أجوبة الشبهات الکلامية (الإمامة) المجلد 4

هوية الکتاب

العتبة العباسية المقدسة

المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية

يعنى بالاستراتيجية الدينية والمعرفية

أجوبة الشبهات الكلامية / 4

الامامة

تأليف: محمدحسن قدردان قراملكي

ترجمة: حسن علي حسن مطر الهاشمي

الإخراج الفني : نصير شكر

المطبعة: دار الكفيل للطباعة والنشر والتوزيع

الكمية: 1000 نسخة

الطبعة : الأُولى 1437ه_ / 2016م

ص: 1

اشارة

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 3

العتبة العباسية المقدسة

المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية

يعنى بالاستراتيجية الدينية والمعرفية

أجوبة الشبهات الكلامية / 4

الامامة

تأليف: محمدحسن قدردان قراملكي

ترجمة: حسن علي حسن مطر الهاشمي

الإخراج الفني : نصير شكر

المطبعة: دار الكفيل للطباعة والنشر والتوزيع

الكمية: 1000 نسخة

الطبعة : الأُولى 1437ه_ / 2016م

ص: 4

مُقدمة

هذا الكتاب هو الكتاب الرابع من سلسلة «الإجابات عن الشبهات الكلامية» تحت عنوان «الإمامة». وقد كان الكتاب الأول بعنوان «معرفة الله»، والكتاب الثاني بعنوان «الدين والنبوة»، وقد وفقنا الله إلى طباعتهما.

وأمّا الكتاب الثالث بعنوان «الشبهات الكلامية والتاريخية حول شخصية النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)»،فهو قيد التأليف. وكما يلوح من عنوان هذا ، الكتاب فإنه يتناول الشبهات المتعلقة بأصل الإمامة (أكثر من ستين شبهة) بالنقد والمناقشة، وأما الشبهات المتعلقة بمذهب التشيع وعقائده فسوف نبحثها في كتاب آخر إن شاء الله تعالى.

نسعى في هذا الكتاب إلى تحليل الشبهات المطروحة حول الإمامة وتقييمها من خلال الاتجاه الكلامي (الكلام الفلسفي)(1). وبطبيعة الحال فإن

ص: 5


1- إن الكلام الفلسفي مسلك خاص (فلسفي - تعقلي) إلى علم الكلام، وهو مسلك يتبنى فيه المتكلم الأسس الدينية، ثمّ يتولى بيانها وتحليلها طبقاً للمنهج العقلي والفلسفي. وفي هذا العلم تحظى الفلسفة والعقل بمكانة خاصة قد تؤدي أحياناً إلى نقد وجرح بعض المفاهيم والتعاليم التقليدية والمشهورة. إن الكلام الفلسفي يشترك مع الكلام التقليدي في الموضوع والغاية، ويختلف عنه في طرق الاستدلال ومناهجه فقط، ويكون في ذلك أقرب إلى الفلسفة.

الاتجاه الرئيس في هذه الدراسة هو اتجاه كلامي، ولربما دعت الضرورة احياناً إلى الإفادة من المسلك العرفاني والفلسفي أيضاً. وينبغي الالتفات إلى أن الإجابة عن الشبهات تتحدد طبقاً لأهمية الشبهة، فقد تستغرق الإجابة عن بعض الشبهات ما يزيد على عشر صفحات. إن القارئ الكريم سيطلع من خلال الإجابة عن الشبهات على بعض الموارد التي تحمل إجابات وإثارات جديدة هي حصيلة تفكير المؤلف حول الموضوع والأمور المحيطة به.

لا تخفى ضرورة هذا البحث على القارئ الكريم؛ فإن الإمامة ركن

رئيس في مذهب التشيع، وقد تعرضت للشبهات من قبل الخصوم منذ بدايتها برحيل النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)و وتجاهل أصل خلافة الإمام على(علیه السّلام)في حادثة السقيفة. وقد شهدنا في الآونة الأخيرة اجترار تلك الشبهات وإعادة صياغتها على بعض مواقع التواصل الاجتماعي وفي مؤلفات عدد من المستنيرين.

إن الهدف من هذا التحقيق هو البيان العقلاني لمسألة الإمامة، ودفع الشبهات الناظرة إليها من قبل الإخوة من أهل السنة وبعض الطبقات الخاصة من المستنيرين.

وقد يعثر القارئ للمرة الأولى في هذا الكتاب على روايات ومسائل في سياق تعزيز أصل الإمامة، من قبيل النصوص الصريحة المأثورة عن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)،واعتراف بعض علماء أهل السنة - وعلى رأسهم الخليفة الثاني - بأصل تنصيب الإمام، والخدشة في توجيهها.

أرجو من إخوتنا من أهل السنة أولاً: أن ينظروا إلى المسائل المذكورة في هذا الكتاب بشكل حيادي ومن دون تبني الأحكام المسبقة، ومن دون إدخال الحب والبغض في صياغة أحكامهم؛ إذ ليس هناك ما هو أغلى من

ص: 6

الحقيقة. وثانياً: إن غايتي في هذا الكتاب هي البحث العلمي والأكاديمي، ولذلك أنشد من الناقدين إجابات علمية ومستدلة، وأرجو منهم إرسال انتقاداتهم على بريدي الإلكتروني : hadrdang@yahoo.com.

ورجائي أن لا يُسيء هذا الكتاب لإخوتنا من أهل السنة، وإذا حصل شيء من ذلك فإني أتقدم إليهم بالاعتذار مسبقاً.

وفي الختام أتقدم بالشكر الجزيل للمفكرين والإخوة الفضلاء سماحة الدكتور السيد يحيى اليثربي، والدكتور عبد الحسين خسرو بناه، وحجة الإسلام والمسلمين محمد صفر جبرائیلی، على ما قدموه لى من الملاحظات الدقيقة والقيمة التي أسهمت في إثراء مضمون هذا الكتاب.

أسأل الله أن يوفقنا لما يحب ويرضى.

محمد حسن قدر دان قراملكي

***

ص: 7

ص: 8

الفصل الأول

أمور عامة

ص: 9

ص: 10

أولاً : ماهية الإمامة:

اشارة

تمثل مسألة الإمامة واحدة من المسائل الجوهرية في الإسلام، والتي انقسمت الأمة الإسلامية حولها منذ صدر الإسلام إلى يومنا هذا بين مؤيد ومخالف، ولربما بلغت الهوة بين المختلفين بشأنها إلى حد تكفير بعضهما، وزهقت بسبب ذلك كثير من النفوس(1). ولذلك نرى حاجة ماسة إلى تحليل الإمامة من مختلف الزوايا وبشكل دقيق قبل تحديد موضوع البحث والإجابة عن شبهات المخالفين.

أ - الإمامة من وجهة نظر أهل السنة:

يعمد أهل السنة إلى الحط من منزلة الإمامة وجعلها على مستوى الحكومة السياسية والاجتماعية، والقول بأنها ليست من الشؤون الإلهية، وإنما هي عندهم من الأمور الخاصة بالأمة، بعدها أمراً دنيوياً. بعبارة أخرى: إنهم يعدّون الإمامة مسألة فقهية وفرعية تتعلق بأفعال المكلفين، ومن هنا يكون تعيين الخليفة والإمام من قبل الناس أنفسهم، وذلك عن طريق ممارسة مختلف الآليات، مثل: البيعة أو شورى أهل الحل والعقد، وبذلك يتساوى الحاكم مع

ص: 11


1- انظر: الشهرستاني، الملل والنحل، ص 24 .

غيره من الناس الاعتياديين. وهكذا ينكر أهل السنة ما عليه الشيعة من كون الإمامة منصباً إلهياً، وأنها تدخل في أصول العقائد الكلامية. وفيما يأتي نشير إلى آراء بعض أهل السنة في هذا الشأن:

1 - الإسكافي ( 240ه_) : «إن الإمامة لا تشبه بالنبوة، وهي بالإمارة أشبه»(1).

2 - الماوردي (م 450 ه_) : «الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا، وعقدها لمن يقوم بها واجب بالإجماع(2).

3 - إمام الحرمين الجويني (م 478 ه_ ) : «الإمامة رئاسة تامة وزعامة عامة تتعلق بالخاصة والعامة من مهمات الدين والدنيا»(3).

4 - الإمام أبو حامد الغزالي ( م 505ه_) : «إن النظر في الإمامة أيضاً - ليس من المهمات، وليس أيضاً من فن المعقولات، بل من الفقهيات»(4).

5 - سيف الدين الآمدي (م 631 ه_) : «واعلم أن الكلام في الإمامة ليس من أصول الديانات ولا من الأمور اللابديات بحيث لا يسع المكلف الإعراض عنها، بل لعمري إن المعرض عنها لأرجى من الواغل فيها»(5).

6 - القاضي عضد الدين الإيجي (م 756 ه_) : «الإمامة رئاسة عامة في أمور الدين والدنيا»(6).

ص: 12


1- المعيار والموازنة، ص 43 ، تحقيق : الشيخ محمد باقر المحمودي.
2- الأحكام السلطانية، ص 5.
3- غياث الأمم في التياث الظلم، ص 22.
4- الاقتصاد في الاعتقاد، ص 275 ، الباب الثالث.
5- غاية المرام في علم الكلام، ص 363 .
6- شرح المواقف، ج 8، ص 376

توضيح: إنه يرى إشكال هذا التعريف في مناقضته للنبوة، ويأتي بتعريف آخر إذ يقول: «هي خلافة الرسول في إقامة الدين بحيث يجب اتباعه على كافة الأمة».

واللافت للانتباه أنه في هذا التعريف يفسر الخلافة بأنها من شؤون الدين فقط. ولكن يبدو أن حذف كلمة الدنيا إما كان بسبب النسيان، أو لأنه أراد من الدين المعنى الجامع الذي يشمل الدنيا أيضاً. ومهما كان فإن كلمة الدنيا كانت مرادة له في مسألة الإمامة أيضاً، والدليل على ذلك ما يذكره من صفات الإمام بالمعنى العام للكلمة حيث يقول:

«الشرط: ذو رأي ليقوم بأمور الملك .. شجاع ليقوى على الذب عن الحوزة .. يجب أن يكون عدلاً لئلا يجور .. عاقلاً ليصلح للتصرفات»(1).

7- السيد الشريف الجرجاني (م 816ه_ ) : أضاف في شرحه للمواقف على تعريف الإيجي قيد حوزة الأمة والدنيا؛ فقال «هي خلافة الرسول في إقامة الدين وحفظ حوزة الملة ...»(2).

8 - التفتازاني (م 793 ه_) : «رئاسة عامة في أمر الدين والدنيا، خلافة عن النبي»(3).

9 - ابن خلدون (م 808 ه_) : « الخلافة حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعى في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها»(4).

ص: 13


1- شرح المواقف، ج 8، ص381.
2- المصدر أعلاه.
3- شرح المقاصد، ج 3، ص 469
4- مقدمة ابن خلدون، ص 191. وقال في موضع آخر : «وقصارى أمر الإمامة أنها قضية مصلحية إجماعية، ولا تلحق بالعقائد». (تاريخ ابن خلدون، ج 1، ص 588).

10 - القوشجي (م 879 ه_) : «رئاسة عامة لأمر الدين والدنيا خلافة عن النبي»(1).

ب - الإمامة من وجهة نظر الإمامية:

خلافاً لرؤية أهل السنة بشأن الإمامة - والتي كانت تقتصر على عدها مسألة دنيوية تقف عند حدودها السياسية والاجتماعية - يذهب الإمامية إلى عدها مسألة تتخطى الحالة الدنيوية، وعدّها أمراً إلهياً وصادراً عن وحي السماء. وفيما يأتي نستعرض قبل كل شيء مجموعة من تعريفات علماء الشيعة في هذا الشأن:

1 - الشيخ الصدوق (م 381 ق ) : قام بتفسير كلمة «المولى» في حديث الغدير بمعنى «واجب الطاعة»، قال: «فهو معنى الإمامة؛ لإن الإمامة إنما هي مشتقة من الائتمام بالإنسان والائتمام هو الاتباع والاقتداء والعمل بعمله والقول بقوله»(2).

وقد عدّ وجوب إطاعة الإمام وسائر فضائله متفرعة عن وجوب إطاعة النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم) ، ولم يستثن من ذلك غير النبوة والوحي، حيث قال: ويجب أن يُعتقد أنه يلزم من طاعة الإمام ما يلزمنا من طاعة النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)، وإن كل فضل آتاه الله (عز وجل) نبيه فقد آتاه الله الإمام، إلا النبوة»(3).

2 - الشيخ المفيد (م 413 ه_ ) : «الإمام هو الإنسان الذي له رئاسة

ص: 14


1- شرح تجريد الاعتقاد، ص381
2- معاني الأخبار، ص 69
3- المصدر أعلاه.

عامة فى أمور الدين والدنيا نيابة عن النبي»(1).

3 - السيد المرتضى (م 436 ه_) : «الإمامة رئاسة عامة في الدين بالإصالة لا بالنيابة عمّن هو في دار التكليف»(2).

4 - الشيخ الطوسي (م 460 ه_) : الإمام هو الذي يتولى الرئاسة العامة في الدين والدنيا جميعاً»(3)

5 - المحقق الطوسي (م 672 ه_) : «الإمام هو الإنسان الذي له الرئاسة العامة في الدين والدنيا بالإصالة في دار التكليف»(4).

6 - ابن ميثم البحراني (م 679 ه_) : «الإمامة رئاسة عامة لشخص من الناس في أمور الدين والدنيا بالأصالة»(5).

7 - العلامة الحلي (م 726 ه_): «الإمام هو الإنسان الذي له الرئاسة العامة في أمور الدين والدنيا بالأصالة في دار التكليف»(6).

8 - الحمصي الرازي (م أوائل القرن الهجري السابع): «رئاسة عامة في أمور الدين بالأصالة»(7).

ثم أشار بعد ذلك إلى سبب عدم ذكره لكلمة «الدنيا» في تعريف الإمامة، قائلاً: إن قيد «أمور الدين عامل ويشمل أمور الدنيا من قبيل رفع

ص: 15


1- سلسلة المؤلفات النكت الاعتقادية، ج 10، ص 39.
2- الحدود والحقائق، بحث الإمامة؛ وانظر أيضاً الذخيرة في علم الكلام، ص 409 .
3- شرح العبارات المصطلحة بين المتكلمين، نقلاً عن: امامت پژوهي، ص 42.
4- تلخيص المحصل ، ص 426 ؛ رسالة الإمامة، ص 457 .
5- قواعد المرام، ص 74؛ النجاة في القيامة في تحقيق أمر الإمامة، ص 41.
6- الألفين في إمامة مولانا أمير المؤمنين، ص 12؛ الباب الحادي عشر، بحث الإمامة.
7- المنقذ من التقليد، ج 2، ص 234 .

الفوارق الطبقية لمختلف سطوح المجتمع، من قبيل: الصناع والخطاطين، وإن كان العمل على الأمور المهنية والجزئية من قبيل تحديد من هو الأفضل وتحديد الأجور ليس من صلاحيات الإمام وشؤونه(1).

9 - الفاضل المقداد السيوري (م 826 ه_ ) : «فهي رئاسة عامة في الدين والدنيا لشخص إنساني، خلافة عن النبي»(2).

10 - عبد الرزاق اللاهيجى (م 1072 ه_ ): «رئاسة عامة للمسلمين في أمور الدنيا والدين على سبيل الخلافة والنيابة عن النبي»(3).

إن جميع هذه التعاريف صادرة عن المتكلمين، ومن هنا كانت الصبغة العامة فيها تؤكد على الرئاسة والحكومة كما هو سائد بين أهل السنة، بيد أن العرفاء والفلاسفة - خاصة في الحكمة المتعالية - يرون قوام الإمامة في الولاية الباطنية للإمام، وهذا ما سوف نتعرض له في الصفحات القادمة إن شاء الله.

إن النظرة الأولى على تعاريف الإمامة عند أهل السنة والإمامية يظهر أن كلا المذهبين الكلاميين يقدّم تعريفاً واحداً ومشتركاً عن الإمامة؛ لأن كلا الفريقين يعرف الإمامة بكونها: «رئاسة عامة في الدين والدنيا». بيد أن هذا الحكم - كما أسلفنا - إنما هو الذي يبدو من الوهلة الأولى(4).

ومن خلال إعادة النظر في التعاريف والشروط والصفات التي يجب

ص: 16


1- انظر: المصدر أعلاه، ص 236 - 237 .
2- اللوامع الإلهية، ص 319؛ إرشاد الطالبين إلى نهج المسترشدين، ص 325
3- گوهر مراد، ص 2.
4- هناك من أمثال الحكيم اللاهيجي من تنبه إلى هذا الاشتراك في التعريف، واصفاً ذلك بأنه من عجائب الأمور. انظر: گوهر مراد، ص 462

توفرها في شخص الإمام، يمكن بيان اختلاف كلا المذهبين الكلاميين في مسألة الإمامة على النحو الآتي(1):

1 - طريقة تعيين الحاكم (أصل التنصيب أو الانتخاب):

تقدم أن أشرنا إلى اشتراك كلا المدرستين في تعريف الإمامة وتفسيرها بأنها رئاسة عامة في الدين والدنيا. ومع ذلك يجب الالتفات إلى ذلك يجب الالتفات إلى وجود اختلاف بينهما في بيان منشأ حكومة الإمام والحاكم ومشروعيته.

فقد ذهب الإمامية إلى الاعتقاد - بحسب اقتضاء الأدلة التي سيأتي الحديث عنها بالتفصيل - بأن الإمامة منصب إلهي مقدس، وأن الإمام يجب أن يتصف ببعض الصفات الفذة، من قبيل: العصمة والعلم الكامل، ولا يمكن التعرف على مثل هذا الشخص وتنصيبه إلا من خلال الوحى (المشروعية الإلهية، أصل التنصيب) وفي المقلب الآخر ذهب أهل السنة - من خلال تفسيرهم السطحي للإمامة (والقول بأنها رئاسة دينية ودنيوية، والتمتع بمستوى من العلم لا يتجاوز الاجتهاد، مع نفى العصمة) - إلى بيان مختلف آليات تعيين الإمام، من قبيل: البيعة والإجماع من قبل أهل الحل والعقد، ونص الخليفة السابق، وحتى القهر والغلبة(2). وتشترك جميع هذه الآليات في فصل

ص: 17


1- يقوم الادعاء على وجود الاختلاف الجوهري في التعاريف، لا على وجود التباين التام،بمعنى أن كلا المذهبين يشترك في جانب من هذه التعاريف (وهو جانب اعتبار الإمامة رئاسة عامة في الدين والدنيا)، وسيأتي توضيح ذلك وتوضيح مواطن الاختلاف بين أهل السنة والشيعة في النص إن شاء الله.
2- انظر: أبو حامد الغزالي، إحياء العلوم، ج 2، ص 141؛ فضائح الباطنية، الباب 9 و 10، ص 9 - 176؛ شرح المقاصد، ج 3، ص 470؛ الماوردي، الأحكام السلطانية، ص 6؛ شرح المواقف، ج 8، ص 351.

مشروعية تعيين الإمام عن الوحى وعن التدخل الإلهى فى هذا التعيين ويؤكد أكثرهم على عدم وجود نص من الله ومن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)على منصب الخلافة والإمامة. وعلى حدّ تعبير أهل السنة أنفسهم: إن الإمامة ومشروعيتها من المسائل الفقهية، وأنها من فروع الدين، وقد تم تفويض أمر تعيين الخليفة والإمام وإضفاء المشروعية عليه لاختيار الناس(1).

ويمكن لنا اصطياد بعض الاختلافات الفرعية الأخرى بين ما يذهب إليه الإمامية وأهل السنة في مسألة الإمامة، ويمكن لنا إجمال هذه الاختلافات على النحو الآتى:

أ - اعتبار أو عدم اعتبار إذن المستخلف عنه: على الرغم من تعريف أهل السنة الإمامة بأنها خلافة منصب النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)، ولكن ادعاءهم هذا ليس كاملاً، وذلك لأنهم لا يشترطون إذن النبي لإضفاء الشرعية على تصرف خليفته، وهذا يعني أن الخلافة تتحقق عندهم من دون إذن المستخلف عنه. وأما الإمامية فيشترطون أن يكون الاستخلاف بإذن من النبي، وفي هذا السياق يأتي اختيار النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)عندهم في تسمية الإمام علي(علیه السّلام)وغيره من الأئمة لمنصب الإمامة والخلافة في نصوص متضافرة.

ب - الاتجاه الفقهي أو الكلامي : إن أهل السنة من خلال تقليلهم من قيمة الإمامة، وإنزالها إلى مجرد إدارة الحكم والدولة، قاموا بتفسيرها على أنها مجرد مسألة فقهية فرعية، وأن على المكلفين واجب تعيين حاكم على

ص: 18


1- انظر: الماوردي، الأحكام السلطانية، ص 6؛ القاضي أبو يعلى، الأحكام السلطانية، ص 23؛ شرح المقاصد، ج 3، ص 469.

أنفسهم(1). وأمّا الإمامية فيعدون الإمامة والإمام تالي تلو النبوة والنبي، ويرون أنّ الإمامة من المسائل الأصولية والجوهرية في علم الكلام والبحث الديني، وعليه لا بد من بحثها في علم الكلام(2).

وهذا بطبيعة الحال لا يعني إلغاء بحث الإمامة على المستوى الفقهي، وإنما المراد من ذلك أن المكانة الأولى للإمامة تقع في علم الكلام، كما سوف نشير في الصفحات القادمة إلى إمكان طرح الإمامة في علم العرفان والحكمة المتعالية أيضاً.

2 - الحد الأدنى والأعلى من اتصاف الإمام بصفة (العلم والعصمة):

إن من بين موارد الاختلاف بين الشيعة وأهل السنة في تعريف الإمامة و تفسيرها لحاظ واعتبار الصفات الخاصة للإمام، فحيث يعمد أهل السنة إلى تقييم الإمام من خلال النظرة السطحية التي تضعه دون مستواه الحقيقي ودون شأنه ومنزلته الحقيقية (دور الإمام بوصفه حاكماً دينياً) فإنهم يمنحونه الحد الأدنى مما يجب أن يتصف به الإمام من الصفات، وإن من بين أهم تلك الصفات وأكثرها مثاراً للتحديات عبارة عن:

أ - الاجتهاد في العلوم الدينية.

ص: 19


1- انظر: أبو حامد الغزالي، الاقتصاد في الاعتقاد، ص 234؛ الآمدي، غاية المرام في علم الكلام، ص 363؛ شرح المقاصد، ج 3، ص 269؛ شرح المواقف، ج 8، ص 334 .
2- بعد التزام علماء الإمامية باعتبار الإمامة من الأصول الكلامية والتعاليم الأساسية والجوهرية، ساد بينهم رأيان مختلفان باعتبار الإمامة من أصول الدين أو من أصول المذهب (انظر: كلام فلسفي، الفصل السابع).

ب - العدالة والتقوى(1).

واضح أن الاكتفاء بصفة العلم إلى حد أقصاه الاجتهاد - الذي هو ذو مراتب مشككة بين القوة والضعف - يدل على أمرين، الأمر الأول: عدم اعتبار صفة الأعلمية في مقام الإمامة، ولازم ذلك إمكان تقديم المفضول على الفاضل في الإمامة والأمر الثاني: الخطأ في الاجتهاد ونتيجة ذلك إمكان وقوع الإمام في الخطأ في تفسير الدين وتعاليمه.

ذهب المشهور من أهل السنة إلى اعتبار صفة العدالة والتقوى في بداية الإمامة والخلافة، ولكنهم ناقشوا في استمرار اعتبارها، فذهب بعضهم إلى الاعتقاد بأن الحاكم والخليفة لا يفقد شرعيته بسبب الفسق وصدور ما ينافي العدالة عنه أثناء فترة حكمه. كما صرح بذلك الباقلاني(2)والتفتازانى(3)والنسفي(4)، إذ قالوا بأن الإمام لا يُعزل من منصبه باغتصابه لأموال الناس، وقتل النفس المحترمة، وعدم تطبيق الحدود، وقد جاء في نص بعض عباراتهم: «ولا ينعزل بالفسق والفجور»، وإنما غاية ما يجب على الأمة في مثل هذه الحالة تقديم النصح له وتخويفه.

وفي المقلب الآخر يذهب الإمامية إلى اعتبار الإمام هو المفسر الحقيقي

ص: 20


1- انظر: البغدادي كتاب أصول الدين، ص 147؛ القاضي عضد الدين الإيجي، شرح المواقف، ج 8 ، ص 381؛ إمام الحرمين الجويني، كتاب الإرشاد، ص 358؛ سعد الدين التفتازاني شرح المقاصد، ج 5 ، ص 244؛ عبد الرحمن ابن حلدون، مقدمة ابن خلدون، ص 191 ؛ القاضي عبد الجبار المعتزلي، شرح الأصول الخمسة، ص 751.
2- انظر: تمهيد الأوائل، ص 478 .
3- انظر: شرح المقاصد، ج 3، ص 470.
4- انظر: شرح عقائد أهل السنة، شرح عبد الملك السعدي، ص 267.

والضامن للدين، ولذلك فإنهم يستبدلون صفة الاجتهاد له بالعلم اللدني والإلهام، وبدلاً من العدالة يصفونه بالعصمة، ولم يتمتع بهذه الصفات من بين الصحابة غير الإمام على(علیه السّلام)(1).

من هنا كان الإمام عند أهل السنة مجرد حاكم، وأقصى ما يمكن له أن يبلغه هو أن يكون هو حاكماً دينياً، ولازم إنكار صفة العلم اللدني والإلهامي والعصمة عدم الحجية والمرجعية العلمية والدينية للإمام. وأما من وجهة نظر الإمامية فحيث يتصف الإمام بصفة العلم الإلهامي والعصمة يكون هو الخليفة الحقيقي للنبي، ويكون مثله في الحجية والمرجعية العلمية والدينية.

3 - الحجية الإلهية والمرجعية العلمية والدينية للإمام:

أوضحنا في الكتاب السابق أن لازم الاتصاف بالعلم الغيبي والإلهام و عصمة الأئمة، هو حجية أقوال الأئمة وأفعالهم، ولازم ذلك حق إطاعتهم من قبل العباد. وسوف نبحث في وجوب إطاعة الإمام وحجية قوله وفعله

بالتفصيل في الفصل المخصص للإجابة عن الشبهات المتعلقة بالإمامة إن شاء الله تعالى .

4 - الإمام واسطة الفيض والقطب (الاتجاه الفلسفي - العرفاني):

تقدم أن الفرق الهام - أو أحد الفروق الهامة - بين الإمامية وأهل السنة يكمن في نوع الرؤية التي يحملها كل منهما تجاه شخص الإمام ومنزلته. فالإمامية لا يرون في الإمام مجرد خليفة ظاهري للنبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)، بل هو

ص: 21


1- انظر: الشيخ الصدوق، الاعتقادات الملحق بمصنفات الشيخ المفيد، ج 5، ص 96.

خليفته الحقيقي، وأن كلاً من الخليفة والمستخلف عنه يجب أن يشتملا على شروط ومواصفات خاصة حتى تكون لديهما صلاحية التصدّي لمقام النبوة والإمامة وإن إحدى تلك الصفات تعود إلى مقام الإمام ومنزلته عند الله تعالى. بمعنى أنه كما كان النبي يتمتع بصفات روحية ومعنوية وكمالية خاصة، وكان خير أهل زمانه، حتى صار أهلاً ليكون محلاً لرعاية الله ولطفه واختياره لموقع النبوة، يجب أن يكون شخص الإمام كذلك أيضاً، فلابد من أن يكون متصفاً بجميع الصفات الكمالية التي يجب توفرها في الإنسان الكامل قبل أن يتولى مهام الإمامة؛ ليكون أهلاً لتولي منصب الإمامة وتسميته لهذا الموقع من قبل الله عز وجل، وبحسب المصطلح العرفاني يجب على الإمام أن يكون «ولياً» بالدرجة الأولى؛ كي يصلح لتولي منصب الإمامة في ضوء الولاية، كما أنّ الولاية تعد جوهر النبوة.

إن هذا الاتجاه نحو الإمام والإمامة هو اتجاه فلسفي - عرفاني إلى أصل النبوة وماهيتها. يذكر الفلاسفة والعرفاء في تعريفهم للنبي أنه يتمتع بنفس قدسية متكاملة، يرتبط في ضوء تهذيبها بالعالم الغيبي «الملائكة» أو ب_ «العقل الفعّال» بعبارة أخرى، للحصول على الوحي. ويرى الإمامية أن الإمام هو مثل النبي في وجوب أن يتمتع بهذه الصفات؛ فيجب أن يتحلى بنفس متكاملة ومهذبة كي يتمكن من خلالها أن يتصل بعالم الغيب، ولربما أمكنه بواسطتها أن يتصرّف في عالم الممكنات، وهو ما يُعبّر عنه ب_ «الولاية التكوينية» أيضاً. غاية ما هنالك أن الإمام يختلف عن النبي في استلام الوحي فقط والإتيان بشريعة جديدة، حيث ختم الله ذلك بالنبي الله ذلك بالنبي الأكرم محمد بن عبد الله (صلی الله علیه و آله و سلم).

يذهب العرفاء إلى إعطاء «الولي» دوراً أبعد من مجرد الاتصال بالغيب؛ إذ يرون أن «الولي المطلق» أو «القطب» واسطة الفيض والحجة الإلهية في العالم،

ص: 22

ولذلك لا يخلو العالم من وجوده أبداً(1).

والجدير بالذكر هنا أن العرفاء قد اقتبسوا هذه النقطة الدقيقة والعرفانية من روايات الشيعة في وصف «الإمام»، وقاموا بتطبيقها على «الولي»، وأخطأ بعضهم في تطبيقها على المصاديق.

محصل الكلام أن الإمامية يرون أن الإمام هو الولي المطلق والإنسان الكامل المرتبط بعالم الغيب، وهو واسطة الفيض الإلهى وحجة الله في الأرض. أما أهل السنة فيجعلونه في مستوى الإنسان الاعتيادي، ولكنه عندهم يتصف بالعلم (على مستوى الاجتهاد) والعدالة، وهناك منهم من أنكر اشتراط العدالة في صلاحيته للاستمرار بالحكم.

5 - وجوب الإمامة عقلي أم نقلي ؟

ومن بين الموارد التي اختلف فيها الشيعة والسنة حول الإمامة والطريق إليها ووجوبها، هو البحث عما إذا كانت الإمامة واجبة بحكم العقل من دون الرجوع إلى الشرع، أم أنها تجب بحكم الشرع والنقل، وأن العقل لا مسرح له

ص: 23


1- انظر: ابن سينا، الإلهيات من الشفاء،ص 455؛ السهروردي، مؤلفات شيخ الإشراق، ج 2، ص 11؛ صدر المتألهين، تفسير القرآن الكريم، ج 6، ص 299؛ مرتضى مطهري، الأعمال الكاملة، ج 4 ، ص 848 ومن الجدير ذكره هنا أن رؤية العرفاء من أهل السنة في هذا الشأن تنسجم مع رؤية الإمامية، ويمكن القول إنهم وافقون الإمامية في ذلك، ولكنهم توسعوا في ذلك ومنحوا هذه الصفات لغير الأئمة من الأولياء وحتى لأنفسهم، كما يذهب عرفاء أهل السنة إلى إنكار أصل التنصيب الإلهي. (انظر: محيي الدين بن عربي، فصوص الحكم، الفص الداودي؛ والفتوحات المكية، ج 1، ص 143 و 254).

في هذا المجال أصلاً؟

فبعد أن اتفق كلا الفريقين على أصل وجوب الإمامة، اختلفا في الطريق إليها، وما إذا كان هذا الطريق عقلياً أو نقلياً. إذ ذهب أكثر الأشاعرة وبعض المعتزلة إلى وجوب الإمامة بالأدلة السمعية، ومما ورد في ذلك في بعض نصوصهم: «الذين أوجبوها سمعاً فهم جمهور أصحابنا وأكثر المعتزلة»(1). بينما ذهب الإمامية وبعض المعتزلة إلى وجوبها بالأدلة العقلية(2).

وبناء على ذلك ذهب الأشاعرة والمعتزلة إلى عدم وجوب تنصيب الإمام من قبل الله، وإنما اعتبروا ذلك من شؤون الناس (الحكم بالوجوب الفقهي)(3). في حين ذهب الإمامية إلى وجوب ذلك من قبل الله بالنظر إلى ما يجب أن يتوفر في الإمام من الصفات التي لا سبيل إلى العلم بها إلا من قبل الله سبحانه وتعالى انطلاقاً من حكمته ولطفه. وبطبيعة الحال فإن هذا الوجوب إنما هو وجوب كلامى (أي إنّه يستفاد من صفات الله، وبعبارة أخرى: إنه وجوب «من الله»)، وليس وجوباً فقهيا؛ حتى يكون واجباً «على الله».

ص: 24


1- انظر: الفخر الرازي، تلخيص المحصل، ص 406؛ وانظر أيضاً: سيف الدين الآمدي، أبكار الأفكار، ج 3، ص 417؛غاية المرام في علم الكلام ، ص 309؛ شرح المقاصد ،ج 3، ص 471 ؛ شرح المواقف، ج 8، ص 376؛ مقدمة ابن خلدون، ص 196.
2- وهناك من ذهب إلى القول بالجمع بين (الوجوب العقلي والسمعي) في الإمامة، ومنهم: الجاحظ والكعبي.وهناك من أنكر وجوب الإمامة من الأساس، مثل الخوارج. (انظر: شرح المواقف، ج 8، ص 377).
3- ومن بين أهم الأدلة السمعية التي تمسك بها الأشاعرة في ذلك إجماع المسلمين في صدر الإسلام بعد وفاة النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)على تعيين الخليفة وترك جسد النبي من دون تغسيل ولا تكفين! (انظر: شرح المواقف، ج 8، ص 377؛ شرح المقاصد، ج 3، ص 473) .

ج - مراتب وشؤون الإمام والإمامة:

اتضح مما سبق أن أهل السنة والإمامية يختلفون في رؤيتهما إلى الإمامة ومراتبها، فقد اقتصر أهل السنة في رؤيتهم إلى الإمام على اعتباره مجرد حاکم ديني، ولا ترقى مرتبته عندهم إلى ما فوق الزعامة والسلطة السياسية، وحيث لا يرون العصمة وعلم الغيب شرطاً في الإمامة، لا يكون تفسير الإمام للتعاليم الدينية حجة عندهم. أما الإمامية فيذهبون إلى ما هو أعمق من ذلك بكثير، ولذلك فقد أثبتوا له مختلف المراتب انطلاقاً

من هذه الرؤية، وفيما يأتى نشير إلى عناوين هذه المراتب على النحو الآتى:

1 - الحكومة والحاكم : إن من بين أكثر الأمور شهرة عند المتكلمين في شأن الإمام ومنزلته، هو شأن الحكم وزعامة الأمة في الأمور الدنيوية والسياسية، وهو ما ذكره كلا الفريقين (الإمامية وأهل السنة) في تعريف

الإمامة.

وفي القرون الأخيرة ذهب بعض المستنيرين «العلمانيين» من الفريقين (من السنة والشيعة) إلى إنكار هذا الشأن للإمام. فقد ذهب العلمانيون من أهل السنة، من أمثال علي عبد الرزاق إلى القول بأن النبوة والإمامة منفصلتان عن المساحة الدنيوية وشؤون الحكم، وإن النبي بما هو نبي - وبتبعه الإمام - لا يتولى غير بيان التعاليم الدينية وهداية الناس إلى الله والآخرة.

كما قال بهذه الفكرة بعض المستنيرين المعاصرين من الشيعة على ما سيأتي في الفصول القادمة التي نتعرض فيها إلى أصل الشبهة ونقدها بالتفصيل.

ومن الجدير ذكره أن هذا المنصب إنما هو أحد مناصب وشؤون الإمام وخليفة النبي، ولا يمثل جميع شؤونه. من هنا فإن محل النزاع بين أهل السنة

ص: 25

والشيعة لا ينحصر بهذا الأمر فقط. وعلى حدّ تعبير الأستاذ الشهيد مرتضى المطهري: إن حصر النزاع بين الشيعة والسنة بذلك كان من أخطاء بعض علماء الشيعة(1).

2 - المرجعية الدينية والعلمية: إن من بين المناصب الهامة والسماوية للنبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم) هو المنصب الذي يخوله بيان التعاليم الدينية، وبسبب ارتباطه بالوحي كانت تعاليم النبي وتفسيره للتعاليم الدينية حجة على المسلمين، فكان عليهم لذلك إطاعة هذه التعاليم، والالتزام بها على المستوى القلبي والعملي، وهو ما يُعبّر عنه اصطلاحاً ب_ «المرجعية العلمية والدينية».

ويذهب الشيعة إلى الاعتقاد بأن النبي الاکرم(صلی الله علیه و آله و سلم)قد فرض منصبه هذا إلى الأئمة(علیه السّلام)أيضاً، ولمّا كانوا يتصفون بالعصمة ويرتبطون بعالم الغيب من طريق الإلهام دون الوحي، فيكون تفسيرهم للتعاليم الدينية - مثل النبي - حجة إلهية على الناس. وأما أهل السنة فحيث ينكرون اشتراط العصمة والارتباط بعالم الغيب في الإمامة من جهة، ولأنهم ذهبوا إلى عدم عصمة الخلفاء الراشدين بسبب ما صدر عنهم من الأخطاء العلمية من جهة أخرى، لا يستطيعون وصف الإمام والحاكم بوصف «المرجعية والعلمية الدينية».

3 - الولاية العامة أما الشأن الثالث من شؤون الأنبياء - وخاصة النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم) - فهو الشأن المتمثل بمقام خلافة الله على الرض. تقدمت الإشارة إلى أن النبي من خلال تهذيبه لنفسه يبلغ مقام القرب الإلهي حتى يغدو مظهراً وتجلياً لصفات الله عزّ وجلّ. من وجهة نظر أكثر الإمامية يتحلى

ص: 26


1- انظر: مرتضى مطهري، الأعمال الكاملة ، ج 4 ، ص 845 - 858.

الأئمة من هذه الناحية بأعلى درجات الكمال، وكانوا بذلك أفضل من جميع الأنبياء باستثناء النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم).

وكان الأئمة بسبب امتلاكهم لهذه الولاية العامة على عالم الوجود مشرفين على قلوب الناس(1).

يذهب أكثر الإمامية إلى إثبات جميع هذه الشؤون الثلاثة المتقدمة إلى الأئمة(علیهم السّلام)،حيث يذهبون إلى الاعتقاد بأن الإمامة لا تتحقق إلا بعد توفر

هذه الشروط الثلاثة. بعبارة أخرى عندما يتم الحديث عن الإمام والإمامة بعد رحيل النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)،لا ينبغي انصراف الذهن إلى شأن واحد من هذه الشؤون فقط، كشأن الحكم مثلاً، والقول بأن الإمام يعني الحاكم. بل يجب القول إن الإمام يعني المرجع العلمي والديني والمبيّن للإسلام وحجة الله. وفي هذه الحالة يجب المصير إلى المرشحين الذين تتوفّر فيهم جميع هذه الصفات المتقدمة.من هنا يذهب الشيعة إلى التأكيد على أن هذه الصفات قد انحصرتبعد رحيل رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)بالإمام علي(صلی الله علیه و آله و سلم).

ثانياً : فلسفة الإمامة:

اشارة

إن الإسلام دين كامل وخاتم للأديان، جاء به إلى الناس خاتم الأنبياء الإلهيين يدعي هذا الدين الكمال والشمولية في جميع مناحي الحياة الدنيوية والأخروية على مر العصور بوصفه ديناً خالداً. وقد تولى النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)مهمة تفسير هذا الدين مدة حياته مستنداً إلى وحي السماء، فعمد

ص: 27


1- انظر: مرتضى مطهري، الأعمال الكاملة ، ج 4 ، ص 848 - 866.

المنطلق إلى وضع الأحكام وبيان التشريع والإجابة عن الشبهات والوقوف بوجه التحريفات والمحرفين. وبرحيل النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)عن هذه الدنيا برزت هناك خشية من أن تذهب الجهود المضنية التي بذلها رسول الله على مدى ما يربو على العقدين من الزمن أدراج الرياح، وأن يحل التفسير بالرأي وما يقوم به أصحاب الأهواء والبدع محل التعاليم السماوية الخالصة والأصيلة عبر الدهور. وكانت هذه الخشية تعبّر عن احتمال عقلائي يقول إن الدين الذي يدعى الشمولية والخلود لا يمكن أن يترك نهباً لكل من هب ودب، من دون أن يُرصد له شخص على مستوى رسول الله في الصفات التي تؤهله لحراسة الدين والمحافظة عليه من هنا كان لا بد من وجود إمام معصوم على الدوام؛ ليذب عنه ويدفع عنه الآفات باستمرار.

من هنا قام الإسلام بحل هذه المشكلة من خلال التأصيل لمفهوم الإمامة. إن الإمام شخص يختلف عن النبي في الاتصال بالله من خلال الوحي الرسالي، ولكنه يتصل بعوالم الغيب من خلال الإلهام، وإلى ذلك فإنه يتصف بالعصمة ويتمتع بالعلم اللدني(1).

بالالتفات إلى ما تقدّم يمكن بيان الأدلة على ضرورة الإمامة بعد النبوة على النحو الآتي:

أ - هداية البشر:

بالالتفات إلى ما كان يتمتع به الأئمة المعصومون(علیهم السّلام)من مقام الولاية

ص: 28


1- سوف نثبت صفات الإمام وخصائصة بالأدلة العقلية والنقلية، في الفصول القادمة إن شاء الله .

والإمامة عند الشيعة بعد رحيل رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)، فإن هداية الناس ومواصلة الرسلة وتبليغ الإسلام تقع على عاتقهم. ومع حضور شخص مثل الإمام علي(علیه السّلام) بوصفه الإنسان و«الولي الكامل» بعد رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)لم تكن هناك من حاجة إلى تجديد النبوة، وفى الحقيقة فإن مقام الولاية للإمام على(علیه السّلام)كان يفوق مقام النبوة. وبعبارة أخرى: إن السؤال عن فلسفة عدم بعث الأنبياء أو تفسير الخاتمية بعقم الطبيعة عن أن تلد الإنسان الكامل الذي يُشبه رسول الله إنما ينشأ عن الغفلة والجهل بالمنازل والمقامات المعنوية التي كان يتمتع بها الأئمة الأطهار(علیه السّلام).

ب - المرجعية الدينية:

تقدم أن ذكرنا أن من بين مهام النبوة تبليغ الوحي السماوي إلى الناس وبيانه وتفسيره إلى المخاطبين بشكل صحيح. ومع وجود النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)يكون احتمال الخطأ في التفسير صفراً، وأمّا بعد رحيل رسول الله فيرتفع احتمال ظهور القراءات المختلفة والخاطئة عن الدين، وبعد انتشار التفاسير والبدع والتحريفات ورسوخها في آخر الكتب السماوية، سوف تتعرض أصالة الدين الإسلامي الحنيف إلى التشويه والتشكيك وسقوطها عن الاعتبار، من هنا وجب تعيين مرجع علمي معتبر ومعصوم من الخطأ. وإن مقام الإمامة ومنزلتها في الإسلام تعمل على تلبية هذه الحاجة(1).

ربما توهم شخص أنه مع وجود القرآن وسنة الرسول لا تكون هناك

ص: 29


1- مرتضى مطهري، خاتميت (الخاتمية)، ص 53؛ جعفر سبحاني، الإلهيات، ج 3،ص 507.

حاجة إلى الإمامة، كما صرح بذلك بعض الصحابة حيث قال: «حسبنا كتاب الله»؟

في الجواب عن هذا التوهّم يجب القول: إن المسائل المتقدمة والآتية كفيلة بالإجابة عن ذلك، فضلاً عن أن بعض الروايات المروية عن رسول الله قد تم تحريفها من قبل الوضاعين الذين رصد التاريخ حوالي سبعمئة وضاع ومختلق للأحاديث منهم(1)، وهو أمر يؤكد على استحالة الاعتماد والتعويل على هذه الاحاديث إلا بعد تمحيصها وبيانها وفرز غنها من سمينها وإثبات اعتبارها وحجيّتها، وتشخيص ذلك إنما هو من شأن مقام العصمة والإمامة.

ج - عدم البلوغ العقلي الكامل للمخاطبين :

صلى الله إن من بين فلسفات خاتمية النبوة برسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)هو التكامل والبلوغ العقلي لدى المسلمين في صدر الإسلام، وفي ضوء هذا البلوغ نجح المسلمون في حفظ الكتاب السماوي ونقله إلى الأجيال اللاحقة من دون أن يطاله الدس والتحريف. بيد أن الجدير بالانتباه في الوقت نفسه أن سكان شبه الجزيرة العربية لم يكونوا على درجة عالية في العلوم النظرية من قبيل الفلسفة والتفسير والكلام، ولذلك لم يكونوا قادرين على فهم الآيات المتشابهة وسبر غورها والغوص في أعماقها؛ من هنا مست الحاجة إلى إمام ومرجع ومفسر معصوم للقرآن الكريم.

إن انتشار مختلف الفرق المذهبية يمثل خير شاهد على تفشي القراءات المختلفة والغنّة للقرآن الكريم والتي أدّت إلى تشتت كلمة المسلمين بسبب

ص: 30


1- انظر: العلامة الأميني، الغدير ، ج 5، ص 208.

تمسك بعضهم بظواهر الآيات وعدم أخذ بواطنها بنظر الاعتبار. وهنا يمكن لنا الإشارة إلى فرقة «المجسمة» التي كانت تذهب إلى الاعتقاد بأن الله جسم (والعياذ بالله )(1). كما كانت الأكثرية الغالبة من أهل السنة تؤمن برؤية الله القيامة(2). أما الشيعة من منطلق ارتباطهم الوثيق بالإمام المعصوم بالعين يوم فهم بعيدون كل البعد عن مثل هذه الأقوال المجافية للعقل والمنطق.

الأمر الآخر هو أنّ الدائرة المعرفية والتفسيرية بحاجة مستمرة إلى

وجود المرجع والإمام المعصوم، وأنّ الآخرين حيث يفتقرون إلى الإمام المعصوم فهم في معرض الوقوع في الخطأ. وقد تمكن الأئمة المعصومون - من خلال التأسيس للمباني والأصول في المعرفة الدينية ومن خلال تربية المفسرين والمتكلمين البارزين من أمثال هشام بن الحكم - من خفض مستوى الحاجة إلى الإمام في عصر الغيبة. وقد قاموا بنقل هذه المباني والأصول إلى المجتمع،للحيلولة دون تعرّض الدين لأنواع الآفات والبدع أو الحد من تأثيرها.

وعليه فإن عدم بلوغ المجتمع في صدر الإسلام بشكل كامل، وتكامله التدريجي في ضوء هداية الإمام المعصوم، يشكل واحداً من الأدلة على ضرورة وجود الإمام المعصوم بعد ختم النبوة. وسوف نضيف مزيداً من التوضيحات بهذا الشأن في الفصل المخصص للإجابة عن شبهة التنافي بين الإمامة وأصل الخاتمية.

ص: 31


1- انظر: أبو الحسن الأشعري، مقالات الإسلاميين، ج 1، ص 281؛ الشهرستاني، الملل والنحل، ج 1 ، ص 96 .
2- انظر: إمام الحرمين الجويني، كتاب الإرشاد، ص 164؛ عبد القاهر البغدادي، كتاب أصول الدين، ص 55 .

د - تشريع الأحكام الفرعية:

لقد تعرض النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)في فترة نبوته القصيرة نسبياً (ثلاثة وعشرون سنة) إلى كثير من العقبات والضغوط، من قبيل قلة أعداد المؤمنين طوال الفترة المكية من البعثة، والتي استغرقت ثلاثة عشر عاماً، وما رافق

هجرته وإقامته في المدينة المنوّرة من الحروب المفروضة عليه من قبل المشركين وبعض القبائل اليهودية، وهو أمر لم يترك له مجالاً إلى بيان جميع أحكام الإسلام الجزئية والفرعية، أو أن الذي ييّنه منها لم يُضبط أو ينقل عنه بشكل واضح ودقيق، يضاف إلى ذلك ما يستجد من الأسئلة والتحديات عبر العصور والأزمنة اللاحقة، مما لا يمكن الحصول على الإجابة عنه أو تقديم الحلول له من خلال العودة إلى القرآن والسنة النبوية، ولا يمكن توجيه هذا الخلل القانوني والتشريعي بالنسبة إلى الدين الذي يدعي الخاتمية والخلود والشمولية. وقد عالج الإسلام هذا الخلل من خلال التأصيل لمفهوم الإمامة، وبالالتفات إلى المقام العلمي والإلهي للإمام، يقدم الإسلام الإجابة الشافية عن جميع المعضلات القانونية والتشريعية المستحدثة(1).

والمسألة المثيرة للنقاش تكمن في إسناد تشريع الأحكام إلى الأئمة(علیهم السّلام) ، حيث توجد هناك رؤيتان بين الإمامية في هذا الشأن(2)، وسيأتي تفصيل ذلك في الفصل الخاص ببيان النسبة بين الإمام والخاتمية.

ص: 32


1- انظر: العلامة محمد حسين الطباطبائي، شيعه در اسلام، ص 80؛ محمد تقي مصباح اليزدي، آموزش عقاید، ج 1 و 2 ، ص 352 - 353.
2- انظر: سعيد ضيائي فر، جایگاه مبانی کلامی در اجتهاد، ص 681 فما بعد.

ه_- إقامة الحكومة الدينية:

إن الدين الذي يدعى الخلود والشمولية والخاتمية في مختلف المجالات الفردية والاجتماعية والسياسية، لا يسعه عدم الاهتمام بمسألة الحكم والسلطة؛ لما تلعبه الدولة من دور في توجيه مسار المجتمع وهدايته، فضلاً عن إعداد المفكرين وعلماء الدين، وتحديد توجهاتهم وتطلعاتهم الفكرية.

وعلى هذا الأساس سيكون للإسلام اهتمام خاص بمسألة الحكم و شخص الحاكم بوصفه المكمّل لحياة الإسلام وصيانة الدين من آفات الانحراف والتحريف. ومع القول بضرورة اهتمام الدين بمسألة الحكم والدولة، سيجرنا البحث التالي إلى تعيين الحاكم.

لمّا كان الإسلام يجمع بين الدين والدولة، بحيث لا يوجد للنظرية العلمانية القائلة بالفصل بين الدين والسياسة أي موقع من الإعراب. فإن

الشخصية التي تتمتع بالمرجعية العلمية والدينية وتتحلى بمقام الولاية المعنوية، سوف يتولى إدارة الحكم والدولة أيضاً؛ إذ مع وجود المرجع الديني والعلمي المطلق مع ما يتصف به من الولاية المطلقة، لا يصل الدور إلى فرد آخر؛ إذ يلزم من تقديم الآخر عليه تقديماً للمفضول على الفاضل، والمرجوح على الراجح. كما يلزم من توزيع السلطات والفصل بينها بتخويل فرد لتولي إدارة الأمة وقيادتها على المستوى السياسي والاجتماعي بعيداً عن التدخل في الشؤون الدينية، يحتمل فيه أن عدم عصمة مثل هذا الزعيم السياسي والاجتماعي قد يحمله على العدوان على حوزة اختصاص المرجع العلمي والديني، فيعمد إلى عزله وتنصيب شخص على وفق هواه، وفي هذه الحالة يلزم من ذلك نقض الغرض، فلا يتمكن الدين الخاتم والخالد من تحقيق أهدافه وغاياته.

ص: 33

ومن خلال إطلالة عابرة على تاريخ صدر الإسلام يثبت صدق ما ذكرناه آنفاً، فعلى الرغم من حضور الإمام على(علیه السّلام)بوصفه خليفة النبي الأكرم في جميع الشؤون - الأعم من المرجعية العلمية والدينية، والولاية العامة - لم يتسن له ممارسة حقه في الحكم طوال ربع قرن من الزمن لحكم الخلفاء الثلاثة، وهو أمر فرض على الإمام علي(علیه السّلام)عزلة عن المجتمع، استغلها الإمام بكتابة تفسير جامع للقرآن، إلى جانب حفر الآبار واستثمار التربة واستصلاحها. وفي ظرف هذه الفترة تعرّض الإسلام لأنواع الانحراف والزيغ

عن جادة الصواب، وقد مهدت هذه الانحرافات لظهور نظرية فصل الدين (الإمامة) عن السياسة والحكم. (سنشير إلى جوانب من ذلك في تضاعيف هذا الكتاب إن شاء الله).

وعليه فإن من بين أسباب الإمامة وضروراتها، قيام دولة دينية خالصة ليتم في ضوئها تطوير الدين والمحافظة على صفائه ونقائه في مختلف الأبعاد الفردية والاجتماعية.

و - الأئمة وسائط الفيض الإلهي:

كما يمكن لنا أن نرسم صورة أخرى لفلسفة الإمامة من زاوية العرفان والحكمة المتعالية، وهي صورة يمكن الحصول عليها من خلال التأمل في مضمون بعض الروايات الشريفة.

لقد ثبت في الفلسفة أن لكل وجود مادي وجوداً مثالياً وبرزخياً، ويكون له وجود عقلي أيضاً. وفي الحقيقة فإن الوجود المادي لكل شيء مسبوق بوجود له في عالم المثال، وقبله في عالم التجرّد أيضاً (بقيد البساطة طبعاً)، وبعد توفّر الظروف المادية اللازمة ينزل الوجود من عالمه الأعلى.

ص: 34

وتطلق الفلسفة على الوجود الأول تسمية (العقل الأول)، وهو مخلوق الله مباشرة، ليتم بعد ذلك خلق سائر الموجدات التالية من خلاله. ويمكن قراءة هذا الموضوع في الفلسفة تحت عنوان «قاعدة الواحد».

إن تحليل هذا الرأي وإثباته (الأئمة وسائط الفيض الإلهي) من زاوية الروايات، لا يترك مجالاً لإنكار المخالف. وفيما يأتي نستعرض بعض هذه الروايات، ونترك بعضها الآخر إلى الفصل الذي نتعرض فيه لنقد الشبهة بشأن أفضلية الأئمة المعصومين على الأنبياء.

ورد في الروايات التأكيد على أن المخلوق الإلهى الأول هو الوجود النوراني للنبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)مع الوجود النوراني لأهل البيت (المعصومون الأربعة عشر)، وقد امتزجت وتحققت الأنوار النورية لأئمة الشيعة والسيدة الزهراء(صلی الله علیه و آله و سلم)مع الوجود النوراني للنبي الأعظم(صلی الله علیه و آله و سلم).وإن استمرار الفيض الإلهي ينتقل إلى الآخرين عبر الوجود النوراني لهذه الأنوار الإلهية. ومن هنا جاء التعبير عن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)في بعض الروايات من خلال وصف نفسه بالنبي الأول الذي كان مخلوقاً قبل نفخ الروح في جسد سيدنا آدم(علیه السّلام) :

-«كنت نبياً وآدم بين الروح والجسد»(1).

-«كنت أنا وعلي بين يدي الله عز وجل قبل أن يخلق آدم»(2).

وروي عن النبي الأكرم(علیه السّلام) أنه قال لعلي(علیه السّلام) : «أنت منى وأنا منك أنت كروحي من جسدي،أنت مني كالضوء من الضوء»(3).

ص: 35


1- الحنفي القندوزي، ينابيع المودة ، ج 1، ص 45 ، ب 1 ، ح 1، 3 ، 5 .
2- ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، ج 9، ص 171.
3- العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 38، ص 296.

وروي عن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)أنه قال:

«بعث علي مع كل نبي سراً، ومعي جهراً»(1).

وفي رواية صحيحة من طرق أهل السنة، قال النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم) :

«كنتُ أنا وعلي بن أبي طالب نوراً بين يدي الله تعالى قبل أن يخلق آدم بأربعة آلاف عام، فلما خلق آدم، قُسّم ذلك النور قسمين: فجزء أنا، وجزء علي»(2).

وفي رواية عن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)في جوابه عن سؤال جابر بن عبد الله الأنصاري حول ولادة الإمام علي(علیه السّلام) قال: «إن الله تبارك وتعالى خلق علياً من نوري، وخلقني من نوره، وكلانا من نور واحد»(3).

وهناك كثير من الروايات الشبيهة بهذه الروايات والمروية بأجمعها عن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)في كتب الفريقين(4).

وفي رواية أخرى وصف النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)نفسه وأهل بيته بأنهم أفضل من الملائكة، وبيّن سبب ذلك في الأسبقية الوجودية، المستلزمة لأسبقيتهم في المعرفة الربوبية :

«ما خلق الله عزّ وجلّ خلقاً أفضل مني، ولا أكرم عليه مني ... لولا نحن ما خلق آدم ولا حواء، ولا الجنة ولا سماء ولا أرض، فكيف لا نكون أفضل من الملائكة وقد سبقناهم إلى معرفة ربنا وتسبيحه وتهليله وتقديسه؟!

ص: 36


1- ابن أبي جمهور الأحسائي، المجلي، ص 309 و 368.
2- تذكرة الخواص، ص 46
3- كفاية الطالب، ص 405 ؛ ابن طاووس، اليقين، ص 485 ،ب194، نقلاً عن: موسوعة الإمامة في نصوص أهل السنة، ج 3، ص 57 .
4- انظر: موسوعة الإمامة في نصوص أهل السنة، ج 3، الباب : 3 و 4 ، وج 4 ، ص 415 .

لأن أول ما خلق الله عزّ وجلّ أرواحنا؛ فانطلقنا بتوحيده وتحميده»(1).

وقد أشار الإمام على(علیه السّلام)إلى مقامه بوصفه وصياً لخاتم الأنبياء، وإلى ولايته وإمامته - التي تفوق مقام النبوة على ما سيأتي بيانه في الفصول القادمة - مبيناً أنه سابق على النبي آدم(علیه السّلام)؛ إذ يقول: «كنتُ وصياً وآدم بين الماء والطين»(2).

وقد وصف الإمام جعفر الصادق(علیه السّلام)في رواية أن النبي محمداً(صلی الله علیه و آله و سلم)والإمام علياً(علیه السّلام)كانا متحدين في النور الأول، وكانا موجودين حيث لا موجود قبلهما [باستثناء الله طبعاً]، وكانا متحدين في الأصلاب، حتى افترقا في صلب عبد الله (والد النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم))- وفي صلب أبي طالب (والد الإمام علي(علیه السّلام)):

«إِنَّ الله كَانَ إِذْ لَا كَانَ؛ فَخَلَقَ الْكَانَ وَالْمَكَانَ، وَخَلَقَ نُورَ الْأَنْوَارِ الَّذِي نُوِّرَتْ مِنْهُ الْأَنْوَارُ، وَأَجْرَى فِيهِ مِنْ نُورِهِ الَّذِي نُورَتْ مِنْهُ الْأَنْوَارُ، وَهُوَ النُّورُ الَّذِي خَلَقَ مِنْهُ مُحَمَّداً وَعَلِيّاً ، فَلَمْ يَزَالا نُورَيْنِ أَوَّلَيْنِ إِذْ لَا شَيْءَ كُوِّنَ قَبْلَهُما ، فَلَمْ يَزَالَا يَجْرِيَانِ طَاهِرَيْنِ مُطَهَّرَيْنِ فِي الْأَصْلَابِ الطَّاهِرَةِ، حَتَّى افْتَرَقَا فِي أَطْهَرِ طَاهِرِينَ، فِي عَبْدِ اللَّهِ وَأَبِي طَالِبٍ»(3).

كما وصف الإمام الصادق(علیه السّلام)وجود الأئمة بأنه الوجود الأول والآخر في الخلق الإلهي، قائلاً:

ص: 37


1- العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 26، ص 335.
2- ابن أبي جمهور الأحسائي، عوالي اللآلي ، ج 4 ، ص 123.
3- محمد بن يعقوب الكليني، أصول الكافي، ج 1 ، ص 441، كتاب الحجة، باب مولد النبي ، ح 9؛ الإمام الخميني، مصباح الهداية، ص 61.

