أجوبة الشبهات الکلامية (المعاد) المجلد 5

هوية الکتاب

العتبة العباسية المقدسة

المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية

قسم الکلام والعقیدة

أجوبة الشبهات الكلامية / 5

المعاد

تأليف محمّد حسن قدردان قراملكي

ترجمة موسى أحمد قصير

ص: 1

اشارة

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 3

العتبة العباسية المقدسة

المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية

يعنى بالاستراتيجية الدينية والمعرفية

أجوبة الشبهات الكلامية / 5

المعاد

تأليف محمّد حسن قدردان قراملكي

ترجمة موسى أحمد قصير

الإخراج الفني نصير شكر

المطبعة دار الكفيل للطباعة والنشر والتوزيع

الطبعة : الأولى 1437ه- / 2016م

ص: 4

مقدمة

إن هذا الكتاب الذى نقدّمه للقارئ هو الجزء الخامس من سلسلة (أجوبة الشبهات الكلامية)، يتضمن هذا الجزء تحليل ونقد الشبهات المثارة حول المعاد (بما فيه البرزخ والقيامة) والإجابة عليها، حيث تبنّى المؤلّف الإجابة على سبعين شبهة تقريباً فيما يخصّ إنكار المعاد، الموت وعالم البرزخ أقسام المعاد (من حيث الجسماني والروحاني) القيامة والحشر الجنة والعذاب الأخروي.

يسعى المؤلف أن يعالج شبهات المعاد من وجهة نظر كلامية (الكلام الفلسفي)، وهو المنهج الغالب لكن ربما تتم الاستعانة بالمنهج العرفانى أيضاً. والأمر المهم هو أنّ جواب الشبهات كمّاً يقدّر بحسب أهمية الشبهة حيث ربما تستغرق شبهة أكثر من عشر صفحات. والمطالع يرى في هذا الكتاب مضافاً إلى جواب الشبهات، آراء ونقاط جديدة كانت حصيلة تأملات المؤلف ومن بنات أفكاره.

ص: 5

لا يخفى أهمية الموضوع على القارئ الكريم، إذ إنّ المعاد من أركان الإسلام، وقد طُرحت حوله شبهات كثيرة منذ النبوات السابقة، مضافاً إلى محاولة إعادة صياغة تلك الشبهات من جديد في الآونة الأخيرة من قبل بعض المتنورين وبثّها في مواقع التواصل الاجتماعي والإنترنت، كما أنّ الهدف من هذا الكتاب هو التبيين العقلاني لمسألة المعاد ودفع الشبهات.

مزايا هذا الكتاب:

[يمتاز هذا الكتاب بعدة أمور ]:

1 .كون الموضوع جديداً: فيما يخص موضوع المعاد وتبيين مسائله وإن تم تدوين كتب وبحوث متنوعة تمّ فيها الإجابة عن بعض الشبهات، ولكن ندعي أنّ التدوين المستقل والجامع لمختلف الشبهات والإجابة عنها كلامياً وفلسفياً لم يسبق بمثيل، ولذا يُعدّ هذا الكتاب هو الأوّل في هذا المجال.

2. الإبداع في الإجابة عن بعض الشبهات وإعطاء تقرير جديد في مقام التبيين. حاول المؤلّف في هذا الكتاب عند التطرّق لمسائل المعاد من قبيل القبر والعذاب والسؤال والصراط وميزان الأعمال، وصحيفة الأعمال.... اصطياد أفضل الأجوبة وأتقنها من خلال التأمّل في النصوص الدينية وتراث العلماء والفلاسفة من قبيل صدر المتألهين والفيلسوف والمفسر الكبير المعاصر العلامة الطباطبائي، ولذا تم البحث في كثير من

ص: 6

النصوص الفلسفية والكلامية والتفسيرية مع الاستعانة بمختلف البرامج الإلكترونية، وفي الواقع قد تمّ إعطاء تقرير جديد لمختلف الأجوبة المبثوثة في الكتب الفلسفية والكلامية. مضافاً إلى هذا فإنّ بعض الأجوبة والآراء من قبيل علة عدم لزوم اجتماع نفسين في الجسم الأخروي (شبهة التناسخ) من منظار المعاد الجسماني والروحاني، وكذلك ترميم وتكميل نظرية ملا صدرا في المعاد الجسماني فإنّها من بنات أفكار المؤلّف.

3.الإحاطة بالشبهات جمع هذا الكتاب بين دفتيه بحدود سبعين شبهة من مختلف المصادر سواء كانت الكتب التاريخية القديمة أو الجديدة، وكذلك الشبهات المثارة في مختلف المواقع الإلحادية.

4.التنوع في الإجابات. حاول المؤلّف في مقام إعطاء أجوبة مقنعة وعلميّة أن يستعين بالمنهج العقلي (الكلام الفلسفة والعرفان) والمنهج النقلي (الآيات، الروايات والتاريخ) وفي الواقع قد يعطى للشبهة الواحدة عدّة أجوبة مختلفة من وجهات نظر متنوّعة كى تلبّي حاجة القارئ وما يحمله من خلفيات معرفية مختلفة. وقد تكون بعض الإجابات ثمرة تأملات المؤلف.

5.الاستناد والتوثيق من مزايا هذا الكتاب أنّه يختلف عن باقي الآثار التي تكتفي بذكر الشبهة وجوابها، حيث يحتوي هذا الكتاب على ذکر صاحب الشبهة ومن أجاب عنها وكذلك توثيق المصادر، وذلك

ص: 7

للاطمئنان بالأجوبة مضافاً إلى إعانة الباحثين والمحققين في الاطلاع على متون المصادر.

وفي الختام أقدّم شكري للهيئة العلمية في قسم الكلام والدين التابع للمجمع العلمي للثقافة والفكر الإسلامي، ومدير القسم الباحث الفاضل الأستاذ قاسم أخوان نبوي، وكذلك الدكتور حميد شاكرين والدكتور أبو الفضل كيا شمشكي للمراجعة العلمية وإبداء بعض الملاحظات التكميلية.

محمد حسن قدردان قراملكي

* * *

ص: 8

تَمهید

الأول - الروح وإثبات تجرّدها:

من المباحث الهامّة والأساسية في بحث المعاد قضية الروح والتعرّف إليها. لذلك نبدأ بتعريف الروح وتبيانها من وجهات نظر مختلفة:

أ) التفسير المادي: الماديون الذين تبنّوا حصر الوجود بالمادة، أنكروا كلّ وجود غير مادي مثل الله تعالى، وتبعاً لذلك أنكروا وجود الروح والظواهر الروحية أيضاً، واعتبروا أنّ حقيقة الإنسان في وجوده المادي، وأنّ الإدراكات والمعلومات البشرية هي نتاج للدماغ وخلاياه وكان الماديون أكثر المؤيدين لهذه النظرة(1).

ص: 9


1- «عندما تلتقي أجزاء المادة في زمان ومكان خاص تصبح من ذوات الروح، والروح هي أجزاء ذي الروح. وعندما تتغيّر هذه العلاقة بشدّة تصبح المادة دون روح. وكان البشر في خطأ عند تناولهم لموضوع الروح، عندما اعتبروا أنها موجود خاص، وتصوّروا أنها ما وراء المادّة. في حين أنّ الماديّة الديالكتيكية تبحث عنها بما يتعلّق بالمادة. واعتبروا أنّ المادة تنتج الروح ، وليس للروح وجود خاص، خلافاً لعقيدة الميتافيزيقيين». (تقي أراني، بسكولوجية الروح: ص 31-32).

واعتبر ملحدون آخرون أنّ الروح «طاقة»(1).

أمّا الماديون الجدد فقد قدّموا رؤية جديدة حاولوا من خلالها اعتبار الحياة والذهن والفكر قائمة بمساعدة التوجيه الكهربائي للدماغ وقوانين الحياة الكيميائية، وأنّ الإنسان آلة أو جسم مركّب ومعقّد(2).

ب) اعتبار الروح جسماً لطيفاً: بعض المؤمنين بوجود اللّه أقرّوا بوجود الروح لكنّهم أنكروا تجرّدها واعتبروا أنّ الروح نوع من الوجود المادي، لكنّه لطيف وأرقّ من المادى، وأنّ اللّه تعالى خلقها لتدبير بدن الإنسان(3).

ويقصدون بالجسم اللطيف أنّه وجود كالنور والدخان والماء والزيت السائل الذي يستطيع النفاذ إلى الأجسام الأخرى لرقته. كالماء الذي ينفذ إلى الشجرة بسهولة، ليصل إلى الفاكهة بعد اجتياز الجذور والجذوع.

ج) الوجود المجرّد: فيما اعتبر الفلاسفة وبعض المتكلمين (4)أنّ وجود

ص: 10


1- مسعود الأنصاري (روشنگر) ، الله أكبر ص 102 وشهريار الشيرازي، أنبياء الحكمة في مواجهة الظلام إعداد هوشنگ معین زاده ص 81
2- أيان ،باربور، العلم والدين ترجمة بهاء الدين الخرمشاهي : صص8، 352، 357.
3- محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار: ج 58 ، صص 35 و75 وما بعدها/ وج61، ص 1/ ومحمد باقر ملكي، توحيد الإمامية: ص 16 ومحمد رضا إرشادي نيا، نقد وتحليل نظرية التفكيك : ص 382
4- العلامة المجلسي خالف نظرية الفلاسفة، واعتبر أنّ آراء بعض المتكلمين أمثال: الغزالي والكعبي والحليمي والقاضي أبو زيد الدبوسي ومعمر السلمي ونوبختيان والشيخ المفيد والطوسي مشابهة لآراء الفلاسفة (محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار: ج 7، ص 52 وج 58 ، ص 27 ، و 97).

الروح جوهر (وجود مستقل) مجرد(1). أي إنّ الإنسان يتشكّل من عنصرين: عنصر مادي هو البدن، وعنصر ما فوق الطبيعة أو مجرّد يسمّى الروح(2).

وهناك ثلاثة آراء معروفة حول مبدأ النفس والروح ومنشئهما، لكن لا مجال للإشارة إليها هنا(3).

لكن الوجه المشترك للآراء الثلاثة هو أنّ الحاكم والمدبّر الأساس للإنسان هي قوّة تصدر عنها الأفعال كالإدراك والتعقّل والإحساس والفرح والحزن والخوف والهيجان وبتعبير آخر، فإنّ الأفعال المذكورة لا تتم بأعضاء خاصّة

ماديّة من البدن؛ بل بقوّة ثابتة بسيطة شاملة. وهذه القوّة ليست من جنس

ص: 11


1- تجدر الإشارة إلى أنّ فلاسفة اليونان القدامى قبل سقراط وأفلاطون لم يكن المفهوم والوجود المجرّد عندهم واضحاً، لذلك كان تعبير معظمهم عن النفس تعبيراً مادياً موهوماً. لكنّهم كما أشار (كابلستون) لا يمكن اعتبارهم ماديو المسلك. (كابلستون، تاريخ الفلسفة : ج 1 ، ص 34 وللاطلاع أكثر على آراء الفلاسفة راجع: رضا أكبري الخلود ص 100).
2- رسائل ابن سينا: ص 216 شرح الإشارات: ج 1 ، ص 135.
3- القول الأول لأفلاطون وأتباعه الذين يعتقدون أن الروح كانت في عالم المثال قبل خلق البدن، وأضحت للبدن عند خلقه ( مجموعة مؤلفاته: ج 2، ص 632 ، وج4، ص 2200) القول الثاني لأرسطو وأتباعه الذين اعتبروا أن حدوث النفس توأم لخلق البدن. القول الثالث: لصدر المتألهين الذي يعتقد أنّ المادة بحركتها الجوهرية والتكاملية، أي حركة المني وتكامله إلى جسم نباتي ثمّ إلى نفس حيوانية ثم إلى نفس إنسانية صدر المتألهين الأسفار : ج 8، صص 23 و 233 و 244 و 326). والجدير ذكره هنا أنّ المقصود بتجرد النفس هو التجرّد في مقام الذات. أما النفس في مقام الفعل، فإنّها بسبب تعلقها بالمادة (البدن) تحصل علاقة متبادلة من نوع التأثير والتأثر، التي تناولت شرحها الكتب الفلسفية، وجاءت اليوم في كتب فلسفة الذهن.

المادة والطبيعة؛ بل إنّها أوسع منهما، وعناصر البدن خاضعة لأمرها. فبأمرها تتحرّك أعضاء البدن ويجول الفكر وقوّة التخيّل لتسيح زوايا بعيدة، مثلها كمثل قبطان السفينة الذى يمسك بيديه مقود السفينة.

إشارة إلى أقسام الوجود:

قبل تبيان أدلة وجود النفس، نقدّم توضيحاً موجزاً لأقسام الوجود:

أ) الوجود المادي: وهو وجود ملموس ومحسوس لنا، وله خصائص مثل: الطول والعمق والعرض والجرم واللون والتغيير وقابلية التقسيم وقابلية الإشارة الحسيّة ويمتلك البُعد الرابع أي الزمان(1).

ب) الوجود البرزخي: وهو وجود يمتلك الخواص الأربعة الأولى للمادي، إلّا أنّه يفتقر إلى خاصيتي الجرم والتغيير، مثل: الصور والأشكال التي يشاهدها الإنسان في منامه.

ج) الوجود المجرّد: وهو الوجود المفتقر إلى خصوصيات الوجودين المادي ،والبرزخي أي إنّه وجود مجرّد يفتقر إلى العمق والطول والعرض والحجم والجرم والتغيير والزمان وإمكانية الانقسام. لهذا وبسبب تجرّده من الخصوصيات تلك سمّى بالوجود المجرّد(2).

تجدر الإشارة إلى أنّ الوجود المجرّد نفسه ينقسم إلى قسمين: ممكن الوجود، وواجب الوجود. ممكن الوجود هو عالم العقول والملائكة، وواجب الوجود هو وجود الله تعالى.

ص: 12


1- راجع : محمد تقي مصباح اليزدي، تعليم الفلسفة : ج 2، ص 132 .
2- راجع نفس المصدر.

أدلّة وجود الروح المجرّدة(1):

نتناول فيما يلي تقريراً موجزاً لأدلّة تجرّد الروح:

أ) الأدلّة العقلية والفلسفية:

نتناول هنا تقريراً لعدّة أدلّة عقلية وفلسفية تثبت وجود الروح المجرّدة وبقائها :

1 - التصوّر المزدوج (العلم بتفاوت الروح والبدن):

تنقسم إدراكات الإنسان لنفسه إلى قسمين:

القسم الأوّل العلم بالأعضاء المادية مثل: اليد الرجل، لون الشعر، وزن البدن، وطوله وعرضه ووجود العضو المحدّد لازم في حصول هذه المعرفة.

القسم الثاني العلم ببعض الحالات مثل: الخوف والشجاعة، الفرح ،والحزن البغض والحنان والمحبة الرغبة والرفض إنّ تحقّق هذا العلم لا يحتاج إلى العلم بوجود أي عضو.

واللافت أنّ الإنسان في القسم الأوّل ينسب الأعضاء مثل اليد إلى «البدن» فيقول: يدي. في حين أنّ إدراكات القسم الثاني لا يمكنه أن ينسبها إلى «البدن». فلا يقول مثلاً بدني فرح أو مبغض. كما لا يصحّ أن تنسب إلى هذه

ص: 13


1- منكر و تجرّد الروح قسمان الملحدون وبعض المتكلمين والإخباريين، ومن المعاصرين المذهب التفكيكي. القسم الأوّل ينكر أصل المعاد، والقسم الثاني يقسم الوجود المادي إلى كثيف كالجسم الدنيوي، ولطيف كروح الجسم الأخروي. ومنكرو المعاد الروحي الذين يعتقدون بانحصاره بالمعاد الجسماني سيأتي توضيح ذلك في الصفحات اللاحقة والأدلّة التي تثبت تجرّد الروح الواردة في المتن تركز بمعظمها على القسم الأوّل من المنكرين.

الإدراكات صفات وخواص المادة مثل: الوزن والجرم الطول والعمق والعرض. الانقسام اليمين واليسار. ممّا يشكّل دليلاً آخر على التجرّد الوجودي لهذا القسم من الإدراكات.

عندما نتأمّل في هاتين النسبتين ندرك أنّ جميع حالات القسم الأخير تعود إلى ذات مركزية واحدة، وهي ذات تختلف عن البدن وتفوقه، وهي ما يعبّر عنها بأنا أو «الروح» والتي تؤدّي دور القائد والسلطان الذي يؤثّر على أعضاء البدن وأفعالها إذاً، فالإنسان مركّب من عنصرين أو ساحتين هما «البدن المادي» و«الروح» ويشعر الإنسان بهذه الثنائية ويدركها.

الفيلسوف الغربي ( رينيه ديكارت) يكتب في تقريره لهذا البرهان:

«فى البداية نجد أنّ هناك تفاوتاً عظيماً بين النفس والبدن لجهة أنّ الجسم لا يقبل القسمة دوماً، ذلك لأنّي عندما أتأمّل في نفسي التي تفكّر لا يمكنني أن أميّز أجزاءها، بل أعتبر نفسى شيئاً واحداً وتاماً، وإنّي على يقين أنّه إذا قطعت يدي أو قدمي أو أي عضو آخر من بدني فلن ينقطع بذلك شيء من نفسي».

لإثبات الدليل الفلسفي السالف (التصوّر المزدوج للبدن والروح) يمكننا الإشارة إلى بحوث بعض متخصّصي الأعصاب والدماغ مثل (فيلد واكنر) وسنورد تقريره في المقطع الرابع.

2 - انطباع الكبير على الصغير:

يستطيع الإنسان أن يشاهد أشياء مختلفة كالغابة، وعندها تنطبع في ذهنه صورة لوجود خارجي (معلوم بالذات). والأمر اللافت هو أنّ الإنسان عندما يرى صورة ذهنية فإنّه يراها بأبعادها الواقعية والخارجية، وليس بأبعاد

ص: 14

وحجم مصغّر. بينما الغابة أو المدينة عندما ترسم في خريطة توضع بمقاييس مصغّرة جدّاً ليطلع عليها الإنسان بنظرة واحدة في حين أنّ الإنسان يدرك الأشياء بصوره الذهنية بأبعادها الواقعية فلو كان الذهن، أو بعبارة أدق القوّة التي تتعلّق بها الصورة والمعلوم بالذات لو كانت مادّية للزم أن تكون أوسع مساحة وحجماً من الأشياء الكبيرة المنطبعة فيها، ذلك لأنّ حديقة مساحتها ألف متر يستحيل وضعها في حديقة مساحتها عشرة أمتار، وبما أنّ ذلك حاصل مع قوّة التصوّر عند الإنسان، فهذا يؤكّد وجود (الروح) المجرّدة.

3- ثبات الصور الذهنية :

استناداً إلى دراسات علماء ،الطبيعة فإنّ كلّ أعضاء البدن وخلاياه وحتّى الدماغ تتغيّر وتتبدّل مع مرور الزمان كلّ سبع سنوات تقريباً، ذلك لأنّ جميع الخلايا بحاجة للغذاء، واستهلاك الغذاء يستلزم الاحتراق(1). وهذا يعني

ص: 15


1- يقول (موليشوف) في هذا المجال: إنّ بدننا يتغيّر في كلّ شهر مرة. ويعتقد (فلورانس) أنّ كلّ سبعة أعوام تتجدّد كل خلايا بدننا». (قاعدة الفلاح: ص 84/ نقلاً عن: محمد باقر شريعتي السبزواري، المعاد من وجهة نظر العقل والدين: ص239/ مرتضى مطهري، مجموعة المؤلفات: ج 11، ص 451). عالم الروح الفرنسي الشهير (ليون ديني) يؤكد على تغيير كل خلايا البدن من دماغ وغيره (طبيعة الحيوان ص 32 الهورمونات ص (11) . ومن خلال بحثي في موقع غوغل وجدت أنّ كلّ خلايا الجلد والعظام تتلف خلال فواصل زمنية مختلفة، وأنّ الخلايا العصبية الرمادية للدماغ لا تتلف ويبقى عددها ثابتاً، وعندما تتم عملية الاحتراق تترك الذرات مكانها لخلايا مشابهة أي تتم عملية تغيير واستبدال. ورغم ذلك يؤكد متخصصو العلوم الطبية على عدم وحدة الجسم عند الإنسان بعد مرور أعوام (الدكتور مسعود الناصري دكتوراه عليا في الأساليب العددية في معادلات التصدير من انكلترا، موقع أدوات سينا .www.sina-soft .com).

أنّ القوّة الحافظة للصور الذهنية (الخلايا العصبية للدماغ) لو كانت مادية ويشملها الأصل السابق (مرور الزمان وتلف الخلايا الدماغية) لمحيت جميع معلومات الذهن من أخبار وذكريات وصور ذهنية، ولما تمكّن الإنسان بعد عدّة سنوات من استحضار ذكرياته المسموعة أو المرئية، في حين أنّ ما يحدث هو العكس، ذلك أنّ الإنسان يستعيد ذكرياته وصوره الذهنية بإرادة بسيطة من دون استخدام الأدوات المادية، ورغم مرور نصف قرن أو أكثر عليها. (هنري برجسن) العالم الفرنسي الشهير أثبت في كتابه المادة والتذكّر) تجرد الروح من خلال مسألة «التذكّر» والذاكرة.

ونشاهد ذلك في أيامنا هذه في أنواع أجهزة الحواسيب مثل: الأقراص المدمجة والهارد ديسك التي تستطيع حفظ المعلومات والصور إلى مدّة معيّنة، فإذا انقضت تلك المدّة انمحت المعلومات عنها.

رد على شبهة:

قد يدّعي أحد أنّ الخلايا العصبية تنقل معلوماتها إلى الخلايا الجديدة قبل أن تتغيّر القديمة وتتلف.

وفي الإجابة نقول: إنّ دراسات علماء الطبيعة أثبتت أنّه حتّى عندما تختل الخلايا العصبية التي تعتبر حافظة للصور الذهنية، فإنّ المعلومات السابقة تبقى ثابتة ومحفوظة عند الإنسان. وهذا يدلّ على أنّ من يحفظ الصور الذهنية هی الروح وليس الدماغ. جاء ذلك في مجلة العلم والحياة (1)، العدد 162.

ص: 16


1- Science et vie.

مارس 1988 ، في مقالة عنوانها«الدماغ والتذكّر» الصفحة 139(1).

والجواب الآخر حول تذكّر الصور السابقة سيأتي في الرقم الآتي.

4 - تذكّر الصور السابقة:

الملاحظة الدقيقة الأخرى هي علاوة على ثبات الصور الذهنية، فإنّ الإنسان قادر على تذكّر الصور الذهنية السابقة رغم مرور عدّة عقود عليها، ويمكنه أيضاً أن يجري مقارنة وتحليل لها ويشعر بالسعادة أو الحزن من استعادتها.

السؤال هو لو كانت كلّ تلك المعلومات والصور الذهنية مادية، حتّى لو صرفنا النظر عن الإشكال السابق (زوال الصور المادية) لكن ما هي القوّة التي تذكّرنا بالمعلومات السابقة؟

فالصور الذهنية السابقة للإنسان هي كمحتويات الأجهزة الدقيقة بحاجة لمحرّك وعلّة لإعادة استعراضها ،وقراءتها، تماماً كجهاز قراءة الأقراص المدمجة.

قد يقال إنّ محرّك الصور السابقة في الذهن هي خلايا عصبية خاصّة عندها يطرح هذا السؤال: ما هي علّة تحريك العصب الخاص؟

فإنّ كان الجواب هي المادّة، عندئذ سيستمر السؤال المتسلسل حتّى ينتهي بوجود قوّة فوق المادة تسمّى بالفكر والإرادة، وفي النهاية هي «الروح».

بعض علماء الطبيعة أكدوا على تأثير الإرادة (الوجود الروحاني

ص: 17


1- نقلاً عن مقدمة علي قلي بياني على كتاب المادة والتذكّر إطلالة على العلاقة بين الجسم والروح لهنري برجسن، ص 20.

المجرّد) على نشاطات أعصاب الدماغ، أي نظرية ثنائية الفهم والإدراك في الساحة البشرية ، فها هو (أيان بربور ) يقرّر في هذا المجال:

إنّ ثنائية الإدراك بين الذهن والدماغ أمر يعتقده كثير من علماء الطبيعة المتخصصين في الأعصاب. ففي ندوة بريطانية أذعن كلّ العلماء الحاضرين انّ النشاط العصبي للدماغ يتفاعل مع عالم الذهن الافتراضي. على سبيل المثال، فإنّ (فيلد ) يقول : «هناك عنصر روحاني ذو ماهية متفاوتة هو الذي يسيطر على هذه الحركة... إنّه شيء مختلف يستقر بين مراكز الحسّ والنشاط الذاتي يدير ويدبّر هذه الدائرة».

ويعتقد (أكلز) : إنّ إرادة الإنسان يمكنها أن تغلق المدارات العصبية من دون أن تتخطّى القوانين الطبيعية. ذلك لأنّ هذه الطاقة موجودة في إطار أصل عدم حتمية هايزنبرغ إنّه يقول: إمّا أن يكون للذهن أثره على حوادث الكوانتوم الواحد (ويزداد أثرها من خلال عمل تحريكي) أو باحتمال أكبر أن يكون هناك استبدال مستمر في كثير من مثل هذه الحوادث. وفي كلا الاحتمالين فإنّ التصوّرات تغيّر النشاط بسبب عامل «غير طبيعي»(1).

الملاحظة الأخرى هي أنّ القوّة المادية - بغض النظر عن الإشكال السابق - إذا قامت باستعادة الصور السابقة، فإنّ المقارنة بينها وإصدار الأحكام حولها أمر خارج عن قدرة المادة، ما سيأتي توضيحه تباعاً.

5 - التنسيق بين الصور الذهنية والحكم عليها:

إنّ الإنسان يدرك ويتصوّر صور مختلفة ومتعدّدة، ثمّ يصدر حكمه

ص: 18


1- أيان ،بربور العلم والدين، ترجمة بهاء الدين الخرمشاهي: ص 384-385.

عليها فيدرك أنّ تلكما الصورتين متشابهتين أو متباينتين أو متماثلتين أو متساويتين، أجمل أو أبشع أقدم أو أحدث.

على فرض أنّ الصورة مادية وقد خزنت في عضو مادي خاص كالعصب، وأنّها كصور الحاسوب يجري إدخالها ثمّ تخزينها ثمّ عرضها عند ،الحاجة، فهذا يقتضي أنّها لا تعرف شيئاً عن غيرها كما هو حال الصور والأفلام في الحاسوب أو آلة التصوير، لكن كما أشرنا فإنّ قوّة الإنسان وقدرته أوسع من ذلك، حيث يجري المقارنة وإصدار الأحكام حول موضوعين أو أكثر، وهذا دليل على وجود ما هو أشمل وأوسع من الدماغ والخلايا العصبية، إنّها قوّة موجودة تقوم بتنسيق الصور الذهنية، وهي قوّة مجرّدة(1).

ملاحظة:

إنّ قضية كيفية العلاقة بين البدن والذهن كانت طوال القرون المتمادية مجال بحث وجدل بين الفلاسفة، لكن خلال القرون الثلاثة الأخيرة قام علماء النفس وفلاسفة العلم وبصورة خاصّة في «فلسفة الذهن» قاموا بتبيان العلاقة بينهما، نحيل القارىء الفاضل ومحبّى هذه الدراسات إلى مصادرها(2).

ص: 19


1- راجع : محمد تقي مصباح اليزدي: تعليم الفلسفة : ج 2 ، الدرس 49 .
2- جون أر سيرل الذهن والدماغ والعلم الفصل الأوّل باول شرشلند، المادة والوعي الفصل الثاني جولين جينز منشأ الوعي الكتاب الأول كيت ميسلين إطلالة على فلسفة الذهن مايكل ،تالبوت عالم الهولو غرافيك، ترجمة داريوش مهرجويي علي عابدي الشاهرودي، الجو والزمان في الفيزياء / هنري برغسن، المادة والذاكرة إطلالة على العلاقة بين الجسم والروح ترجمة علي قلي البياني فرويد البحث النفسي جون هرمان رندل إطلالة على الفلسفة: ص192/ مجلة النقد والرأي: العدد 35 و 36.

6 - تصوّر العموميات أو الكليات:

تنقسم المفاهيم التي يتصوّرها الإنسان إلى قسمين: جزئي وعام أو كلي. فالجزئي هو وجود خاص ومتعيّن مثل: الحسن والحسين اللذين عندما يشاهدهما الذهن في الخارج يقوم برسم صورة لهما.

والقسم الثاني هو العام أو الكلّي، وينقسم بدوره إلى ثلاثة أقسام، مثل: مفهوم الإنسان، مفهوم العليّة والمفهوم الكلّي. ويعبّر عن الأوّل أنّه «معقولات أولى» وعن الثاني أنّه معقولات ثانية فلسفية وعن الثالث أنّه «معقولات ثانية منطقية».

الأقسام الثلاثة هذه لا وجود لها في الخارج بقيد الكليّة أو العموم، لكن مكان اتصاف القسمين الأوليين مثل: «حسن إنسان» و«الألف علّة الباء» هو عالم الخارج، مع وجود فرق هو أنّ عروض القسم الأوّل واتّصافه في الخارج، أمّا القسم الثاني فإنّ عروضه ذهنية واتصافه في الخارج.

القسم الثالث أي المفهوم الكلّي فإنّ عروضه واتصافه في الذهن(1).

والسؤال المطروح هنا: أين هو موطن الأمر الكلّي كالإنسان الكلّي مثلاً ما دام غير موجود في الخارج بسبب قيد كلّيته؟

فإن قيل إنّ موطنه الذهن المادي ينبغي القول في الإجابة عليه: عند حلول الصورة الذهنية في المادة فإنّها تبعاً للمحل ستأخذ خصوصية المادّة، أي الجزئية والاتّصاف بالقلّة والوضع المعيّن، وهو ما لا يتلاءم مع وصف «الكليّة». وبما أنّ «الإنسان الكلّي» قد احتفظ بكليّته، يعلم من ذلك إنّها ليست منطبعة

ص: 20


1- للاطلاع أكثر :راجع محمد تقي مصباح اليزدي، تعليم الفلسفة : ج 1 ، الدرس 15

على الذهن المادي، إذاً فوعاء الصورة الذهنية هو أمر وقوّة مجردة اسمها الروح المجرّدة»(1).

سيأتي تباعاً توضيح وملاحظات أخرى حول الروح وإحضار الأرواح في فصل الموت وعالم البرزخ تحت عنوان «إحضار الأرواح».

ب) الشواهد العلمية والتجريبية:

من خلال الأدلة والتوجهات العلمية والتجريبية المختلفة يمكن إثبات وجود الروح وبقائها بعد موت الإنسان إنّ بقاء الروح بعد الموت وفناء البدن يدل على ثنائية البدن والروح ووجود الروح في ما فوق الطبيعة، وهذا ما نوضحه باختصار:

1 - الارتباط بالأرواح:

لو كانت حقيقة الإنسان ووجوده مرتبطة بالمادة والجسم حصراً، للزم أن تنتهي جميع معلومات الإنسان وما يملكه بمجرد موته وتلف خلايا دماغه؛ لكن الارتباط والاتصال بأرواح الموتى وإحضار أرواحهم وتقديمهم للمعلومات والأخبار هو أفضل دليل على بقاء الروح بعد الموت.

الارتباط مع والاتصال بها أمر ،قديم، لكنّه أضحى خلال

الأرواح القرنين الأخيرين محط أنظار علماء تجريبيين بحيث شكّلت في بعض الدول اتحادات علمية تحت عنوان «إحضار الأرواح» (2)يقوم فيها شخص متخصّص

ص: 21


1- صدر المتألهين، الأسفار : ج 8، ص 261 و 280-290 .
2- Spirtism.

بدور (الوسيط) لإحضار روح إنسان محدّد ويطرح عليه الأسئلة، وتجيب روح ذلك الميت على الأسئلة (1)نشير هنا إلى (دانيال دانغلاس هوم) المقيم في أميركا خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر الذي ذاع صيته في أميركا وأوروبا. وأقرّ بأعماله الخارقة للعادة وتواصله مع الأرواح علماء من أمثال (السير ويليام كروكس) عالم الفيزياء والكيمياء البريطاني الشهير وعضو الاتحاد الملكي(2).

تقريراً لهذا الموضوع وإثباتاً للتواصل مع الأرواح ألفت عدّة روايات متواترة وكتب متعدّدة، نشير هنا إلى كتاب (الروح والعلم الحديث) وكتاب (الإنسان روح لا جسد) حيث جرى تسجيل ردود الأرواح على أسئلة الوسيط؛ بل جرى تصوير تمثّل الأرواح من خلال آلة تصوير خاصّة. وخلال العقود الأخيرة ومع تطوّر العلوم التطبيقية استطاع المتخصصون أن يحصلوا على بصمات الأرواح أيضاً(3).

ص: 22


1- أيزنغ ،واتسن الروح والعلم الحديث، ترجمة محمد رضا غفاري: ص 65 و 201.
2- نفس المصدر: ص 211 و 252 / رؤوف عبيد، الإنسان روح لا جسد، ترجمة زين العابدين كاظمي الخلخالي: ج 2، ص 682.
3- تجدر الإشارة إلى أنّ وجود الإنسان يمتلك جسماً مثالياً إلى جانب بدنه، وتمكن رؤيته كصور الرؤى الليلية، كما أنّ الروح المجرّدة يمكنها أن تتمثل، وقد دلّت العلوم التطبيقية والروحية على وجود جسم ألطف وأرق من الجسم المادي الفعلي للإنسان وعبّرت عنه بالبدن الأثيري أو حياة البلازما آيزنغ) واتسن، الروح والعلم الحديث، ترجمة محمد رضا الغفاري ص 44 مايكل ،تالبوت عالم الهولوغرافيك، ترجمة داریوش مهرجويي ص 234 رؤوف عبيد، الإنسان روح لا ،جسد ترجمة زين العابدين كاظمي الخلخالي ص 666 و 882 ناصر مكارم الشيرازي عودة الأرواح المعاد: ص 200)

خلال العقود الخمسة الأخيرة اخترع العلماء آلات تسجيل صوت يمكنها تلقي أمواج صوتية بتردّدات منخفضة تمكنوا من خلالها تسجيل أصوات الأموات وتلقيها. يمكننا أن نشير هنا إلى فريدريك يورغنزن، فردبرت كار الفيزيائي وكنستانتين روديو عالم النفس. وقام (روديو) بنشر كتابه عام (1969) في ألمانيا ذكر فيه نتائج دراساته. يقول الدكتور ليال واتسن في هذا المجال:

«لم يعد هناك أي شك حول صحة وجود هذه الأصوات. ذلك أنّ مئات الباحثين من أنحاء العالم بحثوا فيها وسجلوا تلك الأصوات، وهذا ما قمت به شخصياً أيضاً»(1).

هذا النوع من التواصل موجود أيضاً في أوساط المسلمين والعلماء، إذ إنّ بعض العلماء يقومون بحل مشاكلهم العلمية عبر التواصل مع الأرواح. فمثلاً (العلاّمة الطهراني) ينقل عن (العلاّمة الطباطبائي) أن أحد تلامذة أخيه (السيد محمد حسن الطباطبائي ) الذي كان يدرّس العلوم ومنها الفلسفة في مدينة تبريز قام بإحضار أرواح معظم العلماء من أمثال (أفلاطون) و(صدر المتألهين) وطرح عليهم الأسئلة. وينقل العلاّمة أنّ أخاه أرسل له رسالة يذكر فيها أنّه أحضر روح أبيه، وأنّ أباه لامه لعدم إهدائه جزءاً من ثواب تأليف (تفسير الميزان).

يضيف العلاّمة ويقول : لقد تعجبت عند قراءتي الرسالة، لأنّه لا أحد يعلم بذلك حتّى أخي، علماً بأنّي لم أهديه ذلك لأنّي لم أعتبره عملاً هاماً،

ص: 23


1- أيزنغ واتسن الروح والعلم الحديث، ترجمة محمد رضا الغفاري: ص 65.

لذلك قمت فوراً بإهداء ثواب تأليفه لروح والدي ووالدتي. وما زاد في تعجبي أنّني قبل أن أخبر أخي بإهدائي ثواب ذلك لوالديّ، أرسل إليّ أخي رسالة أخرى يخبرني فيها أنّه أحضر روح والدي ثانية، وأنّه يشكرني على هذه الهدية(1).

2 - الموت المؤقت:

عندما يقع حادث سير أو يصاب المرء بسكتة قلبية تحصل عنده حالة غيبوبة كاملة. ويمكن الإدعاء بأنّ روح ذلك المرء قد غادرت بدنه، لكنّه بعد مدّة تعود إليه الروح ويستعيد وعيه وتعبّر العلوم الروحية والطبية عن تلك الحالة ب- «أوتوسكوبي»(2).

الأمر المهم هو أنّ بعض الناس يتذكرون ما جرى خلال فترة غيبوبتهم من أمور مشتركة فيقولون مثلاً: كنت أرى جسدي وبكاء الحاضرين.

(ريموند مودي) طبيب نفسي حائز على الدكتوراه في الفلسفة، أورد في کتاب (الحياة بعد الموت) إحصاءُ لهذه الحالات(3).

(ميشال سابون) عالم آخر أجرى مقابلات (116) شخصاً من هكذا أشخاص طوال خمسة أعوام، ربع هؤلاء تحدّثوا عن ما شاهدوه خلال إغمائهم وغيبوبتهم(4).

ص: 24


1- السيد محمد حسين الطباطبائي، موسوعة معرفة المعاد : ج 1 ، ص 184.
2- Autoscopy
3- مايكل تالبوت، عالم الهولو غرافيك ترجمة داريوش مهرجوئي: ص332.
4- راجع جوديت هوبر وديك ترسي عالم الدماغ المدهش: ص 557 - 569/ أحمد الواعظي الإنسان في الإسلام: ص 88

من الواضح أنّه لو كانت حقيقة الإنسان وقوّة إدراكه ومعرفته منحصرة في جسمه وبدنه المادي، وعلى فرض أنّ جميع قوى البدن وأعضائه بما في ذلك الدماغ والحواس الخمسة تتوقّف وتتعطّل في حالة الغيبوبة أو الأوتوسكوبي، لا يوجد أي تبرير لتذكّر الإنسان بعد فقدانه لسلامته. لكن إذا اعتقدنا بوجود الروح التي هي أشمل من الوجود المادي للبدن، عندئذٍ نجد تبريراً للحالات المذكورة آنفاً.

الرؤيا الصادقة:

خلال النوم يطّلع الإنسان أحياناً على حوادث ماضية أو مستقبلية، أو يشاهد أماكن تثبت له صحة ذلك ومطابقته للواقع الخارجي فيما بعد. ولعل مثل هذه الرؤى تحصل للإنسان نفسه أو لبعض أقاربه. نشير هنا إلى رؤيا مشهورة لآية اللّه العظمى السيد المرعشي النجفي رأى فيها الشاعر شهريار، يقول:

«توسلت ليلاً أن أرى أحد أولياء اللّه في منامي. وفي الليلة ذاتها رأيت في المنام أنّي جالس في زاوية من مسجد الكوفة، وهناك أمير المؤمنين علي علیه السلام مع جماعة. قال أمير المؤمنين: ائتوني بشعراء أهل البيت. فأتوه بعدّة شعراء عرب ثم قال: ائتوني بشعراء اللغة الفارسية أيضاً. فجاء المحتشم وعدّة من شعراء اللغة الفارسية. عندها قال أين هو شهريارنا؟ فأتى شهريار خاطب أمير المؤمنين شهريار قائلاً: أسمعنا شعرك. فأخذ الشاعر شهريار ينشد:

علي أي هماي رحمت توچه آيتي خدا را *** که به ما سوا فکندی همه سایه هما را

ص: 25

يقول السيد المرعشي النجفي: عندما أنهى شهریار قصيدته استيقظت من نومي، ولم أكن قد رأيت شهريار من قبل ولم أعرفه. وفي النهار سألت: هل عندنا شاعر اسمه شهریار؟

قيل لي : نعم إنّه شاعر يقطن في تبريز.

قلت لهم: ادعوه نيابة عنّي ليأتي إليّ في قم.

وبعد عدّة أيام جاء ،شهريار، فوجدته نفس الشخص الذي رأيته في المنام ينشد لأمير المؤمنين علیه السلام. فسألته: متى نظمت قصيدة (على أي هماي رحمت)؟ فتعجّب شهریار وسألني من أين علمت أنّي قد نظمت هذه القصيدة؟ لأنّي لم أعط هذه القصيدة لأحد، ولم أحدّث أحداً بها.

يقول السيد المرعشي النجفي لشهريار قبل عدّة ليالٍ رأيت في المنام انّی في مسجد الكوفة، وأنّ أمير المؤمنين علیه السلام كان موجوداً، فطلب أن يأتوه بشعراء أهل البيت فجاء جمع من شعراء العرب. ثمّ قال أمير المؤمنين: ائتوني بشعراء اللغة الفارسية. فجاء هؤلاء أيضاً. ثمّ قال: أين شهريارنا؟ ائتوني بشهريار فجئت أنت أيضاً عندها قال لك: أنشد قصيدتك يا شهريار. فشرعت بإنشاد قصيدة حفظت مطلعها. فتأثّر شهريار كثيراً وقال: نظمت قصيدتي في الليلة الفلانية وكما ذكرت لك لم أخبر أحداً بنظمي لها.

قال السيد المرعشي النجفي: عندما ذكر شهريار تاريخ وساعة نظمه للشعر تبيّن أنّى قد شاهدت تلك الرؤيا في نفس الوقت الذي أنهى شهريار آخر عجز من قصيدته».

4 - الاستشراف:

أضحى الاستشراف للمستقبل أو توقّع المستقبل في الغرب المعاصر

ص: 26

فرعاً من علم الميتابسيشيك وإدراكات ما فوق الحس، ويؤيده علماء من أمثال : الدكتور الكسيس كارل (1)وهانس يورغن آيزنك(2).

استناداً إلى بعض الوقائع المتعدّدة فإنّ بعض الناس يمتلكون القدرة على توقّع الحوادث البعيدة أو القريبة ففي الغرب هناك تنبؤات نوسترداموس (1503 - 1566) المدهشة، ومنها : سقوط سجن الباستيل، العثور على رسالة غير موقعة في خزنة ملك فرنسا ظهور نابليون وانتصاره على الثوار، لقبه الجديد وعودته من المنفى حرب الأسد الشاب (إشارة إلى القائد الشاب الفرنسي هنري الثاني) وفقأ عين الملك وموته بسبب العملية الجراحية(3).

الأمر اللافت أنّه نسب نبوءاته إلى نور الله ولطفه(4).

وفي أوساط العلماء والعرفاء المسلمين هناك نبوءات كثيرة منها: الإخبار عن وفاة الشخص نفسه أو وفاة ،آخرين على سبيل المثال ينقل العلامة الأستاذ الشيخ محمد تقي الجعفري:

«عندما كنت في النجف أدرس عند الملا تقي الطالقاني، عطل الأستاذ الدرس في أحد الأيام، وعندما أصررت عليه أن يخبرني عن السبب قال: لقد ذهب الطالقاني وبقي جلاله. بمجرد أن سمعت هذه الجملة أدركت أنّه يخبرني

ص: 27


1- راجع الكسيس كارل، الإنسان ذلك الموجود المجهول: ص 140 .
2- راجع هانس يورغن آيزنك، الصحيح وغير الصحيح في علم النفس ترجمة إيرج آیین ص 92 .
3- راجع ريدرز دايجست بوك، عالم العجائب، ترجمة ارغوان وشهكام جولائي: ص 153 وما بعدها.
4- راجع شرف الدين الأعرجي، تحليل لنبوءات نوستر داموس ص17.

عن قرب وفاته. فطلبت منه أن يعظني فقال:

تارسد دستت به خود شو کارگر *** چوفتی از کار خواهی زد به سر(1)

هذه الحقائق هي أفضل دليل وشاهد على أنّ حقيقة الإنسان لا تنحصر بجسمه ،المادي، بل هناك وراء ستار هذا البدن الترابي حقيقة اسمها «الروح» لذلك يستطيع الإنسان أحياناً أن يطّلع على أمور مستقبلية غيبية من خلال وجود فيه هو أبعد من المادة. لكن عندما نعتبر أنّ الإنسان منحصر في وجود المادة والدماغ المادي فقط، عندئذٍ لا نستطيع تفسير المعلومات المذكورة، ذلك لأنّ الدماغ المادي قد يستطيع الاحتفاظ بالمعلومات السابقة، وتذكرها واستعادة تلك المعلومات، لكنّه عاجز عن تنبؤ المستقبل(2).

الثاني - إمكانية المعاد :

المعاد بمعنى حياة الناس بعد الموت وإعادة الروح إلى البدن الدنيوي هل هو أمر ممكن؟

عندما ندقّق في هذا السؤال نجد فيه أمرين يمكن تحليلهما الأوّل وجود الروح وبقائها بعد الموت والثاني انبعاث البدن الدنيوي وعودته بعد فنائه.

تحدثنا في البحث السابق عن إثبات تجرّد الروح، واتضح لنا أنّ الروح هي حقيقة مجرّدة لا يفنى وجودها مع موت البدن، ذلك لأنّ الموت يعني موت

ص: 28


1- سمعت هذه القصة منه شخصياً.
2- للاطلاع أكثر راجع ناصر مكارم الشيرازي المعاد وعالم ما بعد الموت: ص 186-226 .

البدن وفساده وليس الروح، وأنّ الفناء والفساد والتغيّر من صفات المادة، لذا فإنّ تعميم هذه الصفات على وجود آخر «مجرد هو الروح» أمر يحتاج إلى دليل، ففي الحقيقة عند حصول الموت لن تموت الروح لنبحث في إمكانية بقائها وحياتها بعد الموت. كما إنّ أدلة إحضار أرواح الأموات وغيرها تشير إلى بقاء الروح وليس إلى إمكانية حياتها فقط، وقد وضحنا ذلك سابقاً.

إمكانية عودة الحياة للبدن الدنيوي:

وضع بعضهم شبهة حول عدم إمكانية عودة الحياة إلى البدن المادي في البعث بعد الموت ولم يركز على الروح، واعتبر أنّ تجديد البدن الجسماني وإحياءه المعاد (الجسماني) أمر محال. لذلك نشير هنا إلى بعض الملاحظات في نقد هذه الشبهة :

1 - الروح هي حقيقة الإنسان:

إنّ حقيقة الإنسان والركن الأساس في وجوده هي الروح وليس الجسم المادي، فللروح حقيقة ثابتة طوال الحياة وبعد الموت. ونسبة البدن إلى الروح كنسبة الملابس إلى البدن، وإذا ما تغيّرت الملابس فلن تتغيّر شخصية الإنسان. لذلك لو افترضنا أنّ عين بدن الإنسان الدنيوي لم يخلق مجدداً، وأنّ الروح ستحل في بدن آخر مشابه للبدن الدنيوي السابق أو حتّى تحل في بدن آخر متفاوت عن السابق فليس هناك أي خلاف وتباين حول حقيقة الإنسان وبدء حياته الجديدة في عالم الآخرة، كلّ ما في الأمر أنّ هذا الإنسان سيبدأ حياته الجديدة بزي جديد.

ص: 29

2 - إمكانية إعادة البدن الدنيوي على القادر المطلق:

إنّ إعادة تكوين البدن الدنيوي للإنسان بعد فنائه وتفككه أمر ممكن على اللّه القادر المطلق على كلّ شيء، وهناك شواهد نوردها تدل على إمكانية ذلك :

أ) الخلق من العدم:

إنّ عالم الإمكان والمادة ومن جملة ذلك البدن، لأنّه يتصف بالإمكان والحدوث الذاتي فهو مسبوق بالعدم وخالقه ومبدعه المباشر أو غير المباشر الله. لذا، فإنّ اللّه القادر على خلق البدن من العدم أو من قطرة ماء هو بالأولى قادر على جمع أجزائه المتلاشية. وبعبارة أخرى، فإنّ استبعاد الخلق الابتدائي للعالم وللبدن من العدم هو أولى من استبعاد الخلق الثانوي وجمع أجزاء البدن. رغم أنّ كلا الأمرين سهل على اللّه القادر المطلق.

ذكر القرآن الكريم هذه الشبهة وردّ عليها(1):

«كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ» [الأعراف (29].

«أَيَحْسَبُ الإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ * بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بنانَهُ» [القيامة 3-4].

وهناك آية أخرى تستدل على قدرة اللّه المطلقة على خلق البدن والمعاد بخلقه تعالى للسماوات والأرض:

«أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ»[يس 81].

ص: 30


1- راجع الآيات الإسراء /49 مريم 66/ هود / الرعد 5.

ب) حصول الشيء أفضل دليل على إمكانه:

إنّ أفضل دليل على إثبات إمكان حصول الشيء هو حصوله في الخارج. ورغم أنّ أصل القيامة وإعادة إحياء الأبدان يوم القيامة لم يحصل، لكن بما أنّ الإنكار والاستبعاد قد ركزا على حصول أساس إمكانية إحياء

البدن الدنيوي للإنسان ،وخلقه، لذا، فإنّ حصول مثل ذلک ونظائره يثبت أصل إمكانية حصوله، ذلك لأنّ حكم الأمثال فيما يجوز ولا يجوز سواء.

إذا نظرنا إلى عالم الأعشاب والنباتات والطبيعة، نجد أنّ الأرض والأشجار والنباتات تفقد مرحلة النمو والحياة مع بدء فصل الخريف وحلول الشتاء، لكنّها تستعيد حياتها ونموها بعد بدء فصل الربيع.

هل فكّرنا يوماً في مادة التراب والماء الميتة كيف تخرج عنها كلّ هذه الورود والنباتات والأشجار المثمرة بالفواكه المتنوعة والملونة ؟ فهل اللّه القادر على كلّ هذه الأعمال المدهشة عاجز عن إحياء الأبدان الميتة التي تحولّت إلى تراب؟

بعض الآيات القرآنية استشهدت بعالم الطبيعة لإثبات المعاد:

«فَانْظُرْ إِلى آثَارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الموتى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» [الروم 50].

«وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذلِكَ تُخْرَجُونَ» [الزخرف 11].

الدليل الثانى على إمكانية حصول عودة الوجود والحياة هو سؤال النبي إبراهيم علیه السلام للّه عن كيفية إحيائه الموتى، وأمر اللّه له أن يذبح أربعة من الطير ، وأنّ يوزع قطع أجسادها بعد خلطها ويضعها في أربعة نقاط، ثمّ ينادي

ص: 31

كلّ طير باسمه على أربعة مراحل لتنهض أعضاء كلّ طير من النقاط الأربعة وتجتمع لتشكّل الجسم السابق وتعود إليه الروح والحياة:

«وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» [البقرة 260].

الدليل الثالث هو إحياء بعض الأنبياء للموتى بإذن اللّه : فمن معجزات السيد المسيح علیه السلام إحياء الموتى:«وَأُبْرِئُ الأَكْمَهَوَالأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتِى بِإِذْنِ اللَّهِ» [آل عمران 49].

والنبي عزير علیه السلام الذي تساءل عن كيفية إحياء الموتى، فأماته اللّه بقدرته مائة عام ثمّ أحياه: «أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ حَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ»[البقرة 259].

وفي زمان نبي اللّه علیه السلام قُتل رجل ثري، ولم يُعرف قاتله، فأمرهم اللّه تعالى بذبح بقرة، وضرب المقتول ببعض أعضاء تلك البقرة، فعاد إلى الحياة وأخبرهم باسم قاتله:

«وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأَتُمْ فِيها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ * فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» [البقرة [73-72].

وعندما طلب سبعون من أصحاب النبي موسى علیه السلام أن يروا اللّه رؤية مادية بأعينهم، فشاهدوا النور والتجلّي الإلهي فصعقوا وماتوا، ثمّ أحياهم اللّه ثانية بطلب من نبيه وكليمه نبيّه وكليمه موسى علیه السلام:

ص: 32

«وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» [البقرة 55 - 56].

3- اعتراف العلم بتجدد حياة البدن الدنيوي:

العلوم التطبيقية المختلفة لم تعد تعتبر تركيب وجمع البدن الدنيوي وإعادته أمراً ممتنعاً ومحالاً؛ بل قامت بإثبات شبيه ذلك في مجالات علمية مختلفة، أسهمت في تبيان المعاد الجسماني علمياً إلى حد ما:

* أصل بقاء المادة والطاقة خلال القرن الماضي كان العلماء التطبيقيون يظنون أنّ التغيرات الكيميائية التي تحدث مثل احتراق الشجرة يؤدّى إلى فناء بعض وجودها المادي، لكنّهم خلال العقود الأخيرة أثبتوا أنّ المادة لا تفنى أبداً بل تنتقل من حالة إلى أخرى، وتتحوّل فى النهاية إلى طاقة(1). واستطاع العلماء حالياً أن يعيدوا بعض الصور المتغيرة إلى حالتها السابقة، وأبسطها تحويل البخار إلى ماء.

* إمكانية تجديد الحياة بعد تطوّر العلوم الطبية استطاع المتخصصون أن يعيدوا آثار الحياة لميكروبات ماتت منذ ملايين السنين، حيث استطاع مثلاً الدكتور ديروسكي فعل ذلك من داخل صخور ملحية في ألمانيا وكندا وسيبيريا الروسية(2).

ص: 33


1- في عام 1789م اكتشف (لاوازيه) قانون بقاء المادة، ثمّ جرى إبداع قانون تحوّل المادة إلى طاقة وسمي (ماترياليزسيون).
2- مجلة رسالة الإسلام، السنة السابعة، العدد 11: ص71 نقلاً عن: محمد باقر شريعتي السبزواري، المعاد في نظر العقل والدين: ص 200.

ويطرح علم الطب حالياً فرضية أوردها الدكتور روبرت أتينغر في كتابه (أفق البقاء) تقول هذه الفرضية يمكن تجميد الإنسان في كبسولات خاصّة داخل آزوت سائل متجمد لإحيائه بعد سنين مديدة(1). وعليه، فإنّ الموت وفساد البدن وتفسّخه لا يعني فناء وجوده؛ بل يعني تغيّر صوره وعناصره المختلفة (2)وإذا كان إعادة إحياء الموجودات أمراً ممكناً للبشر بعلمهم المحدود، وهو ما حصل في بعض الأحيان، فإنّ جمع بدن الإنسان وإحياءه أمر ممكن وسهل على الخالق القادر المطلق.

الثالث - ضرورة المعاد

ومن الإشكالات المطروحة حول المعاد السؤال عن ما هى الضرورة في تحقّقه ما جعل اللّه يخبر عن وقوعه فى كتبه السماوية؟ وفي الردّ على هذا السؤال ملاحظات عدّة:

1 - صفة الحكمة الإلهية:

ثبت في الفلسفة والكلام أنّ اللّه يمتلك صفات كمالية منها الحكمة، ما يستدعي أن تكون أعمال الله حكيمة وذات غاية. وبما أنّ اللّه كمال مطلق، لذا، فإنّ غايته في أفعاله هي (إيصال كلّ ممكن إلى غايته)(3)ليبلغ الخلق الكمال.

ص: 34


1- صحيفة كيهان 1967/7/9 ، العدد 7178 نقلاً عن محمد باقر شريعتي السبزواري، المعاد في نظر العقل والدين: ص 201.
2- في معرض رده على شبهة الزنديق حول فساد بدن الميت في القبر قال الإمام جعفر الصادق الا : كلّ ذلك في التراب محفوظ عند من لا يعزب عنه مثقال ذرة في ظلمات الأرض» (محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار: ج 3، ص199).
3- مرتضى المطهري الملاحظات: ج 7، ص 107

وينقسم الناس في هذه الدنيا إلى قسمين كافر وظالم ومذنب ومؤمن ومظلوم وصادق ومستقيم.

أمّا أن يخلق اللّه بشراً يرتكبون في حياتهم القصيرة الكفر والذنوب والظلم، ثمّ ينهي حياتهم وأساس وجودهم دون بلوغ الكمال والغاية المطلوبة، فإنّ مثل هذا الفعل لا يتناسب مع صفة الحكمة الإلهية.

وفئة أخرى تقضي حياتها بالعبادة والاستقامة وتتحمل أنواع الآلام والعناء ويقع عليها الظلم، ثمّ تختم ملفات حياتهم من دون نيل السعادة والكمال، هذا أيضاً لا يتناسب مع صفة الحكمة الإلهية.

إذاً لا بد من وجود عالم آخر اسمه «المعاد» وهو ضروري ولازم من أجل تحقق الحكمة الإلهية تجاه البشر.

ملاحظة: استند بعض المعاصرين على صفة الرحمة الإلهية في إثباتهم ضرورة المعاد:

«قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ اللَّه كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ» [الأنعام 12](1).

لكنّنا صرفنا النظر عن توضيحه لاشتراكه مع برهان الحكمة في كيفية الاستدلال.

ص: 35


1- راجع: عبدالله جوادي الآملي عشرة مقالات حول المبدأ والمعاد: ص289/ جعفر السبحاني، الإلهيات : ج 4 ، ص 175 . وخلاصة الاستدلال أنه لما كان الله تعالى قد أوجب على نفسه الرحمة وإفاضة النعم المختلفة على عموم عباده، وهذا الأمر لم يتحقق في الدنيا، لذا لا بد من وجود عالم آخر لتحقق هذا الوعد الإلهي.

2 - برهان الحركة:

عالم الدنيا هو عالم الحركة والتغيير والمقصد الثابت لا يتحقّق في الدنيا بسبب تلازمها مع الحركة والتغيير، لذا، فإنّ مقصد الإنسان هذا سيتحقّق في عالم الآخرة، وإلاّ فإنّ نظام الدنيا والإنسان سيكون عبثاً ولغواً(1).

وقد أكد القرآن الكريم على هذا الدليل:

«أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ» [المؤمنون 115].

3- الفطرة:

في فطرة كلّ إنسان حب وتعلّق بالحياة الخالدة، وبعبارة أخرى، فإنّ الحياة السرمدية والابتعاد عن الموت والفناء أمر فطري ومن الغايات الذاتية للإنسان، لكن الحياة الخالدة لا تتيسّر فى هذه الدنيا ومن ناحية أخرى، فإنّ

الإنسان إذا لم ينل غايته وفطرته هذه في عالم الآخرة، فإنّ وجود مثل هذه الفطرة التي لا قيمة لها تصبح كطباعة العملة الورقية من دون ضمانة، وهو أمر

ص: 36


1- «الأمور المتغيرة التي تنتهي بالفناء والبطلان ولا تنتهي بالثابت يصدق عليها أنها لعب وعبث باطل، لكن إذا كانت نهايتها إلى غاية ومقصد عندئذٍ يصبح لها معنى ولا تعود هباء. وبعبارة أخرى، فإنّ الطبيعة التي تتغيّر وتطوي المنازل دوماً... والآخرة والملكوت هي المقصد . وأي سفر وحركة لها مقصد وهدف فليس طي منازله عبثاً وباطلاً. أما إذا لم يكن هناك مقصد فسيكون كعمل الأطفال، والذي لا يؤمن بالآخرة يرى أنّ العالم وعمله والولادة والقتل والإخفاء عمله كصانع الاكواز الذي يصنعها ثمّ يحطمها، كلّ شيء عنده سير وعناء ولهاث...» (مرتضى المطهري، الملاحظات: ج 7، ص 108).

لا يليق باللّه الحكيم القادر الفياض. وقد استند بعض الفلاسفة إلى هذا البرهان(1).

تقرير جديد (ضرورة المتعلق الخارجي للفطرة التضايف): التقرير السابق قام على أساس برهان الفطرة اعتماداً على صفات الكمال الإلهية ومن ذلك الحكمة، وهناك تقریر جدید آخر نوضحه:

توجد في النظام الداخلي للإنسان سلسلة من الميول والتجاذبات والإرادة، يدفع الإنسان غريزياً لتلبيتها، حيث يجوع الإنسان ويعطش، ولدى الإنسان غريزة جنسية مع بدء مرحلة البلوغ، يسعى الإنسان لتلبيتها، وهناك ميول أخرى.

عندما تنظر إلى الطبيعة نجد أنّ عالم الخارج يمتلك متعلق تلك الميول والرغبات وأساس تأمينها، فمثلاً يجد الإنسان البالغ في العالم الخارجي عامل إشباع غريزته الجنسية.

اللافت أنّ الإنسان بوصوله إلى متعلق ميوله المذكورة يصل حالة الإشباع ويقتنع أنّه نال مقصوده لكن لدى الإنسان ميول أخرى يدرك أنّ متعلق تأمينها وأساسه ليس في العالم المادي؛ بل في عالم ما فوق المادة، كنيل

الكمال المطلق الذي لا يتحقق بالمعشوق والمحبوب المادي، لذا فإنّ الإنسان يبحث عن المعشوق والمحبوب ،المطلق، في الحقيقة إنّ ضالته ومتعلقه الواقعي هو حسّه بطلب الكمال. وإذا كان القسم الأوّل من الميول الداخلية للإنسان يجدها

ص: 37


1- صدر المتألهين، الأسفار : ج 9، ص 241/ محسن فيض الكاشاني، علم اليقين في أصول الدين ج 2، ص 837/ السيد روح الله الموسوي الخميني، الأربعون حديثاً: ص 186 : .187 -

في العالم الخارجي؛ فإنّ القسم الثاني من ميول الإنسان ينبغي أن تكون كذلك، ذلك لأنّ كلا القسمين هما من الميول الغريزية للإنسان، وهي وصف يعكس الواقع، ولا يمكن الفصل بين الميول الغريزية.

وبتعبير منطقي، فإنّ هناك نسبة تضايف بين العاشق والمعشوق والمحبة ،والمحبوب كالنسبة بين الأخوين أو الفوقية والتحتية حيث يكون وجود الأوّل يقتضي وجود ثانٍ آخر بالفعل من سنخه على هذا الأساس، بما أنّ الإنسان يعشق بالفعل معشوقاً ومحبوباً كاملاً، ينبغي أن يكون متعلقه أيضاً موجود في عالم الواقع وليس في الذهن فقط. أخذ بهذا التقرير واعتمده جمع من المعاصرين(1).

في هذا المجال كتب الأستاذ الجوادي الأملي:

بين العاشق والمعشوق هناك تضايف وتلازم كالعالم والمعلوم. وحيثما كان لمفهوم العاشق مصداق بالفعل، كان لمفهوم المعشوق أيضاً مصداق بالفعل. إذاً، إذا كان الفرد مشتاقاً وعاشقاً بالفعل للكمال المحض واللامحدود، فإنّ المشتاق إليه معشوقه أي الكمال المحض سيكون موجوداً بالفعل، ذلك لوجود تضايف وفي النتيجة تلازم بين العاشق بالفعل والمعشوق بالفعل - والذي هو هاهنا الكمال الصرف - ولا يمكن أن يكون العاشق بالفعل موجوداً والمعشوق غير موجود أساساً أو موجوداً بالقوّة فقط(2).

ص: 38


1- نقلاً عن السيد روح الله الموسوي الخميني، الأربعون حديثاً : ص 156 .
2- عبدالله جوادي ،الآملي عشرة مقالات حول المبدأ والمعاد ص 111/ عبدالله جوادي الآملي، التفسير الموضوعي للقرآن ج 12، صص 299 و 312/ عبدالله جوادي الآملي، تبيين براهين إثبات الله : ص 287 .

ما ذكرناه كان توضيحاً لعلاقة التضايف بين ميل المحبة والعشق ومتعلقه. وتمكن الاستفادة من هذا الاستدلال من أجل إثبات واجب الوجود، ولإثبات وجود الحياة الخالدة أى الحياة السرمدية الأخروية عين هذه التوضيحات تصلح في تبيان الميل والغريزة والأمل بالحياة الخالدة، ذلك لأنّ الإنسان يمتلك بالفعل في حسّه الأمل بمثل تلك الحياة، إذاً لابدّ من تحقّق وجود نسبته الأخرى، أي وجود عالم الآخرة بوصفه السرمدي في عالم الخارج لتصدق عليهما علاقة التضايف(1).

4 - العدالة:

كما ذكرنا فإنّ الإنسان ينقسم إلى فئتين فئة مؤمنة من أهل العبادة والمجاهدة وقد يكونون ،مظلومين وفئة ظالمة ترتكب المعاصى. ولا يتحقّق الثواب والعقاب لكلا الفئتين في الدنيا، فمثلاً المؤمن الذي قضى حياته في الاستقامة والعبادة المستمرة كتهجّد الليل والصوم الكثير والعيش الفقير ولعله مبتلى بالأمراض، كيف يتحقّق ثوابه في الدنيا بموته؟

ومن ناحية أخرى الشخص السيء والظالم ومرتكب المعاصي والطغيان وقاتل الناس أمثال هتلر وصدام هل تتحقق العدالة بموته؟

لذلك، فإنّ تطبيق العدالة في حق الإنسان الطاهر والصالح والمظلوم، وفي حق الإنسان الظالم ومرتكب المعاصى يتطلّب وجود عالم ما وراء الدنيا لتطبيق العدالة بحق الاثنين، وهو ما يتحقّق في المعاد.

ص: 39


1- راجع السيد محمد حسين الطباطبائي، تفسير الميزان ج 2، ص 289/ هامش الآية 53 من سورة النحل / عبد الله جوادي الآملي تبيين براهين إثبات الله : ص 284/ عبد اللّه جوادي الأملي عشرة مقالات حول المبدأ والمعاد: ص 85.

وقد استند القرآن إلى آيات عدة بهذا الدليل(1).

5 - برهان الحركة:

كتب بعضهم في تقريره لهذا البرهان:

إنّ عالم الطبيعة بجميع ظواهره السماوية والأرضية يبدو مترابطاً ومنسجماً ومتناسقاً ليشكّل وحدة حقيقية لا اعتبارية. هذه الوحدة الحقيقية هي في حركة دائمة وليس فيها سكون وهدوء.

وبما أنّ الحركة تشكّل خروجاً من بالقوّة إلى بالفعل، أي الاستعداد الخاص للسير نحو كمال خاص إذاً، لا بد من وجود هدف ومقصد للحركة. أى: إنّ الحركة من دون هدف أمر محال.

وإذا كان لذلك الهدف مقصد آخر، فهذا يعني أنّ الهدف الأوّل ليس المقصد النهائى ؛ بل إنّه مسار ومعبر، ذلك لأنّ من لوازم الهدف الحقيقى أن يهدأ المتحرّك ويسكن عند بلوغه وتتحوّل الحركة إلى ثبات.

وعليه، فإنّ لمجموع عالم الحركة هدف نهائي، إذا ناله بلغ الفعلية المحض والكاملة، أي: إنّ أصل حركة العالم لا تتوقّف حتّى تبلغ المقصد النهائي للحركة وعنده تبلغ الثبات والسكون الدائم(2).

وبعبارة أخرى، لو لم يكن هناك معاد من سنخ الوجود المجرّد لكانت حركات عالم المادّة من دون هدف ومقصد، وهو أمر محال للحركة. إذاً، لابد من وجود مقصد نهائي من سنخ المجرّد لتبرير حركة عالم المادّة.

استشهد صاحب هذا الدليل بعدّة آيات قرآنية منها:

ص: 40


1- ص: 28 / القلم: 35 الجاثية: 21 يونس: 4 / إبراهيمک 50.
2- راجع عبدالله جوادي الآملي عشرة مقالات حول المبدأ والمعاد: ص 289.

«وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرارِ» [غافر 39].

6 - تجرد الروح:

في الصفحات السابقة ثبت لدينا وجود الروح وتجرّدها. وعلى أساس ذلك، فإنّ الإنسان مركّب من أمرين بدن مادي» و«روح مجرّدة» وعند موته يتلف «البدن» المادي فقط، ذلك لأنّ التلف والفساد من لوازم الوجود المادي، أمّا الروح فإنّها بسبب ماهيتها المجرّدة فإنّها تستمر بحياتها الدائمة لمجرد تلقيها الفيض من علل ما فوقها، والتي تنتهي باللّه دائم الفضل والبرية. إذاً، فحياة الإنسان تستمر ذاتياً عبر روحه من دون حصول أيّ خلل.

من الواضح أنّ الحياة المجردة للروح ستستمر في عالم «البرزخ» المجرّد حتّى يوم القيامة، وليس في العالم المادي.

ملاحظة استعان بعض المعاصرين في إثباتهم لضرورة المعاد ببراهين أخرى مثل برهان الصدق، الرحمة والحقيقة. لا مجال لاستعراضها هنا(1).

الرابع - الأدلة العقلية:

لإثبات حتمية وقوع المعاد يمكننا الإفادة من ثلاثة اتجاهات عقلية ونقلية :

1 - الاتجاه العقلي:

الأدلة العقلية السابقة فى إثبات ضرورة المعاد (دليل الحكمة العدالة،

ص: 41


1- راجع عبدالله جوادي الآملي، التفسير الموضوعي للقرآن ج 4 ، القسم 5

الحركة وتجرّد الروح) بالشرح والتوضيح الذي مضى تثبت حتمية وقوع المعاد.

2 - الاتجاه العلمي والتجريبي:

أشرنا في بداية الكتاب أنّ علم التحقيقات الروحية في الغرب كان من العلوم الرائجة خلال العقود السابقة. نتائج بحوثهم تلك هو الإذعان بوجود أرواح الأموات؛ بل أكثر من ذلك، أي: إحضار الأرواح والتحدّث إليها وحتّى تصويرها. ممّا يثبت استمرار حياة الإنسان في عالم البرزخ بعد الموت.

3 - الإتجاه النقلي:

الإتجاه الثالث في إثبات المعاد هو التمسّك بالأخبار التي جاءتنا من ذات الأحدية بصفاته الكمالية اللامتناهية ،والصدق حيث أخبر اللّه تعالى في الكتب السماوية - ومنها القرآن - عن المعاد، بعد صدق المخبر يحصل اليقين بصدق الخبر «القيامة». وقد أطلق بعض المعاصرين على هذا الاستدلال برهان (الصدق»(1).

لتعدّد آيات المعاد في القرآن الكريم، وسهولة الاطلاع عليها لن نوردها، لكنّنا نشير إلى آية واحدة للتبرّك والتي تثبت المدّعى عبر صدق المخبر:

«اللهُ لا إِلهَ إِلا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله حَدِيثاً» [النساء 87] .

***

ص: 42


1- راجع: عبدالله جوادي الأملي، التفسير الموضوعي للقرآن ج 4 ، القسم 5.

الفصل الأول شبهات منكري المعاد

اشارة

ص: 43

ص: 44

الشبهة الأولى - استبعاد المعاد:

بعض الناس يعتبر أنّ حصول المعاد أمر مستبعد بل وغير ممكن. فمنكرو المعاد في زمن الانبياء كانوا يطرحون هذا السؤال أو الشبهة: هل يعقل أن تعود الحياة للعظام بعد تفسّخها ؟ وواجهوا الأنبياء، واعتبروا أنّ الحديث عن

القيامة حديث عن أسطورة وشيء عجيب(1):

«إنْ هذا إِلا أَساطِيرُ الأَوَّلِينَ» [النمل 68].

«أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعَ بَعِيدٌ» [ 3].

«وَقَالُوا أَإِذا كُنَّا عِظامَاً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً» [الإسراء 49].

الردّ على هذه الشبهة جاء فى البحث السابق عند الحديث عن إمكان المعاد و ضرورته والأدلة عليه نحيل القارىء الفاضل إليه.

ص: 45


1- اللافت أنّ بعض الآيات تقسم منكري المعاد إلى قسمين منكر الله ومعتقد به: «وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ» [النحل (38]. و:«وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدِ * أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ» [سبأ 87] .

الشبهة الثانية - فقدان الدليل على المعاد:

ادّعى بعضهم أنّ وجود القيامة هو ادّعاء صرف لم يقم أي دليل لاثباته.

جواب هذه الشبهة كسابقتها ورد في أدلة إثبات إمكان حصول المعاد وضرورته لكنّنا نكتفى هنا باستعراض ثلاثة ملاحظات:

1 - إنّ بحث المعاد وبحث دليل ضرورته وحصوله تتفرّع عن تحلّي اللّه تعالى بالصفات الكمالية نظير: الحكمة العدالة والصدق. بمعنى أنّه ينبغي بداية إثبات أصل وجود اللّه مع صفاته الكمالية، ثمّ يأتي دور البحث في المعاد وأدلته.

إذاً، ليس من المنطقي والمعقول أن نتوقع أن نأتي بدليل عقلي مستقل في إثبات حصول المعاد من دون أن يسبقه بحث في معرفة اللّه، ذلك لأنّ بحث المعاد ليس مفهوماً دينياً مستقلاً عن الاعتقاد باللّه ليجري بحثه وإثباته بشكل مستقل؛ بل إنّه من لوازم الاعتقاد باللّه الواجد للصفات الكمالية، والسير المنطقي يقتضي أن يبحث ويجري إثباته في طول مباحث معرفة اللّه.

أمّا بحث أصل إمكان حصول المعاد فيمكن بحثه بشكل مستقل عن الاعتقاد باللّه، وهذا ما حصل في الفصل السابق تحت عنوان «إمكان المعاد».

2- إنّ منكري المعاد لم يتمكنوا طوال العقود والقرون الماضية وإلى الآن أن يأتوا بدليل على نفي المعاد وإنكاره لذلك اكتفوا في النهاية باستبعاده.

3 - إنّ بحث جزئيات المعاد مثل: بدء القيامة مواقفها الحشر، الجنة وجهنم يجري تبيانها بالنصوص الدينية وليس بالعقل (سيأتي توضيح بعضها في الفصول القادمة).

ص: 46

الشبهة الثالثة - تعارض القيامة مع علم معرفة الكون:

ذكر القرآن الكريم عدّة علامات وخصوصيات للقيامة مثل:

اندكاك الجبال وتحوّلها إلى ذرّات معلقة في الهواء:«وَيُسَتِ الْجِبالُ بَسًا * فَكانَتْ هَباءً مُنبَاً» [الواقعة 5-6].

وانشقاق السماء وانفطار النجوم:«إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ» [الانشقاق 1] .

و«إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ» [الانفطار 1-2].

«وَمُجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ»[القيامة 9].

بعض المنكرين والملحدين المعاصرين طرحوا إشكالهم متمسكين بتقارير علماء النجوم والكون في أوصاف النجوم والكواكب مثل: ظهورها قبل مليون أو مليار عام وعدم التغيّر في وجودها والمسافة بين الشمس والقمر (150 مليون كيلومتر) والتضادّ في المواد التي يتشكلان منها، فيطرحون إشكالهم بأنّه من غير الممكن أن تنشقّ السماء والنجوم فجأة، فهي ثابتة منذ القدم، واستحالة الجمع بين الشمس والقمر بسبب المسافة الهائلة التي تفصلهما عن بعض(1).

بحث وتحليل:

لتحليل الشبهة المطروحة هناك ملاحظات عدّة للتأمل :

1 - القياس الباطل:

لم يورد أصحاب هذه الشبهة أي دليل علمي أو عقلي لإثبات إدعائهم، واكتفوا بالإدعاء أنّ حركات النجوم كانت ثابتة في الماضي، إذاً،

ص: 47


1- مسعود الأنصاري (روشنگر) نظرة جديدة إلى القرآن: ص 163-170.

ستبقى كذلك في المستقبل. القارىء الفاضل يعلم أنّ مجرد تعميم الحكم السابق على المستقبل من دون علّة يعدّ حسب المصطلح المنطقي «تشبيهاً» وحسب المصطلح الفقهي «قياساً» وليس له أي اعتبار، مثله كمثل الشمع المضاء حالياً، وهناك من يدّعي أنّه لن ينطفيء. وعندما يسئل المدّعي: ما هو دليلك على هذا الإدعاء؟ لن يمتلك جواباً. في حين هناك احتمال أن يذوب الشمع وتنطفيء شعلته، أو أنّ عاملاً خارجياً كالريح أو انقطاع الأوكسجين قد يتدخلان لإطفاء الشمع. نفس هذا الاستدلال يجري على انطفاء النجوم وتلاشيها، وهو ما سيرد لاحقاً.

2 - توقّع العلماء لأقول النجوم:

لم يقام أي دليل على ثبات وضع النجوم في المستقبل؛ بل إنّ تحقيقات علماء الفلك وتوقعاتهم تتحدّث عن إمكانية نفاد الطاقة في النجوم والشمس. ويؤكدون أنّ الفاصلة الحالية بين النجوم إذا اختلّت فستؤثّر جاذبية النجوم في بعضها البعض الآخر، ممّا يؤدّي إلى انهيار نظمها وفي النهاية إلى انفطار السماء. انفطار السماء أمر ممكن بل إنّ انفصال أنواع الأحجار والشهب السماوية كان ولا يزال يهدّد النظم الثابتة للكواكب والأرض وسكانها. وعليه، فإنّ علامات القيامة ستكون من سنخ الاختلاط الكوني أمراً غير محال؛ بل هناك حوادث مشابهة حصلت لكن بنسبة أدنى فيما يأتي نستعرض بعض آراء متخصصي الفلك:

بعض متخصصى الفيزياء والفلك يعتقدون أن:

تستهلك الشمس كلّ ثانية (564) مليون طن من الهيدروجين كوقود، وتنتج من هذا الاحتراق (560) مليون طن من الهيليوم، و(4) مليون طن

ص: 48

المتبقية والتي تساوي (7،0) هي الوقود المستهلك الذي يتحوّل إلى طاقة ثمّ إلى نور وحرارة منتشرة(1). ورغم حاجة الشمس الكبيرة للوقود، فإنّها ستبقى تشع لمدّة عشرة مليارات عام، وقد انقضى من عمرها الطويل هذا خمسة مليارات عام، لذا فإنّ الشمس تعيش الآن النصف الثاني من عمرها.

إذاً، فكوكبنا الأزرق (الأرض) سيبقى يدور حول الشمس خمسة مليارات عام أخرى. وفي آخر أيام عمرها ستنتفخ الشمس كالبالون وتتحوّل إلى نجمة عظيمة وهائلة حمراء اللون وتبتلع كوكبين من منظومتها هما عطارد والزهرة، وترتفع حرارة الأرض إلى ألف درجة سنتغراد، وتنتهي كلّ آثار الحياة قبل ذلك، وتتبخر كلّ مياه المحيطات(2).

وحول موت النجمة كتب بعض أصحاب الرأي:

بما أنّ النجوم كلّها تشكّل في الحقيقة مولدات للانفجارات النووية، لذا، سينتهي وقودها في يوم ما عندئذٍ ستنتفخ وتطلق غازات مضيئة كثيرة جدّاً من جدارها على شكل خيالات تسبح في الفضاء، وتسمّى «سُحب السيّارات». عندما ينتهي الوقود النووي للنجمة، فإنّها تغور بسرعة وتتحوّل إلى تل من الرماد الساخن جدّاً. النجوم الكبيرة جدّاً تنهي حياتها بانفجار، عندما تنفجر نواة النجم تقذف بقشرة النجم الخارجية إلى الفضاء، وينشر النجم المحتضر طاقته خلال عدّة ساعات فقط، وشمسنا تنشر طاقتها طوال خمسة ملايين عام وهي رغم ذلك قد تضاعف نورها عدّة ملايين الأضعاف. هذه الحالة تسمّى

ص: 49


1- أريك أوبلاكر، الفيزياء الحديثة، ترجمة بهروز بيضائي القدياني: ص 20-21.
2- نفس المصدر : ص 55-54

بالسحب المنتظمة(1).

كتب أحد أصحاب الرأي:

طبق القانون الثاني للترموديناميك وأصل الأنتروبي، فإنّ جميع الأجسام تفقد حرارتها بالتدريج وتسير نحو الفناء. وعليه، سيأتي اليوم الذي تتساوى فيه حرارة جميع الأجسام، إنّه يوم موت جميع الموجودات والأجرام السماوية(2).

يقول السير جيمس عالم الفلك الأوروبي:

سيقترب القمر نحو الأرض في المستقبل تدريجياً حتّى تتعرّض الأرض لخطر السقوط، وعندها تتحقّق الإرادة الإلهية بسقوط القمر وتلاشيه(3).

بحسب مقتضى القوانين العلمية من سنخ علم الفلك، وكذلك توقعات علماء علم الفلك يمكننا أن ندّعي بجرأة أنّ القرآن الكريم ذكر كيفية أفول النجوم ونهاية عمرها وبغض النظر عن هذا الإدعاء يمكننا القول بشكل قاطع أنّه لا يوجد تهافت بين العلامات الكونية للقيامة في القرآن وعلم الهيئة والفلك؛ بل إنّ توقعات هذا العلم تتماشى مع الآيات القرآنية.

3- التغافل عن الله القادر المطلق:

أشرنا في تحليل الشبهة السابقة إلى أنّ تحليل مسائل المعاد في ظل الاعتقاد باللّه المتصف بصفات كمالية لا متناهية مثل: القدرة، أمر ممكن ويتحقق.

ص: 50


1- رئيلارد وآخرين الكون وطريق المجرات ترجمة محمد أمين محمدي ص 25-26 باختصار.
2- مهدي بازركان الطريق الذي لا نهاية له: ص 490/ مهدي بازركان، طريق التكامل ج 3، ص 183.
3- عبد الكريم بي آزار الشيرازي ماضي العلم ومستقبله: ص 183

وبما أنّ الإنسان المعتقد بالمعاد يؤمن باللّه أكثر على أنّه هو الموجد لنظام الوجود والحافظ له، وإذا انقطع نظر اللطف الإلهي عن عالم الإمكان فسيتحول العالم إلى الفناء(1). لذلك، فإنّ تغيير القوانين التي وضعها اللّه بنفسه أمر سهل عليه وبسيط.

إنّ تغيير قوانين الطبيعة والتصرّف بها في هذه الدنيا وقبل يوم القيامة أمر ممكن على اللّه تعالى؛ بل حصل. ودليل ذلك حصول أنواع خوارق العادة باسم «المعجزة» على يد الأنبياء، وخاصّة حصول معجزة من سنخ انشقاق السماء وهي معجزة انشقاق القمر لنبي الإسلام محمد صلی الله علیه و آله و سلم.

الشبهة الرابعة - استحالة إعادة المعدوم :

من الشبهات الضعيفة والقديمة فى مبحث :المعاد: الإدعاء أنّ بدن الإنسان إذا ما تلف وانعدم بعد الموت فلن يبقى منه شيء، لذلك، فإنّ إعادة البدن الدنيوي أمر محال فهو من قبيل إعادة المعدوم.

بحث وتحليل:

الرد على هذه الشبهة ورد بوضوح في الفصل الأوّل تحت عنوان إمكان المعاد وسيأتي توضيح أكثر عند نقد شبهة الأكل والمأكول في مبحث المعاد الجسماني. وحاصله هو:

ص: 51


1- ثبت في الفلسفة أنّ وجود الممكن يحتاج في حدوثه وبقائه إلى العلة المحدثة والمبقية، بل وأكثر من ذلك أنّ الحكمة المتعالية برهنت أنّ وجود الممكن عين الربط والحاجة والفقر إلى واجب الوجود.

إذا كان المقصود من «المعدوم» هو تلاشى الجسد. علينا القول إنّه بفساد البدن وتلاشيه لم يحصل العدم، بل إنّ البدن قد تحوّل إلى عناصر وصور أخرى، فها هو العلم يقول إنّ المادّة لا تفنى، بل تتحوّل من حالة إلى أخرى، وفي النهاية تتحوّل إلى طاقة، وجمع العناصر المتغيرة للبدن أمر ممكن وسهل على اللّه القادر المطلق.

أمّا إذا كان المقصود من «المعدوم» هو روح الإنسان - وهذا أمر مستبعد - علينا القول: استناداً إلى مباني الفلاسفة فإنّ الروح أمر مجرّد، ولن يصيبها أي فساد بموت البدن ،وفساده بل سيستمر وجودها المجرّد في عالم المثال.

واستناداً إلى مباني المتكلمين فإنّ وجود الروح من سنخ الوجود المادي ،اللطيف وسيستمر وجودها وحياتها في عالم البرزخ بعد الموت.

إذاً، ليس هناك أي عدم يلحق بالبدن وبالروح بعد الموت، أي لا مجال لطرح إشكال إعادة المعدوم.

الشبهة الخامسة - تبرير المعاد بالتناسخ:

بعض الأديان كالهندوسية والبوذية تعتقد أنّ روح الإنسان لا تفنى بعد موت الإنسان؛ بل تنتقل إلى بدن إنسان آخر. ولعل الروح ببدنها الجديد تتحمّل جزاء أو مكافأة أعمالها السابقة، ويسمّى ذلك في المصطلح الكلامي والأديان بالتناسخ(1).

ص: 52


1- جون بيناس التاريخ الشامل للأديان ص 155 و 189.

إذاً، فالأدلة التي تثبت المعاد عن طريق صفة العدالة والحكمة الإلهية لا يمكن الدفاع عنها مع افتراض التناسخ (عودة الروح إلى الدنيا، وتحمّلها لجزاء أو ثواب أعمالها السابقة).

بحث وتحليل:

هناك ملاحظات عدة في تحليل نظرية التناسخ:

1 - استحالة عودة المجرّد إلى المادة:

في الصفحات السابقة ثبت أنّ الإنسان مركّب من عنصرين هما «البدن» و «النفس». وتركيبهما ليس كإضافة جزء إلى جزء آخر أو إلى مركب آخر سابق كضمّ وردة إلى باقة ورد (تركيب انضمامي) أو كأحد قوائم الطاولة (تركيب صناعي)؛ بل إنّ تركيبهما اتحادي وطبيعي كتركيب نوع (الإنسان) من جنس (الحيوان) وفصل (الناطق). وللتوضيح:

استناداً إلى أصل الحركة الجوهرية للحكمة المتعالية، فإنّ جوهر المادة وذاتها قد عجنت بالحركة وهي في حركة دائمة أي تبديل القوّة إلى الفعل. كتبديل التربة إلى نبات وتبديل النبات إلى حيوان عند تناوله له(1).

هذه الحركة جارية في خلقة الإنسان أيضاً. فالإنسان بداية كان جماداً (المواد الغذائية التي يتناولها والتي تتحوّل في بدنه إلى ماء وجلد وعظم ولحم) ثمّ تتحوّل خلاصة تلك المواد إلى نطفة تنمو في رحم الأم. وفي ظل النمو واكتساب القابلية اللازمة يتحوّل الجسيم إلى حيوان، أي يتحوّل الجسم النباتي

ص: 53


1- راجع صدر المتألهين الأسفار : ج 9، ص 2 وما بعدها

للجنين إلى أمر مجرّد إثر حركة تكاملية جوهرية (من سنخ النفس الحيوانية المجرّدة(1)، أو استناداً إلى النظرة المشهورة للحكماء فإنّ اللّه تعالى يفيض على الجنين بالنفس المجرّدة الحيوانية في هذه المرحلة.

الملفت في هذه الحركات أنّ الجسم وتبعاً له فإنّ كلّ حركة ومتحرك يتشكّل من حيثيتين أي «القوّة» و«الفعل». فالقوّة هي الاستعداد والقابلية التي تتحرّك المادة نحوها كحركة الجماد نحو النبات وحركة النبات نحو الحيوانية.

وموضوع بحثنا هو الإنسان وهو بدوره مركّب من جزئين: المادة (البدن) والصورة (النفس)، وكما أشرنا، فإنّ اتحاد هذين الجزئين بحيث لا يمكن فصلهما عن بعضهما. لكن لما كانت نفس الإنسان ليست مجرداً تاماً، بل إنّها مجرّد متعلق بالمادة (البدن) فإنّ الصورة (النفس) تبعاً لحركة مادتها (البدن) تسير نحو القوّة والكمال التام أي إلى التجرّد التام والمنقطع عن المادة (الفعلية المحض دون القوة).

وعند نيل هذه المرحلة وتحقّق هذا الهدف تجد نفس الإنسان صورة مستقلّة عن المادة ،والبدن وعندها لا تعود بحاجة إلى البدن المادي، ففي الواقع تخلع النفس رداء ،بدنها، وتتحوّل إلى وجود مجرّد تامٍ إثر حركة جوهرية استكمالية.

هنا يعتقد أتباع الكتب السماوية أنّ نفس الإنسان ترد القيامة بعد انقطاعها عن عالم المادة. واستناداً إلى رأي حكماء الإشراق، فإنّ النفس تتعلّق في عالم البرزخ ببدن مثالي وليس مادياً، وتستمر بحياتها الخالدة. أمّا إذا

ص: 54


1- صدر المتألهين، الأسفار : ج 8، ص330

اعتقدنا بالتناسخ فهذا يعنى أنّ النفس تتعلّق بعد الموت بمادة الجنين ثانية، وتسير عبر هذه القناة في مراحل السير السابقة نحو التكامل.

هذا الرجوع والتناسخ محال، ذلك لأنّ تبديل الشيء وتحوّله إلى شيء آخر يرتبط بوجود القابلية والقوّة، والمفروض أنّ النفس بانقطاعها عن البدن تصبح فعلية محضة وفاقدة لأي نوع من القوّة والقابلية والحركة. لذا، فإنّ رجوعها بعد الموت إلى عالم المادة أمر غير ممكن.

وبعبارة أخرى، فإنّ النفس بتركها للبدن تتحوّل إلى وجود بسيط، وعودتها ثانية إلى بدن آخر يستلزم تركيباً من المادة والصورة، ولا يمكن تركيب البسيط.

2 - تعطيل النفس:

استناداً إلى رأي فلسفة المشائين (إفاضة النفس المجرّدة على البدن عبر العلل المجرّدة = روحانية حدوث تصوّرالنفس) يمكن ذكر جوابين آخرين على التناسخ.

النفس هي صورة البدن ،ومدبّره وبعبارة أخرى، فإنّ ماهية النفس هي الوجود المجرّد بقيد التعلّق والتبعية للبدن، وإذا كانت لا توجد صورة من دون مادة، فكذلك لا تتحقّق النفس من دون ،بدن ،لذا عندما تنفصل النفس عن البدن السابق فهذا الزمان ليس زمان تعلّقها ببدن آخر بل هناك زمان مهما كان قصيراً فهو يشكّل فاصلة حتّى تلتحق النفس بالبدن الجديد.

في هذه الفرجة الزمنية يلزم أن تكون النفس من دون بدن ومن دون مديرية البدن، في حين أنّ ماهية النفس - كما أشرنا - أن تكون بشكل دائم

ص: 55

مع البدن وقائمة بتدبيره هو. وبعبارة أخرى ففي الفاصل الزماني الذي تخرج فيه النفس من البدن الأوّل لتلتحق بالبدن الثاني يلزم «تعطيل النفس»(1).

وما هو وضع الأرواح عندما يحصل موت جماعي لآلاف الناس كحادثة القصف النووى لمدينة هيروشيما اليابانية أو الزلازل، حيث يموتون في لحظة واحدة؟ أرواح هؤلاء الآلاف بل وحتّى الملايين من البشر إلى أي أبدان ستتوجّه في تلك اللحظة؟ هل هناك أبدان بعدد تلك النفوس؟ وإذا لم يكن هناك - وهذا ما تؤيده القرائن - فهذا يعني أنّ كلّ هذه النفوس ستبقى «معطلة» من دون أبدان.

3 - لزوم اجتماع نفسين في بدن واحد:

يعتقد الفلاسفة أنّ البدن عندما يتكامل ويصبح مستعداً،

مؤهلاً لتلقى النفس ، وأنّ إفاضة النفس إنّما تحصل بعد تحقّق القابلية بالضرورة عبر علل مفارقة (المجرد).

من ناحية ثانية، فإنّه حسب فرض التناسخ، فإنّ نفساً أخرى تتعلّق بنفس البدن، ولازم ذلك تعلّق نفسين واجتماعهما في بدن واحد نفس على أساس اكتساب قابلية البدن والإفاضة بها من قبل واهب الصور، والنفس الثانية على أساس التناسخ(2). وهذا باطل، ذلك لأنّ الإنسان يحسّ في هذه الدنيا بنفس واحدة فيه، ولو كانت عنده نفس سابقة لا بد أن يدرك بعضاً من

ص: 56


1- صدر المتألهين، الأسفار : ج 9، ص 12
2- سأذكر في الفصل القادم حلاً لإشكال لزوم اجتماع النفسين في هامش شبهة لزوم التناسخ تحت عنوان النظرية المختارة.

معلوماتها(1).

إذاً، فالإنسان لديه نفس واحدة وهي ليست النفس التناسخية؛ بل هي النفس الحادثة لأوّل مرّة من قبل المبدأ الفيّاض تعالى(2).

4 - فقدان ملاك وحدة النفس:

(جون هيغ) أحد فلاسفة الغرب المعاصرين يعتقد أنّ ملاك ثبات الإنسان ووحدة شخصيته طوال عقود عمر حياته الدنيوية مرتبط بعلمه الحضوري بأبعاد حياته المختلفة منذ طفولته بحيث يستطيع من خلال ذلك تجسيم ذكرياته، وعبر ذلك يمكنه إثبات وحدة شخصية الإنسان طوال سنّي عمره.

لو كانت حياة الإنسان قائمة على أساس التناسخ، وكانت هناك روح تعيش في هذه الدنيا سابقاً يستدعي ذلك أن تتذكر بعض الذكريات، في حين أنّ الأمر ليس كذلك، إذاً فالتناسخ باطل(3).

5 - ضرورة رجوع التناسخ إلى المعاد:

لو تركنا الإشكالات العقلية على نظرية التناسخ جانباً، فإنّ هذه

ص: 57


1- نفس المصدر : ج 9، ص 9 - 10 شرح الإشارات: ج 2 ، النمط 8، ص356/ النجاة: ص 189 مجموعة مصنفات شيخ الإشراق، مقدمة وتصحيح هنري كوربان: ج1، 50 وج2، ص 216 / حسن بن يوسف الحلّي، كشف المراد: ص 285 وتعليق حسن زاده الآملي، المسألة 20/ الملا نعيما الطالقاني، منهج الرشاد في معرفة المعاد: ج 3، ص 55 وما بعدها.
2- صدر المتألهين الأسفار : ج 9، ص 10 مجموعة مصنفات شيخ الإشراق، مقدمة وتصحيح هنري كوربان ج 3، صص 74 و 170.
3- جون هيغ فلسفة ،الدين ترجمة بهرام راد ص 269-276

النظرية لا تدعو إلى إنكار المعاد بشكل مطلق، ذلك لأنّه أولاً أهل التناسخ مثلهم كمثل الهندوس أنّ البشر عندما يموتون يدخل فريقين منهم المعاد مباشرة:

فريق البشر الطاهرين والكاملين الذين يحلّون في مقام الخلد في أعلى عليين مع «البراهما» ويتّحدون به، وينالون مقام الفناء حسب المصطلح العرفاني.

وفريق ثانٍ بلغ بأعماله السيئة أحطّ نقطة من الرذيلة، وليس هناك أمل بخلاصهم ونجاتهم. هؤلاء بمجرد أن يموتوا سيسقطون في أحطّ المنازل إلى الأبد(1).

أمّا الناس المتوسطون - وهم الأكثرية - فماذا سيحصل لهم؟ وإلى متى ستستمر هذه العودة وتحمّل الحياة الدنيوية من سعيدة وتعيسة؟

هؤلاء من خلال كلّ مراحل ذهاب النفس وعودتها إلى البدن، وفى دورتهم المائة أو الألف مثلاً تصل أرواحهم إلى الطهارة الكاملة أو الشقاء والبؤس الكامل فتنتقل أرواحهم بالموت إلى الحياة الأبدية لتستقرّ في أعلى عليين أو في أسفل السافلين.

6 - التناسخ يتعارض مع الحكمة الإلهية:

إذا جرى الإصرار على التناسخ والتأكيد على استمرار دورة النفوس بشكل لامتناه، ألا يكون ذلك العمل مخالفاً للحكمة ومتعارضاً مع غاية الخلقة أيضاً؟ ذلك لأنّ الحياة الدنيوية للناس المتوسطين ستكون مليئة بالمشقة وأنواع

ص: 58


1- جونبيناس، تاريخ الأديان الكامل: ص 155.

الآلام، وتدور في تلك الحلقة دوماً من دون أن تكون هناك نقطة واضحة وساحل نجاة لهم. لكنّه من الواضح أنّ مثل هذا الخلق وعلى فرض أنّهم الأكثرية فإنّه لا يتلاءم مع نظام الحكمة الإلهية.

الشبهة السادسة - وقوع التناسخ في عصر الأنبياء (المسخ):

بعض مؤيدي التناسخ إثر عجزهم عن مواجهة الأدلة العقلية على بطلان التناسخ سعوا لإثباته من غير طريق العقل، متوسلين بطريق حصوله، فقالوا: «أدلّ الدليل على إمكان الشيء وقوعه وادّعوا أنّه إذا نظرنا إلى بعض الآيات وتاريخ الأنبياء فسيتّضح لنا أنّه بأمر من اللّه تعرّض بعض البشر المنحطّين والعاصين إلى اللعنة الإلهية، ومسخوا على شكل حيوانات أخرى مثل القرود والخنازير:

«قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٌ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةٌ عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ» [المائدة 60].

«فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ» [الأعراف 166].

تحليل وبحث:

فيما يأتي عدّة نقاط جديرة بالتأمّل في بحث هذه الشبهة:

1 - عدم خروج النفس من البدن:

مرّ معنا أنّ التناسخ محال، وأنّ البدن السابق عندما يموت ويفنى فإنّ النفس تنفصل عنه لتحلّ في بدن آخر. لكن جرى الإدعاء في التناسخ أنّ هذا

ص: 59

الشرط لا يتحقّق؛ ذلك لأنّ البدن السابق لم يفنى ليلزم خروج النفس. وأنّ النفس تبقى في ذلك الهيكل، وأنّ شكله فقط هو الذي يتغيّر. إذا، فثبات البدن و عدم خروج النفس منه، وبذلك تنتفي مشكلة التناسخ أي تعلّق نفس واحدة ببدنين.

وبعبارة أخرى، فإنّ أهمّ إشكال على التناسخ هو رجوع النفس المجرّدة ثانية إلى عالم المادة، وينتفي هذا الإشكال في المسخ بالتعريف المذكور.

2 - تحوّل الملكات الإنسانية إلى حيوانية:

نفس الناس الممسوخين قد تحوّلت إلى نفس حيوانية بسبب اكتسابهم لأعمال وملكات ،رذيلة وبما أنّ النفس بمعناها الفلسفي هي الصورة الحقيقية لكلِّ شيء، وعلى هذا فإنّ ذات هؤلاء وحقيقتهم هي الحيوانية، وقد ظهرت ملكاتهم وحقيقتهم الداخلية والخفية بأمر اللّه(1).

وبتعبير آخر، فإنّ صورة حيوان كالقرد قد أضيفت إلى الصورة الإنسانية فأنتجت إنسان قرد وكلّ من الصفتين ناظرة إلى جهة خاصة(2).

3- إهلاك نوع وإيجاد نوع آخر:

الملاحظتان السابقتان لم تطرحا الفناء المطلق؛ بل تمركزتا على تغيير الإنسانية وتحوّلها إلى الحيوانية. لكن يمكن الإدعاء في المسخ أنّه ليس هناك أي تحوّل ؛ بل إنّ الذي يقع هو عبارة عن العدم أو إعدام نوع «الإنسانية» وخلق آخر وإيجاده مثل «القرد» وعليه فليست هناك أي شائبة على التناسخ

ص: 60


1- راجع: السيد محمد حسين الطباطبائي، تفسير الميزان: ج 1، ص210.
2- نفس المصدر : ص 208.

بهذا الفرض(1).

الشبهة السابعة . عودة الأئمة إلى الدنيا (الرجعة/1)

استناداً إلى الروايات المتعدّدة، فإنّ مذهب التشيّع يعتقد بالرجعة، وهي تعني عودة جميع الأئمة أو بعضهم إلى الحياة ثانية بأبدانهم الدنيوية بعد شهادة الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف). وبعضهم مثل (أحمد أمين المصرى) اعتبر أنّ الرجعة والتناسخ أمر واحد، لذلك انّهم الشيعة أنّهم يقولون بالتناسخ(2).

تحليل وبحث:

في تحليل النسبة بين الرجعة والتناسخ هناك ملاحظات عدّة جديرة بالذکر:

1 - التفاوت بين الرجعة والتناسخ:

تتفاوت الرجعة عن التناسخ بعدّة أمور هامّة، تجيز إمكان حصول الرجعة، نشير إلى أهمها:

1 - 1. عدم انقطاع عُلقة النفس بالبدن: هناك رأي يقول بعدم انقطاع علاقة النفس بالبدن بشكل كامل بعد الموت. واعتبر أصحابه أنّ علاقة لقاء أرواح الناس الموتى مع أسرهم - وهو ما ورد في روايات متعدّدة(3)- من

ص: 61


1- صدر المتألهين تفسير القرآن الكريم : ج 3، ص 470 / أحمد الآشتياني، لوامع الحقايق في أصول العقائد: ج 2، ص 47 .
2- أحمد أمين المصري، فجر الإسلام: ص 277.
3- الكليني، فروع الكافي: ج 3، ص 230، باب أن الميت يزور أهله

الأدلة على صحة رأيهم(1). وعلى هذا الأساس فليس هناك انفصال مطلق بين النفس والبدن وعالم المادة، لذلك، فإنّ تعلّق النفس ثانية وبشكل كامل ببدنها أمر ممكن، وليس ذلك غريباً عن مقولة تعلّق النفس بالبدن ليلزم الوقوع بمحذور التناسخ(2). وبعبارة أخرى، فإنّ التناسخ المحال هو تعلّق النفس ببدن آخر وليس بالبدن السابق، وهذا القسم من التناسخ لا يجري في الرجعة(3).

