سُمِّيَ اللّه ُ عَالِما؛ لاِءَنَّهُ لاَ يَجْهَلُ شَيْئا)، بخلاف العباد، فإنّ علمهم إنّما يتعلّق بما تحصل لهم أسباب علمهم به، فعلمهم يجتمع مع الجهل في الجملة.

(فَقَدْ جَمَعَ الْخَالِقَ وَالْمَخْلُوقَ اسْمُ الْعَالِمِ)، ومدلوله لغةً. .

ص: 288


1- في الكافي المطبوع : «يُفْسِدُ» بضمّ الأوّل .
2- في الكافي المطبوع : «يغيبه» .
3- في «ج» : «التفعيل» .
4- التوحيد ، ص 188 ، باب أسماء اللّه تعالى و . . . ، ح 2 .
5- في الكافي المطبوع : «فيه» .

(وَاخْتَلَفَ الْمَعْنى) أي المصداق.

(عَلى مَا رَأَيْتَ)؛ بصيغة المخاطب، أي علمت.

(وَسُمِّيَ رَبُّنَا سَمِيعا لاَ بِخَرْتٍ)؛ بفتح المعجمة _ وقد يُضمّ _ وسكون المهملة: الثقب في الاُذن وغيرها.(1)

(فِيهِ يَسْمَعُ بِهِ الصَّوْتَ وَلاَ يُبْصِرُ بِهِ، كَمَا أَنَّ خَرْتَنَا _ الَّذِي نَسْمَعُ بِهِ(2) _ لاَ نَقْوى بِهِ عَلَى الْبَصَرِ، وَلكِنَّهُ) أي تسمية ربّنا سميعا.

(أَخْبَرَ)؛ بصيغة المعلوم، أي دلّ على.

(أَنَّهُ لاَ يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الاْءَصْوَاتِ) أي مصداق سمعه نفس ذاته، فيتعلّق بكلّ مسموع.

(لَيْسَ عَلى حَدِّ مَا سُمِّينَا)؛ بصيغة المجهول.

(نَحْنُ). تأكيدٌ للضمير المتّصل.

(فَقَدْ جَمَعْنَا الاِسْمَ بِالسَّمْعِ)، مع مدلوله اللغوي.

(وَاخْتَلَفَ الْمَعْنى) أي المصداق، حيث إنّه فينا نحو الخرت، وفيه نفس الذات.

(وَهكَذَا الْبَصَرُ لاَ بِخَرْتٍ). الظرف متعلّق بقوله: «أَبْصَرَ».

(مِنْهُ). الظرف صفة «خَرْت» والضمير للّه تعالى.

(أَبْصَرَ، كَمَا أَنَّا نُبْصِرُ بِخَرْتٍ مِنَّا لاَ نَنْتَفِعُ بِهِ فِي غَيْرِهِ) أي في السمع.

(وَلكِنَّ اللّه َ بَصِيرٌ لاَ يَحْتَمِلُ شَخْصا مَنْظُورا إِلَيْهِ). يُقال: احتمله: إذا تكلّف المشقّة فيه؛ أي لا مشقّة له في إبصار شخص منظور إليه.

(فَقَدْ جَمَعْنَا الاِسْمَ، وَاخْتَلَفَ الْمَعْنى. وَهُوَ قَائِمٌ) أي وقولنا: «هو قائم».

(لَيْسَ عَلى مَعْنَى انْتِصَابٍ وَقِيَامٍ عَلى سَاقٍ فِي كَبَدٍ)؛ بفتح الكاف وفتح الموحّدة والمهملة: الشِّدّةُ والضيق.(3) .

ص: 289


1- كتاب العين ، ج 4 ، ص 236 ؛ الصحاح ، ج 1 ، ص 248 (خرت) .
2- في الكافي المطبوع : «به نسمع» بدل «نسمع به» .
3- النهاية ، ج 4 ، ص 139 (كبد) .

(كَمَا قَامَتِ الاْءَشْيَاءُ)، يعني أنّ القيام موضوع لغةً للانتصاب، وهو القيام على ساق،(1) وهذا مختصّ بالخلق، ثمّ اُطلق عرفا، أو على طريقة عموم المجاز على أمرين مشتركين معنىً بين اللّه وخلقه؛ هما قيام حفظ وقيام كفاية، ولكلّ منهما مصداق في خلقه، وهو القيام الغير المشترك معنىً بينهما، وهو الانتصاب والقيام على ساق؛ لأنّ شيئا من الوجهين لا يتأتّى في الخلق بدون الانتصاب وإن احتاج إلى أشياء اُخرى غيره كالتلفّظ والمشي ونحو ذلك، ولكلّ منهما في اللّه تعالى مصداق آخر، فإنّ القيام بمعنى الحفظ، والقيامَ بمعنى الكفاية من صفات أفعاله، فمصداق كلّ منهما نفس الأثر.

وهذا ما أشار إليه بقوله:

(وَلكِنْ «قَائِمٌ») أي قولنا: هو تعالى قائم.

(يُخْبِرُ أَنَّهُ حَافِظٌ ، كَقَوْلِ الرَّجُلِ: الْقَائِمُ بِأَمْرِنَا فُلاَنٌ). تصريحٌ باشتراك هذا القيام معنى بين اللّه وخلقه.

(وَاللّه ُ هُوَ الْقَائِمُ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ) أي الحافظ لأفعالها، بيده أزمّتها وكلّها بمشيئته وإرادته وقدَره وقضائه.

(وَالْقَائِمُ أَيْضا فِي كَلاَمِ النَّاسِ: الْبَاقِي)؛ يعني يطلق القيام على أمرٍ مختصّ باللّه تعالى _ ليس مشتركا معنىً بين اللّه وخلقه _ هو الباقي، ولم يصرّح بعدم الاشتراك لأنّه قد يُطلق البقاء والقيام على الباقي في الجملة وإن كان منقطعا في جانب الماضي، بل فيه وفي جانب المستقبل أيضا وهو مشترك معنىً، لكن في إطلاقه على الخلق بدون قيد سوء أدب، ومصداقه في اللّه تعالى نفس ذاته، وهي غير مشتركة، وفي الخلق أجزاؤه وفاعله ونحو ذلك داخلة في المصداق، كما ذكره المتكلِّمون في بحث زيادة وجود الممكن على ذاته.(2) وللإشارة إلى هذا الذي ذكرنا غيّر اُسلوب هذه الفقرة عن سابقها ولاحقها.

(وَالْقَائِمُ أَيْضا يُخْبِرُ عَنِ الْكِفَايَةِ، كَقَوْلِكَ لِلرَّجُلِ: قُمْ بِأَمْرِ بَنِي فُلاَنٍ، أَيِ اكْفِهِمْ، وَالْقَائِمُ .

ص: 290


1- كتاب العين، ج 5، ص 222 (قوم).
2- ينظر الحكمة المتعالية ، ج 2 ، ص 243 ، في كون وجود الممكن زائدا على ماهيته عقلاً .

مِنَّا) أي سواء كان القيام قيام حفظ، أم قيام كفاية (قَائِمٌ عَلى سَاقٍ)، أي مصداقه القيام على ساق كما مرَّ آنفا.

(فَقَدْ جَمَعْنَا الاِسْمَ وَلَمْ يَجْمَعِ(1) الْمَعْنى. وَأَمَّا اللَّطِيفُ، فَلَيْسَ عَلى قِلَّةٍ وَقَضَافَةٍ وَصِغَرٍ، وَلكِنْ ذلِكَ عَلَى النَّفَاذِ فِي الاْءَشْيَاءِ وَالاِمْتِنَاعِ مِنْ أَنْ يُدْرَكَ).

يعني أنّ مناط اللطف _ وهو ضدّ الغلظ _ قد يكون القلّةَ بكسر القاف أي رقّة القوام كما في الهواء. والقَضَافة بفتح القاف والمعجمة، أي النحافة والصغر في الجرم،(2) وكلّ من الثلاثة مختصّ بالجسمانيّات.

وأمّا مناطه في اللّه تعالى فأمران متلازمان، ولازمان للتجرّد:

أحدهما: النفاذ في الأشياء بفتح النون والفاء والمعجمة مصدر باب نصر، أي كونه نافذا ماضيا باعتبار أنّه سخّر كلّ شيء بقول: «كُن» يُقال: رجل نافذ في أمره، أي ماضٍ.(3)

الثاني: الامتناع؛ أي الإباء من أن يدرك، بصيغة المجهول من باب الإفعال.

(كَقَوْلِكَ لِلرَّجُلِ). مقصوده عليه السلام ذكر نظيرين هما في المخلوق لئلاّ يتوهّم أنّ اللطيف مشترك لفظي بين الخالق والمخلوق.

(لَطُفَ عَنِّي هذَا الاْءَمْرُ). تعدية «لطف» ب«عن» بتضمين معنى الصدور، والمراد أنّ هذا الأمر الصادر عنّي لطيف لا يبلغه وهم غيري، ولا يقدر عليه غيري من الناس.

(وَلَطُفَ فُلاَنٌ فِي مَذْهَبِهِ وَقَوْلِهِ)؛ مجرور بالعطف على «مذهبه» أي ذهب فيهما بحيث لم يدركه أحد من الناس، كما يجيء في ثالث الثاني والعشرين(4) من قوله: «فلطفت في الوصول إليه».(5)

(يُخْبِرُكَ). استئنافٌ لبيان ما قبل النظرين. والضمير المستتر للّطيف من أسماء اللّه .

ص: 291


1- في الكافي المطبوع : «نجمع» .
2- معجم مقاييس اللغة ، ج 5 ، ص 98 ؛ لسان العرب ، ج 9 ، ص 284 (قضف) .
3- في «ج» : - «يقال : رجل نافذ في أمره أي ماضي» .
4- أي في الحديث 3 من باب جوامع التوحيد .
5- في المصدر : «فتلطّفت الوصول إليه» .

تعالى، والإسناد مجازي.

(أَنَّهُ). الضمير للشأن أو للّه .

(غَمَضَ)؛ بالمعجمتين بصيغة الماضي المعلوم من باب نصر وحسن؛ أي تاه. والغموض ضدّ الوضوح.

(فِيهِ). الضمير للّه .

(الْعَقْلُ)؛ مرفوع بالفاعليّة.

(وَفَاتَ). الضمير المستتر للّه .

(الطَّلَبَ(1))، بالنصب مفعول «فات» أي لم يدركه الطلب، والنسبة مجاز عقلي.

(وَعَادَ). الضمير للطلب.

(مُتَعَمِّقا مُتَلَطِّفا)؛ حالان لضمير «عاد» ضُمّنا معنى القول، ولذلك صار قوله:

(لاَ يُدْرِكُهُ الْوَهْمُ)، مفعولَهما؛ يعني لم يحصل للطلب في التعمّق والتلطّف إلاّ العلم والقول بأنّه لا يدركه الوهم وإن بولغ في التعمّق والتلطّف.

(فَكَذلِكَ لَطُفَ اللّه ُ)؛ بطريق الإضافة، ويمكن أن يكون فعلاً ماضيا وفاعلاً.

(تَبَارَكَ وَتَعَالى عَنْ)؛ متعلّق ب«تعالى» أو ب«لطف».

(أَنْ يُدْرَكَ بِحَدٍّ، أَوْ يُحَدَّ بِوَصْفٍ). المراد بالإدراك بحدٍّ معرفةُ كنه ذاته بالحدّ التامّ، وبالحدّ بوصف أن يجعل أسماؤه المشتقّة وما يجري مجراها موصلةً إلى كنه ذاته.

(وَاللَّطَافَةُ مِنَّا : الصِّغَرُ وَالْقِلَّةُ). لم يذكر القضافة مسامحةً لظهوره ممّا سبق، أو لأنّ الثلاثة يرجع إلى معنى.

(فَقَدْ جَمَعْنَا الاِسْمَ ، وَاخْتَلَفَ الْمَعْنى)؛ فإنّ مفهوم هذا المشترك فينا معنى مخصوص بالجسمانيّات، وفيه تعالى التجرّد عن علائق الجسمانيّات المستلزم للنفاذ والامتناع؛ وذلك لأنّ القدر المشترك الذي هو معنى حقيقي لغةً للعطف ليس بكمال؛ لأنّه يتحقّق في أحقر الأشياء أيضا. .

ص: 292


1- في الكافي المطبوع : «الطلبُ» بالضمّ .

(وَأَمَّا الْخَبِيرُ، فَالَّذِي لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ شَيْءٌ، وَلاَ يَفُوتُهُ) أي الخبير في أسمائه تعالى بمعنى الذي لا يعزب عنه شيء ولا يفوته.

(لَيْسَ لِلتَّجْرِبَةِ وَلاَ لِلاِعْتِبَارِ بِالاْءَشْيَاءِ). استئناف بياني، والضمير المستتر لمصدر الخبير؛ يعني أنّ الخبير وضع في اللغة لمن له العلم بالأخبار والأحوال،(1) ومناط هذا العلم في المخلوق التجربة والاعتبار. والمراد بالتجربة ما هو سبب العلم الضروري، وأصله استعمال الحواسّ الخمس الظاهرة. والمراد بالاعتبار ما هو سبب العلم النظري، وهو الحركة الفكريّة، بخلاف مناط هذا العلم في اللّه تعالى؛ فإنّه ذاته بذاته، ولذا لا يعزب عنه شيء ولا يفوته.

(فَعِنْدَ التَّجْرِبَةِ وَالاِعْتِبَارِ عِلْمَانِ وَلَوْلاَ هُمَا مَا عَلِمَ(2)). الفاء للبيان، والمراد بالعلمين: العلم الضروري والعلم النظري، وضمير «لولاهما» للتجربة(3) والاعتبار. و«علم» بصيغة الماضي المعلوم المجرّد، والضمير المستتر للّه تعالى، يعني لو كان اللّه تعالى خبيرا للتجربة والاعتبار، فعند تجربته واعتباره يحدث له علمان، ولولا تجربته واعتباره ما علم شيئا أصلاً، لا ضروريّا ولا نظريّا.

(لاِءَنَّ مَنْ كَانَ كَذلِكَ، كَانَ جَاهِلاً). تعليلٌ لقوله: «ما علم»؛ أي لأنّ كلّ من كان علمه حادثا عند التجربة والاعتبار كان جاهلاً قبل التجربة والاعتبار.

(وَاللّه ُ لَمْ يَزَلْ خَبِيرا بِمَا يَخْلُقُ)، بصيغة المجهول، أو المعلوم من باب نصر.

(وَالْخَبِيرُ مِنَ النَّاسِ الْمُسْتَخْبِرُ عَنْ جَهْلٍ)؛ بالجرّ والتنوين.

(الْمُتَعَلِّمُ)؛ بالرفع خبر آخَرُ للخبير.

(وَقَدْ(4) جَمَعْنَا الاِسْمَ، وَاخْتَلَفَ الْمَعْنى)؛ فإنّ المصداق فيه تعالى ذاته، وفي الخلق أسباب التعلّم، والاستخبار داخلة في المصداق. .

ص: 293


1- لسان العرب ، ج 4 ، ص 226 (خبر) .
2- في الكافي المطبوع : «عُلِمَ» .
3- في «ج» : «بالتجربة» .
4- في الكافي المطبوع : «فقد» .

(وَأَمَّا الظَّاهِرُ، فَلَيْسَ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ عَلاَ الاْءَشْيَاءَ بِرُكُوبٍ فَوْقَهَا، وَقُعُودٍ عَلَيْهَا، وَتَسَنُّمٍ لِذُرَاهَا، وَلكِنْ ذلِكَ لِقَهْرِهِ وَلِغَلَبَتِهِ الاْءَشْيَاءَ وَقُدْرَتِهِ عَلَيْهَا، كَقَوْلِ الرَّجُلِ: ظَهَرْتُ عَلى أَعْدَائِي، وَأَظْهَرَنِي اللّه ُ عَلى خَصْمِي، يُخْبِرُ عَنِ الْفَلْجِ)؛ بفتح الفاء وسكون اللام والجيم، مصدر باب نصر وضرب: الظفر.(1)

(وَالْغَلَبَةِ، فَهكَذَا ظُهُورُ اللّه ِ عَلَى الاْءَشْيَاءِ)؛ يعني أنّ «الظاهر» موضوع لغةً لأمرين: الأوّل: العالي على شيء بركوب ونحوه. والثاني: البارز بنفسه المعلوم بحدّه،(2) وشيء من الأمرين ليس مشتركا بين اللّه وخلقه، ثمّ اُطلق على أمرين مأخوذين من المعنيين مشتركين بين اللّه وخلقه؛ معنى الأوّل: الغالب، وهو مأخوذ من العالي، والثاني: مَن لا يخفى وجوده على الناظر فيه، وهو مأخوذ من البارز بنفسه. وإلى الثاني أشار بقوله:

(وَوَجْهٌ آخَرُ أَنَّهُ الظَّاهِرُ لِمَنْ أَرَادَهُ، وَلاَ يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَأَنَّهُ مُدَبِّرٌ لِكُلِّ مَا يُرى(3))؛ بصيغة المضارع المجهول من باب منع. والمراد ب«ما يرى» النظام المشاهَد في السماوات والأرضين وما بينهما.

(فَأَيُّ ظَاهِرٍ أَظْهَرُ وَأَوْضَحُ مِنَ اللّه ِ تَبَارَكَ وَتَعَالى؟ لاِءَنَّكَ لاَ تَعْدَمُ صَنْعَتَهُ حَيْثُمَا تَوَجَّهْتَ، وَفِيكَ مِنْ آثَارِهِ مَا يُغْنِيكَ، وَالظَّاهِرُ مِنَّا الْبَارِزُ بِنَفْسِهِ، وَالْمَعْلُومُ بِحَدِّهِ، فَقَدْ جَمَعَنَا الاِسْمُ وَلَمْ يَجْمَعْنَا الْمَعْنى)؛ فإنّ مصداق ظهور الخلق علوّه مكانا ونحو ذلك، أو جسميّته ومقداره وأجزاؤه، بخلاف ظهوره تعالى.

(وَأَمَّا الْبَاطِنُ، فَلَيْسَ عَلى مَعْنَى الاِسْتِبْطَانِ لِلاْءَشْيَاءِ بِأَنْ يَغُورَ فِيهَا، وَلكِنْ ذلِكَ مِنْهُ عَلَى اسْتِبْطَانِهِ لِلاْءَشْيَاءِ عِلْما وَحِفْظا وَتَدْبِيرا، كَقَوْلِ الْقَائِلِ: أَبْطَنْتُهُ، يَعْنِي خَبَرْتُهُ)؛ بالمعجمة والموحّدة ومهملة كنصرته، أي اختبرته.

(وَعَلِمْتُ مَكْتُومَ سِرِّهِ، وَالْبَاطِنُ مِنَّا الْغَائِبُ فِي الشَّيْءِ، الْمُسْتَتِرُ، وَقَدْ جَمَعْنَا الاِسْمَ، .

ص: 294


1- الصحاح ، ج 1 ، ص 335 ؛ معجم مقاييس اللغة ، ج 4 ، ص 448 (فلج) .
2- اُنظر النهاية ، ج 3 ، ص 164 (ظهر) .
3- في الكافي المطبوع : «ما برأ» .

وَاخْتَلَفَ الْمَعْنى)؛ فإنّ مصداق «الباطن» المشترك بين اللّه وخلقه _ وهو المصرّح به بقوله: «كقول القائل» إلى آخره _ في الخلق أن يكون جسما كداخل في شيء، فإنّه المتعارف في الإبطان، إذ لو لم يحضره معه في الخلوات ولم يفتّشه عن مكنون سرّه، لم يعلم ذلك بخلاف «الباطن في اللّه » فإنّ مصداقه ذاته تعالى.

(وَأَمَّا الْقَاهِرُ، فَلَيْسَ عَلى مَعْنى عِلاَجٍ) أي فعل بدني.

(وَنَصَبٍ)؛ أي تعب.

(وَاحْتِيَالٍ وَمُدَارَاةٍ )؛ بالمهملتين والهمز؛ أي دفع ضرر.

(وَمَكْرٍ، كَمَا يَقْهَرُ الْعِبَادُ بَعْضُهُمْ بَعْضا ، وَالْمَقْهُورُ مِنْهُمْ يَعُودُ قَاهِرا، وَالْقَاهِرُ يَعُودُ مَقْهُورا، وَلكِنْ ذلِكَ مِنَ اللّه ِ _ تَبَارَكَ وَتَعَالى _ عَلى أَنَّ جَمِيعَ مَا خَلَقَ) أي كلّ واحدٍ ممّا خلق.

(مُلْبَسٌ)؛ اسم مفعول من باب الإفعال.

(بِهِ). الضمير لجميع.

(الذُّلُّ)؛ نائب فاعل «ملبس».

(لِفَاعِلِهِ) أي فاعل الجميع، وهو اللّه . وفيه مسامحة بجعل «فاعل» فاعلَ الشيء كفاعل ذلك الشيء؛ لدخول أفعال العباد فيه.

(وَقِلَّةُ)؛ بكسر القاف وشدّ اللام والتاء، مصدر باب ضرب، مرفوع عطف على «الذلّ» أي وصِغَر وانقياد وقبول.

(الاِمْتِنَاعِ لِمَا أَرَادَ بِهِ) أي أراد الفاعل بالجميع. وسيجيء معنى الإرادة في «باب في أنّه لا يكون» إلى آخره.

(لَمْ يَخْرُجْ) أي الجميع. وهو استئناف بياني.

(مِنْهُ) أي من لباس الذلّ والقلّة.

(طَرْفَةَ عَيْنٍ)؛ منصوب بالظرفيّة، أي مقدار طرفة عين من الزمان.

ص: 295

(أَنْ يَقُولَ لَهُ: «كُنْ» فَيَكُونُ ). استشهاد بآية سورة يس،(1) أو بدل عن الضمير في «منه». وعلى الثاني «فيكون» منصوب، ولو كان «نقول» بالنون كان استشهادا بآية سورة النحل.(2)

(وَالْقَاهِرُ مِنَّا عَلى مَا ذَكَرْتُ)؛ بصيغة المتكلِّم.

(وَوَصَفْتُ، فَقَدْ جَمَعْنَا الاِسْمَ ، وَاخْتَلَفَ الْمَعْنى. وَهكَذَا جَمِيعُ الاْءَسْمَاءِ وَإِنْ كُنَّا لَمْ نَسْتَجْمِعْهَا كُلَّهَا ، فَقَدْ يَكْتَفِي بِالاِعْتِبَارِ(3) بِمَا أَلْقَيْنَا إِلَيْكَ، وَاللّه ُ عَوْنُكَ وَعَوْنُنَا فِي إِرْشَادِنَا وَتَوْفِيقِنَا). .

ص: 296


1- يآس (36) : 82 .
2- النحل (16) : 40 .
3- في الكافي المطبوع : «الاعتبار» .

الباب الثامن عشر: باب تأويل الصمد

اشارة

الباب الثامن عشر بَابُ تَأْوِيلِ الصَّمَدِ

فيه حديثان، وشرح لهما من المصنّف رحمه الله :

الأوّل: (عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْوَلِيدِ)؛ بفتح الواو وكسر اللام.

(وَلَقَبُهُ) أي لقب محمّد (شَبَابٌ)؛ بفتح المعجمة وتخفيف الموحّدة وألف وموحّدة.

(الصَّيْرَفِيُّ)؛ صفة محمّد.(1)

(عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْقَاسِمِ الْجَعْفَرِيِّ، قَالَ: قُلْتُ لاِءَبِي جَعْفَرٍ الثَّانِي عليه السلام : جُعِلْتُ فِدَاكَ، مَا الصَّمَدُ؟ قَالَ: السَّيِّدُ الْمَصْمُودُ إِلَيْهِ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ). لمّا كان السؤال ب«ما» هنا لطلب شرح الاسم، أجاب بذكر مفهوم الاسم.

الثاني: (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى، عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمنِ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ السَّرِيِّ)؛ بفتح السين المهملة، وكسر الراء المهملة، وشدّ الخاتمة.(2)

(عَنْ جَابِرِ بْنِ يَزِيدَ الْجُعْفِيِّ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عليه السلام عَنْ شَيْءٍ مِنَ التَّوْحِيدِ، فَقَالَ: إِنَّ اللّه َ _ تَبَارَكَتْ أَسْمَاوءُهُ الَّتِي يُدْعى بِهَا، وَتَعَالى فِي عُلُوِّ كُنْهِهِ _). كنه الشيء: قدره.

ص: 297


1- ترجمته في معجم رجال الحديث ، ج 18 ، ص 331 ، الرقم 11963 .
2- رجال النجاشي ، ص 47 ، الرقم 97 ؛ الفهرست ، ص 100 ، الرقم 14 ؛ نقد الرجال ، ج 2 ، ص 26 ، الرقم 59 .

(وَاحِدٌ) أي لا إله إلاّ هو.

(تَوَحَّدَ بِالتَّوْحِيدِ) أي لم يكن موحّد له غير نفسه.

(فِي تَوَحُّدِهِ) أي في وقت توحّده بالوجود قبل خلق العالم.

(ثُمَّ أَجْرَاهُ) أي أجرى التوحيد.

(عَلى خَلْقِهِ)؛ بأن كلّفهم بالتوحيد، أو جعلهم موحِّدين.

(فَهُوَ) أي فالآن نحن نوحِّده ونقول:

(وَاحِدٌ، صَمَدٌ، قُدُّوسٌ). وقوله:

(يَعْبُدُهُ كُلُّ شَيْءٍ)، ناظرٌ إلى تفسير «واحد». وقوله:

(وَيَصْمُدُ إِلَيْهِ كُلُّ شَيْءٍ)، ناظرٌ إلى تفسير «صمد». وقوله:

(وَوَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْما). ناظرٌ إلى تفسير «قدّوس». فالنشر على ترتيب اللفّ.

الشرح:

(فَهذَا هُوَ الْمَعْنَى الصَّحِيحُ فِي تَأْوِيلِ الصَّمَدِ، لاَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمُشَبِّهَةُ أَنَّ تَأْوِيلَ الصَّمَدِ : الْمُصْمَتُ الَّذِي لاَ جَوْفَ لَهُ؛ لاِءَنَّ ذلِكَ لاَ يَكُونُ إِلاَّ مِنْ صِفَةِ الْجِسْمِ، وَاللّه ُ _ جَلَّ ذِكْرُهُ _ مُتَعَالٍ عَنْ ذلِكَ، هُوَ أَعْظَمُ وَأَجَلُّ مِنْ أَنْ يَقَعَ(1) الاْءَوْهَامُ عَلى صِفَتِهِ) أي على خصوصيّة ذاته، فإنّ المراد بوقوع الأوهام على الشيء إدراكه جزئيّا.

(أَوْ يُدْرَكَ(2) كُنْهُ عَظَمَتِهِ) أي مقدارها، ولو كان جسما لزم إمكان إدراك مقدار عظمته.

(وَلَوْ كَانَ تَأْوِيلُ الصَّمَدِ فِي صِفَةِ اللّه ِ _ عَزَّ وَجَلَّ _ الْمُصْمَتَ لَكَانَ مُخَالِفا لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْ ءٌ»(3)؛ لاِءَنَّ ذلِكَ مِنْ صِفَةِ الاْءَجْسَامِ الْمُصْمَتَةِ الَّتِي لاَ أَجْوَافَ لَهَا، مِثْلِ الْحَجَرِ وَالْحَدِيدِ وَسَائِرِ الاْءَشْيَاءِ الْمُصْمَتَةِ الَّتِي لاَ أَجْوَافَ لَهَا)؛ فتكون الجسميّة

ص: 298


1- في الكافي المطبوع : «تقع» .
2- في الكافي المطبوع : «تدرك» .
3- الشورى (42) : 11 .

والمصمتيّة مشتركةً بينهما.

(تَعَالَى اللّه ُ عَنْ ذلِكَ عُلُوّا كَبِيرا، فَأَمَّا مَا جَاءَ فِي الاْءَخْبَارِ مِنْ ذلِكَ، فَالْعَالِمُ عليه السلام أَعْلَمُ بِمَا قَالَ). يمكن أن يكون تعبيرا عن السيّد المصمود إليه، فإنّ الأجوف قد يستعمل في الركيك في علمه أو عمله، والمصمت يقابله. واللّه تعالى ذو القوّة المتين العالم بكلّ شيء، فهو السيّد المصمود إليه.

(وَهذَا الَّذِي قَالَ عليه السلام _ أَنَّ الصَّمَدَ هُوَ السَّيِّدُ الْمَصْمُودُ إِلَيْهِ _ هُوَ مَعْنًى صَحِيحٌ مُوَافِقٌ لِقَوْلِ اللّه ِ عَزَّ وَجَلَّ : «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْ ءٌ».(1) وَالْمَصْمُودُ إِلَيْهِ: الْمَقْصُودُ فِي اللُّغَةِ.

قَالَ أَبُو طَالِبٍ فِي بَعْضِ مَا كَانَ يَمْدَحُ بِهِ النَّبِيَّ صلى الله عليه و آله مِنْ شِعْرِهِ:

وَ بِالْجَمْرَةِ الْقُصْوى إِذَا صَمَدُوا لَهَا يَوءُمُّونَ قَذْفا رَأْسَهَا بِالْجَنَادِلِ(2)

يَعْنِي قَصَدُوا نَحْوَهَا يَرْمُونَهَا بِالْجَنَادِلِ، يَعْنِي الْحُصِيَّ) بضمّ الحاء المهملة وكسر الصاد المهملة وشدّ الخاتمة، جمع «حصى» بفتح المهملتين وألف مقصورة، واحدها «حصاة».

(الصِّغَارَ)؛ بكسر المهملة، جمع «الصغير».

(الَّتِي تُسَمّى بِالْجِمَارِ.وَقَالَ بَعْضُ شُعَرَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ) أي قبل ظهور الإسلام وبعثة النبيّ صلى الله عليه و آله .

مَا كُنْتُ أَحْسَبُ أَنَّ بَيْتا ظَاهِرا لِلّهِ فِي أَكْنَافِ مَكَّةَ يُصْمَدُ

يَعْنِي: يُقْصَدُ.

(وَقَالَ الزِّبْرِقَانُ)؛ بكسر الزاي وسكون الموحّدة وكسر المهملة والقاف، شاعر بني تميم جاء مع قومه المدينة سنة تسع من الهجرة وأسلموا.(2) وفي القاموس:

الزبرقان: القمر، والخفيف اللحية، ولقب الحصين بن بدر الصحابي لجماله، أو لصفرة .

ص: 299


1- الشورى (42) : 11 . 2 . السيرة النبويّة لابن هشام ، ج 1 ، ص 177 ؛ السيرة النبويّة لابن كثير ، ج1 ، ص 487 . وذكر القصيدة كلّها نجم الدين العسكري في كتاب أبوطالب حامي الرسول صلى الله عليه و آله ، ص 108 عن ديوان أبي طالب عليه السلام في 106 بيتا .
2- السيرة النبويّة لابن هشام ، ج 4 ، ص 987 .

عمامته، أو لأنّه لبس حلّة وراح إلى ناديهم، فقالوا: زَبرَقَ حصين.(1)

([ ................................... ]وَ لاَ رَهِيبَةَ إِلاّ سَيِّدٌ صَمَدٌ(2)

وَ قَالَ شَدَّادُ بْنُ مُعَاوِيَةَ فِي حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ:

عَلَوْتُهُ بِحُسَامٍ ثُمَّ قُلْتُ لَهُ خُذْهَا حُذَيْفُ فَأَنْتَ السَّيِّدُ الصَّمَدُ(3)

وَ مِثْلُ هذَا كَثِيرٌ، وَاللّه ُ _ عَزَّ وَجَلَّ _ هُوَ السَّيِّدُ الصَّمَدُ الَّذِي جَمِيعُ الْخَلْقِ _ مِنَ الْجِنِّ وَالاْءِنْسِ _ إِلَيْهِ يَصْمُدُونَ فِي الْحَوَائِجِ، وَإِلَيْهِ يَلْجَؤُونَ عِنْدَ الشَّدَائِدِ، وَمِنْهُ يَرْجُونَ الرَّخَاءَ وَدَوَامَ النَّعْمَاءِ لِيَدْفَعَ عَنْهُمُ الشَّدَائِدَ)..

ص: 300


1- القاموس المحيط ،ج 3 ، ص 240 ؛ تاج العروس ، ج 13 ، ص 187 (زبرق) . 2 . صدر البيت : «ما كان عمران ذاغش ولا حسد» . ورهيبة اسم رجل . 3 . حكاه الصدوق في التوحيد ، ص 197 ، ذيل ح 9 عن الشاعر ، وحكاه الجوهري في الصحاح ، ج 2 ، ص 499 (صمد) وحكاه السمعاني في تفسيره ، ج 6 ، ص 304 عن آخر ، وابن فارس في معجم مقاييس اللغة ، ج 3 ، ص 309 (صمد) .

الباب التاسع عشر: باب الحركة و الانتقال

الباب التاسع عشر بَابُ الْحَرَكَةِ وَ الاِنْتِقَالِ

فيه أحد عشر حديثا.

الأوّل: (مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ الْبَرْمَكِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبَّاسٍ الْخُرَاذِينِيِّ(1) )؛ بضمّ المعجمة وفتح المهملة المخفّفة والألف وكسر المعجمة وسكون الخاتمة والنون: قرية بالريّ، وقيل بدل الخاء الجيم، والمشهور فيها الخاء، وأنّها بالزاي بدل الذال، واللامِ بدل النون، أو ما مع النون، كانت قرية اُخرى بجنب ما مع اللام.(2)

(عَنِ الْحَسَنِ بْنِ رَاشِدٍ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ جَعْفَرٍ الْجَعْفَرِيِّ، عَنْ أَبِي إِبْرَاهِيمَ عليه السلام ، قَالَ: ذُكِرَ عِنْدَهُ قَوْمٌ يَزْعُمُونَ أَنَّ اللّه َ _ تَبَارَكَ وَتَعَالى _ يَنْزِلُ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَقَالَ: إِنَّ اللّه َ لاَ يَنْزِلُ) أي يستحيل عليه النزول.

(وَلاَ يَحْتَاجُ إِلى أَنْ يَنْزِلَ) أي لا يفوت عنه بعدم النزول كمال. وقوله:

(إِنَّمَا مَنْزلُهُ(3) فِي الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ سَوَاءٌ )، ناظرٌ إلى قوله: «لا ينزل» أي إنّما منزلته ونسبته إلى الأشياء في القُرب باعتبار العلم، كقوله: «وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ»(4)، وفي البُعد باعتبار الذات سواء، أي لا يتغيّر هذا القُربُ، ولا هذا البُعدُ.

ص: 301


1- في الكافي المطبوع : «الجراذينى» بفتح الجيم .
2- في حاشية «أ» : «القائل صاحب الخلاصة (منه)» .
3- في الكافي المطبوع : «منظره» .
4- سورة قآ (50) : 16 .

(لَمْ يَبْعُدْ مِنْهُ قَرِيبٌ، وَلَمْ يَقْرُبْ مِنْهُ بَعِيدٌ). جملة استئنافيّة للبيان والتفسير، يعني القريبُ بحسب العلم والإحاطة لا يبعد منه أصلاً بحسب العلم والإحاطة، وكذا البعيد بحسب الذات لا يقرب منه بحسب الذات أصلاً. وقوله:

(وَلَمْ يَحْتَجْ إِلى شَيْءٍ)، ناظرٌ إلى قوله: «ولا يحتاج إلى أن ينزل». فالنشر على ترتيب اللفّ. وقوله:

(بَلْ يُحْتَاجُ إِلَيْهِ)؛ بصيغة المجهول، والظرف قائم مقام الفاعل.

(وَهُوَ ذُو الطَّوْلِ)؛ بالفتح: العطاء.(1)

(لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). وهذا إشارة إلى الجواب عن قول المشبّهة: إنّه ينزل لقضاء حوائج السائلين؛ بأنّه ذو العطاء(2) بلا حاجة إلى نزول، ليس له شريك في الاُلوهيّة فيسبق.

(أَمَّا قَوْلُ الْوَاصِفِينَ) أي الذين يصفون اللّه تعالى بصفة المخلوقين.

(إِنَّهُ يَنْزِلُ تَبَارَكَ وَتَعَالى، فَإِنَّمَا يَقُولُ ذلِكَ مَنْ يَنْسُبُهُ إِلى نَقْصٍ أَوْ زِيَادَةٍ). استدلالٌ على بطلان قولهم: وذلك لأنّ المتحرّك في الأين لا يكون إلاّ جسما ذا مقدار، فيجوز عليه الزيادة والنقصان، فيكون مخلوقا كما مرّ في سادس «باب النهي عن الجسم والصورة».

(وَكُلُّ مُتَحَرِّكٍ مُحْتَاجٌ إِلى مَنْ يُحَرِّكُهُ أَوْ يَتَحَرَّكُ بِهِ). استدلالٌ آخر على بطلان قولهم، وبيانه أنّ الحركة إمّا اضطراريّة وإمّا اختياريّة، والاُولى محتاجة إلى مَن يحرّك محلّها، والثانية محتاجة إلى قوّة جسمانيّة بها يعالج الحركة.

(فَمَنْ ظَنَّ بِاللّه ِ الظُّنُونَ) أي من قال على اللّه بغير علم. و«الظنون» جمع «ظنّ» ونصبه على المفعول المطلق، واللام للاستغراق، وهو تمثيل لحال المضطرب، نحو: أراك تقدّم رِجلاً، وتؤخّر اُخرى، فإنّ شأنه إذا كثر الاحتمالات أن يميل إلى كلّ احتمال، .

ص: 302


1- في «ج» : «الإعطاء» .
2- نقل ابن الجوزي الحنبلي في كتاب دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه ، ص 92 أحاديث في نزول اللّه إلى السماء الدنيا ونقدها .

ويرجع عنه إلى آخر، وشأنه إذا كان الاحتمال منحصرا في اثنين أن يميل إلى أحدهما، ثمّ يميل إلى الآخر، ثمّ يرجع إلى الأوّل وهكذا.

وقال نجم الدين الرضيّ في بحث المفعول المطلق من شرح الكافية: إمّا أن يكون مصدرا مثنّى أو مجموعا لبيان اختلاف الأنواع، نحو: ضربته ضربتين؛ أي مختلفتين،(1) قال تعالى: «وَتَظُنُّونَ بِاللّه ِ الظُّنُونَا».(2)

(هَلَكَ؛ فَاحْذَرُوا فِي صِفَاتِهِ مِنْ أَنْ تَقِفُوا لَهُ عَلى حَدٍّ) أي من أن تجعلوا له حدّا.

(تَحُدُّونَهُ)؛ استئنافيّة بيان للأمر؛ أي لأنّكم تحدّونه حينئذٍ.

(بِنَقْصٍ، أَوْ زِيَادَةٍ). ناظرٌ إلى الدليل الأوّل.

(أَوْ تَحْرِيكٍ، أَوْ تَحَرُّكٍ). ناظرٌ إلى الدليل الثاني.

(أَوْ زَوَالٍ) عن مكان، أو إمكان زوال عن وجود.

(أَوِ اسْتِنْزَالٍ) أي نزول.

(أَوْ نُهُوضٍ) أي قيام.

(أَوْ قُعُودٍ؛ فَإِنَّ اللّه َ)؛ اسم «إنّ»، وخبرُه قوله:

(جَلَّ وَعَزَّ عَنْ صِفَةِ الْوَاصِفِينَ) أي الذين يصفون اللّه بصفة الأجسام.

(وَنَعْتِ النَّاعِتِينَ) أي الذين يصفون اللّه بالصورة والتخطيط.

(وَتَوَهُّمِ الْمُتَوَهِّمِينَ) أي الذين يزعمون أنّهم يدركون خصوصيّة ذاته بالرؤية ونحوها.

(«وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِالرَّحِيمِ) ليوفّقك لترك ما حُذِّر منه.

(الَّذِى يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِى السَّاجِدِينَ»(3)). ترشيح للتوكّل بأنّه عالم بأحوالك. .

ص: 303


1- في المصدر: «ضربين أي مختلفين» بدل «ضربتين أي مختلفتين». وفي «ب»: «مختلفين» بدل «مختلفتين».
2- شرح الرضي على الكافية ، ج 1 ، ص 299 ، أنواع المفعول المطلق . والآية في سورة الأحزاب (33) : 10 .
3- الشعراء (26) : 217 _ 219 .

الثاني: (وَعَنْهُ). قيل: الظاهر أنّه من كلام تلامذة المصنّف، والضمير راجع إليه كما قلنا سابقا في «أخبرنا». ويؤيّده ما سيجيء كثيرا من الضمائر الراجعة إلى المصنّف. انتهى.(1)

(رَفَعَهُ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ رَاشِدٍ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِي إِبْرَاهِيمَ عليه السلام أَنَّهُ قَالَ: لاَ أَقُولُ: إِنَّهُ قَائِمٌ؛ فَأُزِيلَهُ عَنْ مَكَانِهِ)؛ فإنّ «القائم» من قام عن مكان جلوسه في العرف.

(وَلاَ أَحُدُّهُ بِمَكَانٍ يَكُونُ فِيهِ) ولا يقوم عنه.

(وَلاَ أَحُدُّهُ أَنْ يَتَحَرَّكَ) أي بأن يتحرّك.

(فِي شَيْءٍ) أي باعتبار شيء، كقوله تعالى: «إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِى الْقُرْبَى»(2) أي إلاّ مودّتي باعتبار قرباي؛ أقام مودّة قرباه مقام مودّته، وكقول الداعي: اللّهُمَّ احفظني في أهلي، أي باعتبار أهلي؛ أقام حفظ أهله مقام حفظه.

(مِنَ الأَرْكَانِ) أي الأعضاء الرئيسة.

(وَالْجَوَارِحِ) أي سائر الأعضاء. وهذا إشارة إلى أنّ حركة الجزء يستلزم حركة المجموع من حيث المجموع.

(وَلاَ أَحُدُّهُ بِلَفْظِ)؛ مضاف إلى:

(شَقِّ)؛ بفتح المعجمة وشدّ القاف، واحد «الشقوق» وهو في الأصل مصدر، وهو مضاف إلى:

(فَمٍ، وَلكِنْ كَمَا قَالَ اللّه ُ تَبَارَكَ وَتَعَالى : «كُن فَيَكُونُ»(3) بِمَشِيئَتِهِ) التقدير، ولكن يكون بمشيئته، كما قال تبارك وتعالى: «كُن».

ومعنى «كما قال» هنا أوّلَ قوله، أي لا يتخلّف الكون عن أمره أصلاً، وإنّما زيد الفاء لموافقة القرآن، أو للتأخير في الذكر؛ يُقال: كما جاء زيد ذهبتُ، أي كان ذهابي في أوّل مجيء زيد. .

ص: 304


1- في حاشية «أ» : «هو ميرزا محمّد الإسترابادي رحمه الله (منه)» .
2- الشورى (42) : 23 .
3- البقرة (2) : 117 .

(مِنْ غَيْرِ تَرَدُّدٍ فِي نَفْسٍ)؛ بفتح الفاء، أي من غير لفظ.

(صَمَدا)؛ منصوب بفعل مقدّر؛ أي أعني صمدا.

(فَرْدا، لَمْ يَحْتَجْ إِلى شَرِيكٍ) أي معاون.

(يذكِّرُ(1))؛ بشدّ الكاف المكسورة مأخوذ من الذكرة بضمّ الذال وسكون الكاف بمعنى الحدّة يقال: سيف مذكّر بشدّ الكاف المفتوحة، أي ذو حدّة وماء.(2) والضمير المستتر فيه عائد إلى الشريك.

(لَهُ) أي للّه .

(مُلْكَهُ)، بضمّ الميم وسكون اللام، أي ملك اللّه .

(وَلاَ يُفْتَحُ(3))؛ بصيغةِ مجهولِ باب منع، عطف على «لم يحتج».

(لَهُ) أي للشريك.

(أَبْوَابُ(4))؛ نائب فاعل «يفتح».

(عِلْمِهِ) أي علم اللّه . والمعنى أنّ الشريك ليس معلوما للّه ، فإنّه لا شيء محض. وهذا إشارة إلى قوله تعالى في سورة يونس: «قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّه َ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِى السَّمَوَاتِ وَلاَ فِى الاْءَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ»(5).

الثالث: (وَعَنْهُ ، عَنْ)؛ في بعض النسخ: «أي عن» (مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ عَبْدِ اللّه ِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ، قَالَ: قَالَ ابْنُ أَبِي الْعَوْجَاءِ لاِءَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام فِي بَعْضِ مَا كَانَ يُحَاوِرُهُ)؛ بالحاء المهملة والألف وواو وراء مهملة؛ أي يجاوبه، الذي يفهم من كتاب من لا يحضره الفقيه في «كتاب الحجّ» في .

ص: 305


1- في الكافي المطبوع : «يَذْكُرُ» .
2- معجم مقاييس اللغة ، ج 2 ، ص 358 ؛ تاج العروس ، ج 6 ، ص 444 (ذكر) .
3- في الكافي المطبوع : «ولا يَفتح» .
4- في الكافي المطبوع : «أبوابُ» .
5- يونس (10) : 18 .

«باب ابتداء الكعبة وفضلها وفضل الحرم» أنّ هذا الكلام من عبد الكريم ابن أبي العوجاء متّصل بما يجيء في «كتاب الحجّ» في أوّل «باب ابتلاء الخلق واختبارهم بالكعبة» وهو الباب السادس من قول أبي عبداللّه عليه السلام : «وهذا بيت استعبد اللّه به خلقه ليختبر طاعتهم» إلى آخره.(1)

(ذَكَرْتَ اللّه َ، فَأَحَلْتَ عَلى غَائِبٍ). يُقال: أحال عليه بدَيْنه، والاسم: الحوالة.

لمّا فهم من كلامه عليه السلام أنّ فائدة الطاعات الثواب على اللّه تعالى، شبّه ذلك بالحوالة للدين على غائب لا يمكن الطلب والأخذ منه.

(فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : وَيْلَكَ، كَيْفَ يَكُونُ غَائِبا مَنْ هُوَ مَعَ خَلْقِهِ شَاهِدٌ) أي إنّما لا يمكن الطلب من غائب يكون في مكان بعيد عن مكان الطالب، وليس اللّه كذلك.

(وَإِلَيْهِمْ أَقْرَبُ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)؛ هو العِرْق الذي في صفحة العنق، وهما وريدان مكتنفان صفحتي العنق ممّا يلي مقدّمه، غليظان، ينتفخان عند الغضب.(2) ويُقال: إنّ الوريد والوتين والنَسْ ءُ عرق واحد يسمّى في العنق «وريدا» وفي القلب «وتينا» وفي الفخذ والساق «نَسأً».(3)

(يَسْمَعُ كَلاَمَهُمْ، وَيَرى أَشْخَاصَهُمْ، وَيَعْلَمُ أَسْرَارَهُمْ؟! فَقَالَ ابْنُ أَبِي الْعَوْجَاءِ: أَ هُوَ فِي كُلِّ مَكَانٍ؟ أَ لَيْسَ إِذَا كَانَ فِي السَّمَاءِ، كَيْفَ يَكُونُ فِي الاْءَرْضِ؟!) أي لا يكون في الأرض. أعطى «كيف» للاستفهام الإنكاري حكمَ «لا» للنفي، وأقامها مقامها كأنّه ابتداء الكلام على أن يصرّح بالنفي، ثمّ خاف التصريح فأتى ب«كيف».

(وَإِذَا كَانَ فِي الاْءَرْضِ، كَيْفَ يَكُونُ) أي لا يكون.

(فِي السَّمَاءِ؟! فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : إِنَّمَا وَصَفْتَ الْمَخْلُوقَ الَّذِي إِذَا انْتَقَلَ عَنْ مَكَانٍ، اشْتَغَلَ بِهِ مَكَانٌ، وَخَلاَ مِنْهُ مَكَانٌ، فَلاَ يَدْرِي فِي الْمَكَانِ الَّذِي صَارَ إِلَيْهِ مَا يَحْدُثُ فِي .

ص: 306


1- الفقيه ، ج 2 ، ص 249 ، ح 2325 .
2- لسان العرب ، ج 3 ، ص 459 ؛ تاج العروس ، ج 5 ، ص 310 (ورد) .
3- النهاية ، ج 1 ، ص 18 .

الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ فِيهِ، فَأَمَّا اللّه ُ _ الْعَظِيمُ الشَّأْنِ، الْمَلِكُ، الدَّيَّانُ _ فَلاَ يَخْلُو مِنْهُ مَكَانٌ، وَلاَ يَشْتَغِلُ بِهِ مَكَانٌ ، وَلاَ يَكُونُ إِلى مَكَانٍ أَقْرَبَ مِنْهُ إِلى مَكَانٍ).

الرابع: (عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، قَالَ: كَتَبْتُ إِلى أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ عليهماالسلام : جَعَلَنِيَ اللّه ُ فِدَاكَ يَا سَيِّدِي، قَدْ رُوِيَ لَنَا أَنَّ اللّه َ فِي مَوْضِعٍ دُونَ مَوْضِعٍ). وقوله:

(عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى)، تتمّة المرويّ، وهو استئناف بياني؛ أي هذا الموضع الذي هو فيه هو العرش.

(وَأَنَّهُ) أي وروي لنا أنّه (يَنْزِلُ) أي من عرشه (كُلَّ لَيْلَةٍ فِي النِّصْفِ الاْءَخِيرِ مِنَ اللَّيْلِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا).

(وَرُوِيَ). إشارة إلى أنّ سند الروايتين السابقتين متّحد، وغير سند هذه الرواية.

(أَنَّهُ يَنْزِلُ) أي من عرشه (عَشِيَّةَ عَرَفَةَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلى مَوْضِعِهِ، فَقَالَ بَعْضُ مَوَالِيكَ فِي ذلِكَ) أي في تكذيب الروايات، أو في الاستشكال عليها.

(إِذَا كَانَ فِي مَوْضِعٍ دُونَ مَوْضِعٍ ،فَقَدْ يُلاَقِيهِ الْهَوَاءُ، وَيَتَكَنَّفُ عَلَيْهِ)؛ بالنون والفاء بصيغة المضارع المعلوم من باب التفعّل؛ أي يحيط به.

(وَالْهَوَاءُ جِسْمٌ رَقِيقٌ يَتَكَنَّفُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ بِقَدْرِهِ) أي بقدر ذلك الشيء، يعني لا ينقص داخل الهواء عنه، فيتداخل ولا يزيد عليه، فيحصل خلأً.

(فَكَيْفَ يَتَكَنَّفُ عَلَيْهِ جَلَّ ثَنَاوءُهُ عَلى هذَا الْمِثَالِ؟!) أي على قدره.

(فَوَقَّعَ عليه السلام ) كان هذا التوقيع تحت قوله: «على العرش استوى».

(عِلْمُ ذلِكَ عِنْدَهُ، وَهُوَ الْمُقَدِّرُ لَهُ بِمَا هُوَ أَحْسَنُ تَقْدِيرا ). «علم» مبتدأ ومضاف. و«ذلك» إشارة إلى العرش. و«عنده» خبر المبتدأ، والضمير للّه ، وضمير «هو» للّه . و«المقدّر» بصيغة اسم فاعل باب التفعيل: المدبّر، سواء كان موجدا وفاعلاً أم لا. وضمير «له» للعرش. والباء في «بما» للملابسة. و«ما» موصولة، وعبارة عن النظام، وضمير «هو» لما. و«تقديرا» تمييز للنسبة في «أحسن» يعني أنّ المراد بعرش اللّه

ص: 307

مجموع مخلوقاته، فإنّه مملكته.

والمراد باستوائه على العرش استيلاؤه على كلّ جزء من أجزائه بالسويّة؛ أي بلا تفاوت، وذلك بعلمه التامّ به وتدبيره إيّاه أحسن تدبير، فإنّه لا يخرج شيء من أفعال العباد حتّى كفر الكافر عن مشيئته تعالى وإرادته وقدره وقضائه وإذنه، كما يجيء في الباب الخامس والعشرين، ويجيء معنى استوائه تعالى على العرش في سادس الباب وسابعه وثامنه.

(وَاعْلَمْ أَنَّهُ إِذَا كَانَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَهُوَ كَمَا هُوَ عَلَى الْعَرْشِ، وَالأَشْيَاءُ كُلُّهَا لَهُ سَوَاءٌ عِلْما وقُدْرَةً وَمُلْكا وَإِحَاطَةً). «فهو» مبتدأ و«كما هو» خبر المبتدأ، أي لا يتغيّر، نظير «كُن كما أنت».

قال ابن هشام في مغني اللبيب في بيان أنّ الكاف قد يكون للاستعلاء:

قيل في كُن كما أنت: إنّ المعنى على ما أنت عليه، وللنحويّين في هذا المثال أعاريب:

أحدها: هذا وهو أنّ «ما» موصولة و«أنت» مبتدأ حذف خبره.

والثاني: أنّها موصولة، و«أنت» خبر حذف مبتدؤه؛ أي كالذي هو أنت، وقد قيل بذلك في قوله تعالى: «اجْعَل لَنَا إِلَها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ»(1) أي كالذي هو لهم آلهة.

والثالث: أنّ «ما» زائدة ملغاة والكاف أيضا جارّة كما في قوله:

وننصر مولانا ونعلم أنّه كما الناس مجروم عليه وجارم(2)

و«أنت» ضمير مرفوع اُنيب عن المجرور، كما في قوله: ما أنا كأنت، والمعنى: كن فيما تستقبل مماثلاً لنفسك فيما مضى.

والرابع: أنّ «ما» كافّة، و«أنت» مبتدأ حذف خبره، أي عليه أو كائن، وقد قيل في «كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ» أنّ «ما» كافّة. وزعم صاحب المستوفى(2) أنّ الكاف لا تكفّ ب«ما» وردّ .

ص: 308


1- الأعراف (7) : 138 . 2 . حكاه ابن عقيل في شرحه ، ج 2 ، ص 34 ؛ والطريحي في مجمع البحرين ، ج 4 ، ص 3 .
2- هو أبو سعد كمال الدين عليّ بن مسعود الفرغاني ، واسم كتابه المستوفى في النحو ، كما في كشف الظنون ، ج 2 ، ص 1675 .

عليه بقوله:

واعلَم أنّني وأبا حميد كما النشوان والرجل الحليم(1)

وقوله:

أخ ماجد لم يخزني يوم مشهد كما سيف عمرو لم تخنه مضاربه(2)

وإنّما يصحّ الاستدلال بهما إذا لم يثبت أنّ «ما» المصدريّة تُوصل بالجمل الاسميّة.

والخامس: أنّ «ما» كافّة أيضا، و«أنت» فاعل، والأصل: كما كنت، ثمّ حذفت «كان» فانفصل الضمير. وهذا بعيد، بل الظاهر أنّ «ما» على هذا التقدير مصدريّة. انتهى.(1)

و«على العرش» خبر ثان؛ يعني ليس كونه في السماء الدنيا مزيلاً له عمّا كان عليه، ولا مانعا عن كونه على العرش، فالمراد بنزوله إلى السماء الدنيا استجابته الدعاء ونحو ذلك، نظير قوله: «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِى الاْءَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا»(2) ومضى في سادس «باب فقد العلماء» من «كتاب العقل». وقوله: «وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّا صَفّا»(3)، وقوله: «والأشياء» إلى آخره إشارة إلى معنى الاستواء على العرش في الآية، موافقا لما يجيء في سادس الباب وسابعه وثامنه.

(وَ عَنْهُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ الْكُوفِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى مِثْلُهُ).

(وَفِي قَوْلِهِ(4): «مَا يَكُونُ مِن نَّجْوى ثَلثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ»(5)). هذا كلام المصنّف، وهو معطوف على الحركة والانتقال؛ أي وهذا الباب في قوله. .

ص: 309


1- مغني اللبيب ، ج 1 ، ص 177 .
2- الرعد (13) : 41 .
3- الفجر (89) : 22 .
4- في الكافي المطبوع : + «تعالى» .
5- المجادلة (58) : 7 .

الخامس: (عَنْهُ، عَنْ عِدَّةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ ، عَنِ ابْنِ أُذَيْنَةَ: عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام فِي قَوْلِهِ تَعَالى: «مَا يَكُونُ مِن نَّجْوى ثَل_ثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَ لاَخَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ»(1) فَقَالَ: هُوَ وَاحِدٌ) أي لا إله إلاّ هو.

(وَأحَديُّ(2) الذَّاتِ)، بفتح الهمزة وفتح الحاء المهملة ودال مهملة قبل ياء النسبة، والواو للعطف؛ أي وغير منقسم في وجوده ولا عقل ولا وهم. ويمكن أن تكون الواو جزء الكلمة وبعدها ألف ليّنة والحاء مكسورة، وحرف العطف مقدّر كما في ما بعده؛ والمآل واحد.

(بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ) أي ليس كمثله شيء.

(وَبِذَاكَ) أي بالوحدة والأحديّة والبينونة.

(وَصَفَ نَفْسَهُ) في القرآن. والمقصود أنّه تعالى ليس جسمانيّا، فليس كونه معهم باعتبار المكان والذات.

(وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ بِالاْءِشْرَافِ) أي بالعلوّ والقدرة. يُقال: أشرفت الشيء، أي علوته؛ وأشرفت عليه، أي اطّلعت عليه من فوق.

(وَالاْءِحَاطَةِ). ذكر ذلك اعتمادا على أنّ ما قبله وما بعده يفسّره أنّ المراد به القدرة، وإشارةً إلى أنّ إطلاق المحيط على هذا المعنى مشهور كقوله: «وَاللّه ُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ»(3).

(وَالْقُدْرَةِ). عطف تفسير.

(«لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِى السَّماواتِ وَلاَ فِى الاْءَرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ»(4)) أي لا يغيب.

(بِالاْءِحَاطَةِ) أي بالقدرة، وهو متعلّق بالنفي لا المنفيّ. .

ص: 310


1- المجادلة (58) : 7 .
2- في الكافي المطبوع : «وَاحِدِىُ» .
3- البروج (85) : 20 .
4- سبأ (34) : 3 .

(وَالْعِلْمِ، لاَ بِالذَّاتِ) أي بأن يكون ذاته في مكانٍ قريب من مكانهم.

(لاِءَنَّ الاْءَمَاكِنَ مَحْدُودَةٌ)؛ لأدلّة تناهي الأبعاد.

(تَحْوِيهَا حُدُودٌ أَرْبَعَةٌ). هي: القدّام، والخلف، واليمين، واليسار؛ لم يذكر الفوق والتحت من الجهات الستّ لأنّ المحسوس لنا من أمثالنا غالبا أحد الأربع.

(فَإِذَا كَانَ) عدم العزوب (بِالذَّاتِ لَزِمَهَا) أي الذات (الْحَوَايَةُ). وحاصله تفسير كونه تعالى مع الثلاثة أو الخمسة بأنّه لا يعزب شيء عنه بالقدرة والعلم.

(فِي قَوْلِهِ: «الرَّحْمَ_نُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى»(1)).

هذا أيضا كلام المصنّف رحمه الله ، وهو أيضا معطوف على الحركة والانتقال لكن بحذف العاطف.

السادس: (عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُوسَى الْخَشَّابِ)؛ بفتح الخاء المعجمة، وشدّ الشين المعجمة، والموحّدة.

(عَنْ بَعْضِ رِجَالِهِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِ اللّه ِ عَزَّ وَجَلَّ) في سورة طه:

(«الرَّحْمَ_نُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى»؟ فَقَالَ: اسْتَوى عَلى كُلِّ شَىْ ءٍ؛ فَلَيْسَ شَىْ ءٌ أَقْرَبَ إِلَيْهِ مِنْ شَىْ ءٍ).

ظاهره أنّ «على» للاستعلاء. والظرف متعلّق ب«استوى» وتعديته ب«على» لتضمين معنى الاستيلاء. والعرش عبارة عن كتاب اللّه الذي فيه تبيان كلّ شيء، كما يجيء بيانه في ثاني الآتي(2) عند قوله: «والعرش اسم علم وقدرة وعرش فيه كلّ شيء». والجملة خبر المبتدأ؛ يُقال: استوى على ظهر دابّته: إذا استقرّ؛ واستوى إلى الشيء: إذا قصده؛ واستوى على المملكة: إذا استولى على جميعها بحيث استوى نسبة كلّ جزء إليه.

وقوله: «فليس شيء أقرب إليه من شيء» ردّ على المعتزلة المفوّضة حيث قالوا: إنّ .

ص: 311


1- طآه (20) : 5 .
2- أي في الحديث 2 عن باب العرش والكرسي .

أفعال العباد ليست مقدورة للّه ، وليست بمشيئته وإرادته وقدره وقضائه وإذنه.(1)

ويجيء إبطال مذهبهم في أحاديث الخامس والعشرين والثلاثين.

السابع: (وَبِهذَا الاْءِسْنَادِ، عَنْ سَهْلٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَارِدٍ)؛ بكسر المهملة ومهملة.

(أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام سُئِلَ عَنْ قَوْلِ اللّه ِ عَزَّ وَجَلَّ : «الرَّحْمَ_نُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى»فَقَالَ: اسْتَوى مِنْ كُلِّ شَيْءٍ؛ فَلَيْسَ شَيْءٌ أَقْرَبَ إِلَيْهِ مِنْ شَيْءٍ). «من» في قوله: «من كلّ شيء» للنسبة، مثل: «أنتَ منّي بمنزلة هارون من موسى».

والاستواء على الشيء مشتمل على أمرين: الأوّل: الاستيلاء، الثاني: تساوي النسبة. وقد صرّح هنا بالثاني، وسكت عن الأوّل؛ لظهوره.

الثامن: (وَعَنْهُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَحْيى، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ الْحَجَّاجِ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام عَنْ قَوْلِ اللّه ِ عَزَّ وَجَلَّ : «الرَّحْمَ_نُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى»فَقَالَ: اسْتَوى فِي كُلِّ شَيْءٍ)؛ كما تصحّ تعدية «استوى» ب«على» باعتبار الاستيلاء وب«من» باعتبار النسبة تصحّ تعديته ب«في» باعتبار أنّ المراد بكلّ شيء خلق كلّ شيء، سواء كان خلقَ تقدير، أو خلقَ تكوين، نحو: تفوّق زيد في الكتابة، ويجوز أن يكون «في» بمعنى «على» كما قالوا في «لاَءُصَلِّبَنَّكُمْ فِى جُذُوعِ النَّخْلِ»(2).

(فَلَيْسَ شَيْءٌ أَقْرَبَ إِلَيْهِ مِنْ شَيْءٍ، لَمْ يَبْعُدْ مِنْهُ بَعِيدٌ، وَلَمْ يَقْرُبْ مِنْهُ قَرِيبٌ). المراد بالبعيد الممتنع بالذات، والمراد بالقريب الممكن بالذات؛ يعني لم يحدث بُعد بعيدٍ منه، ولا قُرب(3) قريبٍ منه، أو المراد أنّ كون بعض الممكنات بعيدا محتاجا إلى أسباب لم يحصل بعدُ، وبعضها قريبا إنّما هو بالنسبة إلينا، وأمّا بالنسبة إليه فليس بُعد وقُرب. .

ص: 312


1- حكاه في المواقف ، ج 3 ، ص 208 و 214 و 226 عن المعتزلة .
2- طآه (20) : 72 .
3- في «ج» : - «قرب» .

(اسْتَوى فِي كُلِّ شَيْءٍ). بيان لقوله: «لم يقرب منه قريب» أي استوى في خلق كلّ ممكن بالذات.

التاسع: (وَعَنْهُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ النَّضْرِ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ اللّه َ مِنْ شَيْءٍ، أَوْ فِي شَيْءٍ، أَوْ عَلى شَيْءٍ، فَقَدْ كَفَرَ. قُلْتُ: فَسِّرْ لِي، قَالَ : أَعْنِي بِالْحَوَايَةِ). الظرف متعلّق بالظرف في قوله: «أو في شيء»؛ أي أعني بأنّ اللّه في شيء أنّه في شيء بالحواية، وذلك لئلاّ ينافي نحو قوله تعالى: «كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ»(1).

(مِنَ الشَّيْءِ). «من» ابتدائيّة، والظرف مستقرّ صفة الحواية؛ لأنّها نكرة في المعنى أو حال عنها، واللام للعهد؛ لسبق ذكره في قوله: «في شيء».

(لَهُ) أي للّه .

(أَوْ بِإِمْسَاكٍ). الظرف متعلّق بالظرف في قوله: «أو على شيء»، والمراد نحو: إمساك السرير للسلطان، فإنّه إن وُهن السرير وسقط، سقط السلطان.

(لَهُ) أي للّه .

(أَوْ مِنْ شَيْءٍ سَبَقَهُ)؛ بصيغة الماضي المعلوم، والنشر ليس على ترتيب اللفّ، قدّم في التفسير الأخيرين؛ لأنّهما أحوج إلى التفسير من الأوّل.

العاشر: (وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرى: مَنْ زَعَمَ أَنَّ اللّه َ مِنْ شَيْءٍ، فَقَدْ جَعَلَهُ مُحْدَثا؛ وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ فِي شَيْءٍ، فَقَدْ جَعَلَهُ مَحْصُورا؛ وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ عَلى شَيْءٍ، فَقَدْ جَعَلَهُ مَحْمُولاً)، يعني شيء من الحديث، والمحصور والمحمول لا يصلح للاُلوهيّة.

(فِي قَوْلِهِ تَعَالى : «وَ هُوَ الَّذِى فِى السَّمَآءِ إِلَ_هٌ وَ فِى الاْءَرْضِ إِلَهٌ»(2)). هذا كلام المصنّف، وهو أيضا معطوف على الحركة والانتقال بحذف العاطف. .

ص: 313


1- الرحمن (55) : 29 .
2- الزخرف (43) : 84 .

الحادي عشر: (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ، قَالَ: قَالَ أَبُو شَاكِرٍ الدَّيَصَانِيُّ: إِنَّ فِي الْقُرْآنِ آيَةً هِيَ قَوْلُنَا) أي مؤيّد لاعتقادنا، وهو أنّه لا يوجد غير الجسم والجسمانيّات شيء مدبّر لها.

(قُلْتُ: مَا هِيَ؟ فَقَالَ: «وَ هُوَ الَّذِى فِى السَّمَآءِ إِلَ_هٌ وَ فِى الاْءَرْضِ إِلَ_هٌ»(1)). توهّم منه أنّ اللّه تعالى باعتقاد من يثبته مكانيٌّ وهو في السماء مرّةً، وفي الأرض اُخرى.

(فَلَمْ أَدْرِ بِمَا أُجِيبُهُ، فَحَجَجْتُ ، فَخَبَّرْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، فَقَالَ : هذَا كَلاَمُ زِنْدِيقٍ خَبِيثٍ) أي راسخ في الزندقة؛ لخبث باطنه.

(إِذَا رَجَعْتَ إِلَيْهِ، فَقُلْ لَهُ: مَا اسْمُكَ بِالْكُوفَةِ؟ فَإِنَّهُ يَقُولُ: فُلاَنٌ، فَقُلْ لَهُ: مَا اسْمُكَ بِالْبَصْرَةِ؟ فَإِنَّهُ يَقُولُ: فُلاَنٌ، فَقُلْ: كَذلِكَ اللّه ُ رَبُّنَا فِي السَّمَاءِ إِلهٌ، وَفِي الاْءَرْضِ إِلهٌ، وَفِي الْبِحَارِ إِلهٌ، وَفِي الْقِفَارِ إِلهٌ، وَفِي كُلِّ مَكَانٍ إِلهٌ)، يعني يستحقّ العبادة في كلّ مكان، ولا يقتضي هذا أن يكون نفسه مكانيّة، كما أنّ من اسمه بالكوفة فلان لا يجب أن يكون نفسه في الكوفة.

(قَالَ: فَقَدِمْتُ، فَأَتَيْتُ أَبَا شَاكِرٍ، فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: هذِهِ نُقِلَتْ مِنَ الْحِجَازِ) أي من مكّة. .

ص: 314


1- الزخرف (43) : 84 .

الباب العشرون: باب العرش و الكرسيّ

الباب العشرون بَابُ الْعَرْشِ وَ الْكُرْسِيِّ

فيه سبعة أحاديث.

«العرش» بالفتح في اللغة مصدر باب ضرب: رفع الكَرْم على العيدان،(1) كما في آية الأنعام: («وَهُوَ الَّذِى أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ»(2)فاطر (35) : 41 .(3))، واستعير هنا لكتاب اللّه الذي هو تبيان كلّ شيء لجامع الإظهار والتصريح. وقد يستعمل العرش في سرير في غاية الكمال صنعهُ الجبّار وحمل ملائكته إيّاه يجلس عليه أربعة من الأوّلين وأربعة من الآخرين.(4) كما ينقل في شرح أوّل الباب.

و«الكرسيّ» بالضمّ وقد يُكسر، في اللغة: الأصل الذي يبقى به نظام الشيء، كما يقال: الخبز كرسيّ البدن.(5) والمراد هنا حفظ اللّه تعالى وإمساكه الأشياء، كما في قوله تعالى: «وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالاْءَرْضَ وَلاَ يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا»(6)، وقوله تعالى: «إِنَّ اللّه َ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالاْءَرْضَ أَنْ تَزُولاَ»(6).

ص: 315


1- اُنظر الصحاح ، ج 3 ، ص 1010 (عرش) .
2- الأنعام
3- : 141 .
4- الرواية في هذا المجال في الكافي ، ج 4 ، ص 585 باب فضل زيارة أبي الحسن الرضا عليه السلام ، ح 4 ؛ و تهذيب الأحكام ، ج 6 ، ص 85 ، ح 3 ؛ وعيون أخبار الرضا عليه السلام ، ج 1 ، ص 290 ، ح 20 ؛ وسائل الشيعة ، ج 14 ، ص 564 ، ح 19832 .
5- اُنظر لسان العرب ، ج 6 ، ص 194 (كرس) .
6- البقرة (2) : 255 .

الأوّل: (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْبَرْقِيِّ رَفَعَهُ، قَالَ: سَأَلَ الْجَاثَلِيقُ)؛ بالجيم وفتح المثلّثة وكسر اللام وسكون الخاتمة والقاف: رئيس للنصارى في بلاد الإسلام مثل كوفة وبغداد، ويكون تحت يد بطريق إنطاكية، ثمّ المِطران تحت يده، ثمّ الاُسقُفُّ يكون في كلّ بلد من تحت المِطران، ثمّ القسّيس، ثمّ الشماس.(1)

(أَمِيرَ الْمُوءْمِنِينَ عليه السلام ، فَقَالَ لَهُ : أَخْبِرْنِي عَنِ اللّه ِ _ عَزَّ وَجَلَّ _ يَحْمِلُ الْعَرْشَ أَمِ الْعَرْشُ يَحْمِلُهُ؟ فَقَالَ أَمِيرُ الْمُوءْمِنِينَ عليه السلام : «اللّه ُ _ عَزَّ وجَلَّ _ حَامِلُ الْعَرْشِ وَالسَّمَاوَاتِ) عطف تفسير إن اُريد بالعرش جميع المخلوقات، وعطف انفكاك إن اُريد بالعرش ما يجلس عليه في الآخرة أربعة من الأوّلين، وأربعة من الآخرين.(2)

(وَالاْءَرْضِ وَمَا فِيهِمَا وَمَا بَيْنَهُمَا، وَذلِكَ قَوْلُ) أي وكون اللّه تعالى حاملاً للعرش مفاد قول:

(اللّه ِ عَزَّ وَجَلَّ ) في سورة فاطر:(«إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَ_و تِ وَ الاْءَرْضَ أَنْ تَزُولاَ وَ لَ_ل_ءِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا»(3)» قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِهِ) في سورة الحاقّة:

(«وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَ_ل_ءِذٍ ثَمَ_نِيَةٌ»(4)» فَكَيْفَ قَالَ ذلِكَ، وَقُلْتَ: إِنَّهُ يَحْمِلُ الْعَرْشَ وَالسَّمَاوَاتِ وَالاْءَرْضَ؟!)، يعني أنّ ما قلت من أنّه حامل للعرش ينافي هذه الآية، فإنّها تدلّ على أنّ حامل العرش غيره، فهو تعالى محمول له بالواسطة.

(فَقَالَ أَمِيرُ الْمُوءْمِنِينَ عليه السلام : إِنَّ الْعَرْشَ خَلَقَهُ اللّه ُ تَعَالى مِنْ أَنْوَارٍ أَرْبَعَةٍ) أي بسبب أربعة أنواع من المصالح معلومةٍ له تعالى مقتضيةٍ لخلق ما خلق من جملة العرش.

(نُورٍ أَحْمَرَ ، مِنْهُ احْمَرَّتِ الْحُمْرَةُ). المراد بالحمرة الشدّة، يُقال: احمرّ الحرب، أي .

ص: 316


1- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 217 ؛ تاج العروس ، ج 13 ، ص 59 . وحكاه المازندراني في شرح اُصول الكافي ، ج 5 ، ص 310 .
2- في «ج» : - «عطف تفسير إن اُريد بالعرش» إلى هنا .
3- فاطر (35) : 41 .
4- الحاقّة (69) : 17 .

اشتدّت؛ وموتٌ أحمر، أي شديد؛ وسنةٌ حمراء، أي شديدة مجدِبة.(1) وإسناد الفعل إلى المصدر مجاز.

والحمرة هنا عبارة عن مشيئته تعالى مشيّةَ حتم، أي متعلّقة بأفعاله تعالى كتكوين السماوات والأرض ونحوهما، دون ما تعلّق بأفعال عباده، فإنّه مشيئة عزم. ويجيء الفرق بين المشيئتين في رابع السادس والعشرين.(2)

(وَنُورٍ أَخْضَرَ ، مِنْهُ اخْضَرَّتِ الْخُضْرَةُ). المراد بالخضرة ما هو حال المخلوق الذي لم يستقرّ الإيمان ولا الكفر في قلبه، كالمستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً، وكالمجانين وكالأطفال الرُضّع ونحوهم، وكأنواع سائر الحيوانات تشبيها لهم بالنبات في أوائل ظهوره، واُصول أنواع الخضرة سبعة وثلاثون، كما يظهر ممّا يجيء في «كتاب الصلاة» في أوّل «باب النوادر».(3)

(وَنُورٍ أَصْفَرَ ، مِنْهُ اصْفَرَّتِ الصُّفْرَةُ). المراد بالصفرة ما هو حال الكافر الجاهل باللّه تعالى وبحججه وأحكامه عن عداوة، لا عن استضعاف؛ لما كان الإيمان حياةً، والكفر موتا، والصفرة لونَ الميّت ومن يقرب من الموت؛ عبّر عن الكفر بالصفرة.

(وَنُورٍ أَبْيَضَ ، مِنْهُ الْبَيَاضُ). المراد بالبياض الإيمان الخالص باللّه وحججه وأحكامه، والبياض يناسب الإيمان الذي لا كدورة فيه، ومنه الحواريّون، وهم خواصّ عيسى عليه السلام ، فإنّ الحوار: البياض، والتحوير: التبييض.

(وَهُوَ). الضمير للعرش.

(الْعِلْمُ الَّذِي حَمَّلَهُ اللّه ُ). المراد بالعلم كتاب اللّه ، فإنّه مفيد للعلم بتوسّط الآيات البيّنات المحكمات المخرجة من الظلمات إلى النور، و«حمّله» بالمهملة وشدّ الميم، والضمير مفعول ثان قدّم؛ لأنّه ضمير متّصل. .

ص: 317


1- معجم مقاييس اللغة ، ج 2 ، ص 101 ؛ النهاية ، ج 1 ، ص 438 ؛ لسان العرب ، ج 4 ، ص 210 (حمر) .
2- أي في الحديث 4 من باب المشيئة والإرادة .
3- الكافي ، ج 3 ، ص 482 ، باب النوادر ، ح 1 .

(الْحَمَلَةَ)؛ بفتح المهملة وفتح الميم، جمع «حامل» مفعول أوّل اُخّر. والمراد حَمَلة العرش، يعني أنّ حمل العرش هنا عبارة عن حمل العلم.

(وَذلِكَ) أي العلم المذكور (نُورٌ مِنْ عَظَمَتِهِ) أي بسبب عظمته وكبريائه؛ يعني أنّ اللّه تعالى لعظمته أنزل الكتاب، منعا لمن يصلح للتكليف عن الاستبداد بالرأي، فلولا عظمته لم ينزل كتابا، ولولا الكتاب والتكليف لم يتميّز كلّ من المؤمنين والجاهلين ومَن في السماء والأرض عن الآخرين.

(فَبِعَظَمَتِهِ وَنُورِهِ أَبْصَرَ قُلُوبُ الْمُوءْمِنِينَ ، وَبِعَظَمَتِهِ وَنُورِهِ عَادَاهُ الْجَاهِلُونَ، وَبِعَظَمَتِهِ وَنُورِهِ ابْتَغى مَنْ فِي السَّمَاءِ(1) وَالاْءَرْضِ مِنْ جَمِيعِ خَلاَئِقِهِ إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ بِالاْءَعْمَالِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَالاْءَدْيَانِ الْمُشْتَبِهَةِ).

هذا بيان للنور الأخضر والنور الأصفر والنور الأبيض، والنشر فيه على عكس ترتيب اللفّ. ولم يبيّن النور الأحمر لأنّه لا نزاع للقدريّة فيه وفي مقتضاه.

و«أبصر» من اللازم. و«قلوب» مرفوع فاعل «أبصر». واستعير السماء للدِّين الحقّ، والأرض للدِّين الباطل، كما في آية سورة الأعراف: («وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الاْءَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ»(2)).

والمراد بمن في السماء والأرض من هو بين الإيمان والكفر كالمستضعف، فإنّه إن كان مقلّدا لأهل الحقّ بدون بصيرة، لم يخرج الباطل من قلبه بالكلّيّة، فربّما مالَ إليه؛ وإن كان مقلّدا لأهل الباطل، لم يخرج الحقّ من قلبه بالكلّيّة، فربّما مالَ إليه، كما يدلّ عليه قوله: «والأديان المشبّهة».

و«من» في «من جميع» للتبعيض. وفي كتاب الروضة في حديث أبي الحسن موسى عليه السلام ما يشبه هذه الفقرة،(3) وله معنى آخر. .

ص: 318


1- في الكافي المطبوع : «السموات» .
2- الأعراف (7) : 176 .
3- الكافي ، ج 8 ، ص 124 ، ح 95 .

(فَكُلُّ مَحْمُولٍ) أي إذا كان بعظمته ونوره إبصار قلوب المؤمنين ومعاداة الجاهلين وابتغاء من في السماء والأرض إليه الوسيلة، كان كلّ من المؤمنين والجاهلين ومن في السماء والأرض محمولاً.

(يَحْمِلُهُ اللّه ُ بِنُورِهِ وَعَظَمَتِهِ) أي بمصلحته المعلومة له وكبريائه. والجملة استئناف بياني للسابق.

(وَقُدْرَتِهِ). إشارة إلى ما في نهج البلاغة من قول أمير المؤمنين عليه السلام : «لئن أمهل اللّه الظالم فلن يفوته أخذه، وهو له بالمرصاد».(1)

(لاَ يَسْتَطِيعُ). الضمير المستتر ل_ «كُلُّ» والجملة استئناف بياني للاستئناف السابق.

(لِنَفْسِهِ ضَرّا وَلاَ نَفْعا، وَلاَ مَوْتا وَلاَ حَيَاةً وَلاَ نُشُورا). الاستطاعة قدرة زائدة على ذات القادر لم تتعلّق مشيئة من لا يقع إلاّ ما يشاء بما ينافي المقدور بتلك القدرة. وسيجيء في ثاني «باب الاستطاعة» أنّها لا تتعلّق إلاّ بالواقع من الفعل والترك في وقتهما، لا قبل وقتهما؛ فالمراد بنفي الاستطاعة نفي الاستطاعة ما دام لم يشأ اللّه ، أو قبل الوقت. وهذا ردّ على القدريّة المفوّضة، أي القائلين بأنّ العبد مستقلّ في القدرة، وأنّه يكون ما لا يشاء اللّه .(2)

(فَكُلُّ شَيْءٍ مَحْمُولٌ) أي إذا ثبت أنّ كلّ واحد من العباد محمول للّه ، ثبت أنّ فعله أيضا محمول للّه ، فثبت أنّ كلّ شيءٍ محمول للّه .

(وَاللّه ُ _ تَبَارَكَ وَتَعَالى _ الْمُمْسِكُ لَهُمَا) أي للسماوات والأرض.

(أَنْ تَزُولاَ، وَالْمُحِيطُ بِهِمَا) أي الحافظ لهما.

(مِنْ شَيْءٍ)؛ من للسببيّة، أي لأجل مصلحة.

(وَهُوَ). الضمير ل_ «شيء». .

ص: 319


1- نهج البلاغة ، ص 142 ، الخطبة 97 . وفيه : «يفوت» بدل «يفوته» .
2- قال في شرح المواقف ، ج 8 ، ص 146 : «وقالت المعتزلة (أي أكثرهم) : الأفعال الاختيارية واقعة بقدرة العبد وحدها على سبيل الاستقلال بلا إيجاب ، بل باختيار» .

(حَيَاةُ كُلِّ شَيْءٍ، وَنُورُ كُلِّ شَيْءٍ) أي سبب بقاء النظام المشاهد الذي يشتمل على كلّ شيء ومصلحة ذلك النظام.

(«سُبْحَانَهُ وَتَعَالى عَمَّا يَقُولُونَ» من أنّه محمول «عُلُوّاكَبِيرا»(1)).

(قَالَ لَهُ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ اللّه ِ _ عَزَّ وَجَلَّ _ أَيْنَ هُوَ؟ فَقَالَ أَمِيرُ الْمُوءْمِنِينَ عليه السلام : هُوَ هَاهُنَا، وَهَاهُنَا، وَفَوْقُ، وَتَحْتُ)؛ مبنيّان على الضمّ، أي وفوق ذلك، وتحت ذلك.

(مُحِيطٌ بِنَا) علما وقدرة (وَمَعَنَا، وَهُوَ قَوْلُهُ) أي كونه محيطا بنا ومعنا مفاد قوله في سورة المجادلة:

(«مَا يَكُونُ مِن نَّجْوى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَ لاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَ لاَآ أَدْنَى مِن ذَ لِكَ وَ لاَآ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ»(2)). لمّا كان هذا السؤال من الجاثليق قبل إتمام جوابه عليه السلام عن الأوّل، أجاب عليه السلام عن هذا السؤال، ثمّ عاد إلى تتمّة الجواب عن الأوّل بقوله:

(فَالْكُرْسِيُّ). الفاء للتفريع، وفيه إشارة إلى تفسير الكرسيّ بالحمل والإمساك، وإليه يرجع ما ذكرنا في شرح عنوان الباب من أنّ المراد به حفظه تعالى الأشياء.

(مُحِيطٌ بِالسَّمَاوَاتِ وَالاْءَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرى «وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى»،(3) وَذلِكَ) أي إحاطة الكرسيّ (قَوْلُهُ تَعَالى: «وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَ_وَ تِ وَالاْءَرْضَ وَلاَ يَ_ءُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِىُّ)(4) عن أن يجهل شيئا (الْعَظِيمُ»)؛ بيده ملكوت كلّ شيء.

(فَالَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ هُمُ الْعُلَمَاءُ الَّذِينَ حَمَّلَهُمُ اللّه ُ عِلْمَهُ). الضمير للّه ، والمراد كتابه الذي أوحى إلى أنبيائه.

إن قلت: إذا كان معنى حمل العرش حمْلَ علمه، فما معنى قوله: «فَوْقَهُمْ يَوْمَ_ل_ءِذٍ ثَمَ_نِيَةٌ»؟(5) .

ص: 320


1- الإسراء (17) : 43 .
2- المجادلة (58) : 7 .
3- طآه (20) : 7 .
4- البقرة (2) : 256 .
5- الحاقّة (69) : 17 .

قلت: يحتمل أن يكون لحمل ذلك العلم مراتبُ متفاوتةٌ باعتبار العمل بمقتضاه شدّةً وضعفا، ويكون حمل هؤلاء الثمانية إيّاه فوق حمل سائر علماء الخلائق إيّاه شدّةً.

ثمّ يحتمل أن يكون التقييد بقوله: «يومئذٍ» باعتبار أنّهم يُعْطَوْن ثوابَ ذلك الحمل في ذلك اليوم بحيث يظهر لسائر الخلائق أنّهم الحاملون إيّاه ذلك الحملَ.

وأمّا ما يجيء في «كتاب الحجّ» في رابع «باب فضل زيارة أبي الحسن الرضا عليه السلام » من قول أبي الحسن موسى عليه السلام : «إذا كان يوم القيامة كان على عرش الرحمان أربعة من الأوّلين، وأربعة من الآخرين؛ فأمّا الأربعة الذين هم من الأوّلين، فنوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام ، وأمّا الأربعة من الآخرين، فمحمّد وعليّ والحسن والحسين عليهم السلام ، ثمّ يُمدّ الطعام،(1) فيقعد معنا من زار قبور الأئمّة عليهم السلام إلاّ أنّ أعلاهم درجةً وأقربَهم حبوةً زوّار قبر ولدي عليّ».(2) فهو سرير في غاية الكمال يجلس عليه الحاملون للعلم.

لا يخفى أنّ قوله عليه السلام : «معنا» إشارة إلى أنّ ذكر الأربعة من الآخرين باعتبار أنّهم كانوا موجودين في عصر نزول القرآن، فسائر الأئمّة عليهم السلام شريكهم في ذلك الحمل وما يترتّب عليه.

(وَلَيْسَ يَخْرُجُ عَنْ هذِهِ الاْءَرْبَعَةِ) أي الحمرة والخضرة والصفرة والبياض، أو المراد الأربعة الأنوار، بمعنى أنّه لا يخرج عن الاستناد إلى شيء من الأربعة الأنوار التي خلق العرش منها.

(شَيْءٌ خَلَقَ اللّه ُ فِي مَلَكُوتِهِ ). الملكوت _ بفتحتين _ في الأصل مصدر، وهو مبالغة الملك. والمراد هنا المملكة. ويمكن أن يكون المراد المعنى المصدريَّ بأن يكون «في» للسببيّة.

(وَهُوَ) أي ملكوته تعالى باعتبار أفعال العباد وكونها مخلوقة للّه تعالى حتّى معاصيهم وكفرهم. .

ص: 321


1- في المصدر والتهذيب : «المضمار». وفي العيون : «المطمار» .
2- الكافي ، ج 4 ، ص 585 باب فضل زيارة أبي الحسن الرضا عليه السلام ، ح 4 ؛ تهذيب الأحكام ، ج 6 ، ص 85 ، ح 3 ؛ عيون أخبار الرضا عليه السلام ، ج 1 ، ص 290 ، ح 20 ؛ وسائل الشيعة ، ج 14 ، ص 564 ، ح 19832 .

(الْمَلَكوُتُ الَّذِي أَرَاهُ اللّه ُ أَصْفِيَاءَهُ وَأَرَاهُ خَلِيلَهُ صلى الله عليه و آله )؛ وذلك لأنّ ملكوته تعالى باعتبار أفعال نفسه ظاهر عند كلّ أحد، ولا دخل لإراءته في الإيقان المطلوب هنا.

(فَقَالَ) في سورة الأنعام: («وَكَذَ لِكَ نُرِىآ إِبْرَ هِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَ_وَ تِ وَالاْءَرْضِ»). الواو للعطف على «قال» في قوله تعالى سابقا: «وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لاَِبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاما آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ»(1)الأنعام (6) : 75 .(2) والكاف للتعليل على مقدّم وجودا مثل: «وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ»(3)، ومثل: «أَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللّه ُ إِلَيْكَ»(4)؛ و«ذلك» إشارة إلى مصدر «قال».

وإراءة إبراهيم الملكوت هنا عبارة عن تأييد إبراهيم وإحداث الباعث على اطمئنان قلبه على الملكوت بعد إيمانه به، نظير قوله تعالى: «قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي»(5). والمضارع في «نُرِيَ» حكاية للحال الماضية؛ لإفادة التكرار على حسب وقوع أنواع من الغلظة في كلام إبراهيم مع من جرى مجرى أبيه، ولا سيّما على قراءة من قرأ «آزر» بالرفع على النداء.(6)

(«وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ»(6)). الواو للعطف على «كذلك» أي ونريه ليكون من الذين اطمأنّت قلوبهم على أنّ كلّ شيءٍ مخلوقٌ له خلقَ تكوينٍ أو خلقَ تدبير، وأنّ بيده أزمّةَ الاُمور من الخير والشرّ، فليَّنوا القول في إرشاد المشركين والفسّاق، ولذا خاطب إبراهيم من جرى مجرى أبيه قبل الإراءة بكلام فيه أنواع من الخشونة، حيث قال: «أَتَتَّخِذُ أَصْنَاما آلِهَةً إِنِّى أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِى ضَلاَلٍ مُبِينٍ»، وبعد الإراءة ليّن القول مع البُعداء الذين عبدوا الكواكب، وعدّ نفسه أوّلاً من جملتهم، حيث قال حين رأى كوكبا: «هَ_ذَا رَبِّى» تمهيدا لإرشادهم، ورعايةً لمصلحة، نظير قوله: «إِنِّى سَقِيمٌ»(7)، وقوله: «بَلْ فَعَلَهُ .

ص: 322


1- الأنعام
2- : 74 .
3- البقرة (2) : 198 .
4- القصص (28) : 77 .
5- البقرة (2) : 260 .
6- حكى ذلك الثعلبي في تفسيره ، ج 4 ، ص 160 عن الحسن وأبي زيد المدني ويعقوب الحضرمي .
7- الصافّات (37) : 89 .

كَبِيرُهُمْ»(1)، ونظير قول مؤذِّن يوسف: «أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ»(2)، ونسبهم إلى نفسه آخرا حيث قال: «إِنَّنِى بَرِى ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ»(3).

والقول الليّن أحسن من الغير الليّن في مقام الإرشاد، كما في قوله تعالى في سورة طه: «فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَيِّنا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى».(4)

(وَكَيْفَ يَحْمِلُ حَمَلَةُ الْعَرْشِ) أي العلماء (اللّه َ ، وَبِحَيَاتِهِ حَيِيَتْ قُلُوبُهُمْ، وَبِنُورِهِ اهْتَدَوْا إِلى مَعْرِفَتِهِ؟!).

الثاني: (أَحْمَدُ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَحْيى، قَالَ: سَأَلَنِي أَبُو قُرَّةَ الْمُحَدِّثُ أَنْ أُدْخِلَهُ عَلى أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا عليه السلام ، فَاسْتَأْذَنْتُهُ، فَأَذِنَ لِي، فَدَخَلَ فَسَأَلَهُ عَنِ الْحَلاَلِ وَالْحَرَامِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَ فَتُقِرُّ أَنَّ اللّه َ مَحْمُولٌ؟ فَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ عليه السلام : كُلُّ مَحْمُولٍ مَفْعُولٌ بِهِ) أي منفعل عن غيره.

(مُضَافٌ إِلى غَيْرِهِ) أي تابع لغيره.

(مُحْتَاجٌ) إلى ذلك الغير.

(وَالْمَحْمُولُ اسْمُ نَقْصٍ). الاسم: العلاّمة، أي دليل نقص.

(فِي اللَّفْظِ) أي في صريح مدلول اللفظ بدون حاجة إلى تنقيب.

(وَالْحَامِلُ فَاعِلٌ وَهُوَ فِي اللَّفْظِ) أي في صريحه.

(مِدْحَةٌ)؛ بكسر الميم، مصدر باب منع؛ أي نوع من المدح. والمدحة أيضا ما يمدح به.

(وَكَذلِكَ قَوْلُ الْقَائِلِ: فَوْقَ، وَتَحْتَ، وَأَعْلى، وَأَسْفَلَ)؛ فإنّ الفوق والأعلى مدحة في صريح مدلول اللفظ، والتحت والأسفل نقص فيه، ولا ينافي النقص من جهة المدحة من جهة اُخرى. .

ص: 323


1- الأنبياء (21) : 63 .
2- يوسف (12) : 70 .
3- الأنعام (6) : 19 .
4- طآه (20) : 44 .

(وَقَدْ قَالَ اللّه ُ تَعَالى : وَلَهُ الأَْسْمَآءُ الْحُسْنَى)؛ نقل بالمعنى من سورة الأعراف،(1) فإنّ فيها «وللّه » بدل «وله» أي له أفضل المتقابلين في جميع الصفات.

(فَادْعُوهُ بِهَا. وَلَمْ يَقُلْ فِي كُتُبِهِ: إِنَّهُ الْمَحْمُولُ، بَلْ قَالَ: إِنَّهُ الْحَامِلُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَالْمُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالاْءَرْضَ أَنْ تَزُولاَ، وَالْمَحْمُولُ) أي له تعالى (مَا سِوَى اللّه ِ) أي كلّ واحد ممّا سوى اللّه ، كما مرّ في سابع «باب الحركة والانتقال» في تفسير قوله تعالى: «الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى»(2).

(وَلَمْ يُسْمَعْ)؛ بصيغة المجهول.

(أَحَدٌ آمَنَ بِاللّه ِ وَعَظَمَتِهِ قَطُّ قَالَ فِي دُعَائِهِ: يَا مَحْمُولُ).

(قَالَ أَبُو قُرَّةَ: فَإِنَّهُ قَالَ ) في سورة الحاقّة: («وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَ_ل_ءِذٍ ثَمَ_نِيَةٌ»(3) وقَالَ) في سورة المؤمن: («الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ»(4)؟). مقصوده الردّ على قوله عليه السلام : «لم يقل في كتبه: إنّه المحمول» بأنّ هاتين الآيتين دالّتان على أنّه محمول بالواسطة. وهذا مبنيّ على توهّم أنّ المراد بالعرش السرير الذي يجلس عليه الملك، وأنّه تعالى جالس على العرش.

(فَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ عليه السلام : الْعَرْشُ لَيْسَ هُوَ اللّه َ) أي ليس حمل العرش حملاً للّه من قبيل ما روي: «لا تسبّوا الدهر؛ فإنّ الدهر هو اللّه »(5) أي سبّ الدهر سبٌّ للّه ؛ لأنّه الطارق بالنوائب التي يشكون الدهر أو الفلك لأجلها، دون الدهر ودون الفلك.

(وَالْعَرْشُ اسْمُ عِلْمٍ وَقُدْرَةٍ). «العرش» مبتدأ و«اسم» خبره(6) ومضاف، وهو بمعنى .

ص: 324


1- الأعراف (7) : 180 .
2- الرحمن (55) : 5 .
3- الحاقّة (69): 17.
4- المؤمن (غافر) (40) : 7 .
5- المجازات النبويّة ، ص 235 ، ح 190 ؛ الأمالي للسيّد المرتضى ، ج 1 ، ص 34 ؛ الإيضاح للفضل بن شاذان ، ص 11 و 182 ؛ كنز الفوائد ، ص 10 ؛ عوالي اللآلي ، ج 1 ، ص 56 ، ح 80 ؛ جامع الأخبار ، ص 160 .
6- في «ج» : «خبر» .

العلاّمة؛ يعني أنّ العرش كتاب اللّه الدالّ على كمال علم اللّه وقدرته، فإنّ فيه تبيان كلّ شيء مع قلّة لفظه، موافقا لقوله تعالى في سورة الحديد: «مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِى الاْءَرْضِ وَلاَ فِى أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللّه ِ يَسِيرٌ»(1).

(وَعَرَشَ فِيهِ كلَّ(2) شَيْءٍ). «عرش» بصيغة الماضي المعلوم من باب ضرب، والضمير المستتر للّه . والعرش: الرفع، والمراد هنا التبيان. وضمير «فيه» لاسم. و«كلّ» منصوب على المفعوليّة.