«نحن صفوة الله، ونحن خيرة الله، ونحن مستودع مواريث الأنبياء، ونحن أمناء الله، ونحن وجه الله، ونحن آية الهدى، ونحن العروة الوثقى، وبنا فتح الله وبنا ختم الله، ونحن الأولون ونحن الآخرون، ونحن أخيار الدهر ونواميس العصر، ونحن سادة العباد وساسة البلاد، ونحن النهج القويم والصراط المستقيم، ونحن علة الوجود وحجة المعبود»(1).

وقد ورد في الأحاديث النبوية المروية في كتب الفريقين أن النبي آدم بعد خلقه رأى خمسة أنوار في العرش الإلهي تشبهه؛ فسأل الله عنها، فقال له:

«لولاهم ما خلقتك ... يا آدم هؤلاء صفوتي من خلقي، أنجيهم، وبهم أهلكهم، فإذا كان لك إلي حاجة فبهؤلاء توسل»(2).

تم التأكيد في كتب الفريقين على أن أهل البيت ليسوا واسطة الفيض الإلهي فحسب، بل هم وسطاء في بقاء وحفظ أصل وجود عالم الإمكان أيضاً. وبعبارة أخرى: إن عالم الوجود للسبب المذكور (الإمام واسطة الفيض حدوثاً وبقاءاً) لا يخلو أبداً من وجود الإمام المعصوم.

وهذا ما يؤيده ويؤكد عليه العرفان والعرفاء، ويعبّرون عنه بقطب العالم ومقام الولاية.

كما تم التأكيد على ذلك في كتب الفرقين، ومن ذلك ما روي عن الإمام علي(علیه السّلام) أنه قال: «اللهم بَلَى ! لاَ تَخْلُو الْأَرْضُ مِنْ قَائِمِ اللهِ بِحُجَّةِ، إِمَّا ظَاهِراً مَشْهُوراً ، وَإِمَّا خَائِفاً مَغْمُوراً؛ لِئَلاً تَبْطلَ حُجَجُ الله وَبَيِّنَاتُهُ»(3).

ص: 38


1- العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 26، ص 259.
2- فرائد السمطين، ج 1، ص 36؛ القطب الراوندي، قصص الأنبياء.
3- نهج البلاغة، الحكمة رقم: 147 .

«عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْفُضَيْلِ، عَنْ أَبِي الحَسَنِ الرّضَا(علیه السّلام)، قَالَ: قُلْتُ لَهُ أَتَبْقَى الْأَرْضُ بِغَيْرِ إِمَامٍ؟ قَالَ: لَا. قُلْتُ: فَإِنَّا نُرَوَّى عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهُ(علیه السّلام)أَنَّهَا لَا تَبْقَى بِغَيْرِ إِمَامٍ إِلَّا أَنْ يَسْخَطَ الله تَعَالَى عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ أَوْ عَلَى الْعِبَادِ؛ فَقَالَ : لَا ، لَا تَبْقَى إِذا لَسَاخَتْ»(1).

وروي عن الإمام زين العابدين(علیه السّلام)أنه قال في حديث طويل :

«نحن أمان أهل الأرض كما أن النجوم أمان أهل السماء، ونحن الذين بنا يُمسك الله السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، وبنا يمسك بأهلها، وبنا ينزل الغيث وينشر الرحمة، ويخرج بركات الأرض، ولولا ما في الأرض منا لساخت الأرض بأهلها ... ولم تخل الأرض - منذ خلق الله آدم - من حجة الله فيها ظاهر مشهور أو غائب مستور»(2).

هذا وقد وردت فقرات الزيارة الجامعة بهذا المضمون.

وروي عن الإمام الصادق(علیه السّلام)أنه قال: «إن الأرض لا تخلو إلا وفيها إمام»(3).

وقد تم تأييد هذه المسألة من قبل الفلاسفة المسلمين أيضاً(4).

ويمكن بيان خلاصة الكلام عبر المسألتين الآتيتين:

ص: 39


1- محمد بن يعقوب الكليني، أصول الكافي، ج 1، ص 179.
2- فرائد السمطين ، ج 1، ص 45؛ موسوعة الإمامة، ج 5، ص 286 .
3- محمد بن يعقوب الكليني، أصول الكافي، ج 1، ص 251.
4- انظر: ابن سينا، الإلهيات من الشفاء، ص 455 ؛ مجموعة مصنفات شيخ الإشراق، ج 2، ص 11 - 12؛ الميرداماد، القبسات، ص 397؛ محمد رضا الحكيمي، خورشيد مغرب، الفصل التاسع.

المسألة الأولى: إن وجود الأئمة في العالم لم يكن أمراً حادثاً وجديداً، بل كان وجودهم الشريف والنوراني متحداً بنور النبي الأعظم(صلی الله علیه و آله و سلم)قبل خلق عالم المادة وقبل أي وجود، على شكل وجودات شريفة متسامية وحاضرة في مقام القرب الإلهى، وإنما تجلّت ظهوراتهم في العالم المادي ضمن الجسد الإنساني. وبعبارة أخرى: كان وجودهم لازماً ذاتياً لأصل خلق العالم الممكن، وكما قيل: «الذاتي لا يُعلل».

المسألة الثانية: حيث يتصف وجود الأئمة بالشرف والمنزلة الوجودية، فإن أصل وجود عالم الإمكان متقوم بوجودهم، وإن وجودهم عنصر حدوث وبقاء سائر الوجودات الأخرى، ومع عدم وجودهم يتحول العالم إلى عدم. وعليه يكون وجودهم ضرورياً ولازماً للحفاظ على وجود أصل الممكنات.

ثالثاً: وجوب معرفة الإمام :

بالالتفات إلى الخصائص الفريدة والفذّة للأئمة الأطهار(علیهم السّلام)، والتي مرّ بيان بعضها في بحث فلسفة الإمامة:(الهداية، والمرجعية الدينية، وتشريع الأحكام الفردية، والواسطة في الفيض الإلهي)، يجب على كل فرد مسلم - بل وحتى غير المسلم أيضاً بالنظر إلى الدور الرابع الذي يمثله الإمام - أن يتعرف على مقام الإمامة ولو بشكل عام وإجمالي، ثم يصير بعد ذلك إلى التعرف على مصاديق الأئمة؛ وذلك لأن المعرفة الصحيحة والخالصة لتعاليم الدين العقائدية والعملية والأخلاقية، إنما يأتي من خلال المنبع الصافي للأئمة الأطهار(علیهم السّلام)، وإلا فإن معرفة كل فرد وعمله إذا لم يكن من غير قناة الأئمة سيكون عرضة للشوائب وأنواع الانحرافات، وهذا يتنافى مع الهدف من بعث الأنبياء وإنزال

ص: 40

الكتب والأديان السماوية.

من هنا ورد في الروايات والأحاديث النبوية والولائية التأكيد على معرفة الإمام بمختلف الصيغ واعتبرت الجاهل بمقام الإمام والإمامة بحكم من يموت على الجاهلية:

- «من مات ولم يعرف إمام ،زمانه مات ميتة جاهلية»(1).

- «من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية»(2).

طبقاً لهذه الروايات فإنّ الذي يموت من دون أن يعرف إمام زمانه كأنه مات في الجاهلية وإنه في الواقع سيموت على غير الإيمان بالله واليوم الآخر. والسؤال هنا: ما هو المراد من الإمام؟ هل المراد من الإمام نوع الحاكم، حتى إذا استولى على الحكم بالاحتيال والقهر والغلبة ؟ إذا كان الأمر كذلك فما هی العلاقة بين معرفة هذا الإمام وترتيب آثار الكفر والجاهلية على الجاهل به؟

بعد التمعن في الروايات المأثورة عن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)بشأن الإمامة

ص: 41


1- محمد بن يعقوب الكليني، أصول الكافي، ج 1، ص 376. وهناك احتمالان بشأن المراد من الميتة الجاهلية، الأول: الكفر والشرك. الثاني: الضلال. وكلا المعنيين وارد في الروايات أيضاً . (أصول الكافي، ج 1، ج 1، باب من مات وليس له إمام، ص 376؛ العلامة محمد باقر المجلسي، مرآة العقول، ج 4، ص 220).
2- صحيح ابن حيان، ج 10، ص 434؛ مسند أحمد ، ج 4، ص 96 (16876)؛ المعجم الكبير، ج 19، ص 388 (910)؛ شرح المقاصد، ج 2، ص 275، ومن هنا يتضح ضعف ادعاء الدكتور النشار في كتابه ( نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، ج 6، ص 217)القائم على إنكار هذه الأحاديث في مصادر أهل السنة. لمزيد من الاطلاع حول مئات الأحاديث في هذا الشأن، انظر : المكتبة (الإلكترونية) الإسلامية الكبرى الشاملة، من خلال البحث عن مصطلح (الميتة الجاهلية).

والإمام، وخاصة بالنظر إلى الأحاديث المروية عن الإمام على(علیه السّلام)وسائر الأئمة الآخرين(علیه السّلام)بوصفهم الأئمة المنتجبين، وحجج الله، ووسطاء الفيض السلام الإلهي، وعلة بقاء أصل الوجود، ندرك أن المراد من ضرورة معرفة الإمام هو الإمام الحقيقى والكامل المتجسّد في الأئمة الأطهار السلام(علیه السّلام).

إن هذا الادعاء يثبت من لزوم التناسب والسنخية بين الحكم (موت الجاهلية والكفر) والموضوع (الجهل بالإمام). يضاف إلى ذلك وجود كثير من الروايات التي تطبق هذه الروايات على الأئمة الأطهار(علیه السّلام)، بمعنى أن الذي يجهلهم ولا يعرفهم ويموت على ذلك، يموت ميتة جاهلية.

رابعاً: إثبات نظرية الشيعة في تنصيب الإمام:

اشارة

إنّ إمامة الأئمة الأطهار(علیهم السّلام)وعلى رأسهم الإمام علي(علیه السّلام) بوصفه صبا خليفة رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) مباشرة، يمكن إثباتها من ثلاثة طرق: القرآن والسنة والعقل.

أما الآيات والروايات المثبتة لإمامة الإمام على(علیه السّلام)، فسوف يأتي تفصيل الكلام حولها في فصل شبهات حول أصل تنصيب الإمام. وعليه سنكتفي هنا بالإشارات العابرة تحت العناوين الآتية:

أولاً: الاتجاه النقلي:

تقدمت الإشارة إلى وجود كثير من الآيات والروايات المتعددة والمتواترة أحياناً في دلالتها على إمامة الإمام على(علیه السّلام)، وهو أمر يثبت النظرية القائلة بكون الإمامة بالتنصيب. وعلاوة على هذه النصوص - التي

ص: 42

ستأتي في محلها - هناك تصريح في بعض النصوص الواردة عن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)بكون أصل الحكم بعده يكون بتنصيب من قبل الله عزّ وجل. كما ورد في قصة إسلام قبيلة بني عامر ، حيث اشترطوا على النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)أن يكون لهم الأمر بعد رحيله؛ فرفض النبي هذا الشرط منهم، معللاً ذلك بقوله: «إن الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء»(صلی الله علیه و آله و سلم)(1).

كما رصد التاريخ حالات أخرى مشابهة لهذه الحادثة؛ حيث اشترطت قبيلةكندة(2)، واشترط عامر بن الطفيل، وأربد بن قيس(3)، أن يكون لهم الأمر بعد رحيله؛ فكان الجواب هو الجواب.

واللافت في توضيح الأمر هنا أن ما كانت تطالب به هذه القبائل المختلفة من النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)هو منحهم الحكم والسلطة السياسية التي ينظر إليها أهل السنة بوصفها مسألة فقهية تدخل في صلاحية الأمة واختيارها. ولكن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)يصفها بأنها حق إلهي.

ثانياً: الاتجاه التحليلي والعقلي :

الاتجاه الآخر الذي يمكن تناوله بالبحث والدراسة في تحليل مسألة القيادة وخلافة النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)،و عبارة عن تحليل عقلي واجتماعي، يأخذ بنظر الاعتبار ظروف ذلك العصر، وذلك على النحو الآتى:

ص: 43


1- تاريخ الطبري، ج 2، ص 84 ؛ سيرة ابن هشام، ج 2، ص 55 ؛ السيرة الحلبية، ج 2، ص 3.
2- انظر: سيرة ابن كثير، ج 2، ص 159 .
3- انظر: المصدر أعلاه، ج 2، ص 114.

النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)على مفترق ثلاثة طرق:

لقد أقام النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)طوال جهوده المضنية التي استمرت لأكثر من عقدين من الزمن على تحمّل أعباء الرسالة والنبوة، برعمين يافعين باسم الدين الإسلامي الحنيف والدولة الإسلامية. وحيث كان هذان البرعمان يافعين، استدعى ذلك ضرورة العمل على حفظهما وصيانتهما من أنواع الآفات، وإن عمر النبي لم يكن كافياً لضمان هذه الصيانة. هذا في حين كان الخطر الخارجي متمثلاً بوجود الروم وإيران القديمة والخطر الداخلي متمثلاً بتيار المنافقين يهدد أصل وجود الإسلام وبقائه. وعليه يطرح السؤال الآتي نفسه: هل فكر النبي الأكر(صلی الله علیه و آله و سلم)بوسيلة تضمن البقاء والاستمرار لهذين البرعمين اليافعين (المتمثلين بالإسلام وأصل الحكومة)، أم أنه ترك الأمور على عواهنها؟

في البداية يوجد هناك ثلاثة احتمالات يمكن تصورها:

1 - اتخاذ الموقف السلبي تجاه هذه المسألة: وذلك بأن يلتزم النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)جانب الصمت تجاه الحاكم والخليفة الذي يليه، فليس هناك تحديد علي للحاكم والحكم ولا نوع الحكم، وما إذا كان لشخص واحد أو لشورى من عدة أشخاص.

إن ضعف هذا الاحتمال سيتضح من خلال الأدلة والشواهد التي سنأتي على ذكرها في الصفحات القادمة بشأن وجوب تنصيب الإمام والحاكم.

2 - تخويل الأمر إلى الناس في إطار الشورى: الاحتمال الثاني أن يتخذ النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)موقفاً إيجابياً تجاه مسألة الحكم وإدارة الدولة من بعده، ولكن من خلال تعيين الشورى أو أفراد من النخبة، أو البيعة.

ص: 44

وعلى الرغم من أن الإشكالات السابقة لا تتجه على هذا الاحتمال، ولكنه لا ينجو من بعض الإشكالات الأخرى، التي نجملها على النحو الآتي:

أ - قد يبرز هناك تحد في اختيار شخص من أعضاء الشورى بسبب هيمنة الأغراض والأهواء على أعضاء هذه الشورى، وهو أمر سيكون مثاراً لتأجيج نار الخلاف والفتنة.

ب - حيث لا يتصف أعضاء الشورى بالعصمة، فقد تتحكم فيهم العواطف والمحسوبيات والأهواء، بدلاً من تحكيم الملاكات الحقيقية، كما حصل ذلك بالفعل في الشورى التي اختارها الخليفة الثاني، حيث مالت كفتها لصالح عثمان رغم وجود الإمام علي(علیه السّلام)كواحد من المرشحين في هذه الشورى.

ج - لا توجد أي توجد أي وثيقة معتبرة ولا غير معتبرة تثبت وجود شورى يراد منها تعيين الإمام والخليفة من قبل النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم). وعليه لا يوجد هناك قائل بهذا الاحتمال الثالث.

3 - تعيين وتنصيب الشخص الأصلح الاحتمال والفرضية الثالثة أن يعمد النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم) - من خلال معرفته بأصحابه - إلى اختيار الأصلح والأفضل من بينهم لإدارة هذين البرعمين اليافعين وصيانتهما وحفظهما. وهذا هو مختار الشيعة، حيث يعمدون أولاً إلى إثبات ضرورة نظرية التنصيب، ثم يبحثون بعد ذلك عن مصاديقها.

الأدلة والشواهد على وجوب التنصيب :

ننتقل الآن إلى تقرير نظرية وجوب التنصيب وإثباتها بالأدلة والشواهد المختلفة.

ص: 45

أ - الأخطار الخارجية والداخلية التي تهدّد الإسلام :

لقد أشرنا إلى أنّ الأخطار الخارجية والداخلية المتمثلة بالمنافقين والذين يدعون النبوة من أمثال مسيلمة الكذاب، وما سوى ذلك من الأمور كانت تهدد الحكومة الإسلامية، والأهم من ذلك خطر تحريف التعاليم الإسلامية وما إلى ذلك من البدع، كانت تحتم على النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)أن لا يترك أمته نهباً لجميع هذه الأخطار، ومع الالتفات إلى علمه اللدني يتحتم عليه أن يحدد الشخص المناسب كي يتصدى للمرجعية العلمية والدينية والسياسية، وينصبه إماماً وخليفة على المسلمين. وبعبارة أبسط: إن الشخص القروي لا يترك قطيع أغنامه من دون من يرعاه، فهل يعقل بنبي مثل النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)أن يترك أمته من دون أن يستخلف عليها من يرعى مصالحها؟!

ب - التنصيب عنصر الصيانة والوحدة ومنع الخلافات القومية:

تتكون المجتمعات - والأمم بشكل بارز - من مناطق وقبائل وأعراق ولغات مختلفة ومتنوعة، ويسعى كل مكوّن فيها إلى الاستيلاء على السلطة أو أن يكون له في الحد الأدنى حصة تتناسب وحجمه فيها. وإن هذا التنوع والاختلاف يؤدّيان إلى النزاع والتخاصم، وقد يؤدّيان إلى اندلاع الحروب الداخلية وإزهاق الأرواح وإراقة الدماء، والمثال البارز على ذلك يتجلى في الحروب التي كانت تتفجر من حين لآخر بين قبيلتي الأوس والخزرج في المدينة قبل دخول النبي إليها، فلم تلق تلك الحروب أوزارها إلا بعد اعتناق كلتا القبيلتين للإسلام.

وبعد أن قويت شوكة الإسلام على يد النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)، انتشر أتباعه في مختلف المناطق والقبائل، وتنافس القطبان القويان في الإسلام (أي

ص: 46

المهاجرون والأنصار) فيما بينهما وأخذا يضمران التخطيط للاستيلاء على السلطة بعد رحيل رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم).يؤيد ذلك ما حصل في سقيفة بني ساعدة، فعلى الرغم من أن جسد الرسول لم يجهز للغسل والتكفين والتشييع والدفن بعد حتى اجتمع الأنصار في موضع لهم باسم السقيفة، واختاروا لأنفسهم شخصاً وهو سعد بن عبادة ليكون رئيساً عليهم؛ وما أن تناهى خبر ذلك إلى عمر وأبي بكر حتى هرعا إلى المكان، ليُعلنا من هناك بأن قادة قريش لن يقبلوا بقيادة الأنصار عليهم، وتمسّكا لذلك بحديث روياه عن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)يقول : إن الإمامة والخلافة في قريش. ولكي يضمن أبو بكر نجاح خطته بسلام قطع وعداً للأنصار بأن تكون لهم الوزارة.

يظهر من خلال هذا المشهد والمقطع التاريخي وجود نص نبوي حسم النزاع لصالح أبي بكر، وحال دون استمرار الخلاف والفتنة.

وهنا نتساءل: ألا يمكن هذا النص العام والمبهم أن يؤدي بدوره إلى احتدام النزاع بين بطون قريش نفسها فيمن هو أحق من غيره في استلام السلطة؟ فقد اشتملت قريش على آلاف الأشخاص الذين يمكن أن يبرز من بينهم عشرات الرجال الذين يدعون لأنفسهم الأفضلية على الآخرين في تولى السلطة وإدارة الأمة، كما حصل ذلك في نفس حادثة السقيفة حيث بادر عمر بن الخطاب وقام بإهداء الخلافة إلى أبي بكر ، وقام هذا في المقابل بتنصيب عمر خليفة من بعده.

ولولا حكمة الإمام على(علیه السّلام)في تقديم مصلحة الأمة على مصلحته الخاصة لاندلعت حرب بسبب عدم استيعاب الشيعة لخلافة أبي بكر، وتم القضاء على برعم الحكومة الإسلامية اليافع، ولم تقم للإسلام بعد ذلك من قائمة.

ص: 47

وعليه كان بإمكان النص الخاص على شخص بعينه، وتطبيق ذلك النص على أرض الواقع أن يحول دون الاختلاف واندلاع الحرب، ويضمن رفعة الإسلام وتقدمه. وقد أكد بعض الفلاسفة هذه الحقيقة؛ إذ يقول ابن سينا: «الاستخلاف بالنص أصوب؛ فإن ذلك لا يؤدى إلى التشعب والتشاغب والاختلاف»(1).

ج - العلم بالأصلح وضرورة التعريف به وتنصيبه:

تقدم أن قلنا بأن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)كان على علم بذلك الشخص الأصلح من جميع الجهات للتصدي للمرجعية الدينية والسياسية، وذلك من خلال القنوات الاعتيادية ومن قناة الوحي أيضاً، وعليه إذا لم يُقدِم النبي الأكرم على تنصيب ذلك الفرد في هذا المقام، فإنه لن يحرم أمته من القيادة الدينية والسياسية لهذا الفرد الأصلح فحسب، بل سوف يسهم بشكل من الأشكال في أن يتصدى غير الأصلح لهذا الأمر، ولا يخفى ما في ذلك من مخاطر على الإسلام الفتي والحكم اليافع.

إن مثل هذا الاحتمال بعيد عن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)وهو المتصف بالحكمة والإخلاص للدين والأمة، بل مستحيل عليه ذلك. وبعبارة أخرى: إن العقل يحكم بتقديم الفاضل على المفضول، وترجيح الأصلح على الصالح، وقد أيّد القرآن الكريم هذا الحكم العقلي إذ يقول تعالى: ﴿ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى﴾(2).

ص: 48


1- ابن سينا، الإلهيات من كتاب الشفاء، ص 451 .
2- يونس: 35.

وعلى هذا الأساس يجب أن يكون النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم) - بوصفه واحداً من العقلاء بل هو أعقلهم - مطلعاً ومدركاً لهذا الحكم العقلي، وأن يقوم على تطبيقه أيضاً، ولازم هذا التطبيق هو تعيين الفرد الأصلح وتسميته للأمة، وإلا لزم من ذلك مخالفة حكم العقل، وهذا لا يتناسب مع شأن النبي ومنزلته.

د - عصمة الإمام تقتضي التنصيب

تقدم في البحث عن فلسفة الإمامة أن الإمام الذي يُراد لحفظ الدين وصيانته بشكل صحيح، يجب أن يكون معصوماً؛ ليكون تفسيره معتبراً وحجة على الآخرين (سيأتي البحث التفصيلى حول العصمة في الفصل الخاص بشبهة التنافي بين الإمامة والخاتمية على هامش هذه المسألة).

من خلال هذه الرؤية إلى الإمامة وشخص الإمام، يتضح أن الطرق الأخرى لتعيين الإمام (أى الشورى والبيعة) غير ممكنة؛ لأن أعضاء الشورى والبيعة لا طريق لهم إلى العلم بعصمة ذلك الشخص، إذ إن علم ذلك منحصر في الله سبحانه وتعالى، وهو علم ينتقل من الله إلى رسوله عن طريق الوحي(1).

ه_ - تنصيب الإمام من لوازم خلود الدين وخاتميته:

لقد كانت جميع الأديان والشرائع السماوية السابقة شرائع مرحلية ومؤقتة، بمعنى أن الدين اللاحق ينسخ الدين السابق، وفي هذه الحالة لا يكون تعيين الخليفة في تلك الأديان على درجة عالية من الأهمية. أما الدين الإسلامي فإنه يمتاز من سائر الأديان الأخرى بالخاتمية والخلود والعالمية، بمعنى

ص: 49


1- انظر: کشف المراد، ص 95؛الشافي في الإمامة، ج 2، ص 5.

أنه لا وجود لنبي أو دين بعد الإسلام. ومثل هذا الدين لا بد له من وجود إمام يعمل على حمايته وصيانته وحفظ مكانته في العالم، والحيلولة دون تحريفه وظهور البدع فيه، ويجب أن يكون هذا الإمام على مستوى هذا الدين وعالميته.

وقد كتبت شرحاً تفصيلياً وافياً حول العلاقة بين الإمامة والخاتمية في كتاب لي تحت عنوان (آيين خاتم)، فعلى القارئ الكريم إذا أراد التفصيل مراجعة ذلك الشرح(1).

و - تعيين الخليفة منهج متبع لدى جميع الأنبياء السابقين:

على الرغم مما تقدّم من القول بأن الاستخلاف وتعيين الخليفة أكثر تناسباً وسنخية مع الدين الخاتم منه إلى الأديان الأخرى، ولكننا عندما ننظر فى سيرة الأنبياء السابقين - وخاصة الأنبياء العظام منهم - نجدهم يهتمون بتسمية خليفة لهم يحرس ذلك المقدار من الشرائع المؤقتة التي يتركونها للأجيال بعدهم. وهكذا نجد أول أنبياء الله آدم(علیه السّلام)وبعده شيث وأوقينان وصولاً إلى خاتم الأنبياء، يعيّنون وصيهم والخليفة بعدهم بأمر من الله سبحانه وتعالى. وقد كتب أبو الحسن المسعودي (م 346 ه_)، في كتابه المعروف «إثبات الوصية» قائمة بأسماء خلفاء الأنبياء.

فكيف يمكن القول بأن الأنبياء السابقين يهتمون بتسمية من يخلفهم رغم عدم الحاجة الماسة إلى ذلك، ولا يقوم النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)بتسمية من يخلفه، مع أنه خاتم الأنبياء، ودينه خاتم الأديان؟!

ص: 50


1- انظر: آیین خاتم، ص 495 - 524.

ز - وصية القرآن الكريم بتعيين الخليفة والوصي :

إن القرآن الكريم في جملة تعاليمه يأمر المسلمين بكتابة الوصية لما بعد موتهم، إذ يقول تعالى في محكم كتابه الكريم: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾(1).

وعليه هاهو القرآن يُبدي كلّ هذا الاهتمام بكتابة الوصية وضرورتها حتى في الأمور الجزئية التي تتعلق بشؤون الأسرة، ويُلزم المسلمين بذلك. فكيف يمكن أن لا يبدي اهتماماً مماثلاً بالنسبة إلى ما اهتماماً مماثلاً بالنسبة إلى ما هو أخطر من ذلك من الأمور التي تتعلق بمصير الأمة بأسرها، فلا يأمر نبيه بتعيين خليفة له، ليقوم بعده بأعباء الأمة على المستوى الديني والسياسي؟! وكيف يمكن للنبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)أن يتجاوز مسألة على مثل هذا المستوى من الأهمية والخطورة؟! ألا ينطوي مثل هذا الكلام على الطعن بشخصية رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)بسبب عدم تطبيقه لهذه الآية فيما يتعلق بمصالح أمته، وهو الحريص على مصلحتها؟(2).

ح - تعيين الخليفة منهج للنبي الأكرم في إدارة الدولة:

عندما نطالع منهج النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)في إدارة الحكم، ندرك أنه في مختلف أسفاره، من قبيل مشاركته في الحروب حيث كان يغيب عن المدينة المنورة لبضعة أيام، كان يترك فيها من يخلفه؛ ليقوم بأعباء الأمور الإدارية ،والسياسية، وكان من بين الذين استخلفهم النبي من الصحابة طبقاً لأهمية الموقف وخطورة الأوضاع: الإمام علي بن أبي طالب(علیه السّلام)، وعبد الله بن

ص: 51


1- البقرة: 180 .
2- انظر: الفضل بن شاذان، الإيضاح، ص 105.

مكتوم، ومعاذ بن جبل.

وهنا نتساءل: كيف يمكن للنبي الذي يبدي هذا المستوى من الاهتمام بمسائل الحكم والدولة، حتى أنه لا يترك الأمور دون أن يستخلف من يقوم بأعبائها في غيابه لفترة قصيرة جداً، ولا يبدي ذات الاهتمام لما بعد رحيله؟(1)

ط - لازم عدم النصّ أفضلية الخليفتين الأولين على النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم) :

عندما نطالع تاريخ الخليفتين الأولين يثبت لنا أنهما لم يعيرا أهمية للبيعة وانتخاب الناس، وإنما عمد كل منهما إلى تعيين الخليفة وتنصيبه بعدهما. فهذا أبو بكر يوصي في مرض موته عثمان بن عفان أن يكتب لعمر بالخلافة بعده، وطلب من الناس أن يمتثلوا لأوامره، إذ يقول: «فإني قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب، فاسمعوا وأطيعوه»(2).

كما عمد عمر بن الخطاب قبيل موته إلى ضرب البيعة واختيار الناس عرض الجدار، فإنه وإن لم يسم شخصاً بعينه خليفة له، ولكنه جعلها في ستة، وهم: عثمان بن عفان، وطلحة، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وعلي بن أبي طالب(علیه السّلام)،على أن يختاروا واحداً منهم ليكون خليفة وحاكماً على المسلمين. وكما سيأتي في نص الكتاب - وقد صرح الإمام علي(علیه السّلام)بهذه الحقيقة - أن الأمور في هذه الشورى كانت محسومة سلفاً لصالح عثمان بن عفان.

ص: 52


1- انظر: كشف المراد، ص 496.
2- انظر: تاريخ مدينة دمشق، ج 18، ص 310؛ تاريخ الطبري، ج 2، ص 591، أحداث سنة 13.

وعلى هذا الأساس يتضح أن الخليفة الأول والخليفة الثاني كانا - قبل موتهما - مدركين ومهتمين بمستقبل الحكم ومستقبل الدين بحسب الظاهر، واتخذا لذلك الإجراءات الكفيلة بالحيلولة دون حدوث أي خطر محتمل.

فهل كان النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم) - الذي بذل كل ما عنده من أجل الدين الإسلامي الحنيف - دون الخليفتين الأولين في الاهتمام بمستقبل الدين والحكم والأمة ؟ وعلى أهل السنة ان يجيبوا عن سلوك الخليفة الأول في تعيين خليفته، وما إذا كان مشروعاً وخالياً من المحاذير أم لا؟

لو كان ما قام به الخليفتان غير مشروع ولم يكن خالياً من المحذور، فليس لنا هنا كلام، سوى أن أهل السنة يكونون بذلك قد اعترفوا بعدم مشروعية ما قام به الشيخان. وأما إذا كان ما قاما به مشروعاً وعقلانياً وعقلائياً، فالسؤال هنا: لماذا لم يق ، م النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)بالشيء نفسه؟ هل كان - والعياذ بالله - رغم اتصاله بالوحي غير مدرك لأهمية ذلك على مستوى الثبوت والمعرفة، أم أنه - والعياذ بالله - قد تعمد أن يتجاهل مصلحة المجتمع والدين وترك الأمة لحالها ؟! إن لازم هذا الكلام من أهل السنة هو أن الشيخين في الحد الأدنى - والعياذ بالله - أفضل من رسول الله في هذا المقام! وهذا اللازم لا يمكن الالتزام به حتى من قبل أهل السنة.

وقد واجه أهل السنة هذا التحدّي منذ القرون الأولى. فقد ذكر ابن أبي الحديد عند شرحه لمقاطع من نهج البلاغة تدل على أصل التنصيب، مستدلاً لذلك بالخوف والخشية من نسبة الصحابة إلى مخالفة نص النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)، كما جاء في شرح الفقرة القائلة: «فإنها كانت أثرة شحت عليها نفوس قوم» من الخطبة رقم 163، وقد نقل أنه سأل أستاذه أبي جعفر يحيى بن محمد

ص: 53

العلوي الذين هضموا حق الإمام في الحكم، هل المراد منه حادثة السقيفة أم الشورى التي دعا إليها عمر بن الخطاب وانتهت باختيار عثمان بن عفان؟ كان جوابه أن المراد من ذلك حادثة السقيفة(1).

يقر ابن أبي الحديد - بوصفه سنياً - إن نفسه لا تطاوعه باتهام

الصحابة بمعصية النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)!إذ يقول: «إن نفسي لا تسامحني أن أنسب صلى إلى الصحابة عصيان رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)ودفع النص».

وهنا يجيبه أبو جعفر - وهو أستاذه الذي ويصفه بالانصاف ورجاحة العقل - جواباً حصيفاً يقول فيه: «وأنا فلا تسامحني أيضا نفسي أن أنسب الرسول(صلی الله علیه و آله و سلم)إلى إهمال أمر الإمامة وأن يترك الناس فوضى سدى مهملين وقد كان لا يغيب عن المدينة إلا ويؤمر عليها أميراً وهو حي ليس بالبعيد عنها، فكيف لا يؤمر وهو ميت لا يقدر على استدراك ما يحدث». وهكذا يستمر أبو جعفر بتفصيل الجواب حتى يقول له ابن أبي الحديد: «لقد أحسنت فيما قلت»(2).

ي - الكشف دون التنصيب

فيما يتعلق بالنقطة الأخيرة في نظرية التنصيب عند الشيعة، يجب القول

ص: 54


1- توضیح ذلك أن ابن أبي الحديد المعتزلي يعيد الإشكال بعد هذا الكلام ثانية ويقول: إن ظاهر هذه الخطبة هو الاستدلال من قبل الإمام من طريق الأولوية دون النص. وقال أبو جعفر في الجواب: حيث كانت هذه الخطبة جواباً عن سؤال يقول: مع أنك أقرب إلى النبي وأولى من غيرك في استلام الحكم، فلماذا تم استبعادك عن الحكم؟ فأعطى الإمام الجواب المناسب على هذا السؤال. وعلاوة على جواب أبي جعفر سوف نشير في هذا الكتاب إلى مختلف احتجاجات الإمام على(علیه السّلام)على أصل التنصيب.
2- ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، ج 9، ص 248 - 250.

إن الشيعة بالاستناد إلى الآيات وصريح الروايات النبوية يعتقدون بأن الوجود النوراني للإمام على(صلی الله علیه و آله و سلم) كان محط اهتمام الله حتى قبل خلق العالم المادي، وقد اكتسب في الدنيا جميع الفضائل التي يجب توفّرها في الإنسان الكامل على المستوى الفردي والاجتماعي والديني والسياسي، وعليه يكون الإمام منذ أن بدأ رسالته الإسلامية حائزاً على ملاك خلافة النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)، ومن هنا لم يكن بحاجة إلى تنصيب وتعيين أصلاً.

بعبارة أخرى: إن التنصيب والتعيين من الصفات الاعتبارية المتعلقة بالأمور الجعلية، في حين أن منصب الخلافة عن النبي أمر تكويني وحقيقي، وأن الذي تتوفر فيه صفاته يكون مؤهلاً لهذا المنصب تلقائياً من دون حاجة إلى جعل وتنصيب.

من هنا فإن الجعل والتنصيب - الوارد في الآيات والروايات - ليس في مقام الجعل الحقيقي، بل هو في مقام الإرشاد إلى المصداق الحقيقي والتكويني، وهو في الحقيقة كاشف عن المقام التكويني. وسيأتي توضيح ذلك في معرض نقد شبهة التوريث في الإمامة إن شاء الله.

ك - الإشكالات الفقهية والحقوقية الواردة على نظرية الخصم (الانتخاب):

إن النظرية المقابلة وهي القائلة بانتخاب الخليفة عن طريق الشورى والبيعة - وخاصة بيعة السقيفة التي كانت من قبل بضعة نفر من الصحابة - فاقدة للمشروعية الدينية، على ما سيأتي تفصيله في نقد شبهة «عدم انسجام الإمامة مع الديمقراطية» في الفصل الثاني، وفي نقد شبهة «التنصيب عنصر اختلاف وفرقة» في الفصل الرابع إن شاء الله تعالى.

ص: 55

مصداق التنصيب

تحدثنا في الصفحات السابقة عن أصل التنصيب وضرورته، وبطلان النظريتين الأخريين (الموقف السلبي من قبل النبي ، أو تعيين الشورى). وهنا نتحدث - بعد إثبات ضرورة وجود النص على التنصيب من قبل النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم) - عن مصداق هذا التنصيب.

فنقول: بعد ثبوت أصل ضرورة التنصيب، تثبت الإمامة بالنص على الإمام علي(صلی الله علیه و آله و سلم)تلقائياً؛ لأن الأكثرية التي تناهز الإجماع من أهل السنة تنكر وجود النص على خلافة خلفائهم على ما سيأتي تفصيله في الفصل الرابع في نقد شبهة تعارض النصوص (الشبهة العشرون). أما الشيعة فيثبتون إمامة الإمام علي(صلی الله علیه و آله و سلم)بالآيات والروايات المتعددة على ما سيأتي تفصيله في معرض الإجابة عن شبهة إنكار النص في القرآن والسنة.

بعبارة أخرى: إن أهل السنة لا يعرفون شخصاً ليمثل مصداقاً لأصل النص، وعليه يجب عليهم الإجابة عن الإشكالات السابقة التي ترد على القول بعدم التنصيب، أما الشيعة فإنهم من خلال إثبات ضرورة التنصيب، يحددون مصاديق ذلك بمختلف النصوص.

ص: 56

الفَضْلُ الثاني

شبهات الإمامة ونقدها

ص: 57

ص: 58

الشبهة الأولى: نظرية وجوب الإمامة تعيين للتكليف على الله تعالى:

اشارة

هناك كثير من الشبهات المطروحة على أصل الإمامة من قبل أهل السنة وبعض المخالفين، حيث سنعمل في هذا الفصل على نقلها وانتقادها.

تقدم أن ذكرنا في الفصل الأول في تعريف الإمامة أن الإمامية يقولون بالوجوب العقلي لتعيين الإمام على الله . أمّا أهل السنة فينكرون الوجوب العقلي لذلك على الله، وينكرون على الإمامية ما يذهبون إليه من تحديد ما يجب على الله فعله(1)، في حين أن الله هو الخالق المطلق الذي لا يمكن أن يسأل عما يفعل، بحكم قوله تعالى: ﴿لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾(2).

مناقشة وتحليل :

في الإجابة عن هذه الشبهة هناك مسألتان جديرتان بالتأمل، هما :

ص: 59


1- انظر: سيف الدين الآمدي، أبكار الأفكار، ج 3، ص 19؛ شرح المواقف، ج 8، ص 377.
2- الأنبياء: 23 .

أ - الإشكال المرتبط بإنكار الحسن والقبح العقليين:

إن هذه الشبهة من قبل أهل السنة - سيما الأشاعرة منهم - تنشأ من إنكار أصل «الحسن والقبح العقلي». حيث يمثل إنكار هذا الأصل أحد المباني الكلامية للأشاعرة، بمعنى أن الأشياء والأفعال بقطع النظر عن الله لا تنصف بالحسن والقبح العقليين، وإنما ذلك تابع إلى أمر الشارع وحكمه(1).

وقد اتضح ضعف هذا الأصل والمبنى الكلامي للأشاعرة في علم الكلام(2)، حيث قيل: إن إنكار هذا الأصل يستلزم توالي باطلة، لا يمكن لأحد أن يلتزم بها، من قبيل: عدم إثبات الشريعة والنبوة؛ إذ يمكن على الله أن يجري المعجزة على يد من يدعي النبوة كاذباً، بل من خلال إنكار الأصل المتقدم لا يمكن إثبات حُسن شيء أو قبحه؛ إذ من الممكن أن يكون خبر الشرع والشارع عن الحسن أو القبح بنفسه كاذباً، وإن الكذب على الله - بحسب الفرض - ليس محالاً من الناحية العقلية.

أما بعد البناء على أصل الحسن والقبح العقليين، فإن العقل يحكم بأن الله لا يستطيع أن يفعل القبيح. وبعبارة أخرى: إن الله يجب أن يقوم بالأفعال الحسنة. أما الشبهة القائلة بأن ذلك يلزم منه تحديد التكليف على الله - المطروحة من قبل الأشاعرة(3)-فسوف يتضح الجواب عنها من خلال المسألة الآتية.

ص: 60


1- انظر: الفخر الرازي، الأربعين، المسألة رقم:25، ص246؛ تلخيص المحصل، ص 393؛ الشهرستاني، نهاية الأقدام، القاعدة : 17 ، ص 370 - 380؛ القوشجي، شرح التجريد، ص 339.
2- لمزيد من التوضيح، انظر: جعفر سبحاني، حُسن وقبح عقلي، الفصل 9 و 10.
3- انظر: ابن تيمية، الرسائل الكبرى، ج 1، ص 333، الرسالة الثامنة؛ الأسفرائيني، التبصير في الدين، ص 153.

ب - الخلط بين الوجوبين الاعتباري والتكويني:

المسألة الأخرى التى يجب الالتفات إليها فيما يتعلق بإسناد الوجوب على الله تكمن في اختلاف هذا الوجوب عن الوجوب الاعتباري الفقهي. بمعنى أن الوجوب الاعتباري هو الوجوب الذي يُفرض على المكلف أو المكلفين من الخارج فيفرض عليهم اتخاذ موقف معين بحيث لا يكون أمامهم من خيار آخر، من قبيل الأسير أو السجين الذي يفرض عليه التواجد في زمن خاص ومكان محدد، وهذا التكليف عبارة عن حكم ووجوب فقهي واعتباري، وإذا خالفه يكون مستحقاً للعقاب والمؤاخذة.

وهناك وجوب من نوع آخر ليس هو من سنخ الجعل والاعتبار، بل يُستنتج من التكوين والذات، كأن يقال إن شجرة الجوز ستثمر جوزاً حتماً، أو إن القوة الجاذبية تستقطب الأشياء باتجاهها. إن هذه الضرورات الطبيعية تستنتج من العلاقة التكوينية بين الأشياء، وبعبارة أخرى: يتم اكتشافها، فإن إثمار شجرة الجوز جوزاً، لا يتضمن إي إجبار وإكراه خارجيين يفرض عليها بأن تثمر الجوز، وإنما ذلك ينشأ من اقتضاء طبيعتها.

المثال الآخر يتعلق ببعض الأشخاص، كأن يقال: إن الإنسان العالم والحكيم لا يقوم باللغو والعبث، وإن الشخص الكريم والجواد مثل حاتم الطائي يُحسن إلى الآخرين، أو أن تعمد الأم إلى اجتراح المستحيل من أجل توفير الأمن لولدها، وقد تضحي بنفسها من أجله. وكل هذا لا ينشأ من الجبر والإكراه والتكليف الخارجى والاعتباري، بل ينشأ من ذات الإنسان وصفاته الفطرية.

وعليه فإن وجوب القيام بالفعل الحسن - من قبيل بعث الأنبياء وتعيين

ص: 61

الأئمة - على الله ليس وجوباً مفروضاً عليه من الخارج، بل هو حالة تنشأ من الصفات الكمالية للذات الإلهية، فإن اتصاف الله بالحكمة والجود وإرادة الخير هي التي تقتضي منه أن يعمل على هداية الإنسان لبلوغ السعادة والخلود فيها من خلال إرسال الأنبياء وتنصيب الأئمة، وإن هذا الفعل الإلهى ينشأ من الحكمة واللطف والعناية الإلهية. وبعبارة أخرى: إن الوجوب المحمول على الله «ليس وجوباً على الله (وجوباً وضعياً وفقهياً)»، وإنما هو «وجوب من الله (كلامي وعقلي)».

إذن ليس في نسبة وجوب تعيين الإمام على الله بالمعنى المتقدم أي محذور. وقد اعترف بعض المتكلمين من الأشاعرة بهذه المسألة، وهو ما سوف نشير إليه فى الشبهة الآتية.

الشبهة الثانية: اعتبار نظرية وجوب تعيين الإمام بدعة:

لقد عمد بعض أهل السنة إلى طرح هذه الشبهة، وهي أن رؤية الشيعة بشأن الإمامة ووجوب تعيين الإمام من قبل الله أو النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)ووجود النص، ليس إلا بدعة في الدين؛ إذ لم يرد هذان الأمران (وجوب تعيين الإمام، ووجود النص على إمام خاص) في النصوص الدينية (القرآن والسنة النبوية)، وهذا هو معنى البدعة. إذ قيل في تعريفها: «إدخال ما ليس في الدين على الدين، وإخراج ما في الدين من الدين». وقال ابن خلدون في ذكر هذه الشبهة:

«ظهر من بدعة الإمامية من قولهم ... إنه يجب على النبي تعيينها»(1).

ص: 62


1- تاريخ ابن خلدون، ج 1، ص 588 ، الفصل العاشر.

توضيح ذلك أن هذه الشبهة (الإمامة والحكومة ليست من شؤون الدين والنبوة) أخذت تطرح اليوم من قبل بعض العلمانيين من الشيعة والسنة، وسوف نتناولها بالنقد والتحليل في موضعها.

مناقشة وتحليل:

في معرض تحليل هذه الشبهة يجدر الالتفات إلى الأمور الآتية:

1 - النزاع المبنائي: ليس هناك من خلاف بين الشيعة والسنة بشأن . كبرى البحث وأصل البدعة وتعريفها وحرمتها؛ لأن البدعة وإن كانت لغة تعني: «إحداث وإيجاد كل أمر جديد وغير مسبوق»، إلا أنها تعني في المصطلح الديني: «إحداث أمر جديد في الدين بحيث يخالف الشريعة والسنة النبوية» على نحو ما تعرض له اللغويون. وقد عمد ابن الأثير إلى تقسيم البدعة إلى قسمين: بدعة هداية، وبدعة ضلالة، وقال في تعريف هاتين البدعتين: «فما كان في خلاف ما أمر الله به ورسوله(صلی الله علیه و آله و سلم)،فهو في حيّز الذم والإنكار، وما كان تحت عموم ما ندب الله إليه وحض عليه الله أو رسوله فهو في حيّز المدح»(1).

وقال ابن منظور الأفريقي: «إنما يريد من خالف أصول الشريعة ولم يوافق السنة»(2).

وقال الطريحي في مجمع البحرين: «البدعة: الحدث في الدين، وما ليس له أصل في كتاب ولا سنة»(3).

ص: 63


1- النهاية في غريب الحديث والأثر، ج 1، ص 112.
2- ابن منظور، لسان العرب، ج 1، ص 342، مادة (ب د ع)، وأيضاً: ج 8، ص 6؛ تاج العروس، ج 11، ص 9.
3- الطريحي، مجمع البحرين، ج 1، ص 164.

وقد ذكر الإمام الشافعي أن ملاك حرمة البدعة ليس في نفس كونها أمراً جديداً، بل لما فيها من مخالفة الكتاب والسنة أو الإجماع: «ما أحدث وخالف كتاباً أو سنة أو إجماعاً فهو البدعة والضلالة، وما أحدث من الخبر ولم يُخالف شيئاً من ذلك فهو البدعة المحمودة»(1).

كما عرف ابن كثير - وهو من المفسرين المتقدمين من أهل السنة - البدعة على أنها إحداث أمر في الدين من تلقاء النفس من دون أن يكون لها مبنى من الدين، كما قال في تفسير قوله تعالى: ﴿ وَرَهْبَانِيَّةٌ ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ ﴾(2) : «إنما التزموها من تلقاء أنفسهم ... الابتداع في دين الله ما لم يأمر به الله»(3).

هذا وقد فسّر الزمخشري(4)، والفخر الرازي(5)وغيرهما من مفسري أهل السنة «ابتدعوها» ب_ «أحدثوها من عند أنفسهم».

وعلى هذا الأساس فإن البحث بشأن وجود الإمامة أو عدم وجودها ليس بدعة في الكبرى، بل في مقام الثبوت والصغرى. بمعنى: هل أصل الإمامة من الدين أم لا، كي يكون إدخالها أو إخراجها داخلاً في تعريف البدعة؟

ص: 64


1- نقلاً عن: السيرة الحلبية، ج 1، ص 137.
2- الحديد: 27.
3- تفسير ابن كثير، ج 4 ، ص 482.
4- انظر: تفسير الكشاف، ج 4، ص 484 .
5- انظر: التفسير الكبير، ج 29، ص 246 ؛ ابن حجر العسقلاني، تفسير فتح الباري، ج ، ص253؛ ابن نجيم المصري الحنفي، البحر الرائق في شرح كنز الدقائق، ج 1، ص 611 ، وج 3 ص 419.

يذهب الشيعة بالاستناد إلى الأدلة النقلية - الأعم من كتاب الله وسنة النبي الأكرم - إلى الاعتقاد بأن أصل الإمامة مذكور في القرآن والسنة النبوية، وكان يجب على الله ورسوله طبقاً لبعض الأدلة أن يعينوا للمسلمين الإمام والقائد السياسي والديني، وهذا ما حصل فعلاً، وعليه يكون أصل الإمامة وتعيينها جزءاً من الدين.

ومن جهة أخرى يذهب أهل السنة إلى الاعتقاد بأن الإمامة ليست جزءاً من الدين، ولذلك لا يجب على الله ورسوله أن يعرفا وينصبا الإمام التالي.

وعليه توجد هنا رؤيتان ولا يمكن قبل تحليل ونقد آراء الطرفين وأدلّتهم أن ندعي أن الإمامة وتعيينها ليست من شؤون النبي والنبوة، وأن

إدخالها في الدين بدعة.

لقد كان أغلب علماء أهل السنة ملتفتين إلى هذه المسألة، ولذلك

أوردوا هذه الشبهة.

2 - اكتشاف الوجوب وليس فرض الوجوب على الله: الأمر الآخر أن وجوب تعيين الإمام على الله - كما تقدّم أن أشرنا في نقد الإشكال السابق - لا بمعنى الوجوب الاعتباري والوضعي الذي يستوجب تكليفاً على الله من

ناحية غير الله، بل بالمعنى التكويني الذي يستنتج من صفات الله الكمالية، من قبیل اتصافه بالحكمة وفي الحقيقة فإن الشيعة يذهبون إلى الاعتقاد بأن وجوب التعيين على الله أو نبيه ليس وجوباً وتكليفاً عليهما، بل هو اكتشاف للوجوب من خلال النظر في صفات الله والنبي الأكرم الله. وبعبارة أدق :

لا توجد هنا نسبة إلى الله، وإنما هو مجرد كشف.

3 - اعتراف بعض أهل السنة بالوجوب المتقدم: لقد اعترف بعض

ص: 65

علماء أهل السنة بهذا النوع من الوجوب «الكشف» والتزم به، كما قال النسفي بشأن بعثة الأنبياء: «وفي إرسال الرسل حكمة»(1).

وقال التفتازاني في شرح ذلك: «أي مصلحة وعاقبة حميدة، وفي هذا إشارة إلى أن الإرسال واجب لا بمعنى الوجوب على الله، بل بمعنى أن قضية الحكمة تقتضيه لما فيه من المصلحة»(2).

4 - إمكان دعوى البدعة على الخصم: كما قام بعض علماء أهل السنة بالسماح لأنفسهم أن يصفوا الشيعة بالبدعة وتكفيرهم لذلك، يمكن للشيعة في المقابل أن يلصقوا بأهل السنة التهمة ذاتها، وذلك بالقول: إن الإمامة وتعيين الإمام يُعد جزءاً من الدين؛ لثبوتها بالأدلة العقلية والنقلية، بل هي من التعاليم الدينية الجوهرية والهامة، وللأسف الشديد يكابر أهل السنة في إخراجها من الدين، وجعلها من الأمور العرفية والدنيوية.

فعليه إذا كان القرار قائماً على التمسك بالبدعة، فإن بإمكان الشيعة أن يتمسكوا بها لاتهام الخصم أيضاً.

5 - اختصاص ذلك بالعمد دون الموارد الاجتهادية : صحیح أن البدعة تعنی أن ندخل في الدين ما ليس فيه، أو أن نخرج منه ما فيه، ولكن ذلك إنما يكون بقيد التعمّد والعناد، بمعنى أن يسعى الفرد إلى أن يخرج مفردة من الدين رغم علمه بأنها من صميم الدين، أو أن يتعمد إدخال مسألة في الدين رغم علمه بخروجها عن الدين.

وإذا لم يتم تقييد البدعة بهذا القيد، فإن الأغلبية المتاخمة للإجماع من

ص: 66


1- شرح العقائد النسفية، ضمن: شرح عقائد أهل السنة، ص 213.
2- المصدر أعلاه.

علماء الدين - الأعم من الشيعة والسنة - سيطالها وصف البدعة؛ لأن أكثر البحوث الكلامية والفقهية وغيرهما هي من الأمور الخلافية بين المذاهب، وإن فقه أهل السنة ينقسم في حد ذاته إلى أربعة مذاهب، حيث تختلف هذه المذاهب في مسألة واحدة على آراء وأقوال مختلفة، ولا شك في أن واحداً منها في الحد الأقصى هو المطابق للدين الحقيقي، ولكن لا يمكن نسبة الآراء الأخرى إلى البدعة، إذ الفرض أن العلماء الآخرين قد استفرغوا جهدهم في تحصيل الحكم الواقعي، غاية ما هنالك أنهم أخطأوا في إصابة الواقع دون قصد أو تعمّد منهم إلى ذلك، وقد روى أهل السنة أنفسهم عن أبي هريرة قوله: «للمخطئ أجر، وللمصيب أجران»(1).

من هنا يجب التدقيق والتريث جداً، وعدم التسرع في اتهام الخصوم بالبدعة في الدين، وأن لا يعتبر الرأي المخالف بدعة. وفي هذا السياق تندرج مسألة الإمامة؛ إذ يجب على أهل السنة - خاصة وأنهم يعتبرونها من المسائل الفقهية الخاضعة للاجتهاد - أن لا يتهموا من يختلف معهم في هذه (المسألة الفقهية ) بأنه يمارس البدع ويستنكرون منه ذلك. بل عليهم طبقاً للمبنى الذين يقولون به «للمخطئ أجر، وللمصيب أجران»أن يعتبروا الشيعة وكل من ينكر خلافة الخلفاء الثلاثة الأوائل مخطئين مأجورين بالأجر الواحد، لا أن يتهمونهم بالبدعة ويكفرونهم على هذا الأساس.

ولا يخفى أن هذا النوع من الاتهامات - كما تقدم أن ذكرنا - إنما يقتصر على عدد قليل، أما اليوم فإنّ أكثر علماء أهل السنة والإمامية يتجنبون اتهام الآخر ورميه بالكفر والبدعة.

ص: 67


1- فتح الباري ، ج 1، ص 63 ؛ كتب ورسائل وفتاوى ابن تيمية، ج 3، ص 41 .

الشبهة الثالثة: البدعة في اعتبار الإمامة مسألة كلامية:

اشارة

تقدم أن أهل السنة يعتبرون الإمامة مجرّد مسألة فرعية من فروع الفقه، واستندوا فى ذلك إلى مختلف الأدلة، ومن بينها الدليل السمعي حيث يعتقدون أن من الواجب على المسلمين أن يضطلعوا بأعباء الحكم وتعيين الحاكم، كما حصل ذلك في صدر الإسلام بعد رحيل النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم).أما الشيعة فقد عمدوا إلى إخراج الإمامة من الفروع الفقهية، واعتبروها أمهات المسائل العقائدية والكلامية، وهو أمر ينظر إليه من قبل أهل السنة بوصفه بدعة.

هذا ما ذكره ابن خلدون حيث نبّه إلى أن أهل السنة قد بحثوا مسألة الإمامة في البحوث الفقهية، ليلحقوها فيما بعد بالأبحاث الاعتقادية، وإن من بين أسباب نسبة الشيعة إلى البدعة هو اعتبارهم أن الإمامة من المسائل

العقائدية والكلامية، وفي ذلك يقول ابن خلدون: «ظهر من بدعة الإمامية من قولهم إنها من عقائد الإيمان ... ولا تلحق بالعقائد»(1).

نقد ورؤية:

تتضح الإجابة عن هذه الشبهة من خلال تحليل الشبهة السابقة، وفيما يأتي نشير إلى مسائل أخر:

1 - البدعة في تعريف البدعة: تقدم أن ذكرنا تعريف البدعة في معرض الإجابة عن الشبهة السابقة. في حين تبين من كلام ابن خلدون هنا أنه يقول:

ص: 68


1- تاريخ ابن خلدون، ج 1، ص 588؛ وانظر أيضاً : أبو الفضل برقعي، تضاد مفاتيح الجنان با قرآن، ص 196.

لمّا كانت الإمامة من الفروع الفقهية فإن اعتبار الشيعة الإمامية أنها من المسائل العقائدية والكلامية يجعلهم من أهل البدع. وهذا في الحقيقة معيار جديد للبدعة لا يستند إلى دليل وجيه. فقد تختلف الآراء في كون المسألة كلامية أو فقهية أو أصولية أو أخلاقية ويذهب كل رأي إلى تبرير ما ذهب إليه بذكر بعض الأدلة والمبررات وعليه فإن مجرد نقل مسألة من علم إلى علم آخر لا يصح مسوغاً لاعتبار صاحب الرأي من أهل البدع.

بعبارة أخرى: إن ابن خلدون من خلال هذا الكلام في تعريف البدعة على خلاف ما عليه الفريقين - يكون بنفسه مبتدعاً، حيث أبدع تعريفاً جديداً لا يوافقه عليه أحد، علاوة على أنه لم يدعم كلامه بدليل.

2 - لازم هذا التعريف جريان البدعة على بعض أهل السنة: لا شك في أن أكثر علماء أهل السنة يعتبرون الإمامة من المسائل الفقهية الفرعية، إلا أن بعضهم من أمثال البيضاوي في كتاب المنهاج والذين كتبوا عليه الهوامش لم يقتصروا على اعتبار الإمامة من المسائل العقائدية فحسب، بل اعتبروها من

أصول الدين(1).

وعليه فإن لازم تعريف ابن خلدون جريان البدعة حتى على أمثال الإمام البيضاوي أيضاً؛ لأنه أخرج الإمامة من كونها مجرد مسألة فقهية فرعية، واعتبرها داخلة في أصول الدين.

ص: 69


1- انظر: البيضاوي، كتاب المنهاج، مبحث الأخبار ؛ وانظر أيضاً: أبجد العلوم، ج 2، ص 450.

الشبهة الرابعة: تكفير من ينكر الإمامة:

اشارة

إن من بين الانتقادات والشبهات التي يثيرها أهل السنة على الإمامية هو قولهم إن الشيعة من خلال إخراجهم مسألة الإمامة من مجرد كونها مسألة فرعية وفقهية واعتبارها من أصول الدين يعتبرون من ينكرها خارجاً عن الدين ويبادرون إلى تكفيره. في حين أن الإمامة مسألة فقهية وفرعية عية(1).

مناقشة وتحليل

في معرض تقييم هذه الشبهة نشير إلى النقاط الآتية:

1 - التكفير منهج المتطرفين من الفريقين: إن النظر في الأديان السماوية وغير السماوية يُثبت أن الأديان تنشعب وتنقسم عبر التاريخ لمختلف الأسباب إلى فرق ومذاهب وإن هذه الفرق تذهب في الغالب إلى عدم استيعاب المذاهب، والفرق الأخرى، وتعتبر نفسها هي التي تمثل الحق المطلق، بينما الفرق الأخرى تمثل الباطل، بل وتذهب إلى حد تكفيرها أيضاً. وإن انقسام المسيحية إلى الكاثوليكية والأرثودوكسية والبروتستانتية والحروب الطاحنة بينها خير مثال على ذلك.

وللأسف الشديد لم يكن الدين الإسلامي بمنجى من هذه الظاهرة، فبعد رحيل النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)وعلى طول التاريخ ظهرت مختلف الفرق والمذاهب الأعم من الكلامية والفقهية والتفسيرية، ومن بين أهم هذه المذاهب مذهب أهل السنة (القائل بتعيين الخليفة بالانتخاب) والشيعة (القائلين بنظرية

ص: 70


1- انظر: ابن حزم ،الفصل، ج 3، ص 10 الشهرستاني، الملل والنحل، ج 1، الفصل السادس ، ص 146 - 164؛ تلخيص المحصل، ص 408 .

التنصيب الإلهي)، وقد انقسمت هاتان الفرقتان بدورهما إلى فرق ومذاهب مختلفة أخرى، من قبيل افتراق أهل السنة من الناحية الكلامية إلى أشاعرة ومعتزلة وماتريدية، ومن الناحية الفقهية إلى المذاهب الأربعة (الشافعية والحنفية والمالكية والحنبلية)، وافترق الشيعة إلى الإسماعيلية والزيدية والإمامية وغيرها. وللأسف الشديد فإن أكثر أتباع هذه الفرق يحتكر الحقيقة الخالصة لنفسه، في حين يرى الفرق الأخرى كلها على باطل، أو أنها في الحد الأدنى مزيج من الحق والباطل.