2 - 1. حصول الكمال لمن يرجعون ومن محذورات التناسخ لزوم حركة القهقرى أو الرجوع من الكمال ومن الفعلية إلى النقص والقوّة، وهذا ما يستلزم تعلّق نفس الإنسان ببدن إنسان آخر أو حيوان.

وهذه المشكلة غير لازمة فى الرجعة ذلك لأنّه يمكن للراجعين من المتوسطين أن يكتسبوا التكامل بعودتهم إلى الدنيا وإلى بدنهم السابق.

أمّا بالنسبة إلى الإنسان الكامل مثل النبي صلی الله علیه و آله و سلم والأئمة فينبغي القول

ص: 62


1- راجع السيد محمد حسين الطباطبائي، الإنسان من البداية حتى النهاية: ص 88.
2- يذكر الإمام الخميني رأي أستاذه الشاه آبادي فيقول: يمكن أن يقال أن علاقة الروح بعد الموت باقية بالنسبة إلى البدن فإنّه دار قراره ونشوئه ومادة ظهوره فعليه فلا إشكال في إحياء الموتى في هذا العالم. ويمكن أن يقال أنّ الإحياء عبارة عن التمثل ببدنه الحسي أو المثالي المنتقل معه في هذا العالم كما الأمر في الرجعة، أي تصحيحه بأحد الوجهين» (تعليقات على شرح فصوص الحكم ص 174 -175 والمعاد: ص 91)، ثمّ يذكر الإمام الخميني رأي (الميرداماد) في كتاب (سر) زيارة الأموات القائل ببقاء العلاقة بين الروح والبدن بعد الموت
3- في تبريره لعودة رفاق النبي موسى بعد حلول الصاعقة السماوية وعدم لزوم التناسخ في ذلك كتب صدرالمتألهين: «إذا كان البدن ،واحداً، وكان التعلّق متعدّداً، فلا يلزم ذلك، ولعلّ الأبدان - فيما نحن فيه - لم تفسد بالكلية ولم تخرج عن صلوح تعلّق النفس بها» (صدر المتألهين تفسير القرآن الكريم، ج 2، ص 416).

إنّ من شأن هؤلاء ومنزلتهم وكمالهم الحقيقي هو في دور الهداية والتربية والتعليم وباستشهادهم (الموت المخروم) لم ينل هؤلاء العظماء هذه الغاية وكمالهم، بل ابتلوا بحركة قسرية، لكن هذه الحركة القسرية ليست دائمة «القسري لا يدوم» فإنّهم برجوعهم إلى الحياة الدنيوية تتاح لهم مجدداً فرصة تحصيل الكمال المذكور فينالونه(1).

من هنا، فإنّ رجعة الإنسان الكامل ليست حركة ورجوعاً نحو النقص؛ بل إنّها حركة تحصيل الكمال المضاعف وحركة اشتدادية(2).

ص: 63


1- في معرض ردّه على استحالة الرجعة بدليل رجوع ما بالفعل إلى ما بالقوّة كتب العلامة الطباطبائي: «إنّما يلزم المحال المذكور في إحياء الموتى بعد الموت الطبيعي، وهو أن تقارن النفس البدن بعد خروجها بالقوّة إلى الفعل خروجاً تاماً، أما الموت الاخترامي الذي يكون بقسر قاسر كقتل أو مرض فلا يستلزم محذوراً، فإنّ من الجائز أن يستعد الإنسان لكمال موجود في زمان بعد زمان حياته الدنيوية الأولى، أو يستعدّ لكمال شروط بتخلّل حياة ما في البرزخ» السيد محمد حسين الطباطبائي، تفسير الميزان: ج 2، ص 107). الأمر اللافت هو أن ظاهر عبارة العلامة أنّ اختصاص الرجعة بالاموات الذين لم يموتوا موتاً طبيعياً بل موتاً اخترامياً. لكن رأي البعض الآخر مثل صدر المتألهين أنّ الرجعة تختص بالإنسان الكامل صدر المتألهين تفسير القرآن الكريم: ج 5 ، ص 75)، فإن الرجعة تشمل كلا النوعين من الموت.
2- العلامة أبو الحسن القزويني الرفيعي قام بتبيان الرجعة بالأصول الثلاثة المذكورة علقة النفس بالبدن الولاية الكلية والدور التربوي والتعليمي للنبي والائمة عدم دوام الحركة القسرية) (راجع: أبو الحسن القزويني الرفيعي، رسالة الرجعة والمعراج / مجموعة الرسائل والمقالات الفلسفية، رسالة الرجعة).

2 - التمثّل المثالي:

رأي آخر يعتقد في تفسير الرجعة أنّ حياة الذين يعودون إلى الدنيا وأبدانهم ليست مادية وجسمانية؛ بل إنّها نوع من وجود عالم المثال، أي إنّهم يظهرون في الدنيا ببدنهم المثالي، من دون أن يفطن الناس إلى هذا الأمر(1).إذاً، فالروح تبقى بعد الموت في قالب وحياة برزخية، وفي النهاية تتمثل في الرجعة بصورة بدنها الدنيوي، كما تتمثّل الملائكة للأنبياء وللسيدة مريم:

«فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنا فَتَمَثَّلَ هَا بَشَرًا سَوِيًّا» [مريم 17].

في هذا المجال ينبغي القول إنّ الإدعاء المذكور هو في حدّ الاحتمال، فإن حشر العائدين ونشرهم مع سائر الناس وتحمّل العذاب والآلام الجسدية كالقتل والجراح في الحرب يؤيّد عودتهم بأجسامهم.

3- إنشاء النفس للبدن الدنيوي:

بعض العرفاء يعتقدون أنّ النفس المجرّدة للإنسان الكامل في عالم البرزخ ومن ذلك روح النبي صلی الله علیه و آله و سلم والأئمة تمتلك الولاية التكوينية، بمعنى انّ أرواحهم تستطيع التدخل والتصرّف بشؤون العالم مثل عالم المادّة. ومن تلك الأمور خلق البدن المادي وإيجاده لأنفسهم عند الحاجة؛ فمثلاً جاء في الروايات أنّ الإمام على علیه السلام يحضر إلى جانب الإنسان المحتضر، وإذا كان هناك موت جماعي لآلاف الناس فكيف سيتحقّق حضوره عند كلّ منهم ولو

ص: 64


1- السيد روح الله الموسوي الخميني المعاد ص 142 . نظرية الشيخ الشاه آبادي مرّ ذكرها في الهوامش السابقة، لكنه ذكر أنّ الصورة المتمثلة هي صورة متمثلة ببدن حسّي أو مثالي.

ببدنه المثالي؟ يعتقد العرفاء أنّه علیه السلام يقوم بخلق وإنشاء أبدانٍ مثاليةٍ متعدّدةٍ لنفسه.

وفي مسألة الرجعة أيضاً تستطيع روح الإمام أن توجد أو تخلق بدنها الدنيوي أو مثاله ففي الرجعة المطروح ليس تعلّق النفس ببدن آخر؛ بل إيجاد بدنٍ جديد، لذا، فلا مكان لشبهة التناسخ ها هنا مطلقاً(1).

الشبهة الثامنة - حياة بعض الأموات في عصر الأنبياء (الرجعة /2):

في نهاية بحث التناسخ والرجعة نجري تحليلاً لبعض حالات الرجعة استناداً إلى الآيات القرآنية التي توهّم منها بعضهم تأييدها للتناسخ:

أ ) رجعة العزير إلى الدنيا:

من موارد الشبهة عودة النبي العزير إلى الحياة بعد موته لمدّة ماية عام بإرادة من الله تعالى:

«أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ حَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَمَاتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ» [البقرة 259].

نذكر نقاطاً عدة في معرض تحليل ذلك:

ص: 65


1- السيد روح الله الموسوي الخميني، تقريرات الفلسفة ج 3، ص 201/ السيد روح الله الموسوي الخميني، المعاد ص 302.

1. إنّ ماهية التناسخ قائمة على خروج النفس من بدنها وتعلّقها ببدن غريب، وبما أنّ بدن (عزير) بقي ثابتاً، لذلك لا يتحقّق في عودته إلى الحياة التناسخ.

2. كما ذكر سابقاً فإنّ الروح لا تقطع علاقتها وعلقتها مع بدنها بعد الموت بالمطلق، خاصة روح الإنسان الكامل الذي لم يكمل دوره التربوي والتعليمي. فمثل هؤلاء لا يصدق عليهم انفصال الروح بالكامل عن البدن، لذلك لا لزوم لوجود مشكلة تناسخ (خروج النفس من البدن).

3. موت (عُزير ) لم يكن موتاً طبيعياً، بل إنّه موت اخترامي، لأنّه لم يكن قد أنهى سيره التكاملي، وعودة روحه إلى بدنه السابق خالية من محذور التناسخ الثاني أي حركة القهقرى والرجوع عن الكمال نحو النقص.

4. يظهر من جواب (عُزير ) غفلته عن موته لمدّة مائة عام، وأنّ موته ليس من قبيل الموت المألوف، أي: إحساس الشخص بموته ورؤيته لملائكة الموت وعالم البرزخ؛ بل كان من نوع الموت الحقيقي بمعنى إعدام النفس والخلق وإنشائها ثانية، أو من نوع النوم الثقيل كنوم أصحاب الكهف. وكلا الحالتين خارجتين عن صورة التناسخ وأشكاله.

ب) عودة أصحاب النبي موسى علیه السلام إلى الحياة:

سبعون رجلا من قوم النبي موسى ربطوا إيمانهم برؤية اللّه بالعين الظاهرية، فواجه اللّه طلبهم هذا بردٍّ شديد، أي الموت بصاعقة سماوية، لكنّه تعالى أعادهم إلى الحياة بطلب النبي موسى:

«وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ

ص: 66

الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنْظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» [البقرة 55-56].

هناك عدّة شبهات في هذه الحادثة أنّ روح الإنسان خرجت من البدن الدنيوي، ثمّ عادت إليه متنزّلة، وهو ما يشير إلى التناسخ.

هذه الشبهة كشبهة النبي عزير والردّ عليها جاء في الردود الثلاثة التي وردت في الردّ على شبهة النبي عُزير، ولا داعي لتكرارها.

إضافة إلى ذلك، فإنّ حادثة موت قوم النبي موسى كما ذكر صدر المتألهين - أنّه بسبب سرعة.

ما حدث، فإنّ الأبدان المذكورة لم تتلف بالكامل(1). ولهذا السبب أيضاً فإنّ علاقة النفس بالبدن أشدّ من حادثة عُزير.

ج) إحياء النبي عيسى علیه السلام لبعض الأموات:

في بعض الحوادث جرى إحياء بعض الموتى على يد إنسان كامل مثل النبي عيسى علیه السلام كمعجزة الإحياء:

«وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتِى بِإِذْنِ» [المائدة 110].

«وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ» [آل عمران 49].

فادّعى أهل التناسخ أنّ هذه الأمور تؤكد صحة التناسخ، لكن بطلان هذا الظن جاء في النقاط السابقة، لأنّه:

أوّلاً - الملاحظتان اللتان ذكرتا في تحليل حادثة (عُزير) من (ثبات

ص: 67


1- صدر المتألهين تفسير القرآن الكريم: ج 2، ص 416.

البدن، وعلاقة النفس بالبدن تجريان على هذا البحث أيضاً.

ثانياً - يحتمل أن يكون الإحياء المذكور آنفاً قد حصل بالبدن المثالي، لذلك لم يحصل أساساً تعلّق النفس بالبدن المادي ليكون التناسخ المحال لازماً ها هنا.

ثالثاً - إنّ الإنسان الكامل كالنبي عيسى علیه السلام يمكنه بأنفاسه القدسيّة أن ينشىء بدناً مثالياً أو مادياً كبدن الإنسان الميت ويخلقه (كما أشرنا سابقاً إلى أنّ الأئمة علیهم السلام يمكنهم بولايتهم التكوينية أن ينشئوا آلاف الأبدان العائدة لهم، ليحضروا عند آلاف المحتضرين).

الشبهة التاسعة - المعاد الجسماني يوهم بالتناسخ:

بنظرة سطحية إلى النصوص الآتية ظنّ أهل التناسخ أنّ التناسخ سيحصل في القيامة وفي جهنم فيما يأتي نحلّل الصور المطروحة:

من الشبهات التي يتوهم منها التناسخ والمعاد الجسماني، واستناداً إلى النظرية المشهورة أنّ اللّه سبحانه وتعالى يعيد إحياء الأبدان المادية والدنيوية للإنسان في يوم القيامة وتعود الروح إلى البدن ويلزم ذلك عودة النفس من الوجود المجرّد (مجرّداً عقلياً كان أم مثالياً) إلى الوجود المادي، وتعطيل النفس عند خروجها من مجرّد وتعلّقها بقالب مادي وكلاهما من أدلة استحالة التناسخ.

بحث وتحليل:

سيأتي معنا تالياً البحث التفصيلي حول المعاد الجسماني، لكنّنا نشير ها هنا إلى الملاحظات الآتية:

ص: 68

1 - كما جرت الإشارة في تحليل شبهة الرجعة فإنّ الروح لا تنقطع بصورة كاملة عن البدن عند الموت، بل تبقى العُلقة بينهما، لذلك فإنّ الخروج الكامل لا يتحقّق، وبذلك فإنّ شبهة تعلّق الروح بالبدن السابق ثانية غير مطروحة. في حين أنّ إشكال التناسخ يلزم عند عودة النفس إلى بدن آخر غریب، وليس ببدنها هي.

2 - فإن قيل إنّ اللّه سبحانه وتعالى يعيد خلق عين البدن الدنيوي في یوم القيامة(1)، وإنّ النفس تكمل مسارها (المنعّم أو المعذّب) بتعلّقها ببدنها، وإنّ هذا هو التناسخ المحال، أي خروج النفس من البدن المادي وتعلّقها ثانية ببدن مادي آخر.

ينبغي القول في تحليل ذلك إنّ القائلين بالنظرية المذكورة يعتقدون بعالم البرزخ، أي تعلّق النفس بعد الموت بالبدن المثالي. وبحصول القيامة يكون هذا البدن(2) المثالي على إحدى صورتين:

الصورة الأولى - حفظ بدنها المثالي. ففي هذا الافتراض لا يصدق

ص: 69


1- اعتبر الشيخ البهائي أنّ تعلّق الروح البرزخية بالبدن الدنيوي يختلف عن ماهية التناسخ: «أما القول بتعلقها في عالم آخر بأبدان مثالية مدة البرزخ إلى أن تقوم قيامتها الكبرى فتعود إلى أبدانها الأولية بإذن مبدعها أما بجمع أجزائها المتشتتة أو بإيجادها من كتم العدم كما أنشأها أوّل مرّة، فليس من التناسخ في شيء» (الأربعون، ذيل الحديث 40 ص 252).
2- اللافت هو أنّ أكثر المتكلمين السابقين اعتبروا أن النفس والبدن البرزخي ليسا مجردين؛ بل إنّهما من سنخ المادة، لكن من النوع اللطيف، وعلى هذا الأساس يتحوّل البدن المادي اللطيف في القيامة إلى مادي كدر (محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار: ج 6 ، ص 271).

خروج النفس من بدنها، ففي النهاية إنّ النفس تتعلّق بالبدنين - أحدهما من سنخ مثالي والآخر من سنخ مادي - وذلك بقدرتها القدسية أو بقدرة إلهية، وتقوم بتدبيرهما. فالفلسفتين الإشراقية والمتعالية تعتقدان أنّ عالم البرزخ موجود في الدنيا، وأنّ النفس تمتلك بدناً مثالياً أيضاً إلى جانب البدن المادي، وأنّ مشاهدة الجسم المثالي في عالم الرؤيا من قبل الإنسان هي دليل على إمكان ذلك ووقوعه.

الصورة الثانية - عدم وجود بدن مثالي على هذا الفرض يمكن القول إنّ البدن المثالي ليس معدوماً؛ بل إنّه متحوّل إلى بدن جسمي ومادي، وحسب المتكلمين فإنّ البدن المادي اللطيف قد تحوّل إلى بدن مادي كدر. وفي هذا الفرض أيضاً لا يحصل خروج النفس من بدنها حتّى تكون شبهة التناسخ المحال مطروحة. وبعبارة أخرى، فإنّ التناسخ المذكور هو من القسم الملكوتي وليس من الملكي وهو محال.

3 - على أساس الحكمة المتعالية - سيأتي توضيحها - فإنّ المعاد الجسماني يكون بإنشاء النفس مثل بدنها الدنيوي، وهو خارج عن دائرة التناسخ وعن تعطيل النفس. فيما يأتي نوضح ذلك باختصار:

يشير (صدر المتألهين) خلال توضيحه للمعاد الجسماني في أحد عشر أصلاً(1) إلى أنّ حقيقة أيّ وجود وشيء ليست بمادته بل بصورته، وصورة الإنسان ليست ببدنه بل بنفسه والنفس بعد الموت تتعلّق بالقالب المثالي ويستمر بحياته في عالم المثال. وفي القيامة تنشىء النفس بدنها الجسماني

ص: 70


1- صدر المتألهين الأسفار الأربعة ج 9، الباب ،11، الفصلين 1 و 2 .

وتخلقه. فإن كانت النفس تمتلك ملكات أخلاقية جيّدة وجميلة تخلق صورها جميلة منعمة، وإن كانت النفس تمتلك ملكات أخلاقية رذيلة وقبيحة تخلق صورها قبيحة معذّبة. وفي الحقيقة إنّ النفس تتلذذ في الآخرة أو تتألم عبر إنشائها، وهو ما يسمّى في المصطلح الكلامي ب- «تجسّم الأعمال» (سيأتي تفصيله في الفصل الأخير).

إذاً، فكلّ ما يحصل في الآخرة فإنّه يتعلّق بنفس الإنسان، وليس هناك خروج للنفس وبدن أجنبي ليوجد توهّم التناسخ.

وبعبارة أخرى، فإنّ ما يحصل في المعاد هو التناسخ الملكوتي وليس الملكي، يقول الإمام الخميني في هذا المجال: «النفس في الملكوت هي صاحبة الإنشاء والظهور وهي تنشىء صورها طبق باطنها وبما يتناسب مع ملكاتها وتشكل تلك الصور بدنها، وهو أمر صحيح ومقبول... فللنفس هناك ظل وهو ظهورها، كما إنّ قوى البدن في هذا العالم هو ظهور للنفس»(1).

استناداً إلى نظرية صدر المتألهين فإنّ مادية الأبدان المحشورة ليست عين المادّة الدنيوية لتكون مستعدة للتغيير والحركة؛ بل إنّ أبدان القيامة هی كالظل بالنسبة لصاحبه فالأبدان هناك تنشأ من الملكات والأخلاق وهيئات النفوس(2).

ص: 71


1- السيد روح الخميني، تقريرات الفلسفة : ج 3، ص 199-200.
2- صدر المتألهين، الأسفار الأربعة: ج9، صص 31-32 و 227. يقول العلامة الرفيعي القزويني في هذا المجال: عندما تفارق النفس بدنها العنصري تظهر خيال بدنها الدنيوي دوماً، لأنّ قوّة الخيال تبقى في النفس بعد الموت، وعندما تظهر خيال بدنها يصدر عنها بدن مطابق للبدن الدنيوي» (السيد أبو الحسن الرفيعي القزويني، مجموعة الرسائل والمقالات الفلسفية: ص83).

وبعبارة أخرى، فإنّ نسبة البدن إلى النفس كنسبة الفعل إلى الفاعل،أي: إنّها نسبة صدورية.

الشبهة العاشرة - حشر الإنسان في القيامة على صورة حيوانات:

بعض الروايات أشارت إلى أنّ هناك بشراً مذنبين يحشرون يوم القيامة على هيئة حيوانات كالقرود والخنازير(1)، ما اعتبره أهل التناسخ تعلّق نفس إنسان مذنب ببدن آخر وغير بدنه، وأنّه دليل على التناسخ، كحشر المتكبر على هيئة النمل أو ما هو أدنى: «يحشر المتكبرون في صورة الذرّ يوم القيامة»(2).

بحث وتحليل:

الجواب على هذه الشبهة ورد في السابق، ونكتفي هنا بإشارة:

مرّ ذكر أنّ النفس بعد الموت تمتلك وجوداً مثالياً في عالم البرزخ، وبالتبع تمتلك بدناً مثالياً. وأنّ كيفية الحياة البرزخية من سعادة أو شقاء يرتبط بوضع النفس في الدنيا، وأنّ النفس الطاهرة والكاملة تنشىء صوراً جميلة منّعمة، والنفس العاصية تنشىء صوراً قبيحة معذّبة، وذلك حسب طبعها في الدنيا (سيأتي توضيح هذا الأمر في الفصل الأخير تحت عنوان تجسّم الأعمال).

ص: 72


1- الشهرزوري، رسائل الشجرة الالهية: ص 593/ قطب الدين الشيرازي، شرح حكمة الإشراق: ص 471.
2- محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار: ج 53 ، ص 131

مع حصول القيامة وبعبارة أخرى المحشر فإنّ الإنسان الكامل حسب مقتضى نفسه وطبيعتها ينشئ بدنا وصوراً جميلة، والإنسان العاصي ينشىء بدناً وصوراً قبيحة. وبما أنّ الذنوب والأعمال القبيحة على أنواع وأقسام مثل: شرب الخمر، الزنا الغيبة، الربا. فلكلّ معصية مقتضاها وأثرها الخاص، وسيكون ظهور النفس يوم القيامة وصورتها طبق ملكاتها الذاتية في الدنيا.

فالإنسان يمتلك ثلاثة قوى هي «الغضبية أو السبعية» و«الشهوية أو البهيمية» و«الشيطانية أو الوهمية»، فإذا استطاع الإنسان أن يعدّل القوى المذكورة بقوّته العقلية عندئذٍ تصبح صورته الباطنية كظاهره الإنساني، أمّا إذا تغلّبت أحدى تلك القوى الثلاث على إنسانيته فستتغير صورته الباطنية. مثلاً تغلّب القوّة الغضبية يقتضي ظهور ملكات حيوانية كالذئب والنمر، وإذا تغلّبت القوّة الشهوية ظهرت ملكات حيوانية كالخنزير والبقرة والحمار والقرد، وإذا تغلّبت القوّة الوهمية ظهرت الملكات الشيطانية، وعندما تكتسب النفس هذه الملكات فستظهر وتحشر في يوم القيامة بقوالب وأشكال متناسبة معها.

وعليه، فإنّ الناس يحشرون في القيامة على أشكال مختلفة من دون أن يحصل تناسخ (خروج النفس من بدنها وحلولها في بدن آخر) بل إنّ النفس تنشىء بدنها حسب الملكات التي اكتسبتها(1).

يشير (صدر المتألهين) في توضيحه لهذا الأمر بعدّة روايات منها

ص: 73


1- «إنّ وجود الأكوان الأخروية إنّما هي من باب الإنشاء بمجرد الجهات الفاعلية» صدر المتألهين، الأسفار : ج 9، ص 161 والسيد روح الله الموسوي الخميني، المعاد: ص 141 .

الحديث الدال على تجسّم رأس المأموم الذي يخالف إمام الجماعة في أفعال الصلاة على شكل رأس حمار من خالف الإمام في أفعال الصلاة يحشر ورأسه رأس حمار(1). وفي تحليله للأمر يستند إلى ذات وطبع البلاهة والحمق لوجود تناسب بينهما(2).

الشبهة الحادية عشر - تغيّر وتبدل أبدان الجهنميين:

استدلّ أهل التناسخ على شبهتهم باحتراق أبدان أهل جهنم وتغيّرها:

«إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ». [النساء 56].

عدّ أهل التناسخ هذه الآية الشريفة دليلاً على تبدّل أبدان أهل النار وتغيّرها باستمرار، وحلول أنفسهم في أبدان جديدة (3).

بحث وتحليل:

1 - الآية الشريفة تخبر عن تغيّر جزئي وتبدّل في جلد البدن من دون حصول تغيير وزوال كامل للبدن (حلول جلد جديد مكان جلد محترق) وهذا

ص: 74


1- ابن حزم المحلّى : ج 4 ، ص 61 مسند أحمد: ج 2، ص 260 .
2- تحوّل النفس من النشأة الدنيوية وصيرورتها بحسب ملكاتها وأحوالها مصوّرة بصورة أخروية حيوانية أو غيرها حسنة بهية نورية أو قبيحة ردية ظلمانية... هذا كله بحسب تحوّل الباطن من حقيقة الإنسانية قوّة أو فعلاً إلى حقيقة أخرى بهيمية أو سبعية» صدر المتألهين الأسفار : ج 9، صص 4-5 و 30).
3- شمس الدين محمد الشهرزوري رسائل الشجرة الإلهية في علوم الحقايق الربانية ص 593/ وقطب الدين الشيرازي، شرح حكمة الإشراق: ص 471 و 571

لا علاقة له بالتناسخ(1). ذلك لأنه ليس هناك انفصال بين النفس والبدن ليجري البحث في الاستحالة وإمكانية حلول النفس ببدن آخر.

2 - على فرض أنّ نار جهنم بسبب حرارتها العالية لا تحرق الجلد فقط؛ بل تحرق الجسم كلّه من لحم وعظام أيضاً، فهذا لا يعني أنّ البدن قد تلاشى؛ بل سيتحوّل إلى رماد أو دخان (استناداً إلى قانون بقاء المادّة والطاقة فإنّ المادّة لا تفنى؛ بل تتحوّل من صورة إلى أخرى). فإنّ اللّه سبحانه وتعالى حسب الآية الصريحة سيغيّر ويبدّل المواد والعناصر المتبقية ويعيدها على صورة بدن.

من الواضح أنّ هذا التغيّر والتبدّل في أعضاء البدن يحصل بلا فاصل؛ لذا، فلا وجود هنا لخروج النفس من البدن وتعلّقها ببدن آخر، ولا يلزم ذلك حصول تناسخ.

3- ذكرنا سابقاً أنّ التناسخ ،محال، أي أن تخرج النفس من البدن المادي لتعود إلى بدن مادي آخر ثمّ إلى غيره، وأن تكون هناك فرجة زمانية بين انتقالها (التناسخ التنزلي أو الملكي) لكن في القيامة فإنّ اللّه سبحانه وتعالى فى نفس لحظة تلف البدن (حسب الفرض وإغماضاً عن الملاحظتين السابقتين) ينشيء ويخلق للنفس بدناً من دون فاصلة زمنية لتتكبد النفس العذاب، ولا يحصل للنفس خروج من البدن وتعطيل للنفس، ذلك لأنّه يجري إنشاء أبدانٍ للنفس وخلقها من دون فاصلة.

وحيث أنّ حقيقة أيّ وجودٍ وشيئيته بصورته وليس بمادته، وتغيّر

ص: 75


1- صدر المتألهين الأسفار : ج 9، ص 166.

البدن وتحوّله (المادة) لا يحدث أيّ نقص في حقيقة الإنسان وثبات شخصيته، ذلك لأنّ النفس تبقى ثابتة على تجرّدها.

ثانياً بسبب التوالي في تغيّر البدن وعدم وجود فاصلة زمانية، فإنّ وحدة البدن المحروق والجديد تبقى محفوظة.

綠線

ص: 76

الفَضْلُ الثَّاني الموت وعالم البرزخ

اشارة

ص: 77

ص: 78

المقدمة

كيفية الموت وأقسامه:

الموت من حقائق التاريخ البشري الذي لا مفرّ منه، فالملحدون يعتبرونه نهاية دورة الوجود البشري، وعند تحقّقه يغلق ملف وجود الإنسان بالكامل. في الفصل الأوّل جرى توضيح إمكان حصول المعاد وضرورة وجوده والأدلة على ذلك. ولا داعي في هذا الفصل أن نردّ على هذا الإدعاء وتوضيح أنّ الإنسان بموته ينتقل إلى عالم يسمّى بعالم البرزخ» بل سنتحدّث عن الموت وأنواعه.

حقيقة الموت هي نهاية دورة الحياة الدنيوية للإنسان المركب من عنصرين: النفس المجرّدة والبدن المادي. وعندما يموت الإنسان يذهب عنصره الثاني والمادي أي جسده، وبفساد البدن تفقد النفس محلّها ومتعلّقها وتخرج منه وبذلك يحلّ الموت. ومن ناحية أخرى، فإنّ ماهية الإنسان لا تكمن في بدنه المادي؛ بل تقوم بروحه، لذا فإنّ موت الإنسان يعنى في الحقيقة تغيّر لباسه ومركبه من دون أن يتعرّض أصل حياته إلى أيّ ضرر.

وبتعبير فلسفي، فإنّ الموت هو بداية حياة عقلية وبرزخية، ذلك لأنّ

ص: 79

النفس تسير في حركة جوهرية نحو الكمال بفعليّة تامةٍ ومستقلةٍ عن قالب البدن ،المادي وبحركة النفس وقوّتها ضعف البدن، ومع مرور الزمان ظهرت على البدن آثار التفسخ كضعف البصر والسمع ويباس الجلد.

هناك حركتان مستمرّتان داخل الإنسان باتجاهين، واحدة نحو الرشد وفعلية النفس، والأخرى نحو القهقرى وتحلّل البدن إلى أن تصل النفس في ظلّ حركتها التكاملية إلى نقطة الاستقلال عن البدن في هذه اللحظة يحصل موت الإنسان(1).

وهناك حركة تكاملية مشابهة تجري في العالمين الحيواني والنباتي. فالإنسان أو الحيوان وكذلك الجنين داخل بيضة الطير عندما يصل إلى نقطة الرشد والكمال لا يمكنه الاستمرار بالعيش في رحم الأم أو داخل البيضة، بل إنّ بقاءه في ذلك المحل يعني فساده وموته، لذلك يخرج من محيطه وفضائه هذا بحركة سريعة ليخطو في عالم جديد.

ومثل ذلك موجود في عالم النبات، فالفاكهة إذا نضجت بالكامل تنفصل عن الغصن بهدوء.

إذاً، فالموت الحقيقى للإنسان ليس دفعة واحدة؛ بل إنّه أمر تدريجي يبدأ من نقطة الحركة الاستكمالية للنفس وحركة تحلّل البدن، ويتحقّق الموت بالكامل عند استقلال النفس وخروجها الكامل من البدن. لكن العرف استخدم

ص: 80


1- «إنّ موت الإنسان يحصل بعد استقلال النفس وليس يحصل الموت فيخرج الإنسان من الطبيعة بعده السيد روح الله الموسوي الخميني تقريرات الفلسفة: ج 3، ص ،71، وج 1 ، ص 318 - 327 والمعاد في نظر الإمام الخميني: صص 166 و 173 فما بعدها).

«الموت» مصطلحاً للحظة الأخيرة من الحياة الدنيوية، وهي أوّل مرحلة من الحياة الأخرى.

يقول الإمام الخميني في هذا المجال:

«إذا التفت الإنسان في آخر لحظات حياته الطبيعية، واستطاع إدراك (الموت) مشاهدة عينية فسيرى أنّ الموت قد بدء تدريجياً منذ بدء حياته الطبيعية وكان مستمراً، وكان عمال عزرائيل منذ اليوم الأوّل يعملون على نزع النفس من الطبيعة حتّى يتمكنون في النهاية وفى آخر لحظة من الحياة الطبيعية أن يقطعوا آخر العلائق المتبقية مع عالم الطبيعة، وعندها ينتقل الإنسان إلى عالم البرزخ»(1).

وبعبارة أخرى، فإنّ الموت المصطلح هو توقّف أعضاء البدن بأمر اللّه، وتفسخ الخلايا وانقطاع علاقة النفس عن تدبير البدن (سيأتي توضيح ذلك أكثر في تبيان أنواع الموت والاحتضار).

معظم علماء علم الأرواح يعتقدون بوجود نوعين من البدن عند الإنسان أحدهما «البدن الطبيعي» والآخر «البدن الروحي أو الأثيري»(2).

ويعتقدون أنّ الإنسان يمتلك إلى جانب بدنه المادي بدناً وقالباً من سنخ الروح أو جسماً لطيفاً ومرناً يشبه بدن الإنسان في المنام، وهو مرتبط بالبدن المادي

ص: 81


1- تقريرات الفلسفة : ج 3، ص 405/ وأيضاً الأربعون حديثاً: ص 94 .
2- راجع إيزنغ واتسن الروح والعلم الحديث، ترجمة محمد رضا الغفاري ص 44/ مايكل تالبوت عالم الهولو غرافيك، ترجمة داريوش مهرجوئي: ص228 رؤوف عبيد الإنسان روح لا جسد، ترجمة زين العابدين كاظمي الخلخالي: ص 666 و 882 ليون ديني عالم ما بعد الموت، ترجمة محمد البصيري.

عبر طرق مختلفة كالطاقة. وتقترب نظرة متخصصي العلوم الروحية هذه بشكل خاص مع نظرة العرفاء وفلاسفة الإشراق القائلة بعالم البرزخ ووجود البدن المثالي عند الإنسان في الدنيا . وأنّ انفصال الروح وخروجها أي خروج البدن الأثيري من البدن المادي يتسبّب في موته سنتناول في الصفحات القادمة كيف أنّ مفارقة الروح للبدن قد تكون على صورتين مؤقتة ودائمة، الصورة الأولى هي الموت الإرادي والاختياري، والصورة الثانية هي الموت الأبدي والمعروف.

إذا نظرنا إلى حالات الموت ،الحاصلة يمكننا تقسيم الموت إلى الأقسام الآتية :

أ) الموت الطبيعي:

إذا قضى الإنسان حياته الطبيعية، وفي آخر عمره الاعتيادي أصبح شيخاً وتحللت خلايا ،بدنه وفى النهاية مات بتوقّف أعضاء بدنه الأصلية كالقلب والدماغ عندئذٍ يقال كان موته طبيعياً.

وبعبارة أخرى، فإنّ عمر الإنسان من الأزل قد تحدّد حسب قابلية خلاياه واستعدادها، وعدم عروض موانع خاصّة. فإذا تحقّق هذا العمر كان موته طبيعياً.

هناك نظرتان تحدّدان سبب الضعف التدريجي للبدن وتلفه وما يؤدي بالإنسان إلى الموت:

1. أ) النظرة المشهورة للفلاسفة وعلماء التجربة تقول إنّ مادية البدن تفترض السير نحو التحلل والتفسخ وتضرّر الخلايا بمرور الزمان والإصابة بالآفات والأمراض ما يؤدي في النهاية إلى فساد البدن. ومع هذا الفساد

ص: 82

تذهب قابلية تعلّق النفس بالبدن فتغادره وعندئذٍ يصدق حصول الموت. تماماً كخراب المركب ،وتلفه ومغادرة راكبه أو كسقوط العش عن غصن الشجرة وهجر الطائر لعشه.

2. أ) النظرة الأخرى هي نظرة صدر المتألهين الذي يعتقد أنّ علّة الموت هي: أنّ النفس تتحرّك بشكل جوهري وتدريجي نحو التكامل والفعلية التامة، وبنفس الدرجة والميزان تقل علقتها وعلاقتها بالبدن ونتيجة ذلك التنزّل وقلّة التوجّه في تدبير البدن حتى ينتهي بعدم التدبير والموت.

وبعبارة أخرى، فإنّ العلة الحقيقية للموت ليس فساد البدن وتلفه؛ بل انخفاض علقة النفس بالبدن ما يوجد الأرضية لمرض البدن وتلفه ثمّ الموت مثل خراب السفينة وغرقها بسبب قلّة اهتمام القبطان أو لعدم اهتمامه بها.

يقول صدر المتألهين: «تتدرّج في تكميل ذاتها وتعمير باطنها وتقوية وجودها بإمداد الله وعنايته وكلما ازدادت في قوّة جوهرها المعنوي واشتدّت، نقصت في صورتها الظاهرية وضعف وجودها الحسّي، فإذا انتهت بسيرها

الذاتى وحركتها الجوهرية إلى عتبة باب من أبواب الآخرة عرض لها الموت»(1).

ب) الموت المخروم أو الاخترامي:

القسم الآخر من أقسام الموت هو موت الصدفة الناتج عن علّة خاصّة و فجائية كالموت في حادث سير أو حرب ومواجهة وإطلاق رصاص أو

ص: 83


1- صدر المتألهين الشواهد الربوبية ص 89 و 277/ صدر المتألهين العرشية : ص 273.

قصف. في هذا النوع من الموت يعتقد الإنسان أنّ النفس لم تكمل مراحل سيرها وتكاملها، لذلك، فإنّ خروج النفس من البدن يكون بسبب الضرر اللاحق بالبدن.

ج) الموت الإرادي:

يستطيع بعض من الإنسان الكامل أن يفصل نفسه عن بدنه، فيتحقق الموت بسبب تلك الحالة. ويستطيع هؤلاء أن يعيدوا أرواحهم إلى أبدانهم. هذا الموت يعبّر عنه في اصطلاح الفلاسفة ب- «نضو الجلباب» وفي اصطلاح العرفاء ب- «انسلاخ البدن»(1). وتحصل هذه الحالة عند بعض العرفاء(2).

وعلّة تحقّق مثل هذا الموت هي كمال النفس وتسلّطها على البدن، بحيث تستطيع أن تغادر البدن بالكامل لمدّة ثمّ العودة إليه. ويشبهها النوم حيث تخرج الروح من البدن طوال مدّة النوم، علماً بأنّ خروج النفس غير كامل عند النوم. ويشبهها أيضاً التنويم حيث يقوم الرابط بتنويم شخص في نوم عميق يطلع الرابط أو الوسيط خلالها على معلومات.

يوافق متخصصو العلوم الروحية المعاصرون على مفارقة الروح للبدن بشكل مؤقت فها هو الدكتور هورنل هارت قام عام (1952م) بإجراء اختبار على (155) متطوع لرصد خروج الروح، فتبين له أنّ 30٪ من هؤلاء

ص: 84


1- شيخ الإشراق، حكمة الإشراق: ص 400 / صدر المتألهين تفسير القرآن الكريم ج 6 ، ص 233 .
2- العلامة حسن زاده الآملي قال: كنت في حالة تضرع فشاهدت روحي تصعد، كنت أطير وجسدي على الأرض (حسن حسن زاده الآملي، الإنسان في عرف العرفان: ص 24 وأيضاً : الميرزا جواد آقا الطهراني، الفلسفة البشرية والإسلامية).

حصل لديهم تخلّي الروح من البدن(1).

كما أشرنا فقد أجرى الغرب المعاصر دراسات وبحوثاً متعددة في هذا الموضوع، وحسب الدكتور رؤوف فإنّ أفضلها وأكثرها اطمئناناً البحوث التي أجراها العالم الأميركي هو فارد كارنجتون بمشاركة الوسيط سيلفان ميلدون، ونشرت نتائجها في كتاب خروج الروح(2).

نتيجة دراسات هذين الباحثين في الكتاب المذكور هي أنّ كلّ إنسان يمتلك جسمين جسم مادي وآخر أثيري(3). وأنّ الجسم الأثيري استقرّ داخل الجسم المادي، وأنّ كلّ مظاهر الحياة عند الإنسان ناشئة من بدنه الأثيري. وأنّه عند الموت يغادر البدن الأثيري البدن الطبيعي(4).

الشبهة الأولى - كيفية الاحتضار وانسلاخ الروح:

اشارة

إنّ أوّل سؤال يطرح هو حول كيفية خروج روح الإنسان عند الموت، وقد ذكرت الروايات أنّه صعب أحياناً، كما ذكرت أنّه سهل أحياناً أخرى.

بحث وتحليل :

لحظة الاحتضار هي لحظة انتقال روح الإنسان من الدنيا إلى عالم

ص: 85


1- راجع رؤوف عبيد الإنسان روح لا جسد، ترجمة زين العابدين كاظمي الخلخالي ص 433.
2- نفس المصدر : ص 434 .
3- Etheric doubie وللاطلاع أكثر راجع آيزينغ واتسن الروح والعلم الجديد، ترجمة محمد رضا الغفاري ص 44 / رؤوف عبيد، الإنسان روح لا جسد، ترجمة زين : العابدين كاظمي الخلخالي : صص 666 و 882 .
4- نفس المصدر : ص 516.

البرزخ، ويقوم ملك الموت بالإخبار بتحقّق الموت الحتمي والمستقبل القريب جدّاً (السعادة أو الشقاء) وعلاوة على هذا الإخبار يزاح ستار حجاب المادّة ليشاهد عالم البرزخ ومكانه في ذلك العالم من قبيل الجنة وصورها الجميلة أو جهنم وصور العذاب المختلفة.

وبعبارة أخرى، فإنّ الموت يكشف للإنسان الصور الباطنية والملكوتية لأعماله ويظهرها ،له فتحيط به تلك الصور، وبمجرد خروج النفس من البدن تختفى الفاصلة بينه وتلك الصور. فإن كانت صور أعماله حسنة لا يخاف من الموت، وإن كانت صور أعماله عذاباً وناراً وحيوانات مؤذية أصابه الرعب من الموت (سيأتي توضيح ذك في بحث نظرية تجسّم الأعمال في تبيان الجزاء الأخروي).

من ناحية ترك الدنيا والأموال التي كان متعلقاً بها، ومن ناحية أخرى مشاهدة وضع العذاب المؤلم للإنسان الذي كان يعيش مرتاحاً في الدنيا يشكل موقفاً مؤلماً جدّاً. إذا أردنا أن نورد مثالاً على ذلك يمكننا التشبيه بحال الإنسان فى لحظاته الأخيرة قبل وصوله إلى حبل المشنقة، حيث تسيطر على جسمه علامات الرعب ويرتجف. أو عندما يسمع خبراً مؤلماً جداً فيصاب بالانهيار ويغمى عليه، لذلك فإن ترك الدنيا وخروج النفس من بدن هكذا إنسان أمر مرعب.

ويمكن تقسيم الموت والاحتضار إلى مرحلتين: المرحلة الأولى مرحلة تبلّغه خبر موته من قبل ملك الموت في هذه المرحلة يشكّل عالم البرزخ المستقبل ووضعه فيه، وتنكشف له الصور الباطنية لأعماله، فيتعذب في هذه المرحلة لتركه محبوبه (الدنيا ومتعلقاتها) ولمشاهدة صور العذاب لأعماله.

ص: 86

والمرحلة الثانية لحظة خروج النفس من البدن وانتقالها إلى عالم البرزخ، وتبدأ بتحقّق العذاب المهول ووقوعه.

ممّا ذكر سالفاً تتضح النقاط الآتية:

1 - العذاب الذي يتجرّعه الإنسان في هاتين المرحلتين عبّرت عنه الآيات القرآنية والروايات(1) ب«سكرات الموت»:

«وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ» [ق 19].

2 - المقصود من خروج النفس من البدن هو انقطاع العلقة والارتباط بين النفس والبدن، ذلك لأنّ النفس بوجودها المجرّد لم تكن محصورة داخل البدن لتخرج منه بالموت(2).

3 - اتضح من الملاحظة السابقة أنّ بلوغ «الروح» إلى الحلقوم - الذي ورد في بعض الآيات:

«فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ» [الواقعة 83]

و «كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّراقِي» [القيامة 26].

وأشارت إليه الروايات (3)، فهو بالكناية، إذ إنّ علامة الحياة هو

ص: 87


1- محمد بن يعقوب الكليني، الكافي: ج 2، ص 204/ محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار: ج 78، ص 237 .
2- يحتمل أن يكون المقصود من الخروج التدريجي للنفس من جهة الرجلين وبرودة الأطراف حتى تصل إلى الحلقوم والرأس هي النفس (النامية) وليست العقلية المجردة، كجفاف العشب والشجر الذي يبدأ من طرف خاص ويسري.
3- محمد بن يعقوب الكليني، الكافي : ج 3، ص 131 محسن فيض الكاشاني، علم اليقين في أصول الدين: ج 2، ص 854 .

التنفس الخارج من الباطن ويصبح الموت عملياً بانسداد الممرات الهوائية وانقطاع النَفَس وانسداد الحلقوم، لذلك عبّر عنه بخروج النفس - وبعبارة أدق انقطاع العلاقة بين النفس والبدن في آخر لحظات الدنيا والإشراف على الموت - فقيل بلغت الروح الحلقوم(1).

الشبهة الثانية - كيفية قبض الأرواح المتعددة على يد عزرائيل:

جاء في الآيات والروايات المتعددة أنّ روح الإنسان تقبض عند موته على يد ملك اسمه عزرائيل، ونتيجته الموت يطرح هنا هذا التساؤل أو الشبهة : عندما ينتهي عمر آلاف البشر في نفس اللحظة وفي أماكن متباعدة من العالم الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب، أوّلاً كيف يستطيع عزرائيل التواجد في نقاط العالم الأربع في نفس الوقت؟ وثانياً حتّى لو كان هؤلاء في منطقة واحدة كما حصل في القصف النووي الأميركي لليابان فكيف يستطيع عزرائيل أن يقبض روح كلّ واحد منهم على حدة وفي نفس الوقت؟

بحث وتحليل:

أوّلاً - ينبغى الالتفات إلى أن عزرائيل علیه السلام هو من ملائكة اللّه القلائل ذوي الشأن الخاص وله مكانته الهامّة عند اللّه تعالى مثل جبرائيل وميكائيل.وقد نسب اللّه تعالى في بعض الآيات القرآنية قبض الأرواح لنفسه فقال:

ص: 88


1- السيد محمد حسين الطباطبائي، تفسير الميزان ج 19 ، ص 138 مكارم الشيرازي التفسير الأمثل : ج 23، ص 279.

«اللهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا» [الزمر 42].

وفي آيات أخرى نسب ذلك إلى الملائكة:

«الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ»[النحل (28] .

و«قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ المَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ» [السجدة 11].

عزرائيل هو الملك الموكل والمسؤول العام عن قبض الأرواح ويعمل تحت إمرته عدد من الملائكة يتبعون أوامر قائدهم، لذلك لا داعي لحضور نفس الشخص عند قبض الأرواح كلّها.

ثانياً - لإثبات إمكانية حصول ذلك فعلياً نذكر مثالاً مادياً مشابهاً، فالشمس عندما تبثّ نور ،أشعتها فإنّها تشع على مليارات النقاط والأماكن فتضيئها بنورها في نفس الوقت أو القمر الصناعي الذي يبث في نفس الوقت لملايين الصحون اللاقطة بالصوت والصورة.

ثالثاً - إنّ هذا الإشكال ناشيء بمعظمه من الجهل بحقيقة الملائكة ومنهم عزرائيل، لأنّنا نتصوّر أنّ الملك مثلنا نحن البشر حيث يستحيل علينا التواجد في مكانين في نفس الوقت فالحضور في النقطة (A) يعني عدم الحضور في النقطة (B). لكن الملائكة ذوو وجود مجرّد(1)، لذلك يمكنهم التواجد في كلّ نقاط العالم المادي في نفس الوقت، لأنّ وجودهم التجرّدي محيط بعالم المادّة. وفي النتيجة، فإنّ انتزاع أرواح آلاف البشر في نقاط مختلفة من العالم أمر اعتيادي عندهم، كالريح أو العاصفة التي تطفىء آلاف الشموع في لحظة واحدة.

ص: 89


1- بما أنّ المتكلمين وباقي العلماء يعتبرون الملائكة وجوداً مادياً لكن من السنخ اللطيف والنوراني، فإنّ وجودهم هذا يختلف عن الوجود المادي الدنيوي، لذلك يمكن تبرير وجودهم في أماكن مختلفة في الوقت نفسه.

الشبهة الثالثة - كيفية حضور النبي والأئمة عند مئات المحتضرين:

جاء في الروايات المختلفة أنّ النبي صلی الله علیه و آله و سلم أو الإمام علیه السلام وسائر الأئمة وحسب مقام المحتضر يحضرون عنده، وبذلك تطرح هذه الشبهة وهي: عندما يموت المئات أو الآلاف في نقاط مختلفة من العالم وفي نفس الوقت فكيف يحضر أو الإمام بجسمه أو بروحه إلى جانب الآلاف في نفس الوقت؟

بحث وتحليل :

هناك نقطتان في تحليل هذه الشبهة :

1 - تمثّل الروح:

يقول الفلاسفة أنّ الذي يحضر من النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم والأئمة عند المحتضر هي روحه المتمثلة وليس جسمه ،المادي فالمحتضر يشاهد في الواقع روح المعصوم ونفسه المجرّدة وبدنه المثالي والبرزخي في عالم الملكوت والبرزخ، ولهذا، فإنّ مشاهدة المعصوم مختصّة بالمحتضر ولا يدرك ذووه ذلك. كما إنّ جبرائيل وسائر الملائكة كانوا يتمثلون للأنبياء، وهو أمر مختصّ بالأنبياء (1)

لذلك فإنّ تمثّل الروح الشريفة للمعصومين بعددٍ متكثّر وفي أماكن متعدّدة أمر ممكن ولا مانع منه.

ص: 90


1- صدر المتألهين مفاتيح الغيب ص 191 ، ذيل المشهد العاشر / محسن فيض الكاشاني، علم اليقين في أصول الدين: ج 2، ص 1043 عبدالله جوادي الآملي، التفسير الموضوعي للقرآن ج 4 ، صص 199 و 208.

2 - مشاهدة الجسم المثالي اللطيف:

ينكر المتكلمون والمحدثون الوجود التجرّدي للروح - كما أشرنا سابقاً- ويقولون بوجود جسم لطيف ورقيق هو «الجسد المثالي» وفي ردّهم على الشبهة المذكورة يضيفون: أنّ المعصومين يحضرون إلى جانب المحتضرين بأجسادهم المثالية اللطيفة (التجسّم) وليس بأبدانهم الدنيوية(1).

العلاّمة المجلسي يردّ بدوره على شبهة تواجد الجسم المثالي المادي عند مئات المحتضرين في الوقت نفسه وفي أماكن متعدّدة فيقول:

«يمكن أن يكون لهم أجساد مثالية كثيرة لما جعل الله لهم من القدرة الكاملة التي امتازوا بها على سائر البشر»(2).

الشبهة الرابعة - فلسفة تشييع الجنازة وتلقين الميت وزيارة أهل القبور:

قد يطرح سؤال أو شبهة: إذا كانت حقيقة الإنسان هي الروح، والروح تنفصل عن البدن بالموت فما هی الحكمة من التأكيد على تشييع الجنازة وتلقين الميت وزيارة أهل القبور ؟

بحث وتحليل :

هناك نقاط عدّة في الردّ على هذه الشبهة:

ص: 91


1- محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار: ج 6 ، ص 202 .
2- محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار: ج 6 ، ص 202 .

1 - استمرار علاقة الروح بالبدن وانتفاع الميت من الحاضرين:

نبدأ الردّ على هذه الشبهة ببيان أصل وجداني. إنّ لنا عُلقة وعلاقة خاصّة بالبيت والحي والمدينة التي ترعرعنا فيها والمدرسة التي تعلّمنا فيها. هذه العلاقة تنطبق على الرابطة بين الروح والبدن فالبدن الذي رافق الروح لسنين متعدّدة، وكانا يأنسان ببعضهما البعض، وعندما تترك الروح البدن تحتفظ بعلقة معه وترعاه، لذلك جاء في الروايات وكلام العرفاء أنّ الروح تشرف على البدن بعد الموت وعلى المرافقين والمشيّعين ومراسم الدفن.

ينقل الإمام الخميني عن أستاذه الشاه آبادي قوله:

«إنّ علاقة الروح بعد الموت باقية بالنسبة إلى البدن، فإنّه دار قراره ونشوئه ومادّة ظهوره»(1).

المحقق الميرداماد بدوره يبيّن فلسفة وسرّ زيارة القبور فيقول: إنّ العلاقة بين النفس والبدن لناحيتين علاقة صورية ومادية. ويقضي الموت على العلاقة الصورية فقط وليس على العلاقة المادية(2).

لذلك أكدت الشريعة على هذه الأمور ليحضر الناس في هذه المراسم أكثر ، حيث يستفيد الميت من هذه المشاركة مباشرة، ذلك لأنّ التعاليم الدينية تدفع المشاركين لتلاوة القرآن والدعاء وطلب المغفرة لروح الميت، فتسرّ روح الميت بمشاهدة هذه المراسم ووصول الهدايا.

ص: 92


1- السيد روح الله الموسوي الخميني، المعاد: ص91.
2- رسالة سرّ زيارة أهل القبور نقلاً عنه

من هنا تتضح علّة الروايات التي تؤكد على استحباب جزئیات مراسم الدفن كالحضور الطويل والكثيف للناس حول قبر الميت، حيث يستفيد الميت من أذكار الحضور، لأنّهم إذا تفرقوا سينشغلون بأمور أخرى، ولن يستفيد الميت منها.

2 - انتفاع المشاركين:

المشاركون في المراسم يستفيدون أيضاً، ذلك أنّ الناس بطبعهم يميلون إلى الأمور الدنيوية والإبتعاد عن الآخرة. تسعى الشريعة بطرق مختلفة لتقريب الفاصلة بين الناس ،والآخرة، ومن تلك الطرق دفعهم للمشاركة في مراسم التشييع والكفن والدفن وزيارة أهل القبور في أيام خاصّة، ليرى الناس مقصدهم النهائى ويتذكرون الآخرة والقبر وينشغلوا بتزكية النفس.

3 - تكريم الميت وأصحاب العزاء:

العلة الأخرى هي احترام الميت وتقديره وتكريمه، فالمشاركة الواسعة في مثل هذه المراسم تبيّن مدى احترام الإسلام للإنسان حتّى بعد موته.

4 - تسلية ذويه:

العلة الأخرى هي اهتمام الإسلام بذوي الميت، إذ إنّ المشاركة الواسعة للمعارف والناس فى هذه المراسم يخفّف من الحزن والغم لأصحاب العزاء ويشكل تسلية لخواطرهم.

الشبهة الخامسة - سؤال القبر (منكر ونكير):

تحدّثت الروايات المتعدّدة عن أسئلة توجّه إلى الميت في قبره في الليلة الأولى. فهل هناك ملك أو ملائكة باسم منكر ونكير يسألون الميت المدفون في

ص: 93

قبره حقاً حول اللّه والنبوة والإمامة، وأنّ الميت يجيبهم على قدر إيمانه؟ وهل تكون هذه المساء لة والإجابة عليها عبر إحياء بدن الميت وتكلّمه في قبره الترابي؟

بعض علماء الدين يفسّرون سؤال القبر وضغطة القبر على جسد المدفون في القبر على أنّ الروح تعود إلى الجسد بأمر اللّه، ويؤمر الميت بالإجابة على أسئلة الملكين(1).

خلال القرون الماضية طرحت شبهة على هذا الاعتقاد تقول عندما يملأ فم الميت بمسحوق كالكافور وغيره، وعندما سيتحدث فسيفتح فاهُ وتخرج تلك المساحيق من فمه، لكن عندما ينبش قبره بعد عدّة أيام لا نجد أي تغيير في فمه.

هذه الشبهة قد تطرح اليوم أكثر من ذي قبل، ذلك لأنّه بوضع أجهزة تسجيل للصوت والصورة والتي تنقل أي صوت أو صورة مباشرة إلى مكان آخر، يتّضح أنّه لا يشاهد أي فعل أو ردّ فعل مادي يصدر عن الميت في قبره، في حين أنّ الإدعاء هو طرح الأسئلة على الميت وإجابته عليها بصورة مادية عن طريق بدن المقبور وفي قبره الترابي.

بحث وتحليل :

هناك عدّة نقاط قابلة للتأمّل في تحليل هذه الشبهة:

ص: 94


1- البيهقي، إثبات عذاب القبر : ص 8/ الحمصي الرازي، المنقذ من التقليد: ج2، ص 197/ الشيخ الطوسي، الاقتصاد: ص 220 / محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار: ج 6 ، ص 270 .

1 - المقصود بالقبر هو القالب المثالي:

قبل البدء بمناقشة إمكانية سؤال الميت فى القبر علينا أوّلاً تحديد ما هو المقصود من القبر وتعريفه. هناك فهمان لهذا المصطلح في الروايات. النظرة الأولى هي تفسير القبر بالقبر الترابي والمادي والنظرة الثانية تفسير القبر بعالم البرزخ، وأنّ الروح بعد خروجها من البدن المادي تتعلّق في عالم المثال والبرزخ بقالب مثالي، وتستمر حياته في ذلك العالم والقالب بالعذاب أو باللذة.

الإشكال المذكور يرد على أساس النظرة الأولى (القبر الترابي) الذي يعتبر أنّ القبر والسؤال وضغطة القبر تعود إلى القبر والبدن المدفون في القبر الترابي، لكن إذا اعتقدنا بأنّ المقصود من القبر هو القبر والبدن المثاليين للميت في عالم البرزخ، عندئذٍ تصبح الشبهة عقيمة من أساسها(1).

ففي تحليل الشبهة اللاحقة ( ضغطة القبر ) سيثبت بالتفصيل أنّ المقصود من القبر ليس القبر الترابي، بل القبر والبدن المثاليين في عالم البرزخ.

2 - إمكانية سؤال البدن المثالي:

أشارت الآيات القرآنية الشريفة إلى الحوار وسؤال الملائكة وجواب الميت بعد موته بصورة كليّة. فالملائكة تبسّر الإنسان المؤمن بالجنة وتتوعّد الإنسان العاصي بالنار وجهنم وتسأل الميت الكافر عن سبب رفضه للحق:

ص: 95


1- كتب آية الله السبحاني: « القبر كما أسلفنا له معنى ظاهري وهو تلك الحفرة التي يدفن فيها، لكن لا يمكن بأي شكل القول بأن الأحكام الخاصة بالقبر من قبيل السؤال والجواب والضغطة ونظائرها تعود الى هذا القبر العنصري الترابي» (جعفر السبحاني المنشور الخالد: ج 9، ص 236).

«الَّذِينَ تَتَوَفاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالمي ان فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فيها» [النحل 28-29].

و: «فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ» [الواقعة 88-89].

و: «وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلُ مِنْ حَمِيمٍ» [الواقعة92-94](1).

بالالتفات إلى المشاكل التي تواجه تفسير القبر بالقبر الترابي من ناحية ووجود الروايات التي تفسّر القبر بالقالب المثالي - كما سيأتي - يبدو أنّ سؤال الملائكة للميت هو فى الحقيقة سؤال لروحه في قالبها المثالي، وليس للبدن الجسماني.

هذا السؤال ممكن لبقاء روح الميت بعد موته - مرّ توضيح ذلك في بداية الكتاب - وسيقع لوجود الإخبار العام للآيات وتفصيل الروايات.

أ) اسم الملائكة التي تطرح الأسئلة «منكر» و«نكير» وأسئلتهم متنوعة و تشمل: التوحيد، النبوة، الإمامة وغيرها.

يقول الشيخ المفيد استناداً إلى بعض الروايات(2)، فإنّ منكراً ونكيراً هما ملائكة العذاب ومبشر وبشير هما ملائكة البشارة(3).

ص: 96


1- وكذلك: النساء / 97، والأنعام/ 93 ، والأعراف/ 37، والأنفال/ 50.
2- محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار: ج 56 ، صص 216 و 234 .
3- الشيخ المفيد النكت الاعتقادية : ص 46 / أوائل المقالات، تصحيح واعظ الشرندابي: ص 56 / تصحيح الاعتقادات: ص 98.

ب) الملاحظة الجديرة بالتأمل هي أنّ الإجابة على الأسئلة أمر واقعي، وينبع من وجود الإنسان، لذا، لا يستطيع الإنسان أن يجيب خلافاً لوجدانه. علاوة على ذلك، فإنّ الملائكة التي تسأل مطلعة على حقيقة أعمال الإنسان في الدنيا، وهي تعرف الإجابة مسبقاً، لكنّهما يطرحان الأسئلة لأسباب منها: أخذ الاعتراف والإقرار من الإنسان المذنب نفسه على ذنوبه، وتشجيع المطيعين وإدخال السرور عليهم من إجاباتهم الصحيحة على الأسئلة.

الأمر الآخر هو أنّ المجرمين يعجزون عن الإجابة بسبب ابتلائهم بأنواع العذاب.

ج) يتّضح من الأمر السابق (لوم المجرم وإقراره وتشجيع المطيع) أنّ الاسئلة بعد الموت هي نوع من المحكمة محكمة صغيرة وابتدائية (مقدمة محاكمة) لتبرير العذاب أو الثواب في عالم البرزخ، أمّا الأسئلة والمحكمة الأساس فستكون في عالم المحشر يوم القيامة الكبرى.

3 - تفسير الملائكة بصورة أعمال الإنسان:

على أساس النظرتين السالفتين فإنّ الذي يسأل الإنسان في القبر هما من ملائكة اللّه. لكن هناك نظرة أخرى تعتقد أنّ المقصود من دخول الملكين القبر هو أعمال الإنسان نفسها، وأنّ أعماله الحسنة تأتيه متمثلة على هيئة ملاك جميل - سمّته الروايات مبشّراً وبشيراً» - وأعماله القبيحة وذنوبه تأتيه على هيئة ملاك بشع المنظر «منكراً ونكيراً».

وأنّ السائل ليس شخصاً خارجياً، بل هو الملاك الذي نشأ من أعمال الإنسان نفسه لذا عندما تتمثل أعماله يعجز الإنسان عن إنكار أعماله

ص: 97

القبيحة في الحقيقة إنّ الملاك المتمثل من ذنب الكفر وإنكار النبوة والإمامة عندما يسأل الإنسان عن هذه الأصول الثلاثة لا مناص له من الإقرار.

هذه النظرية مستلّة من مباني الفلسفة وأصولها، خاصّة الحكمة المتعالية التي تعتبر أنّ الأمور الأخروية من برزخ وقيامة هي أمور تكوينية، وتعتقد أنّ أمور الآخرة وتعاليمها إنّما تتحقّق في الدنيا وفي باطن الإنسان، لكن حجاب الغفلة يمنع الإنسان من مشاهدتها.

يقول (صدر المتألهين) في هذا المجال:

«إنّ جميع أمور الآخرة من عذاب القبر والضغطة والمنكر والنكير والحيّات والعقارب وغيرها هي أمور واقعة محسوسة من شأنها أن يحسّ بها بهذه الباصرة، لكن لا رخصة من الله في إحساس الإنسان ما دام في الدنيا لحكمة ومصلحة من الله في إخفائها عن عيون الناظرين كما يدلّ عليه ظاهر بعض الآيات وصورة الروايات»(1).

وقام (الفيض الكاشاني) بتوضيح هذه النظرية بشكل أكثر شفافية فقال:

«يخطر بالبال أنّ المنكر عبارة عن جملة الأعمال المنكرة التي فعلها الإنسان في الدنيا فتمثّلت في الآخرة بصورة مناسبة لها... ولا يبعد أن يكون الإنسان إذا رأى فعله المنكر في تلك الحال أنكره ووبّخ نفسه عليه، فتمثّلت تلك الهيئة الإنكارية أو مبدؤها من النفس بمثال مناسب لتلك النشأة. وقد

ص: 98


1- صدر المتألهين الأسفار : ج 9، ص 172

علمت أنّ قوى النفس ومبادىء آثارها كالحواس ومبادىء اللمم وغير ذلك - تسمّى في الشرع بالملائكة.

ثمّ إنّ هذا الإنكار من النفس، لذلك فإنّ المنكر يحملها إلى أن يلتفت إلى اعتقاداتها، ويفتّش عنها أهي صحيحة حسنة حقّة أم فاسدة خبيثة باطلة؟ ليظهر نجاتها وهلاكها ويطمئن قلبها ... فكأنّ المفتش عن الاعتقاد إنّما هو الملكان»(1).

ومن المعاصرين يشير (الأستاذ حسن زاده الآملي) إلى تقسيم (الشيخ المفيد) وتسمياته لملائكة العذاب بمنكر ونكير وتسمية ملائكة النعمة بمبشّر وبشير فيقول:

«إنّ خلاصة تحقيقاته بالاستفادة من إشارات أولياء الحق وأهل بيت العصمة والوحي هي : إنّ علم الإنسان وعمله هما الصنّاع، وكلّ إنسان يصنع نفسه بنيّاته وأقواله وأفعاله والنفس الناطقة هي موجود مجرّد خارج عن أحكام المادة والماديات لعالم الطبيعة والملكين ناكر ونكير أو منكر ونكير، وكذلك الملكين مبشّر وبشير هما تجسّم وتمثّل لأفعال الإنسان»(2).

على أساس هذه النظرية، فإنّ اللّه قد أعدّ محكمة السائل فيها والمدّعي حسب التعبير القضائي هي أعمال الإنسان، والشاهد هي أعضاء بدنه (سيأتي بحث ذلك ) وجرمه يتجسّم، والقاضي والحاكم هو وجدان الإنسان الذي عندما يشاهد الجرم والشاهد يعجز عن إنكاره ورفضه.

ص: 99


1- محسن فيض الكاشاني، علم اليقين في أصول الدين : ج 2، ص 1083- 1084.
2- تعليقات على الخواجة نصير الدين الطوسي، البداية والنهاية : ص 134.

الشبهة السادسة - القبر وعذابه:

من الشبهات القديمة في بحث المعاد كيفية العذاب وضغطة القبر، بمعنى هل إنّ السؤال والعذاب المذكور في الروايات موجّه إلى بدن الميت الجسمي وفي قبره الترابي، أم أنّ المقصود هو عالم البرزخ وبدنه البرزخي؟

في الصورة الأولى تطرح هذه الشبهة من خلال نبش القبر والبحث والتحقيق عبر الوسائل الإلكترونية التي تسجّل بالصوت والصورة وتبثّ ذلك مباشرة إلى خارج القبر طوال الساعات الأولى والليلة الأولى لا تشير إلى وجود أيّ أثر وتحرّك من سؤال القبر وعذابه في حين لو كانت الحوادث المذكورة من سنخ المادة ودنيوية لرآها الإنسان وسجلتها الأجهزة الخاصّة. و نتيجة نفي التالي (أي عدم مشاهدة أي أثر مادي للسؤال والعذاب في القبر) ينفي المقدم عدم( ماديّة حوادث القبر).

كذلك هناك من لا قبر لهم كالمصلوب والمشنوق الذي تلف جسده وتلاشى، أو المحروق الذي ذرت الرياح رماد جسده (كما يفعل الهندوس) والذي التهمته الحيوانات وأضحى جسده جزءاً من أبدانها، فكيف سيكون سؤال القبر والعذاب؟

بحث وتحليل:

الإجابة على هذه الشبهة ترد على وجهين:

أ) التوجه الكلامي والحديثي:

أكثر المتكلمين والمحدثين والمفسرين اعتبروا أنّ القبر والسؤال والعذاب

ص: 100

هو قبر ترابي ومادي، واعتقدوا (1)أنّ الميت بعد دفنه يعيش ويجيب على أعماله الدنيوية، فإن كان مذنباً فسيعذب في قبره الترابي.

وفي معرض ردّهم على الشبهة المذكورة تمسّكوا بالقدرة الإلهية وأضافوا أنّ عذاب الميت في القبر مادي - في حين أنّ الآخرين الذين نبشوا القبر لم يشاهدوا صورة العذاب، كما لم تنقل أجهزة الصوت والصورة ذلك - وأنّ ذلك أمر ممكن على الله القادر المطلق.

إنّ مثل هذا الأمر (تحمّل العذاب وعدم إحساس الآخرين به) أمر ممكن، وقد وقع نظيره في الدنيا كالعذاب الذي يعاني منه النائم في عالم الرؤيا - والذي قد يرافقه صراخ وتأوّه أيضاً - من دون أن يحسّ به من ينام قربه، في حين أنّ الشخص المعذّب ينهض من نومه خائفاً مستوحشاً.

كذلك كالإنسان المريض الذي يعاني من الألم الشديد، لكنّه يخفي ذلك عن أهله لعلّة ما. وكمشاهدة النبيّ صلی الله علیه و آله و سلم جبرائيل من دون أن يراه الأصحاب أو يسمعوا صوته(2).

ص: 101


1- الحمصي الرازي المنقذ من التقليد : ج 2، ص 200 البيهقي، إثبات عذاب القبر: ص 8-9/ المحقق الحلّي، المسلك في أصول الدين ص 138 الشيخ الطوسي، الاقتصاد: ص 220 العلامة الحلّي، كشف المراد تحقيق حسن زاده الآملي: ص 424/ محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار: ج 6 ، ص 270.
2- يورد الإمام الغزالي ردّه على شبهة عدم مشاهدة عذاب الكافر في القبر في ثلاث (كون الصور ملكوتية وكونها تشبه الرؤيا، وانقلاب صفة المهلكات إلى مؤذيات) (الغزالي إحياء علوم الدين: ج 4 ، ص 501 وج 16 ، ص 6/ محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار 501 ج 6 ، ص 276) وكما ستأتي الإشارة في المتن فإنّ الشواهد المذكورة لا تتناسب مع المدعى أي مادية العذاب.

توسل المتكلمون بالقدرة الإلهية في ردّهم على شبهة من لا قبر له كالمحترق أو المحروق أو الذي التهمته الحيوانات أو المشنوق، وقالوا إنّ اللّه قادر على تبديل أي جزء بقي من جسد الميت مهما كان صغيراً أو قد تحوّل إلى رماد أو حلّ في لحم حيوان قادر على إعادته على صورة بدن إنسان لينال عذاب قبره كما خلقه أوّل مرّة من العدم تارة ومن قطرة الماء تارة أخرى، بل ومن خليتين أحقر من القطرة ثالثة.

الجواب الآخر الذي ذكره المتكلمون هو القول بأنّ اللّه تعالى يصرف ذلك عن أعين الناس وآذانهم لئلا يروا عذاب الميت ولا يسمعوا صراخه:

«الظاهر أنّ اللّه تعالى صرف أبصار العباد وأسماعهم عن مشاهدة ذلك»(1).

بحث وتحليل :

في تحليل الجوابين المذكورين ينبغي القول: كلاهما توسل بالقدرة الإلهية في حل الشبهة عندما اعتبر أحدهما أنّ اللّه تعالى يتصرّف بالبدن والقبر واعتبر الآخر أنّه تعالى يتصرّف بحواسنا الإدراكية لئلا ينكشف لنا عذاب القبر. مثلاً عندما تحصل ضغطة القبر لا تتضرّر الكاميرات وهذا يعني انّ عذاب القبر لا يتم ولا يمكن توضيحه إلاّ بمعجزة خارقة للعادة.

علاوة على ذلك فإنّ الأدلة والشواهد الواردة لا تثبت الإدعاء، ذلك لأنه في مثال المنام لا علة ومنشأ للعذاب المادي مثل الحيّة والنار؛ بل إنّ

ص: 102


1- البيهقي، إثبات عذاب القبر: ص 9.

الإنسان يرى صورها في منامه. وبتعبير الفلاسفة فإنّ الإنسان يتّصل في المنام بعالم المثال ويشاهد الصور البرزخية، وعبر ذلك يفرح أو يعذّب.

وصورة جبرائيل أيضاً ليست صورة مادية؛ بل هى صورة مجرّدة، أو أنّها حسب المتكلمين الذين ينكرون وجود مجرد سوى اللّه، فإنّ صورة جبرائيل من السنخ المادي اللطيف وليس المادي الكدر والكثيف.

أمّا بالنسبة لمثال تحمّل المريض وعدم إحساس المقربين بألمه فينبغي القول إنّ إدعاء القائلين بالعذاب المادي في القبر ليس منحصراً في الشعور بالألم والعذاب؛ بل إنّ مدعي العذاب المادي الذين اعتبروا أنّ أسباب العذاب هي من قبيل وجود الحيّة والثعبان والنار وضغطة القبر عليهم أن يبرّروا الأسباب المادية أيضاً ليتمكنوا من تبرير الألم.

ب) التوجه الفلسفي والعرفاني:

العرفاء والفلاسفة وخاصّة أتباع المدرسة الإشراقية والحكمة المتعالية تصدّوا لبحث هذه الشبهة متوسلين بنظرية وجود عالم البرزخ. ويعتقدون انّ روح الإنسان تغادر جسده المادي والدنيوي بعد الموت، وتعيش في عالم البرزخ حتّى قيام القيامة. وفي ذلك العالم تتعلق الروح ببدن مثالي مسؤول عن أعماله الدنيوية، فإن كان نظيفاً عاش ببدنه ذاك منعماً مطمئناً، وإن كان عاصياً تكبّد العذاب من السنخ المثالي والبرزخي.

وبعبارة أخرى، فإنّ عذاب الإنسان وسعادته موجودان في نفس الإنسان ذاتها، فالأعمال الحسنة والملكات الجيّدة تجعل النفس فرحة وبصورة حسنة، والذنوب تجعل النفس بشعة وتتحوّل إلى أنواع العذاب من نار

ص: 103

وحيوانات مؤذية. وكلا القسمين كان موجوداً في بطن النفس قبل الموت، ومع خروج النفس من العالم المادي ارتفع حجاب المادّة، وانكشفت للإنسان الصور البرزخية للنفس. (سيأتي توضيح ذلك في تقرير نظرية تجسّم الأعمال).

القبر في اصطلاح الآيات والروايات ليس القبر الترابي، بل عالم البرزخ وحياته، وعلى هذا الأساس، فإنّ أنواع عذاب القبر تطال البدن البرزخي وعالمه وليس البدن المادي وعالمه .

بالجواب والتوجه المذكور في تفسير عذاب القبر تتضح الإجابة عن الشبهة.

من القائلين بالتوجّه هذا شيخ الإشراق(1) وصدر المتألهين(2) والفيض الكاشاني (3)والشيخ البهائي (4)والعلامة الطباطبائي (5)وآخرين(6)

ص: 104


1- ابن سينا، ترجمة الرسالة الأضحوية : ص 132
2- صدر المتألهين الشواهد الربوبية صص 276 و 282 / صدر المتألهين العرشية ص 257/ صدر المتألهين، الأسفار : ج 9، صص219218/ صدر المتألهين، أسرار الآيات صص 174 و 203/ صدر المتألهين، المظاهر الإلهية في سر العلوم الكمالية : ص 105
3- محسن فيض الكاشاني، علم اليقين في أصول الدين: ص 890.
4- البهائي، الأربعون ، ذيل الحديث 39: صص 240-241 .
5- السيد محمد حسين الطباطبائي، تفسير الميزان ج 15 ، ص 68 وج 19 ، ص 135.
6- حسن زاده الآملي التعليقات على الخواجه نصير الطوسي، البداية والنهاية: صص 134 و 167 / عبد الله جوادي الآملي، التفسير الموضوعي للقرآن ج 4، صص 221 و 215/ جعفر السبحاني، الألهيات: ج 4، ص238/ جعفر السبحاني، المنشور الخالد: ج 9، ص 236 / محمد تقي الفلسفي، المعاد من منظار الروح والجسم: ج 1، ص238 الجدير بالذكر أنّ ظاهر عبارات بعض من المتكلمين أيضاً تظهر هذا القول، فمثلاً الشيخ المفيد عند تبيانه لكيفية عذاب القبر يشير إلى الروايات فيقول: «قد ورد بأنّ الله تعالى يجعل روح المؤمن في قالب مثل قالبه في الدنيا في جنة من جنانه ينعمه فيها... والكافر يجعله في قالب كقالبه في الدنيا في محل عذاب يعاقب به (الشيخ المفيد، سلسلة المؤلفات : ج 7، المسائل السروية صص 63-64). وفي مكان آخر يصرح بتفاوت البدن المتعلق بالعذاب مع البدن في القبر الترابي: إنّ الله يجعل لهم أجساماً كأجسامهم في دار الدنيا ينعم مؤمنيهم فيها ويعذب كفارهم وفساقهم فيها دون أجسامهم التي في القبور يشاهدها الناظرون تتفرّق وتندرس وتبلى على مرور الأوقات، وينالهم ذلك في غير أماكنهم من القبور» (محمد بن محمد بن النعمان، أوائل المقالات، تصحيح واعظ الشرداني: ص 2827).

يقول الإمام الخميني في معرض تبيانه للقبر الحقيقي للإنسان:

«ذلك القبر الذي يكون فيه السؤال والجواب أو الألم والغم أو السرور والفرح هو في نشأة البرزخ وعالم المثال... فمهما بحثنا في هذه القبور الترابية لا نجد الأفاعي. ولو كانت في هذا القبر تنفّس صباح مساء لما نبت في العالم عشب»(1).

ويستند إلى الحديث القائل: «القبر إمّا حفرة من حفر النيران أو روضة من رياض الجنة» فيقول:

«لو فتح باب من أبواب الجنة على قبر لما بقي العالم على هذا النحو، ولامتلأت الدنيا عطراً وروحاً وريحاناً، ولما تحمل إحساس أحد البقاء. ولو فتح عليها باب من أبواب جهنم لما بقي أحد حيّاً بسبب- الجيفة والعفونة

ص: 105


1- السيد روح الله الموسوي الخميني، تقريرات الفلسفة : ج 3، ص 600599 . ويذكر في مكان آخر أن أحد مصادر الرؤية المقابلة هو قراء الروضة الحسينية (العزاء) (نفس المصدر: ص 240).

والحرارة ولما بقي العالم كما نراه... ما هذه التناقضات؟ لماذا نحمّل الشرع أشياء لا تنطبق مع أية آية ورواية»(1).

الجدير بالقول حول ماضى هذه النظرة أنّ بعضهم من أمثال ابن حزم وابن هبيرة في القرون الهجرية الأولى وحسب تقرير البيهقي (م458ه-.ق) كانوا ينكرون السؤال والعذاب للميت في قبره الترابي، واعتبروا أنّ السؤال والعذاب ينال روح الميت(2).

أدلة التوجه المذكور:

توضيحاً وتقريراً لنظرة العرفاء والفلاسفة يمكننا الإشارة إلى النقاط الآتية :

1. الروايات:

هناك روايات متعدّدة ومتواترة تدل على أصل وجود السؤال والعذاب في القبر. بعض الروايات تشير إلى السؤال والعذاب وضغطة القبر بصورة مطلقة وظاهرها هو القبر المادي، ويتمسك بهذا الظاهر الأولي معظم العلماء في القرون السالفة لكن هناك روايات أخرى تفسّر معنى القبر أكثر، نشير إلى بعض منها:

1. روي عن الإمام الصادق علیه السلام في تفسير البرزخ في الآية: «وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ» : «البرزخ القبر، وهو الثواب والعقاب بين

ص: 106


1- السيد روح الله الموسوي الخميني، تقريرات الفلسفة : ج 3، ص239.
2- البيهقي، إثبات عذاب القبر: ص9.

الدنيا والآخرة»(1).

بداية فسّر البرزخ بالقبر، وهذا لا يوضح المدعى، لكنّه جعل القبر ليس القبر الترابي؛ بل جعله الثواب أو العقاب الذي بين الدنيا والآخرة، وهو ما يسمّيه الفلاسفة بعالم البرزخ.

2. في رواية أخرى يبدي الإمام الصادق علیه السلام قلقه من برزخ المؤمنين ويوضح: «أتخوّف عليكم في البرزخ» قلت: وما البرزخ؟ قال: «القبر منذ حين (2) موته إلى يوم القيامة»(2).

استدلال هذا الحديث مشابه لاستدلال الحديث السابق، وقد أوردنا آنفاً تعبير الإمام الخميني في معرض توضيحه لهذا الحديث.

3. ويشير الإمام الصادق علیه السلام بشفافية وصراحة إلى عالم ما بعد الموت: «فإذا قبضه اللّه عزّوجل صيّر تلك الروح في قالب كقالبه في الدنيا، فيأكلون ويشربون، فإذا قدم عليهم القادم عرفوه بتلك الصورة التي كانت في الدنيا»(3).

ضمن تبيانه لوضع الإنسان بعد الموت يتحدّث في هذا الحديث عن تحوّل وتغيير مسار وتغيّر القالب الدنيوي إلى قالب آخر، ليس عين القالب الدنيوي؛ بل يشبهه «كقالبه في الدنيا» ولا يتحدّث عن القبر المادي وعودة الروح إلى البدن المدفون في القبر.

ص: 107


1- محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار: ج 6 ، ص 218/ الحويزي، تفسير نور الثقلين: ج3، ص 553 .
2- محمد بن يعقوب الكليني، الكافي : ج 3، ص 242
3- الكليني، فروع الكافي: ج 3، ص 245

الروح تتحمّل المسؤولية عن أعمالها، وهي في قالب جديد - إمّا أن يكون من الجنس المثالي والبرزخي كما يقول الفلاسفة، أو من الجسم اللطيف كما يقول المتكلمون. لكن القدر المتيقن أنّه يختلف عن القبر الترابي.

4. سألت أبا عبدالله علیه السلام عن أرواح المؤمنين فقال: «في الجنّة على صور أبدانهم، لو رأيته لقلت فلان»(1).

5. عن أبي بصير عن أبي عبد الله علیه السلام قال: «إنّ الأرواح في صفة الأجساد في شجرة في الجنة تعارف وتساءل، فإذا قدمت الروح على الأرواح يقول: دعوها فإنّها قد أفلتت من هول عظيم»(2).

6. «في روضة كهيئة الأجساد في الجنة»(3).

وجه الاستدلال هو أنّ الحياة بعد موت الإنسان ليست في قالب مادي دنيوي؛ بل هي في قالب غير مادي وبثلاث مواصفات ذكرت على صورة البدن، وعلى صفة البدن يعني هناك تشابه في الأوصاف بين البدن الدنيوي والبرزخي، وأنّ الهيئة والصورة هي على هيئة البدن الدنيوي وصورته.

اعتبر (الفيض الكاشاني) أنّ الروايات الثلاث تشكّل دليلاً يثبت وجود قبر برزخي(4).

ص: 108


1- الشيخ الطوسي، التهذيب: ج 1 ، ص 466 .
2- محمد بن يعقوب الكليني، الكافي: ج 3، ص 244.
3- محمد بن يعقوب الكليني، الكافي: ج 3، ص 245/ محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار: ج 6 ، ص 270 .
4- محسن فيض الكاشاني، علم اليقين في أصول الدين: ج 2، ص 1062/ السيد روح الله الموسوي الخميني تقريرات الفلسفة : ج 3، ص 600 .

2. التحليل العقلي:

ذكرت الروايات وضعيات عدّة وحالات وخصوصيات للميت والقبر يصعب حملها على القبر الدنيوي والترابي. وبتعبير مادي فإنّ عذاب القبر ونعيمه يتلازم مع مجموعة لوازم غير قابلة للالتزام نشير إليها :

1. لو كانت الضغطة في القبر الترابي للزم أن تشاهدها أجهزة التصوير وللزم أيضاً أن يختل التصوير إثر الضغطة أو أن تتلف آلات التصوير داخل القبر.

2. لو كان العذاب والنعم ماديين للزم أن تكون في باطن الأرض بعدد الأموات (مليارات) الحدائق والجنان أو الحفر والنيران.

3. للزم أن يكون تحت التراب أنواع الحيوانات المتوحشة كالأفاعي ذات عشرات الرؤوس والعقارب وفي المقابل الملائكة الجميلة. وهو خلاف المشاهد إضافة إلى منشأ إطعامهم على فرض النظرة المادية، وهذه مشكلة أخرى.

يقول الإمام الخميني في معرض توضيحه للدليل المذكور:

«مهما بحثنا في هذه القبور فإنّنا لا نعثر على الثعابين رغم أنّه جاء في الرواية أنّ للمذنب تسع وتسعون ثعبان وأنّ شدّة سمّها بحيث لو نفخت منه على هذا العالم لما نبتت في الدنيا كلّها أي عشبة لو كان مكانها في القبر وكانت تتنفس فيه من الصباح حتّى المساء لما نبت في هذا العالم أي نبات كلّ الأخبار التي وردت في باب القبر على لسان كاشفي الاسرار ومخبري الغيب فهو لا يتناسب مع هذه الدنيا»(1).

ص: 109


1- السيد روح الله الموسوي الخميني، تقريرات الفلسفة : ج 3، ص 600 .

النتيجة أنّ الروايات الواردة حول عذاب القبر ونعيمه على قسمين، قسم يدل على العذاب المادي، وقسم آخر يدل على الحياة والعذاب البرزخي. لكن كما ذكرنا فإنّ ظاهر روايات القسم الأوّل يواجه المشاكل والمحاذير، لذلك يمكن حمل دلالة هذه الروايات على المعنى البرزخي للقبر (القسم الثاني) وعلى يتم جمع مجموعة الروايات وتبيانها.

النقطة الأخرى هى إذا كان ظاهر روايات القسم الأوّل (الحياة والعذاب المادي) هو المأخوذ به وهو المناط للاعتقاد؛ للزم ذلك طرد روايات القسم الثاني الروايات التي تدل على بدء الحياة البرزخية بعد الموت مباشرة، وتعلّق الأرواح بقوالب خاصّة ومشابهة للأبدان الدنيوية وليست بعينها.

إذاً، فتوجّه الفلاسفة والعرفاء في تفسير سؤال القبر وعذابه تتفق مع بعض الروايات كما توافق الدليل العقلي في إثبات وجود عالم البرزخ بعد الموت وفي نفس الوقت بعيدة عن المحذورات العقلية.

الشبهة السابعة - التكامل البرزخي:

عالم البرزخ هي حياة الإنسان في عالم آخر يبدأ منذ الموت ويستمر حتّى قيام القيامة والحياة في العالم هذا ليس من سنخ المادة، بل هي من سنخ الوجود المجرّد البرزخي والمثالي، وليست فيه خصوصيات المادة مثل: الوزن اللون المادة والاستعداد لكن فيه شكل كصور عالم المنام.

من الأسئلة والشبهات الهامّة: هل يوجد في عالم البرزخ ولدى البرزخيين تكامل ورشد أم لا ؟ الأصول الفلسفية تعتبر أنّ التكامل معلول بالمادة والاستعداد والحركة، وبما أنّ الوجود البرزخي ليس مادياً متحرّكاً، لذلك

ص: 110

لا يوجد تكامل برزخى لكن من ناحية ثانية، فإنّ ظاهر بعض النصوص الدينية تثبت ترقي مقامات البرزخيين عبر طرق مختلفة كالإستفادة من الأعمال الدنيوية السابقة (الباقيات الصالحات) أو أعمال الدنيويين وهداياهم.

بحث وتحليل:

في تحليل هذه الشبهة هناك نقاط جديرة بالتأمّل:

1. التفكيك بين المادي الطبيعي والبرزخي (مماثلة المنام بالبرزخ):

من خلال التأمل العقلى الدقيق يقسم الوجود إلى قسمين: مجرّد وغير مجرّد بما أنّ الإنسان مادي، وقد عجن بالمادة، لذلك فهو يدرك الوجود المادي بشكل أفضل. وللوجود المادي خواص وخصوصيات متعدّدة مثل: الوزن، الجرم أو اللون الأبعاد الثلاثية الحركة والتغيّر، قابلية التقسيم، اليسار واليمين، يشار إليه المكان والزمان.

الوجود المجرّد على عكس المادي أي إنّ أي وجود لا يمتلك أيّاً من الخواص المذكورة فسيكون وجوداً مجرّداً. لكن إذا كان هناك وجود يمتلك بعض الخواص المذكورة ويفتقر إلى بعضها فلن يكون من القسم المجرّد. ومثل هذا الوجود ليس بوجود مادي معروف ولا وجود مجرّد؛ بل إنّه من سنخ ثالث يسمّى «الوجود البرزخى والمثالي».

يبدو أنّ أفضل دليل على إثبات وجود قسم ثالث هو وجود عالم الرؤيا. فأصل وجوده أمر وجداني ومسلّم به، لكن التأمل في زواياه يظهر

ص: 111

وجود نقاط ووجوه مشتركة مع عالم المثال(1).فالصور التي يشاهدها الإنسان في المنام والكلام الذي ينطق به ويسمعه والماء والطعام الذي يتناوله والطريق الذي يسيره، وقد يحسّ بالانتقال إلى مكان بعيد بسرعة فائقة، وقد يشاهد أمراً أو يسمع فينزعج أو يخجل أو يفرح، وقد يشاهد ناراً ويشعر بالألم لاحتراق يده، وقد ينهض من نومه فزعاً موهولاً ممّا شاهده، وقد یری مناماً أنّه مرض أو أنّه تعافى من المرض بعد عناء.

كلّ هذه الأمور هي واقعية في وعائها وظرفها، وقد جرّبها كلّ إنسان ولو لمرّة واحدة في حياته، لكن الملفت هو أنّ الصور والآثار التي يراها في المنام ليس لها وزن ولا لون لكن لها شكل وصورة وحركة، ولها بعض آثار المادة مثل الاحتراق بالنار والإحراق والإحساس بألم إحتراق اليد. لذلك، فإنّ الوجود المادي لا ينحصر بالدنيوي الذي له وزن ولون؛ بل له شق ثانِ(2).

ص: 112


1- بعض الفلاسفة يرون أنّ عالم الرؤيا وعالم البرزخ من سنخ واحد، ويعتبرون أنّ الأخبار الغيبية لعالم الرؤيا إنّما هي من خلال الاتصال بعالم المثال النزولي (السيد محمد حسين الطباطبائي، تفسير الميزان ج 11، ص 268-273).
2- إن حصر الوجود المادي بقسمين طبيعي ومثالي ليس عقلياً؛ بل يمكن العثور على أقسام أخرى من خلال التأمّل مثل وجود الجن الذي خلق من نار حسب تصريح القرآن (الأعراف : (12) ومادي من نوع آخر والذي قيل عنه إنه «جسم لطيف ذلك لأنّ الجن يفتقر إلى بعض خواص المادة الطبيعية، ويمتلك قدرة على أداء الأفعال أكثر من الإنسان، كما هو حال العفريت من الجن في قصة طلب النبي سليمان اللا إتيانه بعرش بلقيس سريعاً، فأجابه: ﴿ قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ [النمل: 39] ، وبما أنّ إبليس هو من الجن، لذلك فهو أقدر على الفعل والعمل :(راجع محمد حسن قدردان قراملكي، موسوعة الكلام الإسلامي: ج 1، مقالة إبليس).

عبّر بعض الفلاسفة عن القسم الدنيوي بالطبيعي، وعن القسم الثاني بالبرزخي والجسماني(1).

بالإلتفات إلى المقدمة السالفة ينبغي التدقيق بادعاء القائلين بأنّ عالم البرزخ وجود من سنخ المادة، لكنّه ليس من النوع الدنيوي والطبيعي؛ بل من النوع الألطف والأرق «جسماني» ولإدراك بشكل صحيح يمكن أخذ الرؤيا كمثال (2)- مع اللوازم التي أشرنا إليها - وقد استخدمت الآيات - والروايات هذا الأسلوب أيضاً:

«اللهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمَّتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا المُوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» [الزمر: 42] «النوم أخو الموت»(3).

إنّ جميع صور الرؤيا وحالاتها من قبيل: الرؤية، السماع، السير الأكل الشرب الإحساس بالفرح والألم الإحساس بالفوز في الامتحان والتكامل الابتلاء بالمرض والشفاء منه القراءة التربية والتعليم وغير ذلك كلّها قد تحصل للإنسان في عالم البرزخ.

وبإثبات المماثلة والتسانخ بين وجودي (عالم الرؤيا والبرزخ) يثبت الإمكان العقلي للتكامل في عالم البرزخ أيضاً. ذلك لأنّ «حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز سواء»، إذاً، فوجود التكامل في عالم البرزخ ممكن.

ص: 113


1- محمدباقر المجلسي، بحار الأنوار: ج 3، ص 189 ، وج 6 ، ص 155 ، وج 7 ، ص 42
2- راجع : الملا نعيما عرفي الطالقاني، منهج الرشاد في معرفة المعاد: ج 3، ص116.
3- محمدباقر المجلسي، بحار الأنوار: ج 37، ص 189 ، وج 6 ، ص 155 ، وج 7 ، ص 42.

على هذا الأساس، فإنّ أصل الشبهة ناشيء من الجهل بحقيقة الوجود البرزخي وتطبيقه على الوجود المجرّد التام. لهذا، يمكن للبرزخيين التكامل ويقول بذلك الفلاسفة مثل ابن سينا «الجسم شرط في وجود النفس لا محالة، فأمّا في بقائها فلا حاجة إليه. ولعلّها إذا فارقته ولم تكن كاملة كانت لها تكميلات من دونه، إذ لم يكن شرطاً في تكميلها كما هو شرط في وجودها»(1).

وقد أخبرت الروايات المختلفة عن وجود حياة وآثار مادية على البرزخيين من قبيل: تعلّم القرآن في القبر، الأكل والشرب، السير والحركة في البرزخ، زيارة الأسرة وتفقدها في أيام خاصّة، كلّ يوم جمعة، كلّ شهر وسنة بما يتناسب مع مقام الميت ومرتبته(2):

روي عن الإمام الكاظم علیه السلام قوله: «من ماتَ من أوليائنا وشيعتنا ولم يحسن القرآن عُلِّم في قبره ليرفع اللّه به من درجته» (3).

«إنّ أرواح المؤمنين لفي شجرة من الجنة يأكلون من طعامها ويشربون

ص: 114


1- ابن سينا، التعليقات: ص 81 ابن سينا إلهيات الشفاء : المقالة 9، الفصل / ابن سينا الإشارات: النمط ، الفصل /17 حسن حسن زادة الأملي، الألف نكتة ونكتة: ذيل النكتة 637 الخواجة نصير الطوسى، البداية والنهاية: ص 168 . علماً بأن تحليل وتبيين مطابقة الأصول الفلسفية لبعض الفلاسفة أو عدم مطابقتها النظرية بحاجة إلى بحث مستقل
2- محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار: ج 6 ، ص 257.
3- محمد بن يعقوب الكليني، الكافي: ج 2، ص 606 / الشيخ الحر العاملي، وسائل الشيعة : ج 6 ، ص 224 / محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار: ج 89، ص188

من شرابها ويقولون ربّنا أقم الساعة لنا»(1).

2. وجود التكامل في المجردات:

النقطة الظريفة الأخرى التي تشكّل بحثاً فلسفياً صرفاً هو الالتفات إلى عدم توقّف تكامل القوّة والاستعداد الهيولي والحركة في وجود المجرّد(2). فالتكامل والرشد في الوجودات المادية كالنباتات أو حتّى بدن الإنسان تحتاج إلى وجود القوّة والحركة، أمّا في الوجود المجرّد كنفس الإنسان - التي هي مجرّدة بالذات وفاقدة للمادّة والحركة بالضرورة - فإنّ تكاملها يحصل من دون مادّة أو حركة، ذلك لأنّ نفس الإنسان لم تكن تمتلك بداية أي علم وكمال وحواس خمسة وسائر الأحاسيس، لكنّها مع مرور الزمان ورشد البدن سارت نحو التكامل ،والتسامي وأضحت تمتلك كمالات علمية مختلفة. على سبيل المثال، فإنّ أي علم وخاصّة علم معرفة اللّه - وهو علم الأمر المجرّد - يضاف إلى مجرّد آخر أي إلى النفس فإنّه يوجب الكمال للنفس قطعاً. وحصول الكمال لا ينحصر بحصول الصور العلمية؛ بل يتضاعف بتحقّق الصفات والملكات الأخلاقية نظير: السخاء والعفة والشجاعة وكمالات النفس.

ص: 115


1- محمد بن يعقوب الكليني، الكافي: ج 3، ص 244 / محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار: ج 6 ، ص 268 - وعبارة «أقم الساعة الواردة في ذيل الرواية تدل على وجود الأرواح حسب الوصف المذكور في عالم البرزخ.
2- من المحققين المعاصرين: السيد غلام رضا الفياضي الذي طرح نظرية «الحركة في المجردات وقام بتبيان فلسفي للتكامل البرزخي للنفس كرّاس الحركة في المجرّدات المجمع العالي للحكمة وأيضاً : مهدي زنديه «تكامل النفس من المنظور العقلي فصلية الإلهيات والحقوق شتاء 05 2 م ، العدد (18)

إنّ حصول هذا النوع من الكمالات للنفس اتفق عليه جميع العلماء ولا أعرف من ينكره. والاختلاف ليس في أصل تحقّق التكامل؛ بل هو في كيفية تبيانه وفي اتّحاده مع النفس. مثلاً هل تكون إضافة العلم إلى النفس من قبيل إضافة العرض إلى المعروض ليكون التكامل في أطوار النفس وشؤونها وليس في ذاتها، وبعبارة أخرى، في الكمالات العرضية(1)؟

أمّ إنّ إضافة العلم تتحقّق في النفس ذاتها، وفي الحقيقة تتحد النفس مع العلم (اتّحاد العاقل والمعقول) وبذلك تتكامل ذات النفس أيضاً؟

إنّ كيفية التكامل الذاتي للنفس تثير سؤالاً مستقلاً في النظرية الأخيرة، وهو: هل يحصل التكامل مع الحركة الجوهرية للنفس؟ أم يحصل التكامل من خلال إفاضة الكمال لها من قبل مقام عقلي ممّا فوق النفس؟(2).

إنّ نظرية الحركة الجوهرية أكثر تناسباً مع التكامل الذاتي، وعليه، فإنّ النفس تتكامل في الدنيا من خلال اكتساب الأعمال الجيّدة أو القبيحة والملكات الأخلاقية وانطباعها فى النفس، وبعد مفارقة الدنيا تظهر للإنسان الملكات والهيئات المذكورة وتتجلّى.

إنّ تكامل الإنسان ومساره يرتبط بملكاته النفسية، فإن كانت ملكاته تلك حسنة وجميلة أدّت إلى فرحه وسروره ونيله المراتب العليا من الجنة، وإنّ كان يمتلك الكمال الكامل أدّى ذلك إلى تحوّل الجوهر المثالي إلى العقل. وإن كانت ملكات نفسه سيئة وقبيحة ناله الألم وعذاب النفس والجهل بالمقام

ص: 116


1- ابن سينا، إلهيات الشفاء : ص 329- 330 ابن سينا، التعليقات: ص71.
2- السيد محمد حسين الحسيني الطباطبائي، نهاية الحكمة : المرحلة 6 ، الفصل 5 ، ص 101.

القدسي علماً بأنّ هذا العذاب يشكّل بذاته مساراً نحو التكامل، أي إنّ العذاب يزيل المعاصي وهيئات النفس الرديئة ويؤدّي إلى ظهور الجوهر الفطري والطاهر للنفس ما يشكّل كمالاً للنفس(1).

يشير الشاعر والعارف الشهير (مولانا) إلى الحركة التكاملية في عالم البرزخ:

پیشه آموز کاندر آخرت ***اندر آید دخل کسب ومعرفت

آن جهان شهریست پر بازار وکسب *** تو نپنداری که کسب اینجاست و حسب

ويقول البهائي اللاهيجي) في هذا المجال:

«يعتقد الكثيرون أنّه لا يوجد ارتقاء بعد الموت، في حين أنّ الأمر ليس كذلك»(2).

ويقول العلاّمة الطباطبائي في هذا المجال:

«النفس جوهر يتحرّك في كينونته... فالنفس الناطقة بعد تجرّدها من المادة وبعد الموت تتكامل عبر الحركة في جوهرها وبعد مرورها من البرزخ تصبح على صورة التجرّد القيامي، وترتدي رداء القيامة، ويتحقّق بذلك «ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ» كلّ ذلك يحصل عبر الحركة في الجوهر، فما دام

ص: 117


1- سيأتي توضيح أكثر حول كيفية تأثير الأعمال والملكات في النفس وتحليل شبهة العقاب الأخروي.
2- البهائي اللاهيجي، الرسالة النورية في عالم المثال: ص 187.

الإنسان محض مادة؛ كانت حركته في المادة وعندما أصبحت النفس ناطقة أضحت حركته الجوهرية في النفس الناطقة»(1).

ويقول الإمام الخميني أيضاً:

«بمغادرة دار الطبيعة لا يكون التجرّد العقلاني كاملاً؛ بل لا بدّ من عبور البرزخ أيضاً بالحركة الجوهرية وصولاً إلى التجرّد العقلاني الصرف...ومن كانوا قد اكتسبوا في هذا العالم مطالب عقلانية وفضائل يكون طريقهم البرزخي قصيراً، ويصلون إلى عالم التجرّد العقلاني أسرع، ويكون سيرهم البرزخي أقصر، وحركتهم الجوهرية البرزخية أسرع، لأنّهم أصبحوا أكثر استعداداً لنيل خلعة التجرّد العقلاني بمساعدة كسب الفضائل العقلانية(2).