وهذا من عطف الجملة الفعليّة على الاسميّة، وإشارة إلى وجه تسمية الكتاب بالعرش، يعني أوضح اللّه في كتابه كلّ شيء، كما في قوله في سورة النحل: «وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانا لِكُلِّ شَىْ ءٍ».(3) ومضى بيانه في «كتاب العقل» في ثامن الحادي والعشرين.(4)

(ثُمَّ أَضَافَ الْحَمْلَ إِلى غَيْرِهِ خَلْقٍ مِنْ خَلْقِهِ). «ثمّ» للتعجّب؛ فإنّ حمل أحد من الناس كتاب اللّه الذي هو تبيان كلّ شيء عجيب جدّا، خارق للعادة، دالّ على كمال قدرة الصانع تعالى شأنه، كما مرّ في «كتاب العقل» في سابع الباب الرابع عشر، وهو «باب استعمال العلم» من قوله: «خاصموه بما ظهر لكم من قدرة اللّه عزّ وجلّ».

و«أضاف» بصيغة الماضي المعلوم من باب الإفعال، معطوفٌ على «عَرَش». والضمير المستتر للّه . و«الحمل» منصوب على المفعوليّة. والمراد حمل العرش. وضمير «غيره» للّه ، و«خلق» مجرور وبدل «غيره» وعبارة عن الحجج المعصومين، سواءً كانوا أنبياء أم أوصياء. و«من» للتبعيض. وضمير «خلقه» للّه .

وهذا إشارة إلى قوله تعالى: «وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ»(5) وقوله تعالى: «الَّذِينَ يَحْمِلُونَ .

ص: 325


1- الحديد (57) : 22 .
2- في الكافي المطبوع : «وعَرْشٍ فيه كلُّ» بدل «عَرَشَ فيه كلَّ» .
3- النحل (16) : 89 .
4- أي في الحديث 8 من باب الردّ إلى الكتاب والسنّة وأنّه ليس شيء من الحلال و الحرام وجميع ما يحتاج الناس إليه إلاّ وقد جاء فيه كتاب أو سنّة .
5- الحاقّة (69) : 17 .

الْعَرْشَ»(1).

(لاِءَنَّهُ اسْتَعْبَدَ خَلْقَهُ بِحَمْلِ عَرْشِهِ وَهُمْ حَمَلَةُ عِلْمِهِ). «لأنّه» تعليل لقوله: «أضاف». والضمير للّه . و«استعبد» بالمهملة والموحّدة ومهملة بصيغة الماضي المعلوم، من باب الاستفعال؛ يُقال: استعبده: إذا كلّفه بعمل العبد.

و«خلقه» منصوب على المفعوليّة. و«بحمل» بحرف الجرّ وصيغة المصدر المضاف والباء للتعليل.

والمراد أنّه لولا حمل خلق من خلقه عرشَه لم يستعبد خلقه؛ بناء على قبح استعبادهم بكتاب فيه أحكام، وليس فيهم عالم بجميع ذلك الكتاب.

وهذا إشارة إلى برهان على إمامة أمير المؤمنين وأولاده الأحد عشر عليهم السلام بلا واسطة؛ لإجماع الاُمّة على أنّ غاية دعوى سائر من يدّعي الإمامة ليس إلاّ دعوى الاجتهاد واتّباع الظنّ وتفسير القرآن بالظنّ. وضمير «هم» لخلق من خلقه. و«حملة» بفتح المهملة وفتح الميم جمع «حامل». وضمير «علمه» للّه ، والمراد بعلمه كتابه كما مرّ.

(وَخَلْقا يُسَبِّحُونَ حَوْلَ عَرْشِهِ وَهُمْ يَعْمَلُونَ بِعِلْمِهِ). و«خلقا» عطف على «خلقه»؛ أي واستعبد خلقا.

وهذا إشارة إلى تفسير قوله تعالى في سورة المؤمن: «الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ»(2) بأنّ «من حوله» عطف على «الذين». و«يسبّحون» بالموحّدة من باب التفعيل؛ أي ينزّهون اللّه عمّا لا يليق، كقوله في سورة النور: «يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالاْآصَالِ* رِجَالٌ».(3) والتقدير: وخلقا يسبّحون حول عرشه بحمل عرشه، نظير آية سورة الطلاق: «وَاللاَّئِى يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنْ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ وَ الَّ_آ_ءِى لَمْ يَحِضْنَ»(4) فإنّه بتقدير: واللائي لم يحضن إن ارتبتم فعدّتهنّ ثلاثة أشهر. .

ص: 326


1- غافر (40) : 7 .
2- غافر (40) : 7 .
3- النور (24) : 36 _ 37 .
4- الطلاق (65) : 4 .

وضمير «هم» ل«خلقا». وضمير «بعلمه» للّه ، يعني أنّ هؤلاء الخلقَ ليسوا بحملة العلم، بل تابعون لهم في التعلّم منهم بالغدوّ والآصال، والعمل بما سمعوا منهم، وهم طائفة من الشيعة الإماميّة، وهم في هذا الزمان خاصّةً موالي القائم الثلاثون المذكورون في «كتاب الحجّة» في سادس عشر «باب في الغيبة» وتاسع عشره، والمراد أنّه لولا حمل خلق من خلقه عرشَه، لم يستعبد اللّه تعالى طائفة يسبّحون حول عرشه؛ لقبح الاستعباد حينئذٍ.

(وَمَلاَئِكَةً يَكْتُبُونَ أَعْمَالَ عِبَادِهِ). و«ملائكة» منصوب بالعطف على «خلقه»؛ أي واستعبد ملائكة. والمراد بالملائكة ملائكة اليمين والشمال، فإنّ لكلّ عبدٍ في كلّ يومٍ مَلَكين، وفي كلّ ليلة ملكين، يكتبان أعماله؛ يعني لولا حمل خلق من خلقه عرشَه، لم يستعبد اللّه تعالى الملائكة الكَتَبة للأعمال؛ لقُبح الاستعباد حينئذٍ؛ لأنّ حسن الأعمال وقبحها فرع التكليف، وإذا لم يكن حامل عرشه لقبح التكليف.

(وَاسْتَعْبَدَ أَهْلَ الاْءَرْضِ بِالطَّوَافِ حَوْلَ بَيْتِهِ). «واستعبد» جملة حاليّة بتقدير «قد».

وهذا توضيح وتقوية للمدّعى بذكر نظير. والباء في «بالطواف» للتعليل، يعني لو ارتفع طواف بيته لارتفع استعباد أهل الأرض لنزول العذاب على أهل الأرض حينئذٍ، كما يجيء في «كتاب الحجّ» في أحاديث «باب لو ترك الناس الحجّ لجاءهم العذاب».(1)

ثمّ إنّ أصل تكليف الناس بالحجّ إنّما هو لملاقاة الإمام العالم بجميع الأحكام الحامل للعرش، كما يجيء في «كتاب الحجّة» في أحاديث الباب الخامس والتسعين وهو «باب أنّ الواجب على الناس بعدما يقضون مناسكهم أن يأتوا الإمام، فيسألونه عن معالم دينهم، ويعلّمونه ولايتهم ومودّتهم له».(2)

(وَاللّه ُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى كَمَا قَالَ. وَالْعَرْشُ وَمَنْ يَحْمِلُهُ وَمَنْ حَوْلَ الْعَرْشِ ).

لمّا فرغ عليه السلام من بيان آية سورة الحاقّة وآية سورة المؤمن، بيّن آية سورة طه وأمثالها .

ص: 327


1- الكافي ، ج 4 ، ص 271 .
2- الكافي ، ج 1 ، ص 392 .

بأنّ المراد بالعرش فيها أيضا اسم علم وقدرة، وهو كتاب اللّه الذي فيه تبيان كلّ شيء. ومرَّ بيانه في سادس السابق وسابعه وثامنه.(1)

وهذا لا ينافي أنّ الثمانية الذين هم حَملة العرش أي حملة علمه صنع اللّه تعالى لهم عرشا؛ أي سريرا في غاية الكمال، وتحمل هذا العرش ملائكة، كما في الصحيفة الكاملة في دعائه عليه السلام في الصلاة على حَمَلَة العرش، وكلّ ملك مقرّب من قوله عليه السلام : «اللّهُمَّ وحَمَلة عرشك الذين لا يفترون من تسبيحك»(2) إلى آخره، وكما في أوّل خطب نهج البلاغة من قول أمير المؤمنين عليه السلام : «ومنهم الثابتة في الأرضين السفلى أقدامهم، والمارقة من السماء العليا أعناقهم، والخارجة من الأقطار أركانهم، والمناسبة لقوائم العرش أكتافهم، ناكسةٌ دونه أبصارهم، ملتفِّعون(3) تحته بأجنحتهم» الخطبة.(4) فيجلسون عليه في الآخرة كما مضى في شرح أوّل الباب من قول أبي الحسن عليه السلام : «إذا كان يوم القيامة كان على عرش الرحمن أربعة من الأوّلين، وأربعة من الآخرين» إلى آخره.

وقوله: «كما قال» إشارة إلى أنّ مضمون هذا في عدّة سور، ففي طه: «الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى»،(5) وفي الأعراف ويونس والرعد والفرقان والتنزيل والحديد: «ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ».(6)

وقوله: «والعرش» مبتدأ. والواو في قوله: «ومن يحمله» بمعنى «مع»، وخبر المبتدأ مقدّر قبل الواو؛ أي مقرّون مع من يحمله؛ أو للعطف، وخبر المبتدأ مقدّر بعد الواو، أي الثلاثة مقرونة. .

ص: 328


1- أي في الحديث 6 و 7 و 8 من باب الحركة والانتقال .
2- الصحيفة السجّاديّة ، ص 40 ، وفي طبعة الاُخرى، ص 33 .
3- تلفع بالثوب : إذا اشتمل به . النهاية ، ج 4 ، ص 261 .
4- نهج البلاغة ، ص 41 ، آخر الخطبة 1 .
5- طآه (20) : 5 .
6- الأعراف (7) : 54 ؛ يونس (10) : 3 ؛ الرعد (13) : 2 ؛ الفرقان (25) : 59 ؛ السجدة (التنزيل) (32) : 4 ؛ الحديد (57) : 4 .

وعلى الأوّل «يحمله» منصوب محلاًّ، وعلى الثاني مرفوع محلاًّ، كما قالوا في كلّ رجل وضيعتَه. وعلى التقديرين الواو في «ومن حول» للعطف.

ويجيء ذكر حول العرش في «كتاب الجنائز» في أوّل الباب الحادي والتسعين، وهو بعد «باب في أرواح المؤمنين»(1) وفي «كتاب الصلاة» في أوّل «باب النوادر» وهو الباب المائة.(2)

(وَاللّه ُ الْحَامِلُ لَهُمُ) أي لمن يحمله ولمن حول العرش.

(الْحَافِظُ لَهُمُ، الْمُمْسِكُ، الْقَائِمُ عَلى كُلِّ نَفْسٍ، وَفَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ، وَعَلا(3)). يكتب بالألف، فعل ماض. وفي بعض النسخ بالياء حرف جرّ.

(كُلَّ(4) شَيْءٍ، وَلاَ يُقَالُ: مَحْمُولٌ، وَلاَ أَسْفَلُ _ قَوْلاً مُفْرَدا لاَ يُوصَلُ بِشَيْءٍ _ فَيَفْسُدُ اللَّفْظُ وَالْمَعْنى). يعني لو أوصل بشيء يكون قرينة على معنى صحيح، لكان المعنى صحيحا، واللفظ فاسدا؛ لأنّه ممّا فيه سوء أدب بدون إذن.

(قَالَ أَبُو قُرَّةَ: فَتُكَذِّبُ بِالرِّوَايَةِ الَّتِي جَاءَتْ: أَنَّ اللّه َ إِذَا غَضِبَ إِنَّمَا يُعْرَفُ غَضَبُهُ أَنَّ) أي بأن (الْمَلاَئِكَةَ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ يَجِدُونَ ثِقَلَهُ عَلى كَوَاهِلِهِمْ)؛ جمع «كاهل» بكسر الهاء، وهو ما بين الكتفين.

(فَيَخِرُّونَ سُجَّدا، فَإِذَا ذَهَبَ الْغَضَبُ، خَفَّ وَرَجَعُوا إِلى مَوَاقِفِهِمْ؟ فَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ عليه السلام : «أَخْبِرْنِي عَنِ اللّه ِ _ تَبَارَكَ وَتَعَالى _ مُنْذُ لَعَنَ إِبْلِيسَ، إِلى يَوْمِكَ هذَا هُوَ غَضْبَانُ عَلَيْهِ، فَمَتى رَضِيَ؟) أي فليس يبقى وقت لذهاب الغضب والخفّة والرجوع إلى مواقفهم.

(وَهُوَ) مبتدأ، والواو للحال، والضمير للّه .

(فِي صِفَتِكَ) أي في بيانك ووصفك إيّاه. .

ص: 329


1- الكافي ، ج 3 ، ص 244 ، باب آخر في أرواح المؤمنين ، ح 1 .
2- الكافي ، ج 3 ، ص 482 ، ح 1 .
3- في الكافي المطبوع : «على» .
4- في الكافي المطبوع : «كلِّ» بالكسر .

(لَمْ يَزَلْ)؛ خبر المبتدأ.

(غَضْبَانا(1)). كذا في النسخ، وهو مبنيّ على أنّه منصرف؛ لمجيء غضبانة في مؤنّثه، ولا ينافيه مجيء غضبى أيضا.

(عَلَيْهِ) أي على إبليس.

(وَعَلى أَوْلِيَائِهِ وَعَلى أَتْبَاعِهِ) أي الذين يتجدّد منهم يوما فيوما، وساعةً فساعة، ولحظةً فلحظة أنواع القبائح، فإنّ الأرض لا تخلو في لحظة عن فسق وكفر متجدّد.

(كَيْفَ تَجْتَرِئُ أَنْ تَصِفَ رَبَّكَ بِالتَّغَيُّرِ مِنْ حَالٍ إِلى حَالٍ) أي من صفة كائنة في الخارج إلى اُخرى كائنة في الخارج.

(وَأَنَّهُ) أي وبأنّه (يَجْرِي عَلَيْهِ مَا يَجْرِي عَلَى الْمَخْلُوقِينَ؟!) من المحموليّة والجسميّة ونحو ذلك.

(سُبْحَانَهُ وَتَعَالى، لَمْ يَزُلْ)؛ بضمّ الزاي من الأفعال التامّة.

(مَعَ الزَّائِلِينَ، وَلَمْ يَتَغَيَّرْ مَعَ الْمُتَغَيِّرِينَ، وَلَمْ يَتَبَدَّلْ مَعَ الْمُتَبَدِّلِينَ، وَمَنْ)؛ بفتح الميم.

(دُونَهُ فِي يَدِهِ وَتَدْبِيرِهِ، وَكُلُّهُمْ إِلَيْهِ مُحْتَاجٌ، وَهُوَ غَنِيٌّ عَمَّنْ سِوَاهُ).

الثالث: (مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ شَاذَانَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عِيسى، عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ عَبْدِ اللّه ِ، عَنِ الْفُضَيْلِ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام عَنْ قَوْلِ اللّه ِ عَزَّ وَجَلَّ ) في سورة البقرة: («وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَ_وَ تِ وَالاْءَرْضَ»(2) فَقَالَ: يَا فُضَيْلُ، كُلُّ شَيْءٍ فِي الْكُرْسِيِّ، السَّمَاوَاتُ وَالاْءَرْضُ وَكُلُّ شَيْءٍ فِي الْكُرْسِيِّ).

قد مضى في شرح عنوان الباب أنّ المراد بالكرسيّ الحفظ والإمساك. وقوله: «السماوات» مبتدأ، والجملة استئناف بياني للسابق، و«كلّ شيء» من قبيل عطف التفسير، و«في الكرسيّ» خبر المبتدأ. .

ص: 330


1- في الكافي المطبوع : «غضبانَ» .
2- البقرة (2) : 256 .

الرابع: (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى، عَنِ الْحَجَّالِ)؛ بفتح المهملة، وشدّ الجيم.

(عَنْ ثَعْلَبَةَ)؛ بفتح المثلّثة، وسكون المهملة.

(عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَعْيَنَ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام عَنْ قَوْلِ اللّه ِ عَزَّ وَجَلَّ : «وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَ_وَ تِ وَالاْءَرْضَ»:(1)قال الفخر الرازي في تفسيره ، ج 7 ، ص 12 ذيل آية الكرسي : «قد جاء في الأخبار الصحيحة أنّه الكرسي جسم عظيم مستقلّ بذاته تحت العرش وفوق السماء السابعة ، ولا امتناع من القول به ، فوجب القول بإثباته» . وحكاه المازندراني في شرح اُصول الكافي ، ج 4 ، ص 100 ، والمشهدي في تفسير كنز الدقائق ، ج 1 ، ص 608 بلفظ «قيل» .(2) السَّمَاوَاتُ وَالاْءَرْضُ وَسِعْنَ الْكُرْسِيَّ، أَمِ الْكُرْسِيُّ وَسِعَ السَّمَاوَاتِ وَالاْءَرْضَ؟). ليس منشؤ السؤال الشكّ في المسؤول عنه؛ لأنّه صريح القرآن، بل منشؤه التعجّب الناشئ من توهّم أنّ الكرسيّ جسم مخصوص، كما ذهب إليه قوم.(2)

(فَقَالَ: بَلِ الْكُرْسِيُّ وَسِعَ السَّمَاوَاتِ وَالاْءَرْضَ وَالْعَرْشَ، وَكُلَّ(3) شَيْءٍ وَسِعَ الْكُرْسِيُّ).

«العرش» و«كلّ» منصوبان على المفعوليّة لقوله: «وسع». والمراد بالعرش كتاب اللّه الذي فيه تبيان كلّ شيء، فالمراد ب«كلّ شيء» ما تبيانه في الكتاب، موافقا لآية سورة النحل: «وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانا لِكُلِّ شَيْءٍ».(4)

و«الكرسيّ» مرفوع وفاعل «وسع».

وحاصل الجواب أنّ المراد بالكرسيّ حفظه وإمساكه تعالى، فلا يخرج عنه شيء.

الخامس: (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ فَضَالَةَ بْنِ أَيُّوبَ، عَنْ عَبْدِ اللّه ِ بْنِ بُكَيْرٍ، عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَعْيَنَ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام عَنْ قَوْلِ اللّه ِ عَزَّ وَجَلَّ : «وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَ_وَ تِ وَالاْءَرْضَ» : السَّمَاوَاتُ وَالاْءَرْضُ وَسِعْنَ الْكُرْسِيَّ، أَوِ الْكُرْسِيُّ وَسِعَ السَّمَاوَاتِ وَالاْءَرْضَ؟ فَقَالَ : إِنَّ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْكُرْسِيِّ). ظاهر ممّا مرّ. .

ص: 331


1- البقرة
2- : 255 .
3- في الكافي المطبوع : «كلُّ» بالرفع .
4- النحل (16) : 89 .

السادس: (مُحَمَّدٌ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي نَصْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْفُضَيْلِ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ: حَمَلَةُ الْعَرْشِ _ وَالْعَرْشُ: الْعِلْمِ _) أي مجموع العلم الذي اُوحي إلى الأنبياء.

(ثَمَانِيَةٌ: أَرْبَعَةٌ مِنَّا، وَأَرْبَعَةٌ مِمَّنْ شَاءَ اللّه ُ تعالى). مضى في شرح أوّل الباب ما يدلّ على أنّ الأربعة الاُولى رسول اللّه وعليّ والحسن والحسين، وفي حكمهم الأئمّة من أولادهم صلوات الرحمن عليهم، وأنّ الأربعة الاُخرى نوح وإبراهيم وموسى وعيسى.

وروى عليّ بن إبراهيم في تفسير سورة الحاقّة أنّ حَمَلة العرش ثمانية، أربعة من الأوّلين، وأربعة من الآخرين؛ فأمّا الأربعة من(1) الأوّلين: فنوح وإبراهيم وموسى وعيسى، وأمّا من الآخرين: فمحمّدٌ وعليّ والحسن والحسين عليهم السلام .(2)

السابع: (مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ، عَنِ ابْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ كَثِيرٍ)؛ بفتح الكاف وكسر المثلّثة.

(عَنْ دَاوُدَ الرَّقِّيِّ )؛ بفتح المهملة وشدّ القاف، نسبةً إلى رقّة بلدٍ قربَ الكوفة.

(قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام عَنْ قَوْلِ اللّه ِ عَزَّ وَجَلَّ) في سورة هود : («وَ كَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَآءِ»(3) فَقَالَ: مَا يَقُولُونَ؟ قُلْتُ: يَقُولُونَ: إِنَّ الْعَرْشَ كَانَ عَلَى الْمَاءِ، وَالرَّبُّ فَوْقَهُ، فَقَالَ: كَذَبُوا، مَنْ زَعَمَ هذَا، فَقَدْ صَيَّرَ اللّه َ مَحْمُولاً، وَوَصَفَهُ بِصِفَةِ الْمَخْلُوقِ، وَلَزِمَهُ أَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي يَحْمِلُهُ أَقْوى مِنْهُ) ولو في جهة من الجهات.

(قُلْتُ: بَيِّنْ لِي جُعِلْتُ فِدَاكَ، فَقَالَ : إِنَّ اللّه َ حَمَّلَ دِينَهُ وَعِلْمَهُ الْمَاءَ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ سَمَاءٌ أَوْ أَرْضٌ،(4) أَوْ جِنٌّ أَوْ إِنْسٌ، أَوْ شَمْسٌ أَوْ قَمَرٌ).

«حمّل» بالمهملة بصيغة الماضي المعلوم من باب التفعيل، أو باب ضرب. .

ص: 332


1- في «ج» : - «من» .
2- تفسير القمّي ، ج 2 ، ص 383 .
3- هود (11) : 7 .
4- في الكافي المطبوع : «أرض أو سماء» .

وعلى الأوّل «دينه» و«علمه» منصوبان، وعلى الثاني مرفوعان. وحاصلهما واحد، وهو أنّ اللّه تعالى جعل كتابه المشتمل على دينه وعلمه حاملاً للماء، بمعنى أنّه جعل بعض الماء في كمال النور والضياء لأجل كتابه، أي ليكون مادّة لحاملي كتابه من الأنبياء والأوصياء.

وعلى الأوّل تقديم «دينه» و«علمه» هنا وتأخيرهما فيما يأتي مبنيّ على أنّ الأوّل من مفعول «حمّل» حامل، والثاني محمول، فعرشه تعالى كان حاملاً للماء الذي هو مادّة الأنبياء والأوصياء؛ أي كان باعثا لرفعة الماء ثمّ صاروا حاملين لعرشه؛ أي عالمين وحافظين لعرشه.

(فَلَمَّا أَرَادَ اللّه ُ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ) أي بعد ما كوّن من الماء السماء والأرض ونحوهما وقبل أن يكوّن الخلق، أي ما عدا الأنبياء والأوصياء؛ فاللام للعهد.

(نَثَرَهُمْ). الضمير للأنبياء والأوصياء؛ فإنّهم مفهومون من قوله: «حمّل دينه وعلمه الماء». والمراد أنّه فرّق ذلك الماء بعدد الأنبياء والأوصياء.

(بَيْنَ يَدَيْهِ). هذا لبيان كمال قربهم وشرفهم.

(فَقَالَ لَهُمْ) أي للأنبياء والأوصياء:

(مَنْ رَبُّكُمْ؟ فَأَوَّلُ مَنْ نَطَقَ رَسُولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله وَأَمِيرُ الْمُوءْمِنِينَ عليه السلام وَالاْءَئِمَّةُ صلوات اللّه عليهم ، فَقَالُوا: أَنْتَ رَبُّنَا، فَحَمَّلَهُمُ)؛ بالمهملة من باب التفعيل، والضمير للأنبياء والأوصياء، أو لرسول اللّه وأمير المؤمنين والأئمّة عليهم السلام .

(الْعِلْمَ وَالدِّينَ، ثُمَّ قَالَ لِلْمَلاَئِكَةِ: هوءُلاَءِ حَمَلَةُ دِينِي وَعِلْمِي، وَأُمَنَائِي فِي خَلْقِي، وَهُمُ الْمَسْؤُولُونَ). إشارة إلى ما في قوله تعالى في سورة النحل وسورة الأنبياء: «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ»(1).

(ثُمَّ قَالَ لِبَنِي آدَمَ). المراد ما عدا الأنبياء والأوصياء. .

ص: 333


1- النحل (16) : 43 ؛ الأنبياء (21) : 7 .

(أَقِرُّوا لِلّهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ، وَلِهوءُلاَءِ النَّفَرِ بِالْوَلاَيَةِ وَالطَّاعَةِ، فَقَالُوا: نَعَمْ، رَبَّنَا أَقْرَرْنَا، فَقَالَ اللّه ُ لِلْمَلاَئِكَةِ: اشْهَدُوا، فَقَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ: شَهِدْنَا عَلى أَنْ لاَ يَقُولُوا غَدا: «إِنَّا كُنَّا عَنْ هَ_ذَا غَ_فِلِينَ»(1) أَوْ يَقُولُوا : «إِنَّمَآ أَشْرَكَ ءَابَآؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَافَعَلَ الْمُبْطِ_لُونَ»(2)). هذا من سورة الأعراف، ويجيء بيانه في رابع السادس «كتاب الإيمان والكفر».(3)

(يَا دَاوُدُ، وَلاَيَتُنَا مُوءَكَّدَةٌ عَلَيْهِمْ فِي الْمِيثَاقِ).

إن قلت: ما فائدة هذا السؤال والجواب والإقرار والشهادة مع نسيان بني آدم ذلك؟

قلنا: فائدته الدلالة على ظهور الأمر، وأنّ المخالف مخالف عمدا مع إقرار قلبه به في الدنيا؛ فإنّ جميع ما أقرّوا به معلوم للمخالف، لم يبق إلاّ معارضة وهميّة لولاها لم يكن في التصديق ثواب عظيم، وإنّما خالفوا لاتّباع الهوى والآباء والسلاطين، وكسب الوظائف، والفراغ من ضيق الحقّ، كما يشاهد في كلّ زمان.

ولعلّ هذا مخصوص بما عدا المستضعفين والأطفال والمجانين ونحوهم من الطوائف السبع الذين ورد في الأحاديث أنّهم غير مؤاخذين بعدم الإقرار، بل يتعلّق بهم تكليف في الدار الآخرة، كما يجيء في «كتاب الجنائز» في «باب الأطفال» وعدل اللّه فيهم.(4) .

ص: 334


1- الأعراف (7): 172.
2- الأعراف (7) : 173 .
3- الكافي ، ج 2 ، ص 13 ، باب فطرة الخلق على التوحيد ، ذيل ح 3 .
4- الكافي ، ج 3 ، ص 248 ، باب الأطفال .

الباب الحادي والعشرون: باب الروح

الباب الحادي والعشرون بَابُ الرُّوحِ

فيه أربعة أحاديث:

الأوّل: (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنِ ابْنِ أُذَيْنَةَ، عَنِ الاْءَحْوَلِ، قَالَ : سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام عَنِ الرُّوحِ الَّتِي فِي آدَمَ، وَقَوْلِهِ:) في سورة صآ: («فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى»(1) قَالَ: هذِهِ رُوحٌ مَخْلُوقَةٌ، وَالرُّوحُ الَّتِي فِي عِيسى مَخْلُوقَةٌ). أي ليست نسبة الروح إليه تعالى كنسبة روح الإنسان إلى بدنه، كما يقال: روح زيد كذا وكذا، بل الإضافة لأنّها مختارة عنده.

الثاني: (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى، عَنِ الْحَجَّالِ، عَنْ ثَعْلَبَةَ، عَنْ حُمْرَانَ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عليه السلام عَنْ قَوْلِ اللّه ِ)(2) في سورة النساء: («وَرُوحٌ مِّنْهُ»(3) قَالَ: هِيَ رُوحُ اللّه ِ مَخْلُوقَةٌ، خَلَقَهَا اللّه ُ فِي آدَمَ وَعِيسى). ظاهر ممّا مرّ.

الثالث: (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عُرْوَةَ)؛ بضمّ العين، وسكون الراء المهملتين.

(عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ الطَّائِيِّ)؛ بالمهملة والألف والهمز وياء النسبة، منسوب إلى طيّئ

ص: 335


1- صآ (38) : 72 .
2- في الكافي المطبوع : + «عزّوجلّ» .
3- النساء (4) : 171 .

على فيعل وهو أبو قبيلة، والقياس طيّئ حذفوا الياء الثانية كما قد يحذف من سيّد، فقلبوا الياء الساكنة ألفا.(1)

(عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام عَنْ قَوْلِ اللّه ِ عَزَّ وَجَلَّ:) في سورة صآ: («وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى»(2): كَيْفَ هذَا النَّفْخُ؟). توهّم السائل(3) أنّ الروح مجرّد لا يمكن فيه نفخ.

(فَقَالَ : إِنَّ الرُّوحَ مُتَحَرِّكٌ كَالرِّيحِ) أي جسمٌ لطيف كالريح.

(وَإِنَّمَا سُمِّيَ رُوحا لاِءَنَّهُ اشْتَقَّ اسْمَهُ مِنَ الرِّيحِ، وَإِنَّمَا أَخْرَجَهُ عَنْ لَفْظَةِ الرِّيحِ) أي وإنّما اشتقّ اسمه من الريح.

(لاِءَنَّ الرُّوحَ مُجَانِسٌ(4) لِلرِّيحِ) أي هي أيضا جسم هوائي.

(وَإِنَّمَا أَضَافَهُ إِلى نَفْسِهِ لاِءَنَّهُ اصْطَفَاهُ عَلى سَائِرِ الاْءَرْوَاحِ، كَمَا قَالَ لِبَيْتٍ مِنَ الْبُيُوتِ) هو الكعبة شرّفها اللّه تعالى.

(بَيْتِي، وَلِرَسُولٍ مِنَ الرُّسُلِ: خَلِيلِي). الخلّة بالضمّ: الصداقة الخالصة بين اثنين متناسبين، وهي ممّا يوهم التشبيه، واللّه تعالى بريءٌ منه، فهو بنوع من المجاز.

(وَأَشْبَاهِ ذلِكَ ، وَكُلُّ ذلِكَ مَخْلُوقٌ، مَصْنُوعٌ، مُحْدَثٌ، مَرْبُوبٌ، مُدَبَّرٌ). بتشديد الموحّدة المفتوحة، هذا الحديث وأمثاله صريح في أنّ النفس الناطقة ليست مجرّدة خلافا للزنادقة الفلاسفة(5) وأدلّتهم واهية، والعجب أنّ بعض الناصرين لهم يؤوّل هذه الأحاديث أنّ المراد غير النفس الناطقة.(6) .

ص: 336


1- الصحاح ، ج 1 ، ص 61 (طوأ) .
2- ص (38) : 72 .
3- في «ج» : - «السائل» .
4- في الكافي المطبوع : «الأرواح مجانسة» بدل «الروح مجانس» .
5- الشفاء (الطبيعيّات) ، ج 2 ، ص 14 . وحكاه عن جمهور الحكماء العلاّمة في معارج الفهم ، ص 534 . وانظر كشف المراد (تحقيق الآملي) ، ص 277 ، وفي طبعة تحقيق الزنجاني ، ص 195 .
6- اُنظر شرح المقاصد ، ج 1 ، ص 317 .

الرابع: (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللّه ِ بْنِ بَحْرٍ)؛ بفتح الموحّدة وسكون المهملة ومهملة.

(عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْخَزّازِ(1))؛ بفتح المعجمة وشدّ الزاي، والألف والزاي.

(عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عليه السلام عَمَّا يَرْوُونَ أَنَّ اللّه َ خَلَقَ آدَمَ عَلى صُورَتِهِ، فَقَالَ: هِيَ صُورَةٌ مُحْدَثَةٌ مَخْلُوقَةٌ ، اصْطَفَاهَا اللّه ُ وَاخْتَارَهَا عَلى سَائِرِ الصُّوَرِ الْمُخْتَلِفَةِ، فَأَضَافَهَا إِلى نَفْسِهِ، كَمَا أَضَافَ الْكَعْبَةَ إِلى نَفْسِهِ، وَالرُّوحَ إِلى نَفْسِهِ؛ فَقَالَ: «بَيْتِىَ»(2) وَ «نَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى»(3)).

وقال بعض: إنّ الضمير في صورته راجع إلى آدم،(4) فقيل: أي صورته اللائقة به،(5) وقيل: أي لأجل صورته.5.

ص: 337


1- في الكافي المطبوع : «الخرّاز» .
2- في الكافي المطبوع : «وبيتي» .
3- ص (38) : 72 .
4- اُنظر كتاب دفع شبه التشبيه باكف التنزيه ، ص 144 ، حديث خلق اللّه آدم على صورته .
5- اُنظر تفسير الرازي، ج 1، ص 125.

الباب الثاني والعشرون: باب جوامع التوحيد

اشارة

الباب الثاني والعشرون بَابُ جَوَامِعِ التَّوْحِيدِ

فيه سبعة أحاديث. وشرح من المصنّف لأوّلها.

و«جوامع» جمع «جامعة». والتأنيث باعتبار الخطبة، أو الفقرة، أو الكلمة بمعنى الكلام.

الأوّل: (مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى جَمِيعا ، رَفَعَاهُ إِلى أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : أَنَّ أَمِيرَ الْمُوءْمِنِينَ عليه السلام اسْتَنْهَضَ النَّاسَ) أي طلب نهوضهم وقيامهم.

(فِي حَرْبِ مُعَاوِيَةَ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ، فَلَمَّا حَشَدَ)؛ بالمهملة والمعجمة ومهملة، بصيغة الماضي المعلوم من باب ضرب؛(1) أي اجتمع.

(النَّاسُ قَامَ خَطِيبا، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلّهِ الْوَاحِدِ) أي ليس له في الأشياء شبه، وليس له في الإلهيّة شريك.

(الاْءَحَدِ) أي ليس فيه موجودان في نفسهما في الخارج، سواء كانا ذاتيّين أم عرضيّين أم مختلفين.

(الصَّمَدِ) أي المصمود إليه في الحوائج.

(الْمُتَفَرِّدِ)؛ بصيغة اسم فاعل باب التفعّل للمبالغة؛ أي لا شريك له في كنه ذاته، ولا في القدم، ولا في الإيجاد بقول «كن».

(الَّذِي لاَ مِنْ شَيْءٍ كَانَ، وَلاَ مِنْ شَيْءٍ خَلَقَ مَا كَانَ). الكون: الوجود والحدوث.

ص: 338


1- في «ج» : «ومهملة ماضي معلوم باب ضرب» بدل «ومهملة بصيغة الماضي المعلوم من باب ضرب» .

والمراد في الأوّل الأوّل بقرينة تقديم الظرف، والمراد في الثاني الثاني؛ لأنّ «ما» للعموم، ومفاد تقديم الظرف هنا رفع الإيجاب الكلّي.

(قُدْرَةٌ)؛ مرفوع على أنّه خبر مبتدأ محذوف؛ أي الخلق لا من شيء قدرة، والحمل مجاز، أو منصوب على أنّه مفعول له لقوله: «لا من شيء خلق» فإنّه يتضمّن أنّه خلق بعض ما كان لا من شيء.

(بَانَ بِهَا مِنَ الاْءَشْيَاءِ)؛ صفة «قدرة» أي لم يكن شريكا للأشياء في الأين، وإلاّ لم تكن قدرته بنفوذ الإرادة وقول «كُن».

(وَبَانَتِ الاْءَشْيَاءُ مِنْهُ) أي ولم يكن له في الأشياء شريك في التجرّد، وإلاّ كانت قدرته أيضا بنفوذ الإرادة وقول «كُن» في بعض ما صدر عنه.

(فَلَيْسَتْ)؛ تفريع على القدرة الموصوفة.

(لَهُ) أي للّه (صِفَةٌ) أي بيان عظمة (تُنَالُ)؛ بالنون والألف المنقلبة عن ياء بصيغة المضارع المجهول للغائبة من باب ضرب وعلم؛ أي تصاب وتعلم، وهو إشارة إلى قوله تعالى: «وَمَا قَدَرُوا اللّه َ حَقَّ قَدْرِهِ».(1) ومضى بيانه في حادي عشر العاشر.(2)

(وَلاَ حَدٌّ). حدّ الشيء: ما ينتهي الشيء إليه ولا يتجاوزه، كما في إحاطة السطح بالجسم. والمراد هنا منتهى عظمته، أو كنه ذاته.

(يُضْرَبُ لَهُ فِيهِ). الضمير الأوّل للّه ، والثاني للحدّ، أو بالعكس.

(الأَمْثَالُ)؛ جمع «مثل» بفتح الميم وفتح المثلّثة، وهو الأمر العجيب بأن يقال: عظمته وكماله كذا وكذا.

(كَلَّ). الكلال: الإعياء.

(دُونَ) أي تحت (صِفَاتِهِ) أي أقسام بيان عظمته كما هو حقّه.

(تَحْبِيرُ اللُّغَاتِ). تحبير الخطّ والشعر: تحسينهما. والإضافة إلى المفعول أو إلى الفاعل. .

ص: 339


1- الأنعام (6) : 91 .
2- أي في الحديث 11 من باب النهي عن الصفة بغير ما وصف به نفسه تعالى .

(وَضَلَّ هُنَاكَ) أي في اللّه تعالى.

(تَصَارِيفُ)؛ جمع «تصريف» بمعنى تغيير؛ أي أنواع تغيير.

(الصِّفَاتِ)؛ جمع «صفة» بمعنى بيان العظمة الصادرِ عن المخلوقين.

(وَحَارَ فِي مَلَكُوتِهِ). الملكوت من الملك كالرهبوت من الرهبة؛ أي في ملكه وعزّه. والمراد في قدر عظمته. ويحتمل أن يُراد بملكوته مملكته.

(عَمِيقَاتُ مَذَاهِبِ التَّفْكِيرِ)؛ فإنّ قدر عظمته ممّا استأثر اللّه تعالى بعلمه.

(وَانْقَطَعَ دُونَ) أي تحت (الرُّسُوخِ فِي عِلْمِهِ). الضمير للّه أو للملكوت؛ فالإضافة إلى المفعول.

(جَوَامِعُ التَّفْسِيرِ ) أي الكلمات الجامعة لأنواع التبيين.

(وَحَالَ دُونَ) أي تحت (غَيْبِهِ الْمَكْنُونِ) أي كنه ذاته، أو سرّ قدره في خلق ما خلق.

(حُجُبٌ مِنَ الْغُيُوبِ، تَاهَتْ فِي أَدْنى أَدَانِيهَا طَامِحَاتُ الْعُقُولِ فِي لَطِيفَاتِ الاْءُمُورِ) أي بين أذهان العباد وغيبه المكنون غيوب كثيرة هي حجب؛ أي لا يمكن العلم بغيبه المكنون إلاّ بعد العلم بتلك الغيوب، وتلك الغيوب مترتّبة متفاوتة؛ أي العلم ببعضها موقوف على العلم ببعض آخر وهكذا إلى غيب هو أدنى أدانيها، وقد تاه في هذا الغيب العقول الطامحات، في لطائف الاُمور أي دقائقها. يُقال: تاه في الأرض، أي ذهب متحيّرا. ويُقال: طمح بصري إليه، أي امتدّ وعلا. وطمح فلان: إذا أبعد في الطلب.(1)

والمراد الماضيات في الدقائق المبعدة في السير فيها والطلب لها.

(فَتَبَارَكَ اللّه ُ الَّذِي لاَ يَبْلُغُهُ بُعْدُ الْهِمَمِ). تفريعٌ على مجموع سابقه؛ أي لا يبلغ كنه ذاته، أو سرّه الهممُ البعيدة عن مبدأ فكرها لطلب الدقائق.

(وَلاَ يَنَالُهُ غَوْصُ الْفِطَنِ). هذا كسابقه.

(وَتَعَالَى الَّذِي لَيْسَ لَهُ وَقْتٌ مَعْدُودٌ،(2) وَلاَ أَجَلٌ مَمْدُودٌ، وَلاَ نَعْتٌ مَحْدُودٌ). «وقت» .

ص: 340


1- النهاية ، ج 3 ، ص 138 (طمح) .
2- في حاشية «أ» : «أي داخل في العدد ، وذلك لتقدّسه تعالى عن إحاطة الزمان». الوافي ، ج 1 ، ص 430 ، ذيل 353 .

مضاف أو موصوف، وكذا نظيراه.

وعلى الأوّل نقول: المراد بالوقت المدّة باعتبار أنّها ظرف للمتغيّرات. والمراد بالمعدود ما يعدّ مع غيره من جنسه كما يجيء في خامس الباب وسادسه من قوله: «ومَن عدّه فقد أبطل أزله».

والمراد بالأجل آخر المدّة، والمراد بالممدود الطويلُ المدّة بسبب فاعل.

والمراد بالنعت بيان الكيفيّة بالمعنى الذي مضى في شرح سادس الثاني.(1)

والمراد بالمحدود ما أحاط به الحدّ كالإنسان والبلّورة، يعني ليس معدودا فيكونَ له وقت، ولا ممدودا فيكون له أجل، ولا محدودا فيكون له نعت؛ ونظيره قولنا: ليس لزيد موت أجل، أي ليس له أجل فيموت.

وعلى الثاني نقول: الامتداد الزماني يسمّى وقتا وأجلاً باعتبار أنّه ظرف للمتغيّرات.

والمراد بالوقت المعدود الزمانُ باعتبار الابتداء أو القصير، وبالأجل الممدود الزمانُ باعتبار الانتهاء، أو الطويل المتناهي.

والمراد بالنعت الثناءُ والمدح بالكمالات كالعلم والقدرة ونحوهما، وبالمحدود المتناهي. أو المراد بالنعت المحدود نعتُ الأمر المحدود؛ لأنّ الشيء إذا أحاطه حدّ، كان ذلك الحدّ محيطا بما قام به أيضا.

(سُبْحَانَ الَّذِي لَيْسَ لَهُ أَوَّلٌ)؛ بالرفع والتنوين، والأوّل نقيض الآخِر، وأصله أوأل على أفعل مهموز الأوسط، قلبت الهمزة واوا واُدغم، وإذا جعلته صفة لم تصرفه تقول: لقيته عاما أوّلَ، أي أوّل من عامنا، وإذا لم تجعله صفة صرفته، فتقول: لقيته عاما أوّلاً(2): هو كالظرف كأنّك قلت: عاما قبل عامنا.

(مُبْتَدَأٌ)؛ بصيغة اسم الزمان والمكان مرفوع على أنّه بدل، أو وصف ل«أوّلٌ» أي(3) مبتدأ وجوده، وهو آن الحدوث، أو مبتدأ حصول كمالاته مثل ما يكون للإنسان حين».

ص: 341


1- أي في الحديث 6 من باب إطلاق القول بأنّه شيّء .
2- الصحاح، ج 5، ص 1838؛ لسان العرب، ج 11، ص 717 (وأل).
3- فى «ج»: «أو».

الشروع في التعلّم. ولا ينافي هذا أن يكون له أوّل مبتدأ بصيغة اسم المفعول، فإنّ أوّل ما خلق اللّه الماء.

(وَلاَ غَايَةٌ) أي كمال. ومنه يسمّى ما يقصد بفعل شيء علّة غائيّة له.

وقال نجم الدين الرضيّ في شرح الكافية:

لفظ «الغاية» يستعمل بمعنى النهاية، وبمعنى المدى، كما أنّ الأمد والأجل أيضا يستعملان بالمعنيين، والغاية تستعمل في الزمان والمكان بخلاف الأمد والأجل؛ فإنّهما يستعملان في الزمان فقط.(1)

(مُنْتَهىً)؛ بصيغة اسم المكان من الناقص بدل أو وصف لغاية، أي ما انتهى إليه كماله ولم يتجاوزه كما يكون للإنسان في أزمنة حصول كمالاته؛ يعني أنّ كمالاته تعالى غير متناهية، فليس له غاية ونهاية في الكمال انتهى إليها ولم يتجاوزها.

(وَلاَ آخِرٌ)؛ بكسر المعجمة؛ ما يقابل الأوّل.

(بِفَنَاءٍ(2)) ؛ بكسر الموحّدة حرف الجرّ وفتح الفاء والنون والمدّ، والظرف صفة لآخِرٍ. والمراد بالفناء فناء نفسه تعالى، أو فناء ما سواه، وعلى الثاني المراد أنّه تعالى يبقى بعد فناء الدنيا وحده لا شيء معه، كما كان قبل ابتدائها كما في نهج البلاغة في خطبة أوّلها: «ما وحّده مَن كيّفه».(3)

(سُبْحَانَهُ)؛ عن الفناء.

(هُوَ كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ)، بنحو قوله: «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْ ءٌ»(4) وقوله: «لاَ تُدْرِكُهُ الاْءَبْصَارُ»(5)الأنعام (6) : 91 .(6)، وقوله: «وَمَا قَدَرُوا اللّه َ حَقَّ قَدْرِهِ»(6). .

ص: 342


1- شرح الرضي على الكافية ، ج 4 ، ص 63 .
2- في الكافي المطبوع : «يفنى» .
3- نهج البلاغة ، ص 272 ، الخطبة 186 .
4- الشورى (42) : 11 .
5- الأنعام
6- : 103 .

(وَالْوَاصِفُونَ) له بالعظمة (لاَ يَبْلُغُونَ نَعْتَهُ) أي قدر عظمته.

(حَدَّ(1) الاْءَشْيَاءَ). استئناف لبيان قوله: «لا يبلغون». ومضى معنى الحديث في سادس الحادي عشر.(2)

(كُلَّهَا). فيه دلالة على بطلان المجرّدات.

(عِنْدَ خَلْقِهِ إيَّاهَا(3) إِبَانَةً لَهَا مِنْ شِبْهِهِ، وَإِبَانَةً لَهُ مِنْ شِبْهِهَا). الشَبَه _ بفتحتين _ : الشباهة. وفيه دلالة على أنّه لو وجد مجرّد لوقع الشبه.

إن قلت: هذا يدلّ على أنّ خلق المجرّدات ممكن، فإنّ الإبانة هنا مفعول له، فيمكن أن لا تحدّ فلا تبان.

قلت: لا دلالة؛ لأنّ في التعليل في أمثال هذا تجوّزا، والمقصود ظهور دلالة المحدوديّة على البينونة والمخلوقيّة، كما مضى في سادس الحادي عشر؛(4) فكأنّه لم يحدّ إلاّ للإبانة. أو لأنّ المراد بالإبانة إظهار البينونة، ويمكنه أن لا يحدّ بأن لا يوجد شيئا؛ ألا ترى إلى قوله: «وإبانة له من شبهها» فإنّ المراد به نفي أن يكون تعالى مادّيا، كما أنّ المراد بالسابق نفي أن تكون الأشياء مجرّدة. ولا شكّ أنّ كونه تعالى مادّيا محال بالذات.

(فَلَمْ يَحْلُلْ فِيهَا)؛ بالمهملة، بصيغة معلوم باب نصر وضرب، والفاء للتفريع. والمراد بالحلول في الأشياء أن يكون مكانيّا، ومكانه جميع أمكنة الأشياء،(5) وبعضها بالتداخل. وسيجيء في تفسير المصنّف أنّ المراد بالحلول أن يكون من أعراض الأجسام.

(فَيُقَالَ: هُوَ فِيهَا كَائِنٌ، وَلَمْ يَنْأَ عَنْهَا)؛ بسكون النون وفتح الهمز، أو بفتح النون وسكون الهمزة، بمضارع المعلوم الناقص باب منع، أي لم يبعد. والثاني مقلوب الأوّل؛ لأنّ مصدر كليهما النأي بفتح النون وسكون الهمز والخاتمة على ما قاله ابن الحاجب .

ص: 343


1- في الكافي المطبوع : «وحَدَّ» .
2- أي في الحديث 6 من باب النهي عن الجسم والصورة .
3- في الكافي المطبوع : - «إيّاها» .
4- أي في الحديث 6 من باب النهي عن الجسم والصورة .
5- في «ج» : «أو» .

في الشافية.(1)

والثاني أوفق برسم الخطّ؛ لأنّ سكون ما قبل الهمز يوجب حذفها في الرسم إذا كانت في آخر الكلمة.

والمراد بالبُعد عنها أن لا يكون شيء منها أصلاً تحت تصرّفه وخلقه.

(فَيُقَالَ: هُوَ مِنْهَا بَائِنٌ)؛ بالموحّدة وكسر الهمز، أي أجنبيّ.

(وَلَمْ يَحُلْ(2) مِنْهَا)؛ بضمّ المهملة وسكون اللام، أجوف باب نصر، أي لم يتحوّل من صفة ذات كعلم وقدرة إلى اُخرى. «من» في «منها» للتعليل.

(فَيُقَالَ لَهُ: أَيْنَ)؛ بفتح الهمز وسكون الخاتمة، أي حين؛ والجملة نائب الفاعل. أو بالهمز والألف وكسر الهمزة المنقلبة عن ياء، أي ذو حين، والمفرد نائب الفاعل. ومآلهما واحد، وهو أنّ كلّ متحوّل حادث. وأمّا الأين بمعنى الحصول في المكان فاصطلاح فلسفي.(3)

(لكِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَحَاطَ بِهَا عِلْمُهُ، وَأَتْقَنَهَا صُنْعُهُ، وَأَحْصَاهَا حِفْظُهُ) أي إمساكه وتصرّفه، كما في قوله تعالى: («إِنَّ اللّه َ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالاْءَرْضَ أَنْ تَزُولاَ»(4)). ومضى في أوّل العشرين.(5)

(لَمْ تَعْزُبْ)؛ بالمهملة والمعجمة والموحّدة معلومُ باب نصر وضرب؛ أي لم تغب.

(عَنْهُ خَفِيَّاتُ غُيُوبِ الْهَوى(6))؛ بفتحتين والقصر: ميل النفس.

(وَلاَ غَوَامِضُ مَكْنُونِ ظُلَمِ الدُّجى)؛ بضمّ المهملة والجيم والقصر قيل: الظلمة. وقال الأصمعي: إنّما هو إلباس كلّ شيء وليس من الظلمة، قال: ومنه قولهم: دجا الإسلام، أي .

ص: 344


1- شرح شافية لابن الحاجب، ج 1، ص 21 و 23؛ وج 4، ص 93.
2- في الكافي المطبوع : «لم يَخْلُ» .
3- قواعد المرام لابن ميثم البحراني ، ص 43 .
4- فاطر (35) : 41 .
5- أي في الحديث 1 من باب العرش والكرسي .
6- في الكافي المطبوع : «الهوا» .

قوي وألبس كلّ شيء.(1)

(وَلاَ مَا فِي السَّمَاوَاتِ الْعُلى إِلى)؛ بمعنى مع.

(الاْءَرَضِينَ السُّفْلى). وقوله:

(لِكُلِّ شَيْءٍ مِنْهَا حَافِظٌ وَرَقِيبٌ )،(2) استئنافٌ بياني، أي هو تعالى حافظ ورقيب لكلّ شيءٍ من الأشياء يحفظه عن الزوال في مدّة بقائه، ويدبّر أحواله في الكمال والنقصان ونحوهما.

(وَكُلُّ شَيْءٍ مِنْهَا بِشَيْءٍ مُحِيطٌ) أي بسرّ ومصلحة في خلقه محيط حتّى المعاصي؛ فإنّ إيجادها قبيح، ولكن خلقها حسن ومشتمل على مصلحة.

(وَالْمُحِيطُ بِمَا أَحَاطَ مِنْهَا) أي العالم بكلّ سرّ إحاطة الشيء منها.

(الْوَاحِدُ الاْءَحَدُ الصَّمَدُ) أي علمه مخصوص به.

(الَّذِي لاَ يُغَيِّرُهُ صُرُوفُ الاْءَزْمَانِ) أي تغيّراتها.

(وَلاَ يَتَكَأَّدُهُ). يُقال: تكأّدني وتكاءدني الشيء، أي شقَّ [عليّ]، على تفعّل وتفاعل بمعنى] واحد].(3)

(صُنْعُ شَيْءٍ كَانَ). وقوله:

(إِنَّمَا قَالَ لِمَا شَاءَ: «كُنْ» فَكَانَ)، استئنافٌ بياني لعدم التكأّد. وقوله:

(ابْتَدَعَ)، استئنافٌ بياني للاستئناف الأوّل. والابتداع فعل لا يكون باحتذاء مثالٍ.

(مَا خَلَقَ بِلاَ مِثَالٍ سَبَقَ، وَلاَ تَعَبٍ وَلاَ نَصَبٍ). التعب محرّكةً: الإعياء، وكذلك النصب محرّكةً، إلاّ أنّ الأوّل أبلغ. .

ص: 345


1- حكاه الجوهري فيالصحاح ، ج 6 ، ص 2334 (دجا) عن الأصمعي .
2- في حاشية «أ» : «إشارة إلى أنّ لكلّ ظاهر باطنا ، ولكلّ ملك ملكوتا ، ولكلّ شهادة غيبا . «وكلّ شيء منها بشيء محيط» إشارة إلى ترتّب الموجودات وكون بعضها مسبّبا للبعض وأنّه سبحانه مسبّب الأسباب». الوافي ، ج 1 ، ص 430 ، ذيل ح 353 .
3- لسان العرب ، ج 3 ، ص 374 ؛ تاج العروس ، ج 5 ، ص 214 ؛ مجمع البحرين ، ج 4 ، ص 5 (كاد) .

(وَكُلُّ صَانِعِ شَيْءٍ فَمِنْ شَيْءٍ صَنَعَ، وَاللّه ُ لاَ مِنْ شَيْءٍ صَنَعَ مَا خَلَقَ، وَكُلُّ عَالِمٍ فَمِنْ بَعْدِ جَهْلٍ تَعَلَّمَ). إشارةٌ إلى قوله تعالى: «وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ»(1) على ما مضى في سابع العشرين.(2)

(وَاللّه ُ لَمْ يَجْهَلْ وَلَمْ يَتَعَلَّمْ). وقوله:

(أَحَاطَ بِالاْءَشْيَاءِ عِلْما قَبْلَ كَوْنِهَا، فَلَمْ يَزْدَدْ بِكَوْنِهَا عِلْما)، استئنافٌ بياني لعدم جهله وتعلّمه. والكون في الموضعين من التامّة، وقوله:

(وَ(3)عِلْمُهُ بِهَا قَبْلَ أَنْ يُكَوِّنَهَا كَعِلْمِهِ بَعْدَ تَكْوِينِهَا)، استئنافٌ بياني للاستئناف الأوّل؛ أي لا يتفاوت علمه قبلُ وبعدُ، لا بالإجمال والتفصيل ولا بغيرهما. وقوله:

(لَمْ يُكَوِّنْهَا) إلى آخره استئناف بياني لتكوينها، كأنّ سائلاً يقول: إذا لم يستفد بتكوينها علما فما الفائدة في تكوينها؟

(لِتَشْدِيدِ سُلْطَانٍ، وَلاَ خَوْفٍ مِنْ زَوَالٍ وَلاَ نُقْصَانٍ، وَلاَ اسْتِعَانَةٍ عَلى ضِدٍّ مُثَاوِرٍ(4)). المثاورة _ بالمثلّثة والمهملة _ : المواثبة والمنازعة.

(وَلاَ نِدٍّ مُكَاثِرٍ). الندّ _ بالكسر _ : المثل والنظير. والمكاثرة _ بالمثلّثة والمهملة _ : المغالبة في كثرة الأتباع ونحو ذلك؛ يقال: كاثرناهم فكثرناهم، أي غلبناهم بالكثرة.(5)

(وَلاَ شَرِيكٍ مُكَابِرٍ). المكابرة _ بالموحّدة والمهملة _ : المغالبة في الكبر بالكسر: العظمة.

(لكِنْ خَلاَئِقُ). خبر مبتدأ محذوف؛ أي لكن ما عداه خلائق.

(مَرْبُوبُونَ، وَعِبَادٌ دَاخِرُونَ). الدخور: الصغار والذلّ.(6) .

ص: 346


1- هود (11) : 7 .
2- أي في الحديث 7 من باب العرش والكرسي .
3- في «ج» و الكافي المطبوع : - «و» .
4- في الكافي المطبوع : «مناو» .
5- الصحاح ، ج 2 ، ص 3 _ 8 (كثر) .
6- الصحاح ، ج 2 ، ص 655 (دخر) .

(فَسُبْحَانَ). تفريع على عدم هذا النفع في فعله تعالى، فإنّ عدم الانتفاع إنّما يكون في فعل ليس لفاعله فيه مشقّة.

(الَّذِي لاَ يَؤُودُهُ). يُقال: آدني الحمل يؤودني أودا، أي أثقلني؛ وأنا مؤود كمقول.(1)

(خَلْقُ مَا ابْتَدَأَ، وَلاَ تَدْبِيرُ مَا بَرَأَ). البرء بالفتح: الخلق لا عن مثال. ولهذه اللفظة من الاختصاص بخلق الحيوان ما ليس لها بغيره من المخلوقات، وقلّما تستعمل في غير الحيوان، يُقال: برأ اللّه النسمة، وخلق السماوات والأرض.(2)

(وَلاَ مِنْ عَجْزٍ وَلاَ مِنْ فَتْرَةٍ)؛(3) بفتح الفاء وسكون المثنّاة فوق: الانكسار والضعف.

(بِمَا خَلَقَ اكْتَفى). الظرف متعلّق بالفعل بعده، وبعد هذا التعلّق يلاحظ تعلّق الظرفين السابقين بذلك الفعل.

(عَلِمَ مَا خَلَقَ). استئنافٌ بياني لقوله: «ولا مِن عجز» إلى آخره؛ أي علم المصلحة في خلق ما خلق.

(وَخَلَقَ مَا عَلِمَ) أي علم أنّ فيه المصلحةَ.

(لاَ بِالتَّفْكِيرِ فِي عِلْمٍ). «في» بمعنى اللام كما في «عُذّبتِ امرأة في هرّة».(4)

(حَادِثٍ أَصَابَ مَا خَلَقَ، وَلاَ شُبْهَةٌ)(5)؛ مرفوعٌ بالابتداء، والخبرُ قوله:

(دَخَلَتْ عَلَيْهِ فِيمَا لَمْ يَخْلُقْ، لكِنْ قَضَاءٌ مُبْرَمٌ) أي لكنّ الفرق بين ما خلق وما لم يخلق، قضاء، أي بقضاء. .

ص: 347


1- الصحاح ، ج 2 ، ص 442 (أود) .
2- النهاية ، ج 1 ، ص 111 ؛ لسان العرب ، ج 1 ، ص 31 (برأ) .
3- في حاشية «أ» : «ولا من عجز ، أي ليس اكتفاؤه بما خلق عن عجز ولا من فتور ، بل إنّما هو لعدم إمكان الزائد عليه ونقص قابليّة ما خلق لأزيد ، فالنقصان في جانب القابل ، لا من جهة الفاعل تعالى شأنه» . الكافي ، ج 1 ، ص 430 ، ذيل 353 .
4- مسند أحمد ، ج 2 ، ص 457 ، مسند أبي هريرة ؛ صحيح البخاري ، ج 3 ، ص 77 ، كتاب المساقاة ؛ صحيح مسلم ، ج 7 ، ص 43 باب تحريم قتل الهرّة .
5- في الكافي المطبوع : «شبهةٍ» بتنوين كسر الأخير .

(وَعِلْمٌ مُحْكَمٌ ، وَأَمْرٌ مُتْقَنٌ) أي لا يعلم سرّ ذلك غيره تعالى. وبيَّن ذلك بالاستئناف البياني بقوله:

(تَوَحَّدَ بِالرُّبُوبِيَّةِ) أي بالتدبير للعالم.

إن قلت: التوحّد يدلّ على أنّ الانفراد بالربوبيّة اختياري له وليس كذلك.

قلت: لا نسلّم الدلالة؛ لأنّ التفعّل هنا للمبالغة كما قالوا في المتطبّب، ولو سلّم أمكن أن يكون المقصود أنّه لم يطّلع غيره على سرّ الربوبيّة إجراءً للاطّلاع على مجرى التشريك.

إن قلت: اطّلاع الغير على سرّ الربوبيّة أيضا غير ممكن.

قلنا: لا نسلِّم(1) ذلك؛ إذ لعلّه يمكن أن يخلق خلقا يتأتّى منه تعالى اطّلاعه على سرّ الربوبيّة.

ويمكن الجواب: بأنّ المراد بالتوحيد إظهار الانفراد ونصب الدلائل عليه وهو اختياري، والربّ يُطلق في اللغة على المالك والسيّد والمدبّر والمربّي والمتمِّم والمُنعم.(2)

(وَخَصَّ نَفْسَهُ بِالْوَحْدَانِيَّةِ) أي بالانفراد بتدبير العالم، واللام فيها للعهد؛ لتقدّم ذكرها في قوله: «توحّد».

إن قلت: الوحدانيّة غير قابلة للشركة، فما وجه الخصوص هنا؟

قلت: لعلّ المراد به إظهار أنّه لا يمكن الوحدانيّة لأحد بدله.

(وَاسْتَخْلَصَ). الاستخلاص: مبالغة الخلوص.

(بِالْمَجْدِ) أي بالكرم بمعنى الشرف.

(وَالثَّنَاءِ) أي المدح.

(وَتَفَرَّدَ بِالتَّوْحِيدِ) أي التنزيه عن النقص. .

ص: 348


1- في حاشية «أ» : «يتمّ» .
2- معجم مقاييس اللغة ، ج 2 ، ص 381 (دب) .

(وَالْمَجْدِ وَالسَّنَاءِ)؛ بالفتح والمدّ: الرِّفعة.

(وَتَوَحَّدَ بِالتَّحْمِيدِ، وَتَمَجَّدَ بِالتَّمْجِيدِ). الفعلان للمبالغة، وذلك مبنيّ على أنّ معظم حمد العباد وتعظيمهم على أفعالهم الحسنة الاختياريّة راجع إليه؛ لأنّها بلطفه وتوفيقه، فكان حمد غيره وتعظيم غيره كالعدم.

(وَعَلاَ عَنِ اتِّخَاذِ الاْءَبْنَاءِ، وَتَطَهَّرَ وَتَقَدَّسَ عَنْ مُلاَمَسَةِ النِّسَاءِ، وَعَزَّ و جَلَّ عَنْ مُجَاوَرَةِ الشُّرَكَاءِ، فَلَيْسَ لَهُ فِيمَا خَلَقَ ضِدٌّ، وَلاَ لَهُ فِيمَا مَلَكَ نِدٌّ، وَلَمْ يَشْرَكْهُ فِي مُلْكِهِ أَحَدٌ، الْوَاحِدُ الاْءَحَدُ الصَّمَدُ، الْمِئْبَدُ(1) لِلاْءَبَدِ، وَالْوَارِثُ لِلاْءَمَدِ)، المئبد بكسر الميم وسكون الهمز وفتح الموحّدة ومهملة، اسم آلةٍ.

والأبد بالهمز والموحّدة والمهملة كجبل وكراكع: الدائم، وجمع الثاني كركّع، ومنه يُقال للوحوش: أوابد واُبّد كركّع؛ لزعمهم أنّها لا تموت حتفَ أنفها.(2) والأمد كجبل: منتهى الشيء، وكراكع وككتف: ما بلغ المنتهى وفني، وجمع الثاني كركّع؛ يعني أنّه تعالى سبب بقاء كلّ باق، ويبقى بعد فناء كلّ فان.

(الَّذِي لَمْ يَزَلْ وَلاَ يَزَالُ وَحْدَانِيّا)؛ بفتح الواو وسكون الحاء(3) المهملة منسوب إلى الوحد أو الوحدة بزيادة الألف والنون للمبالغة.

(أَزَلِيّا قَبْلَ بَدِيِّ(4) الدُّهُورِ، وَبَعْدَ صُرُوفِ الاْءُمُورِ).

البَدِيّ بفتح الموحّدة وكسر المهملة وتشديد(5) الخاتمة أو تخفيفها من الناقص الواوي، فعيل بمعنى فاعل، أو مخفّف فاعل؛ من بدا الشيء من باب نصر: إذا ظهر. والمراد ما ظهر في الدهور من اُمور الدنيا المشوبة بالباطل.

والصروف بضمّ المهملتين جمع «صِرف» بالكسر، وهو الخالص من كلّ شيء. .

ص: 349


1- في الكافي المطبوع : «المبيد» .
2- حكاه في لسان العرب ، ج 3 ، ص 68 عن الأصمعي .
3- في «ج» : - «الحاء» .
4- في الكافي المطبوع : «بَدْءِ» .
5- في «ج» : «شدّ» .

والمراد بصروف الاُمور: اُمور الآخرة؛ فإنّها الخالصة، كما في قوله تعالى في سورة الأنعام: «وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الاْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ»(1).

(الَّذِي لاَ يَبِيدُ)؛ بالموحّدة والخاتمة والمهملة، معلومُ باب ضرب، أي لا يهلك.

(وَلاَ يَنْفَدُ)؛ بالنون والفاء والمهملة، معلومُ باب الإفعال، أي لا يفنى خزائنه بالإعطاء؛ يُقال: أنفد القوم: إذا فني زادهم ومالهم.(2)

(بِذلِكَ أَصِفُ رَبِّي) أي لا بما وصفه الواصفون له بصفات خلقه، المشبّهون له بخلقه.

(فَلاَ إِلهَ إِلاَّ اللّه ُ مِنْ)؛ للتبيين.

(عَظِيمٍ مَا أَعْظَمَهُ! وَمِنْ جَلِيلٍ مَا أَجَلَّهُ! وَمِنْ عَزِيزٍ مَا أَعَزَّهُ!). الأفعال الثلاثة للتعجّب.

(وَتَعَالى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوّا كَبِيرا).

الشرح

(وَ هذِهِ الْخُطْبَةُ مِنْ مَشْهُورَاتِ خُطَبِهِ عليه السلام حَتّى لَقَدِ ابْتَذَلَهَا الْعَامَّةُ). ابتذال الثوب وغيرِه: امتهانه، أي وقعت في أيديهم غير مصونة عنهم.

(وَهِيَ كَافِيَةٌ لِمَنْ طَلَبَ عِلْمَ التَّوْحِيدِ إِذَا تَدَبَّرَهَا وَفَهِمَ مَا فِيهَا، فَلَوِ اجْتَمَعَ أَلْسِنَةُ الْجِنِّ وَالاْءِنْسِ _ لَيْسَ فِيهَا لِسَانُ نَبِيٍّ _ عَلى أَنْ يُبَيِّنُوا التَّوْحِيدَ بِمِثْلِ مَا أَتى بِهِ بِأَبِي وَأُمِّي صلى الله عليه و آله ): فُدِي بأبي واُمّي صلى الله عليه و آله .

(مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ، وَلَوْ لاَ إِبَانَتُهُ عليه السلام ، مَا عَلِمَ النَّاسُ كَيْفَ يَسْلُكُونَ سَبِيلَ التَّوْحِيدِ). ذلك لأنّه لم ينقل عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله وعن غيره من الأئمّة كما نقل عنه عليه السلام .

(أَ لاَ تَرَوْنَ إِلى قَوْلِهِ: «لاَ مِنْ شَيْءٍ كَانَ، وَلاَ مِنْ شَيْءٍ خَلَقَ مَا كَانَ» فَنَفى بِقَوْلِهِ: «لاَ مِنْ شَيْءٍ كَانَ» مَعْنَى الْحُدُوثِ، وَكَيْفَ). عطف على «نفى» وليس من عطف الإنشاء على الإخبار، لأنّه ليس للاستفهام الحقيقي، نظير «أين» في «علمت أين زيد» لأنّ العلم ينافي الاستفهام الحقيقي.

ص: 350


1- الأنعام (6) : 32 .
2- الصحاح ، ج 2 ، ص 544 ؛ لسان العرب ، ج 3 ، ص 424 (نفد) .

(أَوْقَعَ عَلى مَا أَحْدَثَهُ صِفَةَ الْخَلْقِ) أي كيفيّته. و«الخلق» هنا مصدر.

(وَالاِخْتِرَاعَ)؛ منصوب عطف على «صفة» لتفسيرها.

(بِلاَ أَصْلٍ وَلاَ مِثَالٍ؛ نَفْيا)؛ مفعول له لقوله «أوقع».

(لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الاْءَشْيَاءَ كُلَّهَا مُحْدَثَةٌ، بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ). هذا قول بعض الدهريّة، منهم الإشراقيّون من الفلاسفة؛ ذهبوا إلى أنّ الأشخاص كلّها حادثة، والمحدث مختصّ بدهر لم يوجد في دهر قبيله، ولا يوجد في دهر بعيده، والأنواع قديمة.(1)

(وَإِبْطَالاً لِقَوْلِ الثَّنَوِيَّةِ)؛ بفتح المثلّثة وفتح النون، منسوب إلى الاثنين؛ لأنّه لو جاز أن يفرد لكان واحده «اثن» مثل «ابن» فالنسبة إليه «ثنوي» في قول من قال في ابن «بنوي»، و«اثنيّ» في قول من قال: «ابنيّ».(2)

والمراد بالثنويّة هنا بعض الدهريّة، ومنهم المشّائيّون من الفلاسفة القائلون بتعدّد القديم شخصا.(3)

وقد يطلق الثنويّة على القائلين بأنّ مدبّر العالم النور والظلمة، وأنّهما امتزجا بعد افتراقهما، فحَصَل منهما هذا العالم.(4)

وقد يطلق على ما يعمّ المجوس القائلين بأنّ الخير واقع من اللّه ، والشرّ واقع من الشيطان، واختلفوا في قِدَم الشيطان وحدوثه، فقال بعضهم: إنّه قديم، وقال بعضهم: إنّه حادث لا من اللّه ، فإنّه لا يصدر عنه الشرّ، فكيف يصدر عنه ما هو أصله، بل هو حادث من فكرة اللّه تعالى هي أنّه كيف يكون حالي لو نازعني غيري؟ فتولّد الشيطان(5) من هذه الفكرة.(6) .

ص: 351


1- اُنظر تقريب المعارف للحلبي ، ص 92 ؛ والمواقف ، ج 2 ، ص 608 و ص 616 .
2- الصحاح ، ج 6 ، ص 2295 (ثنى) .
3- حكاه الرازي في تفسيره ، ج 28 ، ص 184 ؛ وأبو الصلاح الحلبي في تقريب المعارف ، ص 92 عن الفلاسفة .
4- حكاه في المواقف ، ج 2 ، ص 608 و 616 .
5- قضيّة تولّد الشيطان مذكورة في شرح نهج البلاغة ، ج 5 ، ص 160 ؛ تفسير الرازي ، ج 13 ، ص 116 .
6- جعل الشهرستاني في الملل والنحل ، ج 2 ، ص 254 الفصل الثاني في أصحاب الاثنين الأزليّين ، وذكر منهم المانوية والمزدكية والديصانية والمرقونية والكينونية والصيامية . ولا بأس بالنظر إلى كتاب تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل للباقلاني ، ص 78 ، باب الكلام على أهل التثنية .

(الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّهُ لاَ يُحْدِثُ شَيْئا إِلاَّ مِنْ أَصْلٍ) أي قالوا: كلّ حادث مسبوق بمادّة، وزعموا أنّ شخص المادّة قديم.(1)

(وَلاَ يُدَبِّرُ إِلاَّ بِاحْتِذَاءِ مِثَالٍ) أي وقالوا: إنّ كلّ حادث مسبوق بمدّة بالضمّ، اسم ما استمدّ به من العلل كالمعدّات؛ فلا يحدث شيئا إلاّ على طبق اقتضاء المعدّ المتّصل به، ولا يتمكّن من خرق العادة؛(2) يُقال: احتذى مثاله: إذا اقتدى به. والمعدّات عندهم الصور والأعراض الغير المتناهية من جانب المبدأ.

(فَدَفَعَ عليه السلام بِقَوْلِهِ: «لاَ مِنْ شَيْءٍ خَلَقَ مَا كَانَ» جَمِيعَ حُجَجِ الثَّنَوِيَّةِ وَشُبَهِهِمْ؛ لاِءَنَّ أَكْثَرَ مَا يَعْتَمِدُ الثَّنَوِيَّةُ) أي هذه مقدّمة مأخوذة في أكثر شبههم، أو أنّها أكثر دورانا على ألسنتهم؛ لأنّها أقوى عندهم.

ويحتمل أن يُراد أنّ هذا منتهى فكرهم وما يعتمدون عليه.

(فِي حُدُوثِ الْعَالَمِ) أي في الشبهة(3) في حدوث العالم. والشبهة في الشيء إنّما يكون بقصد إبطاله ونفيه.

(أَنْ يَقُولُوا: لاَ يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ الْخَالِقُ خَلَقَ الاْءَشْيَاءَ مِنْ شَيْءٍ، أَوْ مِنْ لاَ شَيْءٍ)؛ يعنون أنّ الإحداث منحصر في القسمين، والأوّل يثبت المطلوب، والثاني باطل؛ للتناقض.

وهذه المقدّمة مأخوذة في ثلاث شبه للقائلين بقدم العالم، هي أقوى شبههم:

الاُولى: أنّ جميع ما لابدّ منه في وجود أوّل حادث إن كان أزليّا كان الحادث أزليّا؛ لامتناع تخلّف المعلول عن العلّة التامّة؛ وإن كان بعض ما لابدّ منه حادثا، كان إحداث الحادث منه، وهو شيء أو لا شيء. .

ص: 352


1- حكاه التفتازاني في شرح المقاصد ، ج 1 ، ص 131 عن الفلاسفة ؛ والإيجي في المواقف ، ج 2 ، ص 626 .
2- حكاه العلاّمة في كشف المراد ، ص 123 (تحقيق الآملي) عن الفلاسفة ، وفي طبعة تحقيق الزنجاني ، ص 78 ؛ وحكاه أيضا التفتازاني في شرح المقاصد ، ج 1 ، ص 131 .
3- في «أ» : + «أي» .

الثانية: أنّ الحادث قبل حدوثه إمّا غير ممكن، وإمّا ممكن. والأوّل باطل؛ لاستحالة الانقلاب في الموادّ الثلاث، والثاني يستلزم أن يتحقّق قبل حدوث الحادث مادّة يقوم بها إمكانه الاستعدادي، ويكون إحداث الحادث منها وهي شيء أو لا شيء.

الثالثة: أنّ الحادث مسبوق بعلم خالقه به، والعلم إمّا حضوري وإمّا حصولي. والأوّل محال؛ لأنّه لا حضور للمعدوم. والثاني إمّا بحصول الصور في ذات الخلق، وإمّا في غيره. والأوّل محال؛ لأنّه ليس محلاًّ ولا حالاًّ، وعلى الثاني كان إحداث الحادث من محلّ الصور، وهو شيء أو لا شيء.(1)

(فَقَوْلُهُمْ). هذا من تتمّة قول الثنويّة، والضمير للقائلين بحدوث العالم.

(«مِنْ شَيْءٍ» خَطَأٌ) أي اعتراف بالخطأ في دعوى حدوث العالم، وأنّه يتحقّق خلق وخالق.

(وَقَوْلُهُمْ: «مِنْ لاَ شَيْءٍ» مُنَاقَضَةٌ وَإِحَالَةٌ) أي قول بالمحال.

(لاِءَنَّ «مِنْ») أي لفظة «من» (تُوجِبُ شَيْئا، وَ«لاَ شَيْءٍ») أي ولفظة «لا شيء» (تَنْفِيهِ). والحاصل إبطال كلّ من شقّي ترديدهم بإبطال الحصر فيهما ومنعِه.

(فَأَخْرَجَ أَمِيرُ الْمُوءْمِنِينَ عليه السلام هذِهِ اللَّفْظَةَ) أي قوله: «لا من شيء خلق ما كان».

(عَلى) نهجيّة (أَبْلَغِ الاْءَلْفَاظِ وَأَصَحِّهَا، فَقَالَ عليه السلام : «لا مِنْ شَيْءٍ خَلَقَ مَا كَانَ») أي كون الإحداث منحصرا في القسمين باطل.

ومرجعه إذا قوبل به الشبهة الاُولى، منع امتناع تخلّف المعلول عن العلّة التامّة في الفاعل المختار، وأمّا الفاعل الموجَب على القول بإمكان تحقّقه، فأثره يمتنع أن يكون متأخّرا عن حين حدوثه إلاّ إذا توقّف على أثر مختار.

وسرّه أنّ المختار يميّز بعض الأوقات المتشابهة في تمام الماهيّة عن بعض بحسب علمه القديم بالمصلحة لخلق أمر فيه دون غيره، بخلاف الموجَب، فإنّه محال فيه بديهة.(2) .

ص: 353


1- اُنظر معارج الفهم في شرح النظم للعلاّمة الحلي ، ص 133 .
2- في «ج» : «ضرورة» .

وذلك كما أنّ المختار يميّز بعض الأماكن المتشابهة في تمام الماهيّة عن بعض بحسب علمه بالمصلحة لإحداث جسم فيه دون غيره، بخلاف الموجب، فإنّه محال فيه بديهة،(1) كما مضى في أوّل «باب حدوث العالم وإثبات المحدث».

ومرجعه إذا قوبل به الشبهة الثانية اختيارُ الشقّ الثاني، ومنع أنّه يستلزم أن يتحقّق إلى آخره، إذ يكفي ثبوته بدون تحقّق مادّة، وتحقّق المادّة لا يكفي في دفع المفسدة؛ لأنّ الإمكان الذاتي غير الإمكان الاستعدادي، فتحقّق محلّ الثاني غير تحقّق محلّ الأوّل.

ومرجعه إذا قوبل به الشبهة الثالثة منع أنّ العلم إمّا حضوري وإمّا حصولي إن اُريد بالحضور وجود المعلوم حاضرا، ومنع أنّه لا حضور للمعدوم إن اُريد بالحضور ما يشمل الثبوت الأعمّ من الوجود، والتفصيل في الحاشية الاُولى من(2) حواشي العدّة.(3)

(فَنَفى «مِنْ») أي نفى ما يفهم من لفظة «من» وهو القدر المشترك بين شقّيهم.

(إِذْ كَانَتْ تُوجِبُ شَيْئا) أي لأنّ الشقّ الثاني ممّا يفهم من لفظة «من» باطل للمناقضة.

(وَنَفَى الشَّيْءَ). معطوفٌ بحسب المعنى على قوله: «توجب» أي وأبطل الشقّ الأوّل ممّا يفهم من لفظة «من».

(إِذْ كَانَ كُلُّ شَيْءٍ مَخْلُوقا مُحْدَثا، لاَ مِنْ أَصْلٍ). هذا على سبيل سند المنع، لا الاستدلال؛ فليس فيه مصادرة ولا شبه المصادرة.

(أَحْدَثَهُ الْخَالِقُ). الضمير راجع إلى «كلّ شيء». والجملة استئناف بياني.

(كَمَا قَالَتِ الثَّنَوِيَّةُ). التشبيه للمنفيّ في قوله: «لا من أصل».

(إِنَّهُ خَلَقَ مِنْ أَصْلٍ قَدِيمٍ، فَلاَ يَكُونُ تَدْبِيرٌ إِلاَّ بِاحْتِذَاءِ مِثَالٍ) أي بخلق صورة بدل صورة، وعَرَض بدل عرض، وهكذا متواردة على المادّة القديمة شخصا. ولتفصيل شُبه الفلاسفة في حدوث العالم والأجوبة عنها محلّ آخر. .

ص: 354


1- في «ج» : «ضرورة» .
2- في «أ» : - «الحاشية الأولى من» .
3- للخليل القزويني حواشي على العدّة ، والظاهر أنّ الحاشية الاُولى أوسع حواشيه عليها ، وقد أحال إليها عدّه مرّات في حاشيته على العدّة المطبوعة .

(ثُمَّ قَوْلِهِ عليه السلام )؛ بالجرّ معطوفٌ على قوله: «لا من شيء كان» أي ثمّ ألا ترون إلى قوله:

(«لَيْسَتْ لَهُ صِفَةٌ تُنَالُ، وَلاَ حَدٌّ يُضْرَبُ لَهُ فِيهِ الاْءَمْثَالُ، كَلَّ دُونَ صِفَاتِهِ تَحْبِيرُ اللُّغَاتِ» فَنَفى عليه السلام أَقَاوِيلَ)؛ كأنّها جمع «اُقوولة»(1) مثل اُعجوبة وأعاجيب، واُحدوثة وأحاديث.

(الْمُشَبِّهَةِ حِينَ شَبَّهُوهُ بِالسَّبِيكَةِ). تقول: سبك الفضّة وغيرها كضرب: إذا أذابها ونقّاها. والفضّة: سبيكة.(2)

(وَالْبِلَّوْرَةِ)؛ واحدة «البلّور» بفتح الموحّدة وضمّ اللام المشدّدة وسكون الواو ومهملة، ويجوز كسر الموحّدة وفتح اللام: جوهر معروف.(3)

(وَغَيْرَ ذلِكَ مِنْ أَقَاوِيلِهِمْ مِنَ الطُّولِ وَالاِسْتِوَاءِ) أي(4) في الأعضاء.

(وَقَوْلَهُمْ)؛ بالنصب، عطف على أقاويل المشبّهة.

(«مَتى مَا لَمْ تَعْقِدِ الْقُلُوبُ مِنْهُ عَلى كَيْفِيَّةٍ)؛ بصيغة المجهول من باب ضرب، يُقال: عقد زيد قلبه على كذا: إذا اعتقده. والمراد بالكيفيّة الكيفيّة المحسوسة.

(وَلَمْ تَرْجِعْ)؛ بصيغة المعلوم من باب ضرب. والضمير للقلوب.

(إِلى إِثْبَاتِ هَيْئَةٍ، لَمْ تَعْقِلْ)؛ بصيغة المعلوم من باب ضرب. والضمير للقلوب.

(شَيْئا). توهّموا أنّ كلّ شيءٍ محسوس.

(فَلَمْ تُثْبِتْ)؛ معلوم باب الإفعال. والضمير للقلوب.

(صَانِعا» فَفَسَّرَ أَمِيرُ الْمُوءْمِنِينَ عليه السلام أَنَّهُ وَاحِدٌ بِلاَ كَيْفِيَّةٍ، وَأَنَّ الْقُلُوبَ تَعْرِفُهُ بِلاَ تَصْوِيرٍ وَلاَ إِحَاطَةٍ). (ثُمَّ قَوْلِهِ عليه السلام )؛ بالجرّ معطوف على قوله: «لا من شيء كان».

(«الَّذِي لاَ يَبْلُغُهُ بُعْدُ الْهِمَمِ، وَلاَ يَنَالُهُ غَوْصُ الْفِطَنِ، وَتَعَالَى الَّذِي لَيْسَ لَهُ وَقْتٌ مَعْدُودٌ، وَلاَ أَجَلٌ مَمْدُودٌ، وَلاَ نَعْتٌ مَحْدُودٌ»). .

ص: 355


1- في «أ» : «أقولة» .
2- مختار الصحاح ، ص 153 (سبك) .
3- القاموس الميحط ، ج 1 ، ص 377 (البلور) .
4- في «أ» : - «أي» .

(ثُمَّ قَوْلِهِ عليه السلام ) بالجرّ. («لَمْ يَحْلُلْ فِي الاْءَشْيَاءِ؛ فَيُقَالَ: هُوَ فِيهَا كَائِنٌ، وَلَمْ يَنْأَ عَنْهَا؛ فَيُقَالَ: هُوَ مِنْهَا بَائِنٌ» فَنَفى عليه السلام عَنْهُ(1) بِهَاتَيْنِ الْكَلِمَتَيْنِ)؛ يعني قوله: «لم يحلل» إلى آخره.

(صِفَةَ الاْءَعْرَاضِ وَالاْءَجْسَامِ؛ لاِءَنَّ مِنْ صِفَةِ الاْءَجْسَامِ التَّبَاعُدَ وَالْمُبَايَنَةَ، وَمِنْ صِفَةِ الاْءَعْرَاضِ الْكَوْنَ فِي الاْءَجْسَامِ بِالْحُلُولِ). النشر على غير ترتيب اللفّ.

(عَلى غَيْرِ مُمَاسَّةٍ) أي مجاورة، والظرف متعلّق بالحلول.

(وَمُبَايَنَةِ) أي ولا مباينة.

(الاْءَجْسَامِ عَلى تَرَاخِي الْمَسَافَةِ). فإنّ أعراض الأجسام لاترى في مسافة بينها وبين الأجسام.

(ثُمَّ قَالَ عليه السلام : «لكِنْ أَحَاطَ بِهَا عِلْمُهُ، وَأَتْقَنَهَا صُنْعُهُ» أَيْ هُوَ فِي الاْءَشْيَاءِ بِالاْءِحَاطَةِ وَالتَّدْبِيرِ، وَ عَلى غَيْرِ مُلاَمَسَةٍ).

الثاني: (عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ أَبِي حَمَّادٍ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ: إِنَّ اللّه َ)؛ اسم «إنّ»، وخبره «شامخ الأركان» وما بينهما اعتراض.

(تَبَارَكَ اسْمُهُ، وَتَعَالى ذِكْرُهُ، وَجَلَّ ثَنَاوءُهُ)، وقوله:

(سُبْحَانَهُ) اعتراضٌ في اعتراض.

(وَتَقَدَّسَ)؛ معطوف على قوله: «تبارك اسمه». ويحتمل أن يكون معطوفا على «سبحانه».

(وَتَفَرَّدَ وَتَوَحَّدَ، وَلَمْ يَزَلْ وَلاَ يَزَالُ )؛ من الأفعال الناقصة، وخبرهما «رفيعا».

(وَ«هُوَ الاْءَوَّلُ). حال عن فاعل «لم يزل ولا يزال».

(وَالاْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ»). مضى شرح الأسماء الأربعة في أوّل السابع عشر.(2) .

ص: 356


1- في الكافي المطبوع : - «عنه» .
2- أي في الحديث 1 من باب آخرو هو من الباب الأول إلاّ أنّ فيه زيادة وهو الفرق ما بين المعاني التي تحت أسماء اللّه وأسماء المخلوقين .

(فَلاَ أَوَّلَ لاِءَوَّلِيَّتِهِ). تفريعٌ على «لم يزل ولا يزال» باعتبار تقييدهما بالحال.

(رَفِيعا فِي أَعْلى عُلُوِّهِ). «أعلى» مضاف إلى علوّ، ومجموع المضاف والمضاف إليه مضاف إلى الضمير من قبيل: «حَبّ رمّانك».

(شَامِخُ الاْءَرْكَانِ). الجبال الشوامخ هي الشواهق، وقد شمخ الجبل كنصر فهو شامخ. وركن الشيء: جانبه الأقوى. وهو يأوي إلى ركنٍ شديد، أي عزٍّ ومَنَعة. والكلام استعارة.

(رَفِيعُ الْبُنْيَانِ، عَظِيمُ السُّلْطَانِ، مُنِيفُ الاْآ لاَءِ). يقال: أناف على الشيء: إذا أشرف. وأنافت الدراهم على المائة، أي زادت.(1) والآلاء النعمُ واحدها «اَءلى» بالفتح والكسر، وبفتحتين وبكسر الهمز وفتح اللام، وألو بالفتح.

(سَنِيُّ الْعَلْيَاءِ). السنا بالفتح والمدّ: الرِّفعة، والسنيّ: الرفيع. والعليا بفتح المهملة وسكون اللام والخاتمة والمدّ: السماء، وكلّ مكان مشرف.

(الَّذِي يَعْجِزُ الْوَاصِفُونَ) أي الذين حاولوا بيان عظمته.

(عَنْ كُنْهِ) أي قدر (صِفَتِهِ). مصدر قولك: وصفت فلانا. والمراد هنا عظمته.

(وَلاَ يُطِيقُونَ) أي لا يستطيعون (حَمْلَ مَعْرِفَةِ إِلهِيَّتِهِ) أي معبوديّته بالحقّ؛ لأنّهم لا يمكن أن يعرفوا طبقات الملائكة وأنواع عباداتهم ونحو ذلك.

(وَلاَ يَحُدُّونَ)؛ بالحاء المهملة وشدّ الدال المهملة، بصيغة المعلوم، من باب(2) نصر، أي لا يميّزون؛ أو بالجيم وتخفيف الدال(3) من باب ضرب من المثال، أي لا يعلمون.

(حُدُودَهُ). حدّ الشيء: منتهاه. والضمير لإلهيّته، والتذكير لأنّه مصدر، وجمع الحدود باعتبار أصناف عبادات الملائكة وغيرهم.

(لاِءَنَّهُ بِالْكَيْفِيَّةِ لاَ يُتَنَاهى إِلَيْهِ). الضميران لمصدر «يحدّون»، أو الأوّل للشأن. والمراد بالكيفيّة ما يقال في جواب السؤال بكيف. «لا يتناهى» بصيغة المجهول من .

ص: 357


1- تاج العروس ، ج 12 ، ص 517 (نوف) .
2- في «ج» : «بالمهملة وشدّ الثانية معلوم باب» بدل «بالحاء» إلى هنا .
3- في «ج» : «المهملة» بدل «الدال» .

باب(1) التفاعل، والظرف نائب الفاعل يعني لأنّ تمييز حدود إلهيّته لا يمكن الوصول إليه ببيان أحد إذا سئل بكيف عن كيفيّة إلهيّته، بناءً على أنّ إلهيّتة أعظم من أن يسعه البيان.

الثالث: (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الْمُخْتَارِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُخْتَارِ؛ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، عَنْ عَبْدِ اللّه ِ بْنِ الْحَسَنِ الْعَلَوِيِّ جَمِيعا، عَنِ الْفَتْحِ بْنِ يَزِيدَ الْجُرْجَانِيِّ، قَالَ: ضَمَّنِي وَأَبَا الْحَسَنِ عليه السلام ) أي الهادي أو(2) الرضا عليه السلام .

(الطَّرِيقُ)؛ فاعل «ضمّني».

(فِي مُنْصَرَفِي)؛ مصدر ميمي.

(مِنْ مَكَّةَ إِلى خُرَاسَانَ، وَهُوَ سَائِرٌ إِلَى الْعِرَاقِ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: مَنِ اتَّقَى اللّه َ يُتَّقى؛ وَمَنْ أَطَاعَ اللّه َ يُطَاعُ). يجيء في «كتاب الإيمان والكفر» في ثالث «باب الخوف والرجاء»: «من خاف اللّه أخاف اللّه منه كلّ شيء، ومن لم يخف اللّه أخافه اللّه من كلّ شيء».

إن قلت: نرى خلاف ذلك في الأنبياء والأئمّة والأولياء؟

قلت: المقصود أنّ التفاوت بين التقيّ وغير التقيّ، والمطيع وغير المطيع، واقع مع التساوي في الاُمور الخارجة، ولو صدر عن غير الأصفياء ما صدر عنهم _ ممّا ينافي أغراض الناس رئاءً وسمعةً ونحو ذلك _ لم يكن يهابون ويوقّرون أصلاً، والظالمون على أوليائه تعالى كانوا يخافون ويعظّمون ذلك، ولا ينافي ذلك ارتكابهم الظلم، وإظهارهم خلاف ما في قلوبهم، وأيضا يمكن أن يُقال: إنّ هذا هو الغالب في أوساط الناس، كما هو الظاهر من قوله عليه السلام بعد ذلك: «فقمنٌ». وابتلاء الخواصّ عظيم خارج عن طور سائرهم.

(فَلَطَفْتُ(3))؛ بالمهملة والفاء، بصيغة المعلوم للمتكلِّم، من باب نصر،(4) أي اختلت .

ص: 358


1- في «ج»: «لايتناهي مجهول باب» بدل «لايتناهي بصيغة المجهول من باب».
2- في «أ» : - «الهادي أو» .
3- في الكافي المطبوع : «فَتَلَطَّفْتُ» .
4- في «ج» : «بالمهملة والفاء معلوم متكلّم باب نصر» .

بما خفي على الناس لأجل التقيّة؛ أو من(1) بابِ حسن، أي دُققت وصغرت، وهو كناية عن الاختفاء.

(فِي الْوُصُولِ إِلَيْهِ، فَوَصَلْتُ، وَسَلَّمْتُ(2) عَلَيْهِ، فَرَدَّ عَلَيَّ السَّلاَمَ ، ثُمَّ قَالَ: يَا فَتْحُ، مَنْ أَرْضَى الْخَالِقَ، لَمْ يُبَالِ بِسَخَطِ الْمَخْلُوقِ) أي والغالب فيمن لم يبال بسخط المخلوق أنّه لا يسلّط اللّه عليه سخط المخلوق، كأنّه عليه السلام عرف أنّ وصوله إليه لتعرّف حقيقة قوله: «من اتّقى اللّه » إلى آخره.

(وَمَنْ أَسْخَطَ الْخَالِقَ، فَقَمَنٌ). تقول: أنت قمن أن تفعل كذا بالتحريك،(3) أي خليقٌ وجديرٌ، لا يثنّى ولا يجمع ولا يؤنّث، وإن كسرت الميم أو قلت: قمين ثنّيت وجمعت.(4)

(أَنْ يُسَلِّطَ اللّه ُ عَلَيْهِ سَخَطَ الْمَخْلُوقِ، وَإِنَّ الْخَالِقَ لاَ يُوصَفُ إِلاَّ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ). مضى بيانه في أحاديث العاشر.(5)

(وَأَنّى يُوصَفُ الَّذِي يَعْجِزُ)؛ غائبة معلوم باب ضرب وعلم.(6)

(الْحَوَاسُّ أَنْ تُدْرِكَهُ، وَالاْءَوْهَامُ أَنْ تَنَالَهُ، وَالْخَطَرَاتُ)؛ بفتح المعجمة وفتح المهملتين، جمع «خطرة» بسكون الطاء، وهي ما يمرّ بالقلب.

(أَنْ تَحُدَّهُ، وَالاْءَبْصَارُ عَنِ الاْءِحَاطَةِ بِهِ، جَلَّ عَمَّا وَصَفَهُ الْوَاصِفُونَ) له بقدر من العظمة.

(وَتَعَالى عَمَّا يَنْعَتُهُ النَّاعِتُونَ) له بأنّه كالبلّور أو كالسبيكة.

(نَأى) أي بعُد عنّا ذاتا (فِي قُرْبِهِ)، بحسب الدليل عليه، أو بحسب إحاطة علمه بنا؛ لقوله: «وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ»(7). و«في» بمعنى «مع». .

ص: 359


1- في «ج» : - «من» .
2- في الكافي المطبوع : «فَسلَّمتُ» .
3- في «ج» : «بفتحتين» .
4- الصحاح ، ج 6 ، ص 2184 ؛ النهاية ، ج 4 ، ص 111 (قمن) .
5- أي أحاديث باب النهي عن الصفة بغير ما وصف به نفسه تعالى .
6- في «أ» : - «غايبة معلوم باب ضرب وعلم» .
7- قآ (50) : 16 .

(وَقَرُبَ فِي نَأْيِهِ، فَهُوَ فِي نَأْيِهِ قَرِيبٌ، وَفِي قُرْبِهِ بَعِيدٌ). تكرار للمضمون للتأكيد. وأمّا قوله:

(كَيَّفَ الْكَيْفَ، فَلاَ يُقَالُ: كَيْفَ؟) أي فلا يسأل عنه بكيف للاستفهام.

(وَأَيَّنَ الاْءَيْنَ، فَلاَ يُقَالُ: أَيْنَ؟) أي فلا يسأل عنه بأين للاستفهام.

(إِذْ هُوَ مُنْقَطِعُ)؛ اسم مكان؛ أي لا يبلغه.

(الْكَيْفُوفِيَّةِ وَالاْءَيْنُونِيَّةِ). فمضى بيان مضمونه في ثالث الأوّل،(1) ويجيء توضيحه أيضا في سادس الباب عند قوله: «فمن وصف اللّه فقد حدّه» إلى آخره.

