الشافي في شرح الكافي المجلد 1

هوية الكتاب

بطاقة تعريف: القزویني، خلیل بن الغازي، 1001 -1089ق.، توشیحگر

عنوان العقد: الکافی .شرح

عنوان المؤلف واسمه: الشافي در شرح اصول الکافي/ خلیل القزویني؛ تحقیق محمدحسین الدرایتي؛ [برای] مكتبة ومتحف ومركز التوثيق التابع للمجلس الإسلامي.

تفاصيل النشر: قم: موسسة دارالحدیث العلمیة والثقافیة، مرکز للطباعه والنشر، 1430ق -= 1388 -

مواصفات المظهر: ج.

فروست : مرکز بحوث دارالحدیث؛ 185

الشروح والحواشی علی الکافی؛ 1

مجموعه آثار الموتمر الدولی الذکری الشیخ ثقه الاسلام الکلینی؛ 1

شابک : دوره: 978-964-493-399-8 ؛ 70000 ریال: ج.1: 978-964-493-400-1

لسان : العربية.

ملحوظة : تم نشر هذا الكتاب من قبل ناشرين مختلفين في سنوات مختلفة.

موضوع : کلینی، محمد بن یعقوب - 329ق. . الکافی -- نقد و تفسیر

موضوع : احادیث شیعه -- قرن 4ق.

معرف المضافة: درایتی، محمدحسین، 1343 -

معرف المضافة: کلینی، محمد بن یعقوب - 329ق. . الکافی. شرح

معرف المضافة: ایران. مجلس شورای اسلامی. کتابخانه، موزه و مرکز اسناد

معرف المضافة: دار الحدیث. مرکز چاپ و نشر

تصنيف الكونجرس: BP129/ک8ک20216 1388

تصنيف ديوي: 297/212

رقم الببليوغرافيا الوطنية: 1852865

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

تصدير

لا يزال الكافي يحتلّ الصدارة الاُولى من بين الكتب الحديثية عند الشيعة الإمامية ، وهو المصدر الأساس الذي لا تنضب مناهله ولا يملّ منه طالبه ، وهو المرجع الذي لا يستغني عنه الفقيه ، ولا العالم ، ولا المعلّم ، ولا المتعلّم ، ولا الخطيب ، ولا الأديب . فقد جمع بين دفّتيه جميع الفنون والعلوم الإلهيّة ، واحتوى على الاُصول والفروع . فمنذ أحد عشر قرنا وإلى الآن اتّكأ الفقه الشيعي الإمامي على هذا المصدر لما فيه من تراث أهل البيت عليهم السلام ، وهو أوّل كتاب جمعت فيه الأحاديث بهذه السعة والترتيب . وبعد ظهور الكافي اضمحلّت حاجة الشيعة إلى الاُصول الأربعمائة ، لوجود مادّتها مرتّبة ، مبوّبة في ذلك الكتاب .

ومن عناية الشيعة الإمامية بهذا الكتاب واهتمامهم به أنّهم شرحوه أكثر من عشرين مرّة ، وتركوا ثلاثين حاشية عليه ، ودرسوا بعض اُموره ، وترجموه إلى غير العربية ، ووضعوا لأحاديثه من الفهارس ما يزيد على عشرات الكتب ، وبلغت مخطوطاته في المكتبات ما يبلغ على ألف وخمسمائة نسخة خطيّة ، وطبعوه ما يزيد على العشرين طبعة .

ومن الموسوف أنّ الكافي وشروحه وحواشيه لم تحقّق تحقيقا جامعا لائقا به ، مبتنيا على اُسلوب التحقيق الجديد ، على أنّ كثيرا من شروحه وحواشيه لم تطبع إلى الآن وبقيت مخطوطات على رفوف المكتبات العامّة والخاصّة ، بعيدة عن أيدي الباحثين والطالبين.

هذا ، وقد تصدّى قسم إحياء التراث في مركز بحوث دار الحديث تحقيق كتاب الكافي ، وأيضا تصدّى في جنبه تحقيق جميع شروحه وحواشيه - وفي مقدّمها ما لم يطبع - على نحو التسلسل.

ومنها الشافي تأليف برهان الفضلاء خليل بن غازي القزويني، المعروف بالمولى

ص: 5

خليل القزويني، وهو أحد العلماء المشهورين في العصر الصفوي.

ولقد ترك آثارا كثيرة ومتنوّعة دلّت على عظم شخصيّته وجامعيّتها، فقد كتب في التفسير والحديث والكلام والفقه والاُصول والنحو والمنطق وغيرها.

لقد أطراه الكثير من كبار علماء عصره ووصفوه بأوصاف تدلّ على عظمته، ومنها ما قال في حقّه الحرّ العاملي في أمل الآمل: «فاضل، عالم، حكيم، متكلّم، محقّق، مدقّق، فقيه محدّث، ثقة ثقه، جامع للفضائل، ماهر».

إنّ تولّيه مسؤولية إدارة الروضة المقدّسة للسيّد عبد العظيم الحسني وله من العمر أقلّ من ثلاثين عاما دليلٌ على عظيم استعداده و عبقريّته ونبوغه المبكّر.

وهو أخباري متشدّد مفرط، حمل لواء الأخبارية على عاتقه فكان ذلك سببا في التفاف الكثير من الناس حوله، كما كان سببا في مخالفة الكثيرين له.

ويعتبر الشافي من آثار ملا خليل المهمّة، وقد شرع في تأليفة في عام (1057ق) في جوار الحرم الإلهي الآمن، وكان لذلك التأليف تأثير جلّي في فهم أحاديث الكافي حتّى نقل عنه أو تأثّر به الكثير ممّن شرح أحاديث الكافي أو تعرض لها بعده.

وما عثر عليه من هذا الأثر القيّم لحدّ الآن هو إلى نهاية كتاب الجنائز من كتاب الكافي، ولم نعثر على بقيته حتّى يومنا هذا.

وتعدّ هذه الطبعة، الطبعة الاُولى لهذا الكتاب حيث لم يحقّق قبل هذا ولم يطبع من قبل. ولا يعدّ هذا العمل دفاعا عن أفكاره وآرائه الشاذّة، ولكن اُريد عرض أفكاره الشخصيّة ومعرفة مدى تأثيرها في قلوب من عاصرها، حيث كان الكثير من نظرياته و آرائه مورد نقد المفكّرين والعلماء الآخرين في زمانه والأزمنة المتأخرّة عنه.

واليوم يسرّ مركز بحوث دار الحديث أن يصدر هذا السفر القيّم والتراث الخالد، ويقدّمه هديّةً لمكتبة أهل البيت عليهم السلام. نسأل اللّه تعالى أن يجعل هذا الجهد ذخرا لنا يوم لا ينفع مال ولا بنون، إنّه سميع الدعاء.

قسم إحياء التراث

مركز بحوث دار الحديث

ص: 6

مقدّمة التحقيق

إشارة

إنّ المولى خليل القزويني بتأليفه شرحين مبسوطين على الكافي جعل اسمه إلى جنب كتاب الكافي وخلّده كما خلّد ذلك الأثر القيّم، فقد صرف شطرا مهمّا من عمره الشريف في شرح أحاديث الكافي، فكانا من آثاره القيّمه والخالدة التي خلّفها بعده؛ الصافي باللغة الفارسيّة، والشافي باللغة العربيّة أثران خالدان لهذا العالم الكبير تمّ تأليفهما في العصر الصفوي.

وفي هذه المقدّمة نطرح 11 فصلاً نذكر فيها حياته الشخصيّة والعلمية ونطرح أفكاره وآثاره، وسوف نعرف الشافي ونعرف بعض نسخه الخطّية.

1. حياته

1/1. اسمه و نسبه

هو خليل بن غازي القزويني، يكنّى ب «أبي حامد»، و يعرف ب «ملاّ خليلا» و «خليلاي القزويني» و «ملاّ خليل القزويني»، و يلقّب ب «برهان العلماء».(1) ونقلوا بأنّ نقش خاتمه: «العِلْمُ خليلُ المؤمن»،(2) كما وذكر بعضهم أنّ اسمه «خليل اللّه».(3)

وقد ضمّت مدينة قزوين ذلك الزمان عددا من العلماء باسم «ملاّ خليل» وهم: الملاّ خليل بن محمّد زمان القزويني (كاتب رسالة إثبات حدوث الإرادة) في سنة 1148ق،(4)

ص: 7


1- . جامع الرواة، ج 1، ص 298.
2- . برگى از تاريخ قزوين، لمؤلّفه حسين المدرّسي الطباطبايي، ص 206 الهوامش.
3- . تتميم أمل الآمل، ص 60؛ الذريعة، ج 22، ص 351.
4- . الذريعة، ج 1، ص 88 .

الملاّ خليل بن حاجي بابا القزويني، المعروف ب «زركش»(1)، وخليل بن محمّد أشرف االقائني الأصفهاني المتوفّي سنة (1136ق)، وكان قد سكن قزوين،(2) وسيّد خليل

القزويني، صاحب تفسير سيّد خليل، وكان حيّا في سنة (1239ق).(3)

2/1. ولادته ووفاته

ولد ملاّ خليل القزويني في الثالث من شهر رمضان سنة 1001ق في مدينة قزوين، وتوفّي في نفس المدينة في سنة 1089ق وبلغ عمره الثمانية والثمانين عاما.(4)

3/1. أساتذته

بناءً على ما صرّح به الأفندي أنّ الملاّ خليل درس في أوائل سنّة على الشيخ بهاء الدين محمّد العاملي المعروف بالشيخ البهائي (م 1030ق)، والسيد مير محمّد باقر الإسترآبادي المعروف ب «ميرداماد» (م 1041ق). وقد نقل المصنّف في هذا الشرح الذي بين يديك عند شرح حديث «جنود العقل» مطلبا عن المرحوم الشيخ البهائي بهذا التعبير: «اُستاذي شيخ بهاء الدين محمّد رحمه اللّه تعالى».

وبعد ذلك ثنى ركبتيه للتأدّب وتعلّم العلوم على يدي المولى الحاج محمود الرناني،(5) وبعدها قرأ الحاشية القديمة للملاّ جلال الدوّاني على شرح تجريد القوشچى الموسوم ب «شرح التجريد» عند المولى الحاج حسين اليزدي في مدينة مشهد المقدّسة، وكان ممّن حضر معه في ذلك الدرس رفيقه «خليفه سلطان» والذي سيأتي ذكره قريبا.

وكان أحد أستاذته أيضا الأمير أبو الحسن القائني المشهدي، وقد جمع الملاّ خليل

ص: 8


1- . تتميم أمل الآمل، ص 146.
2- . برگى از تاريخ قزوين، ص 205 - 206 الهوامش.
3- . فهرست نسخه هاى خطّى كتابخانه مجلس شوراى اسلامى، ج 35، ص 262.
4- . رياض العلماء، ج 2، ص 262.
5- . نسبة إلى «رنان» وهي قرية من قرى أصفهان. اُنظر: مراصد الأطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع، ج 2، ص 635؛ معجم البلدان، ج 3، ص 735. وقد نسب إلى هذه المنطقة جماعة من محدّثي القرن السادس والسابع.

القزويني في أيّام إقامته في مكّة المكرّمة حواشي القائني على كتاب الكافي ودوّنها.(1)

ولم يذكر في المصادر من أساتذته غير هولاء الأربعة، وقد غُفل عن اُستاذه الذي يمكن أن يأخذ الملاّ خليل عنه تعاليمه وآراءه وتأثّر به في مخالفة الفقهاء والمجتهدين، فإنّ ما ذكر من أساتذته الأربعة لم تكن لديهم هكذا أفكار، ويحتمل أنّ بالتأمّل ودقّة النظر في مؤلّفاته يمكن معرفة أساتذة آخرين له.

4/1. تلامذته

إنّ الكثير من العلماء الأعلام ملأوا كأس علومهم ومعرفتهم عند الملاّ خليل القزويني، وقطفوا محصولهم، وجمعوا بيدر الفضل والأدب من فضله وأدبه، وإليك أسماء بعض تلامذته، وهم:

1. الأمير محمّد مؤمن بن محمّد زمان الطالقاني.

2. أخوه الملاّ محمّد باقر بن غازي القزويني.

3. ابنه أحمد بن خليل القزويني.

4. ابنه أبوذرّ بن خليل القزويني.

5. ابنه المولى سلمان بن خليل القزويني.

6. الحاج محمّد تقي الدهخوارقاني.

7. المولى محمّد باقر بن الحافظ كيجي بيك التبريزي.

8 . المولى عليّ أصغر بن المولى بن محمّد يوسف القزويني.

9. المولى رفيع الدين محمّد بن فتح اللّه الواعظ القزويني.

10. المولى محمّد محسن بن نظام الدين القرشي الساوجي.

11. المولى محمّد تقي بن حيدر عليّ الزنجاني.

12. المولى محمّد أمين الوقاريّ الطبسي بن مولانا عبد الفتّاح.

ص: 9


1- . رياض العلماء، ج 2، ص 266.

13. المولى محمّد يوسف بن پهلوان صفر القزويني.

14. المولى مهدي بن حاج عليّ أصغر القزويني.

15. المولى محمّد مؤمن بن شاه قاسم السبزواري.

16. المولى أبو الوفاء بن محمّد يوسف المشهور بالقاضي القزويني.

17. المولى محمّد صالح بن محمّد باقر الروغنيّ القزويني.

18. المولى عاشور بن محمّد التبريزي، الذي ألّف كتاب خلّة المؤمنين في سنة

1063ق باسم ملاّ خليل.(1)

5/1. تولّيه أوقاف الرَّيّ

عُيّن الملاّ خليل مدرّسا في الروضة المقدّسة لشاه عبد العظيم الحسيني وتولّى أوقافها وكان في سنّ السابعة والعشرين من عمره الشريف، وقد نصّبه على ذلك رفيقه الدراسي «خليفه سلطان» الذي حصل على وزارة السلطان عبّاس. ولكن بعد مدّة من تسلّمه هذه الوظيفة عزل منها، وعيّن مكانه المولى نظام الدين القرشي الساوجي وذلك في حدود (1040ق).

ويظهر من بعض ما ذُكر في حياة بعض المؤلّفين أنّ سبب عزله من هذا المنصب هو حكمه بحرمة صلاة الجمعة.(2)

فقد ذكر الأفندي في بيان أحواله: أنّه قدس سره كانت له مع حاكم طهران وقزوين قصص أحداث كثيرة أدّت إلى عدم توافقه مع حكّام الريّ وطهران أثناء تولّيه أوقاف الريّ.

6/1. هجرته إلى مكّة

لمّا عزل الملاّ خليل من منصب تولية الروضة المقدّسة لحضرة عبد العظيم الحسني عليه السلام هاجر إلى مكّة المكرّمة، وأقام في تلك البلدة الطيّبة عدّة سنوات، ولكن

ص: 10


1- . تراجم الرجال للسيّد أحمد الحسيني، ج 1، ص 258.
2- . طبقات أعلام الشيعة، القرن 11ق، ص 204.

كان مضطربا في معيشته هناك، وقد نقلت كتب التراجم وقوع مناظرات متفرقة بين الملاّ خليل وعلماء آخرين من الشيعة والسنّة في مسائل مختلفة.

وقد نقل الشيخ الحرّ العاملي أنّه في سفره الأوّل إلى مكّة المكرّمة التقى بالملاّ خليل وكان مشغولاً بكتابة حاشية على تفسير مجمع البيان.(1)

وكتب عبد الحيّ الرضوي في كتاب حديقة الشيعة(2) ضمن نقله لأوضاع الحجّ: أنّ حكّام مكّة إذا صادف عيد الأضحى عندهم يوم الجمعة يسمّونه الحجّ الأكبر، وحينئذٍ تكون لهم منافع كثيرة، ولذلك نراهم لو أنّ عيد الأضحى صادف يوم السبت يعلنون العيد يوم الجمعة، وكان هذا أمرا مشكلاً للشيعة؛ لأنّهم إمّا يتابعون الحكّام وأبناء العامة، وإما يبقى حجّهم ناقص ولا يستطيعون الإحلال من إحرامهم. نقل عبد الحيّ الرضوي عن والده: أنّ ملاّ خليل القزويني حجّ وطرحت هذه المشكلة، فلم يتابعهم في أمرهم، لكنّهم لمّا عرفوا ذلك أصدروا حكم الإعدام في حقّه، ولكنّ الملاّ خليل اختفى في تنّور ونقل إلى نقطة من نقاط الحجاز، وبقي هناك إلى الموسم القادم، فلمّا جاء الموسم الجديد جاء بهيئة حطّاب يحتطب الشوك من الصحراء ويحمله مع قافلة حتّى دخل مكّه وأدّى فريضة الحجّ ورجع.(3)

7/1. رجوعه إلى قزوين

لقد رجع الملاّ خليل إلى قزوين بعد إقامته لعدّة سنوات في مكّة المكرّمة، وبقي في قزوين إلى آخر عمره الشريف مشغولاً بالتدريس والتأليف، وقد فقد بصره في آخر عمره، وفي سنّ الثامنة والثمانين ودّع هذه الدار الفانية وقضى نحبه.

ص: 11


1- . أمل الآمل، ج 2، ص 112.
2- . هذا الكتاب غير كتاب حديقة الشيعة المنسوب لملاّ أحمد الأردبيلي، ولم تصله يد الطبع والنشر، نعم، عرفت له نسخة خطّية محفوظة في مكتبة آية اللّه السيّد المرعشي برقم 1124. اُنظر: فهرست نسخه هاى خطى كتابخانه آية اللّه مرعشى، ج 3، ص 295 - 297.
3- . حجّاج شيعى در دوره صفوى، رسول جعفريان المطبوع في مجلّه ميقات حجّ، ش 4، ص 1372 ص 117.

ومن الآثار الباقية لملاّ خليل في قزوين مدرسة في محلّة آخوند قزوين، وتعرف ب «مدرسة آخوند» أو «مدرسة ملاّ خليلا».(1)

8/1 . مدح الشعراء له

لقد أنشد شعراء قزوين قصائد متعدّدة في مدح ملاّ خليل القزويني، ومن جملة تلك القصائد قصيدة نظمها الشاعر إبراهيم سالك القزويني،(2) ومطلعها:

قزوين كه جنانْ صفت جميل است *** از دولت حضرت خليل است

گر مرتبه جليل دارد *** از موهبت خليل دارد(3)

9/1. مزاره ومدفنه

فارق المترجم الحياة سنة 1089 - كما أسلفنا - ودفن في محلّ تدريسه «مدرسة خليلا» بناء على وصيّته، وفي نفس هذه السنة توفّي تلميذه الملاّ رفيعا أيضا، وقد أرّخ

أحد الشعراء تأريخ وفاتهما قائلاً:

دُرّ درياى دين مولا خليلا *** چو نور از ديده مردم نهان شد

يگانه گوهر بحر معانى *** رفيعا واعظ دهر از ميان شد

پى تاريخ شان غوّاص دل گفت *** دو دُرّ بيرون زيك درج جهان شد(4)

ودفن إلى جنب قبر ملاّ خليل ثلاثة من أولاده، وهم: سلمان وأحمد وأبوذرّ.

وكانت تلك المدرسة في ذلك العصر محلّ اجتماع كبار العلماء الأعلام، أمثال: الفيض الكاشاني، والشيخ الحرّ العاملي، وملاّ رفيعا الواعظ، وآقا رضي، وغيرهم، ولازالت مدرسته تحت اختيار مؤسّسة «ايران شناسى» بقزوين.

ص: 12


1- . دائرة المعارف تشيّع، ج 7، ص 248.
2- . لمعرفة حياة هذا الشاعر راجع: فرهنگ سخنوران، خيّامپور، ج 1، ص 430.
3- . دايرة المعارف تشيّع، ج 7، ص 248.
4- . عبارة «دو دُرّ بيرون زيك درج جهان شد» يطابق بحساب الأبجد عام 1089، وهو تاريخ وفات ملاّ خليل و ملاّ رفيعا.

وصفت بناية مقبرة الملاّ خليل في كتاب «بناهاى آرامگاهى» - الذي هو عبارة عن دائرة معارف البنايات التاريخيّة الإيرانيّة زمن الدولة الإسلاميّة - بما يلي:

از محوّطه ميدان محلّه آخوند، از كوچه اى كه به طرف جنوب غربى مى رود، به فاصله 50 - 60متر، به كوچه باريكى مى توان رسيد كه به جانب غرب امتداد دارد. در سر دو نبشى اين كوچه، ورودى مقبره مرحوم مبرور مولا خليلا «طيّب اللّه رمسه» متوفّاى سال 1089 ق واقع شده است. اين آرامگاه داراى دو در بزرگى است و حياط متوسطى با ديوار آجرى دارد. امروزه اين محوّطه هيچ گونه بنايى ندارد. در انتهاى جنوبى حياط، چند مزار ديده مى شود كه يكى آرامگاه مرحوم مولا خليلا و سه قبر ديگر، از آنِ فرزندان آن مرحوم به نام سلمان، احمد و ابوذر است. اين محوّطه همچنان كه معلوم است، سابقا مدرسه و جايگاه تدريس مرحوم مولا خليلا بوده كه اكنون بناهاى آن از بين رفته است.(1)

وفي السنوات الأخيرة عمّرت هذه المدرسة والمقبرة تعميرا بسيطا.

2. خصوصيّاته العلميّة والروحيّة

يعتبر ملاّ خليل أحد كبار علماء القرن الحادي عشر، ومن شيوخ المحدّثين والفقهاء، وأحد أبرز علماء الأخباريّين في ذلك الزمان. وقد ذكرت جزئيّات حياته في أغلب الكتب التي اُلّفت في عصره، ولذا فإنّنا نكتفي بنقل خصوصيّاته ومزاياه الواردة في تلك الكتب وستغنينا عمّا نقلته بعض الكتب المتأخّرة وتعرّضت لأحواله وحياته الشخصيّة والعلميّة.

1/2. عالم لا نظير له

لقد مُدح ملاّ خليل من قِبَل معاصريه وأطروه بألفاظ وألقاب مختلفة تدلّ على علوّ مقامه العلمي، وكانت أفكاره وآراؤه محلّ توجّه أنظار العلماء والفضلاء في ذلك الزمان، فكان يلقّب ب «رأس فقهاء الإماميّة، ورئيسهم اُسوتهم، أو قدوة علماء الإثني

ص: 13


1- . بناهاى آرامگاهى، مركز تحقيقات الثقافة والفنون الإسلامية، بتقويم محمّد مهدي عقابي، ص 40 نقل ذلك من كتاب «مينودر يا باب الجنّه قزوين» للسيّد محمّد علي گلريز القزويني، ج 1، ص 717.

عشريّة»،(1) وعبّر عنه بعضهم بأنّه: «فاضل عالم، حكيم متكلّم محقّق مدقّق، فقيه محدّث، ثقة ثقة، جامع للفضائل، ماهر معاصر».(2) وقال آخر: «المولى الكبير الجليل، مولانا خليل بن الغازي القزويني، فاضل عالم، متكلّم اُصولي، جامع دقيق النظر، قويّ الفكر، من أجلّة مشاهير علماء عصرنا، و أكمل أكابر فضلاء دهرنا».(3) وأمثال ذلك.

2/2. مناظرته

كانت إحدى مناظرات ملاّ خليل مع العلماء مناظرته مع السيّد عليّ خان بن خلف المشعشعي الحويزي، وقد نقل هذه المناظرة السيّد عليّ خان في الباب الثالث من كتابه الموسوم ب «نكت البيان وأدب الأعيان»،(4) كما أن المرحوم الخياباني نقلها في وقائع شهر المحرّم من كتابه وقائع الأيام، ونصّها كالآتي:

فى ذكر مباحثات جرت بيننا و بين بعض الفضلاء من أهل زماننا أو ممّن تقدّم علينا. فمن ذلك ماجرى بيني و بين الشيخ العالم الفاضل العامل الكامل الملاّ خليل القزوينى، و قد اجتمعنا معه في مجلس جمع جماعة من أهل الفضل و غيرهم، و كنت قد بلغنى أنّه يقول بالوعيد .

فقلت له : بلغني أنّ شيخنا يقول بالوعيد أو يميل إليه .

فقال : و ما الذي يمنع عن ذلك ؟

فقلت : الموانع كثيرة، لكنّا نطلب منك الدليل عليه .

فقال : الدليل أنّ اللّه تعالى وعد و توعّد و قوله الحقّ و الصدق، فإذا لم يعاقب المجرم على جرمه كان قد أخلف ما توعّد به، فكما أنّه لم يجز أن يخلف وعده إذا وعد بالإحسان و الثواب، فلم يجز أن يخلف توعّده إذا توعّد بالإساءة و العقاب، فنكون قد نسبنا اللّه تعالى إلى الكذب؛ تعالى اللّه عن ذلك.

ص: 14


1- . قصص الخاقاني، لولي قلى بن داود قلي شاملو، ج 2، ص 36.
2- . أمل الآمل، شيخ محمّد حسن الحرّ العاملي، ج 2، ص 112.
3- . المصدر الساقق مع الترجمة.
4- . الذريعة، ج 24، ص 303.

و دليل آخر من مفهوم الآية الكريمة : «ذ لِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّه َ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ»(1) فإنّه نفى الظلم عن نفسه جلّ و تعالى، و معنى الظلم ترك ما يجب وَ ينبغي فعله، فإذا فعل الفاعل شيئا لم يجب أن يفعل يقال: ظلما؛ فلهذا نفى عن نفسه أنّ ما فعله بهم ليس بظلم، بل تسبّب ما كسبت أيديهم و وجوب المكافاة .

فأجبتُه: أمّا الدليل الأوّل فلم يلزم من تركه للتّوعد الخلف؛ فإنّ العبد قد يفعل فعلاً يرضى اللّه به عنه، فيعفو عنه، أو يندم فيتوب اللّه عليه، و إذا لم تجوّزوا العفو و لاقبول التوبة فقد خالفتم القرآن بوروده بقبول التوبة و بالعفو عن الذنوب في مواضع كثيرة، و أغريتم المسيء بترك التوبة إذا علم أنّ اللّه لم يعف، و نفيتم عن اللّه تعالى صفة العفو التي هي من أحسن صفاته، و لأنّ العفو لايكون إلاّ عن ذنب، فإذا أردتم إثباتها له لزمكم القول بالعفو عن إساءة المسيء، و يلزمكم نفي قبول التوبة. و إذا قلتم بأنّ اللّه تعالى عفوّ و لم يعف عن صاحب الذنب، فمن أين تحصل صفة العفو له؛ لأنّ المحسن لايحتاج إلى عفو. و أمّا تارك الوعيد فلا يقال له: مخلف، كما إذا أخلف الوعد؛ لأنّ مخلف الوعد مذموم، و مخلف الوعيد ممدوح؛ لأنّه صفح و عفى، و هذا أيضا مشهور عند العرب، قال الشاعر :

و إنّي و إن أوعدته و وعدته *** لمخلفٌ إيعادي و مُنجزٌ موعدي

فهو يمدح نفسه بخلف إيعاده و بإنجاز موعده .

و أمّا الدليل الثاني فإنّ قوله تعالى : «ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أيْديكُمْ» يعنى إنّ هذا العقاب الذي عاقبناكم به إنّما كان بسبب فعلكم السيّئات و ارتكاب هذه الخطايا، فإذا جازيناكم و عاملناكم بالانتقام لم نكن ظالمين لكم، بل كنتم مستحقّين لذلك و جازيناكم بما فعلهم؛ فإنّ نفي الظلم عنه بسبب أنّ ما فعله بهم على خطائهم ليس بظلم، و العقل يشهد بذلك؛ فإنّك إذا جازيت مسيئا على إساءته قالت الناس: لم يكن ظالما، و إذا جازيت المحسن أو من لم يقترف سيّئة ماساءته، يقولون: قد ظلم، و هذا أمر بديهيّ، و لاحاجة به إلى تأويل الظلم بهذا التأويل البعيد، فانقطع و لم يحرجوا به، فلم أدر أنّه اعترف أو مراعاة لي عن المباحثة في هذا المجلس، و

ص: 15


1- . آل عمران 3 : 182 .

على الحالين فنسأل اللّه أن يحسن خاتمته بخير و يهديه إلى الصواب .(1)

وبعدها قال المرحوم الخياباني: لقد كتبت بحثا مفصّلاً في هذا الباب في مجلّد الصيام من كتاب وقائع الأيّام، ونقلت آيات وأخبارا وأشعارا عربيّة وفارسيّة في هذا المجال، فراجع.(2)

3/2. الرجل القويّ

كان الحاج ملاّ خليل قويّ الجسم شديد العضلات، وكان يحرث الأرض بيده وينثر الحبّ ويزرع. نقل صاحب الروضات : أنّ مصارعا دخل قزوين وحضر في محلّ درس الملاّ خليل، وطلب منه أن يكتب له تأييدا بخطّه بأنّه مصارع ويويّد حرفته، ولكن ملاّ

خليل قال له: كيف اُويّد بأنّك مصارع ولم أمتحنك؟! وبعد هذا ترك مجلس درسه وقام متهيّئا لمصارعته، وما مرّت إلاّ لحظات وإذا به أسقط أكبر مصارع في ذلك العصر إلى الأرض، وعندها قال له المصارع الكبير: أنت لستَ من أهل العلم، وإنّما أنت مصارع قد تلبّست بلباس أهل العلم!(3)

4/2. ميله إلى الأخباريّة

لقد تعمّق ملاّ خليل في الأخبار بدرجة كبيرة حتّى عدّه أصحاب التراجم من علماء الأخباريّة، وكان يخالف الاجتهاد، وأظهر تلك العقيدة بصراحة في عدّة مواضع من هذا الشرح وفي معظم مؤلّفاته، وكان يستدلّ عليها ببعض الأحاديث، ولكن كان أغلب تلامذته - مثل: آقا رضي القزويني والشيخ محمّد كاظم الطالقاني القزويني ومير محمّد معصوم القزويني - من المجتهدين والملتزمين بالاجتهاد.(4)

وهو بالرغم من كونه أخباريّا ولكن مع ذلك نجد التنكابني يكتب عنه قائلاً: «لم

ص: 16


1- . وقايع الأيّام وقايع محرّم الحرام، لملاّ عليّ الخياباني، بتصحيح محمّد الوانساز الخوئي، ج 2، ص 439 - 441.
2- . وقائع الأيام، ج 3، ص 47.
3- . روضات الجنّات، ج 3، ص 272.
4- . دايرة المعارف تشيّع، ج 7، ص 248.

يعلم أنّه من أيّ عالم أخذ إجازته، لكنّه أخباريّ المسلك».(1)

وذكر المحدّث النوري في خاتمة المستدرك أنّ ملاّ خليل يروى عن الشيخ البهائي(2)

كما أنّ السماهيجي ذكر في إجازته لناصر الدين القطيفي بأنّ العلاّمة محمّد باقر المجلسي يروي عن ملاّ خليل.(3)

ونقل في فهرست النسخ الخطبّة لمكتبة المجلس إجازة ناصر الدين محمّد بن أحمد المعروف بنصر التوني(4) إلى خليل اللّه بن أبي الفتح المشهور بغازي القزويني، وفي هذه الإجازة يتّضح - مضافا إلى تلمّذ القزويني عنده وحضوره درسه - أنّه منحه إجازة الرواية عنه.(5)

وإذا كان المراد بخليل اللّه بن أبي الفتح النمازي القزويني - كما فهم المفهرست المحترم - هو الملاّ خليل بن غازي القزويني، يجب أن يعدّ نصر التوني من أساتيذ ملا خليل ومشايخه.

وقد نقل في طبقات أعلام الشيعة عند ذكر حياته احتمال أن ملاّ خليل تظاهر بالأخباريّة رغم اعتقاده، وسبب ذلك هو المماشاة لحاكم الزمان الذي كان يخالف الاجتهاد والفلسفة مخالفة شديدة.(6)

ولكن لو نظرنا في الكثير من المطالب التي نقلها عنه المعاصرون له، وطالعنا ما ترك من المؤلّفات أمثال الصافي والشافي لا نرى لذلك وجها، ولعلّ هذه المطالب اُضيفت إلى الطبقات بعد رحلة المؤلّف.

نعم، إنّ المترجم قدس سره في كتابي شرحه على الكافي خالف الكثير في النظريّات

ص: 17


1- . قصص العلماء للتنكابنى، ص 263.
2- . مستدرك الوسائل، ج 2، ص 199.
3- . للإجازة الكبيرة إلى الشيخ ناصر الجارودي القطيفي، شيخ عبد اللّه سماهيجي بحراني، ص 131.
4- . راجع: مستدركات أعيان الشيعة، ج 7، ص 231.
5- . راجع: فهرست نسخه هاى خطّى كتابخانه مجلس، ج 11، ص 218.
6- . الإجازة الكبيرة إلى الشيخ ناصر الجارودي القطيفي، شيخ عبد اللّه بن صالح السماهيجي البحراني، ص 204.

الفلسفيّة المشهورة، بل حتّى المجرّبات المسلّمة، متمسّكا بما يستفاد من بعض الأحاديث، حتّى أنّه حمل حملة شَعواء على أصحاب هذه النظريّات.

5/2. تحريم صلاة الجمعة

بالرغم من كون المترجم أخباريّا متطرّفا إلاّ أنّه كان يخالف إقامة صلاة الجمعة، وكان يعتقد بأولويّة عدم إقامتها في زمن الغيبة، وكتب رسالة مفصّلة في حرمة إقامة صلاة الجمعة وكانت تلك الرسالة موردا لنقد الكثيرين من معاصريه وردّهم.(1)

كما أن من القائلين بحرمة صلاة الجمعة في زمن الغيبة أخوه محمّد باقر بن غازي، وهكذا ابنه ملاّ سلمان بن خليل القزويني، وكتبوا في ذلك رسائل.

وقد تعرّض السماهيجي في رسالته المسمّاة قامعة البدعة في ترك صلاة الجمعة في الفصل الثالث منها إلى رأي الملاّ خليل والفاضل الهندي في صلاة الجمعة وردّ عليهما.(2)

6/2. آراءٌ ونظريّات

نسب العلماء المتقدّمون والجدد نظريّات وعقائد شاذّة لا أساس لها إلى ملاّ خليل، حتّى أنّ بعض هذه النظريات اشتهرت باسمه. ذكر الأفندي عند التعرّض لحياته: أنّ من جملة النظريّات الغريبة لملاّ خليل نظريّته في كتاب الكافي، فإنّه كان يعتقد بأنّ الإمام الثاني عشر عليه السلام شاهد كتاب الكافيبكامله وأيّده، وأن كلّ ما جاء بلفظ «رُويَ» أخذه الكليني رحمه اللهمن الحجّة(عج) من دون واسطة، ونباء على هذا يكون العمل بجميع أخبار كتاب الكافي واجبا، ولم يصدر حديث واحد فيه تقيّة.

وقالوا أيضا: إنّه قدس سره يرى أن قسم الروضة ليس من الكافي، وكان يعتقد أنّ مؤلّفها هو ابن إدريس الحلّي، قال الأفندي: وأيّد ملاّ خليل في هذا الرأي بعض آخر من العلماء،

ص: 18


1- . راجع: دين وسياست در دوره صفوى، رسول جعفريان، ص 126 - 131: (رساله هاى نماز جمعه وأخباريها» و «سابقه تاريخى إقامه جمعه در ميان شيعيان»).
2- . نفس المصدر، ص 156.

وبعضهم نسب هذه النظريّة إلى الشهيد الثاني، لكن هذه النسبة غير ثابتة.(1)

ومن المعلوم أنّ ملاّ خليل في شرحه على الكافي شرح الروضة أيضا، ولكنّه لم يشر في المقدّمة إلى أنّ الروضة ليست من تأليف الكليني، ولذا كانت نسبة هذا القول إليه ليست بقطعيّة، ولم يقم الناسب دليلاً عليها.

ومن الآراء الاُخرى التي نسبت إلى ملاّ خليل وأنّه تفرّد بها هي: إمكان تخلّف المعلول عن علّته التامّة، وإمكان الترجيح بلا مرجّح، وثبوت المعدومات، وردّ القول بتجرّد النّفس الناطقة ومراتبها الأربعة، وردّ القول بقدم العالم زمانا، والقول بعدم انتاج القياس من الشكل الأوّل، وأنكر كون الأرض كرويّة، وأوجب العمل بالعلم لا بالظنّ في المسائل الفرعيّة الفقهيّة في زمان الغيبة، وغيرها من الموارد التي صرّح بها الملاّ خليل في مواضع متعدّدة من كتابيه الصافي والشافي.

7/2. شهامته ومروءته:

كان ملاّ خليل عالما فاضلاً صاحب شهامة و مروءة، فقد نقل عنه أنّه بمجرّد أن يلتفت إلى أنّه أخطأ في رأي من الآراء يعترف بخطئه ويعتذر من الطرف المقابل له، وكان لايقصّر في بذل المال إلى الضعفاء والمِعْوَزين، وقد نقلت عنه في هذا المجال عدّة قضايا، وإليك بعضها:

1. اختلف ملاّ خليل مع الفيض الكاشاني صاحب الوافي في مسألة من المسائل، ودار بينهما بحث طويل ومناظرة ومكاتبات، ولم ينتهِ إلى شيء يذكر، ولكن ما إن توجّه الملاّ خليل إلى فساد رأيه وأنّ الحق مع الفيض فيها ذهب ماشيا من قزوين إلى كاشان، فلمّا اقترب من حائط بيت الفيض صاح بأعلى صوته: «يا محسن، قد أتاك المسيء» فلما سمع الفيض صوته وعرفه خرج مسرعا من داخل داره، فلمّا وصل إليه اعتنقه وضمّه إلى صدره ورحّب به، وبعد مذاكرات ومباحثات رجع ملاّ خليل

ص: 19


1- . رياض العلماء، ج 2، ص 265.

إلى قزوين بالرغم من إصرار الفيض على بقائه في كاشان؛ حذرا عن تخلّل شائبة في إخلاصه.(1)

2. لما عرف ملاّ خليل القزويني أنّ المحقّق الخوانساري قد نقد رأيه في مسألة «الترجيح بلا مرجّح» وبطلان القياس من الشكل الأوّل في المنطق، توجّه من قزوين إلى إصفهان كي يناقشه في هاتين المسألتين، ولكن اتّفق أن واجه أحد تلامذة المحقّق الخوانساري، وهو الملاّ ميرزا الشرواني (م 1099ق) ووصل إلى مرامه، حيث إنّ التلميذ بيّن وجه الخطأ في رأيه، وبين وجه صحّة رأي اُستاذه المحقّق الخوانساري، وعندها اعترف الملاّ خليل باشتباهه وأذعن إلى الرأي المقابل ورجع إلى قزوين.(2)

3. ونقل أيضا: أنّه قدس سره لاقاه يوما أحد جنود الحكّام الظلمة، وبيده براة حوالة شعير

موجّهة إلى بعض الفلاّحين الفقراء، فأخذ ملاّ خليل تلك الحوالة من يد الجندي، ولمّا

قرأها قال: إنّ هذه الحوالة باسم هذا العبد، واصطحب الجندي إلى منزله وسلّمه الشعير

المقدّر فيها، فأخذه الجندي ورجع، فلمّا صار الليل وعرضوا ذلك الشعير على خيول الملك لم تأكل من محصول كد يمين ذلك العالم، وبقي الجميع في حيرة.(3)

8/2. الردّ على الفلاسفة

كان المترجم يخالف الفلاسفة، وقد صرّح بذلك في مواضع متعدّدة من شرحيه على الكافي، وكان يرى أنّ الاستدلال لا يوصل إلى المعرفة، وقد تعرّض السيّد ميرداماد إلى نظريّة ملاّ خليل في هذه الأبيات الشعريّة وانتقدها:

اى كه گفتى پاى چوبين شد عليل *** ور نه بودى فخر رازى بى بدليل

فخر رازى نيست جز مرد شكوك *** گر تو مردى از نصيرالدين بكوك

هست در تحقيق برهان اوستاد *** داده خاك خرمن شبهت به باد

در كتاب حق اولوالألباب بين *** وآن تدبّر را كه كرده آفرين؟

ص: 20


1- . روضات الجنّات، ج 3، ص 271.
2- . قصص العلماء، للتنكابني، ص 264.
3- . روضات الجنّات، ج 3، ص 271.

چيست آن جز مسلك عقل مصون *** گر ندارى هستى از لايعقلون

خوار شبهت نيست جز در راه وهم *** در خرد بد ظن مشو اى كور فهم

از هيولا وهم را پاى كج است *** كج نظر پندارد اين ره اعوج است(1)

وهو أيضا يخالف الاُصول والاجتهاد، وقد صرّح بذلك في مواضع متعدّدة من كتبه خصوصا في الصافي والشافي، وتمسّك بظاهر بعض الأحاديث لإثبات رأيه، وفي بعض الموارد استعان بتأويل بعض الأحاديث.

3. آراء معاصريه فيه

إنّ منزلته العلميّة والاجتماعيّة كانت السبب في أن يتعرّض لذكر حياته وترجمته أغلب المترجمين والشارحين في كتبهم، ونقلوا آراءه، ولكي نتعرّف على منزلته عند معاصريه لابدّ أن ننقل ما ذكروه في حقّه ملخّصا، وهو كالآتي:

1/3. ولي قلي شاملو

لقد أدرك ولي قلي شاملو أواخر عمر ملاّ خليل، ففي قصص الخاقاني عند ذكر معاصري السلطان عبّاس الصفوي من العلماء، ذكره بعنوان العالم الثالث بعد ملاّ رفيعا وآقا حسين الخوانساري، وكتب:

رأس و رئيس فقهاى اماميه و اسوه و قدوه علماى اثنا عشرية - عليهم السلام و التحية - شارح اصول كلينى، مولانا محمّد خليل قزوينى؛ ذكر مناقب و فضائل آن صدر نشين محفل فضليت، زياده از آن است كه خامه حقيقت ترجمه به اظهار شمّه يى از آنها مبادرت تواند جست. نور دانش از ناحيه گفتارش ظاهر و شعشعه كوكبِ تفضّل از سيماى اعمالش هويداست. اوقات فرخنده ساعات آن قدوه اهل فضل از مبادى سنّ شباب - كه اول فصل بهار طبع معنى انتخاب است - الى الان (كه هزار و هفتاد و شش هجرى و عمر شريف آن صاحب تصانيف از عقد هشتاد متجاوز است) به تحصيل علوم دينى وحكمت نظرى صرف شده،

ص: 21


1- . منية المريد شهيد ثانى ترجمه محمّد باقر ساعدى، ص 250.

تصنيف و تأليف مشهور دارند. از آن جمله حاشيه عدّه در اصول و حاشيه زبده و شرح بر اصول كلينى. بعد از آن كه شرح مذكور را به همّت دقّت طبع به اتمام رسانيده، مصحوب احدى از تلامذه خويش به بارگاهِ عرشْ اشتباه، ارسال داشتند. چون به نظر كيميا اثر رسيد، مقرّر شد كه آن رئيس الفقهاء شرح مزبور را ترجمه نمايد. در عرضِ اندك وقتى، اهتمامِ تمام به كار برده، كار بندِ خدمت مرجوعه شدند.(1)

2/3. المولى شمس الدين محمّد الشيرازي

وهو أحد علماء الشيعة المقيمين في مكّة المكرّمة،(2) وفيها التقى بالملاّ خليل القزويني، وقد كتب في أحد مؤلّفاته: لقد جاءني لملاقاتي في بيتي في مكّة الملاّ خليل القزويني، وأخبرني أنّه كتب حاشية على عدّة الاُصول، وأرسلها لي،وبعدما طالعتُها وجدتها مليئة بالإشكالات، وقد نسب الملاّ خليل إلى علماء الشيعة عدّة نظريّات، وهي بعيدة عنهم، وعند لقائي به مرّة ثانية طرحنا تلك الاُمور، وبيّنتُ له بعض الإشكالات، لكنه أظهر بأنّ اُصوله تختلف مع نظريّات الشيعة، وملخّص الأمر ذكرتُ له أنّ الأقوال التي نسبتَها إلى علماء الشيعة لم تبيّن في أيّ كتاب من كتبهم، فمن أين أتيتَ بها؟ فأحالني على حاشيته على العدّة، فطالعتها، وفي نهاية الأمر كان رأيه هكذا:

فطالعتُ فيها من غير أن يكون قصدي تزييف كلامه، لكن الحقّ أبلج و الباطل لجلج، فوجدتُ فيها أشياء ليس لها طائل تحتها، و وجدتُ قائلها كالراقم على الماء، فاستدلّ على صحّتها بدلائل أوهن من بيت العنكبوت. و حاصل كلامه تخطئة علمائنا و توبيخهم بمتابعة المعتزلة في اُصول الدين.(3)

ص: 22


1- . قصص الخاقانى، ولى قلى بن داود قلى شاملو، ج 2، ص 36.
2- . لمعرفة حياته راجع: أمل الآمل، ج 2، ص 132؛ نجوم السماء في تراجم العلماء لمحمّد على الكشميري، ص 108؛ طبقات أعيان الشيعة (القرن 11)، ص 268.
3- . نجوم السماء في تراجم العلماء لمحمّد علي كشميري، ص 107 - 108.

3/3. الشيخ الحرّ العاملي

وهو أحد معاصري ملاّ خليل ومن العلماء الأعلام، وهو أخباري المسلك، وقد ذكر حياة ملاّ خليل في كتاب أمل الآمل وكتابه تذكرة المتبحّرين بعبارة واحدة، وفي أمل الآمل تعرّض لحياة أولادة الثلاثة وحياة أخيه، وصف ملاّ خليل بما يلي:

المولى الجليل الخليل بن الغازي القزويني، فاضل عالم، حكيم متكلّم، محقّق مدقّق، فقيه محدث، ثقة ثقة، جامع للفضائل ماهر معاصر. له مؤلّفات: منها شرح الكافي فارسي، و شرح عربي، و شرح العدّة في الاُصول، و رسالة في النحو، و رموز التفاسير الواقعة في الكافي و الروضة و غير ذلك، رأيته بمكّة فِي الحجّة الاُولى، وكان مجاورا بها، مشغولاً بتأليف حاشية مجمع البيان، توفّي سنة تسع و ثمانين و ألف. و قد ذكره صاحب السلافة، و أثنى عليه ثناء بليغا، و ذكر بعض المؤلفات السابقة.(1)

وذكر الأفندي في رياض العلماء كلّ ما ذكره الحرّ العاملي في وصفه، وبعدها أشكل على توصيفه بالحكيم والمتكلّم والفقيه، فإنّه كتب:

أقول: في جعله حكيما نظر، و كذا في جعله فقيها؛ لأنّه كان تنكّرهما جدّا، وبمجرّد معرفة أقوالهما لايسمّى أحد بالحكيم و الفقيه، مع أنّ المعرفة الكاملة بأقوالهما أيضا غير معروف. على أنّ الجمع بينهما جمع بين الأضداد.(2)

ثمّ ذكر الأفندي أنّه لا يشكل على ما ذكرت بأنّ المحقّق الطوسي كان حكيما متكلّما بنفس الوقت؛ لأنّ المحقّق الطوسي في شرح الإشارات وبقية كتبه الفلسفيّة سلك مسلك الحكماء، وبالغ في تصحيح كلامهم ودافع عنهم وكان فيسلوفا واقعيّا، في حين نراه في كتاب تجريد الاعتقاد، وأمثاله تكلّم على طريق مذاهب المتكلّمين، وكأنّه متكلّم واقعي، ولهذا كان هو حكيما متكلّما.(3)

ص: 23


1- . أمل الآمل، ج 2، ص 112؛ تذكرة المتبحّرين، ص314.
2- . رياض العلماء، ج 2، ص 264 - 265.
3- . نفس المصدر.

4/3. الميرزا عبد اللّه الأفندي

تعرّف الميرزا عبد اللّه الأفندي في كتابيه رياض العلماء وتعليقته على أمل الآمل إلى حياة الملاّ خليل، وفي الرياض ذكر حياته العلميّة والاجتماعيّة مفصّلاً، ولكنّه في تعليقة أمل الآمل اكتفى بذكر مؤلّفاته، وقد وصفه في الرياض هكذا:

المولى الكبير الجليل مولانا خليل بن الغازي القزويني، فاضل عالم، متكلّم اُصولي جامع، دقيق النظر، قويّ الفكر، من أجلّة مشاهير علماء عصرنا، و أكمل أكابر فضلاء دهرنا.(1)

وفي موضع آخر كتب في مجال قدرته الفكريّة وتسلّطه في مختلف العلوم قائلاً: «و كان له قدس سرهقوّة فكر، و تسلّط على تحرير العبارات في العلوم و تقريرها».

ثمّ قال: لقد لاقاه أخي في قزوين فوصفه بوفور فضله وكثرة علمه، بل لعلّه يرجّحه على جميع علماء عصره.(2)

ثمّ إن الأفندي - بعد ذكره لأساتيذ ملاّ خليل وتبيينه منزلته لدى ملوك الدولة الصفويّة وحكّامها - قال:

كان معظّما مبجّلاً عند السلاطين الصفوية، سيّما سلطان عصرنا، و كذلك عند الاُمراء و الوزراء و سائر الناس. و صار في زمن الوزير خليفة سلطان متولّيا و له دون ثلاثين سنة، ومدرّسا بعبد العظيم، ثمّ عزل عنها لقصّة طويلة.(3)

وبعدما تعرّض إلى مخالفته لحكّام وعلماء عصره قائلاً:

و له مع حكّام طهران و قزوين أقاصيص، و هو أحد المحرّمين لصلاة الجمعة و المنكرين لها في زمن الغيبة و الناهين عنها جدّا، و من جملة الأخباريّين المنكرين للاجتهاد جدّا، و قد بالغ في ذلك و أفرط في نفي الاجتهاد، و من زمرة المنكرين للتصوّف و الحكمة، و القادحين منهم بما لا مزيد عليه، و من المنكرين لأقوال المنجّمين و الأطبّاء أيضا.(4)

ص: 24


1- . رياض العلماء، ج 2، ص 261.
2- . نفس المصدر، ص 262.
3- . نفس المصدر.
4- . نفس المصدر.

ثمّ ذكر الأفندي بأنّ الملاّ خليل كانت له أقوال وآراء انفرد بها، ومن جملتها نظريّات في الاُصول والفروع لم يقل بها أحد غيره، وأكثرها لا يخلو من عجب وغرابة، وفي بعضها تابع المعتزلة، مثل القول بثبوت المعدومات.(1)

5/3. ميرزا محمّد الأردبيلي

لقد وصف الأردبيلي الملاّ خليل في جامع الرواة بما يلي:

خليل بن الغازي القزويني، الملقّب ببرهان العلماء، جليل القدر، عظيم الشأن، رفيع المنزلة، من وجوه هذا الطايفة وثقاتها وأثباتها وأعيانها، أمره في الجلالة وعظم الشأن وسموّ الرتبة و الثقة والعدالة والأمانة أشهر من أن يذكر، وفوق ما يحوم حوله العبارة. وكان أخباريّا عالما بالعلوم العقليّة والنقليّة، أخذ العلوم والأخبار من شيخ الإسلام والمسلمين بهاء الملّة والحقّ والدين محمّد العاملي - قدس اللّه روحه -. له كتب: منها: حاشية على عدّة الاُصول لشيخ الطايفة أبي جعفر الطوسي - قدس اللّه روحه الشريف - ومنها: الشرح الصافي - الفارسي - على الكافي من البداية إلى النهاية، ومنها: شرح الشافي العربي عليه من البداية إلى كتاب الحيض، وغيرها من الرسائل. ولد في سنة إحدى وألف، وتوفّي - رحمه اللّه تعالى - في سنة تسع وثمانين بعد الألف؛ رضي اللّه عنه و أرضاه.(2)

6/3. عليّ أصغر القزويني

المولى عليّ أصغر بن محمّد يوسف القزويني (المتوفّي حدود 1129ق) أحد تلامذة ملاّ خليل البارزين، ومن آثاره التي خلّفها بعده تنقيح المرام والذي هو حاشية على حاشية عدّة الاُصول لاُستاذه ملاّ خليل، وفي مقدّمة كتابه هذا كتب واصفا اُستاذه:

لمّا رايتُ توفّر داعى المحصّلين إلى تعلّم الحواشي المعلّقة على عدّة الاُصول للمولى الفاضل المؤيّد، و الحبر الكامل المسدّد، محيي العقائد الدينيّة، مروج

ص: 25


1- . رياض العلماء، ج 2، ص 261.
2- . جامع الرواة ميرزا محمّد الأردبيلي، ، ج 1، ص 298.

الاُصول اليقينيّة، مظهر نكات الآيات ودقائقها، موضح لطائف الروايات و حقائقها، معزّ الحقّ و معين الدين، عون الإسلام و ملجأ المسلمين، سمّي خليل الرحمن، خليل العلم و ناصر ذوي الإيمان.(1)

7/3. الشيخ عبد اللّه السماهيجي

إنّ الشيخ عبد اللّه بن صالح السماهيجي البحراني (1086 - 1135ق) وإن لم يكن معاصرا لملاّ خليل إلاّ أنّ المهمّ فيه أنّ ما قاله في شرح أحوال الملاّ خليل قد نقل ووصل إلينا مشافهة.

فقد ذكر في إجازته للشيخ ناصر الجارودي القطيفي أنّ ملاّ خليل أحد مشايخ العلاّمة المجلسي، وكتب في وصفه: «و كانَ هذا الرجل فاضلاً، محدّثا، أخباريّا».(2)

ثمّ يضيف قائلاً: كان ملاّ خليل متشدّدا في ردّه على أصحاب الاجتهاد، وكان يرتكب في نقل الروايات وتفسيرها تحريفات كثيرة وتصحيفات فاحشة.

ثمّ يقول: إنّه كان رئيسا في قزوين، ومنع علماء قزوين من تدريس المنطق والفلسفة والكلام واُصول الفقه، ومن اُموره العجيبة أنّه بالرغم من كونه أخباريّا إلاّ أنّه يقول بحرمة صلاة الجمعة زمن الغيبة.(3)

4. آثاره العلميّة

لقد قضى الملاّ خليل شطرا طويلاً من عمرة في تأليف وتصنيف الكتب، فألّف وصنّف في موضوعات مختلفة، مثل: الأدب العربي، والمنطق، والتفسير، واُصول الفقه والحديث وغيرها. وكان أهمّ ما كتبه هو شرحه الفارسي والعربي على الكافي، فهو في بداية الأمر كتب شرحا عربيّا على الكافي وسمّاه «الشافي» وفي أثناء تأليفه عدل إلى الشرح الفارسي بأمر من السلطان عبّاس الصفوي، واستغرق تأليفه ما يقارب عشرين عاماً.

ص: 26


1- . فهرست الكتب الخطّية لمكاتب إصفهان، ص 302.
2- . الإجازة الكبيرة إلى الشيخ ناصر الجارودي القطيفي، الشيخ عبداللّه بن صالح السماهيجي البحراني، ص 131.
3- . نفس المصدر.

وأوّل مَن ذكر مؤلّفات ملاّ خليل مفصّلاً هو الأفندي في رياض العلماء.(1)

أمّا آثاره التي عُرفت فهي كالتالي:

1. الشافي في شرح الكافي(2) (عربي).

وهو الشرح الذي بين يديك وسنعرفه في نهاية المقدّمة.

2. صافي در شرح كافي (فارسي).

وقد بدأ المؤلّف في كتابته في سنة (1064ق) في محلّة ديلميّة قزوين، وقد بدأه باسم السلطان عبّاس الصفوي الذي كان مقيما في تلك المحلّة، واستغرق تأليف هذا الشرح عشرين عاما، وأنهاه في سنة (1084ق).(3)

جاء في كتاب نجوم السماء في ذكر علّة تأليفه لهذا الكتاب ما يلي:

الفاضل الجليل ، ملاّ خليل بن غازى القزوينى، سيّد على خان مدنى در سلافة العصر - كه ابتداى تأليفش سنه يك هزار و هشتاد و يك هجرى است - آورده كه : ملاّ خليل مذكور از فضلاى اهل اين عصر و علماى موجود اين زمان است . از تصانيف او در شرح بر كتاب كافى كلينى يكى فارسى و ديگرى عربى . و هر دو شرح به نظر مؤلّف رسيده و شرح عربى كه موسوم به «شافى» است ، در سال يك هزار و شصت و چهار هجرى به شغل آن پرداخته و چون در سال مذكور شاه عبّاس ثانى صفوى ، وارد قزوين شد و فرمايش شرح ديگر به زبان فارسى به او نمود . پس او شرح فارسى هم مسمّى به صافى در همان سال شروع فرموده و آن را در عرض مدّت بيست سال در مجلّدات سى و چهار گانه به اتمام رسانيده و تاريخ اتمام مجلّد اوّل از شرح فارسى ، ماه محرّم سنه يك هزار و شصت و شش هجرى است و تاريخ اتمام جلد آخر از شرح كتاب مذكور ، كه شرح كتاب الروضة از كافى است ، سنه يك هزار و هشتاد و چهار هجرى است .

ميرزا طاهر وحيد در روزنامه خود به تقريب ورود شاه عبّاس ثانى صفوى در

ص: 27


1- . رياض العلماء، ج 2، ص 265 - 266.
2- . الذريعة، ج 13، ص 5؛ وج 14، ص 27؛ التراث العربي، ج 3، ص 223.
3- . الذريعة، ج 6، ص 145؛ وج 15، ص 6.

قزوين نوشته : چون خاطر همايون و ضمير منير خيريّت مقرون پيوسته متوجّه به رواج و رونق دين مبين و ملّت متين مى باشد و فضلاى عظام را كه وارثان علوم انبيا و حاميان ملّت بيضااند ، همواره به تبجيل و تعظيم و اكرام مى فرمايند . بعد از ورود دارالسّلطنه قزوين ، جامع علوم معقول و منقول كشّاف مرموزات فروع و اصول مولانا خليل قزوينى را كه از اجلّه علماى عصر و فحول دانشمندان دهر است با ساير فضلا و طلبه به مجلس اقدس و بزم مقدّس طلب داشته ، با آن گروه نزاهت پژوه افطار فرمودند و در همان مجلس مولانا خليل اللّه را به خطاب مستطاب سرافراز ساخته ، فرمودند كه كتاب كلينى را كه دين قويم را اساس و بنيان و بيت المعمور دين مصطفوى بدان تابان ، به فارسى شرح نمايند كه عموم سكّان اين ديار را كه اغلب گفتگوهاى ايشان به لغت فارسى است ، انتفاع حاصل شود .

و نيز رقم اشرف به اسم مولانا محمّدتقي مجلسى شرف صدور يافت كه كتاب من لايحضره الفقيه را به دستور شرح نمايد و چون فضيلت نماز جماعت بر پيشگاه ضمير منير پرتو وضوح افكنده بود ، رقم اشرف به طلب عالم ربّانى و مؤيّد به تأييدات آسمانى سالك طريق انيق عرفان و بلد شوارع ايقان ، مولانا محمّد محسن كاشانى نفاذ يافت .(1)

ولم يُطبع من هذا الكتاب إلاّ شرح اُصول الكافي، حيث طبع في الهند في مدينة (لكنهو) برعاية السيّد تصدّق حسين صاحب الرضوي، وقد طبع في جلدين في سنة (1323ق).(2)

وقام أحد العلماء في العهد الصفوي بتلخيص هذا الشرح وسبكه بعبارات واضحة سهلة، ثمّ قدّمه إلى السلطان حسين الصفوي، وقد اكتفى في هذا المختصر بذكر معاني الأخبار، ولم يذكر تفصيلات زائدة على الأصل. وكانت بدايته هكذا: «زينت ديباچه جوامع آثار ابرار و زيور عنوان شرح اخبار...».

وقد حُرّرت نسخة من الجلد الأوّل لهذا الملخّص في صفر (1134ق)، وتحتوى

ص: 28


1- . نجوم السماء ، ص 105 .
2- . فهرست كتاب هاى فارسى، خان بابا مشار، ج 3، ص 3369.

على (196) ورقة، وهي محفوظة في مكتبة آية اللّه الگلپايگاني.(1)

3. المجمل (الجمل) في النحو: وهذا الكتاب ألّفه ملاّ خليل في علم النحو، وقد حصل اختلاف في اسم هذا الكتاب، فقد نقل في الرياض وأمل الآمل أنّ اسمه «المجمل». وفي روضات الجنّات أنّ اسمه «الجمل».(2)

وقد شرح هذا الكتاب تلميذ ملاّ خليل، محمّد مهدي ابن المولى عليّ أصغر القزويني.(3)

4. حاشية شرح الشمسيّة؛ أصل الكتاب هو الشمسيّة لمؤلّفه نجم الدين عمر الكاتبي القزويني (م 675ق)، وشرحها لقطب الدين محمّد الرازي (م 766ق). وقد كتب ملاّ خليل حاشية على مبحث قضايا هذا الشرح.(4)

وذكر الشيخ الطهراني في الذريعة أنّ نسخة منه بخطّ المحشّي موجودة في قمّ المقدّسة عند آية اللّه المرعشي النجفي.(5)

5. شرح (حاشية) عدّة الاُصول؛ كتاب عدّة الاُصول معروف، وهو من تأليفات شيخ الطائفة أبي جعفر محمّد بن الحسن الطوسي (م 460ق)، ويقع على قسمين: اُصول الدين، واُصول الفقه، وكتب ملاّ خليل حاشية على القسمين، وذكر الأفندي أنّ ملاّ خليل طرح في هذه الحاشية مسائل جديدة متعدّدة في الاُصول والفروع، وذكر أقوالاً عجيبة غريبة.(6)

وكان ملاّ خليل يغيّر في هذه الحاشية طيلة عمره، ولذا اختلفت نسخها اختلافا شديدا.(7)

ص: 29


1- . فهرست نسخه هاى خطّى كتابخانه آيت اللّه گلپايگانى، ج 1، ص 190.
2- . راجع: الذريعة، ج 5، ص 142؛ وج 20، ص 142.
3- . الذريعة، ج 13، ص 177.
4- . الذريعة، ج 6، ص 35.
5- . نفس المصدر.
6- . رياض العلماء، ج 2، ص 265.
7- . الذريعة، ج 6، ص 78، و ص 148.

وكتب الاُستاذ الأعظم آية اللّه الروضاتي توضيحها شاملاً وواسعا لهذه الحاشية.(1)

وقامت مؤسّسة آل البيت بطبع كتاب عدّة الاُصول مع هذه الحاشية بتحقيق الشيخ محمّد مهدي نجف.(2)

وقد كتبت على هذه الحاشية عدّة حواشي، وهي:

أ. حاشية المولى أحمد الطالقاني.

ب. حاشية المولى أحمد بن ملاّ خليل الغازي (وهو ابن المؤلّف).

ج. حاشية المولى محمّد باقر بن غازي القزويني (وهو أخو المؤلّف وتلميذه).

د. حاشية المولى عليّ أصغر بن المولى محمّد يوسف القزويني (وهو تلميذ المؤلّف) وقد سمّى حاشيته هذه ب «تنقيح المرام»،(3) وتوجد لدينا نسخة من الجلد الأوّل من كتاب تنقيح المرام.(4)

وقد اعتنى العلماء الأخباريّون في مدينة قزوين بحاشية عدّة الاُصول وأخذوا يقرؤونها ويدرّسونها، وذكر الشيخ عبد النبيّ القزويني في كتابه تتميم أمل الآمل أنّ الحاج محمّد رضا القزويني درّس حاشية عدّة الاُصول لملاّ خليل مع حواشي متعدّدة اُخرى كتبها المؤلّف عند جملة من الأساتذة، وقضى وطرا كبيرا من عمره في ذلك كي يتوصّل إلى معرفة آراء ملاّ خليل القزويني ويتعمّق فيها.(5)

6. حاشية مجمع البيان؛ كتاب مجمع البيان في تفسير القرآن الكريم، تأليف أبي عليّ الفضل بن الحسن بن الفضل الطبرسي (م 548ق)، وهو معروف، وهذه الحاشية كتبها الملاّ خليل أيّام إقامته في مكّة المكرّمة. وذكر الحرّ العاملي بأنّه في سفره الأوّل للحجّ

ص: 30


1- . فهرست كتب خطّى كتابخانه هاى إصفهان، ص 289 - 298.
2- . كتابشناسى اُصول فقه، مهدى مهريزى، ص 84 .
3- . كشف الحجب والأستار، ص 145؛ الذريعة، ج 4، ص 464 - 465؛ و ج 6، ص 79؛ مرآة الكتب، لثقة الإسلام التبريزي، ص 306.
4- . فهرست كتب خطي كتابخانه هاى اصفهان، آيت اللّه سيد محمّد على روضاتى، نسخه ش 65، ص 298 - 303.
5- . تتميم أمل الآمل، ص 157.

قد التقى بالملاّ خليل وأنّه كان مشغولاً بكتابة هذه الحاشية.(1)

7. رسالة في حرمة شرب التتن؛(2) يقول حجّة الإسلام الشفتي الإصفهاني: يرى المرحوم الحاج ملاّ خليل حرمة التدخين، وصنّف رسالة في ذلك، وقد أرسل نسخة جميلة نفيسة منها إلى العلاّمة المجلسي، الذي كان يدخّن بكثرة، ولمّا اطّلع العلاّمة عليها ترك التدخين، ولكنّه لمّا طالعها بدقّة ووقف على أدلّتها، وجدها غير تامّة الدلالة، وحينئذٍ ملأها تتنا وردّها إلى ملاّ خليل.(3)

8 . رسالة في صلاة الجمعة؛ ذكر صاحب رياض العلماء أنّ ملاّ خليل قد أورد هذه الرسالة في بداية شرحه الفارسي على الكافي، وبعدها جعلها رسالة مستقلّة، وقد كتب ملاّ محمّد طاهر القمّي ردّا على هذه الرسالة.

وبعد هذه الرسالة كتب ملاّ خليل رسالة اُخرى باللغة الفارسيّة وكان فيها أيضا مصرّا على حكمه بحرمة صلاة الجمعة، ولكنّه بعد ذلك كتب رسالة ثالثة في هذا الموضوع وكان معتدلاً في رأيه.(4)

وتوجد لهذه الرسالة نسخ متعدّدة، منها: نسخة في مكتبة الروضة المقدّسة الرضويّة برقم (8602).(5) ومنها: نسختان في مكتبة المسجد الأعظم في قم المقدّسة، برقم (1359) و (1432)،(6) ومنها: نسخة في مكتبة ملك بطهران، برقم (1920).(7)

9. رموز التفاسير الواقعة في الكافي والروضة؛(8) نقل ملاّ خليل في هذا الكتاب الأحاديث الواردة في تفسير الآيات المباركة من كتاب الكافي، وجعل للكتاب

ص: 31


1- . أمل الآمل، ج 2، ص 112.
2- . الذريعة، ج 11، ص 173.
3- . روضات الجنّات، ج 3، ص 271.
4- . رياض العلماء، ج2، ص 266؛ الذريعة، ج 14، ص 27؛ و ج 15، ص 71.
5- . فهرست الفبايي آستان قدس رضوي، ص 385.
6- . فهرست نسخه هاى خطى كتابخانه مسجد اعظم، ص 281.
7- . فهرست نسخه هاى خطى كتابخانه ملك، ج 5، ص 397.
8- . الذريعة، ج 11، ص 251 رقم 1538.

ولأبواب الكافي رموزا خاصّة قد شخّص مواضعها. وقد شخّصت من هذا الكتاب أربع نسخ، وهي:

أ. نسخة مكتبة المجلس، برقم (13992)، ولم يذكر فيها اسم الكتاب ولا تاريخ الكتابة، وهي عبارة عن (204) أوراق ضمّت كلّ ورقة (16) سطرا.(1)

ب . نسخة مكتبة مدرسة خاتم الأنبياء (صدر) في مدينة بابل، برقم (219) من دون ذكر اسم الكاتب ولا تاريخ التأليف. وكانت أوراقها ذات (20) سطرا.(2)

ج - نسخة مكتبة آية اللّه المرعشي، برقم (4989)، من دون ذكر اسم الكاتب ولا تاريخ الكتابة، ضمّت (124) ورقة في (19) سطرا.(3)

د. نسخة مكتبة ملك في طهران، برقم 1453، بخطّ أبي القاسم بن محمّد حسن في سنة (1235)، وتقع في (205) أوراق تحتوى الورقة على (16) سطرا.(4)

ويمكن أن يكون كتاب رموز التفاسير الواقعة في كتب الأربعة و غيرها من كتب الحديث من تأليف تلميذ ملاّ خليل المولى عليّ أصغر بن محمّد يوسف القزويني، مكمّلاً به كتاب اُستاذه ملاّ خليل.(5)

10. الأسئلة الخليليّة؛ وهي عبارة عن مجموعة أسئلة في التصوّف وجهّها ملاّ خليل إلى العلاّمة المجلسي، وأجاب عنها العلاّمة، وقد أدرج هذه الرسالة المرحوم الخياباني في كتابه وقايع الأيام (جلد محرّم الحرام)، كما أنّها قد طبعت ضمن كتاب تشويق السالكين.(6)

11. تفسير سورة الفاتحة؛ ذكر المحقّق الطهراني هذا التفسير في الذريعة وجعله من مؤلّفات ملاّ خليل القزويني، وكتب في وصفه: حكى بعض الفصلاء أنّه رآه وهو كبير

ص: 32


1- . فهرست نسخه هاى خطّى كتابخانه مجلس، ج 37، ص 589.
2- . فهرست نسخه هاى خطّى مدرسه خاتم الانبياء صدر بابل، ص 151.
3- . فهرست نسخه هاى خطّى كتابخانه آيت اللّه مرعشى، ج 13، ص 183.
4- . فهرست نسخه هاى خطّى كتابخانه ملك، ج 1 الطبع الثاني، ص 246.
5- . الذريعة، ج 11، ص 251، رقم 1539.
6- . الذريعة، ج 2، ص 82 .

جدّا، وفيه لباب كلّ علم نافع».(1) ولكنّ الظاهر أن هذا التفسير هو للسيّد خليل القزويني، وهو من علماء القرن الثالث عشر الهجري، ويسمّى ب «كشف الحقائق أو فوائد الفاتحه وتفسير سيّد خليل القزويني. وقد فرغ من تأليفه في سنة (1239ق). وتوجد نسخة منه في مكتبه مجلس الشورى الإسلامي في طهران.(2)

12. رسالة أقوال الأئمّة؛ ضمّت مكتبة راجه الفيض آبادي نسخة من هذه الرسالة، ويوجد اسم هذه النسخة في فهرست هذه المكتبة، وقد كُتب في حقّها أنّ موضوعها فيالحديث، ولم يذكر توضيحا أكثر من هذا. ونقل هذا المطلب المحقّق الطهراني، وذكر أنّ ملاّ خليل كان يدرّس هذه الرسالة في مدينة الريّ في روضة عبد العظيم الحسني.(3)

13. رسالة في الأمر بين الأمرين؛ لقد رأى المحقّق الطهراني نسخة لهذه الرسالة في أحد مكاتب النجف الأشرف، وكانت بدايتها هكذا: «سبحان من تنزّه عن الفحشاء، وسبحان من لايجري في ملكه إلاّ ما يشاء».(4)

143. شرح الصحيفة؛ لقد أدرج المحقّق الطهراني هذا الكتاب في الذريعة من دون أيّ توضيح، وذكر بأنّ نسخة منه توجد في مكتبة شيخ الشريعة الأصفهاني في النجف الأشرف.(5)

15. فهرست الكافي؛ توجد نسخة من هذه الرسالة في مكتبة مير حسينا محفوظة هناك، وقد قوبلت مع النسخة الأصليّة في 25 ذي الحجّة من عام (1089ق).(6)

16. أجوبة مسائل محمّد المؤمن؛ وهي عبارة عن أجوبة على إيرادات ملاّ محمّد المؤمن بن السلطان قاسم على هذه العبارة: «العمل بظاهر القرآن ليس لإفاد ه الظنّ

ص: 33


1- . الذريعة، ج 4، ص 339.
2- . فهرست نسخه هاى خطى كتابخانه مجلس شوراى اسلامى، ج 35، ص 262.
3- . الذريعة، ج 2، ص 276 بعنوان «اقوال الائمة»؛ و ج 11، ص 103 بعنوان «رسالة اقوال الائمة».
4- . الذريعة، ج 11، ص 115.
5- . الذريعة، ج 13، ص 351.
6- . نشريه نسخه هاى خطى دانشگاه تهران، المجلّد السادس، ص 346.

بمراده تعالى وبحكمه الواقعي، بل لعلمنا بأنّه يجب علينا اتّباع ظاهره»، وقد وصلت هذه الإشكالات إلى ملاّ خليل في قزوين في يوم عيد الفطر لسنة (1067ق)، فأجاب عنها في نفس هذه السنة عند ذهابه لزيارة مشهد المقدّسة. وتوجد نسخة من هذه الرسالة في مكتبة آية اللّه المرعشي، برقم (3028).(1)

17. الرسالة النجفيّة؛(2) وهي بالفارسيّة؛ وكانت عبارة عن أجوبة أسألة أرسلها له بعض الفضلاء من النجف الأشرف، وقد أكمل هذه الرسالة في غرّة سنة (1080ق). وطبعت هذه الرسالة في مجلّة علوم الحديث، العدد (19)، ربيع سنة (1380) هجري شمسي (ص 144 - 162) باهتمام مسعود الطبري.

وتوجد لهذه الرسالة ثلاث نسخ، وهي:

أ. في طهران في كلّيّة الآداب، برقم (إمام جمعة 216).(3)

ب . في بروجرد، في مدرسة الإمام الصادق عليه السلام، برقم (8)، وصوّرت هذه النسخة، واُودع تصويرها في مركز إحياء التراث الإسلامي برقم (1191).(4)

ج . في مكتبة آية اللّه المرعشي النجفي، نسخة رقم 7/11520.(5)

18. الرسالة القمّيّة(6) (بالفارسية)؛ وهي عبارة عن أجوبة أسألة نذر على بيك خصي من قمّ المقدّسة، حيث أظهر عجزه عن فهم حاشية القزويني على عدّة الاُصول، فكانت عبارة عن ثلاثة أسألة قدّمها له، ويطلب منه الإجابة، وكانت هذه الأسألة في الترجيح بلا

ص: 34


1- . فهرست نسخه هاى خطّى كتابخانه آيت اللّه مرعشى، ج 8 ، ص 214.
2- . كشف الحجب والأستار، للسيّد اعجاز حسين، ص 577 ؛ الذريعة، ج 11 ص 228 بعنوان «الرسالة النجفيّة»؛ وج 20 ص 371 بعنوان «المسائل النجفيّة».
3- . فهرست نسخه هاى خطّى كتابخانه دانشكده ادبيات تهران، ج3، ص 35.
4- . مجله وقف ميراث جاويدان، ش 21، ص 126؛ فهرست نسخه هاى عكسى مركز احياء ميراث اسلامى، ج3، ص 477.
5- . فهرست نسخه هاى خطّى كتابخانه آيت اللّه مرعشى، ج 24، ص 166.
6- . الذريعة، ج 5، ص 230 بعنوان «جوابات المسائل القمّيّة»؛ و ج 11 ص 222 بعنوان «الرسالة القمّيّة»؛ و ج 17، ص 171 «القمّيّة»؛ و ج 20 ص 363 بعنوان «المسائل القمّيّة».

مرجّح، وتخلّف المعلول عن العلّة، والمسائل المتوقّفة على الفكر، وكانت الأجوبة مختصرة واستدلاليّة.

وقد ذكر هذه الرسالة المحقّق الطهراني في الذريعة بعنوان «رسالة في ترجيح بلامرجّح».(1) كما وذكر في الذريعة أيضا عدّة رسائل بعنوان «رسالة في امتناع الترجيح بلا مرجّح» يحتمل أنّها في الجواب عمّا طرحه ملاّ خليل في هذه الرسالة.(2)

وتوجد لهذه الرسالة أربع نسخ خطّيّة في مكتبة آية اللّه المرعشي في قمّ، برقم (4076) و(6543) و(9562) و(11520).(3)

19. تعليقة على التوحيد؛ وهي عبارة عن تعليقات على كتاب التوحيد للشيخ الصدوق، وقد ذكر الأفندي هذا التأليف، لكنّه ليس له وجود في يومنا الحاضر.(4)

20. حاشية الكافي؛ لمّا كان ملاّ خليل مقيما في مكّة المكرّمة قام بجمع حواشي محمّد أمين الإسترآبادي على كتاب الكافي وألّفها بصورة كتاب مستقلّ.(5)

21. حاشية الكافي؛ وهو كسابقه حيث قام بجمع حواشي اُستاذه الأمير أبي الحسن القائني المشهدي على كتاب الكافي للكليني، وألّفه بصورة كتاب مستقلّ عندما كان مقيما في مكّة أيضا.(6)

5. الردود على مؤلّفات ملاّ خليل

لقد كانت الآراء التي طرحها ملاّ خليل في مؤلّفاته السبب الموجب لتوجّه الانتقادات والإشكالات له من قبل العلماء والمفكّرين، حتّى كتبت في ردّ كتبه عدّة

ص: 35


1- . الذريعة، ج 11، ص 144 بعنوان «رسالة في الترجيح بلا مرجّح».
2- . الذريعة، ج 11، ص 113.
3- . فهرست نسخه هاى خطى كتابخانه آيت اللّه مرعشى، ج 11، ص 81 ؛ و ج 17 ص 126 بعنوان «ترجيح بلا مرجّح»؛ و ج 24 ص 305؛ و ج 29، ص 166 وهما بعنوان «أجوبة أسئلة نذر عليّ».
4- . رياض العلماء، ج 2، ص 266.
5- . نفس المصدر.
6- . نفس المصدر.

كتب، بعضها ذكرناها عند ذكر آثاره، وبعضها الآخر كما يلي:

1. نقد كلام ملاّ خليل القزويني (بالفارسي)؛ تأليف صدر الدين محمّد بن محمّد صادق القزويني الحسيني (حيّ إلى سنة 1109ق) وهو من تلامذة آقا رضي القزويني، وقد كتب الحسيني هذه الرسالة في سنة (1103ق) وكانت ردّا على ما قاله ملاّ خليل في كتاب الصافي في شرح الكافي، حيث جاء فيه: «من ترك أخا لاُمّ وابن أخ لأب واُمّ ...»، وردّا أيضا على حاشية محمّد باقر - أخو ملاّ خليل - على هذا القسم من حاشية أخيه.(1)

والنسخة الأصليّة لهذه الرسالة محفوظة في المكتبة الخاصّة بالقائني في قمّ المقدّسة، برقم (334)، حيث جاء في بدايتها هكذا: «اين چند كلمه در بحث فرايض از صافى شرح كافي به خاطر رسيده و در اين وقت بعنوان شرح الشرح نگاشته».(2)

2. نقد كلام ملاّ خليل في باب الرؤية؛ وهو الآخر من تأليفات المؤلّف السابق، وفيه نقل الحسيني الشرح المزجي لملاّ خليل على الكافي، وما قاله في شرح حديث الإمام الرضا عليه السلام والذي نفي فيه الإمام رؤية الباري في الدنيا والآخرة، وأورده الكليني في كتاب الكافي في باب الرؤية، فأشكل عليه وردّه، وأوّله هكذا: «بعد الحمد و الصلاة، هذه كلمات سنحت لي في حديث الإمام الثامن مولانا عليّ بن موسى الرضا عليه السلام».

وكتب المولى عليّ أصغر بن المولى محمّد يوسف القزويني تلميذ ملاّ خليل رسالة أجاب فيها على إشكالات الحسيني على ملاّ خليل، وبعدها كتب الحسيني رسالة آخرى ردّ فيها على أجوبة ملاّ علي أصغر. وتوجد هذه الرسائل الثلاث بخطّ صدر الدين الحسيني في مكتبة آية اللّه المرعشي.(3)

ص: 36


1- . الذريعة، ج 24، ص 277.
2- . مجله تراثنا، ش 52، ص 139.
3- . فهرست نسخه هاى خطّى كتابخانه آيت اللّه مرعشى، ج 17 ص 172 - 174، مجموعة رقم 6598، وهي تشمل 5 رسائل بهذا التفصيل: 1. حاشية الجرجاني على الكشّاف ورقة 1 - 168، 2. حاشية الباغنوي على حاشية الجرجاني على شرح المطالع (ورقة 170 - 257)، 3. رسالة صدرالدين الحسيني على نقد ملاّ خليل (ورقة 259 - 267)، 4. ردّ ملاّ عليّ أصغر على الحسيني (ورقة 167 - 279)، 5. جواب الحسيني على ردّ ملاّ عليّ أصغر (ورقة 279 - 289).

3. رسالة في بطلان ما نسبه ملاّ خليل القزويني في حاشيته على عدّة الاُصول إلى أصحابنا الإماميّة؛ تأليف الفاضل شمس الدين محمّد الشيرازي، وكان معاصرا لملاّ خليل القزويني. وقد نفى الشيرازي في هذه الرسالة الأقوال التي نسبها ملاّ خليل إلى الشيعة الإماميّة في مسألة الجبر والاختيار. وكانت بدايتها: «الحمد للّه الذي خلق الثقلين لعبادته بقوله: «وَ مَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الاْءِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ»، ولم يشاء منهم الكفر والمعصية، تعالى اللّه علوّا كبيرا عمّا يقول الظالمون».(1)

4. جاء الحقّ في صلاة الجمعة؛ وهو ردّ على رسالة صلاة الجمعة لملاّ خليل، وكُتب هذا الردّ في سنة (1076ق) ولم يعرف مؤلّفه.(2)

5. رسالة في صلاة الجمعة؛ وهي من تأليفات المولى محمّد طاهر بن محمّد حسين الشيرازي القمّي، وقد ردّ القمّي في هذه الرسالة على رأي ملاّ خليل القزويني ورأي ملاّ حسن عليّ بن المولى عبد اللّه الشوشتري في مسألة صلاة الجمعة.(3)

6 . رسالة في الدفاع عن ملاّ خليل؛ وهي للمولى أبي الوفاء بن محمّد يوسف، المشهور بالقاضي القزويني، وهو تلميذ المولى خليل القزويني، وقد أجاب أبو الوفاء في هذه الرسالة على بعض الإشكالات التي وجّهها بعضهم على اُستاذه في مسألتي «تخلّف المعلول عن العلّة» و «الترجيح بلا مرجّح». وقد كتب هذه الرسالة في سنة (1124).(4)

7. حاشية الشافي في شرح الكافي (عربي)؛ ولم يعرف مؤلّفها، وهي حاشية على ما قاله ملاّ خليل القزويني في الشافي ذيل حديث: «ما جرى بين أبي الحسن موسى عليه السلام و الزنديق ... قال الرجل: فإذا إنّه لا شيء إذا لم يدرك بحاسّة من الحواسّ». وبداية هذه الحاشية: «روى الكليني - روّح اللّه روحه - في ثالث أوّل كتاب التوحيد في حديث طويل ماجرى بين أبي الحسن موسى عليه السلام و الزنديق، و فيه ما هذا لفظه: فقال الرجل: فإذا

ص: 37


1- . كشف الحجب والأستار لسيّد إعجاز حسين، ص 243؛ الذريعة، ج 1، ص 71.
2- . الذريعة، ج 15، ص 20.
3- . الذريعة، ج 15، ص 72.
4- . لباب الألقاب في القاب الأطياب ملاّ حبيب الكاشاني، ص 91؛ الذريعة، ج 20، ص 106.

إنّه لا شيء إذا لم يدرك بحاسّة من الحواسّ، فقال أبو الحسن: «لما عجزت حواسّك ...» و هذا الكلام من مطارح أنظار الأعلام... قال الشارح قدس سره بعد قوله: أيقنّا أنّه ربّنا».

تحتوي نسخة هذه الحاشية على (12) صفحة، ضمّت كلّ صفحة (15) سطرا، وهي محفوظة ضمن المجموعة رقم 170/2/350 في مكتبة آية اللّه الگلپايگاني في قمّ المقدّسة.(1)

6. مخطوطاته

لقد ترك المؤلّف عدّة مخطوطات، فإنّه قدس سره كان يحرّر تأليفاته عدّة مرّات، ولذا توجد الآن عدّة نسخ لمؤلّفاته بخطّ يده، وقد شخّصت لحدّ الآن عدّة نسخ كتبها بيده، وهي:

1. الأمالي، للشيخ أبي جعفر محمّد بن الحسن الطوسي (م 460ق). وقد حرّر هذه النسخة ملاّ خليل في سنة (1048ق)، وأصل هذه النسخة محفوظ في مدينة زنجان في مكتبة السيّد عزّ الدين الزنجاني، برقم (413)،(2) ويوجد ميكروفيلم منه في جامعة طهران، برقم (2975).(3)

2. الحاشية على اُصول الكافي، تأليف ميرزا رفيع الدين محمّد بن حيدر الحسيني النائيني الطباطبائي (م 1082ق).

وقد كتب ملاّ خليل هذه الحاشية بخطّه في (250) ورقة من دون ذكر تأريخ الكتابة. وتوجد نسخة منها محفوظة في مكتبة آية اللّه المرعشي.(4)

3. التبيان في تفسير القرآن، للشيخ الطوسي (م 460ق). وتوجد نسخة نفيسه منه في مكتبة شيخ الإسلام الزنجاني وعليها خطّ المولى خليل القزويني ومذكراته بتأريخ (1048ق).(5)

ص: 38


1- . فهرست نسخه هاى خطّى كتابخانه آيت اللّه گلپايگانى، أبوالفضل حافظيان بابلى. مخطوط.
2- . الذريعة، ج 2، ص 313.
3- . فهرست ميكروفيلم هاى كتابخانه دانشگاه تهران، ج1، ص 744.
4- . فهرست نسخه هاى خطّى كتابخانه آيت اللّه مرعشى، ج 16، ص 306، نسخه ش 643.
5- . الذريعة، ج 3، ص 329.

4. حاشية شرح الشمسيّة، للمترجم، وتوجد نسخة منها في مكتبة آية اللّه المرعشي، ويحتمل كونها بخطّ المؤلّف.(1)

5. الشافي، وهو للمولى خليل أيضا، وقد نقل في الذريعة أنّ نسخة من هذا الكتاب بخطّ المؤلف موجودة ضمن مجموعة السيّد محمّد مشكاة في مكتبة جامعة طهران.(2)

6 . توجد على نسخة من نسخ من لايحضره الفقيه: «بلغت» و«سمعت» للملاّ خليل مع محمّد زمان في تاريخ (1053ق). وتوجد هذه النسخة في مكتبة ميرحسينا في قزوين.(3)

7. الصافي في شرح كافي. توجد ثلاث نسخ للصافي قد كتبت وحرّرت بخط ملاّ خليل نفسه، وهي:

1. مكتبة آية اللّه المرعشي رحمه الله بقم، الرقم 7251، كتاب العقل وكتاب التوحيد، بالخط النسخي، وروايات الكافي معرّب، 93 ورقة [الفهرست، ج 19، ص 47] .

2. المكتبة المركزيّة بجامعة طهران، الرقم 682، كتاب الإيمان والكفر، بخط النسخ والنستعليق، 301 ورقة [الفهرست، ج 5، ص 1389] .

3. مكتبة مدرسة الإمام الصادق عليه السلام بقزوين، الرقم 131: كتاب المعيشة من باب الرجل يستأجر الأرض أو الدار فيؤاجرها بأكثر ممّا استأجرها، 132 ورقة [الفهرست، ج 1، ص 174] .

7. اُسرته

إنّ أفراد اُسرته الذين عرفوا لحدّ الآن هم:

1. غازي القزويني، أبوه، ولم يذكر عنه شيء في الكتب التي تعرّضت للرجال وغيرها.

2. ملا محمّد باقر بن غازي، وهو أخو المؤلّف، وهو من أعيان علماء عصره، وقد عيّن مدرّسا في روضة عبد العظيم الحسني وهو في سنّ الثلاثين من عمره. وكان

ص: 39


1- . الذريعة، ج 6، ص 35.
2- . الذريعة، ج 13، ص 6؛ فهرست نسخه هاى خطّى دانشگاه، ج 5، ص 1360، ش 915.
3- . نشريه نسخه هاى خطّى، ج 6، ص 352.

أستاذا في مدرسة «التفاتيّة» في قزوين.(1)

وقد ترك آثارا، ومن آثاره:

أ. الحاشية على حاشية عدّة الاُصول، وتوجد نسخة منها في مدرسة «سپهسالار» في طهران.(2)

ب. الحاشية على صافي ملاّ خليل.(3)

ج. رسالة في صلاة الجمعة.(4)

3. جعفر بن غازي القزويني، وهو أخ آخر للمؤلّف، وجاء في كتب الرجال في بيان حياته مايلي:

جعفر بن الغازي الرازي، عالم جليل محدّث من أعلام القرن الحادي عشر، سكن قزوين متلمّذا على المولى خليل القزويني، وساح وتجّول في بلاد كثيرة باحثا منقّبا، وكتب بخطّه الجيّد وصحّح وقابل كتبا كثيرة في التفسير والحديث وغيرهما. كتب حواشي تدلّ على فضله على نسخة من فروع الكافي، بدأ بها في قزوين سنة (1060)، وأتمّها في قرية عبد العظيم في جمادى الاُولى سنة 1068. له زين المؤن ألّفه سنة (1082 ق).(5)

4. المولى سليمان بن ملاّ خليل القزويني، (وهو ابن المؤلّف).(6)

وقد ضبطت رسالتان من آثاره في المصادر، وهما:

أ. رسالة في صلاة الجمعة؛ وفيها قال بحرمة صلاة الجمعة زمن الغيبة كوالده،(7) وقد

ص: 40


1- . راجع لمعرفة حياته مفصّلاً: أمل الآمل، ج 2، ص 176 و 248 و 251؛ تعليقة أمل الآمل، ص 248؛ رياض العلماء، ج 5، ص 38 - 39؛ فوائد الرضويّة، ص 403 - 404؛ أعيان الشيعة، ج 9، ص 178؛ طبقات أعلام الشيعة، ص 92 - 93؛ مينودر يا باب الجنّه قزوين، ج 2 ص 276 و 665 و 856 - 857 ؛ معجم رجال الحديث، ج 14، ص 210.
2- . فهرست كتابخانه مدرسه عالى سپهسالار شهيد مطهرى، ج 1، ص 566.
3- . الذريعة، ج 6، ص 78.
4- . الذريعة، ج 15، ص 66.
5- . تراجم الرجال، ج 1، ص 125.
6- . وردت حياته في المصادر التالية: أمل الآمل، ج 2، ص 128؛ فوائد الرضويّة، ص 203؛ أعيان الشيعة، ج 7، ص 279؛ طبقات أعلام الشيعة، ص 248؛ مينودر يا باب الجنّه قزوين، ج 2 ص 666.
7- . الذريعة، ج 15، ص 72.

كتب ملاّ عبد اللّه بن صالح السماهيجي (م 1135ق) رسالة في خراسان ردّ فيها على هذه الرسالة، وسمّاها النفر والرهط الذين يجب عليهم الجمعة.(1)

ب . مناسك الحجّ؛ وقد كتبها باسم السلطان سليمان الصفوي المتوفّي سنة (1106ق).(2)

5. أحمد بن خليل بن غازي القزويني (ابن المؤلّف أيضا) والذي توفّي في حياة أبيه،(3) وقد كتب حاشية على حاشية أبيه على عدّة الاُصول.(4)

6. أبوذرّ بن ملاّ خليل القزويني (وهو ابنه الثالث)، وقد توفّي أيضا في حياة أبيه.(5)

7. محمّد نصير بن حاجي أفضل بيك (ابن أخي المؤلّف) وهو الذي كتب نسخة من فروع الكافي اشتملت على كتاب الصلاة والجهاد من سنة (1070) إلى سنة (1073ق).(6)

8. الأوضاع العلميّة والثقافيّة في قزوين في زمن ملاّ خليل

كان مولد ملاّ خليل في عام (1001ق)، وكانت قزوين في ذلك الزمن عاصمة للدولة الصفويّة، وقد بدأ فيها السلطان عبّاس الصفوي بمطاردة الفلاسفة والصوفيّة وتصفيتهم، وكان ملاّ خليل في الربيع الثاني من عمره.

وتعتبر المدرسة الفلسفيّة لقزوين ذات تاريخ قديم، فكانت من قديم الزمان مهدا لتربية جمع كثير من فحول الفلاسفة وكبار الحكماء والمتكلّمين، أمثال عليّ بن حاتم القزويني صاحب كتاب التوحيد الذي كان حيّا إلى سنة (326)، وأبي بكر عبد اللّه بن طاهر بن حارث الأبهري القزويني المتوفّي في سنة (330ق) وهو من طبقة الشبيلي،

ص: 41


1- . الذريعة، ج 24، ص 258؛ كشف الحجب والأستار، ص 248.
2- . الذريعة، ج 22، ص 264.
3- . تعرّضت لحياته المصادر التالية: أمل الآمل، ج 2، ص 14؛ رياض العلماء، ج 1، ص 38؛ طبقات أعلام الشيعة، ص 31.
4- . معجم المؤفين، ج 1، ص 217؛ أعيان الشيعة، ج 8 ، ص 376.
5- . ذكرت حياته الشخصيّة والعلميّة في المصادر التالية: أمل الآمل، ج 2، ص 352؛ أعيان الشيعة، ج 2، ص 349؛ طبقات أعلام الشيعة قرن 11، ص 212.
6- . فهرست نسخه هاى خطّى كتابخانه آيت اللّه گلپايگانى، أبوالفضل حافظيان بابلى مخطوط، نسخه ش 15/1.

والشيخ علك القزويني الذي توفّي في حدود سنة (480ق)، ومن معاصري السلطان محمّد بن ملكشاه السلجوقي صاحب الكرامات، وأبي بكر بن شاذان القزويني المتوفّي في سنة (581ق)، والكاتب القزويني المتوفّي في سنة (675ق)، وعبد الجليل القزويني صاحب كتاب نقض، وآخرون.(1)

لقد قام السلطان عبّاس الأوّل الصفوي (حكم 996 - المتوفّي 1038ق) بانقلاب عسكري على جيشه، فعزل جميع قوّاد الجيش وأصحاب المراتب العاليه فيه ممّن كان صوفيّا أوله مسلك فلسفي، كما وأغلق المدارس الفلسفيّة في قزوين، وحدّث قتل عام للفلاسفة ولمن يتّصل بهم في قزوين، وأسّس محاكم لمعرفة عقائد الناس، وكثيرا مّا كان يحاكم الفلاسفة بنفسه ويصدر في حقّهم حكم الإعدام. وقد عكس لنا الملاّ عبد النبيّ القزويني (م 1050ق) أحد هذه المجازر الجماعيّة التي ارتكبها السلطان عبّاس بنفسه.(2)

وبعد هذه التصفية التامّة للفلاسفة والصوفيّة أصبح الميدان خاليا للأخباريّين، ففي ظلّ السيف استطاع الصفويّون من سنة (1003ق) الاستيلاء التامّ على حوزات مدينة قزوين من سنة (1003ق) وأخذوا يصولون ويجولون فيها، واستمرّت قوّتهم وشوكتهم حتّى بعد انتقال العاصمة إلى مدينة إصفهان، بل استمرّت بعد انقراض الدولة الصفويّة.

وكان العلماء الاُصوليّون في قزوين يدركون خطر الأخباريّين، وكانوا على قلق شديد من الجمود الفكرى الحاكم على الحوزات العلميّة للشيعة والناشئ من الفكر الأخباري الجامد، ولذا نراهم كانوا يخالفونهم، ويتنازعون معهم من بداية شوكتهم وقوّتهم في قزوين.

وقد كتب المحقّق الشهيدي الصالحي القزويني مقالاً تحقيقيّا دقيقا في نشوء وسقوط الأخباريّين في قزوين، ولأجل معرفة هذا التيّار الفكري الحاكم على مدينة

ص: 42


1- . مدرسه فلسفى قزوين در عصر صفوى مقاله، عبدالحسين صالحى شهيدى، (طبع في مجلّة حوزة، ش 58، ص 169 - 192).
2- . المصدر السابق.

قزوين زمن ملاّ خليل نقلنا قسما من مقالة الشهيدي بعينه:

بعد تجديد الحياة الاخبارية في العصر الصفوي وبواسطة الحملة الشعواء التي لم ترحم أحدا، التي شنّها السلطان عبّاس الأوّل الصفوي على المدارس الفلسفية في قزوين، استطاع الأخباريّون - تحت ظل السيف - الانتصار في مقابل الفلاسفة.

وقد اشتدّت قدرتهم عند ظهور الملاّ محمّد أمين الإسترآبادي المتوفّي في سنة (1033ق)، حيث أقام دعائم الأخباريّة، وقد وصلوا إلى أوج قدرتهم في عصر ملا خليل القزويني المتوفي سنة (1089ق) - والذي يعدّ أخباريا متشدّدا - حتّى قسّمت قزوين عملاً إلى قسمين: شرقي وغربي، ويفصل هذين القسمين نهر السوق، وقد سكن القسم الشرقي منها أتباع الاُصولية في حين سكن القسم الغربى أتباع الأخبارية.

وكان الجمود الفكرى والتعصّب الأعمى في ذلك الزمان هو السائد حتّى على فضلاء ومتديني الأخبارية، وكان طلاب العلوم الدينيّة التابعين لهم يتجاهرون بالتعصب والجهل، حتّى أنّهم كانوا إذا أرادوا حمل كتب الاُصوليين يجعلونها في قطعة قماش أو غيرها، ثمّ يحملونها؛ كي لا تصيب جلود تلك الكتب أيديهم فيتنجّسوا!!!

لقد لقّب الأخباريّون العلماءَ الاُصوليين بعلماء ماوراء النهر، وكان معنى هذا الإسم واللقب أنّ من يلقّب به محكوم بالكفر والإلحاد وأنّه مهدور الدم.

تتشكل الأخباريّة من طبقتين: الأعيان أو الاشراف والرعية، وكان الجهل والاعتقاد بالخرافات والاُمور الغيبية هو الحاكم على عوام الناس، حتّى أنّ مريضهم كان يعالج بواسطة الأدعية الطبيّة ولا يعالج بالعقاقير الطبيّة ولا بشرب الأدوية.

لقد صارت القادة على أموال الاُصوليين وقتلهم أمرا عاديا رائجا بين عوامّهم.

هكذا كانت الاُمور الحاكمة في قزوين حتّى ما يقارب سنة (1165ق)، حيث دخلها الشيخ يوسف البحراني صاحب الحدائق (م 1184ق)، و هو من مشهوري علماء الأخباريّة، فلمّا دخلها استقبله الأخباريون استقبالاً حارّا، ونزل في القسم الغربي من المدينة، حيث كان بين أنصاره و أتباعه ومؤيّديه.

ص: 43

فلمّا دخل الشيخ يوسف البحراني مدينة قزوين حاول مقابلته العلماء من عائلة آل طالقاني والذين كانوا يمثّلون قيادة العلماء الاُصوليين، فالتقوا به ورتّبت بعدها زيارات متقابلة بين الطرفين.

وفي هذه الزيارات والاجتماعات وقعت مناظرات ومباحثات وجدل علمي بين الأخباريين والاُصوليين، حتّى استطاع الملاّ محمد ملائكة (م 1200ق) أن يقنع الشيخ يوسف البحراني زعيم الأخبارية في آخر لقاء بينهما، وذلك في منزله وبمحضر جمع غفير من علماء الفريقين، ولكن بعد مباحثة ومناظرة طويلة دارت بينهما، حتّى صار الشيخ يوسف البحراني على أثر هذه المناظرة من علماء الأخباريّة المعتدلين بعد أن كان متطرّفا متشدّدا.

وكان لهذه المناظرة صدى عظيم في قزوين، وكانت مورد بحث وجدال في مجالس فضلاء وخواصّ الفرقين، ودار على الألسنة: أنّ الملاّ محمّد ملائكة أقنع الشيخ يوسف البحراني وحكمه.

ولكن لم تستمر تلك المناظرات والمباحثات بين علماء الطرفين وفضلائهم طويلاً حتّى سرت إلى عوامّ الناس من مؤيّدي الطرفين، وتبدّل الأمر إلى حرب داخليّة محلّية في شوارع وأزقّة المدينة.

وفي أثناء هذه المواجهات واستمررا لها حمل الأخباريّون على بيت الملاّ محمد ملائكة كي يقتلونه، ولكنّه نجا من تلك المحاولة، ولكنهم أحرقوا بيته ومكتبته.

وقد عرفت واشتهرت هذه الحرب المحلّية باسم «حيدرى نعمتي»، ويتناقلها اليوم مشايخ مدينة قزوين ورواتها فيما بينهم على شكل قصص محلّية.

وقد غضب الشيخ يوسف البحراني غضبا شديدا من أعمال عوامّ الأخباريّة وسوقتهم، ثم ترك قزوين وقصد مدينة كربلاء المقدّسة اعتراضا على تلك الأعمال المشينة، واتّخذ كربلاء مسكنا له، ومن ناحية اُخرى أبعدت حكومة الوقت ملاّ محمّد ملائكة إلى قرية «برغان»، وبهذا الترتيب انتهت هذه الحادثة في قزوين.

وبعد هذه الكارثة بدأ العلماء الاُصوليون بتصديهم للأخبارين ومبارزتهم وذلك بقيادة العلماء من عائلة آل طالقاني.

ص: 44

وفي هذا الأثناء قام العلاّمة المجدّد المولى محمد باقر البهبهاني الحائري (م 1205ق) في كربلاء المقدّسة، وتصدّى للشيخ يوسف البحراني وأتباعه، وبوفاة المحدّث البحراني في سنة (1184ق) انزوت الأخبارية في إيران والعراق.(1)

وقد تعرّض الواعظ الشهير أدهم العزلتي الخلخالي - وكان من العرفاء المعاصرين لملاّ خليل القزويني، وكان تلميذا للشيخ البهائي، وقد سكن قزوين مابين سنة (1020) إلى سنة (1050) - في كشكوله المسمّى ب «كدو مطبخ قلندرى» إلى أهالي قزوين والأوضاع الحاكمة هناك، وانتقدهم عدّة مرات تصريحا وتلويحا.(2)

9. ملاّ خليل والأخباريّون

لقد نما واكتمل ملاّ خليل القزويني في أيّام تسّط الأخباريّين في قزوين، ومن الطبيعي أن تؤثّر هذه الأوضاع على أفكاره، ولذا أصبح في طبقة العلماء من الناحية الفكريّة، ويعدّ ملاّ خليل أحد العلماء الأخباريّين، وعدّه بعضهم بأنّه أخباريّ متشدّد،

وعدّه آخر بأنّه أخباريّ معتدل. لكي نعرف المباني الفكريّة لملاّ خليل لابدّ من طرح بعض عقائد الأخباريّين وأفكارهم وفرقها عن عقائد المجتهدين الاُصوليّين وأفكارهم، فجاء في دائرة المعارف الإسلاميّة الكبيرة في مدخل «الأخباريّون» في ذكر تاريخهم وفرقهم عن الاُصوليّين ما يلي:

الأخباريون في فقه الإماميّة المتأخّر: هم طائفة يعتمدون المنقولات في الكتب الحديثيّة من الأخبار والأحاديث، ولا يقبلون المناهج الاجتهاديّة والاُصوليّة، وفي مقابلهم الفقهاء الذين يعتمدون الاجتهاد ويعرفون بالاُصوليين. وتمتدّ جذور مقابلة هذين الرأيين في الفقه الامامي من القرون الاُولى للإسلام، ولكن من دون ذكر عنواني الاُصولية والأخبارية. وبالمطالعة لأنواع المكاتب الفقهية الإماميّة في القرون الثلاثة الاُولى يمكن التعرّف على جيل وطائفة كانوا يتّبعون طرقا مختلفة في فهم متون الأخبار توصلهم إلى الاجتهاد واستنباط الأحكام الشرعية في قبال

ص: 45


1- . المصدر السابق.
2- . راجع: كدو مطبخ قلندرى، أدهم العزلتي الخلخالي، ص 16 و 17 و 36 و 73 و 74 وموارد ديگر.

تبعة متون الأخبار.

وأوّل من أطلق اصطلاح «الأخباري» على معتمدي متون الأخبار والروايات هو الشهرستاني في كتابه الملل والنحل وذلك في النصف الأول من القرن السادس الهجري، وتبعه في ذلك جماعة. وبعده ذكر عبد الجليل القزويني الرازي - و هو من علماء الإمامية في القرن السادس الهجري - في كتابه النقض الاصطلاحين: الأخباري والاُصولي أحدهما قبال الآخر.

وضعّف مكتب فقهاء أهل الحديث في أواخر القرن الرابع والنصف الأوّل في القرن الخامس، وذلك بسعي الفقهاء الاُصوليين، وأصبح وجوده محدودا، ولكن حافظوا على هذا الوجود المحدود، واستمرّ هذا الأمر إلى أوائل القرن الحادي عشر، وعندها برزوا بثوب جديد بقيادة الملاّ محمد أمين الإسترآبادي (م 1033 أو 1036ق) الذي وجّه حملاته الشديدة على الطريقة المعتمدة غالبا في الفقه الإمامي؛ يعنى طريقة المجتهدين. ولابد من أن نلفت النظر إلى أنّ بعضهم يعتقد أنّ ابن أبي جمهور الأحسائي - الذي كان حيا إلى سنة (904ق) - كان من الذين مهدّوا السبيل للأخباريين وسوّوه لهم.

قالوا في ملاّ محمّد أمين الإسترآبادي الذي يعتبر مؤسّس الأخبارية ومشيّدها بين الشيعة المتأخرين هكذا: هو أوّل من فتح باب الطعن على المجتهدين، وأوّل من قسّم الإماميّة إلى قسمين: أخبارية واُصولية.

ومضافا إلى ملاّ محمد أمين الإسترآبادي المتشدّد والمتعصّب من المدرسة الأخبارية في القرن الحادي عشر، ذكروا متشدّدا آخر منهم في ذلك القرن وهو الشيخ عبد اللّه بن صالح بن جمعة السماهيجي البحراني، صاحب كتاب منية الممارسين، والذي اشتهر بطعنه على المجتهدين، كما عدّه الشيخ يوسف البحراني من الأخباريين، وأضاف بأنّه كان ممن يتطرّق لهم ويصيب من هجوهم، في حين كان أبوه ملاّ صالح من المجتهدين.

كما ويعدّ الملاّ محمد تقي المجلسي (م 1070ق) من أتباع المدرسة الأخبارية المعتدلين، وكان يؤيد تعليمات الملا محمّد أمين الاسترآبادي صراحة.

ومن الأخباريين المعتدلين أيضا: ملاّ خليل بن غازي القزويني (م 1089ق)،

ص: 46

وهو من معاصري الشيخ الحرّ العاملي ومحمّد باقر المجلسي وملا محسن الفيض الكاشاني، وأحد تلامذة الشيخ البهائي والسيد ميرداماد، وكان يخالف الاجتهاد مخالفة شديدة، وكان ينكره.

ومنهم: محمّد طاهر القمّي (م 1098ق).

ومنهم: الشيخ الحرّ العاملي (م 1104ق) وقد أشار في خاتمة كتابه المعروف وسائل الشيعة إلى أنّه من الأخباريين وأقام أدلّة على أحقّية مسلكه.

اشتهرت المدرسة الأخباريّة في القرون الثلاثة: الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر الهجريّة، واتّسعت في مدن إيران والعراق المذهبيّة، وهكذا في البحرين وبلاد الهند، وكانت من أهم المدن الإيرانيّة التي كثر فيها أتباع هذه المدرسة وتعتبر من القواعد المهمّة لهم، هى مدينة قزوين، وكان القسم الغربي منها محلّ سكونتهم واستقرارهم في زمن وصلوا فيه إلى أوج قدرتهم، فتعدّ قزوين أحد مراكز تلامذة وأتباع ملا خليل القزويني (م 1089ق) من الأخباريين.

ولكن بعد المواجهات المتعدّدة بين الأخباريين والاُصوليين، وبعد الصراع المرير بينهما أخذت المدرسة الأخباريّة بالضعف والاُفول يوما بعد يوم حتّى أصبح نفوذها محدودا جدّا.

وقد ذكر كلّ من السيّد نعمة اللّه الجزائري في منبع الحياة وملاّ رضي القزويني في لسان الخواصّ الفروق الأساسيّة بين الأخباريين والاُصوليين.

كما وعدّ عبد اللّه بن صالح السماهيجي البحراني في منية الممارسين أربعين فرقا بينهما.

وأيضا حقّق الشيخ جعفر كاشف الغطاء في كتابه الحقّ المبين عدّة فروق بينهما.

وأشار الميرزا محمّد الأخبارى في كتابه الطهر الفاصل إلى (59) فرقا بينهما.

وأوصل السيّد محمّد الدزفولي في فاروق الحقّ تلك الفروق والاختلافات إلى (86) فرقا.

كما وتعرّف الحرّ العاملي في الفائدة (92) من الفوائد الطوسيّة إلى الاختلافات بين المدرستين.(1)

ص: 47


1- . دائرة المعارف بزرگ اسلامى، ج 7، ص 160 - 163، مدخل «اخباريان».

ثمّ ذكر الكاتب في بقيّة مقالته عدّة اُمور يختلف فيها الأخباريّون عن الاُصوليّن، وهي كالآتي:

أ. الأخباريّون يحرّمون الاجتهاد، وأمّا الاُصوليّون فإنّهم يرونه واجبا كفائيّا، بل بعضهم يراه واجبا عينيّا، فمثلاً: نرى الملاّ محمّد أمين الإسترآبادي، ينكر الإجتهاد في كتابه الفوائد المدنيّة، ويقول: طريقة علمائنا المتقدّمين لم تكن اجتهاديّة.

ب. لقد حصر الأخباريّون الأدلّة بالكتاب والسنّة، في حين ذهب الاُصوليّون إلى حجّية الإجماع والعقل.

ج . منع الأخباريّون من تحصيل الأحكام عن طريق الظنّ، ولم يقولوا بحجّية غير العلم، والاُصوليّون على خلاف ذلك.

د . قُسّمت الأخبار لدي الأخباريّين إلى قسمين: صحيح وضعيف، وقسمّها الاُصوليّون إلى أربعة أقسام: صحيح وموثّق وحسن وضعيف.

ه . لقد قسّم الاُصوليّون المكلّفين إلى قسمين: مجتهد ومقلّد، وأمّا الأخباريّون فيرون أنّ المكلّفين كلّهم مقلّدي المعصوم، ولايجوّزون تقليد غير المعصوم.

و . ذهب الاُصوليّون إلى حجّيّة ظواهر القرآن ويرجحونه على ظواهر الأخبار، ولكنّ الأخباريّين لايجيزون التمسّل بظاهر الكتاب إلاّ في صورة عدم وجود تفسير وارد من المعصوم عليه السلام.

ز . ذهب الأخباريّون إلى أنّ جميع أخبار الكتب الأربعة صحيحة وقطعيّة الصدور، في حين لايرى الاُصوليّون صحّة جميع الأخبار الواردة في الكتب الأربعة، بل يخضعونها إلى قواعد خاصّة، فيكون بعضها صحيح وآخر غير صحيح، والصحيح على أقسام، كما هو مفصّل في محلّه.

ح . الأخباريّون يقولون بالحسن والقبح العقليّين، لكنّهم يخالفون الاُصوليّين في الأحكام العقلية المحضة فلا يقولون بحجّيّتها.

ط . ذهب الاُصوليّون إلى جريان أصالة البراءة في الشبهة الحكميّة التحريميّة وفي الشبهة الحكميّة الوجوبيّة، لكنّ الأخباريّين يقولون بجريانها في الشبهة الحكميّة

ص: 48

الوجوبيّة فقط.

ي . ذهب الأخباريّون إلى أنّه عند تعارض الأخبار لا تكون البراءة الأصليّة هي المرجع، عكس الاُصوليّين. قال الإسترآبادي في الفوائد المدنيّة:

أنا أعتقد أنّ التمسّك بالبراءة الأصليّة من حيث هي هي إنّما يصحّ قبل إكمال الدين، وأمّا بعد أن كمل الدين فلا محلّ لجريانها، بل لايجوز قطعا؛ لأنّ الأخبار تواترت عن

الأئمة عليهم السلام بأنّ كلّ واقعة تحتاج إليها الاُمّة إلى يوم القيامة، وكلّ واقعة يقع فيها اختلاف بين اثنين ورد فيها خطاب قطعي من الشارع المقدّس.

ك . ذهب الاُصوليّون إلى حجّيّة القياس المنصوص العلّة وكذا قياس الأولويّة وتنقيح المناط، ولكنّ الأخباريّين يرون أنّ هذه الأنواع من القياس هي من القياس الباطل والمنهي عنه في لسان الأحاديث.(1)

10. المصادر

أهمّ المصادر التي ذكرت ملاّ خليل وعرضت حياته أو نقده وما أشبهه هي: أمل الآمل، رياض العلماء، روضات الجنّات، قصص العلماء، ونجوم السماء.

وأمّا المصادر الاُخرى فإنّها كرّرت ماجاء في هذه الكتب الخمسة، وإليك أسماء جميع هذه المصادر مرتّبة طبق حروف الهجاء.

1. اثر آفرينان (زندگينامه نام آوران علمى ايران ازآغاز تا سال 1300 ش)، باهتمام عبدالحسين نوايي، ج 4، ص 342.

2. الأعلام، للزركلي، ج 2، ص 368.

3. أعيان الشيعة، للعاملي، ج 6، ص 355.

4. الإجازة الكبيرة، سيد نعمة اللّه الجرائري، ص 38 و 202.

5. الإجازة الكبيرة إلى الشيخ ناصر الجارودي القطيفي، الشيخ السماهيجي البحراني، ص 131.

ص: 49


1- . المصدر السابق.

6. أمل الآمل، الحرّ العاملي، ج 2، ص 112.

7. بناهاى آرامگاهى (دائرة المعارف بناهاى تاريخى ايران در دوره اسلامى)، پژوهشگاه فرهنگ و هنر اسلامى، تقويم محمّد مهدي العقابي، ص 40.

8. تتميم أمل الآمل، عبد النبيّ القزويني، ص 60 و 124 و 157.

9. تذكرة المتبحّرين، الحرّ العاملي، ص 314.

10. تراجم الرجال، للسيّد أحمد الحسيني، ج1، ص 126 و 168 و 200؛ و ج 2 ص 385.

11. تعليقة أمل الآمل، ص 50.

12. تنقيح المقال، المامقاني، ج 1 ص 402.

13. الجامع في الرجال، الشيخ موسى الزنجاني، ج 3 ص 703.

14. جامع الرواة، ميرزا محمّد عليّ الأردبيلي، ج 1، ص 298 - 299.

15. دائرة المعارف تشيّع، ج 7، ص 247 (خليلا قزوينى) للكاتب: شهيدي الصالحي.

16. روضات الجنّات، للسيّد الخوانساري، ج 3، ص 269 - 274.

17. رياض الجنّة، للسيّد الزنوزي الخوئي، الروضة الرابعة، ج 1، ص 550 - 553.

18. رياض العلماء، ميرزا عبداللّه الأفندي، ج 2، ص 261 - 266.

19. ريحانة الأدب، ميرزا محمّد عليّ المدرّس التبريزي، ج 4، ص 450 - 452.

20. سفينة البحار، للشيخ عبّاس القمّي، ج 1 ص 426.

21. سلافة العصر، سيد عليّ خان المدني الدشتكي، ص 499.

22. طبقات أعلام الشيعة، للشيخ آقا بزرگ الطهراني، (قرن 11)، ص 203 - 204.

23. فرهنگ بزرگان اسلام و ايران، آذر تفضّلي و مهين فضائلي جوان، ص 196.

24. الفوائد الرضوية، للشيخ عبّاس القمّي، ص 174 - 172.

25. فهرست كتب خطى كتابخانه هاى اصفهان، آيت اللّه سيد محمّد على روضاتى، ص 289 - 303.

26. فهرست نسخه هاى خطى كتابخانه دانشگاه تهران، محمّد تقى دانش پژوه، ص 1357 و 1385 و 1669.

ص: 50

27. قصص العلماء، للتنكابني، ص 264 - 265.

28. قصص الخاقاني، ولي قلي بن داود قلي شاملو، ج 2، ص 36-37.

29. لباب الألقاب في ألقاب الأطياب، ملاّ حبيب اللّه شريف الكاشاني، ص 91.

30. لغت نامه دهخدا، ذيل مدخلِ «خليل».

31. خاتمة مستدرك الوسائل، ميرزا حسين النوري، ج 3، ص 413.

32. معجم رجال الحديث، للسيّد الخويي، ج 7، ص 79.

33. معجم المؤّفين، عمر رضا كحاله، ج 4، ص 125.

34. مؤلفين كتب چاپى فارسى و عربى، خان بابا مشار، ج 3 ص 31.

35. مينودر يا باب الجنّه قزوين، سيد محمّد علي گلريز قزويني، ج 2 ص 173.

36. نجوم السماء فى تراجم العلماء، محمّد على كشميرى، مير هاشم محدّث، ص 105 - 108.

37. هدية الأحباب، حاج شيخ عباس قمى، ص 176.

38. هدية العارفين، اسماعيل پاشا بغدادى، ج 1، ص 354.

39. وقايع الأيّام (وقايع ماه محرم) ، ملاّ على خيابانى، ج 2 ، ص 147 .

11. الشافي في شرح الكافي

إشارة

وهو شرح مزجي مفصّل لكتاب الكافي، وكان تأليفه بأمر من سلطان العلماء كما صرّح بذلك المؤلف في مقدّمة الكتاب، حيث قال:

أمرني بشرح الكافي مفخر العلماء ، وأعظم السادات والعظماء ، نور الهدى وبدر الدُّجى ، ملجأ الضعفاء والمساكين ، مرجع الاُمراء في العالمين ، اعتماد الدولة العليّة العالية الحسينيّة الموسويّة الصفويّة ، خليفة سلطان الحسيني، الملقّب بسلطان العلماء أدام اللّه تعالى إقباله وإفضاله .

وقال المؤلّف نفسه في سبب تأليفه الكتاب وزمان شروعه بذلك ومكانه ما نصّه:

واحتياج الكافي إلى الشرح الشافي حرّك العزم منّي، فشرعت في شرحه في حرم

ص: 51

اللّه تعالى في جوار الكعبة البيت الحرام - زاده تعظيما - في سنة سبع و خمسين وألف هجرية.

والذي يفهم من مقدّمة المؤلّف على الكتاب أنّه قرّر أن يقوم بشرح كتاب الكافي بكامله، ولكنّ الذي عرف من نسخه الخطّية ووصل إلينا لحدّ الآن هو إلى نهاية كتاب الجنائز، وإلى الآن لم تُعرف أنّ له تتمّة، لذا نحتمل أنّ المؤلّف لم يستمرّ في ذلك

الشرح، بل تركه واعتنى بشرحه الفارسي للكتاب، وهو ما يسمّى ب «الصافي».

وبمقايسة بسيطة بين الصافي والشافي يتّضح أنّ المرتبة العلميّة للشرح العربي - أعين الشافي - أعلى من الصافي، وذات عبارات أكثر انسجاما وأكثر وضوحا.

إنّ ملاّ خليل بعد تأليفه كتاب الشافي حرّره وراجعه عدّة مرّات، فغيّر بعض المطالب وحذف اُخرى وأضاف ثالثة، وهذا ما جعل معرفة التحرير الأخير وتشخيصه أمرا مشكلاً.

وقد وقفنا على تحريرين للمؤلّف لكتاب الشافي، واعتمدنا التحرير الثاني وجعلناه أصلاً، وقد استنسخت منه عدّة نسخ جعلناها ملاكا لتصحيح الكتاب. ومن حسن الحظّ أنّا حصلنا على نسخة يعدّ متنها الأصلي هو التحرير الأوّل، وعليها تغييرات بخطّ المؤلّف نفسه، حيث غيّر بعض المطالب وأضاف أو حذف بعضا آخر على نفس تلك النسخة والتي تعتبر التحرير الثاني له، ومنها استنسخت عدّة نسخ.

ولمعرفة هذه التغييرات الحاصلة في التحرير الثاني عرضنا نماذج من بعض صور هذه النسخة لكي يشاهدها القارئ المحترم عن قرب ووضوح.

1/11. مخطوطات الشافي المهمّة

لقد عرفت وشخّصت لحدّ الآن أكثر في ستّين نسخة خطية من نسخ الشافي في مكتبات إيران فقط، وسَنُطلع القرّاء الكرام على أهمّ هذه النسخ باختصار وإيجاز غير مخلّين.

1. المكتبة المركزيّة بجامعة طهران، الرقم 916. الكتاب الثاني من الكافي، أوّلها:

ص: 52

«بسمله، الحمدُ للّه ربّ العالمين... فيقول... خليل بن...»؛ بالخطّ النسخي، نسخها جعفر بن غازي الرازي، و فرغ عنها في شوّال 1058ق، 210 أوراق [الفهرست، ج 5، ص 1359] .

2. مكتبة آية اللّه المرعشي رحمه الله بقم، الرقم 3786. كتاب العقل والجهل من الكافي. بالخطّ النسخي، ناسخها وتاريخ نسخها مجهول، لكن قوبلت مرّتين، إحداهما في تاريخ 1060ق والثانية فى 1076ق، 225 ورقة [الفهرست، ج 10، ص 172] .

3. مكتبة آية اللّه المرعشي رحمه الله في قمّ، الرقم 485. المجلّد الأوّل من الكافي، بخطّ النستعليق، نسخها محمّد إبراهيم الرازي، وفرغ عنها في أوائل ربيع الثاني من سنة 1063ق، 235 ورقة [الفهرست، ج 13، ص 25] .

4. مكتبة الروضة الرضويّة المقدّسة في مشهد، الرقم 902. كتاب العقل من الكافي، نسخها محسن بن نظام الدين محمّد القرشي، وفرغ عنها سنة 1064ق [الفهرست الإهدايى، ص 141] .

5. مكتبة مركز إحياء التراث الإسلامي في قمّ، الرقم 2447. أوّلها: «الدهر ثمّ ببيانهم عليهم السلاميعرف». وآخرها: «وعلى الأخير بمعنى الذنب». بالخطّ النسخي، نسخها قوام الدين أمير حسين الجوهرستاني اللنجاني، وفرغ عنها في 10 رمضان المبارك سنة 1064ق، 279 ورقة [الفهرست المخطوط، ص 7] .

6. المكتبة الوطنيّة في طهران، الرقم 1467 /ع. كتاب العقل و الجهل وكتاب الحجّة من الكافي. بالخطّ النسخي، نسخها محمّد صالح بن محمّد سعيد الحسيني، وفرغ عنها فى 1067ق، 293 ورقة [الفهرست، ج 9، ص 493] .

7. مكتبة جامعة العلوم القرآني بطهران، الرقم 7. المجلّد الثاني والثالث من الكافي، بخط النستعليق، كاتبها مجهول، فرغ عن نسخها في جمادي الأولى من سنة 1067ق [مجلّة وقف ميراث جاويدان، ج 9، ص 130] .

8. المكتبة الوطنيّة في طهران، الرقم 1896/ع. القسم الاُصول من الكافي، أوّلها:

ص: 53

«فوجب القطع بأنّ العلم بعدم الإيمان مناف...». بخطّ النستعليق، نسخها محمّد حسين بن عبد المطلّب الحسيني الجيلاني، وفرغ عنها في 1070ق، 69ورقة [الفهرست، ج 10، ص 547] .

9. مكتبة مجلس سنا في طهران، الرقم 216. كتاب التوحيد من الكافي، بالخط النسخي وناسخها مجهول، فرغ عن نسخها سنة 1076ق، 237 ورقة [الفهرست، ج 1، ص 101] .

10. مكتبة آية اللّه الگلپايگاني رحمه الله بقم، الرقم 2376. كتاب الإيمان والكفر من الكافي، نسخت في 1086ق، وناسخها مجهول [الفهرست القديم، ج 3، ص 241] .

11. مكتبة الروضة الرضويّة المقدّسة في مشهد، الرقم 1405. كتاب العقل و كتاب التوحيد من الكافي، نسخت في عام 1087ق، وناسخها مجهول [الفهرست الإهدائي، ص 141] .

12. مكتبة جامعة إلهيّات بطهران، الرقم 235ج. كتاب الدعاء إلى آخر كتاب العشرة من الكافي. بالخطّ النسخي وبعضها بالنستعليق. ناسخها مجهول، وفرغ عنها في 25 ربيع الأوّل من سنة 1089ق، 282 ورقة [الفهرست، ج 1، ص 565] .

13. مكتبة مركز إحياء التراث الإسلامي في قمّ، الرقم 2195. إلى كتاب الحيض من كتاب الطهارة. بالخطّ النسخي، نسخت في القرن الحادي عشر، وناسخها مجهول، وفيها علامة البلاغ تصحيحا بإمضاء حسين بن أفضل بيك في تاريخ 25 شوّال سنة 1089ق، 225 ورقة [الفهرست العكسي، ج 6، ص 247] .

14. المكتبة الوطنيّة في طهران، الرقم 2503 /ف. من كتاب الطهارة إلى كتاب الجنائز أوّلها: «بسمله، الحمد للّه ربّ العالمين حمدا كثيرا، والصلاة...». بالخطّ النسخي، نسخت في عام 1090ق، وناسخها مجهول، 425 ورقة [الفهرست، ج 6، ص 4] .

15. مكتبة فحول القزويني في قزوين، من دون الرقم. كتاب التوحيد وكتاب العقل من الكافي، سُقط من أوّلها وآخرها. نسخها محمدرضا التنكابني في عام 1092ق [مجلّة تراثنا، ج 2، ص 76] .

ص: 54

16. مكتبة آية اللّه المرعشي رحمه الله بقمّ، الرقم 6002. كتاب العقل والجهل من الكافي. بالخطّ النسخي، وناسخها و تاريخ نسخها مجهول، قوبلت مرّتين مع نسخة المؤلّف، 134 ورقة [الفهرست، ج 16، ص 5] .

17. مكتبة آية اللّه المرعشي رحمه الله في قم، الرقم 6003، كتاب التوحيد من الكافي. بالخطّ النسخي، نسخت في 26 محرّم 1094ق، وناسخها مجهول، وقوبلت مع نسخة المؤلّف، 139 ورقة [الفهرست، ج 16، ص 6] .

18. مكتبة مجلس الشورى الإسلامي في طهران، الرقم 6267. المجلّد الأوّل من الاُصول، بالخطّ النسخي، نسخها عليرضا بن أحمد الطالقاني، وفرغ عنها في 20 شعبان سنة 1094ق، 361 ورقة [الفهرست، ج 25، ص 264] .

19. المكتبة الوطنيّة في طهران، الرقم 1626 / ع . من كتاب الطهارة إلى آخر كتاب الجنائز من الكافي. أوّلها: «الحمد للّه ربّ العالمين حمدا كثيرا، والصلاة على سيّد الأوّلين....». بالخطّ النسخي، نسخها محمّدكاظم بن محمّد صادق عبد العظيمي، وفرغ عنها عام 1095ق، 182 ورقة [الفهرست، ج 10، ص 183] .

20. مكتبة آية اللّه المرعشي رحمه الله بقم، الرقم 10741. كتاب العقل والجهل من الكافي. بالخطّ النسخي، نسخت في عصر المؤلّف، وناسخها مجهول، 210 أوراق [الفهرست، ج 27، ص 175] .

21. مكتبة آية اللّه المرعشي رحمه الله بقمّ، الرقم 9954. من كتاب الطهارة إلى آخر باب استبراء الحائض. بالخطّ النسخي، ناسخها وتاريخ نسخها مجهول، لكن نسخت تقريبا في عصر المؤلّف، 96 ورقة [الفهرست، ج 25، ص 230] .

22. المكتبة المركزيّة بجامعة طهران، الرقم 915. كتاب العقل و الجهل من الكافي. نسخها جعفر بن غازي الرازي في القرن الحادي عشر، 214 ورقة [الفهرست، ج 5، ص 1357] .

23. مكتبة مجلس الشورى الإسلامي في طهران، الرقم 133 من مجموعة الخوئي.

ص: 55

كتاب التوحيد من الكافي. بالخطّ النسخي، نسخت في القرن الحادي عشر، وناسخها مجهول، 378 ورقة [الفهرست، ج 7، ص 142] .

24. مكتبة مجلس الشورى الإسلامي في طهران، الرقم 5776. كتاب الحجّة من الكافي، أوّلها: «الحمد للّه على حجّته البالغة... أمّا بعد فيقول...». بالخطّ النسخي، نسخت في القرن الحادي عشر، وناسخها مجهول، 260 ورقة [الفهرست، ج 17، ص 210] .

25. المكتبة الوطنّية في طهران، الرقم 1294 / ع. كتاب الإيمان والكفر وكتاب الدعاء من الكافي، نسخت في القرن الحادي عشر، وناسخها مجهول، 588 ورقة [الفهرست، ج 9، ص 280] .

26. مكتبة آية اللّه المرعشي رحمه الله بقم، الرقم 14750. كتاب العلم وكتاب التوحيد من قسم الأصول. بالخطّ النسخي، نسخها ميرزا هاشم الحسيني الرودباري، وفرغ عنها في شهر رمضان من شهور سنة 1109ق، وصحّحت وقوبلت بتوسّط الحاج محمّد حسينا، 280 ورقة [الفهرست، ج 37، ص 341] .

27. مكتبة آية اللّه الگلپايگاني رحمه الله بقم، الرقم 135/32/6435. كتاب الإيمان والكفر من الكافي. بالخطّ النسخي، نسخها محمّد بن محمّد عليّ بن لطف عليّ الحسينيّ التبريزي قبل عام 1110ق، وقابلها مع نسخة آخر، وعليها علامت بلاغ و حواش وتصحيحات، 264 ورقة [الفهرست، الالكترونيّة] .

28. مكتبة جامعة الحقوق في طهران، الرقم 48ج. بخطّ النستعليق، نسخها محمّد تقيّ بن عبد اللّه في عام 1111ق، 186 ورقة [الفهرست، ص 366] .

29. مكتبة آية اللّه المرعشي رحمه الله بقمّ، الرقم 2334، كتاب التوحيد، سقط من أوّلها. بالخطّ النسخي، نسخها محمّد قاسم بن نور اللّه الحسينيّ الطالقاني، وفرغ عنها في 8 صفر من

عام 1112ق [الفهرست، ج 6، ص 313] .

30. المكتبة الوطنيّة في فارس، الرقم 593. بالخطّ النسخي، نسخها محمّد باقر بن ملا

ص: 56

على رضا، وفرغ عنها في شهر ذي حجّة من شهور سنة 1117ق، 400 ورقة [الفهرست، ج 2، ص 182] .

31. مكتبة مركز المطالعات والتحقيقات الإسلاميّة، الرقم 794. كتاب التوحيد من الكافي. بالخطّ النسخي، نسخها أحمد بن ميرزا إبراهيم السمناني، وفرغ عنها في 22 جمادي الاُولى من سنة 1239ق، وعليها علامات البلاغ والتصحيح، 323 ورقة [الفهرست، ج 2، ص 74] .

2/11. النسخ المعتمدة:

1. مكتبة السيد جواد العلوي بقزوين. ومنه مصوّرة في مركز إحياء التراث اسلامي، برقم 3285.

تحتوي من أوّل الشرح إلى نهاية كتاب التوحيد، بخط النسخ، نسخها مهدى.

وهذه النسخة من أهمّ النسخ، حيث قوبل مرّتين بنسخة الأصل ومرّة منه كان مع سماع المصنّف وبمحضره. وصرّح بذلك في نهاية شرح كتاب العقل. حيث قال:

قوبل بقراءة أكثره بنسخة الأصل اُمّ النسخ في مجالس آخرها الخامس والعشرون من جمادى الآخرة سنة 1083ق وهو من كتب ولدي محمّدمهدي وفّقه اللّه لفهمه والعمل بما فيه.

ثمّ قوبل ثانيا سماعا مع اُمّ النسخ من قوله: «نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ» إلى آخره من حديث هشام إلى الحديث العشرين من الباب الأوّل، ومن الحديث الثامن من الباب الثالث إلى آخر الباب بحضور مصنّفه دام ظلّه وسماعه، ومن الباب الرابع إلى هنا في غيبته، وكان ذلك في مجالس آخرها يوم الخميس اليوم الثامن من العشر الأوّل من الشهر الحادي عشر من السنة الرابعة من العشر التاسع من المائة الاُولى من الألف الثاني من الهجرة النبويّة وصلّى اللّه على محمّد وآله اجمعين، كتبه العبد سنة 1083 (المهدى من هديت)

وصرّح أيضا في نهاية شرح كتاب التوحيد هكذا:

قد خطّت هذه النسخة من نسخة الشارح دام ظلّه اُمّ النسخ وقوبلت معها وصحّت

ص: 57

بقدر الوسع والطاقة في مجالس آخرها يوم الثلثاء السادس من شهر محرّم الحرام من شهور سنة (1086) ستّ وثمانين بعد الألف، الحمد للّه رب العالمين والصلاة على محمّد وآله أجمعين، كتب هذا العبد (المهدى من هديت).

وامتازت هذه النسخة بكثرة الحواشي، منها حواشي المصنّف على الكتاب برمز «منه»، «منه دام ظلّه»، «سمع منه». وحواشي من الوافي وحواشى من ميرزا رفيعا النائيني ومحمّد أمين الاسترآبادي وحاجى حسين النيشابوري والشيخ علي (ويحتمل أنّها لعليّ بن محمّد بن الحسن بن زين الدين العاملي المعروف بالشيخ علي الكبير، صاحب الدرّ المنظوم) وحواشى من كاتب النسخة، المسمّى ب «مهدى»، قد يكون هو محمّد مهدي بن علي أصغر القزويني المعاصر للحرّ العاملي صاحب الوسائل، وهو من تلامذة الخليل القزويني. وأيضا في هذه النسخة بعض المطالب في شرح الشافي أو في شرح بعض فقرات من أحاديث الكافي بهذه الرموز: «م ح ق»، «م د»، «ام ن»، «ع». وترجمة بعض اللغات من كتب اللغة، وأيضا بعض المطالب بلا رمز والاسم.

وتقع هذه النسخة في (617) صفحة، وفي كلّ صفحة (24) سطرا. ورمزنا لها ب «أ».

2. مكتبة آية اللّه المرعشي رحمه الله بقم، برقم 6002 و 6003، الرقم الأوّل يحتوي من أوّل الشرح إلى نهاية كتاب العقل، والرقم الثاني يحتوي على شرحه كتاب التوحيد. ناسخها مجهول ولكن قابلها رفيع الحسيني الطالقاني في سنة 1093ق وكتب في نهاية شرح كتاب العقل هكذا:

قوبل وصحّح مع نسخة مرّ عليها الشارح مرارا وفي هوامشها خطّه رحمه الله في مجالس آخرها عصر يوم الأربعاء أواسط شهر ذي قعدة الحرام سنة 1093 على يدي العبد الجاني رفيع الحسيني الطالقاني.

وكتب في نهاية شرح كتاب التوحيد:

قوبل وصحّح بقدر الجهد والطاقة إلاّ ما زاغ عنه البصر وحسر عنه النظر مع اُمّ النسخ، نسخة مرّ عليها الشارح مرارا وفي هوامشها خطّه الشريف في مجالس آخرها قبل زوال يوم الثلثاء من شهر صفر 1094.

ص: 58

وتقع نسخة 602 في (268) صفحة ونسخة 6003 في (278) صفحه وفي كلّ صفحه منها (25) سطرا. ورمزنا لهما ب «ج».

3. مكتبة آية اللّه المرعشى رحمه الله بقم، برقم 3786، وتحتوي على شرح كتاب العقل. وفيها اصلاحات واضافات كثيرة بخط المؤلّف. ناسخها مجهول ولكن قوبل في سنة 1060 و 1076ق مرّتين وصرّح بذلك في نهاية النسخة هكذا:

قوبل إلى هنا في ذي قعدة سنة ستّين وألف، ثمّ قوبل وصحّح في مجالس آخرها يوم الثلثاء الثالث عشر من رجب سنة ستّ وسبعين و ألف هجرية حامدا مصلّيا.

وتقع هذه النسخة في (450) صفحة وفى كلّ صفحة (19) سطرا. ورمزنا لها ب «د».

4. مكتبة آية اللّه المرعشى رحمه الله بقم، برقم 4825، تحتوي على شرح كتاب العقل، نَسخَه محمّد إبراهيم الرازى في أوائل ربيع الثاني سنة 1063. وكتب الشارح بخطّه الشريف في آخر النسخة هكذا:

أحمده واُصلّي على أحمده وآله؛ قوبل هذه النسخة المباركة مع الأصل اُمّ النسخ في مجالس حضرتُ في بعضها مقابلة تصحيح وإمعان نظر من صاحبها [؟] للعلم والعمل ميرزا محمّد صفي أدام اللّه تعالى توفيقاته وأمدّه بتأييداته. وكتب هذه الأحرف الشارح خليل بن الغازي القزويني في بلدة طهران في جمادي الاُولى سنة ثلاث وستّين بعد الألف.

وهذه النسخة هي التحرير الأوّل من الشافي. وتقع في (470) صفحة وفي كلّ صفحه (21) سطرا. ورمزنا لها ب «ه».

3/11. عملنا في الكتاب

قد عرفت فيما سبق أنّا قد اعتمدنا في تحقيق هذين المجلّدين على أربع نسخ معتبرة، وكانت مراحل العمل كما يلي:

1. مقابلة النسخ الخطّية بعضها مع البعض الآخر مع تثبيت الإختلافات، كما أننّا قد قابلنا متن الكافي الذي اعتمده المصنّف مع المتن المطبوع الذي

ص: 59

حقّقه الاُستاذ الغفاري رحمه الله، وأيضا قابلناه مع الكافي الذي حقّقه مركز بحوث دار الحديث أخيرا.

2. استخراج الآيات الشريفه والروايات المباركة وأقوال العلماء وشرح المفردات الغريبة.

3. تقويم النصّ وضبطه مع إعادة النظر في الاختلافات المنقولة من النسخ الخطّية، وقد جعلنا الصحيح أو الأصحّ في المتن وأشرنا إلى المرجوح في الهامش.

4. تقطيع النصّ إلى فقرات ومقاطع المعتدلة ووضع علائم الترقيم ورعاية قواعد الإملاء ممّا يسهّل الأمر على القارئ والطالب.

5. المراجعة النهائية الشاملة لتحقيق التناسق الكامل في الكتاب وإزالة مازاغ عنه البصر في المراحل السابقة.

ثمّ إنّه لابدّ من ذكر ملاحظتين ضروريّتين:

الاُولى: ذكرنا فيما تقدّم أن ملاّ خليل صاحب أفكار معتقدات بعضها واضح البطلان، فنراه أحيانا في كتابه الشافي بل وسائر مؤلّفاته يشنّ حملات شديدة على المجتهدين والفلاسفة بحدّ يخرج معه قلمه أحيانا عن الاعتدال والانصاف، وينسب إليهم اُمورا رديئة مشينة.

ومن المتّيقن به أنّ طبع هذا الكتاب لا يعني الدفاع عن أقواله وأفكاره الخاصّة، فضلاً عن تبنّيها، بل لأجل عرض أفكاره الشخصيّة التي كان لها الأثر في عصره وعرض الانتقادات التي وجّهها المفكّرون العلماء المخالفون له ذلك الزمان.

الثانية: لقد شرح ملاّ خليل اُصول الكافي بكاملها، ومن الفروع إلى نهاية كتاب الجنائز، وقد قمنا ابتداءً. بطبع قسم من شرح اُصول الكافي، وسوف نقوم بعد ذلك - إن شاء اللّه - بتحقيق وتصحيح بقية الكتاب وطبعه، وطبق تخميناتنا الأوّلية سيصل مجلّدات هذا الشرح إلى خمسة عشر جلداً.

ص: 60

كلمة شكر وتقدير:

وفي الختام نتقدّم بالشكر الجزيل إلى جميع اُخوتنا الذين ساهموا بمساعدتنا في إنجاز هذا العمل ونخصّ منهم: آية اللّه الشيخ نعمة اللّه الجليلي رحمه الله الذي قام بالمراجعة النهاية للكتاب، والأخ الفاضل الشيخ عبد الحليم الحلّي الذي ساهم في إنجاز هذا العمل من أوّله إلى آخره، والسيّد مرتضى عيسى زاده، وعبد الكريم الرضائي لقيامهما بمقابلة النسخ الخطّيه، والمحقّق البارع الشيخ علي الصدرائي الخوئي للمساعدة في تنظيم مطالب حول حياة المؤلف، والمحقّق الفاضل الشيخ علي الحميداوي لتعريب مقدّمة التحقيق، وحجة الإسلام والمسلمين الدكتور السيّد محمود المرعشي رئيس مكتبة آية اللّه السيد المرعشي رحمه الله، وحجة الإسلام والمسلمين سيد أحمد الحسيني الاشكوري حيث وفّرا لنا النسخ الخطّية للكتاب. نسأل اللّه تعالى أن يوفّق العاملين في خدمة دينه المبين ما يحبّ ويرضى.

محمد حسين الدرايتي

17 ربيع الأوّل 1430ق

25 اسفند 1387ش.

ص: 61

ص: 62

تصوير شماره 1

ص: 63

تصوير شماره 2

ص: 64

تصوير شماره 3

ص: 65

تصوير شماره 4

ص: 66

تصوير شماره 5

ص: 67

تصوير شماره 6

ص: 68

تصوير شماره 7

ص: 69

تصوير شماره 8

ص: 70

تصوير شماره 9

ص: 71

تصوير شماره 10

ص: 72

تصوير شماره 11

ص: 73

تصوير شماره 12

ص: 74

تصوير شماره 13

ص: 75

تصوير شماره 14

ص: 76

الشافي في شرح الكافي

ص: 77

ص: 78

خطبة الکافي

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه على ما وفّقنا للتمسّك بالثقلين ، ولم يجعلنا من الذين نسوا عترة نبيّهم في أفكارهم في الفروع أو أحد الاُصولَيْن ، فاجتنبنا البدعة ، ولزمنا المهيعة ،(1) وصلّى اللّه على سيّد الأوّلين والآخرين محمّد أصل الضياء ، وعترته الطيّبين المعصومين الهادين الذين هم سفينة النجاة ، وبهم بقاء العلم ما بقي الأرض والسماء .

أمّا بعد ،

فيقول الغنيّ بربّه عمّن سواه خليل بن الغازي القزويني - تجاوز اللّه تعالى عن سيّئاتهما وآتاهما كتابهما بيمينهما - : أمرني بشرح الكافي مفخر العلماء ، وأعظم السادات والعظماء ، نور الهدى وبدر الدُّجى ، ملجأ الضعفاء والمساكين ، مرجع الاُمراء

في العالمين ، اعتماد الدولة العليّة العالية الحسينيّة الموسويّة الصفويّة(2) ، خليفة سلطان الحسيني، الملقّب بسلطان العلماء(3) أدام اللّه تعالى إقباله وإفضاله .

إنّ كتاب(4) الكافي للشيخ أبي جعفر ثقة الإسلام محمّد بن يعقوب بن إسحاق الرازي

ص: 79


1- . مهيعة ؛ اسم الجحفة ، وهي ميقات أهل الشام ، وبها غدير خمّ ، وفي حديث عليّ عليه السلام : «اتّقوا البدع والزموا المهيع» ؛ هو الطريق الواسع المنبسط ، والميم زائدة ، وهو مفعل من التهيّع : الانبساط . النهاية، ج 4، ص 377 مهيع .
2- . في «ج» : - «الصفوية» .
3- . هو حسين بن الميرزا رفيع الدين محمد بن محمود الحسيني الآملي المازندراني الملقّب بسلطان العلماء ، واُخرى بخليفة السلطان ، زوّجه الشاه عباس ابنته ، وفوّض إليه الوزارة ، ثم استوزره من بعده الشاه صفي ، توفي سلطان العلماء سنة 1064 هجرية في مازندران ، وحمل إلى النجف الأشرف . معجم رجال الحديث ، ج 12 ، ص 196 ، الرقم 7803 .
4- . في «أ ، ج» : «إنّ الكتاب» . وفي «د» : «فإنّ الكتاب». والمناسب ما اُثبت .

الكليني - شكر اللّه تعالى مساعيه في حفظ اُصول الدِّين وفروعه - كتابٌ لم يصنّف في الإسلام مثله(1) ؛ صنّف في زمن الغيبة الصغرى - وهو تسع وستّون سنة - بين أزمنة ظهور الأئمّة وأزمنة انقطاع ذلك بالكلّيّة ، ومصنّفه ممّن اعترف المؤالف والمخالف بفضله .

قال أصحابنا : «وكان أوثق الناس في الحديث وأثبتهم وأغورهم في العلوم» .(2)

وقال ابن الأثير من المخالفين في جامع الاُصول :

هو أبو جعفر محمّد بن يعقوب الرازي الفقيه ، الإمام على مذهب أهل البيت ، عالم في مذهبهم ، كبير فاضل(3) عندهم ، مشهور ، له ذكر فيمن كان على رأس المائة الثالثة .(4) انتهى .

وهذا إشارة إلى ما روى المخالفون أنّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله قال : «إنّ اللّه - عزّ وجلّ - يبعث لهذه الاُمّة على رأس كلّ مائة سنة(5) من يجدّد لها دينها» . رواه أبو داود(6) ، و(7)كذا في المشكاة .(8)

وقال الطيّبي(9) في الشرح :

ففي رأس المائة الاُولى من اُولي الأمر : عمر بن عبد العزيز ، ومن الفقهاء : محمّد بن عليّ

ص: 80


1- . في «ج» : «مثله في الإسلام» .
2- . رجال النجاشي ، ص 377 ، الرقم 1026 ؛ منتهى المقال ، ج 6 ، ص 235 ، الرقم 2947 .
3- . في «أ» : «وفاضل» .
4- . جامع الاُصول ، ج 11 ، ص 322 .
5- . في «ج» : - «سنة» .
6- . سنن أبي داود ، ج 2 ، ص 311 ، ح 4291 .
7- . في «ج ، د» : - «و» .
8- . المراد بالمشكاة ، مشكاة مصابيح السنّة وهو تكملة مصابيح السنّة للبغوي ، ألّفه ولي الدين أبو عبداللّه محمد بن عبداللّه الخطيب القزويني . فرغ من جمعه آخر يوم الجمعة من شهر رمضان سنة 737 هجرية . كشف الظنون ، ج 2 ، ص 1699 .
9- . الطيبي هو حسن بن محمد الطيبي المتوفى سنة 743 هجرية، له شرح على كتاب مصابيح السنّة للبغوي حسين بن مسعود الفراء الشافعي المتوفى سنة 516 هجرية، واسم الشرح : الكاشف عن حقائق السنن . كشف الظنون، ج 2، ص 1700؛ هدية العارفين ، ج 1 ، ص 286 .

الباقر عليه السلام ، والقاسم بن محمّد بن أبي بكر ، وسالم مولى عبداللّه بن عمر ، والحسن البصري ، ومحمّد بن سيرين وغيرهم من طبقاتهم .

وفي رأس المائة الثانية من اُولي الأمر : المأمون ، ومن الفقهاء : الشافعي ، وأحمد بن حنبل لم يكن مشهورا حينئذٍ ، واللؤلؤي من أصحاب أبي حنيفة ، وأشهب من أصحاب مالك ، ومن الإماميّة : عليّ بن موسى الرضا .

وفي(1) الثالثة من اُولي الأمر : المقتدر باللّه ، ومن الفقهاء : أبو العبّاس بن شريح الشافعي ، وأبو جعفر الطحاوي الحنفي ، وابن(2) جلال الحنبلي ، وأبو جعفر الرازي من الإماميّة ، ومن المتكلِّمين : أبو الحسن الأشعري .

وفي(3) الرابعة من اُولي الأمر : القادر باللّه ، ومن الفقهاء : أبو حامد الإسفرايني الشافعي ، وأبو بكر الخوارزمي الحنفي ، وأبو محمّد عبدالوهّاب المالكي ، والمرتضى الموسوي أخ الرضيّ الشاعر من الإماميّة .

وفي الخامسة من اُولي الأمر: المستظهر باللّه ، ومن الفقهاء : الإمام أبو حامد الغزالي ، والقاضي محمّد المروزي وغيره من طبقاتهم ، وإنّما المراد بالذِّكر ذكر من انقضت المائة ، وهو حيّ عالم مشهور ، مشار إليه ، واللّه أعلم .(4) انتهى .

ثمّ إنّه لم يكن كثيرَ التصانيف ، فيكونَ مستعجلاً ؛ صنّف الكافي في عشرين سنة ، وكان في بغداد مجاورا للسفراء ، ومات فيها سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة ، أو سنة تسع وعشرين وثلاثمائة ، سنة تناثر النجوم ،(5) وفي هذه السنة مات آخر السفراء

ص: 81


1- . في «ج» : «ومن» .
2- . في «ج» : «وأبي» .
3- . في «أ ، د» : «ومن» .
4- . حكاه في روضات الجنّات ، ج 6 ، ص 108 ، عن شرح مصابيح للبغوي .
5- . جاء في لؤلؤه البحرين ، ص 384 في علّة تسمية السنة التي توفي فيها الشيخ الكليني بسنة تناثر النجوم : أنّه رأي الناس فيها تساقط شهب كثيرة من السماء ، وفسّر ذلك بموت العلماء، وقد كان ذلك، فإنّه مات في تلك السنة جملة من العلماء منهم الشيخ الصدوق ومنهم الشيخ الكليني وعلي بن محمد السمري آخر السفراء وغيرهم ، كما ورد خبر تناثر النجوم في كتاب تاريخ أخبار البشر الذي هو من مصنّفات إخواننا الجمهور ، وقد ذكر وفاة جملة من العلماء ، ومنهم السمري والكليني ، وانظر: روضات الجنّات ، ج 4 ، ص 278 .

الأربعة عن الناحية المقدّسة ، وهو أبو الحسن عليّ بن محمّد السَمُري رحمه اللّه تعالى ، ووقعت الغيبة التامّة .

واحتياج الكافي إلى الشرح الشافي حرّك العزم منّي ، فشرعتُ في شرحه في حرم اللّه تعالى في جوار الكعبة البيت الحرام - زاده اللّه تعظيما - في سنة سبع وخمسين وألف هجريّة ، وجعلته هديّة لبقيّة اللّه تعالى في أرضه ، وحجّته على بريّته ، الإمام الثاني عشر المنتظر، القائم بالحقّ، صاحب الزمان الحجّة بن الحسن ، عليه وعلى آبائه الطاهرين أجمعين صلوات اللّه وتسليماته وتحيّاته ، اللّهُمَّ احفظه من بين يديه ومن خلفه ، وعن يمينه وعن شماله ، ومن فوقه ومن تحته ، وعجِّل إنجاز ما وعدته من النصر والظفر .

وقد اشتهر اُصول الكافي بالإشكال ، وليس الباعث عليه في الأكثر إلاّ أنّ جمعا أدخلوا بعض اُصول الفلاسفة وبعض اُصول المعتزلة واجتهاد المخالفين في اُصول أصحابنا ، فذهبوا إلى ما أرادوا ؛ مفزعهم في المعضلات إلى أنفسهم ، وتعويلهم في المبهمات على آرائهم ، كأنّ كلّ امرئٍ منهم إمام نفسه ، قد أخذ منها فيما يرى بعُرىً وثيقات ، وأسبابٍ محكمات ؛ فنسأل اللّه العفو والعافية .

واعلم أنّ جميع ما نذكره في مقام تفسير الآيات المتشابهات إمّا إبداء احتمال، والاحتمالات المختلفة الغير المتناقضة يمكن اجتماعها في القرآن ؛ لأنّ بطونه كثيرة ، القرآن حمّال ذو وجوه ، وإمّا نقل لم يذكر فيه المنقول عنه ، وكذا في شرح الأحاديث .

وما يذكر فيه أكثر من احتمال واحد ، فكلّ سابق أرجح من لاحقه ، فإن صُدِّر اللاحق بقولنا : «ويحتمل» أو «ويمكن» فالتفاوت معتدٌّ به ، وإن صُدِّر ب «أو» فالتفاوت قليل ، إلاّ إذا تقدّم فيما هو ناظر إليه قولنا : «ويحتمل» أو «ويمكن» ، وإن صدِّر ب «أمّا» و«إمّا» أو بنحو الأوّل والثاني ، كان التفاوت أقلّ ؛ كلّ ذلك في نظري ، فليسع كلّ ناظر لنفسه ، ولا يعتمد على شيءٍ منه تقليدا ، إنّما هو لتشحيذ الأذهان لتستعين به إلى اليقين ؛ ونسأل اللّه العصمة والتوفيق .

ص: 82

قال المصنّف - قدّس اللّه تعالى روحه - :

(بسم اللّه الرحمن الرحيم)

الاسم : الرفعة والعظمة ، كما يجيء في أوّل سادس عشر(1) «كتاب التوحيد» . وهو مأخوذ من السُّمُوّ بضمّتين وشدّ الواو ، وقد توضع موضعه العزّة ، كما قالوا: «بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ»(2) .

«اللّه» أصله إله ، على فِعال بمعنى فاعل من ألههم كنصر ، أي استحقّ عبادتهم ، ونظيره إمام من أمّهم إذا تقدّمهم ، اُدخل عليه اللام للعهد ، أي الذي يستحقّ عبادة كلّ من سواه ، ولا يستحقّ غيره عبادته ؛ فهو صفة تستعمل استعمال العَلَم .

وقيل(3) : عَلَم ، وإلاّ لم يفد «لا إله إلاّ اللّه» التوحيد .(4) انتهى .

وفيه : أنّ انحصاره في شخص - بديهة أو نظرا - يغني عن علميّته في إفادة التوحيد ، كأن يقول : لا إله إلاّ الخالق لكلّ ما سواه ، أو إلاّ القادر على كلّ شيء ، وسيجيء بيان الاسم ولفظ «اللّه» في خامس(5) كتاب التوحيد .

و«الرحمن» لا يطلق على غيره تعالى ؛ فإنّ معناه : من أعطى كلّ شيء ما يستحقّه من التدبير ؛ قال تعالى : «مَا تَرَى فِى خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ» .(6)

وهو عربي ، ومن أبنية المبالغة من «رحم» كعلم ، ومستعمل استعمالَ الصفة ، فجرّه على النعت ، وفي الدعاء : «يا رحمن الدنيا والآخرة» .(7)

ص: 83


1- . أي الحديث 1 من باب حدوث الأسماء .
2- . الشعراء 26 : 44 .
3- . في حاشية «أ» : «والقائل التفتازاني في المطوّل» .
4- . المصباح للكفعمي ، ص 314 ؛ المواقف للايجي ، ج 3 ، ص 305 ؛ تفسير الرازي ، ج 1 ، ص 272 .
5- . أي الباب الخامس من كتاب التوحيد ، وهو باب المعبود .
6- . الملك 67 : 3 .
7- . الكافي ، ج 2 ، ص 557 ، باب الدعاء للكرب والهمّ والحزن والخوف ، ح 6 ؛ عيون أخبار الرضا عليه السلام ، ج 1 ، ص 19 ، ح 37 ؛ مصباح المتهجّد ، ص 504 ؛ فضائل الأشهر الثلاثة ، ص 135 .

وقيل(1) : عبراني الأصل ، وكان بالخاء المعجمة فاُبدل ، وإلاّ لما أنكرته العرب ، قال تعالى : «وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَانِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ»(2) .(3) انتهى .

وقيل : عَلَم ،(4) قال ابن هشام في مغني اللبيب في قول الشاعر :

«تبارك رحمانا رحيما وموئلاً»(5) :

الصواب أنّ «رحمانا» بإضمار أخصّ وأمدح،(6) و«رحيما» حال منه ، لا نعت له ؛ لأنّ الحقّ قول الأعلم وابن مالك : إنّ الرحمن ليس بصفة بل عَلَم . وبهذا أيضا يبطل كونه تمييزا ، وقول قوم : إنّه حال .

وأمّا قول الزمخشري : إذا قلت : اللّه رحمن أتَصْرِفه أم لا ؟ وقول ابن الحاجب : إنّه اختلف في صرفه ؛ فخارج عن كلام العرب من وجهين ؛ لأنّه لم يستعمل صفة ولا مجرّدا من «ال» وإنّما حذف في البيت للضرورة ، ويبنى(7) على علميّته أنّه في البسملة ونحوها بدل لا نعت .

و«الرحيم» نعت آخر للّه ، وقيل : يبنى على علميّة الرحمن أنّ الرحيم بعده نعت له ، لا نعت لاسم اللّه ؛ إذ لا يتقدّم البدل على النعت ، وأنّ السؤال الذي سأله الزمخشري وغيره - : لِمَ قدّم الرحمن مع أنّ عادتهم تقديم غير الأبلغ كقولهم : عالم نحرير ، وجواد فيّاض ؟ - غير متّجه .(8) انتهى .

ووجه التقديم مع كون الرحمن صفةً أنّه إنّما عادتهم تأخير الأبلغ إذا كان التفاوت بالشدّة والضعف ، لا بالعموم والخصوص ، وما نحن فيه من الثاني ، فإنّ المراد بالرحيم

ص: 84


1- . في حاشية «أ» : «القائل ثعلب» .
2- . الفرقان 25 : 60 .
3- . لسان العرب ، ج 12 ، ص 231 ؛ تاج العروس ، ج 16 ، ص 278 رحم .
4- . اُنظر: التبيان للطوسي ، ج 7 ، ص 501 ؛ تفسير مجمع البيان ، ج 1 ، ص 52 .
5- . هذا عجز لبيت صدره : «بدأت ببسم اللّه في النظم أوّلاً» وهو مطلع القصيدة الشاطبيّة في القراءات السبع ، وتوفّي الشاطبي قاسم بن فيره، سنة 590 هجرية .
6- . في مغني اللبيب : «أو أمدح» .
7- . كذا في النسخ . وفي المصدر : «وينبني» .
8- . مغني اللبيب ، ج 2 ، ص 461؛ وفي طبعة اُخرى ، ج 2 ، ص 601 ، الباب الرابع، فيما افترق فيه الحال والتمييز .

مَن هَدى مَن يليق بالهداية إلى صراطٍ مستقيم والجنّة .

(الْحَمْدُ لِلّهِ الْمَحْمُودِ) . الحمد بالفتح والمحمدة - بكسر الميم الثانية وفتحها من باب علم - : ضدّ اللوم والملامة ، فلا يكون إلاّ بالقول وما يجري مجراه ، فهو الوصف بالجميل الاختياري على جهة التعظيم والتبجيل ، ونائب الفاعل ضمير مستتر فيه أو قوله :

(لِنِعْمَتِهِ) . النعمة بالكسر: مصدر «نعم» كعلم بمعنى أنعم ، وبالفتح الاسم من التنعّم . وإنّما خصّها بالذِّكر - مع أنّ الباعث على الحمد وهو الذي يسمّى المحمود له والمحمود عليه أيضا أعمّ من النعمة وغيرها - لأنّ المقصود هنا بيان ما وقع في سورة الحمد من الابتداء بالحمدللّه لجلب نعمته واستجابة الدعاء في قوله : «اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ» .

ويجيء في «كتاب الدعاء» في الأوّل والسادس من «باب التحميد والتمجيد» أنّ تقديم الحمد وسيلة استجابة الدعاء ، فالمراد بنعمته هنا التوفيق لسلوك الصراط المستقيم، وهو العمل عن علم مستفاد من اللّه ورسوله ، لا عن رأي وظنّ ، كما في سورة

النساء : «وَمَنْ يُطِعْ اللّه َ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّه ُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ...»(1) .

وهذا طريقة الأخباريّين من الشيعة الإماميّة ، كما يجيء في الخطبة في شرح : «والشرط من اللّه جلّ ذكره فيما استعبد به خلقه أن يؤدّوا جميع فرائضه بعلمٍ ويقين وبصيرة» .

ويظهر منه أنّ المغضوب عليهم عبارة عن المفتين عن ظنّ من اليهود والنصارى وأمثالهم ، والضالّين عبارة عن المقلّدين منهم كما في آية(2) سورة التوبة : «اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابا مِنْ دُونِ اللّه ِ ...»(3) . ويجيء في «كتاب العقل» في أوّل كتاب

ص: 85


1- . النساء 4 : 69 .
2- . في «أ» : - «منهم كما في آية» .
3- . التوبة 9 : 30 .

التقليد(1) ، وهو التاسع عشر(2) ، وآية سورة البقرة : «وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِى يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً ...»(3) . ويجيء في «كتاب العقل» في ثاني عشر الأوّل .(4)

ويمكن كون كلّ من الفريقين داخلاً في المغضوب عليهم ، وكون الضالّين عبارة عن المستضعفين .

(الْمَعْبُودِ) . العبادة: تعظيم وتذلّل عند شخص لم يأذن أعلى منه في هذا التذلّل عنده، سواء كان التذلّل باعتقاد أنّ المتذلّل له قادر على قضاء كلّ حاجة وكشف كلّ كربة أم لا ، وسواء كان بإطاعة له أم لا .

(لِقُدْرَتِهِ) . القدرة هنا: صحّة الفعل والترك ، فلا تتعلّق إلاّ بالممكن في نفسه ، الغير اللازم لعلّته التامّة ، كما يجيء في «باب البداء» من «كتاب التوحيد» .

وقد تُطلق على كون الشخص بحيث إن شاء فعل وإن لم يشأ لم يفعل ، وحينئذٍ تتعلّق بالمحال في نفسه أيضا ، وإنّما خصّها بالذِّكر لأنّ القدرة بالاستقلال في خلق ممكن ما بقول «كن» ومحض نفوذ الإرادة أوّل ما يعرف به العبد ربّه وأوّل ما يستحقّ العبادة لأجله ، وللإشعار بأنّ حصر العبادة في قوله تعالى : «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» مبنيّ على قدرته بالاستقلال على التوفيق وهداية الصراط المستقيم .

(الْمُطَاعِ لِسُلْطَانِهِ(5)) . معنى الإطاعة هنا أنّ كلّ شيء بمشيئته ، فما شاء اللّه كان ، وما لم يشأ لم يكن حتّى أفعال العباد الاختياريّة ، طاعتهم وعصيانهم ، وسيجيء تحقيقه في ثاني «باب الاستطاعة» من «كتاب التوحيد» .

ص: 86


1- . كذا في النسخ وفي الكافي المطبوع : «باب التقليد» .
2- . أي الحديث 1 من باب التقليد وهو الباب التاسع عشر من كتاب العقل . وهذا على تبويب الشارح . ولكن هذا الباب في الكافي المطبوع كان ذيل كتاب فضل العلم، ورقم الباب 18 .
3- . البقرة 2 : 171 .
4- . أي الحديث 12 من الباب الأوّل وهو باب العقل والجهل من كتاب العقل . وهذا على تبويب الشارح حيث عنون لكتاب العقل والجهل وكتاب فضل العلم عنوانا واحدا، وهو «كتاب العقل»، وجعل كتاب فضل العلم من أبواب كتاب العقل ، خلافا للكافي المطبوع .
5- . في الكافي المطبوع : «في سلطانه» بدل «لسلطانه» .

(الْمَرْهُوبِ) أي المخوف (لِجَلاَلِهِ) أي لأنّه يجلّ عن النقص وعن القبيح ؛ يقال : جلّ عن كذا : إذا لم يتّصف به ؛ لأنّه نقص أو قبيح ، أي سواء كان في صفات ذات - كالصورة والتخطيط - أم صفات فعل كالظلم ، وهو وضع الشيء في غير موضعه . وهو إشارة إلى أنّه تعالى يعذّب البتّة مَن كان العفو عنه ظلما من العُصاة ، كما في قوله تعالى في سورة الأنفال : «ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّه َ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ»(1) ، وتفصيله وبيان مفهوم المبالغة في الآية في حواشينا على عدّة الاُصول .

(الْمَرْغُوبِ إِلَيْهِ). الظرف في مقام الفاعل . (فِيمَا عِنْدَهُ) هو خزائن السماوات والأرض .

(النَّافِذِ أَمْرُهُ فِي جَميعِ خَلْقِهِ) . «أمره» إشارة إلى ما في سورة يس: «إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ»(2) .

(عَلاَ فَاسْتَعْلى). هذا إلى قوله : (منظر) مذكور في «كتاب الروضة» في خطبة أمير المؤمنين عليه السلام .(3) والمراد بالعلوّ هنا استجماع جميع صفات الكمال والبراءة من كلّ نقص وقبيح ، والفاء للتعقيب ، والاستعلاء إظهار العلوّ بخلق العالم . وهذا إشارة إلى الحديث القدسي : «كنتُ كنزا مخفيّا ، فأحببت أن اُعرف ، فخلقت الخلق كي اُعرف» .(4)

(ودَنَا) أي من أذهان الخلق لتحقّق شواهد ربوبيّته في كلّ مخلوق ، موافقا لقوله تعالى : «أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِى مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّه ُ مِنْ شَىْ ءٍ»(5) فيتيسّر العلم بربوبيّته تعالى لكلّ مكلّف .

(فَتَعَالى) أي عن أن يجري فيه شكّ أو شبهة ، فليس جحد الجاحدين إلاّ بمحض اللسان والمكابرة . والفاء هنا يحتمل التعقيب والتفريع .

ص: 87


1- . الأنفال 8 : 182 .
2- . يس 36 : 82 .
3- . الكافي ، ج 8 ، ص 67 ، ح 23 .
4- . حكاه في رسائل الكركي ، ج 3 ، ص 159 ؛ والرازي في تفسيره ، ج 28 ، ص 234 ؛ وابن عربي في تفسيره ، ج 2 ، ص 123 ؛ وأبو السعود في تفسيره ، ج 2 ، ص 130 .
5- . الأعراف 7 : 185 .

(وَارْتَفَعَ فَوْقَ كُلِّ مَنْظَرٍ) . الواو للعطف على «تعالى» أو للحال بتقدير «قد» ؛ والظرف متعلّق ب «ارتفع». والمنْظَر - بفتح الميم وسكون النون وفتح المعجمة ومهملة - مصدر ميمي ، أي النظر ، وهو تأمّل الشيء بالقلب ، فالمعنى أنّه لا تدرك العقول كنه ذاته ولا شخصه ، كما يجيء في «باب إطلاق القول بأنّه تعالى شيء» من «كتاب التوحيد» . ويمكن أن يجعل المنظر بمعنى النظر بالعين ، أو اسم مكان منه ، أي ما نظرت إليه ، فالمراد أنّه غير مرئيّ بالعين .

(الَّذي لاَ بَدْءَ) ؛ بفتح الموحّدة وسكون المهملة والهمز، أي لا ابتداء (لِأَوَّلِيَّتِهِ ، وَلاَغَايَةَ) أي لا نهاية .

(لِأَزَلِيَّتِهِ) الأزَل - بالتحريك - : الامتداد الغير المتناهي المنتزع من كائن لا أوّل له ، والأزلي: القديم، والتاء لإفادة معنى المصدر ، أي القدم . وقيل : الأزل(1) القدم ، وهو أزلي، وأصله «يزلي» منسوب إلى «لم يزل» ثمّ اُبدلت الياء ألفا للخفّة، كما قالوا في الرمح المنسوب إلى ذي يزن : أزني .(2) انتهى .

(القَائِمِ) أي الكائن الباقي (قَبْلَ الْأَشْيَاءِ ، وَالدَّائِمِ الَّذِي بِهِ قِوَامُهَا) ؛ بكسر القاف ، أي نظامها وبقاؤها .

(وَالْقَاهِرِ) أي الغالب (الَّذِي لاَيَؤُودُهُ) أي لا يثقله (حِفْظُهَا ، وَالْقَادِرِ الَّذِي بِعَظَمَتِهِ تَفَرَّدَ) ؛ بشدّ الراء المهملة (بِالْمَلَكُوتِ) ؛ بفتحتين مبالغة الملك بالضمّ ؛ أي لا يشاركه أحد في التكوين بمحض قول «كن» بلا حركة لتحريك آلة أو عضو.

وفيه إشارة إلى إبطال تجرّد فاعل سوى اللّه تعالى، كما زعمته اليهود والفلاسفة في العقول العشرة(3) والنفوس الناطقة .(4)

ص: 88


1- . في «أ» : «الأول» .
2- . القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 328 ؛ الصحاح ، ج 4 ، ص 1622 ؛ تاج العروس ، ج 14 ، ص 16 ؛ لسان العرب ، ج 11 ، ص 14 أزل .
3- . نظرية العقول العشرة، فرضها المشاؤون؛ لتصحيح صدور الكثير من الواحد ، وهي مبتنية على وجود الأفلاك التسعة وكونها ذوات نفوس مريدة .
4- . تفصيل الكلام في النفوس الناطقة موكول إلى المواقف للايجي ، ج 2 ، ص 675 .

(وَبِقُدْرَتِهِ تَوَحَّدَ) ؛ بشدّ الحاء المهملة (بِالْجَبَرُوتِ) ؛ بالجيم والموحّدة المفتوحتين ، وهو مبالغة الجبر . والمراد أن لا يمتنع شيء عمّا أراد تكوينا وإبقاءً وتصرّفا .

(وَبِحِكْمَتِهِ أَظْهَرَ حُجَجَهُ عَلى خَلْقِهِ) أي أظهر أنبياءه وأئمّته أو آياته الدالّة على ربوبيّته .

وذكر الحكمة هنا إشارة إلى أنّه لم يظهرها كلّ الظهور بحيث يصير كقولنا : «الواحد نصف الاثنين»، أو «زوايا المثلّث مساوية لقائمتين»، بل جعلها بحيث تجري فيها معارضة وهميّة، فيكون في التصديق بها ثواب على ما اقتضته الحكمة ، ويحيا من حيّ عن بيّنة أو احتجاجاته على العصاة في استحقاقهم العقاب .

وأمّا قوله : (اِخْتَرَعَ الْأَشْيَاءَ إِنْشَاءً ، وَابْتَدَعَهَا ابْتِدَاءً بِقُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ ، لاَ مِنْ شَيْءٍ ؛ فَيَبْطُلَ الاخْتِرَاعُ ، ولاَلِعِلَّةٍ ؛ فَلاَ يَصِحَّ الاِْبْتِدَاعُ . خَلَقَ مَاشَاءَ كَيْفَ شَاءَ مُتَوَحِّدا بِذلِكَ ؛ لاِءِظْهَارِ حِكْمَتِهِ ، وَحَقِيقَةِ رُبُوبِيَّتِهِ . لاَ تَضْبِطُهُ الْعُقُولُ ، وَلاَ تَبْلُغُهُ الْأَوْهَامُ ، وَلاَ تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ ، وَلاَ يُحِيطُ بِهِ مِقْدَارٌ . عَجَزَتْ دُونَهُ الْعِبَارَةُ ، وَكَلَّتْ دُونَهُ الْأَبْصَارُ ، وضَلَّ فِيهِ تَصَارِيفُ الصِّفَاتِ . اِحْتَجَبَ بِغَيْرِ حِجَابٍ مَحْجُوبٍ ، وَاسْتَتَرَ بِغَيْرِ سِتْرٍ مَسْتُورٍ ، عُرِفَ بِغَيْرِ رُؤْيَةٍ ، وَوُصِفَ بِغَيْرِ صُورَةٍ ، وَنُعِتَ بِغَيْرِ جِسْمٍ ، لاَ إِلهَ إلاَّ هُوَ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ) فمأخوذ من كلام الرضا عليه السلام ، وسيجيء مع شرحه في ثالث الحادي عشر(1) من «كتاب التوحيد» .

ونقول هنا : قوله : «لا من شيء» أي لا من مادّة قديمة شخصا . وقوله : «لا لعلّة» - بكسر المهملة أو فتحها وشدّ اللام - أي لا لمعدّ قبله، أو لا لعود إلى مثل ما فعله سابقا. وهو لإبطال كون العالم قديما نوعا .

(ضَلَّتِ الْأَوْهَامُ عَنْ بُلُوغِ كُنْهِهِ) . كنه الشيء: ذاته أو قدره ، والمراد على الثاني قدر عظمته .

(وَذَهَلَتِ) ؛ بالمعجمة من باب «منع». والذهل بالفتح والذهول بالضمّ: السلوّ عن الشيء حين العلم بأنّه لا طريق للوصول إليه ؛ أي يئست .(2)

ص: 89


1- . أي الحديث 3 من باب النهي عن الجسم والصورة . ورقم الباب في الكافي المطبوع : 12 .
2- . العين ، ج 4 ، ص 39 هذل و ج 7 ، ص 299 ، (سلو) .

(الْعُقُولُ أَنْ) أي عن أن (تَبْلُغَ غَايَةَ نِهَايَتِهِ) . الغاية بالمعجمة والخاتمة : الراية ، واستعيرت هنا للتشخّص. والنهاية بكسر النون: الآخر. والمراد بنهايته هنا مائيّته وحقيقته ؛ فالمراد ببلوغ غايتها العلم بتشخّصها .

(لاَيَبْلُغُهُ حَدُّ) ؛ مصدر، أي حدّة . (وَهْمٍ ، وَلاَ يُدْرِكُهُ) أي على الوجه الجزئي والهاذيّة . (نَفَاذُ) ؛ بفتح النون وفاء وألف ومعجمة : جواز الشيء عن الشيء بعد دخوله فيه . (بَصَرٍ) . بفتحتين: حسّ العين ونظر القلب وخاطره .

(وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصيرُ(1) اِحْتَجَّ عَلى خَلْقِهِ) أي مخلوقيه المبطلين، أو مخلوقيه مطلقا. (بِرُسُلِهِ ، وَأَوْضَحَ الأْمُورَ بِدَلاَئِلِهِ) .

الاُمور: جمع «أمر» : الحادثات ، والمراد هنا متشابهات كتب اللّه تعالى بقرينة قوله : «أوضح» ، فإنّ الإيضاح إنّما يتعلّق بالمشتبه ، وضمير دلائله للّه . والمراد بالدلائل بعض من كتاب اللّه يفسّر بعضا آخر ، وإنّما اُضيف إلى اللّه لا إلى الاُمور للإشعار بأنّ دلالة ذلك البعض معلومة(2) للّه. ولا يطّلع عليها أحد إلاّ بالتحديث في ليالي القدر ونحوها فيما يحتاج إليه الرسول أو الإمام في كلّ سنة .

(وَابْتَعَثَ الرُّسُلَ) ؛ بضمّتين جمع «رسول» بمعنى مرسَل، ولم يأت فعول بمعنى مفعَل في اللغة إلاّ نادرا ، كما أنّ النبئ بالهمز - والمختار التشديد - فعيل بمعنى مفعل، وهو نادر. والإرسال: التوجيه، وكذا الابتعاث. وإرسال اللّه الرسل أمرُه إيّاهم بالإبلاغ

إلى مَن أرسلهم إليه، وسيجيء تفسير الرسول والنبيّ في «باب طبقات الأنبياء والرسل والأئمّة عليهم السلام» من «كتاب الحجّة» .

(مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ ؛ «لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَىَّ عَنْ بَيِّنَةٍ»(3)) أي مبشّرين للاُمّة بالأوصياء العالمين بجميع الأحكام، ومنذرين للاُمّة بالعذاب على منكري الأوصياء وتابعي الظنّ؛ «لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ»(4) كما في سورة النساء .

ص: 90


1- . في الكافي المطبوع : «العليم» .
2- . في «د ، ج» : «معلوم» .
3- . الأنفال 8 : 42 .
4- . النساء 4 : 165 .

وقوله : «ليهلك» إلى آخره مأخوذ من سورة الأنفال .

(وَلِيَعْقِلَ الْعِبَادُ عَن رَبِّهِمْ مَا جَهِلُوا(1) ؛ فَيَعْرِفُوهُ بِرُبُوبِيَّتِهِ بَعْدَ مَا أنْكَرُوهُ) المراد بالعباد المؤمنون باللّه ورسله، ويجيء معنى العقل عن اللّه في ثاني عشر أوّل(2) «كتاب العقل»

عند قوله : «لم يخف اللّه من لم يعقل عن اللّه»(3) .

و«ما جهلوا» عبارة عن أحكام الدِّين من الحلال والحرام وغيرهما ، وضمير الجمع في «فيعرفوه» للعباد.

والربوبيّة - بضمّ المهملة وضمّ الموحّدة والواو الساكنة والموحّدة المكسورة والخاتمة المشدّدة - : المالكيّة لكلّ شيء والحكومة في كلّ نزاع . و «ما» مصدريّة ، وضمير الجمع في «أنكروه» لخلقه ، ويحتمل أن يكون للعباد بأن يقال : معرفة ربوبيّته تعالى على قسمين :

الأوّل : معرفته مجملاً ، وهو حاصل لكلّ مكلّف ، كما في قوله تعالى في سورة الأعراف : «أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا»(4) .

الثاني : معرفته تفصيلاً ؛ أي معرفة أحكامه في الحلال والحرام وفي كلّ نزاع .

والمراد هنا القسم الثاني ، وهو غير حاصل لأحد من الناس إلاّ بوحي أو رسول ، كما يجيء في ثاني أوّل «كتاب الحجّة» .(5) فكلّ مكلّف جاهل وغير عارف للقسم الثاني من ربوبيّته تعالى بدون وحي أو رسول .

وعلى الاحتمال الثاني يكون هذا الكلام إشارة إلى قوله تعالى في سورة البقرة : «كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّه ُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ»(6) إلى آخره ، بناءً على أن يكون المراد بكون

ص: 91


1- . في «ج، ذ» و الكافي المطبوع: «جهلوه».
2- . أي الحديث 12، من كتاب العقل.
3- . في «أ» : + «بربوبيّته».
4- . الأعراف 7 : 172 .
5- . أي الحديث 2 من الباب الأوّل من كتاب الحجّة، وهو «باب الاضطرار إلى الحجة».
6- . البقرة 2: 213.

الناس اُمّة واحدة ، كونهم غير عارفين بالقسم الثاني من الربوبيّة، محتاجين إلى وحي أو رسول في سابق علم اللّه ، لا كونهم متّفقين على الإيمان أو على الكفر في زمان ، وأن يكون الفاء في «فبعث» للتفريع لا للتعقيب ، وأن يكون المراد بالنبيّين الستّة المشهورين ، وهم : آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمّد صلى الله عليه و آله ، فإنّ جميع ما عداهم إنّما عمل بشرائعهم .

وقس على هذا قوله : (وَيُوَحِّدُوهُ بِالاْءِلهِيَّةِ بَعْدَ مَا أَضَدُّوهُ) ؛ بالمعجمة المخفّفة والمهملة المشدّدة . والضدّ والضديد من أسماء الأضداد ، يطلق على المثل وعلى المخالف المدافع ، وأفعل هنا للتعريض ، نحو : أبعت الجارية ؟ أي عرضتها للبيع .

والمراد بالضدّ هنا المثل بقرينة مقابلته بالتوحيد بالإلهيّة .

(أَحْمَدُهُ حَمْدَا يَشْفِي النُّفُوسَ) أي يسلّيها . (وَيَبْلُغُ رِضَاهُ ، وَيُؤَدِّي شُكْرَ مَا وَصَلَ إِلَيْنَا مِنْ سَوَابِغِ النَّعْمَاءِ) - بفتح النون وسكون المهملة والمدّ - مفرد بمعنى النعمة بكسر النون ، وكذا النعمى بضمّ النون والقصر . وسبوغ النعمة سعتها وكثرتها .

(وَجَزِيلِ) أي عظيم (الاْلاَءِ) أي النِّعم ، واحدها «أَلا» بالفتح والقصر ، وقد يكسر، ويكتب حينئذٍ بالياء نحو مِعى وأمعا .

(وَجَميلِ الْبَلاَءِ) أي النعمة .

(وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللّه ُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ ، إِلها وَاحِدا أَحَدا(1) صَمَدا لَمْ يَتَّخِذْ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَدا . وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدا صلى الله عليه و آله عَبْدٌ انْتَجَبَهُ) بالجيم (وَرَسُولٌ ابْتَعَثَهُ).

وأمّا قوله : (عَلى حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ ، وَطُولِ هَجْعَةٍ مِنَ الْأُمَمِ ، وَانْبِسَاطٍ مِنَ الْجَهْلِ ،وَاعْتِرَاضٍ مِنَ الْفِتْنَةِ ، وَانْتِقَاضٍ مِنَ الْمُبْرَمِ ، وَعَمىً عَنِ الْحَقِّ ، وَاعْتِسَافٍ مِنَ الْجَوْرِ ، وَامْتِحَاقٍ مِنَ الدِّينِ) فمأخوذ من كلام أمير المؤمنين عليه السلام ، وسيجيء مع شرحه في سابع «باب الردّ إلى الكتاب والسنّة» من «كتاب العقل» .

وأمّا قوله : (وَأَنْزَلَ إِلَيْهِ الْكِتَابَ) - إلى قوله - : (رؤوفا رحيما) فيجيء في «مولد

ص: 92


1- . في «د»: - «أحداٌ».

النبيّ صلى الله عليه و آله » من أبواب التاريخ من «كتاب الحجّة» .

(فِيهِ الْبَيَانُ) ؛ جملة حاليّة ، والبيان(1) في المحكمات أو المحكمات اللآتي لم يتكرّر مضمونها في القرآن .

(والتِّبْيَانُ) - بكسر المثنّاة فوقُ - مصدر بمعنى البيان ، إلاّ أنّ فيه مبالغةً، وهو في المحكمات اللآتي تكرّر مضمونها ، كالنهي عن الاختلاف واتّباع الظنّ ، فإنّها دالّة على إمام في كلّ زمان عالم بكلّ شيء يحتاج إليه ، فهي تبيان كلّ شيء .

(«قُرْءَانًا») منصوب بالإغراء(2) بتقدير «أدركوا» أو «الزموا» ، أو منصوب بالاختصاص بتقدير «أعني» ، أو حال الكتاب .

(«عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِى عِوَجٍ») العوج - بكسر المهملة وفتح الواو - في الكلام أن يكون بعيد التناول ، أو انحرافه عن صوب الاستواء والصواب ، سواء كان لفساد المعنى أو لعدم البلاغة . والمقصود أنّه سهل التناول ، أو أنّه لا يوجد كلام يقصد به معانٍ متعدّدة إلاّ وفيه شيء من التكلّف والعوج ، وهذا فيه تبيان كلّ شيء ، كما يجيء في «كتاب العقل» في خامس «باب الردّ إلى الكتاب والسنّة» ، وليس فيه عوج فهو معجز .

(«لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ»(3)) أي يجتنبون بمعرفتهم به على سهولة أو بهذا المعجز عمّا يسخطه .

(قَد بَيَّنَهُ لِلنّاسِ)؛ استئناف لبيان قوله : «غير ذي عوج» ، أو قوله : «فيه البيان والتبيان» ، والضمير المستتر للّه والمنصوب للكتاب ، أي بيّن جميع الكتاب محكمه ومتشابهه .

ويفسّره قوله : (وَنَهَجَهُ) «كمنع» أي أوضح طريق تناوله ، والضمير المنصوب للكتاب .

(بِعِلْمٍ) ؛ بكسر العين وسكون اللام ، أي بمحكم القرآن ؛ لأنّه معلوم لكلّ عارف باللغة .

(قَدْ فَصَّلَهُ) أي كرّره مضمونا ، كما في عقد يكون بين كلّ لؤلؤتين خرزة ، وهو إشارة إلى محكمات كثيرة فيها النهي عن الاختلاف واتّباع الظنّ وبينها المتشابهات ، فهو

ص: 93


1- . في «ج»: + «هو».
2- . أي بفعل مضمر.
3- . الزمر 39: 28.

كقوله تعالى في سورة الأعراف : «وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ»(1) ، وفي سورة هود : «أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ»(2) ، على أنّه خصّ بقوله في آل عمران : «مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ»(3) و«ثمّ» للتعجّب .

(وَدِينٍ) . الدِّين - بالكسر - ما يرجى(4) به حسن الجزاء ، وهو إشارة إلى محكمات كثيرة فيها الأمر بطلب العلم ، أو بسؤال أهل الذكر .

(قَدْ أَوْضَحَهُ ، وَفَرَائِضَ قَدْ أَوْجَبَهَا)؛ إشارة إلى آيات كثيرة ، فيها إيجاب نحو الصلاة والزكاة ، وهنا زيادة في كتاب الحجّة هي: «وحدود حدّها للناس وبيّنها» .

(وَأُمُورٍ قَدْ كَشَفَهَا لِخَلْقِهِ وَأَعْلَنَهَا) ؛ إشارة إلى آيات كثيرة فيها العِبَر كقصص الاُمم الماضية والأمثال .

(فِيهَا) أي في الاُمور (دَلاَلَةٌ إِلَى النَّجَاةِ ، وَمَعَالِمُ) ؛ عطف على دلالة ، وهي جمع معلم - بفتح الميم وسكون المهملة وفتح اللام - : العلامة الدالّة على الحقّ كأنّها مكان العلم .

(تَدْعُو)؛ الضمير للمعالم (إِلى هُدَاة(5)) ؛ بالتاء : جمع هاد بالتنوين للتعظيم أو بضمير اللّه ؛ أي إلى رشاده ، وهو أن يعقل الناس عن ربّهم ما جهلوا ولا يتّبعوا آراءهم، «قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللّه ِ»(6) . وقيل : يجوز أن تكون هاءَ الوقف كما في «ياربّاه» .(7)

(فَبَلَّغَ صلى الله عليه و آله مَا أُرْسِلَ بِهِ ، وَصَدَعَ) ؛ بصيغة المعلوم كمنع ، تقول : صدعت بالحقّ، إذا تكلّمت به جهارا . (بِمَا أُمِرَ) بصيغة المجهول .

(وَأَدَّى مَا حُمِّلَ) ؛ بصيغة المجهول من باب التفعيل . (مِنْ أَثْقَالِ النُّبُوَّةِ) .

ص: 94


1- . الأعراف 7 : 52 .
2- . هود 11 : 1 .
3- . آل عمران 3 : 7 .
4- . في «أ ، د» : «رجى» .
5- . في الكافي المطبوع : «هداه» .
6- . آل عمران 3 : 73 .
7- . الحاشية على اُصول الكافي لرفيع الدين النائيني، ص 34 .

يدلّ على الثقل قوله : «على حين فترة» إلى قوله : «وامتحاق من الدِّين» .

(وَصَبر لِرَبِّهِ ، وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِهِ ، وَنَصَحَ لِأُمَّتِهِ) . أصل الناصح الخالص .

(وَدَعَاهُمْ إِلَى النَّجَاةِ ، وَحَثَّهُمْ عَلَى الذِّكْرِ) أي رغّبهم في القرآن أو في الإمام العالم بجميع الأحكام ، كما يجيء في أوّل «كتاب فضل القرآن» . والمآل واحد .

(وَدَلَّهُمْ عَلى سَبِيلِ الْهُدى مِنْ بَعْدِهِ) أي على أوصيائه .

(بِمَنَاهِجَ) ؛ جمع منهج : الطريق الواضح ؛ والمراد وصاياه في القرآن وأهل البيت .

(وَدَوَاعٍ) أي اُمور تدعو إلى سبيل هداه ، وهي المتشابهات الداعية إلى التصديق بإمام عالم بتأويلها، أو تزويج فاطمة ونحوه .