النتيجة هي:

إنّ مبدأ تكامل النفس في عالم البرزخ أو القيامة وعلّته ليس الفعل الاختيارى للإنسان فى ذلك العالم، ذلك لأنّ الإنسان عاجز عن القيام بالعمل والفعل في البرزخ، إذاً فالمحتمل هو أنّ مقصود منكري التكامل البرزخي هو التكامل العملي والاختياري.

من ناحية ثانية فإنّ مقصود القائلين بالتكامل في النفس البرزخية هو انّ السبب في ذلك يكمن في العلل الآتية:

1. إنّ العامل الأساس للتكامل هي النفس بملكاتها الأخلاقية، فكما

ص: 118


1- السيد محمد حسين الحسيني الطباطبائي، مهرتابان: ص238-239.
2- السيد روح الله الموسوي الخميني، تقريرات الفلسفة : ج 3، ص72/ السيد روح اللّه الموسوي الخميني، المعاد: ص 452-453 .

أشرنا فإنّ الأعمال الصالحة الدنيوية تؤدّي إلى كمال النفس وارتقائها، والأعمال القبيحة والذنوب تؤدّي إلى العذاب والبُعد عن المقام الإلهي.

2. العامل الآخر للتكامل هو تلقّي العذاب والألم (جزاء الذنب) من بدء الموت أي مع خروج النفس وحتّى يوم القيامة، ما يؤدّي إلى رفع تلوّثات النفس وكدوراتها. وفي ظل ذلك تسقط حجب معرفة المقام الربوبي وغبارها، وتظهر النفس الفطرية والتوحيدية للإنسان عياناً، لكن هذا العالم ليس دنيوياً،

بل إنّه برزخي، لكنّه من النوع التكويني غير الاختياري.

3. من العوامل الأخرى لتكامل النفس الجهنمية هي أعمال الخير والإحسان التي عملها الإنسان كحفر عين ماء جارية وأعمال الخير وهدايا الآخرين له ينبغي القول في تحليلها إنّ وجود الأعمال المذكورة التي يستحق الإنسان عليها الثواب والكمال أو رفع العقاب وتلوّثات النفس، والتي يعبّر عنها بزيادة الثواب ورفع العقاب: «وقولوا حطّةٌ نغفر لكم خطاياكم وسنزيدُ المحسنين» [البقرة 58]، و «للذينَ أحسنوا الحسنى وزيادة» [يونس 26]، هذا النوع من الزيادة يسرّع الحركة الجوهرية للنفس لتنال الكمال والتكامل، ذلك لأنّه عندما تزول هيئة الرذيلة والحجب عن النفس، أو إذا أعطي الإنسان ثواباً وكمالاً ستزداد الأرضية المناسبة لمعرفة الله في ظل ظهور الفطرة

التوحيدية ونمائها وهذا هو تكامل الإنسان بعينه.

الشبهة الثامنة - إمكانية العودة من البرزخ (الرجعة):

من الأسئلة حول الموت وعالم البرزخ هو أنّ أحداً لم يعد من ذلك العالم. والشبهة التي يطرحها بعضهم حول كيفية إحياء الأجساد النخرة والتالفة

ص: 119

وخروجها من قبورها المغلقة، وبعضهم الآخر بشبهته هذه ينتقد عقيدة الشيعة الإمامية القائلة برجعة الأئمة بعد حكومة المهدي الموعود.

بحث وتحليل:

في تحليلنا لهذه الشبهة هناك نقاط جديرة بالملاحظة:

1. دلالة القرآن على وقوع الرجعة:

أشارت الآيات القرآنية المتعدّدة إلى إحياء عدد من الموتى في عهود الأنبياء مثاله: إحياء مرافقي النبي موسى الذين طلبوا رؤية اللّه جهرة، وإحياء القتيل بضربه بعضو من بدن البقرة في عهد النبي موسى، وإحياء النبي العزير بعد مائة عام من ،موته وإحياء عدد من الموتى بمعجزة السيد المسيح، والتي أوردنا توضيحاً وإسناداً لها في بداية الفصل الأوّل تحت عنوان إمكانية المعاد.

إضافة إلى ما أورده القرآن نرى أنّ بعض العرفاء ماتوا موتاً اختيارياً، ثمّ عادوا إلى الدنيا، وقد تحدّثنا عن ذلك بشكل إجمالي تحت عنوان الموت الاختياري سابقاً.

2. إمكانية إحياء البدن الدنيوي على القادر المطلق:

في الفصل الأوّل ضمن بحث إمكانية حصول المعاد اتضح أنّ اللّه قادر على إحياء البدن الترابي المتحلّل وسهل عليه أيضاً. وأوردنا في البحث نفسه أدلّة وشواهد على ذلك الإدعاء (الخلق من العدم، وحصول مثل ذلك وما يشبههه وانسجامه مع العلم).

3. العودة مع البدن المثالي:

حول شبهة كيفية إحياء البدن القبري والخروج منه ينبغي القول:

ص: 120

المسلّم به من الرجعة هو أصل الرجوع وليست جزئياته. لقد بيّنا في الفصل الأخير تحت عنوان شبهة عدم انسجام التناسخ مع الرجعة، فإنّ الرجعة في رأي بعضهم تكون بالبدن المثالي والبرزخى وليس بالبدن الترابي، كتمثّل الملائكة للإنسان على صورة إنسان.

4. إنشاء البدن الدنيوي:

رأى آخر يقول إنّ اللّه تعالى أو الأنفاس القدسية للأئمة - الذين بإعادة الحياة إلى بعض الأموات - يقومون بإنشاء الأبدان وخلقها من الجنس المادي والدنيوي بقدرة رحمانية. وبما أنّ قوام الإنسان بنفسه، فعندما تتعلّق النفس ببدن دنيوي آخر فلن يحصل أي نقص في ماهية الإنسان. (نكتفي بهذا القدر لأننا بحثناه تفصيلياً في مسألة بحث التناسخ).

الشبهة التاسعة - اطلاع البرزخيين على أهل الدنيا وكيفيته:

من الأسئلة الأولية للإنسان هو : هل الإنسان الميت يطّلع على أحوال الأحياء وأمورهم، وخاصّة أقربائه؟ مثلاً هل يعلم الميت ما يفعله أولاده من مستحبات أو ذنوب؟

والسؤال الثاني هو: إذا كان يطّلع على أحوال أهله وأصدقائه، فهل يتأثّر لحسنها أو لسوئها؟

والسؤال الثالث: كيف يطّلع وما هي أدوات الإطلاع من الأمور المتناقلة في عهد الأئمة أنّ روح الميت تزور أهلها في أيام خاصّة كالخميس وعلى شكل طائر؟

ص: 121

روى عدّة من أصحابنا عن سهل بن زياد عن ابن محبوب عن إسحاق بن عمار عن أبي الحسن الأوّل علیه السلام قال: سألته عن الميت يزور أهله؟ قال: «نعم» فقلت في كم يزور ؟ قال: «في ،الجمعة وفي الشهر، وفي السنة على قدر منزلته» فقلت: في أيّ صورة يأتيهم؟ قال: «في صورة طائر لطيف يسقط على

جُدُرهم ويشرف عليهم فإن رآهم بخير فرح وإن رآهم بشري حزن واغتمٌ»(1).

بحث وتحليل:

1. يتّضح من المطالب السابقة أنّ الروح أمر مجرد تكمل حياتها في عالم البرزخ بعد الموت، وذكر أنّ الوجود البرزخي أشرف من الوجود المادي وأكمل بسبب تجرّده عن بعض خواص المادة، لذلك، فإنّه يشرف على عالم المادة، لكن روح الإنسان بعد الموت إذا ابتليت بالعذاب والنار فإنّها تعجز عن الإطلاع على أحوال محيطها في عالم البرزخ فضلاً عن عالم الدنيا.

على هذا، فإنّ الكفّار والمؤمنين المذنبين الذين يشملهم العذاب يعجزون عن الإطلاع على أوضاع ذويهم، إلاّ إذا أدركهم لطف اللّه ونالهم تخفيف في العذاب حسب مقدار ذنوبهم ونوعها عندئذٍ يمكنهم في زمان خاص الإطلاع على مصير ذويهم وهو يشبه في عصرنا الإجازة التي يحصل عليها بعض السجناء وفي شروط خاصّة كأيام الأعياد أن يلتقوا ذويهم لعدّة ساعات، أو لزيارة ذويهم لعدّة أيام(2).

ص: 122


1- محمد بن يعقوب الكليني، الكافي: ج 3، ص 230 محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار: ج 6 ، ص 257
2- راجع محمد بن يعقوب الكليني، الكافي : ج 3، باب أن الميت يزور أهله، ص 203 وما يليها.

2. في الإجابة عن السؤال الثاني ينبغي القول إنّ التأثّر والسرور والتألّم ليس من خصوصيات المادة؛ بل هي من خصوصيات الموجود ذي الشعور والواعي، وبما أنّ روح الإنسان في عالم البرزخ تمتلك حياة إدراكية واعية، لذا، فمن الطبيعي أن تسرّ بمشاهدة الأمور الملائمة لطبعها، وأن تغتمَّ وتتألَم لمشاهدة ما يخالف طبعها. لهذا، فإنّ روح الميت عندما تطّلع على الأعمال الحسنة لذويها ستسرّ، وعندما تطّلع على ذنوبهم ستتألم. لكن جاء في الروايات أنّ اللّه تعالى يحجب عن روح الميت مشاهدة ذنوب ذويه حتّى لا يتألم: «إنّ المؤمن ليزور أهله فيرى ما يحبّ ويُستر عنه ما يكره، وإنّ الكافر ليزور أهله فيرى ما يكره ويستر عنه ما يحبّ»، قال: ومنهم من يزور كلّ جمعة ومنهم من يزور على قدر عمله»(1).

3. من المطالب التي وردت حول الحقيقة المجرّدة للروح وإشراف الوجود البرزخي والمثالي على عالم المادة يتّضح أنّ كيفية إطلاع الروح على أخبار أهل الدنيا أمر قائم ويرتبط بوجودهم المجرّد والبرزخي. وبعبارة أخرى فإنّ الروح بقالبها وبدنها المثالي ترجع إلى مكان ذويها، وتطّلع على أوضاعهم.

تعلّق روح الميت ببدن الطائر:

أمّا حول ما ورد في بعض الروايات من تعلّق روح المؤمن بحواصل طيور الخضر ومجيئها للقاء أسرها (2)ينبغي القول:

ص: 123


1- محمد بن يعقوب الكليني، الكافي: ج 3، ص 230 محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار: ج 6 ، ص 256.
2- محمد بن يعقوب الكليني، الكافي : ج 3، ص 230 محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار: ج 6 ، ص 257.

أولاً - إنّ أصل تعلّق روح المؤمن بحواصل الطير أمر نفاه الأئمة وأنكروه في روايات عنهم، ورد عن الإمام الصادق علیه السلام في معرض ردّه على (يونس) الذي سأله عن هذا الإدعاء: «لا المؤمن أكرم على اللّه من أن يجعل روحه في حوصلة طير، ولكن في أبدان كأبدانهم»(1).

على هذا الأساس يعتقد بعضهم أنّ الروايات الدالّة على تعلّق الروح بحواصل الطير وزيارة أهله بهذه الطريقة هى من الروايات المدسوسة والإسرائيليات(2).

ثانياً - يبدو أنّ المقصود بتعلّق الروح بحواصل الطير ليس الطير المادي كالعصفور الدنيوي؛ بل إنّ المراد هو تمثّل الروح بجسم لطيف، أي البدن المثالي، ولأنّ المخاطب عاجز عن إدراك البدن المثالي، عبّروا له عن تمثّل الروح والبدن المثالي بتعلّق الروح بحواصل الطيور ليدرك ذلك. والشاهد على هذا الإدعاء استخدام مصطلح «اللطيف» في قوله «طائر لطيف» وهو ما يتناسب مع الوجود المثالي والبرزخي وليس المادي.

الشبهة العاشرة - إحضار الأرواح:

أحد الأسئلة حول الروح وإمكانية إحضارها وسؤالها وإجابتها على السؤال الذي راج خلال القرون الأخيرة في الغرب. وإذا كان ذلك ممكناً، فكيف يتم الحوار مع الروح؟

ص: 124


1- محمد بن يعقوب الكليني، الكافي: ج 3، ص 254-255 / محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار: ج 6/ صص 268 و 229
2- جعفر السبحاني، في ظلال التوحيد ص 452

بحث وتحليل:

في تحليل هذه الشبهة هناك نقاط جديرة بالملاحظة:

1. إحضار الأرواح والإتصال بها في المصادر الدينية:

يمكننا الإدعاء بجرأة أنّ أصل حصول إحضار الأرواح بمعنى الحوار وطرح الأسئلة وتلقّي الإجابة من أرواح الأموات هو من المسائل الموثوقة والمطمئن إليها بشرياً. فتاريخ الأنبياء والأئمة والأولياء يشير إلى أنّ بعضهم كان يمرّ قرب القبور ويكلّم الأموات، فالإمام علي علیه السلام مرّ على مقبرة وخاطب الموتى: «يا أهل لا إله إلا اللّه كيف وجدتم كلمة لا إله إلاّ اللّه؟ فهتف هاتف: وجدناها المنجية من كلّ هلكة»(1).

وفي مورد آخر خاطب علیه السلام أهل القبور وأخبرهم عن الدنيا وما حصل فيها بعدهم من تقسيم الأموال وغير ذلك، وسألهم عن أخبارهم فأجابوه مرّ أمير المؤمنين علیه السلام بالمقبرة فقال: «السلام عليكم يا أهل المقبرة والتربة إعلموا أنّ المنازل بعدكم قد سُكنت وأنّ الأموال بعدكم قد قسّمت، وأنّ الأزواج بعدكم قد نُكحت فهذا خبر ما عندما فما خبر ما عندكم؟». فأجابه هاتف من المقابر نسمع صوته ولا نرى شخصه: عليك السلام يا أمير المؤمنين ورحمة اللّه وبركاته، أمّا خبر ما عندنا فقد وجدنا ما وعدناه وربحنا ما قدمناه، وخسرنا ما خلّفناه. فالتفت إلى أصحابه فقال: «أسمعتم» قالوا: سمعنا يا أميرالمؤمنين(2).

ص: 125


1- المحدّث النوري، مستدرك الوسائل: ج 2، ص 269
2- الطوسي، الأمالي : ص 55/ محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار: ج 79، ص 185

2. إحضار الأرواح بقنوات خاصة :

في بداية الفصل الأوّل ضمن بحث إثبات الروح والاتصال بالأرواح تحدّثنا بالتفصيل أنّ هناك وقائع متعدّدة دلّت على أصل إمكانية إحضار الأرواح وحصوله، وعلى هذا الأساس جرى تشكيل اتحادات روحية في دول متعدّدة، ودوّنت كتب كثيرة ترصد هذا الموضوع. وذكرنا ما حصل العلاّمة الطباطبائي ووالده وأخيه.

الأمر المهم هو أنّه لا ينبغي الأخذ بادّعاء كلّ من يدّعي إحضار الأرواح، ذلك لأنّ بعضهم فتحوا دكاكين لهم ليحققوا بذلك أهدافهم، كما إنّ إحضار الروح يكون أمراً محرّماً شرعاً كالإحضار غير المشروع وأذية الروح الحاضرة، وقد ورد تفصيل ذلك في استفتاءات المراجع.

3. كيفية إحضار الروح والحوار معها:

الأمر الذي يستحق التأمّل في قضية إحضار الأرواح هو كيفية الإحضار وجزئياته.

أ) إحضار الأرواح من قبل الأنبياء والأئمة وأولياء اللّه إنّما يتم في ظلّ كمال أنفسهم القدسية. حيث تتّصل نفسه بعالم المثال والبرزخ فيشاهد الروح التي يريد في قالبها المثالي ويتحدّث إليها، ولما كانت هذه المشاهدة والحوار في عالم البرزخ ومع وجود مثالي يعجز الآخرون عن إدراكه.

الأمر الآخر إنّ مرتبة قوّة روح الإنسان الكامل وتكاملها تؤثّر في النوع والزمان ومقدار علاقته مع الملائكة والجن وأرواح الأموات.

ب) بالنسبة للاتصال بالأرواح من خلال إحضارها من قبل المراكز

ص: 126

العلمية وعامّة الناس ينبغي القول: أوّلاً إنّي للأسف أو لحسن الحظ لا أمتلك معلومات ابتدائية عن هذا الموضوع. لكن استناداً إلى تقارير الوسطاء الروحيين وشواهد أخرى مثل التقاط الصور للأرواح - وهو أمر غير قطعي - يبدو انّ الروح التي أحضرت تستجيب للوسيط، ويستعملون مادة (الاكتوبلاسما) ليتمكنوا من رؤية الروح على هيئة جسم لطيف متجسّد حسب تعبير متخصصي العلوم الروحية(1).

ص: 127


1- اکتوبلازما (ectoplasm) وتسمّى أيضاً (سيكوبلازما) أي بلازما الروح هي مادة موجودة في بدن الإنسان الحي وهي من الظواهر الطبيعية للوسيط. استخدم هذا المصطلح للمرّة الأولى عام 1894م من قبل (تشارلز ريشت) عالم النفس الفرنسي. ويقول العلماء الروحيون بإضافة هذه المادة إلى المادة الأثيرية يمكن للروح الظهور والتحدّث مع الأحياء والاتصال بهم، أي إنّها تحسّ مؤقتاً بحالة أرضية وحسية، لذلك يعتبر العلماء الروحيون أنّ الاكتوبلازما حلقة الاتصال بين الروح المتكلمة والأعضاء الصوتية للوسيط. وحول خصوصيات هذه المادة قالوا: إن الاكتوبلازما هي مادة خاصة لديها قابلية لتقبل الأشكال والألوان المختلفة، ولونها بين الأبيض والرمادي والأسود. كثافتها كبخار الماء والرغوة. قوية وصلبة إلى درجة أنّ بعض الأرواح تتمكّن من خلالها رفع الأجسام الثقيلة كالطاولة، عندما تخرج من جسم الوسيط تخرج على شكل دخان كثيف، ثم تتّخذ شكلاً حسب إرادة الأرواح وتصبح صلبة. الوقت المناسب لخروج الاكتوبلازما من بدن الوسيط هو ظلمة الليل أو في النور الطفيف. إعادة تلك المادة إلى بدن الوسيط تجري في الظلام المطلق أو في الضوء الأحمر، وإلا فسيتضرر بدن الوسيط وقد تؤدّي إلى موته ( يقال إن الاكتوبلازما تتلف في الضوء الأبيض وتعود مباشرة إلى بدن الوسيط. تخرج الاكتوبلازما عادة من منافذ بدن الوسيط مثل: الفم، الأنف، الآذان وأحياناً من مسامات الجلد وأقدامه. قد تأخذ الاكتوبلازما مئات الأشكال عند خروجها من بدن الوسيط، ذكرت كتب العلم الروحي وصف تلك الأشكال، تخرج هذه المادة من قلب الوسيط أو من فوق كتفيه أو من رجليه عند تجزئة تلك المادة وتحليلها تبيّن أنّها تركيب من الصوديوم کلورايد) و(فوسفات الكالسيوم). لكن إلى أي حدّ تستطيع هذه المادة أن توجد مثل تلك القوّة، ومدى تأثيرها وخصائصها العجيبة؟ يُقال: إنّ الأرواح تجمع مادة الاكتوبلازما حول فمها الأثيري لتتمكن من التحدّث مع الأحياء، وتستخدم الأرواح هذه المادة للتجسّد وأخذ الأشكال ولتحريك أعضاء الصوت ولسائر البدن ولتحريك الأجسام الطبيعية من حولها. الفرق الهام بين تكلّمنا وتكلّم الأرواح هو أنّ جميع هذه الأعمال التي تقوم بها الأرواح في المادة الأثيرية التي هي ألطف تكوينياً وأوسع أمواجاً، وعليه، فإن جهازها الصوتي الأثيري يمكنه العمل في العالم الروحى، لكنّه لا يمكنه العمل في عالمنا، لأن أقسام الأعضاء الصوتية للأرواح من حيث اللطافة بشكل لا يمكنها تحريك هواء عالمنا الثقيل لأن سرعة حركة الأمواج الأثيرية للأرواح أسرع كثيراً من سرعة الأمواج الطبيعية عندنا لذلك ينبغي إيجاد حالة جديدة في جهاز الروح الصوتي تخفّف من سرعة أمواجها لتصبح ملائمة لذبذبات أصواتنا وأمواجها ويتحقق ذلك من خلال الوسيط ومادة الاكتوبلازما الموجودة في بدنه. لكن السؤال الذي تصعب الإجابة عليه من قبل علماء الروح والمعتقدين باتصال الوسيط هو: كيف تغطي الأرواح نفسها بمادة الاكتوبلازما، وكيف تتخلّى عنها بعد انتهاء جلسة الحوار والإحضار؟ (آرثر فندلاي العالم الروحي اعترف بصعوبة الإجابة على هذا السؤال، وتوقع أن يأتي اليوم الذي تفسّر فيه كيفية حصول هذه الأمور نقلاً عن موقع الاتحاد العلمي الجامعيي إيران وبعيداً عن المدعين المذكورين فإنّ فلسفة كيفية الرؤية والاتصال مع الأمر المجرّد كالروح مع الماديات وكالإنسان هي أنها تتمثل وتتجسّد كظهور الملائكة على هيئة إنسان للأنبياء، كما حدث مع النبي إبراهيم ولوط (هود: (78-81 و(الحجر: 51) وعلى بعض الناس الكمل كالسيدة مريم (مريم: (17). القارىء الفاضل ما ذكرناه حول تفاصيل مدعي العلوم الروحية ليست قطعية، ذكرناها للإطلاع فقط

في هذا النوع من التحضير ما يحصل هو تنزّل الروح وتجسّدها للوسيط، وهو على خلاف اتصال الإنسان الكامل حيث تصعد النفس القدسية إلى عالم المثال والأرواح.

ص: 128

ج) العلاّمة الطباطبائي له استنتاج آخر لتحضير الأرواح، فهو يؤمن بأصل الإحضار، لكنّه يعتقد أنّ الأعمال التي يقوم بها الوسيط تقوّي نفسه وإرادته، فتحضر الروح وصورتها في قوّة المخيلة ومشاعر حواسه الباطنية والنفسية، وليس في الخارج، لذلك تبقى المشاهدة والحوار مع الروح مختصّة بالوسيط دون غيره. حيث يقول: «ما يعتقده أصحاب الأرواح من حضور الروح فلا دليل لهم على أزيد من حضورها في قوّة خيالهم أو حواسهم دون الخارج، وإلاّ لرآه كلّ من حضر عندهم... الروح إنّما تحضر في مشاعر الشخص المحضّر لا في الخارج منها من تأثير الإرادة والتصرّف في الخيال»(1).

ويعتقد العلاّمة الطباطبائى أنّه لذلك يمكن تبرير خطأ وسقم بعض أخبار الوسطاء وكيفية اتّصالهم مع روح واحدة في أماكن مختلفة ومع وسطاء متعدّدين.

أمّا التوضيح أكثر لمسألة الروح وتحضير الأرواح فهو خارج عن موضوع الكتاب ووسع المؤلف، لذا نحيل القارىء الفاضل إلى المصادر الخاصّة(2).

ص: 129


1- السيد محمد حسين الطباطبائي، تفسير الميزان ج 1، صص 243 ، 245 ، 365.
2- راجع: رؤوف عبيد، الإنسان روح لا جسد/ آيزنغ واتسن، الروح والعلم الحديث/ فريد وجدي دائرة معارف القرن العشرين: ج 4 ، ص 380/ ليون ديني، عالم ما بعد /الموت فروید ،روانکاوي ناصر مكارم الشيرازي المعاد: ص 197 والاتصال بالأرواح

ص: 130

الفصل الثالث المعاد الجسماني أو الروحاني ( التوجهات)

اشارة

ص: 131

ص: 132

الرؤية الأولى - المعاد الجسماني الصرف:

المشهور من المحدّثين والمتكلمين والمفسرين الشيعة والسنّة أنّهم ينكرون وجود أي مجرّد سوى اللّه تعالى، ومن جملة ذلك الوجود التجرّدي للروح، لكنّهم يعتبرون أنّ جسمانية الروح هي من نوع خاص، أي إنّها «جسم لطيف» سار وجار في البدن كسريان الماء في هيكل الورد والنبات(1). وفي ضوء ذلك فسّروا معاد الإنسان بالمعاد الجسماني. الإخباريون ومكتب التفكيك وبعض باحثي الدين ذوي التوجّه التجريبي(2) المعاصرين أيضاً يؤيّدون هذا

ص: 133


1- الفخر الرازي، التفسير الكبير : ج 19، ص 144 / عضد الدين الأيجي، شرح المواقف: ج ، ، ص 380/ القرطبي، تفسير القرطبي: ج 10، ص 24 وج 15، ص 262/ محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار: ج 58 ، ص ،35 ، وج 60 ، ص 166 ، وج 61، ص 104. يقول صدر المتألهين في هذا المجال: فذهب جمهور الإسلاميين وعامة الفقهاء وأصحاب الحديث إلى أنه جسماني فقط بناءً على أنّ الروح عندهم جسم سار في البدن» (صدر المتألهين، الأسفار : ج 9، ص 165). من الجدير ذكره الإشارة إلى تعريف المتكلمين، والفهم الخاص للأستاذ حسن زادة الآملي الذي يعتقد أنّ «الجسم» في تعريف بعض المتقدمين والمتكلمين شيء متحقق بذاته في مقابل العرض وأعمّ من المجرّد والمادّي أوجد مغالطة اشتراك لفظي (حسن حسن زاده الآملي، ألف نكتة ونكتة : ص 809 ، هامش النكتة (988).
2- اعتبر المهندس مهدي البازركان أن عقيدة تجرّد الروح يونانية دخلت العالم الإسلامي عبر الفلسفة (مرتضى المطهري، مجموعة المؤلفات: ج 1، صص 167 و 471)

التوجّه(1)، فها هو الميرزا مهدي الأصفهاني يقول:

«إنّنا عبارة عن البدن ،والروح وكلاهما ماديّان وجسمان... يكون المُعاد فى المعاد هو البدن بالحقيقة»(2).

ويقول آية اللّه المرواريد في تبيان المعاد الجسماني:

«يعيد اللّه الأبدان بعد الموت وبعد تشتّت أجزائها، ويؤلف الأجزاء على هيئتها الأولى أو بتغيير في أعراضها. ثمّ تتعلّق بها الأرواح كما كانت متعلّقة بها في هذه الدنيا»(3).

والحاصل هو أنّه استناداً إلى هذه الرؤية، فإنّ نفس الأبدان الدنيوية ستعود إلى الحياة في القيامة، وستتعلّق بها الأرواح الماديّة اللطيفة الرقيقة، وسيجري عليها موضوع الثواب أو العقاب. فالوجود المادي لعالم الآخرة هو عين الوجود المادى الدنيوى لجهة الجوهر والمادة، والاختلاف منحصر في العوارض والتركيب الصناعي فقط(4).

ص: 134


1- الميرزا جواد الطهراني، ميزان المطالب صص 251 و 259 المرواريد تنبيهات حول المبدأ والمعاد ص 238 تقريرات درس الميرزا الأصفهاني، بقلم محمود الحلبي: ص 214 الميرزا مهدي الأصفهاني أبواب الهدى صص 7، 102، 107، 215 السيد محمود الموسوي الدين والفكر : ص 369 وما بعدها محمد رضا المعاد الجسماني في الحكمة المتعالية ص 331 محمد باقر الملكي، توحيد الإمامية : ص 18.
2- الميرزا مهدي الأصفهاني، أبواب الهدى صص 107 و 215. نقلاً عن: السيد محمود الموسوي الدين والفكر: ص 372-373.
3- المرواريد تنبيهات حول المبدأ والمعاد: ص 201
4- القزويني الخراساني، بيان الفرقان: ص 580

نقد ونظر:

هناك شبهات وملاحظات تطرح على هذه الرؤية:

1. أدلة تجرّد الروح:

في الفصل الأوّل أوردنا الأدلّة التي تثبت تجرّد الروح، وعلى أساسها ثبت أنّ الروح هي وجود مجرّد مثالي أو عقلي وأنّ معاد الإنسان سيكون في قالب الجسم والروح وسيستمر ، وسيأتي توضيح ذلك في الصفحات الآتية.

2. إنكار تجرّد الروح إنكار لحقيقة المعاد الجسماني:

إذا كانت حقيقة الإنسان محصورة ببدنه المادي، فإنّه بتغيّره وزواله وتفسّخه بعد الموت فلن يعود ببدن آخر هو عين البدن الأوّل، ذلك لأنّ الجسم مركّب من عنصرين ومؤلفتين هما «المادّة» و«الصورة» وفي الفرض المذكور، أي بزواله وتفسّخه تختفى الصورة ولا تعود قابلة للعودة والتكرار. وعلى فرض بقاء المادّة، وعرض صورة أخرى عليها، عندئذ فإنّ الوجود الثاني لن يكون معاداً وعوداً حقيقياً للجسم السابق؛ بل سيكون في النهاية مشابهاً له. في حين أنّ ظاهر مصطلح «المعاد» هو عودة الوجود والحالة السابقة بتمام الحقيقة، وليس بمشابهها. يقول الإمام الخميني في هذا المجال:

«إنّ إنكار التجرّد حقيقة يستلزم إنكار كثير من ضروريات الأديان، ومن جملة ذلك يستلزم إنكار المعاد. ذلك لأنّه لو كان المعاد جسمانياً فلن يكون ذلك الاعتقاد إلاّ بقبول تجرّد النفس، ذلك لأنّه عندما تحرق شجرة وتصبح رماداً، ثمّ يصنع من ذلك الرماد ،شجرة، فلن تكون عين الشجرة السابقة، نعم المادّة واحدة لكن في الحقيقة هذه الشجرة ليست الشجرة السابقة

ص: 135

عينها إذا إذا كانت كلّ الهوية الإنسانية بظاهرها وباطنها وكلّ ما لديها هذا البدن يصبح القول بالمعاد الجسماني غير ممكن، إذا القول بالمعاد الجسماني لا يكون إلاّ عبر الطريق الذي يقول به الآخوند(1).

3. إعادة المعدوم:

يتّضح من النقطة السابقة أنّ القول بالمعاد الجسماني بهذه القراءة يستلزم إعادة «المعدوم» وهذا ما سيأتي توضيحه أكثر في ذيل الشبهات اللاحقة.

نعم إنّ خلق مشابه الأبدان الدنيوية ممكن وسهل على اللّه، لكن ذلك ليس بالمعاد الجسماني بالقراءة المذكورة (إعادة عين البدن الدنيوي) بل بقراءة الحكمة المتعالية التي ستأتي في الصفحات القادمة.

4. الإبهام في تعريف النفس بالجسم اللطيف:

قد يُقال في الجواب على الإشكال المذكور: إنّ المشهور هو الاعتقاد بأنّه إضافة إلى البدن الجسماني هناك نفس من سنخ وجود مادي رقيق ولطيف، ويعتقدون أنّ النفس عارضة على البدن في هذه الدنيا، وأنّها تحافظ على وجودها اللطيف بعد الموت، وتتعلّق في القيامة ببدنها الدنيوي ثانية:

«اختلف العلماء في ماهية الروح، فقيل إنّه جسم رقيق هوائي متردّد في مخارق ،الحيوان وهو مذهب أكثر ،المتكلمين واختاره المرتضى قدّس اللّه

ص: 136


1- السيد روح الله الموسوي الخميني، تقريرات الفلسفة : ج 3، ص 54/ السيد روح الله الموسوي الخميني، المعاد: 281.

روحه... قيل إنّ الروح عرض، ثمّ اختلف فيه، فقيل هو الحياة التي يتهيء بها المحل لوجود العلم والقدرة ،والاختيار وهو مذهب الشيخ المفيد أبي عبداللّه محمد بن محمد بن النعمان رضي اللّه عنه والبلخي وجماعة من المعتزلةد البغداديين»(1).

في الإجابة عن هذا الدفاع ينبغي القول: إذا كان المقصود من النفس اللطيفة هو الوجود البرزخي، فذلك يعود في الواقع إلى الوجود المجرّد البرزخي، أمّا إذا كان المقصود غير ذلك فينبغي القول إنّ ماهية الوجود المادي اللطيف لم يتبيّن بدّقة. وأكثر القائلين به يتمسكون بعدّة أمثلة لتبيان مدّعاهم: الدخان والنار ونفوذهما في الفحم، ونفوذ الماء في هيكل الأشجار والنباتات، ونفوذ الزيت في فتيل المصباح. وبعبارة أخرى إنّنا نسأل القائلين بهذه الرؤية: جسمية النفس هل هي مقولة الجوهر أو العرض؟

فإن كانت مقولة الجوهر، عندها يطرح السؤال حول كيفية الاتصال والتأثير المتقابل بين الجوهرين المستقلين (النفس والبدن) وليس هناك جواب شفاف عليه.

وإن كانت مقولة العرض، عندها تطرح شبهة كيفية بقاء عرض «النفس» بعد فساد البدن «الموت» وإذا تعلّقت النفس ببدن آخر يقع إشكال التناسخ، وفي حال عدم تعلّق أصل وجود النفس، فسيطرح السؤال: لماذا يكون بقاء العرض مرتبطاً ومتقوّماً بوجود المعروض.

ص: 137


1- محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار: ج 58 ، ص 3 ، وج 61 ، ص 104 / راجع: رسائل إخوان الصفا : ج 3، ص 372 ، وج 4 ، ص 104 / الفخر الرازي، شرح عيون الحكمة: 372،ج 3، صص 137 و 159/ صدر المتألهين الأسفار : ج 8، صص 45 و 318.

5 - التغيير والفساد من لوازم المادية:

إنّ الوجود المادي لطيفاً كان أو غليظاً أو كدراً، فإنّه بسبب ذاته الماديّة فإنّه لا يخلو من الحركة والتغيير والفساد والأمثلة التي ضربت غير مستثناة من هذه القاعدة، فالماء في هيكل الشجرة والزيت في فتيل المصباح هو في حال تغيّر وتبدّل، إذاً، ينبغي أن تكون النفس بعد الموت استناداً إلى المعادلة المذكورة متغيّرة ومتحوّلة، في حين أنّ مؤيدي الرؤية المذكورة تؤكد على ثباتها.

6 - لزوم التناسخ:

القائلون بأنّ النفس لطيفة يصفونها بأنّها عارضة على البدن، يرد السؤال حول وضعية النفس بعد الموت، وعرض «النفس» هذا على أي عارض يتعلّق؟

فإنّ قيل يتعلّق على البدن اللطيف - والذي هو مادي أيضاً حسب مبناهم - فإنّ لزوم التناسخ يُشكل عليه، وهذا ما جاء تفصيله في بحث التناسخ.

7 - لزوم بقاء العرض دون المعروض:

إذا التزموا بأنّ النفس تبقى مستقلّة حتّى القيامة (المعاد الجسماني) ولن تتعلّق بأي متعلّق، يُشكل عليهم بكيفية بقاء العرض دون المعروض، فبعض مؤيّدي الرؤية المذكورة أكّد على عرضية النفس.

شبهات أخرى:

وهناك شبهات أخرى ترد على الرؤية المذكورة منها: شبهة الآكل

ص: 138

والمأكول، ومكان الجنة وجهنم وغاية العذاب الأخروي. سيرد توضيحها في شبهات المعاد الجسماني والروحاني.

الرؤية الثانية - المعاد الروحاني (العقلي):

إنّ أصول بعض الفلسفات ومبانيها تقتضي إنكار المعاد الجسماني(1). فمثلاً فلاسفة المشائين الذين قسّموا الوجود إلى قسمين مادي ومجرّد، وأنكروا الوجود المثالي والبرزخي واعتبروا أنّ البدن مادي والنفس مجرّدة. فإنّهم يعتقدون أنّ النفس ستبقى بعد الموت بدليل تجرّدها. ومن ناحية ثانية، فإنّ البدن الدنيوي معدوم بسبب ماديته، ولا يمكن للروح في القيامة أن تتعلّق بالبدن أو بمتعلّق آخر لأنّ ذلك يستلزم التناسخ، إذا فمعاد الإنسان سيكون بنفسه المجرّدة :أي روحانياً. يقول (صدر المتألهين) في هذا المجال:

«وذهب جمهور الفلاسفة وأتباع المشائين إلى أنّه روحاني أي: عقلي فقط، لأنّ البدن ينعدم بصوره وأعراضه لقطع تعلّق النفس عنها، فلا يُعاد بشخصه تارة أخرى إذ المعدوم لا يُعاد، والنفس جوهر مجرّد باقٍ لا سبيل له إلى الفناء، فتعود إلى عالم المفارقات لقطع التعلّقات بالموت الطبيعي»(2).

(ابن سينا) الذي كان من الأوائل في هذه الحكمة يبحث مسألة المعاد الجسماني بتوجهين: الأوّل بالتذكير بأنّ هناك آيات وروايات متعدّدة تشير إلى

ص: 139


1- راجع السيد جلال الدين الأشتياني، شرح حال الملا صدرا وآرائه الفلسفية: ص 110 .
2- صدر المتألهين، الأسفار : ج 9، ص 165.

المعاد الجسماني وجزئياته، وعلينا - بوصفنا مسلمين - أن نصدّقها:

«يجب أن يُعلم أنّ المعاد منه ما هو منقول من الشرع ولا سبيل إلى إثباته إلاّ من طريق الشريعة وتصديق خبر النبوة، وهو الذي للبدن عند البعث، وخيرات البدن وشروره معلومة لا يحتاج إلى أن تعلم، وقد بسطت الشريعة الحقّة التي أتانا بها نبيّنا وسيّدنا ومولانا محمد صلی الله علیه و آله و سلم»(1).

توجّهه الثاني هو عقلي وفلسفي. حيث قسّم الناس بداية إلى ثلاثة أقسام: كاملين، ناقصين متوسطين وبُله (نفوس بسيطة وخالية من أي نوع من المعرفة) ويعتقد أنّ مقام القسم الأوّل ومكانته أعلى من اللذة الحسيّة وهي من النوع العقلي:

«وأمّا الأنفس المقدسة فإنّها تبعد عن مثل هذه الأحوال وتتّصل بكمالاتها بالذات وتنغمس فى اللذة الحقيقية، وتتبرّأ عن النظر إلى ما خلفها وإلى المملكة التي كانت لها كلِّ التَبرّي»(2).

ويصف المعاد والعذاب للإنسان الناقص بالنوع العقلي أيضاً، وأنّه في وعاء عالم النفس والتخيّل.

أمّا نفس الإنسان الناقص أى المذنب فإنّها - بسبب ارتكابها للذنوب عجزت عن الصعود والاتصال بعالم العقل والجمال الإلهي، وتعلّقت بالأجرام

ص: 140


1- ابن سينا، إلهيات الشفاء : ص 423 ، الفصل ،4 المقالة .9 بعض المعاصرين اعتبروا أنّ إشارة منكري المعاد الجسماني عقلياً إلى النصوص الدينية وتمسكهم بها للتخلص من حربة التكفير ( السيد جلال الدين الأشتياني، شرح على زاد المسافر: ص88).
2- ابن سينا، إلهيات الشفاء: ص 432

السماوية - فإنّها تتذكّر أعمالها القبيحة وتدرك ذنوبها وإدراك هذه الأمور يعني إدراك الصور والهيئات المتضادة والمنافية لكمال النفس وتكاملها أوّلاً: إنّ هذا النوع من الإدراك وتذكّر العذاب والآلام الماضية، وإدراك عامل الخسارة الموحش يشكّل في حد ذاته عذاباً وألماً محرقاً، كما يحصل مع من تحل به بعض المصائب فيتألم كلّما تذكبر مرارة مصيبته ووحشتها.

المرحلة الثانية من العذاب تكون بإدراك وتذكّر نوع خاص من العذاب الموعود في الشريعة مثل النار الحيّات والعقارب التي يتخيّلها الإنسان، بل ويشاهدها ويحسّها بقوّة مخيلته، فيتعذب عبر ذلك. يشير (الشيخ) إلى أنّ هذا النوع من العذاب هو أمر واقعي - لكنّه في وعاء النفس المجرّدة - وهو أقوى من الحسّي:

«إنّهم إذا فارقوا الأبدان ولم يكن لهم معين جاذب إلى الجهة التي فوقهم، لا كمال فيسعدوا تلك السعادة، ولا شوق كمال فيشقوا تلك الشقاوة؛ بل جميع هيئاتهم النفسانية متوجهة نحو الأسفل، منجذبة إلى الأجسام، ولا منع من المواد السماوية من أن تكون موضوعة لفعل نفس فيها، قالوا فإنّها تتخيّل جميع ما كانت اعتقدته من الأحوال الأخروية، وتكون الآلة يمكنها بها التخيّل الأجرام السماوية، فتشاهد جميع ما قيل لها في الدنيا من أحوال القبر والبعث والخيرات الأخروية، وتكون الأنفس الرديّة أيضاً تشاهد العقاب بحسب ذلك المصور لهم في الدنيا وتقاسيه، فإنّ الصور الخيالية ليست تضعف عن الحسيّة؛ بل تزداد عليها تأثيراً وصفاءً»(1).

ص: 141


1- نفس المصدر : ص 431-432 .

أمّا تعيين تكليف القسم الثالث أي «البُله» الذين ليس لديهم أي إدراك ومعرفة، ویتبع ذلك ليس لديهم أي شوق، فهو أمر مشكل على (الشيخ)لانّ ذلك مبنى العذاب أو السعادة عنده هو إدراك العذاب أو اللذة، وحسب الفرض فإنّ هذا القسم من الناس فاقد لهذا الإدراك، لذلك يظهر (ابن سينا) عجزه عن

تحديد وضع معاد القسم الثالث وكيفيته، ويكل الأمر إلى الله سبحانه:

«وأمّا النفوس البُله التي لم تكتسب الشوق فإنّها إذا فارقت البدن وكانت غير مكتسبة للهيئات الرديّة، صارت إلى سعة من رحمة اللّه تعالى تعالى(1).

وقد استند مؤيدو المعاد العقلي بالآيات الآتية التي تحدّثت عن الرجوع إلى اللّه ولن يكون هذا الرجوع جسمياً قطعاً:

«وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ» [آل عمران 83]

و«وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله» [البقرة 281] .

و «إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعي» [العلق 8].

و «قالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ» [البقرة 156]

والأكثر شفافية: «يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةٌ * فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي» [الفجر 27-30].

من الواضح أنّ هذه العودة إلى اللّه لن تكون بالسير المادي والجسمي، ذلك لأنّه أوّلاً محال عقلي، وثانياً لأنّه ليس مختصّاً بأصحاب «النفس المطمئنة».

ص: 142


1- نفس المصدر : ص .431 . ويعتقد الأستاذ حسن زاده الأملى أن ابن سينا كان يعتقد بالمعاد الجسماني حسن زاده الآملي، شرح إلهيات الشفاء: صص 280 ، 287

وتدل بعض الروايات أيضاً على هذه الرؤية: «إنّ اللّه جنّة ليس فيها حور ولا قصور ولا لبن ولا عسل؛ بل يتجلّى فيها ربّنا»(1).

بحث وتحليل:

إنّ تحليل الرؤية المذكورة يستلزم تنقيح المباحث الفلسفية، نكتفي ها هنا بذكر بعض النقاط :

1. التعارض مع النصوص الدينية:

إنّ أهمّ إشكال على هذه النظرية هو تعارضها مع ظواهر النصوص القرآنية والروائية المتعدّدة، بل مع نصوصها والتي تدل على السعادة والعذاب الجسدي في المعاد وحاشا للبرهان والفلسفة أن يناقضا النصوص الدينية(2).

2. انحصار المعاد بالإنسان الكامل:

بما أنّ (الشيخ) حصر تجرّد النفوس بالتجرّد العقلي، لذا، فإنّ لازم ذلك أن يكون المعاد والبقاء منحصراً بالوجود العاقل أى بالإنسان الكامل، ذلك لأنّ الآخرين أي المتوسطون والبسطاء «البُله» وفاقدو المعرفة لم ينالوا هذا الكمال، وبالتبع لن يكون لهم معاد(3). ذلك لأنّ الصور الجزئية الموجودة في خزينة خيالهم الحالي هي لمواضع مادية وواقعها يميل نحو جهات عالم المادّة،

ص: 143


1- نقلاً عن صدر المتألهين مجموعة الرسائل الفلسفية: ص 449. للتوضيح فإنّ بعض العبارات الواردة نسبت إلى الروايات، لكننا بعد البحث لم نجد مصدرها في الروايات والتفاسير.
2- راجع صدر المتألهين، الأسفار: ج 9، ص 214
3- راجع: السيد جلال الدين الأشتياني، شرح على زاد المسافر: ص 40 الهوامش.

لذا ستشملها قاعدة الفساد والبوار والفناء(1).

3. الفهم المادي لقوّة الخيال:

إنّ ابن سينا وبقية المشائين لا يعتقدون بتجرّد قوّة الخيال (2)

فكيف يصفونها بالملاك وموضع تخيّل الجزئيات الواردة من الشريعة في المعاد؟ ذلك لأنّه إذا كانت قوّة الخيال ماديّة فإنّها ستتلف بعد موت البدن وفساده ولن تكون موجودة في القيامة لتكون وسيلة للتخيّل(3).

4. التناسخ:

ضمن توجيهه لكيفية إدراك النفوس «البله» للعذاب أو اللذة يتوسّل (الشيخ الرئيس) بتعلّق تلك النفوس بالأجرام السماوية العلوية، فيلزم ذلك إشكال التناسخ وهو ما قرّره الملا صدرا بالتفصيل(4).

ص: 144


1- راجع: نفس المصدر: صص 92 و 94. الجدير بالذكر أن الشيخ) يحاول تبرير معاد المتوسطين ويضيف أنّ نفوس البسطاء تتعلّق بعد الموت بالأجرام السماوية وغيرها وتتكامل عبر ذلك (الإشارات النمط ،8 ، الفصل ،17 : ج 3، ص 355) . وإشكال هذه النظرية هو لزوم التناسخ وكيفية ارتباط النفس والأجرام المذكورة من نوع علي أو غيره، ولا مجال لتفصيل ذلك ها هنا (راجع صدر المتألهين، الأسفار : ج 9، ص 42)
2- ابن سينا طبيعيات الشفاء : ص 342 ، فن 6 ، وج 2 ، ص 167-171 ، المقالة 4 ، الفصل الطوسي، شرح الإشارات: ج 2، ص 331 ، النمط ، الفصل 9/ صدر المتألهين الأسفار : ج 8، ص 234/ السيد جلال الدين الأشتياني، شرح حال الملا صدرا وآرائه الفلسفية: ص 92 .
3- نفس المصدر : صص 40 و 129.
4- صدر المتألهين الأسفار : ج 9، ص 42 وما بعدها وص 210

5. الجمع بين المعاد العقلي والجسماني:

أمّا بالنسبة للاستناد إلى الآيات الدالّة على المعاد العقلى فينبغي القول إنّ أتباع نظرية المعاد الجسماني والعقلي لا ينكرون ذلك؛ بل إنّهم يعتقدون بالمعاد الجسماني مضافاً إلى المعاد العقلي، وإنّه يمكن الجمع بينهما.

وبناءً لمقتضى الأصل العقلي «إثبات الشيء لا ينفي ما عداه» فإنّ الآيات التي استند إليها تثبت نوعاً خاصاً من المعاد (الروحاني) وليست تنفي النوع الآخر من المعاد (الجسماني). وهذا النوع من المعاد تثبته نصوص دينية متعددة أخرى.

الرؤية الثالثة - المعاد المثالي:

فلاسفة الإشراق أقرب إلى النظرية المشهورة بمرحلة، وعلة ذلك اعتقادهم بوجود قسم آخر، أي «الوجود المثالي والبرزخي». وعلى أساس هذا، فإنّهم يعتقدون أنّ النفس فى القيامة ستظهر وتحشر ليس على صورة مجرّدة؛ إنّما في قالب التعلّق بجسم وبدن مثالي. يقول (شيخ الإشراق) في هذا المجال:

«وبه [عالم الأشباح المجردة] تحقّق بعث الأجساد على ما ورد في الشريعة الإسلامية الحقّة الإلهية وجميع مواعد النبوة»(1).

ويقدّم توضيحاً أكثر، فيقسّم الناس إلى ثلاثة فئات:

ص: 145


1- مجموعة مصنّفات شيخ الإشراق، مقدمة وتصحيح هنري كورين: ج 2، ص 234

الفئة الأولى هم الأناس الذين بلغوا التكامل في الحكمة النظرية والعملية، وتخلّصوا بذلك من جسم (الصيصية) واتصلوا بعالم العقول (عالم الأنوار):

«وإذا تجلّى النور الأسفهيدي بالإطلاع على الحقائق وعشق ينبوع النور والحياة، وتطهّر من رجس البرازخ فإذا شاهد عالم النور المحض بعد موت ،البدن تخلّص عن الصيصية وانعكست عليه إشراقات لا تتناهى من نور الأنوار من غير واسطة ومع الواسطة على ما سبقت الإشارة إليه، ومن القواهر أيضاً كذا الأسفهيدية الطاهرة غير المتناهية في الآزال من كل واحد واحد نوره، وما أشرق عليه من كلّ واحد مراراً لا تتناهى فيلتذّ لذّة لا تتناهى. وكلّ لاحق يلتدّ بالسوابق ويلتذّ به السوابق، ويقع منه على غيره ومن غيره عليه أنوار لا تتناهى، وهي إشراقات ودواير عقلية نورية»(1).

الفئة الثانية هم الأناس الذين بقوا في وسط الحكمة النظرية أو العملية أو في كليهما. هؤلاء أيضاً تخلصوا من الجسم، لكنّهم لم يبلغوا عالم العقول؛ بل بلغوا عالم المثال وتمتلك نفوس هؤلاء القدرة على إيجاد أي نوع من طلبات النفس:

«والسعداء من المتوسطين والزهاد من المتنزهين قد يتخلصون إلى عالم المثال المعلقة التي مظهرها بعض البرازخ العلوية ولها إيجاد المثل والقوّة على ذلك، فيستحضر من الأطعمة والصور والسماع الطيب وغير ذلك على ما يشتهي. وتلك الصور أتّم ممّا عندنا. فإنّ مظاهر هذه وحواملها ناقصة وهي

ص: 146


1- مجموعة مصنفات شيخ الإشراق: ج 2، صص 223 و 226.

كاملة، ويخلّدون فيها لبقاء علاقتهم مع البرازخ والظلمات وعدم فساد البرازخ العلوية»(1).

الفئة الثالثة هم أناس لم يوفقوا في سير الحكمة النظرية والعملية، وساروا في مسار الذنوب والشقاء. تستمر حياة هؤلاء في عالم المثال أيضاً، لكن ليس في عالم الأنوار؛ بل في عالم الظلمات حيث الصور والهيئات مظلمة - حسب ملكاتهم الأخلاقية الرذيلة - فتكتورهم، ويكون عذابهم من هذا الطريق:

«وأمّا أصحاب الشقاوة الذين كانوا حول جهنم جنياً»،«فأصبحوا في ديارهم جائمين». سواءُ كان النقل حقّاً أو باطلاً. فإنّ الحجج على طرفي النقيض فيه ضعيفة، إذا تخلصوا عن الصياصي البرزخية يكون لها ظلال من الصور المعلقة على حسب أخلاقها»(2).

بحث وتحليل:

نشير إلى نقطتين في تحليلنا للرؤية السالفة:

1. مخالفتها للنصوص الدينية:

هذه الرؤية كسابقتها تخالف النصوص الدينية بسبب إنكارها للمعاد والحشر بالبدن الدنيوي والجسمي واعتقادها بالبدن والعالم المثالي لا يقلل من مخالفتها للنصوص.

ص: 147


1- نفس المصدر : ج 2، ص 230.
2- نفس المصدر : ص 229-230

2. التناسخ:

إذا كان البدن المثالي والنفس متغايران - وظاهر كلام شيخ الإشراق «قد يتخلصون إلى عالم المثال» هو كذلك أيضاً - عندها يطرح هذا السؤال : إذا خلق البدن المثالي وكان جاهزاً ومستعداً لتعلّق النفس به، وفي هذه الصورة يكون اجتماع نفسين (النفس الجديدة من واهب الصور ونفس البدن الدنيوي) ويكون التناسخ لازماً. أمّا إذا كانت الاثنين ،واحدة، فهذا لا يلتقي مع رؤية الإشراقيين؛ بل يقترب من رؤية الحكمة المتعالية، كما سنشير إليه لاحقاً .

القراءة الأخرى (المعاد الهور قليائي):

الشيخ أحمد الإحسائي (1166-1241هق) قام بتركيب وخلط غير صحيح بين عدّة مشارب وعلى رأسها المدرسة العرفانية والفلسفية والروايات، فأسس فرقة الشيخية. تأثّر الإحسائي بنظرية عالم المثال شيخ الإشراق وشارحي مدرسته(1)، وحاول حل وتبيان ثلاثة مسائل كلامية على هذا الأساس : كيفية معراج النبي صلی الله علیه و آله و سلم(2) وسرّ طول عمر الإمام المهدى (عجل اللّه تعالى فرجه الشريف) (3)وكيفية المعاد على هذا الأساس، كان يعتقد أنّ للإنسان

ص: 148


1- أحد الأدلة على تأثر الإحسائي بحكمة الإشراق اقتباسه مصطلح «هور قليا» و«جابلقا» و«جابر صا من تلك الحكمة (الشهرزوري، شرح حكمة الإشراق: صص 554 و 574 قطب الدين الشيرازي شرح حكمة الإشراق: صص 514، 630" 100)
2- الإحسائي يرى أن معراج النبي الله كان بجسم لطيف مثالي
3- يعتقد الإحسائي أنّ الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) لا يعيش ببدنه المادي والعنصري؛ بل ببدن مثالي يعيش به في عالم من المثال اسمه «جابلقا» و «جابرصا»

جسدين: جسد مادّي في القبر يفسد ويتحلّل، وجسد يستمر بوجوده وبقائه مع زوال الجسد الأوّل، وأنّ الجسد الثاني هو من جنس عالم المثال، وهو الجسد الذي يحشر في القيامة(1).

و بظهور ضعف رؤية الإشراقيين يظهر ضعف قراءة الإحسائي القائمة عليها.

الرؤية الرابعة - المعاد الجسماني والروحاني:

الرؤية المشهورة بين المحققين والمتكلمين والفلاسفة هي الاعتقاد بنوعين من المعاد جسماني وروحاني. ومنشأ اعتقاد المتكلمين بهذه الرؤية يكمن في اعتقاد محققيهم بتجرّد النفس، الذي حصل من خلال مزج الخواجة نصير الدين الطوسي للكلام بالفلسفة(2). وهو يقول بنوعين من الثواب والعقاب الأخروي:

«هما إمّا بدنيان كاللذات والآلام الحسيّة وإما نفسانيان كالتعظيم والإجلال وكالخزي والهوان(3).

وحاصل هذه النظرية هو: بما أن الإنسان مكوّن من ركنين ومؤلفتين هما «البدن العنصري» «والنفس المجرّدة»، فإنّ النفس بسبب وجودها المجرّد

ص: 149


1- أحمد الإحسائي، شرح الزيارة الجامعة : ج 4 ، ص 18-19 مجموعة الرسائل الحكمية: ص310
2- نسب العلامة الحلّي تجرّد النفس إلى مشهور العلماء الأوائل وجماعة من المتكلمين مثل النوبختيين والشيخ المفيد من الإمامية والغزالي والحليمي وراغب من الاشاعرة (حسن بن يوسف الحلّي، كشف المراد، مبحث المعاد، المسألة 5.
3- الطوسي، قواعد العقائد : ص 142 / وكذلك ملحق تلخيص المحصل : ص 465

فإنّها تبقى بعد الموت ولا إشكال فى حضورها بعينها فى القيامة. أمّا البدن فإنّه رغم تبدّل صوره وأشكاله المختلفة، لكنّ اللّه القادر المطلق يمكنه أن يعيد تكوين نفس البدن الدنيوي ويحشره في القيامة، وأن تتعلّق به الروح أيضاً. إذاً، فمعاد الإنسان جسمانی وروحاني.

القراءة الأخرى (مماثلة البدن الأخروي والدنيوي).

بعض العلماء المعاصرين ذكروا أنّ المستفاد من النصوص الدينية في المعاد الجسماني هو مطلق الخلقة الجسمانية، وليس خلق البدن الأخروي من أجزاء البدن الدنيوي، لكن بشرط الوحدة والإشتراك في الصورة. وكتب الأستاذ السبحاني في هذا المجال التدقيق في الآيات والروايات يفيدنا أنّ في المعاد يكفي «مماثلة الإنسان المُعاد» مع الإنسان الدنيوي، ولا داعي للإصرار على تحقيق العينية. واستند إلى آيات تناولت خلق مماثل الأبدان الدنيوية مثل: «أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الخلاقُ الْعَلِيمُ» [يس 81].

وفي تقريره لدلالة الآية يقول: «كما يلاحظ أنّ لفظ «مثلهم» قد استخدم في الآية وليس «عينهم»(1).

واستند إلى هذه الرواية: «فإذا قبضه اللّه إليه صيّر تلك الروح إلى الجنّة في صورة كصورته فيأكلون ويشربون فإذا قدم عليهم القادم عرفهم بتلك الصورة التي كانت في الدنيا»(2).

ص: 150


1- جعفر السبحاني المنشور الخالد: ج 9، ص 153
2- محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار: ج 6، ص 329.

فالآية والرواية يدلان على أنّ محور المعاد هو حفظ صورة الإنسان، ويكفي أن يحشر الإنسان على الشكل والهيئة التي كان عليها في الدنيا. وليس هناك دليل على أنّه من نفس التراب الذي خلق منه أوّل مرّة فيكون منه في المعاد أيضاً وعلى ذلك الشكل»(1).

علماً بأنّ (السبحاني) يلفت النظر إلى أنّ المماثلة كأصل هي ضرورة لحل شبهة الآكل والمأكول، في حين أنّه يعتقد بالعينية في الموارد الأخرى.

شبهات المعاد الجسماني:

من خلال تحليل وتقييم الرؤية المذكورة نطرح الشبهات الآتية ونقوم بتحليلها:

الشبهة الأولى - التفاوت الإجمالي بين البدن المحشور والبدن الدنيوي:

النقطة الدقيقة في بحث المعاد الجسماني التي ينبغي التوقف عندها هو التساؤل: أيّ بدن دنيوي يحشر في المعاد؟ هل هو عين البدن الدنيوي من حيث العناصر والصورة بدقة الذي غادرته الروح بعد أن كان قالباً لها، وبعبارة أخرى، هل الذي يحشر هي آخر المواد والعناصر والصورة المتغيرة والمتحوّلة لبدن الإنسان عند موته؟إذا كان الأمر كذلك يطرح سؤال آخر: إذا كان الإنسان عند موته عجوزاً مريضاً ويعاني من آفة ظاهرية كالعمى أو أكتع، فهل سيحشر على هيئة

ص: 151


1- جعفر السبحاني المنشور الخالد: ج 9، ص 154

شاب مكتمل الأعضاء، أم على هيئته التي كان عليها حين موته؟ ففي الصورة الأولى التي تؤيدها بعض الروايات (1). عندئذٍ لا يصدق على ذلك عودة البدن الدنيوي وحشره بعينه، إلاّ إذا حصل تصرّف في معنى المعاد والعينية.

أم يحشر على هيئة كاملة وفي عمر الشباب، أي: إنّ الشخص الأعمى أو الأكتع من دون يدين أو رجلين أو العجوز المتهالك في القيامة لن يحشر على هيئته تلك، ولن يدخل الجنة هكذا.

من ناحية أخرى، فإنّ القرآن الكريم أكّد على وجود تفاوت بين البدن الدنيوي والأخروي مثل وجود نقص في بدن المذنب الذي رأى الحق ولم يؤمن به، فیحشر في القيامة أعمى العيون رغم إبصاره في الدنيا:

«قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً» [طه 125].

وعليه، ينبغي اعتماد التأويل والتصرف في ظاهر النصوص الدينية التي تؤكد على إعادة نفس أعضاء البدن الدنيوي للإنسان وإحيائه وجمعه.

الشبهة الثانية - التفاوت بين الوجودين المادي الدنيوي والأخروي تفكيك المادة والجسم):

من خصائص الوجود المادي في الدنيا الاستعداد والقابلية والتغيير والفساد والتكامل التدريجي، وهو أصل جار وسار في الجمادات والنباتات والحيوانات والبشر، وفي ظل ذلك يتبدّل ويتحوّل إلى نبات، والنبات إلى حيوان (إثر تناول الحيوان للنبات) والحيوان إلى إنسان، وهو ما عبّر عنه (صدر المتألهين) بالحركة الجوهرية.

ص: 152


1- محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار: ج 50 ، ص 80، وج 90، ص328.

السؤال هو: البدن الذي يعاد في القيامة والأجسام والحيوانات المحشورة هل هي من الناحية المادية والآثار والخصائص هي عين الدنيوية أم تتفاوت معها ؟

إن كان الجواب إيجاباً: كان المعاد حقيقياً وتصدق عليه عودة عين الأبدان الدنيوية، لكن مشكلته لوازمه وتواليه، لأنّ من لوازم ذلك الالتزام بخصائص المادّة الدنيوية مثل: تغيير البدن وفساده وابتلائه بأنواع الآفات والأمراض كالشيخوخة فى القيامة والجنّة، وطريقة التخلّص من فضلات البدن.

أمّا إذا كانت اللوازم المذكورة من المادة غير موجودة في الآخرة، فهذا دليل على التفاوت بين العالمين، لأنّ آثار الشيئين وخصائصهما من عين واحدة أن يكونا في النظامين واحد وعين واحدة أيضاً، لأنّ الخصائص هي في الواقع معاليل وانعكاس الذات ووجود العلّة، وفرض عينية الذوات والعلل في العالمين، وأصل السنخية يقتضي صدور معاليل متسانخة.

إنّ ظواهر بعض الأدلة النقلية تؤكد على مثلية العالمين وعلى الخلقة الجديدة في عالم الآخرة وليس على عينيتهما. سيأتي توضيح ذلك وذكر مبانيه فى تبيان الرؤية الآتية (الحكمة المتعالية).

الشبهة الثالثة - شبهة الأكل والمأكول:

هذه الشبهة هي من الشبهات القديمة والمعروفة. وتطرح على الصورة الآتية: إذا قام إنسان بأكل لحم إنسان آخر إما عن اختيار أو عن ضرورة واستهلك بدن الأكل جزءاً من بدن المأكول، أو إذا التهم حيوان جسد إنسان، ثمّ أكل إنسان آخر لحم ذلك الحيوان واستهلك جسم الأكل لحم الإنسان

ص: 153

المأكول بالواسطة، أو إذا تحلّل جسد إنسان ميت بمرور الزمان، وأصبح تراباً، ثمّ تحوّل ذلك التراب إلى نبات فأكل إنسان آخر ذلك النبات، وتكرّرت تلك الدورة لتطال مئات بل آلاف البشر كأن تلتهم الحيوانات في الغابة إنساناً، وتستهلك أجسامها لحمه، وتتحلّل عظامه تدريجياً وتصبح تراباً ثمّ نباتاً، فيأكل الحيوان أو الإنسان ذلك النبات، فيصطاد الناس تلك الحيوانات وتأكلها.

ومع تطوّر الطب ازدادت هذه الشبهة رواجاً من خلال وهب الأعضاء كزرع الجلد واللحم والقلب والكبد والكلى واليد لكن هذه المرّة تطرح الشبهة ليس تحت عنوان الآكل والمأكول، بل الواهب والموهوب.

والسؤال هو : العضو المزروع مع أي بدن سيحشر يوم القيامة؟ علاوة على ذلك، قد يكون أحد الطرفين واهب العضو أو متلقيه كافراً والآخر مؤمناً، أو عاصياً والآخر مطيعاً.

جواب الشبهة:

هذه الشبهة تطال في الدرجة الأولى القائلين بالمعاد الجسماني صرفاً. فهؤلاء بسبب إنكارهم لتجرّد النفس ركّزوا كلّ جهودهم على إعادة عين البدن الدنيوي، لأنّه إذا جرح أصل إعادة الأبدان الدنيوية في المعاد فستضعف هذه الرؤية. وفي الدرجة الثانية تطال هذه الشبهة من يقول بالمعاد الجسماني والروحاني، ذلك لأنّ المشهور عندهم هو إعادة عين البدن الدنيوي. لذلك، تصدّى الفريقين لهذه الشبهة وردّوا عليها بالطرق الآتية:

أ ) لا لزوم لإعادة الأجزاء كلّها (إعادة الجزء الأساس):

يعتقد القائلون بالمعاد الجسماني أنّه لا لزوم لإعادة كلّ أجزاء البدن

ص: 154

عند الموت؛ بل إنّ خلايا الإنسان تقسّم إلى نوعين: الثابت والأصلي والمتغيّر والزائد، وأنّ القسم الأوّل يبقى مع الإنسان دوماً ولا ينتهي بموته، وسيعاد في القيامة. بينما الأجزاء الأخرى يخلقها اللّه القادر وعليه فإنّ انتقال بعض أجزاء بدن الإنسان إلى بدن انسان آخر مع فرض بقاء الجزء الأساس لا يوجد مشكلة في إعادة البدن.

يشير (الخواجة نصير) في عبارة قصيرة ردّاً على هذه الشبهة:

«ولا تجب إعادة فواضل المكلف»(1).

واضعو الدليل المذكور تمسكوا بالروايات أيضاً لدعم ادعائهم مثل :

«يلي كلّ شيء من الإنسان إلاّ عجب الذنب»(2).

«عَجْبُ الذَنَب» عظمة بيضاء في خاصرة الإنسان (آخر فقرة من العمود الفقري) ويُقال إنّها تبقى ولا تتلف بموت الإنسان(3).

ص: 155


1- حسن بن يوسف الحلي، كشف المراد / الملا نعيما عرفي الطالقاني، منهج الرشاد في معرفة المعاد: ج 3، ص 172 / الميرزا جواد الطهراني ميزان المطالب: ص 394/ مجتبى القزويني الخراساني، بيان الفرقان: ج 3، صص 114، 586، 588 المرواريد، تنبيهات حول المبدأ والمعاد: ص 263
2- صحيح البخاري: ج 6 / مسند أحمد: ج 2، ص 499.
3- يعتقد بعضهم أنّ المادة الأصلية للإنسان هي النطفة وليس العظم كما ذكر القزويني في المصدر السابق من ناحية أخرى، فإنّ علماء التجربة ادعوا أن النطفة لا تفنى، بل تجذبها الأشياء الجامدة أو تتحوّل إلى بخار، مما يدل على أن المادة الأساس للإنسان هي النطفة التي تتحوّل خلال مراحل نمو الجنين إلى صور وحالات مختلفة كبذر الشجرة الذي يتحوّل خلال عدة مراحل إلى برعم ثمّ زهر وورق وفاكهة، ثمّ يظهر في النهاية في الحبوب المختلفة. والمادة الأساس للإنسان أيضاً من خلال وجودها وعروض حالاتها المختلفة تحافظ على أصل وجودها.

بحث وتحليل:

في تحليل هذا الدليل ينبغى القول:

أوّلاً - الرؤية المذكورة تشكّل نوعاً من العودة إلى المعاد في النصوص الدينية التي يبدو من ظاهرها عودة جميع أجزاء البدن وليس جزء منه بعد الموت.

ثانياً - النتائج الحسيّة لا تؤيّد هذا الإدّعاء، ذلك لأنّه بعد فحص قبر الميت بعد مئات السنين لم يعثر فيه الاّعلى تراب، والجزء الأساس والعظام المذكورة لم يعثر عليها، كذلك عند حصول الحرائق الكبيرة نجد أنّه لا يبقى من بدن الإنسان المحترق سوى مسحوق ورماد.

ثالثاً - كما أشرنا سابقاً فإنّ علم الفيزيولوجيا يؤكّد على تغيّر جميع خلايا البدن وتحوّلها خلال شهر إلى سبعة أعوام من دون أي استثناء(1).

أمّا بالنسبة إلى الروايات التي استند إليها فينبغي القول:

أوّلاً - لم تأتِ هذه الروايات في المصادر الشيعية.

ثانياً - يمكن تأويلها. لذا، فإنّ بعض الفلاسفة أوّلوا «عجب الذنب» بأنّه «هيولي» فيما فسّره آخرون ب- «النفس» وغيرهم ب- «قوّة التخيّل»(2).

ب) عدم جذب كلّ أجزاء المأكول في بدن الأكل:

رفض آية الله مكارم الشيرازي نظرية المتكلمين (بقاء الجزء الأساس)

ص: 156


1- ناصر مکارم الشيرازي المعاد والعالم بعد الموت: ص238.
2- المحقق الميرداماد، القبسات ص 414 صدر المتألهين تفسير القرآن الكريم: ج 5، ص 443 .

وطرح نظرية جديدة، نشير إلى لبّها مع بعض الإضافات:

1.إنّ جميع خلايا البدن تتغيّر كلّ 7-8 سنوات وتحلّ مكانها خلايا جديدة.

2.عند انتقال الخلايا تنقل الخلايا السابقة الخواص والخصوصيات إلى الخلايا الجديدة.

3.آخر قالب وأجزاء تشكّل بدن الإنسان عند موته هي التي يجري إحياؤها وحشرها.

4. هل تصحّ شبهة الأكل والمأكول بمعناها الدقيق، أي: إنّ تمام بدن المأكول يجذب في بدن الأكل؟ أي: هل يصحّ أنّ جميع بدن الفرد الخاص (X) ينتقل بالكامل إلى بدن الفرد (Y) دون الأبدان الأخرى؟

الجواب على هذا السؤال لا يعدو النفي أو الإثبات.

الفرض الأوّل هو أنّ هناك شخصاً قام طوال 87 سنوات بأكل لحم الميت وعظامه من دون أن يتناول أي شيء آخر حتّى الماء، عندئذٍ يمكن الإدّعاء بأنّ بدن الميت قد انتقل بتمامه إلى بدن الأكل، لكن حصول ذلك محال عرفياً.

علاوة على ذلك، إذا حلّلنا الفرض المذكور بدقّة أكبر يتّضح لنا أنّ كلّ بدن الميت لم ينتقل إلى بدن الأكل، ذلك لأنّه:

أوّلاً - قد يتخبر ماء بدن الميت وسوائله طوال 7-8 سنوات ويتحوّل إلى بخار، من دون أن يدخل بدن الآكل.

ثانياً - لم يجذب بدن الأكل كل أجزاء ما أكله، لأنّ بدنه يدفع في الساعات الأولى بعضها بصور مختلفة.

ص: 157

ثالثاً - علاوة على المواد الغذائية، فإنّ بدن الأكل جذب الأوكسجين من الهواء، وهو ما يخدش الفرض المذكور.

أمّا الفرض الثاني وهو أنّ أقساماً من بدن الإنسان أو أساساً كلّ الأجزاء قد جذبت من قبل أبدان مختلفة، وتحوّلت إلى مئات الأبدان، فهذا ما يمكن أن يحصل.

5. النقطة الأخرى في تبيان النظرية هي أنّ كلّ خلية من خلايا البدن تحمل أبعاد شخصية الإنسان وخصوصياته وعند الحاجة وتحقّق الأرضية اللازمة تستطيع خلية واحدة أن تصنّع بقية خلايا البدن مع خواصها وخصائصها. هذا الأمر أصبح أقرب إلى الفهم بعد تطوّر علم الطب وخاصّة علم الجينات والخلايا الجذعية.

ولحسن الحظ، فإنّ ما يشبه ذلك يحصل أمامنا كلّ يوم في عالم النباتات کنمو قسم من النبات عبر البراعم وتكاثر بعض الحيوانات عن طريق الانقسام من دون أن يستبعد أحد حصول ذلك، والتساؤل: كيف يمكن أن تنتقل جميع خصوصيات شجرة أو حيوان عن طريق أخذ جزء من هيكله وتكاثره ليصبح كأصله.

بعد تذكّر النقاط هذه كمقدمة نعود إلى مدّعي النظرية وهو أنّ شبهة الأكل والمأكول قد تنال من المعاد الجسماني عندما لا يبقى من بدن المأكول أي عنصر أو ذرّة في الخارج، أي أن يجذب بدن الأكل كل أجزاء بدن المأكول، وعندها يقع الإشكال في حشر بدنين جسمانيين من بدن متّحد، لكن

بطلان ذلك واضح.

ص: 158

لكن، إذا افترضنا أنّ جميع أجزاء بدن المأكول قد جذبت عبر أبدان مختلفة، عندئذٍ أخذ خلية واحدة من أجزاء بدن المأكول - المجذوبة في بدن آخر- يمكنها أن تنشىء البدن السابق، كما ورد معنا في الأمثلة السابقة. من ناحية ،أخرى، فإنّ أخذ خلية واحدة لا يوجد أي نقص في البدن الجسماني للآكل ذلك لأنّ بدنه قادر على ترميم ذلك العضو.

ترميم هذه النظرية:

تمتلك هذه النظرية قابلية أكبر من حل شبهة الأكل والمأكول ورسم المعاد الجسماني، لكن النقطة المبهمة فيها هي كيفية الإحياء العادي من خلية متبقية من البدن السابق وهي خلية لا يعلم أنّها على هيئة جماد أو نبات أو جزء من بدن حيوان أو إنسان جرت المحاولة فى النظرية المذكورة لتبيانها عبر التمسّك بالشواهد العلمية، ويبدو أنّ العلوم الجديدة يمكنها أنّ تثبت أن تبديل عنصر مادي، وخلية إنسان يحتاج إلى ملايين السنين، وهو ما يتعارض مع النصوص الدينية، ذلك لأنّ هذه النصوص تشير إلى انهيار نظام عالم الطبيعة و تفكّكه وإعادة إحياء أبدان البشرية كلّها دفعة واحدة.

ولترميم هذه النظرية يمكننا القول لحلّ هذه الشبهة لا حاجة للقسم الأخير منها (التأكيد على الإحياء الطبيعي لبدن الإنسان من عنصر أو خلية متبقية) ذلك لأنّ أساس حصول القيامة وانفطار النظام الكوني وإعادته يتم عبر القدرة الإلهية المطلقة، وخلق البدن الجسماني للإنسان من أجزاء أو من جزء متبق سيتم عبر تلك القدرة ايضاً .

وبتعبير آخر، فإنّ المشكلة في شبهة الأكل والمأكول وجذب جميع بدن

ص: 159

المأكول في بدن آخر ممّا يؤدّي إلى فقدان جميع أجزاء بدن المأكول، لكن بإثبات بقاء بعض أجزاء بدن المأكول يمكن خلق بقية بدنه من ذلك الجزء، ما يزيل الشبهة المذكورة.

ج) تأويل النصوص الدينية (ضرورة المماثلة وليس العينية):

خلال استعراض رؤية المتكلمين وتبيانها جرت الإشارة إلى قراءة جديدة لبعض المعاصرين الذين يعتقدون أنّ المستفاد من النصوص الدينية حول البدن الأخروي هو عينية البدن الأخروي للدنيوي هو في الحالة العادية وعدم وجود محذور عقلي. لكن عند وجود محذور مثل شبهة الآكل والمأكول مع فرض حلول كلّ أجزاء بدن المأكول في آكل أو عدّة آكلين، يمكن الإدّعاء أنّه في هذه الحالة تكفي المماثلة والتشابه العيني عوضاً عن عينية كلا البدنين في الأجزاء. ويستند (السبحاني) في تقريره لهذه الرؤية بالآيات التي ورد فيها الحديث عن الخلق مثل الأبدان الدنيوية:

«أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ»[يس 81].

«أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالأَرْضَ قادِرُ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ» [الإسراء 99].

يبدو أنه لإثبات كفاية المماثلة والعينية في الصورة لا بعنوان أصل اضطراري خاص بالموارد المحذورة، بل بعنوان الرؤية المختارة، يمكننا أن نستدلّ بتوجّه علم اللغات والهر منوطيك الذي سنشير إليه لاحقاً.

لغة الدين وتفسير النصوص (الهرمنوطيك) هو من المباحث الجديدة في

ص: 160

البحث الديني، وله اليوم مكانة خاصّة في تفسير الدين والتعاليم الدينية. ومن المباحث المطروحة في هذا المجال لغة الدين وخاصّة لغة القرآن، أي: إنّ لغة القرآن هل هي لغة عرفية أم إنّها لغة خاصّة ؟ الإجابة على هذا السؤال ستكون مختلفة باختلاف المدارس والتوجهات والمباني. فالإخباري مثلاً لا يعتقد بدلالة لغة القرآن وفهمها من دون الروايات في حين أنّ حجية لغة القرآن من نصّه وظاهره أمر يأخذ به العالم الأصولي.

مؤيدو معرفية لغة القرآن قدّموا في تفسيره رؤى مختلفة مثل اللغة العرفية، لغة التأويل والرمز اللغة النموذجية اللغة الأسطورية، اللغة التلفيقية، اللغة الخاصّة، واللغة متعددة الساحات فادّعى مؤيدو اللغة العرفية أيضاً أنّه ينبغي تفسير الآيات حسب فهم عرف العامّة(1).

على هذا الأساس، فإنّ ظاهر النصوص الدينية يدلّ على عودة عين البدن الدنيوي، وظاهرها هو إحياء كلّ أجزاء بدن الميت من دون نقص أو زيادة وحشره على شكله الدنيوي في الآخرة. لكنّنا أشرنا في الصفحات السابقة إلى أنّ هناك عدولاً في الروايات على الظاهر في بعض الموارد مثل حالة الشيخوخة ونقصان الأعضاء أو إضافتها ما حصل في الواقع هو الرجوع

ص: 161


1- القائلون باللغة العرفية لا ينكرون البطون والطبقات الداخلية للآيات، كما أنّهم لا يعتبرون اللغة العرفية مطلقة، وعند وجود قرينة قطعية يعدلون عن المعنى العرفي لكن جماعة من أهل السنة من أهل الظاهر اعتبروها مطلقة، وفسّروا كل الآيات على أساس عرفي ، ونتيجة لهذا التوجّه قالوا برؤية الله في القيامة، لكن الجماعة المعتدلة من أهل السنة وجميع الإمامية عملوا على تأويل ظاهر الآيات التي تخالف العقل كالصفات الخبرية مثل: ﴿ وَجَاءَ رَبُّكَ وَالملكُ صَفًّا صَفاً (راجع: للمؤلف، مقالة لغة القرآن الواردة في كتاب الكلام الفلسفي.

عن الظاهر والمعنى العرفي إلى التأويل ولغة أخرى.

إضافة إلى هذا التفاوت، فقد أشرنا إلى أنّه بسبب عدم جریان آثار الوجود المادي وخواصّه مثل: التغيّر والفساد، الشيخوخة والاهتراء، ويتبع ذلك الموت، فإنّ بعضهم كالأستاذ المطهرى يعتقدون أنّ النظام الجسماني الذي تحدّثنا عنه هو البدن الأخروي؛ بل النظام الأخروي وليس الوجود المادي.

رسم الوحدة العرفية للبدن الأخروي والدنيوي:

النتيجة هي أنّ المقصود الظاهر من النصوص الدينية من الإحياء وإعادة الأجساد ونظام الدنيا هو الإعادة العرفية وليست الإعادة بمعناها الدقيق والعقلي، ذلك لأنّه مرّ معنا توضيح عدم عينية ذلك؛ بل المقصود هو إثبات قدرة اللّه تعالى على خلق الأبدان التالفة من جديد، بمعنى أنّ اللّه تعالى قادر على إعادة خلق وترميم الأبدان التالفة ونظام العالم المتفكك، بحيث تصدق في نظر العرف والناس وحدة البدنين (الدنيوي والأخروي) أيضاً.

هذه الوحدة يمكن تصورها من جهتين:

الجهة الأولى: الوحدة في ماهية الإنسان، فبما أنّ ماهية الإنسان الأخروي لا تتفاوت مع الإنسان الدنيوي، فإنّ هذه العينية تصادق على القول بانحصار حقيقة الإنسان ب- «الروح» وعودتها عيناً يوم القيامة.

الجهة الثانية : وحدة البدن، فبما أنّ دور البدن في حقيقة الإنسان هو دور صوري وظاهري، لذا، فإنّ عدم عودته بعينه لا يضرّ بالمعاد الحقيقي للإنسان. علاوة على ذلك، فقد تقدّم توضيح عدم عودة عين تمام أجزاء الإنسان فى حالات مثل: الشيخوخة، نقصان عضو أو زيادة عضو، حلول

ص: 162

بعض أجزاء الإنسان في الإنسان الآكل.

إذاً، يبدو أنّ مقصود النصوص الدينية من وحدة الأبدان والمعاد هي الوحدة العرفية وليس من حيث العناصر والأجزاء، بحيث يكون البدن الأخروي من حيث الظاهر والشكل عين البدن الدنيوي، بحيث إذا رأى الإنسان الأخروي شخصاً آخر يحكم بوحدته مع البدن الدنيوي.

ويؤيد هذه الرؤية ظاهر الآيات الذي يدلّ على الخلق الجديد في القيامة مع التأكيد على حفظ المثلية فى العالمين والأبدان، وهو ما سيأتي في ذيل الرؤية القادمة.

هذه الرؤية تبدو رؤية معقولة لتبيين كيفية العينية أو المثلية بين البدنين الأخروي والدنيوي، لكن شبهة التناسخ تلقي بظلالها على هذه الرؤية، ويمكن حل هذا المشكل بإرجاع كيفية خلق البدن المثلي الأخروي إلى نظرية الحكمة المتعالية.

د) إنشاء النفس للبدن الدنيوي:

تؤكد الحكمة المتعالية على انحصار حقيقة الإنسان بالروح، وتعتقد أنّ الروح في يوم القيامة تخلق عين الصورة الجسمانية لبدنها وتنشئها بحيث إذا رآه أحد يقول إنّه عين بدنه الدنيوي، إذاً، فالمعاد ليس عودة لعين المادّة والجسم الدنيوي؛ بل إنّه عودة لحقيقة النفس في قالب صورة البدن الدنيوي. وعلى أساس هذا المبنى فإنّ شبهة الآكل والمأكول لا تطاله(1).

ص: 163


1- صدر المتألهين، الأسفار : ج 9، ص 200

ويشترك الجوابان الأخيران على شبهة الأكل والمأكول في أنّ كليهما يقول بوحدة الصورة ومماثلتها ، لكنّهما يتفاوتان فى نقطتين: الأولى: أنّ الجواب السابق أكّد أكثر على خلق مثل البدن الدنيوي في القيامة بالاعتماد على القدرة الإلهية، في حين أنّ نظرية الحكمة المتعالية تعيد ذلك إلى إنشاء النفس.

التفاوت الثاني في البدن المحشور فنظرية الحكمة المتعالية تقول إنّ أجزاء البدن المعاد جسمانية، لكنّها فاقدة للمادّة، في حين أنّ الجواب السابق يقول إنّ البدن المحشور من حيث المادة والعنصر هو والبدن الدنيوي واحد أيضاً(1).

الشبهة الرابعة - لزوم التناسخ:

ويطرح بعضهم شبهة هي أنّ النظرية المشهورة (تعلّق النفس بالبدن الجسماني الدنيوي ثانية) يلزمها التناسخ و اجتماع نفسين في بدن واحد، ذلك لأنّه بجهوزية البدن الدنيوي واستعداده لتلقى النفس من اللّه أو من علّة واهب الصور، فستقدَّم نفس لهذا البدن المستعد، وعلى أساس الفرض، فإنّ النفس السابقة ستتعلّق به ثانية أيضاً، فى حين أنّ أدلة استحالة ذلك قد وردت في الفصل الثاني.

بحث وتحليل :

الردّ على هذه الشبهة ورد في فصل شبهات منكري المعاد، لذا نكتفي هنا بالإشارة فقط.

ص: 164


1- سيأتي توضيح ذلك أكثر في تحليل رؤية الحكمة المتعالية.

أ) عدم خروج النفس من البدن بشكل كامل:

يقوم أساس شبهة التناسخ على خروج النفس من بدنها السابق بالكامل، في حين أنّ هذا الشرط لا يصدق على المعاد الجسماني، ذلك لأنّه كما ذكرنا سابقاً أنّ علقة النفس وعلاقتها بالبدن لا تنقطع بالكامل، وكما ورد في الروايات فإنّ الموت هو نوع خاص من النوم لا تنقطع فيه معظم العلاقة بين النفس والبدن.

ب) عدم توفّر الظروف لاجتماع النفسين:

ذكّر بعض الفلاسفة في معرض ردّهم على شبهة اجتماع النفسين بأنّه قد يكون البدن المستعد الذي أعيد إحياؤه يمتلك الاستعداد والقابلية لتعلّق نفس خاصّة، أي نفسه السابقة فقط، وعندئذٍ ستتعلّق به فقط نفسه السابقة(1).

ج) خلق البدن بشكل دفعي:

بعض العلماء المعاصرين أرادوا أن يردّوا على شبهة صدر المتألهين - القائمة على إلقاء شبهة التناسخ على نظرية المتكلمين - ويكون ردّهم هذا مستلاً من أسس الملاصدرا نفسه، خاصّة نظرية الحدوث الجسماني للنفس. أي: إنّ التناسخ يكون لازماً إذا كنّا نعتقد بوجود النفس السابقة (نظرية المشائين) وإنّ البدن الأخروي خلق تدريجياً، وإنّه مستعد لتعلّق النفس، بحيث إنّه مع إتمام خلقة البدن، فإنّ الروح الجديدة تجتمع مع الروح السابقة في البدن المستعد.

ص: 165


1- الشهرزوري، رسائل الشجرة الإلهية في العلوم الربانية: صص 552 و 565.

لكن حوادث يوم القيامة ستكون دفعية بما في ذلك خلق البدن، وتحدث كلّها في الوقت نفسه، وفي اللحظة نفسها تعود النفس السابقة إلى بدنها على فرض أنّه لم تخلق نفس قبل ذلك لتكون منتظرة لخلق البدن المستعد لتتعلّق به.

«إنّ قضية المعاد دفعية وآنية كما ورد فى القرآن، وخلال لحظة وأقل من طرفة العين تجتمع أجزاء البدن حول بعضها. وفي هذه الحالة، فإنّ البدن لائق بتعلّق نفسه فقط، من دون نفس مستأنفة وروح جديدة، ذلك لأنّ الروح الجديدة طبق الأساس المذكور [جسمانية حدوث النفس] لم تخلق قبل ذلك، ولم تخلق لحظتها؛ بل إنّها تأتي من ظل تكامل المادة من أنزل المراتب إلى أكملها، ويكون ذلك ميسوراً عندما تعتمد قضية التدرّج في الخلق يوم القيامة، لكنّنا وجدنا أنّ الآيات القرآنية تصرّح بحصول ذلك دفعياً وفي آن واحد. وبعبارة ،أخرى، فإنّ النفس المستأنفة تظهر في ظل الحركة والتدرّج، ولن توجد نفس دون ذلك. وفي هذه الحالة لا وجود لنفس تتعلّق بالبدن عند إحياء الموتى سوى النفس السابقة، لذا لا وجود لشبهة اجتماع نفسين في بدن واحد. هذه الشبهة طرحت على أساس أفكار المشائين، ومنعت من التفكر الصحيح»(1).

لتحليل هذا الجواب يمكن القول إنّ البدن في القيامة يخلق دفعياً، مستعداً لتعلّق النفس، وبما أنّ النفس ومنشئها «واهب الصور» هما مجردان، فلن تطالهما قضية الزمان والسبق والتقدّم والتأخّر، لذا، فإنّه مع إتمام خلق البدن دفعياً يفيض واهب الصور بالنفس، وتعود النفس السابقة أيضاً حسب الفرض، ما يستلزم اجتماع نفسين.

ص: 166


1- جعفر السبحاني المنشور الخالد: ج 9، ص 164

الجدير بالذكر هنا أنّ (صدر المتألهين) يعتقد أنّ الردّ على التناسخ ليس كافياً، وأنّه ينبغي الأخذ بما طرحه هو لحل المشكلة:

«وهذه أيضاً شبهة قويّة عسرة الحل وصعبة الزوال على غير من اطّلع على طريقتنا وسلك مسلكنا والجواب الذي ذكروه وقرّروه في غاية الضعف والقصور، وما تيسّر إلى الآن لأحد من الإسلاميين في حل هذا الإشكال شيء يمكن التعويل عليه، حتّى أنّ بعضهم ارتكب القول بتجويز التناسخ، مع انّ استحالته مبرهن عليها»، فعلى هذا كان تحقيق البعث والحشر للأبدان أصعب وأشكل، فباب الوصول إلى معرفة المعاد الجسماني مسدود إلاّ على من سلك منهجنا وذهب في طريقتنا»(1). وتوضيح ذلك خارج عن اختصاص هذا المقال.

د) ارتقاء البدن نحو النفس:

الملا نعيما العرفي الطالقاني (متوفى فى القرن 12 الهجري) ومن الفلاسفة المتأخرين طرح نظرية بديعة لحل مشكلة التناسخ، نشير إلى نتيجتها:

أ) إنّ البدن والنفس هما مركّب ،حقيقي، ويسري هذا التركيب على الأعضاء والأجزاء.

ب) علاقة النفس والبدن ،متبادلة، وكلاهما يؤثّر ويتأثّر بالآخر.

ج) الآثار الخاصّة للنفس وعلاقتها تبقى بالبدن حتّى بعد الموت.

د) بعد الموت يستمر البدن وأجزاؤه بحركته الذاتية الاستكمالية تحت إشراف النفس.

ص: 167


1- صدر المتألهين، الأسفار : ج 9، صص 205 و 211.

في ظل المقدمات المذكورة يريد صاحب النظرية أن يصل الى نتيجة مفادها أنّ أجزاء البدن من خلال حركتها التكاملية تحت إشراف النفس ستعود وتجتمع ليحيا البدن السابق مجدّداً، وبعد تحقّق البدن يصعد بحركة تكاملية نحو نفسه، لا أن تتعلّق النفس بالبدن السابق المستعد، ليكون التناسخ لازما(1).

بحث وتحليل :

أ) أوّل نقطة جديرة بالتأمّل في هذه النظرية هى الحركة التكاملية للبدن المتلاشي ليلتحق بنفسه، وأنّ تلك الحركة تتمّ تحت إشراف النفس نفسها، ويبدو أنه إدّعاء غير مبرهن. وبعبارة أخرى، فإنّ أجزاء البدن قد فسدت، وسيتحول كلّ جزء بمرور الوقت إلى صور وفعليات مختلفة كالنباتات المختلفة والحيوان(2).

على فرض جمع أجزاء البدن، فكيف سيرتقي البدن المادي المستعدّ ويلتحق بنفسه؟ وإذا كان البدن سيحصل على الرشد المطلوب من خلال حركته الجوهرية، فإنّه حسب نظرية الحكمة المتعالية - حيث صاحب النظرية يويد ذلك - يبنغي أن يتحوّل البدن إلى نفس وإذا كان مستعداً فقط فكيف

ص: 168


1- الملا نعيما العرفي ،الطالقاني، منهج الرشاد في معرفة المعاد : ج 1 المقدمة وأيضاً: ج3، ص 163 فما بعدها السيد جلال الدين الآشتياني، شرح على زاد المسافر: صص 306 و 329.
2- كتب الأستاذ الأشتياني في تحليله لهذه النظرية: «عندما يموت البدن، ولا يبقى لدی النفس بعد الموت أي استعداد لقبول الانفعالات الحاصلة عن طريق المادة والاستعداد والحركة وتحوّلت إلى فعلية صرف لا أحد يسأل ماذا ستبقى تنتظر ؟... وكلّ مادّة مستعدّة منها تسير نحو فعلية أخرى» (نفس المصدر : ص329).

سيرتقي؟ وإذا أصبح البدن مستعداً عندها يلزم اجتماع نفسين في بدن واحد (النفس السابقة، وإفاضة نفس من قبل واهب الصور).

ظاهر النصوص الدينية يخبر بجمع أجزاء البدن المتفسّخ والمشتّت في التراب عبر القدرة الإلهية الإعجازية، من دون الحديث عن مرحلة الرشد التدريجي وحركته التكاملية؛ بل إنّ قرائن القيامة وعلاماتها مثل جمع بساط نظام العالم، وإحياء العالم وقيامه دفعة واحدة والأبدان الأخرى، خلافاً لمقدمات النظرية المذكورة.

ه- ) البدن انعكاس للنفس:

تقول نظرية الحكمة المتعالية : إنّ النفس لا تتعلّق بالبدن الجسماني والدنيوي، لتبرز شبهة التناسخ؛ بل إنّ البدن والخُلق والملكات هي انعكاس لوجود النفس.

ونسبة البدن إلى النفس في هذه النظرية هي كنسبة اللازم إلى الملزوم وكنسبة الظل إلى صاحب الظل(1). وعليه، فإنّ البدن كان بمعيّة النفس وليس متقدّماً عليها، أو إنّه كان هناك بدن غريب ثم تعلّقت به النفس، لتطرح بذلك شبهة التناسخ:

«بل تلك الأبدان لوازم تلك النفوس كلزوم الظل لذي الظل، إذ إنّها فائضة بمجرد إبداع الحق الأوّل لها بحسب الجهات الفاعلية من غير مشاركة القوابل وجهاتها الاستعدادية، فكلّ جوهر نفساني مفارق يلزم شبحاً مثالياً

ص: 169


1- السيد محمد حسين الطباطبائي، تفسير الميزان ج 2، ص 376.

ينشأ منه بحسب ملكاته وأخلاقه وهيئاته النفسانية بلا مدخلية الاستعدادات وحركات المواد كما في هذا العالم شيئاً فشيئاً، وليس وجود البدن الأخروي مقدماً على وجود نفسه؛ بل هما معاً في الوجود من غير تخلّل الجعل بينهما كمعية اللازم والملزوم والظل والشخص. فكما أنّ الشخص وظلّه لا يتقدّم أحدهما على الآخر، ولم يحصل لأحدهما استعداد من الآخر لوجوده؛ بل على سبيل التبعية واللزوم. فهكذا قياس الأبدان الأخروية مع نفوسها المتصلة بها(1).

وبعبارة أخرى، فإنّ مشكلة التناسخ تنشأ من وجود الاستعداد في البدن لتجديد حياته الدنيوية، فمن ناحية وجود الاستعداد يقتضي إفاضة نفس جديدة من قبل واهب الصور، ورجوع النفس السابقة يوجب اجتماع نفسين، لكن في الوجود الأخروي لا وجود للاستعداد والقابلية خاصّة في الأبدان الجسمانية، والبدن في شعاع النفس، لذا، لا وجود لأرضية تعلّق النفس لا السابقة ولا الجديدة، ولهذا لا مجال للتناسخ.

النظرية المختارة التناسب الكمّي بين الأبدان والنفوس):

إلى جانب الردود المشهورة التي استعرضتها على شبهة التناسخ في المعاد الجسماني، أظنّ أنّى وقعت على حلّ للشبهة المذكورة، استعرضه ها هنا:

بالإلتفات إلى تنظيم العالم، ووجود الماضي التجرّدي والبسيط للعالم وكلّ حوادثه، ومن جملة ذلك عدد الناس وبالتبع عدد الأنفس، يمكننا الإدّعاء

ص: 170


1- صدر المتألهين، الأسفار : ج 9، ص31

أنّ عدد الناس والأنفس في النظام العلمي والقضاء والقدر الإلهي محدّد ومتعيّن، وقد خلق وأوجد عالم التكوين والقضاء العيني أيضاً على أساس نظام علمي وعلى القضاء والقدر العلمي الإلهي.

واستناداً إلى ذلك، فعندما تحيى القدرة الإلهية البدن الجسماني في القيامة عينياً كان أو مماثلاً، فإنّه بسبب استعداده تعود إليه النفس السابقة بسبب التناسب مثل: العلقة والعلاقة ببدنها بأجزائه أو بصورته. وهنا يطرح إشكال اجتماع نفسين لعودة النفس السابقة وتعلّق نفس جديدة بالبدن المستعدّ أنشأها واهب الصور.

في معرض الردّ على هذه الشبهة تؤكّد النظرية المختارة على عدم وجود أرضية لإنشاء نفس جديدة، لأنّه حسب المبنى المذكور سابقاً لا يوجد في الخزانة العلمية وصقع العوالم العليا أي أثر علمي وتجرّدي وبسيط عن النفس الموجودة ليقوم واهب الصور بإنشاء نفس جديدة اعتماداً على ذلك، أو ليفيض بوجود جديد.

وبعبارة أخرى، فإنّ العلة الأساس والأولية لعدم لزوم التناسخ واجتماع النفسين ليست لعدم قابلية البدن؛ بل تعود إلى عدم إفاضة واهب الصور نفساً جديدة، وهو ما يتعلّق بالنظام العلمي الإلهي.

وبتعبير ثالث بما أنّ اللّه تعالى مطّلع منذ الأزل في ذاته العلمية على كلّ الأمور، ومن ذلك عدد الأبدان والأنفس في نظام التكوين، لذا، فقد هيّاً الأرضية لتحقّق وجود هذه المجموعة في قضائه وقدره العلمي، وسلّم وجوده البسيط والمجرّد إلى العقول والعوامل ما ،دونه لذلك، فإنّ عقل واهب الصور لا يمتلك في القيامة نفساً بسيطة ومجرّدة أخرى، ليقوم بإنشائها، ويحصل اجتماع نفسين في بدن واحد.

ص: 171

إذاً، فالإدّعاء حول نظام التكوين ونظام العلم والقضاء والقدر الإلهي يعني التطابق الكامل بين هذين الاثنين، أي: إنّ وقائع العالم تحصل تماماً كما هو مندرج في العلم الإلهي.

ولتقريب الأمر إلى الذهن يمكننا إيراد مثال : إنسان كريم يعلم بوجود عشرة فقراء في المكان الفلاني، وكلّ فقير يحتاج إلى مبلغ محدّد من دون نقص أو زيادة، فيعطي كلّ المبلغ المطلوب إلى فرد غير محتاج ليقوم بتوزيعه على الفقراء العشرة، وينفّذ الوسيط العملية بدقّة، الوسيط لا يمكنه دفع مبلغ أكبر لأنّه حسب الفرض لا يمتلك مالاً منه والفرض الآخر في هذا المثال هو أنّ الشخص الكريم ضمن نفس الشروط يعطي الوسيط مبلغاً إضافياً، فيقسّم الوسيط المبلغ، ويبقى لديه الفائض معلقاً من دون متعلّق.

وفي نظام التكوين أيضاً فإنّ اللّه تعالى خلق أنفساً بعدد الأبدان الدنيوية، وعدد الأنفس والأبدان متطابق من دون زيادة أو نقصان.

أمّا القول بإنشاء واهب الصور لأنفس جديدة، فهذا يعني أنّ النظام العلمي والقضاء والقدر الإلهي - والعياذ باللّه - لا يتناسب مع عالم التكوين وحاجاته، وأنّه يقوم بالإفاضة بالوجود (النفس) من دون الالتفات إلى الحاجات والقابليات وهذا تصرّف غير حكيم، وغير ممكن بالنسبة لمقام الربوبية الحكيم. وعليه، ففي القيامة تكون الأنفس محدودة، ويكون وجودها بعدد الأبدان ومن ناحية ثانية، فإنّ تجديد وجود الأبدان الدنيوية، وعلقة البدن الأخروي وتشابهه مع البدن الدنيوي في الأجزاء العنصرية أو تشابهه في الصورة يجعل كلّ نفس تتعلّق ببدنها المناسب دون وقوع مشكلة اجتماع نفسين في بدن واحد.

ص: 172

الشبهة الخامسة - علة تعلق النفس الدنيوية بالبدن الجسماني:

من الشبهات المطروحة على الرؤية المشهورة هي أنّ النفس تنفصل بعد الموت عن بدنها الجسماني، ولا تبقى بينهما أي علاقة وارتباط تكويني، لذا، فإنّ القول برجوع النفس ثانية إلى بدنها السابق وعدم تعلّقها ببدن آخر في القيامة هو ترجيح بلا مرجح(1).

جواب هذه الشبهة يتّضح من تقرير النظرية المختارة في الشبهة السابقة أي: على فرض وجود أنفس في يوم القيامة بعدد الأبدان، ومن ناحية ثانية، فإنّ خلق عين الأبدان الأخروية من حيث العناصر والصورة، أو في الحد الأدنى من حيث الصورة، يجعل النفس كوجود عالم وذى شعور أن تتعلّق ثانية بمركبها ومتعلّقها الدنيوي، ويكون هذا المرجح لتعلّق النفس به. يمكننا هنا الإفادة من أسس الملا صدرا نفسه ونقول: إنّ النفس عندما تشاهد متعلّقها و تتصوّر بقوّة مخيّلتها معلوماتها وإدراكاتها الدنيوية، فيؤدّى ذلك إلى تعلّقها وانجذابها نحو البدن الدنيوي.

الشبهة السادسة - مكان الجنة والنار:

إذا كان المعاد بجميع أبعاده وأضلاعه مادياً ومن السنخ الدنيوي، وبما أنّ ظاهر الآيات يدل على خلق الجنة وجهنم بالفعل:

«وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ» [آل عمران 133].