الرابع: (مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ رَفَعَهُ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ: بَيْنَا). أصله «بين» اُشبعت الفتحة، فتولّدت ألف،(2) وهو ظرف زمانٍ مضافٌ إلى الجملة الخالية عن العائد إليه نظير: «يَوْمَ يُنفَخُ فِى الصُّورِ»(3)، وعاملةُ «قام».

(أَمِيرُ الْمُوءْمِنِينَ عليه السلام )؛ بالرفع على الابتداء.

(يَخْطُبُ عَلى مِنْبَرِ الْكُوفَةِ إِذْ)؛ للمفاجأة، وقد يحذف؛ لأنّ المفاجأة يفهم من «بينا».

(قَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ _ يُقَالُ لَهُ: ذِعْلِبٌ _ )؛ بكسر المعجمة وسكون المهملة وكسر اللام _ وقد تفتح _ والموحّدة؛ لُقّب به تشبيها بالناقة السريعة.(4)

(ذُو لِسَانٍ بَلِيغٍ فِي الْخُطَبِ ، شُجَاعُ الْقَلْبِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُوءْمِنِينَ، هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟ قَالَ: وَيْلَكَ يَا ذِعْلِبُ، مَا كُنْتُ أَعْبُدُ رَبّا لَمْ أَرَهُ) .

أخرج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر بحمل الرؤية في كلامه على العلم؛ إشعارا بأنّه لا ينبغي السؤال عن الرؤية بالبصر؛ لظهور استحالته. وهذا فنّ من البلاغة.

(فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُوءْمِنِينَ، كَيْفَ رَأَيْتَهُ؟ قَالَ: وَيْلَكَ يَا ذِعْلِبُ، لَمْ تَرَهُ الْعُيُونُ). لمّا كانت .

ص: 360


1- أي في الحديث 3 من باب حدوث العالم وإثبات المحدث .
2- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 204 (بين) .
3- الأنعام (6) : 73 .
4- كتاب العين ، ج 2 ، ص 326 ؛ الصحاح ، ج 1 ، ص 127 (ذعلب) .

الرؤية والعيون يطلق على العلم والقلوب، قيّد بقوله:

(بِمُشَاهَدَةِ الاْءَبْصَارِ)؛ بفتح الهمزة جمع بصر، والإضافة لاميّة؛ أو بكسر الهمزة مصدر، فالإضافة للبيان.

(وَلكِنْ رَأَتْهُ الْقُلُوبُ بِحَقَائِقِ الاْءِيمَانِ) أي علمته القلوب وصدّقت به بالتصديقات التي هي حقائق الإيمان؛ أي لا يتحقّق الإيمان بدونها، والباء للملابسة، ويحتمل الاستعانة؛ فإنّه لولا حقائق الإيمان، لكان العلم به كعدمه.

(وَيْلَكَ يَا ذِعْلِبُ، إِنَّ رَبِّي لَطِيفُ اللَّطَافَةِ لاَ يُوصَّفُ(1) بِاللُّطْفِ). اللطافة بفتح اللام واللطف بالضمّ مصدرا بابِ حسن بمعنىً مضى في أوّل السابع عشر.(2)

وقوله: «لطيف اللطافة» ونظائره الآتية لبيان المبالغة مثل: جدّ جدّهُ.

وقوله: «لا يوصَّف» في المواضع بصيغة المضارع المجهول من باب التفعيل(3) للمبالغة. والمقصود هنا أنّ العباد عاجزون عن بيان لطفه تعالى كما هو حقّه.

(عَظِيمُ الْعَظَمَةِ لاَ يُوصَّفُ بِالْعِظَمِ)؛ بكسر المهملة، وفتح المعجمة.

(كَبِيرُ الْكِبْرِيَاءِ لاَ يُوصَّفُ بِالْكِبَرِ). الكبرياء بكسر الكاف وسكون الموحّدة وكسر المهملة والخاتمة والمدّ، والكبر بالكسر: التكبّر.(4)

(جَلِيلُ الْجَلاَلَةِ لاَ يُوصَّفُ بِالْغِلَظِ). الجلالة بفتح الجيم مصدر باب ضرب: القهر والتعالي عمّا يقتضي ذلّة، وهو المداهنة في عقاب أعدائه الذين لا يستحقّون العفو أصلاً .

والغلظ _ بكسر المعجمة وفتح اللام ومعجمة مصدر باب ضرب وحسن _ : القهر . والمقصود أنّ قهره على أعدائه قاهر بحيث يعجز العباد عن بيانه كما هو حقّه، نظير قوله تعالى في سورة الزمر: «وَبَدَا لَهُمْ مِنْ اللّه ِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ»(5). .

ص: 361


1- في الكافي المطبوع : «يُوصَفُ» في جميع المواضع .
2- أي في الحديث 1 من باب آخر و هو من الباب الأوّل إلاّ أنّ فيه زيادة وهو الفرق ما بين المعاني التي تحت أسماء اللّه وأسماء المخلوقين .
3- في «ج»: «في المواضع مضارع مجهول باب ضرب أو باب التفعيل».
4- الصحاح ، ج 2 ، ص 801 (كبر) .
5- الزمر (39) : 47 .

(قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، لاَ يُقَالُ: شَيْءٌ قَبْلَهُ)، وإن قصد القبليّة باعتبار وجوده تعالى اليوم؛ لأنّه يوهم المحال.

(وَبَعْدَ كُلِّ شَيْءٍ)، لفناء العالم وإن كان يعاد.

(لاَ يُقَالُ: لَهُ بَعْدٌ)، كما مرّ في القبل آنفا.

(شَاءٍ)؛ على وزن اسم الفاعل حذفت الياء لالتقاء الساكنين بعد إسكانها لثقل الضمّة.

(الاْءَشْيَاءَ لاَ بِهِمَّةٍ) أي لا بضمير.

(دَرَّاكٌ لاَ بِخَدِيعَةٍ). الدرك بفتحتين: الغلبة على العدوّ بعد لحاقه؛(1) أي غالب على عدوّه لا بحيلة، كما يقال: الحرب خدعة، مثلّثةً، وكهمزة،(2) أي تنقضي بخديعة.

(فِي الاْءَشْيَاءِ كُلِّهَا، غَيْرُ)؛ بالرفع خبر «إنّ» كسائر أخواته؛ أو بالنصب حال عن الضمير(3) المستتر في الظرف.

(مُتَمَازِجٍ بِهَا، وَلاَ بَائِنٍ)؛ بالجرّ عطف على «متمازج».

(مِنْهَا، ظَاهِرٌ)؛ بالرفع.

(لاَ بِتَأْوِيلِ الْمُبَاشَرَةِ). البشرة والبشر: ظاهر جلد الإنسان، والمباشرة: الملاقاة وتولّيالرجل الأمر بنفسه، فإن اُريد بالظاهر المعلوم، فالمراد(4) بالمباشرة المعنى الأوّل؛ وإن اُريد به الغالب، فالمراد الثاني؛ أي لا بعلاج وفعل بدني.

(مُتَجَلٍّ لاَ بِاسْتِهْلاَلِ رُوءْيَةٍ). يُقال: تجلّى الشيء: إذا تكشّف وشُوهد عيانا. واستهلّ الهلال بصيغة المجهول، ويُقال أيضا: استهلّ هو بصيغة المعلوم: إذا تبيّن، واستهلّ وجه الرجل: إذا فرح وظهر فرحه من وجهه، وفائدة الإضافة إلى الرؤية إفادة المعنى الأوّل.

(نَاءٍ لاَ بِمَسَافَةٍ)، بل بذاته المباينة لكلّ ذات. .

ص: 362


1- لسان العرب ، ج 10 ، ص 419 (درك) .
2- في «ج» : «كما يجيء في كتاب الإيمان والنذور والكفّارات في أوّل آخر الأبواب من قوله : إنّ الحرب خدعة بتثليث المعجمة أو كهمزة» بدل «كما يقال : الحرب خدعة ، مثلّثة وكهمزة» .
3- في «ج» : - «عن الضمير» .
4- في «ج» : «المراد» .

(قَرِيبٌ لاَ بِمُدَانَاةٍ)؛ بالمهملة والنون والألف المنقلبة عن الواو؛ أي بقرب مكاني، بل بحسب الدليل على وجوده، أو بعلمه بكلّ شيء وإحاطته به.

(لَطِيفٌ لاَ بِتَجَسُّمٍ)؛ بالجيم والمهملة، أي لا بزيادة مقدار كما في الماء إذا انقلب هواءً، فإنّه يصير ألطف ممّا كان وأعظم منه مقدارا، كما هو المجرّب في الظرف الضيّق الرأس إذا جعل فيه ماء واُغلي. أو المراد لا بصغر في المقدار يكون في الأجسام.

(مَوْجُودٌ لاَ بَعْدَ عَدَمٍ). يقال: وجده كوعده: إذا عرفه؛ وعدمه كعلمه: إذا جهله. والمراد أنّه تعالى معروف عند كلّ مميّز لا يعد جهله به وإن كان جاهلاً بالنبيّ ونحوه، كما مضى في ثاني «باب النسبة» وهو السابع من قوله: «معروف عند كلّ جاهل».(1)

(فَاعِلٌ لاَ بِاضْطِرَارٍ). يُقال: اضطرّ إلى الشيء بصيغة المجهول، أي اُلجيء إليه؛ واضطرّ إليه أيضا: إذا احتاج إليه. فإن اُريد الأوّل كان المراد أنّه فاعل لا لدفع ضرر عن نفسه، وإن اُريد الثاني كان المراد أنّه غير محتاج إلى آلة في فعله.

(مُقَدِّرٌ لاَ بِحَرَكَةٍ، مُرِيدٌ لاَ بِهِمَامَةٍ)؛ بكسر الهاء وتخفيف الميم، مصدر باب نصر من اللازم؛ يقال: همَّ بالشيء: إذا قصده من غيره بولاية له عليه أو من نفسه بجعله حرفة لها. وفعالة بكسر الفاء مصدر مطّرد في فعل مفتوح العين إذا كان لازما ودالاًّ على ولاية أو حرفة، نحو: أمر عليهم إمارة وتجر تجارة، كما ذكره ابن هشام في التوضيح؛ يعني أنّ إرادته تعالى ليست بضمير وقصد يكون في القلب.

(سَمِيعٌ لاَ بِآلَةٍ، بَصِيرٌ لاَ بِأَدَاةٍ). الآلة: الشدّة، والأداة. والمراد هنا الأوّل بقرينة المقابلة. ويجيء بيان السمع(2) بلا شدّة في خامس الباب عند قوله: «السميع لا بتفريق آلة».

(لاَ تَحْوِيهِ الاْءَمَاكِنُ، وَلاَ تَضْمَنُهُ)؛ كيعلم. وفي بعض النسخ «لا تضمّه».

(الاْءَوْقَاتُ). الامتداد المنتزع من بقاء شيء يسمّى باعتبار أنّه ظرف للمتغيّرات وقتا،أي لا يشتمل عليه الأوقات بأن لا يوجد إلاّ في الأوقات، فيكون متغيّرا؛ بل كان .

ص: 363


1- في «أ» : - «يقال : وجده كوعده» إلى هنا .
2- في «ج» : «السميع» .

قبل الأوقات في الأزل.

(وَلاَ تَحُدُّهُ الصِّفَاتُ)؛ بالحاء المهملة وشدّ الدال المهملة، من باب نصر؛ يعني لا يمكن بيان قدر عظمته ببيان من أقسام البيان، موافقا لما مرّ في أوّل الباب من قوله: «وضلّ هناك تصاريف الصفات». أو المراد ما يجيء في سادس الباب في شرح قوله: «فمن وصف اللّه فقد حدّه».

(وَلاَ تَأْخُذُهُ السِّنَاتُ)؛ جمع «سنة». ومضى في ثالث السادس(1) ما يوضحه.

(سَبَقَ الاْءَوْقَاتَ)؛ بالنصب.

(كَوْنُهُ)؛ بالرفع. والجملة استئناف(2) بياني لقوله: «لا تضمنه الأوقات».

(وَالْعَدَمَ)؛ بالنصب.

(وُجُودُهُ)؛ بالرفع، أي سبق وجوده عدم نفسه؛ بمعنى أنّه لم يكن معدوما أصلاً.(3)

(وَالاِبْتِدَاءَ)؛ بالنصب.

(أَزَلُهُ)؛ بالرفع، أي لم يكن له ابتداء أصلاً.(4)

(بِتَشْعِيرِهِ الْمَشَاعِرَ) أي بخلقه المشاعر كالسمع والبصر بنفوذ الإرادة وقول «كُن» لا بآلة وحركة.

(عُرِفَ)؛ بصيغة المجهول من باب(5) ضرب. والمراد بالمعرفة هنا وفي نظائره تذكّر ما علم قبلُ بالبرهان والاعتراف به. .

ص: 364


1- أي في الحديث 3 من باب الكون والمكان .
2- في «أ» : - «استئناف» .
3- في «ج» : «بالرفع . المراد بالعدم هنا فقد المحتاج إليه قبل إعطاء الغير إيّاه ، وهو حال الممكنات . والمراد بالوجود هنا وجدان جميع صفات الكمال بالذات بدون تأثير ، لامن الذات ولا من غيره ، وهو حال الواجب بالذات» بدل «بالرفع أي سبق» إلى هنا .
4- في «ج» : «بالرفع . المراد بالابتداء إحداث أوّل الممكنات . والأزل بفتحتين القدم ، وهو دوام الكون في الماضي . وهذا إبطال لتوهّم أنّه لم يكن قبل حدوث العالم بقاء لشيء إلى غير النهاية في جانب الماضي» بدل «بالرفع ، أي لم يكن له ابتداء أصلاً» .
5- في «ج» : «في المواضع مجهول باب ضرب» بدل «بصيغة المجهول من باب ضرب» .

(أَنْ لاَ مِشْعَرَ لَهُ)؛ بكسر الميم وسكون المعجمة وفتح المهملة ومهملة، اسم آلة؛ وبفتح الميم اسم مكان. والمراد أنّه مجرّد، فليس له مشعر.

(وَبِتَجْهِيرِهِ الْجَوَاهِرَ عُرِفَ أَنْ لاَ جَوْهَرَ لَهُ). التجهير: جعل الجوهر جوهرا، الكيفيّةُ إن وضعت عليها جبلة موصوفها تسمّى «جوهرا» بفتح الجيم وسكون الواو وفتح الهاء معرّب گوهر، وتسمّى طينة وغريزة وطبيعة أيضا كالبرودة في الماء؛ وإلاّ تسمّى «عرضا» كالحرارة بمجاورة النار.

وقوله: «عرف» بصيغة المجهول(1) يعني أنّ واضع جبلة الأجسام على الكيفيّات بنفوذ الإرادة، وقولِ «كُن» مجرّد، فيمتنع أن يوضع جبلته على كيفيّة؛ لأنّ الكيفيّة من خواصّ المادّيات والمخلوقين، كما يجيء في سادس الباب، تعالى اللّه عنها.

(وَبِمُضَادَّتِهِ بَيْنَ الاْءَشْيَاءِ). المضادّة: المخالفة، وهي على قسمين: الأوّل: المشهوري، وهو ما بين نحو الأبيض والأسود. والثاني: الحقيقي، وهو ما بين نحوِ البياض والسواد. والمراد بالمضادّة هنا خلق المضادّين المشهوريين، فالمراد بالأشياء الأجسام، وهو اختياري له تعالى؛ لإمكان أن يخلق أحد المضادّين، ولا يخلق الآخر أصلاً.

(عُرِفَ أَنْ لاَ ضِدَّ لَهُ) أي ليس له عارض موجود في نفسه في الخارج، فلا يمكن أن يكون له ضدّ.

(وَبِمُقَارَنَتِهِ بَيْنَ الاْءَشْيَاءِ). المقارنة بالقاف والمهملة والنون: المناسبة والمصاحبة. والمراد هنا خلق المناسبين كالجسمين الأبيضين، فالمراد بالأشياء هنا أيضا الأجسام.

(عُرِفَ أَنْ لاَ قَرِينَ لَهُ) أي ليس له عارض موجود في نفسه في الخارج، فلا يمكن أن يكون له قرين.

(ضَادَّ النُّورَ بِالظُّلْمَةِ). استئنافٌ بياني لقوله: «وبمضادّته» إلى آخره. وهذا إلى قوله: «بالحرور» ناظر إلى قوله: «وبمضادّته» إلى قوله: «لا ضدَّ له». والمراد بالنور الجسم المنكشف بنفسه كالكواكب وكالقمر في قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً .

ص: 365


1- في «ج» : «كالحرارة في الماء بمجاورة الهواء النار» بدل «كالحرارة» إلى هنا .

وَالْقَمَرَ نُورا»(1)في «ج» : «الثانية» بدل «الراء المهملة» .(2). والمراد بالظلمة ضدّ النور. ومضى بيان ذلك في أوّل الأوّل(3) عند قوله: «أما ترى الشمس والقمر والليل والنهار يلجان» إلى آخره.(4)

(وَالْيَبَسَ(5))؛ بفتح الخاتمة وفتح الموحّدة والمهملة مصدر باب علم، اُطلق على اليابس للمبالغة، وبسكون الموحّدة: اليابس، وقرئ بهما قوله تعالى في سورة طه: «طَرِيقا فِى الْبَحْرِ يَبَسا»(6).(7)

(بِالْبَلَلِ)؛ بفتح الموحّدة وفتح اللام الاُولى مصدر باب علم: النداوة، اُطلق على اسم الفاعل للمبالغة؛ يُقال: بلّه بالماء كبصر، وبلّ هو كعلم، أي ابتلّ. ذهب البصريّون إلى أنّ فعل مكسور العين مطاوع فعل مفتوح العين، مثل ثلمه فثلم.(8)

(وَالْخَشِنَ)؛ بفتح الخاء المعجمة وكسر الشين المعجمة:(9) الأخرش من كلّ شيء.

(بِاللَّيِّنِ)؛ بفتح اللام وشدّ الخاتمة المكسورة وقد تخفّف وتسكّن: الأملس.

(وَالصَّرْدَ)؛ بفتح الصاد(10) المهملة وسكون الراء المهملة(10) ومهملة: الريح البارد، وقد تُطلق(11) على غير الريح أيضا، وهو معرّبُ «سرد».(12)

(بِالْحَرُورِ)؛ بفتح الحاء المهملة وضمّ الراء المهملة:(13) الريح الحارّ يكون بالليل، .

ص: 366


1- يونس
2- : 5 .
3- أي في الحديث 1 من باب حدوث العالم وإثبات المحدث .
4- في «ج» : - «ومضى بيان ذلك» إلى هنا .
5- في الكافي المطبوع : «واليُبْس» بضمّ الياء وسكون الياء .
6- طآه (20) : 77 .
7- حكاه في الإنصاف فيما تضمنه الكشّاف ، ج 2 ، ص 546 .
8- فصّل الزركشي في البرهان ، ج 4 ، ص 139 البحث في أفعال المطاوعة عنوانه : «قاعدة في فعل المطاوعة» .
9- في «ج» : «الثانية» بدل «الشين المعجمة» .
10- في «ج» : - «الصاد» .
11- في «ج» : «يطلق» .
12- الصحاح ، ج 2 ، ص 496 (صرد) .
13- في «ج» : «بفتح المهملة وضمّ الثانية» .

وقد يُطلق على ما في النهار أيضا.

(مُوءَلَّفا(1) بَيْنَ مُتَعَادِيَاتِهَا)؛ بفتح اللام المشدّدة، حالٌ عن(2) الأشياء المذكورة الثمانية.

و«بين» نائب الفاعل، ويجوز في مثله فتح النون وضمّه نظير: «لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ».(3)في الكافي المطبوع : «مُفرِّقٌ» .(4) وقيل: الظرف لا ينوب عن الفاعل، إنّما النائب في مثله المفعول المطلق،(5) وهو الضمير المستتر الراجع إلى المصدر، كما قالوا في حيل بين العير والنزوان.(6)

والمراد بالمتعاديات المتضادّات، وبالتأليف بينها جعل بعضها متّصلاً ببعض في المكان. والضمير للأشياء المذكورة.

(وَمُفَرَّقا(6) بَيْنَ مُتَدَانِيَاتِهَا)، بفتح المهملة حال اُخرى. والمراد بالتفريق الفصل بينها في المكان. والمراد بالمتدانيات المتماثلات، كالكواكب التي ترى مفرّقة وبينها المظلم من السماء.

(دَالَّةً)؛ حالٌ اُخرى.

(بِتَفْرِيقِهَا عَلى مُفَرِّقِهَا، وَبِتَأْلِيفِهَا عَلى مُوءلِّفِهَا)؛ فإنّهما ليسا بحسب الطبيعة بدون شعور، بل بتدبير الصانع للعالم الموسع الباني للسماء بأيدٍ.

(وَذلِكَ). هذا إلى قوله: «ولا بعد» معترضة، أي ومضمون ما ذكرت من قولي: «وبمضادّته بين الأشياء» إلى آخره مضمون: .

ص: 367


1- في الكافي المطبوع : «مُؤلِّفٌ» .
2- في «ج» : - «عن» .
3- الأنعام
4- : 94.
5- حكاه أبو حيان الأندلسي في التفسير المحيط ، ج 7 ، ص 281 .
6- هو مثل يضرب لمن قصد أمرا فعجز عنه ، ولم ينل مأربه منه . والعير : الحمار الوحشي والنزوان الوثوب . وأصل الكلام شعر لصخر بن عمرو الشريد أخ الخناء وتمامه : أهمّ بأمر الحزم لو أستطيعه وقد حيل بين العير والنزوان لسان العرب ، ج 15 ، ص 319 ؛ تاج العروس ، ج 5 ، ص 304 (نزا) .

(قَوْلُهُ) في سورة الذاريات:

(«وَ مِن كُلِّ شَىْ ءٍ). «من» للسببيّة، وهي هنا سببيّة الجزء للكلّ؛ أي ومن كلّ جسم من الأجسام، سواء كان سماويّة أو أرضيّة.

(خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ»(1)). الزوج المركّب من اثنين بينهما ربط في الجملة، سواء كان بالتماثل ككوكبين، أو باتّصال أحدهما بالآخر كاتّصال الكوكب بالجزء المظلم من السماء؛ أي جعلنا كلّ شيء جزءا لزوجين، أحدهما مركّب منه ومن مثله الغير المتّصل به، والآخر مركّب منه ومن ضدّه المتّصل به لتنظروا فيه، فيدلّكم على وجود مؤلّف للضدّين، مفرّق للمثلين، خارج عن المكان والمكانيّات، بريءٌ من كلّ نقصٍ، نافذ الإرادة، يقول «كُن» فيكون.

ومضى بيانه مفصّلاً في أوّل الأوّل(2) عند قوله: «يا أخا أهل مصر، لِمَ السماء مرفوعة» إلى آخره.

(فَفَرَقَ)؛ بصيغة الماضي المعلوم من باب نصر، أو باب التفعيل، تفريعٌ على مضمون الآية واستنباط منه.

(بَيْنَ قَبْلٍ وَبَعْدٍ)؛ بالجرّ والتنوين؛ أي بين سابق زماني، ولاحق زماني.

(لِيُعْلَمَ)؛ بصيغة المضارع المجهول المجرّد.

(أَنْ لاَ قَبْلَ لَهُ وَلاَ بَعْدَ). والحاصل أنّ الأزمنة متشابهة الحقيقة كالأمكنة، فكما يدلّ اختصاص كلّ زوج من الزوجين بمكان على الصانع بعنوان كُن فيكون، يدلّ اختصاص كلّ زمان عليه من الزوجين.(3)

(شَاهِدَةً(4)). حالٌ اُخرى عن الأشياء المذكورة الثمانية.

(بِغَرَائِزِهَا) الغريزة: الجوهر. ومضى بيانه آنفا. .

ص: 368


1- الذاريات (51) : 49 .
2- أي في الحديث 1 من باب حدوث العالم وإثبات المحدث .
3- في «ج» : «يدلّ اختصاص كلّ زوج من الزوجين بزمان عليه» .
4- في الكافي المطبوع : «له شاهدة» بدل «شاهدة» .

(أَنْ) أي بأن (لاَ غَرِيزَةَ لِمُغْرِزِهَا)؛ بالمعجمة وشدّ المهملة المكسورة ومعجمة، أي خالق غريزتها.

(مُخْبِرَةً). حالٌ اُخرى.

(بِتَوْقِيتِهَا أَنْ) أي بأن (لاَ وَقْتَ لِمُوَقِّتِهَا)؛ بشدّ القاف المكسورة، أي جاعلها في وقت دون قبله وبعده.

(حَجَبَ بَعْضَهَا عَنْ بَعْضٍ). الحجْب كالنصر: المنع؛ أي أظهر عجز بعض الأشياء عن بعض، إمّا مطلقا وإمّا قبل وقت فعله، كما يجيء بيانه في «باب الاستطاعة».

(لِيُعْلَمَ أَنْ لاَ حِجَابَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ) أي ليتذكّر أنّه تعالى قادر على كلّ شيء قبل وقت فعله أيضا أزلاً، مستقلّ بالقدرة.

والحجاب بالكسر: المانع. والمراد هنا المانع العقلي، لا ما يشمل العلمي أيضا، بقرينة ما يجيء في خامس الباب.(1)

(كَانَ رَبّا إِذْ لاَ مَرْبُوبَ). استئنافٌ لبيان عدم الحجاب.

والربّ يُطلق في اللغة على المالك والمدبّر والسيّد والمربّي والمتمّم والمُنعم،(2) ولا يطلق غيرَ مضاف على غير اللّه تعالى؛ إذ المراد حينئذٍ ربّ كلّ شيء، وإذا اُطلق على غيره اُضيف إلى خاصّ، فيُقال: ربّ الدار مثلاً.

والمراد(3) هنا الأوّل، أي لم يكن للّه تعالى في خلق مخلوقاته حالة منتظرة يتوقّف عليه الخلق، ولا يمكنه بدونه، بل كان مالكا للمملوكات أي المخلوقات قبل وجودها؛ إذ الملك إنّما يختصّ بالمملوك الموجود فيمن ليس وجود مملوكه بقدرته، بل يتوقّف على حالة منتظرة، وهو تعالى قادر على كلّ شيء أزلاً وأبدا؛ إنّما يتأخّر فعله ويتأجّل خلقه لشيء لعلمه بالمصالح.

ويمكن أن يكون المراد أنّه مالك قبل الخلق أزلاً للخلق في وقت خلقه فيه؛ لأنّ .

ص: 369


1- في «ج» : «في الآتي» بدل «في خامس الباب» .
2- النهاية، ج 2، ص 179؛ لسان العرب، ج 1، ص 399 (ريب).
3- في «ج» : + «به» .

قدرته قبل وقت الفعل بخلاف قدرة العباد، كما سيجيء في ثاني «باب الاستطاعة».

(وَإِلها إِذْ لاَ مَأْلُوهَ). «إله» فعال بمعنى فاعل؛ من ألههم كنصر؛ أي استحقّ عبادتهم، وإطلاقه على الصنم بزعم من يعبده.

والمراد بالمألوه العابد، باعتبار أنّ عبادته مستحقّة بالفتح.

وفي الصحيفة الكاملة في دعاء يوم عرفة: «ربّ الأرباب، وإله كلّ مألوه».(1) وإنّما لم يقل «إذ لا بدعا» للإزدواج مع سابقه ولاحقه.

ومعنى استحقاقه العبادة قبل وجود العابد أنّ العابد في زمان عبادته يسبّحه ويقدّسه وينزّهه، لا باعتبار هذا الوقت فقط، كما في مدحنا للعباد بعد صدور فعل حسن عنهم، بل يسبّحه ويقدّسه وينزّهه عن النقص أزلاً وأبدا في ذاته وأفعاله وتروكه؛ إذ ليس الترك حينئذٍ إلاّ حسنا موافقا للمصلحة. وقيل: إذ لا مألوه أي لم يحصل العبادة بعد، ولم يخرج وصف المعبوديّة من القوّة إلى الفعل. انتهى.(2)

ويحتمل أن يُراد بالمألوه المعبود؛ أي كان معبودا إذ لا معبود غيره، وهو قبل خلق بني آدم، وحين كان يعبده الملائكة وحده.

ويحتمل أن يُراد أنّه كان قادرا على خلق العابدين وأمرهم بالعبادة بالاستحقاق، ولم تكن له حالة منتظرة يتوقّف عليها فعله، بل إنّما اُجّل للعلم بالمصلحة.

(وَعَالِما إِذْ لاَ مَعْلُومَ). يدلّ على ثبوت المعدومات في الخارج؛ لبداهة أنّ العلم بلا شيء محضٍ محالٌ.

(وَسَمِيعا إِذْ لاَ مَسْمُوعَ). السميع من صفات الذات، والسامع من صفات الأفعال، فيتقدّم الأوّل على الثاني.

الخامس: (عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ شَبَابٍ الصَّيْرَفِيِّ _ وَاسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ .

ص: 370


1- الصحيفة السجّادية (أبطحي) ، ص 316 ، دعاء عرفة ، وفي الطبعة الاُخرى ، ص 244 .
2- في حاشية «أ» : «ام ن (منه)» والظاهر أنّ المراد منه محمّد أمين الإسترابادي في حاشيته، وقال به أيضا الطريحي في مجمع البحرين ، ج 1 ، ص 95 (أله) .

الْوَلِيدِ _ عَنْ عَلِيِّ بْنِ سَيْفِ بْنِ عَمِيرَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ قُتَيْبَةَ، قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَعِيسى شَلْقَانُ)؛ بفتح المعجمة وسكون اللام والقاف. والشلق _ بفتح الشين وسكون اللام _ : الضرب بالسوط وغيره، والجماع وخرق الاُذن طولاً.(1)

(عَلى أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام فَابْتَدَأَنَا، فَقَالَ: عَجَبا)؛ بفتحتين، مصدر باب علم، وهو مفعول مطلق لفعل محذوف؛ أي عجبت عجبا.

(لاِءَقْوَامٍ يَدَّعُونَ عَلى أَمِيرِ الْمُوءْمِنِينَ عليه السلام مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ قَطُّ)؛ كأنّهم ادّعوا عليه ما يوافق زعم بعض الفرق المخالفين من الفلاسفة الزنادقة والصوفيّة الشطحيّة والمعتزلة القدريّة والأشاعرة الصفاتيّة الجبريّة ونحوهم؛ كرواية الصوفيّة أنّه عليه السلام قال: «كان اللّه ولم يكن معه شيء والآن كما كان»(2) وكحملهم ما مضى في أوّل الثالث(3) من قوله: «اعرفوا اللّه باللّه »، وما مضى في ثالثه:(4) «إنّ اللّه جلّ جلاله أجلّ وأكرم من أن يُعرف بخلقه»، على أنّ طريقة الأولياء الاستشهاد بالصانع على المصنوع، لا العكس، وبيّنّا حقّ معناهما.

(خَطَبَ أَمِيرُ الْمُوءْمِنِينَ عليه السلام النَّاسَ بِالْكُوفَةِ). استئنافٌ لبيان بطلان ادّعائهم.

(فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلّهِ الْمُلْهِمِ عِبَادَهُ حَمْدَهُ، وَفَاطِرِهِمْ عَلى مَعْرِفَةِ رُبُوبِيَّتِهِ). ردٌّ على القدريّة في إنكارهم التوفيق والخذلان. ويجيء بيانه في رابع «باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين».

والإلهام: إلقاء تصوّر الشيء في القلب، والمراد به هنا التوفيق.

والمراد ب«عباده»: المخلصون، كما في قوله تعالى في سورة الفرقان: «وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الاْءَرْضِ هَوْنا»(5) الآيات. .

ص: 371


1- تاج العروس ، ج 3 ، ص 252 (شلق) .
2- حكاه محمّد بن حمزة الفناري في كتاب مصباح الاُنس بين المعقول والمشهود ، ص 179 و 352 ، وحكاه صدر الدين الشيرازي في الحكمة المتعالية ، ج 7 ، ص 350 ، عن أبي القاسم الجنيد البغدادي .
3- أي في الحديث 1 من باب أنّه لا يعرف إلاّ به .
4- أي في الحديث 3 من باب أنّه لا يعرف إلاّ به .
5- الفرقان (25) : 63 .

والفطر بالفتح: الابتداء، و«على» نهجيّة والمعرفة: التصديق؛ أي على ما يفضي إلى معرفتهم.

والربوبيّة بضمّ المهملة وشدّ الخاتمة: المالكيّة لكلّ شيء؛ أي كون أزمّة الاُمور جميعا بيده تعالى. والإضافة للعهد.

(الدَّالِّ عَلى وُجُودِهِ بِخَلْقِهِ، وَبِحُدُوثِ خَلْقِهِ عَلى أَزَلِهِ، وَبِإشْبَاهِهِمْ(1) عَلى أَنْ لاَ شِبْهَ لَهُ ). ردٌّ على الشطحيّة في إنكارهم وجود غيره تعالى،(2) وفي الفقرة الثانية تعريض بالفلاسفة القائلين بأزليّة بعض الممكنات(3).(4)

والدلالة هنا بالمعنى اللغوي، وهو أعمّ من الاستشهاد، ومن التذكير المقتضي للاعتراف.

والمراد بالخلق المخلوق، أي ما يدبّره كلّ يوم وليلة من الاُمور، كالحياة والموت والمرض والشفاء، فإنّه يتذكّر به وجوده تعالى.

وحدوث الخلق تجدّده يوما فيوما وليلةً فليلة.

والأزل بفتحتين: الامتداد الغير المتناهي المنتزع من موجود لا أوّل له، أو القِدم، وتذكير الأزل(5) بالحدوث لأنّ أحد الضدّين يذكّر الضدّ الآخر.

والإشباه بكسر الهمزة: المشابهة، والضمير للخلق باعتبار اشتماله على أفراد الإنسان. والشبه بالكسر وبفتحتين: المشابة؛(6) أي وبكون بعضهم ندّا لبعض، أو كفوا كالوالد والولد، أو كالذكر والاُنثى، يتذكّر أن لا ندّا ولا كفوا للّه تعالى. وهذا أيضا من تذكير الضدّ بالضدّ. .

ص: 372


1- في الكافي المطبوع : «وباشتباههم» .
2- منهم عبد الغني النابلسي صاحب القصيدة الشطحيّة ، والقصيدة منقولة في مواقف الشيعة ، ج 3 ، ص 279 ؛ أعيان الشيعة ، ج 2 ، ص 122 .
3- في «أ» : «كما يظهر في شرح قوله : والربّ من المربوبين» بدل «القائلين بأزليّة بعض الممكنات» .
4- اُنظر شرح الإشارات ، ج 3 ، ص 131 ؛ تهافت الفلاسفة ، ص 50 ؛ المطالب العالية في العلم الإلهي ، ج 4 ، ص 46 ؛ أنوار الملكوت ، ص 39 .
5- فى «ج»: «الأوّل».
6- في «أ» : «المثابة» .

(الْمُسْتَشْهِدِ بِآيَاتِهِ عَلى قُدْرَتِهِ، الْمُمْتَنِعَةِ مِنَ الصِّفَاتِ ذَاتُهُ). ردٌّ على الشطحيّة في قولهم: إنّ طريقة الأولياء الاستشهاد بالصانع على المصنوع لا العكس، وعلى بعض المعتزلة حيث خصّصوا قدرته تعالى،(1) وعلى الأشاعرة في تجويزهم أن يكون اللّه تعالى مرئيّا حقيقةً.(2)

والآيات: الاُمور العظيمة كالسماء والأرض، وكخوارق العادة، فإنّه يعلم بها أنّ فاعلها لا نقص فيه أصلاً. وإضافة القدرة للعهد؛ أي القدرة على كلّ شيء، قال تعالى في سورة الطلاق: «اللّه ُ الَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنْ الاْءَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الاْءَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللّه َ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ».(3)

وأصل الامتناع: الإباء الاختياري، والمراد هنا عدم القابليّة عقلاً.

والمراد بالصفات: أنواع البيان، وبذاته: كنه حقيقته، أو قدر عظمته. أو المراد بالصفات: الاُمور(4) الموجودة في أنفسها في الخارج، القائمة بغيرها وبذاته نفسه. وحينئذٍ يكون ردّا على القائلين بالمعاني القديمة كالأشاعرة.

(وَمِنَ الاْءَبْصَارِ رُوءْيَتُهُ). ردٌّ على الأشاعرة في الرؤية. والأبصار بفتح الهمزة جمع بصر: حسّ العين، يعني إنّما رؤيته بمعنىً مجازي، وهو معرفة القلوب إيّاه بحقائق الإيمان بشهادة آثاره تعالى.

(وَمِنَ الاْءَوْهَامِ الاْءِحَاطَةُ بِهِ). ردٌّ على الشطحيّة في قولهم: إنّ مراتب النفس الناطقة أربع: العقل الهيولاني، والعقل بالملكة، والعقل المستفاد، والعقل بالفعل، وفي آخر المراتب يحصل له العلم بكلّ شيء تفصيلاً.(5) .

ص: 373


1- حكاه عنهم ابن ميثم في قواعد المرام في علم الكلام ، ص 96 ؛ والعلاّمة في شرح التجريد (الزنجاني) ، ص 308 ، وفي طبعة الآملي ، ص 395 .
2- حكاه عنهم الرازي في المطالب العالية في العلم الإلهي ، ج 2 ، ص 81 ؛ والعلاّمة في معارج الفهم ، ص 332 .
3- الطلاق (65) : 12 .
4- في «ج» : + «الخارجة» .
5- في حاشية «أ» : «قاله الشيخ ميثم البحراني في أوائل شرح نهج البلاغة» .

والأوهام: خطرات القلوب. والإحاطة: العلم التامّ؛ يعني أنّ الإحاطة بكنه ذاته، أو بقدر عظمته، أو بتفصيل كمالاته لا يتأتّى من غيره تعالى؛ إنّما يتأتّى منه، كما في قوله تعالى في سورة طآه: «وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْما»(1)، وفي سورة المصابيح: «أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ».(2)

(لاَ أَمَدَ لِكَوْنِهِ، وَلاَ غَايَةَ لِبَقَائِهِ). الأمد بفتحتين: المدّة المتناهية وما ينتهى إليه المدّة، وكذا الغاية. والمراد بالأمد هنا المدّة المتناهية باعتبار المبدأ أو مبدؤها، والمراد بالغاية هنا المدّة المتناهية باعتبار الآخر أو آخرها.

وهذا ردّ على متكلّمين تبعوا الفلاسفة في أنّ المدّة إنّما هي مقدار حركة الفلك، فقالوا بعد الإقرار بحدوث العالم زمانا: إنّه اختصّ الحدوث بوقته؛ إذ لا وقت قبله؛(3) يعنون أن لا امتداد أصلاً قبل وجود العالم، فليس له تعالى قبله استمرار وبقاء حقيقة.

وزعمهم هذا مبنيّ على عدم فهمهم معنى عدم كونه تعالى زمانيّا، إنّما معناه عدم التغيّر في ذاته وصفات ذاته، فإنّ الامتداد والمدّة إنّما يسمّى لغةً زمانا أو وقتا باعتبار كونه ظرفا للمتغيّرات.

(لاَ تَشْمُلُهُ الْمَشَاعِرُ). ردٌّ على الأشاعرة في الرؤية، يُقال: شمله كعلم ونصر: إذا أحاط به.

وتفسير المشاعر مضى في رابع الباب يعني «لا يحسّ».

(وَلاَ تَحْجُبُهُ الْحُجُبُ، وَالْحِجَابُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ خَلْقُهُ إِيَّاهُمْ). ردٌّ على الفلاسفة حيث قالوا: الممكن ما لم يجب بوجوبٍ سابق لم يوجد، وما لم يمتنع بامتناعٍ سابق لم يترك؛ لاستحالة تخلّف المعلول عن العلّة التامّة، فقالوا بقِدم العالم، وأنّ بين اللّه وبين كلّ حادث موانعَ عقليّةً غير متناهية هي أعدام الشروط والمعدّات التي هي من أجزاء علّته التامّة، وما لم يحصل تلك الشروط والمعدّات بالحركة لم يتكامل علّته التامّة، فلم يقدر اللّه تعالى عليه حينئذٍ، وقالوا: إنّ القول بحدوث العالم، وبجواز تخلّف مخلوق اللّه عنه1.

ص: 374


1- طآه (20) : 110 .
2- فصّلت (41) : 54 .
3- مباحث الحدوث مفصّلة في معارج الفهم للعلاّمة، ص 123 ومابعدها. وانظر المواقف، ج 1، ص 341.

تعالى مع استجماعه لعلّته التامّة يستلزم تعطيل اللّه عن جوده قبل وجود العالم، ونسبته تعالى إلى إمساك بعده أيضا.(1)

يُقال: حجبه كنصر عن فعل أو ترك حجبا بالفتح وحجابا بالكسر: إذا منعه من صدور ذلك الفعل أو الترك عنه. وحجّبه تحجيبا للمبالغة. وحجبه أيضا بالتخفيف والتشديد: إذا ستره. والحُجُب بضمّتين جمع الحجاب بالكسر: المانع، سمّي بالمصدر.

ويحتمل كون هذه الفقرة متعلّقة بالسابق؛ أي لا تستره عن المشاعر الستور الجسمانيّة، فيكون ابتداء الردّ على الفلاسفة من قوله: و«الحجاب» إلى آخره.

والخلق قد يُطلق بمعنى المخلوق وهو المراد في قوله: «وبين خلقه». وقد يُطلق بمعنى المصدر، أي التدبير والتقدير، وهو المراد في قوله: «خلقه إيّاهم». والضمير المنصوب للخلق بمعنى المخلوق باعتبار اشتماله على العقلاء؛ يعني ليس تأخّر صدور الحوادث عنه تعالى لمنع الموانع وعدم تكامل الشروط العقليّة والمعدّات، بل هو مستقلّ بالقدرة على كلّ حادث في كلّ وقت من الأوقات السابقة على وجود ذلك الحادث، إنّما المانع له من صدور ذلك الحادث عنه مانع علمي لا عقلي، وهو التدبير ورعاية المصالح على حسب ما اقتضته الحكمة في كلّ فعل وترك.

وهنا احتمالان: الأوّل: كون «يحجبه» من باب نصر والنفي؛ لكون المراد المنعَ العقليَّ، ويكون قوله: «والحجاب» إلى آخره مشتملاً على مجاز في النسبة أو في لفظ الحجاب.

ويؤيّد هذا قوله في رابع الباب: «لا حجاب بينه وبين خلقه». أو المراد أعمّ من العلمي والعقلي ويكون قوله: «والحجاب» بمنزلة الاستثناء، أو يكون النفي لتعدّد الحجب.

الثانى¨: يكون «يحجبه» من باب التفعيل والنفي للمبالغة، أو لما مرّ في الاحتمال الأوّل.

إن قلت: الخلق من صفات الفعل، فلا يكون حجابا. .

ص: 375


1- اُنظر شرح الإشارات ، ج 3 ، ص 131 ؛ تهافت الفلاسفة ، ص 50 ؛ المطالب العالية في العلم الإلهي ، ج 4 ، ص 146 ؛ شرح الاُصول الخمسة ، ص 115 ؛ شرح المقاصد ، ج 3 ، ص 120 ؛ شرح المواقف ، ج 7 ، ص 229 .

قلت: المراد به ما يشمل الترك لمصلحة التأخير، وكما أنّ الإيجاد من صفات الفعل كذلك الترك، أو المراد به العلم بالمصالح، وليس من صفات الفعل.

(لاِمْتِنَاعِهِ مِمَّا يُمْكِنُ فِي ذَوَاتِهِمْ، وَلاِءِمْكَانٍ مِمَّا يَمْتَنِعُ مِنْهُ). هذا تفصيل «لخلقه إيّاهم» بحيث يدلّ على كونه حجابا بينه وبينهم.

والامتناع: الإباء، وهو فعل اختياري. والضمير للّه . و«ممّا» متعلّق ب«امتناعه». و«يمكن» بصيغة المضارع الغائب المعلوم من باب الإفعال،(1) والضمير المستتر لما. والمراد بالإمكان هنا الجواز، وما يمكن في ذواتهم عبارة عن وجودهم في الخارج. «ولإمكانٍ» بالتنوين. والمراد بالإمكان هنا ضدّ الإباء، والمراد ولإمكانٍ صادرٍ منه تعالى، والتنوين للتقليل بالنسبة إلى الامتناع، فإنّ امتناعه تعالى في المدّة الغير المتناهية، وإمكانه تعالى في المدّة المتناهية وهي قليلة بالنسبة إلى الاُولى وإن كانت آلاف آلاف سنة. و«ممّا» متعلّق ب«إمكان»، والضمير المستتر في «يمتنع» للّه تعالى، وضمير «منه» لما.

والمراد بما يمتنع منه وجودهم في الخارج؛ يعني أنّ خلقه وتدبيره تعالى إيّاهم منحلّ إلى جزءين:

الأوّل: امتناعه تعالى من وجودهم، الممكنُ فيهم في وقت اقتضت الحكمة الامتناع.

والثاني: إمكانه تعالى من وجودهم الذي كان يمتنع منه في وقت آخر اقتضت الحكمة وجودهم فيه، وليس الامتناع لانتفاء جزء من أجزاء العلّة التامّة، ولا الإمكانُ لحدوث العلّة التامّة.

وفي توحيد ابن بابويه في «باب التوحيد ونفي التشبيه» قريب من هذا الحديث وفيه: «ولإمكانِ ذواتهم ممّا يمتنع منه ذاته»(2). والذي في الكافي أصوب. .

ص: 376


1- في «ج» : «ويمكن مضارع غائب معلوم باب الإفعال» .
2- التوحيد ، ص 56 ، ح 14 .

(وَلاِفْتِرَاقِ الصَّانِعِ مِنَ الْمَصْنُوعِ، وَالْحَادِّ مِنَ الْمَحْدُودِ، وَالرَّبِّ مِنَ الْمَرْبُوبِ). افتراقُ شيء من شيء وجود الشيء الأوّل في زمان بدون وجود الشيء الثاني فيه.

والمراد بالصانع هنا الفاعل بتدبير وإرادة. والمراد ب«الحادّ» بالحاء المهملة وشدّ الدال المهملة:(1)

من يجعل شيئا على مقدار خاصّ مع إمكان النقصان عنه والزيادة عليه.

والمراد بالربّ: السيّد المالك، ولا يستعمل غيرَ مقيّد في غير اللّه تعالى؛ لأنّ المراد حينئذٍ القادر بالاستقلال على كلّ ما عداه.

وهذا بيان لثلاثة لوازمَ لخلقه إيّاهم، بحيث يدلّ كلّ منها على كون خلقه إيّاهم حجابا بينه وبينهم:

الأوّل: أنّ المصنوع يستحيل أن يكون قديما بخلاف الصانع، وذلك لأنّ كلّ أحد إذا خلّي عن الأوهام الموسوسة علم أنّ المريد غير الإرادة، وأنّ المريد قبل الإرادة، وأنّ الفاعل قبل المفعول، كما مضى في شرح أوّل الثاني عشر(2) في رواية ابن بابويه عن الرضا عليه السلام .(3)

الثاني: أنّ كلّ مخلوقٍ محدودٌ في مقدار مع إمكان الزيادة والنقصان عليه، بناءً على أنّه لا مجرّد سوى اللّه ، وإلاّ لكان فاعلاً بنفوذ الإرادة وقول «كُن» في الجملة فكان كاملاً من جميع الوجوه، فلم يكن ممكنا؛ لأنّ الإمكان نقص، فيستحيل أن يكون المحدود قديما بخلاف الحادّ.

الثالث: أنّ كلّ مخلوق له تعالى مربوب له، فيستحيل أن يكون قديما معه، وإلاّ لم يكن قادرا عليه بالاستقلال وقبل فعله.

إن قلت: استحالة قِدَم المخلوق ينافي ما مضى في تفصيل خلقه إيّاهم من كون امتناعه تعالى ممّا يمكن فيهم اختياريّا له تعالى. .

ص: 377


1- في «ج» : «بالمهملة وشدّ الثانية» بدل «المهملة وشدّ الدال المهملة» .
2- أي في الحديث 1 من باب صفات الذات .
3- في «ج» : + «موافقا لما مضى في ثاني السابع عشر من قوله عليه السلام : لو كان معه شيء في بقائه لم يجز أن يكون خالقا له لأنّه لم يزل معه ، فكيف يكون خالقا لمن لم يزل معه» .

قلت: توهّم المنافاة مبنيّ على توهّم أنّ الأزل الذي هو ظرف القديم امتداد محصور وهو باطل، فيجوز أن يكون قدم المخلوق محالاً، ويكون المخلوق في كلّ قطعة من الامتداد الغير المتناهي مقدورا له تعالى.

(الْوَاحِدُ لاَ بِتَأوِيلِ(1) عَدَدٍ). التأويل: القصد. ومضى بيانه في شرح قوله: «كتاب التوحيد».

(وَالْخَالِقُ لاَ بِمَعْنى حَرَكَةٍ). الخلق: التقدير. و«المعنى» مصدر ميمي من المجرّد: القصد. والحركة: الانتقال الذهني كما في الفكر، أو العضوي كما في الأفعال العلاجيّة.

(وَالْبَصِيرُ لاَ بِأَدَاةٍ، وَالسَّمِيعُ لاَ بِتَفْرِيقِ آلَةٍ). التفريق: التسديد. والآلة: الشدّة. والمراد بتفريق الآلة أن يكون شدّة القرع أو القلع المحصّلة للصوت سببا لتفرّق الصوت في النواحي؛ يعني لا يحتاج سماعه تعالى إلى شدّة قرع أو قلع، بل هو تعالى يسمع ما لا يمكن أن يسمعه أحد غيره، كما يجيء في «كتاب الحجّ» في حادي عشر «باب حجّ الأنبياء عليهم السلام »: «أنا أسمع صوت هذه في بطن هذه الصخرة في قعر هذا البحر».(2)

وفي توحيد ابن بابويه: «السميع لا بأداة، البصير لا بتفريق آلة».(3) وما فى¨ الكافي أصوب.

(وَالشَّاهِدُ). الشهادة: الحضور، والمراد هنا كونه تعالى أقرب إلينا من حبل الوريد. ولمّا كان هذا موهما للتداخل في المكان قال:

(لاَ بِمُمَاسَّةٍ) أي لابأن يمسّ أجزاؤه أجزاءنا، وأجزاؤنا أجزاءه.

(وَالْبَاطِنُ لاَ بِاجْتِنَانٍ) أي المخفيّ كالغائب لا باستتار بجسم يستره.

(وَالظَّاهِرُ) أي الخارج من الأشياء.

(الْبَائِنُ) أي البعيد.

(لاَ بِتَرَاخِي مَسَافَةٍ) أي لا يتباعد بينه وبين الأشياء تباعدا بسبب مسافة بينهما كما يكون بين الجسمين المتباعدين. .

ص: 378


1- في الكافي المطبوع : «بلا تأويل» .
2- الكافي ، ج 4 ، ص 214 ، باب حجّ الأنبياء ، ح 11 .
3- التوحيد ، ص 56 ، ح 14 .

(أَزَلُهُ نَهْيٌ(1) لِمَجَاوِلِ الاْءَفْكَارِ). الأزل بفتحتين: المدّة الغير المتناهية في جانب الماضي، كما أنّ الأبد المدّة الغير المتناهية في جانب المستقبل. وقيل: الأزل القدم.(2) انتهى. «نهيٌ» بفتح النون وسكون الهاء، مصدر باب منع، استعمل في معنى اسم الفاعل للمبالغة، وهو تخييل أو ترشيح للاستعارة بالكناية، فإنّه شبّه الأزل بأمير، وأثبت له النهي، وهو من لوازم الأمير أو مناسباته.

ومجاول بفتح الميم والجيم، جمع «مجال» بفتح الميم بصيغة اسم المكان. والمراد بمجاول الأفكار الأذهان التي تجول فيها الأفكار القويّة. والمراد أنّ الأذهان التي هي ذوات الأفكار القويّة تتحيّر وتعجز عن إدراك أزله كما هو حقّه، ولذا توهّم كثير من العقلاء أنّ المدّة إنّما هي مقدار حركة الفلك، فلا مدّة قبل حدوث العالم،(3) قالوا: واختصّ حدوث العالم بوقته إذ لا وقت قبله،(4) ومرادهم أنّه لا مدّة قبله أصلاً.

وقس عليه قولَه:

(وَدَوَامُهُ رَدْعٌ لِطَامِحَاتِ الْعُقُولِ)؛ فإنّ الدوام كون الشيء أزليّا وأبديّا. والردع بالفتح والمهملات من باب منع: الكفّ والردّ، ويُقال: طمح بصره إلى الشيء كمنع، أي ارتفع؛ وكلّ مرتفع طامح؛ أي لا يمكن للعقول الرفيعة إدراك دوامه كما هو حقّه.

(قَدْ حَسَرَ كُنْهُهُ نَوَافِذَ الاْءَبْصَارِ). استئنافٌ لبيان قوله: «أزله نهي» إلى آخره، يُقال: حسره بالمهملات كضربه: إذا أعجزه من طول الاستعمال قبل الوصول إلى المطلوب.

وكُنه الشيء بالضمّ: وقته. والضمير للّه . و«نوافذ» بالنون والفاء والمعجمة جمع «نافذة». و«أبصار» بفتح الهمزة جمع «بصر» بمعنى بصيرة.

(وَقَمَعَ وُجُودُهُ جَوَائِلَ الاْءَوْهَامِ). القمع بالفتح من(5) باب منع: القهر والإذلال. .

ص: 379


1- في الكافي المطبوع : «نُهُيَةٌ» .
2- مختار الصحاح، ص 16 (أزل).
3- حكاه في المواقف ، ج 1، ص 542 عن أرسطو ، وحكاه المناوي في فيض القدير ، ج 4 ، ص 716 عن المشهور ، وحكاه الزركشي في البرهان ، ج 4 ، ص 122 بلفظ قيل . وفي تاج العروس ، ج 18 ، ص 263 عن الحكماء .
4- المواقف ، ج 1 ، ص 341 .
5- في «ج» : «مصدر» .

والوجود: إدراك الأشياء علما وقدرةً. والضمير للّه ، والإضافة إلى الفاعل. و«جوائل» بالجيم والهمز جمع «جائلة» أي دوّارة في الاُمور لإدراك شيء فقدته بدون التمسّك بسؤال أهل الذكر عنه. والأوهام: خطرات القلوب وأفكارها؛ يعني أنّ الأوهام الكثيرة الطلب لإدراكه من عند أنفسها لا تدركه ولا تحيط به.

(فَمَنْ وَصَفَ اللّه َ، فَقَدْ حَدَّهُ؛ وَمَنْ حَدَّهُ، فَقَدْ عَدَّهُ؛ وَمَنْ عَدَّهُ، فَقَدْ أَبْطَلَ أَزَلَهُ). الفاء الاُولى للتعقيب، أو للتفريع على مقدّمات لم ينقلها الراوي هنا. وتجيء مع شرحها في سادس الباب.

(وَمَنْ قَالَ: أَيْنَ؟ فَقَدْ عَنَّاهُ(1))؛ بالمهملة وشدّ النون؛ أي عدّه ذا نصب في فعله كالأرواح المتعلّقة بالأبدان، أو بالمعجمة وشدّ الخاتمة؛ أي عدّه غير حاضر، مأخوذٌ من الغاية بمعنى المسافة وذو الغاية البعيد منّا؛ فإنّ بيننا وبينه مسافة.

(وَمَنْ قَالَ: عَلاَمَ؟)؛ حرف جرّ، و«ما» للاستفهام حذف عنها الألف. والمقصود قول من قال إنّه جالس على نحو العرش.

(فَقَدْ أَخْلى مِنْهُ) أي أخلى الأرضين ونحوها من حضوره فيها حيث لم يجعل نسبته إلى جميع الأمكنة سواء.

(وَمَنْ قَالَ: فِيمَ؟ فَقَدْ ضَمَّنَهُ)؛ بالمعجمة وشدّ الميم والنون؛ أي جعله في ضمن وعاء يحفظه من التلف. وفي نهاية ابن الأثير في حديث عِكرمة: «لا تشتر لبن البقر والغنم مضمّنا، ولكن اشتره كيلاً مسمّى؛ أي لا تشتره وهو في الضرع؛ لأنّه في ضمنه» انتهى.(2)

السادس: (وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، عَنْ صَالِحِ بْنِ حَمْزَةَ، عَنْ فَتْحِ بْنِ عَبْدِ اللّه ِ مَوْلى بَنِي هَاشِمٍ، قَالَ: كَتَبْتُ إِلى أَبِي إِبْرَاهِيمَ عليه السلام أَسْأَلُهُ عَنْ شَيْءٍ مِنَ التَّوْحِيدِ، فَكَتَبَ إِلَيَّ بِخَطِّهِ: الْحَمْدُ لِلّهِ الْمُلْهِمِ عِبَادَهُ حَمْدَهُ. وَ ذَكَرَ مِثْلَ مَا رَوَاهُ سَهْلُ بْنُ زِيَادٍ إِلى قَوْلِهِ: «وَقَمَعَ وُجُودُهُ .

ص: 380


1- في الكافي المطبوع : «غيّاه» .
2- النهاية ، ج 3 ، ص 103 (ضمن) .

جَوَائِلَ الاْءَوْهَامِ». ثُمَّ زَادَ فِيهِ). إلى هنا كلام عليّ بن محمّد المذكور في صدر سند الحديث السابق.

(أَوَّلُ الدِّيَانَةِ بِهِ) أي أوّل الإيمان باللّه . والمراد بالأوّل هنا الجزء الذي يتوقّف عليه سائر الأجزاء.

(مَعْرِفَتُهُ) أي الاعتراف والتصديق بوجود اللّه . أي بأنّ في الوجود إلها يستحقّ عبادة كلّ من سواه، ولا يستحقّ غيره عبادته.

(وَكَمَالُ مَعْرِفَتِهِ تَوْحِيدُهُ). كمال الشيء: القدر المشترك بين جزئه الأخير، ولازمه البيّن اللزوم وما لا ينتفع بالشيء إلاّ به. والتوحيد: الاعتراف بأن لا إله إلاّ اللّه .

(وَكَمَالُ تَوْحِيدِهِ نَفْيُ الصِّفَاتِ عَنْهُ). اللام للعهد الخارجي، والمراد الصفات الموجودة في أنفسها في الخارج، وهي المعاني القديمة التي يثبتها الأشعريّة.

ولا ينافي ذلك صحّة وصفه بصفات هي في أذهاننا، كما مضى بيانه في أوّل الخامس،(1) وكما فيما يجيء من قوله: «وكذلك يوصف ربّنا».(2)

(بِشَهَادَةِ كُلِّ صِفَةٍ أَنَّهَا غَيْرُ الْمَوْصُوفِ). المراد بالشهادة شهادة الحال، والمراد بالغير المستقلّ بوجود على حدة يحتاج بسببه إلى فاعل على حدة إن لم يكن واجب الوجود لذاته، ويقابله العين بالمعنى المشهور في نحو العلم والقدرة والحياة من صفات ذاته تعالى أنّها عين ذاته تعالى بمعنى أنّه لا يحتاج انتزاعها عنه تعالى وحملها عليه تعالى إلى مصداق ومصحّح للانتزاع، والحمل موجود في نفسه في الخارج إلاّ ذاته تعالى.

(وَشَهَادَةِ الْمَوْصُوفِ أَنَّهُ غَيْرُ الصِّفَةِ). في نهج البلاغة: «وشهادة كلّ موصوف» إلى آخره.(3)

وذكر هذه الفقرة إمّا لأنّه ليس المراد بالغير هنا معناه اللغويَّ حتّى يكون صدق .

ص: 381


1- أي في الحديث 1 من باب المعبود .
2- ذيل هذا الحديث .
3- نهج البلاغة ، ص 39 ، الخطبة 1 .

العكس لازما بيّنا، بل المراد ما مرّ آنفا. وكون الصفة غير الموصوف بهذا المعنى لا يستلزم استلزاما بيّنا العكسَ؛(1) لجواز أن يتوهّم أحد قياس الغير على العين بهذا المعنى، فإنّ أبا الهذيل(2) من المعتزلة القائلين بنفي الصفات عنه تعالى؛ يقول: إنّه تعالى عالم بعلم هو ذاته، وذاته ليس بعلم. انتهى.(3) ونسبه الفخر الرازي إلى التناقض وليس متناقضا.

وإمّا للتصريح والتوضيح.

(وَشَهَادَتِهِمَا جَمِيعا). نصب على الحاليّة، أي مجموعا مؤلّفا كلّ واحد منهما مع الآخر بدون لزوم عقلي.

(بِالتَّثْنِيَةِ)؛ بفتح المثنّاة فوق وسكون المثلّثة وكسر النون والخاتمة: التأليف؛ أي بأنّ فاعلاً جمعهما وقرنهما بأن جعل أحدهما موصوفا بالآخر، والآخر صفة للأوّل، وذلك لأنّه يستحيل أن يكون صفة واجب الوجود لذاته، ويستحيل أن يتحقّق الممكن الموجود في نفسه بدون فاعل، فليس بينهما لزوم عقلي.

(الْمُمْتَنِعِ مِنْهُ) أي من التثنية والتذكير؛ لأنّه مصدر.

(الاْءَزَلُ)؛ بالرفع فاعل «الممتنع» ودليله أنّ الفعل كلّه حادث، كما مضى توضيحه في شرح عنوان الباب الأوّل.(4)

(فَمَنْ وَصَّفَ(5) اللّه َ)؛ بشدّ المهملة للمبالغة؛ أي زعم أنّه له صفات موجودة في أنفسها في الخارج. وهذا تفريع على قوله: «الممتنع منه الأزل». وإنّما احتيج إلى هذا إلى آخره؛ .

ص: 382


1- في «ج» : «لا يستلزم العكس استلزاما بيّنا» بدل «لا يستلزم استلزاما بيّنا العكس» .
2- هو محمّد بن محمّد بن الهذيل العبدي مولى عبد القيس من أئمّة المعتزلة ، ولد في البصرة سنة 135 هجريّة ، واشتهر بعلم الكلام ، له مقالات في الاعتزال ومجالس ومناظرات ، له كتب كثيرة منها كتاب ميلاس على اسم مجوسي أسلم على يده . توفّي سنة 235 هجرية . الأعلام ، ج 7 ، ص 131 .
3- حكاه عنه الإيجي في المواقف ، ج 3 ، ص 653 و 660 ؛ شرح المواقف ، ج 8 ، ص 379 ؛ الملل والنحل للشهرستاني ، ج 1 ، ص 49 .
4- أي باب حدوث العالم وإثبات المحدث .
5- في الكافي المطبوع : «وصف» بفتح الثلاث .

لأنّ بيان امتناع الأزل من التثنية لا يكفي في بيان امتناع الأزل من الموصوف، وهو المقصود هنا.

(فَقَدْ حَدَّهُ). الحدّ بالفتح من باب نصر: تمييز شيء عن شيء؛ أي جعل مدّة وجوده في جانب الماضي ذاتَ قطعاتٍ ممتاز بعضها عن بعض بحسب توارد أفراد صفته الحوادث عليه.

(وَمَنْ حَدَّهُ، فَقَدْ عَدَّهُ). العدّ بالفتح من باب نصر: الإحصاء؛ والعدد بفتحتين: سِنُو عمر الرجل التي يعدّها؛ أي أحصى قطعات عمره بحسب إحصاء أفراد صفته الحوادث المتواردة.

(وَمَنْ عَدَّهُ، فَقَدْ أَبْطَلَ أَزَلَهُ)؛ لامتناع خلوّه من صفات ذاته؛ لأنّها ليست إلاّ كماليّة، بخلاف صفات فعله، وامتناع التسلسل في الموجودات في أنفسها في الخارج وإن لم تكن مجتمعة لأنّ لها على هذا التقدير مجموعا بديهة،(1) وغير المتناهي لا مجموع له ببرهان التطبيق ونحوه، هنا مقدّمات يحتاج إليها في إثبات أنّ كمال توحيده نفي الصفات عنه، ثمّ إثبات أنّ كمال معرفته توحيده هي، ومن أبطل أزله فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثنّاه أي لم يوحّده، ومَن ثنّاه فقد جزّأه، ومن جزّأه فقد جهله أي لم يعرفه. وسنبيّنها بُعَيْدَ هذا.

اعلم أنّ بين ما في هذا الحديث وما في أوّل نهج البلاغة من قوله عليه السلام : «أوّل الدِّين معرفته، وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده، وكمال توحيده الإخلاص له، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه؛ لشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف، وشهادة كلّ موصوف أنّه غير الصفة، فمن وصف اللّه سبحانه فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثنّاه، ومن ثنّاه فقد جزّأه، ومَن جزّأه فقد جهله»(2) فرقا من أربعة وجوه:

الأوّل: أنّ المراد بالمعرفة في نهج البلاغة العلم لا التصديق، بقرينة ذكر التصديق .

ص: 383


1- في «ج» : «ضرورة» .
2- نهج البلاغة ، ص 39 ، الخطبة 1 .

على حدة؛ فالمراد بالأوّل فيه إمّا الظرف الخارج، وإمّا الجزء المقدَّم. ولا ينافي ذلك أن يكون العلم من قبيل الانفعال لا الفعل، فيستحيل تعلّق التكليف به، وذلك لأنّ التكليف بالمركّب _ وهو الدين أي الإيمان باللّه _ لا يستلزمه التكليف بكلّ جزء.

الثاني: أنّه ذكر الإخلاص في نهج البلاغة، ولم يذكر في هذا الحديث اقتصارا. ومعنى الإخلاص له تعالى أن لا يعبد إلها غيره.

الثالث: أنّ قوله في هذا الحديث: «وشهادتهما جميعا» إلى قوله: «فقد أبطل أزله» لم تذكر في نهج البلاغة اقتصارا، فمعنى قوله: «فقد قرنه» أنّه أبطل أزله، فجعله لاحقا بموجده غير منفكّ عنه. فالدليل عليه ما مرّ في هذا الحديث مع شرحه من قوله: «بشهادة كلّ صفة» إلى قوله: «فقد أبطل أزله» ففي نهج البلاغة اقتصار وطيٌّ لبعض المقدّمات، ولعلّه للاعتماد على ما ذكر في نهج البلاغة أيضا قبيل هذه الفقرات من قوله: «الذي ليس لصفته حدٌّ محدود، ولا نعتٌ موجود، ولا وقتٌ معدود، ولا أجلٌ ممدود» فإنّه إشارة بطريق الكناية إلى إبطال مذهب الأشاعرة وغيرهم من القائلين بالمعاني،(1) ومذهب بعض المعتزلة وغيرهم من القائلين بأنّ الوجود والعلم والقدرة ونحوها يحمل على ذاته حملَ مواطأةٍ حقيقةً لغةً بدون مسامحة،(2) فقيامها به مجازي.

فقوله: «ليس لصفته حدٌّ محدود» إشارة إلى قضيّتين:

الاُولى: أنّه لو كان له صفة موجودة في نفسه في الخارج قائمة به قياما حقيقيّا، لكان لصفته حدّ أي مبدأ لزمان وجودها؛ لأنّ كلّ موجود في نفسه في الخارج غيره تعالى حادث.

الثانية: أنّه لو كان لصفته حدّ، لكان حدّه محدودا باعتبار الكمّ المنفصل؛ أي محصورا في عددٍ متناه بعدد الصفات الشخصيّة المتعاقبة من العلم مثلاً.

والقضيّة الاُولى مضمون قوله في هذا الحديث: «وشهادتهما جميعا بالتثنية الممتنع منه الأزل، فمن وصف اللّه فقد حدّه». .

ص: 384


1- اُنظر شرح المقاصد، ج 2، ص 72؛ شرح المواقف، ج 8 ، ص 45.
2- اُنظر شرح المقاصد ، ج 2 ، ص 72 ؛ شرح المواقف ، ج 8 ، ص 45 .

والقضيّة الثانية مضمون قوله في هذا الحديث: «ومن حدّه فقد عدّه، ومن عدّه فقد أبطل أزله». وكرّر مضمون القضيّتين بقوله: «ولا وقت معدود، ولا أجل ممدود»؛ فهذه الفقرات الثلاث إشارة إلى ردّ مذهب الأشاعرة.(1)

وأمّا قوله: «ولا نعتٌ موجود» فإشارة إلى ردّ مذهب بعض المعتزلة بأنّه لو كان صفته نفس ذاته بهذا المعنى، لكان لصفته كلّ نعوته تعالى،(2) أي المحمولات المختصّة باللّه تعالى، فإنّ ذاته حينئذٍ علمه مثلاً، فعلمه عالم بكلّ شيء، وقادر على كلّ شيء، وواجب الوجود بالذات، وقيّوم ومعبود للعباد، وخالق كلّ شيء وهكذا. هذا خلف؛ لأنّا نعلم أنّه ليس لعلمه نعت فضلاً عن كلّ نعت.

وقوله: «موجود» أي معلوم لنا، أو إشارة إلى خلف آخر، أي لو(3) كان لصفته نعت، لكان كلّ من الصفة والنعت موجودا في نفسه في الخارج؛ لأنّ الصفة موجودة حينئذٍ، فإنّه لا معنى لوجود شيء بدون وجود ما يتّحد معه حقيقةً، فكذا النعت؛ لأنّه لا معنى لاتّحاد الصفة معه بدون اتّحاد النعت معه تعالى.

الرابع: أنّ قوله في نهج البلاغة: «فمن وصف اللّه فقد قرنه» إلى قوله: «فقد جهله»، غير مذكور في هذا الحديث. ومعنى قوله: «فقد ثنّاه» أنّه جعله ثاني اثنين إلهين، أي تابعا لآخَرَ في الاُلوهيّة؛ لأنّه يستحيل أن يكون المفعول إلها ولا يكون فاعله إلها أوّلاً.

ومعنى قوله: «فقد جزّأه» أنّه أعطاه شيئا قليلاً من العبادة؛ يُقال: جزّأه تجزئة: إذا أقنعه بالقليل؛ وذلك لأنّ الفاعل كما أنّه أولى بالاُلوهيّة من المفعول أكثرُ استحقاقا للعبادة من المفعول.

ومعنى قوله: «فقد جهله» أنّه لم يعرف ولم يعلم وجود اللّه ؛ لأنّ معنى اللّه من .

ص: 385


1- شرح المقاصد ، ج 2 ، ص 72 . ونسبه للأشاعرة في المواقف ، ج 1 ، ص 437 ، و ج 3 ، ص 68 ؛ وشرح المواقف ، ج 8 ، ص 45 .
2- حكاه عنهم في شرح المقاصد ، ج 2 ، ص 72 ؛ والمواقف ، ج 1 ، ص 437 ؛ وشرح المواقف ، ج 8 ، ص 45 . وانظر معارج الفهم ، ص 389 .
3- في «ج» : «ولو» .

يستحقّ عبادة كلّ من سواه، ولا يستحقّ غيره عبادته، ولا يتصوّر أن يستحقّ المفعول عبادة الفاعل.

والكلام مبنيّ على تشبيه العلم الذي لم ينتفع به ولم يعمل بمقتضاه بالجهل، ويمكن أن يحمل على هذا البناء قوله تعالى: «فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللّه ُ»(1).

(وَمَنْ قَالَ: كَيْفَ؟ فَقَدِ اسْتَوْصَفَهُ). استفعل هنا لعدّ الشيء ذا كذا؛ يُقال: استقبحه: إذا عدّه ذا قبح؛ أي ومن طلب العلم بكنه ذاته تعالى فقد عدّه ذا صفة، فإنّ تجويز الكيفيّة يستلزم تجويز الصفة؛ لأنّ الكيفيّة لا يمكن إلاّ للجسم، وكلّ جسم لا يخلو عن صفة، وقد ثبت امتناع الصفة آنفا.

وفي نهج البلاغة: «ما وحّده مَن كيّفه».(2)

(وَمَنْ قَالَ: فِيمَا؟). هكذا في أكثر النسخ، والمشهور حذف الألف مع حروف الجرّ كما في نسخة هنا.

(فَقَدْ ضَمَّنَهُ). مضى شرحه في خامس الباب.

(وَمَنْ قَالَ: عَلى مَا؟ فَقَدْ حَمَّلَهُ(3))؛ بالمهملة وشدّ الميم، أي عدّه ضعيفا محمولاً؛ إذ لازمه أنّ الشيء الذي يحمله أقوى منه، كما مضى في سابع العشرين.(4)

(وَمَنْ قَالَ : أَيْنَ؟ فَقَدْ أَخْلى مِنْهُ) أي لم يعدّ نسبته إلى جميع الأمكنة على سواء.

(وَمَنْ قَالَ: مَا هُوَ؟ فَقَدْ نَعَّتَهُ)؛ بالنون والمهملة والمثنّاة فوق بصيغة الماضي من باب(5) التفعيل، أي عدّ كنه ذاته قابلاً للبيان.

(وَمَنْ قَالَ إلى مَا ؟(6)) أي إلى متى وإلى أيّ زمان يكون موجودا. .

ص: 386


1- محمّد (47) : 19 .
2- نهج البلاغة ، ص 272 ، الخطبة 186 .
3- في الكافي المطبوع : «ومن قال علامَ؟ فقد جَهِلَه» .
4- أي في الحديث 7 من باب العرش والكرسي .
5- في «ج» : «والمثناة ماضي باب التفعيل» بدل «والمثناة فوق بصيغة الماضي من باب التفعيل» .
6- في الكافي المطبوع : «إلا مَ» .

(فَقَدْ غَايَاهُ) أي حكم بهلاكه؛ مأخوذ من غايا القوم فوق رأسه بالسيف: إذا أظلّوا.(1)

(عَالِمٌ إِذْ لاَ مَعْلُومَ، وَخَالِقٌ إِذْ لاَ مَخْلُوقَ).

إن قلت: الخلق من صفات الأفعال، فإنّه تعالى يخلق ما يشاء دون ما لا يشاء، فهو حادث. وظاهر هذه الفقرة أنّه قديم.

قلت: لا نسلّم أنّ ظاهرها القدم؛ لأنّ معنى الخلق التدبير، والتدبير كما يكون لفعل شيء يكون لتركه.

والمراد بقوله: «إذ لا مخلوق» إذ لا مخلوق موجود في الخارج، فخلقه كان قبل حدوث العالم في التروك في كلّ وقت وقت من الأوقات الغير المتناهية في جانب الأزل، فكلّ خلقٍ حادثٌ وإن كان السلب المحض أزليّا. فالمراد أنّه كان قادرا على إيجاد المخلوق قبل الخلق في كلّ وقت وقت على حدة، ولم يكن له حالة منتظرة يتوقّف عليه الخلق، إنّما التأجيل للعلم بالمصلحة فقط، كما مضى في شرح خامس الباب عند قوله: «ولافتراق الصانع من المصنوع» إلى آخره.

(وَرَبٌّ إِذْ لاَ مَرْبُوبَ). مضى معناه في رابع الباب.

(وَكَذلِكَ يُوصَفُ رَبُّنَا ، وَ فَوْقَ مَا يَصِفُهُ الْوَاصِفُونَ) له بصفات خلقه، أو بالصفات الموجودة في الخارج في أنفسها.

السابع: (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ النَّضْرِ وَغَيْرِهِ، عَمَّنْ ذَكَرَهُ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ رَجُلٍ سَمَّاهُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ)؛ بفتح المهملة، وكسر الموحّدة، وسكون الخاتمة ومهملة.

وفي القاموس: «وكأمير السبيع بن سبع أبو بطن من همدان، منهم الإمام أبو إسحاق عمرو بن عبداللّه ، ومحلّة بالكوفة منسوبة إليهم أيضا».(2)

(عَنِ الْحَارِثِ الاْءَعْوَرِ، قَالَ: خَطَبَ أَمِيرُ الْمُوءْمِنِينَ عليه السلام يَوْما خُطْبَةً بَعْدَ الْعَصْرِ، فَعَجِبَ .

ص: 387


1- غريب الحديث لابن سلام ، ج 1 ، ص 93 .
2- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 36 (سبع) .

النَّاسُ مِنْ حُسْنِ صِفَتِهِ وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ تَعْظِيمِ اللّه ِ جَلَّ جَلاَلُهُ؛ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: فَقُلْتُ لِلْحَارِثِ: أَ وَمَا حَفِظْتَهَا؟). الواو للعطف على مقدّر؛ أي أخَطَب مثل هذه الخطبة وما حفظتها؟ أو أما كتبتها وما حفظتها؟

(قَالَ: قَدْ كَتَبْتُهَا، فَأَمْلاَهَا عَلَيْنَا) أي قرأ علينا لنكتبه.

(مِنْ كِتَابِهِ: الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لاَ يَمُوتُ، وَلاَ يَنْقَضِي(1) عَجَائِبُهُ؛ لاِءَنَّهُ كُلَّ يَوْمٍ فِي شَأْنٍ مِنْ إِحْدَاثِ بَدِيعٍ لَمْ يَكُنِ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ؛ فَيَكُونَ فِي الْعِزِّ مُشَارَكا). فتح الراء أقرب معنى، وكسرها أقرب لفظا للازدواج مع قوله: هالكا.

(وَلَمْ يُولَدْ؛ فَيَكُونَ مَوْرُوثا هَالِكا) أي بالإمكان.

(وَلَمْ تَقَعْ عَلَيْهِ الاْءَوْهَامُ) بالإدراك الجزئي.

(فَتُقَدِّرَهُ شَبَحا مَاثِلاً). الشبح بفتح المعجمة وفتح الموحّدة ومهملة: سواد الإنسان وغيره تراه من بعد.(2) والماثل بكسر المثلّثة: القائم كالمنارة والطلول(3) ونحوها؛(4) أي جسما ممتازا عن سائر الأجسام.

(وَلَمْ تُدْرِكْهُ الاْءَبْصَارُ؛ فَيَكُونَ بَعْدَ انْتِقَالِهَا حَائِلاً). الحائل بالمهملة وكسر الهمزة: المتغيّرُ من حال إلى حال؛ أي فيمكن أن لا يكون باقيا على ما أدركته الأبصار عليه.

(الَّذِي لَيْسَتْ فِي أَوَّلِيَّتِهِ نِهَايَةٌ ، وَلاَ لاِآخِرِيَّتِهِ حَدٌّ وَلاَ غَايَةٌ). تفسيرٌ لقوله تعالى في سورة الحديد: «هُوَ الاْءَوَّلُ وَالاْآخِرُ»(5) بأنّه ليس المراد بأوّليّته وجودَه قبل وجود العالم، وبآخريّته وجودَه بعد فناء العالم قبل أن يعاد، فإنّ ذلك يوهم عدم وجوده مع وجود العالم، فيكون أوّليّته منتهيةً إلى نهاية هي مبدأ وجود العالم، ويكون لآخريّته حدّ هو .

ص: 388


1- في الكافي المطبوع : «ولا تنقضي» .
2- الصحاح ، ج 1 ، ص 377 (شبح) .
3- الصحاح ، ج 5 ، ص 1816 ؛ لسان العرب ، ج 11، ص 614 (مثل) .
4- في «ج» : - «ونحوها» .
5- الحديد (57) : 3 .

منتهى وجود العالم، أو(1) غاية هي مبدأ إعادة العالم، ويكون أوّليّته قبل آخريّته؛ بل المراد بأوّليّته وآخريّته شيء واحد هو عدم تغيّره من حالٍ إلى حال.

وفي نهج البلاغة من خطبةٍ له عليه السلام : «الحمد للّه الذي لم يسبق له حال حالاً، فيكون أوّلاً قبل أن يكون آخرا»(2) إلى آخره. وفيه في خطبةٍ أوّلها: «ما وحّده مَن كيّفه»: «وأنّه سبحانه يعود بعد فناء الدنيا وحده، لا شيء معه، كما كان قبل ابتدائها كذلك يكون بعد فنائها» إلى قوله: «ثمّ يعيدها بعد الفناء».(3)

(الَّذِي لَمْ يَسْبِقْهُ وَقْتٌ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْهُ زَمَانٌ، وَلاَ يَتَعَاوَرُهُ). التعاور: التداول والتناوب؛ من العارية.(4)

(زِيَادَةٌ وَلاَ نُقْصَانٌ، وَلاَ يُوصَفُ بِأَيْنٍ)(5) أي بما يُقال في جواب السؤال بأين.

(وَلاَ بِمَ) أي ولا بما يقال في جواب السؤال بما هو.

(وَلاَ مَكَانٍ)(6) أي ولا بمكان مطلقا وإن لم يكن مكانا معلوما لأحد.(7)

(الَّذِي بَطَنَ مِنْ خَفِيَّاتِ الاْءُمُورِ) أي ذاته ومائيّته أبطن من كلّ باطن ليس من جنس خفيّات الاُمور، بل هو غائبٌ عنها أيضا.

(وَظَهَرَ) وجوده (فِي الْعُقُولِ بِمَا يُرى)؛ بصيغة المجهول من باب منع.(8)

(فِي خَلْقِهِ مِنْ عَلاَمَاتِ التَّدْبِيرِ، الَّذِي سُئِلَتِ الاْءَنْبِيَاءُ عَنْهُ) أي عن مائيّته.

(فَلَمْ تَصِفْهُ بِحَدٍّ) أي بتمام مائيّته. .

ص: 389


1- في «ج» : «و» .
2- نهج البلاغة ، ص 96 ، الخطبة 65 .
3- نهج البلاغة ، ص 272 ، الخطبة 186 .
4- لسان العرب ، ج 4 ، ص 619 (عور) .
5- في «ج» : + «بفتح الهمز وكسرها وسكون الخاتمة وتنوين أي بحين أو بفتح الهمز وفتح النون» . وفي حاشية «أ» : «قوله بأين أي بحين وزمان ، بقرينة مقابلته بمكان ، كما تقدّم في شرح ثاني باب الكون والمكان (مهدي)» .
6- في «ج» : + «بالميم الزائدة» .
7- في «ج» : + «وبالميم الأصليّة ، أي ولا بمنزلة عند من هو أعلى منه ، كما توهّمه الفلاسفة الزنادقة في العقول» .
8- في «ج» : «مجهول باب منع» بدل «بصيغة المجهول من باب منع» .

(وَلاَ بِبَعْضٍ ) أي ببعض مائيّته.

(بَلْ وَصَفَتْهُ بِفِعَالِهِ، وَدَلَّتْ عَلَيْهِ بِآيَاتِهِ)، كما سأل فرعون موسى عليه السلام قال: «وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالاْءَرْضِ»(1).

(لاَ يَسْتَطِيعُ(2) عُقُولُ الْمُتَفَكِّرِينَ جَحْدَهُ)؛ بل جحدهم في لسانهم ولهواهم(3) مع إقرار قلبهم به، وذلك لظهور الأدلّة، لا للضروريّة، كما ترشد إليه لفظة «المتفكّرين».

(لاِءَنَّ مَنْ كَانَتِ السَّمَاوَاتُ وَالاْءَرْضُ فِطْرَتَهُ). الفطرة بالكسر: الخلقة، وهذا وصف بالمصدر؛ أي مفطورات له.

(وَمَا فِيهِنَّ وَمَا بَيْنَهُنَّ وَهُوَ الصَّانِعُ لَهُنَّ) أي بلا شريك.

(فَلاَ مَدْفَعَ)؛ مصدر ميمي.

(لِقُدْرَتِهِ). فيه دلالة على أنّ معنى إثبات ذات الصانع إثباتُ أنّ للعالم صانعا قادرا، لا إثباتُ واجب الوجود(4) ونحو ذلك.

(الَّذِي نَأى). بالنون والهمز والألف، أي بعُد.

(مِنَ الْخَلْقِ، فَلاَ شَيْءَ كَمِثْلِهِ) أي ليس شيء من خلقه خاليا عن الصفات الموجودة في الخارج في أنفسها، كما أنّه خال، وليس هو متّصفا بصفات موجودة في الخارج في أنفسها، كما أنّ خلقه متّصفٌ بها.

(الَّذِي خَلَقَ خَلْقَهُ لِعِبَادَتِهِ)؛ لقوله في سورة الذاريات: «وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ * وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالاْءِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ»(5). ولم يقل: «لعبادتهم» إيماءً إلى أنّ ضمير «يعبدون» للمؤمنين، والمشهور أنّه للجنّ والإنس.(6) .

ص: 390


1- الشعراء (26) : 23 _ 24 .
2- في الكافي المطبوع : «لا تستطيع» .
3- في «ج» : «وهواهم» .
4- في «ج» : + «بذاته» .
5- الذاريات (51) : 55 _ 56 .
6- تفسير السمرقندي ، ج 1 ، ص 580 .

(وَأَقْدَرَهُمْ عَلى طَاعَتِهِ بِمَا جَعَلَ فِيهِمْ)، من الآلات وجميع ما يتوقّف عليه فعل الطاعة.

(وَقَطَعَ عُذْرَهُمْ بِالْحُجَجِ) أي الأنبياء والأئمّة، أو البراهين الهادية إلى النجدين.

(فَعَنْ بَيِّنَةٍ هَلَكَ مَنْ هَلَكَ، وَبِمَنِّهِ)؛ بحرف الجرّ وفتح الميم وشدّ النون والضمير؛ أي بكرمه وإحسانه وتوفيقه.

وفي بعض النسخ «وعنه» أي وعن بيّنة، والتذكير باعتبار الدليل، أو لأنّ ما لا يكون تأنيثه حقيقيّا جاز تذكيره، كما قيل في قوله تعالى: «إِنَّ رَحْمَةَ اللّه ِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ»(1).(2)

وفي بعض النسخ: «وعن بيّنة» كما في توحيد ابن بابويه.(3)

(نَجَا مَنْ نَجَا). وهذا ردّ على المجبّرة الذين لم يعقلوا معنى قوله تعالى: «لاَ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ»(4) وتوهّموا أنّه لا لوم ولا محمدة عقلاً على فعل أصلاً.

(وَلِلّهِ الْفَضْلُ مُبْدِئا وَمُعِيدا) أي ليس منّه علينا باستحقاق، أو على قدر استحقاق، بل بفضله في الدنيا بالتوفيق، وفي الآخرة بالجنّة.

ولا يتوهّمن من ذلك إبطال قاعدة التحسين والتقبيح العقليّين، فإنّ الفضل لا يمكن أن يتحقّق إلاّ مع حسن ذلك الفضل، وذلك في المؤمنين. وسرّ تخصيص المؤمنين بالفضل في الدنيا ممّا استأثر اللّه تعالى بعلمه.

(ثُمَّ إِنَّ اللّه َ) وقوله:

(_ وَلَهُ الْحَمْدُ _) جملة معترضة.

(افْتَتَحَ الْحَمْدَ لِنَفْسِهِ ). يحتمل أن يكون المراد حين ابتدأ خلق روح الإنسان حيث قال: «ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللّه ُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ»(5)؛ وذلك لأنّ الحمد هو الوصف .

ص: 391


1- الأعراف (7) : 56 .
2- الصحاح ، ج 1 ، ص 198 ؛ لسان العرب ، ج 1 ، ص 663 (قرب) ؛ تفسير القرطبي ، ج 7 ، ص 227 ؛ تفسير غريب القرآن للطريحي ، ص 119 .
3- التوحيد ، ص 32 ، باب التوحيد ونفي التشبيه ، ح 1 .
4- الأنبياء (21) : 23 .
5- المؤمنون (23) : 14 .

بالجميل، سواء كان بلفظ الحمد أو لا. ويحتمل أن يكون المراد أنّه فتح باب الحمد وشرعه وأمر عباده به.

وفي توحيد ابن بابويه رحمه اللّه تعالى: «افتتح الكتاب بالحمد لنفسه».(1) وعلى هذا يحتمل أن يُراد به الابتداء بفاتحة الكتاب إن كان الابتداء بها في المصحف بتوقيف، ويحتمل أن يُراد به الابتداء بالبسملة، فإنّها أيضا حمدٌ كما مرَّ آنفا.

(وَخَتَمَ أَمْرَ الدُّنْيَا وَمَحْلَ(2) الاْآخِرَةِ بِالْحَمْدِ لِنَفْسِهِ). المحل بفتح الميم وسكون المهملة، مصدر مَحَلَ بفلان، كنصر وعلم وحسن: إذا سعى به إلى السلطان، وخاصمه وجادله عنده.(3) وهو منصوب معطوف على «أمْرَ». ولمّا كان المحل في الآخرة لاُمور وقعت في الدنيا، قارن بينهما، أي ختم ما يتعلّق بأمر الدنيا، وبالمحل في الآخرة من القضاء والحكم بالحقّ.

(فَقَالَ) في سورة الزمر:

(«وَقُضِىَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَ قِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَلَمِينَ»(4)). في هذا الحمد من الرجاء ما لا يقدّر قدره.

(الْحَمْدُ لِلّهِ اللاَّبِسِ الْكِبْرِيَاءِ). هي العظمة والملك، وقيل: هي عبارة عن كمال الذات وكمال الوجود، ولا يوصف بها إلاّ اللّه سبحانه وتعالى.(5)

(بِلاَ تَجَسُّدٍ(6))، لدفع وهم الكبر بحسب المقدار، أو وهم اللباس.

(وَالْمُرْتَدِي بِالْجَلالِ بِلاَ تَمْثِيلٍ) أي بلا تشكّل، أو بلا قيام، وهو لدفع وهم الجلال بمعنى عدم النقص في الصورة، أو وهم الرداء. .

ص: 392


1- التوحيد ، ص 32 ، باب التوحيد ونفي التشبيه ، ح 1 .
2- في الكافي المطبوع : «مَحَلَّ» .
3- الصحاح ، ج 5 ، ص 1817 ؛ النهاية ، ج 4 ، ص 303 (محل) .
4- الزمر (39) : 75 .
5- النهاية ، ج 4 ، ص 140 ؛ لسان العرب ، ج 5 ، ص 125 (كبر) .
6- في الكافي المطبوع : «تَجْسِيدٍ» .

(وَالْمُسْتَوِي عَلَى الْعَرْشِ بِغَيْرِ زَوَالٍ ). وهو لدفع أن يتوهّم من الاستواء الجلوسُ على جسم.

(وَالْمُتَعَالِي عَلَى الْخَلْقِ بِلاَ تَبَاعُدٍ مِنْهُمْ) بحسب المسافة.

(وَلاَ مُلاَمَسَةٍ مِنْهُ لَهُمْ) بالمجاورة.

لمّا كان التعالي على قسمين: الأوّل: التنزّه، والثاني: القهر والغلبة، وكان الأوّل محتاجا إلى دفع وهم بُعد المسافة، والثاني إلى دفع وهم المجاورة، ذكرهما معا.

(لَيْسَ لَهُ حَدٌّ يُنْتَهى إِلى حَدِّهِ ) بصيغة المجهول.(1) والظرف نائب الفاعل، والجملة صفة «حدّ» وضع الظاهر فيها موضع الضمير. والحدّ: الطرف. وهذا لبيان قوله: «ولا ملامسة».

(وَ لاَ لَهُ مِثْلٌ؛ فَيُعْرَفَ بِمِثْلِهِ). هذا لبيان قوله: «بلا تباعد»، فالنشر على غير ترتيب اللفّ.

(ذَلَّ مَنْ تَجَبَّرَ غَيْرَهُ). «غير» هنا منصوب، وهو للاستثناء.

(وَصَغُرَ مَنْ تَكَبَّرَ دُونَهُ، وَتَوَاضَعَتِ الاْءَشْيَاءُ لِعَظَمَتِهِ، وَانْقَادَتْ لِسُلْطَانِهِ وَعِزَّتِهِ، وَكَلَّتْ عَنْ إِدْرَاكِهِ طُرُوفُ الْعُيُونِ) بالطاء والراء المهملتين(2) المضمومتين، جمع «طرف» بالكسر: الكريم الطرفين من غير الإنسان، استعير هنا لعَيْن لا ضعف فيها أصلاً.

(وَقَصُرَتْ دُونَ) أي قبل (بُلُوغِ صِفَتِهِ) أي بيان كنه ذاته، أو بيان قدر عظمته.

(أَوْهَامُ الْخَلاَئِقِ). ذكر الأوهام إشعار بأنّ العقول لا تطلبها؛ للعلم بعدم البلوغ إليها.

(الاْءَوَّلِ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ قَبْلَ لَهُ). أكّد لدفع توهّم أنّه قبل كلّ موجود الآنَ، فلا يلزم منه أنّه لم يكن له قبل أصلاً ممّا وجد قبل ذلك.

(وَالاْآخِرِ بَعْدَ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ بَعْدَ لَهُ ) ممّا يوجد بعد ذلك.

(الظَّاهِرِ عَلى كُلِّ شَيْءٍ بِالْقَهْرِ لَهُ، وَالشَّاهِدِ(3) لِجَمِيعِ الاْءَمَاكِنِ بِلاَ انْتِقَالٍ إِلَيْهَا، لاَ تَلْمِسُهُ .

ص: 393


1- في «ج» : «مجهول ناقص باب الافتعال» بدل «بصيغة المجهول» .
2- في «ج» : «بالمهملتين» بدل «بالطاء والراء المهملتين» .
3- في الكافي المطبوع : «المُشاهد» .

لاَمِسَةٌ، وَلاَ تَحُسُّهُ حَاسَّةٌ «وَهُوَ الَّذِى فِى السَّمَاءِ إِلهٌ وَفِى الاْءَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ»(1) أَتْقَنَ مَا أَرَادَ مِنْ خَلْقِهِ مِنَ الاْءَشْبَاحِ) أي الأجسام.

(كُلِّهَا). فيه دلالة على بطلان المجرّدات.

(لاَ بِمِثَالٍ سَبَقَ إِلَيْهِ). الضمير المستتر للمثال، والبارزُ للّه .

(وَلاَ لُغُوبٍ)؛ بضمّ اللام والمعجمة والموحّدة مصدر باب منع وعلم وحسن: التعب والإعياء.

(دَخَلَ عَلَيْهِ فِي خَلْقِ مَا خَلَقَ لَدَيْهِ) أي لدي الخلق.

(ابْتَدَأَ مَا أَرَادَ ابْتِدَاءَهُ، وَأَنْشَأَ مَا أَرَادَ إِنْشَاءَهُ عَلى مَا أَرَادَ)؛ من الصفات والوقت.

(مِنَ الثَّقَلَيْنِ: الْجِنِّ وَالاْءِنْسِ؛ لِيَعْرِفُوا بِذلِكَ) أي بأنّهم على ما أراد اللّه ، لا على ما أرادوا.

(رُبُوبِيَّتَهُ، وَتَمَكَّنَ)؛ بصيغة المضارع المعلوم للغائبة، من باب التفعّل(2) بحذف إحدى التاءين، منصوب.

(فِيهِمْ طَاعَتُهُ، نَحْمَدُهُ بِجَمِيعِ مَحَامِدِهِ). جمع «مِحمَد» بكسر الميم الاُولى وفتح الثانية: ما يحمد به من صفات الكمال.

(كُلِّهَا). لا يمكن ذلك في اللّه تعالى إلاّ على طريق الإجمال.

(عَلى جَمِيعِ نَعْمَائِهِ). النعمة بالكسر: ما أنعم اللّه به عليك، وكذلك النُعمى بالضمّ والقصر، فإن فتحت النون مددت قلت: النعماء.(3)

(كُلِّهَا، وَنَسْتَهْدِيهِ لِمَرَاشِدِ أُمُورِنَا). المراشد: مقاصد الطرق؛ أي الطرق المستقيمة التي فيها الرشد والوصول إلى البغية، والطريق الأرشد أي الأقصد.

(وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، وَنَسْتَغْفِرُهُ لِلذُّنُوبِ الَّتِي سَبَقَتْ مِنَّا، وَنَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللّه ُ، وَأَنَّ مُحَمَّدا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، بَعَثَهُ بِالْحَقِّ نَبِيّا دَالاًّ عَلَيْهِ)؛ صفة «نبيّا» أو حال اُخرى. .