وقد شهد التاريخ نزاعات وحروب طاحنة بين أتباع المذاهب الفقهية السنية الأربعة، ونشأت جميع هذه الحروب بسبب اعتبار أتباع كل مذهب أنفسهم على حق، وسائر أتباع المذاهب الأخرى على باطل وتكفيرهم على هذا الأساس(1). لسنا هنا بصدد بيان تفاصيل النزاعات الداخلية بين فرق أهل السنة والشيعة، وإنما نريد التنويه إلى أن ظاهرة التكفير لم تكن من طرف واحد فقط، وإنما كان التكفير متبادلاً؛ إذ عمد بعض المتطرفين من أهل السنة إلى القول بأن الشيعة مذهب منتحل أسسه شخص اسمه عبد الله بن سبأ الیهودی(2)،وأصدروا حكمهم لذلك بتكفير الشيعة قاطبة، وقد دفع التشيع لذلك على طول التاريخ قائمة طويلة من قوافل الشهداء، وقد ذكر العلامة الأميني (صاحب الغدير) أسماء هذه السلسلة من الشهداء في كتاب له تحت عنوان «شهداء الفضيلة»(3). ويمكن لنا الإشارة هنا إلى سيف الدين

ص: 71


1- انظر : محمد عرفة، رسالة الإسلام، ج 7، ص 380.
2- انظر: التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع، المقدمة، ص (س).
3- ترجم هذا الكتاب إلى اللغة الفارسية تحت عنوان: (شهیدان راه فضیلت).

الآمدي(1)، وأبي الفتح الأشروشني (م 632 ه_)(2)،والقاضي البيضاوي(3)،واالشيخ نوح الحنفي(4)، وابن تيمية(5)،وابن عبد ربه الأندلسي الأندلسي(6)، وأبي محمد عثمان العراقى الحنفى(7)، وابن حزم(8)، وعبدالله القصيمي(9)،بوصفهم من أقطاب السلفية(10). هذا وقد كان أكثر علماء أهل السنة يذهبون إلى تضعيف رواية الراوي الرافضي (الشيعي )(11). لقد كان الشيعة على طول التاريخ يرزحون تحت وطأة الخلفاء والحكام الذين يعتنقون المذهب السني

ص: 72


1- «الروافض والإمامية الخارجين من ربقة الدين»،(غاية المرام في علم الكلام،ص 329).
2- حيث أفتى بكفر من ينكر إمامة أبي بكر بن أبي قحافة، أصول الأشروشني، مبحث الإمامة.
3- ذهب إلى اعتبار الإمامة من أصول الدين، وقال بأن إنكار ذلك يستوجب الكفر والبدعة، (كتاب المنهاج، مبحث الأخبار).
4- «وأما الكفر فمن وجوه ... منها أنهم ينكرون خلافة الشيخين ... فيجب قتل هؤلاء الأشرار الكفار»،(تنقيح الفتاوى الحامدية، ج 1، ص 103، نقلا عن السيد شرف الدين، الفصول المختارة، الفصل التاسع).
5- انظر: ابن تيمية، منهاج السنة النبوية، ج 1، ص 7.
6- انظر: العقد الفريد، ج 2، ص 410 .
7- انظر: الفرق المفترقة بين أهل الزيغ والزندقة، ص 30.
8- انظر: الفصل، ج 4 ، ص 185 .
9- انظر: الصراع بين الإسلام والوثنية، ج 1 ، المقدمة، ص 4 .
10- انظر: الدكتور صالح عبد الرحمن، عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ص 36.
11- على سبيل المثال نجد ابن أبي الحديد المعتزلي رغم اتهامه من قبل الخصوم بالتقرب من الشيعة، وتأليفه لشرح نهج البلاغة، يرفض رواية في ثلب الخليفة الثالث لا لشيء إلا لكونها مروية في كتب الشيعة فقط (انظر: شرح نهج البلاغة، ج 12، ص 275؛ وانظر أيضاً: رسول جعفریان، تاریخ تشیع در ایران، ص 24).

ويعانون لذلك شتى أصناف الحرمان والتضييق. كما كانت هناك بعض المحطات التاريخية التى شهدت تكفير الشيعة للسنة. وعليه فقد كان التكفير متبادلاً من الجانبين. وإذا كانت هذه الظاهرة قبيحة ومستهجنة - وهي كذلك - فهي قبيحة من كلا الطرفين(1).

ص: 73


1- أثناء كتابتي لهذه السطور كانت وسائل الإعلام تتناول خبر مقتل واغتيال مئات من الشيعة في كل من العراق وباكستان على يد الوهابيين والسلفية، وبعبارة أدق: (على يد التكفيريين). إن هؤلاء لم يتحملوا حتى وجود مرقد للإمام الحسن العسكري في سامراء، فعمدوا إلى تفجيره. وفي هذا اليوم (16 / ذو القعدة / 1428 ه_) صدر نداء موقع من قبل 37 شخصاً مما يسمى بأساتذة الجامعات الدينية والمعلمين في المدارس السعودية، يستحثون فيه أهل السنة على قتل الشيعة بحجة أنهم رافضة (انظر: صحيفة جمهوري اسلامي، بتاريخ : 13 / اسفند / 1385 ه_ ش، ص 12). إلا أن أهل السنة الحقيقيين لم يعيروا أهمية لنداء هؤلاء المتطرفين. وقد بادر الشيخ يوسف القرضاوي - وهو من علماء أهل السنة - إلى الإعلان عن دعمه لحزب الله في لبنان، وشجب قتل الشيعة على يد التكفيريين. [إلا أن هذا الموقف من الشيخ يوسف القرضاوي كان يعود إلى ما قبل أحداث ما يسمى بالربيع العربي، وأما بعد ذلك فقد غير القرضاوي مواقفه من حزب الله والشيعة رأساً على عقب، وأعلن توبته إلى الله من مواقفه السابقة! وأخذ يسمي حزب الله بحزب الشيطان وعاد إلى وصم الشيعة بالرافضة، والله في خلقه شؤون المعرب]. عند تحقيقي لهذا الكتاب عثرت على كتاب يشتمل على تجريح أهل السنة المتعصبين والمتطرفين في شبه القارة الهندية (الهند وباكستان)، وقد أذهلني ما فيه من الدفاع عن حكم يزيد وما قام به من الجرائم النكراء بحق أهل بيت النبي والإمام الحسين(علیه السّلام)، وإنكار شرعية خلافة الإمام علي(علیه السّلام)، وحصر الشرعية بخلافة الخلفاء الثلاثة الأوائل فقط، واتهام الشيعة والإمام الخميني بالردّة والكفر، وهو أمر يحزن جميع المسلمين الأعم من الشيعة والسنة (انظر: فهرستواره ایرادات و شبهات علیه شیعیان در هند وباكستان، الدكتور السيد كمال حاج سيد جوادي).

2 - تقييد التكفير: المسألة الأخرى فيما يتعلق بتكفير من يُنكر الإمام على(علیه السّلام)إنما هو مقيد بما لو كان المنكر لها معاندة ومكابرة، بمعنى أنه ينكرها بعد علمه بأحقية الإمام علي(علیه السّلام)بها، وإذا أمكن العثور على مصداق لمثل هذا المنكر، فإن عدد هؤلاء المنكرين قليل جداً؛ لأن أكثر علماء أهل السنة يعتقدون بعدم وجود نص من قبل النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)على أي شخص. ولذلك لا يندرجون في مصاف المنكرين الذين يبلغ بهم إنكارهم حد الكفر والخروج عن الملة. وهذا ما أشار إليه سماحة الإمام الخميني(قدس سره)حيث قال: إن أكثر علماء أهل السنة لم يكونوا على يقين من إمامة الإمام علي(علیه السّلام)(1).

وعلى هذا الأساس فإن أهل السنة في هذا العصر، وفي القرون الماضية لا يدخلون في عداد المنكرين للإمامة، وإنما غاية ما هنالك أنهم يجهلونها.

3- اعتبار الإمامة من أصول الدين قراءة خاصة : كان الجانب الآخر من الشبهة يقول: إن الشيعة الإمامية يعتبرون الإمامة جزءاً من أصول الدين، مثلها مثل أصل التوحيد والنبوة والمعاد، وبذلك فإنهم يحكمون على منكرها بالكفر.

في معرض تحليل هذه الشبهة يجب القول: إن الإمامية - كما تقدم في تعريف الإمامة - يولون أهمية خاصة للإمامة، ويعتبرونها مكملة للنبوة، وينظرون إليها بوصفها من العقائد الدينية الهامة، أما أن تكون من أصول الدين بحيث يكون منكرها كمنكر النبوة والتوحيد خارجاً عن الإسلام، فهذا ما لم

تتفق عليه كلمة علماء الشيعة، وإنما غاية ما يمكن قوله في هذا الشأن إنها

ص: 74


1- انظر : كتاب الطهارة، ج 3، ص 3 - 321.

قراءة لبعض علماء الإمامية من بين قراءات أخرى ترى الإمامة من أصول المذهب وليست من أصول الدين، وعليه فإن من ينكرها وإن كان خارجاً من التشيّع، ولكنه لا يخرج عن ربقة الدين.

ومن بين العلماء المعاصرين من الشيعة الذين حكموا بصحة إسلام أهل السنة يمكن لنا أن نسمّي : السيد عبد الحسين شرف الدين العاملي(1)، والشيخ محمد حسين كاشف الغطاء(2)،والسيد محسن الحكيم(3)، والإمام السيد روح الله الموسوي الخميني(4)، والعلامة محمد حسين الطباطبائي(5)، والشيخ الشهيد مرتضى المطهري(6)، وذهبوا إلى القول بأن عدم الاعتقاد بالإمامة لا يخرج الفرد من الدين والإسلام.

ولابد هنا من الإشادة بشكل خاص بدور آية الله العظمى السيد البروجردي المرجع الأعلى للشيعة في العالم، والشيخ محمود شلتوت مفتي أهل السنة ورئيس جامعة الأزهر الشريف في مصر، على ما بذلاه من جهود حثيثة من أجل التقريب بين المذهبين، وكان من جملة النتائج الإيجابية المباركة

ص: 75


1- «قد أجمع أهل القبلة على أنها ليست من أصول الدين»، شرف الدين العاملي، (الفصول المهمة، ص 153).
2- انظر: محمد حسین کاشف الغطاء، أصل الشيعة وأصولها، ص 4 - 101 .
3- انظر: السيد محسن الحكيم، مستمسك العروة الوثقى، ج 1، ص 394 .
4- انظر: الإمام الخميني، كتاب الطهارة، ج 3، ص 229 - 322.
5- انظر: العلامة الطباطبائي، قرآن در اسلام، ص 137.
6- انظر: مرتضی مطهري، آشنائی با علوم اسلام (مدخل) إلى العلوم الإسلامية)، علم الكلام، الدرس الثامن، ص 79؛ عدل الهي (العدل الإلهي)، (النبوة)، ص 35 .

والميمونة لهذه الجهود فتوى الشيخ محمود شلتوت بجواز التعبد بالمذهب الجعفري واعتباره مذهباً إسلامياً خامساً يضاف إلى المذاهب السنية الأربعة التي يجوز للمسلم أن يتقرب إلى الله من خلالها.

وبطبيعة الحال هناك أدلة يطرحها أصحاب كلا القراءتين، وهي جديرة بالتدبّر، وقد بحثت هذه الأدلة في كتاب آخر(1).

وقد مرّ أن بعض علماء أهل السنة يذهبون إلى نفس ما يذهب إليه علماء الشيعة من اعتبار الإمامة جزءاً من أصول الدين.

4 - نظرة على الأدلة العلمية للخصم: بقطع النظر عن المسألتين المتقدمتين، يجب في البحوث العلمية تجنب المسائل الجدلية والهامشية واتباع الأدلة العلمية، فإذا كان الشيعة يرون الإمامة من أصول الدين، والسنة يرونها من فروع الدين، يجب عدم التسرع في اتهام الخصم بالانحراف والبدع والتحريف في الدين، بل يجب النظر في أدلته والعمل على تحليلها وتمحيصها.

ولأنّ الأكثرية القريبة من الإجماع من أهل السنة يعتبرون أصل الإمامة والخلافة مسألة فرعية وفقهية، ولا يرونها من أصول الدين وضرورياته،فعليهم تبعاً لذلك أن لا يكفروا من ينكرها، ولا يعتبرونه خارجاً عن الإسلام .وبعبارة أدق: لا يمكنهم تكفيره طبقاً لأدلتهم.

أما بعض الشيعة - بما لديهم من الأدلة - فيرون الإمامة من أصول الدين، وعليه يعتبرون من ينكر الإمامة منكراً لأصل من أصول الدين - فإن

ص: 76


1- انظر: محمد حسن قدردان قراملكي، كلام فلسفي، الفصل السابع ؛ وانظر أيضاً: نامه مفيد، صيف عام 1377 ه_ ش، «جدا انگاري امامت از اصول دین».

صحت أدلتهم - أمكن لهم اعتبار منكر الإمامة كافراً وخارجاً عن الدين.

وعليه لو أن شخصاً قد اعتنق المذهب الشيعي، واعتقد بالإمامة باعتبارها من أصول الدين، فإنه سيكون بمنأى عن التكفير والخروج عن الدين على كلا المذهبين، وإنه سيكون في الحد الأدنى في مورد مسألة فقهية واحدة (الخلافة) قائلاً بالتنصيب الإلهي بدلاً من الانتخاب من قبل الناس.

وأما إذا اعتنق الشخص المذهب السنى، فإنه في الحد الأدنى سوف يحتمل إمكان أن يكون الحق مع الشيعة، وعليه فإنه من خلال إنكار الإمامة وأصل التنصيب الإلهي سيكون منكراً لأصل من أصول الدين. وعليه يجب على هذا الفرد بحكم العقل أن يحتاط لنفسه ويسعى إلى دفع الخطر المحتمل بعيداً عن الفرضيات المسبقة، وأن ينظر في أدلة الخصم، وسوف نستعرض تلك الأدلة في هذا الكتاب بالتفصيل، ونكتفي هنا بذكر الحديث النبوي الذي يرويه كلا الفريقين، حيث قال: «من مات ولم يعرف إمام زمانه، مات ميتة جاهلية»(1).

فقد اعتبر النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)معرفة الإمام من الأهمية بحيث يعد من ينكرها بل من يجهلها كمن يموت على الجاهلية. وعليه يمكن لنا أن ندرك من خلال هذا الحديث مدى أهمية الإمامة في الإسلام وهنا يرد السؤال القائل: هل المراد من وجوب معرفة الإمام وضرورته في كل عصر وزمان - بحيث تعدّ هذه المعرفة تجنباً للموت في عصر الجاهلية - هي معرفة مطلق الإمام والحاكم

ص: 77


1- مسند أحمد بن حنبل، ج 4، ص 96؛ مسند أبي داود، ص 259؛ مجمع الزوائد، ج 5، ص 218.

حتى إذا استولى على مقاليد الأمة بالقهر والغلبة كما هو الحال بالنسبة إلى يزيد بن معاوية، وهو ما هو عليه من الفسق والفجور، وشرب الخمور، وملاعبة الكلاب والقرود؟(1)

هل يمكن للنبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)أن يعد معرفة أمثال يزيد مستوجبة للخلاص من الموت بميتة الجاهلية ؟ أم أن المراد هو اشتمال كل عصر وزمان على وجود إمام يتحلى بالصفات الكمالية والمثالية بوصفه حجة الله وخليفة النبي واتصافه بجميع ما يتصف به النبي من مكارم الأخلاق، بحيث يتعين على كل مسلم أن يبذل ما بوسعه من أجل التعرف عليه واتباعه. ألتمس إخوتنا من أهل السنة ومحققيهم أن يتدبّروا في أدلة الشيعة بما في ذلك الحديث النبوي المتقدم، وأن يحكموا وجدانهم، ثم يبادروا إلى إصدار حكمهم الحيادي بعيداً عن المتبنيات المسبقة.

الشبهة الخامسة، توريث الإمامة:

اشارة

إن من بين الشبهات المثارة ضدّ الشيعة هى شبهة القول بأن الشيعة يدعون إلى توريث الخلافة والإمامة(2)؛ لأن جميع الأئمة هم من نسل الإمام علي(علیه السّلام)، وإن تسعة منهم من نسل الإمام الحسين(علیه السّلام). في حين يذهب أهل السنة إلى القول بانتخاب الخليفة من قبل الناس مباشرة عن طريق البيعة.ويعتبر هذا النهج حالياً أكثر عقلانية من النهج الذي يدعو إليه الشيعة.

ص: 78


1- لا يخفى أن عموم علماء أهل السنة ومؤرخيهم يقرّون باتصاف يزيد بهذه الموبقات. (انظر: المسعودي، مروج الذهب، ج 3، ص 79).
2- انظر : عبد القاهر البغدادي، كتاب أصول الدين، ص 150.

مناقشة وتحليل:

كما تمت الإشارة آنفاً فإن هذا الإشكال بسيط، ولذلك نكتفي بالإجابة عنه باختصار من خلال القول:

إن الشيعة لم يدعوا يوماً أن علياً أحق بالخلافة والإمامة لأنه صهر النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)وابن عمه، وأقرب الناس إليه. بل لأنه في الحقيقة يتميّز من . غيره بالفضائل والصفات الأسمى من قبيل: المنازل الروحية والمعنوية، وتدبير الأمور: والشجاعة، والأهم من ذلك التقوى والورع وتهذيب النفس، وترعرعه في حجر النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)منذ نعومة أظفاره، وهو أمر بلغ من خلاله إلى أعلى ذروة الإيمان والكمال الإنساني والاتصاف بالعصمة والعلم الإلهي الشامل بالشريعة، بحيث كان يرى جبرائيل عند نزوله على رسول الله ويسمع كلامه:

«أَرَى نُورَ الْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ، وَأَشْمُّ رِيحَ النُّبُوَّةِ. وَلَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ الشَّيْطَانِ حِينَ نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَيْهِ الا الله فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا هَذِهِ الرَّئَةُ؟ فَقَالَ: «هذَا الشَّيْطَانُ قَدْ أَيسَ مِنْ عِبَادَتِهِ ، إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ، وَتَرَى مَا أَرَى، إِلا أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِي، وَلكِنَّكَ وَزِيرٌ ، وَإِنَّكَ لَعَلَى خَيْرٍ »(1).

المسألة الأخرى هي أن الإمام على(علیه السّلام)وسائر الأئمة من أهل بيت النبوة(علیهم السّلام)، طبقاً للنصوص القرآنية والروائية المأثورة في مصادر الفريقين، هم أفضل الناس منذ بدء الخليقة إلى قيام الساعة، وإن هذه الأفضلية تشمل جميع الأنبياء باستثناء النبي الأكرم(علیهم السّلام). وسوف نتعرّض للدليل القرآني والروائي

ص: 79


1- نهج البلاغة،الخطبة رقم: 234؛ فيض اسلام، ص 812؛ المطهري، الأعمال الكاملة،234 ج 4، ص 356.

على رؤية الشيعة في تفضيل الأئمة المعصومين(علیهم السّلام)في معرض تحليل شبهة تفضيل الأئمة على جميع الأنبياء(علیهم السّلام)في الصفحات المقبلة إن شاء الله تعالى كما تقدم جانب من الإجابة عن هذه الشبهة في فصل الكليات على هامش الفلسفة السادسة للإمامة تحت عنوان «الأئمة واسطة الفيض الإلهى».

وعليه فيما يتعلق بتعيين الإمام علي(علیهم السّلام)في منصب الإمامة لم يكن هناك من تأثير للوراثة والنسب، وإنما المعيار في ذلك هو الصفات الكمالية التي توفرت في شخص الإمام. وبعبارة أدق : إن الآيات والروايات الدالة على تنصيب الإمام علي في الحقيقة لا تقوم على تنصيبه، وإنما هي تكشف عن واقع ما عليه الإمام، فهي بنحو من الأنحاء ذات جنبة تعليمية وإعلانية تخبر الناس بأن الإمام علي هو الخليفة الحقيقي بعد النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)(1).

وذات الشيء يمكن قوله بالنسبة إلى تعيين سائر الأئمة الآخرين، من الإمام الحسن والحسين(علیهما السّلام)إلى الإمام الثاني عشر(علیهما السّلام)، فقد كان كل واحد منهم في عصره هو الإنسان الأكمل. وقد اعترف بهذه الحقيقة حتى الخلفاء الذين عاصروا الأئمة، وعلماء أهل السنة أيضاً، وفيما يأتي نشير إلى بعض هذه الشهادات:

ص: 80


1- «إن مسألة الغدير لم تكن بالمسألة التي تؤسس إلى شيء جديد بالنسبة إلى الإمام علي(علیه السّلام) ، فالإمام علي هو الذي أوجد مسألة الغدير.فإن الصفات الكمالية والمثالية التي كان يتمتع بها أمير المؤمنين هي التي أدت إلى ظهور حادثة الغدير ... إن مسألة تنصيب الإمام أمير المؤمنين(علیه السّلام)خليفة على المسلمين ، إنما كانت منبثقة عن صفات كمالية شاملة اتصف بها الإمام أدت إلى حادثة عرفت بحادثة الغدير»، (صحيفه امام، ج 20 ، ص 111).

اعتراف علماء أهل السنة بفضائل الأئمة:

ربما لا يتفاعل السني مع كلام يشيد بفضائل الإمام علي(علیه السّلام)اذا كان صادراً عن الشيعة، ولكن انطلاقاً من مقولة أن الفضل ما شهدت به الأعداء، نجد من المناسب هنا أن نتعرض إلى اعتراف المناوئين للإمامة بفضائل الإمام(علیه السّلام):

اعتراف الخلفاء الثلاثة:

على الرغم من أن الخلفاء الثلاثة الأوائل قد تعمدوا لمختلف الذرائع والحجج - التي سنذكرها في فصل التبريرات - أن يمنعوا الإمام علي(علیه السّلام)من حقه في الإمامة والخلافة، ولكنهم اعترفوا في كثير من المواطن والمواضع بفضائله العلمية والدينية، بل حتى بحقه في الخلافة، وتنصيب النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)لی فی هذا الموقع(1).(سيأتي الحديث عن اعتراف الخلفاء وعلماء أهل السنة له في هذا الموقع بأصل التنصيب في معرض بيان شبهة تعارض نصوص الخلافة في الفصل الرابع إن شاء الله). إن الاعتراف بأصل التنصيب يستلزم الاعتراف باتصاف الإمام علي(علیه السّلام)بالصفات الكمالية، وإلا وجب القول بأن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم) - والعياذ بالله - قد عمد إلى تنصيب الإمام علي في هذا المنصب من دون أن يكون مستحقاً له.

اعتراف أئمة المذاهب الفقهية الأربعة بفضائل الأئمة:

1 - أبو حنيفة (م 80 - 150 ه_ ) : درس على يد الإمام الصادق(علیه السّلام)سنتين كاملتين، كان لهما فضل كبير في ترسيخ قواعده العلمية، وقد اعترف

ص: 81


1- لمزيد من التوضيح انظر : محمد مهدي الأيماني، الإمام علي في آراء الخلفاء.

بذلك قائلاً: «لولا السنتان لهلك النعمان»(1).

وقد أمره المنصور الدوانيقي يوماً بأن يحضر أربعين مسألة يلقيها على الإمام الصادق(علیه السّلام)، بغية إحراجه، ولكنه بعد سماع الإجابات التي ذكرها الإمام عن تلك الأسئلة، قال: «ما رأيت أفقه

من جعفر بن محمد»(2).

2 - مالك بن أنس (م 95-179ه_) : قال في وصف الإمام الصادق(علیه السّلام):

«ما رأت عين، ولا سمعت أذن، ولا خطر على قلب بشر، أفضل من جعفر بن محمد علماً وعبادة وورعاً»(3).

3 - ابن إدريس الشافعي (م 150 - 204ه_) : قيل له إن بعض أهل السنة لا يطيق سماع فضائل أهل البيت(علیهم السّلام)، وأنهم إذا سمعوا شخصاً يذكر فضيلة لهم رموه بالرفض والتشيّع، فأنشد الأبيات الآتية المعروفة:

«برئت إلى المهيمن من أناس *** يرون الرفض حب الفاطمية

على آل الرسول صلاة ربي *** ولعنته لتلك الجاهلية»

وقال أيضاً:

«يا راكباً قف بالمحصب متن منى *** واهتف بساكن خيفها والناهض

سحر إذا فاض الحجيج إلى منى *** فيضاً كملتطم الفرات الفائض

وأخبرهم أني من النفر الذي *** لولاء أهل البيت ليس بناقض

إن كان رفضا حب آل محمد *** فليشهد الثقلان أني رافضي»(4)

ص: 82


1- نقلاً عن الآلوسي، مختصر التحفة الإثنى عشرية، ص 8.
2- سير أعلام النبلاء، ج 6 ، ص 586 .
3- نقلاً عن : محمد حسين المظفر ، الإمام الصادق(علیه السّلام)والمذاهب الأربعة، ج 1 و 2، ص 53 .
4- ينابيع المودة، ج 3، ص 98 و 99 ، الباب 62 .

4 - أحمد بن حنبل (م 134 - 241 ه_): صرح قائلاً بأنه لم ترد من الفضائل لأحد، كما ورد لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب(علیه السّلام)، وذلك إذ يقول: «ما جاء لأحد من الفضائل ما جاء لعلي رضى الله عنه»(1).

اعتراف المعتزلة :

يقرّ أكثر المعتزلة بأفضلية الإمام علي(علیه السّلام)على جميع الصحابة بمن فيهم الخلفاء الثلاثة الأوائل، كما ألف فى ذلك أبو جعفر الإسكافى (م 240ه_) كتاباً تحت عنوان «المعيار والموازنة».

وقال ابن أبي الحديد المعتزلي في مقدمة شرحه لنهج البلاغة: «الحمد لله الذي قدّم المفضول على الفاضل»(2).

وقال الجاحظ في وصف الإمام جعفر الصادق(علیه السّلام): «جعفر بن محمد الذى ملأ الدنيا علمه وفقهه»(3).

نكتفي بهذا المقدار مخافة الإطالة، مع التذكير بأن علماء أهل السنة أنفسهم قد بادروا إلى بيان فضائل الأئمة(علیهم السّلام)في كتبهم الروائية والرجالية، وهناك منهم من ألف الكتب المستقلة في هذا الشأن(4). ويبدو هذا المقدار كافياً

ص: 83


1- المصدر أعلاه، ج 2، ص 385 ، الباب 79
2- ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، ج 1، خطبة الكتاب. ولمزيد من التوضيح بشأن موقف ابن أبي الحديد، انظر: السيد أبو الفضل ميرلوحي، تجلي فضيلت (اعترافات ابن أبي الحديد)، ج 1 و 2.
3- رسائل الجاحظ، ص 106 .
4- انظر: أبو جعفر الإسكافي، المعيار والموازنة؛ القندوزي الحنفي، ينابيع المودة لذوي القربى؛ السيد محمد طاهر الهاشمي الشافعي، مناقب أهل البیت از دیدگاه اهل سنت .

لإثبات أن تنصيب الأئمة الاثني عشر من أئمة الشيعة لم يكن وراثياً وانتقالاً للإمامة والخلافة من الآباء إلى الأبناء، وإنما لما يتمتع به هؤلاء العظام من الفضائل والصفات الذاتية.

المسألة الأخيرة التى يجدر التذكير بها هي أنه إذا ثبت بالأدلة النقلية والعقلية أن الله أو رسوله قد عيّن الأئمة الذين يقودون المجتمع دينياً وسياسياً. وجب على كل مسلم من [الشيعة والسنة] إطاعة ذلك.

أما وجوب ذلك على السنة فمن باب أن كل ما يفعله الله حسن وعين العدل، وبالنسبة إلى الإمامية فلأن أوامر الله كاشفة عن الحسن والمصلحة المتعلقة بها. (سنذكر أدلة نصوص الإمامة في الفصل التالي إن شاء الله تعالى).

إن شبهة القول بتوريث إمامة الأئمة، إنما هي شبهة في مقابل النص وتشكيك في الأوامر الإلهية. بالإضافة إلى أننا ذكرنا بالتفصيل أن بلوغ الأئمة إلى منصب الإمامة لم يكن توريثاً، وإنما استحقاقاً لما يتمتعون به من الصفات والفضائل الذاتية.

الشبهة السادسة : الإمامة في الصغر:

يذهب الشيعة إلى الاعتقاد بأن الإمامة بعد رحيل النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)قد انتقلت إلى الإمام على(علیه السّلام)والأئمة الأحد عشر من نسله والإمامة سواء بمعنى الحكومة والخلافة أو المرجعية العلمية والدينية والحجة الإلهية رهن بالأوصاف والشرائط، ومن بينها الاستطاعة البدنية والمرحلة السنية، فالصغير والطفل لا يمكنه أن يكون إماماً وخليفة للمسلمين. في حين أن بعض الأئمة مثل الإمام

ص: 84

الجواد(علیه السّلام)أصبح إماماً وهو في السابعة من عمره، والإمام الهادي(علیه السّلام)بلغ الإمامة وهو في السنة الثامنة من عمره، وهذا لا يتناسب مع شأن الإمامة ومنزلتها التي يقول بها الشيعة للإمامة والإمام(1).

مناقشة وتحليل:

في تحليل هذه الشبهة تجدر الإشارة إلى الأمور الآتية:

1 - إعطاء النبوة والحكم لعيسى ويحيى(علیه السّلام)في فترة الصبا: المسألة الأولى هي أنه لا ينبغي التعجب من بلوغ هذين الإمامين المعصومين إلى مرتبة الإمامة في الصغر، أو الذهاب إلى ما هو أبعد من ذلك من خلال إنكاره أيضاً؛ بعد أن أخبر الله تعالى بإعطاء النبوة لعيسى بن مريم(علیه السّلام)، والحكم ليحيى بن زكريا(علیه السّلام)، وهما صغيرين؛ إذ يقول تعالى:

- ﴿قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي المُهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا﴾(2).

- ﴿يَايَحْيَى خُذْ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا﴾(3).

وفيما يتعلق بالمراد من الحكم الذي أعطي ليحيى(علیه السّلام)، وما إذا كان يشمل النبوة أيضاً أم لا ؟ هناك خلاف بين المفسرين من الشيعة

ص: 85


1- انظر: الصواعق المحرقة، ص 166؛ أحمد الكاتب، تطور الفكر السياسي الشيعي، ص 102 - 112 ؛ أحمد أمين، ظهر الإسلام، ص 672
2- مریم: 29 - 30.
3- مریم: 12 .

السنة(1). ونكتفي هنا بذكر ما أورده الفخر الرازي - وهو المفسر والمتكلم السني الشهير - في تفسير إعطاء الحكم ليحيى بن زكريا(علیه السّلام)في الصغر، حيث قال: «اعلم أن في الحكم أقوالاً ... والثالث أنه: النبوة فإن الله تعالى أحكم عقله في صباه، وأوحى إليه، وذلك لأن الله تعالى بعث يحيى وعيسى عليهما السلام وهما صبيان»(2).

والقدر المشترك والمتيقن من «الحكم» هو قوة الفهم والإدراك الدقيق والإلهام الغيبي الذي يذكره الله بوصفه عناية خاصة اختص بها النبي يحيى(علیه السّلام).

يتضح من هذه الآية الشريفة أن العلم وقوة التعقل الخاصة والارتباط الغيبي يمكن حصوله في الصغر وسنوات الطفولة، بل هو واقع، ولا يوجد فيه ما يُستبعد.

وأما فيما يتعلق بنبوة عيسى بن مريم(علیه السّلام)كما وردت في صريح الآية فقد ذهب أكثر علماء الشيعة إلى تفسيرها بنبوته حال كونه صبياً(3). أما

ص: 86


1- ذكر الشوكاني عدة احتمالات لما هو المراد من الحكم، من قبيل: الحكمة، وفهم الأحكام، والعلم والنبوة، والتعقل، ثم قال: «لا مانع من أن يكون الحكم صالحاً الحمله على جميع ما ذكر». (تفسير فتح القدير، ج 3، ص 10)؛ وذهب أبو منصور الماتريدي إلى دلالة هذه الآية على النبوة في الصغر، خلافاً لنظرية المعتزلة. (انظر: تأويلات أهل السنة ، ج 3، ص 260؛ وانظر أيضاً: الشيخ إسماعيل حقي البروسوي، 319) ؛ وفسرها العلامة الطباطبائي بالعلم بالمعرفة الاهیة و انکشاف حجب الغیب.(انظر: الميزان في تفسير القرآن، ج 14 ، ص 192.
2- الفخر الرازي، التفسير الكبير (مفاتيح الغيب)، ج 21، ص 174 .
3- انظر: سلسلة مؤلفات الشيخ المفيد، (أوائل المقالات) ، ج 4 ، ص 125؛ العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 14، ص 46.

المفسرون من أهل السنة فقد ذهبوا إلى آراء شتى، فمنهم من أنكرها(1)، ومنهم من اكتفى بذكر قولين: النبوة وغير النبوة، من دون ترجيح أو رفض أحدهما(2)، وذهب بعضهم إلى تفسيرها بالنبوة، وقد نسب البروسوي هذا القول في تفسيره «روح البيان» إلى الجمهور(3). وأما الزمخشري فقد نسب تفسير النبوة في الصغر إلى ظاهر الآية(4).

وقد صرّح الفخر الرازي بحمل هاتين الآيتين (حكم النبي يحيى بن زكريا، ونبوة السيد المسيح عيسى بن مريم) على فترة الصغر، وأجاب عن شبهة استبعاد مثل هذا الأمر، بالقول: «إن قيل: كيف يعقل حصول العقل والفطنة والنبوة حال الصبا؟! قلنا هذا السائل إما أن يمنع من خرق العادة، أو لا يمنع منه، فإن منع منه فقد سد باب النبوات؛ لأن بناء الأمر فيها على المعجزات ولا معنى لها إلا خرق العادات، وإن لم يمنع فقد زال هذا الاستبعاد؛ فإنه ليس استبعاد صيرورة الصبي عاقلاً أشد من استبعاد انشقاق القمر وانفلاق البحر»(5)

كما ذهب إلى حمل ظاهر قوله تعالى: ﴿ آتَانِيَ الْكِتَابَ﴾ على الدلالة على نبوة السيد المسيح عيسى بن مريم(علیه السّلام)في الصغر، وأنه يجب حمل هذه الآية على ظاهرها، وتجنب تفسيرها بما يخالف الظاهر؛ إذ قال ما نصه: «فثبت

ص: 87


1- انظر: تفسير المراغي، ج 6، ص 48 .
2- انظر: تفسير البيضاوي، ج 3، ص 48 ؛ الزمخشري، ج 3، ص 15 .
3- انظر: تفسير روح البیان، ج 5، ص 331
4- انظر: تفسير الكشاف، ج 3، ص 15 .
5- الفخر الرازي، التفسير الكبير (مفاتيح الغيب)، ج 21 ، ص 174.

بهذا أنه لا امتناع في كونه نبياً في ذلك الوقت، وقوله: ﴿آتَانِيَ الْكِتَابَ﴾، يدل على كونه نبياً في ذلك الوقت؛ فوجب إجراؤه على ظاهره، بخلاف ما قاله عكرمة»(1).

كما ذهب أبو منصور الماتريدي - إمام المدرسة الكلامية الماتريدية - إلى تفسير هذه الآية بالنبوة فى فترة الصغر والصبا أيضاً(2).

حاصل الكلام أن إعطاء النبوة، أو قوة التعقل والمعرفة الخاصة بأحكام الدين والارتباط الغيبي بالمقام القدسي في فترة الصغر أمر ممكن، بل واقع كما حصل بالنسبة إلى النبي يحيى بن زكريا وعيسى بن مريم(علیه السّلام)، من هنا فإن رؤية الإمامية القائمة على بلوغ بعض الأئمة مرتبة الإمامة في مرحلة الصبا، لا تتعلق بالمحال وما يخالف المباني القرآنية. هذا وقد ورد تشبيه الإمام الجواد(علیه السّلام)بالنبي عيسى بن مريم(علیه السّلام)في الروايات المأثورة عن الأئمة الأطهار(علیه السّلام)(3).

2 - مصاديق لبعض العباقرة والنوابغ في سنوات الطفولة: بالإضافة إلى الأنبياء هناك من الأطفال من يبدي نبوغاً يثير إعجاباً ودهشة. إذ يمكن العثور على كثير من المصاديق والأمثلة التي تطالعنا بها وسائل الإعلام في هذا السياق. مثل ذلك الطفل الذي لم يبلغ السادسة من عمره ومع ذلك يستطيع إتقان اللغات الأجنبية نطقاً وكتابة، أو أن يحفظ كتاباً أو مقاطع طويلة منه - مثل القرآن الكريم - بشكل يتعذر على من هم في مثل سنه .

ص: 88


1- المصدر أعلاه، ج 21 ، ص 194.
2- انظر: تأويلات أهل السنة، ج 3، ص 264 .
3- انظر: محمد بن يعقوب الكليني، أصول الكافي، ج 2، كتاب الحجة، باب الإشارة والنص على أبي الحسن، ج 10 و 13، ص 321.

عند كتابتي لهذه السطور تحدثت وسائل الإعلام عن طفل روسي اسمه «جيورجي هيجاكوف» يبلغ من العمر ستة أعوام وهو يتقن اثنتي عشرة لغة، كما يستطيع حل المعادلات الرياضية المعقدة.

ويمكن للقارئ الكريم أن يقف على مزيد من هذه الحالات من خلال البحث في مواقع الأنترنت الخاصة بهذا الشأن.

كما تحدث الشيخ إسماعيل حقي البروسوي - وهو من مفسري أهل السنة - في معرض تفسير الآية الثانية عشرة من سورة مريم في تفسير «روح البيان» ﴿وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا﴾ عن حالات الانكشاف والإلهام الغيبي التي حصلت للشيخ «سهل بن عبد الله التستري» عندما كان عمره يتراوح بين ثلاثة وسبعة أعوام (1).

وعلى هذا الأساس يكون علم الغيب والنبوغ الذي هو من نوع العناية الإلهية في تفسير الدين، وحتى إدارة الحكم والدولة أمراً ممكناً بل واقعاً بالنسبة إلى الأئمة من أهل بيت النبي أهل بيت النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)، وستكون لنا عودة ثانية إلى هذا الموضوع أيضاً.

3 - دعوة النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)علياً(علیه السّلام)وهو غلام صغير إلى الإسلام وتعيينه خليفة من بعده: إن من بين الحقائق التي تثبت الكفاءة الذاتية للأئمة (صلی الله علیه و آله و سلم)،هی أن النبی الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)دعا الإمام عليا(علیه السّلام)إلى الإسلام وكان له من العمر عشر سنوات، مع أننا نجد أن النبي طوال فترة نبوته الممتدة إلى ثلاث وعشرين سنة لم يدع إلى الإسلام طفلاً لم يبلغ الحلم باستثناء الإمام علي(علیه السّلام).

ص: 89


1- انظر: تفسير روح البیان، ج 5، ص 319.

وعلاوة على ذلك فقد خص الإمامين الحسن والحسين(علیهما السّلام)بأخذ البيعة منهما صغيرين، ولم يتكرر هذا الأمر لغيرهما. إن هذه الموارد الثلاثة (دعوة الإمام علي وأخذ البيعة من الحسنين في الصغر) خير دليل على ما يتمتع به الأئمة من الفضائل والخصائص الذاتية التي تؤهلهم لحمل أعباء الإمامة صغاراً وكباراً.

وقد استشهد لذلك المأمون العباسي المعاصر للإمام الجواد(علیه السّلام)، مقراً بفضله وكفاءته وجدارته(1).

4 - الفضائل الذاتية للإمام الجواد(علیه السّلام): كان ما تقدم يُثبت إمكان الفضيلة الذاتية في مرحلة الصغر وفترة الطفولة. وأما بشأن إمامة الإمام الجواد(علیه السّلام)، والإمام الهادي(علیه السّلام)، فلابد - بالإضافة إلى الإمكان - من إثبات الوقوع والتحقق أيضاً، وفيما يأتي نشير إلى بعض النقاط في هذا الشأن:

4 / أ - الإجابة عن الأسئلة والمناظرات العلمية: بعد رحيل الإمام الرضاء(علیه السّلام)، كان الشيعة في البداية يختبرون الإمام الجواد(علیه السّلام)من خلال طرح بعض الأسئلة عليه للتأكد من أهليته لمنصب الإمامة الإلهى، ويروى في هذا السياق أن كبار الشيعة في بغداد عقدوا العزم على توجيه ثمانين فقيهاً لاختباره والتحقق من حقيقة الأمر، فآمن جميع هؤلاء الفقهاء بأهليته بعد أن حصلوا منه على الإجابات التفصيلية عن جميع الأسئلة المعقدة التي طرحوها عليه ولم يكن قد تجاوز السنة الثامنة من عمره الشريف(2).

ص: 90


1- انظر: الأعمال الكاملة للشيخ المفيد، ج 11، القسم الثاني، ص 287، كتاب الإرشاد.
2- انظر: المسعودي، إثبات الوصية، ص 220؛ القندوزي الحنفي، ينابيع المودة، ج 3، ص 126 .

وإن من بين الموارد الأخرى التي أثبت فيها الإمام الجواد(علیه السّلام)جدارته الذاتية والعناية الإلهية في حقه في مختلف المجالات، المناظرات العلمية التي كانت تجري بينه وبين مشاهير العلماء المخالفين للإمامة والمحسوبين على جهاز السلطة والخلافة. فكان يناظر هؤلاء العلماء مراراً، وكان يتغلب عليهم دائماً رغم صغر سنه، وكل ذلك مسجل في المصادر التاريخية.

وكان المأمون العباسي يهم بتزويج ابنته «أم الفضل» من الإمام الجواد بسبب ما يتوسمه فيه من الفضائل والكمال رغم صغر سنه - وربما لأسباب أخرى - وهو أمر كان يثير معارضة من حاشيته والمقربين منه، واشترطوا عليه عدم تنفيذ عزمه إلا بعد إجراء مناظرة بينه وبينهم. وقد كان في هذه المناظرة يحيى بن أكثم - وهو أوسع أفراد حاشية المأمون علماً وكان يشغل منصب قاضى القضاة - فكانت الغلبة في هذه المناظرة للإمام الجواد(علیه السّلام)أيضاً، ولم يبق أمام العلماء غير الإذعان لرغبة المأمون في تزويج ابنته من الإمام الجواد(علیه السّلام)(1).

4 / ب - إقرار المأمون وغيره من المخالفين: إثر كثير من المناظرات التي كانت للإمام الجواد(علیه السّلام)مع علماء أهل السنة، أقر المناظرون جميعهم بمن فيهم المأمون نفسه بعلمه وفضله وصفاته الذاتية رغم صغر سنه. وقد سبق أن يحيى بن أكثم وهو رئيس علماء أهل السنة كان في بداية الأمر يخالف اتصاف الإمام بهذه الصفات الكمالية، إلا أنه بعد إحدى المناظرات اعترف للإمام بهذه الفضائل . كما أقر المأمون نفسه لا بهذه الفضائل فحسب، وإنما أضاف إلى ذلك فلسفة توفرها في الإمام في بعض إشاراته، وأنها غير مستبعدة عن سلسلة

ص: 91


1- انظر: الصواعق المحرقة لأهل البدع والزندقة، ص 312؛ الأعمال الكاملة للشيخ المفيد، ج 11 ، القسم الثاني، ص 282 ، كتاب الإرشاد؛ المسعودي، إثبات الوصية.

النبوة ونزول العلم عليه من طريق الإلهام والعناية الإلهية، كما خاطب جمعاً من العلماء ذات مرّة وقال لهم صراحة: «وَيْحَكُمْ إِنَّ أَهْلَ هَذَا الْبَيْتِ خُصُّوا مِنَ الْخَلْقِ بِمَا تَرَوْنَ مِنَ الْفَضْلِ وَ إِنَّ صِغَرَ السِّنَّ لَا يَمْنَعُهُمْ مِنَ الْكَمالِ ... إِنَّ هَذَا مِنْ أَهْلِ بَيْتِ عِلْمُهُمْ مِنَ الله تَعَالَى وَمَوَادِّهِ وَ إِلْحَامِهِ»(1).

كما أقر سائر علماء أهل السنة من أمثال ابن حجر الهيتمي بفضل الإمام الجواد(علیه السّلام)وعلمه وكماله وعظمته في صغره(2).

5 - الفضائل الذاتية للإمام الهادي(علیه السّلام): لقد كان الإمام الهادي(علیه السّلام)مثل أبيه الإمام الجواد(علیه السّلام)حيث آلت إليه الإمامة وهو صغير السن. وقد تلقى الشيعة إمامته بالقبول لمشابهتها بإمامة أبيه. وفيما يتعلق بالفضل الذاتي الذي كان يتصف به الإمام الهادي نكتفي بذكر هذه الواقعة، وهي أن المعتصم العباسي أراد أن يستغل صغر سن الإمام، فأرسل إلى عالم سني شهير وهو أبو عبد الله الجنيدي ليتولى تأديب الإمام الجواد وتعليمه، وأن يتولى لذلك ملازمته وحبسه في بيته، وأخذ عليه خلال هذه المدة أن يقوم له بعملية غسل دماغ بوصفه أستاذه الخاص. فثقل ذلك على كبار الشيعة. فكان الجنيدي يلزم أبا الحسن [الهادي] في القصر ؛ فاذا كان الليل أغلق الباب وأقفله وأخذ المفاتيح إليه . فمكث على هذا مدة وانقطعت الشيعة عنه وعن الاستماع منه والقراءة عليه. يقول الراوي: «ثم إني لقيته في يوم جمعة فسلّمت عليه وقلت له: ما قال هذا الغلام الهاشمي الذي تؤدبه ؟ فقال منكراً علي: تقول الغلام، ولا تقول الشيخ الهاشمي ؟! أنشدك الله هل تعلم بالمدينة أعلم مني ؟ قلت: لا. قال: فإني و الله

ص: 92


1- انظر: الطبرسي، الاحتجاج، ج 2، ص 269 - 276؛ المفيد، الإرشاد، ص 282.
2- انظر: ابن حجر الهيتمي، الصواعق المحرقة، ص 312.

أذكر له الحزب من الأدب أظن أني قد بالغت فيه فيملي علي باباً فيه أستفيده منه. ويظنّ الناس أني أعلمه، وأنا والله أتعلم منه ... ثم قال: هذا مات أبوه بالعراق وهو صغير بالمدينة ونشأ بين هذه الجواري السود، فمن أين علم هذا..؟ ثم ما مرت به الأيام والليالي حتى لقيته فوجدته قد قال بإمامته وعرف الحق و قال به»(1).

لقد بلغت كرامات الإمام الهادي وصفاته في صغره مرحلة من الظهور،بحيث اتخذ منها بعضهم ذريعة للمبالغة والغلو، وقد وقف الإمام في وجه هذه الظاهرة بكل حزم وشدة، وحكم بقتل عدد من الغلاة أيضاً(2).

حاصل الكلام أنه بالالتفات إلى نبوة المسيح عيسى بن مريم(علیه السّلام)،وإعطاء الحكم لسيدنا يحيى بن زكريا(علیه السّلام)وهما صغيران في السن، تكون الإمامة في هذه الفترة بالنسبة إلى الأئمة من أهل بيت النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)أمراً ممکناً وواقعاً. هذا فضلاً عن أن إمامة الأئمة(علیهم السّلام) قد ثبتت من طريق لأحاديث المأثورة عن الأئمة السابقين عن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)(3)،وهو أمر يشكل بدوره برهاناً «لمياً» على إمكانيتهم وصلاحيتهم الذاتية لهذا الأمر.

وأما فيما يتعلق بإمامة الإمام الحجة المنتظر(علیه السّلام) فسوف نفرد لها بحثاً مستقلا.

ص: 93


1- المسعودي، إثبات الوصية، ص 230
2- انظر: أبو القاسم الخوئي، معجم رجال الحديث، ج 13، ص 240 ، مدخل : فارس بن حاتم.
3- انظر: الحاكم النيسابوري، شواهد التنزيل، ج 1، ص 76 ، ح 89.

الشبهة السابعة: أفضلية الإمامة على النبوة:

إن من بين الشبهات التي يثيرها أهل السنة ضد التشيع هي ما عليه الشيعة من الاعتقاد بأفضلية مقام الإمامة على مقام النبوة، والذي يذهب الشيعة على أساسه إلى تقديم مقام الأئمة(علیهم السّلام)على مراتب الأنبياء(علیهم السّلام).

مناقشة وتحليل

إن البحث في تعريف النبوة والإمامة والفرق بينهما بحث قرآني وكلامي، وعليه يمكن لكل مدرسة أو فرقة أن تبين رأيها في هذا الشأن، شريطة أن يكون هذا الرأي قائماً على قاعدة دينية وأن يستند إلى الكتاب والسنة.

عندما ننظر فى آراء أهل السنة والشيعة حول تعريف الإمامة نقف على اختلافهما المبنائي في هذا الشأن. حيث عمد علماء أهل السنة إلى تفسير الإمامة في كتبهم الكلامية بالرئاسة الدنيوية الناظرة إلى أمر الحكومة والسياسة، وغاية ما على الحاكم أنه يتكفل به من تنظيم هذه الأمور الدنيوية. ( وقد تقدم الكلام بالتفصيل حول آراء أهل السنة في هذا الموضوع في بداية الفصل الأول).

بهذه الرؤية إلى تعريف الإمام والإمامة يتضح أن أهل السنة يقدمون تعريفاً عاماً للإمامة في القرآن والسنة(1)؛ ذلك لأن الإمام والإمامة قد استعملا في القرآن في مقام النبوة وما هو أسمى منها، كما استعملا في غير مقام النبوة من قبيل الحكومة وقيادة المجتمع حتى لو كان من نوع الكفر والإلحاد أيضاً، من

ص: 94


1- انظر: الفخر الرازي، التفسير الكبير، ج 4، ص 44 ، تفسير الآية 124 من سورة البقرة.

قبيل قول الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ﴾(1)، وقوله تعالى:﴿فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ﴾(2). وعليه يمكن القول من هذه الناحية: إن بإمكان أهل السنة أن يفسروا الإمامة بما دون النبوة والنبي، ولكن لا يحق لهم وليس من المنطقي أن يتهموا الشيعة بمخالفة القرآن والإسلام لمجرد مخالفتهم في تعريف الإمامة؛ لأن تعريف الشيعة للإمامة يستند إلى القرآن أيضاً. توضيح ذلك: لقد سبق أن أشرنا في الفصل الأول في تعريف الإمامة من وجهة نظر الإمامية واختلافهم عن توجّه أهل السنة في هذا الشأن، مع بيان اختلاف وخصائص تعريف الشيعة بشكل مسهب، وكان من بين أهم خصائص الإمامة عند الشيعة عبارة عن:

أ - مشروعية الإمامة الإلهية.

ب - الصفات الخاصة من قبيل: (العلم والعصمة).

ج - المرجعية العلمية والدينية.

د - واسطة الفيض والقطب (الولاية العامة).

ه_ - الإلهام.

وعليه طبقاً لهذا التعريف والخصائص، لا يمكن لأي شخص - حتى إذا كان حاكماً عادلاً - أن يصبح إماماً؛ وذلك لأن الجمع بين هذه الصفات صعب بالنسبة إلى الإنسان العادي، بل هو ضرب من المحال، ولا يمكن جمع هذه الصفات في شخص إلا إذا شملته العناية الإلهية، وتم التنصيص عليه من قبل الله ورسوله.

ص: 95


1- القصص: 41 .
2- التوبة: 12 .

بالالتفات إلى التعريف الخاص للإمام والإمامة المطروح من قبل الشيعة - وقد ورد في الروايات أيضاً بطبيعة الحال - يتضح أن الذي تتوفر فيه هذه الصفات ليس نبياً، وإنما سيكون في نفس مراتبهم، غاية ما في الأمر أنه لا يأخذ عن الوحي ولا ينزل إليه كتاب، ولكن من الممكن في الوقت نفسه أن يكون مقام الذي يتحلى بصفات الإمامة أسمى من بعض الأنبياء أيضاً. بل يمكن إثبات هذه الحقيقة (أفضلية الإمامة على النبوة) بالقطع واليقين من خلال الاستناد إلى الآية الآتية:

﴿وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾(1)

بالالتفات إلى شأن نزول هذه الآية وتاريخها يتضح أن إعطاء مقام الإمامة لإبراهيم الخليل(علیه السّلام)كان بعد إعطائه النبوة، إذ تم له ذلك في آخر عمره الشريف، وبعد اجتياز كثير من الاختبارات المتنوعة. وعليه يتضح أن مقام الإمامة يختلف عن مقام النبوة، ويمتاز منها، وإنه أفضل وأسمى منها؛ لأن إعطاء الإمامة يكون بعد مقام النبوة، وإذا كان مقام الإمامة هو عين مقام النبوة لكان الحديث عن إعطائها وتفريعها على الابتلاء بالكلمات الإلهية لا مبرر له.

من هنا يتضح أن رؤية الإمامية في تفضيل مقام الإمامة على مقام النبوة لها مستند من القرآن الكريم.

وقد صرّح الإمام الرضا(علیه السّلام) - ضمن إشارته إلى محدودية أذهان الناس وقصورها عن بلوغ حقيقة الإمامة - بأن الإمامة أفضل من النبوة،

البقرة: 124 .

ص: 96


1-

واستدل لذلك بإعطاء النبي إبراهيم مقام الإمامة بعد النبوة، فقال:

«إن الإمامه خص الله بها إبراهيم الخليل(علیه السّلام)بعد النبوه والخلة مرتبة ثالثة، وفضيلة شرفه بها»(1).

ثم استطرد الإمام قائلاً إن هذه المنزلة خاصة بذرية الإمام علي(علیه السّلام)حصراً. وقد أشار الإمام الصادق(علیه السّلام)في مقام بيان صفات ومناقب النبي إبراهيم الخليل(علیه السّلام)إلى المفاهيم الآتية:

1 - العبد.

2 - النبي.

3 - الرسول.

4 - الخليل.

5 - الإمام.

مؤكداً على أن هذه المنازل والمقامات إنما هي مقامات تراتبية، بمعنى أنه كان عبداً أول الأمر، ثم نبياً، ثم رسولاً ، ثم خليلاً، ليصبح في نهاية المطاف إماماً، وإليك نص الرواية: «إِنَّ اللَّهَ اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ عَبْداً قَبْلَ أَنْ يَتَّخِذَهُ نَبِيَّاً، وَاتَّخَذَهُ نَبِيّاً قَبْلَ أَنْ يَتَّخِذَهُ رَسُولًا، وَاتَّخَذَهُ رَسُولًا قَبْلَ أَنْ يَتَّخِذَهُ خَلِيلًا، وَاتَّخَذَهُ خَلِيلًا قَبْلَ أَنْ يَتَّخِذَهُ إِمَاماً ، فَلَمَّا جَمَعَ لَهُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ وَقَبَضَ يَدَهُ، قَالَ لَهُ: يَا إِبْرَاهِيمُ ﴿إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً﴾(2)»(3).

ص: 97


1- الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضا، ج 2، ص 6 - 195 ؛ الكليني، أصول الكافي، ج 1، ص 199؛ كتاب الحجة، ب نادر جامع، ح 1.
2- البقرة: 124 .
3- الكليني، الكافي، ج 1، ص 175.

وقد عمد الإمام السجاد(علیه السّلام)إلى تعريف نفسه وأسلافه وأخلافه بأنهم أئمة المسلمين، معدداً الآثار والمنافع التي يتركونها على الناس والكون بأسره، حيث قال: «نحن أئمة المسلمين، وحجج الله على العالمين، وسادة المؤمنين، وقادة المحجلين، وموالي المؤمنين، ونحن أمان أهل الأرض، كما أن النجوم أمان لأهل السماء، ونحن الذين بنا يمسك الله السماء أن تقع على الأرض، ولولا ما في الأرض منا لساخت بأهلها»(1).

وهذه الصفات من مختصات الأئمة التي لم يشاركهم فيها حتى الأنبياء السابقين باستثناء النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)

إن أفضلية الإمامة ومصاديقها الحصرية بالأئمة الإثني عشر(علیهم السّلام)على سائر الأنبياء، تتضح من الروايات التي تقدم ذكرها في الفصل الأول تحت عنوان «الإمام واسطة الفيض الإلهي» و«الصادر الأول»، وسنذكر بعض الروايات الأخرى في معرض نقد الشبهة الآتية.

حاصل الكلام أن الاختلاف بين الشيعة وأهل السنة في تعريف الإمامة هو اختلاف مبنائي، ويمكن غض الطرف عنه بشكل من الأشكال. وأن موضع النقاش الرئيس في هذا البحث يكمن في مؤديات هذا المبنى، حيث يتوصل الشيعة من خلال تعريفهم الخاص للإمامة إلى إمامة الأئمة الإثني عشر، ومن ثُمَّ يتوصلون إلى تفضيلهم على جميع الأنبياء باستثناء النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)، وهنا يعمد أهل السنة إلى اتهام الشيعة بالإفراط والغلو.

ص: 98


1- فرائد السمطين، ج 1، ص 45؛ موسوعة الإمامة في نصوص أهل السنة، ج 5،ص 286 .

بعبارة أخرى: هل هناك من غير الأنبياء من بلغ مقام الإمامة أم لا؟ يجيب الإمامية عن هذا السؤال بالإيجاب، حيث يذهبون إلى الاعتقاد - انطلاقاً من الآيات والروايات - إلى أن الأئمة الإثني عشر قد بلغوا هذه المرتبة، وقد تقدم ذكر بعض الآيات والروايات التي تثبت هذا الإدعاء في الصفحات السابقة، كما سيأتي ذكر مزيد منها في معرض تحليل الشبهة الآتية.

الشبهة الثامنة: أفضلية أئمة الشيعة على الأنبياء(علیهم السّلام):

بالالتفات إلى المبنى القرآني للإمامية فيما يتعلق بتعريف الإمامة - المتقدم في تحليل الشبهة السابقة - تُعدُّ الإمامة مقاماً إلهياً يفوق النبوة، وتبعاً لذلك يكون أئمة الشيعة أفضل من سائر الأنبياء باستثناء النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)(1). أما أهل السنة فبالالتفات إلى مبناهم فيما يتعلق بالإمامة، فإنهم يقدمون تعريفاً سطحياً عن الإمامة، وتطبيقه على الحكومة والحاكم الديني، وينكرون عقيدة الشيعة القائمة على تفضيل الأئمة على سائر الأنبياء باستثناء النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)(2)

مناقشة وتحليل

فيما يتعلق بتحليل هذه الشبهة، نجد النقاط الآتية جديرة بالملاحظة:

ص: 99


1- انظر: الشيخ الصدوق، الهداية، ص 73؛ الشيخ المفيد، الأعمال الكاملة، ج 5، ص 93؛ الفاضل المقداد السيوري، اللوامع الإلهية، ص 343؛ بحار الأنوار، ج 26 ، باب تفضيلهم على الأنبياء، ص 267. ومن الجدير ذكره أنّ قليلاً من الإمامية توقفوا في ذلك (انظر: الشيخ المفيد، الأعمال الكاملة، ج 14، ص 71).
2- انظر: أبو الحسن الأشعري، مقالات الإسلاميين، ص 47؛ عبد القاهر البغدادي، كتاب أصول الدين، ص 157.