ص: 173


1- صدر المتألهين، الأسفار : ج 9، ص 205-206.

«وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ» [آل عمران 131].

هنا يطرح هذا السؤال: أين مكان الجنة والنار الآن؟

صدر المتألهين عدَّ هذه الشبهة معضلة وأكبر شبهة على نظرية المعاد الجسماني للمتكلمين، ولا تمكن الإجابة عليها بأصولهم ومبانيهم(1).

سيأتي جواب هذه الشبهة في أوّل الفصل السادس، ونكتفي هنا بهذه النقطة وهي استناداً إلى رؤية تفسير النظام الخاص بالآخرة بنوع خاص ومتفاوت مع الدنيا؛ فإنّ الجنة وجهنم هما تجسّم أعمال الإنسان، وموجودتان في باطن الدنيا.

الشبهة السابعة . محدودية مواد الأرض، وتزايد البشر والحيوانات:

استناداً إلى نظرية المعاد الجسماني، فإنّ أبدان جميع البشر والحيوانات ستجمع عیناً من تراب الأرض وعناصرها السطحية وتحشر، في حين أنّ عناصر تراب الأرض منذ أوّل الخلق وحتّى القيامة محدودة، وأنّ البشر والحيوانات قد خلقت وماتت بأعداد كبيرةٍ جدّاً. وإذا كانت العناصر التي تشكّلت منها أبدان البشر والحيوانات من هذه الكرة الأرضية، بل ومن طبقاتها السطحية، فكيف ستنشأ أبدان لا حدّ لها من مواد محدودة؟.

جواب الشبهة:

أ) هذه الشبهة هي صرف إدّعاء أنّ مواد الأرض أقلّ من أبدان البشر

ص: 174


1- صدر المتألهين، الأسفار : ج 9، ص 202.

والحيوانات. إذا نظرنا إلى أطراف وجودنا، يتّضح لنا أنّ نسبة ارتفاع المواد الجامدة والنباتية غير قابلة للقياس مع ما كانت عليه وما ستكون عليه.

ب) إذا ادّعى أنّ زمان القيامة سيطول إلى درجة ستنعكس فيها هذه النسبة. يمكن القول في تحليل هذا الإدعاء: أوّلاً - إنّ ذلك إدّعاء لم تثبت صحته وثانياً - هذا الفرض يعود إلى شبهة الأكل والمأكول، وذكرنا في حلّها أنّ وجود أي عنصر من البدن الدنيوي في خلق البدن الجسماني أمرٌ كافٍ للّه القادر المطلق. ثالثاً - حسب ظاهر الآيات فإنّ وقوع القيامة يبدأ بانهيار نظام العالم (الكواكب ) كلّها، وإعادة تكوينها مجدداً من قبل اللّه القادر. لذا، فإنّ عناصر الأرض وعناصر الكرات الأخرى المركبة والمتوازنة ستتغيّر نسبتها مع العناصر والنفوس لصالح العناصر.

ج) إنّ جواب الشبهة على أساس الحكمة المتعالية شفاف أيضاً، ذلك لأنّ البدن العنصري الدنيوي لن يحشر أساساً لنضطر إلى مقارنة نسبة عناصر الدنيا والنفوس.

الشبهة الثامنة - عدم تبرير العذاب الأخروي:

استناداً إلى رؤية المعاد الجسماني، فإنّ اللّه تعالى سيحيي الأبدان الدنيوية للبشر في القيامة لينال المحسنون ثوابهم والعاصون عقابهم على ما .فعلوا والسؤال هو: ما هي غاية الله الحكيم من تجديد الأبدان وإثابة أصحابها أو تعذيبهم ؟

جاء في الفلسفة والكلام المنقح أنّ غاية اللّه من هذا الفعل تعود إلى فعل الإنسان وليس إلى اللّه، لذا، ينبغي أنّ تصبّ هذه الغاية في صالح الإنسان.

ص: 175

وتصوّر الغاية المفيدة والحكيمة في المعاد هى أن ينال الإنسان المحسن أنواع اللذة والوصول، أمّا تصوير الغاية من ابتلاء الإنسان المذنب وخاصّة الكافر بالعذاب السرمدى فهو أمر صعب للغاية.

وبعبارة أخرى، ما هي غاية اللّه تعالى من إحياء الإنسان الكافر ورميه في نار جهنم الأبدية ؟

هذه الشبهة لا تطال نظرية الحكمة المتعالية، لأنّ ذات الإنسان، أي نفسه وروحه حيّة منذ البداية، وبعد موت الإنسان تبقى حيّة في العالم الآخر (المثال) وتنال اللذة أو العذاب.

أمّا مسألة الإحياء وتجديد وجود البدن، فهو كما ذكر سابقاً فهو انعكاس لوجود النفس والعذاب أو اللذة لن يكونا خارجيين؛ بل إنّهما من ناحية النفس ذاتها أي إنّ العذاب أو النعمة في الآخرة ليسا اعتباريين بل تكوينيين(1).

الرؤية الخامسة - المعاد الإخترامي (الحكمة المتعالية):

قدّم (صدر المتألهين) نظرية خاصّة عرفت بنظرية «معاد البدن الإخترامي» في مقابل «المعاد العنصري» ضمن معالجته لأنواع المعاد الجسماني وكيفيته، وقد أثارت عاصفة من الآراء(2)، فاعتبرها بعضهم حقيقة المعاد، بينما

ص: 176


1- سيأتي توضيح الشبهة وجوابها مفصلاً في فصل فلسفة العذاب الأخروي.
2- للإطلاع أكثر على آراء مدرسة التفكيك راجع محمد رضا الحكيمي، المعاد الجسماني في الحكمة المتعالية : ص 204 ، وما بعدها.

وصفها آخرون من الإخباريين وبعض العلماء المعاصرين(1)مخالفة لظواهر الآيات.

مقدمات الرؤية المذكورة:

ذكرنا في الصفحات السابقة لبّ هذه النظرية أى البدن المحشور انعكاساً للنفس ومتّحداً معها. ونشير ها هنا إلى مقدمات هذه النظرية وأصولها:

1. أصالة الوجود: إنّ حقيقة أي شيء هو الوجود الخاص لذلك الشيء، وبعبارة أخرى، فإنّ ما يصدر عن المبدأ الفاعل هو الوجود نفسه ولیست ماهيته.

2. الوجود العامل لتشخص أي شيء: كلّ الموجودات تمتلك تشخّصاً وشخصية خاصّة بها، وعاملها هو عين الوجود الخاص لذلك الشيء، فمثلاً التفاوت بين إنسانين سببه امتلاك كلّ واحد منهما نوعاً خاصاً من الوجود، وهذا الاختلاف في الوجود يؤدّي إلى الاختلاف في اللوازم والعوارض. وبعبارة ،أخرى، فإنّ الاختلاف في العوارض واللوازم مثل اللون والطول والشخصية سببه الاختلاف في الوجود وليس العكس، لذا فإنّ تغيير العوارض واللوازم لأيّ شخص لا يقضي على أصل وجوده وثبات تشخّصه.

3. قابلية الوجود على الشدّة والضعف للوجود مراتب مختلفة لجهة

ص: 177


1- أحمد الآشتياني، لوامع الحقائق في أصول الدين ص 39/ محمد تقي الآملي، درر الفوائد: ج2، ص 260/ السيد أبو الحسن الرفيعي القزويني، مجموعة الرسائل والمقالات الفلسفية: ص 83 غوص في بحر المعرفة: ص 166/ جعفر السبحاني، المنشور الخالد: ج 9، ص 140 .

الشدّة والضعف والكمال ،والنقص، وهذا يؤدّي إلى الاختلاف أيضاً.

4. الحركة الجوهرية: إضافة إلى امتلاك مراتب مختلفة من ضعف وشدّة، فإنّ للوجود تحوّلاً وحركة نحو الأمام والكمال، أي حركة استكمالية، وفي ظل تلك الحركة تظهر الصور المختلفة للوجود وتتكامل، ويتحوّل جسم الجماد إلى نبات ثمّ حيوان ثمّ إنسان وفى النهاية يتحوّل أضعف جزء من الوجود المادي (القوّة والهيولى) فى الآخرة إلى فعلية محضة (جسم دون هيولي).

5. قوام المركّب بالصورة: إنّ وجود أي مركّب وبقاءه، كالطاولة مثلاً يرتبط بصورته، لذا، إذا تضرّرت الصورة، خدشت حقيقة المركّب.

6. الوجود مقوّم لوحدة الشخصية لكلّ وجود وحدة وهوية خاصّة ،به يعبّر عنها بوحدة الشخصية. يؤمنها ويقومّها أصل وجود الشيء المذكور. فمثلاً مناط وحدة الشخصية في عدد الكثرة الفعلية هو زمان التدرّج والتصرّم. وقد أشرنا سابقاً إلى أنّ الوجود والحركة الجوهرية هما في سير تكاملي، وأنّ هذا السير والحركة لا يتنافيان مع الوحدة، كما أنّ وحدة شخصية الوجود المادي والمجرّد لن يكونا واحداً بسبب اختلافهما الوجودي.

النقطة الأخرى هي أنّ الوجود المادي للشخص كالبدن مثلاً، فإنّه بسبب ضيق وجوده ومحدوديته لا يمكنه أن يكون موضوعاً للصفات والعوارض المختلفة مثل: البياض والسواد الحلاوة ،والملوحة اللذة والألم. لذلك، كان موضع الحواس الخمسة في البدن مختلفاً. أمّا الوجود المجرّد كالنفس، فإنّه يمتلك مراتب وآثاراً مختلفة بسبب وسع وجوده وكماله وللتوضيح فإنّ وحدة شخصية النفس تبقى محفوظة في العوالم الثلاثة (المادة، المثال، المجرّد) بسبب

ص: 178

ثبات أصل وجودها.

7. قوام هوية البدن بالنفس: إنّ هوية البدن وتشخّصه بصورته، أي بالنفس. لذا، فلن تتغيّر هوية الإنسان وتشخّصه مع تبدّل أجزاء البدن أو فسادها وتغيّرها على مرّ الزمان كما هو الحال في المنام حيث تكون صورة الإنسان من دون ،بدنه، ولا يؤدّي ذلك إلى إيجاد خلل في أصل هوية الإنسان.

8. وجود قوّة المخيلة المجرّدة: يمتلك الإنسان قوّة تحتفظ بمعلوماته السابقة وتؤرشفها. هذه القوّة والخزانة هي قوّة المخيلة والحسّ المشترك، وهی وجود مجرّد من السنخ المثالي.

9. الصور الخيالية والإدراكية قائمة بالنفس: إنّ قوّة المخيلة ومعلوماتها وصورها لم تحلّ في أعضاء البدن؛ بل إنّها قائمة بالنفس (من نوع قيام الفعل بفاعله) ومندرجة فيها. وبعبارة أخرى، فإنّ النفس حافظة لجميع

الإدراكات والصور السابقة في الدنيا والآخرة.

10. قدرة النفس على إبداع الصور الخيالية: إنّ خلق الوجود المادي يتم على صورتين مرحلة الخلق الأولية ومن دون مشاركة المادة كخلق أوّل وجود مادي (الأفلاك)، والمرحلة الثانية الخلق بمشاركة المادّة. ويعبّر عن المرحلة الأولى ب- «الإبداع» وعن المرحلة الثانية ب-«التكوينيات والكائنات».

أكثر أنفس الناس قادرة على حفظ الصور الإدراكية فقط بسبب تعلّقها بالجسم وبالحجب الدنيوية، في حين أنّ أنفس بعض الناس الكمّل يمكنها في بعض الأحيان أن توجد صورها الإدراكية في الخارج. وبعد الموت وتحرّر النفس من حجاب المادّة يزداد كمالها وتزداد ،قدرتها، وفي ظل ذلك يستطيع

ص: 179

الإنسان أن يبدع صوره الخيالية في الخارج.

11. للإنسان ثلاثة مراتب وجودية للإنسان ثلاثة أكوان ووجودات في ثلاثة عوالم أي عالم المادّة وعالم المثال وعالم العقل - وهو ما يسمّيه أهل العرفان بالكون الجامع - بمعنى أنّ الإنسان يكون بداية في عالم الطبيعة، ثمّ

ينتقل بعد موته إلى عالم البرزخ، أمّا دخول الإنسان إلى عالم العقل فهو أمر ممكن للخواص فقط دون العوام.

تبیان نظرية صدر المتألهين:

بعد توضيحه للمقدّمات هذه يبدأ الملاصدرا بتبیان نظريته، وخلاصتها هی:

إنّ حقيقة الإنسان متقوّمة بنفسه، ففي الواقع أنّ البدن الدنيوي هو بحكم القابل والمادّة للنفس، والنفس هي صورته أيضاً، فكما ورد في المقدمات فإنّ الصورة أي: النفس هي التي تشكّل وجود الإنسان وحقيقته، وبعبارة أخرى، فإنّ النفس هي عامل وجود الإنسان وتشخّصه وضعفه وكماله ووحدته ويعدّ البدن من لوازم النفس، ووجود البدن وتغييره لا علاقة له في حقيقة الإنسان وتشخّصه ووحدته.

على هذا الأساس، فإنّ النفس عند الموت تترك بدنها الدنيوي (العنصر المادي) وتستمرّ بحياتها وبقائها في قالب البدن المثالي الذي يظلّلها، وتستفيد من قوّة المخيلة. يصرّح صدر المتألهين بأنّ النفس لن تبقى بعد الموت من دون تعلّق، لأنّ متعلّقها الأوّل والذاتي هو البدن المثالي وليس البدن العنصري.

يمتلك الإنسان في الحقيقة ثلاثة أبدان الدنيوي والمثالي والأخروي

ص: 180

وثلاثتها لوجود واحد وتطوّرات وتبعية لنفس واحدة، فهذه الأبدان الثلاثة ليست منفصلة عن الإنسان؛ بل إنّها موجودة في باطنه، وترتبط بالحركة الجوهرية للنفس، وتتكوّن في هذه الدنيا عن طريق الملكات والأخلاق. والاختلاف بينها في الشدّة والضعف والكمال ،والنقص، وبالتناسب مع العالم والوعاء الذي يتحقّق فيه.

بعبارة أخرى، فإنّ عالم الدنيا يقتضي البدن المادي والعنصري، وعالم البرزخ يقتضي البدن المثالي وعالم الآخرة يقتضي البدن الجسماني، لكن من النوع الخاص والمتفاوت مع الدنيوي.

النقطة الدقيقة في معرفة نظرية الحكمة المتعالية هي أنّ وجود البدن الأخروي كما ذكرنا من قبل ليس في الخارج؛ بل هو في باطن الإنسان في دار الدنيا. وبتعبير صريح البدن الأخروي كان مصاحباً للبدن الدنيوي، وفي النهاية تزال الحجب والغفلة يوم القيامة وينكشف كلّ شيء للناس، وتصبح النفس أكثر قوّة في ظل حركتها الجوهرية(1). وهناك ربط وثيق بين قوّة النفس وقوّة البدن الأخروي وشدّته لأنّه من لوازم النفس وتطوّرها :

«إنّ في داخل بدن كلّ إنسان وممكن وفي جوفه حيواناً صورياً بجميع أعضائه وأشكاله وقواه وحواسّه، هو موجود قائم بالفعل لا يموت بموت هذا البدن وهو المحشور يوم القيامة بصورته المناسبة لمعناه، وهو الذي يثاب

ص: 181


1- من ذلك كيفية ووجه ضخامة الجلد والجثة لبعض أعضاء الجهنميين كامتداد لسان أهل الغيبة بمساحة مدينة الكوفة والبصرة، وكذلك قوة بدن أهل الجنة كامتلاكهم قوّة مائة رجل في الأكل.

ويعاقب وليست حياته كحياة هذا البدن المركّب عرضيّة واردة عليه من الخارج؛ وإنّما حياته كحياة النفس ،ذاتية وهو حيوان متوسط بين الحيوان العقلي والحيوان الحسّي يحشر في القيامة على صورة هيئات وملكات كسبتها النفس بيدها العمّالة»(1).

التفاوت بين الجسم والنظام الدنيوي والأخروي:

النقطة المهمة التي يجدر بنا ذكرها هاهنا هي التفاوت بين البدن الأخروي والبدن الدنيوي الناشيء من تفاوت أصل وجود عالم الآخرة عن الدنيا . أى إنّ الوجود الأخروي وبتبعه البدن الأخروي هو جسم من دون قوّة ،وهيولى، وهو شكل من أشكال وجود النفس بحيث تقوم النفس من خلال بقاء صورها الخيالية والإدراكية من عالم الدنيا من عذاب ولذّة بابداع تلك الصور في الخارج:

«الأبدان الأخروية ليس وجودها وجوداً استعدادياً، ولا تكوّنها بسبب استعدادات المواد وحركاتها وتهيؤاتها واستكمالاتها المتدرجة الحاصلة لها عن أسباب غريبة ولواحق مفارقة»(2).

وبعبارة أخرى، فإنّ التغيّرات والتحوّلات العارضة على وجودها في الدنيا من ناحية الطريق الهيولى وامتلاك القابلية الذاتية، ومن ناحية أخرى عن طريق حصول تدخّل العوامل الخارجية وتأثيرها في الهيولي والصورة، بحيث

ص: 182


1- صدر المتألهين الأسفار : ج 9، ص227-228
2- صدر المتألهين الأسفار : ج 9، صص31، 33، 267، 296، 320/ صدر المتألهين، المبدأ والمعاد: ص 337.

عندما يفقد صورة وفعلية تحتاج استعادتها إلى توفير أسباب خارجية، في حين أنّ نظام الآخرة ليس كذلك، فلا يحتاج الهيولي بمعنى تبعيته الفعلية إلى الاستعداد والحركة والزمان والأسباب الخارجية؛ بل تقوم النفس بإبداع أي صورة شاءت وخلقها حسب ذاتها وملكاتها.

والنتيجة هى أنّ الأفعال الأخروية أنّ الأفعال الأخروية تتم في صقع النفس عبر إفاضة مبدأ فياضها لجهة مقوّمات النفس وأسبابها الداخلية. ويفرق (الملا صدرا) بين الهيولي الدنيوي والأخروي في تبيان كيفية القيام بالفعل في الآخرة، فهو يقول:

«واعلم أنّ الفرق بين هيولى الصور الدنيوية وهيولى الآخرة... منها أن يحل هذه الهيولي لا يحلّها إلاّ بعد حركة استعدادية وزمان سابق وجهات قابلية وأسباب خارجية بخلاف المادة الأخروية، فإنّ الصور الفائضة عليها إنّما تفيض عليها من المبدأ الفياض من جهة المقومات والأسباب الداخلية وجهاتها الفاعلية على وجه اللزوم عند تأكّدها... منها أنّ المادّة الدنيوية إذا أزيلت صورتها عنها فتحتاج في استرجاعها إلى استئناف تأثير من سبب خارجي مصوّر للمادة بها تارة أخرى، كصورة البياض والحلاوة وغيرهما إذا حصلت في مادّة ثمّ زالت عنها، فلا يكتفي ذات القابل بذاته في استرجاع تلك الصورة، بخلاف القوّة النفسانية إذا غابت عنها الصورة الحاصلة فيها، فلا يحتاج في الاستحضار والاسترجاع إلى كسب جديد وتحصيل مستأنف؛ بل يكتفى بذاتها ومقوّماتها في ذلك الاستحضار، لا إلى سبب منفصل. وإليه أشير بقوله تعالى: «لكلّ امرىءٍ منهم يومئذٍ شأنٌ يغنيه» إشارة إلى أنّ الأسباب الاتفاقية غير حاصلة في ذلك العالم، وسلسلة الإيجاد منحصرة في الأمور الداخلة الناشئة من المبدأ الأوّل دون العرضيات والمعدّات الخارجية الواقعة في عالم الاتفاقات

ص: 183

والحركات المحصّلة للاستعدادات كما قال تعالى: ﴿الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ اللَّه وقال: (فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ)(1).

إذاً، فتحقّق البدن الأخروى فى الآخرة لا يعتمد على وجود المادّة واستعداد الصورة. لذلك يمكن الإدّعاء أنّ عالم الآخرة ومن جملته البدن الأخروي هو تطوّر وخلق جديد لكن بما أنّ حقيقة الإنسان وتشخّصه ووحدته بنفسه، فلن تؤثّر هذه التطوّرات وتغيير القوالب على عينية الإنسان الأخروي والدنيوي.

وفي موضع آخر يستعرض (الملاصدرا) الآراء حول المعاد ويعتبر أنّ موقف كثير من الحكماء والعرفاء والمتكلمين هو أنّ المعاد يكون بالبدن والنفس معاً، ثمّ يتساءل: هل المقصود من البدن هو عين البدن الدنيوي أم مثله؟ ويجيب بقوله:

«بل كثير من الإسلاميين مال كلامهم إلى أنّ البدن المعاد غير البدن الأوّل بحسب الخلقة والشكل، وربّما يستدلّ عليه ببعض الأخبار المذكورة»(2).

ويؤكد (الملاصدرا) أنّ البدن الأخروى ليس معلولاً للنفس حتّى يتأخّر عنها؛ بل إنّه لازم لها وتابع كالظل ويجري إنشاؤه وإبداعه من الملكات والأخلاق والهيئات النفسانية :

«لأنّا نقول: الأبدان الأخروية ليس وجودها وجوداً استعدادياً، ولا تكوّنها بسبب استعدادات المواد وحركاتها وتهيؤاتها واستكمالاتها المتدرجة

ص: 184


1- صدر المتألهين الأسفار : ج 9، صص 176 و 223-224.
2- صدر المتألهين الأسفار : ج 9، ص 165-166.

الحاصلة لها عن أسباب غريبة ولواحق مفارقة؛ بل تلك الأبدان لوازم تلك النفوس كلزوم الظل لذي الظل، إذ إنّها فائضة بمجرد إبداع الحق الأوّل لها بحسب الجهات الفاعلية من غير مشاركة القوابل وجهاتها الاستعدادية.

فكلّ جوهر نفساني مفارق يلزم شبحاً مثالياً ينشأ منه بحسب ملكاته وأخلاقه وهيئاته النفسانية بلا مدخلية الاستعدادات وحركات المواد كما في هذا العالم شيئاً فشيئاً.

وليس وجود البدن الأخروي مقدّماً على وجود نفسه؛ بل هما معاً في الوجود من غير تخلّل الجعل بينهما كمعية اللازم والملزوم والظل والشخص. فكما أنّ الشخص وظلّه لا يتقدّم أحدهما على الآخر، ولم يحصل لأحدهما استعداد من الآخر لوجوده؛ بل على سبيل التبعية واللزوم، فهكذا قياس الأبدان الأخروية مع نفوسها المتصلة بها»(1).

رد صدر المتألهين على شبهة عدم مطابقة نظريته مع القرآن:

في معرض ردّه على شبهة أنّ مثل هذا المعاد لا يتطابق

مع المعاد القرآني الدالّ على عينية تمام البدن الدنيوي والأخروي، أجاب:

«فإن قلت: النصوص القرآنية دالّة على أنّ البدن الأخروي لكلّ إنسان هو بعينه هذا البدن الدنيوي له قلنا نعم، ولكن من حيث الصورة لا من حيث المادة، وتمام كلّ شيء بصورته لا بمادّته، ألا ترى أنّ البدن الشخصي للإنسان

ص: 185


1- صدر المتألهين الأسفار ج 9، صص 31 و 33 صدر المتألهين، المبدأ والمعاد: ص 337.

في هذا العالم باق من أوّل عمره إلى آخره بشخصه، لكن لا من حيث مادّته، لأنّها أبداً فى التحوّل والانتقال والتبدّل والزوال؛ بل من حيث صورته النفسانية التي بها تحفظ هويته ووجوده وتشخّصه وكذا الكلام في كلّ عضو من أعضائه مع تبدّل المقادير والأشكال والهيئات العارضة والكيفيات اللاحقة. فالعبرة في حشر بدن الإنسان بقاؤه بعينه من حيث صورته وذاته مع مادّة مبهمة، لا من حيث مادّته المعيّنة لتبدّلها في كلّ حين... جهة الوحدة في البدن الدنيوي والأخروي هى النفس وضرب من المادة المبهمة»(1).

ويتمسك (صدر المتألهين) بالنصوص القرآنية والروائية المختلفة ليثبت ويؤكد رؤيته القائمة على أساس التفاوت بين العالمين، وبتبع ذلك التفاوت بين البدن الدنيوي والأخروي من حيث المادّة(2). فيشير بداية إلى بعض الآيات والروايات، ثمّ يقرّر نظرة بعض المعاصرين.

الآيات:

الآيات الآتية تتحدّث عن تفاوت الخلقة في العالمين، وعن الخلق الجديد في القيامة:

«نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ المَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِتَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ» [الواقعة 60-61].

«وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدِ» [سبأ ].

ص: 186


1- نفس المصدر : ص 32
2- نفس المصدر : ص 166.

«وَقالُوا أَ إِذا ضَلَلْنا فِي الأَرْضِ أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدِ» [السجدة 10].

«أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالأَرْضَ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ» [الإسراء 99].

«أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الخَلاقُ الْعَلِيمُ» [يس 81].

سيأتي في الصفحات القادمة توضيح أكثر لكيفية دلالة آيات «خلقة المثل والجديد» على هذا المدّعى من عبارات العلاّمة الطباطبائي في تفسير الميزان القيّم.

الروايات:

الروايات الواردة في بيان وصف العذاب وأهله، والجنة وأهلها تشير إلى تفاوت العالمين ونشير إلى بعضها:

ذكرنا فيما مضى أنّ النواقص الظاهرية والبدنية للإنسان من قبيل: نقصان الأعضاء أو زيادتها والشيخوخة، كلّها ترتفع في الحشر وترمّم بصورة كمال. علاوة على ذلك، هناك روايات مختلفة تشير إلى حشر الناس المذنبين

على صور حيوانات مختلفة مثل: القرد الخنزير الحمار النمل. يمكن الادعاء أنّها تبيّن وتفسّر كيفية المعاد وعينية البدن الأخروي والدنيوي:

«إنّهم يدخلون الجنة شباباً منورين» و «إنّ أهل الجنة جُرد مُرد»(1).

وفي أجر المحافظة على صلاة الجماعة :«ومن حافظ على الجماعة أين

ص: 187


1- محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار: ج 7، ص 49 ، وج 16، ص 294/ الاختصاص: ص 358 .

كان وحيث ما كان مرّ على الصراط كالبرق الخاطف اللامع في أوّل زمرة مع السابقين، ووجهه أضواً من القمر ليلة «البدر».

ولا يختص تغيير الشكل والوجه بأهل الجنة خاصّة؛ بل يشمل حال الجهنميين أيضاً:

«يحشرُ المتكبرون كأمثال الذرّ، وإنّ ضرس الكافر مثل أُحُد »(1).

«إنّ غلظ جلد الكافر إثنان وأربعين ذراعاً، وإنّ ضرسه مثل أحد، وإنّ مجلسه من جهنم ما بين مكّة والمدينة»(2).

«وإنّ الكافر يسحبُ لسانه الفرسخ والفرسخين يتوطؤه الناس»(3).

«فخذه مثل البيضاء... مقعده من النار مسيرة ثلاث مثل الربذة»(4).

وحول كيفية تفاوت العالمين سنتناول ذلك فى الصفحات القادمة.

العلاّمة الطباطبائي(5):

خلال تفسيره للخلق الجديد «أنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ» قيّد خلقة المثل والجديد بالبدن وليس بالنفس، ويضيف ذلك لأنّ ملاك الإنسانية هي الروح

ص: 188


1- محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار: ج 7، ص 49
2- سنن الترمذي: ج 4 ، ص 105 كنز العمال: ج 14 ، ص 529 ، ح 39519.
3- كنز العمال: ج 14، ص 528 ، ح 39514
4- كنز العمال: ج 14 ، ص 530 ، ح 39521 سنن الترمذي: ج 4، ص 104 ، ح 2703
5- الجدير بالذكر أنّ السيد محمد رضا الحكيمي سعى في كتابه المعاد الجسماني في الحكمة / المتعالية ص 223 - 230 باختياره لعبارات واجتزاء عبارات من كلام علماء مأثرين معاصرين كالعلامة الطباطبائي والإمام الخميني والأستاذ المطهري أن يبين انهم يخالفون نظرية الملاصدرا، وهو ما يتعارض مع صريح عباراتهم المتعدّدة، لذلك قمنا بإدراج آراء هؤلاء العلماء لدحض مدعاه، ولتبيان نظرية الملاصدرا أكثر

الإنسانية. لذلك يمكن الحديث في القيامة عن «عينية» الإنسان الأخروي والدنيوي لكن بلحاظ ،البدن، فإن البدنين الدنيوي والأخروي مثل بعضهما:

«إنّ الإنسان مركّب من نفس ،وبدن والبدن في هذه النشأة في معرض التحلّل والتبدّل دائماً، فهو لا يزال يتغيّر أجزاؤه، والمركّب ينتفي بانتفاء أحد أجزائه، فهو في كلّ آن غيره في الآن السابق بشخصه، وشخصية الإنسان محفوظة بنفسه - روحه - المجرّدة المنزهة عن المادّة والتغيرات الطارئة من قبلها المأمونة من الموت والفساد».

«و المتحصّل من كلامه تعالى أنّ النفس لا تموت بموت البدن، وأنّها محفوظة حتّى ترجع إلى اللّه تعالى كما تقدّم استفادته من قوله تعالى: «وَقالُوا أَ إذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدِ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ * قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ» [السجدة 11-10] فالبدن اللاحق من الإنسان إذا اعتبر بالقياس إلى البدن السابق كان مثله لا عينه، لكن الإنسان ذا البدن اللاحق إذا قيس إلى الإنسان ذي البدن السابق كان عينه لا مثله، لأنّ الشخصية بالنفس وهي واحدة بعينها. ولما كان استبعاد المشركين في قولهم: «مَنْ يُحْيِي الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ» راجعاً إلى خلق البدن الجديد من دون النفس أجاب سبحانه بإثبات إمكان خلق مثلهم. وأمّا عودهم بأعيانهم فهو إنّما يتمّ بتعلّق النفوس والأرواح المحفوظة عند اللّه بالأبدان المخلوقة جديداً، فيكون الأشخاص الموجودين في الدنيا من الناس بأعيانهم كما قال تعالى: «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِي الموتى» [الأحقاف 33] فعلّق الإحياء على الموتى بأعيانهم ، فقال : على أن يحيي الموتى. ولم يقل: على أن يحيي أمثال

ص: 189

الموتى(1).

ويؤكد العلاّمة الطباطبائي في تفسيره خلقة النفس كالملاصدرا على الحركة التكاملية للبدن وتحوّلها إلى نفس مجرّدةٍ، ويضيف أنّ البدن الأخروي نسبة إلى النفس كنسبة الفاكهة إلى الشجرة وكنور المصباح إلى الزيت، بحيث تبدعه النفس في الآخرة:

«فالنفس بالنسبة إلى الجسم الذي ينتهي أمره إلى إنشائها. وهو البدن الذي تنشأ منه النفس بمنزلة الثمرة من الشجرة والضوء من الدهن بوجه بعيد. وبهذا يتّضح كيفية تعلّقها بالبدن ،ابتداعاً ثمّ بالموت تنقطع العلقة وتبطل المسكة، فهي في أوّل وجودها عين ،البدن ثمّ تمتاز بالإنشاء منه، ثمّ تستقلّ عنه بالكليّة»(2).

وفي مكان آخر من تفسيره يصف نسبة البدن والنفس كنسبة الظل إلى شاخص صاحب الظل في تبعية أصل الوجود(3). ستأتى عبارته لاحقاً. ويؤكد على اختلاف وجود الآخرة ونظامها مع النظام الدنيوي، ومن هذا الطريق يقوم بتحليل بعض الشبهات ونقدها مثل: مكان الجنة والآخرة(4).

وينقل كلّ من الاستاذ الجوادي الآملي(5) والسيد هادي

ص: 190


1- السيد محمد حسين الطباطبائي، تفسير الميزان ج 17، ص 114.
2- نفس المصدر : ج 1 ، ص 352.
3- نفس المصدر : ج 2، ص 376.
4- نفس المصدر : ج 4 ، ص 23.
5- عبدالله جوادي الآملي، التفسير الموضوعي للقرآن: ج 5 ، ص 247.

الخسروشاهي(1) عنه أنّ العلاّمة يعتبر أنّ مسائل المعاد مثل الجسم الأخروي هي من المسائل التي لم يأتِ الزمان الذي يفهمها المجتمع البشري لتدرّس رسمياً.

الإمام الخميني:

خلال تدريسه الأسفار يبيّن الإمام الخميني المعاد الجسماني للملاصدرا، ويوضّح تفاوت عالم الدنيا والآخرة بوجود القوّة والهيولي في الدنيا

ص: 191


1- عندما أوقف العلامة الطباطبائى درس المعاد سئل وهل يبقى بحث المعاد غير مكتمل ؟ فأجاب بشكل خاص كلا العكس صحيح لكن القابليات غير كافية. ((مقالة المدرسة التجزيئية تبحث عن تجزييء آخر، فصلية كتاب نقد،ربیع ،2003 العدد 26 و 27 : ص (203). من هنا تتضح فلسفة عدم تدريس موضوع المعاد في الكتب الفلسفية كالأسفار خلافاً لما يقوله بعضهم أنّ عدم تدريسه ناشيء من عدم القبول بنظرة الملاصدرا للمعاد (محمد رضا الحكيمي، المعاد الجسماني في الحكمة المتعالية: ص 224) علماً بأنّ آية الله جعفر السبحاني تحدث عن المقام العلمي للعلامة الطباطبائي في شهرية كيهان الثقافية، العام السادس تشرين الثاني 1989 م ، العدد 68 وقال: «كان لا يدرّس المعاد أبداً... ولم يبيّن السبب مطلقاً. كل ما استطعنا كشفه هو أن المرحوم الطباطبائي كان لا يأخذ بمفهوم صدر المتألهين للمعاد». الجدير بالذكر أني سألت الشيخ السبحاني عن سبب عدم تدريس العلامة الطباطبائي المعاد من الأسفار وأنّه لعدم أخذه برأي الملاصدرا، وعن ما نسب إليه آنفاً، فكذب ذلك بشكل قطعي. وذلك قبل ساعة من كتابة هذه السطور، بعد صلاة العشاء جماعة بتاريخ 2009/12/9.كما إنّ السيد سيدان أحد مروّجي المذهب الإخباري وزميل الحكيمي في مسلكه نقل في كتابه الصراط المستقيم» ص 174 يتحدّث عن تدريس العلامة الطباطبائي للمعاد في الأسفار بشكل خاص نقلاً عن كتاب عطف الأستاذ: ص119/ وشعاع وز مهر افروخته صص 53 و 86».

وعدم وجودهما في الآخرة:

«لا ضير من بقاء الصورة الجسمية دون الهيولي، وبذهاب الهيولي ومفارقة الصورة الجسمية للهيولي وبقاء الصورة الجسمية على حالها التي كانت عليها مع الهيولي، لأنّه لم يكن للهيولي دخل في الصورة الجسمية... ففي تلك المرتبة الأخيرة يتخلّى عن الهيولي بالكامل وعن آثاره ويضحي جسماً قوياً وشديداً، ويكون في حقيقة جسمية قد دفع عنه الغريب وبقي لوحده»(1).

وفي توضيحه للأبدان الثلاثة للإنسان (الدنيوي والمثالي والأخروي) يقول:

«هذا الجسم يتبدّل من دون المساس بشخصيته. وليس الأمر كما يظنّ بعضهم أنّه بعد الموت تخرج الروح من الجسم والبدن الدنيوي، وتدخّل في جسم وقالب مماثل آخر موجود هناك. كلا في الواقع هناك جسم واحد وحقيقة واحدة وشخصية واحدة في العوالم كلّها كلّ ما في الأمر أنّه عندما ينتهي سير الكمال الطبيعي عنده وعندما تتبدّل كلّ قواه الطبيعية بالكامل إلى قوى برزخية، يصبح مستقلاً، كانّه ينزع جلده ويخرج من غلافه السابق»(2).

وضمن تبيينه لكيفية المعاد والبدن الجسماني يشير الإمام الخميني إلى

ص: 192


1- تقريرات الفلسفة : ج 3، صص 208 و 211 المعاد: صص 294 و 296. يذكر أنّ علّة قوة الجسم والبدن الأخروي وشدته، وبتبع ذلك قدرته على تحمّل العذاب الأخروي الخاص هو تجرّده من الهيولي وتوصيف البدن بظهور النفس وبروزها: «يقوم الجسم هناك بتمام ظهور النفس، وتحيط النفس بجميع العوالم ...» (نفس المصدر : ج 3، ص 214).
2- المعاد في نظر الإمام الخميني : ص 293/ صدر المتألهين، الأسفار : ج 3، ص 207.

القول بإنشاء النفس فيلفت النظر إلى أنّ المقصود من ذلك هو ظهور البدن من النفس، وليس البدن معلول النفس، ذلك لأنّه لو كان معلولاً للزم تغايرهما:

«إنّ معنى فعالية النفس وإنشاء البدن المناسب من قبل النفس هو ظهورها بما يناسب ،باطنها، وظهور الشيء نفسه لا أن تكون هناك هوية أخرى، لأنّه لو كانت هناك هويتان لكانت اللذة لإحداهما والألم للأخرى، ولم تعد اللذة والألم واحد كما إنّ ألمنا ولذتنا ليسا ألم العقل الفعّال ولذاته(1).

وفي معرض رفد النظرية المختارة قرآنياً وروائياً، اتباعاً للأسفار ينقل عدة آيات وروايات ذكرناها سابقاً(2).

الأستاذ المطهري:

يشير الشيخ المطهري إلى تبرير المحدّثين وتفاوت العالمين استناداً إلى مشيئة اللّه، وينقدهم ويقول في تبيانه للمسألة:

«إذا كانت الشيخوخة والاستهلاك والقدم هنا وليست موجودة هناك، ذلك لأنّ النظام هو نظامين، والسنخ سنخين، والنشأة نشأتين، وليس جزافاً ما قيل إنّ الوضع هنا كذا، وهناك كذا فسنخ وجود هذا العالم نوع من سنخ الوجود، وسنخ وجود ذلك العالم هو سنخ آخر من الوجود»(3).

ويستند الأستاذ المطهري إلى الآية الشريفة: «وَما هَذِهِ الحَياةُ الدُّنْيا إلا هُوَ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ هِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ» [العنكبوت 64]

ص: 193


1- السيد روح الله الموسوي الخميني، تقريرات الفلسفة : ج 3، ص 606.
2- نفس المصدر: ج 3، ص 216- 215.
3- مرتضى المطهري، مجموعة المؤلفات : ج 4 ، ص 789.

ليؤكد أنّ حياة كلّ الوجودات في الآخرة ليست كالحياة في الدنيا:

«واستناداً إلى نص القرآن أيضاً فإنّه ليس في ذلك العالم من تغيير، لا شيخوخة ولا إستهلاك ولا غيبوبة، وحتّى الحالة التي نسمّيها بحالة الجماد وانعدام الحياة فهي غير موجوة هناك، لأنّنا نستنبط من القرآن أنّ كلّ شيء في هو حي وناطق ومعبّر :«وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ هِيَ الْحَيَوَانُ» فحتَّى الحجر هناك حي وذي روح، والماء هناك حي، والبدن هناك أيضاً»(1).

وضمن تعليله للتفاوت الذاتي بين العالمين يقول:

«إذاً، فمسألة القيامة والدنيا ليست تكراراً لهذا النظام، لو كان هذا النظام مكرراً لاستحال فقدانه لخصائصه. ولو كان ذلك النظام عين هذا النظام لكان فيه الشيخوخة والموت والتكليف والجمادات والموت وكلّ ذلك»(2).

ويذكر آيتين دليلاً على مدعاه:

«يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ» [إبراهيم 48].

«وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها» [الزمر 69].

الدنيا وحاكمية الأسباب والآخرة وحاكمية الإرادة (الإبداع):

إنّ من أوجه التفاوت بين الدنيا والآخرة حكومة أصل العلّية ونظام السببية في الدنيا، حيث أنّ حصول أي ظاهرة يكون مستنداً إلى علّة خاصّة، فمثلاً إذا أراد الإنسان في الدنيا أن يحصل على شيء يريده كقطف فاكهة ما، عليه أن يسير في طريق الأسباب. أمّا في الآخرة فإنّ الأمور تتمّ عبر النفس

ص: 194


1- نفس المصدر : ص789
2- نفس المصدر : ص 790.

والإرادة. ففي الجنة من خلال تمنّي المؤمن وإرادته تأتيه تلك الفاكهة التي أرادها»(1).

«وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ» [الزخرف 71].

التفاوت بين الجسم والمادّة:

يشير الأستاذ المطهري إلى التفاوت المهمّ بين الحياة الدنيوية والأخروية من ناحية وتعريف القدماء للجسم وتقسيمه إلى «وجود ذي ثلاثة أبعاد وقابل للتجزئة» وإلى مادة «الاستعداد وقابلية التغيير والحركة» من ناحية أخرى. ويستنتج أنّ ما يحصل في الآخرة ليس من سنخ المادّة؛ بل هو من سنخ الجسمانيات:

«تلك الدنيا هي دنياً جسمانية لكنّها غير ماديّة. ودنيا جسمانية أي: إنّ لنا فيها أبعاداً جسمانية كما لدينا هنا أبعاد جسمانية، لكنّها ليست ماديّة، أي: قد سلب منها الاستعداد والقوّة على الحركة والتغيير، والاستعداد ليكون شيئاً آخر، ليكون شيئاً ويصبح شيئاً آخر.

القدر المسلّم به هو وجود حياة جسمانية في تلك الدنيا، أمّا المادّة بهذا المعنى أم لا؟ فهذا محل اختلاف. وعلينا أن نقول كلا، لأنّه لو كانت المادّة بهذا المعنى لكانت الآخرة دار،عمل، لذا يعلم بأنّه ،جسم، لكنّه لا يمكنه هناك أن يغيّر نفسه أو يغيّر وضعه»(2).

ص: 195


1- مرتضى المطهري، مجموعة المؤلفات.
2- نفس المصدر : ص 808

وخلال تبيانه وشرحه لكيفية تأدية الأمور في الآخرة، يشير إلى حاكمية النفس والإرادة، ويصف أفعال الآخرة بأنّها نوع من الإبداع (الفعل والخلق الدفعي مقابل التدريجى والحركة): «لا إمكانية هناك لتغيير نفسه أو تغيير وضعه، كلّ ما يوجد هناك هو الإبداع، أي: إنّ أي موجود في أي مرتبة من الوجود كان يستطيع أن يبدع الأشياء ويوجدها حسب مرتبة وجوده، لكنّه لا يستطيع أن يغيّر حاله من حال إلى آخر»(1).

تحليل وتقييم نظرية الحكمة المتعالية:

تقدّم هذه النظرية طرحاً جميلاً لوقائع الآخرة، لكنّها تحتوي على نقاط مبهمة هي:

أ) كيفية وجود الجسم دون المادّة:

أوّل نقطة جديرة بالتأمّل في نظرية صدر المتألهين هي كيفية وجود الجسم بدون المادّة، فهل سيكون وجود الجسم مفتقراً إلى المادّة والحركة في الخارج أمر قابل للتحقّق؟(2). وبعبارة أخرى، كيف سنفصل الجسم الأخروي

ص: 196


1- نفس المصدر : ص 809-808
2- يعلم القارىء الفاضل أنّ الشبهة المذكورة طرحت على أساس مبنى المشائين والحكمة المتعالية في قبول المادة والهيولي للجسم، إذ إنّهم يفرقون في الهيولي بين الجسم الدنيوي والأخروي، لكن حسب مسلك الإشراقيين الذين ينكرون تركيب الجسم من جزئين مادة وصورة، ينبغي القول إنّهم بدورهم أخذوا بأصل الإمكان والاستعداد والحركة وتغيير الجسم، لكنّهم لم يعتبروه جزءاً مستقلاً، بل اعتبروه صورة جسمية. وعلى هذا الفرض يُطرح سؤال ثانٍ: كيف تنفصل العوارض واللوازم المذكورة عن الجسم مع فرضية الجسمية في القيامة؟

عن الحركة خاصّة عن الحركة الجوهرية وهي ذاتية المادّة والجسم؟

وبتعبير فلسفي، فإنّ القائلين بضرورة المادة للجسم يستدلون أنّ الجسم من العوارض وهو غير منفكِ عن لوازم مثل: الكم الكيف، المكان الوضع وإلحاق الصور النوعية(1).

هذا الاستدلال يسري على الجسم في القيامة أيضاً، ذلك لأنّ أكثر تلك اللوازم من المكان والوضع والشدّة والضعف والانفعال موجودة عند البدن الأخروي في النار أو للتنعّم بلذائذ الجنة، ووجودها يحتاج إلى المادّة لأنّها تحمل القوّة والاستعداد.

علماً بأنّ صدر المتألهين يقول بوجود الهيولي في الآخرة للنفس، لكنّه يعتبره مختلفاً عن الهيولي الدنيوي، ويصفه بأنّه مفتقر إلى الاستعداد والحركة والتأثّر بالعوامل الخارجية، وقد ذكرنا عبارته سابقا(2). وفي هذه الحالة تطرح الإبهامات السابقة ثانية وبشدّة أكثر، فكيف يمتلك الجسم هيولي ويكون فاقداً للاستعداد والحركة والانفعال من الخارج؟(3).

إذا تأكد أنّ حقيقة الوجود هي صورة الجسم وليست مادّته أو القوّة والهيولي، فعندها أيضاً يصعب تصوّر مثل الوجود المادّي والجسمي ويبدو أنّ

ص: 197


1- نهاية الحكمة الفصل ،6 ، المرحلة 6 ص 104
2- صدر المتألهين، الأسفار : ج 9، ص 223-224
3- كان الملاصدرا متفطناً لسؤال (وجود) الصور الأخروية دون المادة وأراد من ذكر هذه النقطة : أنّ المادة بمعنى الفاعل وليس الاستعداد تكون بإفاضة من النفس، ليردّ بذلك على الإشكال، وتحليل ذلك يتطلب مجالاً أوسع. (صدر المتألهين، المبدأ والمعاد: ص 438 / صدر المتألهين الشواهد الربوبية: ص 327)

هكذا وجود هو أشبه بالوجود المثالي من الوجود الجسماني(1).

وحسب تقرير بعضهم- حسبما جاء في تعريف الجسم أنّ المادة والصورة جزءان للجسم (2)- فإنّ الجسم مركّب من جزئين، وينتفى المركّب بانتفاء أحد أجزائه ،لذا بانتفاء المادّة من الجسم الأخروي ينتفي أصل الجسمانية أيضاً(3).

ب) حصر الوجود بالمادي والمثالي والمجرّد:

في فلسفة المشائين ينحصر الوجود بقسمين: مادّي ومجرّد. أمّا في فلسفة الإشراق والحكمة المتعالية فأضيف قسم آخر اسمه «الوجود المثالي». ويطرح هنا سؤال مفاده: من أى الأقسام المذكورة «الجسم الفاقد للهيولى»؟ فإن كان ماديّاً وجب أن تكون له آثار ماديّة، وإن كان مثالياً وجب أن تكون له آثار مثالية. إلاّ إذا ادّعي وجود قسم رابع من الوجودات أيضاً، عندئذٍ ينبغي أن تقرّر أدلته المثبتة لتخضع للتحليل.

ج) كيفية وجود البدن الجسماني في صقع النفس:

خلال تبيان وجود البدن الجسماني وتصوّره في صقع النفس، يجدر التأمّل في الإبهامات الآتية:

ص: 198


1- بعض شارحي الحكمة المتعالية صرّحوا بعودة البدن الجسماني الأخروي للملاصدرا إلى البدن المثالي. الميرزا مهدي الأشتياني، تعليقة على شرح منظومة السبزواري، قسم الحكمة ص 741).
2- تلخيص المحصل ص 388 نهاية الحكمة : الفصول 5 و 6 ، المرحلة 6. الجدير بالذكر أنّ تركيب الجسم من الجزئين المذكورين ليس في الماهية؛ بل في مقام الوجود والتحقق.
3- محمد رضا الحكيمي المعاد الجسماني في الحكمة المتعالية : ص 225-226.

النقطة الأولى المبهمة هي كيفية وجود البدن الجسماني في باطن النفس وفي الدنيا؟

يبدو أنّ الدليل التجريبي والشهودي مطلوب لهذا الإدعاء، لذا لا يمكنك إثباته بالأدلة. ومن ناحية أخرى، فإنّ الإنسان بدوره لا علم له بوجود مثل هذا البدن، لكن النصوص الدينية تؤكد بدورها في النهاية على وجود عالم مثال وبدن مثالي مع البدن الدنيوي.

د) لزوم حركة القهقرى والتنزل:

يؤكد شارحو هكذا معاد أنّ البدن الجسماني في القيامة ليس عين البدن العنصري الدنيوي، وليس محلول النفس فى الآخرة ولا منشئها - ذكرنا عبارة الإمام الخميني في الصفحات السابقة - بل إنّه ظهور وتطوّر للنفس. ويُطرح هنا سؤال : النفس التي هي في مقام الذات مجرّدة فكيف تظهر وتتجلّى في وجود جسماني - مهما كان فاقداً للهيولى والمادّة حسب تعريف الحكمة المتعالية ؟

وفي الإجابة على ذلك هناك ثلاث فرضيات:

الفرض الأوّل - أن يقال إنّ ظهور النفس فى البدن الجسماني مثل تجسّم المجرّدات الأخرى، كتجسّم الملائكة للأنبياء.

في تحليل ذلك ينبغي القول: أوّلاً إنّ ذلك تمتّل وليس تجسّماً. ثانياً يلزم حركة القهقرى أي العودة والتنزّل من الوجود الأكمل (المجرّد) إلى الوجود الناقص (الجسم) في حين أنّ الحكمة المتعالية سعت لإثبات عكس ذلك، أي: إنّ هذا الجسم يتحوّل بحركته الجوهرية إلى وجودِ مجرّدٍ (نفس).

الفرض الثاني - أن يقال إنّ ظهور النفس في قالب البدن هو من نوع

ص: 199

التمثّل.

في تحليل ذلك ينبغي القول: إنّ ذلك يعود إلى المعاد المثالي، في حين أنّ المدعى كان المعاد الجسماني.

الفرض الثالث - أنّ البدن المُعاد ليس ظهوراً للنفس؛ بل هو إنشاء وفعل للنفس، بحيث تقوم النفس بإنشاء البدن الجسماني حسب خُلقياتها وملكاتها(1). وهذا ما اخترته وسنتحدّث حوله فيما بعد.

أمّا بالنسبة لإشكال الإمام الخميني على وجود هويتين مختلفتين، وتوجّه العذاب إلى البدن وتوجّه اللذة إلى النفس فينبغي القول: إنّ التبرير والتبيين المقدّم عن اللذّة والألم في الدنيا يسري نفسه في الآخرة بحيث يتعلّق أصل العذاب أو اللذّة بالنفس، فمثلاً رؤية المناظر السارّة أو المهولة تؤدّي إلى تحريك النفس ونيل اللذّة أو الألم.

ص: 200


1- إن عبارات الملاصدرا حول البدن الأخروي تبدو مختلفة بل ومضطربة. ففي بعض العبارات يعتبر أنّ البدن الأخروي ظهور للنفس وتطوّر لها، وكان مع البدن المادي الدنيوي كما مرّ. لكن في عبارات أخرى يعتبر أنّ البدن الأخروي هو من إنشاء النفس في الآخرة، ويلزم ذلك فقدانه في الدنيا وعدم وجوده مع البدن الدنيوي، حيث يقول: وإنّ البدن الأخروي ينشأ من النفس بحسب صفاتها، لا أنّ النفس تحدث من المادة بحسب هيئاتها واستعداداتها كما في الدنيا» (صدر المتألهين، الأسفار : ج 9، ص 200). وفي مكان آخر يكتب في تبيان الفرق بين البدن الدنيوي والأخروي: «إنّ أجساد هذا العالم قابلة لنفوسها على سبيل الاستعداد، ونفوس الآخرة فاعلة لأجسادها على سبيل الاستيجاب والاستلزام، فها هنا ترتقي الأبدان بحسب تزايد استعداداتها إلى حدود النفس، وفي الآخرة يتنزّل الأمر إلى النفوس فينسج منها الأبدان» (صدر المتألهين، الشواهد الربوبية : ص 268 صدر المتألهين مفاتيح الغيب: ص 600/ محسن فيض الكاشاني، أصول المعارف ص197.

بسبب وجود هذه الإبهامات في رؤية الحكمة المتعالية قام بعض العلماء بإنكارها وفسّروا حقيقتها بالمعاد الروحانى من السنخ المثالي، أوردنا ذلك في هوامش أوّل بحث الحكمة المتعالية.

د)عدم التطابق مع النصوص الدينية:

الإشكال الآخر في هذه النظرية هو عدم تطابقها مع ظواهر النصوص الدينية الدالة على إحياء الأبدان الدنيوية وتجديدها في الآخرة، والتي تدل ظواهرها على تحقّق البدن الجديد في ساحة القيامة، أمّا في نظرية صدر المتألهين فإنّ البدن المحشور في القيامة كان منذ البداية مع البدن الدنيوي.

ه-) عدم دلالة الأدلة النقلية على المدّعى:

أمّا بالنسبة إلى الجزئيات المطروحة في الآيات والروايات فينبغي القول: إنّها تدل بصورة كليّة على تفاوت وجودي بين عالم الآخرة والدنيا، لكن علاوة على ذلك فإنّ رؤية صدر المتألهين تبنّت أيضاً (وجود بدن أخروي من نوع جسماني فاقد للمادة كان مع البدن الدنيوي في الدنيا) لكن دلالة ذلك محط بحث وتشكيك.

ورغم ذلك يبدو أنّ إبهامات نظرية الحكمة المتعالية وإشكالاتها أقل من غيرها، ذلك لأنّ مشكلة نظرية المعاد الروحاني هي في مخالفتها لظواهر النصوص الدينية، وانحصار المعاد بالإنسان الكامل، والتناسخ.

تحليل نظرية المعاد المثالي و الجسماني:

أمّا نظرية المعاد المثالى فإنّها تواجه مشكلة مخالفة الظواهر الدينية والتناسخ.

ص: 201

نظرية المعاد الجسماني، من جسماني فقط أو جسماني وروحاني تواجه مشاكل متعدّدة مثل: التغيير من لوازم المادية، التفاوت بين الوجود الأخروي ،والدنيوي إعادة المعدوم ، شبهة الأكل والمأكول، مكان الجنة والنار، التناسخ وحكمة العذاب ويصعب رفع تلك الإشكالات، لذلك ينبغي ترميم نظرية صدر المتألهين وإكمالها.

الرؤية المختارة ( ترميم رؤية الحكمة المتعالية وإكمالها):

بما أنّ إشكالات رؤية الحكمة المتعالية قليلة، يمكننا من خلال التأمّل أكثر أن نرفع تلك الإشكالات ونرمّمها:

أ) البدن الأخروي هو بدن جسماني فيه مادّة:

أهمّ إشكال على نظرية المعاد الإخترامي هي كيفية وجود الجسم وتحقّقه بفعلية محضة وصرف في الآخرة من دون قوّة ومادّة. أن يكون الجسم الأخروي متفاوتاً عن الجسم الدنيوي وأشدّ منه وأكمل، فهو أمر مقبول مع النصوص؛ لكن وجهه وعلّة فقدانه للقوّة والمادّة، وإثبات ذلك يحتاج إلى دليل لم تقدّمه النظرية المذكورة. علاوة على ذلك وردت الإشارة إلى أنّ الوجود الجسمي في الآخرة بدون لوازم الجسمية مثل التغيير والحركة، وهذا محل تأمّل.

ولإثبات هذا المدّعى يمكننا القول: إنّ أصل المدّعى أي: جسمانية المعاد والحشر قد ثبت بالنصوص القرآنية والروائية وليس بدليل العقل، ويعتبر أصلها من ضروريات الدين. وحول كيفية حشر البدن والمعاد ينبغي القول: ما هو معقول وقابل للتصوّر والوقوع من معنى البدن الجسماني هو شكله وصورته المتصوّرة، أي: صورة المركّب من المادّة ،والصورة، أمّا الصورة المدعاة في الحكمة

ص: 202

المتعالية (جسمانية= صورة فاقدة للمادّة) فتواجه الإشكالات التي وردت سابقاً، ونتيجتها هي عدم إثبات البدن الجسماني (الفاقد للمادّة) أو على الأقل

وجود إبهام فيه. لذا، فإنّ الفرض القابل لتصوّر المعاد الجسماني هي النظرية المشهورة (البدن = المادة والصورة).

والدليل والشاهد على بقاء المادية في الآخرة هو تغيّر أبدان الجهنميين واحتراقها في النار وترميمها ثانية :

«كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيمًا» [النساء 56].

ذلك لأنّ مثل هذه التغيّرات تصبح ممكنة مع فرض تحقّق المادّة - وهي قابلية وقبول محض - وهو ما يتناسب مع البدن المادي أكثر من البدن الفاقد للمادّة. وبعبارة أخرى، إذا حصر البدن الجسماني المحشور بصورة محضة وأنكر عنصره المادي والهيولي لا يمكن تبرير عروض التغيّرات في ذلك البدن، لأنّ شأن الصورة هو الفعل وليس القبول والإنفعال وحسب الفرض، فإنّ البدن الأخروى فاقد أيضاً لعنصر القبول والإنفعال أي المادّة.

قد ترد شبهة على هذا الجواب ومفادها أنّ عدم عروض تغيّرات على أبدان أهل الجنة من هرم واستهلاك هو دليل على تفاوت البدن الأخروي عن الدنيوي. وفي الردّ على هذه الشبهة ينبغي القول:

أولاً - إنّ مشكلة التغيّرات والاستهلاك في البدن الأخروي يمكن حلّها بامتلاك النفس في الآخرة القدرة الفائقة، وخلقها وترميمها لأعضاء البدن بشكل مستمر بحيث لا يواجه البدن المادي في الجنة أي مشكلة دوماً، فالنفس القادرة على إنشاء ،البدن لديها القدرة أيضاً على حفظ كماله.

ص: 203

ثانياً - الحكمة المتعالية تسعى لتفسير علّة استهلاك البدن والموت في الدنيا بعدم تعلّق الروح بالدنيا، وميلها للخروج من هيكل البدن. وعلى أساس هذا، فإنّ الروح ببدنها في الجنة قد حققت ما كانت تريده في الدنيا،وهی راضية عن حياتها في الجنة، لذا لا داعى لأن تترك بدنها، وبذلك لن يحصل استهلاك أعضاء البدن:

«تتدرج في تكميل ذاتها، وتعمير باطنها، وتقوية وجودها بإمداد اللّه وعنايته، وكلّما ازدادت في قوّة جوهرها المعنوي واشتدّت، نقصت في صورتها الظاهرية وضعف وجودها الحسّي. فإذا انتهت بسيرها الذاتي وحركتها الجوهرية إلى عتبة باب من أبواب الآخرة، عرض لها الموت»(1).

وبعبارة أخرى فإنّ النظرية المختارة تدعم آراء بعض المتكلمين المعاصرين مثل آية اللّه السبحاني حول البدن الأخروي والتي تؤكد على مماثلة البدن الأخروي مع البدن الدنيوي، وأنّهما متماثلان من حيث المادة والصورة.

(أ) إنشاء النفس أو الله للبدن الجسماني:

تستطيع النفس بقدرتها القدسية في الآخرة أن تنشأ وتبدع عين أو مثل البدن العنصري الدنيوي بمادته وصورته، لكن بقوّة وشدّة أكبر(2).

ص: 204


1- صدر المتألهين الأسفار : ج 9، صص 68 و 238/ صدر المتألهين، الشواهد الربوبية: ص 89 و 277 / صدر المتألهين العرشية: ص273
2- أشرنا في تحليل نظرية الحكمة المتعالية أنّ هناك عبارات مختلفة في كيفية خلق البدن الأخروي، ويظهر من بعض عبارات الملاصدرا أن إنشاء البدن في الآخرة يكون من النفس، وقد أوردنا ذلك المصدر نفسه: ج 9، ص 200).

اعتبر صدر المتألهين أنّ البدن الجسماني في الآخرة هو من إنشاء النفس ومحصولها، وتخلقه النفس عبر إبداعها:

«لأنا نقول: الأبدان الأخروية ليس وجودها وجوداً استعدادياً، ولا تكوّنها بسبب استعدادات المواد وحركاتها وتهيؤاتها واستكمالاتها المتدرجة الحاصلة لها عن أسباب غريبة ولواحق مفارقة؛ بل تلك الأبدان لوازم تلك النفوس كلزوم الظل لذي الظل، إذ إنّها فائضة بمجرد إبداع الحق الأوّل لها، بحسب الجهات الفاعلية، من غير مشاركة القوابل وجهاتها الاستعدادية... فهكذا قياس الأبدان الأخروية مع نفوسها المتّصلة بها»(1).

«إنّ البدن الأخروي ينشأ من النفس بحسب صفاتها»(2).

يمكننا أن نقدّم الاستدلال نفسه في تكوّن البدن الأخروي المادي، وهو أنّ النفس بما لها من صفات وملكات رذيلة كانت أم قدرة قدسية يمكنها في الآخرة أن تنشئ وتبدع عين أو مثل البدن العنصري الدنيوي بمادته وصورته لكن بقوّة وشدّة أكبر، ليحشر ويعذب أو يتنعم.

استناداً إلى رؤية القائلين بالمعاد العقلي وحصره بالإنسان الكامل، هناك مقصد أسمى من الجنة الجسمانية، ويردها أهلها عند موتهم مباشرة أو في

أوّل يوم القيامة، وأنّ الجنة الجسمانية هي للناس المتوسطين. أو يمكن القول إنّ الروح تستفيد من وجودات وساحات مختلفة لها شأن في الجنة الجسمانية، ولها شأن ومرتبة وظهور آخر في جنة الرضوان محفل (العقول ) .

ص: 205


1- الأسفار : ج 9، ص31
2- المصدر نفسه ص 200

ج) البدن المثالي بدن يرافق البدن الدنيوي:

إذا بيّنا وفسّرنا الوجود والبدن الأخروي طبق النظرية المختارة (وجود مادي بمادة وصورة لكن بقوّة وشدّة أكبر وفي ظل النفس) عندئذٍ تمكن الإجابة على الإشكال الموجّه لرؤية الملاصدرا (كيفية وجود البدن الجسماني مع البدن العنصري في الدنيا) فنقول: إنّ الذي يرافق البدن العنصري ليس البدن الجسماني الذي يحشر في القيامة؛ إنّما البدن المثالي والملكوتي الذي أشرنا إليه سابقاً، وهو وجود يمكن التعرّف عليه وإثباته.

د) التطابق مع النصوص الدينية:

من الإشكالات الواردة على نظرية الملاصدرا عدم صدق عنوان العود والمعاد على البدن الإخترامي، وأنّ البدن المرافق للنفس منذ البداية هو البدن العنصري في الدنيا. لكن استناداً إلى الرؤية المختارة التي تؤكد على إعادة خلق عين أو مثل البدن العنصري من حيث المادة والصورة. وذلك ما ينسجم مع معنى المعاد (العودة) والتجديد والإحياء.

النتيجة هي أنّي في نظريتي هذه حافظت على أحد الأسس الهامّة للنظرية المشهورة أي حشر عين البدن العنصري، لكنّني استعنت في حفظ وتبيان كيفية ذلك من نظرية الملاصدرا (خاصّة قدرة النفس المجرّدة على إنشاء الصور المحفوظة في ذاتها كقوّة المخيلة) وسيأتي توضيح ذلك أكثر في كيفية العذاب الأخروي وفلسفته.

ص: 206

الاستنتاج

1. بيّنا في هذا الفصل ستة آراء منها رأيي في تبيان المعاد الإنساني، وكان الرأي الأوّل (الجسماني فقط) وكان غير منسجم مع المباني العقلية بسبب إنكاره لتجرد الروح. والرأي الثاني (المعاد الروحاني) والثالث (المعاد المثالي) وقمنا بتحليلهما ونقدهما بسبب تعارضهما مع النصوص الدينية التي تثبت المعاد الجسماني.

2. أشرنا خلال تحليل الرأي الرابع (المعاد الجسماني والروحاني) أنّ تفسير الجسمانية بالعينية الواقعية للبدن الدنيوي والأخروي هو تفسير ظاهري يعاني من إشكالات متعدّدة، لذا قال بعضهم في تفسيره له بمماثلة البدن الأخروي والدنيوي.

3. الرأي الخامس يتعلق بالحكمة المتعالية التي تقول بوجود تفاوت أساسي بين البدن والنظام الدنيوي مع الأخروي، وحاصل ذلك وجود المادة والصورة في الدنيا، وفقدان المادة في الآخرة. واعتبر هذا الرأي أنّ البدن المحشور هو من اختراع النفس، وهو فاقد للمادة.

خلال تحليلي لهذا الرأي طرحت عدّة إشكالات منها: وجود إبهام في تصوّر الوجود الجسمي من دون قوّة وعودته إلى المعاد المثالي، وعدم مطابقته للنصوص الدينية.

4. في آخر البحث تأمّلت في الآراء وزوايا الموضوع، وتوصّلت إلى نظرية بديعة مركّبة من قسمين:

أ) البدن المحشور والأخروي هو من سنخ الدنيوي، وله مادة وصورة،

ص: 207

لكنّه ليس عيناً؛ بل مماثلاً له (نظرية بعض المتكلمين المعاصرين).

ب) البدن الأخروي جسماني مماثل للبدن الدنيوي ينشأ ويخلق في الآخرة، إمّا من قبل النفس - بقدرة إلهية - أو من قبل اللّه تعالى مباشرة.

يبدو أنّ هذه الرؤية تتوافق مع النصوص الدينية التي تثبت المعاد الجسماني، وهي مصونة من الإبهامات الواردة على نظرية الملاصدرا كما وضحنا ذلك سابقاً.

ص: 208

الفصل الرابع الشبهات المتعلقة بالقيامة والحشر

اشارة

ص: 209

ص: 210

في هذا الفصل نبيّن الحوادث والوقائع المتعلقة بالقيامة والردّ على الأسئلة والشبهات المطروحة في هذا المجال:

الشبهة الأولى - نفخ الصور:

وصفت النصوص الدينية نفخ الصور من قبل ملاك اسمه «إسرافيل» على أنّه علامة من مقدمات القيامة، بحيث ينفخ إسرافيل في صوره مرّة واحدة، ينهار إثرها نظام العالم والكون، وتموت كلّ الأحياء. وينفخ ثانية فيعود نظام العالم إلى النضج ثانية ويحيى الناس والحيوانات مجدداً ويحشرون، استعداداً للحساب.

تحدّثت الآيات القرآنية عن نفخ الصور بشكل مطلق تارة، ونفختين تارة أخرى، أي نفخة الإماتة ونفخة الايقاظ والاستعداد:

«وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيامَ يَنْظُرُونَ» [الزمر 68].

«وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ وَكُلَّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ» [النمل 87].

ص: 211

«وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ» [يس 51].

والسؤال المطروح هو: ما المقصود ب- «الصور» و«النفخ» فيه؟ إذا كان المقصود هو المعنى اللغوي والعرفي للصور أي الوسيلة الخاصّة بالنفخ (البوق

الذي كان يعدّ من قرون الحيوانات) عندئذٍ يتحوّل السؤال إلى شبهة هي: أساساً لماذا يستخدم اللّه تلك الوسيلة لإماتة العالم وتدمير نظامه، ثمّ إعادته وإحيائه ؟ وما هو الربط والسنخ بينه وبين أثره (الإماتة والإحياء)؟

وإذا كان المقصود ليس المعنى الظاهر؛ بل هناك معنى وحقيقة أخرى، فما هو ذلك المعنى؟

بحث وتحليل:

هناك نقاط عدّة نستعرضها في تحليل مسألة النفخ في الصور ونبيّنها :

1. النفخة الأولى تستهدف الأحياء:

مقدمة للبحث ينبغي أن يتّضح لنا ما الذي يحدث في النفخة الأولى؟ وهل الموت والفناء يكون مختصّاً بالأحياء ونظام العالم؟ أمّ أنّ جميع الموجودات من أجسام وأرواح يشملها الفناء والعدم جميعاً؟

هناك نظرتان للرد على السؤال المذكور(1). ذكر العلاّمة المجلسي روايات مختلفة حول هذه المسألة، ورجّح «التوقف» لكنه صرّح بأن أكثرية الإمامية يخالفون إنعدام جميع الأشياء بالنفخ الأول(2).

ص: 212


1- راجع محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار: ج 6 ، ص 321.
2- نفس المصدر : ص 336

مع وجود الاختلاف والتعارض الظاهري للروايات في هذا الموضوع، علينا العودة إلى ظواهر الآيات. يتّضح من ظاهر الآيات التي أوردناها ومن «الفزع» و«الصعق» أنّ المقصود المبدئي من النفخة الأولى هو الموت وإماتة الأحياء وانحلال نظام العالم. إذاً، فالمقصود هو الإماتة ونقل أرواح الأحياء من عالم الطبيعة إلى عالم آخر. أمّا النفس والروح فلن تشملهما الإماتة والموت والعدم، ذلك لأنّ النفس أمرٌ مجرّدٌ، وإعدامها لا ينسجم مع الفلسفة والحكمة من أصل المعاد. كما أنّه لم يقام دليل على هذا الادّعاء.

نظرية الملا صدرا:

يقول الملا صدرا: إنّ كلّ نفخة إلهية تؤدّي إلى الحياة وليس إلى الموت، ويفسّر النفخة الأولى فيقول:

«النفخ من قبل اللّه تعالى لا يكون إلاّ إحياءً وإفاضة للروح وإنشاءً للحياة. لكن إنشاء الحياة في نشأة عالية يلزمها الموت عن نشأة سافلة، فبالنفخة الأولى تموت الأجساد وتحيي الأرواح، وبالنفخة الثانية تقوم الأرواح قياماً بالحق لا بذواتها. واعلم أنّ جميع المواد الكونية بصورها الطبيعية قابلة للإستنارة بالأرواح كالفحم في استعداده للاشتعال من جهة نارية كامنة فيه، فالصور البرزخية كامنة فيها كلّها كمون الحرارة والحمرة في الفحم والأرواح كامنة في الصور البرزخية كلّها كمون الاشتعال والإنارة في الحرارة. ففي النفخة الأولى زالت الصور الطبيعية بالإماتة كزوال هيئة السواد والبرودة للفحم بحصول الحمرة والحرارة واستعدّت الصور البرزخية لقبول الاستنارة بالأرواح استعداد الفحم المحمرّ المتسخّن لقبول الاشتعال، فإذا نفخ إسرافيل وهو المنشىء للأرواح في الصور نفخة ثانية تستنير بالأرواح البارزة القائمة بذاتها كما قال

ص: 213

تعالى:«فَإِذَا هُمْ قِيامَ يَنْظُرُونَ»(1).

نظرية العلامة الطباطبائي:

في ضمن تفسيره للإماتة والإفناء الذي تنسبه الروايات إلى جميع الأشياء يقول:

«الأخبار» إنّما تدلّ على إفناء الأشياء وإماتتها بمعنى نزع الروح من كلّ بدنٍ ذي روح وقطع العلقة بين كلّ نفس ومتعلّقها. وأمّا إبطال الأرواح وإعدام النفوس من أصلها فلا دليل عليه من جهة الروايات... وأمّا ما في بعض الروايات من التعبير بفناء الأشياء، فيفسّره ما سيأتي في الرواية أنّ المراد بالإهلاك والإفناء الإماتة والقتل ونحوهما»(2).

ويستند العلاّمة الطباطبائي على رواية ابن سنان عن الإمام الصادق علیه السلام وقد سأله عن معنى الآية الشريفة:«وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ» [الإسراء(58]، قال: «هو الفناء بالموت أو غيره»، وفي رواية أخرى عنه قال: «بالقتل والموت وغيره»(3).

يتّضح من المطالب المذكورة أنّ الذين التحقت أرواحهم بعالم المثال قبل النفخ وماتوا، وأرواحهم مستعدّة ومنتظرة للقيامة لا معنى لأن تشملهم النفخة والإماتة، لأنّها تحصيل حاصل.

أمّا معنى النفخة الثانية فهو إحياء الأبدان المهترئة، وتعلّق الأرواح ثانية بأبدانها السابقة، ويبدأ ذلك بالنفخة الثانية.

ص: 214


1- صدر المتألهين الأسفار : ج 9، ص 275-276
2- محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار: ج 6 ، ص 326 الهامش.
3- نفس المصدر: ص329، ح 12.

2. المعنى الحقيقي للنفخ والإستعاري للصور:

ليس المقصود من «النفخ» و «الصور» معناهما الظاهري والعرفي، أي: بث الصوت في آلة خاصّة (البوق أو القرن) وأكثر العلماء يستبعدون ذلك، لأنّ اللّه أو الملك لا يحتاج إلى وسيلة مادية ودنيوية لإيجاد صوت مهيب ومهول.

وذكرت بعض الروايات وصفاً وخصوصية للصور: «قرن من نور» ممّا يدلّ على أنّ الصور هذا ليس صوراً مادياً ومألوفاً ومعروفاً؛ بل هو من جنس آخر، أي النور، وحقيقته غير واضحة لنا(1). لكنّنا نعلم أنّه لا يتناسب مع الصوت المادي(2). إذاً، فالمقصود من الصور معنى مستعار وليس المعنى الظاهري.

أمّا ما هو المقصود بالنفخ والصوت؟ فقد عدّ بعضهم أنّه قد يكون نفس الصوت المادي، لكن بشدّة عالية جدّاً بحيث إذا سمعه أهل الأرض والسماء تملّكهم الخوف والرعب وماتوا من شدة الصوت والفزع.

وقد ظهر للبشر اليوم مع تطوّر العلوم التطبيقية التأثير العظيم للصوت، فها هى الطائرات الحربية في الحروب تخرق جدار الصوت ممّا يرعب المدنيين والعسكريين؛ علاوة على ذلك الأصوات الهائلة التي تحدثها الأمواج الصوتية

ص: 215


1- راجع عبد الله جوادي الآملي، التفسير الموضوعي للقرآن ج 4 ، صص 292 و 294/ جعفر السبحاني الإلهيات: ج 4 ، ص 239 ناصر مكارم الشيرازي التفسير الأمثل ج 19 ، ص 539.
2- يقول الفخر الرازي في هذا المجال: «الظاهر أنها وقعت في الآية على سبيل التشبيه، ولهذا وقع في الحديث أنه قرن من نور، والنور لا يكون محسوساً» (الفخر الرازي، التفسير الكبير: ج 8، ص 294).

لانفجار القنابل الاعتيادية وخاصة الصوتية منها ممّا يؤدّي إلى تدمير المباني وتحويلها إلى تل من التراب، فإذا أصابت موجات قصيرة الإنسان تسلبه سلامته النفسية.

وعليه، يحتمل أن يكون المقصود من النفخ هو الصوت والموج، لكن بشدّة أكبر بكثير يبنّه الملك بنحو ،خاص ومن شدّته تصاب الأحياء بحالة «فزع» و«صعق» و«موت» وينهار نظام العالم(1).

أمّا النفخة الثانية فتؤدّى إلى إحياء الموتى وإعادة الترتيب إلى نظام ،العالم من الطبيعي أنّ النفختين من ماهية وسنخ مختلفين عن بعضهما، فالأولى تؤدّي إلى الموت والثانية إلى الإحياء. ولتوضيح المسألة نورد مثلاً: أنّ بداية احتراق الخشب بحاجة إلى هواء ونسيم، لكن إذا ازداد الهواء فسيهدد أصل وجود الخشب.

الشواهد القرآنية للرؤية المذكورة:

استناداً إلى قاعدة:«القرآن يفسّر بعضه بعضاً» عند استعراض الآيات التي تتناول حوادث القيامة يظهر أنّ آيات أخر تؤيّد القول بمعنى صوت النفخ:

«إِنْ كانَتْ إِلا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذَا هُمْ حَامِدُونَ» [يس 29].

«مَا يَنْظُرُونَ إِلا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخصِّمُونَ»[يس 49].

«إنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ» [يس 53].

هذه الآيات تتحدّث عن القيامة وعن ما يحدث عند نفخ الصور، والتي

ص: 216


1- ناصر مكارم الشيرازي، التفسير الأمثل.

تؤكّد على الصيحة بوصفها علامة للقيامة. الصيحة تطلق في القرآن على النداء والصوت السماوي المخيف وتصرّح الآيات بوجود صيحة تبعث كلّ الناس.

علاوة على آيات الصيحة استعملت كلمات «الناقور» بمعنى الجرس والبوق، و«النقر» بمعنى اللحن و«الصاخة» في وصف علامات القيامة، وكلّها بمعنى «نفخ الصور»:

«فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ * فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ» [المدثر 98].

«فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاحَةُ» [عبس 33].

إضافة إلى ذلك، استعمل القرآن مصطلحات أخرى للدلالة على معنى الصور مثل: الصافة، القارعة الزجرة(1).

3. المعنى المستعار للنفخ والصور:

بعض العلماء اعتبروا أنّ اللّه تعالى أراد بالمصطلحين معنى مستعاراً. أي: إنّ اللّه سيعلن بدء القيامة بنفير عام. هذا العمل والإعلان بحدّ ذاته سيرعب أهل الأرض والسماوات، وهناك آيات أخرى تدل على أنّ إعلان هذا النفير وبدء القيامة سيترافق مع التهاب العالم وتفكّكه. والنفخة الثانية يصدر أمر نفير آخر تكون نتيجته إحياء الموتى وإعادة انتظام العالم.

من باب التشبيه يمكن اعتبار النفختين كجرس النوم ليلاً وجرس الإيقاظ والإستعداد صباحاً في المعسكرات وكالنفخ في البوق لإعلان الاستعداد للحركة في الجيوش. وقد يكون ذلك النفير بجرس أو مصباح خاص

ص: 217


1- القارعة 1، وعبس 33، والصافات 6.

أو علامة أخرى.

عدَّ (الفخر الرازي) هذا الرأي هو الرؤية الثالثة:

«النفخ والصور استعارة، والمراد منه البعث والنشور»(1).

وعرّف (العلامة الطباطبائي) الصور هكذا:

«الحقيقة الموجودة هي أنّ هناك صيحتين... وعليه، فإنّ الصيحة أو النفخة لا تعدو كونها كلمة تميتهم ثمّ تحييهم»(2).

يبدو من ظاهر هذه العبارة أنّ «الصور» هو وجود وحقيقة من جنس الكلمة وأوسع من بوق مادي، توجب الإماتة والإحياء.

بعض المعاصرين حملوا «الصور» على معان مختلفة مثل: القدرة، العلم، القابلية الرأسمال العلمي والأجنحة الملائكية لإسرافيل(3):

4. المعنى الظاهري للنفخ والصور:

هذه الرؤية على عكس الرؤية الأخيرة، فهي تعتقد أنّ مصطلحي النفخ والصور قد استخدما بمعناهما الظاهري أي إنّه عند القيامة سينفخ إسرافيل في الصور (قرن يشبه البوق) بصوت مرعب ونسب أصحاب هذه النظرة إدعاءهم إلى ظواهر الروايات التي فسّرت «الصور» ب-«القرن» أي: القرن الذي فيه ثقوب متعدّدة مثل البوق. ومن ناحية أخرى بما أنّ وقوع ذلك أمر ممكن، لذا، لا ينبغي التخلّي عن ظواهر النصوص الدينية.

ص: 218


1- الفخر الرازي، التفسير الكبير : ج 8، ص 294
2- السيد محمد حسين الطباطبائي الحياة بعد الموت ص 44 / السيد محمد حسين الطباطبائي، الإنسان من البداية حتى النهاية: ص 90.
3- السيد محمد حسين الحسيني الطهراني معرفة المعاد : ج 4 ، ص 136

هذه الرؤية اختارها بعض المحدثين والمتكلمين:

«وأمّا الصور فيجب الإيمان به على ما ورد في النصوص الصريحة»(1).

ومن الحكماء المتأخرين ممّن أخذ به وأيّده (الملا عرفي (الطالقاني) بقوله: «وكيفما كان فنفخ إسرافيل ونداؤه للخلائق بتلك الآلة مرّة للإماتة ومرّة للإحياء بإذن اللّه تعالى كما هو ظاهر النفخ في الصور، لأجل ذلك لا امتناع فيه عقلاً؛ بل هو أمر ممكن في ذاته، وحيث أخبر الشرع به، وجب التصديق به»(2).

لتوضيح هذه الرؤية ينبغي القول: إنّ أصل الإدعاء هو أنّ وقوع مثل هذا الأمر ممكن ومن دون محذور عقلي أمر لا بحث فيه، لكن يبدو:

أولاً - لا موضوعية» ل- «الصور» بذاته لإيجاد الصوت والصيحة، ليصار التأكيد على حفظ معناه الظاهري:

ثانياً - تضمّنت الروايات خصوصية مهمة عن «الصور» أي وجود من جنس النور - كما ذكرنا سابقاً - ممّا يخرجه من جنس الوجود المادي المعروف لدينا عن البوق. إذاً، فالحدّ الأدنى لهذه الدلالة أنّ الصور (القرن) أنّه وبوق غير اعتيادي، أمّا كيف يصنع من النور، فهو أمر يصعب على الإنسان معرفته.

والنتيجة هي: أنّ المعاني الأخيرة :الثلاث: (أ) المعنى الظاهري للنفخ والصور. (ب) المعنى المستعار للصور والمعنى الظاهري للنفخ. ج) المعنى المستعار

ص: 219


1- محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار: ج 6 ، ص 336 . وأنكر على الشيخ الطوسي والمفيد تأويلهما الصور بجمع الصور، واعتبر ذلك خروجاً على ظواهر الآيات وصريحها.
2- الملا نعيما العرفي الطالقاني، منهج الرشاد في معرفة المعاد: ج 3، ص218

للنفخ والصور.كلّها أمر ممكن، والقيام به امر سهل على الله القادر المطلق.

أمّا الاحتمال الأوّل (وجود بوق مادي يمتد من السماء إلى الأرض، ونفخ الصوت فيه) فيبدو أنّه لا يتناسب مع مقام ملاك إلهي خاصّة القول مع بتجرّده أو بجسمه النوراني ،اللطيف، ومع وجود احتمالات أخرى تؤيدها

الروايات، يمكننا الإعراض عنه.

أمّا المعنيان الأخيران وشواهدهما الدينية، فيصعب تحديد أحدهما بدقّة لذا نترك للمحقّق الفاضل أن يختار أحدهما حسب مبانيه.

الشبهة الثانية - الحشر وتعميمه على باقي الموجودات:

بالنظر إلى الآيات التي سنوردها يتّضح أنّ الحشر في يوم الجزاء لا يختص بالإنسان؛ بل يشمل الجنّ والحيوانات والنبات والأجسام. يمكننا هنا إدراك فلسفة حشر الجنّ إلى حدٍ ما، ذلك لأنّهم حسب النصوص الدينية - مكلّفون، وبتبع ذلك يجب أن يحشروا لينالوا ثواب أعمالهم أو عقابها. أمّا بالنسبة إلى الحيوانات فهناك سؤال حول الفلسفة والغاية من إعادة إحيائها وهل سترد الحيوانات الجنة أو النار أيضاً؟ ويرد سؤال آخر حول فلسفة حشر الأجسام الذي ورد في بعض الأدلة النقلية.

بحث وتحليل :

1. في البداية ينبغي التذكير بنقطة وهي أنّه ينبغي أخذ جزئيات قضية الحشر من النصوص الدينية، ذلك أنّ سعة العقل وصلاحيته في هذه الأمور محدودة المستفاد من الآيات والروايات أنّ الحشر يشمل الموجودات الجامدة

ص: 220

والحيّة وذوات الأرواح من إنسان وجن وحيوان كما صرّحت بعض الروايات بدخول بعض الحيوانات إلى الجنة والنار، مثلاً كلب أصحاب الكهف، وناقة النبي صالح، والأنعام التي رافقت الحجاج إلى بيت اللّه الحرام ثلاثة إلى سبعة أعوام، والحيوانات التي تعرّضت للظلم، ستدخل الجنة(1).

وسيقتصّ اللّه تعالى في المحشر للحيوانات التي تعرّضت للظلم مثل الحيوانات الأليفة والحيوان الذي لا قرن له ممّن ظلمه من حيوان مفترس ذي قرن أو إنسان(2).

للدين دور في تقديم جزئيات أكثر حول المعاد، فإنّ أحد مهام الدين وبعثة الأنبياء هو رفع المستوى المعرفي عند الإنسان حول المعاد(3). والإنسان المؤمن باللّه والنبي والكتاب السماوي يقبل بما ينقلونه إليه لأنّه يؤمن أنّهم صادقون وواعون.

2. النقطة الظريفة في قضية المحشر هو التفاوت الكيفي بين النظرة القرآنية ونظرة المتكلمين والمحدّثين. فعلماء الدين فسّروا الحشر بالإحياء والجمع في القيامة، ويشمل الإنسان بالدرجة الأولى، ثمّ الحيوانات من باب العوض لرفع الظلم الذي لحق بهم في الدنيا: «الحشر أيضاً لكلّ حيوان له على الألم الذي دخل عليه، فإنّه تعالى لابدّ من أن يعوّضه»(4).

ص: 221


1- ثواب الأعمال : ص 74 ، باب نادر / محاسن البرقي: ج 2، ص 641 ، ح 157/ السيد محمد حسين الطباطبائي، الإنسان من البداية إلى النهاية : صص 211 و 355.
2- محمد بن يعقوب الكليني، الكافي ج 2، ص 433 / الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه : ج 2، ص 292، ح 2490 .
3- راجع محمد حسن قدردان قراملكي، الدين الخاتم ص 300.
4- الشيخ الطوسي، الرسائل العشر: ص313.

في حين أنّ نظرة القرآن إلى الحشر ونوعه منحصرة في المعنى الذي ذكرناه سابقاً؛ بل هي نظرة قدسية وأوسع من المادة(1). وحاصلها هی نشاة وجود الكائنات من المبدأ تعالى ب- «إنا للّه وإنا إليه راجعون». بحيث إنّ جميع الكائنات بعد الخلقة وإتمام قوس النزول(2)، تتحرّك ثانية في حركة استكمالية (كلّ شيء بما يناسب قابليته ) نحو اللّه والفناء في المقام القدسي (قوس الصعود).

على هذا الأساس، فإنّ ظاهر الآيات هو أنّ خمسة أصناف يحشرون وهم: الأجسام الحيوانات الجنّ، الإنسان والمجردات. نشير إلى بعض تلك الآيات التي تحدّثت عن جمع كلّ الكائنات ونشرها من سماوات وأرض، وهي تضمّ بذلك أربعة أصناف تلكما الآيتين تخبران عن حشر كلّ عالم المادة:

«الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّه تَصِيرُ الأُمُورُ» [الشورى 53].

«وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغَادِرُ مِنْهُمْ أَحَداً» [الكهف 47].

ص: 222


1- أراد الكاتب هنا أن يعبّر عنها بالنظرة العرفانية لكن يبدو أنّ العرفان والعرفاء قد اقتبسوا هذا المعنى من الآيات.
2- أوّل مخلوق إلهي هو الصادر الأوّل أو العقل الأوّل، وبعبارة أخرى هي الحقيقة المحمدية، وقد استمرّ الخلق والإفاضة بعدها في ثلاثة عوالم المجرد، المثال، المادة. حتى ينتهي بالجسم وجزئه الأدنى أي المادة (والقوّة وهو آخر حلقات دائرة الخلق الإلهي الذي يسمّى بقوس النزول. وتبدأ القوة والجسم والمخلوقات الأخرى حركة العودة إلى الله والتي تسمّى بقوس الصعود (صدر المتألهين، الأسفار : ج 5 ، ص 347 وج 9، ص 279).

«وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ» [النحل 20-21].

هذه الآية تشير إلى عدم شعور الأصنام بزمان البعثة، وأنّ بعثهم في القيامة يلزمه وجود حشر .لهم. كما تؤكد الآيتين الآتيتين على حشر الخلق جميعهم وعودتهم:

«أمّن يبدؤا الخلقَ ثمَّ يعيدُهُ» [النمل 64] .

«اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» [الروم 11].

وخلافاً لبعض الشكوك التي يطرحها اليوم علماء التجربة والقائلون بأصالة العلم حول وجود الجنّ، فإنّ القرآن الكريم يقول بحقيقة وجود هكذا موجود، ويؤكد على حشرهم:

«وَلَقَدْ ذَرَأْنا جَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بها» [الأعراف 179].

«وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ مُحْضَرُونَ» [الصافات 158]. «فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا»[مريم 68].

وتتحدّث بعض الآيات عن حشر الحيوانات:

«وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ» [التكوير 5].

«وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ» [الأنعام 38].

ويعمّم العلاّمة الطباطبائي الحشر على جميع الموجودات، ويجيب على السؤال: هل يكون حشر الحيوانات مصحوباً بالحساب أيضاً كحشر البشر،

ص: 223

وهل تحضر أعمالهم وبتبع ذلك ينعّمون أو يعذّبون؟ يجيب بالإثبات، ويُعدّ ذلك من لوازم الحشر، ويضيف أنّ الحشر يهدف إلى الإنعام على المستحق والانتقام من الظالم ويشمل هذا الملاك أعمال الحيوانات وحشرها أيضاً.

«أمّا السؤال الثاني وهو أنّه: هل يماثل حشره حشر الإنسان، فيبعث وتحضر أعماله ويحاسب عليها، فينعّم أو يعذّب بها؟

فجوابه أنّ ذلك لازم الحشر بمعنى الجمع بين الأفراد وسوقهم إلى أمر بالإزعاج... على أنّ الملاك الذي يعطيه كلامه تعالى في حشر الناس هو القضاء الفصل بينهم فيما اختلفوا فيه من الحق. قال تعالى:

«إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ» [السجدة 25].

«ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فيهما كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ» [آل عمران 55].

وما سوى ذلك من الآيات، ومرجع الجميع إلى إنعام المحسن والانتقام من الظالم بظلمه... وهذان الوصفان أعني: الإحسان والظلم موجودان في أعمال الحيوانات فى الجملة»(1).

نظر الفلاسفة:

نشير هنا إلى نقاط قابلة للتأمّل طرحها الفلاسفة في تبيانهم لحشر الموجودات:

ص: 224


1- السيد محمد حسين الطباطبائي، تفسير الميزان ج 7، ص 76.

حشر الحيوانات (استقلالي وتبعي):

لما كان بعض الفلاسفة يؤكدون أنّ المعاد والحشر سيكونان بالنفس المجرّدة، وقد شككوا بتجرّد أنفس البسطاء و«البُله» وبتبع ذلك أنكروا المعاد لهؤلاء، واعتقدوا فى النهاية أنّ أنفس مثل هؤلاء تتعلق بالأجرام السماوية، وستستمر حياتهم عبرها (ورد سابقاً توضيح نظرية الفلاسفة في تبيان الآراء حول المعاد الروحاني)(1).

من هنا يتّضح موقف أولئك حول حشر الحيوانات، ذلك لأنّ الفلاسفة ينكرون تجرّد نفوس الحيوانات، ويقولون في النهاية بالنفس الحسّاسة. ونتيجة ذلك إنكارهم لحشر الحيوانات في القيامة.

لكن بعض الفلاسفة الآخرين يعتقدون أنّ بعض الحيوانات لديها قوّة خيال مجرّدة، وبسببها يمكنهم أن يحشروا في بعض عوالم البرزخ، وينالون جزاءهم في الآخرة. يقول (صدر المتألهين):

«والذي ثبت من طريق البرهان الحدسيّ هو القول بالتفصيل، فكلّ حيوان يكون له نفس متخيلة متذكرة فوق النفس الحساسة، فهو باق بعد الموت، محشور إلى بعض البرازخ غير معطل عن مجازات، لأنّ العناية تأبى عن إهمال ما هو بصدد الإستكمال»(2).

وفي مكان آخر يصرّحون بالحشر البرزخي للحيوانات:

ص: 225


1- ابن سينا طبيعيات الشفاء : فن 6 ، المقالة 6، الفصل 4.
2- العرشية ص 285 صدر المتألهين أسرار الآيات ص 142 صدر المتألهين، الأسفار ج 9، ص 249-255

«هذه النفوس الحيوانية إن كانت بالغة حدّ الخيال بالفعل غير مقتصّرة على حدّ الحسّ فقط، فهي عند فساد أجسادها لا تبطل؛ بل باقية في عالم البرزخ، محفوظة بهوياتها المتمايزة محشورة في صورة مناسبة لهيئاتها النفسانية. وأشخاص كلّ نوع منها مع كثرتها وتميّزها وتشكّلها بأشكالها وأعضائها المناسبة لها المتّفقة بحسب أنواعها المختلفة بشخصياتها واصلة إلى مبدأ نوعها وربِّ طلسمها، وهو من العقول النازلة في الصف الأخير من العقليات»(1).

وينكر (الملاصدرا) ابتداءً حشر الحيوانات المفتقرة إلى قوّة الخيال؛ لكنّه يوضح ذلك يقسّم الحشر إلى قسمين: استقلالي وغير استقلالي. واستناداً إلى المباني الفلسفية حول وجود «ربّ النوع» وعقل مجرّد لكلّ نوع من الأنواع المادية من نبات وحيوان يضيف:

«أمّا النفوس الحيوانية التي هي حساسة فقط، وليست ذات تخيّل وحفظ بالفعل، فهي عند موتها وفساد أجسادها ترجع إلى مدبّرها العقلي، لكن لا يبقى امتيازها الشخصي وكثرة هويتها المتعدّدة بتعدّد أجسادها؛ بل صارت كلّها موجودة بوجود ،واحد متّصلة بعقلها، لأنّها بمنزلة أشعة نور واحد، انقسمت وتعدّدت بتعدّد الروازن الداخلة هي فيها فإذا بطلت الروازن زال التعدّد بينها، ورجعت إلى وحدتها التي كانت لها عند المبدأ »(2).

ولازم مبنى الفلاسفة ومنهم (الإمام الخميني) القائل بتوقّف إثبات المعاد الجسماني على القول بتجرّد النفس يؤيد التفصيل المذكور، يقول الإمام

ص: 226


1- صدر المتألهين الأسفار : ج 9، ص 248-249.
2- صدر المتألهين، الأسفار : ج 9، ص 249

الخميني رحمة اللّه في هذا المجال:

«إنّ لنوع البشر صوراً خيالية... كافية لإثبات المعاد الجسماني. من هنا فإنّنا نقول إنّه حتّى الحيوانات التي بلغت التجرّد الخيالي فإنّها ستحشر. وإذا كان هناك من ينكر التجرّد بشكل مطلق، فيلزمه أن ينكر كثيراً من الضروريات ومن جملتها المعاد الجسماني»(1).

حشر النباتات:

ويبرّر (صدر المتألهين) حشر الموجودات النباتية بالمبنى نفسه، أي: تحلیل وجودها وعودته إلى المدبّر العقلي فيقول:

«لها ضرب من الشعور اللمسي كما يشاهد من أفاعيلها، ولهذا يستحق إطلاق اسم النفس عليها، فلها حشر يقرب من حشر الحيوانات السفلية، إذ لها في هذا الوجود الطبيعي قرب من الترقي والاستكمال والتقرّب إلى المبدأ الفعّال. ونوع منها وهي السارية في النطف الحيوانية تنتهي في الاستكمال إلى درجة الحيوان. ونوع منها ما يتخطّى هذه الدرجة أيضاً خطوة أخرى إلى مقام الإنسانية، فيكون حشرها أتمّ، وقيامها في القيامة أرفع، ودنوّها عند اللّه أقرب. وأمّا ما سوى هذين النوعين وهي المقتصرة في حركاتها وسعيها على تحصيل الكمال النباتي، فيكون معادها عند فساد أجسادها إلى مقام أنزل وحشرها إلى مدبّر عقلي أدنى بالقياس إلى المدبّرات العقلية التي لأنواع الحيوانات على تفاوت مراتبها في الشرف العقلي»(2).

ص: 227


1- المعاد ص .281. ويقصد بعبارته تلك العلامة المجلسي (محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار: ج 58 ، ص 104).
2- صدر المتألهين، الأسفار : ج 9، ص 255

ويضيف (صدر المتألهين):

«ينبغي أن يعلم أنّ صورة النبات إذا قطع من أصله أو جفّ تسلك أوّلاً إلى عالم الصور المقدارية بلا هيولي وينتهي منه إلى العالم العقلي كما ذكره المعلم، فإذا انتهت إلى ذلك العالم الصوري فتصير إمّا من أشجار الجنّة إن كانت ذات طعم جيّد كالحلاوة ونحوها طيّبة الرائحة أو من أشجار الجحيم إن كانت رديئة الطعم مرّة المذاق كريهة الرائحة كشجرة الزقوم طعام الأثيم، وأصول هذه الأشجار تنتهي إلى سدرة المنتهى عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما یغشی»(1).

حشر الجوامد (الجمادات):

الوجود المادي الجامدي هو من أدنى الوجودات الممكنة وعالم الخلقة الإلهية، وقد أحاطت به نقيصة العدم والإبتلاء بالهيولي والزمان والمكان وبتبع ذلك يكون أبعد عن مقام الربوبية.

يقول (صدر المتألهين) في هذا المجال:

«فتذكر أوّلاً أنّ للوجود في ذاته حقيقة واحدة بسيطة لا اختلاف فيها إلاّ بالتقدّم والتأخّر والكمال والنقص وهي مع صفاتها الكمالية التي هي عين ذاتها من العلم والقدرة والإرادة وغيرها موجودة في كلّ شيء بحسبه، فهي في الذات الأحدية الإلهية مقدّسة عن شوب العدم والقصور من كلّ الوجوه... وآخر الدرجات الوجودية نقصاناً وقصوراً هي الأجسام الطبيعية، وهي مع أنّها

ص: 228


1- صدر المتألهين، الأسفار : ج 9، ص 256

من حيث حصتها من الوجود عين العلم والقدرة والحياة، إلاّ أنّها لمّا انتشرت و تفرّقت في الأقطار المكانية والجهات المادية، وتباعدت أجزاؤها في الامتدادات الزمانية وتعانقت مع الأعدام وامتزجت بالظلمات، فغابت عن أنفسها بلا حضور ونسيت ذواتها بلا شعور وغرقت في بحر الهيولي، ولن تقدر على التذكّر بفقدان الجمعية الحضورية عنها في تفرقة هذا الكون المادي لغيبتها عن ذاتها ومفارقتها من حيّزها الأصلي ومقامها الجمعي وموطنها النوري.

لكنّها مع ذلك لكونها بوجودها الضعيف ونورها القليل من حقيقة الوجود وسنخ النور قابلة لأن تقبل عن عناية اللّه وإمداد فيضه ضرباً من الحياة وقسطاً من النور، ليتخلص من تسلّط العدم وقهر الظلمات، ولا يلتحق بالعدم الصرف والهلاك ،البحت وينطلق من قيد الظلمات الفاشية والحجب الغاشية والقبور الدائرة.

فأوّل كسوة صورة ألبستها الرحمة الأزلية هى الصورة الممسكة لها عن التفرّق والسيلان، ثمّ الحافظة لتركيبها عن المسند المضاد، ثمّ المواتية لها ما يقوّيها ويعديها من الخارج بدلاً عمّا ينقص منها بالتحليل ومكملها بما يزيدها في الإعظام والأحجام التي بها كمالها الشخصي، ثمّ المديمة لبقائها بتوليد أمثالها، ثمّ العناية الإلهية عاطفة على المواد بعد هذا الإمداد بالهداية لصورها إلى سبيل القرب والإتحاد بتلاحق الاستعداد شيئاً فشيئاً إلى أن ترجع إلى عالم المعاد ورتبة العقل المستفاد، فهذا أصل»(1).

النقطة الأخرى في حشر النبات والجماد أنّ حشرهما كحشر الحيوان

ص: 229


1- صدر المتألهين، الأسفار : ج 9، صص 28 و 257

يفتقر إلى القوّة الخيالية المجرّدة من قبيل الوجود التبعي والاندماج في العقل المجرّد الأسمى منها. مثل: المياه والسواقي التي انفصلت عن البحار، ثمّ تلتحق بالأنهار الكبرى لتعود إلى البحر ثانية.

بعبارة أخرى، لو قلنا بوجود نفس وشعور في جسم الجامد أو النبات فستكون النفس والشعور المذكور في قوس الصعود نحو العوالم الأسمى، لكن هذا الصعود - كما أشرنا - سيكون اندماجياً وتبعياً.

أمّا العنصر الجامد أو النبات الذي يحشر جسمانياً، فسيظهر ويحشر في الجنة أو النار حسب نوعه فى المواد والعناصر الجسمانية.