(أَسَّسَ) ؛ بصيغة المعلوم من باب التفعيل .

(لِلْعِبَادِ أَسَاسَهَا) ؛ بفتح الهمزة : أصل البناء ، والتأسيس : بناء الأساس ، والضمير للدواعي . والمراد به ما في المحكمات من الآيات التي هُنّ اُمّ الكتاب ؛ أي يعرف بهنّ واحد بعد واحد من الأئمّة إلى آخر الدهر ، ثمّ ببيانهم عليهم السلام يعرف المتشابهات ، ويجيء تفصيله في «كتاب العقل» في شرح ثاني «عشر باب العقل والجهل» .

(وَمَنَائِرَ) ؛ بكسر الخاتمة: جمع منار - بفتح الميم - اسم مكان ، وهو ما توقد فيه النار من رأس الجبل ونحوه ، والمراد ما في نحو غدير خمّ من النصوص على الوصيّ .

(رَفَعَ) ؛ بصيغة المعلوم من المجرّد . (لَهُمْ أَعْلاَمَهَا) ؛ جمع «عَلَم» ، محرّكةً ، وهو الجبل في رأسه نار في الليل المظلم؛ لاهتداء الضالّ .

(لِكَيْ لاَ يَضِلُّوا) . اللام للتعليل و«كي» بمنزلة «أن» المصدريّة معنىً وعملاً . (مِنْ بَعدِهِ ، وَكَانَ بِهِمْ رَؤُوفا رَحِيما) .

بيّن لهم ما هو أسهل من ذلك من آداب الخلاء ونحو ذلك ، فلم يكن يتركهم سدىً مهملين بعده لا يعرفون صاحب الحقّ عن الضالّ المضِلّ ، فما ترك الحقّ مَن تركه من غير المستضعفين إلاّ عنادا أو اتّباعَ هوى ملبس ، فتفرّقوا واختلفوا من بعدما جاءتهم

البيّنات .

(فَلَمَّا انْقَضَتْ مُدَّتُهُ ، وَاستُكْمِلَتْ) ؛ بصيغة المجهول . والاستكمال : إتمام شيء بضمّ

ص: 95

تتمّة قليلة إلى العمدة من أجزائه كضمّ أيّام من العمر إلى السنين والشهور منه .

(أَيَّامُهُ ، تَوَفَّاهُ) ؛ بشدّ الفاء . (اللّه ُ وَقَبَضَهُ إِلَيْهِ) ؛ الضمير للّه .

(وَهُوَ عِنْدَ اللّه ِ مَرْضِيٌّ عَمَلُهُ)؛ بالرفع في مقام فاعل مرضيّ .

(وَافِرٌ حَظُّهُ) أي نصيبه من الثواب .

(عَظِيمٌ خَطَرُهُ) - بالمعجمة والمهملة المفتوحتين - أي شأنه .

(فَمَضى صلى الله عليه و آله وَخَلَّفَ) ؛ بتشديد(1) اللام ، كقوله عليه السلام : «إنّي مخلِّفٌ فيكم الثَقَلين» .(2) يُقال : خلّفه تخليفا، إذا تركه بعده . (فِي أُمَّتِهِ كِتَابَ اللّه ِ ، وَوَصِيَّهُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنينَ وَإِمَامَ الْمُتَّقِينَ صَلَوَاتُ اللّه ِ عَلَيْهِ ، صَاحِبَيْنِ مُؤْتَلِفَيْنِ) .

إشارة إلى ما رواه الموافق والمخالف من قوله عليه السلام : «وأنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليَّ الحوضَ» . نقل السيوطي من المخالفين في الجامع الصغير عن أحمد بن حنبل في مسنده(3) ، وعن الطبراني في الكبير عن زيد بن ثابت عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله أنّه قال : «إنّي تاركٌ فيكم خليفتين : كتابَ اللّه حبلٌ ممدود ما بين السماء والأرض ، وعترتي أهلَ بيتي ،

وأنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليَّ الحوضَ» .(4)

(يَشْهَدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ بِالتَّصْدِيقِ) . استئناف لبيان المصاحبة والائتلاف ؛ وليس المراد بالتصديق محض الإخبار بالصدق ، بل كون كلّ منهما بحيث لولاه لكان الآخر باطلاً ؛ من قبيل قوله تعالى في سورة فاطر : «وَالَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنْ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ»(5) أي لولا الإمام لبطل القرآن ؛ لأنّ فيه محكماتٍ كثيرةً ناهية عن

ص: 96


1- . في «ج ، د» : «بشدّ» .
2- . الاُصول الستّة عشر ، ص 262، ح 360 ؛ بصائر الدرجات ، ص 432 ، باب في قول رسول اللّه صلى الله عليه و آله إنّي تارك فيكم الثقلين ؛ دعائم الإسلام ، ج 1 ، ص 28 ؛ الأمالي للصدوق ، ص 500 ، ح 687 . هذا وقد ألّف جماعة كتبا مخصوصة في حديث الثقلين مثل نجم الدين العسكري والسيّد عليّ الميلاني .
3- . مسند أحمد ، ج 3 ، ص 14 و 17 و 26 و 59 ؛ و ج 5 ، ص 182 و 190 ؛ الجامع الصغير للسيوطي ، ج 1 ، ص 402 ، ح 2631 .
4- . المعجم الكبير للطبراني ، ج 5 ، ص 153 ، ح 4921 و 4922 .
5- . فاطر 35 : 31 .

الاختلاف واتّباع الظنّ ، ولابدّ منهما حينئذٍ ، ولولا القرآن لعجز الإمام عن الحكم في كلّ مختلف فيه ، وبيانه.

قوله : (يَنْطِقُ الاْءِمَامُ) استئناف لبيان قوله : «يشهد» إلى آخره .

(عَنِ اللّه ِ) متعلّق بقوله : «ينطق» ، وهو للاحتراز عن كون نطقه عن اجتهاده .

(فِي الْكِتَابِ) متعلّق بالظرف ، وهو للاحتراز عن إلقاء اللّه ذلك في قلبه على حِدَة ؛ لئلاّ يلزم كونه نبيّا .

(بمَا أَوْجَبَ اللّه ُ) متعلّق بقوله «ينطق» . (فِيهِ) أي في الكتاب .

(عَلَى الْعِبادِ مِنْ) . بيان ل- «ما» (طَاعَتِهِ) أي طاعة اللّه في جميع أحكامه .

(وطَاعَةِ الإِمَامِ) . المقصود أنّ طاعة اللّه هي طاعة الرسول ، وطاعة الرسول بعده هي طاعة الإمام ، كما في قوله تعالى : «ومَنْ يُطِعْ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّه َ»(1) .

(وَوِلاَيَتِهِ) ؛ بكسر الواو ، والضمير للّه ، أي عبوديّته وتفويض الحكم إليه في كلّ ما يمكن أن يختلف فيه بالظنّ .

(وَوَاجِبِ) . مضاف ، أي لازم (حَقِّهِ) . الضمير للّه .

(الَّذِي) . صفة «واجب» . (أَرَادَ) . الضمير للّه ، والعائد المنصوب محذوف ، أي طلبه .

(مِنِ) . بيان للذي . (اسْتِكْمَالِ دِينِهِ) . الضمير للّه ، أي إكمال الإسلام في قلوب العباد ، وهو إنّما يكون بترك اتّباع الظنّ .

(وَإِظْهَارِ أَمْرِهِ) . عطف على استكمال دينه ، والضمير للّه ، و«أمره» العمدةُ من أفعاله ، وهو عبارة عن القرآن أو الإمام العالم بجميع متشابهات القرآن ، والمراد بإظهار أمره إعلاء شأنه ببيان فضله .

(وَالاْحْتِجَاجِ بِحُجَجِهِ) . الضمير للّه ، أي اهتداء العباد إلى الحقّ في كلّ دقيق وجليل بتمسّكهم بحججه ، وهم أئمّة الهدى .

ص: 97


1- . النساء 4 : 80 .

(وَالاْسْتِضَاءَةِ) أي كسب الضوء (بِنُورِهِ) . الضمير للّه ، ونوره علم أئمّته ، كما يجيء في «كتاب الحجّة» في أوّل «باب أنّ الأئمّة عليهم السلام نور اللّه عزّ وجلّ» من قوله : «لنور الإمام في قلوب المؤمنين أنور من الشمس المضيئة بالنهار» .

(فِي مَعَادِنِ أَهْلِ صَفْوَتِهِ) . الظرف حال نوره ، وهو مفعول بواسطة حرف الجرّ ، والمعدن كمجلس في الأصل ما خُلِق فيه الجوهر من ياقوت ونحوه ؛ من عَدَنَ بالمكان كضَرَبَ ، إذا أقام به ؛ سمّي لإثبات اللّه تعالى الجوهر فيه .(1)

والصفوة - مثلّثةَ الصاد - : الخالص ، والضمير للّه . والمراد بصفوته محمّد ، وبأهل صفوته المؤمنون به ، وبمعادنهم أوصياؤه ، فإنّهم مستودعوا الأسرار والعلم بجميع القرآن .

(وَمُصْطَفَيْ)؛ بفتح الفاء وسكون الياء ، أصله «مصطفين» حذفت النون بالإضافة .

(أَهْلِ خِيَرَتِهِ) الخيرة بالكسر كعنبة اسم المصدر من قولك : «اختاره اللّه» .

قيل : والفرق بين المصدر واسمه(2) أنّ المصدر يدلّ على الحدث بنفسه ، واسم المصدر يدلّ على الحدث بواسطة المصدر ، فمدلول المصدر معنى(3) ، ومدلول اسم المصدر لفظ المصدر .(4) انتهى .

والضمير للّه ، والمراد بخيرته محمّد صلى الله عليه و آله ، وبأهل خيرته المؤمنون به ، وبمصطفيهم أوصياؤه .

(فَأَوْضَحَ اللّه ُ تَعَالى بِأَئِمَّةِ الْهُدى مِنْ أَهْلِ بَيْتِ نَبِيِّنَا عَنْ دِينِهِ) . يجيء مضمون هذا إلى قوله : «دعائم الإسلام» في «كتاب الحجّة» في ثاني باب الخامس عشر .(5) والفاء لتفصيل

قوله : «أراد من استكمال دينه» إلى آخره .

الإيضاح : الإظهار ، والتعدية بعن لتضمين معنى الكشف ، ودينه الإسلام ، وهو مساوق لترك اتّباع الظنّ والاختلاف عن ظنّ . والمراد أنّه لولاهم لقبح التكليف بالإسلام .

ص: 98


1- . اُنظر: النهاية ، ج 3 ، ص 192 ؛ مجمع البحرين ، ج 3 ، ص 135 عدن .
2- . في حاشية «أ» : «القائل الأزهري في التصريح شرح التوضيح، في مبحث المفعول المطلق منه دام ظلّه» .
3- . في «أ ، د» : + «الحدث» .
4- . حكى هذا الفرق السيّد عليّ القزويني في تعليقته على معالم الاُصول ، ج 2 ، ص 471 .
5- . أي الحديث 2، من باب نادر جامع في فضل الأئمة وصفاته.

(وَأَبْلَجَ) ؛ بالموحّدة والجيم بصيغة الماضي المعلوم من باب الإفعال ، أي أظهر ؛ يقال : بلج الصبح إذا أضاء .(1)

(بِهِمْ عَنْ سَبِيلِ مَنَاهِجِهِ) . جمع «منهج» : الطريق الواضح . والمراد هنا مسائل الحلال والحرام ونحوهما في الشرع . وسبيل مناهجه : طريقة سؤال أهل الذِّكر عن كلّ مشتبه . والمراد أنّه لولاهم لم يتصحّح طريقة سؤال أهل الذكر المأمور به في سورة النحل وسورة الأنبياء «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ»(2) .

(وَفَتَحَ)؛ بصيغة الماضي المعلوم من المجرّد .

(بِهِمْ عَنْ بَاطِنِ يَنَابِيعِ عِلْمِهِ) . جمع «ينبوع» - بفتح الخاتمة وسكون النون وضمّ الموحّدة وسكون الواو ومهملة - : عين الماء . والمراد هنا الآيات البيّنات المحكمات

الناهية عن اتّباع الظنّ وعن الاختلاف عن ظنّ ، وباطنها السرّ الذي يبتني عليه تلك الآيات ، وهو وجوب إمام عالم بجميع ما يحتاج إليه الرعيّة في كلّ زمان ، فإنّه لولا ذلك السرّ لبطلت تلك الآيات :

ويعبّر عن ذلك الإمام بذكر اللّه كما في سورة الزمر : «اللّه ُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابا مُتَشَابِها مَثَانِىَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللّه ِ»(3) ، وفي سورة الرعد : «أَلاَ بِذِكْرِ اللّه ِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ»(4) .

(وَجَعَلَهُمْ مَسَالِكَ لِمَعْرِفَتِهِ) أي طرقا لها لا تحصل المعرفة بأنّه تعالى حاكم كلّ نزاع ومالك كلّ شيء بدون التمسّك بذيلهم .

(وَمَعَالِمَ لِدِينِهِ) . في بعض النسخ : «مسالكا» و«معالما» بالتنوين فيهما ، وهو لمناسبة «حُجَّابا» . وقيل : التنوين للتعظيم ، أي طائفة من المسالك ومن المعالم ؛ إذ لا يلاحظ في هذا الاعتبار معنى الجمعيّة ، بل إنّما يلاحظ كونها واحدة من المراتب الجمعيّة ، كما

ص: 99


1- . ترتيب كتاب العين ، ج 1 ، ص 186 بلج .
2- . الأنبياء 21 : 7 .
3- . الزمر 39 : 23 .
4- . الرعد 13 : 28 .

إذا قلت : رأيت مساجدا من المساجدات .(1) انتهى مضمونه .

(وَحُجَّابا)؛ بضمّ المهملة وشدّ الجيم ؛ جمع الحاجب ، بمعنى البوّاب .

(بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ) أي لا يصل الخلق إليه إلاّ بتوسّطهم .

(وَالْبَابَ) ؛ بالنصب معطوف على «مسالك» . ولم يجمع إشارة إلى أن لا اختلاف في أحكامهم الواقعيّة ؛ إذ ليس حكمهم مبنيّا على اجتهاد ، بل جميعهم باب واحد ؛ إنّما التعدّد في ذواتهم وفي أزمنة هدايتهم ، وبهذا الاعتبار عبّر عنهم بمسالك ومعالم وحُجّابٍ .

(الْمُؤَدِّيَ)؛ بصيغة اسم الفاعل من باب التفعيل ؛ أي الموصل .

(إِلى مَعْرِفَةِ حَقِّهِ) أي معرفة ما أوجبه على الناس . ومضى بيانه في قوله : «وواجب حقّه» .

(وَ(2) أَطْلَعَهُمْ) بصيغة الماضي المعلوم من باب الإفعال ، وهو استئناف لبيان قوله : «فأوضح اللّه تعالى» إلى آخره .

(عَلَى الْمَكْنُونِ) أي المصون ، والكنّ بالكسر ما يستتر به(3) .

(مِنْ غَيْبِ سِرِّهِ) . السرّ ما يكتم ، وهو على قسمين : غيب ونظري ، والغيب على قسمين : مكنون لا يمسّه إلاّ المطهّرون ، هو في متشابهات الكتاب ، وغير مكنون هو في محكمات الكتاب .

(كُلَّمَا) ؛ منصوب على الظرفيّة ، و«كلّ» مضاف و«ما» مصدريّة ، والمصدر نائب ظرف الزمان ، قيل : أو «ما» اسم نكرة بمعنى وقت ، والجملة بعده في موضع خفض على الصفة ، فيحتاج إلى تقدير عائد .(4) انتهى .

ويبعّده أنّه لم يسمع في مثلها عائد ، ولو كان خفض الجملة على الإضافة لم يحتج إلى تقدير العائد ، ولم يجز أيضا .

ص: 100


1- . الرواشح السماوية ، ص 50 .
2- . في «أ ، ج ، د» : - «و» وأثبتناها من الكافي المطبوع .
3- . ترتيب كتاب العين ، ج 3 ، ص 1601 ؛ المصباح المنير ، ص 542 كنن .
4- . مغني اللبيب ، ج 1 ، ص 201 ؛ كنزالدقائق ، ج 1 ، ص 160 .

(مَضى مِنْهُمْ إمَامٌ) ؛ بكسر الهمزة .

(نَصَبَ) كضرب ، وقد تشدّ(1) للمبالغة ، أي رفع وعيّن ، وهو العامل في الظرف وجوابه في المعنى ؛ لأنّ «كلّما» يتضمّن معنى الشرط . والضمير للّه أو للإمام ، والمآل واحد .

(لِخَلْقِهِ مِنْ عَقِبِهِ)؛ بفتح المهملة وكسر القاف ، وقد يسكّن ؛ أي من بعده ، وإذا اُريد بالعقب الولد وولد الولد كان مبنيّا على التغليب(2) .

(أَمَاما) ؛ بفتح الهمزة ؛ أي مقدّما على المضيّ ، وجمعه مع العقب فنّ من البلاغة .

(بَيِّنا) ؛ بفتح الموحّدة وكسر الخاتمة المشدّدة والنون ، أي ظاهرا مشهورا .

(وَهادِيا نَيِّرا ، وَإِمَاما) ؛ بكسر الهمزة .

(قَيِّما) أي قائما بأمر القرآن أو بأمر الرعيّة إذا مُكِّن .

(يَهْدُونَ بِالْحَقِّ) أي يرشدون إلى أحكام اللّه تعالى بالعلم بما في القرآن ، وذلك في فتاويهم .

(وبِهِ) أي بالحقّ . (يَعْدِلُونَ) في المحاكمات بين الناس ؛ أي ليس فتاويهم ولا أحكامهم مبنيّة على الاجتهاد .

(حُجَجُ اللّه ِ) . مرفوع بالمدح ؛ أي هم حجج اللّه .

(وَدُعَاتُهُ) ؛ بضمّ المهملة ، جمع «داع» .

(وَرُعَاتُهُ) ؛ بضمّ المهملة ، جمع «راع» .

(عَلى خَلْقِهِ) أي الخلق ، كالغنم لولا الرعاة واتّباعهم لأكلهم الذئب ، أي اختطفهم الشيطان .

(يَدِينُ) . استئناف لبيان قوله : «حجج اللّه» إلى آخره ، أي يتعبّد .

(بِهُداهُم(3))؛ بضمّ الهاء ، أي بطريقتهم المستقيمة ، أو بدلالتهم .

(الْعِبَادُ) ؛ جمع عبد ، والمراد هنا الذين هم على حقّ العبوديّة .

ص: 101


1- . في «د ، ج» : «يشدّ» .
2- . في حاشية «أ» : «وإلاّ فالحسين عليه السلام ليس ولدا ولا ولد الولد للحسن عليه السلام مهدي» .
3- . في الكافي المطبوع : «بهديهم» .

(وَيَسْتَهِلُّ(1)) . يُقال : استهلّ وجه فلان : إذا تلألأ سرورا .

(بِنُورِهِمُ الْبِلاَدُ) أي أهل البلاد ، ويحتمل المجاز في النسبة .

(جَعَلَهُمُ اللّه ُ) . استئناف لبيان قوله : «يدين» إلى آخره . أو لقوله : «ويستهلّ» إلى آخره .

(حَيَاةً لِلأَنَامِ) ؛ إذ هم أسباب العلم ، وهو حياة للقلوب أو أسباب الحياة الحقيقيّة ، كما سيجيء(2) في خامس «باب النوادر» من «كتاب التوحيد» .

(وَمَصَابِيحَ لِلظَّلاَمِ ، وَمَفَاتِيحَ لِلْكَلاَمِ) أي لولاهم لكان فن الكلام أو الإفتاء والقضاء أو تفسير كلام اللّه قولاً على اللّه بغير علم وغير جائز .

(وَدَعَائِمَ لِلاْءِسْلاَمِ وَجَعَلَ نِظَامَ طَاعَتِهِ) . نظام الشيء : ما ينتظم به أمره .

(وَتَمَامَ فَرْضِهِ التَّسْلِيمَ لَهُمْ فِيمَا عُلِمَ) ؛ بصيغة المجهول المجرّد ؛ أي علم أنّه قولهم ، وهو ناظر إلى نظام طاعته ، ومعلوم من نحو قوله تعالى في سورة التوبة : «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّه َ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ»(3) ، وسيجيء بيان التسليم في «باب التسليم وفضل المسلمين» من «كتاب الحجّة» .

(وَالرَّدَّ إِلَيْهِمْ) أي سؤالهم .

(فِيمَا جُهِلَ)؛ بصيغة المجهول ، وهو ناظر إلى تمام فرضه ، ومعلوم من نحو قوله تعالى في سورة النحل وسورة الأنبياء : «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ» .(4) ويجيء بيانه في عاشر «باب النوادر» من «كتاب العقل» .(5)

(وَحَظَرَ)؛ بالمهملة والمعجمة المفتوحة المخفّفة ، أي حرم في محكمات القرآن .

(عَلى غَيْرِهِمُ) أي على أئمّة الضلالة وأتباعهم ، وإنّما اُقحم لفظ «على غيرهم» مع أنّه

ص: 102


1- . في الكافي المطبوع : «وتستهلّ» .
2- . في حاشية «أ» : «من قول أبي عبداللّه عليه السلام : بنا أثمرت الأشجار وأينعت الثمار وجرت الأنهار ، وبنا ينزل غيث السماء وينبت عشب الأرض ، وبعبادتنا عُبد اللّه ، ولولا نحن ما عُبد اللّه» .
3- . التوبة 9 : 119 .
4- . النحل 16 : 43 ؛ الأنبياء (21) : 7 .
5- . في حاشية «أ»: «وهو السابع عشر».

حرام على كلّ أحد إشارةً إلى الدليل الآتي على إمامتهم .

(التَّهَجُّمَ)؛ بالمثنّاة فوقُ والهاء والجيم المشدّدة المضمومة مصدر قولك : تهجّم على كذا، إذا بالغ في الهجوم عليه ، أي الدخول فيه بغير إذن .

(عَلَى الْقَوْلِ) على اللّه (بِمَا يَجْهَلُونَ) ؛ وذلك في قوله تعالى في سورة الأعراف : «وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللّه ِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ»(1) ، وفي قوله فيها : «أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لاَ يَقُولُوا عَلَى اللّه ِ إِلاَّ الْحَقَّ»(2) ونحو ذلك .

(وَمَنَعَهُمْ)؛ بصيغة الماضي المعلوم، أي في محكمات القرآن .

(جَحْدَ) أي إنكار (مَا لاَ يَعْلَمُونَ من الحق(3)) .

وذلك في قوله تعالى في سورة يونس : «بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ»(4) .

وإنّما اُقحم قوله : «من الحقّ» - مع أنّ الإنكار مطلقا ممنوع بدون علم - إشارةً إلى أنّ إنكار ما لا يعلم كإنكار المعلوم ؛ إذ يفضي إلى إنكار الحقّ البتّة .

(لِمَا أَرَادَ اللّه (5) تَبَارَكَ وَتَعَالَى) . تعليل لقوله : «وحظر» إلى آخره ، ولقوله : «ومنعهم» إلى آخره ، وبيان لعلّة غائيّة ومصلحة مرعيّة فيهما ، و«ما» موصولة ، ومعنى الإرادة هنا القضاء والقدر .

(مِنْ) بيانيّة ل- «ما» .

(اسْتِنْقَاذِ) أي استخلاص (مَنْ) ، موصولة ، وعبارة عن اتّباع الأئمّة الاثني عشر في أيّ زمان كانوا إلى يوم القيامة .

(شَاءَ) . العائد محذوف ، أي شاء استنقاذه . وسيظهر معنى مشيّة اللّه لأفعال العباد

ص: 103


1- . الأعراف 7 : 33 .
2- . الأعراف 7 : 169 .
3- . في الكافي المطبوع : - «من الحقّ» .
4- . يونس 10 : 39 .
5- . في الكافي المطبوع : - «اللّه» .

بحيث لا يلزم جبر في أبواب من كتاب التوحيد .

(مِنْ) ؛ تبعيضيّة . (خَلْقِهِ مِنْ) ؛ متعلّقة باستنقاذ .

(مُلِمَّاتِ) جمع ملمّة - بضمّ الميم وكسر اللام وشدّ الميم - وهي النازلة من نوازل الدهر(1) ، والمراد روايات المخالفين الكاذبة في فضائل أئمّتهم .

(الظُّلَمِ) ؛ بضمّ المعجمة وفتح اللام ، جمع «ظلمة» .

(وَمَغْشِيَّاتِ) أي مستورات . والمراد أسرار اللّه تعالى في مظلوميّة أئمّة الهدى .

(الْبُهَمِ) ؛ بضمّ الموحّدة وفتح الهاء ، جمع «بُهمة» بالضمّ ، وهي مشكلات الاُمور .

بيان التعليل في قوله «لما أراد» إلى آخره : أنّ الشبه والشكوك - التي تعتري الإنسان من روايات المخالفين ومن جهله بسرّ تقلّب الذين كفروا في البلاد وميل أكثر الناس في أكثر البقاع المشرّفة إلى أئمّة الضلالة ومجتهديهم - تزول عن العاقل بالعلم ؛ بأنّ كلّ رواية وكلّ إمامة خالفت(2) محكمات كتاب اللّه فهو زخرف ، والقول على اللّه بغير علم غير جائز في محكمات القرآن .

وكذا إنكار ما لم يعلم أنّه الباطل ، وذلك لأنّ أقصى مستندهم في أكثر الأحكام ليس إلاّ الاجتهاد والظنّ ، وسيجيء في «كتاب العقل» في الثاني عشر والعشرين من «باب العقل والجهل» بيان هذا الدليل على بطلان أئمّة الضلالة في أيّ زمان كانوا إلى يوم القيامة .

(وَصَلَّى اللّه ُ عَلى مُحَمَّدٍ وَأَهْلِ بَيْتِهِ الْأَخْيَارِ الَّذِينَ أَذْهَبَ اللّه ُ عَنْهُمُ الرِّجْسَ وَطَهَّرَهُمْ تَطْهِيرا) .

سيجيء في أوّل «باب ما نصّ اللّه ورسوله على الأئمّة عليهم السلام واحدا فواحدا» من «كتاب الحجّة» أنّ الرجس هو الشكّ ، ولعلّ المراد التباس حكم من أحكام الربّ تعالى عليهم ، أو المراد التباس أمرهم على الناس .

ص: 104


1- . معجم مقاييس اللغة ، ج 5 ، ص 198 ، لمم .
2- . في «ج ، د» : «خالف» .

والقرينة أنّ الآية مذكورة في سورة الأحزاب(1) متوسّطةً بين الجمل المسوقة لتكليف نسائه صلى الله عليه و آله ، وقد صرف الخطاب فيها إلى غيرهنّ على طريقة الاستئناف البياني التعليلي، ثمّ اُعيد إليهنّ بالتأكيد عليهنّ إشارة إلى عدم إطاعة صاحبة الجمل لذلك ، وأنّ المقصود بهذا إذهاب شكّ الناس عنكم ، لئلاّ يتوهّموا أنّ الحرب معها يوجب تهمة فيكم .

وقد بيّنّا وجوه دلالة الآية على عصمة الخمسة أصحاب العباء ، ودفعنا مشاغبات المخالفين في حواشي العدّة(2) .

(أَمَّا بَعْدُ ، فَقَد فَهِمْتُ يَا أَخِي مَا شَكَوْتَ). «ما» موصولة ، والعائد المنصوب محذوف ؛ أي شكوته .

ذكر هذا الأخ خمسة أشياء :

الأوّل : ما ذكره المصنّف رحمه اللّه تعالى بعد قوله : «ما شكوت» ، وهو تمهيد للسؤال بعده ، وإخبار عن علمه بأنّ الرؤساء الذين اطّلعوا على محكمات القرآن الناهية عن الجهالة ، ومع هذا اصطلحوا على الجهالة أهل النار .

الثاني : ما ذكر بعد قوله : «وسألتَ» ، وهو السؤال عن أنّ من لم يطّلع على المحكمات الناهية وقلّد الرؤساء في الجهالة ناجٍ أم لا؟

الثالث : ما ذكر بعد قوله : «وذكرت» ، وهو السؤال عن كيفيّة العمل في ما اختلف الرواية فيه من المسائل .

الرابع : ما ذكر بعد قوله : «وقلت : إنّك» ، وهو طلب تصنيف الكافي .

الخامس : ما ذكر بعد قوله : «وقلت : لو كان» ، وهو تأكيد طلب التصنيف .

فقرّر المصنّف رحمه اللهالأوّل وأجاب عن الثاني بقوله : «فاعلم يا أخي رحمك اللّه» إلى قوله : «فمستقرٌّ ومستودع» .

ص: 105


1- . الأحزاب 33 : 33 .
2- . وفي حاشية نسخة «أ» : «قوله قدس سره في حواشي العدّة بيّنه في المجلد الثاني من الحواشي عند قوله : لأنّ الإجماع عندنا إذا اعتبرناه من حيث كان فيه معصوم» .

وأجاب عن الثلاثة الأخيرة بقوله : «فاعلم يا أخي أرشدك اللّه» إلى قوله : «إلى يوم القيامة».

وليعلم أنّ المراد باُصول الدِّين مسائلُ محمولاتُها ليست من الأحكام الشرعيّة ، ولا من اقتضاء الأحكام الشرعيّة ، وأوجب اللّه تعالى على من بلغ سنّ التكليف - ولم يكن من المستضعفين - التصديق بها ، أي الطوع لها بباطن القلب .

هذا إذا خوطب بها الفلاسفة الزنادقة ومن يحذو حذوهم ، وأمّا إذا خوطب بها أهل الإسلام فالأصوب أنّ المراد باُصول الدِّين مسائل موضوعاتها ما ذكرنا في حدّها ومحمولاتها وجوب التصديق بتلك المسائل ، أو موضوعاتها التصديق بها ومحمولاتها الوجوب من الأحكام الخمسة ، وعليه قوله تعالى في سورة البقرة : «لاَ إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَىِّ»(1) .

فبالقيد الأوّل خرج مسائل الفروع الفقهيّة ، وهي مسائل محمولاتها من الأحكام الشرعيّة وموضوعاتها غير التصديق ، وخرج أيضا ما محموله من الأحكام الشرعيّة وموضوعه التصديق ، كقولنا : التصديق بالنبيّ واجب ، فإنّه ليس من مسائل اُصول الدِّين ولا اُصول الفقه ولا الفروع الفقهيّة ، إنّما هو من متعلّقات اُصول الدِّين .

وبالقيد الثاني خرج اُصول الفقه ، كقولنا : الأمر يقتضي وجوب المأمور به .

وبالقيد الثالث خرج ما عدا الثلاثة من الفنون .

[الإمامة من اُصول الدين أم لا؟]

واعلم أنّ مسألة الإمامة من اُصول الدِّين عند من يقول إنّ تعيين الإمام من اللّه ورسوله ويجب على الناس التصديق بإمامته ، سواء كان التعيين في محكمات القرآن كما هو الحقّ - وسيجيء في «باب معرفة الإمام والردّ إليه» من «كتاب الحجّة» - أم لا ؟ ومن الفروع الفقهيّة عند من يقول : إنّ اللّه ورسوله لم يعيّنا الإمام وأوجبا على الناس وجوبا كفائيّا القيام بالإمامة ونصب الإمام في كلّ زمان .(2)

ص: 106


1- . البقرة 2 : 256 .
2- . اُنظر: شرح المواقف للجرجاني ، ج 8 ، ص 344 ؛ شرح المقاصد للتفتازاني ، ج 5 ، ص 222 .

وقد بلغني في مكّة - شرّفها اللّه تعالى - في الموسم أنّ أحدا من فضلاء ما وراء النهر(1) ومجاوري مدينة الرسول عليه السلام يُشنِّع على الشيعة في عقائدهم ، وأنّه في مكّة وسمع مقامي بها وأراد أن يسألني عن إشكالات ، ثمّ إنّه توسّل بوسائل إلى ذلك حتّى وقعت الملاقاة في المسجد الحرام قبيل صلاة المغرب حين كان المسجد غاصّا بأهل الموسم ، فرأيته رجلاً متينا داهيا ، وكان معه بعض تلاميذه من أهل ما وراء النهر ، فقال بعد التعظيم والترحيب : ما دليل الشيعة على كون مسألة الإمامة من اُصول الدين ، وكفر المخالف للحقّ فيها ، هل عند الشيعة أصل يقتضي أنّ الغلط في الإمامة يوجب الكفر ، أم هذا حكم عن التشهّي ؟ وقد سألت عن هذا كثيرا من علماء الشيعة فما أجابوني عنه .

قلت : لعلّ الذي سألته عن هذا لم يكن عارفا بمذهب الشيعة كما هو حقّه ، وأنا أذكر لك مذهبهم في المسألة بحيث لا يبقى إشكال .

قال : قُل .

قلت : قد بلغك الخلاف المشهور بينهم وبين غيرهم واستدلالات كلّ جماعة على مذهبهم وأجوبة الآخرين عنها في مسألة الإمامة، ولا تعلّق لمسألة تكفير المخالف للحقّ بمسألة الإمامة ، ولم يقع للشيعة غلط في هذه المسألة ، سواء أخطأوا في مسألة الإمامة أم أصابوا .

قال : كيف هذا؟

قلت : ذهب الشيعة إلى أنّ ما أوجب اللّه على عباده على قسمين : الأوّل : التصديق ، ومرادهم بالتصديق التواضع للحقّ ، أي الطوع والخضوع له ، وليس مرادهم بالتصديق العلم اليقيني ولا الاعتقاد مطلقا ؛ لأنّهما من مقولة الانفعال [لا(2)] من الأفعال المولّدة ، فلا يتعلّق بهما تكليف حقيقةً .

ص: 107


1- . قال ياقوت الحموي في معجم البلدان ، ج 5 ، ص 45 : «ما وراء النهر يراد به ما وراء نهر جيحون بخراسان ، فما كان في شرقيّه يقال له : بلاد الهياطلة ، وفي الإسلام سموه ما وراء النهر ، وما كان في غربيّه فهو خراسان وولاية خوارزم ، وخوارزم ليست من خراسان ، إنما هي إقليم برأسه» .
2- . في «أ»: - «لا»؛ وفي «ج، د»: «أو».

والثاني : غير التصديق ، كالصلاة والصوم والحجّ ونحو ذلك ، وأنّ تارك واجب من الثاني غير كافر ، وإن علم أنّه واجب من اللّه تعالى إنّما هو آثم فقط . وأنّ الناس بالنسبة إلى الواجب الأوّل على ثلاثة أقسام :

الأوّل : من علم في كلّ تصديق باُصول الدِّين أنّه واجب من اللّه وأتى به وبكلّ تصديق عَلِم أنّه واجب من اللّه ؛ وهذا مؤمن .

والثاني : من علم في تصديق أنّه واجب من اللّه وأخلّ به ؛ وهذا كافر .

والثالث : من لم يعلم في تصديق(1) باُصول الدِّين أنّه واجب من اللّه ، سواء أتى به أم لم يأت ؛ وهذا مستضعف . وقد يتصادق الكافر والمستضعفُ في واحد باعتبار جهتين ، والمستضعفُ الذي ليس بكافر في مشيئة اللّه .

ومعنى هذا وبيان أقسام المستضعفين وأنّها سبعة وتقسيم العلم الذي يشترط في كفر الجحود إلى المستقرّ عند الكافر ، كما في قوله تعالى : «وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ»(2) ، وقوله : «فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ»(3) ، وإلى غير المستقرّ عنده بإخفائه علمه عن نفسه بالتلبيسات على نفسه ، كما في قوله تعالى في سورة الأنعام : «بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ»(4) مفصّلٌ عندهم(5) .

ولاشكّ أنّ التصديق بالإمام الحقّ بعد رسول اللّه واجب من اللّه ، فهو من القسم الأوّل من قسمي الواجب ومتعلّق باُصول الدِّين عندهم ، فيجري فيه التقسيم إلى الأقسام الثلاثة ، وهذا التقسيم غير مختصّ عندهم بالتصديق بالإمامة ، بل جارٍ في التصديق بالنبوّة ونحوها ، بل في التصديق بالأحكام(6) التي هي فروع الفقه أيضاً ،

ص: 108


1- . في «ج» : «التصديق» .
2- . النمل 27 : 14 .
3- . البقرة 2 : 89 .
4- . الأنعام 6 : 28 .
5- . قوله : «مفصّل عندهم» خبر قوله : «ومعنى هذا» .
6- . في حاشية «أ» : «إذ ليس الإيمان إلا التصديق بجميع ما جاء به النبيّ صلى الله عليه و آله » .

والفرق أنّهم لا يسمّون الجاهل في الفروع مستضعفا .(1)

قال بعد التأمّل : هذا صحيح ولم أسمعه إلى الآن من أحد ، وشرع بعض تلاميذه في الاعتراض على هذا البيان ، فلمّا تصدّيت للجواب أشار إليَّ الاُستاذ أن لا تتكلّم في جوابه ، فإنّه لم يفهم كلامك وأنا اُفهِمُه فأفْهَمَهُ وأسكته .

ثمّ قال : سنح لي الآن سؤال آخر هو أنّه بلغنا عن الشريف المرتضى من علماء الشيعة أنّه قال : الناس صنفان : اثنا عشري ، والباقي كافر ، وأنت تقول : الناس عندهم على ثلاثة أصناف؟

قلت : هل رأيت هذا في تصنيف للشريف؟

قال : لا .

قلت : أنا أيضا لم أرَ هذا في تصانيفه ، ثمّ إنّ مذهب الشيعة أنّه ليس قول أحد حجّة عليهم بعد الرسول عليه السلام إلاّ قول الأئمّة المعروفين الاثني عشر ، والتقسيم إلى الثلاثة مع الاستدلال عليه بالقرآن مرويّ عن أئمّتهم في كتب أحاديثهم .

فاستحسن الجواب .

فقال التلميذ : وبالجملة هل الشيعة يقولون : إنّ أهل السنّة كفّار ، أم لا؟

قلت : لا يخرجونهم من أحد الأقسام الثلاثة ، واعتقدوا أنتم أيضا بالشيعة ذلك ؛ وقمت إلى مكاني لصلاة المغرب ، ولم يناسب المقام أن اُجيب بما يجيء في أحاديث «باب معرفة الإمام والردّ إليه» من «كتاب الحجّة» من أدلّة كفرهم .

فمراد الشريف بالناس أهل النظر ومن بلغ إليه الدليل ، والحقّ ظاهر على جميعهم ، بل الاطّلاع على الحقّ في الإمامة لأهل القبلة والمقرّين بالقرآن أسهل بكثير من الاطّلاع على الحقّ في النبوّة لمن تولّد بين اليهود والنصارى ؛ بل الإنصاف أنّ جاهل

ص: 109


1- . في حاشية «أ» : «لمّا كان العلم بحكم شرعي مستلزما للعلم بوجوب التصديق بذلك الحكم ، والجهل بوجوب التصديق بحكم مستلزما الجهل به، لم يقل في بيان الفرق أن كلاًّ من الجاهل بوجوب التصديق بالحكم الأصلي والجاهل بالحكم الأصلي مستضعفا ، بخلاف الحكم الفرعي ، فإنّ الجاهل بوجوب التصديق به وإن سمّي مستضعفا لكن الجاهل به لم يسمّ مستضعفا ، بل آثما» .

نبوّة نبيّنا صلى الله عليه و آله إذا اطّلع على الكلمات المنقولة عن أمير المؤمنين وأولاده الأئمّة المعروفين عليهم السلام في التوحيد وبيان الأحكام ونحو ذلك بعد ما اطّلع على كلمات غيرهم فيها استدلّ بها على نبوّة نبيّنا صلى الله عليه و آله كما يستدلّ بها على إمامتهم عليهم السلام .

والتقسيم إلى الثلاثة موافق لقوله تعالى : «صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ» .

(مِنِ) ؛ بيانيّة ل- «ما» . (اصْطِلاَحِ) أي اتّفاق (أَهْلِ دَهْرِنَا) أي الرؤساء المتبوعين من الذين علموا محكمات كتاب اللّه الناهية عن الاختلاف بالاجتهادات الظنّيّة، ثمّ خالفوها بالتأويلات على هواهم .

(عَلَى الْجَهَالَةِ) ؛ - بفتح الجيم - الاستناد في المبهمات المحتاج إليها إلى ما ليس بعلم كالظنّ الحاصل بالاجتهاد .

والجهالة على قسمين :

الأوّل : الحكم بالمبهمات بدون تعلّمها بالبيّنات ، أي بالمقدّمات المعلومة بإحدى طرق هي طرق البداهة بالنسبة إلى ذهن كلّ عاقل مكلّف ، ويقابلها المبهمات ، ولا بالزبر ، أي بالمحكمات من كتاب اللّه تعالى ، ولا بسؤال أهل الذِّكر الأئمّة عليهم السلام كالإفتاء بالاجتهاد أو القضاء به .

الثاني : العمل في المبهمات بدون تعلّم جوازه الواصلي ، أي الرخصة فيه بالبيّنات ، ولا بالزبر ، ولا بسؤال أهل الذِّكر ، كالعمل بالاجتهاد وكتقليد المجتهد ، ولا ينافي خطر الجهالة جواز العمل بظاهر القرآن أوخبر الواحد بشروطهما بدون إفتاء ؛ لأنّ الرخصة في العمل هنا معلوم بسؤال أهل الذِّكر للإجماع ، وليس مناط جواز العمل حصول الظنّ .

اعلم أنّ النهي في القرآن عن التفرّق وعن الاختلاف(1) ، وعن تقطّع الأمر(2) ، وعن

ص: 110


1- . مثل قوله تعالى : «وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ» آل عمران (3 : 50) .
2- . مثل قوله تعالى : «وَ إِنَّ هٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَ حِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ * فَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبِ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ» المؤمنون (23 : 52 و 53) .

الفتنة الأشدّ من القتل(1) ، وعن الرغبة عن ملّة إبراهيم(2) ، وعن ابتغاء غير الإسلام دينا(3) وعن الإشراك،(4) وعن اللعب وعن اللهو(5) ، وعن الباطل ، وعن الخرص(6) وعن الهزل ، وعن اتّخاذ آيات اللّه ورسله هزوا(7) ، ونحو ذلك راجع إلى النهي عن الجهالة أو عن أعمّ منها .

إن قلت : الأخبار المرويّة عن أهل البيت عليهم السلام أخبار آحاد في زمننا ، وهي لا تفيد علما في اُصول الدِّين إجماعا ، فذكر أخبار الاُصول إن كان للاستناد إليها في الحكم كان رضا بالجهالة ، وإلاّ فلا فائدة في ذكرها .

قلت : ربّما أفادت العلم لا باعتبار سندها ، بل باعتبار الأدلّة المذكورة فيها من البيّنات والزبر بعد تحرير محلّ النزاع حقّ التحرير ، وتصوير الحقّ والباطل حقّ التصوير ، كما يظهر لمن تتبّعها وتتبّع كتب المتكلِّمين ، فهي كالاستاذ ليس حجّة ، وقد يفيدك تقريره العلم فيما ليس فيه خلاف حقيقي مستقرّ ، وربّما لم تفد العلم ، وفائدة ذكرها حينئذٍ الاطّلاع بها على قصور في احتجاجات الخصوم أو في دعواهم الإجماع .

(وَتَوَازُرِهِمْ)؛ بتقديم الزاي على الراء المهملة، أي تعاونهم ، وذلك بإطراء بعضهم بعضا أو تلاحق أفكارهم .

(وَسَعْيِهِمْ فِي عِمَارَةِ) - بكسر المهملة - مصدر عَمَرت الخراب كنصر فهو عامر ، أي

ص: 111


1- . مثل قوله تعالى : «وَ الْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ» البقرة (2 : 191) .
2- . مثل قوله تعالى : «وَ مَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَ هِيمَ» البقرة (2 : 130) .
3- . مثل قوله تعالى : «وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الاْءِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى الْأَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ» آل عمران (3 : 85) .
4- . مثل قوله تعالى : «وَ إِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَ هُوَ يَعِظُهُ يَابُنَىَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ» لقمان (31 : 14) .
5- . مثل قوله تعالى : «اعْلَمُواْ أَنَّمَا الْحَيَوةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ زِينَةٌ وَ تَفَاخُرُ بَيْنَكُمْ وَ تَكَاثُرٌ فِى الْأَمْوَالِ وَ الْأَوْلَادِ»الحديد (57 : 20) .
6- . مثل قوله تعالى : «قُتِلَ الْخَرَّ صُونَ» الذاريات (51 : 10) . ومثل قوله تعالى : «إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ» (الانعام (6) : 116 و يونس (10) : 66) .
7- . مثل قوله تعالى : «وَلاَ تَتَّخِذُواْ ءَايَاتِ اللَّهِ هُزُوًا» البقرة (2 : 231) .

معمور ، مثل ماء دافق ، أي مدفوق . وفيه إشارة إلى أنّها تخرب بنفسها كلّ حين لركاكتها .

أو مصدر عَمَر اللّه منزلك كنصر ، أي جعله ذا أهل ، أو عَمَر الرجلُ مالَه وبيته، أي لزمه . والعمارة أيضا ما يعمر به المكان .

(طُرُقِهَا) أي طرق الجهالة ، وذلك ببيان طرق الظنّ الحاصل بالاجتهاد ، وبتفصيل المقدّمات لإثبات خيالاتهم ، وتحرير أنواع الاعتراضات والأجوبة وإدخال مسائل آداب البحث ونحو ذلك ممّا يوهم فضلاً ويوجب ثناء الجاهل ، وهذا من ملمّات الظلم ومغشيّات البُهم، ألم تر إلى هذا اللكع عضد شارح مختصر ابن الحاجب في اُصول الفقه قال : «فتشعّبوا فيها شعبا وتحزّبوا أحزابا ورتّبوا فيها مسائل تحريرا واحتجاجا وجوابا ، فلم يروا إهمالها نصحا لمن بعدهم وإعانةً لهم على درك الحقّ منها بسهولة ،

فدوّنوها وسمّوا العلم بها اُصول الفقه»؟(1) انتهى .

كأنّه لم يسمع قوله تعالى في سورة المؤمنين : «فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ فَذَرْهُمْ فِى غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ»(2) الآيات ، وأمثالها الكثيرة .

(وَمُبَايَنَتِهِمُ الْعِلْمَ) أي ما يحصل من محكمات القرآن الناهية عن الاختلاف بالاجتهادات الظنّيّة .

(وَأَهْلَهُ) أي من دلّت المحكمات على إمامته من أهل البيت أو من اتّبع المحكمات ، وذلك بقولهم : إنّ العقل مقدّم على النقل ، وهذا كلمة حقّ اُريد بها باطل(3) .

(حَتّى كَادَ الْعِلْمُ مَعَهُمْ) أي مع أهل دهرنا .

(أَنْ يَأْرِزَ) ؛ بالهمزة ومهملة مكسورة ، وقيل : مثلّثة والزاي ، أي يتضامّ ويتقبّض ويختفي .(4) وسيجيء في حادي عشر «باب في الغيبة» من «كتاب الحجّة» . ولهذا يأرز

ص: 112


1- . شرح القاضي عضد الدين ، ص 5 ؛ وحكاه عنه الأمين الاسترابادي في الفوائد المدنيّة ، ص 62 .
2- . المؤمنون 23 : 53 - 54 .
3- . في «ج» : «به الباطل» .
4- . الصحاح ، ج 3 ، ص 864 ، النهاية ، ج 1 ، ص 37 ارز .

العلم . (كُلُّهُ) أي كلّ العلم .

(وَتَنْقَطِعَ مَوَادُّهُ) . مادّة الشيء : أصله الذي يحتاج إليه ، وهي المحكمات ، وانقطاعها انتفاء التفات الناس إليها بالكلّيّة .

(لِمَا قَدْ رَضُوا) أي مع أنّهم اطّلعوا على المحكمات ، وخرّوا على آيات اللّه بالتأويل والتخصيص صمّا وعميانا .

(أَنْ يَسْتَنِدُوا إِلَى الْجَهْلِ) ؛ هو الظنّ الحاصل بالاجتهاد ، والاستناد إليه يؤدّيهم إلى آرائهم السخيفة .

(وَيَضَعُوا(1)) أي يهينوا بعدم الالتفات (الْعِلْمَ وَأَهْلَهُ) . هم أهل البيت أو من اتّبع المحكمات وسكت عمّا لم يعلم .

(وَسَأَلْتَ : هَلْ يَسَعُ) ؛ بصيغة المضارع المعتلّ الفاء ، من باب علم ، سقطت الواو من يسع كما سقطت من يطأ لتعدّيهما ؛ لأنّ فَعِلَ يَفْعَلُ ممّا اعتلّ فاؤه لا يكون إلاّ لازما ، فلمّا جاءا من بين أخواتهما متعدّيين خولف بهما نظائرهما وجعلا كأنّهما من باب ضرب ، تقول : يسعك أن تفعل كذا ، أي يجوز ؛ لأنّ الجائز على الرجل لاضيق على الرجل فيه .

(النَّاسَ) ؛ بالنصب على المفعوليّة ، أي اتّباع الرؤساء .

(الْمُقَامُ) ؛ بالرفع على الفاعليّة ، وهو مصدر ميمي ، وهو بفتح الميم من قامت الدابّة : إذا وقفت ، أو بضمّها من أقام بالمكان : إذا دام .

(عَلَى الْجَهَالَةِ ، وَالتَّدَيُّنُ) أي العمل بما يعتقدون أنّه مقتضى دين الإسلام .

(بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي بأنّه مقتضى دين الإسلام .

(إذْ) ؛ تعليل للسعة . (كَانُوا) أي قبل البلوغ والتكليف ، أو قبل العمر الذي اُشير إليه في قوله تعالى في سورة فاطر : «أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ»(2) وهو

ص: 113


1- . في الكافي المطبوع وحاشية «أ» : «ويضيّعوا» .
2- . فاطر 35 : 37 .

ثمانية عشر سنة .(1)

(دَاخِلِينَ فِي الدِّينِ) أي دين الإسلام .

(مُقِرِّينَ بِجَمِيعِ أُمُورِهِ) أي جميع ما جاء به الرسول مجملاً .

(عَلى جِهَةِ الاِْسْتِحْسَانِ وَالنُّشُوءِ) ؛ بضمّتين وبعد الواو الساكنة همز ، مصدر نشأ كمنع وحسن ، أي حيي ورَبي وشبّ .

(عَلَيْهِ ، والتَّقْلِيدِ لِلاْبَاءِ وَالْأَسْلاَفِ وَالْكُبَرَاءِ) - بضمّ الكاف وفتح الموحّدة - ؛ جمع «كبير» .

(وَالاِْتِّكَالِ عَلى عُقُولِهِمْ) أي على عقول الآباء والأسلاف والكبراء ، أو عقول أنفسهم واستحسانها .

(فِي دَقِيقِ الْأَشْيَاءِ) أي مشكلها ، ويحتمل أن يُراد صغيرها .

(وَجَلِيلِهَا) أي واضحها أو كبيرها .

(فَاعْلَمْ يَا أَخِي رَحِمَكَ اللّه ُ) . مقصوده الاستدلال على أنّه لا يجوز للقابل للتكليف الجهالة والمقام على الجهالة ، وهذا إلى قوله : «بالأدب والتعليم» دليل عقلي ، وقوله : «فلو كانت» إلى قوله : «أهل الدهر» ؛ دليل عقلي آخر ، وقوله : «فوجب» إلى قوله : «والإنكار لدينه» تفريع على الدليلين وتوضيح ، وقوله تعالى : «فقال» إلى قوله : «لا تعلمون» دليل سمعي من محكمات القرآن ، ويجيء تفصيله في أبواب من كتاب العقل ، كما نوضحه في ثاني عشر «باب العقل والجهل» . وقوله : «فلو كان يسع» إلى آخره ، تفريع على دليل السمع .

وتوضيح الدليل العقلي الأوّل :

(أَنَّ اللّه َ تَبَارَكَ وَتَعَالى خَلَقَ) . الخلق : التقدير .

(عِبَادَهُ خِلْقَةً) . الخِلقة - بالكسر - : الفطرة ، وهي التي خُلِق عليها المولود في رحم

ص: 114


1- . حكاه الطبرسي في مجمع البيان ، ج 8 ، ص 249 عن وهب وقتادة، وروي ذلك عن الصادق عليه السلام ؛ وحكاه بلفظ «قيل» في جوامع الجامع ، ج 3 ، ص 125 ، وحكاه عن قتادة في تفسير ابن زمنين ، ج 4 ، ص 34 .

اُمّه ، والنصب على أنّه مفعول مطلق لنيابته عن المصدر ، كما في قوله : «أَنْبَتَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ نَبَاتا»(1) .

(مُنْفَصِلَةً مِنَ الْبَهَائِمِ) أي من خلقة البهائم .

(فِي الْفِطَنِ) ؛ بكسر الفاء وفتح المهملة ، جمع «فطنة» وهي الفهم ، والظرف متعلّق بمنفصلة .

(وَالْعُقُولِ الْمُرَكَّبَةِ فِيهِمْ) ؛ بتشديد الكاف المفتوحة ، أي المحمولة عليهم المجعولة فيهم من ركّبه تركيبا : إذا جعله راكبا ، وإنّما يستعمل في نحو تركيب الفصّ في الخاتم ، والنصل في السهم .

(مُحْتَمِلَةً) ؛ بصيغة اسم الفاعل ، أي قابلة وإن كان في الدنيا باعتبار بعض الأفراد ، وهو خلقة أهل الصحّة والسلامة .

(لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ) . الظرف متعلّق ب- «محتملة» أي لكون من هي فيه مأمورا ومنهيّا .

(وَجَعَلَهُمْ - جَلَّ ذِكْرُهُ - صِنْفَيْنِ : صِنْفا) أي جعل(2) صنفا .

(مِنْهُمْ أَهْلَ الصِّحَّةِ وَالسَّلاَمَةِ ، وَصِنْفا مِنْهُمْ أَهْلَ الضَّرَرِ وَالزَّمَانَةِ) ؛ بفتح الزاي ، أي الآفة .(3) وهم - على ما يجيء في «كتاب الجنائز» في أوّل «باب الأطفال» - سبع طوائف : الأطفال ، والذي مات من الناس في الفترة - أي بين مضيّ الإمام السابق وبين بلوغ خبر الإمام اللاحق وظهور حجّته - ، والشيخ الكبير الذي أدرك النبيّ صلى الله عليه و آله وهو لا يعقل ، والأصمّ والأبكم الذي لا يعقل ، والمجنون والأبله الذي لا يعقل .

وفيه: أنّ تكليف هؤلاء السبع سيقع في القيامة ، وبهذا الاعتبار جُعلوا صنفا من عباده ، ومَن عداهم أهل الصحّة والسلامة .

(فَخَصَّ) أي في الدنيا .

ص: 115


1- . نوح 71 : 17 .
2- . في «أ» : + «منهم» .
3- . المصباح المنير ، ص 256 زمن .

(أَهْلَ الصِّحَّةِ وَالسَّلاَمَةِ بِالْأَمْرِ) بالواجبات التي هي في اُصول الدِّين ، أو فيها وفي الفروع .

(وَالنَّهْيِ) عمّا يضادّها ، كما في قوله تعالى : «فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللّه ِ»(1) .

(بَعْدَ مَا أَكْمَلَ لَهُمْ آلَةَ التَّكْلِيفِ) . المراد بآلة التكليف الاُمور التي لو لم يتحقّق شيء منها لقبح التكليف ، والمراد بالتكليف الأمر والنهي اللذان ليسا بقصد اللعب ونحوه ، بل يكونان مع قصد الذمّ والتبعة(2) والمشقّة على المخالفة .

(وَوَضَعَ) أي في الدنيا .

(التَّكْلِيفَ عَنْ أَهْلِ الزَّمَانَةِ وَالضَّرَرِ ؛ إِذْ قَدْ خَلَقَهُمْ خِلْقَةً غَيْرَ مُحْتَمِلَةٍ) أي في الدنيا .

(لِلْأَدْبِ) أي لبيان الأحكام العمليّة ، وهو بفتح الهمزة وسكون المهملة والموحّدة مصدر أَدَبَ القوم كضرب، أي دعاهم إلى طعامه . قيل : «ومنه تقول : أدّبته كضربته : إذا علّمته رياضة النفس ومحاسن الأخلاق».(3) انتهى .

ويحتمل أن يكون بفتح الدال من أدب كحسن ، إذا كان حركاته وكلامه على الهيئة المحمودة ، وإذا عدّيته قلت : أدّبته بالتشديد فتأدّب ، ويبعّد هذا عطف التعليم ، لكن يؤيّده قوله(4) بعدُ : «من مؤدّب ودليل» وبفتح الدال أيضا مصدر أدب كضرب ، أي عمل مأدُبةً بضمّ الدال ، ويجوز الفتح وهي طعام صنع لدعوة أو عرس .(5)

ومنه حديث ابن مسعود : «القرآن مأدبة اللّه في الأرض»(6) . يعني مَدْعاته ، شبّه القرآن بصنيع صنعه اللّه تعالى للناس لهم فيه خير ومنافع .

ص: 116


1- . البقرة 2 : 256 .
2- . في «أ» : - «والتبعة» .
3- . المصباح المنير ، ص 9 أدب .
4- . في «د» : «قوله يؤيّده» بتقديم وتأخير .
5- . لسان العرب ، ج 1 ، ص 206 ؛ المصباح المنير ، ص 9 أدب .
6- . المصنّف لعبد الرزّاق ، ج 3 ، ص 368 ، ح 5998 و ص 375 ، ح 6017 ؛ المصنّف لابن أبي شيبة ، ج 7 ، ص 165 ، ح 3 ؛ المعجم الكبير للطبراني ، ج 9 ، ص 129 ، الفائق في غريب الحديث ، ج 1 ، ص 27 .

(وَالتَّعْلِيمِ) أي أن يلقى إليهم من الأدلّة ما يقتضي العلم بالمبهمات المحتاج إليها؛ ليستغنوا عن الجهالة فيها .

(وَجَعَلَ عَزَّ وَجَلَّ سَبَبَ بَقَائِهِمْ أَهْلَ الصِّحَّةِ وَالسَّلاَمَةِ) ؛ لما نعلم ؛ ضرورةَ أنّه لو لم يخلق أهل الصحّة والسلامة لأسرعوا إلى الزوال ، أو لم يُخلقوا أصلاً ، كما يدلّ عليه قوله تعالى في سورة الذاريات : «وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالاْءِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ» .(1)

أمّا إذا رجع ضمير ليعبدون إلى المؤمنين فظاهر ، وأمّا إذا رجع إلى الجنّ والإنس فلامتناع أن لا يترتّب الغاية بالذات على فعله تعالى ، فالعبادة حينئذٍ غاية بالعرض ، أي مطلوبة بالغاية بالذات(2) واُقيمت مقام الغاية بالذات ، وهي طلب العبادة إشعارا بأنّه لولا وقوع المطلوب في بعضهم لم يقع خلقهم أصلاً ، ويجيء تتمّة بيانه في أوّل «باب ثواب العالم والمتعلِّم» من «كتاب العقل» .

(وَجَعَل بَقَاءَ أَهْلِ الصِّحَّةِ وَالسَّلاَمَةِ بِالْأَدَبِ وَالتَّعْلِيمِ) .

حاصله وحاصل ما يجيء في أوّل «باب(3) الاضطرار إلى الحجّة» من «كتاب الحجّة» من قوله : «وما به بقاؤهم وفي تركه فناؤهم» ، وما يجيء أيضا في ثالثه(4) ، إنّا نعلم ضرورة أنّهم محتاجون إلى التَّمَدُّن والمعاملات المفضية إلى المنازعات والترافع إلى العالم ، فلو لم يجمعهم أدب وتعليم مانع عن الجهالة ، لكانوا في الهرج والمرج دائما بسبب الفساد والفتنة ، أي اختلاف آرائهم ؛ وذلك لأنّ جمهورهم مضطرّون حينئذٍ إلى أن يحكموا في المبهمات المحتاج إليها بالرأي ، وإلاّ تعطّل المعاش وخربت الدنيا ؛ لانسداد طريق العلم بالمبهمات على الجمهور ، وذلك ينافي عدل اللّه ؛ ضرورة أنّ العادل لا يرضى بالفساد ، ولا يرضى لعباده أن يعطيهم الفطن والعقول الداعية إلى

ص: 117


1- . الذاريات 51 : 55 - 56 .
2- . في «أ» : + «على فعله تعالى» .
3- . في حاشية «أ» : «وهو الباب الأوّل» .
4- . أي في الحديث 3 من باب الاضطرار إلى الحجّة .

الهرج والمرج بدون أن يعطيهم ما إذا قبلوا نجوا ، فيكون الفطن والعقول وبالاً عليهم بدون تقصيرهم .

ولا ينتقض بزمان غيبة الإمام ؛ لأنّ الجمهور قد أتوا من قِبَلِ أنفسهم حيث لم يقبلوا عطاء اللّه وحجّته على بريّته ، والقليل المُسلمون المُسَلِّمون لا تخرب الدنيا ولا يتعطّل المعاش بكفّهم أنفسهم عن الحكم في المختلف فيه بالرأي .

واعلم أنّه يمكن أن يحمل على الإشارة إلى هذا الدليل العقلي المحض على نفي جواز الجهالة قوله تعالى في سورة المؤمنين: «مَا اتَّخَذَ اللّه ُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ»(1) على أن يراد بالولد من يحكم من عند نفسه بإذن اللّه المطلق ، وبالإله من يحكم بدون إذنه ، وبالخلق الافتراء ، وبالعلوّ الاستعلاء ، وقوله تعالى في سورة يوسف : «أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمْ اللّه ُ الواحد القهّار»(2) فإنّ الأرباب أهل الجهالة المتبوعون ، كما في قوله في سورة التوبة : «اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابا مِنْ دُونِ اللّه ِ»(3) .

الدليل العقلي الثاني :

(فَلَوْ كَانَتِ) . الفاء للتعقيب والترتيب الذكري ، كما يكون في الانتقال من استدلال إلى استدلال آخر أو الانتقال من تمهيد مقدّمة إلى استدلال .

(الْجَهَالَةُ جَائِزَةً لِأَهْلِ الصِّحَّةِ وَالسَّلاَمَةِ ، لَجَازَ وَضْعُ التَّكْلِيفِ عَنْهُمْ) .

المراد بالتكليف الأدب والتعليم ، والمراد بوضعه عنهم أن يكلهم اللّه تعالى إلى اجتهادهم وارتيائهم بعقولهم في كلّ شيء كما هو زعم الفلاسفة ، والمراد بجواز وضعه أن لا يجب على اللّه تعالى عقلاً ، كما هو زعم السيّد المرتضى حيث قال في أوّل الشافي :

أحد ما احتيج إلى الإمام به كونه بيانا ، بمعنى أنّه مبيّن للشرع وكاشف عن ملتبس(4)

ص: 118


1- . المؤمنون 23 : 91 .
2- . يوسف 12 : 39 .
3- . التوبة 9 : 31 .
4- . التبس الأمر : اختلط واشتبه .

الدِّين وغامضه ، غير أنّ هذه العلّة ليست الموجبة للحاجة إلى الإمام في كلّ زمان وفي كلّ حال ؛ لأنّ الشرع إذا كان قد أجاز(1) أن لا تقع العبادة به ، لم يحتج إلى مبيّن فيه .(2) انتهى .

والملازمة هنا ضروريّة ؛ لأنّا نعلم ضرورةً أنّه لو جاز على اللّه الرخصة في الاجتهاد في بعض الأحكام التي يحتاج إليها جمهور الناس أو أكثرها - كما هو زعم أهل الجهالة - لجاز عليه الرخصة في الاجتهاد في جميعها ، بأن لا يكون تعليم أصلاً ، أو لا يبقى ضروري للدِّين أصلاً .

وهذا إلى قوله : «أهل الدهر» قياس مركّب، وهو من قياس الخلف(3) ، والمقدّمة الاستثنائيّة مطويّة في كلّ مرتبة فيقدّر هنا ، لكن لم يجز وضع التكليف .

(وَفِي جَوازِ ذلِكَ) . دليل على(4) المقدّمة الاستثنائيّة .

(بُطْلاَنُ الْكُتُبِ وَالرُّسُلِ وَالاْدَابِ) . المراد ببطلانها كون إنزال الكتب وبعث الرسل وتعليم الآداب من اللّه تعالى بصفة المباح لم يوجبها على اللّه تعالى الحكمة ، فيكون رفعها أولى ؛ لأنّها عبث ، ولم يكتف في الدليل بهذا ، مع أنّه كاف مماشاةً مع منكري

الشرائع .

وبهذا يتّضح ما في رواية البرقي في كتاب المحاسن في باب المقاييس والرأي عن أبي عبداللّه عليه السلام في رسالة إلى أصحاب الرأي والقياس :

أمّا بعد فإنّه من دعا غيره إلى دينه بالارتياء والمقاييس لم ينصف ولم يُصب حظّه ؛ لأنّ المدعوّ إلى ذلك لا يخلو أيضا من الارتياء والمقاييس ، ومتى ما لم يكن بالداعي قوّة في دعائه على المدعوّ لم يؤمن على الداعي أن يحتاج إلى المدعوّ بعد قليل ؛ لأنّا قد رأينا

ص: 119


1- . في النسخ : «جاز» . والمثبت عن المصدر .
2- . الشافي ، ج 1 ، ص 43 .
3- . قياس الخلف هو قياس مركّب يثبت المطلوب بإبطال نقيضه ، وخلاصته : أنّه لو لم يصدق المطلوب لصدق نقيضه ، ولكن نقيضه ليس بصادق ؛ لأنّ صدقه يستلزم الخلف ، فيجب أن يكون المطلوب صادقا . المنطق للمظفر ، ص 303 وفي طبعة اُخرى ، ص 291 .
4- . في «ج» + «وضع» .

المتعلّم الطالب ربما كان فائقا المعلّمَ ولو بعد حين ، ورأينا المعلّم الداعي ربّما احتاج في رأيه إلى رأي من يدعو ، وفي ذلك تحيّر الجاهلون ، وشكّ المرتابون ، وظنّ الظانّون .

ولو كان ذلك عند اللّه جائزا لم يبعث اللّه الرسل بما فيه الفصل ، ولم ينه عن الهزل ، ولم يعب الجهل ، ولكنّ الناس لمّا سفّهوا الحقّ وغمطوا(1) النعمة ، واستغنوا بجهلهم وتدابيرهم عن علم اللّه ، واكتفوا بذلك دون رسله والقوّام بأمره وقالوا : لا شيء إلاّ ما أدركته عقولنا وعرفته ألبابنا ، فولاّهم اللّه ما تولّوا وأهملهم وخذلهم حتّى صاروا عبدة أنفسهم من حيث لا يعلمون .

ولو كان اللّه رضي منهم اجتهادهم وارتياءهم فيما ادّعوا من ذلك ، لم يبعث اللّه إليهم فاصلاً لما بينهم ، ولا زاجرا عن وصفهم ، وإنّما استدللنا أنّ رضا اللّه غير ذلك ببعثة الرسل بالاُمور القيّمة الصحيحة ، والتحذير عن الاُمور المشكلة المفسدة ، ثمّ جعلهم

أبوابه وصراطه والأدلاّء عليه باُمور محجوبة عن الرأي والقياس ، فمن طلب ما عند اللّه بقياس ورأي ، لم يزدد من اللّه إلاّ بُعدا ، ولم نره(2) يبعث رسولاً قط وإن طال عمره قابلاً من الناس خلاف ما جاء به حتّى يكون متبوعا مرّة وتابعا اُخرى ، ولم نره(3) أيضا فيما جاء به استعمل رأيا ولا مقياسا حتّى يكون ذلك واضحا عنده كالوحي من اللّه ، وفي ذلك دليل لكلّ ذي لبّ وحجى أنّ أصحاب الرأي والمقاييس مخطئون مدحضون ، وإنّما الاختلاف فيما دون الرسل ، لا في الرسل ، فإيّاك أيّها المستمع أن تجمع عليك خصلتين : إحداهما : القذف بما جاش به صدرك واتّباعك لنفسك إلى غير قصد ولا معرفة حدّ ،(4) والاُخرى : استغناؤك عمّا فيه حاجتك وتكذيبك لمن إليه مردّك ، وإيّاك وترك الحقّ سآمة وملالة ، وانتجاعك الباطل جهلاً وضلالة ، لأنّا لم نجد تابعا لهواه جائزا عمّا ذكرنا قط رشيدا فانظر في ذلك .(5) انتهى .

ص: 120


1- . غمط النعمة والعافية، أي لم يشكرهما . العين ، ج 4 ، ص 389 غمط ؛ وفي معجم مقاييس اللغة ، ج 4 ، ص 396 : «غمط النعمة: احتقرها، وغمط الناس: احتقرهم» .
2- . في المحاسن : - «نره» .
3- . في المحاسن : «ولم ير» .
4- . في «ج» : «جذر» وفي «أ ، د» : «حذر» والمثبت عن المحاسن .
5- . المحاسن ، ج 1 ، ص 209 ، باب المقائيس والرأي ، ح 76 ؛ وعنه في وسائل الشيعة ، ج 27 ، ص 50 ، ح 33182 .

والملازمة هنا لا تحتاج إلى بيان ، والمقدّمة الاستثنائيّة المطويّة هنا قولنا : «ولكنّها لم تبطل» .

(وَفِي رَفْعِ الْكُتُبِ وَالرُّسُلِ وَالاْدَابِ) . دليل على المقدّمة الاستثنائيّة .

(فَسَادُ التَّدْبِيرِ ، وَالرُّجُوعُ إِلى قَوْلِ أَهْلِ الدَّهْرِ) أي أن يكون خلق الإنسان عبثا بأن تكون الحياة منحصرة في الحياة الدنيا ، والمعطوف لإيضاح المعطوف عليه ؛ يعني إذا خلا زمان عن إنزال كتاب وبعث رسول بإعلام آداب لأجل أهل ذلك الزمان ، كان حياتهم منحصرة في الحياة الدنيا، لا يبعثون لثواب أو عقاب ، فكان خلقهم فيه عبثا ؛ لأنّ الدنيا دار ممرّ لا دار مقرّ ، ألا ترى أنّه قد سُلّط شرارها وظلمتُها على خيارها ومحسنيها ، وأنّه قد بسط فيها رزق الحمق أكثر من اُولي الألباب .

وبالجملة ، هي دار تعب وعناء ، وشرّ وبلاء ، دواؤها داء ، ونعيمها بلاء ، وحياتها فناء ، ألا ترى إلى كثرة الآلام والمصائب والعاهات والنوائب ، والمسكين ابن آدم إنّما لايتمنّى الموت والخروج منها لما يرى من شدائد الأمراض وسكرات الموت فهو(1) كالمحبوس فيها .

والمقدّمة الاستثنائيّة المطويّة هنا قولنا : ولكن فساد التدبير والرجوع إلى قول أهل الدهر باطل ؛ لأدلّة حدوث العالم وحكمة المحدث .

والمراد بأهل الدهر الدهريّة ، عدل عنه ليناسب قوله : «من اصطلاح أهل دهرنا» .

والدهر - بالفتح - : الامتداد الزماني من حيث إنّه ظرف للحوادث .(2) والدهريّة - بالفتح وقد يضمّ - : الذين قالوا : «إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا»(3) كما حكي في سورة الأنعام وسورة المؤمنين ، ومثله في سورة الجاثية(4) ، يعنون أنّ الأفاعيل الواقعة في العالم - كالحياة والموت - صادرة عن الطبائع لا عن حكيم ، وأنّ الأجسام ليس لها محدث بلا

ص: 121


1- . في «ج» : «وهو» .
2- . اُنظر: المصباح المنير ، ص 201 دهر .
3- . الأنعام 6 : 29 .
4- . المؤمنون 23 : 37 ؛ الجاثية (45) : 24 .

مادّة قديمة ولا مثال سابق ، بل هي أزليّة شخصا أو نوعا ، وتبقى الحياة الدنيا أبدا على سبيل التناسخ .

واعلم أنّه يمكن أن يحمل على هذا الدليل العقلي المحض على نفي جواز الجهالة قولُه تعالى في سورة المؤمنين : «أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللّه ُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللّه ِ إِلَها آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ»(1) بناءً على أن يكون قوله : «فتعالى» لبيان انتفاء جواز وضع التكليف ، وقوله : «لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ» لبيان انتفاء جواز الجهالة ، فإنّ أهل الجهالة عبدوا أنفسهم من حيث لا يعلمون ، كما مرّ في رواية البرقي ، وقوله : «وَمَنْ يَدْعُ»لبيان حال أهل الجهالة في بعض الأحكام ومقلّديهم التابعين لإمام الضلالة ، التاركين لإمام الهدى ؛ إنّهم لا يزالون في التباس وجهل بالأحكام بسبب إمامهم ، بخلاف من تبع نور اللّه في ظلمات الأرض من أهل الذكر الأئمّة المعصومين ، وقوله : «فإِنَّمَا حِسَابُهُ»لبيان كثرة خطائه في أحكام اللّه بحيث لا يحصيه ولا يعدّه إلاّ ربّه ، أو وعيد .

(فَوَجَبَ) . الفاء للتفريع والتفصيل . (فِي) بمعنى مع .

(عَدْلِ اللّه ِ(2) وَحِكْمَتِهِ أَن يَخُصَّ) ، أي القول بعدل اللّه وحكمته يستلزم القول بأن يخصّ.

(مَنْ) . موصولة . (خَلَقَ مِنْ) . تبعيضيّة . (خَلْقِهِ خِلْقَةً مُحْتَمِلَةً لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ) . الظرف في قوله :

(بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ) متعلّق «بأن يخصّ» .

(لِئَلاَّ يَكُونُوا) . الظرف متعلّق بالأمر والنهي ، أي أن يخصّهم بالأمر والنهي ، لا للعبث والباطل بأن لا يريد منهم وقوع المأمور به ولا ترك المنهيّ عنه ، فإنّ ذلك ينافي العدل

والحكمة بل لئلاّ يكونوا .

ص: 122


1- . المؤمنون 23 : 115 - 117 .
2- . في الكافي المطبوع : + «عزّوجلّ».

(سُدىً) . السدى بضمّ(1) المهملة ومهملة والقصر : المهمل ؛ تقول : إبل سدى ، أي مهملة .(2) وبعضهم يقول : سدى بالفتح . أشار(3) إلى قوله تعالى في سورة القيامة : «أَيَحْسَبُ الاْءِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً»(4) .

(مُهْمَلِينَ) ؛ على لفظ اسم المفعول من باب الإفعال وصف للتوضيح .

(وَلِيُعَظِّمُوهُ) أي وليعبدوه، (وَيُوَحِّدُوهُ) أي ويفردوه بالعبادة .

(ويُقِرُّوا لَهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ) أي بأنّه ربّ كلّ شيء وخالقه ومالكه ، لا يخرج من سلطانه شيء . وسيجيء بيانه في «كتاب العقل» في شرح ثاني عشر «باب العقل والجهل» . والمقصود إقرارهم بأنّه لا حكم في المختلف فيه اختلافا حقيقيّا مستقرّا إلاّ للّه تعالى

حتّى يصحّ توحيدهم .

(وَلِيَعْلَمُوا أَنَّهُ خَالِقُهُمْ وَرَازِقُهُمْ) أي لا يعتمدوا في تدبير أمرهم وتحصيل رزقهم إلى حولهم وقوّتهم ، بل يعلموا أنّ أزمّة الاُمور بيده تعالى ، ما شاء اللّه كان ، وما لم يشأ لم يكن .

(إِذ شَوَاهِدُ رُبُوبِيَّتِهِ دَالَّةٌ ظَاهِرَةٌ) «إذ» هنا للظرفيّة فقط أي حين ، ويحتمل التعليل أيضا ، وهذا لدفع سؤال هو أنّ التكليف بمعرفة اللّه تعالى إمّا متوجّه إلى من يعرف اللّه تعالى ، أو إلى من لا يعرفه ، فإن كان الأوّل كان هذا أمرا بتحصيل الحاصل ، وهو محال ، وإن كان الثاني كان توجّها لأمر اللّه تعالى إلى من لم يكن عارفا باللّه ، والجاهل بالذات جاهل بالصفة ، فإذن هذا الأمر متوجّه إلى شخص لا يمكنه حالَ بقاء ذلك الأمر أن يعرف الآمر والأمر ، وذلك عين تكليف ما لا يُطاق .

وحاصل الدفع : أنّ معرفة اللّه تطلق على معنيين : الأوّل : العلم بوجود صانع للعالم بريء من كلّ نقص ، وبأنّه أنزل الكتب وبعث الرُّسل بالآداب .

الثاني : العلم المذكور مقيّدا بالعمل به ، وهذا غالب إطلاقاته ، كما يجيء في ثاني

ص: 123


1- . في «د» : + «السين» .
2- . المصباح المنير ، ص 272 سدى ؛ النهاية ، ج 2 ، ص 356 (سدا) .
3- . في حاشية «أ» : «أي المصنّف» .
4- . القيامة 75 : 36 .

«باب من عمل بغير علم» من «كتاب العقل» من قوله عليه السلام : «ولا معرفة إلاّ بعمل» إلى آخره . وهذا بترك الجهالة وترك القول على اللّه بغير علم وتعظيمه وتوحيده والإقرار بربوبيّته ، ونحو ذلك .

فنقول : التكليف بالأوّل غير واقع ، بل يجب على اللّه تعالى بيان ذلك لمن شاء تكليفه ، وذلك بشواهد ربوبيّته .

وأمّا التكليف بالثاني فواقع ومتوجّه إلى العارف بالمعنى الأوّل .

(وَحُجَجُهُ نَيِّرَةٌ وَاضِحَةٌ ، وَأَعْلاَمُهُ لاَئِحَةٌ تَدْعُوهُمْ إِلى تَوْحِيدِ اللّه ِ عَزَّ وَجَلَّ) أي إلى نفي الشريك في استحقاق العبادة ، كالشريك في الحكم ، وذلك بتحريم الاختلاف بالظنّ والاجتهاد ، وهو معنى الإسلام في نحو قوله تعالى في سورة آل عمران : «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللّه ِ الاْءِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْيا بَيْنَهُمْ»(1) .

(وَتَشْهَدُ عَلى أَنْفُسِهَا لِصَانِعِهَا بِالرُّبُوبِيَّةِ وَالاْءِلهِيَّةِ) كون صانعها ربّا لها ظاهر ؛ لأنّه مالك كلّ شيء ، وأمّا كونه إلها لها فمشكل إن اُريد بالإله المستحقّ للعبادة ، كما هو الحقّ ؛ لأنّه يختصّ بذوي العقول ، وكذا إن اُريد به من يتحيّر الأذهان فيه .

ولعلّ المراد أنّها تشهد لصانعها بأنّه إله فيها ؛ لأنّها تشهد عند المتأمّل فيها بأنّه لا يجوز أن يختلف في حقّها(2) فيُعبد غير صانعها ممّن يحكم بالظنّ والاجتهاد ، أو مبنيّ على التشبيه ، كقوله في سورة بني إسرائيل : «وَإِنْ مِنْ شَىْ ءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ»(3) .

(لِمَا فِيهَا مِنْ آثَارِ صُنْعِهِ ، وَعَجَائِبِ تَدْبِيرِهِ) ، بيان لكيفيّة الشهادة .

(فَنَدَبَهُمْ) . متفرّع على قوله : «فوجب في عدل اللّه» إلى آخره ، أي فدعاهم ببعث الأنبياء (إِلى مَعْرِفَتِهِ) أي الاعتراف بأنّه ربّ العالمين وخالقهم بقول: كُن ، فهو متّصف بكلّ كمال ، وبريء من كلّ نقص وقبيح كالعبث ، ويتضمّن ذلك الاعتراف بصفات ذاته

ص: 124


1- . آل عمران 3 : 19 .
2- . في حاشية «أ» : «أي في حقّ حكم من أحكامها الشرعية» .
3- . الإسراء 17 : 44 .

وصفات أفعاله التي منها التكليف بالدِّين ، وهو ما ذكر في قوله : «وليعظّموه» إلى آخره .

(لِئَلاَّ يُبِيحَ لَهُمْ أَنْ يَجْهَلُوهُ وَيَجْهَلُوا دِينَهُ وَأَحْكَامَهُ) يعني أنّ طلب معرفته ليس بالهزل ، بل للتكليف وأن لا يبيح لهم أن يقولوا على اللّه في اُصول الدِّين أو فروعه بغير علم ، أو يعملوا بغير علم .

(لِأَنَّ الْحَكِيمَ لاَ يُبِيحُ الْجَهْلَ بِهِ وَالاْءِنْكارَ لِدِينِهِ) . دليل على قوله : «لئلاّ يبيح» إلى آخره ، يعني : يستحيل من الحكيم إباحة الجهل كما مرّ في تقرير الدليلين العقليّين .

الدليل الثالث : السمعي :

(فَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ) في سورة الأعراف . الفاء للتفصيل وهو معطوف على «فندبهم» عطف المفصّل(1) على المجمل .

(«أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم») على اليهود في التوراة .

(«مِّيثَاقُ الْكِتَابِ») . اللام للاستغراق ؛ أي كلّ كتاب من اللّه منزل على رسول من الرسل ؛ لما يجيء في ثامن «باب النهي عن القول على اللّه بغير علم» من «كتاب العقل» من قوله : «إنّ اللّه خصَّ عباده بآيتين»،(2) ولقوله تعالى في سورة المؤمنين : «يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحا»(3) الآيات ، وسنبيّنه في «كتاب العقل» في شرح ثاني عشر «باب العقل والجهل» عند قوله : «يا هشام، ما بعث اللّه أنبياءه ورسله إلى عباده إلاّ ليعقلوا عن اللّه» ، ولقوله تعالى في سورة النحل وسورة الأنبياء : «وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً»(4) الآيات ، وسنبيّنه في شرح عاشر «باب النوادر»(5) من «كتاب العقل» .

((أَن لاَّيَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ»(6)) . «أن» ناصبة و«لا» نافية ، أو «أن» مفسّرة و«لا» ناهية

ص: 125


1- . في «د» : «التفصيل» .
2- . في حاشية «أ» : «وهما «أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم» و «بَلْ كَذَّبُوا» .
3- . المؤمنون 23 : 51 .
4- . الأنبياء 21 : 7 .وفي سورة النحل (16) : 43 «وَمَا أرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إلاّ رِجَالاً» .
5- . في «أ» : «وهو الباب السابع عشر» .
6- . الأعراف 7 : 169 .

لما في أخذ الميثاق من معنى القول ، و«على» بنائيّة ، أي قولاً مبنيّا على حكم اللّه بأن يكون حكاية لنفس حكم اللّه ، كأن يقال : الماء الكرّ لا ينجس بمحض ملاقاة النجاسة ، وهو احتراز عن القول في محلّ حكم اللّه ، كأن يقال : هذا الماء كرا ، أو وفيما ليس نفسَ حكم اللّه ولا محلّه كأن يقال : زيد في بلد كذا ، والحقّ المعلوم هو ضدّ الباطل ، وهو المظنون مثلاً ، كما في قوله تعالى في سورة يونس وسورة النجم : «إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِى مِنْ الْحَقِّ شَيْئا»(1) .

(وَقَالَ) : في سورة يونس : «بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ»(2)) يجيء توضيحه في «كتاب العقل» في شرح ثامن الثاني عشر(3) ، والحاصل أنّه تعالى حظر بالآيتين الإثبات بغير علم ، والنفي بغير علم .

(فَكَانُوا) أي أهل الصحّة والسلامة .

(مَحْصُورِينَ) أي محبوسين مكلّفين ، من حَصَرَه إذا مَنَعَه .

(بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ) أي ليس أمرهم ونهيهم لغير التكليف والحصر . وسيجيء مثل هذا في حادي عشر «باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين» من «كتاب التوحيد» .

(مَأْمُورِينَ بِقَوْلِ الْحَقِّ) أي إن قالوا أو إن سئلوا(4) أو إذا ظهر البدع ، وهو ناظر إلى قوله : «بالأمر» ببيان فرد منه هو ما نحن فيه .

(غَيْرَ مُرَخَّصٍ لَهُم فِي الْمُقَامِ عَلَى الْجَهْلِ) بحدود ما أنزل اللّه على رسوله ، وهو بيان لكون الأمر بقول الحقّ مع الحصر ، أو ناظر إلى قوله : «والنهي» فالنشر على ترتيب اللفّ .

(أَمَرَهُمْ) . استئناف بياني لقوله : «غير مرخّص» إلى آخره(5) (بِالسُّؤَالِ وَالتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ) .

ص: 126


1- . يونس 10 : 36 ؛ النجم (53) : 28 .
2- . يونس 10 : 39 .
3- . أي الحديث 8 من باب النهي عن القول بغير علم .
4- . في حاشية «أ» : «إشارة إلى ما يجيء في كتاب العقل من ثاني العشرين» .
5- . في «أ» : «لهم» .

(فَقَالَ(1)) في سورة التوبة :

(فَلَوْلاَ) . حرف تحضيض دخلت على الماضي ، فهي للتوبيخ وتدلّ على الحصر .(2)

(نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِى الدِّينِ وَ لِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ(3)) أي عذاب اللّه على اتّباع الظنّ كما يجيء بيانه في سابع ثاني «كتاب العقل»(4) ، فيدلّ على الحصر .(5)

(وَقَالَ) في سورة النحل وسورة الأنبياء : («فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ»(6)) .

هذا أمر لكلّ اُمّة على لسان كلّ رسول ، كما يجيء بيانه في عاشر «باب النوادر»(7) من «كتاب العقل» .

(فَلَوْ كَانَ) : الفاء للتفصيل .

(يَسَعُ أَهْلَ الصِّحَّةِ والسَّلاَمَةِ الْمُقَامُ عَلَى الْجَهْلِ) أي لو لم يكن المقام على اتّباع الظنّ في شيء من الأحكام منافيا للاعتراف بربوبيّة اللّه تعالى .

(لَمَا أَمَرَهُمْ) أي على لسان كلّ رسول وفي كلّ شريعة .

(بِالسُّؤَالِ) : أي ما داموا لا يعلمون ، وهذا ظاهر .

(وَلَمْ يَكُنْ يَحْتَاجُ إِلى بَعْثَةِ الرُّسُلِ بِالْكُتُبِ وَالاْدَابِ) . الواو للعطف على الجزاء ، فيفيد ثبوت الاحتياج ، إشارةً إلى قوله تعالى في سورة النساء: «رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّه ِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّه ُ عَزِيزا حَكِيما»(8) أي ممتنعا من ترك(9)

ص: 127


1- . في الكافي المطبوع : + «عزّوجلّ».
2- . في حاشية «أ» : «أي المنع كما مرّ آنفا» .
3- . التوبة 9 : 122 .
4- . أي الحديث 7 من باب فرض العلم ووجوب طلبه .
5- . في حاشية «أ» : + «أي المنع» .
6- . النحل 16 : 43 ؛ الأنبياء (21) : 7 .
7- . في حاشية «أ» : «وهو الباب السابع عشر» .
8- . النساء 4 : 165 .
9- . في «ج» : «عدم» .

التكليف بالاعتراف بالربوبيّة وعن التكليف به مع غير تكامل شروط التكليف ، كما في ترك بعث الرسل ، فإنّه حينئذٍ لا علاج لهم إلاّ اتّباع الظنّ ، وهو إنكار للربوبيّة وإشراك غيره تعالى معه في الحكم ، والتعبير عن وجوب البعثة عقلاً لدفع(1) الاعتراض بالاحتياج(2) إلى البعثة مبنيّ على التجوّز والمسامحة .

(وَكَانُوا(3)) أي أهل الصحّة والسلامة (يَكُونُونَ) . إقحامه لإفادة الاستمرار في الماضي . (عِندَ ذلِكَ) أي عند انتفاء البعثة . (بِمَنْزِلةِ الْبَهَائِمِ ، وَمَنْزِلةِ أَهْلِ الضَّرَرِ وَالزَّمَانَةِ) أي في انتفاء التكليف .

(وَلَوْ كَانُوا كَذلِكَ ، لَمَا بَقُوا طَرْفَةَ عَيْنٍ) .

ويجيء توضيحه في أوّل «كتاب الحجّة» . والطرفة - بالفتح - : المرّة ؛ من طرف عينه يطرفها طرفا من باب ضرب ، أي أطبق أحد جفنيه على الآخر(4) ، فالإضافة إلى المفعول ونصبه على الظرفيّة ؛ لأنّ المصدر قد يضاف إليه اسم زمان لتعيين الوقت أو لتعيين مقدار الوقت(5) ، ثمّ يحذف المضاف ويقام المصدر مقامه ، فالأوّل نحو : جئتك صلاةَ العصر ، أي وقت صلاة العصر ؛ والثاني نحو : أنتظر بك حَلبَ ناقة ، أي مقدار حلب ناقة ؛ وما نحن فيه من الثاني . وقد يكون المنوب عنه مكانا ، نحو : جلست قربَ زيد ، أي مكان قربه .

(فَلَمَّا) . الفاء للتفصيل . (لَمْ يَجُزْ بَقاؤُهُمْ إِلاَّ بِالْأَدَبِ وَالتَّعْلِيمِ ، وَجَبَ) أي ثبت (أَنَّهُ لاَبُدَّ لِكُلِّ صَحِيحِ الْخِلْقَةِ ، كَامِلِ الاْلَةِ) أي آلة التكليف (مِنْ مُؤَدِّبٍ وَدَلِيلٍ) أي معلِّم (وَمُشِيرٍ) . يقال : أشار عليه بالرأي في كذا إذا دلّه إلى وجه الصواب فيه .

(وَآمِرٍ وَنَاهٍ ، وَأَدَبٍ وَتَعْلِيمٍ ، وَسُؤَالٍ وَمَسْأَلَةٍ) . هي بصيغة المصدر ، والمراد الجدّ في

ص: 128


1- . في حاشية «أ» : «لدفع» متعلق ب- «وجوب» .
2- . في حاشية «أ» : «بالاحتياج» متعلق ب- «التعبير» .
3- . في الكافي المطبوع : «وكادوا» .
4- . اُنظر: تاج العروس ، ج 12 ، ص 348 طرف .
5- . في «أ ، ج» : «للوقت» .

السؤال إلى أن يفهم الجواب كما هو حقّه .

(فَأَحَقُّ) . الفاء للسببيّة .(1) (مَا اقْتَبَسَهُ) أي اكتسبه من جملة الأنوار (الْعَاقِلُ ، وَالْتَمَسَهُ) أي طلبه (الْمُتَدَبِّرُ الْفَطِنُ ، وَسَعى لَهُ) أي لتحصيله (الْمُوَفَّقُ الْمُصِيبُ) أي الذي وُفِّق للصواب وأصاب الحقّ .

(الْعِلْمُ بِالدِّينِ ، وَمعرِفَةُ مَا اسْتَعْبَدَ اللّه ُ بِهِ خَلْقَهُ مِنْ تَوْحِيدِهِ) ؛ كما في قوله تعالى في سورة الأنعام : «وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ»(2) .

(وَشَرَائِعِهِ) . عطف على «ما» أي ومعرفة مفروضاته من العبادات التي هي شَرع سواء بين المكلّفين كالصلاة والزكاة .

(وَأَحْكَامِهِ) أي ومعرفة محظوراته كشرب الخمر وأكل الرِّبا ؛ مأخوذ من الحَكَمة بفتح الحاء وفتح الكاف ، وهي حديدة في فم الدابّة تمنعها عن الحركات الغير المرضيّة .(3)

(وَأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ) أي ومعرفة خليفته الذي يأمر وينهى من قبله . والإفراد إشارة إلى انتفاء تعدّد الخليفة في زمان واحد .

(وَزَوَاجِرِهِ) أي ومعرفة وعيداته على مخالفة شرائعه وأحكامه أو أمره ونهيه .

(وَآدَابِهِ) أي ومعرفة سننه في غير الشرائع والأحكام والأمر والنهي ، كما في الواجبات الغير المفروضة والمستحبّات والمكروهات ، وكما في العقود والإيقاعات والمواريث والحدود ونحوها .

(إِذْ كانَتِ الْحُجَّةُ ثَابِتَةً) . ذلك بما بيّنه سابقا(4) من معلوميّة الأمر بالمعرفة والنهي عن الجهالة.

(وَالتَّكْلِيفُ لاَزِما) أي غير منفكّ عن الأمر والنهي أو(5) ثابتا إلى يوم القيامة لا ينقطع .

ص: 129


1- . في حاشية «أ» : «أي التفريع ؛ سمع منه» .
2- . الأنعام 6 : 163 .
3- . المصباح المنير ، ص 145 حكم .
4- . من قوله : «فلو كان يسع» .
5- . في حاشية «أ» : «وهذا موافق لما يجيء في تاسع عشر العشرين من كتاب العقل» .

(وَالْعُمْرُ يَسِيرا ، وَالتَّسْويفُ غَيْرَ مَقْبُولٍ).

(وَالشَّرْطُ) . الواو للحال عن ضمير «غير مقبول» أو للعطف على الحجّة .

(مِنَ اللّه ِ - جَلَّ ذِكْرُهُ - فيمَا اسْتَعْبَدَ بِهِ خَلْقَهُ) أي المكلّفين .

(أَنْ يُؤَدُّوا) . خبر أو معطوف على ثابتة .

(جَمِيعَ فَرَائِضِهِ) . الفرض : القطع ، والمراد بفرائضه كلّ ما أوعد(1) اللّه بالنار على تركه .

(بِعِلْمٍ وَيَقِينٍ وَبَصِيرَةٍ) . الباء للسببيّة أو للمصاحبة ، كلّ واحد من «يقين» و«بصيرة» معطوف على «علم» عطفَ تفسير ، لئلاّ يتوهّم بالعلم الظنّ .

إن قلت : العلم بالأحكام الفرعيّة غير ممكن الحصول في زمن الغيبة لنا إلاّ في الشاذّ النادر فكيف الشرط؟

قلت : تأدية الشيء أعمّ من فعله ومن فعل ما يجري مجراه . وتفصيله : أنّ الحكم قسمان : حكم واقعي ، وهو الحكم في حقّ من لا يتغيّر هذا الحكم فيه بعلمه بجميع الخطابات الشرعيّة على وجهها في المسألة ، وحكم واصلي ، وهو الحكم في حقّ من بذل وسعه في طلب العلم بالخطابات الشرعيّة ، استجماع شرائط العمل في مسألة ، والعلم المأخوذ في الشرط أعمّ من العلم بالواقعي والواصلي ، والعلم بالواقعي(2) لا يحصل بالظواهر وبأخبار الآحاد .

لكنّ العلم بالواصلي يحصل بهما ، وتفصيل بيان الواقعي والواصلي والنسبة بينهما في حواشي(3) العدّة(4) .

اعلم أنّ هذا الشرط معلوم من الآيات البيّنات المحكمات الناهية عن اتّباع الظنّ بنفس الحكم الواقعي وعن الاختلاف عن ظنّ ، الآمرة بسؤال أهل الذِّكر عن كلّ مشتبه ، وهذا الشرط متحقّق في الأخباريّين من الشيعة الإماميّة دون غيرهم ، فإنّ

ص: 130


1- . أي أوعد عباده .
2- . في «ج» : - «الواصلي والعلم بالواقعي» .
3- . في حاشية «أ» : «في أواخر الحاشية الاُولى» .
4- . عدّة الاُصول ، ج 1 ، ص 10 ، نشر مؤسسة آل البيت وبذيله حاشية الشيخ خليل القزويني .

غيرهم يتّبعون الظنّ الحاصل بالاجتهاد في نفس الحكم الواقعي ، ويجوّزون تقليد المجتهد ، وطريقتهم منافية لتلك الآيات .

ودعواهم العلم بجواز العمل بالظنّ الحاصل بالاجتهاد مكابرة صريحة لمقتضى عقولهم ؛ إذ جحدوا بالآيات واستيقنتها أنفسهم .

وأمّا الأخباريّون فليس مناط عملهم الظنّ بنفس الحكم الواقعي ، فعلمهم بجواز عملهم وبراءة ذمّتهم به يحصل بسبب علمهم بأنّ مفتيهم من أئمّة الهدى شاهد بالحقّ ، كما يجيء بُعيدَ هذا ، وما يجيء في «كتاب العقل» في سابع(1) «باب اختلاف الحديث» وهو الثاني والعشرون من قول أبي عبداللّه عليه السلام : «من عرف أنّا لا نقول إلاّ حقّا فليكتف بما يعلم منّا ، فإن سمع منّا خلاف ما يعلم فليعلم أنّ ذلك دفاع منّا عنه» .

(لِيَكُونَ الْمُؤَدِّي لَهَا مَحْمُودا عِنْدَ رَبِّهِ ، مُسْتَوْجِبا لِثَوَابِهِ وَعَظِيمِ جَزَائِهِ) .

هذا مضمون الشرط ؛ أي شرط اللّه على المكلّفين أنّه لولا أداؤهم الفرائض بعلم لم يكونوا محمودين . ومضى بيان مضمون الشرط في قوله : «أمرهم بالسؤال والتفقّه» إلى آخره .

(لِأَنَّ الَّذِي يُؤَدِّي بِغَيْرِ عِلْمٍ وَبَصِيرَةٍ) . استدلالٌ عقليٌ و«غير علم وبصيرة» القدرُ المشترك بين الظنّ والتقليد والاعتقاد المبتدأ .

(لاَيَدْرِي مَا يُؤدِّي) أي هل هو من فرائض اللّه ، أم لا؟

(وَلاَيَدْرِي إِلى مَنْ يُؤَدِّي) . المراد أنّه لا يدري هل يؤدّي إلى اللّه أو إلى من يتبع ظنّه فيه .

(وَإذا كانَ جَاهِلاً) بما يؤدّي وبمن يؤدّي إليه .

(لَم يَكُنْ عَلى ثِقَةٍ مِمَّا أَدّى) . ناظر إلى قوله : «لا يدري ما يؤدّي» أي لم يكن على اطمئنان ممّا أدّى ؛ لتجويزه استحقاق اللوم والعقاب عليه .

(وَلاَ مُصَدِّقاً)(2) بربوبيّة اللّه تعالى . هذا ناظر إلى قوله : «ولا يدري إلى مَن يؤدّي» .

(لِأَنَّ) . تعليل لقوله : «ولا مصدّقاً» .

ص: 131


1- . رقم الحديث في الكافي المطبوع : السادس .
2- . في حاشية «أ» : «عطف عل محل قوله : على ثقة» .

(الْمُصَدِّقَ لاَ يَكُونُ مُصَدِّقا حَتّى يَكُونَ عَارِفا بِمَا صَدَّقَ بِهِ) . الباء صلة «صدّق» . والمراد بما صدّق به ربوبيّة اللّه تعالى .

(مِنْ غَيْرِ شَكٍّ وَلاَ شُبْهَةٍ) . الشكّ هنا ليس على اصطلاح المتكلِّمين ، وهو تساوي احتمال الإيجاب والسلب ، بل على معنى محض(1) احتمال الطرف المخالف ، وهو المراد بالشبهة أيضا .

(لأَنَّ الشَّاكَّ لاَ يَكُونُ لَهُ مِنَ الرَّغْبَةِ والرَّهْبَةِ وَالْخُضُوعِ وَالتَّقَرُّبِ مِثْلُ مَا يَكُونُ مِن الْعَالِمِ الْمُسْتَيْقِنِ) أي لأنّ الشاكّ مشرك قد عبد مَن اتّبع ظنّه وحكمه في الدِّين كالذين اتّخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون اللّه بخلاف العالم .

ويستنبط ممّا ذكره المصنّف - رحمه اللّه تعالى - أنّ التصديق المعتبر في حدّ الإيمان ليس محض العلم ، ولا العلم مع الإقرار لفظا ، بل ما يساوق الطوع ، أي الرغبة والرهبة المتأكّدة التي لا تكون إلاّ للعالم بما يؤدّيه للتصديق بربوبيّة اللّه تعالى ؛ يُقال : خضع لزيد - كمنع - : إذا تذلّل له . والتقرّب طلب القرب .

(وَقَدْ قَالَ اللّه ُ عَزَّ وَجَلَّ) في سورة الزخرف : («إِلاَّ مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ»(2)) .

هذا بعد قوله : «وَلاَ يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ» أي لا يستحقّ الرؤساء - الذين يدعون الناس إلى أنفسهم من دون إذن اللّه - الازدواج ، بمعنى قبول المدعوّين قولهم والعمل بأمرهم ونهيهم ، والاستثناء من «الذين» وهو منقطع ، والشهادة الخبر اليقيني ، والباء للملابسة ، والحقّ ما وافق الحكمة ورعاية المصلحة ، والظرف حال [عن] ضمير «شهد» ، وهو احتراز عن الشهادة في موضع وجوب التقيّة ، وضمير«هم» للمدعوّين .

والمراد بالعلم العلم بالشهاده بالحقّ ؛ أي لكن يملك شفاعة المدعوّين مَن حكم حكما يقينيّا بالحقّ حال كون المدعوّين عالمين بأنّه حكم يقيني بالحقّ .

ص: 132


1- . في «د» : «أصل» .
2- . الزخرف 43 : 86 .

ويظهر بهذا التقرير أنّ قوله بعد ذلك : «وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاَءِ قَوْمٌ لاَ يُؤْمِنُونَ»(1) على قراءة الجرّ عطف على الحقّ ، وهو لبيان موضع وجوب التقيّة .

(فَصَارَتِ الشَّهَادَةُ مَقْبُولَةً) أي عند المدعوّين .

(لِعِلَّةِ الْعِلْمِ بِالشَّهَادَةِ) أي علم المدعوّين بأنّ حكم الداعي شهادة بالحقّ .

(وَلَوْ لاَ الْعِلْمُ بالشَّهَادَةِ ، لَمْ تَكُنِ الشَّهَادَةُ مَقْبُولَةً) فضلاً عمّا علم أنّه ليس شهادة .

(وَالْأَمْرُ فِي الشَّاكِّ - المُؤَدِّي بِغَيْرِ عِلْمٍ وَبَصِيرَة - إِلَى اللّه ِ جَلَّ ذِكْرُهُ ، إِنْ شَاءَ تَطَوَّلَ عَلَيْهِ فَقَبِلَ عَمَلَهُ ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّ عَلَيْهِ) الشاكَّ المستضعف ، وهو الذي لم يطّلع على اليقين ، أي الآيات البيّنات المحكمات الناهية عن اتّباع الظنّ والاختلاف عن ظنّ ، أو اطّلع عليها ولم يفهمها ؛ لكونه عجيما كما يجيء في «كتاب الإيمان والكفر» في أول «باب الشكّ» وهو السبعون والمائة من قوله : «إنّما الشكّ ما لم يأت اليقين ، فإذا جاء اليقين لم يجز الشكّ» .

«المؤدّي» أي لفرائض اللّه بغير علم وبصيرة ، أي بتقليد أهل الظنّ كما في عوامّ الشيعة الإماميّة .

جملة : «إن شاء» استئناف بياني موافق لآية سورة النساء : «إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَآءِ وَالْوِلْدَ نِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُولَٰئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَعَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا».(2)

(لأَنَّ الشَّرْطَ عَلَيْهِ مِنَ اللّه ِ أَنْ يُؤَدِّيَ الْمَفْرُوضَ بِعِلْمٍ وَبَصِيرَةٍ وَيَقِينٍ ) . الباء للسببيّة أو للمصاحبة ، هذا الشرط عليه معلوم له من شواهد الربوبيّة في السماوات والأرضين ، كما يجيء في «كتاب الحجّة» في ثاني «باب الاضطرار إلى الحجّة» وهو الأوّل من قوله :

«من عرف أنّ له ربّا فقد ينبغي له أن يعرف أنّ لذلك الربّ رضا وسخطا ، وأنّه لا يعرف رضاه وسخطه إلاّ بوحي أو رسول» إلى آخره ، وكما في أمثال آية سورة المؤمنين : «أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ»(3) .

ص: 133


1- . الزخرف 43 : 88 .
2- . النساء 4 : 98 و 99 .
3- . المؤمنون 23 : 115 .

(كَيْ لاَ يَكُونُوا(1) مِمَّنْ وَصَفَهُ اللّه ُ ، فَقَالَ تَبارَكَ وَتَعَالَى(2) : «وَ مِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَ إِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَ الْأَخِرَةَ ذَ لِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ»(3) ؛ لِأَنَّهُ كانَ دَاخِلاً فِيهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ يَقِينٍ ، فَلِذلِكَ صَارَ خُرُوجُهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ يَقِينٍ) .

«كي لا» تعليل للشرط المذكور ، وحاصله أنّ عاقبة الشاكّ ثلاثة احتمالات :

أحدها : البقاء على(4) الشكّ إلى آخر عمره .

ثانيها : الانقلاب إلى الشرك ، كما في هذه الآية من سورة الحجّ .

ثالثها : المصير إلى الإيمان بالآيات البيّنات الناهية عن اتّباع الظنّ والاختلاف عن ظنّ ، كما يجيء في «كتاب الإيمان والكفر» في ثاني «باب في قوله تعالى : «وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللّه َ عَلَى حَرْفٍ»» وهو الثامن والسبعون والمائة من قوله : «فمنهم من يعرف ويدخل الإيمان قلبه فيؤمن ويُصدّق ويزول عن منزلته من الشكّ إلى الإيمان ، ومنهم من يَثبُتُ على شكّه ، ومنهم من ينقلب إلى الشرك» .

ضمير «لأنّه» للمنقلب على وجهه ، وهذا بيان لسبب فساده . ضمير «فيه» للدين الحق . «بغير علم ولا يقين» أي بغير علم بمضمون الآيات البيّنات المحكمات الناهية عن اتّباع الظنّ . «خروجه بغير علم ولا يقين» أي بفتنة وشبهة ، والمراد أنّه لو كان

دخوله بعلم لم يخرج بفتنة وشبهة .

(وَقَدْ قَالَ الْعَالِمُ عليه السلام ) . أكثر ما يطلق على الكاظم عليه السلام ، ولعلّ المراد هنا صاحب الزمان عليه السلام .

(مَنْ دَخَلَ فِي الاْءِيمَانِ بِعِلْمٍ ، ثَبَتَ فِيهِ ، وَنَفَعَهُ إِيمَانُهُ) أي البيّنة أو الغالب ذلك .

(وَمَن دَخَلَ فِيهِ بِغَيرِ عِلْمٍ ، خَرَجَ مِنْهُ) أي ربّما خرج(5) منه أو الغالب ذلك .

ص: 134


1- . في الكافي المطبوع جديدا : «يكون» . وفي المطبوع السابق كما في المتن .
2- . في «أ» : + «في سورة الحج» .
3- . الحج 22 : 11 .
4- . في «د» : «إلى» .
5- . أي قد يخرج .

(كَمَا دَخَلَ فِيهِ) أي بغير علم ، كما مرَّ آنفا . وظاهره أنّ المقلّد للمحقّ(1) مؤمن ، لكن لا ينتفع بإيمانه ، وأنّ المؤمن قد يصير كافرا .

وقد خالف في كلّ منهما جمع من المتكلِّمين .(2)

(وَقَالَ عليه السلام : مَنْ أَخَذَ دِينَهُ مِنْ كِتَابِ اللّه ِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ صلّى اللّه عَلَيْه وَآلِهِ) أي من محكمهما(3) .

وسيجيء تفسيره في «كتاب العقل» في شرح ثاني عشر «باب العقل والجهل» .(4)

(زَالَتِ الْجِبَالُ قَبْلَ أَنْ يَزُولَ) أي لا يزول أصلاً أو الغالب ذلك .

(وَمَنْ أَخَذَ دِينَهُ مِنْ أَفْوَاهِ الرِّجَالِ رَدَّتْهُ الرِّجَالُ) أي ربّما ردّته ، أو الغالب ذلك .

(وَقَالَ عليه السلام : مَنْ لَمْ يَعْرِفْ أَمْرَنَا مِنَ الْقُرْآنِ ، لَمْ يَتَنَكَّبِ) ؛ بصيغة المضارع من باب التفعّل ، أي لم يحترز ؛ يقال : نكب عنه - كنصر وعلم - ونكّب وتنكّب : إذا عدل عنه .(5)

(الْفِتَنَ)؛ بكسر الفاء وفتح المثنّاة فوقُ ، جمع «فتنة» بالكسر : الامتحان ، والضلال ، والإضلال ، واختلاف الناس في الآراء ، والإعجاب بالشيء ، والإثم ، والكفر ، والفضيحة ، والعذاب(6) . والأنسب هنا الإضلال ، أي لم يجتنب غوائل إضلال المخالفين له ، فإنّ المخالفين يمنعون تواتر الروايات ويذكرون ما يوسوس غير العالم ، كما يجيء في «كتاب العقل» في ثاني عشر «باب العقل والجهل» ، فربّما زال(7) أو الغالب ذلك .

وفي معناه ما رواه ابن بابويه في كتاب التوحيد في باب في أنّه عزّ وجلّ لا يعرف إلاّ

ص: 135


1- . في «ج» : «للحق» .
2- . ذكر هذا البحث مفصلاً الشهيد الثاني في كتاب حقائل الإيمان ، ص 109 ، البحث الثالث ، وقد نسب فيه هذا القول للسيّد المرتضى .
3- . في «ج» : «محكمها» .
4- . في حاشية «أ» : «وهو الباب الأوّل» .
5- . المصباح المنير ، ص 624 نكب .
6- . الصحاح ، ج 6 ، ص 2175 ؛ معجم مقاييس اللغة ، ج 4 ، ص 472 فتن .
7- . في حاشية «أ» : «أي إيمانه» .

به عن الصادق عليه السلام أنّه قال : «لولا اللّه ما عُرفنا ، ولولا نحن ما عُرِفَ اللّه»(1) .

أو الاختلاف بالظنّ ؛ قال تعالى في سورة البقرة : «وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ»(2) وقال فيها :

«وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ للّه ِ»(3) .

(وَلِهذِهِ الْعِلَّةِ) . العلّة - بكسر المهملة - : المرض والعاهة ؛ أي لأجل اصطلاح أهل دهرنا على الجهالة وإعراضهم عن المؤدّب(4) والدليل والمشير من أهل الذِّكر عليهم السلام المأمور بسؤالهم .

(انْبَثَقَتْ) أي انفتحت ؛ يُقال : بثق - بتقديم الموحّدة على المثلّثة من باب نصر - الماء موضع كذا بَثقا وبِثقا بالفتح والكسر ، أي خرقه وشقّه ، واسم ذلك الموضع البثق بالكسر ، وانبثق الشطّ ، أي انخرق .(5)

(عَلى أَهْلِ دَهْرِنَا) من اُمّة نبيّنا صلى الله عليه و آله . (بُثُوقُ) بضمّ الموحّدة ، جمع «بثق» بالكسر ، وهو مرفوع، فاعل انبثقت .

(هذِهِ) ؛ مضاف إليه (الْأَدْيَانِ الْفَاسِدَةِ) . يريد بها الاُصول الأربعة الجهليّة المشهورة من المتكلّمين والصوفيّة والمشّائيّين والإشراقيّين .

شبّه الدِّين الفاسد بالسيل الذي يبثق مواضع كثيرة من شطّه ، ويحتمل أن يكون تعدّد البثوق بتعدّد الأديان .

(وَالْمَذَاهِبِ المُسْتَبْشِعَةِ)(6) . يُقال : هذا شيء بشع - بفتح الموحّدة وكسر المعجمة - أي كريه الطعم يأخذ بالحلق(7) .

والشين في المستبشعة إمّا مكسورة ، وهي للمبالغة ، كأنّها طلبت من نفسها أن

ص: 136


1- . التوحيد للصدوق ، ص 290 ، ذيل ح 10 .
2- . البقرة 2 : 191 .
3- . البقرة 2 : 192 .
4- . في «د» «وعدم التفاتهم إلى المؤدب» بدل «وإعراضهم عن المؤدب» .
5- . اُنظر: ترتيب كتاب العين ، ج 1 ، ص 131 ؛ المصباح المنير ، ص 36 بثق .
6- . في الكافي المطبوع : «المستشنعة» .
7- . ترتيب كتاب العين ، ج 1 ، ص 165 ؛ المصباح المنير ، ص 49 بشع .

تكون بشعة ؛ وإمّا مفتوحة ، يُقال : استبشعه إذا عدّه بَشعا ، يريد بها خصوصيّات مسألة مسألة في كلّ دين من الأديان الأربعة الجهليّة .

ويحتمل أن يريد بها ما حدث بين الإماميّة من مذاهب الجبر والتفويض ونحوهما ، بقرينة ما سيجيء من قوله : «يتدارك اللّه بمعونته وتوفيقه إخواننا وأهل ملّتنا» .

(الَّتِي قَدِ اسْتَوْفَتْ شَرَائِطَ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ كُلَّهَا) فإنّ رأس تلك الشرائط اتّباع الرأي ويتبعه باقيها .

(وَذلِكَ) أي انقسام الداخل في الإيمان إلى الداخل فيه بعلم وإلى الداخل فيه بغير علم .

(بِتَوفِيقِ اللّه ِ(1) وَخِذْلاَنِهِ) . المراد بالتوفيق هنا فعل أو ترك من اللّه تعالى ، يعلم تعالى أنّ

العبد يختار به الطاعة أو يمتنع به عن المعصية ، أي بدون قسر(2) وإلجاء ، سواء كان مقرّبا إلى الطاعة أو الامتناع عن المعصية أم لا ؛ وبالخذلان - بكسر الخاء المعجمة وسكون الذال المعجمة - فعل أو ترك من اللّه تعالى، يعلم تعالى أنّ العبد يختار به ترك الطاعة أو فعل المعصية ، سواء كان مبعّدا عن الطاعة أو ترك المعصية أم لا ، كما في قوله تعالى : «يُضِلُّ بِهِ كَثِيرا»(3) ، والمشهور في حدّ التوفيق لطفه تعالى بالعبد مقيّدا بالنفع ، أي ما يقرّبه إلى الطاعة فيختارها لأجله ، أو ما يبعّده عن المعصية فيمتنع منها لأجله ، أي مع انتفاء الإلجاء ، وقد يخصّ التوفيق بلطف يفعله اللّه تعالى بالعبد ، يختار معه الطاعة ، ويسمّى اللطفُ الذي يمتنع معه من المعصية عصمةً(4) .

(فَمَنْ أَرَادَ اللّه ُ تَوْفِيقَهُ وَأَنْ يَكُونَ إِيمَانُهُ ثَابِتا مُسْتَقِرّا) ؛ بكسر القاف .

(سَبَّبَ) ؛ بصيغة الماضي المعلوم من باب التفعيل ، ويحتمل المجهول .

(لَهُ الْأَسْبَابَ) . معنى تسبيب السبب خَلْق ما يعلم أنّه يصير سببا .

(الَّتِي تُؤَدِّيهِ) أي تفضي به بدون جبر .

ص: 137


1- . في الكافي المطبوع : + «تعالى» .
2- . في النسخ الثلاث : «قصر» .
3- . البقرة 2 : 26 .
4- . أوائل المقالات ، ص 164 ؛ كتاب الألفين ، ص 200 .

(إِلى أَنْ يَأَخُذَ دِينَهُ مِنْ كِتَابِ اللّه ِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ عليه السلام (1) بِعِلْمٍ وَيَقِينٍ وَبَصِيرَةٍ ، فَذَاكَ أَثْبَتُ فِي دِينِهِ مِنَ الْجِبَالِ الرَّوَاسِي) . جمع راسية ، يُقال : رسا الشيء : إذا ثبت .(2)

(وَمَنْ أَرَادَ اللّه ُ خِذْلاَنَهُ وَأَنْ يَكُونَ دِينُهُ مُعَارا مُسْتَوْدَعا(3))؛ بفتح الدال المهملة .

(سَبَّبَ لَهُ أَسْبَابَ الاسْتِحْسَانِ وَالتَّقْلِيدِ وَالتَّأْوِيلِ) أي تأويل الآيات المحكمات الدالّة على حظر الاستحسان والتقليد على غير المراد أو تأويل ما تشابه من الكتاب ، وهو منهيّ عنه ، كما في قوله تعالى في سورة آل عمران : «وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ»(4) الآية .

(مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ وَبَصِيرَةٍ) . ذكر هذا لأنّها(5) إن كانت على طبق البرهان كتقليدنا المعصوم أو تأويل المعصوم لم تكن قبيحة .

(فَذَاكَ فِي الْمَشِيئَةِ) أي في مشيّة اللّه ، بمعنى أنّه لا يعلم العباد عاقبته ، وتفسيره قوله :

(إِنْ شَاءَ اللّه ُ - تَبَارَكَ وَتَعَالى - أَتَمَّ إِيمَانَهُ) أي أبقاه إلى آخر عمره .

(وَإِنْ شَاءَ ، سَلَبَهُ إِيَّاهُ) . يجيء في «كتاب التوحيد» في أوّل «باب(6) في أنّه لا يكون شيء في الأرض ولا في السماء إلاّ بسبعة» معنى مشيّة اللّه للمعاصي بحيث لا يلزم جبر .

(وَلاَ يُؤْمَنُ) ؛ بصيغة المجهول من باب علم .

(عَلَيْهِ أَنْ يُصْبِحَ مُؤْمِنا وَيُمْسِيَ كَافِرا ، أَو يُمْسِيَ مُؤْمِنا وَيُصْبِحَ كَافِرا) . ظاهره أنّ المقلّد للمحقّ مؤمن وأنّ المؤمن قد يصير كافرا كما مرّ .

(لِأَنَّهُ كُلَّمَا رَأى كَبِيرا مِن الْكُبَرَاءِ) كعلماء المخالفين وملوكهم . ويحتمل أن يكون أعمّ منهم وممّن أحدث المذاهب المستبشعة في الإماميّة .

(مَالَ مَعَهُ ، وَكُلَّمَا رَأى شَيْئا اسْتَحْسَنَ ظَاهِرَهُ) ككثرة أهل الخلاف وتصرّفهم في أكثر

ص: 138


1- . في الكافي المطبوع : «صلوات اللّه عليه» .
2- . ترتيب كتاب العين ، ج 1 ، ص 678 ؛ المصباح المنير ، ص 226 ؛ تاج العروس ، ج 19 ، ص 459 رسو .
3- . في الكافي المطبوع : + «نعوذ باللّه منه» .
4- . آل عمران 3 : 7 .
5- . في حاشية «أ» : «أي الاستحسان والتقليد والتأويل» .
6- . في حاشية «أ» : «وهو الباب الخامس والعشرون» .

الأماكن المشرّفة والدفن فيها وتقيّدهم بالأوقات والجماعات وحفظ القرآءات وأنواع العمائم ونحو ذلك .

(قَبِلَهُ) . جواب كلّما .

(وَقَدْ قَالَ الْعَالِمُ عليه السلام ) . سيجيء نقله عن أبي الحسن عليه السلام (1) في رابع باب المعارين من كتاب الإيمان والكفر .

(إِنَّ اللّه َ جَلَّ وعزَّ(2) خَلَقَ النَّبِيِّينَ عَلَى النَّبُوَّةِ ، فَلاَ يَكُونُونَ إِلاَّ أَنْبِيَاءَ) يعني لا تكون النبوّة معارة .

(وَخَلَقَ الْأَوْصِيَاءَ عَلَى الْوَصِيَّةِ ، فَلاَ يَكُونُونَ إِلاَّ أَوْصِيَاءَ)(3) .

كذا في النسخ التي رأينا ، ولعلّه من سهو الناسخين ، والصواب(4) ما يجيء في رابع «باب المعارين» بدله هكذا : «وخلق المؤمنين على الإيمان فلا يكونون إلاّ مؤمنين» .

والمراد بالمؤمنين بعض المؤمنين ، كما يدلّ عليه ما في خامس «باب المعارين» من قوله : «وجُبل بعض المؤمنين على الإيمان فلا يرتدّون أبدا» .

(وَأَعَارَ قَوْمَا إِيمَانَا ، فَإِنْ شَاءَ تَمَّمَهُ لَهُمْ ، وإِنْ شَاءَ سَلَبَهُمْ إِيَّاهُ ، قالَ : وَفِيهِمْ جَرى قَوْلُهُ تَعَالى في سورة الأنعام(5) : «فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ»(6)) .

الضمير لقوم وتقديم الظرف لإفادة الحصر ، والمراد أنّ حمل الآية عليهم لا يحتاج إلى تكلّف ، وحمله على غيرهم يحتاج إلى تكلّف، في سورة الأنعام : «وَهُوَ الَّذِى

ص: 139


1- . في «أ» : + «الظاهر أنّه الكاظم عليه السلام » .
2- . في الكافي المطبوع : «عزّوجلّ» .
3- . في «ج» : «الأوصياء» .
4- . قوله قدس سره : «والصواب» إلى آخره ، الظاهر أنّ الأصوب أن يقال : سقط من قلم الناسخين هاهنا وخلق اللّه النبيّين إلى آخره ، وفي باب المعارين وخلق الأوصياء إلى آخره ، فيتمّ ذكر أقسام المكلّفين بأسرهم في هذا الحديث صريحا ، ثمّ هذا مبنيّ على أن يكون هذا الحديث هو المرويَّ فيما سيجيء كما هو الأظهر بناءً على أنّه يستبعد أن يتمسّك المصنّف بحديث [ ؟؟؟] ذكر [؟؟؟] الباب المناسب له كما لا يخفى مهدي .
5- . في «أ» والكافي المطبوع : - «في سورة الأنعام».
6- . الأنعام 6 : 98 .

أَنشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ»فمستقرّ بفتح القاف وكسرها قراءتان ، وعلى الأوّل اسم مكان كمستودع ، والتقدير : فمنكم مستقرّ ومنكم مستودع ، موافقا لآية سورة التغابن : «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ»(1) ، ولا يفيد الحصر ، كما يجيء في «كتاب الإيمان والكفر» في ثاني «باب الضلال» وهو الحادي والسبعون والمائة ؛ أي بعضكم موضع استقرار إيمانه ؛ إذ يبقى معه إلى آخر عمره ، وبعضكم موضع استيداع إيمانه ؛ إذ يؤخذ عنه قبل موته ، وعلى الثاني «مستقرّ»(2) اسم فاعل ، أي مستقرّ في إيمانه ، فمآل القراءتين واحد .(3)

(وَذَكَرْتَ أَنَّ أُمُورا) أي من الأحكام الفرعيّة الغير(4) المتعلّقة لابما(5) يتنازع فيه رجلان من دَين أو ميراث بقرينة ما يجيء من التوسيع(6) في جوابه ؛ مع ما يجيء في كتاب العقل في آخر باب اختلاف الحديث من الترتيب والتضييق في جواب السؤال عمّا فيه تنازع بين رجلين من أصحابنا كدين أو ميراث .

(قَدْ أَشْكَلَتْ عَلَيْكَ ، لاَتَعْرِفُ حَقَائِقَهَا) ؛ جمع حقيقة ، وهي الأصل الذي يستند

ص: 140


1- . التغابن 64 : 2 .
2- . في «أ» : + «أي» .
3- . في «ج» : «منطوق الآية بل بواطنه ، وظاهر كلام المصنّف فيما سبق من قوله : «وأن يكون إيمانه ثابتا مستقرا» ، وقوله : «أن يكون دينه معارا مستودعا» وظاهر هذا الحديث أنّ الراجح في «فمستقر» كسر القاف كما قرأه ابن كثير وأبو عمرو يعقوب برواية روح وزيد ، وأن التقدير : فبعض أحوالكم مستقر أي راسخ كشمائل الإنسان من كيفية صوته وشكله وغير ذلك ، وبعض أحوالكم مستودع أي غير راسخ كالصحة والمرض والنوم واليقظة وغير ذلك وفي حكم ذلك أن يكون بعض الأحوال راسخا في بعض الناس وغير راسخ في بعض آخر ، ومن هذا القبيل الإيمان» بدل من قوله : «الضمير لقوم وتقديم ...» إلى هنا .
4- . في «أ» : «فرعية غير».
5- . في «أ» : «لا مما» وفي «د» : «بما» .
6- . في حاشية «أ» : «فإنّ ما يجيء في الخطبة وفي تاسع الثاني والعشرين من التوسيع مختصّ بالعبادات ، غير جارٍ في المعاملات كالدين والميراث ، بقرينة ما يجيء في آخر الثاني والعشرين ، حيث سئل فيه عن وجه الترجيح في الحديثين المختلفين الواردين في دين أو ميراث ، وأجاب عليه السلام بعد ذكر وجوه من الترجيحات وسؤال الراوي عن صورة تساويهما في تلك الوجوه بقوله عليه السلام : «فأرجه حتّى تلقى إمامك ، فإنّ الوقوف عند الشبهات خيرٌ من الاقتحام في الهلكات» .

وينتهي إليه الشيء ، كضدّ المجاز والراية وما يحقّ على الرجل أن يحميه ، أي يجب ، يقال : فلان حامي الحقيقة(1) ؛ والخالص الذي لا يشوبه غشّ ، كما في الحديث ؛ «لا يبلغ المؤمن حقيقة الإيمان حتّى لا يعيب مسلما بعيب هو فيه» أي خالص الإيمان ومحضه وكنهَه .(2)

والمراد بالحقائق هنا شواهد القرآن القطعيّة الدلالة على الحقّ ، والصواب في هذه الاُمور المشكلة ، كما يجيء في «كتاب العقل» في أوّل «باب(3) الأخذ بالسنّة وشواهد الكتاب» من قوله : «إنّ على كلّ حقّ حقيقة ، وعلى كلّ صواب نورا ، فما وافق كتاب اللّه فخذوه ، وما خالف كتاب اللّه فدعوه» .

(لاِخْتِلاَفِ الرِّوَايَةِ فِيهَا) أي عن أهل الذِّكر عليهم السلام ، وفيه إشارة إلى أنّ نحو قوله تعالى : «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ»(4) حقيقة لما ليس فيه اختلاف رواية عن أهل الذكر ، دون ما فيه اختلاف الرواية عنهم ، وذلك إمّا لأنّه لم يصل إلى الأخ بعد ما روى عن أهل الذكر في وجه الخلاص عن الحيرة في الحديثين المختلفين ، وإمّا لأنّه وصل إليه لكن توهّم أنّ أخبار الآحاد طرق لسؤال أهل الذكر في الفروع الفقهيّة ، دون مسائل اُصول الفقه ، وما نحن فيه مسألة أصليّة ، وسيظهر بطلان هذا التوهّم عند قول المصنّف : «وأرجو أن يكون بحيث توخّيت» .

(وَأَنَّكَ) ؛ بفتح الهمزة عطف على «أنّ اُمورا» وإنّما ذِكْرُه الأخ لِدفعِ توهّمِ أنّ اختلاف الرواية ينافي كون المرويّ عنه من أهل الذِّكر .

(تَعْلَمُ أَنَّ اخْتِلاَفَ الرِّوايَةِ فِيهَا لاِخْتِلاَفِ عِلَلِهَا وَأَسْبَابِهَا) أي ليس للتناقض في فتاوى أهل الذِّكر عليهم السلاموجهل(5) بعضهم بمسألة ، بل هي لعوارض ونوازل مختلفة تقتضي

ص: 141


1- . قال الجوهري في الصحاح ، ج 4 ، ص 1461 : «والحقيقة خلاف المجاز ، والحقيقة : ما يحقّ على الرجل أن يحميه ، وفلان حامي الحقيقة ، ويقال : الحقيقة الراية» .
2- . النهاية في غريب الحديث ، ج 1 ، ص 415 ؛ لسان العرب ، ج 10 ، ص 52 حقق .
3- . في حاشية «أ» : «وهو الباب الثالث والعشرون» .
4- . النحل 16 : 43 ؛ الأنبياء (21) : 7 .
5- . في «ج» : «جعل» .

اختلاف الروايات من التقيّة ، أو نسيان الراوي ، أو سهوه ، أو إرادته نقل الرواية بالمعنى ، أو كذبه ، أو إسقاط بعض الكلام ، أو نحو ذلك .

(وَأَنَّكَ)؛ بفتح الهمزة . (لاَ تَجِدُ بِحَضْرَتِكَ مَنْ تُذَاكِرُهُ وَتُفَاوِضُهُ) أي تحادثه ؛ مفاعلة من التفويض ، كأنّ كلّ واحد منهما ردَّ ما عنده إلى صاحبه .

(مِمَّنْ تَثِقُ بِعِلْمِهِ) أي ممّن يحصل لك ببيانه الحقائقَ العلمُ بالحقائق ، فتعتمد على علمه .

(فِيهَا) أي في الاُمور المشكلة الحقائق . والظرف متعلّق إمّا بتذاكره وإمّا بعلمه .

اعلم أنّ هذا الكلام من المصنّف مبنيّ على أنّه كان بحضرة المصنّف مَن يفاوضه من السفراء من جانب من يوثق بعلمه ، وهو صاحب الزمان عليه السلام ؛ ووجهه أنّ المصنّف رحمه اللهكان حينئذٍ في بغداد وحواليه في الغيبة الصغرى ، وكان مجاورا للسفراء .

(وَقُلْتَ : إِنَّكَ تُحِبُّ) بالمهملة وشدّ الموحّدة (أَنْ يَكُونَ عِندَكَ كِتَابٌ كَافٍ يَجْمَعُ(1) مِنْ جَمِيعِ فُنُونِ عِلْمِ الدِّينِ مَايَكْتَفِي بِهِ الْمُتَعَلِّمُ) أي طالب العلم باُصول الدِّين .

(وَيَرْجِعُ إِلَيْهِ الْمُسْتَرْشِدُ) أي طالب البرهان على اُصول الدِّين .

(وَيَأْخُذُ مِنْهُ مَنْ يُرِيدُ عِلْمَ الدِّينِ) . المراد به العلم باُصول الفقه والفروع الفقهيّة .

(وَالْعَمَلَ بِهِ) أي بعلم الدِّين .

(بِالاْثارِ الصَّحِيحَةِ) . هذا في الفروع الفقهيّة وفي اُصول الفقه أيضا ، والباء للاستعانة ، والظاهر أنّ الظرف متعلّق «بعلم الدِّين والعمل به» لا بالسابق أيضا ، فإنّ أحاديث اُصول الدِّين ليست عمليّة من حيث إنّها من اُصول الدِّين ، كما يظهر ممّا ذكرنا في تفسير اُصول الدِّين عند قوله : «أمّا بعد» إلى آخره ، فليس للصحّة فيها كثير نفع ولا حاجة لها كثيرا إلى الصحّة ، إنّما سندها متنها أو متن مثلها ممّا يعاضدها ، ويشتمل على البرهان أو تحرير محلّ النزاع ، بحيث(2) يظهر به الحقّ أو تصوير السند للمنع لدفع الشبه عن الحقّ أو نحو ذلك .

ص: 142


1- . في الكافي المطبوع : + «فيه» .
2- . في «ج» : «حيث» .

اعلم أنّ المراد بالصحيح ما يجوز العمل به باتّفاق الإماميّة ، وهو ما يكون كلّ واحد من رواته ممّن أجمعت الطائفة المحقّة في قديم الدهر وحديثه على العمل برواية مثله ، سواء أفاد ظنّا أم لم يفد ، وقد بيّن ذلك شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه الله في كتاب عدّة الاُصول(1) ، وليس المراد بالصحيح ما هو على اصطلاح المتأخّرين ، وهو ما يكون كلّ واحد من رواته عدلاً إماميّا(2) ، ولا ما توهّمه بعض المتأخّرين ، وهو أن يكون معلوم الصدور عن أحد الأئمّة بالقرائن المفيدة للقطع .(3)

قال : قلت : في قوله رحمه اللّه : «وذكرت أنّ اُمورا قد أشكلت عليك لا تعرف حقائقها لاختلاف الرواية فيها» إلى آخره ، تصريحٌ بأنّه طلب منه ما يرتفع به إشكاله وحيرته ، فلو فرضنا أنّ كتاب الكافي مشتمل على ما علم وروده عنهم عليهم السلام وعلى ما لم يعلم - ولا يخفى أنّ المصنّف رحمه اللّه تعالى لم يذكر له قاعدة بها يميّز بين البابين - لزاده هذا الكتاب إشكالاً وحيرة .

وكلام المصنّف رحمه اللّه تعالى صريح في أنّه صنّف له ما يرتفع به إشكاله وحيرته ، فعلم من ذلك أنّ قصده - رحمه اللّه تعالى - من قوله : «بالآثار الصحيحة» إلى آخره ، أنّ كلّ ما في كتابه كذلك ، وأيضا في قوله رحمه اللّه تعالى : «ما يكتفي به المتعلّم ويرجع إليه المسترشد» دلالة صريحة على ما ذكرناه ، فإنّ المتعلّم كيف يكتفي بما يتحيّر فيه فُحُول العلماء المتبحّرين . وفيما نقلناه في حواشي تمهيد القواعد عن السيّد المرتضى قدس سره(4) في حال الأحاديث المرويّة في كتبنا تأييد لما ذكرنا ؛ فافهم .

ثمّ قال : الصحيح عند قدماء أصحابنا الأخباريّين ما علم بقرينة وروده عن المعصوم .(5) انتهى .

ص: 143


1- . عدّة الاُصول ، ج 1 ، ص 87 ، وفي طبعة اُخرى ، ج 1 ، ص 273 .
2- . اُنظر: مشرق الشمسين للبهائي ، ص 269 ؛ الرواشح السماوية ، ص 72 ؛ رسائل في دراية الحديث الوجيزة للشيخ البهائي ، ج 2 ، ص 526 .
3- . قد يكون المراديه التقي المجلسي في روضة المتقين ، ج 14 ، ص 10 .
4- . غير موجود .
5- . اُنظر: روضة المتقين ، ج 14 ، ص 10 .

وقد بيّنّا الحقّ في حواشي العدّة . ونقول هنا : إنّ ممّا يبطله أنّ مقبولة عمر بن حنظلة ذكرت في الكافي في «كتاب العقل» في ثاني عشر(1) «باب اختلاف الحديث» وفي «كتاب القضايا والأحكام» في خامس «باب كراهة الارتفاع إلى قضاة الجور» وبينهما اختلاف ، وأنّ ما يجيء في «كتاب الجنائز» في(2) رابع «باب غسل الميّت» منقول في التهذيب عن محمّد بن يعقوب(3) ، وبينهما اختلاف عظيم ، وأمثال ذلك كثيرة .

(عَنِ الصَّادِقِينَ)(4) أي الذين ليس فتواهم عن ظنّ واجتهاد ، وهم : رسول اللّه والأئمّة من أهل البيت عليهم السلام .

وهذا مأخوذ من قوله تعالى في سورة التوبة : «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّه َ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ»(5) ووجهه أنّ الفتوى بغير علم يفضي بصاحبه إلى كذب البتّة ؛ لأنّه لا يخلو مجتهد عن خطأ عادةً ، أو أنّ الفتوى بغير علم كذب عند اللّه ، وفي حكمه ؛ لنهيه تعالى عنه .

ونظيره قوله تعالى في سورة النور : «فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللّه ِ هُمْ الْكَاذِبُونَ»(6) وقد جعل عدم العلم والبرهان مستلزما للكذب في قوله تعالى : «قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ»(7) .

(وَالسُّنَنِ). السنّة : الطريقة ، والمراد به طريقة العمل فيما لم يعلم .

(الْقَائِمَةِ) أي المستمرّة في قديم الدهر - وهو دهر ظهور الأئمّة عليهم السلام - وحديثِه وهو ما بعد ظهورهم ، وهو دليل أنّ الأئمّة عليهم السلامبيّنوا هذه السنن وأقرّوا شيعتهم عليها ، من «قامت السوق» أي نفقت ، أو المعتدلة(8) المستقيمة من «قام الأمر» أي اعتدل ، وليس فيه

ص: 144


1- . رقم الحديث في الكافي المطبوع : العاشر .
2- . في «أ» : «الجبائر من» .
3- . التهذيب ، ج 1 ، ص 298 ، باب تلقين المحتضرين وتوجيههم عند الوفاة ، ح 873 41 .
4- . في الكافي المطبوع : + «عليهم السلام» .
5- . التوبة 9 : 119 .
6- . النور 24 : 13 .
7- . البقرة 2 : 111 .
8- . في «ج» : «المعتمرله» .

نقص ، وهذا في قواعد اُصول الفقه كقاعدة طريقة التخلّص عن الحيرة فيما اختلفت الرواية فيه ونحوها .

(الَّتِي عَلَيْهَا الْعَمَلُ) أي بين الطائفة المحقّة .

(وَبِهَا) أي بالسنن القائمة .

(يُؤَدَّى) ؛ بصيغة مجهول باب التفعيل .

(فَرْضُ اللّه ِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَسُنَّةُ نَبيِّهِ صلى الله عليه و آله ) . المراد بهما ما في الأحكام الفقهيّة من بيان اللّه في القرآن وبيان رسوله ، سواء كانا في الواجبات أم في المستحبّات أم في نحوهما ، وتأدية الفرض والسنّة بالسنن أعمّ من أن يكون العمل بالسنن في الخصوصيّات موافقا للفرض والسنّة فيها ، أم جاريا مجرى الموافق حيث رخّص فيه لضرورة الجهل .

وتقديم الظرفين للدلالة على أنّ طرق المخالفين ومن تبعهم في نحو الترجيحات الظنّيّة لا يجوز العمل بها ، ويجيء في أوّل «باب(1) صفة العلم وفضله وفضل العلماء» من «كتاب العقل» : «إنّما العلم ثلاثة : آية محكمة ، أو فريضة عادلة ، أو سنّة قائمة» ، مع شرحه .

(وَقُلْتَ : لَوْ كَانَ) ؛ تامّة . (ذلِكَ ، رَجَوْتُ) بضمّ التاء أو فتحها . (أَنْ يَكُونَ) ؛ ناقصة . (ذلِكَ سَبَبا يَتَدَارَكُ اللّه ُ تَعَالى)(2) . قد ينسب الفعل من باب التفاعل إلى واحد للمبالغة ، فإنّ الفعل المنسوب إلى اثنين يكون فيه مغالبة غالبا فيكون فيه مبالغة .

(بِمَعُونَتِهِ) أي معونة اللّه (وَتَوْفِيقِهِ إِخْوَانَنَا وَأَهْلَ مِلَّتِنَا) أي الإماميّة كأنّه يئس من انتفاع غيرهم به .

(وَيُقْبِلُ) ؛ بصيغة المضارع المعلوم من باب الإفعال . (بِهِمْ) ؛ الباء للتعدية . (إِلى مَرَاشِدِهِمْ) أي ينجيهم عن الجهالة في اُصول الدِّين .

(فَاعْلَمْ يَا أَخِي - أَرْشَدَكَ اللّه ُ -) . هذا إلى قوله : «وسعكم» بيان لحقيقة الاُمور التي أشكلت على الأخ ، وذكرنا أنّ المراد بها الأحكام الفرعيّة الغير المتعلّقة بما يتنازع فيه رجلان كدينٍ وميراثٍ .

ص: 145


1- . في حاشية «أ» : «وهو الباب الثالث» .
2- . «تعالى» من الكافي المطبوع .

(أَنَّهُ لاَ يَسَعُ أَحَدا تَمْيِيزُ شَيْءٍ مِمَّا اخْتَلفَتِ الرِّوَايَةُ فِيهِ عَنِ الْعُلَمَاءِ عليهم السلامبِرَأْيِهِ ، إِلاَّ عَلى مَا أَطْلَقَهُ الْعَالِمُ بِقَوْلِهِ عليه السلام (1) : اِعْرِضُوهُمَا(2) عَلى كِتَابِ اللّه ِ ، فَمَا وَافَقَ كِتَابَ اللّه ِ - جلَّ وعزَّ(3) - فَخُذُوهُ ، وَمَا(4) خَالَفَ كِتَابَ اللّه ِ فرُدُّوهُ . وَقَوْلِهِ عليه السلام : دَعُوا مَا وَافَقَ القَوْمَ ؛ فَإِنَّ الرُّشْدَ فِي خِلاَفِهِمْ . وَقَوْلِهِ عليه السلام : خُذُوا بِالْمُجْمَعِ عَلَيْهِ ؛ فَإِنَّ الْمُجْمَعَ عَلَيْهِ لاَرَيْبَ فِيهِ) .

تقول : ميّزه وأمازه إذا أفرزه واختاره ، كمازه من باب ضرب ، وضدّ(5) التمييز التسوية .

والمراد ب- «ما» الموصولة في قوله : «ممّا اختلفت» ما لا منازعة فيه بين رجلين ، كالعبادات المحضة ،بقرينة ما يجيء بُعيدَ هذا من التوسيع فيه بقوله : «ولا نجد» إلى آخره ، مع ما يجيء في آخر «باب(6) اختلاف الحديث» من «كتاب العقل» من حظر التوسيع فيما فيه منازعة ، وهذا شامل للتصديق بإمامة الإمام الحقّ بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وإن لم يكن داخلاً فيما سأل عنه الأخ .

والاختلاف : التناقض ، والمراد ب- «العلماء» رسول اللّه وأوصياؤه الاثنا عشر عليهم السلام . والباء للسببيّة . والرأي : الاعتقاد الحاصل بالفكر . والاستثناء متّصل(7) ، فلو كان المراد بالرأي الظنّ لكان الاستثناء منقطعا .

و«على» بنائيّة ، و«ما» موصولة ، والإطلاق - بالمهملة والقاف - : الإعطاء مأخوذ من الطلق بالكسر وهو الحلال . والمراد بالعالم هنا رسول اللّه صلى الله عليه و آله .

وذكر الأقوال الثلاثة بدون ترتيب بينَها يدلّ على أنّ ما يجري فيه أحدها يجري فيه الآخران أيضا ، ومورد جميع الثلاثة مسألة التصديق بإمامة الإمام الحقّ بعد رسول

ص: 146


1- . في الكافي المطبوع : «العالم عليه السلام يقوله» .
2- . في الكافي المطبوع : «اعرضوها» .
3- . في الكافي المطبوع : «عزّوجلّ» .
4- . في «ج» : «فما» .
5- . في «أ» : «وضده» .
6- . في حاشية «أ» : «وهو الباب الثاني والعشرون» .
7- . في حاشية «أ» : «وذلك لأنّ هذا الكلام أعمّ من أن يكون فيما أطلقه العالم أو الاُصول أو نحوها» .

اللّه صلى الله عليه و آله فإنّه قد اختلف فيها(1) الروايات عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، فمنهم مَن روى : اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر(2) ، ومنهم من روى خلاف ذلك .

فهذه الأقوال الثلاثة ثلاثة براهين على إمامة عليّ - صلوات اللّه عليه - بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله بلا واسطة :

الأوّل : العرض على الآيات البيّنات المحكمات الناهية عن اتّباع الظنّ ، فإنّها صريحة في إبطال روايات إمامة مَن غاية دعواه الاجتهاد واتّباع الظنّ .

الثاني : ترك ما وافق القوم واتّباع خلافهم ، وذلك أنّ آيات كثيرة وروايات كثيرة متّفقٌ عليها بين الفريقين صريحة في أنّ أكثر قريش وأكثر الأصحاب يُؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة ، ويرتدّون على أعقابهم بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله ؛ ففي سورة الأعلى : «بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالاْخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى إِنَّ هَذَا لَفِى الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى»(3) ، وفي سورة الزخرف : «وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ»(4) .(5)

ص: 147


1- . في «ج» : «فيه» .
2- . مسند أحمد ، ج 5 ، ص 382 ؛ سنن ابن ماجة ، ج 1 ، ص 37 ، ح 97 ؛ سنن الترمذي ، ج 5 ، ص 333 ، ح 3887 ؛ السنن الكبرى للبيهقي ، ج 5 ، ص 212 .
3- . الأعلى 87 : 16 - 19 .
4- . الزخرف 43 : 57 - 58 .
5- . في حاشية «أ» : «ويؤيّدها ما رواه الشيخ الطبرسي رحمه اللّه في مجمعه عن عليّ عليه السلام أنّه قال : جئت إلى النبيّ صلى الله عليه و آله يوما فوجدته في ملأ من قريش فنظر إليَّ ثمّ قال : يا عليّ إنّما مثلك في هذه الاُمّة كمثل عيسى بن مريم أحبّه قوم فأفرطوا في حبّه فهلكوا وأبغضه قوم وأفرطوا في بغضه فهلكوا واقتصد فيه قوم فنجوا . فعظم ذلك عليهم وضحكوا وقالوا : يشبّهه بالأنبياء والرسل فنزلت الآية . وروى عليّ بن إبراهيم في تفسيره بإسناده عن سلمان الفارسي رضى الله عنه قال : بينما رسول اللّه صلى الله عليه و آله جالسٌ في أصحابه إذ قال : إنّه يدخل عليكم الساعة شبيه عيسى بن مريم ، فخرج بعض من كان جالسا مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله ليكون هو الداخل فدخل علي بن أبي طالب عليه السلام فقال الرجل لبعض أصحابه : أما رضي محمّدٌ أن فضّل علينا عليّا حتّى يشبّهه بعيسى بن مريم، واللّه لآلهتنا التي كنّا نعبد في الجاهلية لأفضل منه ، فأنزل اللّه في ذلك المجلس : «وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ» . انتهى .

تمثيل رسول اللّه عليّا بابن مريم لقول جمعٍ : إنّه اللّه ، وإنكارِ جمعٍ حقّ إمامته ، وسلوكِ جمعٍ الجادّة الوسطى فيه كاختلاف الناس في ابن مريم ، وتمثيل القوم عليّا بآلهتهم ، أي أصنامهم التي كانوا يعبدونها مبنيّ على إيهامهم أنّه كالجماد ، وذلك تعنّت

وعناد وجدال منهم ، وهم خصمون لا يتركون خصومة عليّ إلى آخر عمرهم .

وفي سورة الأنعام : «وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِى الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللّه ِ»(1) واللام للعهد ، أي الأرض التي فيها الأصحاب ، وروى البخاري في الأصحاب في حديث طويل خطابا من اللّه لرسوله يوم القيامة «أنّهم لم يزالوا مرتدّين على أعقابهم منذ فارقتهم» .(2)

وروى البخاري أيضا عن عليّ عليه السلام أنّه قال : «أنا أوّل من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة» .(3)

وروى مسلم في باب صفات المنافقين ما يدلّ صريحا على أنّ ما صنعوا بعليّ كان من جهة المنافقين .(4)

وفي نهج البلاغة : «اللّهمَّ إنّي أستعديك(5) على قريش ، فإنّهم قطعوا رحمي» .(6)

وأمثال ذلك كثيرة في روايات المخالف والمؤالف ، فظهر أنّ القوم لو كانوا اجتمعوا على إمامة عليّ بلا واسطة لكان دليلاً على بطلان إمامته .

الثالث : الأخذ بالمجمع عليه ، وذلك أنّ الروايات المتّفق عليها بين الفريقين الدالّة على إمامة عليّ وبطلان إمامة أبي بكر أكثر من أن تُحصى ، مثل حديث الثقلين(7) ، ومثل

ص: 148


1- . الأنعام 6 : 116 .
2- . صحيح البخاري ، ج 4 ، ص 110 ، كتاب بدء الخلق ؛ و ج 5 ، ص 192 ، كتاب تفسير القرآن .
3- . صحيح البخاري ، ج 5 ، ص 6 ، باب قصة غزوة بدر ؛ و ص 242 ، كتاب تفسير القرآن .
4- . صحيح مسلم ، ج 8 ، ص 119 ، كتاب صفات المنافقين .
5- . أستعديك : أستعينك .
6- . نهج البلاغة ، ج 2 ، ص 202 ، من كلام له في الشكوى .
7- . مسند أحمد ، ج 3 ، ص 14 و 17 و 26 مسند أبي سعيد الخدري ؛ سنن الدارمي ، ج 2 ، ص 432 ، كتاب فضائل القرآن ؛ فضائل الصحابة للنسائي ، ص 15 و 22 ؛ المستدرك على الصحيحين ، ج 3 ، ص 109 و 148 ؛ سنن البيهقي ، ج 7 ، ص 30 .

حديث غدير خمّ(1) ، ومثل أقضاكم عليّ(2) ، ولا شكّ أنّ الأخذ بالمجمع عليه بين الفريقين وطرح ما يختصّ به أحد الفريقين لأجل المتّفق عليه هو الحقّ والصواب .

(وَنَحْنُ لاَ نَعْرِفُ مِنْ جَمِيعِ ذلِكَ إِلاَّ أَقَلَّهُ ، وَلاَ نَجِدُ شَيْئا أَحْوَطَ وَلاَ أَوْسَعَ مِنْ رَدِّ عِلْمِ ذلِكَ كُلِّهِ إِلَى الْعَالِمِ عليه السلام ، وَقَبُولِ مَا وَسَّعَ مِنَ الْأَمْرِ فِيهِ بِقَوْلِهِ عليه السلام : «بأيّهما(3) أَخَذْتُمْ مِنْ بَابِ التَّسْلِيمِ وَسِعَكُمْ») .

عبّر المصنّف بقوله : «نحن» عن الأخباريين من الشيعة الإماميّة أو عن نفسه وموافقيه من أهل التدقيق والتحقيق في استنباط المراد من أحاديث العلماء عليهم السلام ؛ والمآل واحد .

والمراد بالمعرفة التمييز ، و«من» للتعليل ، و«جميع ذلك» عبارة عن الأقوال الثلاثة وأمثالها ، كما يجيء في «كتاب العقل» في خامس «باب(4) الأخذ بالسنّة وشواهد الكتاب» في قوله صلى الله عليه و آله في خطبته بمنى : «أيّها الناس ما جاءكم عنّي يوافق كتاب اللّه فأنا قلته ، وما جاءكم يخالف كتاب اللّه فلم أقله» .

و«إلاّ» للاستثناء المفرّغ ، و«أقلّه» بصيغة اسم(5) التفضيل ، والضمير الراجع إلى ما اختلف الرواية فيه عن العلماء عبارة عن التصديق بإمامة الإمام الحقّ بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله .

وقوله : «أحوط» أي أحفظ للدين عن الفساد ، وهو مبنيّ على أنّه أبعد عن المنهيّ عنه في الآيات البيّنات المحكمات الناهية عن اتّباع الظنّ .

وقوله : «من ردّ» إلى آخره ناظر إلى قوله : «أحوط».

ص: 149


1- . مسند أحمد ، ج 1 ، ص 84 و 88 و 111 ؛ مسند على بن أبى طالب ؛ و ج 4 ، ص 368 ، حديث زيد بن أرقم ؛ و ج 5 ، ص 419 ، حديث أبي أيوب الأنصاري ؛ فضائل الصحابة للنسائي ، ص 15 ؛ المستدرك على الصحيحين ، ج 3 ، ص 109 و 116 .
2- . شرح نهج البلاغة ، ج 1 ، ص 18 ؛ و ج 7 ، ص 219 ؛ المواقف للايجي ، ج 3 ، ص 627 و 636 ؛ فيض القدير شرح الجامع الصغير ، ج 1 ، ص 285 .
3- . في الكافي المطبوع : «بأيّما» .
4- . في حاشية «أ» : «وهو آخر الأبواب» .
5- . في «أ» : «الاسم» .

وقوله : «ذلك كلّه» إشارة إلى جميع ما سأل الأخ عنه ، وقد ذكرنا أنّ مسألة الإمامة ليست داخلة فيه .

وقوله : «وقبول» إلى آخره ناظر إلى قوله : «أوسع» ففي الكلام نشر على ترتيب اللّف .(1)

ويظهر بهذا التقرير أنّ مقصود المصنّف رحمه الله أنّه لا يجري في شيء ممّا سأل عنه الأخ شيء من الأقوال الثلاثة ، إنّما يجري فيه التوسيع ، بخلاف ما فيه تنازع بين رجلين كما يجيء في كتاب العقل في آخر باب اختلاف الحديث(2) من مقبولة عمر بن حنظلة فإنّ فيه ترتيبا .

وقال صاحب الفوائد المدنيّة : «كأنّ مقصوده - رحمه اللّه - ذلك مع فقد الترجيحات المذكورة»(3) انتهى .

وفيه ما فيه .

والمراد بالعالم هنا رسول اللّه صلى الله عليه و آله أو أبو عبداللّه عليه السلام فإنّه منقول عنه فيما يجيء في «كتاب العقل» في الثامن والتاسع من «باب اختلاف الحديث» . والمآل واحد .

و«ما» مصدرية و«من» في «من الأمر» اسم بمعنى البعض ، ومنصوب محلاًّ على أنّه مفعول «وسع» ، وفيه إشارة إلى أنّ التوسيع مع شائبة تضييق لقوله : من باب التسليم ، فإنّه يدلّ على أنّه إن كان مع اتّباع ظنّ بأحدهما كان حراما ، وربما كان الأحوط حينئذٍ

اختيار خلاف المظنون .

و«الأمر» : الشأن ، وضمير «فيه» لذلك كلّه ، ومعنى التسليم يجيء في كتاب الحجّة في باب التسليم وفضل المسلمين .(4)

ص: 150


1- . في «د» : «وقوله : "وقبول" إلى آخره ناظر إلى قوله : "أوسع" ففي الكلام تفسير على ترتيب اللف ، وقوله : "ذلك كله" إشارة إلى جميع ما سأل الأخ عنه وقد ذكرنا أنّ مسألة الإمامية ليست داخلة فيه» بدل من «وقوله : ذلك كلّه» إلى هنا .
2- . في حاشية «أ» : «وهو الباب الثاني والعشرون» .
3- . الفوائد المدنية ، ص 526 .
4- . في حاشية «أ» : «وهو الباب الرابع والتسعون» .

واعلم أنّ هذا التخيير لاينافي ما يجيء في «كتاب العقل» في العاشر والحادي عشر من «باب اختلاف الحديث» وهو ترجيح الأخير من حكمَيْ إمام أو إمامين ، فإنّ ما يجيء مخصوص بصورة العلم بخبر الإمام الحيّ ، أو بقاء دولة الظالم الذي وقع الحكم الأخير في زمانه ، ولا يجري في نحو هذه(1) الأزمان .

(وَقَدْ يَسَّرَ اللّه ُ - وَلَه الْحَمْدُ - تَأْلِيفَ مَا سَأَلْتَ) يدلّ على أنّ تأليف الخطبة كان بعد تأليف الكتاب .

(وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ تَوَخَّيْتَ).

التاء للمخاطب(2) ، أي قصدتَ وتحرّيتَ . وهذا تقرير و بيان لكون ما في الكتاب على ما ذكره السائل من الآثار الصحيحة والسنن القائمة ، إلى آخره .

اعلم أنّ هذا الكلام من المصنّف مبنيّ على مسألة ، وهي أنّ العمل بأخبار الآحاد الجامعة لشروط الصحّة جائز في فروع الفقه وفي اُصوله أيضا ، وأنّه لاينافي ذلك شرط اللّه على عباده أن يؤدّوا جميع فرائضه بعلم ويقين وبصيرة . ووجهه أنّ هذه المسألة من مسائل اُصول الفقه متواترة معنى عن الأئمّة عليهم السلام ، ومن تتبّع أدنى تتبُّع عَلِمَ أنّ أصحاب الأئمّة عليهم السلام كانوا مجمعين على العمل بهذه المسألة بدون فرق بين اُصول الفقه وفروعه .

(فَمَهْمَا كَانَ فِيهِ مِنْ تَقْصِيرٍ فلم تُقَصّرْ) بصيغة المعلوم الغائبة من باب التفعيل .

(نِيَّتُنَا فِي إِهْدَاءِ النَّصِيحَةِ ؛ إِذْ كَانَتْ وَاجِبَةً لاِءِخْوَانِنَا وَأَهْلِ مِلَّتِنَا) أي الذين هم على الجهالة في اُصول الدِّين ، والجهل فيها يستلزم الجهل في الفروع .

(مَعَ مَا رَجَوْنَا أَنْ نَكُونَ مُشَارِكِينَ لِكُلِّ مَنِ اقْتَبَسَ مِنْهُ ، وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ فِي دَهْرِنَا هذَا ، وَفِي غَابِرِهِ) أي مستقبله (إِلَى انْقِضَاءِ الدُّنْيَا) ؛ فإنّ هذا الرجاء يوجب ترك التقصير .

(إِذِ الرَّبُّ - جَلَّ وَعَزَّ(3) - وَاحِدٌ) . تعليل لانتفاء الفرق بين دهرنا هذا وغابره .

ص: 151


1- . في «ج» : «هذا» .
2- . في «ج ، د» : «التاء للخطاب» .
3- . في الكافي المطبوع : «جلّ وعزّ» .

(وَالرَّسُولُ) . مبتدأ . (مُحَمَّدٌ صلى الله عليه و آله ) ؛ عطف بيان أو بدل . (خَاتَمُ النَّبِيِّينَ(1)) . صفة لمحمّد . (وَاحِدٌ) . خبر . (وَالشَّرِيعَةُ وَاحِدةٌ) .

وقوله : (وَحَلاَلُ مُحَمَّدٍ حَلاَلٌ ، وَحَرَامُهُ حَرَامٌ إِلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) مأخوذ من كلام أبي عبداللّه عليه السلام ، وسيجيء مع شرحه في تاسع عشر «باب(2) البدع والرأي والمقاييس» من «كتاب العقل» ترك استثنائه عصر ظهور القائم عليه السلام من الغابر(3) في العمل بما فيه يدلّ على كمال اعتماده على ما فيه ، وكان بعض الأصحاب يقول : «إنّ تصنيف مثل هذا الشيخ مثل هذا الكتاب في عشرين سنة في زمن الغيبة الصغرى وظهور السفراء وكونه في بغداد يستبعد جدّا أن لا يكون مع عرضٍ على الناحية المقدّسة بواسطة بعض السفراء»(4) انتهى .

فإن كان وقع عرضٌ كان بعد تمام الكتاب وقبل الخطبة ؛ واللّه أعلم .

(وَوَسَّعْنَا) ؛ بشدّ السين المهملة . (قَلِيلاً كِتَابَ الْحُجَّةِ وَإِنْ لَمْ نُكَمِّلْهُ عَلَى اسْتِحْقَاقِهِ ؛ لِأَنَّا كَرِهْنَا أَنْ نَبْخَسَ) ؛ بالنون للمضارعة والموحّدة والمعجمة ومهملة ، يُقال : بخسه حقّه - كمنعه - : إذا نقصه .(5)

(حُظُوظَهُ) ؛ جمع كثرة للحظّ النصيب . (كُلَّهَا) يعني حقّه ونصيبه التوسيع .

(وَأَرْجُو أَنْ) بفتح الهمزة . (يُسَهِّلَ اللّه ُ - جَلَّ وَعَزَّ(6) - إِمْضَاءَ مَا قَدَّمْنَا مِنَ النِّيَّةِ) . يشير إلى أنّه كان في نيّته رحمه اللّه تعالى التوسيع فوق القليل إلى أقصى حقّه ، لكن لم يتيسّر له .(7)

(إِنْ) ؛ بكسر الهمزة ، استئناف بياني لقوله : «أرجو»(8) .

ص: 152


1- . في الكافي المطبوع : «محمّد خاتم النبيين صلوات اللّه وسلامه عليه وآله» بدل من : «محمد صلى الله عليه و آله خاتم النبيين» .
2- . في حاشية «أ» : «وهو الباب العشرون» .
3- . في «أ» : «العابر» .
4- . حكاه في تنقيح المقال ، ص 201 ، عن بعض معاصري المحدّث الجزائري .
5- . المصباح المنير ، ص 37 بخس .
6- . في الكافي المطبوع : «عزّوجلّ» .
7- . في «ج» «د» : + «الآن» .
8- . في «أ» : «رجونا» .

(تَأَخَّرَ الْأَجَلُ صَنَّفْنَا كِتَابا) في الحجّة (أَوْسَعَ وَأَكْمَلَ مِنْهُ) أي من كتاب الحجّة الذي هو جزء الكافي .

(نُوَفِيهِ) أي كتاب الحجّة .

(حُقُوقَهُ كُلَّهَا) . يقال : أوفاه حقّه ، أي أعطاه حقّه وافيا أي تامّا .

(إِنْ شَاءَ اللّه ُ تَعَالى ، وَبِهِ الْحَوْلُ وَالْقُوَّةُ) أي لا حول ولا قوّة إلاّ باللّه .

والحول كالنصر : الاعوجاج(1) ، والمراد هنا اعوجاج العزم وانفتاله عن شيء ، سواء كان معصية أو طاعة .

والقوّة من باب علم ضدّ الضعف ، والمراد هنا تأكّد العزم في شيء ، سواء كان معصية أو طاعة .

وإنّما قوبل الحول بالقوّة لأنّ الحول يستلزم ضعفا ، كما في العين الحولاء .

وقيل : الحول الحركة ، يُقال : حال الشخص : إذا تحرّك ؛ والمعنى : لا حركة ولا قوّة إلاّ بمشيئة اللّه .

وقيل : الحول الحيلة ، أي التدبير .(2)

(وَإِلَيْهِ الرَّغْبَةُ فِي الزِّيَادَةِ فِي الْمَعُونَةِ وَالتَّوْفِيقِ . وَالصَّلاَةُ عَلى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ وَآلِهِ الطّيبين(3) الْأَخْيَارِ) ؛ بالمعجمة ، جمع «خير» بسكون الخاء(4) ، أي الأفاضل ممّن عداهم ؛ كلٌّ في زمانه .

(وَأَوَّلُ مَا أبدأ(5) بِهِ وَأَفْتَتِحُ بِهِ كِتَابِي هذَا كِتَابُ الْعَقْلِ).

الكافي مشتمل على ثلاثة وثلاثين كتابا ، بناءً على نسختنا وعلى ما نقل عن الشهيد

ص: 153


1- . ترتيب كتاب العين ، ج 2 ، ص 445 حول .
2- . اُنظر: المصباح المنير ، ص 157 حول .
3- . في الكافي المطبوع : «الطاهرين» .
4- . في «ج، د» : «الياء» .
5- . في الكافي المطبوع : «أَبْتَدِىُ» .

الثاني من أنّ كتاب الروضة ليس جزءا من الكافي(1) ، وإن عدّ جزءا منه كان مشتملاً على أربعة وثلاثين كتابا ، وهي هذه :

الأوّل : كتاب العقل .

الثاني : كتاب التوحيد .

الثالث : كتاب الحجّة .

الرابع : كتاب الإيمان والكفر .

الخامس : كتاب الدعاء .

السادس : كتاب فضل القرآن .

السابع : كتاب العِشْرة .

الثامن : كتاب الطهارة .

التاسع : كتاب الحيض .

العاشر : كتاب الجنائز .

الحادي عشر : كتاب الصلاة .

الثاني عشر : كتاب الزكاة .

الثالث عشر : كتاب الصيام .

الرابع عشر : كتاب الحجّ .

الخامس عشر : كتاب الجهاد .

السادس عشر : كتاب المعيشة .

السابع عشر : كتاب النكاح .

ص: 154


1- . قال الأفندي في رياض العلماء ، ج 2 ، ص 261 ، في ترجمة الخليل القزويني : «الروضة ليس من تأليف الكليني ، بل هو من تأليف ابن ادريس وإن ساعده بعض الأصحاب ، وربما ينسب هذا القول الأخير إلى الشهيد الثاني ، ولكن لم يثبت» . هذا وللشيخ عبدالرسول الغفار تحقيق لطيف في هذا المجال في كتابه الكلينى و الكافي . فمن شاء المزيد فعليه بالمراجعة .

الثامن عشر : كتاب العقيقة .

التاسع عشر : كتاب الطلاق .

العشرون : كتاب العتق والتدبير والكتابة .

الحادي والعشرون : كتاب الصيد .

الثاني والعشرون : كتاب الذبائح .

الثالث والعشرون : كتاب الأطعمة .

الرابع والعشرون : كتاب الأشربة .

الخامس والعشرون : كتاب الزيّ والتجمّل والمروءة(1) .

السادس والعشرون : كتاب الدواجن .

السابع والعشرون : كتاب الوصايا .

الثامن والعشرون : كتاب المواريث .

التاسع والعشرون : كتاب الحدود .

الثلاثون : كتاب الديات .

الحادي والثلاثون : كتاب الشهادات .

الثاني والثلاثون : كتاب القضايا والأحكام .

الثالث والثلاثون : كتاب الأيمان والنذور والكفّارات .

وإذا عدّ كتاب الروضة جزءا من الكافي كان الرابع والثلاثين ، والشيخ الطوسي في الفهرست، عدّه جزءا من الكافي(2) ، ومع هذا عدّ الكتب ثلاثين بأن لم يذكر كتاب العشرة وجعل كتاب الطهارة والحيض واحدا ، ولم يذكر كتاب العقيقة ، وجعل كتاب الأطعمة والأشربة واحدا ، وأيضا جعل الأوّل كتاب العقل وفضل العلم وغيّر بعض ترتيب ما بعد كتاب الطهارة والحيض .

وعلى كلّ تقدير ما قبل كتاب الطهارة الاُصول التي يجب الابتداء والافتتاح بها ،

ص: 155


1- . في «ج» : «المروة» .
2- . الفهرست ، ص 210 ، الرقم 17 .

وأصل تلك الاُصول الذي يجب أن يكون أوّلاً فيها كتاب العقل ، وليس المراد بالعقل هنا ما هو شرط التكليف ، وهو مقابل الجنون ، بل المراد رعاية الآداب الحسنة بقدر الوسع في تحصيل علم الدِّين والعمل به ، وهو مقابل الجهل بمعنى الإخلال بتلك الآداب ، ولا ينافي هذا ما يجيء في ثالث أوّل «كتاب العقل» ، فإنّه بيان حقيقته لا بيان مفهومه .

(وَفَضَائِلُ(1) الْعِلْمِ ، وَارْتِفَاعُ دَرَجَةِ أَهْلِهِ ، وَعُلُوُّ قَدْرِهِمْ ، وَنَقْصُ الْجَهْلِ ، وَخَسَاسَةُ أَهْلِهِ ، وَسُقُوطُ مَنْزِلَتِهِمْ).

فضائل مرفوع معطوف على «كتاب» بعطف التفسير والتفصيل ، وكذا نظائره ، فليس من تتمّة العنوان .

واللام في «العلم» للعهد ، والمراد علم الدِّين ، وأهل العلم العاملون بالعلم ، والنقص بالفتح النقصان ، وتغيير الاُسلوب - حيث لم يقل : ونقائص الجهل - رمزٌ إلى أنّ المراد بالجهل هنا ضدّ العقل ، لا ضدّ العلم .

(إِذْ كَانَ الْعَقْلُ هُوَ الْقُطْبَ الَّذِي عَلَيْهِ الْمَدَارُ ، وَبِهِ يُحْتَجُّ ، وَلَهُ الثَّوَابُ ، وَعَليْهِ الْعِقَابُ).

هذا بيان وجه تقديم كتاب العقل على سائر كتب الكافي ، و«إذ» للتعليل .

وذكر «كان» إشارةٌ إلى أنّ ابتداء خلق المكلّفين والتكليف لم يكن إلاّ للعقل ، موافقا لاحتمال في قوله تعالى في سورة الذاريات : «وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ * وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالاْءِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ»(2) وهو أن يكون ضمير «يعبدون» للمؤمنين .(3)

و«القطب» بالضمّ : وتد الرحى(4) . و«المدار» بفتح الميم ، مصدر ميمي من باب نصر ، والمراد هنا انتظام تكليف الجنّ والإنس ؛ شبّه العقل بقطب الرحى ، والتكليف بالرحى ، وانتظام التكليف بدوران الرحى على القطب .

«يحتجّ» بالمهملة وشدّ الجيم بصيغة المجهول من باب الافتعال ، والمراد احتجاج

ص: 156


1- . في الكافي المطبوع : «وفضائلِ» بكسر الأخير .
2- . الذاريات 51 : 55 - 56 .
3- . في حاشية «أ» : «وهم الذين يعقلون» .
4- . ترتيب كتاب العين ، ج 3 ، ص 1490 قطب .

اللّه تعالى بالعقل على أهل الجهل .

والمقصود أنّه لو لم يتحقّق العقل في بعض المكلّفين لم يتمّ الاحتجاج على الجاهل ، واللام في : «له الثواب» تعليليّة و«على» في «عليه العقاب» بنائيّة ، وسيتّضح في شرح أوّل أوّل(1) «كتاب العقل» عند قوله : «إيّاك اُعاقب وإيّاك اُثيب» .

والحاصل : أنّ جميع ما يذكر في أبواب كتاب العقل لبيان كيفيّة رعاية الآداب الحسنة في تحصيل علم الدِّين والعمل به ، وكيفيّة الاجتناب عن الإخلال بتلك الآداب ؛ إمّا بالدلالة المطابقيّة وإمّا بالدلالة الالتزاميّة ، فظهر أنّ القوانين المتعلّقة بالعقل المذكورة في كتاب العقل ميزان اللّه ، ومظهره في طلب علم الدِّين والعمل به ومنطقه واُصول فقهه ، عاصمة لطالب علم الشريعة والعمل به عن الخطأ في الطلب ، كقانون وجوب تقديم اتّباع محكمات القرآن على اتّباع متشابهاته .

وسيجيء في ثاني عشر «باب العقل والجهل» ؛ فتقديم كتاب العقل على سائر الكتب كتقديم الفلاسفة فنّ منطقهم على مقاصدهم .

هذا ، وليس المحتاج إليه من قوانين منطقهم إلاّ اُمورا سهلة النفع ، مركوزة في عقول العوامّ أيضا ، لا حاجة كثيرا إلى تدوينها ، بل هي نقطة كثّرها الجاهلون ، وحسبك دليلاً على أنّ منطقهم لا يفي بالعصمة عن الخطأ كثرةُ مناقضات متعاطيه ومعلّميه ، فربّ عالمٍ به قتله جهلُه ، وعلمه به معه لا ينفعه وإن استعان به .

ونقل شارح المقاصد في المبحث الثاني من الفصل الثالث من المقصد الأوّل عن الفخر الرازي أنّه قال :

لا نزاع في أنّ النظر(2) يفيد الظنّ ، وإنّما النزاع في إفادته اليقين ، وأنكره السمنيّة(3) مطلقا

ص: 157


1- . أي في الحديث 1 من الباب الأوّل من كتاب العقل .
2- . النظر : ترتيب اُمور ذهنيّة يتوصّل بها إلى اُخر . معارج الفهم في شرح النظم ، ص 75 ؛ وانظر: المحصّل للرازي ، ص 121 .
3- . السُّمَنية - بضم السين وفتح الميم مخففة - : فرقة تعبد الأصنام وتقول بالتناسخ ، وتنكر حصول العلم بالأخبار ، قيل : نسبة إلى سومنات بلدة من الهند على غير قياس . القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 238 ؛ قوانين الاصول ، ص 421 . وفي فهرست ابن النديم ، ص 408 : «بني السمنية بوداسف ، وعلى هذا المذهب كان أكثر أهل ماوراء النهر قبل الإسلام» .

وجمعٌ من الفلاسفة في الإلهيّات والطبيعيّات ، حتّى نقل عن أرسطو أنّه قال : لا يمكن تحصيل اليقين في المباحث الإلهيّة ، إنّما الغاية القصوى فيها الأخذ بالأولى والأخلق عليه تعالى .(1) انتهى .

وأرسطو واضع فنّ المنطق ورئيسهم ومعلّمهم الأوّل ، فما قالوا في الإلهيّات قول على اللّه بغير علم ، وهو غير جائز عند المسلمين ، فليتعلّم الذي يطلب علم الشريعة ويرجو نجاة الآخرة قوانين كتاب العقل ، فإنّ من لم يتعلّمها وطلب علم الشريعة فقد خبط خبط عشواء(2) ، وتورّط المهالك ، وانبثق عليه بثوق هذه الأديان الفاسدة والمذاهب المستبشعة .

ص: 158


1- . شرح المقاصد ، ج 1 ، ص 235 .
2- . في حاشية «أ» : «خبط خبط عشواء ركبه على غير بصيرة ، والعشواء الناقة لا تبصر أمامها» .

كتاب العقل

إشارة

ص: 159

ص: 160

في كتاب العقل ثلاثة وعشرون بابا :

الأوّل : باب العقل والجهل .

الثاني : باب فرض العلم ووجوب طلبه والحثّ عليه .

الثالث : باب صفة العلم وفضله وفضل العلماء .

الرابع : باب أصناف الناس .

الخامس : باب ثواب العالم والمتعلِّم .

السادس : باب صفة العلماء .

السابع : باب حقّ العالم .

الثامن : باب فقد العلماء .

التاسع : باب مجالسة العلماء وصحبتهم .

العاشر : باب سؤال العالم وتذاكره .

الحادي عشر : باب بذل العلم .

الثاني عشر : باب النهي عن القول بغير علم .

الثالث عشر : باب من عمل بغير علم .

الرابع عشر : باب استعمال العلم .

الخامس عشر : باب المستأكل بعلمه والمباهي به .

السادس عشر : باب لزوم الحجّة على العالم وتشديد الأمر عليه .

ص: 161

السابع عشر : باب النوادر .

الثامن عشر : باب رواية الكتب والحديث وفضل الكتابة والتمسّك بالكتب .

التاسع عشر : باب التقليد .

العشرون : باب البدع والرأي والمقاييس .

الحادي والعشرون : باب الردّ إلى الكتاب والسنّة وأنّه ليس شيء من الحلال والحرام وجميع ما يحتاج الناس إليه إلاّ وقد جاء فيه كتاب أو سنّة .

الثاني والعشرون : باب اختلاف الحديث .

الثالث والعشرون : باب الأخذ بالسنّة وشواهد الكتاب .

ص: 162

باب العقل والجهل

الباب الأوّل

باب العقل والجهل

الذي في النسخ المشهورة «كتاب» بدل «باب» ، وظاهر الشيخ الطوسي رحمه اللّه تعالى في الفهرست أنّه كان في نسخته «باب»(1) فبنينا عليه ليناسب أبواب الكتب الآتية . فيه أربعة وثلاثون حديثا .

المراد بالجهل هنا ضدّ العقل الذي مضى معناه قُبَيلَ هذا - ويعبّر عنه بالهوى كما في سورة النساء : «فَلاَ تَتَّبِعُوا الْهَوَى»(2) وسورة ص : «وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللّه ِ»(3) - أي باب بيان فضل العقل ونقص الجهل .

وتقديم هذا الباب على سائر أبواب كتاب العقل كتقديم الفلاسفة في منطقهم ذكر بيان الحاجة وشرف الموضوع على المسائل ، ولا ينافي ذلك اشتمال بعض أحاديثه على ما هو من المسائل أيضا ، فإنّه مذكور فيه بالتقريب .

(أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ ، قَالَ).

هذا من زيادات(4) تلامذة المصنّف . وذكر الشيخ الطوسي رحمه اللهفي الفهرست من رواة الكافي عن محمّد بن يعقوب بلا واسطة سبعةً ، هم : أبو القاسم جعفر بن محمّد بن

ص: 163


1- . اُنظر: الفهرست ، ص 210 ، الرقم 17 .
2- . النساء 4 : 135 .
3- . ص 38 : 26 .
4- . في «ج» : «زيادة» .

قولويه القمّي ، وأبو غالب أحمد بن محمّد الزراري ، وأبو عبداللّه أحمد بن إبراهيم الصَيمَري المعروف بابن أبي رافع ، وأبو محمّد هارون بن موسى التُلعكبري ، وأبو المفضّل محمّد بن عبداللّه بن المطّلب الشيباني ، وأبو الحسين أحمد بن عليّ بن سعيد

الكوفي ، وأبو الحسين(1) عبد الكريم بن عبداللّه بن نصر البزّاز(2) بتنّيس(3) وبغداد .

الأوّل : (حَدَّثَنِي عِدَّةٌ) بكسر العين المهملة ؛ أي جماعة . (مِنْ أَصْحَابِنَا مِنْهُمْ : مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْعَطَّارُ ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ) .

قال العلاّمة في الخلاصة :

قال الشيخ الصدوق محمّد بن يعقوب [الكليني] في كتابه في أخبار كثيرة عدّة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد بن عيسى .

قال : والمراد بقولي : «عدّة من أصحابنا» : محمّد بن يحيى العطّار ، وعليّ بن موسى الكميذاني ، وداود بن كورة ، وأحمد بن إدريس ، وعليّ بن إبراهيم بن هاشم .

قال : وكلّما قلت في كتابي المشار إليه : «عدّة من أصحابنا عن أحمد بن محمّد بن خالد [البرقي]» فهم : عليّ بن إبراهيم ، وعليّ بن محمّد بن عبداللّه بن اُذينة ، وأحمد بن عبداللّه بن أبيه(4) ، وعليّ بن الحسن . وكلّما ذكرت في كتابي المشار إليه : «عدّة من أصحابنا عن سهل بن زياد» فهم : عليّ بن محمّد بن علاّن ، ومحمّد بن أبي عبداللّه ، ومحمّد بن الحسن ، ومحمّد بن عقيل الكليني .(5) انتهى .

(عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ ، عَنِ الْعَلاَءِ) بفتح المهملة واللام المخفّفة والمدّ .

(بْنِ رَزِينٍ) بفتح المهملة وكسر الزاي وسكون الخاتمة(6) والنون .

ص: 164


1- . في «أ» : + «الحسن خ ل» .
2- . في «أ» : «البراز» .
3- . «تنّيس» - بكسرتين و تشديد النون وياء ساكنة والسين مهملة : جزيرة في بحر مصر قريبة من البرّ ما بين الفرما ودِمياط ، ينسب إليه الثياب الفاخرة . معجم البلدان ، ج 1 ، ص 51 ؛ القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 203 .
4- . في «أ» : + «امية خ» .
5- . خلاصة الأقوال ، ص 430 ، الفائدة الثالثة .
6- . سيتكرّر هذا التعبير من المصنّف لاحقا ، والمراد به سكون إلياء ، وهذا باعتبار كون الياء آخر حروف الهجاء .

(عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ، قَالَ : لَمَّا خَلَقَ اللّه ُ الْعَقْلَ) .

الخلق : التقدير والتدبير ، وخلق الشيء أعمّ من تكوينه . وليس المراد بالعقل ما هو شرط التكليف ، وهو المقابل للجنون ، بل المراد به - كما مرّ قُبَيْلَ هذا - التأدّبُ بقدر الوسع بالآداب الحسنة في تحصيل العلم ، والعملُ به(1) ، وهو مقابل الجهل بقرينة أنّ الثاني(2) أحبّ إلى اللّه من الأوّل .

(اسْتَنْطَقَهُ)(3) أي عدّه ناطقا أي هاديا لصاحبه إلى أهل الذِّكر وسؤالهم عن كلّ مشكل من اُمور الدِّين .

(ثُمَّ) للتراخي في الزمان ، وهي إشارة إلى تراخي زمان التكليف عن زمان خلق العقل واستنطاقه .

(قَالَ لَهُ : أَقْبِلْ ، فَأَقْبَلَ ، ثُمَّ قَالَ لَهُ : أَدْبِرْ ، فَأَدْبَرَ).

الإقبال : التوجّه ؛ قال تعالى : «وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ»(4) ، والإدبار : ضدّ الإقبال . و«ثمّ» للتراخي في الرتبة باعتبار شدّة كون الإقبال أهمّ من الإدبار ، ولا ينافي هذا كون الإقبال متراخيا عن الإدبار في الزمان ، كما يظهر من عكس الترتيب في رابع عشر الباب ؛ إذ المراد بالإقبال هنا التوجّه(5) إلى ربّ العالمين لمعرفة أحكام الدِّين ؛ لأنّ مَن عرف أنّ له ربّا فقد ينبغي له أن يعرف أنّ لذلك الربّ رضا وسخطا ، وأنّه لا يعرف

رضاه وسخطه إلاّ بوحي أو رسول ، كما يجيء في ثاني أوّل «كتاب الحجّة» .(6)

والمراد بالإدبار الاستقلال بالحكم في غير أحكام الدِّين ، سواء كان عن علم كما في أمثال قولنا : أنا مستطيع للحجّ ، أو عن ظنّ كما في قيم المتلفات ، ومقادير الجراحات

ص: 165


1- . في «أ ، ج» : - «به» .
2- . في حاشية «أ» : «وهو التأدّب» .
3- . في «د» : «استنبطه» .
4- . الصافّات 37 : 27 .
5- . في «أ ، د» : «التوجيه» .
6- . أي الحديث 2 من الباب الأوّل من كتاب الحجّة ، وهو باب الاضطرار إلى الحجّة .

الموجبة للديات ، وعدالة الرواة وأمثالها ، ولا شكّ أنّ العلم بما يستقلّ فيه الذهن مقدّم زمانا على العلم بما لا يستقلّ فيه الذهن ، والكلامان من الاستعارة التمثيليّة(1) شبّه حاله في اقتضائه لصاحبه أمرا مهمّا بحالِ مَنْ أَمرَهُ اللّه ُ بأمرٍ مهمّ فأطاعَ .

(ثُمَّ قَالَ : وَعِزَّتِي وَجَلاَلِي مَا خَلَقْتُ خَلْقَا هُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْكَ ، وَلاَ أَكْمَلْتُكَ) بصيغة الماضي المتكلّم المعلوم من باب الإفعال .

إن قلت : أليس يجب تكرار «لا» إذا دخلت على الماضي ، نحو : «فَلاَ صَدَّقَ وَ لاَ صَلَّى»(2)؟

قلت : بلى ، ولكن بشرطين كلاهما(3) منتفٍ هنا :

الأوّل : كون «لا» غير زائدة ، لتأكيد النفي ، وما نحن فيه زائدة ، نحو : ما فررت ولا جبنت .

والثاني : أن تكون في جملة خبريّة ، وما نحن فيه جملة قَسَميّة ، نحو : واللّه لا فعلت كذا .

ويحتمل كون «أكملتك» بصيغة المضارع المؤكّد بالنون الثقيلة أو الخفيفة من باب التفعيل أو باب الإفعال .

(إِلاَّ فِي مَنْ أُحِبُّ) . المراد الإكمال الذي يجيء في رابع عشر الباب، وهو لا يكون إلاّ فيمن يحبّه اللّه من نبيٍّ أو وصيٍّ أو مؤمن قد امتحن اللّه قلبه للإيمان .

ويحتمل أن يكون المراد أنّ الإكمال لا يكون إلاّ فيمن يحبّ اللّه الإكمال فيه.

(أَمَا إِنِّي إِيَّاكَ آمُرُ وَإِيَّاكَ أَنْهى) . «أَما» - بفتح الهمزة وتخفيف الميم - حرف استفتاح وتنبيه . «إيّاك» ضمير منصوب منفصل ، وهو مفعول به ، قدِّم للحصر .

والمعنى لولاك لما كلّفت أحدا ، كما يجيء بيانه في الثاني والثلاثين من الباب ، فكأنّه المأمور والمنهيّ .

ص: 166


1- . يراد بالاستعارة التمثيليّة أن يستعمل مركّبا في غير ما وضع له لعلاقة المشابهة ، كأن يقال للمتردّد : أراك تقدّم رجلاً وتؤخّر اُخرى .
2- . القيامة 75 : 31 .
3- . في «ج» : - «كلاهما» .

(وَإِيَّاكَ أُعَاقِبُ وَإِيَّاكَ أُثِيبُ)(1) .

العقاب لا يتعلّق بالعقل المراد هنا ، ولا بالعاقل حقيقة ، فمعناه لولاك لما هلك مَن هلك عن بيّنة ، وما حيّ من حيّ عن بيّنة ، فكأنّه المعاقب والمثاب ، وهذا من قبيل وضع السبب موضع المفعول به .

ويحتمل أن يكون «إيّاك» في المواضع الأربعة مركّبا إضافيّا ؛ في القاموس : «إيا الشمس ؛ بالكسر والقصر ، وبالفتح والمدّ ؛ وإياتها بالكسر والفتح : نورها وحسنها ، وكذا من النبات»(2) انتهى .

وهو حينئذٍ مفعول له على ما جوّزه بعض النحاة(3) ، واختاره الشيخ الرضيّ في شرح الكافية(4) ، وهو أن يكون فاعل المفعول له غير فاعل عامله .

الثاني : (عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ ، عَنْ مُفَضَّلِ) ؛ بضمّ الميم وفتح الفاء وفتح المعجمة المشدّدة . (بْنِ صَالِحٍ ، عَنْ سَعيدِ)(5) ؛ بفتح السين المهملة والعين المهملة وسكون الخاتمة ومهملة . كذا في النسخ ، كما في بعض نسخ رجال الصادق عليه السلام من كتاب الرجال للشيخ الطوسي(6) . قيل : والظاهر أنّه سعد ، فإن صحّ فهو أخوه ، واللّه أعلم ،(7) انتهى . (بْنِ طَرِيفٍ) ؛ بفتح الطاء المهملة وكسر الراء المهملة وسكون(8) الخاتمة والفاء.

(عَنِ الْأَصْبَغِ) ؛ بفتح الهمزة وسكون المهملة وفتح الموحّدة ومعجمة . (بْنِ نُبَاتَةَ) ؛

ص: 167


1- . في الكافي المطبوع : «وإيّاك اُثيب وإيّاك اُعاقب» .
2- . القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 408 إيا .
3- . حكاه عن بعض النحاة الشيخ الرضيّ في شرحه على الكافية ، ج 1 ، ص 511 .
4- . شرح الرضيّ على الكافية ، ج 1 ، ص 511 .
5- . في الكافي المطبوع : «سعد» .
6- . في رجال الشيخ الطوسي ، ص 115 ، الرقم 17 ؛ و ص 136 ، الرقم 3 سعد بن طريف .
7- . جامع الرواة ، ج 1 ، ص 360 ، باب السين .
8- . في «أ ، ج» : - «سكون» .

بضمّ النون والموحّدة والألف والمثنّاة فوقُ والهاء .

(عَنْ عَلِيٍّ عليه السلام ، قَالَ : هَبَطَ جَبْرَئِيلُ عليه السلام عَلى آدَمَ صلى الله عليه و آله (1) ، فَقَالَ : يَا آدَمُ ، إِنِّي أُمِرْتُ) ؛ بصيغة المجهول من الماضي المجرّد للمتكلّم وحده .

(أَنْ أُخَيِّرَكَ) ؛ بشدّ(2) الخاتمة . (وَاحِدَةً مِنْ ثَلاَثٍ) أي ثلاث خصال .

(فَاخْتَرْهَا وَ دَعِ اثْنَتَيْنِ ، فَقَالَ(3) آدَمُ عليه السلام : يَا جَبْرَئِيلُ ، وَمَا الثَّلاَثُ؟ فَقَالَ : الْعَقْلُ ، وَالْحَيَاءُ) ؛ هو ترك القبيح عقلاً مخافة الذمّ ، كالحكم بالظنّ ، وكدعوى العلم بسبب المكاشفة ؛ واشتقاقُه من الحياة ، فإنّه انكسار يعتري القوّة الحيوانيّة فيردّها عن أفعالها ، يقال : حيي الرجل كرضي ، كما يقال : نسي وحشي إذا اعتلّ نساه وحشاه .

(وَالدِّينُ) أي الديانة ، وهو ترك القبيح شرعا مخافة العقاب .