1 - عنوان الإمامة مثبت للأفضلية: بعد أن أثبت الشيعة بالدليل القرآني أن مقام الإمامة أفضل من مقام النبوة، يضاف إلى ذلك دلالة النصوص الدينية (الآيات والروايات النبوية) على تعيين الإمام على(علیه السّلام)وسائر الأئمة الآخرين بوصفهم أئمة وخلفاء الرسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)؛ تكون نتيجة هذين الأمرين (أفضلية الإمامة على النبوة، وتنصيب الأئمة المعصومين الإثني عشر في منصب الإمامة بأدلة من القرآن والسنة)هي أفضلية أئمة الشيعة على الأنبياء الذين لم يبلغوا مرتبة الإمامة واقتصروا على مرتبة النبوة فقط . والجدير بالبحث هنا ليس النتيجة، وإنما المقدمتان الانفتان وهما:

المقدمة الأولى: (أفضلية مقام الإمامة على مقام النبوة)، في تحليل الشبهة الأخيرة.

المقدمة الثانية: (تنصيب الإمام علي(علیه السّلام)في منصب الإمامة)، وسوف نعمل على إثباتها بالتفصيل في الفصل الآتي ضمن الحديث عن شبهة عدم وجود تنصيب في القرآن والسنة.

إن هذا الدليل إنما يثبت أفضلية الأئمة على الأنبياء الذين لم يبلغوا مرتبة الإمامة. أما دعوى أفضلية الأئمة على سائر الأنبياء بمن فيهم الذين بلغوا مرتبة الإمامة باستثناء رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)، فهو ما سنعمل على بيانه في الدليل التالي

2 - الأدلة الخاصة على أفضلية الأئمة: بالإضافة إلى المسألتين المتقدمتين (أفضلية الإمامة على النبوة، ووجود النص على إمامة الأئمة الشيعة) يمكن لنا من خلال الآيات والروايات أن نثبت أفضلية الأئمة الشيعة سيما الإمام علي(علیه السّلام)على سائر الأنبياء. بعبارة أخرى: لو سلمنا عدم صحة

ص: 100

الدليلين (المقدمتين) المتقدمين على ادعاء الشيعة، يمكن لنا مع ذلك إثبات هذه الأفضلية من طريق التمسك بالنصوص الخاصة؛ إذ هناك نصوص خاصة من القرآن والسنة على أفضلية الأئمة على الأنبياء، وفيما يأتي نعرض هذه الأدلة باختصار:

في قضية المباهلة(1)، أمر الله نبيه أن يخرج بأهل بيته للمباهلة والدعاء، وذلك إذ يقول تعالى: ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّه عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾(2).

يُجمع المفسرون والمؤرخون على أن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)لم يخرج معه إلى المباهلة غير ابنته السيدة فاطمة الزهراء(سلام الله علیها)، والإمام الحسن والإمام الحسين(علیهما السّلام)، والإمام علياً(علیه السّلام)(3)حيث تمت الإشارة إلى السيدة الزهراء الله بلفظ﴿نِسَاءَنَا﴾، وإلى الحسنين بلفظ ﴿أَبْنَاءَنَا﴾، وإلى الإمام علي بلفظ ﴿أَنْفُسَنَا﴾. وبذلك يتضح أن الإمام علي كان بمرتبة النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)، وبعبارة أدق: إن مرتبة الإمام علي(علیه السّلام)عند الله ورسوله من السمو بحيث يعتبره الله ورسوله بمثابة نفس الرسول ومنزلته، وهذا يشكل دليلاً على أنه ليس هناك من يشابه الرسول في صفاته وكماله غير الإمام على(علیه السّلام)،وحيث أن النبي الأكرم أفضل من جميع الناس والأنبياء، كان شبيهه ونفسه (وهو الإمام علي)

ص: 101


1- المباهلة عبارة عن: أن يبادر شخصان أو فئتان أو أتباع ديانتين مختلفتين - بعد استنفاد أدلتهما العلمية على أحقيتها بالنسبة إلى الطرف الآخر - إلى اللجوء في نهاية المطاف إلى التواعد في مكان واحد ووقت واحد للدعاء والابتهال إلى الله بأن يهلك المبطل منهما.
2- آل عمران: 61 .
3- انظر : مسند الإمام أحمد بن حنبل، ج 1، ص 185؛ التفسير الكبير، ج 8، ص 81.

أفضل من سائر الأنبياء الآخرين(1).

وقد صرّح النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)في كثير من المواطن بأفضلية الأئمة المعصومين الإثني عشر(علیهم السّلام)، وفي بعض الموارد الخاصة بأفضلية الإمام علي(علیه السّلام)على جميع الناس والأنبياء، وقد تقدّم بعضها في فصل الكليات في بحث إثبات نظرية التنصيب تحت عنوان «الأئمة واسطة الفيض الإلهي»، وفيما يأتي نعرض بعض النصوص الأخرى:

أ - أهل البيت هم المخلوق الإلهي الأول: لقد تحدثت النصوص الروائية أن أرواح الناس كانت متحققة قبل عالم الدنيا في عالم آخر اسمه عالم الذر أو عالم النور، وهو العالم الذي أخذ الله فيه عهده وميثاقه على الناس بقوله: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾(2).

وكان أول ما خلق الله في ذلك العالم روح النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)والإمام علي(علیه السّلام)وسائر الأئمة المعصومين(علیهم السّلام). وقد تم التأكيد في الأحاديث على اتحاد نور الإمام علي(علیه السّلام)ونور النبي الأكرم(علیه السّلام)، ومما ورد في ذلك عن رسول الله(علیه السّلام)أنه قال: «خلقت أنا وعلى بن أبي طالب من نور الله عن يمين العرش نسبح الله ونقدسه من قبل أن يخلق الله - عز وجل - آدم بأربعة ألاف سنة»(3).

ص: 102


1- انظر: الفاضل المقداد السيوري، اللوامع الإلهية، ص 383.
2- الأعراف: 172 .
3- انظر: فرائد السمطين، ج 1، ص 41 ؛ تذكرة الخواص، ص 46. ولمزيد من الروايات في هذا الشأن انظر: موسوعة الإمامة في نصوص أهل السنة، ج 3، ص 58 فما بعد، وج 4 ، ص 415؛شمس الدين أحمد الذهبي، تاريخ الإسلام، ج 25 ، ص 285.

إن النبي في هذا الكلام في مقام التعريف بالمنزلة الحقيقية للإمام علي ، وأنه متحد معه في عالم الأنوار والأرواح. وقد جاء هذا المضمون في كثير من روايات أهل السنة(1).

لاشك في دلالة ذات خلق النفس الأولى على أفضلية الإمام علي(علیه السّلام) ؛ وذلك لأن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)يذكر هذا الأمر في سياق تفضيل نفسه ونفس

علی(علیه السّلام)على الملائكة إذ يقول : «فكيف لا نكون أفضل من الملائكة وقد سبقناهم إلى معرفة ربنا وتسبيحه وتهليله وتقديسه؟ لأن أول ما خلق الله (عزّ وجل) أرواحنا فأنطقنا بتوحيده وتحميده ...»(2).

ب - كتابة أسماء الأئمة في الجنة وتعريف الأنبياء بها: جاء في كثير من الروايات أن أسماء أصحاب الكساء أو الأئمة الإثني عشر كانت مكتوبة في مواضع مقدسة من قبيل: الجنة، والعرش، وباب الجنة، قبل نزول آدم(علیه السّلام)إلى الأرض. وأن آدم قد سأل الله سبحانه عن أصحاب هذه الأسماء، فبين الله له حقيقة هذه الوجودات النورانية وما تتمتع به من كريم الصفات والسجايا.

وقد صرّح الله بهذه الحقيقة في بعض الأحاديث القدسية وغيرها، من قبيل حديث المعراج، حيث شاهد النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)أسماء الأئمة الإثني عشر في ساق العرش الإلهي، فسأل الله عنهم، فقال له : «هم أوصياؤك وخلفاؤك، وخير خلقي بعدك»(3).

ص: 103


1- انظر: الحنفي القندوزي، ينابع المودة، ج 3، الباب 56 ، ص 307.
2- الحنفي القندوزي ينابيع المودة ، ج 3، الباب 93، ص 379؛ العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 26 ، ص 337.
3- الحنفي القندوزي، ينابيع المودة ، ج 3، الباب 93 ، ص 379؛ العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 26 ، ص 337.

إن وصي النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)ليس مجرد وصي له في تصريف أموره الشخصية والأسرية المعروفة في مسألة الوفاة، وإنما المراد منها الوصاية والخلافة في أمور النبوة. وهذا ما تم التصريح به في الحديث ذاته حيث يقول الله سبحانه وتعالى لنبيه:«يا محمد هؤلاء أوليائى وأحبائي وأصفيائي وحججي بعدك على بريتي، وهم أوصياؤك، وعزتي وجلالي، لأطهرن الأرض بآخرهم المهدي من الظلم»(1).

واضح أنه لو كان بين الناس والأنبياء غير الأئمة من هو أفضل منهم لكتبت أسماؤهم في الجنة ايضاً، ولشاهدها آدم(علیه السّلام). وعليه تكون كتابة أسماء الأئمة(علیه السّلام) دليلاً على أفضليتهم على من سواهم.

ج - النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)والأئمة(صلی الله علیه و آله و سلم)غاية الخلق: جاء عن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)في كثير من الروايات أنه وأهل بيته هم غاية خلق عالم الإمكان. وقد تقدم أن ذكرنا أن أسماء أهل البيت مكتوبة في الجنة وأن أبانا آدم قد تشرف بزيارتها، وفي أكثر هذه الروايات يجيب الله آدم عن سؤاله ويؤكد له أفضليتهم على من سواهم، وأنه لولاهم لما خلق العالم:

يا آدم لولاهم لما خلقتك، ولما خلقت النار والعرش والكرسي واللوح والقلم»(2).

ص: 104


1- الحنفي القندوزي، ينابيع المودة ، ج 3، الباب 93 ، ص 379 - 380 ، ح 11؛ العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 26 ، ص 337.
2- انظر: تاریخ بغداد،ج 1 ، ص 247؛ تاريخ مدينة دمشق، ج 14، ص 170؛ فرائد السمطين، ج 1، ص 36؛ موسوعة الإمامة في نصوص أهل السنة، ج 3، ص 69 و 304 و 400 .

د - عدم قياس أحد بالأئمة(علیهم السّلام): إن منزلة النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)والأئمة(علیهم السّلام)ومرتبتهم في عالم الإمكان من الرفعة والسمو بحيث لا يدانيهم فيها أحد على ما صرح بذلك شخص النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)إذ روي عنه أنه قال: «نحن لا يقاس بنا أحد»(1).

كما ورد عن الإمام علي(علیه السّلام)كثير من الروايات بهذا المضمون، ومن ذلك ما روي عنه أنه قال: «نحن أهل بيت لا يقاس بنا أحد»(2).

وبذلك حكم ابن عمر على ما روى عنه أبو وائل عن ابن عمر قال: كنا إذا عددنا أصحاب النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)قلنا: أبو بكر وعمر وعثمان، فقال رجل لابن عمر: فعلي ما هو؟ قال: إن عليا من أهل البيت، لا يقاس به أحد، هو مع رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)في درجته(3).

وبذلك أفتى الإمام أحمد بن حنبل وهو من كبار علماء أهل السنة وأحد أقطاب المذاهب الأربعة، إذ قال أحمد بن محمد الكرزري البغدادي: سمعت عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: سألت أبي عن التفضيل؟ فقال: أبو بكر وعمر وعثمان، ثم سكت. فقلت: يا أبت، أين علي بن أبي طالب؟ قال: «هو

ص: 105


1- فرائد السمطين، ج 1، ص 45؛كنز العمال، ج 12، ص 104 ؛الحنفي القندوزي، ينابيع المودة، ج 2، ص 117؛ ابن حجر، زهر الفردوس ، ج 4، ص 121؛ الديلمي، الفردوس، ج 4، ص 283؛ وانظر أيضاً: موسوعة الإمامة في نصوص أهل السنة : ج 4 ، ص 22 .
2- تاريخ مدينة دمشق، ج 30، ص 361؛ حلية الأولياء، ج 7، ص 201؛ ابن الطريق، الوحي المبين، ص 225؛ نهج البلاغة، الخطبة الثانية؛ موسوعة الإمامة في نصوص أهل السنة، ج 4 ، ص 24 .
3- الحنفي القندوزي، ينابيع المودة، ج 2، ص 62 .

من أهل البيت لا يقاس به هؤلاء»(1).

ه_ - التصريح بأفضلية الإمام علي(علیه السّلام): إن الروايات المتقدمة كانت تدل على أفضلية أهل البيت(علیهم السّلام)بالدلالة الالتزامية، وعليه يمكن لبعضهم أن يشكك في دلالتها أو يتوقف، ولكن هناك لحسن الحظ روايات أخرى وهى كثيرة أيضاً تدل بالدلالة المطابقية وبشكل لا يقبل معه الشك على أفضلية أهل البيت والأئمة الأطهار(علیهم السّلام)، وفي ما يأتي نشير إلى بعضها:

قال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)لعبد الرحمن بن عوف يا عبد الرحمن إنكم أصحابي وعلي بن أبي طالب أخي ومني وأنا من علي فهو باب علمي ووصيي، وهو وفاطمة والحسن والحسين هم خير الأرض عنصراً وشرفاً وكرماً»(2).

وعن أم المؤمنين عائشة عن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)أنه حدثها عن الخوارج وأن الذي يقاتلهم [ على(علیه السّلام)]هو خير أهل الأرض وأعظمهم منزلة عند الله يوم القيامة، حيث قال: «هم شر الخلق، يقتلهم خير الخلق وأعظمهم عند الله يوم القيامة وسيلة»(3).

كما وصف النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)نفسه وأهل بيته قائلاً: «إن الله تعالى اختارني وأهل بيتي عن جميع الخلق ... فأنا وأهل بيتي صفوة الله وخيرته من خلقه»(4)

ص: 106


1- الحنفي القندوزي، ينابيع المودة، ج 2، ص 298.
2- الحنفي القندوزي، ينابيع المودة، ج 2، ص 333؛ الخوارزمي مقتل الحسين، ج 1 ص 60 .
3- القاضي النعمان المغربي، شرح الأخبار، ج 1، ص 142؛مناقب ابن المغازلي، ص 56.
4- ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، ج 1، ص 256؛ ابن طاووس، الطرائف، ص 97؛ تاریخ بغداد، ج 4، ص 392.

وروي عن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)أنه قال لعلي(علیه السّلام) في جمع من الأنصار والمهاجرين:«يا علي لو أن أحداً عبد الله حق عبادته ثم شك فيك وأهل بيتك في أنكم أفضل الناس كان في النار»(1).

والحديث الآخر هو الحديث المعروف ب_ «الطائر المشوي»، الذي صححه بعض علماء أهل السنة من أمثال: الحاكم النيسابوري في المستدرك على الصحيحين، والذهبي في تذكرة الحفاظ.وإليك نص هذا الحديث:

«عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكِ قَالَ كَانَ عِنْدَ النَّبِيِّ(صلی الله علیه و آله و سلم)طَيْرٌ فَقَالَ «اللَّهُمَّ اثْتِنِي بِأَحَبِّ خَلْقِكَ إِلَيْكَ يَأْكُلُ مَعِي هَذَا الطَّيْرَ». فَجَاءَ عَلِيٌّ فَأَكَلَ مَعَهُ»(2)

وهناك رواية صريحة في دلالتها على أفضلية الأئمة الأطهار(علیهم السّلام)على جميع الناس بمن فيهم الأنبياء السابقين، وهي الرواية المروية عن الإمام علي(علیه السّلام)في كتب الفريقين، وإليك نص الرواية :

«قال علي قلت: يا رسول الله أنت أفضل أم جبرائيل؟ فقال: يا علي إن الله - تبارك وتعالى - فضل أنبياءه المرسلين على ملائكته المقربين، وفضلني على جميع النبيين والمرسلين، والفضل بعدي لك يا علي، وللأئمة من ولدك من بعدك، فإن الملائكة من خدامنا وخدام محبينا»(3).

و - الروايات المأثورة عن الأئمة الأطهار(علیهم السّلام): علاوة على الروايات

ص: 107


1- المودة في القربى، ص 1320؛ الحنفي القندوزي، ينابيع المودة ، ج 3، ص 298 .
2- سنن الترمذي، ج 5 ، ص 436 ، ب 11 ؛ النيسابوري، المستدرك على الصحيحين، ج 3، ص 130 و 142؛ الطبراني، المعجم الكبير، ج 1، ص 253، ح 730؛ مناقب ابن المغازلي، ص 169 ، ح 201 ؛ فضائل الصحابة، ج 2، ص 560 ، ح 945.
3- الحنفي القندوزي، ينابيع المودة ، ج 3، ص 377، الباب 73.

النبوية هناك روايات كثيرة صدرت عن الأئمة الأطهار(علیهم السّلام)أنفسهم تتحدث عن أفضليتهم على سائر الناس وحتى الأنبياء(علیهم السّلام).

وربما جاءت هنا شبهة لزوم الدور، إننا بذلك نستدل على أفضلية الأئمة بروايات ماثورة عن الأئمة أنفسهم، وبذلك لا يكون هذا الدليل حجة.

و في الجواب عن هذه الشبهة نقول: إنّنا قبل إثبات أفضلية الأئمة، نعمد أولاً إلى إثبات إمامتهم وصفاتهم اللازمة من قبيل: العصمة، والمرجعية الدينية، وحجية أقوالهم، لنتخذ من ذلك فرضية وقاعدة ثابتة. ثم نرجع إلى هذا المصدر الذي أثبتنا حجيته وعصمته؛ لنحصل على جواب عن السؤال القائل: من هو

أفضل الناس؟

وصف الإمام علي(علیه السّلام)عترة النبي الأكرم بقوله: «عترته خير العتر»(1).

وروي عن الإمام محمد الباقر(علیه السّلام)أنه قال: «نحن جنب الله، ونحن صفوة الله، ونحن خيرته»(2).

وروي عن الإمام جعفر الصادق(علیه السّلام)أنه قال في حديث طويل: «بنا فتح الله وبنا ختم الله، ونحن الأولون ونحن الآخرون ونحن أخيار الدهر ونواميس العصر، ونحن سادة العباد وساسة البلاد، ونحن النهج القويم والصراط المستقيم، ونحن علة الوجود وحجة المعبود ...»(3).

ص: 108


1- نهج البلاغة الخطبة رقم:94.
2- فرائد السمطين، ج 2، ص 253، نقلاً عن: موسوعة الإمامة في نصوص أهل السنة، ج 3، ص 274 .
3- العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 26، ص 259.

الجمع بين الروايات الدالة على أفضلية الإمام علي الله وأبي بكر:

اتضح مما سبق أن الإمام علي(علیه السّلام)هو أفضل الناس بعد رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)، وهذا يتعارض ويتنافى مع ظاهر روايات أهل السنة الدالة على أفضلية أبي بكر وعمر، وفي بعض الروايات يرد اسم عثمان أيضاً. ولكن يمكن لنا في الجمع بينها أن نقول: إن علماء أهل السنة في الحد الأدنى لا يشكون في أفضلية الإمام على(علیه السّلام)على سائر الصحابة، أما فيما يتعلق بتقديمهم لأبي بكر وعمر فيجب القول إن هذه الأفضلية كانت في الدائرة الخاصة بالصحابة وهي دائرة يُخرجون منها الإمام علي تخصصاً، ولذلك يصرحون بأن علياً(علیه السّلام)إنما هو من أهل البيت الذين لا يُقاس بهم ،أحد فهو فوق الصحابة، بوصفه رديفاً وكفؤاً لرسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم).

وقد تقدم هذا المعنى في الرواية عن ابن عمر، وفي جواب أحمد بن حنبل عند تفضيله للصحابة وجوابه عن سؤال ابنه عن موضع علي(علیه السّلام)،ويبدو من ذلك أن أفضلية علي على سائر الناس كانت واضحة عند ابن عمر وابن حنبل وضوح الشمس في رابعة النهار، وعليه لا حاجة إلى جعله في مستوى سائر الصحابة فيما يتعلق بالمفاضلة بينهم؛ فهو خارج دائرتهم.

الشبهة التاسعة: استبعاد مقام الإمامة من دون نبوة

اشارة

قد تثار شبهة مفادها: كيف يمكن للأئمة أن يكون أفضل من الأنبياء مع أنهم هم أنفسهم ليسوا من الأنبياء؟ وبعبارة أخرى: كيف يمكن للأئمة أن يبلغوا مرحلة الإمامة قبل أن يبلغوا مرحلة النبوة؟

مناقشة وتحليل (الولاية جوهر النبوة):

إن الخصوصية التي تجعل الأنبياء يستحقون مواجهة الأمر القدسي

ص: 109

وملك الوحي، هو ما يتمتعون به من السمو الروحي، فإنهم يطهرون أنفسهم ويهذبونها قبل النبوة حتى تغدو مستعدة لنزول الوحي عليهم، ويتم اصطفاؤهم بالرسالة، وبطبيعة الحال لا يمكن إغفال دور العناية الإلهية في هذا الشأن.

وفي المصطلح العرفاني يطلق عنوان «الولاية» على تسامي الروح و تقرب صاحبها من منزلة القرب الإلهي، فيحصل صاحبها على منزلة خاصة من الله، فتشمله العناية الإلهية من طريق الارتباط بالغيب وعالم الملائكة، وبذلك يحصل على الشرط اللازم للنبوة ونزول الوحي، ومن الممكن في الوقت نفسه أن يحصل هذا الفرد على الوحي بمعنى الشريعة وحمل الرسالة، وقد لا يحصل على هذا المعنى. كما هو الحال بالنسبة إلى لقمان الحكيم الذي ذكر القرآن الكريم مواعظه الحكمية في كثير من المواطن. ولكنه لا يصنف في المصادر بوصفه نبياً، وإنما يعطى عنوان الحكيم الإلهي. ومع ذلك كانت منزلته ومرتبته فوق بعض الأنبياء.

وبعبارة أخرى: إن الذي يحصل على مقام الولاية يصل بالضرورة إلى مقام القرب من الله والارتباط بعالم الغيب والحصول على أسرار المعارف الإلهية من نوع المعارف العقلية والدينية والمعرفية، ومن هذه الناحية يمكن عده «نبياً» بمعنى المخبر عن الغيب الإلهى. ويتم تسمية هذه المنزلة في العرفان ب_«النبوة التعريفية»(1). ولذلك نجد العرفاء فيما يتعلق بالخاتمية يقولون: إن «النبوة التشريعية»قد ختمت، أما النبوة التعريفية بمعنى بلوغ الإنسان الكامل مقام

ص: 110


1- انظر: ابن عربي، فصوص الحكم، الفص الداوودي، ص 162؛ الفتوحات المكية، ج1، ج 1، ص وج 2 ص 429 ؛ مقدمه قيصري بر فصوص، ج 1، ص 127، الفصل : 12 .

القرب الإلهى والحصول على الحقائق العقلية والدينية - دون الشريعة - فهو مستمر.

يقول محيي الدين بن عربي: «وأما نبوّة التشريع والرسالة فمنقطعة ...إلا أن الله لطيف بعباده، فأبقى لهم النبوة العامة التي لا تشريع فيها»(1).

من هنا فإن أصل أفضلية من يتمتع بمقام الولاية على مقام النبوة محرز ومنسجم مع القرآن والمباني العرفانية، ولكن هل يمتلك أئمة الشيعة مثل هذه المنزلة؟ هذا ما نثبته من طريق الروايات المأثورة عن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم). فهناك كثير من الروايات المروية عن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)،التي تصرح وتؤكد على أرواح الأئمة القدسية وأفضليتهم على أرواح الأنبياء، وقد تقدم بعضها في الصفحات السابقة في الفصل الأول تحت عنوان «الأئمة واسطة الفيض الإلهي».

الشبهة العاشرة: عدم انسجام الإمامة مع الديمقراطية:

إن من بين الذرائع التي يتمسك بها أعداء أصل الإمامة ومذهب التشيع للطعن فيه والتشنيع عليه هو القول بأن أصل الإمامة يتعارض مع الديمقراطية (رأي الأغلبية)، ببيان أن الإمام - بمعنى الحاكم والقائد السياسي والاجتماعي - حيث يتم تنصيبه من قبل مقام قدسي مثل النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)أو الله عز وجل، يكون هناك تجاهل لآراء الأمة، ولا يخفى ما في ذلك من الانتهاك الصارخ لمفهوم الديمقراطية.

وقد عمد الدكتور عبد الكريم سروش - في كلمته التي ألقاها عام

ص: 111


1- ابن عربي، فصوص الحكم، نهاية الفص العزيزي، ص 134، والفص الشيثي، ص 72.

2006 للميلاد في جامعة السوربون فى فرنسا واستغرقت ساعتين كاملتين تحت عنوان الديمقراطية والتشيّع - إلى اعتبار هذين المفهومين متنافيين.

وبطبيعة الحال تعود جذور هذه الشبهة إلى ما يقرب من قرن من الزمن، حيث سبق للمستنيرين من أهل السنة من أمثال أحمد أمين إلى اعتبار نظرية الشيعة في الإمامة متنافية مع القواعد الديمقراطية(1).

نقد ورأي

اشارة

في معرض نقد هذه الشبهة يجدر الالتفات إلى الأمور الآتية:

- النقد الأول: تعدّد نماذج الديمقراطية:

إن القائلين بوجود التعارض بين الإمامة والديمقراطية - للأسف الشديد - لا يقدّمون أي بيان لطرفي النسبة بين (الإمامة والديمقراطية) عندما يصدرون حكمهم بوجود التنافي والتعارض بينهما. في حين أن المسار المنطقي يقتضي منهم أن يعملوا - من خلال تعريف الإمامة والديمقراطية - على إيضاح أسباب

القول بتعارضهما وعدم إمكان الجمع بينهما. وعليه سنقوم هنا بإيضاح هذين المفهومين من أجل مراعاة المسار المنطقي للبحث.

إن المعنى اللغوي للديمقراطية هو «حكومة الشعب»، إذ هى مؤلفة من كلمتين وهما «Demos» بمعنى الشعب، و«Kratein»بمعنى الحكم. ويتم ترجمتها وتعريفها بحكومة الشعب أو الأكثرية أيضاً. وقد أشكل علماء الاجتماع وفلاسفة السياسة على هذا التعريف، ويجب دراسة هذه الإشكالات

ص: 112


1- انظر: أحمد أمين، ضحى الإسلام، ص 655.

في موضعها(1).

إن الديمقراطية تنقسم - لمختلف الاعتبارارت، من قبيل طريقة مشاركة الناس (المباشرة أو غير المباشرة)، والمسار التاريخي (التقليدي أو المعاصر)، والأهداف (الليبرالية أو الاشتراكية أو النزعة النخبوية، والأسلوب أو القيم) -إلى أقسام ونماذج متعددة(2)، وهو أمرٌ جعل تعريف الديمقراطية مهمة في غاية التعقيد. وعليه نجد من الضروري هنا أن نبين مختلف نماذج الديمقراطيات، على النحو الآتي:

1 - الديمقراطية بما هي قيمة: إن من بين أهم نماذج الديمقراطية يمكن تسمية نموذجين، وهما: الديمقراطية بوصفها قيمة، والديمقراطية بوصفها أسلوباً. وفي القسم الأول تكون الديمقراطية وآراء الناس والأكثرية في نفسها ذات قيمة، بحيث يُعدُّ انتخاب الأكثرية صائباً وعقلياً وكاشفاً عن الخير الواقعي والمصلحة العامة. إن هذا النموذج يؤكد على مجموعة من المباني والمسلمات من قبيل: قدرة الناس على حكم أنفسهم، واتباع البشر للعقل والمنطق والأخلاق، وقدرتهم على بلوغ التقدم المادي والمعنوي .

وإن هذا النموذج ينقسم بنفسه إلى أقسام مختلفة من قبيل: التعددية التي تحترم المعارف البشرية الأعم مما إذا كانت صائبة أم خاطئة، أو حقاً أو ،باطلاً، ولا تتحمل أي آيديولوجية.

ص: 113


1- انظر: داریوش آشوري، دانشنامه سیاسی، ص 1572.
2- انظر: عبد الرسول بيات وآخرون، فرهنگ واژها، مقال «دموکراسی»، ص 270 - 285.

2 - الديمقراطية بما هي أسلوب: النموذج الثاني للديمقراطية هي الديمقراطية بوصفها أسلوباً، وهي كما يبدو من اسمها تعني اعتبار انتخاب الأكثرية أسلوباً وطريقاً للحكومة. إن هذا النموذج يمكن أن ينقسم إلى قراءات ونماذج مختلفة، من قبيل: الديمقراطية الليبرالية، والديمقراطية الاشتراكية(1).

وللأهمية الخاصة لهذين النموذجين الآخرين سوف نخوض في تعريفهما على النحو الآتى:

1 / 2 - الديمقراطية الليبرالية: تؤكد الديمقراطية الليبرالية على أولوية حرية المواطنين وتقدمها على سائر القيم الأخرى، من قبيل: المساواة، والفضيلة المدنية، والرفاه. وإن الليبراليين الجدد من أمثال هايك يصرحون بأن هذه الليبرالية هي التي تمارس السطوة على الديمقراطية، وإن انتخاب الأكثرية لا يمكنه سلب أو تحديد قيم الليبرالية، من قبيل: حرية المواطنين.

2 / 2 - الديمقراطية الاشتراكية: إن الديمقراطية الاشتراكية بدلاً من «حرية المواطنين» تهتم بأصل المساواة بين المواطنين وحقوقهم الاقتصادية، وتذهب لذلك إلى الاعتقاد بأن على الدولة أن تمسك بعصب الاقتصاد، ولضمان أصل المساواة والحقوق الاقتصادية، يمكنها أن تسلب حرية المواطنين

و تعمل على تحديدها.

3 و 4 - الديمقراطية القانونية والنخبوية: إن التعريف المشهور والتقليدي للديمقراطية هو مشاركة الأكثرية من الناس في انتخاب الحاكم وإدارة الحكم. بيد أن بعض فلاسفة السياسة في القرن الأخير طلعوا علينا

ص: 114


1- انظر: كلايمرودي وآخرون، آشنائی با علم سیاست، ج 1، ص 110 - 115.

بتقديم نموذجين آخرين لتعريف الديمقراطية. فطبقاً للديمقراطية القانونية لا يكمن جوهر الديمقراطية في حكم الأكثرية، بل في حكم القانون. إن السلطة من وجهة نظر هؤلاء الفلاسفة خطيرة للغاية، ولذلك لابد من تحديدها في إطار القانون، وإن تحديد السلطة وكبح جماحها لا يتم عبر الأكثرية، وإنما من خلال القانون. وفي الحد الأقصى فإن هذا النموذج من الديمقراطية لا يكمن في حكم مباشر من قبل الجماهير، بل هو وسيلة للتشاور مع الأكثرية.

والنموذج الآخر للديمقراطية يتمثل في الديمقراطية النخبوية. حيث يذهب القائلون بهذا النموذج إلى أن الديمقراطية بمعنى انتخاب الأكثرية ومشاركتهم في الحكم أمر مستحيل، ولا يعدو أن يكون مجرد وهم، إذ غاية ما نراه هو حصر الحكم بأقلية من أفراد المجتمع تتكون من «النخب». ومن القائلين بهذا النموذج يمكن لنا تسمية «بارتو» و «موسكا» من التقليديين، و«شومبيتر»و«روبرت دال»من المعاصرين. وإن المعاصرين من النخبويين - خلافاً للتقليديين - يذهبون إلى القول بأن قواعد الديمقراطية تبدو معتبرة، ولكن على المستوى العملي لا تكون الحكومة إلا في حيازة النُخَب(1).

نسبة الإسلام والتشيّع إلى الديمقراطية:

بعد أن شرحنا مختلف أنواع الديمقراطية ندخل في تحليل النسبة القائمة بين الإسلام والديمقراطية. فحيث تبين لنا أن الديمقراطية لا تختزل في نموذج ،واحد من البديهي عندما يواجه القارئ النبيه سؤالاً مفاده: هل الإسلام

ص: 115


1- انظر: في.بي.بارتو، نخبگان جامعه، ترجمه إلى الفارسية: علي رضا طيب، ص 7 و 122 فما بعد.

ينسجم مع الديمقراطية ؟ سيكون جوابه البديهي: علينا أولاً أن نحدد نوع هذه الديمقراطية بشكل واضح، كي يتسنى لنا الإجابة عن هذا السؤال.

أ - تنافي الإسلام والتشيع مع الديمقراطية بما هي قيمة : إذا كان طرف النسبة بين الإسلام والديمقراطية هى الديمقراطية بوصفها قيمة، يجب القول: لما كان الإسلام والتشيّع يؤكدان على سلسلة من المباني والأسس الثابتة، من قبيل: أصل الحاكمية الإلهية، واعتبار الدنيا وسيلة إلى السعادة في الآخرة، وضرورة تطبيق أحكام الدين في المجتمع، فلا يمكن له أن ينسجم مع هذا النموذج من الديمقراطية وقواعدها. فعلى سبيل المثال: إن القول بأن انتخاب الأكثرية يعدُّ في نفسه قيمة ويُعدُّ صائباً ومنطقياً، لا يمكن أن ينسجم مع العقل السليم أبداً؛ لأننا نشهد كثيراً من موارد أخطاء الأكثرية في التاريخ. فإن الإسلام لا يمكنه أن يستوعب القول بأن رأي الأكثرية هو المطاع والمتبع في جميع المجالات والحقول حتى لو أدى إلى مخالفة التعاليم الدينية، وإنما يقبل ذلك فيما لو تطابق رأي الأكثرية مع الموارد والمسائل المنسجمة مع الدين والعقل والفطرة. من هنا يمكن على نحو الاحتمال أن ندافع عن القائلين بوجود التنافي بين الإسلام والديمقراطية، والتذكير بأن المراد من ذلك هو مخالفة الإسلام لنموذج الديمقراطية بما هي قيمة ذاتية، والذي يعتبره علماء الدين ممثلاً للديمقراطية الغربية.

ب - تناغم الإسلام والتشيع مع الديمقراطية بوصفها أسلوباً: أما إذا كان طرف النسبة بين الإسلام والتشيع مع الديمقراطية بما هي أسلوب، فهنا لا يمكن لنا التحدث بضرس قاطع عن التعارض وعد الانسجام بين الإسلام والديمقراطية، بل يمكن القول: لمّا كان أصل هذا النموذج من انتخاب الأكثرية

ص: 116

لا ينظر إليه بوصفه قيمة، بل هو مجرد وسيلة، فإن الإسلام يحترم هذا الأمر مع تطعيمه ببعض الشروط وإضافة بعض القيود، ومن بين أهم تلك الشروط أن يكون انتخاب الأكثرية في إطار الدين والتعاليم الدينية. وبعبارة أخرى: أن لا يؤدي هذا النوع من الديمقراطية وانتخاب الأكثرية إلى انحسار دور الدين وأحكامه، بل إن الدين وتعاليمه هو الذي يحدد البوصلة التي يجب على الأكثرية أن تسير على ضبط إيقاعها. يبرز دور الأكثرية ورأيها في عصر غيبة المعصوم(علیه السّلام)بشكل أجلى، حيث يمكن للناس - بعد لحاظ القيم والصفات الدينية - أن ينتخبوا الحاكم والرئيس بشكل مباشر أو غير مباشر، وبذلك يمارسون دورهم في إدارة البلاد والإشراف على الأمور. ويمكن تسمية هذا النوع من الديمقراطية ب_ «الديمقراطية الدينية» أو «القدسية» أو «الجمهورية الدينية».

وأما القول بأن هذا النوع من الديمقراطية هل هو موجود في الغرب أم لا؟ يجب القول:

أولاً: إن الديمقراطية بوصفها قيمة قابلة للمرونة مع الديمقراطية الدينية، والكلام يدور حول أصل انطباق المعايير الديمقراطية. وأما القول بعدم وجود هذا النوع من الديمقراطية في الغرب، فإنه لا ينهض دليلاً على ضعفه أو بطلانه.

وثانياً: إن الليبرالية إنما تقبل بالديمقراطية وانتخاب الأكثرية في إطار القواعد الليبرالية، وعندما يقع التعارض بين الليبرالية والديمقراطية، تعمل الليبرالية على تقديم قواعدها، وفي هذه الصورة لا نجد أحداً يهب إلى الدفاع عن حياض الديمقراطية. ولكن عندما تعمد القيم الدينية إلى تحديد الديمقراطية ضمن الدائرة التي تلاحظ رعاية مصالح الناس، ينهض الجميع ويتحدث عن

ص: 117

معارضة الدين للديمقراطية ؟!

حاصل الكلام أنه لا يمكن الحديث عن التعارض والتنافي بين الإسلام والديمقراطية بشكل مطلق، وإنما يجب تفسير مفهوم الديمقراطية وتشريحه وبيان نوعها، للانطلاق بعد ذلك إلى بيان موقف الإسلام من الديمقراطية المعنية.

ج - تناغم الإسلام والتشيّع مع الديمقراطية القانونية: إن من بين أنواع الديمقراطية هي الدفاع عن أصل سيادة القانون، وليس الدفاع عن رأي الأكثرية، غاية ما هنالك أن أنصار هذا النموذج الديمقراطي يُفضّلون القانون على مقاس الثقافة والمباني المقبولة عندهم، من قبيل: أصل الليبرالية والمصالح الدينية والاقتصادية، ويؤسس الديمقراطية المنشودة والمطلوبة له على هذا الأساس.

وعليه يمكن تطبيق هذا النوع من الديمقراطية في إطار الإسلام والتشيّع أيضاً. فإن للإسلام والتشيّع في حقل السياسة والحكم نظاماً سياسياً واقتصادياً خاصاً، ويذهب في هذا السياق إلى ضرورة تطبيق قانون خاص في المجتمع، وإن الحاكم يمثل دور المسؤول عن تطبيق هذه القوانين بوصفه وكيلاً من قبل الناس ومستأمناً على مصالحهم. وهنا يمكن الحديث عن تناغم الإسلام مع هذا النوع من الديمقراطية. إلا أن قانون هذا النوع من الديمقراطية وقواعده ستكون مختلفة عن القوانين والقواعد الديمقراطية الغربية، من قبيل الليبرالية وما إليها.

د - تناغم الإسلام والتشيّع مع ديمقراطية النُخَب: إن ديمقراطية النُّخَب نموذج جديد ومعاصر في الغرب، حيث يؤكد القائلون بها لا على رأي الأكثرية، بل على وجود النُخَب في المجتمع لإدارة الحكومة والتعامل مع المنافسين من الأحزاب والجماعات. يمكن تطبيق هذا النوع من الديمقراطية

ص: 118

على الإسلام في الجملة. فقد منح الإسلام قبل أربعة عشر قرناً النبوة والإمامة إلى بعض النُّخَب - المنتجبين من قبل الله - ليقوموا على رأس أمور الأمة، وفي عصر الغيبة حدّد الإسلام بعض الصفات الخاصة لمن يتولى قيادة المجتمع، من قبيل: العلم والعدالة والتدبير.

بعد تعريف الديمقراطية وأنواعها، سوف ندخل في مزيد من الشرح لبيان عدم تعارض التشيع مع الديمقراطية، وسوف نشير في هذا السياق إلى دور الناس والشعب في حقل السياسة والحكم من وجهة نظر التشيّع:

النقد الثاني: مشاركة الشعب في مضمار السياسة عند الشيعة:

على الرغم من ذهاب الإمامية إلى أصل التنصيب والقول بخلافة الإمام علي(علیه السّلام)من قبل النبي الأكرم(علیه السّلام)وبأمر من الله عز وجل، ولكنهم يقيدون ذلك في الوقت نفسه برضا الناس، وإلا لن يكتب لها التحقق، ولا يمكن إكراه الناس على تحمّل حكومة مهما كانت نزيهة وشرعية. وبعبارة أخرى: إن الحكومة في الإسلام والتشيع تتشكل من عنصرين:

العنصر الأول: أن يكون الحكم والحاكم دينياً، وأنه مع وجود المعصوم لا يجوز لغير المعصوم تولي السلطة، وهي حكومة النبي الأكرم(علیه السّلام)، والأئمة المعصومين الإثني عشر(علیهم السّلام)؟

العنصر الثاني: مشاركة أفراد الشعب في أمر الحكومة، ومشروعيتها الدينية عندهم. وحيث يوجد هناك اليوم من المستنيرين من يسعى إلى إظهار الرؤية الشيعية حول الحكومة بوصفها معارضة وغير منسجمة مع الديمقراطية بمعنى مشاركة الشعب، نجد أنفسنا مضطرين إلى تقرير العنصر الثاني.

ص: 119

ومن الجدير ذكره هو أني قد سبق أن أوضحت بشكل تفصيلي المباني القرآنية لدور الناس في أمر الحكومة في موضع أخر(1)، وفيما يأتي نشير إلى عناوين ذلك:

1 - الإنسان خليفة الله : هذا ما تدلّ عليه كثير من الآيات القرآنية الكريمة(2). ولازم الخلافة الاضطلاع بدور الله فيما يتعلق بالحقوق والمسؤوليات، من قبيل الحكومة وممارسة السلطة، والمصادقة على القوانين الاجتماعية الضرورية، في حال فقدان النص(3).

2 - أصل الشورى: لقد أكد القرآن الكريم على أصل الشورى والتشاور في إدارة الحكم والدولة(4)، وهو أمر تسالم عليه المفكرون من الشيعة.

3 - ولاية جميع المؤمنين: يصف القرآن الكريم المؤمنين بأنهم أولياء بعض(5)، ويمنح المؤمنين بذلك نوعاً من حق الحاكمية وتولي أمور المجتمع(6).

ص: 120


1- انظر: محمد حسن قدردان قراملکی، سکولاریزم در مسيحيت واسلام، الفصل السادس.
2- البقرة: 30؛ الأعراف: 69 ؛ فاطر : 39؛ص : 26 القصص : 5؛ النور : 55 .
3- لمزيد من التوضيح، انظر: الشهيد الصدر، الإسللام يقود الحياة، ص 11 - 134؛ المجموعة الكاملة لمؤلفات السيد الصدر ، ج 12 ؛ جعفر سبحاني، مفاهيم القرآن، ج 4 ، ص 191؛ معالم الحكومة الإسللامية، ص 211؛ حسين علي منتظري، دراسات في ولاية الفقيه، ج 1، ص 501 ؛ السيد محمد حسين الشيرازي، الفقه، كتاب الحكم في الإسلام، ص 34.
4- انظر: آل عمران:159 ؛ الشوری: 38.
5- انظر: التوبة : 71.
6- انظر: الشهيد الصدر الإسلام يقود الحياة، ص 171؛ العلامة محمد حسين الطباطبائي، تفسير الميزان، ج 9، ص 141 و 338.

4 - المجتمع مسؤول عن تشكيل الحكومة وصيانتها: يرى القرآن الكريم أن تأسيس الحكومة الدينية وصيانتها مسؤولية تقع على عاتق أفراد الشعب والأمة(1).علاوة على ذلك فإن القرآن يشتمل على الأحكام الاجتماعية والجزائية، وإن تطبيق هذه الأحكام لا يقوم بها شخص الحاكم، وإنما يضطلع بها أفراد المجتمع والمواطنون كافة. ومن الواضح أن أفراد الأمة غير قادرين على الاضطلاع بهذا الدور إلا بعد إقامة الحكم واستلام مقاليد السلطة.

5 - الحكومة أمانة والحاكم أمين الأمة: تعد الحكومة من وجهة نظر القرآن أمانة الناس، وإن الحكام أمناء ومستأمنون على حقوق الشعب والأمة(2).

6 - النهي عن الاستكبار: لقد نهى القرآن الكريم في كثير من آياته عن الاستكبار وحكومات الظلم والجور، مبيناً أن إحدى وظائف ومسؤوليات الأنبياء هي محاربة الحكومات الطاغية، وتحرير العباد من سطوة الظلم(3). ومن بين مصاديق حكومات الظلم والجور والاستكبار، الحكومة التي تمارس الحكم على الناس بالقهر والغلبة والبطش والقوة(4).

ص: 121


1- انظر: آل عمران: 144 . ولمزيد من التوضيح انظر: العلامة محمد حسين الطباطبائي، بحثي درباره مرجعیت وروحانیت، ص 81 - 82؛ المحقق النائيني، حاشية كتاب المكاسب، ج 1، ص 214؛ آية الله الآراكي، المكاسب، ج 1، ص 94.
2- انظر: النساء: 58 .
3- انظر: طه 43 ؛ القصص : 83.
4- انظر: جعفر سبحاني، مبانی حکومت اسلامی، ص170.

وبعد ذكر العناوين القرآنية المثبتة لمشاركة الناس في أمر الحكم، ندخل الآن في ذكر بعض الروايات في هذا المجال:

النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)(1).

ورد التأكيد من قبل النبي من قبل النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)في رواية معروفة على أصل الحكومة والحاكمية الإلهية للإمام علي(علیه السّلام)، بيد أنه علقها على رضا الناس وإقبالهم، إذ يقول:«يا ابن أبي طالب لك ولاء أمتي، فإن ولوك في عافية وأجمعوا عليك بالرضا، فقم في أمرهم، وإن اختلفوا عليك، فدعهم وما هم فيه»(2).

وفي رواية أخرى نهى النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)عن الحكم بالإكراه، ومن دون استشارة أفراد الأمة، حيث قال: «من جاءكم يريد أن يفرق الجماعة، ويغصب الأمة أمرها، ويتولى من غير مشورة فاقتلوه، فإن الله قد أذن ذلك»(3).

الإمام علي(علیه السّلام):

لم يلجأ الإمام علي(علیه السّلام)إلى ممارسة العنف والقوة في التصدي للحكم رغم كون هذا الحكم حقاً من حقوقه الإلهية - وإنما ترك ذلك لرغبة الناس وإرادتهم وبيعتهم، وفي ذلك قال: «فإن بيعتي لا تكون خفياً، ولا تكون إلا عن

ص: 122


1- إن لذكر الروايات النبوية بوصفها مباني شيعية جهتين؛ الأولى: حجية الروايات النبوية عند الإمامية، الثانية: روايتها في المصادر الحديثية حيث تعتبر من المصادر الشيعية.
2- الشيخ حسين النوري، مستدرك الوسائل، ج 11، ص 78؛ نهج السعادة، ج 5، ص 218 .
3- الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضا، ج 2، ص 62 ، ب 31، ح 254.

رضى المسلمين»(1).

إن بيعة الناس للحاكم في مرحلة البيعة تكون عبر الانتخاب الحر والاختيار التام، أما بعد البيعة فيجب عليهم الوفاء وعدم نقض عهد البيعة مع الحاكم [ما لم يغيّر]. وفي ذلك يقول الإمام علي(علیه السّلام): «إنما الخيار للناس قبل أن يبايعوا»(2).

يرى الإمام على(علیه السّلام)أن الحكم أمانة وأن الحاكم أمين، كما ورد مضمون ذلك في كتاب له إلى بعض عماله: «إن عملك ليس لك بطعمة، ولكنهفي عنقك أمانة، وأنت مسترعى لمن فوقك، ليس لك أن تفتات في رعيتك»(3).

كما وصف قادة جيشه في كتاب آخر بأنهم حراس الأمة وخزانها ووكلاؤها، إذ يقول: «فإنكم خزان الرعية، ووكلاء الأمة»(4).

وفي موضع آخر رأى الإمام أنّ الحكم والحاكمية ملك للناس، وقال: «أيها الناس - عن ملاء وإذن - إن هذا أمركم ليس لأحدٍ فيه الحق، إلا من أمرتم وإنه ليس لي دونكم إلا مفاتيح مالكم معي»(5).

وقد وصف الإمام علي(علیه السّلام)تعيين الحاكم من طريق الشورى من حق المهاجرين والأنصار، وقال: «إنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإن أجمعوا

ص: 123


1- تاريخ الطبري، ج 3، ص 456 ، مؤسسة الأعلمي؛ أنساب الأشراف، ج 2، ص 210 .
2- الشيخ المفيد، الإرشاد، ص 116؛ العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 32، ص 33.
3- الشريف الرضي، نهج البلاغة، الكتاب رقم: 5 .
4- المصدر أعلاه، الكتاب رقم: 41.
5- تاريخ الطبري، ج 3، ص 193.

على رجل وستموه إماماً، كان ذلك الله رضى»(1).

كما يعتبر الإمام علي(علیه السّلام)انتخاب الحاكم من قبل الأمة واجباً وحكماً إلهياً، وإنه داخل في التكاليف رغم كونه من مقولة «الحقوق» في ذات الوقت، إذ يقول: «والواجب في حكم الله وحكم الإسلام على المسلمين بعد ما يموت إمامهم أو يقتل أن لا يعملوا عملاً، ولا يحدثوا حدثاً، ولا يقدموا يداً ولا رجلاً، ولا يبدأوا بشيء قبل أن يختاروا لأنفسهم إماماً»(2).

وسنكتفي بهذا المقدار تجنّباً للإطالة، وسوف نغض الطرف عن ذكر روايات سائر الأئمة وآراء علماء الشيعة، على أمل أن يكون في ما ذكرناه ما يكفي لإثبات أن مذهب التشيع وأصل الإمامة ليس بصدد فرض حكم المعصوم بالإكراه وممارسة العنف والقوة، بل قام أئمة الشيعة منذ أكثر من أربعة عشر قرناً بتعريف الناس على مبدأ الشورى والبيعة والانتخاب في حقل السياسة والحكومة، بل إن حكومة الإمام علي(علیه السّلام)تمثل النموذج العملي على ذلك.

وإذا أردنا قياس نسبة الإسلام إلى الديمقراطية في صدر الإسلام، وجب علينا تحليل خلافة عمر بتنصيبه من قبل الخليفة الأول، وتعيين عثمان من قبل لجنة من خمسة أشخاص فيما عرف بالشورى؛ ليتضح أن الإسلام السني هو الذي يتنافى مع الديمقراطية على المستوى العملي، وليس الإسلام المتمثل بالتشيع.

ص: 124


1- الشريف الرضي، نهج البلاغة، الكتاب رقم: 6 .
2- سليم بن قيس، كتاب سليم بن قيس الهلالي، ص 161 و 752؛ العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 86، ص 196.

المسألة الأخرى إن القارئ الكريم يدرك ويلمس - من خلال كل هذا التأكيد والاهتمام بدور الناس في المعترك السياسي ومسألة الحكم - العنصر الثاني من الحكومة الدينية. أما العنصر الأول من الحكومة الدينية والمتمثل بأصل دينية الحكم وتعيين الحاكم المعصوم من قبل الله عزّ وجلّ والنبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)، فهو جزء من العنصر الأول في الحكومة الدينية، والذي يذعن له الشعب والأمة لا بالإكراه بل بدافع من معتقداتهم الدينية، وكما تقدم أن ذكرنا فإنهم إن لم يلتزموا بذلك يكونون قد ارتكبوا معصية من الناحية الدينية، ولكن في الوقت نفسه لا يكتب التحقق لحكومة المعصوم الدينية، ولا يستطيع المعصوم أن يجلس على سدة الحكم بالإكراه والقوة. وعليه لا يكون هناك أي تناف أو تعارض بين النظرية السياسية لدى الشيعة وبين الديمقراطية بالمعنى المنهجي والأسلوبي .

النقد الثالث: اختلاف الإمامة عن الحكومة:

يعمد ناقدو الإمامة - من خلال تفسيرهم المجتزأ والناقص للإمامة، واختزالها بمسألة الحكم والزعامة السياسية من طريق تنصيب النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم) - إلى اعتبارها مساوقة للحكومة التنصيبية، ويعملون على مهاجمتها بحجة تعارضها مع الديمقراطية. إلا أن هؤلاء الناقدين يسعون - من خلال حذف مع جزء من معتقد الشيعة في الإمامة، وبعبارة أدق: من خلال حذف الأركان الرئيسة لنظرية الشيعة في الإمامة المتمثلة بوجود الإمام المعصوم الذي يتمتع بالعلم اللدنى والإلهام (على ما مرّ بحثه)، والاستناد إلى الجانب التاريخي المتمثل بالحكم - إلى إضعاف التشيّع وجرحه من خلال ارتكاب مغالطة «الحذف». ذلك لأن الذي يصرّ الشيعة على كونه منصوصاً ليس هو مجرد تعيين

ص: 125

الحاكم وولي المسلمين بعد رحيل النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم). وإنما المسألة مورد البحث أبعد من مقولة الحكم وتعيين الحاكم، إذ إن الشيعة يبحثون مسألة الإمامة في دائرة أوسع ويرونها أسمى وأرفع من مجرد الحكومة، وتشمل المرجعية الدينية والعلمية أيضاً. بمعنى أن الإمام وخليفة النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)هو مثله في العصمة والمسؤولية الإلهية وتفسير الدين وحراسته وصيانته، وإن كلمته هي كلمة النبي في جميع المجالات الدينية والسياسية والاجتماعية، فهي فصل الخطاب للأمة. وعليه فإن شأن الإمام أسمى وأهم من الشأن الحكومي.

قال الأستاذ الشهيد المطهري في هذا الشأن: «إن الذي يحظى بالدرجة الأولى من الأهمية فيما يتعلق بمسألة الإمامة هو خلافة النبي الأكرم ... فهل كان هناك بعد النبي فرد يستطيع أن يكون مرجعاً في أحكام الدين كما كان رسول الله مرجعاً ومبيناً ومفسراً للدين ؟(1)... لو ذكرنا الإمامة بالشكل السطحي والبسيط المتمثل بالمستوى الحكومي، وقلنا بأن الإمامة تعني الحكومة، لكان ما يقوله أهل السنة أكبر من جاذبية ذلك الشيء الذي يقوله الشيعة»(2).

يرى سماحته أن هذا الأسلوب في البحث خطأ كبير، وأن هذا الخطأ قد ارتكبه حتى بعض قدماء خالمتكلمين(3).

واستطرد سماحته قائلاً: «بعبارة أخرى: لو ثبتت كفاءة الإمام على(علیه السّلام)للتصدّي لمقام النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)في المرجعية الدينية ونيابته في ذلك بالأدلة القطعية المتقنة، فإن نيابته في أمر الحكومة ستكون ثابتة تلقائياً »(4).

ص: 126


1- امامت و رهبري (الإمامة والقيادة)، ص 71 - 72.
2- المصدر أعلاه، ص 69
3- المصدر أعلاه، ص 71.
4- المصدر أعلاه، ص 80 و 96 .

النقد الرابع: الأئمة المنتخبون حصرياً هم الحكام الأكفاء:

اتضح من خلال بحث عصمة الأئمة(علیهم السّلام)وعلمهم وإلهامهم أن الاشتمال على مقام الإمامة والزعامة وتعيين ذلك كان على أساس الكفاءة واللياقة، وبناء على هذه الكفاءة واللياقة، وبعبارة أدق: إن العلة المقتضية في صدر الإسلام كانت منحصرة في الوجود المبارك للإمام علي ، اتضح أن الإمام على(علیه السّلام)،كان إماماً وخليفة حقيقيا للنبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)بحسب مقام الواقع والثبوت، من هنا فإن تنصيب النبي الأكرم له إماماً إنما يحتوي على صبغة كاشفية وإرشادية. فلم تكن النصوص الدالة على إمامته - من قبيل حديث الغدير - هي التي أكسبته الشرعية، وإنما الصحيح هو أن الإمام كان لاتقاً ومتصفاً بالصفات التي أهلته لتولي منصب الإمامة، وقد جاءت هذه النصوص في مرحلة لاحقة لتحقق الإمامة في شخص الإمام علي بن أبي طالب(علیه السّلام).

وعليه فإن مقام الإمام علي(علیه السّلام)في الإمامة لم يتحقق من خلال التنصيب، كى يُشكل على الشيعة بأنهم قد عمدوا إلى إخراج مسألة الحكومة عن طبيعتها الديمقراطية والعقلانية، وحولوها إلى مجرد مسألة وراثية.

بعبارة أخرى: إن الأئمة في عصرهم كانوا هم اللائقون الحقيقيون حصرياً للتصدي لمقام الإمامة والخلافة، وإن الشيعة إنما يقولون بزعامة النخب الحقيقيين وقيادتهم للأمور السياسية والاجتماعية والعلمية والدينية، وهي تتطابق مع الديمقراطية التي هي من نوع ديمقراطية النخب.

علاوة على أن نظرية الإمامة ضمن تأكيدها على أصل تنصيب الإمام، إنما تربط تطبيق الحاكمية بشرط المقبولية ومرضاة الأمة، فلا وجود لأي إكراه في الدين، وعليه فإن نظرية الإمامة لا تعارض الديمقراطية أبداً.

ص: 127

النقد الخامس : حاجة الديمقراطية الحقيقية للأرضية المناسبة:

ربما تساءل أحدكم: لماذا لم يترك النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)أمر اختيار الإمام والقائد الحقيقي إلى الأمة لتختاره بنفسها؟ بل دعا الناس في كثير من الروايات المأثورة عنه إلى انتخاب وبيعة الأئمة الذين نصّ عليهم في تلك الروايات؟

إن الإجابة عن هذا السؤال واضحة. ذلك لأن من بين مهام النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)هو إرشاد أمته وهدايتها وبيان أصول الشريعة. ومن جهة أخرى حيث تعرض الناس في صدر الإسلام لحملة إعلامية قام بها الأمويون والمنافقون والمتكالبون على السلطة وهو أمر أثار في أذهانهم بعض الشبهات فلم يرتقوا إلى المستوى المطلوب من الوعي السياسي الذي يجعلهم قادرين على تعيين إمامهم الحقيقى، كان لابد من مسألة «التنصيص».

ومما قاله الأستاذ الشهيد مرتضى مطهري في هذا الشأن: «من هنا يتضح عدم نضج مجتمع ذلك العصر لفكرة انتخاب الخليفة، وأن ولي الأمر كان يجب أن يكون تعيينياً وليس انتخابياً. وحتى إذا ما قبلنا بأن مبدأ الحكومة الإسلامية إنما يقوم على الانتخاب، وليس على التعيين، إلا أن ذلك المجتمع - لسنوات طويلة بعد النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم) - لم يكن قادراً على استيعاب فكرة الانتخاب»(1).

ببيان آخر: إن الديمقراطية الحقيقية تتمثل بانتخاب الناس واختيارهم

ص: 128


1- مرتضى مطهري، حماسه حسيني (الملحمة الحسينية)، ج3، هامش ص 13 - 14 ، منشورات المركز العالمي للدراسات الإسلامية، ط1، بيروت، 1990، ط 2، قم، 1990.

للحاكم الكفوء الذي تتوفر فيه الشروط والمواصفات اللازمة في التصدي لأمر الحكومة، وهذا يحتاج إلى أرضية مناسبة من قبيل: تشخيص الأمة، وعدم الإعلام المسيء ضد المرشحين الكفوئين، وأن تكون هناك إمكانية للتعريف بالمرشحين الصالحين على المستوى العملى. فإذا لم تتحقق هذه الظروف، فإن الحكمة والعقل يقضيان بتوفير الأرضية المناسبة لإدارة الأمور وتحسين الأوضاع ومساعدة الناس من خلال التعريف وانتخاب المرشح الحصري الصالح، وهذا الأمر هو المنطقي في انتخاب الأصلح.