بحث وتحليل :

في تحليل نظرية الفلاسفة هناك نقاط لافتة هي:

1. اختصاص حشر الحيوانات بالحشر البرزخي:

أشرنا إلى أنّ معظم الفلاسفة أنكروا الحشر الجسماني للحيوانات، وقالوا بالحشر البرزخي، لأنّهم أساساً قد واجهوا مشكلة في تبيان الحشر الجسماني للبشر، وعدّ الملاصدرا أنّه يكون بإنشاء النفس المجرّدة للإنسان، وبما أنّ نفس الحيوان لا تمتلك مثل هذه القدرة؛ لذلك فمن طريق أولى أنّها عاجزة عن إنشاء بدنها الجسماني، وقد مرّ توضيح ذلك. لكن هذا القول ومثل هذا الحشر للحيوانات لا يتناسب مع ظاهر الروايات التي تدل على حشر الحيوانات وانتقامها وتعويضها. وهذا ما صرح به العلاّمة الشعراني أيضاً(1).

ص: 230


1- هامش شرح أصول الكافي: ج 10، ص 187

معظم القائلين بالمعاد الجسماني توسّلوا بقدرة اللّه لتبرير حشر الحيوانات، واعتقدوا أنّ خلق البدن الدنيوى للحيوان أمر ممكن على اللّه القادر المطلق. بحيث يخلق البدن الدنيوي للحيوان في الآخرة وتتعلق نفسه من عالم البرزخ.

وحول مشكلة لزوم التناسخ ينبغي القول إنّها قابلة للحل بالبيان الذي أوردته وحاصله هو: أنّ نفوس الموجودات التي تمتلك نفساً من حيوان وإنسان فهي موجودة في عالم العقول وحتى مقام الأحدية الواحدية والأسماء الإلهية على صورة وجود بسيط بنفس العدد والمقدار الموجود في عالم الدنيا (من دون نقص أو زيادة) لذلك عندما تتم خلقة البدن الحيواني في الآخرة لا توجد نفس سوى نفسه الدنيوية الموجودة في البرزخ، وبذلك لا توجد مشكلة اجتماع نفسين في بدن واحد.

2. إمكانية إنشاء البدن عبر النفس الحيوانية:

استناداً إلى رأي (الحكمة المتعالية)، فإنّ نفس الإنسان تستطيع حسب قدرتها وملكاتها وصفاتها المندرجة في صقع النفس أن تنشىء بدنها الدنيوي. ويبدو أنّه يمكننا أن نجري ما يشبه هذا الحكم على الحيوان وبهذا البيان:

أوّلاً - نحن البشر غير مطلعين على جزئيات عالم الحيوانات ومقدار فهمها وشعورها لنقدّم رأياً علمياً حول ذلك وحول مقدار قدرة أنفسها. ما نعرفه أنّ نفس نوع الإنسان أكمل وأقوى من نفس نوع الحيوان، إنّها قضية حقيقية وليست كليّة واستغراقية لنستطيع أن نعتبر أنّ كلّ أنفس البشر من متوسطين وناقصين وبسطاء (بُله) هي أقوى من نفس كلّ الحيوانات. وكيف

ص: 231

يصدق مثل هذا الحكم في حين أنّ نفوس بعض البشر بقيت في مرحلة الحيوانية لأسباب مختلفة مثل الإعاقة الذهنية أو الاشتغال المحض بالأمور الحيوانية (الشهوة) بل هي أدنى منها كما ورد في صريح القرآن الكريم:

«أُولئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ» [الأعراف (179].

وعليه، فإنّ أي تبرير يطرح لمعاد مثل هؤلاء جسمانياً، يمكن الأخذ به في تبرير حشر الحيوانات جسمانياً أيضاً.

ثانياً - إذا أخذنا بصورة القضية الكليّة لسمو نفس الإنسان على الحيوان فهي تثبت السمو ولا تنفي القدرة ووجود الشعور والفهم وتجرّد نفس ،الحيوان، لأنّه كما ذكرنا فإنّ معلوماتنا حول نفس الحيوانات هي في حدّ الصفر. علاوة على ذلك، فإنّ وجود النفس المجرّدة - ولو من النوع الأدنى والحيواني - لدى الحيوانات أمر قبله الفلاسفة.

علاوة على ذلك، فإنّ بعض الآيات تحدّثت بصورة محدودة ومشفّرة عن تشبيه أمم الحيوانات بالبشر، وأكدت على مسألة الاشتراك فى الحشر:

«وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ ما فَرَّطْنَا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ» [الأنعام 38].

وتشير الشواهد العلمية إلى وعي الحيوانات وشعورها المبهم - التي اكتشفها علماء الطبيعة والبيئة - وهناك شواهد من النصوص الدينية مثل: قصة الهدهد وطيور أبابيل والنمل وكلام المعصومين معهم، ممّا يؤكد وجود نفس ذات شعور وفهم لدى الحيوانات.

ص: 232

يمكن اعتبار مثل تلك النفس ملاكاً لحشر الحيوانات في القيامة، وأنفسهم القادرة على إنشاء أبدانهم الدنيوية. وبعبارة أخرى، فإنّ الاختلاف المشهور مع الفلاسفة وخاصّة (الملاصدرا) ليس في الكبرى أي بالملاك (تجرّد النفس وقوّة المخيّلة) بل حول وجود ملاك لدى الحيوانات. وبعبارة أخرى، فإنّ الخلاف في الصغرى وهو هل تمتلك الحيوانات الملاك المذكور فوق أم لا؟

أكثر الفلاسفة ينكرون بصورة مطلقة والحكمة المتعالية تقول بالتفصيل، أمّا مشهور العلماء العلماء فإنّهم يعتقدون بالحشر الجسماني لجميع الحيوانات أو

أكثرها من خلال تمسّكهم بظواهر النصوص الدينية والشواهد العلمية.

العلاّمة الطباطبائي هو من جملة القائلين بالحشر الجسماني للحيوانات، وقد أوردنا كلامه سابقاً. ولتأييد مدعاه علمياً يستند إلى وجود الشعور والفهم لدى الحيوانات من خلال الشواهد النقلية والعلمية الدالّة على ذلك(1).

والحاصل هو أنّ نفس الإنسان تنشىء بدنها وباقي صورها الجسمانية الأخروية من قبيل العذاب أو النعمة حسب قدرتها وملكاتها النفسانية بالتناسب مع نفسها لجهة المنافرة أو الملائمة والشدّة والضعف. أمّا قدرة النفس الحيوانية فستكون أدنى بعدّة مراتب، كما أنّ عذاب الحيوان ونعمته ولذائذه ستكون محدودة أيضاً ولا تقاس مع ما هي عليه عند الإنسان.

3. حكمة العذاب والانتقام من الحيوان الظالم:

أشرنا إلى أنّ الروايات ذكرت أن أحد أسباب حشر الحيوانات هو

ص: 233


1- السيد محمد حسين الطباطبائي، تفسير الميزان ج 7، ص 77/ ناصر مكارم الشيرازي التفسير الأمثل : ج 5 ، ص 225.

الانتقام من الحيوانات المفترسة أو الظالمة. ويبرز هنا سؤالان(1):

أ) العقاب يرتبط بوجود تكليف واختيار فهل كان للحيوانات ذلك في الدنيا؟

ب) ما هو النفع والفائدة التي تعود على اللّه أو الحيوان المظلوم أو الحيوان المفترس الظالم من إحيائه وتعذيبه ؟ (سيأتي توضيح الشبهة أكثر في فلسفة العذاب الأخروي).

جواب السؤال الأوّل يتضح من المطالب السابقة في القول بوجود نفس حيوانية مجرّدة ووجود شعور وفهم لدى الحيوانات. وعليه، فإنّ تكليف الحيوان وعقابه سيكون بمقدار فهمه وشعوره .واختياره على سبيل المثال: إذا كان الحيوان المفترس قادراً على تأمين غذائه من لحم الميتة، ثمّ قام بافتراس حيوان حيّ، أو بدل التهام حيوان واحد قام بقتل والتهام عدّة حيوانات (كما تفعل الذئاب والسباع) أو تعرض لحيوان آخر من دون سبب، هذا العمل يعدّ ظلماً ضد حيوان آخر، وللحيوان المظلوم حقّ الظلامة لسلب الآخر حقّه في الحياة.

أمّا جواب السؤال الثاني فهو بحاجة لبعض تأمّل. سيأتي في فلسفة العذاب الأخروي بالتفصيل أنّ عذاب الآخرة إمّا اعتباري وتوافقي، أي: إنّ اللّه تعالى قد هيّأ ناراً في مقابل الذنوب، أو إنّ العذاب من النوع التكويني، أي: إنّ النار والعذاب هما نتيجة مباشرة وعليّة ومعلولة للعمل.

ص: 234


1- الملا نعيما عرفي ،الطالقاني، منهج الرشاد في معرفة المعاد: ج 3، ص 195.

إذا قلنا إنّ العذاب اعتباري، سيصعب علينا تبرير عذاب الحيوان والإنسان أيضاً. أمّا العذاب التكويني فليست فيه مثل هذه المشكلة، ذلك لأنّ العذاب الذي يناله الفرد الظالم في الآخرة إنساناً كان أو حيواناً، فإنّه الصورة الباطنية لعمل الظلم والذنب الذي يظهر في الآخرة، أو أن يقوم الفرد الخاطىء بإنشاء صور العذاب بتذكّره لظلمه. (سيأتي توضيح ذلك مفصلاً).

النتيجة هي أنّ نظرة الفلاسفة في إنكارهم للحشر والمعاد الجسماني للحيوانات أو التفسير البرزخي لذلك، هو أمر لا يتناسب مع ظواهر النصوص الدينية. أمّا التفسير البرزخي والعقلي لعودة النباتات والجمادات وحشرها فهو مقبول لجهة عودة الوجود كلّه إلى اللّه تعالى (المبدأ) ذلك لأنّ العود والصعود إلى أعلى لا يتناسب مع الجسمانية، لكن النقطة الهامّة والظريفة هي أنّه لا ينبغي إنكار الحشر الجسماني لهذا السبب.

الشبهة الثالثة: فلسفة حشر العاصين على صور مختلفة:

أشارت بعض الروايات إلى حشر بعض الناس العاصين على هيئة مختلفة مثل: الخنزير والقرد والنمل والعمى والطرش والخرس والمقلوبين (الأرجل فوق الرأس) ومن دون أيدٍ وأرجل (1). وهنا يطرح سؤال: هل هناك علاقة تكوينية بين هذه الأشكال وأعمال الإنسان في الدنيا، أمّ إنّها إرادة ومشيئة إلهية صرفة؟

ص: 235


1- محمد بن يعقوب الكليني، الكافي ج 5 ، ص 20 محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار: ج 7، صص 89 و 109.

بحث وتحليل:

ذكر سابقاً أنّ بدن الإنسان؛ بل العذاب والنعم الأخروية ناشئة من صقع النفس فنتيجة النفس الطاهرة وظهورها هي التجليات النورانية والنور من بدن كامل وشباب ومنظر حسن ونتيجة ظهور النفس العاصية والملوثة

بدن يتناسب مع الرذائل والملكات الداخلية للنفس في الدنيا. فمثلاً غلب على باطنه وملكاته الإنسانية القوّة الشهوانية ظهر وحشر على هيئة خنزير لأنّه حيوان شهواني.

وبعبارة أخرى، يمتلك الإنسان قوّة إدراكية وأخرى محرّكة وتنقسم القوّة الإدراكية إلى قسمين: عاقلة وواهمة، وتنقسم القوّة المحرّكة إلى قسمين: بهيمية (شهوية) وغضبية(1).

1. القوّة العاقلة : هي قوّة إدراك الكليات وبها يتميّز الإنسان عن الحيوان، ويتمكن من طي مسار كمال القرب الإلهي.

2. القوّة الواهمة هي قوّة إدراك الأمور الجزئية، وبها يتمكّن الإنسان من فهم الأمور الجزئية المتناسبة مع نفسه الحيوانية التي تلائمه أو تنافره كالفرار من الذئب والعقرب النقطة الهامّة والظريفة هي تدخّل الشيطان وهوى النفس في القوّة الواهمة أي في تحديد الملائم والمخالف الحقيقي للإنسان. فيسعى الشيطان والنفس اللوّامة من خلال الوسوسة أن يظهروا للإنسان أنّ ما يضرّه جميل وكامل، وأنّ ما يلائم كماله قبيح. لذلك سمّاها بعضهم القوّة الشيطانية.

ص: 236


1- رسائل ابن سینا ص 179/ صدر المتألهين تفسير القرآن الكريم: ج 4 ، ص 307 وج 5، ص 218 مجموعة الرسائل الفلسفية: ص 146/ السيد روح الله الموسوي الخميني، شرح حديث جنود العقل والجهل ص 283/ السيد روح الله الموسوي الخميني، الأربعون حديثاً: صص 14 و 150.

القوّة البهيمية: هي القوّة التي تدفع الإنسان وتحرّكه نحو مصالحه ولذاته المادية والحيوانية، مثلاً من خلال إحساس الإنسان بحاجته للذة الجنسية أو الجوع أو العطش، تصدر القوّة البهيمية أمرها بتأمين تلك الحاجة. اللطيف أنّ هذه القوّة تصدر أوامرها وتحرّك الإنسان لسدّ حاجته للاستمرار .البقاء لكن لا شأن لها في الاختيار والالتزام بشروط الحلال والحرام وما هو مفيد أو مضر بكمال الإنسان، ويعود ذلك إلى القوّة الإدراكية (العاقلة والواهمة).

في الحقيقة إنّ عمل هذه القوّة هو تحصيل شهوات الإنسان من غريزة جنسية وسائر الغرائز الأخرى، لذلك سمّيت بالقوّة الشهوية، ولأنّها موجودة لدى الإنسان والحيوان على السواء وتشكّل محور حياة الحيوانات والبهائم، لذلك سميت بالقوة البهيمية.

4. القوّة الغضبية : وهي قوّة دفع كلّ ما ينافي ويشكّل ضرراً وخطراً، وهي قوّة التغلّب على الآخرين والانتقام منهم. وتبرز هذه القوّة عند الحيوانات المتوحشة والمفترسة كالسباع أكثر من غيرها.

وعليه، إذا استطاع الإنسان أن يسيطر على هذه القوى الأربع، وسلّم قیادها إلى القوّة العاقلة لتكون هي القائد في عقائده وسيرته الدنيوية، وانقادت القوى الثلاث بأمر القوّة العاقلة، عندئذٍ يتوحّد الوجود الظاهري للإنسان مع وجوده الباطني وعندها يحشر الإنسان الحقيقي في الآخرة على هيئة إنسان. لكن إذا تغلّبت أي من القوى الثلاث على العقل فستصبح الصورة الباطنية للإنسان متناسبة معها. مثلاً، إذا غلبت الشهوة الجنسية عليه فسيحشر على هيئة خنزير، وإذا غلبت عليه القوّة الغضبية فسيحشر على هيئة حيوان مفترس.

ص: 237

إلى جانب الصور الثلاث (الواهمة والشهوية والغضبية) قد يحصل تركيب بين هذه القوى، فتتشكّل ثلاثة صور أخرى .(1) الواهمة + الشهوية .2. الواهمة + الغضبية .. الشهوية + الغضبية).

والصورة السابعة هي تركيب من القوى الثلاث (الواهمة + الشهوية + الغضبية) والصورة الثامنة هي صورة غلبة القوّة العاقلة على سائر القوى.

النقطة الأخيرة في تركيب الصور الثمان هي الاختلاف في مقدار التركيب الكمّي والكيفي للقوى الأربع في بعضها البعض الآخر، أي: إنّ النسبة المئوية تؤدّي إلى وجود مركّب ،خاص ممّا يشكّل سبباً في اختلاف الصورة الباطنية. لهذا، فإنّ المؤمنين سيحشرون حسب درجات ايمانهم في صور جميلة جدّاً وجذابة، بينما يحشر العاصون حسب درجات كفرهم ومعاصيهم في صور قبيحة جدّاً ومخيفة. لذلك، أشارت الروايات وأكّدت على حشر الناس على صور مختلفة.

تسقط في الآخرة سُتر الغفلة والحجاب وتظهر الصورة الحقيقية والخفية لكلِّ إنسان: «يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ» [الطارق 9] .

الشبهة الرابعة - وزن الأعمال:

تحدّثت آيات متعدّدة عن وزن الأعمال عبر «ميزان» في المحشر، وعلى أساس نتيجة الوزن يحدّد أهل الجنة من أهل النار:

«وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ»[الأعراف 9-8].

ص: 238

وتطرح هنا عدّة أسئلة:

1. كيف سيجري توزين الأعمال في القيامة؟ هل هو حسب ظاهر الآية عبر ميزان عظيم متناسب مع القيامة ؟ إن كان كذلك عندها تطرح شبهة أنّ الأعمال تعرض وتفنى حسب قول القدماء، فكيف سيجري توزينها؟

2. بعض الثواب والمعاصي ليست من جنس العمل؛ بل إنّها من نوع ترك الفعل كترك مجلس الغيبة وترك الزنا مع وجود أرضيته وسائر المحرمات، فكيف ستوزن، وكيف تطلق نسبة الثقل والخفة عليها؟

3. هل سيتم توزين الخفيف والثقيل من الأعمال ومقايستهما، وبتبع ذلك إذا مالت كفّة الميزان لصالح الأعمال الحسنة، يحدّد مصير الشخص؟ وعلى هذا الفرض ما هو تكليف باقي الأعمال الحسنة والسيئة؟

بحث وتحليل :

هناك عدّة نقاط في هذه الشبهة تستحق البحث والتأمّل (1):

1. وزن كلّ شيء بحسبه:

منشأ الشبهة والإشكال نابع من الجمود على ظاهر العبارات «الميزان والموازين = الميزان المادي» و«الثقل = الثقل الوزني» حيث افترضت الشبهة

ص: 239


1- للتوضيح أكثر راجع السيد محمد حسين الطباطبائي، تفسير الميزان: ج8، ص 10-13 صدر المتألهين، الأسفار : ج 9، صص 9-296 و 304/ محسن فيض الكاشاني، علم اليقين في أصول الدين : ج 2، ص 1147 / ناصر مكارم الشيرازي التفسير الأمثل : ج 6 ، ص 91

أنّ اللّه تعالى يشغل في يوم القيامة ميزاناً عظيماً من الجنس الدنيوي (ما يسمّى اليوم باسكول) ويضع في كفّة الأعمال الحسنة وفي الكفّة الأخرى السيئات،

وينتظر اللّه والإنسان نتيجة الوزن، وهي عقيدة الحشوية: «إنّ في القيامة موازين كموازين الدنيا، لكلّ ميزان كفتان توضع الأعمال فيها»(1).

في حين أنّ المراد من عبارات الثقل والخفة هو المعنى المجازي كما ذكر (الشيخ المفيد ) في معرض ردّه ونقده لموقف الحشوية(2).

النقطة الدقيقة في معنى الوزن والميزان هو المعنى الحقيقي وهو المفهوم، أي: الوزن والمقايسة بمعيار ومؤشّر ،مقبولين وحسب المصطلح المعاصر بقياسات عالمية، كأن يُقال إنّ متحفاً في إنكلترا حفظ كنموذج لمقارنة وزنة الكيلو، أو إنّ الساعات تقاس دقّتها بساعة عالمية هي غرينتش.

على هذا، فإنّ ميزان أعمال الإنسان ومؤشها هي الصورة الكاملة لذلك العمل عند اللّه . فمثلاً صلاتنا تقاس بالصلاة الكاملة ونسبتها إليها، ويعطى الوزن والعلامة على أساسها وتقاس سائر الأعمال وحتّى الأعمال القلبية والعقائدية كالاعتقاد والإيمان بالله وصفاته مثل التوحيد الأفعالي بهذا المقياس والمؤشر.

2. عدم إمكانية وزن الأعمال بالمقاييس المادية:

استناداً إلى الحقيقة والمعنى المذكور للوزن والتوزين، يبدو أنّ الملاك يراعى في توزين الآخرة أيضاً أي إنّه يوجد في الآخرة شاخص ومعيار أو

ص: 240


1- تصحيح الاعتقادات: ص 114.
2- نفس المصدر.

عدّة شواخص ومعايير لتقييم الأعمال وقبل أن نتحدّث عن اسم المعيار والميزان المناسب لذلك العالم وأعماله نبدأ بالمعنى والهدف من وزن الأعمال في الآخرة.

المقصود من وزن الأعمال هو تحديد أمرين وتوضيحهما الأوّل: هو تفكيك الأعمال الصالحة من السيئات، والثاني هو تحديد الكمية والكيفية للاثنين. ولتفكيك الحسنات من السيئات لا بدّ من وجود ملاك وشواخص محدّدة، فمثلاً عبادة كالصلاة تقاس وتقيّم بالصلاة الكاملة والإحسان يقاس ويقيّم بالإحسان الخاص، ويعطى الجزاء وقيمة الصلاة بمقدار مطابقتها أو مخالفتها في بعض الأجزاء مع الصلاة الكاملة، وكلّما كانت أقرب إلى الصلاة الكاملة قُبلت أكثر وأُدرجت في ملف أعمال فاعلها، وهذا معنى ﴿ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ».

أمّا إذا كان العمل المذكور مرفوضاً بالكامل لا يذكر في صحيفة حسناته؛ بل إذا كان ذلك العمل فيه ترك واجب ديني أو داخله رياء، فقد يذكر في صحيفة سيئاته ويؤدّي به إلى الخسران أيضاً:

«وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ» [الأعراف 9].

وعليه لا يمكن قياس الحسنة من السيئة بمعيار ومقياس وميزان مادي دنيوي، وتحديد كيفية الأعمال وكميتها وتسجيلها؛ بل لا بدّ من معيار متناسب مع عمل الإنسان.

النقطة الأخرى التي تنفي وضع ميزان مادي في القيامة هي تعميم وزن العقائد والنية وترك المحرمات، وهو ما يستحيل وزنه بميزان مادي، لذلك فإنّ الوزن سيكون بمعايير وشواخص خاصّة. فمثلاً الاعتقاد بأصل التوحيد أو

ص: 241

الإمامة، فإنّ ميزان تشخيص الإخلاص من عدم الإخلاص ليس الميزان المادي؛ بل مؤشر مثل التطابق مع الحق والدين الإلهي من عدمه. ومعيار ترك الذنوب كترك الزنا مثلا هو الامتناع عن ذلك وكفّ النفس عند وجود ظروف ملائمة لارتكاب المعصية، ويؤثّر في ذلك الاختلاف في سن تارك الذنب المذكور شاباً كان أو شيخاً.

النقطة الأخرى هي الإشارة إلى السوابق واستعمال معنى وزن الأعمال بالكناية ما ورد فى الروايات من ترغيب الإنسان أن يزن أعماله وتقييم نفسه في الدنيا:

«عبادَ اللّهِ زنوا أنفسكم من قبلِ أن توزنوا، وحاسبوها من قبلِ أن تحاسَبوا»(1).

«حاسبوا أنفسكم قبلَ أن تحاسَبوا، وزنونا قبل أن توزنوا»(2).

يتّضح من ذلك أنّ وزن الأعمال ونفس الإنسان لا يتم بوزن وأدوات مادية، بل معنوية.

3. عدم وجود موازين متعددة حسب تعميم توزين العقائد والأعمال وتروكها:

أشرنا إلى أنّ معايير القيامة تنقسم إلى قسمين حسب تقسيم عمل الإنسان إلى عقائدي (جوانحي) وقلبي وفعل طبيعي وبدني (جوارحي)

ص: 242


1- محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار: ج 4 ، ص310.
2- نفس المصدر : ج 67 ، ص 73 الشيخ الحر العاملي، وسائل الشيعة : ج 16 ، ص 99

وتأثير القسم الأوّل أساسي، لذا إذا كان هناك شرك أو كفر فلن يبلغ الإنسان مرحلة وزن الأعمال والتقييم : «فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً» [الكهف 105].

من ناحية ثانية، فإنّ نفس تعدّد أعمال الإنسان قلبياً وبدنياً تحت مجموعات مختلفة تابعة للقسمين ،المذكورين وضرورة توزينها بدقة وعدل يقتضي وضع ووجود شواخص متعدّدة في القيامة، من هنا نجد أنّ اللّه تعالى قد أخبر بوجود موازين عدّة وليس ميزاناً واحداً: «وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً» [الأنبياء 47].

لكن ما هي المصاديق لتلك الموازين؟ هناك معايير ومؤشرات يمكن تعدادها بعدد أنواع العقائد والأعمال، وقد ورد بعضها في الروايات مثل: الحق، العدالة، الدين، الأنبياء والأئمة(1).

4. نتيجة الوزن:

بعد وزن الأعمال وتقييمها في الآخرة بالمعايير المناسبة، لا تعدو النتيجة ثلاثة صور:

أ) غلبة الحسنات ورجحان كفّتها.

ب) غلبة السيئات.

ج) تساوي الحسنات والسيئات.

وهنا يطرح هذا السؤال: ما هو تكليف الإنسان في كلّ صورة؟ وهل سيدخل الجنة بعد التقييم في الحالة الأولى، ويدخل النار في الحالة الثانية؟

ص: 243


1- راجع: الفيض الكاشاني، حق اليقين: ج 2، ص 1148

في هذه الصورة، خاصّة الصورة الثانية :أي: ترجيح كفّة السيئات على الحسنات تقع شبهة عدم الانسجام مع العدالة الإلهية ومع آية «ونضع الموازين القسط» ذلك لأنّ السيئات الكثيرة لا ينبغي أن تضيّع الحسنات مهما كانت قليلة.

في الإجابة على هذا السؤال ينبغي القول: إنّ الآيات ناظرة إلى هذه المسألة بصورة كليّة للمكان الأصلى للفئتين (ذوي الحسنات الأكثر وذوي السيئات الأكثر ) أي: إنّها تحدّد العذاب في جهنم والنعمة في الجنة، وهي لزوم طبيعي للتوزين المذكور. لكن الآيات السابقة لم تذكر تكليف ووضع أعمال الخير والحسنات القليلة للجهنميين؛ بل هناك آيات أخرى تدل على ملاحظتها الصالح ،الفاعل سيأتي بحثها في مسألة «الإحباط والتكفير».

الشبهة الخامسة: الإحباط والتكفير:

هناك آيات متعدّدة وروايات تتحدّث عن ضياع كلّ الحسنات بمجرد صدور بعض الذنوب مثل: الكفر، الشرك، الارتداد بعد الإسلام والإيمان، رفع الصوت عند النبي. وهو ما عبّر عنه في المصطلح الكلامي بالإحباط :

«لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ» [الزمر 56].

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضِ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ»[الحجرات 2].

وأكدت آياتٌ أخرى على زوال السيئات والذنوب وحذفها بسبب أداء بعض الحسنات كالتوبة (التكفير):

ص: 244

«وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ» [محمد 2].

«يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الجُمْع ذلِكَ يَوْمُ التَّعَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيها أَبداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» [التغابن 9].

لكن الشبهة تأتي من ناحية الإحباط، كيف تضيع جميع حسنات الإنسان وأعمال الخير كلّها بسبب قيامه بذنب أساسي مثل الشرك، أو ذنب اعتيادي كرفع صوته أمام النبي ويستحق بذلك العذاب السرمدي؟ وهل يتناسب الإحباط مع العدالة والرحمة الإلهية ؟

ففي حالة إغلاق ملف السيئات بسبب ارتكاب الحسنات (التكفير) فهذا العفو عن الذنوب الدينية هو (حق اللّه ) ولا توجد فيه مشكلة. لكن عندما يطال الذنب حق الآخرين (حق الناس) كظلم الصغير أو السرقة، فهنا يبدو التجاوز عن حق الآخرين أمر مشكل.

بحث وتحليل :

هناك عدّة نقاط جديرة بالبحث والتحليل في هذه الشبهة :

1.الآيات الدالّة على مجازات جميع الأعمال:

يحكم العقلاء والعقل أنّه لا يجوز أن نصدر حكمنا على كتاب ما من خلال الإطلاع على جزء منه وإهمال الباقي، خاصةُ إذا كان هذا الكتاب يضمّ العام والخاص والمطلق والمقيّد، والمحكمات والمتشابهات، ويحتاج تفسيره إلى الإحاطة والإشراف عليه بالكامل.

ص: 245

القرآن الكريم هو كتاب سماوي نزل طوال (23) عاماً وفيه الخصائص المذكورة:

«هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ» [آل عمران7] ، لذلك اشتهر بين المفسّرين أنّ: «القرآن يفسّر بعضه بعضاً»(1).

على هذا الأساس، إذا كانت هناك فى القرآن آيات مخالفة للإحباط والتكفير عن الذنوب، فستضعف دلالة آيات الإحباط والتكفير وبتبع ذلك يضعف أصل الشبهة. وعندما تنظر في آيات أخرى نجد أنّ القرآن الكريم يشير؛ بل يؤكد على أصل عقلي هو نيل الإنسان جزاء عمله في القيامة، وعدم تضييع عمل كلّ عامل وعدم ظلم اللّه الناس أعمالهم:

«فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ» [الزلزلة 7-8].

«وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ» [يوسف 56].

«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً» [الكهف 30].

«ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» [البقرة 281].

«وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» [آل عمران 25].

ص: 246


1- الفخر الرازي، التفسير الكبير : ج 17، ص 77 السيد محمد حسين الطباطبائي، تفسير الميزان ج 3، صص 36 و 57 .

«وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ» [البقرة 143].

«مَنْ جاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِها وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزِي إِلا مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ» [الأنعام 160].

«أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى» [آل عمران 195].

النتيجة هي أنّ هذه الآيات تؤكد على جزاء كلّ عمل من حسنة أو سيئة وعدم تضييع الأعمال، ولزوم ذلك ردّ الإحباط بمعنى إغفال الحسنات، ذلك لأنّه ليس عمل واحد ؛ بل أعمال متعدّدة تبطل وتضيع بسبب ارتكاب

ذنب، وهو ما يتعارض مع ظاهر الآيات المذكورة وروحها.

2. آية تدل على امتزاج أعمال الخير والشرّ:

إذا قلنا بالإحباط والتكفير فمعنى ذلك توحيد صبغة أعمال الإنسان بعد الإحباط والتكفير (صدورالمعصية) :أي: إذا ارتكب الإنسان في الدنيا ذنباً حبط كلّ أعماله الحسنة؛ لا يعود عنده أي عمل خير، وتصبح جميع أعماله ذنوب وشر. وفى حالة التكفير إذا قام الإنسان في الدنيا بحسنة توجب ذهاب كلّ ذنوبه وتكفيرها، فتصبح كلّ أعماله حسنات. في حين أنّ القرآن الكريم يخبر باختلاط الأعمال الصالحة والطالحة عند بعضهم واعترافهم بذلك:

«وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئَاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ»[التوبة 102].

وجه الاستدلال كامن في هذه النقطة وهي أنّ الآية الشريفة توكل العفو عن الذنوب إلى التوبة والمغفرة الإلهية التي تقبل خلط الأعمال الصالحة

ص: 247

والطالحة، وهو ما يتعارض مع الإحباط.

يقول (العلاّمة الطباطبائي) في هذا المجال:

«ولازمه أن لا يكونَ عند الإنسان من عمله إلاّ حسنة فقط أو سيئة فقط، وهناك من قال بالموازنة، وهو أن ينقص من الأكثر بمقدار الأقل، ويبقى الباقي سليماً عن المنافى، ولازم القولين جميعاً أن لا يكون عند الإنسان من أعماله إلاّ نوع واحد حسنة أو سيئة لو كان عنده شيء منهما.

ويردّهما أوّلاً قوله تعالى: «وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئَاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» [التوبة 102]. فإن الآية ظاهرة في اختلاف الأعمال وبقائها على حالها إلى أن تلحقها توبة من اللّه سبحانه، وهو ينا في التحابط بأي وجه تصوّروه»(1).

3. حكم العقل والعقلاء باستحقاق أجر المحسن ومعاقبة المجرم:

بتعارض هذين القسمين من الآيات ظاهرياً، يتساقط القسمان، ويأتي دور جمعهما بالطرق المعتبرة، ومنها الرجوع إلى مقتضى البرهان والدليل العقلي، وهو ما سنبيّنه:

إنّ العقل والعقلاء يحكمون أنّه بمجرد صدور فعل الثواب والحسنة، فإنّ فاعله يستحق المدح والثواب ويستحق فاعل السيئة والمعصية التوبيخ والجزاء. ويكون الجزاء والثواب حسب عمل العامل ومتناسباً معه، وفي النهاية يتم تخفیف جزاء المجرم أو العفو عنه عند تحقق شروط لازمة.

ص: 248


1- السيد محمد حسين الطباطبائي، تفسير الميزان ج 2، ص170/ عبدالله جوادي جوادي الأملي التفسير الموضوعي للقرآن : ج 5، ص28

من الواضح أنّ حكم العقل والعقلاء هذا في استحقاق الثواب أو العقاب هو حكم ثابت وليس مؤقتاً. لذلك عند القيام بأعمال مختلفة يقوم المولى والمجتمع بالتوبيخ تارة وبالامتداح تارة أخرى لا أن يتناسى الفعل الآخر بسبب (حسنة أو معصية ) بل إنّ كلّ واحد من العملين فى وعائه ومكانته يقتضي العقاب أو الثواب. واللّه تعالى بوصفه رئيساً للعقل والعقلاء ملتزم بهذا الأصل في الجزاء. يقول (العلاّمة الطباطبائي) في هذا المجال:

«إنّ الحق أوّلاً إنّ الإنسان يلحقه الثواب والعقاب من حيث الاستحقاق بمجرد صدور الفعل الموجب له.... أنّه تعالى جرى في مسألة تأثير الأعمال على ما جرى عليه العقلاء في المجتمع الإنساني من طريق المجازاة، وهو الجزاء على الحسنة على حدة، وعلى السيئة على حدة»(1).

على هذا الأساس، فإنّ اللّه سيثيب الإنسان على الحسنات، ويعاقبه على الذنوب، لا أن يضيع كلّ حسنات الفرد بسبب ارتكابه لبعض الذنوب.

4. الإحباط يوجب الظلم:

بعض المتكلمين ومنهم (الخواجه الطوسي والعلاّمة الحلّي) اعتبروا أنّ الإحباط والتكفير (الاعتباري والاتفاقى) يستلزم الظلم في حق فاعل أعمال الخير أو الشر في صور ثلاث:

أ) غلبة السيئات على الحسنات (الإحباط ) بسبب الإحباط وضياع

ص: 249


1- السيد محمد حسين الطباطبائي، تفسير الميزان ج 2، ص 170 . استثنى العلامة من ذلك قطع علاقة المولوية والعبودية. وهذا ما سنشير إليه.

كلّ أعمال الخير يلزم اعتبار مثل هذا الشخص كمن لم يعمل أيّة حسنة وفعل خير.

ب) غلبة الحسنات على السيئات (التكفير): إذا كانت أعماله الحسنة أكثر، فإنّه بسبب تكفير الذنوب فستمحى كلّ سيئاته، ويصبح كمن لم يرتكب ذنباً ومعصية.

ج) تساوي الحسنات والسيئات في هذه الحالة تتعارض الأعمال وتتحابط بنوعيها وتختفي، ولزوم ذلك أنّ هذا الفرد كمن لم يعمل حسنة ولا سيئة.

يحكم العقلاء في الفروض الثلاثة المذكورة على خلاف اللوازم، ولا يتحملون أن يصبح الإنسان في الصورة (أ) كمن لم يعمل أيّة حسنة؛ بل يؤكدون على عمله الحسن ويعتبرون ترك إثابته ظلم لفاعله، وكذلك بالنسبة للصورة (ج).

أمّا بالنسبة للصورة (ب) فإنّ المعصية مهما كانت صغيرة فإنّ ترك المعاقبة عليها يعدّ ظلماً خاصة إذا كانت تتعلق بحق الناس يقول الخواجه الطوسي في هذا المجال:

«الإحباط باطل لاستلزامه الظلم ولقوله تعالى: «فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره»(1).

ويشير العلاّمة الحلّي إلى الصور الثلاث في شرحه فيقول:

«ويدلّ على بطلان الإحباط أنّه يستلزم الظلم، لأنّ من أساء وأطاع،

ص: 250


1- حسن بن يوسف الحلّي، كشف المراد: المقصد 6 ، المسألة 7.

وكانت إساءته أكثر يكون بمنزلة من لم يحسن وإن كان إحسانه أكثر يكون بمنزلة من لم يسئ وإن تساويا يكون مساوياً لمن لم يصدر عنه أحدهما، وليس كذلك عند العقلاء»(1).

5. التأثير التكويني للفعل في النفس:

حكم العقلاء المذكور مبني على الفرض الاعتباري والتوافقي بين الثواب والعقاب، لكن هناك تفسير آخر يعتبر أنّ الثواب والعقاب هو أمر تكويني، وهذا ما سنوضحه.

إستناداً إلى هذه النظرة، فإنّ أي فعل يصدر عن الإنسان يترك أثراً تكوينيا في النفس، فالعمل الحسن يوجب كمال النفس ونورانيتها، والعمل السيء يوجب كدورة النفس وظلمتها واختلاف العمل يوجب اختلاف النفس. فبارتكاب المعصية تتكدّر النفس وتصبح مظلمة، وبترك المعصية والقيام بالأعمال الحسنة والخير تصبح النفس نورانية وتسير نحو التكامل. ويستمرّ صعود النفس وهبوطها حتّى الموت (خروج النفس من البدن) عندها تتوقّف حركتها.

والإحباط والتكفير هو في الواقع تأثير أفعال الإنسان في النفس، و علاقة تقابل أفعال الخير والشر في بعضهما البعض. فالأعمال السيئة والذنوب تؤدّي إلى ظلمة النفس (الإحباط) والأعمال الخيّرة تؤدّي إلى نورانية النفس، وبتبع ذلك ذهاب الظلمة عن النفس (التكفير). هذا التأثير المتبادل والسير الصعودي والنزولي للنفس يستمر حتّى الموت، وعند الموت تتوقّف هذه

ص: 251


1- حسن بن يوسف الحلّي، كشف المراد: المقصد 6، المسألة 7.

الحركة. أي إنّه عند لحظة الموت إذا كانت أعمال الخير عند الإنسان أكثر، بتبع ذلك تتغلب كمالات النفس على رذائلها وتؤدّي إلى سعادة الإنسان في عالم البرزخ والقيامة. وإذا كان العكس كانت النتيجة على العكس.

بعد الموت ينقطع تأثير العمل الاختياري عن الإنسان، وتؤثّر فيه الشفاعة والمغفرة وتحمّل العذاب. وأشارت الروايات بدورها إلى التأثير التكويني للسيئة أو الحسنة على نفس الإنسان، فعن أبي جعفر الباقر علیه السلام قال:

«ما من عبد إلاّ وفي قلبه نكتة بيضاء، فإذا أذنب ذنباً خرج في النكتة نكتة سوداء، فإن تاب ذهب ذلك السواد وإن تمادى في الذنوب زاد ذلك السواد حتّى يغطّي البياض، فإذا غطّى البياض لم يرجع صاحبه إلى خير أبدأ »(1).

اعتمد (صدر المتألهين) (2)ومن المعاصرين (العلاّمة الطباطبائي) في تحليلهم لنظرية الإحباط والتكفير:

«إنّا لو سلكنا في باب الثواب والعقاب والحبط والتكفير، وما يجري مجراها مسلك نتائج الأعمال على ما بيّناه في أنّ اللّه لا يحول في ذاته وفي آثار ذاته من الصور التي تصدر عنها وتقوم بها نتائج وآثار سعيدة أو شقيّة، فإذا صدر منه حسنة حصل في ذاته صورة معنوية مقتضية لاتصافه بالثواب، وإذا صدر منه معصية فصورة معنوية تقوم بها صورة العقاب، غير أنّ الذات لما

ص: 252


1- محمد بن يعقوب الكليني، الكافي: ج 2، ص 273 محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار: ج 7، صص 332 و 361
2- صدر المتألهين الشواهد الربوبية: ص 774.

كانت في معرض التحوّل والتغيّر بحسب ما يطرأ عليها من الحسنات والسيئات، كان من الممكن أن تبطل الصورة الموجودة الحاضرة بتبدّلها إلى غيرها، وهذا

شأنها حتّى يعرضها الموت فتفارق البدن وتقف الحركة ويبطل التحوّل واستعداده، فعند ذلك يثبّت لها الصور وآثارها ثبوتاً لا يقبل التحوّل والتغيّر إلاّ بالمغفرة أو الشفاعة على النحو الذي بيّناه سابقاً»(1).

هذا النحو من تفسير الإحباط والتكفير واعتباره تكوينياً يستند إلى أفعال الإنسان نفسه، يقبل به العقل والعقلاء.

6.اختصاص الإحباط بالكافر:

إنّ لبعض الذنوب مثل : الكفر والشرك والإرتداد دوراً أساساً في مصير الإنسان وفطرته التوحيدية، بمعنى أنّ الإنسان ينقسم إلى قسمين: متأله (رباني = مؤمن) وكافر (منكر لأصل اللّه أو التوحيد) في القسم الأوّل أحسّ الإنسان وأدرك وجود علاقة بينه وبين اللّه، وسار بحركته نحو القرب الإلهي وعليه فإن صدر منه ذنب كبير، فإنّه وإن أدّى إلى حصول الكدورة والظلمة العظيمة في النفس؛ لكن لأنّه مؤمن باللّه حسب الفرض، فإنّ ذنبه يبقى محدوداً يجري في ضميره أسفل النور الإلهي، لذا، لا يمحو تأثيره السلبي نور التوحيد الإلهي من فطرته، ذلك لأنّ تأثير كلّ ذنب سيبقى بمقداره.

على هذا الأساس، يتغلّب الإنسان المؤمن على ذنوبه بسبب حسنته الخالدة (الاعتقاد التوحيدي) ويدخل محفل الناجين الصادقين. أمّا الكافر بمعناه العام (الملحد المشرك المرتد) فإنّه بسبب بعده عن مسير الحق، فإنّ أعماله

ص: 253


1- السيد محمد حسين الطباطبائي، تفسير الميزان ج 2، ص 171

باطلة، ويختصّ الإحباط به حسب رأي معظم علماء الدين. يقول (العلاّمة المجلسي) في هذا المجال:

«إعلم أنّ المشهور بين متكلمى الإمامية بطلان الإحباط بالتكفير... لكن الظاهر من كلام المعتزلة وأكثر الإمامية أنّهم لا يعتقدون إسقاط الطاعة شيئاً من العقاب أو المعصية شيئاً من الثواب سوى الإسلام والارتداد والتوبة... الحق أنّه لا يمكن إنكار سقوط ثواب الإيمان بالكفر اللاحق الذي يموت عليه وكذا سقوط عقاب الكفر بالإيمان اللاحق الذي يموت عليه... وأمّا أن ذلك عام في جميع الطاعات والمعاصي فغير معلوم»(1).

واعتبر (العلاّمة الطباطبائي) أنّ الإحباط مختص بذنوب كالكفر والإرتداد اللذين ينزعان طوق العبودية والمولوية بين الإنسان وربّه:

«إنّه تعالى جرى في مسألة تأثير الأعمال على ما جرى عليه العقلاء في المجتمع الإنساني من طريق المجازاة، وهو الجزاء على الحسنة على حدة، وعلى السيئة على حدة، إلاّ في بعض السيئات من المعاصي التي تقطع رابطة المولوية والعبودية من أصلها، فهو مورد الإحباط»(2).

وبتخصيص الإحباط بالكافر ترتفع الشبهة في أعمال المؤمن، لكنّها تبقى على قوّتها في الكافر، وهذا ما سنبيّنه.

أ) حكم عبادات الكافر:

يمكن تقسيم أعمال الإنسان المنكر اللّه إلى قسمين العبادات والأعمال

ص: 254


1- محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار: ج 5، ص 332_334
2- السيد محمد حسين الطباطبائي، تفسير الميزان ج 2، صص 170 و 172.

الحسنة التي قام بها عن فطرته. وكل من القسمين يمكن تبيانه بمبنيين في تبرير العذاب الأخروي (الاعتباري والتكويني) نبدأ فيما يأتي بتبيان عباداته بمبنى النظرة الاعتبارية للعذاب:

يطلق عنوان الكافر على الأقسام الأربعة الآتية:

1. الكافر المنكر لأصل وجود اللّه (الملحد) ليس لديه أعمال عبادية لنبحث في بطلانها.

2. المشرك وهو من آمن بأصل وجود اللّه، لكنّه يعتقد بوجود عدّة آلهة، ولأنّ عبادته اللّه غير حقيقية، ويعتقد المشركون أنّ إدارة العالم وتدبيره بيد عدّة آلهة، لذلك يعبدون تلك الآلهة المتعدّدة، ويطلبون حاجاتهم منها، وعليه فإنّ عباداتهم لا تنطلق من أصل صحيح لنقبلها ثمّ نبحث في إحباطها، وإبطالها. وحسب تعبير العرف فليطلب المشرك أجره ممّن عبده.

3. أهل الكتاب: إنّ عبادات أتباع أهل الكتب السماوية مثل اليهودية والمسيحية كانت معتبرة ويستحقون عليها الثواب عندما كان الدين الحق من دون أي شك. ولا يطلق على معتنقها الكفر، لكن عبادات أهل الكتاب بعد ظهور الدين السماوي الجديد كان عليهم لزاماً اتباع الدين الجديد، لكنّهم لم يذعنوا لذلك لأسباب متعدّدة. مثل هؤلاء ينقسمون إلى ثلاثة فئات:

أ) الجاهل القاصر وغير المطّلع.

ب الجاهل المقصّر غير المطّلع، الذي قصّر في رفع جهله بعد علمه بظهور الدين الحق.

ج) المطّلع على حقانية الدين الحق، والمعرض عنه عن عناد وهوى النفس.

ص: 255

يحتمل أن يكون إعراض الشخص المطّلع على حقانية الدين السماوي عن عناد مع اللّه، أن يكون أصل تحقّق عبادته الحقيقية (الإخلاص في الخضوع اللّه) موضع سؤال، أمّا عبادة الجاهل فقد تكون مقبولة بمستوى تحقّق قصد القرب إلى اللّه، لكن لذلك مراتب حسب الأستاذ المطهري(1).

4. المرتد: وضع المرتد يختلف قليلاً عن القسمين السابقين، ذلك لأنّه أدّى العبادات مثل الصلاة والصيام والحج اللّه تعالى، ثمّ ندم وخرج عن الإسلام واختار طريق الكفر. عباداته باطلة ويشملها الإحباط، ذلك لأنّ المرتد اعتبر أنّ كلّ عباداته التي أدّاها خلال فترة إسلامه كانت أعمال فارغة و خاوية وباطلة، وهو نادم على قيامه بها، وحكم عليها بالبطلان، وفي الواقع هو الذى أحبط أعماله وليس اللّه.

ويمكننا تبيين الإحباط بمبنى التأثير التكويني في صوره الثلاث (الكفر والشرك والإرتداد).

في فرض الكفر والشرك، فإنّ العبادات لم تؤدّ بشكل صحيح وواقعي، ولن يكون لها تأثير إيجابي ونوراني في صقع النفس.

ص: 256


1- من مجموع ما قلناه في الفصلين الأخيرين يعلم أن غير المسلمين ليسوا سواء في تحصيل الأجر على أعمال الخير. فهناك تفاوت عظيم بين غير المسلم الذي لا يعتقد بالله وبالقيامة، وغير المسلم الذي يعتقد بالله وبالقيامة لكنّه حرم من موهبة الإيمان بالنبوة. فالأوّل لا يمكنه القيام بعمل مقبول عند الله، بينما الثاني قد يقبل، وقد يدخلون الجنة بشروط، أمّا الأوّل فغير ممكن... أما أهل الكتاب فيمكنهم القيام بعمل صالح ولو بشكل منقوص، ويحصلون على النتيجة بشروط» (مرتضى المطهري، مجموعة المؤلفات : ج 1، ص 312.

وفي فرض الإرتداد، فإنّ الأعمال العبادية للمرتد عندما قام بها تركت في صقع النفس أثراً إيجابياً ونورانياً، لكن للإرتداد نفسه تأثير أساسي في إيجاد الظلمات والذهاب بالنورانية في النفس، ذلك لأنّ المرتد بارتداده يعلن أنّه يرفض عباداته وهي خاوية لا قيمة لها هذه النظرة إلى الأعمال لها أثرها التكوينى (البطلان) وهذا بالضبط هو معنى الإحباط.

ب) حكم أعمال الخير التي يؤدّيها الكافر:

القسم الثانى أعمال الكافر (من ملحد ومشرك) الخيّرة والحسنة، والتي قام بها عن فطرة ووجدان كبناء مدرسة أو مستشفى، مساعدة المحتاجين، الدفاع عن المظلوم ومواجهة الظالمين. السؤال هو: هل سيشملها الإحباط أيضاً؟ يمكن تبيان أعمال الكافر على أساس المبنيين المتفاوتين في العذاب الاعتباري والتكويني) على النحو الآتي:

1. ب) يبدو أنّه لا يوجد بحث ونقاش فى أنّ نفس أعمال الكافر التي يؤدّيها بصدق وحسٍّ باطني ووجدان من عمل الخير، وبتبع ذلك ضرورة استحقاقه للمدح والجزاء، ذلك لأنّنا إذا كنّا نعتقد باعتبارية الجزاء، فإنّ العقل والعقلاء يثيبون فاعل مثل هذه الأعمال بالمدح والثواب. وعلى هذا الأساس، فإنّ أي ذنبٍ حتّى الكفر والارتداد لا يلغي استحقاق المدح والثواب على عمل الخير لأنّه يدور مدار تحقّقه الإبتدائي. فإذا ترتّب وصدق عنوان استحقاق الأجر على فعل ما، فلن يزول أو يسلب ذلك. وفي النهاية تطرح «الموازنة» مع ذنوب الكافر وعذابه وبموجب ذلك بالتناسب مع أعمال الخير التي قام بها الكافر ينقص من عذابه. (سيأتي بحث الموازنة).

ص: 257

2. ب) وإذا كنّا نعتقد بتكوينية العذاب، كذلك لا يمكننا إنكار تأثير خيرية الأعمال المذكورة، لأنّه بعد القبول بخيرية الفعل، فإنّ القيام به له أثره الإيجابي والنوراني على الصورة التكوينية ذاتياً.

لكن في هذه النظرية يطرح هذا السؤال هل ارتكاب الكبائر مثل الكفر والارتداد أمر عظيم ومؤثّر إلى درجة تجعله يقضي على كلّ الآثار النورانية لأعمال الكافر الخيرية المندرجة في صقع النفس، ليجري أصل الإحباط على أعمال الكافر الخيرية كما هو الحال في العبادات؟

يبدو أنّه لا يمكننا أن نجيب على هذا السؤال حقيقة عبر العقل؛ لكن العقل لا يرى جواباً له إلا في فرضين:

ا) غلبة ذنب الكفر على جميع آثار أعمال الخير وبركاتها: في هذه الحالة لا تطرح شبهة على العدل والحكمة الإلهية، ذلك لأنّ هذا النوع من الإبطال والإحباط يحدث بصورة تكوينية واختيارية من قبل الكافر نفسه.

ب) عدم الغلبة: هذا الفرض يقول إنّ الكفر وإن كان يدمّر أكثر أعمال الخير إلاّ أنّ بعض أعمال الخير تبقى محفوظة.

إنّ فرض بقاء بعض أعمال الكافر الخيّرة هو نتيجة تكوينية، وهذا التقابل والتعارض للمقدار المتبقي مع الذنوب ونتيجته زوال بعض الذنوب بالتناسب، وتخفيف عذاب الكافر.

والنتيجة فى هذا الفرض تابعة للعلاقة التكوينية بين الذنب والعذاب، ما يؤدّي إلى تخفيف العذاب عن الكافر من دون أن توجّه الشبهة إلى اللّه(1).

ص: 258


1- سيأتي توضيح حكم أعمال الكفار الخيّرة، ورأي العلماء حوله في شبهة أعمال الكافر الخيرة.

الشبهة السادسة - الموازنة:

بعض المتكلمين لم يأخذوا بالإحباط والتكفير، بل طرحوا مقالة أخرى هی الموازنة، بموجب هذه المقالة يجري وزن حسنات الإنسان وسيئاته وتقابل، وتسقط أىّ منهما من الأخرى بمقدار وزنها فمثلاً إذا كان عدد الذنوب عشرة، وعدد الحسنات خمسة تسقط الحسنات الخمسة مقابل الذنوب الخمسة، فتبقى في حساب المذنب خمسة ذنوب فقط. وإذا كانت النسبة معاكسة تبقى الحسنات فقط في ملفه.

السؤال المطروح هو: هل تطال الإشكالات الواردة على الإحباط هذه النظرية أيضاً؟(1. الآيات الدالّة على الثواب والعقاب على كلّ الأعمال. 2. تركيب الأعمال الصالحة والطالحة ومحوها بالتوبة. 3. استحقاق العقاب والثواب بمجرد القيام بالعمل. 4. ما يوجب الظلم. 5. التأثير التكويني في النفس).

الإشكال السادس هو الإشكال الذي طرحه متكلمون أمثال الخواجه الطوسي والعلاّمة الحلّى(1). وعلى أساسه اعتبروا أنّ حذف خسمة ذنوب مقابل حذف خمسة حسنات هو أمر من دون ملاك ولا مرجح وليس البحث في نفس الحذف والإسقاط؛ بل البحث في اختيار الخمسة الأولى من الذنوب أم الخمسة الثانية، أوليس ذلك ترجيح بلا مرجح؟

ويرد عين هذا الإشكال في الفرض الثاني أيضاً (إسقاط الثواب بالذنوب).

ص: 259


1- حسن بن يوسف الحلّي، كشف المراد: المقصد 6، المسألة 7.

الإشكال السابع إذا تساوى وزن الذنوب والحسنات، واختفت جميعاً استناداً إلى فكرة الموازنة، وأصبح الإنسان كمن لا عمل له. ما هو تكليف هكذا شخص لجهة الجنة والنار؟

بحث وتحليل :

نناقش فيما يأتي الإشكالات السبع المذكورة:

1. الإشكال الأوّل (الآيات الدالّة على الثواب والعقاب على كلّ الأعمال) وهو مختص بالإحباط دون الموازنة، ذلك لأنّ الموازنة وتخفيف العقاب في مقابل الثواب هو في ذاته ثواب، وتخفيف الثواب في مقابل الذنوب هو في ذاته عقاب. وهذا النوع من التعامل جار وسار في المجتمعات وفي سيرة العقلاء أيضاً، حيث تخفّف العقوبة عن المجرم بسبب سيرته الحسنة وقد يعفى عنه، أو قد يعزل مسؤول أو تخفّف درجته لارتكابه خلافاً.

2. الإشكال الثاني (تركيب أعمال الإنسان من خير وشر والعفو عنه بالتوبة) ينبغي القول إنّ الآية الدالّة على خلط الأعمال الصالحة بالطالحة، تتناول خلط الأعمال وتركيبها في الدنيا من قبل المذنب، وهو أمر واقع. القول بالموازنة بين هذا التركيب ،ابتداءً، وفي المرحلة الثانية تفكيك الأعمال ووزنها. وإذا كان في ملف الأعمال في القيامة خلط بين الأعمال، فهو قبل إجراء الموازنة، ولا يتنافى معها.

3. أصل الشبهة الثالثة (استحقاق الثواب أو العقاب) أمر مقبول، لكن الحكماء (العقل والعقلاء) يفرّقون بين الحكم بالاستحقاق، وبين إجراء الحكم. أي إنّه بمجرد القيام بالفعل يصبح أصل استحقاق المدح والتوبيخ مترتباً ويبقى

ص: 260

ثابتاً، لكن عند قيام نفس الفاعل بأعمال مختلفة ومتضادة، يحكم العقل والعقلاء ويرضون بمبادلة العقاب والثواب بين أفعاله.

وإذا كان الفاعل نفسه غير راض عن الموازنة، كأن يدّعي أنّه مستعد لتلقي العذاب عن ذنوبه، دون التنازل عن الثواب والأجر الذي وعده اللّه على حسناته؛ عندئذٍ تقع المشكلة حسب سيرة العقلاء.

لكن من زاوية أخرى يمكن الإجابة على الشبهة: في البداية نقسّم المجرم إلى قسمين: مؤمن وكافر، فالمجرم المؤمن يتلقى عذابه، ثمّ يخرج من جهنم إلى الجنة ليستوفي أجره فيها. أمّا المجرم الكافر، إذا قلنا بعدم خلوده في العذاب، يمكننا القول إنّه بعد انقطاع عذابه فسينال ثواب عمله، أمّا إذا قلنا بخلود الكافر في العذاب عندها يصعب تصوّر ثوابه، إلاّ إذا اعتبرنا أنّ ثواب عمل الكافر يكون بتخفيف العذاب عنه أو رفعه مؤقتاً.

4. شبهة لزوم الظلم كانت مختصّة بالإحباط ولا تسري في الموازنة مطلقاً، ذلك لأنّه لا يطرح إسقاط الثواب كلّه أو العقاب كلّه؛ بل يُطرح جزء منه بالتناسب مع الطرف الآخر ، وهذا ما ترضاه سيرة العقلاء أيضاً.

5. التأثير التكويني للفعل على النفس ليس دليلاً ضد الموازنة؛ بل له، ذلك لأنّ أعمال الخير والشرّ تؤثّر فى بعضها البعض بمقدار سعتها ووزنها ويبقى الجزء غير المتأثّر سالماً، وبذلك يحدّد ثواب الفاعل أو عقابه.

أي: إنّنا إذا بحثنا الجزاء الأخروي عن الطريق التكويني، فسيؤدّي بنا البحث نحو الموازنة بمعنى التأثير التكويني والمتقابل بين نتائج أعمال الخير والشر في صقع النفس ولن تطرح الشبهات هذه كلها.

ص: 261

6. الإشكال السادس (الترجيح بلا مرجح) لن يرد أيضاً، لأنّه أوّلاً يمكن الوصول إلى ملاك موحّد، مثلاً تسقط الحسنات المتناسبة نوعياً مع الذنوب، أو الحسنات الخمسة الأخيرة أو الحسنات البسيطة وثانياً استناداً إلى اعتبارية الجزاء في الآخرة، فلا حاجة للملاك التكويني كمن هو مدين بعشرة آلاف درهم لشخص آخر، ويدفع له في المرحلة الأولى خمسة آلاف، فيسقط عنه نصف الدين، فلا أحد يسأل عقلياً: هل سقط عنه النصف الأوّل أم الثاني؟ وفي الموازنة أيضاً يسقط مقدار من الذنوب أو الحسنات، وهو أمر مقبول عقلياً(1).

7. بالنسبة للشبهة السابعة (تساقط الحسنات والسيئات والثواب والعقاب عند تساويهما) ينبغي القول إذا كنّا نبحث الجزاء الأخروي من زاوية تكوينية، فلن يكون هناك مثل هذه الحالة للأسباب الآتية:

أ) غلبة الفعل الأخير على آثار الأعمال السابقة: فآخر عمل يقوم الإنسان في الساعات الأخيرة من حياته الدنيوية يكون له تأثير على أعماله السابقة. فإذا كان مثل الكفر والارتداد بحدّة وشدّة بحيث تقضي على نتائج أعمال الخير السابقة نهائياً، أو كان آخر فعل جيّد مثل التوبة والعودة إلى الإسلام بحيث تظهر كلّ الآثار الظلمانية للذنوب. فهاتان الصورتان (الغلبة الكاملة للحسنات على الذنوب أو العكس) هما خارج فرض التساوي.

ب) عدم المغلوبية : إذا كان آخر فعل مؤثّراً في مغفرة جزء من آثار الأعمال السابقة، ففي هذه الحالة لا يطرح بحث الغالب والمغلوب.

ص: 262


1- عبدالله جوادي الآملي، التفسير الموضوعي للقرآن ج 5 ، ص 42

إنّ آثار الذنوب والحسنات التي لا يغلب أحدها الآخر في التقابل التكوينى حتّى للحظة الموت تبقى تحتفظ بتأثيرها وآثارها في صقع النفس، وفي ظلّها سيتعذّب الإنسان بسبب ذنوبه ويلتذّ بسبب حسناته.

ج) التساوي: هل يمكن أن تتساوى الحسنات والسيئات في الوزن والاعتبار، بحيث يقضي كلّ منهما على آثار الآخر، وتكون نتيجة ذلك خلو صحيفة الإنسان من أي فعل حسن أو شرير؟

يبدو من تحليل معنى فعل الخير وعمقه أنّ هذا القسم لا يعدّ افتراضاً عملياً، ذلك لأنّه إذا وضعت الذنوب والكفر والشرك والإرتداد - كما أشرنا - فسيؤدّي ذلك إلى إحباط الأعمال الحسنة. أمّا إذا كانت الذنوب مقتصرة على الأعمال وليس على العقيدة الباطلة، ومع افتراض وجود عقيدة توحيدية، فإنّ وزن هذا العمل وقيمته ستكون أوسع من الذنوب، لذلك، فإنّ فرض التساوي لا يحصل.

أي: إذا كان التوحيد أو الكفر في أي كفّة من الميزان خلال الموازنة فإنّ فرض التساوى محال.

قد يطرح هنا سؤال: قد يكون هناك إنسان لا يؤمن باللّه، لكنّه غير کافر ولا ينكر وجود اللّه؛ بل إنّه جاهل وقاصر أو شاك بالاثنين. في هذه الصورة يمكن الإدعاء أنّ فطرة معرفة اللّه والميل نحو اللّه موجودة في فطرة كلّ إنسان، وهذا ما يؤدّي إلى التغلب على الطرف الآخر. وهذا الملاك جار في الشك أيضاً، لكن إذا كانت كفّة الشك أكبر من إنكار وجود اللّه، عندئذ يكون ذلك العامل مؤثراً.

ص: 263

وعليه، فإنّ الآيات القرآنية أشارت إلى غلبة الحسنات أو غلبة السيئات: «فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ... وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ» ولم تشر إلى تساوي الطرفين.

الشبهة السابعة - صحيفة الأعمال:

أكدت الآيات المتعدّدة على تدوين جميع أعمال الإنسان في الدنيا على يد الملائكة وتقديمها إلى الإنسان في الآخرة:

«أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ» [الزخرف 80].

«وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِراماً كاتبين» [الانفطار 10-11].

وهناك آيات أخرى تخبر بجزئيات أكثر ، مثلاً أنّ هناك ملكين أحدهما عن اليمين والآخر عن الشمال مكلفين بكتابة أعمال الإنسان:

«إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشَّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ» [ 17-18].

وآية أخرى تتحدّث عن تسليم صحائف الأعمال في يوم القيامة، حيث يعطى المؤمن صحيفته بيده اليمين ويعطى الكافر صحيفته من خلف ظهره:

«فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِساباً يَسِيراً * وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُوا تُبُوراً * وَيَصْلى سَعِيراً» [الانشقاق 7-12].

ص: 264

السؤال هو: ما المقصود بتدوين أعمال الإنسان عبر الملائكة؟ فهل هناك ملك يدوّن أعمالنا بالقلم على ورقة ونتسلّم ما دوّنوه في يوم القيامة تحت عنوان صحيفة الأعمال ؟

إضافة إلى ذلك: هل تعلّق صحيفة الأعمال في عنق الإنسان، أم تعطى للمؤمن بيده اليمنى وللمذنب بيده اليسرى؟

بحث وتحليل:

إنّ تحليل كيفية صحيفة الأعمال وتبيينها يرتبط برؤيتين حول الجزاء الأخروي (الاعتباري والتكويني) وهذا ما سنوضحه:

1. حمل الكتاب على أساس كتاب مدوّن وإمكانية حصول ذلك:

الملاحظة الأولى هى لا إشكال عقلياً في حمل نصوص الآيات المذكورة على معناها الحقيقي وهو (وجود صحيفة أعمال مكتوبة ومسموعة ومصوّرة) ووجود ملكين مكلفين بتدوين أعمال الإنسان وتقديمها له يوم القيامة لئلا ينكرها هو أمر ممكن وسهل جدّاً على اللّه تعالی.

أمّا مسألة إعطاء الصحيفة باليد اليسرى أو تعليقها في عنق المذنب وإعطائها للمؤمن في يده اليمنى ليعرف المطيع من العاصي، ففيه نوع من التشجيع للمطيع والتوبيخ للعاصي. وكأنّ اللّه تعالى قد شكّل محكمة في المحشر، وحضّر ملف كلّ إنسان، وتسلّم وتحفظ الصحف بطريقة خاصّة تظهر أهل السعادة من أهل الشقاء.

بما أنّ معظم العلماء السابقين نظروا إلى الجزاء الأخروي نظرة اعتبارية، لذا كانت هذه رؤيتهم المختارة.

ص: 265

2. حمل الكتاب على الأعمال التكوينية:

الفلاسفة والقائلون بالجزاء التكويني وبعض المفسرين المعاصرين اعتبروا أنّ الكتاب الذي يمثّل صحيفة أعمال الإنسان ليس دفتراً أو كتاباً مدوّناً؛ بل هي الأعمال وآثارها الموجودة في صقع النفس والتي نسيها الإنسان أو كان غافلاً عنها فى الدنيا، فإذا سقط حجاب المادية ظهرت أمامه جزئيات أعماله كالكتاب المصوّر.

صدر المتألهين:

اعتبر (صدر المتألهين) أنّ آثار الأعمال الحاصلة في القلوب والأرواح تكون بمنزلة الرسوم والكتابات لصحيفة الأعمال (الحيثية القابلية) وكتّابها الملائكة (الحيثية الفاعلية):

«الآثار الحاصلة في القلوب والأرواح بمنزلة النقوش، والكتابة الحاصلة في الصحائف والألواح كما قال سبحانه:«أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمان». وهذه القلوب والأرواح يقال لها في لسان الشريعة صحائف الأعمال. وتلك النقوش والصور كما تحتاج إلى قابل يقبلها، كذلك تفتقر إلى فاعل، أي مصوّر وكاتب، فالمصوّرون والكتّاب لمثل هذه الكتابة النورية هم الكرام الكاتبون»(1).

الإمام الخميني:

يشير الإمام الخميني إلى الآية الشريفة: «ما هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ

ص: 266


1- صدر المتألهين، الأسفار : ج 9، ص 291

صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصاها» [الكهف 49] فيقول:

«لعلّ المقصود هو أنّ الأفعال والأعمال التي صدرت عن الإنسان وكانت من لوازمه الوجودية قد اجتمعت في وجود النفس، وأثبتت في لوح النفس... هي ملائكة اللّه التي تربي النفوس ولها سمة المقومية والربوبية على النفوس وربّ نوعها تسجّل بالكتابة التكوينية المعاليل والملكات الصادرة عنه في لوح نفسه»(1).

العلاّمة الطباطبائي:

يذكر (العلاّمة الطباطبائي) أربعة معانٍ استعملت في القرآن لمصطلح «الكتاب»:

أ) اللوح المحفوظ المشتمل على جميع حوادث الوجود.

ب) الكتاب النازل على الأنبياء.

ج) کتاب ضبط أعمال الإنسان.

د) الكتاب المدوّن.

«وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الالواح مِن كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةٌ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ» [الأعراف 145].

«وَأَلْقَى الأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ» [الأعراف 150].

«وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ» [الأعراف 154].

ص: 267


1- السيد روح الله الموسوي الخميني، المعاد: ص 350 السيد روح الله الموسوي الخميني، تقريرات الفلسفة : ج 3، ص 443

ويشير (العلاّمة) إلى دلالة الآية: «وَكُلَّ إنسانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ» [الإسراء 13] على وضع كتاب كلّ إنسانٍ في عنقه، وفسّره بالعمل الذي لن ينفصل عن ذات الإنسان، لأنّ العنق جزء أصلي وحياتي للإنسان.

«فالطائر الذي ألزمه اللّه الإنسان في عنقه هو عمله، ومعنى إلزامه اياه أنّ اللّه قضى أن يقوم كلّ عمل بعامله ويعود إليه خيره وشرّه ونفعه وضرّه من غير أن يفارقه إلى غيره»(1).

وأشار إلى الآيات الشريفة التالية:

«وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً» [الإسراء 13-14].

«يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ»[آل عمران 30].

«إنّ الكتاب يتضمن نفس الأعمال بحقائقها من دون الرسوم المخطوطة على حدّ الكتب المتعارف عليها بيننا في الدنيا، فهو نفس الأعمال يُطلع اللّه الإنسانَ عليها عياناً، ولا حجة كالعيان... وبالجملة في قوله: «وَنُخْرِجُ لَهُ» إشارة إلى أنّ كتاب الأعمال بحقائقها مستور عن إدراك الإنسان محجوب وراء حجاب الغفلة، وإنّما يخرجه اللّه سبحانه للإنسان يوم القيامة، فيطلعه على تفاصيله، وهو المعنى بقوله : «يلقاه منشوراً»(2).

ص: 268


1- السيد محمد حسين الطباطبائي، تفسير الميزان ج 13 ، ص 555
2- نفس المصدر : ص 555-556

لكنّه يصرّح في مكان آخر أنّ المقصود بإعطاء الكتاب باليد اليمنى أو اليسرى هو المعنى الكنائي. وهذا ما سنشير إليه في الصفحات القادمة.

الجوادي الأملي:

أفادَ من المعنى المطلق للكتابة، وعدّه أشمل من الوجود الخطي واللفظي، لذلك نسبه اللّه إلى نفسه:«كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ» [الأنعام 54].

«صحيفة الأعمال ليست بمعنى الدفتر والكتاب الدنيوي، وهو يحتوي أعمال الإنسان، وما ورد في الآيات عن كتابة الأعمال الكتابة تعني الضبط والكتابة من مصاديق الضبط والثبت(1)... وصحيفة الأعمال ليست كتاباً خطياً أو لفظياً، بل كتاب سطوره تخط بالأعمال والعقائد والأخلاق والسيرة التي للإنسان طوال عمره»(2).

وفي موضع آخر يعلّل ضرورة تفسير صحيفة الأعمال بكتاب التكوين (الأعمال): «الوجود اللفظي أو الخطي اعتباري، كما أنّ كلّ قوم يتحدّثون بلفظ خاص ويكتبون بخط ولغة خاصّة، لكن في الآخرة الأمور اعتبارية»(3).

حسن زاده الآملي:

ذكر (الآملي) في عدّة مؤلفات له أنّ صحيفة الأعمال تكوينية :

«صحيفة النفس هي صحيفة الأعمال، فهذه الصحيفة أعدّت من

ص: 269


1- عبد الله الجوادي الآملي، التفسير الموضوعي للقرآن ج 4 ، ص 425
2- عبد الله الجوادي الآملي، تفسير التسنيم: ج 13، ص 715
3- نفس المصدر : ص 687

الأعمال. وهذه الصحيفة هي كتابك «الذي لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أخصاها» (1)[الكهف 49]

مكارم الشيرازي:

كتّاب التفسير الأمثل رفضوا أن تكون صحيفة الأعمال خطية أو لفظية، واعتبروها كتاباً تكوينياً، وشرحوها على أساس التفسيرين (الأعمال المندرجة في النفس أو المندرجة في عالم التكوين):

«لا شك أنّها ليست من جنس الكتاب والدفتر والرسائل المعروفة، لذا قال بعض المفسرين إنّ صحيفة الأعمال لا تعدو كونها «روح الإنسان» التي سجلت فيها آثار جميع الأعمال، ذلك لأننا عند القيام بأي عمل فسيترك أثره في روحنا ونفسنا.

أو إنّ صحيفة أعمالنا هي أعضاء الجسم حتّى الجلد إضافة إلى الأرض والهواء والجو الذي أدّينا العمل فيه، ذلك لأنّ أعمالنا تؤثّر في الجسم وكلّ ذرات البدن، وتنعكس في الهواء والأرض. ورغم أنّ هذه الآثار غير محسوسة لنا في هذه الدنيا، لكنّها موجودة دون شك، وفي ذلك اليوم يصبح نظرنا نافذاً إلى الحقيقة فنرى كلّ تلك الآثار ونقرأها»(2).

الأستاذ المطهري أخذ بهذا الوجه كخيار ثانٍ(3).

ص: 270


1- تعليقات على الخواجه نصير الطوسي، البداية والنهاية ص131. وكذلك: دروس اتحاد العاقل والمعقول.
2- ناصر مكارم الشيرازي ، التفسير الأمثل : ج 12 ، ص 55
3- مرتضى المطهري، مجموعة المؤلفات: ج 21 ، ص 425

الشبهة الثامنة - تسليم صحيفة الأعمال في اليد اليمني أو اليسرى:

مرّ معنا في الصفحات السابقة عدد من الآيات التي تؤكد أنّ صحيفة أعمال السعداء تعطى لهم باليد اليمنى وصحيفة أعمال أهل جهنم تعطى لهم باليد اليسرى. السؤال هو: هل يحدث ذلك بهذه الصورة في الآخرة؟

بحث وتحليل :

اتّضح للقارىء الفاضل في الصفحات السابقة أنّ جواب هذا السؤال يتعلّق بالمبنى المختار في تفسير الكتاب وصحيفة الأعمال. فالذين يفسّرون صحيفة الأعمال بالكتاب المدوّن، يعتقدون أنّه عندما يسلّم هذا الكتاب إلى الإنسان لابدّ من أن يعطى له بيده.

هذا القول يكون ممكناً وخالياً من الإشكال عندما يكون كافٍ ليعلم الإنسان بجزئيات أعماله في الدنيا، وتتمّ الحجة الإلهية عليه، ويعرف منه إن كان من أهل السعادة أم من أهل الشقاء.

لكن يطرح هنا سؤال أيضاً: هل يثبت هذا القول من النصوص الدينية أيضاً؟

شواهد الكناية في معنى الكتاب وفي تسليمه باليد اليمنى واليسرى:

من لوازم النظرة التكوينية للكتاب وصحيفة الأعمال في الآخرة أن تحضر وتظهر أعمال الإنسان بصورة واقعياتها الخاصّة بها (المندرجة في النفس وملكاتها) وأن تحضر في وجود الإنسان.

ص: 271

في هذه الصورة يكون المقصود من تسليم الإنسان أعماله بيده اليمنى أو اليسرى كناية عن حضور أصل وجودها إلى جانب الإنسان، كما تدل الآية الشريفة على إلزام الإنسان جميع أعماله الحسنة والسيئة ووضعها في عنقه أنّها ستكون ملازمة للإنسان والشواهد الآتية تقوّى هذه النظرية.

1. مراعاة اللغة والمرتكزات العرفية:

لماذا تحدّث القرآن عن إعطاء الكتاب باليد اليمنى واليسرى وتعليقه بالعنق ؟

الإجابة هي أنّ كلّ كاتب ومتكلم إنّما يجعل مبنى مقاله وكلامه هو فهم المخاطبين وأدبهم ،ومرتكزاتهم، ليتمكنوا بسهولة من فهم غاية كلامه. هذا الأصل والقاعدة سارية على القرآن، بل وعلى سيرة جميع الأنبياء:

«ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ» [إبراهيم 4].

والأدب السائد في الجزيرة العربية يشتمل على: المضامين والأمثال والكنايات ومرتكزات أخرى لاحظتها الآيات القرآنية واستعمالاتها.

1 - 1. تقسيم الناس إلى أصحاب يمين وشمال (التفاؤل باليمين والتشاؤم باليسار): من مرتكزات الناس حينها هو التفاؤل عند ظهور طائر إلى جانبهم عند السفر، فإن كانت وجهته من يسارهم إلى يمينهم تفاءلوا بالخير وإن كانت وجهته من يمينهم إلى يسارهم تشاءموا.

علاوة على ذلك، فإنّ جهة اليمين تمثّل في ثقافة شعوبنا اليمن والبركة وهي مفضلة على الجهة اليسرى دوماً، فيقال أجلسه إلى يمينه امتداحاً له. وعليه، فإنّ اللّه تعالى عندما يخاطب أبناء الجزيرة العربية ومكة كأمّ القرى،

ص: 272

يتحدّث عن التأثير الإيجابي والسلبي للأعمال في يوم القيامة ليفهمهم ويعظهم ويحذرهم من المحكمة التي ستشكل في يوم المحشر، وعودة الأعمال وتسليمها لأصحابها، فيقسم البشر الحاضرين هناك بداية إلى قسمين: أهل السعادة وأهل الشقاوة فيسمّي القسم الأوّل أصحاب اليمين والميمنة، والقسم الثاني أصحاب الشمال والمشئمة:

«فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحابُ المُشْتَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْتَمَةِ» [الواقعة 98].

«كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلا أَصْحابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ» [المدثر 38-40].

«أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ» [البلد 18-19].

من الواضح أنّ مقصود الآية من أصحاب اليمين وأصحاب الشمال ليس الموجودين على اليمين وعلى اليسار؛ إنّما المقصود هم أهل السعادة وأهل الشقاء. ويؤيّد هذا الإدّعاء استعمال وصف «الميمنة» للسعداء ووصف «المشئمة» للشقاة والجهنميين.

فالميمنة من اليمن والبركة، والمشأمة من الشؤم، واستعمالهما بدل «اليمين واليسار والشمال» يوضح أنّ المراد به (اليمن والشؤم) واليمين واليسار المكانى لا علاقة له في السعادة والشقاء.

2 - 1 الكتاب ملف ووثائق محكمة القيامة ويخبر اللّه

بعد ذلك عن كيفية تسليم الإنسان ملفه. لكن ما هو هذا الملف؟ الآيات المتعدّدة تشير إلى

ص: 273

أنّ الأعمال نفسها يشاهدها الإنسان ويتسلمها في يوم القيامة، ويجازي عليها:

«فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ» [الزلزلة 8-7]

سيأتي في الفصل القادم توضيح أكثر لتكوينية الجزاء الأخروي.

يعبّر اللّه تعالى عن الوثائق والمستندات المستخدمة في محكمة القيامة ب- (صحيفة الأعمال) وما يسمّى اليوم في المحاكم الدنيوية والعرفية بملف المتهم أو القضية. إذاً، فالتعبير عن أصل الأعمال بالكتاب جاء من باب مراعاة الثقافة ومرتكزات المخاطبين والعرف الرائج عندهم.

وفي المرحلة الثالثة يشير الله تعالى إلى أنّ محكمة الآخرة تختلف عن محكمة الدنيا بأنّ الملف ووثائق السعادة أو الشقاء لن تعرض على المستفيد وحضور المحكمة؛ بل يسلّم إلى الإنسان ليرافقه دوماً؛ لأنّ حقيقة الإنسان الحاضر في يوم القيامة مرتبطة بوثيقة السعادة أو الشقاء (الأعمال). من هنا أشارت الآية الكريمة إلى إلصاق الطائر وأعمال الإنسان وإلزامه بعنقه : «وَكُل إِنسَانِ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ» [الإسراء (13]، إلزامه في عنقه هو كناية عن دوام التصاق العمل بصاحبه، لذلك ينبغي أن يتسلّم الإنسان ملفه (الكتاب وصحيفة الأعمال).

3 - 1. شرف اليد اليمنى ودناءة اليد اليسرى في البداية نشير إلى أنّ اليد اليمنى واليسرى هي تماماً كالجهة اليمنى واليسرى، جاءت من الشرف والقوّة، ومن الدناءة والضعة ،لذا كان العرب عندما يريدون الإعلان عن حسم المعاملة وقطعيتها يمدون اليد للمصافحة قسماً وعهداً، ويمدّون اليد اليمنى لمثل

ص: 274

هكذا اتفاق. ومن المتعارف عليه عندنا أن يقال مدّ فلان يده اليمنى، إذاً، هناك تفضيل وترجيح لليد اليمنى على اليسرى.

بالنسبة لطريقة تسليم ملف المحكمة الإلهية أي ملف أعماله وحفظه ينبغي القول إنّ الأسلوب الرائج والأبسط هو تسليمه للمعني بيده، وبما أنّ هناك ملفاً يدعو للسعادة، وآخر يدعو للشقاء؛ لذلك وحسب المرتكز العرفي القائل بأنّ اليمن في اليمين والشؤم في اليسار، لذلك يسلّم ملف السعادة باليد اليمنى ويسلّم ملف الشقاء باليد اليسرى ليمتاز أهل السعادة من أهل الشقاء في محكمة المحشر الإلهي(1). ولو استعمل القرآن عكس ذلك لأشكل عليه بشبهة عدم استخدامه للغة العرفية: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ» [إبراهيم 4].

2. التزام كتاب كلّ إنسان والتصاقه بعنقه:

إذا حملنا المضامين المذكورة على معناها الظاهري (تسليم صحيفة الأعمال باليد اليمنى أو اليسرى وإلزامه بالعنق) وحسب الآية:«وَكُلَّ إِنسانٍ

ص: 275


1- اعتبر العلامة الطباطبائي أنّ أهل اليمين هم الذين عرفوا إمام زمانهم في الدنيا، ذلك لأنه في يوم القيامة تدعى كل فئة بإمامها حسب الآية: ﴿ يَومَ يُدْعَى كُلَّ أَنَاسِ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ... [الإسراء 72] ، لذلك تحشر كل فئة مع إمامها، فإن عرفوا في الدنيا إمامهم الحق وثبتوا معه كانوا من أهل اليمين والسعادة كإمامهم، وبتبع ذلك يعطون كتابهم وصحيفة أعمالهم بيدهم اليمنى وإن لم يكونوا كذلك كانوا من العميان وأهل الشمال والعذاب اليمين إثبات الإمام لأنه كتابه يقرؤه، وإن أثبته أعطي كتابه بيمينه (السيد محمد حسين الطباطبائي، تفسير الميزان: ج 19، ص 402). في هذه العبارة يعدّ العلامة الطباطبائي أنّ الإمام هو كتاب الإنسان، وأنه في حال معرفته وإثباته سيكون عارفه ملازماً له، ويصبح من أهل السعادة.

أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ» [الإسراء (13]، فإنّ كلّ إنسان جهنمياً كان أم جنتياً فستعلّق صحيفة أعماله في عنقه، وهو خلاف الآيات الدالّة على إعطاء كتاب المؤمن بيده اليمنى وكتاب العاصي بيده اليسرى من دون الالتزام بتعليقه في العنق.

3. الإبهام في كيفية إعطاء كتابي (الحسنات والسيئات) للإنسان: هناك آيات عدّة تدل على حضور جميع أعمال الإنسان من حسنات وسيئات في المحشر والقيامة:

«فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ» [الزلزلة 7-8].

«يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً» [آل عمران 30].

«وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً» [الكهف 49].

مثل هذه الآيات فسّرها القائلون باعتبارية الجزاء الأخروي بأنّها هي الجزاء أو صحيفة الأعمال(1). وهنا يطرح هذا السؤال: إذا كان المقصود هو تسليم الكتب باليد اليمنى أو اليسرى، فكيف سيكون حال الذين خلطوا أعمالهم بين الحسنات والسيئات ؟

هناك فرضان:

أ) تسليم صحيفة الحسنات باليد اليمنى وصحيفة السيئات باليد اليسرى: هذا الفرض يخالف ظاهر الآيات التي تخبر عن إعطاء الكتاب بإحدى

ص: 276


1- للإطلاع أكثر على آراء المفسرين راجع كتب التفسير.

اليدين إمّا اليمين أو اليسار، وبتبع ذلك تقسّم الناس إلى فئتين: أصحاب اليمين وأصحاب الشمال.

ب) تسليم الكتاب بيد واحدة: كلّ إنسان سيتسلّم كتاباً فيه حسناته وسيئاته، فإن غلبت الحسنات تسلّم الكتاب باليمين، وإن غلبت السيئات تسلّم كتابه بيساره.

إلى هذا الحد لا يبدو هناك إشكال على هذا الفرض لكن السؤال: ما هو مصير الشخص الذي غلبت حسناته سيئاته أو على العكس، وهل سيكون الأول من أهل الجنة والآخر من أهل النار؟

ظاهر الآيات التي تتحدّث عن تسليم الكتاب باليمين تصف مصيره بالعيشة الراضية أي الجنة والتي تتحدّث عن تسليم الكتاب بالشمال تصف مصيره بالنار. في حين أنّ هذا الحكم لا ينسجم مع الآيات الدالّة الدالة على المحاسبة على جميع الأعمال سيئة كانت أم حسنة وهذا الحكم ينسجم أكثر مع الإحباط والتكفير الذي أخذ به المعتزلة وبالموازنة التي أظهرنا ضعفها في

الصفحات السابقة.

تبرير العلاّمة الطباطبائي:

يقدّم العلاّمة الطباطبائي ثلاثة تفاسير أو تبريرات في اعتباره لليد اليمنى واليسرى كناية: «المقصود من اليمين والشمال هما الجنبتان القوية والضعيفة للإنسان أو اليدين المرتبطتين بتلكما الجنبتين، أو بجنبتي السعادة ،والشقاء ومن البديهى أنّ المقصود ليست اليدان اليمنى واليسرى كما يتصوّر أهل الظاهر وغيرهم»(1).

ص: 277


1- السيد محمد حسين الطباطبائي، الإنسان من البداية وحتى النهاية: ص 131.

4. استعمال «بیمینه» بدل «لیمینه»:

دليله الأوّل هو تعبير الآية: «أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ» و« بِشِمَالِهِ» ومعنى الباء هنا السببية أو الواسطة، أي «من أعطى كتابه بواسطة وبسبب يده اليمنى فسيكون حسابه سريعاً وسهلاً» ونوع عبارة «بيمينه» يدل على أنّ كتاب المؤمنين بسبب يدهم اليمنى، أي إعطاء كتابهم بسبب سعادتهم وميمنتهم، ولأنّهم کانو من أصحاب الميمنة فسيقدم لهم الكتاب عن اليمين كناية عن مقامهم ومكانتهم السامية. ويعطى كتاب الكفار عن اليسار بسبب يدهم اليسرى، أي إعطائهم كتابهم بسبب شقائهم وكونهم من أصحاب الشمال. ولا يعني أنّ المؤمنين سيعطون كتابهم بيدهم اليمنى وإلاّ لكانت الآية هكذا: أوتي كتابه ليمينه واللام تعني لأجل ، أي سيعطى الكتاب بيدهم اليمني، في حين أنّ الآية ليست كذلك(1).

5. قسم «وراء ظهره»:

الدليل الآخر الذي أورده العلاّمة الطباطبائي هي الآية الشريفة التي استعاضت عن اليد اليسار أو الشمال بتعبير آخر: «مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْره» [الإنشقاق 10]، فيقول:

«والشاهد على هذا المطلب هي الآيات الشريفة: «فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً * وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُوا نُبُوراً» [الإنشقاق 7-11]، واستعملت عبارة وراء ظهره بدل الشمال، وهو دليل على أنّ المقصود ليست اليد اليسرى،

ص: 278


1- السيد محمد حسين الطباطبائي، الإنسان من البداية وحتى النهاية: ص 132.

لأنّ وراء ظهره لا تعني ذلك(1).

6. آية «يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمَامِهِمْ»:

الدليل الثالث الذي أورده العلاّمة هو الاستفادة من معنى الباء السببية في الآية: «يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً * وَمَنْ كانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً» [الإسراء 71-72].

ويوضح العلاّمة الطباطبائي فيقول:

«في هذه الآية يقول : إنّه تعالى يدعوهم بإمامهم، ولم يقل لإمامهم أو إلى إمامهم، في حين استعمل لفظة «إلى» عندما لم تكن الوساطة هي المقصودة فقال: «كُلُّ أُمَّةٍ تُدعى إلى كتابها» ولم يقل (بكتابها). وعليه، فإنّ الدعوة بالإمام تعنى نفيرهم بأمر إمامهم، وهو غير الدعوة إلى الكتاب»(2).

ويؤكد (العلاّمة ) أنّ المراد من اليمين هو اليمن والبركة وإمام الحق، والمراد من اليسار أو الشمال هو اللايمن واللامباركة والشؤم والشقاء وليس المقصود اليد اليمنى واليسرى. وذكر (العلاّمة) شواهد آخر لإثبات فرضيته، لا مجال لذكرها ها هنا.

7. النظام الأخروي تكويني:

إنّ تفسير الكتاب بالصحيفة المدونة وتسليمها باليد اليمنى أو اليسرى

ص: 279


1- السيد محمد حسين الطباطبائي، الإنسان من البداية وحتى النهاية: ص 131-132
2- نفس المصدر : ص 132

ينسجم مع النظام الدنيوي لأنّ محاكمها اعتبارية، أمّا نظام الآخرة، وحسابها وجزاؤها فهو من السنخ التكويني، وهو ما لا يتلاءم مع التفسير الظاهري والاعتباري للتعاليم الأخروية، ذلك لأنّه لو كان المقصود من الكتاب هي أعمال الإنسان وصورتها المتجسمة في القيامة لكان تبيان طريقة تسليم كلّ تلك الاعمال بيد إنسان، ووجه فلسفة ذلك أمر غير ممكن. وقد أشرنا في الصفحة السابقة إجمالياً إلى تكوينية الجزاء الأخروي، وسيأتي تفصيل ذلك في الفصل القادم.

الشبهة التاسعة - كيفية تكلم أعضاء البدن وشهادتها:

تحدّث القرآن الكريم في آيات عدّة عن وجود شهود في يوم القيامة مثل: اللّه تعالى، الأنبياء الملائكة:

«فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ» [يونس 46].

«وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِراماً كاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ» [الانفطار 10-12].

«وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً» [النساء 159].

ومن الشهود أعضاء بدن الإنسان مثل اليد، الرجل، العين، الجلد فكلّها تنطق بأمر اللّه حسب صريح الآيات:

«يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ» [النور 24].

«الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ»[یس 65].

ص: 280

«حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا جُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ»[فصلت 20-21].

الشبهة حول إمكانية تكلم الجسم الجماد وكيفية ذلك، لأنّهم عندما يعرفون الإنسان فى الدنيا يقسّمونه إلى جزئين: نفس ذات شعور ووعي، وبدن فاقد للإدراك والعلم. أمّا في الآخرة فيبدو أنّ جميع أجزاء البدن ذات شعور؛ بل اکثر من ذلک تصبح قادرة على التكلّم أيضاً. وهو ما لا يتلاءم مع عنوان الجماد.

علاوة على ذلك، فإنّ من لوازم المعاد الجسماني (عودة عين البدن الدنيوي في الآخرة) هو عدم شعور البدن وأعضائه وعجزهم عن التكلّم، ذلك لأن البدن الدنيوي فاقد للعلم، وينبغي أن تكون صورة البدن المحشور والمعاد كذلك أيضاً، لتصدق عليه العينية.

إشارة إلى الآراء:

هناك آراء عدة حول كيفية تكلّم أعضاء البدن في يوم القيامة:

1. النطق بقدرة اللّه :

أكثر العلماء عند توصيفهم للجوامد يعتقدون أنّها فاقدة لصفة العلم والشعور. وأنّ أعضاء البدن مشمولة بهذا الحكم، وأنّ تكلمها في يوم القيامة سيكون بقدرة اللّه تعالى الذي سيمنحها تلك القدرة، فيخلق فيها القوّة والبنية التي تمكّنها من النطق. وطرح المفسّرون ثلاثة وجوه من النطق خلال تفسيرهم للآيات المتعلقة به:

ص: 281

«أحدها: أنّ اللّه تعالى يبنيها بنية يمكّنهم النطق بها والكلام من جهتها. الثاني: أن يفعل اللّه تعالى في هذه البنية كلاماً يتضمن الشهادة، فكانّها هي الناطقة والثالث: أن يجعل فيها علامة تقوم مقام النطق بالشهادة»(1).

مثال ذلك: المعجزات التي حصلت للأنبياء كتسبيح الحجر والحصى بأمر النبی صلی الله علیه و اله و سلم.

2.إيجاد النطق في الأعضاء عبراللّه:

أنّ اللّه لا يتصرّف فى أعضاء البدن؛ بل إنّه ينطق العضو بإيجاد النطق فيه، فيبدو في الظاهر أنّ العضو يتكلّم.

3.النطق كناية:

هذا الجواب على خلاف الجوابين السابقين اللذين حملا النطق على معناه الظاهري، فاعتبر أنّ النطق ليس ظاهرياً؛ بل فسّره كناية، أي إنّ اللّه تعالى يخلق في أعضاء البدن علامة خاصّة تظهر جواباً على السؤال، وتفيد هذه العلامة بما يشبه النطق وتقوم مقامه.

بحث وتحليل :

العلاّمة الطباطبائي خلال تحليله لهذه الردود الثلاث يشير إلى نقطة دقيقة في معنى الشهادة:

«وشهادة الأعضاء أو القوى يوم القيامة ذكرها وإخبارها ما تحملته في الدنيا من معصية صاحبها، فهي شهادة أداء لما تحملته. أو التحمّل في الدنيا حين

ص: 282


1- الشيخ الطوسي، التبيان في تفسير القرآن ج 7، ص 423

العمل. كما لو جعل اللّه لها شعوراً ونطقاً يوم القيامة، فعلمت ثمّ أخبرت بما علمته، أو أوجد اللّه عندها صوتاً يفيد معنى الإخبار من غير شعور منها به، لم يصدق عليه الشهادة ولا تّمت بذلك على العبد المنكر حجة وهو ظاهر، وبذلك يفسد قول بعضهم: إنّ اللّه يخلق يوم القيامة للأعضاء علماً وقدرة على الكلام فتخبر بمعاصي صاحبها وهو شهادتها. وقول بعضهم: إنّه يخلق عندها أصواتاً في صورة كلام مدلوله الشهادة وكذا قول بعضهم: إنّ معنى الشهادة دلالة الحال على صدور معصية كذائية منهم»(1).

4.النطق والشهادة الحقيقية للأعضاء:

بعض المفسّرين والفلاسفة فسّروا نطق أعضاء الإنسان وشهادتها على أنّه نطق حقيقي وشهادة حقيقية، وتوضيح ذلك بالنقاط الآتية:

أ) إمكان العلم في الجوامد:

العرفاء وأكثر الفلاسفة المسلمين يعتقدون أنّ كلّ الموجودات من إنسان وحيوان ونبات وجماد تمتلك شعوراً ومعرفة إلهية(2).

لكن لهذا الشعور والإدراك مراتب مختلفة مثل: وجود النور وأمواج

ص: 283


1- السيد محمد حسين الطباطبائي، تفسير الميزان ج 17، ص378.
2- صدر المتألهين الأسفار: ج1، ص 118 و ج 7، صص 153 و235/ السيد محمد حسين الطباطبائي، تفسير الميزان ج 17 ، ص 381. هناك اختلاف في الرأي بين الفلاسفة مثل صدر المتألهين والعرفاء مثل محي الدين ابن العربي حول كيفية وجود المعرفة في الجوامد صدر المتألهين يعتبر أنّ منشأ معرفة الجوامد هو العقل ورب النوع المرتبط بها، حتى إذا انقطعت العلقة المذكورة فقد الجامد المعرفة. أما العرفاء فقد عدّوا أنّ المعرفة ممتزجة بذات الجوامد.

الصوت ذات التردّدات المختلفة. النقطة الدقيقة هي أنّ الإنسان يسمع الأصوات بتردّدات محدّدة، وهو عاجز عن سماع تردّدات الأصوات الأدنى والأعلى، في حين أنّ بعض الحيوانات تسمع تلك الأمواج. ينقل أنّ القرود تسمع حركة طبقات الأرض، فتعلم بحصول الزلازل قبل ظهورها على السطح، فتغادر منطقة الخطر.

وبما أنّ معرفة النوع الإنساني وشعوره محدودة بالمعارف ذات العرض المشترك، لهذا فإنّ الإنسان عاجز عن معرفة المعارف التي ما دونه مثل: وجود النبات والجماد والتي ما فوقه مثل: الوجود المجرّد كالملائكة. ويستثنى من هذا الحكم الإنسان الكامل. وعليه ليس هناك دليل على فقدان المعرفة والعلم عند سائر الموجودات الأخرى؛ بل تبقى في حد الإمكان.

اعتراف بعض علماء الفيزياء بوجود الوعي عند المادة:

مع تطوّر فيزياء الكوانتوم (النواة المركزية للذرة) أدرك بعض علماء فيزياء الكوانتوم وجود وعي وسريانه في المادة والجوامد. فمثلاً (ديفيد بوهم) الفيزيائي المعاصر والبارز في فيزياء الكوانتوم بجامعة لندن أكّد وصرّح بوجود الوعي عند الذرات النووية، واعتبر أنّ تقسيم العالم إلى موجود حي وآخر غير حي لا معنى له(1).

ص: 284


1- نقل مايكل تالبوت نظرية (بوهم) فقال: يعتقد بوهم أنّ هناك وعياً وإدراكاً دقيقاً لدى المادة مع الأجسام المتكوّنة منها، وهناك علامة عميقة قائمة على نظم غير مستتر، ففي كلّ ذرات المادة وعي وإدراك بدرجات مختلفة، ولعل ذلك بسبب حمل البلازما لبعض خصائص الأشياء الحية... ويقول بوهم حتى الحصاة فهي حية بنحو خاص» (مايكل تالبوت عالم الهلوغرافيك، ترجمة داريوش مهرجوئي: ص 66-67)

ب) تأييد العلم لضبط وحفظ الآثار والانعكاسات المادية في الجوامد:

لو تسنّت لنا العودة إلى ما قبل ثلاثة قرون، وطرحنا حينها هذا السؤال: هل يمكن تسجيل الصوت والصورة للإنسان ولسائر الحوادث في شريط تسجيل وفيلم أو قرص مدمج ؟ فسنسمع جواباً بالنفي. لكن اليوم مع تطوّر العلم التطبيقي اتّضح أنّ المادة ذات الحجم الصغير يمكنها أن تخزّن مئات بل آلاف الصور والأفلام، وأن تعيد عرضها بعد سنوات كما هي.

الأمواج الصوتية والمصوّرة يمكن تخزينها في المادة، لكن الإنسان كان عاجزاً قبل ثلاثة قرون عن إعادة عرضها، واليوم بعد أن حصل الإنسان على هذه التقنية يكتشف كلّ يوم جهازاً جديداً ونظاماً، ويزداد الأمل عنده باستعادة الأصوات المخزنة في الأشياء من القرون الماضية.

اكتشف علماء الفيزياء خلال العقود الماضية وجود ذاكرة في بعض الأجسام، أي إنّ الأجسام إضافة إلى ردود الفعل التي في مقابل الفعل، فإنّها تمتلك ذكاءً وذاكرة تمكّنها من العودة إلى شكلها السابق بعد تغيّره. وأطلق علماء الفيزياء وصف «المواد الذكية» عليها . المرة الأولى حصلت عندما اكتشف الدكتور (ويليام بوهلر) بمساعدة الفيزيائى الشهير (فردريك ويل) عام 1960م معدن «نيتنيول 55»(1). واليوم يستخدم الفيزيائيون هذه التقنية

ص: 285


1- رضا باكنجاد، أوّل جامعة وآخر نبي: ج 4 ، ص 32 نقلاً عن محمد باقر شريعتي السبزواري المعاد في نظر العقل والدين: ص 256. من الأمور الأخرى التي تثبت صحة هذا الادعاء قصة الإبريق المصري، فعندما عثر في مصر على إبريق فخار مصنّع قبل خمسة آلاف عام ونقله إلى متحف بريطاني، وبينما كان الخبراء منشغلون بدراسة الجوانب الفنية كانوا يديرونه على جهاز فصدرت منه أصوات غناء بتردّد خاص، وبعد مدة من البحث والتحقيق خرجوا بنتيجة مفادها أنّ صانعه كان يديره بنفس هذه السرعة وكان يغني وعندما أدير بنفس السرعة لكن بالإتجاه المعاكس صدر عنه ذلك الصوت نفسه. ونقل المهندس مهدي البازركان عن مقالة أجنبية تقول إنّهم وضعوا كوز الماء على جهاز دوار يشبه الغرامافون فخرج الصوت من الخطوط الدقيقة التي أوجدتها خشبة صانع الكوز، هذه الخطوط هي التي كانت تخزن تلك الأصوات. (مهدي بازركان، الطريق الذي عبرناه ص 124 مرتضى المطهري، مجموعة المؤلفات: ج1، ص 325).

بشكل واسع في مجال صناعة خلايا العظام في علم معالجة العظام والكسور والأسلاك النورية الذكية نيتينول في تقنية الاتصالات.

عالم الهولو غرافيك:

تولّى علم الهولو غرافيك وتقنياته ونظرياته مهمة الكشف عن وجود الوعي في المادة، وتخزين الحوادث فيها، واستعادتها، وبموجب ذلك، فإنّ أصغر شيء في العالم يحتوي على معلومات العالم كلّه. واستطاع بعض الناس من ذوي الخوارق طوال التاريخ أن يشاهدوا حوادث ذلك الزمان كفيلم ثلاثي الأبعاد من خلال التركيز على جسم محدّد(1).