(فَقَالَ آدَمُ عليه السلام : إِنِّي قَدِ اخْتَرْتُ الْعَقْلَ ، فَقَالَ جَبْرَئِيلُ لِلْحَيَاءِ وَالدِّينِ : انْصَرِفَا وَدَعَاهُ) أي آدم أو العقل .

(فَقَالاَ : يَا جَبْرَئِيلُ ، إِنَّا أُمِرْنَا) ؛ بصيغة المجهول من باب نصر ، والآمر هو اللّه .

(أَنْ نَكُونَ مَعَ الْعَقْلِ حَيْثُ كَانَ ، قَالَ : فَشَأْنَكُمَا) ؛ بالنصب ، أي الزما شَأْنَكُما ، أي ما تريدانه ، وهو الكون مع العقل .

(وَعَرَجَ) . هذا وأمثاله من الاستعارة التمثيليّة الشائعة في القرآن والحديث ، نحو قوله : «نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ»(4) ، وقوله : «يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلْ امْتَلأَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ»(5) ، والمقصود أنّ العقل هو الأصل ويستلزم الحياء والدِّين .

الثالث : (أَحْمَدُ بْنُ إِدْرِيسَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا رَفَعَهُ إِلى

ص: 168


1- . في الكافي المطبوع : «عليه السلام» .
2- . في «ج» : «بتشديد» .
3- . في الكافي المطبوع : + «له» وفي «أ» : «له . خ ل» .
4- . النحل 16 : 40 .
5- . ق 50 : 30 .

أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : قُلْتُ لَهُ : مَا الْعَقْلُ؟) أي ما حقيقة التأدّب بالآداب الحسنة في تحصيل العلم والعمل؟

وباعث السؤال اختلاف الآراء في استحسان الأشياء واستقباحها .

(قَالَ : مَا عُبِدَ بِهِ الرَّحْمنُ ، وَاكْتُسِبَ بِهِ) ؛ بصيغتي المجهول .

(الْجِنَانُ)؛ بكسر الجيم جمع جنّة بفتح الجيم .

(قَالَ : قُلْتُ : فَالَّذِي كَانَ فِي مُعَاوِيَةَ؟) بضمّ الميم والمهملة والألف وكسر الواو والخاتمة والهاء ، والموصول مبتدأ خبره محذوف ، أي ما هو؟

(فَقَالَ : تِلْكَ) . التأنيث باعتبار الخبر . (النَّكْرَاءُ) ؛ بفتح النون وسكون الكاف والمدّ ؛ يُقال للداهية وللمنكر ؛ ضدّ المعروف .(1)

(تِلْكَ الشَّيْطَنَةُ ، وَهِيَ شَبِيهَةٌ بِالْعَقْلِ وَلَيْسَتْ بِالْعَقْلِ) ؛ لأنّه ينتظم به ظاهر من الحياة الدنيا مع الإخلال باُمور الآخرة ، قال تعالى في سورة الروم : «يَعْلَمُونَ ظَاهِرا مِنْ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنْ الاْخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ»(2) ، وفي سورة الحديد : «اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ» إلى قوله : «لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللّه ُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ»(3) .

الرابع : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، عَنِ ابْنِ فَضَّالٍ) ؛ بفتح الفاء وشدّ المعجمة . (عَنِ الْحَسَنِ بْنِ الْجَهْمِ) ؛ بفتح الجيم وسكون الهاء .

(قَالَ : سَمِعْتُ الرِّضَا عليه السلام ) ؛ بكسر الراء مقصور ، يقال : رجل رضا ، وُصف بالمصدر مبالغةً ، أي مرضيّ . والرضا أيضا الضامن والمحبّ .

(يَقُولُ : صَدِيقُ كُلِّ امْرِىًٔعَقْلُهُ) ؛ يعني انتفاع العاقل بعقله أكثر وأقوى من انتفاعه بكلّ صديق ، أو هو الوسيلة إلى انتفاعه بالأصدقاء ، فكأنّه لا صديق له إلاّ العقل ، وكذا

ص: 169


1- . تاج العروس ، ج 7 ، ص 557 ؛ مجمع البحرين ، ج 4 ، ص 371 نكر .
2- . الروم 30 : 7 .
3- . الحديد 57 : 20 - 22 .

الكلام في قوله : (وَعَدُوُّهُ جَهْلُهُ) .

الخامس : (وَعَنْهُ، عَنْ أحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ فَضَّالٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ الْجَهْمِ، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي الْحَسَنِ) أي الرضا عليه السلام : (إِنَّ عِنْدَنَا قَوْما لَهُمْ مَحَبَّةٌ) أي لأهل البيت عليهم السلام أو لأهل الخير والصلاح .

(وَلَيْسَتْ لَهُمْ تِلْكَ الْعَزِيمَةُ) أي العزيمة القويّة ، وهي ما عرف بين أصحاب الأئمّة من الجدِّ والقوّة في أمرهم . والمراد أنّهم يوافقون المخالفين في اتّباع الظنّ والحكم بغير علم ، وهم بحيث لو صادفهم مخالف كاد أن يخرجهم عمّا هم فيه .

(يَقُولُونَ بِهذَا الْقَوْلِ) أي بأمر الإمامة لأهل البيت عليهم السلام ؛ والمعنى أنّه محض القول بلا بصيرة ولا يقين ، وهو استئناف لنفي تلك العزيمة عنهم .

(فَقَالَ عليه السلام : لَيْسَ أُولئِكَ مِمَّنْ عَاتَبَ اللّه ُ)(1) ؛ بالمهملة والمثنّاة فوقُ والموحّدة . والمعاتبة : التأديب ، ومنه «عاتبوا الخيل فإنّها تَعتَّبُ» أي أدّبوها وروّضوها للحرب والركوب ، فإنّها تتأدّب وتقبل العتاب .(2)

(إِنَّمَا) . استئناف لبيان عدم(3) قابليّتهم . (قَالَ اللّه ُ) في سورة الحشر : « فَاعْتَبِرُواْ يَا أُولِي الْأَبْصَارِ»(4)) . جمعُ بصيرة ، فمن لم تكن له بصيرة لا يخاطب بذلك ، ولا يعاتب بالاعتبار ، أي الاستدلال بشيء على شيء ، وأصله من العبور .

السادس : (أَحْمَدُ بْنُ إِدْرِيسَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَسَّانَ) ؛ بفتح الحاء المهملة وشدّ السين المهملة . (عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ الرَّازِيِّ ، عَنْ سَيْفِ بْنِ عَمِيرَهَ(5)) بفتح المهملة وكسر الميم وسكون الخاتمة والمهملة والهاء .

ص: 170


1- . في الكافي المطبوع + : «تعالى» .
2- . النهاية ، ج 3 ، ص 175 ؛ لسان العرب ، ج 1 ، ص 578 عتب .
3- . في «ج» : «انتفاء» .
4- . الحشر 59 : 2 .
5- . في الكافي المطبوع : «عَمِيرة» بالنقطتين على الأخير .

(عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَمَّارٍ ، قَالَ : قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : مَنْ كَانَ عَاقِلاً ، كَانَ لَهُ دِينٌ) . مرّ في ثاني الباب .

(وَمَنْ كَانَ لَهُ دِينٌ ، دَخَلَ الْجَنَّةَ) .

السابع : (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ يَقْطِينٍ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ) ؛ بكسر المهملة . (عَنْ أَبِي الْجَارُودِ) بالجيم وضمّ المهملة وسكون الواو ومهملة ، اسمه زياد بن المنذر وهو زيدي ، وإليه تنسب الجاروديّة من الزيديّة .(1)

(عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ، قَالَ : إِنَّمَا يُدَاقُّ) ؛ بالمهملة والألف وشدّ القاف . (اللّه ُ الْعِبَادَ فِي الْحِسَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلى قَدْرِ مَا آتَاهُمْ مِنَ الْعُقُولِ) ؛ بضمّ العين ، جمع «عقل» أي طبقات العقل المتفاوتة قوّةً وضعفا ، فإنّ التأدّب بقدر الوسع بالآداب الحسنة يختلف باختلاف الوسع الذي هو بإيتاء اللّه تعالى .

(فِي الدُّنْيَا) ؛ يعني احتجاج اللّه تعالى بالعقل يختلف شدّةً وضعفا على حسب اختلاف العقل شدّةً وضعفا .

الثامن : (عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللّه ِ ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ الْأَحْمَرِ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ الدَّيْلَمِيِّ) ؛ بفتح المهملة وسكون الخاتمة وفتح اللام .

ويجيء في «كتاب الجهاد» في «باب الجهاد الواجب مع من يكون» : «أنّ في بلادنا موضعَ رباط يقال له : قزوين ، وعدوّا يقال لهم : الديلم» .(2)

(عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : فُلاَنٌ مِنْ عِبَادَتِهِ وَدِينِهِ وَفَضْلِهِ)(3).

الظرف خبر مبتدأ محذوف ، أي كذا وكذا ، والمجموع خبر «فلان» . أو الظرف خبر

ص: 171


1- . رجال الطوسي ، ص 135 ، الرقم 1409 ؛ معالم العلماء ، ص 87 ، الرقم 345 ؛ خلاصة الأقوال ، ص 348 ، الرقم 1 ؛ نقد الرجال ، ج 2 ، ص 279 ، الرقم 2106 .
2- . الكافي ، ج 5 ، ص 22 ، باب الجهاد الواجب ، ح 2 .
3- . في «أ ، ج» والكافي المطبوع : + «كذا» .

«فلان» . والمقصود أنّه في المرتبة العليا فيها كأنّه مخلوق منها .

(فَقَالَ : كَيْفَ عَقْلُهُ؟ قُلْتُ : لاَ أَدْرِي ، فَقَالَ : إِنَّ الثَّوَابَ عَلى قَدْرِ الْعَقْلِ) يعني إذا صدر فعل واحد عن العاقل والأعقل ، كان ثواب الأعقل فيه أكثر .

(إنّ) ؛ بكسر الهمزة استئناف بياني . (رَجُلاً مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ يَعْبُدُ اللّه َ فِي جَزِيرَةٍ مِنْ جَزَائِرِ الْبَحْرِ ، خَضْرَاءَ ، نَضِرَةٍ) ؛ بفتح النون وكسر المعجمة ، أي شديدة الخضرة ، أو حسنة .

(كَثِيرَةِ الشَّجَرِ ، طَاهِرَةِ(1) الْمَاءِ)أي نظيفته .

(وَإِنَّ) ؛ بكسر الهمزة . (مَلَكَا مِنَ الْمَلاَئِكَةِ مَرَّ بِهِ ، فَقَالَ) أي الملك للّه تعالى :

(يَا رَبِّ(2) ، أَرِنِي ثَوَابَ عَبْدِكَ هذَا ، فَأَرَاهُ اللّه ُ تَعَالى ذلِكَ ، فَاسْتَقَلَّهُ الْمَلَكُ) أي عدّه قليلاً ظاهرا في جنب عبادته .

(فَأَوْحَى اللّه ُ(3) إِلَيْهِ : أَنِ) ؛ بفتح الهمزة وتخفيف النون ، حرف تفسير ؛ لأنّ الإيحاء بمنزلة القول .

(اصْحَبْهُ ، فَأَتَاهُ الْمَلَكُ فِي صُورَةِ إِنْسِيٍّ ، فَقَالَ لَهُ) أي للملك : (مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ : أَنَا رَجُلٌ) ؛ باعتبار ما صار إليه من الصورة .

(عَابِدٌ بَلَغَنِي مَكَانُكَ) . مصدر ميمي ، أي كونك في هذا المكان أو منزلتك ، أو اسم مكان ؛ أي أحوال هذا المكان الذي هو لك .

(وعِبَادَتُكَ فِي هذَا الْمَكَانِ ، فَأَتَيْتُكَ لِأَعْبُدَ اللّه َ مَعَكَ ، فَكَانَ مَعَهُ يَوْمَهُ ذلِكَ ، فَلَمَّا أَصْبَحَ) أي في اليوم الثاني .

(قَالَ لَهُ الْمَلَكُ : إِنَّ مَكَانَكَ لَنَزِهٌ) ؛ بفتح اللام للتأكيد . والنَّزِه - بفتح النون وكسر الزاي المخفّفة والهاء - من باب حسن وضرب : البعيد عن المكروه .

(وَمَا يَصْلُحُ إِلاَّ لِلْعِبَادَةِ ، فَقَالَ لَهُ الْعَابِدُ : إِنَّ لِمَكَانِنَا هذَا عَيْبا ، فَقَالَ لَهُ : وَمَا هُوَ؟ قَالَ :

ص: 172


1- . في الكافي المطبوع : «ظاهرة» بالنقطة على الأوّل .
2- . في «ج» : - «يا ربّ» .
3- . في الكافي المطبوع : + «تعالى» .

لَيْسَ لِرَبِّنَا بَهِيمَةٌ) ؛ بفتح الموحّدة : كلّ أهلي ذي أربع قوائم . والمراد بهيمة مطلقة ، ويحتمل أن يكون المراد بهيمةً مختصّةً به مركوبةً له .

(فَلَوْ كَانَ لَهُ حِمَارٌ) . خصّه بالذكر لأنّه أخسّ ما يركب .

(رَعَيْنَاهُ فِي هذَا المَوْضِعِ ؛ فَإِنَّ هذَا الْحَشِيشَ يَضِيعُ ، فَقَالَ لَهُ الْمَلَكُ : وَمَا لِرَبِّكَ حِمَارٌ؟) ؛ الاستفهام الإنكاري مقدّر ، والواو للعطف على مقدّر هو نفي الأعلى من الحمار . وفيه لطف إشارة إلى حماقة المخاطب .

وإن اُريد بالبهيمة المختصّة فهذا خبر عن أنّه ما يمكن أو ما يكون لربّك حمار ، والواو للعطف على قول المخاطب «ليس لربّنا» إلى آخره ، فإنّ «ليس» لمجرّد النفي في الحال .

(فَقَالَ) ردّا لإنكار الملك أو على طبق كلامه :

(لَوْ كَانَ لَهُ حِمَارٌ مَا كَانَ) . إقحام لفظة «كان» للاستبعاد .

(يُضَيِّعُ)(1) بصيغة المعلوم من باب التفعيل ، وفيه ضمير اللّه ، أو من المجرّد ولا ضمير فيه .

(مِثْلُ) ؛ بالنصب أو بالرفع ، وإقحامه للإشارة إلى كثرة الحشيش .

(هذَا الْحَشِيشِ ، فَأَوْحَى اللّه ُ إِلَى الْمَلَكِ : إِنَّمَا أُثِيبُهُ عَلى قَدْرِ عَقْلِهِ) .

التاسع : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ النَّوْفَلِيِّ) ؛ بفتح النون وسكون الواو وفتح الفاء . (عَنِ السَّكُونِيِّ) ؛ بفتح المهملة .

(عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله : إِذَا بَلَغَكُمْ عَنْ رَجُلٍ حُسْنُ حَالٍ) في العبادة (فَانْظُرُوا فِي حُسْنِ عَقْلِهِ ؛ فَإِنَّمَا يُجَازى بِعَقْلِهِ) أي بقدر عقله .

العاشر : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنِ ابْنِ مَحْبُوبٍ ، عَنْ عَبْدِ اللّه ِ بْنِ سِنَانٍ ، قَالَ : ذَكَرْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام رَجُلاً مُبْتَلىً بِالْوُضُوءِ وَالصَّلاَةِ) أي وسواسيّا فيهما وفي نيّتهما .

ص: 173


1- . في الكافي المطبوع : «يَضِيعُ» .

(وَقُلْتُ : هُوَ رَجُلٌ عَاقِلٌ ، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : وَأَيُّ عَقْلٍ لَهُ؟) ؛ استفهام إنكاري ، أي لا عقل له .

(وَهُوَ يُطِيعُ الشَّيْطَانَ؟! فَقُلْتُ(1) : وَكَيْفَ يُطِيعُ الشَّيْطَانَ؟ فَقَالَ : سَلْهُ : هذَا الَّذِي يَأْتِيهِ) أي الوسواس .

(مِنْ أَيِّ شَيْءٍ هُوَ؟) أي هل هو من جملة القبيح أو الحسن؟

(فَإِنَّهُ يَقُولُ(2) : مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ) أي من القبيح الذي يدعو إليه الشيطان .

الحادي عشر : (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ رَفَعَهُ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله : مَا قَسَمَ اللّه ُ لِلْعِبَادِ شَيْئا أَفْضَلَ مِنَ الْعَقْلِ ؛ فَنَوْمُ الْعَاقِلِ أَفْضَلُ مِنْ سَهَرِ) بفتحتين مصدر «سهر» كعلم . إذا لم ينم ليلاً .

(الْجَاهِلِ) أي تابع الهوى .

(وَإِقَامَةُ الْعَاقِلِ) فى بلده(3) ، أي طلبه الدِّين مع الإقامة .

(أَفْضَلُ مِنْ شُخُوصِ الْجَاهِلِ) أي من طلبه الدِّين بالشخوص .

يقال : شَخَصَ - كمنع - من بلد إلى بلد شخوصا ، أي ذهب .

(وَلاَ بَعَثَ اللّه نَبِيّا وَلاَ رَسُولاً) .

النبيّ - بفتح النون وكسر الموحّدة وشدّ الخاتمة - إنسان جاءه الوحي من اللّه تعالى ، سواء بُعِث إلى غيره أم لا .

والرسول : النبيّ المبعوث إلى غيره ؛ وهو على قسمين : الأوّل : مَن كان نبيّا قبل رسالته ، الثاني : مَن كانت نبوّته حين رسالته . والقسم الأوّل أفضل من القسم الثاني .

والمراد بالنبيّ هنا الأوّل من قسمي الرسول ، والمراد بالرسول هنا ثاني قسميه ، كما في سورة مريم : «وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّا»(4) . ويجيء بيانه في «كتاب الحجّة» في شرح أوّل

ص: 174


1- . في «أ» والكافي المطبوع : + «له» .
2- . في «أ» والكافي المطبوع : + «لك» .
3- . في «أ» : - «في بلده» .
4- . مريم 19 : 51 .

«باب الفرق بين الرسول والنبيّ والمحدَّث» وهو الباب الثالث .

(حَتّى يَسْتَكْمِلَ الْعَقْلَ) ؛ بصيغة المعلوم ونصب العقل بالمفعوليّة . تقول : استكملت الشيء : إذا أتممته ، أي يستجمع النبيّ جميع جنود العقل التي تُذكر في رابع عشر الباب ، أو يستكمل اللّه عقل النبيّ . ويفسّره قوله :

(وَيَكُونَ عَقْلُهُ أَفْضَلَ) أي أعلى مرتبة ، فإنّه مقول بالتشكيك .

(مِنْ عُقُولِ جَمِيعِ أُمَّتِهِ) أي كلّ واحد منهم ، أو المجموع من حيث المجموع .

(وَمَا يُضْمِرُ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله فِي نَفْسِهِ) . «ما» موصولة ، والمراد بالنبيّ مطلق النبيّ ، أي ما يقصده من العبادات ولا يأتي به لعذر .

(أَفْضَلُ مِنِ اجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِينَ) أي من كلّ واحدة من العبادات الصادرة عن غير النبيّ بجدّ فيها وحسن نيّة ، أو من مجموعها .

(وَمَا) ؛ نافية . (أَدَّى الْعَبْدُ فَرَائِضَ اللّه ِ) أي كما هو حقّها .

(حَتّى عَقَلَ عَنْهُ) أي عن اللّه ؛ عدّى العقل ب- «عن» لتضمينه معنى الأخذ ، فالمراد بالعقل عن اللّه رعاية الآداب الحسنة في أخذ علم ما يحتاج إليه من(1) الدِّين وأحكامه من كتاب اللّه وسنّة نبيّه عليه السلام ، فيكون ردّا على أهل الرأي .

(وَلا بَلَغَ جَمِيعُ الْعَابِدِينَ) أي بدون عقل عن اللّه .

(فِي فَضْلِ عِبَادَتِهِمْ مَا بَلَغَ الْعَاقِلُ) أي عن اللّه .

(وَالْعُقَلاءُ) أي عن اللّه (هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ) ؛ جمع «لبّ» بالضمّ ، وهو الخالص من كلّ شيء ؛ أي ليس اُولو الألباب إلاّ العقلاء عن اللّه .

(الَّذِينَ قَالَ اللّه ُ تَعَالى :) . مقول القول محذوف ، وهو العائد المنصوب ؛ أي قالهم اللّه ، يعني ذكرهم في سورة الزمر بقوله : «أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللّه ُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ»(2) ، وسيجيء في ثاني عشر الباب مع شرحه .

ص: 175


1- . في «د» : - «رعاية الآداب الحسنة في أخذ علم ما يحتاج إليه من» .
2- . الزمر 39 : 18 .

(وما يَتَذَكَّرُ إلاّ أُولُوا الْأَلْبَابِ(1)) ليس هذا مقول القول ، بل هو من كلام رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، فالمعنى ولا يتنبّه لكون العقلاء عن اللّه هم أُولو الألباب الذين ذكرهم اللّه في سورة الزمر إلاّ أُولوالألباب ؛ أي العقلاء .

ثمّ إنّه يحتمل أن يكون العائد المحذوف فيهم ، فيكون هذا مقول القول ، فإنّه مذكور في سورة البقرة وآل عمران(2) لكن بإدغام التاء(3) في الذال ، وفي سورة الرعد والزمر(4) أيضا ، لكن ب- «إنّما» بدل «ما» و«إلاّ» كما يجيء نقله في آخر ثاني عشر الباب ، فهذا إمّا قراءة غير مشهورة في إحداها ، أو نقل بالمعنى ؛ ومآل الكلّ واحد .

الثاني عشر : (أَبُو عليّ الْأَشْعَرِيُّ) . أشعر أبو قبيلة من اليمن ، هو أشعر بن سبأ بن يشجب بن قحطان،(5) والأشعريّون جمع من أصحابنا القمّيين .

(رَفَعَهُ(6) ، عَنْ هِشَامِ) ؛ بكسر الهاء وتخفيف المعجمة .

(بْنِ الْحَكَمِ ، قَالَ : قَالَ لِي أَبُو الْحَسَنِ مُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ عليهماالسلام) . مقصوده عليه السلام في هذا الحديث بيان النصّ وما هو في حكم النصّ من كتاب اللّه تعالى على إمامة أمير المؤمنين بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله بلا واسطة ، بحيث يظهر منه النصّ على إمامة أولاده المعروفين بعده إلى نفسه عليه السلام ، وبحيث يظهر منه النصّ على إمامة واحد واحد بعده إلى القائم عليه السلام ، ويندفع عن النصّ مشاغبات المخالفين من المنع والمعارضات ، فذكر عليه السلام أنواعا من الكلام متضمّنة لمدح العقل وذمّ الجهل :

النوع الأوّل : بيان النصّ وما في حكمه من القرآن .

النوع الثاني : دفع منع المخالفين عن الاستدلال بالنصّ وإبطال سندهم .

ص: 176


1- . في الكافي المطبوع : «إنّما يتذكّر اُولوا الألباب» .
2- . البقرة 2 : 269 ؛ آل عمران (3) : 7 .
3- . في «د» : - «التاء» .
4- . الرعد 13 : 19 ؛ الزمر (39) : 9 .
5- . الصحاح ، ج 2 ، ص 700 شعر .
6- . في الكافي المطبوع : «أبو عبداللّه الأشعري عن بعض أصحابنا رفعه» بدل : «أبو عليّ الأشعري رفعه» .

النوع الثالث : دفع معارضتهم الناشئة من حسن ظنّهم بجميع أصحاب رسول اللّه أو أكثرهم الذين سنّوا لهم ذلك .

النوع الرابع : دفع معارضتهم بالإجماع ، أي بكثرتهم وقلّتنا .

النوع الخامس : بيان ما حملهم على المكابرة للنصّ ، وغطّى عقولهم من حبّ الدنيا واتّباع الهوى ودولة الباطل . وذلك ببيان طريقة العقل وعلامته ومدحه وبيان طريقة الجهل وعلامته وذمّه ، ولكنّه عليه السلام لمّا كان في زمن شدّة التقيّة ، بيّن تلك الأنواع بحيث لا يفهمها الصادّون عن دين اللّه إذا بلغت إليهم ، ولذا أتى بالرمز والإيماء ، واكتفى في آيات النصّ بجزئها ، ولم يلتزم بضمّ(1) المتجانسين من أنواع الكلام .

(يَا هِشَامُ ، إِنَّ اللّه َ - تَبَارَكَ وَتَعَالى - بَشَّرَ) ؛ بشدّ المعجمة . والتبشير : الإخبار بما يُسرُّ ، وهذا من النوع الأوّل .

(أهْلَ الْعَقْلِ) ؛ وهو ناظر إلى قوله فيما بعد : «هداهم اللّه» .

(وَالْفَهْمِ) ؛ بفتح الفاء وسكون الهاء أو فتحها : ضدّ الحمق أو ضدّ الغباوة ، ويجيء تفسيرهما(2) في شرح رابع عشر الباب ، وهو ناظر إلى قوله فيما بعد : «أولو الألباب» .

ومراده بأهلهما شيعة أهل البيت المعصومين عليهم السلام .

نقل المُطرّزي في أوّل شرح مقامات الحريري عن عامر بن واثلة عن عليّ عليه السلام أنّه قال يوم الشورى في حديثٍ طويل : «هل سمعتم رسول اللّه صلى الله عليه و آله يقول : عُرضت عليّ اُمّتي البارحةَ فاستغفرت لك ولشيعتك؟ فقالوا : اللّهُمَّ نعم»(3) .

(فِي كِتَابِهِ ، فَقَالَ) في سورة الزمر : («فَبَشِّرْ عِبادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللّه ُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبَابِ»(4)) . فيه وضع الظاهر موضع الضمير ؛

ص: 177


1- . في «ج ، د» : «ضمّ» .
2- . في «أ» : «هما» .
3- . حكاه عن شرح مقامات للحريري الماحوزي ، في كتاب الأربعين ، ص 442 ؛ وورد مثله في الخصال ، ص 563 ؛ وعنه في البحار ، ج 31 ، ص 328 ، باب 26 .
4- . الزمر 39 : 17 - 18 .

لبيان المناط ، أي فبشّرهم . وهو راجع إلى الذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها .

والظاهر ممّا يجيء في أوّل الثامن عشر وفي «كتاب الحجّة» في(1) ثامن «باب التسليم

وفضل المسلمين» أنّ القول أعمّ من قول اللّه وقول رسول اللّه وأوصيائه عليهم السلام ، واستماع القول عبارة عن ترك اتّباع الظنّ وترك الإصغاء إلى كلام أهل الظنّ ، و«أحسنه» مفعول به والضمير للقول .

وأحسن قول اللّه الآيات البيّنات المحكمات الناهية عن اتّباع الظنّ الآمرة بسؤال أهل الذِّكر عمّا لا يعلم بالبيّنات والزبر ، كما في سورة الزمر : «وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ»(2) ، وفيها : «اللّه ُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابا مُتَشَابِها مَثَانِىَ»موافقا لما خوطب به موسى عليه السلام في سورة الأعراف بقوله تعالى : «وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا»(3) ، وفي سورة الحديد : «هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ»(4) .

وأحسن قول رسول اللّه وأوصيائه عليهم السلامفي أمثال زماننا هذا أبعده عن تغيير الرواة لفظه اعتمادا على جواز النقل بالمعنى ، واتّباع أحسن القول العمل بمقتضاه ، سواء جاز الإفتاء والقضاء به أيضا ، كمضمون الآيات البيّنات المحكمات ، أم لا كمضمون أخبار الآحاد الجامعة لشروط العمل .

وقوله : «هَدَاهُمُ اللَّهُ» أي الراسخين في العلم وصراطهم المستقيم ، كما يجيء في الحديث عند قوله : «يا هشام إنّ اللّه حكى عن قوم صالحين» إلى آخره ، ومضى معنى اللبّ في شرح السابق وقوله : «هم اُولوالألباب» أي كلّ من التذكّر واللبّ المذكورين في سورة الزمر قبل هذه الآية في قوله : «قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ»(5) منحصر فيهم . والتذكّر : الاهتداء ، ولم يبالغ في الحصر

ص: 178


1- . في «أ» : «من» .
2- . الزمر 39 : 55 .
3- . الأعراف 7 : 155 .
4- . الحديد 57 : 9 .
5- . الزمر 39 : 9 .

الأوّل ، أي حصر التذكّر فيهم ؛ لدلالة الآية السابقة ب- «إنّما» على حصر التذكّر في اُولي الألباب ، والمنحصر في المنحصر في الشيء منحصر فيه ، ولم يقل في الحصر الأوّل : اُولئك الذين تذكّروا ، إشعارا بأنّ التذكّر لا يكون إلاّ بهداية اللّه وتوفيقه .

اعلم أنّه ينبغي هنا بيان اُمور :

الأوّل : أنّ هذه السياقة من الاستدلال على إمامة أمير المؤمنين وأولاده الأحد عشر المعروفين - سلام اللّه عليهم - مذكورة في آيات كثيرة :

منها : قوله تعالى في سورة البقرة : «شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ»(1) بناءً على أن يكون الهدى في الموضعين مصدرا بمعنى اسم الفاعل للمبالغة ، ويكون في الأوّل حالاً عن القرآن ، وفي الثاني عبارة عن الإمام العالم بجميع القرآن ، ويكون «من» للسببيّة ، والظرف متعلّقا ب- «بيّنات» ، ويكون المراد بالفرقان المحكم من القرآن ، كما يجيء من أنّ أبا عبد اللّه عليه السلام قال : «القرآن جملة الكتاب والفرقان المحكم الواجب العمل به» في «كتاب فضل القرآن» في حادي عشر «باب النوادر» ، وهو الباب الرابع عشر .

المراد بالمحكم والمتشابه :

والمراد بالمحكم ما يعلم المراد به كلّ عارف باللغة العربيّة بدون حاجة إلى معلّم ، وليس بمنسوخ ، وبالمتشابه ضدّه(2) ، فيشمل المأوّل والمجمل ، والظاهر والمنسوخ ، فيكون المراد أنّ جميع آيات القرآن حتّى متشابهاته تصير بيّنات بسبب أمرين ؛ الإمام العالم بجميع القرآن ، والمحكم الذي هو بيّن بنفسه ، ومرشد إلى ذلك الإمام ؛ لاشتماله على النهي عن اتّباع الظنّ والاختلاف في الفتوى والقضاء .

ومنها : قوله تعالى في سورة الحديد : «هُوَ الَّذِى يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللّه َ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ» .(3)

ص: 179


1- . البقرة 2 : 185.
2- . في «ج» : «عنده» .
3- . الحديد 57 : 9 .

الثاني : أنّه جرى في المدينة المشرّفة بيني وبين أحد مدرّسي المسجد ، يسمّى السيّد محمّد الكبريتي كلام في مجلس بعض سادات بني الحسين ، وهو السيّد أحمد بمحضر جمع من علماء العرب والعجم :

قال الكبريتي : أنا متحيّر فيما وقع فيه الاختلاف بين أهل السنّة والشيعة الإماميّة ، فإنّ كلاًّ منهما يروي أحاديث لترويج مذهبه ، ويردّها الآخر ، ومذهب الإباء والكبرياء لا يصلح للاعتماد .

قلت : الخلاص عن تلك الحيرة سهلٌ جدّا عند المتأمِّل المنصف ؛ أتظنّ أنّ اللّه تعالى أرسل رسولاً هو خاتم النبيّين ، وأنزل كتابا فيه تبيان كلّ شيء ، وأهمل مسألة الإمامة التي عليها المدار في أكثر الأحكام الشرعيّة ، وبسبب الاختلاف فيها سفكت الدماء وتسفك؟ هذا محال .

قال : لم يبلغه ذهني ، فإن كان عندك شيء في هذا فاذكره .

قلت : قد أوضح اللّه تعالى طريق الخلاص عن تلك الحيرة في آيات كثيرة ، منها قوله تعالى في سورة آل عمران : «هُوَ الَّذِى أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ»(1) الآية ، وهذا وسيلة معرفة الإمام الحقّ في كلّ زمان إلى يوم القيامة ومعرفة المتشابهات .

قال : كيف يكون وسيلة؟

قلت : باعتبار أنّه قد تكرّر في آيات محكمات كثيرة النهيُ عن اتّباع الظنّ ، وعن الاختلاف في الفتوى والقضاء بالظنّ إلى يوم القيامة ، فيدلّ على وجود عالم بجميع القرآن وجميع أحكام اللّه تعالى في كلّ زمان ، ولا شكّ أنّ غاية دعوى الطائفة الاُولى ومن يحذو حذوهم كالزيديّة(2) لأئمّتهم في كلّ زمان الاجتهاد الذي فسّر باستفراغ الوسع بتحصيل الظنّ بحكم شرعي ؛ والطائفة الاُخرى يقولون : إنّ هذه الدعوى غير مسلّمة عندنا» .

ص: 180


1- . آل عمران 3 : 7 .
2- . وهم الجماعة القائلون بإمامة زيد بن عليّ بن الحسين عليه السلام وإمامة كلّ من خرج بالسيف يعده من ولد فاطمة عليهاالسلام من ذوي الرأي والعلم والصلاح . كما في المقنعة ، ص 655 ؛ والملل والنحل للشهرستاني ، ج 1 ، ص 29 .

لكن بعد التسليم نقول : إنّ المجتهد لا يجوز له العمل برأيه ، فضلاً عمّن يقلّده ؛ بدلالة تلك المحكمات الكثيرة ، فليس الإمام في كلّ زمان إلى يوم القيامة إلاّ العالم بجميع متشابهات القرآن وجميع الأحكام ، وتلك المحكمات تهدي الناس إلى الإمام الحقّ في كلّ زمان ، والإمام الحقّ يهدي الناس إلى معاني المتشابهات إن مُكّنَ ، والهادي إلى الهادي إلى الشيء هاد إلى ذلك الشيء ، فتلك المحكمات اُمّ الكتاب ؛ بمعنى أنّه يعرف بها جميع الكتاب ، إمّا بلا واسطة أو بواسطة الإمام الحقّ ، وإذا بطلت دعوى الطائفة الاُولى ومن يحذو حذوهم ثبت صدق دعوى الطائفة الثانية .

قال : ما ذكرتَ حقٌّ ، ولكنّ الطائفة الاُولى يستدلّون بآيات على مدّعاهم ، وإن كانت من المتشابهات .

قلت : قد أبطل اللّه تعالى في ذيل هذه الآية استدلالاتهم بقوله : «فَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّه ُ»إلى آخر الآية .

قال : هذا واضح ، ولم أسمعه إلى الآن من أحد ، وانقطع الكلام .

الثالث : أنّه قد اُشير إلى الحثّ على هذه السياقة في الاستدلال على الإمامة في آخر «كتاب الروضة» في خطبة لأمير المؤمنين عليه السلام : «واعلموا أنّكم لن تعرفوا الرشد حتّى تعرفوا الذي تركه ، ولن تأخذوا بميثاق الكتاب حتّى تعرفوا الذي نقضه ، ولن تمسكوا به حتّى تعرفوا الذي نبذه» الخطبة .(1)

ووجهه أنّها أوضح الطرق وأدفعها لمشاغبات النواصب ، فالحصر مجاز ، وكأنّه مستنبط من نحو تقديم الكفر بالطاغوت على الإيمان باللّه في قوله تعالى : «فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللّه ِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا»(2) .

وحاصله : أنّه يثبت بذلك إمامة أهل البيت المعروفين الاثني عشر - سلام اللّه عليهم - إلى يوم المحشر بإبطال إمامة الثلاثة وأضرابهم بنصّ قطعي وبرهان يقيني من

ص: 181


1- . نهج البلاغة ، ج 2 ، ص 32 ، الخطبة 147 ؛ الكافي ، ج 8 ، ص 390 .
2- . البقرة 2 : 256 .

القرآن ، فإنّا لو لم نعلم أنّ أهل البيت عليهم السلامبمعزل عن الاجتهاد بالظنّ في أحكامهم ، وأنّهم والقرآن لا يفترقان حتّى يردا على رسول اللّه صلى الله عليه و آله الحوضَ ، فلا أقلّ من انتفاء علمنا باجتهادهم وانحصار الخلاف في الإمامة في كلّ عصر بيننا وبين خصومنا فيهم وفيمن غاية دعواه الاجتهاد بالظنّ .

الرابع : أنّه قد اتّفقت الملاقاة في الطريق بين الحرمين حين توجّهي من مكّة إلى المدينة مع أحد من مدرّسي المسجد الحرام من المالكيّة ، فذكرتُ له هذا الدليل ، قال : المجتهد على قسمين : مجتهد في الكلّ ، ومجتهد في البعض .

قلت : المجتهد في الكلّ هل يتجاوز الظنّ ويصل إلى العلم في شيء ممّا اجتهد فيه؟

قال : لا .

قلت : فتشمله الآيات الناهية عن القول على اللّه بغير علم؟

قال : لا علاج لنا في زمن عدم ظهور عالم بجميع الأحكام الشرعيّة إلاّ الاجتهاد .

قلت : قد صنّف بعض أهل بلادنا كتابا ذكر فيه كيفيّة العمل في زمن الغيبة بدون اجتهاد ، وبيّن فيه الفرق بين الإفتاء والقضاء ، وبين العمل في اشتراط العلم بالحكم الواقعي ونفيه ، وفصّل ذلك تفصيلاً .

قال : حيّاه اللّه ما أحسنه ، وانقطع الكلام .

إن قلت : آية اُمّ الكتاب وأمثالها متشابهة فيما ذكرت ، فاحتجاجك مبطل لنفسه .

قلت : هي محكمة ، لكن باعتبار لحوق أمثالها بها ، كما مرّ من آيات سورة الزمر وغير ذلك ، على أنّ انتفاء كونها محكمة فيه لا يضرّ أصل الاحتجاج ؛ لأنّها إشارة إلى البرهان من القرآن ، ولا يجب في مثل ذلك أن يكون نفسه قطعيّة .

إن قلت : يجيء في آخر باب النهي عن القول بغير علم(1) أنّه لابدّ في الاستدلال أن يعلم الناسخ من المنسوخ ، ونحن لم نعلم أنّ الآيات الناهية عن القول على اللّه بغير علم

ص: 182


1- . في حاشية «أ» : «وهو الباب الثاني عشر» .

لم تنسخ إنّما نظنّ ظنّا؟

قلت : إجماع الطوائف على مضمونها ، واستدلالهم بها في المواضع ، واشتمالها على أنّ النهي عنه في كلّ شريعة ، وأنّ خلاف ذلك شرك ، كما يجيء عند قوله : «يا هشام ما بعث اللّه» إلى آخره ، أفادنا العلمَ بأنّها لم تنسخ .

(يَا هِشَامُ ، إِنَّ اللّه َ تَبَارَكَ وَتَعَالى) . هذا إلى قوله : «وقال يجيء» من النوع الثاني ، فإنّ المخالفين لمّا علموا إجماع أهل الإسلام على طبق ما دلّ عليه المحكم من حظر القول على اللّه بغير علم ، وأحبّوا أئمّة الضلالة ، وأحبّوا لأنفسهم التصدّر للفتوى والقضاء بالقياس وبالاجتهاد ، خرّوا على ما ذكّروا به من آيات ربّهم صمّا وعميانا ، واحتالوا بحيل ؛ فتارةً قالوا : لا ، ثمّ إنّ ظنّ المجتهد بحكم لا يفضي به إلى علم ، فإنّ ظنّيّة الطريق لا ينافي علميّة الحكم(1) .

وتارةً قالوا : إنّ العلم قد يُطلق على ما يشمل الظنّ(2) ، كما في قوله تعالى في سورة الممتحنة : «فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ»(3) .

وتارةً قالوا : إنّ الشرع أقام غالب الظنّ مقام العلم وأمر بالعمل به(4) ، وأيّدوا ذلك بما رووا عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله أنّه قال : «اختلاف اُمّتي رحمة»(5) . ولم يفهموا معنى الرواية على تقدير صحّتها ، وذكرنا لها معاني في حواشي العدّة(6) .

ص: 183


1- . تحرير الأحكام ، ج 1 ، ص 31 ؛ معالم الدين ، ص 27 ؛ تهذيب الوصول ، ص 47 ؛ وحكاه المحقق الداماد في اثنى عشر رسالة ، ج 4 ، ص 14 و 23 .
2- . كما شرحه في جامع المقاصد ، ج 2 ، ص 369 ؛ والشهيد في شرح اللمعة ، ج 2 ، ص 200 ؛ البحار ، ج 10 ، ص 291 .
3- . الممتحنة 60 : 10 .
4- . حكاه في الذريعة ، ج 2 ، ص 519 ؛ إيضاح الفوائد ، ج 3 ، ص 442 ؛ جامع المقاصد ، ج 1 ، ص 154 ؛ الحدائق ، ج 4 ، ص 253 . وحكاه عن الفاضل الجواد في هداية المسترشدين ، ج 2 ، ص 391 ؛ و ج 3 ، ص 365 و 419 .
5- . شرح مسلم للنووي ، ج 11 ، ص 91 ؛ المواقف للإيجي ، ج 1 ، ص 21 ؛ الجامع الصغير للسيوطي ، ج 1 ، ص 48 ؛ كنزالعمّال ، ج 10 ، ص 136 ، ح 28686 .
6- . للمصنّف أكثر من حاشية على العدّة ولم نجده في المطبوعة .

(أَكْمَلَ لِلنَّاسِ) أي عليهم ، كقوله : «وَ إِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا»(1) والمراد بالناس المكلّفون .

(الْحُجَجَ) أي الأدلّة على ربوبيّته .

(بِالْعُقُولِ) أي بعقول العقلاء ، فإنّها حجّة على غير العقلاء ؛ إذ من المعلوم عند الناس وجوب التأدّب بالآداب الحسنة في تحصيل العلم والعمل على كلّ أحد بقدر وسعه .

والمقصود أنّ تتبّع الاحتمالات البعيدة -

التي يأبى عنها العقل ؛ لكونها ناشئة عن الهوى - لا يضرّ الدليل وكماله ، ولا إتمام الحجّة على الناس .

ولا يخفى على المتأمّل - الطالب للحقّ المجتنب للهوى بأدنى تأمّل في اختلاف فتاوى المخالفين وقضاياهم واستدلال كلّ منهم على ما اجتهد فيه وفي أنّ مراد الشارع بالعلم العلم الذي لا يجري معه اختلافٌ - فسادُ حيلهم(2) هذه .

ولوضوح هذا ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة في خطبةٍ في ذمّ اختلاف العلماء في الفتيا ، أنّه قال : «أفأمرهم اللّه بالاختلاف فأطاعوه ، أم نهاهم عنه فعصوه ؟(3)» أي معلوم قطعا أنّه تعالى نهاهم عنه في آيات كثيرة من محكمات القرآن ، وهم يتسارعون إليه كأنّه أمرهم به .

وروى الطبرسي في كتاب الاحتجاج عن أُبيّ بن كعب رحمه اللّه أنّه خطب بمحضرٍ من أبي بكر وجمع كثير ، وقال في خطبته : غلبتم وزعمتم أنّ الاختلاف رحمة ، هيهات أبى الكتاب ذلك عليكم(4) .

وأمثال ذلك كثيرة ، ولولا علم الناس بوجوب العقل ، لم تكمل حجّة على أحد ؛ لأنّ جميع المطالب الدينيّة ممّا تتطرّق إليه المعارضات الوهميّة ، والتسويلات الشيطانيّة ، فإنّه لو كان شيء منها مثلَ قولنا : الواحد نصف الاثنين ، أو قولنا : زوايا المثلّث مساوية لقائمتين ، لم يكن في التصديق به كلفة وفتنة وثواب . وسيجيء في أوّل باب البدع

ص: 184


1- . الإسراء 17 : 7 .
2- . قوله : «فساد حيلهم» فاعل لقوله : «ولا يخفى» .
3- . نهج البلاغة ، ص 60 ، الخطبة 18. الاحتجاج ، ج 1 ، ص 389 ؛ شرح نهج البلاغة ، ج 1 ، ص 288 .
4- . في الاحتجاج ، ج 1 ، ص 156 : «وتخارستم وزعمتم أنّ الخلاف رحمة ، هيهات أبى الكتاب ذلك عليكم» .

والرأي والمقاييس(1) ما يوضحه .

وهذا تمهيد يعرف به تفسير ما سيذكر في الحديث من الآيات المشتملة على نحو قوله : «لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» .(2)

(وَنَصَرَ) . الضمير للّه .

(النَّبِيِّينَ بِالْبَيَانِ) أي لم يكلهم إلى أذهان الناس ، بل نصرهم ، ولكن لم ينصرهم بإسكات المعاندين للحقّ وأهل الهوى ، إنّما نصرهم ببيان اللّه تعالى للناس الحجج بحيث يندفع عنها بالعقول الاشتباهُ ، ولا يلزم إقحام الأنبياء .

ويحتمل أن يكون المراد بيان الحجج للناس بحيث تورث العلمَ لكلّ مكلّفٍ بمقتضاها معذّبٍ على تركه ، فيكون إنكار المنكر منهم إيّاها إمّا عن عناد للحقّ ، أو اتّباع هوى ملبّس؛ واللّه يعلم المفسد من المصلح .

ويحتمل أن يكون المراد بيان كلّ شيء يحتاج إليه ، فلم يكن اللّه يترك بيان الإمام الذي هو الهدى في قوله تعالى في سورة البقرة : «إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِى الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللّه ُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ» .(3)

(وَدَلَّهُمْ) . هذا توضيح لدفع المنع بتشبيه هذا الدليل على الإمامة بأدلّة الربوبيّة ، وبيان أنّ أمثال هذه الاحتمالات لو كانت قادحة في هذا الدليل ، لكانت قادحة في أدلّة الربوبيّة أيضا ؛ لاشتراكها معه في إمكان مشاغبة الملحد ، كما يدلّ عليه قوله : «لَأَيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» .(4)

(عَلى رُبُوبِيَّتِهِ) ؛ بضمّ المهملة وضمّ الموحّدة وسكون الواو وكسر الموحّدة وشدّ الخاتمة والتاء ، أي كونِه مالكا لكلّ حكم لم يفوّض إلى أحد أن يقول على اللّه بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ، بل بمحض الاجتهاد والظنّ ، خلافا لأئمّة الضلالة

ص: 185


1- . في حاشية «أ» : «وهو الباب العشرون» .
2- . البقرة 2 : 164 ؛ الرعد (13) : 4 .
3- . البقرة 2 : 159 .
4- . البقرة 2 : 164 .

ومجتهديهم ، وكونه مالكا لكلّ شيء حتّى أفعال العباد الاختياريّة ، عصيانهم وطاعتهم ، فإنّهم - وإن كانوا قادرين وممدوحين أو مذمومين على أفعالهم - ليسوا قادرين عليها بالاستقلال ، خلافا للقدريّة(1) ، فاللّه تعالى هو المالك لما ملّكهم إيّاه ، والقادر على ما أقدرهم عليه ، ولم يفوّض إليهم بشيء من تفويضي المعتزلة القدريّة(2) ، وسيجيء تحقيقه في أوّل «باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين» ، وثاني «باب الاستطاعة» من «كتاب التوحيد» .

اعلم أنّ معنى الربوبيّة لمّا كان مشتملاً على أن لا يشرك في حكمه أحدا ، كان جميع ما يدلّ على الربوبيّة دالاًّ على بطلان إمامة أئمّة الضلالة ، فالآيات الدالّة على الربوبيّة داخلة في النوع الأوّل أيضا بهذا الاعتبار ، وسنوضح هذا بعد قوله : «يا هشام» .

ثمّ ذمّ اللّه الكثرة في قوله(3) تعالى : «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ»(4) الآية ، وبعد قوله : «يا هشام» ، ثمّ ذكر اُولي الألباب في قوله تعالى : «إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَوَاتِ»(5) الآية ، وقوله : «أَفَمَنْ يَعْلَمُ»(6) الآية .

(بِالْأَدِلَّةِ) . ليس في شيء من الأدلّة على ربوبيّته التعرّض لإثبات الوجوب الذاتي بإبطال الدور والتسلسل ونحو ذلك ، فتكلُّف ذلك ممّا لا حاجة إليه ، فإنّ كلّ ما يثبت به الربوبيّة يثبت به الوجوب الذاتي كغيره من صفات الكمال ؛ لأنّ الأدلّة تدلّ على ثبوت صانع بلا آلة وفعل علاجي ، فتدلّ على أنّه بريء من كلّ نقص ، والإمكان الذاتي نقص .

وسنوضح ذلك في كتاب التوحيد في باب حدوث العالم .

ثمّ نقول : تكلُّف ذلك لا يفضي إلى علم إلاّ بعد إثبات مقدّمات مشكلة لا يعلمها أكثر الخواصّ ، فضلاً عن العوامّ ، منها أحد أمرين : إمّا امتناع أن تكون الاُمور الغير

ص: 186


1- . القدريّة تطلق على من يقول بالقدر خيره وشرّه من اللّه تعالى . كما في الملل والنحل للشهرستاني ، ج 1 ، ص 43 .
2- . تفصيل الكلام في المعتزلة القدريّة في الملل والنحل ، ج 1 ، ص 43 .
3- . في «د» : «قول اللّه» .
4- . التوبة 9 : 65 ؛ العنكبوت (29) : 61 .
5- . البقرة 2 : 164 ؛ آل عمران (3) : 191 .
6- . الرعد 13 : 20 .

المجتمعة غير متناهية في جانب المبدأ ، وإمّا امتناع أن تكون كلّ سابق منها فاعلاً للاّحق بإثبات أنّ الممكن يحتاج في البقاء إلى المؤثّر مثلاً .

(فَقَالَ) في سورة البقرة : («وَإِلهُكُمْ) المستحقّ لعبادتكم (إِلَهٌ واحِدٌ) لا شريك له في استحقاق العبادة .

(لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ) . استئناف لبيان الوحدة ، وإزاحة لأن يتوهّم أنّ في الكون مستحقّا آخر(1) للعبادة ، ولكن لا يستحقّ العبادة منهم بأن يستحقّ العبادة من غيرهم .

(الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ) . خبران لمبتدأ محذوف ، أي هو الرحمن الرحيم . وقيل : الأوّل خبر المبتدأ المحذوف ، والثاني صفة الأوّل .

ومضى في شرح البسملة الخلاف في «الرحمن» هل هو مستعمل استعمال الصفة أو استعمال العَلَم .

ويحتمل أن يكونا خبرين آخرين لقوله : «إِلَاهُكُمْ» .

«إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَاواتِ وَالْأَرْضِ) . استئناف بياني لقوله : «الرحمن الرحيم» .

و«السماء» ما يرى فيه كوكب . وجَمَعَ السماوات وأفرَدَ الأرض ؛ لأنّ تعدّد السماوات لوضوحه كان معلوما لهم ، بخلاف تعدّد الأرضين .

(وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) ؛ مجيئهما وذهابهما ؛ لانتفاء كون أحدهما سرمدا ، أو تعاقبهما ، كقوله : «وَهُوَ الَّذِى جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً»(2) ، أو زيادتهما ونقصانهما بإيلاج كلّ واحدٍ منهما في صاحبه ، وهو معطوف على السماوات أو على خلْق .

(وَالْفُلْكِ الَّتِى تَجْرِى فِى الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النّاسَ) . «ما» موصولة ، أي بالأقوات - التي تجلب من المواضع البعيدة ، ويعيش بها الناس - والأمتعة للتجارة ، ونحو ذلك ؛ أو مصدريّة ، أي ينفع اللّه الناس .

و«الفلك» مفرد ومؤنّث(3) ؛ لأنّه بمعنى السفينة ، أو جمع ، وضمّة الجمع غير ضمّة

ص: 187


1- . في «ج ، د» : - «آخر» .
2- . الفرقان 25 : 62 .
3- . في «ج ، د» : «يؤنّث» .

الواحد تقديرا ، وقرئ بضمّتين .

(وَمَا أَنْزَلَ اللّه ُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ) . «من» الاُولى للابتداء ، والثانية للبيان ، والسماء جهة العلو أو السحاب .

(فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ) بالنبات (بَعْدَ مَوْتِها) بانتفاء النبات .

(وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ) . عطف على «أنزل» ف- «من» بيانيّة ، والمراد بالدابّة الكائنةُ منها ؛ أو على «أحيا» و«من» تبعيضيّة ، والمراد بالدابّة مفهومها الشامل للكائن منها وغير الكائن . والبثّ : النشر والتفريق .

(وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ) : تغيير جهاتها شرقا وغربا وشمالاً وجنوبا ، فإنّه ليس بطبعها ، وما ذكره الطبيعيّون في علّته من التخلخل والتكاثف إنّما أوقعهم في الحيرة .

ويحتمل أن يراد به الإعصار ، ويحتمل أن يراد تغييرها ؛ لعود السفن على وجه مضبوط معلوم عند أهلها .

(وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) : المقيم بلا إرادة واختيار لا يمتنع من الصعود والإقامة ، ونحو ذلك ممّا اُريد به ، أو المسخّر للرياح تقلّبه في الجوّ بمشيئة اللّه تعالى .

(لاَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ»(1)) .

(يَا هِشَامُ ، قَدْ جَعَلَ اللّه ُ) . هذا تنبيه لهشام على ما ذكرنا عند قوله : «ودلّهم على ربوبيّته» من تشبيه دليل الإمامة بأدلّة الربوبيّة .

(ذلِكَ دَلِيلاً عَلى مَعْرِفَتِهِ بِأَنَّ لَهُمْ مُدَبِّرا) أي معرفة العقلاء له لا بشخصه ولا بكنهه ، بل بعنوان أنّ للناس مدبّرا عظيما خارجا عنهم ، مباينا لهم في الجسميّة ونحوها .

وجه الدلالة أنّ الناظر في كلّ من هذه الاُمور يعلم أنّه ليس بفعل الطبيعة التي لا شعور لها ، بل هو بتدبير مدبّر ، وخلق خالق خارج عنه ، وأنّ خالقه بريء من كلّ نقص ، فهو الرحمن الرحيم ، أي الخالق لكلّ شيء على ما اقتضته الحكمة ، الهادي للمؤمنين ،

ص: 188


1- . البقرة 2 : 162 - 163 .

فهو الإله ، لا إله إلاّ هو ؛ لأنّ الشركة في الملك والسلطنة يستلزم نقصا ، كما سنفصّله في «كتاب التوحيد» في خامس «باب حدوث العالم وإثبات المحدث»(1) ، وفي ثاني «باب الاستطاعة»(2) . والأظهر أنّ ذلك إشارة إلى المذكور سابقا وأمثاله ، بقرينة الفاء في قوله :

(فَقَالَ) في سورة النحل : «وَسَخَّرَ لَكُمُ) : هيّأ لمنافعكم (اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ) ؛ لا بطبائعها .

وفيه إيذان ببطلان تأثير الطبيعة ، وقد دلّلنا في الحاشية الاُولى من حواشي العدّة بدليلين على أنّ الفاعل لا يكون إلاّ حيّا قادرا .(3)

(إِنَّ فِى ذَلِكَ لاَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ»(4)) ؛ فإنّ كلّ واحد من ذلك يدلّ على كون مدبّر بريء من كلّ نقص ، فهو ربّ كلّ شيء وخالقه ، لا يخرج عن ملكه شيء أصلاً .

(وَقَالَ) في سورة المؤمن . وهذا عطف على «فقال : وإلهكم» إلى آخره .

(«هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ) . الخلق : التقدير ، وذلك قد يكون قبل تكوين المخلوق .

(مِنْ تُرَابٍ) ؛ بإفراز حصّة من التراب لتكون مادّة للبدن .

(ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) ؛ بإفرازها من بين سائرها بإفراغها في الرحم لتكون مادّة للبدن .

(ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ) ؛ بإفرازها من سائرها وترك إسقاطها عن الرحم .

(ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاًَ) ؛ أطفالاً ، والإفراد لإرادة الجنس ، أو على تأويل كلّ واحد . والنكتة فيه الإشارة إلى أنّه إن كان في بطن واحد طفلان لم يكن خروجهما دفعة واحدة .

(ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) : قوّتكم ، وهو زمان البلوغ والتكليف . ويجيء في آخر أبواب «كتاب الوصايا»(5) ما يدلّ على أنّه يكون بعد ثلاث عشرة سنة تامّة . وفي «كتاب الصيام»

ص: 189


1- . في حاشية «أ» : «وهو الباب الأوّل» .
2- . في حاشية «أ» : «وهو الباب الحادي والثلاثون» .
3- . يظهر من كلامه أنّ له أكثر من حاشية على كتاب عدّة الاُصول .
4- . النحل 16 : 12 .
5- . وهو باب الوصي يدرك أيتامه فيمتنعون من أخذ مالهم و ... .

في ثاني «باب صوم الصبيان ومتى يؤخذون به» وهو الباب الخامس والأربعون أنّه يكون بعد أربع عشرة سنة أو خمس عشرة سنة ، ولا منافاة ؛ لأنّ الأوّل والثاني مبنيّان على إمكان الاحتلام ، أو إنبات الشعر الخشن في ذلك السنّ ، والثالثَ لبيان منتهى سنّ البلوغ بدون توقّف على احتلام ، أو إنبات الشعر الخشن .

ويجيء في «كتاب العقيقة» في أوّل «باب النشوء» أنّه يحتلم لأربع عشرة سنة .

و«أشدّ» واحد جاء على بناء الجمع ك- «آنُك»(1) ، ولا نظير لهما ، أو جمع لا واحد له من لفظه ، أو واحده شدّة بالكسر ، مع أنّ فعلة لا تجمع على أفعلٍ ، أو شدّ ككلب وأكلب ، أو شدّ كذئب وأذؤب ، وما هما بمسموعين بل قياس ، واللام فيه متعلّقة بمحذوف تقديره : ثمّ يبقيكم لتبلغوا ، وكذا في قوله :

(ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخَا) . ويجوز عطفه على «لتبلغوا» .

(وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ) : من قبل الشيخوخة أو بلوغ الأشدّ .

(وَلِتَبْلُغُوا) : ويفعل ذلك لتبلغوا (أَجَلاًَ مُسَمّىً) . هو الوقت المعلوم المعيّن للموت أو يوم القيامة .

(وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ»(2)) ؛ فتعرفون ما في ذلك من الدلالات على كون(3) الصانع للعالم البريء من كلّ نقص .

(وَقَالَ : إِنَّ فِى اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) ؛ الذي في سورة الجاثية هكذا : «إِنَّ فِى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لاَيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ * وَفِى خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ * وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ»(4) الآية ، ويمكن أن يكون هذا قراءة غير مشهورة ، وأن يكون نقلاً بالمعنى

ص: 190


1- . قال في المصباح المنير ، ص 26 : «الآنُك ، وزان أفلُسٍ هو الوصاص الخالص ، ويقال : الرصاص الأسود ، ومنهم من يقول : الآنُك فاعُلُ قال : وليس في العربي فاعُلُ بضم العين وأما الآنُك والآجُر فيمن خفف وآمل وكابل فاعجميات» .
2- . غافر 40 : 67 .
3- . في «ج ، د» : «وجود» .
4- . الجاثية 45 : 3 - 5 .

إشعارا بأنّ قوله : «اختلاف» معطوف على «السماوات» أو على «خلقكم» بأن لا يكون قوله : «وفي خلقكم» إلى آخره جملة معترضة ، ولا من عطف الجملة على الجملة .

(وَمَا أَنْزَلَ اللّه ُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ) : من مطر ؛ لأنّه سببه .

(فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا) : فَقْد نباتها .

(وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ لاَيَاتٍ)؛ الذي في الجاثية «آياتٍ» بدون اللام ، وقرئ بالرفع عطفا على محلّ «إنّ» واسمها ، وبالنصب على لفظ اسم «إنّ» ، وكذا في السابق ، فزيادة اللام إمّا قراءة وإمّا لتأكيد الإشعار .

(لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ، وَقَالَ) في سورة الحديد . هذا من النوع الثالث .

(«يُحْىِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الاْيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ») . يجيء في «كتاب الحدود» في ثاني الأوّل عن أبي إبراهيم عليه السلام في قول اللّه عزّ وجلّ : «يُحْىِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا» قال : «ليس يحييها بالقطر ، ولكن يبعث اللّه رجالاً فيحيون العدل ، فتحيا الأرض لإحياء العدل ، ولإقامة(1) الحدّ فيه أنفع في الأرض من القطر أربعين صباحا»(2) .

فهو إخبار عن ظهور دولة الباطل بعد الرسول صلى الله عليه و آله بسبب انتفاء خشوع قلوب أكثر أصحابه للحقّ ، وقساوة قلوبهم وفسق كثير منهم ، وعن ظهور دولة الحقّ بعد دولة الباطل بظهور القائم عليه السلام عقيب انتشار الباطل في الأرض ، فإنّ هذا بعد معاتبة أكثر الأصحاب بما بيّن في قوله : «يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ»إلى قوله : «وَبِئْسَ الْمَصِيرُ»(3) من أنّ المؤمن الخالص من يجعل ما نزل من الحقّ - وهو القرآن - نصب عينه وبين يديه ، وأنّ المنافق ينبذه وراء ظهره ، فليلتمس نورا من ورائه ، ومن ذلك نصبه الإمام من عند نفسه ، وباختيار الاُمّة ، وبغير التفات إلى من قدّمه القرآن موافقا لما يجيء في «كتاب الحجّة» في «باب أنّ الأئمّة عليهم السلام نور اللّه عزّ وجلّ» ،

ص: 191


1- . في «ج» : «إقامة» .
2- . الكافي ، ج 7 ، ص 174 ، كتاب الحدود ، باب التحديد ، ح 2 .
3- . الحديد 57 : 12 - 15 .

وبما بيّن في قوله : «أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللّه ِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمْ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ * اعْلَمُوا أَنَّ اللّه َ يُحْىِ الْأَرْضَ»(1) الآية من انتفاء خشوع قلوبهم للحقّ وقساوة قلوبهم ، وأنّ كثيرا منهم فاسقون .

(وَقَالَ) في سورة الرعد . هذا من النوع الثاني .

(«وَجَنّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ) أي مزروع ، ولعلّه لم يجمع هنا ؛ لأنّ أصله المصدر .

(وَنَخِيلٌ) . جمع نخل .

(صِنْوَانٌ). جمع «صنو» بالكسر والضمّ ، وهو النخل أصله وأصل نخل آخر ، واحد أو عَلَمٌ(2) في جميع الشجر .

(وَغَيْرُ صِنْوَانٍ) : ومتفرّقات غير مجتمعة الاُصول .

(يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِى الاُكُلِ) : فيما يؤكل شكلاً وقدرا وريحا وطعما .

(إِنَّ فِى ذلِكَ لاَياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ»(3)) ؛ فإنّ ذلك ممّا يدلّهم على الصانع الحكيم .

(وَقَالَ) في سورة الروم : («وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ) .

المناسب لسابقه ولاحقه أن لا يكون الظرف متعلّقا بقوله : «يريكم» . فقيل فيه وجهان : إضمار أنّ ، وإنزال الفعل منزلة المصدر ، وبهما فسّر المثَل «تسمع بالمُعَيديّ خيرٌ من أن تراه»(4) انتهى .

(البَرْقَ خَوْفا) للمسافر من المطر ، أو للجميع من الصاعقة ، أو من الأخلاف .(5)

(وَطَمَعا) للحاضر ، أو للجميع في الغيث ؛ ونصبهما على الحال ، أي خائفين

ص: 192


1- . الحديد 57 : 16 - 17 .
2- . في «ج ، د» : «عام» .
3- . الرعد 13 : 4 .
4- . الكشّاف عن حقائق التنزيل ، ج 3 ، ص 218 ؛ جوامع الجامع ، ج 3 ، ص 9 .
5- . الكشّاف عن حقائق التنزيل ، ج 3 ، ص 218 ؛ جوامع الجامع ، ج 3 ، ص 9 .

وطامعين ؛ أو على العلّة بتقدير مضاف ، نحو إرادة خوف وطمع ؛ أو تأويل الخوف والطمع بالإخافة والإطماع ، كقولك : فعلته رغما للشيطان .

(وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِى بِهِ الأرْضَ) بالنبات (بَعْدَ مَوْتِها) : يُبسها .

(إِنَّ فِى ذلِكَ لاَياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ»(1)؛ وَقَالَ) في سورة الأنعام . هذا من النوع الأوّل .

(«قُلْ تَعالَوْا) . أمر من التعالي ، أي إيتوني ، وأصله أن يقول من كان في علوّ لمن كان في سفل ، فاتّسع(2) فيه بالتعميم .

(أتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ألاّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا) .

من الاحتمالات أنّ «ما» موصولة للعموم و«عليكم» متعلّق ب- «حَرّمَ» و«أن» مفسّرة ، فإنّ كلاًّ من التحريم والتلاوة يتضمّن معنى القول ، و«لا» ناهية ، ومن الإشراك اتّباع الظنّ بترك التزام اتّباع الإمام العالم بجميع أحكام اللّه تعالى وجميع متشابهات كتاب اللّه في كلّ زمان ، موافقا لقوله تعالى في سورة آل عمران : «قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّه َ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضا أَرْبَابا مِنْ دُونِ اللّه ِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ»(3) ، وفي سورة التوبة : «اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابا مِنْ دُونِ اللّه ِ»(4) ، ويجيء بيانه في أوّل التاسع عشر؛(5) وموافقا لما رواه ابن بابويه في العيون في آخر باب ما حدّث به الرضا عليه السلام في مربعة نيسابور عن الرضا عليه السلام في تفسير الحديث القدسي : «لا إله إلاّ اللّه حصني ، فمَن دخل حصني أمن عذابي» ، أنّه قال :

«بشروطها وأنا من شروطها»(6) .

(وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسانا) . عطف على : «به شيئا» بتقدير ولا تشركوا بالوالدين إحساناً .

ص: 193


1- . الروم 30 : 24 .
2- . في «ج» : «اتسع» .
3- . آل عمران 3 : 64 .
4- . التوبة 9 : 31 .
5- . أي في الحديث 19 من كتاب العقل والجهل .
6- . عيون أخبار الرضا عليه السلام ، ج 1 ، ص 144 ، ح 4 .

والظاهر ممّا يجيء في «كتاب الإيمان والكفر» في سادس «باب البرّ بالوالدين» أنّ المراد بالوالدين هنا الأب والاُمّ ، ولا ينافي هذا(1) ما قال عليّ بن إبراهيم في تفسير هذه الآية : «الوالدين : رسول اللّه صلى الله عليه و آله وأمير المؤمنين صلوات اللّه عليه» .(2)

فالمراد بالإحسان إحسان اللّه تعالى بالعبد ، والمعنى أنّ الوالدين أجلّ نِعَم اللّه تعالى على عباده ، وفي حكم الوالدين من يقوم مقامهما من أئمّة الهدى صلوات اللّه عليهم .

وهذا معنى قول أبي عبداللّه عليه السلام فيما يجيء في سادس «باب البرّ بالوالدين» من «كتاب الإيمان والكفر» في برّ الوالدين في قول اللّه عزّ وجلّ : «وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانا»فإنّ في الموضعين بتشديد الياء المفتوحة ، وآية برّ الوالدين هي التي في سورة لقمان(3) ، والتي في سورة العنكبوت : «وَوَصَّيْنَا الاْءِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ»(4) وقول اللّه عزّ وجلّ : «وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانا» عبارة عمّا في سورة الأنعام ، فإنّ مقتضى سياق ما في سورة البقرة وسورة النساء وسورة بني إسرائيل أنّ المراد بالوالدين فيها الأب والاُمّ النسبيان ، بخلاف سياق ما في سورة الأنعام .

(وَلا تَقْتُلُوا أوْلادَكُمْ) . عطف على «تعالوا» ، و «لا» ناهية ، والنهي هنا للتنزيه ، بناءً على ما يجيء في «كتاب الإيمان والكفر» في «باب» قبل «باب في أنّ الإيمان مبثوث لجوارح(5) البدن كلّها» من أنّه لم يكن في مكّة قبل الهجرة إلى المدينة حرام إلاّ الإشراك ، وسورة الأنعام مكّيّة .

(مِنْ إِمْلاقٍ) : من أجل فقر ، ومن خشيته ، كقوله : خشية إملاق ، وهو نهي عن وَأْد البنات وإسقاط الجنين ونحوهما .

(نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الفَواحِشَ) . جمع «فاحشة» وهي نحو الايتمام بأئمّة

ص: 194


1- . قوله : «الأب والأم ، ولا ينافي هذا» مشطوب عليه في النسخ والأنسب تثبيته .
2- . تفسير القمّي ، ج 1 ، ص 220 .
3- . لقمان 31 : 14 .
4- . العنكبوت 29 : 8 .
5- . في النسخ : «بجوارح» .

الجور ، كما يجيء في تاسع «باب من ادّعى الإمامة وليس لها بأهل» من «كتاب الحجّة» .

(ما ظَهَرَ مِنْها) . هو القدر المشترك بين المدلول المطابقي أو التضمّني للقرآن ، وبين ما لا يستره فاعله عن الناس ونحوهما .

ويجيء أمثلته في «كتاب الحجّة» في عاشر «باب من ادّعى الإمامة» إلى آخره ، وفي «كتاب النكاح» في السابع والأربعين من «باب نوادر [في المهر]» ، وفي «كتاب الأشربة» في أوّل «باب تحريم الخمر» في الكتاب .

(وما بَطَنَ) . يظهر معناه بالمقابلة .

(وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللّه ُ) أي حرّمها اللّه بأن جعلها حراما ، أي ذاتَ حرمة ، ومحترمةً ، مثل «عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ» وهي نفس بني آدم ؛ لقوله : «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى آدَمَ»(1) الآية .

(إِلاّ بِالْحَقِّ) . العامل في المستثنى «لا تقتلوا» .

(ذلِكُمْ) . إشارة إلى قوله : «ولا تقتلوا أولادكم» إلى آخره .

(وَصّاكُمْ بِهِ) أي بحفظه ، فالباء للصلة .

(لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ»(2) وَقَالَ) في سورة الروم . هذا من النوع الثاني .

(«هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) . تمثيل لبيان كونه تعالى ذا مَثَل أعلى وعزيزا لا يخرج عن مشيئته شيء حتّى معاصي العباد ، وهو لإثبات ربوبيّته بإبطال تفويضي القدريّة ، كما سيجيء تفصيله في ثاني «باب(3) الاستطاعة» من «كتاب التوحيد» وتفويض مجتهديهم ، و«من» للتبعيض ، أي من جملة مماليككم .

(مِنْ شُرَكاءَ فِى ما رَزَقْنَاكُمْ) أي في التدبير والتصرّف فيما رزقناكم من الأموال وغيرها .

(فَأَنْتُمْ) ؛ يعني الموالي والعبيد (فِيهِ) : فيما رزقناكم (سَواءٌ) أي يتمكّن العبيد أيضا ممّا

ص: 195


1- . الإسراء 17 : 70.
2- . الأنعام 6 : 151 .
3- . في حاشية «أ» : «وهو الحادي والثلاثون» .

شاؤوا من التصرّف المعهود من المالك في ملكه .

(تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) . استئناف لبيان كونهم سواءً ، يعني يكون العبيد مستقلّين في التصرّف في الأموال على قَدر حصّتهم من الشركة ، كما يستقلّ الأحرار الشركاء في مال ، فربّما يتصرّف أحد الشريكين اختيارا في حصّة شريكه على ما يكرهه الشريك الآخر ، ولا يقدر الآخر على صرفه عن ذلك التصرّف إلى تصرّفه فيها اختيارا على ما يشاؤه الآخر بوجه من الوجوه . والمقصود أنّ شركة أحد في التدبير التفويضي مستلزم لإخراج الشريك الآخر عن سلطنته ، ولا سيّما شركة المملوك .

(كَذلِكَ) : مثل ذلك التفصيل .

نُفَصِّلُ الآياتِ) : نبيّنها ، فإنّ التمثيل فيما دلَّ عليه البرهان ممّا يدفع المعارضات الوهميّة والمشاغبات .

(لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ»(1)) ؛ فإنّهم بالتفكّر في هذا المثل تطمئن(2) قلوبهم على العلم بأنّ كون اللّه بالنسبة إلى عبيده كمَن يخاف شريكه في تصرّف يكرهه يستلزم نقصا فيه ، تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا .

(يَا هِشَامُ ، ثُمَّ) ؛ للتعجّب ، إشارة إلى وضوح ما ذكر سابقا من الأدلّة على إمامة أئمّة الهدى وبطلان إمامة أئمّة الضلالة ، بحيث لا يحتاج إلى ضميمة ، ثمّ مع هذا ضمّ إليه هذا ، وكذا «ثمّ» فيما يجيء من قوله : «ثمّ خوّف» وأمثاله .

(وَعَظَ) . الوعظ كالوعد تذكير ما يليّن القلب من الثواب والعقاب ونحوهما .

(أَهْلَ الْعَقْلِ) . وظاهر جعل الموعوظين أهل العقل والمخوّفين الذين لا يعقلون ، أنّ الآية خطاب للمؤمنين الغير المتّقين ، وهم المقصودون أوّلاً بالوعظ دون الكفّار والمنافقين ، بخلاف ما يجيء في التخويف ، فإنّه بالعكس ، فالجميع من النوع الثالث .

(وَرَغَّبَهُمْ) ؛ بشدّ المعجمة . (فِي الاْخِرَةِ ، فَقَالَ) في سورة الأنعام : («وَمَا الحَيَاةُ

ص: 196


1- . الروم 30 : 28 .
2- . في «أ ، ج» : «يطمئنّ» .

الدُّنْيَا) : وما الاكتفاء بها (إِلاّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ) ؛ لقلّة نفعها وانقطاعها وإلهائها مَنْ يغترّ بها عمّا يعقب منفعة دائميّة ، وهو إبطال لقول الدهريّة(1) : «إِنْ هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا»(2) .

(وَلَلدَّارُ الاْخِرَةُ خَيْرٌ) ؛ لدوامها وخلوص منافعها . (لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) .

تنبيه على أنّ أعمال غير المتّقين لا توجب ثوابا كقوله تعالى : «إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّه ُ مِنْ الْمُتَّقِينَ»(3) .

(أَفَلاَ تَعْقِلُونَ»(4)) ؛ حيث تؤثرون الحياة الدنيا .

(يَا هِشَامُ ، ثُمَّ خَوَّفَ) ؛ بشدّ(5) الواو . (الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ) ؛ حيث يتبعون الهوى . (عِقَابَهُ) ؛ مفعولٌ ثانٍ ل- «خوّف» .

(فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ) في سورة الصافّات :

(«ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ) ؛ هم قوم لوط .

(وَإِنَّكُمْ) يا أهل مكّة (لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ) : على مواضعهم في متاجركم إلى الشام ، فإنّ مواضعه الأربعة التي يجيء ذكرها في «كتاب النكاح» في ثاني «باب(6) من أمكن من نفسه» في طريقه .

(مُصْبِحِينَ) : داخلين في الصباح . (وَبِاللَّيْلِ) : قُبَيل الصباح . والأوّل للمبطئ ، والثاني للمسرع .

وقيل : «أي ومساء ، وقَعَتْ قريبَ منزل يمرّ بها المرتحل عنه صباحا والقاصد له مساءً»(7) انتهى .

ص: 197


1- . الدهرية : هم جماعة يقولون بقدم الدهر ، وينكرون الصانع ويقولون : إن هي إلا أرحام تدفع وأرض تبلع ، وما يهلكنا إلا الدهر .
2- . الأنعام 6 : 29 ؛ المؤمنون (23) : 37 ؛ الجاثية (45) : 24 .
3- . المائدة 5 : 27 .
4- . الأنعام 6 : 32 .
5- . في «د» : «بتشديد» .
6- . في حاشية «أ» : «وهو الباب السابع والثمانون والمائة» .
7- . تفسير البيضاوي ، ج 5 ، ص 26 .

وقيل : المراد نهارا وليلاً .(1)

(أَفَلاَ تَعْقِلُونَ»(2)) . أبعد ذلك المرور لا تعتبرون به ولا تخافون من مثله . وفي «كتاب الروضة» بعد حديث عليّ بن الحسين مع يزيد لعنه اللّه قال : فقلت : فقوله عزّ وجلّ :

«وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ» قال : «تمرّون عليهم في القرآن ، إذا قرأتم القرآن تقرأ(3) ما قصّ اللّه عليكم(4) من خبرهم .(5)

(وَقَالَ) في سورة العنكبوت :

(«إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ) . هي سَدُوم(6) وما والاها ، وأهلها قوم لوط .

(رِجْزا مِنَ السَّمَاءِ) : عذابا منها ، سمّي بذلك لأنّه يقلق المعذّب ؛ من قولهم : ارتجز : إذا ارتجس ، أي اضطرب . وفي سورة الذاريات «لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ»(7) .

(بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) ؛ بسبب استمرارهم على الفسق . إلى هنا كلام الملائكة .

(وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا) : من القرية (آيَةً بَيِّنَةً) ؛ هي ما يعتبر به العاقل من حكايتها الدالّة على بأسه بالظالمين .

(لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ»(8)) ؛ حيث يعلمون منها أنّه لا يجوز الأمن من عقاب اللّه والاعتماد على الأمانيّ ، وهو متعلّق ب- «تركنا» أو «بيّنة» .

ص: 198


1- . حكاه في تفسير البيضاوي ، ج 5 ، ص 26 .
2- . الصافات 37 : 138 .
3- . في النسخ : «فقرأ» والمثبت عن المصدر .
4- . في النسخ : «عليهم عليكم خ» .
5- . الكافي ، ج 8 ، ص 250 ، ح 349 .
6- . قال ياقوت في معجم البلدان ، ج 3 ، ص 200 : «سدوم ، مدينة من مدائن قوم لوط كان قاضيها يقال له : سدوم ؛ وقال أبو حاتم في كتاب المزال والمفسد يقال له : سذوم بالذال المعجمة ، قال : والدال خطأ ؛ قال الأزهري : وهو الصحيح وهو أعجمي» .
7- . الذاريات 51 : 33 - 34 .
8- . العنكبوت 29 : 34 - 35 .

(يَا هِشَامُ) . هذا من النوع الأوّل .

(إِنَّ الْعَقْلَ مَعَ الْعِلْمِ) أي لا يتحقّق التأدّب بالآداب الحسنة في تحصيل العلم بأحكام الدِّين بقدر الوسع إلاّ مع ما يفيد العلم من القرآن ، وهو محكماته الآمرة بسؤال أهل الذِّكر عن كلّ مشكل يحتاج إليه ، والناهية عن اتّباع الظنّ في نفس أحكام اللّه تعالى ، كما في رسالة أوّل «كتاب الروضة» من قول أبي عبداللّه عليه السلام في ذمّ المخالفين : «واُولئك الذين يأخذون بأهوائهم وآرائهم ومقاييسهم حتّى دخلهم الشيطان ، لأنّهم جعلوا أهل الإيمان في علم القرآن عند اللّه كافرين ، وجعلوا أهل الضلالة في علم القرآن عند اللّه مؤمنين» .

وهذا تمهيد لبيان معنى قوله تعالى : «لا يعقلون» في الآيات المذكورة تحت قوله : «يا هشام ثمّ ذمّ» إلى آخره ، والمقصود أنّ طريقة(1) أهل الاجتهادات الظنّيّة ينافي العقل ، فيدخلون(2) تحت قوله : «لا يعقلون» .

(فَقَالَ) . الفاء للبيان . ( : «وَتِلْكَ الْأمْثَالُ) أي مثل العنكبوت ونظائره (نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُهَا) أي ما يصل إلى علمها كما ينبغي .

(إِلاَّ العَالِمُونَ»(3)) أي المتّبعون للبيّنات المحكمات القرآنيّة ، دون الذين في قلوبهم زيغ فيتّبعون ما تشابه منه .

ومثله قوله تعالى في سورة فاطر : «إِنَّمَا يَخْشَى اللّه َ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ»(4) ، ويجيء في ثاني السادس .(5)

(يَا هِشَامُ ، ثُمَّ ذَمَّ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ) ؛ هم الذين ليسوا مع العلم كما مرّ ، كأئمّة الضلالة ومجتهديهم .

ومعنى الذمّ بيان أنّهم ليسوا صالحين للمتبوعيّة ، ولا للهداية ، ولا للاهتداء .

ص: 199


1- . في «د» : «طريق» .
2- . في «د» : «فيدخل» .
3- . العنكبوت 29 : 43 .
4- . فاطر 35 : 28 .
5- . أي في الحديث 2 من باب صفة العلماء .

(فَقَالَ) في سورة البقرة :

(«وَإِذا قِيلَ لَهُمُ) ؛ لأتباع غير العالمين .

(اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللّه ُ) . هو ما مضى قبل هذه الآية متّصلاً بها من النهي عن أن يقولوا على اللّه ما لا يعلمون ، فإنّه يدلّ على حظر كون أحد مفتيا بالاجتهاد ، فضلاً عن إمام المسلمين ، ومن النهي عن السوء والفحشاء .

(قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا) : وجدنا (عَلَيْهِ آبَاءَنَا) .

هذا كما يقوله المخالفون من أنّ السلف الصالح مهّدوا لنا طريقا هو الاجتهاد ، وأنّه مجمع عليه ، ويجب تأويل الآيات بإجماعهم ، فلا نعدل عنه .(1)

(أَوَلَوْ كَانَ) . الهمزة للاستفهام التوبيخي ، والواو للعطف على مقدّر ، فكأنّه قال : أ لولم يكن ولو كان .

(آبَاؤهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئا) أي معتدّا به ، كأحكام اللّه تعالى ، أو مطلقا بناءً على التشبيه .

(وَلا يَهْتَدُونَ»(2)) أي ولا يوفّقون للعقل بهداية اللّه تعالى إيّاهم الصراط المستقيم المذكور في قوله تعالى : «اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ»(3) أو لا يسألون أهل الذِّكر عمّا لا يعلمون ، كما في سورة طه : «وَإِنِّى لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحا ثُمَّ اهْتَدَى»(4) ، والواو على الأوّل حاليّة ، وعلى الثاني عاطفة .

(وَقَالَ) في سورة البقرة متّصلاً بما مضى :

(«وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلاّ دُعَاءً وَنِدَاءً) . يقال : نعق بغنمه - كمنع وضرب - : إذا صاح بها وزجرها(5) . وهذا بيان لحال السلف بعد بيان حال مقلّديهم .

ص: 200


1- . اُنظر: الفصول في الاُصول للجصّاص ، ج 1 ، ص 162 ؛ واللمع في اُصول الفقه لأبي إسحاق الشيرازي ، ص 357 .
2- . البقرة 2 : 166 .
3- . الفاتحة 1 : 6 .
4- . طه 20 : 82 .
5- . الصحاح ، ج 4 ، ص 1559 نعق .

فالمراد ب- «الذين كفروا» الذين سنّوا لهم القول على اللّه بغير علم والسوء والفحشاء ، كما يدلّ عليه سابق الآية(1) ، فيُفهم منه أنّ الأتباع كالغنم المَسُوقة إلى المَسلخ لا يسمعون إلاّ دعاءً ونداءً ، ولا يعرفون وخامة عاقبة الاتّباع .

وقيل : على حذف مضاف تقديره : ومثل داعي الذين كفروا كمثل الذي ينعق ، أو مثل الذين كفروا كمثل بهائم التي تنعق ، والمعنى أنّ الكفرة لإنهماكهم في التقليد لا يلقون أذهانهم إلى ما يُتلى عليهم ، ولا يتأمّلون فيما يقرّر معهم فهم في ذلك ، كالبهائم التي يُنعق عليها فتسمع الصوت ولا تعرف مغزاه ، وتحسُّ بالنداء ولا تفهم معناه .(2) انتهى .

(صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ) . خبر مبتدأ محذوف ، أي الذين كفروا أو الأتباع صمّ .

(فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ»(3) ، وَقَالَ :) في سورة يونس :

«وَمِنْهُمْ) : ومن المفسدين الذين لا يؤمنون بالحقّ ، أي علم اللّه منهم أنّهم يموتون على التكذيب من جملة الذين كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولمّا يأتهم تأويله .

(مَنْ يَسْتَمِعَُ) . كذا في النسخ موافقا لما في سورة الأنعام وسورة محمّد(4) ، والذي في

سورة يونس : «مَّن يَسْتَمِعُونَ» .(5)

(إِلَيْكَ) . كان رسولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله حريصا على إيمان المكذّبين ، طالبا لأن يستمع إليه المعرضون عنه منهم ؛ ليرجعوا عن التكذيب بسماع الأدلّة الواضحة الدلالة بالتقرير اللائق ، ذا تعب في تركهم الاستماع ، فسلاّه اللّه تعالى بأنّ بعضهم يستمع إليك ولا ينفعه الاستماع ، فإنّه إنّما يستمع للدفع والإنكار ، ولا يرجع مثل هذا عن التكذيب لوضوح الدليل .

ص: 201


1- . يريد بذلك قوله تعالى : «وَ لاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَ تِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِالسُّوءِ وَ الْفَحْشَآءِ وَ أَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ» . البقرة (2 : 168 - 169) .
2- . تفسير البيضاوي ، ج 1 ، ص 448 .
3- . البقرة 2 : 171 .
4- . الأنعام 6 : 25 ؛ محمّد (47) : 16 .
5- . يونس 10 : 42 .

(أَ فَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ) . شبّههم بالصمّ لأنّهم لا ينتفعون بالسماع ، فكأنّهم لم يسمعوا ، وكأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله لم يُسمِعهم ؛ لأنّه لم يورث كلامه لهم نفعا .

ويجيء تحقيق أنّ النبيّ غير قادر على هداية من أحبّ في «كتاب التوحيد» في أوّل «باب الهداية أنّها من اللّه» .

(وَلَوْ كَانُوا لاَ يَعْقِلُونَ»(1)) . شبّههم بالجَهَلة بكلّ نظريٍّ لانتفاء انتفاعهم بعلمهم بوجوب الاتّباع للحقّ المعلوم ، وترك الاستبداد بالرأي .

(وَقَالَ) في سورة الفرقان :

(«أَمْ تَحْسَبُ) : بل أتحسب (أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ) أي ليسوا صُمّا .

(أَوْ يَعْقِلُونَ) شيئا . وهذه كالسابقة مبنيّة على التشبيه وتسلية له صلى الله عليه و آله ؛ لأنّه صلى الله عليه و آله كان شديد الاهتمام بإيمانهم .

(إِنْ هُمْ إِلاّ كَالْأَنْعَامِ) ؛ لانتفاء انتفاعهم بقرع الأدلّة الواضحة آذانَهم ولا بعلمهم .

(بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً»(2)) من الأنعام ؛ لأنّهم لا يجتنبون ما علموا أنّ ضرره قويّ ، غالب على نفع ضدّه ، بخلاف الأنعام .

(وَقَالَ) في سورة الحشر :

(«لا يُقَاتِلُونَكُمْ) اليهود ، أو اليهود مع المنافقين (جَمِيعا) : مجتمعين .

(إِلاَّ فِى قُرىً مُحَصَّنَةٍ) بالخنادق ونحوها .

(أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ) لخوفهم من الخروج إلى المسلمين .

(بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ) . استئناف بياني ، أي هذا لشدّة خوف بعضهم من بعض ، بحيث لا يأمن الخروج معه .

(تَحْسَبُهُمْ جَمِيعا) : مجتمعين في الرأي .

(وَقُلُوبُهُمْ شَتّى) : مفترقة لا يتّبع بعضهم رأي بعض .

ص: 202


1- . يونس 10 : 42 .
2- . الفرقان 25 : 44 .

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ»(1)) . فيه أيضا التشبيه ، أي هم مُعجَبون برأي أنفسهم ، ولا ينتفعون بما علموا من أنّ التمدّن والتعيّش لا يمكن إلاّ بترك الإعجاب بالرأي ، ليحصل الاتّفاق على رئيس عاقل مطاع ، تجتمع به الكلمة ، ويرتفع به الشتات ، فيترك كلّ أحد رأي نفسه ، ويتبع رأيه في الحروب وغيرها ، بل من المجرّب أنّ السفيه المطاع أنظم للتمدّن من عاقل لا يطاع .

(وَقَالَ) في سورة البقرة :

(«وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) وتتركونها من البرّ كالمنسيّات .

(وَأَنْتُمْ) يا بني إسرائيل (تَتْلُونَ الكِتَابَ) : التوراة وفيها الوعيد على مخالفة القول والعمل ، أو فيها بيان الحقّ ، فأنتم تعلمون الحقّ ، فلِمَ لا تعملون بما تأمرون به الناس من اتّباع الحقّ المعلوم ؟

(أَفَلا تَعْقِلُونَ»(2)) أي أبعد تصدّركم لأمر الناس ونهيهم لا تعلمون ما في الكتاب الذي تتلونه ، فلا تعرفون قبح صنيعكم ، مع أنّه لا يصلح لهذا التصدّر إلاّ العالم بما في الكتاب .

ويحتمل أن يُراد أبعد الأمر بالبرّ لا تعلمون أنّه برّ ، مع أنّه يشترط في الأمر بالمعروف العلم بأنّه معروف ، ولا يكفي الظنّ .

(يَا هِشَامُ ، ثُمَّ ذَمَّ اللّه ُ الْكَثْرَةَ) . هذا من النوع الرابع ؛ استدلّ المخالفون على طريقتهم بأنّا الكثرة والجماعة ، وأنّكم قليلون لا يُعبأ بكم ، ولا بخلافكم ، فادّعوا الإجماع في كلّ ما يختصّ بهم .(3)

والمراد بذمّ الكثرة ، ذمّ الأكثر لا على الكثرة ، فإنّه ليس فعلاً اختياريّا لأحد ، بل على ما هم عليه من اتّباع الظنّ في أحكامهم في الشرع ، أو ذمّ اتّباع الأكثر ، فالكثرة إن لم تكن أمارة للبطلان ليست دلالة ولا أمارة على الحقّيّة .

ص: 203


1- . الحشر 59 : 14 .
2- . البقرة 2 : 44 .
3- . اُنظر: المستصفى للغزالي ، ص 142 ؛ والمنخول ، ص 399 ؛ والمحصول للرازي ، ج 4 ، ص 19 .

إن قلت : لم يستند المخالفون إلى الكثرة المطلقة ، بل إلى الكثرة من أصحاب النبيّ صلى الله عليه و آله وأهل الإسلام ، وهم الذين قال تعالى فيهم : «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ»(1) .

قلت : بعدما ثبت بالظواهر أنّ الكثرة مذمومة لا يجوز استثناء كثرة منها إلاّ بدليل ، ولم يتحقّق هناك ، والخطاب في الآية للنبيّ وأهل بيته ؛ إنّما الخطاب لأكثر الأصحاب في أمثال قوله تعالى في سورة الأعلى : «بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا»(2) وفي سورة آل عمران : «أَفَإنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ»(3) ، وبيانه في «كتاب الروضة» بعد حديث عليّ بن الحسين عليه السلام مع يزيد لعنه اللّه (4) ، وبعد حديث نوح صلّى اللّه عليه(5) ، وهم الذين قال فيهم : «وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوا»(6) وأمثاله ، فإنّ الجمع والعكس لا يحتمله عاقل .

(فَقَالَ) في سورة الأنعام :

(«وَإِنْ تُطِعْ) . خاطب النبيّ صلى الله عليه و آله ، والمراد غيره ، كما في قوله في سابقه : «فَلاَ تَكُونَنَّ مِنْ الْمُمْتَرِينَ»(7) . وقيل : المراد هو وغيره .(8) انتهى .

والمراد بالإطاعة العمل بالفتوى في نفس حكم شرعي ، فإنّها المسمّاة سبيل اللّه حقيقة ، والمذكورة سابقا في قوله : «وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقا وَعَدْلاً لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ»(9) .

(أكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ) أي مجموع الأكثر من حيث إنّهم الأكثر ومخالفهم أقلّ ، أو أيّ واحدٍ كان منهم ؛ والمآل واحد . والاستغراق في «من» على الأوّل حقيقي إذا اُريد بالأرض ما توطّن فيه النبيّ صلى الله عليه و آله وأصحابه ، أو ما يبلغ إليك خبر أهلها وأحكامهم في

ص: 204


1- . آل عمران 3 : 110 .
2- . الأعلى 87 : 16 .
3- . آل عمران 3 : 144 .
4- . الكافي ، ج 8 ، ص 235 ، ح 313 .
5- . الكافي ، ج 8 ، ص 267 ، ح 392 .
6- . الجمعة 62 : 11 .
7- . البقرة 2 : 147 .
8- . تفسير مجمع البيان ، ج 4 ، ص 145 .
9- . الأنعام 6 : 115 .

الشرع ، وعرفي إن اُريد بهم الأعمّ ، وعلى الثاني حقيقي البتّة .

(يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللّه ِ»(1)) ؛ هو شرعهُ في الاُصول والفروع ، والاستئناف البياني بعد هذا بقوله : «إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ»(2) الآية ، يدلّ على أنّ السرّ في النهي أنّه لا يجوز الحكم في شرعه تعالى بالظنّ ، وأنّ أكثر مَن في الأرض يفتون على ظنّ ، ويبدّلون كلمات اللّه (3) .

ولا ينافي هذا جواز اتّباع حكم الأكثر في محال الحكم ، كالشهادات ، وقيم المتلفات ، ومقادير الجراحات الموجبة للديات ، ونحو ذلك ممّا يجوز فيه الحكم بالظنّ ، ولا يسمّى سبيل اللّه .

ولا ينافي أيضا جواز قبول رواية الأكثر فيما يقبل فيه خبر الواحد وتعارضت الأخبار ، كما يجيء في آخر «باب اختلاف الحديث» .

ويمكن أن يحمل على أحد هذين قول أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة من كلام له عليه السلام قاله للخوارج : «والزموا السواد الأعظم ، فإنّ يد اللّه على الجماعة ، وإيّاكم والفرقة ، فإنّ الشاذّ من الناس للشيطان ، كما أنّ الشاذّة من الغنم للذئب» .(4)

وروى ابن بابويه في معاني الأخبار عنه عليه السلام أنّه قال في تفسير مثل ذلك : «الجماعة أهل الحقّ وإن كانوا قليلاً ، والفرقة أهل الباطل وإن كانوا كثيرا»(5) .

ووجهه أنّ المراد بالحقّ ما هو معلوم صريحا من الآيات البيّنات المحكمات الناهية عن اتّباع الظنّ ، وعن الاختلاف عن ظنّ ، فأهل الحقّ جماعة ، أي لا اختلاف بينهم أصلاً ، والمراد بالباطل تجويز اتّباع الظنّ والاختلاف عن ظنّ ، فأهل الباطل فرقة ، أي هم متفرّقون مختلفون دائماً .

ص: 205


1- . الأنعام 6 : 117 .
2- . الأنعام 6 : 116 .
3- . في «ج» : «عن كلام اللّه» بدل : «كلمات اللّه» .
4- . نهج البلاغة ، ج 2 ، ص 8 ؛ وعنه في بحارالأنوار ، ج 33 ، ص 372 ، ح 604 .
5- . معاني الأخبار ، ص 155 ، باب معنى الجماعة والفرقة ، ذيل ح 3 .

وإلى هذا يرجع ما يجيء في «كتاب الحجّة» في «باب ما أمر النبيّ صلى الله عليه و آله بالنصيحة لأئمّة المسلمين ، واللزوم لجماعتهم ومن هم؟» من أنّ جماعة المسلمين أولاد عليّ بن أبي طالب عليه السلام .(1)

ويطابق هذا قوله تعالى في سورة المائدة : «قُلْ لاَ يَسْتَوِى الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللّه َ يَا أُولِى الْأَلْبَابِ»(2) .

ويحتمل أن يحمل الجماعة على ما اجتمعت الشواهد القرآنيّة عليه من تعيين أئمّة الحقّ ، والفرقة على ما افترقت عنه من ذلك ، بقرينة قوله بعد ذلك في نهج البلاغة : «فإنّما حكم الحكمان ليحييا ما أحيا القرآن ، ويميتا ما أمات القرآن» .(3) وإحياؤه : الاجتماع عليه ، وإماتته : الافتراق عنه ؛ أي إحياء القرآن ما أحياه في أمر الأئمّة اجتماع آياته على الدلالة عليه ، كما مرّ بيانه في أوّل الحديث عند قوله : «يا هشام إنّ اللّه تبارك وتعالى بشّر» إلى آخره . وإماتته إياه نبوّ(4) آياته عن الدلالة عليه بدلالتها على ضدّه أنواعا متفرّقة من الدلالة .

إن قلت : الاستئناف إنّما يدلّ على حظر انحصار حكم أحد في اتّباع الظنّ ، ولا يدلّ على حظر اتّباع الظنّ أصلاً ، فلعلّه غير جائز في الاُصول وفي الفروع الضروريّة للدِّين ، وما يجري مجراها ، وجائز في المشكلات الفروعيّة .

قلت : الإطاعة لا تستعمل إلاّ فيما يجري فيه الفتوى من المشكلات العمليّة ، فهي المقصودة بالنهي عن اتّباع الظنّ فيها ، وما قبل الآية وهو قوله : «وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقا وَعَدْلاً لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ»يدلّ على ذلك ، وكذا ما بعدها وهو قوله : «وَإِنَّ كَثِيرا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ»(5) الآية .

ص: 206


1- . في الحديث 2 من الباب .
2- . المائدة 5 : 100 .
3- . نهج البلاغة ، ج 2 ، ص 8 ؛ وعنه في بحارالأنوار ، ج 33 ، ص 373 ، ح 604 .
4- . النبو : التجافي والابتعاد ، ونبا السيف : إذا لم يقطع . تاج العروس ، ج 20 ، ص 212 نبو .
5- . الأنعام 6 : 119 .

وقال الفخر الرازي : تمسّك نفاة القياس بهذه الآية . ثمّ قال :

والجواب لِمَ لا يجوز أن يُقال : الظنّ عبارة عن الاعتقاد الراجح إذا لم يسند إلى أمارة ، وهو مثل ظنّ الكفّار ، أمّا إذا كان الاعتقاد الراجح مستندا إلى أمارة ، فهذا الاعتقاد لا يسمّى ظنّا ، وبهذا الطريق سقط هذا الاستدلال ؛ واللّه أعلم .(1) انتهى .

وفيه أنّ المصرّح به في الكتب أنّ ما لم يستند إلى أمارة لا يسمّى ظنّا ، بل اعتقادا ، مبتدءا ، وما استند إليها يسمّى ظنّا ، ألا ترى أنّ فيه علامتي المنهيّ عن اتّباعه ، وهما انتفاء العلم ، وإمكان الاختلاف الحقيقي المستقرّ معه .

(وَقَالَ) في سورة لقمان :

«وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) أي المشركين القائلين بالتفويض إلى العباد في القول على اللّه ، حيث جوّزوا القول على اللّه بالقياس و بالاجتهاد ، وهم المذكورون سابقا في قوله : «وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِى اللّه ِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدىً وَلاَ كِتَابٍ مُنِيرٍ»(2) الآيات .

(مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) أي نفسهما .

(لَيَقُولُنَّ اللّه ُ) ؛ لظهور الأدلّة على أنّ نفس هذه الأجرام غير مخلوقة للعباد أصلاً .

(قُلِ) ، أي في نفسك ، لا في جوابهم ؛ لأنّ السؤال مفروض لا واقع .

(الْحَمْدُ للّه ِِ) أي على أنّه لا يعذّب غير المستحقّ ، فإنّهم عالمون بأنّ اللّه خالق السماوات والأرض ويشركون في حكمه أحدا باتّباع الظنّ ، فإنّ خالق نفس هذه الأجرام معلوم أنّه بريء من أن يشرك في حكمه أحدا .

(بَلْ أَكْثَرُهُمْ) . الضمير راجع إلى «الناس» في قوله سابقا : «وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ»أي أكثر الناس ، وهو من مقول قل .

(لاَ يَعْقِلُونَ»(3)) .(4) الذي في سورة لقمان : «لا يعلمون» أي يتّبعون الظنّ ، فلا يعلمون ما يفعلون ويقولون .

ص: 207


1- . تفسير الرازي ، ج 13 ، ص 164 .
2- . الحجّ 22 : 8 .
3- . في الكافي المطبوع : «يعلمون» .
4- . لقمان 31 : 21 .

(وَقَالَ) في سورة العنكبوت :

(«وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) أي الذين آمنوا بالباطل ، وهو الظنّ .

(مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأحْيَا بِهِ الأرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللّه ُ قُلِ الْحَمْدُ للّه ِِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ) . «مَنْ» مقول قل ، والضمير لأهل الكتاب ، وهم المذكورون سابقا في قوله : «وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ»(1) الآية ، أو للناس وهم المذكورون سابقا في قوله : «وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ»(2) .

(لاَيَعْقِلُونَ»(3)) .

(يَا هِشَامُ، ثُمَّ مَدَحَ الْقِلَّةَ) أي القليل ، لا على القلّة ، فإنّها ليست من الأفعال الاختياريّة ، بل على ما هو عليه من الحقّ ، لمّا كان كلّ من ذمّ الكثرة ومدح القلّة مشتملاً على الآخر بالمفهوم وسّط آياتِ مدحِ القلّة بين آيات ذمّ الكثرة ، وأيضا معنى مدح القلّة

أنّ الحقّ لا يكون إلاّ في القليل ، لا بمعنى أنّ كلّ قليل على الحقّ ، فإنّا نرى أهل أكثر المذاهب الباطلة أقلّ قليل ، فيرجع إلى ذمّ الكثرة في الحقيقة .

(فَقَالَ) في سورة سبأ :

(«وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِىَ الشَّكُورُ»(4)) : المؤدّي للشكر كما طلب منه .

(وَقَالَ) في سورة ص :

(«وَقَلِيلٌ مَا هُمْ»(5)) . «ما» مزيدة للإبهام والتعجّب من قلّتهم ، أي الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الخلطاء قليل في غاية القلّة .

(وَقَالَ) في سورة المؤمن :

(«وَقالَ رَجُلٌ مُؤمِنٌ) أي باللّه وبرسوله موسى (مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) أي من أقاربه ، ولذا يقال

ص: 208


1- . العنكبوت 29 : 46 .
2- . العنكبوت 29 : 43 .
3- . العنكبوت 29 : 63 .
4- . سبأ 34 : 13 .
5- . ص 38 : 28 .

له : مؤمن آل فرعون ، كما يجيء في خامس عشر السابع عشر(1) . وقيل : «من» متعلّقة بقوله :

(يَكْتُمُ إِيمانَهُ) ؛ تقيّةً(2) (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً) هو موسى (أنْ يَقُولَ) ؛ لأن يقول ، أو وقت أن يقول ، من غير رويّة وتأمّل في أمره : (رَبِّىَ اللّه ُ»(3)) أي وحده .

(وَقَالَ) في سورة هود :

(«وَمَنْ آمَنَ) أي واحمل يانوح في السفينة من آمن من غير أهلك . (وَما آمَنَ مَعَهُ) : مع نوح (إِلاّ قَلِيلٌ»(4)) .

قيل : كانوا تسعة وسبعين : زوجته المسلمة ، وبنوه الثلاثة : سام وحام ويافث ، ونساؤهم ، واثنان وسبعون رجلاً وامرأةً من غيرهم .(5)

(وَقَالَ) في سورة يونس وسورة القصص وسورة الدخان :

((وَلكِنَّ أكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ») . هذا إلى قوله : «يا هشام» من آيات ذمّ الكثرة ؛ ففي سورة يونس : «أَلاَ إِنَّ للّه ِِ مَا فِى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلاَ إِنَّ وَعْدَ اللّه ِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ»(6) ، وفي سورة القصص : «فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَىْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلاَ تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللّه ِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ»(7) أي أكثر الناس لا يعلمون أنّ وعده حقّ فيرتابون ، وفي سورة الدخان : «وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ»(8) أي أكثر الناس لا يعلمون أن خلقهما بالحقّ فيتمنّون الأمانيّ الفارغة مع عصيانهم .

ص: 209


1- . أي الحديث 15 من باب النوادر .
2- . مجمع البيان ، ج 8 ، ص 437 .
3- . المؤمن 40 : 29 .
4- . هود 11 : 40 .
5- . تفسير البيضاوي ، ج 3 ، ص 234 ؛ تفسير الآلوسي ، ج 12 ، ص 55 .
6- . يونس 10 : 55 .
7- . القصص 28 : 13 .
8- . الدخان 44 : 38 - 39 .

(وَقَالَ) في سورة المائدة :

(«وَأكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ»(1)) . ظاهر ذكره هنا أنّ المراد بضمير«هم» الناس ، ويدلّ عليه قوله : «مَا جَعَلَ اللّه ُ مِنْ بَحِيرَةٍ»(2) إلى آخره ، فإنّه يدلّ على اشتهار البدع بين الناس ، ولا يمكن أن يكون المرجع «الذين كفروا» في قوله : «وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللّه ِ الْكَذِبَ»فإنّهم جميعا غير عقلاء .

(وَقَالَ : وَأكْثَرُهُمْ لا يَشْعُرُونَ) ؛ كذا في النسخ ، وكأنّه نقل ما في سورة المؤمنين(3) «بل لا يشعرون» بالمعنى للإشارة إلى أنّ المرادَ بالضمير في قوله : «فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرا»(4) وفي قوله : «لاَ يَشْعُرُونَ» ، أكثرُ من بُعِثَ الرسلُ إليهم ، فإنّ الاختلاف بالاجتهاد في أحكام الشرع ووضع الزبر أي الكتب ، لبيان المسائل الاجتهاديّة على مذاهب المجتهدين - بعدما أمر كلّ رسول بأن تكون أحكام شريعته واحدة بين قومه بحيث لا يجري فيها اختلاف في الفتوى - لم يصدر عن جميع من بعث الرسل إليهم ، بل صدر عن أكثرهم ، وكذا انتفاءُ الشعور بما في الاختلاف من الوبال ، وبما في خذلان اللّه تعالى المختلفين بأن أمدّهم في الاختلاف بأموالٍ وبنين من الاستدراج وصفٌ لأكثرهم لا جميعهم .

(يَا هِشَامُ ، ثُمَّ ذَكَرَ أُولِي الْأَلْبَابِ) . هذا من النوع الأوّل ، أي العقلاء ، وهم في هذه الاُمّة شيعة أهل البيت المعصومين عليهم السلام .

(بِأَحْسَنِ الذِّكْرِ ، وَحَلاَّهُمْ) ؛ بالمهملة وشدّ اللام ، أي وصفهم بالجميل .

(بِأَحْسَنِ الْحِلْيَةِ) ؛ بكسر المهملة وسكون اللام ، وهي في الأصل ما يزيّن به من مصوغ المعدنيات ونحوه ، والمراد بها هنا الصفة الجميلة .

(فَقَالَ) في سورة البقرة :

(«يُؤتِى الْحِكْمَةَ) ؛ أي كفّ النفس عن التأدية بغير علم ويقين وبصيرة . وبعبارة

ص: 210


1- . المائدة 5 : 103 .
2- . المائدة 5 : 103 .
3- . المؤمنون 23 : 56 .
4- . المؤمنون 23 : 53 .

اُخرى : كفّ النفس عن الإتيان بغير المعلوم قولاً أو فعلاً ؛ مأخوذ من الحَكَمة بفتحتين ، وهي الحديدة في فم الدابّة من اللجام لتمنعها عن الحركات الغير المرضيّة ، وهو مفعول ثان قدّم للاهتمام . ومعنى إيتاء الحكمة التوفيق لها .

(مَنْ يَشاءُ) ؛ مفعول أوّل اُخّر .

(وَمَنْ يُؤتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرا كَثِيرا وَما يَذَّكَّرُ) : وما يتنبّه للفرق بين مَن اُوتي الحكمة ومن لم يؤتَ في الخير الكثير وانتفائه (إِلاّ أُولُوا الْألْبَابِ»(1)) أي هم المتفطّنون بذلك الفرق ، حيث لا يجوّزون لمصلحة من المصالح تقديم غير أهل العلم بجميع الأحكام ومتشابهات القرآن عليهم في الخلافة .

(وَقَالَ) في سورة آل عمران :

(«وَالرّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ) . مبتدأ ، والمراد بهم أئمّة الهدى ، كما يجيء في «كتاب الحجّة» في آخر «باب أنّ الراسخين في العلم هم الأئمّة صلوات اللّه عليهم» وفي رابع عشر «باب فيه نكت ونتف من التنزيل في الولاية» .

(يَقُولُونَ) . خبر . (آمَنَّا بِهِ) أي بأنّه ما يعلم تأويله إلاّ اللّه ، فهو من غيبه الذي لا يعلمه إلاّ هو .

(كُلٌّ) . استئناف بياني ، أي كلّ ما عندنا من تأويل ما تشابه (مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا) لا نعرف شيئا منه إلاّ بتوسّط رسوله .

(وَمَا يَذَّكَّرُ) : ما يتنبّه للفرق بين تأويل الراسخين وتأويل متبوعي الزائغين .

(إِلاَّ أُولُوا الْألْبَابِ»(2)) . هم شيعة أهل البيت عليهم السلام ، وقد مضى في أوّل الحديث في شرح قوله تعالى في سورة الزمر : «فَبَشِّرْ عِبَادِ»(3) الآيةَ الدليلُ الذي يوضح هذا .

(وَقَالَ) في سورة آل عمران :

(«إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِأُولِى الْألْبَابِ»(4)) ؛ حيث

ص: 211


1- . البقرة 2 : 269 .
2- . آل عمران 3 : 7 .
3- . الزمر 39 : 17 .
4- . آل عمران 3 : 190 .

تفضي بهم إلى التصديق بالصانع البريء من كلّ نقص ، ومن الشريك في الحكم ، وهو كقوله تعالى في سورة الرعد : «قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ»(1) الآيات ، كما سيجيء بُعَيدَ هذا .

وبهذا التقرير يصير هذه الآية من النوع الأوّل ، وإنّما قرّرنا كذلك لتوسّطها بين آياته ، وإن أمكن جعلها من النوع الثاني كما ذكرنا في أمثالها .

(وَقَالَ) في سورة الرعد :

(«أَفَمَنْ يَعْلَمُ أنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) أي في القرآن من الأحكام الشرعيّة (الحَقُّ) . تعريفه باللام يدلّ على الحصر ، أي يعلم أنّه ليس حقّ إلاّ وقد اُنزل في القرآن ، فلا يحكم بالاجتهاد لظنّه أنّ بعض الأحكام غير موجود فيما اُنزل ، والحكم فيه مفوّض إلى رأي المجتهد ، فلا يدخل المجتهد فيه في نحو قوله تعالى : «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللّه ُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ»(2) ، وهذه الآية متّصلة بما قبلها من قوله : «قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ اللّه ُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لاَ يَمْلِكُونَ لاَِنفُسِهِمْ نَفْعا وَلاَ ضَرّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِى الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا للّه ِِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلْ اللّه ُ خَالِقُ كُلِّ شَىْ ءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ»(3) الآيات .

وقد عبّر عن هذا الحصر فيما قبل بقوله : «اللّه ُ خَالِقُ كُلِّ شَىْ ءٍ»(4) إن اُريد به حاكم كلّ حكم يحتاج إليه الناس إلى يوم القيامة ، وكان كقوله : تبيان كلّ شيء(5) ، وعبّر عن العالم به بالبصير وبالنور ونحوهما .

(كَمَنْ هُوَ أَعْمى) . هو إمام الضلالة لا يعلم أنّه لا حقَّ إلاّ فيما أنزل ، وقد عبّر عنه قبلها أوّلاً بأولياء من دون اللّه ، وشبّهه بالأعمى وبالظلمات ، وعبّر عنه ثانيا وبعد الترقّي - بأم المنقطعة - بشركاء للّه .

ص: 212


1- . الرعد 13 : 16 .
2- . المائدة 5 : 44 .
3- . الرعد 13 : 16 .
4- . الرعد 13 : 16 .
5- . مقتبس من سورة النحل 16 : 89 .

وقوله : «خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ»(1) أي حكموا من عند أنفسهم ، كما يحكم اللّه من عند نفسه ، فاشتبه الحكم على الشركاء ؛ لضعف عقولهم عن إدراكه فتردّدوا ، أو حكموا عن ظنّ ، وإن اُريد بخلق كلّ شيء ما هو ردّ على القدريّة اُريد بخلقهم كخلقه تقديرهم لكلّ كائن ، فهو إشارة إلى أنّ الحاكم من عند نفسه يجب أن يكون عالما بجميع الجهات الغير المتناهية لفعل أو ترك حتّى يعلم حسنهُ أو قبحه الواقعي ، وليس هكذا إلاّ من هو مقدّر لكلّ كائن .

إن قلت : أهل الاجتهاد يستندون في جواز الاجتهاد شرعا إلى آيات من القرآن وأحاديث ، فهو من الحقّ الذي فيما أنزل .

قلت : جواز الاجتهاد مسألة اُصوليّة ، وكما أنّ الحكم في المسائل الاُصوليّة منقسم إلى حقّ وباطل ، كذلك الحكم في المسائل الفروعيّة منقسم إليهما ، فحكمهم في المسائل الفروعيّة واختلافهم فيها لابدّ أن يشتمل على الباطل وخلاف ما أنزل اللّه ؛

لاستحالة مطابقة ما أنزل للنقيضين ، فماذا بعد الحقّ إلاّ الضلال ، وخرافات المصوّبة لكلّ مجتهد ظاهر البطلان ، وقال تعالى في سورة محمّد صلى الله عليه و آله : «ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّه ُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ»(2) .

(إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ) : إنّما يتنبّه للفرق بين الإمامين (أُولوُا الألْبَابِ»(3) وَقَالَ) في سورة الزمر : («أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ) : قائم بوظائف ما أمر به ، و«أم» منقطعة ، والمعنى : بل أَمّن هو قانت من أصحاب النار . والاستفهام إنكاري ، نحو : «أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمْ الْبَنُونَ»(4) .

وفي «كتاب الروضة» بعد حديث قوم صالح ما يدلّ على أنّ ما قبله نزل في أبي بكر ، وأنّ المراد بمَن هو قانتٌ عليّ عليه السلام .(5)

ص: 213


1- . الرعد 13 : 16 .
2- . محمّد صلى الله عليه و آله 47 : 3 .
3- . الرعد 13 : 20 .
4- . الطور 52 : 39 .
5- . الكافي ، ج 8 ، ص 204 ، ح 246 .

(آنَاءَ اللَّيْلِ) : ساعاته ، وهو إشارة إلى حسن التفريق في صلاة الليل ، كما هو المرويّ من فعل رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، ويجيء في «كتاب الصلاة» في حادي عشر «باب صلاة النوافل» وثالث عشره .

(سَاجِدا وَقَائِما) أي مظلوما ومُمكّنا .

(يَحْذَرُ الاْخِرَةَ وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ) أي لا يعمل بمقتضى تمشّي الاُمور ونظام المملكة في الدنيا ، كما هو شأن أئمّة الضلالة أوّلوا وخصّصوا الأحكام الشرعيّة بالمصالح المرسلة والاستحسان ونحوهما(1) ، وبذلك انتظم أمر دنياهم ، بل يتقيّد بقيود الشريعة .

وظاهر الآية يبطل القول بأنّ العبادة لخوف العقاب ورجاء الثواب باطل أو ناقص ، كعمل العبيد والاُجراء ، وكذا ظاهر قوله في سورة الإنسان : «إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْما عَبُوسا قَمْطَرِيرا»(2) .

(قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ) ؛ أي ما يقولون في الشرع ، وعبّر عنه في «كتاب الروضة» بأنّ محمّدا رسولُ اللّه تأكيدا بالإشارة إلى أنّ الأوّل لا ينفكّ عن الثاني ، أو ما به الحذر والرجاء من الأعمال ، أو كلّ الشريعة ومتشابه القرآن .

(وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ) للفرق بين الإمامين (أُولُوا الْألْبَابِ»(3)) . هم شيعة أهل البيت المعصومين عليهم السلام ، كما بيّنّا في أوّل الحديث ، ويجيء في «كتاب الحجّة» في «باب(4) أنّ من وصفه اللّه تعالى في كتابه بالعلم هو الأئمّة صلوات اللّه عليهم(5)» .

(وَقَالَ) في سورة ص :

(«كِتَابٌ أنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ) ؛ فيعرفوا معاني المحكمات ، ثمّ يعرفوا

ص: 214


1- . في «ج» : «ونحوها».
2- . الإنسان 76 : 10 .
3- . الزمر39 : 9 .
4- . في حاشية «أ» : «وهو الباب الثاني والعشرون ، فإنّ فيه هكذا : عن أبي جعفر عليه السلام في قوله عزّوجلّ : «هَلْ يَسْتَوِيَ الَّذِيْنَ يَعْلَمُونَ ...»الآية . قال : نحن الذين يعلمون ، وعدوّنا الذين لايعلمون ، وشيعتنا اُولوالألباب ، ويوافق هذا ما نقله الطبرسي رحمه الله في مجمعه في تفسيره هذه الآية» .
5- . في الكافي المطبوع : «هم الأئمة عليهم السلام» بدل من «هو الأئمة صلوات اللّه عليهم» .

بدلالتها على أهل الذكر عليهم السلام معانيَ المتشابهات بواسطة أهل الذِّكر بالسماع منهم .

أو هو تنبيه على ما في الآيات قبله من قوله تعالى : «يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِى الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللّه ِ»(1) الآيات من الدلالة على أنّه لا يجعل اللّه الذين هم علماء يحكمون بين الناس بالحقّ كالجهّال الذين يحكمون بينهم بالظنّ .

(وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الألْبابِ»(2)) . هم شيعة أهل البيت المعصومين كما مرَّ آنفا .

(وَقَالَ) في سورة المؤمن :

(«وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى) : ما يهتدي به من المعجزات .

(وَأوْرَثْنَا بَنِى إِسْرائِيلَ الْكِتَابَ) : وجعلنا أوصياء موسى من بني إسرائيل وارثين للكتاب من موسى ، وهو التوراة . والمراد إيراث العلم بجميعه ، كما في قوله تعالى في سورة فاطر : «ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا»(3) .

(هُدىً وَذِكْرى) ؛ مفعول له ، أي هدايةً وتذكرة ؛ أو حال عن الكتاب ، أي هاديا ومذكّرا .

(لِأُولِى الْأَلْبَابِ»(4)) ؛ فإنّهم الذين يعرفون أنّ الوصيّ في كلّ زمان من بني إسرائيل مَن عندهُ العلم بجميع الكتاب ، دون مَن هو جاهل منهم بالجميع .

إن قلت : هل تدلّ هذه الآيات على أن ليس أحدٌ من غير الأوصياء عالما بجميع الشريعة والكتاب؟

قلت : لا ، إنّما تدلّ على أنّ المدّعين للخلافة والمنكرين للوصاية ليسوا عالمين ، وأمّا من يسلّم للوصيّ حقّه ويُظهر نفي خلافته في زمان ليس خليفة فيه فربّما كان عالما .

ص: 215


1- . ص 38 : 26 .
2- . ص 38 : 29 .
3- . فاطر 35 : 32 .
4- . المؤمن 40 : 57 .

(وَقَالَ) في سورة الذاريات :

«(وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى) . هي اسم للتذكير (تَنْفَعُ المُؤمِنِينَ»(1)) .

هذا من النوع الرابع ، والآية باعتبار ما قبلها وما بعدها تدلّ على قلّة عدد المؤمنين وكثرة من عداهم ، فضمير الجمع في قوله بعد ذلك : «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالاْءِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ»(2) راجع إلى المؤمنين ؛ لبيان أنّ المؤمنين مع قلّة عددهم مخلوقون بالأصالة ، وجميع مَن عداهم من الجنّ والإنس مخلوقون تطفّلاً للمؤمنين .

ويظهر منه أنّه لا يضرّ حسن التذكير بتلك الآيات المكرّرة مضمونا ، الدالّة على إمامة الذين جعلهم اللّه مستودعي أسراره واحدا فواحدا ، أنّه ليس لها رواجٌ عند الناس إلاّ أقلّ قليل ، كما نقل عن أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة أنّه قال : «أيّها الناس لا تستوحشوا عن سبيل الهدى لقلّة أهلها» .(3)

(يَا هِشَامُ) . هذا من النوع الخامس أو تتمّة للنوع الرابع .

(إِنَّ اللّه َ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ) في سورة ق :

(«إِنَّ فِى ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ»(4) يَعْنِي عَقْلٌ) . مرفوعٌ على الحكاية .

(وَقَالَ) في سورة لقمان :

(«وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الحِكْمَةَ»(5)) . اختلف في أنّ لقمان هل كان نبيّا أم لا ؟ وظاهر هذا الحديث الثاني(6) .

والحكمة - بالكسر - : كفّ النفس عن الإتيان بغير المعلوم قولاً أو فعلاً ، وقد تُطلق

ص: 216


1- . الذاريات 51 : 55 .
2- . الذاريات 51 : 56 .
3- . نهج البلاغة ، ج 2 ، ص 181 ، كلام 201 .
4- . ق 50 : 37 .
5- . لقمان 31 : 12 .
6- . فى تفسير التبيان للطوسي ، ج 8 ، ص 275 ، عن ابن عباس ومجاهد وقتادة أنّ لقمان لم يكن نبيّا ، وقال عكرمة : كان نبيا ، وقيل : إنّه كان عبدا أسودا حبشيا . وانظر: تفسير السمعاني ، ج 4 ، ص 229 ؛ تفسير ابن كثير ، ج 3 ، ص 452 .

على النبوّة .

(قَالَ) . هذا لفظ هشام ، وفاعله ضمير أبي الحسن عليه السلام .

(الْفَهْمَ وَالْعَقْلَ) أي ليس المراد بالحكمة هنا النبوّة . والفهم - بفتح الفاء وسكون الهاء أو فتحها(1) - : ضدّ الحمق أو ضدّ الغباوة ، كما يجيء في رابع عشر الباب .

(يَا هِشَامُ ، إِنَّ لُقْمَانَ قَالَ لاِبْنِهِ) . هذا من النوع الخامس . وقوله : (تَوَاضَعْ لِلْحَقِّ) ؛ إلى قوله : «الناس» ناظر إلى العقل ، أي تذلّل له واتّبعه وإن كان على خلاف ما عليه أكثر الناس .

(تَكُنْ أَعْقَلَ النَّاسِ) ؛ أي هو أصل كمال العقل . وقوله :

(وَإِنَّ الْكَيِّسَ) ؛ إلى قوله : (يسير) ناظر إلى الفهم ، وهو بفتح الكاف وكسر الخاتمة المشدّدة ، ويجوز إسكانها ومهملة : الفهيم ، وخبر «إنّ» مجموع قوله :

(لَدَى الْحَقِّ يَسِيرٌ) أي ذليل . ويمكن أن يكون الظرف متعلّقا بالكيّس واحترازا(2) عن الكيّس لدى الدنيا ، ويكون «يسير» خبر «إنّ» أي قليل ، وقوله :

(يَا بُنَيَّ) ؛ إلى قوله : (الصبر) ، ناظر إلى العقل أو إلى الفهم أيضا ، أصله يا بُنيوِي ، وهو تصغير ابن ، مضافا إلى ياء المتكلّم ؛ لأنّ أصل ابن بَنَوٌ ، يُقال : يا بنيِ ويا بُنيِّ بكسر الياء المشدّدة على حذف ياء المتكلّم وإبقاء الكسر دليلاً عليه ، وفتحها على قلب ياء المتكلّم ألفا مع فتح ما قبلها ثمّ حذف الألف .

(إِنَّ الدُّنْيَا بَحْرٌ عَمِيقٌ قَدْ غَرِقَ) ؛ كعلم . (فِيه(3) عَالَمٌ) ؛ بفتح اللام ، ويحتمل الكسر . (كَثِيرٌ ، فَلْتَكُنْ سَفِينَتُكَ فِيهَا تَقْوَى اللّه ِ) ؛ فإنّها أصل النجاة .

(وَحَشْوُهَا) أي متاعها الذي تنقله إلى الآخرة .

(الاْءِيمَانَ) . هو التصديق بجميع ما جاء به الرسول ، ومصداقه الإتيان بالفرائض كلّها ، والاجتناب عن كبائر ما نهى عنه ، كما يجيء في «كتاب الإيمان والكفر» في «باب

ص: 217


1- . في «ج» : «ضمها» .
2- . في «ج» : «واحتراز» .
3- . في حاشية «أ» : والكافي المطبوع : «فيها» .

في أنّ الإيمان مبثوث لجوارح(1) البدن كلّها» .

(وَشِرَاعُهَا) ؛ بكسر المعجمة : الثوب المبسوط في السفينة لتُحرِّك به الريحُ السفينةَ .

(التَّوَكُّلَ) أي على اللّه تعالى بتفويض الأحكام وجميع الاُمور إليه بدون اتّكال على اجتهادك ولا على حولك وقوّتك .

(وَقَيِّمُهَا) ؛ بفتح القاف وكسر الخاتمة المشدّدة ، وهو من يقوم بتدبير أمرها حتّى لا تنحرف عن الصواب ، ويسمّى المعلِّم أيضا.

(الْعَقْلَ ، وَدَلِيلُهَا) أي ما يدلّ قيمها إلى الصواب .

(الْعِلْمَ) أي العمل بمقتضى العلم دون مقتضى الظنّ . ومضى معنى العلم في شرح قوله : «يا هشام إنّ العقل مع العلم» .

(وَسُكَّانُهَا) ؛ بضمّ المهملة وتشديد الكاف : ما يحفظ السفينة عن الانحراف عن السمت في مؤخّرها من آلاتها ، وهو للسفينة بمنزلة اللجام للدابّة .

(الصَّبْرَ) أي ترك الوقوع فيما لا يعلم حسنه وقبحه بقدر الإمكان ، وهو أفضل الصبر ، ويجيء في «كتاب الإيمان والكفر» في خامس عشر «باب الصبر» أنّ الصبر ثلاثة : صبر عند المصيبة ، وصبر على الطاعة ، وصبر عن المعصية ، وأنّ أفضلها الثالث .

(يَا هِشَامُ) . هذا أيضا من النوع الخامس .(2)

(إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ) ؛ بفتح المعجمة وسكون الخاتمة والهمز ، أصله مصدر باب «علم» من شاء : إذا أراد ، ويستعمل في مفرد الأشياء باعتبار أنّ كلّ شيء بمشيئة اللّه . والمراد هنا ما أمر اللّه به عباده ومن جملته العقل .

(دَلِيلاً) أي باعثا للبصيرة فيه .

(وَدَلِيلُ الْعَقْلِ التَّفَكُّرُ ، وَدَلِيلُ التَّفَكُّرِ الصَّمْتُ) ؛ بفتح المهملة : السكوت . والمراد ترك الحكم بالظنّ في المختلف فيه ، فإنّ من حكم فيه بشيء قلّما يصفو تفكّره(3) عن

ص: 218


1- . في النسخ : «بجوارح» والمثبت موافق للمصدر .
2- . في «د» : + «قال» .
3- . في «د» : «بفكره» .

شوائب الهوى والميل إلى ما حكم به ، فلا بصيرة له في التفكّر .

(وَلِكُلِّ شَيْءٍ مَطِيَّةً) ؛ هي الدابّة تمطو في سيرها ، أي تسرع فيركب عليها .

(وَمَطِيَّةُ الْعَقْلِ) أي ما يسرع به وصول العقل إلى الحقّ .

(التَّوَاضُعُ) أي التذلّل للحقّ المعلوم بالمحكمات الناهية عن الاختلاف وعن اتّباع الظنّ .

(وَكَفى بِكَ) ؛ من الخطاب العامّ .

(جَهْلاً) أي اتّباعا للهوى .

(أَنْ تَرْكَبَ) أي أن تجعل مطيّتك .

(مَا نُهِيتَ عَنْهُ) ؛ بصيغة المجهول . والمراد اتّباع الظنّ والاختلاف ، وهو ضدّ التواضع للحقّ المعلوم بالمحكمات .

(يَا هِشَامُ) . هذا من النوع الأوّل ، وفيه تعيين للحقّ الذي يجب التواضع له .

(مَا بَعَثَ اللّه ُ أَنْبِيَاءَهُ وَرُسُلَهُ إِلى عِبَادِهِ إِلاَّ لِيَعْقِلُوا عَنِ اللّه ِ) أي ليتعلّموا عنه بالتأدّب بالآداب الحسنة في تحصيل العلم ، ومفعوله محذوف ، أي الحقّ الذي يمكن أن يختلفوا فيه بآرائهم ، وهو من الغيب ، قال تعالى في سورة البقرة : «كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّه ُ النَّبِيِّينَ»(1) الآية ، وفي سورة يونس : «وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً»(2) الآية ، أي كانوا جاهلين بالغيب محتاجين إلى بعث الرُّسل ، لئلاّ يختلفوا بآرائهم ، وقال تعالى في سورة النحل وسورة الأنبياء : «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ»(3) ، ويجيء بيانه في عاشر باب النوادر .

وقال في سورة المؤمنين : «يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحا إِنِّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ * فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ * فَذَرْهُمْ فِى غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ * أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ

ص: 219


1- . البقرة 2 : 213 .
2- . يونس 10 : 19 .
3- . النحل 16 : 43 ؛ الأنبياء(21) : 7 .

وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِى الْخَيْرَاتِ بَل لاَ يَشْعُرُونَ»(1) ، فإنّ فيه خطابا لجميع الأنبياء ، لا على أنّهم خوطبوا بذلك دفعة ، لأنّهم اُرسلوا في أزمنة مختلفة ، فالمعنى أنّ كلاًّ منهم خوطب به في زمانه ، فالمراد ب- «الطيّب» ما يحلّ أكله في ذلك الزمان ؛ لانتفاء قبحه فيه ، ولا ينافي أن يكون خبيثا في زمان آخر .

والمراد بالعمل الصالح(2) ما ينبغي أن يعمل في ذلك الزمان وإن كان قبيحا في زمان آخر ، وذكر أكل الطيّبات على حدة - مع أنّ عمل الصالح يشمله وغيرَه - للاهتمام .

وهذه إشارة إلى ما تقدّم من التكليفين اللّذين فيهما مجمل جميع التكاليف في جميع الأزمنة لجميع الاُمم ، لكنّه مشار إليه باعتبار التفاصيل كلٌّ في شريعة ؛ والتأنيث باعتبار الخبر ؛ والاُمّة الطريقة ، كما في قوله تعالى حكايةً : «إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ»(3) فإن خصّ العمل بعمل الجوارح للاهتمام ، كانت الاُمّة مخصوصة بالفروع ، وهي المختلفة باختلاف الشرائع وإلاّ عمّت .

وبالجملة ، تخصيص الاُمّة باُصول الدِّين من أبعد الاحتمالات ، فإنّ المراد بأمرهم شرع اللّه فيهم ، والأمر : الحادثة ، وتقطّع أمرهم بينهم ، أي تقسّمهم إيّاه بينهم رضاهم بالاختلاف ، وليس هذا إلاّ في الفروع .

وفي قوله : «وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ»(4) وعيد على التقطع وإشارة إلى أنّه شرك ، والزبر كتب المجتهدين المختلفين في الفروع ، أو هي وكتب المختلفين من نحو المتكلِّمين والاُصوليّين ، وقال تعالى في سورة الزخرف : «فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِى أُوحِىَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ»(5) نَهى عن اتّباع الرأي في الدِّين ، ثمّ أكّد النهي بأنّه

ص: 220


1- . المؤمنون 23 : 51 - 56 .
2- . في النسخ : «بعمل الصالح» والمثبت موافق للقواعد .
3- . الزخرف 43 : 22 .
4- . المؤمنون 23 : 52 .
5- . الزخرف 43 : 43 - 45 .

كان في شريعة كلّ رسول بقوله : «واسأل» ، فالمراد بالآلهة الذين شرعوا من الدين ما لم يأذن به اللّه ، كما في قوله في سورة حم عسق : «أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا»(1) الآية ، بقرينة أنّ بطلان نحو عبادة الأوثان لا يحتاج إلى سؤال ، إنّما الصعب المستصعب نفي تجويز الاختلاف ونفي الحكم بالظنّ في الدِّين .

ويمكن أن يكون المراد ب- «السؤال» هنا طلب قراءة كتبهم كما في قوله تعالى في سورة يونس : «فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمْ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ فَإِنْ كُنْتَ فِى شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلْ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ»(2) أي النهي عن الاختلاف وعن الحكم بالظنّ مذكور صريحا فيما لم يحرّفوه من الكتب .

وفي «كتاب الروضة» بعد حديث آدم مع الشجرة أنّ السؤال وقع ليلة الإسراء(3) .

ولأمثال هذه الآيات البيّنات الناهية عن الاختلاف في أحكام الدِّين ، قال تعالى في سورة آل عمران : «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللّه ِ الاْءِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْيا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّه ِ فَإِنَّ اللّه َ سَرِيعُ الْحِسَابِ»(4) ، وقال فيها : «وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الاْءِسْلاَمِ دِينا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى الاْخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ كَيْفَ يَهْدِى اللّه ُ قَوْما كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ»(5) ، وقال فيها : «وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ»(6) ، فمن قال(7) من المخالفين : الأظهر أنّ النهي فيه مخصوص بالتفرّق في الاُصول دون الفروع ؛ لقوله عليه السلام : «اختلاف اُمّتي رحمة» ، ولقوله عليه السلام : «مَنْ اجتهد فأصاب فله أجران ، ومَن أخطأ فله أجر واحد» .(8)

ص: 221


1- . الشورى 42 : 21 .
2- . يونس 10 : 93 - 94 .
3- . الكافي ، ج 8 ، ص 121 ، ح 93 .
4- . آل عمران 3 : 19 .
5- . آل عمران 3 : 85 - 86 .
6- . آل عمران 3 : 105 .
7- . هو البيضاوي في تفسير سورة آل عمران .
8- . تفسير البيضاوي ، ج 2 ، ص 76 .

انتهى . فقد ضلّ وأضلّ .

وقال تعالى في سورة الأنعام : «وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ»(1) .

(فَأَحْسَنُهُمُ اسْتِجَابَةً أَحْسَنُهُمْ مَعْرِفَةً) أي أحسن عباده تسليما وقبولاً لدعوة الأنبياء والرُّسل أحسن عبادهِ اعترافا بما ذكر من أنّه ما بعث اللّه أنبياءه ورسله إلاّ ليعقلوا عن اللّه ، فإنّ من لم يعرف فائدة بَعث الرسول وإنزال الكتاب لا يهتدي بهداه ؛ قال تعالى : «ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ»(2) .

(وَأَعْلَمُهُمْ بِأَمْرِ اللّه ِ) أي بشريعته (أَحْسَنُهُمْ عَقْلاً) أي عن اللّه .

(وَأَكْمَلُهُمْ عَقْلاً) أي عن اللّه (أَرْفَعُهُمْ دَرَجَةً فِي الدُّنْيَا وَالاْخِرَةِ) ؛ لأنّ أكرمهم عند اللّه في الدنيا والآخرة أتقاهم ، والتقوى الخشية و«إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ»(3) ، ولا علم إلاّ بالعقل عن اللّه كما مرّ آنفا .

(يَا هِشَامُ ، إِنَّ لِلّهِ عَلَى النَّاسِ حُجَّتَيْنِ : حُجَّةً) ؛ منصوب على أنّه بدل تفصيل من «حجّتين» أو مرفوع على أنّه خبر مبتدأ محذوف ، أو أحدهما حجّة .

(ظَاهِرَةً) : مرئيّة يطّلع عليها غير المحتجّ عليه أيضا .

(وَحُجَّةً بَاطِنَةً) : خفيّة ، وهي في قلب المحتجّ عليه لا يطّلع عليها غيره .

(فَأَمَّا الظَّاهِرَةُ فَالرُّسُلُ وَالْأَنْبِيَاءُ وَالْأَئِمَّةُ) ؛ حيث جعلهم اللّه وسائط بين اللّه والمكلّفين ليعقلوا عن اللّه ، ويحتجّ بهم على العُصاة يوم القيامة ، كما في قوله : «أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ»(4) ، وقوله : «وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلاَءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ»(5) .

(وَأَمَّا الْبَاطِنَةُ فَالْعُقُولُ) . مضى معناه في شرح قوله : «يا هشام إنّ اللّه تبارك وتعالى أكمل للناس الحجج بالعقول ونصر النبيّين بالبيان» .

ص: 222


1- . الأنعام 6 : 153 .
2- . البقرة 2 : 1 - 2 .
3- . فاطر 35 : 28 .
4- . الملك 67 : 8 .
5- . هود 11 : 18 .

(يَا هِشَامُ، إِنَّ الْعَاقِلَ ، الَّذِي لاَ يَشْغَلُ) ؛ بصيغة المضارع المعلوم من باب منع ، ويحتمل باب الإفعال ، والشغل - بالضمّ وبضمّتين ، وبالفتح وبفتحتين - : ضدّ الفراغ - وبالفتح ، وبالضمّ - : مصدر شغله ك- «منعه» إذا جعله غير فارغ .

(الْحَلالُ شُكْرَهُ) . فيه مجاز في التعلّق بالمفعول به ، والمقصود أنّه لا يكسب الحلال إلاّ بقدر ما لا يشغله عن أداء ما أوجب اللّه عليه شكرا لنعمِهِ تعالى ، كما في سورة النور : «رِجَالٌ لاَ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللّه ِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْما تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ»(1) .

(وَلاَ يَغْلِبُ) ؛ كيضرب . (الْحَرَامُ صَبْرَهُ) أي لا يكسب الحرام ويصبر عنه خوف يومٍ تتقلّب فيه القلوب والأبصار .

(يَا هِشَامُ ، مَنْ سَلَّطَ ثَلاَثا عَلَى ثَلاَثٍ ، فَكَأنَّمَا أَعَانَ) أي أعان هواه .

(عَلَى هَدْمِ عَقْلِهِ : مَنْ أَظْلَمَ) . استئناف بياني ، و«أظلم» يجيء كأضاء لازما ومتعدّيا ، والمراد هنا المتعدّي من ظَلِم الليل كعلم .

(نُورَ تَفَكُّرِهِ) أي تفكّره الذي هو كالنور في أنّه يتأتّى به الوصول إلى المطلوب ، فهو من قبيل لُجين(2) الماء ، أو كون تفكّره بحيث يتأتّى به الوصول إلى المطلوب ؛ فالإضافة لاميّة ، وإظلامه إيّاه مجاز في النسبة .

(بِطُولِ أَمَلِهِ) أي سلّط طول الأمل على نور تفكّره ؛ فإنّ طول الأمل يمحو نور التفكّر .

(وَمَحَا طَرَائِفَ حِكْمَتِهِ) . جمع «طريف» : الحسن الغريب ، أي الكلمات البديعة المشتملة على الحكمة .

(بِفُضُولِ كَلاَمِهِ) ؛ فإنّ كثرة الكلام يوجب أن لا يصدر عن الإنسان طرائف الحكمة ، ويصير جميع الكلام لَغطا(3) .

ص: 223


1- . النور 24 : 37 .
2- . اللجين كزبير الفضة ، والمراد بلجين الماء ، الماء الصافي الذي يشبه اللجين .
3- . اللغط : يحرك أصوات مبهمة لا تفهم .

(وَأَطْفَأَ نُورَ عِبْرَتِهِ) ؛ بكسر المهملة وسكون الموحّدة اسم(1) الاعتبار ، أي استنباط عاقبة الأشياء الاتّعاظ.

(بِشَهَوَاتِ نَفْسِهِ) أي بالإتيان بمشتهيات نفسه .

(فَكَأَنَّمَا أَعَانَ هَوَاهُ) أي ميل نفسه إلى الباطل وهو ضدّ العقل .

(عَلى هَدْمِ عَقْلِهِ ، وَمَنْ هَدَمَ) ؛ بصيغة المعلوم . (عَقْلَهُ ، أَفْسَدَ) ؛ بصيغة المعلوم . (عَلَيْهِ) أي على نفسه (دِينَهُ وَدُنْيَاهُ) ؛ لما مرّ آنفا من قوله : وأكملهم عقلاً أرفعهم درجةً في الدُّنيا والآخرة .

(يَا هِشَامُ ، كَيْفَ) ؛ توضيحٌ للسابق . (يَزْكُو) أي يربُو وينمو (عِنْدَ اللّه ِ عَمَلُكَ) ؛ من الخطاب العامّ ، والمقصود المخالفون .

(وَأَنْتَ قَدْ شَغَلْتَ قَلْبَكَ) أي باتّباع رأيك (عَنْ أَمْرِ رَبِّكَ) أي شريعته ، كما مرّ في قوله : «وأعلمهم بأمر اللّه» . وهذا ناظر إلى الحجّة الظاهرة .

(وَأَطَعْتَ هَوَاكَ عَلى غَلَبَةِ عَقْلِكَ) . هذا ناظر إلى الحجّة الباطنة .

(يَا هِشَامُ ، الصَّبْرُ عَلَى الْوَحْدَةِ) أي الاعتزال عن أهل الدنيا ، وهم المخالفون ، وهو إشارة إلى ندرة أهل الحقّ(2) .

(عَلاَمَةُ قُوَّةِ الْعَقْلِ ، فَمَنْ عَقَلَ عَنِ اللّه ِ) أي أخذ دينه عن كتاب اللّه .

(اعْتَزَلَ أَهْلَ الدُّنْيَا وَالرَّاغِبِينَ فِيهَا) . هم المخالفون ، فإنّ الدنيا والكثرة معهم .

(وَرَغِبَ) ؛ كعلم . (فِيمَا عِنْدَ اللّه ِ ، وَكَانَ اللّه ُ أُنْسَهُ فِي الْوَحْشَةِ) أي في الهمّ والخوف .

(وَصَاحِبَهُ فِي الْوَحْدَةِ ، وَغِنَاهُ) ؛ بكسر المعجمة مقصور ، وإذا فُتِح مُدَّ : ضدّ الفقر .

(فِي الْعَيْلَةِ) ؛ بفتح المهملة وسكون الخاتمة : الفقر .

(وَمُعِزَّهُ) ؛ بالميم والمهملة المفتوحتين والزاي المشدّدة مصدر ميمي .

(مِنْ غَيْرِ عَشِيرَةٍ) ؛ بفتح المهملة وكسر المعجمة : بنو الأب الأدنون أو القبيلة .

ص: 224


1- . في «د» : + «من» .
2- . في «أ» : غير واضحة .

(يَا هِشَامُ ، نُصِبَ الْحَقُّ) ؛ بصيغة المجهول ، ويحتمل المصدر . والمراد بنصب الحقّ وضع الشرائع ببعث الأنبياء والرسل .

(لِطَاعَةِ اللّه ِ) ؛ يقال : طاع له يطوع ويَطاعُ وأطاعه ، أي أذعن وانقاد ، والاسم الطاعة إشارة إلى ما مرّ في خطبة الكتاب من قول المصنّف : «فلو كانت الجهالة جائزة لأهل الصحّة والسلامة ، لجاز وضع التكليف عنهم» إلى آخره .

(وَلاَ نَجَاةَ) أي من النار (إِلاَّ بِالطَّاعَةِ) أي طاعة اللّه في أوامره ونواهيه .

(وَالطَّاعَةُ بِالْعِلْمِ) أي لا تحصل إلاّ بالعلم بأوامر اللّه ونواهيه .

(وَالْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ) أي لا يحصل بدون توقيف وباتّباع الرأي .

(وَالتَّعَلُّمُ بِالْعَقْلِ يُعْتَقَلُ)(1) ؛ بصيغة المجهول من باب الافتعال ، أي يُحبَسُ ويمنع من الفِرار ، وأصله من العقال ، شبّه انتفاء مجيء ما هو المقصود مع مجيء ما يُضادّه - ممّا يسمّى تعلّما وليس بتعلّم بل هو كسب للجهالات - بالفرار .

(وَلاَ عِلْمَ إِلاَّ مِنْ عَالِمٍ) . هذا إلى قوله : «بالعقل» بيان لطريقة الاعتقال بالعقل .

(رَبَّانِيٍّ) ؛ نسبة إلى الربّ بزيادة الألف والنون ، وهو(2) الراغِب في ثواب الربّ بالزهد في الدنيا ، مثل من نصبه اللّه لتعليم العباد من الرسل والأنبياء والأئمّة . ويجيء في رابع الخامس عشر «إذا رأيتم العالم محبّا لدنياه فاتّهموه على دينكم»(3) .

(وَمَعْرِفَةُ الْعِلْمِ بِالْعَقْلِ) أي معرفة أنّ المدّعي لنفسه أنّه عالم هل هو عالم بأحكام اللّه تعالى أو جاهل بها سهلة تتأتّى بالعقل ، كما يجيء في العشرين من الباب ، من أنّ العقل تَعرف(4) به الصادق على اللّه ، أي العالم فتصدّقه ، والكاذب على اللّه ، أي القائل عليه بما لا يعلمه فتكذّبه .

(يَا هِشَامُ ، قَلِيلُ الْعَمَلِ مِنَ الْعَالِمِ) أي الربّانيّ أو مطلقا .

ص: 225


1- . في الكافي المطبوع : «يعتقد» .
2- . في «د» : «فهو» .
3- . أي الحديث 4 من باب المستأكل بعلمه والمباهي به .
4- . في «د» : «يُعرف» .

(مَقْبُولٌ مُضَاعَفٌ ، وَكَثِيرُ الْعَمَلِ مِنْ أَهْلِ الْهَوى(1) وَالْجَهْلِ) ؛ ضدّ العلم .

والمراد بأهل الهوى والجهل العاملون بمقتضى الهوى وبمقتضى الظنّ والاعتقاد المبتدأ كأئمّة الضلالة وأتباعهم ، فإنّ غاية ما يدّعون لأنفسهم الظنون ، وليست بعلم ، ولا واسطة بين العلم والجهل .

(مَرْدُودٌ) ؛ فإنّ العمل إنّما يُتقبَّل ممّن أتى به على شروطه ومن شروطه ، العلم .

(يَا هِشَامُ ، إِنَّ الْعَاقِلَ رَضِيَ بِالدُّونِ) أي الدنيّ .

(مِنَ الدُّنْيَا مَعَ الْحِكْمَةِ) ؛ أي الفهم والعقل كما مرّ عند قوله : «وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ»(2) .

(وَلَمْ يَرْضَ بِالدُّونِ مِنَ الْحِكْمَةِ مَعَ الدُّنْيَا ؛ فَلِذلِكَ(3) رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ) ؛ حيث أعطوا العالي من الدنيا وأخذوا العالي من الحكمة . وضمير الجمع لأنّ المراد بالعاقل الجنس .

(يَا هِشَامُ ، إِنَّ الْعُقَلاَءَ تَرَكُوا فُضُولَ الدُّنْيَا) من المباحات التي لا تضرّ صاحبها .

(فَكَيْفَ الذُّنُوبَ) أي تركهم مُضرّات الدنيا ومحظوراتها بطريقٍ أولى .

(وَتَرْكُ الدُّنْيَا) . الواو للحال ، أي ترك فضول الدنيا (مِنَ الْفَضْلِ) أي من الاُمور الفاضلة المستحبّة التي لا يُذمّ ولا يُعاقب على فقدها .

(وَتَرْكُ الذُّنُوبِ مِنَ الْفَرْضِ) أي ممّا يذمّ ويُعاقب على فقده .

(يَا هِشَامُ ، إِنَّ الْعَاقِلَ نَظَرَ إِلَى الدُّنْيَا) أي إلى فضولها (وَ إِلى أَهْلِهَا ، فَعَلِمَ أَنَّهَا) أي الدنيا التي في أيدي هذه الجماعة التي هم أهلها .

(لاَ تُنَالُ إِلاَّ بِالْمَشَقَّةِ ، وَنَظَرَ إِلَى الاْخِرَةِ) . لم يقل : وأهلها ، لأنّ نيل الآخرة لا يحتاج

إلى سلبها من أحد .

(فَعَلِمَ أَنَّهَا لاَ تُنَالُ إِلاَّ بِالْمَشَقَّةِ ، فَطَلَبَ بِالْمَشَقَّةِ أَبْقَاهُمَا) . وهي الآخرة ، وهذا لأنّ الجمع بينهما متعذّرٌ أو متعسّر جدّاً .

ص: 226


1- . في «ج ، د» : + «ضد العقل» ، ولا داعي له .
2- . لقمان 31 : 12 .
3- . في حاشية «أ» : «فكذلك خ ل» .

(يَا هِشَامُ ، إِنَّ الْعُقَلاَءَ زَهِدُوا فِي الدُّنْيَا وَرَغِبُوا فِي الاْخِرَةِ ؛ لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ الدُّنْيَا طَالِبَةٌ) للزاهد فيها لإيفاء الرزق .

(مَطْلُوبَةٌ) للراغبين فيها بعد إيفاء الرزق .

(وَالاْخِرَةَ طَالِبَةٌ) للراغب فيها وللزاهد فيها أيضا لقبض روحه .

(وَمَطْلُوبَةٌ) للراغب فيها ، لعلّ ترك الواو في الاُوليين وذكرها في الاُخريين لأنّ متعلّق كلّ واحدة من الاُوليين غير متعلّق الاُخرى مثل «خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ»(1) والاُخريان قد تتعلّقان بواحد فهما مثل «هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ»(2) . وبيان ذلك في قوله :

(فَمَنْ طَلَبَ الاْخِرَةَ ، طَلَبَتْهُ الدُّنْيَا حَتّى يَسْتَوْفِيَ مِنْهَا رِزْقَهُ ، وَمَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا ، طَلَبَتْهُ الاْخِرَةُ ، فَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ فَيُفْسِدُ عَلَيْهِ دُنْيَاهُ وَآخِرَتَهُ) .

(يَا هِشَامُ ، مَنْ أَرَادَ الغِنا(3)) ؛ بفتح المعجمة والمدّ ، وإذا كُسِر قُصر .

(بِلاَ مَالٍ ، وَرَاحَةَ الْقَلْبِ مِنَ الْحَسَدِ ، وَالسَّلامَةَ فِي الدِّينِ ، فَلْيَتَضَرَّعْ إِلَى اللّه ِ - عَزَّ وَجَلَّ - فِي مَسْأَلَتِهِ بِأَنْ يُكْمِلَ عَقْلَهُ)؛إكماله إبقاؤه إلى آخر العمر ، كما هو الأنسب بما بعده من قوله : «يا هشام إنّ اللّه» إلى آخره ، وهو الأنسب أيضا بقوله :

(فَمَنْ عَقَلَ) ؛ حيث لم يقل : ومَن كمُل عقله .

(قَنِعَ بِمَا يَكْفِيهِ) ؛ ولم يطلب الفضول فصار غنيّا .

(وَمَنْ قَنِعَ بِمَا يَكْفِيهِ ، اسْتَغْنَى) عن الناس(4) ، فلم يحسد أحدا واستراح ، وفيه سلامة الدِّين أيضاً.

(وَمَنْ لَمْ يَقْنَعْ بِمَا يَكْفِيهِ ، لَمْ يُدْرِكِ الغنا(5) أَبَدا) أي إذا حصل له فضل مال من فضول الدُّنيا ، اشتاقت نفسه إلى آخر .

ص: 227


1- . الواقعة 56 : 3 .
2- . البقرة 2 : 185 .
3- . في الكافي المطبوع : «الغِنى» .
4- . في «ج» : - «عن الناس» .
5- . في الكافي المطبوع : «الغنى» .

(يَا هِشَامُ) . هذا من النوع الأوّل .

(إِنَّ اللّه َ حَكى) في سورة آل عمران بعد ما مرّ في هذا الحديث من قوله : «وَالرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ»(1) .

(عَنْ قَوْمٍ صَالِحِينَ) ؛ هم اُولو الألباب .

(أَنَّهُمْ قَالُوا : « رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا) أي عن الراسخين في العلم .

(بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا) أي إلى الراسخين في العلم .

(وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهّابُ »(2) حِينَ عَلِمُوا أَنَّ الْقُلُوبَ) . اللام للعهد الخارجي ، أي قلوب القوم الفاسقين ، وهم الذين ارتدّوا على أعقابهم قهقرى ، وتركوا أمير المؤمنين ووصيّ رسول ربّ العالمين ، واتّبعوا الطاغوت .

(تَزِيغُ) . يُقال : زاغ عن الطريق : إذا عدل عنه وجار .

(وَتَعُودُ إِلى عَمَاهَا) ؛ بفتح المهملة مقصور ، أي ترتدّ(3) عن الإسلام إلى شركها الذي كانت عليه ، فإنّ القوم كانوا عابدي أصنام قبل إظهار الإسلام .

(وَرَدَاهَا) ؛ بفتح المهملة مقصور ، أي هلاكها . وفي الآية دلالة على أنّ الزيغ والعود يكون بمشيئة اللّه ، وليس العبد مستقلاًّ بالقدرة على أفعاله الاختياريّة ، كما سيجيء في ثاني «باب الاستطاعة» من «كتاب التوحيد» .

(إِنَّهُ لَمْ يَخَفِ اللّه َ مَنْ لَمْ يَعْقِلْ عَنِ اللّه ِ) . استئنافٌ لبيان عود تلك القلوب إلى عماها ورداها ، وقوله : «لم يخف اللّه» إشارة إلى ما في القرآن من الوعيد الكثير على الاختلاف والتفرّق والتقطّع ، نحو ما في سورة آل عمران : «وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّه ِ فَإِنَّ اللّه َ سَرِيعُ الْحِسَابِ»(4) ، وفي سورة المؤمنين : «فَذَرْهُمْ فِى غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ»(5) الآية . وتعدية الفعل

ص: 228


1- . آل عمران 3 : 7 .
2- . آل عمران 3 : 8 .
3- . في «د» : «يرتد» .
4- . آل عمران 3 : 19 .
5- . المؤمنون 23 : 54 .

ب- «عن» بتضمين معنى الأخذ ؛ أي من لم يأخذ العلم بما يحتاج إليه من الحكم الشرعي عن اللّه بالتأدّب بالآداب الحسنة في تحصيل العلم ، وهو الذي لم يأخذ تأويل ما تشابه من الراسخين في العلم الذين يقولون : آمنّا به ، كلٌّ من عند ربّنا(1) ، مع أنّه ليس من الراسخين في العلم ، فتبع ظنّه ، أو ظنّ غيره .

(وَمَنْ لَمْ يَعْقِلْ عَنِ اللّه ِ ، لَمْ يَعْقِدْ قَلْبَهُ عَلى مَعْرِفَةٍ ثَابِتَةٍ يُبْصِرُهَا وَيَجِدُ حَقِيقَتَهَا فِي قَلْبِهِ) .

هذا بيان للسابق . يقال : عقد - كضرب - الحبل على الوتد ، أي شدّه . و«قلبه» منصوب بالمفعوليّة .

والمراد ب- «معرفةٍ» معرفةُ الآيات البيّنات المحكمات الناهية عن اتّباع الظنّ ، والآمرة بسؤال أهل الذِّكر عمّا لا يعلم . و«ثابتة» بالجرّ صفة معرفة ، أي ليس معها شكّ . و«يبصرها» بصيغة المعلوم من باب الإفعال صفة موضحة ل- «ثابتة» ، والضمير المستتر للعاقد .

والحقيقة ضدّ المجاز ، وهو ما يشابهها أي يعلم أنّه لم يتخلّف عنها شيء من لوازم المعرفة ، وهذا كقوله تعالى في سورة النمل : «وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ»(2) ، وكقوله في سورة آل عمران : «وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْيا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّه ِ فَإِنَّ اللّه َ سَرِيعُ الْحِسَابِ» .

(وَلاَ يَكُونُ أَحَدٌ كَذلِكَ إِلاَّ مَنْ كَانَ قَوْلُهُ لِفِعْلِهِ مُصَدِّقا ، وَسِرُّهُ لِعَلاَنِيَتِهِ مُوَافِقا) . المشار(3) إليه في قوله : «كذلك» العاقل عن اللّه ، أو المنفيّ في قوله : «لم يعقد» أي العاقد قلبه . والمقصود أنّه ليس كذلك عند غير المتوسّمين(4) ، حتّى يشهد عليه بأنّه عاقل .

ويجيء بيان المتوسّمين في «كتاب الحجّة» في أحاديث «باب أنّ المتوسّمين الذين ذكرهم اللّه عزّ وجلّ في كتابه هم الأئمّة ، والسبيل فيهم مقيم» .

ص: 229


1- . اقتباس من الآية 7 من سورة آل عمران .
2- . النمل 27 : 14 .
3- . في «د» : «والمشار» .
4- . الوسم : التأثير ، والسمة : الأثر ، والمتوسمون : المعتبرون العارفون المتعظون؛ المفردات للراغب ، ص 524 وسم .

والضمائر الأربعة ل- «من» ، والقول عبارة عن الفتوى والقضاء ، والفعل - بكسر الفاء أو فتحها وسكون المهملة - عبارة عن القدر المشترك بين العقل والجهل حين إرادة كسب العلم ، فإنّ كلاًّ منهما من أفعال النفس ، وتصديق قوله لفعله عبارة عن دلالة قوله على أنّ فعله سديد ، أي عقل لا جهل ، وهو بأن يكون قوله مختصّا بما يعلم ويكون ساكتا فيما لا يعلم ، وسرّه عبارة عمّا يصدر عنه في الخلوة من الأقوال والأفعال ، نظير قوله : «وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ»(1) . وعلانيته عبارة عمّا يصدر عنه بمحضر من الملأ .

(لِأَنَّ اللّه َ - تَبَارَكَ اسْمُهُ - لَمْ يَدُلَّ عَلَى الْبَاطِنِ الْخَفِيِّ مِنَ الْعَقْلِ إِلاَّ بِظَاهِرٍ مِنْهُ وَنَاطِقٍ عَنْهُ) . استدلالٌ على قوله : «ولا يكون أحد كذلك» إلى آخره . يقال : دلَلْتهُ على كذا - كنصرته - : إذا هديته إليه . والباطن من بطن - ك-نصر - أي خفي . وأكّد الباطن بالخفيّ للدلالة على أنّ الباطن هنا باطن جدّا . و«من» لبيان الباطن الخفيّ . والمراد ب- «العقل» العقل عن اللّه ، و«إلاّ» للاستثناء المفرّغ أو المنقطع ، وضمير «منه» و«عنه» راجع إلى «من» .

والمقصود أنّه ليس لغير المتوسّمين سبيل إلى معرفة عقل أحد وأنّه من الغيب ، فيوضع الظنّ هنا مقام العلم ، كما في سائر محالّ الحكم ، كتعيين القبلة ، وقيم المتلفات ، ومقادير الجراحات الموجبة للديات ، وعليه قوله تعالى في سورة الممتحنة : «فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ» .(2)

ولا ينافي ذلك أنّه لا يجوز وضع الظنّ مقام العلم في نفس أحكامه تعالى ، ويجيء ما يناسب هذا في خامس الرابع عشر .(3)

(يَا هِشَامُ) . هذا إلى آخره من النوع الخامس .

(كَانَ أَمِيرُ الْمُؤمِنِينَ عليه السلام يَقُولُ : مَا عُبِدَ) ؛ بصيغة المجهول من المجرّد ، أو معلوم من باب التفعيل .

ص: 230


1- . البقرة 2 : 14 .
2- . الممتحنة 60 : 10 .
3- . أي الحديث 5 من باب النهي عن القول بغير علم .

(اللّه ُ بِشَيْءٍ أَفْضَلَ مِنَ الْعَقْلِ ، وَمَا تَمَّ) أي ما قوي .

(عَقْلُ امْرِىًٔحَتّى يَكُونَ فِيهِ خِصَالٌ شَتّى) . جمع «شتيت» أي متفرّقة .

(الْكُفْرُ وَالشَّرُّ مِنْهُ مَأْمُونَانِ) أي الناس في أمنٍ من أن يكفر نعمة عليه ، ومن أن يضرّ أحدا .

(وَالرُّشْدُ وَالْخَيْرُ مِنْهُ مَأْمُولاَنِ) . الرشد بالضمّ خلاف الغيّ ، والمراد هنا شكر النعمة ، أي الناس يرجون منه أن يشكر نعمتهم عليه ، وأن ينفعهم إذا احتاجوا إليه .

(وَفَضْلُ مَالِهِ) أي الزائد على نفقته ونفقة عياله على سبيل الاقتصاد من ماله .

(مَبْذُولٌ) في سبيل اللّه .

(وَفَضْلُ قَوْلِهِ) أي الزائد على ما يحتاج إليه في الأغراض اللازمة من كلامه .

(مَكْفُوفٌ) . فيه حذف وإيصال ، أي مكفوف عنه من كفَّ عن الشيء من باب نصر ، أي امتنع منه . ويحتمل أن يكون من كففته عن الشيء ، أي دفعته وصرفته عنه ؛ فهو متعدّ ولا حذف .

(وَنَصِيبُهُ) ؛ بفتح النون ، أي حظّه وحِصّته . والمراد ما يصرفه في نفسه من النفقة .

(مِنَ الدُّنْيَا الْقُوتُ)؛ بالضمّ : ما يقوم به بدن الإنسان من الطعام ، أي لا يأكل كلّ الشبع .

(لاَ يَشْبَعُ) ؛ كيعلم .

(مِنَ الْعِلْمِ دَهْرَهُ) ؛ بالنصب ، أي حريص على طلب العلم بما يعينه في كلّ دهره ، فلا ينافي ما سيجيء في أوّل(1) «باب المستأكل بعلمه والمباهي به» من ذمّ منهوم العلم .

(الذُّلُّ أَحَبُّ إِلَيْهِ مَعَ اللّه ِ مِنَ الْعِزِّ مَعَ غَيْرِهِ) . المراد بالذلّ والعزّ ما في ظاهر الدنيا ، فلا ينافي قوله تعالى : «وَللّه ِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لاَ يَعْلَمُونَ»(2) .

(وَالتَّوَاضُعُ) : تكلّف الضعة ، أي دناءة الحال بالنسبة إلى من ليس بوضيع بالنسبة إليه ، بل شريف . والمراد أن يعاشر الناس كالوضيع بالنسبة إليهم لا ما يوجب الكذب .

ص: 231


1- . في «أ، د»: + «الخامس عشر».
2- . المنافقون 63 : 8 .

(أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الشَّرَفِ) ؛ بالمعجمة والمهملة المفتوحتين : العلوّ أو العلوّ في الحسب . والمراد إظهار الشرف على الغير .

(يَسْتَكْثِرُ) أي فعلاً ، لا قولاً ؛ لئلاّ يلزم الكذب .

(قَلِيلَ الْمَعْرُوفِ مِنْ غَيْرِهِ ، وَيَسْتَقِلُّ) أي فعلاً كما مرّ .

(كَثِيرَ الْمَعْرُوفِ مِنْ نَفْسِهِ ، وَيَرَى النَّاسَ كُلَّهُمْ خَيْرا مِنْهُ ، وَأَنَّهُ شَرُّهُمْ) ؛ بفتح الهمزة ، معطوفٌ على معمول «يرى» . وفائدة العطف الإشعار بأنّ التفاوت بينه وبين الناس ليس ناشئا من كمال الناس ، بل من نقصانه .

(فِي نَفْسِهِ) . متعلّقٌ ب- «يرى» أي في ذهنه ، كقوله تعالى : «تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِي»(1) .

وهذا للتنصيص على أن ليس المراد بالرؤية رؤية العين ، فلا يقتدى بهم ، بل المراد رؤية القلب ، وهي هنا الظنّ . والمقصود أنّه يعامل الناس كمعاملة مَن يظنّ الناس خيرا منه ، فإنّ العاقبة مجهولة ، فربّ كافر وفّق للإيمان في آخر عمره ، وربّ مؤمن كفر في آخر عمره .

(وَهُوَ) أي الأخير (تَمَامُ الْأَمْرِ) أي ما يتمّ به أمر العقل أو العمدة منه .

(يَا هِشَامُ ، إِنَّ الْعَاقِلَ لاَ يَكْذِبُ) ؛ ك-يضرب . (وَإِنْ) ؛ وصليّة . (كَانَ فِيهِ) أي في الكذب (هَوَاهُ) أي ميل نفسه ونفعه في الدنيا .

(يَا هِشَامُ ، لاَ دِينَ لِمَنْ لا مُرُوءَةَ لَهُ) . المروءة - بضمّ الميم والمهملة وواو وهمزة وقد تُقلَب الهمزة واوا وتشدّد - مصدر اشتقّ من المرء ، وهو الرجل ، أي الذكورة والإنسانيّة . والمقصود الإباء عن دناءة الاتّباع لأئمّة الضلالة الذين ليس لهم علم ولا شجاعة ولا نجابة بمحض كون الدنيا معهم .

(وَلاَ مُرُوءَةَ لِمَنْ لاَ عَقْلَ لَهُ ، وَإِنَّ أَعْظَمَ النَّاسِ قَدْرا الَّذِي لاَ يَرَى الدُّنْيَا لِنَفْسِهِ خَطَرا) . الخطر - بالمعجمة والمهملة المفتوحتين - السَبَق الذي يتراهن عليه(2) ، وخطر الرجل قدره ومنزلته وقيمته ، وهذا ردّ على أهل الدنيا الذين لا يعلمون حقيقة المروءة ،

ص: 232


1- . المائدة 5 : 116 .
2- . كتاب العين ، ج 4 ، ص 213 خطر .

ويتوهّمون أنّهم يذلّون إن لم يفعلوا ما يجلب لهم الدنيا وتعظيم الناس لهم .

(ألاَ(1) إِنَّ أَبْدَانَكُمْ) . فيه إشعار بنفي تجرّد النفس الناطقة .

(لَيْسَ لَهَا ثَمَنٌ إِلاَّ الْجَنَّةُ ، فَلاَ تَبِيعُوهَا بِغَيْرِهَا) أي بالدنيا .

(يَا هِشَامُ ، إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤمِنِينَ عليه السلام كَانَ يَقُولُ : إِنَّ مِنْ عَلاَمَةِ الْعَاقِلِ أنْ تَكُونَ فِيهِ ثَلاَثُ خِصَالٍ) ؛ من للتبعيض ، والعلامة بفتح المهملة وتخفيف اللام السِّمة . والمراد هنا اللازم الخاصّ ، بقرينة الفاء التفريعيّة في «فمن» . والمراد بالعاقل المحقّ من مدّعي الإمامة ، فإنّ غيره من مدّعي الإمامة سفيه جاهل .

والخصال الثلاث متلازمة ، فذكر «من» التبعيضيّة مبنيّ على أنّ من علامته بعض هذه الثلاث ، كما أنّ من علامته نصّ النبيّ صلى الله عليه و آله .

(يُجِيبُ إذَا سُئِلَ) ؛ بالرفع استئنافٌ بياني ، ويجوز النصب بتقدير «أن» وإعمالها ، والرفع بتقديرها وإهمالها على أن يكون بدل تفصيل الثلاث ، أي لا يقول : «لا أدري» في شيء ممّا يحتاج إليه الرعيّة ويُسأل عنه ، كما كان يقوله الخلفاء الثلاثة .

(وَيَنْطِقُ إِذَا عَجَزَ الْقَوْمُ عَنِ الكَلاَمِ) . ينطق - كيضرب - . والمراد بالقوم الخلفاء الثلاثة وملأهم . وهذا إشارة إلى أمثال ما يجيء في «كتاب الحجّة» في الرابع والسابع(2) من «باب ما جاء في الاثني عشر والنصّ عليهم عليهم السلام» - وهو الرابع والعشرون والمائة - من أنّ بعض علماء اليهود جاء عمر ليسأله عن أشياء معظلة(3) ، فعجز عن الجواب ودلَّ السائل إلى أمير المؤمنين عليه السلام .

(وَيُشِيرُ بِالرَّأْيِ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ صَلاَحُ أهْلِهِ) . تقول : أشرت عليهم بكذا : إذا أمرتهم به . والرأي : النظر بالقلب ، ومنه التدبير . وضمير «فيه» للذي ، وضمير «أهله» للعاقل أو للذي . وهذا إشارة إلى ما روي من تدبيرات أميرالمؤمنين في قضاياه ، ويجيء بعضه في «كتاب القضايا والأحكام» في أخر أبوابه .

ص: 233


1- . في الكافي المطبوع : «أما» .
2- . رقم الحديث في الكافي المطبوع : الخامس والثامن .
3- . في «ج» : «المعظلة» .

(فَمَنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مِنْ هذِهِ الْخِصَالِ الثَّلاَثِ شَيْءٌ فَهُوَ أَحْمَقُ ؛ إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤمِنِينَ عليه السلام قَالَ : لاَ يَجْلِسُ فِي صَدْرِ الْمَجْلِسِ إِلاَّ رَجُلٌ فِيهِ هذِهِ الْخِصَالُ الثَّلاَثُ ، أَوْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ) .

هذا الكلام لبيان أنّ مراد أمير المؤمنين عليه السلام بالعاقل في الكلام السابق المتصدّر للإمامة بالحقّ . ويجلس - كيضرب - والمراد بالمجلس المجلس الذي كان فيه البيعة بالإمامة لأحد كسقيفة بني ساعدة ، وذكرُ «أو واحدة منهنّ» للإشارة إلى تلازم الثلاث ، فالعلم بتحقّق واحدة منهنّ كاف في العلم بتحقّق الاثنتين والثلاث .

(فَمَنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَيْءٌ مِنْهُنَّ فَجَلَسَ ، فَهُوَ أَحْمَقُ) .

الموصول عبارة عن مدّعي الإمامة ، ولم يكن للسلب الكلّي أو السلب الجزئي . والمآل واحد ؛ لأنّ الثلاث متلازمة . والأحمق : السفيه الجاهل .

(وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ عليهماالسلام : إِذَا طَلَبْتُمُ الْحَوَائِجَ)؛ بكسر الهمزة جمع «حاجة» على غير قياس ، أو كأنّهم جمعوا حائجة . والمراد ما تحتاجون إليه من مسائل الدِّين ، ويمكن أن يحمل على الأعمّ منها .

(فَاطْلُبُوهَا مِنْ أَهْلِهَا) أي المتأهّلين لطلبها منهم .

(قِيلَ : يَا ابْنَ رَسُولِ اللّه ِ ، وَمَنْ أَهْلُهَا؟ قَالَ : الَّذِينَ قَصَّ) ؛ من باب نصر ، أي بيّنهم .

(اللّه ُ فِي كِتَابِهِ وَذَكَرَهُمْ) ؛ بتخفيف الكاف من الذكر بمعنى الثناء ؛ أي أثنى عليهم ، أو بمعنى الحفظ أو خلاف النسيان . ويحتمل التشديد ، أي نسبهم إلى الذكر أو جعلهم ذاكرين ؛ فإنّ التذكّر لا يكون إلاّ بتذكير اللّه وتوفيقه له .

(فَقَالَ) في سورة الرعد وسورة الزمر :

(«إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ) للفرق بين إمام الهدى وإمام الضلالة .

(أُولُوا الْأَلْبابِ»(1)). هم شيعة أهل البيت المعصومين عليهم السلام، كما مرّ في شرح أوّل هذا الحديث .

(قَالَ) أي الحسن بن عليّ عليهماالسلام :

ص: 234


1- . الرعد 13 : 19 ؛ الزمر (39) : 9 .

(هُمْ) أي اُولوالألباب في الآية ، أو الذين قصّ اللّه ، أو أهلها .

(أُولُو الْعُقُولِ) . فيه النهي عن طلب الحاجة من المخالفين ، بناءً على أنّ الأمر بالشيء نهي عن ضدّه .

(وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ عليهماالسلام : مُجَالَسَةُ الصَّالِحِينَ دَاعِيَةٌ إِلَى الصَّلاحِ ، وَآدابُ(1) الْعُلَمَاءِ) أي رعاية الآداب مع العلماء ، أو مشاهدة الآداب من العلماء .

(زِيَادَةٌ فِي الْعَقْلِ) أي سبب لزيادة العقل .

(وَطَاعَةُ وُلاَةِ) ؛ بضمّ الواو جمع «الوالي» : الأمير . (الْعَدْلِ تَمَامُ الْعِزِّ) أي في الدنيا والآخرة .

(وَاسْتِثْمَارُ الْمَالِ) أي استنماؤه (تَمَامُ الْمُرُوءَةِ) ؛ لأنّ المؤمن الغنيّ يعين الفقراء ، والمحتاج يلقي ثقله على غيره ، ويذلّ .

(وَإِرْشَادُ الْمُسْتَشِيرِ) أي طالب المشورة (قَضَاءٌ لِحَقِّ النِّعْمَةِ) أي نعمة اللّه عليه بجعله من أهل المشورة ، أو نعمة المستشير حيث عدّه من أهل المشورة .

(وَكَفُّ الْأَذى) ؛ بالهمزة والمعجمة المفتوحتين والقصر مصدر آذاه يؤذيه أذىً وأذاةً وأذيّةً ، قيل : ولا تقل : إيذاءً أي فعل به المكروه اليسير ، ويقال : أذِيَ به كرضي أذىً ، أي تأذّى به(2) . والمراد صرف أذى نفسه عن الناس .

(مِنْ كَمَالِ الْعَقْلِ) . استثنى من هذا النكير على المنكر لوجوبه شرعاً .

(وَفِيهِ رَاحَةً لِلْبَدَنِ(3) عَاجِلاً) ؛ حيث لا يبغضه أحد . (وَآجِلاً) بالثواب على ذلك .

(يَا هِشَامُ ، إِنَّ الْعَاقِلَ لاَ يُحَدِّثُ مَنْ يَخَافُ تَكْذِيبَهُ) . استثنى من ذلك تبليغ أوامر

ص: 235


1- . في الكافي المطبوع جديدا : «إدْآب» . والإدآب مصدر من الدأب، وهو بمعنى الجدّ والتعب والعادة والملازمة والدوام. والأنسب في المقام الملازمة والدوام، يعنى الإلحاح والسؤال المتتابع والإصرار في ملازمتهم والتشرّف بخدمتهم. راجع: شرح المازندراني، ج 1، ص 243؛ الصحاح، ج 1، ص 123؛ لسان العرب، ج 1، ص 368؛ مجمع البحرين، ج 2، ص 54 دأب. وراجع أيضا كلام المحقق الشعراني في هامش الوافي، ج 1، ص 94.
2- . لسان العرب ، ج 14 ، ص 27 ؛ القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 298 ؛ تاج العروس ، ج 19 ، ص 149 أذى .
3- . في الكافي المطبوع : «راحةُ البدن» .

الشرع ونواهيه ونحو ذلك ؛ ففي سورة آل عمران : «فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ»(1) .

(وَلاَ يَسْأَلُ مَنْ يَخَافُ مَنْعَهُ) أي ترك إنجاح سؤاله .

(وَلاَ يَعِدُ مَا لاَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ) أي(2) ما ليس له ظنّ أنّه يقدر عليه في وقته ، فإنّه لا تكون قدرة العبد ولا العلم بها قبل وقت الفعل ، كما سيجيء في ثاني «باب الاستطاعة» من «كتاب التوحيد» .

(وَلاَ يَرْجُو مَا يُعَنَّفُ) ؛ بصيغة المجهول ؛ من التعنيف أو الإعناف ، وهو اللؤم والتعيير .

(بِرَجَائِهِ ، وَلاَ يُقْدِمُ) . الإقدام على الشيء إرادته والشروع فيه .

(عَلى مَا يَخَافُ فَوْتَهُ بِالْعَجْزِ عَنْهُ) أي ما يَشُمّ منه رائحة العجز عنه .

الثالث عشر : (عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ، رَفَعَهُ ، قَالَ : قَالَ أَمِيرُ المُؤمِنِينَ عليه السلام : العَقْلُ غِطَاءٌ)؛ بالمعجمة المكسورة: ما يستر به. والمراد أنّ العقل ساتر لما لا ينبغي أن يظهر.

(سَتِيرٌ) أي مستور ، نظير قوله تعالى : «حِجَابا مَسْتُورا»(3) أي حجابا غير ظاهر على الناس ، أو حجابا عليه حجاب ، والأوّل مستور بالثاني ، يراد بذلك كثافة الحجاب .

(وَالْفَضْلُ) أي الجود بالمال .

(جَمَالٌ ظَاهِرٌ ، فَاسْتُرْ خَلَلَ خُلُقِكَ) ؛ بالضمّ وبضمّتين : السجيّة والطبع والمروءة . والمراد هنا العقل ، أي إن كان في عقلك خلل في معاشرة الناس فاستره .

(بِفَضْلِكَ) ؛ كما يجيء في التاسع والعشرين من الباب من قوله : «والجود بالمال نجح» بضمّ النون وسكون الجيم ومهملة : الظفر بالحوائج ، أي هو من أسباب الظفر ، منه في شرح الحديث المذكور .(4)

ص: 236


1- . آل عمران 3 : 184 .
2- . في «ج» : «أن» .
3- . الإسراء (17) : 45 .
4- . قوله «بضم النون» إلى هنا ليس في «ج ، د» .

(وَقَاتِلْ هَوَاكَ بِعَقْلِكَ) . المقاتلة - بالقاف والمثنّاة(1) - : المدافعة . الهوى - بفتح الهاء والقصر - : إرادة النفس الأمّارة بالسوء ، كما في آية سورة ص : «وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللّه ِ»(2) وآية سورة النازعات : «وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى»(3) ، لمّا كان الهوى أعدى عدوّ - كما يجيء في «كتاب الإيمان والكفر» في أوّل «باب اتّباع الهوى» وهو السابع والثلاثون والمائة - وكان العقل أصدق صديق - كما مرّ في رابع الباب - أمر بمدافعة الهوى بالعقل .

(تَسْلَمْ) . من باب علم ، أي تخلُص من الغشّ والآفة ؛ وهو مجزوم في جواب الأمرين .

(لَكَ الْمَوَدَّةُ) ؛ بفتح الميم : المحبّة ، إلاّ أنّ المودّة في القلب ، والمحبّة في الظاهر .

(وَتَظْهَرْ لَكَ الْمَحَبَّةُ) . المراد أنّ مجموع المودّة والمحبّة من الناس لك يترتّب على مجموع ستر الخلل ومقاتلة الهوى .

الرابع عشر : (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حَدِيدٍ) ؛ بالمهملة المفتوحة . (عَنْ سَمَاعَةَ) ؛ بفتح المهملة . (بْنِ مِهْرَانَ) ؛ بكسر الميم وسكون الهاء ومهملة .

(قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام وَعِنْدَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ مَوَالِيهِ ، فَجَرى ذِكْرُ الْعَقْلِ) أي رعاية الآداب الحسنة لتحصيل علم الدِّين والعمل به بقدر الوسع .

(وَالْجَهْلِ) أي الإخلال بالآداب الحسنة المذكورة في حدّ العقل .

(فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : اعْرِفُوا الْعَقْلَ وَجُنْدَهُ، وَالْجَهْلَ وَجُنْدَهُ ، تَهْتَدُوا) . المراد بمعرفة العقل والجهل تأدية حقّهما ، وهو مجاورة الأوّل ومجانبة الثاني بقرينة التعبير عن معرفة الجهل في آخر الحديث بمجانبة الجهل .

والجُند - بضمّ الجيم وسكون النون - : الأعوان والأنصار . والمراد هنا اُمور

ص: 237


1- . في «د، ج» : «بقاف ومثناة» .
2- . ص 38 : 26 .
3- . النازعات 79 : 40 - 41 .

يستتبعها العقل ، واجتماعها في أحد يدلّ على كمال قوّة عقله ، وفقد بعضها يدلّ على ضعف العقل بقدر المفقود منها .

(قَالَ سَمَاعَةُ : فَقُلْتُ : جُعِلْتُ فِدَاكَ ، لاَ نَعْرِفُ) ؛ بصيغة المتكلِّم مع الغير المعلوم من باب ضرب . (إِلاَّ مَا عَرَّفْتَنَا) ؛ بتشديد الراء .

(فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : إِنَّ اللّه َ - عَزَّوَجَلَّ - خَلَقَ الْعَقْلَ) . مضى في شرح أوّل الباب أنّ الخلق التقدير والتدبير ، وهو أعمّ من التكوين .

(وَهُوَ أَوَّلُ خَلْقٍ) أي أوّل مخلوق .

(مِنَ الرَّوْحَانِيِّينَ) ؛ بفتح الراء جمع «روحاني» بفتح الراء نسبةً إلى الروح بضمّ الراء بزيادة الألف والنون ، تقول لكلّ شيء له مكانة ونفاسة : «رَوحاني» بالفتح ، أي طيّب . وقيل : إنّ النسبة إلى الملائكة ، والجِنّ روحاني بضمّ الراء ، أي لطيف لا يبصر .(1)

(عَنْ يَمِينِ الْعَرْشِ) . يستعمل من جملة ظروف المكان اليمين والشمال ب- «عن» ، والفوق والتحت والقدّام والخلف بمن كما في الدعاء : «اللّهُمَّ احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته»(2) . فقيل : المفعول فيه عدّي إليه الفعل نحو تعديته إلى المفعول به ، فكما اختلفت حروف التعدية في ذلك اختلفت في هذا ، وكانت لغة تؤخذ ولا تقاس ، وإنّما يفتش عن صحّة موقعها فقط .(3) انتهى .

وسألت أديبا(4) عن ذلك ، فقال :

أصله أنّ السالك لطريق في سفره لا يخرج عن طريقه بالتقدّم والتأخّر والصعود على العقبات والنزول ، ويخرج عنه بالتيامن والتياسر ، وكذا من يرافقه(5) أو يلاقيه ، فإنّ من هو بين يديه أو خلفه أو فوقه أو تحته سالك لطريقه غير خارج عنه ، وقد يصل إليه

ص: 238


1- . الصحاح ، ج 1 ، ص 367 ؛ لسان العرب ، ج 2 ، ص 463 ؛ مجمع البحرين ، ج 2 ، ص 247 روح .
2- . كمال الدين ، ج 2 ، ص 512 ، ح 43 ؛ مصباح المتهجّد ، ص 409 ؛ تفسير القمّي ، ج 2 ، ص 183 ؛ تأويل الآيات ، ص 444 .
3- . الكشاف للزمخشري ، ج 2 ، ص 71 ؛ تفسير البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي ، ج 4 ، ص 277 .
4- . في حاشية «أ» : «هو الشيخ محمد ...» .
5- . في «ج» : «يوافقه» .

بخلاف مَن على يمينه أو يساره ، فلفظة «عن» موضوعة للبُعد والمجاوزة ، وهي أنسب بالخارج عن طريقه ، ولفظة «من» موضوعة لمحض الابتداء ، فهي أنسب بمن يصل إليه ، وهو مَن على طريقه وإن كان كلاهما هنا بمعنى «في». انتهى .

وقيل في قوله تعالى في سورة الأعراف : «ثُمَّ لاَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ»(1) إنّما عدّي الفعل إلى الأوّلين بحرف الابتداء لأنّه منهما متوجّه إليهم ، وإلى الآخرين بحرف المجاوزة ؛ فإنّ الآتي منهما كالمنحرف عنهم المارّ على عرضهم ، ونظيره قولهم : جلست عن يمينه .(2) انتهى .

وقيل(3) :

«عن» قد تكون اسما بمعنى جانب ، وذلك متعيّن إذا دخل(4) عليها «من» وهو كثير كقوله :

فلقد أراني للرماح دريئةً *** من عَنْ يميني مرّة وأمامي

ويحتمله عندي ثُمَّ لأَتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ.(5) فتقدّر معطوفة على مجرور «من» ، لا على «من» ومجرورها ، و«من» الداخلةُ على «عن» زائدة عند ابن مالك ، ولابتداء الغاية عند غيره ، قالوا : فإذا قيل : قعدت عن يمينه ، فالمعنى في جانب يمينه ، وذلك محتمل للملاصقة ولخلافها ، فإن جئت ب- «من» تعيّن كون القعود ملاصقا لأوّل الناحية .(6) انتهى .

الدريئة - بفتح الدال المهملة وكسر الراء المهملة وسكون الخاتمة والهمز وبشدّ الخاتمة بلا همز - : الحلقة التي يتعلّم عليها الطعن والرمي .(7)

والمراد بالعرش سلطنته تعالى على كلّ مخلوق ، ويمين العرش عبارة عن الماء

ص: 239


1- . الأعراف 7 : 17 .
2- . تفسير البيضاوي ، ج 3 ، ص 11 ؛ تفسير أبي السعود ، ج 3 ، ص 219 .
3- . في حاشية «أ» : «القائل ابن هشام في مغني اللبيب منه» .
4- . في «ج» : «ادخل» .
5- . الأعراف 7 : 17 .
6- . مغني اللبيب ؛ ج 1 ، ص 199 ؛ وفي طبعة اخرى ، ص 149 .
7- . معجم مقاييس اللغة ، ج 2 ، ص 273 درى .

العذب الفرات الذي خلق منه المؤمنون والجنّة وأمثالهما ، فشمال العرش الماء الملح الاُجاج الذي خلق منه الكافرون والنار وأمثالهما ، قال تعالى في سورة هود : «وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ»(1) ، ويجيء بيانه في «كتاب التوحيد» في سابع «باب العرش والكرسيّ» ، وفي «كتاب الحجّة» في شرح الثاني من «باب نادر فيه ذكر الغيب» .

(مِنْ نُورِهِ)(2) ؛ الضمير للّه ، والمراد بنوره ما خلق منه المؤمنون من جملة يمين العرش ، كما يجيء في الثامن عشر والعشرين من الباب العشرين .(3)

إن قلت : العقل عرض لا يمكن أن يكون أوّل مخلوق ؛ لأنّ محلّه مقدّم عليه ، وأيضا ينافي ما روي أنّ أوّل مخلوق الماء .(4)

قلت : ليس المراد بالأوّليّة هنا التقدّم الذاتي ولا الزماني ، بل المراد التقدّم بالرتبة ، ولمّا كان فائدة تكوين الماء ومحلّ العقل تكوينَ العقل ، وهما تمهيد له ، فأوّل مدبّر بالرتبة العقل المكرَّم على جميع خلقه ، ولا ينافي هذا كون الماء أوّل مكوّن زمانا .

(فَقَالَ لَهُ: أَدْبِرْ فَأَدْبَرَ ، ثُمَّ قَالَ لَهُ : أَقْبِلْ؛ فَأَقْبَلَ) . مضى شرح ذلك في أوّل الباب ، وبيّنّا أنّ «ثمّ» هنا للتراخي في الزمان .

(فَقَالَ اللّه ُ تَبَارَكَ وَتَعَالى : خَلَقْتُكَ خَلْقا عَظِيما ، وَكَرَّمْتُكَ عَلى جَمِيعِ خَلْقِي . قَالَ : ثُمَّ خَلَقَ الْجَهْلَ مِنَ الْبَحْرِ الْأُجَاجِ) ؛ بضمّ الهمزة : المالح الشديد المُلوحة المُرّ ، وهو ناظر إلى قوله : عن يمين العرش .

(ظُلْمَانِيّا) . منسوبٌ إلى الظلمة بزيادة الألف والنون ، وهو حال مقيّدة عن البحر الاُجاج ، وعبارة عمّا خلق منه الكافرون من جملة البحر الاُجاج ، فهو ناظر إلى قوله : «من نوره» .