إنه لمما يثير العجب من أمثال الدكتور سروش الذي يرى نفسه مناصراً للفلسفة السياسية للغرب مثل فلسفة بوبر . فعلى الرغم من أن بوبر لا يرتضي الديمقراطية لشعوب العالم الثالث لعدم بلوغهم إلى المستوى المطلوب من النضج السياسي، وهكذا يعمد إلى التضحية بالديمقراطية فداء للأطماع الغربية، نجد الدكتور سروش فيما يتعلق بالديمقراطية الغربية حنبلياً أكثر من ابن حنبل، حيث يجرح في الشيعة ونظرية الإمامة بسبب توهم معارضتها للديمقراطية، متجاهلاً الظروف التي سادت ذلك العصر وما تعرض له الناس من الهجمة الشرسة التي قادها الأمويون لاغتيال شخصية الإمام على(علیه السّلام)، والتي بلغت حد اتهام الإمام بترك الصلاة، فهل كانت هناك أرضية مناسبة لانتخاب الناس لمن هو الأصلح لإدارة الأمة، وتحقيق الديمقراطية الحقيقية؟

لو فرضنا أن الله سبحانه وتعالى والنبي الأكرم(علیه السّلام)لم يسميا عليا(علیه السّلام)بوصفه قائداً وإماماً، ما هو الحكم الذي كان يمكن للأجيال الراهنة أن تصدره في هذا الشأن؟ ألم يكن من حقهم اتهام الله ورسوله - والعياذ بالله - بكتمان الحق وتجاهل أصل التعريف بالنُّخَب؟ ألم يحق لهم أن يقولوا إن الله ورسوله قد

ص: 129

خذلا الإمام عليّاً في مواجهة أمثال معاوية بن أبي سفيان والمنافقين وغيرهم من المتحينين للفرص والمتكالبين على السلطة؟

النقد السادس: تقديم الحكم الإلهي على الديمقراطية:

لو أغمضنا الطرف عن المسائل المتقدمة، وقلنا بأن أصل الإمامة والحكومة المنصوبة من قبل الله تعارض الديمقراطية الغربية أو أي أطروحة بشرية أخرى، بيد أننا نتساءل هنا ونقول: عند تعارض الحكم الإلهي مع الحكم الغربي وما يبدو أنه من أحكام المتمدنين، فلمن يكون الترجيح والتقديم؟ إذا كان الأصل يقوم على التنصيب من قبل الله - كما يذهب الشيعة إلى ذلك - فما هو الداعي إلى التضحية بحكم الله فداء لحكم غير إلهي؟! ألا يجب على الإنسان أن يخضع لحكم خالقه وخالق الوجود بأسره؟ أم يجوز له لمجرد اغتراره بالتقدم العلمي أن يتمرد على إرادة واهب الوجود والحياة؟

واضح أن الإنسان المتأله والمؤمن بالله يقدم حكم الله حتى على نفسه وروحه أيضاً.

هذا فضلاً عن أنّ الديمقراطية الغربية المزعومة تعاني من كثير من النواقص الحقوقية والإنسانية على ما ستأتي الإشارة إلى ذلك، وعليه لا ينبغي ترجيح هذه الديمقراطية على التشيع لمجرد توهم إمكان حصول التعارض بينهما.

النقد السابع : ثغرات الديمقراطية

إن هذه النظرية - التي يبلغ بعضهم في احترامها وتبجيلها حد التقديس وترجيحها على الإمامة عند التعارض فيما بينهما - تعاني كثيراً من الإشكالات

ص: 130

الحقوقية ونقاط الضعف المنطقية، وإن إصلاحها رهن بترميمها، وفيما يأتي نشير إلى بعض مواطن النقص والضعف في هذه النظرية :

1 - عدم مشاركة الأكثرية: لقد أثبتت تجارب الانتخابات الغربية السابقة أن أكثر المواطنين لا يشاركون في التصويت. وعليه ينخرم الجوهر الأساسي من الديمقراطية.

2 - عدم انتخاب الحاكم من قبل الأكثرية: قد يحصل نادراً أن تكون هناك أغلبية نسبية من مشاركة المواطنين في الانتخابات، ولكن حيث يكون هناك كثرة في المرشحين لتولي رئاسة السلطة التنفيذية يمكن القول بكل ثقة إنه ليس هناك حاكم تم انتخابه من قبل الأكثرية أبداً. وقد أكد على هذين النقصين الفيلسوف الشهير في القرن العشرين «کارل ریموند بوبر»(1).

3 - الافتقار إلى السند القانوني بالنسبة إلى الأجيال اللاحقة: ما هو المبنى القانونى والحقوقى الذى يبرر حكومة منتخبة من قبل جيل من آلاف المواطنين على أشخاص لم يبلغوا السن القانونية إلا بعد انتهاء التصويت والحملة الانتخابية؛ فاضطروا إلى الانصياع لقوانين حكومة وإجراءات لم يكن لهم شرف انتخابها؟

4 - سيادة المناخ المضطرب في الانتخابات: في أكثر الانتخابات تكون الدعاية هي التي تمهد الطريق أمام فوز بعض المرشحين بعينهم. ومن الواضح أن الدعاية حكر على من يمسك بالعصب المالي ومن يملك الثروة والامبراطوريات الاقتصادية والتجارية، ولكي يضمن المرشح فوزه، يتعين عليه التعاقد مسبقاً

ص: 131


1- انظر: جامعه باز و دشمنانش، ج 4 ، ص 1335؛ درس این قرن، ص 115،و 120 ، و 151 ؛ زندگی سراسر حل مسئله است، ص 162.

مع هذه القنوات التي ستنهض بأعباء الدعاية له كي تستثمرهلاحقاً.

5 - انخفاض مستوى الكفاءة في الدولة من الممكن جداً أن تفضي الانتخابات إلى فوز المرشح الذي يفتقر إلى الصلاحية والكفاءة، أو تقديم المفضول على الفاضل لمختلف الأسباب، من قبيل إصرار القانون الانتخابي على أن يكون المرشح من طبقة خاصة، ويصادف وجود الكفاءات في خارج تلك الطبقة. وقد يؤدي هذا الأمر بالمجتمع إلى كثير من الأزمات. كما يمكن أن تؤدي الانتخابات المبكرة وتغيير إدارة الدولة إلى العجز عن تطبيق مخططاتها المرصودة على المدى الطويل، فلا تنجح في تحسين إدارة الدولة.

إقرار المفكرين الغربيين:

إن هذه الثغرات لم تغب عن أنظار فلاسفة السياسة الغربيين أنفسهم، وقد عمد المنصفون منهم إلى نقد الديمقراطية. بل إن تنوع نماذج الديمقراطية حمل كل أمة من أمم الديمقراطية على لعن أختها معتبرة نفسها خيراً منها، ولا مجال هنا لتقرير اعترافات أتباع كل أمة من أمم الديمقراطية ضد أخواتها(1).

ص: 132


1- انظر: أنطوني، غيدنز، جامعه شناسی، ترجمه إلى الفارسية: منوشهر صبوري، ص 332 - 333؛ جوزيف، شومبيتر، کابیتالیسم، سوسیالیسم ودموكراسي، ترجمه إلى الفارسية: حسن منصور ، ص 314 - 315؛ تي. بي. باتارمو، نخبگان وجامعه، ترجمه إلى الفارسية: علي رضا طيب، ص 7 و 122 فما بعد، وص 128 و 136 ؛ كارلتون کلایمرودي، آشنايي با علم سیاست، ج 1، ص 127 - 130؛ لستر تارو، آینده سرمايه داري، ترجمه إلى الفارسية: عزيز کياوند، ص 313 - 315؛رينه غينون، بحران دنياي متجدد، ترجمه إلى الفارسية: ضياء الدين دهشيري، ص 113 - 115؛ بوبر، جامعه باز و دشمنانش، ج 4 ص 1335؛ درس این قرن، ص 115 - 120 ، وص151 ؛ زندگی سراسر حل مسئله است، ص 164 .

النقد الثامن: جواب نقضي :

يمكن لنا أن نواجه أمثال الدكتور سروش من الذين يتوهمون وجود التعارض بين الإمامة والديمقراطية؛ فيجرحون في الإمامة ويرجحون الديمقراطية عليها - ولربما سار بعض أهل السنة على النهج ذاته - بجواب نقضي بعكس الإشكال عليهم فيما يتعلق بحاكمية النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)! فهل يعتبرون حكومة النبي الأكرم معارضة للديمقراطية؟ واضح أن المنهج الذي يتبعه هؤلاء في مقام انتقاد الإمامة بسبب تعارضها مع الديمقراطية، يجري على النبوة أيضاً ، ولذلك عليهم أن يلتزموا بتعارض النبوة والديمقراطية أيضاً. فكيف يكون جوابهم عندها؟ هل يعمدون إلى ترجيح الديمقراطية على النبوة أيضاً؟

لقد بادر الدكتور سروش في كلمته التى ألقاها في باريس إلى اعتبار التشيع تحديداً متعارضاً مع الديمقراطية، وتجنب بيان نسبة الديمقراطية إلى أصل الإسلام وحكومة النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)لأسباب خافية علينا. ولكنه كان قبل سنوات ينكر ويرفض أي نوع من أنواع الحكومات الإلهية إذا تعارضت مع حق الناس في الانتخاب والديمقراطية(1).

فهل حصل تغير في موقفه أو رأيه في هذا الشأن؟ نأمل أن يحدد موقفه بهذا الشأن في المستقبل بشكل واضح.

ص: 133


1- «إن الحكم على كل حال حق من حقوق الناس، وإن حكومة الناس شأن من شؤونهم، وليست من شؤون الآلهة، وإن الحكومة التي تأتي بانتخاب الناس، تسقط بانتخاب الناس أيضاً». (مدارومديريت، صحيفة كيان، العدد:21، ص 12؛ وانظر أيضاً: فربه تر از آیدیولوژی، ص 52).

تقييم عام

1 - في مقام تحليل الديمقراطية وبيانها اتضح أن الديمقراطية السائدة في الغرب ليست نموذجاً واحداً متفقاً عليه من قبل أكثر الفلاسفة السياسيين، بل هناك مختلف النماذج الديمقراطية التي يعمد أشياع كل واحد منها إلى نقد النماذج الأخرى وجرحها وإن أحدث نماذج الديمقراطية وهي ديمقراطية «النُخَب» عمدت إلى نسف جوهر الديمقراطية المتمثل برأي الأكثرية.

2 - إن أصل الديمقراطية والتأكيد على رأي الأكثرية من دون لحاظ المباني الدينية يشتمل على الكثير من نقاط الإبهام والغموض على المستوى الحقوقي، ويبدو من المستحيل تجاوزها إلا من خلال إدخال الدور الإلهي.

3 - بعد التأمل في مختلف نماذج الديمقراطية يتضح أن مجموع أتباعها يؤكدون على ثلاثة أصول ومحاور وهي : (أكثرية الشعب، والقانون، والنخب). إلا أن كل طيف من أطياف الديمقراطيات يتبنى أصلاً واحداً من هذه الأصول الثلاثة، وينكر الأصلين الآخرين. والذي يبدو لي أن أفضل نماذج الديمقراطية هو الذي يتبنى الجمع بين الأصول الثلاثة كلها، ولكن بحسب استقرائي الناقص لم أعثر على مصداق لهذه الديمقراطية في العالم الغربي.

4 - بعد التأمل في النظام السياسي للإسلام والتشيع يتضح - لحسن الحظ - أن الإسلام وأئمة الشيعة، قد أخذوا قبل أربعة عشر قرناً جميع هذه الأصول الثلاثة بنظر الاعتبار. فقد كان الإسلام من خلال قوله بتنصيبية مقام النبوة والإمامة، من الذاهبين إلى القول بأصل سيادة الكفاءات والنُخَب، ويؤكد في الوقت نفسه على أن الحاكم المنصوب من قبل الله يتساوى أمام القانون والشريعة مع جميع المواطنين، ولا يتمتع بأي امتياز يرفعه فوقهم.

ص: 134

من ناحية أخرى يسعى من خلال مختلف السبل - من قبيل: الحصول على رضا الناس في انتخاب الحكومة الدينية والحاكم وأصل الشورى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - إلى احترام آراء المواطنين في انتخاب الحكومة والحاكم وإدارة الدولة، وإعطاء أصواتهم القيمة المناسبة. كما أن دور الناس في عصر الغيبة يتجلى بشكل أوضح منه في عصر حضور المعصوم(علیه السّلام). ومن وجهة نظري فإن الديمقراطية الدينية و«حكومة الجمهورية الدينية» تشتمل على جميع العناصر الثلاثة في الديمقراطية الغربية (أكثرية الشعب، والقانون والنُخَب). كما أنها فى الوقت نفسه حيث ترتبط بخالق الكون، وتضمن مشروعيتها من قبل الله سبحانه وتعالى، فإنها ستكون مصانة من مواطن الضعف والنقص التي تعاني منها الديمقراطية الغربية.

الشبهة الحادية عشرة: غيبة الإمام تنافي فلسفة ضرورة الإمامة:

يذهب الشيعة الإثني عشرية (الإمامية) إلى الاعتقاد بأن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)لقد عيّن الأئمة الإثني عشر، ونصبهم بأمر من الله سبحانه وتعالى. وإن الأدلة على ضرورة وجود الإمام المعصوم(علیه السّلام)عبارة عن: (قاعدة اللطف، وقاعدة إمكان الأشرف)(1)، كما أن الأدلة الفلسفية على الإمامة عبارة عن:

1 - هداية الأمة.

2 - المرجعية الدينية.

3- عدم بلوغ المخاطبين بشكل كامل.

ص: 135


1- انظر: کشف المراد، ص 490 .

4 - التشريع.

5 - الحكومة.

6 - واسطة الفيض).

على ما مرّ بيانه في الفصل الأول. وإن هذه الأدلة تقتضي وجود الإمام المعصوم في المجتمع المسلم.

وفي هذه الشبهة يعمد الناقد إلى افتراض تمامية الأدلة على ضرورة الإمامة وأن وجود الإمام المعصوم بعد النبي الخاتم(صلی الله علیه و آله و سلم)أمر ضروري، ثم يقول: إن هذه الأدلة تنافى نظرية أخرى للشيعة بشأن غيبة الإمام الثاني عشر؛ إذ إن الشيعة من جهة يؤكدون ويصرون على ضرورة وجود الإمام المعصوم، ومن جهة أخرى يعتقدون من خلال القول بنظرية الغيبة بأن هذا الإمام المعصوم

غير حاضر في المجتمع على المستوى الفعلي، وإن المجتمع يعيش - بحسب المصطلح - في عصر الغيبة .

لقد كانت هذه الشبهة مطروحة منذ القرون السابقة، وقد عمد البعض في عصرنا الراهن إلى إعادة صياغتها.

نقد ورأي:

في تحليل هذه الشبهة يجدر الالتفات إلى الأمور الآتية:

1 - ضرورة الإمام المعصوم في صدر الإسلام: أشرنا في بحث فلسفة الإمامة في الفصل الأول من هذا الكتاب إلى أنه مع وجود النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)لم تكن هناك حاجة إلى وجود فرد آخر يحمل عنوان الإمام أصلاً، ولكن بعد رحيل النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)كان الإسلام يشبه البرعم الفتي الذي يحتاج إلى من

ص: 136

يعتني به عناية خاصة؛ إذ لم يكن الناس بعد قد بلغوا المستوى المطلوب من النضج حتى يكتفوا ذاتياً فيما يتعلق بتفسير الدين، وتشخيص الغثّ من السمين.

وعليه، فإن تطبيق التعاليم الدينية والأحكام الشرعية بحاجة إلى وجود حكومة دينية يقف على رأسها إمام وحاكم معصوم، كي يُفيد من الأداتين اللتين يمتلكهما، أعني: مقام المرجعية العلمية والدينية (الذي هو رهن بالعلم اللدني والعصمة)، والمقام السياسي والقدرة الظاهرة، ليعمل ضمن تفسير الدين الخاتم ورفع الشبهات الصادرة عن المخالفين والجاهلين على مواجهة المحرفين والمعارضين، لينتقل الإسلام إلى الأجيال القادمة، ويجد الإسلام لنفسه بين أفراد المجتمع موضع قدم راسخة. ولحسن الحظ فإن الأداة الأولى المتمثلة ب_(المرجعية العلمية الدينية) بعد رحيل النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)كانت موجودة بين الناس إلى حدّ ما، فكان بإمكان الناس وحتى أتباع الديانات الأخرى أن يطرحوا إشكالاتهم وشبهاتهم على الإمام علي(علیه السّلام)، وأن يحصلوا منه على الجواب الصحيح والشافي والمنطقي.

وأمّا الأداة الثانية، أي: الحكومة والسلطة السياسية، فقد حرم منها هذا المقام العلمي للأسف الشديد، لأسباب سنأتي على ذكر بعضها فيما بعد، واستمر الحال على ذلك مدة ربع قرن من الزمن، وقد لحق الإسلام الكثير من الضرر من جراء ذلك، ولكن بعد عودة الشرعية إلى الإمام علي(علیه السّلام)تمكن إلى حد ما من ترميم بعض الأمور وإصلاحها، وبعد الإمام علي(علیه السّلام)تمكن الأئمة المعصومون من ولده من نقل التعاليم الإسلامية الخالصة إلى الأجيال اللاحقة، حيث كان الإمام الصادق(علیه السّلام)صاحب مدرسة كبيرة تخرج منها ما يقرب من

ص: 137

أربعة آلاف عالم ومفكر ديني كلهم يروي عن الإمام الصادق، ولم يقتصر حضور طلاب العلم عنده على الشيعة فقط، بل كان هناك الكثير من علماء السنة قد تشرفوا بحضور درسه، حتى كان مؤسسو المذاهب الفقهية الأربعة - وهي: المذهب الشافعي والحنبلي والمالكي والحنفي - قد تتلمذوا على يد الإمام مباشرة أو بالواسطة(1).

من هنا يمكن القول إن جهود الإمام الباقر(علیه السّلام)والإمام الصادق(علیه السّلام)قد أفلحت في إعداد قاعدة علمية من العلماء والمبلغين الأكفاء الذين امكنهم أن يضطلعوا بجزء من الدور والمسؤولية الملقاة على عاتق الإمام والمرجعية الدينية والعلمية في المجتمع.

وبعد استمرار هذه الحركة انخفضت حاجة المجتمع إلى حد ما إلى وجود الإمام المعصوم بينهم، وكان المجتمع يسير باتجاه الاستعداد اللازم للدخول في مرحلة غيبة الإمام المعصوم(علیه السّلام). لأن أهم فلسفة في ضرورة الإمام في المجتمع تتمثل بمرجعيته العلمية والدينية وهداية الأمة، وقد تم ترسيخ ذلك في فترة حضور وتواجد الأئمة المعصومين في المجتمع، وأسند الاستمرار في المسيرة إلى علماء الدين.

أما مسألة التشريع فقد تمت في عصر فقد تمت في عصر الأئمة بالمقدار اللازم، وتركت حاجة المجتمع في هذا الشأن على شكل الاجتهاد إلى الفقهاء الذين تتوفر فيهم الصفات والشرائط اللازمة. تبقى مسألة الواسطة في الفيض، فهي من مختصات الأئمة، ويذهب الشيعة إلى الاعتقاد بأن الإمام الحجة(علیه السّلام)يمارس دوره في هذا

ص: 138


1- انظر: الذريعة إلى تصانيف الشيعة، ج 2، ص 129 ؛ وكذلك: مجموعه مقالات همایش امام جعفر صادق(علیه السّلام)وتجديد حيات اسلام، ص 100.

الشأن من خلال حضوره وإن كان غائباً عن الأنظار، وبذلك لا تخلو الأرض من حجة إلهية.

2 - إعطاء اللطف الإلهي رهن بعدم المانع: لابد من الإقرار هنا بأن وجود الإمام المعصوم في كل عصر هو لطف مضاعف لطف مضاعف من ألطاف الله التي لا يوجد بديل عنها، بمعنى أنه لا يستطيع أي عالم أن يحل محل الإمام المعصوم(علیه السّلام). لأن الإمام المعصوم إذا كان موجوداً فإن الخلافات العلمية بين المسلمين ستصل إلى حدودها الدنيا، وإن كانت لا تزول تماماً، والدليل على ذلك أن المذاهب السنية المخالفة قد تكونت فى عصر حضور الأئمة الأطهار(علیه السّلام).

ولا بد من الالتفات إلى هذه الحقيقة أيضاً، وهي أن إعطاء اللطف المضاعف يحتاج إلى أرضية مناسبة، وإن هذه الأرضية - للأسف الشديد - لم تتوفر في عصر الإمام الثاني عشر، فقد عمدت السلطات الحاكمة إلى تضييق الخناق على الإمام الحسن العسكري(علیه السّلام)وقد بثت العيون من حوله كي تقتل إمام العصر(علیه السّلام)فور ولادته، ولم يوفر الناس الحماية المطلوبة للإمام العسكري، وبذلك كانت الظروف الاجتماعية معدّة لقتل الإمام وليس إلى ظهوره. من هنا اقتضت حكمة الله أن يغيّب ذلك الإمام، وإرجاء ظهوره إلى وقت آخر ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً. وعليه فإن غيبة الإمام(علیه السّلام)لا تتنافى مع دليل اللطف الإلهي ؛ لأنها في حدّ ذاتها من الألطاف الإلهية أيضاً.

3 - إمكان الهداية التشريعية والتكوينية في عصر الغيبة: إن من بين وظائف الإمام وشؤونه ومرتبة الإمامة هى الواسطة فى الفيض الإلهى، فإن عالم التكوين - بناء على النصوص الروائية - يدار بواسطة الوجود الشريف للأئمة الأطهار. من قبيل الروايات التى تحمل مضمون «إن السماء تحفظ من السقوط

ص: 139

ببركة وجود الأئمة، أو أن السماء إنما تمطر بفضل فيض وجود الأئمة الأطهار(علیهم السّلام)»، على ما مربيانه في الفصل الأول من هذا الكتاب.

ومن الواضح أن هذا الشأن مرتبط بأصل وجود الإمام، ولا ربط له بحضوره أو غيبته بتاتاً. وعليه فإن هذا الشأن يكون متحققاً حتى في عصر غيبة الإمام أيضاً، ويتضح أن ضرورة وجود الإمام المعصوم لاستمرار الفيض الإلهي لازم وضروري، وإن غيبته لا تشكل مانعاً من ذلك.

يضاف إلى ذلك أن شأن الولاية التكوينية للإمام بالنسبة إلى إمام العصر(علیه السّلام)المستور خلف حُجب الغيب تتم عبر مختلف الوسائل والطرق، من قبيل: التصرف في نفوس المسلمين وغيرهم وأفئدتهم، التي تشكل أرضية صالحة لهدايتهم إلى الحق تعالى، كما تشير الآية الشريفة إلى دور الأئمة

والقادة حيث تقول:

- ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا﴾(1).

- ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا﴾(2).

وبعد أن أشار النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)إلى غيبة إمام العصر(علیه السّلام)قال في الجواب عن إمكان الاستفادة من وجوده في حال غيبته:

«والذي بعثني بالنبوة، إنهم لينتفعون به ويستضيئون بنور ولايته في غيبته، كانتفاع الناس بالشمس وإن جللها السحاب»(3).

كما يعمد الإمام أحياناً إلى رفع مشاكل الناس، ويهب إلى مساعدة

ص: 140


1- الأنبياء: 73 .
2- السجدة: 24 .
3- كمال الدين، ج 1،ص 475؛ بحار الأنوار ، ج 53 ، ص 171؛ الاحتجاج، ج 2، ص 492 .

المحتاجين والحيارى، وهذا الشأن يعد من بين الصفات التي يتصف بها الإمام المنتظر(علیه السّلام)على ما ورد في بعض الأدعية من قبيل:

- «مفرج الكرب، ومزيل الهم، وكاشف البلوى»(1).

- «السلام عليك أيها ... الغوث والرحمة الواسعة»(2).

- «صاحب الضياء والنور ... والكهف والعضد، السلام على مفرّج الكربات»(3).

وقد تشرف بعض الناس بلقاء الحجة، وهناك من نال شرف الحصول على مساعدته، وقد رصدت كتب التاريخ كثيراً من هذه الوقائع، نحيل القارئ الكريم إلى مظانها(4).

وهناك من يعد حفظ جبهة المسلمين وحياضهم، وخاصة الشيعة من مؤامرات الأعداء، وعلى وجه التحديد الجمهورية الإسلامية الإيرانية مفردة من مفردات الفيوضات وجود الإمام المنتظر(علیه السّلام)(5). ولتأييد هذا المعنى وتأكيده يمكن لنا الإشارة إلى انتصارات جيوش الإسلام في الحرب المفروضة التي استمرت لثمان سنوات متواصلة في مواجهة القوى العظمى والدول الإقليمية العميلة بكل قوتها، وكذلك صمود أبطال المقاومة في لبنان بوجه الآلة العسكرية الفتاكة لإسرائيل، حيث لا يخفى أثر الإمدادات الغيبية الإلهية والإمام

ص: 141


1- العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 102، دعاء ما بعد الزيارة.
2- زيارة آل ياسين.
3- العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 102 ، ص 84، زيارة الإمام الحجة (عجل الله تعالى فرجه الشريف).
4- انظر: الطبرسي النوري، النجم الثاقب، ج 2، الباب السابع.
5- انظر: لطف الله الصافي الگلبايگاني، امامت و مهدويت (عج)، ص 45 .

الحجة المنتظر(علیه السّلام)فيها .

4 - فوائد أخرى للغيبة والانتظار: إن وجود إمام العصر(علیه السّلام)ذاته مستوراً خلف حُجب الغيب، مع الوعد بظهوره يوماً لإقامة أقوى الحكومات العالمية العادلة، والقضاء على الظلم وحكومات الجور، يبعث الأمل في أفئدة المؤمنين. بعبارة أخرى: إن غيبة الإمام المنتظر(علیه السّلام)مقدمة وطليعة لظهور النور الذي سيعم العالم مؤذناً بالمصير المشرق للمجتمع العالمي.

هناك ما لا يحصى من الناس الذين توفرت فيهم أرضية الحضور بين جنود الإمام المنتظر أو الحصول على شرف الحضور والتواجد في سلك المنتظمين في ركابه، ووجود كثير من الشباب المؤمن والمتدين في الهيئات التي تلهج بندبة «الإمام المهدي» خير شاهد ودليل على وجود الآثار الإيجابية ل_ «غيبة الإمام». وعلى هذا الأساس فإن غيبة الإمام الحجة(علیه السّلام)تشتمل على الكثير من الفوائد التي لا تنافي أدلة ضرورة الإمام.

الشبهة الثانية عشرة: عدم انسجام المهدوية مع الديمقراطية:

إن من بين عقائد الشيعة الإيمان بأصل المهدوية، والتي على أساسها سيأتي زمان - لم يتحدد موعده - يظهر فيه الإمام المهدي وهو الإمام الثاني عشر، ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً، ليقيم حكومة عالمية واحدة(1). إن هذا الإمام هو مثل النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)وغيره من الأئمة الأطهار(علیهم السّلام)، في كونه حجة الله وفي وجوب إطاعته على الجميع ولكن هناك من اعتبر أصل المهدوية

ص: 142


1- انظر: العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 52 ، ص 102.

منافياً للديمقراطية(1).

يقول الدكتور سروش في هذا الشأن: «إذا كان هناك مهدي يأتي متمتعاً بنفس سلطات النبي، فإننا سوف نفتقر إلى فوائد الخاتمية ... ولذلك يرد على الشيعة السؤال القائل: كيف يمكن الجمع بين المهدوية والقول بالحرية والديمقراطية»(2).

ص: 143


1- انظر: إقبال اللاهوري، إحياء الفكر الديني، نهاية الفصل الخامس. نضيف إلى ذلك أن هذه الشبهة (تعارض المهدوية مع الديمقراطية) تثار من قبل الدكتور سروش وآخرين بتفصيل أكبر. وبالرجوع إلى نص كتاب إقبال نلاحظ أنه ينكر الأئمة والمهدوية من الأساس بوصفه منتمياً إلى المذهب السني، من منطلق أن الأئمة يتم تنصيبهم من قبل النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم).وقد أرجع ذلك بغير وجه حق إلى نظرية زرادشت (القول بالثنوية وتعدد الألهة الأعم من القول بوجود إله الخير وإله الشر وما إلى ذلك) مشبهاً القول بظهور المنقذ والمخلص في العالم الإسلامي تأثراً بالديانة المجوسية. وعليه فإن بحث الدكتور إقبال ونقده بشأن نظرية وجود المنجي والمنقذ في مستقبل البشرية، يقرّ بوجود هذه النظرية في الديانة المسيحية واليهودية أيضاً، ولا ربط لذلك ببحث تعارض المهدوية مع الديمقراطية بشكل مباشر. مضافاً إلى ذلك - وكما تقدم أن ذكرنا - فإن عبارته ليس فيها ما يشير إلى التعارض بين المهدوية والديمقراطية إطلاقاً (انظر: محمد إقبال، تجديد التفكير الديني في الإسلام، ص 177،تعریب: عباس محمود؛ وانظر أيضاً : السيد غلام رضا سعيدي، مفخر شرق سید جمال الدين أسد آبادي؛ إقبال لاهوري، إعداد: السيد هادي خسروشاهي).
2- كلمة سروش في جامعة السوربون، باريس عام 2006.موقع سروش. كما قال في جوابه الأول عن السيد بهمن بور: «إن النظرية المهدوية - سواء أكانت حقاً أم باطلاً - تؤدي في حقل السياسة إما إلى عدم الجدوائية السياسية أو سفك الدماء وخداع الناس على الطريقة الصفوية، أو إلى القول بولاية الفقيه المطلقة، أو صناعة الأسلحة الأيديولوجية. وعلى كل حال فإنها بعيدة كل البعد عن العدالة والديمقراطية» (موقع الدكتور سروش).

نقد ورأي:

اشارة

في معرض تحليل هذه الشبهة يجدر التأمل في الأمور الآتية:

أ - تجاهل فضائل المجتمع المهدوي:

اشارة

يقدم الدكتور سروش في بحث المهدوية صورة ناقصة بل وقاسية ومخالفة للديمقراطية، في حين أن الإنصاف والمنطق يقتضيان من المرء عندما يخضع نظرية للدراسة والتحقيق - وخاصة إذا كانت نظرية دينية يقدسها ملايين الأشخاص - أن لا يقدم لها صورة ناقصة ومحرفة، ويعمل على تجريحها من دون أن ينظر إلى نقاطها الإيجابية (مغالطة الحذف).

وفيما يأتي سوف نعمل باختصار على بيان فضائل وإيجابيات المجتمع المهدوي، كي يتعرف القارئ الكريم على هذا المجتمع من جميع الأبعاد والزوايا، حتى إذا كان هناك من تعارض حقيقي بين أصل المهدوية والديمقراطية، يعمل على الترجيح والتفاضل بينهما عن وعي ودراية.

إشارة إلى خصائص الحكومة المهدوية العالمية:

من خلال النظر في الروايات تتضح خصائص عصر الظهور وحكومة الإسلام العالمية - التي يمكن التعبير عنها ب_ «العولمة الإسلامية» - وفيما يأتي نشير إليها على النحو الآتى:

1 - النظرة المتفائلة إلى المستقبل : إن إولى خصائص عصر الظهور، هي بعث الأمل فيما يتعلق بمستقبل البشرية. وذلك خلافاً لبعض المذاهب التي تصور مستقبل التاريخ مظلماً ومفعماً بالشرور والفساد، يرى الإسلام مستقبل البشر مشرقاً في ظل قيام حكومة الإمام المهدي(علیه السّلام) العالمية، حيث سيقيم

ص: 144

حكومة ومجتمعاً مثالياً.

2 - سموّ الأخلاق والمعنوية: في ضوء إيمان الناس وهداية الإمام الحجة(علیه السّلام)، يتصف أكثر الناس بالأخلاق السامية. وقد روي عن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)والإمام علي(علیه السّلام)أنهما وصفا ذلك المجتمع بالبعد عن الأحقاد والبغضاء والعداوات(1).

حيث يزول الفساد الأخلاقي في المجتمع المهدوي ويزول الطمع والجشع(2).

3 - إقامة العدالة الفردية والاجتماعية: في ضوء ظهور الإمام المهدي(علیه السّلام)يبلغ العقل البشري مرحلة من النضج والبلوغ بحيث يمتنع الإنسان معه تلقائياً من ارتكاب المعاصى والذنوب، وتسود العدالة الاجتماعية بين مختلف أصناف الناس وطبقاتهم.

4 - الانتعاش الاقتصادي والرخاء المادي: إن من بين خصائص المجتمع المهدوي، رفع الفقر المادي بحيث يحصل كل مواطن على مستوى من العيش الكريم الذي يؤمن له الاستغناء عن الآخرين. وقد ورد في الروايات في التعبير عن هذه الحقيقة بأن الأرض ستخرج بركاتها، وأن الأشجار ستنزل ثمارها بحيث لا يبقى في المجتمع من يستحق الصدقة والنفقة(3)،وحتى لا يبقى هناك مستحق للخمس والزكاة(4).

ص: 145


1- انظر: الخصال، ج 2، ص 254، ح 1051؛ ابن طاووس، الملاحم، ص 152.
2- انظر: إثبات الهداة، ج 3، ص 524.
3- انظر: محمد باقر المجلسي ، ج 51 ، ص 104 و 75 ، وج 52 ، ص 384.
4- انظر: المصدر أعلاه ، ج 52 ، ص 352 - 390.

وتبلغ الزراعة(1)وتربية المواشي(2)والتجارة(3)أعلى مستوياتها.

5 - تكامل الوعي والمعرفة البشرية: سوف تبلغ العلوم النظرية والتجريبية في عصر الظهور حدّ التكامل. فقد ورد في الروايات أن العلم يشتمل على سبعة وعشرين شعبة، وأن البشرية لن تتوصل إلى الكشف عن غير شعبتين من هذه الشعب الكثيرة، وأن الإمام المهدي المنتظر(علیه السّلام)سوف يكشف بظهوره الشعب الخمسة والعشرين المتبقية(4). كما ورد في الروايات أن الإمام المهدي سوف يُرى ويسمع صوته لكل سكان الكرة الأرضية(5).

6 - بسط الأمن: إن المجتمع المهدوي سيشهد استتباباً للأمن على مختلف الجهات. وقد تم التعبير عن هذه الظاهرة بسفر الطاعنين في السن في الليالي البهيمة لمسافات طويلة من دون أن يتعرض لهم أحد بسوء(6). كما أن الأمن القضائي وإعادة الحقوق والانتصاف للمظلومين من الظالمين سيكون واحداً من بين الأبعاد الأخرى المترتبة على استتباب الأمن في عصر الظهور أيضاً(7).

ص: 146


1- انظر: المصدر أعلاه، ج 52،ص 316 - 345؛ إثبات الهداة، ج 3، ص 504؛ ابن طاووس، الملاحم، ص 152.
2- انظر: محمد باقر المجلسي، ج 51 ، ص 81؛ إحقاق الحق، ج 13، ص 215.
3- انظر: الدر المنثور، ج 5، ص 354 .
4- انظر: موسوعة أحاديث المهدي، ج 4 ، ص 53 .
5- انظر: محمد باقر المجلسى، بحار الأنوار، ج 57 ، ص 236 و 391.
6- انظر: المعجم الكبير، ج 4 ، ص 72؛ سنن البيهقي، ج 9، ص 180؛ بحار الأنوار، ج 52 ، ص 345.
7- انظر: محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 52 ، ص 224؛ ابن طاووس، الملاحم، ص 68 .

7- الحكومة العالمية الواحدة: إن من بين المزايا الرئيسة لحكومة الإمام المهدي المنتظر(علیه السّلام)،هی أنها ستكون حكومة واحدة تستوعب كامل الكرة الأرضية.

وقد تم التعبير عن ذلك في الروايات بأن حكومته ستشمل مشرق الأرض ومغربها. وفي ضوء هذه الظاهرة سوف لا تكون هناك مشكلة باسم الحدود التي تعيق حرية الإنسان فى التحرك والانطلاق في أرض الله الفسيحة، والتنقل من مكان إلى آخر، من دون أن يكون هناك أي نوع من أنواع المنع

والمعوقات.

8 - رضا المواطنين: إن من بين الخصائص المنشودة لكل حكومة الحصول على رضا المواطنين عنها وعن الحاكم الذى يقف على رأسها. وإن هذه الأصل سيكون مما يميّز الحكومة العالمية للإمام المهدي(علیه السّلام)بشكل کامل(1).

9 - انتهاء الحروب وإحلال السلام: بعد قيام حكومة الإسلام العالمية بقيادة الإمام المهدي المنتظ(علیه السّلام)، لن تشهد البشرية أي نوع من أنواع الحروب وإزهاق الأرواح وإراقة الدماء، وسوف يعيش المجتمع الإنساني في صلح وسلام شامل .

10 - الألفة بين الإنسان والطبيعة: إن من بين الخصائص الأخرى للعصر المهدوي، قيام علاقة انسجام بين الإنسان والطبيعة (الأعم من الجماد والنبات والحيوان). وقد عبّرت الروايات عن التعايش السلمى بين الحيوانات

ص: 147


1- انظر: إثبات الهداة، ج 3، ص 524 ؛ بحار الأنوار، ج 51 ، ص 74 و 104.

المفترسة والحيوانات الضعيفة وبينها وبين الناس أيضاً(1). ولا يمكن ذلك إلا في ظل ولاية الإمام المهدي المنتظر (2).

11 - المجتمع السليم والصحي: إن المجتمع المهدوي سوف يتمتع بصحة جيدة على المستوى الروحي والجسدي، وسينعم في حياة بعيدة عن مختلف الأمراض(3)، وتطول في ظله أعمار الناس(4).

حصيلة الكلام أن الروايات المتعددة والمتواترة تصف المجتمع المهدوي بأنه مجتمع نموذجي للإنسانية على جميع المستويات (المادية والمعنوية)، وهو ما يعبّر عنه الفلاسفة بالمدينة الفاضلة ويطلق عليه اليوم عنوان (المجتمع المثالي).

وعليه يرد التساؤل هنا هل هناك من يعرض عن هذا المجتمع المهدوي الذي يتصف بكل هذه الصفات الإيجابية، وأن لا يقبل بسياسة حاكمها المتمثل بالإمام الحجة المنتظر(علیه السّلام)؟

لا شك في أن الجواب سيكون بالنفي. ولكن قد يتساءل شخص ويقول: ربما لا يكتب لمثل هذا المجتمع أن يتحقق. ويجب القول في الجواب: نحن إنما نبحث في مقام الافتراض وما ورد في منطوق الروايات. كما أن الدكتور

ص: 148


1- انظر: عقد الدرر ، ص 137 و 149 ، نقلاً عن : السيد صدر الدين الصدر، المهدي، ج 7، ص 226؛ ابن طاووس، الملاحم، ص 97 و 152.
2- وردت هذه الخصائص باشكال مختلفة في الروايات والبحوث العلمية، ومن بينها، قيام و انقلاب مهدي، لمؤلفه الأستاذ الشهيد مرتضى مطهري، ص 60 .
3- انظر: ابن طاووس، الملاحم، ص 97.
4- انظر: عقد الدرر ، ص 159؛القول المختصر، ص 20؛ بحار الأنوار، ج ص 317 و 327 و 335 و 364 . استفدنا في بيان بعض خصائص الحكومة المهدوية من کتاب (چشم اندازی به حکومت مهدي)، لمؤلفه: نجم الدين الطبسي.

سروش إنما يستفيد نظرية الإمام المهدى(علیه السّلام)وعدم تناغمها مع الديمقراطية من الروايات أيضاً.

فعليه أن يكمل تحليله وتوصيفه والقول إن المجتمع المهدوي طبقاً للروايات يتصف بالمواصفات والخصائص المتقدمة، ولكنه يتنافى مع الديمقراطية التي أطمح إلى تحقيقها.

سنثبت في الصفحات القادمة أن القول بوجود التعارض والتنافي بين المجتمع المهدوي والديمقراطية مجرد ادعاء اعتباطي لا أساس له من الصحة؛ لأن من بين خصائص المجتمع المهدوي - على ما تقدمت الإشارة له - أنه يتمتع برضا المواطنين عن إمام العصر(علیه السّلام)، وبهذا الركن تتحقق الديمقراطية في حكومة الإمام المهدي بأجلى صورها العملية.

ب - موافقة جميع المواطنين عن حكومة الإمام المهدي(علیه السّلام) :

إن من بين خصائص الحكومة المهدوية رضا الناس عنها، واحتفائهم بشخص الإمام المهدي المنتظر(علیه السّلام). فقد ورد في الروايات: «يرضى عنه ساكن السماء وساكن الأرض»(1).

وفي رواية أخرى مأثورة عن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)أنه قال: «يحبه ساكن السماء وساكن الأرض .... يتمنى الأحياء الأموات، بما صنع الله بأهل الأرض من خيره»(2).

ص: 149


1- إثبات الهداة، ج 3، ص 524 ؛ ينابيع المودة، ص 431 ؛ بحار الأنوار، ج 51، ص 74 و 80 و 101 .
2- إحقاق الحق، ج 19، ص 663 .

ج - الديمقراطية وسيلة ومقدمة وليست هدفاً وغاية:

إذا تجاوزنا الإشكالات والنواقص التي تعاني منها الديمقراطية - على ما تقدمت الإشارة إليه في نقد شبهة التنافي بين الإمامة والديمقراطية - وقلنا بتحقق الديمقراطية (من خلال انتخاب الحاكم من قبل الناس وإشرافهم على أدائه)، بل ذهبنا إلى ما هو أبعد من ذلك وقلنا بإجماع الناس على حكومة وحاكم واحد، نتساءل هنا: هل قيام الحكومة وتعيين الحاكم يراد لنفسه بوصفه هدفاً وغاية أم أنه وسيلة تساعد الناس على ضمان حقوقهم؟ لا شك في أن الإجابة الصحيحة تنظر إلى الشق الثاني من هذا السؤال ؛ فالحكومة وسيلة وليست غاية.

إن الديمقراطية وانتخاب الناس فيما يتعلق بحكومة غير المعصوم، أفضل وسيلة وخيار متوفر لإحقاق حقوق الناس، والإشراف على أداء الحكومة والحاكم.

إن المسألة الهامة والدقيقة في المجتمع المهدوي، تكمن في أنه يمثل المجتمع النموذي والمدينة المثالية والفاضلة للمواطنين والأمة بأسرها، بحيث أن حكومة الإمام المهدي تضمن الحقوق الأساسية للناس، من قبيل: العدالة الفردية والاجتماعية، ورفع الظلم والجور عنهم، وتوفير الأمن في مختلف المجالات، وبناء حياة سالمة، وضمان المطالب المادية، وسيادة الأخلاق والصلاح والتعايش السلمي بين مختلف الطبقات والفئات والمذاهب المختلفة بالنسبة إلى الجميع بالشكل الأحسن والأكمل. وفي هذه الحكومة يقوم سلوك الحاكم وسائر المسؤولين في الحكومة على أساس العدل، ولا يصدر أي انتهاك للقانون والدستور.

ص: 150

ففى هذه الفرضية ألا يتم تلبية ما يريده الناس من حكومتهم تلقائياً؟ وعليه هل يبقى هناك من مطلب وغاية لا تقوم الحكومة المهدوية على تلبيتها، حتى يبقى الناس متشبثين بالديمقراطية لتلبيتها ؟! ليست الديمقراطية سوى وسيلة وأداة، وإن الأهداف التي يراد تحقيقها منها حاصلة في حكومة الإمام المهدي العالمية والموعودة. وعلى هذا الأساس يمكن القول: لا مجال للحديث عن الديمقراطية في حكومة الإمام المهدي(علیه السّلام)؛لكون ذلك ضرباً من تحصيل الحاصل .

وفيما يتعلق بأنواع الحريات الخاصة التي تضمنها الديمقراطيات لأفراد الشعب من قبيل تشكيل

الأحزاب والنقابات والتجمعات، وحرية التعبير، يجب القول: إنها منتفية بالنظر إلى ما تقدم من بيان لخصوصيات المجتمع المهدوي؛ لأن الهدف من تشكيل الأحزاب والتجمعات وحرية الصحافة، والإشراف والرقابة على أداء الساسة، والمساهمة فى إدارة السلطة، بالالتفات إلى أن هرم السلطة ومن يقوم على رأسها هو الإمام المهدي المعصوم، الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، ويرفع من مستوى أخلاق الناس ومعنوياتهم، حتى يصل الناس إلى جميع مآربهم ومطالبهم وتطلعاتهم وأهدافهم، بحيث لا تبقى هناك أي حاجة إلى تكوين الأحزاب والعضوية فيها، وبذلك تكون أهداف هذه الأحزاب والتيارات والحريات السياسية والمدنية من قبيل تحصيل الحاصل أيضاً؛ لأن الأحزاب الأنشطة السياسية الأخرى تهدف إلى إقامة العدالة والأمن وتوفير المهن والرفاه الاجتماعي وما إلى ذلك من الأهداف الأخرى، وهي بحسب الفرض أهداف متحققة وحاصلة في حكومة الإمام المهدي المنتظر(علیه السّلام).

ص: 151

د - المسلمون هم غالبية المجتمع المهدوي:

ربما يثار هنا هذا السؤال والشبهة القائلة بأن حكومة الإمام المهدي بوصفها حكومة إسلامية حتى إذا أمكن تبريرها من الزاوية الديمقراطية ورضا الناس، إلا أن أتباع سائر الأديان الأخرى لا يرتضون حكومة من ليس على دينهم، وبذلك لا تكون حكومة الإمام المهدي منسجمة مع الديمقراطية. خاصة وأن غير المسلمين هم الأكثرية.

في الجواب عن هذه الشبهة يجب القول: إن الدين الإسلامي طبقاً للروايات المهدوية وآيات القرآن الكريم وتعاليم الإسلام، سيكون هو الغالب على الأديان الأخرى - وذلك من خلال الاستدلال والاحتجاج - وسيكون أتباع الديانات والمذاهب الأخرى ضمن الأقلية، وعلى هذا الأساس ستكون حكومة الإمام المهدي منسجمة مع مقتضيات الديمقراطية وقواعدها من حكومة الأكثرية على الأقلية. إلا أن حقوق الأقليات ستكون مكفولة ضمن حكومة الأكثرية الإسلامية أيضاً.

ه_- رعاية حقوق الأقليات:

لمّا كان المسلمين في المستقبل - طبقاً للآيات والروايات التي تقدم ذكرها - سيشكلون أكثرية المواطنين في العالم، فإن حكومتهم سوف تتشكل بقيادة المسلمين أيضاً. وإن حقوق الأقليات في ظل حكم الإمام المهدي(علیه السّلام) - كما هو الحال بالنسبة إلى حكم النبي الأكرم ع الا الله وحكم الإمام علي(علیه السّلام) - سوف تراعى بشكل كامل

إن ما تقدم من المزايا والخصائص التى تتصف بها الحكومة المهدوية،

ص: 152

من قبيل: العدالة والأمن والحرية والرخاء المادي، سوف تشمل الأقليات أيضاً، ولن تكون حكراً على الأكثرية فقط. وطبقاً للروايات فإن قائم أهل البيت - على الرغم من امتلاكه السلطة المطلقة وأحقية الإسلام الحصرية - سوف يفرض التعايش السلمي بين جميع أتباع الديانات، وإنه علاوة على ذلك سيقضي بين أتباع الديانات الأخرى بما تحكم به كتبهم(1).وهو أمر لا يتم تطبيقه في البلدان التي تتظاهر بممارسة الديمقراطية، حيث يتم انتهاك أبسط حقوق الأقليات الدينية والإنسانية بمختلف العناوين، فيتم حرمانهم حتى من اختيار أزيائهم، من قبيل حظر بعض البلدان الغربية ارتداء الحجاب على المسلمات.

وقد ورد في الروايات أن الإمام المهدي سيعمل على تقسيم بيت المال على المواطنين بالسوية(2)، وسيكون عامل توحيد ورفع للاختلاف والفرقة بينهم :

«السلام على المهدي، الذي وعد الله عز وجل به الأمم، أن يجمع به الكلم ويلم به الشعث»(3)

هذا ويمكن أن نضيف إلى النقاط الآنفة المذكورة في دفع شبهة التنافي بين الإمامة والديمقراطية، نقاطاً أخرى، من قبيل: تقديم الحق الإلهي على الحق الإنساني، واعتبار الأئمة النُخَب الحقيقيين في المجتمع.

ص: 153


1- انظر: النعماني، الغيبة، ص 125؛ ملحقات إحقاق الحق، ج 29، ص 120 .
2- انظر: إثبات الهداة، ج 3، ص 524؛ ينابيع المودة، ص 31؛ بحار الأنوار، ج 51 ، ص81.
3- العلامة محمد باقر المجلسي، ج 89، ص 264 .

ويبدو أن ما ذكرناه كافياً لرفع شبهة التعارض بين المهدوية والديمقراطية، حيث يدرك القارئ الكريم أن الحكومة المهدوية هي الحكومة المثالية الحقيقية والمدينة الفاضلة لجميع العالمين من المسلمين وغير المسلمين(1).

ص: 154


1- وبطبيعة الحال هناك روايات متعارضة بهذا الشأن، وقد عملت على جمعها وبيانها، انظر مقال: «دکترین مهدویت وپلورالیزم»، مجموعة الأعمال المختارة في المؤتمر الثاني حول المهدوية، ج 1.

الفَضْلُ الثالث

شبهة التنافي بين الإمامة وأصل الخاتمية

ص: 155

ص: 156

الشبهة الأولى: المبنى العقلي لضرورة الإمامة يتنافى مع الخاتمية:

إن الإمامة متمّمة للنبوة والخاتمية وامتداد لها، إلا أن بعض أهل السنة، و بعض المستنيرين في الأعوام الأخيرة عمدوا إلى إظهار الإمامة بوصفها معارضة للنبوة والخاتمية. وهذه الشبهة تنحل إلى شبهات متعددة، ولأهمية المسألة سوف نخوض في تحليل هذه الشبهات ونقدها على النحو الآتي:

تسعى الشبهة الأولى إلى تسويق الوهم القائل بأن فلسفة الخاتمية تكمن وراء بلوغ العقل البشري في صدر الإسلام، ولازم هذا البلوغ في العقل البشري عدم الحاجة إلى أصل الإمامة وإلى الإمام المعصوم بعد النبي؛ لأن عقل المسلمين - أو عقل النُّخَب في الحد الأدنى - يمكنه أن يحل محل الإمامة. وإن هذه الرؤية إلى الخاتمية يؤدي إلى صيرورة الدين عرفياً(1).

ص: 157


1- «كما أن القول بهذا التفسير لختم النبوات، وصيغتها الشيعية، وفلسفة الغيبة الكبرى التي تعتبر انقطاع الوحي مؤشراً على بلوغ البشرية بتأثير تعاليم الأنبياء، يؤدي إلى القول باعتبار البشر قادرين على توظيف سراج العقل المفعم بزيت التعاليم النبوية لإضاءة الطريق إلى المستقبل، وهذا يعتبر طريقاً آخر لصيرورة الشريعة مفهوماً عرفياً» (از شاهد قدسی تا شاهد بازاري، ص 82).

بعبارة أخرى: إن بيان فلسفة الخاتمية من خلال التمسك ببلوغ العقل البشري إنما ينسجم مع المزاج السائد عند أهل السنة أكثر من انسجامه مع المزاج السائد بين أتباع مذهب التشيّع.

هناك من يسعى إلى وصف هذين الأمرين بالتنافي من خلال مقارنة رأي الأستاذ الشهيد مرتضى المطهري في التكامل والبلوغ الفكري لدى الناس من جهة، وتفسير الإمامة بصيانة الشريعة ومرجعية الإسلام من جهة أخرى، قائلاً:

«عندما يصل الناس إلى مستوى من الرشد والبلوغ الفكري والعقلي بحيث يمكنهم تحصيل الهداية والسعادة في ضوء الاجتهاد في كليات الوحي وتفسيره، فما هي الحاجة إلى وجود مرجع لتفسير الدين ومعرفة الإسلام»(1).

مناقشة وتحليل:

اشارة

في معرض تحليل هذه الشبهة يجب القول: إن المراد من البلوغ العقلي في صدر الإسلام، لا يعني وصول أفراد الأمة إلى مستوى التخصص في الدين وتفسير القرآن الكريم، وإنما المراد بلوغهم مستوى من الاستعداد والتكامل الكافي لصيانة الكتاب السماوي من آفة التحريف وحفظه ونقله إلى الأجيال اللاحقة. ومع ذلك فإن هذا المجتمع في ظل تعاليم النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)قد بلغ مرتبة من العلم والمعرفة في فهم الدين والقرآن بحيث أمكن لهذا النسل أن يفرز علماء كباراً من أمثال: سلمان وكميل والمقداد. ولكن على الرغم من ذلك فإنّ

ص: 158


1- حجة الله نيكوئي، تئوری امامت در ترازوی نقد، ص13.

هذه الأمة وعلماءها لم تبلغ مستوى العصمة، وعليه يكون احتمال الوقوع في الخطأ كبيراً، لعدم ترسيخ قواعد الدين وأصوله وعدم تنقيح تعاليمه، وهو أمر يدعو إلى الحاجة إلى وجود مرجع ديني معصوم باسم «الإمام». وعلى هذا الأساس كان لابد من أن يكون هناك إمام ومرجع ديني معصوم ليستكمل عملية تدوين الأصول وتنقيحها ويبلغ بها إلى مستوى الصيانة والمحافظة من التحريف والخطأ بشكل كامل.

اختلاف صدر الإسلام عن عصر الغيبة:

إن الإشكال بأن الحاجة إلى المرجع الديني المعصوم قائمة في كل مرحلة، ولا تقتصر على عصر الغيبة؛ لأن الاجتهاد يحتمل الخطأ في جميع المراحل وليس في مرحلة دون أخرى(1)، لا يمكن أن يكون إشكالاً وجيهاً؛ إذ إنّ احتمال الخطأ في الاجتهاد في عصر الغيبة إنما يكون في فروع الدين وجزئياته دون أصوله ومبانيه، والأخطاء في الجزئيات لا تضر بأصل الدين، وقياس الاجتهاد في عصر الغيبة على الاجتهاد في العصور السابقة على الاجتهاد في عصر الغيبة، قياس مع الفارق.

لا يشير الأستاذ الشهيد المطهري في بيان كيفية البلوغ العقلي للأمة في تبرير الخاتمية إلى مراتب ذلك، ولكنه في الوقت نفسه كان ملتفتاً إلى شبهة

ص: 159


1- قد يسأل شخص ويقول: وهل يرتفع احتمال الخطأ في الاجتهاد (الذي يعني إرجاع الجزئيات إلى الكليات) ويزول احتمال الاستنباط الخاطئ؟ لا شك في أن الإجابة عن هذا السؤال ستكون بالنفي؛ وعليه فإن الاجتهاد بحاجة إلى العصمة أيضاً، ولا يحق لغير المعصوم أن يجتهد، ولكن هل يمكن الالتزام بذلك؟ (تئوری امامت در ترازوي نقد، ص 11 - 12).

التنافى بين الخاتمية وأصل الإمامة، ولذلك تراه يشير في الجواب عن الإشكال إلى المرجعية العلمية للإمام وحل الاختلاف الديني، ويقول بأن المسلمين والنُّخَب عاجزة عن حلها. ومن هنا يتضح أن مراد الشهيد المطهري من البلوغ هو البلوغ النسبي الذي توصل له المسلمون في صدر الإسلام، إذ يقول:

«تظهر سلسلة من الاختلافات والفرقة والتشتت والمذاهب المختلفة والمتنوعة في الشريعة الخاتمة، وعليه لا بد من وجود معيار وشاخص يقصده الناس لير شدهم إلى الحق من بين هذه المذاهب المتنوعة التي ظهرت بسبب الأهواء والآراء والعصبيات ... إن علماء الأمة يمكنهم أن يخلفوا الأنبياء في أمر

الدعوة وتبليغ الدين، ولكنهم لا يستطيعون الاضطلاع بدور المرجع لحل هذه الخلافات»(1).

بعبارة أخرى: إن البلوغ والتكامل العقلي للمخاطبين في صدر الإسلام لا يتنافى مع أصل الإمامة، بل إن هذا الاستعداد والتكامل الفكري بالمعنى المتقدم يُعدُّ مقدمة وشرطاً للاستفادة من وجود الإمام، إذ في حالة عدم رجوع الناس أو علماء الدين إلى الإمام من أجل تفسير المتشابهات وحل الاختلافات الدينية، فإن هذا الأمر يعكس إما الجمود الفكري، وتخشب الفكر الديني في المجتمع، أو يحكي عن جهل الناس وعلماء الدين لأصل الإمامة وعدم إدراكهم الحاجة إلى الرجوع إلى الإمام في حل المشاكل والمسائل الدينية، وكلا الأمرين يثبت عدم البلوغ والنضج الفكري والعقلي للمسلمين في صدر الإسلام، وفي هذه الحالة لا يكون أصل الإمامة مثمراً ولا نافعاً. وعليه لابد من الإلتزام بالبلوغ الفكري - ولو على المستوى النسبي - للمسلمين في

ص: 160


1- مرتضى مطهري، خاتميت، ص 53 .

صدر الإسلام لتبرير الخاتمية من طريق أصل الإمامة.

أما الكلمة الأخيرة فهي أن البلوغ العقلي ليس ملاكاً منحصراً لتبرير الخاتمية، وإنما هو واحد من بين ملاكات وأدلة تقع في عرض بعض أدلة أخرى من بينها أصل الإمامة، وإن مجموع تلك الأدلة هو الذي يبرر أصل الخاتمية(1)ويفسرها.

الشبهة الثانية: تنافي عصمة الإمام مع الخاتمية:

إن الأنبياء والمرسلين من قبل الله يتصفون ب_ «العصمة» في مقام الحصول على الوحي وتبليغه من أجل صيانته وحفظه من جميع أنواع الخطأ والنسيان. ولا خلاف بين الشيعة وأهل السنة في اتصاف النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)بالعصمة (2). إلا أن الشيعة عمدوا إلى توسيع دائرة العصمة وإعمامها على الأئمة أيضاً، وقالوا بأن الأئمة مثل الأنبياء في ضرورة الاتصاف بالعصمة، وهذا يتنافى مع أصل الخاتمية؛ إذ برحيل النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)تنقطع جميع خصائصه من قبيل: العصمة ونزول الوحي، وتصل إلى خط النهاية والخاتمية، وعليه يكون ما يذهب إليه الشيعة من القول بعصمة الأئمة منافياً للخاتمية.

ص: 161


1- انظر: لمزيد من التوضيح بشأن ملاكات الخاتمية: محمد قدردان قراملکي، آيين خاتم، ص 433 - 499 .
2- يُجمع أهل السنة على عصمة الأنبياء في خصوص استلام الوحي وإبلاغه، مع القول بجواز الخطأ وارتكاب الصغائر عليهم قبل البعثة وبعدها، وهناك من قال بذلك على المستوى العملي. (انظر: شرح المقاصد، ج 5، ص 50) ، أما الشيعة فيذهبون إلى القول بعصمة الأنبياء في جميع المجالات و الحالات (انظر: پژوهشی در عصمت، نشر پژوهشگاه فرهنگ و اندیشه اسلامی).

وصف شاه ولي الله الدهلوي الهندي نسبة العصمة إلى الإمام بأنها منافية للخاتمية وأصل النبوة، وسوف نذكر نص عبارته لاحقاً.

أما الدكتور سروش فيقول في هذا الشأن: «لن يظهر بعد النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)أحد يضمن صحة كلامه وحسن سلوكه من الناحية الدينية »(1)

وقال في موضع آخر: «كيف يمكن أن يأتي بعد النبي الخاتم أناس، يتحدثون عن الوحي والشهود بكلام لا أثر له في القرآن والسنة النبوية، ومع ذلك يتم التعامل معه على أنه من التعاليم الدينية والتشريعية التي توجب تحليلاً وتحريماً، وتحل في المرتبة محل الوحى النبوي وتكتسب عصمة كلام النبي وحجيته، ومع ذلك لا يكون ذلك منافياً للخاتمية؟»(2).

وهناك من ذهب إلى وصف بعض الصفات من قبيل: العصمة والعلم اللدني بأنها صفات ميتافيزيقية تفوق الحالات البشرية، معتبراً النظرية المخالفة (إنكار الصفات الميتافيزيقية) منسجمة مع القول بأصل الخاتمية(3).

رأي وتحليل:

في معرض تحليل هذه الشبهة ونقدها يجدر الالتفات إلى المسائل الآتية:

1 - اختصاص العصمة بالأنبياء(علیهم السّلام)مجرد دعوى بلا دليل: أولاً إن مقام العصمة عناية إلهية مقرونة بالنفس الزكية للإنسان المعصوم، وهي تعد من

ص: 162


1- عبد الكريم سروش، بسط تجربه نبوى (بسط التجربة النبوية) ، ص 134 .
2- الجواب الثاني للدكتور سروش على الأستاذ بهمن بور، موقع سروش؛ وكذلك: آيينه اندیشه، العدد: 2، ص 84.
3- محسن کدیور، «قراءت فراموش شده»،مجلة مدرسة، العدد: 3 ص 96 .