إذا نظرنا إلى الطبيعة نظرة دقة وتأمّل بعيداً عن الاكتشافات العلمية الحديثة، فسنجد أنّ هناك معرفة وقدرة على تخزين المعلومات؛ بل تخزين الأصول والمباني الحياتية والمصيرية للجسم المستقبلي في الجسم؛ بل في ذرة صغيرة جدّاً مثل جين الكروموزم عند الإنسان. ففي هذا الجين قد خزنت كليات

ص: 286


1- سيأتي توضيح ذلك في الفصل الأخير خلال بحث تجسّم الأعمال في نظر العلم التطبيقي

السلوك الظاهري والباطني وشكل الإنسان وتفاصيله باسم والد إنسان مستقبلى هو الابن، وتظهر تلك الصفات المخزنة على المولود طوال الأشهر والسنوات تدريجياً.

أو إذا نظرنا إلى بذرة شجرة أو وردة، نجد أنّ جميع صفات تلك الشجرة أو الوردة قد أودعت فيها، لتظهر فيما بعد في الشجرة الجديدة أو الوردة الجديدة.

وعليه، يبدو أنّ للجماد شعوراً وقابلية تخزين الصفات والخواص والصوت والصورة والآثار، لكن الإنسان لم يصل إلى تلك التقنية حالياً، لكنّها سهلة وممكنة على الله القادر المطلق وخالق الوجود كلّه، وفي القيامة يجعل تلك القابلية ظاهرة وفعلية في أعضاء بدن الإنسان، فتبدي كلّ ما حفظته وخزنته من أعمال الإنسان.

ج) دلالة الأدلة النقلية على وجود العلم في الجماد:

بعد الإشارة إلى إمكانية وجود المعرفة لدى الجماد في نظر العقل والعلم، نستعرض حصول ذلك في المنظار النقلي:

تشير الأدلة النقلية على وجود المعرفة والشعور وسرايتهما في جميع الأشياء، والآية التالية صريحة وشفافة في إثبات المدّعى:

«تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً» [الإسراء 44].

النقطة الدقيقة هي أنّ الدلائل المذكورة تؤكد بشفافية أنّ الإنسان لا يدرك شعور الجماد ،وعلمه، لكن عدم الإدراك هذا ليس دليلاً على عدم

ص: 287

المعرفة؛ بل يمكن نفى وجود معرفة وشعور لدى الجماد بنفس رتبة الإنسان.

من خلال تعدّد مراتب الشعور واختلافها والعلم الجاري في الإنسان والجماد يظهر ضعف هذه الشبهة التي تقول لو كان للجماد شعور لبانت لنا حقيقته ولمسنا ،آثاره ذلك لأنّه كما جرت الإشارة أنّنا لا ندرك سوى المعرفة والآثار الموجودة في رتبتنا، وبسبب جهلنا لأصل المعرفة عند الجوامد نجهل آثارها المعرفية أيضاً، وجهل الأثر ليس دليلاً على عدم وجوده(1).

الأدلة والشواهد على وجود الوعي عند أعضاء البدن:

بعد اتضاح وجود العلم والشعور عند الجماد ومن ذلك أعضاء بدن الإنسان، اتّضحت مسألة نطقها وتكلّمها، ذلك لأنّنا عندما عرفنا أنّ الجماد ومن ذلك أعضاء البدن في الدنيا مطّلع على أعمالنا وسلوكنا، وأنّ هذه المعرفة تخزن في جسمها الجامد، وحسب التعبير المعلوماتي saves» ويمكن استخراجها وإعادة قراءتها، ونتيجة ذلك أنّ أعضاء البدن تكون في يوم القيامة كالمواقع الإلكترونية تفتح كلّ ملفاتنا وأعمالنا ،وتعرضها وهو النطق الحقيقي، ذلك لأنّ النطق والكلام بوصفه مصطلحاً هو عبارة عن إظهار المحتوى الباطني أو إظهار ما في الضمير والشواهد الآتية تقوّي ذلك وتدعمه:

أ) معنى الشهادة:

أوّل دليل على هذا الوجه هو دقّة معنى الشهادة، ذكر سابقاً أنّ معنى الشهادة يرتبط بالإدراك والتحمّل الواعى لأصل الفعل الذي يشهد عليه.

ص: 288


1- السيد محمد حسين الطباطبائي، تفسير الميزان ج 17، ص 382

وبالنسبة إلى هذا البحث فإنّ شهادة الأعضاء إنّما تكون بالمعنى الدقيق للكلمة عندما تكون الأعضاء شاهدة على أعمال الإنسان في الدنيا، وهذا فرع من وجود العلم في الأعضاء.

ب) اعتراض الإنسان على شهادة الأعضاء:

الدليل الآخر هو ظاهر الآيات التي تخبر بنطق الأعضاء وتكلّمها وشهادتها. ومن جملة ذلك أنّ الإنسان يعترض على شهادتها، فتجيب الأعضاء عليه:

«وَقالُوا جُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْء» [فصلت 21].

ويعلم من اعتراض الإنسان أنّ الأعضاء تشهد حقيقة ضدّه، ما يدفعه للاعتراض عليها.

ج) قبول شهادة الأعضاء:

النقطة الأخرى هي قبول شهادة الأعضاء، وهو دليل آخر على حصول الشهادة.

د) نسبة الإنطاق إلى اللّه:

الدليل الآخر هو أنّ الأعضاء تؤكد أنّ نطقها أي: إظهار الأمر الباطني والشهادة ضد الإنسان وإعادة تصوير أعمال الإنسان في يوم القيامة إنّما هو بأمر إلهي. والإنطاق والإلزام بالنطق هو من أجل كشف أمر باطني وإظهاره.

ه-) وجود النطق عند كلّ الأشياء:

الأمر الآخر الذي ورد في الآية السابقة هو تبرير الأعضاء لنطقها وشهادتها ضد صاحبها هو بتأكيدها أنّ كلّ الأشياء ستنطق بقدرة إلهية.

ص: 289

و) وجود الحياة في كلّ وجود أخروي:

مرّ معنا في فصل تبيان الآراء حول المعاد الجسماني، وفي رأي الحكمة المتعالية ورد بالتفصيل أنّ أصل الوجود الأخروي يختلف عن الوجود الدنيوي،

نحيل القارىء إلى ذلك الفصل وأحد وجوه الاختلاف هي مسألة وجود الحياة وسريانها في الأجسام الأخروية (1)حسب الآية الآتية:

«وَما هذِهِ الحَياةُ الدُّنْيا إِلا هُوَ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ هِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ» (2)[العنكبوت 64].

تتحدّث الآية هذه بشفافية عن الحياة الأخرى التي تشمل أعضاء البدن أيضاً. ووجود الحياة بدوره يتفرّع عنه وجود العلم والشعور، وهو ما يكفي للشهادة بشكل كامل.

ملاحظة:

يتّضح من المطالب السابقة كيفية شهادة الشهود الآخرين كالأماكن والأزمنة(3):

«إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ» [لقمان 15].

ص: 290


1- مرتضى المطهري، مجموعة المؤلفات: ج 4 ، ص 790
2- الآية تركز على الآخرة وإثبات حياتها، ومن الواضح أنّ إثبات الشيء لا يعني نفي ما ،عداه أي عدم وجود حياة في الموجودات الدنيوية، ذلك لأنّ الآيات الأخرى أثبتت حياة الجماد . الفرق هو أنّ حياة الجماد أمر مجهول عندنا في الدنيا لكنّه سيكون أكثر ظهوراً في الآخرة، لذلك أكدت الآية على الحياة الأخروية
3- محمد بن يعقوب الكليني، الكافي: ج 2، ص 455 والسيد محمد حسين الطباطبائي، الإنسان من البداية إلى النهاية : ص 152

«يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا» [الزلزلة 4-5].

وحاصله أنّ كلّ هؤلاء الشهود يحشرون يوم القيامة ليشهدوا على أعمال الإنسان فى الدنيا، لما لديهم من شعور ،وعلم، ولما خزّن فيهم من معلومات.

الشبهة العاشرة: الصراط جسر أدق من الشعرة وأحدٌ من السيف:

تحدّثت عدّة آيات عن وجود طريق وصراط فوق جهنم يسقط عنه أهل النار أو ينحرفون عنه، فيسقطون في جهنم:

«احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ الله فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ * وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ» [الصافات 22-24].

«وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وارِدُها كانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا» [مريم 70-71].

وأشارت الروايات إلى تفاصيل ذلك الجسر والصراط على جهنم، ويدل ظاهرها على وجود جسر فوق جهنم أو داخلها، وأنّ هذا الجسر أدق من الشعرة وأحدّ من السيف، وأنّ على جميع البشر عبوره(1).

أمّا الشبهة والسؤال فهو : أوّلاً - هل وضع اللّه جسراً فوق جهنم ليشكّل معبراً إلى الجنة؟ وثانياً - هل عرض ذلك الجسر أدقّ من الشعرة وأحدّ من السيف؟

ص: 291


1- راجع: محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار: ج 8، الباب 22، ص64 وما بعدها.

وإذا كان الردّ بالإيجاب، فتطرح أسئلة أخرى مثل: لماذا يمرّ طريق الجنة من النار ؟ وفي هذه الحالة على الجميع أن يردوا هذا الطريق، وسيؤدي ذلك إلى احتراق حتّى من لا ذنب له. ثمّ هل يستطيع أحد أن يمشي فوق طريق أو جسر بهذه الخصوصيات (أدقّ من الشعرة وأحدّ من السيف)؟

بحث وتحليل:

هناك نقاط عدّة لتوضيح هذه الأسئلة والردّ عليها:

1. التفسير الظاهري والمادي للصراط ووصفه:

بعض المتكلمين والمفسّرين(1) حملوا معنى الصراط في القرآن والجسر والقنطرة فى الروايات على المعنى الظاهرى والمادى(2). واعتقدوا أنّ الكفار وأهل النار عند عبورهم على الصراط، فإنّ خصوصيتي هذا الجسر (أدقّ من الشعرة وأحدّ من السيف) وتوقفهم عليه بسبب الحساب والإجابة على

ص: 292


1- بما أنه ليس لدي استقراء الجميع آراء المتكلمين والفلاسفة لذلك لم أستخدم مصطلح كلّ أو أكثر؛ بل إنّ وجود رأيين رائجين بين قدماء علماء الدين - سيمر ذكرهما - يشكّل دليلاً على وجود اختلاف وعدم وجود اتفاق ذلك خلافاً لإدعاء بعضهم بأنّ الرأي الأوّل اتفق عليه علماء المسلمين (سيدان، المعاد ص 91-95).
2- الشيخ الصدوق، الاعتقادات في دين الإمامية: ص 70/ الشيخ الصدوق، معاني الأخبار : ص 32 محمد بن محمد بن نعمان أوائل المقالات، تصحيح واعظ الشرندابي: ص79 تصحيح الاعتقادات: ص 108 شرح عقائد الصدوق: ص 49/ سلسلة مؤلفات الشيخ المفيد : ج 5 ، ص 108 / الشيخ الطوسي، الاقتصاد في الاعتقادات ص 222 السيد المرتضى الذخيرة ص530/ الخواجه نصير الطوسي، البداية والنهاية : ص 33.

الأسئلة حسب الآية: «وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ» سيؤدّي بهم إلى السقوط في جهنم.

لكن عند عبور أهل الجنّة فسيصبح الصراط عريضاً ويسهل العبور عليه بسبب حسناتهم، ويمرّون فوقه كالبرق والرعد من دون تأخير.

حسب الروايات وأعمال الناس يمكن تقسيمهم إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأوّل هم المعصومون والذين لا ذنب لهم، هؤلاء حسب الروايات يعبرون الصراط كالبرق الخاطف.

القسم الثاني الذين لديهم ذنوب بمستوى متوسط، فيتأخرون في العبور، ويتكبدون العذاب بما يتناسب مع حجم ذنوبهم وثقلها.

القسم الثالث هم الذين ذنوبهم ثقيلة كالكفر والشرك فيسقطون في جهنم.

2. تأويل وصف الصراط:

يأخذ (الشيخ المفيد) بالمعنى الظاهري والمادي للصراط، لكنّه يعتبر أنّ وصفه بأنّه أدقّ من الشعرة وأحدّ من السيف المقصود منه الكناية والتشبيه. أي

إنّ الروايات سعت إلى تشبيه وتمثيل خطر ذلك الجسر وهوله على الكفار لذلك جرى توصيفه بهذا الشكل:

«والمراد بذلك أنّه لا يثبت لكافر قدم على الصراط يوم القيامة من شدّة ما يلحقهم من أهوال القيامة ومخاوفها فهم يمشون عليه كالذي يمشي على الشيء الذي هو أدقّ من الشعرة وأحدّ من السيف، وهذا مثل مضروب لما يلحق الكافر من الشدّة في عبوره الصراط، وهو طريق إلى الجنة وطريق إلى

ص: 293

النار يسير العبد منه إلى الجنة، ويرى من أهوال النار»(1).

نظرة إلى الرأيين:

1. الرأيان المذكوران يحملان الصراط على المعنى الظاهري، أي: على وجود جسر مادي فوق جهنم، هو أمر ممكن، وأنّ وجود الذنوب يؤدّى إلى التوقف عليه وبتبع ذلك تحمل العذاب والنار، أو حتّى إلى السقوط في نار جهنم أمّا الذين لا ذنب لهم فإنّهم حسب الروايات يمرّون عليه بالبرق الخاطف لخفتهم وامتلاكهم الحسنات.

2. ويعود دليل هذين الرأيين وصحتهما إلى المبنى الاعتباري للجزاء الأخروي وسيأتي في الفصل القادم البحث في صحة ذلك أو سقمه خلال تبيان نظرية فلسفة الجزاء الأخروي.

3. حلّل بعض العرفاء فلسفة وجود جسر على جهنم، واعتبروا أنّ لا فائدة منها فالسيد حيدر الآملي العارف الشيعي الشهير فسّر الصراط بالتوحيد فقال :

«والحق أنّ الجسر الممدود هو التوحيد الممتد على متن جهنم الشرك وظلماته التى هى النار الحقيقية. وأيضاً يعرف كلّ عاقل لبيب منصف أنّ العبور على الصراط الموعود على الوجه الذي هو مقرّر في أوهام العوام بأنّه (جسر ممدود على متن جهنم) ليس فيه فائدة، لأنّ العابرين عليه إمّا أن يكونوا من

ص: 294


1- محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار: ج 8، ص70-71 تصحيح الاعتقادات: ص89. بعد استعراضه لرأي الشيخ المفيد يعتبر الشيخ المجلسي أن تأويل المفيد غير لازم، وأنّ تأويل الظواهر الكثيرة من دون ضرورة غير جائز.

الأنبياء والأولياء والمؤمنين أو لا. فإن كانوا منهم، فهم من أهل الجنة، فلا يحتاجون إلى العبور عليه، لأنّ عبورهم لا يزيد شيئاً في ثوابهم ولا في درجتهم وإن كانوا (العابرون) غيرهم فهم إمّا أن يكونوا كفاراً أو لا. فإن كانوا منهم، فهم أيضاً لا يحتاجون إلى العبور عليه، لأنّهم من أهل النار، وعبورهم لا ينقص شيئاً من عذابهم. وأمّا إن كان (العابر على الصراط) مؤمناً فاسقاً غير تائب ولا مشفّع في حقّه، فلا بدّ له أيضاً النار، فلا فائدة في عبوره عليه فتثبت بهذه الدلائل العقلية أنّ الصراط المستقيم هو التوحيد الحقيقى المتقدّم ذكره لا غير، وهذا هو المطلوب»(1).

بما أنّ اللّه تعالى حكيم وأفعاله حكيمة أيضاً، فإنّ وجود جسر ظاهري ووضعه فوق جهنم أمرُ غير حكيم، لذلك لا بدّ من تفسير ذلك وتأويله.

3. التفسير بالحجج والأدلة:

استعرض معظم متكلمي القرون الأخيرة رؤيتهم المختارة (المعنى الظاهري للصراط ) مقرونة ب- «قيل» و «قال آخرون» ممّا يدل على ضعف ذلك القائل أو قلّة القائلين بذلك، وذكروا قولاً آخر يتبنّى تفسير الصراط بالحجج والأدلة والبراهين التي تثبت حقانية الدين وتعاليمه. واعتمد تعبير «قيل» أيضاً في بعض المصادر مقروناً بتفسير الصراط بمعناه الظاهري (الجسر) ودعّم الرأي الآخر، فمثلاً يقول المحقّق الحلّى:

«والصراط طريق الحق، وقيل إنّه جسر يمرّ عليه إلى الجنة، وهذا ممكن. غير أنّ التأويل الأوّل يدل عليه قوله تعالى: «إِنَّكَ لَنَ الْمُرْسَلِينَ *

ص: 295


1- السيد حيدر الآملي، جامع الأسرار: ص 95-96.

عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ» أي على دين الحق»(1).

وكتب (فاضل المقداد):

«فقيل جسر بين الجنة والنار يمرّ عليه»(2).

في تحليل ذلك ينبغي الإشارة إلى أنّ الآيات والروايات الناظرة إلى الصراط تقسّمه إلى قسم دنيوي (التوحيد الدين والشريعة، الأنبياء والأئمة) وإلى قسم أخروي وحمل القسم الأخروي وتفسيره على الدنيوي هو خلاف الظاهر ومن دون مبنى ودليل. فضلاً عن ذلك، فإنّ وجود الروايات المتعدّدة نصّت أنّ الصراط هو الصراط الأخروي، وهو ما يضعف النظرة السابقة.

وبعبارة أخرى، فإنّ مقتضى الآيات والروايات هو تثبيت الصراط الدنيوي والأخروي، وليس إثبات أحدهما وطرد الآخر؛ بل الجمع بينهما عند الإمكان، وسيأتي توضيح ذلك في الرقم خمسة.

4. تفسير الصراط بالمعاصي:

بعض المؤلفات الكلامية فسّرت الصراط بالأعمال الرديئة التي يسأل عنها ويؤاخذ في يوم القيامة، وكأنّ الإنسان المذنب يمرّ عليها، ويتأخّر فيها بسبب كثرة الذنوب:

«قيل هو الأعمال الرديئة التى يسأل عنها ويؤاخذ بها كأنّه يمرّ عليها ويطول المرور عليها بكثرتها ويقل بقلّتها»(3).

ص: 296


1- المحقّق الحلّى المسلك في أصول الدين: ص 140.
2- فاضل المقداد، اللوامع الإلهية: ص 426
3- فاضل المقداد، اللوامع الإلهية: ص 426

هذه الرؤية أيضاً حصرية، لأنّها تنفي الصراط الدنيوي(التوحيد، الدين، الشريعة والادلاء عليها) وهو ما يستفاد من ظاهر الآيات والروايات. علاوة على ذلك، فإنّ تفسير الصراط المستقيم وحصره بالأعمال الرديئة والذنوب منافٍ لظاهر الآيات والروايات التي تعمّم الصراط الأخروي على الجميع، بحيث ينبغي على الجميع العبور منه.

5. تفسير الصراط بأعمال الإنسان وظهورها في الآخرة:

بعض الفلاسفة والعرفاء فسّروا الصراط بنظرة عرفانية، نشير إلى حاصلها : يعتقد هؤلاء أنّ نفس الإنسان في مسير عودتها إلى اللّه هي في حال سير وحركة هذا السير وتلك الحركة يحتاجان إلى صراط والتوحيد والشريعة الأنبياء والأئمة يشكّلون حركة الإنسان في الخارج. هذا الطريق وهداتها يعني هو مسار خارجي وكلّي.

«والحقّ أنّ الجسر الممدود هو التوحيد الممتد على متن جهنم الشرك وظلماته»(1).

واعتبر آخرون أنّ هذا الصراط تبعاً للروايات هو صراط دنيوي، وهو قسيم الصراط الأخروي(2).

الطريق والصراط الأخروي يرتبط بالإنسان نفسه بأن يضع نفسه في

ص: 297


1- السيد حيدر الآملي، جامع الأسرار: ص95
2- فاضل المقداد، اللوامع الإلهية: ص 426/ الملا نعيما عرفي الطالقاني، منهج الرشاد في معرفة المعاد ج 3، ص 222. وسيأتي أنّ الصراط الأخروي ظهوره أخروي، لكن منشأه ومبدأه دنيوي.

مساره وعليه. ويتعلّق الدخول في مثل هذا الصراط بإكمال قوتّي الإنسان، أي: القوّتين العقلية والعملية. وعلى الإنسان في ظلّ قوّته النظرية والعقلية وفي مقام المعرفة أن يتعرّف بداية على أصل الصراط المستقيم بجميع أبعاده وأضلاعه، وهو أمر صعب. ولهذه المعرفة درجات مختلفة، لذا يمكن القول من باب التشبيه : أنّ معرفة حقيقته أصعب من السير على جادّة أدقّ من الشعرة.

المرحلة الثانية هي طي الصراط المستقيم بعد معرفته، ويكون السير فيه وطيّه عملياً ميسوراً بالقوّة العقلية والعملية. وعلى العقل العملي أن يمنع النفس

من الإفراط والتفريط ومن انحرافات القوّة الغضبية والشهوية والفكرية وتعديلها، لتتزيّن بالأخلاق والكمالات الخالدة ويمنعها من السقوط في هوّة

الذنوب والنار. طى هذا الطريق فيه جانب عملي وتعديل، وهو صعب بنحو ،کامل ، وقد شبّهته الروايات بأحدّ من السيف، لأنّ الإنسان بمجرد أن يغفل ولا

يلتفت سيخرج عن مسار الإعتدال ويقع في مصيدة التفريط أو الإفراط كالسيف الحادّ الذي يقطع يد الإنسان برمشة عين.

وبعبارة أخرى، فإنّ لبّ الاختلاف في الجوابين المذكورين يعود إلى اختلاف المبنى في شرح العذاب الأخروي. والقائلون بأنّ العذاب الأخروي اعتباري يعتقدون أنّ اللّه تعالى قد خلق جهنم في القيامة، ونصب فوقها جسراً وجعله معبراً إلى الجنة حسبما ورد سابقاً.

من ناحية ثانية، فإنّ القائلين بأنّ العذاب تكويني يعتقدون أنّ جهنم والجنة هما أعمال الإنسان، والأعمال هي التي تصنعهما، وإذا كان هناك من جسر فوق جهنم فإنّ صنعه ووضعه وكيفيته تعود إلى أعمال الإنسان.

ص: 298

بهذه الصورة فإنّ الطريق والصراط الواقعى للإنسان هي

أعماله. وقد أشير سابقاً إلى أنّ الذنوب تتمثّل بالنار والعذاب، والحسنات تتمثّل بصور اللذائذ والنعم في الدنيا. الصراط المستقيم والحسنات والسيئات والنار و جهنم وجهنم هذه قد أحاطت بذات الإنسان في هذه الدنيا. وللتخلص من جهنم والوصول إلى الجنة لا بدّ من وجود جسر،هذا الجسر هي الحسنات.

وعليه فإنّ جهنم في القيامة ليست اعتبارية بل تكوينية، وهي الصورة المتمثلة للسيئات. وفي الناحية الأخرى توجد الجنة وهي عبارة عن الحسنات. وليتمكن الإنسان من بلوغ مقصده الأساس (الجنة) عليه أن يعبر من جهنم أي: أن يتغلب على النار ، والسبيل إلى ذلك هي أعمال الإنسان الصالحة فقط،و دورها هو بمنزلة الجسر الذي ينجينا من السقوط في النار. ويعود تاريخ بناء هذا الجسر إلى ما قبل الآخرة أي إلى الدنيا وحياة الإنسان الذي يحيك خيوط جسر نجاته في صقع نفسه بأعماله الحسنة في الدنيا.

يتّضح ممّا ذكر أنّ الحركة بحاجة إلى أربعة أركان الطريق، السائر، المسافة والمتحرّك، وكلّها واحد أي: إنّ الطريق هي أعمال الإنسان، والسائر هو الإنسان، والمسافة هي أبعاد أعماله وحجمها ووزنها، والمتحرّك هي نفس الإنسان التي تتحرّك حركة استكمالية نحو نيل المقصد الإلهي.

وإذا كان هناك إصرار على وجود جهنم في الآخرة، وأنّ عليها جسر ممدود، يمكن القول مجدداً: بالأعمال الصالحة يصبح عبور الإنسان على ذلك الجسر سهلاً وسريعاً كالبرق، ويصبح عرضه أكبر (ورد توضيح ذلك في الجواب الأول).

ص: 299

دليل هذه الرؤية:

أدلة الرؤية الأخيرة (تفسير الصراط بأعمال الإنسان وظهورها في القيامة) هي نفس أدلة تكوينية العذاب الأخروي التي وردت موجزة في نقد الشبهات السابقة، وسيأتي تفصيلها في الفصل القادم. فضلاً عن ذلك، هناك روايات تشير إلى وجود الصراط في الدنيا، نكتفي بإيراد واحدة منها: روي عن الإمام الحسن علیه السلام قوله :

«والصراط المستقيم هو صراطان صراط في الدنيا وصراط في الآخرة، فأمّا الطريق المستقيم في الدنيا، فهو ما قصّر عن الغلو، وارتفع عن التقصير، واستقام فلم يعدل إلى شيء من الباطل والطريق الآخر طريق المؤمنين إلى الجنة الذي هو مستقيم لا يعدلون عن الجنة إلى النار ولا إلى غير النار سوى الجنة»(1).

نذكر هنا آراء بعض القائلين بهذه الرؤية:

صدر المتألهين:

يشير صدر المتألهين إلى دور العقل النظري والعملي في تشكيل الصراط في الدنيا وعبوره، ويؤكد أنّ هذا الصراط إنّما يظهر في الآخرة، فيستفيد منه كلّ إنسان حسب شدّة يقينه وأعماله(2).

أمّا صورته الحقيقية فهى صورة الهداية والأعمال الدنيوية الصالحة التي

ص: 300


1- محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار: ج 8، ص71.
2- صدر المتألهين الحكمة المتعالية: ص 288

يصنعها الإنسان:

«إعلم أنّ الصراط المستقيم كما قيل الذي أوصلك إلى الجنة هو صورة الهدي الذي أنشأته لنفسك ما دمت في عالم الطبيعة من الأعمال القلبية والأحوال، والتحقيق أنّه عند كشف الغطاء ورفع الحجاب يظهر لك أنّ النفس الإنسانية السعيدة صورة صراط الله المستقيم وله حدود ومراتب إذا سلكه سالك متدرجاً على حدوده ومقاماته أوصله إلى جوار ربّه داخلاً في الجنة، فهو في هذه الدار كسائر الأمور الأخروية غائبة عن الأبصار مستورة على الحواس، فإذا انكشف الغطاء بالموت، ورفع الحجاب عن عين قلبك تشاهده، ويمدّ لك يوم القيامة كجسر محسوس على متن جهنم، أوّله الموقف وآخره على باب من أبواب الجنة يعرف ذلك من يشاهده، وتعرف أنّه صنعتك وبناؤك، وتعلم حينئذٍ أنّه كان في الدنيا جسراً ممدوداً على متن جهنم طبيعتك»(1).

الفيض الكاشاني:

تمسّك الفيض الكاشاني بالروايات واستلهم من عبارات الملاصدرا في تبيين المدّعى(2).

المعاصرون:

أكثر المعاصرين من فلاسفة وعرفاء ومتكلمين أيّدوا هذا التفسير نشير

ص: 301


1- صدر المتألهين الحكمة المتعالية: ص289.
2- محسن فيض الكاشاني، علم اليقين : ج 2، ص 1179

إلى العلاّمة الطباطبائي(1) والإمام الخميني(2) وحسن زاده الآملي(3) والجوادي الآملي(4) وجعفر سبحاني(5).

ملاحظة:

أشرنا إلى أنّ الذي يضع جسر الصراط وينجي الإنسان من السقوط في نار جهنم هي حسنات الإنسان في الدنيا. قد تطرح شبهة أنّ الروايات أكّدت شفاعة النبي صلی الله علیه و آله و سلم والأئمة علیهم السلام، ووجود جواز عبور من النبي صلی الله علیه و آله و سلم أو أمير المؤمنين علي علیه السلام(6). وهو ما لا يتناسب مع المطلب السابق.

ونقول في الجواب: أنّ أصل الشفاعة وصدور جواز العبور يعود أيضاً إلى نوع أعمال الإنسان وسيأتي توضيحه في بحث الشفاعة.

شبهات الشفاعة:

أخبرت الآيات والروايات المختلفة عن وجود الشفاعة (العفو عن الذنوب أو زيادة الأجر لبعض الناس) في يوم القيامة، ويقوم بالشفاعة اللّه

ص: 302


1- السيد محمد حسين الطباطبائي، الإنسان من البداية حتى النهاية : ص 118.
2- «كلّنا في الصراط المستقيم، ويعبر الصراط على متن جهنم، ويظهر باطنه في ذلك العالم، ولكل إنسان صراطه الخاص به ويسير عليه الآن) (المعاد في نظر الإمام الخميني : ص 338) .
3- حسن حسن زاده الأملي، ألف نكتة ونكتة رقم 81 و 84/ الخواجه نصير الطوسي، البداية والنهاية : ص 129
4- عبد الله جوادي الآملي، التفسير الموضوعي للقرآن: ج 5 ، ص 216.
5- جعفر السبحاني المنشور الخالد: ج 9، ص 348
6- محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار: ج 8، ص 66

تعالى أو الإنسان الكامل مثل: الأنبياء، الأئمة، الشهداء. ورغم الأخذ بأصل الشفاعة تطرح الشبهات الآتية:

الشبهة الحادية عشر - الشفاعة عمل فيه تمييز:

بما أنّ الشفاعة تطال بعضهم، فمثلاً يشفع الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم لبعض أمّته، ويشفع أمير المؤمنين علي علیه السلام لبعض شيعته وينجّيهم من العذاب، بينما يترك الآخرون في جهنم لحالهم، وهذا عمل فيه تمييز وفيه واسطة حسب تعبير الناس أو تمييز ديني ومذهبي، وهو ما لا ينبغي أن يكون موجوداً في محكمة العدل الإلهي في القيامة.

بحث وتحليل :

الردّ على الشبهة المذكورة سيكون مختلفا بسبب وجود مبانٍ متفاوتة في اعتبارية الجزاء الأخروي أو تكوينيته.

أ) الردّ على الشبهة على أساس اعتبارية الجزاء الأخروي:

نحلّل الشبهة بداية على أساس الاعتبارية:

1. توقّف الشفاعة على الاستحقاق:

يظن بعضهم أنّ الشفاعة تعادل التمييز والواسطة والانحياز وتضييع حقوق الآخرين. ويظنّ بعض العوام أنّ كسب رضى اللّه وغفران الذنوب أمر صعب، لذا يتوسلون بالشفعاء وبسبب هذا الفهم الخاطيء للشفاعة يشكك منكرو اللّه بالعدل الإلهي، ويعتبر مخالفو التشيّع أنّ الشفاعة تتعارض مع

ص: 303

التوحيد العبادي والربوبي. لكن هذا الإشكال نابع من عدم الإدراك الصحيح لمعنى الشفاعة نشير ها هنا إلى معناها الصحيح:

تعرّف الشفاعة - بوصفها مصطلحاً - لغفران الذنوب، وأحياناً بإعطاء الثواب والدرجة، لكنّها ليست مطلقة من دون قيد و شرط. ويؤكد القائلون بالشفاعة على وجود الاستحقاق وأرضية الشفاعة لدى الشخص المشفوع له، بمعنى أنّ الشفاعة لا تطال جميع الناس؛ بل بعضهم لكن ليس بشكل اعتباطي و من دون شروط وأهلية؛ بل لابدّ من امتلاك الأهلية واللياقة:

«حقيقة الشفاعة وفائدتها طلب إسقاط العقاب عن مستحق»(1).

مثلاً الطالب الذي يرتكب خطأ صغيراً لأوّل مرّة، أو إذا كانت علاماته على الحافة كما يقال، ويكون بحاجة لعلامة أو علامتين، فإنّه يطلب من معلمه أو من له مكانة أن يساعده أو المجرم الذي ارتكب جرماً خطأ أو في حالة غضب، وليس مجرماً محترفاً ونادم حقيقة ممّا ارتكبه فتراه يطلب من المظلوم وغريمه أو من القاضي أن يعفو عنه، أو يخفّف من عقوبته.

هذان المثالان يشيران إلى أهلية المقصر. وفي حالة أخرى يكون العفو لسبب اعتباري أي لأنّ المخطىء ينتسب إلى شخصية محترمة أو مكان محترم نافع، مثلاً ابن المعلم أو الأستاذ أو ابن خيّر أو بطل وطني. ويرتكب جرماً أو خطأ لأوّل مرّة.

في هذه الأمثلة العفو عن الطالب أو إعطاء عدّة علامات للطالب

ص: 304


1- السيد المرتضى رسائل المرتضى: ج 2، ص 273

المستحق أو تخفيف الحكم عن الجرم الصادر عن النافع تعتبره المحكمة أمراً عقلائياً مقبولاً. الشاهد على ذلك والمؤيّد له سيرة العقلاء ووجود قاعدة العفو والتخفيف في معظم محاكم العالم.

كلّ الشفاعات في يوم القيامة تتمّ على أساس اللياقة والأهلية، فمثلاً يقسّم المذنبون في يوم القيامة إلى درجات عدّة، ويتم العفو والتخفيف في العقوبة وزيادة الأجر على أساس وزن الحسنات والسيئات، فيعفى عن ذوي السيئات القليلة سريعاً. ويعفى عن الأتباع الحقيقيين للأنبياء والأئمة كأمير المؤمنين علي علیه السلام والإمام الحسين علیه السلام أسرع من الذين لم يتبعوهم أو لم يعرفوهم. وكذلك الكفار الذين قاموا بأعمال الخير في الدنيا فسيشملهم تخفيف العقوبة أو العفو أكثر من غيرهم.

أي: إنّ إعطاء العفو والمغفرة من الله كشافع وعلّة فاعلية ومفيض على الجميع بالتساوي وعلى السوية، لكنّه في القيام بذلك وتحقّقه فإنّه علاوة على كونه علّة فاعلية، فإنّ تحقّق علّة القابلية ومقدماتها شرط أيضاً(1). فتلقّي

ص: 305


1- سأل أحدهم عالم دين عن علّة كلّ هذا الثواب والمغفرة لمن يحضر عزاء الإمام الحسين علیه السلام والبكاء عليه. فأجابه: افترض أنّ هناك ملكاً علق في صحراء، وبعد وإشراف على الهلاك ويأس كامل استطاع العثور على كوخ لإنسان لا يمتلك إلا نعجة يعتاش على حليبها. عندما رأى الوضع المؤسف لضيفه قام بذبح نعجته وقدّم شواءها لضيفه فتناول الضيف الطعام وتحسّن ،وضعه عندها أخبر الرجل بصفته ووعده بمكافأة أليس من واجب الملك أن يكافىء الرجل بأضعاف قيمة النعجة ؟ فأجاب السائل : نعم عليه أن يكافئه بعدة أضعافها. فأجابه العالم: لو كافأه الملك بقيمة ألف شاة فهو قليل ذلك لأنّ ضيفه قد قدّم له كلّ ما يملك بإخلاص ودون توقع ليحفظ روح ضيفه المجهول، وخسر كل ما لديه، لذا على الملك أن يقدّم له كلّ ما يملك لأنه أنجاه. الإمام الحسين علیه السلام خلال ثورته قدّم كل ما يملك من مال وأرواح وأهل بيت وحتى ابنه الرضيع من أجل حفظ الدين الإلهي، لذلك، فإنّ الله تعالى كافأه وكافىء من يحيي ذكراه ويكمل مسيرته بجزاء عظيم.

الشفاعة من اللّه وباقى الشفعاء تتطلب علّة قابلية ولياقة في الشخص المشفوع له، لهذا، فإنّه بمستوى وجود هذه اللياقة تنزل أمطار رحمة الشفاعة الإلهية، وعند الإفتقار إلى اللياقة اللازمة سيحرم الإنسان من الاستفادة من الفيض الإلهي تماماً كنتيجة المطر الذي يهطل على الأرض الزراعية والأرض المالحة والصخور بنفس المستوى، فستكون رغم تساويها مفيدة في مكان ومضرّة في أخرى أو غير نافعة.

2. تقسيم الشفاعة إلى مقبولة ومردودة:

ممّا ذكر يمكن تقسيم الشفاعة كلياً إلى قسمين:

شفاعة تطال المشفوع المؤهل، ولديه علّة القابلية لإعطاء الشفاعة، وتعبّر عنها بالشفاعة الصحيحة والعادلة وشفاعة المشفوع المفتقر الى علة القابلية (الشفاعة المردودة وغير العادلة ) ونتيجتها عدم شموله بالشفاعة.

من الواضح أنّ شفاعة الشفعاء من اللّه والأنبياء والأئمة تجري وتسري على القسم الأوّل، بينما القسم الثاني لا تشمله شفاعة أي شافع لا اللّه ولا المعصومين، لأنّه يفتقر إلى الأرضية وعلّة القابلية وعلّة الفاعلية(1).

من هنا يتضح مقصود الآيات التي يدل بعضها على وجود الشفاعة

ص: 306


1- مرتضى المطهري، مجموعة المؤلفات: ج 1، ص 246-261

والشفعاء في القيامة وينفي بعضها الآخر وجود الشفاعة. فالتي تثبت وجودها تنبىء عن الشفاعة المقبولة والتي تنفي وجودها تنبىء عن الشفاعة المردودة.

ب) جواب الشبهة القائمة على أساس تكوينية الجزاء الأخروي:

فيما يأتي نبيّن نقد الشبهة القائمة على أساس تكوينية الجزاء الأخروي:

الشفاعة مرتبطة بملكات الإنسان وتكميلها:

جرت الإشارة في مواضع متعددة من الكتاب أنّ أكثر الفلاسفة والعرفاء فسّروا العذاب والثواب الأخروي على أنّه تكويني وليس اعتبارياً، وعلى هذا الأساس فإنّ الشفاعة تنال المبنى المذكور.

ويعتقد هؤلاء أنّ الثواب والعذاب في الآخرة يأتي وينبع من صميم الإنسان وذاته وليس من خارج وجوده. وذكر سابقاً أنّ أعمال الإنسان من حسنة أو سيئة وتسجيلها في صقع النفس تتحوّل مع الممارسة إلى ملكات وهيئات، هذه الملكات والهيئات تشكّل العذاب أو النعم الأخروية. وبعبارة دقيقة، فإنّ الملكات والهيئات تتجسّم عذاباً أو تنعماً.

فالأعمال الحسنة من قبيل الصلاة والإحسان إلى الغير ومحبة الناس وعلى رأس ذلك الإنسان الكامل كالأنبياء والأئمة علیهم السلام تتمثّل بصور جميلة وينجو حاملها النجاة من النار بمقدار عمله وبالتناسب معه.

ذات الشخص المشفوع تتحوّل بعمل الشفاعة (ظهور الملكات الحسنة) وتصبح أكمل، وبسبب تغيّر الموضوع لا يشمله العذاب، لا أنّ الموضوع السابق يبقى نفسه، لكنّه حكم متوقّف على خلاف القول باعتبارية العذاب والشفاعة

ص: 307

حيث لا يحدث تغيّر أو تحوّل في ذات المشفوع. وحسب تعبير علماء الأصول، فإنّ خروج المشفوع من حكم العقاب يكون على أساس مبنى اعتبارية الشفاعة من باب التخصيص وعلى أساس تكوينيتها ومن باب التخصّص(1).

لتوضيح ذلك أكثر والإطلاع على القائلين بهذا الأساس، نشير إلى بعض آرائهم:

صدر المتألهين:

يبيّن (صدر المتألهين) أنّ الآثار واللوازم الأخروية منحصرة بالآثار والملكات النفسية وسبب ارتفاع صور العذاب هو وجود صور باطنية مثل صورة التوحيد والإمامة:

«بل إنّما يرتفع عنها ما هو نقص لجوهر فطرتها الإنسانية كالهيئات المظلمة والصور المؤذية المكتسبة التي تؤلمها وتعذّبها، لكن لا بمانع خارجي ومعدّ خارج عن ذاتها كما في الدنيا، فإنّ الآخرة - كما علمت - ليست بدار إعداد واستعداد من خارج؛ بل بمانع ورافع داخلي هو نور التوحيد ولوازمه من النبوة والإمامة والمعاد»(2).

«فكلّ ما يصل من اللذات والآلام إلى كلّ أحد، فهو إنّما يصل إليه من نفسه بوسيلة ذاته من جهة العلل ،الذاتية لا من جهة الأسباب العرضية والعلل الاتفاقية الكونية، لكونها منقطعة مسلوبة يوم القيامة، قال تعالى: «وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ» [البقرة 166]... الأسباب العرضية والاتفاقية مسلوبة

ص: 308


1- عبدالله جوادي الأملي تفسير تسنيم: ج 4 ، ص 263-264
2- السيد جلال الدين الأشتياني، شرح زاد المسافر: ص 341.

في القيامة، والأسباب الذاتية الداخلية ثابتة».

وبعد تبيينه للأصل التكويني للأمور الأخروية يصرّح (الملاصدرا) أنّ الشفيع الحقيقي هي الهيئة المندرجة في النفس من صورة الشفيع ومحبته مثل النبي، وهي توجب جذب نور الرحمة الإلهية واستحقاقها والنجاة من العذاب:

«إنّ جميع ما ورد في باب الشفاعة يوم القيامة يرجع إلى أسباب ذاتية وأمور داخلية، فإنّ معنى كون الرسول صلی الله علیه و آله و سلم شفيعاً أنّ الإيمان بحقيقته والاعتراف برسالته يوجب هيئة في النفس بها يستحق لنور الرحمة والنجاة من عذاب النار، والمؤثّر في الشفاعة صورة النبي الحاصلة في النفس العارفة به صلی الله علیه و آله و سلم، وليست أمراً منفصلاً عن ذات المؤمن. وكذا الحال في سائر الشفعاء والأخلاء يوم الدين»(1).

وعلى هذا الأساس، يقوم بجمع الآيات المثبتة والنافية للشفاعة، ويعتبر أنّ مقصود الآيات المثبتة هي الشفاعة الواقعة في صقع النفس عبر الملكات الحسنة. وأنّ مقصود الآيات النافية هي الشفاعة عبر العلل الخارجية

والعرضية(2).

الفيض الكاشاني:

عرّف الشفاعة نقلاً عن بعض العلماء بأنّها مغفرة الذنوب بواسطة أو توسّط المقربين من مقام الربوبية، وذكّر في تبيانها أنّه في حال وجود علاقة متينة بين الإنسان والشفيع في الدنيا مثل: شدّة المحبة التبعية كثرة الذكر،

ص: 309


1- صدر المتألهين تفسير القرآن الكريم: ج 3، ص 323.
2- نفس المصدر : ص 322

والحزن والاغتمام لفقدان الشفيع في الدنيا تصبح الشفاعة ميسّرة هذه الأعمال توجب النورانية في القلب، وبتبع ذلك المغفرة وازدياد الدرجة والقرب الإلهي:

«فإنّ ذلك كلّه يصير سبباً لتنوير القلب والقرب من اللّه عزّ وجل، وهما بعينهما مغفرة للذنوب وزيادة في الدرجات وإنّما حصلا بوسيلة ذلك الشفيع، بل بوسيلة قربه من اللّه عزّ وجل، وهذا معنى الإذن من اللّه، فلو لم تكن هذه المناسبة لما تحقّقت الإذن ولم تحصل الشفاعة»(1).

العلاّمة الطباطبائي:

اعتبر أنّ الجزاء الأخروي تكويني، وفسّر شفاعة الشفعاء على أنّها تصرّف نفس الإنسان الكامل كالنبي في نفوس الضعفاء والمحتاجين للشفاعة (المشفوعين) والتي تؤدّي إلى ذهاب الهيئات الرذيلة والظلمانية والعذابية من نفس المشفوع:

«فبعض النفوس وهى النفوس التامة الكاملة كنفوس الأنبياء علیهم السلام وخاصّة من هو في أرقى درجات الكمال والفعلية وساطة في زوال الهيئات الشقيّة الرديّة القسريّة من نفوس الضعفاء ومن دونهم من السعداء إذا لزمها قسراً، وهذه هي الشفاعة الخاصّة بأصحاب الذنوب»(2).

ويفسّر الشفاعة في مكان آخر بأنّها تبديل ذنوب المشفوع بالحسنات، ما يؤدي إلى تغيّر موضوع (الإنسان المذنب) إلى موضوع آخر (الإنسان

ص: 310


1- محسن فيض الكاشاني، علم اليقين في أصول الدين: ج 2، ص1197
2- السيد محمد حسين الطباطبائي، تفسير الميزان: ج 1، ص 183-184

المحسن الذي لا ذنب له) ويرتفع العقاب(1).

وخلال توضيحه أكثر يشير (العلاّمة ) إلى صحة البدن وسلامته، إذ إنّ طبيعة البدن هي قدرته على الدفاع عن نفسه في مواجهة الأمراض والميكروبات، لكنّه يحتاج أحياناً إلى أدوية خارجية لتقوّي مقاومة خلايا البدن، وفي كلتا الحالتين فإنّ المقاومة من فعل البدن نفسه(2).

الأستاذ المطهري:

تحدّث العلاّمة المطهري في كتابه القيم (العدل الإلهي) عن الشفاعة بلغة واضحة وبسيطة تناسب كلّ قارئ من دون أن يورد آراء الفلاسفة فيها. ولم يردّ دليل الملاصدرا؛ بل قال بصعوبة المسألة:

«لصدر المتألهين بيانه اللطيف والعلمى في تفسير سورة الحديد... فهو يعمّم البحث، ويطرح مسألة العلل الذاتية والعلل الاتفاقية ومسألة الغايات الذاتية والغايات بالعرض ويدخل البحث في كيفية تعيين العلل الاتفاقية لمصير شيء في هذا العالم أحياناً (العالم الذي لا يختصّ بالمجتمع البشري) أو يحرم شيئاً ما من الوصول إلى الغاية الذاتية، ويصل إلى الغاية بالعرض فقط، لكن عالم الآخرة بعيد عن تأثيرات العلل الإتفاقية. وبما أنّ مستوى البحث عالٍ جدّاً، عن شرحه وبسطه، ونحيل أهل الفضل إلى بيان صدر المتألهين في مواضع مختلفة من تفسيره»(3).

ص: 311


1- السيد محمد حسين الطباطبائي، الإنسان من البداية إلى النهاية : ص 174
2- نفس المصدر، ص 175
3- مرتضى المطهري، مجموعة المؤلفات: ج 1 ، ص 262

السيد جلال الدين الأشتياني:

«الشفاعة ثابت مسلّم... فالشفاعة نتيجة لأسباب وعلل ذاتية وداخلة في وجود الشخص المشفوع له»(1).

الأستاذ جوادي الأملي:

يتصدّى الشيخ الآملي في تفسيره بالتفصيل والشرح للشفاعة وأقسامها، وخلال شرحه للشفاعة التكوينية يقول إنّها تصبح ممكنة بصورتين: «تكميل قابلية المشفوع» و «بسط فاعلية العلّة الفاعلية» ويؤدّي الشفيع دور تکمیل قابلية المشفوع أحياناً، وبسط الإفاضة الإلهية في أحيان أخرى(2).

ويعتبر أنّ الشفاعة تغيّر وتحوّل في نفس المشفوع، وخروجه من شمول العقاب هو من باب التخصّص وليس التخصيص(3).

وحول ما إذا كانت الشفاعة في الآخرة تكوينية واعتبارية أيضاً، يؤكد (الآملي) أنّ هناك آيات كثيرة تطرح الشفاعة التشريعية أيضاً، لكنّه بعد ذلك مباشرة يقول:

ص: 312


1- السيد جلال الدين الآشتياني، شرح على زاد المسافر: ص 343 الفيض الكاشاني، مقدمة أصول المعارف: ص 359.
2- عبدالله جوادي الأملي تفسير تسنيم: ج 4، صص 210 و 212
3- ماهية الشفاعة هي في الحقيقة تتميم القابلية القابل :أي: إنّ الشفيع يقوم بعمل يخلّص فيه القابل من النقص ويصل به إلى كمال النصاب... الشفاعة تعني إيجاد تغيير وتحوّل المجرم بحيث يسلب منه استحقاق الجزاء، ويخرجه تخصصاً من قانون الجزاء وشموله نفس المصدر : ص 263-264).

«لكن قد يُقال إنّ ظهور الشفاعة في المعاد يعود إلى الشفاعة التكوينية أيضاً، ذلك لأنّ الآخرة هى دار تكوين وليست دار اعتبار واتفاق، وأنّ جزاء الآخرة هو جزاء تكوينى وليس اتفاقياً»(1).

وفي مكان آخر ينفي النظام الاعتباري الدنيوي في الآخرة، ويعتبر أنّ مباني الحكمة والعرفان مصونة في هذه المقولة من أي قدح ونقد(2).

النتيجة وما حصل:

الحاصل هو أنّ شفاعة اللّه وسائر الشفعاء ستكون على أساس وجود علّة القابلية وأرضية الشفاعة في الشفيع. وإذا كانت الملكات الحسنة عند الإنسان أكثر، فستزداد أرضية الشفاعة أيضاً. وإذا كان الإنسان في الدنيا على علاقة أو محبة خاصّة بإنسان كامل كالنبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم أو أمير المؤمنين علي علیه السلام والإمام الحسين علیه السلام فيذكره دوماً ويلتزم بنصائحه ووصاياه، أو يشارك في مراسم العزاء على الإمام الحسين علیه السلام مثلاً، فستؤثّر هذه الأعمال في صقع النفس، وتتحوّل إلى ملكات حسنة، وستظهر يوم القيامة على هيئة صور جميلة ترافقه، وتقضي على الملكات وصور العذاب أو تضعفها، وبذلك يُقال لقد شفع له الإمام الحسين علیه السلام. في الحقيقة الشفيع هي أعمال الإنسان في الدنيا للإمام الحسين علیه السلام.

وبعبارة أخرى يمكن القول إنّ الشفيع في القيامة سيشمل المشفوع بعنايته، لكن شرط ذلك هو وجود ملكات متناسبة مع شفاعة الشفيع، فمثلاً

ص: 313


1- نفس المصدر : ص218
2- نفس المصدر: ص278-280

سب أمير المؤمنين علیه السلام أو حبّ الإمام الحسين علیه السلام يوجب الخلق التكويني للملكات والصور الجميلة والنورانية في النفس، وبتبع ذلك يصبح ذلك الفرد في القيامة يمتلك أرضية أكثر للإستفادة من عنايات ذينك الإمامين الهمامين.

في الحقيقة إنّ ملكات النفس ونورانيتها هي كقطب المغناطيس كلّما كان جذبه أقوى استطاع أن يجذب قطع الحديد أكثر. والنفس كلّما كانت أقرب إلى اللّه وإلى باقي الشفعاء فستجذب بنفس النسبة نحوها الفيض الإلهي وبركات الإنسان الكامل بصورة تكوينية.

على أساس هذه النظرة إلى الشفاعة فليست الشفاعة خروج المشفوع من حكم العذاب من باب التخصيص وتوقّف حكم المولى والجزاء التكويني؛ بل في ظل الشفاعة تترقّى قابلية المشفوع وتخرجه من موضوع حكم الجزاء، وحسب تعبير الأصوليين فإنّ الخروج هو من باب التخصّص وليس التخصيص(1).

النكتة الدقيقة الأخرى هى أنّ إفاضة الفيض ومغفرة اللّه وشفاعة الشفعاء واحدة لكلّ الناس، لكن بعض الناس ليست لديهم قابلية وأهلية جذب رحمة الشفعاء ونورهم، أو قابليتهم ضعيفة كالمطر عندما تستفيد منه النباتات كل حسب قابليته وسعته.

الشبهة الثانية عشر - الشفاعة توجب التجرؤ والعصيان:

يظن بعضهم أنّ وجود الشفاعة والوعد بها في الآخرة يدفع الإنسان

ص: 314


1- عبد الله جوادي الآملي، تفسير تسنيم: ج 4 ، ص 264

المذنب إلى التجري على ارتكاب المعاصي فالوعد بعفو الله وشفاعة المعصومين وسائر الشفعاء يزيد من أمل الإنسان بغفران ذنوبه، ويمهّد الأرضية لارتكاب الذنوب.

بحث وتحليل :

1. توقف الشفاعة على وجود المقتضى والاستعداد: يتّضح جواب هذه الشبهة من ما ذكر. وحسب المبنى الاعتباري، فإنّ العذاب والشفاعة ليسا مطلقين، وينقسمان إلى صحيح ومردود أشرنا إلى أنّ الشفاعة الصحيحة والمقبولة ترتبط بوجود قابلية واستحقاق في ضمير المشفوع. وبما أنّه لا يدري الإنسان هل سيمتلك استحقاق الشفاعة في القيامة أم لا، لذلك عليه أن يبني

على أساس عدم استحقاقه للشفاعة ويتبع ذلك لا يتجرأ على ارتكاب الذنوب.

كذلك استناداً إلى مبنى تكوينية الشفاعة يظهر ضعف الشبهة السابقة، ذلك لأنّه لتتحقّق الشفاعة يجب أن تمتلك ذات الإنسان ملكات وهيئات نورانية لتتمكّن من جذب النور والمغفرة الإلهية للشفعاء نحوها.

وبعبارة أخرى على الإنسان أن يكون في الدنيا في مسار بثّ أنوار الفيض الإلهي من خلال أعماله الحسنة، حتّى إذا احتاج ولم تبلغ علاماته حدّ النصاب ،والنجاح يمكنه أن يبلغ المرتبة الأعلى من خلال تأثير الشفاعة، وتسخير الشفيع في النفس. في الحقيقة أنّ الشفاعة في كلا المبنيين تؤدّي دور الدفع الرباعي وليس دور جهاز التعشيق (الغيار).

2. الجهل بمتعلقات الشفاعة: خلال طرح الشبهة افترض أنّ اللّه تعالى

ص: 315

منذ البداية قد وعد بالعفو والشفاعة فى كلّ الذنوب بصورة قطعية، في حين أنّ النصوص الدينية لا تفيد ذلك أبداً لأقوم بارتكاب الذنب وأنا مرتاح؛ بل تخبر النصوص ببقاء موارد الشفاعة خفية(1).

3.الشفاعة تزرع الأمل: الشفاعة والوعد بمغفرة الذنوب للذين تتوفّر فيهم الشروط ممّن ارتكبوا المعاصي طوال عمرهم، تعيد الأمل لهم وتمنحهم النشاط والحياة الطيبة والمصير السعيد فتكون كاكتشاف علاج لمرض عضال

والذي يعطي الأمل للمرضى بمستقبل واعد(2). لكن بسبب الشروط الخاصّة للشفاعة فإنّ هذا الأمل ليس مطلقاً ولا يكون من طرف واحد، ليؤدّي إلى التجري، ذلك لأنّ الدين بتعاليمه يحافظ على الإنسان بين الخوف والرجاء.

4. وجود العذاب في عالم البرزخ الردّ الآخر هو أنّ الإنسان قبل أن يصل إلى القيامة والشفاعة الموعودة، سيبقى لمدّة مديدة في عالم البرزخ ويتكبّد أنواع العذاب ولن تنفعه الشفاعة الموعودة، إذاً أمام الإنسان المجرم في العالم الآخر أنواع العذاب التي تنتظره بعد موته مباشرة، ووجود هكذا وضع يمنع الإنسان من التجري على الذنب بذريعة الشفاعة.

تذكير:

في الحقيقة أنا لا أنكر الفهم الخاطىء لعوام الناس لحقيقة الشفاعة، إذ إنّهم لا يلتفتون إلى ضرورة وجود شروط وقابلية لدى المشفوع من ناحية وغلو في الشفعاء من ناحية أخرى، ويعتقدون أنّهم سينالون الشفاعة. لذا، قد

ص: 316


1- محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار: ج 68، ص 176
2- عبد الله جوادي الأملي تفسير تسنیم: ج 4 ، ص 270.

تغلب كفّة الأمل والمغفرة عندهم على كفّة الخوف ما يؤدّي إلى تجرّيهم. لكن ذلك الإشكال لا يطال أصل الدين، بل هو بحث فى الثغرات، وعلى علماء الدين أن يبيّنوا للناس تعاليم الدين الواقعية.

الشبهة الثالثة عشر - الشفاعة توجب ترك الجزاء العادل:

الشفاعة في المذنب تؤدّي إلى رفع العقاب والعذاب عنه. وهنا يطرح هذا السؤال وهو: هل أصل عقاب المجرم أمر عادل أم ظالم؟

إذا كان العقاب عدلاً، فإنّ تركه بالشفاعة يؤدّي إلى ترك فعل عادل، وينسب الظلم إلى الشفيع. وإذا كان العقاب ظلماً، فيلزم ذلك نسبة الظلم إلى الله، وكلا اللزومين ،باطل ونتيجتهما بطلان الشفاعة.

بحث وتحليل :

في هذه الشبهة جرى حصر حكم الفعل بصفتي العدل والظلم، في حين أنّ هناك صورة ثالثة هي الفضل والإحسان» بمعنى أنّ عقاب المجرم هو عين العدل، لكن العفو عنه ليس ظلماً بل هو إحسان وفضل ناشيء من جود صاحب الحق وكرمه. هذا الفهم والمعرفة البسيطة جاريان في الدنيا أيضاً، وعادة ما يذكر العفو عن المذنب من قبل صاحب الحق بالتمجيد والمديح والمصداق البارز لذلك هو عفو أولياء المقتول عن حقّهم في القصاص.

وبعبارة منطقية، فإنّ القضية المنفصلة المذكورة (الشفاعة عدل أو ظلم) ترتبط بأنّ العدل والظلم نقيضان، والنقيضان كالإنسان وغير الإنسان لا يجتمعان

ص: 317

ولا يرتفعان.

في حين أنّ نسبتهما هي نسبة التضاد أو العدم والملكة(1). ولزومه إمكان رفعهما ووجود شق ثالث مثل سواد جسم وبياضه، ووجود لون ثالث كالسمرة.

بالنسبة للبحث، فإنّ رفع صفتي العدل والظلم أمر ممكن. وقد أشرنا إلى وجود وصف ثالث هو الفضل والإحسان(2).

الشفاعة في البرزخ أو القيامة؟

بعد اتضاح صحة الشفاعة وجرح شبهاتها، يطرح بعضهم سؤالاً: هل ستتحقّق الشفاعة في القيامة، أم تقع في عالم البرزخ أيضاً؟

يدل ظاهر بعض الروايات على وقوع الشفاعة في القيامة. روي عن من سأل الإمام الصادق علیه السلام:

قال: قلت لأبي عبدالله علیه السلام: إنّي سمعتك وأنت تقول كلّ شيعتنا في الجنّة على ما كان فيهم. قال: «صدقْتُكَ كلّهم واللّه في الجنّة» قال: قلت جعلت فداك إنّ الذنوب كثيرة كبار. فقال: «أمّا في القيامة فكلكم في الجنة بشفاعة النبي المطاع المطاع أو وصي النبي، ولكنّي واللّه أتخوّف عليكم في البرزخ» قلت وما

ص: 318


1- العدم وملكه مثل العمى والإبصار ينسب إلى الشيء الذي يمتلك قابلية الإتصاف به، مثل الإنسان الأعمى والبصير، لذا لا يُقال للجدار أعمى. أما التضاد كالبياض والسواد، فهو اختلاف وتغاير لا يجتمعان لكنّهما يرتفعان.
2- عبد الله جوادي الآملي، تفسير تسنيم: ج 4 ، ص 265

البرزخ ؟ قال: «القبر منذ حين موته إلى يوم القيامة»(1).

من ناحية ثانية هناك روايات أخرى تخبر بنجاة بعض المذنبين من عذاب البرزخ كالعذاب عند الاحتضار والقبر:

قال رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم : «حبّي وحبّ أهل بيتي نافعٌ في سبعة مواطن أهوالهنّ عظيمة عند الوفاة، وفي القبر وعند النشور، وعند الكتاب، وعند الحساب، وعند الميزان، وعند الصراط(2).

من خلال تبيين وجمع هذين القسمين من الأخبار يمكننا الإشارة إلى جماعتين:

أ) ستكون الشفاعة الأساس وبسعة خاصّة في القيامة، لكن كما ورد معنا، فإنّ الشفاعة عمل تكويني، ووقوعه يحتاج إلى امتلاك المشفوع أرضية تكوينية لازمة. لذا، إذا كانت ذنوب المشفوع قليلة أصبحت الشفاعة في عالم البرزخ ممكنة، لكن سيكون زمان شفاعته متفاوتاً، وفي حال عدم وجود الأرضية تتحوّل شفاعته إلى المستقبل البعيد (القيامة) حسب استحقاقه للشفاعة.

ب) وهناك مجموعة أخرى برأيي تنالها الشفاعة الإجمالية في عالم البرزخ أيضاً (بمعنى تخفيف العذاب من دون النجاة المطلقة منه ودخول الجنة) أمّا الشفاعة الكاملة أي النجاة من أصل العذاب فستقع في القيامة.

ص: 319


1- محمد بن يعقوب الكليني، الكافي : ج 23 ، ص 423
2- محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار: ج 27 ، ص 158

والجدير بالذكر أنّ المجموعتين قد تجتمعان فبالنظر إلى مصالح المشفوع (الإنسان المؤمن أو الكافر الذي يمتلك أرضية الشفاعة) وظروفه ينال بعضهم شفاعة في البرزخ، وبعض آخر في القيامة. أو ينال بعض شفاعة فرد في ،البرزخ، وبعض شفاعة في القيامة.

الأمر الآخر هو هذا الجهل يبقى الإنسان بين الخوف والرجاء، بحيث لا يطمئن إلى الشفاعة بعد الموت مباشرة، فلا يتجرأ ولا يقلل من التوسل، ولا يتوقع العذاب الأليم بصورة قطعية بعد الاحتضار مباشرة، لأنّه قد تناله الشفاعة بعد موته مباشرة.

ص: 320

الفَصلُ الخَامِس الجنة والنار

اشارة

ص: 321

ص: 322

الشبهة الأولى - مكان الجنّة والنار:

أوّل سؤال حول الجنّة والنار هو عن مكانهما، فإن كانتا مخلوقتين قبل الآخرة والقيامة كما ورد في القرآن بأفعال الماضي المتعدّدة(1). فأين هما في هذا العالم ؟

جواب الشبهة:

نجيب على السؤال الأوّل من الشبهة من منظارى (المتكلمين والحكمة المتعالية ):

أ) مكان بعيد عن الإنسان:

ثبت اليوم في علم النجوم وجود سعة لامتناهية من الفضاء الذي يضمّ النجوم والكواكب التى لا تعدّ ولا تحصى على مسافات وفواصل بملايين السنين الضوئية، يرى الإنسان أنوارها من بعد ملايين السنين من دون أن يعلم شيئاً عن عالمها.

ص: 323


1- الأفعال الماضية مثل: «أعدّت» و «أعتدنا» و «أعدّ» و «أزلفت قد وردت مكرّرة في آيات عديدة مثل ﴿ وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِيْنَ﴾ [آل عمران131، والبقرة24، وآل عمران 133 ، والكهف ،102 ، والفتح 6] والتي يدل ظاهرها على تحقق فعل الجنة والنار.

وعلى هذا الأساس، قد يقول قائل بالمعاد الجسماني متوسلاً بالقدرة الإلهية المطلقة : إنّ مكان الجنّة والنار هو فى الكواكب البعيدة عن الأفق الإنساني، وإنّ اللّه تعالى قد أوجد بقدرته الظروف الملائمة للحياة البشرية فيها، أو سيوجدها، لكن بما أنّ شبهة انحصار العالم بعالم محدّد الجهات قائمة على الهيئة البطلموسية، لذلك لم تذكر هذه الشبهة لا في تقريرها ولا في جوابها.

ب) عدم خلق الجنة والنار فعلاً:

بعض المتكلمين ومنهم جمع من المعتزلة أمثال: أبو هاشم والقاضي عبد الجبار. يعتقدون أنّ الجنّة والنار الموعودتين في القيامة لم تخلقا الآن، وستخلقان في القيامة من قبل اللّه تعالى(1).

وفي معرض تبريرهم لاستعمال الأفعال الماضية التي يدل ظاهرها على الخلق الفعلي اعتبروا أنّ استخدام فعل الماضي جائز عرفاً وشائع في الحديث عن الحوادث المستقبلية القطعية، مثلاً: يعد الكريم والسخي بأمر ما فيقول: جائزة غذائك جاهزة أو جهّزت، رغم أنّ الغداء غير موجود عند كلامه ووعده. وقد استعمل اللّه تعالى صيغة الفعل الماضى في الآيات المذكورة بسبب قطعية الثواب والعقاب في القيامة وتأكيداً لتحقّقه.

ج) الجنّة والنار انعكاس لتجسّم أعمال النفس:

استناداً إلى نظرية صدر المتألهين، فإنّ مادة المعاد الجسماني تختلف عن المادة الدنيوية ومرّ معنا أنّ عالم الآخرة فاقد للمادة الفلسفية (القوّة والهيولي)

ص: 324


1- سعد الدين التفتازاني شرح المقاصد : ج 2، ص 220 / محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار: ج 8، ص 206

وأنّ المعاد الحقيقي هو نفس الإنسان وأخلاقه وأعماله وحركاته، وتقوم النفس بتجسيمها على هيئة عذاب أو لذائذ أي إنّ الجنة والنار من السنخ المثالي والملكوتي موجودتين في باطن الإنسان، لكن الإنسان غافل عنهما بسبب الحجب الدنيوية كما ورد في القرآن الكريم:

«لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ» [ق 22].

تقریر آخر:

استناداً إلى النظرية المذكورة، فإنّ وجود العالم الأخروي يتفاوت عن الوجود الدنيوي ،ويغايره والوجود الأخروي بسبب فقدانه للهيولي يمتلك في وجوده قوّة وكمالاً أكثر، ووجوداً أوسع وأسمى من الوجود الدنيوي، لذلك لا تشمله أحكامه ومن ذلك لزوم المكان، ذلك لأنّ المكان معلول الوجودات المادية المتعدّدة، مثلا وجود كرتين على مكانين من الطاولة، فمن هذه الهيئة وإمكانية انتقالهما وعدم جمعهما في نقطة واحدة ومكان واحد ينتزع المكان(1). فإذا افترضنا محالاً أنّ كلّ العالم والوجود منحصر في كرة واحدة، عندها لا يمكن السؤال عن مكان تلك الكرة، ذلك لأنّه ليس هناك وجود مادي خارجها ليكون ذلك الوجود مكاناً لاستقرارها.

لتقريب الأمر أكثر نضرب مثالاً رياضياً:5=2+3 لا تحتاج إلى مكان خاص.

ص: 325


1- راجع صدر المتألهين الأسفار : ج 4 ، ص 39 نهاية الحكمة، الفصل 14 ، المرحلة 6.

وحسب الحكمة المتعالية فإنّ المعاد الجسماني يتفاوت مع الوجود العنصري والدنيوي، ومن ناحية أخرى، فهو من سنخ الوجود النفسي وفي ظل وجوده، لذلك لا ينبغي البحث عن مكان مادي له في الدنيا، بل إنّ مكانه موجود في الباطن وفي نفس الإنسان، وسعته متعيّنة حسب أخلاق النفس وملكاتها :

«إنّ حجتكم هذه مبنية على أنّ للجنة والنار مكاناً من جنس أمكنة هذه الدنيا، لكن أصل إثبات المكان على هذا الوجه للجنّة والنار باطل فالشبهة منهدمة الأساس منحسمة الأصل، وممّا يوضّح ذلك حسب ما مضت الإشارة إليه أنّ عالم الآخرة عالم تامٌ لا يخرج عنه شيء من جوهره، وما كان هذا شأنه لا يكون في مكان، كما ليس لمجموع هذا العالم أيضاً مكان يمكن أن يقع إليه إشارة وضعية من خارجه أو داخله»(1).

ضمن تبيانهم للمسألة ضرب بعض المعاصرين مثلا: موطن العلوم والمعلومات البشرية، فموطنها ليس في الخارج ؛ بل في باطن الإنسان، ولا يمكن تحديد مكان لها(2).

استناداً إلى الرأي المختار عن المعاد الجسماني الذي جاء في تقرير نظرية صدر المتألهين في مبحث المعاد الجسماني فإنّ البدن والجنّة والعذاب في الآخرة جسماني ومن إنشاءات النفس، وسيتم في القيامة. أمّا الجنّة والنار

ص: 326


1- صدر المتألهين الأسفار : ج 9، ص 201-202/ صدر المتألهين، المبدأ والمعاد: ص379 و 444 صدر المتألهين الشواهد الربوبية: صص 272 و 299.
2- عبد الله جوادي الآملي، التفسير الموضوعي للقرآن: ج 5 ، ص 242

البرزخيان فهما من إنشاءات النفس في هذه الدنيا، لكنّه يتحقّق من السنخ المثالي وليس المادي.

الشبهة الثانية - فلسفة الخلق المسبق للجنة والنار:

أكثر علماء الأشاعرة والشيعة يقولون بخلق الجنّة والنار قبل القيامة أي بالتزامن مع وجود حياتنا الدنيا المادية. وهنا يطرح هذا السؤال: لماذا خلق اللّه الجنّة والنار الماديتين في القيامة رغم وجود عالم البرزخ وتوقّف الناس في جنّة البرزخ وجهنمه؟ وهل خلقهما عمل لغو والعياذ باللّه؟

بحث وتحليل :

يتّضح جواب السؤال ممّا ورد في الصفحات السابقة، ونشير هنا إلى نقطتين أساسيتين على أساس وجود مبنيين لكيفية وجود الجنّة والنار:

أ) استناداً إلى مبنى المتكلمين (اعتبارية الجزاء الأخروي) فإنّ اللّه قد خلق الجنّة والنار وأوجد تشويقاً وحافزاً مضاعفاً للمؤمنين والمذنبين لاكتساب الثواب وتجنّب العقاب تماماً كالمعلم الذي جهّز الجائزة ووضعها في مرأى الطلاب لتشجيعهم.

النقطة الأخرى هي وجود العلّة عند اللّه وعدم وجود المانع أيضاً، وفي هذه الحالة (وجود العلّة وفقدان المانع) يتحقّق المعلول. أمّا ما هي العلّة الغائية لذلك؟ إحدى العلل هو ما ذكر من تشجيع للناس وتهديد، كما إنّ جهل الإنسان بالعلّة والهدف ليس دليلاً على العدم(1).

ص: 327


1- جعفر السبحاني المنشور الخالد: ج 9، ص 372.

ب) استناداً إلى مبنى الحكمة المتعالية فإنّ الجنّة والنار لازم تكويني لعمل الإنسان بحيث تتحقّق النعمة أو العذاب ذاتياً من خلال العمل ومعه. فالجنّة والنار هما في الواقع الصورة الباطنية لعمل الإنسان، وليستا منفصلتين عن عمل الإنسان من دون التوقّف عند خلق الجنّة أو جهنم سابقاً أو في المستقبل، لأنّ هذا السؤال ينتفي تلقائياً، فهو كالسؤال لماذا رقم 4 مزدوج؟

الشبهة الثالثة - فلسفة الأبواب المتعددة للجنة والنار:

أخبر القرآن الكريم عن وجود أبواب متعدّدة للجنّة والنار: «فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا» [النحل 29].

وذكرت آية أخرى وجود سبعة أبواب لجهنم: «وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ * لَها سَبْعَةُ أَبْوابِ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ» [الحجر 4443].

وذكرت الروايات ثمانية أبواب للجنّة(1). ويطرح هنا سؤالان:

أ) هل المقصود من العدد (8 للجنّة و 7 لجهنم) هو المفهوم الحقيقي له أو المقصود هو الإشارة التي تعدّد الأبواب وتنوّعها؟

ب) ما هو المقصود من الأبواب؟ هل هى المداخل والممرّات؟ وإن كانت كذلك فما هي فلسفة عددها؟ أمّ أنّ المقصود هو تعدّد الجنّة والنار وتنوّعهما من حيث الكمال والنقصان وهل للجنّة والنار مقامات ودرجات مختلفة ؟

ص: 328


1- محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار: ج 24 ، ص 380 وج 27 ، ص 101.

بحث وتحليل:

الجواب على الشبهة يرتبط بتبيان معنى «الباب» في جهنم والجنّة، وهناك تفاسير متعددة، نذكرها بإجمال:

أ) حمل الباب وعدده على المعنى الظاهري:

مشهور العلماء فسّروا الباب بالممر الحقيقي والكبير المتناسب مع القيامة، أي المدخل والمعبر، واعتقدوا بأنّ تعدّدها بسبب تقسيم أهل الجنّة إلى ثمانية فئات حسب درجة إيمانهم ونوع أعمالهم وخصّص كلّ باب لفئة خاصّة. ثمّ قسّمت كلّ فئة من الفئات الثمانية إلى عدّة مجموعات. فكانت بعض الأبواب للأنبياء والصالحين والشهداء والصائمين لهم العبور والدخول منها. وهكذا الأمر بالنسبة لأبواب جهنم السبعة. إذاً، ففي القيامة هناك ثمانية أبواب للجنّة وسبعة أبواب الجهنم وعلى كلّ منها لائحة بأسماء محدّدة.

ب) تفسير الباب باختلاف مراتب الجنّة والنار وتنوّعها:

بعض المفسرين اعتبروا أنّ المقصود من الباب ليس المدخل وباب الدخول؛ بل تنوّع مقامات الجنّة والنار واختلافها، حيث تقسم كلّ منهما بداية إلى سبعة درجات وأنواع ثمّ تقسّم كلّ درجة ونوع إلى مجموعات عدّة، وهذا التنوّع نتيجة لتعدّد درجات المؤمنين والمذنبين واختلافها.

ضمن تفسيره للآية الشريفة «لَها سَبْعَةُ أَبوابٍ» لم يذكر «العلاّمة الطباطبائي) بصورة شفافة ومحدّدة ما هو المقصود من الباب، بل ذكر معنيين للباب (باب الدخول وتنوع الطبقات):

«قوله تعالى «لَها سَبْعَةُ أَبْوابِ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ» لم يبيّن

ص: 329

سبحانه في شيء من صريح كلامه ما هو المراد بهذه الأبواب أهي كأبواب الحيطان مداخل تهدي الجميع إلى عرصة واحدة أم هي طبقات ودركات تختلف في نوع العذاب وشدتّه؟(1).

وقوّى المعنى الثاني بآيات أخرى:

«وليس من البعيد أن يستفاد المعنى الثاني من متفرقات آيات النار كقوله تعالى: «وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أبوابها» [الزمر (71 ] إلى أن قال: «قِيلَ ادْخُلُوا أَبوابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيها» [الزمر 72] وقوله: «إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ» [النساء 145] إلى غير ذلك من الآيات.

فإنّ ظاهره أنّ نفس الجزء مقسوم موزّع على الباب، وهذا إنّما يلائم الباب بمعنى الطبقة دون الباب بمعنى المدخل.. وعلى هذا فكون جهنم لها سبعة أبواب هو كون العذاب المعدّ فيها متنوّع إلى سبعة أنواع، ثمّ انقسام كلّ نوع أقساماً حسب انقسام الجزء الداخل الماكث فيه»(2).

وذكر (العلاّمة ) وجهاً ثالثاً لمعنى الباب، سيرد في الرقم الآتي.

(الأستاذ المطهري) بدوره عدّ أنّ المقصود من تعدّد أبواب الجنّة تنوّع أصل أهل الجنّة من حيث الدرجة وليس الطبقة(3).

ص: 330


1- السيد محمد حسين الطباطبائي، تفسير الميزان ج 12، ص 170
2- السيد محمد حسين الطباطبائي، تفسير الميزان: ج 12، ص 170
3- مرتضى المطهري، مجموعة المؤلفات : ج 24 ، ص 451

ج) تفسير الباب بقوى معرفة الإنسان وأعمالها:

يعتقد بعض الفلاسفة أنّ المقصود من أبواب الجنّة والنار ليس الباب الظاهري؛ بل الطريق والممر للوصول إلى الجنّة أو النار وهي عبارة عن: الحواس الخمسة (حاسّة السمع والنظر واللمس والشم والذوق) إضافة إلى قوّتين باطنيتين هما: قوّة الوهم والخيال لدى الإنسان.

يرتبط الإنسان مع عالمه من خلال هذه الحواس أو القوى السبع، وينظّم أعماله وينفذها بها، فمثلاً يتكلّم بلسانه ويقول الصدق والكذب ويرتكب الذنب ويعمل الواجب والمستحب، لذلك يشكّل لسانه طريقاً ومدخلاً إلى الجنّة أو النار.

هذه القوى السبع أو الطرق والأبواب السبع تكون خطرة إذا لم ترافقها قوّة أخرى هي «العقل» ويزداد احتمال الخطأ فيها، لكن اللّه تعالى أعطى الإنسان العقل أيضاً حتّى إذا أفاد منه بشكل صحيح اختار الطريق السليم طريق السعادة أي الجنّة.

على هذا الأساس، فإنّ القوى السبع مشتركة في طي الطريق نحو الجنّة أو النار وترتبط بنوع استفادة الإنسان منها، أمّا القوّة الثامنة أي: العقل فهو يرشد الإنسان إلى الجنّة، لهذا كانت أبواب جهنم سبعة وأبواب الجنّة ثمانية لأنّ دور العقل منحصر فى الهداية إلى الجنّة.

قام عدد من الفلاسفة بتبيان الرؤية المذكورة وتقريرها منهم ابن سينا وصدر المتألهين، ومن المعاصرين حسن زاده الآملي:

«وأمّا ما بلغ النبي محمد عن ربّه (عزّوجل) أنّ للنار سبعة أبواب

ص: 331

وللجنّة ثمانية أبواب فإذ قد علم أنّ الأشياء المدركة إمّا مدركة للجزئيات كالحواس الظاهرة وهي خمسة، وإدراكها الصور مع المواد. أو مدركة متصوّرة بغير مواد كخزانة الحواس المسمّاة بالخيال وقوّة حاكمة عليها حكماً غير واجب وهو الوهم، وقوّة حاكمة حكماً واجباً وهو العقل. فذلك ثمانية، فإذا اجتمعت الثمانية جملة؛ أدّت إلى السعادة السرمدية والدخول في الجنّة، وإن حصل سبعة منها لا تستتمّ إلاّ بالثامن ؛ أدّت إلى الشقاوة السرمدية والمستعمل في اللغات أنّ الشيء المؤدّي إلى الشيء يسمّى باباً له، فالسبعة المؤدّية إلى النار سمّيت أبواباً لها، والثمانية المؤدّية إلى الجنّة سمّيت أبواباً لها»(1).

«أبواب الجنان كما قيل هى المشاعر الحيوانية التي بها تدرك عالم الملك وهی سبعة: الحواس الظاهرة والحاستان الباطنيتان وهما الوهم والخيال. أحدهما مدرك الصور والآخر مدرك المعاني كالأماني وغيرها. والثلاثة الباقية من القوى الباطنية ليست مدركة؛ بل معينة على الإدراك كالحافظة والمتصرفة .والمسترجعة. والحق أنّ إطلاق أبواب الجنان على هذه المشاعر ليس على الحقيقة؛ بل بضرب من التجوّز البعيد لأنّ باب الدار إذا ما فتح، فتح إليها وبه يقع الدخول فيها بلا مهلة وما هي إلاّ الحواس المحشورة مع النفس الباقية معها، فإنّ للنفس في ذاتها سمعاً وبصراً وشماً وذوقاً ولمساً وتخيّلاً ووهماً، وهي و محسوساتها من أهل الجنّة إن لم يحجبها سدٌ وحجاب، لا هذه الحواس الدائرة ومحسوساتها الفانية الباطلة، وكلّ نفس تتبع الهوى ويسخّر عقلها الشهوة ويستخدمها الهوى والشيطان «أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَواهُ» فيكون كلّ من المشاعر السبعة سبباً من أسباب طاعة الهوى وانقياد الشهوات، وباباً من أبواب

ص: 332


1- تسع رسائل في الحكمة والطبيعيات ص 132 . الرسالة السادسة في إثبات النبوات.

الوقوع في الهلكات... فكلّ مشعر من هذه المشاعر بمثابة باب من أبواب جهنم لها سبعة أبواب لكلّ باب منهم جزء مقسوم»(1).

بينما ركّز بعض الفلاسفة الآخرين على مخارج هذه المشاعر، أي: على أعمال الإنسان وقالوا بأنّ المقصود من أبواب الجنّة وأبواب النار هي أعمال الإنسان من خير وشر، فهي التي تقود الإنسان مباشرة إلى الجنّة أو النار. فها هو (ابن الهروي) المتوفى في القرن الحادي عشر والذي شرح حكمة الإشراق يصرّح أنّ المراد من الأبواب السبعة لجهنم المعاصي(2).

(العلاّمة الطباطبائي) الذي أوردنا نظريته القائلة بتفسير اختلاف الأبواب باختلاف عذاب جهنم وكمال الجنّة، يؤكّد أنّ اختلاف العذاب مرهون ومعلول باختلاف أعمال الإنسان ونتيجة ذلك كان تقسيم الذنوب عموماً إلى سبعة أقسام:

«وذلك يستدعي انقسام المعاصي الموجبة للدخول فيها إلى سبعة أقسام، وكذا انقسام الطرق المؤدية والأسباب الداعية إلى تلك المعاصي ذاك الانقسام»(3).

وبيّن أنّ إطلاق عنوان الباب على الأسباب هو أمر رائج في العرف القرآني:

ص: 333


1- صدر المتألهين مفاتيح الغيب ص 670 صدر المتألهين، أسرار الآيات: ص 218 صدر المتألهين، الأسفار : ج 9، ص330.
2- ترجمة وشرح حكمة الإشراق: ص 155
3- السيد محمد حسين الطباطبائي، تفسير الميزان: ج 12، ص 170.

«وكثيراً ما يسمّى في الأمور المختلفة الأنواع كلّ نوع باباً، كما يقال: أبواب الخير وأبواب الشرّ وأبواب الرحمة. قال تعالى: «فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ» [الأنعام 44] وربّما سمّيت أسباب الشيء وطرق الوصول إليه أبواباً كأبواب الرزق لأنواع المكاسب والمعاملات»(1).

واستعملت الروايات عنوان الباب على الفعل: «إنّ الجهاد بابٌ من أبواب الجنة»(2).

د) حمل الأبواب وعددها على الكناية والمبالغة:

اعتقد بعض المعاصرين أنّ المقصود من الأبواب ليس المعنى الظاهري؛ بل الكناية، وعليه، فلن يكون لجهنم حقيقة أبواب وممرّات، وأنّ القرآن قد استعمل أدوات وطرقاً مادية ومأنوسة للإنسان المادي لتعريف الجنّة والنار. فكتب الأستاذ الجوادي الآملي:

«لأنّ الإنسان العنصري يدرك ويفهم بالأدوات المادية والعنصر، وللمحسوسات والمجسمات عنده دور فعّال وأساس، ممّا يقرّبه إلى الهدف؛ لذلك، فإنّ القرآن استعمل هذه الأدوات والآلات المحسوسة في الحوار معه، ليصل من خلالها إلى المعقول وللدخول إلى مكان خاص لا بدّ من سلوك بابه وطريقه للوصول إلى المقصد، لذلك رسم القرآن أبواباً للجنّة ومستقبلين»(3).

ص: 334


1- نفس المصدر.
2- محمد بن يعقوب الكليني، الكافي: ج 5، ص 4/ محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار: ج 34، صص 54 و 64
3- عبدالله جوادي الآملي، التفسير الموضوعي للقرآن ج 5 ، ص 284.

الأستاذ مكارم الشيرازي وبقية مؤلفي التفسير الأمثل قالوا بإطلاق عنوان الباب على الأعمال وطرق الوصول إلى الجنة والنار، واحتملوا وجود طرق إلى الجنّة والنار غير الثمانية والسبعة وأنّ إطلاق العدد على أبواب الجنّة والنار في النصوص الدينية جاء من باب المبالغة، وإلاّ فهناك أبوابٌ وطرق كثيرة(1).

تقييم الآراء:

1. التفسير الأوّل (الحمل على المعنى (الظاهري) إنّه يتناسب مع المبنى الاعتباري للجزاء الأخروي من نعمة أو عذاب في هذا المبنى يتصوّر وجود مكان مادي وجسماني كبير باسم الجنّة أو النار في عالم مستقل وخارج عن الإنسان، لابدّ من أن يكون هذا المكان كالأماكن الدنيوية له بوابات ومداخل.

هذا الرأي مقبول في هذا الحدّ، لكن مشكلته صحة أصل مبناه أو سقمه، ذلك لأنّه إذا فسّر العذاب والنعمة بالصورة الباطنية لأعمال الإنسان ففي الواقع ستكون الجنّة والنار ملازمتين للإنسان، وبعبارة أدق تشكلان صورة الإنسان وظلّه، وليستا بعيدتين عن الإنسان ليحتاج إلى باب أو مدخل للدخول إليهما. سيأتي تفصيل ذلك في نقد شبهة العذاب الأخروي.

2. بغض النظر عن الإشكال السابق يمكننا الإدّعاء أنّ مصطلح «الباب والمدخل» في العرف يعني المدخل والمورد، ويعني أيضاً السبب والطريق والسبيل للوصول إلى الغاية؛ فمثلاً يُقال الطريق إلى مكة المكرمة أو مدخل

ص: 335


1- ناصر مكارم الشيرازي، التفسير الأمثل: ج 10، ص 195 وج 11، صص 74 و 77 وج 20 ، ص 177.

مكة المكرمة هو الموقع الجغرافي ،الفلاني، كما يُقال السبيل إليها هو الحصول على سمة الحج أو العمرة وشراء تذكرة السفر وكلا المعنيين صحيح وحقيقي.

وعليه، يبدو أنّه يمكن الجمع بين التفسيرين (حمل الباب على اختلاف الدرجات والطبقات في جهنم والجنّة، وحمله على القوى المعرفية للإنسان وأعماله) فيمكن إطلاق المعنيين واستعمالهما. لكن لا بدّ من تشخيص أحد المعنيين بالنظر إلى القرائن والشواهد، فمثلاً عندما يؤمر أهل النار بدخول باب جهنم في القيامة : «قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ» [الزمر 72]. فالمقصود هو طريق الدخول إليها، أو الأمر بالشروع بالدخول فيها.

من الواضح أنّ هذا النوع من الباب لا يتنافى مع اختلاف طبقات الجنّة والنار ودرجاتهما. كذلك على العكس ،منه أي إنّ دلالة الآية على استعمال مصطلح «الباب» على اختلاف طبقات جهنم كما استدلّ على ذلك العلاّمة الطباطبائي في تفسيره للآية «لَها سَبْعَةُ أَبَوابِ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ»

[الحجر 4443] لا يتعارض مع استخدام «الباب» على معناه الظاهري.

ممّا ذكر يتّضح أنّ استعمال «باب جهنم أو الجنة» في المعنى الثالث (قوى معرفة الإنسان وأعماله) يمكن جمعه مع المعنيين السابقين.

3. بالأخذ بمبنى تكوينية الجزاء الأخروي في الجنّة والنار يمكننا تبيان المعاني الثلاث للباب أي: إنّ الإنسان بأعماله القبيحة وذنوبه هيّأ لنفسه جهنماً، حقيقية، وزمان دخوله فيها هو القيامة وانتهاء الحساب في الآخرة. في هذه الأثناء يؤمر الإنسان العاصي بدخول باب جهنم التي أنشأها، والمقصود هو أصل الدخول وعبارة الباب جاءت بمعنى الكناية.

ص: 336

الأمر الآخر هو أنّ عذاب جهنم الإنسان ستكون متناسبة في شدّتها وضعفها مع نوع أعمال الإنسان كالتعدّي على مال اليتيم وما سوى ذلك. وقد أجّجت نار جهنم الإنسان بقواه المعرفية وبتبع ذلك بمعاصيه، فشكّلت قواه المعرفية وأعماله فى الدنيا أبواب جهنم في الآخرة.

الشبهة الرابعة - فلسفة جهنم والعذاب الأخروي:

عذاب الآخرة أو جهنم بالشدّة والوصف الذي توعّد اللّه به العاصين من مؤمنين وكافرين، تطرح أسئلة تخطر على بال الناس. ذلك لأنّ العقاب الدنيوي يكون عادة من أجل أهداف منها التشفّي تربية المجرم وإصلاحه، ليعتبر الآخرون، إحقاق الحق استباقية وردعية لذلك هذه الأسئلة نفسها تطرح حول العذاب الأخروي: لماذا أعدّ اللّه تعالى مثل هذا الجزاء الشديد في الآخرة؟ وما هی فلسفته وهدفه والجدوى منه(1)؟

ص: 337


1- موريس ميترلينغ الفيلسوف البلجيكي الشهير يقول حول لاعقلائية الجزاء الأخروي: أعتقد أنّ الإهانة التي توجّه إلى الله هي القول بأن الله قد خلق جهنم. البشر البدائي كان يتصوّر أنّ جهنم مرتبطة به، وأن جميع الرذائل والحقارات والحقد والضغينة والتوحش ناشئة من جهنم كما أن أكبر مذاهب العالم وأفضلها لم تستطع التخلص من قبضة تصوّر جهنم، لذلك أقرّت بوجودها، (موريس ميترلينغ، المعبر الكبير، ترجمة ذبيح الله منصوري و فرامرز برزگر ص 155). برتراند راسل أشهر فلاسفة القرن الحاضر يقول في هذا المجال: «أعتقد أنّ هذه العقيدة بأنّ جهنم هي نوع من مجازاة العاصين هي عقيدة ظالمة، هذه العقيدة هي التي نشرت الظلم في الدنيا والتعذيب على مدى الأجيال والقوميات، وإذا اعتبرتم أن المسيح المذكور في الإنجيل هو الذي ابتكر هذا النوع من الأفكار، يمكنكم اعتباره المسؤول عن ذلك إذا» (برتراند راسل، لماذا لست مسيحياً، ترجمة س. أ. الطاهري: ص 33).

بحث وتحليل:

يمكن نقد هذه الشبهة بالتوجهين (اعتبارية العذاب الأخروي وتكوينيته) ونبدأ بأدلة التوجّه الأوّل في تبريره وتبيينه لعذاب الآخرة:

التوجّه الأوّل - تبرير العذاب الأخروي على أساس

اعتبارية الجزاء:

قدّم القائلون باعتبارية عذاب الآخرة أدلة تبيّن فلسفة ذلك ودوّنوها، نشير هنا إلى أهمها:

1. العذاب مقتضى العدل الإلهي:

إنّ أبسط جواب يخطر ببال معظم المفكرين وعامّة الناس هو التمسّك بإجراء العدالة في حق الظالم. ينبغي أن ينال المجرمون والظالمون جزاء أعمالهم في الآخرة، وبذلك يتحقّق انتقام المظلومين منهم. إذاً، إذا ترك الله الظالمين في الآخرة من دون عقاب فسيرد إشكال على صفة ،عدالته، ذلك لأنّه تعالى قال: «وَنَضَعُ المَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا» [الأنبياء 47].

المحقّق الطوسي عدّ الجزاء عدالة فقال: «الثواب من فضل اللّه، والعقاب من عدله»(1).

القاضى عضد الدين الأيجى(2) وسعد الدين التفتازاني (3)والسيد

ص: 338


1- الخواجه نصير الطوسي، البداية والنهاية: ص71.
2- عضد الدين الأيجي، شرح المواقف : ج 8، ص 304.
3- سعد الدين التفتازاني شرح المقاصد : ج 5، ص 125 125

الكمباني(1) اعتبروا العذاب الإلهي عدلاً.

بحث وتحليل :

هناك نقاط عدّة في تحليل هذه النظرية:

أ) عدم دلالة العدالة على الجزاء: علينا بداية أن نعرّف العدل الإلهي ليكون واضحاً لنا إذا ما استعاض الله عن مجازاة الظالم يوم القيامة بإعطاء المظلوم حقّه من حقّ الظالم، أو إذا تفضّل من بحر رحمته وأعطاه حقّه، فهل

سيكون ذلك قسطاً وعدلاً أم لا؟ بنظرة إلى تعريف اللغويين لمفهوم العدل ندرك أنّ أغلبهم اعتبر العدل جعل الشيء في موضعه» أو «إعطاء كلّ ذي حقّ حقّه» من دون أي إفراط أو تفريط أي: التعريف نفسه الذي أشار إليه أمير المؤمنين علي علیه السلام: «العدل يضع الأمور مواضعها»(2).

القاضي عبد الجبار المعتزلي من المدافعين الأشداء عن العدل الإلهي في واجهة الأشاعرة يقول: «عندما نصف اللّه بالعدل والحكمة، فإنّنا نقصد أنّ اللّه لا يقوم بعمل قبيح، ولا يريد ذلك، ولا يخلّ بواجب، وكلّ أفعاله تعالى حسنة وجميلة»(3).

يقول الشيخ المفيد: «تطلق عبارة العادل الحكيم على الذي لا يرتكب الفعل القبيح ولا يترك الواجب»(4).

ص: 339


1- السيد الكمباني، نهاية الدراية : ج 1، ص 179 الهامش.
2- نهج البلاغة : الحكمة 437
3- القاضي عبد الجبار ، شرح الأصول الخمسة ص301.
4- حسن بن يوسف الحلّي، أنوار الملكوت: ص 105

من هذه التعاريف يعلم أنّ الذي أكّد عليه المتكلمون في تعريفهم للعدل الإلهي هو عبارة عن أنّ اللّه لا يفعل القبيح الله لا يفعل القبيح أبداً، وجميع أفعاله حسنة وجميلة.

بوجود هذا التعريف، فإنّ ما يؤكد عليه العقل في الدفاع عن حق المظلوم هو أن لا يضيع اللّه العادل حق المظلوم، وأن يحكم لصالح المظلوم بأيّ نحو كان، وللقيام بذلك يستطيع اللّه أن يعطي المظلوم من حسنات الظالم (فيقاصّ الظالم بالأخذ من حسناته بما يتناسب مع ظلمه ) وأنّ يجبر للمظلوم حقّه من لطفه اللامتناهي من دون أن ينقص من حسنات الظالم.

في كلا الحالتين لا ينقص من حقّ المظلوم شيء، ليدّعي أحد عدم رعاية اللّه تعالى العدالة خاصّة انّه مهما ازداد عذاب الظالم في القيامة فلن ينتفع المظلوم بذلك، لذلك لا داعي للإصرار على معاقبة الله للظالم وتعذيبه أي إنّنا لا نسلّم هنا بصغرى القياس أي: إنّ العدل الإلهي يقتضي مجازاة الظالم؛ بل إنّ العدالة تتطلب إحقاق حقّ المظلوم، وليس الفعل والجزاء الذي لن ينفع المظلوم. لعلّ متكلمي الإمامية في مقابل المعتزلة التفتوا إلى هذا الأمر الدقيق أنّ العذاب الأخروي لا يقوم على أساس الدليل العقلي.

(ابن نوبخت) يعدّ من قدماء متكلمي الإمامية، يقول في هذا المجال:

«لا يمكن للعقل لوحده أن يحكم بالعقاب والجزاء، ذلك لأنّ العقل عاجز عن الحكم بمجازاة المجرمين في هذه الدنيا (بمجرد ارتكاب المعصية ومن دون وجود دلیل موجه)»(1).

وبعبارة أخرى، لا ينبغي ردّ الجزاء بالجزاء إلاّ إذا أجبر الإنسان على

ص: 340


1- ابن نوبخت الياقوت في علم الكلام ص 63

ذلك.

ب) عدم إحقاق الحق بالعقاب كما بيّنا من قبل، فإنّ تعذيب الظالم والمجرم لن يعود على المظلوم بأيّ نفع وثمرة ليشكل على عدم تنفيذ العقوبة بضياع حق المظلوم، وعدم تلائمه مع العدل الإلهى على هذا الأساس، فإنّ الجزاء الأخروي لا يحقّ الحقّ وحتّى لو كان جزاءً من دون دافع مقبول ومبرّر فهو لا يتناسب مع صفة الجود والرحمة الإلهية اللامتناهية. (سيأتي توضيح ذلك).

ج) عدم تبیان جزاء حق الله الإشكال الآخر على هذه النظرية هو عجزها عن تبيان جزاء من لم يرتكب ظلماً ضد شخص آخر، لتجري العدالة عليه؛ بل جزاء من لم يعمل بالتكليف كالصلاة والصيام ممّا يتعلّق باللّه، ويعبّر عنه بحق اللّه وكالذي ارتكب الذنوب مثل شرب الخمر، النظر إلى غير المحارم ترك الصلاة والصيام من دون أن يلحق الضرر بأحد ليدّعى عليه بإحقاق حق أو تشفّي خاطر أو طرح شكوى في محكمة العدل الإلهية.

د) عدم تناسب الجزاء مع الجرم: لو غضضنا النظر عن الإشكالات السابقة كلّها، واعتبرنا أنّ الجزاء والعذاب الإلهي أمرين لا مفرّ منهما، فستطال الشبهة خصوصيات الجزاء الأخروي وأوصافه الخاصّة لجهة المدّة والشدّة بما لا يتناسب مع الجرم ويزيد عن حدّ إحقاق الحق للمظلوم.

إذا كان لا بدّ من الدفاع عن العدل الإلهي ينبغي أن يكون هذا الدفاع عاماً ويشمل طرفي الدعوى. فهل تقتضي العدالة الإلهية أن ينال الإنسان أنواع العذاب والجزاء الإلهى لمدّة آلاف بل ملايين السنين بسبب ارتكابه الجرم وذنب

محدود؟

ص: 341

قد يخطر بذهن البعض أنّ علّة العذاب الكبير أو الأبدي للمجرمين الكبار والكفار بسبب سوء نيّتهم، ذلك لانّ قصدهم ونيّتهم الراسخة هي الاستمرار بارتكاب الذنوب دوماً. لكن هذا الجواب لا يرفع الشبهة المذكورة، ذلك لأنّه لا يمكن الحكم على الشخص بالجزاء المؤبّد بسبب قصده ونيّته لإرتكاب الذنب دوماً، لأنّ ذلك يشكّل قصاصاً قبل الجريمة، وهو ما لا ينسجم مع الشأن الإلهي.

وقد ورد في الروايات مثل هذا التعبير الذي يشير إلى تجسّم الأعمال وتبديل فطرة الإنسان الكافر وجوهره سيأتي توضيح ذلك فی الفصل القادم.

2. عدم مساءلة الله :

الأشاعرة ينكرون الحسن والقبح العقليين، ويعتبرون كلّ الأفعال الإلهية حسناً شرعياً، ويعتقدون أنّ كلّ فعل صادر عن اللّه فهو عين العدل: «الحُسن ما حسّنه الشارع والقبيح ما قبّحه».

من ناحية أخرى، فإنّ الأفعال الإلهية لا غاية لها ولا دافع، ويعتقدون بعدم جواز طرح الأسئلة حول الأفعال الإلهية والمساءلة: «لا يُسأل عمّا يفعل» واستناداً إلى هذين الأصلين يرى الأشاعرة أنّ الجزاء الإلهي هو عين العدل و الحسن، وبما أنّه ليس اللّه في أفعاله دافع؛ لذا، فإنّ السؤال عن سبب الجزاء هو سؤال باطل، فكلّ ما يصدر عن الملك فهو حسن.

يردّ (الفخر الرازي) على السؤال : إذا كان هناك قدر ومصير، فلماذا الجزاء؟ ويقول:

«إنّه سؤال باطل، لأنّ الجزاء بحدّ ذاته جزء من القدر، وبما أنّه كذلك

ص: 342

فالسؤال عن علّته باطل»(1).

وبسبب ابتعادها عن مصادر الحكمة ومنابعها طرحت مدرسة الأشاعرة نظريات عجيبة، فمثلاً الجرجاني (م618 ه-.ق ) ينكر استحقاق المحسنين للثواب والجزاء(2). وبنفس الطريقة ينكر استحقاق المجرمين العقوبة. أمّا (الفضل بن روزبهان) (3)فقال بجواز العقاب وأي نوع من العذاب من اللّه حتّى لو لم يرتكب الإنسان ذنباً.

رغم أنّه لا مجال هنا لبحث موضوع «الحسن والقبح العقليين» وكذلك «وجود الغرض من الأفعال الإلهية» لكن لا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّه بإنكار الحسن والقبح العقليين لا يثبت الحسن والقبح الشرعيين؛ بل ينال ذلك من إثبات النبوة وأساس الشريعة أيضاً بحيث لا يبقى مجال للبحوث الفرعية كفلسفة الجزاء الإلهي للبحث في معقوليته.

في هذه المسألة سلّم الأشاعرة لإشكال. فالفخر الرازي ضمن اعترافه به أشار إلى أنّه لا يمكن إقامة الدليل وتبرير جزاء أعمال الإنسان من خلال القول بالحسن والقبح العقليين، خاصّة العذاب الأبدي للكفار من قبل اللّه(4).