ص: 240


1- . هود 11 : 7 .
2- . في حاشية «أ» : «من نور ذاته الذي هو عين ذاته» .
3- . أي في الحديث 18 و 20 من باب البدع والرأي والمقاييس .
4- . الكافي ، ج 8 ، ص 94 ، ح 67 ؛ التوحيد للصدوق ، ص 67 ، ح 20 . وعنهما في بحارالأنوار ، ج 54 ، ص 66 ، ح 43 ؛ و ص 96 ، ح 81 .

إن قلت : لا يمكن خلق العرض من الجوهر كما لا يمكن العكس .

قلت : هذا مبنيّ على نوع من المجاز ، نظير العكس في قوله تعالى في سورة الأنبياء : «خُلِقَ الاْءِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ»(1) ، والمقصود أنّ العقل مناسب لجوهر المؤمن وقويّ فيه كأنّه مخلوق ممّا خلق منه ، وكذا الجهل مناسب لجوهر الكافر .

(فَقَالَ لَهُ : أَدْبِرْ فَأَدْبَرَ ، ثُمَّ قَالَ لَهُ : أَقْبِلْ فَلَمْ يُقْبِلْ) . هذا كما في نظيره في العقل استعارة تمثيليّة ، والمقصود أنّه أفضى بصاحبه إلى ترك الإيمان بالغيب ، وذلك بالإعجاب بفكر نفسه في دقيق الأشياء وجليلها ، والاتّكال على ذهنه ، وترك الإقبال على اللّه

تعالى بالتلقّي عنه بطرق الأنبياء وأهل الذِّكر عليهم السلام في أحكامه تعالى .

(فَقَالَ لَهُ : اسْتَكْبَرْتَ) . إمّا بفتح الهمزة للاستفهام وحذف همزة الوصل في الخطّ أيضا ، وإمّا بكسرها ، أي وضعت صاحبك في مرتبةٍ فوق مرتبته بالاتّكال عليه في كلّ مسألة ، وذلك استكبار على اللّه ورسوله وأهل الذِّكر عليهم السلام ، والمراد أنّ من تبعك مستكبر بك .

(فَلَعَنَهُ) - كمنعه - : طرده وأبعده ؛ أي فلعن مَن تبعه .

(ثُمَّ جَعَلَ لِلْعَقْلِ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ جُنْدا) . الجند : الأعوان والأنصار كما مرّ ، ولا يقال لواحد منها ولا اثنين : جند ؛ فقوله : «جندا» ، ليس مميّزا للعدد ، ومميّزه محذوف ، أي مُعينا ؛ فهو صفة أو عطف بيان للعدد ، كقوله تعالى في سورة الكهف : «ثَلاَثَ مِائَةٍ سِنِينَ»(2) فالظرف مستقرّ هو مفعولٌ ثانٍ ، ويوافق هذا قوله فيما بعد : «فأعطاه» إلى آخره وقوله : «الجند» .

(فَلَمَّا رَأَى الْجَهْلُ مَا أَكْرَمَ اللّه ُ بِهِ الْعَقْلَ وَمَا أَعْطَاهُ ، أَضْمَرَ لَهُ الْعَدَاوَةَ ، فَقَالَ الْجَهْلُ : يَا رَبِّ ، هذَا خَلْقٌ مِثْلِي) أي هو مخلوق لمصلحة التكليف ، كما أنّي مخلوق لها .

(خَلَقْتَهُ وَكَرَّمْتَهُ وَقَوَّيْتَهُ ، وَأَنَا ضِدُّهُ وَلاَ قُوَّةَ لِي بِهِ) أي لا مضايقة في التكريم له ، إنّما المضايقة في تقويته وترك تقويتي ، بحيث يتأتّى منّي المضادّة ، ويتصحّح ابتلاؤك للمكلَّفين .

ص: 241


1- . الأنبياء 21 : 37 .
2- . الكهف 18 : 25.

(فَأَعْطِنِي مِنَ الْجُنْدِ مِثْلَ مَا أَعْطَيْتَهُ ، فَقَالَ : نَعَمْ ، فَإِنْ عَصَيْتَ بَعْدَ ذلِكَ) . معنى العصيان هنا أن يجعل صاحبه ممّن شرّه أقوى من خيره ، أو ممّن لا خير فيه ، وهذا مبنيّ على أنّ العقل والجهل قد يجتمعان في مكلّف من جهتين ، وهو المكلّف الذي ليس نبيّا ولا وصيّا ولا مؤمنا امتحن اللّه قلبه للإيمان ، كما يجيء في أواخر الحديث ؛ يعني فالشرط عليك أنّك إن عصيت بعد ذلك الإعطاء والتقوية .

(أَخْرَجْتُكَ) . الإخراج إمّا ناظر إلى قوله تعالى في سورة المؤمنين : «أُوْلَئِكَ هُمْ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ»(1) ، فإنّ المرويّ أنّ اللّه خلق لكلّ مكلّف منزلاً في الجنّة ، وينتقل منازل أهل النار في الجنّة إلى المؤمنين(2) ، وإمّا مبنيّ على أنّ العُصاة مرحومون في الدنيا .

(وَجُنْدَكَ) . الواو بمعنى «مع» أي لا يدفع جندك عنك استحقاق الإخراج .

(مِنْ رَحْمَتِي) أي من دار رحمتي ، وهي الجنّة ، أو من النعمة التي كانوا عليها في الدنيا .

(قَالَ : قَدْ رَضِيتُ ، فَأَعْطَاهُ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ جُنْدا) ؛ كلّ واحد منها ضدّ لواحد من جند العقل . وجميع ذلك من الاستعارة التمثيليّة ، والمقصود أنّه تعالى خلق بحكمته الكاملة وعلمه الشامل قوّتين داعيتين ؛ إحداهما العقل ، وهو الداعي إلى الخير ، والاُخرى الجهل ، وهو الداعي إلى الشرّ وخلق صفات حميدة تقوّي العقل في دعائه إلى الخير ، وهي خمسة وسبعون ، وخلق ضدّها من رذائل تقوّي الجهل في دعائه إلى الشرّ ، وهي أيضا خمسة وسبعون ، وكتب على نفسه الرحمة لأهل العقل ، وشرط استحقاق الإخراج من الرحمة لأهل الجهل ، وهذا الشرط بيان لبطلان زعم المعتزلة أنّ تقوية جانب المعصية في المكلّف الذي علم تعالى أنّه يفضي به بدون جبر إلى المعصية ينافي العدل واستحقاق العقاب ، لأنّه ضدّ اللطف الواجب عليه تعالى

ص: 242


1- . المؤمنون 23 : 10 - 11 .
2- . مجمع البيان ، ج 7 ، ص 178 ؛ بحارالأنوار ، ج 8 ، ص 91 ؛ سنن ابن ماجة ، ج 2 ، ص 1453 ، باب صفة الجنّة ، ح 4341 ؛ تفسير السمعاني ، ج 3 ، ص 464 .

عندهم ، ولزعم الأشاعرة أنّ عقاب العُصاة ليس باستحقاق(1) ، وسيجيء تفصيل ذلك في «كتاب التوحيد» في أوّل «باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين» .

(فَكَانَ مِمَّا أَعْطَى الْعَقْلَ مِنَ الْخَمْسَةِ وَالسَّبْعِينَ الْجُنْدَ : الْخَيْرُ ، وَهُوَ وَزِيرُ الْعَقْلِ ، وَجَعَلَ ضِدَّهُ الشَّرَّ ، وَهُوَ وَزِيرُ الْجَهْلِ . وَالاْءيمَانُ وَضِدَّهُ الْكُفْرَ ، وَالتَّصْدِيقُ وَضِدَّهُ الْجُحُودَ) . الفاء للتعقيب ، والمراد أنّ إعطاء هذه الثلاثة وأمثالها بعد إعطاء الخمسة والسبعين الجند ، ف- «من» في قوله : «ممّا أعطى» تبعيضيّة ، وفي قوله : «من الخمسة» للسببيّة . وقوله : «الخير» مرفوع أو اسم كان ، والإيمان والتصديق مرفوعان للعطف على الخير ، وما بعد الخير من الجمل معترضة .

والمراد بالخير والشرّ أن ينفع الناس وأن يضرّ بهم ، ومضى في ثاني عشر الباب : «الكفر والشرّ منه مأمونان ، والرشد والخير منه مأمولان» .

والوزير والموازِر : المعاون الذي عليه المدار ، والمراد بالضدّ المنافرُ جدّا ، وهو أخصّ من النقيض ، والمراد بالإيمان الطوعُ القلبي للّه ولرسوله ولجميع(2) ما جاء به ، وقد يستعمل في الإتيان بجميع الفرائض ، والاجتناب عن كلّ كبيرة ، كما يجيء في «كتاب الإيمان والكفر» في «باب في أنّ الإيمان مبثوث لجوارح(3) البدن كلّها» . والكفر أصله الشرّ ، والمراد هنا ظاهر بالمقابلة .

والمراد بالتصديق الإقرار القولي أو الفعلي بصدق اللّه ورسوله في جميع ما جاء به ، وقد يستعمل في الكون مع الصادقين ، وهم أئمّة الهدى المعصومون ، أي الايتمار والانتهاء بأمرهم ونهيهم إطاعةً لقوله تعالى في سورة التوبة : «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّه َ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ»(4) ، والجحود - بضمّ الجيم والمهملة - مصدر جحده حقّه وبحقّه

ص: 243


1- . تفصيل هذا البحث في شرح المقاصد ، ج 5 ، ص 126 ؛ شرح المواقف ، ج 8 ، ص 306 ؛ معارج الفهم ، ص 583 ؛ مناهج اليقين ، ص 505 .
2- . في «ج» : «جميع» .
3- . في النسخ : «بجوارح» والمثبت موافقا للمصدر .
4- . التوبة 9 : 119 .

- كمنعه - : إذا أنكره مع علمه .

(وَالرَّجَاءُ) ؛ بفتح المهملة والمدّ منصوب ، لأنّ الواو بمعنى «مع» ونظائره بعده منصوبات بالعطف عليه ، والجمل بعد كلّ واحد منها معترضة ، وهذا أوّل الخمسة والسبعين الجند .

والجمهور على أنّ «من» في قوله : «من الخمسة» بيانيّة لما ، وأنّ الواو هنا عاطفة فاحتاجوا إلى تكلّفات ، كما سنذكره في ذيل شرح هذا الحديث .

(وَضِدَّهُ الْقُنُوطَ) ؛ بضمّ القاف والنون و(1)المهملة ، مصدر قنط - كنصر و ضرب وحسب وحسن(2) - والفرق بين الرجاء والطمع أنّ الرجاء ما في القلب من التوقّع ، سواء أظهره صاحبه أم لا ، والطمع إظهار الرجاء باللسان ونحوه ، وكلّ منهما إن كان من اللّه تعالى كان محمودا ومن جنود العقل ، وإن كان من الخلق كان مذموما كما في «كتاب الروضة» في خطبة لأمير المؤمنين عليه السلام وهي خطبة الوسيلة من قوله عليه السلام : «فإن سنح له الرجاء أذلّه الطمع ، وإن هاج به الطمع أهلكه الحرص» .(3)

وقد يُقال : الطمع أشدّ الرجاء ، وفيه مسامحةٌ مبنيّة على أنّه يستلزم شدّة الرجاء ، وعلى هذا يقال : القنوط أشدّ اليأس كما في نهاية ابن الأثير(4) . ويوافق هذا الترقّي في سورة حم السجدة : «وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ»(5) ، ويعدّ كلّ من القنوط من رحمة اللّه والإياس من روح اللّه كبيرة على حدة ، كما يجيء في «كتاب الإيمان والكفر» في عاشر «باب الكبائر» . وسنبيّن وجهه إن شاء اللّه تعالى .

(وَالْعَدْلُ) في الحكم والقسمة .

(وَضِدَّهُ الْجَوْرَ وَالرِّضَا) ؛ بكسر المهملة والقصر ، مصدر رضيه - كعلمه - وبه وهنه

ص: 244


1- . في «د» : - «و» .
2- . في «د» : - «وحسن» .
3- . الكافي ، ج 8 ، ص 21 ، ح 4 .
4- . النهاية ، ج 4 ، ص 113 قنط .
5- . السجدة 32 : 49 .

وغلبه(1) . والمراد الرضا بالقضاء .

(وَضِدَّهُ السُّخْطَ) ؛ بالضمّ و كجبل وعنق .

(وَالشُّكْرُ) على النعمة .

(وَضِدَّهُ الْكُفْرَانَ ، وَالطَّمَعُ وَضِدَّهُ الْيَأْسَ) . مضى معناهما .

(وَالتَّوَكُّلُ) هو أن يفوّض الأمر إلى اللّه في الرزق ونحوه ، فيقتصد في طلبه ، أو أمرا إلى الغير مطلقا .

(وَضِدَّهُ الْحِرْصَ) . الذي في النسخ بالحاء المهملة المكسورة والراء المهملة الساكنة والصاد المهملة ، والمراد به هنا تكلّف مشاقّ الاُمور في طلب الرزق ونحوه من اُمور الدنيا لترك الاعتماد على وكيل ، وهو من فعل الجوارح بقرينة أنّ التوكّل من الوكل ، وهو الترك للفعل لإظهار العجز والاعتماد على اللّه ، أو على الغير مطلقا .

وأمّا ضدّ القنوع فالحرص بمعنى الأمر القلبي ، وهو الهمّ والحزن على فوت الزائد .

وقيل(2) في ضدّ التوكّل : هو بالحاء المهملة المفتوحة والراء المهملة المفتوحة والضاد المعجمة ، ومعناه الهمّ بالشيء والحزن له والوجد عليه وتقسّم البال في التوصّل إليه ، وذلك أنّ المهملة ضدّ القنوع .(3) انتهى .

(وَالرَّأْفَةُ) ؛ بفتح المهملة وسكون الهمز ؛ من رأف ك-نصر ومنع وعلم ، أو مصدر(4) ما كعلم الرأف(5) محرّكة هي تأثّر القلب عن وصول أذى إلى الغير .

(وَضِدَّهَا الْقَسْوَةَ) ؛ بالفتح : شدّة القلب وصلابته .

(وَالرَّحْمَةُ)؛ بالفتح وبفتحتين من باب علم : ميل القلب إلى إيصال النفع إلى الغير .

(وَضِدَّهَا الْغَضَبَ) ؛ بفتحتين ؛ من غضب عليه كعلم : إذا مال إلى إيصال الأذى إليه ،

ص: 245


1- . في «ج ، د» : «عليه» .
2- . القائل: السيد الداماد .
3- . حكاه المازندراني في شرح اصول الكافي ، ج 1 ، ص 224 ، عن سيد الحكماء الإلهيين السيد الداماد .
4- . في حاشية «أ» : «مبتدأ» .
5- . في حاشية «أ» : «خبر» .

وقيل : الرأفة أرقّ من الرحمة ، ولا تكاد تقع في الكراهة والرحمة قد تقع في الكراهة للمصلحة .(1) انتهى .

(وَالْعِلْمُ) أي العمل بمقتضى العلم ، ومضى في ثاني عشر الباب في قول لقمان «ودليلها العلم» .

(وَضِدَّهُ الْجَهْلَ) أي العمل بمقتضى الظنّ والاعتقاد المبتدأ .

(وَالْفَهْمُ) ؛ بفتح الفاء وسكون الهاء أو فتحها ، مصدر باب علم : حسن المعاشرة مع الناس .

(وَضِدَّهُ الْحُمْقَ) ؛ بضمّ المهملة وسكون الميم وضمّها ؛ من باب حسن : قبح المعاشرة مع الناس .

(وَالْعِفَّةُ) ؛ بالكسر : كفّ النفس عمّا تُلام عليه .

(وَضِدَّهَا التَّهَتُّكَ)؛ هو هتك ستر النفس .

(وَالزُّهْدُ) ؛ بالضمّ ؛ من زهد فيه وعنه - كعلم ومنع - : ضدّ الرغبة ، أي في الدنيا ولذّاتها .

(وَضِدَّهُ الرَّغْبَةَ) بالفتح ؛ من رغب فيه كعلم : إذا أراده .

(وَالرِّفْقُ) ؛ بالكسر الاسم من رفق(2) به وعليه مثلّثة : إذا لم يعنف به .

(وَضِدَّهُ الْخُرْقَ) ؛ بضمّ المعجمة وسكون المهملة والقاف ، الاسم من خرق - كعلم - خرقا بفتحتين : إذا عنُف .

(وَالرَّهْبَةُ) ؛ بالفتح من رهب - كعلم - أي خاف من المضرّات .

(وَضِدَّهَا الْجُرْأَةَ) ؛ بالضمّ ؛ من باب حسن : الإقدام على المهالك .

(وَالتَّوَاضُعُ) أي الانقياد للحقّ ، كما مضى في ثاني عشر الباب في قول لقمان : «تواضع للحقّ تكن أعقل الناس» .

(وَضِدَّهُ الْكِبْرَ) ؛ بالكسر من باب حسن ، أي الإعجاب بالرأي .

ص: 246


1- . النهاية ، ج 2 ، ص 176 رأف .
2- . في «ج» : + «منه» .

(وَالتُّؤدَةُ) ؛ بضمّ المثنّاة فوقُ وفتح الهمزة والمهملة ، أي التأنّي في الاُمور .

(وَضِدَّهَا التَّسَرُّعَ ، وَالْحِلْمُ) ؛ بالكسر من باب حسن : احتمال الأذى من الغير .

(وَضِدَّهُ السَّفَهَ) ؛ بفتحتين : أن لا يحتمل أذىً أصلاً ، وأصله الخفّة والحركة ؛ من سفه عليه - كعلم وحسن - : إذا طاش .

(وَالصَّمْتُ) ؛ بالفتح من باب نصر : السكوت عمّا لا طائل تحته ، أو عمّا نفعه سهل لا يعارض حسن السكوت . ويجيء في «كتاب الإيمان والكفر» في سادس «باب الصمت وحفظ اللسان» : «إن كنت زعمت أنّ الكلام من فضّة فإنّ السكوت من ذهب» .

(وَضِدَّهُ الْهَذَرَ) ؛ بفتح الهاء وسكون المعجمة ومهملة ، مصدر باب نصر وضرب : الهذيان .

(وَالاِسْتِسْلاَمُ) أي ترك النزاع ، وأصله طلب السِّلم بالكسر بمعنى الصُلح .

(وَضِدَّهُ الاِسْتِكْبَارَ) أي النزاع ، وأصله أنّ المنازع يطلب من خصمه أن يتعظّم حتّى يكسره بقوّته .

(وَالتَّسْلِيمُ) أي الرضا والقبول لما هو على خلاف رأيه ممّا يصدر عن الأئمّة مثلاً ، ولا يُعرف وجهه ، كما يجيء في «باب التسليم وفضل المسلمين» من «كتاب الحجّة» .(1)

(وَضِدَّهُ الشَّكَّ) . هو أن يكون في النفس حرج ممّا قضى اللّه أو رسوله أو أهل بيته .

(وَالصَّبْرُ) على النوائب .

(وَضِدَّهُ الْجَزَعَ) ؛ بفتحتين من باب علم .

(وَالصَّفْحُ) ؛ بالفتح من باب منع ، أي العفو عن المسيء صفحا جميلاً .

(وَضِدَّهُ الاِنْتِقَامَ وَالغِناء) ؛ بفتح المعجمة والنون وهو ممدود وإذا كسر قصر ، والمراد غناء النفس عمّا في أيدي الناس .

(وَضِدَّهُ الْفَقْرَ ، وَالتَّذَكُّرُ) أي التنبيه للطائف الاُمور كقوله تعالى : «وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ»(2) .

ص: 247


1- . الكافي ، ج 1 ، ص 390 ، باب التسليم وفضل المسلمين .
2- . البقرة 2 : 269 ، آل عمران (3) : 7 .

(وَضِدَّهُ السَّهْوَ) ؛ بالفتح : الغفلة .

(وَالْحِفْظُ) ؛ بالكسر من باب علم ؛ أي لمّا عُلِم من الحقائق .

(وَضِدَّهُ النِّسْيَانَ ، وَالتَّعَطُّفُ) : الإشفاق .

(وَضِدَّهُ الْقَطِيعَةَ) ؛ بفتح القاف وكسر المهملة : القطع ، وهو الهجران .

(وَالْقُنُوعُ) ؛ بضمّتين : الرضا بالقَسم .

(وَضِدَّهُ الْحِرْصَ) ؛ بالكسر .

(وَالْمُؤاسَاةُ) ؛ بضمّ الميم وفتح الهمز ، والاُسوة بالكسر وبالضمّ : ما يأتسي به الحزين ، أي يتعزّى به ، والقدوة ، يقال : آسيته بمالي بالهمز والألف - وواسيته لغة - أي أنَلتُهُ منه بقدر ما يأتسي به ويتسلّى . والمراد المعاونة بالمال كالقرض .

(وَضِدَّهَا الْمَنْعَ ، وَالْمَوَدَّةُ) ؛ بفتح الميم وفتح الواو وشدّ المهملة هي الحبّ ، إلاّ أنّها باعتبار الباطن ، والحبّ باعتبار الظاهر .

(وَضِدَّهَا الْعَدَاوَةَ) ؛ بفتح العين والدال المهملتين، والفرق بينها وبين البغض كالفرق بين المودّة والحبّ بقرينة ما مرّ من قوله : «أضمر له العداوة» .

(وَالْوَفَاءُ) بالعهد (وَضِدَّهُ الْغَدْرَ) ؛ بفتح المعجمة وسكون المهملة .

(وَالطَّاعَةُ) لوليّ الأمر .

(وَضِدَّهَا الْمَعْصِيَةَ ، وَالْخُضُوعُ) . وهو خفض الرأس للتذلّل .

(وَضِدَّهُ التَّطَاوُلَ) . هو رفع الرأس للتعزّز .

(وَالسَّلاَمَةُ)(1) أي ترك إلقاء الثقل على الناس .

(وَضِدَّهَا الْبَلاَءَ) ؛ بفتح الموحّدة والمدّ : المحنة ، أي إلقاء الثقل على الناس .

(وَالْحُبُّ وَضِدَّهُ الْبُغْضَ ، وَالصِّدْقُ وَضِدَّهُ الْكَذِبَ ، وَالْحَقُّ) أي الميل إلى الحقّ وإلى ترويجه .

ص: 248


1- . لعلّ المراد سلامة الناس منه كما ورد في الحديث : المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه ، ويراد بالبلاء ابتلاء الناس به وإلاّ فالبلاء موكّل بالأنبياء ثمّ الأولياء ثمّ الأمثل فالأمثل . منه رحمه اللّه .

(وَضِدَّهُ الْبَاطِلَ) أي الميل إلى الباطل وإلى ترويجه .

(وَالْأَمَانَةُ) ؛ بفتح الهمزة من أمُن كحسن ، فهو أمين مأمون : ثقة ، ويقال : أمنه - كعلمه - أمانة : إذا لم يخفه على شيء .

(وَضِدَّهَا الْخِيَانَةَ) ؛ بكسر المعجمة من باب نصر : أن يُؤتَمن فلا يَنصَح .

(وَالاْءِخْلاَصُ) . هو فوق ما سيجيء من الحقيقة .

(وَضِدَّهُ الشَّوْبَ) ؛ بفتح المعجمة من باب نصر : الخلط .

(وَالشَّهَامَةُ) ؛ بفتح المعجمة مصدر شهم - كحسن - : إذا كان له سرعة تصوّر المبادي عند إرادة الفكر ، يُقال : رجلٌ شَهَم بالفتح أي جَلْد ذكيّ الفؤاد .

(وَضِدَّهَا الْبَلاَدَةَ) ؛ بفتح الموحّدة من باب حسن : بطؤ الذهن وكلاله عن تصوّر المبادي .

(وَالْفَهَمُ) ؛ بفتح الفاء وفتح الهاء أو سكونها مصدر باب علم : حسن الانتقال من المبادي إلى المطالب في القضايا التي لا تتعلّق بالمعاشرة مع الناس .

(وَضِدَّهُ الْغَبَاوَةَ) ؛ بفتح المعجمة والموحّدة مصدر باب علم : الغفلة وخمود الذهن . والجمهور يحكمون بزيادة إحدى فقرتي الفهم من الناسخين كما سننقله .

(وَالْمَعْرِفَةُ) . هي الاعتراف بفضل أهل الفضل ، كما في سورة النساء : «أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ اللّه ُ مِنْ فَضْلِهِ»(1) .

(وَضِدَّهَا الاْءِنْكَارَ ، وَالْمُدَارَاةُ) أي الملائنة ، يهمز ولا يهمز ، تقول : دارأته وداريته : إذا اتّقيته ولاينته . وأمّا المداراة بمعنى المخالفة والمدافعة فبالهمز لا غير .

(وَضِدَّهَا الْمُكَاشَفَةَ) أي التصريح بالمكروه .

(وَسَلاَمَةُ الْغَيْبِ) ؛ يقال لها : حفظ الغيب أيضا ، وهي أن يكون في غيبة الشخص كحضوره .

(وَضِدَّهَا الْمُمَاكَرَةَ ، وَالْكِتْمَانُ) ؛ بكسر الكاف من باب نصر ، أي الإخفاء للسرّ ، سواء

ص: 249


1- . النساء 4 : 54 .

كان من جنس الحديث أو غيره .

(وَضِدَّهُ الاْءِفْشَاءَ ، وَالصَّلاَةُ) أي حفظ حدودها وأوقاتها .

(وَضِدَّهَا الاْءِضَاعَةَ ، وَالصَّوْمُ) أي حفظ حدوده وشروطه .

(وَضِدَّهُ الاْءِفْطَارَ ، وَالْجِهَادُ) أي نصرة الدِّين .

(وَضِدَّهُ النُّكُولَ) ؛ بضمّتين ، يُقال : نَكَلَ عن العدوّ - كنصر - ، أي جبن .(1)

(وَالْحَجُّ وَضِدَّهُ نَبْذَ الْمِيثَاقِ) . هو الذي يجيء بيانه في أوّل «كتاب الحجّ» في «باب بدء(2) الحجر والعلّة في استلامه» . ومجمله أنّ الحجر الأسود مَلَكٌ اُلقِم الميثاق الذي أخذ اللّه على بني آدم للّه بالربوبيّة ، ولمحمّد صلى الله عليه و آله بالنبوّة ، ولعليّ عليه السلام بالوصيّة ، وكان الأخذ في هذا المكان الذي وضع الحجر فيه ، ولذا يُقال عند استلامه : «أمانتي أدّيتها وميثاقي تعاهدته لتشهد لي بالموافاة» .

(وَصَوْنُ الْحَدِيثِ وَضِدَّهُ النَّمِيمَةَ) ؛ الاسم من نمّ الحديث من باب نصر وضرب : نما ، أي أشاعه إفسادا .

(وَبِرُّ) ؛ بكسر الموحّدة من باب علم وضرب : الصلة والاتّساع في الإحسان تقول : بررته وأنا بَرٌّ به بالفتح وبارٌّ به .

(الْوَالِدَيْنِ وَضِدَّهُ الْعُقُوقَ) ؛ بضمّتين .

(وَالْحَقِيقَةُ) ؛ هي الخالص الذي لا يشوبه غشّ ، ويكون في الأفعال أيضا ، كالإتيان بالمأمور به شرعا أو بالحلال شرعا على ما أمر به عليه ، أو أحلّ عليه .

(وَضِدَّهَا الرئاء)(3) ؛ بكسر المهملة وهمزة وقد تُقلب ياءً ، مصدر من باب المفاعلة من راآى : إذا أرى نفسه على خلاف ما عليه . والمقصود هنا الإتيان بالمأمور به أو بالحلال صورة وفي المرأى فقط ، فالمراد بهما ما يشمل أيضا نحوَ حقيقة البيع وما هو على صورته فقط بمكر الربا ، أي لا بالعينة التي يجيء جوازها في «باب العينة» من

ص: 250


1- . المصباح المنير ، ص 625 نكل .
2- . في النسخ : «بدو» .
3- . في الكافي المطبوع : «الرياء» .

«كتاب المعيشة» فإنّها بيع يشبه الرِّبا ، والمَكْرُ ربا يشبه البيع .

(وَالْمَعْرُوفُ وَضِدَّهُ الْمُنْكَرَ) . المراد بالمعروف : المأمور به في كلّ شريعة ، وفي محكمات كثيرة من القرآن ، وهو اتّباع العلم فيما اختلف والاجتناب عن اتّباع الظنّ والهوى والقول بغير علم . والمراد بالمنكر : المنهيّ عنه في كلّ شريعة ، وفي محكمات

القرآن ، وهو اتّباع الظنّ والهوى والقول بغير علم ؛ ففي سورة آل عمران وسورة التوبة : «يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ»(1) ، وفي سورة الأعراف : «وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ»(2) .

(وَالسَّتْرُ) ؛ بفتح المهملة مصدر ستره - كنصره - : إذا غطّاه ، أي إخفاء المحاسن أو الزينة عمّن لا يليق الإظهار عنده .

(وَضِدَّهُ التَّبَرُّجَ) . هو إظهار المرأة زينتها ومحاسنها للرجال .

وَالتَّقِيَّةُ) . هي حفظ ما في الباطن خوفا من أن يظهر على المخالف .

(وَضِدَّهَا الاْءِذَاعَةَ ، وَالاْءِنْصَافُ) أي الاعتراف(3) لصاحب الحقّ بحقّه .(4)

(وَضِدَّهُ الْحَمِيَّةَ) ؛ بفتح المهملة وكسر الميم وشدّ الخاتمة مصدر ، حمي من كذا - كرضي - : إذا أنف منه ودخله عار وأَنَفه أن يفعله . والمراد عدُّ الاعتراف بالحقّ عارا ، كما في قوله تعالى : «إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِى قُلُوبِهِمْ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ»(5) . ويجيء ذمّ الحميّة في «كتاب الإيمان والكفر» في أحاديث «باب العصبيّة» .

(وَالتَّهْيِئَةُ) ؛ بفتح المثنّاة فوقُ وسكون الهاء وكسر الخاتمة وهمزة ، مصدر قولك : هيّأت الشيء بالتشديد : إذا أصلحته . والمراد أنّه إذا دعاه العدوّ قولاً أو فعلاً إلى شيء يكون فيه صلاح الطرفين رضي به .

ص: 251


1- . آل عمران 3 : 104 .
2- . الأعراف 7 : 199 .
3- . في «د» : «الإقرار» .
4- . في «أ» : «بحق» .
5- . الفتح 48 : 26 .

(وَضِدَّهَا الْبَغْيَ) ؛ بالفتح ، من باب ضرب : طلب الزيادة على الحقّ .

(وَالنَّظَافَةُ) ؛ بفتح النون والمعجمة ، من باب حسن ، أي النقاوة .

(وَضِدَّهَا الْقَذَرَ) ؛ محرّكة ، من باب نصر وعلم وحسن .

(وَالْحَيَاءُ) ؛ بالفتح والمدّ ، من باب علم .

(وَضِدَّهُ الْخَلَعَ)(1) ؛ بفتح المعجمة وسكون اللام ، يقال : خَلَع الفرس عذاره(2) - كمنع - : إذا ألقاه فهامَ على وجهه . ومنه فلان خليع ، أي شاطر قد أعيا أهله خبثا وعداءً على الناس ، كأنّ عديم الحياء خلع رسنه وأعطى نفسه هواها . ويمكن في العربيّة أن يكون بالجيم واللام المفتوحتين ، يقال : جلعت المرأة - كعلم - فهي جلعة وجالعة أيضا ، أي قليلة الحياء تتكلّم بالفحش ، وكذلك الرجل ، ومجالعة القوم : مجاوبتهم بالفحش وتنازعهم عند الشرب والقمار .(3)

(وَالْقَصْدُ) ؛ من باب ضرب : الاقتصاد ، أي التوسّط بين الإفراط والتفريط .

(وَضِدَّهُ الْعُدْوَانَ) ؛ بضمّ العين(4) المهملة وكسرها وسكون الدال(5) المهملة ، من باب نصر مِن عدا الأمر وعنه : إذا جاوزه وتركه ، أي التعدّي من الوسط إلى الزائد أو الناقص .

(وَالرَّاحَةُ) أي ترك التعرّض لما ليس عليه التعرّض له .

(وَضِدَّهَا التَّعَبَ ، وَالسُّهُولَةُ) ؛ بضمّ المهملة ، مصدر باب حسن : الايتمار والانتهاء عند الأمر والنهي .

(وَضِدَّهَا الصُّعُوبَةَ) ؛ مصدر باب حسن : الامتناع .

(وَالْبَرَكَةُ) ؛ بفتحتين ، من باب نصر : النُماء والزيادة . والمراد هنا ارتكاب الحلال

ص: 252


1- . في الكافي المطبوع : «الجَلَع» .
2- . عذار الدابة : السير الذي على خدّها من اللجام ، ويطلق العذار على الرسن ، والجمع : عذر . والرسن : الحبل . المصباح المنير ، ص 399 عذر و ص 277 (رسن) .
3- . ترتيب جمهرة اللغة ، ج 1 ، ص 304 جلع .
4- . في «د» : - «العين» .
5- . في «د» : - «الدال» .

لأجل النفقة كبيع شيء من أثاث البيت أو أخذ(1) الصدقة مع الفقر .

(وَضِدَّهَا الْمَحْقَ) ؛ بالفتح ، من باب منع : الإبطال والمحو . والمراد هنا أكل الرِّبا ، أي الاقتراض بالزيادة لأجل النفقة مع إمكان التفصّي عنه ببيع شيء من أثاث البيت أو أخذ الصدقة ، وهو إشارة إلى نحو قوله تعالى في سورة البقرة : «الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا»إلى قوله : «يَمْحَقُ اللّه ُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ»(2) ، ويجيء بيانه في «كتاب المعيشة» في شرح بعض أحاديث «باب الرِّبا» إن شاء اللّه تعالى .

(وَالْعَافِيَةُ) ؛ هي الاسم من عافاه اللّه وأعفاه ، وهي دفاع اللّه المحذور عن العبد ، ويوضع موضع المصدر ، يقال : عافاه اللّه عافية . والمراد هنا الفراغ من هموم أهل المبالاة بالدنيا من فوات ما يفوت منها .

(وَضِدَّهَا الْبِلاَءَ) ؛ بكسر الموحدة والمدّ ، مصدر باب المفاعلة ، أي المبالاة بالدنيا والاهتمام بها .

(وَالْقَوَامُ) ؛ بفتح القاف هو العدل ، قال تعالى : «وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاما»(3) . والمراد هنا

أن يعدّ نفسه من أوساط الناس .

(وَضِدَّهُ الْمُكَاثَرَةَ) أي المغالبة في الكثرة في المال ، أو العدّة ، أو العدد ، أو نحو ذلك ، يقال : كاثرناهم فكثرناهم ، أي غالبناهم فغلبناهم في الكثرة .

(وَالْحِكْمَةُ) . قد مرَّ تفسير الحكمة بالفهم والعقل في ثاني عشر الباب ، والمراد هنا التأنّي في الاُمور .

(وَضِدَّهَا الْهَوى) ؛ بفتحتين والقصر ، وهو في الأصل ضدّ العقل . والمراد هنا العجلة في الاُمور .

(وَالْوَقَارُ) ؛ بفتح الواو : الثقل والطمأنينة .

(وَضِدَّهُ الْخِفَّةَ) ؛ بالكسر ، من باب ضرب .

ص: 253


1- . في «أ» : «قصد» .
2- . البقرة 2 : 276 .
3- . الفرقان 25 : 67 .

(وَالسَّعَادَةُ) ؛ بفتح المهملة ، من باب علم : الرخاء والسعة . والمراد هنا طلب الرزق الحلال بالتجارة ونحوها .

(وَضِدَّهَا الشَّقَاوَةَ) ؛ بفتح المعجمة وقد تكسر ، من باب علم : الشدّة والعسر . والمراد هنا تضييع النفس والعيال بترك طلب الرزق الحلال بالتجارة ونحوها .

(وَالتَّوْبَةُ) أي الرجوع عن الذنب بالنَّدَم .

(وَضِدَّهَا الاْءِصْرَارَ ، وَالاِسْتِغْفَارُ) أي طلب المغفرة بعد التوبة كلّما تذكّر الذنب .

(وَضِدَّهُ الاِغْتِرَارَ) : مطاوع من غرّه الشيطان ، من باب نصر ؛ أي خدعه وأطمعه بالباطل ، وهو أن يعدّ ذنبه معفوّا عنه بسبب الإمهال .

(وَالْمُحَافَظَةُ) أي الاهتمام والاحتياط في الاُمور المهمّة .

(وَضِدَّهَا التَّهَاوُنَ) أي جعل الشيء هيّنا وليس بهيّن ، من هانَ عليه الشيء - من باب نصر ، أي خفّ وتهاون به ، أي استهان به .

(وَالدُّعَاءُ ؛ وَضِدَّهُ الاِسْتِنْكَافَ) أي الاستكبار ، من نكف عنه - كنصر وعلم - ، أي أنف منه وامتنع .

(وَالنَّشَاطُ) ؛ بفتح النون مصدر نشط - كعلم - ، أي طابت نفسه للعمل وغيره . والمراد هنا السعي في طلب الخير .

(وَضِدَّهُ الْكَسَلَ ، وَالْفَرَحُ) أي السرور بالحسنة .

(وَضِدَّهُ الْحَزَنَ ، وَالْأُلْفَةُ) ؛ بالضمّ ، اسم الايتلاف ؛ أي لزوم أهل الحقّ ومن قدّمه الكتاب والسنّة ، وترك الاستبداد بالرأي المفضي إلى الاختلاف .

(وَضِدَّهَا الْفُرْقَةَ) ؛ بالضمّ الاسم ، من فارقته مفارقة وفراقا ، وهو الاستبداد بالرأي . والفِرقة بالكسر الطائفة من الناس ، والفريق أكثر منهم ، وهذه إنّما تقابل بالجماعة .

وفي معاني الأخبار لابن بابويه عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه سُئِلَ عن الجماعة وعن الفرقة ، فقال : «الجماعة أهل الحقّ وإن كانوا قليلاً ، والفرقة أهل الباطل وإن كانوا كثيرا»(1) . وقد

ص: 254


1- . معاني الأخبار ، ص 155 ، باب معنى المنقلين ، ح 3 .

أوضحناه(1) في ثاني عشر الباب .

(وَالسَّخَاءُ) ؛ بفتح المهملة وبالمدّ والقصر ، من باب منع ونصر وحسن وعلم : الجود .

(وَضِدَّهُ الْبُخْلَ) ؛ بالضمّ وكجبل ونجم وعنق .

(وَلاَ(2) تَجْتَمِعُ هذِهِ الْخِصَالُ كُلُّهَا مِنْ أَجْنَادِ الْعَقْلِ إِلاَّ فِي نَبِيٍّ أَوْ وَصِيِّ نَبِيٍّ أَوْ مُؤمِنٍ قَدِ امْتَحَنَ اللّه ُ قَلْبَهُ لِلاْءِيمَانِ) . اللام للعاقبة ، أي اختبره وصار إيمانه خالصا . وقد يقال : الممتحن : المصفّى المهذّب ، من مَحَنْتُ الفضّة : إذا صفّيتها وخلّصتها بالنار ؛ فاللام للأجل .

(وَأَمَّا سَائِرُ ذلِكَ) أي باقي ذلك ، من السؤر بمعنى البقيّة .

(مِنْ مَوَالِينَا فَإِنَّ أَحَدَهُمْ لاَ يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِ بَعْضُ هذِهِ الْجُنُودِ حَتّى يَسْتَكْمِلَ وَيَنْقى) ؛ من باب علم ، أي يطهر ويخلص .

(مِنْ جُنُودِ الْجَهْلِ ، فَعِنْدَ ذلِكَ يَكُونُ فِي الدَّرَجَةِ الْعُلْيَا مَعَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْصِيَاءِ) ؛ فإنّه حينئذٍ مؤمن امتحن اللّه قلبه للإيمان وهو قرينهم .

(وَإِنَّمَا يُدْرَكُ) أي ينال (ذلِكَ) أي الاستكمال .

(بِمَعْرِفَةِ الْعَقْلِ وَجُنُودِهِ ، وَبِمُجَانَبَةِ الْجَهْلِ وَجُنُودِهِ) أي شيئا فشيئا ، يوما فيوما .

(وَفَّقَنَا اللّه ُ وَإِيَّاكُمْ لِطَاعَتِهِ وَمَرْضَاتِهِ) . اسم مكان للكثرة .

اعلم أنّ المفصّل من كلّ من جنود العقل وجنود الجهل عند جمهور الناظرين هنا ثمانية وسبعون ، فقال شيخنا بهاء الدِّين محمّد رحمه اللّه تعالى :

ذكر الطمع وضدّه تكرار لذكر الرجاء وضدّه ، ولا يمكن توجيهه بإرادة الطمع من الخلق واليأس منهم لذمّ الطمع منهم ومدح اليأس ، فكيف يجعل الأوّل من جنود العقل والثاني من جنود الجهل ، فكان ينبغي أن يُقال : واليأس وضدّه الطمع ، والظاهر أنّ هذه النسخة كانت في بعض النسخ بدل اُختها ، فرآها بعض الناظرين فجمع بينهما ، والصواب عدم الجمع بين الاُختين .

ص: 255


1- . في «د» : «أوضحنا» .
2- . في الكافي المطبوع : «فلا» .

ثمّ قال رحمه الله :

لعلّ الثلاثة الزائدة : إحدى فقرتي الرجاء والطمع ، وإحدى فقرتي الفهم ، وإحدى فقرتي السلامة والعافية ؛ فجمع الناسخون بين البدلَين غافلين عن البدليّة ، كما ذكرنا عند ذكر الطمع واليأس .(1) انتهى .

الخامس عشر : (جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، عَنِ الحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ فَضَّالٍ ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : مَا كَلَّمَ رَسُولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله الْعِبَادَ بِكُنْهِ عَقْلِهِ) . كنه الشيء بالضمّ : منتهاه ، واختلاف العقل في القوّة والضعف مضى في السابع . والمراد أنّه كان يبلغ عقله ما لم يكن يبلغه عقول اُمّته ، ولعلّ المراد ما عدا الوصيّ ، والتفاوت في العقل لا يقتضي(2) اختلاف بعض العلوم بالنسبة إلى ذهن الرسول وذهن غيره ، ضرورة ونظرا ؛ لأنّ التفاوت في العقل إنّما يقتضي التفاوت في التصوّر للقضايا وفي حفظها وفي ترتيبها وكسب المجهولات منها ، وهو لا يستلزم التفاوت في العلم بها بعد تصوّرها .

(قَطُّ) . من الظروف المبنيّة على الضمّ ، ومعناها الدهر ، ولا تستعمل إلاّ مع الماضي المنفيّ ، يُقال : ما رأيته قطّ بفتح القاف وضمّها وشدّ المهملة وتخفيفها أي في ما مضى من عمري .

(وَقَالَ : قَالَ رَسُولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله : إِنَّا - مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ - أُمِرْنَا أَنْ نُكَلِّمَ النَّاسَ عَلى قَدْرِ عُقُولِهِمْ) أي فهمهم للدقائق برعاية الآداب الحسنة في تحصيل العلم .

السادس عشر : (عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ ، عَنِ النَّوْفَلِيِّ ، عَنِ السَّكُونِيِّ ، عَنْ جَعْفَرٍ ، عَنْ أَبِيهِ عليهماالسلام ، قَالَ : قَالَ أَمِيرُ الْمُؤمِنِينَ عليه السلام : إِنَّ قُلُوبَ الْجُهَّالِ) أي التابعين للهوى ، التاركين للآداب الحسنة في تحصيل العلم والعمل به بقدر الوسع .

ص: 256


1- . حكاه المازندراني في شرح اصول الكافي ، ج 1 ، ص 210 : عن البهائي ؛ وحكي بلفظ «قيل» في هامش الحاشية على اصول الكافي لرفيع النائيني ، ص 66 . وللمزيد راجع : شرح صدر المتألّهين ، ص 66 ؛ الوافي ، ج 1 ، ص 61 .
2- . في «ج» : «تقتضي» .

(تَسْتَفِزُّهَا) ؛ بتشديد الزاي ، أي تستخفّها وتخرجها من مواضعها .

(الْأَطْمَاعُ) ؛ بفتح الهمزة جمع «طمع» بفتحتين كفرس وأفراس : رزق الجند ، أو وقت قبض أرزاقهم ، أو مصدر طمع في الشيء - كعلم - : إذا انتظره من غيره .

(وَتَرْتَهِنُهَا) أي تأخذها بالغلبة كأخذ المرتهن الرهن لا ينفكّ إلاّ بما يرضيه .

(الْمُنى) ؛ بضمّ الميم وفتح النون جمع «مُنْيَة» بضمّ الميم وكسرها وسكون النون ؛ أي الآمال .

(وَتَسْتَعْلِقُهَا) ؛ بالعين المهملة أو المعجمة قبل اللام والقاف بعدها ، من علق الصيد في الحبالة - كعلم - : إذا وقع فيها ، أو من غلق الرهن - كعلم - : استحقّه المرتهن . وفي بعض النسخ بقافين وهو غير مناسب .

(الْخَدَائِعُ) ؛ بكسر الهمزة(1) جمع «خديعة» وهي الاسم من خدعه كمنعه ، أي ختله وأراد به المكروه من حيث لا يعلم .

السابع عشر : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْأَشْعَرِيِّ ، عَنْ عُبَيْدِ اللّه ِ الدِّهْقَانِ) ؛ بكسر المهملة وضمّها : القويّ على التصرّف مع حدّة ، والتاجر ، وزعيم فلاّحي العجم ، ورئيس الإقليم ؛ معرّب «دهخان»(2) .

(عَنْ دُرُسْتَ) ؛ بالدال والراء المهملتين المضمومتين والسين المهملة الساكنة والمثنّاة فوقُ ؛ غير منصرف للعجمة والعلميّة .

(عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ ، قَالَ : قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : أَكْمَلُ النَّاسِ عَقْلاً) أي فهما للدقائق .

(أَحْسَنُهُمْ خُلُقا) ؛ بضمّ المعجمة وسكون اللام وضمّها : السجيّة والطبع والمروءة والدِّين .

الثامن عشر : (عَلِيٌّ ، عَنْ أَبِي هَاشِمٍ الْجَعْفَرِيِّ ، قَالَ : كُنَّا عِنْدَ الرِّضَا عليه السلام ، فَتَذَاكَرْنَا الْعَقْلَ

ص: 257


1- . في «أ» : «الهمز» .
2- . في «د» : «دهخوان» .

وَالْأَدَبَ) ؛ بفتحتين ، أي العمل بمقتضى العلم الذي حصل .

(فَقَالَ : يَا أَبَا هَاشِمٍ ، الْعَقْلُ حَبَاءٌ) ؛ بفتح المهملة والموحّدة والمدّ ، أي عطاء .

(مِنَ اللّه ِ) . والمراد أنّ قوّة(1) العقل ليست اختياريّة للعباد ؛ لاختلاف وسعهم في ذلك ، كما مرّ في السابع .

(وَالْأَدَبُ كُلْفَةٌ) ؛ بالضمّ : ما يتكلّفه الإنسان من نائبة أو حقّ ؛ أي الأدب الاختياري يمكن للإنسان تكلّفه .

(فَمَنْ تَكَلَّفَ الْأَدَبَ) أي حمل نفسه على تحمّله إذا لم يكن طائعا له .

(قَدَرَ عَلَيْهِ) أي على الأدب .

(وَمَنْ تَكَلَّفَ الْعَقْلَ) أي ادّعى مرتبة من العقل هو دونها ، كمن تصدّر للإمامة أو للقضاء بين الناس أو للمشوَرَة وليس أهلاً لذلك .

(لَمْ يَزْدَدْ بِذلِكَ إِلاَّ جَهْلاً) أي إلاّ إظهار جهله ، أي حمقه عند القوم . ويحتمل أن يكون التكلّف فيه باعثا على زيادة الجهل في الواقع لأنّه يشوّش ذهنه .

التاسع عشر : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ الْمُبَارَكِ ، عَنْ عَبْدِ اللّه ِ بْنِ جَبَلَةَ) ؛ بالجيم والموحّدة المفتوحتين . (عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَمَّارٍ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : قُلْتُ لَهُ : جُعِلْتُ فِدَاكَ ، إِنَّ لِي جَارا كَثِيرَ الصَّلاَةِ ، كَثِيرَ الصَّدَقَةِ ، كَثِيرَ الْحَجِّ ، لا بَأْسَ بِهِ) أي لا يصل منه إليّ أو إلى جاره أو إلى أحد ضررٌ .

(قَالَ : فَقَالَ عليه السلام : يَا إِسْحَاقُ، كَيْفَ عَقْلُهُ؟) أي أَهُوَ مُهتَدٍ موافق لكم ، أم مخالف؟

(قَالَ : قُلْتُ(2) : جُعِلْتُ فِدَاكَ ، لَيْسَ لَهُ عَقْلٌ ، قَالَ : فَقَالَ : لا يَنْتَفِعْ)(3) أي الجار .

(بِذلِكَ) . الباء للإلصاق ، أي بعمله وكثرة عبادته .

(مِنْهُ) . من للسببيّة ، أي من أجل أنّه ليس له عقل . وفي نسخة «لا يرتفع بذلك منه» ،

ص: 258


1- . في «ج» : - «قوّة» .
2- . في الكافي المطبوع : + «له» .
3- . في الكافي المطبوع : «يرتفع» .

والمعنى لا يرتفع عمله إلى اللّه بذلك ، أي بسبب أنّه ليس له عقل منه ، أي من الجار ، فالباء للسببيّة و«من» للابتداء .

العشرون : (الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ السَّيَّارِيِّ) ؛ بفتح المهملة وشدّ الخاتمة . (عَنْ أَبِي يَعْقُوبَ الْبَغْدَادِيِّ ، قَالَ : قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ) ؛ بكسر المهملة وكسر الكاف المشدّدة والخاتمة والمثنّاة فوقُ ، واسمه يعقوب بن إسحاق صاحب كتاب إصلاح المنطق في اللغة من أفاضل الإماميّة وثقاتهم .(1)

(لِأَبِي الْحَسَنِ عليه السلام ) ؛ أي الثالث .

(لِمَاذَا) ؛ اسم استفهام مركّب من «ما» و «ذا» .

(بَعَثَ اللّه ُ مُوسَى بْنَ عِمْرَانَ عليه السلام بِالْعَصَا وَيَدِهِ الْبَيْضَاءِ وَآلَةِ السِّحْرِ؟) . الآلة بالهمز والألف المنقلبة عن الواو وتخفيف اللام : الرجعة والكساد ، وهي ضدّ الرواج والرونق ؛ مأخوذة من الأوْل بفتح الهمز وسكون الواو بمعنى الرجوع . والمراد هنا ما يورث الرجعة والكساد . والسحر بالكسر مصدر باب منع - : تغطية العيون بالتلبيس والتزوير في أمر يرى أنّه خارق للعادة ، فهي من عطف العامّ على الخاصّ ، ويشمل الجراد والقمّل والضفادع والدم وانفجار الماء من الحجر وانفلاق البحر ونتق الطور على بني إسرائيل .

(وَبَعَثَ عِيسى عليه السلام بِآلَهِ الطِّبِّ) ؛ بتثليث المهملة وشدّ الموحّدة ، مصدر باب نصر وضرب : علاج الجسم بالدواء .

(وَبَعَثَ مُحَمَّدا - صَلَّى اللّه ُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَعَلى جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ - بِالْكَلاَمِ) ؛ أي بآلة الكلام ، حَذَف المضاف اقتصارا واكتفاءً بما سبق . ويجيء في تتمّة الحديث ما يظهر به أنّ الصواب هنا بالشعر .

(وَالْخُطَبِ) ؛ بضمّ المعجمة وفتح المهملة ، جمع «خُطبة» بالضمّ ، وهي الكلام

ص: 259


1- . ترجمة هذا العالم مفصلةً في مقدمة كتاب ترتيب إصلاح المنطق المطبوع والمنشور في مجمع البحوث الإسلامية في مشهد .

البليغ الغير المنظوم الصادر عن البشر الملقى إلى جماعة ؛ لجمعهم على أمرٍ مهمّ بالترغيب أو الترهيب .(1)

إن قلت : قد نقل من معجزاته صلى الله عليه و آله آلة السحر كالإسراء مع إخباره بالرفقة والعلامة التي في العير ، وكردّ الشمس ، وانشقاق القمر ، وتسبيح الحصى ، وحنين الجذع ، ومجيء الشجرة وشهادتها له بالنبوّة ، وتسليم الحجر عليه ، ونُبُوع الماء من بين أصابعه ، وإشباع الخلق الكثير من الطعام القليل ، وشكاية الناقة ، وشهادة الشاة المشويّة ، وإظلال السحاب قبل مبعثهِ ، وما كان من حال أبي جهل وصخرته حين أراد أن يضربها على رأسه ، وما كان من شاة اُمّ معبد حين مسح يده على ضرعها ، ونحو ذلك(2) ، فما وجه تخصيص الكلام والخُطب بالذكر؟

قلت : المراد معجز يبقى بقاءَ دينه متواترا ، أو أوّل معجزا ثبت به نبوّته ، وأنّه المتبادر من قولنا : بعث بكذا .

(فَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ عليه السلام : إِنَّ اللّه َ لَمَّا بَعَثَ مُوسى عليه السلام كَانَ الْغَالِبُ عَلى أَهْلِ عَصْرِهِ السِّحْرَ ، فَأَتَاهُمْ مِنْ عِنْدِ اللّه ِ بِمَا لَمْ يَكُنْ فِي وُسْعِهِمْ مِثْلُهُ ، وَمَا أَبْطَلَ بِهِ سِحْرَهُمْ) بإظهار أنّ السحر حيلة بأمرٍ خفيّ المأخذ ليس على ما يدّعيه الساحر من أنّه خارق عادةً ، أو كالمعجز ، كما يشعر به قوله تعالى : «مَا يَأْفِكُونَ»(3) .

(وَأَثْبَتَ بِهِ) أي بما آتاهم به (الْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ) ؛ فإنّ من غلب عليه علم السحر عالم بأنّ ما أتى به ليس من جنس السحر ؛ إذ لا يمكن مثلاً أن يَلقَف العصا جميع السحر الذي أتى به كلّ سحّار عليم بحيلة من مجرى العادة .

(وَإِنَّ اللّه َ بَعَثَ عِيسى عليه السلام فِي وَقْتٍ قَدْ ظَهَرَتْ فِيهِ الزَّمَانَاتُ) ؛ بفتح الزاي ، أي الآفات والأمراض التي تبقى زمانا لا تزول .(4)

ص: 260


1- . اُنظر: القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 63 خطب .
2- . ذكر هذه المعاجز الشيخ الطوسي في الاقتصاد ، ص 181 ؛ والمبسوط ، ج 4 ، ص 154 والطبرسى في اعلام الورى ، ج 1 ، ص 76 ؛ وابن حزم في المحلى ، ج 1 ، ص 36 ؛ وانظر: البداية والنهاية ، ج 6 ، ص 138 وما بعدها .
3- . الأعراف 7 : 117 .
4- . اُنظر: المصباح المنير ، ص 256 زمن .

(وَاحْتَاجَ النَّاسُ إِلَى الطِّبِّ) ؛ أي فكان تعلّم الطبّ شائعا فيهم .

(فَأَتَاهُمْ مِنْ عِنْدِ اللّه ِ(1) بِمَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ مِثْلُهُ ، وَبِمَا) ؛ مصدريّة .

(أَحْيَا لَهُمُ الْمَوْتى وَأَبْرَأَ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِ اللّه ِ(2)) . المراد بالإحياء والإبراء هنا طلبهما من اللّه بحيث يترتّب المطلوب على الطلب ، وذلك لأنّهما فعل اللّه حقيقة ، وليس معنى الإذن هنا ما يأتي بيانه في «كتاب التوحيد» في «باب في أنّه لا يكون شيء في الأرض ولا في السماء إلاّ بسبعة»(3) بل معناه الرخصة ورفع الحَظر .

(وَأَثْبَتَ بِهِ) أي بما لم يكن عندهم مثله (الْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ) ؛ فإنّ من غلب عليه علم الطبّ عالم بأنّ ما أتى به ليس من جنس الطبّ وخارق للعادة .

(وَإِنَّ اللّه َ(4) بَعَثَ مُحَمَّدا صلى الله عليه و آله فِي وَقْتٍ كَانَ الْغَالِبُ عَلى أَهْلِ عَصْرِهِ الْخُطَبَ وَالْكَلاَمَ) ؛ وذلك أنّهم كانوا فرسان الخطب والكلام قد خُصّوا من ذرابة اللِّسان(5) والبلاغة ما لم يؤتَ غيرهم من الاُمم ، وكان ذلك لهم طبعا وخِلقة كانوا يأتون على البديهة بالخطب العجيبة في المقامات الغريبة ، ويرتجزون بين الطعن والضرب ، ويمدحون ويقدحون ويرفعون ويضعون ، وخصّوا من الذكاء والفهم والعلم بظاهر من الحياة الدنيا بما لا يخفى على المتتبّع لكلامهم ، قد وصلوا في تبييتهم(6) القول في نظم الاُمور ورعاية المصالح إلى ما لم يصل إليه أمثالهم ، لا شكّ أنّه كان البلاغة مِلك قيادهم ، والكلام طوع مرادهم .

(وَأَظُنُّهُ قَالَ : الشِّعْرَ) . هذا كلام السيّاري للاعتراض على نقل أبي يعقوب ، والضمير البارز في «أظنّه» والمستتر في «قال» راجع إلى الإمام عليه السلام . والشِعْر - بكسر المعجمة

ص: 261


1- . في الكافي المطبوع : + «تعالى» .
2- . في الكافي المطبوع : + «تعالى» .
3- . عنوان الباب في الكافي المطبوع : «باب في أنّه لا يكون شى ء في السماء والأرض إلاّ بسبعة» .
4- . في الكافي المطبوع : + «تعالى» .
5- . لسان ذرب ، أي فصيح . المصباح المنير ، ص 207 ذرب .
6- . أي في صياغة قولهم على شكل أشعار ، ويحتمل أن تكون : «تبيينهم» بالنون قبل الهاء .

وسكون المهملة - : الكلام المنظوم ، والمقصود أنّه ينبغي أن يكون «الشعر» بدل «الكلام» ، لأنّه لا تقابل بين الخطب والكلام ؛ إنّما التقابل بين الخطب والشعر ، فإنّ الأوّل غير منظوم والثاني منظوم ، وأيضا الكلام يشمل كلام اللّه تعالى(1) ، فليس القرآن آلة الكلام مطلقا . وهذا مناقشة مع ابن السكّيت أيضا في سؤاله . وإنّما قال السيّاري : «أظنّه» ولم يقل : «أعلمه» لأنّ الجواب في أمثال ذلك قد يكون على طبق السؤال مماشاةً مع السائل .

(فَأَتَاهُمْ مِنْ عِنْدِ اللّه ِ(2) مِنْ مَوَاعِظِهِ وَأحْكَامِهِ)(3) . «من» الاُولى ابتدائيّة ، والثانية تبعيضيّة ، والإتيان بالبعض إمّا في أوّل البعثة ، وإمّا باعتبار أنّ القرآن بعض كتب اللّه تعالى ، وقوله : «مواعظه» ناظر إلى الخطب ، وهي جمع موعظة ، وهي ما يُليّن القلب من الوعد والوعيد والقصص والأمثال وبعض مسائل اُصول الدِّين ، وقوله : «وأحكامه» ، ناظر إلى الكلام ، وهي تشمل مسائل الفقه واُصول الفقه وبعض مسائل اُصول الدين .

وقد عدّ الناس من وجوه إعجاز القرآن اُمورا :

الأوّل : البلاغة ، قال تعالى في سورة يوسف : «نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ»(4) .

الثاني : الاُسلوب .

الثالث : الإخبار بالمغيبات المستقبلة ووقوعها كما أخبر .

الرابع : الإخبار عن القرون السالفة والشرائع الداثرة ممّا كان لا يعلم منه القصّة الواحدة إلاّ الفذّ من أحبار أهل الكتاب ، مع أنّه صلى الله عليه و آله كان اُمّيا لا يقرأ ولا يكتب ، ولم يشتغل بمدارسة ، قال تعالى في سورة يوسف : «ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ»(5) الآية .

ص: 262


1- . في «ج» «د» : - «تعالى» .
2- . في الكافي المطبوع : + «تعالى» .
3- . في الكافي المطبوع : «وحكمه» .
4- . يوسف 12 : 3 .
5- . يوسف 12 : 44 .

الخامس : وروده بتعجيز قوم في قضايا وإعلامهم أنّهم لا يفعلونها فما فعلوا كقوله في سورة الجمعة : «فَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ»(1) .

السادس : كونه تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب ، كما في سورة يونس ، ويجيء بيانه في سابع «باب الردّ إلى الكتاب والسنّة» .

السابع : صرف القلوب عن المعارضة بالإتيان بمثله أو بما يدانيه في مقام التحدّي .

الثامن : عدم الاختلاف ، قال تعالى في سورة النساء : «وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّه ِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافا كَثِيرا»(2) وهو مبنيّ على إرجاع ضميري «كان» و«فيه» إلى القرآن ، لا إلى الذي تقول .

التاسع : كونه باقيا لا يعدم ما بقيت الدنيا ، تكفّل اللّه بحفظه قال : «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ»(3) .

العاشر : أنّ قارئة لا يملّه ، وسامعه لا يمجّه ، بل الإكباب على تلاوته يزيده حلاوة ، وترديده يوجب له محبّة .

الحادي عشر : حسن التخلّص من قصّة إلى اُخرى ، والخروج من باب إلى غيره على اختلاف معانيه ، وانقسام السورة الواحدة إلى أمر ونهي ، وخبر واستخبار ، ووعد ووعيد ، وإثبات نبوّة وتوحيد ، وترهيب وترغيب إلى غير ذلك من فوائده دون خلل يتخلّل فصوله ، كما في أوّل سورة ص ، والكلام الفصيح إذا اعتوره مثل هذا ضعفت قوّته ، ولانت جزالته ، وقلَّ رونقه .

الثاني عشر : إيجازه وأنّ الجمل الكثيرة انطوت عليها الكلمات القليلة .

الثالث عشر : تيسيره تعالى حفظه لمتعلِّميه ، وتقريبه على متحفّظيه ، قال تعالى : «وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ»(4) .

ص: 263


1- . الجمعة 62 : 6 .
2- . النساء 4 : 82 .
3- . الحجر 15 : 9 .
4- . القمر 54 : 17 .

الرابع عشر : كونه تبيان كلّ شيء كما في سورة النحل ، ويجيء في سابع «باب الردّ إلى الكتاب والسنّة» أنّ هذا إنّما يظهر لنا إذا راجعنا في تفسيره إلى القيّم له من أهل البيت عليهم السلام ، والذي يظهر لنا منه بدون المراجعة إليهم جمعه لعلوم ومعارفَ إلهيّةً وغيرها لم يعهد العرب عامّة ولا محمّد صلى الله عليه و آله قبل نبوّته خاصّة بمعرفتها ، ولم يحط به أحد من علماء الاُمم من بيان الشرائع والتنبيه على طرق الحجج العقليّات ، والردّ على فرق الاُمم ببراهين قويّة ، وأدلّة بيّنة ، وأخبار الدار الآخرة وغيرها ، فهو قولٌ فصل ليس بالهزل أصلاً .

هذه أربعة عشر وجها ، وقد ذكروا غيرها أيضا .

وظاهر الحديث في قوله : «مواعظه» الوجه الأوّل ، وفي قوله : «وأحكامه» الوجه السادس ، ويحتمل الوجه الرابع عشر .

(مَا أَبْطَلَ بِهِ قَوْلَهُمْ) . كذا في النسخ ، والأنسب بالسابق «بما» بالباء للتعدية . ويحتمل أن يقرأ هنا «فآتاهم» من باب الإفعال ، أي ما كان كلامهم وخطبهم في مقابلته ركيكا جدّا خارجا من جنسه ، ويحتمل أن يُراد بقولهم إنكارهم نبوّته .

(وَأَثْبَتَ بِهِ الْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ) ؛ فإنّ من غلب عليه علم البلاغة ومعرفة أساليب الخطب والكلام عالمٌ بأنّ القرآن ليس من جنس خطبهم وكلامهم .

(قَالَ : فَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ : تَاللّه ِ) . التاء المثنّاة فوقُ : حرف قسم تستعمل في التعجّب .

(مَا رَأَيْتُ مِثْلَكَ قَطُّ ، فَمَا الْحُجَّةُ) أي للإمام في إثبات الإمامة .

(عَلَى الْخَلْقِ) أي على اُمّة نبيّنا صلى الله عليه و آله .

(الْيَوْمَ؟) أي بعد انقضاء الوحي ويوم لا يأتي أحد بمعجز جديد من عند اللّه على طبق دعواه ، أو يأتي لكن لا جهارا على رؤوس الأشهاد حتّى يعرفه كلّ أحد كما كان في عصر الأنبياء عليهم السلام .

(قَالَ : فَقَالَ عليه السلام : الْعَقْلُ) . خبر مبتدأ محذوف ، أي الحجّة العقل ، والمراد به رعاية الآداب الحسنة لتحصيل علم الدِّين والعمل به بقدر الوسع . ويحتمل أن يُراد به ما يقابل الجنون ؛ والمآل واحد . فإنّه مركوز في ذهن كلّ مكلّف وجوب رعاية الآداب

ص: 264

الحسنة المذكورة . وقوله :

(تَعْرِفُ(1) بِهِ الصَّادِقَ عَلَى اللّه ِ فَنُصَدِّقُهُ(2) ، وَالْكَاذِبَ عَلَى اللّه ِ فَنُكَذِّبُهُ(3)) ؛ خطابٌ وجملة استئنافيّة بيانيّة ؛ يعني أنّه لا حاجة في معرفة الإمام إلى معجز جديد ، بل القرآن كاف في ذلك بالنسبة إلى العاقل ، فإنّ كلّ عاقل يعلم أنّ اللّه حرّم في القرآن الاختلاف بالظنّ ، والقولَ على اللّه بغير علم ، أي بالاجتهاد والرأي ، وذلك في آيات كثيرة خارجة عن العدّ والإحصاء ، قطعيّة الدلالة ، كما اُشير إليه فيما مضى في ثاني عشر الباب ، وأنّه تعالى جعل الحكم بغير إذن من اللّه وقبول في شرعه افتراءً على اللّه وكذبا عند اللّه ، وإن كان مطابقا لنفس الأمر ، كما في قوله تعالى في سورة يونس : «قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللّه ُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاما وَحَلاَلاً قُلْ أَاللّه ُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّه ِ تَفْتَرُونَ»(4) ، ونظيره قوله تعالى فى سورة النور : «فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَآءِ فَأُولَٰئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ»(5) وأنّه تعالى أمر الناس(6) بأن يكونوا مع الصادقين ، كما في قوله تعالى في سورة التوبة : «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّه َ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ »(7) ، وجعل لازم الصدق أن يكون عن علم وبرهان ، كما في قوله : «قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ »(8) ، والعاقل يعرف ذلك بأدنى تأمّل في آيات اللّه ، ويجد الفرق بين من فتواه وحكمه عن اجتهاد وظنّ ومن ليس كذلك ، بل ليس أحد من الذين ادّعوا الإمامة وليسوا لها بأهل إلاّ وقد أقرّ على نفسه بعدم العلم وإنّ أعلى ما(9) ادّعى لنفسه الاجتهاد والظنّ ، وليس ذلك الإقرار إلاّ خوفا من الافتضاح ؛ لأنّ

ص: 265


1- . في الكافي المطبوع : «يَعْرِف» .
2- . في الكافي المطبوع : «فيصدّقه» .
3- . في الكافي المطبوع : «فيكذّبه» .
4- . يونس 10 : 59 .
5- . النور 24 : 13 .
6- . في «أ» : - «في سورة النور - إلى - أمر الناس» .
7- . التوبة 9 : 119 .
8- . البقرة 2 : 111 .
9- . في «ج» : «من» .

كلّ عاقل يجد الفرق بين العالم وغير العالم ، أي المجتهد ، فهم كما قال اللّه في سورة الجمعة : «مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللّه ِ وَاللّه ُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ»(1) .

(قَالَ : فَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ : هذَا وَاللّه ِ هُوَ الْجَوَابُ) . الحصر مبنيّ على ما مضى في خطبة الكتاب من قول العالم عليه السلام : «من لم يعرف أمرنا من القرآن لم يتنكّب الفتن» . وأنّ هذا أوضح الأدلّة القرآنيّة لكثرة الآيات في هذا المعنى بحيث يظهر على كلّ عاقل ، فبهذا

تثبت الحجّة على جميع الخلق اليوم ، دون غيره .

الحادي والعشرون : (الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، عَنْ مُعَلَّى) ؛ بضمّ الميم وفتح المهملة وشدّ اللام المفتوحة . (بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنِ الْوَشَّاءِ) ؛ بفتح الواو وشدّ المعجمة والمدّ . (عَنِ مثنّى)(2) ؛ بضمّ الميم وفتح المثلّثة وشدّ النون المفتوحة . (الْحَنَّاطِ) ؛ بفتح المهملة وشدّ النون . (عَنْ قُتَيْبَةَ) ؛ بضمّ القاف .

(الْأَعْشى) ؛ بفتح الهمزة وسكون المهملة وفتح المعجمة . والعشى(3) بالفتح والقصر : أن لا يبصر بالليل ويبصر بالنهار ، وقيل : سوء البصر بالليل والنهار ، أو العمى .

(عَنِ ابْنِ أَبِي يَعْفُورٍ) ؛ بفتح الخاتمة وسكون المهملة وضمّ الفاء وسكون الواو ومهملة .

(عَنْ مَوْلىً لِبَنِي شَيْبَانَ) ؛ بفتح المعجمة وسكون الخاتمة والموحّدة : اسم أبوي قبيلتين من بكر بن وائل : أحدهما شيبان بن ثعلبة ، والآخر شيبان بن ذهل .(4)

(عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ، قَالَ : إِذَا قَامَ قَائِمُنَا ، وَضَعَ اللّه ُ يَدَهُ) . الضمير للّه أو للقائم .

(عَلى رُؤُوسِ الْعِبَادِ) . كناية عن التوفيق أو عن شفقة القائم .

(فَجَمَعَ) ؛ بصيغة المعلوم ، والضمير للّه أو للقائم ، أو بصيغة المجهول . ويؤيّد الأوّل

ص: 266


1- . الجمعة 62 : 5 .
2- . في الكافي المطبوع : «المثنّى» .
3- . في النسخ : «العشا» والمثبت مطابق لإرادة المصنّف . وقال في المصباح المنير ، ص 412 : «عشى عشىً من باب تعب : ضعف بصره ، فهو أعشى ، والمرأة عشواء» .
4- . الصحاح ، ج 1 ، ص 160 ؛ تاج العروس ، ج 2 ، ص 133 شيب .

الاختلاف بين «جمع» و«كملت» في التذكير والتأنيث .

(بِهَا) أي بيده ؛ فالباء للسببيّة ، أو بالرؤوس ؛ ف- «الباء» بمعنى «في» .

(عُقُولَهُمْ) أي عقل كلّ واحدٍ منهم ، وجَمْعُ العقلِ عبارةٌ عن تقويته بجعل وسع صاحبه أكثر ممّا كان ، وتفريقُهُ عبارةٌ عن ضدّ ذلك تشبيها له بالعسكر إن اجتمعوا فتحوا ، وإن تفرّقوا صاروا مغلوبين ، أو عن جمع جنوده التي مضت في رابع عشر الباب ، أو عبارة عن جمع الحواسّ والآراء ؛ بأن يكون الهمّ واحدا والفكر فارغا والقلب صافيا ، أو جعل كلّ من أفكاره ملاحظا مع الباقي ، فإنّ المتذكّر لأفكاره السابقة أبصرُ في الفكر .

(وَكَمَلَتْ بِهِ) أي بالجمع أو بمجموع وضع اليد والجمع .

(أَحْلامُهُمْ) ؛ الأحلام : الأبدان بلا واحد ، وجمع حلم بالكسر : الأناة .

الثاني والعشرون : (عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ عَبْدِ اللّه ِ بْنِ سِنَانٍ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : حُجَّةُ اللّه ِ عَلَى الْعِبَادِ) أي في الظاهر وجهارا . (النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله (1)) وكذا أوصياؤه القائمون مقامه .

(وَالْحُجَّةُ فِيمَا بَيْنَ الْعِبَادِ وَبَيْنَ اللّه ِ) أي في الباطن (الْعَقْلُ) ؛ كما مضى في ثاني عشر الباب .

الثالث والعشرون : (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ مُرْسَلاً ، قَالَ : قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : دِعَامَةُ) ؛ بكسر الدال المهملة . (الاْءِنْسَانِ الْعَقْلُ) ؛ شبّهه بعماد البيت ، لأنّه يقوم به أمر الإنسان وينتظم .

(وَالْعَقْلُ) ؛ مبتدأ وخبره جملة قوله : (مِنْهُ الْفِطْنَةُ) . والضمير للعقل ، والظرف خبر مقدّم ، و«الفطنة» مبتدأ ثان مؤخّر ؛ أي يتأتّى منه الفطنة ، أي سرعة الانتقال إلى المبادئ المناسبة للمطلوب .

ص: 267


1- . في الكافي المطبوع : - «صلّى اللّه عليه وآله» .

(وَالْفَهْمُ) ؛ بفتح الهاء أو سكونها ، مرَّ تفسيره في الرابع عشر عند قوله : «والفهم وضدّه الغباوة» .

(وَالْحِفْظُ) أي المحافظة على ما يجب رعايته في المبادئ من الترتيب المنتج للمطلوب .

(وَالْعِلْمُ) بالمطلوب بالاستنتاج من تلك المبادئ .

(وَبِالْعَقْلِ يَكْمُلُ) أي الإنسان .

(وَهُوَ دَلِيلُهُ) أي العقل دليل الإنسان إلى إمام الحقّ .

(وَمُبْصِرُهُ) ؛ بضمّ الميم وسكون الموحّدة وكسر الصاد المهملة ، أي مبصر الإنسان ؛ من أبصره : إذا جعله ذا بصيرة، أي ذكاء ، أو ذا بصر ، أي علم ، كقوله تعالى : «فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً»(1) ، أو بكسر الميم وفتح الصاد اسم آلة ، أو بفتح الميم والصاد اسم مكان .

(وَمِفْتَاحُ أَمْرِهِ) ؛ كما يعبّر عن كتاب اللّه بأمر اللّه . ويجيء في «كتاب الحجّة» في سادس «باب معرفة الإمام والردّ إليه» يعبّر عنه بأمر الناس ، ويجيء في «كتاب الحجّة» في عاشر «باب ما نصّ اللّه عزّ وجلّ ورسوله على الأئمّة عليهم السلام واحدا فواحدا»(2) لأنّه صادر

عن اللّه لمصلحة الناس ، فأمره عبارة عن القرآن . والمراد أنّ العقل يدلّ صاحبه إلى إمام عالم بجميع المتشابهات ، حلاّل للمشكلات ، ويحمله على سؤاله عن كلّ ما يحتاج إليه ؛ فالعقل مفتاح القرآن .

(فَإِذَا كَانَ تَأْيِيدُ عَقْلِهِ مِنَ النُّورِ) . المراد بالنور أئمّة الهدى عليهم السلام ، كما يجيء في «كتاب الحجّة» في أحاديث «باب أنّ الأئمّة عليهم السلام نور اللّه عزّ وجلّ» ، وتأييد عقله من النور في صورة كونه مشاهدا لإمام من أئمّة الهدى ، مستفيدا منه مشافهةً .

(كَانَ عَالِما) بكلّ ما يحتاج إليه .

(حَافِظا) أي محافظا على ما يجب حفظه من آداب الفكر في كلّ مسألة .

ص: 268


1- . النمل 27 : 13 .
2- . لا يخفى عليك أنّ أحاديث هذه الباب في الكافي سبعة ، اُنظر: الكافي ، ج 1 ، ص 286 - 291 .

(ذاكِرا) أي غير ناس لمعلوم يحتاج إليه .

(فَطِنا ، فَهِما) أي في كلّ مسألة ، وهذان مع الأوّلين ناظرات إلى الأربعة المذكورة في قوله : «منه الفطنة» إلى آخره ، فالنشر على غير ترتيب اللفّ .

(فَعَلِمَ بِذلِكَ كَيْفَ) أي كيف الحكم في مسألة مسألة .

(وَلِمَ) أي ولأيّ شيء كان الحكم فيها ذلك ، والمراد دليل المسألة .

(وَحَيْثُ) أي عرف مخصّصات الأحكام ونواسخها ومواضع التقيّة .

(وَعَرَفَ مَنْ نَصَحَهُ وَمَنْ غَشَّهُ) أي كان محدّثا عارفا بلحن القول .

(فَإِذَا عَرَفَ ذلِكَ ، عَرَفَ مَجْرَاهُ) ؛ بفتح الميم وسكون الجيم ، مصدر ميمي أو اسم مكان ، أي طريقه الذي ينبغي له سلوكه في المعاش والمعاد .

(وَمَوْصُولَهُ) أي ما ينبغي صلته من الرحم ومن نصحه ، ونحو ذلك .

(وَمَفْصُولَهُ) أي ما ينبغي قطعه من الفساد ومعاشرة من غشّه والفسّاق ونحو ذلك.

(وَأَخْلَصَ الْوَحْدَانِيَّةَ لِلّهِ تعالى(1)) . «الوحداني» بفتح الواو وسكون المهملة منسوبٌ إلى الوحد أو الوحدة بزيادة الألف والنون للمبالغة ، وإذا اُريد المصدر اُلحق به التاء . ومعنى الوحدانيّة هنا التوحّد بالربوبيّة ، ومعنى إخلاصها للّه تعالى أن لا يجعل له شريكا في الأحكام ، كما مرَّ توضيحه في ثاني عشر الباب ، موافقا لقوله تعالى في آية سورة الأنعام وآيتي سورة يوسف : «إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ للّه ِِ»(2) أو في الربوبيّة مطلقا .

(وَالاْءِقْرَارَ بِالطَّاعَةِ) أي للّه . و«الإقرار» منصوب على أنّه مفعول معه ، أو معطوف على الوحدانيّة . ويخدش الثاني أنّ الوحدانيّة وصف للّه تعالى ، والإقرار وصف للعبد ، وعلى التقديرين الظرف لغو والباء للإلصاق .

ويحتمل أن يكون الإقرار مرفوعا على الابتداء ، فالظرف مستقرّ وخبر ، والباء للسببيّة ، أي الإقرار بالوحدانيّة بسبب الطاعة .

ص: 269


1- . في الكافي المطبوع : - «تعالى» .
2- . الأنعام 6 : 57 ؛ يوسف (12) : 40 و 67 .

والمراد بالطاعة فعل المأمور به والاجتناب عن المنهيّ عنه ، ويحتمل أن يكون المراد الصبر والرضا بقضاء اللّه .

(فَإِذَا فَعَلَ ذلِكَ ، كَانَ مُسْتَدْرِكا لِمَا فَاتَ) ؛ بكسر الراء ، أي محاولاً لإدراك ما لم يدركه لعذر ، كمنع الظالمين . ومعنى استدراكه أنّ المؤمن بقصده محصّل لثواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا منعه الظالمون من إدراكهما ، ويمكن أن يكون المراد بالاستدراك ما في زمان القائم عليه السلام .

(وَوَارِدا عَلى مَا هُوَ آتٍ) ؛ أي قائما بحقّ ما هو غير فائت ، كالإنكار الباطني للمنكرات ، ونحو ذلك .

(يَعْرِفُ مَا هُوَ فِيهِ) . «ما» موصولة ، أي يعرف قدر المصائب ، فإنّ لها عوضا ، أو قدر عدم إعطاء الناس حقّه ، فإنّه نعمة ورحمة ، نظير ما يجيء في «كتاب الحجّة» في «باب سيرة الإمام في نفسه» من قوله عليه السلام : «فهل رأيت ظلامة قطّ صيّرها اللّه نعمة إلاّ هذه» .(1)

ويمكن أن يحمل على هذا ما روي عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال : «اختلاف اُمّتي رحمة» .(2)

(وَلِأَيِّ شَيْءٍ هُوَ هاهُنَا) أي لأيّ مصلحة هو فيما هو فيه ، أي ليس ذلك لهوانه على اللّه ، بل لهوان الدنيا وما فيها ورعاية حكمه فيه(3) . ويحتمل أن يكون «هاهنا» إشارة إلى الدنيا .

(وَمِنْ أَيْنَ يَأْتِيهِ) أي يعرف السبب الذي به يأتيه ما هو فيه بأن يعرف أنّ أزمّة الاُمور بيد اللّه تعالى ومصادرها عن قضائه تعالى بحيث لا يستلزم جبرا ، كما يجيء في أبواب من «كتاب التوحيد» .

(وَإِلى مَا هُوَ صَائِرٌ) . الظرف متعلّق بصائر ، و«ما» استفهاميّة ، وإثبات ألفها مع حرف

ص: 270


1- . الحديث 2 من باب سيرة الإمام في نفسه .
2- . علل الشرائع ، ج 1 ، ص 85 ، العلة التي من أجلها صار بين الناس الائتلاف والاختلاف ، ح 4 ؛ معاني الأخبار ، ص 157 ، باب معنى قوله عليه السلام «اختلاف امتي رحمة» ؛ وعنهما في وسائل الشيعة ، ج 27 ، ص 141 ، ح 33425 .
3- . في «أ» : - «حكمه فيه» .

الجرّ نادر إلاّ إذا ركّبت مع «ذا» . ونظيره قراءة عكرمة وعيسى «عمّا يتساءلون»(1) وجوّز الزمخشري في «بِمَا غَفَرَ لِى رَبِّى»(2) كون «ما» استفهاميّة(3) مع ردّه على من قال ذلك في «بِمَآ أَغْوَيْتَنِى»(4) بأنّ إثبات الألف قليل شاذّ .(5)

وضمير «هو» للعاقل ، و«ما» عبارة عن السعادة الأبديّة في الدار الآخرة ، أو ضمير «هو» لما هو فيه و«ما» عبارة عمّا ستنقلب الحال إليه في ظهور القائم عليه السلام .

(وَذلِكَ كُلُّهُ مِنْ تَأْيِيدِ الْعَقْلِ) ؛ إضافة إلى المفعول ، أي من النور .

الرابع والعشرون : (عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مِهْرَانَ) ؛ بكسر الميم وسكون الهاء ومهملة . (عَنْ بَعْضِ رِجَالِهِ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : الْعَقْلُ دَلِيلُ الْمُؤمِنِ) . ظاهر ممّا سبق آنفا .

الخامس والعشرون : (الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، عَنْ مُعَلَّى بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنِ الْوَشَّاءِ ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عُثْمَانَ ، عَنِ السَّرِيِّ) ؛ بفتح السين المهملة وكسر الراء المهملة وشدّ الخاتمة . (بْنِ خَالِدٍ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله : يَا عَلِيُّ ، لا فَقْرَ أَشَدُّ مِنَ الْجَهْلِ) ؛ المقابل للعقل .

(وَلاَ مَالَ أَعْوَدُ) ؛ بالمهملتين ، أي أنفع (مِنَ الْعَقْلِ) . ظاهر(6) من السابق أيضا .

السادس والعشرون : (مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجْرَانَ) ؛ بفتح النون وسكون الجيم ومهملة . (عَنِ الْعَلاَءِ بْنِ رَزِينٍ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ، قَالَ : لَمَّا خَلَقَ اللّه ُ الْعَقْلَ ، قَالَ لَهُ : أَقْبِلْ فَأَقْبَلَ ، ثُمَّ قَالَ لَهُ : أَدْبِرْ فَأَدْبَرَ ، فَقَالَ :

ص: 271


1- . مجمع البيان ، ج 10 ، ص 238 ؛ مغني اللبيب ، ج 1 ، ص 299 .
2- . يس 36 : 27 .
3- . الكشاف ، ج 3 ، ص 320 .
4- . الحجر 15 : 39 .
5- . الكشاف ، ج 2 ، ص 70 .
6- . في «أ» : «ظاهرا» .

وَعِزَّتِي وَجَلاَلِي مَا خَلَقْتُ خَلْقا أَحْسَنَ مِنْكَ ، إِيَّاكَ آمُرُ ، وَإِيَّاكَ أَنْهى ، وَإِيَّاكَ أُثِيبُ ، وَإِيَّاكَ أُعَاقِبُ) . مضى شرحه في أوّل الباب.

السابع والعشرون : (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنِ الْهَيْثَمِ) ؛ بفتح الهاء وسكون الخاتمة وفتح المثلّثة . (بْنِ أَبِي مَسْرُوقٍ النَّهْدِيِّ) ؛ بفتح النون وسكون الهاء ومهملة ، نسبة إلى قبيلة باليمن .(1) (عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ خَالِدٍ ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَمَّارٍ) ؛ بفتح المهملة وشدّ الميم .

(قَالَ : قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : الرَّجُلُ) . اللام للعهد الذهني ، أي بعض الرجال .

(آتِيهِ وَأُكَلِّمُهُ بِبَعْضِ كَلاَمِي ، فَيَعْرِفُهُ كُلَّهُ) أي ما ذكرت وما لم أذكر بعدُ من تتمّة الكلام .

(وَمِنْهُمْ مَنْ آتِيهِ فَأُكَلِّمُهُ بِالْكَلاَمِ ، فَيَسْتَوْفِي كَلاَمِي كُلَّهُ) أي يفهمه بعد الإتمام .

(ثُمَّ يَرُدُّهُ عَلَيَّ كَمَا كَلَّمْتُهُ) أي يجاوبني على طبق ما كلّمته بحيث يعلم منه أنّه فهم الكلام من أوّله إلى آخره ، أو يقول : مضمون كلامك كذا وكذا ، ويصيب .

(وَمِنْهُمْ مَنْ آتِيهِ فَأُكَلِّمُهُ ، فَيَقُولُ : أَعِدْ عَلَيَّ؟ فَقَالَ : يَا إِسْحَاقُ ، وَمَا تَدْرِي) . الاستفهام مقدّر و«ما» نافية .

(لِمَ هذَا؟ قُلْتُ : لاَ ، قَالَ : الَّذِي تُكَلِّمُهُ بِبَعْضِ كَلاَمِكَ ، فَيَعْرِفُهُ كُلَّهُ ، فَذَاكَ) . كرّر لوقوع الفصل .

(مَنْ عُجِنَتْ نُطْفَتُهُ بِعَقْلِهِ ؛ فَأَمَّا(2) الَّذِي تُكَلِّمُهُ ، فَيَسْتَوْفِي كَلاَمَكَ ، ثُمَّ يُجِيبُكَ عَلى كَلاَمِكَ) . أي على طبقه . (فَذَاكَ الَّذِي رُكِّبَ) ؛ بصيغة المجهول من باب التفعيل ، أي حمل ؛ شبّه ذلك بتركيب الفصّ في الخاتم .

عَقْلُهُ فِيهِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ ؛ وَأَمَّا الَّذِي تُكَلِّمُهُ بِالْكَلاَمِ ، فَيَقُولُ : أَعِدْ عَلَيَّ ، فَذَاكَ الَّذِي رُكِّبَ عَقْلُهُ فِيهِ بَعْدَ مَا كَبِرَ) أي خرج من بطن اُمّه إلى أن صار مراهقا أو بالغا مكلّفا .

ص: 272


1- . تاج العروس ، ج 5 ، ص 288 نهد .
2- . في الكافي المطبوع : «وأمّا» .

(فَهُوَ يَقُولُ لَكَ : أَعِدْ عَلَيَّ) . المقصود أنّ هذا التفاوت بينهم ليس باختيارهم ، بل بفعل اللّه على حسب ما يعلمه من المصلحة ، كما مرّ في الخامس عشر .

الثامن والعشرون : (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنْ بَعْضِ مَنْ رَفَعَهُ) . فيه مسامحة ، والمراد «عن بعض أصحابنا رفعه» .

(عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله : إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ كَثِيرَ الصَّلاَةِ ، كَثِيرَ الصِّيَامِ ، فَلاَ تُبَاهُوا) أي لا تفاخروا (بِهِ حَتّى تَنْظُرُوا كَيْفَ عَقْلُهُ) .

التاسع والعشرون : (بَعْضُ أَصْحَابِنَا رَفَعَهُ ، عَنْ مُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : يَا مُفَضَّلُ ، لاَ يَفْلِحُ) ؛ بالفاء ومهملة بصيغة المعلوم من باب منع أو باب الإفعال . والفلاح : الفوز والنجاة والبقاء .

(مَنْ لاَ يَعْقِلُ ، وَلاَ يَعْقِلُ مَنْ لاَ يَعْلَمُ) . ظاهر ممّا مرّ في الثاني عشر عند قوله : «يا هشام إنّ العقل مع العلم» .

(وَسَوْفَ) . هي كالسين إذا دخلت على فعل محبوب أو مكروه أفادت التوكيد ، وأنّه واقع لا محالة .

(يَنْجُبُ) ؛ من باب حسن ؛ والنجيب : الكريم الحسيب .

(مَنْ يَفْهَمُ) التفاوت بين العلم والظنّ ، فيتّبع المحكمات اللاتي هنّ اُمّ الكتاب دون ما تشابه منه إلاّ بعد سؤال أهل الذِّكر .

(وَيَظْفَرُ) ؛ من باب علم ؛ والظَفَرُ محرّكةً : الفوزُ بالمطلوب ، يقال : ظفر مطلوبه وبه وعليه : إذا أدركه ، ويقال : ظفر بعدوّه وظفره أيضا : إذا نال منه ما يريد .

(مَنْ يَحْلُمُ) . الحلم بالكسر من باب حسن : الأناة ، والمقصود دفع السيّئة ، أي كلمات الخصوم بالتي هي أحسن .

(وَالْعِلْمُ) بطريقة الحلم والظفر (جُنَّةٌ) . الجنّة بالضمّ : ما يُستتر به من سلاح والسُترة .

(وَالصِّدْقُ عِزٌّ ، وَالجَهْلُ ذُلٌّ) . المراد بالصدق هنا صدق النيّة في إهداء النصيحة وإظهار الحقّ بأن لا يكون قصده إظهار الغلبة على الخصم ، أو هو القول على اللّه

ص: 273

بالمعلوم ؛ وبالجهل المجادلة لا بالتي هي أحسن وترك الحلم ، أو هو القول على اللّه بغير علم ، ويسمّى كذبا وافتراءً كما مرّ في العشرين .

(وَالْفَهْمُ) . المراد به البصيرة بمواقع الكلام في دفع كلمات الخصوم .

(مَجْدٌ) ؛ بالفتح ، أي كرم وحسب .

(وَالْجُودُ) بالمال (نُجْحٌ) ؛ بضمّ النون وسكون الجيم ومهملة : الظفر بالحوائج ، أي هو من أسباب الظفر .

(وَحُسْنُ الْخُلُقِ) أي المماشاة مع الخصوم في الكلام معهم .

(مَجْلَبَةٌ) ؛ بفتح الميم وسكون الجيم وفتح اللام والموحّدة من جلبه - كنصر وضرب - أي ساقه من موضع إلى آخر ، اسم المكان للكثرة ؛ يقال : إذا كثر الشيء بالمكان مفعلة(1) .

(لِلْمَوَدَّةِ) ؛ بفتح الميم وقد تكسر وفتح الواو من باب علم : الحبّ ، يعني أنّ حسن الخلق يجلب مودّة الخصوم وإصغاءهم إلى البرهان وإلى دفع شبههم .

(وَالْعَالِمُ بِزَمَانِهِ لاَ تَهْجُمُ) ؛ بكسر الجيم أو ضمّها ، من «هجم عليه» بالفتح هجوما : إذا انتهى إليه بغتةً ، أو دخل بغير إذن .

(عَلَيْهِ اللَّوَابِسُ) . جمع «لابسة» أي الشبهات ، من لبست عليه الأمر - كضربت - أي خلطت ، يعني أنّ من يعلم أحوال أهل زمانه - من تسرّع المشهورين بالصلاح والعلم إذا افترصوا فرصة إلى إيثار الحياة الدنيا إلاّ الشاذّ النادر جدّا - يعلم أحوال الصحابة والتابعين ، ولا يكترث لشبهة كثرة أهل الخلاف وقلّة أهل الحقّ .

قال لي بعض الأصدقاء : إنّي أتعجّب في أنّ الجماعة بعد سماعهم الوصيّة من النبيّ صلى الله عليه و آله كيف ذهبوا عن أهل البيت في أوّل الأمر إلاّ ثلاثة ؟

قلت : تعجّبي على عكس تعجّبك ، أنت تتعجّب من ذهاب الجماعة ، وأنا أتعجّب من بقاء الثلاثة ، وليس ما سمعوا من النبيّ صلى الله عليه و آله فوق ما سمعوا من اللّه في القرآن في تعيين

ص: 274


1- . في «أ، ج» : «مفعله» بدون تنقيط الأخير .

الإمام ، وقد أشرنا إليه في ثاني عشر الباب ، وفي «كتاب الروضة» بعد حديث نوح ،(1) واللّه ما أعجب ممّن هلك كيف هلك ، ولكن أعجب ممّن نجا كيف نجا .

ويحتمل أن يُراد أنّ العالم بالمخالفين وإضمارهم العداوة لنا لا يقرّ عندهم بما ينافي التقيّة إذا رأى منهم لين الكلام .

(وَالْحَزْمُ مَسَاءَةُ الظَّنِّ) . إشارةٌ إلى ما اُشير إليه في الفقرة السابقة . و«الحزم» بفتح المهملة وسكون المعجمة : الاحتياط ، وأصله من شدّ الحزام . والمساءة مصدر ميمي ، والمراد بسوء الظنّ عدم الاعتماد ، يعني الاحتياط أن لا يغترّ الإنسان بما صدر عن الجماعة من صورة الصلاح ، ولا بقول من قال : إنّي أتّبع السلف الصالح ، ونحو ذلك من الألفاظ الهائلة ؛ بل يتّبع ما في محكم كتاب اللّه والسنّة المتّفق عليها بين الفريقين حتّى يثبت حقّيّة فريق ، ثمّ يتّبع ما قالوا ، أو أن لا يغترّ بلين كلام المخالفين فيترك التقيّة .

(وَبَيْنَ الْمَرْءِ وَالْحِكْمَةِ نِعْمَةُ الْعَالِمِ ، وَالْجَاهِلُ شَقِيٌّ بَيْنَهُمَا) . تقوية لما في الفقرتين السابقتين ، و«البين» قد يكون إسما بمعنى الوصلة ، كقولك : لقيته غداة البين ، وبمعنى الفرقة ، كما في غُراب البين ، وقد يكون ظرفا متمكّنا ، وهو هنا اسم بمعنى الوصلة مرفوع على الابتداء ، ويحتمل أن يكون ظرفا منصوبا ، ويضاف «شقيّ» إلى «بينهما» على الأوّل كقوله : «وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا»(2) لا على الثاني . ومضى معنى الحكمة في ثاني عشر الباب أنّها الفهم والعقل .

يعني أنّ العالم يفرح بكون المرء حكيما ، فيكون عالما بزمانه حازما ، والجاهل يسوءه أن يكون المرء حكيما ، فقوله : «نعمة» مضاف إلى العالم إضافة لاميّة ، والمراد بالشقاء هنا التعب والمشقّة ، وهو ضدّ النعمة ، لا ضدّ السعادة الاُخرويّة ، وضمير «بينهما» للمرء والحكمة .

ص: 275


1- . الكافي ، ج 8 ، ص 267 ، ح 392 .
2- . النساء 4 : 35 .

والحاصل على الثاني أنّ في الوصلة بين المرء والحكمة نعمة للعالم ؛ لالتذاذه بتلك الوصلة ، وشقاء للجاهل ؛ لنفرته عن تلك الوصلة ، فإنّه يحبّ أن يكون كلّ الناس على السفه وخلاف الحكمة ليتيسّر له ترويج جهله ، أو ليكون الناس مثله .

ولو حمل الفقرتان السابقتان على الأمر بالتقيّة احتمل هنا أن يُراد أنّ المرء إذا كان عالما كان اتّصافه بالحكمة سهلاً فيتّقي ، وإذا كان جاهلاً صعبت عليه الحكمة فلا يتّقي .

(وَاللّه ُ وَلِيُّ مَنْ عَرَفَهُ) أي من عرف اللّه ، وهو العالم الذي يحبّ الوصلة بين المرء والحكمة .

(وَعَدُوُّ مَنْ تَكَلَّفَهُ) أي تكلّف اللّه ، والمراد مَن تكلّف معرفته ، وهو الجاهل الذي له شقاء بين المرء والحكمة .

(وَالْعَاقِلُ غَفُورٌ) ؛ بفتح المعجمة ، أي كثير العفو ؛ لعدم اهتمامه باُمور الدنيا .

(وَالْجَاهِلُ) المقابل للعاقل (خَتُورٌ) ؛ بفتح المعجمة وضمّ المثنّاة فوقُ ، أي غدّار يُظهر المغفرة ويُضمر العداوة .(1)

(وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تُكْرَمَ) ؛ بصيغة المجهول من باب الإفعال . (فَلِنْ) ؛ بكسر اللام وسكون النون : أمرٌ من لانَ يلين .

(وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تُهَانَ ، فَاخْشُنْ) . الخشونة في الخُلق ضدّ اللين فيه ، وقد خشن بالضمّ .

(وَمَنْ كَرُمَ) ؛ كحسن ، أي شرف (أَصْلُهُ) أي طينته التي خلق منها .

(لاَنَ قَلْبُهُ) . ليس المقصود في أمثال ذلك أنّ كرم الطينة يوجب الأفعال المناسبة للين القلب وجوبا سابقا ليلزم الجبر ، بل المقصود أنّه أكثريّ ؛ بقرينة أنّ أمثال ذلك لميل الناس إلى لين القلب ، ثمّ إنّه لو كان دائميّا لكان واجبا بالوجوب اللاحق ، ولا

جبر . وتفصيله يجيء في شرح أبواب من «كتاب التوحيد» منها الخامس والعشرون .

(وَمَنْ خَشُنَ) أي لؤم ؛ لكونه كالنخالة .

ص: 276


1- . ترتيب جمهرة اللغة ، ج 1 ، ص 490 ختر .

(عُنْصُرُهُ) ؛ بضمّ العين وفتح الصاد وقد تضمّ : الأصل ، والنون مع الفتح زائدة عند سيبويه ؛ لأنّه ليس عنده فعلل بالفتح .

(غَلُظَ) ؛ بفتح المعجمة وضمّ اللام وفتح الظاء المعجمة ، أي صار غليظا .

(كَبِدُهُ) ؛ بفتح الكاف وكسر الموحّدة ، ويجوز فيه كسر الكاف مع سكون الباء ، ويجوز فتح الكاف أيضا مع سكون الباء وهي واحدة الأكباد . والمراد بغلظ الكبد الجرأة وعدم التثبّت في الاُمور ، وهو لازم لقساوة القلب اُقيم مقامه .

(وَمَنْ فَرَطَ) ؛ بالفاء والراء المهملة والطاء المهملة كنصر ، يقال : فرط عليه في القول ، أي عجل وعدا ، قال تعالى : «إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا»(1) .

(تَوَرَّطَ) . الورطة : الهلكة ، وكلّ أمر يعسر النجاة منه ؛ يقال : أورطه وورّطه توريطا ، أي أوقعه في الورطة ، فتورّط هو فيها .

(وَمَنْ خَافَ الْعَاقِبَةَ) أي سوء العاقبة .

(تَثَبَّتَ) ؛ بالمثلّثة والموحّدة والمثنّاة فوقُ بصيغة الماضي من باب التفعّل ، أي تأنّى وامتنع .

(عَنِ التَّوَغُّلِ) ؛ بالمعجمة المشدّدة ، يُقال : توغّل في الأرض : إذا سار فيها فأبعد .

(فِيمَا لاَ يَعْلَمُ ؛ وَمَنْ هَجَمَ) أي دخل .

(عَلى أَمْرٍ) من اُمور الدين .

(بِغَيْرِ عِلْمٍ ، جَدَعَ) أي كأنّما جدع بالجيم والدال المهملة والعين المهملة - كنصر - ، أي قطع .

(أَنْفَ نَفْسِهِ) أي أنفه . وفيه نهي عن استعمال الاجتهاد بالظنّ في نفس أحكام اللّه تعالى .

(وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ) أنّ الهجوم على أمرٍ بغير علم لا يجوز وأنّه جدع لأنف النفس (لَمْ يَفْهَمْ) أي لم يتبصّر .

ص: 277


1- . طه 20 : 45 .

(وَمَنْ لَمْ يَفْهَمْ ، لَمْ يَسْلَمْ) ؛ من باب علم ، أي من الآفة - وهي الهجوم على أمر بغير علم - وجدع الأنف .

(وَمَنْ لَمْ يَسْلَمْ ، لَمْ يُكْرَمْ) ؛ بالمهملة(1) ، أي لم يكن كريما شريفا عند اللّه ، كما أنّ مجدوع الأنف حقيقةً لا يكون كريما عند الناس .

(وَمَنْ لَمْ يُكْرَمْ ، تَهَضَّم(2)) ؛ بالمعجمة بصيغة الماضي المعلوم من باب التفعّل ، أي تقاصر في إدراك الحقوق ولم يسبق قطّ ؛ تقول : تهضّم تهضّما : إذا نقد للقوم وتقاصر .

والهضم بالتحريك انضمام الجنبين ، وهو في الفرس عيب لا يكون في الكريم منه ، يقال : لا يسبق أهضم في الحلبة أبدا ، وإذا قرئ بصيغة المجهول من المضارع الغائب من باب ضرب ، كان من هضمت الشيء ، أي كسرته ، وذلك لأنّ غير الكريم يُهان .

(وَمَنْ تَهَضَّمَ(3) ، كَانَ أَلْوَمَ) أي ملوما عند اللّه تعالى ، ويحتمل أفعل التفضيل . وفيه ردّ لما توهّمه المجبّرة من أنّه لا لوم على قبيح ، بل العذاب بإجراء العادة .

(وَمَنْ كَانَ كَذلِكَ) أي ملوما عند اللّه لقبيح ما صدر عنه (كَانَ أَحْرى) ؛ بالحاء والراء المهملتين أفعل التفضيل ؛ أي أجدر وأخلق الملومين (أَنْ يَنْدَمَ) أي بأن يندم ؛ لأنّ لوم العباد على شيء يوجب الندم ، فلوم اللّه يوجب الندم بطريقٍ أولى .

الثلاثون : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى رَفَعَهُ ، قَالَ : قَالَ أَمِيرُ الْمُؤمِنِينَ عليه السلام : مَنِ اسْتَحْكَمَتْ) ؛

بصيغة المعلوم الغائبة ، يُقال : أحكمت الشيء بالألف ، أي أتقنته فاستحكم هو .

(لِي) . إشارة إلى ما مضى في السابق من قوله : «بين المرء والحكمة نعمة العالم» .

(فِيهِ خَصْلَةٌ) ؛ بفتح المعجمة وسكون المهملة : الخلّة والفضيلة والرذيلة ، أو قد غلب على الفضيلة .

(مِنْ خِصَالِ) ؛ بكسر الخاء . (الْخَيْرِ) ؛ هي المذكورة في رابع عشر الباب .(4)

ص: 278


1- . هي «ج ، د» : «بضم المهملة» .
2- . في الكافي المطبوع : «يُهْضَمْ» .
3- . في الكافي المطبوع : «يُهْضَمْ» .
4- . الكافي ، ج 1 ، ص 22 ، كتاب العقل والجهل ، ح 14 .

(احْتَمَلْتُهُ) ؛ بصيغة المتكلّم من باب الافتعال ، أي قبلته وعددته من شيعتي (عَلَيْهَا) أي لأجلها .

(وَاغْتَفَرْتُ فَقْدَ مَا سِوَاهَا) . عطفُ تفسير .

(وَلاَ أَغْتَفِرُ) . بمنزلة الاستثناء . (فَقْدَ عَقْلٍ) ؛ والمراد به هنا التمييز بين الإمام الحقّ والباطل . (وَلاَ دِينٍ) أي ولا فقد دين ، والمراد به الطاعة .

(لِأَنَّ مُفَارَقَةَ الدِّينِ) أي الطاعة لوليّ الأمر وترك اتّباع الظنّ (مُفَارَقَةُ الْأَمْنِ) ؛ حيث يعقبها العقاب في الآخرة والمؤاخذة في الدنيا .

(فَلاَ يَتَهَنَّأُ بِحَيَاةٍ مَعَ مَخَافَةٍ) ؛ بصيغة المعلوم من باب التفعّل ، وفاعله ضمير مستتر راجع إلى «من» ، والفاء فصيحة في جواب شرط مقدّر ، أي إذا فارق الأمن فلا يتهنّأ ؛ يقال : تهنّأ بالطعام : إذا لم يكن له فيه تعب . ويحتمل أن يكون بصيغة المجهول ، فالظرف قائم مقام الفاعل ، والأنسب حينئذٍ الواو بدل الفاء ، كما يجيء في نظيره من قوله : «ولا يقاس» .

(وَفَقْدُ الْعَقْلِ فَقْدُ الْحَيَاةِ ، وَلاَ يُقَاسُ) أي لا يقدر فاقد العقل (إِلاَّ بِالْأَمْوَاتِ) .

ففي «كتاب الروضة» في صحيفة عليّ بن الحسين وكلامه في الزهد : «واعلموا أنّه من خالف أولياء اللّه ودان بغير دين اللّه واستبدّ بأمره دون أمر وليّ اللّه ، كان في نار تلتهب ، تأكل أبدانا ، قد غابت عنها أرواحها ، وغلبت عليها شقوتها ، فهم موتى لا يجدون حرّ النار ، ولو كانوا أحياءً لوجدوا مضض(1) حرّ النار»(2) .

الحادي والثلاثون : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هَاشِمٍ ، عَنْ مُوسَى بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْمُحَارِبِيِّ) ؛ بضمّ الميم والحاء المهملة والراء المهملة المكسورة والموحّدة ، نسبةٌ إلى قبيلة .(3)

(عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُوسى ، عَنْ مُوسَى بْنِ عَبْدِ اللّه ِ ، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ عَلِيٍّ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ

ص: 279


1- . المَضَض : وجع المصيبة. الصحاح ، ج 3 ، ص 1106 مضض .
2- . الكافي ، ج 8 ، ص 16 ، ح 2 .
3- . اُنظر: معجم قبائل العرب ، ج 3 ، ح 1042 محارب .

اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : قَالَ أَمِيرُ الْمُؤمِنِينَ عليه السلام : إِعْجَابُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ) . يُقال : أعجبني هذا الشيء بحسنه وقد اُعجِب - بصيغة المجهول - فلان بنفسه فهو معجَب - بالفتح - برأيه وبنفسه ، والاسم «العُجب» بالضمّ ، فإضافة الإعجاب إضافة المصدر إلى المفعول به .

(دَلِيلٌ عَلى ضَعْفِ عَقْلِهِ) .

الثاني والثلاثون : (أَبُو عَبْدِ اللّه ِ الْعَاصِمِيُّ) ؛ بالعين والصاد المكسورة المهملتين ، نسبةٌ إلى جدّه ، واسمه : أحمد بن محمّد بن أحمد بن طلحة بن عاصم .(1)

(عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَسْبَاطٍ) ؛ بفتح الهمزة وسكون المهملة والموحّدة.

(عَنِ الْحَسَنِ بْنِ الْجَهْمِ ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا عليه السلام ، قَالَ : ذُكِرَ عِنْدَهُ أَصْحَابُنَا وَذُكِرَ الْعَقْلُ ، قَالَ : فَقَالَ : لاَ يُعْبَأُ) ؛ بالمهملة والموحّدة والهمز بصيغة المجهول ، من باب «منع» ، أي لا يبالى (بِأَهْلِ الدِّينِ) أي الطاعة (مِمَّنْ لاَ عَقْلَ لَهُ) . مرّ بيانه في الثامن والعشرين من الباب .

(قُلْتُ : جُعِلْتُ فِدَاكَ ، إِنَّ مِمَّنْ يَصِفُ هذَا الْأَمْرَ) أي ممّن يقول بأمر الإمامة لكم .

(قَوْما لاَ بَأْسَ بِهِمْ عِنْدَنَا) أي هم قائلون بجميع ما يجب القول به ، أو صالحون ليسوا بفسّاق في ظنّنا .

(وَلَيْسَتْ لَهُمْ تِلْكَ الْعُقُولُ؟) أي العقول المعهودة ، وهي الحاصلة في خواصّ الشيعة . والمراد أنّهم يوافقون المخالفين في اتّباع الظنّ والحكم بغير علم .

(فَقَالَ : لَيْسَ هؤلاَءِ مِمَّنْ خَاطَبَ اللّه ُ) أي في ضمن خطابه تعالى العقل ، كما يجيء بُعيدَ هذا ، ومضى في خامس الباب : «ممّن عاتب اللّه» . والمآل واحد .

(إِنَّ اللّه َ(2) خَلَقَ الْعَقْلَ ، فَقَالَ لَهُ : أَقْبِلْ فَأَقْبَلَ ، وَقَالَ لَهُ : أَدْبِرْ فَأَدْبَرَ ، فَقَالَ : وَعِزَّتِي وَجَلاَلِي، مَا خَلَقْتُ شَيْئا أَحْسَنَ مِنْكَ - أَوْ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْكَ - ) . «أحسن» بالمهملتين والنون ، و «أو»

ص: 280


1- . اُنظر: منتهى المقال ، ج 7 ، ص 410 ، الرقم 4328 .
2- . في الكافي المطبوع : + «تعالى» .

للشكّ من الراوي ، ومضى شرحه في أوّل الباب .

(بِكَ آخُذُ ، وَبِكَ أُعْطِي) . ظاهر تكرار «بك» أنّ المراد بالأخذ ما في قوله تعالى : «خُذُوهُ فَغُلُّوهُ»(1) ، وقوله تعالى : «أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ»(2) .

والمراد بالإعطاء إعطاء الجنّة والثواب ، فكلّ منهما بالنسبة إلى جمع على حدة ، ووجه التعليلين ظاهر ممّا مرّ في شرح أوّل الباب .

ويحتمل أن يكون المراد : بك أقبل الطاعة ، وبك اُعطي الثواب . ويمكن أن يكون المراد بالأخذ النهي ، وبالإعطاء الأمر ، أو عدم النهي ، وأن يكون المراد بمجموع الأخذ والإعطاء المعاملةَ في التكليف ، فإنّه أخذ ، أي طلب للعبادة وإعطاء ، أي للثواب إن وقعت العبادة .

الثالث والثلاثون : (عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : لَيْسَ بَيْنَ الاْءِيمَانِ وَالْكُفْرِ) . «بين» هنا إمّا اسم متمكّن بمعنى الفرقة ، فيكون مرفوعا ، اسم «ليس» . وإمّا ظرف منصوب ، خبر «ليس» أي ليس الفارق بينهما المخصّص للمكلّف بأحدهما مع تساوي نسبتهما إليه باعتبار القدرة .

(إِلاَّ قِلَّةُ الْعَقْلِ) . والمراد حصر الفارق في الكافر فيه ، ويدلّ بالمفهوم على أن ليس بين الكفر والإيمان في المؤمن إلاّ كثرة العقل . ويحتمل أن يكون المراد حصر الفارق في الكافر والمؤمن ، ويكون من باب الاقتصار والتقدير إلاّ قلّة العقل وكثرته .

(قِيلَ : وَ كَيْفَ ذَاكَ يَا ابْنَ رَسُولِ اللّه ِ؟) أي بأيّ تقريب خطر هذا ببالك؟

(قَالَ : إِنَّ الْعَبْدَ يَرْفَعُ رَغْبَتَهُ) أي مرغوبه وحاجته ، من رغب - كعلم - فيه رغبةً بالفتح وإليه رغبة بالضمّ وبفتحتين . (إِلى مَخْلُوقٍ) أي عبد .

(فَلَوْ أَخْلَصَ نِيَّتَهُ لِلّهِ) أي رفع رغبته إلى اللّه بنيّة خالصة (لَأَتَاهُ) ؛ من الإيتاء وهو

ص: 281


1- . الحاقة 69 : 30 .
2- . القمر 54 : 180 .

الإعطاء . (الله(1) الَّذِي يُرِيدُ) ؛ وهو رغبته . (فِي أَسْرَعَ مِنْ ذلِكَ) أي من رفع الرغبة إلى المخلوق أو حصول رغبته إذا رفعه إلى مخلوق . والمقصود أنّ هذا وما يحدث الكفر داخلان في جنس واحد ومتقاربان .

الرابع والثلاثون : (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ ، عَنْ عُبَيْدِ اللّه ِ الدِّهْقَانِ ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ الْحَلَبِيِّ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عِمْرَانَ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : كَانَ أَمِيرُ الْمُؤمِنِينَ عليه السلام يَقُولُ : بِالْعَقْلِ اسْتُخْرِجَ غَوْرُ الْحِكْمَةِ ، وَبِالْحِكْمَةِ اسْتُخْرِجَ غَوْرُ الْعَقْلِ) .

المراد بالحكمة هنا الصمت عن الحكم بغير المعلوم ؛ مأخوذ من حَكَمة اللجام بفتحتين ، لأنّها تمنع الدابّة عمّا لا يراد من الحركات .(2)

وهذا مبنيّ على مقدّمتين :

الاُولى : لمّا كان العقل دالاًّ على فضائل الصمت كان مقوّيا للصمت .

الثانية : لمّا كان الصمت دليل التفكّر والتفكّر دليل العقل - كما مضى في ثاني عشر الباب من قوله : «يا هشام إنّ لكلّ شيء دليلاً ، ودليل العقل التفكّر ، ودليل التفكّر الصمت» - كان الصمت مقوّيا للعقل ، فكلّ منهما إذا زال عن صاحبه ضعف الآخر .

و«استخرج» في الموضعين بصيغة الماضي المجهول ، ويحتمل الأمر . والغور - بفتح المعجمة وسكون الواو ومهملة - : القعر من كلّ شيء ، والمراد بغور الحكمة والعقل أقصاهما ، ويمكن أن يجعل كلّ مرتبة لاحقة من العقل والحكمة غورا بالنسبة إلى سابقتها .

(وَبِحُسْنِ السِّيَاسَةِ يَكُونُ الْأَدَبُ الصَّالِحُ) . ناظرٌ إلى الفقرة الثانية ، تقول : ساسه - من باب نصر - أي أدّبه . و«الأدب» بفتحتين من باب حسن : حفظ الحدود ، و«صلح» - كحسن ومنع - : ضدّ فسد . والمقصود أنّ الحكمة تنهى الإنسان عن الهوى ، وتحصل بحسن سياستها الآداب الجميلة .

ص: 282


1- . في الكافي المطبوع : - «الله» .
2- . ترتيب جمهرة اللغة ، ج 1 ، ص 433 حكم .

(قَالَ : وَكَانَ يَقُولُ : التَّفَكُّرُ حَيَاةُ قَلْبِ الْبَصِيرِ) . البصير(1) : الفهيم .

(كَمَا يَمْشِي الْمَاشِي فِي الظُّلُمَاتِ) ؛ بالمعجمة واللام المضمومتين جمع «ظلمة» . والمراد نحو المنافذ المظلمة في الجبال ، والجمع باعتبار التعدّد الناشئ من بُعد المسافة ، والظرف متعلّق بالماشي .

(بِالنُّورِ) . الظرف متعلّق بالماشي والباء للاستعانة ، أي بالمصباح ونحوه .

(بِحُسْنِ التَّخَلُّصِ) . الظرف متعلّق ب- «يمشي» والباء للملابسة ، أي بالنجاة عن الظلمات بحيث لا يحصل ضرر من سقوط وعثار وتَرَدّ في بئر ونحو ذلك .

(وَقِلَّةِ التَّرَبُّصِ(2)) . أي سرعة النجاة عن الظلمات ؛ لعدم الحيرة والضلالة . شبّه التفكّر بالمشي في الظلمات والفهم بالنور .

ص: 283


1- . في «أ ، د» : - «البصير» .
2- . في حاشية «أ» : «وهو المكث» .

باب فرض العلم ووجوب طلبه والحثّ عليه

الباب الثاني بَابُ فَرْضِ الْعِلْمِ وَوُجُوبِ طَلَبِهِ وَالْحَثِّ عَلَيْهِ

أي هذا باب بيان المفروض في القرآن من جملة العلم ، وبيان وجوب طلب ذلك المفروض هل هو على كلّ مسلم أو على بعض المسلمين ، وبيان حثّ اللّه ورسوله والأئمّة عليهم السلام على ذلك الطلب ، فيه عشرة أحاديث .

لمّا فرغ من بيان العقل الذي هو القطب وعليه المدار شرع في توضيح ما ذكره في الجواب - عن شكاية الأخ اصطلاح أهل دهره على الجهالة وعن سؤاله عن أنّه هل يجوز لأحد المقام على الجهالة - بأحاديث موافقة للآيات المذكورة في الجواب في الخطبة الدالّة على نفي جواز المقام على الجهالة ليطمئنّ قلب إخواننا وأهل ملّتنا ، فلا ينافي ذلك كون الأحاديث أخبار(1) آحاد لا توجب علما ؛ لأنّها منضمّة إلى موجب العلم لدفع معارضات الوهم الحاصلة لأهل الجهالة من الإماميّة كما شرحناه في شرح الخطبة ، وقس على ذلك سائر الأبواب الآتية .

الأوّل : (أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ عَنْ) . من زيادات التلامذة . (عَلِيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هَاشِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْحُسَيْنِ الْفَارِسِيِّ) ؛ بكسر الراء لالتقاء الساكنين .

(عَنْ عَبْدِالرحمن(2) بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله : طَلَبُ

ص: 284


1- . في «ج» : «أخبارا» .
2- . في الكافي المطبوع : «عبداللّه» .

الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ) أي طلب علم الدِّين في وقت الحاجة واجب يعاقب على تركه إذا لم يكن حاصلاً .

ووقت الحاجة في اُصول الدِّين واُصول الفقه اثنان :

الأوّل : وقت القول على اللّه في إحداهما ، سواء كانت من المسائل الدقيقة الغريبة أوالجليلة الشائعة .

الثاني : وقت استدلال المكلّف في ذهنه بها في وقت الحاجة في الفروع ، وهذا يختصّ ببعض مسائلهما كالإمامة ، فإنّ العمل لا يصحّ في أكثر الفروع إلاّ بمعرفة من يصحّ أن يؤخذ منه الأحكام المجهولة وشروط الأخذ ونحو ذلك ، بخلاف نحو كون إرادته تعالى قديمة أو حادثة وأنّ سمعه تعالى عين علمه بالمسموع أو غيره ، ووقت الحاجة في فروع الدين وقت القول على اللّه فيها ووقت العمل بها .

ومعنى فرض العلم وقت القول على اللّه : النهي عن القول على اللّه بغير علم ، ومعنى فرض العلم وقت العمل : أن لا يصدر عنه عمل إلاّ وقد علم جوازه شرعا بالجواز الواصلي . وتفصيله في محلّه .

(عَلى كُلِّ مُسْلِمٍ) . خصّه بالذكر - مع أنّه فريضة على الغير المستضعف وإن كان كافرا - إشارةً إلى أنّ فرضه من ضروريّات دين الإسلام .

(أَلاَ) ؛ حرف تنبيه . (إِنَّ) ؛ بالكسر والتشديد . (اللّه َ يُحِبُّ بُغَاةَ الْعِلْمِ) أي طلبة العلم بالدِّين قبل وقت الحاجة ، أو المراد وقت الحاجة .

الثاني : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللّه ِ، عَنْ عِيسَى بْنِ عَبْدِ اللّه ِ الْعَمَرِيِّ) ؛ بفتح العين المهملة . (عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ: طَلَبُ الْعِلْمِ) أي في وقت الحاجة (فَرِيضَةٌ) . ظهر في أوّل الباب .

الثالث : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى، عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمنِ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ، قَالَ: سُئِلَ أَبُو الْحَسَنِ عليه السلام : هَلْ يَسَعُ النَّاسَ تَرْكُ الْمَسْأَلَةِ عَمَّا يَحْتَاجُونَ

ص: 285

إِلَيْهِ؟) . ظهر معناه من بيان معنى وقت الحاجة في أوّل الباب . (فَقَالَ : لا) .

الرابع : (عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ وَغَيْرُهُ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ؛ وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى جَمِيعا، عَنِ ابْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ) ؛ بفتح المهملة وكسر الموحّدة وسكون الخاتمة ومهملة و «سبيع» بطن من همدان .(1)

(عَمَّنْ حَدَّثَهُ، قَالَ: سَمِعْتُ أَمِيرَ الْمُؤمِنِينَ عليه السلام يَقُولُ: أَيُّهَا النَّاسُ، اعْلَمُوا أَنَّ كَمَالَ الدِّينِ) ؛ بالكسر : الطاعة ، وكماله : فضيلته ، أو جزؤه الأخير .

(طَلَبُ الْعِلْمِ) قبل وقت الحاجة ، ليعمل به في وقت الحاجة . أو المراد طلبه وقت الحاجة (وَالْعَمَلُ بِهِ) .

(أَلاَ وَإِنَّ طَلَبَ الْعِلْمِ) قبل وقت الحاجة أو فيه (أَوْجَبُ عَلَيْكُمْ) . الوجوب هنا بمعنى الثبوت وحسن الإتيان ، أو بمعنى استحقاق العقاب على الترك .

(مِنْ طَلَبِ الْمَالِ) أي للتوسعة أو لأصل النفقة .

(إِنَّ الْمَالَ مَقْسُومٌ مَضْمُونٌ لَكُمْ، قَدْ قَسَمَهُ عَادِلٌ بَيْنَكُمْ، وَضَمِنَهُ) ؛ من باب علم أي كفله ؛ لقوله تعالى : «وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِى الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّه ِ رِزْقُهَا»(2) .

(وَسَيَفِي لَكُمْ) . السين للتأكيد .(3)

(وَالْعِلْمُ مَخْزُونٌ عِنْدَ أَهْلِهِ) . فيه دلالة على نفي استقلال عقول الرعيّة بعلم الدِّين ، وأنّ جميعه عند الأئمّة الطاهرين عليهم السلام .

(وَقَدْ أُمِرْتُمْ بِطَلَبِهِ مِنْ أَهْلِهِ) ؛ كما في قوله تعالى في سورة النحل وسورة الأنبياء : «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ»(4) ، وسيجيء في عاشر «باب النوادر» .

ص: 286


1- . لبّ اللباب في تحرير الأنساب ، ص 133 .
2- . هود 11 : 6 .
3- . ذكر إفادة السين للتأكيد السيوطي في الإتقان في علوم القرآن ، ج 2 ، ص 173 .
4- . النحل 16 : 43 ؛ الأنبياء (21) : 7 .

(فَاطْلُبُوهُ) . لم يقل «فاطلبوه من أهله» إشارةً إلى أنّه لا يحصل إلاّ من أهله ، وأنّ الطلب من غير أهله طلب جهل حقيقةً .

إن قلت : قد نرى المال يزيد بطلبه وينقص بترك الطلب .

قلت : قد نرى العكس فهو بالقسمة ، ولا ينافي ذلك وجوب الطلب للمال بشروط بيّنها الفقهاء .

الخامس : (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْبَرْقِيِّ) ؛ بفتح الموحّدة وسكون المهملة والقاف، نسبة إلى برقروذ ؛ بفتح الموحّدة وسكون القاف(1) وضمّ المهملة

وسكون الواو والمعجمة : قرية من سواد قمَّ على وادٍ هناك .(2)

(عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ يَزِيدَ) ؛ بالخاتمة . (عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ - عن(3) رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِنَا - رَفَعَهُ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : قَالَ رَسُولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله : طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ) . مضى شرحه في أوّل الباب .

السادس : (وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ) أي بالسند السابق (قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : قَالَ رَسُولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله : طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلى كُلِّ مُسْلِم، أَلاَ وَإِنَّ اللّه َ يُحِبُّ بُغَاةَ الْعِلْمِ) . مضى شرحه في أوّل الباب .

السابع : (عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللّه ِ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عِيسى، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام يَقُولُ: تَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ؛ فَإِنَّهُ مَنْ لَمْ يَتَفَقَّهْ مِنْكُمْ فِي الدِّينِ، فَهُوَ أَعْرَابِيٌّ) أي كالأعرابي ؛ نسبة إلى الأعراب بفتح الهمزة ، وهم سكّان البادية من أولاد يعرب بن قحطان ، لا واحد له من لفظه(4) ، وليس الأعراب

ص: 287


1- . في «ج، د» : «بفتح القاف» بدل من : «بفتح الموحدة وسكون القاف» .
2- . معجم البلدان ، ج 1 ، ص 389 برقة ، مراصد الاطلاع ، ج 1 ، ص 186 .
3- . في الكافي المطبوع : - «عن» .
4- . مفردات غريب القرآن ، ص 328 عرب .

جمع عرب ، وإنّما العرب اسم جنس وواحده عربي ، وهم سكّان الأمصار منهم أو عامّ . والمراد بالأعرابي هنا واحد الأعراب المذكورين في قوله تعالى في سورة التوبة : «الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرا وَنِفَاقا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللّه ُ عَلَى رَسُولِهِ»(1) .

(إِنَّ اللّه َ(2) يَقُولُ فِي كِتَابِهِ) ؛ في سورة التوبة :

(«لِيَتَفَقَّهُوا فِى الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ»(3)) . استئناف بياني لكونه كالأعرابي ، فإنّ الآية تدلّ على ذمّهم ؛ لعدم تفقّههم في الدِّين ، فإنّ صدر الآية «وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا»(4) . والمراد بالمؤمنين بعض الأعراب ، وهم المذكورون في سابق هذه الآية بقوله : «وَمِنْ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللّه ِ وَالْيَوْمِ الاْخِرِ»(5) واللام في «لينفروا» لتأكيد النفي الدالّ على سهولة طريق حصول التفقّه لمؤمني الأعراب ، والفاء للتفريع على السهولة ، و«لولا» للتوبيخ وضمير «منهم» راجع إلى الأعراب المذكورين في سابق هذه الآية بقوله : «الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرا وَنِفَاقا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللّه ُ عَلَى رَسُولِهِ»(6) .

واللام في «ليتفقّهوا» للتعليل ، فمَن لم يتفقّه من غيرهم داخل في حكمهم . والتفقّه مطاوع التفقيه ، فهو كسب الفقه بالكسر ، وهو الفهم ، أي العلم المفضي إلى العمل بمقتضاه ، والدِّين الطاعة . والمراد بالتفقّه في الدِّين تفهّم حدود ما أنزل اللّه على رسوله المذكورة فيما سبق .

والحدود : الأطراف ؛ وهي نوعان : داخلة وخارجة . و«مَا أَنزَلَ اللّه ُ عَلَى رَسُولِهِ» عبارة عن الآيات البيّنات المحكمات الناهية عن اتّباع الظنّ ، قال تعالى في سورة

ص: 288


1- . التوبة 9 : 97 .
2- . في الكافي المطبوع : + «تعالى» .
3- . التوبة 9 : 122 .
4- . التوبة 9 : 122 .
5- . التوبة 9 : 99 .
6- . التوبة 9 : 97 .

المائدة : «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللّه ُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ»(1) ، وقال فيها : «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللّه ُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ»(2) ، وقال فيها : «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللّه ُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ»(3) ، وهو أحسن الحديث المذكور في سورة الزمر : «اللّه ُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابا مُتَشَابِها مَثَانِىَ»(4) ، ويجيء بيانه في شرح ثالث الثالث والعشرين من كتاب التوحيد .(5)

وحدوده الداخلة المسائل التي لا يمكن العمل بها(6) إلاّ مع العلم بها كوجوب سؤال أهل الذِّكر عن كلّ ما لم يعلم من اُمور الدِّين المحتاج إليها في وقت الحاجة سؤالاً بلا واسطة ، أو بواسطة معلومة الصدق إن تيسّر ، وإلاّ فبواسطة جامعة لشروط العمل المقرّرة عند الشيعة الإماميّة في جواز العمل بأخبار الآحاد بدون إفتاء ولا قضاء .

وحدوده الخارجة الغلوّ والانتحال والتأويل كما يجيء بيانه في ثاني الثالث(7) . والإنذار : التخويف من العذاب على اتّباع الظنّ المذكور في المحكمات المتواترة عند الأعراب أيضا ، والحذر : الاجتناب عن اتّباع الظنّ وعذابه .

الثامن : (الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ الرَّبِيعِ، عَنْ مُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام يَقُولُ: عَلَيْكُمْ بِالتَّفَقُّهِ فِي دِينِ اللّه ِ، وَلاَ تَكُونُوا أَعْرَابا؛ فَإِنَّهُ مَنْ لَمْ يَتَفَقَّهْ فِي دِينِ اللّه ِ، لَمْ يَنْظُرِ اللّه ُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَمْ يُزَكِّ لَهُ عَمَلاً) ؛ من التزكية : الإنماء ، أي لم يضاعف حسناته أو لم يقبل ؛ من زكّاه تزكية : إذا طهّره ، فإنّ شرط صحّة

العمل أن يكون مع العلم بالحكم الواصلي ، كما مرّ في أوّل الباب .

ص: 289


1- . المائدة 5 : 44 .
2- . المائدة 5 : 45 .
3- . المائدة 5 : 47 .
4- . الزمر 39 : 23 .
5- . أي الحديث 3 من باب النوادر من كتاب التوحيد .
6- . في النسخ : «به» والمثبت موافق للسياق .
7- . أي الحديث 2 من باب صفة العلم وفضله وفضل العالم .

التاسع : (مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ شَاذَانَ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ، عَنْ جَمِيلِ) ؛ بفتح الجيم . (بْنِ دَرَّاجٍ) ؛ بضمّ الدال وتشديد الراء المهملتين . (عَنْ أَبَانِ) ؛ بفتح الهمزة وتخفيف الموحّدة. (بْنِ تَغْلِبَ)؛ بفتح المثنّاة فوقُ وسكون المعجمة وكسر اللام والموحّدة .

(عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ: لَوَدِدْتُ) ؛ بفتح اللام وصيغة المعلوم للمتكلّم من باب علم ، جواب قسم محذوف .

(أَنَّ) بالفتح والتشديد . (أَصْحَابِي ضُرِبَتْ) ؛ بصيغة المجهول للغائبة أو المعلوم للمتكلّم .

(رُؤُوسُهُمْ بِالسِّيَاطِ) ؛ بكسر المهملة ، جمع «سوط» بالفتح المقرعة ، وأصله أن تخلط شيئين في إنائك ثمّ تضربهما بيديك حتّى يختلطا ؛ سمّيت به لأنّها تخلط اللحم بالدم . (حَتّى يَتَفَقَّهُوا) أي في دين اللّه .

العاشر : (عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى، عَمَّنْ رَوَاهُ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ: قَالَ لَهُ رَجُلٌ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، رَجُلٌ) . مبتدأ .

(عَرَفَ هذَا الْأَمْرَ) ؛ من باب ضرب ، والجملة صفة «رجل» . و«الأمر» مصدر أمر علينا مثلّثة الميم : إذا ولّى ، والاسم «الإمرة» بالكسر ، أي ولاية أهل البيت ، أو بمعنى الحادثة والشيء ، أي أمر إمامة أهل البيت وإنكار القوم حقّهم .

(لَزِمَ بَيْتَهُ) . خبرٌ ، تقول : لزمت الشيء كعلم : إذا لم تفارقه .

(وَلَمْ يَتَعَرَّفْ إِلى أَحَدٍ مِنْ إِخْوَانِهِ؟) . بصيغة المعلوم الغائب من باب التفعل ، يقال : تعرّف فلان إلى زيد : إذا تقرّب إليه بحيث يعرفه زيد ؛ أي اعتزل الناس حتّى أهل دينه .

(قَالَ: فَقَالَ: كَيْفَ يَتَفَقَّهُ هذَا فِي دِينِهِ؟!) أي لا يجوز له ؛ لأنّه خالف قوله تعالى في سورة التوبة : «لِيَتَفَقَّهُوا فِى الدِّينِ»(1) وذلك إذا لم يكن فقيها .

ص: 290


1- . التوبة 9 : 122 .

باب صفة العلم وفضله وفضل العلماء

الباب الثالث بَابُ صِفَةِ الْعِلْمِ وَفَضْلِهِ وَفَضْلِ الْعُلَمَاءِ

وفيه عشرة أحاديث ، والمراد ب- «صفة العلم» بيان أنّ العلم المطلوب للشارع أيّ علم هو؟ وب- «فضله» فضل العلم الموصوف ، وب- «العلماء» أهل العلم الموصوف .

الأوّل : (مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَعَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى، عَنْ عُبَيْدِ اللّه ِ بْنِ عَبْدِ اللّه ِ الدِّهْقَانِ، عَنْ دُرُسْتَ الْوَاسِطِيِّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ مُوسى عليه السلام ، قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله الْمَسْجِدَ، فَإِذَا جَمَاعَةٌ قَدْ أَطَافُوا بِرَجُلٍ، فَقَالَ: مَا هذَا؟) . لم يقل : «من هذا»؟ تخفيفا وإهانةً له .

(فَقِيلَ: عَلاَّمَةٌ) ؛ بتشديد اللام والهاء، لتأكيد المبالغة : العالم جدّا ، وقد يقال للنسّابة .

(فَقَالَ: وَمَا الْعَلاَّمَةُ؟) أي بأيّ شيء تسمّونه علاّمة؟

(فَقَالُوا لَهُ: أَعْلَمُ النَّاسِ بِأَنْسَابِ الْعَرَبِ وَوَقَائِعِهَا) . الضمير للعرب .

(وَأَيَّامِ الْجَاهِلِيَّةِ) أي ما وقع في الأيّام التي هي قبل بعثة النبيّ صلى الله عليه و آله بين قريش .

(وَالْأَشْعَارِ وَالْعَرَبِيَّةِ) أي القواعد المتعلّقة بكلام العرب .

(قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله ) لبيان أنّ علم هذا الرجل لا يصلح لأن يطيفوا به لأجله : (ذَاكَ عِلْمٌ لاَ يَضُرُّ) ؛ بصيغة المعلوم ، من باب نصر ، أو باب الإفعال .

(مَنْ) . موصولة محلّها النصب على المفعوليّة .

(جَهِلَهُ) . المضاف محذوف ، أي جهل معلومه . ويحتمل أن يُراد بالعلم المعلوم ،

ص: 291

فلا حاجة إلى تقدير ، وكذا في قوله :

(وَلاَ يَنْفَعُ مَنْ عَلِمَهُ، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله : إِنَّمَا الْعِلْمُ) أي ما يصلح منه لأن يطيفوا برجل لأجله لأنّه النافع منه للعالم ، والضارّ منه للجاهل ، ولا يستقلّ العقول بتحصيله .

(ثَلاَثَةٌ) أي ثلاثة علوم ، على أن تكون «أو» فيما يجيء بمعنى الواو . ويحتمل أن يقدّر مضاف ، أي أحد ثلاثة .

(آيَةٌ) . خبر مبتدأ محذوف ، والمضاف أيضا محذوف ، أي الثلاثة أو أحد الثلاثة علم آية ، ولو اُريد بالعلم المعلوم لم يحتج إلى تقدير المضاف . والمراد بالآية المفصول عمّا قبله وما بعده من جملة أجزاء سور القرآن حين إملاء رسول اللّه صلى الله عليه و آله على كاتبي القرآن . والمراد بالسورة ما لا تراخي بين أجزائه في النزول على رسول اللّه صلى الله عليه و آله من جملة القرآن .

(مُحْكَمَةٌ) . اسم مفعول من باب الإفعال . والآيات المحكمات هي الآيات القطعيّة الدلالة بحسب أذهان الرعيّة الغير المنسوخة اللاتي هنّ اُمّ الكتاب ؛ لدلالتها على تعيين أهل الذِّكر المأمور بسؤالهم ، وهم أئمّة العدل ، وبتوسّطهم على معاني الآيات المتشابهات اللاتي لا يعلمها الرعيّة إلاّ بسؤال أهل الذِّكر عليهم السلاموعلى جميع ما يحتاج إليه الرعيّة ، كما مرّ في ثاني عشر باب العقل .

(أَوْ فَرِيضَةٌ عَادِلَةٌ) . الفرض : القطع . والمراد هنا بالفريضة مسألة فرضها اللّه في القرآن ، أي ذكرها فيه وقطعها عن غيرها ؛ بمعنى أنّ العالم بمضمونها لا يحتاج في الانتفاع والعمل بها إلى خطاب آخر عن اللّه أو رسوله أو أهل بيته ؛ لأنّها ليست لبيان

كيفيّة العمل بخطاب آخر ، فجميع المسائل الفقهيّة الفرعيّة فرائض ؛ أي سواء كانت في الواجبات أم في المستحبّات أم في غيرهما ، بخلاف مسائل اُصول الفقه كقولنا : يجب العمل بخبر الواحد بشرط كذا ، فإنّه لا ننتفع بها إلاّ إذا وصل إلينا خطاب آخر منقول آحادا .

والعادلة مسألة عدلت عن محكمات القرآن ، فهي في متشابهاته ؛ لأنّ القرآن تبيان كلّ شيء .

ص: 292

(أَوْ سُنَّةٌ قَائِمَةٌ) . السنّة بالضمّ : الطريقة ، والقائمة : المستمرّة بين أهل الحقّ . والمراد بالسنّة القائمة هنا مسألة من اُصول الفقه عليها العمل في عصر الرسول والأئمّة عليهم السلام بحيث يعلم أنّها بتقريرهم كقولنا : يجب العمل بخبر الواحد بشرط كذا ، فإنّها معلومة لنا ومفيدة لنا فيما لم نعلم من جملة الفريضة العادلة ، والمقصود حصر العلم المأمور به بالذات في الثلاثة ، فلا ينافي نفع العلم بالقواعد العربيّة ونحوها إذا توقّف العلم بأحد الثلاثة عليه ، ولم يقصد بتحصيله إلاّ التوسّل به إلى تحصيلها ، ولم يتجاوز القدر الموقوف عليه .

(وَمَا خَلاَهُنَّ) . الضمير للآية والفريضة والسنّة ، أي وعلم ما خلاهنّ .

(فَهُوَ فَضْلٌ) أي زيادة غير محتاج إليه .

الثاني : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ) ؛ بفتح الموحّدة وسكون المعجمة وفتح المثنّاة فوقُ ومهملة : نسبة إلى البخترة ، وهي مشية حسنة ، والبختري الحسن المشي والجسيم والمختال .(1)

(عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ: إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ) . المراد ب- «العلماء» الذين يعلمون الآيات البيّنات المحكمات الناهية عن اتّباع الظنّ ، وعن الاختلاف بالظنّ ، الآمرة بسؤال أهل الذِّكر عن كلّ مشتبه محتاج إليه من الدِّين علما لا يكون معه غلوّ ولا انتحال ولا تأويل . والمراد بالأنبياء الذين نزل عليهم شريعة وكتاب على حدة ، وهم ستّة : آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمّد صلّى اللّه عليه وآله وعليهم .

(وَذَاكَ أَنَّ) أي لأنّ (الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُورِثُوا) ؛ بتخفيف المهملة من الإيراث ، والمفعول الأوّل محذوف ، أي لم يورثوا اُمّتهم(2) ومن يأتي بعدهم .

(دِرْهَما وَلاَ دِينَارا) أي ليسا ميراث النبوّة ، ولا ينافي إيراثهم الورثة المعيّنين المال(3) ؛

ص: 293


1- . ترتيب كتاب العين ، ج 1 ، ص 136 ؛ ترتيب جمهرة اللغة ، ج 1 ، ص 101 بختر .
2- . في «ج» : «منهم» .
3- . في «أ» : - «المال» .

لأنّه ليس من حيث النبوّة ، ولو اُريد نفي إيراثهما مطلقا لكان ظاهر الكذب ؛ إذ ليس معنى الإيراث لغةً وشرعا إلاّ إبقاء شيء إلى بعد الموت(1) ، سواء استحقّه الورثة المعيّنون شرعا في العمومات القرآنيّة أم كان صدقة .

(وَإِنَّمَا أَوْرَثُوا أَحَادِيثَ مِنْ أَحَادِيثِهِمْ) . المراد الآيات البيّنات المحكمات المشتركة مضمونا بين جميع كتب الأنبياء ، وهي الناهية عن اتّباع الظنّ والاختلاف بالظنّ الآمرة بسؤال أهل الذكر عن كلّ مشتبه ممّا يحتاج إليه من الدِّين ، فإنّ تلك الآيات أحاديث من جملة كتبهم التي هي أحاديثهم موافقا لقوله تعالى في سورة الزمر : «اللّه ُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ»(2) ، وقوله في سورة يوسف : «مَا كَانَ حَدِيثا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ»(3) .

(فَمَنْ أَخَذَ بِشَيْءٍ مِنْهَا، فَقَدْ أَخَذَ حَظّا وَافِرا) . تفريعٌ على كون تلك الأحاديث مشتركة بين جميع شرائع الأنبياء ، فهي مهتمّ بها غاية الاهتمام ، وذكرُ شيء منها مبنيٌّ على أنّ مضمون جميع تلك الآيات واحد كرّر للتأكيد ، ولذا يسمّى(4) تلك الآيات المثاني ، فالأخذ بواحدٍ منها أخذٌ بجميعها .

وكون حظّه وافرا مبنيّ على أنّه أصل جميع الدِّين ، فإنّ الأخذ به يفضي إلى سؤال أهل الذِّكر عن كلّ مشتبه محتاج إليه من الدِّين وعبادة اللّه حقّ عبادته وترك اتّباع الظنّ والاختلاف عن الظنّ .

(فَانْظُرُوا عِلْمَكُمْ هذَا عَمَّنْ تَأْخُذُونَهُ؟) . تفريعٌ على ما سبق . و«علمكم هذا» عبارة عن المضمون المشترك بين جميع الأنبياء ، و«مَن» للاستفهام ، وأخذه عبارة عن التفقّه فيه بحيث يندفع عنه المعارضات الوهميّة المقتضية للغلوّ أو الانتحال أو التأويل .

(فَإِنَّ فِينَا - أَهْلَ الْبَيْتِ - فِي كُلِّ خَلَفٍ عُدُولاً يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ وَانْتِحَالَ

ص: 294


1- . النهاية ، ج 5 ، ص 172 ؛ المصباح المنير ، ص 654 ورث .
2- . الزمر 39 : 23 .
3- . يوسف 12 : 111 .
4- . في «ج» : «سمّى» .

الْمُبْطِلِينَ وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ) . فاء التعليل باعتبار دلالة مدخولها على وقوع التحريف والانتحال والتأويل في العلم ، و«في» في الموضعين للتعليل ، والظرف الثاني بدل من الأوّل ، بدلَ البعض من الكلّ ، و«أهل» منصوب بالاختصاص ، والخَلَف بفتحتين الإمام بعد الإمام ، والمراد به الإمام الحيّ ، والعدول جمع عدل بمعنى عادل ، المتوسّطون بين الإفراط والتفريط والتضييع ، وهم شيعة الخلف المؤمنون به حقّ الإيمان . وفيه إشارة إلى قوله تعالى في سورة النور : «يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالاْصَالِ* رِجَالٌ»(1) ، ويجيء بيانه في «كتاب الحجّة» في سادس، السابع ، وهو «باب معرفة الإمام والردّ إليه» .

و«ينفون» بضمّ الفاء من النفي بمعنى اعتقاد بطلان شيء ، أو بمعنى الاستدلال على بطلان شيء ، والتحريف نقل شيء إلى الحرف بمعنى الطرف الخارج ، والغالون جمع اعتقدوا أنّه لا يجوز اتّباع الظنّ في محلّ الحكم الشرعي أيضا ، فأنكروا ما روي من الأحاديث في سهو النبيّ والأئمّة ، مثل ما يجيء في «كتاب الصلاة» في أوّل، الثاني والأربعين ، وهو «باب من تكلّم في صلاته أو انصرف قبل أن يتمّها أو يقوم في موضع الجلوس» .

وقد شنّع ابن بابويه في الفقيه في «كتاب الصلاة» في «باب أحكام السهو في الصلاة على الغالين» بقوله : «إنّ الغلاة والمفوّضة - لعنهم اللّه - ينكرون سهو النبيّ»(2) إلى آخر ما قال .

والانتحال أن ينسب أحد نفسه إلى مذهب ويعمل بخلافه(3) ، والمبطلون : التابعون للظنّ في نفس أحكام اللّه تعالى ويختلفون فيها بالظنون ويدّعون أنّهم من الإماميّة وليسوا منهم ، كما هو مذكور في «كتاب الروضة» تحت خطبة لأمير المؤمنين عليه السلام ، وهي خطبة الوسيلة من قول جابر بن يزيد لأبي جعفر عليه السلام : قد أرمضني اختلاف الشيعة في مذاهبها ، وجواب الإمام بما حاصله : إنّ هؤلاء ليسوا شيعة ، فإنّهم أنكروا صاحب

ص: 295


1- . النور 24 : 36 - 37 .
2- . الفقيه ، ج 1 ، ص 359 ، ذيل ح 1031 .
3- . لسان العرب ، ج 11 ، ص 651 ؛ تاج العروس ، ج 15 ، ص 722 نحل .

الزمان ، ولذا اختلفوا في مذاهبها(1) .

والمراد بالتأويل هنا صرف الكلام الصريح في معنى عنه إلى معنى آخر لاتّباع الهوى ، والجاهلون هم الذين يؤوّلون الآيات الناهية عن اتّباع الظنّ الآمرة باتّباع العلم بأنّ المراد بالظنّ اعتقادٌ لم يكن عن أمارة ولا عن دليل ، وبالعلم اعتقادٌ يكون عن أمارة أو دليل ، وربّما خصّصوا الآيات بمسائل اُصول الدِّين .

ثمّ لا ينافي ذلك غيبة الإمام الثاني عشر صلوات اللّه عليه كما يظهر ممّا يجيء في «كتاب الحجّة» في السادس عشر والتاسع عشر من «باب في الغيبة»(2) من أنّه عليه السلام ظاهر على ثلاثين من خاصّة مواليه في الغيبة الكبرى ، فهم عدول البتّة ، وربّما كانت العدالة في غيرهم أيضا بتوفيق اللّه تعالى .

الثالث : (الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُعَلَّى بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الْوَشَّاءِ، عَنْ حَمَّادِ) ؛ بفتح المهملة وشدّ الميم . (بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ: إِذَا أَرَادَ اللّه ُ بِعَبْدٍ خَيْرا) . معنى إرادة اللّه فعل العبد هنا - فعلٌ أو تركٌ - منه تعالى يفضي إلى اختيار العبد إيّاه بدون جبر .

(فَقَّهَهُ) ؛ بتشديد(3) القاف ، أي وفّقه للفقه (فِي الدِّينِ) .

الرابع : (مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ شَاذَانَ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عِيسى، عَنْ رِبْعِيِّ) ؛ بكسر المهملة وسكون الموحّدة ومهملة . (بْنِ عَبْدِ اللّه ِ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ، قَالَ: قَالَ: الْكَمَالُ كُلُّ) ؛ بالرفع على البدليّة ، ويبعد كونه صفة ؛ لأنّه يشترط فيها الاشتقاق عند جمهور النحاة وأن لا تكون مقصودة بالنسبة .

وقيل : من الجوامد الواقعة صفة قياسا «كلٌّ» و«جدٌّ» و«حقّ» تابعة للجنس ، مضافة إلى مثل متبوعها لفظا ومعنىً ، نحو : هو الرجل كلّ الرجل ، أو جدّ الرجل ، أو حقّ

ص: 296


1- . الكافي ، ج 8 ، ص 18 ، ح 4 .
2- . الكافي ، ج 1 ، ص 340 ، باب في الغيبة ، ح 16 و 19 .
3- . في «د، ج» : «يشد» .

الرجل .(1) انتهى .

والمعنى أنّ ما سواه كأنّه ليس رجلاً أو هزل أو باطل .

(الْكَمَالِ) ؛ بالجرّ ، مضاف إليه . (التَّفَقُّهُ فِي الدِّينِ، وَالصَّبْرُ عَلَى النَّائِبَةِ) : المصيبة ، واحدة نوائب الدهر ، وهي نوازله ؛ من نابه أمرٌ ينوبه ، أي أصابه .

(وَتَقْدِيرُ الْمَعِيشَةِ) أي جعلها بين التقتير والتبذير .

الخامس : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ(2)) ؛ بكسر المهملة . (عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَابِرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ: الْعُلَمَاءُ) . المراد الذين صدّق فعلهم قولهم من جملة من حصّل العلم بقدر معتدّ به من مسائل الدِّين من الرعيّة ، كما سيجيء في ثاني «باب صفة العلماء» .

(أُمَنَاءُ) ؛ بضمّ الهمزة وفتح الميم ، جمع «أمين» وهو المعتمد عليه في الحفظ للحصن ونحوه .

(وَالْأَتْقِيَاءُ) ؛ جمع «تقيّ» بالمثنّاة فوقُ المنقلبة عن الواو والقاف .

(حُصُونٌ) ؛ بضمّتين جمع «حصن» بالكسر : سور المدينة . شبّه الأتقياء بالحصون إمّا لأنّ الناس محفوظون بثبات قدمهم في الدِّين من شرّ العدوّ وهو الشيطان ، وإمّا لأنّ اللّه يدفع بهم البلاء عن سائر الناس ، ويشبه أن يكون الأصل «والأنبياء حصون» بالنون والباء الموحّدة ؛ لأنّ شرائعهم محيطة باُممهم يتحصّنون بها عن شرّ الشيطان .

(وَالْأَوْصِيَاءُ سَادَةٌ) ؛ بتخفيف المهملة جمع «سيّد» أي اُمراء على العلماء الحافظين للحصون ، يأمرونهم بطريقة الحفظ وينهونهم عمّا يضادّها .

السادس : (وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرى) أي بالسند السابق عن أبي عبداللّه عليه السلام :

(الْعُلَمَاءُ) . مرّ تفسيره آنفا . (مَنَارٌ) ؛ بفتح الميم جمع «منارة» بفتحها ، وهي العلامة التي تنصب لمعرفة الطريق .

ص: 297


1- . شرح الرضي على الكافية ، ج 2 ، ص 292 .
2- . في «أ» قد تقرأ : «سينان» .

(وَالْأَتْقِيَاءُ حُصُونٌ، وَالْعُلَمَاءُ(1) سَادَةٌ) . المراد ب-«العلماء» هنا أخصّ من السابق ، أي الأوصياء . ويجيء تفسيره بهم في آخر «باب أصناف الناس»(2) . وفي بعض النسخ

«الأوصياء» بدل «العلماء» .

السابع : (أَحْمَدُ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَسَّانَ، عَنْ إِدْرِيسَ بْنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْكِنْدِيِّ) ؛ بكسر الكاف وسكون النون ومهملة . وكندة أبو حيّ من اليمن ، وهو كندة بن ثور .(3) (عَنْ بَشِير الدَّهَّانِ) ؛ بفتح المهملة وشدّ الهاء .

(قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : لاَ خَيْرَ فِيمَنْ لاَ يَتَفَقَّهُ مِنْ أَصْحَابِنَا) . «من» للتبعيض أو للابتداء بتضمين التفقّه معنى الأخذ .

(يَا بَشِيرُ، إِنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ) أي من أصحابنا أو من المخالفين ؛ وفيه حينئذٍ وعيد .

(إِذَا لَمْ يَسْتَغْنِ بِفِقْهِهِ) أي بما اعترف بأنّه الفقه من طريقة أهل البيت أو بما أمر بتحصيله من الفقه على طريقتهم عليهم السلام دون طريقة المخالفين .

(احْتَاجَ إِلَيْهِمْ) أي إلى المخالفين ومطالعة كتبهم في اُصول الدِّين واُصول الفقه ونحو ذلك . ومعنى الاحتياج إليهم توهّم أنّه يمكن جعل ما سمّوه فقها وليس بفقه طريقا للفقه الواجب في الدِّين ، وذلك لاعتماده بتسويلات إبليس على ذهنه في التمييز بين الحقّ والباطل في دقيق الأشياء وجليلها بدون سؤال أهل الذِّكر والرجوع إلى آثارهم .

(فَإِذَا احْتَاجَ إِلَيْهِمْ، أَدْخَلُوهُ فِي بَابِ ضَلاَلَتِهِمْ) . إضافة «الباب» إلى «ضلالتهم» لاميّة ، والمراد بباب ضلالتهم الاجتهاد الظنّي والقول على اللّه بغير علم ، فإنّه يفتح على الإنسان سائر الضلالات ، كما أنّ الكفّ عنه يفتح عليه سائر الحقّ ، كما يجيء في سابع الثاني عشر(4) وحادي عشر السابع عشر(5) .

ص: 298


1- . في الكافي المطبوع : «الأوصياء» .
2- . أي الحديث 4 من باب أصناف الناس .
3- . الصحاح ، ج 2 ، ص 532 كند .
4- . أي الحديث 7 من باب النهي عن القول بغير علم .
5- . أي الحديث 11 من باب النوادر .

ويحتمل أن يكون المراد به الاعتماد على عقله في دقيق الأشياء وجليلها ، فإنّه رأس كلّ ضلالة ، ويبعّد هذا أنّ الاعتماد من تتمّة الشرط ، كما يظهر ممّا فسّرنا به قوله : «احتاج إليهم» فهم لم يدخلوه فيه ، بل هو أدخل نفسه فيه ، وإنّما لم يقل : أدخلوه من باب ، لأنّ المراد إدخالهم إيّاه في نفس الباب ، لا في ضلالتهم ، وإن كان الأوّل مستتبعا للثاني مطلقا أو غالبا .

(وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ) . الواو للحال ، والضمير للرجل ؛ أي لا يعلم أنّهم أدخلوه في الباب ، وهذا مجرّب مُشاهد فيمن لم يقتف من أصحابنا آثار أهل البيت في اُصول الدِّين ونحوها ، فإنّه سلّم من المخالفين كثيرا من أباطيلهم الداعية إلى القول على اللّه بغير

علم ، نحو قولهم : ظنّيّة الطريق لا ينافي قطعيّة الحكم ، فادّعى العلم بكلّ ما قال .

إن قلت : إذا لم يعلم أنّهم أدخلوه كان معذورا غير مؤاخذ .

قلت : هذا إنّما يصحّ في المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً ، ويجيء بيانهم في «كتاب الإيمان والكفر» في «باب المستضعف» . وأمّا غيرهم فيؤاخذ لترك ما هو ضروري كلّ دين من وجوب سؤال أهل الذِّكر عمّا ليس من ضروريّات الدِّين ولا من ضروريّات المذهب ، وقد مرَّ بيانه في ثاني عشر «باب العقل» ، ويجيء في عاشر «باب النوادر» .

الثامن : (عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ، عَنِ النَّوْفَلِيِّ، عَنِ السَّكُونِيِّ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، عَنْ آبَائِهِ عليهم السلام، قَالَ) . الضمير لأبي عبداللّه عليه السلام .

(قَالَ رَسُولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله : لاَ خَيْرَ فِي الْعَيْشِ إِلاَّ لِرَجُلَيْنِ: عَالِمٍ) ؛ بالجرّ بدل تفصيل ، أو بالرفع خبر مبتدأ محذوف . والمراد من يعلم القدر المعتدّ به أو المحتاج إليه من المسائل الشرعيّة .

(مُطَاعٍ) ؛ بضمّ الميم ، والمراد ثقة معتمد عليه في أحكام اللّه تعالى ، وهو من صدّق فعله قوله .

(أَوْ)؛ بمعنى الواو ، أو معنى «لرجلين» لأحد رجلين .

ص: 299

(مُسْتَمِعٍ) أي من العالم المُطاع .

(وَاعٍ) . تقول : وعيت الحديث أعيه وعيا إذا حفظته وفهمته .

التاسع : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ؛ وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ عَنْ سَيْفِ بْنِ عَمِيرَةَ) كسفينة (عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ، قَالَ: عَالِمٌ يُنْتَفَعُ) ؛ بصيغة المجهول . (بِعِلْمِهِ) . الظرف نائب الفاعل ويشمل الفاعل المحذوف العالم أوّلاً ، فإنّ العلم بلا عمل شرٌّ من الجهل .

(أَفْضَلُ مِنْ سَبْعِينَ أَلْفَ عَابِدٍ) .

العاشر : (الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ سَعْدَانَ) ؛ بفتح السين وسكون العين المهملتين . (بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمَّارٍ، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : رَجُلٌ) . مبتدأ . (رَاوِيَةٌ) . صفة ، والهاء للمبالغة ، أي كثير الرواية .

(لِحَدِيثِكُمْ يَبُثُّ) ؛ بالموحّدة وشدّ المثلّثة بصيغة معلوم [من] باب نصر أو ضرب أو [من] باب الإفعال صفة ثانية أو حال عن ضمير راوية ، أي ينشر (ذلِكَ) أي حديثكم . (فِي النَّاسِ، وَيُسَدِّدُهُ)(1) ؛ بالسين المهملة ، من باب التفعيل ؛ أي يوضحه ويبيّنه بحيث يظهر أنّ الحقّ فيه دون حديث المخالفين ، والسداد بالفتح والسدد بفتحتين : الاستقامة .

(فِي قُلُوبِهِمْ) أي قلوب المخالفين بدفع شبههم عنه وبالاستدلال .

(وَ قُلُوبِ شِيعَتِكُمْ) ؛ بالاستدلال والتوضيح .

(وَلَعَلَّ عَابِدا مِنْ شِيعَتِكُمْ لَيْسَتْ لَهُ هذِهِ الرِّوَايَةُ) . عطفٌ بالمعنى على «رجل راوية» أي ورجل عابد من شيعتكم . والمراد بالعابد كثير الصلاة والصيام ونحوهما ، والظرف صفة «عابدا» و«ليست» خبرٌ ، والتوقّع هنا ليس ترجّي المحبوب ، بل الإشفاق من المكروه ، نحو : لعلّ الرقيب حاضر .

ص: 300


1- . في الكافي المطبوع : «يُشدِّدُهُ» .

(أَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟) . خبر المبتدأ وما في حيّزه . ومنع طائفة من الكوفيّين وقوع الإنشاء خبرا ، فالجملة على مذهبهم استئناف نحوي ، وخبر المبتدأ «يبثّ» أو «راوية» ، وجُوِّز كون النكرة الغير المخصّصة مبتدأ ؛ لإفادة أو أنّه على سبيل الفرض ، وليس على حقيقة الخبر ، وحينئذٍ عطف «ولعلّ» إلى آخره على سابقه باللفظ ومِن عطف الإنشاء على الخبر ؛ وهو جائز عند جماعة من النحويّين .

(قَالَ: الرَّاوِيَةُ لِحَدِيثِنَا يَشُدُّ) ؛ بالشين المعجمة من باب نصر ، أي يقوّي به .

(قُلُوبُ شِيعَتِنَا) . لم يذكر قلوب المخالفين ، فإنّه قد ينافي التقيّة ، فربّما كان تركه أحسن .

(أفْضَلُ مِنْ ألْفِ عَابِدٍ) . لا ينافي ما سبقه ؛ لأنّ العابد فيما سبق لا رواية له أصلاً ، بخلاف العابد في هذا الحديث ، أو لأنّه لم يذكر قدر الأفضليّة ، أو لأنّهما بحسب التفاوت في مراتب العلم والرواية ، أو لأنّه باعتبار ضميمة الكلام مع المخالفين في زمن التقيّة ، أو لأنّه قد يعبّر بالألف ونحوه عن الكثير الذي لا يعدّ ولا يُحصى ، وليس المقصود به تعيين العدد .

ص: 301

باب أصناف الناس

الباب الرابع بَابُ أَصْنَافِ النَّاسِ

فيه أربعة أحاديث :

الأوّل : (عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ؛ وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى جَمِيعا، عَنِ ابْنِ مَحْبُوبٍ، عَنْ أَبِي أُسَامَةَ) ؛ بضمّ الهمزة . (عَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ) ؛ بفتح المهملة وكسر الموحّدة وسكون الخاتمة ومهملة . وفي القاموس : «وكأمير ، السبيع بن سبع أبو بطن من همدان ، منهم الإمام أبو إسحاق عمرو بن عبداللّه ، ومحلّة بالكوفة منسوبة إليهم أيضا»(1) .

(عَمَّنْ حَدَّثَهُ مِمَّنْ يُوثَقُ بِهِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَمِيرَ الْمُؤمِنِينَ عليه السلام يَقُولُ: إِنَّ النَّاسَ آلُوا) ؛ كقالوا ، يقال : آل الأمر إلى كذا أولاً ومآلاً : إذا رجع إليه وتقرّر عليه .(2)

(بَعْدَ رَسُولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله إِلى ثَلاَثَةٍ) أي أقسام ثلاثة :

(آلُوا إِلى عَالِمٍ) بالمسائل الشرعيّة المحتاج إليها الغير الضروريّة للدِّين ولا الجارية مجراها ، فهو عالم بكلّها اُصولها وفروعها .

(عَلى هُدًى) . الظرف صفة موضحة لعالم ، أي ليس علمه بمحض الدعوى . والهُدى بضمّ الهاء وفتح الدال : الرَّشاد - كما في قوله : «لَعَلَى هُدىً أَوْ فِى ضَلاَلٍ»(3)

ص: 302


1- . القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 36 سبع .
2- . المصباح المنير ، ص 29 آل .
3- . سبأ 34 : 24 .

والدلالة ، ويطلق على القرآن ، كقوله(1) : «هُدىً لِلْمُتَّقِينَ»(2) وقوله : «هُدىً لِلنَّاسِ»(3) .

ومعنى الاستعلاء تمثيل تمكّنه من الهدى واستقراره عليه بحال ؛ من اعتلى الشيء وركبه ، وهذا مختصّ بالأوصياء عليهم السلام كما يجيء في آخر الباب .

(مِنَ اللّه ِ) . الظرف صفة موضحة لهدى ، أي لا عن اجتهاد ، بل بتلقٍّ عن صاحب الشرع .

(قَدْ أَغْنَاهُ اللّه ُ بِمَا عَلِمَ عَنْ عِلْمِ غَيْرِهِ) . أي علمه محيط بجميع المسائل المحتاج إليها ، دقيقها وجليلها ، والجملة صفة ثانية لعالم ، إمّا موضحة كما يظهر من آخر الباب ، وإمّا مخصّصة . وبالجملة القسم الأوّل مختصّ بالأوصياء .

(وَجَاهِلٍ) ؛ بالجرّ عطف على «عالم» . والمراد جاهل بالمسائل الغير الضروريّة للدِّين ولا الجارية مجراها ، فإنّ ما عداها معلوم لكلّ من الأقسام الثلاثة ، والمراد بهذا القسم المجتهد ، فإنّ الظنّ يباين العلم .

(مُدَّعٍ لِلْعِلْمِ) . صفة «جاهل» . وهذا ناظر إلى قوله : «على هدى من اللّه» أي للعلم المجوّز للحكم بين الناس ، فإنّه يقول : إنّ ظنّ المجتهد يفضي به إلى علم في جميع اجتهاديّاته ، وأنّ ظنّيّة الطريق لا ينافي قطعيّة الحكم .

(لاَ عِلْمَ لَهُ) . صفة ثانية لجاهل ، وهذا ناظر إلى قوله : «قد أغناه» إلى آخره ، أي ليس له علم أصلاً في شيء من اجتهاديّاته ، وإنّما ذكره لأنّ الجاهل بمجموع قد يكون عالما ببعض دون بعض .

إن قلت : كيف يمكن للمجتهد توهّم أنّ ظنّه يفضي به إلى العلم المجوّز للحكم ، وهو يعلم أنّ الاجتهاد مساوق للظنّ؟

قلت : ذلك لأمرين :

الأوّل : توهّمه أنّ الاجتهاد والظنّ بالحكم الواقعي يوجب العلم بالحكم الواصلي .

ص: 303


1- . في «ج ، د» : «لقوله» .
2- . البقرة 2 : 2 .
3- . البقرة 2 : 185 .

الثاني : خلطه بين الأحكام الواقعيّة والواصليّة ، وتوهّمه أنّ العلم بالحكم الواصلي يقوم مقام العلم بالحكم الواقعي في جواز الإفتاء والقضاء ، وذلك لحبّه رياسة الدنيا والتصدّر للإفتاء والقضاء ، مع علمه بأنّ القول على اللّه بغير علم حرام بدلالة محكمات القرآن ، كما مرَّ في ثاني عشر «باب العقل»(1) وتفصيل إبطال الأمرين في محلّه من حواشي العدّة(2) . وإلى بطلان الأمر الأوّل أشار بقوله :

(مُعْجَبٍ بِمَا عِنْدَهُ) ؛ بضمّ الميم وفتح الجيم صفة ثالثة لجاهل ، يقال : فلان معجبٌ برأيه : إذا أعجبه رأيه لحسنه عنده ، والاسم «العجب» بضمّ العين وسكون الجيم وما عنده الاجتهاد ، وإلى بطلان الأمر الثاني أشار بقوله :

(قَدْ فَتَنَتْهُ الدُّنْيَا) ؛ بتخفيف المثنّاة فوقُ ، من باب ضرب ، أو تشديدها صفة رابعة لجاهل ؛ أي أوقعته في الفتنة بالكسر : الضلال والإضلال والإثم والكفر والفضيحة والعذاب والإعجاب بالشيء والجنون والمحنة واختلاف الناس في الآراء .

(وَفَتَنَ) ؛ بتخفيف التاء و(3)تشديدها، بصيغة المعلوم ، والضمير للجاهل .

(غَيْرَهُ) . إشارةٌ إلى أنّ الأقسام أربعة حقيقةً اُلحِق مقلِّدُ القسم الثاني به ، فجعلت الأقسام ثلاثة .

(وَمُتَعَلِّمٍ مِنْ عَالِمٍ) أي من القسم الأوّل ، فالمتعلّم شيعة أهل البيت المقتفون لآثارهم .

(عَلى سَبِيلِ هُدًى مِنَ اللّه ِ) . لم يقل : على هدى من اللّه ، لأنّه مختصّ بالعالم ، والظرف الأوّل صفة متعلِّم ، أي لم يتنكّب عن الصراط ولم يدّع العلم بالاجتهاد في شيء كما ادّعى الجاهل ، والظرف الثاني صفة «هُدى» أو صفة «سبيل» لأنّه بالتوفيق منه تعالى .

(وَنَجَاةٍ) . معطوفٌ على «هدى» ، لأنّ إيمان غير الأوصياء قد يكون مُعارا ، ويحتمل عطفه على «سبيل» لظاهر الحال .

ص: 304


1- . الكافي ، ج 1 ، ص 13 ، كتاب العقل والجهل ، ح 12 .
2- . عدة الاصول ، ج 1 ، ص 21 ، فصل في ماهية اصول الفقه وبذيله حاشية الخليل القزويني .
3- . في «د» : «أو» .

(ثُمَّ هَلَكَ) ؛ من باب ضرب وعلم ، قيل : ومنع ، والهلاك بالفتح ، والهَلَكَة بفتحتين : السقوط والموت والفساد ، ومصير الشيء إلى حيث لا يدري أين هو ، ويقال : هلكه - كضربه - ، فهو لازم لا(1) متعدّ . والتراخي باعتبار أنّ هلاكه في الآخرة ، والماضي لتحقّق الوقوع أو باعتبار الرتبة ، فثمّ للتعجّب ؛ لأنّ المجتهد لا يخلو عن فضيحة في الدنيا

بتناقض في الحكم أو توقّف .

(مَنِ ادَّعى) . هو القسم الثاني ، ويُحتمل أن يراد به من حدث من القسم الثاني بعد العصر الأوّل ، وهو الإمام الثاني من أئمّة الضلالة ، والتراخي في «ثمّ» حينئذٍ أيضا باعتبار الزمان ، ويحتمل أن يُراد به قسم رابع حادث بعد العصر الأوّل يدّعي لنفسه أنّه

من القسم الثالث ، وليس كذلك لتنكّبه عن سبيل الهدى ؛ لدعواه العلم في شيء بالاجتهاد ، والإخبار به إخبار بالمغيبات .

و «ادَّعى» بصيغة الماضي لتحقّق الوقوع .

(وَخَابَ) ؛ من باب ضرب ، أي لم ينل المقصود .

(مَنِ افْتَرى) . هو الملحق بالقسم الثاني ، أي من اقتدى بالمدّعي في الدِّين بدون إذن من اللّه ، أو نفس القسم الثاني . ويحتمل أن يُراد به الإمام الثالث من أئمّة الضلالة ، ويناسب خَيبتَه اتّفاق أهل الحقّ على خلعه وقتله(2) .

ويُحتمل أن يُراد به القسم الرابع الذي ذكرناه في «مَن ادّعى» والحكم في الدِّين بدون إذن من اللّه افتراءً على اللّه موافقا لقوله تعالى في سورة يونس : «قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللّه ُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاما وَحَلاَلاً قُلْ أَاللّه ُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّه ِ تَفْتَرُونَ»(3) .

الثاني : (الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَشْعَرِيُّ ، عَنْ مُعَلَّى بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الْوَشَّاءِ ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَائِذٍ) ؛ بالمهملة والألف وكسر الهمز والمعجمة . (عَنْ أَبِي

ص: 305


1- . في «ج ، د» : - «لا» .
2- . اُنظر: المعجم الكبير للطبراني ، ج 1 ، ص 77 ؛ الطبقات الكبرى ، ج 3 ، ص 31 .
3- . يونس10 : 59 .

خَدِيجَةَ سَالِمِ بْنِ مُكْرَمٍ) ؛ بضمّ الميم وسكون الكاف وفتح المهملة .

(عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : النَّاسُ ثَلاَثَةٌ : عَالِمٌ) بالأحكام الشرعيّة الواقعيّة ، وهو الوصيّ ، كما يجئفي آخر الباب (وَمُتَعَلِّمٌ) من العالم(1) (وَغُثَاءٌ) ؛ بضمّ المعجمة والمثلّثة والمدّ : ما يحمله السيل من الزبد والوسخ وغير ذلك(2) ، وكذلك «الغثّاء» بتشديد الثاء ، والمراد هنا أراذل الناس وسقطهم من أهل البطالة(3) ، يدلّ على أنّ المجتهدين ومقلّديهم غثاء .

الثالث : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ عَبْدِ اللّه ِ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ ، عَنِ الْعَلاَءِ بْنِ رَزِينٍ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ الثُّمَالِيِّ) ؛ بضمّ المثلّثة وتخفيف الميم .

(قَالَ : قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام (4) : اغْدُ) ؛ بالمعجمة والمهملة ، أمرٌ من غدا يغدو غدوّا بضمّتين وتشديد الواو ، أي كُن في الغداة ، وهي أوّل اليوم ، أو ما بين صلاة الفجر إلى طلوع الشمس ، أو النصف الأوّل من اليوم .(5)

(عَالِما) . منصوبٌ على الخبريّة .

واختلف في «غدا» و«راح» ، فقال ابن مالك : هما لا يكونان إلاّ تامّين ، وإن جاء بعد مرفوعهما منصوب فهو حال .(6) وردّه نجم الدِّين الرضيّ رحمه اللّه تعالى بأنّه إذا كان «غدا» بمعنى مشى في الغداة ، كقوله تعالى : «أَنْ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ»(7) ، و«راح» بمعنى رجع في الرواح ، وهو ما بعد الزوال إلى الليل ، نحو : راح إلى بيته ، فلا ريب في

ص: 306


1- . في حاشية «أ» : «المراد بالعالم، العالم بالعلم اللدنّي ، وبالمتعلّم من أخذ عنه وافي» .
2- . النهاية ، ج 3 ، ص 343 ؛ ترتيب كتاب العين ، ج 2 ، ص 1328؛ المصباح المنير، ص 443؛ القاموس المحيط، ج 4، ص 368 غثا .
3- . النهاية ، ج 3 ، ص 342 غثث .
4- . في حاشية «أ» : «في هذا الحديث دلالة على أنّ غير الأئمة عليهم السلام يجوز أن يصير عالما علما لدنّيا ، فإنه المراد بالعلم دون حفظ الأقوال وحمل الأسفار وافي» .
5- . النهاية ، ج 3 ، ص 346 غدا .
6- . حكاه: الرضي في شرح الكافية عن ابن مالك ، ج 4 ، ص 186 .
7- . القلم 68 : 21 .

تمامهما . وأمّا نحو قوله : «يروح ويغدو داهنا يتكحّل»(1) ، فإن كانا بمعنى يدخل في الرواح أو(2) الغداة ، [فهما أيضا تامّان ، والمنصوب بعدهما حال ، وإن كانا بمعنى يكون في الغداة(3)] والرواح فهما ناقصان ، فلا منع إذن من كونهما ناقصين .(4) انتهى .

ويؤيّد النقصان هنا قوله «ولا تكن رابعا» . والمراد بالعالم هنا من يستغني بعلمه عن علم غيره ، وذكره لحصر الأقسام ، فإنّ المخاطب لا يصلح لذلك .

(أَوْ مُتَعَلِّما) من عالم (أَوْ أَحِبَّ) ؛ بصيغة الأمر من باب الإفعال ، وهو معطوف بالمعنى على «عالما» كأنّه قال : أو محبّا ، أو باللفظ على اُغد .

(أَهْلَ الْعِلْمِ) أي العلماء ، وحبّهم التصديق بأنّ طاعتهم مفترضة ، وبأنّه لا يجوز التعلّم إلاّ منهم . ويُحتمل أن يُراد بأهل العلم ما يشمل المتعلِّمين من العلماء ، والمقصود أنّ من لا يتيسّر له طلب العلم في يوم يقتصر في ذلك اليوم على حبّ أهل العلم ، وهو ملحق بالمتعلّم فيه ، فلا ينافي ذلك تثليث القسمة كما مرّ .

(وَلاَ تَكُنْ رَابِعا ؛ فَتَهْلِكَ بِبُغْضِهِمْ) أي بغض أهل العلم ، وهذا يدلّ على أنّ عدم حبّهم يفضي بصاحبه إلى بغضهم .

قال لي بعض المخالفين : إنّ قول الشيعة فينا : إنّا أعداء عليّ ظاهر الكذب ، كيف يبغض أحد من اعترف بأنّه إمامه الرابع؟ ونحن نقول : إنّا أشدّ حبّا لعليّ من الشيعة .

قلت : هل النصارى أعداء اللّه بقولهم : إنّ اللّه ثالث ثلاثة؟ قال : نعم ، قلت : فكيف يبغض أحد من اعترف بأنّه إلهه الثالث ؟ وهل يعترف أحد بأنّه يسبّ اللّه؟ فكيف قال اللّه : «فَيَسُبُّوا اللّه َ عَدْوا بِغَيْرِ عِلْمٍ»(5)؟

ص: 307


1- الكلام للشاعر الشنفري من قصيدته المسماة بلامية العرب وأصل البيت : ولا خالف دارية متغزل يروح ويغدو داهنا يتكحل اُنظر : شرح الكافية ، ج 4 ، ص 187 ؛ خزانة الأدب ، ج 9 ، ص 202 .
2- في المصدر : «و» .
3- مابين المعقوفين من المصدر .
4- شرح الرضي على الكافية ، ج 4 ، ص 187 ، الافعال الناقصة : معناها ، ألفاظها .
5- الأنعام (6) : 108 .

قال : هذا جواب له روح .

ثمّ قلت : هل تصدّقون اليهود فيما زعموا أنّهم أولياء للّه من دون الناس؟

قال : لا .

قلت : فالشيعة إذن لا يصدّقونكم .

الرابع : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، عَنْ يُونُسَ ، عَنْ جَمِيلٍ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : سَمِعْتُهُ يَقُولُ : يَغْدُو النَّاسُ) أي يذهبون في طريقتهم (عَلى ثَلاَثَةِ أَصْنَافٍ : عَالِمٍ ، وَمُتَعَلِّمٍ ، وَغُثَاءٍ) أي أهل بطالة (فنَحْنُ الْعُلَمَاءُ ، وَشِيعَتُنَا الْمُتَعَلِّمُونَ ، وَسَائِرُ النَّاسِ غُثَاءٌ) .

ص: 308

باب ثواب العالم والمتعلّم

الباب الخامس بَابُ ثَوَابِ الْعَالِمِ وَالْمُتَعَلِّمِ

فيه ستّة أحاديث :

الأوّل : (مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ وَعَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ ؛ وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ جَمِيعا ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الاْءَشْعَرِيِّ ، عَنْ عَبْدِ اللّه ِ بْنِ مَيْمُونٍ الْقَدَّاحِ) ؛ بفتح القاف وتشديد الدال المهملة والحاء المهملة ، صفة عبداللّه ، ويقال للميمون أيضا ، من قدح العين كمنع : إذا أخرج منها الماء الفاسد ؛(1) أو من القدح بفتحتين ، وهو نوع من الآنية كان يصنعه ، وقيل : من القدح بالكسر ، وهو السهم قبل أن يراش وينصل ،(2) كان يبري القداح ، وفيه أنّه إنّما يُقال لباريها : برّاء .

(وَعَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عِيسى ، عَنِ الْقَدَّاحِ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله : مَنْ سَلَكَ طَرِيقا) أي مشى إلى أبواب العلماء ، أو تصفّح الكتب ، أو تفكّر في نفسه ، أو نحو ذلك .

(يَطْلُبُ فِيهِ) . الضمير للطريق ، والجملة صفة «طريق» أو حال ضمير «سلك» وليست حال «طريق» ، لأنّ صاحبها نكرة محضة ، ومن قواعد النحو أنّ الجملة الخبريّة - التي لم تستلزمها ما قبلها - إن كانت مرتبطة بنكرة محضة فهي صفة لها ، أو بمعرفة

ص: 309


1- الصحاح ، ج 1 ، ص 394 (قدح) .
2- ترتيب كتاب العين ، ج 3 ، ص 1445 ؛ المصباح المنير ، ص 491 ؛ وانظر: النهاية ، ج 4 ، ص 19 (قدح) .

محضة فهي حال عنها ، أو بغير المحض منهما فهي محتملة لهما ،(1) وكلّ ذلك بشرط وجود المقتضي ، أي صحّة المعنى وعدم المانع ، فلو لم يتحقّق الشرط لشيء منهما كانت استئنافا .

(عِلْما) أي من العلم النافع في الدِّين .

(سَلَكَ اللّه ُ بِهِ طَرِيقا إِلَى الْجَنَّةِ) أي هداه اللّه إلى الحقّ ووفّقه للخير .

(وَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ) أي تفرشها لتكون تحت أقدامه إذا مشى ، وهذا إمّا للتبرّك ، وإمّا لحفظه عن التردّي في بئر أو التأذّي من وَحَلٍ(2) ونحو ذلك .

ويمكن أن يكون المراد بوضع الجناح خفضَه ، وهو عبارة عن الشفقة والرحمة والتواضع له تعظيما لحقّه ، كما في قوله تعالى : «وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ»(3) .

وقيل : أراد بوضع الأجنحة نزولهم عند مجالس العلم وترك الطيران(4) ، وقيل : أراد به إظلالهم بها .(5)

(رِضا) ؛ بالكسر والقصر ، حذف ألفها لالتقاء الساكنين هي والتنوين ، وهو منصوب تقديرا على أنّه مفعول له .

(بِهِ) أي بطلب العلم أو بطالبه لطلبه ، فإنّ الرضا لا يتعلّق إلاّ بالأفعال .

(وَإِنَّهُ يَسْتَغْفِرُ(6) لِطَالِبِ الْعِلْمِ مَنْ فِي السَّمَاءِ وَمَنْ فِي الاْءَرْضِ حَتَّى الْحُوتِ فِي الْبَحْرِ) .

المراد بطالب العلم طالب علم الدِّين بقصد العمل ، والمراد بالسماء جهة العلوّ فيشمل الهواء ، والمراد بالأرض الجهة المقابلة للسماء فيشمل الماء . واستعمال «من» في الموضعين لتغليب العقلاء ، أو لأنّه قد ينزّل غير العقلاء منزلتهم إذا نسب إليهم ما .

ص: 310


1- مغني اللبيب ، ج 2 ، ص 428 .
2- قال في المصباح المنير ، ص 651 (وَحِل) : الوحل: وهو الطين الرقيق .
3- الإسراء (17) : 24 .
4- حكاه ابن الأثير في النهاية ، ج 1 ، ص 305 (جنح) .
5- حكاه ابن الأثير في النهاية ، ج 1 ، ص 305 (جنح) .
6- في الكافي المطبوع : «ليستغفر» .

يختصّ بالعقلاء صورة ، كما في قوله تعالى : «يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ»(1) ؛ وذلك لتوجّه الخطاب إليهم .

والاستغفار من الملائكة ومؤمني الإنس والجنّ حقيقة ، ومن غيرهم مجاز ، ويجوز الجمع بينهما في لفظ ، كقولهم : القلم أحد اللسانين . وعلاقة المجاز المشابهةُ .

وهذا مبنيّ على أنّ بقاء نوع الإنس ببركة بقاء العابدين منهم ، كما مرّ في شرح خطبة الكتاب عند قول المصنّف : «وجعل عزّ وجلّ سبب بقائهم أهل الصحّة والسلامة وبقاء غيرهم ممّا في الأرض ببركة بقائهم» ، كما يشعر به قوله تعالى : «خَلَقَ لَكُمْ مَا فِى الاْءَرْضِ جَمِيعا»(2) ، وعبادتهم لا تصحّ بدون العلم بها ، وعلمهم بها لا يمكن بدون طلبه ، وكلّ حيّ يحبّ البقاء ويفرّ من الموت ، فكان كلّ حيّ يستغفر لطالب العلم من الإنس ؛ إذ هو سبب لبقائه .

والأولى أنّ المراد أنّ اللّه تعالى يغفر لطالب العلم بعدد الأحياء ؛ إذ هو السبب لنعمته تعالى عليها بإيجادها وإبقائها ، فكان كلّ حيّ يستغفر له ويستجاب له .

وأمّا كفّار الجنّ ففي كونهم من المستغفرين مجازا ثلاثة احتمالات :

الأوّل : أنّ الجنّ داخلون فيما في الأرض فبقاؤهم ببقاء الإنس ، لما مرّ من قوله تعالى : «خَلَقَ لَكُمْ مَا فِى الاْءَرْضِ جَمِيعا» .(3)

الثاني : أنّهم داخلون فيما خلق لأجل عبادة مؤمني الإنس ، كما مرّ أيضا في شرح الخطبة من احتمال أن يكون ضمير «ليعبدون» في قوله تعالى في سورة الذاريات : «وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ * وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالاْءِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ»(4) راجعا إلى المؤمنين .

الثالث : أنّ بقاء كفّار الجنّ ببقاء مؤمني الجنّ ، وهم يستغفرون لمؤمني الإنس .

ص: 311


1- النمل (27) : 18 .
2- البقرة (2) : 29 .
3- البقرة (2) : 29 .
4- الذاريات (51) : 55 - 56 .

حقيقة ، فكفّار الجنّ تبع للمستغفرين حقيقة لمؤمني الإنس ، فكانوا مستغفرين لهم مجازا .

(وَفَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلى سَائِرِ النُّجُومِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ) . مضى شرح نظيره في عاشر باب صفة العلم .

و«ليلة» منصوب على الظرفية لفضل ، و«ليلة البدر» بالفتح ليلة الرابع عشر من الشهر ، وسمّي بدرا لمبادرته الشمس بالطلوع قبيل غروبها كأنّه يُعجلها المغيبَ ، ويُقال : سمّي لتمامه واستدارته .(1)

(وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الاْءَنْبِيَاءِ ؛ إِنَّ الاْءَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا) ؛ بتشديد الراء . (دِينَارا وَلاَ دِرْهَما ، وَلكِنْ وَرَّثُوا الْعِلْمَ) أي أحاديث من أحاديثهم فيها العلم .

(فَمَنْ أَخَذَ مِنْهُ ، أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ) . مضى شرحه في ثاني باب صفة العلم .

الثاني : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ ، عَنْ جَمِيلِ بْنِ صَالِحٍ(2) ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ، قَالَ : إِنَّ الَّذِي يُعَلِّمُ الْعِلْمَ مِنْكُمْ لَهُ أَجْرٌ مِثْلُ أَجْرِ الْمُتَعَلِّمِ ، وَلَهُ الْفَضْلُ عَلَيْهِ) . «يعلّم» بصيغة معلوم باب التفعيل ، و«العلم» مفعول به ، كالحقّ في آية سورة يونس : «يُحِقُّ اللّه ُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ»(3) .

والمراد بالعلم ما مضى في أوّل الثالث(4) في قوله : «إنّما العلم ثلاثة : آيةٌ محكمة ، أو فريضةٌ عادلة ، أو سنّةٌ قائمة» . أو المراد القدر المشترك بين الآيات البيّنات المحكمات ، الناهية عن اتّباع الظنّ ، الآمرة بسؤال أهل الذِّكر وما يوافقها من أحاديث أهل البيت عليهم السلام .

وحينئذٍ تعليمه قسمان :

الأوّل : دفع تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين عنه كما مرّ في ثاني الثالث .(5) .

ص: 312


1- النهاية ، ج 1 ، ص 106 ؛ المصباح المنير ، ص 38 (بدر) .
2- في الكافي المطبوع : «جميل بن درّاج» .
3- يونس (10) : 82 .
4- أي الحديث 1 من باب صفة العلم وفضله .
5- أي الحديث 2 من باب صفة العالم وفضله .

الثاني : التنبيه على دلالته على وجوب إمام معصوم عالم بجميع ما يحتاج إليه الاُمّة في كلّ زمان إلى انقراض التكليف .

و«منكم» حال ضمير «يعلم» أو حال «العلم» . وعلى الأوّل «من» للتبعيض واحتراز عن الأئمّة ، فإنّ أجرهم في التعليم أكثر ، وعلى الثاني «من» للتعليل باعتبار انحصار الانتفاع به في المخاطبين ، واحتراز عمّا يصدق به المخاطبون والمخالفون من جملة الآيات البيّنات المحكمات ، نحو : «أَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ»(1)القصص : (28) 82 .(2) .

وضمير «له» للمعلّم ، و«الفضل» النعمة والتطوّل ، وضمير «عليه» للمتعلِّم ، والظرف متعلّق بالفضل . والمراد أنّه يجب على المتعلِّم شكر المُعلِّم ؛ لنعمته عليه ، وهو غير الثواب الاُخرويّ .

(فَتَعَلَّمُوا الْعِلْمَ مِنْ حَمَلَةِ الْعِلْمِ) ؛ بالمهملة والميم المفتوحتين ، جمع «حامل» .

(وَعَلِّمُوهُ إِخْوَانَكُمْ) أي لتحوزوا أجر التعليم والفضل مع أجر التعلّم .