ص: 394


1- الزخرف (43) : 84 .
2- في «ج» : «مضارع معلوم غائبة باب التفعّل» بدل «بصيغة المضارع المعلوم للغائبة من باب التفعّل» .
3- الصحاح ، ج 5 ، ص 2041 ؛ لسان العرب ، ج 12 ، ص 580 (نعم) .

والضمير للّه ، أو حال عن اللّه ، والضمير للنبيّ، وكذا قوله:

(وَهَادِيا إِلَيْهِ، فَهَدى) أي اللّه (بِهِ)؛ أي بالرسول (مِنَ الضَّلاَلَةِ، وَاسْتَنْقَذَنَا بِهِ مِنَ الْجَهَالَةِ)؛ ذلك بسبب ترادف الألطاف والتوفيقات، وكثرة أهل الحقّ بسببه، وليس المراد أنّه لم يكن قبل بعثته شرع وتكليف، فإنّ أهل الحقّ في شرع من قبلنا كانوا حينئذٍ أيضا على الحقّ وإن كانوا قليلين.

(«مَنْ يُطِعِ اللّه َ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزا عَظِيما»(1) وَنَالَ ثَوَابا جَزِيلاً؛ وَمَنْ يَعْصِ اللّه َ وَرَسُولَهُ، فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانا مُبِينا، وَاسْتَحَقَّ عَذَابا أَلِيما، فَأَنْجِعُوا)؛ بالنون والجيم والمهملة، بصيغة الأمر من باب(2) الإفعال، يُقال: أنجع أي أفلح. والفاء للتفريع إشارة إلى ما في قوله تعالى: «أَطِيعُوا اللّه َ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِى الاْءَمْرِ مِنْكُمْ»(3)لسان العرب ، ج 2 ، ص 615 (نصح) .(4).

(بِمَا يَحِقُّ عَلَيْكُمْ) أي يجب عليكم حقّا. والحقّ: الثابت.

(مِنَ السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ) لاُولي الأمر (وَإِخْلاَصِ النَّصِيحَةِ).

أصل النصح في اللغة: الخلوص؛ يُقال: نصحته ونصحت له.(4) ومعنى النصيحة لاُولي الأمر أن يطيعهم حقّ الإطاعة. ويجيء في «كتاب الحجّة» في أحاديث «باب ما أمر النبيّ صلى الله عليه و آله بالنصيحة لأئمّة المسلمين واللزوم لجماعتهم ومن هم؟».(5) فإخلاص النصيحة جعل نصيحة اُولي الأمر لمحض رضا اللّه ، لا للدنيا؛ أو هو مبالغة فيها.

(وَحُسْنِ الْمُوءَازَرَةِ ). هي المعاونة وتحمّل الثقل. والوزر بالكسر: الحمل والثقل. ويسمّى الذنب وزرا لأنّه يُثقل ظهر المذنب.(6)

(وَأَعِينُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) أي ذلّلوا أنفسكم لترك العتوّ واتّباع الهوى. وفي الدعاء: «ربِّ .

ص: 395


1- الأحزاب (33) : 71 .
2- في «ج» : «أمر باب الإفعال» بدل «بصيغة الأمر من باب الإفعال» .
3- النساء
4- : 59 .
5- الكافي ، ج 1 ، ص 403 .
6- لسان العرب ، ج 5 ، ص 282 (وزر) .

أعنّي ولا تعن عليَّ»(1) أي لا تعن خصمي عليَّ.

(بِلُزُومِ الطَّرِيقَةِ الْمُسْتَقِيمَةِ). هي المذهب الصحيح في اُولي الأمر.

(وَهَجْرِ)؛ بفتح الهاء وسكون الجيم، مصدر باب نصر؛ أي ترك.

(الاْءُمُورِ الْمَكْرُوهَةِ)، أي القبيحة، وهي المذاهب الباطلة في اُولي الأمر.

(وَتَعَاطَوُا الْحَقَّ بَيْنَكُمْ). لمّا فرغ ممّا يتعلّق باُولي الأمر، شرع فيما يتعلّق ببعضهم بالنسبة إلى بعض.

والتعاطي: التناول؛ أي استمسكوا بالحقّ بينكم.

(وَتَعَاوَنُوا). يُقال: تعاون القوم: إذا أعان بعضهم بعضا.

(بِهِ) أي بالحقّ، أو بالتعاطي؛ وذلك لأنّ تابع الحقّ في المعاملات قلّما يجادله أحد، فهو معاون لغيره على ترك الجدال.

(دُونِي) أي لئلاّ تحتاجوا إلى الترافع إليَّ.

(وَخُذُوا عَلى يَدِ الظَّالِمِ السَّفِيهِ). أمرٌ بإغاثة الملهوف وإعانة المظلوم فيما لا يحتاج إلى الرفع إلى اُولي الأمر.

(وَمُرُوا بِالْمَعْرُوفِ، وَانْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، وَاعْرِفُوا لِذَوِي الْفَضْلِ فَضْلَهُمْ). أمرٌ بالتسليم لأهل الفضل وترك الجدال معهم باتّباع الرأي، وإشارةٌ إلى آية سورة النساء: «أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ اللّه ُ مِنْ فَضْلِهِ»(2).

(عَصَمَنَا اللّه ُ وَإِيَّاكُمْ بِالْهُدى، وَثَبَّتَنَا وَإِيَّاكُمْ عَلَى التَّقْوى، وَأَسْتَغْفِرُ اللّه َ لِي وَلَكُمْ). .

ص: 396


1- الصحاح ، ج 6 ، ص 2169 ؛ لسان العرب ، ج 13 ، ص 299 (عنن) .
2- النساء (4) : 54 .

الباب الثالث والعشرون: باب النوادر

الباب الثالث والعشرون بَابُ النَّوَادِرِ

وفيه أحد عشر حديثا.

المراد بالنوادر أحاديثُ لا يجمع جميعها عنوان واحد.

الأوّل: (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى، عَنْ عَلِيِّ بْنِ النُّعْمَانِ، عَنْ سَيْفِ بْنِ عَمِيرَةَ، عَمَّنْ ذَكَرَهُ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ الْمُغِيرَةِ النَّصْرِيِّ)؛ بفتح النون وسكون الصاد المهملة.

(قَالَ: سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام عَنْ قَوْلِ اللّه ِ عزَّ وجلّ) في سورة القصص:

(«كُلُّ شَىْ ءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ(1)»(2) فَقَالَ: مَا يَقُولُونَ) أي المخالفون (فِيهِ؟ قُلْتُ: يَقُولُونَ: يَهْلِكُ كُلُّ شَيْءٍ إِلاَّ وَجْهَ اللّه ِ). جعلوا الوجه بمعنى الجارحة أو الذات.

(فَقَالَ: سُبْحَانَ اللّه ِ! لَقَدْ قَالُوا قَوْلاً عَظِيما)؛ حيث جعلوا له جارحة، أو حيث فسّروا برأيهم الوجه بغير ما اُريد به.

(إِنَّمَا عَنى)؛ بصيغة المعلوم أو المجهول.

(بِذلِكَ وَجْهَ اللّه ِ الَّذِي يُوءْتى مِنْهُ)؛ بصيغة المجهول؛ أي المراد بالوجه الجهة التي اُمر الناس أن يسلكوا فيها إلى اللّه ، وهي الطريقة المستقيمة في سؤال اُولي الأمر وإطاعتهم. والمراد باسم الفاعل الدوام؛ أي كلّ طريق باطل إلاّ ما أمر به من الطرق.

ص: 397


1- القصص (28) : 88 .
2- في «ج» : + «الهالك : البائر والمبير ، يتعدّى ولا يتعدّى . ودار البوار : جهنم» .

الثاني: (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي نَصْرٍ، عَنْ صَفْوَانَ الْجَمَّالِ: عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام فِي قَوْلِ اللّه ِ عَزَّ وَجَلَّ : «كُلُّ شَىْ ءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ» قَالَ: مَنْ أَتَى اللّه َ بِمَا أُمِرَ بِهِ(1) مِنْ طَاعَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه و آله ). يشمل هذا طاعة اُولي الأمر وغير ذلك من الأحكام.

(فَهُوَ) أي فما أتى به (الْوَجْهُ الَّذِي لاَ يَهْلِكُ).(2) ظاهره أنّ اسم الفاعل بمعنى الاستقبال.

(وَكَذلِكَ قَالَ:(3) «مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ») أي ما في سورة النور(4) أيضا كما نحن فيه، حيث جعل فيه إطاعته إطاعة نفسه، كما جعل فيما نحن فيه وجهه وجه نفسه.

الثالث: (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ أَبِي سَلامٍ)(5)؛ بفتح المهملة وتخفيف اللام.

(النَّحَّاسِ)(6)؛ بفتح النون وشدّ المهملة ومهملة.(7)

(عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ، قَالَ: نَحْنُ الْمَثَانِي الَّتِي أَعْطَاها اللّه ُ نَبِيَّنَا مُحَمَّدا صلى الله عليه و آله ).

المثاني جمع «مثناة» بفتح الميم وسكون المثلّثة بصيغة اسم المكان للكثرة.(8) والمراد بها آيات فيها(9) الثناء العظيم على اللّه تعالى، وليس فيها أمرٌ ولا نهي صريحا، ».

ص: 398


1- في «ج» : + «معلوم باب نصر أو مجهوله» .
2- في «ج» : + «معلوم باب ضرب أو منع أو علم ، أو مجهول باب التفعيل . الهلاك بفتح الهاء : البوار . والتهليك : عدّ الشيء هالكا» .
3- في «أ» : - «قال» .
4- النور (24) : 80 .
5- في الكافي المطبوع : «سلاّم» بتشديد اللام .
6- في الكافي المطبوع : «النخّاس» .
7- في «ج» : + «بيّاع الدوابّ والرقيق» .
8- في «ج»: «بفتح الميم أو كسرها وسكون المثلثة، اسم مكان أو اسم آلة للثناء بفتح المثلثة والمدّ» بدل «بفتح الميم وسكون» إلى هنا.
9- فى «ج»: «فيهنّ».

ومنها سورة الفاتحة وهي سبع آيات.

وقال عليّ بن إبراهيم في تفسير آية سورة الحجر: «وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعا مِنْ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ»(1)؛ يعني فاتحة الكتاب.(2)

فيمكن أن يكون المراد بهذا الحديث نحن المذكورون في قوله تعالى في سورة الفاتحة: «اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ»(3)، وصراطنا الصراط المستقيم. أو المراد نحن شروط الثناء على اللّه في الآيات المثاني، ولولا الاعتراف بإمامتنا لم يقبل الثناء على اللّه عزّ وجلّ، نظير ما يجيء في رابع الباب: «نحن واللّه الأسماء الحسنى»، ونظير ما يجيء في أوّل أوّل «كتاب فضل القرآن» في تفسير قوله تعالى في سورة العنكبوت: «إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللّه ِ أَكْبَرُ»(4): «نحن ذكر اللّه ونحن أكبر(5)».(6)

وقال ابن بابويه في توحيده في «باب في تفسير قول اللّه عزّ وجلّ: «كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ»(7)»: «معنى قوله عليه السلام : نحن المثاني أي نحن الذين قرننا النبيّ صلى الله عليه و آله إلى القرآن، .

ص: 399


1- الحجر (15) : 87 .
2- تفسير القمّي ، ج 1 ، ص 377 .
3- الفاتحة (1) : 5 _ 6 .
4- العنكبوت (29) : 45 .
5- في «ج» : بدل قوله : «وليس فيها أمر ولا نهي صريحا ، إلى هنا يوجد قوله : «لما فيهنّ من التوحيد الحقيقي ، وهنّ الآيات البيّنات المحكمات الناهية عن اتّباع الظنّ والاختلاف عن ظنّ ؛ فإنّ المتغافل عين المتعامي عنهنّ مشترك حقيقة كشرك الذين اتّخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون اللّه ؛ والمقصود أنّه لولا نحن لما أنزل اللّه المثاني على نبينا صلى الله عليه و آله كما في آية سورة الزمر : «اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَ_بًا مُّتَشَ_بِهًا مَّثَانِىَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَ قُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ» ؛ وفي سورة الرعد : «الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَ تَطْمَ_ل_ءِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَ_ل_ءِنُّ الْقُلُوبُ »؛ وفي سورة العنكبوت : «إِنَّ الصَّلَوةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَآءِ وَ الْمُنكَرِ وَ لَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ» . ويجي في أول «كتاب فضل القرآن» . فالنهي كلام والفحشاء والمنكر رجال ونحن ذكر اللّه ونحن أكبر . والمراد أنّ الصلاة باعتبار اشتمالها على فاتحة الكتاب التي هي سبع من المثاني تنهى عن اتّباع أئمّة الضلالة الذين غاية دعواهم اتّباع الظنّ والاجتهاد والعدول عن الصراط المستقيم» .
6- الكافي ، ج 2 ، ص 598 ، كتاب فضل القرآن ، ح 1 .
7- القصص (28) : 88 .

وأوصى بالتمسّك بالقرآن وبنا، وأخبر اُمّته أنّا لا نفترق حتّى نرد عليه حوضَه».(1)

(وَ نَحْنُ وَجْهُ اللّه ِ)؛ فإنّهم عليهم السلام الجهة التي أمر اللّه بها.(2)

(نَتَقَلَّبُ فِي الاْءَرْضِ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ) أي بينكم. وأصله في الإقامة بين القوم على سبيل الاستظهار والاستناد إليهم، ومعناه أنّ ظهرا منهم قدّامه، وظهرا وراءه، وظهرا على يمينه، وظهرا على شماله، فهو مكنون من جوانبه، ثمّ كثر حتّى استعمل في الإقامة بين القوم مطلقا.

(وَنَحْنُ عَيْنُ اللّه ِ فِي خَلْقِهِ). العين: الإنسان، وخيار الشيء، والديدبان، والجاسوس؛ وأنّهم عليهم السلام أكمل أفراد الإنسان، وخيار خلق اللّه ، والحافظون لدين اللّه ، وأشهاد يوم القيامة.

(وَيَدُهُ الْمَبْسُوطَةُ بِالرَّحْمَةِ عَلى عِبَادِهِ) أي نعمته؛ فإنّهم عليهم السلام وسيلة بقاء العباد، وكلّ نعمة من اللّه للعباد.

(عَرَفَنَا(3))؛ بفتح الراء والفاء.

(مَنْ عَرَفَنَا)؛ بفتح الراء والفاء أيضا.

(وَجَهِلَنَا(4))؛ بكسر الهاء وفتح اللام.

(مَنْ جَهِلَنَا)؛ بكسر الهاء وفتح اللام أيضا.

(وَإِمَامَةَ الْمُتَّقِينَ)؛ بالنصب معطوف على الضمير كالعطف في قولنا: أعجبني زيد وعلمه.

وفي توحيد ابن بابويه في «باب تفسير قول اللّه عزّ وجلّ: «كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ»: «ومن جهلنا فأمامه اليقين».(5) .

ص: 400


1- التوحيد ، ص 151 ، باب تفسير قول اللّه : «كُلُّ شَىْ ءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ» ، ح 6 . وفيه : «فأخبر اُمّته بأن» بدل «وأخبر اُمّته أنّا» .
2- في «ج» : + «كما مرّ في أوّل الباب وثانيه» .
3- في الكافي المطبوع : «عَرَفْنا» بسكون الفاء .
4- في الكافي المطبوع : «وجَهِلْنا» بسكون اللام .
5- التوحيد ، ص 150 ، باب تفسير قول اللّه : «كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ» ، ح 6 .

الرابع: (الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الاْءَشْعَرِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى جَمِيعا، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ سَعْدَانَ)؛ لقب واسمه عبد الرحمن،(1) وهو بفتح السين المهملة وسكون العين المهملة: نبت من أفضل المرعى وله شوك؛ وبضمّ السين: اسم للإسعاد.(2)

(بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمَّارٍ : عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام فِي قَوْلِ اللّه ِ عَزَّ وَجَلَّ ) في سورة الأعراف:

(«وَلِلَّهِ الأَْسْمَآءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا»(3) قَالَ : نَحْنُ _ وَاللّه ِ _ الاْءَسْمَاءُ الْحُسْنَى الَّتِي لاَ يَقْبَلُ اللّه ُ مِنَ الْعِبَادِ عَمَلاً إِلاَّ بِمَعْرِفَتِنَا) أي نحن كالأسماء الحسنى التي لا يقبل الدعاء إلاّ بها، بمعنى أنّ معرفتنا شرط قبول معرفة اللّه بأسمائه الحسنى ودعائه بها وسائر الأعمال.

الخامس: (مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْحَسَنِ، عَنْ بَكْرِ بْنِ صَالِحٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ الْهَيْثَمِ بْنِ عَبْدِ اللّه ِ، عَنْ مَرْوَانَ بْنِ صَبَّاحٍ،(4) قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : إِنَّ اللّه َ خَلَقَنَا، فَأَحْسَنَ خَلْقَنَا؛ وَصَوَّرَنَا، فَأَحْسَنَ صُوَرَنَا؛ وَجَعَلَنَا عَيْنَهُ فِي عِبَادِهِ، وَلِسَانَهُ النَّاطِقَ فِي خَلْقِهِ)، لأنّهم يعبّرون عن اللّه .

(وَيَدَهُ الْمَبْسُوطَةَ عَلى عِبَادِهِ بِالرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَوَجْهَهُ الَّذِي يُوءْتى مِنْهُ، وَبَابَهُ الَّذِي يَدُلُّ)؛ بصيغة المعلوم.

(عَلَيْهِ، وَخُزَّانَهُ فِي سَمَائِهِ وَأَرْضِهِ) أي نزول المنافع من السماء وإخراج الأرض منافعها بوسيلتنا.

(بِنَا أَثْمَرَتِ الاْءَشْجَارُ). استئنافٌ بياني.

(وَأَيْنَعَتِ الثِّمَارُ) أي نضجت.

(وَجَرَتِ الاْءَنْهَارُ؛ وَبِنَا يَنْزِلُ غَيْثُ السَّمَاءِ ، وَيَنْبُتُ عُشْبُ الاْءَرْضِ؛ وَبِعِبَادَتِنَا عُبِدَ اللّه ُ)؛».

ص: 401


1- رجال النجاشي ، ص 192 ، الرقم 515 ؛ الفهرست ، ص 140 ، الرقم 1 ؛ إيضاح الاشتباه ، ص 199 .
2- لسان العرب ، ج 3 ، ص 216 (سعد) .
3- الأعراف (7) : 180 .
4- في هامش النسختين: «صالح. خ».

بصيغة المجهول، أي المعتنى بها عبادتنا.

(وَلَوْ لا نَحْنُ مَا عُبِدَ اللّه ُ)؛ بصيغة(1) مجهول باب نصر، أو معلوم باب التفعيل. والمراد: لم يكن مكلّف ولا تكليف، أو المراد: لم يكن اللّه معبودا حقّ عبادته، فكأنّ عبادة غيرنا معدوم، أو المراد أنّ عبادة شيعتنا لاتّباعنا، وغيرهم ليسوا عابدين أصلاً.

السادس: (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ بَزِيعٍ، عَنْ عَمِّهِ حَمْزَةَ بْنِ بَزِيعٍ: عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام فِي قَوْلِ اللّه ِ عَزَّ وَجَلَّ ) في سورة الزخرف:

(«فَلَمَّآ ءَاسَفُونَا). يُقال: أسف عليه كعلم أسفا، أي غضب. وآسفه، أي أغضبه.

(انتَقَمْنَا مِنْهُمْ»(2) فَقَالَ: إِنَّ اللّه َ _ عَزَّ وَجَلَّ _ لاَ يَأْسَفُ كَأَسَفِنَا، وَلكِنَّهُ خَلَقَ أَوْلِيَاءَ لِنَفْسِهِ يَأْسَفُونَ وَيَرْضَوْنَ وَهُمْ مَخْلُوقُونَ مَرْبُوبُونَ، فَجَعَلَ رِضَاهُمْ رِضَا نَفْسِهِ ، وَسَخَطَهُمْ سَخَطَ نَفْسِهِ؛ لاِءَنَّهُ جَعَلَهُمُ الدُّعَاةَ إِلَيْهِ، وَالاْءَدِلاَّءَ عَلَيْهِ، فَلِذلِكَ صَارُوا كَذلِكَ) أي لجعله إيّاهم الدُّعاةَ جعل رضاهم رضا نفسه.

(وَلَيْسَ أَنَّ)؛ بفتح الهمز وشدّ النون؛ أي وليس معناه أنّ.

(ذلِكَ) أي الأسف (يَصِلُ إِلَى اللّه ِ كَمَا يَصِلُ إِلى خَلْقِهِ) أي ليس إذا أسفوا أسف اللّه لأسفهم كما يأسف المحبّ المخلوق يأسف المحبوب.

(لكِنْ هذَا مَعْنى مَا قَالَ مِنْ ذلِكَ) أي من ذلك النوع؛ فهو مجاز في الإسناد فيه، وفي كلّ كلام شبه ذلك.

(وَقَدْ قَالَ ) في الحديث القدسي:

(مَنْ أَهَانَ لِي وَلِيّا، فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ، وَدَعَانِي إِلَيْهَا. وَقَالَ) في سورة النساء(3):

(«مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ»(4)) أي إطاعته كإطاعته. ويمكن هنا الحمل على .

ص: 402


1- في «ج» : - «بصيغة» .
2- الزخرف (43) : 55 .
3- في المخطوطتين : «سورة النور» وهو سهو .
4- النساء (4) : 80 .

الحقيقة أيضا، لكن هذا المجاز أبلغ.

(وَقَالَ) في سورة الفتح:

(«إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللّهَ يَدُ اللّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ»(1)). جعل يد الرسول كيَد نفسه.

(فَكُلُّ هذَا وَشِبْهُهُ عَلى مَا ذَكَرْتُ لَكَ، وَهكَذَا الرِّضَا وَالْغَضَبُ وَغَيْرُهُمَا مِنَ الاْءَشْيَاءِ(2) مِمَّا يُشَاكِلُ ذلِكَ) أي جميعها مجازات.

(وَلَوْ كَانَ يَصِلُ إِلَى اللّه ِ الاْءَسَفُ وَالضَّجَرُ)؛ محرّكةً: القلق من الغمّ.

(_ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَهُمَا وَأَنْشَأَهُمَا _ لَجَازَ لِقَائِلِ هذَا) القول (أَنْ يَقُولَ: إِنَّ الْخَالِقَ يَبِيدُ) أي يهلك.

(يَوْما مَا) أي لم يكن مضمون كلامه ممتنعا بالذات.

(لاِءَنَّهُ إِذَا دَخَلَهُ الْغَضَبُ وَالضَّجَرُ، دَخَلَهُ التَّغَيُّرُ ، وَإِذَا دَخَلَهُ التَّغَيُّرُ لَمْ يُوءْمَنْ(3) عَلَيْهِ الاْءِبَادَةُ) أي الإهلاك، فإنّ كلّ متغيّر حادث؛ لما مرّ في خامس «باب جوامع التوحيد» وكلّ حادثٍ ممكن الوجود والعدم.

(ثُمَّ لَمْ يُعْرَفِ)؛ بصيغة مجهول باب ضرب.

(الْمُكَوِّنُ)؛ بكسر الواو.

(مِنَ الْمُكَوَّنِ )؛ بفتح الواو، أي يلزم أن يكون محدث الأشياء محدثا؛ لما مرّ آنفا من أنّه يلزم حدوثه.

(وَلاَ الْقَادِرُ) على كلّ شيء.

(مِنَ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ، وَلاَ الْخَالِقُ مِنَ الْمَخْلُوقِ). ظاهرٌ ممّا مرّ آنفا.

(تَعَالَى اللّه ُ عَنْ هذَا الْقَوْلِ عُلُوّا كَبِيرا؛ بَلْ هُوَ الْخَالِقُ لِلاْءَشْيَاءِ لاَ لِحَاجَةٍ) إلى عبادتهم. .

ص: 403


1- الفتح (48) : 10 .
2- في «ج»: - «من الأشياء».
3- في «ج» : «تؤمن» .

(فَإِذَا كَانَ لاَ لِحَاجَةٍ، اسْتَحَالَ الْحَدُّ) أي أن يتحدّد زمان وجوده بحسب حدود أزمنة الصفات المتعاقبة، كما مرّ في سادس «باب جوامع التوحيد».

(وَالْكَيْفُ فِيهِ) أي الصفة الموجودة في الخارج في نفسها. ويحتمل أن يكون اللام في الحدّ والكيف للعهد؛ أي الأسف والضجر، والاستدلال بعدم الحاجة عليه؛ لأنّ الأسف والضجر إنّما يعرض لمن يخاف فوت نفع له يحتاج إليه، وأمّا من لا حاجة له إلى شيء ولا يخاف فوت شيء، فيمتنع اتّصافه بهما.

(فَافْهَمْ إِنْ شَاءَ اللّه ُ تَعَالى).

السابع: (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَصْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حُمْرَانَ، عَنْ أَسْوَدَ بْنِ سَعِيدٍ ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ، فَأَنْشَأَ يَقُولُ _ ابْتِدَاءً مِنْهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ أَسْأَلَهُ _ : نَحْنُ حُجَّةُ اللّه ِ ، وَنَحْنُ بَابُ اللّه ِ، وَنَحْنُ لِسَانُ اللّه ِ، وَ نَحْنُ وَجْهُ اللّه ِ، وَنَحْنُ عَيْنُ اللّه ِ فِي خَلْقِهِ). متعلّقٌ بالجميع، أو بالأخير.

(وَ نَحْنُ وُلاَةُ أَمْرِ اللّه ِ فِي عِبَادِهِ). الولاة بضمّ الواو جمع «الوالي» بمعنى المتولّي . والأمر: الشأن؛ أي نحن خلفاء اللّه في عباده، حكمنا كحكمه.

الثامن: (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي نَصْرٍ، عَنْ حَسَّانَ)؛ بفتح الحاء المهملة، وشدّ السين المهملة.(1)

(الْجَمَّالِ)؛ بفتح الجيم، وشدّ الميم.

(قَالَ : حَدَّثَنِي هَاشِمُ بْنُ أَبِي عَمَّارٍ الجِيْبِي(2))؛ نسبة إلى جيب بكسر الجيم وسكون الخاتمة والموحّدة: حصنين بين القدس ونابلس.(3)

(قَالَ: سَمِعْتُ أَمِيرَ الْمُوءْمِنِينَ عليه السلام يَقُولُ: أَنَا عَيْنُ اللّه ِ، وَأَنَا يَدُ اللّه ِ، وَأَنَا جَنْبُ اللّه ِ). مرّ تفسيره بُعيدَ هذا. .

ص: 404


1- في «ج» : «بفتح المهملة وشدّ الثانية» بدل «بفتح الحاء المهملة وشدّ السين المهملة» .
2- في الكافي المطبوع : «الجَنْبِي» .
3- تاج العروس ، ج 1 ، ص 390 (جيب) .

(وَأَنَا بَابُ اللّه ِ) أي لا يمكن الوصول إلى اللّه إلاّ من جهتي، كما لا يمكن الوصول إلى بلد أو دار إلاّ من بابه.

التاسع: (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ بَزِيعٍ)؛ بفتح الموحّدة، وكسر المعجمة، وسكون الخاتمة، ومهملة.

(عَنْ عَمِّهِ حَمْزَةَ بْنِ بَزِيعٍ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ سُوَيْدٍ: عَنْ أَبِي الْحَسَنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ عليهماالسلام فِي قَوْلِ اللّه ِ عَزَّ وَجَلَّ ) في سورة الزمر:

(«يَ_حَسْرَتَى عَلَى مَافَرَّطتُ فِى جَنبِ اللَّهِ»(1) قَالَ: جَنْبُ اللّه ِ أَمِيرُ الْمُوءْمِنِينَ عليه السلام ، وَكَذلِكَ مَا كَانَ بَعْدَهُ مِنَ الاْءَوْصِيَاءِ بِالْمَكَانِ)؛ الظرف خبر «كان».

(الرَّفِيعِ) أي بمكان العصمة والإمامة.

(إِلى أَنْ يَنْتَهِيَ الاْءَمْرُ إِلى آخِرِهِمْ). فإنّه يكون الدين واحدا ولا تفريط حينئذٍ، أو المراد أنّ الآخر أيضا كذلك قبل استقرار الدين.

وقال ابن بابويه في توحيده في «باب معنى جنب اللّه عزّ وجلّ»:

الجنب: الطاعة في لغة العرب، يُقال: هذا صغير في جنب اللّه ؛ أي طاعة اللّه عزّ وجلّ؛ فمعنى قول أمير المؤمنين عليه السلام : «أنا جنب اللّه » أي أنا الذي ولايتي طاعة اللّه ، قال اللّه عزّ وجلّ: «أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِى جَنْبِ اللّه ِ»(2) أي في طاعة اللّه عزّ وجلّ.(3)

العاشر: (الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُعَلَّى بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُمْهُورٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الصَّلْتِ)؛ بفتح المهملة وسكون اللام والمثنّاة فوق.

(عَنِ الْحَكَمِ وَإِسْمَاعِيلَ ابْنَيْ حَبِيبٍ، عَنْ بُرَيْدٍ الْعِجْلِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عليه السلام يَقُولُ: بِنَا عُبِدَ اللّه ُ، وَبِنَا عُرِفَ اللّه ُ، وَبِنَا وُحِّدَ اللّه ُ تَبَارَكَ وَتَعَالى، وَمُحَمَّدٌ حِجَابُ اللّه ِ تَبَارَكَ وَتَعَالى) .

ص: 405


1- الزمر (39) : 56 .
2- الزمر (39) : 56 .
3- التوحيد ، ص 165 ، ح 2 .

أي رسوله.

الحادي عشر: (بَعْضُ أَصْحَابِنَا، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللّه ِ، عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ بِشْرٍ)؛ بكسر الموحّدة، وسكون المعجمة، والمهملة.

(عَنْ مُوسَى بْنِ قَادِمٍ)؛ بالقاف، وكسر المهملة.

(عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ زُرَارَةَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ، قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ قَوْلِ اللّه ِ عَزَّ وَجَلَّ ) في سورة الأعراف، وهي مكيّة:

(«وَ مَا ظَ_لَمُونَا وَ لَ_كِن كَانُوآاْ أَنفُسَهُمْ يَظْ_لِمُونَ»(1)). يُقال: ظلمه حقَّه: إذا أخذه جبرا. وأصله وضع الشيء في غير موضعه. ومعنى الكلام: أنّهم ظلمونا ولكن كان ظلمهم إيّانا راجعا في الحقيقة إلى ظلمهم أنفسهم؛ لأنّ دائرته ترجع إليهم.

(قَالَ: إِنَّ اللّه َ تَعَالى أَعْظَمُ وَأَعَزُّ وَأَجَلُّ وَأَمْنَعُ مِنْ أَنْ يُظْلَمَ)؛ بصيغة المجهول.

(وَلكِنَّهُ خَلَطَنَا بِنَفْسِهِ) أي جعل الأمر المنسوب إلينا منسوبا إلى نفسه من باب المجاز في الإسناد؛ أو المراد أنّه أدخلنا مع نفسه في ضمير المتكلِّم مع الغير.

(فَجَعَلَ ظُلْمَنَا ظُلْمَهُ، وَوَلاَيَتَنَا وَلاَيَتَهُ). الولاية بفتح الواو وكسرها: السلطان والنصرة، أي حكومتنا وتولّينا لأمر الإمامة حكومته.

(حَيْثُ يَقُولُ) في سورة المائدة، وهي مدنيّة:

(«إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ»(2)) أي الحاكم عليكم هؤلاء. لمّا كان حكومة الرسول والأئمّة بأمر اللّه خلط نفسه بهم.

(يَعْنِي) من الذين آمنوا (الاْءَئِمَّةَ مِنَّا): من أهل البيت.

(ثُمَّ قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: «وَمَا ظَلَمُونَا وَلكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ»(3)) أي قال في سورة البقرة، وهي مدنيّة. .

ص: 406


1- الأعراف (7) : 160 .
2- المائدة (5) : 55 .
3- البقرة (2) : 57 .

والتراخي بالنسبة إلى ما في سورة الأعراف، فإنّ نزول سورة البقرة قبل نزول سورة المائدة.

(ثُمَّ ذَكَرَ مِثْلَهُ) أي ذكر اللّه في سورة النساء مثل ما في سورة المائدة في قوله: «أَطِيعُوا اللّه َ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِى الاْءَمْرِ مِنْكُمْ».(1) والتراخي بالنسبة إلى ما في سورة البقرة، أو إلى ما في سورة المائدة أيضا، فإنّ نزول سورة النساء قبل نزول سورة المائدة في رواية، وبعدها في رواية اُخرى رواهما صاحب مجمع البيان في تفسير سورة الإنسان.(2)

والحاصل أنّ نسبة اللّه تعالى المظلوميّة إلى نفسه في سورتي الأعراف والبقرة مبنيّة على خلطنا بنفسه؛ نظير أنّ إثباته الولاية لنفسه ولرسوله في سورة المائدة، وأمره تعالى بإطاعة اللّه وإطاعة رسوله في سورة النساء مبنيّان على خلطنا بنفسه وبرسوله، فإنّ إثباته الولاية لنفسه ولرسوله في القرآن كتحصيل الحاصل، وكذا أمره بإطاعة نفسه وإطاعة رسوله.

فمراده تعالى تأكيد الأمر باتّباع اُولي الأمر بأنّ ولاية اُولي الأمر بعد الرسول ولاية اللّه وولاية رسوله، وإطاعة اُولي الأمر(3) بعد الرسول إطاعة اللّه وإطاعة رسوله.

وإنّما خصَّ بالذكر الخلطَ في إثبات الولاية والخلط في الأمر بالإطاعة لأنّهما مقتضيان للخلط في المظلوميّة في سورة إنكار الولاية وترك الإطاعة.ا.

ص: 407


1- النساء (4) : 59 .
2- مجمع البيان ، ج 10 ، ص 211 .
3- في «ج» : - «بأنّ ولاية اُولي الأمر» إلى هنا.

الباب الرابع والعشرون: باب البداء

الباب الرابع والعشرون بَابُ الْبَدَاءِ

فيه سبعة عشر حديثا.

وهذا الباب للردّ على اليهود والفلاسفة وبعض المتكلِّمين.

والبداء بفتح الموحّدة والمهملة والمدّ، في اللغة مصدر قولك: بدا له في هذا الأمر يبدو، أي نشأ له فيه رأي.(1)

والمراد به هنا تجدّد أثره تعالى باعتبار الصدور عنه بالقدرة؛ أي أن تكون الأفعال الصادرة عنه تعالى المترتّبة زمانا مترتّبة أيضا من حيث إنّها صادرة عنه بحسب ذلك الترتيب الزماني، وهو تعالى قادر على تغيير الترتيب، وعلى عدم إمضاء ما دبّر على ما دبّر، وإن كان ذلك التغيير وعدم الإمضاء ممتنعا امتناعا لاحقا. وحقيقة القدرة التمكّن من الشيء وتركُه، وقد يعبّر عنها بصحّة الفعل والترك، وقد تُطلق القدرة على كون الشخص بحيث إن شاء فعل، وإن لم يشأ لم يفعل.(2)

وليس مرادنا هنا هذا المعنى، والقدرة بالمعنى الأخير تتعلّق بالمحال بالذات أيضا.

إن قلت: كيف صحّ أن يسمّى هذا بداءً؟

قلت: السبب في صحّته أنّه إذا اختار الصانع أحد الجائزين، وهما في قدرته عليهما على السواء، ولكلّ منهما داعٍ مختصّ به، فقد صرف المصنوع عن الجائز الآخر،

ص: 408


1- الصحاح ، ج 6 ، ص 2278 ؛ لسان العرب ، ج 1 ، ص 27 (بدا) .
2- اُنظر المسلك في اُصول الدين ، ص 42 ؛ الأسرار الخفيّة للعلاّمة ، ص 524 ؛ معارج الفهم ، ص 234 ؛ المطالب العالية في العلم الإلهي ، ج 3 ، ص 9 .

فجعل صرفه عنه كنقله منه بحدوث رأي، وهذا كما صحّ أن تقول: سبحان من صغّر جسم البعوض، وكبّر جسم الفيل، وقولك للحفّار: ضيّق فم الركيّة، ووسّع أسفلها، وليس ثَمَّ نقل من كِبَر إلى صِغَر، ولا من صغر إلى كبر، ولا من سعة إلى ضيق، ولا من ضيق إلى سعة، وإنّما أردت الإنشاء على تلك الصفات بالقدرة بمعنى صحّة الفعل والترك.

وقيل: معنى البداء للّه تعالى أن يتجدّد عنه أثر لم يعلم أحد من خلقه قبل صدوره عنه أنّه يصدر عنه. انتهى.(1)

وهذا بعض إطلاقاته، وإنّما يطلق عليه بقرينة، كما في تاسع الباب.

وقد يُطلق البداء له تعالى على تجدّد أثر لم يعلم بعض خلقه قبل صدوره أنّه يصدر عنه، وإنّما يطلق عليه البداء بالنسبة إلى هذا البعض.

وربّما اعتبر في البداء ظنّه بأنّه لا يصدر، ومن نسب إلينا من مخالفينا إثباتَ بداء الندامة للّه تعالى، فقد غفل أو تغافل.

ومذهب اليهود نفي البداء عن اللّه تعالى؛ قالوا: إنّ اللّه تعالى فرغ من الأمر، وليس كلّ يومٍ هو في شأن، ويد اللّه مغلولة، وكذلك الزنادقة الفلاسفة(2) قالوا: إنّ اللّه أوجد جميع معلولاته دفعةً واحدة دهريّة لا تترتّب باعتبار الصدور عنه، بل إنّما ترتّبها في الزمان فقط، كما أنّه لا تترتّب الأجسام المجتمعة زمانا في الزمان، إنّما ترتّبها في المكان فقط.

وفي كتاب الملل والنحل للشهرستاني في ترجمة النظّام من المعتزلة:

من مذهبه إنّ اللّه تعالى خلق الموجودات دفعةً واحدة على ما هي عليه الآنَ معادن ونباتا وحيوانا وإنسانا، لم يتقدّم خلق آدم عليه السلام خلق أولاده غير أنّ اللّه تعالى أكمن بعضها في بعض، فالتقدّم والتأخّر إنّما يقع في ظهورها من مَكامِنِها دون حدوثها ووجودها. انتهى.(3) .

ص: 409


1- في حاشية «أ» : «ا م ن» منه . والظاهر أنّ المراد منه محمّد أمين الإسترابادي في حاشية على اُصول الكافي .
2- في «ج» : + «الذين قالوا : الواحد لا يصدر عنه إلاّ الواحد والذين» .
3- الملل والنحل ، ج 1 ، ص 56 .

ولمنكري البداء شُبه:

الاُولى: أنّ تخلّف المعلول عن العلّة التامّة محال، فجميع الأزمنة والزمانيّات مجتمعة في الدهر، فهي غير مترتّبة في الصدور عنه تعالى، وغير متخلّفة عن علمه، والقول بالبداء يتضمّن الترتّب في الصدور.

والجواب أوّلاً: منع استحالة التخلّف، وثانيا: منع أنّ استحالة التخلّف يستلزم الاجتماع في الدهر، بل إنّما يستلزم كون ذاته تعالى واجب الإفضاء إلى الزمانيّات وجوبا سابقا.

الثانية: أنّ تخلّف المعلول عن العلّة التامّة محال؛ فذاته تعالى واجب الإفضاء إلى كلّ حادث وجوبا سابقا، فليس تعالى قادرا على تغيير الترتيب، والقول بالبداء يتضمّن قدرته على تغيير الترتيب.

والجواب: منع استحالة التخلّف، وأمّا منع استلزام استحالة التخلّف لعدم قدرته على تغيّر الترتيب، فمكابرة.

الثالثة: أنّ القول بالبداء لمّا اشتمل على القول بترتّب الحوادث الزمانيّة في الصدور عن فاعلها، استلزم التغيّر في علمه تعالى بالحوادث الزمانيّة؛ لأنّ العلم بأنّ الشيء سيوجد غير العلم بوجوده حين يوجد، وهو محال.

والجواب: أنّ العلم بأنّ الشيء سيوجد ليس غير العلم بوجوده حين يوجد، فإنّ الترتّب إنّما يستلزم التغيّر في المعلوم لا في العلم.

الرابعة: أنّ القول بالبداء لمّا اشتمل على قدرته تعالى على تغيير الترتيب، والتغييرُ ملزوم لانقلاب علمه تعالى جهلاً، استلزم قدرته تعالى على قلب علمه الأزلي جهلاً، وهو محال.

والجواب: منع أنّ التغيير ملزوم لانقلاب علمه تعالى جهلاً؛ بل ملزوم لكون علمه علما بترتيب آخر، وهو ليس بممتنع. وسرّه أنّ المقدّم على شيء زمانا إذا كان تابعا له، كان كالمجتمع معه، بل كالمؤخّر عنه. وقد بيّنّا تفصيل الأجوبة في محلّه في حواشينا على عدّة الاُصول.

ص: 410

الأوّل: (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى، عَنِ الْحَجَّالِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ ثَعْلَبَةَ)؛ بفتح المثلّثة، وسكون المهملة، وفتح اللام، وموحّدة.

(عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَعْيَنَ، عَنْ أَحَدِهِمَا عليهماالسلام ، قَالَ: مَا عُبِدَ)؛ بصيغة مجهول باب نصر، أو معلوم باب التفعيل.

(اللّه ُ بِشَيْءٍ مِثْلِ الْبَدَاءِ) أي مثل التصديق بالبداء والإذعان له؛ وذلك لأنّ إنكار البداء يتضمّن القول بعدم قدرته تعالى على تغيير الترتيب؛ لوجوب صدور كلّ ما صدر عنه بالوجوب السابق، وذلك يستلزم أن لا يكون اللّه تعالى مستحقّا للمحمدة، فضلاً عن العبادة وطلب الحاجة المأمور به في قوله تعالى في سورة الفرقان: «قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّى لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ»(1)؛ فالتصديق بالبداء عبادة هي أصل كلّ عبادة.

الثاني: (وَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : مَا عُظِّمَ)؛ بصيغة المجهول. وتعظيمه تعالى: الإقرار بقدرته الكاملة على كلّ شيء.

(اللّه ُ بِمِثْلِ الْبَدَاءِ) أي بمثل القول بالبداء فإنّ إنكار البداء يستلزم القول بعدم قدرته تعالى، فالقول به تعظيم هو أصل كلّ تعظيم.

الثالث: (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ وَحَفْصِ بْنِ الْبَخْتَرِيِّ)؛ بفتح الموحّدة وسكون المعجمة وفتح المثنّاة فوق ومهملة، منسوب إلى البخترة، وهي مِشْيةٌ حسنة.(2)

(وَغَيْرِهِمَا: عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ) أي أبو عبداللّه عليه السلام ، وهو كلام الراوي عنه.

(فِي هذِهِ الاْآيَةِ) في سورة الرعد:

(«يَمْحُواْ اللَّهُ مَا يَشَآءُ وَ يُثْبِتُ») أي في تفسيرها. ومجموع الآية هكذا: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِىَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّه ِ لِكُلِّ أَجَلٍ .

ص: 411


1- الفرقان (25) : 77 .
2- لسان العرب ، ج 4 ، ص 48 ؛ تاج العروس ، ج 6 ، ص 62 (بختر) .

كِتَابٌ * يَمْحُوا اللّه ُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ».(1) وهذه الآية لبيان أنّه إذا وقع الاختلاف من جهة أهل الأزواج والذرّيّة ونحو ذلك في الإمام بعد الرسول يجب الرجوع إلى اُمّ الكتاب، فإنّه يظهر به الإمام الحقّ في كلّ زمان إلى يوم القيامة.

(قَالَ) أي الراوي عنه عليه السلام ، وهو كلام ابن أبي عمير،(2) وزيادته للإشارة إلى أنّه أسقط بعضٌ الرواية، وهو ما قاله عليه السلام في التفسير.

ويحتمل أن يكون الساقط بيانَ أنّ المراد بآية وصيّ رسول، وبيانَ أنّ المراد بأجل زمان شريعة على حدة، وتلك الشرائع ستّ: شريعة آدم، وشريعة نوح، وشريعة إبراهيم، وشريعة موسى، وشريعة عيسى، وشريعة محمّد صلّى اللّه عليهم؛ وبيانَ أنّ المراد بكتاب نحو التوراة والإنجيل والقرآن، وبيانَ أنّ المراد بالمحو ما يشمل نسخ بعض أحكام اللّه تعالى، والمرادَ بالإثبات ما يشمل الإتيان بالناسخ من أحكامه تعالى، وبيانَ أنّ المراد أنّ اُمّ الكتاب محفوظٌ عنده؛ أي لا يتعلّق به نسخ في شريعة من شرائع الرُّسل، وهو عبارة عن المحكمات الناهية عن اتّباع الظنّ والاختلاف بالاجتهادات الظنّيّة، كما في سورة آل عمران: «هُوَ الَّذِى أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ»(3) ومضى بيانه في شرح ثاني عشر أوّل «كتاب العقل».

وقد يُطلق اُمّ الكتاب على قاطبة ظرف نفس الأمر؛ أي ظرف ثبوت محكيّ كلّ قضيّة حقّة، وكلّ معدوم في الخارج، ويجيء بيانه إن شاء اللّه تعالى في «كتاب الحجّة» في شرح ثالث الرابع والأربعين، وهو «باب أنّ الأئمّة عليهم السلام يعلمون جميع العلوم التي خرجت إلى الملائكة والأنبياء والرسل عليهم السلام ».

(فَقَالَ) أي أبو عبداللّه عليه السلام وهو كلام الراوي عنه. .

ص: 412


1- الرعد (13) : 38 _ 39 .
2- المراجع لصدر الرواية يرى أنّ الراوي مباشرة عن الإمام عليه السلام هشام بن سالم وحفص بن البختري وغيرهما ، لا ابن أبي عمير .
3- آل عمران (3) : 7 .

(وَهَلْ يُمْحى)؛ بصيغة مجهول باب نصر.

(إِلاَّ مَا كَانَ ثَابِتا؟) أي موجودا.

(وَهَلْ يُثْبَتُ)؛ بصيغة مجهول باب الإفعال. والإثبات: التكوين.

(إِلاَّ مَا لَمْ يَكُنْ؟) أي إلاّ غير الموجود قبله.

وحاصله أنّ الآية دالّة على تجدّد آثاره تعالى باعتبار صدورها عنه، وأنّ ذلك التجدّد بمشيئته وقدرته، وبعلمه المحيط بحسن كلّ حَسَن، وقبح كلّ قبيح.

الرابع: (عَلِيٌّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ: مَا بَعَثَ اللّه ُ نَبِيّا حَتّى يَأْخُذَ عَلَيْهِ ثَلاَثَ خِصَالٍ). يُقال: أخذه عليه: إذا شرطه عليه. والخصلة بفتح المعجمة وسكون المهملة: الصفة الجميلة.

(الاْءِقْرَارَ)؛ بالنصب، أي التصديق والإذعان، وهو الخضوع والانقياد والطوع للشيء.

(بِالْعُبُودِيَّةِ(1))؛ بضمّ المهملة [و] الموحّدة وسكون الواو وكسر المهملة وشدّ الخاتمة: الخشوع والذلّ عند اللّه تعالى.

(وَخَلْعِ)؛ بالجرّ عطف على «العبوديّة»، يُقال: خلع زيد ثوبه كمنع خلعا بفتح المعجمة وسكون اللام، أي نزع. والمراد الإقرار بخلع اللّه تعالى.

(الاْءَنْدَادِ)؛ جمع «ندّ» بكسر النون، وهو المِثْل.

والخلع هنا يحتمل معنيين: الأوّل: أن يكون مجازا عن أنّه ليس له تعالى ندّ. الثاني: نهيه تعالى عن أن يعبد غيره فيجعل ندّا له.

وعطف «خلع» على «الإقرار» وجعله صفة للعبد أي الكفر بالأنداد، لا يلائم قوله:

(وَأَنَّ اللّه َ)؛ فإنّه معطوف على العبوديّة.

(يُقَدِّمُ مَا يَشَاءُ ، وَيُوءَخِّرُ مَا يَشَاءُ) أي إن شاء قدّم المؤخَّر وأخّر المقدَّم. ولم يخرج الحوادث بمجرّد علمه بالمصلحة في الترتيب والنظام الذي دبّر الأشياء عليه عن قدرته تعالى على تغيير الترتيب، كما يجيء فيما قبل آخر «باب طينة المؤمن والكافر» .

ص: 413


1- في الكافي المطبوع : «له بالعبوديّة» .

من «كتاب الإيمان والكفر». وذلك لأنّ الوجوب بالنسبة إلى العلم والتدبير وجوب لاحق، لا سابق؛ فهذا يدلّ على تجدّد الحوادث باعتبار صدوره عنه مع قدرته، وإلاّ لم يكن قادرا على تغيير الترتيب.

وفي بعض النسخ «من يشاء» بدل «ما يشاء» في الموضعين، وهو كقوله تعالى: «تُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ»(1)الأنعام (6) : 2 .(2). وينبغي إرجاعه في هذا المقام إلى ما يناسب ما ذكرنا.

إن قلت: يجيء في «كتاب الحجّة» في الثالث والعشرين من «مولد النبيّ صلى الله عليه و آله » من أبواب التاريخ: «أنّ عبد المطّلب أوّل من قال بالبداء».(3)

قلت: لعلّ المراد أنّه أوّل من استعمل هذه اللفظة في غير معناها اللغوي، أي في اللّه تعالى؛ أو أوّل من عرفه بدون توقيف.

الخامس: (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ فَضَّالٍ، عَنِ ابْنِ بُكَيْرٍ، عَنْ زُرَارَةَ، عَنْ حُمْرَانَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ، قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ قَوْلِ اللّه ِ عَزَّ وَجَلَّ ) في سورة الأنعام:

(«قَضَىآ أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ»(3)؟ قَالَ : هُمَا أَجَلاَنِ: أَجَلٌ مَحْتُومٌ، وَأَجَلٌ مَوْقُوفٌ). الأجل: عمر الإنسان ونحوه.

والمراد أنّ الأوّل محتوم؛ لأنّه قضى، وإذا قضى اللّه شيئا أمضاه، فلم يبق له تعالى فيه البداء وصار مبرما، كما يجيء في آخر الباب وذلك لأنّه لمن مضى، والقدرة على ما مضى غير معقول.

والثانيَ موقوف؛ لأنّه لمن بقي ولمن يأتي. والمراد بالموقوف ما لم يُقض بعدُ، ولكنّه مسمّى، أي معيّن في علم اللّه أنّه سيقع، وما لم يقع بعدُ لم يخرج عن القدرة. و«مسمّى» وصفٌ للمبتدأ النكرة، والظرف خبر، أو خبرٌ والظرف متعلّق به.

والمقصود أنّ الفرق بين الأجلين بذلك يدلّ على البداء، وإلاّ فكلّ من الأجلين محتوم. .

ص: 414


1- آل عمران
2- : 26 .
3- الكافي ، ج 1 ، ص 447 ، ح 23 .

السادس: (أَحْمَدُ بْنُ مِهْرَانَ، عَنْ عَبْدِ الْعَظِيمِ بْنِ عَبْدِ اللّه ِ الْحَسَنِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَسْبَاطٍ، عَنْ خَلَفِ بْنِ حَمَّادٍ، عَنِ ابْنِ مُسْكَانَ، عَنْ مَالِكٍ الْجُهَنِيِّ)(1)؛ نسبةً إلى جهينة _ بضمّ الجيم وفتح الهاء _ : قبيلة.(2)

(قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام عَنْ قَوْلِ اللّه ِ عَزَّ وَجَلَّ: أَوَ لَمْ يَرَ الاْءِنسَ_نُ أَنَّا خَلَقْنَ_هُ مِن قَبْلُ وَ لَمْ يَكُ شَيْ_ءًا). في سورة مريم: «أَوَلاَ يَذْكُرُ الاْءِنسَانُ»(3)؛ فهذا نقل بالمعنى، أو قراءة غير مشهورة.

(فَقَالَ:(4) لاَ مُقَدَّرا وَلاَ مُكَوَّنا). ظاهر تقديم نفي التقدير على نفي التكوين أنّ المراد بالتقدير ما هو حين تمام أعضائه وشقّ سمعه وبصره ونحو ذلك ممّا هو قُبَيْلَ نفخ الروح فيه، وأنّ المراد بالتكوين جعله في قرارٍ مكين حين كونه نطفة.

(قَالَ: وَسَأَلْتُهُ عَنْ قَوْلِهِ : «هَلْ أَتَى عَلَى الاْءِنسَ_نِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْ_ءًا مَّذْكُورًا»(5) فَقَالَ: كَانَ مُقَدَّرا غَيْرَ مَذْكُورٍ). يعني أنّ النفي راجع إلى القيد، والاستفهام للتقرير، فيرجع إلى معنى «قد».

والمراد بالمذكور الذي ينسب إليه فعل، فكونه مذكورا إنّما هو بعد نفخ الروح فيه، وظهور حركاته في الرحم لاُمّه.

دلالة هذا الحديث على البداء باعتبار دلالته على أنّ بالنسبة إليه تعالى حالاً وماضيا ومستقبلاً، ودلالته على صدور خلق الإنسان عنه بعد أن لم يكن شيئا بتكوينه ثمّ تقديره ثمّ جعله مذكورا بنفخ الروح فيه مترتّبا باعتبار الصدور عنه تعالى.1.

ص: 415


1- هو مالك بن أعين الجهني ، ترجمته في نقد الرجال ، ج 4 ، ص 79 ، الرقم 4315 ؛ معجم رجال الحديث ، ج 15 ، ص 161 ، الرقم 9816 .
2- مجمع البحرين ، ج 1 ، ص 571 .
3- مريم (19) : 67 .
4- في الكافي المطبوع : «قال : فقال» .
5- الإنسان (76): 1.

السابع: (مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ شَاذَانَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عِيسى، عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ عَبْدِ اللّه ِ، عَنِ الْفُضَيْلِ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عليه السلام يَقُولُ: الْعِلْمُ عِلْمَانِ: فَعِلْمٌ)؛ الفاء للتفصيل.

(عِنْدَ اللّه ِ مَخْزُونٌ لَمْ يُطْلِعْ)؛ من باب الإفعال.

(عَلَيْهِ أَحَدا مِنْ خَلْقِهِ؛ وَعِلْمٌ عَلَّمَهُ)؛ من باب التفعيل.

(مَلاَئِكَتَهُ وَرُسُلَهُ) أي بحيث لا يكون فيه احتمال تعليقٍ بشرط ونحوه، فإنّه ينافي علمهم.

(فَمَا عَلَّمَهُ مَلاَئِكَتَهُ وَرُسُلَهُ فَإِنَّهُ سَيَكُونُ) أي على وفق اعتقادهم.

(لاَ يُكَذِّبُ)؛ من باب التفعيل.

(نَفْسَهُ) في إخباره للملائكة.

(وَلاَ مَلاَئِكَتَهُ) في تبليغهم إلى الأنبياء.

(وَلاَ رُسُلَهُ) في تبليغهم إلى الناس.

(وَعِلْمٌ عِنْدَهُ مَخْزُونٌ، يُقَدِّمُ مِنْهُ مَا يَشَاءُ) أي إن شاء قدّم المؤخّر في اعتقاد غيره.

(وَيُوءَخِّرُ(1) مَا يَشَاءُ) أي إن شاء أخّر المقدّم في اعتقاد غيره.

(وَيُثْبِتُ مَا يَشَاءُ) أي إن شاء أوجد ما اعتقد غيرُه أنّه لا يوجده. وليس المقصود الفرق بين العلمين بخروج المعلوم الأوّل عن قدرته تعالى وعن أن يكون له فيه البداء،دون الثاني؛ بل المقصود أنّه لا يقبح عنه تعالى أن يخالف اعتقاد غيره في الثاني، دون الأوّل؛ فإنّ المخالفة فيه قبيح.

ودلالة الحديث على البداء باعتبار دلالته على أنّ كلاًّ من التقديم والتأخير والإيجاد متجدّد باعتبار صدوره عنه تعالى، لأنّه لم يخرج بعدُ عن قدرته تعالى، وإن كان قبيحا في الأوّل دون الثاني. وسيجيء في ثاني «باب نادر فيه ذكر الغيب» من «كتاب الحجّة»(2) ما يوافق هذا.2.

ص: 416


1- في الكافي المطبوع : + «منه» .
2- الكافي، ج 1، ص 333، باب نادر في حال الغيبة، ح 2.

الثامن: (وَبِهذَا الاْءِسْنَادِ، عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ رِبْعِيٍّ، عَنِ الْفُضَيْلِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عليه السلام يَقُولُ: مِنَ الاْءُمُورِ أُمُورٌ مَوْقُوفَةٌ عِنْدَ اللّه ِ) أي لم يطلع عليها أحدا من خلقه.

(يُقَدِّمُ مِنْهَا مَا يَشَاءُ) أي إن شاء قدّم المؤخّر باعتقاد غيره.

(وَيُوءَخِّرُ مِنْهَا مَا يَشَاءُ) أي إن شاء أخّر المقدّم باعتقاد غيره. والمعنى أنّه لا يقبح منه تعالى ذلك التقديم والتأخير.

ودلالة الحديث على البداء كما مرّ في سابع الباب.

ويحتمل أن يكون المراد بالموقوفة ما لم يقع بعدُ، وبمقابلها الواقعةَ المقضيّة. ودلالة الحديث على البداء حينئذٍ كما مرّ في خامس الباب.

التاسع: (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ سَمَاعَةَ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ،(1) عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ: إِنَّ لِلّهِ عِلْمَيْنِ) أي قسمين من العلم:

(عِلْمٌ مَكْنُونٌ مَخْزُونٌ لاَ يَعْلَمُهُ إِلاَّ هُوَ)، كالعلم بسرّ اللّه تعالى في القدر، فإنّه وردت روايات كثيرة بأنّ القدر سرٌّ من سرّ اللّه لا يطّلع عليه إلاّ اللّه الواحد الفرد.(2)

(مِنْ ذلِكَ يَكُونُ الْبَدَاءُ). «من» سببيّة، يعني تجدّدُ الفعل بعد الفعل من اللّه بقدرته وتدبيره بعد ما لم يعلمه أحد غيره، ليس مستندا إلاّ إلى ذلك العلم.

(وَعِلْمٌ عَلَّمَهُ مَلاَئِكَتَهُ وَرُسُلَهُ وَأَنْبِيَاءَهُ، فَنَحْنُ نَعْلَمُهُ). يعني لا يكون بداؤه تعالى مستندا إلى هذا القسم من العلم.

وكأنّ هذا إشارة إلى أنّه يمكن أن يعتقد الملائكة والرُّسل والأنبياء والأوصياء بدون توقيفٍ أنّه سيقع كذا ولا يقع، ويجوز أن يخبروا بوقوعه بدون الاستناد إلى التوقيف بحيث لا يلزم منه القول على اللّه بغير علم، كالخبر بمجيء زيد من السفر غدا ولا يقع أي لا يقضي اللّه تعالى وقوعه في الغد. .

ص: 417


1- في الكافي المطبوع : + «ووهيب بن حفص عن أبي بصير» .
2- التوحيد ، ص 383 ، باب القضاء والقدر و . . . ، ح 32 ؛ بحار الأنوار ، ج 5 ، ص 97 ، ح 23 .

وقد نقل أمثال ذلك عن الأنبياء، كما يجيء في «كتاب الزكاة» في ثالث «باب أنّ الصدقة تدفع البلاء» أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال: «إنّ هذا اليهودي يَعَضُّه أسودُ في قفاه فيقتله، ثمّ لم يقع، ففتّش عن حطب كان على كتفه، فإذا أسود عاضّ على عود».(1)

وكذلك كان اعتقاد الملائكة أنّ اللّه تعالى ليس بجاعل في الأرض خليفة، فلمّا أخبر اللّه تعالى بذلك قالوا: «أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ»(2) الآية في سورة البقرة، وسيجيء الفرق بين الرسول والنبيّ في «كتاب الحجّة» في «باب طبقات الأنبياء والرسل والأئمّة عليهم السلام ».(3)

العاشر: (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ عَبْدِ اللّه ِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ: مَا بَدَا لِلّهِ فِي شَيْءٍ). الضمير المستتر في «بدا» راجع إلى المصدر بنوع من المجاز، نظير: جدَّ جدّه، ونظير: حيل بين العير والنزوان؛(4) أي ما وقع بداء للّه تعالى في شيء.

(إِلاَّ كَانَ). الضمير المستتر راجع إلى مصدر «بدا» أو إلى «شيء».

(فِي عِلْمِهِ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ لَهُ).

هذا ردّ على من توهّم من لفظ البداء أنّ نسبته إلى اللّه تعالى نسبة بداء ندامة، تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا؛ وعلى اليهود حيث زعموا أنّ اللّه ندم على خلق بني آدم فأرسل إليهم الطوفان، ثمّ ندم على الطوفان؛ أو ردّ على من زعم أنّه تعالى لا يعلم الجزئيّات إلاّ حين وقوعها، وأمّا قبل الوقوع فلا يعلم إلاّ المهيّة،(5) كما يجيء في سابع عشر الباب. .

ص: 418


1- الكافي ، ج 4 ، ص 5 ، ح 3 مع اختلاف يسير .
2- البقرة (2) : 30 .
3- الكافي ، ج 1 ، ص 174 .
4- تقدّم توضيحه .
5- في حاشية «أ» : «لعلّه الفخر الرازي في المحصّل (منه)». اُنظر المحصّل ، ص 483 ؛ تفسير الرازي ، ج 2 ، ص 158 ؛ معارج الفهم ، ص 283 .

الحادي عشر: (عَنْهُ، عَنْ أَحْمَدَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ فَضَّالٍ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ فَرْقَدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ الْجُهَنِيِّ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ: إِنَّ اللّه َ لَمْ يَبْدُ لَهُ مِنْ جَهْلٍ).

ردٌّ على من توهّم أنّ نسبة البداء إليه تعالى نسبة بداء ندامة، وعلى من نسب الندامة إليه تعالى.

الثاني عشر: (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى، عَنْ يُونُسَ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ حَازِمٍ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : هَلْ يَكُونُ الْيَوْمَ شَيْءٌ لَمْ يَكُنْ فِي عِلْمِ اللّه ِ بِالاْءَمْسِ؟ قَالَ: لاَ) أي لا يكون.

(مَنْ قَالَ هذَا). يحتمل أن يكون الإشارة إشارةً إلى أن يكون اليوم شيء لم يكن في علم اللّه ، وأن يكون إشارةً إلى مبنى السؤال؛ كأنّه عليه السلام علم أنّ سؤاله هذا مبنيّ على نسبة المخالفين إلينا إنّا قائلون ببداء الندامة.

(فَأَخْزَاهُ اللّه ُ) أي أذلّه وفضحه.

(قُلْتُ: أَ رَأَيْتَ). لمّا كان السؤال الأوّل مختصّا بمثال، أراد السؤال صريحا عن العامّ.

(مَا كَانَ وَمَا هُوَ كَائِنٌ إِلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَ لَيْسَ فِي عِلْمِ اللّه ِ؟). إن اُريد بيوم القيامة الزمان المخصوص، فيحتمل أن يكون سؤاله سؤالاً عن كلّ واحد من الكائنات وعن مجموعها؛ وإن اُريد به الزمان الغير المتناهي وقد يستعمل فيه عرفا، فالسؤال إنّما هو عن كلّ واحد؛ لأنّ غير المتناهي الموجود في نفسه في الخارج لا مجموع له، بمعنى أنّه ليس لمفهوم المجموع فيه فرد حقيقي. وتحقيقه في محلّ آخر.

(قَالَ: بَلى، قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْخَلْقَ). أي المخلوق.

الثالث عشر: (عَلِيٌّ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنْ مَالِكٍ الْجُهَنِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام يَقُولُ: لَوْ عَلِمَ النَّاسُ مَا فِي الْقَوْلِ بِالْبَدَاءِ مِنَ الاْءَجْرِ). مضى في أوّل الباب وثانيه.

(مَا فَتَرُوا). «ما» نافية. والفترة والفتور: الانكسار والضعف، وفتر كنصر. وذلك لأنّ كلّ عمل تكثر الدواعي إليه وتقوى لا يحصل لفاعله فيه فتور وإن شقّ.

ص: 419

(عَنِ). لتضمين الفتور معنى العدول.

(الْكَلاَمِ فِيهِ).

الرابع عشر: (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو الْكُوفِيِّ أَخِي يَحْيى، عَنْ مُرَازِمِ بْنِ حَكِيمٍ)؛ بفتح المهملة.

(قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام يَقُولُ: مَا)؛ نافية.

(تَنَبَّأَ)؛ بالهمز، أي صار نبيّا. ويُقال أيضا: تنبّأ مسيلمة، أي تكلّف النبوّة.

(نَبِيءٌ(1))؛ بالهمز لغة أهل مكّة، وشدّ الياء لغة سائر العرب.(2)

(قَطُّ)؛ بفتح القاف وشدّ المهملة مبنيّةً على الضمّ، ظرف زمان لاستغراق ما مضى بالنفي، وبُنيت لتضمّنها معنى «مذ» و«إلى» و«إذ». المعنى: مذ خلق العالم إلى الآن، وبناؤها على حركة لئلاّ يلتقي الساكنان، وكانت الضمّةَ تشبيها بالغايات، وقد تكسر على أصل التقاء الساكنين، وقد يتبع قافُه طاءه في الضمّ، وقد يخفّف طاؤه مع ضمّها أو إسكانها.(3)

(حَتّى يُقِرَّ لِلّهِ بِخَمْسٍ(4): بِالْبَدَاءِ). وهذا ردّ على اليهود والفلاسفة وبعض المتكلّمين كما مرّ في الباب.

(وَالْمَشِيئَةِ)؛ بفتح الميم وكسر المعجمة وسكون الخاتمة والهمز، ويجوز قلب الهمزة والإدغام؛ أي وبأنّه لا يجري في ملكه من طاعة أو عصيان إلاّ ما شاء، فما شاء اللّه كان، وما لم يشأ لم يكن.

وهذا ردّ على المجوس والمعتزلة حيث قالوا: إنّ المعصية ليست بمشيئة اللّه ، أي إنّه ليس في مقدوره تعالى من اللطف ما لو فعله بالعاصي لأطاع.(5) .

ص: 420


1- في الكافي المطبوع : «نَبِيٌّ» .
2- النهاية ، ج 5 ، ص 3 (نبأ) .
3- عمدة القارى ء ، ج 1 ، ص 53 .
4- في الكافي المطبوع : + «خصال» .
5- المغني في أبواب العدل والتوحيد ، ص 218 ؛ شرح الاُصول الخمسه ، ص 316. و حكاه عن المعتزلة العلاّمة في معارج الفهم ، ص 413 .

وسيجيء تحقيقه في أوّل «باب في أنّه لا يكون شيء في الأرض ولا في السماء إلاّ بسبعة».

(وَالسُّجُودِ) أي وبأنّه يسجد له ما في السماوات والأرض؛ أي ينقاد، وقدرته نافذة في جميعه.

وهذا ردّ على الفلاسفة حيث قالوا: إنّ الأفلاك غير قابلة للخرق والالتئام.(1)

وعلى المعتزلة حيث قالوا: إنّ قدرة العبد على فعل في وقت تتقدّم على هذا الوقت، فالعبد مستقلّ بالقدرة، وليس فعله موقوفا على الإذن من اللّه .(2) وسيجيء تحقيق هذا أيضا في أوّل «باب في أنّه لا يكون» إلى آخره.

وعلى بعض المعتزلة حيث قال: إنّه تعالى ليس قادرا على شخص مقدور العبد،(3) وبعضهم قال: لا يقدر على مثل مقدور العبد أيضا.(4)

(وَالْعُبُودِيَّةِ)؛ بضمّ المهملة والموحّدة وسكون الواو وكسر المهملة وشدّ الخاتمة، أي وبأنّ الخلائق جميعهم عبادُ اللّه .

وهذا ردّ على النصارى حيث قالوا في عيسى عليه السلام : إنّه ابن اللّه ، فقال تعالى: «لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدا للّه ِِ»(5).

(وَالطَّاعَةِ) أي وبأنّه لا يسقط التكليف عن أحد لكمال، بل تكليف الأنبياء بطاعتهم وتحمّل أعباء النبوّة كان أعظم، ثمّ الأوصياء ثمّ الأمثل فالأمثل. .

ص: 421


1- حكاه الرازي في تفسيره ، ج 22 ، ص 167 عن جمهور الفلاسفة وأصحاب الهيئة ، ومثله حكى المجلسي في بحار الأنوار ، ج 55 ، ص 129 .
2- شرح الاُصول الخمسة ، ص 390 . وحكاه عنهم السيّد المرتضى في الذخيرة في علم الكلام ، ص 88 ؛ وشرح جمل العلم والعمل ، ص 97 ؛ والشيخ الطوسي في الاقتصاد فيما يتعلّق بالاعتقاد ، ص 104 ؛ والعلاّمة في نهج الحقّ ، ص 129 .
3- حكاه العلاّمة في معارج الفهم، ص 255 عن جماعة من المعتزلة.
4- حكاه العلاّمة في معارج الفهم ، ص 254 عن البلخي . وانظر المواقف ، ص 283 ؛ وشرح المواقف ، ج 8 ، ص 60 .
5- النساء (4) : 172 .

وهذا ردّ على بعض الصوفيّة حيث قالوا: إنّ الأعمال الشرعيّة ساقطة عن الكاملين، فإنّها بمنزلة أعمال أهل الكيمياء، إنّما يحتاج إليها النحّاس ما لم يصر ذهبا، وبمنزلة معالجات الأطبّاء للمرضى، إنّما يحتاج إليها المريض ما لم يصر صحيحا.

وليس لهم استدلال على عقائدهم إلاّ بالشعريات.

الخامس عشر: (وَبِهذَا الاْءِسْنَادِ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنْ جَهْمِ بْنِ أَبِي جَهْمَةَ)؛ بفتح الجيم وسكون الهاء.

وفي كتاب الرجال: «ابن أبي جهم» بدون الهاء أخيرا.(1)

وفي النجاشي: «جهيم بن أبي جهيم، ويُقال: ابن أبي جهيمة».(2)

(عَمَّنْ حَدَّثَهُ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ: إِنَّ اللّه َ _ عَزَّ وَجَلَّ _ أَخْبَرَ مُحَمَّدا صلى الله عليه و آله بِمَا كَانَ مُنْذُ كَانَتِ الدُّنْيَا).

«مذ» و«منذ» قد تليهما الجملة الفعليّة أو الاسميّة، والمشهور أنّهما حينئذٍ ظرفان مضافان قيل إلى الجملة، وقيل: إلى زمن مضاف إلى الجملة، وقيل: مبتدآن، فيجب تقدير زمن مضاف للجملة يكون هو الخبر.(3)

(وَبِمَا يَكُونُ إِلَى انْقِضَاءِ الدُّنْيَا، وَأَخْبَرَهُ بِالْمَحْتُومِ)؛ بالمهملة؛(4) من حتمه كضربه: إذا أوجبه عليه. والحتم أيضا إحكام الأمر، والحتم أيضا القضاء الذي لا اختيار للخلق في مقضيّه.

(مِنْ ذلِكَ). الإشارة إلى مجموع ما كان ويكون، والمحتوم منه ما كان؛ لأنّه مضى، فليس للّه تعالى فيه البداء، فهو كالواجب الذي فاعله مجبور فيه، أو الإشارة إلى ما .

ص: 422


1- رجال الطوسي ، ص 333 ، الرقم 3 .
2- رجال النجاشي ، ص 132 ، الرقم 338 . وفيه: «جهيم بن أبي جهم ويقال : ابن أبي جهمة». وانظر معجم رجال الحديث ، ج 5 ، ص 153 .
3- مغني اللبيب ، ج 1 ، ص 336 (منذ ، مذ). وانظر القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 359 (مذ) .
4- في «أ» : «المهملة» .

يكون، ويرجع إلى مضمون تاسع الباب.

(وَاسْتَثْنى)؛ بصيغة المعلوم، وفيه ضمير اللّه .

(عَلَيْهِ) أي على محمّد صلى الله عليه و آله .

(فِيمَا سِوَاهُ). الضمير للمحتوم، ومعنى الاستثناء بيان أنّه ليس محتوما، بل بمشيّتي، إن شئت خلقت، وإن لم أشأ لم أخلق.

واستعمال «على» هنا للدلالة على أنّه أخذ منه الإقرار بذلك، وشرطه(1) عليه.

وهذا الاستثناء يدلّ على البداء، أي ترتّب الأشياء باعتبار الصدور عنه تعالى بالقدرة.

السادس عشر: (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّيَّانِ)؛ بفتح المهملة، وشدّ الخاتمة.

(بْنِ الصَّلْتِ)؛ بفتح المهملة، وسكون اللام، والمثنّاة.

(قَالَ: سَمِعْتُ الرِّضَا عليه السلام يَقُولُ: مَا بَعَثَ اللّه ُ نَبِيّا قَطُّ إِلاَّ بِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ). ردٌّ على المخالفين حيث قالوا: إنّ الخمر كان في شرع موسى حلالاً، وكأنّه ردّ عليهم أيضا في قولهم: إنّ الخمر كان في صدر الإسلام حلالاً ثمّ نسخ، وينقلون في ذلك حكايات.(2)

(وَأَنْ يُقِرَّ لِلّهِ بِالْبَدَاءِ). ظاهر ممّا سبق في الباب من الأحاديث.

السابع عشر: (الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُعَلَّى)؛ بضمّ الميم، وفتح المهملة، وشدّ اللام المفتوحة.

(بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: سُئِلَ الْعَالِمُ عليه السلام ). المراد صاحب الزمان عليه السلام بتوسّط أحد السفراء، أو بلا توسّط، أو الحديث مرسل بناءً على أنّ «معلّى» ممّن لم يرو عن أحد من الأئمّة عليهم السلام أي بلا واسطة. .

ص: 423


1- في «ج» : «وشرط» .
2- اُنظر تفسير مقاتل بن سليمان ، ج 1 ، ص 319 ، ذيل الآية 90 من سورة المائدة ؛ جامع البيان للطبري ، ج 2 ، ص 491 ؛ وج 7 ، ص 45 ؛ تفسير أبي حاتم الرازي ، ج 2 ، ص 389 .

(كَيْفَ عَلِمَ اللّه ُ؟(1))؛ بصيغة الماضي المعلوم المجرّد؛ أي كيف علم اللّه الأشياء قبل خلقها.

ويحتمل أن يكون مصدرا مضافا إلى الفاعل، كأنّه اختلج في ذهن السائل بعض شبه المنكرين للبداء له تعالى، وقد مضت في الباب مع أجوبتها.

ويحتمل أن يكون المختلج في ذهن السائل شبهة المنكرين لعلمه تعالى بالجزئيّات الحوادث، وهي أنّه يستلزم أن يكون مجبورا في خلقها، فإنّ القدرة ملزومة لجواز عدم وقوع المقدور، والعلم ملزوم لوجوب وقوع المعلوم، فإنّه لو جاز عدم وقوع المعلوم لزم أن يكون العلم جهلاً، وتنافي اللوازم يستلزم تنافي الملزومات.(2)

والجواب منع قولهم: إنّه لو جاز عدم وقوع المعلوم لزم أن يكون العلم جهلاً، مستندا بالفرق بين الجواز المقابل للوجوب السابق والامتناع السابق، والجوازِ المقابل للوجوب اللاحق والامتناع اللاحق. ومعنى الوجوب السابق وجوب الشيء بالنسبة إلى ما يتوقّف ذلك الشيء عليه، ومعنى الامتناع السابق امتناع الشيء لعدم ما يتوقّف ذلك الشيء عليه، ومعنى الوجوب اللاحق وجوب الشيء بالنسبة إلى تابعه، أو إذا أخذ بشرط تحقّقه. ويسمّى القسم الثاني من الوجوب اللاحق وجوبا بشرط المحمول، ومعنى الامتناع اللاحق امتناع الشيء لأجل تابع عدمه.

وأجاب عليه السلام بتحقيق الحقّ بحيث يعلم منه إجمالاً الإشارة إلى منع مقدّماتهم، فإنّ قوله عليه السلام هو الحجّة والبرهان، ولا يبقى معه شيء من الشبه التي لم تورث ظنّا فضلاً عن العلم، إنّما أورثت معارضة وهميّة.

(قَالَ: عَلِمَ)؛ بصيغة المعلوم المجرّد، أي علم كلّ جزئي من جزئيّات الحوادث قبل وقوعه، وجميع وجوه المصالح والمفاسد فيه.

(وَشَاءَ، وَأَرَادَ وَقَدَّرَ، وَقَضى وَأَمْضى ). المقصود أنّ قدرته تعالى على خلق ما خلق لا يرتفع بعلمه به، ولا بمجموع علمه به ومشيّته، ولا بمجموع الاثنين وإرادته له، ولا .

ص: 424


1- في الكافي المطبوع : «عِلْمُ اللّه ِ» بالمصدر المضاف إلى الفاعل .
2- اُنظر المواقف للإيجي ، ج 3 ، ص 11 و 21 و 103 ؛ قواعد المرام لابن ميثم ، ص 98 . وحكاه عن الحكماء العلاّمة في النافع يوم الحشر ، ص 39 ؛ وكشف المراد ، ص 400 ، تحقيق الآملي ؛ وفي طبعة تحقيق الزنجاني ، ص 311 .

بمجموع الثلاثة وتقديره له، ولا بمجموع الأربعة وقضائه له؛ إنّما يرتفع إذا انضمّ إلى هذا المجموع إمضاؤه له؛ لأنّ القدرة بمعنى صحّة الفعل والترك لا تتعلّق بالمحال من حيث إنّه محال، والإمضاء يجعل الشيء ماضيا، ورفع الشيء الواقع في الزمان الماضي عن الزمان الماضي محال بالذات.

واعلم أنّ جوابه عليه السلام في ضمن مثال هو خلقه تعالى الأرض وما فيها من الإنسان وسائر الحيوانات وغير ذلك، وبيّن أنّ خلقها في أربع نوبات، وبيّن أنّ اليوم الأوّل يوم المشيّة، واليوم الثاني يوم الإرادة، واليوم الثالث يوم التقدير، واليوم الرابع يوم القضاء، وبيّن أنّ بقاء هذا النظام في الأرض إمضاء، وهو متأخّر عن أصل خلقها، وخارج عن الأيّام الأربعة.

وتوضيح ذلك: أنّ لكلّ فاعل مختار في فعله مشيّةً وإرادةً، وتقديرا وقضاءً.

والمشيّة في أصل اللغة من شاءه: إذا مال إلى كونه شيئا إمّا بجعله شيئا، وإمّا بتسبيب سبب يفضي إلى شيئيّته مع العلم بالإفضاء، وإمّا بغير ذلك؛ فهي تدبير متعلّق بشيء من حيث إنّه شيء.(1)

والإرادة في أصل اللغة من أراده: إذا شاء ورجّحه على بدله، ومنها الارتياد، أي طلب الأحرى، فهي مركّبة مفهوما من المشيّة وقيدٍ هو الترجيح على البدل، فحدّها أنّها نوع ترجيح لوقوع أحد أمرين بينهما بدليّة على وقوع الآخر لداع.(2)

والتقدير في أصل اللغة من قدّره: إذا أراده وعيَّن قَدَرهُ من طول وعرض ونحوهما؛ فهو مركّب مفهوما من الإرادة وقيدٍ هو تعيين القدر.(3)

والقضاء في أصل اللغة من قضاه: إذا دبّره من جميع الوجوه الميسّرة له، وختمه أي جعله بحيث لا يحتاج إلى عود إلى تدبيره وتجديد تدبير آخر له، فهو مركّب مفهوما .

ص: 425


1- النهاية ، ج 2 ، ص 517 ؛ لسان العرب ، ج 1 ، ص 103 (شيئا) ؛ الفروق اللغوية ، ص 35 ، الفرق بين الإرادة والمشيئة .
2- الصحاح ، ج 2 ، ص 478 ؛ الفروق اللغويّة ، ص 35 ، الفرق بين الإرادة والمشيئة .
3- الفروق اللغويّة ، ص 38 و 422 ، الفرق بين القدر والقضاء ؛ معجم مقاييس اللغة ، ج 5 ، ص 62 .

من التقدير وقيدٍ هو الختم.(1) ويتصادق هذه المفهومات الأربعة في فعل لم يتقدّمه مفض إليه لولاه لم يتحقّق هذا الفعل، أو تقدّمه ولم يلاحظ المقدّم.

ولذا فسّر أهل اللغة كلاًّ من المشيئة والإرادة بالاُخرى، ويتصادق بعضها في فعل تقدّمه مفض أو مفضيان، أو لوحظ ذلك فقط، وتتفارق فيما تقدّمه اُمور كلّ واحدٍ منها مفض إليه لولاها لم يتحقّق.

ولوحظ ذلك إلى أقسام أربعة؛ لأنّ الاُمور إمّا اُمور مقدّمة زمانا على الفعل، وإمّا مجتمعة معه زمانا، والمقدّمة المتعدّدة لها أوّل وآخِر ووسط، فتخصّص أوّلها بلفظ المشيّة؛ لأنّها أبسط مفهوما، فيناسب تخصيصها بالأوّل، وتخصّص الوسط بلفظ الإرادة؛ لأنّها أبسط مفهوما بعد المشيّة، وتخصّص الآخر بلفظ التقدير؛ لأنّه أبسط مفهوما بعد الإرادة، وتخصّص المجتمع مع الفعل بلفظ القضاء؛ لأنّه أشدّ تركيبا، وفيه الختم، فيناسب تخصيصه بالآخر.

ولعلّ هذه التخصيصات مَجازات لغةً.

إن قلت: إذا كان القدر والقضاء متلازمين، فما معنى ما روى ابن بابويه في كتاب التوحيد في «باب القضاء والقدر» عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «أفرّ من قضاء اللّه إلى قدر اللّه عزّ وجلّ» حين عدل من عند حائط مائل إلى حائطٍ آخر، فقيل له: يا أمير المؤمنين أتفرّ من قضاء اللّه ؟(2)

قلت: إنّما تلازمهما إذا تعلّقا بشيءٍ واحد.

ومعنى الحديث: أفرّ الآنَ من أن يقضى عَلَيَّ بعد الآنَ _ أي في وقت الفعل _ سقوطُ الحائط عليَّ إلى أن يقدّر لي الآنَ _ أي قبل وقت الفعل _ عدمُ سقوطه عَلَيَّ في وقت الفعل. وهذا بيان أنّ القدر والقضاء من اللّه تعالى لا يوجب جبر العبد على أفعاله الاختياريّة كما سنفصّله في أوّل «باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين» وفي أحاديث .

ص: 426


1- الفروق اللغويّة ، ص 38 و 422 ، الفرق بين القدر والقضاء ؛ معجم مقاييس اللغة ، ج 5 ، ص 62 .
2- التوحيد ، ص 369 ، ح 8 .

«باب الاستطاعة». ويجيء في «كتاب الإيمان والكفر» في خامس «باب فضل اليقين»(1) عدمُ فراره عليه السلام من هذا وأشباهه.

وليعلم أنّ المشيّة والإرادة والتقدير والقضاء قد يتعلّق بالفعل الاختياري للغير، فتجري فيه أيضا الأقسام الأربعة باعتبار أقسام المقضيّ إليه، كما نوضحه في باب بعد هذا الباب.

بيّن عليه السلام الترتيب بين الخصال بقوله:

(فَأَمْضى مَا قَضى، وَقَضى مَا قَدَّرَ، وَقَدَّرَ مَا أَرَادَ). فيه اقتصار، فإنّ تتمّته المحذوفة: «وأراد ما شاء وشاء ما علم». والمقصود أنّه لم يتعلّق إمضاؤه وقضاؤه إلاّ بما تعلّق به علمه، والإمضاء والقضاء متعلّقان بالجزئيّات من حيث هي جزئيّات، فعلمه أيضا متعلّقٌ بها من هذه الحيثيّة.

وهذا ردّ لما توهّمه السائل من نفي العلم بالجزئيّات من حيث هي جزئيّات، ثمّ أكّد بيان الترتيب بقوله:

(فَبِعِلْمِهِ كَانَتِ الْمَشِيئَةُ، وَبِمَشِيئَتِهِ كَانَتِ الاْءِرَادَةُ، وَبِإِرَادَتِهِ كَانَ التَّقْدِيرُ، وَبِتَقْدِيرِهِ كَانَ الْقَضَاءُ ، وَبِقَضَائِهِ كَانَ الاْءِمْضَاءُ ).

الباء في المواضع للاستعانة، والمقصود أنّه لولا علمه بالجزئي من حيث إنّه جزئي،لم يتعلّق قضاؤه وإمضاؤه بالجزئي من حيث إنّه جزئي؛ ردّا لما توهّمه السائل، وذلك لأنّه لولا تعلّق علمه بالجزئي، لم تتعلّق به مشيّته، ولولا تعلّق مشيّته بالجزئي، لم تتعلّق به إرادته، ولولا تعلّق إرادته بالجزئي، لم يتعلّق به تقديره، ولولا تعلّق تقديره بالجزئي، لم يتعلّق به قضاؤه، ولولا تعلّق قضائه بالجزئي، لم يتعلّق به إمضاؤه؛ وذلك لاءنّ جعل الشيء ماضيا فعل اختياري، فإنّه لو لم يفعل في وقته لم يصر من الاُمور الماضية.

ويحتمل أن يكون المراد أنّه لولا المشيّة لم تكن إرادة أصلاً؛ لأنّ الكاشف هنا دائر مع المكشوف عنه وجودا وعدما؛ أي وقوعه يكشف عن وقوعه، وعدمه عن عدمه.5.

ص: 427


1- الكافي، ج 2، ص 58، ح 5.

ثمّ أكّد الترتيب بقوله:

(وَالْعِلْمُ) أي بالجزئي من حيث إنّه جزئي.

(مُتَقَدِّمٌ(1) الْمَشِيئَةَ، وَالْمَشِيئَةُ ثَانِيَةٌ) إمّا بلفظ تأنيثِ «ثاني» وإمّا بلفظ إضافة ثاني إلى ضمير العلم. وكذا في قوله:

(وَالاْءِرَادَةُ ثَالِثَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ وَاقِعٌ عَلَى الْقَضَاءِ). «على» نهجيّة لا بنائيّة، وإلاّ أفاد عكس الترتيب.

(بِالاْءِمْضَاءِ). ذكر الباء هنا إشارة إلى أنّ القضاء لا يمكن ذاتا انفكاكه عن إمضاء في الجملة، بخلاف المراتب الاُول، فإنّ استحالة الانفكاك بينها للعلم بالمصلحة لا ذاتا. ويوافق ذلك ما يجيء في أوّل «باب المشيّة والإرادة» من قوله عليه السلام : «إذا قضى أمضاه».

(فَلِلّهِ _ تَبَارَكَ وَتَعَالى _ الْبَدَاءُ فِيمَا عَلِمَ مَتى شَاءَ). تفريعٌ لقدرته على الجزئيّات المعلومة على الترتيب، واللام للملكيّة.

و«ما علم» عبارة عن المعلوم الذي سيقضيه ويمضيه. والبداء في المعلوم أن يتجدّد منه تعالى كاشف عن عدم وقوع المعلوم.

ومعنى «متى شاء»: حين شاء المعلوم. والمقصود أنّه قادر حين المشيّة له أن لا يشاء؛ وذلك لأنّ الوجوب بالنسبة إلى العلم وجوب لاحق، لا سابق؛ فلا ينافي القدرة على عدمه.

(وَفِيمَا أَرَادَ). فيه اقتصار، والمقصود: وفيما شاء متى أراد وفيما أراد.

(لِتَقْدِيرِ الاْءَشْيَاءِ). اللام بمعنى «عند» كقولهم: كتبته لخمس خلون من شهر كذا. والمراد لتقديره. وإنّما أضافه إلى «الأشياء» إشارة إلى أنّ ما علم مركّب من أشياء؛ لأنّ المراد به الأرض وما فيها. وفيه اقتصار، أي وفيما قدّر إذا قضى.

(فَإِذَا وَقَعَ الْقَضَاءُ بِالاْءِمْضَاءِ). فيه أيضا إشارة إلى أنّ القضاء لا ينفكّ عنه الإمضاء كما مرَّ آنفا. .

ص: 428


1- في الكافي المطبوع : + «على» .

(فَلاَ بَدَاءَ) أي لا بداء في هذا المعلوم؛ لأنّ الماضي خارج عن القدرة، بمعنى صحّة الفعل والترك.

(فَالْعِلْمُ فِي الْمَعْلُومِ(1)). «في» هنا وفي نظائره للظرفيّة المجازيّة، أي متعلّق بالمعلوم الجزئي من حيث إنّه جزئي كأنّه حاصل فيه.

(قَبْلَ كَوْنِهِ). هذا إنّما يتصحّح بالقول بثبوت المعدومات في الخارج؛ لبداهة أنّ العلم بلا شيء محضٍ محالٌ، وتفصيله في محلّه. وكأنّ في استعمال «في» الدالّةِ في الأصل على الظرفيّة ونحو من المتبوعيّة إشارةً إليه، وخبر المبتدأ الجارّ والمجرور. ويحتمل أن يكون الخبر «قبل كونه» وقس عليه قوله:

(وَالْمَشِيئَةُ فِي الْمُنْشَاَء)؛ بضمّ الميم وسكون النون وفتح المعجمة والهمز؛ أي في المشي، وإنّما عبّر عنه بالمنشأ إشارةً إلى أنّ المشيّةَ ابتداء فعل كاشف عنه، فكأنّه أحدثه حين المشيّة.

(قَبْلَ عَيْنِهِ) أي وجوده العيني، وهو حين القضاء.

(وَالاْءِرَادَةُ فِي الْمُرَادِ قَبْلَ قِيَامِهِ) أي بقائه، وهو حين الإمضاء؛ يُقال: أقام الشيء، أي أدامه؛ من قوله تعالى: «وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ».(2)

لمّا كانت الإرادة إدامةً للمشيّة وبقاءً عليها، والإمضاء إدامةً للقضاء، ناسب ذكر أنّ الإرادة قبل الإمضاء، كما ناسب أن يُقال: إنّ المشيّة قبل القضاء.

(وَالتَّقْدِيرُ لِهذِهِ الْمَعْلُومَاتِ قَبْلَ تَفْصِيلِهَا وَتَوْصِيلِهَا عِيَانا وَوَقْتا) أي قبل وجودها الخارجي؛ فإنّ المفعولات قد ينفصل بعضها عن بعض في الوجود الخارجي، إمّا بحسب المعاينة والوضع كجسم في المشرق وآخَرَ في المغرب، وإمّا بحسب الوقت كآدم ونوح؛ وقد يتّصل إمّا بحسب المعاينة والوضع كجسمين متلاصقين، وإمّا بحسب الوقت كالاُمور المجتمعة في آنٍ واحدٍ. .

ص: 429


1- في الكافي المطبوع : «بالمعلوم» .
2- البقرة (2) : 3 .

لمّا كان التقدير تعيينَ القدر والوضع _ بمعنى نسبة الأجزاء بعضها إلى بعض مكانا وزمانا باعتبار أوّل الحدوث _ ناسب ذكره مع الوضع بمعنى نسبته إلى الاُمور الخارجة مكانا وزمانا.

(وَالْقَضَاءُ بِالاْءِمْضَاءِ هُوَ الْمُبْرَمُ). ذكر ضمير الفصل وتعريف الخبر باللام لإفادة الحصر، والمقصود أنّه في المبرم دون ما تقدّمه من العلم والمشيّة والإرادة والتقدير والقضاء مع قطع النظر عن الإمضاء، بناءً على ما اشتهر من أنّ الممكن في وقت وجوده ليس ضروريّا وغير مقدور، إنّما يصير ضروريّا وغير مقدور لشرط وجوده وبعد مضيّه؛ فالحمل في قوله: «هو المبرم» بنوع من المجاز، كما في قولنا: زيد الدارَ، بمعنى أنّه في الدار لا يفارقها.

والقرينة على تقدير «في» هنا التصريحُ بفي في الفقرات السابقة من قوله: «فالعلم في المعلوم» إلى آخره.

و«المبرم» اسم مفعول من أبرم الأمرَ: إذا أحكمه.

(مِنَ الْمَفْعُولاتِ). «من» لبيان المبرم، أي هو ما فعل ووقع له عين ووجود في الخارج.

(ذَوَاتِ الاْءَجْسَامِ). «ذوات» جمع «ذات» بمعنى صاحبة، وهي بالجرّ عطف بيان أو صفة موضحة للمفعولات. والمراد بها ما ليس لها روح، فكأنّها لا تملك إلاّ أنفسها، إذ ليست إلاّ أجساما، نظير قولنا: لا يملك زيد إلاّ نفسه، وليس زيد إلاّ شيئا، أي ليس له مال ولا كمال.

(الْمُدْرَكَاتِ بِالْحَوَاسِّ مِنْ ذَوِي لَوْنٍ وَرِيحٍ وَوَزْنٍ وَكَيْلٍ، وَمَا). معطوفٌ على «ذوات الأجسام» المراد به ذوات الأرواح.

(دَبَّ وَدَرَجَ). يُقال: دبّ على الأرض يدبّ بالكسر دبيبا: إذا مشى على هينة،(1) كمشي النمل على أرجله، والحيّة على بطنها، والطفل على اِسته. ودرج الرجل كنصر).

ص: 430


1- الصحاح، ج 1، ص 124 (دبب).

دروجا، أي مشى بسعة الخطوات.(1)

(مِنْ إنْسٍ). اسمُ جنس «إنسى».

(وَجِنٍّ). اسمُ جنس «جنّي».

(وَطَيْرٍ). جمع «طائر».

(وَسِبَاعٍ). جمع «سبع».

(وغير ذلك). الإشارة إلى المذكور، وهو(2) القسمان: «ذوات الأجسام» و«ما دبّ ودرج» وغيرهما الأعراض الموجودة في الخارج في أنفسها. ويحتمل أن يكون «ذلك» إشارةً إلى الإنس والجنّ والطير والسباع «وغيرُه» الملائكةَ وسائر الحيوانات.

(مِمَّا يُدْرَكُ بِالْحَوَاسِّ، فَلِلّهِ _ تَبَارَكَ وَتَعَالى _ فِيهِ). الفاء للتفريع على قوله: «والقضاء بالإمضاء هو المبرم». والضمير راجع إلى المبرم، أو إلى كلّ واحدٍ من المعلوم ونظائره في قوله: «فالعلم في المعلوم» إلى آخره. ومآلهما واحد.

(الْبَدَاءُ). مبتدأ خبره الظرف الأوّل، والظرف الثاني متعلّق به.

(مِمَّا لاَ عَيْنَ لَهُ). «من» بمعنى «في» و«ما» مصدريّة نائبة عن الزمان. قال نجم الدين الرضيّ رحمه اللّه تعالى في شرح الكافية في بحث حروف المصدر:

وصلة «ما» المصدريّة لا تكون عند سيبويه إلاّ فعليّة، وجوّز غيره الاسميّة أيضا، وهو الحقّ وإن كان ذلك قليلاً كما في نهج البلاغة: «بقوا في الدنيا ما الدنيا باقية(3)».(4)

(فَإِذَا وَقَعَ الْعَيْنُ الْمَفْهُومُ) أي المعلوم بالعقل.

(الْمُدْرَكُ) أي بالحواسّ. والمراد وقوعه مع الإمضاء كما مرّ.

(فَلاَ بَدَاءَ، وَاللّه ُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ). يحتمل أن يكون استدراكا لدفع أن يتوهّم ممّا سبق .