3.العقاب هو غاية التكليف:

أمّا المعتزلة وبعض متكلمي الإمامية فإنهم يعتقدون أنّ الحكمة الإلهية

ص: 343


1- راجع الخواجه نصير الدين الطوسي، شرح الإشارات مع حواشي الفخر الرازي: آخر النمط 7، ص 85.
2- عضد الدين الإيجي، شرح المواقف : ج 8، ص 304.
3- راجع : محمد حسين المظفر، دلائل الصدق : ج 1 ، ص 254
4- الفخر الرازي المطالب العالية: ج 3، ص 323

تقتضي وجود غاية وهدف لله الحكيم من الأوامر والتكاليف التي كلّف الإنسان بها في الدنيا، وإلاّ لكان جعل التكليف وما يلزمه من تعب وعناء للعباد فعل عبث، وهو محال أن يصدر عن الحكيم. وعليه فإنّ غاية اللّه وهدفه من جعل التكاليف هو إثابة الشخص المطيع ومعاقبة الفرد المجرم.

يقول (القاضي عبد الجبار) في هذا المجال:

«وضع اللّه لنا مجموعة من الواجبات والمحرمات، ونبّهنا عليها. إذاً لا بدّ من وجود سبب وغاية من وضع التكليف وتنبيهنا عليه، تلك الغاية هي استحقاق الضرر والعقاب»(1).

ويعتقد (الفخر الرازي) أيضاً أنّه لو لم يكن في القيامة ثواب وعقاب للمطيعين والعاصين لكانت الحياة الدنيا والتكاليف الإلهية عبث لا طائل منها(2). ونقل (التفتازاني) و(القاضي الأيجي) كلاماً مشابهاً.

في الإجابة على هذا الإستدلال نقول : ليس هناك أي نقاش في تبرير التكاليف لينال العبد تمام أجره وثوابه، وبذلك يخرج الفعل والتكليف الإلهي من حالة العبث ويوصف بالحكمة لوجود هذا الغرض والهدف.

أمّا الإدعاء بأنّ على اللّه أن يعذّب عبده لأنّه عصاه فهو ادعاء من دون دليل، ذلك أنّ الدليل يثبت ضرورة وجود غاية في التكاليف الإلهية، ويتأمّن ذلك بوجود الثواب والأجر للمطيع، لكنّه لا يثبت ضرورة مجازاة العاصي. علاوة على هذا، فإنّه طبق الأصل الذي يقبل به المدّعي أيضاً «الأوامر

ص: 344


1- القاضي عبد الجبار ، شرح الأصول الخمسة: ص 69
2- الفخر الرازي، الأربعين.

والنواهي تتبع المصالح والمفاسد فإنّ إحدى الغايات والدوافع الإلهية من النواهي والأوامر هي توعية المكلّف على مصالح التكليف في الدنيا واجتناب المفاسد وآثارها المخربة. لكن إذا طُرح إشكال أنّه لولا وجود الجزاء والعقاب على الذنوب لأضحى معظم الناس عصاة، لكن هذا لا يرتبط بالدليل المذكور.بل يرتبط بدليل آخر سنشير له فيما يأتي:

4. العقاب يضمن إجراء التكليف:

بعض متكلمي المعتزلة والإمامية يستدلون على أنّه إذا أحسّ أفراد أنّهم إذا ارتكبوا أي ذنب وجرم في الدنيا فإنّهم لن يتعرّضوا للمساءلة والمقاصة والعقاب، فسيرتكبون الجرائم من دون أي خوف وتردّد، ممّا يهيء الأرضية السيطرة المجرمين والأقوياء على الضعفاء والصالحين في المجتمع، ممّا سيثير الفوضى ورواج الظلم في المجتمع ؛ لذلك نستنتج أنّ وجود العقاب الأخروي أمر لازم لإيجاد النظم والعدالة في المجتمع.

(القاضي عضد الدين الأيجي) قدّم نظرية المعتزلة بقوله: «إذا علم المذنب أنّه لن يعاقب على جرمه، فسيؤدّي ذلك إلى استمراره ومداومة المذنب على الذنب»(1).

ويقول (ابن سينا) في هذا المجال: «خلف الوعيد يتنافى مع الحكمة الإلهية، ويؤدّي إلى عصيان اللّه وعدم الاهتمام بالتهديد الإلهي»(2).

ص: 345


1- عضد الدين الأيجي، شرح المواقف: ج 8، ص 304.
2- الخواجه نصير الدين الطوسي، شرح الإشارات مع حواشي الفخر الرازي: نمط 3، ص 239.

ويقول (العلامة الحلّي):

«لو لم يكن هناك عقاب وجزاء لكان التمهيد لارتكاب فعل القبيح، لانّه يوجد فينا نحن البشر الميل والجنوح نحو ارتكاب الذنب، وإذا جزم الإنسان بعدم وجود العقاب؛ فسينجرّ نحو الذنب بإرادة ودون إرادة، والإغراء بالقبيح قبيح»(1).

من أجل تحليل النظرية المذكورة ينبغي القول إنّ هذه النظرية تتشكّل من قسمين: القسم الأوّل يتعلّق بالآثار الدنيوية لعدم وجود الجزاء، من قبيل: التعدّي على حقوق الآخرين والعصيان والفوضى في المجتمع. والقسم الثاني

يتعلّق بعدم الامتثال بالتكاليف الدينية.

جواب القسم الأول:

أولاً - لا يمكن القبول بأنّه في حالة عدم وجود العقاب الأخروي فسينتشر الظلم والاضطراب في المجتمع البشري، لأنّ اللّه أوجد في البشر قوّة العقل والوجدان وفطرة المحبة وطلب الحقيقة والحسّ الاجتماعي، ويستطيع البشر أن يديروا عجلة مجتمعهم جيّداً بالتمسّك بهذه الأمور، وليس ضرورياً في هذا المجال الخوف من الجزاء الأخروي. والدليل والشاهد على ذلك وضع المجتمعات غير المتدينة او غير المعتقدة بالمعاد، فمثلاً الصين بنفوسها الأكثر من مليار إنسان ورغم عدم الاعتقاد بالمعاد وبالجزاء الأخروي قد وفقوا لإدارة بلادهم؛ حتّى أضحت من الدول المتقدمة والصناعية في العالم(2). ولعل رواية:

ص: 346


1- حسن بن يوسف الحلّي، نهج الحق وكشف الصدق: ص 377
2- 42 من الشعب الصيني لا يعتنق أي دين و 28٪ يعتنقون أديان محلية و 18٪ بوذيين و 21 سائر الأديان.

«الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم»(1) تشير إلى هذه الحالة وهذا المدّعى.

ثانياً - إنّ العقوبات التى وضعت لأصغر الذنوب لا تتناسب مع الإدعاء المذكور.

أما جواب القسم الثاني أي عدم الامتثال إلى التكاليف الشرعية، فهناك نقاط عدّة تطرح في التحليل والإجابة:

1 . إذا ما تأمّلنا وتعمّقنا في كيفية الضمانة الإجرائية للتكليف فسنصل إلى نتيجة مفادها أنّ الضامن الإجرائي للتكليف ليس الجزاء في الآخرة؛ بل هو التهديد والوعيد بالعذاب الوارد في النصوص الدينية كراراً تجاه المذنبين. لأنّ العذاب والجزاء لا ينزلا بالشخص المجرم والمذنب بمجرد فعله الحرام ليمنعه خوفه من نزول مثل هذا العذاب عن ارتكاب الذنب، وعليه فإنّ الذي يردع الإنسان عن ارتكاب المحارم والمعاصى وترك الواجبات الإلهية، ويمكن أن يشكّل ضامناً إجرائياً للتكليف هو الوعيد الإلهي. ويؤيّد هذا الإدعاء عدم ارتكاب المعاصي من قبل الذين اطلعوا على ذلك الوعيد وخصوصياته.

أمّا أن يعذب اللّه الشخص المخطىء في يوم البعث الذي يعجز عن جبران مافات، فهذا لن يشكّل الضامن الإجرائي، ذلك لأنّه لم يبق حينها مجال للتكليف والامتثال من هنا فإنّ الخلاص والنجاة من العقاب الإلهي في يوم القيامة يحتاج إلى عناية خاصّة. مثاله: أب سقط ابنه في الامتحان في المرحلة الابتدائية، لكن هناك فرصة لخوض امتحان آخر، فيعاقبه ليأخذ العبرة وينجح

ص: 347


1- محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار: ج 75 ، ص 331

في الامتحان الثاني. في هذه الحالة تعدّ معاقبة الأب لابنه ضمانة إجرائية للنجاح. لكن هذا المثال نفسه إذا كان الطالب يقدّم للامتحان النهائي، ولا يوجد امتحان بديل آخر، عندئذٍ لن يشكّل عقاب الأب لابنه ضمانة إجرائية

وعبرة.

وجزاء الآخرة من هذا القبيل. ما هو هدف اللّه من معاقبة المذنبين؟ هنا يمكن القول إنّ مورد البحث من قبيل: «ما قصد لم يقع، وما وقع لم يقصد» أنّ ما يقصده الشخص ويدّعيه (الضمانة الإجرائية ) لم تتحقّق في الدنيا، وما يقع في الآخرة من الجزاء لا يمكنه أن يكون ضمانة إجرائية.

2. علاوة على هذا، فإنّ جميع الناس لا يطيعون ويؤدّون التكاليف الإلهية بسبب خوفهم من الجزاء وجهنم؛ بل هناك فئتان من الناس لن ينحرفوا عن الجادة الصواب حتّى لو تكن هناك جهنم، الفئة الأولى الذين عبدوا اللّه تجارة لنيل الجنة، والفئة الأخرى الأحرار الذين عبدوا اللّه حبّاً واطاعوه رغبة وشوقاً.

علاوة على ذلك، فحتّى الفئة التي عبدته خوفاً، تمتلك الوجدان والفطرة السليمة التي تشدّهم نحو الخيرات.

3. وحتّى لو سلّمنا بوجود عقاب إلهى، فإنّنا نجد أنّ هناك من يرتكب الذنوب، فيترك الصلاة والصيام مثلاً أراد اللّه أن يبلغ عباده قمم السعادة الرفيعة من خلال امتثالهم للتكاليف، كالسلّم الذي من ارتقاه بلغ منزل الحظ الوافي والسعادة، ومن لم يرتقه فلن ينال منازل السعادة. ليس السؤال المطروح: لماذا يعطي اللّه جنة الخلد لمن ارتقى ذلك السلّم؛ بل السؤال والإشكال الأساس هو: لماذا يبعث اللّه الناس الذين تقاعسوا ولم يستفيدوا من اللطف الإلهى

ص: 348

ويرتقوا سلّم الكمال ليعذبهم بشتّى أصناف العذاب الذي لا يُحتمل ؟

4. ولو سلّمنا بضرورة وجود جزاء أخروي بشكل عام، ينبغي أن يكون ذلك الجزاء بمقدار الضرورة ومتناسباً مع الجرم والذنب؛ لكن كما أشرنا سابقاً فإنّ خصوصيات الجزاء الأخروي التي وردت في النصوص الدينية لا تتناسب مع الجرم ومقدار الضرورة؛ بل أكبر بكثير من الذنب والجرم الذي ارتكبه المجرم في الدنيا، بحيث يصعب تبريره على أساس اعتبارية الجزاء الأخروي.

5. الجزاء مقتضى الوعيد الإلهي:

مذهب الاعتزال يعتبر أنّ الوفاء والعمل بالوعد لازم وواجب، كما أنّ الوفاء والعمل بالوعيد والتهديد لازم أيضاً بالنسبة نفسها، وأنّ الوعيد الذي جاء في الكتاب والسنّة بالعذاب والجزاء الإلهى للمجرمين والمتخلفين إنّما جاء

لئلا يكون هناك خلف للوعيد وكذب وما يوجب الذنب.

إنّ المسألة الوعد والوعيد في مذهب المعتزلة قيمة واعتباراً إلى درجة جعلوا هذا الأصل إلى جانب أصولهم الخمسة.

يقول (القاضي عبد الجبار) أحد شخصيات هذا المذهب المعروفين:

«وعد اللّه المحسنين بالثواب وتوعّد المسيئين بالعذاب، وسيعمل اللّه بوعده ووعيده، ولا يجوز أن يخلف وعده، لأنّه الكذب وفعل قبيح. أمّا لماذا لا يرتكب اللّه الفعل القبيح، فلأنّه يعلم بقبحه، وهو غني عن فعله»(1).

ص: 349


1- القاضي عبد الجبار، شرح الأصول الخمسة ص 135

ويذكر (القاضي) الآية الشريفة: «ما يبدّلُ القولُ لدَّي وما أنا بظلاّمٍ للعبيدٍ» [ق (29] كشاهد على ذلك.

ويقول (ابن سينا) في تعليله للجزاء:

«إنّما كان إجراء الجزاء لأنّ العمل بالوعيد وتصديق التهديد في الحكمة الإلهية واجباً، ذلك لأنّ خلف الوعيد يوجب تجرّي العصاة وينافي حكمة الخلق»(1).

واعتبر (المحقّق الميرداماد) أيضاً أنّ الإخلال بالوعيد من نواقض الحكمة الإلهية:

«إنّ لزوم الوفاء بالتهديد والوعيد من العوامل الرادعة للمذنبين، وخلف الوعيد منافٍ للحكمة»(2).

وقال بعض المعاصرين أيضاً بوجوب العمل بالوعيد وقبح التخلّف عنه، فبرّروا الجزاء الأخروي وصحّحوه:

«إنّ التهديد والإنذار بالجزاء يشكّل ضمانة إجرائية من ناحية، كما إنّ العمل بالوعيد أمر ضروري لدفع أي قبح عن ذات اللّه. هذه هي فلسفة تحقّق جهنم وجزائها»(3).

الأمر الهام في النظرية المذكورة هو اعتبار عدم العمل بالوعيد كذباً وقبحاً. ففي معرض ردّه على إشكال انتفاء دواعي العمل بالوعيد في الآخرة يقول:

ص: 350


1- الخواجه نصير الدين الطوسي، شرح الإشارات مع حواشي الفخر الرازي: ص 239
2- المحقق الميرداماد :القبسات: القبس 1، ص 437
3- ناصر مكارم الشيرازي رسالة القرآن : ج 6 ، ص 412

«يلزم هذا الكلام أنّ اللّه الحكيم يرتكب القبيح ويقول الكذب والعياذ بالله ويتخلّف عن وعده، فيتحدّث عن جزاء المسيئين، بل ويقسم على فعل ذلك، ثمّ لا يقوم بذلك عملياً، وهذا عمل قبيح لا يليق بذات الله المقدسة؛ بل لا يفعله أي فردٍ مهذب وحكيم».

الجواب:

إنّنا نوافق المعتزلة في صغرى ،المدعى أي في وجود الوعيد والتهديد المتواتر في الكتاب والسنّة. لكن محل البحث والنقاش هو استنتاج الجزاء من هذا الوعيد، وكلّ إنسان يمكنه أن يرجع إلى وجدانه وعقله ليستنتج أنّ العمل بالوعيد ليس واجباً في كلّ الحالات؛ ذلك لأنّ العقل يحكم بأنّ المولى له العمل بالوعيد إذا تخلّف العبد ، وله أيضاً اختيار العفو والغفران. على أي حال ينبغي بحث حكم العمل بالوعيد ودراسته من جهات مختلفة، مثلاً إذا كان العمل بالوعيد ومجازاة الفرد الخاطىء موجباً لإصلاحه، عندئذٍ لا شك بحسنه، أمّا إذا كان العمل بالوعيد ليس له أي أثر على الشخص المجرم ولا على غيره؛ بل هو للعذاب والعقاب فقط عندها فإنّ العقل والعقلاء لا يحكمان بحسنه ؛ بل يحكمان بأولوية العفو أيضاً.

بعض الآيات القرآنية تؤيّد حكم العقل أيضاً، كما جاء في قصة نذر النبي أيوب أن يضرب زوجته مائة جلدة، أمره اللّه بالمداراة وأن يجمع مائة خشبة صغيرة أو جمع العلف في ربطة واحدة ليفي بذلك نذره.

روي عن رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم قوله :

«من وعده اللّه على عمل ثواباً فهو منجز له، ومن أوعده على عملٍ

ص: 351

عقاباً فهو فيه بالخيار»(1).

يقول (أرسطو) في هذا المجال:

«زين وعودك بالوفاء بها، ذلك لأنّ خلف الوعد قبيح، أمّا وعيدك وتهديدك فاقرنه بالعفو والسماح ، لأنّ ذلك عمل جميل و محط افتخار»(2).

علاوة على ذلك، فإنّ حسن العفو بالنسبة إلى اللّه تعالى المتّصف بالغنى والجود والرحمة المطلقة أولى بمراتب من سائر الموالي، لذلك فإنّ العارف (محيى الدين ابن العربي) يخالف وجود مرجح الوفاء بالوعيد في الآخرة؛ بل على عكس ذلك، أي: إنّه يقول بوجود مرجح العفو الإلهي(3).

نقل ونقد:

بعض المعاصرين(4) يعتقدون أنّ اللّه تعالى لم يعد المؤمنين والكفار بالعفو والمغفرة لكلّ ذنوبهم وبهذه السعة ليُقال بما أنّ اللّه وعد بالعفو إذاً فالعمل بالعفو في القيامة واجب، لذا لا دليل على ضرورة العفو الإلهي، ويستطيع اللّه أن

يعاقب بدل العفو.

يبدو أنّنا إذا قبلنا بصغرى المسألة، أي بعدم وجوب العفو الكلي، فإنّ

ص: 352


1- راجع التوحيد للصدوق الباب 16 الأمر والنهي) ص 604/ ومحمد باقر المجلسي بحار الأنوار: ج 5 ، ص 334.
2- هادي السبزواري مجموعة الرسائل تعليق ومقدمة وتصحيح السيد جلال الدين الأشتياني: ص 335
3- محيي الدين ابن عربي فصوص الحكم: الفص السابع، ص 94
4- دروس الأستاذ الجوادي الأملي في شرح الفصوص: آخر الفص بتاريخ 2/13/ 1988م).

ذلك لا يصحّح العقاب الإلهي. وبعبارة أخرى، صحيح أنّه ليس لدينا دليل على ضرورة العفو ؛ لكن ليس لدينا دليل أيضاً على لزوم العقاب.

6. العقاب لطف إلهي :

بعض متكلمي الإمامية اعتبروا أنّ العقاب الأخروي يقع تحت مجموعة لطف اللّه تعالى في حق عباده. ذلك لأنّ العقاب يؤدّي إلى الطاعة والتقرّب من اللّه، وإذا لم يكن هناك لطف وجزاء لتمادى العباد بارتكاب الذنوب حتّى تتلاشى علاقة العبودية بين المخلوق ،والخالق، ممّا يوجب الهلاك الأبدي للبشر.

يقول (الخواجه نصير الدين الطوسي) في هذا المجال:

«إنّ الإنسان بارتكابه للذنب وتركه للواجب يستحق العقاب والمذمة، ذلك لأنّ العقاب يستلزم اللطف الإلهي»(1).

ويقول (العلاّمة الحلّي) في تبيان الإستدلال المذكور:

«الدليل على أنّ العقاب لطف هو إذا كان الشخص المكلف عالماً فإنّه إذا ارتكب معصية فسيستحق العقوبة. وفي هذه الحالة سيمتنع عن ارتكاب المعصية ويقترب من أداء الطاعة»(2).

وفي مكان آخر يذكر (العلاّمة الحلّي) هذا التعليل نفسه(3).

ووصف (المحقّق الميرداماد) العقوبة الإلهية أنّها من مصاديق الرحمة(4).

ص: 353


1- حسن بن يوسف الحلّي، كشف المراد (مبحث المعاد): المسألة 4، ص 408
2- نفس المصدر.
3- حسن بن يوسف الحلّي، نهج الحق وكشف الصدق: ص 377.
4- المحقق الميرداماد، القبسات القبس 10 ، ص 460

وقال (العلاّمة الشعراني) أيضاً:

«إنّ فائدة العقاب ليس الانتقام؛ بل اللطف. ذلك لأنّه إذا علم المكلّف أنّ في الطاعة ،ثواب وليس على المعصية شيء، لما أطاع»(1).

بحث وتحليل :

الروح العامّة لهذا الجواب تعود إلى الجواب الرابع (أي الضمانة الإجرائية للتكليف) والفرق المهم بين النظريتين متعلق بلطفية أصل العقاب، ولذا، فإنّ تحقّق أصل العقاب ضروري وواجب. ويتّضح ضعف هذه النظرية من المطالب السابقة ذلك لأنّ أساس تقرّب العبد هو الوعد والوعيد الإلهيين، وليس الجزاء. لذلك يبدو أنّ لطفية أصل العقاب الأخروي غير معقول من هذه الجهة في المكان الذي يعجز فيه العبد عن كلّ طرق جبران ماضيه فكيف

يكون عقابه حينها عن لطف؟

أمّا إذا كان مراد مؤيدي اللطف هو أنّ العذاب يزيل التلوّث النفسي للعبد وبزوال الصفات الرذيلة ينجو المذنب من العذاب، وبذلك يتحقّق معنى اللطف، ففي هذه الحالة ينبغي القول: إنّ هذا الكلام لا يستفاد من كلمات المعتقدين بالنظرية المذكورة (سيأتي بحث هذه النظرية بالتفصيل).

علاوة على ذلك، حتّى لو غضّينا النظر عن الإشكال المذكور والتزمنا بلطفية العقاب الأخروي، فإنّ للطفية العقاب شرط وهو أنّ ما يعدّ لطفاً بحق العبد ينبغي أن لا يؤدّي إلى إيذائه وإلحاق الضرر به، أو في الحدّ الأدنى إذا

ص: 354


1- أبو الحسن الشعراني، ترجمة وشرح كشف المراد: ص 573.

كان المتلطف مضطراً للطف أن يكون لطفه لا يؤدّي إلى ضرر؛ ففي هذه الحالة يجب أن تكون مصلحة هذا اللطف ومنفعته تجاه العبد أكبر من الضرر المترتب عليه، وإلاّ فلن يكون لطفاً مثلاً إذا أعلن الشخص المنعم أنّ كلّ من يحضر في المكان الخطر والمهول الفلاني، فإنّي سأتلطف به وأحسن إليه قليلاً، فإنّ أي عاقل سيعتبر إعلانه ذاك فاقداً للطف. لكن إذا كان الضرر المقابل أي المعاصي أكبر بعدّة أضعاف من الضرر الذي سيلحقه من العقاب الأخروي، عندها يتحقّق أصل اللطف لهذا، فإنّ اللّه تعالى وضع العقاب الأخروي المتضمن إيذاء العبد والإضرار به لينجو الإنسان المكلف في هذه الدنيا من الابتلاء بالضرر الفائق للحدّ. وبتعبير آخر، ينبغي أن يشكّل العقاب الأخروي دفع الأفسد والأكثر ضرراً بالفاسد والضرر، في حين أنّ الواقع هو عكس ذلك، أي: إنّ الفساد والضرر الذي يلحق بالعبد من العقاب الأخروي لا يقاس أبداً بأضرار ارتكاب المعاصي.

تفطن (المحقق الكمباني) إلى هذا الأمر خلال ردّه على استدلال (الملا علي النجفي النهاوندي) القائل بأنّ العذاب الأخروي هو من باب دفع الأفسد بالفاسد، فقال:

«لازم الوعيد الإلهي إبتلاء العبد بالعقاب الأخروي الذي مفسدته تعادل أضعاف مفاسد المحرمات الدنيوية وترك مصالحها. إذاً لا يمكن أن يكون العذاب الأخروي من باب دفع الأفسد بالفاسد؛ بل إنّ الحقيقة هي عکس ذلك(1).

ص: 355


1- الكمباني، نهاية الدراية : ج 1، ص178 راجع الكمباني، بحوث في الأصول: ص 56 .

ويقول في استدلاله على نظريته:

«وضعت العقوبات الأخروية كعامل رادع للإنسان عن فعل القبيح، فإذا اعتبرت لطفاً وإحساناً فى حق العبد فسيستلزم أن لا يكون ضررها أكثر من ضرر ومفسدة فعل القبيح في الدنيا، في حين أنّ الواقع عكس ذلك»(1).

والأمر الآخر هو الإشكال الأكثر إلحاحاً على لطفية العذاب الأخروي الأبدي للكفار والمشركين هذا العذاب الأبدي السرمدي كيف يكون لطفاً في حق الشخص المعذّب؟

7. الجزاء مقتضى المعصية:

يسند بعض المفكرين المسلمين الجزاء الأخروي إلى نفس ارتكاب فعل المعصية، ويعتقدون أنّه إذا اختار العبد طريق العصيان والطغيان لمولاه المنعم والحقيقي بدل طريق الطاعة والانقياد فإنّ مثل هذا العبد يستحق العقاب

والجزاء المتناسب مع جرمه. إذاً، فنفس ارتكاب الجرم يكفي في مجازاة الشخص المجرم ولا لزوم لداع آخر.

يقول (السيد المرتضى) في هذا المجال:

«إنّ الملاك الذي يستحق الإنسان عليه العقاب هو نفس الملاك الذي استحق عليه الذم والتوبيخ وهو ارتكاب فعل القبيح وترك الواجب»(2).

كتب (الآخوند الخراساني) في الكفاية:

ص: 356


1- نفس المصدر.
2- السيد المرتضى الذخيرة: ص 295

«إنّ العقاب تابع للكفر والمعصية التي هي معلول الفعل الاختياري للإنسان، والتي تنبع من الشقاء الذاتي للإنسان»(1).

وتحدّث (أفلاطون) في عدّة مواضع من مؤلفاته عن الجزاء الأخروي، ومن جملة ذلك قوله:

«أليس علينا القبول أنّ الآلهة تسعد أحبابها، إلاّ إذا ابتلي هؤلاء بالعقوبة التي لا بدّ منها بسبب الذنوب التي ارتكبوها في حياتهم الدنيا»(2).

بحث وتحليل :

علينا أن نذعن أنّ الموضوع الأساس للبحث هو استحقاق الجزاء أو عدمه، لنقدّم الأدلة على إثباته أو نفيه. يبدو أنّ جميع العقلاء قد أجمعوا أنّ أصل استحقاق الشخص المتخلف للعقوبة أمر بديهي. لكن أساس النزاع والاختلاف هو في دوافع العقاب وضرورته، وأنّ المولى قد اختار ورجّح العقوبة على المعصية بدل المداراة. لكن ما هو العامل والمرجح الذي جعل مولى كالله الرحيم والرؤوف أن يختار العقاب وأشدّ الجزاء بدل العفو؟ وبعبارة أخرى، هل استحقاق العقوبة شرط لازم في أصل الجزاء وليس شرطها التام، لذا، فإنّ العلاقة بين الذنب والجزاء هي في حدّ الاقتضاء والعلّة الناقصة، وعلى المدّعي إقامة الدليل ويثبت أنّها شرط تام وليست شرطاً ناقصاً.

يقول (المحقّق الكمباني) حول هذه النقطة الدقيقة :

ص: 357


1- محمد كاظم الأخوند الخراساني، كفاية الأصول: ج 2، ص 100
2- أفلاطون دورة المؤلفات: ج 2، ص 1276 / أفلاطون، الجمهور: العدد 613

«إنّ إقدام العبد على ارتكاب المعصية أو الضرر باختياره خاصّة عندما يكون حق اللّه حيث يعود الضرر على العبد وحده، يستحق العبد عليه اللوم والتوبيخ وليس مصحّحاً للجزاء. أمّا العقاب الإلهي فإنّه يكون صحيحاً عندما يكون لطفاً وحسناً للإنسان، في حين أنّ الأمر ليس كذلك»(1).

ويقول (الملا علي النجفي النهاوندي):

«رغم أنّ عصيان المالك والخالق هو عمل قبيح وظالم، لكن مجازاة العبد بعد تحقّق العصيان أمر غير محمود أيضاً إلاّ إذا تضمن الجزاء نفعاً ومصلحة»(2).

نشير إلى (آية اللّه العظمى المرعشي النجفي) من بين العلماء المعاصرين الذين ميّزوا بين استحقاق العقوبة ووجوب العقاب، فكتب في تعليقه القيّم على كتاب (إحقاق الحق وإزهاق الباطل):

«إنّ مذهب العدلية يقول بعدم وجوب ولزوم ترتب الجزاء على المجرم؛ بل يفتي باستحقاق ذلك، ومعلوم أنّه لا يستنتج من الاستحقاق أبداً لزوم وجوب العقاب. إذاً لا ينبغي الحديث عن وجوب الجزاء»(3).

8. العقاب مقتضى العبودية والمولوية:

استدل بعض الحكماء والمتكلمين في معرض تبريرهم للجزاء الإلهي بهذا النحو: بما أنّ اللّه الواحد الخالق المالك والمولى الحقيقي للناس، لذلك يمكنه

ص: 358


1- الكمباني، بحوث في الأصول: ص 65-66.
2- علي النجفي النهاوندي، تشريح الأصول: ص 210.
3- راجع السيد نور الله الشوشتري، إحقاق الحق وإزهاق الباطل: ج 1، ص 273.

بسط اليد والتصرّف في ملكه وسلطانه كيف يشاء، والعقل يؤيّد هذه الحكومة والسلطة المطلقة للمالك الحقيقي.

ويستند (العلاّمة الطباطبائي) إلى الآية الشريفة: «إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» [المائدة 118] فيقول:

«هذه الآية تبيّن تعليلاً عقلياً وهو إذا كان المولى يمتلك عبداً وغلاماً، فمن مسلّمات العقل أنّه يستطيع أن يتصرّف به بأيّ نحوٍ أراد، وأن يعاقبه» «إنّ اللّه حرّ التصرّف المطلق بعباده دون أن يطال المقام الربوبي أي قبح وذم عقلي وغير عقلي، ذلك لأنّ القبح والذم يطال الفاعل إذا تصرّف في غير ملكه، وعندئذٍ يقف بوجهه العقل والقانون أو أيّ سنّة رائجة ويحكم بقبح ذلك. لكن إذا تصرّف المولى بملكه المطلق فلن يطاله أي توبيخ وتقبيح»(1).

خلاصة كلامه هي أنّ السنة والمشيئة الإلهية تعلّقت بأن يتصرّف مع عباده بالمحبة كتصرّف الحاكم العزيز والرؤوف بعباده ولا يوجد ما يحدّ من حكم اللّه وفعله، فحتّى القواعد والأصول المنطقية والعقلية هي محكومة لأفعال اللّه تعالى وليست حاكمة عليه. والعقل العملي أعجز من أن يضع قوانين تجبر اللّه على وجوب عمل كالعدل أو حرام عمل كالظلم. لأنّه إذا كان ذلك ملزماً، وكان هناك عقل، فسيطرح سؤال حول كيفية حكم العقل «بالوجوب أو التحريم». فالعقل يلحظ في حكمه بالضرورة الأمور الخارجية من قبيل المصالح والمفاسد المتعلقة بالفعل، إذاً فالعقل ليس حاكماً وملزماً مستقلاً وواقعياً. لكن لو افترضنا أنّ الملزم الحقيقي هي المصلحة الحقيقية للفعل، فسيكون الإشكال

ص: 359


1- السيد محمد حسين الطباطبائي، تفسير الميزان ج 6 ، ص 339

هو انّ المصلحة تنتهي حتماً بالخارج وبالأفعال الإلهية وفي النهاية بالذات الإلهية، وهذا الفرض ليس منتجاً للمدّعى، لكن لو قيل إنّ العقل يحكم بالحسن والقبح بالإلتفات إلى المصالح والمفاسد الاعتبارية وغير الحقيقية، عندها يكون الإشكال هو أنّ العقل لا يستطيع الحكم بذاته ومن دون ملاحظة الموجهات الخارجية(1).

الجواب:

ليست هناك أيّة شبهة وبحث في القدرة المطلقة والمالكية الحقيقية الوحيدة للّه، ذلك لأنّ اللّه تعالى واجب الوجود، وكلّ الكائنات ممكنة الوجود وهي محتاجة ومرتبطة في وجودها بوجود واجب الوجود. ومن ناحية أخرى، فإنّ الذات الإلهية فعّالة لما تشاء. لكن الكلام هو في جواز تمام الأفعال المتصوّرة في الأذهان وصحّتها عقلياً، وعلى هذا هل يمكن للّه أن يخلق إنساناً ويعطيه نفساً لطيفة، ثمّ يعرّضه لأشدّ الجزاء والعذاب؟ وهل يمكن تصوّر الناس الذين أطاعوه في هذه الدنيا بتعب وعناء ومشقّة، لكنّهم عصوه بعض الشيء، فهل سيعاقبهم لمجرد أنّهم عباده؟

القائلون بالحسن والقبح العقليين يعتقدون أنّ فعل القبيح قبيح، عن الإنسان صدر أو عن القادر المطلق. فكما أنّه لا ينبغي للإنسان أن يرتكب الفعل القبيح، فكذلك اللّه . فالناس بسبب الدوافع المختلفة لأفعالهم قد يرتكبون فعلاً قبيحاً أحياناً ، لكن دوافع ارتكاب فعل القبيح ممتنعة عن اللّه مطلقاً، لذلك،

ص: 360


1- نفس المصدر : ج 7، ص 59 . وللاطلاع أكثر راجع: ج 4، ص 97 وج8، صص 53 و 58 وج 14 ، ص 94

فإنّ اللّه لا يفعل القبيح مطلقاً، وحكم العقل العملي هذا هو ثمرة فحص وتدقيق العقل النظري في صفات اللّه تعالى واستنتاج لها. وبعبارة أخرى، فإنّ أحكاماً من قبيل: وجوب إرسال الرسل، وقاعدة اللطف وامتناع تكليف ما لا يطاق، وإثابة العبد المطيع التي ينسبها العقل إلى الذات الإلهية من باب أنّ لديه حكم الكاشفية والاستنساخ وليس حكم الإيجاب والأمرية. وبعبارة أخرى، فإنّ الوجوب الذي ينسبه العقل إلى اللّه في هذه الأحكام هو وجوب كلامي و«عنه» وليس وجوباً فقهياً و«عليه».

إذا جرى الإصرار على الإدّعاء المذكور، واعتبرنا أنّ اللّه سيعذّب الذين لم يرتكبوا الذنوب رغم أنّ العقل يرفض ذلك، وإخراج تلك العبارة من إنكار الحسن والقبح العقليين، وهو ما تنبّه له (العلاّمة) وسعى إلى حلّه، لكن يبدو أنّ جهده المشكور غير مقبول(1).

بالتأمّل والدقّة في كلا القسمين من الوجوب يتّضح أنّ الإشكالات التي أوردها (العلاّمة الطباطبائي ) على مؤيدي الحسن والقبح العقليين غير مقبولة، وأنّ التوالي واللوازم المدّعاة من قبيل المقهورية والتأثّر الإلهي غير لازم أيضاً.

لكن ينبغي القول ردّاً على استدلال (العلاّمة ) حول كيفية حكم العقل بالإيجاب والتحريم في أفعال اللّه تعالى: إنّ دعامة العقل في هذا الحكم ليست المصلحة الحقيقية للفعل ولا مصلحته الاعتبارية؛ بل كما بيّنا فإنّ العقل بعد السير والتتّبع في الصفات الإلهية وصل إلى هذا الاستنتاج، وعليه، يبدو أنّه لا يمكننا الموافقة على إدعاء (العلاّمة) حول جواز عقاب اللّه لجميع عباده حتّى

ص: 361


1- راجع تعليقات العلامة على الأسفار : ج 7، ص 86.

من لم يرتكب خطأ. علماً بأنّ العلاّمة يعتقد بعدم عقاب المطيعين والمحسنين من قبل اللّه تعالى لكنّه ينسب ذلك إلى سنّة اللّه ،وعادته، ويعتقد أنّ السنّة الإلهية تعلّقت بأن تكون علاقة اللّه مع عباده كعلاقة الحاكم الرؤوف والعزيز، لا

كعلاقة الحاكم المستبد والظالم، ويقول في هذا المجال:

«إنّ السنّة التكوينية قائمة على هذا الأصل، وهو إذا عرضت الأفعال الإلهية على العقل فسيصفها جميعاً بصفة العدالة، ولا يستطيع العقل أن يجد عنوان الظلم والجور في أفعال اللّه تعالى أبداً»(1). وفي مكان آخر يقول:

«إنّ اللّه تعالى الذي وضع الشرائع والقوانين يتعامل معنا كحاكم مقتدر وعزيز، لذلك لا يصدر حكماً فينا إلا إذا كان بحجة ومصلحة»(2).

أمّا الآية التي تمسّك بها (العلاّمة) في ادّعائه فلا تشكّل عندنا مؤيداً، لأنّ الآية لا تصحّح العقاب للعبد المدعى فقط؛ بل يعود الضمير فيها «تعذّبهم» و«إنّهم» على المسيحيين المشركين ومصحّح الجزاء الإلهي وموضوعه مركّب من قيدين: العبودية والمعصية.

يقول (السيد نور اللّه التستري) في هذا المجال:

«إنّنا لا نعتبر أنّ اللّه قد ذكر العبودية وحدها ملاكاً للجزاء، لأنّ إضافة (عبادك) هي إضافة عهدية. لذلك لم يقل الله (عباداً لك ) أو (عبدك ) إذاً فمراد الآية هو يا رب هؤلاء عبادك المذنبون والمكذبون».

ص: 362


1- السيد محمد حسين الطباطبائي، تفسير الميزان ج 4 ، ص 97.
2- نفس المصدر : ص 58

علاوة على ذلك، فلو قبلنا بمثل هذا الإدعاء، أي: إنّ اللّه «يفعل ما يشاء» فإنّ هذا الكلام والحكمة الإلهية - وهي مفهوم تلك العبارة - لا تتنافى مع وجود غرض ودافع ومرجح للأفعال الإلهية. لذا، يبقى السؤال عن الدافع الإلهي من الجزاء الأخروي قائماً بقوّة.

الأمر الآخر هو أنّ بعض الآيات تعتبر أنّ عذاب الأبرياء أمر بعيد عن شأن اللّه ومنزلته، وتصف ذلك بالجزاء الظالم وغير العادل: «وَما كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ» [هود 117] يعتبر اللّه الإهلاك الدنيوي للمصلح ظلماً، فكيف بالعذاب الأخروي الذي يفوقه بأضعاف مضاعفة. ،وعليه فإنّ مثل هذه الآية تفسّر الآيات المخالفة وتبيّنها، ويمكن حمل الآيات المخالفة على هذه الآية. أكثر متكلمي الإمامية وعلمائها يعتقدون بعدم جواز عذاب غير المجرم نشير هنا إلى بعض أقوالهم:

(الشيخ المفيد) من المتكلمين الشيعة الكبار يقول:

«الله عادل كريم، ولا يعذّب أحداً دون استحقاق، وهذا هو مذهب أهل التوحيد عدا جهم صفوان والجبائي»(1).

(العلاّمة الحمصي الرازي) المتوفى أوائل القرن السابع قال في معرض ردّه على العذاب دون استحقاق:

«إنّ الإضرار بالغير دون استحقاق ولا سابق جرم عندما يكون دون نفع يجبر الضرر أو يدفع الضرر الأكبر فهو ظلم. كما إنّه بعنوان فعل عبث أمر قبیح»(2).

ص: 363


1- محمد بن محمد بن نعمان أوائل المقالات تصحيح و اهتمام واعظ الشرداني: ص 28
2- الحمصي الرازي المنقذ من التقليد: ج 1، ص199

(محيی الدين ابن عربي) العارف الشهير في عالم الإسلام يخالف أيضاً التجويز المطلق لتعذيب العباد، ويعتبره مخالفاً لصفة الحكمة الإلهية(1).

(القيصرى) بدوره كتب ردّاً على من يعتقد بالعقاب الإلهى المطلق:

«هؤلاء لم يقفوا على حقيقة (القدر) وسرّه، وظنوا أنّ اللّه تعالى يقوم بفعل دون ،حكمة، لذلك أجازوا تعذيب مستحق ،الرحمة، والإنعام الى مستحق العذاب. تعالى اللّه عن ذلك علواً كبيراً».

(الحكيم السبزواري) أشار الى اختلاف نظرية الأشاعرة مع العدلية، وقال في هذا المجال:

«إذا أمر اللّه بعبده المؤمن العابد والزاهد إلى النار، وبعبده الكافر المشرك إلى الجنّة، فلا إشكال في ذلك عند أصحاب الأشاعرة، لكن مذهب التحقيق يرفض ذلك، ذلك لأنّه توجد علاقة تكوينية بين الأعمال والثواب والعقاب»(2).

9. العقاب ظهور لأسماء اللّه :

لما كان عرفاء الإسلام أهل مشرب الوحدة الوجودية، ويعتقدون أنّ الوجود واحد ومنحصر في ذات واجب الوجود وأنّ بقية الأشياء التي نتصوّر أنّها تمتلك وجوداً، وقد ارتدت فى نظرنا لباس الوجود، هى في الحقيقة ظهور وتجل لوجود اللّه. ويعتقد العرفاء أنّه بهذا الطريق تحلّ قضية الثواب والعقاب أيضاً، وكلّ ما يتحقّق فى دائرة عالم المادة كلّه ظهور ومظهر لماهيات وحقائق

ص: 364


1- محيي الدين ابن عربي فصوص الحكم الفص الشيئي، ج 1، ص 276
2- راجع صدر المتألهين، الأسفار : ج 7، ص 84 (حاشية السبزواري).

العوالم الغيبية، وظهور لمقام الواحدية. وبعبارة أخرى، فإنّ كلّ ما يتحقّق فى عالم الدنيا والناسوت فأصله موجود في العالم العلوي، وتتنزّل هذه الأصول حسب اقتضاء الأعيان المختلفة. فمثلاً مقتضى اسم «الرحمن» هو الفضل الإلهي والثواب والعفو كما إنّ مقتضى اسم «القاهر» هو شديد الانتقام وديان العقاب والعذاب.

ومن اختلاف الأسماء الإلهية كان وجود الجنّة والنار، أمّا كيفية تجلّي هذه الأسماء على العباد، فإنّه يعود إلى اختلاف استعداد ذواتهم، فمثلاً الإنسان الذي يمتلك طينة نقيّة وطاهرة فإنّ ذاته وعينه تقتضي تجلّي اسم «الرحمن» والفضل الإلهي، والإنسان الذي يمتلك طبعاً سيئاً وملوّثاً، فإنّ ذاته تقتضي تجلّي اسم «القاهر والديان». وبما أنّ اللّه رحمن وأهل الجود والإنعام، فإنّه يجيب بالإيجاب كلّ طلب حسب نوعه ولا يبخل بفيضه على المحتاجين.

(محيي الدين ابن عربي ) العارف الشهير يقول في هذا المجال:

«إنّ سرّ وباطن الجزاء هو تجلّى الأسماء الإلهية في مرآة وجود الحق تعالى وما يصل إلى الممكنات هو ما أعطاه الله لذواتهم في الأعيان الثابتة، واختلاف صور الممكنات في هذا العالم معلول اختلاف أحوالهم أيضاً، لذا، فإنّ تجلّي الاسماء الإلهية مختلف أيضاً»(1).

ويقول (عبد الرزاق الكاشاني):

«إذا انقاد المكلف إلى الله فسيستدعي حالة من الجزاء يسمّى تجلّيها ب- (الثواب)، وإذا اختار طريق العصيان فسيستدعي حالة من الجزاء يسمّى

ص: 365


1- الدین ابن عربي فصوص الحكم: الفص 8 ، ج 2، ص 96

تجلّيها ب- (العقاب). على أي حال فكلّ ما ينال العبد من ربّه فهو مقتضى حاله»(1).

ولسائر العرفاء كلام مشابه لن نذكره لئلا نطيل الكلام. ومن المتأخرين أيضاً (الكمباني ) (2)و (الآلوسي) (3)يميلون إلى هذه النظرية.

بحث وتحليل:

في تحليل نظرية العرفاء هناك نقاط عدّة قابلة للدّقة والتأمّل:

أ) عند التدقيق في هذه النظرية نجد أنّ نظرية العرفاء تعود بشكل ما إلى نظرية المتكلمين التي تقول باستحقاق المذنبين للعقوبة، لكن العرفا استنتجوا ذلك من اختلاف الذوات والأعيان على أي حال، فإنّ كلا الطائفتين علّة العقاب واحدة. فالمتكلمين يرون أنّ استحقاق العاصي تسبّب بالجزاء، والعرفاء يرون أنّ الفرد الشقي مستحق ومظهر للأسماء الجلالية. لذلك، فإنّ الإشكال الذي طال النظرية السابقة يطال هذه النظرية أيضاً، أي: هل علاقة الجرم والمعصية بظهور أسماء المنتقم والديان الإلهية (العقاب) هی علاقة تكوينية وعلّيّ ومعلول، أم هي علاقة اعتبارية واتفاقية؟ فإن كانت العلاقة تكوينية فستخرج من الرؤية الاعتبارية ويكون لها جواب آخر سيأتي توضيحه. أمّا إذا كانت العلاقة اعتبارية ففى هذه الحالة لا بدّ من دليل ومرجح لتجلّي اسم الديّان والعقاب بحق عبد خاص.

ص: 366


1- عبد الرزاق الكاشاني، شرح الفصوص: ص 128 مؤيد الدين جندي، شرح فصوص الحكم ص390.
2- الكمباني، نهاية الدراية : ج 1، ص179) (الهوامش).
3- تفسير روح المعاني: ج 1، ص 138.

10. العقاب مظهر للتصفية ولتطهير النفس:

بعض العرفاء عدّ أنّ دافع العقاب تصفية النفس من تلوّثات المعاصي، أي: إنّ النفس الإنسانية بارتكابها للمعاصي واكتساب الصفات الرذيلة قد فقدت منزلتها في مقام الربوبية، لذلك لا بدّ لها لتنال مقام الربوبية الرفيع من أن تتعذّب لمدّة بأنواع الزواجر والعذاب الجهنمي لتتمكّن بذلك من إزالة ظلمات تلوّثات الصفات الرذيلة من النفس الإنسانية، لذلك فإنّ الإنسان في الآخرة إذا أراد أن يتخلّص من الظلمات الناشئة من ذنوبه فليس أمامه سوى تحمّل العذاب الإلهي.

واعتبر (الميرداماد) أيضاً أنّ غاية الجزاء الأخروي هي تصفية النفس وتطهيرها(1). يقول تلميذه (صدر المتألهين في هذا المجال:

«يعذَّب اللّه المذنب ردحاً من الزمان ليتعافى من مرضه ويعود إلى فطرته الأولى»(2).

ومن بين المتكلمين وضع (ابن قيم الجوزية) شرحاً في هذا المجال، حيث يقول:

«إنّ اللّه لا يعذّب المذنب تشفياً؛ بل يعذّبه لتطهيره وتنقيته ولتشمله الرحمة. إذاً، فالعذاب مصلحة ولطف إلهي بحق المذنب حتّى لو تحمّل أسوأ العذاب»(3).

ص: 367


1- القبسات: ص 460
2- صدر المتألهين، الأسفار : ج 9، ص 347.
3- ابن قيم حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح : ص 258

ويقول الإمام الخميني أيضاً:

«بل التعذيب ليس شقاء في الحقيقة فإنّ دار الجحيم دار الشفاء الإلهي بالنسبة إلى العصاة من الموحدين قطعاً لخلوصهم فيها عن الأمراض النفسانية والكدورات الظلمانية».

وفي موضع آخر يقول:

«إنّ نار جهنم هي حقيقة صورة الرحمة الإلهية لأهل التوحيد، لأنّها سبب في وصول المذنبين إلى الكمالات العالية حيث يقضي العذاب على الهيئات الظلامية والرذائل النفسية التي هي معلول المعصية، فيصبحون جاهزين للشفاعة»(1).

بحث وتحليل:

أ) إذا كان هذا الجواب يبرّر العذاب على أنّه من السنخ الاعتباري والتوافقي فستطاله الإشكالات السابقة أيضاً، وإذا عُدّ العذاب والتطهير من السنخ التكويني، ينبغي القول: إنّ هذا التحليل يشكّل جزءاً من مفاد نظرية تجسّم الأعمال الذي سنشير له فيما بعد.

بالنظر إلى النقاط المذكورة يبدو أنّ البُعد المطهر للعذاب الأخروي لا يمكنه أن يكون مصحّحاً للعقاب أيضاً. يقول أحد العلماء المعاصرين في هذا المجال:

ص: 368


1- السيد روح الله الموسوي الخميني، تعليقات على شرح الفصوص، الفص الإبراهيمي ص 121 . والفص الهودي: ص 164

«على أي أساس نقول إنّ عذاب القيامة من أجل التطهير والتزكية؟... إنّ نفس دخول جهنم والخلود فيها لا يمكن أن يكون أبداً علّة للتطهير والتزكية»(1).

ب) تعجز هذه النظرية عن تقديم تحليل منطقي للعذاب الأبدي للكفار والمشركين عموماً. ذلك لأنّه لا يوجد تصوّر جنّة للكفار حتّى يُقال إنّ عقابهم هو مقدمة لبلوغ الكمالات اللاحقة إلاّ إذا اعتقدنا بعدم خلود عذاب الكفار والمشركين والتزمنا بتبدّل العذاب بالعذاب وهى النظرية التي اختارها

معظم العرفاء ومنهم (محيي الدين ابن عربي) و(القيصري).

إلى هنا نكون قد بيّنا وناقشنا فلسفة الجزاء الأخروي لعشر من نظريات علماء المسلمين وتبيّن أنّ الوجه المشترك بين أكثرها هو اعتبارية الجزاء، أي لا توجد أيّة علاقة حقيقية وتكوينية بين معاصي الإنسان والجزاء الإلهي.

ثبت أنّ مثل هذه النظريات لا يمكنها أن تقدّم تبريراً واضحاً وعقلائياً لعقاب الآخرة، لذا ينبغي البحث عن طريق آخر غير اعتبارية هذا العذاب طريق يمكننا استنباطه بسهولة من القرآن الكريم والسنّة الجليلة، ليشكّل نظرية تستطيع أن تحلّ العقدة التي عجز عن حلّها أمثال (ابن سينا) وحكماء المشائين

أى شبهة العذاب الجسماني.

(ابن سينا) عندما يصل إلى بحث العذاب الجسماني يحصر قبوله له بالدليل النقلى ويقول:

ص: 369


1- السيد محمد حسين الحسيني الطهراني معرفة المعاد: ج 10، ص 367.

«أمّا إذا كان العذاب غير العذاب العقلائي فيكون مبدؤه خارجياً، وإثباته خارج عن وسع العقل»(1).

(الخواجه الطوسي) يقول في شرحه للعبارة هذه:

«إنّ قصد الشيخ هو إثبات العذاب الجسماني المشهور غير ممكن إلاّ عبر السماع والنقل فقط»(2).

وعجز حكماء المشائين بدورهم عن حلّ الشبهة المذكورة تبعاً

للشيخ الرئيس(3).

11. العقاب تشف لخاطر المظلوم:

قد يُقال إنّ العذاب الأخروي هو لتشفّي المظلوم على ما لحقه من ظلم واضطهاد.

في تحليل هذا الجواب ينبغي القول:

أوّلاً - إنّ الدافع المذكور محال أن يكون في ذات الباري تعالى، لأنّ اللّه

ص: 370


1- الخواجه نصير الدين الطوسي، شرح الإشارات مع حواشي الفخر الرازي: النمط 7، ص 85
2- نفس المصدر
3- السيد جلال الدين الآشتياني أحد الفلاسفة المعاصرين يقول في هذا المجال: «استناداً إلى أصول المشائين فإنّ العذاب واللذة في الآخرة منحصران في العذاب العقلي والتنعم والتلذذ الروحاني. وبما أنّ معظم النفوس لا تصل إلى مقام التجرّد العقلائي ومرتبة التروحن التامة، لذلك ترد نقاشات على ما ذكره هؤلاء الأعاظم... كما أن الهيئات والقشور الناشئة عن القوى الجزئية للنفس والقائمة بمقام الخيال وقوّة التخيّل، وبتبعها البدن والقوى الماديّة الجزئية كلها تنعدم بعد الموت» (السيد جلال الدين الآشتياني، شرح على زاد المسافر لصدر المتألهين ص 105).

المتعالى لا يمتلك قلباً كقلب الإنسان فيحترق قلبه من شدّة الظلم ويجنح للانتقام والقصاص. أمّا تشفّي المظلوم فلا معنى له يوم القيامة، ذلك لأنّ مفهوم الحقد أو البغض لا معنى له في القيامة.

يقول (الشيخ المطهري) في هذا المجال:

«إذا كانت فلسفة الجزاء الدنيوي هي للإنتقام. لكن في الآخرة لا حديث عن ذلك، فبعد مليارات السنين يأتي اليوم الذي كلّ يقول وانفساه، وكلّ واحد يفكّر بذرّة سعادة لنفسه، فمن الذي سيفكّر بالإنتقام ممّن ظلمه في الدنيا لا مجال لذلك»(1).

ثانياً - قد يكون هذا الدافع موجوداً تجاه حق الناس، لكنّه عاجز عن تبرير حقوق اللّه كترك الصلاة والصوم.

التوجه الثاني - تكوينية العذاب الأخروي:

التوجّه الثاني في تبرير جهنم وعذاب الآخرة وتبيينهما هو توجّه تكوينية أصل العذاب جرت الإشارة في أماكن متعدّدة من هذا الكتاب إلى أنّ العذاب الأخروي ليس معدّاً من قبل، ولا هو وادٍ من نار يحرق الإنسان المذنب، بل إنّ نار جهنم تنشأ من الباطن أي من الأعمال القبيحة للإنسان، أي: إنّ المعلول تكويني، وبعبارة أدقّ فإنّ صورة الذنب وانعكاسه بصورة تكوينية وذاتية ستشتعل فى يوم القيامة وتحيط بالمذنب.

ص: 371


1- مرتضى المطهري، المعاد: صص 28 و 38.

إنّ لزوم العذاب للذنب هو كلزوم الزوجية للعدد أربعة والملوحة للملح والحلاوة ،للعسل، وكما أنّه لا أحد يسأل عن علّة زوجية العدد أربعة، لذلك لا أحد يسأل عن علّة عذاب فعل المعصية، ذلك لأنّ لزوم عمل الذنب وصورته الباطنية والذاتية هي العذاب، وهي ترافق الذنب من لحظة صدوره ومعجونة به، ونار العمل والفعل ليست عارضة على الإنسان وعمله ليجري السؤال عن علّة عروضها ووقوعها، وحسب قول الفلاسفة: «الذاتي لا يعلّل».

الجزاء هو مقتضى تجسّم الأعمال:

لقد أشرنا إلى أنّ القرآن الكريم أشار في آيات عدّة إلى حضور نفس أعمال الإنسان في عالم القيامة، ونسب عذاب الآخرة وجزاءها إلى الأعمال نفسها نشير هنا إلى بعض تلك الآيات:

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ».[التحريم 7].

«فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ»[الزلزلة 7-8].

إذا ضمّينا هذه الآية إلى الآيات الدالّة على مجازاة الإنسان بمقابلته بأعماله، تتّضح لنا تكوينية الجزاء.

«الْيَوْمَ تُجْزِى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ» [غافر 17].

يسند اللّه في هذه الآية أصل الجزاء إلى فعل الإنسان وما اكتسبه في الدنيا.

ص: 372

«وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ» [يس 54]. في هذه الآية يشير اللّه إلى انحصار الجزاء الأخروي بالتكويني، وهذا ما سنبحثه.

«إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً» [النساء 10].

اعتبر اللّه تعالى أنّ أكل مال الحرام يشكّل في الحقيقة أكل النار التي هی وسيلة الجزاء.

وهناك عشرات الآيات التي لا مجال لاستعراضها هنا. ومن بين

الروايات المتعدّدة في هذا المجال نورد روایتین کنموذج:

روي عن الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم أنّه عندما يوضع الميت في قبره يتجسّم شخص أمامه، فيسأله الميت من أنت؟ فيجيبه «كنتُ عملكَ فبقيتُ معكَ»(1).

وروي عن الإمام علي بن الحسين السجاد علیه السلام: «وصارت الأعمال قلائد في الأعناق»(2).

هناك تقريران مختلفان حول كيفية المجازاة والمكافأة عبر الأعمال بين مؤيدي هذه النظرية، سنطلع في الفصل القادم على شرح نظرية تكوينية الجزاء نظراً لأهميتها في رفع الشبهات المتعلقة بالجزاء الأخروي، وسنذكر الآيات الموافقة لتكوينية الجزاء والمخالفة.

مؤيدو الجزاء التكويني:

بسبب أهمية البحث نتناول هنا تقريراً لبعض الآراء المؤيدة لتكوينية الجزاء:

ص: 373


1- الكافي: ج 3، ص 240
2- الصحيفة السجادية: الدعاء 42

يقول شيخ الإشراق في هذا المجال:

«إنّ الجزاء الأخروي يكون بسبب الملكات الرذيلة والهيئات الظلامية في النفس، ولا علاقة له بمنتقم خارجي»(1).

ويشبّه الجزاء الأخروي بآلام الشخص المريض وأوجاعه التي تنشأ عن الطبيعة غير السليمة دون غيرها.

ويقول (صدر المتألهين):

«لا شك أنّ الثواب والعقاب في الآخرة هو بسبب نفس الأعمال الحسنة والسيئة، وليس بأي سبب آخر»(2).

ويقول في مكان آخر:

«توجد في القرآن آيات كثيرة تدل على أنّ كلّ ما يلاقيه الإنسان في القيامة هو من أنواع النعم في الجنة وعذاب جهنم (كالأفاعي والعقارب) كلّها صور واقعية للأعمال وآثارها»(3).

ويقول الحكيم السبزواري:

«إنّ أصل العذاب ليس من غرض خارجي؛ بل إنّه لازم لفعل

الشخص نفسه فكلّ ملكة وخصلة تشكّل روحاً للصور البرزخية المثالية والأخروية متناسبة معها»(4).

ص: 374


1- مجموعة مصنفات شيخ الإشراق، مقدمة وتصحيح هنري كربان:ج1، ص 473
2- راجع صدر المتألهين تفسير القرآن الكريم : ج 5 ، ص 187 صدر المتألهين الأسفار ج 9، ص 295
3- صدر المتألهين، الأسفار : ج 9، ص 295
4- هادي السبزواري، مجموعة الرسائل، تعليق ومقدمة وتصحيح السيد جلال الدين الآشتياني : ص 332

ويقول الشهيد المطهري: «إنّ للجزاء الأخروي علاقة تكوينية أقوى مع الذنوب، هي علاقة العمل والجزاء في الآخرة ليست توافقية كالنوع الأول، وليست من نوع علاقة العلّة والمعلول كالنوع الثاني؛ بل هي في درجة أعلى، إنّها علاقة العينية والاتحاد الحاكمة»(1).

وننهي البحث بكلام للإمام الخميني:

«هناك مكان آخر فيه عذاب نعجز عن فهمه وهو من الأعمال نفسها، ليس كما يحصل هنا حيث يأتي جلاد من الخارج ليعذب»(2).

الشبهة الخامسة - كيفية العذاب الأخروي (تجسم الأعمال):

على أساس النظرة التكوينية، فإنّ عذاب جهنم الأخروي ليس اعتبارياً ولا توافقياً؛ بل هو من سنخ التكوين والعلّة والمعلول، وحسب التعبير الفلسفي هو الصورة والانعكاس الباطني لعمل معصية الإنسان. يطرح هنا هذا السؤال: الأعمال المادية للإنسان في الدنيا قد زالت وفنت ولم يبق أثر منها لتتجسّم بصورة تكوينية وتعذّب فاعلها. وبعبارة أخرى: كيف يمكن رسم عذاب الآخرة على أساس مبنى النظرة التكوينية ؟

بحث وتحليل:

قدّم القائلون بالرؤية التكوينية تقريرين نبينهما فيما يأتي:

ص: 375


1- مرتضى المطهري، العدل الإلهي : ص219
2- راجع السيد روح الله الموسوي الخميني صحيفة النور: ج 6، ص 279 وج 15، ص 18 ، وج 17، ص 128 والأربعون حديثاً: ص 360، الحديث 22.

التقرير الأول - درج أثر الفعل في النفس وتسجيله:

عند القيام بأي فعل في الدنيا من حسن أو قبيح يظهر أثر ذلك الفعل وخاصيته في صقع نفس الإنسان - وهو جوهر مجرّد وفعّال - ويكون هذا الأثر وتلك الهيئة في النفس بداية على هيئة حالة مؤقتة قابلة للزوال، لكن عند تكرار ذلك العمل والمداومة عليه يصبح أثره وهيئته على شكل ملكة وكيفية ثابتة وراسخة وباقية، وفي بعض الأحيان يخرج أثر الفعل من شكل الملكة ويصبح على شكل جوهرة ثانوية غير قابلة للزوال.

صور النفس وهيئاتها الرذيلة هذه تتبدّل إلى أقسام العذاب والجزاء حسب نوع الرذيلة وفي عالم الآخرة تشاهد النفس أفعالها وتدركها، فتتعذّب وتتألم.

دور النفس في تجسّم العذاب:

الأمر المهم والأساس الموجود في نظرية تجسّم الأعمال ويؤدّي دوراً أساسياً فى تبيانها وإثباتها هو الالتفات والتفطّن إلى قدرة النفس الإنسانية الواسعة فى إيجاد الصور الحسنة ،والموحشة، ذلك لأنّ النفس الإنسانية هي خليفة اللّه ومظهر صفات كماله ومن جملة تلك الصفات القدرة والخلاقية التي

جاء فيها: «من عرف نفسه فقد عرف ربّه».

بالالتفات إلى هذا الأمر الهام نذكر نقاطاً عدّة كمقدمة لتبيان نظرية تجسّم الأعمال وإثباتها:

النقطة الأولى - تجرد النفس:

لا بدّ من الإذعان بالجوهر غير المادي للنفس وتجردها. وبتجرد النفس نستنتج أنّ الإنسان لا يفنى بالموت؛ بل ينتقل من نشأة إلى أخرى، مع

ص: 376

الاحتفاظ بكلّ الآثار والملكات الموجودة في صقع النفس. فكما أنّ الإنسان يتذكّر فى الدنيا الحوادث الجميلة والمرّة السابقة، فإنّ نفس الإنسان تتذكّر في الآخرة أفعالها الحسنة والقبيحة. وقد بينّا في الفصل الأوّل أدلة تجرّد النفس بالتفصيل.

النقطة الثانية - ارتباط النفس بالخارج:

هناك علاقة بين النفس وعالم الخارج من بدن وطبيعة وهي علاقة متبادلة من قبيل التأثير والتأثّر، فالنفس تؤثّر بالبدن وتجعله خاضعاً لسلطتها وتديره والبدن والخارج يؤثّران في النفس أيضاً. فمثلاً عندما يسمع بخبر مفاجيء سار، فإنّه يهيج إلى درجة أنّه قد يفقد السيطرة لشدّة فرحه فيقوم بأعمال لا إرادية وكذلك عندما يسمع بخبر مفاجيء مهول ومؤسف. وفي كلا الحالتين فإنّ منشأ التأثير هو ذلك الخبر والألفاظ والأصوات المادية، ولكل منها آثاره الخاصّة.

في المثال المذكور نشاهد بوضوح تأثير النفس المجرّدة على الأعمال المادية والماديات فمثلاً بعد أن تعلم النفس بالحادثة المؤلمة المفاجئة تتوتّر و تغضب ما يؤدّي إلى ارتفاع ضغط الدم واحمرار الوجه وارتفاع حرارة البدن وغير ذلك وكلّ تلك هي من خواص الماديات والعلّة والمسبّب لكلّ تلك الآثار غير الطبيعية للبدن هي تلك الصفة النفسية والمجرّدة للإنسان، أي الغضب. يقول ( صدر المتألهين) في هذا المجال:

«إنّ لكلِّ صفةٍ راسخةٍ أو ملكةٍ نفسانيةٍ ظهوراً خاصاً في كلِّ موطن ونشأة، فقد يكون لصورة واحدة آثار مختلفة ومواطن مختلفة»(1)، ثمّ يشير إلى

ص: 377


1- صدر المتألهين الشواهد الربوبية: ص329

مثال الغضب الذي وضحناه.

هذه العلاقة الوثيقة بين النفس وعالم الخارج تشكّل أساس المجتمع البشري. ولولا تأثّر النفس بالخارج لما استطاع الإنسان أن فناناً أو محترفاً كخطاط ورسام بعد تكرار وتمرين. لذا، فإنّ انفعال النفس من الخارج أصل من الأصول البشرية. يقول (صدر المتألهين) في هذا المجال:

«كلّ من يقوم بعملٍ ما أو ينطق بكلام ما فسيظهر من ذلك في نفسه أثراً وحالة قلبية تبقى لمدّة، وفي حال التكرار والمداومة تترسخ وتتحوّل إلى ملكات لا تزول»(1).

النقطة الثالثة - التلذّذ والتألم من الصورة العلمية:

إذا نظرنا بتأمّل إلى كيفية علم الإنسان بالخارج وفي علّة لذة الإنسان وحسرته من الخارج فسنشاهد أنّ الباعث لسرور الإنسان وإعجابه عند مشاهدته للوحة رسم ليست اللوحة المحسوسة الخارجية التي هي على فاصل مادي من الإنسان؛ بل إنّ الباعث الحقيقي هو العلم والصورة الذهنية التي جسّمها الإنسان في نفسه عن تلك اللوحة. وعندما يشاهد الإنسان حادثاً مؤلماً يتأذى وينزعج كقتل والديه أمام عينيه، فإنّ حقيقة العلّة القريبة والأساسية لعذاب النفس هي علم النفس بمعلولها. لكن لا يمكن إنكار العلّة الإعدادية للواقعة المحسوسة الخارجية إلاّ أنّ دورها يقتصر على الإعداد والعلّة البعيدة، وما يسمّى في الفلسفة بالمعلوم الثاني وبالعرض والنتيجة هي أنّ الإنسان يفرح أو يتأذّى من المعلوم وصورته الذهنية.

ص: 378


1- صدر المتألهين الأسفار : ج 9، ص 290 وج 7، ص 82

يقول (صدر المتألهين) في هذا المجال:

«إنّ التصوّرات والأخلاق والملكات النفسانية تنشيء الآثار الخارجية و هی مسألة تحدث كثيراً، كاحمرار وجه الشخص عند خجله، واصفرار وجه الشخص المريض وهكذا»(1).

النقطة الرابعة - تجرّد قوّة الخيال:

كما يتأثر الإنسان عبر صوره الذهنية بالمحسوسات الخارجية، يمكنه بعد غياب المحسوس الخارجي أن يجسّمه ثانية في قوّة خياله، فيفرح من مشاهدة صورته الخيالية أو يحزن. فعندما يتذكّر الشخص بعد مدّة صورة موت والديه فإنّه يتأذّى بشدّة من مشاهدة الصورة الخيالية لتلك الحادثة. والعاشق يشعر بالسعادة من تصوّر وتمثيل الصورة الخيالية لمعشوقه، ويعيش العشق أحياناً مع تلك الصورة.

النقطة الخامسة - قدرة النفس:

من خلال القدرة المأخوذة من النفخة الإلهية تستطيع النفس الإنسانية أن تتصرّف تكوينياً في الأمور الخارجية نشير ها هنا الى موارد من قدرة النفس مما أثبتته العلوم التطبيقية :

أ) اختبار شاقول شرول: هذا الاختبار أثبت أنّ نفس الإنسان

قادرة على إيجاد صورها الذهنية في الخارج من دون استخدام الإمكانات المادية ( شرول) عالم تطبيقى أجرى اختبارات متعدّدة أثبتت أنّنا إذا أخذنا

ص: 379


1- العرشية ص 249

شاقولاً، وأغمضنا العينين وتخيّلنا أنّ ذلك الشاقول يتحرّك من اليسار إلى اليمين أو من اليمين إلى اليسار أو من الأمام إلى الخلف، وقوينا تخيلنا ذاك، ثمّ فتحنا عينينا بعد دقيقة فسنرى أنّ الشاقول يتحرّك في الاتجاه المتصوّر(1).

ب) تحريك الأشياء بالنفس: بالنسبة لقدرة النفس على تحريك الأشياء البعيدة عبر النفس ومن دون استعمال القدرة المادية مثاله مرتاضو الهند، حيث يتمكّن المرتاض أن يوقف قطاراً من خلال تركيز الذهن والإرادة ومن دون تدخّل القوى. أو يذيب برميلاً معدنياً بنظرة.

ج) قراءة الأفكار عن بُعد: يستطيع المتخصصون في هذا المجال أن يقرأوا أفكار الآخر من دون تدخل القوى المادية، أو يحدّدوا رقم صفحة من كتاب وموضوعها خلال زيارتي لجمهورية آذربيجان شاهدت شخصاً يحدّد رقم لوحة السيّارة من خلال سماع صوت السيّارة من بعيد فقط.

د) الإخبار بالمغيبات معظم المجتمعات البشرية فيها أشخاص

يخبرون بالمغيبات وما قد يحدث في المستقبل. يقول (آيزنغ):

«لا يمكننا التعامي عن وجود أشخاص يمتلكون قدرة ذهنية تمكّنهم من توقّع حوادث تقع في المستقبل القريب»(2).

ه-) طى الأرض: قام بعض العرفاء بطى مسافات بعيدة جدّاً خلال لحظات، فما هي حقيقة ذلك وسرّه ؟ هذا ما يتطلّب مجالاً آخر لاستعراضه.

ص: 380


1- علي أكبر سياسي، علم النفس التربوي: ص176.
2- هانس يورغن آيزنغ الصحيح والخطأ في علم النفس، ترجمة آيرج آيين: ص192.

النقطة السادسة - وجود الطاقة الكهربائية في البدن:

الحرارة تنتج عن وجود طاقة كهربائية (حركة الإلكترونات = الكهرباء) فالمصباح يضيء عند اتصاله بالكهرباء أو بعدد من الإلكترونات، فينتج من تلك الطاقة حرارة. هذه الطاقة موجودة في كلّ الأجسام ومنها بدن الإنسان على سبيل المثال: إذا سار شخص باحتكاك شديد على الموكيت فستنتقل الطاقة الكهربائية (الإلكترونات) من الموكيت إلى البدن، وعندما يلمس ذلك الشخص جسماً هادئاً كالحديد تنتقل تلك الطاقة الكهربائية إلى ،الحديد فيشاهد الإنسان حركة الانتقال تلك على شكل شرارة ويحسّ بها. من ذلك يتبيّن أنّ البدن المادي للإنسان يمكنه أن يوجد قوّة حرارية وكهربائية ونارية.

ويمكن تبيان الإدّعاء المذكور من منظار علم الفيزياء النووية بالقول أنّ في كلّ جسم وشيء مادي ومن ذلك بدن الإنسان هناك ذرات وكلّ ذرة تنقسم إلى ثلاثة أجزاء هي النيترون (الشحنة الخاملة) والبروتون (الشحنة الإيجابية) والإلكترون (الشحنة السالبة). يتحرّك الإلكترون بسرعة فائقة جدّاً حركة دورانية حول النواة المركزية للذرة (البروتون والنيترون)، حركة

الإلكترون ودورانه توجد الطاقة الكهربائية وما ينتج عنها من نور وحرارة. وبطرق بسيطة مثل : احتكاك الجسمين تنتج إلكترونات الذرة حرارة وضربات قابلة للتفكك، وفي هذه الحالة يختل توازن الإلكترون والبروتون. وعند احتكاك قدم الإنسان بالموكيت يتلقى الإلكترونات وعند اتّصاله وملامسته للأجسام الهادئة يفرغ تلك الإلكترونات فيها.

الذرة عندما ينخفض عدد الإلكترونات فيها تصبح طاقتها إيجابية أو

ص: 381

سلبية، لكن البروتونات لا تنفصل عنها بسهولة ويعمل اليوم على تقليل عددها والأهم من ذلك التصرّف بها بعد تطوّر الفيزياء النووية وذلك عبر الإغناء وشق نواة البروتون الذي أدّى إلى اختراع القنبلة النووية التي تحوي طاقة كهربائية وتنتج انفجاراً هائلاً يفوق التصوّر.

ويحتمل أن يكون العذاب الجسدي في الآخرة عبر النفس من خلال التصرّف في البروتونات والإلكترونات الموجودة في البدن ما يؤدّي إلى انفجار ونار هائلة ما يجعل الإنسان يتعذب في جهنمه الداخلية، لذلك لا ينبغي استبعاد نظرية إنتاج النار والعذاب في بدن الإنسان ونفسه في القيامة. أمّا القول بأنّ البدن الجسماني للإنسان لا يستطيع تحمّل مثل ذلك العذاب والنار، نقول لقد جاء في تقرير المعاد الجسماني لصدر المتألهين أنّ البدن الجسماني الأخروي يتفاوت مع البدن الدنيوي.

توضيح أكثر لكيفية العذاب:

بعد النقاط والمطالب المذكورة يبدو أنّ تبديل آثار النفس وملكاتها إلى صور نارية أمر غير مستبعد؛ بل موافق لحكم العقل، وهذا ما سنبيّنه:

أ) مشاهدة أعماله القبيحة:

أوّل قسم من إدعاء نظرية تجسّم الأعمال هو اتحاد الملكات النفسانية مع جوهر النفس المجرد (كيفية تأثير الأخلاق والملكات في النفس قد مرّ معنا سابقاً)، فالشخص الذي لم يرتكب أيّ جرم، يكون ارتكاب أوّل جرم أمراً صعباً عليه، لكن بعد تكرار العمل تظهر في طينته ملكة العنف وانعدام الرحمة،

حتّى تهون عليه الجرائم والقتل فيما بعد.

ص: 382

وأوّل عذاب ستتكبّده النفس فى القيامة من ذاتها هو علمها وتصوّرها للمعاصى والأعمال الشنيعة التي ارتكبتها في الدنيا، وبما أنّ الملكات الرذيلة قد اتّحدت مع نفس الإنسان، فسيشاهد أعماله دوماً، ويشكل ذلك عذاباً له. كما سيشاهده الأنبياء والأئمة الأطهار ومن ظلم حقّهم واعتدى عليهم، ممّا

يضاعف عذابه لاطلاع الغير على حاله.

يقول عالم الأرواح الفرنسي (ليون ديني) حول تأثير الذنوب في النفس:

«إنّ أي عمل أو فكر يصدر عن الشخص ينعكس في روحه، فإن كان عن هوى النفس والأفكار الشيطانية فسيؤدّي انعكاسه على الروح ظلمة وكدورة، وبعبارة أخرى كلّما تكرّرت الكبائر سيؤدّى إلى غلظة وكدورة في شبح الروح»(1).

وحول كيفية العذاب الحاصل من مشاهدة الذنوب في الآخرة يقول:«إن تجسّم مناظر الأعمال وسوابق الحياة الماضية للأفراد سيشكل حقيقة عذاباً صعباً جدّاً للأرواح. ويصبح وضعهم حينها صعباً جدّاً ومأساوي»(2).

ب) النفس تخلق العذاب:

كلّما كانت علاقة النفس وتعلّقها بالمادة والماديات أقل؛ كانت قدرتها وخلاقيتها أكبر، لأنّ النفوس في عالم الآخرة لا علاقة لها بالماديات من السنخ الدنيوي، لذلك قدرتها الخلاقية أكبر. وكل نفس لها صفات وهيئات نورانية

ص: 383


1- ليون ديني عالم ما بعد الموت، ترجمة محمد بصيري : ص 122.
2- نفس المصدر.

وحسنة فإنّها بمحض تصوّرها لأي نوع من الصور الجميلة ونعم الجنة فستخلقها مباشرة، فتجد أمامها ما تصوّرته:

«وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ»[الأنبياء 102].

«وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ» [فصلت 31].

الإنسان الذي امتزج جوهره بالأخلاق والهيئات الحسنة وأصبحت طبعه، فلأنّه يتذكّر دائماً الصور الجميلة ونعم الجنة فسيكون إلى جانب نعمها مخلداً (كلّ إناء بالذي فيه ينضح).

أمّا الإنسان الذي لوّث نفسه بمعاصيه وكدّرها بالرذيلة فسيبقى في الآخرة في حالة خوف دائم من الوعيد الإلهي مثل: نار جهنم والأفاعي والعقارب الجهنمية، وكلّما تصوّر أعماله أحاط به العذاب والنار الإلهية. بمجرد أن تتصوّر نفس الإنسان الشقي هذه الصور المهولة، وكانت نفسه ذات خلاقية عالية فستبادر نفسه إلى خلق هذه الصور خارج الذهن، ويبتلى بأنواع العذاب.

الشاهد على ذلك أنّ بعض من شاهدوا حادثاً مهولاً وشكّل فيهم عقدة خوف خاصّة، نجدهم كلّما تصوّروا الحادث تصيبهم تلك الحالة من الرعب والعذاب الجسمى في الآخرة من هذا القبيل، وليس عجباً أن تتحوّل صورة النار الذهنية للمجرم إلى نار واقعية عبر قدرة النفس. وكما أنّ الخشبة الجافة تشتعل أحياناً في يد بعض الناس من الطاقة الكهربائية التي في أبدانهم، فإنّ الصور الذهنية للنار تتحوّل إلى نار حقيقية أيضاً. وحسب التعبير الفلسفى، فإنّ الوجود قد يأخذ أشكالاً مختلفة طبق الحركة الجوهرية، وإثر

ص: 384

اشتداد الحركة الجوهرية يتحوّل الوجود المادي إلى وجود مجرّد،كنطفة الإنسان التي تتحوّل إلى وجود مجرّد (نفس). وعليه فإنّ تبديل وحركة قسم من المادة (الصورة العرضية والذهنية للنار) إلى مادة أخرى (الصورة الجوهرية والإحساس بالنار) هي ممكنة بالأولى.

بالالتفات إلى آثار أصل الحركة الجوهرية الاشتدادية يقول (صدر المتألهين):

«ما ثبت لدينا هو أنّ الملكات النفسانية تتحوّل في النفس إلى صور جوهرية أو ذواتِ قائمة وفعّالة»(1).

التقرير الثانى - عذاب الصور الباطنية والملكوتية للعمل:

القائلون بهذه الرؤية يعتقدون بوجود شكلين أو صورتين لكلّ عملٍ دنيوي يقوم به الإنسان الصورة الأولى هي الصورة الظاهرية والمادية للعمل كالغيبة وأكل مال اليتيم أو كالصلاة والصيام والصورة الثانية هي الصورة الباطنية والملكوتية للأعمال الخافية عنّا حالياً. فمثلاً الصورة الحقيقية للغيبة أكل الميتة والصورة الحقيقية لأكل مال اليتيم هي أكل النار، والصورة الحقيقية للصيام هو عبور نار جهنم بسلامة وهكذا...

بعض الناس الأتقياء المتحرّرين من القيود يستطيعون من خلال تهذيب

ص: 385


1- صدر المتألهين، الأسفار: ج 9، ص 293. الجدير بالذكر أنني في تصوير كيفية العذاب الحسّي الأخروي استفدت من تقريرات درس الأسفار للأستاذ الجوادي الأملي بتاريخ 1986/1/5م.

نفوسهم أن يروا الصور الحقيقية والملكوتية للأعمال.

مؤيدو التقرير هذا فسّروا مقصودهم من تجسّم الأعمال بتجسّم آثار الأعمال وملكاتها في صقع النفس، وليس تجسّم الاعمال المادية الظاهرية وتمثّلها. يقول (صدر المتألهين) حول بقاء أعمال الإنسان:

«ما دام الكلام والعمل موجود في عالم الحركات والمواد الإمكانية فلن يكون لها بقاء وثبات»(1).

ويقول في معرض رفضه لعلّية الأعمال المادية للثواب والعقاب

الأخروي:

«إذا كان منشأ الثواب والعذاب هو نفس العمل أو الكلام، وبما أنّهما زائلين فيلزم ذلك أن يبقى المعلول دون وجود علّته، وهذا غير صحيح»(2).

أمّا ما هو مراد مؤيدي هذه النظرية من تجسّم الأعمال؟ فإنّ الجواب موجود في أقوالهم ونظرياتهم التي أوردناها سابقاً. لكنّنا نشير هنا إلى كلام أحد العلماء المعاصرين في تنقيحه للبحث:

«المقصود من تجسّم الأعمال هو تحقّق نتيجة الأعمال وتقرّرها في صقع النفس وليست الأعمال والأعراض محافظة على مرتبتهما الدنيوية تنتقل إلى الأجسام، أي تتحوّل بذاتها إلى أجسام ذلك لأنّ هذا التجافي محال مطلقاً»(3).

ص: 386


1- صدر المتألهين الأسفار : ج 9، ص 290 وج 7، ص 82
2- نفس المصدر : ج 9، ص 293
3- حسن زاده الآملي دروس اتحاد العاقل والمعقول: ص390.

ويقول في مكان آخر:

«لا معنى لتجسّم الأعمال القائمة بالروح، إلاّ أن نقول أنّهم عبّروا عن التمثّل بالتجسّم وفي الحقيقة إنّ التجسّم هو التمثّل نفسه، إذا قصد من تجسّم الأعراض صفات الأعمال»(1).

إذاً، فبحث تبدّل العرض إلى جوهر لا يرتبط بموضوع تجسّم الأعمال في يوم القيامة، وفي ساحة القيامة تظهر أعمال الإنسان بصورة أخرى، وكثير من المواضيع التي كان لها في الدنيا صورة خاصّة دنيوية، فإنّها تتجسّم في الآخرة بصورة أخرى وتنكشف(2).

وعليه فإنّ طوال قرون عدّة أشكل فيها المفسرون والمتكلمون في عالمنا الإسلامي على تجسّم الأعمال وحضورها وقالوا في تفاسيرهم إنّ الأعمال أعراض فانية كان منشأ إشكالهم هو عدم إدراكهم الصحيح لنظرية تجسّم الأعمال.

العلوم التطبيقية وتجسم الأعمال:

أكدت العلوم التطبيقية المعاصرة على بقاء المادة والماديات وعدم زوالها، فحسب الأصل الأوّل للترموديناميك، فإنّ المادة لا تفنى مطلقاً؛ بل تتحوّل إلى مادة أخرى، أو تصبح طاقة؛ أي هيئة تراكم المادة، وعلى العكس أي: إنّ الطاقة تتحوّل إلى مادة(3).

ص: 387


1- حسن حسن زاده الآملي، نصوص الحكم: ص 384.
2- نوري الهمداني، مجلة حارس الإسلام العدد 84
3- مهدي البازركان الطريق الذي طوي: ص 204

من نتائج القانون المذكور إمكانية تصوير اللحظات السابقة(1).

وبعيداً عن العلوم التطبيقية، فإنّ أحد معضلات الفلسفة هو زوال المادة وفنائها. بعض العلماء يعتقدون أنّ فناء المادة أمر غير معقول، فها هو موريس مترلينغ يقول:

«علينا أن لا ننسى أنّ تصوّراتنا طوال ساعات الليل والنهار تنعكس على مرآة العالم، ولن يتوقّف سير التصوّر هذا، ولن تمحى آثاره»(2).

خلال العقود الأخيرة طرحت نظرية سمّيت «عالم الهولوغرافيك» من قبل أكبر عالمين هما (ديفيد بوهم) فيزيائي الكوانتوم و(كارل بيار بيرام) المتخصّص في فيسيولوجيا الأعصاب، وبموجب هذه النظرية فإنّه :

«لم يختف الماضي بالكامل؛ بل لا يزال في قوالب يطالها الإدراك البشري... فالزمان الحالي ينطوي ويصبح جزءاً من الماضي، لكنّه لا يختفي من الوجود؛ بل يحاول أن يستتر ثانية في مستودع خزانة النظم»(3).

هذه النظرية تؤكد أنّ العالم كلّه وحوادثه تتمركز في عناصره وأجزائه وتستتر، وتحتاج إعادة قراءتها إلى ظروف خاصّة ، فإذا توفّرت تلك الظروف تمكن مشاهدة الحوادث السابقة كفيلم ثلاثي الأبعاد. وقد تحقّقت هذه الظروف لبعض الناس على مرّ التاريخ.

ص: 388


1- صحيفة كيهان، العام 1969 نقلاً عن: ناصر مكارم الشيرازي، التفسير الأمثل: ج2، ص 102
2- موریس مترلینغ، البعث:ص102.
3- مايكل تالبوت عالم الهولو غرافيك، ترجمة داريوش مهرجوئي: ص 275

على سبيل المثال (اسطفان أوسوويكي) البولندي الروسي الأصل استطاع عام 1935م بالتركيز على الآثار القديمة تقديم مواصفاتها الدقيقة وما جرى عليها، ويضيف أنّه عندما يركّز على شيء يمكنه أن يشاهد كفيلم كلّ الحوادث التي جرت عليه والأقوام التي كانت وطريقة عيشهم. ومن أخباره اللطيفة قوله إنّ الإنسان في العصر الحجري كان يستخدم مصباح الزيت، وهذا ما أكّده علماء الآثار فيما بعد(1).

(جورج مكمولن) سائق شاحنة يمكنه من خلال لمس الأشياء أن يخبر بكلّ خصائصها مثل (اسطفان).

(نورمان أمرسون) أستاذ العلوم الإنسانية في جامعة تورنتو ومعاون مؤسسة علوم الأرض بكندا، كان يشكك بداية باختبارات (مولن) وبعد البحث أكدها(2).

ويقول أحد المعاصرين:

«إنّ أيّ شيء يتحقّق في العالم مهما كان صغيراً ولو بمقدار الذرة ولو في لحظة واحدة فلن يبطل في تلك اللحظة. نعم قد يفنى في وقت آخر، لكن هذا الفناء ليس حقيقة تلك الذرة في زمانها الأوّل، وعليه فإنّ عمل الإنسان الذي يؤدّيه سيبقى ثابتا في عالم الدهر وظرف التكوين ولا يفنى»(3).

وعليه فإنّ الآيات التي تدل على حضور الأعمال المادية للإنسان

ص: 389


1- نفس المصدر : ص .273
2- نفس المصدر : ص 274
3- السيد محمد الحسيني الطهراني معرفة المعاد: ج 10، ص 362

نفسها في القيامة لا تخالف العلوم التطبيقية والعقلية؛ بل لديها ما يؤيّدها وشواهد عليها، لذلك لا داعي لتأويل الآيات الدالّة على إعادة الأعمال المادية في الآخرة وحضورها بعض علماء الإسلام يقولون بإعادة نفس الأعمال المادية في الآخرة وحضورها فالسيد علي خان شارح الصحيفة السجادية يقول عن وزن الأعمال:

«القول الحق هو أنّ الأعمال نفسها توزن ، وليست صحيفة الأعمال(1).

(الأستاذ الجوادي الآملي) يقول حول مشاهدة عين العمل الدنيوي في الآخرة:

«يشاهد الإنسان كلّ عمل قام به فيرى متنه وعينه ولا يكتفى بجزاء العمل ؛ بل يجد العمل نفسه»(2).

وحول التشبيه والحمل على المجاز لآيات حضور الأعمال في الآخرة يقول:

«يجد الإنسان كلّ أعماله. ليس ذلك تشبيهاً ليقال كأنه يرى كلّ أعماله حاضرة؛ بل العمل نفسه يحضر. لذا لا يمكنه الإنكار فيرى ساحة قيامه بذلك العمل مجسمة ،أمامه، وتتمثل له تلك الحال التي ارتكب فيها ذلك «العمل»(3).

دليل نظرية تجسّم الأعمال بمعنى وجود الصور الباطنية والملكوتية

ص: 390


1- السيد علي خان رياض السالكين: ج 5 ، ص 209.
2- عبدالله جوادي الآملي، التفسير الموضوعي للقرآن: ج1، ص209. الجدير بالذكر أنّ الأستاذ في درسه الأسفار بتاريخ 1985/12/29م قال بزوال الأعمال المادية وأكد أن آثار الأعمال المادية محفوظة في صقع النفس.
3- نفس المصدر : ص 211

للأعمال منحصرة بشهود الناس الذين بلغوا الكمال وتجربتهم ممّن وفقوا إلى مشاهدة الصور الواقعية للناس والصور الواقعية لأعمالهم من خلال الشهود وعين البصيرة نشير في هذا الباب إلى سؤال (أبي بصير) أحد أصحاب الإمام محمد الباقر علیه السلام وتعجبّه من كثرة الحجاج في مراسم الحج وجواب الإمام عليه:

قال أبو بصير للباقر علیه السلام : ما أكثر الحجيج وأعظم الضجيج؟ فقال: «بل ما أكثر الضجيج وأقل الحجيج. أتحبّ أن تعلم صدق ما أقوله وتراه عياناً؟» فمسح بيده على عينيه ودعا بدعوات، فعاد بصيراً فقال: «أنظر يا أبا بصير إلى الحجيج» قال: فنظرت فإذا أكثر الناس قردة وخنازير، والمؤمن بينهم مثل الكوكب اللامع في الظلماء(1).

هذا هو طريق الشهود والعين التى لا ترى إلاّ الظواهر بعيدة عن ذلك كلّ البعد، لذا نحيل القارىء لإتمام هذا البحث إلى مقالات أهل المعرفة وإشاراتهم(2).

شبهات تجسّم الأعمال:

أشرنا سابقاً إلى أنّ أهم تبرير لعذاب الآخرة هي نظرية تجسّم

الأعمال، لكن هناك شبهات تطال هذه النظرية، نحلّل فيما يأتى أهمها:

ص: 391


1- محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار: ج 46، ص 261.
2- آية الله الملكوتي من المراجع المعاصرين نقل خلال إقامتي في النجف الأشرف كان أحد تلامذتي متفرغاً للعبادة والتهجد في شهر رمضان المبارك، وفي آخر شهر رمضان انفتحت عين بصيرته فقال لي: إنّي أرى بعض الناس على هيئة حيوانات. وفيما بعد زالت منه هذه الحالة.

الشبهة السادسة - عدم التفاوت التكويني بين عمل الخير والشر:

قد يخطر بذهن بعضهم إشكال هو ما الفرق بين أكل مال اليتيم وأكل المال الشخصي؟ في حين أنّهما من حيث المادة والماهية واحد وعين بعضهما، فمثلاً يأكل الإنسان تفاحته فليست هناك نار ولا أكل نار، لكنّه عندما يأكل تفاحة ليتيم فهو يأكل النار في الحقيقة، فما هو الملاك لوجود النار في الثانية وعدم وجوده في الأولى؟

الجواب: هناك فرق مهم قد أغفله السائل كلياً، وهو وهو وجود القرار والنية المخالفة للشخص المجرم لمولاه ومدبّره هذا النوع من إرادة المخالفة يميز بين فعلين متشابهين في الظاهر. فالإرادة والعزم على المخالفة عند الشخص المرتكب تترك أثرها السيء في صقع النفس، وتؤدّي إلى ظهور النار. يمكننا القول إنّ دور النية في إشعال نار الأعمال والمعاصي هو كدور الشرارة في إشعال مخزن البارود. لذلك أكدت الروايات كثيراً على النية ودورها في قبول الأعمال وردّها، وكملاك للعذاب الأبدي: وبما في الصدور تجازى العباد»(1).

على هذا الأساس، أفتى الفقهاء العظام أنّه إذا ارتكب المكلّف ذنباً عن غير عمدٍ فلن ينال عليه العقاب أو الجزاء الأخروي، وسبب ذلك واضح، لأنّ الشخص الجاهل لم يكن ينوي مخالفة المولى، لذلك لم تكدر نفسه وتتلوّث بالهيئة الظلامية ليستحق العقاب. فكما أنّ مخزن البارود لن يتحوّل إلى نار مشتعلة ما لم تصله شرارة ونار فكذلك الأعمال السيئة دون نية وإرادة ذنب لن تؤدّي إلى الجزاء.

ص: 392


1- محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار: ج 31 ، ص 500.

الشبهة السابعة - عدم تصوّر تجسّم الذنوب العدمية:

إنّ تجسّم الأعمال وتحوّلها إلى صور مهولة أمر قابل للتصوّر في الذنوب تشكّل فعلاً ووجوداً، أمّا الذنوب التي ليست لها جنبة وجودية؛ بل هي عدم محض كترك الصلاة والصيام التي ليس فيها أفعال وجودية لتتجسّم وتتمثّل بصور أخرى. لذلك يبدو أنّ تجسّم الأعمال في هذا النوع من الذنوب أمر غير معقول، ولا بدّ من الاعتقاد فيها بالجزاء الاعتباري والتوافقي

الجواب:

يتّضح جواب هذا الإشكال من الجواب السابق. لأنّه حسب الظاهر وفي النظرة الإبتدائية فإنّ المجرم لم يرتكب أي فعل، لكنّه تخلف عن تكليف المولى وإطاعة أمره عن علم ووعي كاملين وقدرة امتثال، وقرّر في نفسه .المخالفة. لذلك، فإنّ هذا الشخص قام بفعل اسمه إرادة المعصية، وهو قابل للتجسم بصورة عذاب ناري.

الشبهة الثامنة - جهل الإنسان بعذابه الباطني:

طبق نظرية تجسّم الأعمال، فإنّ الآثار السيئة للمعاصي هي موجودة في صقع النفس بالفعل والسؤال هو: لماذا لا يلتفت الناس في هذه الدنيا إلى آثار الأعمال وصورها وتجسّمها؟

الجواب:

إنّ نفس الإنسان بسبب ارتباطها وعلاقتها الخاصّة بعالم الماديات وغرقها فيه، يصبح وجود عالم المادة حجاباً ومانعاً للإحساس بصور العذاب

ص: 393

الأخروي المهولة فالعذاب عبارة عن إدراك غير الملائم للنفس والمنافر لها. ومن لم يصل إيمانه ومعرفته إلى درجة من الكمال ليدرك حقيقة أنّ أكل مال اليتيم هو أكل للنار؛ بل يعتبر ذلك عملاً مألوفاً واستيلاءاً على أموال الآخرين وأخذ ثروة سائبة، فكيف يمكنه أن يدرك تضادّها مع الطبع والجبلّة الإنسانية؟

لكن عندما تزال حجب الدنيا، ويقف الإنسان على حقيقة هذه المسائل عندها سيدرك العذاب الواقعي للاعمال يقول (ليون ديني) في هذا المجال:

«إنّنا خلال حياتنا لا نستطيع أن نرى بعين المادة انعكاس الأعمال في الروح ونطلع عليه، لكن عندما تتحرّر الروح من البدن، عندها تظهر مندرجات صحيفة الأعمال والمصير القادم، تلك المدوّنات والمندرجات صحيحة وموثقة إلى درجة أنّ الروح تعجز عن إنكار صحتها وأصالتها»(1).

ويقول (صدر المتألهين):

«عندما تقوم القيامة ويأتي وقتها يركّز الإنسان بنظره وأحاسيسه على نفسه لفراغه من المشاغل الدنيوية والحسيّة ويلتفت إلى صحيفة الباطن ولوح ضميره وهذا هو المراد من الآية «وإذا الصحف نشرت» عندئذٍ كلّ من كان عن أحوال نفسه وحساب حسناته وسيئاته يقول عند زوال حجبه وحضور ذاته ومطالعة صفحات كتابه «ما هذَا الْكِتاب لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا

غافلاً كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً...»(2).

ص: 394


1- ليون ديني عالم ما بعد الموت، ترجمة محمد بصيري: ص119.
2- صدر المتألهين، الأسفار : ج 9، ص 293

وأهم من ذلك أنّ اللّه يخاطب الإنسان حول غفلته عن صورة ة أعماله الواقعية: «لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ» [ق 22].

ويستعمل مصطلح الغفلة عند وجود واقعية لا يلتفت إليها الإنسان ولا يتفطن لها، فكان الإنسان غافلاً لمدّة عن الصور الواقعية لأعماله، فكشف اللّه عنه الغطاء، فعلم بالواقع الخافي للوجود.

الشبهة التاسعة - المنافاة مع الشفاعة والتوبة والعفو:

استناداً إلى نظرية تجسّم الأعمال فإنّ منشأ العقاب الأخروي هي الصفات السيئة والآثار الكلامية للنفس، وأنّ العلاقة التكوينية والعلّة والمعلول بين العمل والعقاب هي الحاكمة؛ بل إنّ هذه العلاقة هي أقوى من علاقة العلّة بالمعلول، فهناك بين العمل والجزاء علاقة عينية واتحاد فإذا كان الأمر كذلك

فكيف نبرّر ونفسّر قضايا الشفاعة والعفو والتوبة التي تعدّ من ضروريات الأديان الإلهية؟

الجواب:

لا تتعارض الشفاعة والعفو والتوبة مع نظرية تجسّم الأعمال، ذلك لأنّ هذه الأمور ليست خارج دائرة التكوين ويمكن تفسيرها وتبريرها طبق قانون العلّيّة.

أ) التوبة: عندما يرتكب الإنسان فعل المعصية، وتتلوّث نفسه وتتكدّر بالرذائل ،والخبائث يمكنه أن يصفي نفسه من تلك الهيئات والتلوثات، بحيث يشطب ذنوبه ويتخذ القرار والعزم القوي على جبران ما فاته.

ص: 395

هذا التغيير والتحول في النفس يؤدّي إلى محو آثار الرذيلة والذنوب، لذا جاء في الروايات إذا تاب الإنسان توبة نصوحاً يقبل اللّه توبته مهما كانت ذنوبه عظيمة. لكن المشكلة هى في الشخص المذنب هل يوفق إلى التوبة النصوح أم لا .

ب) الشفاعة: هذا الإشكال ناشيء من عدم إدراك المعنى الصحيح لمفهوم الشفاعة فهناك من يظن أنّ الشفاعة هي أمر اعتباري وتوافقي من دون أي شرط فتواجههم هذه الشبهة ولو علموا بالمعنى الواقعي للشفاعة وأنّها عبارة عن استفادة الشافع من اقتدار نفسه على محو الملكات والهيئات الظلامية وتدميرها لنفس المرتكب، عندئذٍ لما واجهتهم مثل هذه الشبهة. لذا، فإنّ الشخص الشافع يقضي على منشأ الجزاء، أي يقضي على الهيئات الرذيلة النفس المذنب، فينجيه بذلك من النار والعذاب.

فإن كانت الهيئات والتلوثات النفسانية للمذنب أكثر من الحد المألوف عندئذٍ يحتاج المذنب إلى شافع أقوى، ويعجز الشفعة الاعتياديون عن إنقاذه من العذاب من هنا كان المستقر الأبدي للمشركين والكفار في نار جهنم، ولا تشملهم شفاعة الشفعاء.

شبهات بعض المعاصرين:

يتّضح ممّا مرّ أنّ القول بتجسّم الأعمال وتكوينية الجزاء الأخروي هما فرع من القبول بأصل العلّيّة في عالم الإمكان والطبيعة، لذلك، فإنّ من يخالف العلّيّة لا يمكنه أن يقبل بنظرية تجسّم الأعمال، ولعل بعض مخالفي العلّيّة يعتبرون أنّ أصل العلّيّة ونظرية تجسّم الأعمال - المستفادَين من كتاب اللّه

ص: 396

وسنّة الرسول - مخالف للإدراك الخالص للتدّين؛ بل وأساس للعلمانية في الدنيا والآخرة.

(الدكتور سروش) أحد الكتّاب الذي هاجم أصل العلّيّة اتباعاً منه لبعض المتكلمين الأشاعرة كالغزالي(1)، واعتبر أنّ أصل العلّيّة لا يتلاءم مع القدرة المطلقة للّه وفاعليته، وأنّه جزء من تعاليم فلاسفة اليونان في مقابل تعاليم الأنبياء العظام والعرفاء، ويستنتج في النهاية أنّ قبول العلّيّة يستلزم ظهور المذهب العلماني (حذف اللّه في الطبيعة).

وبعد إضعافه للعلّيّة يذكر أحد مصاديقها وهو القول بتكوينية الجزاء الأخروي (تجسّم الأعمال) ويعتبره مخالفاً للتعاليم الدينية، والأهم أنّه يعتبره مبدأ العلمانية في الآخرة، ويذكر عدّة إشكالات وتوالٍ باطل على هذه النظرية. لكنّنا للتعرف أكثر على نظريته وتحليلها بشكل أوضح ننقل عين كلامه، ثمّ نردّ عليه:

الشبهة العاشرة - ظهور العلمانية:

العلمانية هي ابن للفلسفة العقلانية الميتافيزيقية، فمنذ أن قام الفلاسفة (وأقدمهم الفلاسفة اليونانيون) بفلسفة نظام العالم أي سعوا إلى شرحه في إطار المفاهيم ،الميتافيزيقية، فتحوا الباب أمام الفكر العلماني، أي إبعاد اللّه عن العالم، وتفسير أمور العالم وتبيانها بشكل مستقل عن المشيئة والتصرّف والقدر، وجعلوا بعض المفاهيم الدينية الخالصة من دون معنى ومحتوى. فأبعد

ص: 397


1- راجع محمد الغزالي تهافت الفلاسفة: ص 67

الميتافيزيقيون مفهوم (الاستحقاق) وطرحوا مفهوم (الذات والطبيعة) لهذه الغاية. وتسويق (الاستحقاق) وجعله ( عليّاً) هو مكمل لمادية الفلاسفة وتبعاً لجهدهم البليغ في (عولمة)الفكر»(1).

هناك عدّة نقاط فى الردّ على هذا الكلام:

أ) لقد اعتبر أنّ المادية وبتبعها تكوينية الجزاء الأخروي هما من إنتاج فلاسفة اليونان، في حين أنّهما ممّا أيّده القرآن المجيد والروايات النبوية وأحاديث أهل البيت وأكدوه ، وقد مرّ معنا تبيان المذهب المادي في كتاب أصل العلّيّة فى الفلسفة والكلام (2)وتجسّم الأعمال.