(كَمَا عَلَّمَكُمُوهُ الْعُلَمَاءُ) . الظرف متعلّق بعلّموه ، وهو: إمّا ترغيب في التعليم و«ما» كافّة ، أي لولا فتح باب التعليم وحسنه لما وصل إليكم العلم من العلماء ، كما تقول : «أحسن إليّ كما أحسن اللّه إليك» لا تريد أن يكون إحسانه مثل إحسان اللّه ، بل تريد ترغيبه فيه ، وأنّ مَن أحبّ إحسان من فوقه إليه ، فليحبّ إحسانه إلى من تحته .

وإمّا بيان لكيفيّة التعليم المأمور به ، و«ما» مصدريّة ، أي لا تزيدوا على لفظه ، أو على معناه ، أو على بيان المحتاج إليه في التعليم ؛ فإنّه يتشتّت به ذهن المتعلِّم ولا تنقصوا عنه .

وقال ابن هشام في مغنى اللبيب في معاني الكاف الحرفيّة :

الثاني : التعليل ، أثبت ذلك قوم ، ونفاه الأكثرون ، وقيّد بعضهم جوازه بأن تكون الكاف مكفوفة ب- «ما» كحكاية سيبويه ، كما أنّه لا يعلم فتجاوز اللّه عنه ، وألحق جوازه في المجرّدة من «ما» نحو : «وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ»(2) ؛ أي أعجب لعدم فلاحهم ، وفي .

ص: 313


1- البقرة
2- : 43 .

المقرونة ب- «ما» الكافّة(1) كما في المثال وب- «ما» المصدريّة نحو : «كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ»(2) الآية .

قال الأخفش : أي لأجل إرسالي فيكم رسولاً منكم فاذكروني ، وهو ظاهر في قوله تعالى : «وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ»(3) .

وأجاب بعضهم : بأنّه من وضع الخاصّ موضع العامّ ؛ إذ الذكر والهداية يشتركان في أمر وهو الإحسان ، فهذا في الأصل بمنزلة «وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللّه ُ إِلَيْكَ»(4) ، والكاف للتشبيه ، ثمّ عدل عن ذلك للإعلام بخصوصيّة المطلوب ، وما ذكرناه في الآيتين من أنّ «ما» مصدريّة قاله جماعة ، وهو الظاهر . وزعم الزمخشري وابن عطيّة وغيرهما أنّها كافّة ، وفيه إخراج الكاف عمّا ثبت لها من عمل الجرّ لغير مقتض .(5) انتهى .

الثالث : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْبَرْقِيِّ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام يَقُولُ : مَنْ عَلَّمَ) ؛ بصيغة معلوم باب التفعيل .

(خَيْرا ، فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهِ) أي زائدا على أجر التعليم ، ولا يلزم أن يكون مثل الأجر أجرا ؛ لأنّ الأجر هو الثواب ، وهو لا ينقص ولا يزيد بعمل الغير وعدمه ، اللّهُمَّ إلاّ أن يُقال : إنّ له مثل أجر من يمكن أن يعمل به في عمله به ، لكن اكتفى بذلك في البيان ، كما يجيء في «الوزر» في الآتي ، ويؤيّده قوله تعالى : «وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعا»(6) ، وضمير «به» للخير أو لمصدر علم ، والباء على الأوّل صلة عمل ، وعلى الثاني للسببيّة . .

ص: 314


1- في المصدر : «الزائدة» .
2- البقرة (2) : 151 .
3- البقرة (2) : 198 .
4- القصص : (28) 77 .
5- مغني اللبيب ، ج 1 ، ص 234 .
6- المائدة (5) : 32 .

(قُلْتُ : فَإِنْ عَلَّمَهُ غَيْرَهُ) . الاستفهام مقدّر ، أي أفإن علّم المتعلِّم منه غيره وعمل به ذلك الغير .

(يَجْرِي ذلِكَ لَهُ؟) أي يحصل للمعلِّم الأوّل مثل أجر عمل المتعلِّم الثاني .

(قَالَ : إِنْ عَلَّمَهُ) . الضمير المرفوع المستتر للمتعلِّم منه ، وهو المعلّم الثاني ، والمنصوب البارز للخير .

(النَّاسَ كُلَّهُمْ) . مفعول أوّل ، اُخّر عن المفعول الثاني لكونه ضميرا متّصلاً .

(جَرى لَهُ) أي يحصل للمعلِّم الأوّل بعدد من عمل به من الناس الأجر .

ويحتمل أن يكون قوله : «من عمل به» إشارة إلى أنّ المتعلِّم فيما نحن فيه متعدّد ، وربّما عمل به بعضهم دون بعض ، ويكون «غيره» مرفوعا بالفاعليّة ، والضمير لمن عمل به ، ويكون المستتر في «علمه» ل- «غيره» والبارز للخير ، ويكون حاصل السؤال لو لم يعمل به بعض المتعلّمين وتعلّم منه من يعمل به أيجري مثل ثواب هذا العمل للمعلِّم الأوّل أم لا؟ ويكون حاصل الجواب أنّ ترك عمل المتعلِّم الأوّل لا يقدح في جريان مثل ثواب عمل المتعلِّمين منه للمعلّم الأوّل .

(قُلْتُ : فَإِنْ مَاتَ؟) . الاستفهام مقدّر ، أي أفإن مات المعلِّم الأوّل . وجزاؤه محذوف ، أي يجري ذلك له .

(قَالَ : وَإِنْ مَاتَ) . «إن» وصليّة ، وهو معطوف على مقدّر ، أي إن بقي يجري له ذلك ، وإن مات يجري له ذلك فيمن عمل به بعد موته .

الرابع : (وَبِهذَا الاْءِسْنَادِ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ ، عَنِ الْعَلاَءِ بْنِ رَزِينٍ ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ الْحَذَّاءِ) ؛ بفتح المهملة وشدّ المعجمة .

(عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ، قَالَ : مَنْ عَلَّمَ) ؛ بصيغة معلوم باب التفعيل . (بَابَ هُدىً ، فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهِ) . ظاهر من شرح السابق .

(وَلاَ يُنْقَصُ) ؛ بصيغة مجهول باب نصر . (أُولئِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئا ، وَمَنْ عَلَّمَ(1) بَابَ .

ص: 315


1- في «ج» : + «من» .

ضَلاَلٍ) . المراد بالتعليم الرواية والتصوير والترغيب في العمل به كالمعلوم ، فإنّ التعليم الحقيقي أي إحداث العلم بالصدق لا يتصوّر في باب الضلال .

(كَانَ عَلَيْهِ مِثْلُ أَوْزَارِ مَنْ عَمِلَ بِهِ ، وَلاَ يُنْقَصُ أُولئِكَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئا) .

إن قلت : كيف يمكن أن يستحقّ أحد الوزر بسبب عمل غيره ، وأن لا يستحقّه لو لم يعمل الغير ، وهو ليس باختياره ، وقد قال تعالى في سورة فاطر : «وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى»(1)؟

قلت : ليس استحقاقه للوزر بسبب عمل الغير حتّى يلزم أنّه لو لم يعمل الغير لم يحصل استحقاق ، بل نقول : استحقاق الوزر في التعليم لباب ضلال بعدد أوزار جميع الخلق ممّن يمكن أن يعمل به في العمل به ، فإن لم يعمل به أحد ممّن يمكن عمله به ، وقلنا : إنّه ليس له وزر بإزائه كان ذلك تخفيفا من اللّه عنه ، لا لعدم استحقاقه ، بل لما علِمَ اللّه تعالى من المصلحة .

وأمّا الآية فلا تنافي ذلك ؛ لأنّه لا ينقص اُولئك من أوزارهم شيئا ، فوزره على حدة ، قال تعالى في سورة العنكبوت : «وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ»(2) ، ويؤيّد ذلك قوله تعالى : «فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعا»(3) .

إن قلت : إن اُريد بجميع الخلق جميع من يخلق ، كان الاستحقاق مختلفا بالزيادة والنقصان على حسب زيادة الخلق ونقصانه ، ويعود المحذور ، وإن اُريد به جميع ما يمكن أن يُخلق ، كانت التي استحقّها من الأوزار غير متناهية .

قلت : نختار الثاني ، ولا ضير ، فإنّه يرجع إلى استحقاق الخلود في النار .

الخامس : (الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ رَفَعَهُ ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عليهماالسلام ، قَالَ : لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي طَلَبِ الْعِلْمِ) أي من الأجر (لَطَلَبُوهُ .

ص: 316


1- فاطر (35) : 18 .
2- العنكبوت (29) : 13 .
3- المائدة (5) : 32 .

وَلَوْ بِسَفْكِ الْمُهَجِ) .

السفك : الإراقة والإجراء لكلّ مائع ، يُقال : سفك الدم والدمع والماء - كضرب - سفكا ، وكأنّه بالدم أخصّ .(1) و«المُهج» بضمّ الميم وفتح الهاء ، جمع «المهجة» بسكون الهاء ، وهي الروح والدم ، أو دم القلب خاصّة .(2) والمراد هنا الدم ، والمراد بسفك المهج التعرّض للمخوفات التي يسفك فيها الدماء ، وهي مظنّته .(3)

(وَخَوْضِ اللُّجَجِ) . الخوض : الذهاب في قعر الماء ،(4) واللُجج بضمّ اللام وفتح الجيم جمع «لجّة» بتشديد الجيم : معظم البحر وموجه .(5) والمراد الأوّل .

(إِنَّ اللّه َ تَعَالى(6) أَوْحى إِلى دَانِيَالَ :) . قيل : بكسر النون .

(إِنَّ)(7) ؛ بكسر الهمزة وتشديد النون ، أو بفتح الهمزة وتخفيف النون .

(أَمْقَتَ) ؛ بالنصب أو بالرفع اسم تفضيل من المجهول ، والمقت من باب نصر : البغض ،(8) تقول : هو أمقت الناس عندي أو إليَّ : إذا أخبرت أنّه ممقوت ؛ وأمقت الناس لي : إذا أخبرت أنّه ماقت .

(عَبِيدِي إِلَيَّ الْجَاهِلُ) . المراد به ما يقابل العاقل .

(الْمُسْتَخِفُّ بِحَقِّ أَهْلِ الْعِلْمِ) ؛ بكسر المعجمة ، يُقال : استخفّه ، أي عدّه خفيفا ، واستخفّ به ، أي أهانه . والأنسب على الأوّل «لِحقّ» باللام ، دون الباء ، وعلى الثاني ينبغي جعل الكلام مبنيّا على تشبيه الحقّ بإنسان ، أو إعطاء المضاف حكمَ المضاف إليه .

(التَّارِكُ لِلاِقْتِدَاءِ بِهِمْ) . ما أشدّ انطباقَ هذا على متكلّمين أعرضوا عن أحاديث أهل .

ص: 317


1- النهاية ، ج 2 ، ص 376 ؛ ترتيب كتاب العين ، ج 2 ، ص 831 (سفك) .
2- ترتيب كتاب العين ، ج 3 ، ص 1733 (مهج) .
3- في «أ» قد تقرأ : «مظنة» .
4- المصباح المنير ، ص 184 (خاض) .
5- المصباح المنير ، ص 549 (لجّ) .
6- في الكافي المطبوع : «تبارك وتعالى» .
7- في الكافي المطبوع : «أنّ» .
8- المصباح المنير ، ص 576 (مقت) .

البيت في الاُصول لزعمهم أنّها معارضة لمقتضى أدلّة عقليّة والعقل مقدّم على النقل ، وما أدلّتهم إلاّ شُبَهٌ ظاهرة الأجوبة ، قلّدوا فيها أسلافهم من المعتزلة أو الأشاعرة .

(وَأَنَّ أَحَبَّ عَبِيدِي إِلَيَّ التَّقِيُّ الطَّالِبُ لِلثَّوَابِ الْجَزِيلِ) . ناظرٌ إلى الجاهل .

(اللاَّزِمُ لِلْعُلَمَاءِ ، التَّابِعُ لِلْحُلَمَاءِ ، الْقَابِلُ عَنِ الْحُكَمَاءِ) . ناظرٌ إلى المستخفّ ، إلى آخره . والحلم بالكسر : العقل ، والحكمة : ضدّ الهوى .

ما أشدّ انطباق هذا على مَن يتأمّل أحاديث أهل البيت في الاُصول حقّ التأمّل ، فإنّه يفضي به إلى علم ، وإن كانت أخبار آحاد بشرط خلوّه عن الهوى وعن اتّباع الكبراء من المتكلِّمين ، والأوصاف الثلاثة - أعني العلم والحلم والحكمة - إنّما هي مجتمعة في الأنبياء وأوصيائهم كأهل البيت عليهم السلام فالأحبّ الآن اتّباعهم .

السادس : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ الْمِنْقَرِيِّ) ؛ بكسر الميم وسكون النون وفتح القاف ومهملة نسبةً إلى منقر بن عبد اللّه أبي بطن من تميم .(1)

(عَنْ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ ، قَالَ : قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : مَنْ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَمِلَ بِهِ وَعَلَّمَ لِلّهِ) . «العلم» مفعول به ، وهو عبارة من الآيات البيّنات المحكمات الناهية عن اتّباع الظنّ الآمرة بسؤال أهل الذِّكر عن كلّ مشتبه من الدِّين احتاج إليه هذا المتعلِّم ، ويعبّر عنه بعلم القرآن كما في أوّل كتاب الروضة ، وتعلّمه تفهّمه شيئا فشيئا(2) موافقا لما يجيء في ثالث الآتي(3) ، والمراد بهما استنباط النتيجة منه ، وهي وجوب إمامة العالم بجميع الأحكام والمتشابهات في كلّ زمان إلى انقراض التكليف ، وهو أمير المؤمنين وأولاده المعروفون ؛ لاتّفاق الاُمّة على اتّباع معارضيهم الظنّ ، والعمل به عبارة عن كفّ النفس عن اتّباع الظنّ وحمل النفس على السؤال المذكور و«علّم» بتقدير «علّمه» ، .

ص: 318


1- اُنظر: ترجمته في معجم رجال الحديث ، ج 9 ، ص 266 ، الرقم 5442 .
2- في «أ» : - «شيئا فشيئا» .
3- أي الحديث 3 من باب صفة العلماء .

والظرف متعلّق بكلّ واحد من الثلاثة ، والترتيب يُشعر بوجوب تقديم العمل على التعليم .

(دُعِيَ) ؛ مجهول ، أي سمّي (فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ) أي ملائكة السماوات تسمية للمتعلَّق باسم المتعلِّق ، فإنّ الملكوت وصف للّه تعالى ، وهو مصدر من الملك بالضمّ(1) : السلطنة ، بني للمبالغة ، كالرهبوت من الرهبة .

(عَظِيما) أي باسم عظيم بين الأسماء .

(فَقِيلَ : تَعَلَّمَ لِلّهِ ، وَعَمِلَ لِلّهِ ، وَعَلَّمَ لِلّهِ) . الفاء للبيان ، والمراد أنّ تسميته عظيما نفس هذا القول نظير عَدّ «لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ» من أسماء اللّه ، كما يجيء في «كتاب التوحيد» في أوّل الخامس عشر(2) ، وحُذف المفعول به في تعلّم للّه ونظيريه للعموم .

والمراد أنّ عمدة أحكام اللّه وأصلها هذا العلم ، فمَن تعلّمه وعمل به وعلّمه للّه فكأنّما تعلّم جميع أحكام اللّه وجميع ما اُنزل على الرسول في محكم القرآن ومتشابهه وعمل بها وعلّمها ، فثوابه كثوابه ، نظير قوله تعالى في سورة المائدة : «وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعا» (3). .

ص: 319


1- في «أ» : «بضمّ الميم وسكون اللام» بدل «بالضمّ» .
2- أي الحديث 1 من باب حدوث الأسماء .
3- المائدة (5) : 32 .

باب صفة العلماء

الباب السادس بَابُ صِفَةِ الْعُلَمَاءِ

فيه سبعة أحاديث ؛ أي بيان العلماء الممدوحين شرعا .

الأوّل : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْعَطَّارُ ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ وَهْبٍ) ؛ بفتح الواو وسكون الهاء .

(قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام يَقُولُ : اطْلُبُوا الْعِلْمَ ، وَتَزَيَّنُوا مَعَهُ بِالْحِلْمِ وَالْوَقَارِ ، وَتَوَاضَعُوا لِمَنْ تُعَلِّمُونَهُ الْعِلْمَ ، وَتَوَاضَعُوا) أي بعد فراغكم من الطلب (لِمَنْ طَلَبْتُمْ مِنْهُ الْعِلْمَ) أي في الزمان الماضي (وَلاَ تَكُونُوا عُلَمَاءَ جَبَّارِينَ) أي غير متواضعين ، (فَيَذْهَبَ بَاطِلُكُمْ) ، هو الجبّاريّة (بِحَقِّكُمْ) ، هو العلم وأثره.

الثاني : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، عَنْ يُونُسَ ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عُثْمَانَ ، عَنِ الْحَارِثِ) ؛ بالمهملة والألف وكسر المهملة ومثلّثة .(1) (بْنِ الْمُغِيرَةِ) ؛ بضمّ الميم وكسر المعجمة وسكون الخاتمة ومهملة(2) . (النَّصْرِيِّ) ؛ بفتح النون وسكون الصاد(3) المهملة ومهملة من بني نصر بن معاوية(4) .

(عَنْ أَبِي عَبْدِاللّه ِ عليه السلام فِي قَوْلِ اللّه ِ عَزَّ وَجَلَّ) في سورة فاطر : («إِنَّما يَخْشَى اللّه َ مِنْ عِبادِهِ

ص: 320


1- في «ج ، د» : - «بالمهملة والألف وكسر المهملة ومثلثة» .
2- في «ج ، د» : - «بضمّ الميم وكسر المعجمة وسكون الخاتمة ومهملة» .
3- في «ج ، د» : - «الصاد» .
4- قبيلة من هوازن تسكن في منطقة قرب الطائف تسمى جلذان . معجم البلدان ، ج 2 ، ص 151 .

الْعُلَماءُ»(1) قَالَ : يَعْنِي بِالْعُلَمَاءِ مَنْ صَدَّقَ فِعْلُهُ قَوْلَهُ ، وَمَنْ لَمْ يُصَدِّقْ فِعْلُهُ قَوْلَهُ ، فَلَيْسَ بِعَالِمٍ) . الخشية شدّة الخوف ، كما يظهر ممّا يجيء في «كتاب الإيمان والكفر» في سابع «باب الخوف والرجاء» وهو الثالث والثلاثون : «العلماء المحافظون على الشرط من اللّه جلّ ذكره فيما استعبد به خلقه أن يؤدّوا جميع فرائضه بعلمٍ ويقين وبصيرةٍ» كما مرّ في كلام المصنّف رحمه اللّه في الخطبة ، وهم الأخباريّون من الشيعة الإماميّة .

وممّا يدلّ عليه أنّ «على كلّ حقّ حقيقةً ، وعلى كلّ صواب نورا» . ويجيء مع بيانه في أوّل «باب الأخذ بالسنّة وشواهد الكتاب» وهو آخر الأبواب ، وما روي عن النبيّ صلى الله عليه و آله أنّه قال : «أيّها الناس إنّ لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم ، وأنّ لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم» . ويجيء مع شرحه في «كتاب الإيمان والكفر» في تاسع «باب الخوف والرجاء» وهو الثاني والثلاثون .

وإنّما كان المحافظ على هذا الشرط خاشيا لأنّ الآيات الناهية عن اتّباع الظنّ مشتملة على الوعيد بجهنّم والعذاب الأليم على مخالفتها .

ولمّا كان هذا الشرط مشتملاً على قيدين :

الأوّل : العلم الحاصل بسؤال أهل الذِّكر عن كلّ مشتبه ، إمّا بلا واسطة وإمّا بواسطة أو وسائط بشروط مقرّرة معلومة ، وهذا ردّ على طريقة أهل الاجتهاد الظنّي وتقليد المجتهد .

الثاني : أداء جميع الفرائض ، وكان في انتفاء العلم بانتفاء القيد الثاني نوع خفاء اكتفى الإمام عليه السلام ببيان القيد الثاني ، ووجهه أنّ الآية مسوقة لمدح العلماء ، وأنّ الخشية مختصّة بهم ، ولا يصحّ مدح العالم الذي لا يؤدّي الفرائض ؛ لأنّه شرّ من الجاهل ، كما يجيء في الرابع والسادس من «باب استعمال العلم» وهو الرابع عشر .

«صدّق» معلوم باب التفعيل ، أي وافق ، «فعلُه» مرفوع ، «قولَه» منصوب ، أي علمه ، «ليس بعالم» أي ليس ممّن مدحه اللّه في هذه الآية . .

ص: 321


1- فاطر (35) : 28 .

اعلم أنّ هنا وجها آخر يرجع إلى الأوّل ، هو أن يكون المراد بالعلماء الذين يعلمون اللّه . ويؤيّد هذا ما في «كتاب الروضة» في صحيفة عليّ بن الحسين عليهماالسلام وكلامه في الزهد من قوله : «فمَن عرف اللّه خافه ، وحثّه الخوف على العمل بطاعة اللّه ، وأنّ أرباب العلم وأتباعهم الذين عرفوا اللّه فعملوا له ورغبوا إليه ، وقد قال اللّه : «إِنَّمَا يَخْشَى اللّه َ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ»(1) ، وما في الصحيفة الكاملة من دعائه عليه السلام في الإلحاح على اللّه تعالى من قوله : «سبحانك أخشى خلقك لك أعلمهم بك» الدعاء(2) .

بيان ذلك أنّ خشية اللّه على قسمين :

الأوّل : خشية متعلِّقة بالدنيا ، وهي خشية خذلانه واستدراجه ومكره وإزاغته للقلب بعد الهداية وإضلاله ، ونحو ذلك ، وهذه إنّما تحصل بالعلم بأنّ بيده تعالى أزمّة الاُمور كلّها ، وأنّه خالق كلّ شيء حتّى معاصي العباد ، وأنّه لا يجب عليه كلّ لطف ناجع(3) ، إنّما يجب عليه اللطف المزيح لعلّة المكلّف ، وأنّه لا يقع شيء في الأرض ولا في السماء إلاّ بمشيئته وإرادته وقدره وقضائه وإذنه ، وأنّه يضلّ مَن يشاء ويهدي مَن يشاء ، وأنّ العبد غير مستقلّ بالقدرة على فعله وإن كان له أصل القدرة على كلٍّ من الفعل والترك ، وهو المؤثّر في أفعال نفسه ، ويستحقّ على فعله المدح أو الذمّ عقلاً ، والثواب أو العقاب ، وهذا مذهب الواسطة بين الجبر والتفويض ، وسيتّضح في «باب الاستطاعة» وغيره من أبواب «كتاب التوحيد» .

الثاني : خشية متعلّقة بالآخرة ، وهي خشية عقابه ونسيانه وعدم النظر ، وعدم تزكية الأعمال ، ونحو ذلك ، وهذه إنّما تحصل بالعلم بأنّه تعالى لا يُسأل عمّا يفعل وهُم يُسألون ، ويجيء شرحه في سادس «باب المشيّة والإرادة» من «كتاب التوحيد» ، وبالعلم بزواجره ومواعيده ، وأنّ العفو عن بعض العاصين ظلم بل ظلاميّة ، وهو تعالى ليس بظلاّم للعبيد ، وأنّه سيبدو لهم من اللّه ما لم يكونوا يحتسبون ، وأنّ اللّه تعالى يحبط).

ص: 322


1- الكافي ، ج 8 ، ص 16 ، ح 2 . والآية في سورة فاطر (35) : 28 .
2- الصحيفة السجادية ، ص 302 ، دعاؤه في الإلحاح .
3- أي ظاهر أثره . المصباح المنير ، ص 594 (نجع).

أعمال الأخسرين أعمالاً «الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا»(1) ، وأنّ مصالحه تعالى في شرع الأحكام ، وأمر الثواب والعقاب ليست على طبق أمانيّ الناس وآرائهم ، لم يرخّص في القول على اللّه بغير علم ، ولا في العمل بغير علم فإنّ العالم بهذه الاُمور لا يتّكل على الأمانيّ الفارغة ، ولا يحكم عن رأي واجتهاد ، ولا يعمل عن ظنّ وتكون له مع رجائه خشية .

الثالث : (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْبَرْقِيِّ ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مِهْرَانَ ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْقَمَّاطِ) بفتح القاف وتشديد الميم ، أي بيّاع القماط - ككتاب - خرقة يقمط بها الصبيّ ، أي يشدّ يداه ورجلاه .(2)

(عَنِ الْحَلَبِيِّ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : قَالَ أَمِيرُ الْمُوءْمِنِينَ عليه السلام : أَلاَ) بهمزة الاستفهام ولا النافية ، ففي الكلام حذف بعد تمام الجملة الاستفهاميّة فيقدّر «قالوا : بلى فقال» ويجوز أن يكون حرف تنبيه فلا حذف .

(اُخَبِّرُكم)(3) ؛ من باب التفعيل . والفرق بين الإخبار والتخبير كالفرق بين الإنباء والتنبيء ؛ في أنّ الأوّل إلقاء الخبر ، سواء حصل به علم أم لا ، والثاني ما مع التعليم ، قال تعالى في سورة التحريم : «مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِى الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ»(4) ، يُقال : خبر - كحسن - ، وخبره - كعلم - : إذا عرف حقّ المعرفة .

(بِالْفَقِيهِ) . المراد به من يؤخذ منه أحكام الشرع . (حَقِّ الْفَقِيهِ؟) . الحقّ خلاف الباطل ، أو بمعنى الحقيق ، أي الجدير بأن يسمّى فقيها ، وهو مجرور على أنّه بدل الفقيه ، وقيل : صفته ، كما مضى في رابع الثالث(5) ، فما بعده خبر مبتدأ محذوف أي هو ، ويحتمل الرفع بالابتداء فيكون ما بعده خبره . .

ص: 323


1- الكهف (18) : 104 .
2- ترتيب كتاب العين ، ج 3 ، ص 1524 (قمط) .
3- في الكافي المطبوع : «أخبِرُكم» .
4- التحريم (66) : 3 .
5- أي الحديث 14 من باب صفة العلم وفضله وفضل العلماء .

(مَنْ لَمْ يُقَنِّطِ) ؛ بتشديد النون . والقنوط : إظهار اليأس ، أو هو أشدّ اليأس ومضى في رابع عشر الأوّل(1) أنّ القنوط ضدّ الرجاء .

(النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللّه ِ) أي إيصاله النفع ، وأمّا دفعه الضرر فهو رَوح اللّه بفتح المهملة ، ويجيء في «كتاب الإيمان والكفر» في عاشر «باب الكبائر» ، وهو الاثنا عشر والمائة : «الكبائر القنوط من رحمة اللّه ، والإياس من روح اللّه ، والأمن من مكر اللّه» إلى آخره .

(وَلَمْ يُوءْمِنْهُمْ) ؛ من باب الإفعال ، والأمن : ضدّ الخوف .

(مِنْ عَذَابِ اللّه ِ) ، هو مكر اللّه المذكور في سورة الأعراف : «فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّه ِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ»(2) ، أو أعمّ منه .

(وَلَمْ يُرَخِّصْ) ؛ من باب التفعيل . (لَهُمْ فِي مَعَاصِي اللّه ِ) . الترخيص في المعاصي لازم قول طوائف :

الاُولى : المرجئة ، وهم الذين قالوا : إنّ الإيمان محض العلم بصدق جميع ما جاء به الرسول ، ويؤخّرون الأعمال عن الإيمان ، ويقولون : لا يضرّ مع الإيمان معصية ، ويجعلون إيمان أفسق الفسّاق في مرتبة إيمان جبرئيل وميكائيل ، كما يجيء في «كتاب الحجّة» في ثاني «باب ما أمر النبيّ صلى الله عليه و آله بالنصيحة لأئمّة المسلمين واللزوم لجماعتهم ومَن هم» وهو الاثنان والمائة .

الثانية : الأشاعرة ، حيث نفوا التحسين والتقبيح العقليّين ، فجوّزوا الكذب وإظهار المعجزة على يد الكاذب ، وتخليد الأنبياء في جهنّم ، وتخليد المشركين في الجنّة ونحو ذلك ، وهم أهل الإباحة .

الثالثة : الجبريّة ، القائلون بالجبر ، وهو القدر المشترك بين مذهب الجهميّة(3) القائلين بأنّ فعل الإنسان كحركة الورق على الشجر ، والأشاعرة القائلين بأنّ فاعل فعل .

ص: 324


1- أي الحديث 14 من كتاب العقل والجهل .
2- الأعراف (7) : 99 .
3- الجهمية ، جماعة من الجبرية ، رئيسهم جهم بن صفوان؛ ظهرت بدعته بمدينة ترمذ وقتله مسلم بن أحوز بمرو في آخر ملك بني اُمية وتفصيل عقائد الجهمية في الملل والنحل ، ج 1 ، ص 86 .

الإنسان هو اللّه ، وأنّ العبد كاسب ، والفلاسفة القائلين بأنّ تخلّف المعلول عن العلّة التامّة محال(1) ، ويجيء بيان مذاهبهم في «كتاب التوحيد» في شرح «باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين» وهو الثلاثون ؛ وذلك لأنّه يستلزم بطلان الثواب والعقاب وهو إباحة .

الرابعة : القائلون بأنّ وعيد اللّه تعالى على المعاصي تهديد ، وهو من قبيل الإنشاء ، فيجوز إخلافه ، ويستندون إلى قول الشاعر :

وأنّي إذا أوعدته أو وعدته لمخلف إيعادي ومنجز موعدي(2)

الخامسة : الصوفيّة ، القائلون بأنّه إذا ظهرت الحقائق بطلت الشرائع ، ويروّجون ذلك بقياسات شعريّة كتشبيه الأعمال الشرعيّة بمعالجات الأطبّاء وتدبيرات أهل الكيمياء ، كما في الدفتر الخامس من مثنوي الرومي ، ويروّجونه أيضا بدعوى العلم باتّحاد الموجودات بالمكاشفة بدون برهان ، وأنّه حينئذٍ لا يتصوّر تكليف ، وهذا إنكار للشريعة وصانع العالم في لباس ، وقول اللّه أصدق من قولهم ؛ قال تعالى في سورة البقرة وسورة النمل : «قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ»(3) .

(وَلَمْ يَتْرُكِ الْقُرْآنَ رَغْبَةً عَنْهُ إِلى غَيْرِهِ) . «رغبة» مفعول له للمنفيّ ، وهي إذا عدِّيت ب- «عن» بمعنى النفرة ، و«غيره» بمعنى ضدّه أو أعمّ منه ، والرغبة عن القرآن إلى غيره ما صدر عن منافقي الأصحاب المذكور في سورة يونس : «وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ»(4) .

ويجيء في «كتاب الحجّة» في السابع والثلاثين من السابع والمائة(5) ، وما صدر عن .

ص: 325


1- استحالة تخلف المعلول عن العلّة التامة ثابتة بين الفلاسفة ، وللمثال يراجع الحكمة المتعالية ، ج 1 ، ص 217 ، و ج 2 ، ص 299 و 322 ؛ و ج 9 ، ص 374 .
2- حكاه الباقلاني في تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل ، ص 401 ، باب القول في الوعد والوعيد ؛ تفسير الرازي ، ج 2 ، ص 57 ، المسألة الثانية عشرة ؛ تاريخ مدينة دمشق ، ج 67 ، ص 112 .
3- البقرة (2) : 111 ؛ النمل (27) : 64 .
4- يونس (10) : 15 .
5- أي الحديث 37 من باب فيه نكت ونتف من التنزيل في الولاية .

رئيسهم حين أراد النبيّ صلى الله عليه و آله أن يؤكّد الوصيّة من قوله : «إنّ الرجل ليهجر ، وحسبنا كتاب اللّه»(1) . وما صدر عن أتباعهم حيث نقل ابن حجر العسقلاني في فتح الباري شرح صحيح البخاري عن النووي شارح صحيح مسلم أنّه قال : «اتّفق العلماء على أنّ قول عمر : حسبنا كتاب اللّه من قوّة فقهه ، ودقيق نظره ؛ لأنّه خشي أن يُكتب اُمور ربّما عجزوا عنها فاستحقّوا العقوبة لكونها منصوصة ، وأراد أن لا ينسدّ باب الاجتهاد على العلماء»(2) انتهى .

ومنشأ هذا حبّ الرياسة بمنصب الفتوى والقضاء مع الجهل بأحكام اللّه تعالى ومتشابهات كتابه ، فمَثَلهم كمثل الحمار يحمل أسفارا ، ويدخل في الرغبة عن القرآن إلى غيره توهّم بعض عوامّ الصوفيّة حيث قال : العلم الحاصل بالمكاشفة أقوى من العلم الحاصل بقول الأنبياء ، ووجوه فساد هذا أكثر من أن يحصى ، وأقلّها لزوم التشكيك بالقوّة والضعف في العلم .

(أَلاَ) ؛ حرف تنبيه . (لاَ خَيْرَ فِي عِلْمٍ لَيْسَ فِيهِ تَفَهُّمٌ) . هذا إلى آخره ناظر إلى الفقرة الرابعة ، مضى معنى العلم والتفهّم في شرح آخر الباب السابق . و«في» في «فيه» ونظائره بمعنى «مع» ، وهذه الفقرة للتثريب(3) على قسم من المخالفين للشيعة الإماميّة ، وهم الذين يعلمون أنّ الآيات البيّنات المحكمات صريحة في النهي عن اتّباع الظنّ ، وعن الاختلاف عن ظنّ ، ولا يتفهّمون منه وجوب الإمام العالم بجميع الأحكام والمتشابهات في كلّ زمان إلى انقراض التكليف .

(أَلاَ لاَ خَيْرَ فِي قِرَاءَةٍ لَيْسَ فِيهَا تَدَبُّرٌ) . هذا تثريب على قسم آخر من المخالفين ، وهم الذين يقرؤون القرآن ولا يعلمون أنّ الآيات البيّنات المحكمات صريحة في النهي عن اتّباع الظنّ ، وعن الاختلاف عن ظنّ ؛ لعدم تدبّرهم ، قال تعالى في سورة محمّد صلى الله عليه و آله : «أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا»(4) . .

ص: 326


1- صحيح مسلم ، ج 5 ، ص 76 : وفيه قالوا : إن رسول اللّه يهجر ؛ وحكاه عن عمر الشيخ المفيد في أوائل المقالات ، ص 406 ؛ والعلامة في كشف اليقين ، ص 472 ؛ ومنهاج الكرامة ، ص 103 .
2- فتح الباري ، ج 8 ، ص 102 ، باب مرض النبيّ صلّى اللّه عليه و آله وسلّم ووفاته .
3- التثريب : اللدم والأخذ على الذنب . ترتيب جمهرة اللغة ، ج 1 ، ص 216 (ثرب) .
4- محمّد (47) : 24 .

(أَلاَ لاَ خَيْرَ فِي عِبَادَةٍ لَيْسَ فِيهَا تَفَكُّرٌ) . هذا تثريب على قسم آخر من المخالفين ، وهم الذين لا يعلمون مضمون الآيات البيّنات المحكمات ولا يقرؤون من القرآن إلاّ المفروض في الصلاة ، وهو سورة الفاتحة ونحوها ، بأنّ سورة الفاتحة صريحة كافية فيما نحن فيه لمَن تفكّر فيها ، فإنّ الصراط المستقيم صراط الذين أنعم اللّه عليهم من النبيّين والصدِّيقين والشهداء والصالحين عبارة عن اتّباع العلم وأهله ، والاجتناب عن اتّباع الظنّ ، وعن الاختلاف عن ظنّ ، وعن أئمّة الضلالة كما في سورة العنكبوت : «أَقِمْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللّه ِ أَكْبَرُ»(1) ، ويجيء بيانه في أوّل «كتاب فضل القرآن» .

(وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرى) أي في رواية بعض العدّة بعد قوله : «إلى غيره» في الرواية الاُولى . وحاصل الروايتين واحد ، فإنّ الفقه الفهم ، وهو ثمرة التفكّر ، والفقرة الرابعة تأكيد للفقرة الثالثة ، وليس مضمونا آخر ، ولذا لم يذكر في الرواية الاُولى .

(أَلاَ لاَ خَيْرَ فِي عِلْمٍ لَيْسَ فِيهِ تَفَهُّمٌ ، أَلاَ لاَ خَيْرَ فِي قِرَاءَةٍ لَيْسَ فِيهَا تَدَبُّرٌ ، أَلاَ لاَ خَيْرَ فِي عِبَادَةٍ لاَ فِقْهَ فِيهَا ، أَلاَ لاَ خَيْرَ فِي نُسُكٍ لاَ وَرَعَ فِيهِ) . «النسك» بالفتح والضمّ والكسر وبضمّتين : العبادة ، و«الورع» بفتح الواو وبفتح المهملة : الاجتناب عن المنهيّ عنه صريحا ، وهو راجع إلى الفقه الحاصل بالتفكّر في سورة الفاتحة .

الرابع : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ؛ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ شَاذَانَ) ؛ بالشين والذال المعجمتين . (النَّيْسَابُورِيِّ) ؛ بفتح النون وسكون الخاتمة ومهملة . (جَمِيعا ، عَنْ صَفْوَانَ) ؛ بفتح المهملة . (بْنِ يَحْيى ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا عليه السلام ، قَالَ : إِنَّ مِنْ عَلاَمَاتِ الْفِقْهِ)(2) أي الممدوح شرعا منه ، (الْحِلْمَ) ؛ بكسر المهملة وسكون اللام : ضدّ السفه . والمراد الاحتياط في التكذيب لئلاّ يكون من الذين كذّبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولمّا يأتهم تأويله ، أو المراد أعمّ منه ومن غيره . (وَالصَّمْتَ) ؛ بفتح .

ص: 327


1- العنكبوت : 45 .
2- في الكافي المطبوع : «الفقيه» .

المهملة وسكون الميم : ضدّ الهذر . والمراد الاحتياط في القول على اللّه لئلاّ يقول بغير علم . وفي رواية : «إنّما شيعتنا الخُرْس»(1) أو المراد أعمّ منه ومن غيره .

الخامس : (أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللّه ِ ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْبَرْقِيِّ ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ رَفَعَهُ ، قَالَ : قَالَ أَمِيرُ الْمُوءْمِنِينَ عليه السلام : لاَ يَكُونُ السَّفَهُ) : ضدّ الحلم ، (وَالْغِرَّةُ) ؛ بكسر المعجمة وتشديد المهملة : الغفلة التي توجب الهذر في الكلام وخلاف الصمت . (فِي قَلْبِ الْعَالِمِ) . يفهم معناه ممّا سبق آنفا.

السادس : (وَبِهذَا الاْءِسْنَادِ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ رَفَعَهُ ، قَالَ :)

(قَالَ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ عليهاالسلام : يَا مَعْشَرَ الْحَوَارِيِّينَ) ؛ بفتح المهملة جمع «حواريّ» بتشديد الياء ، وحواريّ النبيّ : خاصّته من اُمّته ، ومنه الحواريّون أصحاب المسيح عليه السلام ، أي خلصاؤه وأنصاره ، وأصله من التحوير التبييض ، قيل : إنّهم كانوا قصّارين يُحوّرون الثياب ، أي يبيّضونها ، ومنه الدقيق الحُوّاري بضمّ الحاء وشدّ الواو والقصر الذي نخل مرّة بعد مرّة ، وقيل : تأويل الحواريّين الذين اُخلصوا ونُقّوا من كلّ عيب .(2)

(لِي إِلَيْكُمْ حَاجَةٌ اقْضُوهَا لِي ، قَالُوا : قُضِيَتْ حَاجَتُكَ) ؛ بصيغة المجهول للغائبة ، جملة دعائيّة . (يَا رُوحَ اللّه ِ) . الروح جسمٌ هوائي به حياة البدن ، وتسمية عيسى روح اللّه باعتبار أنّ بدنه مخلوق من الروح التي نفخ جبرئيل في مريم ، أو منها ومن منيّ مريم ، بخلاف سائر الأبدان ، فإنّها مخلوقة من الطين أو من المنيّ فقط ، وإضافتها إلى اللّه باعتبار الاصطفاء ، كما يجيء في «كتاب التوحيد» في أحاديث «باب الروح» وهو الحادي والعشرون .

(فَقَامَ ، فَغَسَلَ أَقْدَامَهُمْ ، فَقَالُوا : كُنَّا نَحْنُ أَحَقَّ بِهذَا يَا رُوحَ اللّه ِ ، فَقَالَ : إِنَّ أَحَقَّ النَّاسِ بِالْخِدْمَةِ الْعَالِمُ) . لمّا كان العالم يقتدي به الناس في أفعاله الحسنة وتشتهر بصدورها .

ص: 328


1- الكافي ، ج 2 ، ص 113 ، باب الصمت وحفظ اللسان ، ح 2 ؛ مختصر بصائر الدرجات ، ص 105 ؛ وسائل الشيعة ، ج 12 ، ص 182 ، ح 16025 .
2- ترتيب جمهرة اللغة ، ج 1 ، ص 468 ؛ النهاية ، ج 1 ، ص 458 (حور) .

عنه بين الناس وتصير دأبا مستمرّا بينهم ، كان أولى بالأفعال الحسنة حتّى الخدمة من الجاهل ، والأحقّيّة من هذه الحيثيّة لا ينافي كونه أحقّ بالمخدوميّة من حيثيّة اُخرى ، وهي النظر إلى مرتبة الجاهل والعالم في نفسهما مع قطع النظر عن التعليم ، ولذا قال عليه السلام :

(إِنَّمَا تَوَاضَعْتُ هكَذَا) . الهاء للتنبيه والكاف للتشبيه و«ذا» إشارة إلى غسل الأقدام ، والظرف منصوب المحلّ على أنّه صفة مفعول مطلق محذوف ، أي تواضعا .

إن قلت : لا يجوز كون الكاف للتشبيه ؛ للزوم اتّحاد المشبّه والمشبّه به ، فهي زائدة .

قلت : غسل الأقدام ليس نفس التواضع ، بل هو دالّ عليه بقرينة الأحوال ، فربّما تحقّق غسل قدم يكون ترفّعا أو سخريّة ، وإنّما التواضع أمر معنوي قائم بالنفس الناطقة ، فشبّه المدلول بالدالّ للمطابقة بينهما ، ونظيره تجويز بعضٍ(1) كونَ نحو : بعت واشتريت من صيغ العقود إخباراتٍ عن معانٍ قائمة بالنفس لا إنشاءات ، ويحتمل أن يكون من تشبيه الكلّي بفرده ومجازا .

(لِكَيْمَا تَتَوَاضَعُوا) . اللام للتعليل ، و«كي» بمنزلة أن المصدريّة معنىً وعملاً ، و«ما» زائدة للتقوية، مثلها في : «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللّه ِ لِنْتَ لَهُمْ»(2)في المصدر : «كيلا» بدل «لئلا» ، وفي حاشية «أ» : «بيغ به مجهولاً وتبيغ عليه الأمر : اختلط ، والدم هاج وغلب» . القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 104 (بيغ) .(3) ؛ وذلك بالإشارة إلى نفي أن يكون العلّة سوى ما ذكر .

(بَعْدِي) . كان ذكره إشارة إلى أنّ هذه الأحقّيّة ليست جارية في كلّ عالم ، بل إنّما هي في الأنبياء والأوصياء المنصوبين من اللّه لهداية الناس ، ونظيره ما في نهج البلاغة : «لئلاّ يتبيّغ(3) بالفقير فقره» .(4)

(فِي النَّاسِ كَتَوَاضُعِي لَكُمْ . ثُمَّ قَالَ عِيسى عليه السلام : بِالتَّوَاضُعِ تُعْمَرُ الْحِكْمَةُ ، لاَ بِالتَّكَبُّرِ ؛ .

ص: 329


1- في حاشية «أ ، ج ، د» : «البعض شارح مختصر الاصول (منه دام ظله)» .
2- آل عمران
3- : 158 .
4- نهج البلاغة ، ج 2 ، ص 188 ، الخطبة 209 .

وَكَذلِكَ فِي السَّهْلِ يَنْبُتُ الزَّرْعُ ، لاَ فِي الْجَبَلِ) .

ليس هذا من قبيل الاستدلال حتّى يكون قياسا شعريا ، بل من قبيل تشبيه أمرٍ معلوم بمعلوم آخر ليتمكّن في الذهن غاية التمكّن ليعمل بمقتضاه .

السابع : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مَعْبَدٍ) ؛ بفتح الميم وسكون المهملة وفتح الموحّدة ومهملة .

(عَمَّنْ ذَكَرَهُ ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ وَهْبٍ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : كَانَ أَمِيرُ الْمُوءْمِنِينَ عليه السلام يَقُولُ : يَا طَالِبَ الْعِلْمِ ، إِنَّ لِلْعَالِمِ) أي للممدوح شرعا من العالم .

(ثَلاَثَ عَلاَمَاتٍ :) أي إن كان فيمن أردت أن تطلب منه العلم هذه الثلاث فاطلب منه وإلاّ فلا .

(الْعِلْمَ) أي أن يعلم حدّه عند من هو أعلم منه ، أو المراد حبّ(1) العلم فلا ينازع من فوقه ، بل يحبّ أن يستفيد منه دائما . أو المراد أن لا يقول إلاّ ما يعلم .

(وَالْحِلْمَ) أي أن يتحمّل عمّن دونه سوء أدبه .

(وَالصَّمْتَ) أي السكوت عمّا لا يعلم .(2)

(ولِلْمُتَكَلِّفِ) أي مَن ادّعى العلم وليس بعالم (ثَلاَثَ عَلاَمَاتٍ : يُنَازِعُ) ؛ بالرفع على أنّه جملة استئنافيّة للبيان ، أو على أنّه مفرد بتقدير «أن» وإهمالها ، أو بالنصب على أنّه مفرد بتقدير «أن» وإعمالها .

واختلف النحاة في الاحتمال الأخير في مثله ، فقيل : شاذّ لا يُقاس عليه ، وذهب الكوفيّون ومَن وافقهم من البصريّين إلى أنّه يُقاس عليه ، وأجاز الأخفش حذف «أن» قياسا ، ولكن بشرط رفع الفعل مثل : «أَفَغَيْرَ اللّه ِ تَأْمُرُونّى أَعْبُدُ»(3) ، و«تسمع بالمُعيدي .

ص: 330


1- في «ج» : + «حد».
2- في «د» : + «أو عما يحتاج إليه» .
3- الزمر (39) : 64 .

خيرٌ من أن تراه» في رواية الرفع فيهما .(1) وذهب بعض المتأخّرين إلى أنّه لا يجوز حذفها إلاّ في الأماكن العشرة المشهورة رفعت أو نصبت ، ذكره الأزهري في التصريح .(2)

(مَنْ) ؛ بفتح الميم ، اسم موصول . (فَوْقَهُ) ؛ بالنصب على الظرفيّة فيقدّر بفعل ، لأنّ الصلة لا تكون إلاّ جملة ، ويجوز على قلّة تقدير اسم الفاعل على أنّه خبر لمبتدأ محذوف على حدّ قراءة بعضهم تماما على الذي أحسن بالرفع . (بِالْمَعْصِيَةِ) أي بالمخالفة له فيما يدعوه إليه من الحقّ الظاهر ببيانه .

(وَيَظْلِمُ مَنْ دُونَهُ بِالْغَلَبَةِ ) ؛ بفتحتين من باب ضرب ، أي بالحدّة والخشونة .

(وَيُظَاهِرُ) أي يُعاون (الظَّلَمَةَ) أي الظالمين لحقّ أهل البيت عليهم السلام بموافقتهم في اتّباع الظنّ والقول على اللّه بغير علم . .

ص: 331


1- مغني اللبيب ، ج 2 ، ص 641 .
2- وهو التصريح بمضمون التوضيح في شرح أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك من تأليفات خالد بن عبداللّه بن أبي بكر الأزهري، المتوفى سنة 905 هجرية والمدفون بالقاهرة . كشف الظنون ، ج 1 ، ص 154 ؛ ايضاح المكنون ، ج 1 ، ص 293 ؛ الأعلام للزركلي ، ج 2 ، ص 297 .

باب حقّ العالم

الباب السابع بَابُ حَقِّ الْعَالِمِ

فيه حديث واحد :

(عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللّه ِ ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ(1) بْنِ خَالِدٍ ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ جَعْفَرٍ الْجَعْفَرِيِّ ، عَمَّنْ ذَكَرَهُ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : كَانَ أَمِيرُ الْمُوءْمِنِينَ عليه السلام يَقُولُ : إِنَّ مِنْ حَقِّ الْعَالِمِ) أي ممّا يجب رعايته مع العالم من التعظيم (أَنْ لاَ تُكْثِرَ عَلَيْهِ السُّوءَالَ) ؛ بصيغة المضارع للمخاطب من باب الإفعال ؛ أي أن لا تسأله إلاّ عمّا تحتاج إليه .

(وَلاَ تَأْخُذَ بِثَوْبِهِ ) ؛ بالنصب بتقدير «أن» على أن تكون «لا» للنفي ، أو بالجزم على أن تكون «لا» للنهي . والمراد الأخذ بثوبه لمنعه من الخروج عن مجلسه إذا أراده أو مطلقا ، فإنّه استخفاف . ويحتمل أن يُراد : ولا تجلس قريبا منه بحيث يمكنك الأخذ بثوبه .

ويؤيّد الأوّل ما في إرشاد المفيد في فصل «ومن كلامه عليه السلام في صفة العالم وأدب المتعلِّم» من قوله : «ولا يؤخذ بثوبه إذا نهض» .(2)

(وَإِذَا دَخَلْتَ عَلَيْهِ - وَعِنْدَهُ قَوْمٌ - فَسَلِّمْ عَلَيْهِمْ جَمِيعا ، وَخُصَّهُ بِالتَّحِيَّةِ دُونَهُمْ ، وَاجْلِسْ بَيْنَ يَدَيْهِ) فإنّه أسمع لكلامه ، وأفهم لمقصوده ، فإنّ كيفيّة الأداء قد تكون قرينة على المراد ، ولأنّه أسهل للسؤال .

ص: 332


1- في المطبوع : + «عن محمد» .
2- الإرشاد للمفيد ، ج 1 ، ص 230 .

(وَلاَ تَجْلِسْ خَلْفَهُ) . ذكره للدلالة على أنّه إن لم يتيسّر الجلوس بين يديه ، فينبغي الجلوس على أحد جانبيه ؛ لما مرّ ، ولأنّ السؤال من الخلف يؤذي المسؤول .

(وَلا تَغْمِزْ بِعَيْنِكَ) ؛ بالمعجمتين بصيغة النهي من باب ضرب ، والغمز : العصر والكبس باليد ، وإذا نُسب إلى العين فالمراد الإشارة بها ، أو إطباقها للتصديق .

(وَلاَ تُشِرْ بِيَدِكَ ، وَلاَ تُكْثِرْ مِنْ قَوْلِ : قَالَ فُلاَنٌ وَقَالَ فُلاَنٌ خِلاَفا لِقَوْلِهِ ، وَلاَ تَضْجَرْ) ؛ من باب علم أو باب التفعّل ؛ أي لا تبرم ، (بِطُولِ صُحْبَتِهِ ؛ فَإِنَّمَا مَثَلُ الْعَالِمِ مَثَلُ النَّخْلَةِ) .

وقوله : (تَنْتَظِرُهَا حتّى يَسْقُطُ عَلَيْكَ مِنْهَا شَيْءٌ) صفةُ النخلة ، إنّما سوغها كون اللام في النخلة للعهد الذهني فهي كالنكرة كقوله : «ولقد أمرُّ على اللئيم يسبّني»(1) ، ولا يجوز أن تكون الجملة استئنافا بيانيا ؛ لأنّه ليس كلّ نخلة كذلك ، والحال عن المضاف إليه ضعيف .

(وَالْعَالِمُ أَعْظَمُ أَجْرا مِنَ الصَّائِمِ(2) الْقَائِمِ ، الْغَازِي فِي سَبِيلِ اللّه ِ) ؛ لأنّ كفّ نفسه وأصحابه عن المذاهب الباطلة أفضل من كفّ الصائم ، وقيامه ليلة للمطالعة أفضل من قيام القائم في الليل للصلاة ، ودفع السلوك عن الحقّ أفضل من غزو الغازي في سبيل اللّه ، وقد روي أنّ مداد العلماء أعظم من دماء الشهداء(3) . .

ص: 333


1- هذا صدر بيت وعجزه : «فمضيت ثمت قلت : لا يعنيني» ذكره الجوهري في الصحاح ، ج 5 ، ص 1882 (وثم) ؛ وحكاه أيضا الطوسي في التبيان ، ج 1 ، ص 351 ؛ والطبرسي في جوامع الجامع ، ج 1 ، ص 58 ؛ ومجمع البيان ، ج 1 ، ص 322 .
2- في حاشية «أ ، ج» : «الصابر . خ ل» .
3- ورد مضمونه في الأمالي للصدوق ، ص 233 ، ح 1 ؛ والفقيه ، ج 4 ، ص 399 ، ح 5853 ؛ وأمالي الطوسي ، ص 521 ، ح 56 .

باب فقد العلماء

الباب الثامن بَابُ فَقْدِ الْعُلَمَاءِ

فيه ستّة أحاديث :

الأوّل : (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عِيسى ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الخَزَّازِ(1)) ؛ بفتح المعجمة وشدّ الزاي الاُولى .

(عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ خَالِدٍ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : مَا مِنْ أَحَدٍ) أي ما من موت أحد (يَمُوتُ مِنَ الْمُوءْمِنِينَ أَحَبَّ إِلى إِبْلِيسَ مِنْ مَوْتِ فَقِيهٍ) أي من المؤمنين .

الثاني : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : إِذَا مَاتَ الْمُوءْمِنُ الْفَقِيهُ ، ثُلِمَ فِي الاْءِسْلاَمِ ثُلْمَةٌ) . الثلمة بضمّ المثلّثة وسكون اللام : الخلل في الحائط وغيره ، ويقال في المجاز : موت فلان ثلمة في الإسلام لا تسدّ . والثلمة مصدر والهاء للوحدة ، تقول في المتعدّي : ثلمه - كضرب - ثلما بالفتح ، وفي اللازم : ثلم كعلم ثَلَما بفتحتين ، وذهب الكوفيّون إلى أنّ تحويل حركة العين مُعدٌّ للفعل اللازم ، يُقال : كَسِيَ زيد كعلم ، وإذا فُتِحَت السين صار بمعنى ستر وغطّى وتعدّى إلى واحد ، نحو : كسوت وجهه ، أو بمعنى أعطى كسوة ،

ص: 334


1- في المطبوع : «الخرَّاز ، جاء في منتهى المقال ، ج 7 ، ص 115 ، الرقم 3356 : أبو أيوب الخزاز بالزاي قبل الألف وبعدها إبراهيم بن عثمان ، أو ابن عيسى ، ثم قال : أقول : جعل في المجمع لأبي أيوب الخزاز ترجمتين ذكر في إحداهما أنه بالمعجمات ، وذكر في الأخرى أنه بالراء فالزاي أخيرا وقال : هو إبراهيم بن زياد فتأمل جدا . مجمع الرجال ، ج 7 ، ص 9 .

فتعدّى(1) إلى اثنين ، نحو : كسوت زيدا جبّة ، قالوا : وكذلك شَتِرَتْ عينه بكسر التاء لازم ، بمعنى انقلب جفنها ، وشتر اللّه عينه بفتحها متعدّ ، بمعنى قلّبها ، وكذا ثرم بمعنى انكسر سنّهُ من أصلها وثرَمه وثَلِم وثَلَمه . وذهب البصريّون إلى أنّ جميع ذلك من باب المطاوعة .(2)

وكأنّ مرادهم أنّ الأمر بالعكس أو أنّ كلاًّ منهما موضوع على حدة .

وقوله «ثلم» إمّا بصيغة المجهول ، وإمّا بصيغة المعلوم ، وعلى التقديرين فثُلمة إمّا بالضمّ وإمّا بالفتح وإمّا بفتحتين ، وعلى التقادير فثُلمة إمّا منصوب على المصدريّة ، أو على نيابة المصدر ، كقولك : توضّأ وضوءا ، وامّا مرفوع على الفاعليّة للمبالغة ، كقولهم : جدّ جدُّه ، أو على نيابة الفاعل للمبالغة أيضا .

ولو جعل ثلَم بصيغة المعلوم فهو إمّا من المتعدّي ، والأصل ثَلَمَ موتُه أو المؤمن الفقيه باعتبار الموت حِصنا في الإسلام ثُلمَةً أو ثَلْمَةً ، وإمّا من اللازم ، والأصل ثَلِم حِصن في الإسلام ثُلْمَةً أو ثَلَمَةً ، ولو جعل ثلم بصيغة المجهول وثلمة منصوبا كان نائب الفاعل الظرف .

ويبعّد كون ثَلمة مصدرا قولُهُ :

(لاَ يَسُدُّهَا) ؛ فإنّ السدّ يتعلّق حقيقة بالخلل ولا يتعلّق بالمصدر إلاّ مسامحة .

(شَيْءٌ) أي شيء من غير جنس المؤمن الفقيه ، فلا يرد أنّه يمكن أن يوجد بدله فقيه أو أكثر مساوٍ له بل أفضل ، فيسدّ به الخلل .

ويمكن دفعه أيضا بأن يُقال : من يأتي بدله قلّما يتّصل فقهه بموته ؛ لأنّ الفقه لا يحصل إلاّ في سنين(3) ، وسدّ خلل الحصن بحيث لا يحصل فساد إنّما يكون لو اتّصل بالثلم ، وبأن يُقال : الذي مات لو لم يمت كان مع من حدث ، فيقوى محفوظهُ من .

ص: 335


1- في المغني : «فيتعدى» .
2- مغني اللبيب ، ج 2 ، ص 527 .
3- في «ج» : «في السنين» بدل «إلاّ في سنين» .

الإسلام بحصون متعدّدة ، فبموته يزول حصن من الحصون لا يقوم مقامه شيء ، فإنّ الفقهاء حصون كما يجيء في ثالث الباب .

الثالث : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنِ ابْنِ مَحْبُوبٍ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ ، قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ مُوسَى بْنَ جَعْفَرٍ عليه السلام يَقُولُ : إِذَا مَاتَ الْمُوءْمِنُ الْفَقِيه(1) ، بَكَتْ عَلَيْهِ الْمَلاَئِكَةُ) أي الموكّلون به وبأعماله ، أو جميعهم .

وهذا نوع من المجاز ، والمراد حبّهم له ولأعماله ، وإلاّ فلا يتصوّر فيهم خروج الدمع من عيونهم والرضا بقضاء اللّه من أوجب الواجبات .

ولا يتصوّر في الملائكة رقّة الجنسيّة ، ولا التأثّر من مفارقة المألوف ، بل لا يتصوّر لهم حقيقة إلاّ الفرح بانتقال المؤمن إلى دار الكرامة .

(وَبِقَاعُ الاْءَرْضِ ، الَّتِي كَانَ يَعْبُدُ اللّه َ عَلَيْهَا ، وَأَبْوَابُ السَّمَاءِ ، الَّتِي كَانَ يُصْعَدُ) ؛ بصيغة المجهول من باب علم ، (فِيهَا بِأَعْمَالِهِ) . الظرف الثاني قائم مقام الفاعل ، وهذان أيضا من المجاز ، والمقصود فقدُ البقاع والأبواب التشرّفَ بعبادته .

(وَثُلِمَ فِي الاْءِسْلاَمِ ثُلْمَةٌ لاَ يَسُدُّهَا شَيْءٌ ؛ لاِءَنَّ الْمُوءْمِنِينَ الْفُقَهَاءَ حُصُونُ الاْءِسْلاَمِ كَحِصَنٍ) ؛ بكسر الحاء(2) المهملة وفتح الصاد المهملة والتنوين ، أي كحصون ، موافقا لما يجيء في آخر أبواب «كتاب الجنائز» .

(سُؤْرِ(3) الْمَدِينَةِ لَهَا) ؛ الجملة صفة حصن ، والسؤر بضمّ المهملة وسكون الهمزة(4) ، وقد يقلب واوا والمهملة : البقيّة ، والمراد هنا البقاء ، وهو مبتدأ ومضاف والظرف خبر المبتدأ ، والضمير للحصن .

والمقصود تشبيه الإسلام بمدينة عظيمة ذات محلاّت ، لكلّ واحدة منها حصن ، .

ص: 336


1- في الكافي المطبوع : - «الفقيه» . وفي حاشية «أ» : «كذا في نسخة» .
2- في «د» : - «الحاء» .
3- في الكافي المطبوع : «سور» .
4- في «أ ، د» : «الهمز» .

وتشبيه المؤمنين الفقهاء بتلك الحصون كلّ واحدٍ منهم يحصن محلّة في بقاء انتظام تلك المدينة بتلك الحصون .

الرابع : (وَعَنْهُ ، عَنْ أَحْمَدَ ، عَنِ ابْنِ مَحْبُوبٍ ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْخَزَّازِ(1) ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ خَالِدٍ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : مَا مِنْ أَحَدٍ يَمُوتُ مِنَ الْمُوءْمِنِينَ أَحَبَّ إِلى إِبْلِيسَ مِنْ مَوْتِ فَقِيهٍ) . مرَّ في أوّل الباب .

الخامس : (عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَسْبَاطٍ ، عَنْ عَمِّهِ يَعْقُوبَ بْنِ سَالِمٍ ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ فَرْقَدٍ ) ؛ بفتح الفاء وسكون المهملة وفتح القاف والمهملة .

(قَالَ : قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : إِنَّ أَبِي كَانَ يَقُولُ : إِنَّ اللّه َ - عَزَّ وَجَلَّ - لاَ يَقْبِضُ) . القبض بالقاف والموحّدة والمعجمة من باب ضرب : الأخذ بجميع الكفّ ، والمراد هنا الأخذ عن الناس مطلقا .

(الْعِلْمَ) . المراد به الآيات البيّنات المحكمات من القرآن ، كما مرَّ تفسيره في شرح آخر الخامس .(2)

(بَعْدَ مَا يُهْبِطُهُ ) أي على الرسول للناس .

(وَلكِنْ يَمُوتُ الْعَالِمُ) بذلك العلم (فَيَذْهَبُ) أي عن الناس (بِمَا يَعْلَمُ) ؛ الباء للتعدية أو للمصاحبة ، و«ما» مصدريّة ، والمراد علمه بذلك العلم .

(فَتَأُمُّهُمُ(3)) . يُقال : أمّهم من باب نصر في الصلاة وغيرها : إذا تقدّمهم وتبعوه .

وفي بعض النسخ «فَتَلِيهِمُ» وهو من باب ورث ، من الولاية بالكسر : السلطان . والضمير للناس المدلول عليهم بقوله : «يقبض ويذهب» .

(الْجُفَاةُ) ؛ بضمّ الجيم وتخفيف الفاء ، جمع «الجافي» من جفاه وعنه جَفاء بالفتح والمدّ : إذا بعُد عنه ، والمراد البُعَداء عن ذلك العلم ، ومنه قول عُمَر : إنّي أجفو عن أشياء .

ص: 337


1- في «ج» والكافي المطبوع : «الخرَّاز» .
2- أي الحديث 6 من باب ثواب العالم والمتعلّم .
3- في الكافي المطبوع : «فتليهم» .

من العلم(1) ، أي أنبُو عنها أجهلها ، والجفاء أيضا غِلظ الطبع(2) ويكون بمعنى ترك الصلة والبرّ .

(فَيَضِلُّونَ) ؛ من باب ضرب ، أي عن طريق العلم في أفكارهم . والضمير للجُفاة ، والفاء للتفريع على مجموع الإمامة والجفا ؛ لأنّ الإمامة يستلزم إعداد الفتاوى ، والجفا يستلزم الخطأ في الفكر .

(وَيُضِلُّونَ) ؛ من باب الإفعال .

(وَلاَ خَيْرَ فِي شَيْءٍ لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ) . المراد بالشيء هنا المذهب والطريقة ، والأصل ما يستند إليه الشيء ، وهو هنا الآيات البيّنات المحكمات من القرآن التي تسمّى اُمّ الكتاب ، كما في سورة آل عمران(3) ؛ لأنّها ممّا تستقلّ عقول الرعيّة بالعلم به قطعا ، ويجعل مبدأ المبادئ في كسب العلم .

السادس : (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ ، عَمَّنْ ذَكَرَهُ ، عَنْ جَابِرٍ ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ، قَالَ : كَانَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ عليهماالسلام يَقُولُ : إِنَّهُ يُسَخِّي نَفْسِي فِي سُرْعَةِ الْمَوْتِ وَالْقَتْلِ فِينَا قَوْلُ اللّه ِ) .

السخاوة والسخاء بفتحهما : الجود ، يُقال : سخا يسخو أو(4) سخي بالكسر يسخى بالفتح . وقوله : «يسخّي» بالمهملة والمعجمة بصيغة المضارع المذكّر الغائب من باب التفعيل أو الإفعال ، وفاعله «قول اللّه» ومفعوله «نفسي» . والظرف الأوّل متعلّق بقوله : «يسخّي» ، والثاني ب- «سرعة» . وقيل : «تسخى» بتخفيف الخاء بصيغة المؤنّث الغائبة ، وحينئذٍ فاعله «نفسي» و«قول اللّه» مبتدأ خبره «فينا» ، وجملة المبتدأ والخبر جملة استئنافيّة بيانيّة ، أي لأنّ فينا قول اللّه :

(«أَ وَلَمْ يَرَوْا) . الضمير لأهل الحرص في البقاء في الدنيا من أهل الكتاب كاليهود ، .

ص: 338


1- ذكر السرخسي في شرح السير الكبير ، ج 1 ، ص 36 : أنّ هذا من كلام رجل من أهل البادية لعمر .
2- اُنظر: النهاية ، ج 1 ، ص 281 (جفأ) .
3- آل عمران (3) : 7 .
4- في «ج ، د» : «و» .

موافقا لقوله : «لَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ»(1)في حاشية «أ» : «فيه ردّ لما قاله البيضاوي من أنّ المراد بها أرض الكفرة ، وبقوله : «نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا»فتح بعضها على المسلمين» .(2) .

(أَنّا نَأْتِى الاْءَرْضَ)(2) . لم يُرِد أرضا مخصوصة ، بل ما يشمل الجميع . (نَنْقُصُها مِنْ) ابتدائيّة ، أي النقص من جهة (أَطْرافِها»(3)) ؛ أو سببيّة ، أي النقص لأجل توفّينا أطرافها . الأطراف جمع «طِرْف» بالكسر : الكريم من كلّ شيء - كحِمْل وأحمال - أو جمع «طريف» كشريف وأشراف . قال ثعلب : الأطراف : الأشراف .(4) انتهى .

وليس جمع طرف بفتحتين : الجانب والناحية ، أو الطائفة من الشيء .

(وَهُوَ ذَهَابُ الْعُلَمَاءِ) . الضمير للنقص ، أي هو بسبب موتهم وقتلهم .

وبيانه أنّ الآية في سورة الرعد بعد قوله : «وَ إِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِى نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَ عَلَيْنَا الْحِسابُ»(5) ، «إمّا» هي «إن» الشرطيّة زيدت عليها «ما» تأكيدا ، ولذلك دخلت النون المؤكّدة في الفعل ، ولو اُفردت «إن» لم يصحّ دخولها ، لا تقول : إن تكرمنّ زيدا يكرمك ، ولكن إمّا تكرمنّه ، وهو يدلّ على أنّه لا بأس بأن يتوفّى رسوله عليه السلام سريعا قبل إراءة شيء ممّا وعدهم ، فناسب رفع التعجّب(6) بأنّه توفّى رسله وأنبياءه وأوصياءهم ، وقد علم اليهود أنّ الأنبياء قتلوا بغير الحقّ ، ولعلّ السخا لأنّه نسب تعالى في توفّيهم إلى نفسه إتيان الأرض على سبيل الاستمرار التجدّدي تعظيما لهم ودلالةً على أنّ الدنيا ليست لائقة بشأنهم ، وجعل نقص الأرض وخرابها من توفّيهم(7) للتعظيم لهم . .

ص: 339


1- البقرة
2- : 96 .
3- الرعد (13) : 41 .
4- نقله الجوهري عن ثعلب في الصحاح ، ج 4 ، ص 1394 (طرف) .
5- الرعد (3) : 40 .
6- في «ج» : «العجب» .
7- في «أ» : «توفهم» .

باب مجالسة العلماء وصحبتهم

الباب التاسع بَابُ مُجَالَسَةِ الْعُلَمَاءِ وَصُحْبَتِهِمْ

فيه خمسة أحاديث :

الأوّل : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، عَنْ يُونُسَ رَفَعَهُ ، قَالَ : قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ : يَا بُنَيَّ ، اخْتَرِ الْمَجَالِسَ) ؛ بفتح الميم جمع مجالس بضمّ الميم ، أي قوما يحسن مجالستك إيّاهم مثل مُفاتح ومَفاتح ، ولو كان جمع مجلس أو بضمّ الميم مفردا لم يناسب قوله : «فإن رأيت قوما» إلى آخره .

(عَلى عَيْنِكَ) . الظرف متعلّق ب- «اختر» ، والمراد بالعين بفتح المهملة وسكون الخاتمة والنون : الباصرة التي هي أشرف الأعضاء ، أو المراد الذات ، نظير : «وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ»(1) .

(فَإِنْ رَأَيْتَ قَوْما يَذْكُرُونَ اللّه َ جَلَّ وَعَزَّ) . الذِّكر نقيض النسيان ، أي يخشون اللّه ولا ينسونه . والمراد أنّهم يجعلون أفعالهم وأقوالهم تبعا للآيات البيّنات المحكمات الناهية عن اتّباع الظنّ والاختلاف عن ظنّ ، الآمرة بسؤال أهل الذِّكر ، الثابتة في كلّ شريعة .

(فَاجْلِسْ مَعَهُمْ ؛ فَإِنْ تَكُنْ عَالِما) بالمسائل التي يذكرونها حين جلوسك (نَفَعَكَ عِلْمُكَ) أي لم يكن علمك السابق عبثا باعتبار هذا المجلس ؛ لأنّ العالم بالشيء إذا سمعه مرّة اُخرى كان أبعد من النسيان من الجاهل إذا سمعه أوّل مرّة ، وهذا لدفع

ص: 340


1- الحشر (59) : 9 .

وسوسة الشيطان ، فإنّه يقول : جلوسك هنا عبث ، وإلاّ كان صرف عمرك في العلم عبثا .

(وَإِنْ تَكُنْ جَاهِلاً ، عَلَّمُوكَ) أي هَدوك إلى طريق علمهم .

(وَلَعَلَّ) ؛ للتوقّع وهو ترجّي المحبوب . (اللّه َ أَنْ) ؛ ناصبة ويقترن بها خبر «لعلّ» كثيرا لحمل «لعلّ» على «عسى» .

(يُظِلَّهُمْ بِرَحْمَتِهِ) . يُقال : أظلّه أمر كذا : إذا غشيه أو دنا منه ، كأنّه ألقى عليه ظلّه ، والباء للتعدية أو للملابسة .

(فَتَعُمَّكَ مَعَهُمْ) ؛ بصيغة المضارع للمؤنّث الغائبة من باب نصر ، أي فتشملك . والضمير المستتر للرحمة ، ويمكن أن يكون للمذكّر والضمير للّه، أي فيعمّك اللّه بها ، يُقال : عمّهم بالعطيّة : إذا أشملهم عطيّته .

واختلف في نصب الفعل الواقع بعد الفاء ، فذهب البصريّون إلى أنّه لا يجوز نصبه ، فالنصب هنا بالعطف لفظا على «يظلّهم» فيرفع مع عدم «أن» والفاء ليست للسببيّة ، بل للعطف على صريح الفعل . وذهب الفرّاء إلى جواز نصبه بأن مقدّرة ، فيكون الفعل في تأويل مصدر معطوف بالمعنى على مصدر متوهّم ، فيجوز نصبه مع عدم «أن» أيضا ، والفاء للسببيّة ، احتجَّ بقراءة حفص عن عاصم «فَأَطَّلِعَ»(1) بالنصب في جواب «لَّعَلِّىآ أَبْلُغُ الاْءَسْبَابَ»(2) ، وأوّله البصريّون بأنّ «لعلّ» اُشربت معنى «ليت» لكثرة استعمالها في توقّع المرجوّ ، وتوقّع المرجوّ ملازم للتمنّي .(3) وقال صاحب(4) الارتشاف : «وسماع الجزم بعد الترجّي يدلّ على صحّة مذهب الفرّاء ومَن وافقه من الكوفيّين»(5) انتهى .

(وَإِذَا رَأَيْتَ قَوْما لاَ يَذْكُرُونَ اللّه َ) أي ينسونه ، ونسيان اللّه تعالى ترك الالتفات إلى .

ص: 341


1- غافر(40) : 37 ، وانظر: تفسير الكشاف ، ج 3 ، ص 428 .
2- غافر (40) : 36 .
3- حكاه عن بعض النجاة الغرناطي الكلبي في التسهيل لعلوم التنزيل ، ج 4 ، ص 6 ؛ وانظر: شرح شافية ابن الحاجب ، ج 4 ، ص 130 .
4- في حاشية «أ» : «نقله الأزهري في التصريح شرح التوضيح (منه دام ظله)» .
5- حكاه الرضي في شرح شافية ابن الحاجب ، ج 4 ، ص 130 : عن أبي حيان في الارتشاف .

الآيات البيّنات المحكمات من كتابه ، الناهية عن الاختلاف بالرأي واتّباع الظنّ ، الآمرة بطلب العلم عن أهل الذِّكر ، وهو منشأ الخذلان وترك إصلاح النفس ، قال تعالى في سورة الحشر : «وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللّه َ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ»(1) .

(فَلاَ تَجْلِسْ مَعَهُمْ ؛ فَإِنْ تَكُنْ) أي على تقدير الجلوس معهم (عَالِما) بالمسائل التي يذكرونها ويحكمون فيها بآرائهم (لَمْ يَنْفَعْكَ عِلْمُكَ) أي في هذا المجلس ؛ إذ لم يمكنك هدايتهم ، فإنّهم لا يقبلون حقّا ولا يميلون إلاّ إلى ما سمعوه من كبرائهم ، فهم المقلّدون لأهل الآراء في اُصول الدِّين وفروعه .

ويحتمل أن يُراد بنفي النفع هنا أنّه لا يدفع العقوبة التي يجيء في قوله : «فتعمّك معهم» .

(وَإِنْ كُنْتَ(2) جَاهِلاً ، يَزِيدُوكَ جَهْلاً )(3) ؛ لأنّ للكلام تأثيرا ووقعا في النفوس وإن كان باطلاً ، فيصير أبعد من العلم بالحقّ .

(وَلَعَلَّ) ؛ للإشفاق من المكروه ، نحو : لعلّ الرقيب حاضر ، ويحتمل على مذهب الفرّاء المذكور آنفا أن تكون للتوقّع ، فإنّ المرغوب ربّما كان سببا لمكروه باعتبار ما ينضمّ إليه ، وهو هنا الجلوس معهم .

(اللّه َ أَنْ يُظِلَّهُمْ بِعُقُوبَةٍ) أي بما يستحقّونه على هذا المجلس من الخذلان في الدنيا والإضلال والاستدراج ونحو ذلك ، أو عذاب الآخرة .

(فَتَعُمَّكَ مَعَهُمْ) عقوبةً للجلوس معهم . يدلّ على حظر الجلوس في مجالس أهل البدع إلاّ ما أخرجه الدليل كما في التقيّة .

الثاني : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ أَبِيهِ ؛ وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى جَمِيعا ، عَنِ ابْنِ مَحْبُوبٍ ، عَنْ دُرُسْتَ بْنِ أَبِي مَنْصُورٍ ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الْحَمِيدِ ، عَنْ .

ص: 342


1- الحشر (59) : 19 .
2- في الكافي المطبوع وحواشي النسخ : «تكن» .
3- في الكافي المطبوع وحواشي النسخ : «لا يزيدوك إلاّ جهلاً» .

أَبِي الْحَسَنِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ عليهماالسلام ، قَالَ : مُحَادَثَةُ الْعَالِمِ عَلَى الْمَزَابِلِ) ؛ جمع «مزبلة» بفتح الموحّدة ، ويجوز ضمّها أيضا ، وهي موضع الزِّبل بالكسر : السرجين .(1)

(خَيْرٌ مِنْ مُحَادَثَةِ الْجَاهِلِ) بالجهل المركّب كأهل الآراء . ويجوز أن يُراد ما يعمّ الجاهل بالجهل البسيط أيضا .

(عَلَى الزَّرَابِيِّ) ؛ بفتح أوّله وتشديد آخره جمع «زَرْبيّة» بفتح الزاي وضمّها وكسرها وسكون المهملة وكسر الموحّدة وشدّ الخاتمة(2) ، قيل : هي الطنفسة ، أي البساط الذي له خملٌ رقيق(3) ، وقيل : البساط ذو الخمل(4) ، وقيل : كلّ ما بسط واتّكئ عليه(5) ، وقيل : هي النُمْرُقَةُ ، وهي وسادة صغيرة .(6)

الثالث : (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْبَرْقِيِّ ، عَنْ شَرِيفِ) ؛ بفتح المعجمة وكسر المهملة وسكون الخاتمة . (بْنِ سَابِقٍ) ؛ بالمهملة والموحّدة المكسورة .

(عَنِ الْفَضْلِ بْنِ أَبِي قُرَّةَ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله : قَالَتِ الْحَوَارِيُّونَ لِعِيسى : يَا رُوحَ اللّه ِ ، مَنْ) ؛ للاستفهام مفعول مقدّم وجوبا ؛ لأنّ الاستفهام يقتضي صدر الكلام .

(نُجَالِسُ؟ قَالَ : مَنْ) ؛ موصولة . (يُذَكِّرُكُمُ)(7) ؛ من التذكير ويحتمل الإذكار . (اللّه َ رُوءْيَتُهُ ، وَيَزِيدُ فِي عِلْمِكُمْ مَنْطِقُهُ ، وَيُرَغِّبُكُمْ) ؛ من الترغيب . (فِي الاْآخِرَةِ عَمَلُهُ) .

الرابع : (مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ شَاذَانَ ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ حَازِمٍ) ؛ بالمهملة والزاي المكسورة . (عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله : .

ص: 343


1- ترتيب كتاب العين ، ج 2 ، ص 740 (زبل) .
2- النهاية ، ج 2 ، ص 300 (زرب) .
3- حكاه عن الفرّاء في لسان العرب ، ج 1 ، ص 447 (زرب) .
4- حكاه بلفظ قيل في النهاية ، ج 2 ، ص 300 ؛ ولسان العرب ، ج 1 ، ص 447 (زرب) .
5- حكاه بلفظ قيل في لسان العرب ، ج 1 ، ص 447 (زرب) .
6- الصحاح ، ج 1 ، ص 143 (زرب) ؛ وانظر: لسان العرب ، ج 10 ، ص 361 (نمرق) .
7- في الكافي المطبوع : «تذكركم» .

مُجَالَسَةُ أَهْلِ الدِّينِ) أي العالِمين بأحكام الدِّين العاملين بها (شَرَفُ الدُّنْيَا وَالاْآخِرَةِ) .

الخامس : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ الاْءَصْبَهَانِيِّ) ؛ بكسر الهمزة وسكون المهملة وفتح الموحّدة . (عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ الْمِنْقَرِيِّ ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ) ؛ بضمّ المهملة وفتح الخاتمة وسكون الخاتمة الثانية والنون . (عَنْ مِسْعَرِ) ؛ بكسر الميم وسكون المهملة وفتح العين المهملة والراء المهملة . (بْنِ كِدَامٍ) ؛ بكسر الكاف وتخفيف المهملة .

(قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عليه السلام يَقُولُ : لَمَجْلِسٌ) ؛ بفتح اللام الموطّئة للقسم ، أي واللّه لمجلس ، وهو مصدر ميمي .

(أَجْلِسُهُ) . الضمير المنصوب لمجلس ، وفي موضع المفعول المطلق ، ويحتمل أن يكون المجلس اسم مكان ، فنصب الضمير إمّا على الظرفيّة ؛ لأنّ المجلس وإن لم يكن فيه إبهام فيشبه الجهات الستّ في الشياع كناحية ومكان ، لكن أسماء المكان المختصّة تنتصب على الظرفيّة إذا اتّحدت مادّتها ومادّة عاملها ، كقوله : «وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ»(1) ، والضمير في حكم المرجع ؛ وإمّا على المفعول به ، كما قالوا في نحو : «دخلت الدار وسكنت البيت»(2) من أنّ انتصابهما إنّما هو على التوسّع بإسقاط الخافض ، والأصل «دخلت في الدار وسكنت في البيت» فلمّا حذف الخافض نصبا على المفعول به توسّعا كما يحذف الجارّ وينتصب ما بعده(3) ، كقوله : تمرّون الديار(4) ، وذلك لأنّ الدار والبيت من أسماء المكان المختصّة ، لأنّ لها صورة وحدوداً .

ص: 344


1- الجنّ (72) : 9 .
2- في حاشية «أ» : «قاله الأزهري في التصريح شرح التوضيح في بحث المفعول فيه (منه دام ظله)» .
3- اُنظر: مغني اللبيب ، ج 1 ، ص 102 ؛ شرح ابن عقيل ، ج 1 ، ص 538 ؛ خزانة الأدب ، ج 9 ، ص 121 .
4- هذا كلام من بيت شعر لجرير وهو : تمرون الديار ولم تعوجوا *** كلامكم عليّ إذا حرام «لسان العرب ، ج 5 ، ص 165 (مرر) ؛ مغني اللبيب ، ج 1 ، ص 102 ؛ و ج 2 ، ص 473 ؛ شرح ابن عقيل ، ج 1 ، ص 538 ، الرقم 159» .

محصورة ، ولا يقبل النصب على الظرفيّة من أسماء المكان إلاّ المبهم ، أو ما اتّحدت مادّته ومادّة عامله كما مرّ .

(إِلى مَنْ أَثِقُ بِهِ) أي من لا أتّقيه أصلاً ؛ لوثوقي بعلمه بمواضع التقيّة ومحالّ الكلام ، يُقال : جلس إليه : إذا جلس معه وألِفَ وأنس به .

(أَوْثَقُ) أي باعتبار الثواب لي (فِي نَفْسِي مِنْ عَمَلِ سَنَةٍ) لأنّه عليه السلام كان ينشر علوم الدِّين كما هو حقّه عند ثقاته وهو أفضل .

والأنسب بعنوان الباب أن يُقال : إنّ المراد بأوثَق في نفسي أوثقُ باعتبار الثواب لمن أثق به من عمله سنّة ، أو يُقال : إنّه عليه السلام نسب إلى نفسه ما يريد أن ينسبه إلى شيعته تأكيدا في النصيحة ، وأنّ المراد بمن أثق به من أثق بعلمه لأستفيد منه المسائل المجهولة .

ص: 345

باب سؤال العالم وتذاكره

الباب العاشر بَابُ سُوءَالِ الْعَالِمِ وَتَذَاكُرِهِ

فيه عشرة أحاديث

المراد بالعالم من يعلم حدود ما أنزل اللّه على رسوله ويعمل بعلمه ، ومرَّ بيانه في شرح سابع الثاني . وإضافة «سؤال» إلى المفعول به ، وكذا إضافة «تذاكر» إلى الضمير الراجع إلى العلم المفهوم من العالم ، كما يصرّح به في سابع الباب .

الأوّل : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : سَأَلْتُهُ عَنْ مَجْدُورٍ أَصَابَتْهُ جَنَابَةٌ) ؛ بفتح الجيم : اسم الحدث الذي يحصل بالجماع ، أو خروج المنيّ ، وهي في الأصل البُعد ، وسمّي [الإنسان جنبا(1)] لأنّه نُهِيَ معه أن يَقْرَب الصلاة أو مواضعها ما لم يتطهّر ، وقيل : لمجانبته الناس حتّى يغتسل ، والجنابة قد تُطلق على المنيّ .(2)

(فَغَسَّلُوهُ) ؛ بتشديد المهملة ، من التغسيل ، ويجوز تخفيفها ، من الغسل الذي يشتمل عليه التغسيل ، أو من غسل موضع النجاسة.

(فَمَاتَ ، قَالَ : قَتَلُوهُ ، أَلاَّ) ؛ بفتح الهمزة وتشديد اللام ، حرف تنديم .

(سَأَلُوا ؛ فَإِنَّ دَوَاءَ الْعِيِّ السُّوءَالُ) . «العِيّ» بكسر المهملة وتشديد الخاتمة : التحيّر في الكلام ، والمراد به هنا الجهل(3) ، يعني كان الواجب عليهم أن يسألوا إذ لم يعلموا ، فإنّ

ص: 346


1- مابين المعقوفين من المصدر .
2- النهاية ، ج 1 ، ص 302 (جنب) .
3- النهاية ، ج 3 ، ص 334 (عيا) .

الجهل داءٌ شديد ، ودواؤه السؤال والتعلّم من العلماء .

الثاني : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عِيسى ، عَنْ حَرِيزٍ) ؛ بفتح الحاء وكسر الراء المهملتين وسكون الخاتمة والزاي . (عَنْ زُرَارَةَ) ؛ بضمّ الزاي والراءين المهملتين بينهما ألف . (وَمُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ وَبُرَيْدٍ) ؛ بضمّ الموحّدة وفتح المهملة وسكون الخاتمة ومهملة . (الْعِجْلِيِّ) ؛ بكسر المهملة وسكون الجيم ، وبنو عجل حيّ .(1)

(قَالُوا : قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام لِحُمْرَانَ) ؛ بضمّ المهملة وسكون الميم . (بْنِ أَعْيَنَ) ؛ بفتح الهمزة وسكون المهملة وفتح الخاتمة .

(فِي شَيْءٍ سَأَلَهُ : إِنَّمَا يَهْلِكُ) ؛ بصيغة المعلوم من باب ضرب وعلم ، قيل : ومنع(2) . والهلاك : الموت ، والمراد هنا الشقاء .

(النَّاسُ ؛ لاِءَنَّهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ) أي العلماء عمّا لا يعلمون ، وقد اُمروا بسؤال أهل الذِّكر .

الثالث : (عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الاْءَشْعَرِيِّ ، عَنْ عَبْدِ اللّه ِ بْنِ مَيْمُونٍ الْقَدَّاحِ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : قَالَ : إِنَّ هذَا الْعِلْمَ) . الإشارة إلى جنس علم الدِّين .

(عَلَيْهِ قُفْلٌ ، وَمِفْتَاحُهُ الْمَسْأَلَةُ) . بيان لعدم استقلال فكر الإنسان بمعرفة علوم الدِّين بدون الرجوع إلى العلماء وإلى إبطال القياس والاجتهاد .

(عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ النَّوْفَلِيِّ(3) ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام مِثْلَهُ) .

الرابع : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى بْنِ عُبَيْدٍ ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمنِ ، .

ص: 347


1- بنو عجل جماعة كانت تسكن اليمامة ، وهم أخلاط من حنيفة وتميم ، كما في معجم البلدان ، ج 2 ، ص 376 (الخضارم) . قال ابن خلدون : «وقد دثروا وخلفهم اليوم في تلك البلاد بنو عامر المنتفق بن عقيل» . تاريخ ابن خلدون ، ج 2 ، ص 302 .
2- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 324 (هلك) .
3- في الكافي المطبوع : + «عن السكوني» .

عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الاْءَحْوَلِ) . هو محمّد بن عليّ بن النعمان مؤمن الطاق .

(عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : لاَ يَسَعُ النَّاسَ حَتّى يَسْأَلُوا) أي عن(1) حدود ما أنزل اللّه على رسوله .

(وَيَتَفَقَّهُوا) أي في الدِّين بمعرفة تلك الحدود ، كما في سورة التوبة : «فَلَوْلاَ نَفَرَ»(2)النهاية ، ج 1 ، ص 55 ؛ وحكاه بلفظ قيل في لسان العرب ، ج 9 ، ص 7 (أفف) .(3) الآية ، ومضى بيانه في شرح سابع الثاني .(4)

(وَيَعْرِفُوا إِمَامَهُمْ ) أي إمام زمانهم بدلالة تلك الحدود وتتبّع أحوال المدّعين للإمامة ، أو بنصّ الإمام السابق .

(وَيَسَعُهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا بِمَا يَقُولُ وَإِنْ كَانَ تَقِيَّةً) . المراد بالأخذ العمل به والإفتاء الغير الحقيقي به ، أي الرواية له حتّى يعمل به الغير ، لا الإفتاء الحقيقي به ، فإنّه لا يجوز الإفتاء الحقيقي بما جوّز العقل فيه التقيّة ، لأنّه قولٌ على اللّه بغير المعلوم . وتفصيله في محلّه .

الخامس : (عَلِيٌّ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، عَنْ يُونُسَ ، عَمَّنْ ذَكَرَهُ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله : أُفٍّ) ؛ بضمّ الهمزة وتشديد الفاء ، وفيها ستّ لغات(5) : كسر الفاء ؛ لأنّه الأصل في التقاء الساكنين ، وفتحها للتخفيف ، وضمّها للاتباع ، وكلّ منها مع التنوين وبدونه ؛ وهو مبنيّ وتنوينه للتنكير ، وقيل : لغاتها أربعون .(6) انتهى . وأصلها صوتٌ إذا صوّت به الإنسان عُلم أنّه متضجّر مُتَكَرّه ، ثمّ استعملت(7) بمعنى الاستقذار .(8) وقيل(9) : بمعنى الاحتقار والاستقلال .(9) انتهى . .

ص: 348


1- في «ج» : - «عن» .
2- التوبة
3- : 122.
4- أي الحديث 7 ، من باب فرض العلم ووجوب طلبه والحثّ عليه .
5- حكاه عن الأخفش في الصحاح ، ج 4 ، ص 331 (أفف) .
6- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 117 (اُفّ) .
7- في «د» : «استعمل» .
8- النهاية ، ج 1 ، ص 55 ؛ وعنه في لسان العرب ، ج 9 ، ص 7 (أفف) .
9- في حاشية «أ» : «يفهم من نهاية ابن الأثير» .

ومحلّها الرفع على الابتداء ، فما بعدها خبرها ، ويحتمل النصب بتقدير فعل ، أي الزم اللّه اُفّ(1) ، وقيل : نصب نصب المصادر .(2) انتهى .

وقد يُقام مقام الجملة ، قال تعالى : «فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ»(3) ، وقيل(4) : اسم فعل بمعنى أتضجّر .(5) انتهى .

وإذا اُريد بها تضجّر خاصّ أو من شيءٍ خاصّ جرّدت عن التنوين ، وإلاّ نوّنت للتنكير ، كما قالوا في «صه» بمعنى اُسكت ، و«إيه» بكسر الهمزة وسكون الخاتمة بمعنى زد الحديث(6) ، وقيل : أصل الاُفّ من وسخ الإصبع إذا فُتل .(7)

(لِرَجُلٍ لاَ يُفَرِّغُ) ؛ بصيغة المعلوم من المذكّر الغائب ، من باب التفعيل أو الإفعال ، أو من باب نصر ، يُقال : فرغت من الشغل فروغا أو فراغا ، وفرّغت غيري تفريغا وأفرغته .

(نَفْسَهُ) ؛ بالنصب أو الرفع . (فِي كُلِّ جُمُعَةٍ لاِءَمْرِ دِينِهِ ؛ فَيَتَعَاهَدَهُ) . التعاهد والتعهّد : التحفّظ بالشيء وتجديد العهد به ، وهو منصوب بتقدير «أن» في جواب النفي ، ويحتمل الرفع للعطف على المنفيّ ، لا النفي ، نحو : «وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ»(8) ، والضمير المنصوب لأمر دينه ، والتعاهد بحضور الجماعة والجمعة وزيارة العلماء ونحو ذلك . وفي فصيح ثعلب(9) في باب المشدّد : فلان يتعهّد ضيعته . قال ابن درستويه : .

ص: 349


1- في حاشية «أ» : «يفهم مما ذكره الجوهري في ويب» .
2- الصحاح ، ج 1 ، ص 236 (ويب) .
3- الإسراء (17) : 23 .
4- في حاشية «أ» : «نقله البيضاوى (منه دام ظله)» .
5- تفسير البيضاوي ، ج 3 ، ص 439 .
6- قال في النهاية ، ج 1 ، ص 87 (أين) : إيه كلمة يراد بها الاستزادة ، وهي مبنية على الكسر ، فإذا وصلت نونت فقلت : إيهٍ حدثنا ، وإذا قلت : إيها بالنصب فإنّما تأمره بالسكوت .
7- النهاية ، ج 1 ، ص 55 (افف) ؛ مفردات غريب القرآن ، ص 19 (أفّ) .
8- المرسلات (77) : 36 .
9- فصيح ثعلب في اللغة ؛ اختلاف في مؤلفه فقيل : للحسن بن داود الرقي ، وقيل : لابن السكيت ، والأصحّ أنّه لأبي العباس أحمد بن يحيى المعروف بثعلب الكوفي النحوي ، وهو كتاب صغير الحجم كثير الفائدة ، اعتنى به العلماء . معجم المطبوعات العربية ، ج 1 ، ص 662 . توفّي ثعلب سنة 291 هجرية كما في كشف الظنون ، ج 2 ، ص 1272 .

ولا يجوز عنده يتعاهد ؛ لأنّه لا يكون عند أصحابه إلاّ من اثنين ولا يكون متعدّيا ويردّه قوله : تجاوزت أحراسا إليها ومعشرا .(1)

وأجاز الخليل يتعاهد وهو قليل . وسأل الحكم بن قنبر(2) أبا زيد عنها فمنعها ، وسأل يونس فأجازها فجمع بينهما ، وكان عند ستّة من فصحاء العرب فسئلوا وامتنعوا من يتعاهد ، فقال يونس : يا أبا زيد كم من علم استفدناه كنت سببه .(3) انتهى .

ويردّه أيضا الحديث .

وقال الجوهري : «تعهّدت فلانا وتعهّدت ضيعتي أفصح من قولك : تعاهدته ؛ لأنّ التعاهد إنّما يكون بين اثنين»(4) انتهى .

وفيه : أنّه منقوض بقوله تبارك اللّه وتعالى اللّه : «لَوْلاَ أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ»(5) ، والحلّ أنّ الفعل الصادر عن واحد فقط قد يبرز في صيغة الصادر عن اثنين على سبيل التغالب ؛ للإشعار بوقوعه متأكّدا متكثّرا ، لأنّ الغالب فيما بين اثنين ذلك ، سواء كان منسوبا إليهما صريحا كما في التفاعل ، أو لا كما في المفاعلة .

(وَيَسْأَلَ عَنْ دِينِهِ) بالسؤال الصريح في مجلس العلماء ، أو بحضور مجلس الوعظ أو نحو ذلك .

السادس : (وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرى :) أي بالسند السابق ، والتفاوت مبنيّ على أنّ من ذكره كان متعدّدا . (لِكُلِّ مُسْلِمٍ) أي بدل قوله : «لرجل» . .

ص: 350


1- هذا صدر بيت من معلقة امرئ القيس وهو : تجاوزت أحراسا إليها ومعشرا *** عليّ حراصا لو يسرون مقتلي الصحاح ، ج 2 ، ص 683 (سرر) ؛ جوامع الجامع ، ج 3 ، ص 103 ؛ مجمع البيان ، ج 8 ، ص 219 .
2- هو الحكم بن محمد بن قنبر المازني البصري ، من شعراء الدولة الهاشمية ، قدم بغداد ، وكان يهاجي مسلم بن الوليد مدة ثم غلبه مسلم . الوافي بالوفيات ، ج 13 ، ص 78 .
3- حكاه عنهم ابن هشام في مغني اللبيب ، ج 2 ، ص 522 ؛ والزبيدى في تاج العروس ، ج 5 ، ص 146 (عهد) .
4- الصحاح ، ج 2 ، ص 516 (عهد) .
5- القلم (68) : 49 .

السابع : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ ، عَنْ عَبْدِ اللّه ِ بْنِ سِنَانٍ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله : إِنَّ اللّه َ - عَزَّ وَجَلَّ - يَقُولُ : تَذَاكُرُ الْعِلْمِ بَيْنَ عِبَادِي مِمَّا يَحْيَا(1) الْقُلُوبُ الْمَيْتَةُ إِذَا هُمُ انْتَهَوْا فِيهِ إِلى أَمْرِي) .

المراد بالعلم الآيات البيّنات المحكمات الناهية عن اتّباع الظنّ ، وعن الاختلاف عن ظنّ باعتبار أنّها صريحة مفيدة للعلم للرعيّة أيضا ، وبتذاكره ذكر بعضهم لبعض إيّاه لئلاّ يُنسى ، و«من» تبعيضيّة ، وهي قسمان : ما مدخوله كلّي ، وما مدخوله كلّ .

وعلى الأوّل جملة «إذا هم انتهوا» متعلّقة ب- «ممّا يحيا» ، وذكر «ممّا» لأجل أنّ حياة قلوب الأنبياء ليست بالتذاكر وكذا الأوصياء ، أو لأجل أنّ التذاكر بدون التوفيق لا يفيد ، أو لأجل أنّ بعض الحياة يحصل قبل التذاكر بالنظر في دلائل إثبات الصانع وشواهد الربوبيّة ونحو ذلك . وعلى الثاني استئناف بياني .

والمراد لأنّها إنّما تحيا إذا هم انتهوا ، و«على» بنائيّة ، وحياة القلوب علمها بالدِّين الحقّ ، وموتها جهلها به ، والانتهاء إلى الشيء الوصول إليه في الحركة ، والمراد بأمره تعالى ما في سورة النحل وسورة الأنبياء : «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ»(2) ، وسيجيء بيانه في عاشر باب النوادر .

والحاصل أنّ مَن يتذاكر العلم إذا لم يصل إلى أمره - الدالّ على وجوب إمام عالم بجميع الأحكام والمتشابهات في كلّ زمان إلى انقراض التكليف - يصير متحيّرا ، فربّما ارتكب التأويل والتخصيص في العلم بصمم وعمى ، كما يفهم ممّا في سورة الفرقان : «وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّا وَعُمْيَانا»(3) ، وأمّا مَن وصل إلى أمره فيخرج من التحيّر ، ويلين قلبه إلى ذكر اللّه ، كما في سورة الزمر : «اللّه ُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابا مُتَشَابِها مَثَانِىَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ .

ص: 351


1- في الكافي المطبوع : «تحيا» .
2- النحل (16) : 43 ، الأنبياء (21) : 7 .
3- الفرقان (25) : 73 .

إِلَى ذِكْرِ اللّه ِ ذَلِكَ هُدَى اللّه ِ يَهْدِى بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلْ اللّه ُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ»(1) ، وفي سورة الرعد : «الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللّه ِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّه ِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ»(2) .

الثامن : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ ، عَنْ أَبِي الْجَارُودِ ، قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عليه السلام يَقُولُ : رَحِمَ اللّه ُ عَبْدا أَحْيَا الْعِلْمَ) . الجملة دعائيّة ، والمراد بالعلم ما مرّ في شرح السابق .

(قَالَ : قُلْتُ : وَمَا إِحْيَاوءُهُ؟) أي ما الذي يحيا به العلم؟

(قَالَ : أَنْ يُذَاكِرَ) ؛ بكسر الكاف والضمير للعبد . (بِهِ) أي بالعلم (أَهْلَ الدِّينِ) ؛ بالنصب مفعول به أي المهتمّين بأمر الآخرة والجزاء .

(وَأَهْلَ الْوَرَعِ) أي المجتنبين عن سخط اللّه ، والمقصود تكرار ذكر العلم عندهم ودفع الشبه عنه لئلاّ يُنسى وليكثر العلماء .

التاسع : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنْ عَبْدِ اللّه ِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْحَجَّالِ) ؛ بفتح المهملة وتشديد الجيم .

(عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ ، رَفَعَهُ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله : تَذَاكَرُوا العلم) . أمر بتذاكره ، ومضى معنى العلم في شرح سابع الباب ، ومضى بيان شرط تذاكره في سابع الباب وثامنه .

(وَتَلاَقَوْا) ؛ بفتح القاف أمر بالتزاور (وَتَحَدَّثُوا) . التحدّث : مكالمة الأحبّة .

(فَإِنَّ الْحَدِيثَ) . المراد بالحديث آيات القرآن ، كما في أمثال قوله تعالى في سورة الزمر : «اللّه ُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ»(3) . واللام هنا للعهد ، والمراد به العلم .

(جَلاَءٌ لِلْقُلُوبِ) بفتح الجيم وتخفيف اللام والمدّ مصدر ، جلا السيف والمرآة من باب نصر ، أي انكشفا وخرجا عن الرين ، حمل على باعث الجلاء مبالغة .23

ص: 352


1- الزمر (39) : 23 .
2- الرعد (13) : 28 .
3- الزمر (39) : 23

(إِنَّ الْقُلُوبَ لَتَرِينُ) . الرين بالفتح : الدَنَس والوَسَخ ، ويُقال : رانت نفسه ترين رينا ، أي خبثت .(1)

(كَمَا يَرِينُ السَّيْفُ) أي يعلوه الصَّدأ ، وهو وسخ السيف والمرآة ونحوهما . (جَلاَؤُهُ) ؛ بفتح الجيم وتشديد اللام والمدّ ، أي الجالي جدّا من جملة السيف ، أو بتخفيف اللام مصدر استعمل بمعنى اسم الفاعل مبالغة ؛ والمآل واحد .

(الْحَدِيد)(2) ؛ بفتح المهملة ، أي الحادّ الماضي في الضريبة . والجملة استئناف بياني لتقوية التشبيه السابق .

العاشر : (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ فَضَالَةَ) ؛ بفتح الفاء والمعجمة . (بْنِ أَيُّوبَ ، عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبَانٍ) ، بفتح الهمزة وتخفيف الموحّدة . (عَنْ مَنْصُورٍ الصَّيْقَلِ) ؛ بفتح المهملة وسكون الخاتمة وفتح القاف مَن شُغْلُه صقل السيف ونحوه .

(قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عليه السلام يَقُولُ : تَذَاكُرُ الْعِلْمِ) ؛ بطريق الإضافة ، (دِرَاسَتُه)(3) أي كدراسته ، وهو مصدر درست الكتاب درسا بالفتح ودراسةً بالكسر من باب نصر وضرب ، أي ألقيت معناه إلى من لم يعلمه فعلم .

(وَالدِّرَاسَةُ) أي كلّ مرّة من الدرس (صَلاَةٌ) أي كصلاة (حَسَنَةٌ) . مرفوعة على أنّها صفة صلاة ، وهي تأنيث حسن ، أي مقبولة . وهو إشارة إلى ما يجيء في «كتاب الصلاة» في حادي عشر الأوّل(4) من قول أبي عبداللّه عليه السلام : «من قبل اللّه منه صلاة واحدة لم يُعذّبه ، ومَن قبل منه حسنة لم يعذّبه» . .

ص: 353


1- الصحاح ، ج 5 ، ص 2129 ؛ لسان العرب ، ج 13 ، ص 193 (رين) .
2- في الكافي المطبوع : «وجلاؤها الحديث» .
3- في الكافي المطبوع : «دراسة» .
4- أي الحديث 11 من باب فضل الصلاة .

باب بذل العلم

الباب الحادي عشر بَابُ بَذْلِ الْعِلْمِ

فيه أربعة أحاديث ، ومضى معنى العلم في شرح سابع العاشر .(1)

الأوّل : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ بَزِيعٍ) بفتح الموحّدة وكسر الزاي وسكون الخاتمة ومهملة . (عَنْ مَنْصُورِ بْنِ يُونُسَ ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ زَيْدٍ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : قَرَأْتُ فِي كِتَابِ عَلِيٍّ عليه السلام : إِنَّ اللّه َ لَمْ يَأْخُذْ عَلَى الْجُهَّالِ عَهْدا بِطَلَبِ الْعِلْمِ) ؛ مضى معنى العلم في شرح سابع العاشر .

(حَتّى أَخَذَ عَلَى الْعُلَمَاءِ عَهْدا بِبَذْلِ الْعِلْمِ لِلْجُهَّالِ) . يعني أخذ العهد على العلماء بالبذل إن مُكِّنوا وسئلوا قبل أخذ العهد على الجهّال بالطلب .

وروى مضمونه الطبرسي في مجمع البيان في تفسير قوله تعالى في سورة آل عمران : «وَإِذْ أَخَذَ اللّه ُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ»(2)مجمع البيان ، ج 2 ، ص 466 .(3) بدون التتمّة .(3)

(لاِءَنَّ الْعِلْمَ كَانَ قَبْلَ الْجَهْلِ) . المراد بالعلم علم الذين اُوتوا الكتاب بحظر الاختلاف بالظنّ باطّلاعهم على الآيات البيّنات المحكمات ، والمراد بالجهل اختلاف الذين اُوتوا الكتاب بالظنّ والاجتهاد .

وهذا استدلال بقوله تعالى في سورة آل عمران : «وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ

ص: 354


1- أي الحديث 7 من باب سؤال العالم و تذاكره .
2- آل عمران
3- : 187 .

بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْيا بَيْنَهُمْ»(1)لقمان (18) : 18 .(2) . والمقصود أنّه لو لم يكن أخذ العهد على العلماء ببذل العلم قبل أخذ العهد على الجهّال بالطلب في كلّ شريعة وكتابٍ إلهي لما جاء جميع الذين اُوتوا الكتاب ذلك العلم قبل اختلافهم بسبب جهالاتهم الاجتهاديّة ، أي لم يحصل لهم العلم بحظر الاختلاف .

ويظهر بهذا التقرير أحد وجوه دفع المنافاة بين هذا الحديث وما يجيء في «كتاب الحجّة» في الثالث والتاسع من العشرين .(3)

الثاني : (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْبَرْقِيِّ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عَبْدِ اللّه ِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَمُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ زَيْدٍ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام فِي هذِهِ الاْآيَةِ) في سورة لقمان : («وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنّاسِ»(3) قَالَ : لِيَكُنِ النَّاسُ عِنْدَكَ فِي الْعِلْمِ) أي في تعليم العلم (سَوَاءً) ؛ فإنّ الصَعَر محرّكةً : ميل في الوجه أو في العنق من الكِبر ، ويُنسب إلى الخدّ لأنّه جزء الوجه(4) ، أو داء في البعير يلوي عنقه منه . وتصعير الخدّ لأحد صرف الوجه عنه تهاونا به وتكبّرا ،(5) وتعديته باللام لتضمين معنى الإبداء ، أي لا تمل خدّك عن الاستقامة مبديا إيّاه للناس . وأصله أنّ من يصرف وجهه عن أحد يُبدي أحد خدّيه له بتمامه ، ومنه ما في «كتاب الروضة» قبيل خطبة عليّ بن الحسين : «مَن أبدى صفحته للحقّ هلك»(6) أي مَن صرف وجهه عن الحقّ هلك .

ولمّا كان المراد بالعلم هنا الآيات البيّنات المحكمات موافقا لما مضى في شرح سابع العاشر(7) ، لم يناف هذا ما يجيء في أوّل الثاني والعشرين من تخصيص رسول .

ص: 355


1- آل عمران
2- : 19 .
3- أي الحديث 3 و 9 من باب أنّ أهل الذكر الذين أمر اللّه الخلق بسؤالهم هم الأئمة عليهم السلام .
4- ترتيب كتاب العين ، ج 2 ، ص 989 ؛ النهاية ، ج 3 ، ص 31 (صعر) .
5- الإفصاح في فقه اللغة ، ج 2 ، ص 762 (الصعر) .
6- الكافي ، ج 8 ، ص 68 ، ح 23 .
7- أي الحديث 7 من باب سؤال العالم وتذاكره .

اللّه صلى الله عليه و آله أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام بتعليم الأسرار .(1)

الثالث : (وَبِهذَا الاْءِسْنَادِ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ النَّضْرِ) ؛ بفتح النون وسكون المعجمة . والنضر اسم لجماعة(2) ، وكذلك نصر ، فالذي بالمعجمة ملازم للام ، والذي بالمهملة عارٍ عن اللام .

(عَنْ عَمْرِو بْنِ شِمْرٍ ، عَنْ جَابِرٍ ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ، قَالَ : زَكَاةُ الْعِلْمِ أَنْ تُعَلِّمَهُ عِبَادَ اللّه ِ) أي الذين هم على جادّة العبوديّة ، فيرجع إلى ذكر الشرط الذي يجيء في رابع الباب .

ويحتمل أن يفرّق بين التعليم والتحديث بالحكمة ؛ بأنّ الأوّل يستلزم العلم ، بخلاف الثاني ، والعلم يهتف بالعمل فيجيبه غالبا .

الرابع : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى بْنِ عُبَيْدٍ ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمنِ ، عَمَّنْ ذَكَرَهُ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : قَامَ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ خَطِيبا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ ، فَقَالَ : يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ، لاَ تُحَدِّثُوا الْجُهَّالَ) أي الذين لا عقل لهم ، والعقل ما عُبد به الرحمن واكتسب به الجنان .

(بِالْحِكْمَةِ) أي بالعلم المذكور في عنوان الباب ، والمراد النهي في غير صورة التكليف بإتمام الحجّة ، فلا ينافي ما مرَّ في أوّل الباب من أخذ العهد على العلماء ببذل العلم للجهّال .

(فَتَظْلِمُوهَا ، وَلاَ تَمْنَعُوهَا أَهْلَهَا) أي العقلاء ، والمراد النهي في غير صورة التكليف بالتقيّة من بعض الحاضرين مثلاً (فَتَظْلِمُوهُمْ) . .

ص: 356


1- أي الحديث 1 من باب اختلاف الحديث .
2- في «أ» : «لجماعته» .

باب النهي عن القول بغير علم

الباب الثاني عشر

بَابُ النَّهْيِ عَنِ الْقَوْلِ بِغَيْرِ عِلْمٍ

فيه تسعة أحاديث :

المراد بالقول القول على اللّه ، أي نسبة حكم إلى اللّه بغير علم بالحكم ، وكذلك نسبة غير الحكم .

الأوّل : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ أَحْمَدَ وَعَبْدِاللّه ِ ابْنَيْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ ) ؛ بالمهملة والكاف المفتوحتين . (عَنْ سَيْفِ بْنِ عَمِيرَةَ ، عَنْ مُفَضَّلِ بْنِ مَزِيدٍ)(1) بفتح الميم وكسر الزاي .

(قَالَ : قَالَ(2) أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : أَنْهَاكَ عَنْ خَصْلَتَيْنِ) . النهي إمّا متعلّق بكلّ منهما ، وإمّا بمجموعهما ؛ لأنّ كلاًّ منهما يستلزم الاُخرى غالبا .

(فِيهِمَا) . في للسببيّة . (هُلْكُ الرِّجَالِ : أَنْهَاكَ أَنْ) أي عن أن (تَدِينَ اللّه َ) . يُقال : دانه وأدانه وديّنه : إذا أقرضه ، ويسمّى ما في ذمّة المقترض دينا بالفتح . وقيل : القرض : ما لا أجل له ، والدين : ما له أجل .(3) انتهى .

والدين بالكسر : ما يؤدّي العبد إلى اللّه تعالى ويجازى عليه ، سواء كان خيرا فيقرض اللّه قرضا حسنا ، أم شرّا فيقرض اللّه قرضا سيّئا ، وسواء كان فعل قلب ،

ص: 357


1- في الكافي المطبوع : «يزيد» .
2- في الكافي المطبوع : + «لي» .
3- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 225 (الدين) ؛ الفروق اللغوية للعسكري ، ص 426 ، الرقم 1714 .

أم(1) فعل جارحة ، ويُطلق على الجزاء أيضا ، وحمل عليه «مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ» . ويحتمل أن يراد به المعنى الأوّل ، أي مالك أجل ما يؤدّي العبد إلى اللّه . ويُطلق على الحكم والقضاء ، و«عليٌّ ديّان هذه الاُمّة بعد نبيّها»(2) أي حاكمها .(3)

(بِالْبَاطِلِ) . أصل الباطل : الزائل ، وهو خلاف الحقّ في معانيه ، وأصل الحقّ : الثابت الراسخ ، ويُطلق على العلم وعلى المعلوم ، ويُطلق على اللّه تعالى لأنّه حاضر في كلّ وقت لعبده عند الشدائد ، ويُطلق على ما وافق الحكمة وثبت ورسخ فيه الأمر المطلوب ، بأن لا يكون فيه صورته فقط ، فيكون كاللعب والعبث ، ويُطلق على الخبر والاعتقاد إذا طابق الواقع ، وعلى التصديق به والتكذيب لضدّه .

ويمكن تقرير قوله : «بالباطل» على أربعة أوجه :

الأوّل : أن تكون(4) الباء للسببيّة ، كقولك : دنت زيدا بإحسانه إليّ ، والمراد بالباطل الظنّ ، أي أنهاك عن أن تعمل للّه بسبب الظنّ بالحكم الواقعي بأن تجعل الاجتهاد مناطا للعمل ، وإنّما سمّي الظنّ باطلاً لقوله تعالى في سورة يونس وسورة النجم : «إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِى مِنْ الْحَقِّ شَيْئا»(5) ، أي لا يقوم في موضع الحقّ ، أي العلم أصلاً ، لا في الإفتاء ولا في العمل .

ففيه دلالة على أنّ الظنّ ليس حقّا ولا جاريا مجراه ، فهو باطل محض في الدِّين ، فكما لا يجوز أن يكون مناطا للإفتاء ، لا يجوز أن يكون مناطا للعمل ، سواء كان في اُصول الدِّين أو اُصول الفقه أو فروعه .

ولا ينافي ذلك أن يكون العلم بأنّ ظاهر القرآن أو خبر الواحد الجامع للشروط كذا .

ص: 358


1- في «ج» : «أو» .
2- في حاشية «أ» : «ذكره الزمخشري في الأساس (منه دام ظله)» .
3- حكاه عن أساس اللغة للزمخشري في تاج العروس ، ج 18 ، ص 217 ؛ ونقله بلفظ «قيل» في النهاية ، ج 2 ، ص 148 ؛ ولسان العرب ، ج 13 ، ص 166 (دين) .
4- في «أ» : «أن يكون» .
5- يونس (10) : 36 ، النجم (28) : 53 .

فيما ليس لنا طريق إلى العلم بالحكم الواقعي مناطا للعمل فيه في زمن غيبة الإمام ، فإنّ ظاهر الآية لا يبطله .

إن قلت : ظاهر الآية لا يبطل جواز العمل بالاجتهاد أيضا ؛ لأنّ من يعمل بالاجتهاد يدّعي أنّه ليس مناط عمله في الحقيقة الظنّ ، بل العلم الحاصل من الدليل القطعي على جواز العمل بالاجتهاد في نفس الحكم الشرعي الواقعي .

قلت : ظاهره يبطل جواز العمل بالاجتهاد ، ويبطل دعوى العامل به أيضا ؛ لأنّ العلم الحاصل بالدليل ليس مناطا للعمل ، بل سبب لجعل الظنّ مناطا ، فهو باطل(1) لظاهر الآية .

نعم ، لو كان ما يدّعيه من الدليل القطعي حقّا وجب تأويل الآية ، كما نقول به في محلّ الحكم كمقادير الجراحات وقيم المتلفات وتعيين القبلة ونحو ذلك ؛ وأنّى لهم ذلك .

الثاني : أن تكون الباء للسببيّة ، والمراد بالباطل ما يُعبد من دون اللّه ، وهو إمام الضلالة وإبليس وكلّ رأس ضلالة ، كقوله تعالى : «اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابا مِنْ دُونِ اللّه ِ»(2) .

وإنّما سمّي باطلاً لقوله تعالى في سورة الحجّ : «ذَلِكَ بِأَنَّ اللّه َ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ»(3) ، وعلى أحد الوجهين يحمل قوله تعالى في سورة حم السجدة : «وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ»(4) ، أي لا يهلكه إمام الضلالة ، مِن أتاه العدوّ : إذا أهلكه .

ومنه قوله تعالى : «فَأَتَى اللّه ُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ»(5) ؛ وذلك(6) إمّا لأنّ جميعه محفوظ .

ص: 359


1- في «ج» : + «الظاهر» .
2- التوبة (9) : 31 .
3- الحج (22) : 62 .
4- فصّلت (41) : 41 - 42 .
5- النحل (16) : 26 .
6- في حاشية «أ» : «أي عدم الإهلاك» .

عند إمام الهدى لفظا ومعنىً ، وإمّا لأنّ ما يبقى منه في أيدي الناس كاف في ظهور بطلان إمام الضلالة ، وفي الدلالة على إمام الهدى الحافظ لجميعه ، أو لا يصل إليه إمام الضلالة بمعنى أنّه لا يجوز الاعتماد عليه في تفسيره ، أو المراد لا يصل إليه الظنّ بمعنى أنّه لا يجوز تفسيره بالرأي ، فهو استئناف بياني لتوضيح كونه عزيزا غير ذليل .

الثالث : أن تكون الباء للصلة ، كقولك : دنت زيدا بدرهم ، والمراد بالباطل ما يكون كاللعب والهزء ، يقال : في كلامه بطالة ، أي هزل ، وذلك كمكر أهل الرِّبا ومانعي الزكاة لحفظ صورة التجارة والبيع فقط ، قال تعالى في سورة يونس : «وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِى آيَاتِنَا قُلْ اللّه ُ أَسْرَعُ مَكْرا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ»(1) عبّر عن إرسال الحفظة لأعمالهم أو عن خذلانهم بإعطائهم المال المفضي إلى مكرهم بالمكر ، وقال تعالى في سورة الجمعة : «وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوا»(2) الآية ، وقال تعالى في سورة البقرة في النهي عن نظير ذلك : «وَلاَ تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللّه ِ هُزُوا»(3) .

ولا ينافي ذلك جواز العينة بشروط سيجيء في «باب العينة» من «كتاب المعيشة» . فالمراد النهي عن أن يكون المُدان به في صورة العبادة فقط وخاليا عن حقيقتها ، وذلك بأن يكون متلقّى عن إمام الضلالة أو مظنونا أو نحو ذلك .

الرابع : أن تكون الباء للصلة ، والمراد بالباطل ما لا يطابق الواقع من التصديق والتكذيب ونحوهما .

(وَتُفْتِيَ النَّاسَ بِمَا لاَ تَعْلَمُ) أي وعن أن تفتي . ويحتمل أن تكون(4) الواو بمعنى «أو» ، يُقال : أفتاه في الأمر : إذا أبانه له . والباء للصلة ، أي وأن تخبرهم عن اللّه بغير معلوم ، سواء كان مظنونا أم لا ، وسواء كان معلوم الانطباق على ظاهر القرآن ونحوه ، أم لا ، فجواز الفتوى أضيق من جواز العمل ، ومن جملة الإفتاء بما لا يعلم إفتاء أهل القياس .

ص: 360


1- يونس (10) : 21 .
2- الجمعة (62) : 11 .
3- البقرة (2) : 231 .
4- في «د» : «أن يكون» .

والاجتهاد في المسائل الخلافيّة ، فإنّه يتضمّن الإخبار عن الحكم الواقعي ، وغاية مجهودهم تحصيل الظنّ به . وتفصيله في محلّه في حواشينا على عدّة الاُصول(1) .

ومن أصحابنا(2) من لا يسلم لهم الظنّ أيضا . قال : «ما يجد المجتهدون أنفسهم عليه اعتقادٌ مبتدأ لا ظنٌّ عن أمارة».(3) انتهى .

الثاني : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى بْنِ عُبَيْدٍ ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمنِ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ الْحَجَّاجِ) ؛ بفتح المهملة وشدّ(4) الجيم .

(قَالَ : قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : إِيَّاكَ وَخَصْلَتَيْنِ ؛ فَفِيهِمَا) . «في» للسببيّة (هَلَكَ مَنْ هَلَكَ : إِيَّاكَ أَنْ) أي من أن (تُفْتِيَ النَّاسَ بِرَأْيِكَ) . الباء للسببيّة ، أي بظنّك واجتهادك . وفيه دلالة على بطلان ما يشاغب به أهل القياس والاجتهاد يقولون : إنّا لا نخبر إلاّ عن الحكم الواصلي ، وظنّيّة الطريق لا ينافي قطعيّة الحكم ؛ وذلك لأنّ مناط الفتوى حينئذٍ الظنّ بالحكم الواقعي ، وقد أبطلنا مشاغبتهم في حواشي العدّة .(5)

(أَوْ تَدِينَ) أي أو أن تعمل للّه (بِمَا لاَ تَعْلَمُ) . الباء للإلصاق ، أي بما لا تعلم حكمه الواقعي ولا الواصلي ، فلا ينافي جواز العمل بنحو خبر الواحد ، كما مرّ في أوّل الباب .

الثالث : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ رِئَابٍ) بكسر المهملة والهمزة والموحّدة .

(عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ الْحَذَّاءِ ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ، قَالَ : مَنْ أَفْتَى النَّاسَ) أي من نصب نفسه .

ص: 361


1- عدّة الاُصول ، ج 1 ، ص 12 ، ذيل الطبعة القديمة .
2- في حاشية النسخ : «هو السيّد المرتضى رحمه الله ، ذكره في الذريعة ووافقه الشيخ الطوسى رحمه الله في تلخيص الشافى . (منه سلّمه اللّه)» .
3- الذريعة للسيّد المرتضى ، ج 2 ، ص 689 ؛ الشافي ، ج 1 ، ص 171 ؛ عدّة الاُصول ، ج 2 ، ص 661 ، وفي طبعة اُخرى ، ج 3 ، ص 88 .
4- في «ج ، د» : «تشديد» .
5- عدة الاُصول ، ج 1 ، ص 21 .

لبيان المختلف فيه اختلافا حقيقيّا مستقرّا ، سواء كان اللّه تعالى كما في قوله تعالى :«اللّه ُ يُفْتِيكُمْ»(1)ما بين المعقوفين من المصدر .(2) أم غيره .

(بِغَيْرِ عِلْمٍ) هو ما عند اللّه ؛ إذ لا حاجة له إلى هاد .

(وَلاَ هُدًى) هو ما عند الأنبياء «أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّه ُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ»(3)القلم (68) : 37 .(4) ، وفي حكمهم الأوصياء كما يجيء في «كتاب القضايا والأحكام» في الأوّل والثاني من «باب أنّ الحكومة إنّما هي للإمام» ، وهو الباب الأوّل من قول أبي عبداللّه عليه السلام : «اتّقوا الحكومة [فإنّ الحكومة(5)] إنّما هي للإمام العالم بالقضاء العادل في المسلمين لنبيٍّ أو وصيّ نبيّ» . ومن قول أمير المؤمنين عليه السلام لشريح : «يا شريح قد جلست مجلسا لا يجلسه إلاّ نبيّ أو وصيّ [نبيّ(4)] أو شقيّ» .

وهذا مطابق لما في سورة الحجّ وسورة لقمان : «وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِى اللّه ِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدىً وَلاَ كِتَابٍ مُنِيرٍ»(6) ، وإن لم يذكر الشقّ الثالث هنا لوضوحه ؛ لأنّ المراد بكتاب ما يدلّ على جواز الإفتاء بغير علم ولا هدى ، فهو فرض محال ، كما في قوله تعالى في سورة نآ : «أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ»(6) .

ويحتمل أن يُراد بالعلم هنا العلم من جهة العقل ، أي بما يستقلّ العقل بالعلم به ، إمّا حقيقة وهو ظاهر ، وإمّا حكما بأن يكون مذكورا في المحكمات وبالهدى العلم من جهة أهل الذِّكر ، أي بما لا يستقلّ العقل بالعلم به أصلاً ، فاكتفى هنا بشقّين ، كما في قوله تعالى : «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ»(7) ، فإنّ العقل إذا استقلّ بالعلم بشيء حقيقةً أو حكما ، لم يجب سؤال أهل الذِّكر عنه وإن لم يعلم بعدُ . .

ص: 362


1- النساء
2- : 176 ؛ وفي «أ، د» : «يفتيكم اللّه» .
3- الأنعام
4- : 90 .
5- ما بين المعقوفين من المصدر .
6- الحجّ (22) : 8 ؛ لقمان (31) : 20 .
7- النحل (16) : 43 ؛ الأنبياء (21) : 7 .

وقد حذف الأخيران جميعا في أوّل سورة الحجّ : «وَمِن النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِى اللّه ِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ»(1) ، فيجعل العلم فيه أعمّ من الشقوق الثلاثة ، فمآل الجميع واحد .

ويحتمل أن يُراد بالعلم هنا المعنى الأعمّ من الثلاثة ، وبالهدى ما يدلّ على جواز الفتوى بغير علم بالمعنى الأعمّ .

(لَعَنَتْهُ مَلاَئِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلاَئِكَةُ الْعَذَابِ ، وَلَحِقَهُ وِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِفُتْيَاهُ) . الفتيا بالضمّ والفتوى بالضمّ والفتح : ما أفتى به الفقيه ، ولحوق وزره بدون أن ينقص من وزر العامل شيء ، كما مرّ في رابع باب ثواب العالم .

الرابع : (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الْوَشَّاءِ ، عَنْ أَبَانِ بْنِ عُثْمانٍ(2) الاْءَحْمَرِ ، عَنْ زِيَادِ بْنِ أَبِي رَجَاءٍ) ؛ بفتح المهملة والجيم والمدّ .

(عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ، قَالَ : مَا عَلِمْتُمْ فَقُولُوا ، وَمَا لَمْ تَعْلَمُوا فَقُولُوا : اللّه ُ أَعْلَمُ) أي قولوا في أنفسكم ذلك ولا تفتوا بغير المعلوم . أو المراد : قولوا في جواب السؤال عنه .

وإنّما يجوز ذلك إذا كان المسؤول عالما بكثير من المسائل و معدودا من العلماء مع جهله بخصوصيّة المسؤول عنه ، كما سيجيء في خامس الباب .

(إِنَّ الرَّجُلَ) . اللام للعهد الذهني . (لَيَنْتَزِ عُ الاْآيَةَ مِنَ الْقُرْآنِ) . الانتزاع : الاقتلاع ، والمقصود هنا إفرازها وتخصيصها ببيان مراد اللّه فيها ، وليس المقصود أنّ كلّ رجل كذلك ، أو كلّ انتزاع مع الخرور إنّما هو في نحو استدلالات أهل القياس والاجتهاد وأهل الأديان المختلفة بالآيات المتشابهة .

(يَخِرُّ) ؛ بفتح ياء المضارعة وكسر المعجمة وشدّ(3) المهملة، أي يسقط(4) ، وذلك إذا .

ص: 363


1- الحجّ (22) : 3 .
2- في الكافي المطبوع : - «بن عثمان» .
3- في «ج ، د» : «تشديد» .
4- النهاية ، ج 2 ، ص 21 (خرر) .

لم يعلم المراد بها وإنّما يظنّ ظنّا ، والجملة صفة الآية ؛ لأنّ اللام فيها للعهد الذهني كقوله : «ولقد أمرّ على اللئيم يسبّني»(1) .

أو معطوفة على «ينتزع» بتقدير العاطف ، وهو الواو ، وقد عدّ النحاة فيما تنفرد الواو عن سائر حروف العطف جواز حذفها إن أمن اللبس ، كقوله : «كيف أصبحت كيف أمسيت»(2) ؛ ذكره الأزهري في التصريح(3) ، أو حال عن الآية ، أو عن الضمير في «ينتزع» .

(فِيهَا أَبْعَدَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالاْءَرْضِ) . يحتمل أن تكون «في» بمعنى الباء ، كقوله : «عُذِّبت امرأة في هرّة»(4) فالمراد الخرور في جهنّم ، فإنّه أكثر ضررا من الخرور ما بين السماء والأرض .

ويحتمل أن تكون «في» على الحقيقة ، فالمراد بالخرور الضلال في معنى الآية عن الحقّ ، والانحطاط عن مرتبة السعداء وأهل الحقّ إلى مرتبة الأشقياء وأهل الباطل . وهو أيضا أكثر ضررا من الخرور ما بين السماء والأرض ، وقوله : «أبعد» منصوب على الظرفيّة ، أي مسافة أبعد . .

ص: 364


1- هذا صدر بيت و عجزه : «فمضيت ثمت قلت : لا يعنيني» ذكره الجوهري في الصحاح ، ج 5 ، ص 1882 (وثم) ؛ وحكاه أيضا الطوسي في التبيان ، ج 1 ، ص 351 ؛ والطبرسي في جوامع الجامع ، ج 1 ، ص 58 ؛ ومجمع البيان ، ج 1 ، ص 322 .
2- هذا صدر بيت لأبي زيد الأنصاري كما حكاه السمعاني في تفسيره ، ج 6 ، ص 240 ؛ والبيت : كيف أصبحت كيف أمسيت مما *** يغرس الود في فؤاد اللبيب وممن جوّز حذف الواو إن أمن اللبس ابن هشام في مغني اللبيب ، ج 2 ، ص 635 ؛ والسمعاني في تفسيره، ج 6 ، ص 240 ؛ والبغدادي في خزانة الأدب ، ج 11 ، ص 26 . وقال : هو مذهب الفارسي ومن تبعه . وانظر: شرح العينية الحميرية للفاضل الهندي ، ص 341 ؛ والبرهان للزركشي ، ج 3 ، ص 212 .
3- الأزهري هو زين الدين خالد بن عبداللّه الأزهري نحوي أديب المتوفى سنة 905 ، وقد كتب كتابه المشهور بالتصريح وله اسم آخر : شرح التصريح على التوضيح والمراد بالتوضيح كتاب ابن هشام المسمّى ب- أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك . والكتاب مطبوع في دار إحياء الكتب العربية في مصر ، وطبع بالأفست في مكتبة ناصر خسرو في طهران . اُنظر: كشف الظنون ، ج 1 ، ص 154 ؛ وذيل كشف الظنون ، ص 31 .
4- ورد مضمونه في ثواب الأعمال ، ص 278 . وفي طبعة اُخرى ، ص 327 ، ح 6 ؛ وعنه في وسائل الشيعة ، ج 11 ، ص 544 ، ح 15493 ؛ وج 29 ، ص 14 ، ح 35033 .

الخامس : (مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ شَاذَانَ ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عِيسى ، عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ عَبْدِ اللّه ِ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : لِلْعَالِمِ) أي الذي يعلم قدرا معتدّا به من المسائل ، ويكون معدودا من العلماء ، أو الذي يعلم بعض المسؤول عنه .

(إِذَا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ وَهُوَ لاَ يَعْلَمُهُ أَنْ يَقُولَ : اللّه ُ أَعْلَمُ) أي يجوز له ذلك ، وإن كان الأولى أن يقول : لا أدري ، كما سيجيء في سادس الباب .

(وَلَيْسَ لِغَيْرِ الْعَالِمِ أَنْ يَقُولَ ذلِكَ) ؛ لأنّه كذب ؛ لأنّ ظاهره أنّ أصل العلم مشترك بينه وبين اللّه ، وليس العلم بالمسؤول عنه مشتركا بينهما ؛ لأنّ المفروض جهل المسؤول به .

واستقرّ العرف العامّ على أنّ العالم المطلق - أي الغير المقيّد بمعلوم خاصّ - لا يطلق إلاّ على من علم قدرا معتدّا به من المسائل .

السادس : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عِيسى ، عَنْ حَرِيزِ بْنِ عَبْدِ اللّه ِ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : إِذَا سُئِلَ الرَّجُلُ مِنْكُمْ عَمَّا لاَ يَعْلَمُ ، فَلْيَقُلْ : لاَ أَدْرِي ، وَلاَ يَقُلْ : اللّه ُ أَعْلَمُ ؛ فَيُوقِعَ) ؛ منصوب بتقدير «أن» بعد النهي ، والنهي للتأديب لا للتحريم .

(فِي قَلْبِ صَاحِبِهِ) أي صاحب الرجل وهو السائل ، أو صاحب السؤال (شَكّا) ؛ فإنّ اللفظ يحتمل الاشتراك في أصل العلم بالمسؤول عنه ، فربّما توهّم السائل أنّه عالم بالمسؤول عنه ولا يجيب .

فهذا الجواب - وإن صدر عن العالم - خلاف الآداب من وجهين :

الأوّل : أنّه في معرض أن يلقي في ذهن السائل باطلاً ، وهو علم المسؤول بالمسؤول عنه .

الثاني : أنّه في معرض أن يتّهمه السائل وينسبه إلى قبيح ، وهو أنّه لا يجيب مع علمه بالجواب ، وهو قبيح في الجملة ، والشكّ يشمل الوجهين .

(وَإِذَا قَالَ الْمَسْؤُولُ : لاَ أَدْرِي ، فَلاَ يَتَّهِمْهُ السَّائِلُ) . «لا يتّهمه» مجزوم ، و«لا» للنهي بقرينة الفاء ، فتكون الجملة إنشاءً ونهيا للسائل عن الاتّهام ، فإنّه لا يجوز ظنّ السوء بالمؤمن

ص: 365

ما أمكن المخرج ، وكلّ عالم من الرعيّة مجهوله من المسائل أكثر من معلومه بكثير .

السابع : (الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، عَنْ مُعَلَّى بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَسْبَاطٍ ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ سَمَاعَةَ ، عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ ، عَنْ أَبَانٍ ، عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَعْيَنَ ، قَالَ : سَأَلْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عليه السلام : مَا حَقُّ اللّه ِ عَلَى الْعِبَادِ؟ قَالَ : أَنْ يَقُولُوا مَا يَعْلَمُونَ) أي إذا سئلوا عنه ولم يكن مانع من تقيّة ونحوها ، ومن القول للمعلوم نقلهم ما رووا عن أئمّة الهدى الحكم فيها ولو بواسطة ، فإنّ الرواية معلومة التحقّق ، وإن لم يكن المرويّ معلوم التحقّق ، وكذا جواز العمل بها بشروط خاصّة وإن لم يعلم صدقها كما تقرّر في محلّه .

(وَيَقِفُوا عِنْدَ مَا لاَ يَعْلَمُونَ) أي وأن يقفوا عن القول عنده بأن لا يحكموا به ولا يردّوه كما سيجيء في ثامن الباب ، ولا ينافي جواز العمل بخبر الواحد بشروط خاصّة ، فإنّ الفرق بين العمل والقول ظاهر ، وجوابه عليه السلام مبنيّ على أنّه العمدة في حقّ اللّه ، ويفضي بصاحبه إلى كلّ حقّ ، ويجيء التصريح به في ثاني عشر السابع عشر(1) ، وذلك كما أنّ القول على اللّه بغير علم رأس كلّ ضلالة موافقا لما مرّ في سابع الثالث .(2)

الثامن : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ ، عَنْ يُونُسَ ، عَنْ أَبِي يَعْقُوبَ(3) إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللّه ِ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : إِنَّ اللّه َ حَضَّ(4) عِبَادَهُ) ؛ بالمهملة وشدّ المعجمة ، يُقال : حضّه على كذا - كنصر - : إذا أغراه به وبالغ في الدعاء إليه .

(بِآيَتَيْنِ) . الباء للآلة ، وهما «أَلَمْ يُؤْخَذْ» و«بَلْ كَذَّبُوا» ، والحضّ فيهما لدلالة كلّ منهما على أنّه تأكيد لتكليف سابق ، أمّا في «أَلَمْ يُؤْخَذْ» فظاهر ، وأمّا في «بَلْ كَذَّبُوا» فلقوله في تتمّة الآية : «كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ»(5) . .

ص: 366


1- أي الحديث 12 من باب النوادر .
2- أي الحديث 3 من باب صفة العلم وفضله وفضل العلماء .
3- في «أ» : + «عن» . وفي حاشيتها : «عن ليس في الأصل» .
4- في الكافي المطبوع : «خصّ» .
5- يونس (10) : 39 .

(مِنْ كِتَابِهِ) أي من القرآن ، والظرف مستقرّ صفة آيتين .

(أَنْ لاَ يَقُولُوا حَتّى يَعْلَمُوا) أي على أن لا يقولوا ، وهو متعلّق ب- «حضّ» .

(وَلاَ يَرُدُّوا(1) مَا لَمْ يَعْلَمُوا ) . معطوفٌ على «لا يقولوا» ؛ أي وعلى أن لا يردّوا ، و«ما» مصدريّة زمانيّة ؛ أي حين لم يعلموا صحّة الردّ ، فمفعول لم يردّوا(2) مقدّر ، أي شيئا ، ولو كانت موصولة لم يناسب قوله في سورة يونس : «قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّه َ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِى السَّمَوَاتِ وَلاَ فِى الاْءَرْضِ»(3) .

(وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ) في سورة الأعراف ، وهو معطوف على «حضّ» عطف المفصّل على المجمل ، ونقل في مجمع البيان في تفسير سورة يونس هذا الحديث(4) ، وفيه بدل هذا ثمّ قرأ : («أَلَمْ يُوءْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لاَ يَقُولُوا عَلَى اللّه ِ إِلاَّ الْحَقَّ»(5)يونس (10) : 39 .(6)) .

مضى في شرح الخطبة أنّ «على» بنائيّة ، والحقّ ضدّ الباطل ، والمراد هنا المعلوم ، وقد بيّن ذلك في قوله تعالى في سورة يونس وسورة النجم : «إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِى مِنْ الْحَقِّ شَيْئا»(7) ومضى بيانه في أوّل الباب .

(وَقَالَ) في سورة يونس ، وفي مجمع البيان بَدَله وقرأ : («بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ»(7)) . ضمير «كذّبوا» لقوم كذّبوا ما سبق هذه الآية من أمثال قوله : «إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِى مِنْ الْحَقِّ شَيْئا»فمفعول «كذّبوا» مقدّر ، والباء في بما للمصاحبة ، وما مصدريّة ، وضمير «علمه» وضمير «تأويله» لمصدر كذّبوا . والمراد مع انتفاء إحاطة .

ص: 367


1- في حاشية «أ» : «قوله : (ولا يرد) إلى آخره أي لا يرد شيئا أتاهم من صادق بسبب أنهم لا يعلمون وجهه وتأويله ، بل متى أخبر به الصادق وجب قبوله وإن لم يعلموا معناه وتأويله» شيخ علي .
2- كذا في النسخ ، والمناسب لمتن الكافي المشروح هنا : «لا يردّوا» بدل من : «لم يردّوا» .
3- يونس (10) : 18 .
4- مجمع البيان ، ج 5 ، ص 190 .
5- الأعراف
6- : 169 .
7- يونس (10) : 36 ؛ النجم (28) : 53 .

علمهم بصحّة ذلك التكذيب وتأويله ما يستحقّون عليه من العقاب كقوله : «يَوْمَ يَأْتِى تَأْوِيلُهُ»(1) .

التاسع : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، عَنْ يُونُسَ ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ فَرْقَدٍ ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ ، عَنِ ابْنِ شُبْرُمَةَ) ؛ بضمّ المعجمة وسكون الموحّدة وضمّ المهملة . وعبداللّه بن شبرمة فقيه أهل الكوفة عداده في التابعين ، كان قاضيا للمنصور الدوانيقي على سواد الكوفة .(2)

(قَالَ : مَا ذَكَرْتُ) ؛ من الذكر : ضدّ النسيان ، أي ما تذكّرت ؛ أو ضدّ السكوت ، أي ما حدّثت .

(حَدِيثا سَمِعْتُهُ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عليهماالسلام إِلاَّ كَادَ أَنْ يَتَصَدَّعَ قَلْبِي) ؛ بالتاء وشدّ الدال من باب التفعّل ، وفي بعض النسخ بالنون وتخفيف الدال من باب الانفعال ، أي ينشقّ ويتفرّق . والصدع : الشقّ في شيء صلب .(3) وذلك لما فيه من الدلالة على هلاك القاضي وأصحابه .

(قَالَ : حَدَّثَنِي أَبِي ، عَنْ جَدِّي ، عَنْ رَسُولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله . قَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ : وَأُقْسِمُ) ؛ بصيغة المضارع المعلوم من باب الإفعال . (بِاللّه ِ مَا كَذَبَ أَبُوهُ عَلى جَدِّهِ ، وَلاَ جَدُّهُ عَلى رَسُولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله : مَنْ عَمِلَ بِالْمَقَايِيسِ) ؛ جمع مقيس بردّه إلى أصله ، وهو مقيوس - كمحصور ومحاصير - ويجيء بيانه في «باب البدع والرأي والمقاييس» .

(فَقَدْ هَلَكَ وَأَهْلَكَ ) أي سواء كان مع إفتاء أم بدونه ، فإنّ مجرّد العمل أيضا ممّا يفضي إلى اقتفاء من اطّلع عليه من المقلِّدة أثره .

(وَمَنْ أَفْتَى النَّاسَ) أي تصدّر لمنصب الفتوى لعامّة الناس في كلّ ما يحتاجون إليه ، ولو اُريد بالناس أحد منهم في قضيّة ، لكان الشرط في هذه الفتوى أن يعلم أنّ دليلها .

ص: 368


1- الأعراف (7) : 53 .
2- تفصيل حاله في منتهى المقال ، ج 4 ، ص 190 ؛ الرقم 1733 .
3- ترتيب كتاب العين ، ج 2 ، ص 975 (صدع) .

ليس منسوخا ، وأنّه محكم فيها ، سواء كان من الكتاب أم السنّة .

(وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ النَّاسِخَ مِنَ الْمَنْسُوخِ) . قيل(1) : «من» هذه للفصل ، وهي داخلة على ثاني المتضادّين ، نحو : «وَاللّه ُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ»(2) ، «حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ»(3) .(4) انتهى .

وقيل(5) : فيه نظر ؛ لأنّ الفصل مستفاد من العامل ، فإنّ ماز وميّز بمعنى فصل ، والعلم صفة توجب التمييز ، والظاهر أنّ «من» في الآيتين للابتداء أو بمعنى عن .(6) انتهى .

والأظهر أنّ التمييز في حدّ العلم غير التمييز بين المتضادّين ، ف- «من» في الآيتين للابتداء ، لكنّها في الاُولى وأمثالها باعتبار تضمين العلم معنى التمييز الذي يكون بين المتضادّين .

والنسخ - كالمنع - : الإزالة ، مثل مجيء الإمام اللاحق حين مُضيّ الإمام السابق ، كما يجيء في «كتاب الإيمان والكفر» في رابع الثاني والأربعين وهو «باب العبادة» ، ومثل إزالة حكم شرعي بآخر حادثٍ ، كما يجيء أيضا في «كتاب الإيمان والكفر» في أوّل «باب» هو السابع عشر(7) وهو المصطلح عليه عند الاُصوليّين ، ومثل ما في دلالات الألفاظ ونحوها على المعاني ، كأن يكون ظاهر كلام شيئا ويجيء كلام آخر معه أو بعده أو قبله يدلّ على أنّ المراد بالأوّل خلاف ظاهره ، فالثاني ناسخ ، والأوّل منسوخ . وهذا يتحقّق في الأخبار أيضا .

ومعنى تمييز الناسخ من المنسوخ العلم بجميع ما يحتاج إليه الناس من الكتاب .

ص: 369


1- في حاشية «أ» : «القائل ابن مالك (منه دام ظله)» .
2- البقرة (2) : 220 .
3- آل عمران (3) : 179 .
4- حكاه عنه في مغني اللبيب ، ج 1 ، ص 424 و 425 .
5- في حاشية ، «أ» : «القائل ابن هشام في المغني ، (منه دام ظله)» .
6- مغني اللبيب ، ج 1 ، ص 425 .
7- أي الحديث 1 من باب (بدون العنوان) .

والسنّة ؛ فهذه الفقرة مناسبة لأحوال الأئمّة ومن نصبوه للإفتاء .

(وَالْمُحْكَمَ) أي ما علم أنّه لم ينسخ ، ولا يحتمل خلاف ما يستنبطه منه لكونه نصّا(1) فيه .

(مِنَ الْمُتَشَابِهِ) أي ما نسخ أو فيه الاحتمال . ومعنى تمييز المحكم من المتشابه ، إمّا العلم بأنّه لا يجوز الاستناد في شيء من فتاويه إلى المتشابه من حيث إنّه متشابه ، فإنّ المتشابه إذا سئل مَنْ قوله حجّةٌ مفيدٌ للعلم عن أنّه على ظاهره أو فيه تأويل يجوز الاستناد إليه في الفتوى ؛ وإمّا العلم بما في المحكمات من أنّه يجب سؤال أهل الذِّكر في كلّ ما لم يعلم ، ورفض أئمّة الضلالة وطريقتهم في القول على اللّه بغير علم ؛ فهذه الفقرة مناسبة لأحوال الرعيّة .

(فَقَدْ هَلَكَ) حيث قال على اللّه بغير علم .

(وَأَهْلَكَ) أي المستفتين ؛ حيث حملهم على سؤال غير الراسخين في العلم وهم أهل الذِّكر ، أو أهلك الذين أخذوا طريقته - وهي القول على اللّه بغير علم - سنّةً . .

ص: 370


1- في «ج» : + «مستمرا» .

باب من عمل بغير علم

الباب الثالث عشر بَابُ مَنْ عَمِلَ بِغَيْرِ عِلْمٍ

فيه ثلاثة أحاديث .

يحتمل أن يُراد بالعمل بغير علم الإتيان بشيءٍ من الأفعال أو التروك بغير علم بجوازه شرعا ، وأن يُراد به الإتيان بفرائض اللّه من الأفعال كالصلاة والحجّ ونحو ذلك ، أو التروك كترك الشرك وترك الصيد في الحرم ونحو ذلك ، أو بنوافله بغير علم بأنّ الصورة المأتيّ بها مجزية ، أي مسقطة للتكليف .

وليعلم أنّ الوجوب ونحوه من الأحكام قد يقيّد بالشرعيّة ، ويُراد بها ما يكون باعتبار استحقاق الثواب والعقاب الاُخرويّين وعدمهما ، وقد يقيّد بالعقليّة ويُراد بها ما يكون باعتبار استحقاق المدح والذمّ وعدمهما ، وكلّ منهما قد يقيّد بالواقعيّة وقد يقيّد بالواصليّة .

ومعنى الوجوب الشرعي الواقعي مثلاً كون الفعل الاختياري للعبد بحيث إذا علم جميع جهاته المتلقّاة من الشارع وتركه لا سهوا استحقّ عليه العقاب ، ومعنى الوجوب الشرعي الواصلي كون الفعل الاختياري للعبد بحيث إذا علم من الجهات المتلقّاة من الشارع ما في وسعه أن يصل إلى العلم به وتركه لا سهوا استحقّ عليه العقاب ؛ وبينهما عموم من وجه(1) ، والعلم بالأوّل أخصّ مطلقا من العلم بالثاني ، فالجهل بالعكس .

ص: 371


1- في حاشية «أ» : «قوله : وبينهما عموم من وجه ؛ وذلك لاجتماعهما في الصلاة والزكاة ونحوهما ممّا علم وجوبه ، إمّا ضرورةً من الدين ، وإمّا بغيرها على ما نصّ قدس سره عليه في حواشي العدة في المقدّمة الثالثة من مقدّمات بيان الحاجة (مهدي)» .

والواصلي على قسمين :

الأوّل : كون فعل العبد الاختياري بحيث إذا تركه لا سهوا استحقّ عليه العقاب ؛ لوصوله إلى العلم بما يقتضي ذلك ، ولنسمّه وجوبا شرعيّا واصليّا بالفعل .

الثاني : ما ليس كذلك ولا يختصّ باسم ، وقس على ذلك الوجوب العقلي وغير الوجوب من أقسام الأحكام الشرعيّة والعقليّة ، والمقصود هنا العمل بغير علم بالحكم الشرعي الواصلي لئلاّ ينافي جواز العمل بظاهر القرآن أو بخبر الواحد على شروط خاصّة مقرّرة في محلّها ، فإنّه جائز بدون إفتاء وقضاء . وتفصيله في محلّه .

الأوّل : (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ زَيْدٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام يَقُولُ : الْعَامِلُ عَلى غَيْرِ بَصِيرَةٍ) ؛ على بنائيّة ، أي بغير علم بالحكم الشرعي الواصلي .

(كَالسَّائِرِ عَلى غَيْرِ الطَّرِيقِ ، لاَ يَزِيدُهُ سُرْعَةُ(1) السَّيْرِ إِلاَّ بُعْدا) أي عن الطريق أو عمّا يريد الوصول إليه .

الثاني : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ ، عَنِ ابْنِ مُسْكَانَ) ؛ بضمّ الميم وسكون المهملة ، (عَنْ حسين(2) الصَّيْقَلِ ، قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام يَقُولُ : لاَ يَقْبَلُ اللّه ُ عَمَلاً إِلاَّ بِمَعْرِفَةٍ) .

المراد بالمعرفة هنا العلم بقصد الإطاعة قصدا متأكّدا ، وعلامته أن يفضي إلى الإطاعة ، أي إلى العمل بمقتضاه ، ولهذا يُقال : فلان عالم بلا عمل ؛ ولا يُقال : عارف بلا عمل ، والمراد إلاّ بمعرفة بحكم ذلك العمل ، وذلك بمعرفة باللّه وبرسوله وبمَن يصلح لأن يُؤخذ منه الأحكام بعد رسوله وبطريقة الأخذ ثمّ أخذ حكم ذلك العمل .

(وَلاَ مَعْرِفَةَ إِلاَّ بِعَمَلٍ) ؛ لا لنفي الجنس . و«معرفة» مبنيّ على الفتح ، أي لا تتحقّق .

ص: 372


1- في حاشية النسخ : «كثرة . خ» .
2- في الكافي المطبوع : «الحسن» .

المعرفة لحكم إلاّ ويتحقّق معها(1) العمل بمقتضاها .

(فَمَنْ عَرَفَ دَلَّتْهُ الْمَعْرِفَةُ عَلَى الْعَمَلِ ، وَمَنْ لَمْ يَعْمَلْ فَلاَ مَعْرِفَةَ لَهُ) ؛ بل له ضدّ المعرفة ، وهو الإنكار .

(أَلاَ) ؛ حرف تنبيه . (إِنَّ الاْءِيمَانَ بَعْضُهُ مِنْ بَعْضٍ) أي بعضه وهو العمل ناش من بعض وهو المعرفة . يدلّ على أنّ العلم بلا قصد العمل ليس من الصالحات كالعمل بلا علم .

إن قلت : كلّ مؤمن عارف ، وقد نرى المؤمن يرتكب بعض المناهي ، وقد يترك بعض الفرائض .

قلت : هذا غير عارف من وجه ، وعارف من وجه ؛ فإنّه ليس عارفا بالحكم الذي خالف فيه ، وعارف في الجملة باللّه ورسوله وأئمّته ، فإنّ معرفته بذلك إنّما تستلزم إطاعته في الجملة بحيث تسوؤه السيّئة وتسرّه الحسنة . نعم ، لو لم يخالف أصلاً كانت معرفته بذلك أشدّ .

والمراد بالبعض: إمّا الجزء ، فيدلّ على أنّ الإيمان قد يُطلق على المركّب من الأمر القلبي وعمل(2) الجوارح . وإمّا الجزئي ، فيدلّ على أنّ الإيمان قد يُطلق على القدر المشترك بين الأمر القلبي وأعمال الجوارح .(3)

الثالث : (عَنْهُ ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنِ ابْنِ فَضَّالٍ ، عَمَّنْ رَوَاهُ ) ؛ من باب التفعيل(4) أو باب ضرب .

(عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله : مَنْ عَمِلَ عَلى غَيْرِ عِلْمٍ) أي بغير علم بالحكم الواصلي ، وذلك بأن لا يلتزم أخذ الحكم الواقعي الذي ليس في المحكمات .

ص: 373


1- في «ج» : «معه» .
2- في «ج» : «وأعمال» .
3- في «ج» : - «وإما الجزئي فيدل ...» إلى هنا .
4- في «أ» : «الفعيل» .

عن أهل الذكر بشروط الأخذ ، وليس المراد بالعلم العلم بالحكم الواقعي ، فإنّ اشتراطه يسدّ باب العمل في الأكثر على الرعيّة ولا سيّما في زمن الغيبة ، وهو خلاف ضروريّ الدِّين .

(كَانَ مَا يُفْسِدُ أَكْثَرَ مِمَّا يُصْلِحُ) . «ما» في الموضعين إمّا موصولة والعائد مقدّر ، وإمّا مصدريّة ؛ وعلى التقديرين «أكثر» بالمثلّثة أو بالموحّدة(1) . ومآل الكلّ واحد ، وهو أنّه يفسد أمر آخرته بمخالفته الآيات البيّنات المحكمات الناهية عن اتّباع الظنّ ، ويصلح أمر دنياه بحفظ دمه وماله بانتحال الإسلام أو بكسب المال والجاه أيضا بموافقة رؤساء الضلالة ؛ والآخرة خيرٌ وأبقى . .

ص: 374


1- أي «أكبر» .

باب استعمال العلم

الباب الرابع عشر بَابُ اسْتِعْمَالِ الْعِلْمِ

فيه سبعة أحاديث :

الأوّل : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عِيسى ، عَنْ عُمَرَ بْنِ أُذَيْنَةَ) ؛ بضمّ الهمزة وفتح المعجمة وسكون الياء والنون . (عَنْ أَبَانِ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ) بفتح المهملة وشدّ الخاتمة . (عَنْ سُلَيْمِ) ؛ مصغّرا . (بْنِ قَيْسٍ الْهِلاَلِيِّ) ؛ بكسر الهاء نسبةً إلى حيّ من هوازن .(1)

(قَالَ : سَمِعْتُ أَمِيرَ الْمُوءْمِنِينَ عليه السلام يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله أنَّهُ قَالَ فِي كَلاَمٍ لَهُ : الْعُلَمَاءُ رَجُلاَنِ) أي على قسمين :

(رَجُلٌ عَالِمٌ آخِذٌ بِعِلْمِهِ) ؛ وذلك بترك اتّباع الهوى وترك طول الأمل .

(فَهذَا نَاجٍ ، وَعَالِمٌ تَارِكٌ لِعِلْمِهِ) أي تارك للعمل بعلمه في فرائض اللّه ، وذلك باتّباع الهوى وطول الأمل .

(فَهذَا هَالِكٌ ، وَإِنَّ أَهْلَ النَّارِ يَتَأَذَّوْنَ(2) مِنْ رِيحِ الْعَالِمِ التَّارِكِ لِعِلْمِهِ ، وَإِنَّ أَشَدَّ أَهْلِ النَّارِ نَدَامَةً وَحَسْرَةً رَجُلٌ دَعَا عَبْدا إِلَى اللّه ِ ، فَاسْتَجَابَ لَهُ وَقَبِلَ مِنْهُ ، فَأَطَاعَ اللّه َ ، فَأَدْخَلَهُ اللّه ُ الْجَنَّةَ ، وَأَدْخَلَ الدَّاعِيَ النَّارَ بِتَرْكِهِ عِلْمَهُ ، وَاتِّبَاعِهِ) ؛ بالجرّ معطوف على «تركه» عطف السبب على المسبّب .

ص: 375


1- الصحاح ، ج 5 ، ص 1851 ؛ لسان العرب ، ج 11 ، ص 710 ، وفي تاج العروس ، ج 15 ، ص 809 : «بنو هلال : حيّ من هوازن ، وهم بنو هلال بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن» .
2- في الكافي المطبوع وحاشية «ج» : «ليتأذّون» .

(الْهَوى) ؛ بفتح الهاء والقصر : هوى النفس ، أي اشتهاءها للملاذّ ؛ يُقال : هوى - كعلم - : إذا أحبّ .

ويحتمل أن يكون المراد بالهوى الرأي في المسائل والاجتهاد فيها وباتّباعه العمل بالرأي ، فإنّ ذلك ترك للعلم الحاصل عن المحكمات الناهية عن ذلك واستقلال بالرأي لإنكارها ، كما روي : «رُبّ عالمٍ قتله جهله وعلمه معه لا ينفع»(1) . بخلاف من أضعف رأي نفسه واتّهمه ، فصار ضعيفا عند نفسه بتسليم المحكمات والتزام سؤال أهل الذِّكر فيما لا يعلم ، فإنّه مرحوم ، وسيجيء في أوّل «كتاب فضل القرآن» : «رحم اللّه الضعفاء من شيعتنا أنّهم أهل تسليم» .

(وَطُولِ) ؛ بالجرّ معطوف على «اتّباع» .

(الاْءَمَلِ) - كجبل ونجم وشبر - : الرجاء ؛ من باب نصر .

ووصف الأمل بالطول وصفٌ له بحال متعلّقه ، والمراد أن يرجو البقاء الطويل في الدنيا ، ويرجو الأشغال الطويلة في أوقاتها .

(أَمَّا اتِّبَاعُ الْهَوى فَيَصُدُّ عَنِ الْحَقِّ) في العملي والعلمي ، وهو كحصول المانع عن العمل بالعلم ، وربّما أدّى إلى إنكار العلم أيضا .

(وَطُولُ الاْءَمَلِ يُنْسِي الاْآخِرَةَ) . هذا كعدم المقتضي للعمل بالعلم ، فإنّ تذكّر الآخرة يقتضي العمل بالعلم ، وترك هنا تكرار «إمّا» لظهور المراد ، كما في قوله تعالى : «فَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ»(2)آل عمران (3) : 7 .(3) ، مع قوله تعالى : «وَالرَّاسِخُونَ فِى الْعِلْمِ يَقُولُونَ» .(3)

الثاني : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَابِرٍ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : الْعِلْمُ مَقْرُونٌ إِلَى الْعَمَلِ) . المقرون بالقاف والمهملة، .

ص: 376


1- نهج البلاغة ، ص 487 ، الحكمة 107 ؛ خصائص الائمة للشريف الرضي ، ص 97 ؛ الإرشاد للمفيد ، ج 1 ، ص 247 .
2- آل عمران
3- : 7 .

من قرن يده بعنقه بِغلّ ، نظير قوله تعالى في سورة إبراهيم : «وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِى الاْءَصْفَادِ»(1) .

و«إلى» للانتهاء ، والمراد أنّ العلم ضائع غير مقبول عند اللّه إلى أن يعمل به ، كما مرّ في ثاني السادس .(2)

(فَمَنْ عَلِمَ عَمِلَ) . الفاء للتفريع ، والجملة خبرٌ اُريد به الأمر ؛ أي فمَن علم وجب عليه العمل به .

(وَمَنْ عَمِلَ عَلِمَ) . هذا أيضا خبر اُريد به الأمر ؛ أي من عمل بما علم فليطلب علم ما لم يعلم ، ويجوز أن يكون الأمر فيه للإباحة ، ويرجع إلى النهي عن طلب العلم قبل العمل بما علم سابقا ، كما يجيء في رابع الباب .

(وَالْعِلْمُ يَهْتِفُ بِالْعَمَلِ) . يُقال : هتف بزيد - كضرب - : إذا صاح به ودعاه . والباء في «بالعمل» كالباء في هتف زيد بيا اللّه ، فيجوز جرّ العمل بالباء ونصبه حكاية . والمراد أنّ العلم يدعو صاحبه إلى العمل به ، ويقول له : العمل ، أي أدرك العمل .

(فَإِنْ أَجَابَهُ) أي أجاب صاحب العلم العلم ؛ والجزاء محذوف ، أي بقي العلم ونفع . (وَإِلاَّ ارْتَحَلَ) أي العلم (عَنْهُ) : عن صاحب العلم - المفهوم من الكلام - بعروض نسيان أو بانتفاء النفع .

الثالث : (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الْقَاسَانِيِّ ) ؛ بالقاف والمهملة والنون . قيل(3) : وقاسان بلد بما وراء النهر ، وناحية بأصبهان ، غير قاشان المذكور مع قمّ .(4)

(عَمَّنْ ذَكَرَهُ ، عَنْ عَبْدِ اللّه ِ بْنِ الْقَاسِمِ الْجَعْفَرِيِّ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : إِنَّ الْعَالِمَ إِذَا لَمْ .

ص: 377


1- إبراهيم (14) : 49 .
2- أي الحديث 2 من باب صفة العلماء .
3- في حاشية «أ» : «في القاموس (منه دام ظله)» .
4- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 243 (قوس) .

يَعْمَلْ بِعِلْمِهِ ، زَلَّتْ مَوْعِظَتُهُ عَنِ الْقُلُوبِ كَمَا يَزِلُّ الْمَطَرُ عَنِ الصَّفَا) ؛ بفتح المهملة والقصر جمع «صفاة» وهي الصخرة الملساء .(1)

الرابع : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنِ الْمِنْقَرِيِّ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ هَاشِمِ بْنِ البُرَيْدِ)(2) ؛ بضمّ الموحّدة وفتح المهملة .

(عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلى عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ عليهماالسلام ، فَسَأَلَهُ عَنْ مَسَائِلَ) قبل وقت حاجتها أو وقت حاجتها (فَأَجَابَ ، ثُمَّ عَادَ لِيَسْأَلَ عَنْ مِثْلِهَا ) أي عن مسائل اُخرى قبل وقت حاجتها .

(فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ عليه السلام : مَكْتُوبٌ فِي الاْءِنْجِيلِ : لاَ تَطْلُبُوا عِلْمَ مَا لاَ تَعْلَمُونَ وَلَمَّا تَعْمَلُوا بِمَا عَلِمْتُمْ) . كأنّه عليه السلام علم منه أنّه لم يعمل بعلمه وقت الحاجة ، أو تجاوز في السؤال حدّ عمل نفسه ، وهو منهيّ عنه ، كما يجيء في خامس «باب الردّ إلى الكتاب والسنّة» .

أمّا قوله : (فَإِنَّ الْعِلْمَ إِذَا لَمْ يُعْمَلْ بِهِ ، لَمْ يَزْدَدْ صَاحِبُهُ إِلاَّ كُفْرا ، وَلَمْ يَزْدَدْ مِنَ اللّه ِ إِلاَّ بُعْدا) ؛ فيحتمل أن يكون من قول عليّ بن الحسين عليه السلام ، وأن يكون تتمّة المكتوب في الإنجيل .

إن قلت : يجب على المكلّف أمران : الأوّل : طلب العلم بما يحتاج إليه ممّا لم يتجاوز فيه حدّ نفسه . والثاني : العمل ، وتارك أحد الواجبين كيف يكون شرّا من تارك كليهما؟

قلت : الواجب الأوّل طلب العلم بقصد العمل لا مطلقا ، كما سيجيء في أوّل «باب المستأكل بعلمه» من ذمّ الحرص في طلب العلم ، فإن لم يكن في قصده حين طلب العلم العمل ، فذاك ؛ وإن كان حين طلب العلم في قصده العمل ثمّ تغيّر القصد ، فنقول : الترك الصادر عن العالم أشدّ تبعة من الترك الصادر عن الجاهل ، فيمكن أن يكون تفاوت الشدّة والضعف هنا أكثر من تفاوت العدد ، وذلك لتشديد الحجّة على العالم .

ص: 378


1- ترتيب كتاب العين ، ج 2 ، ص 998 (صفو) ؛ النهاية ، ج 3 ، ص 40 (صفا) .
2- في المطبوع : «البَرِيد» .

حتّى أنّه قد يكون العالم التارك للعمل كافرا ناصبا ، كما في اُصول الديانات ، بخلاف الجاهل ، فإنّه مستضعف ؛ وأيضا ترك العالم مظنّة الاستخفاف بالدِّين ، وهو كفر ، بخلاف ترك الجاهل .

ويتحصّل منه أنّ طلب العلم إذا صدر عن الذي لم يعمل في وقت الحاجة بما علم قَبْلُ ويظنّ بنفسه عدم العمل به أيضا كان قبيحا .

ويمكن أن يكون الكلام محمولاً على المجاز والمبالغة في وجوب العمل بالعلم ؛ واللّه العالم بحقائق الاُمور .

الخامس : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ ، عَنِ الْمُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : قُلْتُ لَهُ : بِمَ يُعْرَفُ) ؛ بصيغة المجهول من باب ضرب أو من باب التفعيل .

(النَّاجِي؟) أي من ينجو من عذاب النار يوم القيامة ولا يخلد فيها ، أو من لا يعذّب بها أصلاً . والمقصود بالسؤال الناجي من جملة من ينتسب إلى الشيعة الإماميّة ، أو من جملة اُمّة نبيّنا ، أي الذين يقولون ويشهدون أن لا إله إلاّ اللّه ، وأنّ محمّدا رسول اللّه ، فإنّهم تفرّقوا على ثلاث وسبعين فرقة ، إحداها ناجية ، والباقية هالكة ، كما في «كتاب الروضة» بعد حديث يأجوج ومأجوج ؛(1) أو من جملة أهل الكتاب ، ويجيء في «كتاب الإيمان والكفر» في «باب في علامة المعار» هكذا عن المفضّل الجعفي قال : قال أبو عبداللّه عليه السلام : «إنّ الحسرة والندامة والويل كلّه لمن لم ينتفع بما أبصره ، ولم يدر ما الأمر الذي هو عليه مقيم ، أنفع له أم ضرّ» . قلت : فبِمَ يُعرف الناجي من هؤلاء جُعلت فداك؟

قال : ... إلى آخره .(2)

المراد «بما أبصره» : ما رآه وعلمه في محكمات القرآن من الآيات البيّنات الناهية عن اتّباع الظنّ وعن الاختلاف بالظنّ ، والمراد بالأمر الذي هو عليه مقيم : اتّباع الظنّ .

ص: 379


1- الكافي ، ج 8 ، ص 224 ، ح 283 .
2- الحديث 1 من باب في علامة المعار .

والاختلاف بالظنّ ، و«هؤلاء» إشارة إلى المنتسبين إلى الإسلام .

(قَالَ : مَنْ كَانَ فِعْلُهُ) أي الأمر الذي هو عليه مقيم (لِقَوْلِهِ) أي لما اعترف بحقّيّته(1) من الآيات البيّنات المحكمات القرآنيّة (مُوَافِقا) بأن لا يخالفه أصلاً ، (فإنّما(2) لَهُ الشَّهَادَةُ) ؛ بفتح المعجمة ، من باب علم وحسن : الخبر القاطع ، ويجيء في «كتاب الإيمان والكفر» في «باب في علامة المعار» بدل هذا «فأتت له الشهادة بالنجاة» ، وفي نسخة «فأثبت» بدل «فأتت» .

وعلى كلّ تقدير المراد أنّه يجوز شهادتنا له بالنجاة ، دون من لم يكن فعله لقوله موافقا . وذلك لعلمنا بأنّه من المتّقين ، كما في آية سورة الزمر : «وَالَّذِى جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ»(3) بناءً على كون المراد بالمجيء بالصدق الاعتراف بالآيات البيّنات المحكمات الناهية عن اتّباع الظنّ والاختلاف عن ظنّ ، وكون المراد بالتصديق به العمل بما تدلّ عليه صريحا ، وهو إمامة الإمام العالم بكلّ مسألة من مسائل الدِّين بدون اتّباع ظنّ إلى انقراض التكليف .

ففي هذا الحديث تفسير لآية سورة الزمر بوجه لم يبلغه أذهان سائر المفسِّرين ، ويعلم به أنّ المتّقين هم الأخباريّون من الشيعة الإماميّة ؛ والحمد للّه .

(وَمَنْ لَمْ يَكُنْ فِعْلُهُ لِقَوْلِهِ مُوَافِقا ، فَإِنَّمَا ذلِكَ) ؛ الإشارة إلى «من» . (مُسْتَوْدَعٌ) ؛ بفتح الدال اسم مكان أو اسم مفعول ؛ أي موضع استيداع الإيمان لا استقراره ؛ أو من استُودع الإيمان(4) ، والمراد أنّه في خطر عظيم وإن عدَّ نفسه من الشيعة الإماميّة .

السادس : (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ ، عَنْ أَبِيهِ رَفَعَهُ ، قَالَ : قَالَ .

ص: 380


1- في «ج» : «بحقيقته» وفي «د» : «بحجية» .
2- في الكافي المطبوع : «فأثْبِتْ» بدل : «فإنما» .
3- الزمر (39) : 33 .
4- في «ج» : + «ولا ينافي هذا ما مضى في شرح خطبة الكتاب عند قوله : وفيهم جرى قوله تعالى : «فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ» لأنّ الاستيداع يتعدّى إلى مفعولين ، نحو : استودعك اللّه ، فكلّ منهما ، مستودع بفتح الدال» .

أَمِيرُ الْمُوءْمِنِينَ عليه السلام فِي كَلاَمٍ لَهُ خَطَبَ بِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ : أَيُّهَا النَّاسُ ، إِذَا عَلِمْتُمْ فَاعْمَلُوا بِمَا عَلِمْتُمْ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) أي تخرجون من الحيرة وتبصرون بعلمكم معلومكم ؛ شبّه العلم بالسراج إن استُعمل اهتدي به ، وإلاّ فلا .

(إِنَّ الْعَالِمَ) . استئنافٌ لبيان أنّه لا اهتداء بالعلم إلاّ إذا عمل به .

(الْعَامِلَ بِغَيْرِهِ) أي بغير العلم وهو الهوى وطول الأمل .

(كَالْجَاهِلِ الْحَائِرِ) في عدم الاهتداء .

(الَّذِي لاَ يَسْتَفِيقُ عَنْ جَهْلِهِ) . الاستفاقة استفعال من أفاق : إذا رجع إلى ما كان قد شغل عنه وعاد إلى نفسه ، ومنه استفاقة المريض والمجنون والمغشيّ عليه والنائم ، يُقال : استفاق من مرضه ومن سكره ، وتعديته ب- «عن» هنا لتضمين معنى الانفصال .

(بَلْ قَدْ رَأَيْتُ)(1) أي في كتاب اللّه تعالى . وفيه إشارة إلى أنّ هذا الاستنباط لا يتأتّى من الرعيّة(2) .

(أَنَّ الْحُجَّةَ) أي احتجاج اللّه ولومه (عَلَيْهِ) أي على هذا العالم . والظرف متعلّق بالحجّة (أَعْظَمُ) .

إن قلت : إذا كانت الحجّة على هذا العالم أعظم منها على الجاهل ، فما وجه تشبيهه بالجاهل ، مع أنّ المشبّه به يكون أقوى في وجه الشبه؟

قلت : الجاهل أقوى في عدم الانتفاع بعلم وأضعف من حيث ضرر عدم الانتفاع وهو الحجّة ، والتشبيه مبنيّ على الأوّل ، والترقّي مبنيّ على تقدير الثاني في الكلام ، فكأنّه قال : فكلاهما محجوج ، بل إلى آخره . .

ص: 381


1- في حاشية «أ» : «أي قد علمت علما قريبا من المعاينة أنّ الحجّة على هذا العالم أعظم من الحجّة على هذا الجاهل ، والظرف متعلق بالحجة ، والمتعلّق بأعظم محذوف اعتمادا على المذكور فيما يتلو هذه القرينة ، أو المذكور متعلّق بكلّ منهما ، وقوله : والحسرة أدوم على هذا العالم المنسلخ من علمه ، أي المشرف على الانسلاخ ، وقوله : على هذا العالم متعلقٌ بقوله : بأدوم ، والجملة معطوفة على قوله : بل رأيت ، أو على مدخول أن (ميرزا رفيعا)» .
2- في «د» : «للرعية» .

(وَالْحَسْرَةَ أَدْوَمُ) . عطفٌ على اسم «أنّ» وخبرها ، والتفاوت في الدوام باعتبار الابتداء ؛ لأنّ حسرة(1) العالم متّصل بموته ، وحسرة الجاهل بعد بعثه وحشره ، موافقا لما يجيء في «كتاب الجنائز» في «باب المسألة في القبر ومَن يُسأل ومَن لا يسأل» من قول أبي عبداللّه عليه السلام : «لا يسأل في القبر إلاّ من محض الإيمان محضا ، أو محض الكفر محضا ، والآخرون يلهون عنهم»(2) .

أو باعتبار الانتهاء بأن ينتهي أحدهما ولا ينتهي الآخر ، أو ينتهي بعد انتهاء الأوّل ، فإنّ الدوام لا يستلزم الأبديّة ، كما في سورة مريم : «وَأَوْصَانِى بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّا»(3) .

أو باعتبار الوسط بأن يكون في أحدهما طفرة ولا يكون في الآخر أويكون طفرته أقلّ من الأوّل .

(عَلى هذَا الْعَالِمِ الْمُنْسَلِخِ مِنْ عِلْمِهِ) . بدل عليه . (مِنْهَا) ؛ متعلّق بأعظم ، والضمير للحجّة .

(عَلى هذَا الْجَاهِلِ) . الظرف متعلّق بالضمير(4) في «منها» لرجوعه إلى الحجّة .

(الْمُتَحَيِّرِ فِي جَهْلِهِ) . مضى بيانه في رابع الباب ، ولا يخفى أنّ ترك ذكر «عليه» وبدله ونحو ذلك في قوله : «والحسرة أدوم» للاقتصار . وهنا احتمالات اُخرى غير ملائمة لذكر عليه .

(وَكِلاَهُمَا حَائِرٌ) أي غير مهتد (بَائِرٌ) أي هالك . .

ص: 382


1- في حاشية «أ» : «قوله : لأنّ حسرة ، إلى آخره ، ويمكن أن يكون لأنّه يغفر الجاهل سبعون ذنبا قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد ، كما يجيء في أول السادس عشر من هذا الكتاب (مهدي)» .
2- الحديث 1 من باب المسألة في القبر ومن يسأل ومن لا يسأل .
3- مريم (19) : 31 .
4- في حاشية «أ» : «قوله : الظرف متعلق بالضمير إلى آخره ، هذا مبني على جواز تعلّق الجار بضمير المصدر . قال صاحب المغني في مبحث الباء الزائدة وهو قول الفارسي والرماني أجازا : مروري يزيد حسن وهو بعمرو قبيح ، ومنع جمهور البصريين إعماله مطلقا ، وأجاز الكوفيّون إعماله في الظرف وغيره . انتهى (مهدي)» . اُنظر: مغني اللبيب ، ج 1 ، ص 144 .

(لاَ تَرْتَابُوا فَتَشُكُّوا) . استئنافٌ لسدّ طرق عذر العالم العامل بغيره . الارتياب : تتبّع ما هو مظنّة الريب أي الشكّ في المعلوم ممّن ليس قويّا على دفع الشكوك والمعارضات الوهميّة كتتبّع مذاهب صنفين(1) من الزنادقة الفلاسفة الدهريّة، القائلين بأنّه لا ربّ ولا جنّة ولا نار ، لتوهّمهم امتناع تخلّف المعلول عن العلّة التامّة .

ويجيء تفصيله في شرح أوّل أوّل «كتاب التوحيد»(2) ، وفي «كتاب الإيمان والكفر» في شرح حديث «باب وجوه الكفر» وهو السادس والستّون والمائة(3) .

ويناسبه ما يجيء في «كتاب التوحيد» في خامس «باب النهي عن الكلام في الكيفيّة» من قوله : «إيّاك والخصومات ، فإنّها تورث الشكّ» .

وما في آيتين من سورة المؤمن :

الأُولى : «وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِى شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللّه ُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللّه ُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ»(4) .

الثانية : «الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِى آيَاتِ اللّه ِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتا عِنْدَ اللّه ِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللّه ُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ»(5) .

من المحتمل أنّ المراد بالبيّنات البراهين العقليّة والنقليّة المفيدة للزوم إمام عالم بجميع مسائل الدِّين بدون اتّباع ظنّ في كلّ زمان إلى انقراض التكليف ، سواء كان نبيّا أم وصيّ نبيّ .

وتعدية الشكّ ب- «من» بتضمين معنى البعد . «ما جاءكم به» عبارة عن الآيات البيّنات ، والمراد بمرتاب : المجادل في الآيات البيّنات . «الذين» مبتدأ والجملة استئناف بياني . «بغير سلطان أتاهم» خبر المبتدأ ، والباء للمصاحبة ، و«غير» بمعنى ضدّ .

ص: 383


1- في «أ» : «الصنفين» .
2- الكافي ، ج 1 ، ص 72 ، كتاب التوحيد باب حدوث العالم وإثبات المحدث ، ح 1 .
3- الحديث 1 من باب وجوه الكفر .
4- غافر (40) : 34 .
5- غافر (40) : 35 .

وعبارة عن الطاغوت ، وهو إمام الضلالة التابع للظنّ . «سلطان أتاهم» عبارة عن الإمام العالم بجميع مسائل الدِّين بدون اتّباع ظنّ من عند اللّه ، المستتر في «كبر» ل- «غير» أو لمصدر «يجادلون» .

(وَلاَ تَشُكُّوا فَتَكْفُرُوا) . إشارةٌ إلى ما سيجيء في «باب دعائم الكفر وشعبه» من «كتاب الإيمان والكفر»(1) من أنّ الشكّ في الحقّ المعلوم من دعائم الكفر .

(وَلاَ تُرَخِّصُوا لاِءَنْفُسِكُمْ) . هذا سدّ طريق آخر للعالم العامل بغيره ، فإنّه ربّما أنكر علم نفسه بسبب عادته بالمخالفة ، كما في قوله تعالى : «ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوءَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللّه ِ»(2) ، على تقدير كون «أن كذّبوا» خبر «كان» أو اسمها .

والرخصة في الأمر خلاف التشديد فيه ؛ ورخّصت لزيد في كذا ترخيصا ، أي أعطيته الرخصة فترخّص هو فيه ؛ أي لم يستقص . والمراد النهي عن الترخيص لها في ترك شيء من العمل بالحقّ المعلوم .

(فَتُدْهِنُوا) . الدهن - كالنصر - والإدهان في الحقّ ترك المبالاة به شيئا فشيئا بحيث يؤدّي إلى الغشّ وإنكار الحقّ .

(وَلاَ تُدْهِنُوا فِي الْحَقِّ فَتَخْسَرُوا) . يُقال : خسر - كعلم - في البيع : إذا حصل له نقصان فيه . والمراد ذهاب الحقّ والهدى من يده بالكلّيّة وحصول الإدهان والضلالة في يده عوضه .

(وَإِنَّ مِنَ الْحَقِّ أَنْ تَفَقَّهُوا) الحقّ المعلوم ، كما في قوله تعالى في سورة النساء : «وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللّه ِ إِلاَّ الْحَقَّ»(3)الأعراف (7) : 169 .(4) ، وفي سورة الأعراف : «أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لاَ يَقُولُوا عَلَى اللّه ِ إِلاَّ الْحَقَّ»(4) ؛ وهنا عبارة عن الآيات البيّنات المحكمات الناهية عن اتّباع الظنّ وعن الاختلاف عن ظنّ . .

ص: 384


1- الحديث 1 من باب دعائم الكفر وشعبه .
2- الروم (30) : 10 .
3- النساء
4- : 171 .

و«أن» مفسّرة لتضمّن الحقّ معنى القول ، أو ناصبة ، وعلى الأوّل «تفقّهوا» بصيغة الأمر من باب التفعّل ، وهو إشارة إلى قوله تعالى في سورة التوبة : «فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِى الدِّينِ»(1) ، فإنّه من جملة تلك الآيات البيّنات المحكمات ؛ وعلى الثاني بصيغة المضارع من باب حسن أو من باب علم أو من باب التفعّل بحذف إحدى التاءين . ومضى بيان التفقّه والفقه في شرح سابع الثاني .(2)

(وَمِنَ الْفِقْهِ أَنْ لاَ تَغْتَرُّوا) . «أن» ناصبة أو مفسّرة ؛ لتضمّن الفقه أيضا معنى القول ، والاغترار : الالتفات إلى الدنيا التي هي متاع الغرور ، وإلى تلبيس إبليس بأنّ فلانا وفلانا وفلانا تمكّنوا من التصرّف في البلاد ، وتبعهم المنتسبون إلى العلم من أرباب العمائم ونحو ذلك . ومثل هذا لا يكون باطلاً ، وهذا إشارة إلى قوله تعالى في سورة لقمان : «وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللّه ِ الْغَرُورُ(3)»(4) ، وفي سورة آل عمران : «لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِى الْبِلاَدِ»(5) .

(وَإِنَّ أَنْصَحَكُمْ لِنَفْسِهِ) . النصيحة خلاف الغشّ ؛ أي أشفقكم على نفسه .

(أَطْوَعُكُمْ لِرَبِّهِ) باتّباع الآيات البيّنات المحكمات .

(وَأَغَشَّكُمْ لِنَفْسِهِ أَعْصَاكُمْ لِرَبِّهِ) ؛ فإنّ دائرة العصيان(6) لا ترجع إلاّ إلى نفسه .

(وَمَنْ يُطِعِ اللّه َ يَأْمَنْ وَيَسْتَبْشِرْ ، وَمَنْ يَعْصِ اللّه َ يَخِبْ) ؛ بكسر المعجمة بصيغة المضارع المعلوم من باب ضرب ، والخائب : المحروم ومَن لم ينل ما طلب .

(وَيَنْدَمْ) ؛ بفتح المهملة بصيغة المضارع المعلوم من باب علم ، والنَّدَم بفتحتين والندامة : الأسف . .

ص: 385


1- التوبة (9) : 122 .
2- أي الحديث 7 من باب فرض العلم ووجوب طلبه والحث عليه .
3- في «ج» : + «فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَوةُ الدُّنْيَا» .
4- لقمان (31) : 33 .
5- آل عمران (3) : 196 .
6- في حاشية «أ» : «قوله : فإنّ الدائرة إلى آخره ، لعلّ المراد بها العقوبة التي تدور مع العصيان نفيا وإثباتا ، فالإضافة بهذه المناسبة (مهدي)» .

السابع : (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَمَّنْ ذَكَرَهُ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ أَبِي لَيْلى) ؛ بفتح اللامين وسكون الخاتمة والقصر .

(عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عليه السلام يَقُولُ : إِذَا سَمِعْتُمُ الْعِلْمَ) . عبّر بالعلم عن الأحاديث المفضية بالتأمّل فيها إلى العلم .

(فَاسْتَعْمِلُوهُ) أي اعملوا به (وَلْتَتَّسِعْ قُلُوبُكُمْ) أي لا تستكثروا ما حصل لكم من العلم .

(فَإِنَّ الْعِلْمَ إِذَا كَثُرَ فِي قَلْبِ رَجُلٍ لاَ يَحْتَمِلُهُ) . صفة «رجل» والضمير للعلم باعتبار الكثرة .

(قَدَرَ الشَّيْطَانُ عَلَيْهِ) أي أوقعه في الإعجاب بنفسه فقدرَ على إيقاعه في كلّ مهلكة .

(فَإِذَا خَاصَمَكُمُ الشَّيْطَانُ) أي أراد أن يوقعكم في العُجب .

(فَأَقْبِلُوا) ؛ من الإقبال نقيض الإدبار .

(عَلَيْهِ بِمَا تَعْرِفُونَ ؛ فَ «إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفا») . اقتباس من سورة النساء .(1)

(فَقُلْتُ : وَمَا(2) الَّذِي نَعْرِفُهُ ؟ قَالَ : خَاصِمُوهُ بِمَا ظَهَرَ لَكُمْ مِنْ) . للتبعيض أو للتعليل أو للتبيين .

(قُدْرَةِ اللّه ِ عَزَّ وَجَلَّ) . كأنّه يريد النظر إلى صنع اللّه في نبيّه صلى الله عليه و آله وفي الأئمّة من أهل البيت عليهم السلام وإحاطتهم بجميع ما يحتاج إليه الاُمّة من الاُصول والفروع دقيقها وجليلها ، فإنّ الإنسان المُعجَب بنفسه في العلم إذا نظر إلى من فوقه في العلم قلَّ إعجابه ، فإذا نظر إلى آثار قدرة اللّه في المعصومين الحجج عليهم السلام حقّ النظر تضاءلَ غايةَ التضاؤل. .

ص: 386


1- النساء (4) : 76 .
2- في «ج» : «فما» .

باب المستأكل بعلمه والمباهي به

الباب الخامس عشر بَابُ الْمُسْتَأْكِلِ بِعِلْمِهِ وَالْمُبَاهِي بِهِ

فيه ستّة أحاديث .

روى ابن بابويه في معاني الأخبار عن حمزة بن حمران قال : سمعت أبا عبداللّه عليه السلام يقول : «مَن استأكل بعلمه افتقر» .

فقلت له : جُعلت فداك ، إنّ في شيعتك ومواليك قوما يتحمّلون علومكم ويبثّونها في شيعتكم ، فلا يعدمون على ذلك منهم البرّ والصلة والإكرام .

فقال عليه السلام : «ليس اُولئك بمستأكلين ، إنّما المستأكل بعلمه : الذي يفتي بغير علم ولا هدى من اللّه عزّ وجلّ ؛ ليبطل به الحقوق طمعا في حطام الدنيا»(1) انتهى .

«الحقوق» : محكمات القرآن الناهية عن اتّباع الظنّ .

إن قلت : ليس هذا عالما .

قلت : بل هو عالم بالرواية وبجواز العمل بدون فتوى وإن لم يكن عالما بالمرويّ ؛ لاحتمال التقيّة ونحو ذلك . والمباهاة : المفاخرة .

الأوّل : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ؛ وَعَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ أَبِيهِ جَمِيعا ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عِيسى ، عَنْ عُمَرَ بْنِ أُذَيْنَةَ ، عَنْ أَبَانِ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ ، عَنْ سُلَيْمِ بْنِ قَيْسٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ أَمِيرَ الْمُوءْمِنِينَ عليه السلام يَقُولُ : قَالَ رَسُولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله : مَنْهُومَانِ) . مبتدأ مع كونه

ص: 387


1- معاني الأخبار ، ص 181 ، باب معنى الاستئكال بالعلم، ح 1 .

نكرة ، يُقال : نهم - كعَلِمَ - وبصيغة المجهول نَهمَا محرّكةً : إذا أفرطت شهوته إلى الطعام ، ولم يمتل عن الأكل ، ولم يشبع ، فهو نَهِمٌ ونهيم ومنهوم .(1)

(لا يَشْبَعَانِ : طَالِبُ دُنْيَا) : هو الذي أكبر همّه الدنيا ، لا لأجل كفاية الحاجة ، بل للتوسّع في المال أو في الجمال أو نحو ذلك.

(وَطَالِبُ عِلْمٍ) : هو الذي أكبر همّه العلم لا للعمل ، بل للمباهاة أو للتوسّع فيه وجامعيّةِ أنواع العلوم وتسميته علاّمةً ، وهذا ذمّ لكلّ من النّهِم في الدنيا والنهِم في العلم بأنّ شيئا منهما لا يبلغ إلى حدّ يحصل به المطلوب ، وتطمئنّ به النفس مع إضراره بالآخرة ، كما مرّ في رابع «باب استعمال العلم» ، ولذا فرّع عليه قوله : (فَمَنِ) . هذا إلى آخره يمكن أن يكون من كلام أمير المؤمنين عليه السلام وأن يكون من كلام رسول اللّه صلى الله عليه و آله .

(اقْتَصَرَ مِنَ الدُّنْيَا عَلى مَا أَحَلَّ اللّه ُ لَهُ) . إشارةٌ إلى أنّ طالب الدنيا يكتسب ما لم يحلّ اللّه البتّة ، أو غالبا ، أو إلى أنّ ما اكتسب من المال بالنهم ليس بحلال من جهة النهم ، وإن كان حلالاً في حدّ نفسه . ويحتمل أن يُراد ما أحلّ اللّه له الاقتصار عليه ولم يوجب عليه كسب الزائد ؛ لوفائه بنفقة العيال .