ص: 431


1- الصحاح ، ج 1 ، ص 313 ؛ لسان العرب ، ج 2 ، ص 266 (درج) .
2- في «ج» : «وهما» .
3- نهج البلاغة ، ص 90 ، الخطبة: 52 . وفيه: «عُمِّرْتُم» بدل «بقوا» .
4- شرح الرضي على الكافية ، ج 4 ، ص 441 (الحروف المصدرية) .

من أنّ له تعالى البداءَ في المراتب إلى وقوع القضاء بالإمضاء، أنّه قد يقع خلاف ما شاء. ويحتمل أن يكون استدلالاً بالقرآن على البداء، وعدم الجبر في أفعاله تعالى.

(فَبِالْعِلْمِ). الباء فيه كالباء في قولهم: ماهيّة الشيء ما به الشيء هو هو، أي ما به يحكم بأنّ الشيء هو هو.

(عَلِمَ)؛ بصيغة معلوم المجرّد.

(الاْءَشْيَاءَ). المراد بها الأجسام وصفاتها.

(قَبْلَ كَوْنِهَا) أي حدوث شيء منها في الخارج.

(وَبِالْمَشِيئَةِ عَرَّفَ)؛ بصيغة الماضي المعلوم من باب التفعيل من العرف بالفتح: الرائحة.

(صِفَاتِهَا) أي خلق لها أصلاً مشتركا من غير تمييز بعضه عن بعض، وكان ذلك الأصل ماءً.

(وَحُدُودَهَا) أي حقائقها وأنواعها.

(وَأَنْشَأَهَا)؛ بصيغة الماضي المعلوم من باب الإفعال، ويحتمل أن يكون بصيغة المصدر منه. والإنشاء: ابتداء الفعل الذي فيه تدريج.

(قَبْلَ إِظْهَارِهَا) أي قبل تعيين أنواعها ووجودها الخارجي بخصوصيّاتها.

(وَبِالاْءِرَادَةِ مَيَّزَ)؛ بصيغة الماضي المعلوم من باب التفعيل.

(أَنْفُسَهَا) أي ذواتها بأن خلق لبعض المادّة المشتركة _ وهي الماء _ العذوبةَ حتّى يخلق منه الجنّة وأهل الطاعة، ولبعضها المُلُوحةَ حتّى يخلق منه النار وأهل المعصية، كما يجيء في ثاني «كتاب الإيمان والكفر».(1)

(فِي أَلْوَانِهَا) أي أنواعها.

(وَصِفَاتِهَا) أي صفاتها الخاصّة التي بها يمتاز الأنواع بعضها عن بعض. .

ص: 432


1- الكافي ، ج 2 ، ص 6 ، باب آخر منه وفيه زيادة وقوع التكليف الأوّل ، ح 1 .

(وَبِالتَّقْدِيرِ قَدَّرَ)؛ بصيغة الماضي المعلوم من باب التفعيل.

(أَقْوَاتَهَا). جمع «قوت» بضمّ القاف، وهو ما يحفظ به الشيء، ومنه قوت الإنسان، وهو ما يقوم ويحفظ به بدنه من الطعام. قيل: منه قوله تعالى: «وَكَانَ اللّه ُ عَلَى كُلِّ شَىْ ءٍ مُقِيتا»(1)الواقعة (56) : 75 .(2) أي حافظا، وقيل: أي قادرا،(3) وذلك بخلق أنواع النبات والشجر ونحو ذلك.

(وَعَرَّفَ)؛ بصيغة الماضي المعلوم.

(أَوَّلَهَا وَآخِرَهَا) أي جعل آخرها قريبا من الوجود وملحقا بأوّلها، فكان كلّ منهما تشمّ رائحة الآخر.

(وَبِالْقَضَاءِ أَبَانَ لِلنَّاسِ) أي خلق الناس من بعض تلك الأنواع وهو التراب، فأبان. وهو المقصود بالذات من خلق الثلاثة المتقدّمة، كقوله تعالى: «خَلَقَ لَكُمْ مَا فِى الاْءَرْضِ جَمِيعا»(4).

(أَمَاكِنَهَا) أي أمكنتها ومواضعها التي جعلها اللّه لها، وخصّص كلاًّ منها بما يناسبه.

ويحتمل أن يُراد بالأماكن المراتب والمنازل في الشرف ونحو ذلك، نظير قوله تعالى: «فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ»(4).

(وَدَلَّهُمْ عَلَيْهَا) أي على الحِكَم والمصالح التي روعي فيها.

(وَبِالاْءِمْضَاءِ). شروعٌ في بيان إبقاء النظام للتكليف والثواب [و] العقاب.

(شَرَحَ)؛ بصيغة الماضي المعلوم من باب منع.

(عِلَلَهَا) أي كشف عن عللها الغائيّة كشفا فوق الإبانة المذكورة سابقا، فإنّ تكرّر المشاهدة وترتّب الفوائد يوضح عن الحِكَم أشدّ توضيح. .

ص: 433


1- النساء
2- : 85 .
3- الفروق اللغويّة للعسكري ، ص 507 ، الفرق بين المقيت والقادر ؛ الصحاح ، ج 2 ، ص 262 ؛ معجم مقاييس اللغة ، ج 5 ، ص 38 ؛ لسان العرب ، ج 2 ، ص 75 (قوت) .
4- البقرة (2) : 29 .

(وَأَبَانَ أَمْرَهَا) أي الحكمة المرعيّة فيها، وهي التكليف وبعث الرُّسل وإنزال الكتب، وهي إبانة على إبانة.

(وَذلِكَ) أي جميع ما ذكر في قوله: «وبالمشيّة عرّف» إلى آخره، وقيل: أي التدريج في الخلق مع أنّه قادر على خلق الجميع في أقلّ من لحظة.(1)

(تَقْدِيرُ) أي تدبير.

(الْعَزِيزِ): البالغ في القدرة.

(الْعَلِيمِ): البالغ في العلم. وهذا اقتباس من سورة الأنعام ويآس وفصّلت.(2) .

ص: 434


1- اُنظر تفسير الرازي ، ج 17 ، ص 11 .
2- الأنعام (6) : 96؛ يآس (36) : 38 ؛ فصّلت (41) : 12 .

الباب الخامس والعشرون: باب في أنّه لا يكون شيء في الأرض ولا في السماء إلاّ بسبعة

الباب الخامس والعشرون بَابٌ فِي أنَّهُ لاَ يَكُونُ شَيْءٌ فِي الاْءَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ إِلاَّ بِسَبْعَةٍ(1)

فيه حديثان.

والمقصود بهذا الباب غير المقصود بآخر باب البداء، لأنّ هذا لبيان أفعال العباد للردّ على المعتزلة في الخمسة الاُول من السبعة، وعلى الزنادقة أو على الأشاعرة في السادسة منها، وعلى الزنادقة في السابعة منها، دون أفعال اللّه تعالى.

والمقصود بآخر باب البداء بيان أفعاله تعالى الواقعة بعد الأسباب العاديّة للردّ على الفلاسفة وأمثالهم من منكري البداء كما مرّ.

والقرينة أنّ أفعاله تعالى لا تتوقّف على الإذن، وأنّ فعله تعالى الإبداعيَّ ليس مسبوقا بالخصال الأربع الاُول، وأيضا الخلاف الذي يجري فيه تكفير المخالف ليس في أفعاله تعالى في «الخصال الخمس الاُول، فيأبي عنه قوله في أوّل الباب: «فمَن زعم أنّه يقدر على نقض واحدة فقد كفر».

وحينئذٍ يمكن أن يكون المراد بالأرض والسماء المعصيةَ والطاعةَ، كما في قوله تعالى في سورة الأعراف: «وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الاْءَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ»(2)، وأن يكون المراد بهما معناهما المشهورَ، ويكون العامّ مخصّصا.

ص: 435


1- في الكافي المطبوع : «في السماء والأرض» بدل «في الأرض ولا في السماء» . وفي حاشية «أ» : «أي لا يحدث شيء في الأرض ولا في السماء إلاّ ما يتوسّط ويدخل في كونه سبعة أشياء ، وكلّ واحد منها يسبقة . (ميرزا رحمه الله )» . الحاشية على اُصول الكافي ، لميرزا رفيعا ، ص 483 .
2- الأعراف (7) : 176 .

الأوّل: (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ أَبِيهِ؛ وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ جَمِيعا، عَنْ فَضَالَةَ بْنِ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَارَةَ)؛ بضمّ المهملة، وتخفيف الميم.

(عَنْ حَرِيزِ بْنِ عَبْدِ اللّه ِ وَعَبْدِ اللّه ِ بْنِ مُسْكَانَ جَمِيعا، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، أَنَّهُ قَالَ: لاَ يَكُونُ)؛ بصيغة المعلوم المجرّد.

(شَيْءٌ) أي فعل أو ترك صادر عن عبد.

(فِي الاْءَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ). الظرف لغو متعلّق بالكون. ومضى معنى الأرض والسماء في شرح عنوان الباب.

(إِلاَّ بِهذِهِ). الباء للملابسة.

(الْخِصَالِ السَّبْعِ)؛(1) جمع «خصلة» بالفتح، وهي الصفة؛ فإنّ كلاًّ من هذه السبع يوجب للفعل صفة اعتباريّة هي كونه بحيث يتعلّق به كذا.

(بِمَشِيئَةٍ، وَإِرَادَةٍ، وَقَدَرٍ، وَقَضَاءٍ ) أي من اللّه تعالى متعلّقة بالفعل أو الترك. .

ص: 436


1- في حاشية «أ» : «قوله : إلاّ بهذه الخصال السبع بمشيئة وإرادة إلى آخره ، لمّا كانت المشيئة أوّل ما له اختصاص بشيء دون شيء ، أخذ في عدّ سوابق وجود الأشياء وصدورها منه سبحانه من المشيئة ، وبعدها الإرادة ، وبعدها القدر ، وبعده القضاء بالترتيب الذي في الحديث . وأمّا الإذن فهو الإعلام وإفاضة العلم _ والكتاب _ وهو ما يثبت فيه الأشياء وتقرر فيه _ والأجل _ وهو المدّة المعيّنة الموقّتة للأشياء _ فهي داخلة في الإرادة والقدر ؛ أو متخلّلة بين الأربعة بأن يكون الإذن متخللاًّ بين المشيئة والإرادة، والكتاب بينهما وبين القدر، والأجل بين القدر والقضاء ، أو كلّ واحد من هذه الثلاثة داخل في كلّ واحد من الثلاثة الاول من الأربعة . وذكر ثلاثة مع الأربعة على تقدير الدخول للدلالة على دخولها في الأربعة وثبوت الوساطة في الإيجاد لها كما للأربعة . وعلى تقدير التخلّل للدلالة على ترتّب هذه الثلاثة على الثلاثة الأول من الأربعة ، فهي كالتتمّة لها . وقوله : فمن زعم أنّه يقدر على نقص واحدة ، أي إسقاطها من مقدّمات الإيجاد وجعلها أقلّ من سبعة فقد كفر ؛ لأنّه كذّب على اللّه وقال فيه خلاف الحقّ ، وردّ على اللّه حيث أنكر ما بيّنه في كتاب المبين . فمفاد هذا الكلام وكلام العالم عليه السلام في الحديث الثاني من هذا الباب واحد . وفي بعض النسخ : «نقض واحدة» بالضّاد المعجمه ، أي الردّ على واحدة منها وتغيير مقتضاها ومكابرتها ومعارضتها . وهذه النسخة بقوله : «فقد كفر» أنسب . والنسخة الاُولى للغرض المسبوق له الكلام وللحديث الثاني أوفق . (ميرزا رحمه الله )» . الحاشية على اُصول الكافي لميرزا رفيعا ، ص 483 _ 485 .

اعلم أنّ المعتزلة ومَن جرى على أثرهم وسّعوا دائرة قدرة العبد، فذهبوا إلى التفويض من جهتين، وصاروا بهما قدريّةً مرّتين.(1)

بيان ذلك: أنّ معنى التفويض إقدار اللّه تعالى العبد على فعل بحيث يخرج عن يده تعالى أزمّة الفعل المقدور للعبد ما دام هذا الإقدار، وهذا معنى استقلال العبد في القدرة، وللتفويض بهذا المعنى فردان هو القدر المشترك بينهما، ويحصل بكلّ منهما استقلال للعبد في قدرته من جهة:

الأوّل: إقدار اللّه تعالى العبد على فعل بحيث لا يكون في مقدوره تعالى من المقرّبات إلى الفعل أو إلى الترك ما لو فعله بالعبد لاختار غير ما اختاره من الفعل أو الترك، فيلزمه أن لا يكون اللّه تعالى مقلّب القلوب والأبصار، وأن يصدر عن العبد ما يختاره وإن شاء اللّه أن لا يصدر، وذلك لقولهم(2) بوجوب كلّ لطف ناجع على اللّه تعالى، فإنّه يلزمه أنّه لو كان في مقدوره تعالى لطف ناجع للكافر _ مثلاً _ لَفعل؛ لأنّه تعالى لا يترك الواجب عليه مع قدرته عليه، فلم يتحقّق كفر الكافر إلاّ لعدم قدرته تعالى على اللطف الناجع، وكذا الكلام في إيمان المؤمن؛ لضروريّة عدم الفرق بينهما في الإقدار.

الثاني: إقدار اللّه تعالى العبد في وقت على فعل في ثاني الوقت.

إذا تمهّد هذا، فنقول: إثبات هذه الخصال الأربع في الخصال السبع للردّ على المعتزلة ومن تبعهم في قولهم بالتفويض الأوّل، والمراد هنا بمشيّة اللّه تعالى لفعل عبد _ مثلاً _ أن يصدر عنه تعالى باختياره تعالى قبل وقت ذلك الفعل من العبد أوّل ما علم تعالى أنّه يفضي تحقّقه إلى اختيار العبد ذلك الفعلَ في وقته؛ أي مع قدرة العبد على تركه فيه، ويفضي عدم تحقّقه إلى اختيار العبد ترك ذلك الفعلِ في وقته، أي مع قدرة العبد على ذلك الفعل فيه، سواء كان ما يصدر عنه تعالى فعلاً أم تركا أم اختيارا لأحد .

ص: 437


1- حكاه عنهم ابن حجر في فتح الباري ، ج 1 ، ص 109 ؛ وابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ، ج 6 ، ص 427 ؛ والإيجي في المواقف ، ج 1 ، ص 145 ؛ وج 3 ، ص 208 و 213 و 226 .
2- في «ج» : «بقولهم» .

فعلين على الآخر، أو لأحد تركين على الآخر، وقس عليه مشيّته تعالى لترك عبد. ويسمّى تلك المشيّة مشيّة عزم _ كما يظهر ممّا يجيء في رابع «باب المشيّة والإرادة» _ ومشيّةَ اختيار أيضا كما يظهر ممّا يجيء في ثالث «باب الاستطاعة» ويعبّر عنها في أحاديثهم عليهم السلام بالذكر، الأوّل، كما يجيء في رابع «باب الجبر والقدر» وبالهمّ بالشيء وبابتداء الفعل كما يجيء في أوّل «باب المشيّة والإرادة». وقيل: «مشيّته تعالى في المعاصي نهيه عنها». انتهى.(1)

وفيه: أنّه إن أراد بمشيّته تعالى في المعاصي مشيّته تعالى لفعل المعاصي، فهذا إنّما يتّضح إذا جاز أن يُقال: إنّه جاء في لغة أو عرف شئت كذا، أي نهيتُ عنه؛ فيكون قوله تعالى في سورة التوبة: «وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لاَءَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللّه ُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ»(2))؛ بمعنى، ولكن أمر اللّه بانبعاثهم فثبّطهم.(3)

وفيه ما فيه.

وإن أراد بها مشيّته لترك المعاصي كما في قوله تعالى في سورة الأنعام: «سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللّه ُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِنْ شَىْ ءٍ»(4)، وقوله تعالى في سورة الزخرف: «وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ»(5)، فهذا بعض إطلاقاتها، وليس الكلام فيه كما سيظهر في رابع الباب الآتي من قوله: «ينهى وهو يشاء» إلى آخره.

والمراد بالإرادة هنا أن يصدر عنه تعالى باختياره ثانيا _ أي بعد المشيّة وقبل وقت يظنّ فيه تحقّق قدرة العبد على فعله بعد ذلك _ مؤكّد للمشيّة في الإفضاء إلى فعل العبد .

ص: 438


1- في حاشية «أ» : «أي ابن بابويه في باب القضاء والقدر من كتاب التوحيد (منه)» . التوحيد ، ص 369 ، باب القضاء والقدر ، ذيل ح 9 .
2- التوبة (9) : 46 .
3- في «ج» : - «فيكون قوله تعالى في سورة التوبة» إلى هنا .
4- الأنعام (6) : 148 .
5- الزخرف (43) : 20 .

مثلاً؛ أي ما علم تعالى أنّه يفضي تحقّقه إلى اختيار العبد ذلك الفعل في وقته إلى آخر ما ذكرنا آنفا في المشيّة.

وتسمّى تلك الإرادة إرادة عزم وإرادة اختيار أيضا، ويعبّر عنها في أحاديثهم عليهم السلام بالإتمام على المشيّة، وبالعزيمة على ما يشاء، وبالثبوت عليه أي الجدّ فيه.

والمراد بالقدر هنا ما ذكرنا في حدّ الإرادة، إلاّ أنّ القدر في وقت يظنّ فيه قدرة العبد على الفعل والترك بعد ذلك، فهو قبيل وقت الفعل والترك متّصلاً به.

والمراد بالقضاء هنا ما ذكرنا في حدّ الإرادة، إلاّ أنّ القضاء في وقت الفعل والترك والحاجة إلى اعتبار الإرادة، ثمّ اعتبار القدر، ثمّ اعتبار القضاء بعد المشيّة بيان أنّ فعل العبد أو تركه لم يخرج بمجرّد المشيّة، أو مع الإرادة أيضا، أو مع القدر أيضا عن قدرة اللّه تعالى على التصرّف فيه؛ لأنّ الوجوب بالنسبة إلى هذه الاُمور وجوب لاحق، كما يجيء في ثالث «باب الاستطاعة» وتقسيم طرقه تعالى إلى إيمان الكافر مثلاً إلى هذه الأربعة، مع أنّ له طرقا لا تعدّ ولا تحصى للتقريب إلى الفهم، ووجه مناسبة تخصيص هذه الألفاظ الأربعة بالمعاني الأربعة كما مرّ في آخر «باب البداء».

ومذهب المعتزلة أنّه لا فرد لمشيّته تعالى لفعل العبد أو تركه إلاّ الأمر به، مع كونه تعالى بحيث إن قدر على ما يفضي إليه من اللطف لفعل، فمشيّته متعلّقة بإيمان الكافر وإن لم يكن واقعا، فلم يصدق: ما شاء اللّه كان وما لم يشأ لم يكن، سبحان من لا يجري في ملكه إلاّ ما يشاء، بل قد يكون ما شاء إبليس، ولا يكون ما شاء اللّه تعالى.(1)

وهذا باطل لوجهين:

الأوّل: أنّه يستلزم إخراج اللّه تعالى من سلطانه ومضادّته في ملكه، وسيجيء تفصيل بيانه في شرح ثاني «باب الاستطاعة».

الثاني: أنّ الفرد الذي أثبتوه للّه تعالى من المشيّة من صفات المخلوق الذي يكون فيه شوق إلى شيء ثمّ قد يحرم منه، تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا؛ إنّما فرد مشيّته تعالى .

ص: 439


1- اُنظر إفحام المخاصم ، ص 31 .

أفعال خاصّة أو تروك خاصّة، وذلك كغضبه ورحمه ونحو ذلك، سواء قلنا: إنّها مَجازات لغويّة، أم حقائق لغويّة. وقد مرّ في ثالث «باب الإرادة أنّها من صفات الفعل».

وتسمية المعتزلة «قدريّة» لإثباتهم جميع القدر في فعلهم وتركهم لأنفسهم حيث كذّبوا بقدر اللّه تعالى وجحدوه فيهما.

إن قلت: لِمَ خصّوا باسم القدريّة وهم كما أنكروا قَدَرَهُ تعالى أنكروا مشيّته تعالى وإرادته تعالى وقضاءه تعالى، وأنكروا أيضا إذنه تعالى كما سيجيء بُعيدَ هذا؟

قلت: لأنّهم لم ينسبوا التدبير الذي نفوه عن اللّه تعالى إلى أنفسهم إلاّ من وقت قدرتهم على الفعل بزعمهم، أي قُبيل وقت الفعل، وهو وقت القدر كما مرَّ، ووشمُهُم بأوّل خلافهم أولى من وَسمهِم بما بعده، وجمهورهم ينفون القدرة عن أنفسهم في وقت الفعل، ولا معنى لتوقّف فعلهم على إذن أنفسهم.

ويمكن أن يكون المراد بالقدر في تسميتهم بالقدريّة ما يساوق القضاء، ويعمّ الخصال الخمس. وقد تُطلق الإرادة على هذا الأعمّ وكذا المشيّة، وقد تُطلق المشيّة على الأعمّ ممّا ذكرنا في حدّها أوّلاً وثانيا وممّا ذكره المعتزلة في حدّها.

وبهذا يصير النزاع معنويّا بيننا وبينهم في قولنا: ما شاء اللّه كان وما لم يشأ لم يكن، وقولهم: بعض ما شاء اللّه لم يكن وبعض ما لم يشأ كان.

بيان ذلك: أنّا إذا حملنا المشيّة في هذا النزاع على ما ذكرنا في حدّها أوّلاً، أو على الأعمّ من الخصال الخمس، لم يتصوّر نزاعهم معنىً في قولنا: ما شاء اللّه تعالى كان، وإنّما يتصوّر النزاع المعنوي في قولنا: ما لم يشأ لم يكن فقط. وإذا حملنا المشيّة في هذا النزاع على ما ذكره المعتزلة في حدّها، لم يصحّ قولنا: ما شاء اللّه كان، ويصحّ كلام المعتزلة فيه سلبا لا عدولاً أيضا كما هو مذهبهم؛ لأنّ الموجبة إنّما تصدق إذا صدق العنوان على فرد، والمشيّة بهذا المعنى غير متحقّقة في اللّه تعالى بالنسبة إلى شيء أصلاً،لأنّها من صفات الخلق كما مرَّ آنفا، فلم يصحّ أيضا قولنا: ما لم يشأ لم يكن. وأيضا المعاصي الكائنة لم تتعلّق بها المشيّة بهذا المعنى اتّفاقا بيننا وبين المعتزلة، فيجب حمل المشيّة على الأعمّ ليصحّ النزاع معنويّا، وقد يذكر في هذين النزاعين بدلَ

ص: 440

المشيّة الإرادةُ، ويجري كلّ ما ذكرنا فيها أيضا.

(وَإِذْنٍ ). الإذن له معان، والمراد به هاهنا(1) عدم إحداثه تعالى المانع العقلي عن فعل العبد أو تركه في وقتهما، كفعل الضدّ وإعدام العبد ونحوهما ممّا ينافي قدرة العبد، مع علمه تعالى بأنّه إذا لم يقع الإحداث حينئذٍ عنه تعالى لصدر الفعل أو الترك عن العبد حينئذٍ باختياره ومع قدرته تعالى على الإحداث حينئذٍ.

وقد يجعل المانع في حدّ الإذن في غير هذا الموضع أعمَّ من المانع العقلي، أي المخرج للعبد عن القدرة، والمانع العلمي وهو ما يعلم تعالى معه عدم اختيار العبد الفعل أو تركه، فيندرج القضاء تحت الإذن حينئذٍ اندراجَ الجزء في الكلّ، أو اندراجَ الجزئي في الكلّي.(2)

وإثبات هذه الخصلة في الخصال السبع للردّ على المعتزلة، وهم القدريّة في قولهم بالتفويض الثاني أي بتقدّم قدرة العبد على فعل في وقت على ذلك الوقت، قالوا: إنّ العبد قادر في الحال على الفعل والترك في ثاني الحال، وسيجيء في «كتاب الحجّ» في خامس «باب استطاعة الحجّ» استدلالُ قدريٍّ على ذلك بقوله تعالى: «وَللّه ِِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً»(3) وجوابُ أبي عبداللّه عليه السلام عنه.

وحاصله: أنّه ليس المراد بالاستطاعة هنا القدرة، بل المراد آلة للحجّ يظنّ معها تحقّق القدرة عليه في وقته إن لم يترك باختياره شيئا ممّا يتوقّف عليه وكان باختياره، فلا ينافي التوقّف على الإذن المعلوم بالبراهين القاطعة. وسيجيء في شرح ثاني «باب الاستطاعة» تفصيل بيانه.

ثمّ إنّه يحتمل أن يكون إثبات الإذن في الخصال السبع للردّ أيضا على الأشاعرة .

ص: 441


1- في «ج» : «المراد بالإذن هاهنا» بدل «الإذن له معان والمراد به هاهنا» .
2- في «ج» : «تحت الكلّ ، نحو : «كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةَ بِإِذْنِ اللَّهِ»» بدل «في الكلّ أو اندراج الجزئي في الكلّي» .
3- آل عمران (3) : 97 .

والجهميّة القائلين بأنّ أفعال العباد وتروكهم صادرة عن اللّه ، وذلك لأنّه لا معنى لإذن أحد فيما يصدر عن نفسه.

(وَكِتَابٍ). المراد به كتابة صحيفة أعمال العباد، كما في قوله تعالى في سورة الكهف: «مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرا»(1)، وفي سورة القمر: «وَكُلُّ شَىْ ءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ».(2)

أو المراد بالكتاب وجوب خلق كلّ كائن عليه تعالى عقلاً؛ إمّا خلق تقدير، كما في أفعال العباد وتروكهم، وهو ما نحن فيه؛ وإمّا خلق تكوين، كما في أفعاله تعالى، وهو غير ما نحن فيه.

وخلق التقدير لأفعال العباد وتروكهم إنّما يكون بالخصال الخمس المتقدّمة.

والتعبير عن الوجوب بالكتاب محتمل في قوله تعالى في سورة البقرة: «حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ»(3) بناءً على أن يكون المراد بالكتاب وجوبَ التربّص أربعةَ أشهر وعشرا، وبأجله آخرَ مدّته. وقد اُشير إلى وجوب خلق كلّ كائن عليه تعالى _ سواء كان فعلاً أم تركا؛ لاشتمال خلقه على الحِكَم والمصالح التي لا يعلمها إلاّ علاّم الغيوب _ وإلى أنّه ليس خلق شيء منها على صفة المباح، في قوله تعالى في سورة بني إسرائيل: «وَإِنْ مِنْ شَىْ ءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ».(4)

وإثبات هذه الخصلة في الخصال السبع للردّ على منكري الأديان، أو على المجبّرة وهم الأشاعرة ومن والاهم، وهم الجهميّة، فإنّ الجهميّة نفوا قدرة العبد رأسا،(5) والأشاعرة ضيّقوا دائرة قدرة العبد في مقابلة ما وسّعت القدريّة، دائرة قدرته،(6) كما مرّ .

ص: 442


1- الكهف (18) : 49 .
2- القمر (54) : 52 _ 53 .
3- البقرة (2) : 235 .
4- الإسراء (17) : 44 .
5- حكاه في المواقف ، ج 2، ص 117 عن الجهميّة ؛ المسلك في اُصول الدين ، ص 83 .
6- حكاه في المواقف ، ج 2 ، ص 117 عن القدريّة ، وحكاه ابن ميثم في قواعد المرام ، ص 108 ؛ المسلك في اُصول الدين ، ص 83 .

في الإذن. والحقّ الأمر بين الأمرين.

قالت الأشاعرة: قدرة العبد على فعل مساوقة لاتّصافه به تبعا لداعيه إلى الفعل، والمؤثّر في الفعل هو اللّه تعالى وقدرته على تركٍ مساوقةٌ لاتّصافه به تبعا لداعيه إلى الترك، والتارك هو اللّه تعالى، فإنّ معنى الترك عدم الفعل ممّن من شأنه التأثير في الفعل، لا العدمُ مطلقا، ولذا لا يسمّى الجدار تاركا للصلاة قال(1): إنّ المؤمن لا يقدر على الكفر، والكافر لا يقدر على الإيمان. فأنكرت الجهميّة والأشاعرة لذلك التحسين والتقبيح العقليّين، وزعموا أنّه لا يجب على اللّه تعالى شيء،(2) والأمر بين الأمرين أنّ العبد قادر على كلّ من الفعل والترك ردّا على المجبّرة أي الجهميّة، والأشاعرة، وأنّ قدرته على فعل في وقت(3) لا تتقدّم على ذلك الوقت ردّا على القدريّة المفوّضة.

واعلم أنّ في أفعال العباد مذهبا حصل من مزج الفلسفة بالاعتزال، وهو أنّ تخلّف فعل العبد عن علّته التامّة محال، وأنّ قدرته على فعل في وقت يتقدّم على ذلك الوقت، ويجب على اللّه كلّ لطف ناجع. وهذا مذهب أبي الحسين البصري من المعتزلة ومن تبعه.(4) وهذا قول بالجبر بمعنى رفع اللوم عن فعل العبد من جهة، وبالتفويض من جهتين اُخريين.

فتلخّص ممّا ذكرنا أنّ اُصول المذاهب في أفعال العباد خمسة.

(وَأَجَلٍ). المراد به وقت الحساب للأعمال يوم القيامة، فإنّه كأجل الديون المكتوبة في الصكوك بين الناس؛ أو المراد بالأجل الوقت المعيّن لوجوب خلق الكائن على اللّه .

وإثبات هذه الخصلة في الخصال السبع للردّ على منكري الحشر والحساب والجزاء، أو على منكري البداء من اليهود والفلاسفة القائلين بأنّ جميع معلولاته تعالى صادرة عنه تعالى دفعةً واحدة دهريّة، لا ترتّب لها بحسب الصدور عنه زمانا، كما مرّ تفصيله في الباب السابق. .

ص: 443


1- في «ج» : «قالوا» .
2- فصَّل ذلك الشيخ جعفر سبحاني في رسالة في التحسين والتقبيح العقليّين ، ص 61 ، وخصّص الفصل العاشر لأدلّة المنكرين .
3- في «ج» : «وقت في فعل» .
4- حكاه في المغني في أبواب العدل والتوحيد ، ص 116 ؛ والعلاّمة في معارج الفهم ، ص 422 .

ويحتمل أن يكون المراد بالأجل آخر مدّة الكائن، وحينئذٍ إثبات هذه الخصلة في الخصال السبع للردّ على الزنادقة الفلاسفة في قولهم بدوام حركات الفلكيّات الصادرة عن نفوسها بزعمهم ودوام أنواع أفعال العباد ونحوهم.(1)

هذا والردّ عليهم في نهج البلاغة في خطبة أوّلها: «ما وحّده مَن كيّفه» في قوله عليه السلام : «وأنّه سبحانه يعود بعد فناء الدنيا وحده، لا شيء معه، كما كان قبل ابتدائها كذلك يكون بعد فنائها، بلا وقت ولا مكان ولا حين ولا زمان، عُدِمَتْ عند ذلك الآجالُ والأوقات، وزالت السنون والساعات» إلى قوله: «ثمّ يعيدها بعد الفناء».(2)

(فَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَقْدِرُ) أي بدليل.

(عَلى نَقْضِ)؛ بالمعجمة، وصحّح بعضهم بالمهملة بحكّ النقطة، ولعلّه رآه في نسخة فأعجبه، و«نقص» حينئذٍ من المتعدّي. ويمكن أن تكون «على» نهجيّةً، وصلةَ «يقدر» مقدّرا و يكون «نقص» من اللازم ومعناه: فمن زعم أنّه يقدر على فعل مع نقصان.

(وَاحِدَةٍ) من الخصال السبع (فَقَدْ كَفَرَ).

(وَ رَوَاهُ) أي روى هذا المضمون (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَفْصٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَارَةَ، عَنْ حَرِيزِ بْنِ عَبْدِ اللّه ِ وَابْنِ مُسْكَانَ مِثْلَهُ). أي حال كونه مثل الحديث السابق في اللفظ بلا تغيّر أصلاً عن أبي عبداللّه عليه السلام .

الثاني: (وَرَوَاهُ) أي وروى عليّ بن إبراهيم مضمونه.

(أَيْضا عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ عِمْرَانَ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ عليهماالسلام ، قَالَ: لاَ يَكُونُ شَيْءٌ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الاْءَرْضِ إِلاَّ بِسَبْعٍ) أي سبع خصال:

(بِقَضَاءٍ، وَقَدَرٍ،(3) وَإِرَادَةٍ، وَمَشِيئَةٍ). ترتيب هذه الخصال على عكس أزمنة وقوعها، .

ص: 444


1- حكاه الإيجي في المواقف ، ج 2 ، ص 614 .
2- نهج البلاغة ، ص 276 ، الخطبة 186 .
3- في حاشية «أ» : «قوله: إلاّ بسبع بقضاء وقدر إلى آخره ، الكلام في هذا الحديث كالكلام في الحديث الأوّل إلاّ أنّه اُخذ في هذا الحديث من أقرب الاُمور والخصال من المعلول ووجوده ، وفي الحديث السابق من أقربها من المبدأ (ميرزا رحمه الله )» . الحاشية على اُصول الكافي لميرزا رفيعا ، ص 485 .

لأنّه ربّما كان أوضحَ في ذهن بعض المخاطبين.(1)

(وَكِتَابٍ، وَأَجَلٍ، وَإِذْنٍ). تأخير الإذن عن الكتاب والأجل للفصل بينه وبين الخصال الأربع؛ إشارةً إلى أنّ إثبات الإذن في الخصال السبع للردّ على المعتزلة القدريّة في خلافٍ آخَرَ غير الخلاف الذي إثبات الخصال الأربع الاُول للردّ عليهم فيه.

(فَمَنْ زَعَمَ) أي ادّعى (غَيْرَ هذَا، فَقَدْ كَذَبَ عَلَى اللّه ِ، أَوْ رَدَّ عَلَى اللّه ِ عَزَّ وَجَلَّ). الشكّ من الراوي، ومعنى الردّ على اللّه أنّه ينافي ما في القرآن صريحا في آيات كثيرة. .

ص: 445


1- في «ج» : «المخالفين» .

الباب السادس والعشرون: باب المشيئة و الإرادة

الباب السادس والعشرون بَابُ الْمَشِيئَةِ وَ الاْءِرَادَةِ

فيه ستّة أحاديث.

أي ما يوضح معنى المشيئة والإرادة، ويدلّ المتأمّلَ على استنباط معناهما، وفيه اقتصار أي «وأخويهما وهما القدر والقضاء».

وهذا الباب كالشرح لبعض ما في الباب السابق، وللردّ على المعتزلة في خلافَيْهم المذكورين في الباب السابق.

الأوّل: (عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللّه ِ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ الدَّيْلَمِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْهَاشِمِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ مُوسَى بْنَ جَعْفَرٍ عليهماالسلام يَقُولُ: لاَ يَكُونُ شَيْءٌ)؛ أي فعل أو ترك اختياري للعباد.

(إِلاَّ مَا شَاءَ اللّه ُ وَأَرَادَ، وَقَدَّرَ وَقَضى. قُلْتُ: مَا مَعْنى «شَاءَ»؟). المقصود بالذات السؤال عن المشيئة؛ لأنّ معنى المشتقّ معلوم لغةً، ولذا:

(قَالَ: «ابْتِدَاءُ الْفِعْلِ»(1)) أي فعل العبد مثلاً، فإنّ الحكم يتناول تركه أيضا، وابتداؤه أوّل فعل أو ترك يفضي إلى اختيار العبد إيّاه، وكأنّه سقط من قلم نسّاخ الكافي هنا شيء،

ص: 446


1- في حاشية «أ» : «قوله: ما معنى شاء قال : ابتداء الفعل ، أي المشيّة ابتداء الفعل، أي أوّل ما يحصل من جانب الفاعل ويصدر عنه ممّا يؤدّي إلى وجود المعلول . وقوله : تقدير الشيء من طوله و عرضه ، أي من التحديدات والتعيينات بالأوصاف والأحوال كالطول والعرض . وقوله : إذا قضاه أمضاه ، أي إذا أوجبه باستكمال شرائط وجوده وجميع ما يتوقّف عليه المعلول أوجده . وذلك الذي لا مردّ له ؛ لاستحالة تخلّف المعلول عن الموجب التامّ (ميرزا رحمه الله )» . الحاشية على اُصول الكافي لميرزا رفيعا ، ص 486 .

فإنّ في «باب الإرادة والمشيئة» من كتاب المحاسن للبرقي _ رحمه اللّه تعالى _ في هذه الرواية بعد هذا «قلت: فما معنى أراد؟ قال: الثبوت عليه» انتهى.(1) وهو أحسن وأوفق بما يجيء في رابع الثلاثين.(2) ومعنى «الثبوت عليه» البقاء على الابتداء، وهو أن يصدر عنه تعالى _ بعد المشيئة وقبل وقت قدرة العبد بزعم المعتزلة _ فعل أو ترك موافق للمشيئة في الإفضاء إلى اختيار العبد الفعلَ، والحاجةُ إلى اعتبار الإرادة بيانُ أنّ الفعل لم يخرج بمجرّد مشيئة اللّه له عن قدرة اللّه على التصرّف فيه، لأنّ الوجوب بالنسبة إلى المشيئة ليس وجوبا سابقا، بل هو وجوب لاحق، كما يجيء في ثالث «باب الاستطاعة».

(قُلْتُ: مَا مَعْنى «قَدَّرَ»؟). المراد ما معنى التقدير كما مرّ.

(قَالَ : «تَقْدِيرُ الشَّيْءِ مِنْ طُولِهِ وَعَرْضِهِ») أي معناه معلوم من اللغة، فإنّ الذي يظنّ قدرته على فعل بعد الحال يقدّر في نفسه ما يتعلّق بالفعل، كما في الحذّاء يقدّر قبل قطع الأديم طولَ ما يقطع منه وعرضَه.

ويفهم من ذلك أنّ معنى التقدير تعيين جهات الفعل وصفاته باعتبار زيادته ونقصانه، وباعتبار شدّته وضعفه قبل وقت الفعل متّصلاً به، وأنّ معنى تقدير اللّه لفعل العبد مثلاً فعلٌ أو ترك صادر من اللّه قُبيلَ وقت فعل العبد، موافق للمشيئة والإرادة في الإفضاء إلى فعل العبد، والحاجةُ إلى اعتبار التقدير ظاهر ممّا مرّ في الحاجة إلى اعتبار الإرادة.

(قُلْتُ: مَا مَعْنى «قَضى»؟ قَالَ : إِذَا قَضى أَمْضَاهُ) أي معناه التدبير في وقت الفعل، وهو الذي يتعقّبه بلا فصل الإمضاء؛ أي جعل الفعل ماضيا وهو اختياري، فإنّه لولا القضاء لم يصر الفعل ماضيا. والحاجةُ إلى اعتبار القضاء بيان أنّ الفعل لم يخرج بمجرّد المشيّة والإرادة والتقدير عن قدرة اللّه على التصرّف فيه؛ لأنّ الوجوب بالنسبة إلى الثلاثة وجوب لاحق.

(فَذلِكَ) أي ما تعلّق به القضاء والإمضاء. .

ص: 447


1- المحاسن ، ج 1 ، ص 244 ، باب الإرادة والمشيئة، ح 237 .
2- أي في الحديث 4 من باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين .

(الَّذِي لاَ مَرَدَّ)؛ بالميم والراء المهملة المفتوحتين وشدّ الدال المهملة، مصدر ميمي.

(لَهُ)؛ لأنّ القدرة على الماضي بمعنى صحّة الفعل، والتركُ في الزمان الماضي غير معقول، فيصير محتوما.

الثاني: (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى، عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمنِ، عَنْ أَبَانٍ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، قَالَ: قُلْتُ لاِءَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : شَاءَ وَأَرَادَ، وَقَدَّرَ وَقَضى؟). المفعول محذوف؛ أي كلَّ صادر عن العباد من فعل وترك.

(قَالَ: «نَعَمْ». قُلْتُ: وَأَحَبَّ؟) أي كلَّ صادر عن العباد.

(قَالَ: «لاَ». قُلْتُ: وَكَيْفَ شَاءَ وَأَرَادَ ، وَقَدَّرَ وَقَضى وَلَمْ يُحِبَّ؟!).

لمّا كان لفظ المحبّة يستعمل في العباد مساوقا للمشيئة والإرادة وأخويهما، اشتبه على السائل، وقاس استعماله في اللّه على استعماله في الخلق، مع أنّ مشيئة اللّه ليس كمشيئة الخلق، ومحبّة اللّه ليس كمحبّة الخلق، فإنّه تعالى لا يتّصف بالشوق والميل ونحو ذلك من صفات الخلق، فالمشيئة فيه تعالى يرجع إلى أفعال خاصّة أو تروك خاصّة سبق بيانها في أوّل الباب، وكذا أخواتها، ومحبّة اللّه لفعل العبد _ مثلاً _ طلبه منه ومدحه وثوابه عليه، أو عدم نهيه عنه، فليس استعمال المحبّة فيه تعالى على مساوقة المشيئة ونحوها.

(قَالَ: «هكَذَا خَرَجَ إِلَيْنَا»(1)). يعني ليس هذا نزاعا في المعنى، إنّما هو أمرٌ راجع إلى .

ص: 448


1- في حاشية «أ» : « قوله : هكذا خرج إلينا، أي هكذا نُقل عن النبيّ صلى الله عليه و آله ووصل منه إلينا . ولمّا كان فهمه يحتاج إلى لطف قريحةٍ ، والحكمةُ مقتضية لعدم بيانه للسائل ، اكتفى ببيان المأخذ النقلي عن التبيين العقلي . ولعلّ عدم المنافاة بين تعلّق الإرادة والمشيّة بشيء وأن لا يحبّه ؛ لأنّ تعلّق المشيّة والإرادة بما لا يحبّه بتعلّقهما بوقوع ما يتعلّق به إرادة العباد بإرادتهم وترتّبه عليها ، فتعلّقهما بالذات بكونهم قادرين مريدين لأفعالهم وترتّبها على إرادتهم وتعلّقهما بما هو مرادهم بالتبع ، ولا حَجْر في كون متعلّقهما بالتبع شرّا غيرَ محبوب له ؛ فإنّ دخول الشرّ وما لا يحبّه في متعلّق مشيّته وإرادته بالعرض جائز ، فإنّ كلّ مَن تعلّق مشيّته وإرادته بخير وعَلم لزومَ شرّ له شرّيّةً لا تقاوم خيريّتَه تعلّقتا بذلك الشرّ بالتبع ، وذلك التعلّق بالتبع لا ينافي أن يكون المريد خيّرا محضا ولا يكون شرّيرا ومحبّا للشرّ (ميرزا رحمه اللّه )» . الحاشية على اُصول الكافي لميرزا رفيعا ، ص 486 .

استعمال الألفاظ، وقد خرج إلينا في استعمالات القرآن هكذا؛ حيث قال تعالى في سورة البقرة: «وَاللّه ُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ»(1)النساء (2) : 148 .(3)، وقال في سورة النساء: «لاَ يُحِبُّ اللّه ُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ»(2)، وقال في سورة الدهر والتكوير: «وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللّه ُ»(4)، وفي سورة التوبة: «وَلَكِنْ كَرِهَ اللّه ُ انْبِعَاثَهُمْ»(4)، وفي سورة الأنعام: «فَمَنْ يُرِدْ اللّه ُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلاْءِسْلاَمِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّه»(5)هود (11) : 34 .(6)، وقال تعالى في سورة هود حكايةً عن نوح: «وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِى إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللّه ُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ»(6)، وأمثال ذلك كثيرة.

الثالث: (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مَعْبَدٍ)؛ بفتح الميم، وسكون المهملة، وفتح الموحّدة، ومهملة.

(عَنْ وَاصِلِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ عَبْدِ اللّه ِ بْنِ سِنَانٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: أَمَرَ اللّه ُ وَلَمْ يَشَأْ، وَشَاءَ وَلَمْ يَأْمُرْ(7))؛ يعني ليس المشيئة مساوقةً لأمره تعالى؛ لتحقّق كلّ منهما بدون الآخر.

وهذا ردّ على المعتزلة في أوّل خلافَيْهم معنا، وقد مرَّ تحقيقه في أوّل الخامس والعشرين.(8)

(أَمَرَ إِبْلِيسَ أَنْ يَسْجُدَ لاِآدَمَ، وَشَاءَ أَنْ لاَ يَسْجُدَ). استئنافٌ بياني. .

ص: 449


1- البقرة
2- التوبة (9) : 46 .
3- : 205 .
4- الإنسان (76) : 30 ؛ التكوير (81) : 29 .
5- الأنعام
6- : 125 .
7- في حاشية «أ» : «قوله : أمر اللّه ولم يشأ ، وشاء ولم يأمر أي أمر اللّه بشيء لم يشأه مشيّةً منجرّة إلى وقوعه ، وشاء مشيّةً منجرّةً إلى وقوع المُشاء ولو بالتبع ولم يأمر ، كما أمر إبليس بالسجود لآدم عليه السلام ولم يشأ أن يسجد ، بل شاء أن لا يسجد بالتبع مشيّةً منجرّة إلى الوقوع ، ولو شاءه كذلك لسجد ، ونهى آدم عن أكل الشجرة ولم يشأ تركه ، بل شاء أن يأكل بالتبع ، ولو لم يشأ لم يأكل (ميرزا رحمه الله تعالى)» . الحاشية على اُصول الكافي ، ص 487 .
8- أي في الحديث 1 من باب في أنّه لا يكون شيء في السماء والأرض إلاّ بسبعة .

(وَلَوْ شَاءَ لَسَجَدَ )؛ يعني ولو تحقّق مشيئته تعالى للسجدة في ضمن فردها الذي هو موافق لمذهب المعتزلة _ وهو أن يكون بحيث إذا قدر على اللطف المفضي إلى اختيار السجدة لفعل _ لصدر السجدة عن إبليس.

(وَنَهى آدَمَ عَنْ أَكْلِ الشَّجَرَةِ، وَشَاءَ أَنْ يَأْكُلَ،(1) وَلَوْ لَمْ يَشَأْ) أي لو شاء عدم الأكل في ضمن الفرد الموافق لمذهب المعتزلة.

(لَمْ يَأْكُلْ). أوّل الشيخ ميثم البحراني في شرحه الكبير لنهج البلاغة نهيَ آدم وزوجَته بنهي أولادهما عن قرب شجرة العصيان، والجنّةَ برضوان اللّه ؛ لأنّ هذا أقرب من جعل النهي للتنزيه مع قوله: «عَصَىآ ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَى»(2) ونحو ذلك.

الرابع: (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الْمُخْتَارِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْهَمْدَانِيِّ؛ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، عَنْ عَبْدِ اللّه ِ بْنِ الْحَسَنِ الْعَلَوِيِّ جَمِيعا، عَنِ الْفَتْحِ بْنِ يَزِيدَ الْجُرْجَانِيِّ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ) أي الرضا عليه السلام .

(قَالَ: إِنَّ لِلّهِ اِءِرَادَتَيْنِ وَمَشِيئَتَيْنِ: إِرَادَةَ حَتْمٍ، وَإِرَادَةَ عَزْمٍ).(3)

دفع شبهتين للمعتزلة: .

ص: 450


1- في الكافي المطبوع : + «منها» .
2- طآه (20) : 125 .
3- في حاشية «أ» : «قوله : إرادةَ حتم وإرادة عزم ، لعلّ المراد بإرادة الحتم الإرادةُ المستجمعة لشرائط التأثير المنجرّة إلى الإيجاب والإيجاد وكذا المشيّة . والمراد بإرادة العزم الإرادةُ المنتهية إلى طلب المراد والأمر أو النهي ، وينفكّ أحدهما عن الآخر ؛ ينهى عن الشيء ويريد تركه ويطلبه وهو يشاء المنهيّ ، ويتعلّق مشيّته المستجمعة لشرائط التأثير به ولو بالتبع ؛ ويأمر بالشيء ويطلبه ويريد فعله وهو لا يشاء فعله تلك المشيّة ، كما أنّه نهى آدم و زوجتَه عن الأكل من الشجرة ويشاء ذلك ، ولو لم يشأ أن يأكل ، أو شاء تركَ الأكل ، لم يغلب إرادتهما ومشيّتهما مشيّةَ اللّه . وأمر إبراهيم عليه السلام بذبح إسحاق ولم يشأ أن يذبحه ، ولو شاء لما غلب مشيّةُ إبراهيم تركَ ذبحه مشيّةَ اللّه في ذبحه . وفي هذه الرواية دلالة على أنّ الأمر بذَبح إسحاق وأنّه عليه السلام لم يشأه ، وأمّا على أنّ ما وقع من الإقدام على الذَبح والفداء بالنسبة إليه فلا . ويحتمل وقوع هذا الأمر ونسخه وتغييره إلى الأمر بذبح إسماعيل و وقوعَ الإقدام على الذبح ومقدّماته بالنسبة إليه (ميرزا رحمه الله )» . الحاشية على اُصول الكافي ، ص 488 .

الاُولى: أنّه لو أراد اللّه عصيان العاصي لكان تكليفه بالطاعة تكليفا بغير المقدور.(1)

الثانية: أنّ إرادة العصيان قبيحة لا تصدر عن اللّه .(2) والظاهر من رواية ابن بابويه هذا في كتاب التوحيد في «باب التوحيد ونفي التشبيه»(3) أنّه لدفع الثانية.

وتقرير الدفع: أنّ للّه تعالى إرادتين: إحداهما: إرادة حتم؛ أي لا تبقى معها للعبد قدرة واختيار، بل يصير المراد محتوما كإرادة مرض العبد وصحّته. وثانيتهما: إرادة عزم؛ أي يبقى للعبد معها اختيار وعزم. وقد مرّ بيان الثانية في أوّل الخامس والعشرين.(4)

وإرادة اللّه لعصيان العاصي إرادة عزم لا إرادة حتم؛ لاستحالة تعلّقها مع بقاء التكليف، فلا يلزم تكليف ما لا يُطاق؛ لأنّ وجوب العصيان بالنسبة إلى إرادة اللّه تعالى للعصيان وجوب لاحق لا سابق، ولا يلزم أيضا أن يصدر عن اللّه قبيح، وقس على ذلك مشيئته تعالى لعصيان العاصي.

(يَنْهى) أي قد ينهى عن شيء.

(وَهُوَ يَشَاءُ) أي المنهيَّ عنه مشيئةَ عزم. وهذا كاف في الجواب عن شبهتي المعتزلة، وأمّا قوله:

(وَيَأْمُرُ) أي وقد يأمر بشيء.

(وَهُوَ لاَ يَشَاءُ) أي المأمور به. ومعناه أنّه يشاء عدم المأمور به بقرينة قوله في آخر الحديث: «مشيئة اللّه » فالمراد به بيان مشيئة الحتم ليتّضح الأمران.

(أَ وَمَا رَأَيْتَ). نشر على ترتيب اللفّ. وهذا ناظر إلى قوله: «ينهى، وهو يشاء»، .

ص: 451


1- المغني في أبواب العدل والتوحيد ، ص 218 ؛ شرح الاُصول الخمسة ، ص 316 . وحكاه العلاّمة في معارج الفهم ، ص 413 عن المعتزلة .
2- المغني في أبواب العدل والتوحيد ، ص 218 ؛ شرح الاُصول الخمسة ، ص 316 . وحكاه العلاّمة في معارج الفهم ، ص 413 عن المعتزلة .
3- التوحيد ، ص 30 .
4- أي في الحديث 1 من باب في أنّه لا يكون شيء في السماء والأرض إلاّ بسبعة .

والهمزة للاستفهام الإنكاري، والواو للعطف على مقدّر للإشارة إلى كثرة الأدلّة، فكأنّه قال: أما رأيت كذا وكذا وما رأيت.

(أَنَّهُ نَهى آدَمَ وَزَوْجَتَهُ أَنْ يَأْكُلاَ مِنَ الشَّجَرَةِ وَشَاءَ ذلِكَ؟) أي أن يأكلا من الشجرة.

(وَلَوْ لَمْ يَشَأْ أَنْ يَأْكُلاَ) أي ولو شاء أن لا يأكلا، بقرينة قوله:

(لَمَا غَلَبَتْ مَشِيئَتُهُمَا) أي للأكل (مَشِيئَةَ اللّه ِ) أي لعدم الأكل.

والمراد بالمشيئة لعدم الأكل ما مرّ في ثالث الباب من تحقّقها في ضمن الفرد الذي يزعمه المعتزلة. ففيه ردّ عليهم بأنّه يستلزم إخراج اللّه من سلطانه، وسيجيء بيانه في شرح ثاني «باب الاستطاعة».

وقال ابن بابويه في كتابه في التوحيد في الباب المذكور:

إنّ اللّه _ تبارك وتعالى _ نهى آدم وزوجته عن أن يأكلا من الشجرة، وقد علم أنّهما يأكلان منها، لكنّه عزّ وجلّ شاء أن لا يحُول بينهما وبين الأكل منها بالجبر والقدرة كما منعهما من الأكل منها بالنهي والزجر، فهذا معنى مشيئته فيهما، ولو شاء اللّه _ عزّ وجلّ _ منعهما من الأكل بالجبر ثمّ أكلا منها، لكانت مشيئتهما قد غلبت مشيئته كما قال العالم عليه السلام ، تعالى اللّه عن العجز علوّا كبيرا. انتهى.(1)

وفيه ما فيه.

ذهب جمع إلى أنّ «لو» تفيد امتناع الشرط وامتناع الجواب جميعا.

وهذا هو القول الجاري على ألسنة المعربين، ونصّ عليه جماعة من النحويّين، والمتبادر في الاستعمال عند عدم القرينة الصارفة.

وذهب آخرون إلى أنّ «لو» إنّما تفيد امتناع الشرط، ولا تفيد امتناع الجواب؛ تمسّكا بقوله تعالى: «وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمْ الْمَلاَئِكَةَ وَكَلَّمَهُمْ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَىْ ءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا»(2)، وقوله: «وَلَوْ أَنَّمَا فِى الاْءَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ .

ص: 452


1- التوحيد ، ص 65 ، ذيل ح 18 .
2- الأنعام (6) : 111 .

أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللّه ِ»(1)،(2) وما روي عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال في بنت اُمّ سلمة: «إنّها لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلّت لي؛ إنّها لاَبنة أخي من الرضاعة»(3) وأمثال ذلك.

فنقول هنا على القول الأوّل: يجب تأويل ما نحن فيه بأحد أمرين:

الأوّل _ : وهو الأظهر _ : أنّ فيه وضعَ اللازم المنفيّ موضعَ الملزوم المنفيّ، تقديره: ولو لم يشأ أن يأكلا لم يأكلا؛ إذ لو أكلا لغلبت مشيئتهما مشيئة اللّه . والمراد بالشرطيّة الثانية أنّه لو أكلا حين لم يشأ أن يأكلا لغلبت، كما قالوا في قوله تعالى: «لَوْ عَلِمَ اللّه ُ فِيهِمْ خَيْرا لاَءَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا»(4).

الثاني: أنّ المراد لو لم يشأ أن يأكلا لاجتمع ذلك مع عدم غلبة مشيئتهما مشيئة اللّه .

ومثل هذا التأويل جارٍ في جميع ما تمسّك به أهل القول الثاني.

(وَأَمَرَ إِبْرَاهِيمَ). هذا ناظر إلى قوله: «ويأمر وهو لا يشاء».

(أَنْ يَذْبَحَ). فيه مسامحة؛ لأنّ المأمور به في الحقيقة أخذ السكّين باليد وتحريك اليد مع السكّين على النحو المعهود على حلق أحد، فإن ترتّب عليه انقطاع الأوداج سمّي ذبحا، وإلاّ فلا. وقطع الأوداج من الأفعال المولّدة، وفاعل الأفعال المولّدة هو اللّه عند المحقّقين؛(5) لأنّها بتبعيّة داعي اللّه لا بتبعيّة داعي العبد، وفعله تعالى ذلك عقيب تحريك اليد بإجراء العادة، وهو تعالى قادر على عدمه بخرق العادة. ولمّا كان عادته تعالى فعلَ القطع عقيب التحريك، سمّي الأمر بالتحريك أمرا بالذبح مسامحةً، فإنّ الأمر بغير المقدور حقيقةً غير جائز. وقد دلّ الدليل على أنّ النسخ قبل وقت الفعل غير جائز.(6) .

ص: 453


1- لقمان (31) : 27 .
2- مغنى اللبيب ، ج 1 ، ص 257 .
3- صحيح البخاري ، ج 6 ، ص 125 ، كتاب النكاح ؛ و ص 195 كتاب النفقات ؛ صحيح مسلم ، ج 4 ، ص 165 ، باب تحريم الربيبة ؛ سنن ابن ماجة ، ج 1 ، ص 624 ، ح 1939 ، باب ما يحرم من الرضا عليه السلام .
4- الأنفال (8) : 22 .
5- المواقف ، ج 2 ، ص 131 .
6- اُنظر عدّة الاُصول ، ج 2 ، ص 520 ، فصل 5 ، وفي الطبعة الاُخرى ، ج 3 ، ص 37 ، فصل: إذا نسخ الشيء قبل وقت فعله .

وسيجيء في «كتاب الحجّ» في تاسع(1) «باب حجّ إبراهيم وإسماعيل» قوله: «ثمّ أخذ المدية(2) فوضعها على حلقه، ثمّ رفع رأسه إلى السماء، ثمّ انتحى عليه،(3) فقلبها جبرئيل على حلقه».(4)

(إِسْحَاقَ). يجيء في عاشر(5) «باب حجّ إبراهيم وإسماعيل» ما يدلّ أيضا على أنّ الذبيح إسحاق،(6) وفي خامسه(7) ذكر الخلاف فيه.(8)

وروى ابن بابويه في معاني الأخبار في «باب نوادر المعاني» عن أبي عبداللّه عليه السلام الاستدلال بالقرآن على أنّ الذبيح إسماعيل، وفي آخرها: «فمن زعم أنّ إسحاق أكبر من اءسماعيل وأنّ الذبيح إسحاق فقد كذب بما أنزل اللّه عزّ وجلّ في القرآن من نبئهما» انتهى.(9)

وقال في كتاب الخصال في «باب الاثنين»:

قد اختلفت الروايات في الذبيح، فمنها: ما ورد بأنّه إسماعيل، ومنها: ما ورد بأنّه إسحاق. ولا سبيل إلى ردّ الأخبار متى صحّ طرقها، وكان الذبيح إسماعيل، لكن إسحاق لمّا ولد بعد ذلك تمنّى أن يكون هو الذي اُمر أبوه بذبحه، فكان يصبر لأمر اللّه ، ويسلّم له كصبر أخيه وتسليمه، فينال بذلك درجته في الثواب، فعلم اللّه _ عزّ وجلّ _ ذلك من قلبه فسمّاه اللّه _ عزّ وجلّ _ بين ملائكته ذبيحا؛ لتمنّيه ذلك. انتهى.(10)

(وَلَمْ يَشَأْ أَنْ يَذْبَحَهُ، وَلَوْ شَاءَ) أي أن يذبحه.

(لَمَا غَلَبَتْ مَشِيئَةُ إِبْرَاهِيمَ) أي لعدم الذبح. .

ص: 454


1- في «أ» : «عاشر» .
2- المدية هي السكين والشفرة . النهاية ، ج 4 ، ص 310 (مدا) .
3- الانتحاء : الاعتماد والميل على الشيء ؛ يقال : انتحى على سيفه : إذا اعتمد عليه .
4- الكافي ، ج 4 ، ص 208 .
5- في «ج» : «تاسع» .
6- الكافي ، ج 4 ، ص 208 ، ح 9 و 10 .
7- في «ج» : «وفي ذيل رابعه» بدل «وفي خامسه» .
8- الكافي ، ج 4 ، ص 205 ، ح 4 و 5 .
9- معاني الأخبار ، ص 391 ، باب نوادر المعاني ، ذيل ح 34 .
10- الخصال ، ص 57 ، ذيل ح 78 .

(مَشِيئَةَ اللّه ِ) أي للذبح. هذا أيضا من وضع اللازم المنفيّ موضع الملزوم المنفيّ، لكنّ اللزوم فيه بواسطة تقدير الكلام، ولو شاء أن يذبحه لما وقع عدم الذبح؛ إذ لو وقع عدم الذبح حينئذٍ لوقع بمشيئة إبراهيم، ولو وقع عدم الذبح بمشيئة إبراهيم حينئذٍ لغلبت مشيئة إبراهيم مشيئة اللّه .

ويمكن أن يُقال: إنّ المراد بمشيئة إبراهيم عدمَ الذبح تمنّيه في نفسه عدمَ ترتّب قطع الأوداج على التحريك؛ لرقّة الاُبوّة، وحينئذٍ فاللزوم بلا واسطة.

الخامس: (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مَعْبَدٍ، عَنْ دُرُسْتَ بْنِ أَبِي مَنْصُورٍ، عَنْ فُضَيْلِ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام يَقُولُ: «شَاءَ وَأَرَادَ، وَلَمْ يُحِبَّ وَلَمْ يَرْضَ) أي قد تتعلّق مشيّته تعالى وإرادته بشيء لا يتعلّق به حبّه ورضاه، فليست مشيّته وإرادته مساوقتين لحبّه ورضاه.

وهذا ردّ على المعتزلة في ثاني خلافَيْهم معنا، كما مرّ في أوّل الخامس والعشرين.(1)

(شَاءَ أَنْ لاَ يَكُونَ)؛(2) تامّة، ويحتمل كونها ناقصةً وخبرها قولَه: «بعلمه»، وقولُه: «شاء» مبتدأ محكيّ والمضاف مقدّر؛ أي معنى شاء، والمقصود معنى المشيئة، لأنّ معنى المشتقّ معلوم لأهل اللغة، فقوله: «أن لا يكون» خبر المبتدأ، و«أن» مخفّفة من المثقّلة، أو مفسّرة عند من لا يشترط تقدّم(3) الجملة على «أن» المفسّرِة. ويجعل(4) منها قوله: «وآخر دعواهم أن الحمد للّه ربّ العالمين» فقوله: «لا يكون» بالرفع. .

ص: 455


1- أي في الحديث 1 من باب في أنّه لا يكون شيء في السماء والأرض إلاّ بسبعة .
2- في حاشية «أ» : «قوله : شاء أن لا يكون شيء إلاّ بعلمه، أي شاء بالمشيّة الحتميّة أن لا يكون شيء إلاّ بعلمه ، وعلى طباق ما في علمه بالنظام الأعلى وما هو الخير والأصلح ولوازمها . وأراد بالإرادة الحتميّة مثل ذلك و لم يحبّ الشرور اللازمة التابعة للخير والأصلح ، كأن يقال : ثالث ثلاثة ، وإن يكفر به ، ولم يرض بها (ميرزا رحمه الله تعالى)» . الحاشية على اُصول الكافي ، ص 488 .
3- في «ج» : «بعدم» .
4- في «ج» : «ويحتمل» .

وفي رواية ابن بابويه في كتابه في التوحيد «شاء أن لا يكون في ملكه».(1)

(شَيْءٌ) أي فعل أو ترك صادر عن العباد، فإنّه المقصود بالبيان وإن كان الحكم عامّا.

(إِلاَّ بِعِلْمِهِ). الباء للسببيّة. والمراد «بعلمه» ما يصدر عنه معلوما أنّه المصلحة أو للملابسة؛ أي إلاّ مع علمه تعالى بوجوه ما يفضي إلى كونه(2) وبوجوه ما يفضي إلى عدمه. والمقصود أنّه ليس بمغلوبيّته تعالى ولا غفلته؛ تقول: فعلت كذا بعلم وعلى علم، أي لا بإكراه ولا غفلة، قال تعالى في سورة فاطر: «وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ»(3)، وفي سورة الدخان: «وَلَقَدْ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ»(4)، وفي سورة الجاثية: «وَأَضَلَّهُ اللّه ُ عَلَى عِلْمٍ»(5).

(وَأَرَادَ)؛ مبتدأ محكيّ.

(مِثْلُ)؛ خبر.

(ذلِكَ). الإشارة إلى أن لا يكون شيء إلاّ بعلمه. والمراد بمثله إمّا عينه، فيتّحد معنى المشيئة والإرادة كما هو في بعض استعمالاتهما، وإمّا ما يغايره ويشابهه، فيكون الفرق بينهما أنّ المشيئة باعتبار الابتداء، والإرادةَ باعتبار ما بعده وقبل وقت القدر، كما مرّ في أوّل الخامس والعشرين.(6)

(وَلَمْ يُحِبَّ أَنْ يُقَالَ: ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ). معنى الحبّ هنا عدم النهي، فقول النصارى: «إِنَّ اللّه َ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ»(7) ليس محبوبا عند اللّه وإن كان بمشيئته.

(وَلَمْ يَرْضَ لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ). معنى الرضا أيضا هنا عدم النهي، فكفر الكافر ليس مرضيّا عند اللّه وإن كان بمشيئته. .

ص: 456


1- التوحيد ، ص 343 ، باب المشيئة والإرادة ، ح 12 .
2- في «أ»: + «وبوجوه ما يفضي إلى كونه» .
3- فاطر (35) : 11 .
4- الدخان (44) : 32 .
5- الجاثية (45) : 23 .
6- أي في الحديث 1 من باب في أنّه لا يكون شيء في السماء والأرض إلاّ بسبعة .
7- المائدة (5) : 73 .

السادس: (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عن أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي نَصْرٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الرِّضَا عليه السلام : قَالَ اللّه ُ). يمكن أن يكون القول حديثا قدسيّا، وهو ما كان لفظه من اللّه تعالى وليس اللفظ جزءا من القرآن، وقيل: ما كان من اللّه لا بتوسّط جبرئيل. انتهى.

ويمكن أن يكون نقلاً من القرآن باعتبار أنّه مذكور بالمعنى في القرآن.

(ابْنَ آدَمَ )؛ بتقدير حرف النداء.

(بِمَشِيئَتِي). تقديم الظرف للحصر؛ أي لا بغلبتك عليَّ. وهذا ردّ للتفويض الأوّل من تفويضي المعتزلة، وقد مرّ بيانهما وبيان معنى المشيئة في أوّل الباب السابق.

(كُنْتَ)؛ بضمير الخطاب.

(أَنْتَ)؛ ضمير الفصل.

(الَّذِي تَشَاءُ). اُقيم في العائد ضمير المخاطب موضع الغائب، كما اُقيم ضمير المتكلّم موضعه في ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: «أنا الذي سمّتني اُمّي حيدرة».(1)

(لِنَفْسِكَ مَا تَشَاءُ).(2) اللام للانتفاع، وهو شامل للطاعة والعصيان؛ لأنّ كلّ فعل أو ترك .

ص: 457


1- الإرشاد للمفيد ، ج 1 ، ص 126 ؛ الأمالي للطوسي ، ص 4 ، المجلس 1 ، ح 2 ؛ روضة الواعظين ، ج 1 ، ص 130 ؛ الخرائج والجرائح ، ج 1 ، ص 218 .
2- في حاشية «أ» : «قوله : بمشيّتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء إلى آخره ، أي بالمشيّة التي خلقتها فيك، وجعلتك ذا مشيّة _ وهي من آثار مشيّة اللّه سبحانه _ كنتَ أنت الذي تشاء لنفسك على وفق هواها ما تشاء، وبالقوّة التي خلقتها فيك _ وهي من آثار قوّة اللّه ، ولعلّ المراد بها القوّة العقلانيّة _ أدّيتَ فريضتي، وبنعمتي التي أنعمتها عليك من قدرتك على ما تشاء، والقوى الشهوانيّةِ والغضبيّةِ _ التي بها حفظ الأبدان والأنواع وصلاحها _ قويتَ على معصيتي. وقوله: جعلتك سميعا بصيرا قويّا. السمعُ والبصر ناظر إلى الفقرة الثانية، والقوّةُ إلى الفقرة الثالثة. وقوله: ما أصابك من حسنة فمن اللّه ؛ لأنّه من آثار ما اُفيض عليه من جانب اللّه . وما أصابك من سيّئة فمن نفسك، لأنّه من طغيانها بهواه. وقوله: وذاك أنّي أولى بحسناتك منك إلى آخره، بيان للفرق، مع أنّ الكلّ مستند إليه ومُنْتَهٍ به بالأخرة، وللعبد في الكلّ مدخل بالترتّب على مشيّته وقواه العقلانيّةِ والنفسانيّةِ بأنّ ما يؤدّي إلى الحسنات منها أولى به سبحانه؛ لأنّه من مقتضيات خيريّته سبحانه وآثارِه الفائضة من ذلك الجناب بلا مدخليّة للنفوس إلاّ القابليّة لها، وما يؤدّي إلى السيّئات منها أولى بالأنفس؛ لأنّها مَناقصُ، من آثار نقصها لا تستند إلاّ إلى ما فيه منقصة. وقوله: وذاك أنّني لا أُسأل عمّا أفعل وهم يُسألون، بيان لكونه أولى بالحسنات بأنّ ما يصدر ويفاض من الخير المحض من الجهة الفائضة منه، لا يسأل عنه ولا يؤاخذ به؛ فإنّه لا مؤاخذة بالخير الصرف، وما ينسب إلى غير الخير المحض ومَن فيه شرّيّة ينبعث منه الشرّ يؤاخذ بالشرّ، فالشرور وإن كانت من حيث وجودها منتسبةً إلى خالقها، فمِن حيث شرّيّتها منتسبةٌ إلى مُنشئها وأسبابها القريبة المادّيّة؛ صدق اللّه العظيم (ميرزا رحمه الله )» . الحاشية على اُصول الكافي ، ص 489 .

اختياري موقوف على الداعي، قال تعالى في سورة المدّثّر: «إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ * وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللّه ُ»(1)، وفي سورة الإنسان: «إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً * وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللّه ُ»(2)، ولعلّه لم يقل بمشيّئتي تشاء لنفسك ما تشاء مع أنّه أخصر إشارةً إلى أنّ ابن آدم يجعل نفسه معتدّا بها، ومشارا إليها في مشيّئته الأفعال الحسنة لنفسه.

(وَبِقُوَّتِي أَدَّيْتَ فَرَائِضِي) أي بالقوّة التي جعلتها فيك بالتوفيق للقبول منّي ووضع ثقل العمل كما يجيء في ثاني «باب السعادة والشقاء». وتقديم الظرف هنا أيضا للحصر كما مرّ، لا حول ولا قوّة إلاّ باللّه .

(وَبِنِعْمَتِي قَوِيتَ عَلى مَعْصِيَتِي). أشار بتغيير الاُسلوب إلى أنّه تعالى لا يفعل ما يقوّي معصية العاصي لأجل عصيانه، بل لمصلحة اُخرى أوجبته، بخلاف ما يقوّي جانب الطاعة.

(جَعَلْتُكَ سَمِيعا بَصِيرا قَوِيّا). بيانٌ لبعض النعمة على سبيل المثال، وهو في أكثر المكلّفين.

والمراد بالقوّة قوّة البدن الحاصلةُ بالصحّة ونحوها، أو القوّة الحاصلة بكثرة الأتباع.

(«مَا أَصَابَكَ). استئناف لبيان ما يتفرّع على قوله: «وبقوّتي» إلى آخره. وهذا مذكور بلفظه في سورة النساء.(3) و«ما» موصولة متضمّنة معنى الشرط. .

ص: 458


1- المدثر (74) : 54 _ 56 .
2- الإنسان (76) : 29 _ 30 .
3- في حاشية «أ» : «والمخاطب فيها رسول اللّه صلى الله عليه و آله (مهدي)» .

(مِنْ)؛ للتعليل نحو: «مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا»(1)، وقيل: للتبيين.(2)

(حَسَنَةٍ) أي حسن من الأفعال أو التروك، والتأنيث باعتبار الصفة والخصلة، فالمراد ب«ما» جزاء الحسنة في الدنيا أو الآخرة.

(فَمِنَ اللّه ِ) أي ليس مبنيّا على استحقاقك إيّاه بالمكافأة، بل هو فوق المكافأة، ومبنيّ على الكرم.

(وَمَا أَصَابَكَ مِنْ)؛ للتعليل، وقيل: للتبيين.(3)

(سَيِّئَةٍ) أي قبيح من الأفعال أو التروك.

(فَمِنْ نَفْسِكَ»(4)) أي مبنيّ على استحقاقك إيّاه بالمكافأة، بل هو دون المكافأة؛ قال تعالى في سورة حآم عآسق: «وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ».(5)

يجيء في «كتاب الإيمان والكفر» في ثالث «باب نادر أيضا»(6) ما يدلّ على أنّ هذه الآية ليست في المعصومين، فما أصابهم لأسباب اُخرى منها تعريضهم للأجر العظيم بالصبر عليه.

(وَذَاكَ). تعليلٌ لقوله: «ما أصابك» إلى آخره.

(أَنِّي) أي لأنّي (أَوْلى بِحَسَنَاتِكَ) أي أعمالك الصالحة (مِنْكَ).

معنى كونه تعالى أولى بها من العبد أنّ الفعل الحسن قد يكون في مقابلة نعمة سابقة، وقد يكون لطلب ثواب لاحق. ولو بنى معاملته تعالى مع المطيع على المكافأة، كان جعل حسناته في مقابلة النعم السابقة أولى من جعلها لطلب ثواب لاحق؛ فالمراد بالأولويّة الأولويّة على تقدير فرض المكافأة، لا مطلقا؛ فلا ينافي ذلك وجوب الثواب .

ص: 459


1- نوح (71) : 25 .
2- مجمع البيان ، ج 3 ، ص 137 .
3- مجمع البيان ، ج 3 ، ص 137 .
4- النساء (4) : 79 .
5- الشورى (42) : 30 .
6- الكافي ، ج 2 ، ص 450 ، ح 3 .

عليه تعالى في قضيّة الكرم وإن يستحقّ المطيع الثواب عليها بهذا الاعتبار وإن لم يستحقّه عليها باعتبار المكافأة. وقد دلَّ البرهان، على أنّه لا يصدر عنه تعالى ثواب ولا عقاب ولا فعل غير ذلك ولا ترك إلاّ بصفة الوجوب.

(وَأَنْتَ أَوْلى بِسَيِّئَاتِكَ مِنِّي).

معنى الأولويّة هنا أنّ القبيح قد يتجاوز عنه لملاحظة ما يجبره من الحسنات السابقة أو اللاحقة الفارغة للجبر، وقد يعاقب عليه لعدم مقارنته ما يجبره، فيبقى على فاعله، ولو بنى معاملته تعالى مع المسيء على المكافأة، كان جعل سيّئة ممّا يبقى على فاعله أولى من جعله ممّا يتجاوز عنه، سواء كانت السيّئة من المقرّبين، أو من غيرهم؛ لأنّ حسنات المقرّبين غير فارغة للجبر؛ لأنّ اللّه أولى بها من العبد كما مرّ آنفا.

فالمراد بالأولويّة هنا أيضا الأولويّة على تقدير فرض المكافأة، فلا ينافي وجوب العفو عن بعض العُصاة في قضيّة الكرم، ووجوب عقاب بعض العصاة؛ لأنّ العفو عنه ظلم شديد «وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ».(1)

(وَذَاكَ). تعليلٌ للتعليل السابق.

(أَنَّنِي) أي لأنّني. يجوز فيه حذف نون الوقاية _ كما سبق _ وذكرُها كما هنا.

(لاَ أُسْأَلُ عَمَّا أَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) أي لا اُحاسب على معاملتي مع عبادي في التكليف والثواب والعقاب، والعباد يحاسبون على معاملتهم معي في الخير والشرّ.

وهذا من الكناية، والمقصود أنّي أكرم الأكرمين، أترك من حقّي في معاملتي مع عبادي أكثر ممّا آخذ أضعافا مضاعفة، فلا يصلح لعبدي _ سواءً كان مطيعا أم عاصيا، معذّبا أم معفوّا عنه _ أن يحاسبني بأن يطلب حقّه منّي على المكافأة، فإنّ هذا لا ينفعه ويضرّه؛ وذلك لأنّ حسنة العبد بعد ما أنعم اللّه تعالى عليه بما لا يعدّ ولا يحصى، فلو عمل تعالى مع المطيع بالمكافأة دون الكرم، لذهب بجميع ما كدح له وجملة ما سعى .

ص: 460


1- آل عمران (3) : 182 .

فيه جزاءً للصغرى من أياديه تعالى ومننه، ولبقي رهينا بين يديه تعالى بسائر نعمه، فلا يستحقّ شيئا من ثوابه إن لم يستحقّ العقاب؛ هذا حال المطيع.

فأمّا العاصي أمرَه تعالى والمواقع نهيَه تعالى فإنّ اللّه تعالى لم يعاجله بعقوبته، مع أنّ عصيانه بعد نعمه تعالى التي لا تعدّ ولا تحصى، ولقد كان يستحقّ في أوّل ما همَّ بعصيانه كلّ ما أعدَّ لجميع خلقه من العقوبة، كما في الصحيفة الكاملة «من دعائه عليه السلام إذا اعترف بالتقصير عن تأدية الشكر».(1) وأمّا أنّ العباد يحاسبون فلأنّهم يضيّعون حقوقا كثيرة للّه تعالى، ويأتون بما ليس لهم أن يأتوا به.

وإنّما خصَّ الفعل بالذكر مع أنّه تعالى لا يسأل عمّا يترك أيضا وهم يسألون، لأنّه الأهمّ، والتركُ يعلم بالمقايسة.

وهذا مأخوذٌ من قوله تعالى في سورة الأنبياء: «لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللّه ُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللّه ِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ * لاَ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ»(2) أي ليس فيهما له شركاء بأن يكون لهم أن يقولوا في الدين بغير إذنه بل بآرائهم، ويكون عليه أن يرضى كما في نهج البلاغة من كلام له عليه السلام في ذمّ اختلاف العلماء في الفتيا من قوله عليه السلام : «أم كانوا شركاء له، فلهم أن يقولوا، وعليه أن يرضى».(3)

وقوله: «لا يسأل» إلى آخره، كالوعيد، أي ليس لأحدٍ على اللّه حقّ في معاملة التكليف وغيره كما مرَّ آنفا، فيداريه على ما يقول بغير إذنه ويتّخذه شريكا، وله تعالى الحقّ على كلّ أحد، فلو عامل مع النبيّين والصدِّيقين لا بالكرم بل بالمكافأة، لاستحقّوا العقوبة.

ولا ينافي ذلك عصمتهم ولا قاعدة التحسين والتقبيح العقليّين، بل هو مبنيّ على وجوب شكر المُنعم عقلاً، وعلى أنّه ما من أحد إلاّ وهو مقصّر عن تأدية حقّ الشكر. .

ص: 461


1- الصحيفة السجّاديّة (أبطحي) ، ص 183 ، الدعاء 98 ، وفي الطبعة الاُخرى ، ص 184 .
2- الأنبياء (21) : 22 _ 23 .
3- نهج البلاغة ، ص 61 ، الخطبة 18 .

الباب السابع والعشرون: باب الابتلاء و الاختبار

الباب السابع والعشرون بَابُ الاِبْتِلاَءِ وَ الاِخْتِبَارِ

فيه حديثان.

الابتلاء والاختبار: الامتحان، والمراد هنا فعل أو ترك صادر من اللّه تعالى لحكمة ومصلحة يقرّب العبد إلى العصيان؛ قال تعالى في سورة المؤمنين: «وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ»(1)، ويقال له: البلاء؛ قال تعالى في سورة القلم: «إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ».(2) والجميع مَجازات في حقّه تعالى، والمراد ضدّ اللطف في الاقتضاء لا في المحلّ، فيجوز اجتماعه معه في محلّ، فيكون العبد حينئذٍ قريبا إلى المعصية من جهة، وبعيدا عنه من جهة اُخرى؛ أي باب أنّه لا تكليف إلاّ مع الابتلاء والاختبار، أو باب أنّه قد يكون التكليف مع الابتلاء والاختبار.

وهذا الباب للردّ على المعتزلة في قولهم: إنّه لا يجوز على اللّه تعالى ضدّ اللطف،(3) وهو من فروع أوّل خلافيهم معنا، وقد مضى في أوّل الخامس والعشرين.(4)

ومن الدليل على إبطال مذهب المعتزلة أنّا نعلم في أهل الثروة والسلطنة ضدّ

ص: 462


1- المؤمنون (23) : 30 .
2- القلم (68) : 17 .
3- المغني في أبواب العدل والتوحيد، ص 116.
4- أي في الحديث 1 من باب في أنّه لا يكون شيء في السماء والأرض إلاّ بسبعة .

اللطف بديهة، ولا يأمن مكر اللّه إلاّ القوم الخاسرون.

الأوّل: (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هَاشِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى، عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمنِ، عَنْ حَمْزَةَ بْنِ مُحَمَّدٍ الطَّيَّارِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ: مَا مِنْ قَبْضٍ وَلاَ بَسْطٍ).(1)

يُقال: قبضه كضربه: إذا تناوله؛ وعليه بيده: إذا أمسكه؛ ويده عنه: إذا امتنع عن إمساكه.

والبسط: مدّ اليد إلى الشيء لإدراكه؛ يعني ما من امتناع عن المأمور به، ولا ارتكاب للمنهيّ عنه.

(إِلاَّ وَلِلّهِ فِيهِ مَشِيئَةٌ وَقَضَاءٌ). مضى معناهما في أوّل الخامس والعشرين.

(وَابْتِلاَءٌ). مضى معناه آنفا. وهذا للردّ على المعتزلة في أوّل خلافيهم معنا، وقد مضى في الباب المذكور. أمّا في المشيئة والقضاء فظاهر، وأمّا في الابتلاء فإنّه مقرّب إلى العصيان، فهو ضدّ اللطف وهم لا يجوّزون ترك اللطف الناجع، فضلاً عن ضدّ اللطف.

الثاني: (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ فَضَالَةَ بْنِ أَيُّوبَ، عَنْ حَمْزَةَ بْنِ(2) الطَّيَّارِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ فِيهِ قَبْضٌ أَوْ بَسْطٌ مِمَّا)؛ صفة «شيء» و«من» بيانيّة أو تبعيضيّة.

(أَمَرَ اللّه ُ بِهِ أَوْ نَهى عَنْهُ). النشر على ترتيب اللفّ.

(إِلاَّ وَفِيهِ لِلّهِ _ عَزَّ وَجَلَّ _ ابْتِلاَءٌ وَقَضَاءٌ) . معناه ظاهر من أوّل الباب. .

ص: 463


1- في حاشية «أ» : «قوله : ما من قبض ولا بسط إلى آخره ، أي ما من تضييق ولا توسعة إلاّ للّه فيه مشيّة وقضاء لذلك القبض أو البسط ، أو لما يؤدّي إليه ، وابتلاءٌ واختبار لعباده . والحديث الذي بعده كهذا الحديث إلاّ أنّه خصّ بما أمر اللّه به أو نهى عنه ، ولعلّه ليس لاختصاص الحكم به ، بل لبيان الحكم في الخاصّ وإن لم يختصّ به (ميرزا رحمه الله )» . الحاشية على اُصول الكافي ، ص 490
2- في الكافي المطبوع : + «محمّد» .

الباب الثامن والعشرون: باب السعادة و الشقاء

الباب الثامن والعشرون بَابُ السَّعَادَةِ وَ الشَّقَاءِ

فيه ثلاثة أحاديث.

والسعادة بفتح السين المهملة من باب نصر: الرخاء والسعة، والمراد هنا ما يفضي بصاحبه إلى حسن الخاتمة بدون جبر. والشقاء بفتح المعجمة والقصر _ وقد يمدّ _ من باب علم: الشدّة والعُسر، والمراد هنا ما يفضي بصاحبه إلى سوء الخاتمة بدون جبر.

وهذا الباب للردّ على مَن قال:(1) إنّ الأمر مستأنف بمشيئة العبد، والسعادة والشقاء ليسا إلاّ مساوقين لفعله الحسن وفعله القبيح في بدنه.

نقل الشهرستاني في كتاب الملل والنحل عن النظّام(2) من المعتزلة أنّه كذّب ابن مسعود رضى الله عنه في روايته: «السعيد مَن سعد في بطن اُمّه، والشقيّ مَن شقي في بطن اُمّه».(3)

ومن الدليل على إبطال مذهب المعتزلة أنّا نعلم بديهةً أنّ فعل العصيان وتكرّره يورث مَلَكة وهيئة تبعث صاحبها على البقاء على العصيان وانتهاك حرمات اللّه ، وقد تبقى إلى آخر عمره، وليس هذه المَلكة من فعل العبد، بل هي فعلٌ فعل اللّه باختيار وهي الشقاء، لكنّها تختلف شدّةً وضعفا.

ص: 464


1- في «ج» : «على المعتزلة في قولهم» بدل «على من قال» .
2- النظام هو أبو اسحاق إبراهيم بن سيار البصري ابن اُخت أبي هذيل العلاف، شيخ المعتزلة ، كان في أيّام هارون الرشيد ، توفّي النظام سنة 231 هجرية . تاريخ المعتزلة لفالح الربيعي ، ص 97 .
3- الملل والنحل ، ج 1 ، ص 57 .

الأوّل: (مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ شَاذَانَ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَحْيى، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ حَازِمٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ: إِنَّ اللّه َ خَلَقَ السَّعَادَةَ وَالشَّقَاءَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ خَلْقَهُ)(1) أي قبل خلق شيء من الأبدان، ويحتمل أن يُراد قبل نفخ الروح في بطن الاُمّ، والمراد أصل السعادة والشقاء بدون شدّة، فإنّ الشديد منهما إنّما يحدث بتكرّر العصيان بعد التكليف في الأبدان، فليسا مساوقين للأفعال الحسنة والقبيحة في الأبدان. ولعلّ ذلك بعد خلق الأرواح وتكليفهم يوم الميثاق وإطاعة بعضهم ومعصية آخرين مع تسوية اللطف فيه بين السعيد والشقيّ.

ويجيء في «كتاب الإيمان والكفر» في ذيل «باب طينة المؤمن والكافر» في أوّل «بابٌ آخر منه، وفيه زيادة وقوع التكليف الأوّل» قوله: «فثمّ ثبتت الطاعة والمعصية».(2)

ويمكن أن يُقال: خلق السعادة والشقاء قبل هذا حين خلق مادّة كلّ روح، فجعل بعض المادّة ماءً عذبا، وبعضها ماءً اُجاجا، وخلق بعضهم من علّيّين، وبعضهم من سجّين ونحو ذلك، كما يجيء في الباب المذكور من قول أبي جعفر عليه السلام : «إنّ اللّه _ عزّ وجلّ _ قبل أن يخلق الخلق قال: كُن ماءً عذبا أخلق منك جنّتي وأهل طاعتي، وكُن ملحا اُجاجا أخلق منك ناري وأهل معصيتي» الحديث.(3)

ويجيء في «كتاب الإيمان والكفر» في «باب طينة المؤمن والكافر» قول أبي جعفر عليه السلام : «وقلوبهم تهوي إلينا؛ لأنّها خلقت ممّا خلقنا».(4) .

ص: 465


1- في حاشية «أ» : «قوله : إنّ اللّه خلق السعادة والشقاوة إلى آخره ، أي قدّرهما لعباده تقديرا سابقا على الخلق، فمن خَلَقه اللّه سعيدا على وفق تقديره لم يُبغضه أبدا؛ إنّما يبغض عمله _ إن عمل سوءاً _ و لم يبغضه، ومَن قدّره شقيّا وخلقه شقيّا على وفق تقديره لم يحبّه أبدا، وإن عمل عملاً صالحا أحبّ عمله؛ لأنّه يحبّ الخير والصلاح، وأبغضه لشقاوته ولما يصير إليه من عدم الثبات على الإيمان، فإذا أحبّ اللّه شيئا لم يبغضه أبدا، وإذا أبغض اللّه شيئا لم يحبّه أبدا؛ فإنّ كلّ خير وصلاح محبوبه، وكلَّ شرّ وفَساد مبغوض له أبدا (ميرزا رحمه الله )» . الحاشية على اُصول الكافي ، ص 491 .
2- الكافي ، ج 2 ، ص 6 ، ح 1 .
3- الكافي ، ج 2 ، ص 6 ، ح 1 .
4- الكافي ، ج 2 ، ص 4 ، ح 4 .

وهذا لا يقتضي الجبر؛ لأنّ الهوي إلى شى ء لا ينافي القدرة على ضدّه؛ ففي التعليل مسامحة، وهو من قبيل تعليل الشيء بالكاشف عنه وبالعلّة لإثباته، لا لثبوته؛ كأن يقال: تهوي إلينا لأنّ اللّه علم منهم ذلك، والعلم تابع وكاشف.

وأمّا قولهم عليهم السلام في ذلك الباب: «لا يستطيع هؤلاء أن يكونوا من هؤلاء، ولا هؤلاء أن يكونوا من هؤلاء» فسيجيء تحقيقه في ثاني «باب الاستطاعة».

(فَمَنْ خَلَقَهُ اللّه ُ سَعِيدا، لَمْ يُبْغِضْهُ) أي لم يكله إلى نفسه، ولم يحدث فيه شقاء.

(أَبَدا ، وَإِنْ عَمِلَ شَرّا ، أَبْغَضَ عَمَلَهُ(1)). المراد ببغضه تعالى العملَ النهيُ عنه باعتبار استمرار ذلك النهي وتعلّقه به.

(وَلَمْ يُبْغِضْهُ)؛ فإنّه إن أبغضه _ أي وكله إلى نفسه _ رسخ فيه حبُّ عمل الشرّ، وصار إلى سوء الخاتمة.

والمعتزلة _ القائلون بأنّ السعادة والشقاء مساوقان للعمل الحسن والقبيح في الأبدان، وينكرون خلق السعادة _ يقولون: إنّ من عمل شرّا أبغضه اللّه ، فإن عمل خيرا انقلب بغضه حبّا.

(وَإِنْ كَانَ شَقِيّا) أي ومَن خلقه اللّه شقيّا.

(لَمْ يُحِبَّهُ أَبَدا) أي لم يحدث فيه سعادة.

(وَإِنْ عَمِلَ صَالِحا، أَحَبَّ عَمَلَهُ). المراد بحبّه تعالى العملَ الأمرُ به باعتبار استمرار ذلك الأمر وتعلّقه به.

(وَأَبْغَضَهُ) أي وكله إلى نفسه.

(لِمَا يَصِيرُ إِلَيْهِ) أي لعلمه بما يصير إليه من حسن الخاتمة وسوء الخاتمة.

(فَإِذَا أَحَبَّ اللّه ُ شَيْئا، لَمْ يُبْغِضْهُ أَبَدا، وَإِذَا أَبْغَضَ شَيْئا، لَمْ يُحِبَّهُ أَبَدا) . تصريحٌ بالفذلكة.

إن قلت: قال تعالى في سورة الفتح: «لَقَدْ رَضِىَ اللّه ُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ .

ص: 466


1- في «ج» : «عليه» .

الشَّجَرَةِ»(1) وقال: «فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ»(2). وروى الزمخشري عن جابر بن عبداللّه أنّه قال: بايعنا رسول اللّه صلى الله عليه و سلم تحت الشجرة على الموت وعلى أن لا نفرّ، فما نكث أحدٌ منّا البيعة إلاّ جدّ بن قيس وكان منافقا اختبأ تحت إبط بعيره ولم يَسِرْ مع القوم. انتهى.(3) وقد فرَّ قوم بعد بيعة الرضوان في غزوة خيبر؛ روى البخاري عن البراء بن عازب أنّه قيل له: طوبى لك صحبت رسول اللّه صلى الله عليه و سلم وبايعته تحت الشجرة، فقال: يابن أخي إنّك لا تدري ما أحدثنا بعده. انتهى.(4)

إن أرجع ضمير «بعده» إلى المذكور من البيعة، فكأنّه يشير إلى من فرَّ يوم خيبر، وإلى أنّه لا يجوز الاعتماد على محض صورة الصحبة والبيعة، وإن أرجع ضمير «بعده» إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، فالمعنى ظاهر. وهذا يدلّ على أنّ الرضا منه تعالى ينقلب، والحبّ والرضا واحد.

قلت: لعلّه لم يقل اللّه تعالى: «لقد رضي اللّه عن الذين بايعوك تحت الشجرة» مع أنّه أخصر للإشعار بأنّه لم يرض عن جميع المبايعين، فيكون المراد بالمؤمنين حينئذٍ أهلَ السعادة.

إن قلت: ذكر «إذ» في قوله: «إذ يبايعونك» يدلّ على أنّه لم يكن راضيا عنهم قبل ذلك، فهذا يدلّ على حدوث الرضا بالأعمال الصالحة، والحديث يدلّ على خلاف ذلك.

قلت: قد ذكر في الحديث أنّ الحبّ قد يتعلّق بالشخص لسعادته، وقد يتعلّق بالعمل لموافقته الأمر، وأنّ المتعلّق بالعمل يحدث بحدوث العمل، وينتفي بانتفائه، فلعلّ ما في الآية من القسم الثاني، وإنّما علّق بهم إشعارا بأنّه اجتمع فيه القسمان، فيكون المراد بالمؤمنين حينئذٍ أيضا أهل السعادة، أو هو تعليق مجازي، ولا حجر في .

ص: 467


1- الفتح (48) : 18 .
2- الفتح (48) : 10 .
3- الكشّاف ، ج 3 ، ص 543 .
4- صحيح البخاري ، ج 5 ، ص 66 .

المجاز، فيمكن أن يكون المراد بالمؤمنين حينئذٍ أعمّ من أهل السعادة، وذلك على مذهب من يجوّز الارتداد في المؤمن حقيقةً، وفيه خلاف مشهور في علم الكلام.

إن قلت: قد ورد في الأدعية المأثورة طلب تبديل الشقاء بالسعادة، كما في أدعية شهر رمضان من التهذيب في «باب الدعاء بين الركعات» بعد الثماني ركعات التي بعد المغرب، عن ذريح، عن أبي عبداللّه عليه السلام : «يا ذا المنّ لا مَنَّ عليك، يا ذا الطَوْل لا إله إلاّ أنت، ظهير اللاجئين، ومأمَن الخائفين، وجار المستجيرين إن كان في اُمّ الكتاب عندك أنّي شقيّ أو محروم أو مقتّر عليَّ رزقي، فامح من اُمّ الكتاب شقائي وحرماني وإقتار رزقي، واكتبني عندك سعيدا موفّقا للخير، موسّعا عَليَّ رزقك، فإنّك قلت في كتابك المنزل على نبيّك المُرسل صلواتك عليه وآله: «يَمْحُوا اللّه ُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ»(1)» الدعاء(2) وطلب الماضي غير معقول؟

قلت: هاهنا فائدة مهمّة لابدّ من معرفتها، وهي أنّ باب الدعاء باب واسع يسع من الشعريات _ التي تسمّى في باب الدعاء انقطاعا إلى اللّه _ ما لا يسعه غيره لبيان المسائل، فلا نسلّم أنّه طلب حقيقة، بل هو إظهار للرضا بالسعادة، ويترتّب عليه ثواب، وله نظائر كثيرة:

منها: «إلهي لئن طالبتني بذنبي لاُطالبنّك بكرمك، وإن طالبتني بجريرتي لاُطالبنّك بعفوك، ولئن أمرتني إلى النار لاُخبرنّ أهلها أنّي كنت أقول: لا إله إلاّ اللّه ، محمّدٌ رسول اللّه ».(3)

ومنها الدعاء: «إن كنتُ من أهل النار فأسألُك أن تجعلني فداء اُمّة محمّد، وتشغلَ النار بي حتّى يبرّ يمينك، ولا تسعَ النار لأحدٍ غيري».(4)

ومنها: ما في الصحيفة الكاملة من نسبة الذنوب إلى المعصوم، كما في دعائه في .