الصفات اللازمة للنبوة، وبعبارة أخرى إن العصمة من لوازم مقام النبوة. ولكنها لا تعني سلب هذه الصفة عن الآخرين، واحتكارها من قبل الأنبياء فقط. ويبدو أن من صاغ هذه الشبهة قد خلط بين هذين الأمرين، حيث توهم أن العصمة هي مثل نزول الوحي في كونها من الصفات الخاصة والمنحصرة بالنبي والتى لا يشاركه فيها أحد من غير الأنبياء. في حين أن عليه أولا أن يثبت مدعاه (اختصاص العصمة بالنبي)، كي يثبت بعد ذلك أن القول بنظرية تعميم العصمة إلى غير الأنبياء من أمثال أهل البيت(علیهم السّلام)منافياً للنبوة.

وعلاوة على ذلك فإن روايات الفريقين، بل وآيات القرآن الكريم تدل على عصمة أهل البيت(علیهم السّلام)، على ما سيأتي بيانه والإشارة إليه.

2 - جوهر الإمامة يقتضي العصمة: إن السؤال حول ما إذا كانت الإمامة ملازمة لصفة العصمة أم لا ؟ يرتبط بنوع الرؤية إلى الإمامة وتفسيرها. فإذا كانت الإمامة مجرد خلافة وحكومة دنيوية - كما يرى أهل السنة - أو في الحد الأقصى كانت بمعنى تفسير الدين، فعندها لا تكون الإمامة مقتضية للعصمة، وأما إذا كان المراد من الإمامة هو معناها الحقيقي، والذي يفوق النبوة مرتبة بحسب التعبير القرآني، فإنها ستقتضي العصمة وتلازمها قطعاً، والدليل على ذلك إعطاء الله الإمامة للنبي إبراهيم(علیه السّلام)بعد إعطائه مقام النبوة، ولم يتحقق ذلك إلا في نهايات عمره الشريف. إذ يقول تعالى: ﴿ وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَتْهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ (1).

ص: 163


1- البقرة: 124 .

تعلق الآية الشريفة إعطاء الإمامة للنبي إبراهيم الخليل(علیه السّلام) - كما هو واضح من منطوقها - على اجتيازه الاختبار والابتلاء، ومن هنا يتضح أن الإمامة أرفع شأناً ومنزلة من النبوة. وقد طمع النبي إبراهيم بعد حصوله على مرتبة الإمامة - التي يصفها القرآن في هذه الآية بأنها جعل من الله عز وجل -

بإعطائها إلى نسله، فواجه رفض هذا الطلب من قبل الله، والسبب في ذلك كما يصرّح الله تعالى يعود إلى صدور الظلم منهم، وهو أمر يثبت أن الإمامة لا تجتمع مع صدور أي نوع من أنواع الظلم والمعاصي، وأن الذي يتصف بها يجب أن يكون معصوماً.

3 - الدليل العقلي على ضرورة وجود المعصوم: إن الدليل المقتضي الضرورة بعث الأنبياء، يقتضي ضرورة عصمة الإمام أيضاً. بمعنى أن الله يجب عليه من باب اللطف والحكمة أن يبعث هداة من جنس البشر لهداية الإنسان شريطة أن يتصف بالعصمة؛ لأن الهادي إذا لم يكن معصوماً جاز عليه السهو والخطأ في إبلاغ الرسالة أو تفسير الوحي، ولا يخفى ما في ذلك من نقض الغرض المنشود من بعث الأنبياء. وفي الفترات التي تخللت بعث الأنبياء السابقين لم تكن هناك حاجة إلى وجود الأئمة، بعد إمكان ظهور نبي جديد بعد كل فترة ليتولى عملية تصحيح الانحراف الذي تعرضت له شريعة النبي السابق. أما فيما يتعلق بشريعة خاتم الرسل، فحيث لا يكون هناك نبي يأتي من بعده، تمس الحاجة إلى وجود إمام معصوم ليكون هو الحكم والميزان والمعيار الذي ترجع إليه الأمة للحصول على التفسير الصحيح، والبت في حالات الاختلاف بين الأمة وكشف الغث من السمين وتمييز الحق من الباطل. فإذا لم يكن هناك من إمام يخلف خاتم المرسلين سيتعرض الدين الخاتم إلى

ص: 164

البلى وتطاله آفة التحريف والانحراف حتى لا يبقى منه شيء من الحق، وهذا لا ينسجم مع الهدف من البعثة وأصل الخاتمية. وبعبارة أخرى إن أصل الخاتمية يقتضي ضرورة وجود الإمام المعصوم من دون أن يكون نبياً. وقد تم التأكيد على هذه المسألة فى بعض الروايات أيضاً(1).

4 - دلالة الأدلة القرآنية على عصمة أهل البيت(علیهم السّلام): هناك من آیات القرآن الكريم ما يدلّ صراحة على طهارة وعصمة أهل بيت النبوة، وقد تم تفسيرها في روايات أهل البيت(علیهم السّلام)بالإمام على(علیه السّلام)، والإمامين الحسن والحسين(علیهم السّلام)، والسيدة فاطمة الزهراء(سلام الله علیها). ومن بين أوضح الآيات في الدلالة على عصمة أهل البيت قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهِ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾(2).

تروي أم سلمة زوج زوج النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)أنه بعد نزول هذه الآية، دعا رسول الله علياً وفاطمة والحسن والحسين، ثم قال: «اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصتي، أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً»(3).

كما اشتملت مصادر أهل السنة على روايات تشتمل على هذا المضمون ذاته برواية السيدة عائشة أيضاً»(4).

ص: 165


1- انظر: الشيخ الصدوق، كمال الدين وإتمام النعمة، ج 1 ، ص 221 - 244 .
2- الأحزاب: 33.
3- انظر: السيوطي ، الدر المنثور، ج 5، ص 129 و 198، هامش تفسير الآية؛ سنن الترمذي ، ج 5 ، ص 360 ، ح 3939؛ مسند أحمد بن حنبل، ج 6، ص 304؛ فرائد السمطين، ج 1، ص 312،الحديث 250؛ينابيع المودة لذوي القربى، ج 1، ص 348 .
4- انظر: صحیح مسلم، ج 7، ص 130.

وقد ورد التصريح عن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)في موضع آخر بعصمة أهل بيته ضمن بيان الملازمة بينهم وبين عترته، إذ يقول: «معاشر الناس أوصيكم في عترتي وأهل بيتي خيراً، فإنهم مع الحق والحق معهم، وهم الأئمة الراشدون بعدي والأمناء المعصومون»(1).

5 - دلالة الروايات النبوية على عصمة الأئمة: تقدم أن ذكرنا في العدد السابق من هذه السلسلة أن الآية الشريفة والحديث النبوي المعروف بحديث الكساء تدلان دلالة صريحة واضحة على عصمة أهل البيت(علیهم السّلام)، وعلاوة على ذلك هناك روايات أخرى بهذا الخصوص، نشير إليها فيما يأتي:

فقد روي عن ابن عباس عن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)، أنه قال: «أنا وعلى والحسن والحسين وتسعة من ولد الحسين مطهرون ومعصومون«(2).

كما يدلّ الحديث النبوي المعروف ب_«حديث الثقلين» على عصمة العترة من أهل بيت رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)، إذ يقول:

«إني قد تركت ما إن أخذتم به لن تضلوا بعدي - الثقلين - وأحدهما أكبر من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي، ألا وأنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض»(3).

وقد تواتر نقل هذا الحديث في مصادر الفريقين. وقد تم وضع أهل البيت في هذه الروايات في مستوى القرآن، وتم التصريح بأنهما لن يفترقا عن

ص: 166


1- أبو القاسم القمي الرازي، كفاية الأثر، ص 104.
2- ينابيع المودة، ج 2، ص 316؛ فرائد السمطين، ج 2، ص 313؛ موسوعة الإمامة في نصوص أهل السنة، ج 3، ص 279؛ بحار الأنوار، ج 25، ص 201.
3- مسند الإمام أحمد بن حنبل، ج 3، ص 59 (11561)، وص 26(11211)،وص 14 (11104).

بعضهما، وأنه يجب التمسك بهما معاً، وبذلك لن تكون هناك ضلالة أبداً (حيث ورد تأبيد نفي الضلالة بلفظ (لن) الدالة على النفي المؤبد).

واضح أن عترة رسول الله إذا لم تنصف بالعصمة، لما كان هناك إمكان لاقترانها بالقرآن، والتأكيد على أن التمسك بهما يؤمن من الوقوع في الخطأ والضلالة. وعليه فإن هذا النوع من التأكيد يدل دلالة واضحة وقاطعة على عصمة القرآن وعدله المتمثل بأهل البيت(علیهم السّلام). ولكن من هم أهل بيت النبي؟ ذكرنا في العدد السابق من هذه السلسلة أنهم الأئمة الإثنى عشر(علیهم السّلام)، والسيدة فاطمة الزهراء(سلام الله علیها).

وفي رواية أخرى وصف النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)الإمام علي(علیه السّلام)والأئمة من ذريته قائلاً: «فإنهم خيرة الله عز وجل وصفوته، وهم المعصومون من كل ذنب

وخطيئة»(1).

وقد روى النبي الأكرم عن ملكين من الملائكة الموكلين بكتابة أعمال علي(علیه السّلام)أنهما لم يكتبا لعلي معصية أو ذنباً أبدا(2).وقد أشار النبي إلى آية «أولي الأمر» معتبراً الأئمة المعصومين(علیهم السّلام)مصاديقها، وإن نفس العصمة يستوجب أمر الله بإطاعتهم، إذ يقول: «إنما أمر بطاعة أولي الأمر لأنهم معصومون مطهرون لا يأمرون بمعصية الله»(3). وفي رواية أخرى: «أطيعوا علياً؛ فإنه مطهر معصوم لا يضل ولا يشقى»(4).

ص: 167


1- العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 25 ، ص 193 .
2- انظر: المصدر أعلاه، ص 193 - 194 .
3- كتاب سُليم بن قيس، ص 406 .
4- معاني الأخبار، ص 352؛ علل الشرائع، ج 1، ص 175؛ بحار الأنوار، ج 38 ص 82 .

وقد ذكرت هذه الرواية علة الأمر بإطاعة الإمام علي(علیه السّلام)، وأنها تكمن في اتصافه بالظهر والعصمة، مما يعني عدم الضلالة والوقوع في الشقاء:

«أنا وعلي والحسن والحسين وتسعة من ولد الحسين مطهرون معصومون»(1).

يؤكد النبي الأكرم الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)في هذا الحديث على عصمة جميع الأئمة(علیهم السّلام).

وفي بعض الأحاديث المروية عن النبي الأكرم نجد الإشارة إلى لوازم العصمة، من قبيل أن الإمام على(علیه السّلام)معياراً للحق، وأنه ملازم للحق، وأن الحق ملازم له، وأن الإمام علي ملازم للقرآن، وأن القرآن ملازم له، وأنه الفاروق الأكبر الذي يفرق بين الحق والباطل.

أ - علي(علیه السّلام)ميزان الحق:

-علي مع الحق والحق مع علي، ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض يوم القيامة»(2).

- علي مع الحق والحق مع علي، اللهم أدر الحق مع علي حيثما دار»(3).

وقال الفخر الرازي في إشارة منه إلى هذه الرواية: «من اقتدى في دينه بعلي بن أبي طالب فقد اهتدى، والدليل عليه قوله(صلی الله علیه و آله و سلم): (اللهم أدر الحق مع علي حيث دار)»(4).

ص: 168


1- الخصال، ص 139.
2- تاريخ بغداد، ج 14 ، ص 321؛ تاریخ دمشق، ج 42،ص 449 .
3- سنن الترمذي، ج 5، ص 633؛ تاریخ دمشق، ج 42، ص 4448؛البداية والنهاية، ج 7، ص 361؛ مناقب الخوارزمي، ص 104 .
4- التفسير الكبير، ح 1 ، ص 210.

كما تؤكد الروايات الآتية على الملازمة المتبادلة بين الإمام على(علیه السّلام)والقرآن والحق:

ب - علي(علیه السّلام)يلازم القرآن والحق ويلازمانه:

- «علي مع القرآن، والقرآن معه، لا يفترقان حتى يردا علي الحوض»(1).

- «علي مع الحق والقرآن، والحق والقرآن مع علي، ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض»(2).

ج - علي(علیه السّلام)مرجع التمييز بين الحق والباطل:

وصف النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)الإمام علي(علیه السّلام)في كثير من الروايات بأنه الصديق الأكبر وفاروق الأمة، ومن ذلك الحديث القائل:

- «وهذا الصديق الأكبر، وهذا فاروق هذه الأمة بين الحق والباطل»(3).

- «ستكون بعدي فتنة فإذا كان ذلك، فالزموا علي بن أبي طالب، فإنه أول من يراني وأول من يصافحني يوم القيامة وهو الصديق الأكبر وهو فاروق هذه الأمة يفرق بين الحق والباطل وهو يعسوب المؤمنين»(4).

ص: 169


1- المعجم الأوسط، ج 5، ص 135؛ المعجم الصغير، ج 1، ص 255؛ الصواعق المحرقة، ص 124.
2- ربيع الأبرار ونصوص الأخيار، ج 1، ص 818؛ فرائد السمطين، ج 1، ص 177.
3- المعجم الكبير، ج 6 ، ص 269؛ تاريخ مدينة دمشق، ج 42 ، ص 8368.
4- أسد الغابة في معرفة الصحابة ، ج 6 ، ص 265؛ الإصابة في تمييز الصحابة، ج 7، ص 294 ، وانظر أيضا : شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد المعتزلي، ج 13، ص228.

ومن بين الأحاديث الأخرى التي تثبت عصمة الأئمة(علیهم السّلام)الحديث المعروف بالسفينة، والذي يقول فيه النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم): «إنما مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح، من دخل فيها نجا ومن تخلف عنها غرق»(1).

يتضح مما تقدم أن القول بعصمة أهل البيت(علیهم السّلام)ينافي القول بأصل الخاتمية، بل هو من مقتضيات القول بالخاتمية على ما تثبته الأدلة العقلية والقرآنية والروائية التي تقدم ذكرها.

6 - دلالة الروايات الولائية على العصمة : إذا أردنا أن نفهم حقيقة الإمامة وصفاتها، فليس هناك ما هو أفضل من الأئمة الأطهار أنفسهم. وإذا نحن رجعنا إلى الروايات المأثورة عنهم، نجدهم يؤكدون على عصمتهم.

فقد فسّر الإمام على(علیه السّلام)دائرة العصمة بما يشمل حتى «أولي الأمر» أيضاً، وذلك إذ يقول: «إنما الطاعة لله عزّ وجل ولرسوله ولولاة الأمر، وإنما أمر بطاعة أولي الأمر ؛ لأنهم معصومون مطهّرون لا يأمرون بمعصية»(2).

وقال الإمام علي(علیه السّلام)في تقرير صفات أهل البيت(علیهم السّلام) : «إنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى طَهَّرَنَا وَعَصَمَنَا وَجَعَلَنَا شُهَدَاءَ عَلَى خَلْقِهِ وَحُجَّتَهُ فِي أَرْضِهِ وَجَعَلَنَا مَعَ الْقُرْآنِ، وَجَعَلَ الْقُرْآنَ مَعَنَا لَا نُفَارِقُهُ وَلَا يُفَارِقُنَا»(3).

وفي هذه الرواية نجد الإمام على(علیه السّلام)بالإضافة إلى مسألة العصمة يصرح بكونهم حجج الله على العباد أيضاً.

ص: 170


1- بحار الأنوار ، ج 23، ص 105؛ المعجم الأوسط ، ج 5، ص 306؛ تفسير روح المعاني، ج 25، ص 32.
2- نقلاً عن الشيخ الصدوق، علل الشرائع، ص 52 ؛ الخصال، ج 1 ، ص 68.
3- محمد بن يعقوب الكليني، أصول الكافي، ج 1، ص 191.

وقال الإمام زين العابدين(علیه السّلام)في بيان الملازمة بين الإمامة والعصمة:

«الإمام منا لا يكون إلا معصوماً »(1).

وقد روى الإمام الكاظم(علیه السّلام)عن الإمام زين العابدين(علیه السّلام)أن من بين شروط الإمام والإمامة وبعبارة أدق إن من بين العناصر المكونة للإمام والإمامة هى العصمة، وأضاف إلى ذلك أن العصمة ليست بالأمر الذي يبدو على ظاهر الإمام، وعليه وجب أن يعرف ذلك من خلال النص عليه: «الإمام منا لا يكون إلا معصوماً وليست العصمة في ظاهر الخلقة فيعرف بها، ولذلك لا يكون إلا منصوصاً»(2).

كما ذكر الإمام الصادق(علیه السّلام)أن شرط العصمة في الإمامة يتحقق من خلال عدم ارتكاب الذنوب كبيرة وصغيرة حتى مع فرض التوبة، إذ يقول: لا يصلح للإمامة من قد ارتكب من المحارم شيئاً صغيراً كان أو كبيراً، وإن تاب منه بعد ذلك»(3).

وعنه(علیه السّلام)في وصف الأنبياء والأوصياء أنه قال: «الأنبياء وأوصياؤهم لا ذنوب لهم؛ لأنهم معصومون مطهرون»(4).

لقد كان البحث عن العصمة ومفهومها مثاراً حتى في عصر الأئمة الأطهار(علیهم السّلام)أنفسهم، كما يلوح ذلك من رواية حسين الأشقر، والتي يقول فيها: قلت لهشام بن الحكم ما معنى قولكم إن الإمام لا يكون إلا معصوماً؟

ص: 171


1- العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 25، ص 199.
2- معاني الأخبار، باب العصمة، ص 132.
3- المصدر أعلاه، ص 200 .
4- العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 25، ص 199.

فقال: سألت أبا عبد الله(علیه السّلام)عن ذلك ؛ فقال: «المعصوم هو الممتنع بالله من جميع محارم الله»(1).

وفي رواية عن الإمام الرضا(علیه السّلام)أنه قال في بيان حقيقة الإمام والإمامة : «الْإِمَامُ الْمُطَهَّرُ مِنَ الذُّنُوبِ وَالْمُبَرَّأُ عَنِ الْعُيُوبِ.. مَعْدِنُ الْقُدْسِ وَالطَّهَارَةِ وَالنُّسُكِ وَالزَّهَادَةِ وَالْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ مَخصُوصٌ بِدَعْوَةِ الرَّسُولِ(صلی الله علیه و آله و سلم)وَنَسْلِ المُطَهَّرَةِ الْبَتُولِ ... فَهُوَ مَعْصُومٌ مُؤَيَّدٌ مُوَفَّقٌ مُسَدَّدٌ قَدْ أَمِنَ مِنَ الْخَطَايَا وَالزَّلَلِ وَالْعِثَارِ يَخصُّهُ الله بِذَلِكَ لِيَكُونَ حُجَّتَهُ عَلَى عِبَادِهِ وَشَاهِدَهُ عَلَى خَلْقِهِ»(2).

كما قال الإمام الرضا(علیه السّلام)للمأمون العباسى في بيان سبب اشتراط العصمة في الإمام: «لا يفرض الله تعالى بطاعة من يعلم أنه يضلهم ويغويهم»(3).

ومما ورد في الزيارة الجامعة: «عصمكم الله من الزلل»(4).

7 - الاعتقاد بالعصمة من قبل بعض أهل السنة: إن على المحقق المنصف أن يجعل من الأدلة العقلية والنقلية ملاكاً لتحديد بوصلته الاعتقادية ،والإيمانية، وأن يكون من أبناء الدليل.

وهناك من أهل السنة من سار على مقتضى هذا الأصل بعد دراسته للأدلة العقلية والنقلية الواردة في العصمة، فأذعن لها وقال بضرورة العصمة في الأئمة واعتبرها منسجمة مع الخاتمية.

ص: 172


1- معاني الأخبار، باب العصمة، ص 132 - 133، ح 2 و 3.
2- محمد بن يعقوب الكليني، أصول الكافي، ج 1، ص 200 ، و 202، و 203؛ عيون أخبار الرضا، ج 2، ص 197 و 199 بتلخيص.
3- عيون أخبار الرضا، ج 1، ص 125 ، الباب 35.
4- من لا يحضره الفقيه، ج 1 ، ص 609 .

ومن بين علماء أهل السنة يذهب ابن أبي الحديد المعتزلي إلى القول بعصمة الإمام علي(علیه السّلام)، كما نص على قول أبي محمد بن متويه بعصمة الإمام علی(علیه السّلام) أيضاً، حيث قال: «فإن قلت: هذا القول منه يشعر بأن العترة معصومة فما قول أصحابكم في ذلك؟ قلت: نص أبو محمد بن متويه - رحمه الله تعالى - في كتاب (الكفاية) على أن علياً(علیه السّلام)معصوم وإن لم يكن واجب العصمة ولا العصمة شرط في الإمامة، لكن أدلة النصوص قد دلت على عصمته»(1).

كما ذهب العارف الإسلامي الشهير محيي الدين ابن عربي إلى القول بعصمة النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)وأهل بيته(صلی الله علیه و آله و سلم)، إذ يقول: «قد طهر(صلی الله علیه و آله و سلم)وأهل بيته تطهيراً، وأذهب عنهم الرجس، وهو [أي الرجس] كل ما يشينهم»، والملفت أنه لم يكتف بوصفهم بأنهم مطهرون فقط، بل وصفهم بأنهم (عين الطهارة) إذ يقول: «فهم المطهرون، بل هم عين الطهارة»(2). كما تمسك بالحديث النبوي القائل: «سلمان منا أهل البيت»(3)، وألحقه في زمرة المعصومين أيضاً(4).

الشبهة الثالثة: القول بوجوب إطاعة الإمام يتنافى مع الخاتمية:

يذهب الشيعة في أدعيتهم وزياراتهم ورواياتهم إلى وجوب إطاعة الأئمة، وأن طاعتهم من طاعة الله، وإن معصيتهم معصية الله(5). وهذا الأصل

ص: 173


1- ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، ج 6 ، ص 276، الخطبة رقم: 86.
2- محیی الدين ابن عربي، الفتوحات المكية ، ج 1 ، ص 196 ، الباب 27.
3- سيرة ابن هشام، ج 1، ص 70 ؛ تاريخ الطبري، ج 2، ص 568 .
4- المصدر أعلاه.
5- انظر: أصول الكافي، ج 1، ص 185؛ الحجة، باب فرض طاعة الأئمة، والأبواب الأخری.

لا ينسجم مع أصل الخاتمية؛ لأن الخاتمية تعني انتهاء ظهور الحجة الإلهية، وأنه لا يكون هناك بعد ذلك من تجب إطاعته بشكل مطلق.

وقد ذهب الشاه ولي الله الدهلوي إلى القول بأنه رأى النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)في المنام فسأله عن مذهب التشيّع؛ فأجابه بأنه مذهب باطل، وأن بطلانه يتضح من لفظ الإمام! ... واستطرد الدهلوي قائلاً: فلما أفقت من نومي أخذت أتأمل فى لفظ الإمام فاتضح لي أن الإمام في مصطلح الشيعة معصوم ومفترض الطاعة ومنصوب للخلق، ويجوزون عليه الوحي الباطني، وبذلك يكونون في الحقيقة منكرين لخاتمية النبوة(1)... لأن القول بعصمتهم ووجوب إطاعتهم وامتلاكهم للروح الباطنية لا يختلف عن القول بالنبوة(2).

وقد عمد القاضي محمد ثناء الله :(م : 1225ه_) وهو تلميذ الدهلوي إلى تأييد كلام أستاذه في حاشيته على العبارة المتقدمة(3).

كما ذكر الدكتور سروش هذا الشبهة قائلاً: «كيف يمكن فهم الكلام القائل باعتبار الإمامة شرطاً في كمال الدين، واعتبار الأئمة متصلين بالوحي الباطني، والقول بعصمتهم، وافتراض طاعتهم - كما هو مذهب الشيعة - بحيث لا يتنافى مع الخاتمية، ولا يكون كلامهم في رتبة كلام النبي واتصافه بذات الحجية؟»(4). وسوف نذكر الإجابة عن هذه الشبهة على هامش الإجابة عن الشبهة القادمة (اعتبار الحجية الإلهية للأئمة).

ص: 174


1- الدهلوي، التفهيمات الإلهية، ج 2، ص 294 - 301.
2- المصدر أعلاه، ص 301.
3- انظر: المصدر أعلاه، ص 321.
4- جواب الدكتور سروش الأول عن الأستاذ بهمن بور، موقع الدكتور سروش.

الشبهة الرابعة: القول بالحجية الإلهية للأئمة ينافي الخاتمية:

هناك من يذهب إلى القول بأن الخاتمية تعني انتهاء الحجية والقداسة والأخذ بالأمور من دون المطالبة بدليل؛ لأن هذه الأمور من مختصات النبيالأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)، وبعد رحيله لا يكون هناك إنسان يمتلك هذه الخصائص التي من شأنها أن تجعل قوله وفعله حجة بالنسبة لنا، وأن يتمتع بشخصية حقوقية تصل إلى حدّ القداسة، وتلزمنا بالتعبد والالتزام بما يقوله من دون مطالبته بتقديم الدليل. ذلك لأن الحجية الذاتية للشخصيات الدينية إنما تكون حكراً على الأنبياء فقط، وفي الدين الإسلامي لا يتصف بها غير النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم). وعلى هذا الأساس فإن الموقع الخاص الذي يخلعه الشيعة على الأئمة، باعتبارهم من ذوي المقامات القدسية ووصفهم بأنهم حجج الله على الخلق، يتعارض مع القول بأصل الخاتمية. وقد جال الدكتور سروش في هذه الحلبة وصال مراراً وتكراراً، واعتبر وصف الأئمة بهذه الأوصاف نوعاً من «الغلو» فيهم، إذ يقول: «إن ما هو الذاتي في الإسلام هو شخصية النبي وتجربته الباطنية وأوامره ونواهيه الناشئة عن تلك التجارب، وإنها ستبلغ مرحلة النهاية والختام برحيل رسول الله، وإن كل ما يأتي بعد ذلك يجب تفسيره بشكل لا يتنافى مع هذا الأصل الأصيل والركن الركين. وكان هناك الكثير من الغلاة الذين منحوا أولياء الله مراتب إلهية، أو منحوهم مراتب لا تصلح لغير الأنبياء»(1).

وبطبيعة الحال كان هناك من الشيعة من سبق الدكتور سروش في طرح هذا الإشكال، حيث أشار أبو الفضل البرقعي قبل ثلاثة عقود إلى فقرة من

ص: 175


1- عبد الكريم سروش، بسط تجربه نبوی، ص 144.

دعاء العديلة تقول: «أقوالهم حجة»، فقال: «وهل جعل الحجية يكون من قبل كتاب الأدعية، أم يكون ذلك من قبل الله ؟ متى جعل الله أقوال الأئمة حجة حتى تبيحوا لأنفسكم نسبة كل خرافة إلى الأئمة وتمريرها تحت غطاء جعل الحجية لهم؟!»(1).

تقرير الشبهة:

اشارة

إن شبهة عدم انسجام القول بحجية الأئمة مع الخاتمية، يمكن تحليلها من خلال المسألتين الآتيتين:

أ - عدم الانسجام مع الشخصية الحقوقية للنبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم):

إن نبي الإسلام يتمتع من قبل الله بشخصية حقوقية، وإن من أهم عناصر تلك الشخصية هي «الولاية»، ومن لوازم الولاية حق تشريع الأحكام، وإصدار الأوامر، ووجوب الطاعة لأحكامه على الناس من دون المطالبة بدليل. وقد تحدث الدكتور سروش بهذا الشأن قائلاً: «إن هذا العنصر [العنصر المقوّم لشخصية النبي الحقوقية] هو عنصر الولاية، والولاية تعني أن تكون شخصية الشخص المتكلم هي التي تضفي الشرعية والحجية على كلامه وأوامره، وهذا هو الشيء الذي ختم بالخاتمية المطلقة. ونحن الآن لا نقبل كلام أي شخص إلا إذا كان مستنداً إلى دليل أو مدعوماً بقانون. إلا أن الأنبياء لم يكونوا كذلك؛ لأنهم كانوا هم دعائم أقوالهم وأوامرهم ... وقد كانت تجاربهم الدينية متعدية وليست لازمة، وكانت أحكامهم تسري على الآخرين، وتستتبع

ص: 176


1- أبو الفضل برقعي، تضاد با مفاتيح، ص 24 - 25 . ثم استند إلى ظاهر آية وفقرة من نهج البلاغة سنأتي على شرحها في الصفحات القادمة إن شاء الله.

تكليفاً وعملاً»(1).

وقد صرّح بأن الحجة الإلهية قد انتهت وختمت برحيل رسول الإسلام(صلی الله علیه و آله و سلم)، وهذا الأمر يشمل حتى أقوال الأئمة(علیهم السّلام)أيضاً؛ إذ يقول: «بعد نبي الإسلام(صلی الله علیه و آله و سلم)لن يظهر أي شخص تضمن شخصيته صحة كلامه وحسن سلوكه من الناحية الدينية، وأن يكون كلامه مستوجباً لحدوث التكليف الديني على الآخرين»(2).

سنأتي على نقد هذه الشبهة في معرض نقد الشبهة الآتية.

ب - عدم حجية روايات الأئمة(علیهم السّلام):

إن لازم حصر الشخصية الحقوقية والدينية بالنبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)هو نفي الحجية عمّن سواه بشكل مطلق، وخاصة عن الأئمة في دائرة الدين وتفسيره من خلال الروايات المأثورة عنهم ؛ وذلك لأن زعم صاحب النظرية المتقدمة يقوم على عدم انسجام القول بحجية كلام وتفسير الأئمة مع الخاتمية. يقول الدكتور سروش بهذا الشأن: «بعد نبي الإسلام(صلی الله علیه و آله و سلم)لن يظهر أي شخص تضمن شخصيته صحة كلامه وحسن سلوكه من الناحية الدينية، وأن يكون كلامه مستوجباً لحدوث التكليف الديني على الآخرين(3)... كما أن تفسير كلمات الله والنبي لا يمكن أن يكون شخصياً ومستنداً إلى الأشخاص، بل يجب أن يكون إجماعياً ومستنداً إلى الدليل»(4).

ص: 177


1- عبد الكريم سروش، بسط تجربه نبوی، ص 132 - 133.
2- المصدر أعلاه، ص 134.
3- المصدر أعلاه، ص 133.
4- المصدر أعلاه، ص 134.

بل إن الدكتور سروش يتعدى من خاتمية الحجة الإلهية إلى مقولة معرفة النص الديني وتفسيره، ويعتبر لازم الخاتمية ختم حجية تفسير النصوص الدينية، وبعبارة أخرى: عدم قطعية تفسير المعرفة الدينية، ويقول في ذلك:

«لا يمكن تفسير أي كلام أو نص ديني بحيث يعطي لأحد حق الولاية بهذا المعنى؛ لأن ذلك يمثل عين التناقض؛ إذ يعني يعني أن خاتم الأنبياء يمنح شخصاً أو جماعة حقوقاً تؤدي إلى نقض خاتميته»(1).

«إن مضمون وفحوى الخاتمية أن لا نعتبر أي فهم للدين على أنه هو الفهم الخاتم، وبذلك سوف نفتح أمام هذا المحيط محيطات أخرى، وأن نوسع المجال لبسط التجربة النبوية»(2).

«نعم جاء خاتم النبيين، ولكن لم يأت خاتم الشارحين. وإن كلام أي شخص في مقام الشرح والتفسير، لا يبلغ مرتبة الوحي. من هنا نقول: على الرغم من وجود دين خاتم، إلا أنه لا يوجد لدينا فهم خاتم. وعلى الرغم من وجود الدين الكامل (الذي هو ادعاء من داخل الدائرة الدينية، ويتم التصديق به تبعاً لتصديق النبي)، إلا أنه لا توجد معرفة دينية كاملة»(3).

يصرح الدكتور سروش بأننا لا نبحث عن الدليل في خصوص الكلام النبوي، وأما في غير الكلام النبوي فلابد من أن يقوم الكلام على دليل حتى إذا كان المتكلم هو الإمام علي بن أبي طالب(علیه السّلام). وإلا فإن مجرد شخصية المتكلم لا تمثل حجة له، وفي ذلك يقول: «إذا كان هناك من دليل مقنع على

ص: 178


1- عبد الكريم سروش، بسط تجربه نبوی، ص 135.
2- المصدر أعلاه، ص 159.
3- المصدر أعلاه، ص 148.

المدعى، أخذنا به، وإذا لم يكن هناك من دليل، فلن يكون هناك فرق بين أن يكون المدعي هو علي(علیه السّلام)أو غيره؛ ومن الآن فصاعداً يكون الدليل هو المتبع وليس قول المتكلم مهما اجترح من الكرامات»(1).

وقد صرح الدكتور سروش في آخر موقف له بعدم الانسجام بين القول بحجية قول الأئمة والقول بخاتمية رسول الله(2).

نقد ورأي:

اشارة

في معرض تحليل هذا الادعاء ونقده تجدر ملاحظة الأمور الآتية :

أ - مجرد دعوى من دون دليل:

تقدم أن ذكرنا في معرض الإجابة عن شبهة عدم انسجام العصمة مع أصل الخاتمية، أن العصمة وافتراض الطاعة والحجة لم تكن في بحثنا من الشروط اللازمة للنبوة، وليست من الأوصاف الحصرية لها، وعليه فإن توسيع رقعة هذه الصفات وتعميمها لا ينافي أصل النبوة والخاتمية. وبعبارة أخرى: إن

على من يدعي وجود التنافي أن يثبت هذا الادعاء، فى حين انه قد اكتفى بمجرد الادعاء ولم يدعمه بالدليل. هذا وإننا سوف نثبت ضمن المسائل الآتية عكس هذا الادعاء.

ب - الحجة وافتراض الطاعة من لوازم العصمة:

سبق أن أثبتنا عصمة الأئمة(علیهم السّلام)بالأدلة العقلية والنقلية، وفيما يأتي

ص: 179


1- المصدر أعلاه، ص 135
2- الدكتور سروش في جوابه الأول عن الأستاذ بهمن بور، انظر: موقع الدكتور عبد الكريم سروش ، عام 1384 للهجرة الشمسية .

نشير إلى هذه النقطة وهي: مع وجود الإمام المعصوم في المجتمع وتأييده من قبل القرآن والنبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)والأوامر المتكررة بوجوب اتباعه وإطاعته - على ما تقدم ذكره - ألا يدل ذلك على وجوب اتباع الإمام وإطاعة أوامره ونواهيه؟ أليس من لوازم العصمة أن يكون كلام المعصوم واجب الاتباع بوصفه حجة على الآخرين ومعياراً ينضمون سلوكهم على أساسه؟

لو تم التشكيك في أصل عصمة الأئمة وتمّ إنكارها، لكان هناك مجال لطرح هذه الشبهة (إنكار لزوم إطاعة وحجية أقوال المعصومين)، وأما مع افتراض العصمة، فإن هذه الشبهة تكون غير وجيهة وباطلة من الأساس؛ لأنها تعني عدم الالتفات إلى مفهوم ولوازم العصمة.

ج - أمر القرآن بالإطاعة وجعل الحجية:

إن القرآن الكريم يصنف إطاعة «أولى الأمر» ضمن إطاعة رسول الله، إذ يقول تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ﴾(1).

حيث نجد في هذه الآية أن الله سبحانه وتعالى يأمر الناس بصيغة أمر واحدة «أطيعوا» بإطاعة النبي وأولي الأمر واتباعهم، مما يدل في حقيقة الأمر على أن إطاعة أولي الأمر هي إطاعة للنبي. وعليه فإن ما ورد في منطوق الشبهة من اختصاص وجوب الطاعة بالنبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)،يخالف صريح هذه الآية الشريفة. وبطبيعة الحال هناك خلاف بشأن تفسير «أولي الأمر» وهل المراد منهم خصوص الأئمة المعصومين(علیهم السّلام)، أم يشمل غيرهم أيضاً؟

ص: 180


1- النساء : 59.

يتفق الشيعة والسنة على شمول هذا المصطلح للقائد الذي تتوفر فيه الشرائط الدينية، ومما قيل في تعريف الإمامة: «الإمامة هي خلافة الرسول في إقامة الدين بحيث يجب اتباعه على كافة الأمة»(1)، والمصداق الأبرز لذلك هم الأئمة الأطهار(علیهم السّلام)، على ما ورد في حقهم من الروايات التي تؤكد هذا الأمر في كتب الفريقين(2). بيد أن أهل السنة يعممونه إلى كل حاكم وقائد حتى وإن كان من أهل الفسق والفجور(3).

من هنا يتضح أن «افتراض الطاعة لا يختص بالشيعة فقط، ولا يعارض أصل الخاتمية. وذلك لأن الخاتمية - كما تقدم أن ذكرنا مراراً وبإشكال متنوعة - تخص دائرة النبوة ونزول الوحي والشريعة الجديدة، ولا تتنافى مع وجود المعصومين الذين يخدمون هذه الشريعة الجديدة، من خلال افتراض طاعتهم وحجيتهم الإلهية.

د - جعل الحجية من قبل النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم):

يسعى صاحب الادعاء المتقدم - من خلال التشبث بمفهوم الخاتمية - إلى إثبات أن آخر الحجج الإلهية هو النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)، وبذلك ينزل بشأن الأئمة الأطهار(علیهم السّلام)ومرتبتهم إلى مستوى غيرهم من الناس. ولكن لو أن هذا الملام المنتقد المحترم كان صادقاً مع نفسه في هذه الرؤية، وكان حقاً ملتزماً بأن النبي

ص: 181


1- شرح المواقف، ج 8، ص 345؛ وانظر أيضاً: سيف الدين الآمدي، أبكار الأفكار في أصول الدين، ج 3، ص 416 .
2- انظر: شواهد التنزيل، ج 1، ص 191؛ وتفاسير أهل السنة والشيعة، في تفسير هذه الآية.
3- انظر: التفتازاني، شرح المقاصد، ج 3، ص 469.

الأكرم هو من يتمتع - في الحد الأدنى - بشخصية حقوقية تجعل كلامه حجة على الآخرين وعليهم الالتزام بمضامين كلام النبي من دون مطالبته بالدليل (كما أقرّ في منطوق إشكاله، لكان عليه أن يلتزم بالروايات الثابتة عن النبي بالتواتر ، والتى أثبت فيها للإمام على(علیه السّلام)صفة العصمة والحجية، وهكذا الأمر بالنسبة إلى سائر الأئمة الأطهار(علیهم السّلام).

وبأدنى نظرة نلقيها على الروايات المأثورة عن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)بالتواتر في حق الإمام علي(علیه السّلام)، ندرك أن للإمام علي بدوره شخصية حقوقية فى الإسلام ترفعه إلى الولاية والحجية - دون النبوة - كما سبقت الإشارة إلى ذلك في معرض شرح حديث المنزلة. فقد أثبت النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)من خلال حديث المنزلة وغيره من الروايات الأخرى، وهكذا الآيات العديدة مقام الإمامة - بمعنى المرجعية العلمية والدينية وخلافة النبي في الشؤون الدينية - لعلي(علیه السّلام)، ولازم ذلك حجية أقواله وأفعاله على المسلمين، واعتبار رواياته و تفسيره في المعرفة الدينية. هناك الكثير من الآيات والروايات المأثورة عن النبي في كتب الفريقين، وفيما يلي نشير إلى بعضها:

د 1 - علي(علیه السّلام)حجة الله : لقد صرّح النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)في كثير من المواضع بمقام الإمام علي(علیه السّلام)ومنزلته بوصفه حجة الله، ومن ذلك قوله لأحد أصحابه مشيراً إلى الإمام على: «يا أنس، أنا وهذا حجّة الله على خلقه»(1).

والذي يدعو إلى التدبر والتأمل في هذا الحديث وصف النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)لعلي(علیه السّلام)بالحجة الإلهية كما يتصف هو بها، وكأن النبي يفسر حجيته وحجية

ص: 182


1- تاريخ مدينة دمشق، ج 42 ، ص 304.

الإمام على في سياق واحد.

كما رويت عن الإمام علي(علیه السّلام)روايات تؤكد على استمرار الحجة الإلهية بعد الخاتمية، وسوف نأتي على ذكرها في معرض نقد الدليل النقلي لهذه الشبهة.

روي عن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)أنه قال أيضاً: «إن الله جعل علياً وزوجته وأبناءه، حجج الله على خلقه...»(1).

د 2 - على واجب الإطاعة: إن الآية الآتية تأمر المؤمنين بإطاعة الله ورسوله وأولي الأمر، إذ يقول تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ﴾(2).

وقد فسّر النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)في الكثير من الروايات أولي الأمر - الذين تُعدُّ طاعتهم طاعة لرسول الله - بالإمام علي(علیه السّلام)(3).

وقد أمر النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)في روايات أخرى بتصديق الإمام علي(علیه السّلام)

وإطاعته، ومن ذلك قوله:

- «إن إمامكم على بن أبي طالب(علیه السّلام)فناصحوه وصدقوه»(4).

- «إن هذا أخي ووصيي وخليفتي ؛ فاسمعوا له، وأطيعوا له»(5).

ص: 183


1- شواهد التنزيل، ج 1، ص 76.
2- النساء : 59 .
3- موسوعة الإمام علي(علیه السّلام)، ج 2، ص 129 و 169 .
4- ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، ج 3، ص 98؛ شواهد التنزيل، ج 2، ص 225 .
5- ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة ، ج 13، ص 244؛ شواهد التنزيل، ج 2، ص 145؛ تاریخ دمشق، ج 42 ، ص 48 .

د 3 - علي(علیه السّلام)ولي الله : والآية الآتية تعرف ولي المؤمنين بأنه هو الله والنبي والذين يقيمون الصلاة ويتصدقون أثناء الركوع، إذ يقول تعالى: ﴿ وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ﴾(1).

وقد فسرها النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)في كثير من الروايات المأثورة عنه بالإمام علي بن أبي طالب(علیه السّلام)(2).

د 4 - علي(علیه السّلام)مع الحق والقرآن: وفي بعض الروايات النبوية نجد هناك مقارنة بين الحق والقرآن من جهة والإمام علي عالم(علیه السّلام)من جهة أخرى، وتخرج بأن بين الإمام علي والقرآن والحق ملازمة ثابتة وغير قابلة للفصل والانفكاك ، ومن ذلك قوله(صلی الله علیه و آله و سلم).

- «علي مع الحق والحق مع علي، ولن يفترقا حتى يردا على الحوض یوم القیامة»(3).

- علي مع الحق والقرآن، والحق والقرآن مع علي، ولن يفترقا حتى يردا على الحوض»(4).

د 5 - علي(علیه السّلام)مدار الهداية والنجاة: وقد تم وصف الإمام علي(علیه السّلام)وسائر أهل البيت(علیهم السّلام)في الروايات النبوية بأنهم «سفينة نوح»، و«لواء الهداية»، ومن ذلك قوله(صلی الله علیه و آله و سلم).

ص: 184


1- المائدة: 55 .
2- انظر: موسوعة الإمام علي، ج 2، ص 197.
3- تاريخ مدينة دمشق، ج 3، ص 118.
4- موسوعة الإمام علي، ج 2، ص 235

- «إن مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق»(1).

- «إن الله عهد إلي في الإمام علي ... أن علياً راية الهدى، ومنار الإيمان، وإمام أوليائي»(2).

- «إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض»(3).

د 6 - علي عال(علیه السّلام)مرجع حل الاختلافات كما وصف النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)الإمام علي(علیه السّلام)بأنه مرجع حل وفصل الاختلافات التي تظهر بين أمته، إذ قال له: «أنت تبيّن لأمتى ما اختلفوا فيه من بعدي»(4).

وقد عمد النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)في روايات أخرى إلى مزيد من الشرح والبيان بشأن المرجعية العلمية والدينية للإمام على(علیه السّلام)، معتبراً منزلته فى هذا المقام كمنزلته، إذ يقول:

- «يا علي أنت الذي تبيّن لأمتي ما يختلفون بعدي وتقوم فيهم مقامي، قولك قولي وأمرك أمري»(5).

ص: 185


1- محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 23، ص 105 ؛ الطبراني، المعجم الأوسط، ج 5 ، ص 355؛ المقريزي الإمتاع والمؤانسة، ج 11، ص 178.
2- موسوعة الإمام علي، ج 2، ص 186.
3- المصدر أعلاه، ص 56 .
4- تاريخ مدينة دمشق، ج 42 ص 387؛ شواهد التنزيل، ج 1، ص 382؛ موسوعة الإمام علي، ج 2، ص 245 .
5- موسوعة الإمام علي، ج 2، ص 246.

- «علي باب علمي ومبين لأمتي ما أرسلت به من بعدي»(1).

وكيفية الاستدلال بهذه الروايات على حجية الإمام(علیه السّلام)واضحة بمعنى أن وصف النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)له بأنه «ولي الله» و«واجب الإطاعة» و«كونه مع الحق والقرآن وأنهما معه» و «أنه لواء الهداية» و«سفينة نوح» و«المرجع والمفسّر للدين» وأنه متصل بعالم الغيب» و «حجة الله»، لا يمكن إلا أن يكون نصاً في جعل الحجية له، وإلا كانت كل هذه الروايات لغواً وعبثاً والعياذ بالله.

حصيلة الكلام أنه بالالتفات إلى ما تقدّم ذكره من الروايات - والتي لا تشكل إلا %1 من مجموع الروايات الواردة بشأن الأئمة وعلى رأسهم الإمام علي(علیه السّلام) - يجب القول إن إنكار الشخصية الحقوقية للإمام علي(علیه السّلام)، والهبوط بها إلى مستوى الإنسان العادي، وإنكار حجية كلامه وحديثه في تفسير الدين - إذا أحسنا الظن - يعبر عن عدم ملاحظة هذه الروايات. ولذلك أطلب من الناقدين للإمامة ناصحاً ومشفقاً أن تكون لهم مراجعة لهذه الروايات، لتتضح لهم الحقيقة لاحبة مثل الشمس في رابعة النهار.

وأما إذا كان الناقد ينكر كون الإمام(علیه السّلام)حجة رغم علمه بهذه الروايات المتواترة عن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)، فيجب القول حينها: إن إنكار ذلك يعني إنكار حجية الشخصية الحقوقية للنبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)رأساً؛ إذ إن جاعل الحجية للإمام علي(علیه السّلام)طبقا للروايات الكثيرة والمتواترة - التي نقلت أكثرها في مصادر الفريقين - هو الله وشخص رسول الله ، وإن على الذي يعتبر الحجية الذاتية لكلام رسول الله أن يلتزم بلوازم ذلك أيضاً، إلا إذا صح من المسلم أن

ص: 186


1- المصدر أعلاه، ص 247 .

ينكر اعتبار النبي حجة من قبل الله على العباد، وعندها يصعب إطلاق صفة المسلم عليه، بل يستحيل ذلك.

ه_ - حجية الإمام علي(علیه السّلام)في طول حجية النبي وحجية الله :

من الجدير ذكره أن الشيعة يعتبرون حجية وإطاعة الإمام(علیه السّلام) طول حجية الله ورسوله، وإن الشيعة يقرون بإرجاع حجية قول الإمام(علیه السّلام)إلى الله والنبي، ولكن حيث لا حجة إلهية بعد رحيل النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)من جنس النبوة، فإنه ستحل محلها حجية إلهية أخرى من جنس الإمامة والولاية. وطبقاً للروايات المأثورة عن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)فإن الإمام(علیه السّلام) سيخلف النبي في جميع شؤون النبوة من قبيل المرجعية وتفسير الدين، ولزوم إطاعته، وإن كلامه سيكون ملاكاً وحجة على الآخرين مثل كلام رسول الله. وكون حجية الإمام مأخوذة ومتفرعة عن حجية الرسول، لا يعني سلب وعدم اعتبار حجية كلام الإمام(علیه السّلام)، كما توهم الناقد المحترم.

قال العلامة محمد حسين الطباطبائي بعد تمسكه بالروايات الكثيرة المأثورة عن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)،من قبيل: حديث الغدير والسفينة والثقلين والمنزلة والإنذار .

«تواتر عن النبي أن كلام أهل بيته مثل كلامه، وطبقاً لهذا الحديث وغيره من الأحاديث النبوية القطعية الأخرى يكون كلام أهل البيت تالي تلو كلام رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)، وقد كان لأهل البيت فى الإسلام صفة المرجعية العلمية، وعليه لا يصح عليهم الخطأ في بيان المعارف والأحكام الإسلامية، وبذلك يكون كلامهم الصادر عنهم مباشرة أو بنقل الناقل الموثوق حجة»(1).

ص: 187


1- العلامة محمد حسين الطباطبائي، شیعه در اسلام، ص 78 و 177.

وسيأتي في بحث تشريع الأئمة أن روايات الأئمة إنما تكتسب الحجية الذاتية بسبب مقام العصمة، وكذلك ارتباطهم بعالم الغيب عن طريق الإلهام والعلم اللدني. وهذا كاف في العمل بالروايات المأثورة عنهم.

البرقعي وتمسكه بالأدلة النقلية في تقرير الشبهة:

اشارة

لقد عثرت أثناء بحثي في مؤلفات أصحاب شبهة تعارض حجية الأئمة مع أصل الخاتمية، على دليلين من القرآن والسنة، وفيما يأتي نستعرض هذين الدليلين على النحو الآتي:

أ - دلالة القرآن على خاتمية الحجة الإلهية؟!

لقد زعم أحد أصحاب هذه الشبهة أنه عثر بعد جهد جهيد على آية تدل بزعمه على نفي وجود حجة بعد الأنبياء، وهى قوله تعالى: ﴿ رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لأَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾(1).

وقد فسر صاحب الشبهة هذه الآية قائلاً: «إن الله لم ينصب أحداً بعدالرسل حجة على الناس ... وعليه لا وجود في الإسلام بحكم هذه الآية لحجة بعد الأنبياء، ولا يوحى لأحد بعد الرسل، في حين يذهب الإمامية إلى اعتباركل إمام حجة، والقول بحجية كل معمم وكلام كل قطب وإمام»(2).

نقد ورأي:

يتضح ضعف هذا الدليل مما تقدم، ولكننا مع ذلك نجد ضرورة لذكر

ص: 188


1- النساء: 165 .
2- أبو الفضل البرقعي، تضاد مفاتیح با قرآن، ص 15 - 196 و 25.

بعض الأمور على النحو الآتي:

1 - إن هذه الآية الشريفة في مقام بيان فلسفة بعث الأنبياء وتبيينه، بمعنى أن بعضهم قد تصور أنه مع وجود د العقل البشري، لا تكون هناك حاجة إلى النبوة، أو أنه كان من الممكن أن يعلل بعض الناس عدم إيمانهم بالله والآخرة في يوم القيامة بعدم إتمام الحجة الإلهية عليهم، من هنا جاءت الآية الشريفة لتؤكد ضرورة بعث الأنبياء فى هذا السياق، حيث تقول إن الله قد بعث على طول التاريخ أنبياء بالبشارة والإنذار كي لا يبقى أي عذر لصالح الناس على الله سبحانه وتعالى، وإن المراد من عبارة «بعد الرسل» أي بعد إرسال الرسل لا تكون هناك حجة وذريعة لصالح الملحدين، ولا تعني عدم وجود من يتصف بالحجة بعد الرسل(1). وهكذا يدرك القارئ الكريم أن الآية ليست في مقام بحث خاتمية الأنبياء والحجج الإلهية كي يتم توظيفها في القول بانتهاء مرحلة تحقق الحجة الإلهية.

2 - يتضح من المسألة السابقة أن المراد من الحجة في الآية الشريفة يعني الدليل والمستمسك الذي يمكن للملحدين أن يتمسكوا به للاحتجاج على الله، وليس له علاقة بالأنبياء والأئمة لا من قريب ولا من بعيد.

3 - إن أقصى ما تدل عليه هذه الآية هو خاتمية ونهاية مجيء الرسل، وهذا أمر متفق عليه من قبل الجميع.

ب - كلام الإمام علي(علیه السّلام)في خاتمية الحجة الإلهية؟!

أما الدليل الثاني الذي يستند إليه صاحب الشبهة فيتلخص في فقرة من

ص: 189


1- انظر: العلامة محمد حسين الطباطبائي، تفسير الميزان، ج 5 ، ص 143 .

فقرات نهج البلاغة، حيث يروى عن الإمام على(علیه السّلام)قوله: «تمت بنبينا محمد حجته»(1).

وقد فسّر صاحب هذه الشبهة الحجّة هنا أيضاً بالقول: «إن حجة الله قد ختمت بمجيء النبي محمد، وبعده لا يكون هناك من يتصف بأنه حجة على العباد»(2).

نقد ورأي:

وفي نقد هذا الدليل نشير إلى المسائل الآتية :

1 - إنّ أصحاب هذا النوع من الشبهات يدفعون الروايات المأثورة من قبل المحدثين عن الأئمة الأطهار تحت كل ذريعة وينكرونها من خلال القول

بأنها من وضع واختلاق المحدثين أنفسهم، أو القول بأن فضائل الأئمة ومناقبهم يجب عدم إثباتها برواية الأئمة أنفسهم. ويبدو أن صاحب الشبهة هنا إذ حسب هذه الرواية المروية عن الإمام علي(علیه السّلام)لصالحه نسي مبناه. في حين أن البحث الأخلاقي والمنطقي يقتضي من الإنسان والباحث أن يلتزم بما ألزم به نفسه دائماً وعلى كل حال.

2 - إن ظاهر خطبة الإمام علي(علیه السّلام)لا يدل على مدعى صاحب شبهة عدم انسجام حجية الإمام مع أصل الخاتمية؛ ذلك لأنه عمد إلى فصل الفقرة التى استشهد بها لمدّعاه عن سياقها، وبذلك أراد الوصول إلى غايته من

ص: 190


1- فيض الإسلام، نهج البلاغة، الخطبة رقم: 90 ، ص 262 .
2- أبو الفضل البرقعي، تضاد مفاتیح با قرآن، ص 15 - 25 و 196.

خلال تقطيع النص. وأما النص الكامل في خطبة الإمام علي(علیه السّلام)فهو كالآتي:

«بل تعاهدهم بالحجج على ألسن الخيرة من أنبيائه ومتحمّلي ودائع رسالته قرناً فقرناً حتى تمت بنبينا محمد حجته وبلغ المقطع عذره ونذره».

وكما يلحظ القارئ الكريم فإن الإمام(علیه السّلام)في هذا الكلام بصدد التأكيد على بعث الأنبياء في كل فترة زمنية، حيث يرسل الله الرسل لهداية البشر، إلا أن هذه العملية لا تستمر ولابد لها من نقطة تقف عندها، وهي التي يصطلح عليها بنقطة الخاتمية، التي بلغت غايتها وخاتميتها بظهور أكمل الأنبياء محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)، وبعده لن نشهد ظهور نبي جديد. وعليه فإن مراد الحجة في قول الإمام علي(علیه السّلام)«تمت حجته» هو الحجة السماوية الذي تدل عليه الفقرة السابقة (الناظرة إلى بعث الأنبياء في كل فترة زمنية) والفقرة اللاحقة (الانتهاء وقطع العذر)، وعليه فإن المراد من الحجة هو الدليل والمستمسك الذي من أجله أتم الله حجته واحتجاجه على الناس، وهي الحجة التي تحققت في إطار ظهور النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)؛لأن ذيل الرواية يدل على انقطاع عذر الناس وحجتهم بظهور النبي الأكرم. وقد فسّر ابن أبي الحديد هذا المقطع من كلام أمير المؤمنين بهذا المعنى، وهو (ختم النبوة دون الحجة)؛ فقال: «أي لم يبلغ بعده رسول ينتظر»(1).

ولا يفهم من كلام أمير المؤمنين المتقدم أنه لن يأتي بعد رحيل رسول الله إمام ديني منتجب من قبل الله في غير مقام النبوة والشريعة. وغاية ما يمكن قوله إن هذه الفقرة مجملة ومتشابهة، والحكم في مثلها هو الرجوع إلى

ص: 191


1- شرح نهج البلاغة، ج 7، ص 6 .

النصوص الأخرى المأثورة عنه(علیه السّلام).

3 - والدليل الآخر على أن المراد من إتمام الحجة هو إتمام النبوة وليس الحجة الإلهية، هي الأدلة النقلية المأثورة عن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)وعن الإمام علي(علیه السّلام)نفسه والتي تدل على استمرار الحجة الإلهية. ومن ذلك ما تقدم من وصف النبي لنفسه وللإمام على(علیه السّلام)بالحجة؛ إذ يقول: «يا أنس، أنا وهذا حجة الله على خلقه»(1).

هذا وقد وصف الإمام على(علیه السّلام)نفسه بأنه حجة الله؛ إذ يقول: «ألا وإني عليكم من الله الحجّة البالغة؛ فلا تتولّوا قوماً غضب الله عليهم»(2).

وقد صرّح الإمام علي(علیه السّلام)في موضع آخر بعدم خلو الأرض من حجة إلهية أبداً. ويؤكد بأن هذه الحجة إما أن تكون ظاهرة (كما كان بالنسبة إلى الأئمة المعصومين الأحد عشر(علیه السّلام))، أو غائباً (مثل الإمام الحجة المنتظر(علیه السّلام))

«اللهم بلى، لا تخلو الأرض من قائم بحجة، إما ظاهراً مشهوراً، وإما خائفاً مغموراً؛ لئلا تبطل حجج الله»(3).

كما أكد الإمام علي(علیه السّلام)في الخطبة الأولى من خطب نهج البلاغة على عدم خلوّ الخلق من نبي وحجة، إذ يقول: «ولم يُخل الله سبحانه خلقه من نبي مرسل أو كتاب منزل، أو حجّة لازمة أو محجّة قائمة»(4).

ص: 192


1- تاريخ مدينة دمشق، ج 2، ص 272.
2- التوحيد، ص 93 ؛ تفسير كنز الدقائق وبحر الغرائب، ج 14 ، ص 513 .
3- نهج البلاغة، الحكمة رقم: 139، ص 1158.
4- المصدر أعلاه، الخطبة الأولى، ص 37.

وقد جعل الإمام علي(علیه السّلام)الحجة في هذه الخطبة رديفاً للنبي المرسل وفي عرضه ؛ وهو أمر يفهم منه أنهما متغايران ومختلفان.

واضح أنه لو كان أصل الخاتمية يدل على خاتمية الحجة الإلهية بشكل مطلق، لما أكد النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)نفسه، وكذلك الإمام علي(علیه السّلام)على استمرارها؛ إذ أنهما هما المفسران الحقيقيان للدين، وهما اللذان يعلمان المراد من القرآن بما في ذلك هذه الآية التي استند إليها صاحب الشبهة في إثبات شبهته.

ج - حصر الحجة بالنبي والعقل:

كما تمسك صاحب الشبهة برواية أخرى عن الإمام الصادق(علیه السّلام)تحصر الحجة في حجتين لا ثالث لهما، وهما: «النبي» و«العقل»(1)، إذ يقول الإمام:

«حجة الله على العباد النبي، والحجة فيما بين العباد وبين الله عز وجل العقل»(2)

ويبدو من ظاهر الرواية حصر الحجّة بالنبي والعقل، ولو كان الإمام حجة أيضاً؛ لذكرته الرواية أيضاً.

دراسة وتحليل:

1 - إن هذه الرواية في مقام بيان حجة الله على الإنسان، وإنّها على نوعين: حجة خارجية وسماوية تتمثل ب_(الأنبياء)، وحجة داخلية تتمثل ب_ (العقل). وبذلك فإن الحديث يشير بشكل عام إلى حجتين مستقلتين عن

ص: 193


1- انظر: أبو الفضل برقعي، تضاد مفاتيح الجنان با قرآن، ص 196.
2- محمد بن يعقوب الكليني، أصول الكافي، ج 1، كتاب العقل والجهل ، ح 22 ، ص 25 .

بعضهما، وهما: (النبي والعقل). وأما ما هي حدود الحجة بعد النبي؟ فإن الحديث ليس في وارد بيانها. بعبارة أخرى: حيث أن حجية الإمام متفرعة عن حجيّة جمیع النبي وفي طولها، لم يشر الحديث إلى الأفراد والمصاديق الطولية لحجية النبي.