(سَلِمَ) أي من عذاب الآخرة ، أو من الحساب ، أو من عذاب الدنيا للنهم فيها وأنواع التعب لتحصيلها وحفظها في كلّ وقت ، كما في قوله تعالى : «فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّه ُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ»(2) .

(وَمَنْ تَنَاوَلَهَا مِنْ غَيْرِ حِلِّهَا) ، كما هو شأن النهِم فيها .

(هَلَكَ إِلاَّ أَنْ يَتُوبَ) بالشروط المقرّرة ، منها ردّ حقّ صاحب الحقّ إليه إن تيسّر .

(أَوْ يُرَاجِعَ) ؛ بكسر الجيم ، مأخوذٌ من الرجع بالفتح، من باب ضرب ، وهو الردّ والمراجعة ، ردَّ الشريك شيئا عن تصرّف شريكه فيه حين القسمة .

وأصله أنّ المال إذا كان مشتركاً بين اثنين ، كان كلّ جزء منه في تصرّف كلّ واحد .

ص: 388


1- ترتيب كتاب العين ، ج 3 ، ص 1849 ؛ النهاية ، ج 5 ، ص 138 (نهم) .
2- التوبة (9) : 55 .

منهما(1) فإذا قُسّم واُقرع ردّ كلّ منهما بعضا مخصوصا عن تصرّف الآخر فيه .

والمراد هنا أنّه إذا لم يتب في الدنيا لم يخل حاله عن صورتين :

الاُولى : أن يحيط الحقّ بجميع حسناته ، وحينئذٍ لا مراجعة له وهو هالك ، موافقا لقوله تعالى في سورة البقرة : «بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ»(2) .

الثانية : أن لا يحيط ، وحينئذٍ يصيران شريكين في الحسنات ، ويراجع ببعض حسناته ، فليس بهالك من هذه الحيثيّة ، موافقا لما يجيء في «كتاب الإيمان والكفر» في أوّل «باب في أنّ الذنوب ثلاثة» من قول أمير المؤمنين عليه السلام : «وأمّا الذنب الذي لا يُغفر فمظالم العباد بعضهم لبعض» إلى قوله عليه السلام : «فيقتصّ للعباد بعضهم من بعض حتّى لا يبقى(3) لأحدٍ على أحدٍ مظلمة ، ثمّ يبعثهم للحساب» .

ويوافقه ما في نهج البلاغة في خطبة أوّلها : «انتفعوا ببيان اللّه» من قوله عليه السلام : «وأمّا الظلم الذي لا يُترك فظلم العباد بعضهم بعضا» .(4)

(وَمَنْ أَخَذَ الْعِلْمَ مِنْ أَهْلِهِ وَعَمِلَ بِعِلْمِهِ) . «من» للتبعيض أو للابتداء .

وعلى الأوّل الضمير للأخذ أو للعلم ، والمراد بأهله مَن يستحقّ أخذ العلم ، وهو الذي يأخذه للعمل والثواب الاُخروي ، وذكر «وعمل بعلمه» للاحتراز عمّن تغيّر قصده بعد الأخذ فلم يعمل به .

وعلى الثاني الضمير للعلم ، والمراد بأهله من قام البرهان النقلي أو العقلي على أنّه عالم ويجب سؤاله عن غير المعلوم ، وهو رسول اللّه وعترته عليهم السلام (5) كما يجيء في «كتاب الحجّة» في بعض أحاديث «باب ما نصّ اللّه عزّ وجلّ ورسوله على الأئمّة عليهم السلام واحدا فواحداً» . .

ص: 389


1- في «ج» : «منها» .
2- البقرة (2) : 81 .
3- في الكافي المطبوع : «تبقى» .
4- نهج البلاغة ، ص 255 ، الخطبة 176 .
5- في «ج» : + «ومن تبعهما» .

وذكر «من أهله» للاحتراز عمّن يكتفي بالعلم بضروريّات الدِّين ، وبما دلّت عليه الآيات البيّنات المحكمات القرآنيّة ، ويترك سؤال أهل الذِّكر عن المشكلات .

(نَجَا) من الهلكة في الآخرة ، أو من النهم في طلب العلم والتعب لتحصيله في كلّ وقت بدون ثواب اُخروي .

(وَمَنْ أَرَادَ بِهِ) أي بالأخذ أو بالعلم (الدُّنْيَا ، فَهِيَ) أي الدنيا (حَظُّهُ) أي نصيبه ، ليس له في الآخرة نصيب لأخذ العلم .

الثاني : (الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَامِرٍ ، عَنْ مُعَلَّى بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الْوَشَّاءِ ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَائِذٍ ، عَنْ أَبِي خَدِيجَةَ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : مَنْ أَرَادَ الْحَدِيثَ لِمَنْفَعَةِ الدُّنْيَا ، لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الاْآخِرَةِ نَصِيبٌ) أي لطلب الحديث .

(وَمَنْ أَرَادَ بِهِ خَيْرَ الاْآخِرَةِ ، أَعْطَاهُ اللّه ُ خَيْرَ الدُّنْيَا) أي يترتّب عليه وإن لم يقصده ، (وَالاْآخِرَةِ) .

الثالث : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ الاْءصْبَهَانِيِّ ، عَنِ الْمِنْقَرِيِّ ، عَنْ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : مَنْ أَرَادَ الْحَدِيثَ لِمَنْفَعَةِ الدُّنْيَا ، لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الاْآخِرَةِ نَصِيبٌ) أي لطلب الحديث .

الرابع : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ الْقَاسِمِ ، عَنِ الْمِنْقَرِيِّ ، عَنْ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : إِذَا رَأَيْتُمُ الْعَالِمَ مُحِبّا لِدُنْيَاهُ) ؛ مثل أن يُصبح ويُمسي والدنيا أكبر همّه ، كما يجيء في «كتاب الإيمان والكفر» في «باب حبّ الدُّنيا والحرص عليها» .

(فَاتَّهِمُوهُ) ؛ بشدّ المثنّاة فوقُ بصيغة الأمر من باب الافتعال ، وأصله «اوتهموه» قلبت الواو تاءً مثنّاةً فوقُ واُدغمت .

وقيل(1) : قُلبت الواو ياءً ؛ لانكسار ما قبلها ، ثمّ اُبدلت منها(2) التاء ، فاُدغمت في تاء .

ص: 390


1- القائل: هو الجوهرى في الصحاح (وكل) . كما في حاشية «أ» .
2- في «ج» : «منه» .

الافتعال ، ثمّ بنيت على هذا الإدغام أسماء من المثال ، وإن لم تكن فيها تلك العلّة توهّما أنّ التاء أصليّة ، لأنّ هذا الإدغام لا يجوز إظهاره بحال ، فمن تلك الأسماء «التهمة» بضمّ التاء وفتح الهاء وسكونها .(1)

ويجوز أن يكون بتخفيف التاء بصيغة الأمر من باب الإفعال ومعناهما واحد .

(عَلى دِينِكُمْ) . تقول : اتّهمت زيدا على كذا : إذا لم تأمنه عليه وأسأت ظنّك به فيه . واتّهمت زيدا بكذا : إذا نسبته إليه بالريبة .

(فَإِنَّ كُلَّ مُحِبٍّ لِشَيْءٍ يَحُوطُ مَا أَحَبَّ) ؛ من وضع الظاهر موضع الضمير ، أي يحوطه لحبّه إيّاه . ويحتمل كون «ما» مصدريّة زمانيّة والعائد حينئذٍ مقدّر ؛ أي يحوطه مدّة حبّه إيّاه ، وإن زال الحبّ زال الحوط . يقال : حاطه حَوطا وحياطة وحوّطه تحويطا : إذا حفظه وصانه وذَبَّ عنه وتوفّر على مصالحه .(2)

والمراد أنّه لا ينصحكم ، بل يراعي جانب دنياه لا جانب دينكم ، فلا تسألوه عن شيء من أحكام الدِّين ولا تعتمدوا على فتاواه ولا على قضاياه ، أو ولا على رواياته .

(وَقَالَ عليه السلام : أَوْحَى اللّه ُ(3) إِلى دَاوُدَ عليه السلام ) . استئنافٌ بياني لقوله : «إذا رأيتم» إلى آخره ، ويحتمل أن يكون حديثا آخر منفصلاً عن الأوّل ، فيكون ابتداء كلام في مجلس آخر ، وتكون أحاديث الباب سبعة .

(لاَ تَجْعَلْ بَيْنِي وَبَيْنَكَ عَالِما مَفْتُونا بِالدُّنْيَا) أي لا تصاحبه ولا تواخه فيّ ، ولا تستنصحه في دينك .

(فَيَصُدَّكَ عَنْ طَرِيقِ مَحَبَّتِي) بتزيين الدنيا إليك .

(فَإِنَّ أُولئِكَ) . الإشارةٌ إلى الجماعة ؛ لأنّ المراد بقوله : «عالما» الاستغراق ؛ لأنّه نكرة في سياق النهي ، وهو كالنفي ، فهو في معنى الجمع .

(قُطَّاعُ) ؛ بضمّ القاف وشدّ المهملة ، جمع «قاطع» . .

ص: 391


1- الصحاح ، ج 5 ، ص 1845 ؛ تاج العروس ، ج 15 ، ص 785 (وكل) .
2- الصحاح ، ج 3 ، ص 1121 ؛ النهاية ، ج 1 ، ص 461 (حوط) .
3- في الكافي المطبوع : + «عزّوجلّ» .

(طَرِيقِ عِبَادِيَ) أي إلى رضاي ومحبّتي ، أو إلى جنّتي . (الْمُرِيدِينَ) لما عندي من الثواب .

(إِنَّ أَدْنى) . يُقال : دنا - كنّصر - دنوّا ودناوة : إذا قرب . ودنا - كعلم - دنا ودناية : إذا ضعف(1) ؛ فالمعنى : أوّل أو أقلّ (مَا أَنَا صَانِعٌ بِهِمْ أَنْ أَنْزِ عَ) . يُقال : نزعه - كضربه - : إذا قلعه .

(حَلاَوَةَ) ؛ بفتح المهملة : نقيض المرارة .

(مُنَاجَاتِي) . النجو بالفتح : السرّ بين اثنين ، يُقال : ناجيته مناجاة ونجوته نجوا ، أي ساررته(2) . والمراد هنا الدعاء وعرض الحاجات والذِّكر .

(مِنْ قُلُوبِهِمْ) ؛ فهم في قيامهم إلى الصلاة ونحوها من الطاعات كسالى ، وفي نفس الطاعات غَفَلة غير مقبلين بقلوبهم على اللّه . وهذا جزاء دنيوي ويؤدّي إلى فوات كثير من ثواب الآخرة ؛ نعوذ باللّه منه .

الخامس : (عَلِيٌّ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ النَّوْفَلِيِّ ، عَنِ السَّكُونِيِّ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله : الْفُقَهَاءُ أُمَنَاءُ الرُّسُلِ) . المراد إمّا رسل اللّه وأنبياؤه ، فالمراد أنّه يأتمنهم الرسل على اُممهم ، وإمّا كلّ مَن أرسله أحدٌ إلى غيره ، فالمراد أنّهم اُمناء من جملة الرُّسل .

وفيه إشعار بعدم جواز حكمهم بالرأي .

(مَا لَمْ يَدْخُلُوا فِي الدُّنْيَا ، قِيلَ : يَا رَسُولَ اللّه ِ ، وَمَا) أي وأيّ شيء (دُخُولُهُمْ فِي الدُّنْيَا؟ قَالَ : اتِّبَاعُ السُّلْطَانِ) ، بشدّ التاء ، تقول : تبعته - كعلمته - واتّبعته على افتعلته : إذا مشيت خلفه أو مرَّ بك فمضيت معه . والمراد طلب قربه لنيل نوائله ، لا للتقيّة ودفع المحذورات .

(فَإِذَا فَعَلُوا ذلِكَ ، فَاحْذَرُوهُمْ عَلى دِينِكُمْ) أي لا تسألوهم عن شيء من مسائل دينكم ، ولا تعتمدوا على فتاواهم وقضاياهم في الدِّين . .

ص: 392


1- لسان العرب ، ج 14 ، ص 275 ؛ والقاموس المحيط ، ج 4 ، ص 329 (دنا) ؛ تاج العروس ، ج 19 ، ص 418 (دنو) .
2- الصحاح ، ج 6 ، ص 2503 ، لسان العرب ، ج 15 ، ص 308 (نجا) .

السادس : (مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ شَاذَانَ ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عِيسى ، عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ عَبْدِ اللّه ِ ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ، قَالَ : مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِيُبَاهِيَ) . المباهاة : المغالبة(1) في البهاء ، وهو الحُسن . والمراد به هنا العلم ، أي ليفاخر .

(بِهِ الْعُلَمَاءَ ، أَوْ يُمَارِيَ) أي يجادل . والمرية : الشكّ ، وذلك في الاستدلالات الظنّيّة على الأحكام الشرعيّة الفرعيّة الاجتهاديّة ، كما سطّر في كتب المخالفين أو في تقرير المغالطات المعضلة وجوابها لإظهار القوّة في فنّ الكلام .

(بِهِ السُّفَهَاءَ) : هم أهل الاجتهاد من المخالفين ، أو أهل مزاولة المغالطات ، فإنّه لا يتوجّه إلى مثل ذلك إلاّ سفيه .

(أَوْ يَصْرِفَ بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْهِ) بالإفتاء والقضاء الحقيقيّين في المسائل بالاجتهادات الظنّيّة ونحو ذلك .

(فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ) أي فليمهّد وليعيّن لنفسه محلاًّ في النار . يُقال : تبوّأ منزلاً ، أي اتّخذه .(2) والمراد أنّه يصير إلى النار البتّة .

(إِنَّ الرِّئَاسَةَ) أي كون الشخص ممّن ينصرف وجوه الناس بالإفتاء والقضاء الحقيقيّين إليه .

(لاَ تَصْلُحُ إِلاَّ لاِءَهْلِهَا) وهو العالم بالأحكام الشرعيّة لا عن اجتهاد ظنّي ، وهو النبيّ أو الوصيّ ، كما مرّ في شرح ثالث الثاني عشر (3). .

ص: 393


1- في «ج» : «المبالغة» .
2- لسان العرب ، ج 1 ، ص 38 (بوأ) .
3- أي الحديث 3 من باب النهي عن القول بغير علم .

باب لزوم الحجّة على العالم وتشديد الأمر عليه

الباب السادس عشر بَابُ لُزُومِ الْحُجَّةِ عَلَى الْعَالِمِ وَتَشْدِيدِ الاْءَمْرِ عَلَيْهِ

فيه أربعة أحاديث :

الأوّل : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هَاشِمٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنِ الْمِنْقَرِيِّ ، عَنْ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : قَالَ : يَا حَفْصُ ، يُغْفَرُ لِلْجَاهِلِ سَبْعُونَ ذَنْبا قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لِلْعَالِمِ ذَنْبٌ وَاحِدٌ) .

المراد بالجاهل من علم وجوب طلب العلم ، ولم يعمل بعلمه هذا ، ولم يتعلّم الأحكام ، ولم يتفقّه ، فترك الواجبات وارتكب المنهيّات لجهله بالأحكام .

والمراد بالعالم من تفقّه وعلم الأحكام ، ولم يعمل بعلمه هذا ، فترك الواجبات وارتكب المنهيّات مع علمه بالأحكام .

ولا شكّ أنّ من يعلم شيئا بخصوصه ولا يعمل به أشدُّ تبعةً فيه ممّن لا يعلمه ، فذنب الجاهل قويّ في ترك طلب العلم لأنّه عالم فيه ، وضعيف بالنسبة إلى العالم فيما بعده من الخصوصيّات ، بل ربّما يتوهّم أنّه لا ذنب له فيها ؛ لأنّه غير مطاق له . وظاهر هذا الحديث يدفعه ، ومرَّ نظير هذا المبحث في رابع «باب ثواب العالم والمتعلِّم» .

ويُحتمل أن يكون المراد بالعالم والجاهل العالم بحقيقة الوعيد في الذنب والجاهل بها ، أو العالم بالمحكمات الناهية عن اتّباع الظنّ والجاهل بها ، أو العالم بالحكم الواقعي والجاهل به مع علمه بالحكم الواصلي .

ويحتمل أن يُراد بالعالم من علم قدرا معتدّا به من الشرعيّات ، فيكون معدوداً من

ص: 394

العلماء في العرف ، وبالجاهل من ليس كذلك وإن كان عالما بخصوصيّة ما فعله أو تركه من المعصية . وظاهر هذا أنّ نسبة قبح ذنب الجاهل إلى قبح ذنب العالم نسبة الواحد إلى واحد وسبعين .

الثاني : (وَبِهذَا الاْءِسْنَادِ ، قَالَ : قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : قَالَ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ عليه السلام (1) : وَيْلٌ لِلْعُلَمَاءِ السُوءِ(2)) ؛ بضمّ المهملة : الآفة كالبرص .(3) والمراد هنا أنّهم آفة دين الناس بسبب حبّ الدنيا والحكم بالظنّ ونحو ذلك ؛ أو بفتح المهملة مصدر ساءه ، يسوؤه ، وبالضمّ الاسم منه ، والوصف بالمصدر للمبالغة ولم يجمع ؛ لأنّه مصدر لفظا أو معنىً .

(كَيْفَ) ؛ للتعجّب . (تَلَظّى عَلَيْهِمُ النَّارُ ؟!) . فعل ماض من باب التفعّل لتحقّق وقوعه ، أو مستقبل منه بحذف إحدى التاءين . وتلظّي النار : تَلَهُّبها واتّقادها .

الثالث : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ أَبِيهِ ؛ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ شَاذَانَ جَمِيعا ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ ، عَنْ جَمِيلِ بْنِ دَرَّاجٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام يَقُولُ : إِذَا بَلَغَتِ النَّفْسُ) ؛ بسكون الفاء ، أي الروح . وظاهره إبطال تجرّد النفس .

(هَاهُنَا - وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلى حَلْقِهِ - ) . ظاهره أنّ هذا معنى قوله تعالى : «ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ(4)»(5) .

(لَمْ يَكُنْ لِلْعَالِمِ) أي المرتكب للكبيرة مع علمه بأنّها كبيرة (تَوْبَةٌ) . مصدر تاب اللّه عليه : إذا رجع عليه بفضله ؛ لرجوعه عن المعصية . ويُقال : تاب إلى اللّه : إذا رجع عن المعصية . واللام للانتفاع ؛ أي لا يتوب اللّه عليه .

والمراد أنّه لم يبق له إلاّ احتمال المراجعة المذكورة في شرح أوّل السابق أو نحو ذلك . .

ص: 395


1- في الكافي المطبوع : «على نبينا وآله و عليه السلام» .
2- في الكافي المطبوع : «لعلماء السَّوء» .
3- ترتيب كتاب العين ، ج 1 ، ص 872 (سوء) .
4- في «ج ، د» : «من قريب» بدل : «تعالى : «ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ» .
5- النساء (4) : 17 .

(ثُمَّ قَرَأَ) ؛ استشهادا من سورة النساء : («إِنَّمَا) للحصر (التَّوْبَةُ) مبتدأ (عَلَى اللّه ِ) ، «على» للإضرار المجازي ، والظرف خبر ، أي ثقيلة على اللّه ؛ شبّه نفسه بمَن لا يحبّ أن يقبل التوبة ، ويقبلها في الجملة ؛ لضرورة دعاء العلم والحكمة إليه .

(لِلَّذِينَ) ؛ اللام للانتفاع ، والظرف متعلّق بالظرف السابق أو خبر ثان .

(يَعْمَلُونَ السُّوءَ) ؛ مصدر ساء يسوء من اللازم ، ومنه فعل الذمّ ، مثل : «سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ»(1) استعمل في محلّ السوء مبالغة ، فالمراد به الكبيرة ، وهي ما أوعد اللّه عليه نار جهنّم .

(بِجَهَالَةٍ»(2)) . الباء للملابسة ، والظرف لغو متعلّق ب- «يعملون» أو مستقرّ حال عن فاعل «يعملون» أو عن السوء ، أي مع جهله بكونه سوءا وعلمِه بكونه حراما .

وتتمّتها : «ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللّه ُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّه ُ عَلِيما حَكِيما» . «من» بمعنى «في» ، والقريب حالة الغرغرة ؛ فإنّها متّصلة بحالة لقاء اللّه ، والفاء للتفصيل وبيان أنّه تعالى يتوب على هذه الجماعة مع ثقله عليه ، بخلاف من تاب قبل ذلك ، فإنّه لا ثقل في قبول توبته على اللّه ، وبخلاف من لم يتب حينئذٍ أيضا ، أو تاب حينئذٍ وكان عالما . وذكر العلم والحكمة بيان لمنشأ القبول ، فإنّ العليم الحكيم لا يفعل إلاّ لمصلحة .

الرابع : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ ، عَنِ النَّضْرِ بْنِ سُوَيْدٍ) ؛ بضمّ المهملة . (عَنْ يَحْيَى الْحَلَبِيِّ ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْمُكَارِي) ؛ بضمّ الميم وتخفيف الكاف والألف وكسر المهملة وتخفيف الخاتمة .

(عَنْ أَبِي بَصِيرٍ : عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام فِي قَوْلِ اللّه ِ عَزَّوَجَلَّ) في سورة الشعراء : «فَكُبْكِبُوا) . يجيء توضيح هذه الآية في «كتاب الإيمان والكفر» في أوّل السابع عشر(3) ، يُقال : كبّه لوجهه من باب نصر ، أي صرعه . والكبكبة تكرير الكبّ ، جُعل التكرير في .

ص: 396


1- الأنعام (6) : 136 .
2- النساء (4) : 17 .
3- الحديث 1 من باب (بدون العنوان) .

اللفظ دليلاً على التكرير في المعنى ،(1) كأنّ مَن اُلقي في الجحيم ينكبّ مرّة بعد مرّة حتّى يستقرّ في قَعرها .

والضمير للذين عبدهم الغاوون من دون اللّه حيث اقتدوا بهم وجعلوهم رؤساء من دون توقيف من اللّه وإذن منه ، وسوّوهم بربّ العالمين حيث جعلوا حكمهم في الدِّين كحكم اللّه في وجوب اتّباعه ، وإن لم يأذن في الاتّباع من هو أقوى(2) وأعلى منهم .

(فِيها) : في الجحيم (هُمْ) ؛ تأكيدٌ لضمير كبكبوا . (وَالْغَاوُونَ»(3)) . الغيّ : الضلال والخيبة أيضا ، وهم الجهلة أتباع أئمّة(4) الضلالة .

(قَالَ : هُمْ) . الضمير للمعبودين ، والعابدين لهم بتقليدهم .

(قَوْمٌ وَصَفُوا عَدْلاً) . هو بالفتح : المتوسّط ين الإفراط والتفريط ، والمراد هنا الصدق المذكور في آية سورة الزمر : «وَالَّذِى جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ»(5) ، موافقا لآية سورة الأنعام : «وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقا وَعَدْلاً لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ»(6) ، وكلّ من العدل والصدق وكلمة «ربّك» عبارة عن الآيات البيّنات المخرجة من الظلمات إلى النور الناهية عن اتّباع الظنّ والاختلاف عن ظن ، فإنّها ميزان عدل في كلّ شريعة ؛ إذ كلّ حكم وعمل لم يوافقها كان فاسدا ، وكلّ حكم وعمل وافقها كان صحيحا ، كما في آية سورة النساء : «وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ»(7) .

(بِأَلْسِنَتِهِمْ) . نعتٌ لقوله : «عدلاً» وإشارة إلى أنّ مضمونه معلوم لهم بلا اشتباه .

(ثُمَّ) ؛ للتعجّب . (خَالَفُوهُ إِلى غَيْرِهِ) . تعدية المخالفة ب- «إلى» لتضمين معنى التوجّه ، .

ص: 397


1- تفسير الكشاف ، ج 3 ، ص 119 ؛ جوامع الجامع ، ج 2 ، ص 680 ؛ وحكاه المازندراني في شرح اصول الكافي ، ج 2 ، ص 169 ، عن القاضي .
2- في «ج» : «قوى» .
3- الشعراء (26) : 94 .
4- في «ج ، د» : «رؤساء» .
5- الزمر (39) : 33 .
6- الأنعام (6) : 115 .
7- النساء (4) : 58 .

والمراد بغيره ضدّه ، وهو تجويز الحكم والعمل بالاجتهاد الظنّي وتقليد المجتهد ، كما يجيء في أوّل «باب التقليد» وهو التاسع عشر .

ويستنبط من هذا تفسير لآية سورة الزمر : «وَالَّذِى جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ»(1) بوجه لم يبلغه أذهان سائر المفسّرين ، حيث تركوا سؤال أهل الذِّكر عليهم السلام فيما كانوا لا يعلمون ، ويعلم به أنّ المتّقين هم الأخباريّون من الشيعة الإماميّة . .

ص: 398


1- الزمر (39) : 33 .

باب النّوادر

الباب السابع عشر بَابُ النَّوَادِرِ

فيه خمسة عشر حديثا .

المراد بالنوادر أحاديث متفرّقة مناسبة للأبواب السابقة لا يجمعها باب وعنوان كما يجمع الأبواب السابقة .

الأوّل : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ ، عَنْ حَفْصِ بْنِ الْبَخْتَرِيِّ رَفَعَهُ ، قَالَ : كَانَ أَمِيرُ الْمُوءْمِنِينَ عليه السلام يَقُولُ : رَوِّحُوا) . أمرٌ من باب التفعيل من الراحة ، أي اجعلوها في راحة حتّى لا تكلّ أو بعد الكلال . ويمكن أن يكون من ترويح الدهن ، أي تطييبه .

(أَنْفُسَكُمْ) أي أرواحكم. (بِبَدِيعِ الْحِكْمَةِ) أي بالحديث الجديد المرويّ عن الحكماء ، وهم أئمّة الهدى عليهم السلام .

(فَإِنَّهَا تَكِلُّ كَمَا تَكِلُّ الاْءَبْدَانُ) ؛ من كَلَّ من المشي - كضرب - كلالاً وكلالةً ، أي أعيا .

الثاني : (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنْ نُوحِ بْنِ شُعَيْبٍ النَّيْسَابُورِيِّ ، عَنْ عُبَيْدِ اللّه ِ بْنِ عَبْدِ اللّه ِ الدِّهْقَانِ ، عَنْ دُرُسْتَ بْنِ أَبِي مَنْصُورٍ ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ أَخِي شُعَيْبٍ الْعَقَرْقُوفِيِّ ، عَنْ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام يَقُولُ : كَانَ أَمِيرُ الْمُوءْمِنِينَ عليه السلام يَقُولُ : يَا طَالِبَ الْعِلْمِ) أي العلم بالمحتاج إليه من مسائل الدِّين ، وذلك يختلف باختلاف أحوال الناس ، مثلاً مَنْ شغلهُ التجارة لا يحتاج إلى تعلّم مسائل المزارعة والمساقاة ، إنّما يحتاج إلى تعلّم مسائل شُغله .

ص: 399

(إِنَّ الْعِلْمَ ذُو فَضَائِلَ كَثِيرَةٍ) أي لا يصير مقبولاً عند اللّه وباعثا لنجاة صاحبه في الآخرة إلاّ إذا كان مع فضائل كثيرة لصاحبه ، بعضها بمنزلة الأعضاء أو الأحوال الداخلة ، وبعضها بمنزلة الآلات الخارجة .

(فَرَأْسُهُ التَّوَاضُعُ) أي الانقياد للحقّ المعلوم بالآيات البيّنات المحكمات الناهية عن اتّباع الظنّ ، وهو العمل بمقتضاها .

ومضى في ثاني عشر الأوّل : «يا هشام ، إنّ لقمان قال لابنه : تواضع للحقّ تكُن أعقل الناس» .(1)

(وَعَيْنُهُ الْبَرَاءَةُ مِنَ الْحَسَدِ) . الحسد : مدّ العين إلى نعمة الغير ، وهو منهيٌّ عنه في آية سورة النساء : «أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ اللّه ُ مِنْ فَضْلِهِ»(2)الفقيه ، ج 4 ، ص 380 ، ح 5814 ؛ المجازات النبوية ، ص 175 ، ح 136 .(3) ، وآية سورة الحجر وسورة طه : «لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجا مِنْهُمْ»(4) .

ويجيء في «كتاب الإيمان والكفر» في سادس «باب الحسد» : «لا تحسدَنّ الناس على ما آتيتهم من فضلي ، ولا تمدّنّ عينيك إلى ذلك» .

ووجه المناسبة أنّ منشأ الحسد حبّ الدنيا ومتاعها ، وهو يُعمي القلب عن الآخرة وثوابها ، وعن مضرّة الحرص في الدنيا والتصرّف في الحرام كما في الحديث : «حبّك للشيء يُعمي ويُصمّ» .(4)

(وَأُذُنُهُ الْفَهْمُ) ؛ بالفتح وبفتحتين : ضدّ الحمق ، كما مرّ في رابع عشر الأوّل .(5) ووجه المناسبة أنّ مدار حسن المعاشرة مع الناس على استماع النصائح من أهلها .

(وَلِسَانُهُ الصِّدْقُ) أي الاحتراز عن الكذب حين الكلام . ووجه المناسبة ظاهر .

(وَحِفْظُهُ الْفَحْصُ) . الحفظ بالكسر مصدر باب علم ، والإضافة إلى المفعول ، .

ص: 400


1- أى الحديث 12 من باب العقل والجهل .
2- النساء
3- : 54 .
4- الحجر (15) : 88 ؛ طه (20) : 131 .
5- أي الحديث 14 من باب العقل والجهل .

والفحص بفتح الفاء وسكون المهملة ومهملة مصدر باب منع : سؤال أهل الذِّكر عمّا لم يعلم من المحتاج إليه .

وهذا إشارة إلى أنّه قد يحدث الحاجة إلى مسألة ، وحينئذٍ يجب الفحص عنها لئلاّ ينتفي العلم بكلّ مسألة يحتاج إليه في الدِّين ، فإنّ انتفاء الجُزء يستلزم انتفاء الكلّ .

(وَقَلْبُهُ حُسْنُ النِّيَّةِ) أي أن ينوي العمل به لثواب الآخرة .

(وَعَقْلُهُ مَعْرِفَةُ الاْءَشْيَاءِ وَالاْءُمُورِ) . الفرق بين العلم والمعرفة أنّ العلم يتعلّق بالقواعد الكلّيّة التي تصلح لأن تكون كبرى للشكل الأوّل ، كالقواعد الفقهيّة ، نحو قولنا : كلّ وقت دلكت فيه الشمس وجبت فيه صلاة الزوال ، ونحو قولنا : كلّ من شجّ كذا وكذا فعليه دية كذا وكذا . وتسمّى نفس أحكام اللّه تعالى ، والمعرفة تتعلّق بقضايا تصلح لأن تكون صغريات لتلك الكبريات في الشكل الأوّل ، نحو : هذا وقت دلكت فيه الشمس ، ونحو قولنا : زيد شجّ كذا وكذا . وتسمّى محالّ أحكام اللّه تعالى .

وتحقيق تلك القضايا إمّا خارجة عن قدرة العباد كدلوك الشمس(1) ، وإمّا مقدورة لهم كمقادير الجنايات لتعيين الديات ، وتسمّى الاُولى أشياءً ، والثانية اُمورا .

(وَيَدُهُ الرَّحْمَةُ) أي التعطّف على الضعفاء بإيصال نعمه إليهم ، ويعبّر عنه بوضع اليد على رأس المُنعَم عليه ، كما مرَّ في الحادي والعشرين من الأوّل(2) ، ويُقال للنعمة : يد .(3)

(وَرِجْلُهُ زِيَارَةُ الْعُلَمَاءِ ) أي العالمين بجميع المحتاج إليه(4) ، أو بجميع ما يحتاجون(5) إليه من مسائل الدِّين .

(وَهِمَّتُهُ السَّلاَمَةُ) . الهمّة بكسر الهاء وتشديد الميم : القصد والضمير . والمراد أنّ .

ص: 401


1- في «أ» : + «لصلاة» .
2- أى الحديث 21 من باب العقل والجهل .
3- جوامع الجامع ، ج 2 ، ص 110 ؛ التفسير الأصفى ، ج 1 ، ص 484 ؛ تفسير الكشاف ، ج 2 ، ص 224 ؛ تفسير البيضاوي ، ج 3 ، ص 184 .
4- في حاشية «أ» : «أي ما يحتاج إليه العالم من مسائل دينه» .
5- في حاشية «أ» : «أي الناس» .

عمدة قصده السلامة من عذاب الآخرة ومن خزي الدنيا بعُلوّ الخصومات وارتكاب المجادلات مع السفهاء المنتسبين إلى طلب العلم .

(وَحَكَمَتُهُ الْوَرَعُ) . الحَكَمة بفتحتين : ما أحاط من اللِّجام بحنك الدابّة لمنعها عن الحركات الغير المرضيّة ، وهي حديدة ، وكانت العرب تتّخذها من القِدّ(1) ونحوه(2) ؛ استعيرت هنا لمانع العلم عمّا لا يليق . و«الورع» بفتحتين مصدر باب ورث : الاحتراز عمّا يضرّ بالآخرة ، كالتجاوز عن القدر المحتاج إليه المفضي إلى ترك العمل ، كما مضى في رابع الرابع عشر(3) من قوله عليه السلام : «لا تطلبوا علم ما لا تعلمون ولما تعملوا بما علمتم» ؛ وكالعُجب ، كما مضى في سابعه(4) من أنّ العلم إذا كثر في قلب رجل لا يحتمله قَدَرَ الشيطان عليه .

(وَمُسْتَقَرُّهُ النَّجَاةُ) . المستقرّ بفتح القاف اسم مكان ، والمراد هنا موضع اطمئنان العلم ، و«النجاة» بفتح النون والجيم مصدر(5) باب نصر : الخلاص ، وهي عبارة عن مذهب الفرقة الناجية ، وهو التصديق بوجوب إمام عالم بجميع ما يحتاج إليه الرعيّة في كلّ زمان إلى انقراض الدنيا ، وهو ذكر اللّه ، كما يجيء في أوّل «كتاب فضل القرآن» من قول أبي جعفر عليه السلام : «نحن ذكر اللّه» .

وهذا إشارة إلى قوله تعالى في سورة الرعد : «أَلاَ بِذِكْرِ اللّه ِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ»(6) ، وفي سورة الزمر : «تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللّه ِ»(7) .

والحاصل أنّه لولا هذا التصديق لاضطرب العلم بالآيات البيّنات المحكمات .

ص: 402


1- القد بالكسر : سير يقد من جلد غير مدبوغ . الصحاح ، ج 2 ، ص 522 (قدد) .
2- الصحاح ، ج 5 ، ص 1902 ؛ لسان العرب ، ج 12 ، ص 144 (حكم) .
3- أى الحديث 4 من باب استعمال العلم .
4- أي الحديث 7 من باب استعمال العلم .
5- في «أ» : + «من» .
6- الرعد (13) : 28 .
7- الزمر (39) : 23 .

الناهية عن اتّباع الظنّ ، وباضطرابه يضطرب العلم بالقدر المحتاج إليه من مسائل الدِّين .

(وَقَائِدُهُ الْعَافِيَةُ) . القَودُ : ضدّ السَوق ، فالقود من أمام ، والسوق من خلف . والمراد هنا ما يفضي بالعلم إلى استنباط النتائج منه . والعافية : البراءة من الأمراض القلبيّة المانعة عن الفكر الصحيح من حبّ الدنيا ونحوه ، كما في نهج البلاغة في وصيّته للحسن بن عليّ عليهماالسلام من قوله : «وابدأ قبل نظرك في ذلك بالاستعانة بإلهك ، والرغبة إليه في توفيقك ، وترك كلّ شائبة أولجَتْكَ(1) في شبهة ، أو أسلمتك إلى ضلالة ، فإذا أيقنت أن قد صفا قلبك فخشَعَ ، وتمّ رأيُك واجتمع(2) ، وكان همّك في ذلك همّا واحدا ، فانظر فيما فسّرت لك ، وإن أنت لم يجتمع لك ما تحبّ من نفسك وفراغ نظرك وفكرك ، فاعلم [أنّك(3)] إنّما تخبط العشواء(4) وتتورّط الظلماء» .(5)

(وَمَرْكَبُهُ الْوَفَاءُ) ، بالفتح والمدّ : ضدّ الغدر ، يُقال : وفى بعهده : إذا لم يخفر .(6) والمراد به هنا العمل بمقتضى شروط اللّه تعالى وعهوده ، كما في سورة الأعراف : «أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لاَ يَقُولُوا عَلَى اللّه ِ إِلاَّ الْحَقَّ»(7) ، ويجيء في «كتاب الحجّة» في سادس السابع : «لا يقبل اللّه إلاّ الوفاء بالشروط والعهود» .(8)

(وَسِلاحُهُ) ؛ بكسر المهملة : آلة الحرب أو حديدتها ، والمراد هنا حدّته ومضيّه .

(لِينُ الْكَلِمَةِ) ، فإنّه لا شيء أمضى لكلام العلماء من لين كلمتهم مع كلّ من الصديق الطالب للحقّ والعدوّ الطالب للمراء ، كما في قوله تعالى في سورة طه : «فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً .

ص: 403


1- الشائبة : ما يشوب الفكر من شك وحيرة ، وأو لجتك : أدخلتك .
2- في نهج البلاغة : «فاجتمع» .
3- ما بين المعقوفين من المصدر .
4- العشواء : الضعيفة البصر ، أي تخبط خبط الناقة العشواء لا تأمن أن تسقط فيما لا خلاص منه .
5- نهج البلاغة ، ج 3 ، ص 42 ، من وصية له لولدة الحسن عليهماالسلام .
6- في حاشية «أ» : «خفر به خفرا وخفودا : نقض عهده» .
7- الأعراف (7) : 169 .
8- أي الحديث 7 من باب معرفة الإمام والردّ إليه .

لَيِّنا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى»(1) .

(وَسَيْفُهُ) أي أهمّ سلاحه (الرِّضَا) ؛ بكسر الراء والقصر مصدر قولك : رضيت عنه ، والاسم منه «الرضاء» بالمدّ ، وهو ضدّ السخط . والمراد هنا عمدة أسباب لين الكلمة ، وهي(2) التصديق بأنّ كفر الكافر وعصيان العاصي كإيمان المؤمن وطاعة المطيع تحت ملكوت اللّه تعالى غير خارج عن قضائه الذي يجب الرضا به . ويجيء في «كتاب التوحيد» في شرح أوّل «باب العرش والكرسيّ» أنّ إبراهيم عليه السلام لانت كلمته باطّلاعه على ملكوت السماوات والأرض .

(وَقَوْسُهُ) أي الذي يدفع به شرّ العدوّ من بعيد (الْمُدَارَأَةُ)(3) ؛ بالهمز بعد الراء ، وقد تُقلب ألفا ، وهي المدافعة . والمراد هنا التغافل عن غيبة الأعداء وذمّهم من بعيد ، كما قال الشاعر :

ولقد أمرّ على اللّئيم يسبّني *** فمضيتُ ثمّة قلت : لا يعنيني(4)

(وَجَيْشُهُ مُحَاوَرَةُ الْعُلَمَاءِ) ؛ بالمهملة ، أي مجاوبتهم ومكالمتهم ، فإنّه يكثر بذلك العلمُ بالنتائج .

(وَمَالُهُ) ؛ بالألف اللينة بعد الميم وقبل اللام ، هو في الأصل ما يُملَك من الذهب والفضّة ، ثمّ اُطلق على كلّ ما يملك من الأعيان . وأكثر ما يُطلق المال عند العرب على الإبل ، لأنّها كانت أكثر أموالهم(5) . والمراد هنا ما به يبقى كتعيّش(6) الإنسان بالمال الضروري ، أو ما به يكتسب كما يكتسب ربح التاجر برأس مالٍ لولاه لما أمكنه الاكتساب .

(الاْءَدَبُ) ؛ بفتحتين من باب حَسُنَ : حُسْنُ التناول ، أي العمل بالعلم ، أو رعاية .

ص: 404


1- طه (20) : 44 .
2- في «ج» : «فهي» .
3- في الكافي المطبوع : «المداراة» بدون همزة ، وفي «ج» : «المرارة» .
4- الصحاح ، ج 5 ، ص 1882 ؛ شرح الرضي على الكافية ، ج 1 ، ص 239 ؛ و ج 2 ، ص 21 ؛ لسان العرب ، ج 12 ، ص 81 (ثمم) .
5- النهاية ، ج 4 ، ص 373 ؛ لسان العرب ، ج 11 ، ص 636 (مول) .
6- في «د» : «لتعيش» .

الآداب في التعلّم والتعليم وفي محاورات العلماء ، ونحو ذلك .

(وَذَخِيرَتُهُ اجْتِنَابُ الذُّنُوبِ) . الذخيرة : ما يدفنه الإنسان من النقدين ليوم شدّته ؛ شبّه الذنوب باعتبار اجتنابها بما يُدفَن تحت الأرض ليوم الحاجة ، مثل اجتناب الخمر ، فإنّه يُفضي إلى أنهار من خمر لذّةً للشاربين(1) في الجنّة .

(وَزَادُهُ) ؛ هو ما يتّخذه المسافر من حوائج سفره من الطعام ونحوه . (الْمَعْرُوفُ) ؛ هو ضدّ المنكر ، والمراد هنا ما هو مُنزل في كتاب كلّ شريعة من مضمون الآيات البيّنات المحكمات الناهية عن اتّباع الظنّ ، وعن الاختلاف عن ظنّ ؛ شبّه احتجاج العالم على المخالفين له في الدِّين بالسفر ، وشبّه أقوى ما يحتجّ به على الخصم وأقصره - وهو المعروف - بزاد السفر ، كما مرّ الإشارة إليه في العشرين من الأوّل(2) في قوله عليه السلام : «العقل تعرف به الصادق على اللّه فتصدّقه ، والكاذب على اللّه فتكذّبه» ، قال تعالى في سورة آل عمران : «قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّه َ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضا أَرْبَابا مِنْ دُونِ اللّه ِ»(3) ، ويجيء في أوّل التاسع عشر(4) تفسير قوله تعالى : «اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابا مِنْ دُونِ اللّه ِ»(5) .

(وَمَاؤُهُ)(6) . هو(7) في الأصل الذي يشرب ، وهمزته مبدلة من الهاء في موضع اللام ، وأصله «مَوَه» بالتحريك ، والمراد به هنا الرواء والجمال ، وفي نسخة «ومأواه» .

(الْمُوَادَعَةُ) أي المصالحة ، وحقيقتها المتاركة ؛ لأنّ كلّ واحد من المتصالحين يدع شيئا من دعواه ، والمراد هنا ترك إفراط الجدل . .

ص: 405


1- اقتباس من سورة محمّد (47) : 15 .
2- أى الحديث 20 من باب العقل والجهل . وفيه : «يعرف» بدل من : «تعرف» و «فيصدّقه» بدل : «فتصدّقه» و«فيكذّبه» بدل : «فتكذّبه» .
3- آل عمران (3) : 64 .
4- أى الحديث 1 من باب التقليد .
5- التوبة (9) : 31 .
6- في المطبوع : «ومأواه» .
7- في «ج» : - «هو» .

(وَدَلِيلُهُ الْهُدى) أي هدى اللّه ، وهو الإمام العالم بجميع ما يحتاج إليه الرعيّة ، كما في سورة البقرة : «إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِى الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللّه ُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ»(1)الزمر (39) : 23 .(2) ، على أن يكون «الهدى» معطوفا على «ما أنزلنا» ، وضمير «بيّنّاه» للهدى ، وكما في سورة الزمر : «ذَلِكَ هُدَى اللّه ِ يَهْدِى بِهِ مَنْ يَشَاءُ»(2) ، ونحوهما من الآيات .

(وَرَفِيقُهُ مَحَبَّةُ الاْءَخْيَارِ) أي الأتقياء ، فإنّ محبّتهم ترافقه وتجرُّهُ إلى العمل .

الثالث : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي نَصْرٍ) ؛ بفتح النون وسكون الصاد المهملة والراء المهملة .

(عَنْ حَمَّادِ بْنِ عُثْمَانَ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله : نِعْمَ وَزِيرُ الاْءِيمَانِ الْعِلْمُ) . الوزير : الموازر ، أي المعاون ؛ لأنّه يحمل عنه وزره أي ثقله .

والإيمان : التصديق بما جاء به النبيّ صلى الله عليه و آله أي الطوع له ، وهو فعل قلبي حاصل بعد العلم بأنّ ما جاء به النبيّ صلى الله عليه و آله حقّ ، وقد لا يحصل بعده فيصير صاحبه كافرا ، وقد يحصل بعده ضعيفا ، فإنّه قابل للقوّة والضعف .

والمراد بالعلم العلم بالقدر المحتاج إليه من مسائل الدِّين ، كما مرَّ في شرح السابق ، وذلك أنّ صبر فاقده عن شرك اتّباع الظنّ في نفس أحكامه(3) تعالى مشكل جدّا ، وليس المراد العلم بما يؤمن به فقط ، فإنّه شرط في الإيمان ، والمعاون لا يكون شرطا .

(وَنِعْمَ وَزِيرُ الْعِلْمِ الْحِلْمُ) ؛ بكسر المهملة : الأناة ، وهي ترك الانتقام . والمراد هنا المداراة المذكورة في السابق .

(وَنِعْمَ وَزِيرُ الْحِلْمِ الرِّفْقُّ) ؛ بكسر المهملة : ضدّ العنف ، وهو لين الكلمة المذكور في السابق . .

ص: 406


1- البقرة
2- : 159 .
3- في «د» : «أحكام اللّه» بدل : «أحكامه» .

(وَنِعْمَ وَزِيرُ الرِّفْقِ الْعِبْرَةُ) ؛ بكسر المهملة وسكون الموحّدة : الاسم من الاعتبار ، وهو التأمّل في سوء عاقبة ترك من ترك الرفق بالخُرق والعنف ليعلم أنّ عنفه أيضا مثل ذلك ، وأصله من العبور بمعنى الانتقال ؛ لانتقال فكره من حال عنف غيره إلى حال عنف نفسه .

الرابع : (عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ الاْءَشْعَرِيِّ ، عَنْ عَبْدِ اللّه ِ بْنِ مَيْمُونٍ الْقَدَّاحِ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، عَنْ آبَائِهِ عليهم السلام ، قَالَ) ؛ الضمير لأبي عبداللّه عليه السلام : (جَاءَ رَجُلٌ إِلى رَسُولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللّه ِ ، مَا الْعِلْمُ؟) أي ما الذي يجب رعايته على طالب العلم حتّى يحصل له العلم وينتفع به .

(قَالَ : الاْءِنْصَاتُ) ، هو السكوت للاستماع للحديث ، تقول : أنصتني زيد وأنصت لي زيد ، أي سكت لاستماع حديثي .

(قَالَ : ثُمَّ مَهْ؟) ؛ أصلها «ما» للاستفهام ، اُبدل الألف هاء السكت .

(قَالَ : الاِسْتِمَاعُ ، قَالَ : ثُمَّ مَهْ؟(1) قَالَ : الْحِفْظُ) في الخاطر أو في كتاب .

(قَالَ : ثُمَّ مَهْ؟ قَالَ : الْعَمَلُ بِهِ(2) ، قَالَ : ثُمَّ مَهْ يَا رَسُولَ اللّه ِ؟) . كأنّ زيادة ندائه صلى الله عليه و آله هنا دون سوابقه للإشارة إلى أنّه لم يبق إلاّ هذا السؤال . (قَالَ : نَشْرُهُ) .

الخامس : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، رَفَعَهُ إِلى أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : طَلَبَةُ العِلْمِ ثَلاثَةٌ) . وجه الحصر أنّ غرضه إمّا الظنّ بالأحكام الشرعيّة الحاصل بالاجتهاد باصطلاح المخالفين ، وإمّا غيره . والثاني : غرضه العلم بالأحكام الشرعيّة ، وهو إمّا للدنيا وإمّا للآخرة ، فاثنان من أهل الباطل وواحد من أهل الحقّ .

إن قلت : ينافي هذا ما مضى في سادس «باب المستأكل بعلمه والمباهي به» من قوله : «من طلب العلم ليُباهي به العلماء أو يُماري به السفهاء أو يصرف به وجوه الناس إليه ، فليتبوّأ مقعده من النار» . فإنّه تثليث لأهل الباطل . .

ص: 407


1- في «ج» : «ثم قال : مه؟» .
2- في «ج» : - «به» .

قلت : ما مضى تثليث قصد أهل الباطل ، وهذا تثنية القاصد منهم وتربيع قصدهم للإشعار بتلازم اثنين منها غالبا ، ولا تَنافي بينهما ؛ لتغاير مفهوم الأقسام في التقسيمين فنقول : مباهاة العلماء هو الاستطالة(1) ، ومماراة السفهاء هو المراء ، وصرف وجوه الناس إليه يشمل الجهل والختل .

(فَاعْرِفْهُمْ) . في نسخة «فاعرفوهم» .

(بِأَعْيَانِهِمْ) أي أنظارهم ، فإنّ نظر كلّ صنف إلى فائدة لطلب العلم غير ما إليه نظر الآخرين ، وهي فيما ذكره بقوله : «صنف» ، إلى قوله : «والعقل» .

(وَصِفَاتِهِمْ) أي لوازم أعيانهم وعلاماتهم التي يُعرف بها كلّ صنف من غيره ، وهو فيما ذكره بقوله : «فصاحب الجهل» إلى آخره .

(صِنْفٌ يَطْلُبُهُ لِلْجَهْلِ) . المراد بالجهل هنا الظنّ الحاصل بالاجتهاد المتعارف بين المخالفين للشيعة الإماميّة ، وهو ضدّ العلم .

(وَالْمِرَاءِ) أي الجدال لإظهار الغلبة . والمراد هنا احتجاجات مجتهدي المخالفين المختلفين بعضهم على بعض عن ظنّ ، كما سطّر في كتبهم الفرعيّة الاستدلاليّة .

(وَصِنْفٌ يَطْلُبُهُ لِلاِسْتِطَالَةِ) أي التفضّل والتفوّق .

(وَالْخَتْلِ) ؛ بفتح المعجمة وسكون المثنّاة فوقُ ، يقال : ختله - كنصر وضرب - وخاتله ، أي خدعه . والمراد خدعة أهل الدنيا من الأغنياء .

(وَصِنْفٌ يَطْلُبُهُ لِلْفِقْهِ وَالْعَقْلِ) . الفقه في الأصل الفهم ، أي الفطنة والذكاء ، تقول منه : فقه الرجل كعلم ثمّ نقل إلى العلم ، لأنّه يترتّب على الفطنة غالبا ، ثمّ خصّ عرفا بالقدر المحتاج إليه من علم الشريعة ، تقول منه : فقُه الرجل - كحَسُنَ - فَقاهة بفتح الفاء ، وهو المراد هنا . والمراد بالعقل العمل بمقتضى الفقه .

(فَصَاحِبُ الْجَهْلِ وَالْمِرَاءِ) أي مَن بلغ من الصنف الأوّل مقصوده .

(مُؤْذٍ) ؛ اسم فاعل من الإيذاء ، قال تعالى في سورة الأحزاب : «إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللّه َ .

ص: 408


1- في «ج» : «الاستطاعة» .

وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمْ اللّه ُ فِى الدُّنْيَا وَالاْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابا مُهِينا»(1) .

(مُمَارٍ ، مُتَعَرِّضٌ لِلْمَقَالِ فِي أَنْدِيَةِ) ؛ جمع نديّ - كرغيف وأرغفة - والنديّ والنادي والندوة والمنتدى : مجلس القوم ومتحدّثهم ، وقيل : جمع النادي أندية .(2) انتهى . ولعلّه على خلاف القياس ؛ لأنّ قياس أفعلة أن يكون مفردها على أربعة أحرف ثالثها مدّة .

(الرِّجَالِ) أي تلاميذه ونحوهم .

(بِتَذَاكُرِ الْعِلْمِ) ؛ بالموحّدة حرف جرّ ، والظرف متعلّق بمتعرّض أو بالمقال ، والتفاعل هنا للتكرار والمبالغة ، نحو : تبارك وتعالى ، وأصله أنّ الفعل الصادر عن اثنين فصاعدا نحو : تضاربا وتضاربوا يكون فيه مغالبة ومبالغة وتكرار غالبا . والمراد بالعلم الآيات البيّنات المحكمات الناهية عن اتّباع الظنّ وعن الاختلاف عن ظنّ ، كما في سورة آل عمران : «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللّه ِ الاْءِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْيا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّه ِ فَإِنَّ اللّه َ سَرِيعُ الْحِسَابِ»(3) .

(وَصِفَةِ الْحُلْمِ) . معطوفٌ على تذاكر ، والصفة مصدر قولك : وصفته : إذا مدحته ، كما في سورة النحل : «وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللّه ِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّه ِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ»(4) ، ويجيء بيانه في «كتاب الإيمان والكفر» في ثاني عشر «باب مجالسة أهل المعاصي» .

و«الحُلم» بالضمّ وبضمّتين : الفاسد ممّا يرى في النوم ، كما في آية سورة يوسف : «قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الاْءَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ»(5) ، وفي سورة الأنبياء : «بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ»(6) ، وفي سورة الطور : «أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاَمُهُمْ بِهَذَا»(7) . وتقسيم ما يرى في .

ص: 409


1- الأحزاب (33) : 57 .
2- المصباح المنير، ص 598 (ندا).
3- آل عمران (3) : 19 .
4- النحل (16) : 116 .
5- يوسف (12) : 44 .
6- الأنبياء (21) : 5 .
7- الطور (52) : 32 .

النوم إلى الفاسد وغير الفاسد مذكور في «كتاب الروضة» في ذيل حديث الرؤيا .(1)

شبّه تأويلات أهل الاجتهاد للآيات البيّنات المحكمات على هواهم بالخيالات الفاسدة ممّا يرى في النوم ، والمقصود أنّه يذكر واحدة واحدة من تلك الآيات ، ويؤوّلها(2) بخيالات فاسدة ، ويمدح تأويله السخيف مع علم قلبه بأنّه كذب ولهو ، وأنّه كفر بآيات اللّه لئلاّ ينسدّ عليه باب الإفتاء والقضاء ، قال تعالى في سورة الفرقان : «وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّا وَعُمْيَانا»(3) .

وكون الحلم بالكسر بمعنى الأناة والعقل لا يناسب هذا المقام .

(قَدْ تَسَرْبَلَ بِالْخُشُوعِ ) . السربال بكسر المهملة : القميص أو الدرع أو كلّ ما لُبِسَ ؛ يقال : تسربل به ، أي جعله سربالاً لنفسه(4) . والمراد أنّه في زيّ الخاشعين في اللِّباس والإتيان بالنوافل ونحو ذلك .

(وَتَخَلّى مِنَ الْوَرَعِ) أي لا ورع في قلبه ؛ لأنّه كفر بآيات اللّه .

(فَدَقَّ اللّه ُ مِنْ هذَا خَيْشُومَهُ ، وَقَطَعَ مِنْهُ حَيْزُومَهُ) . جملة خبريّة ، و«من» في الموضعين للتعليل ، أي من أجل مقاله المذكور . و«الخيشوم» بفتح المعجمة وسكون الخاتمة : أقصى الأنف.(5) والمراد هنا الدماغ .

و«قطع» بصيغة المعلوم من باب منع ، والضمير في «منه» لما اُشير إليه بهذا . و«الحيزوم» بفتح المهملة وسكون الخاتمة والزاي : الفرس الذي شدّ حزامه وتهيّأ للمعارك ، كما في «كتاب الروضة» بعد حديث الفقهاء والعلماء من حكاية قول جبرئيل عليه السلام أو الملائكة : «أقدِم حيزوم» .(6) استعير هنا للسان السليط . .

ص: 410


1- الكافي ، ج 8 ، ص 91 ، ح 62 .
2- في «ج» : «يؤلها» .
3- الفرقان (25) : 73 .
4- لسان العرب ، ج 11 ، ص 335 ؛ النهاية ، ج 2 ، ص 357 (سربل) ، المصباح المنير ، ص 272 (سرب) .
5- لسان العرب ، ج 12 ، ص 178 (خشم) ؛ المصباح المنير ، ص 170 (الخيشوم) .
6- الكافي ، ج 8 ، ص 321 ، ح 502 . وأراد بذلك : أقدم يا حيزوم ، فحذف حرف النداء ، وحيزوم اسم فرس جبرئيل عليه السلام .

وفي هذا الكلام إشارة إلى قوله تعالى في سورة الأنبياء : «لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوا لاَتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ * بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمْ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ»(1) .

(وَصَاحِبُ الاِسْتِطَالَةِ وَالْخَتْلِ ذُو خِبٍّ) ؛ بكسر المعجمة وشدّ الموحّدة : هيجان البحر(2) ، استُعير هنا للمباهاة وخشونة الكلام .

(وَمَلَقٍ) بفتحتين : الودّ واللطف وأن يعطي باللسان ما ليس في القلب .

(يَسْتَطِيلُ عَلى مِثْلِهِ مِنْ أَشْبَاهِهِ ، وَيَتَوَاضَعُ لِلاْءَغْنِيَاءِ مِنْ دُونِهِ) . استئناف لبيان موضع خبّه وملقه ، وأنّ خبّه عند العلماء وملقه عند الأغنياء . والمراد ب «مثله» المساوي له في مرتبة العلم تقريبا أو تحقيقا ، وب «أشباهه»(3) بفتح الهمزة: المشاركون له في الدِّين ، وهم الشيعة الإماميّة ، وبدونه المخالف له في الدِّين . و«من» في الموضعين تبعيضيّة .

(فَهُوَ لِحَلْوَائِهِمْ هَاضِمٌ) . الفاء للتفريع على التواضع . والحلواء بفتح المهملة وسكون اللام والمدّ(4) معروف ، واستُعير هنا للكلمات السخيفة التي يستحليها ويتفكّه(5) بها أكابر المخالفين في مجالسهم من صفة الحُلم والطعن على الشيعة الإماميّة . والمراد بهضمها التغافل بعد سماعها للطمع في أموالهم ، أو استُعير لعطاياهم تشبيها لهم بالأموات ولعطاياهم بحلواء الأموات .

(وَلِدِينِهِ حَاطِمٌ) . المراد بدينه بكسر المهملة : مذهب الشيعة الإماميّة ، والحطم : الكسر ؛ يعني أنّ هذا الرجل شين وعيب لدينه ؛ إذ يذهب إلى باب المخالف ويسمع الطعن على(6) أهل دينه ، فيتغافل للطمع . .

ص: 411


1- الأنبياء (21) : 17 - 18 .
2- العين ، ج 4 ، ص 145 ؛ الصحاح ، ج 1 ، ص 117 ؛ لسان العرب ، ج 1 ، ص 342 ؛ النهاية ، ج 2 ، ص 4 (خبب) .
3- في «د» : «بالأشباه» .
4- في «د» : «ومدّ» .
5- في «د» : «ويتفكر» .
6- في «ج» : «إلى» .

(فَأَعْمَى اللّه ُ) . يُقال : عَمِي عليه الخبر - كعلم - : إذا خفي عليه ، وأعماه : إذا أخفاه . والجملة خبريّة أو دعائيّة .

(عَلى هذَا) . «على بنائيّة» والإشارة إلى ما ذكر من صفته ، أو صلة أعمى ، والإشارة إلى الموصوف .

(خَبَرَهُ ؛ بفتح المعجمة والموحّدة : واحد الأخبار ، أو بكسر المعجمة وقد يضمّ وسكون الموحّدة : العلم بالشيء .

(وَقَطَعَ مِنْ آثَارِ الْعُلَمَاءِ أَثَرَهُ) . الأثر بفتحتين : ما بقي من رسم الشيء ؛ أي جعله اللّه بحيث لم يبق عنه أثر فيما بقي من آثار العلماء .

(وَصَاحِبُ الْفِقْهِ وَالْعَقْلِ ذُو كَآبَةٍ) ؛ بفتح الكاف والهمز والألف والموحّدة ، وقد يحذف الألف فيسكن الهمزة : سوء الحال والانكسار الظاهر في الوجه من الحزن ، والفعل - كعلم - .

(وَحَزَنٍ) في قلبه لخوف أهوال(1) يوم القيامة (وَسَهَرٍ) ؛ بالمهملة والهاء المفتوحتين من باب علم : ضدّ النوم في الليل .

(قَدْ تَحَنَّكَ فِي بُرْنُسِهِ) . استئنافٌ لبيان ما سبق . وهذا ناظر إلى الكآبة والحزن . والتحنّك بالمهملة والنون : إدارة العمامة من تحت الحنك .(2) استُعير هنا للسكوت في المجالس ، كما هو عادة أهل الكآبة والحزن ، ومنه : حنَّك السِنُّ فلانا تحنيكا : إذا أحكمته التجارب ، فعرف أنّه لو كان الكلام من فضّة فالسكوت من ذهب .

والبرنس - بضمّ الموحّدة وسكون المهملة وضمّ النون والمهملة - : ثوب الخشوع ، وهو ثوب غليظ يستحبّ لبسه في الصلاة ، كما يجيء في «كتاب الزيّ والتجمّل والمروءة» في رابع «باب لبس الصوف» وأوّل «باب القلانس» . وقيل : كلّ ثوب رأسه منه ملتزق به من دراعة أو جبّة أو مِمطَر أو غيره .(3) وقيل : هو قلنسوة طويلة .

ص: 412


1- في «ج» : «أحوال» .
2- لسان العرب ، ج 10 ، ص 417 (حنك) .
3- النهاية ، ج 1 ، ص 122 ؛ لسان العرب ، ج 6 ، ص 26 ؛ تاج العروس ، ج 8 ، ص 203 (برنس) .

كان يلبسها النسّاك في صدر الإسلام .(1) وهو من البِرس بكسر الموحّدة وسكون المهملة : القطن ، والنون زائدة(2) . وقيل : إنّه غير عربي(3) والضمير لصاحب .

(وَقَامَ اللَّيْلَ فِي حِنْدِسِهِ) . هذا ناظر إلى السهر ، والحندس بكسر المهملة وسكون النون وكسر الدال المهملة والسين المهملة : ظلمة الليل ، وقد يُطلق على الليل المظلم .(4) والضمير لليل أو لصاحب .

(يَعْمَلُ) أي للآخرة (وَيَخْشى) أي يخاف اللّه ويتّقي ، إشارة إلى قوله تعالى : «إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّه ُ مِنْ الْمُتَّقِينَ»(5) ، أو يخاف أن لا يقبل عمله .

(وَجِلاً) ؛ بفتح الواو وكسر الجيم ، مأخوذ من الوجل بفتح الجيم ، وهو اضطراب القلب من الخوف .(6)

(دَاعِيا) أي طالبا من اللّه ثوابه وقضاء حوائجه ، أو داعيا لغيره إلى مثل ما هو فيه بلسان الحال لا بحسب النطق والمقال ، فإنّ الناس إذا رأوا من أحد حسن عبادة مالوا إليه ، فكأنّ من أحسن عبادة اللّه يدعو الناس إلى ذلك .

(مُشْفِقا) ، مأخوذٌ من الشفق بفتحتين ، وهو الرديء . يُقال : ثوبٌ شفق ، أي رديء خَلِق .(7) والمراد هنا المنكسر الحال ، ويحتمل أن يكون بمعنى الشفيق ، من الشفق بمعنى حرص الناصح على إصلاح المنصوح ، وهو بلسان الحال لا بالمقال بقرينة قوله :

(مُقْبِلاً عَلى شَأْنِهِ ) أي على إصلاح نفسه ، لا يتوجّه إلى إصلاح الغير لفظا ؛ لعدم التأثير ، كما بدل عليه قوله :

(عَارِفاً بِأَهْلِ زَمَانِهِ) أي بحال أهل زمانه من أنّهم أهل باطل لا يؤثّر فيهم الكلام . .

ص: 413


1- الصحاح ، ج 3 ، ص 908 ؛ وحكاه عنه في النهاية ، ج 1 ، ص 122 (برنس) .
2- النهاية ، ج 1 ، ص 122 ؛ لسان العرب ، ج 6 ، ص 26 ؛ تاج العروس ، ج 8 ، ص 203 (برنس) .
3- حكاه في النهاية ، ج 1 ، ص 122 (برنس) بلفظ قيل .
4- العين ، ج 3 ، ص 332 ؛ النهاية ، ج 1 ، ص 387 (حندس) .
5- المائدة (5) : 27 .
6- العين ، ج 6 ، ص 182 ؛ الصحاح ، ج 5 ، ص 1840 (وجل) .
7- العين ، ج 5 ، ص 44 ؛ غريب الحديث للحربي ، ج 1 ، ص 26 ؛ الصحاح ، ج 4 ، ص 1502 (شفق) .

(مُسْتَوْحِشا مِنْ أَوْثَقِ إِخْوَانِهِ) أي شركائه في الدِّين . والمراد أنّه لا يُطْلِعه على سرّه الذي لو ذاع لضرّ ؛ لأنّه لا يناسب كمال التقيّة ، فلا ينافي هذا ما يجيء في «كتاب الإيمان والكفر» في سابع عشر «باب حسن الخلق» من قوله عليه السلام : «لا خير فيمن لا يألَف ولا يُؤلَف» .

(فَشَدَّ اللّه ُ مِنْ هذَا أَرْكَانَهُ) أي أحكم اُصول دينه ، فهو أثبت في دينه من الجبال الرواسي .

(وَأَعْطَاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمَانَهُ) . خبرٌ لتحقّق الوقوع ، أو دعاء .

(وَحَدَّثَنِي بِهِ مُحَمَّدُ بْنُ مَحْمُودٍ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ الْقَزْوِينِيُّ ، عَنْ عِدَّةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا مِنْهُمْ جَعْفَرُ بْنُ أحْمَد(1) الصَّيْقَلِ بِقَزْوِينَ) : متعلّق بصيقل ، وقيل : بقوله : «عن عدّة» . (عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عِيسَى الْعَلَوِيِّ ، عَنْ عَبَّادِ) ؛ بفتح المهملة وشدّ الموحّدة . (بْنِ صُهَيْبٍ) ، مصغّرا . (الْبَصْرِيِّ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ) .

السادس : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيى ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ زَيْدٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام يَقُولُ : إِنَّ رُوَاةَ الْكِتَابِ) أي القرآن (كَثِيرٌ ، وَإِنَّ رُعَاتَهُ قَلِيلٌ) . أخبر بالمفرد عن الجمع ؛ لأنّه متعدّد في المعنى .

والمقصود أنّ أكثر الاُمّة بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله نبذوا أحكام كتاب اللّه بوجهين ، كلّ منهما لترجيحهم أمرا آخر على حفظ أحكام الكتاب : الأوّل : أن أقاموا حروفه ، وحرّفوا حدوده ، فهم يروونه ولا يرعونه . والثاني : ما أشار إليه بقوله : (وَكَمْ) ؛ خبريّة بمعنى كثير ، وهي مرفوعة المحلّ بالابتداء .

(مِنْ مُسْتَنْصِحٍ لِلْحَدِيثِ) . اللام للعهد الذهني ، ويحتمل الجنس ، يقال : استنصحه : إذا عدّه نصيحا ، أي خالصا لا غشّ فيه .

(مُسْتَغِشٌّ) ؛ بالرفع ، خبر المبتدأ ، يُقال : استغشّه : إذا عدّه مغشوشا غير خالص .

(لِلْكِتَابِ) . بيان حال النواصب أو الحشويّة منهم ، فإنّهم على ما ذكره الشيخ المفيد .

ص: 414


1- في الكافي المطبوع : «محمّد» .

رحمه اللّه تعالى في كتاب الإفصاح(1) أربع طوائف : الحشويّة والمرجئة والمعتزلة والخوارج ، وقال فيه : الحشويّة أصحاب الحديث(2) ؛ يعني الأشاعرة ؛ لأنّهم أشدّ استنصاحا للحديث واستغشاشا للقرآن ، وهم يسمّون أنفسهم أهل السنّة إشارة إلى الاستنصاح . والحشو من الكلام : ما خرج من النظام . ويجيء بيان المرجئة وغيرهم في ثاني «باب التقليد» .

المقصود أنّ أكثر الاُمّة نبذوا أحكام الكتاب عمدا بعد رسول اللّه لأحاديثَ موضوعةٍ مكذوبةٍ على رسول اللّه صلى الله عليه و آله .

بيان نبذهم الكتاب : أنّهم نصبوا الذين لا يعلمون للإمامة ، فسنّوا للناس القول على اللّه بالاجتهاد والظنّ بغير علم ، وذلك لاستنصاحهم حديث معاذ في تصويبه عليه السلام قوله : أجتهد رأيي(3) . وحديث عمرو بن العاص في أجر المخطئ في الاجتهاد وأجرَيِ المُصيب(4) ، ونحو ذلك من أحاديثهم ، مع أنّ النهي عن القول على اللّه بغير علم معلوم لكلّ أحد من محكمات القرآن ، كما مرَّ بيانه في ثاني عشر «باب العقل» فمن استنصح أمثال هذه الأحاديث استغشّ محكمات القرآن .

(فَالْعُلَمَاءُ) . هذا إلى قوله : «حفظ الرواية» ناظر إلى قوله : «إنّ رواة» إلى قوله : «قليل» . والفاء للتعقيب ، فإنّ هذا لبيان اختلاف حال الخلف بعدما علموا حال السلف .

(يَحْزُنُهُمْ) ؛ بالمهملة والزاي والنون يمكن أن يكون من باب الإفعال ، وأن يكون من المجرّد ، يُقال : حزنه الشيء - كنصره وضربه - وأحزنه : إذا جعله في فكر ذلك الشيء ، وكان عمدةً عنده بالنسبة إلى غيره ، سواء كان مكروها عنده ، أم محبوبا يخاف فوته . .

ص: 415


1- في «د» وحاشية «أ» : «الإيضاح».
2- الإفصاح ، ص 226 .
3- مسند احمد ، ج 5 ، ص 230 ؛ سنن الدارمي ، ج 1 ، ص 60 ؛ الذريعة ، ج 2 ، ص 773 ؛ عدة الأصول ، ج 1 ، ص 356 .
4- حكاه الشافعي في الرسالة ، ص 494 ، باب الاجتهاد ؛ كتاب الاُمّ ، ج 6 ، ص 216 ، كتاب الاقضية ؛ و ج 7 ، ص 99 ، باب في اجتهاد الحاكم ؛ و ص 292 .

(تَرْكُ الرِّعَايَةِ) أي ترك أكثر الاُمّة رعاية الكتاب . والمقصود أنّ تركهم رعاية الكتاب هو العمدة في نظر العلماء وأكبر من حفظهم الرواية ، ولذلك يرفضهم العلماء . والأكبريّة هنا كما في قوله تعالى : «وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا» .(1)الكافي ، ج 8 ، ص 53 ، ح 16 .(2)

(وَالْجُهَّالُ يَحْزُنُهُمْ حِفْظُ الرِّوَايَةِ) أي حفظ أكثر الاُمّة رواية الكتاب . والمقصود أنّ حفظهم حروف الكتاب هو العمدة في نظر الجهّال وأكبر عندهم من تركهم الرعاية ، ولذلك يتبعهم الجهّال في نصبهم . وفي «كتاب الروضة» في رسالة أبي جعفر عليه السلام إلى سعد الخير هكذا : «وكلّ اُمّة قد رفع اللّه عنهم علم الكتاب حين نبذوه ، وولاّهم عدوّهم حين تولّوه ، وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه وحرّفوا حدوده ، فهم يروونه ولا يرعونه ، والجهّال يعجبهم حفظهم للرواية ، والعلماء يحزنهم تركهم للرعاية» الحديث(2) .

«كلّ» مبتدأ خبره جملة «قد رفع» ، والمقصود أنّ ما وقع في هذه الاُمّة من ضلال أكثرهم بترك وصيّ نبيّهم قد وقع في اُمّة آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى بعد أنبيائهم ، وضمير الجمع في «يعجبهم» للجهّال ، وفي «حفظهم» لاُمّة ، وفي «يحزنهم» للعلماء ، وفي تركهم لاُمّة ، وبعض الأصحاب(3) كتب فوق لفظة «ترك» في قوله : «ترك الرعاية» لفظة «كذا» ، ومقصوده أنّ الظاهر أن يُقال : فالعلماء يحزنهم الرعاية ، لتكون النسبة في الموضعين إلى المحبوب ، وفي الباب الآخر من كتاب السرائر لابن إدريس فيما استطرفه من كتاب اُنس العالم تصنيف الصفواني نقل هذه الرواية بتغيير عن طلحة بن زيد عن أبي عبداللّه عليه السلام وفيها : «العلماء تحزنهم الدراية ، والجهّال تحزنُهُم الرواية» .(4) .

ص: 416


1- البقرة
2- : 219 .
3- في حاشية «أ» : «وهو مولانا محمد أمين الاسترآبادي رحمه الله » .
4- مستطرفات السرائر ، ص 640 ؛ وفيه : «تحريهم» بدل «تحزنهم» . وفي هامش السرائر عن نسختين منه : «تجزيهم» .

(فَرَاعٍ) . هذا إلى آخره ، ناظر إلى قوله : «وكم من» إلى قوله : «للكتاب» ، لكنّ الفاء للتفريع على مجموع ما سبق ؛ لأنّ تحقّق القسم الأوّل - وهو راعي الحياة - لا يظهر إلاّ به .

(يَرْعى حَيَاتَهُ) أي حياة نفسه ، وهو راعي الكتاب المتمسّك بعُرى(1) الدِّين ، وهم الأئمّة من أهل البيت عليهم السلام .

(وَرَاعٍ يَرْعى هَلَكَتَهُ) ؛ بفتحتين ، أي هلاك نفسه ، وهو راعي الحديث المخالف للكتاب مع علمه بذلك لاتّباع الهوى والتلبيسات لكتمان ما أنزل اللّه .

(فَعِنْدَ ذلِكَ اخْتَلَفَ الرَّاعِيَانِ) . الفاء للتفريع ، والمشار إليه ما يفهم من قوله : «فراع» إلى آخره . وهو كونهما متعمّدين عالمَين ، فإنّه مع تصريح اللّه تعالى في محكمات كتابه على خلاف أحاديثهم ؛ أي لولا تمام الحجّة عليهم بالصدق والعدل لم يختلف الراعيان بأن يكون أحدهما من أهل الرحمة ، والآخَر من أهل الغضب .

وفي «كتاب الروضة» في رسالة أبي جعفر عليه السلام إلى سعد الخير قبل ما مرّ «إنّما غضبه على من لم يقبل منه رضاه ، وإنّما يمنع من لم يقبل منه عطاه ، وإنّما يضلّ من لم يقبل منه هداه ، ثمّ أمكن أهل السيّئات من التوبة بتبديل الحسنات دعا عباده في الكتاب إلى ذلك بصوتٍ رفيع لم ينقطع ، ولم يمنع دعاءً عباده ، فلعن اللّه الذين يكتمون ما أنزل اللّه ، وكتب على نفسه الرحمة ، فسبقت قبل الغضب ، فتمّت صدقا وعدلاً ، فليس يبتدئ العباد بالغضب قبل أن يغضبوه ، وذلك من علم اليقين وعلم التقوى» . ثمّ قال بعدما مرّ : «وكان من نبذهم الكتاب أن ولّوه الذين لا يعلمون ، فأوردوهم الهوى ، وأصدروهم إلى الردى ، وغيّروا عُرى الدِّين» الحديث(2) .

والمراد بالهوى ميل النفس إلى الدنيا وما يترتّب عليه من الاجتهاد في نفس أحكامه تعالى في الدِّين ، وبالردى العذاب أو العمل بالاجتهاد .

(وَتَغَايَرَ الْفَرِيقَانِ) أي فريق في الجنّة وفريق في السعير . .

ص: 417


1- جمع «عروة» .
2- الكافي ، ج 8 ، ص 52 ، ح 16 .

السابع : (الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الاْءَشْعَرِيُّ ، عَنْ مُعَلَّى بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُمْهُورٍ) ؛ بضمّ الجيم . (عَنْ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ أَبِي نَجْرَانَ ، عَمَّنْ ذَكَرَهُ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : مَنْ حَفِظَ مِنْ أَحَادِيثِنَا أَرْبَعِينَ حَدِيثا ، بَعَثَهُ اللّه ُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَالِما فَقِيها) . معنى حفظ الحديث أن يراعي شروط عمله به فيصير عالما ، ويعمل به فيصير فقيها ، والمراد بأحاديثنا الأحاديث المختصّة بأهل البيت عليهم السلام في المسائل المختلف فيها بين الاُمّة ، وذكر الأربعين مبنيّ على أنّ أكثر الناس لا يحتاجون إلى أكثر منها في المسائل المُختلَف فيها .

الثامن : (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَمَّنْ ذَكَرَهُ ، عَنْ زَيْدٍ الشَّحَّامِ) ؛ بفتح المعجمة وشدّ المهملة ، (عَنْ أَبِي عبداللّه عليه السلام (1) فِي قَوْلِ اللّه ِ تبارك وتعالى)(2) في سورة عبس :(«فَلْيَنْظُرِ الاْءِنْسَانُ إِلى طَعَامِهِ»(3) قَالَ : قُلْتُ : مَا طَعَامُهُ؟ قَالَ : عِلْمُهُ الَّذِي يَأْخُذُهُ ، عَمَّنْ يَأْخُذُهُ؟) .

المراد بالعلم الحديث ، و«من» استفهاميّة . ولعلّ المقصود أنّ من أحد بطونه أن يُراد بالطعام العلم ، لأنّه غذاء الروح ، كما أنّ الطعام غذاء البدن . ويُراد بالنظر إلى العلم تمييز من يصحّ أخذه عنه ممّن لا يصحّ ، ويجيء بيانه في عاشر الباب .

ويناسب هذه الإرادة أن يُراد بقوله : «ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ»(4) ثمّ خذله وختم على قلبه ، كقوله : «ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ»(5) ، وقوله في سورة فاطر : «وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِى الْقُبُورِ»(6) ، وبقوله : «ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ»(7) ، ثمّ إذا شاء أن يوفّقه وفّقه ، وبقوله : «كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ»(8) الردع عن توهّم حصول التوفيق للكفور أو لأكثر الناس ، وتعليله بأنّه لم .

ص: 418


1- في الكافي المطبوع : «أبي جعفر» .
2- في الكافي المطبوع : «عزّوجلّ» .
3- عبس (80) : 24 .
4- عبس (80) : 21 .
5- التين (95) : 5 .
6- فاطر (35) : 22 .
7- عبس (80) : 22 .
8- عبس (80) : 23 .

يقض بعدُ ما أمره اللّه به بناءً على أنّ من شروط الإتيان بالمأمور به إذا لم يكن مذكورا في المحكمات أن يكون علمه مأخوذا عمّن يصحّ الأخذ عنه من أهل الذِّكر عليهم السلام .

ويحتمل أن يكون العائد إلى «ما» الضمير المنصوب المذكور ، ويكون الضمير المرفوع المستتر في «أمر» راجعا إلى الإنسان ؛ أي ولم يقض بعد ما أمر غيرَه به ، بمعنى أنّه عالم بلا عمل أو بمعنى أنّه آمر بلا علم .

التاسع : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ النُّعْمَانِ ، عَنْ عَبْدِ اللّه ِ بْنِ مُسْكَانَ ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ فَرْقَدٍ ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الزُّهْرِيِّ) ؛ بضمّ الزاي وسكون الهاء المهملة .

(عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ، قَالَ : الْوُقُوفُ عِنْدَ الشُّبْهَةِ خَيْرٌ) أي أقلّ ضررا (مِنَ الاِقْتِحَامِ) ؛ هو الدخول في الشيء من غير تأمّل . (فِي الْهَلَكَةِ) ؛ بفتحتين ، أي ما يُفضي إلى الهلاك .

والمقصود بيان حظر الفتوى الحقيقي بدون علم بالحكم الواقعي ، وحظر العمل الذي يمكنه تركه بلا بدلٍ مثله بدون علم بالحكم الواصلي ، لكن بيّنهما بحيث يظهر به سرّ حظرهما ، وهو أنّ ما يحتمله الترك حينئذٍ من المفسدة أقلُّ بكثير ممّا يحتمله الفعل منها ، فإنّ غاية ما يتصوّر في الترك من المفسدة أن يكون التارك واقفا عن الإتيان بكلامٍ صادق أو بفعل جائز ، وما يحتمله الفعل من المفسدة أن يكون آتيا بكذب على اللّه أو بفعلٍ نهى اللّه عنه ، وكلّ منهما هَلكة إن كان مع الاقتحام .

ومعنى الاقتحام أنّه لا برهان عنده على جوازه الواصلي ، ولذا لا يمنع العمل بخبر الواحد ونحوه ، مع أنّ فيه احتمال الخطأ للحكم الواقعي ، وذلك لأنّ الحكم الواصلي فيه معلوم ، فليس من الشبهة .

(وَتَرْكُكَ حَدِيثا) . هذه الجملة للترقّي عن السابق .

(لَمْ تُرْوِهِ) ؛ بسكون المهملة وكسر الواو ، والضمير ، بصيغة المضارع المعلوم المخاطب من باب ضرب ، والجملة صفة «حديثا» ومفهومها إثبات ضبطه وإثبات العمل به ؛ أي ترك روايتك حديثا حفظته وعملت بمقتضاه .

ص: 419

(خَيْرٌ) ؛ أي أقلّ ضررا .

(مِنْ رِوَايَتِكَ حَدِيثا لَمْ تُحْصِهِ) ، بصيغة المضارع المعلوم المخاطب من باب الإفعال ، والجملة صفة حديثا ، والإحصاء : الضبط .

العاشر : (مُحَمَّدٌ ، عَنْ أَحْمَدَ ، عَنِ ابْنِ فَضَّالٍ ، عَنِ ابْنِ بُكَيْرٍ) ؛ بضمّ الموحّدة وفتح الكاف وسكون الخاتمة ومهملة . (عَنْ حَمْزَةَ بْنِ الطَّيَّارِ) ؛ بفتح المهملة وتشديد الخاتمة .

(أَنَّهُ عَرَضَ) ؛ بصيغة معلوم باب ضرب . (عَلى أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام بَعْضَ خُطَبِ أَبِيهِ ، حَتّى إِذَا بَلَغَ مَوْضِعا مِنْهَا) ؛ كأنّه كان في ذلك الموضع النهي عن القول على اللّه بغير علم وعن العمل بغير علم .

(قَالَ لَهُ : كُفَّ) ؛ بضمّ الكاف وتشديد الفاء المفتوحة أو المكسورة أو المضمومة ، أمر من باب نصر ، يقال : كففته عنه ، أي دفعته وصرفته فكفّ ، هو لازم و(1) متعدّ ، أي انصرف أو اصرِف نفسك عن العرض أو عن العمل بغير علم .

(وَاسْكُتْ) أي لا تتكلّم بشيء آخر أيضا للاستماع ، أو اسكت عمّا لا تعلم من القول على اللّه .

(ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : لا يَسَعُكُمْ) ؛ من باب علم ، والأصل : يوسَع ، والوسعة : ضدّ الضيق ، أي لا يجوز عليكم .

والمقصود بهذا الحديث بيان حظر الفتوى بسبب الاجتهاد وحظر العمل بالاجتهاد ، سواء كان العامل المجتهد نفسه أم مقلّدا له .

(فِيمَا يَنْزِلُ بِكُمْ) . «ما» عبارة عن الواقعة ، كميراث بين أخ وجدّ ، يُقال : نزله وبه وعليه - كضرب - أي حلّ .

والنزول بالمخاطبين هنا يتصوّر على وجهين : الأوّل : أن يكونوا في معرض .

ص: 420


1- في «أ ، د» : - «و» .

الفتوى به ، كأن يكونوا مسؤولين عنه . الثاني : أن يكونوا في معرض العمل به ، كأن يشتهوا قسمة الميراث بين الأخ والجدّ ، أو يشتهوا أكل نوع من السمك مع حضوره .

(مِمَّا لاَ تَعْلَمُونَ) أي ليس لكم علم بحكمه حقيقةً ، وهو ظاهر ؛ ولا حكما ، وهو أن يمكن أن يعلم حكمه بمحكم القرآن ونحوه ، كمحكم الحديث المتواتر عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وكذا إجماع الاُمّة ، سواء استقلّت العقول بالظنّ به ، كما هو مذهب أهل الاجتهاد في المسائل الفرعيّة الخلافيّة بينهم ، أم لم تستقلّ بالظنّ به أيضا ، كما هو مذهب من يقول(1) : إنّ ما يجد المجتهدون المختلفون في الفروع أنفسهم عليه اعتقادٌ مبتدأٌ ، لا ظنّ عن أمارة .(2) وسواء كان ما لا يعلمون من مسائل اُصول الدِّين ، أم من اُصول الفقه أم من الفروع الفقهيّة .

(إِلاَّ الْكَفُّ عَنْهُ) أي كفّ النفس عن الفتوى به وعن العمل مهما أمكن ، خوفا من الإفراط أو التفريط .

(وَالتَّثَبُّتُ) . يُقال : تثبّت في الأمر واستثبت فيه : إذا تأنّى ، أي والتأنّي والتأمّل فيه لطلب وجه الصواب فيه خوفا من أن يسأل عنه من لا يعلم ، فيزيد العمى ، وهو للتكلّف ، كأنّه طلب من نفسه الثبات فيه كما في «تحلّم» .

وفيه وفي لفظ «الكفّ» إشارة إلى أنّ النفس تنازع في مثله إلى القول بالاجتهاد والعمل على وفقه .

(وَالرَّدُّ إِلى أَئِمَّةِ الْهُدى) أي سؤالهم عنه ، ومنه تتبّع ما روي عنهم في زمن الغيبة بشروط معلومة ، بحيث يُفضي إلى العلم بالحكم الواقعي إن كان في معرض القول فيفتي به ، أو بالحكم الواصلي إن كان في معرض العمل فيعمل به .

وفيه دلالة على أنّ اجتهاد أحد ليس مجوّزا لفتواه ولا لقضاه ، ولا لعمله ، سواء كان فيما ليس عنده حديث من أهل الذِّكر فيه ، أم فيما فيه حديث منهم عنده ، لكن كان .

ص: 421


1- في حاشية «أ ، د» : «هو السيد المرتضى رحمه الله تعالى والشيخ الطوسي في تلخيص الشافي (منه)» .
2- الشافي في الإمامة ، ج 1 ، ص 171 .

الاجتهاد في ترجيح أحد المتعارضين منه ، أو في تأويل ظاهر منه ، أو في تخصيص عامّ منه ، أو في نحو ذلك .

(حَتّى) ؛ بمعنى «كي» التعليليّة ، كقوله : «وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ»(1)الصحاح ، ج 6 ، ص 2304 ؛ لسان العرب ، ج 14 ، ص 152 (جلا) .(2) . (يَحْمِلُوكُمْ) ؛ من باب ضرب ، يُقال : حمله على الأمر : إذا أغراه به .

(فِيهِ عَلَى الْقَصْدِ) ؛ بالفتح : استقامة الطريق والوسط بين الإفراط والتفريط في القول والفعل . وهو ناظر إلى قوله : «الكفّ عنه» .

(وَيَجْلُوا) ؛ بفتح ياء المضارعة وسكون الجيم وضمّ اللام ، وفيه ضمير الجمع الراجع إلى أئمّة الهدى ، يُقال : جلا الهمَّ عنه ، أي أذهبه .(2)

(عَنْكُمْ فِيهِ الْعَمى) ؛ بفتح المهملة ، أي الجهل بالكلّيّة . وهو ناظر إلى قوله : و«التثبّت» .

(وَيُعَرِّفُوكُمْ) ؛ من باب التفعيل ، أي يعلّموكم .

(فِيهِ الْحَقَّ) . هو ناظر إلى قوله : «والردّ إلى أئمّة الهدى» .

إن قلت : قد يكون جواب أئمّة الهدى مبنيّا على تقيّة ، أو على إرادة خلاف الظاهر بتأويل ، أو تخصيص غير معلوم لنا ، أو يكون فيه إجمال ، فلِمَ يحملونّا حينئذٍ على القصد ولم يجلو العمى ولم يعرّفونا الحقّ؟

قلت : عنه جوابان :

الأوّل : أنّه ليس في الحديث دلالة إلاّ على أنّ أئمّة الهدى يتأتّى منهم هذه(3) ؛ لعلمهم بجميع ما يسألون عنه من الشريعة حتّى ما لم يعلمه الرعيّة من جهة النبيّ ، ويجب الردّ إليهم فيه لطلب هذه ثمّ العمل بما قالوا ، فإن كان السائل من خواصّهم المنقطعين إليهم المزاولين لأحاديثهم حصل له هذه غالبا ، ولا سيّما في المشافهة ، وإن لم يحصل له .

ص: 422


1- البقرة
2- : 217 .
3- في حاشية «أ» : «أي هذه الثلاثة وهي الحمل والجلاء والتعريف» .

هذه فلا بأس عليه إذا فعل ما اُمر به من السؤال ، إنّما عليه حينئذٍ العمل بقولهم بدون إفتاء ولا قضاء حقيقيّين . وأمّا الإفتاء والقضاء الغير الحقيقيّين - وهما رواية الحديث عنهم ليعمل به في غير منازعة وفي منازعة - فجائزان له .

الثاني : أنّ جوابهم وإن كان تقيّة أو خلاف الظاهر أو مجملاً ، كان حاملاً على القصد حينئذٍ ، وجاليا للجهل بالكلّيّة ، ومعرِّفا للحقّ ، فإنّه يُعلَم به الحكم الواصلي ؛ إمّا معيّنا كما في الظاهر ، أو مخيّرا كما في المجمل ؛ إذ ليس على المكلّف في مثل هذا إلاّ سؤالهم والعمل بما قالوا ، وسيجيء في سابع «باب اختلاف الحديث» قوله : «من عرف أنّا لا نقول إلاّ حقّا ، فليكتف بما يعلمه(1) منّا» إلى آخره . مع شرحه .

إن قلت : الجواب الأوّل مبنيّ على جعل «حتّى» بمعنى «كي» ، والاستشهاد بالآية بدل على أنّها بمعنى «إلى» نحو قوله : «حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى»(2) ، فإنّ المعلّق على شرط - وهو هنا عدم العلم - يتكرّر بتكرّر الشرط ، ويدوم بدوامه .

قلت : زيادة «كنتم» في الشرط للدلالة على أنّ الشرط في معنى الماضي كقوله : «إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ»(3)هود (11) : 34 .(4) و«إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ»(5) ، و«إِنْ كَانَ اللّه ُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ»(5) ، وما ذكرتم على تقدير صحّته إنّما هو في الشرط المستقبل .

(قَالَ اللّه ُ تَعَالى) ؛ في سورة الأنبياء : («فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ»(6)) ؛ يعني أنّ المراد بأهل الذِّكر العلماء بجميع كتاب اللّه الذي هو تبيان كلّ شيء ، وهم أئمّة الهدى . ويجيء في «كتاب الحجّة» في «باب أنّ أهل الذِّكر الذين أمر اللّه الخلق بسؤالهم هم الأئمّة عليهم السلام » روايات في هذا المعنى :

منها : عن محمّد بن مسلم ، عن أبي جعفر عليه السلام قال : إنّ من عندنا يزعمون أنّ قول اللّه .

ص: 423


1- في الكافي المطبوع : «يعلم» بدل «يعلمه» .
2- طه (20): 91 .
3- المائدة
4- : 116 .
5- يوسف (12) : 26 .
6- الأنبياء (21) : 7 .

عزّ وجلّ : «فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ» أنّهم اليهود والنصارى ، قال : «إذا يدعونهم(1) إلى دينهم» ، ثمّ قال بيده إلى صدره : «نحنُ أهل الذِّكر ، ونحن المسؤولون»(2) .

ومنها : عن الفضيل عن أبي عبداللّه عليه السلام في قول اللّه تبارك وتعالى : «وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ»(3) قال : «الذِّكر القرآن ، ونحن قومه ، ونحن المسؤولون»(4) انتهى .

وتوضيحه مع قطع النظر عن الروايات أنّه تعالى قال في سورة النحل : «وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِى اللّه ِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِى الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلاَءَجْرُ الاْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِى إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ»(5) ، وفي سورة الأنبياء : «مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لاَهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ * قَالَ رَبِّى يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِى السَّمَاءِ وَالاْءَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلْ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الاْءَوَّلُونَ * مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ * وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِى إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ * وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدا لاَ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ»(6) .

وقال المخالفون(7) في قوله : «هَلْ هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ» كأنّهم استدلّوا بكونه بشرا على كذبه في ادّعاء الرسالة ؛ لاعتقادهم أنّ الرسول لا يكون إلاّ مَلَكا(8) ، وقالوا في قوله : «وَمَا .

ص: 424


1- في الكافي المطبوع : «يدعونكم» .
2- الحديث 7 من باب أنّ أهل الذكر الذين ... .
3- الزخرف (43) : 44 .
4- الحديث 5 من باب أنّ أهل الذكر الذين ... .
5- النحل (16) : 41 - 44 .
6- الأنبياء (21) : 2 - 8 .
7- في حاشية «أ ، ج» : «قاله الزمخشري والبيضاوي (منه دام ظله)» .
8- تفسير البيضاوي ، ج 4 ، ص 82 .

أَرْسَلْنَا» إنّه جواب لقولهم : «هَلْ هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ» يأمرهم أن يسألوا أهل الكتاب عن حال الرُّسل المتقدِّمة لتزول عنهم الشبهة ، والإحالة إليهم إمّا للإلزام ؛ فإنّ المشركين كانوا يشاورونهم في أمر النبيّ ويثقون بقولهم ، أو لأنّ إخبار الجمّ الغفير يوجب العلم ، وإن كانوا كفّارا .(1) انتهى .

ثمّ قالوا : إنّ الآية تدلّ على وجوب مراجعة المقلّدين إلى المجتهدين . انتهى .

وفيه : أنّهم لو كانوا استدلّوا بكونه بشرا لما قالوا : «كَمَا أُرْسِلَ الاْءَوَّلُونَ» إنّما استدلّوا بمجموع كونه بشرا مثلكم ، ومعنى المثليّة أنّه لا فضل له في كمالات البشر عليكم . فالحاصل أنّه لا فضل له عليكم أصلاً ؛ لأنّ التفاوت في الفضل إمّا من جهة الجنس بأن يكون مَلَكا مثلاً وهو بشر ، وإمّا من جهة كمالات الجنس وهو مثلكم ، وأيضا يكفي في ردّ السلب الكلّي الإيجاب الجزئي ، ومعلوم لكلّ من عرف أهل الكتاب بدون سؤالهم أنّهم يعتقدون رسالة رجلٍ : موسى أو عيسى .

ودعوى الذين ظلموا مكابرة لمعارضة المعجزات ، فلا حاجة إلى مقابلتهم بالدعوى ، بل يكفي المنع ، فالقول بأنّه دعوى للحصر في مقابلتهم موكّدا بهذا الدليل - وهو الاستناد إلى قول جمع أخبر(2) عنهم بأنّهم يحرّفون الكلم عن مواضعه ، ولم يعبّر عنهم في غير ما نحن فيه بأهل الذِّكر ، بل بأهل الكتاب - يحتاج إلى تكلّف .

وأيضا يصير قوله : «نُوحِى إِلَيْهِمْ» كاللغو ، وكذا الفاء ؛ لأنّ المقام مقام الاستئناف البياني ، وكون الفاء فصيحة في جزاء شرط محذوف ، كقوله : «فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ» بعيد ؛ لأنّه لا يذكر بعد الفصيحة شرط ، وقد ذكر هنا بقوله : «إِنْ كُنْتُمْ» .

وأيضا ظاهر السياق حينئذٍ أن يقول بدل «قبلك» : «قبله» أو بدل «فاسألوا» إلى آخره : «فليسأل» إلى آخره .

وأيضا أمر مكابرين بسؤال كافرين ليس إلاّ للتبكيت ، ولا يكون للتكليف حتّى يكون دليلاً للمخالفين على وجوب مراجعتهم إلى مجتهديهم . .

ص: 425


1- تفسير البيضاوي ، ج 4 ، ص 84 . وفي الكشاف ؛ ج 2 ، ص 562 بالمضمون .
2- في «أ» : «أخير» .

وأمّا قوله تعالى في سورة يونس : «فَإِنْ كُنْتَ فِى شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلْ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ»(1) ، فهو كقوله في سورة الزخرف : «وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا»(2) ، وليسا ممّا نحن فيه ، كما مرّ بيانهما في ثاني عشر «باب العقل» عند قوله : «يا هشام ما بعث اللّه أنبياءه ورسله [إلى عباده(3)] إلاّ ليعقلوا عن اللّه» .

والأقرب أنّ الآيتين السابقتين كاللاحقتين للنهي عن اتّباع الاجتهاد المتضمّن للقول على اللّه بغير علم ، بل بالظنّ والرأي ، وللعمل في الشرعيّات بالظنّ والرأي ، مع بيان أنّ هذا النهي ممّا جاء به كلّ رسول إلى اُمّته .

ويمكن تقريرهما حينئذٍ بوجهين :

الأوّل وهو الأنسب بقوله تعالى في سورة يوسف : «قُلْ هَذِهِ سَبِيلِى أَدْعُو إِلَى اللّه ِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِى وَسُبْحَانَ اللّه ِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ * وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِى إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى»(4) ، وبقوله تعالى في سورة الأنبياء : «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِى إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ»(5) أنّ المراد برجالاً : كاملين في الرجوليّة ، وبقوله : «نوحي إليهم» : نَقِفُهُم في دقيق الأحكام وجليلها على الوحي لا نرخّص لهم في الاعتماد على الرأي أصلاً ، مع كمال عقلهم وذكائهم ، وكونهم من أهل القرى ، وهم أعلم وأبصر من أهل البوادي ، فحاصله : لو جوّزنا الدعاء إلى اللّه على غير بصيرة وعلم ، بل على الاعتماد على الرأي في نفس الأحكام لأحدٍ ، لكان تلك الرسل أولى به ؛ لقربهم إلى اللّه ، وكون رأيهم أقرب إلى الصواب لكمالهم في أنفسهم ، ولكن لم نجوّز لهم ؛ لكونه إشراكا كإشراك الذين اتّخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون اللّه . وقوله «فاسألوا» تفريع عليه وخطاب لاُمّة رسولنا صلى الله عليه و آله . .

ص: 426


1- يونس (10) : 94 .
2- الزخرف (43) : 45 .
3- مابين المعقوفين من المصدر .
4- يوسف (12) : 108 - 109 .
5- الأنبياء (21) : 25 .

الثاني : أنّ المراد بقوله : «إِلاَّ رِجَالاً» بيان أنّ كلّ رسول كان ممّن يحتاج إلى أكل الطعام ويمرض ويموت ، ولم يكن خالدا ما بقي دينه ؛ ردّا لقولهم المحكيّ بقوله تعالى في سورة النحل : «وَأَقْسَمُوا بِاللّه ِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللّه ُ مَنْ يَمُوتُ»(1) أي حيث لا يبعث رسول آخر بعده ، وقولُه : «نوحي» استئناف بياني ، كأنّ سائلاً يقول : فَاِلامَ يصير تكليف اُمّته بعد مماته وقبل نسخ دينه ؟

ويحتمل كونه صفة «رجالاً» ، والفاء للعطف على محذوف ، أو مقدّر ، وهي تحت الوحي ، فكأنّه قال : نوحي إليهم أن خذوا معالم دينكم عن رسولكم، أي في حياته «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ»(2) أي بعد مماته ؛ والذكر : الحفظ للشيء ، وهو ضدّ النسيان . والمراد بالذِّكر هنا وسيلة العلم بجميع أحكام اللّه تعالى كالنبيّ وكالقرآن ، موافقا لآية سورة الطلاق : «قَدْ أَنزَلَ اللّه ُ إِلَيْكُمْ ذِكْرا * رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللّه ِ مُبَيِّنَاتٍ»(3) ، وآية سورة الزخرف : «وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ»(4) ، باعتبار أنّه محفوظ عند من هو ذكرٌ له دون غيره .

والمراد بالبيّنات : الواضحات ، وهي المقدّمات البديهيّة بالنسبة إلى ذهن كلّ عاقل مكلّف ، وبالزبر : الآيات من كتاب اللّه اللاتي لا نحتاج في العلم بمعناهنّ إلى أمرٍ خارج ، وهنّ المحكمات .

وقوله : «فاسألوا» و«لا تعلمون» لهما مفعول مقدّر ، أي فاسألوهم كلّ شيء إن لم تعلموه . ويؤيّده قوله في هذا الحديث : «فيما ينزل بكم ممّا لا تعلمون» .

ويحتمل أن يكونا جاريين مجرى اللازم ، أي كونوا مقلّدي أهل الذِّكر إن لم تكونوا من أهل الذِّكر . والظرف على الأوّل متعلّق ب «تعلمون» ، وعلى الثاني متعلّق ب «فاسألوا» ، وزيادة «كنتم» في الشرط - مع أنّه يكفي أن يُقال : إن لم تعلموا - تدلّ مع المضارع ، على .

ص: 427


1- النحل (16) : 38 .
2- الأنبياء (21) : 7 .
3- الطلاق (65) : 10 - 11 .
4- الزخرف (43) : 44 .

أنّ الشرط استمرار الجهل في الزمان الماضي ، وهو قبل زمان السؤال المكلّف به ورسوخه ، وإلاّ لما أمر بالسؤال ، فقوله : «بالبيّنات والزبر» متعلّق بتعلمون تأكيدا لما يفهم من «كنتم» ، ولذا حذف في سورة الأنبياء .

الحادي عشر : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنِ الْمِنْقَرِيِّ ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ ، قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام يَقُولُ : وَجَدْتُ عِلْمَ النَّاسِ) أي ما ينفع الناس من العلم إذا جروا على مقتضاه .

(كُلَّهُ فِي أَرْبَعٍ :) أي منحصرا في أربع كلمات :

(أَوَّلُهَا :) أي أوّل الكلمات . وتذكير المضاف وإفراد المضاف إليه باعتبار الخبر .

(أَنْ تَعْرِفَ رَبَّكَ) أي بصفات ذاته وصفات فعله ، ويجيء في «كتاب الجهاد» في «باب الدُّعاء إلى الإسلام قبل القتال» : «أنّ معرفة اللّه عزّ وجلّ أن يعرف بالوحدانيّة والرأفة والرحمة والعزّة والعلم والقدرة والعلوّ على كلّ شيء ، وأنّه النافع الضارّ القاهر لكلّ شيء الذي لا تدركه الأبصار ، وهو يُدرك الأبصار ، وهو اللطيف الخبير ، وأنّ محمّدا عبده ورسوله ، وأنّ ما جاء به هو الحقّ من عند اللّه عزّ وجلّ ، وما سواه هو الباطل» .(1) الحديث .

(وَالثَّانِي : أَنْ تَعْرِفَ مَا صَنَعَ بِكَ) . «ما» موصولة أو موصوفة ، ويحتمل كونها استفهاميّة نائبة مناب مفعول «تعرف» ، وليست مفعوله لفظا ؛ لأنّ الاستفهام له صدر الكلام ؛ أي لا يعمل فيه ما قبله ، ولذا تُعلَّق به أفعال القلوب ، نحو : «لِنَعْلَمَ أَىُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى»(2) ، والتعليق باصطلاح النحاة إبطال العمل لفظا لا محلاًّ .(3)

والمراد بما صنع بك : كونك من الرعيّة والمحتاجين إلى السؤال ، لا من الأئمّة أهل الذِّكر عليهم السلام . ويحتمل أن يكون المراد النِّعم الظاهرة والباطنة التي تُوجب استحقاق .

ص: 428


1- الحديث 1 من باب الدعاء إلى الإسلام قبل القتال .
2- الكهف (18) : 12 .
3- شرح الرضي على الكافية ، ج 4 ، ص 155 ؛ خزانة الأدب ، ج 9 ، ص 141 .

العبادة والشكر . ويحتمل معاني اُخرى .

(وَالثَّالِثُ : أَنْ تَعْرِفَ مَا أَرَادَ مِنْكَ) . الإرادة هنا بمعنى الطلب ؛ أي ما أمرك به ، نحو سؤال أهل الذِّكر فيما لا تعلم ، والتسليم لهم في أحكامهم .

(وَالرَّابِعُ : أَنْ تَعْرِفَ مَا يُخْرِجُكَ مِنْ دِينِكَ) أي ما إذا ارتكبته خرجت من دينك كالإصرار على الكبيرة ، وكشِرك اتّباع أهل الرأي وأئمّة الجور والتسليم لهم في أحكامهم .

الثاني عشر : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ ، عَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ ، قَالَ : قُلْتُ لاِءَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : مَا حَقُّ اللّه ِ عَلى خَلْقِهِ؟ قَالَ(1) : أَنْ يَقُولُوا مَا يَعْلَمُونَ ، وَيَكُفُّوا عَمَّا لاَ يَعْلَمُونَ) . ظاهر ممّا مرَّ في شرح سابع الثاني عشر .(2)

(فَإِذَا فَعَلُوا ذلِكَ فَقَدْ أَدَّوْا إِلَى اللّه ِ حَقَّهُ) فإنّ ذلك يفضي إلى اتّباعهم لأئمّة الهدى في الأحكام ، وهو مشتمل على جميع حقوق اللّه .

الثالث عشر : (مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ ، عَنِ محمّد(3) ابْنِ سِنَانٍ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَرْوَانَ الْعِجْلِيِّ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حَنْظَلَةَ) ؛ بفتح المهملة وسكون النون وفتح المعجمة .

(قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام يَقُولُ : اعْرِفُوا مَنَازِلَ النَّاسِ) أي درجاتهم في العلم ليُعرف من يجوز الاستفتاء منه والتحاكم إليه عمّن لا يجوز . (عَلى قَدْرِ رِوَايَتِهِمْ(4) عَنَّا) أي مَن كان أحفظ لجانب الرواية عنّا فيما يسأل عنه أولى بأن يُتَّبَع .

وتوضيح هذا بخمس مقدّمات :

الاُولى : أنّ جمعا من ثقات أصحاب الأئمّة عليهم السلام اختلفوا في الفتيا ، كما وقع بين محمّد بن أبي عمير وبين أبي مالك الحضرمي وهشام بن الحكم ، ويجيء في «كتاب .

ص: 429


1- في الكافي المطبوع : «فقال» .
2- أي الحديث 7 من باب النهي عن القول بغير علم .
3- في الكافي المطبوع : - «محمد» .
4- في حاشية «أ ، ج ، د» : «رواياتهم» .

الحجّة» في تاسع «باب أنّ الأرض كلّها للإمام عليه السلام » وكما وقع بين الفضل(1) بن شاذان ويونس بن عبد الرحمان ، ويجيء في «كتاب المواريث» في «باب أنّ ميراث أهل الملل بينهم على كتاب اللّه وسنّة نبيّه صلى الله عليه و آله » .

الثانية : أنّه لا يمكن أن يكون الحكمان المتنافيان عن علم ، فأحدهما أو كلاهما عن ظنّ ، بناءً على أنّ الجزم المنقسم إلى الجهل المركّب والتقليد نوع من الظنّ القويّ ، كما تقرّر في محلّه .

الثالثة : أنّ الفتيا عن ظنّ قسمان ؛ أوّلهما أن يعلم المفتي أنّه عن ظنّ ومبنيّ على تذاكر العلم وصفة الحلم ، وهو افتراء الكذب على اللّه ، كما مرّ في خامس الباب .

وثانيهما : أن لا يعلم أنّه عن الظنّ ، بل اشتبه عنده بالعلم ، فإنّ الفرق بين الظنّ القويّ والعلم ليس بضروريّ ، والقسم الثاني لا يوجب تفسيق صاحبه . ويجيء توضيح ذلك في «كتاب الإيمان والكفر» في شرح ثاني عشر «باب مجالسة أهل المعاصي» .

الرابعة : أنّ الاختلاف بين ثقات أصحاب الأئمّة ومَن لا يجوز تفسيقه من الإماميّة من القسم الثاني ، لا من القسم الأوّل ، كما زعمه الشيخ الطوسي رحمه اللّه تعالى في عدّة الاُصول في فصل في ذكر خبر الواحد وجملة من القول في أحكامه .(2)

الخامسة : أنّ المستفتي(3) والمتحاكمين يحتاجون إلى معرفة قاعدة كلّيّة للتمييز بين من يجوز اتّباعه ومَن لا يجوز من المختلفين في الفتيا والقضاء ، وهذا الحديث لبيانها . ونظيره ما يجيء في ثاني عشر «باب اختلاف الحديث» .

الرابع عشر : (الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زَكَرِيَّا الْغَلاَبِيِّ) ؛ بفتح المعجمة وتخفيف اللام والموحّدة ، وغلاب - كقطام - اسم امرأة ، وبنو غلاب قبيلة بالبصرة من بني نصر بن معاوية .(4) (عَنِ ابْنِ عَائِشَةَ البِصْرِيِّ) ؛ بكسر الموحّدة . .

ص: 430


1- في «ج» : «فضل» .
2- عدة الاُصول ، ج 1 ، ص 286 ، وفي طبعة اُخرى ، ج 1 ، ص 97 .
3- في «ج» : «المستفتين» .
4- تاج العروس ، ج 2 ، ص 293 (غلب) .

(رَفَعَهُ : أَنَّ أَمِيرَ الْمُوءْمِنِينَ عليه السلام قَالَ فِي بَعْضِ خُطَبِهِ : أَيُّهَا النَّاسُ ، اعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ بِعَاقِلٍ مَنِ انْزَعَجَ) . يُقال : أزعجه ، أي أقلقه وقلعه من مكانه فانزعج(1) ، ويكون للمكروه وللمحبوب .

(مِنْ قَوْلِ الزُّورِ فِيهِ) ، بضمّ الزاي وسكون الواو ومهملة : الكذب ، سواء كان ذمّا أم(2) مدحا ، والمراد هنا الذمّ . ووجه منافاته للعقل أنّ الزور قد قيل في اللّه وفي رسله ، كما في سورة المائدة : «وَقَالَتْ الْيَهُودُ يَدُ اللّه ِ مَغْلُولَةٌ»(3)فاطر (35) : 4 .(4) ، وفيها : «لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللّه َ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ»(5) ، وكما في سورة فاطر : «وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ»(5) ، فالانزعاج به نوع من التكبّر .

(وَلاَ بِحَكِيمٍ مَنْ رَضِيَ بِثَنَاءِ الْجَاهِلِ عَلَيْهِ) . الحكمة : العقل والفهم ، كما مضى في ثاني عشر الأوّل .(6) والرِّضا ضدّ السخط ، والثناء بفتح المثلّثة والمدّ : المدح أو المدح المتكرّر . والمراد هنا ما يطابق الواقع من الثناء ، والمراد بالجاهل من ليس بعاقل كالمخالفين للشيعة الإماميّة .

وفيه دلالة على أنّ الرضا بثناء الجاهل لا ينافي العقل ، إنّما ينافي كمال العقل ، وذلك لأنّه مظنّة الركون إلى الجاهل ، وإن لم يستلزم الركون إليه فالاحتراز عنه أولى .

(النَّاسُ أَبْنَاءُ مَا يُحْسِنُونَ) ؛ من باب الإفعال ، يُقال : أحسن الشيء : إذا أتى به حَسَنا وكما هو حقّه . والعائد المنصوب محذوف ، أي يحسنونه ؛ شبّه ما يُحسَن بالأب لأنّه كما يعرف الابن بالأب ، يعرف الإنسان بما يُحسِن ، أو لأنّه كالأب في جلب النفع والرزق .

(وَقَدْرُ كُلِّ امْرِئٍ) أي قيمته (مَا يُحْسِنُ) فإن كان ما يحسن أمرا خسيسا كالصنائع .

ص: 431


1- الصحاح ، ج 1 ، ص 319 ؛ لسان العرب ، ج 2 ، ص 88 (زعج) .
2- في «ج» : «أو» .
3- المائدة
4- : 64 .
5- المائدة (5) : 73 .
6- أي الحديث 12 من باب العقل والجهل .

الدنيّة ، كان المرء خسيسا لا قيمة له ، وإن كان ما يحسن رفيعا كالعلم بالدِّين ، كان المرء رفيعا .

(فَتَكَلَّمُوا فِي الْعِلْمِ) . اللام للعهد ، أي العلم بالدِّين للعمل ، أي تكلّموا في كسب العلم ، وتذاكروه حتّى تحسنوه .

(تَبَيَّنْ) . مجزومٌ بجواب الأمر ، وأصله «تتبيّن» حذف إحدى التاءين من باب التفعّل ، والبين : البُعد ، يُقال : أبانه : إذا أبعده وأفرده عن أمثاله ، وتبيّن : إذا تفرّد وبعُدَ عن أمثاله ؛ والمقصود يرتفع جدّا .

(أَقْدَارُكُمْ) فإنّ التفاوت بين قدر من يحسن العلم بالدِّين ليعمل به ومَن يحسن شيئا غير هذا العلم أظهر من أن يخفى .

وحمل اللام في العلم على الجنس ممكن ، لكنّه ينافي ظاهره(1) ما مرّ في أوّل «باب المستأكل بعلمه» من ذمّ النَّهم في العلم .

الخامس عشر : (الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، عَنْ مُعَلَّى بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنِ الْوَشَّاءِ ، عَنْ أَبَانِ بْنِ عُثْمَانَ ، عَنْ عَبْدِ اللّه ِ بْنِ سُلَيْمَانَ ، قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا جَعْفَرٍ عليه السلام يَقُولُ) ؛ بتقدير «يقول قولاً» بقرينة قوله : «فقال أبو جعفر عليه السلام » .

(وَعِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ يُقَالُ لَهُ : عُثْمَانُ الاْءَعْمى ، وَهُوَ يَقُولُ : إِنَّ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ يَزْعُمُ) أي يدّعي (أَنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ الْعِلْمَ يُوءْذِي(2) رِيحُ بُطُونِهِمْ أَهْلَ النَّارِ) .

لم يزل المخالفون يشنّعون على الفرقة الناجية في التقيّة ويقولون : لا يجوز التقيّة ، ومقصودهم تعريضهم للقتل ، وإلاّ فالأمر في جواز التقيّة أظهر من أن يخفى ، وكان منشأ تلبيسهم سوء النظر في آية سورة البقرة : «إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِى الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللّه ُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ»(3) ؛ وذلك أنّ .

ص: 432


1- في حاشية «أ» : «قوله : ينافي ظاهره إلى آخره ، وذلك لأنّه يظهر ممّا مرّ أنّ المراد بالنهم في العلم أن يكون المقصود من طلب العلم التوسّع فيه وجامعيّة أنواع العلوم ، وهو مذموم (مهدي)» .
2- في «أ» : «تؤذي» .
3- البقرة (2) : 159 .

الكتمان على قسمين :

الأوّل : ما هو باتّباع الهوى والميل إلى الدنيا لمنصب(1) الإفتاء والقضاء بدون استحقاق ، وذلك بتذاكر العلم وصفة الحلم ، كما مرّ في خامس الباب .

الثاني : ما هو للتقيّة ودفع الضرر .

والمراد في الآية القسم الأوّل بأن يكون البيّنات عبارة عن الآيات المحكمات الناهية عن اتّباع الظنّ وعن الاختلاف بالظنّ ، ويكون الهدى عبارة عن الإمام العالم بجميع ما يحتاج إليه الرعيّة ومعطوفا على «ما أنزلنا» ، والضمير في «بيّناه» للهدى ، وقوله : «للناس» للدلالة على أنّ البيّنات الدالّة على الهُدى لا اشتباه فيها أصلاً ، فمنكر الهدى مكابر كافر بآيات اللّه «وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ» .(2)غافر (40) : 28 .(3)

(فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام : فَهَلَكَ إِذَنْ مُوءْمِنُ آلِ فِرْعَوْنَ) . إشارةٌ إلى قوله تعالى : «يَكْتُمُ إِيمَانَهُ»(3) .

(مَا زَالَ الْعِلْمُ مَكْتُوما مُنْذُ بَعَثَ اللّه ُ نُوحا) . إشارةٌ إلى نحو قوله تعالى في سورة الشعراء : «قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنْ الْمَرْجُومِينَ»(4) .

إن قلت : في «كتاب الروضة» في ذيل حديث آدم مع الشجرة(5) ما بدل على أنّه كان مكتوما قبل نوح هكذا ، فلبث هبة اللّه والعقب منه مستخفين بما عندهم من العلم والإيمان والاسم الأكبر وميراث النبوّة وآثار علم النبوّة حتّى بعث اللّه نوحا عليه السلام .

قلت : المراد تعيين أوّل من جاء بشريعة مستأنفة وكان مع الكتمان ، وهبة اللّه على شرع آدم ، أو أوّل ما جاء في ظاهر القرآن من الكتمان ، أو أوّل اُولي العزم من الرُّسل ، ولذا يكون نوح أوّل من يُسأل يوم القيامة عن التبليغ كما في «كتاب الروضة» في حديث .

ص: 433


1- في «ج» : «كمنصب» .
2- آل عمران
3- : 19 .
4- الشعراء (26) : 116 .
5- الكافي ، ج 8 ، ص 114 ، ح 92 .

نوح - صلّى اللّه عليه - يوم القيامة .(1)

(فَلْيَذْهَبِ الْحَسَنُ يَمِينا وَشِمَالاً) أي في غير الجادّة ، وهو في صورة الأمر ، ومعناه نهي .

(فَوَ اللّه ِ مَا يُوجَدُ الْعِلْمُ) أي بجميع ما يحتاج إليه الناس (إِلاَّ هاهُنَا) . الإشارة إلى صدره أو إلى أهل البيت ، أي ليس عند الناس كثير من العلم ، وما ذلك إلاّ للكتمان للتقيّة . ويجيء ما يوضحه في أوّل الثاني والعشرين (2). .

ص: 434


1- الكافي ، ج 8 ، ص 267 ، ح 392 .
2- أي الحديث 1 من باب اختلاف الحديث .

باب رواية الكتب والحديث وفضل الكتابة والتمسّك بالكتب

الباب الثامن عشر بَابُ رِوَايَةِ الْكُتُبِ وَالْحَدِيثِ وَفَضْلِ الْكِتَابَةِ وَالتَّمَسُّكِ بِالْكُتُبِ

فيه خمسة عشر حديثا ، أو ستّة عشر إن جعل ما في الرابع حديثين ؛ أي باب بيان ما يتعلّق برواية الكتب من أنّه هل يجوز عدم السماع لتفصيلها عن المرويّ عنه ، وما يتعلّق برواية الحديث بقوله : «حدّثني فلان» أو «قال فلان» ، من أنّ الأفضل من الرواية ماذا؟ والجائز منها ماذا؟ وبيان فضل كتابة الحديث بعد سماعه عن المعصوم أو غيره ، وفضل حفظ كتب الحديث للتمسّك بها ؛ يُقال : تمسّكت بالشيء : إذا اعتصمت به وإذا أمسكته وحفظته .

الأوّل : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ يُونُسَ ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ ، قَالَ : قُلْتُ لاِءَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : قَوْلُ اللّه ِ جَلَّ ثَنَاوءُهُ) في سورة الزمر : («الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ»(1) ؟ قَالَ : هُوَ الرَّجُلُ يَسْمَعُ الْحَدِيثَ ، فَيُحَدِّثُ بِهِ كَمَا سَمِعَهُ ، لاَ يَزِيدُ فِيهِ وَلاَ يَنْقُصُ مِنْهُ) . ضمير «هو» ل- «أحسنه» والمضاف مقدّر ، أي قول الرجل . وهذا لبيان القاعدة التي ذكرت في شرح ثالث عشر السابق(2) ، ويجيء في «كتاب الحجّة» في ثامن «باب التسليم وفضل المسلمين»(3) : سألت أبا عبداللّه عليه السلام عن قول اللّه عزّ وجلّ : «الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ» إلى آخر الآية ، قال : «هم المسلّمون لآل محمّد

ص: 435


1- الزمر (39) : 18 .
2- أي الحديث 13 من باب النوادر .
3- في حاشية «أ» : «وهو الباب الرابع والتسعون» .

الذين إذا سمعوا الحديث لم يزيدوا فيه ولم ينقصوا منه ، جاؤا به كما سمعوه» .

والظاهر أنّ ضمير «هم» فيه للقائلين : «أحسنه» ، وعلى كلّ تقدير «الذين» عبارة عن المستفتين والمتحاكمين . ومضى توضيح الآية في شرح صدر ثاني عشر الأوّل .(1)

الثاني : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ ، عَنِ ابْنِ أُذَيْنَةَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ ، قَالَ : قُلْتُ لاِءَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : أَسْمَعُ الْحَدِيثَ مِنْكَ ، فَأَزِيدُ وَأَنْقُصُ؟) أي في اللفظ حين الرواية عنك ، واستعمال المضارع لحكاية الحال الماضية ، والدلالة على الاستمرار في الماضي .

(قَالَ : إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ) . لم يقل ، «إن أردت» ليطابق السؤال ، فإنّ زيادة «كان» بعد «إن» الشرطيّة تقلب الفعل إلى الماضي ، فالمضارع بعد «كان» للاستمرار في الماضي .

(مَعَانِيَهُ) . الضمير للحديث ، أي الاُمور الداخلة في أصل المراد ، أو أعمّ منها ومن المزايا الخارجة وجهاته المقصودة منه حسب اقتضاء مقامه للبلغاء . والمقصود بإرادة المعاني ذكر المعاني كما هو حقّها ، وذلك بعد معرفة المعاني والألفاظ المناسبة لها ببصيرة ، وذلك لا يتيسّر إلاّ لنُقّاد الكلام والمَهَرة من الأعلام .

(فَلاَ بَأْسَ) أي يجوز ذلك ، وإن كان الأحسن النقل كما سمع إن تيسّر . ويحتمل أن يكون المراد بإرادة المعاني إظهار أنّه نقل بالمعنى ، ومنه النقل إلى الأعجمي بلغته ، وقوله تعالى : «إِنَّ هَذَا لَفِى الصُّحُفِ الاْءُولَى»(2) ، وحكايته تعالى قصّة آدم وعدم سجدة إبليس له بعبارات مختلفة في سور متعدّدة ، وكذا قصّة موسى عليه السلام .

الثالث : (وَعَنْهُ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ ، عَنِ ابْنِ سِنَانٍ ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ فَرْقَدٍ ، قَالَ : قُلْتُ لاِءَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : إِنِّي أَسْمَعُ الْكَلاَمَ مِنْكَ ، فَأُرِيدُ أَنْ أَرْوِيَهُ كَمَا سَمِعْتُهُ مِنْكَ فَلاَ يَجِيءُ؟) أي لا يجيء لفظه كما سمعته إلى ذهني في أثناء الرواية بعد التأمّل لنسياني بالكلّيّة اللفظ . .

ص: 436


1- أي الحديث 12 من باب العقل والجهل .
2- الأعلى (87) : 18 .

(قَالَ : فتُعمَدُ(1) ذلِكَ؟ . قُلْتُ : لاَ ، فَقَالَ : تُرِيدُ الْمَعَانِيَ؟ قُلْتُ : نَعَمْ ، قَالَ : فَلاَ بَأْسَ) . المضبوط في النسخ «تعمد» بالمثنّاة فوقُ ، وقيل في معناه : تقصد .(2) انتهى . فهو من تعمّده : إذا قصده ، وأصله «تتعمّد» حذف إحدى التاءين من باب التفعّل ، أو عمده - كضربه - : إذا قصده .

وفي ظاهر هذا مناقشة ؛ لأنّ عدم العمد معلوم من قول الراوي ، فيلزم أن لا يكون هذا السؤال في موضعه .

ويمكن دفعها بأنّ المراد بالعمد ترك تكراره ذلك ، مع العلم بأنّ عادته عدم المجيء ، فإنّه في حكم العمد . والأظهر أن يكون «تعمد» على صيغة المخاطب من باب الإفعال أو باب التفعيل ؛ من عمد البعير - كعلم - : إذا انفضخ داخل سنامه من الركوب .(3) وظاهره صحيح ، فهو بعير عَمِد بفتح العين وكسر الميم ، وهذا الداء عمد بفتحتين .

ويُطلق على النفاق ؛ ففي نهج البلاغة : «للّه بلاءُ فلانٍ ، فلقد قوّم الأوَدَ وداوى العَمَد» إلى آخره .(4)

و«فلان» عبارة عن محمّد بن أبي بكر ، لم يصرّح باسمه تقيّةً ؛ لأنّ الكلام تعريض بأبيه ومدح لمحمّد بأنّه تبرّأ من أبيه ورذائله ، مع أنّه مشكل جدّا في عادات الناس . ويحتمل أن يكون عبارة عن مالك الأشتر رحمهما اللّه تعالى ، فالمعنى أفتجعل الحديث فاسد الباطن صحيح الظاهر .

وهذا يتصوّر على وجهين :

الأوّل : أن يكون في ابتداء لفظه ما يشعر بأنّه يرويه كما سمعه ، ثمّ يخالف ذلك للنسيان ، ولا يستدرك ذلك بلفظ بدل على أنّه ليس كما سمعه ، فيكون فيه تلبيس . وهذا هو الظاهر من كلام الراوي ، ولذا لم يقع هذا السؤال فيما مرّ في ثاني الباب ، وهو .

ص: 437


1- في الكافي المطبوع : «فتتعّمد» .
2- الصحاح ، ج 2 ، ص 511 (عمد) .
3- القاموس المحيط ، ج 1، ص 317 ؛ تاج العروس ، ج 5 ، ص 125 (عمد) .
4- نهج البلاغة ، ص 350 ، الخطبة : 228 ؛ وفيه : «فقد» بدل «فلقد» .

الظاهر أيضا من الفاء في قوله : «فتعمد» .

الثاني : أن يخلّ ببعض معانيه ، وعلى هذا يكون قوله عليه السلام : «تريد المعاني» جاريا مجرى الاستئناف البياني لقول الراوي : «لا» إلاّ إذا اُريد به تظهر أنّه نقل بالمعنى ، ولو كان «يعمد» بالخاتمة(1) ، لكان من المجرّد ولكان ذلك فاعلاً له .

الرابع : (وَعَنْهُ ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ سَعِيدٍ ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ ، قَالَ : قُلْتُ لاِءَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : الْحَدِيثُ) . مبتدأ واللام للعهد الذهني ، وقوله : (أَسْمَعُهُ مِنْكَ) صفته ؛ لأنّه في حكم النكرة . وقوله : (أَرْوِيهِ عَنْ أَبِيكَ) خبر المبتدأ والاستفهام مقدّر ؛ أي هل يجوز لي أن أرويه عن أبيك بأن أقول : «قال أبو جعفر ، كذا وكذا» أم يجب عليَّ أن أرويه عنك . ويحتمل أن يكون الجملتان خبرين ، فيقدّر بعدهما استفهام ؛ أي هل يجوز ذلك أم يجب الرواية عنك ، وكذا قوله :

(أَوْ أَسْمَعُهُ مِنْ أَبِيكَ أَرْوِيهِ عَنْكَ؟ قَالَ : سَوَاءٌ ) . خبر مبتدأ محذوف ، أي روايتك عنّي وروايتك عن أبي سواء في الصدق في كلّ من الصورتين ، يُقال : هما في هذا الأمر سواء، بفتح المهملة والمدّ أي شِبهان ، وهم سواء أي أشباه .

(إِلاَّ أَنَّكَ تَرْوِيهِ عَنْ أَبِي أَحَبُّ إِلَيَّ) . «ترويه» بالنصب بتقدير «أن» المصدريّة وإعمالها ، أو بالرفع إمّا بتقدير أن وإهمالها ، وإمّا على أنّه خبر في تأويل أمر . وذكروا الوجوه الثلاثة في المَثَل : «تَسْمَع بالمُعَيدي خيرٌ من أن تراه» .(2)

وعلى الأوّلين المصدر بدل اشتمال عن ضمير «إنّك» نظير «وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا»(3) ، و«أحبّ» خبر «أنّ» ، وعلى الثالث «أحبّ» خبر مبتدأ محذوف ، أي الرواية عن أبي في كلّ من صورتي سماعِك منّي وسماعِك من أبي أحبّ إليَّ من .

ص: 438


1- أي بالياء .
2- حكاه الطبري في تاريخه ، ج 4 ، ص 231 ؛ وابن الأثير في الكامل ، ج 3 ، ص 516 ؛ وابن خلكان في وفيات الأعيان ، ج 4 ، ص 68 ؛ والذهبي في تاريخ الإسلام ، ج 7 ، ص 228 .
3- الزمر (39) : 17 .

الرواية عنّي ؛ لأنّ الرواية عمّن مضى أوفق للتقيّة في الصورتين جميعا ، وأبعد من آفة شهرة الحيّ في زمان تسلّط الظالمين .

(وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام لِجَمِيلٍ :) . هذا كلام أبي بصير ، فيكون إمّا من تتمّة الحديث ، وإمّا حديثا على حِدة مُسنَدا(1) . وقيل(2) : الظاهر أنّه حديث على حدة .(3) انتهى . وعلى هذا تكون أحاديث الباب ستّة عشر .

(مَا سَمِعْتَ مِنِّي فَارْوِهِ عَنْ أَبِي .) ذلك للتقيّة .

الخامس : (وَعَنْهُ ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ ، عَنِ ابْنِ مَحْبُوبٍ ، عَنْ عَبْدِ اللّه ِ بْنِ سِنَانٍ ، قَالَ : قُلْتُ لاِءَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : يَجِيئُنِي الْقَوْمُ ) أي التلامذة (فَيَسْمَعُونَ(4) مِنِّي حَدِيثَكُمْ ) أي كتاب حديثكم (فَأَضْجَرُ) ؛ بصيغة المتكلِّم المعلوم من باب علم ، أو المجهول(5) من باب الإفعال . والضجرة بالضمّ : الملال والسأمة .

(وَلاَ أَقْوى) أي لكثرة الدرس بسبب كثرة القوم : التلاميذ ، وسماع كلّ واحدٍ منهم منّي في موضع من كتاب الحديث غير ما يسمع الآخرون ، فيؤدّي ذلك إلى الترك بالكلّيّة ، أو يخاف من ذلك الترك بالكلّيّة ، ويُحتمل أن لا يكون ذلك لكثرة عدد الدرس(6) بل لطوله .

(قَالَ : فَاقْرَأْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَوَّلِهِ) أي أوّل حديثنا ، والمراد كتاب الحديث ، وأوّله ثلثه الأوّل .

(حَدِيثا) أي درسا من الحديث (وَمِنْ وَسَطِهِ) أي ثلثه الوسط (حَدِيثا) أي درسا من .

ص: 439


1- في حاشية «أ» : «بالسند السابق» .
2- في حاشية «أ» : «القائل ميرزا محمد الاسترآبادي (منه)» . ولم نجده فى حاشيته على الكافي المطبوع ضمن ميراث حديث شيعة، الدفتر الثامن.
3- احتمله المولى المازندراني في شرح اُصول الكافي ، ج 2 ، ص 216 ؛ ورفيع الدين النائيني في حاشيته على اُصول الكافي ، ص 183 .
4- في الكافي المطبوع : «فيستمعون» .
5- في «ج» : - «من باب علم أو المجهول» .
6- في «ج» : «الرأس» .

الحديث (وَمِنْ آخِرِهِ) أي ثلثه الآخر (حَدِيثا) أي درسا من الحديث .

والمقصود أمره(1) بتخفيف عدد الدرس في كلّ يوم إلى الثلاثة المذكورة ، وإشراكهم فيها ليقوى ولا يضجر ، ويقع كلّ تلميذ إمّا على مقصوده وإمّا على قريب من مقصوده ، وكذا من يتجدّد من التلامذة . أو أمره بتفريق درس طويل من موضع واحد إلى ثلاثة مواضع ، فإنّ من المجرّب أنّه أبعد من الضجرة ، كما مضى في أوّل «باب النوادر» .

والظاهر أنّه ليس المراد أن يقرأ ثلاثة أحاديث متفرّقة في يوم واحد ويكتفي بذلك مع المناولة(2) ونحوها ممّا هو مذكور في طرق تحمّل الحديث ؛ وذلك لأنّ هذا الجواب إنّما يناسب لو كان المقصود بالذات للسائل السؤال عمّن يتجدّد من التلامذة ، وليس كذلك ، فإنّ الأنسب حينئذٍ أن يكون في كلام السائل بدل «فيسمعون» : «ليسمعوا» .

فالمقصود بالذات السؤال عن المشغولين ، وحينئذٍ لا فائدة في القراءة من أوّله ، ولأنّ العمدة في تحمّل الحديث الدراية الحاصلة بسماع التفصيل ، لا ما يحصل بالمناولة ونحوها ، فإشارته(3) عليه بالثاني لا يصحّ إلاّ مع حصول الضجرة وعدم القوّة في كلّ فرد من الأوّل ، وبعيد أن يتضجّر ولا يقوى على ثلاثة دروس في كلّ يوم يقرأ فيه الدرس .

السادس : (عَنْهُ بِإِسْنَادِهِ ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ الْحَلاَّلِ) ؛ بفتح المهملة وشدّ اللام : بيّاع الحلّ بالفتح ، وهو دهن السمسم .(4)

(قَالَ : قُلْتُ لاِءَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا عليه السلام : الرَّجُلُ مِنْ أَصْحَابِنَا يُعْطِينِي الْكِتَابَ) أي كتاب الحديث ، ويسمّى هذا عند أهل الدراية «مناولةً» .

(وَلاَ يَقُولُ : ارْوِهِ عَنِّي) أي لم يصدر عنه الإجازة لي ، إنّما صدر عنه المناولة . .

ص: 440


1- في «ج» : «أمر» .
2- المناولة : هي واحدة من أقسام تحمل الحديث ، وهي أن يناول الشيخ الطالب كتابا وهي على نوعين مقرونة بالإجازة ومجردة عنها. البداية في علم الدراية ضمن رسائل في دراية الحديث ، ج 1 ، ص 140 .
3- في «ج» : «وإشارته» .
4- الصحاح ، ج 4 ، ص 1672 ؛ لسان العرب ، ج 11 ، ص 173 (حلل) .

(يَجُوزُ لِي أَنْ أَرْوِيَهُ عَنْهُ؟ قَالَ : فَقَالَ : إِذَا عَلِمْتَ أَنَّ الْكِتَابَ لَهُ) أي مجموع له بأن يكون الكتاب أصلاً والرجل سامعه من الإمام وجامعه ، وليس فيه إلاّ ما سمعه من الأحاديث .

إن قلت : لا يمكن فيما نحن فيه تحصيل العلم القطعي ، فهل استعمل العلم هنا فيما يشمل الظنّ ، كما زعموا في قوله تعالى في سورة الممتحنة : «فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ»(1) ، ويجيء بيان حقيقته في «كتاب النكاح» في شرح سادس «باب مناكحة النصّاب والشكّاك» فدلّ على أنّه يجوز الاكتفاء في أمثال ذلك بالظنّ ، أم لا؟

قلت : لا ، بل فيه مجاز في التعلّق بالمفعول به ، والمعنى : إذا علمت ما تشهد به شرعا أنّ الكتاب له كما في سائر الشهادات الشرعيّة التي يشترط فيها العلم نحو الشهادة بكون الدار لزيد دون عمرو ، وحمل عليه قوله تعالى في سورة يوسف : «إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ»(2)) ؛ وذلك بأن يقول حين أعطى الكتاب : هذا مشتمل على أحاديث سمعتها أنا ممّن رويتها عنه فيه أو نحو ذلك .

ويمكن أن يُراد بكون الكتاب له ما يشمل كونه مصنّفا له ، أو مسموعا له من جامعه ، أو من مصنّفه بلا واسطة ، أو بالواسطة ، أو نحو ذلك ممّا يجوز له بسببه روايته لغيره .

(فَارْوِهِ عَنْهُ) . ظاهره أنّ الإجازة التي عدّها المخالفون من طرق التحمّل لغو لا يتوقّف عليها جواز الرواية أصلاً ؛ لأنّ قوله : «إذا علمت» عامّ شامل لغير صورة المناولة أيضا ، فإنّ المورد غير مخصّص للعموم .

إن قلت : يلزم أن يكون المناولة أيضا لغوا؟

قلت : لا يلزم ؛ لأنّ المناولة من طرق العلم بأنّ الكتاب له بخلاف الإجازة .

نعم ، يلزم أنّه لو علمنا بالشهرة بين الناس وتصحيح الثقات أنّ الكافي مثلاً لمحمّد بن يعقوب ، جاز لنا روايته عنه على ما علمناه عليه ، ولا حاجة في مثله إلى إجازة ولا مناولة ، وقد نسج كثير من متأخّرينا في ذلك على منوال المخالفين بدون ذكر مستند من أهل الذِّكر عليهم السلام لا متواترا ولا آحادا . .

ص: 441


1- الممتحنة (60) : 10 .
2- يوسف (12) : 81 .

السابع : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ أَبِيهِ وَعَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ ، عَنِ النَّوْفَلِيِّ ، عَنِ السَّكُونِيِّ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : قَالَ أَمِيرُ الْمُوءْمِنِينَ عليه السلام : إِذَا حَدَّثْتُمْ) ؛ بصيغة المجهول من باب التفعيل ، ويحتمل المعلوم . والأوّل أوفق بقوله : «حدّثكم» وبما يجيء في ثاني عشر الباب .

(بِحَدِيثٍ ، فَأَسْنِدُوهُ) أي في تحديثكم إيّاه غيركم (إِلَى الَّذِي حَدَّثَكُمْ) أي إليه بخصوصه ، فإن زعموا مطيّة الكذب ، وهذا نهي عن الإرسال .

(فَإِنْ كَانَ حَقّا فَلَكُمْ) أي فنفع تحديثكم لكم دونه ؛ بمعنى أنّه لا ينتقل به ما تقصدون من نفعه إلى الذي حدّثكم ، أو المراد : فلكم فيه جمال نقل الصدق .

(وَإِنْ كَانَ كَذِبا فَعَلَيْهِ) أي فضرّه عليه دونكم ، أو المراد : فعلى الذي حدّثكم شين الكذب دونكم . وهذا في الأحاديث الشرعيّة ، أو فيها وفي غيرها من الاُمور الدنيويّة .

الثامن : (عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللّه ِ ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْمَدَنِيِّ ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ ، عَنْ حُسَيْنٍ الاْءَحْمَسِيِّ) ؛ بفتح الهمزة وسكون المهملة وفتح الميم ومهملة ، وبنو أحمس بطن من ضبيعة(1) وقيل : من بجيلة .(2)

(عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : الْقَلْبُ يَتَّكِلُ عَلَى الْكِتَابَةِ) . أمرٌ بكتابة الحديث وعدم الاكتفاء بالحفظ في الذهن .

التاسع : (الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، عَنْ مُعَلَّى بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الْوَشَّاءِ ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ حُمَيْدٍ) ؛ بضمّ المهملة . (عَنْ أَبِي بَصِيرٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام يَقُولُ : اكْتُبُوا) أي ما تسمعون منّي (فَإِنَّكُمْ لاَ تَحْفَظُونَ حَتّى تَكْتُبُوا) .

العاشر : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ .

ص: 442


1- معجم قبائل العرب ؛ ج 1 ، ص 10 (احمس) ؛ وحكاه ابن الأثير الجزري في اللباب في تهذيب الأنساب ، ج 1 ، ص 32 (الأحمسي) .
2- تاريخ ابن خلدون ، ج 2 ، ص 254 .

فَضَّالٍ ، عَنِ ابْنِ بُكَيْرٍ ، عَنْ عُبَيْدِ) ؛ بضمّ المهملة وفتح الموحّدة . (بْنِ زُرَارَةَ ، قَالَ : قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : احْتَفِظُوا بِكُتُبِكُمْ) . يُقال : احتفظه : إذا حفظه لنفسه ؛ فالباء لتضمين معنى التمسّك ، أو لتقوية التعدية . والأوّل أوفق بعنوان الباب .

(فَإِنَّكُمْ سَوْفَ تَحْتَاجُونَ إِلَيْهَا) أي في زمن غيبة الإمام غيبةً كبرى ، أو قبله أيضا ؛ لأنّ الحفظ في الخاطر لا يفي بالأحاديث .

الحادي عشر : (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ الْبَرْقِيِّ ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخَيْبَرِيِّ ) ؛ بفتح المعجمة وسكون الخاتمة وفتح الموحّدة .

(عَنِ الْمُفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ ، قَالَ : قَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : اكْتُبْ) أي ما تسمعه منّي (وَبُثَّ) ؛ بضمّ الموحّدة وتثليث المثلّثة المشدّدة ، أو بكسر الموحّدة وفتح المثلّثة وكسرها : أمر من بثّه، من باب نصر وضرب : إذا نشره وفرّقه .(1) (عِلْمَكَ) أي الأحاديث ، فإنّها تفضي إلى العلم بالحكم الواصلي ، وربّما أدّت في اُصول الدِّين ونحوها إلى العلم بصدق مضمونها لمَن تأمّل فيها حقّ التأمّل . (فِي إِخْوَانِكَ) أي الشيعة .

(فَإِنْ مُتَّ) ؛ بضمّ الميم وكسرها وفتحها والمثناة فوقُ المشدّدة المفتوحة من باب يموت ويميت ويمات ، أي أشرفت على الموت (فَأَوْرِثْ كُتُبَكَ بَنِيكَ) أي علّمهم تفصيلاً أو إجمالاً أنّها مسموعاتك ، أو سلّمها إليهم بالوصيّة أو بترك إتلافها وإخفائها عنهم .

(فَإِنَّهُ يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانُ هَرْجٍ) . أصل الهرج، بفتح الهاء وسكون المهملة والجيم : الكثرة في الشيء والاتّساع ، ويُطلق على الفتنة والاختلاط والاشتباه ، وعلى القتل ، يُقال : هرج الناس - كضرب - : إذا وقعوا في هرج . والمراد بزمان هرج زمان غيبة الإمام عليه السلام .(2)

(لاَ يَأْنَسُونَ فِيهِ إِلاَّ بِكُتُبِهِمْ) ؛ لعدم ظهور الأئمّة ، أو لفقد الحفّاظ للأحاديث ، أو لعدم تمكّنهم من الرواية في المدارس . .

ص: 443


1- العين ، ج 8 ، ص 217 ؛ الصحاح ، ج 1 ، ص 273 (بثث) ؛ الفروق اللغوية ، ص 185 (الرقم 731) .
2- حكاه رفيع الدين النائيني في الحاشية على اُصول الكافي ، ص 186 .

الثاني عشر : (وَبِهذَا الاْءِسْنَادِ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ رَفَعَهُ ، قَالَ : قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : إِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ الْمُفْتَرَعَ)(1) ؛ بضمّ الميم وسكون الفاء وفتح الراء المهملة والعين المهملة ، أي المبتذل الشائع بين الناس ؛ من افترع البكر : إذا افتضّها .(2)

(قِيلَ لَهُ : وَمَا الْكَذِبُ الْمُفْتَرَعُ؟ قَالَ : أَنْ يُحَدِّثَكَ الرَّجُلُ بِالْحَدِيثِ ، فَتَتْرُكَهُ) أي الرجل (وَتَرْوِيَهُ) أي الحديث (عَنِ الَّذِي حَدَّثَكَ عَنْهُ) .

من أمثلته أن يحدّثك زيد بأنّ عمرا فعل كذا أو قال كذا ، فتقول لغيرك : إنّ عمرا فعل كذا أو قال كذا ، بدون قرينة تدلّ على واسطة . وكونه كذبا لأنّ المتبادر منه عدم الواسطة ، فهو إخبار عن عدم الواسطة بحيلة .

ومنها : أن تقول في المثال : وعن عمرو وأنّه فعل كذا أو قال كذا ، وكان عدم تسمية الواسطة بسبب أنّه(3) لو ذكر لظهر للمخاطب كذب الحديث ، أو قلَّ وثوقه بالحديث . وكونه كذبا لأنّه إخبار بقوّة ما ليس بقويّ بحيلةٍ وشيوعه ؛ لأنّ كثيرا من الناس يتحرّجون عن الكذب الصريح ، ولا يتحرّجون عمّا فيه حيلة من الكذب ، كما يتحرّجون عن الرِّبا الصريح ولا يتحرّجون عمّا فيه حيلة من الربا ، زعما منهم باتّباع هواهم أنّهما ليسا من الكذب والربا ، فيكثران .

وقيل : المراد بالمفترع ما لم يسبق إليه أحد .(4)

الثالث عشر : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي نَصْرٍ ، عَنْ جَمِيلِ بْنِ دَرَّاجٍ ، قَالَ : قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : أَعْرِبُوا حَدِيثَنَا) . الإعراب : .

ص: 444


1- في حاشية «أ» : «المقترع بالقاف من الاقتراع بمعنى الاختيار ، والمقترع والمقروع من الإبل، المختار منها للفحلة ، وأمّا «المفترع» بالفاء من افترعت البكر : إذا افتضضتها، فليس بمستعذب المعنى في هذا المقام ، ولعلّه من التصحيفات في الانتساخ أو من التحريفات في الرواية واللّه سبحانه أعلم. م ح ق» .
2- تاج العروس، ج 1، ص 94 (المفترع). وانظر: الحاشية على اصول الكافي للنائيني، ص 186.
3- في حاشية «أ»: «اي المحدث».
4- في «د» : «أحد إليه» .

الإيضاح ، ويُقال : أعرب كلامه : إذا لم يلحن في الإعراب(1) ، أي اكتبوه واكتبوا إعرابه المسموع منّا ، أو لا تتكلّموا به بلغاتكم في الإعراب ، وتكلّموا به كما سمعتم في الإعراب ، أو لا تغيّروه أصلاً .

(فَإِنَّا قَوْمٌ فُصَحَاءُ) . جمع «فصيح» وهو المُنْطَلق اللِّسان في القول الذي يَعرف جيّد الكلام من رديّه .

الرابع عشر : (عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ، عَنْ هِشَامِ بْنِ سَالِمٍ وَحَمَّادِ بْنِ عُثْمَانَ وَغَيْرِهِ ، قَالُوا : سَمِعْنَا أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام يَقُولُ : حَدِيثِي حَدِيثُ أَبِي ، وَحَدِيثُ أَبِي حَدِيثُ جَدِّي ، وَحَدِيثُ جَدِّي حَدِيثُ الْحُسَيْنِ ، وَحَدِيثُ الْحُسَيْنِ حَدِيثُ الْحَسَنِ ، وَحَدِيثُ الْحَسَنِ حَدِيثُ أَمِيرِ الْمُوءْمِنِينَ ، وَحَدِيثُ أَمِيرِ الْمُوءْمِنِينَ حَدِيثُ رَسُولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله ، وَ حَدِيثُ رَسُولِ اللّه ِ قَوْلُ اللّه ِ عَزَّ وَجَلَّ) أي ليس فتيانا وقضاؤنا عن اجتهاد ورأي ، أو يجوز نسبة حديث كلّ منّا إلى الآخرين في زمن التقيّة ونحوها .

الخامس عشر : (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي خَالِدٍ شُنْبُولة(2)) بضمّ المعجمة وسكون النون وضمّ الموحّدة وسكون الواو من الشُنْبُلة ، وهي التقبيل .(3) وفي الإيضاح بفتح الشين(4) المعجمة وإسكان الياء المنقّطة تحتها نقطتين وضمّ النون وإسكان الواو .(5)

(قَالَ : قُلْتُ لاِءَبِي جَعْفَرٍ الثَّانِي عليه السلام : جُعِلْتُ فِدَاكَ ، إِنَّ مَشَايِخَنَا رَوَوْا عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ وَأَبِي .

ص: 445


1- الصحاح ، ج 1 ، ص 179 ؛ لسان العرب ، ج 1 ، ص 589 ؛ تاج العروس ، ج 2 ، ص 215 (عرب) .
2- في الكافي المطبوع : «شَيْنُولَةَ» .
3- القاموس المحيط ، ج 3 ، ص 404 ؛ تاج العروس ، ج 4 ، ص 396 (شنبل) .
4- في «ج» : - «الشين» .
5- جاء في إيضاح الاشتباه ، ص 266 ، الرقم 567 : «محمد بن الحسن بن أبي خالد المعروف ب- «شير» بفتح الشين المعجمة وإسكان الياء المنقطة تحتها نقطتين ، وضم النون وإسكان الراء» بدل مما في المتن .

عَبْدِ اللّه ِ عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ) أي وكتبوا بخطّهم كتبا في ذلك (وَكَانَتِ التَّقِيَّةُ شَدِيدَةً ، فَكَتَمُوا كُتُبَهُمْ فَلَمْ(1) تُرْوَ)(2) ؛ بصيغة المجهول من المضارع ، الغائب¨ ، وفيه ضمير الكتب . (عَنْهُمْ ، فَلَمَّا مَاتُوا ، صَارَتِ الْكُتُبُ إِلَيْنَا) أي ونحن نعرف خطّهم أو نثق بأنّها خطّهم أو مسموعهم ، ويسمّى كلّ هذا عند أهل الدراية «وِجادة» بكسر الواو والجيم والمهملة .

(فَقَالَ : حَدِّثُوا بِهَا) أي بالكتب عنهم على وجه لا يوهَم القراءة عليهم أو السماع منهم ، أو نحو ذلك .

(فَإِنَّهَا حَقٌّ) أي ممّا يجب العمل به من خبر الواحد ، وكالمسموع منهم في وجوب العمل . وليس المراد أنّها تُفيد القطع بالحكم الواقعي ، أو القطع بصدق رواياتهم عن المعصوم . .

ص: 446


1- في المطبوع : «ولم» .
2- في حاشية «أ» : «الأصحّ الأصوب والأثبت الأقوم (فلم نرو عنهم) بفتح الواو المشدّدة وبالراء المفتوحة ، على صيغة المجهول من المضارع المجزوم ، إمّا بضمّ النون للمتكلّم مع الغير أو بالتاء المضمومة للتأنيث في الغيبة ؛ من التروية بمعناها الشائع في اصطلاح على الحديث في الرخصة . وقد ورد أيضا في اللغة ؛ قال في الصحاح : رويت الشعر تروية ، أي حملته على روايته ، وقال في المغرب : أول الحديث والشعر روا ورويته إيّاه : حملته على روايته من إنّا روينا في الأخبار . وضمير الجمع في «عنهم» للمشايخ ، والمعنى فلم نرو نحن عنهم ، أي لم يرخّص لنا من قبلهم في الرواية ، أو لم ترو تلك الكتب وأحاديثها عنهم ، أي لم يرخّص من قبلهم في روايتها ، وفي طائفة من النسخ : «فلم يرووا عنهم» من روى يروي رواية ، وواو الجمع في الفعل للمشايخ ، والضمير البارز في «عنهم» للأئمة عليهم السلام ، وأمّا (فلم نرو) على صيغة المتكلّم مع الغير من الروايات من تصحيفات المصحفين . م ح ق» .

باب التقليد

الباب التاسع عشر بَابُ التَّقْلِيدِ

فيه ثلاثة أحاديث ؛ أي باب بيان من لا يجوز تقليده ومَن يجوز ويجب . والتقليد : العمل بقول الغير من غير طلب دليل منه ؛ كأنّه جعل القول قلادة في عنقه ؛ لأنّه جعل عهدته عليه ولم يفتّش بعد سماعه منه .

الأوّل : (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ ، عَنْ عَبْدِ اللّه ِ بْنِ يَحْيى ، عَنِ ابْنِ مُسْكَانَ ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : قُلْتُ لَهُ : «اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْبابا مِنْ دُونِ اللّه ِ»(1) ؟) أي ما معنى ما ذمّ اللّه تعالى به النصارى في سورة التوبة من اتّخاذهم الأحبار والرهبان أربابا . والأحبار جمع حِبر بكسر الحاء وفتحها وهو العالم ، والرُّهبان جمع راهب ، وهو المتخلّي عن أشغال الدنيا ، التارك لملاذّها ، الزاهد فيها ، المعتزل عن أهلها ، المتحمّل للمشاقّ .

(فَقَالَ : أَمَا وَاللّه ِ ، مَا دَعَوْهُمْ إِلى عِبَادَةِ أَنْفُسِهِمْ) أي صريحا .

(وَلَوْ دَعَوْهُمْ) أي إلى عبادة أنفسهم صريحا (مَا أَجَابُوهُمْ) أي ما عبدوهم صريحا .

(وَلكِنْ أَحَلُّوا لَهُمْ حَرَاما ، وَحَرَّمُوا عَلَيْهِمْ حَلاَلاً) . تحليل الحرام وتحريم الحلال يحتمل وجهين :

الأوّل : تحريف الكلم عن مواضعه عمدا ، أي تأويل الآيات البيّنات المحكمات الناهية عن اتّباع الظنّ الآمرة بسؤال أهل الذِّكر بحيث يفضي إلى إحلال ما نهى عنه

ص: 447


1- التوبة (9) : 31 .

وتحريم ما أمر به . وهذا التأويل هو المذكور في خامس «باب النوادر» بقوله : «بتذاكر العلم وصفة الحلم» .

الثاني : إفتاؤهم في أحكام اللّه تعالى بالظنّ والاجتهاد ، فإنّه يستلزم الغلط في شيء من أحكام الحلال(1) وشيء من أحكام الحرام عادةً .

(فَعَبَدُوهُمْ) أي فقلّدوهم ؛ وذلك عبادتهم إيّاهم .

(مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ) أي لا يعلمون أنّ تقليد غير مَن أذِنَ اللّه ُ في تقليده - أي غير العالم الحجّة بين اللّه وبين المقلِّد - اتّباعٌ لرأيه وعبادة له .

إن قلت : إذا لم يعلموا ذلك لم يكفروا ؛ لأنّ تكليف غير العالم تكليف [ب-] ما لا يُطاق؟

قلت : تكليف غير العالم ليس تكليفا بما لا يُطاق ، إلاّ في صورة عدم تمكّنه من العلم ، أو عدم إعلام وجوب ما إذا أطاع فيه أدّى إلى العلم على أنّهم فيما نحن فيه علموا بمعجزات النبيّ صلى الله عليه و آله وبنصّه من عند اللّه تعالى ، على أنّ القول على اللّه بغير علم بل بالرأي والاجتهاد حرام ، فعلموا أنّ تقليدهم حرام ، وأصرّوا على التقليد عمدا ، وإنّما المجهول عندهم كون التقليد عبادة لهم ؛ فليس هذا من تكليف [ب-] ما لا يُطاق في شيء .

وفي التفسير المنسوب إلى العسكري عليه السلام في قوله تعالى : «وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِىَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ»(2) حديث طويل وفي آخره : «أنّ من علم اللّه من قلبه من هؤلاء العوامّ أنّه لا يريد إلاّ صيانة دينه وتعظيم وليّه لم يتركه في يد هذا المتلمّس(3) الكافر ، ولكنّه يقيّض له مؤمنا يقف به على الصواب ، ثمّ يوفّقه اللّه للقبول منه ، فيجمع له بذلك خير الدنيا والآخرة ، ويجمع على مَن أضلّه لعن الدنيا وعذاب الآخرة»(4) انتهى . .

ص: 448


1- في «د» : «أو» .
2- البقرة (2) : 78 .
3- في حاشية «أ» : «تَلَمَّسَ : تطلب مرة بعد اُخرى» ، وفي المصدر : «الملبس» بدل : «المتلمّس» .
4- تفسير الإمام العسكري عليه السلام ، ص 301 .

الثاني : (عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْهَمَذَانِيِّ) ؛ بالهاء والميم المفتوحتين والمعجمة نسبةً إلى بلد بناه همذان بن الفلّوج بن سام بن نوح .(1) (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدَةَ) بضمّ المهملة وفتح الموحّدة وسكون الخاتمة .

(قَالَ : قَالَ لِي أَبُو الْحَسَنِ عليه السلام ) ؛ يحتمل الأوّل والثاني عليهماالسلام . (يَا مُحَمَّدُ ، أَنْتُمْ أَشَدُّ تَقْلِيدا) أي لأئمّتكم (أَمِ الْمُرْجِئَةُ؟) .

الإرجاء على معنيين : الأوّل : التأخير ، وهذا إذا كان مهموز اللام . الثاني : إعطاء الرجا ، وهذا إذا كان من الناقص الواوي . و«المرجئة» بضمّ الميم وسكون المهملة وكسر الجيم ، فإن جعلت من الأوّل وقد حصرها فيه الأكثر ، كان بعد الجيم همزة ، ويجوز قلبها ياءً ، ويجوز تشديد الياء للنسبة على حذف لام الفعل بعد قلبها ياءً . وقيل : لا يجوز .(2) والمراد بها هنا المؤخِّرَة لأمير المؤمنين عليه السلام إلى المرتبة الرابعة ، وعلى هذا المرجئة والشيعة طائفتان متقابلتان .

وإن جعلت من الثاني كان بعد الجيم ياء مخفّفة ، ويجوز تشديدها للنسبة على حذف لام الفعل . والمراد بها هنا المجوّزة للناس حتّى للأئمّة اتّباعَ الرأي والهوى في الدِّين بالاجتهادات الظنّيّة . وعلى هذا يشمل المرجئة نحو الزيديّة(3) القائلين بالاجتهاد .

والمشهور إطلاق المرجئة على الطائفة المؤخّرة للعمل عن الإيمان ، حيث جعلوا التصديق المعتبر في حدّ الإيمان عبارة عن العلم اليقيني ؛ أي العلم باصطلاح المتكلِّمين ، فحكموا بأنّ إيمان الصدِّيقين والفسّاق لا يتفاوت بالكمال والنقصان ، كما يجيء في «كتاب الحجّة» في ثاني «باب ما أمر النبيّ صلى الله عليه و آله بالنصيحة لأئمّة المسلمين» . .

ص: 449


1- القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 361 ؛ وحكاه الميرداماد في الرواشح السماوية ، ص 149 .
2- في حاشية «أ» : «صاحب القاموس . (منه دام ظله)» . القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 16 .
3- هم جماعة ينسبون إلى زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام ، ساقوا الإمامة في أولاد فاطمة عليهاالسلام ولم يجوّزوا ثبوت الإمامة في غيرهم ، إلاّ أنّهم جوّزوا أن يكون كلّ فاطمي عالم شجاع سخي خرج بالإمامة أن يكون إماما واجب الطاعة ، سواء كان من أولاد الحسن أو الحسين عليهماالسلام . الملل والنحل ، ج 1 ، ص 154 .

وهذا لضرورة أنّ التفاوت في الاعتقادين قوّةً وضعفا لا يمكن إلاّ بتجويز النقيض في أحدهما ، وهو ينافي العلم ، ولم يشترط جمهورهم الإقرار باللِّسان .

وهذه الطائفة معطية أيضا للناس رجاءهم ، حيث جرّؤوهم على المعاصي ، فإنّهم قالوا : إنّ المؤمن بهذا المعنى لا يخلّد في النار ، ولا ينافي إيمانه ترك الطوع ولا فعل جميع الكبائر مع ترك التوبة .(1)

ومذهب الوعيديّة - وهم المعتزلة والخوارج - أنّ كلّ كبيرة بلا توبة ينافي الإيمان المُنجي من الخلود في النار ، وأنّ مرتكب الكبيرة بلا توبة من أهل القبلة ليس بمؤمن ولا كافر ، بل في منزلة بين المنزلتين ، أي مخلّد في النار وعذابه أخفّ من عذاب الكافر .

وعلى هذا فالمرجئة والوعيديّة على طرفي التفريط والإفراط ، وبينهما الإماميّة القائلون بالأمر بين الأمرين هنا أيضا ، كما قالوا به في مسألة خلق الأعمال ، وهو هنا أنّ التصديق المعتبر في حدّ الإيمان المُنجي من الخلود في النار هو الطوع القلبي ، وعلامته سوء السيّئة وسرور الحسنة ، فلا ينافي الإيمان كلّ كبيرة ، بل إنّما ينافيه من الكبائر ما يكشف عن الجرأة المتأكّدة المنافية للطوع ، كما يجيء في «كتاب الإيمان والكفر» في مواضع منها تاسع «باب الكفر» .

وأمّا العلم بما يجب التصديق به فليس للعباد فيه صنع وأنّه شرطٌ للكفر ، كما أنّه شرطٌ للإيمان ، كما يجيء في «باب البيان والتعريف ولزوم الحجّة» من «كتاب التوحيد» .

وقد يطلق المرجئة على الجبريّة ؛ لأنّ الجبر من مقالات المرجئة ، وذلك كما قيل(2) في الحديث : «صنفان من اُمّتي ليس لهما في الإسلام نصيب : المرجئة والقدريّة»(3) .

وقيل(4) : المرجئة أصناف أربعة : مرجئة الخوارج ، ومرجئة القدريّة ، ومرجئة .

ص: 450


1- حكاه الايجي في المواقف ، ج 3 ، ص 501 ؛ الإنصاف فيما تضمنه الكشاف ، ج 1 ، ص 327 ؛ و ج 3 ، ص 556 ؛ شرح المواقف للقاضي الجرجاني ، ج 8 ، ص 309 .
2- في حاشية النسخ : «القائل الطيبي في شرح المشكاة (منه دام ظلّه)» .
3- جامع الأخبار ، ص 188 ؛ وعنه في مستدرك الوسائل ، ج 18 ، ص 185 ، ح 39 .
4- في حاشية «د» : «القائل الشهرستاني» وفي حاشية «ج ، أ» : «الشهرستاني» .

الجبريّة ، ومرجئة الخالصة .(1) انتهى .

(قُلْتُ : قَلَّدْنَا وَقَلَّدُوا) أي قلّدنا أئمّتنا وقلّدوا أئمّتهم .

(فَقَالَ : لَمْ أَسْأَلْكَ عَنْ هذَا) أي ليس سؤالي عن أصل التقليد ، بل عن التفاوت بينكم وبينهم في التقليد .

(فَلَمْ يَكُنْ عِنْدِي جَوَابٌ أَكْثَرُ مِنَ الْجَوَابِ الاْءَوَّلِ) ؛ يعني فسكتُّ عن الجواب ثانيا لجهلي به .

(فَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ عليه السلام : إِنَّ الْمُرْجِئَةَ نَصَبَتْ رَجُلاً) ؛ من باب ضرب ، أي أقامت رجلاً للإمامة من عند نفسها . وهذا أحد وجهي تسميتها بالناصبة والنواصب ، أو المراد قالت بإمامة رجل .

(لَمْ تَفْرِضْ) ؛ بصيغة المعلوم من باب التفعيل أو من باب ضرب ، وفيه ضمير(2) راجع إلى المرجئة .

(طَاعَتَهُ) ؛ منصوب على أنّه مفعول به ؛ أي لم يعدوا طاعته فرضا من اللّه ، فإنّهم لم يقولوا بأنّه مُفترض الطاعة بحيث لا يجوز مخالفته بالاجتهاد ؛ لأنّهم علموا أنّ غاية مجهوده في الفتوى أن يكون ظانّا مجتهدا فيها ، إمّا مخطئا وإمّا مصيبا ، أو لم يوجبوا طاعته .

وعلى الثاني في الكلام دلالة على أنّهم يوجبون من عند أنفسهم أشياء ، ولكن لم يوجبوا طاعته بحيث لا يجوز مخالفته بالاجتهاد .

(وَقَلَّدُوهُ) أي في كلّ فتاويه .

(وَأَنْتُمْ نَصَبْتُمْ رَجُلاً) ؛ من باب مجاز المشاكلة(3) ، فإنّ الرجل منصوب من عند اللّه ورسوله ، أي قلتم بإمامة رجل ، ومراده بالرجل نفسه عليه السلام . .

ص: 451


1- الملل والنحل للشهرستاني ، ج 1 ، ص 139 ، معنى الإرجاء .
2- في «ج» : «ضمير فيه» بدل : «فيه ضمير» .
3- مجاز المشاكلة : ذكر الشيء بلفظ غيره لمصاحبته ذلك الغير ، نحو : قالوا اقترح شيئا نجدُّ لك طبخه *** قلت اطبخوا لي جبّة وقميصا حيث ذكر خياطة الجبّة بلفظ الطبخ لمصاحبته طبخ الطعام .

(وَفَرَضْتُمْ طَاعَتَهُ) ؛ بصيغة المعلوم من باب التفعيل أو من باب ضرب ، وعلى الثاني يكون من باب مجاز المشاكلة ، فإنّ الفارض هو اللّه ورسوله ؛ أي قلتم بأنّه مفترض الطاعة لا يجوز مخالفته بالاجتهاد ، معصوم في كلّ فتاويه عن الخطأ .

(ثُمَّ لَمْ تُقَلِّدُوهُ) أي في كلّ فتاويه ، و«ثمّ» للتعجّب .

(فَهُمْ أَشَدُّ مِنْكُمْ تَقْلِيدا) . هذا شكاية عظيمة منه للشيعة في زمانه عليه السلام ، ولعلّ باعثها عدم سكوتهم عمّا لم يعلم ، أو عدم اهتمام بعض الشيعة بالتقيّة مع صدور التشديد عن الأئمّة في أمرها .

الثالث : (مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ شَاذَانَ ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عِيسى ، عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ عَبْدِ اللّه ِ ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام فِي قَوْلِ اللّه ِ عَزَّ وَجَلَّ : «اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْبابا مِنْ دُونِ اللّه ِ»(1) فَقَالَ : وَاللّه ِ ، مَا صَامُوا لَهُمْ وَلاَ صَلَّوْا لَهُمْ ، وَلكِنْ أَحَلُّوا لَهُمْ حَرَاما ، وَحَرَّمُوا عَلَيْهِمْ حَلاَلاً ، فَاتَّبَعُوهُمْ) .

ظهر معناه ممّا مرَّ في أوّل الباب . .

ص: 452


1- التوبة (9) : 31 .

باب البدع والرأي والمقاييس

الباب العشرون بَابُ الْبِدَعِ وَالرَّأْيِ وَالْمَقَايِيسِ

فيه اثنان وعشرون حديثا ، أو ثلاثة وعشرون إن عدّ ما في السابع عشر حديثين ، أو أربعة وعشرون إن عُدّ ما في التاسع عشر أيضا حديثين .

«البدع» بكسر الموحّدة وفتح المهملة جمع «بِدعة» بالكسر ؛ يُقال : بدع - كحسن - أي حدث لا عن مثال سابق ، وبدعه - كمنعه - أي اخترعه وأحدثه لا عن مثال سابق كابتدعه . والبدعة الاسم من الابتداع ، كالرفعة من الارتفاع ، والخِلفة من الاختلاف .(1)

والمراد بالبدع هنا الأهواء ، وهي الاعتقادات المبتدأة ، أي الغير المستندة إلى قرينة ولا أصل يُقاس عليه ، بقرينة مقابلتها بالرأي والمقاييس .

ومنه ما روي عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله أنّه قال : «كلّ محدثة بدعة»(2) . تأنيث «محدثة» لأنّ المراد طريقة محدثة ، وظاهر أنّه ليس مراده بيان المعنى(3) اللغوي ، بل مراده أنّ كلّ حكم حدث بعد ما لم يكن مستند البتّة إلى اتّباع الهوى والاعتقاد المبتدأ بلا واسطة أو بواسطة .

ومثله ما روى ابن بابويه في معاني الأخبار أنّه جاء رجل إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال : أخبرني عن السنّة والبدعة ، وعن الجماعة ، وعن الفرقة؟ فقال أمير المؤمنين عليه السلام :

ص: 453


1- الصحاح ، ج 4 ، ص 1355 (خلف) .
2- الأمالي للطوسي ، ص 337 ، المجلس 12 ، ح 26 ؛ تحف العقول ، ص 151 ؛ كشف الغمّة ، ج 2 ، ص 134 ؛ بحارالأنوار ، ج 2 ، ص 301 ، ح 30 ؛ مستدرك الوسائل ، ج 12 ، ص 325 ، ح 5 .
3- في «ج» : «معنى» .

«السُنّة : ما سنَّ رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، والبدعة : ما اُحدث من بعده ، والجماعة : أهل الحقّ وإن كانوا قليلاً ، والفرقة : أهل الباطل وإن كانوا كثيرا»(1) انتهى .

«والرأي» بفتح الراء وسكون الهمزة والخاتمة : الظنّ الحاصل بالاجتهاد بدون أصل يُقاس عليه ، وجمعه «أرءاء» و«آراء» على القلب ، ولم يجمع ، مع أنّ سابقه ولاحقه جمع للإشارة إلى كثرة أنواع البدعة والمقيس وقلّة الرأي حتّى قال بعض أصحابنا : إنّ ما يجد المجتهدون أنفسهم عليه اعتقاد مبتدأ لا ظنّ عن أمارة(2) ، أو لأنّه مصدر دونهما ، وجمع المصدر قليل .

«والمقاييس» بالخاتمتين جمع «مقيس» بردّه إلى أصله ، وهو مقيوس - كمحصور ومحاصير - تقول قاسه به وعليه وإليه، من باب ضرب ، قيسا بالفتح ، وقياسا بكسر القاف ، أي نسبه وأضافه إليه لاستنباط معنى ، سواء كان الاستنباط علميّا أم ظنّيا ، وسواء كان المعنى حكما بحسب الدِّين أم بحسب الدنيا ، أم غير حكم .

والمراد بالحكم الحسنُ والقبح وأقسامهما وما يتعلّق بهما ، ويسمّى الشيء الأوّل مقيسا ، والثاني(3) مقيسا به ومقيسا عليه ومقيسا إليه .

هذا معنى القياس لغةً . وخصّ القياس في عرف الفقهاء بنسبة شيء إلى آخر لاستنباط حكم بحسب الدين ظنّي متعلّق بالأوّل .

خرج بقولنا : «الاستنباط» ما ليس للاستنباط ، بل للاتّعاظ والانزجار ، كما في قوله تعالى : «فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِى الاْءَبْصَارِ»(4) ، فإنّه بعد قيام الدلالة القطعيّة على الحكم .

وخرج بقولنا : «حكم» ما لاستنباط غير الحكم ، كما في قوله تعالى في سورة المؤمنين : «وَإِنَّ لَكُمْ فِى الاْءَنْعَامِ لَعِبْرَةً»(5) ، وكاستنباط كون بعض الأفعال ممّا يتناوله .

ص: 454


1- معاني الأخبار ، ص 155 ، باب معنى الجماعة والفرقة والسنة والبدعة ، ح 3 .
2- الشافي في الامامة للمرتضى ، ج 1 ، ص 171 .
3- في «ج» : - «مقيسا والثاني» .
4- الحشر (59) : 2 .
5- المؤمنون (23) : 21 .

الخطاب ، ويقصده المتكلِّم في نفس خطابه ليعمل به ، سواء لم يكن الحكم الواقعي معلوما ولا مظنونا ، أم كان أحدهما ، كالضرب في : «لاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ»(1) ، وكالنبيذ في «الخمرُ حرام لسكره» .

ومثل هذين قد يسمّيان قياسا بطريق أولى وقياسا منصوص العلّة ، وذلك إذا اُريد بهما استنباط حكم ظنّي ، وكدخول باقي الرجال في ظاهر الجواب عن السؤال رجل فعل كذا وكذا أو في نصّه ونحو ذلك ، وكاستنباط المساحة في قولك : قست الثوب بالذراع .

وخرج بقولنا : «بحسب الدين» ما لاستنباط نحو حسن شرب بعض الأدوية للمريض ؛ أي نفعه له بحسب الدنيا .

وخرج بقولنا : «ظنّي» ما لاستنباط الأحكام القطعيّة .

وخرج بقولنا : «متعلّق بالأوّل» ما لاستنباط حكم هو نفس الأوّل ، كقولنا : الصلاة واجبة ؛ لقوله تعالى : «أَقِمْ الصَّلاَةَ»(2) . ومن هذا القبيل القياس باصطلاح المنطقيّين ، إلاّ أنّه غير مخصوص باستنباط الحكم بالمعنى السابق .

[أقسام القياس]

والقياس قسمان :

الأوّل : أن يكون الحكم في المقيس مبنيّا على حكم في المقيس عليه مماثلاً له ، ويسمّى قياس المساواة .

الثاني : أن يكون مبنيّا عليه مخالفا له ، ويسمّى قياس العكس .

وقياس المساواة على ثلاثة أقسام :

الأوّل : أن يلاحظ فيه العلّة في المقيس عليه صريحا ، كما في قياس النبيذ على الخمر لعلّة السكر ، ويسمّى قياس العلّة . .

ص: 455


1- الإسراء (17) : 23 .
2- هود (11) : 114 .

الثاني : أن يلاحظ فيه ما يلازم العلّة ، كما في قياس النبيذ على الخمر لرائحة المشتدّ .

الثالث : أن يلاحظ فيه نفي الفارق ، ويسمّى القياس بتنقيح المناط ، والقياس في معنى الأصل والقياس بنفي الفارق .

ولا يخفى أنّ القسمين الأوّلين يجريان في قياس العكس أيضا .

وقياس العكس على قسمين :

الأوّل : ما يثبت فيه نقيض حكم الأصل بنقيض علّة حكم الأصل ، نحو : الوتر يؤدّى على الراحلة ؛ لأنّه نفل قياسا على صلاة الصبح لمّا كانت فرضا لم تؤدّ على الراحلة .(1)

الثاني : ما يثبت فيه نقيض حكم الأصل بنقيض معلول حكم الأصل ، نحو : الوتر نفل ؛ لأنّه يؤدّى على الراحلة قياسا على صلاة الصبح لمّا كانت فرضا لم تؤدّ على الراحلة .

ثمّ القياس جليّ وخفيّ ؛ والجليّ : قياس الأولويّة وقياس منصوص العلّة ، والخفيّ : ما عداهما . وأمّا إذا كان نفي الفارق معلوما قطعا مع العلم بحكم الأصل ، فهو خارج عن حدّ القياس المتنازع فيه ؛ لأنّه يفيد القطع بالحكم ، وحينئذٍ يسمّى تنقيح المناط في الدلالة وتشبيها أيضا ، كما يجيء في «كتاب التوحيد» في رابع «باب في إبطال الرؤية» من قوله عليه السلام : «وكان ذلك التشبيه ؛ لأنّ الأسباب لابدّ من إتّصالها(2) بالمسبّبات» . ويظهر بذلك كثرة أنواع القياس .

والمراد بالمقاييس هنا ما اُثبت بالقياس من الأحكام .

قيل : وفي الفقهاء من فَصَلَ بين القياس والاجتهاد(3) ، وفيهم مَن أدخل القياس في الاجتهاد وجعل الاجتهاد أعمّ منه .(4) انتهى . .

ص: 456


1- اُنظر: وسائل الشيعة ، ج 4 ، ص 325 ، باب 14 ، باب عدم جواز صلاة الفريضة والمنذورة على الراحلة .
2- في «أ ، ج» : «إيصالها» .
3- في حاشية النسخ : «ذكر مضمونه السيد المرتضى في الذريعة» . الذريعة ، ج 2 ، ص 669 ، فصل في القياس والاجتهاد .
4- الذريعة للسيد المرتضى ، ج 2 ، ص 672 .

وهذا ليس نزاعا حقيقةً ، بل راجع إلى بيان وقوع الاستعمالين ، والرأي مساوق للاجتهاد ، فظاهر العنوان الأوّل .

الأوّل : (الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الاْءَشْعَرِيُّ ، عَنْ مُعَلَّى بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الْوَشَّاءِ ؛ وَعِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنِ ابْنِ فَضَّالٍ جَمِيعا ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ حُمَيْدٍ) ؛ بضمّ المهملة . (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ، قَالَ : خَطَبَ أَمِيرُ الْمُوءْمِنِينَ عليه السلام النَّاسَ ، فَقَالَ : أَيُّهَا النَّاسُ ، إِنَّمَا بَدْءُ)(1) ؛ بفتح الموحّدة وسكون المهملة والهمزة ، أي سبب .

(وُقُوعِ الْفِتَنِ) ؛ بكسر الفاء وفتح المثنّاة فوقُ ، جمع «فِتنة» بالكسر ، والمراد بها هنا الاختلاف في الفتوى والقضاء عن ظنّ . وقد يُراد بها الضلال أو الإضلال أو الكفر . ويحتمل أن يُراد بها هنا الامتحان والاختبار من اللّه تعالى مع خروج الممتحنين إلى القبيح ، فإنّ ما ذكر بقضاء اللّه .

(أَهْوَاءٌ) ؛ جمع «هوى» بالفتح مقصورٍ ، وهو ميل النفس إلى شيء .

(تُتَّبَعُ) ؛ بصيغة المجهول من باب الافتعال ، أي يَتْبَعُها صاحبوها ويعملون على مقتضاها . والمراد أنّ سبب وقوع الاختلافات الاجتهاديّة الظنّيّة في الحلال والحرام ليس إلاّ اتّباع الأهواء ، وهو المعبّر عنه بتداكر العلم وبصفة الحلم فيما مضى في خامس السابع عشر .(2)

(وَأَحْكَامٌ تُبْتَدَعُ) ؛ بصيغة المجهول من باب الافتعال ، من قبيل عطف التفسير . والمراد بابتداع الأحكام أن لا تكون عن أمارة ولا عن أصل تستند إليه ، فهي اعتقادات مبتدأة . وهذا إشارة إلى قوله تعالى في سورة النحل : «وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللّه ِ الْكَذِبَ»(3) . .

ص: 457


1- في حاشية «أ» : «إمّا بالموحّدة والمهملة المضمومتين والواو المشدّدة مصدر بدأ يبدو : إذا ظهر ، وإمّا بفتح الموحّدة وتسكين المهملة والهمز أخيرا ، وفق ما في نهج البلاغة المكرمة من بدأت الشيء (م ح ق)» .
2- أي الحديث 5 من باب النوادر .
3- النحل (16) : 116 .

(يُخَالَفُ) ؛ بصيغة المجهول من باب المفاعلة ، استئنافٌ بياني ، أو صفة اُخرى لأحكام (فِيهَا) أي في الأحكام .

(كِتَابُ اللّه ِ) المخالفة بكون القضايا التي حكم بها منافيةً لما في كتاب اللّه صريحا ، فهي بمحض اللسان ، كما في سورة النحل من قوله : «وتَصِفُ ألْسِنَتِهِمُ الْكَذِبَ»(1) وقوله : «لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ»(2) .

(يَتَوَلّى) ؛ بصيغة المعلوم من باب التفعّل ، معطوفٌ على «يخالف» بحذف العاطف ، أو صفة اُخرى لأحكام من تولاّه : إذا اتّخذه وليّا ، أي ناصرا مفوّضا إليه اُموره ، كما في قوله تعالى في سورة الحجّ : «كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ»(3) .

(فِيهَا) ؛ أي في الأحكام و«في» للتعليل أو للظرفيّة ، والتولّي على الأوّل التقليد في مسائل الحلال والحرام ، وعلى الثاني التقليد في تأويل الآيات البيّنات .

(رِجَالٌ) ؛ جمع كثرة ، وهم التابعون لقواعد الضلالة .

(رِجَالاً) ؛ هم من سنّ قواعد الضلالة ، فإنّ من نظر إلى كثرة المخالفين وشهرة قواعدهم بين الناس عصرا بعد عصر افتتن ، إلاّ من رحم اللّه .

(فَلَوْ) ؛ الفاء للتفريع على الحصر المدلول عليه بإنّما في قوله : «إنّما بدء وقوع الفتن» .

(أَنَّ) ؛ بفتح الهمزة والتشديد ، وموضعها عند جميع النحاة رفع ، فعند سيبويه بالابتداء ، ولا يحتاج إلى خبر ؛ لاشتمال صلتها على المسند والمسند إليه(4) ، وقيل : على الابتداء والخبرُ محذوف ، ثمّ قيل : يقدّر مقدّما ، أي فلو ثابت خلوص الباطل ، وقيل : بل يقدّر مؤخّرا ، أي فلو خلوصه ثابت . والأرجح ما ذهب إليه المبرّد والزجّاج والكوفيّون من أنّه على الفاعليّة ؛ أي فلو ثبت خلوصه ؛ لأنّ فيه إبقاء «لو» على .

ص: 458


1- النحل (16) : 62 .
2- النحل (16) : 116 .
3- الحج (22) : 4 .
4- حكاه عنه في مغني اللبيب ، ج 1 ، ص 269 .

الاختصاص بالفعل .(1)

(الْبَاطِلَ) أي ما يجب الكفر به كإمامة الطاغوت .

(خَلَصَ) ؛ بصيغة المعلوم من باب نصر ، أي عن شوب أن يتأتّى فيه الأهواء بأن يكون كقولنا : الواحد نصف الثلاثة ، أو زوايا المثلّث مساوية لقائمة .

(لَمْ يَخْفَ) ؛ بصيغة المعلوم من باب علم ؛ يُقال : خفي - كعلم - إذا لم يظهر . والمراد لم يخف بطلانه .

(عَلى ذِي حِجًى) بكسر المهملة والجيم والقصر : العقل والفطنة . والمقصود أنّه لم يكن حينئذٍ ضلالة ولا في الكفر به ثواب ، كما يجيء في «كتاب الحجّ» في «باب ابتلاء الناس [واختبارهم] بالكعبة» .

(وَلَوْ أَنَّ الْحَقَّ) أي ما يجب التصديق به .

(خَلَصَ) أي عن شوب أن يتأتّى في ضدّه الأهواء بأن يكون كقولنا : الواحد نصف الاثنين أو زوايا المثلّث مساوية لقائمتين .

(لَمْ يَكُنِ اخْتِلافٌ) أي لم يختلف الحقّ في اثنين بأن يوفّق له واحد ويؤفك عنه آخر ، أو لم يختلف فيه اثنان بعد التأمّل فيه أو النظر إلى أدلّته ، فلم يكن ضلالة ولا في التصديق به ثواب ، كما يجيء أيضا في «باب ابتلاء الناس [واختبارهم] بالكعبة» .

(وَلكِنْ يُوءْخَذُ) ؛ بصيغة المجهول ، والفاعل هو اللّه تعالى .

(مِنْ هذَا) أي من الباطل .

(ضِغْثٌ) ؛ بكسر الضاد المعجمة وسكون الغين المعجمة والمثلّثة : قبضة من الحشيش أو ممّا أشبهه .(2)

(وَمِنْ هذَا) أي من الحقّ .

(ضِغْثٌ ، فَيُمْزَجَانِ) ؛ بصيغة المجهول من باب نصر ، أي يخلط الضغثان . .

ص: 459


1- مغني اللبيب ، ج 1 ، ص 269 .
2- الصحاح ، ج 1 ، ص 285 ؛ لسان العرب ، ج 2 ، ص 164 ؛ القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 169 (ضغث) .

(فَيَجِيئَانِ مَعا) أي في التكليف . والحاصل أنّ التكاليف الشرعيّة لا تخلو عن معارضات وهميّة .

(فَهُنَالِكَ) أي ففي هذا المكان الذي هو مكان مزج الحقّ والباطل .

(اسْتَحْوَذَ) أي غلب واستولى بخذلان اللّه تعالى. وهذه اللفظة ممّا جاء على الأصل من غير إعلال خارجة عن أخواتها نحو استقال واستقام .

(الشَّيْطَانُ عَلى أَوْلِيَائِهِ) أي على أحبّائه ، وذلك بحبّهم الدنيا ، واستحواذُه عليهم بإنسائه إيّاهم ذكر اللّه ، وهو كتاب اللّه باتّباعهم الأهواء ، وحكمهم بخلاف كتاب اللّه . وهو إشارة إلى قوله تعالى في سورة المجادلة : «اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللّه ِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمْ الْخَاسِرُونَ»(1) .

(وَنَجَا) أي من استحواذ الشيطان .

(الَّذِينَ سَبَقَتْ) أي في مشيّته تعالى ، وسيجيء تفسير المشيّئة في «كتاب التوحيد» في «باب في أنّه لا يكون شيء في الأرض ولا في السماء إلاّ بسبعة أو في علمه»(2) .

(لَهُمْ مِنَ اللّه ِ الْحُسْنى) . إشارةٌ إلى قوله تعالى في سورة الأنبياء : «إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ»(3) ؛ أي عن جهنّم . والحسنى تأنيث الأحسن ، أي الخصلة الحُسنى ، وهي اتّباع كتاب اللّه بترك الأهواء ، كما في قوله تعالى في سورة الكهف : «فَلَهُ جَزَاءُ الْحُسْنَى»(4) على قراءة رفع جزاء بلا تنوين للإضافة . أو المراد المشيّة الحسنى ، وهي التوفيق لهم لنهي النفس عن الهوى باتّباع كتاب اللّه وإن خالف الأهواء .

وهذا الفرق بين الطائفتين بالخذلان والتوفيق ممّا استأثر اللّه تعالى بالعلم بسرّه ، ولا .

ص: 460


1- المجادلة (58) : 19 .
2- عنوان الباب في الكافي المطبوع هكذا : «باب في أنّه لا يكون شيء في السماء والأرض إلاّ بسبعة» .
3- الأنبياء (21) : 101 .
4- الكهف (18) : 88 .

يجوز لنا الاستكشاف عنه ، كما في روايات كثيرة عن أهل البيت عليهم السلام (1) ، إنّما المعلوم لنا أنّ جميع ذلك برعاية الحكمة ، فلا يجوز له التبديل ولا يندم ، كما في قوله تعالى في سورة الأنعام : «وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقا وَعَدْلاً لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ»(2)في «ج» : «أظهرت» .(3) . وسيجيء بيانه في «باب الخير والشرّ» من «كتاب التوحيد» .

أو المراد المنزلة الحسنى ، وهي الجنّة والرضوان ، كما في قراءة تنوين «جزاء» أو عدم التنوين لالتقاء الساكنين .

الثاني : (الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، عَنْ مُعَلَّى بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُمْهُورٍ الْعَمِّيِّ) ؛ العمّ بفتح المهملة وشدّ الميم موضع بين حلب وأنطاكية .(4) ولقب مالك بن حنظلة ، وقيل : ابن زيد أبو قبيلة .(5)

(رَفَعَهُ(6) ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله : إِذَا ظَهَرَتِ(6) الْبِدَعُ) . مضى تفسير البدع في شرح عنوان الباب ، وظهورها : انتشارها وشهرتها أو حدوثها .

(فِي أُمَّتِي ، فَلْيُظْهِرِ الْعَالِمُ) أي إن لم يكن تقيّة ، سواء جوّز التأثير أم لا ، فإنّه لولا الإظهار لتوهّم العوامّ أنّها إجماعيّة .

(عِلْمَهُ) أي ما علم في النهي عن البدع ، أو علمه بالحكم الواقعي .

(فَمَنْ لَمْ يَفْعَلْ) أي فمن لم يُظهر من العلماء علمه مع الشرط .

(فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللّه ِ) ، فإنّه رضي بها أو تسامح فيها . والجملة خبريّة أو دعائيّة .

الثالث : (وَبِهذَا الاْءِسْنَادِ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُمْهُورٍ رَفَعَهُ ، قَالَ : قال رسول اللّه صلى الله عليه و آله مَنْ أَتى .