ص: 468


1- الرعد (13) : 39 .
2- تهذيب الأحكام ، ج 3 ، ص 72 ، ح 4 .
3- الأمالي للصدوق ، ص 357 ، المجلس 57 ، ح 2 ؛ روضة الواعظين ، ج 2 ، ص 329 ؛ مفتاح الفلاح ، ص 24 بتفاوت يسير .
4- تفسير الرازي ، ج 22 ، ص 106 بالمضمون .

الاستقالة،(1) ومثل ذلك اللعن على الظالمين، فإنّه إظهار للخروج عن حزبهم وتبرّى ء منهم، بقرينة أنّ طلب العذاب لشخص إن كان مع العلم بأنّه لا يعفو اللّه عنه البتّة كان عبثا، وإن كان بدون ذلك كان قبيحا.

الثاني: (عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ رَفَعَهُ، عَنْ شُعَيْبٍ الْعَقَرْقُوفِيِّ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، قَالَ: كُنْتُ بَيْنَ يَدَيْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام جَالِسا وَقَدْ سَأَلَهُ سَائِلٌ، فَقَالَ: جُعِلْتُ فِدَاكَ يَا ابْنَ رَسُولِ اللّه ِ، مِنْ أَيْنَ). «من» للابتداء. و«أين» للاستفهام عن المكان، والمقصود هنا بأيّ سبب.

(لَحِقَ)؛ بصيغة الماضي المعلوم؛ يُقال: لحقه كعلم ولحق به لحاقا بالفتح، أي أدركه.

(الشَّقَاءُ)؛ بالرفع، أي الميل إلى المعصية بالطبع والجبلّة.

(أَهْلَ)؛ بالنصب.

(الْمَعْصِيَةِ) أي الذين خاتمتهم السوء والمعصية.

(حَتّى). هي للتعليل، نحو آية سورة الفرقان: «وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ»(2).

(حَكَمَ اللّه ُ لَهُمْ)؛ بصيغة الماضي المعلوم، وفيه ضمير اللّه ، واللام للاستحقاق، نحو آية سورة الأنفال: «وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ»(3) أي ختم لهم.

(فِي عِلْمِهِ). «في» هذه للظرفيّة المجازيّة، نحو: «وَلَكُمْ فِى الْقِصَاصِ حَيَاةٌ»(4)؛ فالمعنى أنّ هذا الحكم في جملة علمه الأزلي وفرد من أفراده، لا في حكمه في وحيه إلى رسله.

(بِالْعَذَابِ عَلى عَمَلِهِمْ؟) أي بأنّ العذاب واجب في قضيّة الحكمة على عملهم،(5) لا يجوز العفو عنهم؛ لأنّ العفو عنهم ظلم؛ أي وضع للشيء في غير موضعه، بل ظلاميّة، .

ص: 469


1- الصحيفة السجّاديّة (ابطحي) ، ص 99 ، الدعاء 9 .
2- الفرقان (25) : 18 .
3- الأنفال (8) : 14 .
4- البقرة (2) : 179 .
5- في «ج» : «علمهم» .

كما في قوله تعالى في سورة الأنفال: «ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّه َ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ».(1)

هذا السؤال مبنيّ على صدق قضيّتين:

الاُولى: أنّ حكمه تعالى في علمه الأزلي بعذاب أهل المعصية على عملهم بسبب لحوق الشقاء بهم في الأوّل.

الثانية: أنّ لحوق الشقاء بهم بسبب من الأسباب والسؤال عن خصوصيّة هذا السبب.

(فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : أَيُّهَا السَّائِلُ). فيه تعنيف وإشارة إلى تجاسر السائل ببناء سؤاله على حكمه بصدق القضيّة الاُولى من القضيّتين المذكورتين مع ظهور فسادها.

(حُكْمُ اللّه ِ عَزَّ وَجَلَّ ).(2) مصدر مضاف، والمراد به هنا حكمه تعالى في علمه الأزلي بكلّ شيء، سواء كان حكمه للأشقياء بالعذاب على عملهم، أم حكمه للسعداء بالثواب على عملهم، أم غيرهما. وهو مبتدأ خبره قوله:

(لاَ يَقُومُ لَهُ) أي للحكم.

(أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ بِحَقِّهِ). الحقّ مصدر باب نصر: الإيجاب والإثبات، والضمير لحكمر.

ص: 470


1- الأنفال (8) : 181 _ 182 .
2- في حاشية «أ»: «قوله: حكم اللّه تعالى لا يقوم له أحد من خلقه بحقّه إلى آخره، لمّا سأل السائل عمّا يستند إليه حكم اللّه بعذاب أهل الشقاء، وأنّه لابدّ أن يكون لحوق الشقاء لهم مقدّما على حكم اللّه في علمه حتّى يترتّب عليه ذلك الحكم، وعمّا يستند إليه لحوق الشقاء [سابقا على حكمه في علمه، وأنّه لا شيء قبل علمه ليستند إليه لحوقُ الشقاء] لهم، أجاب عليه السلام بأنّ حكم اللّه تعالى لا يقوم له أحد من خلقه بموجبه وبيان سببه، أو بما يليق به، وبأن يكون بيانا لسببه ولا بإدراكه وفهمه، وما هو كذلك فحقيق بأن لا يُتعرّض لبيانه، والسكوتُ عمّا يعجز اللسان عن بيانه أولى من التعرّض للبيان. ثمّ بيّن بقوله: فلمّا حكم بذلك إلى آخره، أنّ حكمه بذلك في علمه يترتّب عليه إعطاء المعرفة لأهل السعادة وأهلِ المحبة، ووضعُ ثقل العمل عنهم بثبوت ما هم أهلُه، وإعطاءُ أهل الشقاء والمعصية القوّةَ على معصيتهم لما علمه فيهم من الشقاء، ومنعهم ولم يعطهم إطاقة القبول منهم، فواقعوا ما سبق لهم في علمه من السعادة والشقاوة وتوابعهما، ولم يقدروا على الإتيان بحال لهم تنجّيهم من عذابه؛ لأنّ علمه أولى بحقيقة التصديق والوقوع، وقوله: وهو معنى شاء ما شاء، أي ما ذكرناه من أنّه لا يقوم لحكم اللّه أحد من خلقه بحقّه معنى شاء ماشاء، وهو سرّه الذي لم يطّلع عليه أحد من خلقه (ميرزا رفعيا رفع اللّه قدره ورحمه)». الحاشية على اُصول الكافي لميرزا رفيعا، ص 491 _ 492. ومابين المعقوفين من المصدر.

اللّه ؛ أي ليس وجود أحد من المخلوقين حاقّا لحكم اللّه في علمه الأزلي، فضلاً عن لحوق الشقاء بذلك المخلوق، فإنّه أيضا مخلوق حادث، والحادث لا يكون حاقّا للقديم الأزلي.

إن قلت: العلم بلا شيء محضٍ محال، يجوز قِدم علمه تعالى بكلّ شيء مع حدوث كلّ مخلوق.

قلت: إن اُريد بالشيء الموجودُ في الخارج أو في الذهن، فلا نسلّم استحالة العلم بلا شيء محض، وإن اُريد به أعمّ من الثابت في الخارج بدون وجود، فيجوز علمه تعالى أزلاً بكلّ شيء؛ لثبوت المعدومات في الخارج أزلاً وأبدا بدون تأثير وخلق. وتفصيله في حواشينا على عدّة الاُصول.

(فَلَمَّا حَكَمَ بِذلِكَ، وَهَبَ لاِءَهْلِ مَحَبَّتِهِ الْقُوَّةَ عَلى مَعْرِفَتِهِ). «لمّا» هنا ك«لّما» في قولك: لمّا أكرمتني أمس أكرمتك اليوم. و«حَكَمَ» بصيغة ماضي معلوم باب نصر. والباء للمصاحبة، نحو: اهبط بسلام؛ أي معه. والإشارة إلى عدم القيام المفهوم من قوله: «لا يقوم له أحد من خلقه بحقّه».

والمراد بأهل محبّته: الذين حكم في علمه الأزلي بأنّهم يحبّونه، فإضافة المصدر إلى المفعول كما في «معرفته».

ومعرفتُه الاعتراف بربوبيّته يوم قال: «أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى».(1) والمراد بالقوّة على معرفته: انشراح صدورهم للإسلام بعد تعلّقهم بالأبدان، كما في قوله في سورة الأنعام: «فَمَنْ يُرِدْ اللّه ُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلاْءِسْلاَمِ»(2).

(وَوَضَعَ عَنْهُمْ ثِقَلَ الْعَمَلِ). عطفُ تفسير، والمراد بالعمل المعرفة، فإنّها من أعمال القلب، فهذا لا ينافي ما يجيء في «كتاب الجنائز» في أوّل «باب العلّة في غسل الميّت غسل الجنابة» من قول أبي جعفر عليه السلام لمخالف استبصر: «أما أنّ عبادتك يومئذٍ كانت .

ص: 471


1- الأعراف (7) : 172 .
2- الأنعام (6) : 125 .

أخفّ عليك من عبادتك اليوم، لأنّ الحقّ ثقيل، والشيطان موكّل بشيعتنا».(1)

(بِحَقِيقَةِ مَا هُمْ أَهْلُهُ). فيه إشارة إلى تفاوت السعداء في هبة القوّة ووضع الثقل. والحقيقة: المقدار؛ أي وهب لكلّ من أهل محبّته القوّةَ بمقدار ما هو أهله، لا زائدا ولا ناقصا؛ فكذا وضع الثقل عنهم.

(وَوَهَبَ). إشارةٌ إلى أنّ ذلك باستحقاقهم، فكأنّهم طلبوه فاُعطوا، والهبة بعد تعلّقهم بالأبدان.

(لاِءَهْلِ الْمَعْصِيَةِ) أي الذين حكم لهم في علمه الأزلي بمعصيتهم بعد تعلّقهم بالأبدان وإنكارهم المعرفة التي صدرت عنهم يوم التكليف الأوّل.

(الْقُوَّةَ عَلى مَعْصِيَتِهِمْ) أي انشراح صدورهم للكفر وضيقها عن الإسلام، كما في قوله تعالى في سورة النحل: «وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللّه ِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ»(2)، وفي سورة الأنعام: «وَمَن يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى السَّمَآءِ»(3).

(لِسَبْقِ عِلْمِهِ فِيهِمْ) أي لعلمه السابق الأزلي بأنّهم يستحقّون هبة القوّة على معصيتهم.

(وَمَنَعَهُمْ)؛ بصيغة الماضي المعلوم المجرّد.

(إِطَاقَةَ الْقَبُولِ مِنْهُ) أي انشراح صدورهم للقبول من اللّه ؛ يُقال: أطقت الشيء وهو في طوقي، أي في وسعي. وطوّقني اللّه أداء حقّك، أي قوّاني؛(4) قال تعالى في سورة البقرة: «رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ»(5).

(فَوَاقَعُوا)؛ بالقاف والمهملة؛ أي خالطوا وفعلوا باختيارهم. وفي نسخة بالفاء .

ص: 472


1- الكافي ، ج 3 ، ص 161 ، ح 1 .
2- النحل (16) : 106 .
3- الأنعام (6) : 125 .
4- الصحاح ، ج 4 ، ص 1519 ؛ لسان العرب ، ج 10 ، ص 233 (طوق) .
5- البقرة (2) : 286 .

والقاف، وهي الموافقة لرواية ابن بابويه في توحيده.(1)

(مَا سَبَقَ لَهُمْ فِي عِلْمِهِ) يعني معصيتهم المعلومة له أزلاً.

(وَلَمْ يُقْدَرُوا(2))؛ بصيغة المضارع المجهول من باب نصر وضرب، مأخوذ من القدر بمعنى التدبير مطلقا. والفاعل هو اللّه تعالى. وقدر اللّه تعالى غير عمله تعالى.

(أَنْ يَأْتُوا حَالاً تُنْجِيهِمْ مِنْ عَذَابِهِ)؛ مرفوع على أنّه بدل اشتمال من الضمير؛ تقول: أتيت الأمر، أي فعلته. والمقصود أنّ قدر اللّه تعالى تعلّق بمعصيتهم ولم يتعلّق بحال تنجيهم من عذابه.

(لاِءَنَّ)؛ تعليل لقوله: «لم يقدروا» إلى آخره.

(عِلْمَهُ) أي علمه الأزلي بأنّهم أهل المعصية على تقدير تسوية اللطف بين جميع المكلّفين.

(أَوْلى بِحَقِيقَةِ التَّصْدِيقِ) أي أولى بأن يعمل بمقتضاه كما هو حقّه.

(وَهُوَ). راجعٌ إلى ما يفهم من قوله: «ووهب لأهل المعصية» إلى آخره، أو من قوله: «فواقعوا» إلى آخره، أو من قوله: «وهب لأهل محبّته» إلى آخره. ومآل الكلّ واحد.

(مَعْنى «شَاءَ مَا شَاءَ»). الضميران المستتران للّه ، و«ما» نافية، والجملة الثانية معطوفة على الاُولى بحذف العاطف، والنشر على ترتيب اللفّ؛ يعني أنّ هبته تعالى لأهل المعصية القوّة على معصيتهم معنى مشيئته تعالى لمعصيتهم، ومنعه تعالى إيّاهم إطاقة القبول منه معنى عدم مشيئته تعالى لقبولهم منه.

وهذا إشارة إلى تفسير أمثال قوله تعالى في سورة الدهر والتكوير: «وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللّه ُ»(3)، وفي سورة يونس: «قُلْ لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّا وَلاَ نَفْعا إِلاَّ مَا شَاءَ اللّه ُ»(4). .

ص: 473


1- التوحيد ، ص 354 ، باب السعادة والشقاوة ، ح 1 .
2- في الكافي المطبوع : «يَقْدِرُوا» بالمعلوم .
3- الإنسان (76) : 30 ؛ التكوير (81) : 29 .
4- يونس (10) : 49 .

(وَهُوَ سِرُّهُ). الضمير المرفوع راجع إلى «معنى شاء ما شاء»، والضمير المجرور راجع إلى اللّه تعالى؛ يعني أنّ هذا المعنى لشاء ما شاء سرُّ اللّه الذي أودعه صدور أوليائه من أهل بيت نبيّه صلّى اللّه عليهم، ولا يعلمه إلاّ العالم منهم، أو من علّمه العالم منهم، كما يجيء في عاشر الباب الآتي، فلا تذيعوه عند المخالفين وأهل الضلال، فإنّ المجبّرة منهم يفسّرون مشيئته تعالى في أمثال «وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللّه ُ» بما يفضي إلى الجبر،(1) والقدريّة منهم يفسّرون مشيئته تعالى بمحض علمه، ويجعلون العبد مستقلاًّ في قدرته.

والحقّ الأمر بين الأمرين، كما يجيء في الباب الآتي.

ونظير هذا السرّ ما يجيء في «كتاب الحيض» في أوّل «باب معرفة دم الحيض والعذرة والقرحة» من قول أبي الحسن موسى عليه السلام : «يا خلف، سرّ اللّه سرّ اللّه فلا تذيعوه، ولا تعلّموا هذا الخلق اُصول دين اللّه ، بل ارضوا لهم ما رضي اللّه لهم من ضلال».(2)

حاصل الجواب: أنّ اللّه تعالى علم في الأزل أنّ مقتضى الحكمة أن يخلق فيما لا(3) يزال أقواما من الإنس والجنّ، ويكلّفهم بأشياء بعد الإقرار والتمكين وإزاحة العلّة ببعث الرُّسل وإنزال الكتب، وعلم أيضا أنّه على تقدير تسوية اللطف بين جميع المكلّفين يختار بعضهم الطاعة بدون جبر، ويختار بعضهم العصيان بدون جبر، فخلقهما فيما لا يزال، ووهب للأوّلين القوّة على معرفته، ووضع عنهم ثقل العمل، مع قدرته تعالى على ما يصرفهم عن ذلك باختيارهم خلاف ذلك، ووهب للآخرين القوّة على معصيتهم، ومنعهم قوّة القبول منه، مع قدرته تعالى على ما يصرفهم عن ذلك باختيارهم خلاف ذلك؛ فلا جور في مشيئته تعالى عند خلق السعادة للأوّلين والشقاء للآخرين.

ويتلخّص من هذا الجواب أنّه إذا قال السائل: من أين لحق الشقاء أهلَ المعصية في».

ص: 474


1- اُنظر تفسير الكبير ، ج 13 ، ص 152 ؛ وج 14 ، ص 178 ؛ و ج 30 ، ص 210 .
2- الكافي ، ج 3 ، ص 92 ، ح 1 .
3- فى «ج»: - «لا».

بطون اُمّهاتهم مثلاً؟ فالجواب: من علم اللّه الأزلي بأنّهم أهل المعصية. وإن قال: من أين لحقت المعصية أهل المعصية بعد تكليفهم في الأبدان؟ فالجواب: من سوء اختيارهم لأنفسهم مع قدرتهم أن يأتوا حالاً تنجيهم، فإنّ معصيتهم ليست واجبة بالوجوب السابق، إنّما هي واجبة بالوجوب اللاحق.

وتفصيل دفع الشكوك عن هذا في حواشينا على عدّة الاُصول.

الثالث: (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النَّضْرِ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عِمْرَانَ الْحَلَبِيِّ، عَنْ مُعَلّى أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حَنْظَلَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، أَنَّهُ قَالَ: يُسْلَكُ بِالسَّعِيدِ). «سلك» يستعمل لازما ومتعدّيا، فإن جعل هنا من اللازم، فهو بصيغة المضارع المجهول، والباء للتعدية، والظرف قائم مقام الفاعل، أو المعلوم والباء للتعدية، وفيه ضمير راجع إلى اللّه ؛ وإن جعل من المتعدّي من المجهول، فالباء لتقوية الإلصاق، والظرف قائم مقام الفاعل، أو المعلوم والباء للتقوية، وفيه ضمير اللّه .

(فِي طَرِيقِ الاْءَشْقِيَاءِ) أي الطريق الذي يكون غالبا للأشقياء، وهو طريق المعاصي.

(حَتّى يَقُولَ النَّاسُ). يجوز في «يقول» الرفع كقراءة نافع «حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ»(1)طآه (20) : 91 .(2) فتكون «حتّى» الابتدائيّة الداخلة على الجمل وما بعدها حاليّةً محكيّة، أي حتّى حاله حينئذٍ أنّ الناس يقولون. ويجوز النصب كقراءة الباقين، فتكون «حتّى» جارّةً بمعنى «إلى» نحو «حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى».(2)

(مَا أَشْبَهَهُ)؛ فعل تعجّب.

(بِهِمْ). إنّما يقولونه حين ظنّوا أنّه ليس منهم.

(بَلْ هُوَ مِنْهُمْ!) أي بل حتّى يقولوا: هو منهم، وهذا إنّما يقولونه حين ظنّوا أنّه منهم. ويحتمل أن يكون لفظة «بل» أيضا من كلام الناس.

(ثُمَّ يَتَدَارَكُهُ) أي يلحقه ويأخذه عن هذا الطريق. والفعل المنسوب إلى واحد إذا .

ص: 475


1- حكاه في التبيان، ج 2، ص 197؛ مجمع البيان، ج 2، ص 67. والآية في سورة البقرة
2- : 214.

نقل إلى باب التفاعل أفاد المبالغة، باعتبار أنّ الغالب فيما فيه مغالبة المبالغة.

(السَّعَادَةُ) التي خلقها اللّه تعالى فيه في بطن اُمّه مثلاً.

(وَقَدْ يُسْلَكُ بِالشَّقِيِّ طَرِيقَ السُّعَدَاءِ حَتّى يَقُولَ النَّاسُ: مَا أَشْبَهَهُ بِهِمْ، بَلْ هُوَ مِنْهُمْ! ثُمَّ يَتَدَارَكُهُ الشَّقَاءُ) أي يغلب عليه ويأخذه من هذا الطريق، كقوله تعالى حكايةً: «رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا».(1)

ونسبة التدارك إلى السعادة والشقاء مجاز، والمقصود التوفيق والخذلان على وفق ما خلق فيه بدون جبر ووجوب سابق، كما ذكرنا في شرح ثاني الباب.

(إِنَّ مَنْ كَتَبَهُ اللّه ُ سَعِيدا). استئنافٌ بياني؛ أي من ثبت اسمه في صحيفة السعداء، مثل ما يجيء في «كتاب الصلاة» في أوّل «باب النوادر»: «وأنّ في البيت المعمور لرقّا من نور، فيه كتابٌ من نور، فيه اسم محمّد وعليٍّ والحسن والحسين والأئمّة عليهم السلام وشيعتهم إلى يوم القيامة، لا يزيد فيهم رجل ولا ينقص منهم رجل».(2)

(وَإِنْ)؛ وصليّة.

(لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا) أي من عمره في الدنيا.

(إِلاَّ فُوَاقُ)(3)؛ بضمّ الفاء _ وقد يفتح _ : ما بين الحلبتين من الوقت، أو ما بين فتح يدك وقبضها على الضرع.(4)

(نَاقَةٍ خَتَمَ)؛ بالمعجمة والمثنّاة فوقُ بصيغة ماضي معلوم باب ضرب، وفيه ضمير اللّه . ويحتمل المجهول. .

ص: 476


1- المؤمنون (23) : 106 .
2- الكافي، ج 3 ، ص 482 ، ح 1 .
3- فى حاشية «أ»: «قوله: إلاّ فواق ناقة، الفواق _ كغراب _ : ما بين الحلبتين من الوقت؛ لانّها تحلب ثم تترك سويعة يرضعها الفصيل لتدر ثم تحلب، أو مابين فتح يدك وقبضها على الضرع، وفي الحديث: العيادة قدر فواق ناقة (ميرزا رحمه الله )». الحاشية على اُصول الكافي لميرزا رفيعا، ص 492. والحديث في الكافي، ج 3، ص 117، باب كم يعاد المريض و... ، ح 2.
4- لسان العرب ، ج 10 ، ص 316 (فوق) .

(لَهُ بِالسَّعَادَةِ) أي بفعل يناسب سعادته، وذلك بالتوفيق.

وفي الكلام اقتصار، أي ومن كتبه اللّه شقيّا وإن لم يبق من الدنيا إلاّ فواق ناقة ختم له بالشقاء. ويجيء في «كتاب الحجّة» في سادس عشر «مولد النبيّ صلى الله عليه و آله ووفاته» عن أبي عبداللّه عليه السلام قال: «خطب رسول اللّه صلى الله عليه و آله الناس، ثمّ رفع يده اليمنى قابضا على كفّه، ثمّ قال: أتدرون أيُّها الناس ما في كفّي؟ قالوا: اللّه ورسوله أعلم، فقال: فيها أسماء أهل الجنّة،وأسماء آبائهم وقبائلهم إلى يوم القيامة، ثمّ رفع يده الشمال فقال: أيّها الناس أتدرون ما في كفّي؟ قالوا: اللّه ورسوله أعلم، فقال: فيها أسماء أهل النار، وأسماء آبائهم وقبائلهم إلى يوم القيامة، ثمّ قال: حكم اللّه وعدل حكم اللّه وعدل «فَرِيقٌ فِى الْجَنَّةِ وَ فَرِيقٌ فِى السَّعِيرِ».(1) .

ص: 477


1- الكافي ، ج 1 ، ص 444 ، ح 16 . والآية في سورة الشورى (42) : 7 .

الباب التاسع والعشرون: باب الخير و الشرّ

الباب التاسع والعشرون بَابُ الْخَيْرِ وَ الشَّرِّ

فيه ثلاثة أحاديث.

وهذا الباب للردّ على القدريّة المعتزلة في قولهم: إنّ نحو قوله تعالى: «خَ__لِقُ كُلِّ شَىْ ءٍ»(1) مخصَّص بما عدا أفعال العباد.(2) وهذا من فروع خلافَيْهم اللذين مضيا في أوّل الخامس والعشرين.(3)

الأوّل: (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ مَحْبُوبٍ وَعَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ وَهْبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام يَقُولُ: إِنَّ مِمَّا أَوْحَى اللّه ُ إِلى مُوسى عليه السلام ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ فِي التَّوْرَاةِ). ذكر الإنزال بعد الوحي بيان لطريق الوحي، ويحتمل أن يكون تأسيسا، فيكون المراد أنّه كرّر على موسى هذا البيان لشدّة الاحتياج إلى معرفته، فأوحى إليه أوّلاً وكأنّه حين كلّمه تكليما، وأنزل ثانيا في الألواح التي كتب فيها التوراة:

(أَنِّي أَنَا اللّه ُ لاَ إِلهَ إِلاَّ أَنَا ، خَلَقْتُ الْخَلْقَ) أي العباد خلقَ تكوينٍ.

(وَخَلَقْتُ الْخَيْرَ)(4) أي الفعل الحسن. وخلقه ليس بإيجاده تعالى إيّاه، بل بالمشيئة

ص: 478


1- الأنعام (6) : 102 ؛ الرعد (13) : 16 ؛ الزمر (39) : 62 ؛ غافر (40) : 62 .
2- اُنظر معارج الفهم ، ص 408 ؛ المسلك في اُصول الدين ، ص 83 .
3- أي في الحديث 1 من باب في أنّه لا يكون شيء في السماء والأرض إلاّ بسبعة .
4- فى حاشية «أ»: «قوله: خلقت الخلق وخلقت الخير إلى آخره، لعلّ المراد بالخلق الموجود العيني القارّ الوجود، وبالخير والشرّ ما هو من الأعمال والأقوال، وكلّ الموجودات بأقسامها مستند الوجود إليه سبحانه. واستناد بعضها إلى من يفعله باعتبار جريانه على يده ووقوعه تبع قدرته وإرادته بالمدخليّة لا بالإيجاد، وإنّما إعطاء الوجود من الواجب بذاته، الموجب الموجد للأشياء كما هي في عمله بمشيته وإرادته وقدره وقضاءه، فلأفعال العباد موجد موجب وشرائط وأسباب، فالموجد الموجب هو الواجب الوجود بذاته وهو خالقها وخالق كلّ شيء، وما قدرته وإرادته من شرائطها وأسبابها هو العامل لها، فهي بين موجب موجد وشرائط وأسباب مقرّبة لها إلى الوجود، ووجودها وجهة خيريتها من ذلك المبدأ الفاعل وظهورها على يد عاملها، وجهات شرّيتها من شرائطها وأسبابها التي هي من أحوال عاملها، وواسطة ظهورها يجريها على يده وبقدرته وإرادته سبحانه، فينتسب إلى العامل بهذه الجهة، فخالقها وموجدها هو اللّه سبحانه، وعاملها والمتكلّف بكسبها بقدرته وإرادته، وسائر قواه وجوارحه هو من جرت هي على يده بقدرته وإرادته. وسيجيء ما يغنيك لتحقيق هذا إن شاء اللّه . والحديثان الآخران كهذا الحديث إلاّ أنّه زاد فيهما الوعيد على المنكر لما قاله والمتشّكل فيه (ميرزا رفيعا رفع اللّه قدره ورحمه بالنبي والوصي وغفر له)». الحاشية على اُصول الكافي لميرزا رفيعا، ص 493.

والإرادة والقدر والقضاء والإذن، كما مرّ في أوّل الخامس والعشرين،(1) ويسمّى خلقَ تقديرٍ. وأمّا خلق التكوين، فهو الإيجاد.

(وَأَجْرَيْتُهُ عَلى يَدَيْ)؛ تثنية «يد» بحذف النون للإضافة.

(مَنْ أُحِبُّ)؛ بصيغة متكلّم باب الإفعال، أي اُحبّ إجراءه على يديه. ويحتمل أن يُراد مَن اُحبّه، أي عبادي الصالحين.

(فَطُوبى)؛ فُعْلى من الطيب، قلبوا الياء واوا للضمّة قبلها. و«طوبى» أيضا اسم شجرة في الجنّة،(2) وقيل: اسم الجنّة،(3) وهو مبتدأ خبره:

(لِمَنْ أَجْرَيْتُهُ عَلى يَدَيْهِ، وَأَنَا اللّه ُ لاَ إِلهَ إِلاَّ أَنَا، خَلَقْتُ الْخَلْقَ) أي العباد خلقَ تكوين.

(وَخَلَقْتُ الشَّرَّ) أي خلقَ تقدير.

(وَأَجْرَيْتُهُ عَلى يَدَيْ مَنْ أُرِيدُهُ) أي اُريد إجراءه على يديه.

(فَوَيْلٌ). كلمة عذاب، وهي مبتدأ.

(لِمَنْ أَجْرَيْتُهُ عَلى يَدَيْهِ) .

إن قلت: وقع في دعاء العديلة: «أزاح العلل في التكليف، وسوّى في التوفيق بين .

ص: 479


1- أي في الحديث 1 من باب في أنّه لا يكون شيء، في السماء والأرض إلاّ بسبعة .
2- الصحاح ، ج 1 ، ص 173 (طيب) .
3- لسان العرب ، ج 1 ، ص 565 (طيب) .

الضعيف والشريف، مكّن أداء المأمور، وسهّل سبيل اجتناب المحظور».(1)

قلت: لعلّ المراد بالتوفيق هنا إعطاء جميع ما يتوقّف عليه المكلّف به، سواء كان فعلاً أو تركا، مع اللطف المزيح للعلّة، كبعث الرسل وإنزال الكتب. وتسوية التوفيق بين الضعيف والشريف للردّ على المجبّرة القائلين بأنّ السعيد غير قادر على العصيان؛لفقد بعض أجزاء العلّة التامّة للعصيان فيه، والشقيّ غير قادر على الطاعة؛ لفقد بعض أجزاء العلّة(2) التامّة للطاعة فيه.(3)

وهذا باطل، إنّما التفاوت بينهما لحسن اختيار أحدهما وسوء اختيار الآخر مع قطع النظر عمّا هو خارج عن العلّة التامّة وعلمه تعالى أزلاً باختيارين، كما يظهر ممّا مضى في ثاني الباب السابق.

الثاني: (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عليه السلام يَقُولُ: إِنَّ فِي بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللّه ُ مِنْ كُتُبِهِ: أَنِّي أَنَا اللّه ُ لاَ إِلهَ إِلاَّ أَنَا، خَلَقْتُ الْخَيْرَ، وَخَلَقْتُ الشَّرَّ، فَطُوبى لِمَنْ أَجْرَيْتُ عَلى يَدَيْهِ الْخَيْرَ، وَوَيْلٌ لِمَنْ أَجْرَيْتُ عَلى يَدَيْهِ الشَّرَّ). ظهر معناه من سابقه.

(وَوَيْلٌ لِمَنْ يَقُولُ: كَيْفَ ذَا؟) أي لِمَ اُجرِيَ الخير في يدي هذا.

(وَكَيْفَ ذَا؟) أي لِمَ اُجري الشرّ على يدي.

هذا تصريح بأنّه لا يجوز الاستكشاف عن تفصيل سرّ خلقه تعالى للخير والشرّ؛ وذلك لعدم قابليّة العباد لمعرفته، وربّما أدّى إلى إنكارهم خلقه تعالى للخير والشرّ، كالقدريّة المعتزلة.

الثالث: (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى، عَنْ يُونُسَ، عَنْ بَكَّارِ)؛ بفتح .

ص: 480


1- قال في الذريعة ، ج 8 ، ص 192 : «دعاء العديلة من إنشاء بعض العلماء قد شرح فيه العقائد الحقّة مع الإقرار بها والتصديق بحقيتها فصلّ فيه ما أجمل ذكره في دعاء الوصية والعهد الذي رواه الكليني» .
2- في «ج» : - «العلة» .
3- اُنظر شرح اُصول الكافي للمازندراني ، ج 9 ، ص 375 .

الموحّدة، وشدّ الكاف، ومهملة.

(بْنِ كُرْدُمٍ)؛ بضمّ الكاف، وسكون الراء المهملة، وضمّ الدال المهملة.

(عَنْ مُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ)؛ بضمّ المهملة، وفتح الميم.

(وَعَبْدِ الْمُوءْمِنِ الاْءَنْصَارِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ: قَالَ اللّه ُ عَزَّ وَجَلَّ : أَنَا اللّه ُ لاَ إِلهَ إِلاَّ أَنَا، خَالِقُ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، فَطُوبى لِمَنْ أَجْرَيْتُ عَلى يَدَيْهِ الْخَيْرَ، وَوَيْلٌ لِمَنْ أَجْرَيْتُ عَلى يَدَيْهِ الشَّرَّ). ظهر معناه من سابقه.

(وَوَيْلٌ لِمَنْ يَقُولُ: كَيْفَ هذَا؟(1)). أي لِمَ خصّ بعضَنا بالخير، وبعضنا بالشرّ.

(قَالَ يُونُسُ). هذا كلام محمّد بن عيسى.

(يَعْنِي) أي بقوله: «من يقول: كيف هذا».

(مَنْ يُنْكِرُ هذَا الاْءَمْرَ) أي خلق اللّه الخير والشرّ، وتخصيص بعض بالخير وبعض بالشرّ.

(بِتَفَقُّهٍ فِيهِ)؛ بحرف الجرّ وصيغة مصدر باب التفعّل. وفي بعض النسخ بصيغة المضارع الغائب المعلوم من باب التفعّل. وعلى التقديرين حال عن فاعل «ينكر». والضمير المجرور ل«هذا الأمر» أو للإنكار. والتفقّه: تكلّف الفقه.

وظاهر هذا الشرح ليونس أنّ أصل السؤال بدون إنكار ليس منهيّا عنه، وهذا منافٍ لأحاديث كثيرة، منها: ما رواه ابن بابويه في «باب القضاء والقدر» في توحيده من قول أمير المؤمنين عليه السلام : «ألا إنّ القدر سرّ من سرّ اللّه » إلى قوله: «فمن تطلّع عليها فقد ضادّ اللّه » الحديث.(2)

وكأنّه مستنبط أيضا من قوله تعالى في سورة الأنبياء: «لاَ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ»(3)، فليحمل على أنّ التفكّر على سبيل الوسوسة في خلق اللّه تعالى الخير .

ص: 481


1- في الكافي المطبوع : «كيف ذا؟ وكيف هذا؟» .
2- التوحيد ، ص 383 ، ح 32 .
3- الأنبياء (21) : 22 _ 23 .

والشرّ في أهلهما بدون قصد متأكّد، ولا سؤال متكرّر، ليس منهيّا عنه؛ لما يجيء(1) في «كتاب الروضة» قُبيل(2) حديث آدم مع الشجرة عن أبي عبداللّه عليه السلام : «ثلاثة لم ينجُ منها نبيّ فمن دونه: التفكّر في الوسوسة في الخلق، والطيرة، والحسد؛ إلاّ أنّ المؤمن لا يستعمل حسده».(3) .

ص: 482


1- في «ج» : - «يجيء» .
2- في «ج» : «قبل» .
3- الكافي ، ج 8 ، ص 108 ، ح 86 .

الباب الثلاثون: باب الجبر و القدر و الأمر بين الأمرين

الباب الثلاثون بَابُ الْجَبْرِ وَ الْقَدَرِ وَ الاْءَمْرِ بَيْنَ الاْءَمْرَيْنِ

فيه أربعة عشر حديثا.

المذاهب في أفعال العباد خمسة، اثنان للجبريّة، وهما مذهب جهم بن صفوان الترمذي _ بكسر المثنّاة فوق(1) وسكون المهملة وكسر الميم ومهملة(2) _ ومَن تبعه، ومذهب الأشاعرة، وواحد للقدريّة وهم المعتزلة، وواحد لأهل الأمر بين الأمرين، أي بين الجبر والقدر، وهم أهل الحقّ، وواحد حدث من مزج الفلسفة بقواعد المعتزلة، وهو مذهب أبي الحسين البصري من المعتزلة ومن تبعه، وهذا قولٌ بالجبر والقدر معا.

مذهب جهم: أنّ حركة الماشي كحركة المرتعش وكحركة الورق في الشجر، وفاعل الجميع هو اللّه بلا مقارنة قدرة في العبد أصلاً، وأنّه لا يستحقّ العبد مدحا ولا ذمّا عقلاً.(3) وهذا غلوّ في الجبر.

ومذهب الأشاعرة: أنّ فاعل الجميع هو اللّه ، لكن حركة الماشي ليست كحركة المرتعش، فإنّ الاُولى مجامعة لقدرة في العبد غير مؤثّرة، بخلاف الثانية، فالاُولى بكسب العبد دون الثانية، ومعنى الكسب أنّ الفعل أو الترك مقارنة القدرة(4) في العبد غير

ص: 483


1- في «ج» : - «فوق» .
2- هو جهم بن صفوان العبدي السمرقندي من بني راسب ، وهو أوّل من قال بالجبر ، قتله نصر بن سيار سنة 128 هجرية . الكامل في التاريخ ، حوادث سنة 128 هجرية ؛ الأعلام للزركلي ، ج 2 ، ص 141 .
3- حكاه عنه العلاّمة في معارج الفهم ، ص 408 . وانظر شرح العيون في شرح رسالد ابن زيدون لابن نباتة ، ص 162 .
4- في «ج» : «لقدرة» .

مؤثّرة بالفعل؛ لمقارنتها تأثير قدرة اللّه التي هي أقوى منها، ومن شأنها التأثير أي علم اللّه تعالى أنّه لو لم تجامع قدرته تأثير قدرة اللّه ، لأثّرت على وفق ما أثّرت قدرة اللّه فيه من الفعل أو الترك، وأنّه لا يستحقّ العبد مدحا ولا ذمّا عقلاً.(1)

ومذهب القدريّة: أنّ العبد مؤثّر في الفعل والترك، وقادر على كليهما، وأنّه يستحقّ المدح أو الذمّ عقلاً، وأنّه لم يبق للّه تعالى طريق إلى إطاعة العاصي في ذلك الوقت إلاّ القسر والإلجاء، فإنّه يجب على اللّه تعالى كلّ لطف ناجع، فليس في مقدوره تعالى من اللطف ما لو فعله بالعاصي في وقتٍ لأطاع فيه، فليس فعل العبد ولا تركه بمشيئة اللّه ولا إرادته ولا قدره ولا قضائه. وقد مرّ معنى الجميع في أوّل الخامس والعشرين،(2) وأنّ قدرته على فعل في وقت تتقدّم على ذلك الوقت، فهو مستقلّ بالقدرة غير متوقّف فعله ولا تركه على الإذن من اللّه .(3)

ومذهب أهل الأمر بين الأمرين: أنّ العبد مؤثّر في فعله وتركه، وقادر على كليهما، ويستحقّ المدح أو الذمّ عقلاً، وأنّ للّه تعالى طرقا لا تُعدّ ولا تحصى إلى اختيار العاصي في وقت للطاعة فيه، فما من فعلٍ أو ترك من العبد إلاّ بمشيئة اللّه وإرادته وقدره وقضائه، وأنّ قدرته على فعل أو ترك في وقت لا تتقدّم على ذلك الوقت، فلا يستقلّ العبد بالقدرة، بل يتوقّف فعله وتركه على الإذن من اللّه .

ومذهب أبي الحسين هو مذهب المعتزلة بعينه، مع ضمّ قاعدة من الفلسفة هي أنّ الشيء ما لم يجب بوجوب سابق لم يوجد؛ لامتناع تخلّف المعلول عن العلّة التامّة.(4)

والمراد بالوجوب السابق الوجوب بالنسبة إلى الموقوف عليه، فهو جبري قدري؛ أمّا كونه جبريّا فلأنّ هذه القاعدة شريكة لمذهب جهم والأشاعرة في استلزام ارتفاع .

ص: 484


1- اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع للأشعري ، ص 72 ؛ الملل والنحل للشهرستاني ، ج 1 ، ص 89 . وحكاه العلاّمة في نهج الحقّ وكشف الصدق ، ص 97 ومناهج اليقين ، ص 366 ، وفي الطبعة الاُخرى ، ص 235 .
2- أي في الحديث 1 من باب في أنّه لا يكون شيء في السماء والأرض إلاّ بسبعة .
3- شرح الاُصول الخمسة ، ص 316 . وانظر الرسالة السعديّة للعلاّمة ، ص 97 .
4- حكاه عنه العلاّمة في معارج الفهم ، ص 409 .

الحُسن والقبح العقليّين، فقد وقع فيما فرَّ منه من ثمرة الجبر، بل نقول: إنّ لفظ الجبر أنسب بهذا المذهب لغةً وتفصيله في محلّه، وأمّا كونه قدريّا فظاهر.

الأوّل: (عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ وَإِسْحَاقَ بْنِ مُحَمَّدٍ وَغَيْرِهِمَا رَفَعُوهُ، قَالَ : كَانَ أَمِيرُ الْمُوءْمِنِينَ عليه السلام جَالِسا بِالْكُوفَةِ بَعْدَ مُنْصَرَفِهِ)؛ مصدر ميمي، أي انصرافه.

(مِنْ صِفِّينَ)؛ بكسر المهملة وكسر الفاء المشدّدة؛ من صفن الفرس: إذا ثنى حافره، كسجّين من سجن اسم موضع قرب الرقّة شاطئ الفرات، كانت به الواقعة العظمى بين أمير المؤمنين عليه السلام وبين معاوية.(1)

(إِذْ)؛ للمفاجأة.

(أَقْبَلَ شَيْخٌ فَجَثَا)؛ بالجيم والمثلّثة كدعا ورمى؛ أي فجلس على ركبتيه.

(بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ(2): يَا أَمِيرَ الْمُوءْمِنِينَ، أَخْبِرْنَا عَنْ مَسِيرِنَا إِلى أَهْلِ الشَّامِ)، أي معاوية وعسكره.

(أَ بِقَضَاءٍ مِنَ اللّه ِ وَقَدَرٍ؟). ليس المراد بالقضاء والقدر هنا ما يُراد بهما إذا عدّا في الخصال السبع التي مرّ تفسيرها في أوّل الخامس والعشرين،(3) بل المراد بكلّ منهما هنا أعمّ من الخصال الخمس الاُول المذكورة فيه؛ وهي المشيئة والإرادة والقدر والقضاء والإذن، فنقول: التدبير من اللّه للواقع من فعل عبد أو تركه له اعتبارُ أنّ الأوّل كونه قطعا وفصلاً؛ أي لا يرجع عنه بندم ونحوه، والثاني كونه موافقا للحكمة والمقدار اللائق، فبالاعتبار الأوّل يسمّى قضاءً، وبالاعتبار الثاني يسمّى قدرا، فالقضاء والقدر هنا متّحدان بالذات، متغايران بالاعتبار والمفهوم.

(فَقَالَ لَهُ أَمِيرُ الْمُوءْمِنِينَ عليه السلام : أَجَلْ)؛ بالهمز والجيم المفتوحتين وسكون اللام، جوابٌ مثل «نعم». .

ص: 485


1- اُنظر القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 242 .
2- في الكافي المطبوع : + «له» .
3- أي في الحديث 1 من باب في أنّه لا يكون شى ء في السماء والأرض إلاّ بسبعة .

(يَا شَيْخُ، مَا عَلَوْتُمْ تَلْعَةً)؛ بفتح المثنّاة فوق وسكون اللام ومهملة: ما ارتفع من الأرض؛ من تلع النهار كمنع، أي ارتفع. وقيل: التلاع: مجاري أعلى الأرض إلى بطون الأودية.(1)

(وَلاَ هَبَطْتُمْ بَطْنَ وَادٍ). بطن الوادي: ما بين طرفيه من الأرض المنخفض.

(إِلاَّ بِقَضَاءٍ مِنَ اللّه ِ وَقَدَرٍ). ليس ذلك مقصورا على محلّ السؤال، ففي نهج البلاغة: «اللّهُمَّ إنّك آنس الآنسين لأوليائك» إلى قوله: «وإن صبّت عليهم المصائب لجاؤوا إلى الاستجارة بك علما بأنَّ أزمّة الاُمور بيدك، ومصادرها عن قضائك».(2)

(فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ: عِنْدَ اللّه ِ أَحْتَسِبُ)؛ بصيغة المتكلِّم وحده من المضارع. والاحتساب من الحسب كالاعتداد من العدّ. وإنّما يُقال لمن ينوي بعمله وجهَ اللّه : احتسبه؛ لأنّ له حينئذٍ أن يعتدّ ب«عمله»، فجعل في حال مباشرة الفعل كأنّه معتدّ به.

واحتساب الشيء عند اللّه كما يكون في الأعمال الصالحات، يكون عند نزول البلايا والمكروهات، وهو عند المكروهات، البدار إلى طلب الأجر وتحصيله بالتسليم والصبر. هذا أصله، وقد يُستعمل في مجرّد إظهار الكراهة والتضجّر.

وكلام الشيخ من الأوّل؛ لأنّه ذكر ذلك حين سمع ما يوهم الغلط من الإمام، ولم يخرج عن موالاته صبرا وانتظارا للفرج بالكشف عن الحقّ. أو من الثاني؛ لأنّه ذكر ذلك حين اعتقد أنّه لا أجر لعبدٍ على عمل؛ لأنّ العبد في فعله مجبور، إنّما له العوض، والسعي للعوض سهل.

(عَنَائِي)؛ بفتح المهملة والنون والمدّ: النصب والتعب يُريد تعبه في سماع الجواب، أو في المسير إلى(3) الشام، فإنّه لم يترتّب باعتقاده ما قصده به من الأجر.

(يَا أَمِيرَ الْمُوءْمِنِينَ، فَقَالَ لَهُ: مَهْ)؛ بفتح الميم وسكون الهاء، اسم فعل بمعنى اسكت، .

ص: 486


1- الصحاح ، ج 3 ، ص 1192 ؛ تاج العروس ، ج 11 ، ص 47 (تلح) .
2- نهج البلاغة ، ص 349 ، ح 227 .
3- في «ج» : + «أهل» .

وقيل: اكفف؛(1) أي مه عن مثل هذا الكلام الدالّ على توهّم أنّه لا أجر لعبدٍ في عمل.

(يَا شَيْخُ، فَوَ اللّه ِ، لَقَدْ عَظَّمَ)؛ بشدّ الظاء.

(اللّه ُ لَكُمُ الاْءَجْرَ فِي مَسِيرِكُمْ). مصدر ميمي؛ أي إلى أهل الشام.

(وَأَنْتُمْ سَائِرُونَ) أي فاعل السير أنتم، لا غيركم. وهو لردّ توهّم الجبر على مذهب جهم، أو مذهب الأشاعرة.

(وَفِي مُقَامِكُمْ)؛ بضمّ الميم مصدر ميمي؛ أي لبثكم بحذاء العدوّ بصفّين.

(وَأَنْتُمْ مُقِيمُونَ)، لا غيركم.

(وَفِي مُنْصَرَفِكُمْ)؛ بفتح الراء، مصدر ميمي.

(وَأَنْتُمْ مُنْصَرِفُونَ) لا غيركم، وأمّا قوله:

(وَلَمْ تَكُونُوا فِي شَيْءٍ مِنْ حَالاَتِكُمْ) أي المسير والمقام والمنصرف (مُكْرَهِينَ)، بفتح الراء.

(وَلاَ إِلَيْهِ) أي إلى شيء من حالاتكم (مُضْطَرِّينَ)؛ فلردّ توهّم الجبر الذي هو مذهب أبي الحسين كما مرَّ آنفا، وليس المقصود بيان العلّة للأجر وتعظيمه، وإلاّ لكان الأنسب حذفَ الواو؛ لكمال الاتّصال.

والإكراه والاضطرار واحد إلاّ أنّ الأوّل أشدّ من الثاني، ولذا نفى الأضعف بعد نفي الأشدّ، ولمّا كان القول بامتناع تخلّف المعلول عن العلّة التامّة مستلزما للقول بأنّ العبد الفاعل لأفعال نفسه مضطرّ مكروه في صورة مختار، ويستلزم ذلك أيضا بطلان الأجر كمذهب جهم والأشاعرة، احتيج إلى الردّ على هذا القول أيضا بعد الردّ على قولهما.

(فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ: وَكَيْفَ لَمْ نَكُنْ فِي شَيْءٍ مِنْ حَالاَتِنَا مُكْرَهِينَ، وَلاَ إِلَيْهِ مُضْطَرِّينَ ). علم الشيخ من ثبوت تعظيم الأجر مع ثبوت القضاء والقدر بطلانَ مذهب جهم والأشاعرة، وذلك لأنّ الضرورة قاضية باستلزامهما نفي الثواب والعقاب، وإنّما حصلت لهم شبهة .

ص: 487


1- الصحاح ، ج 6 ، ص 2250 (مه) .

عجزوا عن جوابها، فارتكبوا خلاف الضرورة، لكن توهّم الشيخ استلزام ثبوت القضاء والقدر حينئذٍ لمذهب أبي الحسين وهو كون فعل اللّه موجبا بالوجوب السابق لفعل العبد الصادر منه، وظهورُ منافاته لأمر الثواب والعقاب ليس في مرتبة ظهور منافاة مذهب جهم والأشاعرة، ولذا ذهب أبو الحسين وأتباعه إلى قاعدة التحسين والتقبيح العقليّين دون جهم والأشاعرة.(1)

(وَكَانَ بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ مَسِيرُنَا وَمُنْقَلَبُنَا). مصدر ميمي؛ أي انقلابنا في الحرب مع العدوّ من مكان إلى مكان، ومن حال إلى حال.

(وَمُنْصَرَفُنَا؟! فَقَالَ لَهُ: وَتَظُنُّ). الواو للعطف على مقدّر، وفيه استفهام للإنكار؛ أي أظننت قبل هذا الجواب المشتمل على إثبات الأجر مع القضاء والقدر، وتظنّ بعده:

(أَنَّهُ) أي أنّ ما تعلّق بمسيركم إلى أهل الشام من القضاء والقدر.

(كَانَ قَضَاءً حَتْما )؛ بفتح المهملة وسكون المثنّاة فوق، مصدر قولك: حتمت عليه الشيء، أي أوجبت، والوصف بالمصدر للمبالغة، والمراد موجبا للفعل على العبد بحيث لم يكن له سبيل إلى تركه أصلاً؛ لفقده العلّة التامّة للترك، كأن يكون الفعل واجبا بالوجوب السابق.

(وَقَدَرا لاَزِما) أي ممتنع التغيّر لوجوبه بالنسبة إلى علّته التامّة بالوجوب السابق، كما هو مقتضى قاعدة الفلاسفة.(2) وفي نهج البلاغة: «لعلّك ظننت قضاءً لازما، وقدرا حاتما».(3) ومعنى العبارتين واحد.

(إِنَّهُ). الضمير راجع إلى ما رجع إليه ضمير «أنّه كان».

(لَوْ كَانَ كَذلِكَ) أي لو كان قضاءً حتما، وقدرا لازما. .

ص: 488


1- حكى ذلك عن أبي الحسين وعن جهم والأشاعرة العلاّمة في مناهج اليقين ، ص 358 ، وفي الطبعة الاُخرى ، ص 230 ؛ معارج الفهم في شرح النظم ، ص 400 .
2- أي قولهم باستحالة تخلّف المعلول عن العلّة التامّة .
3- نهج البلاغة ، ص 481 ، ح 78 .

(لَبَطَلَ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ). دليل على إبطال مذهب أبي الحسين، ويبطل به مذهب جهم والأشاعرة: أيضا، وتقريره: أنّ الثواب هو الأجر، وهو نفع مقارن للتعظيم والمحمدة، والعقاب ضرّ مقارن للإهانة واللوم، ولا يتصوّران مع شيء من معاني الجبر، لأنّ كلاًّ منهما مع بيّنة وحجّة بالغة، وإلاّ كان سفها يتعالى عنه.

وبهذا يحصل الفرق بين الأجر والعوض؛ ففي نهج البلاغة: وقال عليه السلام لبعض أصحابه في علّة اعتلّها: «جعل اللّه ما كان من شكواك حطّا لسيّئاتك، فإنّ المرض لا أجر فيه، ولكنّه يحطّ السيّئات، ويحتّها حتّ الأوراق، وإنّما الأجر في القول باللسان والعمل بالأيدي والأقدام، وأنّ اللّه سبحانه يُدخِل بصدق النيّة والسريرة الصالحة مَن يشاء من عباده الجنّة».(1)

وقال فيه السيّد الرضيّ رحمه الله :

وأقول: صدق عليه السلام إنّ المرض لا أجر فيه؛ لأنّه من قبيل ما يستحقّ عليه العوض؛ لأنّ العوض يستحقّ على ما كان في مقابلة فعل اللّه تعالى بالعبد من الآلام والأمراض وما يجري مجرى ذلك، والأجر والثواب يستحقّان على ما كان في مقابلة فعل العبد، فبينهما فرق قد بيّنه عليه السلام كما يقتضيه علمه الثاقب، ورأيه الصائب. انتهى.(2)

ويندفع بهذا التقرير ما قيل في تجويز العقاب على النسيان أو الخطأ من أنّ الذنوب كالسموم، فكما أنّ تناولها يؤدّي إلى الهلاك وإن كان خطأً، فتعاطي الذنوب لا يبعد أن يفضي إلى العقاب وإن لم تكن عزيمة. انتهى.(3) يريد أنّها كسائر العادّيّات المترتّبة على أسبابها من غير لزوم عقلي ولا اتّجاه سؤال.

وفيه: أنّ لوم المجبور سفاهة، فيتوجّه فوق السؤال، وكذا يندفع ما يقال من أنّ عقاب الكافر كإحراق الحطب، وثوابَ المؤمن كَلفِّ الجوهرة في الحرير؛ كلّ منهما يقتضي(4) ».

ص: 489


1- نهج البلاغة ، ص 476 ، الحكمة 42 .
2- نهج البلاغة ، ص 476 ، ذيل الحكمة 42 .
3- تفسير البيضاوي ، ج 1 ، ص 586 ذيل الآية : «رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ» .
4- في «ج»: «مقتض».

طبع الكافر والمسلم وذواتهما،(1) ولذا يُقال: فلان سيّء الذات، وفلان حسن الذات. انتهى. وذلك لأنّ لوم الحطب ومحمدة الجوهرة سفاهة، وأيّ سفاهة، فالقياس مع الفارق، وسوء الذات وحسنه مجاز عن تمكّن حبّ الشرّ وحبّ الخير كما مرَّ في أحاديث «باب السعادة والشقاء» فإنّ اختلاف الذات بغير هذا بين أفراد الإنسان غير معلوم لأحدهم.

(وَالاْءَمْرُ وَالنَّهْيُ). دليل آخر تقريره: أنّ الأمر والنهي طلب، ولا يصحّ الطلب في المجبور بأحد المعاني الثلاثة؛ لأنّ طلب ما ليس فعله أو موجبه بالوجوب السابق إلاّ في يد الطالب سفه، فليس الأمر كتسبيب سائر الأسباب المفضية إلى الأفعال عادةً، بأن يجبر اللّه العبد عقيب ذلك الطلب، كما يحرق عقيب مماسّة النار عادةً، فإنّ الأوّل قبيح في نفسه وسفاهة يتعالى عنه، بخلاف الثاني، وليس أيضا وقوع المأمور عقيب الأمر عاديا.

(وَالزَّجْرُ). دليل آخر، وهو من زجر الإبل: إذا حثّها وحملها على السرعة. وزواجر اللّه تعالى: بلاياه النازلة على العُصاة ووعده(2) وأحكامه في القصاص والحدود ونحو ذلك.

تقرير الدليل: أنّ زجر المجبور بأحد المعاني الثلاثة سفه وقبيح في نفسه يتعالى عنه، فليس هذا أيضا كتتميم سائر الأسباب المفضية إلى الأفعال عادةً.

(مِنَ اللّه ِ). الظرف مستقرّ وهو حال عن كلّ من الثواب والعقاب، والأمر والنهي والزجر، وفائدته أنّه لا يلزم من الجبر بطلان الثواب ونحوه مطلقا؛ لجواز أن يأتي به السفيه في مقابلة فعل جبري.

(وَسَقَطَ مَعْنَى الْوَعْدِ). دليل آخر، والمراد بمعنى الوعد مناطه ومحسّنه.

(وَالْوَعِيدِ) أي مطلقا، سواء كان وعد اللّه ووعيده، أم وعد العباد ووعيدهم.

(فَلَمْ تَكُنْ لاَئِمَةٌ لِلْمُذْنِبِ، وَلاَ مَحْمَدَةٌ لِلْمُحْسِنِ). الفاء تدلّ على أنّ فرد معنى الوعد ثبوت المحمدة، وفرد معنى الوعيد ثبوت اللائمة، فسقوط المعنيين يستلزم عدمهما. واللام في «للمذنب» و«للمحسن» للاختصاص. .

ص: 490


1- في «ج» : «ذاتهما» .
2- في «ج» : + «ووعيده» .

وتقرير الدليل: أنّ اللائمة _ وهي التثريب والتنديم _ معلوم بديهةَ أنّه لا يستحقّها المجبور، وأنّها ليست كالذمّ بالآفة والعاهة، وكذا الكلام في المحمدة، فإنّها ليست كالمدح برشاقة القدّ،(1) وصباحة الخدّ ونحوهما، وثبوت اللائمة للمذنب معلوم عقلاً وشرعا؛ أمّا الأوّل فلأنّه مركوز في ذهن كلّ عاقل حتّى الأطفال يلومون من أساء، وأمّا الثاني فلآيات كثيرة منها قوله تعالى في سورة المؤمنين: «قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ * إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا»(2) الآيات.

(وَلَكَانَ). دليل آخر، وهو معطوف على قوله: «لبطل». وزيادة اللام هنا للإشعار بأنّ الأدلّة السابقة متشابهة الجنس، وهذا الدليل ليس من جنسها، وبأنّ مفسدته أشدّ من مفسدتها.

(المُذْنِبُ أَوْلى بِالاْءِحْسَانِ مِنَ الْمُحْسِنِ، وَلَكَانَ الْمُحْسِنُ أَوْلى بِالْعُقُوبَةِ مِنَ الْمُذْنِبِ).

حاصله: أنّه لو كان جبر مع تحقّق ثواب وعقاب _ كما هو المتّفق عليه بين كلّ المسلمين _ لكان المذنب إلى آخره، وهو باطل.

ولا يجوز للخصم أن يقول: إنّ فرض الثواب والعقاب مع الجبر فرض محال.

وذلك لأنّه إقرار بفساد الجبر؛ لأنّ ثبوت الثواب والعقاب متّفق عليه ومعلوم.

ويحتمل أن يُراد بالإحسان النفع، وبالعقوبة الإيلام مطلقا، ووجه الأولويّتين أنّ المذنب قد اُجبر على قبيح وهو شرّ، والمحسن قد اُجبر على حسن وهو خير، فحسبهما هذا الشرّ وهذا الخير، فلو كان مع الجبر ثواب وعقاب، أو نفع وضرر، لكان الأولى التلاقيَ وجبر الجبرين على هذا الفرض للمحال أو الممكن.

إن قلت: قد حصل للمذنب راحة في الدنيا، وللمُحسن تعب تكلّف الأعمال الشرعيّة؟

قلت: نرى المتّقين الراضين بقضاء اللّه تعالى أوسعَ معيشةً من المذنبين الساخطين للقضاء؛ لأنّهم دائما في تعب نفساني، بل وجسماني حتّى ملوكهم، وقد أخبر اللّه تعالى عن الكفّار بأنّ لهم معيشةً ضنكى، ولكن إبليس قد لبّس عليهم، ولا يلتفتون إلى تعبهم، ولا .

ص: 491


1- في «ج» : «القدر» .
2- المؤمنون (23) : 108 _ 109 .

يخلّصون أنفسهم من ذلك التعب، والأعمال الشرعيّة ليست كبيرة على الخاشعين، وأثقل شيء عليهم المعاصي؛ على أنّه يكفي في الدليل كون المذنب المفلس السقيم الوضيع بين أهله، والناس أولى بالإحسان من المحسن الغنيّ الصحيح الرفيع بين أهله والناس.

(تِلْكَ) أي كون القضاء حتما، والقدر لازما. والتأنيث باعتبار الخبر.

(مَقَالَةُ) أي قول (إِخْوَانِ)؛ جمع أخ، والاُخوّة هنا بمعنى المشابهة.

(عَبَدَةِ الاْءَوْثَانِ)، هم مشركو العرب النافون للبعثة والبعث والعقاب والثواب، وكانوا مفوّضةً؛ لقوله تعالى في سورة الروم: «هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ»(1)، الآية. وقد أوضحناه في «كتاب العقل» في ثاني عشر «باب العقل والجهل».

وروي عن ابن بابويه في توحيده في «باب القضاء والقدر» عن أبي عبداللّه عليه السلام أنّه قال: «إنّ القدريّة مجوس هذه الاُمّة، وهم الذين أرادوا أن يصفوا اللّه بعدله، فأخرجوه من سلطانه، وفيهم نزلت هذه الآية: «يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِى النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ»(2)».(3)

وروى مسلم عن أبي هريرة قال: جاء مشركوا قريش إلى النبى¨ّ صلى الله عليه و سلم يخاصمونه في هذا القدر، فنزلت هذه الآية: «إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِى ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ» إلى: «إِنَّا كُلَّ شَىْ ءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ»(4).(5)

ويحتمل أن يُقال: إنّ المراد بعَبَدة الأوثان هنا الجبريّة من المشركين، وكان فيهم جبريّة في عهد رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وكون المراد بعبدة الأوثان هنا الجبريّة منهم موافق لكلام أكثر أصحابنا المتكلِّمين.(6) .

ص: 492


1- الروم (30) : 28 .
2- القمر (54) : 48 و 49 .
3- التوحيد ، ص 382 ، ح 29 .
4- القمر (54) : 47 _ 49 .
5- صحيح مسلم ، ج 8 ، ص 52 .
6- اُنظر شرح اُصول الكافي للمازندراني ، ج 5 ، ص 9 .

(وَخُصَمَاءِ الرَّحْمنِ). معطوفٌ على «عَبَدة الأوثان» لا على «إخوان». والمراد بهم المفوّضة، وهم مَن على رأي المعتزلة في مسألة القدر، سواء كانوا من المعتزلة، أم من أهل المذاهب الاُخرى؛ رووا عن النبيّ عليه السلام أنّه قال: «القدريّة خصماء اللّه في القدر»(1) ولا يتصوّر الخصومة في القدر إلاّ على رأي المفوّضة، وقد تكرّر في الحديث «إنّ المفوّضة مضادّوا اللّه في ملكه» كما يجيء في شرح ثاني «باب الاستطاعة».

وتخصيص اسم الرحمان بالذكر لأنّ معناه من أعطى كلّ شيءٍ خلقه؛ أي ما يليق به من التدبير، فهو خالق كلّ شيء على وفق الحكمة، غير عاجز عن شيء كاللطف الناجع بالنسبة إلى العاصي. فهذا التخصيص كالتخصيص في قوله تعالى في سورة الفرقان: «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَانِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ»(2)، وفي سورة الملك: «مَا تَرَى فِى خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ».(3)

والاُخوّة بين الجبريّة والمفوّضة باعتبار أنّ كلاًّ منهما على طرف خارج عن الحقّ الذي بينهما، ويقال للمتقابلين: إنّهما متشابهان كما قيل: إنّ قصّة سورة براءة تشابه قصّة الأنفال وتناسبها؛ لأنّ في الأنفال ذكرَ العهود، وفي براءة نبذَها، فضمّت إليها. انتهى.(4)

وظاهر الحديث أنّ القول بالتفويض أشدّ مخالفةً للحقّ من القول بالجبر.

(وَحِزْبِ الشَّيْطَانِ، وَقَدَرِيَّةِ هذِهِ الاْءُمَّةِ وَمَجُوسِهَا).

هذه الثلاثة أوصاف أيضا للمفوّضة، فهي معطوفات على «خصماء الرحمن» عطفَ انسحاب؛ فالمعنى أنّ تلك مقالة إخوان طائفتين: الاُولى: عَبدة الأوثان، والثانية: الطائفة الجامعة لهذه الأوصاف الأربعة وهم المفوّضة.

إن قلت: لِمَ عطفت الأوصاف الأربعة على «عَبَدة الأوثان» ولم تعطفها ولا بعضها .

ص: 493


1- في حاشية «أ» : «رواه الشهرستاني في الملل والنحل (منه)» . الملل والنحل ، ج 1 ، ص 43 ؛ معارج اليقين في اُصول الدين ، ص 459 .
2- الفرقان (25) : 60 .
3- المُلك (67) : 3 .
4- تفسير البيضاوي ، ج 3 ، ص 127 .

على «إخوان»، فتكون الأوصاف الأربعة، أو بعضها أوصافا للجبريّة، موافقة لكلام محقّقي(1) مشهوري أصحابنا المتكلِّمين في تفسير القدريّة بالجبريّة، وتصحيح مذهب المعتزلة؟

قلت: لاُمور:

الأوّل: أنّه لو(2) كانت هي أو بعضها معطوفة على «إخوان» صار المعطوف عليه أبعد ولو باعتبار الابتداء فقط.

الثاني: أنّه حينئذٍ يصير ذو الفاصلة المعطوف أقصر من ذي الفاصلة المعطوف عليه، وهو خلاف الأولى ما لم تدع إليه ضرورة.

الثالث _ وهو العمدة لفظا _ : تعرّضه عليه السلام في الاستئناف البياني في قوله: «إنّ اللّه تبارك وتعالى» إلى آخره، لإبطال مذهب المفوّضة أيضا متوسّطا بين إبطال زعم الجبريّة وإبطال ظنّ عَبَدة الأوثان. وهذا تصريح بأنّ المراد بالقدريّة ونحوها هنا المفوّضة، وأنّ إبطال التفويض ليس استطرادا.

الرابع _ وهو العمدة معنى _ : كثرة الأحاديث عن أهل البيت عليهم السلام في ذمّ المفوّضة المكذّبين بقدر اللّه في فعل العبد، وأنّهم هم القدريّة ومجوس هذه الاُمّة، يجيء في «كتاب الإيمان والكفر» في «باب اُصول الكفر وأركانه»: قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : «خمسة لَعَنْتُهُم وكلُّ نبيٍّ مجاب: الزائدُ في كتاب اللّه ، والتارك لسنّتي، والمكذِّب بقدر اللّه » الحديث.(3) وفي «كتاب الحجّة» في «باب ما أمر النبيّ صلى الله عليه و آله بالنصيحة لأئمّة المسلمين»: «قدريّ يقول: لا يكون ما شاء اللّه عزّ وجلّ، ويكون ما شاء إبليس» الحديث.(4) وأمثال ذلك كثيرة.

ونحن بعد ما دلّنا البراهين العقليّة والنقليّة _ التي سنذكرها في شرح ثاني «باب .

ص: 494


1- في «ج» : - «محققي» .
2- في «ج» : «أو» .
3- الكافي ، ج 2 ، ص 293 ، ح 14 .
4- الكافي ، ج 1 ، ص 403 ، ح 2 .

الاستطاعة» _ على بطلان كلّ من الجبر والتفويض بالمعنى الذي نذكره بُعيدَ هذا عند قوله عليه السلام : «ولم يملِّك مفوِّضا» أوثَقُ بأحاديثهم عليهم السلام في تفسير هذه اللفظة بالمفوّضة منّا بكلام هؤلاء المشهورين في تفسيرها بالجبريّة، وإن كانت الأحاديث أخبار آحاد نرى هؤلاء المشهورين قد خالفوا من هو أقدم منهم من أصحابنا كالمصنّف، من تصريحاته أنّه قال: «باب الجبر والقدر، والأمر بين الأمرين».

وعليّ بن إبراهيم بن هاشم قال في مقدّمات تفسير القرآن:

وأمّا الردّ على المعتزلة فإنّ الردّ في القرآن عليهم كثير؛ وذلك أنّ المعتزلة قالوا: نحن نخلق أفعالنا، وليس للّه فيها صنع ولا مشيئة ولا إرادة، ويكون ما شاء إبليس، ولا يكون ما شاء اللّه . انتهى.(1)

والفضل بن شاذان قال في كتاب الإيضاح كما قال عليّ بن إبراهيم(2)، وقد عدّ أصحاب كتب الرجال من كتب هشام بن الحكم كتابَ الجبر والقدر، وكتابَ الردّ على المعتزلة(3)، وأمثال ذلك كثيرة.

ونرى من ذكرتم من المشهورين لم يستندوا في تفسيرها بالجبريّة إلاّ إلى اُمور:

الأوّل: تصريح هذا الحديث به، وهو مبنيّ على عطف الأوصاف الأربعة أو بعضها على «إخوان».

فالجواب: أنّهم إن رضوا فيه رأسا برأس كان خيرا لهم، وإنّما جرّهم إلى ذلك قلّة مبالاتهم بأحاديث الاُصول، والتأمّل في معانيها، وفي المراد بالتفويض، وفي المراد بالواسطة بين الجبر والتفويض، ولذا قال بعضهم: إنّ هذا حديث الأصبغ(4) إنّما حديث الأصبغ قول أمير المؤمنين عليه السلام : «ألا إنّ القدر سرٌّ من سرّ اللّه ، وسترٌ من ستر اللّه » إلى آخر .

ص: 495


1- تفسير القمّي ، ج 1 ، 23 .
2- الإيضاح ، ص 6 و 7 .
3- رجال النجاشي ، ص 433 ، الرقم 1164 .
4- في حاشية «أ» : «العلاّمة في شرح التجريد (منه)» . كشف المراد ، ص 433 ، وفي طبعة الزنجاني ، ص 341 ، وفي طبعة السبحاني ، ص 88 .

الحديث المرويّ في كتاب التوحيد لابن بابويه.(1)

وقال بعضهم في بيان الجبر والتفويض: والواسطة _ الذي ينظر إلى أسباب الأوّل، ويعلم أنّها ليست بقدرة العبد ولا بإرادته _ يحكم بالجبر، وهو غير صحيح مطلقا؛ لأنّ السبب القريب للفعل هو قدرته وإرادته، والذي ينظر إلى السبب القريب ينظر بالاختيار، وهو أيضا ليس بصحيح مطلقا؛ لأنّ الفعل لم يحصل بأسباب كلّها مقدورة ومرادة، والحقّ ما قال بعضهم: لا جبر ولا تفويض ولكن(2) أمرٌ بين أمرين. انتهى.(3)

وقد أبطلنا مبنى هذا في حواشينا على عدّة الاُصول، وبيّنّا أنّه قول بالجبر والتفويض معا، وسننقل في حادي عشر الباب ما قال بعضهم أيضا في معنى التفويض والواسطة.

الثاني: ما روي عن الحسن عن حذيفة أنّ النبيّ صلى الله عليه و آله قال: «لُعنت القدريّة والمرجئة على لسان سبعين نبيّا» قال: قيل: ومَن القدريّة يارسول اللّه ؟ قال: «قومٌ يزعمون أنّ اللّه قدّر عليهم المعاصي وعذّبهم عليها».(4)

وعن الحسن أنّ اللّه تعالى بعث محمّدا صلى الله عليه و آله إلى العرب وهم قدريّة مجبّرة يحمّلون ذنوبهم على اللّه ، وتصديقه في قول اللّه تعالى: «وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللّه ُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّه َ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ».(5)الاحتجاج ، ج 1 ، ص 251 .(6) انتهى.(7)

فالجواب: أنّ الحسن البصري سامريّ هذه الاُمّة كما نقله الطبرسي في كتاب الاحتجاج عن أمير المؤمنين عليه السلام ،(7) ويجيء في ثاني «باب الاستطاعة» طعن الحسن بن .

ص: 496


1- التوحيد ، ص 383 ، بيانه في تفسير الأجل ، ح 32 .
2- في «أ» : «ولكنّه» .
3- حكاه صدر الدين الشيرازي في الحكمة المتعالية ، ج 8 ، ص 331 عن المحقّق الطوسي في شرح رسالة العلم ، بتفاوت يسير .
4- الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف ، ص 344 ؛ وعنه في البحار ، ج 5 ، ص 47 ، ح 73 ؛ متشابه القرآن لابن شهر آشوب ، ج 1 ، ص 202 ؛ الصراط المستقيم ، ج 1 ، ص 39 .
5- الأعراف
6- : 28 .
7- الكشّاف ، ج 2 ، ص 75 .

عليّ عليهماالسلام عليه، ويجيء في «كتاب الحجّ» في أوّل «باب ابتلاء الخلق واختبارهم بالكعبة» أنّ ابن أبي العوجاء كان من تلامذة الحسن البصري، فانحرف عن التوحيد، فقيل له: تركت مذهب صاحبك، ودخلت فيما لا أصل له ولا حقيقة؟ فقال: إنّ صاحبي كان مخلّطا، كان يقول طورا بالقدر، وطورا بالجبر، وما أعلمه اعتقد مذهبا دام عليه. انتهى.(1) فلا يعبأ بنقله واستنباطه؛ إذ هو خبيث جمع بين خُبثَين: التصوّف، والاعتزال.

الثالث: أنّ الشيء إنّما ينسب إليه مصدّقه لا مكذّبه، والمعتزلة جاحدون لقدر اللّه ، وهو مبنيّ على أنّ من يفسّرها بالمفوّضة يقول: مفهوم القدريّة مكذّبوا قدر اللّه .

فالجواب: أنّ وجه تسميتهم بالقدريّة أنّهم لمّا قالوا: إنّه ليس للّه قدر أصلاً في أفعالنا في وقتِ إقدارنا عليها، نسبوا جميع القدر فيها إلى أنفسهم، فنسبوا إلى ما نسبوه بالكلّيّة إلى أنفسهم.

إن قلت: يجيء في «كتاب الحجّة» في «باب ما يفصل به بين دعوى المحقّ والمبطل في أمر الإمامة» عن أبي الحسن موسى عليه السلام أنّه قال لهشام بن سالم: «لا إلى المرجئة، ولا إلى القدريّة، ولا إلى الزيديّة، ولا إلى المعتزلة، ولا إلى الخوارج، إليَّ إليَّ» الحديث.(2) وظاهر المقابلة أنّ القدريّة غير المعتزلة.

قلت: هذا في جواب كلام هشام وعلى طبقه، وتوجيه كلامه أنّ للمعتزلة قواعدَ قد شاركهم في كلّ منها جمع من غيرهم، وأخصّ قواعدهم بهم هي التي سُمّوا بسببها معتزلةً، وهي القول بالوعيد؛ أي أنّ صاحب كبيرة بلا توبة خارج عن الإيمان ومخلّد في النار، وبها اعتزل واصل بن عطاء مع جماعة عن مجلس استاذه الحسن البصري، فقال الحسن: اعتزل عنّا واصل.(3) واستعمال لفظ المعتزلة في كلامه باعتبار هذه القاعدة، فكأنّه قال: ولا إلى الوعيديّة؛ فمقابلهم هنا المرجئة لا القدريّة، فإنّ مذهب .

ص: 497


1- الكافي، ج 4، ص 197، ح 1.
2- الكافي، ج 1، ص 352، ح 7.
3- الوافي بالوفيات ، ج 27 ، ص 245 .

المرجئة أنّ الإيمان المنجي عن الخلود في النار هو العلم بصدق جميع ما جاء به النبيّ، أو هو والإقرار باللسان، فلا يخرج العالم المقرّ به عن الإيمان، وإن فعل كلّ كبيرة وخرج عن الدنيا بلا توبة، فهما على طرفي الإفراط والتفريط.

والحقّ الأمر بين الأمرين في هذا أيضا، وهو أنّ الإيمان الطوع لجميع ما جاء به النبيّ صلى الله عليه و آله ، وعلامته سوء السيّئة وسرور الحسنة.

وقال الكشّي في ترجمة الزهّاد الثمانية: «والحسن كان يلقى كلّ أهل فرقة بما يهوون، وكان يتصنّع للرياسة وكان رئيس القدريّة» انتهى.(1)

والمتعصّبون للمعتزلة إن أجابوا عن البراهين على إبطال ما نسمّيه تفويضا، أو جوّزوا أن لا يكون التفويض بهذا المعنى مذهبا للمعتزلة، سامحناهم في التفسير، وإلاّ قلنا: المعتزلة قدريّة مرّتين؛ لقولهم بكلا فردي التفويض، كما سيظهر بُعيد هذا.

قيل: المراد أنّ القول بأنّ كون الحوادث بقدر اللّه وقضائه يستلزم أن يكون العباد مجبورين مقالة طائفتين: إحداهما: الأشاعرة، والاُخرى: المعتزلة، ثمّ قيل: القدريّة والأشاعرة زعموا أنّ القدر والقضاء لا يكونان إلاّ بطريق الإلجاء، فنفاهما المعتزلة، وأثبتهما الأشاعرة. انتهى.

وهذا مبنيّ على أنّ الأوصاف الأربعة أو بعضها معطوفة على «إخوان»، وليست أوصافا للجبريّة، فاحتيج إلى هذا التأويل، ووجه كون المفوّضة حزب الشيطان أنّهم قالوا كالمجوس: إنّ الشيطان مستقلّ بالقدرة على فعله، وفعله مفوّض إليه، وقد يقع ما شاء شيطان دون ما شاء اللّه .(2) وقد وضعت المجوس حكايات في أنّه وقع الحرب بين اللّه والشيطان.(3)

ويحتمل أن يكون الأوّلان من الأوصاف الأربعة للمجوس، والأخيران للمعتزلة .

ص: 498


1- اختيار معرفة الرجال ، ج 1 ، ص 315 ، ح 154 .
2- اُنظر المواقف للايجي ، ج 3 ، ص 65 ؛ مجمع البيان ، ج 4 ، ص 125 ؛ معارج الفهم ، ص 379 .
3- حكى ذلك العلاّمة في معارج الفهم ، ص 379 . وفي الملخّص في اُصول الدين ، ص 289 إشارات إلى ذاك .

وأضرابهم من المنتسبين إلى الإسلام، فلا يكون العطف في قوله: وقدريّة، عطفَ انسحاب، وتكون للأشاعرة ثلاثة إخوة. وظاهر(1) قوله عليه السلام : «وقدريّة هذه الاُمّة» أنّ لفظة القدريّة كانت في الأصل واقعة على المجوس نقلت إلى المفوّضة.

(إِنَّ اللّه َ تَبَارَكَ وَتَعَالى). استئنافٌ لبيان بطلان مقالة الجبريّة أوّلاً؛ لأنّ أصل الكلام فيها، ثمّ بيان بطلان زعم المفوّضة، ثمّ بيان بطلان القدر المشترك بينهما.

(كَلَّفَ تَخْيِيرا، وَنَهى تَحْذِيرا، وَأَعْطى عَلَى الْقَلِيلِ كَثِيرا).

هذه الفقرات الثلاث لبيان بطلان الجبر، والمراد بالتكليف الأمر، وبالتخيير تعيين الخير من الفعل والترك للقادر على كلّ منهما أنّه الفعل، فالتخيير يستحيل أن يكون مع عدم قدرة المأمور على الفعل أو على الترك، ويلزم من كلّ من مذاهب الجبر الثلاثةِ عدمُ تمكّن فاعل شيء من تركه، ولا تارك شيء من فعله.

والمراد بالتحذير تعيين المحذور من الفعل والترك للقادر على كلّ منهما أنّه الفعل، فلا يجامع الجبر؛ لما مرّ آنفا.

والمراد بإعطاء الكثير على القليل الوعد له عليه للترغيب في أعمال الخير للقادر على الخير والشرّ، فلا يجامع الجبر؛ لما مرَّ آنفا.

(وَلَمْ يُعْصَ مَغْلُوبا، وَلَمْ يُطَعْ مُكْرَها، وَلَمْ يُمَلِّكْ مُفَوِّضا).

هذه الفقرات الثلاث لبيان بطلان زعم خصماء الرحمن والقدريّة المذكورين سابقا بتقريب إخوانهم.

اعلم أنّ التفويض في اللغة ردّ الأمر في شيء إلى أحد، وجعْله حاكما فيه، كما أنّ الوكل صرف الأمر في شيء إلى أحد، وجعله معتمدا عليه فيه،(2) وفي اصطلاح المتكلّمين نوع من الإقدار، وهو إقدار اللّه تعالى العبد بحيث يخرج عن يده تعالى أزمّة المقدور في وقت هذا الإقدار.(3) .

ص: 499


1- في «ج» : «فظاهر» .
2- النهاية ، ج 3 ، ص 479 ؛ لسان العرب ، ج 7 ، ص 210 (فوض) .
3- المواقف ، ج 3 ، ص 221 .

وللتفويض بهذا المعنى فردان هو القدر المشترك بينهما:

الأوّل: إقدار اللّه تعالى العبدَ على فعل بحيث لا يكون في مقدوره تعالى من المقرّبات إلى الفعل أو إلى الترك ما لو فعله بالعبد لاختار غير ما اختاره من الفعل والترك، فيلزمه أن يصدر عن العبد ما يختاره وإن شاء اللّه أن لا يصدر. وقد بيّنّا في تحرير محلّ النزاع بيننا وبين المعتزلة معنى مشيئة اللّه في أوّل الخامس والعشرين.(1)

وهذا مذهب المعتزلة؛ لقولهم بوجوب كلّ لطف ناجع على اللّه تعالى.(2)

ويلزم من ذلك أنّ العبد إن اختار العصيان كان عاصيا بغلبة على اللّه ، تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا، فإنّه لو كان في مقدوره تعالى لطف ناجع لفعل؛ لأنّه لا يترك الواجب عليه مع قدرته عليه، وعندهم أنّ كلّ لطف ناجع يجب عليه، فلم يتحقّق العصيان إلاّ لعدم قدرته على اللطف الناجع.

ويلزم من ذلك أيضا أنّ العبد إن اختار الطاعة كان مطيعا بإكراه؛ بمعنى أنّه بحيث إن شاء اللّه تعالى على فرض المحال تركَ الطاعة، ربّما لم يقدر على صرفه عن اختياره الطاعة إلى اختياره تركها؛ لعدم الفرق بين الإقدار على الطاعة، والإقدار على العصيان بديهةً واتّفاقا.

الثاني: إقدار اللّه تعالى العبدَ في وقت على فعل في ثاني الوقت، ويلزم من ذلك أن يكون العبد مستقلاًّ في القدرة غير موقوف فعله على الإذن من اللّه . وقد مضى أيضا معنى الاستقلال ومعنى الإذن في أوّل الخامس والعشرين.(3) وهذا أيضا مذهب المعتزلة حتّى أنّ أكثرهم يقولون: لا تبقى القدرة في وقت الفعل.(4) .

ص: 500


1- أي في الحديث 1 من باب في أنّه لا يكون شيء في الأرض ولا في السماء إلاّ بسبعة .
2- المغني في أبواب العدل والتوحيد ، ص 116 ؛ وحكاه عنهم الرازي في كتاب المحصّل ، ص 481 ؛ والعلاّمة في معارج الفهم ، ص 422 .
3- أي في الحديث 1 من باب في أنّه لا يكون شيء في الأرض ولا في السماء إلاّ بسبعة .
4- شرح الاُصول الخمسة ، ص 390 . وحكاه السيّد المرتضى في الذخيرة في علم الكلام ، ص 88 ؛ وشرح جمل العلم والعمل ، ص 97 ؛ والشيخ الطوسي في الاقتصاد ، ص 104 .

واعلم أنّ المعتزلة قدريّة مرّتين؛ لأنّهم لمّا قالوا بالتفويض الأوّل، أنكروا قسما من قدرة اللّه على التصرّف في فعلهم، فأنكروا قسما من قدرته(1) تعالى أي تدبيره وتقديره تعالى؛ لأنّه لا يتأتّى التدبير في شيء من جهة إلاّ من القادر على وجوه التصرّف فيه من هذه الجهة، فنسبوا جميع القدر الذي يكون من هذه الجهة إلى أنفسهم.

ولمّا قالوا بالتفويض الثاني أنكروا قسما آخر من قدرة اللّه تعالى على التصرّف في فعلهم، فأنكروا قسما آخر من قَدَرِهِ وتدبيره في فعلهم، فنسبوا جميع القدر الذي يكون من هذه الجهة إلى أنفسهم.

وقوله: «لم يعص» بصيغة المجهول، وفيه ضمير اللّه ، وكذا قوله: «لم يطع». وقوله: «مكرها» بفتح الراء. وقوله؛ «لم يملّك» بشدّ اللام المكسورة، ومعنى التمليك هنا الإقدار.

وقوله: «مفوّضا» بشدّ الواو المكسورة. ويحتمل أن يكون المراد بالتفويض هنا الفردَ الثانيَ من التفويض، من قبيل استعمال العامّ في الخاصّ مجازا، فيكون كلّ من الفقرات الثلاث نفيا لاعتقاد من المفوّضة غيرِ منفيّ بالاُخريين. ويحتمل أن يكون المراد به الأعمَّ، فيكون تعميما بعد تخصيص، وفي سورة يونس: «قُلْ لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِى ضَرّا وَلاَ نَفْعا إِلاَّ مَا شَاءَ اللّه ُ»(2).

(وَلَمْ يَخْلُقِ السَّمَاوَاتِ وَالاْءَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً، وَلَمْ يَبْعَثِ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ عَبَثا «ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ»(3)).

هذه الفقرات الثلاث لبيان بطلان القدر المشترك بين الجبر والتفويض، فإنّه يلزم على كلّ منهما بطلان الأمر والنهي والثواب والعقاب؛ أمّا على الجبر، فلما مرّ من قوله: «لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب والأمر والنهي»، وأمّا على التفويض، فلما يجيء في حادي عشر الباب من قوله: «لو فوّض إليهم لم يحصُرْهم بالأمر والنهي». فعلى .

ص: 501


1- في «ج» : «قدره» .
2- يونس (10) : 49 .
3- صآ (38) : 27 .

التقديرين يلزم كون خلق السماوات والأرض وما بينهما باطلاً، وكون بعث النبيّين عبثا، فقوله: «ذلك» إشارة إلى القدر المشترك بين الجبر والتفويض الملزوم لكون الخلق باطلاً، والبعث عبثا.

وهذه الفقرة إشارة إلى ما في قوله تعالى في سورة صآ: «وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالاْءَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ النَّارِ * أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِى الاْءَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ»(1).

(فَأَنْشَأَ الشَّيْخُ يَقُولُ:

أَنْتَ الاْءِمَامُ الَّذِي نَرْجُو بِطَاعَتِهِ يَوْمَ النَّجَاةِ مِنَ الرَّحْمنِ غُفْرَانا

أَوْضَحْتَ مِنْ أَمْرِنَا مَا كَانَ مُلْتَبِسا جَزَاكَ رَبُّكَ بِالاْءِحْسَانِ إِحْسَانا).

الثاني: (الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُعَلَّى بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الْوَشَّاءِ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ: مَنْ زَعَمَ) أي ادّعى. وأكثر ما يستعمل في دعوى الباطل.

(أَنَّ اللّه َ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ، فَقَدْ كَذَبَ عَلَى اللّه ِ). قال تعالى في سورة الأعراف: «قُلْ إِنَّ اللّه َ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ»(2)، ويجيء في «كتاب الحجّة» في تاسع «باب من ادّعى الإمامة وليس لها بأهل» ما يدلّ على أنّ المراد بالأمر التكليف، وأنّ المراد بالفاحشة الايتمام بأئمّة الجور.(3) والمقصود هنا(4) الردّ على المذاهب الثلاثة: الجبريّةِ مذهبِ جهم بن صفوان، والأشاعرةِ، وأبي الحسين البصري من المعتزلة بطريق الكناية، فإنّ الجبر على الفحشاء أشدّ قبحا من الأمر بالفحشاء، فكذب دعوى الأمر بالفحشاء يستلزم كذب دعوى .

ص: 502


1- صآ (38) : 27 _ 28 .
2- الأعراف (7) : 28 .
3- في «ج» : «الفحشاء: الخصلة المخالفة للعقل والنقل الصريح . والمراد هنا التصديق بأنّ اللّه جبر عباده على أفعالهم، ومع هذا يعذّب العاصي ويثيب المطيع» بدل «قال تعالى في سورة الأعراف» إلى هنا .
4- في «ج» : - «هنا» .

الجبر على الفحشاء بطريقٍ أولى.(1)

(وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ إِلَيْهِ ) أي مفوّضٌ إليه بأحد فردي التفويض المذكورين في(2) أوّل الباب.

(فَقَدْ كَذَبَ عَلَى اللّه ِ). ردٌّ على المعتزلة وعلى أبي الحسين البصري.

إن قلت: ورد في الدعاء المأثور: «الخير في يديك، والشرّ ليس إليك».(3)

قلت: معناه أنّ الشرّ ليس متوجّها إليك، وهو إشارة إلى أنّ اللّه أولى بحسنات العبد منه، والعبد أولى بسيّئاته من اللّه . وقد مرَّ تفسيره في آخر «باب المشيئة والإرادة».

ويحتمل أن يكون المراد أنّ الشرّ لا يتقرّب به إليك، ولا يبتغي به وجهك، أو أنّ الشرّ لا يصعد إليك، وإنّما يصعد إليك الخير، كما في قوله تعالى: «إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ»(4).

الثالث: (الْحُسَيْنُ،(5) عَنْ مُعَلَّى بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الْوَشَّاءِ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا عليه السلام ، قَالَ: سَأَلْتُهُ، فَقُلْتُ: اللّه ُ فَوَّضَ الاْءَمْرَ) أي العمل في الطاعة والمعصية ونحوهما، والاستفهام مقدّر.

(إِلَى الْعِبَادِ؟) أي إلى كلّ منهم باعتبار أمر نفسهِ.

(قَالَ: اللّه ُ أَعَزُّ) أي أغلب قدرةً، وأقوى ملكا (مِنْ ذلِكَ) أي من أن يفوّض.

وهو إشارة إلى دليل عقلي على بطلان كلّ فردي التفويض بأنّه يستلزم إخراج اللّه من سلطانه، وسيجيء تحريره في شرح ثاني «باب الاستطاعة». .

ص: 503


1- في «ج» : - «بطريق الكناية» إلى هنا .
2- في «ج» : + «شرح» .
3- الكافي ، ج 3 ، ص 310 ، باب افتتاح الصلاة والحدّ في التكبير ، ح 7 ؛ الفقيه ، ج 1 ، ص 303 ، ذيل ح 916 ؛ تهذيب الأحكام ، ج 2 ، ص 67 ، ح 12 ؛ وسائل الشيعة ، ج 6 ، ص 24 ، ح 7247 .
4- فاطر (35) : 10 .
5- في الكافي المطبوع : + «بن محمّد» .

(قُلْتُ: فَجَبَرَهُمْ عَلَى الْمَعَاصِي؟). الاستفهام مقدّر، والفاء للتفريع، وذِكْر المعاصي _ مع أنّ الطاعات كالمعاصي فيما نحن فيه _ مبنيّ على أنّ السائل اعتقد التفويض استدلالاً بأنّه لولاه لزم قبيح، وهو الجبر على المعاصي، لا الجبر على الطاعات؛ لأنّ قبحه غير ظاهر.

(فَقَالَ(1): اللّه ُ أَعْدَلُ وَأَحْكَمُ)؛ من الحكمة.

(مِنْ ذلِكَ) أي من أن يجبر على المعاصي. وهو إشارة على أنّ الجبر على المعاصي التي نهى اللّه تعالى عنها ظلم؛ أي وضع للشيء في غير موضعه وسفه بدون العقاب، فضلاً عن أن يكون معه عقاب.

(قَالَ: ثُمَّ قَالَ: قَالَ اللّه ُ: يَا ابْنَ آدَمَ، أَنَا أَوْلى بِحَسَنَاتِكَ مِنْكَ ، وَأَنْتَ أَوْلى بِسَيِّئَاتِكَ مِنِّي؛ عَمِلْتَ)؛ بصيغة الخطاب.

(الْمَعَاصِيَ بِقُوَّتِيَ الَّتِي جَعَلْتُهَا فِيكَ). هذا لإثبات الواسطة بين التفويض والجبر، ومضى تفسيره في آخر «باب المشيئة والإرادة».

الرابع: (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مَرَّارٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمنِ، قَالَ: قَالَ لِي أَبُو الْحَسَنِ الرِّضَا عليه السلام : يَا يُونُسُ، لاَ تَقُلْ).

يونس بن عبد الرحمن من فضلاء متكلِّمي أصحابنا وكأنّ الإمام عليه السلام استشعر منه أنّه يحترز عن أن يقول: ما شاء اللّه كان، وما لم يشأ لم يكن،(2) لتوهّمه أنّ ذلك يستلزم الجبر، أو أنّ مشيئة المعاصي قبيحة، أو أنّ النهي عمّا يشاء قبيح، فمهّد عليه السلام أوّلاً نفي التفويض لينجرّ الكلام إلى إثبات ما يحترز عنه. ويحتمل أنّه عليه السلام استشعر منه الميل إلى التفويض أيضا.

(بِقَوْلِ الْقَدَرِيَّةِ). هم مَن على رأي المعتزلة في مسألة القدر كما مرّ في أوّل الباب، .

ص: 504


1- في الكافي المطبوع : «قال» .
2- شرح المقاصد في علم الكلام ، ج 2 ، ص 97 و 145 .

والمراد بقولهم هنا الفرد الأوّل من التفويض، وهو أنّه لم يبق للّه تعالى طريق إلى صرف العبد عن الشرّ الواقع منه إلاّ القسر والإلجاء؛ لوجوب كلّ لطف ناجع عليه بزعمهم، فينكرون خلق الشقاء، وكون شرّ مع الخذلان فضلاً عن كون كلّ شرّ معه، وكذا ينكرون التوفيق في بعض الخير، كما مرّ في أوّل الباب في شرح قوله: «ولم يطع مكرها».

(فَإِنَّ الْقَدَرِيَّةَ). حاصل الكلام الاستدلال على بطلان قول القدريّة بآيات ثلاث حكى اللّه تعالى فيها أقوال أهل الجنّة وأهل النار وإبليس على سبيل التقرير.

(لَمْ يَقُولُوا بِقَوْلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ) وهو أنّ كلّ خير مع التوفيق. وفي رواية البرقي في كتاب المحاسن في باب الإرادة والمشيئة هكذا: «لم يقولوا بقول اللّه : وما تشاؤون إلاّ أن يشاء اللّه ، ولا قالوا بقول أهل الجنّة».(1)

(وَلاَ بِقَوْلِ أَهْلِ النَّارِ) وهو أنّ كلّ شرّ مع الخذلان، وأنّ اللّه تعالى خلق الشقاء.

(وَلاَ بِقَوْلِ إِبْلِيسَ) وهو أنّ اللّه يخلق الشقاء. ومعنى الشقاء أن يكون أحد بحسب الجبلّة كثيرَ الميل إلى الشرّ بدون جبر له على الشرّ، ومع علم اللّه تعالى أنّ ذلك يفضيه إلى سوء الخاتمة نعوذ باللّه منه، وقد مرّ في «باب السعادة والشقاء» ما يتعلّق به.

(فَإِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ قَالُوا:«الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِى هَدَينَا) أي وفّقنا (لِهَ_ذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِىَ) أي ولم نهتد البتّة (لَوْلآَ أَنْ هَدَينَا اللّهُ»(2)).

يدلّ على أنّ الخير الموجب للجنّة لا يكون إلاّ مع توفيق اللّه .

(وَقَالَ أَهْلُ النَّارِ : «رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا) أي جذبتنا إلى الشرّ. والمقصود أنّهم فعلوا ما تدعو إليه الشقوة، فهو مجاز في النسبة.

(وَ كُنَّا قَوْمًا ضَآلِّينَ»(3)) أي أشقياء. .

ص: 505


1- المحاسن ، ج 1 ، ص 244 ، ح 238 .
2- الأعراف (7) : 43 .
3- المؤمنون (23) : 106 .

(وَقَالَ إِبْلِيسُ: «رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِى»(1)) أي أشقيتني، فإنّ الغاوي هو الشقيّ، ولَيس فعل الشرّ من الشقيّ بالجبر وإن كان فيه وجوب لاحق. وفي رواية البرقي بعد هذا هكذا: «ولا قالوا بقول نوح: «وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللّه ُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ»(2)».(3)

(فَقُلْتُ: وَاللّه ِ، مَا أَقُولُ بِقَوْلِهِمْ) أي بأنّه لم يبق طريق للّه تعالى إلى إيمان الكافر إلاّ الجبر. والمقصود أنّي لا اُوافقهم في القول بالتفويض.