2 - بغض النظر عن الفقرة السابقة، يجب القول: إن الحصر المذكور في الرواية ليس حصراً حقيقياً وإنما هو من قبيل الحصر الإضافي والاعتباري، بمعنى أن الإمام الصادق(علیه السّلام)في هذه الرواية لم يكن بصدد بيان أقسام الموضوع، وإنما هو بصدد الاهتمام ببيان مصاديقه البارزة. إذ هناك روايات أخرى تشير إلى مصاديق أخرى بوصفها حجة الله أيضاً، من قبيل القرآن الكريم، وهو ما ذكره صاحب الشبهة، أو وصف الأئمة بأنهم حجج الله على ما تقدّم تفصيله. فإذا تم حمل الحصر في هذه الرواية على الحصر الحقيقي لزم من ذلك تكذيب الروايات الأخرى، في حين يمكن حمل لسان هذه الرواية على

الحصر الإضافي.

3 - وأخيراً إذا كان من منهج صاحب الشبهة أن يستدل بروايات الأئمة الأطهار(علیهم السّلام)، وجب عليه عدم الاجتزاء بمورد خاص فقط، بل عليه الاستدلال بجميع الروايات المأثورة عنهم فيما يتعلق بالحجية، وأن يقارن بعضها ببعض للخروج بنتيجة صحيحة ونظرية جامعة مستفادة من مجموع الروايات، لا أن يأخذ منها ما وافق مدعاه بحسب الظاهر، ويذر ما لا يأتى على وفق مشربه(1).

ص: 194


1- انظر: محمد بن يعقوب الكليني، أصول الكافي، ج 1، كتاب الحجة.

الشبهة الخامسة: عدم انسجام الإلهام والولاية الباطنية للإمام مع الخاتمية:

اشارة

يذهب الشيعة إلى الاعتقاد بأن السيدة فاطمة الزهراء(سلام الله علیها)والأئمة الإثنى عشر(سلام الله علیها)يتصلون بعالم الغيب والملائكة، وأن الملائكة كانت تتنزل عليهم. وإثبات هذا الأمر للأئمة الأطهار - الوارد في الروايات بعبارات من قبيل: «محدثون» و «مفهمون» و «ملهمون»(1)- لا ينسجم مع أصل خاتمية النبوة.

وقد تقدم أن ذكرنا عبارة الشاه ولي الدهلوي في هذا الشأن حيث یقول:

«فاتضح لي أن الإمام في مصطلح الشيعة معصوم ومفترض الطاعة ومنصوب للخلق، ويجوزون عليه الوحي الباطني، وبذلك يكونون في الحقيقة منكرين لخاتمية النبوة(2)...لأن القول بعصمتهم ووجوب إطاعتهم وامتلاكهم للروح الباطنية لا يختلف عن القول بالنبوة»(3).

كما أشار مؤلف آخر إلى نزول جبرائيل(سلام الله علیها)على السيدة فاطمة الزهراء(سلام الله علیها)أثناء الصلاة، وعَدَّ ذلك منافياً للنبوة والخاتمية، وقال:

«وهل ينزل جبرائيل بالوحي على غير النبي؟»(4).

ص: 195


1- انظر: محمد بن يعقوب الكليني، أصول الكافي، ج 1، كتاب الحجة، باب أن الأئمة محدّثون، ص 264 و 270 و 273؛ وانظر أيضاً: العلامة محمد باقر المجلسي، بحار 270 الأنوار، ج 26، ص 66، الباب الثاني، إنهم محدّثون ... .
2- الدهلوي، التفهيمات الإلهية، ج 2، ص 294 - 301.
3- المصدر أعلاه، ص 301.
4- أبو الفضل برقعي، تضاد مفاتیح الجنان با قرآن، ص 12.

وقال الدكتور سروش:

«كيف يمكن فهم الكلام القائل باعتبار الإمامة شرطا في كمال الدين، واعتبار الأئمة متصلين بالوحي الباطني والقول بعصمتهم، وافتراض طاعتهم - كما هو مذهب الشيعة - بحيث لا يتنافى مع الخاتمية؟»(1).

نقد ورأي:

فيما يتعلق بنقد هذه الشبهة يجدر الالتفات إلى الأمور الآتية:

أ - تحقق الإلهام والاتصال الغيبي لغير الأنبياء:

إن النقطة الأولى التى تستحق الذكر هنا هى أن أصحاب هذه الشبهة لم يلتفتوا إلى العناصر الأساسية للنبوة، وقد تقدم أن النبوة تعني الاتصال بعالم الغيب وبملك الوحي بالتحديد والحصول على الوحي والشريعة، أو في الحد الأدنى دعوى رؤية ملك الوحي في إبلاغ الرسالة الإلهية القائم على تبليغ وحماية الشريعة السابقة والذي يتحقق بالنسبة إلى الأنبياء الرساليين.

إلا أن مجرد الارتباط بعالم الغيب وملائكة الله ومن بينهم جبرائيل لغير الحصول على الوحي والشريعة الجديدة، بل من باب الحصول على العلم الإلهامي أو مجرد التكليم ونزول الفضل والنعمة الإلهية مما لا يعد مصداقاً للنبوة،

ص: 196


1- جواب الدكتور سروش الأول عن الأستاذ بهمن بور، موقع الدكتور سروش، بتاريخ: الأول من شهريور، عام 1384 ه_ ش، موقع بازتاب وسروش، وانظر أيضاً: كلمة الدكتور سروش في جامعة السوربون الفرنسية، موقع سروش، تحت عنوان: «تشیع و چالش مردم سالاری»بتاریخ: 3 / 5 / 1384 ه_ ش . واعتبر في هذه الكلمة وصف الأئمة بالمحدثين والمفهمين منافياً للخاتمية.

وإن أصل الخاتمية لا يتنافى ذلك. والدليل على ذلك آيات من القرآن الكريم مع تعمم الاتصال الغيبي على غير الأنبياء، وتتحدث عن وقوع ذلك، وفيما يأتي نشير إلى أمثلة ذلك:

أ / 1 - الوحي لأم موسى(علیه السّلام): لقد تحدّث القرآن عن أم النبي موسى(علیه السّلام)وأنها بعد ولادته خافت عليه من القتل على يد جلاوزة الطاغية فرعون، فأوحى الله لها (ولا بد من التدقيق هنا إلى أن القرآن قد استعمل مفردة الوحي، وقد حملها المفسرون على الإلهام) بأن ترضعه وان تلقيه في النيل، إذ يقول تعالى:

- ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ ﴾(1).

- ﴿ إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى ﴾(2).

وبذلك يتضح هنا حصول أم موسى على نوع من الوحي والاتصال الغیبی، وأنها قد امتثلت لنداء هذا الوحي وألقت وليدها في النيل، وعليه يثبت أن الوحى والإلهام لا يختص بالأنبياء.

أ / 2 - لقمان الحكيم(علیه السّلام): إن من بين الأشخاص الذين حصلوا على شرف العناية الإلهية الخاصة هو لقمان الحكيم الذي تحدث القرآن عن تزويد الله له بالحكمة، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الحِكْمَةَ ﴾(3).

أ / 3 - الخضر(علیه السّلام): إن الخضر طبقاً لبعض الأقوال لم يكن نبياً - وهو

ص: 197


1- القصص: 7.
2- طه: 38.
3- لقمان: 12 .

أمر وقع فيه النزاع(1) - مع ذلك وصفه الله بالكثير من الألقاب الرفيعة والعبارات السامية، من قبيل: عبد الله، وآتيناه رحمة من عندنا، والعلم اللدني، وقد جمعها له في قوله: ﴿ فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ﴾(2).

إن هذه الآية لا تبيّن كيفية الاهتمام الخاص الذي أولاه الله للخضر(علیه السّلام)بما فى ذلك كيفية إعطائه العلم اللدنى، ولكن حيث أن الله تعالى ينسب تعليم الخضر إلى نفسه، يتضح وجود نوع من الاتصال الغيبي بين الخضر(علیه السّلام)وعالم الغيب، وأن هذا الاتصال الغيبي هو الذي أفضى إلى حصول الخضر على ذلك العلم اللدني.

أ / 4 - نزول الملائكة على مريم العذراء: المورد الآخر من موارد نزول الملائكة على غير الأنبياء يظهر من خلال نزول الملك على سيدتنا مريم العذراء(علیه السّلام)حيث نزل إليها وكلمها وبشرها بحملها بعيسى(علیه السّلام)معجزة من دون أب، إذ يقول تعالى: - ﴿ وَإِذْ قَالَتْ المُلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْتُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴾ (3).

- ﴿إِذْ قَالَتْ المَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ الله يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهَا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنْ الصَّالِحِينَ * قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي

ص: 198


1- انظر: العلامة محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 16 ، ص 226.
2- الكهف: 65 .
3- آل عمران: 42 - 43 .

بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ الله يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾(1).

إن هذه الآيات الكريمة لا تتحدث عن مجرد نزول الملائكة على السيدة مريم فقط، وإنما تضيف إلى ذلك حصول التحاور بينها وبينهم، مما يؤكد على أن نزول الملائكة على غير الأنبياء وحصول التحاور والتخاطب بينهما أمر ممكن بل واقع، وعليه لا تكون هناك أي غرابة في إمكان نزول الوحي على الأئمة المعصومين(علیهم السّلام)، ووقوع ذلك أيضاً.

والأمر الثاني أن الملائكة أطلقت على حوارها مع السيدة مريم العذراء(سلام الله علیها)عنوان الوحي، وأن بعض الأخبار المنقولة منهم إلى السيدة مريم هي من أخبار الغيب، مما يدلّ بدوره أيضاً على إمكان نزول أخبار الغيب الإلهي على غير النبي.

الأمر الثالث أن هذه الآيات تدل على إمكان وجود شخصية يتم اصطفاؤها من قبل الله من غير الأنبياء، كما في قوله تعالى : ﴿ يَا مَرْيَمُ إِنَّ الله اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ... ﴾.

وهنا نتساءل هل السيدة فاطمة الزهراء(سلام الله علیها) - التي كان لها والد مثل رسول الله محمد(علیه السّلام)،وزوج مثل الإمام علي(علیه السّلام)أقل شأناً من السيدة مريم العذراء(سلام الله علیها)؟ لا شك في أن السيدة فاطمة الزهراء إذا لم تكن أعظم شأناً من السيدة مريم العذراء فلا أقل من تساويها معها في الرتبة والمنزلة، وعليه تزول الشبهة ولا يعد نزول الوحي على غير النبي منافياً للخاتمية.

أ / 5 - نزول الوحي على الحواريين: المورد الآخر من موارد تأكيد

ص: 199


1- آل عمران: 45 - 47 .

القرآن الكريم على نزول الوحي على غير الأنبياء، يكمن في الحديث عن نزول الوحى على المخلصين والأوفياء من أصحاب السيد المسيح عيسى بن مريم(سلام الله علیها)، وهم الذين يعرفون بالحواريين؛ إذ يقول الله تعالى: ﴿ وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ ﴾(1).

إن هذا النوع من الوحي - طبقاً لتفاسير أهل السنة والشيعة - يُحمل على الإلهام والإلقاء في القلب والروع(2).

أ / 6 - نزول الملائكة على أولياء الله: ما تقدم من الأمثلة القرآنية على نزول الوحي على غير الأنبياء كان يخص أشخاصاً بعينهم. وهناك في القرآن الكريم نماذج وأمثلة أخرى تتحدث عن نزول الوحي على جماعات كلية، وهي تثبت بدورها إمكان الوحي (الإلهام) ونزول الملائكة على بعض الناس، من قبيل قوله تعالى :

- ﴿ يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ﴾(3).

فهذه الآية الشريفة تتحدّث عن نزول الملائكة على مطلق الناس - الذين هم بطبيعة الحال من أولئك الذين يخلصون العبادة لله - وعممها عليهم ولم يرد ذكر للأنبياء في البين.

- ﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا الله ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلا

ص: 200


1- المائدة: 111 .
2- انظر: الفخر الرازي، التفسير الكبير، ج 6، ص 136؛العلامة الطباطبائي، تفسير الميزان، ج 6، ص 222، تفسير الآية.
3- النحل : 2 .

تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالجُنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ كُنتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ﴾(1).

وهذه الآية تؤكد بدورها على تنزل الملائكة على أولئك الذين يستقيمون في سبيل الله، وتذكر بأن الملائكة ينصرون من يستقيم على هذه الطريق فى الدنيا والآخرة.

قال الفخر الرازي في تفسير كون الملائكة أولياء للمؤمنين في الدنيا والآخرة، بقوله: «معنى كونهم أولياء للمؤمنين أن للملائكة تأثيرات في الأرواح البشرية بالإلهامات والمكاشفات اليقينية والمقامات الحقيقية»(2).

أ / 7 - حوار الملائكة مع المجتبين من بني إسرائيل: إن الموارد المتقدمة تؤكد على تصريح القرآن بنزول الوحي والإلهام على غير الأنبياء. وعلاوة على القرآن الكريم هناك في السنة النبوية ما يؤكد ذلك أيضاً، من قبيل قول رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): «لقد كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل يكلمون من غير أن يكونوا أنبياء»(3).

ففي هذه الرواية تأكيد على كلام الملائکة مع بعض بني إسرائيل، وهناك تصريح في ذيل الرواية بكونهم من غير الأنبياء.

ص: 201


1- فصلت: 30-31 .
2- الفخر الرازي ، التفسير الكبير، ج 14 ، ص 124 ، تفسير الآية 39 من سورة فصلت.
3- صحيح البخاري، ج البخاري ، ج 3، ص 1349؛ وفي بعض روايات أهل السنة اعتبار عمر بن الخطاب من مصاديق ذلك.

ولوضوح هذا الأمر (الارتباط الغيبي لغير الأنبياء بعالم الغيب) نكتفي بهذا المقدار، وهناك آيات وروايات أخرى تؤكد على هذا النوع من الارتباط، من قبيل ذي القرنين وصاحب سليمان(علیه السّلام)(آصف بن برخيا)، وصاحب داود(علیه السّلام) وغيرهم، حيث تحدثت الروايات الكثيرة عنهم بالتفصيل، وتحدثت أيضاً عن كيفية ارتباط الأئمة المعصومين(علیهم السّلام)بالغيب والملائكة، ونحن هنا نحيل القارئ الكريم إلى المصادر في الهامش فليراجع(1).

أ / 8 - رؤية البعض لعالم البرزخ: إن الارتباط بعالم الغيب ورؤية عالم البرزخ وحالات الجنة والنار ممكنة بل واقعة لبعض الناس الكاملين في هذه الدنيا. ومن الأمثلة على ذلك حادثة الحارثة بن مالك الشهيرة في التاريخ، ومجملها أن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)عندما رآه بعد صلاة الفجر وقد ابيض وجهه من خشية الله، قال له: «كيف أصبحت»؟ فوصف له ما رآه من حالات اليقين ومشاهد الجنة والنار(2).

وقد صور مولانا البلخي هذه الحادثة في المثنوي بشكل رائع وبديع(3)

وقد تحدث الإمام على(علیه السّلام)عن وجود أشخاص كاملين رفع الحجاب عن أبصارهم، وتمكنوا من مشاهدة عالم الغيب والبرزخ.

ص: 202


1- انظر: العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 26، الباب الثاني، والأبواب الأخرى.
2- انظر: السيرة الحلبية، ج 2، ص 205؛ الغزالي، إحياء علوم الدين، ج 4 ، ص 84 ، باب بيان حد الشكر؛ حادي الأرواح، ج 1، ص 180، الباب: 59؛ العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 67 ، ص 74.
3- انظر: مثنوي معنوي، الدفتر الأول، فصل سؤال النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)، ج 1، ص 155، البيت رقم: 3506 .

أ/ 9 - تصريح الإمام علي(علیه السّلام)بكونه ملهماً: لقد أكد الإمام على(علیه السّلام)في الكثير من المواطن على علمه الغيبي واللدني، كما وصف علمه بكونه من الإلهام إذ يقول: «ألهمني الله عزّ وجل علم ما فيه»(1). وسيأتي المزيد من ذلك في هامش شبهة علم الغيب.

ب -مقام الإمامة والولاية أسمى من مقام النبوة (رؤية عرفانية):

تقدم أن أشرنا في الصفحات السابقة إلى أن «النبي» ومن خلال نفسه القدسية يتصل بعالم الغيب، ويحصل من طريق الوحى على شريعة سماوية؛ فيقوم بدعوة الناس إليها ، أو في الحد الأدنى يعمل على التبليغ أو الترويج إلى الشريعة السابقة بعد إزالة ما تراكم عليها من آفات التحريف، ويصطلح على القسم الأول بالنبوة التشريعة، وعلى القسم الثاني بالنبوة التبليغية.

وهناك بين الأنبياء من يتشرف بالإضافة إلى الارتباط الغيبي والحصل على شريعة سماوية، يحظى بارتباط خاص مع مقام الألوهية القدسي، وهو يمثل المقام الأعلى والكامل للمكاشفة ومواجهة التجليات الإلهية. والمصداق الواضح على ذلك هو إعطاء مقام الإمامة من قبل الله لسيدنا إبراهيم(علیه السّلام)بعد مضي سنوات من حصوله على مقام النبوة. ومنه يتضح أن مقام الإمامة يفوق مقام النبوة.

من هنا يطرح العرفاء المسلمون نظرية أصالة مقام الولاية وجوهريته وتقدمه على مقام النبوة، بحيث أن الأشخاص الذين يتمتعون بمقام الولاية

ص: 203


1- العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 26، ص 4.

والإمامة من خلال اتصالهم بالملائكة بحسب المصطلح الديني، أو العقل المجرد بحسب المصطلح الفلسفي والعرفاني، يمكنه من خلال ذلك الحصول على الأسرار والأخبار الغيبية والذي يتضمن التعاليم الدينية أيضا. وإن هذا النوع من الاتصال بالأمر القدسي رهن بأن يتمتع الشخص بنفس زكية ومتكاملة،

ولا يكون ذلك إلا بعناية من الله سبحانه وتعالى.

إن هذا النوع من المواجهة مع الأمر القدسي لا يأتي من طريق الوحي الاصطلاحي والحصول على الشريعة، كي يصدق عليه عنوان النبوة وخاصة النبوة التشريعية، ويصطدم مع أصل الخاتمية.

قال العارف الشهير محيي الدين ابن عربي في هذا الشأن:

«واعلم، أن الولاية هي الفلك المحيط العام، ولهذا لم ينقطع، ولها الإنباء العام. وأما نبوة التشريع والرسالة فمنقطعة. وفي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)قد انقطعت، فلا ني بعده مشرعاً أو مشرعاً له، ولا رسول وهو المشرع ... إلا أن الله لطيف بعباده، فأبقى لهم النبوة العامة التي لا تشريع فيها»(1).

وقال في موضع آخر: «فالخليفة عن الرسول من يأخذ الحكم بالنقل عنه(علیه السّلام)أو بالاجتهاد الذي أصله أيضاً منقول عنه(علیه السّلام)وفينا من لا وفينا من يأخذه عن الله الله، فيكون خليفة عن بعين ذلك الحكم، فتكون المادة له من حيث كانت المادة لرسوله صلى الله عليه وسلم»(2).

ص: 204


1- محيي الدين ابن عربي، فصوص الحكم، الفص العزيزي، ص 134 - 135 ، تعليقات العفيفي.
2- المصدر أعلاه، الفص الداوودي، ص 162 - 163؛ وانظر أيضاً: الفتوحات المكية، ج 2، ص 134 و 254؛ وج 2، ص 272 و 429 .

وقد أشار ابن عربي إلى أن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)قد بلغ نقطة الكمال والذروة في كلا المقامين (أي النبوة والولاية)، وإن الآخرين كانوا تابعين له في ذلك.

وعلى هذا الأساس من الممكن أن يظهر - بعد مرحلة خاتمية النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم) - أناس يبلغون نقطة التكامل المعنوي ومقام الولاية، فيتشرفون بالحصول على العناية الإلهية، وبذلك يرتبطون بعالم الغيب ودرجاته المختلفة، ويحصلون على الأخبار الغيبية من تلك الناحية، وإن وجود أمثال هؤلاء الأشخاص لا يتنافى مع أصل الخاتمية؛ لأنهم لا يدّعون مقام النبوة والحصول على شريعة جديدة أو إبلاغ الوحي، في حين أن أصل الخاتمية إنما يتحقق من خلال هذين الأمرين. وعليه فإن أصل الادعاء القائل بإمكان التواصل مع عالم الغيب لغير الأنبياء ونزول الملائكة عليهم أمر ممكن ومطابق للآيات القرآنية أيضا. وأما تطبيق هذا الأمر على مصاديقه فهو بحث آخر يأتي ضمن العنوان الآتي.

ج - اعتراف أهل السنة بأصل الإلهام والمكاشفة:

لقد أقرّ أكثر علماء أهل السنة - الأعم من المتكلمين والمحدثين والمفسرين - بأصل وجود الإلهام والمكاشفة لغير الأنبياء؛ لأن المسألة إذا كانت واردة في نص القرآن، لم تجز مخالفتها. من هنا ذهب المفسرون من أهل السنة، مثلما ذهب المفسرون من الشيعة في تفسير آيات الإلهام والوحي لغير الأنبياء - على ما تقدم في الصفحات السابقة - إلى تفسير الوحى إلى غير الأنبياء بالإلهام والإلقاء في القلب ونوع من المكاشفة.

ذهب ابن تيمية - وهو من مشاهير علماء أهل السنة حيث يعرف

ص: 205

بمنهجه السلفي والظاهري - إلى القول بإمكان الإلهام لآحاد المؤمنين، إذ يقول: «الإلهام يكون لآحاد المؤمنين»(1)، ولكنه يستطرد بعد ذلك انسجاماً مع انتمائه لأهل السنة قائلاً: «فكل من كان من أهل الإلهام والمكاشفة لم يكن أفضل من عمر»(2).

وقد ذهب الفخر الرازى فى تفسير الآية الحادية والثلاثين من سورة فصلت إلى التأكيد على تأثير الملائكة في النفوس البشرية من طريق الإلهام والمكاشفة والمقامات المعنوية، على ما تقدمت عبارته في هامش صفحة سابقة(3).

وقد صرّح عبد الوهاب الشعراني (م 973 ه_) قائلاً: «القول في الولي غايته الإلهام الموافق لشريعة محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)بعد الفتح، فلا يعمل به مستقلاً لأن نبوة التشريع قد انقطعت بموت رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)فيصير ملك الإلهام ينبؤهم ذلك الولي شريعة محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)ويطلعه على أسرارها حتى كأنه أخذها عن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)بلا واسطة»(4).

علاوة على ذلك نجد المصادر الروائية لأهل السنة مفعمة بوصف بعض رجالاتهم مثل عمر بن الخطاب بأنه «محدث»(5)،ولازم ذلك أنه ملهم وتنزل

ص: 206


1- ابن تيمية، كتب ورسائل وفتاوى ابن تيمية، ج 12، ص 128.
2- المصدر أعلاه، ج 13، ص 74.
3- انظر: الفخر الرازي، التفسير الكبير، ج 14 ، ص 124؛ وج 6 ، ص 136 و 222 .
4- اليواقيت والجواهر، ج 2، ص 342.
5- انظر: صحيح البخاري، ج 2، ص 171؛ صحیح مسلم، باب مناقب عمر بن الخطاب.

عليه الملائكة. وقد نقل الغزالي رواية عن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)تقول: إن من أمتي محدثين، وإن عمر من بينهم(1).

وهنا يتبادر السؤال القائل: هل الإلهام ونزول الملائكة والحصول على مقام «المحدث» لأمثال عمر بن الخطاب الذي أمضى عمراً في الكفر وعبادة الأوثان، لا يتنافى أو يتناقض مع مقام النبوة والخاتمية؟ ولكنه ما أن يتم الحديث عن الإلهام لشخصية مثل علي بن أبي طالب(علیه السّلام) - الذي لم يشرك

صلى الله بالله طرفة عين، وتربى في حجر رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)ونهل من معين الوحي منذ نعومة أظفاره - تثور ثائرة أمثال الدهلوى والدكتور سروش، ويقلقون بشأن المساس بالخاتمية؟!

د - التصريح بالروح الباطنية للأئمة في الروايات النبوية:

لقد وصف النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)نفسه وأهل بيته في كثير من الروايات بأنهم: «موضع الرسالة، ومختلف الملائكة ومعدن الوحي»، وهو أمر يدل على العناية الخاصة من قبل الله لأهل البيت(علیهم السّلام)، وإليك نص واحدة من تلك الروايات، يقول:

«نحن أهل بيت طهرهم الله من شجرة النبوة، وموضع الرسالة، ومختلف الملائكة، وبيت الرحمة، ومعدن العلم»(2).

ص: 207


1- انظر: المستصفى في علم الأصول، ج 1، ص 270.
2- انظر: السيوطي ، الدر المنثور، ج 5، ص ،378 تفسير الآية الثالثة والثلاثين من سورة الأحزاب ؛ فرائد السمطين ، ج 1، ص 14 ، الباب الثاني؛ أسد الغابة، ج 3، ص 193؛ ينابيع المودة، ج 2، ص 302، نقلاً عن موسوعة الإمامة في نصوص أهل السنة، ج 3، الباب ؟، ص 450 ؛ ابن أبي حاتم ، تفسير القرآن العظيم، ج 9، ص 3133.

وقد روي عن الإمام علي(علیه السّلام)أنه قال: «وَلَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ(صلی الله علیه و آله و سلم)اتِّبَاعَ الفيل أَثَرَ أُمِّهِ، يَرْفَعُ لِي فِي كُلِّ يَوْم عَلَا مِنْ أَخْلاقِهِ، وَيَأْمُرُنِي بِالْإِفْتِدَاءِ بِهِ. وَلَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَة بِحِرَاءَ فَأَرَاهُ ، وَلاَ يَرَاهُ غَيْرِي، وَلَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذٍ فِي الْإِسْلامِ غَيْرَ رَسُولِ الله(صلی الله علیه و آله و سلم) وَخَدِيجَةَ وَأَنَا ثَالِثُهُمَا، أَرَى نُورَ الْوَحْي وَالرِّسَالَةِ، وَأَشْمٌ رِيحَ النُّبُوَّةِ ... وَلَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ الشَّيْطَانِ حِينَ نَزَلَ الْوَحْيَ عَلَيْهِ(صلی الله علیه و آله و سلم)فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله مَا هَذِهِ الرَّنَّةُ؟ فَقَالَ: «هَذَا الشَّيْطَانُ قَدْ أَيسَ مِنْ عِبَادَتِهِ، إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ، وَتَرَى مَا أَرَى، إِلا أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِي»(1).

هذا وقد روى ابن أبي الحديد المعتزلي عن الإمام علي(علیه السّلام)رواية مماثلة للرواية المتقدمة عن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)، إذ يقول:

«نحن أهل بيت النبوة، وموضع الرسالة ومختلف الملائكة، وعنصر الرحمة ومعدن العلم والحكمة ...»(2).

وهناك كثير من الروايات المأثورة في المصادر الروائية الشيعية بشأن تمتع الأئمة بالروح الباطنية والحصول على الإلهام من قبل الملائكة، وقد بحثها الشيخ الكليني في الكافي(3)، والعلامة المجلسي في بحار الأنوار(4)بالتفصيل.

ص: 208


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 234؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي، الخطبة رقم: 238، ج 13، ص 197.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي، ج 2، ص 283 ، نهاية الخطبة الثالثة.
3- انظر : الشيخ الكليني، أصول الكافي، ج 1، ص 270.
4- انظر: العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 26 ، أبواب علومهم، الباب الأول والثاني، ص 66 و 85.

ه_ - الجواب النقضي على شبهة الدهلوي والدكتور سروش:

لقد جهد الشاه ولي الله الدهلوي بمختلف السبل والحيل إلى نقد وجرح الإلهام والوحي الباطني بالنسبة إلى الأئمة الأطهار(علیهم السّلام)، على ما تقدم كلامه.

وقد أقام صرح استدلاله على رؤيا شاهدها، وقد ادعى فيها أنه تشرف برؤية روح النبي، وسأله عن مذهب التشيع؛ إذ يقول: «لقد رأيت روح النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)في المنام فسألته عن مذهب التشيّع ؛ فأجابني بأنه مذهب باطل (1).

والسؤال الذي يفرض نفسه هنا هو: هل كانت الرؤيا التي رآها ولي الله الدهلوي من المنامات الصادقة، وأنه قد اتصل حقاً بروح النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)،ونجح في أن يسأل روح النبي الأكرم وأن يحصل منه على جواب سؤاله؟ أم أنها كانت رؤيا كاذبة، وأن ما رآه الدهلوي كان مجرد وهم وخيال باطل؟

إن الجواب عن هذا السؤال لا تخلو من إحدى حالتين؛ لإنها إما أن تكون بالإيجاب أو السلب. فإن كان بالإيجاب وكان الدهلوي حقاً قد نجح في الاتصال بروح النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)، اتضح من خلال ذلك أن الارتباط بعالم الغيب والملكوت - وذلك على شكل الارتباط بروح النبي الأكرم ولو من طريق الرؤيا - أمر ممكن، بل واقع لشخص مثل ولي الله الدهلوي، كما نعلم أن الوحي إلى بعض الأنبياء كان يتم من خلال الرؤى والأحلام الصادقة.

وعلى هذا الفرض نطرح السؤال الآتي: كيف سمح الدهلوي لنفسه أن يثبت إمكان الإلهام والمكاشفة لنفسه، ويمنع حصوله لأئمة الشيعة العلام(علیهم السّلام) - مع أن أهل السنة يقرون قطعاً بأفضلية مقام الإمام علي(علیه السّلام)وسائر الأئمة

ص: 209


1- ولي الله الدهلوي، التفهيمات الإلهية، ج 2، ص 294 و 301.

الأطهار(علیهم السّلام)على مقام الدهلوي - ولا يتحمل أن يكون للأئمة ما يبيحه لنفسه؟! فهل يتصور الدهلوي لنفسه - والعياذ بالله - مقاماً في العرفان والولاية الباطنية فوق مقام الإمام علي(علیه السّلام) ؟!

ومضافاً إلى ذلك فإنه على هذا الفرض (إدعاؤه المكاشفة ورفضه حصول الإلهام للأئمة) يكون ادعاء الرؤيا متهافتاً مع استدلاله، حيث يقول: «أخذت أتأمل في لفظ الإمام؛ فاتضح لي أن الإمام في فلما أفقت من نومي مصطلح الشيعة معصوم ومفترض الطاعة ومنصوب للخلق، ويجوزون عليه الوحي الباطني، وبذلك يكونون في الحقيقة منكرين الخاتمية النبوة»(1).

يسعى الدهلوي في هذا الاستدلال إلى اثبات أن كل نوع من أنواع الوحي الباطني يخالف النبوة والخاتمية، في حين أنه يدعي لنفسه الوحي الباطني؟!

أما الحالة الثانية فهي القول بأن الرؤيا التي رآها الدهلوي كانت كاذبة، وأن ما تصوره روح النبي الأكرم لم يكن سوى وهم وخيال، ونحن نميل إلى هذا الجواب، وعليه يكون ما رآه مجرد حلم لا قيمة له، ولا تكون هناك من حاجة إلى الإجابة عن الاستدلال الذي رتبه على ذلك الحلم.

أما الدكتور سروش فقد ذهب إلى بسط التجربة النبوية في الكثير من مواضعه، وأثبتها لأمثال شمس التبريزي، ومن ذلك قوله:

«إن التجربة النبوية مستمرة طبعاً؛ لأن تجليات الله لا تنضب ولا تنتهي، نحن لا نستطيع القول إن الله تجلى للنبي، وبعد ذلك أغلق باب التجلي. إن هذا

ص: 210


1- ولي الله الدهلوي، التفهيمات الإلهية، ج 2، ص 294 - 301.

التجلي سوف يتواصل، وسوف يستمر من خلال كل شخص بما يتناسب وظرفیته»(1).

بل إنه لا يكتفى بمجرد بسط التجربة النبوية، وإنما يقول حتى بإمكان النبوة نفسها، وذلك إذ يقول :

«هل يمكن لكل شخص أن يكون رسولاً؟ يجب الإذعان بإمكان أن يكون شخص نبياً فيما بينه وبين نفسه، وأن تعرض عليه بعض الحالات الخاصة، وأن يكون واجداً لبعض حالات الوجد ... وهذا هو شعوري بالنسبة إلى بعض العظام من أمثال شمس التبريزي تقريباً»(2).

وهنا يرد سؤال ملح: لماذا يعمد الدكتور سروش من جهة إلى القول بإمكان بسط التجربة النبوية بل وبإمكان الاتصال الباطني بعالم الغيب على شاكلة النبوة بالنسبة إلى أمثال شمس التبريزي، ولكن عندما يتصل الأمر بالأئمة المعصومين من أمثال الإمام على(علیه السّلام)يضن عليه بما جاد به على شمس؟! أليس في ذلك تناقضاً وتهافتاً واضحاً؟ أم أنه - والعياذ بالله - قد دخل في صنف أولئك الذين يحسدون أهل البيت على ما آتاهم الله من فضله على ما جاء في بعض الروايات؟

وعلى كل حال فإن الدكتور سروش ينكر من جهة إمكان الولاية الباطنية للأئمة(علیهم السّلام)، ولكنه من جهة أخرى يرى إمكان النبوة بعد الخاتمية. فإن كان يريد بذلك نفس ما يريده العرفاء - على ما تقدم بيانه - اتضح أن

ص: 211


1- عبد الکریم سروش، مقال «اسلام، وحي، نبوت»، مجلة آفتاب، العدد: 15، ص 73.
2- المصدر أعلاه.

جوهر النبوة هو الولاية والإمامة، وفي هذه الصورة لا ينبغي استكثار الإلهام والولاية الباطنية على الأئمة الأطهار(علیهم السّلام). وأما إذا كان إمكان النبوة أمراً آخراً، كان ما قاله متهافتاً ومخالفاً لأصل الخاتمية.

المسألة الأخرى المتبقية في هذا الشأن هي أن الدكتور سروش ربما اعتقد بأن الإلهام والروح الباطنية ثابتة للأئمة الأطهار - وإن كان ظاهر كلامه لا يوحي بذلك، على ما نقلناه في بداية الشبهة - ولكنه يرى ذلك «لازماً» وليس «متعديا»، بمعنى أنه يقصرها على الإمام بوصفه صاحب تجربة فتكون

حجة عليه فقط، ولا تتعدى إلى الآخرين(1).

وفي هذه الصورة يجب القول:

أولاً: إن ظاهر كلامه - كما تقدم أن أشرنا - يثبت منافاة تفسير الإمامة بامتلاك الوحي الباطني مع أصل الخاتمية.

وثانياً: إن هذا الإشكال يعود إلى شبهة اعتبار حجية الأئمة والتي تقدم تعرضنا إلى أدلتها ومبانيها في الصفحات السابقة بالتفصيل، فإذا كان يقول بالروح الباطنية للإمام، فإن حجية قول الإمام(علیه السّلام)تثبت بأدلة الحجية التي تقدم ذكرها.

وثالثاً: إن الدكتور سروش فيما يتعلق بالتجارب الدينية للعرفاء يقول بالتعدي، ويرى أن هذه التجارب متمّمة للتجربة الدينية التي خاضها النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)، إذ يقول: «حيث إن الوحي تجربة دينية، وإن التجربة الدينية تحدث بالنسبة إلى غير النبي من الناس، فإن تجارب الآخرين الدينية تعمل

ص: 212


1- عبد الكريم سروش، بسط التجربة النبوية، ص 132 - 133 .

على إثراء الدين وتطويره، ومع مرور الزمن يزداد الدين اتساعاً من هنا فإن التجارب الدينية للعرفاء تكون متممة ومكملة للتجربة الدينية التي خاضها النبي»(1).

وهنا نتساءل: إذا كانت التجارب الدينية للعرفاء متممة ومكملة لتجربة النبی، ألا يتنافى هذا الكلام مع أصل الخاتمية ؟ فلماذا لا تكون التجارب الدينية للأئمة وإلهاماتهم مكملة لتجربة النبي الدينية؟ وبعبارة أخرى: لماذا لا تكون إمامتهم مكملة لأصل الخاتمية؟ أليس في هذا الكلام تهافتاً وتناقضاً؟!

وسيكن لنا هناك مزيد من الكلام بهذا الشأن في الفصل السادس على هامش شبهة إنكار الولاية التكوينية للإئمة(علیهم السّلام).

الشبهة السادسة: عدم انسجام الولاية التشريعية للإمام مع كمال الدين وخاتميته:

اشارة

إن من بين معاني أو لوازم الخاتمية، انتهاء التشريع والتقنين الإلهي من قبل النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)، حيث أغلقت برحيله أبواب السماء، ولم يعد بالإمكان وضع حكم أو أحكام في باب الشريعة أو نسخها، وبحسب تعبير الروايات:

«حلال محمد حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة»(2).

إن لازم القول بجامعية وكمال الدين الخاتم، هو القول بشمولية وجامعية قوانينه، وإذا التزمنا بإمكان التشريع والتقنين بعد رحيل النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)،

ص: 213


1- عبد الكريم سروش، بسط التجربة النبوية، ص 28.
2- العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 2، ص 260 .

كان ذلك منافياً للقول بكمال الدين وخاتميته، وسوف يلزم من ذلك أن دين الإسلام لم يكن جامعاً وكاملاً في عصر النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)، وقد تم إكماله فيما بعد على يد الأئمة الأطهار(علیهم السّلام). وإن القول بأصل التشريع في الدين لا ينسجم مع القول بأصل الخاتمية.

يمكن أن ترد هذه الشبهة على لسان أهل السنة وبعض المستنيرين من الشيعة(1)؛ إذ ورد في بعض الروايات الشيعية الحديث عن تفويض أمر الدين إلى النبي والأئمة(علیهم السّلام)، كما أفرد الكليني في كتاب أصول الكافي - وهو من الكتب الروائية الأربعة عند الشيعة - باباً تحت عنوان: «باب التفويض إلى رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)وإلى الأئمة في أمر الدين»(2).

بل إن شيخ القميين الصفار ( 290 ه_) قد سبق الشيخ الكليني في ذلك، حيث فتح في كتاب (بصائر الدرجات) باباً تحت عنوان: «إن ما فوّض إلى رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)قد فوّض إلى الأئمة(علیهم السّلام)»(3).

ص: 214


1- الجواب الثاني للدكتور سروش علی بهمن ،بور موقع سروش، بتاريخ 4 / مهر / 1384 ه_ ش . حيث قال سروش من خلال الإشارة إلى أصل الخاتمية وأحاديث من قبيل (لا نبي بعدي): (إن هذه التأكيدات تظهر سؤالاً كبيراً وهو دور أئمة الشيعة ومنزلتهم في مجال التبليغ وفي مجال تشريع أحكام الدين والتعاليم الإسلامية. فإذا أردنا أن لا نضع اعتبار تجربتهم وكلامهم وحجيتهما في رتبة تنقض الخاتمية أو تعارضها، فعندها ما هو الموقع الحقوقي الذي يمكن إعطاؤه لهم (بغض النظر عن شخصيتهم الحقيقية وولايتهم الباطنية ) ؟ هل نجعلهم برتبة العلماء المجتهدين المعصومين ؟ أم المفكرين؟ أم العرفاء ؟ أم ورثة علم النبي ؟). (بسط التجربة النبوية، ص142.
2- محمد بن يعقوب الكليني، أصول الكافي، ج 1، ص 265، كتاب الحجة.
3- انظر: بصائر الدرجات، الباب الخامس من الجزء الثامن، باب التفويض.

وروي عن الإمام الصادق(علیه السّلام)أنه قال: «فما فوّض الله إلى رسوله، فقد فوّضه إلينا»(1).

وفي رواية أخرى: «إِنَّ الله - عَزَّ وَجَلَّ - أَدَّبَ رَسُولَهُ حَتَّى قَوَّمَهُ عَلى مَا أَرَادَ، ثُمَّ فَوَّضَ إِلَيْهِ، فَقَالَ عَزَّ ذِكْرُهُ: ﴿ ما آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾ ، فَا فَوَّضَ الله إِلى رَسُولِهِ، فَقَدْ فَوَّضَهُ إِلَيْنَا»(2).

والرواية الثالثة تؤكد على حصرية تفويض الله تفسير أمر الدين والحكم إلى النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)والأئمة الأطهار(علیهم السّلام)، إذ تقول: «لَا وَالله مَا فَوَّضَ الله إِلَى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ إِلَّا إِلَى رَسُولِ اللهِ(صلی الله علیه و آله و سلم)وَإِلَى الْأَئِمَّةِ»(3).

في حين يقول الدكتور سروش في هذا الشأن: «كيف يمكن أن يأتى بعد النبي الخاتم أناس، يتحدثون عن الوحي والشهود بكلام لا أثر له في القرآن والسنة النبوية، ومع ذلك يتم التعامل التعامل معه معه على أنه من التعاليم الدينية والتشريعية التي توجب تحليلاً وتحريماً، وتحل في المرتبة محل الوحى النبوي وتكتسب عصمة وحجية كلام النبي، ومع ذلك لا يكون ذلك منافياً للخاتمية ...؟! إن إلزامية التجربة الدينية لشخص بالنسبة إلى الآخرين - والتي تعني ذات الولاية التشريعية - تنتهي برحيل النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)»(4).

ص: 215


1- المصدر أعلاه، الحديث الأول، ص 383 ، والحديث السادس، والأصول من الكافي ج 1 ، ص 268 .
2- الشيخ الكليني، الكافي، ج 1 ، ص 266.
3- المصدر أعلاه، ص 268 ؛ وأيضاً: محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 25 ، ص 333 فما بعد.
4- الجواب الثاني للدكتور سروش على الأستاذ بهمن بور، موقع سروش، بتاریخ: 3/مهر/ 1384 ه_ ش؛وكذلك: آیینه اندیشه، العدد: 2 ، ص 84.

وقال في موضع آخر:

«إن مفهوم الخاتمية في التشيّع مفهوم مهلهل وضعيف؛ إذ يمنح الأئمة حق التشريع، في حين أن هذا الحق هو من الحقوق المقصورة على النبي»(1).

مناقشة وتحليل:

في بيان منزلة الأئمة وتحليلها بعد رحيل خاتم الأنبياء(صلی الله علیه و آله و سلم)وتوضيح الولاية التشريعية لغير الله، تجدر الإشارة إلى الأمور الآتية:

أ - توضيح أصل التشريع والتخطئة:

الأمر الأول الالتفات إلى مفهوم أصل التشريع، وما معنى اختصاص وضع القانون والشريعة وحصره بالله ؟ وما هي حدود وضع القانون والشريعة الإلهية؟ وهل تشمل الأحكام العقائدية (الشمولية) والعبادية والدنيوية من قبيل: الاقتصاد والسياسة والاجتماع أيضاً؟

إن الأحكام الشرعية - الأعم من الوجوب والحرمة والاستحباب والكراهة - طبقاً للأصول والقواعد الثابتة في الفقه الإسلامي (وخاصة فقه الإمامية) تابعة للمصالح والمفاسد، بمعنى أن الحكمة من وضع حكم الوجوب وجود مصلحة لازمة وملزمة في ذلك الفعل، وهكذا الأمر بالنسبة إلى وضع الحرمة فإنه يدل على وجود مفسدة في ذلك الفعل.

وعلى هذا المنوال في الحكم الاستحبابي أو المكروه، غاية الأمر أن

ص: 216


1- كلمة الدكتور سروش في جامعة السوربون في باريس، موقع سروش، تحت عنوان: «تشیع و چالش مردم سالاری»بتاریخ: 3/ 5 / 1384 ه_ ش .

المصلحة والمفسدة هنا تكون بدرجة أخفّ منها في الوجوب والحرمة. والملفت للانتباه فيما يتعلق بالمصلحة والمفسدة الدنيوية والأخروية.

وعلى هذا الأساس يكون لكل فعل - في حقيقة الأمر ونفس الأمر، وبحسب التعبير الكلامي العلم الأزلي واللوح الإلهي المحفوظ - حكم خاص، حيث أن الله قد أبلغ إلى الناس أحكام الأفعال بشكل كلي وبشكل جزئي من طريق الوحي إلى النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم).وهذا ما تشير إليه أو تدل عليه الروايات التي تتحدث عن شمولية وجامعية الإسلام وأن لكل شيء يحتاج إليه الناس حكماً في القرآن الكريم أو السنة المطهرة.

وأما القول بأن لكل فعل حكماً إلهياً في واقع الأمر ونفسه، فهو من الأصول المسلمة في فقه الإمامية، وهو ما يعبر عنه ب_«التصويب» و«التخطئة» أو «المخطئة»؛ ذلك لأن الفقيه إذا أخطأ واشتبه عليه الأمر في استنباط الحكم، يكون قد أخطأ الحكم.

يقول العلامة الحلي: «الحق أن المصيب واحد وأن الله تعالى في كل واقعة حكماً معيناً، وأن عليه دليلاً ظاهراً لا قطعياً»(1). وأما فى فقه أهل السنة فهناك اختلاف في الآراء بين موافق لرأي الإمامية، ورأي آخر ينكر وجود حكم إلهي واقعي لكل فعل، ويرى أن حكم الفعل هو المجتهد والفقيه. ونتيجة ذلك ستكون عدم الخطأ في الحكم، وإصابة الواقع على كل حال حتى في الأحكام المتعارضة، والذين يتبنون هذا الرأي يعبّر عنهم في المصطلح الفقهي

ص: 217


1- مبادئ الوصول إلى علم الأصول، ص ؛244 معالم الدين، ص 236، بحث الاجتهاد والتقليد؛ كفاية الأصول، ج 2، ص 430 .

ب_«المصوبة»(1).

ب - تشريع النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)كاشف عن الواقع:

إن جميع أحكام الدين الواردة في القرآن الكريم والسنة المطهرة - طبقاً لفقه الإمامية - تعبّر عن حكم نفسي في اللوح المحفوظ، وإن الله تعالى في الحقيقة هو الشارع الوحيد، وإن الأحكام التي وضعها النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)طبقاً لبعض الروايات من قبيل: إضافة ركعتين على كل صلاة، واستحباب صيام ثلاثة أيام في كل شهر وتحريم جميع المسكرات بالإضافة إلى الخمر ودية النفس والأنف(2)

ص: 218


1-
2- تجدر الإشارة إلى أنه طبقاً لتقرير الإمام الغزالي في مورد الأحكام القطعية والجزمية لأهل السنة، هناك من يقول بوجود الحكم الواقعي، ولكن هناك اختلاف في متعلق الأحكام الظنية، حيث هناك موقفان لأهل السنة. يذكر الغزالي أن موقف بشر المريسي في الفروع مثل موقفه في العقائد، حيث هناك حكم واحد محدد، (انظر: المستصفى من علم الأصول، ج 2، ص 359 و 361). كما ذهب الإمام الشافعي طبقاً لنقل البيضاوي إلى القول بأصل التخطئة،(انظر: ناصر الدين البيضاوي، منهاج الوصول في معرفة الأصول، ص 73) إلا أن أكثر أهل السنة يذهبون إلى الاعتقاد بأصل التصويب، وقد قال الغزالي في هذا الشأن: (كل مجتهد مصيب، هذا هو مذهب الجماهير)، (المصدر ذاته، ص9 - 358 . وانظر أيضاً: الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام، ج 4، ص 9 - 413؛ الشهرستاني، الملل والنحل، ج1، ص184؛ محمد خضري بك أصول الفقه، ص 376؛ حمد عبيد الكبيسي، أصول الأحكام، ص378. 2 - ورد في الحديث: «ثُمَّ إِنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ فَرَضَ الصَّلَاةَ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ عَشْرَ رَكَعَاتٍ فَأَضَافَ رَسُولُ الله(صلی الله علیه و آله و سلم)إِلَى الرَّكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ وَإِلَى الْمَغْرِبِ رَكْعَةً فَصَارَتْ عَدِيلَ الْفَرِيضَةِ ... وَفَرَضَ الله في السَّنَةِ صَوْمَ شَهْرٍ رَمَضَانَ وَسَنَّ رَسُولُ الله(صلی الله علیه و آله و سلم)صَوْمَ شَعْبَانَ وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي كُلِّ شَهْرٍ مِثْلَيِ الْفَرِيضَةِ فَأَجَازَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ ذَلِكَ وَحَرَّمَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الْخَمْرَ بِعَيْنِهَا وَحَرَّمَ رَسُولُ الله(صلی الله علیه و آله و سلم)الْمُسْكِرَ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ فَأَجَازَ اللَّهُ لَهُ ذَلِكَ كُله ...» (محمد بن يعقوب الكليني، الأصول من الكافي، ج 1، ص 226، كتاب الحجة، باب التفويض؛ بحار الأنوار، ج 25، ص 332).

تكشف بأجمعها عن الحكم الإلهي، إذ إنّ جميع هذه الأمور في نفسها ذات أحكام، ولا يوجد هناك خلل حكمي حتى يقال: إن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)كان واضعاً ومشرعاً لتلك الأحكام غاية ما في الأمر أن الله يبين الأحكام مرة في القرآن الكريم، ثمّ يفوّض إلى نبيه في مرتبة أخرى بيان الأحكام، وهذا ما تمّ التأكيد عليه في القرآن القرآن الكريم أيضاً، إذ يقول تعالى: ﴿ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ﴾(1).

لقد فوّضت هذه الآية تبيين القرآن إلى رسول الله بشكل كامل. ومن الواضح أن التبيين والبيان يختلف عن التلاوة والقراءة، إذ إن التبيين يشمل بيان الجزئيات، ورفع الغموض والتفسير، وقد تمت الإشارة إلى هذا التفاوت في آية أخرى تقول: ﴿يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾(2).

وفي هذه الآيات يتمّ ذكر تلاوة الآيات، وتعليم الكتاب، والحكمة بشكل مستقل، بوصفها من شؤون ومسؤوليات النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم).

وبعبارة أخرى: إن وضع النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)الأحكام لم يكن استقلالياً، وإنما هو في طول الوضع الإلهي، وأن ذلك طبقاً للروايات التي تدل على وضع النبي الأكرم للأحكام، كان بإذن من الله عزّ وجل(3).

وطبقاً لهذه الرؤية إلى النبوة وجعل الأحكام النبوية، لا يكون هناك أيّ تعارض بين نسبة الشارعية إلى الله أو النبي، ومن هنا ذهب بعض فقهاء

ص: 219


1- النحل: 44 .
2- آل عمران: 164 .
3- انظر: تفصيل الرواية في هامش الصفحة السابقة.

الإمامية إلى اعتبار النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)في بعض الأحكام شارعاً (في الجملة)(1).

ج - تشريع الأئمة(علیهم السّلام)في طول التشريع النبوي ومكمل له :

من خلال هذه النظرة والرؤية إلى أحكام الدين وكيفية التشريع، يمكن لنا الخوض في تبيين تشريع الأئمة المعصومين(علیهم السّلام)أيضاً. إن الروايات - التي تقدم ذكرها - الدالة على تفويض أمر الدين وإمكان جعل أحكام الدين أو وضعها، من قبيل تشريعات النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)،ليست استقلالية، وإنما هي في الواقع كاشفة ومبيّنة لأحكام الله الواقعية التي لم يتم الكشف عنها من قبل الله أو النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)،لأسباب من قبيل: عدم حلول وقتها، أو لمصلحة، أو لعدم الابتلاء بها، وإن هذا الحق - طبقاً لبعض الآيات والروايات - ترك من قبل الشارع نفسه إلى الأئمة الأطهار(علیهم السّلام).

وقد صرّح الأئمة الأطهار أنفسهم - الذين كانوا يبينون أحكام الدين - بأن بيانهم إذا كان مستقلاً ومن عندهم لكان ضلالة، إلا أن أحاديثهم تستند إلى النبي الأكرم وإلى الله سبحانه وتعالى، وفي ذلك روي عن الإمام الصادق(علیه السّلام)أنه قال: «لو حدثنا برأينا ضللنا كما ضل من كان قبلنا، ولكنا

ص: 220


1- انظر: المحقق الإصفهاني، حاشية المكاسب ، ج 2، ص 378؛ الصافي الگلپايگاني، امامت و مهدویت، ج 1، ص 110؛ مكارم الشيرازي، أنوار الفقاهة، كتاب البيع، ج 1، ص 571؛ محمد الصفار، بصائر الدرجات، ص 398؛ العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 17 ، ص 7، وج 25 ، ص 3 و 48 و 334؛ السيد محمد باقر الصدر، بحوث في علم الأصول، ج 7، ص 30؛ الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ج 1، ص 225؛ الإمام الخميني، كتاب البيع ، ج 3، ص 412؛ وانظر أيضاً: جایگاه مباني کلامي در اجتهاد، ص 494.

حدثنا ببينة من ربنا بينها لرسوله فبيّنها لنا»(1).

وقد روي عنه في حديث آخر أنه قال: «مهما أجبتكم فيه بشيء فهو عن رسول الله، لسنا نقول برأينا»(2).

وعلى هذا الأساس فإن دليل المخالفين القائم على انحصار التشريع والتقنين بالله أو رسوله لا يتنافى مع هذا النوع من التفويض. من هنا يذهب بعض المفكرين من الإمامية إلى القول بحق الأئمة في التشريع في الجملة، ومن بين هؤلاء من القدماء صاحب البصائر والكليني وبعض العرفاء والمعاصرين على ما ستأتى الإشارة إليهم.

د - تشريع الأئمة(علیهم السّلام)في طول التشريع الإلهي:

إن المعنى الظاهري للنظرية السابقة هو أن روايات الأئمة المعصومين(علیهم السّلام)إنما تكون حجة لانتهائها إلى السنة النبوية، وهو ما يدل عليه ظاهر بعض الروايات المروية عن الأئمة الأطهار(علیهم السّلام) أنفسهم والتي تقدم ذكرها، وفى هذه الحالة ستكون حجية روايات الأئمة(علیهم السّلام)من باب الوثاقة والكشف عن السنة النبوية.

ولكن بالالتفات إلى موقع الأئمة(علیهم السّلام)، واتصالهم بالعوالم الغيبية والأحكام الواقعية، والذي يتم التعبير عنه في المصطلح الروائي(3)والكلامي

ص: 221


1- جامع أحاديث الشيعة، ج 1، الباب الرابع، أبواب المقدمات، الحديث التاسع.
2- بصائر الدرجات، ص 320؛ محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 2، ص 173؛جامع أحاديث الشيعة، ج 1، ص 129.
3- انظر: الكافي، ج 1، كتاب الحجة، باب أن الأئمة محدّثون، ص 270.

لا بوصفه وحياً، وإنما إلهاماً وتحديثاً، يمكن القول: إن بيان الأحكام من قبلهم يكون أحياناً من طريق العلم النبوي وهو ما عليه ظاهر بعض الروايات، وأحياناً أخرى يكون بيان الأحكام من قبلهم - بما يشمل الأحكام الجديدة والتخصيص والتقييد - مستنداً إلى علمهم اللدني والإلهامي ومشاهداتهم الشخصية للعوالم الغيبية، وفي هذه الحالة تكون حجية أحكامهم لا من باب الرواية والكشف عن السنة النبوية، وإنما بسبب مواجهتهم المباشرة للعوالم الغيبية، وهو ما يمكن أن نعبّر عنه بمصدر الشريعة.

وتقوم هذه النظرية على روايات تدل على العلم الإلهامي واللدني الذي يتمتع به الإمام وكونه محدثاً ومؤيداً من قبل روح القدس. وقد تم التعبير في بعض الروايات عن علم الأئمة بالحوادث بالقذف، وهو من العلم الإلهامي، ومن ذلك الرواية القائلة: «وأما الحادث فقذف في القلوب ونقر في الأسماع، وهو أفضل علمنا، ولا نبي بعد نبينا»(1).

كما ورد التعبير في بعض الروايات الأخرى بالمحدث، من قبيل الرواية القائلة: «الأئمة علماء صادقون مفهمون محدثون»(2).

وفي بعض الروايات الأخرى تم التعبير عن ذلك بتأييد روح الأئمة - كما هو الحال بالنسبة إلى الأنبياء - ب_«الروح» أو «الروح المسدّد»، من قبيل الرواية القائلة: «هو مع الأئمة يُسدّدهم»(3).

ص: 222


1- أصول الفقه، ص 418 ، مباحث الحجة باب السنة .
2- الكافي، ج 1، ص 264.
3- المصدر أعلاه، ص 273.

إن الروايات في باب علم الأئمة واتصالهم بعوالم الغيب من الكثرة بحيث تصل في الحد الأدنى إلى التواتر المعنوي، وإن حدود بعضها يصل حتى إلى الأمور الدنيوية أيضاً إلا أن القدر المتيقن منها هو علمهم ومعرفتهم بالأحكام الواقعية من طريق العلم بالغيب ومن نتائجه بيان الأحكام الشرعية في المسائل الجديدة التي لم ترد في كتاب الله وسنة رسوله(صلی الله علیه و آله و سلم).

ولا فرق في تسمية ذلك تشريعاً أو ولاية تشريعية أو بياناً للشريعة وتفسيرها بالنسبة إلى أصل المسألة، وعلى كلا الفرضين تكون روايات الأئمة حجة ولازمة الاتباع على نحو الاستقلال.

وقد أجاب صاحب الحدائق عن بعض الإشكالات على الروايات المثبتة لأحكام خاصة من قبيل الخمس والزكاة قائلاً: «بل يكون الجواب من الأخبار من أنهم - عليهم السلام - قد فوّض إليهم كما فوّض إلى رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)»(1).

وقال المحقق الإصفهاني بهذا الشأن: «والنبي والأئمة لهم الولاية المعنوية والتشريعية والسلطنة الباطنية على جميع الأمور التكوينية والتشريعية، فكما أنهم مجاري الفيوضات التكوينية، كذلك مجاري الفيوضات التشريعية لهم، فهم وسائط التكوين والتشريع»(2).

وقال سماحة الإمام الخميني: «لا مانع من تفويض أمر العباد إلى روحانية كاملة تكون مشيئته فانية في مشيئة الحق، وإرادته ظلال لإرادة الحق، ولا يروم إلا ما يريده الحق، ولا يتحرك إلا إذا كان موافقاً للنظام الأصلح،

ص: 223


1- الحدائق الناضرة، ج 12 ، ص 357.
2- حاشية المكاسب، ج 2، ص 378.

سواء كان فى الخلق والتكوين أو التشريع والتربية»(1).

وقال العلامة محمد رضا المظفر في باب الحجية الاستقلالية لروايات الأئمة الأطهار(علیهم السّلام) : « إن الأئمة من آل البيت ليسوا هم من قبيل الرواة عن النبي والمحدثين عنه؛ ليكون قولهم حجة من جهة أنهم ثقاة في الرواية، بل لأنهم هم المنصوبون من الله تعالى، تدلّ على لسان النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)التبليغ الأحكام الواقعية، فلا يحكمون إلا عن الأحكام الواقعية عند الله تعالى كما هي. وذلك من طريق الإلهام كالنبي من طريق الوحي أو من طريق التلقي من المعصوم قبله ... وعليه فليس بيانهم للأحكام من نوع رواية السنة وحكايتها، ولا من نوع الاجتهاد في الرأي والاستنباط من مصادر التشريع، بل هم أنفسهم مصدر للتشريع، فقولهم سنة لا حكاية السنة»(2).

وقال في توجيه الروايات التي ترى أن دليل حجية روايات المعصومين(علیهم السّلام)تكمن في روايتهم عن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)بأنها إما تخص تلك لم الروايات التي نقلوها عن النبي، أو أن هذا النوع من الروايات إنما صدر عنهم لإقناع المخاطب وإقامة الحجة على أولئك الذين لم يدركوا في حينها مكانة الأئمة ومنزلتهم كما هي وإليك نص عبارته: «وأما ما يجيء على لسانهم أحياناً من روايات وأحاديث عن نفس النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)، فهي إما لأجل نقل النص

ص: 224


1- الإمام الخميني، الأربعون حديثاً، تعريب: السيد محمد الغروي، الحديث الحادي والثلاثون، في إشارة إجمالية إلى معنى التفويض، ص 566 ، مؤسسة تنظيم ونشر تراث الإمام الخميني، ط 7، طهران، 1431 ه_.
2- محمد رضا المظفر، أصول الفقه، ج 2، مباحث الحجة، الباب الثاني (السنة)، ص 57 ، دار التعارف للمطبوعات، ط 4 ، بيروت، 1983.