ص: 461


1- اُنظر: الكافي ، ج 1 ، ص 230 ، باب ما اعطي الأئمة عليهم السلام من اسم اللّه الأعظم .
2- الأنعام
3- : 115 .
4- معجم البلدان ، ج 4 ، ص 157 (عمّ) .
5- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 154 (عم) .
6- في الكافي المطبوع : «يرفعه» .

ذَا بِدْعَةٍ فَعَظَّمَهُ) أي بدون تقيّة (فَإِنَّمَا يَسْعى فِي هَدْمِ الاْءِسْلاَمِ) ؛ لأنّ تعظيمه يعينه على البدعة التي هي هادمة للإسلام .

الرابع : (وَبِهذَا الاْءِسْنَادِ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُمْهُورٍ رَفَعَهُ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله : أَبَى اللّه ُ لِصَاحِبِ الْبِدْعَةِ) أي للمزاول لها (بِالتَّوْبَةِ) ؛ الباء زائدة لتقوية التعدية ، والمراد أنّه(1) لا يوفّقه اللّه تعالى للتوبة .

(قِيلَ : يَا رَسُولَ اللّه ِ ، وَكَيْفَ ذلِكَ؟) أي بأيّ سبب لا يوفّق للتوبة؟

(قَالَ : إِنَّهُ) ؛ بكسر الهمزة ، والضمير للشأن أو لصاحب البدعة . (قَدْ أُشْرِبَ) ؛ بصيغة المجهول أو المعلوم ، وفاعله هو اللّه بقضائه أو الشيطان بإغوائه ، كما في قوله : «فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللّه ِ» ، والمنسي حقيقة هو اللّه . (قَلْبُهُ) ؛ بالرفع أو النصب . (حُبَّهَا) .

يُقال : اُشرب فلان حبَّ فلان ، أي خالط قلبه . والمقصود أنّه لا يتوب حقيقةً للإشراب وإن أظهر التوبة .

ويمكن أن يُحمل على هذا ما روى البرقي في كتاب المحاسن عن أبي عبداللّه عليه السلام أنّه قال : «كان رجل في الزمان الأوّل طلب الدنيا من حلال فلم يقدر عليها ، فطلبها حراما فلم يقدر عليها ، فأتاه الشيطان فقال : يا هذا قد طلبت الدنيا من حلال فلم تقدر عليها ، وطلبتها من حرام فلم تقدر عليها ، أفلا أدلّك على شيء يكثر به دنياك ويكثر به تبعك؟ قال : نعم ، قال : تبتدع دينا وتدعو إليه الناس ، ففعل ، فاستجاب له الناس وأطاعوه وأصاب من الدنيا» .

قال : «ثمّ إنّه فكّر وقال : ما صنعت شيئا ، ابتدعت دينا ودعوت الناس إليه ، ما أرى لي توبة إلاّ أن آتي مَن دعوته إليه فأردّه عنه» .

قال : «فجعل يأتي أصحابه الذين أجابوه ، فيقول : إنّ الذي دعوتكم إليه باطل ، وإنّما ابتدعته كذبا ، فجعلوا يقولون له : كذبت ، هو الحقّ ولكنّك شككت في دينك فرجعت عنه» . .

ص: 462


1- في «د» : - «أنّه» .

قال : «فلمّا رأى ذلك عمد إلى سلسلة ، فأوتد لها وتدا ، ثمّ جعلها في عنقه فقال : لا أحلّها حتّى يتوب اللّه عليَّ» .

قال : «فأوحى اللّه إلى نبيٍّ من أنبيائه أن قُل لفلان بن فلان : وعزّتي لو دعوتني حتّى تنقطع أوصالك ما استجبت لك حتّى تردّ مَن مات على ما دعوته إليه فيرجع عنه» .(1)

فإنّ ظاهر سياق الحديث أنّه لم يمت أحد ممّن استجاب له موتَ فناء ، بل إنّما مات موتَ كفر ونفاق ، ف- «على» في قوله : «من مات على ما دعوته» بنائيّة ، والمقصود أنّ انتفاء رجوعهم لانتفاء إخلاصك في قولك : «إنّ(2) الذي دعوتكم إليه باطل» إلى آخره ، ففعلك هذا مخادعة اللّه . فلا ينافي هذا الحديث آيات قبول اللّه التوبة عن عباده .

الخامس : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ وَهْبٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام يَقُولُ : قَالَ رَسُولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله : إِنَّ عِنْدَ كُلِّ بِدْعَةٍ تَكُونُ مِنْ بَعْدِي) .

المراد إمّا عصر الصحابة ، فيكون أمرا لهم بالرجوع إلى أهل البيت عليهم السلام في الاُمور المختلَف فيها ؛ فإنّ الأصحاب الذين روى البخاري وغيره فيهم أنّهم لم يزالوا مرتدّين على أعقابهم منذ فارقهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله قد أسّسوا أساس كلّ بدعة ؛ وإمّا إلى آخر الزمان .

(يُكَادُ بِهَا الاْءِيمَانُ) ؛ بصيغة مجهول من باب ضرب ، صفة اُخرى لبدعة . والكيد بالفتح : المكر ، أي التغليط والتلبيس . والإيمان : التصديق بالحقّ المعلوم بالآيات البيّنات المحكمات الناهية عن اتّباع الظنّ أو الحقّ نفسه أو أهله .

(وَلِيّا) . الوليّ فعيل من باب حسب : ضدّ العدوّ ، من الولي - بفتح الواو وسكون اللام - : القرب والدنوّ . والوليُّ أيضا مَنْ وَليَ أمرَ أحد ، مِنْ وَلِيَ الوالي البلد ، فإن جعل الوليّ هنا من الأوّل ، فالمراد وليّ اللّه ، وإن جعل من الثاني فالمراد وليّ الناس ، أي القائم باُمورهم . .

ص: 463


1- المحاسن ، ج 1 ، ص 207 ، باب البدع ، ح 70 .
2- في «ج» : - «إنّ» .

(مِنْ أَهْلِ بَيْتِي) ؛ هم : عليّ وفاطمة والحسن والحسين ومن يجري مجراهم بعدهم من الأئمّة الطاهرين ، ويحتمل أن يكون المراد هنا ما يعمّهم وأولادهم ، فإنّ «من» للتبعيض .

(مُوَكَّلاً) ؛ بصيغة اسم المفعول من باب التفعيل ، يُقال : وكّلته بأمر كذا توكيلاً ، أي جعلته حافظا له . (بِهِ ) أي بالإيمان .

(يَذُبُّ عَنْهُ) ؛ بالمعجمة وشدّ الموحّدة بصيغة معلوم باب نصر ، أي يدفع عن الإيمان كيد المبطلين أهل البدعة .

(يَنْطِقُ) - كيضرب - استئنافٌ بياني لقوله : «يذبّ» أي يتكلّم في مقام الإفتاء والقضاء ونحوهما .

(بِإِلْهَامٍ مِنَ اللّه ِ) . الإلهام: إلقاء تصوّر شيء في القلب وقت الحاجة ، والمراد هنا تحديث الملائكة في ليلة القدر ونحوها ، وهو إحضارهم جميع الدلائل القرآنيّة على مسائل الحلال والحرام المحتاج إليها في كلّ سنة سنة عند وليّ تلك السنة لئلاّ يحكم في شيء من المسائل عن ظنّ ؛ يعني أنّ كيد المبطلين هو أنّه لا يمكن العلم في أكثر مسائل الحلال والحرام في هذه الأزمان مع حاجة الناس إلى المفتي والقاضي ، فلابدّ من جواز الحكم عن ظنّ ، وهذا الكيد يبطل بالعلم بتحقّق وليّ ناطق عن اللّه بإلهام منه في كلّ زمان إلى انقراض التكليف ، ويظهر به الحقّ المعلوم بالآيات البيّنات المحكمات .

ولذا قال :

(وَيُعْلِنُ الْحَقَّ ، وَيُنَوِّرُهُ) . الإعلان : الإظهار ، والتنوير : البيان .

(وَيَرُدُّ كَيْدَ الْكَائِدِينَ) أي يدفع عن كلّ ما ينطق به شُبه المبطلين أهل البدعة عقليّاتهم ونقليّاتهم .

(يُعَبِّرُ) ؛ بالمهملة والموحّدة ومهملة ، تقول : عبّرت عن فلان تعبيرا : إذا تكلّمت عنه .

(عَنِ الضُّعَفَاءِ) أي عن المؤمنين الذين لم يزاولوا طرق الاستدلال ودفع الشُّبه .

ص: 464

(فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الاْءَبْصَارِ) . أمرٌ بالتفكّر(1) في عاقبة الاُمور ، أو هو كلام أبي عبداللّه عليه السلام ، وهو تعجّب من أمر الاُمّة حيث إنّهم مع سماعهم أمثال هذه من نبيّهم كيف تركوا أهل بيته ، واستندوا في جميع أحكامهم إلى أهوائهم وآرائهم ومقاييسهم وقلّدوا مجتهديهم ، بل خذلوا أهل بيته وقتلوهم .

والاعتبار : الاتّعاظ والتدبّر في عاقبة الشيء ، والمخالفون يفسّرونه بالقياس المتنازع فيه في الأحكام الشرعيّة . ومضى في شرح عنوان الباب ما يكفي في دفعه .

(وَتَوَكَّلُوا عَلَى اللّه ِ) ؛ للاحتراز عن مثل هذا الخذلان .

إن قلت : إذا كان المراد بقوله : «من بعدي» إلى آخر الزمان ، لم ينطبق على حال زمان غيبة الإمام .

قلت : المراد بقوله : «يذبّ» إلى آخره ، أنّه يذبّ إذا سُئل وروجع إليه ومُكِّن في الأرض .

وأيضا منصب الكائدين في هذا البحث الاستدلال إمّا معارضةً ، وإمّا نقضا إجماليّا لوجود الآيات البيّنات المحكمات ، فيكفي في دفعه احتمال تحقّق وليّ ناطق بإلهامٍ من اللّه ، غائب بسبب حدث المبطلين ، فهو ذابّ من هذه الحيثيّة ؛ وبعد التجاوز نقول : لا نسلّم أنّ الإمام الغائب عن جمع غائبٌ عن كلّ جمع ، كما يجيء في «كتاب الحجّة» في سادس عشر «باب في الغيبة» فلعلّه يذبّ في الجملة .

السادس :( مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ ؛ وَعَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ هَارُونَ بْنِ مُسْلِمٍ ، عَنْ مَسْعَدَةَ) ؛ بفتح الميم وسكون السين المهملة وفتح العين المهملة والدال المهملة والهاء . (بْنِ صَدَقَةَ ) ؛ بالصاد المهملة والدال المهملة والقاف المفتوحات والهاء . (عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ؛ وَعَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ ابْنِ مَحْبُوبٍ رَفَعَهُ) أي إلى أبي عبداللّه عليه السلام .

(عَنْ أَمِيرِ الْمُوءْمِنِينَ عليه السلام أَنَّهُ قَالَ : إِنَّ مِنْ أَبْغَضِ الْخَلْقِ إِلَى اللّه ِ عَزَّ وَجَلَّ) . البغض ضدّ الحبّ ، تقول : فلان باغض لي : إذا مَقَتَك ، ومبغوض إليّ : إذا مَقَتَّهُ . .

ص: 465


1- في «ج ، د» : «بالفكر» .

(لَرَجُلَيْنِ :) أوّلهما : صوفيهم ، وهو شبيه رهبان النصارى ، وثانيهما : مجتهدهم ، وهو شبيه أحبار النصارى . وقد مرَّ تفسيرهما في أوّل «باب التقليد» . أو أوّلهما : إمام الضلالة ، وثانيهما : المُفتي والقاضي من أتباع الأوّل(1) . وقيل : أوّلهما : مفتيهم ، وثانيهما : قاضيهم .(2)

(رَجُلٌ) . رفعه على أنّه خبر مبتدأ محذوف ، أي أحدهما رجل .

(وَكَلَهُ اللّه ُ إِلى نَفْسِهِ) . يُقال : وكل زيدٌ أمر ولده إلى غيره - كضرب - أي تركه واعتمد فيه على الغير ، فالأصل : وكل اللّه أمره إلى نفسه ، يعني خلاّه ونفسه .

إن قلت : الوكل إلى النفس مشتركٌ بين الرجلين ، فما وجه تخصيصه في الذكر بالأوّل؟

قلت : لأنّه في الأوّل أظهر وأقوى وأشدّ ، فإنّ الأوّل يكتسب ما ليس من ضروريّات دين الإسلام ولا من ضروريّات مذهبه بالرياضة ، فيتمسّك فيه بمعانٍ شعريّة يستحسنها بطبعه ولا يكتسبها من المدرّسين ، إنّما اكتسب من غيره طريق الرياضة فقط ، بخلاف الثاني ، فإنّه يبني آراءه في الغالب على قواعد وجهالات وضعها الاُصوليّون قبله ونسبوها إلى الشريعة واكتسبها منهم ، ولذا قال في الثاني : «قمش جهلاً» ، أو لأنّ الثاني فرع الأوّل ، وكذا الكلام فيما بعد هاتين الفقرتين .

(فَهُوَ جَائِرٌ) . الجور الميل عن القصد .

(عَنْ قَصْدِ السَّبِيلِ) . قصد : الوسط من كلّ شيء ، وهو بين الإفراط والتفريط . والمراد ما في قوله تعالى في سورة النحل : «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ»(3) . ومضى في عاشر باب النوادر . والميل عنه : الخروج عنه والذهاب إلى اليمين أو الشمال .

(مَشْعُوفٌ)(4) ؛ بالمعجمة والمهملة والفاء ، من شعفه الحبّ - كمنع - أي أحرق قلبه .

ص: 466


1- شرح نهج البلاغة ، ج 1 ، ص 286 . وحكاه عنه بدر الدين العاملي في الحاشية على اُصول الكافي ، ص 63 .
2- شرح اُصول الكافي للمازندراني ، ج 2 ، ص 242 .
3- النحل (16) : 43 - 44 .
4- في الكافي المطبوع : «مشغوف» .

أو أمرضه . وفي بعض النسخ بالغين المعجمة ، من شغفه الحبّ : إذا أصاب شغافه ، وهو غلاف القلب ، أي دخل حبّه تحت الشغاف .

(بِكَلاَمِ بِدْعَةٍ) : بما يعظ به مريديه وأتباعه في السلوك والسيرة من المعاني الشعريّة وغيرها التي يستحسنها طباع العوامّ ، وليس في الشريعة منها أثر .

(قَدْ لَهِجَ بِالصَّوْمِ وَالصَّلاةِ) . اللهج بالشيء، بالجيم بفتحتين من باب علم : الحرص فيه لاعتياده ، ويجيء في «كتاب الإيمان والكفر» في ثاني «باب الصدق وأداء الأمانة» : «لا تغترّوا بصلاتهم ولا بصيامهم ؛ فإنّ الرجل ربّما لهج بالصلاة والصوم حتّى لو تركه استوحش» .

(فَهُوَ فِتْنَةٌ) ؛ بالكسر ، أي امتحان واختبار . والحمل مجاز .

(لِمَنِ افْتَتَنَ بِهِ) ؛ بصيغة المجهول أو المعلوم ، يُقال : افتتنه : إذا امتحنه واختبره فافتتن ؛ متعدّ لازم ، ثمّ كثر استعمالهما فيمن أخرجه الاختبار إلى القبيح ، وهو المراد هنا .

(ضَالٌّ عَنْ هَدْيِ(1) مَنْ كَانَ قَبْلَهُ) . الهدى بضمّ الهاء والمهملة والقصر : الرشاد والإرشاد ، وبفتح الهاء وسكون الدال والخاتمة : الإرشاد والسيرة ، أي عن طريقة السؤال فيما لا يعلم ، فإنّه لا يسأل أصلاً ، بل يعتمد على طريقة الرياضة وهوى نفسه ، أو عن طريقة سؤال أهل الذِّكر .

والمراد بمن كان قبله الأنبياء عليهم السلام ، قال تعالى في سورة الأنعام : «أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّه ُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ»(2) ، وقال فيها : «إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَىَّ»(3) ، وقال في سورة يوسف : «قُلْ .

ص: 467


1- في حاشية «أ» : «عن هدى من كان قبله» بفتح الهاء وكسرها وسكون المهملة ، أي عن سيرته وطريقته ، يقال : هدى هدْي فلان أي سار بسيرته وعمل بطريقته ؛ قاله في الصحاح . وقال في النهاية : ومنه الحديث «واهدوا هدي عمار» والحديث الآخر «الهدي الصالح والسمت الصالح جزء من خمسة وعشرين جزءا من النبوة» بكسر الهاء وفتحها معا وبسكون الدال في الجميع وكذلك ضبطناه ورويناه في دعاء سيد الساجدين عليه السلام في الصلاة على اتّباع الرسول ومصدّقيهم من الصحيفة الكريمة (م ح ق)» . اُنظر: الصحاح ، ج 5 ، ص 253 ؛ النهاية ، ج 5 ، ص 253 (هدا) .
2- الأنعام (6) : 90 .
3- الأنعام (6) : 50 .

هَذِهِ سَبِيلِى أَدْعُو إِلَى اللّه ِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِى»(1) .

(مُضِلٌّ) ؛ بتحسين طريقته وترجيحها على طريقة السؤال .

(لِمَنِ اقْتَدى بِهِ فِي حَيَاتِهِ) أي لمريديه وأتباعه .

(وَبَعْدَ مَوْتِهِ) حين يقوم خليفته مقامه ، ويستند إليه في طريقته .

(حَمَّالُ خَطَايَا غَيْرِهِ ، رَهْنٌ بِخَطِيئَتِهِ) . «حَمّال» بفتح المهملة وشدّ الميم ، و«خطايا» جمع «خطيئة» وإضافتها تفيد العموم .

إن قلت : إن كان المراد خطاياه حقيقة فينافي(2) ذلك قوله تعالى في سورة العنكبوت : «وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ»(3) ، وإن كان المراد خطاياه مجازا ؛ أي أمثالها لإضلاله إيّاه كما مرّ في رابع «باب ثواب العالم والمتعلِّم» فعموم الخطايا ينافي قوله تعالى في سورة النحل : «لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ»(4) .

قلت : المراد الأوّل ، ولا منافاة ؛ لأنّ المراد بالحمل ادّعاء الحمل ، كما في قوله : «وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ» لا الحمل الحقيقي ؛ أو المراد الثاني ، والمقصود المبالغة للإشارة إلى كثرة الحمل باعتبار كثرة التابعين وكثرة الخطايا باعتبار كثرة تبعيّة الغير له . والمراد بخطيئته ما عدا ما يثبت عليه بسبب عمل الغير من الخطايا .

(وَرَجُلٌ قَمَشَ) ؛ بالقاف والمعجمة بصيغة الماضي المعلوم من باب نصر أو باب التفعيل ، أي اكتسب من اُستاديه . والقمش : جمع شيء من هنا وهنا ، وكذلك التقميش ، .

ص: 468


1- يوسف (12) : 108 .
2- في حاشية «أ» : «قوله: فينافي إلى آخره ، دخول الفاء على المضارع المثبت الواقع جزاءا إما مبنيّ على الجواز ولو قليلاً ، وإما مبنيّ على تقدير المبتدأ ، أي فهو ينافي ؛ وعلى الوجهين خرّج قوله تعالى : «وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ» . (مهدي)» .
3- العنكبوت (29) : 12 - 13 .
4- النحل (16) : 25 .

وذلك الشيء قماش بالضمّ ، يُقال : ما أعطاني إلاّ قماشا ، أي أردأ ما وجده .(1)

(جَهْلاً) ؛ هو الاعتقاد الذي ليس بعلم ، مثل ما تلاحق فيه أفكار أهل الرأي ، كما سطّره الفقهاء والمتكلِّمون والاُصوليّون منهم في كتبهم من القواعد وكانت ممهّدة في زمانه عليه السلام وزادت قرنا بعد قرن .

(فِي جُهَّالِ النَّاسِ) . «في» للتعليل أو للظرفيّة ، والجهّال على الأوّل الاُستادون ، وعلى الثاني الشركاء .

(عَانٍ(2) بِأَغْبَاشِ الْفِتْنَةِ) ؛ صفة ثانية لرجل ، و«عان» اسم فاعل من الناقص ، من عنا يعنو : إذا صار أسيرا . والباء للآلة ، يعني أنّه أسير الشيطان بأغلال هي أغباش الفتنة . والأغباش جمع «غَبَش» بفتح المعجمة وفتح الموحّدة والمعجمة ، وهو بقيّة الليل أو ظلمة آخره(3) ؛ عبّر بها عن الجهالات والشبهات الموسوسة ، والفتنة : الاختلاف ، والإضافة لأنّ الأغباش تفضي إلى الاختلاف .

(قَدْ سَمَّاهُ أَشْبَاهُ النَّاسِ عَالِما) . الناس بتخفيف السين اسم جمع الإنسان ، وبشدّها نوع من الحيوان خلق على صورة الإنسان وليس بإنسان ، كالنسناس بفتح النون وكسرها . والأوّل مبنيّ على أنّ المراد بالناس العقلاء ، والمقصود التشبيه في الصورة والمباينة في المعنى ، كما في آية سورة البقرة : «قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّه ُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا»(4) ، أو مبنيّ على أنّ اللام للعهد ؛ أي المعروفون بأنّهم مفسدون في الأرض .

ص: 469


1- القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 285 ؛ تاج العروس ، ج 9 ، ص 176 (قمش) .
2- في حاشية «أ» : «غان بالغين المعجمة والنون المنوّنة بالكسر بعد الألف ، من غِنى بالكسر يغني ، أي عاش ، وغنى بالمكان بالكسر أيضا يغني كبقي يبقى ، أي أقام به ، وقد رأيت في بعض نسخ نهج البلاغة المكرمة : غار ، باعجام الغين وبالراء المنوّنة ، من غرى بالشيء بالكسر يغري به بالفتح ، أي ولع به وشغفه الافتنان لحبّه . والأصحّ فيه الأوّل على ما يشهد به قوله عليه السلام : ولم يغن فيه يوما سالما ، بفتح الياء والنون وسكون المعجمة بينهما ، وأما «عان» بإهمال العين ، من عنى بالكسر عناءا ، أي تعب ونصب فمن التصحيفات والتحريفات المستهجنة ، وبأغباش الفتنة بالغين والشين المعجمتين والباء الموحدة قبل الألف جمع غبش ، والغبش بالتحريك : البقية من الليل قبيل الفجر (محق)» .
3- الفائق في غريب الحديث ، ج 1 ، ص 405 (الأغباش) .
4- البقرة (2) : 275 .

ولا يكادون يفقهون قولاً وهم يأجوج ومأجوج ، والمقصود التشبيه في المعنى .

(وَلَمْ يَغْنَ) ؛ بسكون المعجمة وفتح النون بصيغة المضارع المعلوم ، من غني - كعلم - إذا عاش ، وغني بالمكان : إذا أقام به .(1)

(فِيهِ) أي في العلم(2) (يَوْما) أي في وقت (سَالِما) أي عن وسوسة الشيطان ، وهو حال عن فاعل «لم يغن» وإشارة إلى أنّه غنيّ بالعلم بمضمون الآيات البيّنات المحكمات ، وأنكره بمحض اللسان لوسوسة الشيطان ، كما في سورة النحل من قوله تعالى : «وَ تَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ»(3) ، وقوله : «لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ»(4) كما مضى في شرح خامس السابع عشر(5) عند قوله : «بتذاكر العلم وصفة الحلم» . ونظيره قوله تعالى في سورة النمل : «وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ»(6) .

(بَكَّرَ) ؛ بموحّدة ومهملة بصيغة الماضي المعلوم من باب التفعيل ، وهو استئناف بياني لقوله : «قمش» إلى آخره . والتبكير : الإتيان في أوّل اليوم أو في أوّل أيّ وقت كان ، والمعنى : بادر إلى أبواب الجهلة لتحصيل الجهالات .

(فَاسْتَكْثَرَ) ؛ بمثلّثة ومهملة بصيغة المعلوم من باب الاستفعال ، أي فاستكثره ؛ والضمير المحذوف للجهل ، تقول : استكثرت الماء : إذا اكتسبت منه كثيرا .

(مَا) ؛ موصولة ، وهي عبارة عن الجهل ، ومحلّها رفع على الابتداء ، والجملة معترضة .

(قَلَّ) ؛ بصيغة الماضي المعلوم من باب ضرب ، وفيه ضمير الموصول .

(مِنْهُ) . «من» للتبعيض ، والضمير للجهل . .

ص: 470


1- الفائق في غريب الحديث ، ج 2 ، ص 17 (غنى) ؛ الفروق اللغوية لأبي هلال العسكري ، ص 63 .
2- في «أ» : «العالم» .
3- النحل (16) : 62 .
4- النحل (16) : 116 .
5- أى الحديث 5 من باب النوادر .
6- النمل (27) : 14 .

(خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ) ؛ بمثلّثة ومهملة بصيغة الماضي المعلوم من باب حسن ، وهذا كناية عن أنّ تركه رأسا خيرٌ من الشروع فيه ، وهذا مشاهد في جمع صرفوا دهرهم في تحصيل الجهالات لا يمكن صرفهم إلى الحقّ أصلاً ، ولا يثمر مكالمتهم ولا رؤيتهم للمؤمن إلاّ الأسف ، وأمّا المبتدئ ومَن لم يحصّل تلك أصلاً فأطوع للحقّ .

(حَتّى إِذَا ارْتَوى مِنْ آجِنٍ) . يُقال : روى من الماء بالكسر وارتوى وتروّى : إذا شربه بقدر حاجته ، وكذا إذا أخذه .(1) والآجن على وزن فاعل : الماء المتغيّر الطعم واللون(2) ؛ شبّه جهالاتهم به بمناسبة أنّ العلم يشبَّه بالماء في أنّه سبب الحياة .

(وَاكْتَنَزَ) . يُقال : اكتنز الشيء : إذا اجتمع وامتلأ .(3) والضمير المستتر فيه لآجن أو للرجل ، والنسبة مجاز ، وقيل : أي اتّخذ العلم كنزا .(4)

(مِنْ غَيْرِ طَائِلٍ) أي بغير فائدة .

(جَلَسَ بَيْنَ النَّاسِ قَاضِيا) . القضاء : الفصل بين متنازعين في دين أو ميراث أو نحوهما .

(ضَامِنا لِتَخْلِيصِ مَا الْتَبَسَ عَلى غَيْرِهِ) . تقول : خلصته من شوب كذا تخليصا : إذا نحيت الشوب عنه ، والفرق بينه وبين التلخيص أنّ الأوّل إبعاد الأجنبيّ ، والثاني إبعاد غير الأجنبيّ . وقيل : هو والتلخيص متقاربان ، ولعلّهما شيءٌ واحد من المقلوب .(5) انتهى . والمراد هنا التخليص من الشبهة والالتباس ، أي مفتيا فهو جامع لمنصبي القضاء والإفتاء .

(وَإِنْ خَالَفَ قَاضِيا سَبَقَهُ) أي زمانا إلى القضاء في قضيّة .(6) .

ص: 471


1- لسان العرب ، ج 14 ، ص 345 ؛ مختار الصحاح ، ص 143 ؛ القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 337 (روى) .
2- الصحاح ، ج 5 ، ص 2067 ؛ النهاية ، ج 1 ، ص 26 ؛ لسان العرب ، ج 13 ، ص 8 (أجن) .
3- الصحاح ، ج 3 ، ص 893 (كنز) . وانظر: كتاب العين ، ج 5 ، ص 321 ؛ لسان العرب ، ج 5 ، ص 401 (كنز) .
4- في حاشية «أ» : «القائل ابن أبي الحديد» . شرح نهج البلاغة ، ج 1 ، ص 284 .
5- غريب الحديث لابن قتيبة ، ج 1 ، ص 361 ؛ شرح نهج البلاغة ، ج 1 ، ص 284 .
6- في «ج» : «قضيته» .

(لَمْ يَأْمَنْ أَنْ يَنْقُضَ حُكْمَهُ) أي خاف نقض حكمه ؛ أو المراد جوّز لغيره نقض حكمه .

(مَنْ يَأْتِي بَعْدَهُ) أي من يصير قاضيا بعده .

(كَفِعْلِهِ بِمَنْ كَانَ قَبْلَهُ) . الظرف في «كفعله» صفة مفعول مطلق محذوف ، والعامل فيه ينقض ، ووجه الشبه كون كليهما بالرأي دون العلم ، وإنّما ذكر ذلك إشارة إلى أنّه إذا كان مخالفته قاضيا سبقه بالعلم أمِنَ أن ينقض حكمه قاضٍ آخر كذلك ، أي بالعلم ؛ لأنّه تناقض بين المعلومين . فالمقصود أنّه إن(1) خالف قاضيا كان مخالفته بالرأي والظنّ ، فجوّز لمن يأتي بعده أن ينقض حكمه ؛ لتجويزه الاختلاف في الحكم في الدِّين مع أنّه منهيٌّ عنه .

(وَإِنْ نَزَلَتْ بِهِ) أي في إفتائه وقضائه .

(إِحْدَى الْمُبْهَمَاتِ) ؛ بصيغة المفعول ، يُقال : أمرٌ مبهم ، أي لا مأتى له ، وأبهمتُ الباب : أغلقته .(2)

(الْمُعْضِلاَتِ) ؛ بصيغة اسم الفاعل ، يُقال : أعضلني فلان ، أي أعياني أمره ، وقد أعضل الأمر : اشتدّ واستغلق ، وأمرٌ معضِل لا يهتدى لوجهه ، والمعضلات : الشدائد(3) . والمراد بالمبهمات المعضِلات المسائل التي ليست من ضروريّات الدِّين ولا جارية مجراها .

(هَيَّأَ لَهَا حَشْوا) ؛ بفتح المهملة وسكون المعجمة : ما يُحشى به الفَرْش وغيره من القطن والصوف ونحوهما ، أي ضائعا ركيكا .

(مِنْ رَأْيِهِ) ؛ تبعيضيّة أو سببيّة ، وهذا الكلام كتفسير لقوله تعالى في سورة النحل : «أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ»(4) . .

ص: 472


1- في «ج» : «من» .
2- لسان العرب ، ج 12 ، ص 56 (بهم) .
3- الصحاح ، ج 5 ، ص 1766 ؛ مختار الصحاح ، ص 230 (عضل) .
4- النحل (16) : 76 .

(ثُمَّ) ؛ للتعجّب . (قَطَعَ(1)) ؛ بصيغة الماضي المعلوم من باب منع ، بمعنى أبان وفصل ، أي قطع الاحتمالات بإراءة الجزم والعلم اليقيني ، كما اشتهر بينهم أنّ ظنّيّة الطريق لا ينافي قطعيّة الحكم .(2) وذلك بترتيب قياس هكذا ، هذا ما استقرّ عليه ظنّ المجتهد ، وكلّ ما استقرَّ عليه ظنّ المجتهد يجب العمل به ، وأنّ المقدّمتين يقينيّتان ، مع أنّ كلاًّ منهما باطل ؛ فإنّ الاجتهاد - على ما عرّفوه - لا يكاد يعلم أحدٌ نفسه عليه فضلاً عن غيره ، وعلى تقدير العلم لا يجوز العمل به ، وتفصيله في محلّه .

ويحتمل أن يُراد بالقطع ما يعمّ فصل القاضي باصطلاح الفقهاء بين متنازعين في دين أو ميراث أو نحوهما .

(بِهِ ، فَهُوَ مِنْ) ؛ للسببيّة . (لَبْسِ) ؛ إمّا بفتح اللام وسكون الموحّدة مصدر قولك : لبست عليه الأمر كضربت أي خلطت ، واللبس أيضا اختلاط الظلام ، والإضافة إلى الفاعل ، وإمّا بضمّ اللام مصدر قولك : لبست الثوب كعلمت ، والإضافة إلى المفعول .

(الشُّبُهَاتِ) ؛ بالضمّ وبضمّتين وبضمّ المعجمة وفتح الموحّدة جمع «الشبهة» بالضمّ ، وأصلها الالتباس اُطلقت على باطل يلتبس بالحقّ ، وعلى ما يلتبس به(3) الباطل بالحقّ .

(فِي مِثْلِ) ؛ الظرف خبر المبتدأ . (غَزْلِ) ؛ بالفتح مصدر باب ضرب ، أي مغزول . (الْعَنْكَبُوتِ ) . شبّه الشُّبهات بغزل العنكبوت ، كلّ شبهة بطاقة منه ، وغزل العنكبوت مثَلٌ في كلّ شيء واهٍ ضعيفٍ .

(لاَ يَدْرِي) ؛ بصيغة المضارع الغائب المعلوم من باب ضرب ، وهو من أفعال القلوب ؛ بمعنى لا يعلم علّق بالاستفهام ، والجملة استئناف بياني لقوله : «هو في لبس الشبهات» إلى آخره .

(أَصَابَ) ؛ الاستفهام مقدّر بدليل معادلته مع . .

ص: 473


1- في المطبوع : + «به» . رياض المسائل ، ج 13 ، ص 35 ؛ مستند الشيعة ، ج 17 ، ص 21 ؛ قوانين الاُصول ، ص 6 ؛ كفاية الاُصول ، ص 469 .
2- وانظر: الفوائد المدنيّة ، ص 187 .
3- في «أ» : - «به» .

(أَمْ أَخْطَأَ) . والمراد إصابة الحكم الواقعي في حقّ المستفتي مثلاً وأخطاؤه ، ويحتمل أن يكون المراد إصابة الحكم الواصلي في حقّ نفسه باعتبار إفتائه مثلاً وإخطائه .

(لاَ يَحْسَبُ الْعِلْمَ فِي شَيْءٍ) أي لا يظنّ أو لا يعلم ، وهو بصيغة المضارع المعلوم من باب علم . قال الجوهري : «وهو من الأربعة النوادر التي جاء كسر العين أيضا في مضارعها ، وهي من السالم، كيبس ويئس ونَعِمَ»(1) انتهى .

ولعلّ مراده بالسالم ما لا يحذف فاؤها في المضارع . ومصدره «الحِسبان» بالكسر ، ولو كان بمعنى لا يعُدّ ، لكان من باب نصر لا غير ، ومصدره «الحُسبان» بالضمّ ، وهو استئناف بياني للاستئناف الأوّل أو لقوله : «هيّأ» إلى آخره ، كأنّ سائلاً قال : بِمَ تسلّت نفسه؟ فاُجيب : بأنّها تسلّت بزعمه أنّ غاية مجهود كلّ أحد الاجتهاد والظنّ ، ولا يتحقّق في أحدٍ العلمُ بما ليس من ضروريّات الدِّين من الفروع التي اجتهد فيها .

(مِمَّا أَنْكَرَ) ؛ بصيغة المعلوم من باب الإفعال ، أي لم يعرفه ؛ لأنّه لا يدري أصاب أم أخطأ ، أو لم يعتقده ؛ وحينئذٍ تخصيصه بالذِّكر مع أنّه لا يحسب العلم في شيء ممّا اعتقده أيضا ؛ لأنّ المناط للتسلّي الأوّلُ دون الثاني .

(وَلاَ يَرى) أي لا يظنّ من الرأي بمعنى المذهب ، أو لا يعلم كقوله تعالى : «إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدا * وَنَرَاهُ قَرِيبا»(2) ؛ الأوّل للظنّ ، والثاني للعلم .

(أَنَّ وَرَاءَ) ؛ بفتح الواو . وقيل : من المهموز .(3) وقيل : من المعتلّ اللام .(4) وهو منصوب على الظرفيّة إمّا بمعنى «خلف» كقولك : زيد في وراء الجدار ، وهو إشارة إلى دقّة المذهب ؛ وإمّا بمعنى «قدّام» كقوله تعالى : «وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ»(5) ؛(6) فهو إشارة إلى .

ص: 474


1- الصحاح ، ج 1 ، ص 112 (حسب) .
2- المعارج (70) : 6 - 7 .
3- في حاشية «أ ، ج» : «صاحب القاموس» . القاموس ، ج 1 ، ص 17 .
4- في حاشية «أ» : «القائل: الجوهري في الصحاح» . الصحاح ، ج 6 ، ص 2522 (ورى) .
5- الكهف (18) : 79 .
6- في حاشية «أ» : «هدد بن بدد - كزفر - : الملك الذي كان يأخذ كلّ سفينة غصبا ؛ عن البخاري (ق)» . القاموس المحيط ، ج 1 ، ص 348 (هدد) .

وضوح المذهب ، فإنّه من الأضداد . ولكلٍّ وجه هنا ، فإنّ تحقّق المذهب مجملاً واضح من محكمات القرآن ، والعلم بخصوصيّته في مسألة مسألة دقيق جدّا .

(مَا بَلَغَ فِيهِ) . «ما» موصولة وعبارة عن الآجن ، و«بلغ» - كنصر - يتعدّى إلى المفعول به بنفسه ، ومفعوله محذوف ؛ أي بلغ مراده وهو الارتواء ، والضمير المستتر المرفوع للرجل ، والضمير المجرور ل- «ما» . وفي نهج البلاغة : «ما بلغ منه» .(1) فيحتمل حينئذٍ أن يكون الضمير المستتر المرفوع ل- «ما» والضمير المجرور للرجل ، يُقال : بلغت من زيد ، أي أعجزته بحيث لم يقدر على دفع ضرري عن نفسه أصلاً ، والمفعول محذوف ، أي ما أردت أوكلّ مبلغ .

(مَذْهَبا) أي طريقة استنباط للفروع يفضي بصاحبها إلى علم بالفروع ، لا ظنّ ، كما في قوله تعالى في سورة النساء : «وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَ إِلى أُولِى اْلأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ»(2) .

(إِنْ قَاسَ شَيْئا بِشَيْءٍ) . استئنافٌ بياني لقوله : «هيّأ لها حشوا» إلى آخره ، فالمراد بشيء في الموضعين مسألة .

(لَمْ يُكَذِّبْ) ؛ إمّا بصيغة المعلوم من باب التفعيل أو الإفعال ، وفيه ضمير الفاعل ، يُقال : كذّبه تكذيبا وأكذبه : إذا زعمه كاذبا ؛ وإمّا بصيغة المعلوم من باب التفعيل ولا ضمير فيه ، من كذّب الوحشي : إذا جرى شوطا فوقف ؛ وإمّا بصيغة المجهول من باب التفعيل أو الإفعال ولا ضمير فيه .

(نَظَرَهُ) ؛ بالنصب على المفعوليّة ، أو الرفع على الفاعليّة أو على نيابة الفاعل . والمراد بنظره : قياسه . وفيه مجاز في الإسناد ، كما في قولك : لم يقطع سيف زيد إذا نبا ، أي إذا قاس حَكَمَ بسبب القياس ولم يكذب نفسه فيه .

وفي هذه الفقرة إشارة إلى كمال وهن القياس . .

ص: 475


1- نهج البلاغة ، ص 54 ، الخطبة 17 . وفيه : «أنّ مِن وراء ما بَلَغَ مذهبا لغيره» .
2- النساء (4) : 83 .

(وَإِنْ أَظْلَمَ عَلَيْهِ) . عطفٌ على قوله : «هيّأ لها» إلى آخره ، عطف المعادل على معادله ؛ أي وإن لم يتيسّر له أن يهيّئ لها حشوا من رأيه . ويحتمل العطف على قوله : «إن قاس» إلى آخره .

(أَمْرٌ) من المبهمات المعضلات (اكْتَتَمَ بِهِ) . يقال : كتمت الشيء كتما بالفتح وكتمانا بالكسر ، واكتتمته أيضا ، أي سترته ؛ فالباء لتقوية التعدية ، والضمير المجرور للأمر أو للإظلام .

(لِمَا يَعْلَمُ مِنْ جَهْلِ نَفْسِهِ) . علّةٌ للاكتتام ، و«ما» موصولة ، و«من» تبعيضيّة ، وهي إشارة إلى أنّه حين هيّأ له حشوا من رأيه أيضا جاهل ، لكنّه لا يعلم جهل نفسه. ويمكن أن يكون «من» بيانا ل- «ما» .

(لِكَيْ لاَ يُقَالَ لَهُ : لاَ يَعْلَمُ) . بيانٌ لعلّة غائيّة لترتّب الاكتتام على علمه بجهل نفسه نحو : ضربت ولدي لسوء أدبه لئلاّ يعود إلى مثله .

والحاصل أنّ ترتّب اكتتامه على علمه بجهله ليس لثواب اُخروي أو دفع عقاب اُخروي ، بل لدفع طعن الناس في الدنيا ، ولا يعلم بصيغة الغائب أو المخاطب ، واللام في «له» على الأوّل بمعنى «في» نحو قوله تعالى : «وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرا مَا سَبَقُونَا»(1) ، وعلى الثاني صلة «يقال» .

(ثُمَّ) ؛ للتعجّب ، وهو عطف على «اكتتم» .

(جَسَرَ) ؛ - ك- نصر - والجسارة على الشيء : الجرأة والإقدام .

(فَقَضى) . الفاء للتفصيل وعطف على «جسر» عطفَ المفصّل على المجمل ، وقضاؤه مبنيّ على زعمه أنّ المجتهد المتوقّف يقضي بما شاء .

(فَهُوَ) ؛ الفاء للتفريع على قضائه مع العلم بالجهل ، وهذا إلى قوله : «جهالات» ناظر إلى قوله في معادله : «فهو من لبس» إلى آخره .

(مِفْتَاحُ عَشَوَاتٍ) ، بفتحتين جمع «عشوة» بفتح المهملة وسكون المعجمة : الظلمة ، .

ص: 476


1- الأحقاف (46) : 11 .

ومنها قولهم : ركب فلان عشوةً : إذا باشر أمرا على غير بيانٍ .(1) جعلهُ مفتاح العشوات للمبالغة لأنّه قضى عالما بجهل نفسه ، مع أنّه ضَمِنَ تخليص ما التبس على غيره .

(رَكَّابُ) ؛ بفتح المهملة وتشديد الكاف للمبالغة ؛ لأنّه مع العلم بالجهل ، يقال : ركبه - كعلمه - : إذا علاه ، وركب الذنب وارتكبه : إذا اقترفه .(2)

(شُبُهَاتٍ) ، بضمّتين جمع «شبهة» بالضمّ .

(خَبَّاطُ) ؛ بفتح المعجمة وتشديد الموحّدة للمبالغة ؛ لأنّه مع العلم بالجهل ، يقال : خبط البعير الأرض بيده خبطا من باب ضرب : إذا ضربها حين المشي لا يتوقّى شيئا ، وخَبط الرجل : إذا طرح نفسه حيث كان لينام .(3)

(جَهَالاَتٍ) ؛ بفتح الجيم جمع «جهالة» بمعنى جهل .

(لاَ يَعْتَذِرُ مِمَّا لاَ يَعْلَمُ) . استئنافٌ لبيان قوله : «وإن نزلت به إحدى المبهمات» إلى آخره ، أي ينبغي له أن يعتذِر منها إذا نزلت به .

(فَيَسْلَمَ) ؛ بالنصب بتقدير «أن» وجوبا ؛ لأنّه بعد فاء السببيّة مسبوقا بنفي هو لا يعتذر ، أي فيسلم من الافتراء على اللّه المذكور في آية سورة النحل : «وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللّه ِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّه ِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ»(4) .

(وَلاَ يَعَضُّ فِي الْعِلْمِ بِضِرْسٍ قَاطِعٍ ؛ فَيَغْنَمَ) . العضّ، بفتح المهملة وشدّ المعجمة، من باب علم : إنشاب الأسنان في شيء .(5) والمراد بالعلم الآيات البيّنات المحكمات الناهية عن اتّباع الظنّ وعن الاختلاف عن ظنّ ، الآمرة بسؤال أهل الذِّكر عن كلّ مشكل . والباء للآلة ، والضرس بكسر المعجمة وسكون المهملة ومهملة : السنّ ، والكلام تمثيل . .

ص: 477


1- لسان العرب، ج 15 ، ص 59 (عشا) . وانظر: كتاب العين ، ج 2 ، ص 187 (عشو) .
2- لسان العرب ، ج 1 ، ص 428 (ركب) .
3- الصحاح ، ج 3 ، ص 1121 ؛ تاج العروس ، ج 10 ، ص 230 (خبط) .
4- النحل (16) : 116 .
5- النهاية ، ج 3 ، ص 252 ؛ لسان العرب ، ج 7 ، ص 188 (عضض) .

والمقصود أنّه لا يأخذ الآيات البيّنات المحكمات كما هو حقّها فيحصل له غنيمة ، أي فيستفيد علم الحلال والحرام بسؤال أهل الذِّكر عليهم السلام .

(يَذْرِي الرِّوَايَاتِ ذَرْوَ الرِّيحِ الْهَشِيمَ) . استئنافٌ لبيان قوله : «لايعتذر» إلى آخره ، يُقال : ذرت الريح التراب وغيره تذري وتذروا ذريا وذروا ، أي طيّرته ، ومنه ذرى الحنطة .(1) والهشم : كسر الشيء اليابس ، والهشيم من النبات : اليابس المتكسّر .(2)

والمراد أنّه يتفوّه بالروايات المكذوبة في بيان مسائل الحلال والحرام والأحكام وفي معارضة الآيات البيّنات المحكمات ، كما مرّ في سادس السابع عشر(3) في بيان قوله عليه السلام : «كم من مستنصحٍ للحديث مستغشٍ للكتاب» . ولذلك يسمّى أمثاله حشويّة .

(تَبْكِي) ؛ بدل تفصيل لقوله : «يذري» (مِنْهُ) أي من الرجل (الْمَوَارِيثُ) أي حين يحكم فيها بخلاف الحقّ ولغير المستحقّ .

(وَتَصْرُخُ مِنْهُ الدِّمَاءُ) . عطفٌ على «تبكي» ، يُقال : صرخ - كنصر - إذا(4) استغاث بصوت شديد . وهذا إشارة إلى أمثال ما يجيء في «كتاب القضايا والأحكام» في سابع آخر الأبواب(5) من حكم بني الخطّاب برجم امرأة(6) ومنع أمير المؤمنين عليه السلام إيّاه عن ذلك .

(يُسْتَحَلُّ) ؛ بصيغة المجهول بدل آخر ل- «يذري» لم يعطف على البدل الأوّل للتباين بين باب القتل والميراث ، وبين باب التزويج والطلاق ، يقال : استحلّ الشيء ، أي عدّه حلالاً .

(بِقَضَائِهِ الْفَرْجُ الْحَرَامُ) ، كما في الإخلال بشروط الطلاق ؛ فإنّه يستحلّه زوج آخر .

(وَيُحَرَّمُ) ؛ بصيغة المجهول من باب التفعيل ، عطفٌ على «يستحلّ» والتحريم : عدّ الشيء حراماً. .

ص: 478


1- غريب الحديث للحربي ، ج 1 ، ص 256 ، الحديث العاشر باب ذر .
2- لسان العرب ، ج 4 ، ص 203 (حظر) ؛ و ج 12 ، ص 612 (هشم) .
3- أي الحديث 6 من باب النوادر .
4- في «د» : «إذ» .
5- أي الحديث 7 من باب النوادر .
6- في النسخ : «رجل» والمثبت من حاشية نسخة «أ» وهو موافق لما في الكافي المطبوع .

(بِقَضَائِهِ الْفَرْجُ الْحَلاَلُ) ، كما في الإخلال بشروط الطلاق أيضا ؛ فإنّه يحرّم على الزوج الأوّل .

(لاَ مَلِيءٌ بِإِصْدَارِ مَا عَلَيْهِ وَرَدَ) . استئنافٌ لبيان قوله : «يذري» إلى آخره ، أو بدل ثالث لم يعطف على ما سبق للتباين بين الجملة الفعليّة والاسميّة ، والمليء، بفتح الميم وكسر اللام وسكون الياء والهمز : الثقة الغنيّ بعلمه ، وقد مَلُؤَ بالضمّ فهو ملئ وقد أولع الناس فيه بترك الهمز وتشديد الياء .(1) وهو خبر مبتدأ محذوف ؛ أي لا هو ملي . ويقال : صدر - كنصر - صدرا : إذا رجع . والإصدار : الإرجاع ، وضمير «عليه» للرجل ، وضمير «ورد» بصيغة الماضي المعلوم من باب ضرب ل- «ما» ، والمراد بإصدار ما ورد عليه جواب ما سئل عنه أو تُحوكم فيه إليه .

(وَلاَ هُوَ أَهْلٌ لِمَا مِنْهُ فَرَطَ) ؛ بالفاء والراء المهملة والطاء المهملة بصيغة الماضي المعلوم من باب نصر ، يُقال : فرط منّي إليه قول ، أي سبق من غير احتياط .(2) وضمير «منه» للرجل ، وضمير «فرط» ل- «ما» . ويحتمل أن يكون بصيغة الماضي المجهول من باب التفعيل ، أي نحّى ، يُقال : فرط اللّه منه وعنه ما يكره تفريطا ، أي أبعده منه ونحّاه عنه . والفاعل هنا اللّه بخذلانه . و«ما» الموصولة عبارة عن الحقّ والعلم به ، وضمير «منه» حينئذٍ ل- «ما» وضمير «فرط» للرجل ، أي وليس مستحقّا لأن يوفّقه اللّه تعالى لعلم الحقّ الذي أبعده اللّه منه . وعلى الأوّل «من» في قوله :

(مِنِ ادِّعَائِهِ عِلْمَ الْحَقِّ) . بيانٌ لما ، أي وليس أهلاً لدعوى علم الحقّ ، وعلى الأخير سببيّة ، أي لأنّ جهله المركّب مانع عن طلبه علم الحقّ ، أو لأنّه يدّعي استقلال العقل بعلم الحقّ في الأحكام الشرعيّة بدون سؤال أهل الذِّكر .

(السابع : الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ ، عَنْ مُعَلَّى بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ الْوَشَّاءِ ، عَنْ أَبَانِ بْنِ عُثْمَانَ ، عَنْ أَبِي شَيْبَةَ) ؛ بفتح المعجمة وسكون الخاتمة والموحّدة والهاء . .

ص: 479


1- النهاية ، ج 4 ، ص 352 (ملا) .
2- غريب الحديث لابن قتيبة ، ج 2 ، ص 184 ، حديث أم المؤمنين اُم سلمة ؛ النهاية ، ج 3 ، ص 434 ، (فرط) .

(الْخُرَاسَانِيِّ ، قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام يَقُولُ : إِنَّ أَصْحَابَ الْمَقَايِيسِ) . مضى معناها في شرح عنوان الباب .

(طَلَبُوا الْعِلْمَ) أي العلم الذي اُمروا بطلبه ، وهو الذي لا يجوز العمل إلاّ معه ، وهو العلم بالأحكام الواصليّة ، فإنّ الأحكام الواقعيّة مظنونة عندهم .

(بِالْمَقَايِيسِ) . الباء للسببيّة ، والظرف متعلّق ب- «طلبوا» أي جعلوها ذريعة إلى العلم بالأحكام الواصليّة ، ولو حمل المقاييس في هذا الحديث على أنّها جمع «مقياس» كمفاتيح ومفتاح واُريد بها قواعد أهل القياس ، لأمكن كون الباء صلةً ، والظرف متعلّقا بالعلم .

(فَلَمْ تَزِدْهُمُ الْمَقَايِيسُ مِنَ الْحَقِّ إِلاَّ بُعْدا) . يُقال : زاده اللّه خيرا - كباعه - فزاد وازداد خيرا . و«من» للنسبة كقوله : «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى» .(1) والحقّ : المعلوم بالآيات البيّنات المحكمات الناهية عن اتّباع الظنّ ، وما يتفرّع عليه من العلوم الحاصلة بسؤال أهل الذِّكر . والاستثناء مفرّغ ، و«بُعدا» تمييز للنسبة أو مفعول ثان .

(إِنَّ(2) دِينَ اللّه ِ) أي ما شرّعه لعباده من الأحكام الواصليّة أو من الأحكام الواقعيّة (لاَ يُصَابُ بِالْمَقَايِيسِ) . تأكيدٌ وتوضيح لما سبقه .

الثامن : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ أَبِيهِ ؛ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ شَاذَانَ رَفَعَهُ ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ وَأَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليهماالسلام ، قَالاَ : كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ ، وَكُلُّ ضَلاَلَةٍ سَبِيلُهَا إِلَى النَّارِ) .

هذا مطابق لما روى المخالفون أيضا عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله أنّه قال : «كلّ محدثة بدعة ، وكلّ بدعة ضلالة ، وكلّ ضلالة صاحبها في النار»(3) . ومضى معنى البدعة ، ومعنى كلّ .

ص: 480


1- صحيح البخاري ، ج 5 ، ص 129 ، باب غزوة تبوك ؛ صحيح مسلم ، ج 7 ، ص 120 ، باب من فضائل عليّ عليه السلام ؛ مسند أحمد ، ج 1 ، ص 170 ، مسند أبي إسحاق سعد بن أبي وقّاص.
2- في الكافي المطبوع : «وإنّ» .
3- المعجم الكبير للطبراني ، ج 9 ، ص 97 ، خطبة ابن مسعود ؛ الجامع الصغير ، ج 1 ، ص 243 ، ح 1604 ؛ كنزالعمّال ، ج 11 ، ص 10 ، ح 30405 .

محدثة بدعة في شرح عنوان الباب .

والمراد بالضلالة الكفر الباطني مع ظاهر الإيمان والشهادة بأنّ الرسول حقّ ، وإنّما كان كلّ بدعة ضلالة لأنّ كلّ بدعة بالمعنى الذي مضى وضع شريعة في مقابلة ما جاء به الرسول عليه السلام .

وفي نهاية ابن الأثير من المخالفين :

في حديث عمر في قيام رمضان نعمت البدعة ، هذه البدعة بدعتان : بدعة هدى ، وبدعة ضلال ، فما كان في خلاف ما أمر اللّه به ورسوله فهو في حيّز الذمّ والإنكار ، وما كان واقعا تحت عموم ما ندب اللّه إليه وحضّ عليه [اللّه] أو رسوله فهو في حيّز المدح ، وما لم يكن له مثال موجود كنوع من الجود والسخاء وفعل المعروف فهو من الأفعال المحمودة ، ولا يجوز أن يكون ذلك في خلاف ما ورد الشرع به ؛ لأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله قد جعل له في ذلك ثوابا فقال : «مَن سنَّ سنّة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها»(1) وقال في ضدّه : مَن سنَّ سنّة سيّئة كان عليه وزرها ووزر مَن عمِلَ بها ؛ وذلك إذا كان في خلاف ما أمر اللّه به ورسوله . ومن هذا النوع قول عمر : نعمت البدعة هذه لِما كانت من أفعال الخير وداخلة في حيّز المدح . سمّاها بدعة لأنّ النبيّ صلى الله عليه و آله لم يسنّها لهم ، وإنّما صلاّها ليالي ثمّ تركها ولم يحافظ عليها ، ولا جمعَ الناس لها ، ولا كانت في زمن أبي بكر ، وإنّما عمر جمع الناس عليها وندبهم إليها ، فبهذا سمّاها بدعة ، وهي على الحقيقة سنّة ؛ لقوله صلى الله عليه و آله : «عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين من بعدي(2)» وقوله : «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر»(3) وعلى هذا التأويل يحمل الحديث الآخر : «كلّ محدثة بدعة» إنّما يريد .

ص: 481


1- الكافي ، ج 5 ، باب وجوه الجهاد ، ح 1 ؛ تهذيب الأحكام ، ج 6 ، ص 124 ، باب أقسام الجهاد ، ح 1 ؛ المحاسن ، ج 1 ، ص 28 ، ح 8 ؛ الأمالي للمفيد ، ص 91 ، المجلس 23 ، ح 19 ؛ أعلام الدين ، ص 389 ؛ وسائل الشيعة ، ج 15 ، ص 24 ، ح 19937 ؛ صحيح مسلم ، ج 3 ، ص 87 ؛ مسند أحمد ، ج 4 ، ص 357 و 362 ؛ السنن الكبرى للبيهقي ، ج 4 ، ص 176 .
2- مسند أحمد ، ج 4 ، ص 126 ؛ المستدرك للحاكم ، ج 1 ، ص 96 ، عمدة القارى للعيني ، ج 23 ، ص 266 . وللسيد علي الميلاني رسالة في هذا الحديث مطبوعة من الرسائل العشر .
3- مسند احمد ، ج 5 ، ص 382 ، حديث حذيفة بن اليمان ؛ سنن ابن ماجة ، ج 1 ، ص 37 ، فضل أبي بكر ؛ سنن الترمذي ، ج 5 ، ص 332 . وللسيد على الميلاني رسالة في هذا الحديث مطبوعة ضمن الرسائل العشر .

ما خالف اُصول الشريعة ولم يوافق السنّة ، وأكثر ما يستعمل المبتدع عرفا في الذمّ .(1) انتهى .

وهذا كلام مختلّ ؛ لأنّه يقال فيما لم يكن له مثال : من أين تحكمُ بكون نوع من الجود والسخاء أحسن في الدِّين من الأنواع الاُخرى بحيث يكون كلّ فرد منه أحسن من كلّ فرد منها ، وكذا في كون فعل معروفا وأحسن من غيره ، وفي كون الأفعال المحمودة محمودة وفي حسن السنّة وقبحها ؛ فإن زعمت أنّ العقل يستقلّ بالعلم بحكمه الواقعي ، فهذا غلط ربّما حصل من الخلط بين نسبة الجنس إلى الجنس ، ونسبة الفرد إلى الفرد ، فإنّ العقل يعلم - بديهة أو نظرا - أنّ جنس الصدق خيرٌ من جنس الكذب مثلاً ، ولا يعلم أنّ هذا الصدق خيرٌ من هذا الكذب بدون توقيف .

ولا ينافي قاعدة التحسين والتقبيح العقليّين ؛ لجواز اجتماعه مع أقسام من المفسدة فيه لا يعلمها إلاّ علاّم الغيوب ، وإن زعمت أنّه حكم بالظنّ في الدِّين فهو منهيّ عنه في آيات بيّنات كثيرة ، وهو شريك مع البدعة في الإثم إن لم يكن بدعة ، وما حمله على هذا الإصلاح إلاّ حبّ أهل البدع ، فبأيّ حديثٍ بعد اللّه وآياته يؤمنون ؟

فالمراد بمن سنَّ سنّة حسنة مَن علّم باب هدى وأشاعه ، كما مضى في رابع «باب ثواب العالم» وهو خامس الأبواب . وهذا مطابق لما رواه المخالفون أيضا عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله أنّه قال : «مَن أحيا سنّة من سنّتي قد اُميتت بعدي فإنّ(2) له من الأجر مثل اُجور مَن عمل بها من غير أن ينقص من اُجورهم شيئا»(3) .

والمراد بالخلفاء الراشدين الأئمّة الاثنا عشر من أهل البيت عليهم السلام ، وهذا مطابق لما رواه المخالفون أيضا عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله أنّه قال : «لا يزال الإسلام عزيزاً إلى اثني عشر .

ص: 482


1- النهاية ، ج 1 ، ص 106 (بدع) .
2- في «ج» : «فإنّه» .
3- سنن ابن ماجة ، ج 1 ، ص 76 ، باب من أحيا سنّة قد أميتت ، ح 210 ؛ سنن الترمذي ، ج 4 ، ص 150 ، باب الأخذ بالسنّة واجتناب البدعة ، ح 2818 ؛ منتخب مسند عبد بن حميد ، ص 120 ؛ مسند عمرو بن عوف المزني ، ح 289 .

خليفة كلّهم من قريش» .(1) وفي رواية : «لا يزال أمر الناس ماضيا ما ولّيهم اثنا عشر رجلاً كلّهم من قريش»(2) . وفي رواية : «لا يزال الدِّين قائما حتّى تقوم الساعة ، أو يكون عليهم اثنا عشر خليفة كلّهم من قريش»(3) .

ولو صحّ الحديث الآخر ، لكان الأمر فيه للنهي والتهديد ، كما في قوله تعالى : «اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ»(4) ، وكما في قولك : أطيعوا الشيطان وهو مضلّكم ، أو لجمع خاصّ في سلوك طريق خاصّ في الحرب ونحوه كانا فيه بحسب المكان خَلْف الرسول عليه السلام وذلك ليَسْلَم أحكام اللّه ورسوله من التناقض والتهافت ، فإنّهما ممّن علم حكمهم في الدِّين بالاجتهاد ، وقد بيّنّاه في ثاني عشر «باب العقل والجهل» .

التاسع : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حكيمٍ) ؛ بضمّ المهملة وفتح الكاف ، وقيل : بفتح المهملة وكسر الكاف .

(قَالَ : قُلْتُ لاِءَبِي الْحَسَنِ مُوسى عليه السلام : جُعِلْتُ فِدَاكَ ، فُقِّهْنَا) ؛ بصيغة المعلوم من باب حسن ، أو المجهول من باب التفعيل ، أو المعلوم من باب علم على حذف المفعول به ، تقول : فقه الرجل - كحسن - : إذا علم قدرا معتدّا به من المسائل وجعله العرف خاصّا بعلم الشريعة ، وربّما(5) خصّص بعلم الفروع منها ، وتقول : فقهه - كعلمه - : إذا فهمه وعلمه ، وتقول من الأوّل : فقّهه تفقيها ، ومن الثاني : أفقهه المسألة إفقاها .

(فِي الدِّينِ ، وَأَغْنَانَا اللّه ُ بِكُمْ عَنِ النَّاسِ) أي عن فقهاء المخالفين .

(حَتّى إِنَّ) ؛ بكسر الهمزة ، و«حتّى» هي الداخلة على الجمل . .

ص: 483


1- مسند أحمد ، ج 5 ، ص 90 ، حديث جابر بن سمرة ؛ صحيح مسلم ، ج 6 ، ص 3 ، باب الناس تبع لقريش ؛ الآحاد والمثاني ، ج 3 ، ص 126 ، ح 1448 .
2- صحيح مسلم ، ج 6 ، ص 3 ، باب الناس تبع لقريش ؛ فتح الباري ، ج 13 ، ص 181 ، شرح مسلم ، ج 12 ، ص 201 ، باب الخلافة في قريش .
3- مسند أحمد ، ج 5 ، ص 89 ، حديث جابر بن سمرة ؛ صحيح مسلم ، ج 6 ، ص 4 ، باب الاستخلاف وتركه ؛ الآحاد والمثاني ، ج 3 ، ص 128 ، ح 1454 .
4- فصّلت (41) : 40 .
5- في «أ» : «فربّما» .

(الْجَمَاعَةَ مِنَّا) أي من الشيعة الإماميّة .

(لَتَكُونُ) ؛ بفتح اللام للتأكيد وبالمثنّاة فوقُ للمضارعة .

(فِي الْمَجْلِسِ) . اللام للعهد الخارجي ، والمراد مجلس فقيه من المخالفين مشهورٍ في ذلك الزمان بأنّه أفضلهم .

(مَا يَسْأَلُ(1) رَجُلٌ صَاحِبَهُ) . «ما» مصدريّة ، والمصدر مفعول فيه لنيابته عن الزمان ، نظير رأيته قدوم الحاجّ . وضمير «صاحبه» للمجلس ، والمراد بصاحبه ذلك الفقيه .

(تَحْضُرُهُ الْمَسْأَلَةَ) ؛ بصيغة المضارع المعلوم للغائبة ، عطفٌ على «تكون» أو حال عن فاعل «تكون» ، والإحضار : الإفهام ، والضمير المستتر للجماعة ، والبارز لصاحبه ، وهو المفعول الأوّل ، و«المسألة» المفعول الثاني .

والمقصود أنّه إذا سئل ذلك الفقيه من المخالفين في حضور جماعتنا عن مسألة وغفل عن شقوق المسألة أو عن أصل المسألة بأن يقول : أعد عليَّ أفْهَمَه جماعتنا تلك المسألة وشقوقَها .

(وَتَحْضُرُهُ(2) جَوَابُهَا)(3) ؛ هذا أيضا بصيغة الغائبة من باب الإفعال ، والضمير المستتر للجماعة ، والبارز لصاحبه ، وجوابها مفعول ثان ؛ أي يفهمونه جواب كلّ شقّ من المسألة .

(فِيمَا مَنَّ اللّه ُ عَلَيْنَا بِكُمْ) . «في» للسببيّة و«ما» مصدريّة ، والظرف متعلّق بتحضره . وتمهيد هذا البيان أنّ احتياجنا إلى القياس نادر حتّى يأذن في القياس .

(فَرُبَّمَا وَرَدَ عَلَيْنَا الشَّيْءُ) . اللام للعهد الذهني ، أي ربّما سُئلنا عن مسألة ، أو ربّما وصلنا في العمل إلى موضع .

(لَمْ يَأْتِنَا فِيهِ عَنْكَ وَلاَ عَنْ آبَائِكَ شَيْءٌ) . الجملة صفة الشيء ؛ لأنّه في حكم النكرة . .

ص: 484


1- في حاشية «أ» : «ما في قوله : ما يسأل نافية أي لا حاجة له إلى سؤال ، فيكون قوله : تحضره استئنافا بيانيا ، وضميره للرجل» حاجي حسين نيشابوري .
2- في الكافي المطبوع : «ويحضره» .
3- في حاشية «أ» : «في الفوائد المدنية للمولى محمد أمين الاسترابادي في الفصل السابع، روى هذه الفقرة هكذا : «ما يسأل رجل صاحبه إلاّ ويحضره المسألة ويحضره جوابها (مهدي)» .

(فَنَظَرْنَا إِلى أَحْسَنِ مَا يَحْضُرُنَا) ؛ بصيغة المعلوم للغائب من باب نصر ، والمراد بما يحضرنا ما يخطر ببالنا من احتمالات الحكم في تلك المسألة .

(وَأَوْفَقِ الاْءَشْيَاءِ لِمَا جَاءَنَا عَنْكُمْ) . عطفُ تفسيرٍ لأحسن ما يحضرنا ، والمراد بالأشياء الاحتمالات التي تخطر(1) ببالنا في حكم تلك المسألة ، والمراد بما جاءنا عنكم : أجوبة المسائل التي سألناكم عنها . ويجيء في ثالث عشر الباب قوله : «وعندنا ما يشبهه فنقيس على أحسنه مع بيانه» .

(فَنَأْخُذُ بِهِ) . الضمير في «به» للأحسن والأوفق ؛ لأنّهما واحد ، أي نُجيب به عن الشيء أو نعمل به فيه .

(فَقَالَ : هَيْهَاتَ) . اسم فعل بمعنى بَعُد . (هَيْهَاتَ) . تكرار للتأكيد .

(فِي ذلِكَ وَاللّه ِ) أي في الأخذ بالأحسن والأوفق ، والمراد في القياس ، وتقديم الظرف للحصر باعتبار أنّه العمدة . ويحتمل أن يكون ذلك إشارة إلى القياس ونحوه من القول على اللّه بغير علم ، فالحصر حقيقي ، ويجيء في ثالث عشر الباب : «إنّما هلك مَن هلك من قبلكم بالقياس» .

(هَلَكَ مَنْ هَلَكَ) أي صار جهنّميا ، وذلك بأن وقع في تجويز الاختلاف المنهيّ عنه في الدِّين .

بيان ذلك أنّ من فتح باب القياس والرأي وخلع اللجام قد يسنح له في أنظاره دقائق ولطائف يستحسنها طبعه وطباع(2) العوامّ من أشكاله ، كما يظهر لمن تتبّع كتب المخالفين في اُصول الفقه وتفريعاتهم ، فيحسب أنّه وصل إلى ما لم يصل إليه العلماء قبله من الحقائق ويفتخر بذلك ، وتلك المزخرفات بالشعريات أشبه منها بالشرعيّات .

(يَا ابْنَ حَكِيمٍ . قَالَ : ثُمَّ قَالَ) أي أبو عبداللّه عليه السلام : (لَعَنَ اللّه ُ أَبَا حَنِيفَةَ) . استئنافٌ لبيان أنّ ذلك سبب الهلاك . .

ص: 485


1- في «ج» : «تحظر» .
2- في «ج» : «طبع» .

(كَانَ يَقُولُ :) . لفظة «كان» إذا دخلت على المضارع أفاد الاستمرار في الماضي .

(قَالَ عَلِيٌّ وَقُلْتُ) . لم يلاحظ في هذين الفعلين مفعولاهما ، بل اُجريا مجرى اللازم ، وأكثر استعمال مثل هذا الكلام في ترجيح القائل أقوال نفسه على أقوال غيره ، فمقصوده - خذله اللّه - أنّه اطّلع من استنباط المسائل على دقائق ولطائف غفل عنها السابقون ، وإنّما هي جهالات تركها السابقون ؛ لعلمهم بأنّها نشأت من اتّباع الرأي المنهيّ عنه في الشريعة ، وقد يستعمل في مجرّد عدم تسليمه الفضل لغيره بدون دعوى ترجيح كما تقول لمن ينهاك عن مخالفة رأي زيد : هو رجل وأنا رجل ، أو هو قائل وأنا قائل .

ويحتمل أن لا يكون الفعلان في مجرى اللازم ، بل حذف مفعولاهما اقتصارا(1) في النقل على موضع الحاجة ؛ أي قال عليّ كذا وكذا ، وقلت كذا وكذا خلافا له ، فالمقصود حينئذٍ أنّه كان يجوّز الاختلاف في الدِّين حتّى الاختلاف بينه وبين عليّ ، بناءً على زعمه أنّ عليّا كان قد يحكم لا عن علم ، بل عن الاجتهاد .

ويحتمل أن يُراد أنّه كان يقول ذلك إذا أراد قياس شيء على حكم عليّ عليه السلام في موضع آخر ، أو أنّه ردّ على عليّ عليه السلام في مسألة بترجيح قياس نفسه على قياس عليّ بزعمه ، أو أنّه رجّح قياس نفسه على حكم عليّ عليه السلام ؛ لأنّه خبر واحد ، ومن مذهبه ترجيح القياس على خبر الواحد .

(قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ حَكِيمٍ لِهِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ : وَاللّه ِ ، مَا أَرَدْتُ إِلاَّ أَنْ يُرَخِّصَ لِي فِي الْقِيَاسِ) .

العاشر : (مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ رَفَعَهُ ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمنِ ، قَالَ : قُلْتُ لاِءَبِي الْحَسَنِ الاْءَوَّلِ عليه السلام : بِمَا) . اسم استفهام ، وإثبات ألفه مع حرف الجرّ نادر .

(أُوَحِّدُ اللّه َ عَزَّ وَجَلَّ) : بصيغة المتكلّم وحده من باب التفعيل . والمراد بما يوحّده به : ما لا يقبل اللّه توحيده ، وقولَه : لا إله إلاّ اللّه إلاّ به ، فيكون فاقده مع ظاهر إيمانه وشهادته تحت قوله تعالى في سورة آل عمران : «كَيْفَ يَهْدِى اللّه ُ قَوْما كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ .

ص: 486


1- في «ج» : «اختصارا» .

وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمْ الْبَيِّنَاتُ»(1)الأنعام (6) : 106 .(2) .

(فَقَالَ : يَا يُونُسُ ، لاَ تَكُونَنَّ مُبْتَدِعا) ؛ بصيغة الفاعل من باب الافتعال ، ومضى معناه في شرح عنوان الباب ، وإنّما كان المبتدع مشركا لأنّه عبدَ نفسه من حيث لا يعلم ؛ لأنّه جعل نفسه شريكا للّه في الحكم في الدين ، قال تعالى في سورة الأنعام : «إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ للّه ِِ»(3) ، وقال فيها : «اتَّبِعْ مَا أُوحِىَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ»(3) . والمبتدع ينكر كونه مشركا ؛ لعدم التفاته إلى افترائه ، قال تعالى فيها : «قَالُوا وَاللّه ِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ * انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ»(4) .

(مَنْ نَظَرَ بِرَأْيِهِ) . استئنافٌ لتفصيل الابتداع ببيان ثلاثة أقسام من لوازمه ؛ أي من فكّر في المسائل وتعيين الصواب من الخطأ وكان المعيار رأيه - أي ظنّه بأنّ الصواب كذا كما هو شأن المجتهدين - يأوّلون ويخصّصون ظواهر القرآن وظواهر الحديث بالظنّ بالتأويل والتخصيص ، ويرجّحون الأحاديث المتعارضة بالظنّ ، ويقولون : لا شيء إلاّ ما أدركته عقولنا وعرفته ألبابنا ، وهذا من أقوى لوازم الابتداع وعبادة النفس .

(هَلَكَ ) أي صار جهنّميا .

(وَمَنْ تَرَكَ أَهْلَ بَيْتِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه و آله ) . هذا بيان لثاني أقسام لوازم الابتداع ؛ أي ومن لم ينظر برأيه ، لكنّه قلّد أئمّة الضلالة ومجتهديها ، لا أهل البيت المؤدّين عن اللّه تعالى لا باجتهاد .

وفي آخر «كتاب الروضة» في خطبة لأمير المؤمنين عليه السلام : «فإنّ اللّه - تبارك وتعالى - بعث محمّدا صلى الله عليه و آله بالحقّ ليخرج عباده من عبادة عباده إلى عبادته ، ومن عهود عباده إلى عهوده ، ومن طاعة عباده إلى طاعته ، ومن ولاية عباده إلى ولايته» إلى قوله : «وقد اجتمع القوم على الفرقة ، وافترقوا عن الجماعة» الخطبة .(5) أي اتّفقوا على جواز التفرّق .

ص: 487


1- آل عمران
2- : 36 .
3- الأنعام (6) : 57 .
4- الأنعام (6) : 23 - 24 .
5- الكافي ، ج 8 ، ص 386 ، ح 586 .

والاختلاف في مسائل الدِّين بالاجتهادات ، وتركوا الذين لا اختلاف في فتواهم وقضاهم .

(ضَلَّ) أي عمّا ينصّ عليه محكمات القرآن من وجوب التمسّك بحبل الراسخين في العلم ، وكلّ ضلالة سبيلها إلى النار كما مرّ في ثامن الباب .

(وَمَنْ تَرَكَ كِتَابَ اللّه ِ وَقَوْلَ نَبِيِّهِ) . هذا بيان لثالث أقسام لوازم الابتداع ، وهو أضعف أقسامها ؛ أي ومن لم ينظر برأيه وفيما يتعلّق بنفسه من المسائل ولم يترك أهل بيت نبيّه ، ولكنّه لم يعُدَّ الطائفتين السابقتين مشركتين ، فخالف محكمات الكتاب وقول الرسول الصريحة في إشراكهما ، كما مرّ في آية سورة الأنعام وقوله فيها : «سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللّه ُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا»(1) ، ويجيء بيانه في «كتاب التوحيد» في «باب الاستطاعة» ونحوهما من الآيات .

(كَفَرَ) أي أنكر شيئا من الحقّ المعلوم ، مع ظاهر إسلامه وشهادته أنّ الرسول حقّ والكتاب حقّ ، كما مرَّ في آية آل عمران ؛ وذلك لأنّه اتّبع رأيه في خصوصيّة هذه المسألة .

الحادي عشر : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنِ الْوَشَّاءِ ، عَنْ مُثَنًّى الْحَنَّاطِ ، عَنْ أَبِي بَصِيرٍ ، قَالَ : قُلْتُ لاِءَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : تَرِدُ عَلَيْنَا أَشْيَاءُ) أي نسأل عن مسائل (لَيْسَ نَعْرِفُهَا فِي كِتَابِ اللّه ِ ، وَلاَ سُنَّةٍ)(2) أي ولا في الأخبار عن النبيّ ولا في الأخبار عن أهل البيت (فَنَنْظُرُ فِيهَا) أي نتفكّر فيها برأينا ونجيب به عنها إذا سُئلنا عنها ؛ والاستفهام مقدّر .

(قال(3) : فَقَالَ : لاَ) أي لا يجوز ذلك (أَمَا إِنَّكَ إِنْ أَصَبْتَ) أي كان جوابك موافقا لحكم اللّه الواقعي (لَمْ تُوءْجَرْ) أي على الإصابة ؛ لأنّه اتّفاقي ليس باختيارك ، والأجر والثواب النفع المقارن للتعظيم ، ويستحيل أن يقع في مقابلة ما لا اختيار فيه . .

ص: 488


1- الأنعام (6) : 148 .
2- في «ج» : «سنته» .
3- في الكافي المطبوع : - «قال» .

(وَإِنْ أَخْطَأْتَ ، كَذَبْتَ عَلَى اللّه ِ عَزَّ وَجَلَّ) . ليس المراد به أنّ الإثم غير حاصل في صورة الإصابة ، بل هو تعريض بالمخالفين وروايتهم أنّ للمصيب أجرين : أحدهما للاجتهاد ، والآخر للإصابة ، وللمخطئ أجر واحد وهو للاجتهاد .(1) وذلك أنّ العقل يستحيل التفاوت في الأجر بين اثنين بَذَل كلّ واحدٍ منهما وسعَه ، واتّفق الإصابة في أحدهما ، والخطأ في الآخر بدون تقصيره ، فالمراد أنّ كلاًّ من الصورتين فيه الوعيد المشهور في الكتاب والسنّة على الكذب على اللّه ، أمّا في صورة الكذب فظاهر ، وأمّا في صورة الإصابة فلأنّ العقل يستحيل التفاوت في الإثم بين الصورتين ؛ إذ ليس تفاوتهما باختيار المكلّف ، فكلّ من الصورتين قبيح ؛ لاحتمال الكذب فيه .

الثاني عشر : (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ ، عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبَانٍ الْكَلْبِيِّ ، عَنْ عَبْدِ الرَّحِيمِ الْقَصِيرِ) ؛ بفتح القاف وكسر المهملة وسكون الخاتمة .

(عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله : كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ ، وَكُلُّ ضَلاَلَةٍ فِي النَّارِ) أي صاحبها في النار . وظهر معناه ممّا مرّ في ثامن الباب .

الثالث عشر : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسىَ بْنِ عُبَيْدٍ ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمنِ ، عَنْ سَمَاعَةَ بْنِ مِهْرَانَ ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ مُوسى عليه السلام ، قَالَ : قُلْتُ : أَصْلَحَكَ اللّه ُ ، إِنَّا نَجْتَمِعُ فَنَتَذَاكَرُ مَا عِنْدَنَا) أي نتذاكر الأحاديث التي بلغَتْنا منكم وكتبناها .

(فَمَا(2) يَرِدُ عَلَيْنَا شَيْءٌ إِلاَّ وَعِنْدَنَا فِيهِ) أي في حلّه والجواب عنه (شَيْءٌ) أي من أحاديثكم (مُسَطَّرٌ) ؛ بصيغة المفعول من باب التفعيل ؛ أي مكتوب .

(وَذلِكَ مِمَّا أَنْعَمَ اللّه ُ بِهِ عَلَيْنَا بِكُمْ ، ثُمَّ يَرِدُ عَلَيْنَا الشَّيْءُ الصَّغِيرُ) أي يسألنا أحد من شيءٍ قليل الورود لم نسألكم عنه (لَيْسَ عِنْدَنَا فِيهِ شَيْءٌ ، فَيَنْظُرُ بَعْضُنَا إِلى بَعْضٍ) أي نعجز عنه .

ص: 489


1- الرسالة للشافعي ، ص 494 ، باب الاجتهاد ، ح 1409 ؛ مسند أحمد ، ج 4 ، ص 198 ، حديث عبدالرحمن بن حسنة ؛ المستصفى للغزالي ، ص 360 ؛ فتح الباري ، ج 1 ، ص 60 ؛ كنزالعمّال ، ج 6 ، ص 7 ، ح 14597 .
2- في الكافي المطبوع : «فلا» .

(وَعِنْدَنَا مَا يُشْبِهُهُ ) ؛ بصيغة المعلوم من باب الإفعال(1) ؛ أي يشابه الشيء الصغير .

(فَنَقِيسُ عَلى أَحْسَنِهِ) . الضمير ل- «ما» أي على أوفقه للشيء الصغير .

(فَقَالَ : مَا(2) لَكُمْ وَلِلْقِيَاسِ؟) . يُقال : ما لكَ ولزيد ، أي أيّ شيءٍ تريد بمصاحبته؟ ولِمَ لا تتركه ؟

(إِنَّمَا هَلَكَ) أي صار جهنّميّا (مَنْ) ؛ موصولة . (هَلَكَ مِنْ) ؛ حرف جرّ وهي بمعنى «في» . (قَبْلِكُمْ) . الظرف متعلّق ب- «هلك» الأوّل أو بالثاني . (بِالْقِيَاسِ) . متعلّق ب- «هلك» الأوّل .

(ثُمَّ قَالَ : إِذَا جَاءَكُمْ مَا تَعْلَمُونَ ، فَقُولُوا بِهِ) . «جاءكم» أي ورد عليكم ، وهذا التعبير للإشارة إلى تفسير آية سورة النساء : «وَ إِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ اْلأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ»(3)آل عمران (3) : 66 .(4) ؛ بأنّ المراد بالمجيء الورود بالسؤال ، والمراد بالأمن الحلال ، وبالخوف الحرام ، وبالإذاعة إفشاء النفاق . والباء للآلة ، والضمير لمصدر «جاء» باعتبار أنّه منشأ لاتّباعهم الظنّ ، تعلمون أي جوابه ضمير به لمصدر تعلمون ، والباء للآلة .

(وَإِنْ جَاءَكُمْ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ، فَهَا) ؛ بالقصر ، فيه احتمالان :

الأوّل : أن يكون«ها» منصوب المحلّ بالإغراء بتقدير : فالزموا ، وعبارة عن الآيات الأربع اللاتي أوّلهنّ «ها» كما في سورة آل عمران : «هَا أَنْتُمْ هَؤُلاَءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللّه ُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ»(4) ، فيكون هذا الكلام من الاختصارات البليغة الشريفة اللطيفة ، وله نظائر كثيرة كما نبّه عليه ابن الأثير في النهاية في باب الهمزة مع النون(5) .

وفيه إشارة إلى تفسيرٍ لهذه الآية وآية اُخرى قبلها بوجه مخالف لتفاسير العامّة .

ص: 490


1- في «ج ، د» : «معلوم باب الإفعال» بدل : «بصيغة المعلوم من باب الإفعال» .
2- في الكافي المطبوع : «وما» .
3- النساء
4- : 82 .
5- النهاية ، ج 1 ، ص 78 .

الذين جعلوا نظم القرآن المعجز ركيكا جدّا لتعاميهم عن أهل الذِّكر . فمن المحتمل في الآية أن يكون«ها» لتقريب زمان وقوع مدخولها بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله بلا واسطة . قال الجوهري : «ها ، مقصور للتقريب ، إذا قيل لك : أين أنت ؟ قلت : ها أنا ذا»(1) انتهى .

«أنتم» مبتدأ ، والخطاب لجمهور الأصحاب المخاطبين بقوله : «فقولوا» في آية سابقة وهي : «قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّه َ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضا أَرْبَابا مِنْ دُونِ اللّه ِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ»(2)في «د» : «بسبب» .(3) .

«هؤلاء» خبر المبتدأ وإشارة إلى أهل الكتاب المذكورين سابقا ، وهم الذين ابتدعوا الاجتهاد والتقليد بعد نبيّهم ، خلافا لكلمة معلومة نازلة في كلّ كتاب إلهي ، وهي النهي عن اتّباع الظنّ والاختلاف عن ظنّ . والجملة من قبيل التشبيه نحو : زيد أسد .

«حاججتم» استئناف بياني ، وهو إشارة إلى ما مضى في قوله : «فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ» . «فيما لكم به علم» أي سبب(3) الكلمة التي هي معلومة لكم . «فلِم تحاجّون» بصيغة المضارع نهيٌ عمّا صدر عنهم بعد رسول اللّه من احتجاجات المجتهدين بالمظنونات . «واللّه يعلم» تأكيدٌ للإخبار عن صدور هذا القبيح عن جمهور الأصحاب بعد الرسول صلى الله عليه و آله حين تفرّقهم واتّباعهم خلفاء الضلالة . «وأنتم لا تعلمون» أي إنّ هذا القبيح سيصدر عنكم . «أن» في «أن لا نعبد» مصدريّة ، والمصدر مفعول له ل- «تعالوا» .

وقس عليه آية سورة النساء : «هَا أَنْتُمْ هَؤُلاَءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا»(4) على أن يكون ضمير «عنهم» للذين يبيّتون القول على اللّه بغير علم .

وكذا آية سورة محمّد : «هَا أَنْتُمْ هَؤُلاَءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِى سَبِيلِ اللّه ِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ»(5) ؛ .

ص: 491


1- الصحاح ، ج 6 ، ص 2560 (ها) .
2- آل عمران
3- : 64 .
4- النساء (4) : 109 .
5- محمّد (47) : 38 .

على أن يكون «هؤلاء» إشارة إلى الذين كفروا وصدّوا عن سبيل اللّه ، وهو النهي عن اتّباع الظنّ والاختلاف عن ظنّ .

وكذا آية سورة آل عمران : «هَا أَنْتُمْ أُوْلاَءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ»(1)في «أ» : - «اسم».(2) ، على أن يكون «اُولاء» إشارةً إلى المنافقين الذين مردوا على النفاق ، فأحبّهم المنافقون(3) وجعلوهم خلفاء بعد الرسول صلى الله عليه و آله .

الثاني : أن يكون «ها» اسم(3) فعل بمعنى «خذوا» ويستوي فيه الإفراد والتثنية والجمع ، والمقصود الأمر بأخذ العلم والجواب الصحيح عن أهل الذِّكر عليهم السلام .

(وَأَهْوَى بِيَدِهِ إِلى فِيهِ) . يُقال : أهوى يدي وهوت أيضا - كرمت - أي امتدّت وارتفعت ، فالباء للتعدية ؛ والمقصود وضع يده على فمه لتأكيد الأمر بالسكوت ، أو الإشارة بيده إلى فمه للأمر بوجوب أخذ الجواب الصحيح عنه عليه السلام .

(ثُمَّ قَالَ : لَعَنَ اللّه ُ أَبَا حَنِيفَةَ ؛ كَانَ يَقُولُ : قَالَ عَلِيٌّ وَقُلْتُ(4) ، وَقَالَتِ الصَّحَابَةُ وَقُلْتُ) أي كان لا يسلّم(5) لعليّ ولا لغيره من الصحابة ، ومضى في تاسع الباب ما يكفي في شرحه . والمراد بالصحابة إمّا بعضهم كما في(6) قوله : «فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ»(7) وإمّا جميعهم .(8)

(ثُمَّ قَالَ : أَ كُنْتَ تَجْلِسُ إِلَيْهِ ؟) . «إلى» بمعنى «مع» كما في قوله تعالى : «إِلَى الْمَرَافِقِ»(9) ، ويجيء بيانه في عاشر الثالث والعشرين ، فالظرف مستقرّ حال عن فاعل «تجلس» أو لغو متعلّق ب- «تجلس» وعدّي ب- «إلى» لتضمين الضمّ أو التوجّه ؛ أي .

ص: 492


1- آل عمران
2- : 119 .
3- في «د» : «المخاطبون» .
4- في الكافي المطبوع : + «أنا» .
5- في «أ» : «يسمّ» .
6- في «ج ، د» : «نظير» بدل : «كما في» .
7- آل عمران(3) : 39 .
8- مجمع البيان ، ج 2 ، ص 286 ؛ معاني القرآن للنحّاس ، ج 1 ، ص 390 .
9- المائدة (5) : 6 .

تجلس ضامّا نفسك أو متوجّها إليه . والمراد أنّك إن كنت تجلس معه أي كثيرا ، لسمعت ذلك البتّة منه .

(فَقُلْتُ : لاَ ، وَلكِنْ هذَا كَلاَمُهُ) أي أعلم أنّه كان يقول ذلك بدون جلوس كثير إليه .

(فَقُلْتُ : أَصْلَحَكَ اللّه ُ ، أَتى رَسُولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله النَّاسَ بِمَا يَكْتَفُونَ بِهِ فِي عَهْدِهِ؟) أي بما يتناول كلّ واحد من أفعالهم تناول المسائل الفقهيّة للأفعال الشخصيّة ، وذلك بأن يأتي بما يعلم به الحكم الواقعي لكلّ فعل من أفعالهم .

وفيه إشارة إلى أنّه إذا لم يأت بالجميع كان الباقي موكولاً إلى اجتهاد الاُمّة ، وكان عليّ والصحابة مضطرّين إلى الاجتهاد والحكم بالرأي وتجويز الاختلاف فيه ، فلم يكن اعتراض على أبي حنيفة ؛ لأنّه ليس الفتوى في الباقي قولاً على اللّه ، فلا يندرج في الآيات الناهية عن القول على اللّه بغير علم ، وليس فيه احتمال كونه حكما بخلاف ما أنزل اللّه ، فلا يندرج في الوعيد في نحو قوله : «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللّه ُ»(1) في الآيات الثلاث في سورة المائدة .

(فقَالَ : نَعَمْ ، وَمَا يَحْتَاجُونَ) أي وبما يحتاجون ، وهو عطف تلقين .

(إِلَيْهِ إِلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) أي أتى بما ذكرت ، وبما يزيد عليه بوجهين :

الأوّل : ما قد يحتاجون إليه في عهده ، وذلك إمّا فيما تعذّر علمهم بالحكم الواقعي فيه ، فقد أتى بالمسائل الاُصوليّة التي يعلم بها الحكم الواصلي لكلّ فعل من أفعالهم حينئذٍ ، ولم يَكِلهُم فيه إلى عقولهم ، وإمّا في التفاوت في الدِّين بين أصناف نوع واحد من الحكم ، ككون بعض المستحبّات أحسن في الدِّين من بعض ، وبعض الواجبات أوجب في الدِّين من بعض ، وبعض المحظورات أقبح في الدِّين من بعض وهكذا ، فقد أتى بجميع الترغيبات والترهيبات ، ولم يدع لأحد فيها كلاما .

الثاني : ما يعلم به الحكم الواقعي والحكم الواصلي والتفاوت لكلّ فعل من أفعال مَن بعدهم إلى يوم القيامة ، وهذا مستنبط من قوله تعالى في سورة النحل : «وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ .

ص: 493


1- المائدة (5) : 44 ، 45 و 47 .

الْكِتَابَ تِبْيَانا لِكُلِّ شَىْ ءٍ»(1) ، كما يجيء في أوّل الباب الآتي .

(فَقُلْتُ : فَضَاعَ مِنْ ذلِكَ شَيْءٌ) . إشارةٌ إلى أنّ ما ضاع كما لم يأت به في استلزام تجويز الاجتهاد والاختلاف فيه .

(فَقَالَ : لاَ ، هُوَ عِنْدَ أَهْلِهِ) أي أهل ذلك ، أو أهل النبيّ بمعنى أهل بيته عليهم السلام ، ولذا أمر الاُمّة بسؤال أهل الذِّكر فيما لا يعلمون، وقال عليه السلام : «وأنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليَّ الحوضَ».(2)

الرابع عشر : (عَنْهُ ، عَنْ مُحَمَّدٍ ، عَنْ يُونُسَ ، عَنْ أَبَانٍ ، عَنْ أَبِي شَيْبَةَ ، قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام يَقُولُ : ضَلَّ) أي فقد ، ومنه تعريف الضالّة . وهذا كناية عن الضياع والفساد ؛ فإنّ الغالب في المفقود الضياعُ والفساد .

(عِلْمُ ابْنِ شُبْرُمَةَ) ؛ أي ما سمّاه علما ، وهو اعتقاد أنّه لم يأت رسول اللّه صلى الله عليه و آله بكلّ ما يحتاج إليه الاُمّة من الحلال والحرام ، بل فوّض إلى المجتهدين وأهل القياس .

وعبد اللّه بن شبرمة، بضمّ المعجمة وسكون الموحّدة وضمّ المهملة وتخفيف الميم، كان فقيه المخالفين وقاضيهم بالكوفة .(3) ويجيء في «كتاب الوصايا» في «باب من أعتق وعليه دَين»(4) غلبتُه على ابن أبي ليلى بقياس إجازة عتق الميّت عبده مع الدين المحيط أو الأكثر ممّا للورثة على إجازته مع الدين المساوي أو الأقلّ .

(عِنْدَ الْجَامِعَةِ - إِمْلاَءِ) ؛ بالجرّ صفة الجامعة .

(رَسُولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله وَخَطِّ عَلِيٍّ عليه السلام بِيَدِهِ) . يجيء بيانها في «كتاب الحجّة» في «باب فيه ذكر الصحيفة والجفر والجامعة ومصحف فاطمة عليهاالسلام » . .

ص: 494


1- النحل (16) : 89 .
2- مسند احمد ، ج 3 ، ص 14 ، مسند أبي سعيد الخدري ؛ مجمع الزوائد ، ج 9 ، ص 163 ، باب فضل أهل البيت عليهم السلام ؛ مسند ابن الجعد ، ص 397 ، من حديث محمد بن طلحة .
3- عبداللّه بن شبرمة الضبي الكوفي ، كنيته أبو شبرمة ، وكان قاضيا لأبي جعفر [المنصور] على سواد الكوفة ، وكان شاعرا ، مات سنة أربع وأربعين ومائة. رجال الطوسي ، ص 117 ؛ رجال ابن داود ، ص 120 .
4- في الحديث 1 من باب من أعتق وعليه دين .

(إِنَّ الْجَامِعَةَ لَمْ تَدَعْ لاِءَحَدٍ كَلاَما) أي كلاما بالرأي والقياس (فِيهَا عِلْمُ الْحَلاَلِ وَالْحَرَامِ) أي جميعه .

(إِنَّ أَصْحَابَ الْقِيَاسِ طَلَبُوا الْعِلْمَ بِالْقِيَاسِ ، فَلَمْ يَزْدَادُوا مِنَ الْحَقِّ إِلاَّ بُعْدا؛ إِنَّ دِينَ اللّه ِ لاَ يُصَابُ بِالْقِيَاسِ) . مضى شرحه في سابع الباب .

الخامس عشر : (مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ شَاذَانَ ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَحْيى ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ الْحَجَّاجِ ، عَنْ أَبَانِ بْنِ تَغْلِبَ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : إِنَّ السُّنَّةَ) . المراد بها ما جاء به الرسول صلى الله عليه و آله . (لاَ تُقَاسُ) أي لا يجوز الحكم بأنّ هذا من السنّة بقياسه على سنّة اُخرى ، فما ثبت بالقياس إمّا مخالف لما جاء به الرسول ، وإمّا شريك له في الإثم .

(أَ لاَ تَرى أَنَّ الْمَرْأَةَ تَقْضِي صَوْمَهَا وَلاَ تَقْضِي صَلاَتَهَا؟) حاصله أنّ الحكم في الدِّين بالقياس يفضي إلى الخطأ الكثير ، وإلى الاختلاف الكثير في أحكام الدِّين وإن بُذِل الوسعُ ، وكلّ ما يفضي إلى أحدهما مردود .

أمّا الاُولى ، فلأنّ الشريعة فيها تفريق المتشاكلات بحسب عقولنا ، وضمّ المختلفات بحسب عقولنا ، فالقياس - سواء كان قياس المساواة أم قياس العكس ، ومضى معناهما في شرح عنوان الباب - يفضي إلى الخطأ الكثير وإن بذل الوسع ، فيفضي إلى الاختلاف وإن بذل الوسع ؛ لاختلاف القرائح والأنظار والإحاطة بالاُصول بديهةً .

أمّا الفرق بين المتماثلات بحسب عقولنا فكما في هذا المثال ؛ أي إيجاب القضاء على الحائض في الصوم وإسقاطه عنها في الصلاة ، وهي أوكد من الصوم .

وله أمثلة كثيرة كإيجاب القضاء على المسافر فيما قصر في الصوم ، وإسقاطه عنه فيما قصر من الصلاة ، وكإيجاب الغسل ومنع المكث في المسجد بخروج الولد والمنيّ ، وهما أنظف من البول والغائط اللذين يوجبان الوضوء ، وكإباحة النظر إلى الأمَة الحسناء وإلى محاسنها وحَظْر ذلك من الحرّة وإن كانت شوهاء ، وكالتشديد في بول الصبيّة دون الصبيّ ، وهو أعزّ عند الوالدين ، وكقطع سارق القليل دون غاصب الكثير ، وكإيجاب الجلد بنسبة الزنا إلى الشخص دون الكفر ، وكإثبات القتل بشاهدين

ص: 495

دون الزنا ، وكالفرق بين عدّتي الطلاق والوفاة ؛ وأمثلته كثيرة جدّا .

ويجيء في «كتاب الديات» في «باب الرجلُ يقتل المرأة والمرأة تقتل الرجل» إلى آخره عن أبان بن تغلب قال : قلت لأبي عبداللّه عليه السلام : ما تقول في رجل قطع إصبعا من أصابع المرأة ، كم فيها ؟ قال : «عشرة من الإبل» . قلت : قطع اثنتين(1) ؟ قال : «عشرون» قلت : قطع ثلاثا ؟ قال : «ثلاثون» قلت : قطع أربعا ؟ قال : «عشرون» قلت : سبحان اللّه يقطع ثلاثا فيكون عليه ثلاثون ، ويقطع أربعا فيكون عليه عشرون؟ إنّ هذا كان يبلغنا ونحن بالعراق ، فنبرأ ممّن قاله ، ونقول : الذي جاء به شيطان ، فقال : «مهلاً يا أبان هكذا حكم رسول اللّه صلى الله عليه و آله إنّ المرأة تعاقل الرجل إلى ثلث الدية ، فإذا بلغت الثلث رجعت إلى النصف ، يا أبان إنّك أخذتني بالقياس ، والسنّة إذا قيست مُحقَ الدِّين» .(2)

وأمّا ضمّ المختلفات بحسب عقولنا ؛ فمنه التسوية بين قتل الصيد عمدا وخطأً في الفداء في الإحرام ، ومنه التسوية بين الزنا والردّة في القتل ، ومنه تسوية القاتل خطأ والواطئ في الصوم ، والمظاهر عن امرأته في إيجاب الكفّارة عليهم ، ومنه تسوية زمان وجود المحتاجين وزمان فقدهم في وجوب ما استيسر من الهدي على المتمتّع في يوم النحر بمنى ؛ وأمثلته كثيرة جدّا .

وأمّا الثانية ، فلآيات بيّنات كثيرة ناهية عن القول على اللّه بغير علم ، وعن الاختلاف في أحكام الدِّين .

إن قلت : يحتمل أن يكون المراد بالحديث أنّ القياس لا يفيد ظنّا ؛ لأنّ السنّة فيها ضمّ المختلفات وتفريق المتشاكلات ، كما في هذا المثال وأمثاله الكثيرة . والقياس لو أفاد ظنّا إنّما يفيده فيما لم يعلم فيه كثرة ذلك .

قلت : العلم بالكثرة لا نُسَلِّم أنّه ينافي الظنّ إلاّ إذا كانت الكثرة بحيث يكون غالبا على ضدّه ، وهو ممنوع . .

ص: 496


1- في «د» : «اثنين» .
2- الحديث 6 من باب الرجل يقتل المرأة والمرأة تقتل الرجل ... . وفيه : «تقابل» بدل : «تعاقل» .

(يَا أَبَانُ ، إِنَّ السُّنَّةَ إِذَا قِيسَتْ مُحِقَ) ؛ بصيغة المجهول من باب منع أو باب التفعيل ، أي مُحي (الدِّينُ) . إشارةٌ إلى كثرة الخطأ فيه حينئذٍ كما بيّنّاه آنفا .

السادس عشر : (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عِيسى ، قَالَ : سَأَلْتُ أَبَا الْحَسَنِ مُوسى عليه السلام عَنِ الْقِيَاسِ ، فَقَالَ : مَا لَكُمْ وَلِلْقِيَاسِ)(1) أي نزّهوا أنفسكم عن القياس .

(إِنَّ) ؛ بالكسر والتشديد ، استدلال على نفي جواز القياس . (اللّه َ لاَ يُسْأَلُ) ؛ بصيغة المجهول ، ونائب الفاعل إمّا ضمير مستتر راجع إلى اللّه ، أو المفعول المطلق المفهوم من قوله : (كَيْفَ أَحَلَّ وَكَيْفَ حَرَّمَ) . «كيف» للاستفهام ، ومحلّها النصب على الحاليّة عند السيرافي(2) والأخفش(3) ، وعلى الظرفيّة عند سيبويه(4) ، أو(5) للشرط كقوله تعالى : «يُصَوِّرُكُمْ فِى الاْءَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ»(6) ، وعلى تقدير كونه للاستفهام وكون نائب الفاعل في «يسأل» ضميرَ اللّه يكون الغيبة في أحلّ وحرّم لرعاية حال المتكلِّم ، كقوله : «وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا»(7) الآية ، شبّه التفكّر في سرّ قدر اللّه تعالى في الحلّ والحرمة بالسؤال كيف أحلّ اللّه وكيف حرّم اللّه ؛ يعني أنّ القياس لا يتحقّق إلاّ بالتطلّع إلى سرّ قدر اللّه تعالى في الحلال والحرام ، والتطلّع إلى سرّ قدر اللّه منهيٌّ عنه كما في .

ص: 497


1- في الكافي المطبوع : «والقياس» .
2- هو الحسن بن عبداللّه بن المرزبان السيرافي ، نحوي ، عالم بالأدب ، أصله من سيراف من بلاد فارس ، تفقّه في عمّان وسكن بغداد ، فتولّى نيابة القضاء ، وتوفّي فيها سنة 368 هجرية . وكان معتزليا ، لا يأكل إلاّ من كسب يده ، ينسخ الكتب بالاُجرة ويعيش منها ، له الاقناع في النحو ، أكمله بعده ابنه يوسف ، وأخبار النحويين البصريين وصنعة الشعر والبلاغة وشرح المقصورة الدريدية وشرح كتاب سيبويه . الأعلام للزركلي ، ج 2 ، ص 195 .
3- الأخفش مشترك بين جماعة منهم الأكبر والأوسط والأصغر .
4- هو عمرو بن عثمان بن قنبر الحارئي بالولاء أبو بشر إمام النحاة ، ولد في إحدى قرى شيراز ، وقدم البصرة ولزم الخليل بن أحمد ، وصنف كتابه المسمى كتاب سيبويه في النحو ، لم يصنع قبله ولا بعده في النحو ، توفي سنة 180 هجرية ، وقيل : توفي شابّا وقبره في شيراز . الأعلام ، ج 5 ، ص 81 .
5- حكاه عنهم في مغني اللبيب ، ج 1 ، ص 272 (كيف) .
6- آل عمران (3) : 6 .
7- الزخرف (43) : 45 .

روايات كثيرة ، وسيجيء في ثالث «باب الخير والشرّ» وهو التاسع والعشرون من «كتاب التوحيد» وكأنّه استنباط من قوله تعالى في سورة الأنبياء : «لاَ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ»(1) ، أو من قوله تعالى في سورة المائدة : «إِنَّ اللّه َ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ»(2) .

السابع عشر : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ هَارُونَ بْنِ مُسْلِمٍ ، عَنْ مَسْعَدَةَ بْنِ صَدَقَةَ ، قَالَ : حَدَّثَنِي جَعْفَرٌ ، عَنْ أَبِيهِ عليهماالسلام : أَنَّ عَلِيّا صَلَواتُ اللّه عليه قَالَ : مَنْ نَصَبَ) ؛ بصيغة المعلوم من باب ضرب ، وفاعله ضمير مستتر راجع إلى «من» أي رفع وعيّن (نَفْسَهُ لِلْقِيَاسِ) ، بأن جعل القياس شغلاً لنفسه .

(لَمْ يَزَلْ) ؛ بفتح الزاي من الأفعال الناقصة . (دَهْرَهُ) ؛ بالنصب ، أي في عمره ، أو بالرفع والنسبة مجاز . (فِي الْتِبَاسٍ) أي لا يعرف الحلال من الحرام ويلحق أحدهما بالآخر ، أو لا يحصل له إلاّ ظنّ ضعيف أو اعتقاد مبتدأ ، أو يتوقّف في أكثر المسائل كما هو شأن أهل القياس ، يُقال : التبس بغيره : إذا اختلط بحيث لا يعرف الفرق بينهما . والتبس عليه الأمر : إذا لم يعرفه .

(وَمَنْ دَانَ اللّه َ) . يُقال : دانه من باب ضرب : إذا أقرضه ؛ أي من أدّى إلى اللّه شيئا يجازى عليه .

(بِالرَّأْيِ) ، بفتح المهملة وسكون الهمزة . والمقصود النهي عن العمل بالاجتهاد ، بمعنى جعله مناطا ودليلاً ، وإن كان بدون إفتاء وقضاء .

(لَمْ يَزَلْ دَهْرَهُ فِي ارْتِمَاسٍ) أي يرتطم في الشُّبَه والشكوك لا يجد مخرجا منها ، وينغمس فيها ؛ لكثرة المخائل والمعارضات ، فيتحيّر كما هو شأن أهل الاجتهاد ، لا يحصل لهم فيما يجتهدون فيه في الأكثر أو في جميعه إلاّ اعتقاد مبتدأ ، أو أضعف الظنّ ، فضلاً عمّا توقّفوا فيه .

والمقصود بالفقرتين أنّ القول بالقياس والرأي وانحصار طريق كلّ واحدٍ من الاُمّة .

ص: 498


1- الأنبياء (21) : 23 .
2- المائدة (5) : 1 .

بعد الرسول صلى الله عليه و آله إلى بعض الأحكام الواقعيّة فيهما كما هو مذهب من يدين اللّه بهما ، ينافي قوله تعالى في سورة النحل : «تِبْيَانا لِكُلِّ شَىْ ءٍ»(1) ، ويجيء في أوّل الباب الآتي .

(قَالَ : وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام : مَنْ أَفْتَى النَّاسَ بِرَأْيِهِ) أي بالظنّ ، فالباء للاستعانة ؛ أو بما يظنّه ، فالباء صلة «أفتى» .

(فَقَدْ دَانَ اللّه َ بِمَا لاَ يَعْلَمُ) أي قال على اللّه ما لا يعلم .

(وَمَنْ دَانَ اللّه َ بِمَا لاَ يَعْلَمُ ، فَقَدْ ضَادَّ اللّه َ) أي جحد آياته المحكمات الناهية عن القول على اللّه بغير علم ، أو المراد جعل نفسه آمرا ناهيا ، ونازع اللّه في سلطانه «إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ»(2) .

(حَيْثُ أَحَلَّ وَحَرَّمَ) أي حكم بالحلّ والحرمة من عند نفسه كما نرى في المجتهدين ومقلّديهم يعلّقون الأحكام الإلهيّة على ظنّ المجتهد ، ويقولون : إذا مات المجتهد انتفى ظنّه فلا تعلّق بقوله ، وهذا أيضا من فتاوى مجتهديهم .

(فِيمَا لاَ يَعْلَمُ) . الظرف متعلّق ب- «ضادّ» أو بكلّ من «أحلّ» و«حرّم» على سبيل التنازع .

الثامن عشر : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ يَقْطِينٍ) ، بفتح الخاتمة وسكون القاف وكسر المهملة وسكون الخاتمة والنون . (عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ مَيَّاحٍ) ، بفتح الميم وتشديد الخاتمة والمهملة . (عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : إِنَّ إِبْلِيسَ قَاسَ نَفْسَهُ بِآدَمَ(3)) .

القيس والقياس، بالفتح من باب ضرب : إلحاق شيء بشيء في حكم ، والباء بمعنى «مع» والظرف حال نفسه ، فكلّ منهما مقيس . والمقصود أنّه قاس نفسه على شيء ، وقاس آدم على شيء . .

ص: 499


1- النحل (16) : 89 .
2- الأنعام (6) : 57 ؛ يوسف (12) : 40 و 67.
3- في «ج» : «إلى آدم» .

(فَقَالَ : «خَلَقْتَنِى مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ») . الفاء للتفصيل وبيان المقيس عليهما في القياسين السابقين . والمقصود أنّه قاس نفسه على النار التي هي مادّته ، وقاس آدم على الطين الذي هو مادّته ، كما هو مذكور في سورة الأعراف وسورة صآ .(1)

ولا يجوز أن يحمل هذا ولا ما يجيء في العشرين من الباب على الاستدلال على بطلان القياس مطلقا ، وإلاّ لتوجّه عليه الاعتراض بأنّ ذمّ إبليس على قياس خاصّ في وقت خاصّ لا بدل على قبح كلّ قياس ، ولا من كلّ أحد ، ولا في كلّ وقت إلاّ بالقياس ؛ لجواز أن يكون في ذلك القياس أو في إبليس أو في ذلك الوقت خصوصيّة ليست في غيره ، وليس هذا الاستدلال من قبيل إبطال الشيء بنفسه ، وراجعا إلى دليل الخلف بأن يُقال : لو جاز قياس ما ، لجاز هذا القياس من إبليس ، وليس فليس ، وذلك لأنّ بطلان القياس من مسائل اُصول الفقه ، ومجوّزوا القياس لم يجوّزوه فيه ، إنّما جوّزوه في الفروع الفقهيّة .

إن قلت : هل يمكن الاعتراض على هذا الاستدلال أيضا بأنّ قياس إبليس كان في مقابلة النصّ، بخلاف قياسهم ؟

قلت : لا ؛ أمّا أوّلاً، فلأنّ وجوب سجود إبليس لم يكن منصوصا عليه أوّلاً ؛ أي حين ترك السجود قبل المعاتبة ، بل كان داخلاً في ظاهر عمومٍ خصّصه بالظنّ بالقياس كما يخصّصون ، بل ظنّه أقرب بناءً على عدم كونه من جنس الملائكة ، هذا إذا كان أوّل ما ذمّ إبليس عليه القياس حين الخطاب بقوله تعالى في سورة صآ : «فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ»(2) ؛ سواء كان قياسه قبل وقت السجدة - كما هو ظاهر قوله في سورة صآ : «اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ»(3) وفي سورة الأعراف : «لَمْ يَكُنْ مِنْ السَّاجِدِينَ»(4) ؛ بناءً على كونهما استئنافا بيانيّا لقوله : «إِلاَّ إِبْلِيسَ» وعدم كونهما تكرارا له وكون المضيّ في «وكان من الكافرين» بالنسبة إلى الاستكبار ولم يكن باعتبار علم اللّه .

ص: 500


1- الأعراف (7) : 12 ؛ صآ (38) : 76 .
2- صآ (38) : 72 .
3- صآ، (38): 74.
4- الأعراف (7) : 11 .

كما قيل،(1) ولم يكن الكفر فيه غير القياس - أم كان قياسه في وقت السجدة .

وأمّا إذا كان أوّل قياسه قبل ذلك الخطاب في سورة صآ أيضا بأن يكون في ضمير إبليس حين سمع قوله : «إِنِّى جَاعِلٌ فِى الاْءَرْضِ خَلِيفَةً»(2) ، أو قوله : «إِنِّى خَالِقٌ بَشَرا مِنْ طِينٍ»(3) قبل سماع التتمّة أنّ نفسه خيرٌ منه بحيث يقبّح سجودها له بالقياس أو حكم به أيضا ، فالأمر أظهر .

وأمّا ثانيا، فلأنّه لا فرق بين النصّ على الحكم في المسألة الفقهيّة - كما في أمر إبليس بالسجود - وبين النصّ على الحكم في المسألة الاُصوليّة كما في الآيات الناهية عن القول على اللّه بغير علم ، وعن الاختلاف في الدِّين في عدم جواز المخالفة بالتأويل بالهوى ، بل تأويل إبليس أقرب من تأويلاتهم للنصوص، كما يظهر للمتتبّع ، فهم أيضا تكبّروا واستكبروا على أهل الذِّكر المأمور بسؤالهم فيما لا يعلم بادّعائهم لأنفسهم ما ليس لها من منصب الفتوى ، وأبوا أن يكونوا مع الصادقين .

ويظهر بهذا التحرير بطلان تأويل مثبتي القياس قولَ ابن عبّاس : مَن قاس الدِّين بشيءٍ من رأيه قرنه اللّه بإبليس(4) بأنّه إذا كان جاهلاً بالقياس كإبليس .

(فَقَاسَ مَا بَيْنَ النَّارِ وَالطِّينِ) ، الفاء للتفريع أو للتعقيب، و«ما» موصولة وعبارة عن النسبة، والتقدير: فقاس على ما بين .

وترك ذكر المقيس هنا للاقتصار؛ لظهور أنّه النسبة بين إبليس وآدم ، فالمقصود أنّه عدَّ نفسه أشرف من آدم بقياس النسبة بين المخلوقين على النسبة بين المادّتين ، ويقيس المتفاخرون بالآباء كقياس إبليس غافلين عن أنّه لو كان المخلوق مثل المخلوق منه في الشرف والخسّة، لكان الآباء مثل آباء الآباء، وهكذا إلى آدم وحوّاء ،4.

ص: 501


1- في حاشية «أ»: القائل: «البيضاوي». تفسير البيضاوي، ج 1، ص 294؛ وج 5، ص 55.
2- البقرة (2) : 30 .
3- صآ (38) : 71 .
4- مجمع البيان، ج 4، ص 225؛ تفسير الثعلبي، ج 4، ص 219؛ تفسير البغوي، ج 2، ص 150؛ تفسير الرازي، ج 14، ص 34.

فيتّحد المخلوق منه ؛ قال تعالى في سورة الحجرات : «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّه ِ أَتْقَاكُمْ»(1) .

(فَلَوْ قَاسَ الْجَوْهَرَ الَّذِي خَلَقَ اللّه ُ مِنْهُ آدَمَ بِالنَّارِ ، كَانَ ذلِكَ أَكْثَرَ نُورا وَضِيَاءً مِنَ النَّارِ) . يعني وبعد تسليم القياس والتجاوز عن مدلول الآيات البيّنات المحكمات الناهية عن اتّباع الظنّ لو قاس على الجوهر إلى آخره ، وليس المقصود أنّه لو قاس كذلك كان قياسا صحيحا، وأنّه غلط إبليس في كيفيّة القياس ، بل(2) المقصود زيادة التنفير من القياس ببيان كثرة الخطأ فيه، فإنّ شيخهم وأوّل من سنَّ القياس لهم قد أخطأ خطأً ظاهرا في قياس يلزم على تقدير صحّته بطلانُه، فإنّه لو صحَّ قياس الشيء على مادّته لصحّ قياس المادّة على مادّة المادّة ، فيلزم على قياسه أن يكون آدم أشرف منه .

و«الجوهر» معرّب «گوهر» الأصل الذي يستخرج منه شيء ، والباء بمعنى «مع» ، والنار بتقدير الجوهر الذي خلق اللّه منه النار ، وهذا إشارة إلى أنّ جوهر آدم العذب الفرات النوراني، وجوهر إبليس الملح الاُجاج الظلماني، كما مرّ في رابع عشر الأوّل .(3)

التاسع عشر : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى بْنِ عُبَيْدٍ ، عَنْ يُونُسَ ، عَنْ حَرِيزٍ ، عَنْ زُرَارَةَ ، قَالَ : سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام عَنِ الْحَلاَلِ وَالْحَرَامِ) أي قلت : هل يمكن أن يحدث شيء من الحلال والحرام بحسب الأحكام الواقعيّة، أو بحسب الأحكام الواصليّة، ولم يأت رسول اللّه صلى الله عليه و آله الناس بحكمه الواقعي، أو بحكمه الواصلي، ووكله إلى نظر الناس في مسألة فقهيّة، أو في مسألة من اُصول الفقه .

(فَقَالَ : حَلاَلُ مُحَمَّدٍ حَلاَلٌ أَبَدا إِلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَحَرَامُهُ حَرَامٌ أَبَدا إِلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) . الحصر مراد، أي حلال محمّد هو الحلال وحرامه هو الحرام بقرينة الاستئناف البياني بقوله :

(لاَ يَكُونُ غَيْرُهُ). هذا لإبطال أن يختلف أحكام الحلال والحرام باختلاف ظنونل.

ص: 502


1- الحجرات (49) : 13 .
2- في «د»: «و».
3- أي الحديث 14، من باب العقل والجهل.

المجتهدين المصوّبة منهم والمخطّئة، فإنّ اتّباع الظنّ من حيث إنّه ظنّ يتضمّن الحكم بالمظنون إمّا صريحا كما في الإفتاء الحقيقي ، وإمّا غير صريح كما في العمل لأجل الظنّ .

وبهذا يظهر أنّه لا يُبطِل طريقة الأخباريّين .

(وَلاَ يَجِيءُ غَيْرُهُ) . هذا لبيان أنّه لا ينسخ هذه الشريعة .

(وَقَالَ) : أي أبو عبداللّه عليه السلام :

(قَالَ عَلِيٌّ عليه السلام ) : استئنافٌ لبيان ما تقدّم من أنّه لا حكم واقعيّا وواصليّا إلاّ وهو فيما جاء به محمّد صلى الله عليه و آله .

(مَا أَحَدٌ ابْتَدَعَ بِدْعَةً إِلاَّ تَرَكَ بِهَا سُنَّةً) . مضى في شرح عنوان الباب معنى البدعة ، و(1)المراد هنا أعمّ منه ومن الرأي والمقاييس، وهذا مطابق لما رواه المخالفون أيضا عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله أنّه قال : «ما أحدث قوم بدعة إلاّ رفع مثلها من السنّة فتمسُّكٌ بسنّة خيرٌ من إحداث بدعة ».(2) انتهى .

العشرون : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللّه ِ الْعَقِيلِيِّ) بضمّ المهملة وفتح القاف نسبة إلى قبيلة، وإمّا عقيل - كأمير - فيقع علي بن أبي طالب و على غيره. (عَنْ عِيسَى بْنِ عَبْدِ اللّه ِ الْقُرَشِيِّ ، قَالَ دَخَلَ أَبُو حَنِيفَةَ عَلى أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، فَقَالَ لَهُ : يَا أَبَا حَنِيفَةَ ،(3) بَلَغَنِي أَنَّكَ تَقِيسُ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : لا تَقِسْ ؛ فَإِنَّ أَوَّلَ مَنْ قَاسَ إِبْلِيسُ) . هذا إلى آخره تنفير من القياس بعد ظهور قيام الدلالة على بطلانه من نصوص القرآن، كما مضى شرحه في ثامن عشر الباب .

(حِينَ قَالَ). الظرف ليس متعلّقا بقوله «قاس» بل هو خبر مبتدأ محذوف ؛ أي قياسه حين قال ، والمراد ظهور قياسه منه حين قال : («خَلَقْتَنِى مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ»(4) فَقَاسَ 6.

ص: 503


1- في «د»: - «و».
2- مسند أحمد، ج 4، ص 105، حديث غضيف بن الحرث؛ مجمع الزوائد، ج 1، ص 188.
3- باب في البدع والأهواء؛ فتح الباري، ج 13، ص 213، باب الاقتداء بسنن رسول اللّه صلى الله عليه و آله ؛ العهود المحمّديّة للشعراني، ص 639.
4- الأعراف (7): 12؛ صآ (38): 76.

مَا بَيْنَ النَّارِ وَالطِّينِ ، وَلَوْ قَاسَ نُورِيَّةَ آدَمَ) . المراد بها الجوهر الذي خلق اللّه منه آدم، وهو الماء العذب، كما مضى في ثامن عشر الباب .

(بِنُورِيَّةِ النَّارِ) ، هي الماء الملح الاُجاج .

(عَرَفَ فَضْلَ مَا بَيْنَ النُّورَيْنِ ، وَصَفَاءَ) أي زيادة صفاء (أَحَدِهِمَا عَلَى الاْآخَرِ) .

الحادي والعشرون : (عَلِيٌّ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، عَنْ يُونُسَ ، عَنْ قُتَيْبَةَ ، قَالَ : سَأَلَ رَجُلٌ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام عَنْ مَسْأَلَةٍ ، فَأَجَابَهُ فِيهَا ، فَقَالَ الرَّجُلُ : أَ رَأَيْتَ) ؛ بهمزة الاستفهام وفتح التاء للمخاطب ؛ أي أخبرني، وأصله من الرأي .

(إِنْ كَانَ كَذَا وَكَذَا ، مَا كَانَ يَكُونُ الْقَوْلُ فِيهَا ؟ فَقَالَ لَهُ : مَهْ )؛ بفتح الميم وسكون الهاء اسم فعل ؛ أي اسكت ، وأكثر استعماله بمعنى اترك .

(مَا أَجَبْتُكَ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ ، فَهُوَ عَنْ رَسُولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله ، لَسْنَا مِنْ أَ رَأَيْتَ فِي شَيْءٍ) . لعلّه عليه السلام علم من قوله : «أرأيت» ، أنّ مراده طلب الفتوى بالرأي والاجتهاد ، فصرّح بأنّا لسنا من أهل الرأي في شيء من الأحكام ، والمراد بقوله عليه السلام : «أرأيت» لفظ أرأيت، وهو في حكم الاسم، ولذا أدخل عليه «مِن» ، والمراد ممّن يُقال له: أرأيت .(1)

الثاني والعشرون : (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ ، عَنْ أَبِيهِ مُرْسَلاً ، قَالَ : قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام : لاَ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللّه ِ وَلِيجَةً) .

إشارة إلى قوله تعالى في سورة التوبة : «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّه ُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللّه ِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللّه ُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ»(2) . المجاهدة هنا مجاهدة مع النفس ؛ لأنّ النفوس تنزع إلى اتّباع الرأي واتّخاذ الوليجة بدون نصّ اللّه ، ولا نصّ رسوله ، ولا نصّ الأئمّة السابقين ، ولا سيّما إذا كانت الدُّنيا مع الوليجة ، فقوله : «ولم يتّخذوا» عطف تفسيرٍ تقول : أخذت الشيء - كنصر - : .

ص: 504


1- وحقِّ العبارة: والمراد لسنا ممن يقال له أرأيت.
2- التوبة (9) : 16 .

إذا تناولته فيتعدّى إلى مفعول واحد ، وتقول : ائتخذوا في القتال بهمزتين ؛ أي أخذ بعضهم بعضا ، والاتّخاذ افتعال أيضا من الأخذ ، إلاّ أنّه اُدغم بعد تليين الهمزة وإبدال التاء .

وقد يستعمل «اتّخذ» بمعنى «أخذ» فيتعدّى إلى مفعول واحد ، وقد يستعمل بمعنى قريبٍ من معنى «صيّر» وهو تناول الشيء على أن يكون شيئا آخر ، فيجعل الشيئان مفعولين له ، نحو قوله : «اتَّخَذَ اللّه ُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً»(1)في «ج» : + «بغير المتصرف» .(2) ، وقد يُحذف المفعول الأوّل . وما نحن فيه يحتمل أن يكون منه ؛ أي لا تتّخذوا أحدا وليجة ، وأن يكون من المتعدّي إلى واحد ، وكذا قوله تعالى : «أَأَتِّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً»(3) ، و«من» بمعنى «في» و«دون» ظرف غير متصرّف بمعنى وراء ، فمعنى من دون اللّه : في وراء اللّه ، كأنّ الاتّخاذ في مكان وراء اللّه ؛ أي لم يعلم اللّه به . ويرجع حاصل المعنى إلى انتفاء نصّهِ ، تعالى اللّه ُ عن المكان وعن الغفلة .

ويحتمل أن تكون «من» للسببيّة و«دون» ظرفا بمعنى وراء ومتصرّفا ؛ لما يلحقه من معنى غير ، كما تقول : فعلته بدون تفريط ولا إفراط ، فمعنى من دون اللّه : بغير اللّه ، بمعنى بغير نصّه .

وقال الرضيّ رحمه الله (4) :

المراد بغير المتصرّف من الظروف ما لم يستعمل إلاّ منصوبا بتقدير «في» أو مجرورا ب- «من» . وقد ينجرّ متى بإلى وحتّى(4) أيضا ، وينجرّ أين بإلى أيضا مع عدم تصرّفهما ، و«من» الداخلةُ على الظروف غير المتصرّفة أكثرها بمعنى «في» نحو : جئت من قبلك ومن بعدك ، و«مِن بَيْنِنَا وَ بَيْنِكَ حِجَابٌ»(5) وأمّا نحو : جئت من عندك ، «فَهَبْ لِى مِن لَّدُنكَ»(6) فلابتداء الغاية ، والمتصرّف من الظروف ما لم يلزم انتصابه بمعنى «في» أو .

ص: 505


1- النساء
2- : 125 .
3- يسآ (36) : 23 .
4- في حاشية النسخ : «في شرح الكافية في بحث المفعول فيه (منه)» .
5- الروم (30) : 5 .
6- مريم (19) : 5 .

انجراره بمن .(1)

ثمّ عدّ رحمه الله «دون» بمعنى قدّام من الظروف المكانيّة النادرة التصرّف ، وقال :

وقد يدخل «دون» التي بمعنى قدّام معنيان آخران ، هي في أحدهما متصرّفة ، وذلك معنى أسفل ، نحو : أنت دون زيد: إذا كان لزيد مرتبة عالية وللمخاطب مرتبة تحتها ، فيتوصّل(2) إلى المخاطب قبل الوصول إلى زيد ، ويتصرّف فيها بهذا المعنى ، نحو : هذا شيء دونٌ ، أي خسيس ، ومعناها الآخر «غيرُ» ولا يتصرّف بهذا المعنى ، وذلك نحو قوله تعالى : «ءَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ ءَالِهَةً» ،(3) كان المعنى أإذا وصلتُ إلى الآلهة أكتفي بهم ، ولا أطلبُ اللّه الذي هو خلفهم ووراءهم ، فهم كأنّهم قدّامه في المكان ؛ تعالى [اللّه] عنه .(4) انتهى .

وقوله : «ولا رسوله» ، عطف على «اللّه» ، وكذا «ولا المؤمنين» . و«لا» مزيدة لتأكيد ما في «لم يتّخذوا» من النفي ، فيفيد وجوب اعتبار نصّ الثلاثة جميعا ، أو لتأكيد ما في «دون» من معنى النفي ، فيفيد وجوب اعتبار نصّ واحد من الثلاثة ، والمآل واحد ؛ إذ لا يفترق نصّ أحد الثلاثة عن نصّ الآخرين .

ولذا اكتفى في هذا الحديث بقوله : «من دون اللّه» اقتصارا ، ويجيء في «كتاب الحجّة» في خامس عشر «باب فيه نكت ونتف من التنزيل في الولاية» عن أبي جعفر عليه السلام أنّه قال : «يعني بالمؤمنين الأئمّة عليهم السلام لم يتّخذوا الولائج من دونهم» .

ويجيء في عاشر «مولد أبي محمّد الحسن بن عليّ عليهماالسلام » أنّه قال في تفسير المؤمنين : «هم الأئمّة الذين يؤمنون على اللّه فيجيز أمانهم» .

والولوج : الدخول ، وقد ولج يلج وأولجه(5) غيره ، ومنه الحديث : «عُرِض عليَّ كلّ شيء تُولِجونَهُ» بكسر اللام ، أي تُدخِلونه في الدِّين من الأئمّة والأحكام ونحوها . .

ص: 506


1- شرح الرضي على الكافية ، ج 1 ، ص 494 .
2- في المصدر : «فيوصل» .
3- سورة يس (36) : 23 .
4- شرح الرضي على الكافية ، ج 1 ، ص 500 .
5- في النهاية : «وأولج» .

وقيل : بفتح اللام ، أي تدخلونه وتصيرون إليه من جنّةٍ ونار .(1) انتهى .

وظاهر هذا الحديث أنّ المراد بالوليجة من دخل في سلسلة الأئمّة ، سواء كان حقّا أو باطلاً ، وما يجيء في «كتاب الحجّة» في عاشر «مولد أبي محمّد الحسن بن عليّ عليهماالسلام » من قوله عليه السلام : «الوليجة الذي يقام دون وليّ الأمر» تفسير لفردٍ منها(2) ، وهو من اتّخذ من دون اللّه ولا رسوله ولا المؤمنين ، أي بغير نصّ اللّه ولا نصّ رسوله ولا نصّ الأئمّة السابقين ، وهي فعيلة بمعنى فاعلة ، والتاء للنقل من الوصفيّة إلى الاسميّة أو للتأنيث باعتبار نفس .

(فَلاَ تَكُونُوا مُوءْمِنِينَ) ؛ أي على حقيقة الإيمان .

(فَإِنَّ) . استدلالٌ على كفر القائلين بجواز انعقاد الإمامة بدون نصّ اللّه ولا رسوله ولا الأئمّة السابقين ، كما توهّمه القائلون بانعقاد إمامة «ركب وبا»(3) بالبيعة .

(كُلَّ سَبَبٍ) ؛ بالمهملة والموحّدة المفتوحتين : ما به يربط بين شيئين ، والمراد هنا أمثال المصاهرة بين الوليجة وبين الإمام السابق ، وأصله في الحبل كقوله : «فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ»(4) .

(وَنَسَبٍ) ؛ بالنون والسين المفتوحتين : اتّصال الوليجة بالإمام السابق في أبي قبيلة كقريش .

(وَقَرَابَةٍ) ؛ بفتح القاف : قرب النسب ، ككون الوليجة عمّ الإمام السابق .

(وَوَلِيجَةٍ) ؛ بتقدير ولوج وليجة ، والمراد دخول وليجة في سلسلة الأئمّة بالتسلّط والسلطنة وكثرة الأتباع .

(وَبِدْعَةٍ وَشُبْهَةٍ) . ذكر هذا الحديث تحت عنوان هذا الباب باعتبار هاتين ، والبدعة : متابعة هوى النفس ، والشُبهة، بالضمّ : المشابهة المعتبرة في القياس . .

ص: 507


1- النهاية ، ج 5 ، ص 224 (ولج) .
2- في «د» : «منهما» .
3- في «د» : «أبي بكر» وفي حاشية «أ» : «وهذا قلب لفظ أبو بكر» .
4- الحجر (15) : 15 .

والمقصود أنّ كلاًّ من البدعة والشبهة على قسمين :

الأوّل ما كان في نفس الحكم الشرعي ، كتعيين الإمام باتّباع الهوى ، وكتعيين الإمام لمشابهته بالإمام السابق في الشكل والشمائل ؛ وهذا ممّا أبطله القرآن .

الثاني : ما كان في غير نفس الحكم الشرعي ، كإحداث نوع من الطعام بهوى النفس ، وكتعيين قيمة متلَف لمشابهتِهِ بشيءٍ معلوم القيمة ؛ ونحو ذلك من محالّ الحكم التي يكتفى فيها بالظنّ .

(مُنْقَطِعٌ) ، بصيغة اسم الفاعل من باب الانفعال أو باب التفعّل(1) ؛ أي لا يثبت يوم القيامة بأن يتوصّل به ويستند إليه في الاعتذار عن اتّخاذ الإمام .

(إِلاَّ مَا أَثْبَتَهُ الْقُرْآنُ) أي الآيات البيّنات المحكمات الناهية عن اتّباع الظنّ ، وعن الاختلاف عن ظنّ ، الآمرةٍ بسؤال أهل الذِّكر عن كلّ ما لم يعلم بالبيّنات والزبر الدالّة على وجوب إمام عالم بجميع الأحكام والمتشابهات إلى انقراض التكليف ، وعلى كفر مَن أنكر مضمون تلك الآيات ، كقوله تعالى في سورة آل عمران : «وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْيا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّه ِ فَإِنَّ اللّه َ سَرِيعُ الْحِسَابِ»(2)الكافي ، ج 8 ، ص 296 ، ح 456 .(3) .

وفي «كتاب الروضة» قُبَيلَ حديث أبي ذرّ رضى الله عنه : «وأنّ أبا بكر دعا فأبى عليّ صلوات اللّه عليه إلاّ القرآن ، وأنّ عمر دعا فأبى عليّ عليه السلام إلاّ القرآن ، وأنّ عثمان دعا فأبى عليّ عليه السلام إلاّ القرآن» الحديث . .

ص: 508


1- كذا في النسخ . أقول : ولا يكون من باب التفعل إلا إذا كانت الكلمة : «متقطّع» .
2- آل عمران
3- : 19 .

باب الردّ إلى الكتاب والسنّة ، وأنّه ليس شيء من الحلال والحرام و...

الباب الحادي والعشرون (بَابُ الرَّدِّ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، وَأَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْحَلاَلِ وَالْحَرَامِ وَجَمِيعِ مَا يَحْتَاجُ النَّاسُ إِلَيْهِ إِلاَّ وَ قَدْ جَاءَ فِيهِ كِتَابٌ أَوْ سُنَّةٌ)

فيه عشرة أحاديث .

والمراد بالكتاب محكمات القرآن ، والواو للتقسيم أو بمعنى «أو» لمنع الخلوّ ؛ ومآلهما واحد .

والمراد بالسنّة ما هو صريح في الجامعة لتفسير متشابهات القرآن ، ولا يخرج شيء من أحكام الحلال والحرام ونحوهما عنهما كما مرّ في رابع عشر السابق(1) ؛ يعني أنّ هذا باب وجوب ردّ الرعيّة حكم جميع ما نزل بهم في أمر دينهم من القضايا الجزئيّة إلى الكتاب والسنّة .

ومعنى الردّ إلى محكمات الكتاب ظاهر ، وأمّا الردّ إلى السنّة فمعناه سؤال أهل الذِّكر الذين عندهم الجامعة عن حكم كلّ ما لم يُعلم من محكمات الكتاب .

وقوله : «وأنّه» إلى آخره عطف تفسير على الردّ ، والمحتاج إليه : ما يحتاج إلى العلم به ؛ لأنّه قابل للاختلاف الحقيقي المستقرّ .

وهو على قسمين :

الأوّل : ما يحتاج أكثر الناس إليه ، كمسائل معرفة اللّه ، ومسائل الميراث ونحو ذلك .

الثاني : ما لا يحتاج أكثر الناس إليه ، كمعرفة القبلة في موضع خاصّ ، ومقادير

ص: 509


1- أي الحديث 14 من باب البدع والرأي والمقاييس .

الجنايات الموجبة للديات ، وقيم المتلفات فيه .

والمراد هنا القسم الأوّل ، فالمراد بالناس أكثر الناس ، و«أو» في قوله : «أو سنّة» لمنع الخلوّ ، كما يظهر ممّا مرّ آنفا .

الأوّل : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حَدِيدٍ ، عَنْ مُرَازِمٍ) ، بضمّ الميم والمهملة وكسر الزاي . (عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : إِنَّ اللّه َ - تَبَارَكَ وَتَعَالى - أَنْزَلَ فِي الْقُرْآنِ تِبْيَانَ كُلِّ شَيْءٍ) . إشارةٌ إلى قوله تعالى في سورة النحل : «وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ»(1) ، وآيات كثيرة قبله وبعده تمهيد وتتميم له ، فمَن جوّز الحكم بالرأي والمقاييس بعد تبيان اللّه تعالى كلّ شيء مشركٌ و«كَالَّتِى نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا» .(2)

والتبيان : البيان البليغ الواضح ، والمراد بكلّ شيء : كلّ ما يحتاج إليه العباد من الحلال والحرام ونحوهما ، كما يدلّ عليه تتمّة الحديث وثاني الباب ، فهذا كقوله : «وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَىْ ءٍ»(3) . والمحتاج إليه فيما نحن فيه جميع الأحكام التكليفيّة والوضعيّة من الفقهيّة والأُصوليّة ونحوهما .

فإن اُريد أنّ القرآن تبيان لكلّ شيء بالنسبة إلى ذهن رسول اللّه ومَن يقوم مقامه من الأئمّة الراسخين في العلم أهل الذِّكر فلا إشكال فيه ، ويطابقه ما في «كتاب الروضة» .

ص: 510


1- النحل (16) : 89 .
2- في حاشية «أ» : «إشارة إلى مافي سورة النحل بعد تلك الآية بآيتين من قوله تعالى : «وَلاَ تَكُونُوا كَالَّتِى نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا» الآية والإنكاث : الانقاض ، واحدها : نكث ، وهو النقض بعد الفتل ، ومنه سمّوا من بايع الإمام طائعا ثم خرج عليه ناكثا ؛ لأنّه نقض ما وكّد على نفسه بالعهود ، والمعنى : لا تكونوا كالمرأة التي غزلت ثم نكثت غزلها من بعد إبرام وفتل للغزل . وهي امرأة حمقاء من قريش كانت تغزل مع جواريها إلى انتصاف النهار ، ثمّ تأمرهنّ أن ينقضن ما غزلن ولا يزال ذلك دأبها وكانت تسمّى خرقاء مكة ، واسمها ريطة بنت عمرو بن كعب بن سعد بن تميم بن مرة ؛ عن الكلبي . وقيل : إنّه مثل ضربه اللّه تعالى ، شبّه فيه حال ناقض العهد بمن كان كذلك» . مجمع البيان ، ج 6 ، ص 193 و 194 .
3- النمل (27) : 23 .

بعد حديث العلماء والفقهاء من قول أبي جعفر عليه السلام : «إنّما يعرف القرآن مَن خُوطب به» .(1)

وإن اُريد أنّه تبيان لكلّ شيء بالنسبة إلى أذهان الرعيّة أيضا ، فهو بتوسّط المحكمات التي هي اُمّ الكتاب . وفي سورة يونس : «وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللّه ِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ»(2) أي تفصيل كلّ ما يليق بأن يكتب . وفي سورة يوسف : «مَا كَانَ حَدِيثا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَىْ ءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ»(3) أي تفصيل كلّ ما يليق بأن يفصّل .

قال بعض المخالفين :

فإن قلت : كيف كان القرآن تبيانا لكلّ شيء ؟(4)

قلت : المعنى أنّه بيّن كلّ شيء من اُمور الدِّين حيث كان نصّا على بعضها ، وإحالةً على السنّة حيث اُمِر فيه باتّباع رسول اللّه وطاعته ، وقيل : «يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىآ»(5) وحثّا على الإجماع في قوله : «وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ»(6) ، ورضي رسول اللّه لاُمّته اتّباع أصحابه والاقتداء بآثارهم في قوله : «أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم»(7) وقد اجتهدوا وقاسوا ووطّأوا طرق القياس والاجتهاد ، فكانت السنّة والإجماع والقياس والاجتهاد مستندة إلى تبيان الكتاب ، فمن ثمّ كان تبيانا لكلّ شيء .(8) انتهى .

وفيه أوّلاً : أنّ القياس والاجتهاد لا يفيان بجميع الأحكام الواقعيّة التي لا يستنبطها فقهاؤهم من الكتاب والسنّة والإجماع ، وهم صرّحوا بأنّ مالكا سُئل عن أربعين مسألة .

ص: 511


1- الكافى ، ج 8 ، ص 312 ، ح 485 .
2- يونس (10) : 37 .
3- يوسف (12) : 111 .
4- في حاشية النسخ : «هو الزمخشري في الكشاف (منه)» .
5- النجم (53) : 3 .
6- النساء (4) : 115 .
7- جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر ، ج 2 ، ص 78 و 90 ؛ شرح نهج البلاغة ، ج 20 ، ص 11 و 23 و 28 ؛ هذا وللسيد علي الميلاني المعاصر رسالة في حديث أصحابي كالنجوم، مطبوعة سنة 1418 هجرية .
8- الكشّاف ، ج 2 ، ص 424 .

فقال في ستّ وثلاثين منها : لا أدري(1) . والتّهيّؤ للجميع(2) بالمخائل الظنّيّة ممتنع عادةً كما يظهر للمتتبّع .

وثانيا : أنّ من تتبّع أنظار أهل القياس والاجتهاد علم أنّه لا يحصل لهم فيما اجتهدوا أو قاسوا فيه إلاّ جهالات من اعتقاد مبتدأ ، أو ظنٍّ ضعيف في عرضة التهافت والزوال والتناقض ، وكيف يمكن أن يمنّ اللّه على عباده بالبيان البليغ الواضح لكلّ شيء وبتفصيله ، ولا يكون فيهم من يكون له طريق في حلّ الأحكام الواقعيّة إلى علم أصلاً ، ويحيلهم في التبيان والتفصيل إلى جهل جُهّالٍ . وقد اُشير إلى الوجهين فيما مضى في سابع عشر الباب السابق(3) عن عليّ صلوات اللّه عليه أنّه قال : «مَن نصب نفسه للقياس لم يزل دهرَه في التباس ، ومَن دان اللّه بالرأي لم يزل دهره في ارتماس» . فالأصحاب الذين هم كالنجوم في انتفاء اختلاف الدلالات لم يجتهدوا ولم يقيسوا .

وثالثا : أنّه لو كان القرآن بهذا الاعتبار تبيانا وتفصيلاً لكلّ شيء ، لكان قول القائل : اعمل ما علمتَ أو ظننتَ أنّه حقّ ، وإلاّ فاعمل ما شئت ، تبيانا وتفصيلاً لكلّ شيء . وهذا سفسطة .

(حَتّى وَاللّه ِ ). الواو للقسم .

(مَا) ؛ نافية .

(تَرَكَ اللّه ُ شَيْئا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْعِبَادُ) أي في اُمور الدِّين إلى يوم القيامة من أنواع الأحكام الواقعيّة والواصليّة ، والتفاوت بين أصناف نوع واحد بحسب الدِّين ككون هذا من الواجبات أوجبَ من ذاك منها ، وهذا من المستحبّات أحبَّ من ذاك منها ، ونحو ذلك .

(حَتّى لاَ يَسْتَطِيعَ عَبْدٌ) ؛ بدل «حتّى واللّه» إلى آخره ، أو معطوف عليه بحذف العاطف ، يُقال : استطاعه إذا قدر عليه بسعة ، ويجيء حقيقة الاستطاعة في «كتاب التوحيد» في أحاديث «باب الاستطاعة» . .

ص: 512


1- حكى ذلك ابن قدامة في المغني ، ج 11 ، ص 384 ؛ وفي الشرح الكبير ، ج 11 ، ص 391 ؛ والغزالي في المستصفى ، ص 345 ؛ والآمدي في الأحكام ، ج 4 ، ص 164 .
2- في «ج» : «للجمع» .
3- أي الحديث 17 من باب البدع والرأي والمقاييس .

(يَقُولُ) ؛ بالرفع على تقدير «أن» الناصبة وإهمالها ، أو على أنّه بدل «يستطيع» أو بالنصب على تقدير «أن» وإعمالها . والمراد باستطاعة القول وقوع القول منه ، نحو : «إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِى صَبْرا»(1) ، أو المراد القدرة على القول .

(لَوْ) ؛ للتمنّي وتفيد أمرين : كونَ مدخولها محتاجا إليه ، وكونَه غير واقع .

(كَانَ) ؛ ناقصة ، وإنّما زيدت للدلالة على أنّ المتمنّى ماض .

(هذَا) ؛ اسم كان ، ولا حاجة إلى تقييد المشار إليه بكونه محتاجا إليه ، بناءً على ما في «كتاب الروضة» في حديث النظر في النجوم من أنّه يستنبط الإمام من القرآن عدد قصبات الأجمّة والتي في وسطها .

(أُنْزِلَ) ؛ بصيغة المجهول خبر «كان» .

(فِي الْقُرْآنِ إِلاَّ) ؛ بكسر الهمزة وتشديد اللام ، والاستثناء متّصل مفرّغ ، والمستثنى حال ، نحو : «وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا»(2) أي لا يستطيع أن يقوله على حال إلاّ على هذا الحال .

(وَقَدْ أَنْزَلَهُ اللّه ُ) . الضمير راجع إلى «هذا» . (فِيهِ) أي في القرآن .

الثاني : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، عَنْ يُونُسَ ، عَنْ حُسَيْنِ بْنِ الْمُنْذِرِ) ؛ بضمّ الميم وسكون النون وكسر المعجمة والمهملة (عَنْ عُمَرَ(3) بْنِ قَيْسٍ ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ، قَالَ : سَمِعْتُهُ يَقُولُ : إِنَّ اللّه َ - تَبَارَكَ وَتَعَالى - لَمْ يَدَعْ شَيْئا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ الاْءُمَّةُ إِلاَّ أَنْزَلَهُ فِي كِتَابِهِ) .

يجيء مضمون هذا الحديث في «كتاب الحدود» في حادي عشر الأوّل(4) . والاستثناء هنا من قسم المنقطع الذي لا يمكن فيه تسليط العامل على المستثنى ، نحو : .

ص: 513


1- الكهف (18) : 67 .
2- الأنعام (6) : 59 .
3- في «أ ، ج» : «عمرو» . وفي حاشية «ج» كالمثبت في المتن .
4- أي الحديث 11 من باب التحديد .

ما زاد هذا المال إلاّ نقص ؛ إذ لا يُراد زاد النقص .

(وَبَيَّنَهُ لِرَسُولِهِ صلى الله عليه و آله ) . إشارةٌ إلى قوله تعالى في سورة القيامة : «فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ»(1) .

(وَجَعَلَ لِكُلِّ شَيْءٍ) أي ممّا بيّنه في الكتاب (حَدّا ، وَجَعَلَ عَلَيْهِ دَلِيلاً يَدُلُّ عَلَيْهِ ، وَجَعَلَ عَلى مَنْ تَعَدّى ذلِكَ الْحَدَّ حَدّا) .

الحدّ الحاجز بين شيئين ، وهو قسمان :

الأوّل : ما يحجز الشيء عن أن يشتبه بالشيء الآخر كالجدار بين أرضين .

والثاني : ما يحجز الشيء عن أن يرتكب الشيء الآخر كعقوبة الزاني . والمراد بالحدّ أوّلاً وثانيا القسم الأوّل ، والمراد بالحدّ ثالثا القسم الثاني .

وقوله : «جعل» ، أي في القرآن ، وضمير «عليه» للحدّ ، والمراد بالدليل الإمام الهدى ، أو الآيات البيّنات المحكمات الدالّة على إمامته ، أوالجامعة التي هي إملاء رسول اللّه صلى الله عليه و آله وخطّ عليّ عليه السلام ؛ ومآل الكلّ واحد .

والمراد بالتعدّي التجاوز في العمل أو في الإفتاء والقضاء .

فإن قلت : إذا حمل التعدّي على التعدّي في العمل دلَّ ظاهره على أنّه لا يجوز العمل إلاّ مع يقين بالحكم الواقعي ، كما ذهب إليه بعض ، فإنّه لولاه لزم التعدّي عن حدّ ؟

قلت : لا دلالة ؛ لأنّ أحكام اللّه تعالى على قسمين : واقعيّة وواصليّة ، والاُولى كالعزيمة ، والثانية كالرخصة ؛ لعذر الجهل بالحكم الواقعي ، وقد بيّن كلاًّ منهما في الكتاب ، وجعل لكلّ منهما حدّا .

الثالث : (عَلِيٌّ ، عَنْ مُحَمَّدٍ ، عَنْ يُونُسَ ، عَنْ أَبَانٍ ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ هَارُونَ ، قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام يَقُولُ) . يجيء مضمون هذا الحديث في «كتاب الحدود» في تاسع الأوّل .(2) .

ص: 514


1- القيامة (75) : 18 - 19 .
2- أي الحديث 9 من باب التحديد .

(مَا خَلَقَ) أي ما قدّر (اللّه ُ حَلاَلاً وَلاَ حَرَاما) . يشملان جميع الأحكام الشرعيّة ، فإنّ صحّة عقد بيع مثلاً يرجع إلى حلّيّة تصرّف المشتري ، وفساده يرجع إلى حرمة تصرّفه ، وهكذا .

(إِلاَّ وَلَهُ حَدٌّ) أي حاجز مميّز (كَحَدِّ الدَّارِ) أي لا يختلف باختلاف الاجتهادات ، أو معلوم عند أهله .

(فَمَا كَانَ مِنَ الطَّرِيقِ ، فَهُوَ مِنَ الطَّرِيقِ ) أي فغير داخل في الدار باجتهاد ، أو فمعلوم عند أهله .

(وَمَا كَانَ مِنَ الدَّارِ فَهُوَ مِنَ الدَّارِ) أي فغير داخل في الطريق باجتهاد ، أو فمعلوم عند أهله .

وهذا ردّ على المصوّبة من أهل الاجتهاد ؛ حيث يقولون : حكم اللّه تابع لظنّ المجتهد(1) ، وعلى المخطّئة منهم أيضا ؛ لزعمهم أنّ بعض الأحكام ليس محدودا في الكتاب ولا في السنّة .(2)

(حَتّى أَرْشِ الْخَدْشِ فَمَا سِوَاهُ ، وَالْجَلْدَةِ وَنِصْفِ الْجَلْدَةِ) . «حتّى» جارّة والظرف لغو متعلّق بالظرف في قوله : «له حدّ» . ويبعد كون «حتّى» عاطفة على ضمير «له» ؛ لوجوب إعادة الجارّ عند الأكثر في العطف على الضمير المجرور ، واختيار إعادة الجارّ عند الجميع في العطف بحتّى وإن كان عطفا على المظهر ؛ دفعا لتوهّم كونها جارّة ، نحو : مررت بالقوم حتّى بزيد .(3)

والأرش - بالفتح - : الدية ، والخدش - بفتح المعجمة وسكون المهملة - مصدر خدش جلده - كضرب - : إذا قشره بعود ونحوه ، والخدش اسم لذلك الأثر أيضا ، .

ص: 515


1- حكاه الآمدي في الأحكام ، ج 4 ، ص 183 . في المسألة الخامسة عن القاضي أبي بكر وأبي الهذيل والجبائي وابنه .
2- المعروف عند الاُصوليّين أنّ المخطئة يقولون : ما من واقعة إلاّ وفيها حكم معيّن ، وأنّه ما من حكم إلاّ وقد نصب عليه دليل ، إمّا حجّة قاطعة ، أو أمارة ظنّية . الفصول الغروية ، ص 406 .
3- اُنظر: شرح الرضي على الكافية ، ج 4 ، ص 276 ؛ مغني اللبيب ، ج 1 ، ص 128 .

والفاء للتعقيب الرتبي ، و«ما» موصولة معطوفة على الخدش ، و«سواه» بكسر المهملة وضمّها والمقصورة ، وضمير الخدش خبر مبتدأ محذوف ؛ إذ التقدير : فما هو سواه ، وسواه بمعنى غيره ، والمراد هنا أسفله بقرينة أن ، حتّى هنا للانتقال من الأقوى إلى الأضعف ، ويؤيّده ما يجيء في «كتاب الحجّة» في أوّل «باب فيه ذكر الصحيفة والجفر والجامعة ومصحف فاطمة عليهاالسلام » من قوله : «فغمزني بيده» وقال : «حتّى أرش هذا» .

و«الجلدة» بفتح الجيم مجرورٌ معطوفٌ على «أرش» ، وذكر نصف الجلدة من قبيل المثال لما هو أسفل من الجلدة بقرينة ما يجيء في «كتاب الحدود» في بعض أحاديث الباب الأوّل من التأديب بثُلث الجلدة(1) ، والمقصود أنّه تعالى أوضح جميع الديات حتّى دية كذا وكذا(2) ، وأوضح جميع الحدود حتّى كذا وكذا .

الرابع : (عَلِيٌّ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، عَنْ يُونُسَ ، عَنْ حَمَّادٍ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : سَمِعْتُهُ يَقُولُ : مَا مِنْ شَيْءٍ) أي ممّا تحتاج إليه الاُمّة في الحلال والحرام إلى يوم القيامة (إِلاَّ وَفِيهِ كِتَابٌ أَوْ سُنَّةٌ) . مضى معناه في شرح عنوان الباب .

الخامس : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، عَنْ يُونُسَ ، عَنْ حَمَّادٍ ، عَنْ عَبْدِ اللّه ِ بْنِ سِنَانٍ ، عَنْ أَبِي الْجَارُودِ ، قَالَ : قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلام : إِذَا حَدَّثْتُكُمْ بِشَيْءٍ) أي من الحلال والحرام (فَاسْأَلُونِي مِنْ كِتَابِ اللّه ِ) أي قولوا : أين هو من كتاب اللّه؟ يعني كلّ ما حدّثتكم دليله موجود مبيّن في كتاب اللّه ، فسلوني عنه حتّى تطمئنّ نفوسكم .

(ثُمَّ قَالَ فِي بَعْضِ حَدِيثِهِ : إِنَّ رَسُولَ اللّه ِ صلى الله عليه و آله نَهى عَنِ الْقِيلِ وَالْقَالِ ) . اسمان اُخذا من فعلين ماضيين مبنيّين ، فاُعربا على إجرائهما مجرى الأسماء ، واُدخل حرف التعريف عليهما ، ومجموعهما في حكم كلمة واحدة . والمراد به محادثة أهل مجلس الضيافة ونحوه بما لا يعنيهم ، ووجه المناسبة أنّ أكثرها يشتمل على نقل بقيل كذا، وقال فلان كذا ، بلا التفات إلى حال القائل . .

ص: 516


1- أي الحديث 13 من باب التحديد .
2- في «أ» : «فكذا» .

ويحتمل أن لا يكونا في حكم كلمة واحدة ، ويكون المراد بالأوّل نقل الكلام بقيل كذا ، وبالثاني نقله بقال فلان كذا .

وقد يستعملان مصدرين بمعنى القول الرديّ ، وفي حديثهم نهى النبيّ عليه السلام عن قيل وقال ، يروى بالتنوين فيهما ، وهما حينئذٍ كما ذكر آنفا ، وبغير تنوين فيهما ، فقال الفرّاء : فعلان استعملا استعمال الأسماء ، وتركا على البناء الذي كانا عليه .(1) وقال نجم الدِّين الرضيّ رحمه الله : محكيّان ، والمعنى نهى عن قول : قيل كذا وقال فلان كذا ؛ يعني كثرة المقالات .(2) انتهى .

(وَفَسَادِ الْمَالِ) . الفساد - بفتح الفاء مصدر باب نصر وحسن - : الضياع ضدّ الصلاح ، والإفساد : الإضاعة ضدّ الإصلاح ، والنهي عن الفساد راجع إلى النهي عن الإفساد حقيقة ؛ إذ هو الفعل الاختياري بالذات دون الفساد ، ونظيره قوله تعالى في سورة البقرة : «وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِى الاْءَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّه ُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ»(3) .

ويجيء في «كتاب الزكاة» في ثالث «باب وضع المعروف موضعه» : «من كان منكم(4) له مال ، فإيّاه والفساد ؛ فإنّ إعطاءه في غير حقّه تبذيرٌ وإسراف» . والمال : ما ملكته من أيّ شيء كان .

(وَكَثْرَةِ السُّوءَالِ) أي تجاوز أحد من الرعيّة في السؤال عن اُمور الدِّين القدر المحتاج إليه لعمل نفسه وأهل بيته ، كما مرّ في رابع «باب استعمال العلم» ويجيء في أوّل الباب الآتي .

(فَقِيلَ لَهُ : يَا ابْنَ رَسُولِ اللّه ِ ، أَيْنَ هذَا) أي مجموع الثلاثة (مِنْ كِتَابِ اللّه ِ ؟ قَالَ : إِنَّ اللّه َ - عَزَّ وَجَلَّ - يَقُولُ) في سورة النساء : («لاَ خَيْرَ فِى كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ»(5)) . الضمير للذين يختانون أنفسهم ، و«نجواهم» : محادثتهم في مجلس الضيافة ونحوه جهارا ، أي بدون .

ص: 517


1- حكاه عنه الرضي في شرح الكافية ، ج 3 ، ص 230 .
2- شرح الرضي على الكافية ، ج 3 ، ص 230 .
3- البقرة (2) : 205 .
4- في الكافي المطبوع : «فيكم» .
5- النساء (4) : 114 .

مسارّة ، كما في سورة التوبة : «أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللّه َ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ»(1) ، وفي سورة الزخرف : «أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ»(2) .

قال الهروي في الغريبين(3) : «أي من مرائهم وقد نجوت فلانا ، أي ناجيته ونجوته : إذا استنكهته»(4) انتهى .

(«إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النّاسِ»(5)) . الاستثناء منقطع ، وهو استثناء عن كثير ، والمضاف محذوف ، والتقدير نجوى من أمر . والمراد بالأمر الهداية إلى شيء والدعوة إليه ، والصدقة، بفتحتين : ما أعطيته في ذات اللّه كالزكاة ، والمراد هنا التصدّق . ويجيء في «كتاب الزكاة» في ثالث «باب القرض» في تفسير هذه الآية : «يعني بالمعروف : القرض» . والمراد بالإصلاح : رفع التنازع والاختلاف في الإفتاء ونحو ذلك ، و«بين الناس» متعلّق بالإصلاح .

(وَقَالَ :) في سورة النساء : («وَلاَ تُوءْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِى جَعَلَ اللّه ُ لَكُمْ قِيامَا»(6)) ؛ السفيه الخفيف العقل وعادمه والجاهل ، والمراد بالسفهاء هنا ما يشمل الفسّاق ، وقوله : «التي» صفة موضحة للتعليل ، والقيام والقوام بالكسر نظام الأمر وعماده وملاكه ، وظاهر الخطاب باعتبار التعليل أنّ كلّ ما فيه تضييع المال منهيٌّ عنه كإلقاء شيء في البحر بلا حاجة ، ويجيء في كتاب المعيشة في باب آخر منه في حفظ المال وكراهة الإضاعة ولا تأتمن شارب الخمر ، فإنّ اللّه عزّ وجلّ يقول في كتابه : «ولا تؤتوا»الآية(7) ، .

ص: 518


1- التوبة (9) : 78 .
2- الزخرف (43) : 80 .
3- يعني غريب القرآن والحديث لأبي عبيد أحمد بن محمد الهروي المتوفى سنة 401 هجرية ، كما في كشف الظنون ، ج 2 ، ص 1206 . وفي معجم البلدان ، ج 1 ، ص 322 : «باشان من قرى هراة منها أبو عبيد الهروي صاحب كتاب الغريبين» .
4- حكاه الراغب الإصفهاني في مفرداته ، ص 484 عن بعضهم . وانظر: الصحاح ، ج 6 ، ص 2501 (نجا) .
5- النساء (4) : 114 .
6- النساء (4) : 5 .
7- الكافي ، ج 5 ، ص 299 ، باب آخر منه في حفظ المال وكراهة الاضاعة ، ح 1 .

وليس من قبيل الاستدلال بالقياس المنهيّ عنه ؛ لأنّه استدلال بظاهر الخطاب ممّن يعلم أنّه لا صارف عنه .

(وَقَالَ :) في سورة المائدة : («لاتَسْئَلُواعَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُوءْكُمْ»(1)) . يحتمل كون المراد بالأشياء الأحكام الشرعيّة ، وكون الجملة الشرطيّة صفة لأشياء .

بيان ذلك : أنّ الأشياء المجهولة من جملة أحكام الشرع بالنسبة إلى المكلّفين قسمان :

الأوّل ما علم المكلّف أمثالها ولم يعمل بها .

الثاني : ما ليس كذلك ، وهذه الآية للنهي عن السؤال عن القسم الأوّل ، موافقا لما مضى في رابع «باب استعمال العلم» من قوله : «لا تطلبوا علم ما لا تعلمون ولمّا تعملوا بما علمتم» .

ويظهر بهذا أنّ السوء المبدوّ باعتبار ترك العمل به ، فإنّ الحجّة على العالم أشدّ منها على الجاهل ، كما مضى في سادس «باب استعمال العلم» وفي أحاديث «باب لزوم الحجّة على العالم وتشديد الأمر عليه» . وأئمّة أهل البيت عليهم السلام خارجون عن هذا الخطاب ، كما يجيء في أوّل الباب الآتي .

وروى مسلم عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله أنّه قال : «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه ، وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم ، فإنّما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم»(2) انتهى .

السادس : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنِ ابْنِ فَضَّالٍ ، عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ مَيْمُونٍ ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ ، عَنِ الْمُعَلَّى) ؛ بضمّ الميم وفتح المهملة وتشديد اللام والقصر . (بْنِ خُنَيْسٍ) ، بضمّ المعجمة وفتح النون وسكون الخاتمة ومهملة .

(قَالَ : قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : مَا مِنْ أَمْرٍ) أي من الحلال والحرام ، أو مطلقا ، كما يجيء في سابع الباب . .

ص: 519


1- المائدة (5) : 101 .
2- صحيح مسلم ، ج 7 ، ص 91 .

(يَخْتَلِفُ فِيهِ اثْنَانِ إِلاَّ وَلَهُ أَصْلٌ) أي ما يستند إليه نحو استناد الجزئيّات إلى القاعدة الكلّيّة ، لا نحو استناد فروع الفقه إلى اُصول الفقه فقط .

(فِي كِتَابِ اللّه ِ(1) ، وَلكِنْ لاَ تَبْلُغُهُ عُقُولُ الرِّجَالِ) أي لا يقدر على أن يعلم جميعه بالاستنباط عقول الرعيّة ؛ لكون أكثره ممّا يستنبط من المتشابهات ، والعلم بها موقوف على نزول الملائكة والروح والتحديث ليلة القدر ، كما يجيء في «كتاب الحجّة» في أحاديث «باب في شأن «إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ» وتفسيرها» وفي أحاديث «باب الروح التي يسدّد اللّه بها الأئمّة عليهم السلام » والمخاطب به النبيّ صلى الله عليه و آله ، وأهل البيت عليهم السلام تراجمته بعد النبيّ ، ويكفي علمهم بجميعه في حسن إنزاله .

السابع : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ ، عَنْ هَارُونَ بْنِ مُسْلِمٍ ، عَنْ مَسْعَدَةَ بْنِ صَدَقَةَ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : قَالَ أَمِيرُ الْمُوءْمِنِينَ عليه السلام : أَيُّهَا النَّاسُ ، إِنَّ اللّه َ - تَبَارَكَ وَتَعَالى - أَرْسَلَ إِلَيْكُمُ الرَّسُولَ صلى الله عليه و آله ، وَأَنْزَلَ إِلَيْهِ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَأَنْتُمْ) . الواو للحال . (أُمِّيُّونَ) . الاُمّيّ منسوب إلى الاُمّ ، أي من هو على أصل ولادة الاُمّ لم يتعلّم(2) الكتابة ولا العلم ، وكان يقال للعرب «الاُمّيّون» لأنّ الكتابة كانت فيهم عزيزة أو عديمة .

(عَنِ الْكِتَابِ) . اللام للجنس ؛ أي ما أنزل اللّه تعالى من(3) الكتاب ، عدّى الاُمّي ب- «عن» لتضمينه معنى الغفلة .

(وَمَنْ أَنْزَلَهُ ، وَعَنِ الرَّسُولِ) . اللام للجنس . (وَمَنْ أَرْسَلَهُ) . المقصود أنّهم لم يعرفوا اللّه بوحدانيّته ، وغفلوا عن فائدة إرسال الرُّسل وإنزال الكتب ، وهي النهي عن الاختلاف واتّباع الظنّ .

(عَلى حِينِ) . الظرف متعلّق بقوله : «أرسل» ، واختيار «على» لإفادة الغلبة .

(فَتْرَةٍ) ؛ بفتح الفاء وسكون المثنّاة فوقُ(4) : الانكسار والضعف . .

ص: 520


1- في الكافي المطبوع : + «عزّوجلّ» .
2- في «د» : «لم تتعلّم» .
3- في «أ» : «عن» .
4- في «د» : - «فوق» .

(مِنَ الرُّسُلِ) . الظرف مستقرّ ، وهو مجرور صفة «فترة»(1) . و«من» إمّا للنسبة ، نحو(2) «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى» و إمّا(3) للابتداء ، وتصلح «من» الابتدائيّة للتوسّط بين كلّ ما قام بشيء ، وبين ذلك الشيء باعتبار أنّه ظاهرٌ منه ، كقولك : أعجبني مشي من زيد ؛ وإمّا بمعنى «في» والمقصود أنّ عامّة الناس حينئذٍ كانوا أهل اختلاف عن رأي ، ولم يتّبعوا الرُّسل ، ففتروا وانكسر(4) الرسل وأوصياؤهم بذلك . وهكذا الكلام في النظائر الآتية في هذا الحديث وفي سورة المائده : «يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنْ الرُّسُلِ»(5) .

(وَطُولِ هَجْعَةٍ) ؛ بفتح الهاء وسكون الجيم والمهملة : النومة من أوّل الليل ، والمراد هنا الغفلة .

(مِنَ الاْءُمَمِ) ، بضمّ الهمزة وفتح الميم ، جمع «اُمّة» بضمّ الهمزة وتشديد الميم بمعنى الجماعة ، والظرف صفة «طول» أو «هجعة» .

(وَانْبِسَاطٍ) أي انتشار ، وبسط الشيء نشره .

(مِنَ الْجَهْلِ ، وَاعْتِرَاضٍ) . يُقال : اعترض الشيء دون الشيء ، أي حال دونه كالخشبة المعترضة في النهر ، المانعة عن جريان الماء .

(مِنَ الْفِتْنَةِ) ؛ بكسر الفاء : الامتحان والاختبار من اللّه تعالى للعباد ، ويكون بالخير وبالشرّ . والمراد هنا الاختلاف(6) في الحكم بالظنون ؛ قال تعالى في سورة البقرة : «وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنْ الْقَتْلِ»(7) ، واعتراضها إفضاؤها إلى ترك كلّ حقّ . .

ص: 521


1- في ج + «بفتح الفاء وسكون المثناة» .
2- في «د» : «مثل» .
3- في «أ» : - «للنسبة نحو أنت مني بمنزلة هارون من موسى وإما» .
4- في «ج، د» : «ففتر وانكسر» .
5- المائدة (5) : 19 .
6- في «ج» : «اختلاف» .
7- البقرة (2) : 191 .

(وَانْتِقَاضٍ مِنَ الْمُبْرَمِ) ؛ بفتح المهملة ، يُقال : أبرمت الشيء ، أي أحكمته ؛ أي ما أبرمه الأنبياء السابقون من العقائد والأحكام بأمر اللّه تعالى .

(وَعَمًى عَنِ الْحَقِّ) . هذا ليس على سياقة المتعاطفات قبله وبعده ، ولذا لم يُعدّ ب- «من» ، بل هو لدفع توهّمٍ نشأ من قوله : «وانتقاض» إلى آخره .

وحاصله : أنّ الانتقاض ليس بارتفاع الحجّة ، بل لعماهم ، أي لتركهم الالتفات إلى الآيات البيّنات المحكمات الناهية عن اتّباع الظنّ المُنزلة في كلّ شريعة ، والظرف لغو متعلّق ب- «عمى» ثمّ عاد إلى السياقة السابقة ، وقال :

(وَاعْتِسَافٍ) . هو الأخذ على غير الطريق كالعسف والتعسّف .

(مِنَ الْجَوْرِ) ؛ بالفتح هو الميل عن القصد ، يُقال : جار عن الطريق ، وجار عليه في الحكم . ونسبة الاعتساف إلى الجور مجاز ، وفيه مبالغة كقولهم : جدّ(1) جدّه ؛ أو المصدر بمعنى اسم الفاعل للمبالغة .

(وَامْتِحَاقٍ) . يُقال : محقه محقا - كمنعه - أي أبطله ومحاه ، وتمّحق وامتحق ، أي انمحى .

(مِنَ الدِّينِ ، وَتَلَظٍّ مِنَ الْحُرُوبِ) . تلظّي النار : تلهّبها ، حذفت الياء لالتقاء الساكنين : الياء والتنوين . شبّه الحروب بالنيران على الاستعارة بالكناية ، وذكر التلظّي ترشيح ، ولو شبّه الحروب بالنيران المتلظّية كان ذكر التلظّي تخييلاً ، يجيء في «كتاب النكاح» في سادس «باب خطب النكاح» أنّ هذه الاُمور عادت بعد نبيّنا صلى الله عليه و آله في اُمّته كما كانت قبله في الاُمّة السابقة .

(عَلى حِينِ)(2) . الظرف إمّا معطوف على قوله : «على حين فترة» بحذف العاطف ، وإمّا صفة «تلظّ» ، والمقصود أنّ الناس قبل البعثة كما كانوا فاقدي دين كانوا فاقدي دنيا ؛ لما كانوا في ضيق وقحط وبلاء .ت.

ص: 522


1- في «ج»: «جدّه».
2- في حاشية «أ»: هذا مذكور في ديباجة تفسير علي بن إبراهيم، مع الواو العاطفه (مهدي). وانظر: تفسير القميّ، ج 1، ص 2، مقدّمة المصنّف، بتفاوت في بعض الكلمات.

(اصْفِرَارٍ مِنْ رِيَاضِ) ؛ جمع «روضة» وهي ما نبت فيه البقل والعشب ، وأصلها «رِواض» قُلبت الواو ياءا لكسرة ما قبلها .

(جَنَّاتِ) . الجنّة : البستان ، والعرب تسمّي النخيل جنّةً .

(الدُّنْيَا) ؛ فُعلى من الدنوّ ، وهو القرب ، سُمّيت لقربها منّا بالنسبة إلى الآخرة ، والتأنيث باعتبار أنّ موصوفها النشأة .

(وَيُبْسٍ) ؛ بضمّ الخاتمة وسكون الموحّدة مصدر يبس - كعلم ، وكحسب شاذّ - : الجفافُ .

(مِنْ أَغْصَانِهَا) . الضمير للجنّات .

(وَانْتِشَارٍ(1) مِنْ وَرَقِهَا ) . الضمير للجنّات .

(وَيَأْسٍ مِنْ ثَمَرِهَا) . اليأس، بفتح الخاتمة وسكون الهمزة، مصدر يئس - كعلم ، وكحسب شاذّ - : ضدّ الطمع ، فإن جعل هذا كالمتعاطفات قبله وبعده فنسبة اليأس إلى الثمر مجاز ، وإلاّ فالظرف لغو متعلّق ب- «يأس» هو لدفع توهّم أن يكون اليبس والانتشار كما يكونان في كلّ خريف . والضمير للجنّات .

(وَاغْوِرَارٍ) . غور كلّ شيء : قعره ، وغار الماء من باب نصر ، واغورّ كاحمرّ ؛ أي ذهب في الغور .

(مِنْ مَائِهَا) . الضمير للجنّات .

(قَدْ دَرَسَتْ) . استئنافٌ بياني لما تقدّم ، وهذا ناظر إلى قوله : «على حين فترة» ، إلى آخره . يقال : درس الرسم - كنصر - أي عفا وانمحى ، ودرسته الريح ، يتعدّى ولا يتعدّى .

(أَعْلاَمُ) ؛ جمع «عَلَم» بفتحتين : العلامة .

(الْهُدى) ؛ بضمّ الهاء والمهملة والقصر : الرشاد ؛ أي سلوك الطريق المستقيم ، ويقال له : الاهتداء أيضا ، وأعلامه الآيات البيّنات المحكمات ، الناهية عن اتّباع الظنّ ، .

ص: 523


1- في الكافي المطبوع وحاشية النسخ : «انتثار» .

النازلة في كلّ كتاب شريعة ، الدالّة على تحقّق إمام معصوم عالم بجميع الأحكام في كلّ زمان نبيّ أو وصيّ نبيّ .

(وَظَهَرَتْ أَعْلاَمُ الرَّدى) ؛ بفتح الراء المهملة والدال المهملة والقصر ، مصدر ردى من الناقص اليائي ، من باب علم : إذا هلك ، وأعلامه(1) : القواعد الفاسدة التي وضعها(2) أهل القياس والاجتهاد ، وأحاديثهم المكذوبة على أنبيائهم ، وخرورهم على الآيات البيّنات المحكمات ، الناهية عن اتّباع الظنّ صمّا وعميانا بالتأويلات الواهية .

(فَالدُّنْيَا) . ناظر إلى قوله : «على حين اصفرار» إلى آخره ، والفاء للإشارة إلى أنّ فساد دنياهم متفرّع على فساد دينهم كما هو الغالب ، موافقا لقوله تعالى في سورة الطلاق : «وَمَنْ يَتَّقِ اللّه َ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ»(3) ، ولقوله تعالى فيه أيضا : «وَمَنْ يَتَّقِ اللّه َ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرا»(4) ، ولقوله تعالى في سورة طه : «وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكا»(5) .

(مُتَهَجِّمَةٌ)(6) ؛ بصيغة اسم الفاعل من باب التفعّل ، وهي بتقديم الهاء على الجيم على ما في أكثر النسخ ؛ أي متهدّمة خربة جدّا ؛ من هجم البيت - كنصر - أي انهدم ، والتفعّل للمبالغة ؛ أو من هجَمتُ البيت - كنصر - هجما ، أي هدمته ، ومطاوعه : انهجم ، أي انهدم ، وكأنّ مطاوعه إذا اُريد المبالغة تهجم .

أو بتقديم الجيم على الهاء على ما في بعض النسخ ، يُقال : جهمه - كمنعه وعلمه - وتجهّمه وله : إذا استقبله بوجه كريه ، وجهُم - كحسُن - : إذا كان وجهه غليظا سمجا ، ورجل جَهم الوجه بالفتح ، أي عبوس . .

ص: 524


1- في «د» : «وأعلام» .
2- في «د» : «وضعتها» .
3- الطلاق (65) : 2 - 3 .
4- الطلاق (65) : 4 .
5- طه (20) : 124 .
6- في الكافي المطبوع وحواشي النسخ : «متجهّمة» .

(فِي وُجُوهِ أَهْلِهَا مُكْفَهِرَّةٌ) . الظرف متعلّق ب «مكفهرّة» وب «متهجّمة» ، فيقدّر مثله لما بعده ، وأهل الدنيا الراغبون إليها ، وفيه التفات من الخطاب إلى الغيبة ، أي في وجوهكم ، وفائدته بيان رغبتهم فيها والتفظيع ، فإنّ العبوس في وجه المحبّ الراغب نادر . والمكفهرّة بصيغة اسم الفاعل ، يقال : اكفهرّ زيد في وجهي - كاقشعرّ - أي نظر إلى وجهي بوجه عابس قطوب .

(مُدْبِرَةٌ غَيْرُ مُقْبِلَةٍ) ، أي مدبرة عن أهلها غير مقبلة إليهم ، وفائدة قوله : «غير مقبلة» التأكيد ، وأن لا يتوهّم أنّها مدبرة بوجه ومقبلة بوجه آخر ، ولا أنّها مدبرة في حين ومقبلة في حين آخر .

(ثَمَرَتُهَا الْفِتْنَةُ) . استئنافٌ بياني ، والفتنة : الاختلاف في الحكم بالظنون كما مرّ .

(وَطَعَامُهَا الْجِيفَةُ) ؛ بكسر الجيم : جثّة الميّت إذا أنتن ، استُعيرت للحرام ، وكانوا يأكلون الجيف وما هو كالجيف كالعِلهِز ، وهو شيء كانوا يتّخذونه في سِني المجاعة يخلطون الدم بأوبار الإبل ، ثمّ يشْوُونَهُ بالنار ويأكلونه ، وقد يخلطون فيه القِردان .(1)

(وَشِعَارُهَا الْخَوْفُ ، وَدِثَارُهَا السَّيْفُ) . الشعار بكسر المعجمة : الثوب الذي يلي الجسد ؛ لأنّه يلي شعره ، والدثار بكسر(2) المهملة : الثوب الذي فوق الشعار .(3) والخوف بالشعار أنسب ؛ لأنّه في الباطن ، والسيف كالدثار في الظاهر ، والمراد سيف الأعداء ، ويحتمل سيف أنفسهم .

(مُزِّقْتُمْ) ؛ بصيغة المجهول من باب التفعيل من مزَق الثوب مزقا - كضرب - : خرقه ، ومزّقه تمزيقا للتكثير ، وهو استئناف لبيان الخوف والسيف فيهم .

(كُلَّ مُمَزَّقٍ) . مصدر كالتمزيق ، وهو مفعول مطلق اُقيم مضافُه - وهو «كلٌّ» - مقامَه ، واُعرب بإعرابه، وهذا للمبالغة في تفرّقهم(4) في الآراء ، كان كلّ امرى ءٍ منهم إمام نفسه . .

ص: 525


1- النهاية ؛ ج 3 ، ص 293 ؛ لسان العرب ، ج 5 ، ص 381 (علهز) .
2- في «ج» : + «الدال» .
3- غريب الحديث لابن سلام ، ج 1 ، ص 311 (الشعر) ؛ الصحاح ، ج 2 ، ص 655 (دثر) ؛ و ج 2 ، ص 699 (شعر).
4- في «ج» : «تمزقهم» .

(وَقَدْ أَعْمَتْ) . حالٌ عن ضمير «مزّقتم» وفيه ضمير الدنيا .

(عُيُونَ)(1) ؛ بالنصب على المفعوليّة .

(أَهْلِهَا) ، أي الراغبين إليها .

(وَأَظْلَمَتْ) ؛ بصيغة المعلوم من باب الإفعال ، يقال : أظلمه إذا أخفاه .

(عَلَيْهَا) ؛ الضمير لعيون .

(أَيَّامَهَا)(2) ، بالنصب على المفعوليّة ، والضمير لعيون أو للدُّنيا ، والمراد بالأيّام أئمّة الحقّ ، وحمل عليه قوله تعالى في سورة إبراهيم : «وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّه ِ»(3) ، وفسَّر به ابن بابويه في كتاب معاني الأخبار حديث : «لا تعادوا الأيّام فتعاديكم»(4) .

(قَدْ قَطَعُوا) . استئنافٌ لبيان الإعماء والإظلام ، والضمير للأهل .

(أَرْحَامَهُمْ) ؛ جمع «رِحم» بالكسر(5) وككتِف ، وهو في الأصل منبت الولد ووعاؤه في البطن ، ثمّ سمّي القرب من جهة الولاد رحما ، وهو المراد هنا .

(وَسَفَكُوا) ؛ من باب ضرب ، أي صبّوا .

(دِمَاءَهُمْ) ، الضمير لأهلها ، أو للأرحام على المجاز .

(وَدَفَنُوا فِي التُّرَابِ) أي بدون تابوت ولا لحد .

(الْمَوْؤُودَةَ) ؛ اسم مفعول من وأد - كضرب - . أي دفن البنت حيّةً .

(بَيْنَهُمْ) . الظرف متعلّق بدفنوا أو بالموؤودة ، وذكره لزيادة التفظيع ، حيث لم يكونوا يُخفون هذا القبيح ، بل كانوا يئدون في محضر جماعتهم ولا ينهى(6) عنه ، ولا يتأثّر به أحد منهم ، وقوله :

(مِنْ أَوْلاَدِهِمْ) ، أيضا لزيادة التفظيع . .

ص: 526


1- في الكافي المطبوع : «عيونُ» بالضمّ .
2- في الكافي المطبوع : «أيامُها» بالضم .
3- إبراهيم (14) : 5 .
4- معاني الأخبار ، ص 123 ، باب معنى الحديث الذي روي عن النبي صلى الله عليه و آله : لا تعادوا الأيام فتعاديكم ، ح 1 .
5- أي بكسر الراء .
6- في «ج» : «تنهى» والأولى : «لا يُنْهَوْن عنه» .

(يَخْتَارُ(1) دُونَهُمْ طِيبُ الْعَيْشِ) . قوله : «يختار» بصيغة المضارع الغائب من باب الافتعال ، والنسخ فيه مختلفة ، ففي بعضها بالخاء المعجمة وراء مهملة ، وفي بعضها بالجيم وزاي معجمة . وعلى النسخة الاُولى «يختار» بصيغة المجهول ، و«دون» منصوب على الظرفيّة بمعنى وراء ، و«طيب» مرفوع نائب الفاعل ، والجملة حال عن ضمير «دفنوا» . وفيه إشارة إلى أنّ غيرهم كالعجم مثلاً حينئذٍ كانوا في طيب عيش . وعلى النسخة الثانية «يجتاز» بصيغة المعلوم بمعنى يمشي ويمرّ ، و«دون» بمعنى وراء ، و«طيب» مرفوع فاعل يجتاز .

(وَرَفَاهِيَةُ) ؛ بفتح المهملة والفاء وكسر الهاء وتخفيف الخاتمة ، وهو النعومة(2) ولين العيش .

(خُفُوضِ الدُّنْيَا) ؛ بضمّ المعجمة والفاء والمعجمة مصدر خفض - كحسن - : الدعة والفراغة . وإضافة رفاهية إليه للمبالغة .

(لاَ يَرْجُونَ مِنَ اللّه ِ ثَوَابا ، وَلاَ يَخَافُونَ - وَاللّه ِ - مِنْهُ عِقَابا) . استئنافٌ بياني ، والقسم لتوهّم أكثر الناس أنّ في أهل الاختلاف بالظنون خوفَ عقاب من اللّه ؛ لمداومتهم على العبادات الباطلة .

(حَيُّهُمْ أَعْمى) . استئنافٌ لبيان الاستئناف السابق .

(بَخِسٌ(3)) ، بفتح الموحّدة وكسر المعجمة والمهملة من باب منع : الناقص ، وفلان باخس ، أي ظالم . والمراد بيان ضلاله وكفره أو وأده .

وفي بعض النسخ بالنون والمهملة من باب علم وحسن ، وهو ضدّ السعد .

(وَمَيِّتُهُمْ فِي النَّارِ مُبْلِسٌ) ؛ بصيغة اسم الفاعل ؛ من أبلس : إذا يئس ، ومنه سمّي إبليسَ ليأسه من رحمة اللّه .

(فَجَاءَهُمْ بِنُسْخَةِ مَا فِي الصُّحُفِ الاْءُولى) ؛ بضمّ النون وسكون المهملة : ما ينتسخ منه .

ص: 527


1- في الكافي المطبوع : «يجتاز» .
2- في «د» : «بالنعومة» .
3- في الكافي المطبوع : «نجس» .

كتاب ؛ أي يكتب . والمراد أنّه جاءهم رسول اللّه صلى الله عليه و آله بما هو مشتمِلٌ على جميع ما في الصحف الاُولى ، فكأنّها انتسخت منه .

ولا يمكن هذا المجاز في العكس ، لأنّه مشتمل على زائد عليها ؛ أو لأنّه معجز دونها ، فهو بنفسه وبإعجازه يشهد لها بدون عكس ، وفي سورة طه : «وَقَالُوا لَوْلاَ يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِى الصُّحُفِ الاْءُولَى»(1) ، ويجيء ما يناسب هذا في عاشر أوّل «كتاب فضل القرآن» .

(وَتَصْدِيقِ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) أي وبمصدّق الذي ، أو وصف بالمصدر مبالغةً ، والمراد به هنا محقّق الصدق له ؛ أي ما لولاه لم يكن الذي بين يديه صادقا ، وهو الإنجيل ؛ لأنّ فيه الإخبار عن بعثة نبيّ كذا وكذا ، وكتاب كذا وكذا ، أو لأنّ فيه النهي عن اتّباع الظنّ ، والدلالة على أنّه لا يخلو زمان عن العالم بجميع أحكام الدِّين كما في سورة آل عمران : «قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ»(2)في «ج» : «انجيل» .(3) الآية ، فلو لم يجيء القرآن كان الإنجيل(3) كاذبا ، فكلّ من رسول اللّه وكتابه مصدّق للإنجيل ، كما أنّ كلاًّ من عيسى والإنجيل مصدّق للتوراة .

قال تعالى في سورة المائدة : «وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الاْءِنجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ التَّوْرَاةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ»(4)المائدة (5) : 48 .(5) ، إلى قوله : «وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنا عَلَيْهِ» الآية .(5) ف- «من» في قوله «من الكتاب» إمّا للتبيين ، واللام في «الكتاب» للعهد ، والمراد به الإنجيل ؛ وإمّا للتبعيض ، واللام للجنس . ويحتمل أن يراد ب «الذي بين يديه» : جنس الكتب المتقدّمة ، وحينئذٍ الأنسب أن يكون «من» في قوله «من الكتاب» .

ص: 528


1- طه (20): 133 .
2- آل عمران
3- : 64 .
4- المائدة
5- : 46 .

للتبيين ، ويكون المراد بالكتاب : جنس الكتب المتقدّمة .

(وَتَفْصِيلِ الْحَلاَلِ مِنْ رَيْبِ الْحَرَامِ) . التفصيل : المبالغة في الفصل والتمييز ، والريب، بالفتح من باب ضرب إمّا بمعنى الشكّ ، فالإضافة إلى المفعول ، تقول : أرابني - بالألف - أمر فلان : إذا شكّك ، أي من احتمال كونه حراما ؛ وإمّا بمعنى الإيهام ، فالإضافة إلى الفاعل ؛ تقول : رابني أمر فلان : إذا أوهمك ما تكرهه ، وأفضى بك إلى سوء الظنّ به ؛ وإمّا بمعنى الحاجة ، فالإضافة إلى المفعول أيضا ، أي من الحاجة إلى الحرام . والحلال والحرام كما يكونان في الأحكام التكليفيّة يكونان في الأحكام الوضعيّة ، فيشملان جميع الأحكام ، وهذا تفسير لقوله تعالى في سورة يونس : «وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللّه ِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ»(1) ، بأنّ المراد تفصيل كلّ ما يليق بأن يكتب . وفي سورة يوسف : «مَا كَانَ حَدِيثا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَىْ ءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ»(2) .

(ذلِكَ) ؛ مبتدأٌ ، وهو إشارة إلى الأمر الجامع للأوصاف الثلاثة : كونه نسخة وتصديقا وتفصيلاً ، وهو على لغة من لا يتصرّف في الكاف الحرفيّة تصرّفَه في الكاف الإسميّة ، وإلاّ لقال : «ذلكم» .

(الْقُرْآنُ) ؛ خبره ، ويمكن أن يكون «ذلك» عطف بيان لنسخة ، والقرآن صفة «ذلك» .

(فَاسْتَنْطِقُوهُ) . الاستنطاق إمّا بمعنى طلب النطق ، والفاء لجواب شرط محذوف ؛ أي وإن ارتبتم في كون القرآن كذلك فاستنطقوه ؛ أو للتفريع على كون القرآن كذلك ، وإمّا بمعنى عدّه ناطقا ، أي دالاًّ على جميع ما ذكر ، والفاء للتفريع .

(وَلَنْ يَنْطِقَ لَكُمْ) ، يعني ليس نطق القرآن نطقه الحقيقي لغةً، أو ليس نطقه بالنسبة إليكم.

(أُخْبِرُكُمْ عَنْهُ) أي إنّما استنطاقه المطلوب استنطاق من جعله اللّه تعالى قيّما له ، أو إنّما نطقه بالنسبة إلى القيّم .

(إِنَّ) ؛ بكسر الهمزة والتشديد ، ويمكن أن يكون بفتح الهمزة . .

ص: 529


1- يونس (10) : 37 .
2- يوسف (12) : 111 .

(فِيهِ عِلْمَ مَا مَضى وَعِلْمَ مَا يَأْتِي إِلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) . في للظرفيّة ، أو للسببيّة ، وعلى الأوّل المراد بالعلم وسيلة العلم ، وليس المراد ب «ما مضى» وب «ما يأتي» الماضي والآتي بالنسبة إلى زمان خاصّ كزمان تكلّمه عليه السلام بهذا الكلام ، بل المراد بهما كلّ ماض وآت ، أي بالنسبة إلى أيّ زمان زمان فرض حالاً فيشملان كلّ حال أيضا ؛ لأنّ الحال لابدّ أن يصير ماضيا بالنسبة إلى حال بعده ، ونظيره قول النحاة : الماضي ما دلّ على زمان قبل زمانك .(1) فإنّهم لم يريدوا بزمانك زمان تكلّمهم بهذا الكلام فقط ، والمراد بالعلم بهما العلم بنفس الحوادث ووقوعها في كلّ وقت وقت من الماضي والمستقبل ، سواء كان ذاتا أو صفةً ، حكما أو غير حكم .