(وَلكِنِّي). استدراكٌ عمّا يفهم من نفي التفويض من القول بأنّ مشيئة اللّه تتعلّق بالمعاصي.

(أَقُولُ: لاَ يَكُونُ) أي شيء في الأرض ولا في السماء من أفعال العباد ونحوهم.

(إِلاَّ بِمَا شَاءَ اللّه ُ) أي إلاّ بسبب أمر آخر شاءه اللّه ، وهو أفضى إلى اختيار العبد المعصيةَ أو الطاعة بدون جبر. ومقصوده بإدخال الباء الجارّة في قوله: «بما شاء» أن يأتي بكلام يدلّ على نفي التفويض بدون أن يشتمل على أنّ مشيئته تعالى تتعلّق بالمعاصي.

والإنصاف أنّ هذا التدقيق من يونس تدقيق عجيب وإن كان مدفوعا؛ لغفلة يونس عن تدقيق فوق هذا التدقيق، كما سيظهر في جوابه عليه السلام وإقرار يونس بالغفلة.

(وَأَرَادَ، وَقَدَّرَ وَقَضى، فَقَالَ: يَا يُونُسُ ، لَيْسَ هكَذَا) أي ليس الحقّ الصريح هكذا.

وهذا متعارف في ردّ الكلام الذي ظاهره حقّ، ومقصود المتكلّم به ضمّ أمر آخر غير حقّ إليه كما في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه لمّا قال بعض الخوارج ردّا عليه في الرضا بالتحكيم: لا حكم إلاّ للّه ، قال عليه السلام : «كلمة حقّ اُريد بها باطل».(4) .

ص: 506


1- الحجر (15) : 39 .
2- هود (11) : 34 .
3- المحاسن ، ج 1 ، ص 244 ، ح 238 .
4- نهج البلاغة ، ص 82 ، ح 40 . و فيه «يريد» بدل «اُريد» .

(لاَ يَكُونُ إِلاَّ مَا شَاءَ اللّه ُ وَأَرَادَ، وَقَدَّرَ وَقَضى). استئنافٌ لبيان أنّ الحقّ الصريح في إسقاط الباء الجارّة لا في إدخالها، فإنّ إسقاطها يجعل اللفظ جامعا(1) لنفي التفويض وبيان أنّ وقوع المعاصي مع علمه تعالى بإفضاء ما يفضي إليها ممّا صدر عنه تعالى، ألا يرى أنّ الغافل عن أنّ فعله يؤدّي إلى إيذاء الحاكم إيّاه يُقال فيه: ما وقع الإيذاء إلاّ بما شاء، ولا يُقال فيه: شاء وقوع الإيذاء، بخلاف العالم فإنّه يقال فيه: إنّه شاء وقوع الإيذاء وإن كان كارها له من جهة اُخرى، وهكذا اللّه تعالى شاء للمعاصي باعتبار أنّه عالم بأنّها تقع بما شاء، وكارِهٌ لها باعتبار أنّه نهى عنها. وقد بيّنّا في ثاني «باب الإرادة» أنّها من صفات الفعل ما يظهر منه أنّ هذا الاستعمال حقيقة لغةً، ولو كان مجازا لم يكن فيه حجر؛ لأنّه على طبق استعمال الشرع.

(يَا يُونُسُ). شروعٌ في بيان فائدة إسقاط الباء.

(تَعْلَمُ مَا الْمَشِيئَةُ؟). يُحتمل أن يُراد به تعلم ما فائدة القول بالمشيئة و أنّها تتعلّق بالمعاصي مثلاً بإسقاط الباء، ويحتمل أن يُراد ما معنى مشيئة اللّه لفعل المعصية مثلاً المعدودة مع الخصال البواقي.

(قُلْتُ: لاَ، قَالَ: هِيَ الذِّكْرُ الاْءَوَّلُ). الذكر بالكسر والضمّ: الالتفات إلى ما علم قبلُ، نحو: «أَوَلاَ يَذْكُرُ الاْءِنسَانُ»(2)، واستعير هنا للعمل بمقتضى العلم الأزلي فيما لا يزال، وذلك إحداث شيء يفضي إلى المعلوم بالعلم الأزلي، فالذكر الأوّل لعصيان زيد _ مثلاً _ إحداث الماء الذي هو أوّل مخلوق ومادّة سائر الحوادث المعلومة في الأزل.

(فَتَعْلَمُ مَا الاْءِرَادَةُ؟ قُلْتُ: لاَ، قَالَ: هِيَ الْعَزِيمَةُ) أي البقاء والجدّ (عَلى مَا يَشَاءُ).

«ما» إمّا مصدريّة أي على المشيئة، وهي الذكر؛ أي أن يكون ذاكرا في وقت أفضى(3) الحادث بعد المفضي الأوّل. وإمّا موصولة، فيكون معنى الإرادة تأكّد المشيئة لما يشاء؛».

ص: 507


1- في «أ» : «جامعها» .
2- مريم (19) : 67 .
3- في «ج»: «المفضى».

أي فعل أو ترك بعد المشيئة موافق لها في أنّه مفض إلى فعل العبد، مجامع للعلم بالإفضاء.

(فَتَعْلَمُ مَا الْقَدَرُ؟ قُلْتُ: لاَ، قَالَ : هِيَ) أي القدر، والتأنيث باعتبار الخبر.

(الْهَنْدَسَةُ)؛ على وزن الدهرجة، معرّب «اندازه» أي المقدار، ونقل إلى تعيين المقدار. وقيل: المُهندِس مقدّر(1) مجاري الماء حيث تحفر، والاسم الهندسة، مشتقّ من الهنداز، معرّب «آب انداز» فاُبدلت الزاي [سينا] لأنّه ليس لهم دال بعده زاي. انتهى.(2)

(وَوَضْعُ الْحُدُودِ مِنَ الْبَقَاءِ وَالْفَنَاءِ). بيّن عليه السلام القدر في ضمن مثال صنعة الصانع من العباد كالحذّاء والخيّاط ونحوهما، فإنّ الحذّاء _ مثلاً _ إذا ظنّ أنّه يقدر على صنعة حذاء بعد ذلك، وعزم عليها، عيّن في نفسه المقدار اللائق بالحذاء الذي عزمه، وعيّن أيضا البقاء والفناء، أي إن أراد طول بقاء الحذاء عزم على صنعة مستحكمة بقدر ما أراد من حدود البقاء، وإلاّ تسامح بقدر ما يريد من حدود الفناء.

والمقصود أنّ فائدة اعتبار قدر اللّه وتعلّقه بالمعاصي _ مثلاً _ عدم نسيانه للإفضاء في وقت هندسة العبد، أو المقصود أنّ قدر اللّه تعالى لمعصية عبد _ مثلاً _ فعل أو ترك اختياري يعلم تعالى أنّه يفضي إلى فعل العبد اختيارا، وهو مجامع لقدر العبد _ أي هندسته ووضعه _ الحدودَ، وإنّما يكون حين ظنّه بنفسه القدرةَ بعد ذلك على الفعل، وهذا الحين هو الوقت الذي زعم المعتزلة أنّ العبد قادر فيه على الفعل بعده؛ فالعبد يدبّر، واللّه يقدّر.(3)

(قَالَ : ثُمَّ قَالَ: وَالْقَضَاءُ هُوَ الاْءِبْرَامُ وَإِقَامَةُ الْعَيْنِ) أي فائدة اعتبار قضائه تعالى لمعصية العبد _ مثلاً _ بيان عدم نسيانه حين الإبرام، أو المقصود أنّ معنى قضائه الإبرام أي فعل أو ترك من اللّه تعالى اختياري يعلم تعالى أنّه يفعل العبد معه ذلك الفعل. .

ص: 508


1- في «ج» : «المقدّر» .
2- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 260 ؛ لسان العرب ، ج 6 ، ص 251 (هندس) .
3- شرح الاُصول الخمسة ، ص 390 . وانظر نهج الحقّ للعلاّمة الحلّي ، ص 129 .

والمراد بالإبرام ما يصير الشيء معه بحيث يخرج عن تعلّق القدرة به، وهو بإقامة العين أي إيجاد الشيء في الأعيان أي الموجودات الخارجيّة، وكلّ مفضٍ مبرمٌ لا مطلقا، بل حين مضى وقته، أو إذا أخذ بشرط القضاء، كما مرّ في آخر «باب البداء» عند قوله: «والقضاء بالإمضاء» هو المبرم. وأمّا بدونهما فليس مبرما، لا على العبد؛ لأنّ القضاء قضاء عزم لا قضاء حتم وقد مرّ معناهما في أوّل الباب، ولا على اللّه ؛ لأنّه مختار في القضاء.

ويظهر هذا الفرق من بيانهم الفرقَ بين الضرورة بشرط الوصف، والضرورة حين الوصف.

(قَالَ: فَاسْتَأْذَنْتُهُ أَنْ أُقَبِّلَ رَأْسَهُ، وَقُلْتُ: فَتَحْتَ لِي شَيْئا كُنْتُ عَنْهُ فِي غَفْلَةٍ). ذلك لتوهّمه أنّ تعلّق مشيئته تعالى بالمعاصي قبيح، أو يوجب الجبر، فلمّا علم معنى المشيئة، علم أنّها تتعلّق بكلّ كائن بدون جبر وقبيح، وكذا الكلام في الإرادة والقدر والقضاء.

الخامس: (مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ شَاذَانَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عِيسى، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُمَرَ الْيَمَانِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ: إِنَّ اللّه َ خَلَقَ الْخَلْقَ) أي المخلوقين.

(فَعَلِمَ). الفاء للتعقيب باعتبار ضمِّ «وأمرهم ونهاهم» أو للتفريع للدلالة على أنّ الخلق دليل العلم، قال تعالى: «أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ»(1).

(مَا هُمْ صَائِرُونَ إِلَيْهِ) من القدرة على كلّ من الفعل والترك.

(وَأَمَرَهُمْ وَنَهَاهُمْ) أي لم يكتف بعلمه هذا.

(فَمَا أَمَرَهُمْ بِهِ مِنْ شَيْءٍ، فَقَدْ جَعَلَ لَهُمُ السَّبِيلَ إِلى تَرْكِهِ). ردٌّ على المجبّرة، والفاء للتفريع.

(وَلاَ يَكُونُونَ آخِذِينَ) أي فاعلين لشيء. .

ص: 509


1- المُلك (67) : 14 .

(وَلاَ تَارِكِينَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّه ِ) أي بعدم إحداثه مانعا عقليّا، أي مخرجا عن القدرة في وقت الفعل.

وهذا ردّ على المعتزلة في قولهم: إنّ القدرة على فعل في وقت تتقدّم على ذلك الوقت.(1)

ويمكن أن يُراد بالإذن هنا عدم إحداث المانع العقلي، أي المخرج عن القدرة، ولا المانع العلمي، أي ما يعلم تعالى معه عدم الأخذ أو الترك اختيارا، فيعمّ الخصال الخمس الاُول من الخصال السبع، ويكون ردّا على المعتزلة في كلا خلافيهم معنا، كما مضى في أوّل الخامس والعشرين.(2)

السادس: (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمنِ، عَنْ حَفْصِ بْنِ قُرْطٍ)؛ بضمّ القاف، وسكون الراء المهملة، ومهملة.

(عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله : مَنْ زَعَمَ أَنَّ اللّه َ يَأْمُرُ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ، فَقَدْ كَذَبَ عَلَى اللّه ِ). ردٌّ على المجبّرة، ومضى معناه في ثاني الباب.

والسوء بضمّ المهملة: الاسم للسوء بفتحها، مصدر ساءه يسووه سوءا ومساءةً ومسائية، نقيض: سرّه.

(وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ بِغَيْرِ مَشِيئَةِ اللّه ِ، فَقَدْ أَخْرَجَ اللّه َ مِنْ سُلْطَانِهِ). ردٌّ على المعتزلة في أوّل خلافيهم معنا المذكورَيْن في أوّل الخامس والعشرين.

والمراد بالخير والشرّ الطاعات والمعاصي كقوله تعالى: «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّا يَرَه»(3)؛ لأنّه لم يزعم أحد أنّ نحو الصحّة والمرض بغير مشيئة اللّه .

وقيل: يعني بالخير والشرّ الصحّة والمرض، وذلك قوله عزّ وجلّ: «وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ .

ص: 510


1- شرح الاُصول الخمسة ، ص 390 . وحكاه السيّد المرتضى في الذخيرة في علم الكلام ، ص 88 ؛ والشيخ الطوسي في الاقتصاد ، ص 104 ؛ والعلاّمة في معارج الفهم ، ص 262 .
2- أي في الحديث 1 من باب في أنّه لا يكون شيء ، في السماء والأرض إلاّ بسبعة .
3- الزلزلة (99) : 7 _ 8 .

وَالْخَيْرِ فِتْنَةً»(1). انتهى.(2)

(وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمَعَاصِيَ بِغَيْرِ قُوَّةِ اللّه ِ، فَقَدْ كَذَبَ عَلَى اللّه ِ). ردٌّ على المعتزلة في قولهم: إنّ كلّ لطف ناجع واجب على اللّه تعالى، فيستحيل عليه ضدّ اللطف.(3) ومضى في ثالث الباب: «عملتَ المعاصي بقوّتي التي جعلتُها فيك».

قيل: ردّ على الأشاعرة حيث زعموا أنّ المعاصي فعل اللّه لا بقوّة خلقها. انتهى.(4)

(وَمَنْ كَذَبَ عَلَى اللّه ِ، أَدْخَلَهُ(5) النَّارَ) ؛ متعلّقٌ بالجميع.

السابع: (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عِيسى، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَابِرٍ، قَالَ: كَانَ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَتَكَلَّمُ بِالْقَدَرِ(6)) أي بأن قدر فعل العبد له فقط، وليس للّه معه شركة في قدر فعله. وهو قول المعتزلة، ومبنيّ على قولهم: إنّه لم يبق طريق للّه تعالى إلى نحو إيمان الكافر إلاّ القسر والإلجاء، وعليه وعلى قولهم: قدرة العبد على فعل في وقت تتقدّم على ذلك الوقت من فردي التفويض.(7)

(وَالنَّاسُ مُجْتَمِعُونَ، قَالَ: فَقُلْتُ: يَا هذَا). نداءٌ على سبيل الاستخفاف.

(أسْأَلُكَ؟). خبر أو بتقدير الاستفهام للاستيذان.

(قَالَ: سَلْ ، قُلْتُ: يَكُونُ)؛ بتقدير الاستفهام الإنكاري.

(فِي مُلْكِ)؛ بضمّ الميم وسكون اللام، أي سلطان.

(اللّه ِ _ تَبَارَكَ وَتَعَالى _ مَا لاَ يُرِيدُ؟). يعني أليس كون شيء لا يريده منافيا لسلطانه .

ص: 511


1- الأنبياء (21) : 35 .
2- في حاشية «أ» : «القائل ابن بابويه في كتاب التوحيد (منه)» . التوحيد ، ص 359 ، باب نفي الجبر والتفويض ، ح 2 .
3- المغني في أبواب العدل والتوحيد ، ص 116 . وحكاه عنهم العلاّمة في معارج الفهم ، ص 422 .
4- في حاشية «أ» : «ام من رحمه الله (منه)» . والظاهر أنّ المراد منه محمّدأمين الإسترابادي في حاشيته على الكافي .
5- في الكافي المطبوع : + «اللّه » .
6- في الكافي المطبوع : «في القدر» .
7- شرح الاُصول الخمسة ، ص 390 . وحكاه السيّد المرتضى في الذخيرة في علم الكلام ، ص 88 ؛ وشرح جمل العلم والعمل ، ص 97 ؛ والشيخ الطوسي في الاقتصاد ، ص 104 .

تعالى، ومخرجا له تعالى عن غيره. وسيجيء بيانه في شرح ثاني «باب الاستطاعة».

والمراد بالإرادة هنا أعمّ من الخصال الخمس الاُول التي مرَّ بيانها في أوّل الخامس والعشرين.

(قَالَ: فَأَطْرَقَ) أي أرخى عينيه ينظر إلى الأرض، أو المراد سكت ولم يتكلّم.

(طَوِيلاً، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ إِلَيَّ ، فَقَالَ: يَا هذَا، لَئِنْ قُلْتُ)؛ بصيغة المتكلّم.

(إِنَّهُ يَكُونُ فِي مُلْكِهِ مَا لاَ يُرِيدُ، إِنَّهُ لَمَقْهُورٌ) أي لزم أن أقول: إنّه لمقهور.

(وَلَئِنْ قُلْتُ : لاَ يَكُونُ فِي مُلْكِهِ إِلاَّ مَا يُرِيدُ ، أَقْرَرْتُ لَكَ بِالْمَعَاصِي) أي بأنّ المعاصي بإرادة اللّه . وهو رجوع عن مذهب القدريّة .

(قَالَ : فَقُلْتُ لاِءَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : سَأَلْتُ هذَا الْقَدَرِيَّ ، فَكَانَ مِنْ جَوَابِهِ كَذَا وَكَذَا ، فَقَالَ : لِنَفْسِهِ نَظَرَ ) أي تأمّل واحتاط لنفع نفسه .

(أَمَا) ؛ بتخفيف الميم ، حرف تنبيه .

(لَوْ قَالَ غَيْرَ مَا قَالَ) أي لو حكم بمذهبه، ولم يرجع عنه، ولم يتردّد فيه .

(لَهَلَكَ) . باستحقاقه النار .

الثامن : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ زَعْلاَنَ )؛ بفتح الزاي وسكون المهملة، من زعل كفرح: إذا نشط .

(عَنْ أَبِي طَالِبٍ الْقُمِّيِّ ، عَنْ رَجُلٍ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : قُلْتُ : أَجَبَرَ) ؛ بهمزة الاستفهام، أو من باب الإفعال وتقدير الاستفهام ؛ يُقال: جبره على الأمر وأجبره: إذا أكرهه عليه .

(اللّه ُ الْعِبَادَ عَلَى الْمَعَاصِي؟ قَالَ : «لاَ» . قال : قُلْتُ : فَفَوَّضَ إِلَيْهِمُ الاْءَمْرَ؟). مضى بيان معنى التفويض في أوّل الباب .

(قَالَ : «لاَ» .(1) قُلْتُ : فَمَا ذَا؟) أي فما الذي هو ثالث الجبر والتفويض ؟ أبينهما أم في .

ص: 512


1- في الكافي المطبوع : + «قال» .

طرف منهما ؟

(قَالَ : لُطْفٌ) ؛ بضمّ اللام وسكون المهملة، وفتحُ اللام والطاء لغةٌ فيه: ضدّ الغلظ .(1) والمراد به هنا فعل يدلّ على علم فاعله بلطائف الاُمور أي دقائقها وخفاياها .

وقيل: اللطف: الرفق في الفعل، والعلمُ بدقائق المصالح، وإيصالها إلى من قدّرها له من خلقه ؛ يُقال: لطف به وله _ بالفتح _ يلطف لطفا: إذا رفق به . انتهى .(2)

وقيل : أي التكليف، أي الأمر والنهي، كما سيجيء . انتهى .(3) أشار إلى حادي عشر الباب، أو إلى ثالث عشره أيضا .

(مِنْ رَبِّكَ بَيْنَ ذلِكَ) أي بين المذكور من الجبر والتفويض، فهو إقدار فوق ما يقوله المجبّرة وتحت إقدارَيِ التفويض .

بيان ذلك: أنّ المجبّرة ضيّقوا دائرة قدرة العبد، فقال الجهم من المجبّرة : لا قدرة في العبد بل حركة الماشي كحركة المرتعش ،(4) والأشاعرةَ من المجبّرة يقولون: قدرة العبد على فعلٍ مساوقة لاتّصافه به تبعا للداعي إليه، وقدرته على تركه مساوقة لاتّصافه به تبعا للداعي إليه ،(5) فقدرة العبد لا تتعلّق عندهم بكلّ من طرفي الفعل والترك .

وأبو الحسين من المجبّرة يقول بامتناع تخلّف المعلول عن العلّة التامّة،(6) فيلزمه عدم تمكّن العبد إمّا من الفعل، وإمّا من الترك؛ لعدم سبيل له إليه ، وهذان مستلزمان لعدم القدرة في العبد حقيقة. وتفصيله في محلّه .

والمفوّضة _ أي القائلون بتفويض اللّه تعالى الفعل والترك إلى العبد، وهم جمهور .

ص: 513


1- لسان العرب، ج 9، ص 316 (لطف).
2- النهاية ، ج 4 ، ص 251 (لطف) .
3- في حاشية «أ» : «القائل ميرزا محمّد أمين الإسترابادي رحمه الله تعالى ساكن مكّة المشرّفة (منه)» .
4- حكاه ابن أبي العزّ الحنفي في شرح العقيدة الطحاوية ، ص 493 عن جهم بن صفوان .
5- محصّل أفكار المتقدّمين والمتأخّرين ، ص 152 ؛ شرح المقاصد ، ج 2 ، ص 353 ؛ شرح المواقف ، ج 6 ، ص 88 .
6- اُنظر قواعد المرام ، ص 107 .

المعتزلة، ووافقهم أبو الحسين ومن تبعه _ وسّعوا دائرة قدرة العبد، وذهبوا إلى أنّ فعله مفوّض إليه بكلّ من فردي التفويض ، فإنّ التفويض القدر المشترك بين إقدارين كلّ منهما فرده:

الأوّل : إقدار اللّه تعالى العبد على فعل بحيث لا يقدر تعالى على صرف العبد عن ذلك الفعل مع هذا الإقدار، فيلزمه أن يصدر عن العبد وإن شاء اللّه أن لا يصدر عنه .

الثاني : إقدار اللّه تعالى العبد في وقت على فعل في ثاني الوقت، فيلزمه أن يكون العبد قادرا عليه بالاستقلال، غير موقوف فعله على الإذن من اللّه ، كما مرّ في أوّل الخامس والعشرين .(1)

التاسع : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمنِ ، عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ وَأَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليهماالسلام ، قَالاَ : إِنَّ اللّه َ أَرْحَمُ بِخَلْقِهِ مِنْ أَنْ يُجْبِرَ خَلْقَهُ عَلَى الذُّنُوبِ ، ثُمَّ)؛ للتعجّب وتراخي الرتبة .

(يُعَذِّبَهُمْ عَلَيْهَا) . المقصود أنّ التعذيب على الذنوب مع الجبر ظلم وقبيح في نفسه . وهذا للردّ على المجبّرة وهم ثلاث طوائفَ كما مرَّ آنفا .

(وَاللّه ُ أَعَزُّ) أي أقدر وأغلب (مِنْ أَنْ يُرِيدَ أَمْرا فَلاَ يَكُونَ) .

هذا للردّ على طائفتي المفوّضةِ كما ذكرنا آنفا .

والمراد بالإرادة هنا القدر المشترك بين الخصال الأربع الاُول التي سبقت في أوّل الخامس والعشرين، وبين كونه تعالى بالنسبة إلى أمر بحيث إذا قدر على ما يفضي إليه لَفعل ؛ وذلك ليصير النزاع بيننا وبين المفوّضة معنويّا، وتحقيق أنّ ذلك ينافي عزّ اللّه ، ويستلزم عجزه في الجملة سيجيء في شرح ثاني «باب الاستطاعة» .

(قَالَ : فَسُئِلاَ عليهماالسلام : هَلْ بَيْنَ الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ مَنْزِلَةٌ ثَالِثَةٌ؟ قَالاَ : نَعَمْ) . هي الإقدار فوق ما يقوله المجبّرة ودون إقداري المفوّضة كما مرَّ آنفا . .

ص: 514


1- اُنظر قواعد المرام في علم الكلام ، ص 96 .

(أَوْسَعُ مِمَّا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالاْءَرْضِ) . كأنّه لأنّ كلّ خلائقه من الإنس والجنّ والملائكة وغيرهم _ ممّن هو فاعل في الجملة _ مخلوقون على هذه الواسطة ؛ لأنّ كلّ فاعل مختار . وتفصيله في محلّه .

ويحتمل أن يكون الوسعة باعتبار أنّه لا ضيق فيها بمعارضة دليل عقلي ولا نقلي، ويتوافق فيها ظواهر الآيات والأحاديث التي توهّموا تعارض ظواهرها من استدلال المجبّرة ببعضها، واستدلال المفوّضة ببعض آخر منها .

العاشر : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، عَنْ يُونُسَ،(1) عَنْ صَالِحِ بْنِ سَهْلٍ ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : سُئِلَ عَنِ الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ) أي والتفويض .

(فَقَالَ : لاَ جَبْرَ وَلاَ قَدَرَ ، وَلكِنْ مَنْزِلَةٌ بَيْنَهُمَا فِيهَا الْحَقُّ) أي القول بها هو الحقّ، لا غيره من الأقوال؛ جعلها كالظرف للقول بها .

(الَّتِي) . مبتدأ وموصوفها المقدّر «المنزلةُ».

(بَيْنَهُمَا) ؛ صلة .

(لاَ يَعْلَمُهَا) ؛ خبر .

(إِلاَّ الْعَالِمُ) أي من أهل البيت .

(أَوْ مَنْ عَلَّمَهَا إِيَّاهُ الْعَالِمُ) . قد تعلّمنا منهم عليهم السلام أنّها الإقدار فوق ما يقوله طوائف المجبّرة الثلاثُ، ودون ما يقوله المفوّضتان، كما مرّ في ثامن الباب .

الحادي عشر : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ مُحَمَّدٍ ، عَنْ يُونُسَ ، عَنْ عِدَّةٍ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ). الضمير لكلّ واحد من العدّة .

(قَالَ لَهُ رَجُلٌ : جُعِلْتُ فِدَاكَ ، أَجَبَرَ اللّه ُ الْعِبَادَ عَلَى الْمَعَاصِي؟ قَالَ ) أي أبو عبداللّه عليه السلام : (اللّه ُ أَعْدَلُ مِنْ أَنْ يَجْبُرَهُمْ عَلَى الْمَعَاصِي ، ثُمَّ) ؛ للتعجّب .

(يُعَذِّبَهُمْ عَلَيْهَا) . .

ص: 515


1- في الكافي المطبوع : + «بن عبد الرحمن» .

(فَقَالَ لَهُ : جُعِلْتُ فِدَاكَ ، فَفَوَّضَ اللّه ُ إِلَى الْعِبَادِ؟). التفويض: الإقدار بحيث لا يكون بيده تعالى أزمّة الاُمور ، وقد مرّ أنّه القدر المشترك بين إقدارين في ثامن الباب .

والظاهر أنّ مراد السائل هنا الفرد الأوّل منه ، ويحتمل القدر المشترك بين الفردين .

(قَالَ : فَقَالَ : لَوْ فَوَّضَ إِلَيْهِمْ ، لَمْ يَحْصُرْهُمْ بِالاْءَمْرِ وَالنَّهْيِ) . الحصر بالحاء والصاد والراء المهملات من باب نصر وضرب: المنع والحبس ؛ يعني لو فوّض إليهم لجرى في ملكه ما لا يشاء، فكان عاجزا مثلهم، فلم يكن ربّا لهم، ولم يكونوا مربوبين له، فلم يصحّ منه أمرهم ونهيهم بالأصالة إنّما صحّ بالخلافة كما في الأنبياء والأوصياء ، وهذا ظاهر الفساد .

قيل: يعني الحكمة التي اقتضت حصرهم بالأمر والنهي تأبى عن التفويض، وقول المعتزلة حيث قالوا: العباد ما شاؤوا صنعوا . انتهى .(1)

وقيل : قال الصادق عليه السلام : «لا جبر ولا تفويض بل أمرٌ بين أمرين ». عنى بذلك أنّ اللّه تبارك وتعالى لم يجبر عباده على المعاصي، ولم يفوّض إليهم أمر الدين حتّى يقولوا فيه بآرائهم ومقاييسهم ؛ فإنّه عزّ وجلّ قد حدّ ووظف وشرّع وفرض وسنّ وأكمل لهم الدين، فلا تفويض مع التحديد والتوظيف والشرع والفرض وإكمال الدين . انتهى .(2)

(فَقَالَ لَهُ : جُعِلْتُ فِدَاكَ ، فَبَيْنَهُمَا مَنْزِلَةٌ؟ قَالَ : فَقَالَ : نَعَمْ ، أَوْسَعُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ إلى الاْءَرْضِ(3)) . مضى معناه في تاسع الباب .

الثاني عشر : (مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ وَغَيْرُهُ ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي نَصْرٍ ، قَالَ : قُلْتُ لاِءَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا عليه السلام : إِنَّ بَعْضَ أَصْحَابِنَا يَقُولُ بِالْجَبْرِ ، وَبَعْضَهُمْ يَقُولُ بِالاِسْتِطَاعَةِ) أي بالاستطاعة للفعل وتركه معا. .

ص: 516


1- حكاه في قواعد المرام، ص 96.
2- في حاشية «أ» : «القائل ابن بابويه رحمه الله كتاب التوحيد من باب أسماء اللّه تعالى في معنى الجبّار (منه)» . التوحيد ، ص 206 .
3- في الكافي المطبوع : «أوسع ممّا بين السماء والأرض» .

الاستطاعة لا تستعمل إلاّ في المخلوقين ، وتُطلق على معنيين :

الأوّل: سعة القدرة مطلقا، والقدرة التمكّن، وهو مفهوم بديهيّ .

الثاني: القدرة على ما لم تتعلّق بمنافيه مشيئة من لا يكون إلاّ ما شاء.

وقد تُطلق على معنى ثالث، كما يجيء في شرح عنوان الباب الآتي .

والمراد بها هنا الثاني مقيّدا بتعلّقه بالفعل والترك معا ، وهو موافق لقول المعتزلة في الأوّل من فردي التفويض، ولا تعجب من القول بالجبر، أو القول بالاستطاعة في أصحابنا؛ إنّ أكثر أهل زماننا من أصحابنا يقولون بالجبر والاستطاعة معا؛ لاختيارهم مذهب أبي الحسين البصري .(1)

(قَالَ : فَقَالَ عليه السلام لِي : اكْتُبْ : بِسْمِ اللّه ِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ عليهماالسلام : قَالَ اللّه ُ عَزَّ وَجَلَّ : يَا ابْنَ آدَمَ ، بِمَشِيئَتِي كُنْتَ أَنْتَ الَّذِي تَشَاءُ ، وَبِقُوَّتِي أَدَّيْتَ إِلَيَّ فَرَائِضِي ، وَبِنِعْمَتِي قَوِيتَ عَلى مَعْصِيَتِي ؛ جَعَلْتُكَ سَمِيعا بَصِيرا«مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّه ِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ»،(2) وَذلِكَ أَنِّي أَوْلى بِحَسَنَاتِكَ مِنْكَ ، وَأَنْتَ أَوْلى بِسَيِّئَاتِكَ مِنِّي ، وَذلِكَ أَنِّي لاَ أُسْأَلُ عَمَّا أَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) .

مضى شرحه في سادس «باب المشيئة والإرادة » وحاصله إبطال الجبر وإبطال الاستطاعة واختيار الواسطة، كما مرّ مرارا .

(قَدْ نَظَمْتُ لَكَ كُلَّ شَيْءٍ تُرِيدُ) . من كلام الرضا عليه السلام .

الثالث عشر : (مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ ، عَنْ حُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيى ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : لاَ جَبْرَ وَلاَ تَفْوِيضَ) . الجبر القدر المشترك بين مذهب جهم ومذهب الأشاعرة ومذهب الفلاسفة ،(3) والتفويض مذهب المعتزلة ومن .

ص: 517


1- اُنظر معارج الفهم ، ص 408 .
2- النساء (4) : 79 .
3- اُنظر شرح العيون في شرح رسالة ابن زيدون لابن نباتة ، ص 162 ؛ ومعارج الفهم ، ص 409 .

تبعهم،(1) كما مضى في شرح ثامن الباب .

(وَلكِنْ أَمْرٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ(2). قُلْتُ : وَمَا أَمْرٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ؟ قَالَ : مَثَلُ ذلِكَ)؛ بالميم والمثلّثة المفتوحتين ؛ أي نظير ما نحن فيه الذي يظهر به ما نحن فيه، وليس ممّا نحن فيه .

(رَجُلٌ) أي حال رجل (رَأَيْتَهُ عَلى مَعْصِيَةٍ) أي مشرفا عليها مريدا لها . وهذا نظير علم اللّه بأنّ عبدا يعصي بعد ذلك .

(فَنَهَيْتَهُ). هذا نظير عدم تفويض اللّه تعالى(3) الأمر إلى عباده .

(فَلَمْ يَنْتَهِ ، فَتَرَكْتَهُ ، فَفَعَلَ تِلْكَ الْمَعْصِيَةَ) . هذا نظير(4) الأمر بين الأمرين . والمراد بتركه الرجل أن لا يصدر عنه ما يفضي إلى اختيار الرجل ترك المعصية من الألطاف والإنعامات على تركها مع قدرته على المفضي .

(فَلَيْسَ حَيْثُ لَمْ يَقْبَلْ مِنْكَ(5) كُنْتَ أَنْتَ الَّذِي أَمَرْتَهُ بِالْمَعْصِيَةِ) . هذا نظير عدم جبر اللّه تعالى العباد على أفعالهم .

والفاء للتفريع على نظير عدم التفويض . و«أمرته» بتخفيف الميم، وأمره الرجل بالمعصية نظير جبر اللّه العباد على المعصية، كما يظهر ممّا سننقل في شرح ثاني «باب الاستطاعة» من قول الحسن بن عليّ عليهماالسلام «وإن لم يفعل، فليس هو حملهم عليها إجبارا» .

قيل : قوله : كنت أنت الذي أمرته بالمعصية ؛ يعني كما لا يستلزم الأمر بالمعصية لا يستلزم التفويض انتهى .(6)

وقال ابن بابويه في توحيده في «باب أسماء اللّه تعالى» في معنى الجبّار :

قال الصادق عليه السلام : «لا جبر ولا تفويض، بل أمرٌ بين أمرين » عنى بذلك أنّ اللّه _ تبارك .

ص: 518


1- اُنظر منهاج اليقين ، ص 366 ، وفي طبعة اُخرى ، ص 235 ؛ وكتاب المحصّل للرازي ، ص 455 .
2- في الكافي المطبوع : + «قال» .
3- في «ج» : - «تعالى» .
4- في «ج» : + «علم اللّه بأنّ» .
5- في الكافي المطبوع : + «فَتَرَكْتَهُ» .
6- في حاشية «أ» : «القائل مولانا محمّد أمين الإسترابادي في حواشي الكافي (منه)» .

وتعالى _ لم يجبر عباده على المعاصي، ولم يفوّض إليهم أمر الدين حتّى يقولوا فيه بآرائهم ومقاييسهم، فإنّه عزّ وجلّ قد حدّ ووظّف وشرع وفرض وسنّ وأكمل لهم الدين، فلا تفويض مع التحديد والتوظيف والشرع والفرض والسنّة وإكمال الدين . انتهى .(1)

الرابع عشر : (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْبَرْقِيِّ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ ، عَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : اللّه ُ أَكْرَمُ) ؛ من الكرم، نقيض اللؤم والنقص .

(مِنْ أَنْ يُكَلِّفَ النَّاسَ مَا لاَ يُطِيقُونَ) أي لا يقدرون عليه . يُقال: طاقه طوقا وأطاقه، وعليه، والاسم الطاقة. وقد تُطلق على غير هذا المعنى، كما يجيء في «كتاب الجهاد» في «باب كراهة التعرّض لما لا يطيق» .(2)

وهذا لإبطال مذاهب الجبريّة، فإنّ مذهبهم إمّا عدم القدرة، وإمّا مستلزم لعدم القدرة، كما مرّ في ثامن الباب .

(وَاللّه ُ أَعَزُّ) ؛ من العزّ بمعنى القدرة والغلبة .

(مِنْ أَنْ يَكُونَ) ؛ تامّة .

(فِي سُلْطَانِهِ) ؛ مصدر بمعنى سلطنته ، أي ملكه وغلبته .

(مَا لاَ يُرِيدُ) . المراد بالإرادة هنا ما مرّ في بيانها في الخصال السبع في أوّل الخامس والعشرين ،(3) أو الأعمّ من الخصال الأربع الاُول منها؛ فتكون هذه الفقرة ردّا على المفوّضة في الفرد الأوّل من التفويض .

ويحتمل أن يكون المراد بالإرادة أعمّ ممّا ذكر ومن الإذن، فتكون ردّا على المفوّضة في كلا فردي التفويض . وسيجيء تفصيل بيان منافاتهما لسلطان اللّه تعالى وعزّه في شرح ثاني «باب الاستطاعة ».

ويحتمل أن يُراد ب«ما لا يريد» ما يريد عدمه، ولا يمكن هذا إلاّ بحمل الإرادة على .

ص: 519


1- التوحيد ، ص 206 ، بيانه في تفسير أسماء اللّه تعالى .
2- الكافي ، ج 5 ، ص 63 .
3- أي في الحديث 1 من باب في أنّه لا يكون شيء في السماء والأرض إلاّ بسبعة .

الأعمّ ممّا ذكر، ومن كونه تعالى بالنسبة إلى فعل بحيث إذا قدر على الوسيلة المفضية إليه لفعل تلك الوسيلة؛ لإفضائه إليه، وذلك ليصير النزاع بيننا وبين المعتزلة معنويّا في قولهم: بعض ما أراد اللّه لم يكن، وقولنا: كلّ ما أراد اللّه كان .

ص: 520

الباب الحادي والثلاثون: باب الاستطاعة

الباب الحادي والثلاثون بَابُ الاِسْتِطَاعَةِ

فيه أربعة أحاديث ، الثلاثة الاُول منها لإبطال التفويض كلا فرديه ، ورابعها لإبطال الجبر أوّلاً، ثمّ إبطال التفويض الأوّل ثانيا ، ومعنى التفويض الأوّل ثانيا، ومعنى التفويض القدر المشترك بين إقدارين :

الأوّل: إقدار اللّه تعالى العبدَ على شيء، بحيث لا يكون تعالى قادرا على صرف العبد عن ذلك الشيء مع هذا الإقدار _ أي بغير القسر والإلجاء _ فيلزمه أن يصدر عن العبد وإن شاء اللّه أن لا يصدر .

الثاني: إقدار اللّه تعالى العبد في وقت على شيء في ثاني الوقت، ويلزمه أن يكون العبد مستقلاًّ في القدرة لا يتوقّف فعله على إذن من اللّه . وقد ذهبت المعتزلة إلى كلّ من الفردين، فهم مفوّضة مرّتين.

والاستطاعة سعة قدرة من ليست قدرته بمحض نفوذ الإرادة وقول «كُن» فتتعلّق ببعض دون بعض ، وقول الحواريّين: «هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآل_ءِدَةً مِّنَ السَّمَآءِ»(1) صدر عنهم، ولم يكونوا بعدُ على تحقيق واستحكام معرفة ، وقد عاتبهم عيسى عليه السلام «قَالَ اتَّقُواْ اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ».(2)

وهي على معنيين :

الأوّل : سعة قدرة المخلوق مطلقا، والقدرة: التمكّن من شيء، وهو مفهوم بديهيّ

ص: 521


1- المائدة (5): 112.
2- المائدة (5) : 112 .

يسمّى في الفارسيّة: «توان وتوانايى». وأهل اللغة والمجبّرة يستعملونها دائما بهذا المعنى إلاّ بقرينة .

الثاني: القدرة على ما لم تتعلّق بمنافيه مشيئة من لا يكون إلاّ ما شاء اللّه ، ومعنى المشيّة هنا ما ذكرنا في تحرير محلّ النزاع بيننا وبين المعتزلة في قولنا: «ما شاء اللّه كان، وما لم يشأ لم يكن» في أوّل الخامس والعشرين.(1)

ومشيّة اللّه تعالى عندنا هي مشيّة من لا يكون إلاّ ما شاء، وليست عند المعتزلة كذلك ، ولذا لم نقل في الحدّ: لم تتعلّق بمنافيه مشيّة اللّه ، فإنّه يصير النزاع الآتي في أحاديث الباب بيننا وبين المعتزلة _ في نحو أنّ المؤمن المستمرّ على الإيمان إلى آخر عمره هل هو مستطيع للكفر كما هو عندهم، أم لا كما هو عندنا _ حينئذٍ لفظيّا، فاستطاعة الإيمان بهذا المعنى مساوقة للتوفيق ، واستطاعة الكفر بهذا المعنى مساوقة للخذلان .

وقد حمل على المعنى الثاني للاستطاعة قوله تعالى في سورة الكهف : «إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِى صَبْرا»(2) ، وقوله تعالى في سورة بني إسرائيل : «فَضَلُّوا فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً»(3) ، وما يجيء في «كتاب الإيمان والكفر» في «باب طينة المؤمن والكافر» من قوله عليه السلام : «لا يستطيع هؤلاء أن يكونوا من هؤلاء، ولا هؤلاء أن يكونوا من هؤلاء».(4) وفي الصحيفة الكاملة من دعائه عليه السلام إذا اعترف بالتقصير عن تأدية الشكر: «لا يجب لأحد أن تغفر له باستحقاقه، ولا أن ترضى عنه باستيجابه ؛ فمن غفرتَ له فبطَوْلك، ومَن رضيتَ عنه فبفَضْلك، تشكر يسيرَ ما تشكر به،(5) وتُثيب على قليل ما تُطاع فيه حتّى كأنّ شكر عبادك الذي أوجبتَ عليه ثوابَهم، وأعظمتَ عنه جزاءهم أمرٌ ملكوا استطاعةَ الامتناع منه دونك فكافَيْتَهم، أولم يكن سببه بيدك فجازَيْتَهم، بل ملكتَ يا إلهي أمْرَهم .

ص: 522


1- أي في الحديث 1 من باب في أنّه لا يكون شيء في السماء والأرض إلاّ بسبعة .
2- الكهف (18) : 67 .
3- الفرقان (25) : 9 .
4- الكافي، ج 2، ص 6، ذيل باب طينة المؤمن والكافر: باب آخر منه وفيه زيادة وقوع التكليف الأوّل، ح 1.
5- في المصدر : «ما شكرتَه» .

قبل أن يَمْلِكوا عبادتك» إلى آخره .(1)

والمفوّضة يستعملون الاستطاعة دائما بهذا المعنى إلاّ بقرينة . والمراد بالاستطاعة في رابع الباب المعنى الأوّل ؛ لأنّه على طبق اللغة، وفيه الردّ على المجبّرة أوّلاً، وفي الثلاثة الاُخرى المعنى الثاني، لأنّها للردّ على المفوّضة، فليحمل عنوان الباب على بيان كلّ منهما .

وقد يستعمل لفظ الاستطاعة في معنى ثالث، وهو آلة سعة قدرة المخلوق على شيء، أي آلة يظنّ معها في الحال أنّه سيتحقّق القدرة في ذي الآلة على شيء في حال بعد تلك الحال إن لم يترك ذو الآلة باختياره شيئا ممّا يقدر عليه من الشروط لذلك الشيء .

وهو محتمل في قوله تعالى في سورة آل عمران : «وَللّه ِِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً»(2)الكافي ، ج 4 ، ص 268 ، ح 5 .(3) ، ويجيء في «كتاب الحجّ» في خامس «باب استطاعة الحجّ» .(3)

الأوّل : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الْقَاسَانِيِّ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَسْبَاطٍ ، قَالَ : سَأَلْتُ أَبَا الْحَسَنِ الرِّضَا عليه السلام عَنِ الاِسْتِطَاعَةِ) . مراده الاستطاعة بالمعنى الثاني لأفعال الجوارح كالزّني والمشي ونحو ذلك .

(فَقَالَ : يَسْتَطِيعُ الْعَبْدُ) أي لأفعال الجوارح (بَعْدَ أَرْبَعِ خِصَالٍ)؛ بكسر المعجمة جمع «خَصلة» بفتحها، وهي الحالة. والصفة الاُولى :

(أَنْ يَكُونَ مُخَلَّى) ؛ بالمعجمة بصيغة اسم مفعول باب التفعيل .

(السِّرْبِ) ؛ بكسر السين المهملة وفتحها وسكون الراء المهملة وموحّدة: الطريق؛ أي لا يمنعه أحد من الناس عن الفعل كالحاكم ؛ وبكسر السين المهملة: البال والنفس ؛ أي فارغ البال . الثانية: أن يكون:

(صَحِيحَ الْجِسْمِ) أي لا يكون به مرض لا يقدر معه على الفعل . الثالثة: أن يكون: (سَلِيمَ الْجَوَارِحِ) ؛ بفتح الجيم ؛ أي ليس في الجارحة التي يحتاج إليها في الفعل آفة، .

ص: 523


1- الصحيفة السجّادية ، ص 163 ، الدعاء 37 .
2- آل عمران
3- : 97 .

كالمقطوع الذكر في مثال الزنى أو العنّين، أو نحو ذلك ، فإنّها لا ينافي الصحّة في البدن . الرابعة : أن يكون: (لَهُ سَبَبٌ وَارِدٌ مِنَ اللّه ِ) . المراد بالسبب إذنه تعالى بالمعنى الذي مضى بيانه في شرح أوّل الخامس والعشرين، ومشيّته مشيّة عزم، وهي القدر المشترك بين الخصال الأربع الاُول من الخصال السبع التي مضى بيانها أيضا في شرح أوّل الخامس والعشرين .

(قَالَ : قُلْتُ : جُعِلْتُ فِدَاكَ ، فَسِّرْ لِي) أي أوضح لي في مثال (هذَا) أي عدم تحقّق الاستطاعة بدون سبب وارد من اللّه مع تحقّق الثلاث .

(قَالَ : أَنْ يَكُونَ) أي مثاله أن يكون (الْعَبْدُ مُخَلَّى السِّرْبِ ، صَحِيحَ الْجِسْمِ ، سَلِيمَ الْجَوَارِحِ يُرِيدُ أَنْ يَزْنِيَ) . أي يعزم في الحال على أن يزني في ثاني الحال عزما بلا فتور .

(فَلاَ يَجِدُ) أي في ثاني الحال (امْرَأَةً) . مثالٌ لتخلّف الإذن عن الثلاث، وبيان لأنّ العبد حينئذٍ ليس قادرا أصلاً، فضلاً عن أن يكون مستطيعا .

وهذا ردّ للفرد الثاني من تفويضي المعتزلة، ولمذهب من يقول: الاستطاعة والقدرة نفس سلامة الجوارح، كبشر بن المعتمر(1) من المعتزلة؛ ولمذهب من يقول: إنّهما الصحّة، ولنحو ذلك من المذاهب .(2)

(ثُمَّ يَجِدُهَا) أي وبعد ذلك نفرض أنّه يجدها .

(فَإِمَّا أَنْ) . هذا إلى آخره إبطال للفرد الأوّل من تفويضي المعتزلة .

(يُعْصَمَ نَفْسُهُ) ؛ بصيغة مجهول باب ضرب ، والعاصم هو اللّه بمشيّته لتركه الزنى مشيّة عزم.

ومشيّة اللّه لترك عبدٍ المعصيةَ تسمّى «عصمةً» كما تسمّى مشيّته تعالى لفعل الطاعة «توفيقا» . .

ص: 524


1- هو أبو سهل الكوفي ثمّ البغدادي ، شيخ المعتزلة . كان يقع في أبي الهذيل العلاف وينسبه إلى النفاق . وله كتاب تأويل المتشابه وكتاب الردّ على الجهّال . مات سنة عشرين ومائيتن . سير أعلام النبلاء ، ج 10 ، ص 203 .
2- اُنظر المواقف ، ج 2 ، ص 121 ؛ تلخيص المحصّل ، ص 477 ؛ شرح العقائد النسفية ، ج 1 ، ص 120 ؛ أنوار الملكوت ، ص 140 .

(فَيَمْتَنِعَ كَمَا امْتَنَعَ يُوسُفُ عليه السلام ) أي مع قدرته على الزنى لا يستطيع للزنى؛ لأنّه تعلّقت بمنافيه مشيّة من لا يكون إلاّ ما شاء. والتشبيه إنّما هو في أصل الامتناع من الزنى، لا في سبق العزم أيضا .

(أَوْ يُخَلَّي) ؛ بصيغة مجهول باب التفعيل .

(بَيْنَهُ وَبَيْنَ إِرَادَتِهِ) . الظرف قائم مقام الفاعل، ويجوز نصبه؛ لأنّه لازم الظرفيّة، ويجوز الرفع أيضا .

(فَيَزْنِيَ ) . هذا صورة اجتماع الثلاث مع الرابعة، وهي صورة تحقّق الاستطاعة . والمراد بالتخلية عدم العصمة ؛ أي عدم مشيّة الترك، وليس المراد بالتخلية هنا الإذنَ، إلاّ أن يعمّم الإذن بحيث يشمل الخمس الاُول من الخصال السبع .

(فَيُسْمى(1) زَانِيا) ؛ بصيغة مجهول باب نصر أو باب الإفعال أو التفعيل . والسمو بالفتح والإسماء والتسمية: جعل الشيء ذا علامة الزاني(2) من الحدّ وردّ شهادته ونحوهما . والمقصود أنّ الزنى فعله الاختياري، لا فعل اللّه ولا بجبره .

(وَلَمْ يُطِعِ اللّه َ بِإِكْرَاهٍ) . ناظرٌ إلى قوله : «فإمّا أن يعصم» وفاعل الإكراه العبد . ومضى معناه في أوّل «باب الجبر والقدر» وكذا معنى قوله :

(وَلَمْ يَعْصِهِ بِغَلَبَةٍ) . ناظرٌ إلى قوله : «أو يخلّى» . فالنشر على ترتيب اللفّ .

الثاني : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى وَعَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ جَمِيعا ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ وَعَبْدِ اللّه ِ بْنِ يَزِيدَ جَمِيعا ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ ، قَالَ : سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام عَنِ الاِسْتِطَاعَةِ) بالمعنى الثاني الذي مضى بيانه في شرح عنوان الباب.

سؤاله عن أنّ الاستطاعة بأيّ شيء تحصل في العبد؟ وأنّه هل تحصل الاستطاعة لفعل أو ترك مجامعةً لعدم ذلك الفعل أو الترك أم لا؟ ولمّا كان اجتماع الاستطاعة مع .

ص: 525


1- في الكافي المطبوع : «فيُسَمّى» بتشديد الميم .
2- في «ج» : + «أي يوضع علامة الزاني» .

عدم المستطاع له يتصوّر في بادئ الرأي على ثلاثة وجوه ، سأل عليه السلام عن واحد واحد .

(فَقَالَ أَبو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : أَ تَسْتَطِيعُ) أي في وقت (أَنْ) أي لأن (تَعْمَلَ) أي في ذلك الوقت (مَا لَمْ يُكَوَّنْ؟)؛ بصيغة(1) مجهول غائب باب التفعيل ؛ أي ما لم يوجد قبل ذلك الوقت .

والمعنى: أتستطيع في وقت أن توقع في ذلك الوقت ما لم يقع قبل ذلك الوقت في ذلك القبل . ويحتمل هنا أن يكون «لم يكون» بصيغة معلوم الحاضر، لكن لا يناسب ما بعده .

(قَالَ : لاَ) . الأنسب بظاهر سياق السابق أن يقول : قلت: لا ، وقس عليه نظائره الآتية . فهذا من قبيل الالتفات من التكلّم إلى الغيبة، أو عبارة عليّ بن الحكم وعبداللّه بن يزيد، أو من قبيل تغليب حال الحكاية على حال المحكيّ، نظير ما يجيء في «كتاب الصلاة» في ثاني الأوّل: «نادى إبليس: يا ويله»(2) أقرّ ببطلان استطاعته لفعل بعد زمانه .

(قَالَ : فَتَسْتَطِيعُ) أي أفتستطيع في وقت (أَنْ تَنْتَهِيَ) أي في ذلك الوقت (عَمَّا قَدْ كُوِّنَ؟)؛ بصيغة(3) مجهول باب التفعيل ، أي وجد قبل ذلك الوقت .

والمعنى: أتستطيع في وقت أن تسلب في ذلك الوقت ما وجد قبله من ذلك القبل. وإنّما لم يقل بدل «أن تنتهي»: «أن لا تعمل» لأنّ السلب المحض ليس من فعل العبد، ولو كان من فعله لكان مستطاعا له؛ لاستحالة ارتفاع النقيضين . والفاء للتعقيب .

(قَالَ : لاَ) . هذا النفي بديهيّ ومتّفق عليه؛ لبداهة أنّ القدرة على الماضي محال، فضلاً عن الاستطاعة له؛ فالسؤال لحصر الأقسام .

(قَالَ : فَقَالَ لَهُ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : فَمَتى أَنْتَ مُسْتَطِيعٌ؟ ) . بعد ما أقرّ بأنّه لا تتحقّق الاستطاعة لفعل أو ترك بعد وقتهما، سأل عليه السلام عن وقت الاستطاعة: أهو وقت الفعل أو الترك أو قبل وقتهما ؟ .

ص: 526


1- في «ج» : - «بصيغة» .
2- الكافي ، ج 3 ، ص 264 ، باب فضل الصلاة ، ح 2 . وفيه: «يا ويلاه» بدل «ياويله» .
3- في «ج» : - «بصيغة» .

ويجيء تفسير وقت الفعل والترك بُعيد هذا .

(قَالَ : لاَ أَدْرِي) . أظهر السائل أنّ مقصوده محض استعلام الحقّ، وليس في ذهنه اعتقاد الباطل .

(قَالَ : فَقَالَ لَهُ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : إِنَّ اللّه َ خَلَقَ خَلْقا) أي مخلوقين. ولم يجمع؛ لأنّ أصله المصدر .

(فَجَعَلَ فِيهِمْ) أي قبل وقت الفعل وفي وقت الفعل .

(آلَةَ الاِسْتِطَاعَةِ)(1) أي ما قد يفضي إلى الاستطاعة لفعل مثلاً، ويظنّ معه حصول الاستطاعة بعده من الاُمور التي يتوقّف عليها الاستطاعة، وهي تخلية السرب وصحّة الجسم وسلامة الجوارح ونحو ذلك على حسب الأفعال المستطاع لها .

(ثُمَّ) . للتعجّب أو لتراخي الفعل المكلّف به عن حصول الآلة بزمان .

(لَمْ يُفَوِّضْ إِلَيْهِمْ) أي لم يفوّض الفعل إليهم بشيء من فردي التفويض. ومرَّ بيانهما في شرح عنوان الباب .

(فَهُمْ) . الفاء للتفريع .

(مُسْتَطِيعُونَ) ؛ بالمعنى الثاني للاستطاعة .

(لِلْفِعْلِ). ذكره على سبيل المثال ، فكذا الترك . والمراد توضيح المطلب في مجموع فعل مستمرّ ذي أجزاء كالصلاة والزنى ويُعرف حكم غيره منه .

(وَقْتَ الْفِعْلِ مَعَ الْفِعْلِ إِذَا فَعَلُوا ذلِكَ الْفِعْلَ(2)) .

بيّن عليه السلام أنّه لا تتحقّق الاستطاعة بالمعنى الثاني لفعل ذي أجزاء مترتّبة في الزمان كالصلاة إلاّ مع ثلاثة اُمور :

الأوّل : أن يكون في وقت الفعل لا قبله أو بعده ، والمراد بوقت الفعل الوقت الذي اعتبرت نسبة الاستطاعة إليه باعتبار وقوعه فيه، سواء كان الفعل واقعا فيه أم لا . .

ص: 527


1- في «ج» : + «بعد» .
2- في المخطوطتين : - «ذلك الفعل» .

الثاني : أن يكون مع الفعل ، أي لا مع الترك بالكلّيّة .

الثالث : أن يكون الفعل مستمرّ الوقوع إلى آخر أجزائه، وذلك لأنّ وقت الفعل مع الفعل يُطلق على أيّ جزء من أجزاء مجموع الزمان المنطبق على مجموع الفعل ، فأشار عليه السلام إلى عدم تحقّق الاستطاعة لمجموع الفعل في وقت الفعل مع الفعل بهذا المعنى، وإلاّ يلزم تقدّم الاستطاعة للتتمّة على وقتها، وليست القدرة على التتمّة مقدّمة عليها فضلاً عن الاستطاعة ، بل إنّما الاستطاعة ذات امتداد كالفعل، كلّ جزء من الاستطاعة متعلّق بجزء من الفعل، منطبق عليه في الزمان .

(فَإِذَا لَمْ يَفْعَلُوهُ) ؛ تفريع على الثالث لبيانه؛ فإنّه أحوج إلى البيان ؛ أي فحين لم يفعلوا مجموع الفعل أي بقي تتمّة لم يفعلوها بعدا وأصلاً .

(فِي مُلْكِهِ ،(1) لَمْ يَكُونُوا مُسْتَطِيعِينَ) في وقت الفعل مع الفعل .

(أَنْ) أي لأن (يَفْعَلُوا) أي بعد ذلك أو مطلقا (فِعْلاً لَمْ يَفْعَلُوهُ ) أي جزءا من الفعل لم يفعلوه بعدا وأصلاً .

(لاِءَنَّ) . استدلالٌ على قوله : «ثمّ لم يفوّض إليهم» لأنّه إذا ثبت ذلك كان تفريع ما فرّع عليه معلوما .

(اللّه َ _ عَزَّ وجَلَّ _ أَعَزُّ) أي أغلب قدرةً، وأقهر سلطانا .

(مِنْ أَنْ يُضَادَّهُ فِي مُلْكِهِ) ؛ بضمّ الميم، أي سلطنته وكونه ربّ العالمين .

(أَحَدٌ) . هذا الدليل ما اُشير إليه في قوله تعالى في سورة الروم : «هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِى مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الاْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ».(2)

وقد أوضحناه في «كتاب العقل» في ثاني عشر «باب العقل والجهل». وتفصيله أنّ كلاًّ من فردي التفويض يستلزم أن يكون الشيطان أو العبد مضادّا للّه في سلطنته . .

ص: 528


1- في المخطوطتين : - «في ملكه» .
2- الروم (30) : 28 .

بيان ذلك: أمّا في التفويض الأوّل _ وهو إقداره تعالى عبدا على شيء بحيث لا يقدر تعالى على ما يصرف ذلك العبد عن اختيار ما اختاره من الفعل أو الترك إلى اختيار ضدّه _ فبأدلّة :

الدليل الأوّل : أنّ عدم القدرة المذكورة إمّا لعدم إمكان ذات ما يقرّب إلى اختياره الضدّ ، وإمّا لعدم إمكان إفضائه إلى اختياره الضدّ بدون قسر وإلجاء ، وإمّا لعدم علمه بوجوه المفضي إلى اختياره الفعل وإلى اختياره ضدّه ، وإمّا لعدم تعلّق إفضائه إلى اختيار الضدّ لقدرة اللّه . والثلاثة الاُولى باطلة، والرابع يستلزم إمكان المضادّة :

أمّا بطلان الأوّل، فلأنّا نعلم إمكان أن يجعل لمن يؤمن بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضّة ، أو يمنع الكافرين الصحّة والثروة، ويُعلمهم أنّ المنع لكفرهم، وأنّها تعود بإيمانهم .

وأمّا بطلان الثاني، فلأنّا نعلم إمكان أن يفضي ذلك إلى إيمان من في الأرض جميعا بدون قسر وإلجاء، نظير ما قالوا في سورة الزخرف : «وَلَوْلاَ أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفا مِنْ فَضَّةٍ»(1) ؛ وذلك حين يشاء اللّه تعالى اختيارهم الإيمان، كما في قوله تعالى في سورة الشعراء : «لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنْ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ»(2) ، فلا ينتقض بقوله تعالى في سورة الأنعام : «وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ»(3) الآيات .

وأمّا بطلان الثالث، فبالاتّفاق وأنّه ضروريُّ دين الإسلام .

وأمّا كون الرابع مستلزما لإمكان المضادّة، فلأنّا لا نعني بالمضادّة إلاّ الإخراج له تعالى من سلطانه وملكه ، أي من أن يكون بيده أزمّة الاُمور الممكنة .

قال الزمخشري من المعتزلة في الكشّاف في تفسير قوله تعالى في سورة ألم .

ص: 529


1- الزخرف (43) : 33 .
2- الشعراء (26) : 3 _ 4 .
3- الأنعام (6) : 109 .

السجدة : «وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ الْعَذَابِ الاْءَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الاْءَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ»(1) :

فإن قلت : من أين صحّ تفسير الرجوع بالتوبة ولعلّ من اللّه إرادة، وإذا أراد اللّه شيئا كان ولم يمتنع، وتوبتهم ممّا لا يكون ؛ ألا ترى أنّها لو كانت ممّا يكون لم يكونوا ذائقين العذاب الأكبر؟

قلت : إرادة اللّه تتعلّق بأفعاله وأفعال عباده، فإذا أراد شيئا من أفعاله كان ولم يمتنع للاقتدار وخلوص الداعي ، وأمّا أفعال عباده فإمّا أن يريدها وهم مختارون لها، أو مضطرّون إليها بقسره وإلجائه، فإن أرادها وقد قسرهم، فحكمها حكم أفعاله، وإن أرادها على أن يختاروها وهو عالم أنّهم لا يختارونها، لم يقدح ذلك في اقتداره، كما لا يقدح في اقتدارك إرادتك أن يختار عبدك طاعتك وهو لا يختارها؛ لأنّ اختياره لا يتعلّق بقدرتك، وإذا لم يتعلّق بقدرتك لم يكن فقده دالاًّ على عجزك . انتهى .(2)

وفيه: أنّه إن أراد بالاقتدار القدرة على أفعاله _ كما يظهر من قياسه على(3) العبد _ فهذا خارج عمّا فيه الكلام ، وإن أراد به ملك السماوات والأرضين وما فيهما وما بينهما، فذلك يقدح في اقتداره البتّة، كيف لا وقد تعلّقت باختيارهم إرادته ولم يقدر على تصرّف في اختيارهم، وقياسه من أقبح قول . وقوله: «فحكمها حكم أفعاله» يجيء بُعيد هذا ما فيه .

الدليل الثاني _ ولا حاجة فيه إلى إبطال الشقّين الأوّلين من الدليل الأوّل _ أن يُقال: صدور الإيمان باختيار عن الكافر _ مثلاً _ ممكن(4) في نفسه ككفره، وإذا كان كلّ منهما مفوّضا إلى الكافر بحيث يقع منه إن شاء اللّه ، وإن لم يشأ لم يكن بيده تعالى أزمّة الاُمور، ولم يكن تعالى مالكا لما ملّك العباد إيّاه، ولا قادرا على ما أقدرهم عليه ؛ أي ما دام التمليك والإقدار، وهذا نقص في الملك والسلطنة، ونقص الملك ممتنع عليه عقلاً؛ لما مرّ في شرح عنوان «باب حدوث العالم وإثبات المحدث» من أنّ كلّ دليل يدلّ على إثبات الصانع يدلّ على أنّه كامل من جميع الجهات، ولا نقص فيه أصلاً، وبديهيّ أنّ .

ص: 530


1- السجدة (32) : 21 .
2- الكشّاف ، ج 3 ، ص 245 .
3- في «ج» : «إلى» .
4- في «ج» : «يمكن» .

النقص في الملك وفي التصرّف في بعض الممكنات في أنفسها نقص في الجملة وإن كانت الوسيلة ممتنعة في نفسها .

الدليل الثالث : أنّه يستلزم أن يكون اللّه تعالى معزولاً عن أن يطلب منه التوفيق أو العصمة أو اللطف أو الإعاذة من شرّ الشيطان ونحو ذلك؛ لأنّ جميع ذلك طلب لما يقدر عليه، أو لما يجب عليه بدون طلب أيضا، فيكون الطلب طلبا(1) لمحال، أو لغوا وتحصيلاً للحاصل بدون هذا التحصيل؛ وهذا نقص في الملك، وقد مرَّ آنفا امتناعه .

الدليل الرابع : أنّه يستلزم أن يكون معزولاً عن أن يتوكّل عليه في كلّ الاُمور، وعن أن يطلب منه النصر على العدوّ في الحرب ونحو ذلك، فإنّه ربّما كان عاجزا عن النصر ونحوه بعد إقدار كلّ من المتحاربين على ما أقدر «وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ» .(2)الأنعام (3) : 102 ؛ الرعد (13) : 16 ؛ الزمر (39) : 62 ؛ المؤمن (40) : 62 .(4)

الدليل الخامس : ما في الكتاب والسنّة ممّا يدلّ على أنّ هذا التفويض ينافي ملكوته تعالى، وهو مشتمل على أدلّة لا تحصى، كما ورد في الشرع من الدعاء وطلب التوفيق ونحوه من الاُمور المذكورة آنفا، والقول بأنّ جميع ذلك خارج عن حقيقة الطلب والدعاء مكابرة، وكذا ورد الأمر بالتوكّل في كلّ الاُمور عليه تعالى وتفويض كلّها إليه .

والآيات القرآنيّة في الردّ على التفويض الأوّل أكثر من أن تحصى كما في سورة الأنعام والرعد والزمر والمؤمن: «خَالِقُ كُلِّ شَىْ ءٍ»(3) وفي سورة المؤمنين: «قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَىْ ءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ»(5) ، وفي سورة يآس : «فَسُبْحَانَ الَّذِى بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَىْ ءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ»(6) ، وفي سورة المدّثّر : «فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ * وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللّه ُ»(6) ، وفي سورة الأنعام : «وَلَوْ شَاءَ اللّه ُ مَا أَشْرَكُوا»(7) ، وفي سورة .

ص: 531


1- في «ج» : «طلب» .
2- آل عمران
3- المدثّر (74) : 55 _ 56 .
4- : 126 .
5- المؤمنون (23) : 88 .
6- يآس (36) : 83 .
7- الأنعام (6) : 107 .

يونس : «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لاَآمَنَ مَنْ فِى الاْءَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعا»(1) ، وفي سورة هود حكاية عن نوح : «وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِى إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللّه ُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ»(2) ، وفيها : «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ»(3) ، وفي سورة النحل : «وَلَوْ شَاءَ اللّه ُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِى مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ»(4) ، وفي سورة ألم السجدة : «وَلَوْ شِئْنَا لاَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّى لاَءَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ»(5) ، وفي سورة الشورى : «وَلَوْ شَاءَ اللّه ُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِى رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِىٍّ وَلاَ نَصِيرٍ»(6) ، ونحو ذلك من الآيات .

وقد استدلّ ببعضها الأشاعرة على إبطال مذهب المعتزلة، وقد أصابوا في ذلك ؛ كما أنّ المعتزلة أصابوا في الاستدلال بآيات كثيرة على إبطال مذهب الأشاعرة ، وفي المثل: نزاع السارقين مبارك لصاحب المال يظهر أنّ الحقّ لثالث، اُنظر إلى نزاع الزمخشري والفخر الرازي في تفسيريهما وغيرهما من المعتزلة والأشاعرة، فإنّك ترى كلاًّ من الفريقين يضيّق خناق الآخر، والحمد للّه .

ثمّ إنّ الزمخشري أجاب عن آيات المشيّة والإرادة بأنّ المراد بمشيّة الإيمان والهدى الإلجاء إليهما، وبإرادة الإغواء عدم الإلجاء إلى الإيمان .(7)

وفيه: أنّه إن أراد بالإلجاء ما لا يبقى معه اختيار أصلاً بأن يصدر الإيمان عن العبد بدون تبعيّته لداعيه _ كما يقال في إحراق النار _ فهو باطل؛ لأنّه من مذاهب الزنادقة .

ص: 532


1- يونس (10) : 99 .
2- هود (11) : 34 .
3- هود (11) : 118 .
4- النحل (16) : 93 .
5- السجدة (32) : 13 .
6- الشورى (42) : 8 .
7- الكشّاف ، ج 2 ، ص 360 .

الفلاسفة، وعند المسلمين أنّه يستحيل أن لا يكون الفاعل مختارا ، وقد دللنا عليه بدليلين في حاشية العدّة في المقدّمة الثانية في ذيل الشكّ الرابع من اُولى الحواشي ،(1) ولأنّه حينئذٍ لا يسمّى إيمانا ولا هدى.

وإن أراد بالإلجاء أن يصدر عن العبد باختياره لكن مع لطف يقوّي الدواعي بحيث يكون شبيها بما لا اختيار فيه، فهذا ينافي مذهبه في وجوب كلّ لطف ناجع على اللّه ، ويوافق مذهبنا، فيجعل النزاع لفظيّا .

وإن أراد بالإلجاء أن يكون الإيمان فعل اللّه وغير صادر عن العبد أصلاً، فإن كان بناؤه على أنّ المؤمن هو العبد لأنّه كاسب، فهذا ينافي مذهبه في أفعال العباد، وينافي مذهبنا أيضا ، وإن كان بناؤه على أنّ المؤمن هو اللّه ، كان سفسطةً .

واعلم أنّ الباعث للمعتزلة وأتباعهم على القول بهذا الفرد من التفويض شُبَهٌ:

الشبهة الاُولى: قولهم بوجوب كلّ لطف ناجع على اللّه ، ومعنى اللطف المقرّب للطاعة أو المبعّد عن المعصية بدون إلجاء .

وتحرير محلّ النزاع أنّ اللطف على ثلاثة أقسام :

الأوّل : ما لا يزاح علّة المكلّف إلاّ به بالاتّفاق، كالإقدار وإرسال الرسل مبشّرين بمن بعدهم من أوصيائهم العالمين بجميع الأحكام ومتشابهات كتب اللّه ، ومنذرين على مخالفة الأوصياء إلى رسول آخر وانقراض الدنيا ونحو ذلك .

ولا خلاف في وجوبه على اللّه بالنسبة إلى المكلّفين .

الثاني : ما يزاح علّة المكلّف بدونه وهو غير ناجع ؛ أي علم اللّه تعالى أنّه لا ينفع ولا يؤثّر في المكلّف.

ولا خلاف لأحدٍ في عدم وجوبه على اللّه .

الثالث : ما يزاح علّة المكلّف بدونه وهو ناجع.

والخلاف بيننا وبين المعتزلة في وجوب القسم الثالث، وهو على قسمين ؛ فإنّه إمّا4.

ص: 533


1- أشار إلى ذلك المصنّف في حاشيته على عدّة الاُصول، ج 1، ص 94.

مُفْضٍ إلى الطاعة ويسمّى «توفيقا» ، وإمّا مفض إلى ترك المعصية ويسمّى «عصمة». وقد يُطلق كلّ من التوفيق والعصمة على القدر المشترك بين القسمين .

واستدلّت المعتزلة على وجوبه باُمور :

منها: ما نقله شيخنا أبو جعفر الطوسي قدس سره في التبيان في تفسير قوله تعالى في سورة النساء : «رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّه ِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ»(1)التوحيد ، ص 382 ، ح 29 .(2) ؛ عن أبي عليّ الجبائي أنّه قال: ذلك يفسد قول من قال في مقدوره تعالى من اللطف ما لو فعله بالكافر لآمن، لأنّه لو كان الأمر على ما قالوه، لكان لهم الحجّة بذلك على اللّه قائمة . انتهى .(3)

والجواب: أنّه في لطف تعيين الأئمّة؛ ألا ترى إلى قوله: «بعد الرسل» فهذا خلط بين القسم الأوّل والثالث من اللطف، أو قياس للثالث على الأوّل .

ومنها : أنّا نعلم أنّه صدر عنه تعالى اللطف الناجع بالنسبة إلى بعض المكلّفين، فتركه بالنسبة إلى بعض مع قدرته عليه ينافي العدل .

والجواب منع أنّه ينافي العدل، إنّما ينافيه لو أخلى البعض عن القدرة . نعم ، يحتاج إلى سرّ ومخصّص، وتفصيل سرّ قدر اللّه وقضائه ممّا استأثر اللّه تعالى بعلمه، والاستكشاف عنه قبيح ومنهيٌّ عنه، كما مرّ في أحاديث «باب الخير والشرّ» .

وأمّا مجمله فقد مضى الإشارة إليه في شرح ثاني «باب السعادة والشقاء» روى ابن بابويه في توحيده في «باب القضاء والقدر» عن أبي عبداللّه عليه السلام أنّه قال : «إنّ القدريّة مجوس هذه الاُمّة، وهم الذين أرادوا أن يصفوا اللّه بعدله، فأخرجوه من سلطانه، وفيهم نزلت هذه الآية: «يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِى النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَىْ ءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ»(4)» انتهى.(4) والآية في سورة القمر .

ومنها : أنّ اللطف الناجع يحصل به غرض المكلّف بكسر اللام، فيكون واجبا، وإلاّ .

ص: 534


1- النساء
2- : 165 .
3- التبيان ، ج 3 ، ص 395 .
4- القمر (54) : 48 _ 49 .

لزم نقض الغَرَض. بيان الملازمة: أنّ المكلّف إذا علم أنّ المكلَّف لا يطيع إلاّ باللطف، فلو كلّفه من دونه، كان ناقضا لغرضه، كمن دعا غيره إلى طعامه، وهو يعلم أنّه لا يجيبه إلاّ أن يستعمل معه نوعا من التأدّب، فإذا لم يفعل الداعي ذلك النوع من التأدّب، كان ناقضا لغرضه، ونقض الغرض قبيح في نفسه كالكذب ولوم المجبور، فيمتنع على اللّه تعالى مطلقا ؛ أي وإن عارضه مصالح ومفاسد كما حُقّق في محلّه .

والجواب: أنّ غرض المكلّف التعريض للثواب والعقاب لا نفس العبادة؛ بدليل أنّه لو كان الغرض نفس العبادة، لاستحال عدم وقوعها من أحد من المكلّفين، فإنّ عدم ترتّب العلّة الغائيّة على المُغيّا لا يجوز في فعل الحكيم تعالى ، ولذا قلنا: إنّ قوله تعالى في سورة الذاريات : «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالاْءِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ»(1) _ على تقدير إرجاع الضمير إلى الجنّ والإنس، لا إلى المؤمنين المذكورين قبله _ أنّ الغاية بالذات فيها طلب العبادة، ونفس العبادة غاية بالعرض اُقيمت مقام طلبها؛ تشبيها للمطلوب بالغاية بغاية الغاية، وغرضُ الداعي قد يكون نفس المجيء، فيقبح ترك التأدّب، وقد لا يكون، فلا يقبح .

ومنها : أنّ اللّه تعالى رؤوف بعباده أكثر من الأب والاُمّ بالولد، ونعلم قطعا أنّ الأب الحكيم الرؤوف بولده إذا علم من ولده أنّه يلقي نفسه في النار مع عدم لطفه به وقد قدر على لطف يمنعه من اختيار ذلك، لفعل ذلك اللطف البتّة، وإلاّ كان سفيها أو غير رؤوف .

والجواب: أوّلاً: النقض بأنّه يلزم أن لا يكون تعالى قادرا على سلب القدرة على المعصية عن العبد؛ لأنّ الأب إذا علم من ولده أنّه لا يمتنع من إلقاء نفسه في النار إلاّ بشدّ رجليه ونحوه _ ممّا يزيل قدرته وقد قدر على ذلك _ لفعل ذلك ، ثمّ إنّه لو علم أنّه لا يقدر على ذلك وكان قادرا على عدم ولادته، لم يلده البتّة ، واللّه تعالى خلق الكفّار على علم . ثمّ إنّه إن أذنب ولده كلّ ذنب، لم يرض بأن يعذّبه بالنار أبد الآبدين، واللّه تعالى ليس كذلك .

وثانيا: أنّا نرى ضدّ اللطف، فإنّه تعالى يخلق بعض الناس مائلين بحسب الجبلّة إلى .

ص: 535


1- الذاريات (51) : 56 .

الشرّ، ويعطيهم قوّة الشهوة والثروة والملك والصحّة ونحو ذلك من المقرّبات إلى النار وسوء العاقبة، ويستدرجهم، ويمكر بهم ، والأب الحكيم الرؤوف بولده لا يفعل ذلك به وإن صدر عنه كلّ قبيح .

وثالثا: الحلّ بأنّ هذا قياس مع الفارق، فإنّ رأفة الأب والاُمّ غالبة على علمهما وحكمتهما، بخلاف اللّه تعالى الخالق لكلّ شيء، والمُعطي لكلّ شيء ما يليق به من الخلق، هل رأيت أبا حكيما رؤوفا قتل ولده الصغير بدون ذنب ولا عجز عن نفقته ، واللّه تعالى يميت الأطفال بعد ما يبتليهم بأنواع الأمراض ؛ قال تعالى في سورة النحل : «وَعَلَى اللّه ِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ»(1) فليس على اللّه تعالى إلاّ الأصلح بمعنى الأوفق للحكمة في نفس الأمر في كلّ من طرفي النقيض، كما ذهب إليه معتزلة بغداد،(2) ولا يعلمه إلاّ هو، وليس عليه الأصلح للعباد بمعنى الأنفع لهم، كما توهّمه معتزلة البصرة،(3) فإنّه ربّما كان مخالفا للحكمة التي لا يعلمها إلاّ الخلاّق للعالمين ، فكان ظلما أي وضعا للشيء في غير موضعه «وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ»(4) «وَ لَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَ_وَ تُ وَ الاْءَرْضُ» ،(5) وأين الأب من هذا؟ إنّما رأفته تبعثه على فعل فيه نفع الولد، غافلاً عن جميع الجهات الغير المتناهية في فعله هذا ، فلا يجوز هذا القياس ؛ قال تعالى في سورة النحل :«أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لاَ يَخْلُقُ».(6)

ومنها : أنّ فعل اللطف الناجع إزاحة لعذر المكلّف، فوجب كالتمكين .

والجواب: منع أنّ كلّ لطف ناجع إزاحة كالتمكين، وما كان من اللطف إزاحة لا يعتبر في وجوبه عليه تعالى أن يكون ناجعا، كما مرّ في تحرير محلّ النزاع . .

ص: 536


1- النحل (16) : 9 .
2- المغني في أبواب العدل والتوحيد ، ص 116 .
3- المصدر .
4- آل عمران (3): 182.
5- المؤمنون (23) : 71 .
6- النحل (16) : 17 .

الشبهة الثانية : أنّ الاستطاعة للفعل قد تكون مع تركه، كما في قوله تعالى : «وَللّه ِِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً»(1) فإنّ كثيرا ممّن يجب عليه الحجّ لا يحجّ .

وجوابها : أنّ الاستطاعة هنا مستعملة في غير ما اصطلحتم عليه كما مرّ في بيان عنوان الباب .

الشبهة الثالثة : أنّ الرضا بقضاء اللّه تعالى واجب، ولو كان الكفر بقضائه، لوجب الرضا به، لكنّ الرضا بالكفر كفر .

وجوابها : أنّ الكفر ليس نفس القضاء، بل متعلّق القضاء، فنحن نرضى بالقضاء لا بالمقضيّ .

واعلم أنّ هذا الجواب لا يمكن أن يتمسّك به مَن يفسّر القضاء بالإيجاد كالأشاعرة، ولا من يفسّره بالعلم .

أمّا الأوّل، فلأنّه لا يتصوّر حينئذٍ انفكاك الرضا بالقضاء عن الرضا بالمقضيّ .

وأمّا الثاني، فلأنّ العلم من صفات الذات، وليس من صفات الأفعال حتّى يتصوّر فيه رضا وسخط .

قيل : هذا الجواب ليس بشيء، فإنّ القائل رضيت بقضاء اللّه لا يعني به رضاه بصفة من صفات اللّه ، إنّما يريد به رضاه بما يقتضي تلك الصفة وهو المقضيّ .

والجواب الصحيح أنّ الرضا بالكفر من حيث هو من قضاء اللّه طاعةٌ، ولا من هذه الحيثيّة كفر . انتهى .(2)

وفيه: أنّ قوله : «لا يعني» إلى آخره ، ممنوع، وهو مبنيّ على تفسير هذا القائل القضاءَ بالعلم، وهو باطل ؛ فإنّ الأوّل من صفات الفعل، والثاني من صفات الذات، وقياس صفة الفعل على صفة الذات أيضا ظاهر البطلان . وقوله : «الرضا بالكفر من حيث» إلى آخره .

ص: 537


1- آل عمران (3) : 97 .
2- في حاشية «أ» : «القائل المحقّق الطوسي في تلخيص المحصّل في مسألة أنّه تعالى مريد لجميع الكائنات (منه)» . تلخيص المحصّل ، ص 281 .

باطل؛ لأنّه لا معنى للرضا بشيء إلاّ الرضا بما تعلّق به من صفات الفعل، كالإيجاد والقضاء ونحوهما .

الشبهة الرابعة : أنّ الطاعة موافقة الإرادة ، فلو أراد اللّه تعالى كفر الكافر، لكان الكافر مطيعا له بكفره .

وجوابها : أنّ لفظ الإرادة قد يُطلق على الطلب، وهو المراد في تفسير الطاعة ، والمراد به في هذا النزاع معنى آخر، كما مرّ بيانه في شرح أوّل الخامس والعشرين .(1)

الشبهة الخامسة : أنّ الأمر يدلّ على الإرادة، فإيمان الكافر مراد اللّه تعالى .

وجوابها : أنّ الأمر إنّما يدلّ على الإرادة بمعنى الطلب، وهو غير مراد كما مرّ آنفا .

الشبهة السادسة : أنّ مشيّة المعاصي قبيحة في نفسها، فتمتنع على اللّه تعالى .

وجوابها : أنّ الحكم بقبحها مبنيّ على عدم معرفة معنى المشيّة، وقد مرّ بيانه في رابع «باب الجبر والقدر» عند قوله عليه السلام : «هي الذكر الأوّل» ويجيء في ثاني الباب أيضا .

الشبهة السابعة : أنّ الأمر بما لا يشاء والنهيَ عمّا يشاء قبيح .

وجوابها : أنّ هذا أيضا مبنيّ على عدم معرفة معنى المشيّة .

الشبهة الثامنة : أنّه لو لم يقع إلاّ ما شاء اللّه ، لكان العباد مجبورين .

وجوابها: أنّ هذا أيضا مبنيّ على عدم معرفة معنى المشيّة، وتوهّم أنّ كلّ مشيّة حتم . ويجيء بُعيد هذا بيانه .

واعلم أنّ الخمسة الأخيرة من شبههم على تقدير تمامها لا يثبت مطلوبهم المتنازعَ فيه هنا، وهو التفويض الأوّل، كما يظهر بالرجوع إلى ما مضى في رابع «باب الجبر والقدر» .

الشبهة التاسعة : تمسّكهم بقوله تعالى في سورة الأنعام : «سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللّه ُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِنْ شَىْ ءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا .

ص: 538


1- أي في الحديث 1 من باب في أنّه لا يكون شيء في السماء والأرض إلاّ بسبعة .

قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ * قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ»(1) ، وقوله تعالى في سورة النحل : «وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللّه ُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَىْ ءٍ نَحْنُ وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَىْ ءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ * وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللّه َ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ» إلى قوله : «لِيُبَيِّنَ لَهُمْ الَّذِى يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ»(2) ، وقوله تعالى في سورة الزخرف : «وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ * أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ»(3) .

وجوابها : أنّ مراد المشركين بالمشيّة في المحكيّ بهذه الآيات الجدّ في التكليف بعدم الإشراك ببيان جميع الأحكام في محكمات الكتاب وعدم إدخال المتشابهات في بيان الأحكام، لا ما نحن فيه؛ بقرينة نحو قوله تعالى في سورة الأنعام : «وَلَوْ شَاءَ اللّه ُ مَا أَشْرَكُوا» ، ومرادهم بالإشراك الاختلاف واتّباع الظنّ بالاجتهادات، فإنّه كإشراك الذين اتّخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون اللّه ، فمقصودهم الاستدلال على جواز الإشراك، أي الاجتهاد دائما بأنّه لو شاء اللّه عدم إشراكنا لأتى الرسل في جميع الأحكام بالمحكمات، فما اضطررنا إلى الإشراك فيما أشركنا ؛ ففيه وضع اللازم موضع الملزوم .

ويظهر في تتمّة الآيات ثلاثة أجوبة عن استدلالهم هذا:

الأوّل : أنّه تكذيب لجميع الرسل في دعواهم في محكمات كتبهم أنّهم ما بُعثوا إلاّ لرفع الاختلاف ببيان المختلف فيه .

الثاني : أنّه حكم بالظنّ والخرص في مسألة أصليّة، ففيه أقبح مصادرة بالمطلوب .

الثالث : الحلّ بمنع قولهم: «لو شاء اللّه عدم إشراكنا لأتى» إلى آخره ؛ لأنّه يكفي الإتيان في بعض الأحكام بالمحكمات، وحوالةُ باقيها إلى العالم بجميع المتشابهات .

ص: 539


1- الأنعام (6) : 148 _ 149 .
2- النحل (16) : 35 _ 39 .
3- الزخرف (43) : 20 _ 21 .

المعلوم شخصه في كلّ زمان بدلالة المحكمات الناهية عن الحكم بالظنّ والاجتهاد، وظهور أنّ غاية دعوى غيره الاجتهادُ ، فالجمهور المشركون إنّما أتوا من قبل أنفسهم، والأقلّون سكتوا في زمننا إلى ظهور الحجّة ، ولو انحصر الدنيا فيهم أو كثروا، لخرب الدنيا، أو ظهر الحجّة عليه السلام .

واعلم أنّه يحتمل أن يكون لفظة «شاء» في كلام المشركين جاريا مجرى اللازم ، فمقصودهم أنّه تعالى موجَب كما زعمته الفلاسفة الزنادقة، وأنّ الموجَب لا يستحقّ عبادة بدون شريك من العقول _ مثلاً _ وهم الملائكة عندهم . ثمّ إنّه يجيء في ثالث «باب الهداية أنّها من اللّه » ما يظهر به الجواب عن شبهة اُخرى لهم .

وأمّا في التفويض الثاني _ وهو الإقدار في الحال على فعل في ثاني الحال _ فبأدلّة:

الدليل الأوّل: أنّه يستلزم أن يكون العبد مستقلاًّ في القدرة ، أي أن لا يقدر تعالى على أن يسلب في ثاني الحال بدون مشيّة العبد شيئا ممّا يتوقّف عليه مقدور العبد، وكونُه مضادّة للّه تعالى في ملكه ظاهر .

أمّا بيان اللزوم فبأنّ معنى القدرة هو التمكّن الذي هو مناط جواز التكليف الواقعي، أي الذي لو خولف استحقّ عليه العقاب، وهو مفهوم بديهيّ نسبيّ يختلف باختلاف ما نسب إليه، فإنّ العبد متمكّن من فعلٍ غيرُ متمكّن من آخر، وهو مشترك معنىً بين اللّه المتمكّن من كلّ شيء وعبده بالنسبة إلى ما هو متمكّن منه .

فنقول : هذا المعنى لا يتحقّق في شخص بالنسبة إلى فعل إلاّ مع استجماعه للعلّة التامّة لصدور ذلك الفعل عنه؛ إمّا استجماعا حقيقةً، وهو ظاهر ؛ وإمّا استجماعا حكما، وهو أن يكون ما لم يتحقّق بعدُ من أجزاء العلّة التامّة واجبَ التحقّق بالذات كبقاء اللّه تعالى، أوبالنظر إلى علّته، كما هو عند بعض المجبّرة القائلين بأنّ كلّ حادث له وجوب سابق ،(1) أو أن يكون ذلك الشخص مستجمعا حقيقةً للعلّة التامّة لصدور ما لم يتحقّق .

ص: 540


1- اُنظر شرح الاُصول الخمسة ، ص 390 . وحكاه السيّد المرتضى في الذخيرة ، ص 88 ؛ والشيخ الطوسي في الاقتصاد ، ص 104 .

بعدُ عنه إن كان ما لم يتحقّق واحدا أو غير مترتّب، وإن تعدّد مترتّبا كان ما ذكرنا من الاستجماع حقيقةً؛ لعلّة الأوّل، ثمّ بتوسّطها كان مستجمعا حكما؛ لعلّة الثاني وهكذا ؛ لأنّ التمكّن من الموقوف بدون التمكّن من الموقوف عليه _ الذي لم يحصل بعد، وكان ممكنا بالإمكان المقابل للوجوب الذاتي والوجوب السابق معا _ بديهيّ الاستحالة .

ونقول في التنبيه عليه: إنّه لو تحقّق مع عدم الاستجماع حقيقةً ولا حكما، لكان بمحض حصول بعض الأجزاء في الحال، وجواز حصول الباقي في ثاني الحال، فيلزم أن يكون فاقد القوّة والصحّة والآلة في الحال قادرا في الحال على فعل يتوقّف على القوّة والصحّة والآلة في ثاني الحال؛ لجواز حصول القوّة والصحّة والآلة له في ثاني الحال، فيكون زيد قادرا في الحال على الطيران في ثاني الحال؛ لجواز حصول الجناح له في ثاني الحال. وهذا سفسطة .

إن قلت : لا يكفي جواز الحصول في ثاني الحال، بل يعتبر ظنّ القادر، أو علم اللّه تعالى في الحال بالحصول في ثاني الحال.

قلت: قد ذكرنا أنّ معنى القدرة مفهوم بديهىّ هو التمكّن، والتمكّن في الحال من فعل في ثاني الحال لا يختلف باختلاف الظنّ أو العلم في الحال بحصول شيء في ثاني الحال. وهذا بديهيّ .

ثمّ نقول: والاستجماع حقيقة في الحال للعلّة التامّة لفعل في ثاني الحال غير ممكن ؛ لأنّ من أجزاء العلّة التامّة له بقاء الفاعل إلى ثاني الحال، وعدم المانع فيه، وعدم النسيان للفعل فيه ونحو ذلك، ولم يحصل بعدُ.

والاستجماع حكما في الحال للعلّة التامّة لفعل في ثاني الحال إمّا بانحصار ما لم يحصل بعد من أجزاء العلّة التامّة في الواجب التحقّق بالذات، أو بالوجوب السابق. وهذا باطل في أفعال العباد؛ لأنّ بقاءهم وذكرهم ليس واجبا بالذات وهو ظاهر، ولا بالوجوب السابق؛ لما مرّ في أوّل «باب الجبر والتفويض والأمر بين الأمرين» من أنّ ذلك يستلزم عدم استحقاق فاعله المحمدة ، وقد فصّلناه في حواشي العدّة . وإمّا بغيره، وهو يستلزم الاستقلال بديهةً، ودعواه دعوى الربوبيّة .

ص: 541

روى ابن بابويه في توحيده في «باب الاستطاعة» عمّن سأل أبا عبداللّه عليه السلام فقال له : إنّ لي أهلَ بيت قدريّة يقولون: نستطيع أن نعمل كذا وكذا، ونستطيع أن لا نعمل؟ قال : فقال أبو عبداللّه عليه السلام : «قل له: أتستطيع(1) أن لا تذكر ما تكره، ولا تنسى(2) ما تحبّ؟ فإن قال: لا، فقد ترك قوله ، وإن قال: نعم، فلا تكلّمه أبدا، فقد ادّعى الربوبيّة» انتهى .(3)

وقولهم : نستطيع أن نعمل معناه: نستطيع الحالَ أن نعمل في ثاني الحال .

إن قلت : ليس مذهب المعتزلة أنّا نتمكّن في الحال على فعل في ثاني الحال تمكّنا يكون مع استجماع العلّة التامّة له حقيقةً أو حكما؛ إنّما مذهبهم تقدّم آلة التمكّن، وهي ما يظنّ معه حصول التمكّن في وقت الفعل كما ذكرتم عند قوله عليه السلام : «فجعل فيهم آلة الاستطاعة »، وهذا مناط صحّة تعلّق التكليف الظاهري ، ولذا وجب الشروع في السير إلى مكّة على من استطاع له وإن علم اللّه منه أنّه يموت قبل الوصول . وأمّا التمكّن الذي هو مناط صحّة تعلّق التكليف الواقعي المنجّز الذي يدور معه استحقاق العقاب على المخالفة وجودا وعدما، فلا يحصل إلاّ في وقت الفعل .

قلت : هذا توجيه حسن من جانبهم لو رضوا بذلك، ولم يصرّحوا بنقيضه، ولا يبقى لنا حينئذٍ نزاع معهم فيه، ولكن صرّحوا بالنقيض؛ فإنّ جماهيرهم يقولون: لا تتحقّق القدرة في وقت الفعل، وباقيهم يقول: إنّه تبقى القدرة إلى وقت الفعل، لكنّ الفعل لا يصدر عن الفاعل بها؛ إنّما يصدر بالقدرة المقدّمةُ كما ذكره شارح المواقف،(4) وسيظهر من اُولى شبههم وثانيتها . فعلى هذا التوجيه يلزم أن لا يتحقّق في المكلّفين في الواقع التمكّنُ _ الذي هو مناط جواز التكليف الواقعي أصلاً على رأي جماهيرهم _ ويتحقَّقَ على احتمال لغوا على رأي باقيهم . .

ص: 542


1- في «ج» : «تستطيع» بدون همزة الاستفهام . وفي المصدر : «هل تستطيع» .
2- في المصدر : «وأن لا تنسى» .
3- التوحيد ، ص 352 ، ح 22 .
4- شرح المواقف ، ج 6 ، ص 154 .

الدليل الثاني _ وهو مشتمل على أدلّة لا تحصى _ : ما ورد في الشرع ممّا يدلّ على أنّ العبد أعجز من أن يكون مستقلاًّ في القدرة، وأنّه لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرّا. وهو أكثر من أن يحصى، كقوله تعالى في سورة الكهف : «وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَىْ ءٍ إِنِّى فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدا * إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللّه ُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ»(1) ، وقوله تعالى في سورة لقمان : «وَمَا تَدْرِى نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدا»(2) .

واعلم أنّ الباعث للمعتزلة وأتباعهم على القول بالتفويض الثاني شُبَهٌ:

الاُولى: أنّ القدرة وكونها مع الفعل متنافيان؛ لأنّ القدرة يلزمها كونها محتاجا إليها لأن يدخل الفعل من العدم إلى الوجود، وكونها مع الفعل يلزمه أن يستغنى عنها ؛ لأنّ الفعل في حال وجوده صار موجودا، فلا حاجة إليها لأن يدخل من العدم إلى الوجود، وتنافي الملزومات لازم للتنافي بين اللوازم ؛ فالقدرة لا تكون مع الفعل .

والجواب: النقض بالفاعل ونحوه . والحلّ: منع قولهم: «إنّ القدرة يلزمها كونها محتاجا إليها» إلى آخره؛ إذ فيه خلط بين آلة القدرة ونفس القدرة . ثمّ منع قولهم: «فلا حاجة» إلى آخره . ثمّ إنّ هذا مبنيّ على عدم معرفتهم معنى وقت الفعل وقد بيّنّاه عند قوله عليه السلام : «وقت الفعل مع الفعل» إلى آخره .

الثانية: أنّ القدرة يلزمها إمكان صدور الفعل وإمكان صدور الترك، فلا تتحقّق في وقت الفعل ؛ لأنّه إن كان الواقع فيه الفعلَ امتنع الترك، وإن كان الواقع فيه التركَ امتنع الفعل ؛ فالقدرة في الحال على الفعل في ثاني الحال .

والجواب: منع امتناع شيء من الفعل والترك في وقت يكون الواقع فيه الآخر . نعم يمتنع بشرط الآخر، والفرق بينهما بيّن لا يخفى .

ثمّ لا نسلّم أنّ هذا الامتناع ينافي القدرة، فإنّه ليس امتناعا سابقا .

الثالثة : أنّه لولاه لزم حدوث قدرة اللّه . .

ص: 543


1- الكهف (18) : 23 _ 24 .
2- لقمان (31) : 34 .

والجواب: أنّ المتنازع فيه قدرة العبد .

الرابعة : ما ذكرنا عند قوله : «أفتستطيع أن تنتهي عمّا قد كُوّنَ؟ قال : لا ».

والجواب : ما ذكرنا أيضا عنده .