ب) بالنسبة لادعائه بأنّ أساس ولادة العلمانية من أصل العلّيّة وتجسّم الأعمال في الآخرة لا بدّ في البداية من أن نوضّح معنى ذلك ومفهومه لئلا تبقى أي نقطة إبهام في التحليل والنقد، ذلك لأنّ للعلمانية معاني متعدّدة، وقد أشار بنفسه لها في مقالته تلک(3). أمّا بالنسبة لمفهوم العلمانية هنا، فإنّ الناقد

المحترم قد أشار إلى مراده منها بقوله:

«إبعاد اللّه عن العالم، وتفسير أمور العالم وتبيينها بشكلٍ مستقل عن المشيئة والتصرّف والتقدير الإلهي»(4).

ص: 398


1- «معنى ومبنى العلمانية»، كيان العدد 26، ص 12.
2- راجع محمد حسن قدردان القراملكي، أصل العلّيّة في الفلسفة والكلام: ص 30 وما بعدها.
3- للاطلاع أكثر راجع محمد حسن قدردان القراملكي، العلمانية في المسيحية والإسلام، الفصل الأول.
4- مجلة كيان العدد 26 ، ص 11.

أمّا قوله بتكوينية العذاب في القيامة يعني استبعاد اللّه عن العالم، فإنّ ضعف قوله يتّضح من التأمّل ثانية في التفريق بين العلل الطولية والعرضية. وتوضيحه أنّ حركة العالم في الدنيا والآخرة تتمّ على أساس العلل والوسائط والطبائع واللّه سبحانه هو الذي منح تلك الوسائط هذا الاستعداد والقدرة. والملفت هنا أنّ التفويض الإلهي ليس كنقل السلطة وتفويضها في الدنيا إلى الغير، بحيث يفقد المفوّض صلاحياته بمجرد تفويضها للغير؛ بل إنّ التفويض الإلهى يحافظ على الدور الأساس اللّه على الشكلين الآتيين:

الأوّل - الحاجة الإمكانية والفقر الوجودي لكلّ ممكن الوجود إلى ذات واجب الوجود.

الثاني - القيام بالفعل أو صدور الأثر عن الفاعل والعلّة يأتي في سياق سلسلة العلل والمعلولات الإمكانية، وكلّها تعود إلى علّة العلل، واستناداً إلى الأصل الفلسفي: «كلّ عرضٍ ينتهي بالذات» فإنّ جميع الأفعال والانفعالات الصادرة تنتهى في سلسلة الممكنات إلى علّة العلل، أي إلى وجود الباري

تعالى.

أمّا إذا أصرّ أحد على أنّ تدبير العالم يتمّ بواسطة العلل الإلهية مباشرة ومن دون واسطة، وأنّ دور العلل والأسباب أمر ظاهري فقط، أي ما يشبه نظرية «العادة» عند الأشاعرة ، والكاتب المحترم لا يخفى ميله إليها، عندئذٍ تطال نظريته تلك إشكالات لا تدفع منها أن على أصحاب هذه الرؤية أن يبرّروا الآيات والروايات الدالّة على وجود السببية في عالم الإمكان، تلك الآيات والروايات التي تؤكد على التفويض وفاعلية الملائكة والإنسان والطبائع. كما يطرح عليها مجدداً إشكال «الجبر والاختيار» وبتبع ذلك مسألة الثواب

ص: 399

والعقاب وهي إشكالات عجز عن حلّها وفك حلقاتها الضائعة كبار متكلمي الأشاعرة حتّى بعد ضمّهم لنظرية «الكسب» وقال ببطلانها علماء الأشاعرة المعاصرين أمثال (محمد عبده) (1)و (الشيخ الشلتوت)(2).

وبعبارة أخرى إذا كان المراد من العلمانية إبعاد دور اللّه عن تقدير أمور العالم عبر الوسائط والأسباب، وهو ما أراده اللّه ولا خوف من القبول به، بل إنّ القبول به وإدراكه يعني «الإدراك الخالص للتديّن» وليس عكس ذلك. إنّ الإدراك الخالص للتديّن يحكم علينا القول بتوفي الأنفس عبر ملائكة كعزرائيل، وبوجود شفعاء سوى اللّه من أنبياء وأولياء وشهداء في الآخرة، بحيث يقوم هؤلاء العظماء بإدراك بعض المعرّضين للهلاك وتخليصهم من الهلاك. وأن نقول بأنّ اللّه قد وكّل مسؤولين في الدنيا والآخرة من الملائكة، وأمور أخرى كثيرة جدّاً يعجز هذا المقال عن إحصائها.

وحسب تعبيره(3) يمكن القول هنا بأنّ اللّه تعالى هو الذي نثر بذور العلمانية - بالمفهوم المذكور - في مزرعة كبيرة تضمّ الملائكة والبشر والطبائع.

الشبهة الحادية عشر. تحديد السلطة الأخروية للّه (رجوع الجزاء الاعتباري إلى التكويني):

«إذا تنزّلت علاقة البشر مع الثواب والعقاب الأخروي إلى العلاقة العلّيّة، عندها سيختفي مفهوم الاستحقاق، ويتحطم من أساسه النظام الأخلاقي

ص: 400


1- راجع : محمد عبده، رسالة التوحيد: ص 59-62.
2- راجع : الشيخ شلتوت، التفسير: ص 240-242
3- راجع : عبد الكريم سروش الصراطات المستقيمة كيان العدد 36

والقضائي الذي يتربّع اللّه في صدره، ويصبح الكلام عن أنّ اللّه يثيب على العمل الفلاني ويعاقب على العمل الفلاني وأنّ المحسن يستحق الثواب والمسيء يستحق العقاب يصبح كلاماً لا طائل منه وتتحوّل المقولات الاعتبارية إلى مقولات حقيقية»(1).

الجواب:

إنّ نظرية تجسّم الأعمال لا تتنافى مع استحقاق الثواب أو العذاب؛ بل إنّها مرتبة أعلى ذلك لأنّ الإنسان يرتكب فعلاً علمه بالطاعة أو المعصية وآثارهما التكوينية، ويفعل ذلك عن عمد واختيار فيستحق الجزاء المتناسب مع ذلك الفعل ؛ بل يوجد ذلك الجزاء، عندها يكون وصول الجزاء لهكذا فاعل

حقّه.

أمّا قول الناقد «إنّ الحديث عن استحقاق المحسن والمسيء للثواب والعقاب يصبح كلاماً لا طائل منه» فليس واضحاً المقصود منه. فإن كان المراد من الإستحقاق ترتّب الجزاء الاعتباري عبر فاعل خارجي، فإنّ صحة ذلك وسقمه سيكون أوّل الكلام، فالأدلة التي مرّت معنا لم تستطع تبرير اعتبارية

الجزاء.

وبعبارة أخرى، يبدو أنّ الكاتب المحترم ومؤيدي اعتبارية الجزاء الأخروي قد تصوّروا مسبقاً أنّ الجزاء الأخروي هو اعتباري كالجزاء الدنيوي، وتصوّروا الوضع في القيامة على هذا الشكل جهنم وجندها واللّه تعالى كقاضي للقضاة من جهة، والمجرمون من جهة أخرى. وبما أنّ تجسّم الأعمال لا يتلاءم

ص: 401


1- راجع : عبد الكريم سروش الصراطات المستقيمة، كيان العدد 36.

مع هذا التصوّر، أطلقوا صرختهم أنّ النظام الأخلاقي والقضائي سيدمّر. في حين أنّ مؤيدي هذه الفرضية عليهم بداية أن يثبتوا صحة ذلك طبق مقولة: «العرش ثم النقش» ثمّ يظهروا تألمهم للنيل منها.

من الجدير هنا التذكير بأمر وهو أنّ القائلين بتكوينية الجزاء الأخروى يؤكدون على تكوينية الجزاء لجهة العقاب والعذاب لكنّهم لا ينفون كون بعض الجزاء والثواب تكوينياً وبعضه الآخر اعتبارى ينشأ من فضل اللّه وعفوه وما يسمّى في المصطلح الكلامي بالتفضّل، وعليه لا داعي للإحساس بالقلق لوجود «العفو الخاص بحق المحسنين» واعتبار ذلك منافياً للإدراك الخالص للتدين.

الشبهة الثانية عشر عدم التلاءم مع الحسن والقبح:

«إنّنا بسبب «قبح» العمل نعتبر أنّ الفاعل «مستحق» للجزاء، وبسبب «حسن» العمل نعتبر أنّ الفاعل مستحق للثواب. لكن عندما نضع مفهوم العلّيّة مكان الاستحقاق عندئذٍ يصبح الحسن والقبح لا طائل منهما، وتختفي الفضيلة والرذيلة، وتبقى «العلّة» و«معلولها»... ولا يبقى من أثر لسوء الفاعل وحسنه وسوءالفعل»(1).

يتوقّف الردّ على الكلام المذكور على تبيان موضوع «الحسن والقبح» وتنقيح ملاك الحكم بمدح الفاعل أو ذمّه وينبغي القول بالإجمال: إنّ ملاك استحقاق الجزاء والحديث عن توبيخ الفاعل أو ذمّه لا يرتبط بقبح العمل فقط؛ بل بالظروف والأمور الأخرى كالاختيار وعلم الفاعل بقبح عمله أو حسنه،

ص: 402


1- راجع عبد الكريم سروش الصراطات المستقيمة، كيان العدد 36 ، ص 21.

وعدم وجود محذور آخر لتبلغ المجازاة والمدح والذم للفاعل مقام الفعلية باجتماع تلك الشروط.

إنّ التأمل في نظرية تجسّم الأعمال ترشدنا إلى وجود كلّ الملاكات المذكورة، ذلك لأنّ الشخص العاصى ينوي ويعزم على المعصية مع علمه بقبح الفعل وقدرته على تركه، وكذلك الشخص المحسن يقرّر القيام بالفعل الحسن عن علم واختيار ورغم المشقة. وفي كلا الفرضين فإنّ ملاك ترتيب الجزاء

والذم والثواب والمدح للفاعل موجود ومتحقّق هذا بصرف النظر عن تكوينية الجزاء والثواب أو اعتباريته لكن يمكن الحكم بحسنه وفضيلته أو قبحه ورذيلته.

أمّا بالنسبة إلى الاستدلال على أنّ «الذي سيبقى هي العلّة ومعلولها فقط» فينبغي القول: إنّ وجود العلّة (العمل الحسن أو المعصية) ووجود المعلول (العقاب والثواب) لا ينال أبداً من حسن الفعل والفاعل وقبحهما، أمّا وجود العلّة فليس بحاجة للبيان، ذلك لأنّ الطرفين يريان أنّ العلّة هي مقتضى الحسن والقبح وليست منافية لهما.

امّا وجود المعلول فقد يُقال بما أنّ الشخص الفاعل عند قيامه بالفعل هو على يقين بالثواب أو العقاب، فسيكون أداؤه للفعل أو تركه بسبب نتيجته الأخروية، لذلك سيكون الدافع للفاعل دافعاً مادياً وغير أخلاقي، لذلك لا يمكن الحكم بمدح .الفاعل سيتّضح الردّ على هذا الإشكال في تحليل الإشكال

القادم.

ص: 403

الشبهة الثالثة عشر - بروز أصالة الربح utilitarianism):

«هذه الطريقة من الفلسفة التى وضعت الإيجاب مكان الاستحقاق والعلّية مكان الأخلاق، أليست تفتح الطريق نحو دنيوية الأخلاق؟ أوليست تعلّم البشر أن يفكّروا بالعواقب ومعلولات الأفعال الهنيئة والمنغصة بدل التركيز على التكليف الأخلاقي؟ أوليست تشطب الواجب والتكليف لصالح حساب الفوائد ومعنى الأفعال؟ أليس ذلك هو الطريق الذى سلكته أخلاق العلمانية الجديدة، من خلال طرح فوائد الأعمال ولذّاتها (أصالة الربح) وكشف علاقتها بالنحو العقلى والتطبيقى، ما يجعل الأخلاق عارية وفارغة من الفكر الإلهى واعتبار الجرم مرضاً والمجرم مريضاً والمجازاة تأديباً وعلاجاً، واختفاء حسن الفعل والفاعل وقبحهما، والحديث فقط عن الربح والخسارة في الأفعال»(1).

عند تحليل هذا النقد نشير إلى جوابين جواب حل وجواب نقض:

جواب الحل:

نستفيد في هذا الجواب من حديث نوراني لأمير المؤمنين علي

علیه السلام حيث يقول:

«إنّ قوماً عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار، وإنّ قوماً عبدوا اللّه رهبة فتلك عبادة العبيد، وإنّ قوماً عبدوا اللّه شكراً فتلك عبادة الأحرار»(2).

الأمر المهم والدقيق هنا هو مطلوبية العبادة وصحتها في القسمين الأخيرين عند اللّه والقرآن المجيد، بحيث أنّ اللّه يطلب من عباده الامتثال إلى

ص: 404


1- راجع: عبد الكريم سروش الصراطات المستقيمة كيان العدد 36
2- نهج البلاغة، صبحي الصالح، الحكمة 237 وفيض الإسلام الحكمة .229

الأوامر الإلهية وعدم الانحراف عن الصراط المستقيم لأنّه أعدّ للمطيعين في الآخرة الجنّة ونعيمها من حور وقصور وغلمان وتوعّد العاصين بجهنم وأنواع العذاب: «وَتِلْكَ الجُنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِما كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ * إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ» [الزخرف

74-72].

إنّ سرّ هذه المصادقة من الله تعالى على صحة عبادة التجار والعبيد فهو واضح، ذلك لأنّ اللّه تعالى علاّم الغيوب وهو مطلع على اختلاف إمكانات الناس، ويعلم أنّ بعض الناس بالوعد والبعض الآخر بالوعيد يمكنهم التخلص من حبائل الشيطان، لذلك نجد أنّ القرآن الكريم استعمل لغة الدعوة إلى الإيمان والقرب الإلهي بطرق مختلفة.

النتيجة هي أنّ الفئات الثلاث تطيع اللّه رغم أنّ الداعي والمحفز مختلف، ورغم أنّ الفرق بين عبادة الأحرار والعبادتين «التجار والعبيد» هو كالفرق بين الثرى والثريا، لكن اللّه يقبل ذلك.

وعليه، فإنّ الفئات الثلاث تعمل «بالتكليف الأخلاقي والإلهي» ولا يمكننا اتهام أي من تلك الفئات بالعدول عن الواجب والتكليف وحذف الفكر الإلهى من ساحة الأخلاق، لأنّهم جعلوا اللّه هدفاً لعبادتهم، كما أنّ وجود المحفزين الآخرين يضاعف من التكليف الأخلاقي، ويشكل ضمانة تنفيذية له أيضاً.

وإذا أصرّ المدعي على إدعائه فعليه أن يبرّر الآيات القرآنية والروايات المتواترة التي تذكّر الإنسان دوماً بالجنّة (الربح) وتحذّره من النار (الضرر) وحسب تعبيره تروّج لأخلاق العلمانية الجديدة وأصالة الربح.

ص: 405

جواب النقض:

إذا افترضنا أنّنا نقبل بإشكال لزوم أصالة الربح في تكوينية الجزاء، يبدو أنّ نفس هذا الإشكال يطال اعتبارية الجزاء أيضاً، ذلك لأنّه لا فرق بين القول بتكوينية الثواب والعقاب أو اعتباريتهما لجهة وجوب ولزوم ترتّب الثواب والعقاب. وفي كلا الحالتين يكون الفاعل للفعل الحسن متيقناً الحصول على الأجر الأخروي، رغم أنّ مبنى الأوّل هو الحصول على الأجر عبر طريق التكوين، ومبنى الثاني هو حصول الأجر عبر طريق الاعتبار والوعد الإلهي . وإذا كان هناك فكر وحساب للمستقبل وكان ذلك مؤسّس النظرية «أصالة الربح» فهو لا يختصّ بنظرية «تكوينية الجزاء الأخروي» بل يشمل أيضاً نظرية «اعتبارية الجزاء الأخروي» التي يؤيّدها الناقد نفسه. إلاّ إذا ادّعى أنّ العمل بالوعد هو كالعمل بالوعيد غير لازم ولا واجب على اللّه تعالى، كقول الأشاعرة الذي ينفي أي وجوب على اللّه حتّى الوجوب الكلامي (الوجوب عنه) في حين أنّ الأشاعرة أنفسهم أكّدوا أنّ عادة اللّه بالوعد و هی العمل بالوعد وعدم التخلّف عنه، ومن هنا فإنّ الشخص المحسن متيقن بحصول الربح على فعله في القيامة حتّى على المذهب الأشعري.

نتيجة البحث وخلاصته:

بالالتفات إلى المطالب والشواهد التي طرحت حول نظرية تجسّم الأعمال يبدو أنّ هذه النظرية هي نظرية موفقة في تصحيح الجزاء الأخروي و تبريره عارية عن الاستبعاد العقلي. من خلال هذه النظرية يمكن تبيين الجزاء الجسماني في الآخرة ،وتبريره، وهو الجزاء الذي عجز (الشيخ الرئيس) عن

ص: 406

تبيانه، وقبله على أساس الدليل السمعي فقط.

في نهاية هذا البحث ينبغي الإذعان بأنّ التبيان الكامل لنظرية تجسّم الأعمال لا يتيسّر بالتعقّل المحض، ذلك لأنّ العقل عاجز عن تبيان كلّ جوانب الأمور الأخروية، ولا بدّ من السير في هذا الطريق بالعقل والشهود معاً.

الشبهة الرابعة عشر - عذاب الكفار وأتباع الأديان الأخرى:

لا بحث ولا اعتراض على شمول العذاب الأخروي، أي: جهنم للمذنبين المسلمين والكفار. لكن السؤال والشبهة فى شمول العذاب للكافر بمعناه العام، أي اتباع الديانات الأخرى أو الذين لا يتبعون أي دين، الناس الذين لم يطلعوا على حقانية الدين الحق كالإسلام ولم يستيقنوا به، وبقوا على الدين السابق كالمسيحية، أو الذين لم يختاروا منذ البداية ديناً، لكنّهم في كلا الحالتين كانوا ملتزمين بالأصول الأخلاقية والفطرية. فهل سيطالهم عذاب الآخرة؟ وهل عذابهم مؤقت أم دائم؟ وإذا كان الردّ بالإيجاب فهل يتلاءم ذلك العدالة الإلهية تجاه إنسان حسب فرض علمه ومعرفته لم يصل إلى نتيجة في اختيار دين أو مذهب وبقي على شريعته السابقة فهل سيعاقب ويعذّب؟

بحث وتحليل :

هناك عدّة نقاط نوردها في تحليل هذه الشبهة:

الأوّل - الفصل بين الكافر المقصّر والقاصر (المستضعف فكرياً):

معظم المفكرين المسلمين من فقهاء ومتكلمين عرّفوا الكافر بمعناه العام، أي غير المسلم. لكن موضوع عذاب الآخرة وملاكه ليس عنوان الكفر

ص: 407

والكافر؛ بل الكافر الخاص، فقسّموا الكافر إلى قسمين قاصر و مقصّر(1).

المقصود من القاصر هو الإنسان الذي لم يقصّر في جهله بحقانية الإسلام؛ بل بذل قصارى جهده للتعرّف على الشريعة الحقّة، لكنّه لم يوفّق إليه، أو أنّه الخطأ و ترتيب مقدمات خطأ وصل إلى نتيجة أخرى (حقانية الشريعة المنسوخة أو الباطلة) وقد سمّي في المصطلح القرآني والروائي بالمستضعف الفكري، وهو ما سيأتي توضيحه أكثر لاحقاً بالأدلة القرآنية

والروائية.

والمقصود من المقصّر هو الذي لم يتّبع الدين الحق عمداً، ولم يبذل جهداً المعرفته، أو وُفّق لمعرفته لكنّه لم يؤمن به ولم يلتزمه عن عناد وهوى نفس. أكثر المفكرين المسلمين يعتقدون أنّ ملاك عذاب الآخرة وموضوعه هو «الكافر

المقصّر» وليس القاصر والمستضعف الفكري. لكن هناك اختلاف نظر في تحديد المصداق، ولا مجال هنا لتفصيل ذلك. لكن بسبب أهمية المسألة نشير إلى آراء بعض الفقهاء والمفكرين المعاصرين:

الإمام الخميني:

«هناك فئة تؤمن بأديان أخرى وقضوا أعمارهم في ذلك المسلك، وعملوا بظواهره، ولم يعتقدوا بوجود دين آخر غير دينهم. فلا يستبعد أن تدخل هذه الفئة الجنّة.

ورد في رواياتنا أنّ اللّه تعالى أعدّ للجنّة سبعة أبواب يدخل المسلمون

ص: 408


1- للاطلاع أكثر راجع محمد حسن قدردان قراملكي الكلام الفلسفي فصل الكافر المسلم والمسلم الكافر.

من ستة، ويدخل غير المسلمين من الباب الآخر.

إذاً، لا يمكن القول أنّ الذي لم يقصّر ، ولم يسمع سوى ما فهم، أو إذا سمع لكنّه كان يعتقد بما سمعه من أبويه بحيث كان لا يحتمل صحة غيره، فعمل بذلك فقط، لا يمكننا القول إنّه سيدخل جهنم»(1).

آية الله الخوئي:

إنّه كسائر الفقهاء يعتبر أنّ الكفر الفقهي يشمل «الكافر الجاهل» لكنّه يقول بعذر الجاهل وعدم تعذيبه: «إنّ إنكارها أو الجهل بها يقتضي الحكم بكفر جاهلها أو منكرها وإن لم يستحق لذلك العقاب لاستناد جهله إلى قصوره وكونه من المستضعفين»(2).

العلاّمة الطباطبائي:

تمسّك بالآية: «لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها» وقال:

«فالأمر المغفول عنه ليس في وسع الإنسان...وإذا كان جهله غير مستند إلى تقصيره فيه أو في شيء من مقدماته، بل إلى عوامل خارجة عن اختياره أوجبت له الجهل أو الغفلة أو ترك العمل؛ لم يستند الشرك إلى اختياره، ولم يعد فاعلاً للمعصية متعمّداً في المخالفة، مستكبراً عن الحق جاهلاً»(3).

ص: 409


1- السيد روح الله الموسوي الخميني، الأربعون حديثاً: ص304/ السيد روح الموسوي الخميني، المعاد: ص399
2- آية الله السيد أبو القاسم الخوئي، التنقيح، كتاب الطهارة: ج 2، ص 58
3- السيد محمد حسين الطباطبائي، تفسير الميزان ج 5 ، ص 52

«الإسلام هو التسليم للحق الذي هو حق الاعتقاد وحق العمل.و بعبارة أخرى هو التسليم للبيان الصادر عن مقام الربوبية في المعارف والأحكام والكفر بآيات اللّه هو الكفر بعد البيان بغياً... إنّ الجهل بمعارف الدين إذا كان عن قصور وضعف ليس فيه صنع للإنسان الجاهل كان عذراً عند اللّه سبحانه»(1).

الشهيد المطهري:

تناول (المطهري) في مؤلفاته المختلفة موضوع الكفر، وقال بالفرق بين الكفر الحقيقي والكفر الظاهري (الفقهي) وأكد في مواضع متعدّدة بالفرق بين «الكافر الجاهل القاصر» و«المعاند»:

«إنّ الأمر القيّم في الواقع هو الإسلام الواقعي، وهو أن يسلّم الإنسان قلبياً أمام الحقيقة، وأن يفتح باب قلبه أمام الحقيقة، وأن يقبل بالحق ويعمل به. فإذا كان هناك من يمتلك صفة التسليم، لكنّه لأسباب ما كتمت عنه حقيقة الإسلام، ولم يكن مقصّراً في هذا المجال؛ فلن يعذّبه اللّه أبداً، وسيكون من الناجين من النار»(2).

ويعتقد المفكّر الشهيد أنّ الكفر يكون عن عناد وتغطية الحقيقة عن عمد، لذلك فإنّه يعتقد أنّ أمثال «ديكارت» العالم المسيحي ليس كافراً؛ بل هو «مسلم فطرى» ويقول:

«لا يمكن تسمية هؤلاء بالكفرة، لأنّهم ليسوا معاندين، فالكافر لا يبحث

ص: 410


1- السيد محمد حسين الطباطبائي، تفسير الميزان ج 2، ص 120
2- مرتضى المطهري، مجموعة المؤلفات، ج 1، العدل الإلهي: ص 293

عن الحقيقة، أمّا هؤلاء فليسوا في مقام التعمية على الحقيقة. ماهية الكفر هي العناد والميل نحو تعمية الحقيقة. هؤلاء «مسلمون بالفطرة» ورغم أنّنا لا نستطيع إطلاق اسم المسلم عليهم، لكن لا يصحّ أن نسمّيهم كفرة، ذلك لأنّ تقابل المسلم والكافر هو ليس من قبيل تقابل الإيجاب والسلب ولا العدم والملكة؛ بل هو من نوع تقابل الضدّين»(1).

وحول المسيحيين يعتقد (العلاّمة المطهري) أنّ كثيراً منهم مؤمنون وأهل تقوى، ولأنّهم غير مقصّرين يدخلون الجنة:

«إذا نظرت إلى المسيحية المحرّفة، وذهبت إلى القرى والمدن، فهل تجد أنّ كلّ أب وراهب إنسان فاسد وسيء؟ واللّه إنّ هناك %70% أو 80٪ منهم أناس ذوو أحاسيس وإيمان وتقوى وصفاء يدعون الناس باسم المسيح ومريم

بصدق وتقوى وطهارة، وليسوا مقصّرين، وسيدخلون الجنّة ورهبانهم يدخلون الجنّة»(2).

ويقول في مكان آخر:

«هكذا هي فطرة البشر حتّى في الاتحاد السوفياتي دعك من العشرة ملايين شيوعي (أعضاء الحزب) ولعل نصفهم من المستغفلين، فإنّ مائة وتسعين مليوناً آخر هم أناس على الفطرة، أي إنّهم مسلمون فطريون، مسلمون بالفطرة، أي: أناس سالمون»(3).

ص: 411


1- مرتضى المطهري، مجموعة المؤلفات، ج 1، العدل الإلهي : ص 294
2- نفس المصدر : ج 3، ص 439
3- نفس المصدر : ص 427

الأستاذ محمد تقي الجعفري:

«أولئك الذين ليست لديهم أية عقائد دينية هم على قسمين: إمّا أنّ لديه يقين بصدق إدعاء الدين، لكنّه لا يعمل بأوامره وتعاليمه، وفي هذه الحالة سيكون مذنباً ،حتماً، أو أنّه لم يصدّق أساساً بادعاء الأديان. وعدم التصديق هذا لا يعدو حالتين أمّا أنّه لا يهتم بالحسّ الديني، وهو من أهمل أحاسيسه دون تحقيق، ويعدّ مذنباً. وإمّا إذا كان مهتماً بادعاء الدين، وبحث فيه، لكنّه لم يصل إلى نتيجة، شرط أنّه لم يغفل ويتسامح في بحثه فلن يكون مذنباً، لأنّ اللّه لن يعتبر من يعجز عن تشخيص الحقيقة مسؤولاً(1).

وحول المسيحيين يقول:

«من الثابت أنّ عامّة المسيحيين يحملون في أذهانهم مفهوماً عن اللّه أيضاً ويميلون إليه والتوجّه إليه ويقومون بأعمال تقرّبهم إليهم. ولذلك لا يصحّ الحكم القطعي بشركهم»(2).

وحول توحيدية آراء المفكرين والعلماء المسيحيين يقول الأستاذ الجعفري:

«حسب ما عرفناه عن عقائد وكلام هذه الفئة - في مجال الأدب والفلسفة، وخاصّة خلال فترة ما بعد الرنسانس - فإنّ أكثر مفكريهم ومن يمتلك رشداً معنوياً فى القضايا الفلسفية والدينية هم «موحدون» وإمّا أنّهم ينكرون التثليث أو يتغاضون عنه ويعتبرونه خارج حد الإدراك»(3).

ص: 412


1- محمد تقي الجعفري، خلاصة أفكار راسل ص92.
2- محمد تقي الجعفري، شرح نهج البلاغة : ج 2، ص 52
3- نفس المصدر.

الأستاذ السبحاني:

يقول الأستاذ السبحاني:

«حكم العقاب بحكم العقل مختصٌ بالمقصّر والمتمكن من المعرفة. وأمّا غير المتمكن فعقابه قبيح عقلاً ومرفوع شرعاً... والجاهل القاصر من أقسام المستضعف»(1).

أدلة عدم تعذيب الكافر القاصر:

نبيّن ها هنا باختصار أدلة هذه الرؤية:

1. القرآن:

بيّن اللّه تعالى في آيات متعدّدة شروط و خصوصيات العقاب وأي جزاء أخروي، أبرز هذه الشروط هما شرطي «العقاب بعد البيان» و«العقاب على التكليف المقدور» نذكر فيما يأتي بعض الآيات:

ا - ا. قبح العقاب بلا بيان:

«وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً»[الإسراء 15].

في هذه الآية ربط اللّه تعالى بصراحة أي عذاب ببعثة الرسول وإقامة الحجة، وأكد أنّ أي جزاء سيكون بعد البيان والإبلاغ. هذه الآية تشير في الحقيقة إلى الأصل العقلي المرتكز في أذهان جميع الناس والمعروف بأصل «قبح العقاب بلا بیان».

ص: 413


1- جعفر السبحاني، الإيمان والكفر : ص 99.

«وما كانَ ربُّكَ مهلك القرى حتّى يبعث في أمها رسولاً» [القصص (59].

هذه الآية كسابقتها جعلت الهلاك والجزاء موقوفاً على إرسال الرسل.

«تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبير»[الملك 8-9].

مفاد هذه الآية هو كلّما دخل فوج إلى جهنم فإنّ الملائكة المولجة بالنار تسألهم عن بعثة الرسول وإبلاغه لئلا يتوهّم أحد بحصول «العقاب بلا بيان» وليعترف الجهنميون بذلك ويشيرون إلى تكذيبهم وعنادهم. وفي الآيات الأخرى أيضاً يعترف المجرمين كلّهم بوجود الحجة وإرسال الرسل. ولا توجد آية يدّعي فيها المجرمون بعدم وجود «البيان» و«الحجّة».

1 - 2 قبح معاقبة العاجز:

«لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا» [البقرة 286].

تقرير الإستدلال بهذه الآية واضح أيضاً، ذلك لأنّ العلم بالتكليف الإلهي ومعرفته شرطه الأوّل هو «الوسع» ولأنّ «الكافر الجاهل والقاصر والغافل» لا يعرف بالتكليف، لذلك لن يطاله العذاب. وقد استند (الجاحظ) من المتقدمين بهذه الآية الشريفة(1). ومن المعاصرين (العلاّمة الطباطبائي) استدل بهذه الآية(2):

ص: 414


1- عضد الدين الأيجي، شرح المواقف: ج 8، ص308
2- راجع السيد محمد حسين الطباطبائي، تفسير الميزان ج 5 ، ص 52

«إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله واسِعَةً فَتُهَا جِرُوا فِيهَا فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً (97) إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةٌ وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً» [النساء 97-98].

تستثني هذه الآية الشريفة بصراحة المستضعفين الذين لم يختاروا ديناً لهم من دخول النار، لكن من هو المستضعف ؟ الآية نفسها تبيّن ذلك، إنّهم عوام الناس الذين يعانون من أنواع المشاكل لأسباب متعدّدة، وعجزوا عن إيجاد حل لهم واختيار الصراط المستقيم.

نشير فيما يأتي إلى بعض الروايات التي وضّحت من هم المستضعفون:

2. الروايات:

تبيّن الروايات أنّ العذاب مرفوع عن الكافر الجاهل القاصر، ونشير إلى تقريرين واستدلالين:

1 - 2. تفسير الكفر بالجحود:

خلال تفسيرهم وتحليلهم للكفر أشار الأئمة الأطهار في بعض الروايات إلى أنّ الكفر ليس كلّ كفر وجهل بمقام الربوبية؛ بل هو «الجحود» و «إنكار سر المعرفة»:

روي عن الإمام الباقر علیه السلام قوله: «كلُّ شيء يجرّه الإقرار والتسليم فهو الإيمان، وكلّ شيء يجرّه الإنكار والجحود فهو الكفر»(1).

ص: 415


1- محمد بن يعقوب الكليني، الكافي: ج 2، ص 387.

وعندما سئل الإمام الكاظم علیه السلام عن تقدّم الكفر والشرك قال: «الكفر أقدم وهو الجحود. قال اللّه (عزّ وجل): «إلا إِبْلِيسَ أَبِى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ»(1).

ووجه أقدمية الكفر جاءت من كفر إبليس الذي عصى أمر اللّه السجود لآدم رغم معرفته بمقام الألوهية إلاّ أنّه أنكره(2).

روي عن الإمام الصادق علیه السلام : «لو أنّ العباد إذا جهلوا وقفوا ولم يجحدوا لم يكفروا»(3).

كنت عند أبي عبد اللّه علیه السلام ... فدخل عليه أبو بصير فقال: يا أبا عبداللّه ما تقول فيمن شك في اللّه ؟ فقال: «كافر يا أبا محمد قال: فشكّ في رسول اللّه ؟ فقال: «كافر» ثمّ التفت إلى زرارة فقال: «إنّما يكفر إذا جحد»(4).

هذه الروايات تدل على أنّ ملاك العذاب هو الكفر عن وعي ولجاجة.

2 - 2 إيجاد حلقة ثالثة بين الإيمان والكفر:

قسّم الناس ابتداءً إلى قسمين: مؤمن وكافر، لكن النبع الزلال للمعرفة الدينية، أي الأئمة الأطهار من أهل البيت النبوي لديهم رأي آخر ودقيق في هذا المجال. فأوصياء النبي استلهموا من الآيات القرآنية فقسّموا الناس دوائر لم تنحصر بدائرتي الإيمان والكفر؛ بل جاءوا بحلقة ثالثة هي «المستضعف» و«أهل الضلال» هذه الفئة رغم أنّهم لا يبلغون مستوى السائرين الحقيقيين في طريق

ص: 416


1- محمد بن يعقوب الكليني، الكافي : ج 2، ص 379.
2- نفس المصدر : ص 95
3- الشيخ الحر العاملي، وسائل الشيعة، أبواب مقدمة العبادات : ج 1، ص 21.
4- محمد بن يعقوب الكليني، الكافي: ج 2، ص 399

الإيمان، إلاّ أنّهم ليسوا مع الكفار الذين اختاروا جهنم مأوى لهم، بل إنّ مأوى هؤلاء هو موضع ما دون المؤمنين، وعبّر عنه في بعض الروايات ب- «الأعراف» نشير فيما يأتي إلى بعض تلك الأخبار:

بعد تقسيمه الناس إلى عدّة أصناف قال الإمام الصادق علیه السلام:

«الناس على ستّ فرق يؤولون كلّهم إلى ثلاث فرق: الإيمان والكفر والضلال وهم أهل الوعدين الذين وعدهم اللّه الجنّة والنار، المؤمنون والكافرون والمستضعفون والمرجون لأمر اللّه إمّا يعذّبهم وإمّا يتوب عليهم، والمعترفون بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، وأهل الأعراف»(1).

(زرارة) تلميذ الإمام الصادق علیه السلام البارز حصر الناس بفئتين: المؤمن والكافر متمسكاً بالآية الشريفة: «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ» [التغابن 2].

لكن الإمام علیه االسلام يرفض نظريته تلك، ويشير إلى وجود «المستضعفين» و«الأعراف» في كتاب اللّه، وهم في الحقيقة وسط بين الإيمان والكفر، فيقول: «واللّه ما هم بمؤمنين ولا كافرين»(2).

الأمر الهام جدّاً في كلام الإمام هو تبيينه لعلّة الخطأ والتطرّف عند (زرارة ) في تعميم الكفر على جميع الجاهلين بالإمامة فيشير الإمام إلى عاملين هما الشباب والحقد عند المخالفين، ويذكّر (زرارة) بقوله: «إن كبرت رجعت وتحللت عنك عقدك».

ص: 417


1- محمد بن يعقوب الكليني، الكافي : ج 2، ص 382.
2- نفس المصدر : ص 402

وفي رواية أخرى يسأل الإمام الصادق زرارة عن معيار التولي والتبرّي من الناس فقال له زرارة من كان معنا نتولاه ونحبّه ومن كان مخالفاً لنا نتبريء منه ونقليه.

لكن الإمام حذّره وأشار إلى وجود فئة ثالثة: «يا زرارة قول اللّه أصدق من قولك، فأين الذين خلطواعملاً صالحاً وآخر سيئاً؟ أين أصحاب الأعراف؟ أين المؤلفة قلوبهم؟»(1).

يشير الراوي أنّ أصوات المباحثة ارتفعت إشارة إلى أنّها مسألة مهمة ودقيقة كان على أمثال (زرارة) التدبّر فيها أكثر.

وفي تفسيره للمستضعف يقول الإمام الباقر علیه السلام : «لا يستطيعون حيلة فيدخلوا في الكفر، ولا يهتدون فيدخلوا في الإيمان، فليس هم من الكفر والإيمان في شيء»(2).

وضمن تفسيره للمستضعف قال (سماعة) تلميذ الإمام الصادق علیه السلام: هم ليسوا بالمؤمنين ولا الكفار(3).

معظم المحدّثين والمفسرين بتبع الآيات والروايات أشاروا إلى وجود حلقة وسط بين الكفر والإيمان هم «المستضعفون». بينما أراد بعضهم التقييد أو التأويل للنصوص الواردة، لا مجال هنا لاستعراض آرائهم.

الرواية الأخرى ما ورد في دعاء كميل العرفاني لأمير المؤمنين علي علیه السلام:

ص: 418


1- محمد بن يعقوب الكليني، الكافي: ج 3، ص 92
2- محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار: ج 9، ص 162.
3- نفس المصدر : ص 163

«فباليقين أقطع لولا ما حكمت به من تعذيب جاحديك، وقضيت به من إخلاد معانديك لجعلت النار كلّها برداً وسلاماً، وما كان لأحد فيها مقرّاً ولا مقاماً، لكنّك تقدّست أسماؤك أقسمت أن تملأها من الكافرين من الجنّة والناس أجمعين، وأن تخلّد فيها المعاندين»(1).

ومن المعاصرين استند السيد هاشم الحسيني الطهراني في تعليقه على التجريد على هذا الجزء من دعاء كميل(2).

3. الدليل العقلي:

العقل بدوره يعتبر أنّ أيّ نوع من العقاب والمجازاة فرعاً للعلم والمعرفة والتكليف، وبتبع ذلك العناد والاستنكاف عن أداء التكليف شرط أن يكون العبد غير مقصر في معرفة التكليف وليس جاهلاً قاصراً ولا عالماً مقصراً.

العقل يدرك حكم «قبح العقاب بلا بيان» الذي أشرنا إليه سابقاً، وهو ما أيّدته الآيات والروايات وأمضاه الشارع المقدس.

أجوبة بعض الشبهات:

بالنسبة لدلالة الروايات على هذا المدّعى هناك شبهات نوردها وننقدها:

ص: 419


1- عباس القمي، مفاتيح الجنان، دعاء كميل.
2- توضيح المراد: ص8-27/ للاطلاع أكثر راجع مرتضى المطهري، مجموعة المؤلفات: ج 2، ص 320.

1. إطلاق عنوان الكافر على الشاك والغافل والجاهل:

قد يتوهّم هذا الإشكال أنّ بعض الروايات اعتبرت الشاك والغافل والجاهل كافراً أيضاً، ويتبيّن من تلك الروايات أنّ الكفر لا يختص بالجحود؛ بل يشمل الشاك والجاهل.

في الردّ ينبغي القول إنّ الروايات العامّة والمطلقة تقيد بالروايات الخاصّة والمقيّدة، أي إنّ الروايات التي تعتبر الشاك والجاهل والغافل كافراً، فإنّ المراد من تعبير الكافر فيها هو الكافر الذي لديه القدرة والإمكانية على اختيار طريق الإيمان، لكنّه لأسباب منها التقاعس وعدم أداء التكليف لم يرد الخروج من مرحلة الشك والغفلة والجهل.

(الأستاذ السبحاني) اعتبر أنّ الجاهل القاصر وغير المتمكن خارج عنوان الكافر في المصطلح القرآني والروائي، ويقول حول الرواية الدالّة على كفر الشاك والجاهل والقاصر:

«إنّ هذه الروايات ناظرة إلى المتمكن فإنّ الشك والجحد إذا استمرّا يكون آية التسامح في التحقيق والتقصير في طلب الحقيقة»(1).

النقطة الثانية تبرير (الإمام الخميني) حيث جعل فرقاً بين الكفر

الواقعي والحكم بالكفر (التكفير):

«ما في ما بعض الروايات ممّا يوهم خلاف ذلك لا بدّ من توجيهه ولعلّ المراد أنّه لا يحكم بكفره إلاّ مع الجحود ومن الممكن أن يكون ( يكفر)

ص: 420


1- جعفر السبحاني، الإيمان والكفر : ص 98.

من التفعيل مبنياً على المفعول؛ بل هو مقتضى الجمع بين صدرها وذيلها ومقتضى الجمع بينهما وبين غيرها ممّا حكم فيه بكفر الشاك»(1).

النقطة الثالثة في توجيه الروايات المطلقة هی أنّ الشخص الشاك والجاهل هو بحكم الكافر بالنسبة للأحكام الفقهية كالطهارة والإرث وحليّة الذبح، لكن بالنسبة للعذاب الإلهي أي الكفر الحقيقي فإنّ الروايات لا ترى ذلك، ولمعرفة حكمها في هذا المجال ينبغي الرجوع إلى أدلة أخرى، وقد ذكرنا الدليل القرآني فيما مضى وسنورد الدليل العقلي بالتفصيل فيما سيأتي.

2. موضوع العذاب الأخروي هو مطلق الكافر:

الشبهة الثانية هي أنّ بعض الآيات والروايات ذكرت موضوع العذاب الأخروي على مطلق الكفار:

«إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ»[البقرة 161].

«إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ الله لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ» [آل عمران 4].

جواب هذا الإشكال يتّضح من الجواب السابق أيضاً، ذلك لأنّه يمكن القول إنّ هذه الآيات والروايات مطلقة، ويمكن تقييدها وتخصيصها بالكافر المعاند والمقصر بآيات أخرى:

«وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ» [البقرة 39].

«وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولئِكَ أَصْحابُ الجَحِيمِ» [المائدة 10].

ص: 421


1- السيد روح الله الموسوي الخميني الطهارة : ج 3، ص 314.

إنّ معظم الآيات المطلقة السابقة تقيد بهذه الآيات، ذلك لأنّ قيد (وكذبوا) هو قيد تأكيدي للذين (كفروا) أو قيد حقيقي وتأسيسي، وفي كلا الحالتين يتوقّف عذاب جهنم على التكذيب والعناد.

يكتب أحد العلماء المعاصرين في هذا المجال:

«ينبغي أن نعلم أنّ الكفار عن جهل هم في حكم المستضعفين أو من مصاديق المستضعفين، وآيات العذاب تشمل الذين لم يؤمنوا ولم يسلّموا للحق عن معرفة وعناد والجاجة... والآيات التي تطلق العذاب على الذين كفروا تقيّد

بالآيات التي تخصص».

علاوة على الالتزام بالتقييد والتخصيص للآيات المطلقة يمكن إعطاء جواب آخر للآيات المطلقة بالذين كفروا ، وهو أنّ الذين (كفروا) جملة فعلية حتّى لو ذكرت ،بالإطلاق، وفيها ظهور للكفر العنادي وعن معرفة، ذلك لأنّ الجملة الفعلية التي تنسب إلى الفاعل ذي الشعور والمختار، يدل ظاهرها

على صدور الفعل عن فاعل وعن قصد ووعي. والمراد من الذين كفروا) في الآية هم الكفار الذين اختاروا الكفر عن قصد وإرادة.

يقول (السيد محمود الطالقاني) في هذا المجال:

«إن الجملة الفعلية (كفروا) تستند إلى الاختيار والإرادة وتشعر ،بالاستمرار، وتشير إلى أناس اختاروا الكفر وأصرّوا عليه، دون أولئك الذين هم كالبهائم في غفلة وجهل، ولا الذين هم في شك ابتدائى أو شك استمراري»(1).

ص: 422


1- السيد محمود الطالقاني، تفسير نور من القرآن ج 1 ، ص 64

3. اختصاص التقييد بالجاهل والشاك المسلم:

الإشكال الثالث طرحه الفقيه المتبحر (الشيخ رضا الهمداني) عندما اعتبر أنّ الكفر هو عنوان جامع للشاك ،والجاهل، أمّا بالنسبة للروايات التي تقيّد الكفر بالجحود كرواية: «إنّما يكفر إذا جحد والناس إذا جهلوا وقفوا ولم يجحدوا لم يكفروا» فهو يعتقد أنّ موضوع هذه الروايات ومخاطبها هم المسلمون

الذين دخلوا الإسلام، فاعترضهم شك وشبهة وليس مطلق الكفار والناس:

«فلا يبعد أن يكون المراد به أنّ الناس المعروضين بالإسلام، المعترفين بالشهادتين... وليس المراد بمثل هذه الروايات من لم يتدين بدين الإسلام، ولم يلتزم شرايعه متعذراً بجهله بالحال ليس بكافر»(1).

في الردّ على (المحقّق الهمداني) ينبغي التذكير أنّه إذا صرفنا النظر عن تنقيح المناط وإطلاقات الروايات المذكورة وإعمامها، لا يمكننا الإدعاء أيضاً بضرس قاطع أنّ الشخص الجاهل والشاك غير المسلم كافر، ذلك لأنّ الآيات والروايات المتعدّدة تدل في الظاهر؛ بل بالنص في نفي كفر الجاهل والشاك وعذابهما، وتعتبرهم في عداد المستضعفين الذين لم يتعرض لهم الفقيه الكبير.

الثاني - تبيان عذاب الكافر بالمبنى التكويني للعذاب:

المطالب السابقة في نفيها لعذاب الكافر القاصر تنسجم مع المبنيين الموجودين في عذاب الآخرة أي المبنى الاعتباري والمبنى التكويني للعذاب، ويمكن تبيينها وتبريرها، لكن عدم التعذيب بالمبنى التكويني يمكن تبيينه أيضاً عبر الطرق الآتية:

ص: 423


1- السيد رضا الهمداني كتاب الطهارة: ص 563

أشرنا في مواضع عدّة من الكتاب إلى أنّ العذاب معلول ومرهون، وبتعبير أدقّ أنّ الصورة الباطنية للعمل النفساني للإنسان المذنب مؤمناً كان أم غير مؤمن عند تكراره وتحوّله إلى ملكة يلوّث النفس ويكدّرها. وأنّ شدّة العذاب وضعفه لهما علاقة مباشرة وتكوينية مع عمل الجرم. إذاً، فعذاب الإنسان في يوم القيامة وفي عالم البرزخ أيضاً ليس اعتبارياً ومحضراً من قبل؛ بل إنّه صورة تكوينية لعمل الذنب.

على هذا الأساس، بما أنّ موضوع الفرض أي الكافر القاصر لجهة كفره وعدم إيمانه بالدين الحق لم يرتكب العصيان والمعصية عن علم ومعرفة، ولم يلحق بالنفس تلوّث وغبار، وبتبع ذلك لا ينتج من هذه الناحية العذاب بشكل تكويني. لكن هذا الكافر هل لديه حسنات وأعمال خير يستحق عليها الجنّة، وهل لديه ذنوب أخرى كالظلم يستحق عليها جهنم أم لا؟ ستأتي الإجابة عن ذلك في الصفحات القادمة.

الشبهة الخامسة عشر- أعمال الخير للكافر:

من الشبهات القديمة والمطروحة ما هو مصير أعمال الخير وتكليفها التي يقوم بها الكفار في الدنيا؟ مثلاً الكافر مثل (حاتم الطائي) الذي كان يساعد الفقراء، أو الكافر مثل (أديسون) الذي قام باختراعات مفيدة للبشرية.

السؤال هو: هل سيلقى بمثل هؤلاء في النار رغم كلّ أعمال الخير التي قاموا بها في الدنيا؟ فإن كان الجواب نعم، عندها يطرح سؤال آخر: هل سيُفيد هؤلاء من أعمال الخير التي قاموا بها وكيف؟

ص: 424

بحث وتحليل:

هناك نقطة ينبغي التأمّل فيها خلال مناقشة هذه الشبهة:

لكلّ عمل وفعل وجهان وصورتان أحدهما الفعل نفسه وذاته بقطع النظر عن فاعله كمساعدة الفقير وبناء المبنى. والوجه الثاني هو نيّة الفاعل ودافعه.

إنّ شرط اتّصاف فاعل الفعل بالحسن هو حسن وجمال الوجهين المذكورين العمل ونيته. أي أن يكون الفعل حسناً وخيراً كالإحسان إلى الفقير وفتح الطريق. وأن تكون نية الفاعل ودافعه لفعل الخير حسناً وخيراً. فمثلاً نية مساعدة الفقير ليس خداعه أو الرياء؛ بل المساعدة لنظيره من عباد اللّه وأسمى من ذلك هدفه رضا الله في هذه الحالة يتّصف فاعل الفعل ب- «حسن الفاعل».

أمّا في حالة كان الفعل خيراً، لكن الفاعل يفتقر إلى نية الخير في فعله، كمساعدة الآخرين بدوافع نفسانية، عندها يُقال «حسن الفعل» دون «حسن «الفاعل» في هذه الحالة لا يمدح الفاعل على فعل الخير ولا يناله ثواب.

(الأستاذ المطهرى) شبّه نسبة حسن الفعل والفاعل بنسبة البدن إلى الروح(1). فحسن الفعل يكفي لتسجيل الفعل في ملف محسني المجتمع وخيّريه والتاريخ، ذلك لأنّ التاريخ والمجتمع لا يسألون عن النية والدافع لبناء المدرسة أو المستشفى لكن لتسجيل اسم الفاعل في ملف الإنسان وفي الملف الإلهي والأعمال فينبغي إحراز حسن الفاعل وروح الفعل.

ص: 425


1- مرتضى المطهري، مجموعة المؤلفات: ج 1، ص 307

شرطا اتصاف الفعل والفاعل بالحسن يشكلان القاعدة في تحليل أفعال كل فاعل مسلماً كان أو غير مسلم على هذا الأساس، يمكننا تحليل عمل الكافر فنقول : إذا كان فعل الكافر فعل خير ،وحسن وكانت دوافعه خيّرة، مثلاً الشيوعي (الكافر والجاهل باللّه من سنخ القصور) وقام بفعل خير وكانت نيته خدمة الناس، وقام بذلك إتباعاً لفطرته الباطنية، فاخترع جهازاً عام المنفعة، مثل هذا الفعل يتّصف بملاكي حسن الفعل (الحسن الفعلي والفاعلي) وبتبع ذلك يقبله اللّه تعالى، استناداً إلى إطلاق الوعد الإلهي بالجزاء ثواباً وعقاباً على كلّ خير وشر:«فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ» [الززلة 8-7]. و: «إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ» [التوبة 120].

وهو سارٍ على هذا البحث.

يشير (الأستاذ المطهري) إلى الآيات المذكورة ويناقش هل يكفي حسن الفاعلية ونية الخير وحب الآخرين من دون الإيمان بالله والمعاد أم لا؟ ويذكر الفرق بينهما فيقول:

«إنّنا نعتقد جديّاً أنّه إذا كان العمل يهدف إلى الإحسان وخدمة الناس، وقام به الفاعل بدافع إنساني لا يتساوى مع العمل الذي دافعه شخصي. علماً بأن اللّه تعالى لا يدع فاعله دون أجر.

ورد في بعض الأحاديث أنّ المشرك أمثال حاتم الطائي رغم أنّه مشرك، لكنّه بسبب أعمال الخير التي قام بها في الدنيا فلن يعذّب، أو سيخفّف عنه العذاب. هذا ما يستفاد من الروايات الكثيرة الموجودة»(1).

ص: 426


1- مرتضى المطهري، مجموعة المؤلفات: ج 1، ص 307

ويذكر (الأستاذ المطهري) عدة روايات في إثبات فرضيته، ثمّ يشير إلى أمر دقيق جدّاً وشامخ وهو أنّ ضمائر هؤلاء تحمل نوراً إلهياً:

«ينبغي القول إنّ في أعماق ضمائر هكذا أناس نوراً من معرفة اللّه، وعلى فرض أنّهم ينكرون ذلك بألسنتهم، لكنّهم يقرّون بذلك في عمق الضمير وإنكارهم هو إنكار لموهوم تصوّروه مكان اللّه وبإنكارهم لموهوم آخر تصوّروه بدل العودة إلى اللّه والقيامة، ليس إنكاراً للّه والمعاد الحقيقي.

إنّ حبّهم للخير والعدل والإحسان لأنّه خير وعدل وإحسان من دون أي شائبة هو دليل على حبّهم لذات الجميل على الإطلاق، وعليه، فليس بعيداً أن لا يحشر مثل هؤلاء مع الكفار، رغم أنّهم منكرون باللسان. واللّه أعلم»(1).

استناداً إلى القاعدة المذكورة لا يمكننا إصدار حكم قطعي حول مصاديق الكفار من خيّرين أو أفراد مجهولين كالمسلمين، ونقول إنّهم من أهل الجنّة أو من أهل النار، ذلك لأنّ إحراز الركن الثاني والمكمل لاتصاف حسن الفعل وصحته أي النية والدافع القلبي أمر غير ممكن أو صعب.

لكن يمكن الادعاء بصورة جملة شرطية أنّه إذا كان عمل الخير للإنسان المسلم والكافر مقروناً بحسن الفاعل أيضاً، فسيكون له أجر. لكن لا يتسنّى للآخرين معرفة وزن أعمال الخير والشر، وبتبع ذلك الحكم له بالجنّة أو النار. لذلك كما أنّه لا يمكننا أن نحدّد مصير المسلم الفلاني في الجنّة أو النار، كذلك لا يمكننا الإدعاء حتماً أنّ أمثال أديسون وباستور في الجنّة أو النار.

ص: 427


1- نفس المصدر : ص309

كيفية تأثير أعمال الخير على الكفار:

لكن ما هو دور أعمال الخير التي يقوم بها الكافر في تحديد مصيره في القيامة؟ مرّ معنا الجواب التفصيلي على ذلك في فصل القيامة تحت عناوين «وزن الأعمال» و«الإحباط والتكفير» و«الموازنة». لكن هل تنجي أعمال الكافر الخيّرة نجاته الكاملة من جهنم؟ سيأتي جواب ذلك في تحليل الشبهة

اللاحقة.

الشبهة السادسة عشر - العذاب الأبدي للكافر:

ذكرنا فى الصفحات السابقة أنّ الكافر قسمان: جاهل قاصر، ومقصّر. القسم الأوّل أي الجاهل القاصر هو حسب الرأي المشهور هو من أهل النجاة، وقد يكون من أهل الجنّة أيضاً. أمّا الحديث عن الكافر المقصّر الذي لم يؤمن عن عناد ولجاجة مع اللّه أو النبي، فإنّ الآيات والروايات اعتبرت مكان هؤلاء

جهنم، والخلود فيها.

الشبهة التي يطرحها بعضهم هي أنّه لا إشكال في أصل عقاب الكافر بسبب طغيانه وعصيانه اللّه، لكن العذاب الأبدي السرمدي غير مبرر عقلياً، لأنّه لابدّ من وجود تناسب وعدالة بين الجرم والجزاء عليه . فرغم عظم ذنب الكافر، لكنّه يبقى محدوداً ومؤقتاً، في حين أنّ عذابه سرمدي وغير محدود.

في العالم الإسلامي العرفاء هم من طرحوا هذه الشبهة، وفي الغرب يطرحها بعض الفلاسفة المعاصرين مثل: هيوم راسل، روسو، هابز، موریس

ص: 428

مترلينغ، شلایر ماخر(1).

بحث وتحليل :

نكتفي ببيان نقطتين في تحليل هذه الشبهة :

1. تأثير استمرار الكفر في النفس:

يعتقد القائلون باعتبارية العذاب الأخروي أنّ التناسب بين العمل والجرم هو حسب نوع الجرم وشدّته وليس حسب زمانه. فمثلاً جزاء جرم القتل والسرقة والزنا - الذي يحصل في لحظة - هو القصاص أو السجن المؤبد وطويل الأمد، وقد أقرّ الغربيون أنفسهم السجن المؤبد.

وعليه، بما أنّ نوع جرم الكفر عن علم وعناد مع اللّه الخالق هو جرم كبير جداً قد امتزج مع طينة الإنسان الكافر، وجعل منه موجوداً سيئاً جدّاً، لذا، فإنّ منزل هكذا إنسان هي النار الأبدية.

وحسب تعبير (الأستاذ جوادي الأملي) فإنّ الجرم والعذاب الأبدي لا يستند إلى جوارح الإنسان وبدنه وفعله؛ بل إلى عقيدته وأعماله القلبية. فذنب الكفر قد غطّى على عقيدة الكافر وقلبه، ولأنّ عقيدة كفر الكافر ثابتة في نفسه، والمعلول الثابت يعني نيل العذاب الأبدي.

ويضيف (الأستاذ الآملي):

«بما أنّ الذنب قد لوّث النفس المجرّدة الخالدة، ووجود النفس أبدي،

ص: 429


1- راجع جون هيغ فلسفة الدين ترجمة بهرام راد ص 105

لذا، فإنّ عذابه سيكون أبدياً أيضاً»(1).

بالنظرة التكوينية للعذاب يمكن تبيان العذاب الخالد بشكل أفضل وبهذه الصورة:

عند ارتكاب أي ذنب يحصل أثر تكويني مكدّر وظلماني في نفس الإنسان، وبتعبير آخر تحصل «حالة» أي نقطة سوداء وصفة في نفس الإنسان لكنّها مؤقتة وعابرة فإن قام الإنسان بعدها بعمل حسنة، تحصل مواجهة وتجاذب بين الفعلين قد يؤدّى ذلك إلى محو أثر فعل الذنب. لكن إذا ازدادت معاصى الإنسان وتراكمت عندئذٍ يتحوّل الأثر التكوينى والنفسى للذنب من صورة مؤقتة وعابرة إلى صورة مستمرة ودائمة، وهو ما يعبّر عنه بمصطلح «الملكة».

إذا أصبحت «ملكة الكفر» ثابتة وباقية في نفس الإنسان طوال حياته، ولم يختره الكافر طريق التوبة، عندئذٍ تتكدّر نفسه وفطرته التوحيدية وتختفى، وتظهر مكانها صورة نوعية جديدة «حيوانية».

وبما أنّ نفس الإنسان مجرّدة وثابتة، والكفر أصبح «ملكة» واتّحد مع النفس وامتزج معها ولم يعد حالة عرضية؛ بل شكّل صورة حيوانية جديدة

ص: 430


1- رغم أن أعمال الجوارح محدودة ومؤقتة، لكن الأعمال القلبية دائمة وأمر مستمر له أثره الخالد ومثاله الشيطان... نعم إنّ العقيدة والإيمان هو محور العمل وأساسه، فسيرة الإنسان تنبع من عقيدته ومن روحه، وروحه لا تتبع للزمان والتاريخ... فالروح لا تعرف الشباب والشيخوخة والمائة عام والأشهر الروح المجردة لا تموت أبداً؛ بل هي أمر ثابت لا تعرف الشباب والهرم، لذلك ينبغي أن يكون عذابها ثابتاً(عبدالله جوادي الآملي، التفسير الموضوعي للقرآن : ج 5 ، ص 498496).

«مادتها» النفس و «صورتها» الكفر؛ لذا، فإنّ النفس «كمادة» سترافق الملكة «كصورة» وتتّحد معها على الدوام وإلى الأبد، وسيكون الأثر التكويني لها أي العذاب مرافقاً ومتّحداً معها، ونتيجة ذلك العذاب السرمدي الخالد(1).

2. تبرير العذاب الأبدي وتأويله:

اعتبر بعض العرفاء والمعاصرين أنّ عذاب الخلد يتنافى مع مباني الفطرة التوحيدية وسعة الرحمة الإلهية والعقل، وقاموا بتبريره، وعلى رأسهم بعض العرفاء.

ومن خلال تقريرات مختلفة (1.الخروج من جهنم 2. فناء جهنم وأهلها. 3. منح قوّة الصبر ونسيان العذاب. 4. العذاب الممزوج بالنعمة. .5 تحويل العذاب إلى عذب وحلو .6 الخلود النوعي) سعوا إلى تقرير العذاب السرمدي. لكن تحقيق هذه التقريرات وتوضيحها واستعراض أدلة هذه الرؤية ومناقشتها بحاجة إلى مجال ،مستقل، سنتابعه فى مؤلف آخر(2).

على هذا إذا كان هناك من يلتزم بهذا المبنى والرؤية، فلن تبقى أية شبهة.

ملاحظة:

بعد إثبات عذاب الآخرة لجماعة تطرح أسئلة حول علّة خلق

ص: 431


1- للتوضيح أكثر راجع عبدالله جوادي الآملي، تفسير تسنيم: ج8، ص397/ مرتضی المطهري، مجموعة المؤلفات: ج 1 ، ص 230
2- محمد حسن قدردان قراملكي، لماذا جهنم ؟ فصل جهنم الأبدية.

الإنسان المذنب وفلسفة خلق الكافر المخلّد في جهنم، قد بينّا الردود والأجوبة عليها وعلى شبهات العدالة الإلهية في الدفتر السادس أجوبة الشبهات الكلامية العدل الإلهي الذي سينشر قريباً.

ص: 432

مصادر الكتاب

1.الآخوند الخراساني محمد كاظم؛ كفاية الأصول؛ طهران: ط إسلامية.

2.الآشتياني، أحمد؛ لوامع الحقائق في أصول الدين؛ بيروت: دار التعارف، 1399ق.

3. الآشتياني، السيد جلال الدين؛ شرح بر زاد المسافر؛ بوستان کتاب قم، 1381ش.

4. الآشتياني، السيد جلال الدين؛ شرح حال و آرای فلسفی ملا صدرا؛ قم: دفتر تبليغات إسلامي، 1378ش.

5.الآشتياني، ميرزا مهدي؛ تعليقة رشيقة على شرح المنظومة؛ جامعة طهران، 1367ش.

6.آقا ،تهراني ميرزا جواد؛ فلسفه بشري وإسلامي؛ طهران: کتابخانه بزرگ إسلامي.

7. الآملي، السيد حيدر ؛ جامع الأسرار ومنبع الأنوار ؛ طهران، ط علمي و فرهنگی 1386ش.

8. الأملى محمد تقى؛ درر الفوائد؛ قم: مؤسسة مطبوعاتي إسماعيليان، 1338.

9. ابن داود؛ سه ارجوزه طهران سازمان چاپ و انتشارات وزارت فرهنگ و ارشاد إسلامي، 1367ش.

10. ابن نوبخت؛ الياقوت في علم الكلام قم مكتبة آية الله المرعشي النجفي، 1413ق.

ص: 433

11. ابن الهروي؛ أنوارية (ترجمة) وشرح حكمة الإشراق)؛ طهران: نشر أمير كبير.

12. ابن القيم محمد بن أبي بكر ؛ حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح؛ بيروت: دار الكتب العلمية.

13. ابن العربي، محي الدين؛ الفتوحات المكية؛ مصر: طبع بولاق. 14. ابن العربي، محي الدين؛ فصوص الحكم؛ مع تعليقات أبو العلاء العفيفي؛ انتشارات الزهراء، 1370ش.

15. الأحسائي، أحمد؛ شرح الزيارة الجامعة مكتبة العذراء 1424ق.

16. الأحسائي، أحمد؛ مجموعة الرسائل الحكمية.

17. إدواردز؛ براهين إثبات وجود خدا در فلسفه غرب؛ عليرضا جمالي ومحمد رضايي؛ دفتر تبليغات إسلامي قم، 1371ش.

18. إرشادي نيا محمد رضا نقد وبررسي نظرية تفكيك؛ قم: بوستان كتاب 1382ش.

19. أسرار خلقت باهتمام سرهنگ احمد :اخگر :طهران من منشورات جريدة كانون شعرا.

20. الأشعري أبو الحسن؛ اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع؛ تصحيح ومقدمة وتعليقات حمودة غرابة؛ مصر: شركة مساهمة 1955م.

21.الأصفهاني، ميرزا مهدي؛ أبواب الهدى؛ نشر السيد محمد باقر اليزدي، مشهد 1364ش.

22. الأعرجي، شرف الدین؛ تحليلي از پیشگویی های نوستر دامس.

23. الأفندي بالي؛ شرح فصوص الحكم؛ المطبعة النفيسة العثمانية، 1309ق.

24. الأنصاري، مسعود روشنگر)؛ الله أكبر؛ بنگاه انتشاراتي پارس أمريكا 1375ش.

25. الأنصاري مسعود روشنگر)؛ بازشناسی قرآن؛ سانفرانسیسکو، پاریس، 25. 1373ش.

26. اوبلاکر اريك ؛ فيزيك نوين ترجمة بهروز ،بيضايي قدياني؛ طهران، 1371ش.

ص: 434

27. الايجي، عضد الدين؛ شرح المواقف ؛ قم انتشارات الرضي، 1370ش.

28. باربور ،ایان علم و دین؛ ترجمة بهاء الدين خرمشاهي؛ طهران: مركز نشر دانشگاهی.

29. بازرگان ،مهدي راه بي انتها مع مجموعة آثاره، ج3، شرکت سهامي انتشار، طهران: 1386ش.

30. بازرگان ،مهدي؛ راه تکامل مع مجموعة آثاره، ج 3، شرکت سهامی انتشار، طهران، 1386ش.

31. بازرگان مهدي راه طی شده طهران شرکت سهامی انتشار.

32. ،بازرگان مهدي مجموعة الآثار ؛ طهران شركت سهامي خاص، 1379ش.

33. برگزيدة أفكار راسل؛ ترجمة عبد الرحیم گواهي؛ نقد وبررسي محمد تقي جعفري؛ طهران دفتر نشر فرهنگ اسلامی

34. برگسن هانری ماده و یا رهيافتي به رابطه جسم وروح؛ ترجمة علي قلي بیانی؛ طهران دفتر نشر فرهنگ اسلامی، 1375ش.

35. بو علي سينا؛ الإلهيات شفا؛ طهران: نشر ناصر خسرو، 1363ش.

36. بو علي سينا ؛ التعليقات قم: دفتر تبليغات إسلامي.

37. بو علي سينا؛ ترجمة رسالة أضحوية طهران: انتشارات اطلاعات.

38. بو علي سينا؛ رسائل ابن سينا؛ جامعة همدان، 1383ش.

39. بو علي سينا طبيعيات شفا ؛ قم : مكتبة المرعشي النجفي، 1406ق.

40. البهائي الأربعين قم دفتر انتشارات إسلامي، 1415ق.

41. البهائي الآهيجي؛ رسالة نورية در عالم مثال؛ تقديم وتصحيح السيد جلال الدين الآشتياني طهران سازمان تبليغات إسلامي، 1372ش.

42. بي ناس جان؛ تاریخ جامع أديان؛ طهران: انتشارات علمي وفرهنگي، 1378ش.

43. بي آزاد شيرازي عبد الكریم گذشته و آینده جهان؛ طهران: مؤسسة زكات ،علم 1376 ش.

ص: 435

44. البيهقى؛ إثبات عذاب القبر الأردن: دار الفرقان 1413ق.

45. پاسدار إسلام (مجلة)؛ دفتر تبليغات إسلامي، قم؛ رقم 48 .

46. پاک نژاد رضا اولین دانشگاه و آخرین پیامبر طهران إسلامية 1346ش.

47. تالبوت ،مایکل جهان هولوگرافيك؛ ترجمه داریوش مهرجویی؛ طهران هرمس، 1385ش.

48. التستري، سيد نور الله ؛ إحقاق الحق وإزهاق الباطل؛ تعليقات السيد شهاب الدين المرعشي النجفي؛ قم مكتبة آية الله المرعشي، 1411ق.

49. تسع رسائل في الحكمة والطبيعيات القاهرة: دار العرب.

50. التفتازاني سعد الدين؛ شرح المقاصد ؛ قم : انتشارات الرضي: 1370 ش.

51. تفسير القرآن الكريم المستخرج من تراث الشيخ المفيد؛ جمع وإعداد محمد الايازي، قم: دفتر تبليغات إسلامي، 1382ش.

52. ،تیلارد ري وآخرون كيهان و راه کهکشان ترجمة محمد أمين المحمدي؛ طهران مؤسسة كتاب همراه 1378ش.

53. الجامي عبد الرحمان؛ نقد النصوص؛ تصحیح ویلیام چيتيك؛ طهران: مؤسسة مطالعات وتحقيقات فرهنگی 1370 ش.

54. الجعفري، محمد تقي، ترجمة وشرح نهج البلاغة؛ طهران: دفتر نشر فرهنگ إسلامي، 1357ش.

55. الجندي مؤيد الدين؛ شرح فصوص الحكم؛ جامعة مشهد، 1361ش.

56. الجوادي ،الآملي عبد الله ؛ تبيين براهين إثبات خدا، قم: نشر اسراء 1374ش.

57. الجوادي الأملى عبد الله؛ تفسير تسنيم؛ قم: إسراء. 58. الجوادي الأملى عبد الله ؛ تفسیر موضوعی قرآن طهران: مرکز نشر فرهنگی ؛ رجاء، 1363ش.

59. الجوادي الأملي عبد الله ؛ ده مقاله پیرامون مبدأ و معاد؛ ط الثالثة، طهران، انتشارات الزهراء، 1372ش.

60. جينز جولين منشأ آگاهي در فروپاشي ذهن دو ساحتي؛ ترجمة سعيد

ص: 436

همايوني؛ طهران: نشر ني، 1387ش.

61. چرچلند پاول؛ ماده و آگاهي در آمدي بر فلسفة ذهن امروز؛ طهران: نشر مركز، 1386ش.

62. الحائري المازندراني؛ حكمت بو علي سينا طهران انتشارات حسين علمي ونشر محمد 1362ش.

63. الحر العاملي؛ وسائل الشيعة؛ قم: مؤسسة آل البيت، 1371ش.

64. حسن زاده الآملي، حسن؛ انسان در عرف و عرفان؛ طهران: انتشارات سروش، 1379ش.

65. حسن زاده الآملي، حسن؛ تعلیقات بر آغاز و انجام خواجة طوسي؛ طهران: وزارة الإرشاد، 1374ش.

66. حسن زاده الآملي، حسن؛ دروس اتحاد عاقل ومعقول؛ طهران: انتشارات حکمت، 1404ق.

67. حسن زاده الآملي، حسن؛ نصوص الحكم طهران مرکز نشر فرهنگي رجاء، 1375ش.

68. حسن زاده الآملي حسن؛ هزار و يك نكتة طهران: مرکز نشر فرهنگي رجاء 1365ش.

69. حسن زاده الآملي، حسن؛ یازده رسالة فارسي؛ مؤسسة مطالعات وتحقيقات ،فرهنگی 1363ش.

70 . حسين بن عبد الله بن سينا؛ رسالة أضحوية في أمر المعاد؛ مصر: دار الفكر العربي، 1368ق.

71. الحسيني الطباطبائي، السيد محمد حسين؛ مهرتابان؛ انتشارات باقر العلوم.

72. الحسيني الطهراني، السيد محمد حسین؛ معاد شناسي؛ طهران: انتشارات حکمت 1361ش.

73. الحسيني الطهراني هاشم؛ توضیح المراد تعليقة بر شرح التجريد طهران: نشر مفيد 1365ش.

ص: 437

74. الحقي إسماعيل؛ تفسير روح البيان؛ بيروت إحياء التراث العربي، 1405ق.

75. الحكيمي، محمد رضا اجتهاد و تقلید در فلسفة قم: انتشارات دليل ما، 1383ش.

76. الحكيمي، محمد رضا؛ معاد جسماني در حکمت متعالية؛ قم: نشر دليل ما، 1381ش.

77. الحكيمي، محمد رضا؛ مكتب تفكيك؛ طهران دفتر نشر فرهنگ اسلامي، 1375ش.

78. الحلبي الشيخ محمود؛ تقريرات درس ميرزاي شيرازي؛ مخطوطة المكتبة الرضوية، رقم 12455 و 12489 .

79. الحلي (المحقق)؛ المسلك في أصول الدين؛ مشهد مجمع البحوث الإسلامية، 1382ش.

80. الحلي، الحسن بن يوسف؛ أنوار الملكوت؛ قم انتشارات الرضي، 1363ش.

81. الحلي الحسن بن يوسف؛ كشف المراد ؛ قم دفتر انتشارات إسلامي ومصطفوي.

82. الحلي، الحسن بن يوسف؛ نهج الحق وكشف الصدق؛ قم: دار الهجرة، 1407ق.

83. الحمصي الرازي؛ المنقذ من التقليد؛ قم دفتر انتشارات إسلامي، 1412ق.

84. حوزة (مجلة)؛ نشرية دفتر تبليغات إسلامي قم؛ رقم 68 و 69 .

85. خدا در فلسفة؛ انتخاب وترجمة بهاء الدين خرمشاهي؛ طهران: پژوهشگاه علوم إنساني ومطالعات فرهنگي 1384ش.

86. الخوارزمي تاج الدين؛ شرح فصوص الحكم؛ تصحيح نجيب مايل الهروي؛ طهران انتشارات ،مولى 1364ش.

87. الخوئي، السيد أبو القاسم التنقيح كتاب الطهارة؛ قم: دار الهادي.

88. دني، لئون؛ عالم پس از مرگ؛ ترجمة محمد بصيري؛ طهران: مؤسسة مطبوعاتي عطايي.

89. الدواني جلال الدين؛ شرح العقائد العضدية؛ حاشية الخلخالي والمرجاني؛ نشر العثمانية 1316 ش.

ص: 438

90. دورة آثار أفلاطون؛ ترجمة محمد حسن لطفى ورضا كاوياني؛ طهران: انتشارات الخوارزمی، 1366ش.

91. راسل برتراند؛ چرا مسیحی نيستم ترجمة س. ألف طاهري؛ طهران: انشارات دریا، 1354ش.

92 رسائل أخوان الصفا قم: دفتر تبلیغات إسلامي، 1405ق.

93. رفيعي القزويني، السيد أبو الحسن جهان پس از مرگ؛ قزوین: نشر حدیث امروز، 1379ش.

94. رفيعي القزويني، السيد أبو الحسن؛ غوصي در بحر معرفت؛ طهران: نشر إسلام 1376ش.

50. رفيعي القزويني، السيد أبو الحسن؛ مجموعة رسائل ومقالات فلسفي؛ طهران نشر الزهراء، 1367ش.

96. روانكاوي فرويد؛ مجلة نقد ونظر ؛ رقم 35 و 36 ، خريف وشتاء 1383ش.

97. ريدرز دايجست بوك جهان عجايب؛ ترجمة أرغوان وشهكام جولايي؛ طهران انتشارات جويا 1374ش.

98. السبحاني، جعفر الإلهيات المركز العالمى للدراسات الإسلامية، 1413ق.

99. السبحاني، جعفر ؛ الإيمان والكفر ؛ قم: مؤسسة الإمام الصادق (عليه السلام) 1385ش.

100. السبحاني، جعفر؛ في ظلال التوحيد ؛ طهران: دار مشعر، 1379ش.

101. السبزواري هادي؛ شرح الأسماء الحسنى؛ تحقيق نجفقلي حبيبي؛ جامعة طهران، 1372ش.

102. السبزواري هادي مجموعة رسائل؛ تعليق مقدمة وتصحيح السيد جلال الدين الآشتياني؛ طهران أنجمن إسلامي حكمت وفلسفة إيران، 1360ش.

103. سروش عبد الكريم صراطهاي مستقيم؛ كيان؛ رقم 36.

104. سلسلة مؤلفات الشيخ المفيد ؛ مؤتمر الشيخ المفيد ؛ قم 1414ق.

105. سياسي، علي أكبر ؛ علم النفس يا روانشناسي از لحاظ تربیت؛ جامعة طهران 1331ش.

ص: 439

106. السيد عليخان رياض السالكين؛ قم دفتر انتشارات إسلامي، 1415ق.

107. السيد المرتضى؛ رسائل الشريف المرتضى؛ قم دار القرآن الكريم، 1405ق.

108. سيرل جان؛ ذهن، مغز وعلم؛ ترجمة أمير دواني؛ قم: مركز مطالعات وتحقيقات إسلامي، 1382ش.

109. السيوطي ، جلال الدين؛ تفسير الدر المنثور مصر: الأنوار المحمدية.

110. الشاهرودي، علي العابدي؛ فضا و زمان در فيزيك ؛ قم: إشراق، 1380ش.

111. الشريعتي السبزواري، محمد باقر ؛ معاد در نگاه عقل ودين؛ قم: بوستان کتاب، 1380ش.

112. الشعراني أبو الحسن؛ ترجمة وشرح كشف المراد طهران: كتابفروشي إسلامية 1398ق.

113. شلتوت محمود؛ تفسير القرآن الكريم؛ طهران: المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية، 1379ش.

114. شلتوت، محمود؛ الإسلام عقيدة وشريعة القاهرة: دار القلم.

115. الشوشتري جعفر ؛ فوائد المشاهد شيراز كتابفروشي علمية إسلامية.

116. الشهرزوري، شمس الدین محمد؛ رسائل الشجرة الإلهية في علوم الحقايق الربانية؛ طهران: مؤسسه پژوهشی حکمت و فلسفة إيران، 1383ش.

117. الشيرازي ،شهریار؛ پیامبران خرد در پیکار با تاریکی ها به کوشش هوشنگ معین زادة.

118. الشيرازي قطب الدين؛ شرح حكمة الإشراق؛ طهران: انجمن آثار ومفاخر ،فرهنگی، 1383ش.

119. صدر المتألهين محمد بن إبراهيم؛ أسرار الآيات قم: نشر حبيب، 1378ش.

120. صدر المتألهين محمد بن إبراهيم؛ الأسفار الأربعة؛ قم: مكتبة المصطفوي، 1368ش.

121. صدر المتألهين محمد بن إبراهيم الشواهد الربوبية؛ مع تعليقات السبزواري؛ طهران مرکز نشر دانشگاهی.

ص: 440

122. صدر المتألهين، محمد بن إبراهيم العرشية؛ تصحيح وترجمة غلامحسن آهني؛ طهران: انتشارات ،مولى 1361 ش.

123. صدر المتألهين محمد بن إبراهيم المبدأ والمعاد طهران: أنجمن فلسفة إيران 1354 ش .

124. صدر المتألهين محمد بن إبراهيم؛ المظاهر الإلهية في أسر العلوم الكمالية؛ طهران: بنياد حكمت إسلامي صدرا، 1378ش.

125. صدر المتألهين، محمد بن إبراهيم؛ تفسير القرآن الكريم؛ قم: انتشارات بيدار، 1403ق.

126. صدر المتألهين، محمد بن إبراهيم؛ زاد المسافر؛ مع شرح السيد جلال الدين الآشتياني طهران أنجمن حكمت وفلسفة، 1359ش.

127. صدر المتألهين محمد بن إبراهيم؛ مفاتيح الغيب؛ بيروت: مؤسسة التاريخ العربي، 1999م.

128. الصدوق ؛ الاعتقادات في دين الإمامية؛ قم: مؤسسة بعثت، 1417ق.

129. الصدوق معاني الأخبار قم انتشارات إسلامي، 1361ش.

130. الصدوق، محمد بن علي؛ التوحيد قم دفتر انتشارات إسلامي، 1398ق.

131. صديق حسن خان؛ تفسير فتح البيان؛ باهتمام عبد المحي علي محفوظ، القاهرة.

132. الطالقاني، السيد محمود پرتوي از قرآن طهران: شرکت سهامی انتشار

133. الطباطبائي، السيد محمد حسين؛ إنسان أز آغاز تا انجام؛ ترجمة وتعليقات صادق لاريجاني؛ طهران الزهراء، 1381ش.

134. الطباطبائي، السيد محمد حسين؛ حیات پس از مرگ قم انتشارات اسلامي 1362ش.

135. الطهراني، ميرزا جواد؛ ميزان المطالب ؛ قم: مؤسسة در راه حق، 1374ش.

136. الطوسي؛ الاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد؛ طهران: منشورات چهل ستون، 1400ق.

137. الطوسي؛ الأمالي؛ قم: دار الثقافة، 1414ق.

ص: 441

138. الطوسي؛ التهذيب؛ طهران: دار الكتب الإسلامية، 1364ش.

139. الطوسي؛ الرسائل العشر قم انتشارات إسلامي، 1363ش.

140. الطوسي، الخواجة نصير الدين؛ آغاز وأنجام جهان؛ مع تعليقات حسن حسن زادة الأملي طهران سازمان چاپ و انتشارات وزارت إرشاد، 1366ش.

141. الطوسى الخواجة نصير الدين؛ تلخيص المحصل بيروت: دار الأضواء، 1985م.

142. الطوسى الخواجة نصير الدين؛ شرح الإشارات مع حواشي الفخر الرازي قم مكتبة آية الله المرعشي النجفي، 1403ق.

143. الطوسي، الخواجة نصير الدين؛ نقد المحصل؛ بيروت: دار الأضواء، 1405ق.

144. عبد الرحيم؛ نهج البصيرة يا نامه هاي حائري باهتمام أبو تراب إهدائي؛ آراك .

145.عبده محمد رسالة التوحيد القاهرة الهيئة المصرية،2005م.

146. عبده، محمد و محمد رشيد رضا؛ تفسير المنار؛ مكتبة القاهرة، 1379ق.

147. عبيد الرؤوف؛ إنسان روح است نه جسد؛ ترجمة زين العابدين الكاظمي :الخلخالی طهران دنیای کتاب 1375ش.

148. العرفي ،الطالقاني ملا نعيما منهج الرشاد في معرفة المعاد؛ مشهد: الآستانة الرضوية، 1419ق.

149. علم الهدى السيد المرتضى؛ الذخيرة في علم الكلام؛ قم: دفتر انتشارات إسلامي، 1411ق.

150. علي بن أحمد ابن حزم الأندلسي)؛ الفضل بين أهل الأهواء والنحل؛ بيروت: دار المعرفة، 1359ق.

151. الغروي الأصفهاني، محمد حسين؛ بحوث في علم الأصول؛ قم: دفتر انتشارات إسلامي، 1409ق.

152. الغروي الأصفهاني، محمد حسين؛ نهاية الدراية؛ قم: مطبعة الطباطبائي.

153. الغزالي، محمد الأربعين في أصول الدين بيروت: دار الآفاق، 1978م.

ص: 442

154. الغزالي، محمد ؛ الاقتصاد في الاعتقادات بيروت: دار الأمانة، 1388ق.

155. الغزالي محمد المضنون به على غير أهله مصر المطبعة الميمنية، 1309ق.

156. الغزالي، محمد ؛ تهافت الفلاسفة؛ بيروت.

157. الفخر الرازي، محمد بن عمر ؛ التفسير الكبير؛ طهران: دار الكتب العلمية.

158. الفخر الرازي، محمد بن عمر؛ المطالب العالية ؛ قم انتشارات الرضي، 1407ق.

159. فصلنامة كتاب نقد ؛ بهار 1382ش، رقم 26 و 27.

160. فضل بن الحسن (الشيخ الطبرسي): تفسير مجمع البيان؛ طهران: المكتبة العلمية الإسلامية.

161. الفيض الكاشاني، محسن ؛ أصول المعارف؛ مقدمة السيد جلال الدين الآشتياني؛ :قم مرکز انتشارات دفتر تبلیغات إسلامي، 1409ق.

162. الفيض الكاشاني، محسن؛ علم اليقين في أصول الدين؛ قم: انتشارات بیدار 1377ش.

163. القاضي عبد الجبار ؛ شرح الأصول الخمسة؛ وهبة، مصر،1384ق.

164. قدردان قراملكي، محمد حسن؛ آیین خاتم طهران: سازمان انتشارات پژوهشگاه فرهنگ و انديشة إسلامي، 1386ش.

165. قدردان قراملكي محمد حسن؛ إبليس؛ مقالة دانشنامه كلام إسلامي، قم: مؤسسة الإمام الصادق، 1388ش.

166. قدردان قراملكي، محمد حسن؛ أصل علیت در فلسفة وكلام؛ قم: بوستان ،کتاب، 1375ش.

167. قدردان قراملكي، محمد حسن؛ جهنم چرا؟ بوستان کتاب قم، 1377ش.

168. قدردان قراملكي، محمد حسن؛ سکولاریزم در مسيحيت وإسلام قم بود بوستان کتاب، 1378ش.

169. قدردان قراملكي، محمد حسن كلام فلسفي؛ قم: نشر وثوق، 1383ش.

170. القريشي، السيد علي أكبر ؛ قاموس قرآن طهران: دار الكتب الإسلامية، 1354ش.

ص: 443

171. القزويني الخراساني، مجتبی؛ بیان الفرقان؛ نشر عبد الله واعظ اليزدي، مشهد 1338ش.

172. القزويني الرفيعي أبو الحسن؛ رسالة رجعت ومعراج قم: نشر طه، 1368ش.

173. القزويني الشيخ مجتبى؛ بيان الفرقان؛ مشهد نشر عبد الله واعظ زاده اليزدي، 1370ق.

174. القيصري، داود؛ شرح فصوص الحكم؛ طهران: انتشارات أنوار الهدى، 1416ق.

175. كارل ، ألكسيس؛ إنسان موجود ناشناخته؛ ترجمة عناية الله شکیباپور، طهران: دنياي كتاب 1384ش

176. الكاشاني، عبد الرزاق؛ شرح فصوص الحكم مصر: الحلبي، 1378ق.

177. كاشف الغطاء، جعفر ؛ الفردوس الأعلى؛ مع تعليقات محمد علي القاضي الطباطبائي؛ تبریز، 1372ق.

178. الكليني، محمد بن يعقوب؛ أصول الكافي؛ ترجمة وشرح السيد جواد المصطفوي؛ طهران أهل البيت.

179. الكليني، محمد بن يعقوب الكافي؛ طهران: دار الكتب الإسلامية، 1365ش.

180. كيان (مجلة)؛ رقم 26 و 36 .

181. اللاهيجي، عبد الرزاق؛ گوهر مراد؛ مقدمة وتصحيح زين العابدين قرباني اللاهيجي؛ طهران سازمان چاپ و انتشارات وزارت فرهنگ وارشاد إسلامي، 1372ش.

182. المازندراني، ملا صلاح؛ شرح أصول الكافي مع هوامش أبو الحسن الشعراني؛ طهران: المكتبة الإسلامية.

183. مترلینگ موریس؛ دروازه بزرگ ترجمة ذبیح الله منصوري و فرامرز برزگر طهران کانون معرفت 1337ش.

184.مترلینگ موریس؛ رستاخیز؛ ترجمة فرامرز برزگر؛ طهران معرفت 1370ش.

ص: 444

185.المجلسى محمد باقر، بحار الأنوار بيروت مؤسسة الوفاء 1403ق.

186. المجلسي، محمد باقر ؛ مرآة العقول؛ طهران: دار الكتب الإسلامية، 1370ش.

187. مجموعة مصنفات شيخ الإشراق؛ مقدمة وتصحيح هانري كربن؛ طهران: أنجمن شاهنشاهي إيران، 1355ش.

188. مروارید تنبيهات حول المبدأ والمعاد مشهد بنياد پژوهشهاي إسلامي 1418ق.

189. المصباح اليزدي، محمد تقی؛ آموزش فلسفة طهران سازمان تبلیغات إسلامي، 1378ش.

190. المطهري، مرتضى؛ عدل الهي قم : انتشارات إسلامي.

191. المطهري، مرتضی معاد طهران انتشارات صدرا، 1374ش.

192. المظفر، محمد حسن؛ دلائل الصدق ؛ قم كتابفروشي بصيرتي، 1395ق.

193. (معنا ومبناي سكولاریزم) کيان رقم 26.

194. المفيد، محمد بن محمد بن النعمان الاعتقادات بيروت: دار المفيد 1414ق.

195. المفيد، محمد بن محمد بن النعمان أوائل المقالات؛ تصحيح واهتمام واعظ چرندابي تبريز مكتبة سروش، 1364ق.

196. مقداد الفاضل ؛ اللوامع الإلهية؛ مع تعليقات الشهيد القاضي الطباطبائي؛ تبريز: نشر شفق، 1396ق.

197. المقدس الأردبيلي؛ الحاشية على الإلهيات الشرح الجديد قم منشورات کنگره بزرگداشت محقق اردبیلی، 1375ش.

198. المكارم الشيرازي ناصر؛ پیام قرآن قم مدرسة الإمام علي بن أبي طالب 1374ش.

199. المكارم الشيرازي ناصر؛ تفسیر پیام قرآن؛ قم: انتشارات مدرسة أمير المؤمنين، 1370ش.

200. المكارم الشيرازي ناصر؛ تفسير نمونه؛ قم: دار الكتب الإسلامية.

201. المكارم الشيرازي ناصر ؛ عود أرواح وارتباط با أرواح؛ قم: نسل جوان، 1349ش.

ص: 445

202. المكارم الشيرازي ناصر؛ معاد وجهان پس از مرگ؛ قم: انتشارات سرور، 1384ش.

203. الملكي، محمد باقر ؛ توحيد الإمامية ؛ طهران وزارت إرشاد، 1415ق.

204. الموسوي الخميني، السيد روح الله تعليقات على شرح الفصوص؛ قم: مؤسسة پاسدار إسلام، 1410ق.

205. الموسوي الخميني، السيد روح الله ؛ تقريرات فلسفة؛ السيد عبد الغني الأردبيلي؛طهران: مؤسسة تنظيم و نشر آثار إمام، 1385ش.

206. الموسوي الخميني، السيد روح الله؛ چهل حدیث؛ طهران: مؤسسة تنظيم ونشر آثار حضرت إمام (قدس سره)، 1373ش.

207. الموسوي الخميني، السيد روح الله شرح حدیث جنود عقل وجهل؛ طهران: مؤسسة تنظيم ونشر آثار امام خميني، 1378ش.

208. الموسوي الخميني، السيد روح الله ؛ صحيفة نور؛ طهران وزارت فرهنگ وإرشاد إسلامي، 1364ش.

209. الموسوي الخميني، السيد روح الله ؛ كتاب الطهارة قم : مطبعة مهر، 1410ق.

210. الموسوي الخميني، السيد روح الله ؛ معاد از دیدگاه امام خميني؛ طهران: تنظيم ونشر مؤسسة آثار إمام خميني، 1378ش.

211. الموسوي الخوئي، السيد أبو القاسم محاضرات النجف الأشرف: انتشارات الإمام موسى الصدر، 1419ق.

212. الموسوي، السيد محمود؛ آيين وأنديشة؛ طهران حکمت، 1382ش.

213. میرداماد؛ القبسات؛ باهتمام مهدي محقق؛ جامعة طهران، 1374ش.

214. النجفي النهاوندي، علي؛ تشريح الأصول؛ طبعة حجرية 1316ق.

215. النوري الطبرسي، الميرزا حسين؛ نفس الرحمان في فضایل سلمان؛ طهران مؤسسة الآفاق، 1369ش.

216. النوري الهمداني؛ مجلة پاسدار إسلام؛ رقم 84.

217. النوري، حسين؛ مستدرك الوسائل؛ مؤسسة آل البيت، قم: 1408

ص: 446

218. واتسن، آیزنگ؛ روح ودانش جديد؛ ترجمة محمد رضا الغفاري؛ طهران: دفتر نشر فرهنگ اسلامی، 1376ش.

219. وجدي فريد؛ دائرة معارف القرن العشرين بيروت: دار الفکر، 1392ق.

220. الوكيلي، محمد حسن؛ صراط مستقيم نقد مباني مكتب تفكيك بر أساس تقرير سیدان؛ نشر مؤلف 1429ق.

221. الهمداني آقا رضا؛ كتاب الطهارة؛ طبعة حجرية.

222. إلهي قمشه اي محمد رضا ذيل فص شيثي؛ باهتمام منوچهر صدوقي سها؛ ،قزوین، 1354ش.

223. هيك، جان؛ فلسفة دين؛ ترجمة بهرام راد؛ طهران: انتشارات بين المللي الهدى 1372ش.

224. هيوم، ديويد؛ شکاکیت در مورد جادوانگي روح؛ السيد محسن رضا زادة؛ أطروحة دكتوراه في مركز تربية مدرس الحوزة العلمية، قم، 1373ش.

225. یورگن آيزنك هانس؛ درست و نادرست در روان شناسي؛ ترجمة إيرج آيين :طهران شرکت سهامی 1337ش.

***

ص: 447

ص: 448

المُحتَويات

مقدمة ... 5

مزايا هذا الكتاب ...6

تمهید ...9

▪ الأول - الروح وإثبات تجرّدها ...9

▪ الثاني - إمكانية المعاد ...28

▪ الثالث - ضرورة المعاد ...34

▪ الرابع - الأدلة العقلية ...41

الفصل الأول

شبهات منكري المعاد

▪ الشبهة الأولى - استبعاد المعاد ...45

▪ الشبهة الثانية - فقدان الدليل على المعاد...46

ص: 449

▪ الشبهة الثالثة - تعارض القيامة مع علم معرفة الكون ...47

▪ الشبهة الرابعة - استحالة إعادة المعدوم ...51

▪ الشبهة الخامسة - تبرير المعاد بالتناسخ ...52

▪ الشبهة السادسة - وقوع التناسخ في عصرالأنبياء (المسخ) ...59

▪ الشبهة السابعة - عودة الأئمة إلى الدنيا (الرجعة/1) ...61

▪ الشبهة الثامنة - حياة بعض الأموات في عصر الأنبياء (الرجعة /2) ... 65

▪ الشبهة التاسعة - المعاد الجسماني يوهم بالتناسخ ...68

الشبهة العاشرة - حشر الإنسان في القيامة على صورة حيوانات ... 72

▪ الشبهة الحادية عشر - تغيّر وتبدّل أبدان الجهنميين ...74

الفصل الثاني

الموت وعالم البرزخ

المقدمة ...79

كيفية الموت وأقسامه...79

▪ الشبهة الأولى - كيفية الاحتضار وانسلاخ الروح ...85

▪ الشبهة الثانية - كيفية قبض الأرواح المتعددة على يد عزرائيل...88

▪ الشبهة الثالثة - كيفية حضور النبي والأئمة عند مئات المحتضرين... 90

▪ الشبهة الرابعة فلسفة تشييع الجنازة وتلقين الميت وزيارة أهل القبور ... 91

▪ الشبهة الخامسة - سؤال القبر (منكر ونكير ...93

ص: 450

▪ الشبهة السادسة - القبر وعذابه ...100

▪ الشبهة السابعة - التكامل البرزخي...110

▪ الشبهة الثامنة - إمكانية العودة من البرزخ (الرجعة)...119

▪ الشبهة التاسعة - اطلاع البرزخيين على أهل الدنيا وكيفيته...121

▪ الشبهة العاشرة - إحضار الأرواح ...124

الفصل الثالث

المعاد الجسماني أو الروحاني

الرؤية الأولى - المعاد الجسماني الصرف...133

الرؤية الثانية - المعاد الروحاني (العقلي)...139

الرؤية الثالثة - المعاد المثالي...145

الرؤية الرابعة - المعاد الجسماني والروحاني...149

▪ الشبهة الأولى - التفاوت الإجمالي بين البدن المحشور والبدن الدنيوي ... 151

▪ الشبهة الثانية - التفاوت بين الوجودين المادي الدنيوي والأخروي ... 152

▪ الشبهة الثالثة - شبهة الآكل والمأكول...153

▪ الشبهة الرابعة - لزوم التناسخ... 153

▪ - الشبهة الخامسة - علّة تعلّق النفس الدنيوية بالبدن الجسماني ... 173

▪ الشبهة السادسة - مكان الجنة والنار... 173

▪ الشبهة السابعة - محدودية مواد الأرض، وتزايد البشر والحيوانات ... 174

ص: 451

▪ الشبهة الثامنة - عدم تبرير العذاب الأخروي...175

الرؤية الخامسة - المعاد الإخترامي (الحكمة المتعالية)...176

التفاوت بين الجسم والنظام الدنيوي والأخروي... 182

رد صدر المتألهين على شبهة عدم مطابقة نظريته مع القرآن...185

التفاوت بين الجسم والمادّة...195

تحليل وتقييم نظرية الحكمة المتعالية...196

تحليل نظرية المعاد المثالي و الجسماني...201

الاستنتاج...207

الفضيل الرابع

الشبهات المتعلقة بالقيامة والحشر

▪ الشبهة الأولى - نفخ الصور...211

▪ الشبهة الثانية - الحشر وتعميمه على باقي الموجودات...220

▪ الشبهة الثالثة - فلسفة حشر العاصين على صور مختلفة...235

▪ الشبهة الرابعة - وزن الأعمال...238

▪ الشبهة الخامسة - الإحباط والتكفير...244

▪ الشبهة السادسة - الموازنة...259

▪ الشبهة السابعة - صحيفة الأعمال...264

▪ الشبهة الثامنة - تسليم صحيفة الأعمال في اليد اليمنى أو اليسرى ... 271

ص: 452

▪ الشبهة التاسعة - كيفية تكلم أعضاء البدن وشهادتها...280

الأدلة والشواهد على وجود الوعي عند أعضاء البدن...288

▪ الشبهة العاشرة - الصراط جسر أدق من الشعرة وأحدٌ من السيف ... 291

▪ الشبهة الحادية عشر - الشفاعة عمل فيه تمييز...303

▪ الشبهة الثانية عشر - الشفاعة توجب التجرؤ والعصيان...314

▪ الشبهة الثالثة عشر- الشفاعة توجب ترك الجزاء العادل...317

الفصل الخامس

الجنة والنار

▪ الشبهة الأولى - مكان الجنّة والنار...323

▪ الشبهة الثانية - فلسفة الخلق المسبق للجنّة والنار...327

▪ الشبهة الثالثة - فلسفة الأبواب المتعددة للجنّة والنار...328

▪ الشبهة الرابعة - فلسفة جهنم والعذاب الأخروي...337

▪ التوجّه الأوّل - تبرير العذاب الأخروي على أساس اعتبارية الجزاء... 338

1. العذاب مقتضى العدل الإلهی...338

2. عدم مساءلة اللّه...342

3. العقاب هو غاية التكليف...343

4. العقاب يضمن إجراء التكليف...345

5. الجزاء مقتضى الوعيد الإلهى...349

ص: 453

6. العقاب لطف إلهى...353

7. الجزاء مقتضى المعصية...356

8. العقاب مقتضى العبودية والمولوية...358

9. العقاب ظهور لأسماء اللّه...364

10. العقاب مظهر للتصفية ولتطهير النفس ...367

11. العقاب تشف لخاطر المظلوم...370

▪ التوجّه الثاني - تكوينية العذاب الأخروي...371

مؤيدو الجزاء التكويني

▪ الشبهة الخامسة - كيفية العذاب الأخروي تجسّم الأعمال)...375

التقرير الأوّل - درج أثر الفعل في النفس وتسجيله...376

التقرير الثانى - عذاب الصور الباطنية والملكوتية للعمل...385

▪ الشبهة السادسة - عدم التفاوت التكويني بين عمل الخير والشر...392

▪ الشبهة السابعة - عدم تصور تجسم الذنوب العدمية...393

▪ الشبهة الثامنة - جهل الإنسان بعذابه الباطني...393

▪ الشبهة التاسعة - المنافاة مع الشفاعة والتوبة والعفو...395

▪ الشبهة العاشرة - ظهور العلمانية...397

▪ الشبهة الحادية عشر - تحديد السلطة الأخروية اللّه...400

▪ الشبهة الثانية عشر - عدم التلاءم مع الحسن والقبح... 402

▪ الشبهة الثالثة عشر - بروز أصالة الربح...404

▪ الشبهة الرابعة عشر - عذاب الكفار وأتباع الأديان الأخرى...407

ص: 454

▪ الشبهة الخامسة عشر - أعمال الخير للكافر...424

▪ الشبهة السادسة عشر - العذاب الأبدي للكافر... 428

مصادر الكتاب...433

المحتویات...448

***

ص: 455

ص: 456

إن هذا الكتاب الذي نقدّمه للقارئ هو الجزء الخامس من سلسلة (أجوبة الشبهات الكلامية)، يتضمن هذا الجزء تحليل ونقد الشبهات المثارة حول المعاد (بما فيه البرزخ والقيامة) والإجابة عليها، حيث تبنّى المؤلّف الإجابة على سبعين شبهة تقريباً فيما يخصّ إنكار المعاد، الموت وعالم البرزخ، أقسام المعاد (من حيث الجسماني والروحاني) القيامة والحشر الجنة والعذاب الأخروي...

www.iicss.iq islamic.css@gmail.com

رقم الإصدار (20)

ص: 457

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.