وقال بعض المخالفين(2) : الجفر والجامعة كتابان لعليّ ، وقد ذكر فيهما على طريقة علم الحروف الحوادث التي تحدث إلى انقراض العالم ، وكانت الأئمّة المعروفون من أولاده يعرفونهما ويحكمون بهما .(3) انتهى .

وكأنّهما لبيان كيفيّة دلالة القرآن على ما يدلّ عليه من الحوادث ، وحقيقة الحال يجيء في «باب فيه ذكر الصحيفة والجفر والجامعة ومصحف فاطمة» من «كتاب الحجّة» .

إن قلت : إن كان في القرآن ما يدلّ على تفصيل وقوع كلّ حادث في وقته من الماضي والمستقبل ، لم يجز أن نقول بالظنّ : فعل زيد كذا ؛ لأنّه ربّما كان حكما بخلاف ما أنزل اللّه ، فتشمله الأوصاف الثلاثة المذكورة في سورة المائدة في قوله : «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللّه ُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ» أو «اَلظالِمُون» أو «الفاسِقُون»(4) .

قلت : مقتضى سياق الآيات الثلاث أنّ ما أنزل اللّه عبارة عمّا هو صريح في جميع كتب اللّه كالتوراة والإنجيل، وهو النهي عن اتّباع الظنّ، وعن الاختلاف عن ظنّ المتضمّنين للإشراك باللّه كما في قوله تعالى في سورة آل عمران : «قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ .

ص: 530


1- حكاه الرضي في شرح الكافية ، ج 4 ، ص 11 : عن ابن الحاجب .
2- في حاشية النسخ : «يعني شارح المواقف» .
3- المواقف للإيجي ، ج 2 ، ص 59 .
4- المائدة(5) : 44 و 45 و 47 .

تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّه َ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضا أَرْبَابا مِنْ دُونِ اللّه ِ»(1)الأنعام (6) : 57 .(2) ، وفي قوله تعالى في سورة التوبة : «اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابا مِنْ دُونِ اللّه ِ»(3) ، ومرَّ بيانه في أوّل باب التقليد ، وهو دالّ على نبوّة نبيّنا صلى الله عليه و آله وعلى إمامة أمير المؤمنين وأولاده الأحد عشر بعده ؛ إذ لم يبق منذ بعث رسول اللّه صلى الله عليه و آله فيما عداهم وأتباعهم إلاّ من غاية دعواه الاجتهاد والظنّ ، ولولا أنّ المراد بالآيات الثلاث ما ذكر لكان السكوت في الحكم في شيء من الحوادث كفرا وظلما وفسقا ، وهو باطل ضرورة ، ويمكن أن يكون تخصيص ما قبل يوم القيامة بالذِّكر ؛ لأنّ القرآن لا يدلّ على كلّ حادث في يوم القيامة وما بعده .

(وَحُكْمَ) ؛ بالضمّ : الأمر والنهي ونحوهما ، مثل : «إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للّه ِِ»(3) . وقد يُطلق على الحِلّ والحرمة ونحوهما ، وهو عطف على «ما» ، أو على «علم» .

(مَا) ؛ موصولة ومحلّها الجرّ بالإضافة .

(بَيْنَكُمْ) أي بين أهل عصر فرض حالاً ، و«ما» عبارة عن الأفعال الصادرة عنهم ، وهذا من عطف الخاصّ على العامّ ، وفائدة ذكره وتغييرِ الاُسلوب حيث ذكر في الأوّلين العلمُ ، وفي هذا الحكم الإشارة إلى أنّ بيان القرآن في الحال لما مضَى وما يأتي خبر فقط ، وبيانه في الحال لما في الحال تكليف وحكم للمكلّفين ؛ بمعنى أنّ العمدة في نفع بيانه لما في الحال التكليفُ .

(وَبَيَانَ مَا أَصْبَحْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) . «ما» موصولة ؛ إمّا عبارة عن تعيين الإمام بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، وإمّا عن الأعمّ منه ومن سائر المسائل المختَلَف فيها . و«أصبحتم» من الأفعال الناقصة بمعنى صرتم بعد أن لم تكونوا ، وفيه إشارة إمّا إلى أنّ تعيين الإمام كان متّفقا عليه في زمن الرسول عليه السلام ، وإمّا إلى أنّ الاختلاف في الدِّين كان ممنوعا في زمن الرسول عليه السلام ، والظرف إمّا متعلّق ب- «تختلفون» وتقديمه للحصر ، فإنّ أوّل خلافهم بعد الرسول عليه السلام لم .

ص: 531


1- آل عمران
2- : 64 .
3- التوبة (9) : 31 .

يكن إلاّ في تعيين الإمام ، وإمّا متعلّق ب- «أصبحتم» ، ومحكمات القرآن دالّة على تعيين الإمام ، وعلى عدم جواز الاختلاف في الدِّين ، كما مرّ بيانه في ثاني عشر باب العقل .

ويحتمل أن يكون «أصبحتم» من الأفعال التامّة ، أي دخلتم في الصباح ، بمعنى علمتم الحقّ واضحا ؛ فالظرف متعلّق ب- «أصبحتم» ، و«تختلفون» حال مقدّرة بأن يكون المراد الخبر عن إصباحهم فيه في زمن الرسول ، ويحتمل كونه حالاً مقارنة بأن يكون المراد الخبر عن إصباحهم فيه بعد الرسول عليه السلام .

(فَلَوْ سَأَلْتُمُونِي عَنْهُ) أي عمّا أصبحتم فيه تختلفون وكيفيّة كون بيانه في القرآن ، أو عن القرآن وكيفيّة دلالته على ما فيه . (لَعَلَّمْتُكُمْ) ؛ بتشديد اللام .

الثامن : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ ، عَنِ ابْنِ فَضَّالٍ ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عُثْمَانَ ، عَنْ عَبْدِ الاْءَعْلَى بْنِ أَعْيَنَ ، قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام يَقُولُ : قَدْ وَلَدَنِي رَسُولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله ) .

يجيء مضمون هذا الحديث في «كتاب الإيمان والكفر» في خامس «باب الكتمان» .

و(1)«ولد» بصيغة الماضي المعلوم إمّا من باب التفعيل ، والتوليد : التربية ، والتربية هنا بتوسّط الأئمّة السابقين ، أو بالدعاء والتضرّع والطلب من اللّه ، أو المراد التبشير بالولادة ، وحينئذٍ إشارة إلى نحو ما يجيء في «كتاب الحجّة» في ثاني «باب ما جاء في الاثني عشر والنصّ عليهم عليهم السلام » : «سيهلك المرتابون في جعفر ، الرادّ عليه كالرادّ عليَّ» .

وإمّا من باب ضرب ، وحينئذٍ فيه إشارة إلى أنّه من أهل بيته الذين ورد فيهم أنّهم كسفينة نوح(2) ، وأنّهم والقرآن لا يفترقان حتّى يردا الحوضَ(3) ونحو ذلك . وفيه دلالة .

ص: 532


1- في «د» : - «و» .
2- المعجم الأوسط للطبراني ، ج 5 ، ص 306 ؛ شرح نهج البلاغة ، ج 1 ، ص 218 ؛ أمالي الطوسي ، ص 633 ، موعظة للصادق عليه السلام ، ح 6 ؛ مناقب ابن شهر آشوب ، ج 3 ، ص 39 .
3- مسند أحمد ، ج 3 ، ص 14 و 17 ؛ مسند أبي سعيد الخدري ، ج 5 ، ص 182 ، حديث زيد بن ثابت ؛ سنن الترمذي ، ج 5 ، ص 328 ، ح 3876 ، باب مناقب أهل بيت النبيّ صلى الله عليه و آله ؛ فضائل الصحابة للنسائي ، ص 15 ، فضائل عليّ عليه السلام ؛ المستدرك للحاكم النيسابوري ، ج 3 ، ص 109 ، وصية النبيّ صلى الله عليه و آله في كتاب اللّه .

على أنّ ولد بنت الرجل ولد له ، وبيانه في «كتاب الروضة» بعد حديث الفقهاء والعلماء .(1)

(وَأَنَا أَعْلَمُ) ؛ بصيغة المتكلّم . (كِتَابَ اللّه ِ) أي القرآن ، ويحتمل كلّ كتاب أنزله .

(وَفِيهِ بَدْءُ الْخَلْقِ) . البدء - بفتح الموحّدة وسكون المهملة والهمز - مصدر بداه - كمنعه - : إذا فعله ابتداءً ، والخلق بمعنى المخلوق ، أو بمعنى المصدر والإضافة إلى المفعول .

والمراد أنّ فيه بيان أنّ العالم ليس بقديم ، لا ذاتا ولا زمانا ، وهو ردّ على الفلاسفة الزنادقة والصوفيّة الاتّحاديّة حيث قالوا بقِدم العالم ، الأوّلون(2) مع الإقرار بالمغايرة بين المؤثّر والأثر بالذات ، والآخرون(3) مع دعوى اتّحادهما بالذات وتغايرهما بالاعتبار .

(وَمَا هُوَ كَائِنٌ) أي باقٍ بشخصه أو بنوعه .

(إِلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَفِيهِ خَبَرُ السَّمَاءِ وَخَبَرُ الاْءَرْضِ ، وَخَبَرُ الْجَنَّةِ وَخَبَرُ النَّارِ) أي فيه بيان لامتياز الأشياء المتقابلة بعضها عن بعض بحيث لا يشتبه فيه أحد المتغايرين بالآخر أصلاً ، والاقتصار على الاُمور المذكورة على سبيل المثال .

(وَخَبَرُ مَا كَانَ وَخَبَرُ(4) مَا هُوَ كَائِنٌ) أي فيه بيان كلّ ما وقع ولم يبق لا بشخصه ولا بنوعه كطوفان نوح ، وبيان كلّ ما هو واقع في الحال أو الاستقبال ولم يقع قبلُ لا بشخصه ولا بنوعه .

(أَعْلَمُ) ؛ بصيغة المتكلِّم . (ذلِكَ) أي جميع ما في كتاب اللّه . والمراد العلم به بشرط الاستنباط من كتاب اللّه ، فلا ينافي أمثال(5) ما يجيء في «كتاب التوحيد» في بعض أحاديث «باب البداء» . .

ص: 533


1- الكافي ، ج 8 ، ص 307 وما بعدها .
2- أي الفلاسفة .
3- أي الصوفية .
4- في «د» : - «خبر» .
5- في «د» : - «أمثال» .

(كَمَا أَنْظُرُ) ؛ بصيغة المتكلِّم . (إِلى كَفِّي) أي إلى يدي . و«ما» مصدريّة ، والمراد التشبيه في أنّه بلا شكّ وشبهة ومعارضة وهميّة ، أو في سرعة الاستنباط ، أو في سهولته .

(إِنَّ اللّه َ يَقُولُ : فِيهِ تِبْيَانُ كُلِّ شَيْءٍ) . استئنافٌ بياني لكونها في الكتاب ، والذي في سورة النحل : «وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانا لِكُلِّ شَىْ ءٍ»(1) ، فإنّما غيّره للإشارة إلى أنّ «تبيانا» مفعول له لا حال .

التاسع : (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ النُّعْمَانِ) ؛ بضمّ النون وسكون المهملة .

(عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَابِرٍ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : كِتَابُ اللّه ِ فِيهِ نَبَأُ) ؛ بالنون والموحّدة المفتوحتين والهمز : الخبر ، وأكثر استعماله في الخبر عن الماضي .

(مَا قَبْلَكُمْ) . المخاطبون هم اُمّة نبيّنا صلى الله عليه و آله الواقعون في أيّ زمان فرض حالاً .

(وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ) أي إلى يوم القيامة ، كما مضى في سابع الباب شرحه .

(وَفَصْلُ) ؛ بالمهملة : الحكم ، أو قطع النزاع .

(مَا بَيْنَكُمْ) . مضى في سابع الباب ما يكفي في شرحه .

(وَنَحْنُ) ؛ يعني الأئمّة من أهل البيت (نَعْلَمُهُ) . الضمير ل «كتاب اللّه» ، أو لما فيه من الاُمور الثلاثة ؛ والمآل واحد .

العاشر : (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مِهْرَانَ ، عَنْ سَيْفِ بْنِ عَمِيرَةَ ، عَنْ أَبِي الْمَغْرَاءِ) ؛ بفتح الميم وسكون المعجمة والمهملة والمدّ ، وقيل : والقصر .(2)

(عَنْ سَمَاعَةَ ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ مُوسى عليه السلام ، قَالَ : قُلْتُ لَهُ : أَكُلُّ شَيْءٍ) أي من الحلال والحرام وما يحتاج إليه الناس (فِي كِتَابِ اللّه ِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه و آله ) . مضى معنى الكتاب والسنّة .

ص: 534


1- النحل (16) : 89 .
2- في حاشية «أ» : «اختاره في الإيضاح» . إيضاح الاشتباه ، ص 138 ، الرقم 152 .

في شرح عنوان الباب .

(أَوْ تَقُولُونَ) ؛ بصيغة الخطاب أو الغيبة من باب نصر .

(فِيهِ؟) أي في شيءٍ من الحلال والحرام ، وهو ما ليس في الكتاب والسنّة . والمعنى أكلّ شيء من الحلال والحرام داخل في الغيب فهو مبيّن في الكتاب والسنّة ، أو بعض منهما يستقلّ بمعرفته عقولكم ، أو عقول العلماء مطلقا .

(قَالَ : بَلْ كُلُّ شَيْءٍ فِي كِتَابِ اللّه ِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه و آله ) .

ص: 535

باب اختلاف الحديث

الباب الثاني والعشرون بَابُ اخْتِلاَفِ الْحَدِيثِ

فيه اثنا عشر حديثا ؛ أي باب بيان سرّ اختلاف الحديث ، وبيان كيفيّة العمل مع الاختلاف .

الأوّل : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ هَاشِمٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عِيسى ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُمَرَ الْيَمَانِيِّ ، عَنْ أَبَانِ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ ، عَنْ سُلَيْمِ بْنِ قَيْسٍ الْهِلالِيِّ ، قَالَ : قُلْتُ لاِءَمِيرِ الْمُوءْمِنِينَ عليه السلام : إِنِّي سَمِعْتُ مِنْ سَلْمَانَ وَالْمِقْدَادِ وَأَبِي ذَرٍّ شَيْئا مِنْ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ) .

المقصود بذكر هذا الحديث هنا أن يستفاد منه عدم جواز العمل بأخبار الآحاد المرويّة عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله بغير طرقٍ بيّنها أهل البيت عليهم السلام .

(وَأَحَادِيثَ) . إمّا منصوب معطوف على «شيئا» ، وإمّا مجرور معطوف على «تفسير» . ويؤيّد الأوّل تنكير «أحاديث» ، ويؤيّد الثاني ما يجيء من قوله : «ومن الأحاديث» .

(عَنْ نَبِيِّ اللّه ِ صلى الله عليه و آله غَيْرَ) . منصوبٌ صفة لكلّ من قوله : «شيئا» و«أحاديث» أو لقوله : «شيئا» ، والمغايرة هنا مغايرة بحسب النوع ، وهي التضادّ والتباين .

(مَا) ؛ موصولة ، وهي عبارة عن تفسير القرآن والأحاديث .

(فِي أَيْدِي النَّاسِ) أي سائر الناس من أصحاب نبيّ اللّه صلى الله عليه و آله ، وهم المخالفون .

(ثُمَّ سَمِعْتُ مِنْكَ تَصْدِيقَ مَا سَمِعْتُ مِنْهُمْ) أي من سلمان والمقداد وأبي ذرّ .

(وَرَأَيْتُ فِي أَيْدِي النَّاسِ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً مِنْ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَمِنَ الاْءَحَادِيثِ عَنْ نَبِيِّ اللّه ِ صلى الله عليه و آله

ص: 536

أَنْتُمْ) أي أهل البيت ، أو أنت وشيعتك (تُخَالِفُونَهُمْ فِيهَا) أي في الأشياء الكثيرة ، بمعنى أنّكم تفسّرون وتروون ما يضادّها ، أو تحكمون ببطلانها ساكتين عن التفسير والرواية بما يضادّها ؛ وحينئذٍ قوله : (وَتَزْعُمُونَ) ؛ عطف تفسير ، أي تدّعون (أَنَّ ذلِكَ) أي المذكور . وهو إشارة إلى أشياء كثيرة ، لا إلى كلّ ما في أيدي الناس ، فلا ينافي أن يكون في أيدي الناس حقّ وباطل .

(كُلَّهُ بَاطِلٌ ، أَفَتَرَى) ؛ بهمزة الاستفهام وفاء التفريع وفعل القلب .

(النَّاسَ يَكْذِبُونَ عَلى رَسُولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله مُتَعَمِّدِينَ) . يجيء تفسيره بُعيدَ هذا .

(وَيُفَسِّرُونَ الْقُرْآنَ بِآرَائِهِمْ ؟ قَالَ:) أي سليم .

(فَأَقْبَلَ) ؛ بصيغة الماضي من باب الإفعال ، والضمير لأمير المؤمنين عليه السلام .

(عَلَيَّ) ، حرف جرّ وضمير المتكلّم وحده .

(فَقَالَ : قَدْ سَأَلْتَ فَافْهَمِ الْجَوَابَ ، إِنَّ فِي أَيْدِي النَّاسِ) أي من الأحاديث المرويّة عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله بلا واسطة ، سواء كانت في تفسير القرآن أم في غيره .

(حَقّا وَبَاطِلاً) . أصل الحقّ : الثابت الراسخ ، والمراد هنا ما ثبت ورسخ فيه الأمر المطلوب بأن لا يكون فيه صورته فقط ، والباطل خلافه . ومضى في أوّل «باب النهي عن القول بغير علم» .

(وَصِدْقا وَكَذِبا) . هذا إلى قوله : «ووهما» تفصيل للحقّ والباطل ببيان أقسامهما ، وهو في الحقيقة بيان لأقسام الباطل ، فإنّ المتقابلين إذا عمّم أحدهما خصّص الآخر ، وهذا بيان للقسم الأوّل .

والمراد بالصدق هنا الخبر الموافق لنفس الأمر وللاعتقاد ، وبالكذب خبر يخالفهما ولا تقيّة فيه ، كما(1) في «كتاب الروضة» قبل حديث العابد ما ظاهره أنّ فتوى التقيّة لا يسمّى كذبا بقوله في قوله تعالى : «فَقَالَ إِنِّى سَقِيمٌ»(2) : «واللّه ما كان سقيما وما .

ص: 537


1- في «د» : + «يجيء» .
2- الصافّات (37) : 89 .

كذب»(1) . ومثله يجيء في «كتاب الإيمان والكفر» في ثالث «باب التقيّة» وسابع عشر «باب الكذب» .

(وَنَاسِخا وَمَنْسُوخا) . هذا بيان لقسم ثان من الباطل ؛ أي مزيلاً لحكم سابق ومزالاً بحكم لاحق .

(وَعَامّا وَخَاصّا) . هذا إلى قوله : «ووهما» ، بيان لقسم ثالث من الباطل ، وهو ما وقع فيه وهمٌ ، أعمّ من أن يكون بحسب المعنى ومن أن يكون بحسب اللفظ .

والقسم الثالث يمكن جعله قسما واحدا وعليه بناء قوله فيما بعد : «ليس لهم خامس» ويمكن جعله ثلاثة أقسام كما هنا ، فإنّ هذا لبيان القسم الأوّل منها .

والمراد بالعامّ هنا المطلق ، نحو تحرير رقبة في كفّارة الظهار في سورة المجادلة(2) ؛ والمراد بالخاصّ المقيّد ، نحو تحرير رقبة مؤمنة في كفّارة قتل الخطأ في سورة النساء .(3)

وفي هذا إشارة إلى بطلان مذهب جمع من الاُصوليّين ، حيث حكموا في أمثال ذلك في القرآن أو في الحديث بوجوب حمل المطلق على المقيّد باعتبار اللغة والعرف ، أو باعتبار القياس على اختلاف مذاهبهم ، كما بيّنه الشيخ أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه تعالى في كتاب العدّة في فصل في ذكر الكلام في المطلق والمقيّد ، حيث بيّن أنّ المطلق والمقيّد نوع من العامّ والخاصّ ، وقال في بعض كلامه :

وقد يكون التخصيص بأن يعلم أنّ اللفظ يتناول جنسا من غير اعتبار صفته ، ويخصّ بعد ذلك بذكر صفة من صفاته ، نحو قول القائل : تصدّق بالورق إذا كان صحاحا فيستثنى منه ما ليس بصحاح ، وإن كان اللفظ الأوّل لم يتناول ذلك على التفصيل ، وقد علم أنّ الرقبة إذا ذكرت منكّرة لم تختصّ عينا دون عين ، فصحّ تخصيص الكافرة منها ، وتخصيص ذلك قد يكون بأن يقترن إلى الرقبة صفة تقتضي إخراج الكافرة ، وقد يكون .

ص: 538


1- الكافي ، ج 8 ، ص 369 ، ح 559 .
2- المجادلة (58) : 3. قوله تعالى : «وَ الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا» .
3- النساء (4) : 92. قوله تعالى : «مَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ» الآية .

باستثناء الكافرة ، فلا فصل بين قوله عزّوجلّ : «فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ»(1) ، وبين قوله : «إلاّ أن تكون كافرة» ، وهذا بيّن .(2) انتهى .

وعلى هذا كلّ حديث نقل عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله في نظير كفّارة الظهار ، وكان عامّا فهو حقّ ، وكلّ ما نُقِلَ عنه صلى الله عليه و آله في نظير كفّارة الظهار وكان خاصّا فهو باطل ، ومن قبيل النقل بالمعنى عن ظنّ .

(وَمُحْكَما وَمُتَشَابِها) . المراد بالمحكم نقل معنى حديث من أحاديث رسول اللّه صلى الله عليه و آله صريح الدلالة وغير منسوخ ، سواء كان في تفسير آية أم لا ، فالنقل مطابق للمنقول وداخل في الحقّ . والمراد بالمتشابه نقل معنى حديث من أحاديث رسول اللّه صلى الله عليه و آله غير صريح الدلالة ، فالنقل مخالف للمنقول وداخل في الباطل ، فهذا لبيان القسم الثاني من أقسام القسم الثالث من الباطل .

(وَحِفْظا وَوَهَما) . هذا لبيان القسم الثالث من أقسام القسم الثالث من الباطل .

والحفظ بالكسر، من باب علم : الحراسة وعدم الغفلة ، ويُقال : وهم في الشيء كضرب وهما بالفتح : إذا ذهب ذهنه إليه وهو يريد غيره ، ووهم كعلم في الحساب ونحوه وَهَما بفتحتين : إذا غلط فيه وسها . والمراد بالحفظ هنا ما حفظ فيه حدود اللفظ بعينه مع إرادة النقل باللفظ ، وبالوهم ما لم يحفظ فيه تلك لسهو فيها ، أو نسيان مع إرادة النقل باللفظ بقرينة ذكر باقي أقسامه على حِدة .

(وَقَدْ كُذِبَ) ؛ بصيغة المجهول من باب ضرب ، وفاعله المحذوف : الأصحاب ، وهو بيان لقوله : و«كذبا» وجواب لقوله : «أفترى الناس يكذبون» إلى آخره .

(عَلى رَسُولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله ) ؛ الظرف قائم مقام الفاعل .

(عَلى عَهْدِهِ) . العهد : الحفاظ ؛ أي في زمانه ومع حفظه للناس عن مثل ذلك .

(حَتّى قَامَ خَطِيبا ، وَقَالَ(3) : أَيُّهَا النَّاسُ ، قَدْ كَثُرَتْ) ؛ من باب حسن . .

ص: 539


1- النساء (4) : 92 .
2- عدّة الاُصول ، ج 1 ، ص 334 ؛ وفي طبعة اُخرى : ج 2 ، ص 132 .
3- في الكافي المطبوع : «فقال» .

(عَلَيَّ) . الظرف متعلّق بقوله : «كثرت» لتضمينه معنى اجتمعت أو ثقلت ، أو متعلّق بقوله :

(الْكَذَّابَةُ ) ، بصيغة المبالغة ، والتاء لكون الموصوف مؤنّثا ، أي الطائفة الكذّابة ؛ أو جمع كذّاب ، واستُدلّ به على أنّه لا يجوز التمسّك في الأحكام بما رواه المخالفون عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله بغير طرق بيّنها أهل البيت عليهم السلام كما صرّح به الشيخ الطوسي رحمه الله في عدّة الاُصول .

(فَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدا) أي لا عن تقيّة وضرورة ، ولو اُريد بالتعمّد العلم لوجب أن يُقال : إنّ المراد بالكذب هنا المخالف لنفس الأمر ، ويعرف التخصيص بما عدا التقيّة والضرورة بدليل خارج .

(فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ) أي لينزل منزله من النار . يُقال : بوّأه منزلاً ، أي أسكنه إيّاه ؛ وتبوّأ منزلاً ، أي اتّخذه ، وهو أمر . والمقصود الإخبار بأنّ منزله(1) في النار البتّة .

(ثُمَّ) ؛ للتعجّب أو للتراخي في الزمان .

(كُذِبَ) ؛ بصيغة المجهول من باب ضرب ، وفاعله المحذوف : الأصحاب ، أو أعمّ منهم ومن غيرهم .

(عَلَيْهِ مِنْ بَعْدِهِ) أي من بعد ذلك القول ، أو من بعد الرسول .

(وَإِنَّمَا أَتَاكُمُ) أي جاءكم (الْحَدِيثُ) أي عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله بلا واسطة ، أعمّ من أن يكون في تفسير القرآن وغيره .

(مِنْ أَرْبَعَةٍ) . هم أقسام أصحابه الرُّواة لحديثه بلا واسطة .

(لَيْسَ لَهُمْ خَامِسٌ :) أي قسم خامس من الرواة بلا واسطة ، ولا ينافي ذلك تحقّق الخامس في أخبار الآحاد في هذه الأزمان .

(رَجُلٍ مُنَافِقٍ يُظْهِرُ الاْءِيمَانَ) . في نهج البلاغة «مُظهر للإيمان»(2) . .

ص: 540


1- في «ج» : + «من» .
2- نهج البلاغة ، ص 336 ، الخطبة 210 .

(مُتَصَنِّعٍ بِالاْءِسْلاَمِ) . التصنّع : تكلّف حسن السمت(1) والتزيّن ، والباء للآلة ، والإسلام أعمّ من الإيمان بحيث يدخل فيه المنافقون ، كما في سورة الحجرات : «قَالَتْ الاْءَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا»(2) .

(لاَ يَتَأَثَّمُ وَلاَ يَتَحَرَّجُ) . التأثّم : التجنّب للإثم والتوبة منه ، وكذلك التحرّج ، والحرج بفتحتين : الإثم ، فالعطف تفسيري ، وفائدته المبالغة .

(أَنْ يَكْذِبَ) ؛ مفعول به ؛ لأنّ الفعلين يتعدّيان بنفسهما .

(عَلى رَسُولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله مُتَعَمِّدا ، فَلَوْ عَلِمَ النَّاسُ أَنَّهُ مُنَافِقٌ كَذَّابٌ ، لَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُ وَلَمْ يُصَدِّقُوهُ ، وَلكِنَّهُمْ قَالُوا : هذَا قَدْ صَحِبَ رَسُولَ اللّه ِ صلى الله عليه و آله ) . يُقال : صحبه - كعلمه - صحابة ويكسر وصحبه : إذا عاشره .

(وَرَآهُ وَسَمِعَ مِنْهُ) . ذكر الرؤية والسماع باعتبار أنّهما داعيان لصاحبهما إلى الإيمان بتمام القلب ، بخلاف الأعمى ومن لم يسمع ؛ فإنّهما كالغائب ، وفي المَثَل : «يرى الشاهد ما لا يرى الغائب»(3) . وهذا مبنيّ على أنّ هؤلاء المنافقين لم يكونوا عُمْيا ولا غير سامعين .

(وَأَخَذُوا) أي الناس الحديث ، وهو عطف على «قالوا» . وفي بعض النسخ بالفاء .

(عَنْهُ وَهُمْ لاَ يَعْرِفُونَ حَالَهُ) وقولَه .

(وَقَدْ) . استدلال على أنّ بعض الأصحاب كانوا منافقين .

(أَخْبَرَهُ)(4) . الضمير المستتر للّه تعالى ، والبارز للرسول صلى الله عليه و آله .

(عَنِ الْمُنَافِقِينَ) أي في القرآن (بِمَا أَخْبَرَهُ) أي في القرآن ، وهو تهويل وتعظيم .

(وَوَصَفَهُمْ) أي في القرآن (بِمَا وَصَفَهُمْ) أي في القرآن ، وهو تهويل وتعظيم .

(فَقَالَ) في سورة المنافقين . الفاء لتفصيل الخبر والوصف ، فيفيد أنّ المنافقين كان .

ص: 541


1- في «ج» : «الصمت»؛ وفي حاشية «أ» : «السمت : هيئة أهل الخير» . لسان العرب ، ج 2 ، ص 47 (سمت) .
2- الحجرات (49) : 14 .
3- الكافي ، ج 8 ، ص 349 ، ح 547 ؛ الفقيه ، ج 2 ، ص 297 ، ح 2505 ؛ وسائل الشيعة ، ج 11 ، ص 441 ، ح 15208 .
4- في الكافي المطبوع : + «اللّه» .

ظاهرهم ظاهرا حسنا ، وكلامهم كلاما مزيّنا مدلّسا يوجب اغترار الناس بهم وتصديقهم لهم فيما ينقلونه عن النبيّ صلى الله عليه و آله من الأحاديث ؛ ويرشد إلى ذلك أنّه سبحانه خاطب نبيّه صلى الله عليه و آله بهذا الكلام .

أو الفاء للتعقيب ، وحينئذٍ يحتمل أن يُراد بالخبر والوصف ما في نحو(1) قوله تعالى : «وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ»(2) . وفيه إشارة أيضا إلى أنّ الرسول إذا لم يعلمهم فكيف يعلمهم الناس ؟

«وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ» . كانوا في الظاهر على حُسن السمت والجمال والصلاح .

«وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ»(3) ؛ أي تُصْغِ إليهم ؛ لذلاقة ألسنتهم ، أو لأنّهم كانوا بين الناس معظّمين ، أو لأنّه لم يعرف نفاقهم .

(ثُمَّ بَقُوا بَعْدَهُ ، فَتَقَرَّبُوا إِلى أَئِمَّةِ الضَّلاَلَةِ وَالدُّعَاةِ إِلَى النَّارِ) ؛ هم هم . (بِالزُّورِ) ؛ بالضمّ : القوّة والشرك باللّه ودعوى الشيء بمحض اللسان ، وبفتحتين : الزيغ والميل عن الحقّ .

(وَالْكَذِبِ وَالْبُهْتَانِ) ؛ بالضمّ مصدر بهتهُ - كمنعه - وإذا نسب إليه نقصا أو قبيحا ليس فيه كروايات المخالفين في صحاحهم ما فيه نقص أهل البيت عليهم السلام لترويج أباطيلهم ، والظرف متعلّق ب- «تقرّبوا» وفيه إشارة إلى أنّ أئمّة الضلالة عرفوا منهم ذلك ؛ لاتّحاد سريرتهم ولذلك قرّبوهم ؛ أو «بالدعاة» ، وفيه إشارة إلى أئمّة الضلالة من القسم الأوّل ، والجنسيّة علّة الضمّ .

(فَوَلَّوْهُمُ) ؛ بفتح اللام المشدّدة .

(الاْءَعْمَالَ) ؛ مفعول ثان ، يُقال : ولّيته الأمر تولية ، أي جعلت الأمر في عهدته .

(وَحَمَلُوهُمْ) ؛ من باب ضرب ، ويحتمل باب التفعيل للمبالغة . .

ص: 542


1- في «ج» : - «نحو» .
2- التوبة (9) : 101 .
3- المنافقون (63) : 4 .

(عَلى رِقَابِ النَّاسِ ، وَأَكَلُوا بِهِمُ الدُّنْيَا) . الضمير الأوّل للمنافقين ، والثاني للأئمّة ، أو بالعكس .

(وَإِنَّمَا النَّاسُ مَعَ الْمُلُوكِ وَالدُّنْيَا) . إشارة إلى أنّ ميل الناس إلى قبول قولهم قد ازداد بسبب التقرّب إلى الأئمّة ، وجمع مال الدنيا ، أو تولّى أعمال الدنيا .

(إِلاَّ مَنْ عَصَمَ اللّه ُ) . أي وفّقه اللّه وعرف أنّ الكون مع الملوك والدنيا يضرّ بدين المؤمن . (فَهذَا أَحَدُ الاْءَرْبَعَةِ) .

(وَرَجُلٍ سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله شَيْئا لَمْ يَحْفَظْهُ) ؛ من باب علم .

(عَلى وَجْهِهِ) أي على ما هو حقّه .

(وَوَهَمَ) ؛ كضرب . المراد بالوهم هنا أعمّ من الأقسام الثلاثة التي ذكرت بقوله : «وعامّا وخاصّا ، ومحكما ومتشابها ، وحفظا ووهما» .

(فِيهِ) أي في لفظه بالزيادة والنقصان ، أو معناه إذا كان النقل بالمعنى .

(وَلَمْ يَتَعَمَّدْ كَذِبا ، فَهُوَ فِي يَدِهِ ، يَقُولُ بِهِ) أي يفتي به (وَيَعْمَلُ بِهِ ، وَيَرْوِيهِ ، فَيَقُولُ : أَنَا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله ، فَلَوْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُ وَهَمَ لَمْ يَقْبَلُوهُ ، وَلَوْ عَلِمَ هُوَ أَنَّهُ وَهَمَ لَرَفَضَهُ) أي لتركه .

(وَرَجُلٍ ثَالِثٍ سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله شَيْئا أَمَرَ بِهِ ثُمَّ) ؛ للعطف على «سمع» . ويحتمل أن يكون للعطف على أمر .

(نَهى عَنْهُ وَهُوَ) أي الرجل (لاَ يَعْلَمُ ، أَوْ سَمِعَهُ يَنْهى عَنْ شَيْءٍ ثُمَّ أَمَرَ بِهِ وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ ، فَحَفِظَ مَنْسُوخَهُ) . الضمير للرسول أو لشيء ، ويحتمل الرجل .

(وَلَمْ يَحْفَظِ) . في بعض النسخ «ولم يعلم» ، والمعنى واحد .

(النَّاسِخَ ، فَلَوْ عَلِمَ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ لَرَفَضَهُ ، وَلَوْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ - إِذْ سَمِعُوهُ مِنْهُ - أَنَّهُ مَنْسُوخٌ لَرَفَضُوهُ . وَآخَرَ رَابِعٍ) . وقوله :

(لَمْ يَكْذِبْ عَلى رَسُولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله ، مُبْغِضٍ لِلْكَذِبِ؛ خَوْفا مِنَ اللّه ِ(1) وَتَعْظِيما لِرَسُولِ .

ص: 543


1- في الكافي المطبوع : + «تعالى» .

اللّه ِ صلى الله عليه و آله ) ، للتمييز عن القسم الأوّل ، وقوله :

(لَمْ يَنْسَ(1)) ، في بعض النسخ لم يَسْه .

(بَلْ حَفِظَ مَا سَمِعَ عَلى وَجْهِهِ ، فَجَاءَ بِهِ كَمَا سَمِعَ ، لَمْ يَزِدْ فِيهِ وَلَمْ يَنْقُصْ مِنْهُ) ، للتمييز عن القسم الثاني . وقوله :

(وَعَلِمَ النَّاسِخَ مِنَ الْمَنْسُوخِ ، فَعَمِلَ بِالنَّاسِخِ وَرَفَضَ الْمَنْسُوخَ) ، للتمييز عن القسم الثالث .

(فَإِنَّ أَمْرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله ) . الفاء للبيان ، والمراد بالأمر هنا ضدّ النهي ، وهو مذكور على سبيل المثال ، أو الأمر بمعنى ما صدر عنه من الخطاب التكليفي مطلقا .

(مِثْلُ الْقُرْآنِ) . خبر «إنّ» .

(نَاسِخٌ وَمَنْسُوخٌ) . العطف للانسحاب ؛ أي منقسم إليهما ، ورفعهما على أنّهما خبر ثان ل «إنّ» وأو على البدليّة من «مثل» ، أو على الخبريّة لمبتدأ محذوف بأن يكون الجملة استئنافا لبيان المثليّة . وهذا ناظر إلى القسم الثالث والرابع ، والنسبة بينهما بالتمييز .

(وعَامُّ وخاصٌّ(2) ، وَمُحْكَمٌ وَمُتَشَابِهٌ) . العطف الأوّل والثالث للانفراد ، والثاني والرابع للانسحاب ، وهذا ناظر إلى القسم الثاني والرابع ، والنسبة بينهما بالتمييز .

(قَدْ) . استئناف بياني للعامّ والخاصّ ، والمحكم والمتشابه .

(كَانَ) ؛ ناقصة ، واسمها ضمير الشأن المستتر فيها ، وما بعدها خبرها .

(يَكُونُ) ؛ ناقصة ، وإقحامها للدلالة على الاستمرار في الماضي .

(مِنْ رَسُولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله ) . الظرف خبر «يكون» .

(الْكَلامُ) ؛ اسم «يكون» .

(لَهُ وَجْهَانِ) أي احتمالان ، فهو من المتشابه . والجملة صفة الكلام ؛ لأنّ لامه للعهد الذهني ، فهو في حكم النكرة . ويحتمل كون الجملة حالاً عن الكلام ، وكونَها خبر .

ص: 544


1- في الكافي المطبوع : «لم ينسه» .
2- في الكافي المطبوع : «وخاص وعام» .

يكون والظرف حالاً عن الكلام ، وكونها صفة الكلام ، والظرف حالاً عن الكلام ، و«يكون» تامّة .

ويؤيّد الصفة عطف النكرة الموصوفة على الكلام في قوله :

(وَكَلاَمٌ(1) عَامٌّ وَكَلاَمٌ خَاصٌّ) . مضى معناهما آنفا .

(مِثْلُ الْقُرْآنِ) ؛ بالرفع صفة لكلّ من «الكلام» و«كلام عامّ وكلام خاصّ» . و«مثل» - كغير - في التوغّل في الإبهام ، وأنّه لا يكسب التعريف من الإضافة إلى المعرفة .

(وَقَالَ اللّه ُ - عَزَّ وَجَلَّ - فِي كِتَابِهِ : «ماآتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا»(2)) . جملة حاليّة بتقدير «قد» ، والآية في سورة الحشر ، ويجيء بيانها في «كتاب الحجّة» في أحاديث «باب التفويض إلى رسول اللّه صلى الله عليه و آله وإلى الأئمّة عليهم السلام في أمر الدِّين» وهو الباب الثاني والخمسون .

والمراد بما آتاكم : ما قال لكم من الأحاديث أو ما يعمّه وحصّة الغنيمة ، وبما نهاكم عنه : كثرة السؤال ، كما في قوله : «لاتَسْئَلُواعَنْ أَشْياءَ»(3) . وقد مرّ في خامس الباب السابق .

(فَيَشْتَبِهُ) ؛ عطف على «يكون» ، والفاء للتفريع أو للتعقيب ، وهو إمّا خالٍ عن الضمير وفاعله «ما» الموصولة ، وإمّا فيه ضمير مستتر مرفوع المحلّ على الفاعليّة ، راجع إلى كلّ من «الكلام» و«كلام عامّ وكلام خاصّ» .

(عَلى مَنْ لَمْ يَعْرِفْ وَلَمْ يَدْرِ مَا) . «ما» إمّا موصولة ومحلّها الرفع على فاعليّة «يشتبه» ، فيكون «لم يعرف» و«لم يدر» جاريين مجرى اللازم بحذف مفعول «لم يعرف» ومفعولي «لم يدر» نسيا منسيّا ؛ لحصول الفائدة في النفي بالمبالغة ، فما قيل - من أنّه لا يحذف مفعولا باب علمت وظننت معا نسيا منسيّا ، فلا تقول : علمت ولا ظننت ؛ لعدم الفائدة ؛ لأنّ من المعلوم أنّ الإنسان لا يخلو في الأغلب عن(4) علمٍ أو ظنّ ، فلا فائدة في .

ص: 545


1- في الكافي المطبوع : «كلام» بدون الواو .
2- الحشر (59) : 7 .
3- المائدة (5) : 101 .
4- في «ج» : «من» .

ذكرهما من دون المفعولين مع عدم قيام القرينة .(1) انتهى . - إن تمّ فمختصّ بالإيجاب .

وإمّا استفهاميّة علق بها «لم يدر» ، وحينئذٍ إمّا أن يجري «لم يعرف» مجرى اللازم ، وإمّا أن يبنى على قول هشام من جواز إلحاق «عرف» ب- «علم» في نصب المفعولين ، فيعلق هو أيضا بالاستفهام على سبيل التنازع ، ويبعد جدّا أن تكون موصولة محلّها النصب على مفعوليّة «لم يعرف» ويكون «لم يدر» جاريا مجرى اللازم ، ولا يجوز أن تكون موصولة محلّها النصب على مفعوليّة «لم يدر» ؛ لأنّه لا يتعدّى إلاّ إلى مفعولين ، ومن خصائص أفعال القلوب أنّه إذا ذكر أحد مفعوليها ذكر الآخر .

(عَنَى اللّه ُ بِهِ) أي ب- «الكلام له وجهان وكلام عامّ وكلام خاصّ» وهو ناظر إلى قوله : «مثل القرآن» .

(وَرَسُولُهُ صلى الله عليه و آله ) أي وما عنى رسوله به ، وهو ناظر إلى قوله : «قد كان يكون من رسول اللّه» إلى آخره .

(وَلَيْسَ كُلُّ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله كَانَ يَسْأَلُهُ عَنِ الشَّيْءِ) أي عمّا يشتبه ، وهذا لدفع توهّمٍ نشأ من السابق ، وهو أنّه مع حضوره عليه السلام وإمكان سؤاله لا يبقى اشتباه ، ويحتمل أن يكون لضمّ مقوٍّ إلى الجملة الحالّية السابقة .

(فَيَفْهَمُ) ؛ بالرفع بصيغة المعلوم من باب علم ، والفاء للعطف على «يسأله» أي فيفهم السائل الجواب ، ولا يجوز أن يكون منصوبا في جواب النفي . والفاء للسببيّة ؛ لأنّه يفيد أنّهم إذا سألوا فهموا وهو ينافي ما بعده ، والنفي راجع إلى مجموع السؤال والفهم .

وذلك يتصوّر على ثلاثة وجوه :

الأوّل : ترك سؤالهم .

الثاني : سؤالهم وانتفاء فهمهم الجوابَ ، كما روى مسلم عن عمر أنّه سأل رسول اللّه صلى الله عليه و آله مكرّرا عن الكلالة ولم يفهم الجواب .

الثالث : سؤالهم وترك جوابه عليه السلام . وأفرد بالذِّكر الثالث بعده اهتماما وتمهيدا لبيان .

ص: 546


1- في حاشية «أ» : «القائل الرضي في شرح الكافية» . شرح الرضي على الكافية ، ج 4 ، ص 154 .

الفرق بينه وبين سائر الأصحاب ، ويحتمل أن يكون النفي راجعا إلى الفهم فقط ، فلا يدلّ إلاّ على الوجه الثاني ، بأن يكون الوجه الأوّل مذكورا بالجملة الحاليّة السابقة ، والوجه الثالث مذكورا بقوله :

(وَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْأَلُهُ) . الضمير المستتر لمن ، والبارز لرسول اللّه صلى الله عليه و آله ، أي يسأله عن الشيء المشتبه .

(وَلاَ يَسْتَفْهِمُهُ) . الضمير المستتر لرسول اللّه صلى الله عليه و آله ، والبارز لمن ، واستفعل هنا للنسبة إلى الشيء ، نحو : استحسنت زيدا واستقبحت الظلم ؛ والمعنى : لا يعدّه فاهما أي أهلاً لأن يفهم المسؤول عنه ، فيترك جوابه كراهةَ أن يدّعي منصب الإفتاء والقضاء أو الإمامة بلا استحقاق ؛ لتوهّمه من نفسه توسّعا في العلم ، كما مضى في خامس الباب السابق في شرح قوله تعالى : «لاتَسْئَلُواعَنْ أَشْياءَ»(1) ، وذلك إنّما يكون في سؤاله عمّا لا يتعلّق بنفسه ولا بأهليّة من المسائل ، ويمكن أن يكون الضمير المستتر ل- «من» والبارز لرسول اللّه ، أي لا يستقصي في السؤال إلى أن يفهم .

وفي نهج البلاغة بدل قوله : «وليس كلّ» إلى هنا هكذا : «وليس كلّ أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه و آله كان يسأله ويستفهمه»(2) .

(حَتّى) ؛ هي الداخلة على الجمل .

(إِنْ كَانُوا) ؛ بكسر الهمزة مخفّفة من المثقّلة ، والفارقة هي اللام في قوله :

(لَيُحِبُّونَ) . الضميران للأصحاب ، أو لمن باعتبار تعدّده في المعنى .

(أَنْ يَجِيءَ الاْءَعْرَابِيُّ) أي ساكن البادية .

(وَالطَّارِئُ) ؛ بالهمز من «طرأ» عليهم كمنع طرءا وطروءا : إذا أتاهم من مكان ؛ أو بالياء من «طري» - كعلم - : إذا أقبل ، أو مرّ ، أي المتجدّد قدومه أو إسلامه ، أو من «طرأ» كنصر طروّا : إذا جاء من مكان بعيد ، أي من يجيء من البلاد البعيدة . .

ص: 547


1- أي الحديث 5 من باب الردّ إلى الكتاب والسنّة . والآية في سورة المائدة (5) : 101 .
2- نهج البلاغة ، ص 326 ، الخطبة 210 .

(فَيَسْأَلَ رَسُولَ اللّه ِ صلى الله عليه و آله ) أي عمّا لا يتعلّق بالأصحاب أنفسهم ، ونُهوا عن السؤال عنه .

(حَتّى يَسْمَعُوا) أي يسمعوا الجواب في المشتبه ويفهموا ، وإنّما أحبّوا سؤالهما لأنّهما يستقصيان في السؤال الشقوق والاحتمالات ولا يتأدّبان ، فرجوا أن يكرّر عليه السلام الجواب عليهما ، ويوضح المشتبه لهما ؛ لبُعدهما من الفهم فيفهموا .

وروى مسلم عن نوّاس بن سمعان قال : أقمت مع رسول اللّه صلى الله عليه و آله وسلم بالمدينة سنة ما يمنعني من الهجرة إلاّ المسألة ، كان أحدنا إذا هاجر لم يسأل رسول اللّه صلى الله عليه و آله عن شيء .(1) انتهى .

وقال شارحه : معناه أنّه أقام بالمدينة كالزائر من غير نقله أهله(2) إليها من وطنه لاستيطانها ، وما منعه من - الهجرة وهي الانتقال من الوطن إليها(3) - إلاّ الرغبة في سؤال رسول اللّه صلى الله عليه و آله عن اُمور الدِّين ، فإنّه صلى الله عليه و آله كان يسمح بذلك للزائرين(4) دون المهاجرين ، وكان المهاجرون يفرحون بسؤال الغرباء من الأعراب .(5) انتهى .

(وَقَدْ كُنْتُ) . هذا لبيان أنّه لم يكن حكم اللّه تعالى فيه كحكمه في سائر الأصحاب ، كيف لا ونهي سائر الأصحاب عمّا نهوا عنه من السؤال لم يكن إلاّ لإعلاء شأنه ، وللفرق بينه وبينهم ، ولكشف سرّ قوله عليه السلام : «أنا مدينة العلم وعليٌّ الباب»(6) ، لِمَ لَمْ يصرّح اللّه تعالى بالمراد في القرآن وأتى بالمتشابهات ؟

(أَدْخُلُ عَلى رَسُولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله ) . ليس المراد الدخول الجسمي ، بل العقلي ؛ لئلاّ ينافي قوله فيما بعد : «فربما كان» إلى آخره ، ومنه يُقال لمن يداخل الملك في اُموره ويختصّ .

ص: 548


1- صحيح مسلم ، ج 8 ، ص 7 ، باب صله الرحم وتحريم قطيّعتها .
2- في المصدر : - «أهله» .
3- في المصدر : «واستيطان المدينة» بدل : «إليها» .
4- في المصدر : «سمح بذلك للطائرين» بدل «يسمح بذلك للزائرين» .
5- شرح مسلم للنووي ، ج 16 ، ص 111 .
6- المستدرك للحاكم النيسابوري ، ج 3 ، ص 126 ، باب أنا مدينة العلم وعليّ بابها ؛ مجمع الزوائد ، ج 9 ، ص 114 ، باب في علمه عليه السلام ؛ المعجم الكبير ، ج 11 ، ص 55 ؛ كنزالعمّال ، ج 13 ، ص 148 ؛ فضائل علي عليه السلام ، ح 36463 .

به : دخيل الملك ودُخْلُلُه - كقُنفذ ودِرهم - .(1)

(كُلَّ يَوْمٍ) . المراد في أواخر عمره صلى الله عليه و آله ، أو في غير أيّام المفارقة للسفر .

(دِخْلَةً)(2) ؛ بكسر الدال للنوع ؛ أي دخولاً لاستيداع الأسرار ، ليس كسائر أفراد الدخول ؛ أو بفتح الدال للمرّة من الدخول العقلي .

(وَكُلَّ لَيْلَةٍ دِخْلَةً ، فَيُخْلِينِي) . الفاء للتفريع على الدخلة باعتبار ما يفهم من سابقه من كراهته صلى الله عليه و آله أن يطّلع سائر الأصحاب على ما لا(3) يتعلّق بهم ولا بأهليهم من الشرائع والأسرار .

و«يخليني» من باب الإفعال يُقال : أخلى الملك زيدا : إذا اجتمع به في خلوة(4) ؛ أي فيقيم سائر الأصحاب عنّي إن كان الدخول بمحضرهم . أو من باب التفعيل ، أي فيتركني ولا يمنعني من سؤال .

(فِيهَا) أي في الدخلة . و«في» للسببيّة أو للظرفيّة .

(أَدُورُ مَعَهُ حَيْثُ دَارَ) أي أتعلّم منه في كلّ ما أسأله عنه جميع جهاته المعلومة له ، أو جميع ما يقول فيه ، وهو ناظر إلى قوله : «وكان منهم» إلى آخره ، وهو إمّا جملةٌ حالٌ مقدّرة ، أو مقارنة عن مفعول الإخلاء ، أو استئناف بياني لنفس التخلية ، أو لعلّته ؛ فإنّ المفيد إذا رأى من المستفيد البلوغ إلى تفهّم كلّ ما يفيد ، كان ذلك باعثا للمفيد على الرخصة في السؤال عن كلّ ما يريد ، وإمّا مفرد بتقدير «أن» مع إعمالها النصب في «أدور» ، أو إهمالِها ، واللام مقدّرة ، أي الإخلاء لأن أدور ، أو هو مفعول ثان للتخلية ؛ لتضمين معنى الإعطاء .

(قَدْ(5) عَلِمَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله أَنَّهُ لَمْ يَصْنَعْ ذلِكَ) أي الإخلاء أو التخلية المذكور . ويحتمل أن يكون إشارة إلى التمكين من الدخلة كلّ يوم وليلة وما يتبعها . .

ص: 549


1- ترتيب إصلاح المنطق لابن السكيت الأهوازي ، ص 155 (دخلل) ؛ لسان العرب ، ج 2 ، ص 425 (جلح) .
2- في الكافي المطبوع : «دَخلةً» بفتح الدال .
3- في «ج» : - «لا» .
4- القاموس المحيط ، ج 4 ، ص 325 (خلا) ؛ تاج العروس ، ج 19 ، ص 385 (خلو) .
5- في الكافي المطبوع : «وقد» .

(بِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ غَيْرِي ، فَرُبَّمَا) . الفاء للتفريع على ما سبق باعتبار أنّ تكراره كثيرا بمحضر من يصان عنه الأسرار يوجب ازدياد حسد المنافقين ، ويؤدّي إلى ارتدادهم عن ظاهر الإسلام أيضا .

و«ربّ» للتكثير ، و«ما» كافّة .

(كَانَ) أي الإخلاء أو التخلية أو الدخول وما يتبعه (فِي بَيْتِي) . وقوله :

(يَأْتِينِي) ؛ استئناف بياني لكثرة الإخلاء أو التخلية في بيتي .

(رَسُولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله ) ؛ وقوله :

(أَكْثَرُ ذلِكَ) ؛ اسم تفضيل منصوب على الظرفيّة للزمان ؛ لأنّه مضاف إلى ذلك ، وهو إشارة إلى وقت الدخول وما يتبعه . ويحتمل أن يكون جملة معترضة بين الفعل والظرف المتعلّق به ، و«أكثر» فعل ماض من باب الإفعال ؛ يُقال : أكثر زيد المجيء : إذا جاء كثيرا ؛ وذلك إشارة إلى إتيان الرسول إيّاه عليهماالسلام .

(فِي بَيْتِي ، وَكُنْتُ إِذَا دَخَلْتُ عَلَيْهِ) أي بالدخول العقلي كما مرّ ، لا كلّ دخول .

(بَعْضَ) أي في بعض ؛ ونصبه على المفعول به توسّعا بإسقاط الخافض ، وهو من قبيل : صلّيت المسجد ، لا من قبيل : دخلت المسجد ؛ لأنّ الدخول فيما نحن فيه عقلي لا جسمي . وفي بعض النسخ : «ببعض» ، وهو الأصوب ، والباء بمعنى «في» .

(مَنَازِلِهِ ، أَخْلاَنِي) ؛ بصيغة الماضي من باب الإفعال ونون الوقاية قبل ياء المتكلّم . وقوله :

(وَأَقَامَ عَنِّي نِسَاءَهُ ، فَلاَ يَبْقى عِنْدَهُ غَيْرِي) ؛ عطف تفسير؛ أي لم يكتف بمحض الاستتار والاحتجاب ، وذلك لئلاّ يسمعن ما يجري بينهما من الأسرار ، ولا يدّعين التوسّع في العلم ، كما مرّ في الأصحاب .

(وَإِذَا أَتَانِي لِلْخَلْوَةِ مَعِي فِي مَنْزِلِي ، لَمْ تقمْ) ؛ بالمثنّاة فوقُ للمضارعة من القيام .

(فَاطِمَةُ وَلاَ أَحَد)(1) ؛ بالرفع ، وفي بعض النسخ «أحدا» بالنصب ، وحينئذٍ «لم يقم» بالخاتمة من باب الإفعال . .

ص: 550


1- في الكافي المطبوع : «لم يقم عنّي فاطمة ولا أحدا» .

(مِنْ بَنِيَّ) ؛ جمع «ابن» اُضيف إلى ياء المتكلّم فحذفت النون ، استعمل الجمع في اثنين أو هو لتغليب(1) الذكور على الإناث ؛ وذلك لأنّه ليس حكم اللّه في أهل البيت حكمه في غيرهم ، فإنّ أهل البيت هم المستحفظون للدِّين بعد الرسول .

(وَكُنْتُ) . عطف على «كنت أدخل» أي وكنت في الدخلة سواء كانت في منزلي أو منزله أو غيرهما .

(إِذَا سَأَلْتُهُ أَجَابَنِي ، وَإِذَا سَكَتُّ) ؛ بصيغة المتكلّم وحده من باب نصر .

(عَنْهُ) أي عن السؤال ، ويحتمل عود الضمير إلى الرسول ، والمعنى واحد .

(وَفَنِيَتْ مَسَائِلِي) ؛ بصيغة غائبة(2) الماضي المعلوم من باب علم ، أي لم يبق في ذهني ما أردت السؤال عنه ولم يخطر(3) غيره .

(ابْتَدَأَنِي) أي بتعليم ما لا بدّ أن يعلمه الوصيّ .

(فَمَا نَزَلَتْ عَلى رَسُولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله آيَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ إِلاَّ أَقْرَأَنِيهَا) ؛ بصيغة الماضي من باب الإفعال ، أي حملني على ضبطها وجمعها مع أخواتها ، والقراءة ، والقرآن في الأصل الجمع ، وكلّ شيء جمعته فقد قرأته ، وسمّي القرآنَ ولأنّه جمع القصص والأمر والنهي والوعد والوعيد والآيات والسور بعضها إلى بعض ، وإذا قرأ التلميذ القرآن أو الحديث على الشيخ يقول : أقرأني فلان ، أي حملني على القراءة ، ويُقال للمدرّس : مُقرئ . وحينئذٍ فمعنى أقرأنيها : حملني على أن أقرأها عليه قراءة التلميذ لاستفادة المعنى .

(وَأَمْلاَهَا) ؛ من المعتلّ اللام ، والإملاء أن يقرأ أو يقول أحد كلاما ليكتبه آخر .

(عَلَيَّ ، فَكَتَبْتُهَا بِخَطِّي) . في هذه الفقرة إشارة إلى أنّ بعض القرآن فات سائرَ الأصحاب .

(وَعَلَّمَنِي) أي بعنوان الإملاء ، بقرينة قوله فيما بعد : «ولا علما أملاه» ، وهو عطف على «ما نزلت» لا على «أقرأنيها» لأنّ الضمائر في المعطوف راجعة إلى الآيات .

ص: 551


1- في «أ» : «للتغليب» .
2- في «ج» : - «غائبة» .
3- في «ج» : «لم يحظر» .

المفهومة من الكلام السابق لا إلى «آية» ؛ لأنّ فرض الناسخ والمنسوخ مثلاً في آية واحدة بعيد .

(تَأْوِيلَهَا وَتَفْسِيرَهَا) . التأويل فيما يُراد باللفظ من المعنى الخارج عن المعنى المستعمل فيه على قانون اللغة ، والتفسير فيما يستعمل فيه اللفظ ، مثلاً إذا أمرت عبدك بأن يذهب إلى زيد وقت العصر ونسي العبد ذلك فقلت لرجل بحضور العبد : ما فعل زيد ، فتفسير ذلك الاستخبار عن حال زيد وتأويله أمر العبد بأن يذهب إليه ، وتذكيره إيّاه وتقديم التأويل ؛ لأنّ معرفته أهمّ وأصعب .

(وَنَاسِخَهَا وَمَنْسُوخَهَا ، وَمُحْكَمَهَا وَمُتَشَابِهَهَا ، وَخَاصَّهَا وَعَامَّهَا) . الإضافة في ناسخها ونظائره وترك الإضافة فيما مضى من(1) قوله : «وناسخا ومنسوخا» إلى آخره إشارة إلى أنّ جميع هذه في القرآن من أقسام الحقّ ، بخلاف ما مضى .

(وَدَعَا اللّه َ أَنْ يُعْطِيَنِي فَهْمَهَا) . الفرق بين الفهيم والبليد إنّما هو بجودة التصوّر للدقائق وضدّها ، لا بكون بعض العلوم التصديقيّة بديهيّا عند الفهيم نظريّا عند البليد .

(وَحِفْظَهَا) . أي عدم نسيانها .

والحفظ مع الفهم شرط في استنباط ما يستنبط منها ، فإنّه ربّما كان برهان مركّبا من ألف برهان أو أكثر ، فمن لم يكن له فهم أو حفظ لا يمكنه العلم بنتيجةٍ .

(فَمَا نَسِيتُ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللّه ِ) . ناظر إلى قوله : «إلاّ أقرأنيها» إلى آخره .

(وَلا عِلْما) أي كلاما فيه علم وهو لتعليم ما يستنبط من القرآن ، وهذا ناظر إلى قوله : «وعلّمني» إلى آخره .

(أَمْلاَهُ) . الضمير المنصوب للعلم .

(عَلَيَّ وَكَتَبْتُهُ مُنْذُ دَعَا اللّه َ لِي بِمَا دَعَا ، وَمَا تَرَكَ شَيْئا ممّا(2) عَلَّمَهُ اللّه ُ مِنْ حَلاَلٍ وَلاَ حَرَامٍ) ، هما في أفعال الأئمّة في أنفسهم . .

ص: 552


1- في «د» : «منه» .
2- في الكافي المطبوع : - «مما» .

(وَلاَ أَمْرٍ وَلاَ نَهْيٍ) ، هما في أفعال الأئمّة أُولي الأمر وحكمهم بين الناس ، فإنّ اُولي الأمر اُولو النهي أيضا .

(كَانَ أَوْ يَكُونُ) ، صفة لكلّ من حلال وحرام وأمرٍ ونهي .

(وَلاَ كِتَابٍ مُنْزَلٍ عَلى أَحَدٍ قَبْلَهُ مِنْ(1) طَاعَةٍ أَوْ مَعْصِيَةٍ) . يحتمل أن يكون المراد بالكتاب نحو التوراة والإنجيل وب- «أحد» أحد من الأنبياء ، وتكون «من» بيانيّة هي بيان للكتاب باعتبار ما فيه من القصص في طاعة أقوام ومعصية آخرين ، وإنّما بيّن ذلك من الكتاب دون الأحكام لأنّها علمت قبل ذلك بقوله : «كان أو يكون» ، فلا حاجة هنا إلى بيانها ، ولو حمل «كتاب» على أعمّ من جميع التوراة مثلاً وبعضه أمكن جعل «من» سببيّة . ويحتمل أن يكون المراد بالكتاب ما أنزله اللّه تعالى على الاُمم السالفة من البشرى والعذاب ، فإنّه مكتوب أي واجب في قضيّة الحكمة .

وقد يعبّر عن الواجب بالكتاب كما في قوله تعالى : «وَلاَ تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ»(2) أي ما وجب من التربّص أربعة أشهر وعشرا ، فالمراد ب- «أحد» أحد من الاُمم ، وتكون حينئذٍ «من» سببيّة ومتعلّقة بقوله : «منزل» .

(إِلاَّ عَلَّمَنِيهِ) . الضمير المنصوب لقوله : «شيئا» .

(وَحَفِظْتُهُ ، فَلَمْ أَنْسَ حَرْفا وَاحِدا) . حرف كلّ شيء : طرفه ، ومنه الحرف واحدُ حروفِ التهجّي ، أو التعبير عن الجزء بالحرف ؛ لأنّ الاهتمام بأطراف الشيء يكون أقلّ منه بأوساطه ، فعدم نسيان طرف يدلّ على عدم نسيان الباقي بطريقٍ أولى .

(ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ عَلى صَدْرِي) أي بعد تعليم الجميع وفي آخر عمره صلى الله عليه و آله .

(وَدَعَا اللّه َ لِي أَنْ يَمْلاَءَ قَلْبِي عِلْما وَفَهْما وَحُكْما) ؛ بضمّ المهملة وسكون الكاف : الحكمة أو القضاء بالعدل . ويحتمل أن يكون بكسر المهملة وفتح الكاف ، جمع «حكمة» .

(وَنُورا . فَقُلْتُ : يَا نَبِيَّ اللّه ِ ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي ) . أصله : فُديتَ بأبي واُمّي ، بصيغة .

ص: 553


1- في حاشية «أ ، د» : «أي مما يوجب طاعة اللّه أو معصيته (منه دام ظله)» .
2- البقرة (2) : 235 .

المجهول والخطاب ، حذف الفعل وجعل الضمير المتّصل منفصلاً واُخّر .

(مُنْذُ دَعَوْتَ اللّه َ لِي بِمَا دَعَوْتَ) . يريد الدعاء الذي سبق في قوله : «ودعا اللّه أن يعطيني» إلى آخره .

(لَمْ أَنْسَ شَيْئا ، وَلَمْ يَفُتْنِي شَيْءٌ) . وقوله :

(لَمْ أَكْتُبْهُ) ؛ صفة شيء ، والمراد فضلاً عن الشيء الذي كتبته .

(أَفَتَتَخَوَّفُ عَلَيَّ) . حرف جرّ دخلت على ياء المتكلّم ، يُقال : تخوّفت عليه الشيءَ ، أي خفت خفِيّا في نفسي .

(النِّسْيَانَ فِيمَا بَعْدُ) ؛ مبنيّ على الضمّ ، أي فيما بعد هذا الوقت .

(فَقَالَ : لاَ ، لَسْتُ أَتَخَوَّفُ عَلَيْكَ النِّسْيَانَ وَالْجَهْلَ) أي عدم خوفي عليك النسيان والجهل فيما بعد كان مستمرّا في الزمان الماضي منذ دعوت اللّه لك .

الثاني : (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عِيسى ، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الخَزَّازِ(1) ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : قُلْتُ لَهُ : مَا بَالُ أَقْوَامٍ) . البال : الحال ، وأصل الألف فيه واو .

(يَرْوُونَ) أي لفظ حديث (عَنْ فُلاَنٍ وَفُلاَنٍ) . المراد عدد التواتر .

(عَنْ رَسُولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله لاَ يُتَّهَمُونَ) ؛ بصيغة المجهول من باب الافتعال ، وأصل التاء فيه واو ، والضمير لأقوام ولفلان وفلان ، والجملة حاليّة .

(بِالْكَذِبِ) أي خلاف الواقع ، سواء كان بالوهم أم بغيره . والمقصود أنّ لفظ الحديث يصير متواترا .

(فَيَجِيءُ مِنْكُمْ خِلاَفُهُ ؟ قَالَ : إِنَّ الْحَدِيثَ يُنْسَخُ كَمَا يُنْسَخُ الْقُرْآنُ) . لم يفصل ببيان الأقسام الثلاثة للحديث الباطل المنقولة عن أمير المؤمنين عليه السلام في أوّل الباب ؛ لعدم احتمال(2) الأوّلين فيما نحن فيه . .

ص: 554


1- في «د» والكافي المطبوع : «الخرّاز» بدون نقطة على الراء .
2- في «ج» : «احتمالين» .

الثالث : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجْرَانَ ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ حُمَيْدٍ ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ حَازِمٍ ، قَالَ : قُلْتُ لاِءَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : مَا بَالِي) . توهّم أنّه عليه السلام ظنّ به سوءا .

(أَسْأَلُكَ عَنِ الْمَسْأَلَةِ ، فَتُجِيبُنِي فِيهَا بِالْجَوَابِ ، ثُمَّ يَجِيئُكَ غَيْرِي) أي ويسألك عن المسألة التي سألتك عنها (فَتُجِيبُهُ فِيهَا بِجَوَابٍ آخَرَ) أي مضادّ للأوّل أو مغاير له ، كما في بيان الشقوق والاحتمالات في أحدهما دون الآخر .

(فَقَالَ : إِنَّا نُجِيبُ النَّاسَ عَلَى الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ) . الزيادة يجيء متعدّيا ولازما ، وهو هنا من اللازم لمقابلته بالنقصان ، وهو مصدر اللازم .

و«على» بنائيّة ، أي على دخول أشياء ليست من الدِّين فيه وخروج أشياء هي من الدِّين منه بسبب فتاوى أئمّة الضلالة ، أو على زيادة عقولهم والاعتماد عليهم في عدم إفشاء السرّ ، أو في كونهم موافقين ونقصان عقولهم .

ويحتمل أن تكون نهجيّةً أي على زيادة ذكر الاحتمالات في الجواب ونقصانه .

(قَالَ : قُلْتُ : فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله ) . المراد عدد التواتر من الأصحاب .

(صَدَقُوا) ؛ بتخفيف الدال المهملة .

(عَلى مُحَمَّدٍ) . تعديته ب- «على» نظير ما في قوله : «أَنْ لاَ يَقُولُوا عَلَى اللّه ِ إِلاَّ الْحَقَّ»(1) ، ومرّ في ثامن الثاني عشر .(2)

(أَمْ كَذَبُوا) ؟ أي عليه .

(قَالَ : بَلْ صَدَقُوا . قَالَ : قُلْتُ : فَمَا بَالُهُمُ اخْتَلَفُوا؟) أي في الروايات عنه حيث روى بعضهم خلاف ما يرويه الآخر ، وكلّ منهما في عدد التواتر .

(فَقَالَ : أَمَا(3) تَعْلَمُ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَأْتِي رَسُولَ اللّه ِ صلى الله عليه و آله فَيَسْأَلُهُ عَنِ الْمَسْأَلَةِ ، فَيُجِيبُهُ فِيهَا بِالْجَوَابِ ، ثُمَّ يجِيئُهُ)(4) ؛ مضارع «جاء» أي يجيء رسول اللّه صلى الله عليه و آله من الوحي . .

ص: 555


1- الأعراف (7) : 169 .
2- أي الحديث 8 من باب النهى عن القول بغير علم .
3- في النسخ : «أ أما» والمثبت من الكافي المطبوع .
4- في الكافي المطبوع : «يُجيبه» .

(بَعْدَ ذلِكَ مَا(1) يَنْسَخُ ذلِكَ الْجَوَابَ) أي فيأتيه رجل آخر فيسأله عن المسألة ، فيجيبه فيها بجواب آخر .

(فَنَسَخَتِ الاْءَحَادِيثُ بَعْضُهَا بَعْضا) أي فليس سبب اختلافهم تقيّة الرسول ولا كذبهم ، بل سببه النسخ .

الرابع : (عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ ، عَنْ سَهْلِ بْنِ زِيَادٍ ، عَنِ ابْنِ مَحْبُوبٍ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ رِئَابٍ ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ، قَالَ : قَالَ لِي : يَا زِيَادُ ، مَا تَقُولُ لَوْ أَفْتَيْنَا رَجُلاً مِمَّنْ يَتَوَلاَّنَا بِشَيْءٍ مِنَ التَّقِيَّةِ؟) . «من» سببيّة ، أو تبعيضيّة ؛ أي لحضور المخالفين في مجلس الإفتاء ، أو خوفا من إفشاء السرّ ، أو من أن يعمل بالحقّ فيؤذيه المخالفون ، أو يعلموا أنّه من جهتنا . والمقصود بالسؤال السؤال عن أنّ الرجل أ يوخذ به أم لا ؟ وذلك حين علم أو ظنّ الرجل أنّ الإفتاء من التقيّة .

(قَالَ : قُلْتُ لَهُ : أَنْتَ أَعْلَمُ جُعِلْتُ فِدَاكَ ، قَالَ : إِنْ أَخَذَ بِهِ) أي عمل بذلك الإفتاء (فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) أي في الدنيا (وَأَعْظَمُ أَجْرا) أي في الآخرة ؛ لموافقته مفهوم قوله تعالى : «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ»(2) ، فإنّ مفهومه وجوب العمل بما يقولون مطلقا ، والمفضّل عليه هنا أخذ أصحاب الرسول بالإفتاء بشيء من غير تقيّة ، ووجهه أنّ وسوسة إبليس ومجاهدة النفس في المفضّل أكثر منها في المفضّل عليه ، ويحتمل أن يكون المفضّل عليه الترك ، فيكون من قبيل : أعلم من الجدار .

الخامس : (وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرى) أي بهذا السند عن أبي عبيد ، عن أبي جعفر عليه السلام بدل قوله : «إن أخذ به فهو» إلى آخره : (إِنْ أَخَذَ بِهِ أُوجِرَ) ؛ بصيغة المجهول من باب الإفعال ، يُقال : أجره أجرا - كنصر وضرب- : إذا أعطاه اُجرته ، وكذلك آجره إيجارا ، وأمّا آجره موآجرة فهو بمعنى جعل له على فعله اُجرة . .

ص: 556


1- في الكافي المطبوع : «بما» .
2- النحل (16) : 43 .

(وَإِنْ تَرَكَهُ وَاللّه ِ أَثِمَ) ؛ بصيغة المعلوم - كعلم - ؛ لمخالفته مفهوم قوله تعالى : «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ» .

السادس : (أَحْمَدُ بْنُ إِدْرِيسَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ ، عَنْ ثَعْلَبَةَ) ؛ بفتح المثلّثة وسكون المهملة وفتح اللام والموحّدة (بْنِ مَيْمُونٍ ، عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَعْيَنَ ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ، قَالَ : سَأَلْتُهُ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَأَجَابَنِي ، ثُمَّ جَاءَهُ رَجُلٌ فَسَأَلَهُ عَنْهَا ، فَأَجَابَهُ بِخِلاَفِ مَا أَجَابَنِي) أي بما ينافيه (ثُمَّ جَاءَ(1) آخَرُ) أي فسأله عنها (فَأَجَابَهُ بِخِلاَفِ مَا أَجَابَنِي وَأَجَابَ صَاحِبِي) . بسكون الخاتمة .

(فَلَمَّا خَرَجَ الرَّجُلاَنِ ، قُلْتُ لَهُ(2) : يَا ابْنَ رَسُولِ اللّه ِ ، رَجُلاَنِ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ مِنْ شِيعَتِكُمْ قَدِمَا) ؛ بكسر المهملة من القدوم .

(يَسْأَلاَنِ) ، جملة حاليّة .

(فَأَجَبْتَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِغَيْرِ مَا أَجَبْتَ بِهِ صَاحِبَهُ) . سكت عمّا أجابه به تأدّبا ؛ لأنّه لا فرق بينهم ، فكلّ عذر يقوله فيهما جارٍ فيه أيضا ، أو اعتقد أنّ جوابه ليس عن تقيّة .

(فَقَالَ : يَا زُرَارَةُ ، إِنَّ هذَا خَيْرٌ لَنَا ، وَأَبْقى لَنَا وَلَكُمْ ) . اللامان للتعدية .

(وَلَوِ اجْتَمَعْتُمْ عَلى أَمْرٍ وَاحِدٍ ، لَصَدَّقَكُمُ النَّاسُ عَلَيْنَا) . «لصدّقكم» بالقاف من باب نصر أو باب التفعيل ، نظير قراءَتَي سورة سبأ : «لَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ»(3) . وأصل الصدق : ضدّ الكذب ، وأصل التصديق : عدّ الشيء صادقا . والمراد هنا العلم ؛ لأنّه مناط الصدق والتصديق ، وتعديته ب- «على» بتضمين معنى التطبيق ، أي يعلمكم المخالفون منطبقين ومجمعين على إمامتنا .

ويحتمل أن يكون بالفاء من باب ضرب ؛ أي لصرفكم المخالفون ولم يخالطوكم وجمعوكم علينا ؛ لعلمهم بأنّكم شيعتنا . .

ص: 557


1- في الكافي المطبوع : + «رجل» .
2- في الكافي المطبوع : - «له» .
3- سبأ (34) : 20 .

(وَلَكَانَ أَقَلَّ لِبَقَائِنَا وَبَقَائِكُمْ) . اللام الجارّة للتعدية .

(قَالَ : ثُمَّ قُلْتُ لاِءَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : شِيعَتُكُمْ) . مرفوعٌ على الابتداء ، أو منصوب على طريقة ما اُضمر عامله على شريطة التفسير .

(لَوْ حَمَلْتُمُوهُمْ) ؛ بتخفيف الميم ، يُقال : حمله على كذا : إذا أمره به .

(عَلَى الاْءَسِنَّةِ) ؛ جمع «سنان» بكسر السين ، وهو ما في رأس الرمح من الحديد ؛ والمعنى : على أن يقابلوا الأسنّة في الحروب .

(أَوْ عَلَى النَّارِ لَمَضَوْا ، وَهُمْ يَخْرُجُونَ مِنْ عِنْدِكُمْ مُخْتَلِفِينَ . قَالَ : فَأَجَابَنِي بِمِثْلِ جَوَابِ أَبِيهِ) .

السابع : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِنَانٍ ، عَنْ نَصْرٍ) ؛ بفتح النون وسكون المهملة . (الْخَثْعَمِيِّ) ؛ بفتح المعجمة وسكون المثلّثة وفتح المهملة نسبة إلى خثعم بن أنمار ، وهو أبو قبيلة من معد ، أو نسبة إلى جبل .(1)

(قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام يَقُولُ : مَنْ عَرَفَ أَنَّا لاَ نَقُولُ إِلاَّ حَقّا ، فَلْيَكْتَفِ بِمَا يَعْلَمُ مِنَّا) . المراد بالقول هنا الفتوى ، وبالحقّ ما وافق الحكمة ، وبما يعلم منّا ما يعلم أنّه قولنا ، أو كون قولنا حقّا ، وبالاكتفاء أن يعمل به ولا يعمل بخلافه ، أو أن لا يضطرب ذهنه إذا لم يعلم دليله بخصوصه من الكتاب ، أو أن لا يفتّش عن مذاهب أهل الخلاف فيه . ويؤيّد الأوّل قوله :

(فَإِنْ سَمِعَ مِنَّا خِلاَفَ مَا يَعْلَمُ) أنّه الحكم الواقعي (فَلْيَعْلَمْ أَنَّ ذلِكَ) ؛ المشار إليه خلاف ما يعلم . (دِفَاعٌ مِنَّا) ؛ بكسر المهملة ؛ أي مدافعة للضرر (عَنْهُ) .

لم يقل «عنّا» أو «عنه» لأنّ الدفاع عن الإمام دفاع عن الرعيّة أيضا .

الثامن : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عِيسى وَالْحَسَنِ بْنِ مَحْبُوبٍ جَمِيعا ، عَنْ سَمَاعَةَ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : سَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ اخْتَلَفَ عَلَيْهِ رَجُلاَنِ مِنْ .

ص: 558


1- الصحاح ، ج 5 ، ص 1909 ؛ لسان العرب ، ج 12 ، ص 166 ؛ مجمع البحرين ، ج 1 ، ص 624 (خثعم) .

أَهْلِ دِينِهِ فِي أَمْرٍ) أي فعل من العبادات المحضة ، كصلاة الجمعة المقصورة في الحضر في زمن مظلوميّة الإمام المفترض الطاعة ، فليس ما فيه تنازع بين رجلين كدين أو ميراث ونحوهما داخلاً فيه .

(كِلاَهُمَا يَرْوِيهِ) ؛ بتخفيف الواو ، والضمير المنصوب للأمر .

(أَحَدُهُمَا يَأْمُرُ بِأَخْذِهِ) أي يروي ما يوجب أخذ الأمر ، أي الإتيان بالأمر .

(وَالاْآخَرُ يَنْهَاهُ)(1) . في نسخة «ينهى عَنْه» أي يروي ما يحرم أخذه ، والضمير المجرور للأخذ أو للأمر ، والمعنى واحد .

ولو كان مراد السائل بالأمر ما يشمل ما فيه تنازع بين رجلين ، لكان جوابه منافيا لما يجيء في ثاني عشر الباب ، فإنّ فيه ضدّ التخيير ؛ إذ التخيير فيه غير معقول ، ولقال أحدهما يجوز أخذه بدل قوله : «أحدهما يأمر بأخذه» فإنّ أخذ الحقّ في المنازعات غير مأمور به ، كما يجيء أيضا في ثاني عشر الباب .

(كَيْفَ يَصْنَعُ) ، يعني كيف يصنع في الترجيح؟ هل يجوز له الترجيح بالرأي والظنّ كأن يقول مثلاً : يقدّم المحرّم ؛ لأنّ دفع الضرّ أهمّ من جلب النفع؟ وأمثال ذلك من الترجيحات المذكورة في كتب العامّة وبعض كتب المتأخّرين من أصحابنا ، وبعد الترجيح بالرأي والظنّ ، هل يجب العمل بما يوافقه ، أم لا ؟

(قَالَ(2) : يُرْجِئُهُ) ؛ بالهمز أو بالياء ؛ أي يجب عليه إرجاء الترجيح ، أي تأخيره ؛ من أرجأ الشيء : إذا أخّره ، وإبدال الهمز لغة ، والضمير المنصوب لما يصنع باعتبار أنّه راجح ، وهو مفهوم من قوله : «كيف يصنع» ، أو للأمر ، ومآلهما واحد ، فلفظه خبر ومعناه أمر ، كقولهم في المثل : أنْجَزَ حُرٌّ ما وَعَدَ ، أي لينجزه ، فالمقصود أنّه لا يجوز له الترجيح بالرأي .

(حَتّى يَلْقى مَنْ يُخْبِرُهُ) ؛ بالموحّدة بين المعجمة والمهملة بصيغة المضارع المعلوم .

ص: 559


1- في الكافي المطبوع : «ينهاه عنه» .
2- في الكافي المطبوع : «فقال» .

من باب الإفعال أو التفعيل ، والضمير المنصوب لرجل ؛ أي يجعله عالما ؛ من خبرت الأمر - كعلم - : إذا عرفته على الحقيقة ، وظاهر قوله : «حتّى يلقى» أنّ طلب من يخبره لا يجب على الرجل ، كما يجيء في ثاني عشر الباب في شرح قوله : «فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه» ، وربما أمكن استنباط عدم الوجوب من مفهوم قوله تعالى : «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ» منضمّا إلى الأدلّة الدالّة على وجوب العمل بخبر الواحد ، وعلى أنّ خبر الواحد يجري مجرى جوابهم عن سؤالنا .

(فَهُوَ فِي سَعَةٍ حَتّى يَلْقَاهُ) أي يجوز له العمل بالموجب والعمل بالمحرّم بدون إفتاء وقضاء حقيقيّين ، فإنّ السؤال إنّما هو عن كيفيّة العمل دونهما ، ويجيء ما يناسب هذا في «كتاب الحجّة» في أوّل «باب ما يجب على الناس عند مضيّ الإمام» .

التاسع : (وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرى : بِأَيِّهِمَا أَخَذْتَ مِنْ بَابِ التَّسْلِيمِ وَسِعَكَ) . يحتمل أن تكون(1) الرواية الاُخرى بالسند السابق عن أبي عبداللّه عليه السلام في الجواب عن نظير السؤال في الرواية الاُولى ، وأن يكون قوله : «بأيّهما» إلى آخره ، إمّا تتمّة وضميمة للرواية الاُولى دفعا لتوهّم أنّ المراد بالسعة طرح كليهما والرجوع إلى حكم(2) العقل ، وإمّا بدلاً عن قوله : «يرجئه» إلى آخره ، وإمّا عن قوله : «فهو في سعةٍ» إلى آخره . ونقل المصنّف مثل ذلك في الخطبة عن العالم عليه السلام (3) ، وضمير التثنية راجع إلى الروايتين ، ومعنى الأخذ من باب التسليم مضى في شرح الخطبة .

العاشر : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عِيسى ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْمُخْتَارِ ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ) أي أبو عبداللّه عليه السلام لبعض الأصحاب :

(أَرَأَيْتَكَ) ؛ بهمزة الاستفهام وفتح المثنّاة فوقُ للخطاب ، والمعنى : أخبرني عنك .

(لَوْ حَدَّثْتُكَ بِحَدِيثٍ الْعَامَ) ؛ منصوب على الظرفيّة ، أي في هذا العام . .

ص: 560


1- في «ج» : «أن يكون» .
2- في «د» : «حكمة» .
3- راجع: مقدمة الكتاب .

(ثُمَّ جِئْتَنِي مِنْ قَابِلٍ) أي عام قابل (فَحَدَّثْتُكَ بِخِلاَفِهِ ، بِأَيِّهِمَا كُنْتَ تَأْخُذُ ؟ قَالَ : قُلْتُ : كُنْتُ آخُذُ بِالأَْخِيرِ ، فَقَالَ لِي : رَحِمَكَ اللّه ُ) .

ذلك لأنّ الأخير موافق للحكم الواقعي في زمانه ، إمّا باعتبار العزيمة لحدوث شرط في المكلّف لم يكن قبل ، كالأمر بالخضاب بعد حدوث البياض في اللحية ، وإمّا باعتبار الرخصة ، كما(1) في صورة حدوث ضرورة موجبة للتقيّة ، فلا ينافي ذلك التخيير في صورة العلم بالتساوي في الشروط وارتفاع الضرورة ، كما مرّ في ثامن الباب وتاسعه .

ولا(2) منافاة بين هذا وبين ما يجيء في ثاني عشر الباب ؛ لأنّ ما يجيء فيه في صورة التنازع في حقوق الآدميّين ، وهذا في العبادات المحضة ، ويجيء مضمون هذا الحديث في «كتاب الإيمان والكفر» في سابع «باب التقيّة» .

الحادي عشر : (وَعَنْهُ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مَرَّارٍ) ؛ بفتح الميم وتشديد المهملة وألف ومهملة . (عَنْ يُونُسَ ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ فَرْقَدٍ ، عَنِ الْمُعَلَّى(3) بْنِ خُنَيْسٍ ، قَالَ : قُلْتُ لاِءَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : إِذَا جَاءَ حَدِيثٌ) أي في العبادات المحضة (عَنْ أَوَّلِكُمْ وَحَدِيثٌ) أي مناقض للسابق (عَنْ آخِرِكُمْ ) .

المراد بالآخر من كان زمانه متأخّرا عن الأوّل ، سواء مات أم كان حيّا . ويحتمل أن يخصّ بالميّت فلا يشمل الحيّ .

(بِأَيِّهِمَا نَأْخُذُ ؟ فَقَالَ : خُذُوا بِهِ) . الضمير المفرد المجرور راجع إلى : «حديث عن آخركم» ، وقوله :

(حَتّى يَبْلُغَكُمْ عَنِ الْحَيِّ) ؛ بمنزلة الاستثناء .

(فَإِنْ بَلَغَكُمْ عَنِ الْحَيِّ ، فَخُذُوا بِقَوْلِهِ) . يظهر وجههُ ممّا مرّ في شرح السابق . .

ص: 561


1- في «ج» : + «هو» .
2- في «ج» : «فلا» .
3- في «ج» : «معلى» .

(قَالَ : ثُمَّ قَالَ أَبُو عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام : إِنَّا وَاللّه ِ لاَ نُدْخِلُكُمْ إِلاَّ فِيمَا يَسَعُكُمْ) . استئنافٌ بياني ؛ أي فيما ليس عليكم في العمل به عقاب في الآخرة ولا ضرر في الدنيا ، وهو إشارة إلى أنّ الاختلاف في الفتاوى ليس لاختلاف الاجتهاد ، بل لمصلحة دفع الضرر عنكم .

ودفع المنافاة بين هذا وبين ما مرَّ في الثامن والتاسع وما يجيء في الثاني عشر ظاهر ممّا مرّ في شرح السابق .

(وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ : خُذُوا بِالاْءَحْدَثِ) أي بدل : «خذوا به» .

الثاني عشر : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَحْيى ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ) ؛ بضمّ المهملة وفتح الصاد المهملة وسكون الخاتمة . (عَنْ عُمَرَ بْنِ حَنْظَلَةَ) .

في هذه الرواية بيان أنّه يجوز ويجب الترجيح بين الحديثين المتعارضين المرويّين في حقوق الآدميّين عن أهل البيت عليهم السلام لكن لا بالرأي ، بل بأحد سبعة وجوه على ترتيب خاصّ ، خمسة منها متعلّقة بسند الحديث ، واثنان متعلّقان بمتنه ، وبيان أنّه مع فقد ظهور شيء من هذه الترجيحات في حقوق الآدميين لا يجوز التخيير ، بل يجب التوقّف ، وظاهره أنّه لا يجري فيه القرعة التي تجيء في «كتاب النكاح» في ثاني «باب المرأة(1) يقع عليها غير واحد في طهر» .(2)

ولا يخفى أنّ إجراء أحد هذه الترجيحات أو التوقّف في العبادات المحضة بهذه الرواية غير جائز ؛ لأنّه قياس ، وأنّ مورد الرواية التعارض بمعنى أن يكون كلّ منهما جامعا لشروط العمل ويجب العمل به لولا المعارض ، فخرج عمّا فرض الكلام فيه صورة كون القرآن موافقا لأحدهما ؛ لأنّ خبر الواحد في مقابلة القرآن لا يجوز العمل به ، سواء كان له معارض من الأخبار أم لم يكن ، ولذا لم يقدّم في هذه الرواية موافقة الكتاب في قوله : «ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب» إلى آخره ، على سائر .

ص: 562


1- في الكافي المطبوع : «الجارية» .
2- في الكافي المطبوع : + «واحد» .

الترجيحات ، وسنذكر في شرحه ما يوضح المقصود ، وأنّ هذه الترجيحات إنّما توجب عمل المتنازعين بإحدى الروايتين ، ولا توجب ولا تجوّز الإفتاء الحقيقي ولا القضاء الحقيقي ؛ لأنّ شيئا من الإفتاء الحقيقي والقضاء الحقيقي لا يجوز إلاّ مع العلم بحكم اللّه الواقعي ، وشيء من هذه الترجيحات لا يفضي إلى العلم به .

وهذه الرواية تسمّى «مقبولة عمر بن حنظلة» ومعناه أنّ أصحابنا تلّقتها بالقبول ، وعليها المدار في العمل ؛ لتكرّرها في الاُصول .

ولا ينافي ذلك كون عمر بن حنظلة ممّن لم ينصّ الأصحاب فيه بجرح ولا تعديل .

(قَالَ : سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام عَنْ رَجُلَيْنِ) . ذكرهما على سبيل المثال ، فيشمل امرأتين ومختلفين .

(مِنْ أَصْحَابِنَا بَيْنَهُمَا مُنَازَعَةٌ) أي اختلاف . وأصل النزع : الجذب ؛ لأنّ المتنازعين يجذب كلّ واحدٍ منهما المتنازع فيه إلى جهته ، إمّا بظنّ استحقاقه ، أو باعتقاد مبتدأ للاستحقاق ، أو بميل نفساني إلى المُتنازَع فيه .

وقد يكون المنازعة بعلم في أحدهما دون الآخر ، لكنّه غير مراد هنا ، وكذا ليس المراد هنا المنازعة بسبب إنكار أحدهما الحقّ المعلوم لهما ، بقرينة قوله فيما بعد : «ينظران» إلى قوله : «فإنّ الوقوف عند الشبهات خيرٌ من الاقتحام في الهلكات» ، ولا ينافي ذلك قوله فيما بعد : «في حقٍّ أو باطل» ، ولا قوله : «وإن كان حقّا ثابتا له» ، كما نوضحه في شرحهما .

(فِي دَيْنٍ) ؛ بفتح المهملة وسكون الخاتمة : ما في ذمّة أحد وله أجل ، وما لا أجل له فقرض .

(أَوْ مِيرَاثٍ) . ذكرهما على سبيل المثال ، ومثل هذا كثير في السؤالات ، فالمقصود بالسؤال حقوق الآدميين ، فيشمل الوقف على جماعة ، والوصيّة والفرج والزكاة والخمس ونحو ذلك بدون قياس ، والضابط ما يحتاج إلى التحاكم ، أو ما لا يكون من العبادات المحضة ؛ فلا يجري فيه التخيير الذي مضى في أحاديث الباب .

(فَتَحَاكَمَا إِلَى السُّلْطَانِ) أي من سلاطين الجور .

ص: 563

(وَ إِلَى الْقُضَاةِ ) . الواو هنا بمعنى «أو» كما يجيء في «كتاب القضايا والأحكام» في خامس «باب كراهة(1) الارتفاع إلى قُضاة الجور» .

ويحتمل أن يكون ذكر الواو هنا مبنيّا على أنّ سلاطين الجور يحيلون المتحاكمين إليهم إلى قضاتهم في الأكثر ، أو على أنّ التحاكم إلى قضاتهم تحاكم إلى السلطان الذي استقضاهم أيضا .

(أَيَحِلُّ ذلِكَ؟) أي التحاكم إليهم بقصد العمل بحكمهم .

(قَالَ : مَنْ تَحَاكَمَ إِلَيْهِمْ فِي حَقٍّ أَوْ بَاطِلٍ) . «في» للظرفيّة أو للسببيّة . والمراد على الأوّل : في زمان ظهور الحقّ كزمان استقلال النبيّ أو الإمام العدل ، أو في زمان ظهور الباطل كزمان تغلّب أئمّة الجور . والمراد على الثاني : لما يستحقّ أو ما لا يستحقّ .

(فَإِنَّمَا تَحَاكَمَ إِلَى الطَّاغُوتِ) ؛ على وزن لاهوت ، إلاّ أنّه مقلوب ؛ لأنّه من «طغى» من باب ضرب ونصر وعلم ، ولاهوت غير مقلوب؛ لأنّه من لاه يليه ليها : إذا تستّر وعلا وارتفع بمنزلة الرغبوت والرهبوت .

والطاغوت كلّ رأس في الضلالة وأصله الشيطان ، ويُطلق على ما يزيّن الشيطان لهم أن يعبدوه من الأصنام وأئمّة الضلالة وقضاتهم الذين يستندون في أحكامهم إلى الرأي .

والطاغوت قد يكون واحدا وقد يكون جمعا .

(وَمَا يَحْكُمُ لَهُ فَإِنَّمَا يَأْخُذُ سُحْتا) . «ما» بمعنى «من» ، و(2)عبّر به عنه إهانة . وضمير «يحكم» للطاغوت وضمير «له» ل- «ما» ، والفاء لتضمّن «ما» معنى الشرط .

والسحت، بضمّ السين المهملة وسكون الحاء المهملة وقد تُضمّ : الحرام جدّا ، واشتقاقه من السحت بفتح السين وهو الإهلاك والاستئصال . وسمّي سحتا لأنّه يسحت البركة ، أي يذهبها ، ويستعمل كثيرا في الرشوة في الحكم والشهادة ونحوهما ، وعلى هذا يكون فيه تشبيه ما يأخذه المتحاكم حينئذٍ بما يأخذه الحاكم .

ص: 564


1- في الكافي المطبوع : «كراهية» .
2- في «د» : - «و» .

رشوة في العقاب ، وما يجيء في «كتاب القضايا(1) والأحكام» هكذا : «من تحاكم إلى الطاغوت فحكم له ، فإنّما يأخذ سحتا»(2) وهو أظهر ، وبينهما اختلافات اُخرى ، وهذا ممّا يبطل قول من قال : إنّ كلّ رواية في الكافي ونحوه معلوم الصدور عن المعصوم .(3)

(وَإِنْ) ؛ وصليّة .

(كَانَ) ؛ الضمير للمأخوذ .

(حَقّا) أي حقّا له في نفس الأمر .

(ثَابِتا لَهُ ) . الضمير ل- «ما» وهو تأكيد لقوله : «حقّا» والمراد أنّه لا يتغيّر استحقاقه عقاب السحت بكون المتنازع فيه حقّه في نفس الأمر ، ولو جعل تأسيسا - بأن يكون الثابت بمعنى المعلوم ، ويكون هذا بيانا لعموم النهي بحيث يشمل غير موضع المسألة التي سأله عنها ؛ لأنّ المسؤول عنه صورة النزاع لجهل المتنازعين كليهما بالمسألة - لم يكفِ للاستدلال عليه قوله :

(لاِءَنَّهُ أَخَذَهُ بِحُكْمِ الطَّاغُوتِ ) أي بالتصديق بفتواه وقضائه المبنيّ على فتواه ، ولا دلالة في هذا على أنّه لا يجوز للمحقّ أخذ الحقّ في النزاع الذي ليس للجهل بالمسألة ، بل لإنكار أحدهما الحقّ المعلوم لهما بجبر الطاغوت بدون حكم ، وهذا كما يجوز أخذه بالتقاصّ .

(وَقَدْ أَمَرَ اللّه ُ أَنْ يُكْفَرَ بِهِ) ؛ بصيغة المجهول من باب نصر ، والظرف قائم مقام الفاعل ، أو بصيغة المعلوم والفاعل ضمير مستتر راجع إلى الأخذ ، وعلى الأوّل حذف مفعول «أمر» للدلالة على العموم ، وعلى الثاني أمر بتقدير «أمره» وهو على التقديرين إشارة إلى الآيات التي نزل مضمونها في جميع كتب اللّه في الشرائع ، وفيها الأمر بترك اتّباع أهل الظنّ كآية سورة البقرة : «فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللّه ِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ .

ص: 565


1- في الكافي المطبوع : «القضاء» .
2- الكافي ؛ ج 7 ، ص 412 ، باب أدب الحكم ، ح 5 .
3- لا يخفى عليك أنّ شارح هذا الكتاب قد كان ملتزما بصحة جميع روايات الكافي .

الْوُثْقَى»(1)النساء (2) : 60 .(3) . ومعنى الكفر به أن لا يصدّق بشيء من أحكامه في الشرع استنادا إلى حكمه .

(قَالَ اللّه ُ تَعَالى :) . استئنافٌ لبيان حكاية أمره تعالى ، لا لبيان نفس أمره تعالى ، قال في سورة النساء بعد الأمر بإطاعة اللّه وإطاعة الرسول واُولي الأمر وبردّ المتنازَع فيه إلى اللّه والرسول : «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُواْ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ» .(2)

(«يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطّاغُوتِ») . هذه الإرادة اجتماعهم وتدبيرهم أن يزوُوا هذا الأمر عن أهل البيت إن مات محمّد أو قُتل ، كما في قوله تعالى في سورة آل عمران : «أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ»(4) الآية . واجتماع رؤساء المنافقين في الكعبة لهذا مذكور في «كتاب الروضة» في حديث قبل حديث قوم صالح .(4)

(«وَقَدْ أُمِرُوا») ؛ أي فيما اُنزل إليك وما اُنزل من قبلك .

(«أنْ يَكْفُرُوابِهِ»(5) . قُلْتُ : كَيْفَ(6) يَصْنَعَانِ ؟ قَالَ : يَنْظُرَانِ) ؛ بصيغة المضارع المعلوم من باب الإفعال ، تقول : أنظرني زيد ، أي أصغى إليَّ ، ونظر بين القوم ، أي حكم ؛ فالمعنى يجعلانه ناظرا في حقّهما ؛ أي حاكما . ويحتمل أن يكون من باب نصر ، والنظر بمعنى الاختيار ، وأصله أنّ النظر دليل المحبّة وترك النظر دليل البُغض والكراهة ، تقول : نظرته وإليه : إذا اخترته .

ويؤيّد الأوّل قوله فيما بعد : «الناظرين في حقّهما» ، ويؤيّد الثاني قوله فيما بعد : «ينظر إلى ما كان» إلى آخره ، وما يجيء في «كتاب القضايا والأحكام» من قوله : «انظروا إلى من كان منكم» إلى آخره .

(مَنْ(7) كَانَ مِنْكُمْ) . الظرف خبر «كان» أو حال عن الضمير فيه ، والمراد : من عدول .

ص: 566


1- البقرة
2- الكافي ، ج 8 ، ص 179 ، ح 202 .
3- : 256 .
4- آل عمران (3) : 144 .
5- النساء (4) : 60 .
6- في الكافي المطبوع وحاشية «أ» : «فكيف» .
7- في المطبوع : «إلى من» بدل : «من» .

الشيعة الإماميّة ، بقرينة قوله فيما بعد : «أعدلهما» ، وبقرينة قوله : «المجمع عليه من أصحابك»(1) ، وتفسيرهم بالثقات كما يجيء بيانه . ويحتمل أن يكون المراد : من الشيعة الإماميّة ، وحينئذٍ يكون العدالة مفهوما ممّا بعده .

(مِمَّنْ قَدْ رَوى حَدِيثَنَا) . الظرف متعلّق بقوله : «ينظران» ، أو حال عن الضمير في «كان» ، أو خبر ثان ، أو خبر أوّل ، وهذا الظرف غير مذكور في «كتاب القضايا والأحكام» .

وقوله : «روى» ، بصيغة المعلوم من باب ضرب ، أي نقل عنّا الحديث في هذه القضيّة ، ولم يحكم برأيه واجتهاده كما هو طريقة المخالفين .

وفي اختيار لفظة : «روى» على «علم» إشارة إلى أنّ هذا الناظر في حقّهما ليس قاضيا بالقضاء الحقيقي ، بل هو راوٍ ناقل لحديثهم ، وفي زيادة «قد» إشارة إلى أنّه يجب أن يكون معلوما بهذا الوصف من جملة الجماعة المعلومين بهذا الوصف .

(وَنَظَرَ فِي حَلاَلِنَا وَحَرَامِنَا) أي علم أنّ اتّباع الظنّ في محلّ الحكم الشرعي كقيم المتلفات ومقادير الجراحات حلال عندنا ، واتّباع الظنّ في نفس الأحكام الشرعيّة حرام عندنا .

وإنّما عبّر عن هذا العالم(2) بالنظر لأنّ هذا الفرق لا يحصل بدون فكر وتعمّق في كتاب اللّه وأحاديث أهل الذِّكر عليهم السلام ، وهو التفقّه في الدِّين على ما مضى في شرح سابع الثاني .(3)

(وَعَرَفَ) ؛ بصيغة الماضي المعلوم من باب ضرب .

(أَحْكَامَنَا) . المراد بالمعرفة إدراك الجزئيّات ؛ أي حصل له بتتبّع أحاديثنا وطلب معرفة معانيها المعرفة بأساليب كلامنا في الأحكام بأن لا يخطئ في النقل بالمعنى عنّا ، وذلك لأنّ أكثر ما يحتاج إليه في القضاء النقل بالمعنى . أو المراد بالمعرفة علمٌ معه .

ص: 567


1- سياتي بعد أكثر من أربع صفحات .
2- في «ج» : «العلم» .
3- أي الحديث 2 من باب غرض العلم ووجوب طلبه والحثّ عليه .

طاعة ، كما مضى في ثاني «باب من عمل بغير علم» من قوله : «ولا معرفة إلاّ بعمل» . والمراد هنا الطاعة ، أي طاع أحكامنا المعلومة له بأن يكون من الورعين .

إن قلت : هل يكفي ظنّهما اتّصافَ الناظر بالأوصاف الأربعة ، أم يشترط العلم ؟

قلت : يحتمل أن يكفي الظنّ ؛ لأنّه من محالّ أحكام اللّه تعالى ، وليس نفس حكمه ، فهو كقيم المتلفات في أنّه لا يحصل للناس العلم بها عادةً إلاّ نادرا .

(فَلْيَرْضَوْا) ؛ الضمير للمتحاكمين وأمثالهما من الشيعة .

(بِهِ حَكَما) ؛ بالمهملة والكاف المفتوحتين ، أي قاضيا وإن كان غير حقيقي .

(فَإِنِّي قَدْ جَعَلْتُهُ عَلَيْكُمْ حَاكِما) . الحاكم يستعمل في الأعمّ من المفتي والقاضي ، بخلاف الحَكَم ، فإنّ أكثر استعماله في القاضي ؛ فهذا إشارة إلى أنّ هذا يصلح للإفتاء الغير الحقيقي أيضا ، وليس المقصود بنسبة الجعل إلى نفسه إنشاء نفس الجعل حتّى يختصّ بزمانه ولا يتجاوز إلى زمننا ، فإنّ الجاعل حقيقةً هو اللّه تعالى «إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ»(1) ، بل المراد إنشاء شرطه لتربية الشيعة وتتميم سعي أبيه في إلقاء الأحاديث إلى الشيعة بحيث يبقى إلى ظهور القائم ، فإنّ أكثر الأحاديث عنهما صلوات اللّه عليهما ، أو هو إظهار للرِّضا بكونه حاكما لأنّه بإذن اللّه من حيث إنّه بعدما أدّى الأمانات إلى أهلها ، أي أقرَّ بإمامة أهل البيت المعصومين عليهم السلام ، كما في قوله تعالى في سورة النساء : «إِنَّ اللّه َ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الاْءَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ»(2) .

ذكر ابن بابويه في كتاب كمال الدِّين وتمام النِّعمة :

حدّثنا محمّد بن محمّد بن عصام رضى الله عنه قال : حدّثنا محمّد بن يعقوب الكليني عن إسحاق بن يعقوب قال : سألت محمّد بن عثمان العمري رضى الله عنه أن يوصل لي كتابا قد سألت فيه عن مسائل أشكلت عليَّ ، فورد بالتوقيع(3) بخطّ مولانا صاحب الزمان عليه السلام : «أمّا ما سألت .

ص: 568


1- الأنعام (6) : 57 ؛ يوسف (12) : 40 و 67 .
2- النساء (4) : 58 .
3- في المصدر : «التوقيع» .

عنه أرشدك اللّه ووفّقك(1) - إلى قوله عليه السلام - : وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا ، فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة اللّه عليهم».(2)

ثمّ إنّ جواز حكم قاضي التحكيم - وهو من رضي المتحاكمان بحكمه - لا ينافي حظر حكم قاضي التحكّم ، وهو من له الدرّة والسجن بدون أن يكون منصوبا بخصوصه من جانب الإمام المفترض الطاعة ، كما يجيء في «كتاب القضايا والأحكام» في أحاديث «باب من حكم بغير ما أنزل اللّه عزّ وجلّ» .

(فَإِذَا حَكَمَ بِحُكْمِنَا فَلَمْ يَقْبَلْهُ) أي أحد المتحاكِمَين ، وهو من حكم عليه .

(مِنْهُ ، فَإِنَّمَا اسْتَخَفَّ بِحُكْمِ اللّه ِ وَعَلَيْنَا رَدَّ ، وَالرَّادُّ عَلَيْنَا الرَّادُّ عَلَى اللّه ِ) ؛ من حيث إنّهم اُمناء على أحكام اللّه ، وليسوا حكّاما من عند أنفسهم .

(وَهُوَ) . الضمير للرادّ علينا ، أو للرادّ على اللّه .

(عَلى حَدِّ الشِّرْكِ بِاللّه ِ) . الحدّ بالفتح : منتهى الشيء ، والمعنى أنّ الرادّ على اللّه استوفى شرائط الشرك كلّها ، ولم يقصر عن الشرك أصلاً ؛ نظير قول المصنّف في الخطبة : «ولهذه العلّة انبثقت على أهل دهرنا بثوق هذه الأديان الفاسدة والمذاهب المستبشعة التي قد استوفت شرائط الكفر والشرك كلّها» .

وليعلم أنّ كلاًّ من الإفتاء والقضاء على قسمين : إفتاء حقيقي ، وإفتاء غير حقيقي ؛ وقضاء حقيقي ، وقضاء غير حقيقي .

ومعنى الإفتاء الحقيقي الإبانة والإخبار عن حكم اللّه تعالى الواقعي في حقّ شخص في أمر ليعمل به ، ومعنى الإفتاء الغير الحقيقي رواية فتوى حقيقي عن العالم بالحكم الواقعي في حقّ شخص في أمر ليعمل بها .

والفرق بينه وبين الرواية المحضة أنّه يشترط في الأوّل علم الراوي بأنّ المرويّ جامع لشروط العمل به ، وأن تكون الرواية بلفظ مفهوم للمرويّ له ، سواء كان نفسَ لفظ فتوى العالم ، أو معناه بشروط مذكورة في محلّها ؛ بخلاف الثاني . .

ص: 569


1- في المصدر : «وثبّتك» .
2- كمال الدين ، ص 483 ، الباب 45 ذكر التوقيعات ، ح 4 .

ومعنى القضاء الحقيقي قطع النزاع بين متنازعين في دَين أو ميراث أو نحوهما بإعمال حكم اللّه تعالى الواقعي في حقّهما بنوع جبر وإلزام ، لا من حيث علم المحكوم عليه استحقاقَ المحكوم له ، وهذا القيد للاحتراز عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .

والفرق بين القضاء وبينهما أنّه يجوز لمن له الحقّ ترك الجبر على أداء الحقّ إذا لم يرض ببقاء الحقّ عند من عليه الحقّ في صورة الاستناد إلى القضاء ، بخلاف صورة الاستناد إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فإنّه يجب عليه الجبر على أداء الحقّ وجوبا كفائيّا بشروط مقرّرة في محلّها ، ومعنى القضاء الغير الحقيقي رواية فتوى عمّن يعلم الحكم الواقعي في حقّهما ليعملا بها ، والفرق بينه وبين الرواية المحضة ما مرّ .

وإذا تقرّر هذه المعاني فليعلم أنّ المراد بالحكم في قوله عليه السلام : «فإنّي قد جعلته عليكم حاكما» الإفتاء الغير الحقيقي والقضاء الغير الحقيقي ، فإنّ الحقيقيّين لا يجوزان إلاّ لمن علم الحكم الواقعي ، وإلاّ لكان قولاً على اللّه بغير علم ، والعلم بالحكم الواقعي غير حاصل للرجل الجامع للأوصاف المذكورة في غير الشاذّ النادر من ضروريّات المذهب أو ما يجري مجراها .

وليس بمراد بقرينة تجويز الاختلاف في الحكم بين جامعين للأوصاف المذكورة في قوله فيما بعد : و«اختلفا» إلى آخره ، ولا اختلاف بين عالمين في معلوميهما ، فلا يجوز للقاضي حينئذٍ ولا للمحكوم له من المتنازعين لجهل المسألة أن يأخذ ما حكم له جبرا من باب الاستناد إلى القضاء ، إنّما على المحكوم عليه منهما أن يعطيه بالرضا ، وإلاّ لكان رادّا على اللّه وعلى حدّ الشرك باللّه .

إن قلت : هل يجوز حينئذٍ للقاضي أو للمحكوم له الجبر من باب الاستناد إلى وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا من باب الاستناد إلى القضاء إذا علم القاضي أو المحكوم له أنّ المحكوم عليه عالم بالحكم الواصلي ، وجاهل بالحكم الواقعي ؟

قلت : هذه مسألة فروعيّة ، فإن لم يشترط في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

ص: 570

علم الآمر والناهي بالحكم الواقعي ولا علم المأمور والمنهيّ به ، جاز الجبر أو وجب وجوبا كفائيّا بشروط مقرّرة ، وإلاّ لم يجز .

(قُلْتُ : فَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ(1) اخْتَارَ رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِنَا ، فَرَضِيَا أَنْ يَكُونَا النَّاظِرَيْنِ فِي حَقِّهِمَا ، وَاخْتَلَفَا) أي الرجلان من أصحابنا (فِيمَا حَكَمَا ، وَكِلاَهُمَا اخْتَلَفَ(2) فِي حَدِيثِكُمْ؟) .

المراد بالاختلاف هنا غير المراد به في سابقه ، فإنّ المراد بالسابق التناقض في الحكم ، وبهذا كثرة المشي إلى أبواب العلماء والأخذ عنهم ، وكثرة تصفّح الروايات وتعرّف معانيها .

(قَالَ : الْحُكْمُ مَا حَكَمَ بِهِ أَعْدَلُهُمَا وَأَفْقَهُهُمَا وَأَصْدَقُهُمَا فِي الْحَدِيثِ وَأَوْرَعُهُمَا ، وَلاَ يَلْتَفِتْ إِلى مَا يَحْكُمُ بِهِ الاْآخَرُ) .

ذكر أوصافا أربعة معا ، لأنّه قلّما ينفكّ بعضها عن بعض ، وفي الترتيب الذكري دلالة على أنّه على تقدير الانفكاك يقدّم كلّ سابق ذكرا على لاحقه ؛ إذ الكلام مفروض في حقوق الآدميين التي فيها تنازع ، فلا يمكن فيها التخيير والتوسيع ، فيكون الترجيح الأوّل بكون أحد الراويين أعدل ، والعدل سلوك القصد بلا ميلٍ إلى هوى ولا إلى إفراطٍ أو تفريط ، ويكون في كلّ شيء ، ومن جملته العدل في القضاء ، وهو ترك(3) الميل إلى أحد المتنازعين ، كما في قوله تعالى في سورة النساء : «أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ»(4) .

والميل قد يكون طبيعيّا بسبب القرابة ، أو المصاحبة القديمة ، أو نحو ذلك ، وعلى تقدير التساوي في العدالة يكون الترجيح الثاني بكون أحد الراويين أفقه ، ومضى معنى الفقه(5) في سابع الثاني(6) ، وعلى تقدير التساوي في الفقه أيضا يكون الترجيح .

ص: 571


1- في حاشية «أ» والكافي المطبوع : «رجل» .
2- في حاشية «أ» : «اختلفا» .
3- في «د» : «عدم» .
4- النساء (4) : 58 .
5- في حاشية «أ» : «وهو لغة بمعنى العلم المفضي إلى العمل بمقتضاه» .
6- أي الحديث 7 من باب فرض العلم ووجوب طلبه والحثّ عليه .

الثالث بكون أحد الراويين أصدق في الحديث ، بأن يكون أبعد من الغفلة والنسيان ، وقد تكون الأصدقيّة بأن يكون أرعى للفظ المعصوم ، وأقلّ عدولاً عنه إلى لفظ آخر وإن كان موافقا له في المعنى ، وعلى تقدير التساوي في الصدق أيضا يكون الترجيح الرابع بكون أحد الراويين أورع ، أي أتقى وأبعد عن المعاصي باجتناب الشبهات والمكروهات .

(قَالَ : قُلْتُ : فَإِنَّهُمَا عَدْلاَنِ مَرْضِيَّانِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا) . الظرف متعلّق بقوله : «مرضيّان» أي رضيهما أصحابنا ؛ لحسن حالهما في العدل والفقه والصدق والورع .

(لاَ يُفَضَّلُ) ؛ بصيغة المجهول من باب التفعيل ، أو بصيغة المعلوم من باب نصر وعلم ، والجملة استئناف بياني .

(وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلى صَاحِبِهِ(1)) أي في شيءٍ من الأوصاف الأربعة .

(قَالَ : فَقَالَ : يُنْظَرُ) ؛ بصيغة المجهول من باب نصر ، والنظر هنا بمعنى الاختيار .

(إِلى مَا كَانَ مِنْ رِوَايَتِهِمْ عَنَّا فِي ذلِكَ الَّذِي حَكَمَا بِهِ الْمُجْمَعَ عَلَيْهِ مِنْ أَصْحَابِكَ ، فَيُوءْخَذُ بِهِ مِنْ حُكْمِنَا ، وَيُتْرَكُ الشَّاذُّ الَّذِي لَيْسَ بِمَشْهُورٍ عِنْدَ أَصْحَابِكَ ؛ فَإِنَّ الْمُجْمَعَ عَلَيْهِ لاَ رَيْبَ فِيهِ ) أي الترجيح الخامس بكون إحدى الروايتين مشهورة مكرّرة في اُصول أصحاب إمام دون الاُخرى ، مثل ما يجيء في «كتاب الطلاق» في «باب الخلع» في التعارض بين حديث الحلبي المنقول في أوّل ذلك الباب ، وحديث أبي بصير المنقول في خامسه من حكم المصنّف بأنّ حديث الحلبي راجح ؛ لأنّه حديث أصحاب أبي عبداللّه عليه السلام ، وحديث أبي بصير شاذّ نادر .

فنقول : «كان»(2) ناقصة ، واسمها ضمير مستتر فيها راجع إلى «ما» ، و«من» تبعيضيّة ، والظرف مستقرّ خبر «كان» ، وقوله : «ذلك» إشارة إلى الدين أو الميراث ، وقوله : «الذي» صفة «ذلك» ، والباء في قوله : «حكما به» بمعنى «في» ، وقوله : «المجمع عليه» مجرور وبدل «روايتهم» ، ويحتمل أن يكون «من» لغوا متعلّقا ب- «كان» و«المجمع عليه» منصوبا وخبر «كان» . .

ص: 572


1- في حواشي النسخ والكافي المطبوع : + «الآخر» خ .
2- في «د» : «وكان» .

ويؤيّد الأوّل ذكر روايتهم في موضع «روايتهما» ، ومعنى «المجمع عليه» المشهور المكرّر في اُصول أصحاب إمام ، لا ما كان المفتون به أكثر عددا ، ولا ما أجمع عليه بالإجماع المصطلح عليه بين الاُصوليّين بقرينة قوله عليه السلام : «الذي ليس بمشهور عند أصحابك» وبقرينة أنّه لو تحقّق الإجماع المصطلح عليه لكان مقدَّما على الترجيحات السابقة .

والظرف في «من أصحابك» متعلّق ب- «المجمع عليه» لتضمين الإجماع معنى الوقوع أو الصدور أو الشهرة ، والمراد ب-«أصحابك» ثقات الشيعة الإماميّة بقرينة تفسير المشهورين فيما بعد بقوله : «قد رواهما الثقات» ، والمراد بالثقة الجامع للأوصاف الأربعة السابقة . وقوله : «فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه» استدلالٌ بالحديث المشهور وهو : «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» .(1)

قال ابن الأثير في النهاية :

الريب : الشكّ ، وقيل : هو الشكّ مع التهمة ، يُقال : رابني [الشيء] وأرابني ، بمعنى شكّكني ، وقيل : أرابني في كذا ، أي شكّكني وأوهمني الريبة فيه ، فإذا استيقنته قلت : رابني بغير ألف ، ومنه الحديث : «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» ، يروى بفتح الياء وضمّها ، أي دع ما تشكّ فيه إلى ما لا تشكّ فيه .(2) انتهى .

والمقصود: أنّه إذا تعارض الشاذّ والمجمع عليه ، يجب ترك الشاذّ والعمل بالمجمع عليه ؛ لأنّ الشاذّ حينئذٍ محلّ تهمة السهو أو النسيان أو الكذب ، فيصير الحديث معلّلاً لا يجوز العمل به .

إن قيل : ينافي هذا ما مضى في ثامن الباب وتاسعه من التخيير في العبادات المحضة مطلقا .

قلت : لا منافاة ؛ لأنّ المراد بالتخيير فيما مضى أنّه لا يجب النظر والتتبّع ليعلم أيّهما شاذّ وأيّهما مجمعٌ عليه ، بخلاف صورة التعارض في حقوق الآدميّين . .

ص: 573


1- الغارات ، ج 1 ، ص 217 ؛ الفصول المختارة ، ص 207 .
2- النهاية ، ج 2 ، ص 286 (ريب) .

ولا ينافي هذا وجوب العمل بالمجمع عليه في العبادات المحضة أيضا إذا اتّفق النظر والتتبّع ، وحصَلَ العلم بأنّ أحدهما شاذّ والآخر مجمع عليه ، وكذا الكلام في نظائر هذا الترجيح مثل ما يجيء(1) من قوله : «ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنّة وخالف العامّة فيؤخذ به ، ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنّة ووافق العامّة» .

(وَإِنَّمَا الاْءُمُورُ) . ذكر الواو هنا يشعر بأنّ هذا إلى قوله : «من حيث لا يعلم» استدلال آخر ، والمراد بالاُمور ما يبلغنا عن الحجج المعصومين .

(ثَلاَثَةٌ :) أي ثلاثة أقسام :

(أَمْرٌ بَيِّنٌ رُشْدُهُ) ؛ بالضمّ وبفتحتين مصدر رشد - كنصر وعلم - إذا اهتدى وكان على الطريق المفضي إلى المطلوب ؛ أي بيّن كونه صوابا جائز العمل به ، مثل ما اتّفقت الطائفة المحقّة على العمل بمثله في موضعه .

(فَيُتَّبَعُ) ؛ بصيغة المجهول من باب الافتعال ، ولفظه خبر ، ومعناه الأمر بالاتّباع ، والضمير المستتر راجع إلى «أمر» .

(وَأَمْرٌ بَيِّنٌ غَيُّهُ) . الغيّ بفتح المعجمة وتشديد الخاتمة : الضلالة ، وهي الخروج عن السبيل المفضي إلى المطلوب ، أي بيّن ضلاله وحظر العمل به ، مثل ما اتّفقت الطائفة المحقّة على رفضه ، كرواية الغلاة والمتّهمين بالكذب .(2)

(فَيُجْتَنَبُ) ؛ بصيغة المجهول من باب الافتعال ، ولفظه خبر ، ومعناه الأمر بالاجتناب ، والضمير لأمر ؛ أي لا يعمل به .

(وَأَمْرٌ مُشْكِلٌ) أي ليس بيّنا رشده ولا بيّنا غيّه ؛ مثل ما لم يعلم هل عملت الطائفة المحقّة بمثله في موضعه ، أم لا؟ ومنه الخبر الشاذّ النادر إذا عارضه المجمع عليه فيجب طرحه والعمل بالمجمع عليه ؛ لأنّ الطائفة المحقّة اتّفقوا على العمل بمثله في موضعه .

وهذا نظير ما ذكره الشيخ أبو جعفر الطوسي رحمه الله في عدّة الاُصول في فصل في ذكر .

ص: 574


1- سيجيء في هذا الحديث بعد صفحات .
2- في «د» : + «لها» .

تخصيص العموم بأخبار الآحاد بقوله : «والذي أذهب إليه أنّه لا يجوز تخصيص العموم بها على كلّ حال» إلى قوله : «ما دلّ على عمل الطائفة المحقّة بهذه الأخبار من إجماعهم على ذلك لم يدلّ على العمل بما يخصّ القرآن ، ويحتاج في ثبوت ذلك إلى دلالة»(1) انتهى .

(يُرَدُّ) ؛ بصيغة المجهول من باب نصر ، ولفظه خبر ، ومعناه الأمر بالردّ ، يُقال : ردّه إلى زيد : إذا راجع فيه إلى زيد وقَبِلَ قوله فيه ؛ وردّه على زيد : إذا خطّأ زيدا فيه ولم يقبل قوله فيه .

(عِلْمُهُ) أي العلم برشده وغيّه .

(إِلَى اللّه ِ وَإِلى رَسُولِ اللّه ِ(2) صلى الله عليه و آله ) أي لا تستقلّ العقول بالعلم فيه ، ولا يكفي الظنّ ؛ إنّما يكفي الظنّ في إدخال فعل شخصي تحت موضوع قاعدة فقهيّة فرعيّة ، كقيم المتلفات ومقادير الجراحات ، وهذا مأخوذ من قوله تعالى في سورة النساء : «فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّه ِ وَالرَّسُولِ»(3)الشورى (42) : 10 .(4) ، فإنّ ما لم يعلم رشده ولا غيّه من الأفعال الكلّيّة كان ممّا يتنازع في رشده وغيّه باعتبار نفس أحكام اللّه تعالى الفقهيّة ، لا باعتبار محالّها فقط .

والردّ إلى الرسول لأجل أنّه مبلِّغ لحكم اللّه ، لا لأجل أنّه حاكم من عند نفسه أو برأيه ، بدليل قوله تعالى في سورة الشورى : «وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَىْ ءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللّه ِ»(4) ، وعليه يحمل قوله تعالى في سورة النساء : «فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ»(5) .

ويعلم من هذا أنّه يجب ردّ(6) ما لم يعلم من جهتهما إلى أئمّة أهل البيت عليهم السلام لا لأجل ».

ص: 575


1- عدة الاُصول ؛ ج 1 ، ص 350 ، وفي طبعة اُخرى ، ج 2 ، ص 138 .
2- في الكافي المطبوع : «رسوله» .
3- النساء
4- : 59 .
5- النساء (4) : 65 .
6- في «ج» : + «على».

أنّهم حكّام من عند أنفسهم أو بآرائهم ، بل لأجل أنّ اللّه والرسول أحالا علم ما لم يعلم من جهتهما إليهم عليهم السلام في قوله تعالى في سورة الأنبياء : «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ»(1) ، ومضى بيانه في عاشر باب النوادر ، فالردّ إليهم ردّ إلى اللّه ورسوله .

(قَالَ رَسُولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله ) . ترك الواو هنا يشعر بأنّ هذا استئناف لبيان قوله : و«إنّما الاُمور ثلاثة» إلى آخره .

(حَلاَلٌ) ؛ خبر مبتدأ محذوف ؛ أي الأفعال ، أو اتّباع الاُمور ؛ والمآل واحد .

(بَيِّنٌ) أي معلوم كونه حلالاً ، وهو اتّباع البيّن رشده . فهذا لبيان القسم الأوّل من التقسيم الأوّل .

(وَحَرَامٌ بَيِّنٌ) أي معلوم كونه حراما ، وهو اتّباع البيّن غيّه ، فهذا لبيان القسم الثاني من التقسيم الأوّل .

(وَشُبُهَاتٌ) . هذا لبيان القسم الثالث من التقسيم الأوّل ، والشبهة بالضمّ : الالتباس ، والمراد هنا الملتبس ، سواء كان حراما ملتبسا بالحلال ، أم حلالاً ملتبسا بالحرام ، فهو ما عدا القسمين الأوّلين ، فالتقسيم حاصر كما أشار إليه بقوله :

(بَيْنَ ذلِكَ) . المشار إليه : الحلال البيّن والحرام البيّن ، أي لا حلال بيّن ولا حرام بيّن ، كقوله تعالى : «مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاَءِ وَلاَ إِلَى هَؤُلاَءِ»(2) .

(فَمَنْ تَرَكَ الشُّبُهَاتِ) ؛ من تتمّة كلام رسول اللّه صلى الله عليه و آله أو كلام أبي عبداللّه عليه السلام . ومعنى ترك الشبهات طلب علم الحلال والحرام في المسائل الأصليّة والفرعيّة ، حتّى يتميّز عنده أنّ ارتكاب ما كان من الشبهات من الحلال البيّن أو الحرام البيّن .

(نَجَا مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ) . النجاة : الخلاص من ضرر ، والمراد أنّه ينحصر فعله حينئذٍ في الحلال البيّن .

(وَمَنْ أَخَذَ بِالشُّبُهَاتِ) أي لم يطلب العلم واجترأ بارتكاب الشبهات . .

ص: 576


1- الأنبياء (21) : 7 .
2- النساء (4) : 143 .

(ارْتَكَبَ الْمُحَرَّمَاتِ ) ؛ يعني أنّ ارتكاب ما لم يعلم أنّه حلال بيّن محرّم ، وإن كان فعله بحيث إذا علم كان حلالاً بيّنا .

(وَهَلَكَ) أي صار جهنّميّا (مِنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُ) . «من» للتعليل ؛ أي لأنّه لا يعلم حلّه . وهذا إشارة إلى أنّ كلّ مكلّف قامت عليه الحجّة بالآيات البيّنات المحكمات الآمرة بطلب العلم ، نحو : «فَلَوْلاَ نَفَرَ»(1) ، ونحو : «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ» ، ونحو : «إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِى مِنْ الْحَقِّ شَيْئا»(2) وأمثال ذلك ممّا لا يُعدّ ولا يُحصى ، فارتكاب الشبهة ارتكابُ محرّمٍ ؛ لأنّه ارتكاب شيء غير معلوم الحلّ .

(قُلْتُ : فَإِنْ كَانَ الْخَبَرَانِ عَنْكُمْ) . في بعض النسخ المعتبرة «عنكما» ، ولعلّ المراد حينئذٍ عن الصادق وأبيه عليهماالسلام ، فإنّ أكثر الروايات المشهورة في ذلك الزمان لم تكن إلاّ عن أحدهما .

(مَشْهُورَيْنِ قَدْ رَوَاهُمَا الثِّقَاتُ عَنْكُمْ) . المراد التساوي في الشهرة .

(قَالَ : يُنْظَرُ ، فَمَا وَافَقَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَخَالَفَ الْعَامَّةَ) أي المخالفين (فَيُوءْخَذُ بِهِ ، وَيُتْرَكُ مَا خَالَفَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَوَافَقَ الْعَامَّةَ) .

المقصود أنّ الترجيح السادس بكون إحدى(3) الروايتين مخالفة للعامّة دون الاُخرى . وإنّما ضمّ الكتاب والسنّة إشارة إلى أنّ أحكامهم مخالفة للكتاب والسنّة ؛ إمّا بخصوصها فيكون المراد أنّها مخالفة للكتاب غالبا وإن لم تفهموه ، فإنّ كلّ شيء مذكور في الكتاب والسنّة ، إلاّ أنّه لا تبلغه عقول الرجال ، وإمّا بعمومها ؛ لدلالة الكتاب على أنّه لا يجوز لهم هذه الأحكام ؛ لأنّها مبنيّة على اتّباع الظنّ ، ويجوز لنا أحكامنا ؛ لأنّها مبنيّة على سؤال أهل الذِّكر .

والدليل على ما ذكرنا أنّه مع وجدان ظاهر كتاب أو سنّة مقطوع بها ووصول أحدهما إلينا بحسب عقولنا لا عبرة بالترجيحات السابقة ولا اللاحقة ؛ لدلالة الأدلّة القطعيّة .

ص: 577


1- التوبة (9) : 122 .
2- يونس (10): 36.
3- في «ج» : «أحد» .

على ذلك كما تقرّر في محلّه . ولم يفهم الراوي هذه الإشارة أو فهم وطلب زيادة التصريح ، ولذا قال :

(قُلْتُ : جُعِلْتُ فِدَاكَ ، أَرَأَيْتَ ، إِنْ كَانَ الْفَقِيهَانِ عَرَفَا حُكْمَهُ مِنَ الْكِتَابِ) . «عرفا» بالعين المهملة المفتوحة والراء المهملة المفتوحة والفاء ، من المعرفة وهي العلم ، فلابدّ من كون المراد بالحكم الحكم الواصلي ، وذلك بأن يكون مثلاً ظاهر آية موافقا لأحدهما، وظاهر آية اُخرى موافقا للآخر، وكلّ منهما يعتقد أنّ تأويل الاُخرى أسهل، ونظيره ما قالوا في الجمع بين الاُختين في ملك اليمين من أنّ عموم قوله تعالى : «وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الاْءُخْتَيْنِ»(1)في «ج» : - «أنّ» .(2) يقتضي حرمته ، وعموم قوله تعالى : «وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ»(3) يقتضي حلّه ، ورووا عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال : «أحلّتهما آية ، وحرّمتهما اُخرى ، وأنا أنهى عنهما نفسي وولدي» .(4) ويجيء في «كتاب النكاح» في أوّل «باب الأمة يشتريها الرجل وهي حُبلى» نظيرٌ آخَرُ ، ويجيء فيه في ثامن «باب نوادر» بعد «باب أنّ(4) مَن عفّ عن حرم الناس عفَّ حرمه» أنّ مثل هذه العبارة عنه عليه السلام لبيان الحرمة حين خشي أن لا يطاع ، وليس المراد بالحكم الحكم الواقعي ، فإنّ العلمين لا يتعلّقان بالمتنافيين .

(وَالسُّنَّةِ) ، أي المقطوع بها من السنّة .

(وَوَجَدْنَا أَحَدَ الْخَبَرَيْنِ مُوَافِقا لِلْعَامَّةِ ، وَالاْآخَرَ مُخَالِفا لَهُمْ ، بِأَيِّ الْخَبَرَيْنِ يُوءْخَذُ؟ قَالَ : مَا) ؛ في محلّ الجرّ ؛ أي يؤخذ بما . ويحتمل أن يكون في محلّ الرفع على الابتداء.

(خَالَفَ الْعَامَّةَ ، فَفِيهِ) . الفاء لتعليل الأخذ بما خالف العامّة كما هو الظاهر من نقل المصنّف ما في معناه في الخطبة ، ويحتمل أن يكون خبر مبتدأ ؛ والمآل واحد . .

ص: 578


1- النساء
2- : 23 .
3- النساء (4): 36 .
4- تهذيب الأحكام ، ج 7 ، ص 289 ، ح 1215 ؛ الاستبصار ، ج 3 ، ص 172 ، ح 628 ؛ وسائل الشيعة ، ج 20 ، ص 483 ، ح 26149 ؛ السنن الكبرى ، ج 7 ، ص 164 ؛ كنزالعمّال ، ج 16 ، ص 515 ، ح 45696 .

(الرَّشَادُ) ؛ بفتح الراء : خلاف الضلالة ؛ أي ففيه موافقة الكتاب والسنّة ، نظير ما ورد في النساء من قوله عليه السلام : «شاوروهنّ وخالفوهنّ» .(1)

(فَقُلْتُ : جُعِلْتُ فِدَاكَ ، فَإِنْ وَافَقَهَا)(2) أي وافق العامّة (الْخَبَرَانِ جَمِيعا) بأن تكون المسألة بين العامّة مختلفا فيها .

(قَالَ : يُنْظَرُ) ؛ بصيغة المجهول ، والنظر هنا بمعنى الالتفات ، ويمكن أن يكون بمعنى الاختيار لكن للترك .

(إِلى مَا هُمْ) أي العامّة (إِلَيْهِ أَمْيَلُ) . وقوله :

(حُكَّامُهُمْ) ؛ بدل البعض من الكلّ ، والمبدل منه الضمير المنفصل ، ويحتمل أن يكون خبرا عن مبتدأ محذوف ، وتكون الجملة معترضة ، أي المعيار حكّامهم بمعنى سلاطينهم .

(وَقُضَاتُهُمْ ، فَيُتْرَكُ ، وَيُوءْخَذُ بِالاْآخَرِ) ، يعني الترجيح السابع بكون إحدى الروايتين مخالفة للمشهور عند حكّام العامّة وقضاتهم دون الاُخرى ، وهم في زمننا إلى فتاوى أبي حنيفة أميل منهم إلى فتاوى الشافعي ، وإلى فتاوى الشافعي أميل منهم إلى فتاوى أحمد ومالك ، فيمكن أن يكون المعيار زمن الإمام وأن يدخل فيه زمننا أيضا .

(قُلْتُ : فَإِنْ وَافَقَ حُكَّامُهُمُ الْخَبَرَيْنِ جَمِيعا) أي بدون أن يكونوا أميل إلى أحدهما .

(قَالَ : إِذَا كَانَ ذلِكَ ، فَأَرْجِهْ) . الإرجاء : التأخير ، أي أخّر النزاع الذي هو للجهل بالمسألة . ويحتمل أن يكون الضمير راجعا إلى الدَّين أو الميراث ، والمقصود أنّه لا يجوز للمدّعي أخذ ما يدّعيه من المدّعى عليه كما في الدين إلاّ بالصلح ، وإذا كان المال في يد ثالث أو في دار نسبتهما إليها على سواء ، أو نحو ذلك - كما في الميراث - لا يجوز أخذ أحد المتنازعين له إلاّ بالصلح ، أمّا إذا كان النزاع لا للجهل بالمسألة ، بل .

ص: 579


1- المبسوط للسرخسي ، ج 14 ، ص 44 ؛ شرح نهج البلاغة ، ج 18 ، ص 199 ؛ عوالياللآلي ، ج 1 ، ص 289 ، ح 148 .
2- في الكافي المطبوع : «وافقهما» .

لإنكار أحدهما حقّا معلوما لهما ، فلا يجب فيه التأخير بهذا الحديث ، بل يجوز فيه للمحقّ التقاصّ ، والأخذ جبرا ونحو ذلك إذا تيسّر .

(حَتّى تَلْقى إِمَامَكَ) . ظاهره أنّه لا يجري فيه القرعة .

(فَإِنَّ الْوُقُوفَ) أي التوقّف وانتظار سؤال أهل الذِّكر .

(عِنْدَ الشُّبُهَاتِ) . مضى معناها في هذا الحديث .

(خَيْرٌ) . التفضيل هنا كما في «أفقه من الجدار» بقرينة قوله :

(مِنَ الاِقْتِحَامِ) . تقول : قحم في الأمر - كنصر - : إذا رمى بنفسه فيه فجأةً بلا رويّة ، وقحّمه فيه تقحيما وأقحمه فاقتحم وانقحم ، والمقحِم هنا من سنَّ للناس طريقة اتّباع الظنّ من أئمّة الضلالة ومجتهديهم أو الشيطان .

(فِي الْهَلَكَاتِ) ؛ بفتحتين جمع هلكة بفتحتين ، وهي الهلاك . والمراد هنا ما يهلك فيه ، أو الوصف بالمصدر للمبالغة يعني اشتبه على كلّ واحدٍ من المتنازعين أنّ المال ماله أو مال خصمه ، فلا يجوز له أخذ المال بدون صلح ؛ لأنّه بلا مستند شرعي ، ففي أخذه الهلاك .

ص: 580

باب الأخذ بالسنّة وشواهد الكتاب

الباب الثالث والعشرون بَابُ الاْءَخْذِ بِالسُّنَّةِ وَشَوَاهِدِ الْكِتَابِ

فيه اثنا عشر حديثا .

هذا الباب لبيان أمرين :

الأوّل : وجوب الاحتياط في الدِّين بترك اتّباع الرأي ، وبالتزام سؤال أهل الذِّكر في دقيق الأشياء وجليلها إن كان لا يعلم .

الثاني : ضابطة كلّيّة يتعرّف بها أهل الذِّكر المأمور بسؤالهم في كلّ زمان إلى انقراض الدنيا عن الضالّ(1)في «ج» : «شواهد الكتاب» بدل : «الشواهد» .(2) المضلّ المدّعي للإمامة وليس لها بأهل .

والبرقي في كتاب المحاسن جعل هذا العنوان عنواني بابين هكذا : «باب الاحتياط في الدِّين والأخذ بالسنّة» «باب الشواهد(2) من كتاب اللّه»(3) وذكر في جملة أحاديث الأوّل ما مضى في ثامن السابع عشر وهو «باب النوادر» .

والأخذ، بالفتح من باب نصر : التمسّك بالشيء لدفع الضرر . والمراد بالسنّة طريقة اللّه التي لم تنسخ في شريعة من الشرائع ، كما في سورة فاطر : «فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللّه ِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللّه ِ تَحْوِيلاً»(4) .

ص: 581


1- في حاشية «أ» : قوله : «عن الضال» إلى آخره ، الأولى بدل «عن» التي هي للمجاوزة لفظ «من» المبينة نظيره قوله تعالى : «وَاللّه ُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ»[البقرة
2- : 220] (مهدي) .
3- المحاسن ، ج 1 ، ص 220 ، باب 11 ، باب الاحتياط في الدين والأخذ بالسنّة ؛ و ص 225 ، باب 12 ، باب الشواهد من كتاب اللّه .
4- فاطر (35) : 43 .

ولو كان المراد بالسنّة ما سنّه اللّه ورسوله مطلقا وتقابل البدعة ، لكان الأنسب جمعَها كشواهد(1) وعدمَ جمعها مع «شواهد» ، ولو كان المراد بالسنّة قول رسول اللّه أو فعله أو تقريره ويقابل الكتاب باعتبار أنّ استنباطنا الحكم ينقسم إلى استنباط من الكتاب وإلى استنباط من السنّة بهذا المعنى ، لكان الأنسب جمعها كشواهد ، وعدم تقديمها على شواهد ، وإنّما جمع شواهد منتهى الجموع للإشارة إلى كثرة المحكمات(2) المثبتة لإمامة أهل الذِّكر ووجوب سؤالهم ، النافية لطريقة أئمّة أهل الضلالة ومجتهديهم ، وهي الآيات الناهية عن التفرّق في الدِّين والاختلاف فيه ، وعن القول على اللّه بغير علم ، وعن اتّباع الظنّ ونحو ذلك ، كما مرَّ بيانه في ثاني عشر(3) «باب العقل والجهل» .(4) وهذا التعبير في العنوان يظهر به حلّ أحاديث الباب .

الأوّل : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ النَّوْفَلِيِّ ، عَنِ السَّكُونِيِّ ،عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله : إِنَّ عَلى كُلِّ حَقٍّ حَقِيقَةً ، وَعَلى كُلِّ صَوَابٍ نُورا ، فَمَا وَافَقَ كِتَابَ اللّه ِ فَخُذُوهُ ، وَمَا خَالَفَ كِتَابَ اللّه ِ فَدَعُوهُ) .

ذكر «على» لاشتمال الحقيقة والنور على الدلالة .

الحقّ : ضدّ الباطل ، والمراد هنا الصحيح من الأعمال الشرعيّة ، سواء كان عمل القلب كالإيمان واليقين ونحوهما ، أم غيره كالصلاة والزكاة والإمامة ونحوها .(5)

الحقيقة : الراية تكون في العسكر علامة لهم ، والمراد هنا العلامة من شواهد الكتاب الدالّة على صحّة العمل ، كما يظهر ممّا يجيء في «كتاب الإيمان والكفر» من .

ص: 582


1- في «ج» : + «الكتاب» .
2- قوله : «إلى كثرة المحكمات» إلى آخره إشارة إلى أنّ المراد بالشواهد هنا هذه المحكمات الموصوفة بتلك الصفات ، وهذه المحكمات هي التي عبّر المصنّف - قدّس سرّه - في ديباجة الكتاب بحقائق الاُمور حيث قال : «وذكرت أنّ اُمورا قد أشكلت عليك لا تعرف حقائقها» إلى آخره كما صرّح به الشارح - قدّس سرّه - ثمّة .
3- في «د» : + «الأوّل وهو» .
4- في «أ» : - «والجهل» .
5- في «أ» : «نحوهما» .

ذكر صدر هذا الحديث في «باب حقيقة الإيمان واليقين» ويجيء في «كتاب التوحيد» في خامس «باب في إبطال الرؤية» وهو التاسع من قوله : «ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان» . فكلّ عمل طابق الآيات البيّنات الناهية عن اتّباع الظنّ الآمرة بسؤال أهل الذِّكر عمّا لم يعلم فهو حقّ ، وإن كان مستندا إلى الظنّ فهو باطل .

ولا ينافي هذا جواز العمل بخبر الواحد بشروط مقرّرة من باب التسليم لأهل الذِّكر من باب اتّباع الظنّ بالحكم .

الصواب : ضدّ الخطأ ، والمراد هنا المستقيم من الأقوال الشرعيّة في الفتوى والقضاء ونحوهما .

النور : ضدّ الظلمة ، والمراد هنا البرهان ، كما في أمثال آية سورة البقرة وسورة النمل : «قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ»(1)في «ج» بدل قوله : «وعلى كلّ صواب نورا» إلى هنا، هكذا : «على متعلق بشاهد أو نحوه ، والحقّ : ضدّ الباطل ، والمراد به هنا الإمام الذى يجب الإيمان به بعد رسول اللّه صلى الله عليه و آله ، كما يظهر من ذكر صدر هذا الحديث في «كتاب الإيمان والكفر» فى «باب حقيقة الإيمان واليقين» . والحقيقة فعليّة بمعنى فاعلة باب نصر وضرب : حقيقة الحق ، والمراد هنا السنّة وشواهد الكتاب ومرّ بيانها فى شرح عنوان الباب . (وعلى كلّ صواب نورا) . الصواب : سلوك الطريق القصد وضدّ الخطاء ، والمراد به هنا ما ليس فيه خطأ من جمله بيان مراد اللّه تعالى بمتشابهات القرآن الذي هو تبيان كلّ شيء يحتاج إليه ، والنور بالضم مفرد ، هو الظاهر في نفسه المظهر لغيره ، والمراد به هنا الروح التي يسدّد اللّه بها الأئمة ، ويجيء في السادس والخمسين من كتاب الحجّة ، أو المراد إمام الهدى كما يجى ء في ثالث عشر كتاب الحجّة ، ومآلهما واحد . (فما وافق كتاب اللّه فخذوه) الفاء للتفريع على قوله : «وعلى كلّ صواب» وعلى ما تقدّمه لأنّ الدالّ على شيء دالّ على ذلك الشيء ، أي فكلّ إمام وفتوى إمام وافق محكمات الكتاب مقبول ، وكذا الكلام في قوله : (وما خالف كتاب اللّه فدعوه)» .(2) ، وهذا إبطال لأحكام الصوفيّة المدّعين للكشف بدون برهان ، والمجتهدين المستندين إلى الأمارات الظنّيّة بدون برهان .

الفاء في «فما» للتفريع ، وعلى ما قرّرنا لا يبقى واسطة بين الموافق للكتاب والمخالف له .(2)

الثاني : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ عَبْدِ اللّه ِ بْنِ مُحَمَّدٍ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ ، عَنْ أَبَانِ بْنِ .

ص: 583


1- البقرة
2- : 111 ؛ النمل (16) : 64 .

عُثْمَانَ ، عَنْ عَبْدِ اللّه ِ بْنِ أَبِي يَعْفُورٍ) .

(قَالَ :) أي أبان . وفي محاسن البرقي في باب الشواهد من كتاب اللّه : «قال علي»(1) وكأنّه من تصرّفه .

(وَحَدَّثَنِي حُسَيْنُ بْنُ أَبِي الْعَلاَءِ أَنَّهُ) ؛ الضمير لحسين .

(حَضَرَ) ؛ فاعله ضمير مستتر راجع إلى حسين .

(ابْنَ) ؛ بالنصب مفعول حضر .

(أَبِي يَعْفُورٍ فِي هذَا الْمَجْلِسِ) أي مجلس سؤال ابن أبي يعفور وجواب الإمام عليه السلام .

(قَالَ :) كلام أبان ، والضمير لابن أبي يعفور .

(سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام عَنِ اخْتِلاَفِ الْحَدِيثِ) . المراد التناقض الواقع بين الأحاديث المنقولة عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله في ما يتعلّق بالإمامة وبمن يجب سؤاله وأخذ الأحكام المجهولة عنه ، فإنّ كلّ أهل مذهب في الإمامة ينقل عنه عليه السلام ما يناقض ما ينقله فيها عنه الآخرون .

(يَرْوِيهِ مَنْ نَثِقُ بِهِ) . الجملة حال عن «الحديث» وتتمّة للمسؤول عنه . وحاصل السؤال التعجّب من أن يروي جمع يوثق بهم الأحاديث المتناقضة عنه عليه السلام وطلب بيان ما يزيل الحيرة فيه ، أو حاصله هل يجوز الاكتفاء في هذا بالثقة بالراوي .

(وَمِنْهُمْ) أي من رواة الحديث المختلف في باب الإمامة (مَنْ لاَ نَثِقُ بِهِ) .

هذه الجملة ليست معطوفة على قوله : «يرويه» إلى آخره ، وإلاّ لكان الأنسب أن يُقال بدلها : «ومن لا نثق به» ، فتغيير الاُسلوب للإشارة إلى أنّه ابتداء كلام لبيان أنّ هذا ليس موضع السؤال ، إنّما موضعه الأوّل فقط ؛ أو هي معطوفة عليه ، وتغيير الاُسلوب لئلاّ يتوهّم أنّ مرويّهما واحد بالنوع .

(قَالَ:) . حاصل الجواب أنّه لا حيرة في الإمامة لاختلاف الحديث فيها ، بل قد تبيّن الرشد من الغيّ فيها في محكمات الكتاب الناهية عن التفرّق في الدِّين والاختلاف فيه ، .

ص: 584


1- المحاسن ، ج 1 ، ص 225 ، ح 145 .

وعن القول على اللّه بغير علم ، وعن اتّباع الظنّ والاجتهاد والقياس ونحو ذلك كما فصّل في ثاني عشر «باب العقل» .

(إِذَا وَرَدَ عَلَيْكُمْ حَدِيثٌ) أي من الأحاديث المتناقضة في باب الإمامة عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله (فَوَجَدْتُمْ لَهُ) أي لمضمونه (شَاهِدا مِنْ كِتَابِ اللّه ِ(1)) أي دليلاً قاطعا وهو المحكم من الكتاب (أَوْ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللّه ِ صلى الله عليه و آله ) أي حديثه المتّفق عليه بين أهل المذاهب المختلفة في الإمامة ، وبين رواة الأحاديث المتناقضة فيها .

ولا ينافي الترديد هنا ما مرّ في أوّل الباب من الاقتصار على كتاب اللّه ؛ للعلم بدورانهما في باب الإمامة وجودا وعدما ، والنكتة في ذكره هنا أنّ المنظور بالأصالة هنا بيان حال حديث المخالف للحقّ بأنّه ليس له شاهد من الكتاب ولا من قول الرسول ، ولذا لم يجمع هنا «شاهد» كما جمع في العنوان ، ويؤيّد ذلك أنّ الورود المجيءُ من بعيد ، والمخاطبون الشيعة .

وإنّما اقتصر على القول ، ولم يذكر الفعل ولا التقرير ؛ لأنّهما لا يدلاّن نصّا على شيء ، إنّما هما من الظواهر ، فليسا من الشاهد .

(وَإِلاّ فَالَّذِي جَاءَكُمْ بِهِ أَوْلى بِهِ) أي ردّوه عليه ولا تعملوا به ، وذلك لأنّه معلوم من الخارج أنّ الشواهد من الكتاب وقول رسول اللّه صلى الله عليه و آله تشهد لأحد المختلفين في باب الإمامة دون الآخر . والظرف متعلّق بجاءكم ، والباء للتعدية ويقدّر لأولى ظرف ، أي أولى به منكم .

الثالث : (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ النَّضْرِ بْنِ سُوَيْدٍ ، عَنْ يَحْيَى الْحَلَبِيِّ ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ الْحُرِّ) ، بضمّ الحاء المهملة وتشديد الراء المهملة .

(قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام يَقُولُ : كُلُّ شَيْءٍ) أي كلّ ما يحتاج المكلّفون إليه (مَرْدُودٌ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ) ؛ خبر بمعنى الأمر ، يُقال : ردّه إليه : إذا استنبطه منه . .

ص: 585


1- في الكافي المطبوع : + «عزّوجلّ» .

والمقصود أنّه لا يجوز اتّباع الظنّ في شيء ، وفيه إشارة إلى آية سورة النحل : «وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانا لِكُلِّ شَيْءٍ»(1) ، ومضى مثله في عاشر الحادي والعشرين .(2)

(وَكُلُّ حَدِيثٍ) أي عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله في باب الإمامة وتمييز أهل الذِّكر المأمور بسؤالهم عمّن يعارضهم ، كما قصده المخالفون بروايتهم «اقتدوا باللذين من بعدي»(3) إلى آخره .

(لاَ يُوَافِقُ كِتَابَ اللّه ِ) أي خالف شواهده ، وهي الناهية عن التفرّق في الدِّين ونحو ذلك ، وذلك بأن يكون في الحديث ميل إلى إمامة تابع الظنّ .

(فَهُوَ زُخْرُفٌ) ؛ بضمّ الزاي وسكون المعجمة وضمّ المهملة والفاء : ما زوّر فيه قائله الكذبَ ، يُقال : زخرف كلامه : إذا زوّره . وهو إشارة إلى آية سورة الأنعام : «وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِىٍّ عَدُوّا شَيَاطِينَ الاْءِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورا»(4) .

وهذا الحديث وأمثاله ينعى على المخالفين ما رووا من الأحاديث الموضوعة عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله في مدح مَن ذمّه اللّه تعالى عموما بالانفضاض إلى التجارة واللهو ، وبالفرار من الزحف ، وبترك التصدّق للمناجاة ، وبإيثار الحياة الدنيا وتقديم الذين لا يعلمون على الذين يعلمون ، وبالإشراك ، وباتّباع الطاغوت ونحو ذلك ، أو في مدح من ذمّه اللّه تعالى خصوصا بضدّ الشجاعة ، أي بضعف القلب والجُبن في الغار ، وبأنّه طاغوت وأمثال ذلك ، أو لتوثيق مَن جرحه اللّه من الرواة كمن خوّنه وشبّهه بالكافر في سورة التحريم .

والعجب أنّهم بعد بيان اللّه تعالى هذا البيان خرّوا على آيات اللّه صُمّا وعميانا بالتخصيص والتأويل ، حتّى جعلوا بعض آيات الذمّ مدحا ، ووضعوا على طبقه .

ص: 586


1- النحل (16) : 89 .
2- أي الحديث 10 من باب الردّ إلى الكتاب والسنة .
3- مسند أحمد ، ج 5 ، ص 382 ، حديث حذيفة بن اليمان ؛ سنن ابن ماجة ، ج 1 ، ص 37 ، فضل أبي بكر ؛ وقد خصّص السيّد الميلاني في نفحات الأزهار ، ج 3 ، ص 93 : دراسة خاصّة لهذا الحديث ، فراجع .
4- الأنعام (6) : 112 .

أحاديث كآية الغار ، وذلك بمجرّد لفظ «صاحبه» فيها ، وقد غفلوا عن أنّ تلك الآية من أوّلها مسوقة لبيان أنّ اللّه قد نَصَر نبيّه صلى الله عليه و آله حين كمال ضعفه ، وذكر خمسة أوجه لضعفه :

الأوّل : إخراج الذين كفروا إيّاه .

الثاني : أنّه لم تكن معه الأعوان إذ كان ثاني اثنين .

الثالث : أنّه كان كالتابع لصاحبه يتّقيه ويلاينه ويداريه ؛ لعدم وثوقه به ، فإنّه لم يقل : أوّل اثنين ، ولا أحد اثنين ، ونظيره قوله تعالى في سورة المائدة : «لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللّه َ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ»(1) ردّا لما قاله النصارى جميعا أو النسطوريّة(2) والملكائيّة منهم(3) : إنّ اللّه واحد بالجوهريّة ، ثلاثة بالاُقنوميّة ، ويعنون بالأقانيم الذات والعلم والحياة ، ويعبّرون عن الذات تارةً بالوجود ، وتارةً بالأب ، كما يعبّرون عن العلم تارةً بالكلمة(4) ، وتارةً بالابن ، ويعبّرون عن الحياة بروح القدس ، ويعنون بكلّ من العلم والحياة صفة موجودة في نفسها في الخارج ، ويعنون بكون الثلاثة أقانيم أنّها اُصول كانت متغايرة فاتّحدت . ولا شكّ أنّ الذات إذا انضمّت إلى صفة كمالها - سواء كان الانضمام بالاتّحاد كما زعموا أم لا ، كما زعمت الأشاعرة - كانت الذات الصغرى والصفة الكبرى ؛ لأنّ شرف الذات حينئذٍ بالصفة المنضمّة ؛ ولهذا يُقال لأهل البيت عليهم السلام : الثقل الأصغر ، ولكتاب اللّه : الثقل الأكبر باعتبار انضمامهم إلى العلم بالكتاب ، فكان ذاته تعالى كالتابع للصفتين تعالى عن ذلك علوّا كبيرا .

الرابع : عدم تمكّنه من الكون في الفضاء إذ هما في الغار .

الخامس : كون صاحبه غير شجاع ، ولا يخفى أنّه لوكان صاحبه حينئذٍ القويّ في .

ص: 587


1- المائدة (5) : 73 .
2- في القاموس : «النسطورية بالضم وتفتح : اُمّة من النصارى ، تخالف بقيّتهم ، وهم أصحاب نسطور الحكيم الذي ظهر في زمن المأمون ، وتصرّف فى الإنجيل بحكم رأيه ، إن اللّه واحد ذو أقانيم ثلاثة ، وهو بالرومية نسطورس» . القاموس المحيط ، ج 2 ، ص 142 (النسطورية) .
3- في «د» : «من النصارى» .
4- في «ج» : «بالكلم» .

دين اللّه الذي بات في فراشه حينئذٍ كان ذكره هنا خروجا عن البلاغة ، أو لا يرون إلى قوله في بيان النصرة : «فأنزل عليه»(1) ولم يقل : فأنزل عليه وعلى صاحبه ، كما في قوله في موضع آخر «عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ»(2) «قَدْ بَيَّنَّا الاْءَيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ»(3) .

وروى مسلم في صحيحه عن زيد بن أرقم عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله أنّه قال : «ألا أيّها الناس فإنّما أنا بشرٌ يوشك أن يأتيني رسول ربّي فاُجيب وأنا تاركٌ فيكم ثقلين : أوّلهما كتاب اللّه ، فيه النور والهدى ، فخذوا بكتاب اللّه واستمسكوا به ؛ وأهل بيتي ، اُذكّركم اللّه في أهل بيتي ، اُذكّركم اللّه في أهل بيتي ، اُذكّركم اللّه في أهل بيتي» .(4)

الرابع : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسى ، عَنِ ابْنِ فَضَّالٍ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عُقْبَةَ) ؛ بضمّ المهملة وسكون القاف والموحّدة والهاء . (عَنْ أَيُّوبَ بْنِ رَاشِدٍ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : مَا لَمْ يُوَافِقْ مِنَ الْحَدِيثِ الْقُرْآنَ ، فَهُوَ زُخْرُفٌ) .

يعلم معناه من شرح سابقه .

الخامس : (مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ، عَنِ الْفَضْلِ بْنِ شَاذَانَ ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ ، عَنْ هِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ وَغَيْرِهِ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، قَالَ : خَطَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه و آله بِمِنى) أي في حجّة الوداع ، وذلك حين علم أنّه قد كثرت(5) عليه الكذّابة ، كما مرّ في أوّل «باب اختلاف الحديث» وعلم أنّ المنافقين وضعوا ويضعون أحاديث عنه صلى الله عليه و آله في ما يتعلّق بالإمامة وتمييز أهل الذِّكر المأمور بسؤالهم فيما لا يعلم عن غيرهم .

(فَقَالَ : أَيُّهَا النَّاسُ ، مَا جَاءَكُمْ عَنِّي) أي في باب الإمامة .

(يُوَافِقُ كِتَابَ اللّه ِ) ، الجملة حال عن فاعل جاءكم . .

ص: 588


1- المراد الآية 40 من سورة اللتوبة : «فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ» .
2- التوبة (9) : 26 .
3- البقرة (2) : 118 .
4- صحيح مسلم ، ج 7 ، ص 122 ، باب من فضائل علي عليه السلام .
5- في «ج» : «كثر» .

(فَأَنَا قُلْتُهُ) أي خذوه ، فإنّه مقول لي ولو بالمعنى ؛ لموافقته شواهد الكتاب التي أنا مبلّغها وقائلٌ بها .

(وَمَا جَاءَكُمْ يُخَالِفُ كِتَابَ اللّه ِ ) أي شواهد الكتاب (فَلَمْ أَقُلْهُ) .

يعلم معناه من شرح ثالث الباب .

السادس : (وَبِهذَا الاْءِسْنَادِ ، عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَيْرٍ ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِهِ ، قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام يَقُولُ : مَنْ خَالَفَ) أي في باب الإمامة .

(كِتَابَ اللّه ِ) أي شواهده ، وهي المحكمات النازلة في تمييز أهل الذِّكر المأمور بسؤالهم فيما لا يعلم عن غيرهم .

(وَسُنَّةَ مُحَمَّدٍ(1) ) أي قوله المتّفق عليه بين أهل المذاهب المختلفة في الإمامة ، وبين رواة الأحاديث المتناقضة فيها ؛ أو المراد بها طريقة سؤال أهل الذِّكر فيما لا يعلم .

ومخالفتها : الاستقلال بالرأي فيما لا يعلم .

(فَقَدْ كَفَرَ) . الحديث يدلّ على كفر المخالفين لنا في الإمامة .

السابع : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى بْنِ عُبَيْدٍ ، عَنْ يُونُسَ رَفَعَهُ ، قَالَ : قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ عَلَيْهِمَا السَّلامُ : إِنَّ أَفْضَلَ الاْءَعْمَالِ عِنْدَ اللّه ِ) . المراد الأعمال المقبولة . (مَا عُمِلَ بِالسُّنَّةِ وَإِنْ قَلَّ) .

«عمل» بصيغة المجهول ، والقائم مقام الفاعل ضمير مستتر فيه راجع إلى «ما» أي ما فعل ، والباء للسببيّةً أو الاستعانة أو المصاحبة . ويحتمل أن يكون الظرف قائما مقام الفاعل والعائد إلى الموصول مقدّرا ؛ أي ما عمل بالسنّة فيه ، والباء صلة «عمل» . ومضى بيان السنّة في شرح عنوان الباب ، ولمّا كان الموافق للسنّة موافقا لشواهد الكتاب أيضا بالواسطة البتّة ، اكتفى بها .

الثامن : (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مِهْرَانَ ، .

ص: 589


1- في الكافي المطبوع : + «صلى اللّه عليه وآله» .

عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْقَمَّاطِ وَ صَالِحِ بْنِ سَعِيدٍ ، عَنْ أَبَانِ بْنِ تَغْلِبَ ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَأَجَابَ فِيهَا ، قَالَ : فَقَالَ الرَّجُلُ : إِنَّ الْفُقَهَاءَ) ، يعني من المخالفين لنا في باب الإمامة .

(لاَ يَقُولُونَ هذَا . فَقَالَ : يَا وَيْحَكَ) . ويح، بفتح الواو وسكون الخاتمة والمهملة ، اسم بمعنى التعجّب ، وهو منادى مضافٌ ، والمقصود أنّ حال المخاطب عجيبةٌ جدّا . وقيل : ويح كلمة رحمة ، وويل كلمة عذاب ؛ يُقال : ويح لزيد بالرفع على الابتداء ، ويُقال : ويحا لزيد بالنصب بإضمار فعل كأنّه قال : ألزمه اللّه ويحا ونحو ذلك ، ويُقال ويح زيد بالإضافة ، والنصب بإضمار فعل ، ويُقال : يا ويح زيد بالنداء .(1)

(وَهَلْ رَأَيْتَ فَقِيها) أي بين المخالفين (قَطُّ) ؛ بفتح القاف وتشديد(2) المهملة المضمومة ، وفيه لغات غير هذا ، ومعناه الدهر ، ولا يستعمل إلاّ مع النفي ، أو معناه يقال : ما رأيت زيدا قطّ ، أي في دهري ، وما رأى زيد عمرا قطّ ، أي في دهره ، وبني على الضمّ لأنّه مقطوع عن الإضافة .

(إِنَّ الْفَقِيهَ) ؛ استئناف لبيان النفي ، وحاصله أنّهم لا يأخذون بطريقة سؤال أهل الذِّكر فيما لا يعلمون ، بل مفزعهم في المعضلات إلى أنفسهم ، وتعويلهم في المبهمات على آرائهم بعد بيان اللّه تعالى ، وذلك لعدم زهدهم في الدنيا وعدم رغبتهم في الآخرة .

(حَقَّ) ؛ منصوب على أنّه نعت للفقيه ومضاف إلى قوله :

(الْفَقِيهِ) . والمقصود أنّ غيره باطل ، كما ذكره الشيخ الرضيّ رحمه اللّه تعالى في شرح الكافية في مبحث النعت .(3)

(الزَّاهِدُ) ؛ خبر «إن» .

(فِي الدُّنْيَا ، الرَّاغِبُ فِي الاْآخِرَةِ ، الْمُتَمَسِّكُ بِسُنَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه و آله ) . مضى معنى السنّة في .

ص: 590


1- الصحاح ، ج 1 ، ص 417 ؛ لسان العرب ، ج 2 ، ص 638 (ويح) .
2- في «د» : «و شدّ» .
3- شرح الرضي على الكافية ، ج 2 ، ص 283 ، النعت .

عنوان الباب ، ولعلّ هذا التعبير للإشارة إلى آية سورة بني إسرائيل : «سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً»(1) على أن يكون «سنّة» منصوبا بالإغراء ، أي الزم سنّة .

التاسع : (عِدَّةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ أَبِي إِسْمَاعِيلَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ الاْءَزْدِيِّ ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ الْعَبْدِيِّ ، عَنْ جَعْفَرٍ ، عَنْ آبَائِهِ عليهم السلام ، عَنْ أَمِيرِ الْمُوءْمِنِينَ عليه السلام ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللّه ِ صلى الله عليه و آله : لاَ قَوْلَ إِلاَّ بِالْعَمَلِ)(2) .

المراد بالقول ما يذكر في الوعظ من التزهيد في الدنيا والترغيب في الآخرة ، وفي الفتوى وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ أي لا ينفع قول قائله إلاّ إذا عمل به .

(وَلاَ قَوْلَ وَلاَ عَمَلَ إِلاَّ بِنِيَّةٍ) ؛ بكسر النون مصدر قولك : نويت الشيء : إذا جددت في طلبه وعزمته ، والمراد بها هنا ضدّ السهو عن الشيء وهو الغفلة عنه ، والمعنى لا ينفع مجموع القول والعمل لصاحبهما إلاّ بثبات قلب وجدّ وإخلاص وتوجّه فيهما بأن لا يكون كاللاعب .

(وَلاَ قَوْلَ وَ عَمَلَ وَنِيَّةَ(3) إِلاَّ بِإِصَابَةِ السُّنَّةِ) أي بموافقة السنّة .

والمراد بالسنّة ما مرّ في شرح عنوان الباب ، ولا ينافي ذلك جواز العمل بخبر الواحد بشروطه المقرّرة في محلّها ؛ أي لا ينفع مجموع القول والعمل والنيّة لصاحبها إلاّ إذا كان موافقا للسنّة ، وهو موافق لشواهد الكتاب أيضا البتّة ، وإلاّ كان من الأخسرين أعمالاً الذين ضلَّ سعيهم في الحياة الدُّنيا وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعا .(4)

العاشر : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ النَّضْرِ) ، بفتح النون وسكون المعجمة . (عَنْ عَمْرِو بْنِ شِمْرٍ ، عَنْ جَابِرٍ ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ، قَالَ : قَالَ : مَا مِنْ أَحَدٍ) . .

ص: 591


1- الإسراء (17) : 77 .
2- في الكافي المطبوع وحاشية «ج» : «بعمل» .
3- في الكافي المطبوع : «ولا عمل ولا نيّة» بدل : «وعمل ونيّة» .
4- مقتبس من سورة الكهف (18) : 103 - 104 .

المراد الأحد من الرعيّة المقيّدين بالعبادة .

(إِلاَّ وَلَهُ شَرَهٌ(1)) ؛ بالمعجمة والمهملة المفتوحتين والهاء ، مصدر شره الرجل - كعلم - : إذا غلبه حرصه . والمراد الإفراط في العمل لشدّة الاحتياط كأعمال أهل الوسواس ، أو المراد غلبة الحرص في طريقة من الطرق المختلف فيها فيما لم يعلم من الشرعيّات كطريقة سؤال أهل الذِّكر وكطريقة الاجتهاد والقياس ، أو المراد الحرص في طلب الدنيا .

وفي بعض النسخ : «شرَّة» بكسر المعجمة وشدّ المهملة والتاء ، وهي الرغبة(2) في العبادة ، كما يجيء في «كتاب الإيمان والكفر» في الرابع والأربعين .(3)

(وَفَتْرَةٌ) ؛ بفتح الفاء وسكون المثنّاة ومهملة(4) ، مصدر فتر الماء - كنصر(5) - : إذا كان بين الحرارة والبرودة . والمراد هنا الاقتصاد في العمل ، أو المراد النفرة عن الطرق المخالفة لطريقته المرغوبة له ، أو المراد الزهد في الدنيا ، أو المراد الضعف في العبادة ، موافقا لما مرّ في سابع الباب من قوله : و«إن قلّ» .(6)

(فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلى سُنَّةٍ) . «إلى» هنا بمعنى «مع» كقوله تعالى : «إِلَى الْمَرَافِقِ»(7) ، والظرف حينئذٍ مستقرّ خبر «كان» أي منضمّة إلى سنّة . ومرّ بيان السنّة في شرح عنوان الباب. .

ص: 592


1- في الكافي المطبوع : «شِرَّة» بكسر الشين وتشديد الراء والتاء .
2- في «ج ، د» : «والمراد الحرص في طلب الدنيا كما يكون في زمان الغفلة عن عاقبة الدنيا ، وفي بعض النسخ (شرة) بكسر المعجمة وشدّ المهملة والتاء وهي النشاط ، والمراد هنا النية القوية عند الشروع» بدل قوله : «والمراد الإفراط في العمل» إلى هنا .
3- أي الحديث 3 من باب (بدون العنوان) ورقم الباب 44 .
4- في «أ» : «المثناة فوق والمهملة» بدل : «المثناة ومهملة» .
5- في «ج ، د» : «فتر كنصر وضرب» بدل : «فتر الماء كنصر» .
6- في «د» : «إذا سكن يعد مدّة . والمراد هنا ترك الحرص في طلب الدنيا ، كما يكون عند موت الأحبّة ، أو المراد ضعف النيّة ، كما يكون في انتهاء العبادة» بدل : «إذا كان بين الحرارة» إلى آخره .
7- المائدة (5) : 6 .

(فَقَدِ اهْتَدى) أي إلى صراط مستقيم ، كما في سورة البقرة : «وَاللّه ُ يَهْدِى مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ»(1)في «ج ، د» : + «وطريقة الصوفية المدّعين للمكاشفة» .(2) ، وهو مضمون شواهد الكتاب الآمرة بسؤال أهل الذِّكر الناهية عن القول على اللّه بغير علم .

(وَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلى بِدْعَةٍ) أي منضمّة إلى بدعة هي ضدّ السنّة كطريقة أهل الاجتهاد والقياس .(2)

(فَقَدْ غَوى) ؛ كرمى ، أي ضلَّ عن الصراط المستقيم ؛ إذ خالف محكمات الكتاب .

وإنّما ذكر قسمي الفترة ولم يتعرّض للشره للإشارة إلى أنّ الشره بجميع أقسامه غواية ، أو لم يتعرّض للشره بأن يقول : فمن كان شرهه إلى سنّة فقد اهتدى ، ومَن كان شرهه إلى بدعة فقد غوى للإشارة إلى أنّ الغالب في الإنسان أنّ شرهه في طريقة باعث له على النفرة عمّا يضادّها ، دون العكس .

وأمّا على نسخة كسر المعجمة وشدّ المهملة فلعلّ ترك ذكر قسميها لأنّ قوله : «فمن كانت» لدفع توهّم أنّ كلّ ضعف في العبادة غواية ، ولا يتوهّم مثل هذا في الشرّة .(3)

سألني بعض علماء ما وراء النهر من المخالفين بمحضر جمع منّا ومنهم عن قوله تعالى : «فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ»(4) ، قال : ظاهره يوافق مذهبنا من أنّه يجب ابتداء الغسل من رؤوس الأصابع وانتهاؤه إلى المرافق ، فما وجه مذهب الشيعة من الغسل من المرافق إلى الأصابع ؟

قلت : ما ذكرت من كون ظاهره موافقا لكم مبنيّ على كون الظرف لغوا متعلّقا ب- «اغسلوا» بدون تضمين «اغسلوا» معنى الضمّ ونحوه ، وهو وإن كان أظهر لفظا ؛ لعدم .

ص: 593


1- البقرة
2- : 213 .
3- في «ج ، د» : «ولم يتعرّض لقسمي الشره للإشعار بأنّه غواية بقسميه أو لأنّهما يعلمان من ذكر قسمي الفترة بطريق أولى» بدل : «وإنّما ذكر قسمي الفترة» إلى هنا .
4- المائدة (5) : 6 .

الحاجة معه إلى تقدير متعلّق الظرف ولا تضمين ، لكنّه باطل معنى كما نقله ابن هشام منكم في مغني اللبيب عن بعض النحاة ؛ لأنّ ما قبل الغاية لابدّ أن يتكرّر قبل الوصول إليها ويتّصل بها ؛ تقول : ضربته إلى أن مات ، ولا يجوز : قتلته إلى أن مات ، ولا ركبت السفينة إلى مكّة . وغسل اليد ليس كذلك ؛ لأنّ اليد اسم إمّا لجميعٍ أحدُ طرفيه رؤوس الأصابع ، والآخر مفصل المرافق أو المناكب(1) ، وهذا لا يتكرّر غسله أو لا يقع أصلاً ، وإمّا لما بينه وبين المرافق فاصلة وهو الكفّ فقط ، أو الأصابع فقط ، وهذا لا يتكرّر غسله ولا يتّصل بالمرافق ، وقد صحّ عند الشيعة النقل بطريق أهل البيت أنّ الابتداء من المرافق واجب .

فسكت وأظهر القبول .

ثمّ قلت له : الأمر في مثل هذا سهل بعد العلم بمن يجوز أخذ تفسير القرآن والأحكام عنه ومَن لا يجوز ، فالأهمّ طلب الحقّ فيه . انتهى .

ثمّ إنّه أظهر بعض من كان في المجلس من أهل ما وراء النهر بعد ذلك التنبّه للحقّ وقال : كنت أسمع أنّكم لا تتّبعون القرآن ، فذكرتُ له حججا فتبرّأ من أئمّة الضلالة ومجتهديهم .

إن قلت : يستعمل غسل الشيء في غسل جزئه ، وعلى هذا يتكرّر غسل اليد إلى المرافق ، ونظيره : غسلت زيدا من رأسه إلى قدمه .

قلت : هو مجاز يحتاج إلى قرينة ، وإلاّ لم يدلّ قوله : «فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ» على وجوب غسل جميع الوجه .

إن قلت : قرينته رجحان كون الظرف لغوا بدون تضمين .

قلت : هذا الرجحان لا يصلح لترجيح مذهبكم على مذهبنا كما هو مدّعاكم هنا ، بل ولا يصلح للمعارضة أيضا ؛ لشيوع استعمال الظرف المستقرّ في مثله كما نذكر أمثلته بُعَيدَ هذا ، وعلى تقدير تسليم صلاحيته للمعارضة نقول : الرجحان لإرادة جميع اليد ؛ .

ص: 594


1- مغني اللبيب ، ج 2 ، ص 533 .

ليوافق قوله : «وجوهكم» ؛ لوجوب إرادة الجميع فيه وليخالف ما خالفه بدخول الباء من قوله : «بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ» .

إن قلت : فبِمَ تعلّقت «إلى» ؟ وما ظاهر الآية ؟

قلت : إمّا أن تتعلّق بانضمام مقدّر والظرف حينئذٍ مستقرّ حال مقيّدة عن «أيديكم» ، أو باغسلوا بتضمينه معنى الضمّ ، ونظائره كثيرة ، كقوله تعالى في سورة آل عمران حكايةً عن عيسى : «مَنْ أَنْصَارِى إِلَى اللّه ِ»(1)النساء (2) : 2 .(3) ، وفي سورة هود : «وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ»(4) ، وفي سورة النساء : «لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ»(3) ، فظاهر الآية أنّ المرافق خارجة عن المراد باليد هنا ، وأنّه يجب غسل المرافق أصالة لا من باب المقدّمة ، وأنّه يجب ابتداء الغسل من المرافق ؛ لأنّ الضميمة تابعة لما تنضمّ إليه ، ألا ترى أنّ نصرة اللّه مقدّمة على نصرة الرسول ، ولذا قال الحواريّون في جواب(4) عيسى : «نَحْنُ أَنْصَارُ اللّه ِ»(5) وقد أساؤوا في هذا الجواب ، كما في «كتاب الروضة» في حديث نوح صلّى اللّه عليه يوم القيامة(6) ، وأصل قوّة المخاطبين مقدّمة على ما زيد ، وأكل الرجل ماله مقدّم على أكله مال اليتامى ، ففيه نهي عمّا هو الواقع المتعارف بينهم ، وإن دلّ الدليل من الخارج على أنّ العكس أيضا حرام بطريقٍ أولى ، وفائدة التقييد بقوله : «إلى أموالكم» تجويز أكلهم إيّاها في الجملة لا كسائر أموال أنفسهم ، كما في قوله تعالى : «فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ»(7) ، ونظيره التقييد في قوله في سورة النساء : «إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْما»(8) ، وكقولهم : فلان وُلّي الكوفة إلى البصرة ، وفلان فعل كذا إلى ما فعله ، وقال امرؤ القيس : .

ص: 595


1- آل عمران
2- في «ج» : + «حديث» .
3- : 52 .
4- هود (11) : 52 .
5- آل عمران (3) : 52 ؛ الصف (61) : 14 .
6- الكافي ، ج 8 ، ص 267 ، ح 392 .
7- النساء (4) : 6 .
8- النساء (4) : 10 .

له كَفَلٌ كالدِّعْصِ لَبَّدَه النَّدى *** إلى حارِكٍ مثلِ الرِّتَاجِ المُضَبَّبِ(1) .(2)

أي منضمّا إلى حاركٍ .

وقال النابغة الجَعْدي :

ولوحُ ذراعينِ في بركة *** إلى جُؤْجُوءٍ رَهَّلَ المَنْكِبَ(3)

وهذا أكثر من أن يُحتاج إلى الإطناب فيه .

وهذا الاحتمال هو المراد لمن قال : إنّ «إلى» هنا بمعنى «مع» ، بل يحتمل أن ينزّل عليه ما يجيء في «كتاب الطهارة» في خامس الثامن عشر(4) من قوله عليه السلام : «إنّما هي فاغسلوا وجوهكم وأيديكم من المرافق» .

وقال نجم الدِّين الرضيّ رحمه الله :

في [قوله تعالى(5)] «إِلَى أَمْوَالِكُمْ» ، والتحقيق أنّها بمعنى الانتهاء ، أي تضيفونها(6) إلى أموالكم ، وكذا قوله : «إِلَى الْمَرَافِقِ» أي مضافة إلى المرافق ، والذود إلى الذود إبل ، أي مضافة إلى الذود ، وقوله :

وأنتِ التي حبّبتِ شغبا إلى بدا *** إلي ، وأوطاني بلاد سواهما(7) .

ص: 596


1- الدعص : كثيب : الرمل ، شبّه به كفل فرسه ، والحارك : رأس الكتف ، والرتاج : الباب العظيم ، وضبب الباب : جعل فيه ضبة ، وهي حديدة أو خشبة يضبب بها الباب .
2- رسائل المرتضى ، ج 1 ، ص 214 ، حكم غسل اليدين في الوضوء ؛ تهذيب الأحكام ، ج 1 ، ص 57 ، باب صفة الوضوء ؛ التبيان ، ج 3 ، ص 450 ؛ مجمع البيان ، ج 3 ، ص 284 ؛ لسان العرب ، ج 1، ص 380 ، و ج 11 ، ص 601 ؛ تاج العروس ، ج 1 ، ص 490 .
3- تهذيب الأحكام ، ج 1 ، ص 57 ؛ التبيان ، ج 3 ، ص 451 ؛ تفسير الثعلبي ، ج 1 ، ص 156 ؛ لسان العرب ، ج 3 ، ص 156 (حمد) ؛ و ج 15 ، ص 167 (فيا) .
4- أي الحديث 5 من باب حدّ الوجه الذي يغسل .
5- ما بين المعقوفين من المصدر .
6- في المصدر : «تضمونها» .
7- شغب : ضيعة خلف وادي القرى كانت للزهري ، وبدأ واد قرب إيلة من ساحل البحر ، وقيل : بوادي القرى . وقيل : بوادي عذرة قرب الشام. معجم البلدان ، ج 1 ، ص 356 (بدا) ؛ و ج 3 ، ص 352 . والبيت نسبه لجميل في تفسير القرطبي ، ج 9 ، ص 267 ؛ وحكاه عن بعضم في معجم البلدان ، ج 1 ، ص 357 ؛ ونسبه لكثير عزة في وفياتْْالأعيان ، ج 4 ، ص 179 ؛ وكذلك في معجم ما اسعجم ، ج 1 ، ص 230 ؛ ولسان العرب ، ج 14 ، ص 68 (بدا) ؛ وتاج العروس ، ج 2 ، ص 121 (شغب) .

أي مضافا إلى بدا .(1) انتهى .

وقال الجوهري : «الذود من الإبل ما بين الثلاث إلى العشر ، وفي المثل : الذود إلى الذود إبل ، قولهم : إلى بمعنى مع ؛ أي إذا جمعت القليل مع القليل صار كثيرا»(2) انتهى .

وأمّا أن تتعلّق بانتهاء مقدّر والظرف مستقرّ حال موضحة هي قرينة المراد من اللفظ المشترك وهو أيديكم ، فظاهر الآية أنّ غسل المرافق من باب المقدّمة ، وهي مجملة بالنسبة إلى ما يجب ابتداء الغسل منه ، وهذا الاحتمال هو المراد لمن قال : إنّ «إلى» هنا لانتهاء المغسول لا انتهاء الغسل ، والاحتمال الأوّل أظهر لشيوع نظائره في الاستعمال إذا كان الظرف مستقرّا ، وأنّ التأسيس أظهر من التأكيد لكن يبعده الموافقة لقوله : «إِلَى الْكَعْبَيْنِ»(3) ، ونظيره قوله : «أَقِمْ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ»(4) ، إلاّ أن يُقال : العدول عن الظاهر في موضع لدليل لا يوجب اطّراده في نظائره .

ويؤيّد ذلك أنّ الوضع الطبيعي مع قطع النظر عن خطاب الشارع في مسح الرجل أن يكون من الأصابع ، وفي غسل اليد أن يكون من المرفق ، كما أنّه في غسل الوجه أن يكون من قصاص الشعر ، والعلم عند اللّه وأهل الذِّكر عليهم السلام .

الحادي عشر : (عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْبَرْقِيِّ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حَسَّانَ ؛ وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيى ، عَنْ سَلَمَةَ) ؛ بالمهملة واللام المفتوحتين . (بْنِ الْخَطَّابِ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حَسَّانَ ، عَنْ مُوسَى بْنِ بَكْرٍ ، عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَعْيَنَ ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام ، قَالَ : كُلُّ مَنْ تَعَدَّى السُّنَّةَ) . مضى معنى السنّة في شرح عنوان الباب . .

ص: 597


1- شرح الرضي على الكافية ، ج 4 ، ص 272 .
2- الصحاح للجوهري ، ج 2 ، ص 471 (ذود) .
3- المائدة (5) : 6 .
4- الإسراء (17) : 78 .

(رُدَّ) ؛ بصيغة المجهول الماضي من المضاعف من باب نصر ، ويحتمل أن يكون بصيغة المصدر منه ؛ أي مردود ، كما فيما يجيء في سابع عشر «باب شراء الرقيق» في «كتاب المعيشة» من قوله : «وكلّ شرطٍ خَالَفَ كتابَ اللّه فهو رَدٌّ» .

(إِلَى السُّنَّةِ) . الظرف متعلّق بردّ ؛ أي يجب عليه إرجاع نفسه إلى السنّة ، أو يجب على الناس إرجاعه إلى السنّة . ويحتمل كون «ردٍ» بصيغة الصفة المشبهة من الناقص ، أصله «ردي» ككتف اُعلّ إعلالَ غاز ، يُقال : رجل ردٍ من باب علم ، أي هالك ، ويُقال : ردي فلان من باب ضرب ، أي ذهب وردي ، في البئر من باب ضرب وعلم ، أي سقط كتردّى ؛ فيكون قوله : «إلى السنّة» كلاما برأسه ، ويكون الظرف متعلّقا بمحذوف ؛ أي توجّهوا إلى السنّة وخذوا بها ، ونظيره ما يجيء في «كتاب الحجّة» في «باب ما يفصل به بين دعوى المحقّ والمبطل في أمر الإمامة» عن أبي الحسن موسى عليه السلام : «لا إلى المرجئة ، ولا إلى القدريّة ، ولا إلى الزيديّة ، ولا إلى المعتزلة ، ولا إلى الخوارج ، إليّ إليّ» .(1)

وروى البخاري ومسلم عن رسول اللّه صلى الله عليه و آله أنّه قال : «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو ردّ» .(2)

الثاني عشر : (عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنِ النَّوْفَلِيِّ ، عَنِ السَّكُونِيِّ ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّه ِ عليه السلام ، عَنْ آبَائِهِ عليهم السلام ، قَالَ:) أي أبو عبداللّه عليه السلام وذلك لأنّ الوسائط معصومون .

(قَالَ أَمِيرُ الْمُوءْمِنِينَ عليه السلام : السُّنَّةُ سُنَّتَانِ) أي ما سنّه اللّه تعالى لعباده على قسمين .

(سُنَّةٌ فِي فَرِيضَةٍ) . المراد بالفريضة ما فرضه اللّه تعالى ، كاتّباع الآيات البيّنات المحكمات الناهية عن اتّباع الظنّ قبل اتّباع الآيات المتشابهات ، وكالصلاة في قوله : «أَقِمْ الصَّلاَةَ» .(3) .

ص: 598


1- وهو الحديث 7 من باب ما يفصل به بين دعوى المحق والمبطل في أمر الامامة .
2- صحيح بخاري ، ج 3 ، ص 167 ، كتاب الصلح ؛ صحيح مسلم ، ج 5 ، ص 132 ، باب نقض الأحكام الباطلة وردّ محدثات الاُمور .
3- الإسراء (17) : 78 ؛ لقمان (31) : 17 .

(الاْءَخْذُ بِهَا) أي بالسنّة في الفريضة . والمراد بالأخذ بها هاهنا التمسّك بها ورعاية حدودها .

(هُدًى) ؛ بضمّ الهاء وفتح الدال والقصر : الرشاد .

(وَتَرْكُهَا) أي ترك السنّة في الفريضة .

(ضَلاَلَةٌ) ، هي أشدّ الذنب ، وضدّها الهدى .

(وَسُنَّةٌ فِي غَيْرِ فَرِيضَةٍ ) أي في غير ما فرضه اللّه ، وذلك كالمندوبات ، نحو : «فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ»(1)في الكافي المطبوع : «خطيئةٍ» بالجر .(2) ، ونحو : «فَكَاتِبُوهُمْ»(3) ، وكالآداب ، نحو : كلّ ممّا يليك ، وكالإرشاد ، نحو : «وَاسْتَشْهِدُوا»(4) .

(الاْءَخْذُ بِهَا فَضِيلَةٌ) أي كمال للمكلّف .

(وَتَرْكُهَا إِلى غَيْرِ خَطِيئَةٌ) .(4) إن كان «غير» منوّنا أو مقطوعا عن الإضافة بغير تنوين مضموما فالظرف لغو متعلّق بتركها بتضمين معنى التوجّه ، و«خطيئة» خبر المبتدأ ، ومعنى الترك إلى الغير الترك بالكلّيّة ، وإن كان مضافا إلى «خطيئة» فإلى بمعنى «مع» والظرف مستقرّ خبر المبتدأ ، والخطيئة على الأوّلين بمعنى التخطّي عن المرغوب ، وعلى الأخير بمعنى الذنب ، ويؤيّد الأوّلين رواية البرقي في المحاسن «إلى غيرها» .(5)

تَمَّ كِتابُ الْعَقْلِ ، وَالْحَمْدُ للّه ِِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَيَتْلُوهُ كِتَابُ التَّوْحِيدِ .(6) .

ص: 599


1- النساء
2- : 3 .
3- النور (24) : 33 .
4- البقرة (2) : 282 .
5- المحاسن للبرقي ، ج 1 ، ص 224 ، باب الاحتياط في الدين والأخذ بالسنّة ، ح 140 .
6- في الكافي المطبوع : «تمّ كتاب العلم ، والحمد للّه رب العالمين وصلّى اللّه على محمّد وآله الطاهرين» .

ص: 600

فهرس المطالب

فهرس المطالب

تصدير............... 5

مقدّمة التحقيق............... 7

1. حياته............... 7

2. خصوصيّاته العلميّة والروحيّة............... 13

3. آراء معاصريه فيه............... 21

4. آثاره العلميّة............... 26

5. الردود على مؤلّفات ملاّ خليل............... 35

6. مخطوطاته............... 38

7. اُسرته............... 39

8. الأوضاع العلميّة والثقافيّة في قزوين في زمن ملاّ خليل............... 41

9. ملاّ خليل والأخباريّون............... 45

10. المصادر............... 49

11. الشافي في شرح الكافي............... 51

1/11. مخطوطات الشافي المهمّة............... 52

2/11. النسخ المعتمدة............... 57

3/11. عملنا في الكتاب............... 59

كلمة شكر وتقدير............... 61

ص: 601

الشافي في شرح الكافي

خطبة الكافي............... 79

باب العقل والجهل............... 163

باب فرض العلم ووجوب طلبه والحثّ عليه............... 284

باب صفة العلم وفضله وفضل العلماء............... 291

باب أصناف الناس............... 302

باب ثواب العالم والمتعلّم............... 309

باب صفة العلماء............... 320

باب حقّ العالم............... 332

باب فقد العلماء............... 334

باب مجالسة العلماء وصحبتهم............... 340

باب سوءال العالم وتذاكره............... 346

باب بذل العلم............... 354

باب النهي عن القول بغير علم............... 357

باب من عمل بغير علم............... 371

باب استعمال العلم............... 375

باب المستأكل بعلمه والمباهي به............... 387

باب لزوم الحجّة على العالم وتشديد الأمر عليه............... 394

باب النّوادر............... 399

باب رواية الكتب والحديث وفضل الكتابة والتمسّك بالكتب............... 435

باب التقليد............... 447

باب البدع والرأي والمقاييس............... 453

باب الردّ إلى الكتاب والسنّة ، وأنّه ليس شيء من الحلال والحرام و.................. 509

باب اختلاف الحديث............... 536

باب الأخذ بالسنّة وشواهد الكتاب............... 581

ص: 602

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.