الخامسة : أنّ استطاعة الحجّ تتقدّم على وقت الحجّ؛ لقوله تعالى : «وَللّه ِِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً» ،(1)الصحاح ، ج 1 ، ص 303 ؛ معجم مقاييس اللغة ، ج 2 ، ص 29 (حج) .(2) فالمكلّف مستطيع في شهر رمضان _ مثلاً _ لأفعال الحجّ .

والجواب : أنّ المستطاع هنا السبيل إلى حجّ البيت، وهو الزاد والراحلة _ مثلاً _ أو أنّ الاستطاعة هنا مستعملة مجازا في آلة الاستطاعة، كما مضى في شرح عنوان الباب؛ فلا ينافي التوقّف على الإذن ، وسيجيء في «كتاب الحجّ» في خامس «باب استطاعة الحجّ» استدلالُ قدريّ بهذه الآية ، وجوابُ أبي عبداللّه عليه السلام عنه بقوله : «ويحك إنّما يعني بالاستطاعة الزاد والراحلة ليس استطاعة البدن » انتهى .(3) وهو محتمل للوجهين .

ويمكن الجواب أيضا بأنّ الحجّ لغةً القصد،(3) فيجوز أن يكون هو المراد هنا ، فالمعنى: للّه على الناس قصد البيت من استطاع متوجّها إليه سلوك سبيل ؛ فالاستطاعة متعلّقة بسلوك السبيل، لا بالأفعال المعهودة، فهي غير متقدّمة على وقت المستطاع له، وهو السلوك المحقّق للقصد، فإنّ السلوك كما يُطلق على الحركة بمعنى القطع _ أي المجموع المركّب المنطبق على مجموع المسافة _ يُطلق على الحركة بمعنى التوسّط الحاصلة في كلّ حدّ من حدود المسافة، والاستطاعة للاُولى في مجموع الوقت وجزءٍ منها متحقّق في أوّل الوقت ، والاستطاعة للثانية حاصلةٍ في أوّل الوقت، وفي كلّ جزء بعده .

السادسة : أنّه لو لم تكن الأفعال المعهودة في الحجّ مقدورة في شهر رمضان _ مثلاً _ لم تكن واجبة فيه، فلم تجب فيه مقدّمتها، وهي السلوك؛ لأنّ المقدّمة إنّما تجب بتبعيّة .

ص: 544


1- آل عمران
2- : 97 .
3- الكافي ، ج 4 ، ص 268 ، ح 5 .

وجوبها، فلم يكن التارك للسلوك الواجِدُ للزاد والراحلة وغيرهما آثما .

والجواب : أنّ معنى وجوب الأفعال المعهودة في شهر رمضان ما يساوق العلم فيه بتعلّق التكليف الظاهري فيه بفعلها في ذي الحجّة، وحينئذٍ قولكم: «لو لم تكن الأفعال المعهودة مقدورة في شهر رمضان لم تكن واجبة فيه» ممنوع.

وإن أردتم بوجوب الأفعال المعهودة معنى آخر، فلا ، نسلِّم أنّ المقدّمة، إنّما تجب بتبعيّة وجوبها بالمعنى الذي أردتم .

السابعة : أنّه لو لم تكن القدرة إلاّ في وقت الفعل، لم يكن الكافر المستمرّ على كفره إلى آخر عمره قادرا على الإيمان، فلا يكون مكلّفا .

والجواب : أنّه لا يثبت مطلوبكم المتنازع فيه هنا؛ إنّما يثبت أنّ القدرة تتحقّق مع ترك المقدور، ومرادنا بوقت الفعل ما اعتبرت نسبة القدرة إلى الفعل باعتبار وقوعه فيه، سواء كان الفعل واقعا فيه أم لا .

(قَالَ الْبَصْرِيُّ : فَالنَّاسُ مَجْبُورُونَ؟). توهّم من نفي تعلّق الاستطاعة بكلّ من الفعل والترك لزومَ نفي تعلّق القدرة بكلّ منهما، فتوهّم الجبر لخفاء الواسطة .

(قَالَ : لَوْ كَانُوا مَجْبُورِينَ ، كَانُوا مَعْذُورِينَ) . نفى عليه السلام الجبر، وذكر عليه دليلاً بأنّه يلزم أن لا يكون للّه تعالى الحجّة البالغة على العُصاة .

(قَالَ : فَفَوَّضَ إِلَيْهِمْ؟). توهّم أنّه لا واسطة، فلو لم يكونوا مجبورين كانوا مفوّضا إليهم، فسأل عن ذلك .

(قَالَ : «لاَ») . أجاب عليه السلام بنفي التفويض أيضا، ولم يذكر عليه دليلاً اكتفاءً بما مرّ من قوله : «لأنّ اللّه عزّ وجلّ أعزّ» إلى آخره ، فعرّفه أنّ الواسطة هي الحقّ .

(قَالَ : فَمَا هُمْ؟) أي إذا لم يكونوا مجبورين ولا مفوّضا إليهم، فما الذي هم عليه من المنزلة الثالثة لهما ؟

ويحتمل أن يكون المراد أنّهم إذا لم يكونوا مفوّضا إليهم، فما الذي هم عليه حتّى لا يلزم جبر ؟

ص: 545

(قَالَ : عَلِمَ) ؛ بصيغة الماضي المعلوم المجرّد، وفيه ضمير اللّه .

(مِنْهُمْ فِعْلاً) أي علم اللّه تعالى من المكلّفين أنّهم يختارون فعل كذا إذا جعل فيهم أمر كذا، فيصير الأمر آلة لفعلهم بدون أن يكون موجبا لفعلهم بالوجوب السابق، سواء كان الأمر وجوديّا كخلق الشمس والبصر لعابديها، أو عدميّا كترك جعله للمؤمنين باللّه الموحِّدين له لبيوتهم سقفا من فضّة، وعلم اللّه تعالى من المكلّفين أنّهم يختارون ضدّ ذلك الفعل إذا جعل فيهم أمرا آخر بدل الأوّل، فيصير الأمر الآخر آلةً لفعلهم الضدّ بدون وجوب سابق .

(فَجَعَلَ) ؛ بصيغة الماضي المعلوم من باب منع. وفيه ضمير اللّه ، أي فخلق باختياره وعلمه بوجوه المصالح والمفاسد .

(فِيهِمْ) . إنّما قال ذلك مع أنّ الآلة قد تكون أمرا مباينا لهم كالشمس بالنسبة إلى عابديها؛ لأنّ المباين لا يصير آلة إلاّ باعتبار وصف فيهم كالبصر ونحو ذلك .

(آلَةَ الْفِعْلِ) أي ما أفضى إلى الفعل بدون وجوب سابق، مع قدرته تعالى على آلة ضدّ ذلك الفعل.

ولا يجوز الاقتراح بالسؤال عليه تعالى بأنّه إذا علم منهم فعلاً قبيحا، فلِمَ جعل فيهم آلتَهُ، كما مضى الإشارة إليه في شرح ثاني «باب السعادة والشقاء» وثاني «باب الخير والشرّ » ومعلومٌ لنا أنّه تعالى لا يفعل إلاّ الأوفق بالحكمة، والراجح على ضدّه في نفس الأمر من آلتي الفعل وضدّه.

وهذه الفقرة مشتملة على نفي الفرد الأوّل من التفويض .

(فَإِذَا فَعَلُوهُ(1) كَانُوا مَعَ الْفِعْلِ) أي لا قبله (مُسْتَطِيعِينَ) أي قادرين على ما لم تتعلّق بمنافيه مشيّة اللّه .

وهذه الفقرة مشتملة على نفي الفرد الثاني من التفويض .

(قَالَ الْبَصْرِيُّ : أَشْهَدُ أَنَّهُ الْحَقُّ ، وَأَنَّكُمْ أَهْلُ بَيْتِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ) . سمع البصريّ .

ص: 546


1- في الكافي المطبوع : «فعلوا» .

مقالات قدريّة البصرة كالحسن البصري وأصحابه، وقولهم: إنّا قبل وقت الفعل نستطيع أن نعمل كذا ونستطيع أن لا نعمل ، وسمع شبههم، وعرف من هذا البيان أنّه ليس على مجرى العادة في أفكار المتكلّمين من عند أنفسهم، بل هو مستندٌ إلى سرّ مستودَع من مشكاة النبوّة والرسالة، وأنّه بيان للحقّ الذي لا يعلمه إلاّ العالم أو من علّمه إيّاه العالم، كما مضى في عاشر «باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين».

وفيه دلالة على أنّ أئمّة أهل البيت عليهم السلام هم سفينة النجاة

فاُقسم لولا أنّكم سبل الهدى لضلّ الورى عن لاحب(1) النهج ظاهر(1)

وقال صاحب كتاب الجواهر من المعتزلة :

قيل : إنّ الحسن البصري كتب إلى الإمام الحسن بن عليّ عليهماالسلام : من الحسن البصري إلى الحسن بن رسول اللّه صلى الله عليه و آله أمّا بعد، فإنّكم معاشرَ بني هاشم الفلك الجارية في اللجج الغامرة، مصابيح الدجى، وأعلام الهدى، والأئمّة القادة، الذين مَن تبعهم نجا، والسفينة التي تؤول إليها المؤمنون، وتنجو فيها المتمسّكون، قد كثر يابن رسول اللّه عندنا الكلام في القدر، واختلافنا في الاستطاعة، فتُعلمنا ما ترى عليه رأيك ورأي آبائك، فإنّكم ذرّيّةٌ بعضها من بعض، من عِلم اللّه علِمتُم، وهو الشاهد عليكم وأنتم الشهداء على الناس؛ والسلام .

فأجابه الحسن بن عليّ عليهماالسلام : «من الحسن بن عليّ إلى الحسن البصري: أمّا بعد، فقد انتهى إليَّ كتابك عند حيرتك وحيرة مَن زعمت من اُمّتنا، وكيف ترجعون إلينا وأنتم بالقول دون العمل ، واعلم أنّه لولا ما تناهى إليَّ من حيرتك وحيرة الاُمّة من قِبلك، لأمسكتُ عن الجواب، ولكنّي الناصح بن الناصح الأمين، والذي أنا عليه أنّه من لم يؤمن بالقدر خيره وشرّه فقد كفر، ومن حمل المعاصي على اللّه عزّ وجلّ فقد فجر، إنّ اللّه سبحانه لا يُطاع بإكراه، ولا يُعصى بغلبة، ولا أهمل العباد من الملكة، ولكنّه عزّ وجلّ المالك لما ملّكهم، والقادر على ما عليه أقدرهم، فإن ائتمروا بالطاعة لم يكن اللّه عزّ وجلّ لهم صادّا، ولا عنها مانعا ، وإن ائتمروا بالمعصية، فشاء سبحانه أن يمنَّ عليهم، .

ص: 547


1- الروضة المختارة (شرح القصائد العلويّات السبع) لابن أبي الحديد المعتزلي ، ص 132 .

فيحُول بينهم وبينها فعل، وإن لم يفعل فليس هو حَمَلهم عليها إجبارا، ولا ألزمهم بها إكراها، بل احتجاجه جلّ ذكره عليهم أن عرّفهم، وجعل لهم السبيل إلى فعل ما دعاهم إليه، وترك ما نهاهم عنه، وللّه الحجّة البالغة، والسلام » انتهى .(1)

وهذا المقام من مزالّ الأقدام، فقد قيل: هذا الحديث والذي بعده ليس موافقا للحقّ، فهو من باب التقيّة . انتهى .(2) يعني حديثي البصري والنيلي .

الثالث : (مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ ؛ وَعَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ ؛ وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ جَمِيعا ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ ، عَنْ صَالِحٍ النِّيلِيِّ) ؛ بكسر النون وسكون الخاتمة، منسوبٌ إلى قرية بالكوفة، أو بلد بين واسط وبغداد .(3)

(قَالَ : سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : هَلْ لِلْعِبَادِ) أي قبل وقت الفعل والترك . ويحتمل أن يكون مراده الأعمّ منه ومن وقتهما .

(مِنَ الاِسْتِطَاعَةِ شَيْءٌ؟) أي قليل أو كثير بأن تكون الاستطاعة مقولة بالتشكيك .

(قَالَ : فَقَالَ لِي : إِذَا فَعَلُوا الْفِعْلَ ، كَانُوا مُسْتَطِيعِينَ) . فيه جواب عن سؤاله بأنّه ليس قبل وقت الفعل والترك استطاعة، وزيادة على جواب السؤال؛ حيث بيّن أنّها في وقت الفعل والترك لا تتعلّق بكليهما . ويحتمل أن لا تكون زيادة .

(بِالاِسْتِطَاعَةِ) . الباء فيه كالباء في قولنا: زيد شريف بالشرف الكثير، وأصلها السببيّة، كان مبدأ الاشتقاق علّة لصدق المشتقّ . ويحتمل الملابسة باعتبار التغاير الاعتباري، ومن نظائر هذه ما في قولهم: ماهيّة الشيء ما به الشيء هو هو .

(الَّتِي جَعَلَهَا اللّه ُ فِيهِمْ) أي أحدثها فيهم حين الفعل . .

ص: 548


1- رواه الكراجكى في كنز الفوائد ، ص 170 ؛ ورواه ابن شعبة الحرّاني في تحف العقول ، ص 231 . وعنه في بحار الأنوار ، ج 5 ، ص 40 .
2- في حاشية «أ» : «القائل هو مولانا محمّد أمين الإسترابادي في حواشى الكافي (منه)» .
3- معجم البلدان ، ج 5 ، ص 348 (واسط) .

وفيه إشارة إلى الجواب عن شبهةٍ ومعارضةٍ وهميّة تعتري القدريّة، وهي أنّ القدرة تتقدّم على وقت الفعل؛ لأنّا نعلم فيمن صلّى الظهر في آخر وقته بدون عذر أنّه لا تزول عنه من أوّل وقت الظهر إلى المغرب القدرةُ على صلاة الظهر في آخر الوقت .

والجواب: أنّ القدرة أمرٌ اعتباري ليس لها فرد حقيقي موجود في الخارج، إنّما لها الحصص، وحصصها غير متناهية متعدّدة بتعدّد المقدورات والأوقات، فيزول بعضها ويحدث آخر، والشبهة إنّما حصلت بخلط بعضها ببعض .

(قَالَ : قُلْتُ : وَمَا هِيَ؟) أي وما الاستطاعة التي أحدثها فيهم حين الفعل، ولم تتعلّق بالترك ؟

(قَالَ : الاْآلَةُ) . هي ما ذكره في ثاني الباب بقوله : «فجعل فيهم آلة الفعل» أي الأمر الذي علم اللّه تعالى أنّه مفض إلى الفعل بدون وجوب سابق .

والظاهر أنّ في حمل الآلة على الاستطاعة مسامحةً، وأنّ الاستطاعة مترتّبة على الآلة .

(مِثْلُ الزَّنِيِّ(1)) ؛ بفتح الزاي وكسر النون وشدّ الخاتمة، فعيل بمعنى فاعل . وفي بعض النسخ: «الزاني» بألف وتخفيف الخاتمة، بيان مثال لقوله : «إذا فعلوا الفعل» إلى آخره ، وليس مثالاً لتفسير الاستطاعة .

(إِذَا زَنى) . استئناف لبيان قوله: «مثل الزَّنيّ ».

(كَانَ مُسْتَطِيعا لِلزِّنى) أي لا لتركه .

(حِينَ الزنى(2):) أي لم تتحقّق الاستطاعة قبل هذا الحين متعلّقةً بهذا الحين .

(وَلَوْ أَنَّهُ) . الضمير للزنى؛ لأنّ «لو» تبدّل المثبت منفيّا، والمنفيّ مثبتا .

(تَرَكَ الزِّنى) أي في مجموع الوقت الذي زنى فيه .

(وَلَمْ يَزْنِ) أي أصلاً، لا في مجموع هذا الوقت، ولا في جزئه . .

ص: 549


1- في الكافي المطبوع : «الزاني» .
2- في الكافي المطبوع : «زَنى» .

(كَانَ) أي في مجموع هذا الوقت .

(مُسْتَطِيعا لِتَرْكِهِ) أي لا لفعل الزنى .

(إِذَا تَرَكَ) أي حين ترك لا قبله .

(قَالَ : ثُمَّ قَالَ : لَيْسَ لَهُ) أي للزنىّ .

(مِنَ الاِسْتِطَاعَةِ قَبْلَ الْفِعْلِ قَلِيلٌ وَلاَ كَثِيرٌ) . بيان لفذلكة المبحث، وتصريح بالجواب عمّا سأل السائل عنه، ووجهه أنّ القدرة المعتبرة في مفهوم الاستطاعة هي التمكّن من الشيء، وهذا لو تحقّق قبل وقت الفعل قويّا أو ضعيفا، لزم مضادّة اللّه في ملكه، كما مرّ في شرح ثاني الباب .

(وَلكِنْ مَعَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ) أي في وقت الفعل والترك ، والمراد الوقت الذي اعتبرت نسبة الاستطاعة إلى فعل الزنى وتركه باعتبار هذا الوقت، سواء كان الواقع فيه الفعل أو الترك .

(كَانَ مُسْتَطِيعا) أي لأحدهما .

(قُلْتُ : فَعَلى مَاذَا يُعَذِّبُهُ؟). الضمير المنصوب للزنيّ ، ويحتمل العاصي المطلق.

توهّم من نفي استطاعة الزاني لترك الزنى نفي قدرته على ترك الزنى، أي فبأيّ علّة يعذّبه وهو غير مستطيع للترك ؟

(قَالَ : بِالْحُجَّةِ الْبَالِغَةِ وَالاْآلَةِ الَّتِي رَكَّبَ فِيهِمْ) أي بوجود المقتضي للعذاب وعدم المانع.

أمّا المقتضي، فالحجّة البالغة للّه تعالى، كما في قوله تعالى في سورة الأنفال : «ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّه َ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ»(1) فإنّ ظاهره أنّ العفو عنهم ظلم ؛ أي وضع للشيء في غير موضعه بل ظلاميّة . وتفصيله في محلّه . وعدم علمنا بخصوصيّات حججه البالغة لا يستلزم عدمها .

وأمّا عدم المانع، فلأنّه لا يتصوّر هنا مانع يكون بديهيَّ المنع إلاّ الجبر، والجبر منتف بالآلة ، والمراد بها هنا جميع ما يتوقّف عليه الفعل، وجميع ما يتوقّف عليه .

ص: 550


1- آل عمران (3) : 181 _ 182 .

الترك، أي العلّة التامّة للفعل، والعلّة التامّة للترك، وهي مساوقة للقدرة ؛ يُقال: ركّب الفصّ في الخاتم تركيبا: إذا جعله فيه ، وحمله عليه .

(إِنَّ) ؛ بكسر الهمزة استئنافٌ لبيان عدم المانع .

(اللّه َ لَمْ يَجْبُرْ أَحَدا عَلى مَعْصِيَتِهِ) ، بصيغة معلوم باب نصر، أو باب الإفعال، وهذا لدفع توهّم مذهب جهم والأشاعرة، وهو أنّ فاعل أفعالنا هو اللّه تعالى .(1)

(وَلاَ أَرَادَ إِرَادَةَ حَتْمٍ) ؛ بفتح المهملة، وسكون المثنّاة فوق .

(الْكُفْرَ مِنْ أَحَدٍ) . هذا لدفع توهّم مذهب أبي الحسين البصري تبعا للفلاسفة، وهو أنّ أفعالنا صادرة عنّا، لكن يجب صدورها عنّا وجوبا سابقا؛ لاستحالة تخلّف المعلول عن العلّة التامّة .(2)

والمراد بإرادة الحتم ما لا يكون معه سبيل للعبد إلى غير ما أراد اللّه ، بأن لا يكون مستجمعا لعلّته التامّة، لا حقيقة ولا حكما .

والسرّ في أنّ العبد غير مجبور على ما أراده اللّه تعالى إرادة عزم لا حتم أنّ تحقّق المانع العلمي عن شيء لا ينافي ارتفاع جميع الموانع العقليّة، ولا حصول جميع الشرائط والاُمور المحتاج إليها عقلاً ؛ وبالجملة لا ينافي تحقّق علّته التامّة .

(وَلكِنْ حِينَ كَفَرَ) أي لمّا كفر باختياره بدون جبر .

(كَانَ فِي إِرَادَةِ اللّه ِ أَنْ يَكْفُرَ) ؛ يعني أنّ إرادة اللّه الكفر من أحد تابع لكفره، وإن كان الكفر تابعا لإرادة اللّه من حيثيّة اُخرى .

وتوضيح ذلك: أنّ المراد هنا بإرادة اللّه فعلاً من عبدٍ فعلُه تعالى أو تركه المفضي إلى فعل عبد المجتمِعُ مع علمه تعالى بأنّ العبد _ مع استجماعه للعلّة التامّة للفعل، وللعلّة التامّة للترك _ يختار ذلك الفعل، مع قدرته تعالى على ما علم أنّه لو صدر عنه تعالى بدلَ .

ص: 551


1- حكاه السيّد المرتضى في رسائله ، ج 2 ، ص 180 عن جهم ، وفي ج 3 ، ص 187 عن المجبرة . وانظر تفسير الرازي ، ج 12 ، 238 ، وج 15 ، ص 60 ، وص 128 ، وج 19 ، ص 32 .
2- حكاه عنه الإيجي في المواقف ، ج 3 ، ص 221 ؛ وشرح المواقف ، ج 8 ، ص 153 .

ذلك الفعل أو الترك من الأفعال أو التروك، اختار العبد ترك ذلك الفعل ، فإطلاقنا الإرادة على هذا الفعل من اللّه أو الترك منه تعالى إنّما هو باعتبار اجتماعه مع هذا العلم وهذه القدرة ، وكذا قولنا: إنّ إرادة اللّه لفعل عبدٍ يستلزم ذلك الفعل إنّما هو باعتبار اجتماعه مع هذا العلم بدليل أنّ الفعل أو الترك من اللّه تعالى إذا كان خارجا عن العلّة التامّة لفعل عبد لا يوجب ذلك الفعل من العبد إذا لم يكن معه العلم بالإفضاء، ولا شكّ أنّ التابع لأمر إذا اعتبر في مفهوم شيء، كان ذلك الشيء تابعا لذلك الأمر من هذه الحيثيّة، وإن كان متبوعا له باعتبار آخر، وهو هنا جزؤه، أي أصل الفعل أو الترك المفضي إلى فعل العبد بلا جبر بدون ملاحظة انضمام العلم إليه .

(وَهُمْ) . ضمير الجمع لرعاية جانب المعنى .

(فِي إِرَادَةِ اللّه ِ وَفِي عِلْمِهِ أَنْ لاَ يَصِيرُوا إِلى شَيْءٍ مِنَ الْخَيْرِ) . ذكر قوله: «وفي علمه» للإشارة إلى ما ذكرنا آنفا من أنّ العلم معتبر في مفهوم الإرادة، وأنّ وجوب المراد بالنسبة إلى الإرادة وجوب لاحق؛ فإنّ الوجوب هنا باعتبار اشتمال الإرادة على العلم فقط .

(قُلْتُ : أَرَادَ مِنْهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا؟). الاستفهام مقدّر؛ لما كان مصداق إرادة العباد فعل غيرهم بدون طلبهم له الشوق والميل ونحو ذلك، أطلقها السائل في هذا السؤال على أحد هذه المعاني، فإنّه المتبادر إلى أذهان الذين لم يعرفوا غيره حقّ المعرفة، كما أنّ الخبز إذا اُطلق عند من يتناول خبز الاُرزّ ولم ير خبز الحنطة، لم ينصرف ذهنه إلاّ إلى خبز الاُرزّ .

(قَالَ : لَيْسَ هكَذَا أَقُولُ) أي ليس قولي هكذا، اُقيم الفعل مقام المصدر، كما في قولهم : «تسمع بالمُعَيدي خيرٌ من أن تراه». والمعنى: لا أقول هذا اللفظ بهذا المعنى الذي استعملت أنت فيه .

(وَلكِنِّي أَقُولُ : عَلِمَ أَنَّهُمْ سَيَكْفُرُونَ) أي باختيارهم مع استجماعهم للعلّة التامّة لكلّ من الكفر والإيمان، وبسبب فعل أو ترك من اللّه خارج عن العلّة التامّة .

(فَأَرَادَ الْكُفْرَ ) أي فتحقّقت إرادته للكفر بهذا المعنى .

ص: 552

(لِعِلْمِهِ فِيهِمْ) أي ليس إطلاق الإرادة على فعل اللّه أو تركه إلاّ لاجتماعه مع هذا العلم،وليست الإرادة موجبة للكفر إلاّ باعتبار اشتمال مفهومها على هذا العلم، وليس المراد بالإرادة ما أراد السائل بها .

(وَلَيْسَتْ(1) إِرَادَةَ حَتْمٍ ، إِنَّمَا هِيَ إِرَادَةُ اخْتِيَارٍ) ؛ بالمعجمة والخاتمة ومهملة .

وإرادة الحتم ما يكون مع عدم استجماع العبد العلّة التامّة لصدور ضدّ ما أراد اللّه صدورَهُ عن العبد أصلاً، لا حقيقةً ولا حكما .

وإرادة الاختيار ما يكون مع الاستجماع حقيقةً أو حكما .

وفي بعض النسخ بالموحّدة بدل الخاتمة، وهو الابتلاء والفتنة في التكاليف، فإنّ اللّه تعالى قد يشدّد الفتنة في تكليف، فيكفر جمع أكثر من أن يعدّ ويحصى. وليس للمعتزلة عليه تعالى اعتراض، تبارك وتعالى عمّا يصفون .

واعلم أنّه قد يُظنّ المنافاة بين هذين الحديثين _ أي ثاني الباب وثالثه _ وبين روايات كثيرة رواها ابن بابويه في كتاب التوحيد ذكر فيها أنّ الاستطاعة تتعلّق بكلّ من الفعل والترك،(2) وذلك لظنّ أنّ الاستطاعة فيهما وفيها بمعنى واحد.

وليس كذلك ؛ لأنّ الاستطاعة فيها بالمعنى الأوّل، فيصحّ أنّها تتعلّق بكلّ من الفعل والترك ردّا على المجبّرة، وفيهما بالمعنى الثاني. ومرّ بيان المعنيين في شرح عنوان الباب؛ فلا منافاة .

إن قلت : في بعضها منافاة اُخرى مع الحديثين؛ لأنّه يدلّ على أنّ القدرة تتقدّم على حال الفعل والترك:

من ذلك ما رواه عن هشام بن سالم عن أبي عبداللّه عليه السلام قال : «ما كلّف اللّه العباد كَلْفَة فِعلٍ، ولا نهاهم عن شيء حتّى جعل لهم استطاعة، ثمّ أمرهم ونهاهم؛ فلا يكون العبد آخِذا ولا تاركا إلاّ باستطاعة متقدّمة قبل الأمر والنهي، وقبل الأخذ والترك، وقبل .

ص: 553


1- في الكافي المطبوع : + «هي» .
2- التوحيد ، ص 346 ، بيانه في مشيّة اللّه تعالى وإرادته .

القبض والبسط» .(1)

وعن عوف بن عبداللّه الأزدي عن عمّه قال : سألت أبا عبداللّه عليه السلام عن الاستطاعة، فقال : «وقد فعلوا؟» فقلت : نعم زعموا أنّها لا تكون إلاّ عند الفعل واردة في حال الفعل لا قبله ، فقال : «أشرك القوم».(2)

قلت : لا منافاة ؛ لأنّ هذا أيضا للردّ على المجبّرة في قولهم: إنّه لا تتحقّق القدرة على الفعل مع الترك؛ فإنّه يستلزم ذلك أن لا يكون المصلّي لصلاة الظهر في آخر وقتها قادرا في أوّل وقتها على فرد من صلاة الظهر أصلاً، لا في أوّل الوقت، ولا في آخر الوقت. وهذا باطل ؛ لأنّ الحقّ أنّه قادر في أوّل الوقت على الصلاة في أوّل الوقت، وهو قبل وقتٍ صلاّها فيه، وإن لم يكن قادرا في أوّل الوقت على الصلاة في آخر الوقت. والفرق بين المعنيين ظاهر. وليس المراد بقوله: «عند الفعل» و«حال الفعل» هنا المعنى الذي ذكرناه في شرح ثاني الباب لقوله: «وقت الفعل »، بل المراد هنا حال وقوع الفعل، بخلاف ماثّمة .

إن قلت: بينهما وبينها منافاة من جهة اُخرى، فإنّها تدلّ على أنّ القدرة تتقدّم على الأمر والنهي البتّة، ومعلوم أنّ الأمر هو الطلب في وقت لفعل في وقت بعده، وإذا كانت القدرة قبل الأمر البتّة، كانت متعلّقة بفعل بعد ذلك .

قلت : المراد بالأمر والنهي هنا تعلّقهما، لا نفس الخطابات الشرعيّة؛ لأنّها قبل تولّد أكثر المكلّفين فضلاً عن قدرتهم، وتعلّقهما لا يتحقّق إلاّ في وقت طلب الشارع الفعل أو الترك فيه ، وهذا التعلّق تابع للقدرة وإن كان مجتمعا معها في الزمان ، فكونها قبل الأمر والنهي باعتبار القبليّة الذاتيّة والرتبيّة، لا باعتبار القبليّة الزمانيّة .

إن قلت : الأمر بالشيء قد يتعلّق به قبل وقته، كما في وجوب الحجّ على المستطيع قبل خروجه من بلده . .

ص: 554


1- التوحيد ، ص 352 ، باب الاستطاعة ، ح 19 . وعنه في بحار الأنوار ، ج 5 ، ص 38 ، ح 57 .
2- التوحيد ، ص 350 ، باب الاستطاعة ، ح 12 . وعنه في بحار الأنوار ، ج 5 ، ص 34 ، ح 44 .

قلت : لم يتعلّق إلاّ الأمر بمقدّمات أفعال الحجّ بتلك المقدّمات، وينسب إلى أفعال الحجّ مجازا، باعتبار أنّ ترك المقدّمات مشتمل على جميع إثم ترك الأفعال، لأنّه يفضي إلى ترك الأفعال مع مظنّة القدرة عليها في وقتها ، ولعلّ إطلاق الواجب على الواجب المطلق الذي حان وقت مقدّماته دونه مجازٌ. أو يُقال: الحجّ لغةً القصدُ،(1) وقد تعلّق الأمر به لا بأفعاله المعهودة، ومحقّق القصد هو الشروع في المقدّمات، وسيجيء في «كتاب الحجّ» في خامس «باب استطاعة الحجّ».(2) قريب من هذا السؤال مع جوابه .

وقوله: «وقد فعلوا» معناه، وقد حدث مذهب الجبر بين أصحابنا أيضا .

وقيل : ويمكن الجمع بين الأخبار بما ذكرناه في الحواشي السابقة من أنّ الاستطاعة قسمان: ظاهريّة، وباطنيّة ؛ وأنّ الظاهريّة مناط التكليف، وأنّها متقدّمة على التكليف .(3) ألا ترى أنّ الحجّ يجب على من يموت في طريق مكّة، وأنّ الاستطاعة الجامعة للظاهريّة والباطنيّة إنّما تحصل في وقت الفعل والترك . انتهى .(4)

الرابع : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ زُرَارَةَ ، قَالَ : حَدَّثَنِي حَمْزَةُ بْنُ حُمْرَانَ ، قَالَ : سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام عَنِ الاِسْتِطَاعَةِ) . المراد بها القدرة المطلقة، كما هو في إطلاقات أهل اللغة .(5)

(فَلَمْ يُجِبْنِي) . لعلّ ذلك لمّا استشعر منه أنّه على اعتقاد الحقّ، وإنّما أزعجه اشتباه اللفظ .

(فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ دَخْلَةً) أي دخولاً (أُخْرى ، فَقُلْتُ : أَصْلَحَكَ اللّه ُ ، إِنَّهُ قَدْ وَقَعَ فِي قَلْبِي مِنْهَا) أي من الاستطاعة (شَيْءٌ) أي وهم (لاَ يُخْرِجُهُ إِلاَّ شَيْءٌ أَسْمَعُهُ مِنْكَ).

(قَالَ : فَإِنَّهُ لاَ يَضُرُّكَ مَا كَانَ فِي قَلْبِكَ) ؛ لأنّه محض اشتباه لفظ، فإنّ القدريّة يطلقون .

ص: 555


1- لسان العرب ، ج 2 ، ص 364 (حجج) .
2- الكافي ، ج 4 ، ص 268 ، ح 5 .
3- في حاشية «أ»: «القائل هو مولانا محمدأمين الاسترابادي في حواشي الكافي (منه)».
4- حكاه في مجمع البحرين ، ج 3 ، ص 72 .
5- النهاية ، ج 3 ، ص 142 (طوع) .

الاستطاعة على ما لا يجوز تعلّقه بطرفي الفعل والترك، فنفى أصحابنا تعلّقها بالطرفين ردّا عليهم، وصار ذلك باعثا على الاشتباه على السائل .

(قُلْتُ : أَصْلَحَكَ اللّه ُ ، إِنِّي أَقُولُ : إِنَّ اللّه َ _ تَبَارَكَ وَتَعَالى _ لَمْ يُكَلِّفِ الْعِبَادَ مَا لاَ يَسْتَطِيعُونَ ، وَلَمْ يُكَلِّفْهُمْ إِلاَّ مَا يُطِيقُونَ) . هذا إبطال لمذاهب المجبّرة، ومراده بالاستطاعة وبالإطاقة القدرة المطلقة بدليل قوله :

(وَأَنَّهُمْ لاَ يَصْنَعُونَ شَيْئا مِنْ ذلِكَ) أي من فعلهم، سواء كان طاعةً أم معصيةً ؛ أو المراد من المكلّف به .

(إِلاَّ بِإِرَادَةِ اللّه ِ وَمَشِيئَتِهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ) . يمكن أن يكون المراد بكلّ منها(1) ما ذكرنا في حدّه في الخصال السبع في شرح أوّل الخامس والعشرين، لكن لم(2) يراع الترتيب .

ويمكن أن يكون المراد بكلّ منها الأعمّ من الخصال الأربع الاُول من الخصال السبع التي مضت فيه، وهذا إبطال للأوّل من فردي التفويض .

(قَالَ : فَقَالَ : هذَا دِينُ اللّه ِ الَّذِي أَنَا عَلَيْهِ وَآبَائِي . أَوْ كَمَا قَالَ) . شكّ الراوي أنّه قال معنى قوله: «هذا دين اللّه » إلى آخره ، بهذا اللفظ، أو بلفظ آخر . .

ص: 556


1- في «ج» : «منها» .
2- في «ج» : «لا» .

الباب الثاني والثلاثون: باب البيان و التعريف و لزوم الحجّة

الباب الثاني والثلاثون بَابُ الْبَيَانِ وَ التَّعْرِيفِ وَ لُزُومِ الْحُجَّةِ

فيه ستّة أحاديث، ويحتمل سبعةً إن جعل الثالث اثنين .

هذا على ما في النسخ ، والأظهر إخراج الحديث الأخير من هذا الباب وجعل عنوان الباب الرابع والثلاثين قبله، فيكون أحاديث هذا الباب خمسة أو ستّة، ويكون في «باب حجج اللّه على خلقه» حديث واحد هو آخر(1) هذا الباب، ويكون في باب هو الثالث والثلاثون خمسةُ أحاديث، فكأنّ التقديم والتأخير سهو(2) من الناسخين، واللّه أعلم.

«البيان» بالفتح مصدر «بنته» بالكسر والفتح: إذا أوضحته، ف«بان» متعدّ لازم . والمراد به هنا توضيح اللّه تعالى للبالغ العاقل الواضحات العقليّة، وهي الضروريّات كقولنا: الواحد نصف الاثنين، وما يجري مجراها من النظريات التي تُعلم بمحض العقل، أي بدون توقيف.

والمعرفة علم يحصل بنوع مشقّة . والمراد «بالتعريف» تعليم اللّه تعالى للبالغ العاقل المسائل التي فيها خلاف حقيقي مستقرّ ، أي لا تعلم إلاّ بتوقيف، وهي نحو الأحكام الشرعيّة.

و«الحجّة» بالضمّ ما يقصد به الغلبة على أحد من البرهان ونحوه . والمراد بلزومها ما يقابل بطلانها .

ص: 557


1- في «ج» : «أخير» .
2- في «ج» : - «سهو» .

والمقصود بهذا الباب أنّ اللّه بيّن وعرّف لمن أراد تكليفه، ولولا بيانه وتعريفه لدحضت حجّته .

الأوّل : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى وَغَيْرُهُ ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ ، عَنْ جَمِيلِ بْنِ دَرَّاجٍ ، عَنِ ابْنِ الطَّيَّارِ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : إِنَّ اللّه َ احْتَجَّ عَلَى النَّاسِ بِمَا آتَاهُمْ وَعَرَّفَهُمْ) . «ما» مصدريّة أو موصولة ، والمفعول الثاني محذوف فيهما، وهو العائد إلى الموصول؛ أي آتاهم إيّاه وعرّفهم إيّاه ؛ يُقال: آتى زيد فلانا شيئا على أفعل، أي أعطى .

وهذا إشارة إلى أمثال قوله تعالى في سورة البلد : «أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ»(1)، أي نجد الخير والشرّ، كما يجيء في رابع الباب .

وهذا ردّ على الأشاعرة في قولهم: يجوز التكليف بما لا يطاق،(2) وفي قولهم: الوجوب عندنا ثابت بالشرع، نظر أو لم ينظر، ثبت الشرع أو لم يثبت ؛ لأنّ تحقّق الوجوب لا يتوقّف على العلم به، وإلاّ لزم الدور. وليس ذلك من تكليف الغافل في شيء، فإنّه يفهم التكليف وإن لم يصدّق به . انتهى .(3)

وأرادوا بالدور شبه الدور في الاستحالة؛ لأنّ العلم لا يتوقّف على المعلوم، بل هو تابع له.

واستدلالهم هذا سخيف؛ لأنّ عدم توقّف الوجوب على العلم به لا ينافي توقّفه على مقتضى للعلم به كالبيان والتعريف والنظر ونحو ذلك «لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ»(4) ولم يدحض احتجاجه تعالى على أهل النار .

الثاني : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى وَغَيْرُهُ ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي2.

ص: 558


1- البلد (90) : 8 _ 10 .
2- شرح المواقف ، ج 8 ، ص 201 و 230 . وحكاه عن الأشاعرة العلاّمة في نهج الحقّ ، ص 136 .
3- في حاشية «أ» : «قاله شارح مختصر الاُصول (منه)» .
4- الأنفال (8): 42.

عُمَيْرٍ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَكِيمٍ ، قَالَ : قُلْتُ لاِءَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : الْمَعْرِفَةُ) أي المعرفة التي لا يلزم حجّته تعالى إلاّ بها، وهي معرفة الأحكام التكليفيّة التي يعذّب ويُثاب على مخالفتها وموافقتها .

(مِنْ صُنْعِ مَنْ هِيَ؟) أي أهي ممّا يمكن للعباد تحصيلها وكسبها بعقولهم ونظرهم بدون توقيف من اللّه تعالى أم لا؟

و«من» الاُولى بكسر الميم حرف جرّ، والثانية بفتحها اسم استفهام مجرور المحلّ بالإضافة.

وقوله: «هي» مبتدأ، والظرف قبله خبره، والمجموع خبر «المعرفة ». ويحتمل أن يكون «هي» فاعلَ الظرف .

(قَالَ : مِنْ صُنْعِ اللّه ِ ، لَيْسَ لِلْعِبَادِ فِيهَا صُنْعٌ) أي لا يمكن إلاّ بتعريف اللّه وتوقيفه .

وفيه ردّ على المعتزلة وعلى جمع توهّموا من صدق قاعدة التحسين والتقبيح العقليّين أنّ العقل يستقلّ بمعرفة الأحكام العقليّة الواقعيّة بل الشرعيّة أيضا.(1) وتفصيله في محلّه .

الثالث : (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ ، عَنِ ابْنِ فَضَّالٍ ، عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ مَيْمُونٍ ، عَنْ حَمْزَةَ بْنِ مُحَمَّدٍ الطَّيَّارِ : عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام فِي قَوْلِ اللّه ِ عَزَّ وَجَلَّ ) في سورة التوبة :

(«وَ مَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَل_هُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ»(2)). يُقال : ما كان زيد ليفعل كذا: إذا بعد صدوره عنه لقبح الفعل وحكمة الفاعل . واللام لتأكيد النفي .

(قَالَ : حَتّى يُعَرِّفَهُمْ) ؛ بصيغة معلوم باب التفعيل .

(مَا يُرْضِيهِ وَمَا يُسْخِطُهُ) . كلّ من «يرضيه» و«يسخطه» من باب الإفعال ، فالمستتر .

ص: 559


1- اُنظر الوافية للفاضل التوني ، ص 171 . ولا بأس بالنظر لرسالة في التحسين والتقبيح للشيخ جعفر السبحاني ، ص 120 .
2- التوبة (9) : 115 .

المرفوع ل«ما» والبارز المنصوب للّه . ويمكن أن يكونا من المجرّد ، فالمستتر المرفوع للّه والبارز المنصوب ل«ما».

و«رضيه» كعلمه: ضدّ «سخطه»؛ وأرضاه: ضدّ أسخطه؛ وسخطه كعلمه ، أي كرهه؛ وأسخطه، أي أغضبه.

ظاهره أنّ المراد بالهداية البيان، أي التعمير إلى البلوغ وإعطاء العقل، وبالتبيين التعريف، أي إرسال الرُّسل وإنزال الكتب ، والمراد بالإضلال إمّا مقابل التعريف، فيكون «حتّى» للاستثناء المنقطع الذي لا يمكن فيه تسليط العامل، نحو: ما زاد هذا إلاّ ما نقص ، وكقول الشاعر :

واللّه لا يذهب شيخي باطلاً حتّى أبير مالكا وكاهلاً(1)

فيكون مفاد الآية ما يجيء في أوّل «كتاب الحجّة» من الاضطرار إلى الحجّة ،(1) ويكون أفعل بمعناه الحقيقي.

وإمّا الاحتجاج على العصاة، فيكون أفعل بمعنى عدّ الشيء ذا صفة، وهو الأنسب بعنوان الباب ، ولذا يُقال : المراد أنّ اللّه لا يحتجّ على قوم ولا يحكم بضلالتهم بعد إذ هداهم إلى الإيمان إلاّ بعد أن يعلمهم . انتهى(2) مضمونه. فما بعد حتّى خارج عن حكم ما قبلها .

(وَقَالَ). هذا من كلام ثعلبة، وضميره راجع إلى حمزة؛ أي وسأله عن قوله تعالى في سورة الشمس :

(«فَأَلْهَمَهَا) أي النفس (فُجُورَهَا وَ تَقْوَل_هَا»،(3) قَالَ : بَيَّنَ لَهَا مَا تَأْتِي وَمَا تَتْرُكُ) . يعني المراد بالإلهام البيان والتوقيف بالوحي ، والمراد بفجورها ما فيه فجورها وهو ما تترك، أي ما يجب عليها أن تترك، وبتقواها ما فيه تقواها، وهو ما تأتي، أي ما يجب عليها أن .

ص: 560


1- الكافي، ج 1، ص 168، باب الاضطرار إلى الحجّة.
2- في حاشية «أ» : «القائل مولانا محمّدأمين الإسترابادي في الفوائد المدنيّة (منه)» . الفوائد المدنيّة ، ص 429 و 431 .
3- الشمس (91) : 8 .

تفعله ؛ فلفظ «تأتي» و«تترك» خبر، ومعناهما كالأمر. والنشر على غير ترتيب اللفّ .

(وَقَالَ ) في سورة الإنسان :

(«إِنَّا هَدَيْنَ_هُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَ إِمَّا كَفُورًا»،(1) قَالَ : عَرَّفْنَاهُ ) ؛ من باب التفعيل .

(إِمَّا آخِذٌ) أي أخذ سبيل الحقّ (وَإِمَّا تَارِكٌ) .

والرفع في «آخذ» و«تارك» في الحديث للإشارة إلى أنّ آخذا وتاركا في الآية حالان مقدّرتان عن الضمير المنصوب في «هديناه»، فإنّ الهداية قبل نفس الشكر والكفران .

(وَعَنْ قَوْلِهِ). من كلام ثعلبة ؛ أي وسأله عن قوله في سورة فصّلت :

(«وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَ_هُمْ فَاسْتَحَبُّواْ الْعَمَى عَلَى الْهُدَى»،(2) قَالَ : عَرَّفْنَاهُمْ) ؛ من باب التفعيل والمفعول محذوف، أي سبيل الحقّ .

(فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) أي لم يعملوا على وفق التعريف، فهم استحبّوا عدمه على وجوده .

(وَهُمْ يَعْرِفُونَ) . أي سبيل الحقّ . والتعدية ب«على» لتضمين الاستحباب معنى الترجيح .

(وَفِي رِوَايَةٍ : بَيَّنَّا لَهُمْ) . أي بدل «عرّفناهم».

كلّ من الهداية والتعريف قد يستعمل في التوفيق وقد يستعمل في بيان الحكم، والبيان لا يستعمل في التوفيق إلاّ نادرا بقرينة.

إن جعلنا هذا حديثا على حِدة، كان أحاديث الباب سبعةً .

الرابع : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمنِ ، عَنِ ابْنِ بُكَيْرٍ ، عَنْ حَمْزَةَ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : سَأَلْتُهُ عَنْ قَوْلِ اللّه ِ) في سورة البلد :

(«وَ هَدَيْنَ_هُ النَّجْدَيْنِ»؟(3) قَالَ : نَجْدَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ) . النجد : الطريق الواضح المرتفع ، .

ص: 561


1- الإنسان (76) : 3 .
2- فصّلت (41) : 17 .
3- البلد (90) : 10 .

ونجد الخير: التصديق بربوبيّة ربّ العالمين ولوازمه، كالكفر بالطاغوت . ونجد الشرّ: إنكار ربوبيّة ربّ العالمين ولوازمه، كالإيمان بالطاغوت .

الخامس : (وَبِهذَا الاْءِسْنَادِ ، عَنْ يُونُسَ ، عَنْ حَمَّادٍ ، عَنْ عَبْدِ الاْءَعْلى ، قَالَ : قُلْتُ لاِءَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : أَصْلَحَكَ اللّه ُ ، هَلْ جُعِلَ) ؛ بصيغة المجهول ، ويحتمل المعلوم، فيكون فيه ضمير اللّه .

(فِي النَّاسِ أَدَاةٌ يَنَالُونَ بِهَا الْمَعْرِفَةَ؟) أي معرفة الأحكام الشرعيّة التكليفيّة التي يحتجّ اللّه على مخالفها .

والمقصود السؤال عن استقلال عقول الناس بمعرفتها بدون توقيف وعدم استقلالها .

والأداة: الآلة ، والمراد بها هنا العقل وقوّة الذكاء والفطنة ونحو ذلك .

(قَالَ : فَقَالَ : «لاَ») . ردٌّ على المعتزلة، كما مضى في شرح ثاني الباب .

(قُلْتُ : فَهَلْ كُلِّفُوا) ؛ بصيغة مجهول باب التفعيل .

(الْمَعْرِفَةَ؟). مقصوده السؤال عن جواز التكليف بها، مع أنّها لا تطاق وإن كان اللفظ ظاهرا في السؤال عن الوقوع .

(قَالَ : لاَ) . ردٌّ على الأشاعرة، كما مضى في شرح أوّل الباب .

(عَلَى اللّه ِ الْبَيَانُ) . استئنافٌ بياني لقوله : لا ؛ أي يجب على اللّه في التكليف بيان الحكم التكليفي بإيصال الأمر الصريح مثلاً إلى المكلّف .

(«لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّوُسْعَهَا»(1)الطلاق (65) : 7 .(2)) . استئنافٌ لبيان الاستئناف السابق باستشهاد من سورة البقرة .

(وَ«لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَآ ءَاتَ_ل_هَا»(2)) . العائد(3) إلى «ما» محذوف هو المفعول الثاني، .

ص: 562


1- البقرة
2- : 286 .
3- في «ج» : «والعائد» .

أي ما آتاها إيّاه ؛ والمراد: ما أقدرها عليه . والاستشهاد من سورة الطلاق .

(قَالَ : وَسَأَلْتُهُ عَنْ قَوْلِهِ(1) : «وَ مَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْما بَعْدَ إِذْ هَدَل_هُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ»(2) قَالَ : حَتّى يُعَرِّفَهُمْ مَا يُرْضِيهِ وَمَا يُسْخِطُهُ) . مضى في ثالث الباب .

السادس : (وَبِهذَا الاْءِسْنَادِ ، عَنْ يُونُسَ ، عَنْ سَعْدَانَ رَفَعَهُ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : إِنَّ اللّه َ لَمْ يُنْعِمْ) ؛ بصيغة معلوم باب الإفعال .

(عَلى عَبْدٍ نِعْمَةً إِلاَّ وَقَدْ أَلْزَمَهُ فِيهَا الْحُجَّةَ مِنَ اللّه ِ) أي زاد بسببها تكليفا له، فزاد إلزام الحجّة فيها عليه بعد البيان والتعريف .

(فَمَنْ) ؛ الفاء للتفصيل، و«من» موصولة .

(مَنَّ) ؛ بصيغة الماضي المعلوم من المضاعف . يُقال : منَّ عليه منّا، أي أنعم عليه. ومنه «المنّان» من أسماء اللّه تعالى .

(اللّه ُ عَلَيْهِ فَجَعَلَهُ قَوِيّا) أي في بدنه .

(فَحُجَّتُهُ عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِمَا كَلَّفَهُ) ، كالجهاد والحجّ ونحوهما من الاُمور التي لا تتأتّى عن الضعيف، فلا يكلّف بها إلاّ القويّ.

جعل المكلّف به نفسَ الحجّة مجازا، باعتبار أنّه باعث الحجّة باعتبار الترك، أو باعتبار الفعل أيضا إن جعلنا الحجّة أعمّ من بيّنة(3) هلاك الهالك ونجاة الناجي .

(وَاحْتِمَالُ) ؛ بالرفع عطفٌ على القيام ؛ أي تحمّل ثقل .

(مَنْ هُوَ دُونَهُ) أي من هو قريب منه، كالجار والولد والرعيّة .

(مِمَّنْ) أي مِن(4) جملة مَن (هُوَ أَضْعَفُ مِنْهُ) .

المقصود أنّه يجب(5) عليه احتمال كلّ ضعيف ، بل كلّ قويّ يحتمل من يناسبه . .

ص: 563


1- في الكافي المطبوع : + «تعالى» .
2- التوبة (9) : 115 .
3- في «ج» : «إن جعلها الحجّة أعمّ عن بيّنة» بدل «إن جعلنا الحجّة أعمّ من بيّنة» .
4- في «أ» : «ممّن» .
5- في «ج» : «لا يجب» .

ويحتمل أن يكون المراد أنّه لا يقتصر في الاحتمال على احتمال الضعيف المتهالك كما في إغاثة المستغيث، بل يجب عليه احتمال من كان أقرب الضعفاء إليه قوّة أيضا، كما في دفع القويّ من الخصم عن الضعيف من المسلمين في الجهاد إذا أحسّ من نفسه رباطة جأش وقوّة بدن أكثر .

(وَمَنْ مَنَّ اللّه ُ عَلَيْهِ فَجَعَلَهُ مُوَسَّعا) ؛ بصيغة اسم المفعول من باب التفعيل .

(عَلَيْهِ) . قائم مقام الفاعل، والمفعول به أيضا محذوف، وهو الرزق .

(فَحُجَّتُهُ عَلَيْهِ مَالُهُ ) أي الحقوق الماليّة المفروضة من الزكاة والخمس والحجّ .

(ثُمَّ تَعَاهُدُهُ الْفُقَرَاءَ) أي عدم نسيانه إيّاهم .

(بَعْدُ) . مبنيّ على الضمّ؛ لأنّها من الغايات المقطوعة عن الإضافة، أي بعد أداء المفروضات، فإنّ في المال حقوقا سوى الزكاة كما يجيء في «كتاب الزكاة» في «باب فرض الزكاة، وما يجب في المال من الحقوق» .(1)

(بِنَوَافِلِهِ) أي عطاياه. وهي لغةً أعمّ من أن تكون مفروضة شرعا، كما في سفر الحجّ فيه كثرة المُشاة الفقراء المحتاجين إلى عطيّة من معه أكثر من نفقته المحتاج إليها، ولولاها لهلكوا .

(وَمَنْ مَنَّ اللّه ُ عَلَيْهِ فَجَعَلَهُ شَرِيفا) أي كريما بأن يكون من العلماء، كما مرّ في «كتاب العقل» في «باب لزوم الحجّة على العالم وتشديد الأمر عليه ».

ويحتمل أن يكون المراد أعمّ من كمال العلم وغيره من الكمالات .

(فِي بَيْتِهِ) أي عند أهل بيته، أو عند الناس في جملة أهل بيته .

(جَمِيلاً فِي صُورَتِهِ) أي عزيزا غير ذليل .

والجمال في الصورة كصباحة الوجه يُطلق على معنيين :

الأوّل : كون الشخص مشهورا بالصفات الحسنة، عزيزا بين الناس .

والثاني : أن يكون على قيافة حسناء لا شوهاء . وقد فسّر بهما قولهم في إمامة .

ص: 564


1- الكافي ، ج 3 ، ص 496 .

الصلاة أنّه مع التساوي يقدّم الأصبح وجها .

والأوّل هنا أنسب بقوله : «الضعفاء» .

(فَحُجَّتُهُ عَلَيْهِ أَنْ يَحْمَدَ اللّه َ(1) عَلى ذلِكَ) أي يعترف بأنّه نعمة من اللّه ساقها إليه قضاؤه وقدره، ولو شاء لذهب بها؛ فيقيم بحقوق هذه النعمة، كإرشاد المسترشد، وإعانة الضعيف، والترحّم عليه .

(وَلاَ يَتَطَاوَلَ(2)) أي لا ينظر نظرَ إهانةٍ، ولا يفتخر، كمن قال: «إِنَّمَآ اُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ»(3) وأصله طلب الطَوْل والزيادة كالاستطالة .

(عَلى غَيْرِهِ ؛ فَيَمْنَعَ) أي التطاول سبب لأن يمنع .

(حُقُوقَ الضُّعَفَاءِ) ؛ هي إكرام مؤمنيهم وزيارتهم، وعيادة مريضهم، ونحو ذلك . ويحتمل أن يكون المراد إرشاد ضالّهم، وإدراك لهيفهم، ونحو ذلك .

(لِحَالِ شَرَفِهِ وَجَمَالِهِ) . إشارةٌ إلى أنّ الشرف والجمال أوجب زيادة في رعاية الحقوق كما مضى في «كتاب العقل» في سادس «باب صفة العلماء» من حكاية عيسى عليه السلام ؛ فلا يجعله سببا للنقصان في رعاية الحقوق .9.

ص: 565


1- في الكافي المطبوع : + «تعالى» .
2- في الكافي المطبوع : «وأن لا يتطاول» .
3- القصص (28): 78؛ الزمر (39): 49.

الباب الثالث والثلاثون

الباب الثالث والثلاثون (1)

باب فيه حديث واحد .

المقصود بهذا الباب بيان أمرين :

الأوّل : أنّ كلّ معرفة _ أي سواء كانت من قبيل معرفة الأحكام الشرعيّة التي لا تحصل إلاّ بالوحي إلى الرسل كما مضى الكلام فيه في الباب السابق، أم من غيرها كالضروريّات والنظريّات التي تستقلّ عقول العباد بها بالنظر بدون توقيف _ هي فعل اللّه تعالى، أي ليس شيء منها فعل العباد ؛ فحصول النظري منها بعد النظر الصحيح إنّما هو بإجراء عادة اللّه ليس باللزوم العقلي، وكذا حصول الضروري منها للعاقل بإجراء العادة .

وهذا للردّ على من زعم أنّ العلم النظري فعل النفس اختيارا.(2)

ويبطله أنّ وقت العلم النظري بعد تمام النظر، ولا قدرة للعبد قبل وقت فعل على ذلك قبل الفعل في ذلك الوقت، كما مرّ في أحاديث «باب الاستطاعة»، وبعد تمام النظر لا يمكنهم دفع علم يحصل، ولا فعل علم لا يحصل .

الثاني : أنّه ليس أيضا شيء من أفراد مطلق المعرفة مولّدا من فعل اختياري للعباد بحيث يكون كقطع اللحم عند إمرارهم السكّين إمرارا مخصوصا عليه، فإنّ صحّة النظر ليس باختيار العباد؛ لأنّ تذكّر مقدّمات يحتاج إليها وعدمَ نسيانها إلى آخر النظر ليس باختيارهم .

ص: 566


1- في الكافي المطبوع : + «باب اختلاف الحجّة على عباده» .
2- حكاه الإيجي في المواقف ، ج 3 ، ص 229 ؛ والفخر الرازي في تفسيره ، ج 10 ، ص 8 ؛ والقاضي في شرح المواقف ، ج 8 ، ص 164 .

(مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَسْبَاطٍ ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ زَيْدٍ ، عَنْ دُرُسْتَ بْنِ أَبِي مَنْصُورٍ ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : سِتَّةُ أَشْيَاءَ) أي ممّا يتوهّم أنّه يكون للعباد فيها صنع؛ لئلاّ ينتقض الحصر بنحو الصحّة والمرض .

(لَيْسَ لِلْعِبَادِ فِيهَا صُنْعٌ) أي تدبير .

والتدبير في شيء موجود _ مثلاً _ على أحد أمرين : الأوّل : إيجاده اختيارا ؛ الثاني : إيجاد ما جرى العادة بتحقّقه عقيبه اختيارا .

(الْمَعْرِفَةُ) أي العلم، أعمّ من التصديقي والتصوّري. وذلك لأنّها تتخلّف كثيرا وبحسب العادة عمّا باختيار العباد من وسائلها .

(وَالْجَهْلُ) أي عدم العلم عمّا من شأنه العلم، أعمّ من أن يكون جهلاً بسيطا أو مركّبا. وذلك لأنّ وجود شيء إذا لم يكن باختيار أحد، امتنع أن يكون عدمه باختياره . وقيل : يعني الجهل المركّب ، أي الصورة الإدراكيّة الغير المطابقة للواقع . انتهى .(1)

(وَالرِّضَا) . المراد ضدّ الغضب، وقد يُطلق على ضدّ السخط، كما في الرضا بقضاء اللّه تعالى، وهو ليس ممّا نحن فيه؛ لأنّه مكلّف به .

(وَالْغَضَبُ ، وَالنَّوْمُ ، وَالْيَقَظَةُ) . ظاهر ممّا ذكرنا في المعرفة . .

ص: 567


1- في حاشية «أ» : «القائل مولانا محمّدأمين الإسترابادي في حواشي الكافي (منه)» .

الباب الرابع والثلاثون: باب حجج اللّه على خلقه

الباب الرابع والثلاثون بَابُ حُجَجِ اللّه ِ عَلى خَلْقِهِ

فيه أربعة أحاديث .

المقصود بهذا الباب بيان أنّه لا حجّة للّه على الجاهل فيما جهل، سواء كان جهله ممّا لا يرتفع بغير توقيف كجهله بالأحكام الشرعيّة اُصولها وفروعها ، أم ممّا يرتفع بغيره كجهله بأنّ للعالم صانعا، وأنّ محمّدا نبيّ ونحو ذلك ، فإنّ جهله بالحكم الشرعي الذي سمعه من النبيّ عليه السلام حينئذٍ يرتفع بغير توقيف أي خطاب جديد .

وبهذا يحصل الفرق بين مقصود هذا الباب ومقصود باب البيان والتعريف ولزوم الحجّة .

الأوّل : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ ، عَنْ أَبِي شُعَيْبٍ الْمَحَامِلِيِّ) ؛ بفتح الميم الاُولى والمهملة وكسر الميم ثانيا .(1) ومحمل كمجلس: شقّان على البعير يحمل فيهما العديلان ، والجمع «محامل»، والنسبة إليها للبيع .(2)

(عَنْ دُرُسْتَ بْنِ أَبِي مَنْصُورٍ ، عَنْ بُرَيْدِ بْنِ مُعَاوِيَةَ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : لَيْسَ لِلّهِ عَلى خَلْقِهِ أَنْ يَعْرِفُوا) ؛ بصيغة معلوم باب ضرب حذف مفعوله للعموم ، أي أيّ شيء كان ممّا من شأنه التكليف به .

(وَلِلْخَلْقِ عَلَى اللّه ِ أَنْ يُعَرِّفَهُمْ) ؛ بصيغة معلوم باب التفعيل ، أي أن يعرف كلّ أحد ما

ص: 568


1- في «ج» : «الثانية» .
2- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 361 ؛ تاج العروس ، ج 14 ، ص 171 (حمل) .

يكلّفه به، وذلك بصرف دواعيه إلى النظر فيما يعلم به الصانع للعالم، وفي معجزة النبيّ، بحيث يحصل عقيبَهما العلم بهما، ثمّ إيصال الخطاب التكليفي بوجوب التصديق أي الطوع لما علم ونحو ذلك .

(وَلِلّهِ عَلَى الْخَلْقِ إِذَا عَرَّفَهُمْ أَنْ يَقْبَلُوا) أي يعملوا به . وقيل : أن يعترفوا بذلك، ويقرّوا به . انتهى .(1)

الثاني : (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، عَنِ الْحَجَّالِ ، عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ مَيْمُونٍ ، عَنْ عَبْدِ الاْءَعْلَى بْنِ أَعْيَنَ ، قَالَ : سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : مَنْ لَمْ يَعْرِفْ) ؛ بصيغة معلوم باب ضرب، أو مجهول باب التفعيل .

(شَيْئا) أي مطلقا؛ فيرجع إلى السلب الكلّي . ويحتمل أن يكون المراد شيئا مفروضا، فيرجع إلى السلب الجزئي .

(هَلْ عَلَيْهِ شَيْءٌ؟) أي من الإثم مطلقا، أو في ذلك الشيء .

(قَالَ : «لاَ») .

الثالث : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، عَنِ ابْنِ فَضَّالٍ ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ فَرْقَدٍ ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ زَكَرِيَّا بْنِ يَحْيى ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : مَا حَجَبَ اللّه ُ عَنِ الْعِبَادِ) أي لم يعرّفهم إيّاه من الأحكام الواقعيّة .

(فَهُوَ مَوْضُوعٌ عَنْهُمْ) أي لا إثم لهم في عدم العمل به .

الرابع : (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ ، عَنْ أَبَانِ الاْءَحْمَرِ ، عَنْ حَمْزَةَ بْنِ الطَّيَّارِ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : قَالَ لِي : «اكْتُبْ») . مفعوله محذوف، أي ما أقول .

(فَأَمْلى) . الإملاء أن يقول أحد شيئا، ويكتبه آخر .

(عَلَيَّ : إِنَّ) ؛ بكسر الهمزة وشدّ النون ، ويحتمل الفتح والتخفيف بأن تكون مفسّرة؛ .

ص: 569


1- في حاشية «أ» : «القائل مولانا محمّدأمين في حواشي الكافي (منه)» .

لأنّ الإملاء يتضمّن معنى القول. ويكون حينئذٍ من كلام حمزة .

(مِنْ قَوْلِنَا). إشارةٌ إلى خلاف من خالف .

(إِنَّ اللّه َ يَحْتَجُّ عَلَى الْعِبَادِ) أي في يوم القيامة .

(بِمَا آتَاهُمْ وَعَرَّفَهُمْ) . مضى في أوّل الثاني والثلاثين .(1)

(ثُمَّ) ؛ بضمّ المثلّثة للتراخي، إشارة إلى أنّ للّه حجّتين: حجّةً باطنة(2) هي العقول ولوازمها ، وحجّة ظاهرة هي الرسل والكتب ولوازمها، كما يظهر ممّا مضى في «كتاب العقل» في ثاني عشر الأوّل ؛(3) وإلى أنّ الحجّة الظاهرة بعد الحجّة الباطنة بزمان حتّى يتمكّن الباطنة(4) فيهم، ويتمّ احتجاج اللّه .

(أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ رَسُولاً ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْكِتَابَ) . لمّا كان الإنزال على النبيّ للتبليغ إليهم قال «عليهم». ويحتمل أن يكون من قبيل نسبة شيء متعلّق بواحد من جنس إلى ذلك الجنس، كما في قوله : «فَنَادَتْهُ الْمَلَ_آل_ءِكَةُ» .(5)

(فَأَمَرَ فِيهِ وَنَهى : أَمَرَ فِيهِ بِالصَّلاَةِ وَالصِّيَامِ) . تخصيصهما بالذكر. لأنّهما العمدة، أو لأنّهما أعمّ تكليفا من غيرهما من أفعال الجوارح .

(فَنَامَ رَسُولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله عَنِ الصَّلاَةِ ) . تعديته ب«عن» لتضمينه معنى الغفلة، يجيء في «كتاب الصلاة» في تاسع «باب من نام عن الصلاة أو سها عنها» أنّها كانت صلاةَ الصبح .(6)

(فَقَالَ) أي اللّه تعالى : (أَنَا أُنِيمُكَ ، وَأَنَا أُوقِظُكَ ) ؛ كلاهما بصيغة المعلوم المضارع المتكلّم من باب الإفعال، ومضى في الباب الثاني والثلاثين ما يظهر به معناهما .

(فَإِذَا قُمْتَ) أي من نوم فاتك فيه صلاة مثل هذا النوم. ويعلم منه حكم هذا أيضا . .

ص: 570


1- أي في الحديث 1 من باب البيان والتعريف ولزوم الحجّة .
2- في «ج» : + «على» .
3- أي في الحديث 12 من كتاب العقل والجهل .
4- في «ج» : «الباطن» .
5- آل عمران (3) : 39 .
6- الكافي ، ج 3 ، ص 294 ، ح 9 .

(فَصَلِّ ؛ لِيَعْلَمُوا) أي الاُمّة (إِذَا أَصَابَهُمْ ذلِكَ كَيْفَ يَصْنَعُونَ ، لَيْسَ كَمَا يَقُولُونَ : إِذَا نَامَ عَنْهَا هَلَكَ ) . إشارةٌ إلى بطلان استبعاد عوامّ الناس أن ينام رسول اللّه صلى الله عليه و آله عن صلاة فريضة .

(وَكَذلِكَ الصِّيَامُ) ؛ من تتمّة قول اللّه .

(أَنَا أُمْرِضُكَ ، وَأَنَا أُصِحُّكَ) . استئنافٌ لبيان أنّ حال الصوم مع المرض كحال الصلاة مع النوم، وكلاهما من باب الإفعال بصيغة المعلوم من المضارع المتكلّم .

(فَإِذَا شَفَيْتُكَ فَاقْضِهِ . ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : وَكَذلِكَ إِذَا نَظَرْتَ فِي جَمِيعِ الاْءَشْيَاءِ ، لَمْ تَجِدْ أَحَدا) أي من العُصاة ، ويحتمل المكلّفين .

(فِي ضِيقٍ) . هو تكليف الغافل وتأثيمه على المخالفة، أو تكليف المجبور .

(وَلَمْ تَجِدْ أَحَدا) أي من العصاة .

(إِلاَّ وَلِلّهِ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ) . إشارةٌ إلى أنّه لو كان ضيق كتكليف الغافل أو المجبور جبر جهم بن صفوان(1) أو الأشاعرة، أو أبي الحسين،(2) لم يكن للّه في القيامة إتمام حجّة ولا لوم .

(وَلِلّهِ فِيهِ) . المقصود أنّه مع عدم الضيق ليس فيه تفويض أيضا .

(الْمَشِيئَةُ) . المراد بها ما يشمل الخصال الأربع الاُول من السبع التي ذكرت في أوّل الخامس والعشرين(3) أو اُولاها.

وهذا لدفع أوّل تفويضي المعتزلة كما مضى في شرح أوّل الخامس والعشرين .

(وَلاَ أَقُولُ : إِنَّهُمْ مَا شَاؤُوا) أي كلّ ما شاؤا في وقت أن يصنعوه في ثاني الوقت .

(صَنَعُوا) أي البتّة في ثاني الوقت بدون توقّف على الإذن، يعني ليسوا مستقلّين في القدرة.

وهذا لدفع ثاني تفويضي المعتزلة . .

ص: 571


1- هو جهم بن صفوان السمرقندي رأس الجهميّة، كان ينكر الصفات ويقول بخلق القرآن . قال الذهبي : الضالّ المبدع ، هلك في زمان صغار التابعين، وقد زرع شرّا عظيما، وكانت ولادته سنة 128 هجريّة . ميزان الاعتدال ، ج 1 ، ص 426 ؛ الأعلام للزركلي ، ج 2 ، ص 141 .
2- الظاهر أنّ المراد أبو الحسين البصري المعتزلي كما يظهر من استعمالات المتكلّمين .
3- أي في الحديث 1 من باب في أنّه لا يكون شيء في السماء والأرض إلاّ بسبعة .

(ثُمَّ قَالَ : إِنَّ اللّه َ يَهْدِي وَيُضِلُّ) . استئنافٌ لبيان قوله : «وللّه فيه المشيّة» أي يوفّق ويخذل بدون جبر.

ويحتمل أن يكون المراد: يخلق السعادة والشقاء بدون جبر، كما مضى في أحاديث «باب السعادة والشقاء» .

(وَقَالَ : وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ بِدُونِ سَعَتِهِمْ) أي الهداية والإضلال لا يكون بالجبر، بل مع كمال القدرة ودون السعة .

(وَكُلُّ شَيْءٍ أُمِرَ النَّاسُ بِهِ ، فَهُمْ يَسَعُونَ لَهُ ، وَكُلُّ شَيْءٍ لاَ يَسَعُونَ لَهُ) ؛ بفتح السين المهملة فيهما .

(فَهُوَ مَوْضُوعٌ عَنْهُمْ ، وَلكِنَّ النَّاسَ) أي العصاة، أو أكثر الناس .

(لاَ خَيْرَ فِيهِمْ) ؛ لسوء اختيارهم المخالفةَ مع سعتهم للطاعة .

(ثُمَّ تَلاَ عليه السلام ) من سورة التوبة لتصوير أنّ كلّ شيء لا يسعون له، فهو موضوع عنهم في ضمن مثال .

(«لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَآءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ»(1)) : ضيق في ترك الجهاد .

(فَوُضِعَ عَنْهُمْ) ؛ بصيغة المجهول، وفيه ضمير التكليف؛ أو المعلومِ، وفيه ضمير اللّه . وهذا كلام الإمام لتفسير الآية .

(«مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ» .(2) هذا من الآية وبينه وبين السابق واسطة هي إذا نصحوا للّه ورسوله ، ولم تنقل هنا للإشارة إلى أنّ قوله: «ولا على الذين» عطف على قوله: «ما على المحسنين» لا على سابقه .

(قَالَ : فَوُضِعَ) ؛ بصيغة المجهول أو المعلوم .

(عَنْهُمْ ؛ لاِءَنَّهُمْ لاَ يَجِدُونَ) .2.

ص: 572


1- التوبة (9) : 91 .
2- التوبة (9): 91 _ 92.

الباب الخامس والثلاثون: باب الهداية أنّها من اللّه

الباب الخامس والثلاثون بَابُ الْهِدَايَةِ أَنَّهَا مِنَ اللّه ِ(1)

فيه أربعة أحاديث .

المراد بالهداية هنا التوفيق ، أي فعل أو ترك منه تعالى يعلم تعالى أنّ العبد يختار به الطاعة، أو يمتنع به عن المعصية أي بدون قسر وإلجاء.

وقوله «أنّها» بفتح الهمزة بدل اشتمال للهداية . والمراد بكونها من اللّه أنّها لا يقدر عليها غيره تعالى ، بمعنى أنّ الناصح لفاسق لا يقدر على ما يعلم(2) ذلك الناصح قبله(3) فعله أنّه لو فعله به لاهتدى باختياره البتّة . نعم ، قد يكون ذلك التوفيق من اللّه بنصيحة شخص، ولكنّ النصيحة بدون التوفيق لا يفيد أصلاً، كما في قوله تعالى حكايةً عن نوح في سورة هود : «وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِى إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللّه ُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ»(4) .

الأوّل : (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ(5) السَّرَّاجِ ) . الظاهر _ كما في بعض النسخ _ : عن أبي إسماعيل، فإنّ مضمون هذا الحديث يجيء في «كتاب الإيمان والكفر» في ثاني «باب في ترك دعاء الناس»

ص: 573


1- في الكافي المطبوع : + «عزّوجلّ» .
2- في «ج» : «ما لم يعلم» .
3- في «ج»: «قبل».
4- هود (11) : 34 .
5- في الكافي المطبوع : «عن أبي إسماعيل» .

وفيه: «عن أبي إسماعيل». واسمه عبداللّه بن عثمان،(1) كما يظهر ممّا يجيء في «كتاب الصلاة» في سادس «باب صلاة الحوائج» .(2)

(عَنِ ابْنِ مُسْكَانَ ، عَنْ ثَابِتٍ أَبِي سَعِيدٍ) . الظاهر «عن ثابت أبي سعيد»(3) وهو الموافق لما في «كتاب الإيمان والكفر ».(4) وفي بعض النسخ: «ثابت بن أبي سعيد» .

(قَالَ : قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : يَا ثَابِتُ ، مَا لَكُمْ وَلِلنَّاسِ) ؛ تبعيد، كما يُقال : ما لابن آدم وللفخر .

(كُفُّوا) أي أنفسكم (عَنِ النَّاسِ) أي عن اختلاطهم للإرشاد .

(وَلاَ تَدْعُوا أَحَدا إِلى أَمْرِكُمْ) أي دينكم . المراد النهي عن ذلك في زمن التقيّة .

(فَوَ اللّه ِ) . هذا تسلية لهم، وحاصل التسلية أنّ فائدة دعوتكم إمّا للثواب على العمل الصالح المطلوب للشارع ، وإمّا محض إيمان المدعوّ .

والأوّل منتف في زمن التقيّة ونحوها ، والنهي عن التغرير بالنفس، بل فوق التغرير بالنفس، وهو التغرير بالإمام عليه السلام .

والثاني باطل؛ لأنّه إن علم اللّه فيهم خيرا لأسمعهم البتّة وإن لم تدعوهم، وإن لم يعلم اللّه فيهم خيرا فلا يؤمنوا بدعوتكم، كما في قوله تعالى حكايةً عن نوح في سورة هود : «وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِى إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللّه ُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ» ،(5) وقوله في سورة الرعد : «أَفَلَمْ يَيْئَسْ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللّه ُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعا»(6) ، ففعلكم لهذه الفائدة عبث . وإلى هذا أشار بقوله :

(لَوْ أَنَّ أَهْلَ السَّمَاوَاتِ وَأَهْلَ الاْءَرَضِينَ اجْتَمَعُوا عَلى أَنْ يَهْدُوا عَبْدا يُرِيدُ اللّه ُ ضَلاَلَتَهُ ، مَا .

ص: 574


1- الكافي ، ج 2 ، ص 313 ، ح 2 .
2- الكافي ، ج 3 ، ص 478 ، ح 6 .
3- في «ج» : «عن ثابت بن أبي سعيد» .
4- الكافي ، ج 2 ، ص 213 ، باب في ترك دعاء الناس ، ح 2 .
5- هود (11) : 34 .
6- الرعد (13) : 31 .

اسْتَطَاعُوا). المراد بالاستطاعة القدرة، فعدّي ب«على» في قوله :

(عَلى أَنْ يَهْدُوهُ ؛ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ السَّمَاوَاتِ وَأَهْلَ الاْءَرَضِينَ اجْتَمَعُوا عَلى أَنْ يُضِلُّوا عَبْدا يُرِيدُ اللّه ُ هُدَاهُ ،(1) مَا اسْتَطَاعُوا أَنْ) أي على أن ، أو لأن (يُضِلُّوهُ ، كُفُّوا عَنِ النَّاسِ ، وَلاَ يَقُولُ) . خبر في معنى النهي .

(أَحَدٌ : عَمِّي وَأَخِي وَابْنُ عَمِّي وَجَارِي ؛ فَإِنَّ اللّه َ إِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ خَيْرا ، طَيَّبَ) ؛ بشدّ الخاتمة بصيغة المعلوم، ويحتمل المجهول .

(رُوحَهُ) . كنايةٌ عن خلق السعادة . وقد مرّ في «باب السعادة والشقاء» أنّهما من خلق اللّه .

(فَلاَ يَسْمَعُ مَعْرُوفا) أي مقبولاً في نفس الأمر، وفي عقله .

(إِلاَّ عَرَفَهُ) أي مالَ إليه .

(وَلاَ مُنْكَرا) أي مكروها في نفس الأمر، وفي عقله .

(إِلاَّ أَنْكَرَهُ) أي كرهه، ومال إلى تركه .

(ثُمَّ يَقْذِفُ اللّه ُ) بالتوفيق .

(فِي قَلْبِهِ كَلِمَةً) ؛ هي كلمة التقوى .

(يَجْمَعُ) ؛ بصيغة المعلوم. وفيه ضمير اللّه أو عبد . ويحتمل المجهول .

(بِهَا أَمْرَهُ) أي يتجاوز عن مرتبة الميل إلى الحقّ إلى مرتبة كونه في حاقّ الحقّ، فيجمع متشتّت أمر دينه بذلك .

الثاني : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هَاشِمٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حُمْرَانَ ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ خَالِدٍ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : قَالَ : إِنَّ اللّه َ(2) إِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ خَيْرا ، نَكَتَ) ؛ بالنون والمثنّاة فوق، بصيغة معلوم باب نصر . وأصل النكت أن يضرب بطرف قضيب في الأرض، فيؤثّر فيها . .

ص: 575


1- في الكافي المطبوع : «هدايته» .
2- في الكافي المطبوع : + «عزّوجلّ» .

(فِي قَلْبِهِ نُكْتَةً) ؛ بضمّ النون وسكون الكاف كالنقطة، وهي أثر النكت؛ ونصبها على المفعوليّة . ويحتمل المصدريّة بمسامحة .

(مِنْ نُورٍ) . كنايةٌ عن خلق السعادة .

(وَفَتَحَ مَسَامِعَ قَلْبِهِ) . كنايةٌ عن سماعه للحقّ .

(وَوَكَّلَ بِهِ) ؛ بشدّ الكاف .

(مَلَكا يُسَدِّدُهُ ، وَإِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ سُوءا ، نَكَتَ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةً سَوْدَاءَ ، وَسَدَّ مَسَامِعَ قَلْبِهِ ، وَوَكَّلَ بِهِ شَيْطَانا يُضِلُّهُ) . جميع هذه مع بقاء قدرتهما على الطاعة والعصيان ، وويل لمن قال: كيف هذا وكيف هذا، كما مرّ في «باب الخير والشرّ» .

(ثُمَّ تَلاَ هذِهِ الاْآيَةَ) من سورة الأنعام ؛ بيانا لكون خلق السعادة والشقاء من اللّه :

(«فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلاْءِسْلَ_مِ وَمَن يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِى السَّمَآءِ»(1)) .

الثالث : (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنِ ابْنِ فَضَّالٍ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عُقْبَةَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ أبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام قَالَ : سَمِعْتُهُ يَقُولُ :(2) اجْعَلُوا أَمْرَكُمْ) أي دينكم (لِلّهِ ) أي لثوابه ورضاه .

(وَلاَ تَجْعَلُوهُ لِلنَّاسِ) أي لإظهار الكمال والغلبة على الخصم في الجدال .

(فَإِنَّهُ مَا كَانَ لِلّهِ ) أي ما كان قصد فاعله أن يكون للّه .

(فَهُوَ لِلّهِ ) أي يقبله اللّه ، ويصعد إليه .

(وَمَا كَانَ لِلنَّاسِ ، فَلاَ يَصْعَدُ إِلَى اللّه ِ ، وَلاَ تُخَاصِمُوا النَّاسَ) أي المخالفين (لِدِينِكُمْ) أي لميلهم إلى دينكم .

(فَإِنَّ الْمُخَاصَمَةَ مَمْرَضَةٌ) ؛ بفتح الميم الاُولى وسكون الثانية وفتح المهملة .

ص: 576


1- الأنعام (6) : 125 .
2- في الكافي المطبوع : «عن أبيه ، قال : سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول» بدل «عن أبيه ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام . قال : سمعته يقول» .

ومعجمة، اسم مكان للكثرة .

(لِلْقَلْبِ) أي يكون مرض القلب في المخاصمة كثيرا، فإنّ معنى المخاصمة أن يتجاوز في دعاء أهل الباطل إلى الحقّ حدَّ النصيحة ، وهذا يجعل أهل الباطل أشدّ انهماكا في الباطل ؛ فالمراد بالقلب قلب الناس . ويحتمل أن يكون المراد قلب المخاطبين ، ويؤيّده ما مضى في خامس «باب النهي عن الكلام في الكيفيّة» من قوله : «وتردي صاحبها» .

(إِنَّ اللّه َ تَبَارَكَ وَ(1)تَعَالى) ؛ تسلية لهم ليتركوا اتّباع دواعي المجادلة .

(قَالَ لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه و آله ) في سورة القصص : («إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لَ_كِنَّ اللّهَ يَهْدِى مَن يَشَآءُ»(2)) ؛ أي المراد بالهداية في الموضعين من الآية التوفيق، وهو أن يفعل ما يعلم فاعله أن(3) لو فعله لاختار الموفّق الطاعة بدون جبر، ولا يقدر على هذا غير من بيده ملكوت السماوات والأرض، ولا يعزب عنه مثقال ذرّة، وإذا عجز عنه نبيّه صلى الله عليه و آله ، ولذا دعاه اللّه واُمّته إلى الإعراض إذا سمعوا من المخالفين اللغو فأنتم عنه أعجز .

(وَقَالَ) في سورة النحل : («أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ»(4)) .

ظاهر ذكر هذه الآية هنا أنّ المراد بالإيمان في قوله تعالى : «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لاَآمَنَ مَنْ فِى الاْءَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعا»(5) الإيمان بالاختيار، كما هو ظاهر قوله : «لآمن» ، وظاهر ترتيب الإكراه بالفاء على عدم المشيّة المدلول عليه ب«لو»، فإنّه يدلّ على أنّ جذبك إيّاهم إلى الإيمان مع عدم مشيّة اللّه اختيارهم الإيمان لا يتصوّر إلاّ بإكراهك قلوبهم على الإيمان؛ لاستحالة وقوع ما لم يشأ اللّه تعالى، وهو هنا اختيارهم الإيمان، وأنت لا تقدر على الإكراه لقلوبهم على ذلك، فلا تجاوز في الدعاء إلى الإيمان حدّ المأمور به، ولا تتعب .

ص: 577


1- في الكافي المطبوع : - «تبارك و» .
2- القصص (26) : 56 .
3- في «ج» : «أنّه» .
4- يونس (10) : 99 .
5- يونس (10) : 99 .

نفسك بشدّة الحرص على إيمانهم والأسف على عدمه .

قيل : وهو دليل على القدريّة، فإنّه(1) تعالى لم يشأ إيمانهم أجمعين، وإنّ من شاء إيمانه يؤمن لا محالة ، والتقييد بمشيّة الإلجاء خلاف الظاهر . انتهى .

إن قلت : ينافي هذا ما رواه ابن بابويه في العيون عن عبد السلام بن صالح الهروي قال : سأل المأمون يوما عليّ بن موسى الرضا عليه السلام فقال له : يا ابن رسول اللّه ما معنى قول اللّه عزّ وجلّ : «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لاَآمَنَ مَنْ فِى الاْءَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّه ِ»(2)؟ فقال الرضا عليه السلام : «حدّثني أبي موسى بن جعفر، عن أبيه جعفر بن محمّد، عن أبيه محمّد بن عليّ، عن أبيه عليّ بن الحسين، عن أبيه الحسين بن عليّ، عن أبيه عليّ بن أبي طالب عليهم السلام [قال:] إنّ المسلمين قالوا لرسول اللّه صلى الله عليه و آله : لو أكرهت يارسول اللّه مَن قدرت عليه من الناس على الإسلام لكثر عددنا وقوينا على عدوّنا .

فقال رسول اللّه صلى الله عليه و آله : ما كنت لاقي(3) اللّه عزّ وجلّ ببدعة لم يحدث لي(4) فيها شيئا، وما أنا من المتكلّفين ، فأنزل اللّه تبارك وتعالى : يا محمّد «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لاَآمَنَ مَنْ فِى الاْءَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعا»على سبيل الإلجاء والاضطرار في الدنيا، كما يؤمنون عند المعاينة ورؤية البأس في الآخرة ، ولو فعلت ذلك بهم لم يستحقّوا منّي ثوابا ولا مدحا ، ولكنّي اُريد منهم أن يؤمنوا مختارين غير مضطرّين ليستحقّوا منّي الزُّلفى والكرامة ودوام الخير(5) في جنّة الخُلد «أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ» . وأمّا قوله عزّ وجلّ : «وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّه ِ»[فليس ذلك على سبيل تحريم الإيمان عليها، ولكن على».

ص: 578


1- في «ج» : «في أنّه» بدل من «فإنّه» .
2- يونس (10) : 99 _ 100 .
3- في المصدر : «لألقي» .
4- في المصدر : «إليّ» .
5- في المصدر: «الخلود».

معني أنّها ما كانت لتؤمن إلاّ بإذن اللّه ، و(1)] إذنه أمره لها بالإيمان ما كانت متكلّفة متعبّدة، وإلجاؤها [إيّاها] إلى الإيمان عند زوال التكليف والتعبّد عنها».

فقال المأمون : فرّجت عنّي يا أبا الحسن، فرّج اللّه عنك .(2)

قلت أوّلاً: ظاهر لفظ «آمنوا» والفاء يأبى عن ذلك، وقال تعالى في سورة بني إسرائيل : «مَنْ كَانَ فِى هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِى الاْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً»(3) ، وأخبار الآحاد في الاُصول لا معتبر بها إلاّ لاشتمالها على دليل ونحو ذلك، وفي موضع اعتبارها من الفروع لا يعمل بها إذا عارض ظاهر القرآن .

وثانيا: إنّ المأمون كان معتزليّا، ولذا قال : فرّجت عنّي . ونقل عنه أنّه قال : وجدت أربعة في أربعة : الزهد في المعتزلة إلى آخره ،(4) وهذا نوع مصانعة معه باستعمال لفظ الإلجاء والاضطرار في الرهبة الغالبة عليهم، أو الرغبة المائلة بهم، كما يجيء في «كتاب الحجّ» في ثاني «باب ابتلاء الخلق واختبارهم بالكعبة».(5) وقد أشار إلى المراد بقوله: كما يؤمنون عند المعاينة؛ فإنّ إيمانهم عندها اختياري لهم، وغاية ما نسلّمه أنّهم لا يختارون عدمه؛ لشدّة قوّة الدواعي،(6) ولو كان شدّة الدواعي والعلم بالقبح مخرجا عن القدرة، لكان اللّه غير قادر على القبائح، فيكون صدور الحسن عنه لا باختيار ؛ تعالى عن ذلك .

وممّا يدلّ على أنّ إيمان من يؤمن من الآخرة ليس بالإلجاء الظواهرُ الدالّة على أنّ بعض الكفّار لا يؤمنون في الآخرة أيضا، بل يصيرون كالمنافقين ؛ قال تعالى في سورة الأنعام : «ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا وَاللّه ِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ»(7) ، وقال في سورة .

ص: 579


1- ما بين المعقوفين من المصدر .
2- عيون أخبار الرضا عليه السلام ، ج 2 ، ص 123 ، ح 33 .
3- الإسراء (17) : 72 .
4- في حاشية «أ» : «نقله عنه شارح المقاصد في مبحث الإمامة (منه)» . شرح المقاصد ، ج 2 ، ص 284 .
5- الكافي ، ج 4 ، ص 198 ، ح 2 .
6- في «ج» : «الداعي» .
7- الأنعام (6) : 23 .

المجادلة : «يَوْمَ يَبْعَثُهُمْ اللّه ُ جَمِيعا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَىْ ءٍ»(1) ، ويؤنس بذلك أنّه قال في سورة المؤمن : «فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللّه ِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا»(2) ولم يقل: فلمّا رأوا بأسنا آمنوا .

وثالثا : إنّ الحديث معلّل؛ لأنّه إن اُريد بالإكراه في قولهم : «لو أكرهت» الدعاء إلى الإيمان بالسيف ونحوه، فلا يصحّ نفيه بقوله : «أفأنت» ، لأنّه كان يقع من النبيّ صلى الله عليه و آله . وإن اُريد به إلجاء القلب وقلبه إلى الإيمان، فلا يصحّ قوله : «ما كنت لاقي اللّه » إلى آخره ؛ لأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله كان يعلم أنّه بيد مقلّب القلوب تعالى شأنه، لا غير . وأيضا لو كان المراد بالأمر في تفسير الإذن التكليف _ كما هو رأي المعتزلة _ لصار مضمون الآية كاللغو .

إن قلت : هل فيه _ على تقدير صحّة الرواية، وعدم كونه مصانعةً _ دلالةٌ على رأي المعتزلة أنّه ليس للّه طريق إلى إيمان الكافر إلاّ القسر والإلجاء ؟

قلت : لا ، إلاّ بالمفهوم، وهو غير مراد؛ لدلالة الأدلّة العقليّة والأحاديث المتواترة معنى على خلافه، كما مرّ في شرح ثاني «باب الاستطاعة» .

(ذَرُوا النَّاسَ ؛ فَإِنَّ النَّاسَ أَخَذُوا عَنِ النَّاسِ ) أي عن كبرائهم، وهم أئمّة الضلالة، أو عن أمثالهم من المخالفين للحقّ .

(وَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمْ عَنْ رَسُولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله ) أي بما جاء به من محكمات القرآن الناهية عن اتّباع الظنّ، أو بقوله في أهل بيته: «وأنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليَّ الحوضَ» وأمثاله الكثيرة المسلّمة عند الفريقين ؛ فالمأخوذ عن أهل البيت مأخوذ عنه عليه السلام .

(إِنِّي سَمِعْتُ أَبِي عليه السلام يَقُولُ : إِنَّ اللّه َ _ عَزَّ وَجَلَّ _ إِذَا كَتَبَ عَلى عَبْدٍ أَنْ يَدْخُلَ فِي هذَا الاْءَمْرِ ، كَانَ أَسْرَعَ إِلَيْهِ مِنَ الطَّيْرِ إِلى وَكْرِهِ) . كنايةٌ عن قبوله هذا الأمر آخرا أشدّ قبول . ووكر الطائر بفتح الواو وسكون الكاف ومهملة: العُشُّ له . .

ص: 580


1- المجادلة (58) : 18 .
2- المؤمن (40) : 84 _ 85 .

الرابع : (أَبُو عَلِيٍّ الاْءَشْعَرِيُّ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَحْيى ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ ، عَنْ فُضَيْلِ بْنِ يَسَارٍ ، قَالَ : قُلْتُ لاِءَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : نَدْعُو النَّاسَ إِلى هذَا الاْءَمْرِ؟). سؤالٌ عن إفشاء الدعوة وعدم المبالاة .

(فَقَالَ : لاَ) ؛ وجهه وجوب التقيّة .

(يَا فُضَيْلُ ، إِنَّ اللّه َ) ؛ تسلية له .

(إِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ خَيْرا ، أَمَرَ مَلَكا فَأَخَذَ بِعُنُقِهِ ، فَأَدْخَلَهُ فِي هذَا الاْءَمْرِ طَائِعا أَوْ كَارِها) . عبارة عن التوفيق .

(تَمَّ كِتَابُ(1) التَّوْحِيدِ مِنْ كِتَابِ الْكَافِي ، وَيَتْلُوهُ كِتَابُ الْحُجَّةِ فِي الْجُزْءِ الثَّانِي مِنْ كِتَابِ الْكَافِي تَأْلِيفِ الشَّيْخِ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ يَعْقُوبَ الْكُلَيْنِيِّ رَحِمَه اللّه ُ تَعَالى(2)) .

من تصرّفات الناسخين .

الحمد للّه على التوفيق لإتمام شرح الجزء الأوّل من الكافي، ونسأله التوفيق لإتمام شرح كلّه حقَّ الشرح . وكان الفراغ منه على يد مؤلّفه في سلخ ذي الحجّة سنة سبع وخمسين وألف هجريّة [1057] في مكّة شرّفها اللّه تعالى ، وصلّى اللّه على محمّد وآله وصحبه الأخيار .(3) .

ص: 581


1- في الكافي المطبوع : + «والعقل والعلم و» .
2- في الكافي المطبوع : «رحمة اللّه عليه» .
3- في حاشية «أ» : «قد خطّت هذه النسخة من نسخة الشارح دام ظلّه، اُمّ النسخ ، وقوبلت معها، وصحّحت بعد الوسع والطاقة في مجالس آخرها يوم الثلاثاء السادس من شهر محرّم الحرام من شهور سنة 1086 ستّ و ثمانين بعد الألف ، الحمد للّه ربّ العالمين والصلاة على محمّد و آله أجمعين» .

ص: 582

فهرس المطالب

كتاب التوحيد

الباب الأوّل: باب حدوث العالم وإثبات المحدث............... 11

الباب الثاني: باب إطلاق القول بأنّه تعالى شيء............... 77

الباب الثالث: باب أنّه تعالى لا يعرف إلاّ به............... 97

الشرح............... 99

الباب الرابع: باب أدنى المعرفة............... 105

الباب الخامس: باب المعبود............... 109

الباب السادس: باب الكون والمكان............... 118

الباب السابع: باب النسبة............... 139

الباب الثامن: باب النهي عن الكلام في الكيفيّة............... 147

الباب التاسع: باب في إبطال الروءية............... 158

الباب العاشر: باب النهي عن الصفة بغير ما وصف به نفسه تعالى............... 181

الباب الحادي عشر: باب النهي عن الجسم و الصورة............... 194

الباب الثاني عشر: باب صفات الذات............... 207

الباب الثالث عشر: باب آخر و هو من الباب الأوّل............... 216

الباب الرابع عشر: باب الإرادة أنّها من صفات الفعل، و سائر صفات الفعل............... 219

الشرح............... 230

الباب الخامس عشر: باب حدوث الأسماء............... 237

ص: 583

الباب السادس عشر: باب معاني الأسماء و اشتقاقها............... 255

الباب السابع عشر: باب آخر و هو من الباب الأوّل إلاّ أنّ فيه زيادة و هو.................. 271

الباب الثامن عشر: باب تأويل الصمد............... 297

الشرح............... 298

الباب التاسع عشر: باب الحركة و الانتقال............... 301

الباب العشرون: باب العرش و الكرسيّ............... 315

الباب الحادي والعشرون: باب الروح............... 335

الباب الثاني والعشرون: باب جوامع التوحيد............... 338

الشرح............... 350

الباب الثالث والعشرون: باب النوادر............... 397

الباب الرابع والعشرون: باب البداء............... 408

الباب الخامس والعشرون: باب في أنّه لا يكون شيء في الأرض ولا في السماء إلاّ بسبعة............... 435

الباب السادس والعشرون: باب المشيئة و الإرادة............... 446

الباب السابع والعشرون: باب الابتلاء و الاختبار............... 462

الباب الثامن والعشرون: باب السعادة و الشقاء............... 464

الباب التاسع والعشرون: باب الخير و الشرّ............... 478

الباب الثلاثون: باب الجبر و القدر و الأمر بين الأمرين............... 483

الباب الحادي والثلاثون: باب الاستطاعة............... 521

الباب الثاني والثلاثون : باب البيان و التعريف و لزوم الحجّة............... 557

الباب الثالث والثلاثون : الباب الثالث والثلاثون............... 566

الباب الرابع والثلاثون : باب حجج اللّه على خلقه............... 568

الباب الخامس والثلاثون : باب الهداية أنّها من اللّه ............... 573

ص: 584

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.