عنه كما يتفق في نقلهم الجوامع كلمه، وأما لأجل إقامة الحجة على الغير، وأما لغير ذلك من الدواعي الدواعي»(1).

كما ذهب العلامة الشعراني إلى الاعتقاد بتكميل الشريعة من قبل الأئمة من طريق الارتباط بالله والمبادئ العالية على ما سوف تأتي الإشارة إليه.

وقد ذهب الأستاذ الشهيد مرتضى المطهري في الجملة إلى القول بالولاية التشريعية للنبي والإمام، وقال في بيان انسجام ذلك مع كمال الدين وأصل الخاتمية: «لقد أبلغ الله النبي، ولكن حيث لم يحن وقت بيان ما أبلغه الله، فقد قام النبي بتعليمه إلى الإمام ... كان الناس يسألون النبي عن الأحكام التي لم ترد في القرآن. والسؤال هو: هل كل ما أراد الإسلام بيانه من الأحكام والقوانين والتعاليم هو ما جاء في القرآن، ونقله النبي إلى عامة المسلمين؟ أم أن ما نزل على رسول الله لم تتسع الفترة الزمنية إلى بيانه بأجمعه؟ ... إن الإسلام لم يتم تبليغه إلى الناس إلا من طريق النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)،وإن الله قد أبلغ النبي بما يجب أن يبلغه من الإسلام فليس. الأمر بأن يكون هناك شيء لم ينزل، وقام النبي بإكماله من عنده، ولكن هل هناك من الأحكام الإسلامية ما نزل على رسول الله ولم يتم بيانه إلى عامة الناس؟ يرى الشيعة أن الله لم ينزل على رسول الله وحياً ناقصاً، ولم يعمد النبي إلى تبليغه للناس ناقصاً، فالنبي قد بين الإسلام للناس كاملاً، إلا أن الذي قام النبي ببيانه إلى الناس كاملا، لم يكن هو كل ما قاله لعامة الناس، فقد كان هناك الكثير من التعاليم والأحكام التي لم يتحقق موضوعها في عصر النبي، وقد ظهرت فيما بعد وتم السؤال عنها، وإنما بلغ

ص: 225


1- المصدر أعلاه، ص 57 - 58 ؛ وانظر أيضاً: علي رباني گلپايگاني، مباني حجية روايات أهل البيت مجله کلامی ،اسلامی ربیع عام 1383 ه_ ش، ص 56 .

تلميذه الخاص جميع التعاليم التي نزلت عليه من جانب الله، وأمره ببيانها إلى الناس»(1).

والنقطة الجديرة بالتأمل في نسبة تشريع الأئمة إلى الله وعالم الغيب من دون توسيط النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)يراد منه العلم وحذف توسيط النبي في الدنيا، وأما من الناحية العرفانية حيث يكون النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)هو الصادر الأول، وإن أرواح الأئمة تقع في ضوء وجود النبي، فإن العلوم الغيبية في واقع الأمر وتبعاً لها التشريع الجزئي سيكون شعاعاً وظلاً للعلم النبوي والحقيقة المحمدية.

ه_ تشريع الأئمة(علیهم السّلام)مكمل للدين في الجزئيات:

سبق أن ذكرنا أن القرآن الكريم والسنة النبوية تشتمل على الأصول والجهات العامة الضرورية لهداية الإنسان في حقل العقائد والأخلاق والأحكام، إلا أن بيان الأمور العامة وكذلك الجزئيات لم يكن ميسوراً بسبب عدم حلول وقتها أو عدم ابتلاء المسلمين بها، ولذلك لم يشتمل القرآن الكريم ولا السنة النبوية على جميع هذه الأحكام. نعم ورد في القرآن الكريم بيان بعض المباني والأصول العامة وبعض جزئيات أحكام الدين، كما ورد بعضها الآخر في سنة النبي الأكرم الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)، وقد ترك بيان جزئيات الأحكام - التي تحتوي بطبيعة الحال على أصول وفروع أدق طبقاً للآيات وروايات الإمامة التي تقدم ذكرها في الصفحات السابقة - إلى الأئمة المعصومين(علیهم السّلام)، وبعبارة أخرى: إن كمال الدين الإسلامي وخلوده رهن بأصل الإمامة.

تدل الرواية المأثورة عن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)على عدم بيان فروع

ص: 226


1- مرتضى مطهري، امامت و رهبري، ص 51.

وجزئيات جميع الأحكام، إذ يقول صلوات الله عليه: «ألا وإن الحلال والحرام أكثر من أن أحصيهما وأعرفهما ، فأمر بالحلال والحرام في مقام واحد»(1).

وهكذا يصرح النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)في هذه الرواية بعدم بيان جميع الأحكام، وأما أن يكون ذلك منافياً لخاتمية الدين وشموليته وكماله، فقد التفت إليه النبي بالمناسبة في صدر الحديث، وقد تدارك ذلك بتعريفه بالإمام علي(علیه السّلام)بوصفه المرجع والمفسّر لكتاب الله، وبذلك يكون صلوات الله عليه قد أجاب عن هذا الإشكال المفترض، إذ قال: «علي تفسير كتاب الله والداعي إليه»(2).

وقد توسّل الحمصي الرازي لتبرير ضرورة الإمامة لبيان جزئيات الدين، وقال: «أما الكتاب فمعلوم أن جميع تفاصيل الشرع ليست مبينة فيه، وأما السنة المقطوع بها والإجماع فمن المعلوم الظاهر أيضاً أن جميع الشرع ليس مبيناً فيهما»(3).

وقد كتب العلامة الشعراني في تفسير عبارة الخواجة نصير الدين الطوسي «حافظاً للشرع» في وصف الإمام قائلاً: «لها دلالة على علمه بالدين الإلهي والارتباط بالله تعالى من جهة الباطن وعلى العصمة أيضاً؛ إذ لا يمكن للإنسان أن يصل إلى تفصيل أحكام الشرع على نحو القطع واليقين إلا من طريق الارتباط بالله، فإن ذكرت القرآن، قلت: إن القرآن لم يأت بتفصيل الأحكام ... إذن فالإمام بالإضافة إلى العصمة يجب أن يكون عالماً بالشرع من خلال الارتباط بالله والمبادئ العالية ليقوم برفع النقص وتفسير المجمل»(4).

ص: 227


1- الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 18 ، الباب الثالث ، أبواب صفات القاضي، ح 43.
2- المصدر أعلاه.
3- المنقذ من التقليد، ج 2، ص 261 .
4- ترجمة وشرح كشف المراد باللغة الفارسية، ص 511.

كما أرجع العلامة الطباطبائي عملية التشريع وبيان تفاصيل الأحكام وجزئياتها وقوانين الشريعة إلى سنة النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)وأهل بيته(علیهم السّلام)،اذ يقول: «إن اتضاح تفاصيل الأحكام وقوانين الشريعة، من قبيل: أحكام الصلاة والصوم والتجارات وسائر العبادات والمعاملات، يتوقف على الرجوع إلى السنة (وروايات أهل البيت)»(1).

ومن بين المعاصرين يصرّح سماحة الأستاذ مصباح اليزدي بعدم إمكان بیان جميع الجزئيات في الكتاب الكريم والسنة النبوية المطهرة، وسيأتي بيان ذلک فی القسم الثاني من هذا الكتاب، في البحث الخاص بالجامعية والشمولية إن شاء الله(2)

و - الجمع بين نظرية الموافقين والمخالفين:

حصيلة الكلام أنه يبدو أن الاختلاف بين القائلين بحق النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)والأئمة المعصومين(علیهم السّلام)في التشريع والمخالفين لذلك يندرج تحت الخلاف اللفظي، وعليه يمكن الجمع بينهما من خلال القول: إن مراد المخالفين هو المعنى الأكرم الحقيقي للتشريع (الاستقلالي)، في حين أن مراد القائلين بهذا الحق للنبي والأئمة الأطهار هو التشريع الطولي والكشفي، ببيان أن جميع الأحكام لم يرد ذكرها في القرآن الكريم بشكل تفصيلي وجزئي، وذلك لأسباب وعلل تقدّم ذكرها، وقد ترك بيانها للنبي الأكرم والأئمة المعصومين لاتصافهم بالعلم اللدني، وبذلك يكون بيان الأحكام من قبلهم بإذن وتأييد من الله، كما أن هذا البيان

ص: 228


1- العلامة محمد حسين الطباطبائي، شيعه در اسلام، ص 80؛ ظهور شيعه، ص 31؛ معنویت تشیّع، ص 42 .
2- انظر: آموزش عقاید، ج 1 و 2، ص 352 - 353.

يكشف عن الأحكام الواقعية التي لا يلعب المعصوم فيها دور الواضع والشارع، وإنما يقتصر دوره على الكشف والبيان فقط.

وأما بيان حدود هذا الإذن الإلهي للمعصوم بالتشريع الظاهري فيحتاج إلى مجال مستقل، والذي يجدر التذكير به في هذه العجالة هو ما تقدم من أن هذه التشريعات الظاهرية من قبل الأئمة حيث كانت بإذن من الله سبحانه وتعالى ورسوله الكريم(صلی الله علیه و آله و سلم)، فإنها لا تنافي أصل الخاتمية. بل إن الإصرار على النفي المطلق لأي نوع من التقنين والتشريع، والاكتفاء بالأحكام الموجودة في القرآن الكريم وسنة النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)تحت ذريعة جامعية وتمامية وكمال الدين، هو الذي يتنافى مع جوهر الدين الخاتم والكامل الذي يدعي الخلود والإجابة عن جميع المسائل الدينية عبر العصور، بل ربما أدى ذلك إلى الركود والجمود. وقد التفت المخالفون لحق النبي الأكرم والأئمة المعصومين في التشريع إلى هذه النقطة، وإنما جاء منهم النفي لهذا الحق من باب الاحتياط في الدين، أو من باب القول ببيان الأحكام الدينية عن النبي والأحكام الجزئية الولائية، وتطبيق العناوين الثانوية على مصاديقها(1).

إن التشريع من قبل الأئمة الأطهار(علیهم السّلام)بمعنى تغيير الأحكام الدينية الثابتة بأي نحو من الأنحاء - الأعم من النسخ والتقييد والتخصيص - باطل، بل لا يمكن تصور هذا المعنى بحق الأئمة المعصومين(علیهم السّلام)من الأساس.

ص: 229


1- انظر: أبو القاسم الخوئي، مصباح الأصول، ج 3، ص 285؛ العلامة الطباطبائي، حاشية الكفاية، ج 2، ص 296؛ مكارم الشيرازي، أنوار الفقاهة، كتاب البيع، ج 1، 557 - 572 ؛ الصافي الگلپایگاني امامت و مهدویت، ج 1، ص 112؛ جوادي آملي، ولایت در قرآن، ص 271

الشبهة السابعة: تعارض علم الإمام اللدني مع الخاتمية:

اشارة

يذهب الشيعة إلى الاعتقاد بأن الأئمة المعصومين(علیهم السّلام) - علاوة على صفة العصمة - يتمتعون بعلم الغيب والعلم اللدني أيضاً، بمعنى أن علومهم ومعارفهم ليست مثل علوم البشر التى يحصلون عليها بالطرق المألوفة من قبيل الدراسة والتعلم، بل إن علمهم من قبيل علم الأنبياء يحصل من خلال القنوات غير العادية مثل : الإلهام، والملائكة، ومواجهة العقول المجرّدة بحسب المصطلح العرفاني، وهو ما يعبّر عنه في لسان الروايات ب_ «المحدثون» و«المفهمون» على ما تقدم في الصفحات السابقة.

ذهب أهل السنة وبعض من يصطلح عليهم بالمستنيرين إلى القول بأن العلم اللدني للإمام(علیه السّلام)يتنافى مع القول بأصل الخاتمية، ويرون أن العلم اللدني من مختصات الأنبياء، وعليه لن يكون بإمكان أحد الحصول على هذا العلم بعد رحيل النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم). وبذلك فإن هؤلاء يعمدون إلى وضع الأئمة الأطهار في منازل ومراتب عادية لا تتجاوز «العلماء الأبرار» في الحد الأقصى. و في ذلك يقول سماحة الشيخ محسن كديور: إن الأئمة يفتقرون إلى العلم الاكتسابي أو علم الغيب وبعبارة أخرى إن الأئمة يحصلون على علومهم بطريقة اكتسابية حيث يحصل اللاحق علمه من الإمام السابق، ويتوصلون إلى النتائج والأحكام الشرعية من خلال إعمال الرأي والاجتهاد والاستنباط»(1).

ولازم هذه الرؤية إلى الأئمة(علیهم السّلام)هو اعتبار منشأ علمهم عائداً إلى

ص: 230


1- محسن کدیور، مجله مدرسه، العدد: 3 بتاریخ: 3/ اردیبهشت / 1385 ه_ ش، ص 95؛ وانظر أيضاً : محسن كديور، بازخوانی امامت در پرتو نهضت حسینی، صحيفة (شرق)، بتاريخ : 14 و 15 / اسفند / 1384 ه_ش .

القنوات والمنافذ العادية، من قبيل: الظن والاجتهاد مما تكون نتيجته إمكان الخطأ وسلب الحجية عن أقوالهم، كما هو الحال بالنسبة إلى كل معرفة دينية بشرية. وفي ذلك يقول الدكتور سروش: «إن رسالة الخاتمية تقول بضرورة أن نعتبر أي فهم للدين بوصفه فهماً نهائياً للدين، صحيح أن هناك خاتماً للنبيين، ولكن ليس هناك خاتم للشارحين والمفسرين، ولا يرقى تفسير أو كلام أي شخص في مقام الشرح والتفسير إلى مستوى الوحي ... فإن كانت هناك أدلة مقنعة على الادعاء قبلنا بذلك الادعاء، وإن لم يكن الدليل مقنعاً لا يكون هناك فرق بين أن يكون المستدل هو على(علیه السّلام)أو غيره. فالدليل هو مناط قبول الكلمة وليس صاحب الكلمة»(1).

مناقشة وتحليل:

في معرض تحليل هذه الشبهة تجدر الإشارة إلى المسائل الآتية:

أ - عدم اختصاص العلم اللدني بالأنبياء:

كما تقدم في تحليل صفة الإلهام والعصمة أن قلنا: إن هاتين الصفتين من جملة شروط النبوة، ولكنهما ليستا من الشروط الخاصة بالأنبياء، بل يحدثنا القرآن الكريم عن بعض الأشخاص من غير الأنبياء من الذين اتصفوا بصفة العصمة والإلهام. وفيما يتعلق بمورد البحث (العلم اللدني) نجد الأمر كذلك أيضاً، فالعلم اللدني وإن كان شرطاً في النبوة، ولكنه ليس من الصفات اللازمة والخاصة بالأنبياء فقط، وفيما يأتي نشير إلى بعض الأولياء الذين اتصفوا بهذه الصفة ولم يكونوا من الأنبياء :

ص: 231


1- عبد الكريم سروش، بسط تجربه نبوی، ص 135 و 148 و 159.

أ / 1 - سيدنا الخضر(علیه السّلام) : يخبرنا القرآن الكريم عن إعطاء الله للخضر(علیه السّلام)من رحمته الخاصة، وتزويده بالعلم اللدني (من لدنا)؛ إذ يقول:

﴿ عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ﴾(1).

أ / 2 - علم صاحب النبي سليمان(علیه السّلام) : عندما أراد النبي سليمان من أصحابه أن يحضروا له عرش الملكة بلقيس من مسافة تقدر بمئات الكيلومترات، حدّد كل واحد منهم فترة زمنية قصيرة لإحضاره، ولكن آصف بن برخيا عبر عن قدرته على إحضاره برمشة عين؛ إذ يقول تعالى حكاية عنه: ﴿ قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ ﴿ عِلْمٌ مِنْ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ﴾(2).

إن القرآن الكريم لم يصرح بعلم آصف بن برخيا، ولكنه أشار إلى السر في امتلاكه لهذه القدرة وهو علمه بالكتاب، ولا شك في أنه لم يكن علماً عادياً، وإنما هو من العلوم الخاصة التي لا ينالها شخص إلا بعناية إلهية. والدليل والشاهد على ذلك يتجلى في اقتراح عفريت من الجن؛ إذ قال على ما يحكيه القرآن عنه: ﴿ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ ﴾(3).

واضح أنّ الذي يمتلك علماً من الكتاب، وتكون قدرته أكبر من قدرة عفريت من الجن يجب أن يكون علمه من نوع العلوم الإلهية، وإلا فإنّ العلوم الاعتيادية لا تمنح الشخص مثل هذه القدرة، والدليل على ذلك أنه على الرغم من مضي آلاف السنين، ورغم التقدم الصناعي الهائل لم يوجد حتى الآن من

يمتلك مثل هذه القدرة.

ص: 232


1- الكهف: 65 .
2- النمل: 40 .
3- النمل: 39.

الشاهد الآخر هو الملاك المذكور فى ذات الآية الشريفة «علم من الكتاب» والناظر إلى علوم الكتاب المقدس والمعارف الدينية، التي بسببها كان مورداً لعناية الله واهتمامه.

أ / 3 - علم السيدة مريم العذراء(سلام الله علیها)بالغيب: لقد وهب الله السيدة مريم العذراء القدرة على تحصيل علوم الغيب من خلال تعهد الملائكة لها ونزولها عليها، من قبيل إخبارها بولادة المسيح عيسى من دون أب، وبشارتها بنبوته، إذ يقول تعالى: ﴿ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ﴾(1).

أ / 4 - لقمان الحكيم(علیه السّلام): لقد تحدث القرآن الكريم عن شخصية لقمان بوصفه صاحب علم وحكمة إلهية، وفي ذلك يقول تعالى: ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ ﴾(2).

ب - تصريح النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)بالعلم اللدنى للأئمة(علیهم السّلام) :

لقد صرّح النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)في الكثير من المواطن بامتلاك الأئمة من أهل البيت بعلم الغيب والعلم اللدني، ولو كان إثبات مثل هذا العلم للأئمة الأطهار منافياً لخاتمية النبي لما صدر عنه مثل هذا الكلام؛ لأن مفاده نقض صفة من صفاته الثابتة. وفيما يأتي نستعرض بعض النصوص المأثورة عن النبي الأكرم بهذا الشأن:

- «إن آل محمد شجرة النبوة، وآل بيت الرحمة، وموضع الرسالة،

ص: 233


1- آل عمران: 44. بيد أن هذه الآية خطاب للنبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)ولا ربط لها بالسيدة مريم العذراء عليها السلام، المعرّب.
2- لقمان: 12 .

ومختلف الملائكة، ومعدن العلم»(1).

وهناك كثير من الروايات الأخرى المروية عن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)بهذا المضمون. وإن ذكر وصف «معدن العلم» في سياق صفات أخرى من قبيل: موضع الرسالة ومختلف الملائكة يثبت أن اتصاف الأئمة بكونهم معدن العلم لا يعني مجرد حصولهم على العلم الكثير ، وإنما هو ظاهر في العلم الإلهي. بعبارة أخرى: إن اتصاف أهل البيت بكونهم معدن الرسالة من نتائج اتصافهم بأنهم

«موضع الرسالة ومختلف الملائكة».

ج - تصريح الإمام علي(علیه السّلام)بعلمه للغيب:

لقد صرّح الإمام علي(علیه السّلام)بامتلاكه لعلم الغيب في الكثير من المواطن، ومن ذلك قوله(علیه السّلام) :

- «ألا وإنا أهل البيت من علم الله علمنا، وبحكم الله حكمنا، ومن قول صادق سمعنا»(2).

في هذا الحديث يبيّن الإمام بشكل صريح أن علم أهل البيت(علیهم السّلام)هو من عند الله، ويؤكد أنه صادر عن صادق لا يحتمل فيه الخطأ أبداً.

- «ألهمني الله - عز وجل - علم ما فيه»(3).

ص: 234


1- انظر: ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج 2، ص 54؛ أسد الغابة، ج 3، ص 193؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي، ج 2، ص 283؛ موسوعة الإمامة في نصوص أهل السنة، ج 3، ص 440.
2- ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، ج 1، ص 276 ، ذيل الخطبة رقم 16؛ ابن عبد الله، العقد الفريد، ج ، ص 157 ؛ الجاحظ، البيان والتبيين، ج 2، ص 50 - 52 .
3- العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 26، ص 4.

وروي عنه أنه قال في خطبة أخرى مؤكداً أنه يعلم بما أخفي علمه عن الناس :

- «ولو تعلمون ما أعلم مما طوي عنكم غيبه»(1).

ففي هذا النص يصرح الإمام بأمور كامنة خلف حجب الغيب، من قبيل إخباره بظهور الحجاج مثلاً.

وكان الإمام علي(علیه السّلام)بالاستناد إلى علمه الغيبي يسأل الناس أن يستثمروا وجوده وأن يسألوه قبل أن يفقدوه :

- «فاسألوني قبل أن تفقدوني فوالله الذي نفسي بيده لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة ... إلا أنبأتكم»(2).

وأضاف الإمام في خطبة أخرى بعد مطالبته الناس أن يسألوه عن كل شيء، قائلاً: «فَلَأَنَا بِطُرُقِ السَّماءِ أَعْلَمُ مِنِّي بِطُرُقِ الْأَرْضِ»(3).

كما كان الإمام علي(علیه السّلام)في الكثير من الموارد يخبر عن أحداث المستقبل - فيما عرف بالملاحم - وهو أمر لا يمكن أن يصدر من أي شخص إلا أذا كان من الذين يمتلكون العلم اللدني، وفيما يأتي يمكن لنا الإشارة إلى الموارد الآتية:

1 - الإخبار بخراب الكوفة(4).

2 - الإخبار بالهجوم على البصرة وخرابها(5).

ص: 235


1- فيض الإسلام، شرح نهج البلاغة، الخطبة 115، ص 364.
2- المصدر أعلاه، الخطبة رقم 92 ، ص 273 .
3- المصدر أعلاه، الخطبة رقم: 231 ، ص 761 .
4- انظر: نهج البلاغة، الخطبة رقم: 47 ، ص 134.
5- انظر: المصدر أعلاه، الخطبة رقم: 101، 1 ص، 301؛الخطبة رقم: 128 ، ص 395 .

3 - التنبؤ بسلطان بني أمية وانقراض دولتهم(1).

4 - التنبؤ بظهور الحجاج بن يوسف الثقفي، والإشارة له بلفظ «غلام ثقیف»(2).

5 - تحديد عدد قتلى الجانبين قبل احتدام معركة النهروان(3).

6 - التنبؤ بهجمة المغول وجرائمهم(4).

ولربما عرضت هنا شبهة مفادها: إن علم الإمام علي(علیه السّلام)بجميع هذه المغيبات يتنافى مع الآيات التي تحصر علم الغيب بالله. إلا أننا سنجيب عن هذه الشبهة في الفصول اللاحقة تحت عنوان «شبهات بشأن علم الأئمة للغيب».

د - اعتراف بعض أهل السنة بعلم الإمام للغيب:

وقد ذهب بعض المنصفين من علماء أهل السنة من أمثال ابن أبي الحديد المعتزلي - رغم إنكارهم لإمامة الأئمة الأطهار بمن فيهم الإمام علي(علیه السّلام) - ضمن اعترافهم بفضل الإمام علي(علیه السّلام)وكماله الروحي إلى القول بأن الإخبار الغيبي المنقول عنه مثل إخباره بمقتل عشرة من أصحابه في حرب النهروان وعدم بقاء غير عشرة من الأعداء(5)، هو من جملة معجزاته، وقال

ص: 236


1- انظر: نهج البلاغة ، الخطبة رقم: 86 ، ص 218؛ الخطبة رقم: 92 ، ص 275 .
2- انظر: المصدر أعلاه، الخطبة رقم: 115 ، ص 364.
3- انظر: ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة ، ج 5 ، ص 4 ، الخطبة رقم: 58 .
4- انظر: المصدر أعلاه، الخطبة رقم: 128 ، ص 397.
5- الصحيح أن الإمام علي(علیه السّلام)أخبر أن عدد قتلى المؤمنين لن يتجاوز التسعة، وأن الخوارج لن يبقى منهم سوى تسعة، وإليك نص كلمة الإمام(علیه السّلام)في هذا الشأن حيث يقول: «وَالله لاَ يُفْلِتُ مِنْهُمْ عَشَرَةٌ، وَلاَ يَهْلِكُ مِنْكُمْ عَشَرَةٌ ».المعرّب.

في شرح هذه الخطبة عند بلوغ تنبؤ الإمام بعدد القتلى من الطرفين قبل التحام الجيشين :

«هذا الخبر من الأخبار التي تكاد تكون متواترة؛ لاشتهاره ونقل الناس كافة له وهو من معجزاته وأخباره المفصلة عن الغيوب»(1).

وأكد أن هذا الأمر الإلهي وضعه الله عند الإمام علي(علیه السّلام)من طريق رسوله الكريم، أما الإنسان الاعتيادي فعاجز عن إدراك مثل هذه الأمور:

«ذلك أمر إلهي عرفه من جهة رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)وعرفه رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)من جهة الله سبحانه والقوة البشرية تقصر عن إدراك مثل هذا»(2).

ثم قال بإمكان أن يحصل الإنسان على قدرة الإخبار عن الغيب، ولكن ذلك بإقدار من الله سبحانه وتعالى، إذ يقول: «واعلم أنا لا ننكر أن يكون في نوع البشر أشخاص يخبرون عن الغيوب، ولكن كل ذلك مستند إلى البارئ سبحانه بإقداره وتمكينه وتهيئة أسبابه»(3).

وقد ذهب ابن عربي إلى إمكان العلم اللدني وأسرار السر الإلهي لأمثال الإمام علي(علیه السّلام)وابن عباس وسلمان(4).

ه_ - علم الغيب من نتائج الولاية الباطنية:

تقدّم أن ذكرنا في بحث الولاية الباطنية» بالتفصيل أن الأئمة(علیهم السّلام)يمتلكون الولاية الباطنية والمعنوية بفضل الله وعنايته وإنهم يتمكنون في ضوء

ص: 237


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 5 ، ص 4 .
2- المصدر أعلاه.
3- المصدر أعلاه، ص 12.
4- انظر: محيي الدين ابن عربي، الفتوحات المكية ، ج 1، ص 151 ، الباب 14 .

ذلك من الارتباط بعالم الغيب، وبذلك يحيطون علماً بالماضي والمستقبل، وحيث تقدم البحث التفصيلي بهذا الشأن، فإننا نحيل القارئ الكريم إلى ذلك الموضع. وأما هنا فنكتفي بذكر بعض الروايات التي تثبت وجود أسئلة أو شبهة بشأن نوع علم الأئمة(علیهم السّلام)في تفسير الدين حتى في عصر الأئمة أنفسهم.

روي عن الإمام الكاظم(علیه السّلام)في بيان مصدر علم الأئمة أنه قال: «مَبْلَغُ عِلْمِنَا عَلَى ثَلَاثَةِ وُجُوهِ مَاضٍ وَغَابِرٍ وَحَادِثٍ، فَأَمَّا الْمَاضِي فَمُفَسَّرْ ، وَأَمَّا الْغَابِرُ فَمَزْبُورٌ، وَأَمَّا الْحَادِثُ فَقَذْفٌ فِي الْقُلُوبِ وَنَقْرٌ فِي الْأَسْمَاعِ، وَهُوَ أَفْضَلُ عِلْمِنَا وَلَا نَبِيَّ بَعْدَ نَبِيِّنَا»(1).

في هذا الحديث الشريف يصف الإمام موسى بن جعفر(علیه السّلام)العلم بالماضي والمستقبل بأنه من سنخ العلم المفسّر والمزبور، وهو ظاهر في التعلم من أمثال النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم).

أما علمهم الراهن والحاضر فهو من سنخ الإلهام، وقد وصف الإمام الكاظم هذا النوع من العلم أنه من أفضل علومهم. وهنا كان من الممكن أن يتبادر إلى ذهن المخاطب أن الأئمة حيث يمتلكون علماً من سنخ الإلهام أنهم من الأنبياء أيضاً، ولذلك سيارع الإمام إلى دفع هذه الشبهة في صلب الحديث قائلاً إن علمنا كان من سنخ الإلهام، إلا أن هذا لا يعني النبوة، وبرحيل النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)يغلق باب النبوات إلى الأبد.

ص: 238


1- انظر: محمد بن يعقوب الكليني، أصول الكافي، ج 1، ص 264، باب جهات علوم الأئمة، ج 8، ص 125 ولتوضيح الرواية انظر: مرآة العقول، ج 3، ص 136؛ الملا صالح المازندراني، شرح أصول الكافي، ج 6، ص 49؛ مجمع البحرين، ج 2، ص 264 ، مادة: (زَبَر).

وعن سورة بن كليب عن أبي عبد الله(علیه السّلام)قال: دخلت عليه بمنى فقلت: جعلت فداك الإمام بأي شئ يحكم ؟ قال بالكتاب. قلت: فما ليس في الكتاب؟ قال: بالسنة. قلت: فما ليس في السنة ولا في الكتاب؟ قال: فقال بيده: «قد أعرف الذى تريد، يسدّد ويوفق، وليس كما تظن»(1).

ومراد الإمام من قوله «يُسدّد ويوفق» هو الإلهام والتأييد من قبل الملك وروح القدس، وقد تم التعبير بذلك في روايات أخرى.

والنقطة التي أشار إليها الإمام في نهاية الحديث حيث يقول: «ليس كما تظن قد يريد بها ظن السائل بأن علم الإمام يكون من طريق الاجتهاد وسلوك القنوات العادية(2)، أو شبهة قياس الإمامة على النبوة؛ فبادر الإمام(علیه السّلام)إلى نفى هذا المعنى.

وروي عن الإمام الصادق(علیه السّلام)أنه قال في جواب من سأله عن كيفية حکمه: «بحكم الله وحكم داود، فإذا ورد علينا شيء ليس عندنا تلقانا به الروح القدس»(3)

وفي رواية أخرى ورد التعبير بذات الألفاظ مع إضافة «ألهمنا الله إلهاماً»(4).

حصيلة الكلام ما يأتي:

- إن أصل ادعاء العلم اللدني وعلم الغيب لا صلة له بالنبوة والخاتمية أبداً؛ لأن العلم اللدني وعلم الغيب يشمل غير الأنبياء أيضاً، وهناك

ص: 239


1- العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 2، ص175.
2- انظر: العلامة محمد باقر المجلسي، المصدر أعلاه.
3- المصدر أعلاه، ج 25، ص 56.
4- المصدر أعلاه.

كثير من المصاديق التاريخية على ذلك، وقد أشار القرآن الكريم إلى بعضها. وعليه فإن نفس علم الغيب وإثباته للأئمة المعصومين(علیهم السّلام)لا يتنافى مع أصل النبوة والخاتمية.

2 - لو أن الذي يدعي علم الغيب والعلم اللدني ادعى أنه يتلقى رسالة جديدة من السماء خارج إطار شريعة الإسلام، كان ذلك منه منافياً لأصل الخاتمية، بيد أنه ليس هناك شيعي ينسب مثل هذا الادعاء للأئمة، بل إن الأئمة أنفسهم بعد إثبات صفة الإلهام إلى علمهم تصدوا لإزالة هذه الشبهة، وصرحوا

بعدم وجود نبي بعد النبي الأكر الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم).(وقد تقدمت الرواية في هذا الشأن).

3 - إن كان مراد من يدعي التهافت بين العلم اللدني والخاتمية هو أن الأئمة في ضوء علمهم الغيبي يدعون العصمة وحجية القول والتشريع في بعض أحكام الإسلام، فيجب القول في هذا الشأن: أولاً إن أصل ادعاء علم الغيب والعلم اللدني لا يتنافى مع الخاتمية، إلا أن الذي يبدو للمستشكل منافياً للخاتمية هو ادعاء الحجية والتشريع، وقد تقدم تحليل هذه الشبهة والجواب عنها فى الصفحات السابقة، وقد ذكرنا هناك أن حجيتهم وتشريعهم إنما هو بإذن من الله الذي هو المشرع الحقيقي لأحكام الإسلام، وتفويض من النبي الأكرم، وهذا في الحقيقة لا يتنافى مع الخاتمية، بل هو متمم ومكمّل لها.

الشبهة الثامنة: تفويض أمور النبوة للإمام نقض للخاتمية:

تقدم في الصفحات السابقة أن الأئمة(علیهم السّلام)يتصفون بصفات كمالية خاصة، من قبيل: العصمة وعلم الغيب والإلهام والحجة الإلهية والتنصيب في مقام الإمام من قبل الله عز وجل والنبي الأكرم. وهناك من المستشكلين من

ص: 240

رأى في إثبات هذه الصفات للأئمة من قبل النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)نقضاً لأصل الخاتمية، ومن هنا أنكر اتصاف الأئمة(علیهم السّلام)بهذه الصفات. وقد قال الدكتور سروش في عدد من المواطن: «إنه لعين التناقض أن يهب الرسول الخاتم شخصاً أو أشخاصاً حقوقاً تنقض خاتميته»(1).

مناقشة وتحليل:

إن المشكلة الأساسية التي يعاني منها هذا الأشكال تكمن في تعريفه الخاص لمعنى الخاتمية ومفهومها، إذ إن المستشكل في إشكاله هذا يفسّر الخاتمية بشكل عام، معتبراً كل صفة كمالية يتصف بها النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)هي من خواص النبوة، ويرى في تعميمها على غير النبي نقضاً للنبوة وأصل الخاتمية. في حين أن معنى الخاتمية ومفهومها - كما تقدم في الصفات السابقة - لا يكمن في حصر صفة العصمة والإلهام وعلم الغيب والحجية بالنبي وعدم بسطها وتعميمها على الإمام، بل إن معنى الخاتمية هو عدم ظهور نبي جديد يحمل شريعة جديدة. إن القائلين بأصل الإمامة لا يدعون وجود شريعة ونبي جديد، وإنما غاية ما يرونه أن الأئمة منصوبون من قبل خاتم الأنبياء وآخرهم، وأنه فوّض إليهم

مختلف الشؤون من قبيل الحجية والعصمة في القول والعمل، بمقتضى خلافتهم للنبي في مجال تفسير الدين والدنيا من قبل نفس النبي الأكرم والخالق سبحانه.

وقد ورد هذا المعنى من الخاتمية وعدم تنافيها مع أصل النبوة والخاتمية في كلام النبي تماماً، ذلك حيث يقول الإمام علي(علیه السّلام): «وَلَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ(صلی الله علیه و آله و سلم)اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّهِ، يَرْفَعُ لِي فِي كُلِّ يَوْمِ عَلَمَا مِنْ أَخْلاقِهِ، وَيَأْمُرُني بِالْإِقْتِدَاءِ

ص: 241


1- بسط تجربه نبوى (سط التجربة النبوية)، ص 135 .

بِهِ. وَلَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَة بِحِرَاءً فَأَرَاهُ، وَلَا يَرَاهُ غَيْرِي، وَلَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذٍ فِي الْإِسْلامِ غَيْرَ رَسُولِ الله(صلی الله علیه و آله و سلم)وَخَدِيجَةَ وَأَنَا ثَالِثُهُمَا، أَرَى نُورَ الْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ، وَأَهُمُّ رِيحَ النُّبُوَّةِ ... وَلَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ الشَّيْطَانِ حِينَ نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَيْه(صلی الله علیه و آله و سلم)فَقُلْتُ : يَارَسُولَ الله مَا هَذِهِ الرَّئَةُ؟ فَقَالَ: «هَذَا الشَّيْطَانُ قَدْ أَيسَ مِنْ عِبَادَتِهِ، إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ، وَتَرَى مَا أَرَى، إِلا أَنَّكَ لَسْتَ بنبي»(1).

حيث نجد النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)في هذا الحديث لا ينفي أصل صفة الإلهام ورؤية ملك الوحي وسماع صوته، وإنما يثبت ذلك كله ولا ينفي إلا صفة النبوة عن الإمام علي(علیه السّلام). وفي روايات أخرى يثبت النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)للإمام علي(علیه السّلام)مختلف الصفات الكمالية من قبيل : العصمة والحجية ووجوب الإطاعة على ما مر في معرض الجواب عن الشبهات المتقدمة. وبعبارة أخرى إن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)فيما يتعلق بمعنى ومفهوم الخاتمية أعلم من جميع البشر - بمن فيهم الدكتور سروش نفسه - وعليه لو كان إثبات الصفات المذكور للإمام على(علیه السّلام)منافياً لأصل الخاتمية، لما فوّضها لغيره أبداً. إلا إذا أراد شخص أن يدعي أنه يقدم لرسول الله دروساً في معنى الخاتمية والعياذ بالله، أو أن يعتقد بعدم عصمته في هذه المسألة، وإذا كان كذلك تعيّن على هذا الشخص قبل كل شيء أن يوضح مراده بشكل شفاف كي نقدم له الجواب المناسب.

ص: 242


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 234؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي، الخطبة رقم: 238 ، ج 13، ص 197.

الفصل الرابع

شبهات حول أصل التنصيب ونقدها

ص: 243

ص: 244

الشبهة الأولى: عدم ذكر التنصيب في القرآن الكريم :

اشارة

تعرضنا في الفصل السابق إلى الشبهات العامة والانتقادات الناظرة إلى أصل الإمامة بالنقد والتحليل وفي هذا الفصل سوف نتناول بالنقد الشبهات التي تسعى بشتى المفاهيم والطرق إلى إنكار العناصر الأساسية للإمامة، أى وجود النص الإلهي على إمامة الإمام على والأئمة من ولده.

إن الشبهة الأولى - وهى في الوقت نفسه من الشبهات القديمة والمعروفة المطروحة من قبل أهل السنة - تكمن في ادعاء عدم ذكر إمامة علي(علیه السّلام)في القرآن الكريم، حيث يدعون أن إمامته لو كانت بأمر من الله لوجب التأكيد عليها في الآيات القرآنية. وهناك من ادعى بشكل عام أن أصل التنصيب مجعول من قبل المتكلمين في القرن الثاني والثالث(1)، ولازم ذلك عدم وجود النص في القرآن والسنة(2).

نقد ورأي:

في تحليل هذه الشبهة تجدر الإشارة إلى النقاط الآتية :

ص: 245


1- انظر: شاهراه اتحاد، ص 254.
2- انظر: أحمد الكاتب، تطور الفكر السياسي الشيعي، ص 16.

وجود الآيات الظاهرة في التنصيب :

هناك كثير من آيات القرآن الكريم تدل على تنصيب الإمام علي(علیه السّلام)في منصب الإمامة، نشير فيما يأتي إلى بعضها:

1 - آية التطهير: إن من بين الآيات المعروفة النازلة بشأن أهل البيت(علیهم السّلام)هي آية التطهير التي طهر الله فيها أهل بيت النبي من جميع أنواع الرجس، إذ يقول: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾(1).

النبي المالية

إن هذه الآية تثبت عصمة أهل بيت النبي(علیهم السّلام) - علي وفاطمة والحسن والحسين - وقد ذكر نزول هذه الآية في هؤلاء عدد من الصحابة يبلغ حد التواتر وقد تم التأكيد على هذا المعنى في المصادر السنية والشيعية. فها هو الترمذي مثلاً يقرّ بأن آية التطهير نزلت في بيت أم سلمة، وقال بأن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)دعا علياً وفاطمة والحسن والحسين ثم ألقى عليهم عباءة وقال:

«اللهم هؤلاء أهل بيتي»(2).

وكان الإمام على(علیه السّلام)يستند إلى هذه الآية الكريمة في كثير من المواطن في مقام إثبات مقامه الشامخ والاحتجاج بها على المخالفين كما صدر ذلك عنه مع أهل السقيفة(3).

ص: 246


1- الأحزاب: 33.
2- انظر: الترمذي، صحيح الترمذي، ج 5، ص 327؛ تفسير الدر المنثور، تفسير الآية؛ العلامة الحسيني الطهراني امام شناسی، ج 3، ص 162 - 172 .
3- انظر: الخوارزمي، المناقب، ص 129.

وقد ورد في مصادر أهل السنة بصيغ مختلفة أن الإمام الحسن(علیه السّلام)بعد استشهاد أبيه الإمام علي(علیه السّلام)قد طبق آية التطهير في بعض خطبه على نفسه وقال: «نحن أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً»(1).

وإن لازم تطهير وطهارة أهل البيت من جميع أنواع الرجس هو عصمتهم من جميع أنواع الذنوب والمعاصي، وهذا يثبت بدوره حجيتهم ولزوم إطاعتهم مطلقاً؛ وذلك لانتفاء صدور الخطأ والمعصية عنهم في القول والعمل طبقاً لهذه الآية الشريفة.

2 - آية الإنذار: إن صفة المنذر والهادي من صفات الأنبياء التي تم التأكيد عليها في القرآن الكريم أيضاً؛ إذ يقول تعالى: ﴿ إِنَّما أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمِ هَادٍ ﴾(2).

روي في كثير من الروايات المأثورة في كتب الفريقين أن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)كان يصف نفسه ب_ «المنذر» ويصف الإمام على(علیه السّلام)ب_ «الهادي» لأمته من بعده، ومن ذلك قوله : «أنت الهادي يا علي بك يهتدى من بعدي»(3).

لقد استعمل وصف «الهادي» في آيات القرآن - ومن بينها هذه الآية

ص: 247


1- انظر: الحسكاني، شواهد التنزيل، ج 2، ص 31؛تاريخ مدينة دمشق، ج13، ص269؛ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة ، ج 16 ، ص 22. لمزيد من التوضيح انظر: العلامة الحسيني الطهراني، امام شناسي، ج 3، ص 141 فما بعد.
2- الرعد: 7.
3- انظر: تفسير ابن كثير، ج 2، ص 503؛ تفسير الطبري، ج 13، ص 108؛ تفسير روح المعاني، ج13،ص108؛ تفسير الثعلبي، ج 5، ص 272؛ تاريخ مدينة دمشق، ج 42 ، ص 359 .

الشريفة - في المقامات السامية من قبيل مقامات الأنبياء. ولكن لمّا كان الإسلام هو خاتم الأديان، فإن الإمام عليا(علیه السّلام)وإن لم يكن نبياً ينزل عليه الوحي، ولكنه طبقاً لصريح هذه الآية وتفسير النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)لها وتطبيقها على الإمام على(علیه السّلام)،يثبت أن الإمام علياً كان متصفاً بصفة «الهادي» بعد النبي أيضاً.

3 - آية الولاية: وهي قوله تعالى: ﴿ إِنَّما وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ﴾(1).

في معرض الاستدلال بهذه الآية لابد من الالتفات إلى ما يأتي:

أ - إن معنى «الولى» وإن كان مختلفاً من قبيل : الناصر والقريب، بيد أنه بالالتفات إلى استعمال أداة الحصر «إنما» في هذه الآية الشريفة، دلّ ذلك على أن الآية بصدد حصر أولياء المؤمنين بعدد محدد من المصاديق، وإن هذه المصاديق عبارة عن: (الله والنبي والذي يعطي الزكاة راكعاً)، ولازم ذلك إرادة معنى الحاكم من لفظ «الولي»؛ إذ إن حصر معنى «الولي» بما ذكر آنفاً لا يكون له من معنى، إذ لا معنى لحصر الحب بالله والنبي والذي يتزكى أثناء الركوع، أو الدعوة إلى إقامة التواصل معهم أو نصرتهم.

من هنا يكون معنى الحاكم والقيم منسجماً مع الحصر بشكل كامل؛ لأن الآية الشريفة بصدد بيان من هو حاكم المسلمين، وتقول إنه هو الله بالدرجة الأولى، ثم رسوله الكريم(صلی الله علیه و آله و سلم)، ثم الذي يتصدق أثناء الركوع، وسوف نرى أن هذا الوصف لا ينطبق إلا على الإمام علي(علیه السّلام).

ص: 248


1- المائدة: 55 .

ب - النقطة الثانية حيث أن ولاية الله ورسوله تعني الزعامة وامتلاك زمام الأمور والاختيار، يكون معنى ولاية الإمام علي(علیه السّلام)كذلك أيضاً لورودها في الآية الشريفة معطوفة على ولاية الله ورسوله، وسياق الآية يقتضى أن تكون ولاية المصاديق الثلاثة في هذه الآية الشريفة بمعنى واحد.

ج - لو اعتبرنا لكلمة «الولي» الواردة في هذه الآية معنى غير معنى الإمامة والحكومة، فإننا سنواجه مشكلة في تفسير هذه الآية فيما يتعلق بعبارة «وهم راكعون»، كأن يقال: إن الذي يحبكم أو ناصركم هو الله ورسوله وذلك الصنف من المؤمنين الذي يتصدق أثناء الركوع. وعندها يرد السؤال القائل: ما الذي يمنع المؤمن من نصرة المسلمين في غير حالة التصدق أثناء الركوع، وأساساً ما هو السرّ في تقييد الآية ل_ «الولي» بحالة خاصة من حالات الركوع؟(1)

جاء في كثير من الروايات المأثورة في كتب الفريقين أن هذه الآية قد نزلت في الإمام علي(علیه السّلام)، وذلك عندما دخل مسكين إلى المسجد وسأل المسلمين أن يتصدقوا عليه فلم يعطه أحد منهم شيئاً؛وكان الإمام علي قائماً يصلي فأومأ إلى الفقير بأن يأخذ خاتمه، وهكذا تصدق به على ذلك المسكين؛ فنزلت هذه الآية(2).

ص: 249


1- انظر: الفيروز آبادي، فضائل الخمسة، ج 2، ص 18 .
2- انظر: تاريخ مدينة دمشق، ج 42 ، ص 8950 ، وج 45 ، ص 9885؛ البداية والنهاية، ج 7، ص 358؛الدر المنثور، ج 3، ص 105؛ شواهد التنزيل، ج 1، ص 226؛ تفسير ابن كثير، ج 3، ص 129 . ومن العجيب أنه على الرغم من وجود هذه المصادر الكثيرة لأهل السنة، هناك من يدعي أن شأن النزول المذكور لم يرد في أي من مصادر أهل السنة! (انظر: تئوری امامت در ترازوی نقد، ص 53).

ه_ - ربما كان هناك من يشكك في المسائل المتقدمة، ولذلك فإننا لتكميل استدلالنا نشير إلى الرواية النبوية الناظرة إلى مورد البحث كي تزول جميع أنواع الشك والترديد في استفادة الإمامة والحكومة من الآية الشريفة، وذلك من خلال سرد الرواية الآتية :

ذكر الثعلبي القصة مسندة إلى أبي ذر الغفاري، فقال: صليت يوماً صلاة الظهر في المسجد و رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)حاضر فقام سائل فسأل فلم يعطه أحد شيئاً، قال: وكان علي(علیه السّلام)قد ركع فأومى إلى السائل بخنصره؛ فأخذ الخاتم من خنصره، والنبي(صلی الله علیه و آله و سلم)يعاين ذلك؛ فرفع رأسه إلى السماء وقال: «اللهم إن أخى موسی سألك فقال: ﴿ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي ﴾ الآية إلى قوله ﴿ وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ﴾؛ فأنزل عليه قرآناً ناطقاً: ﴿ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُم سُلْطاناً فَلا يَصِلُّونَ إِلَيْكُما ﴾ اللهم وأنا محمد صفيك ونبيك فاشرح لي صدري ويسر لي أمري واجعل لي وزيراً من أهلى علياً اشدد به أزرى أو قال ظهري. قال أبو ذر: فوالله ما استتم رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)الكلمة، حتى نزل جبريل(علیه السّلام)من عند الله تعالى؛ فقال: يا محمد اقرأ: ﴿ إِنَّما وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ إلى قوله: ﴿ وَهُمْ رَاكِعُونَ ﴾»(1).

كما وردت رواية مشابهة لهذه الرواية في المصادر الشيعية، ولكن لا يسع المجال إلى ذكرها هنا(2).

ص: 250


1- تذكرة الخواص، ص 15؛ شواهد التنزيل ، ج 1، ص 230؛ فرائد السمطين، ج 1، 15؛ ص 192.
2- انظر: موسوعة الإمام علي(علیه السّلام)، ج 2، ص 202 ، وانظر أيضاً: تفسير الآية الخامسة من سورة المائدة في مختلف التفاسير.

4 - آية التبليغ: وهي قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَالله يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ ﴾(1).

نزلت هذه الآية الشريفة في يوم غدير خم - أو قبله بأيام قلائل في الحد الأدنى - على رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)، وهي تتحدث عن المهمة الأساسية والجوهرية الملقاة على عاتق النبي الأكرم في الأيام الأخيرة من حياته المباركة. وقد تلخصت هذه المهمة بإبلاغ إمامة الإمام علي(علیه السّلام)، وهو ما توضحه النقاط الآتية أيضاً:

أ - ليس هناك فيما رصده التاريخ من التعاليم الدينية للنبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)في أواخر أيام حياته الشريفة ما هو أهم من حادثة الغدير. وعليه فإن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)إما أن لا يكون قد قام بواجبه تجاه الأمة في حادثة الغدير - والعياذ بالله - أو أن نقول بأن حادثة الغدير قد انطوت على أمر في غاية الأهية للإسلام والمسلمين. ولمّا كانت الفرضية الأولى لا تتناسب مع شأن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)وعصمته، تتعين الفرضية الثانية، فضلاً عن أن هذه الآية تخبر عن إكمال الدين الذي هو من أهم الأمور المتعلقة بالرسالة السماوية على ما سيأتي بيانه.

إذن تكون الفرضية الثانية القائلة بأمر الله لنبيه بتنصيب علي(علیه السّلام)خليفة من بعده على المسلمين في يوم غدير خم هي المتعينة.

ب - إن هذا الأمر المهم والأساسي لا يمكن أن يكون مجرد الأمر بمحبة

ص: 251


1- المائدة: 67 ، للمزيد من التوضيح بشأن هذه الآية والآية التالية، انظر: مطهري، الأعمال الكاملة، ج 4 ، ص 88 - 907 .

علي أو تعريف الإمام علي(علیه السّلام)بوصفه ناصراً ومعيناً للنبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)؛لعدم وجود سنخية ومناسبة بين هذا المفهوم ومحتوى الآية بحيث يعد عدم إبلاغه تركاً للرسالة الإلهية وعدم إبلاغها من رأس.

ج - يثبت صريح الآية أن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)كان يعيش صراعاً وخوفاً من إبلاغ محتوى رسالة الآية، وكأنه حدث نوع من الإبطاء في إبلاغ ذلك المضمون. وقد كان محتوى الآية من الأهمية والخطورة بالنسبة إلى البعض بحيث كان النبي يستشعر صدور نوع من الخطر عنهم يمس جوهر الدین والمجتمع الإسلامي. ومن الواضح أن هذا النوع من الخطاب لا يتناسب مع مجرد تعريف الإمام علي(علیه السّلام)بوصفه ناصراً للرسول أو دعوة المؤمنين إلى مجرد محبّته، ومعه لا يبقى هناك معنى لافتراض مخاوف الرسول(صلی الله علیه و آله و سلم). وأما إذا فسرنا محتوى الآية ومضمونها بإمامة علي(علیه السّلام)تكون الفرضية منسجمة مع الواقع تمام الانسجام.

كما لا يبدو معقولاً أن يجمع النبي النبي علي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)ما يقرب من مئة ألف حاج في يوم شديد الحرارة في صحراء مقفرة لا لشيء إلا لمطالبتهم بأن يحبّوا علياً، أو إخبارهم بأنه كان ناصراً الرسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)طوال ما يربو على العقدين من الزمن، كما عليه قراءة أهل السنة لواقعة غدير خم.

د - يمكن الاستدلال بالنص الذي تلاه النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)يوم الغدير على إمامة الإمام علي(علیه السّلام)، بوصفه ناظراً إلى هذا الأمر، وذلك حيث يمهد له بحقيقة أولويته وولايته على الناس وتقدم نفسه على أنفسهم، إذ يقول: «ألست أولى ...»، على ما سيأتي توضيحه في الصفحات القادمة عند وقوفنا على حديث الغدير.

ص: 252

ه_ -التزم أكثر علماء أهل السنة بنزول هذه الآية في غدير خم. وسيأتي ذكر المصادر على ذلك، مع ذكر القرائن الأخرى حول دلالة الآية وحديث الغدير على إمامة الإمام علي(علیه السّلام)عند التعرض لحديث الغدير في الفقرة المخصصة للروايات في الصفحات القادمة إن شاء الله .

5 - آية إكمال الدين: وهي قوله تعالى: ﴿ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَقْمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا ﴾(1).

إن هذه الآية الشريفة تتميماً للآية السابقة ناظرة إلى إمامة الإمام علي(علیه السّلام)فيما يتعلق بواقعة غدير خم أيضاً، وظاهر الآية على تأييدها. ومع ذلك لا بد من الإشارة في تقريرها إلى الأمور الآتية:

أ - يذهب الكثير من علماء أهل السنة إلى القول بأن هذه الآية ناظرة إلى حادثة غدير خم(2).

ص: 253


1- المائدة: 3.
2- انظر: الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور، ج 1، ص 200؛ فرائد السمطین، ج 1، ب 22، ج 39، وب ،82 ، ج 40 ؛ البداية والنهاية، ج 5، ص 213. وهناك من قال بنزول الآية في يوم عرفة، وقد رووا في ذلك بعض الروايات، وبهذا المضمون روايات في المصادر الشيعية أيضاً. (الكافي، ج 1، ص 290؛ تفسير العياشي، ج 1، ص 333). وفي هذا الشأن يجب القول: يمكن الجمع بين الروايات من خلال افتراض زمنين مختلفين، بمعنى أنه كما كان يبدو من ظاهر آية التبليغ أن أصل رسالة الغدير كانت قد نزلت على النبي في وقت سابق، بيد أن النبي كان يخشى من إبلاغها، وعليه يمكن القول إن الروايات التي تقول بنزول هذه الآية في يوم عرفة (التاسع من ذي الحجة) أي قبل ثمانية أيام من يوم الغدير تنظر إلى أصل الصدور، والروايات التي ترى أن مبدأ الآية يكمن في حادثة الغدير إنما تنظر إلى يوم الإبلاغ. (تفسير الميزان، ج 5، ص 196؛ امام شناسی، ج 8، ص 53).

ب - وصف الآية لمضمون ما يجب إبلاغه بيأس الكفار وإكمال الدين وإتمام النعمة، لا ينسجم مع حمل خطاب الغدير على مجرد الدعوة إلى حب على(علیه السّلام)أو الإخبار عن أنه ناصر للنبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)، بل إن هذه الصفات يجب أن تقوم على أمر أساسي وجوهري، والفرضية الوحيدة التي يمكن افتراض وجودها في أخريات حياة النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)هي مسألة إمامة الإمام علي(علیه السّلام).

وهناك قرائن وشواهد أخرى في تأييد نظرية الشيعة، وسيأتي تفصيلها عند البحث في حديث الغدير في الصفحات القادمة إن شاء الله.

6 - آية أولي الأمر: وهي قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ﴾(1).

يذهب الشيعة إلى القول بدلالة «أولي الأمر» على عصمة الإمام علي(علیه السّلام)وإمامته، حيث يمكن استنتاج ذلك من خلال الالتفات إلى الأمور الآتية:

أ - حيث تم عطف «أولي الأمر» على «الرسول» يتضح أن إطاعة أولي الأمر من قبيل إطاعة رسول الله. ومن هنا يتضح أن «أولي الأمر» يجب أن يكونوا مثل رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)في عصمته، كي يصح من الله أن يأمر بإطا. بشكل مطلق. وقد التفت الفخر الرازي في تفسيره إلى هذه المسألة، ولكنه لم يثبت العصمة لأشخاص بعينهم، وإنما طبقها على الأمة بأسرها. وفي هذا الشأن يجب القول: تقدم في رواية العصمة أنه طبقاً لها لم تتوفر في عصر النبي

ص: 254


1- النساء : 59.

الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)إلا في شخص الإمام علي(علیه السّلام).

ب - لمّا كان أهل السنة لا يذهبون إلى الاعتقاد بوجود تنصيب لأحد، فعليهم إما القول بتطبيق مفهوم «أولي الأمر» على الإمام علي(صلی الله علیه و آله و سلم)وأبنائه المعصومين الأحد عشر(علیهم السّلام)، أو القول بعدم وجود مصداق لهذا المفهوم ؛ فيلزم من ذلك اللغوية والعياذ بالله.

ج - وفيما يتعلق بذهاب الفخر الرازي إلى تطبيق العصمة على الأمة، يجب القول:

أولاً: إن «أولي الأمر» طبقاً لمنطوق الآية ونصها ليس جميع الأمة، وإنما بعضها، كما يفهم ذلك من عبارة «منكم».

وثانياً: إن أولي الأمر تعني (أصحاب الأمر والحكم)، وهذا لا يتناسب مع تفسير العبارة بالأمة لكي يصح تطبيق الآية عليها.

وثالثاً: إن الآية تريد ل_«أولي الأمر أن يطاعوا بشكل مطلق، وعليه يجب على الأمة أن تطيع. وعلى تفسير الفخر الرازي تتحول الأمة من مطيعة إلى مطاعة.

د - بالإضافة إلى التحليل المفهومي للآية، فإن الروايات النبوية تذهب إلى تحديد مصاديق «أولي الأمر» بعلي(علیه السّلام)والأئمة من ولده(علیهم السّلام)، من قبيل الحديث النبوي القائل: «شركائي الذين قرنهم الله بنفسه وبي، وأنزل فيهم ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا الله ...﴾»؛ فسأله الإمام علي(علیه السّلام)عن هؤلاء الشركاء؛ فقال له(صلی الله علیه و آله و سلم): «أنت أولهم»(1).

ص: 255


1- شواهد التنزيل، ج 1، ص 189.

وفى بداية خلافة عثمان طلب الإمام على(علیه السّلام)في حضور جماعة من الصحابة أن يشهدوا ويعترفوا في حق من نزلت آيات «أولي الأمر» و«الولاية» و«التبليغ»؟ أفهل نزلت هذه الآيات في حق غيره(علیه السّلام)؟! ألم يكن أبو بكر وعمر قد سألا رسول الله بعد نزول هذه الآيات: يا رسول الله هؤلاء الآيات خاصة في على؟(1)فقال(صلی الله علیه و آله و سلم)في جوابهما: «بلى فيه وفي أوصيائي إلى يوم القيامة»(2).

نقل الحسكاني عن الإمام الباقر(علیه السّلام)أنه سُئل عن هذه الآية؛ فقال: إنها نزلت في حق علي بن أبي طالب(3).

وقد روي ما يشبه هذه الرواية عن الإمام الصادق(علیه السّلام)أيضاً(4).

الشبهة الثانية: عدم ذكر اسم الإمام علي(علیه السّلام)في القرآن الكريم :

اتضح من خلال الصفحات السابقة أن اسم الإمام علي(علیه السّلام)وإن لم يذكر صراحة في آيات القرآن الكريم، ولكن نزلت في شأنه كثير من الآيات، وكان المسلمون في صدر الإسلام يعلمون جيداً أن المعنى بها هو الإمام علي(علیه السّلام)، وقد تقدم أن ذكرنا بعض الآيات التي تدل على إمامة الإمام علي

ص: 256


1- التفسير الكبير، ج 10، ص 144، تفسير الآية.
2- فرائد السمطين، ج 1، ص 312؛ الغدير، ج 1، ص 165 .
3- تفسير العياشي، ج 1، ص 312؛ شواهد التنزيل، ج 1، ص 190 ، نقلاً عن: موسوعة الإمامة في نصوص أهل السنة، ج 4، ص 21.
4- انظر: ينابيع المودة، ج 1، ص 341.

بشكل صريح، وتقدم أن قلنا إنها موضع تسليم واعتراف من قبل الفريقين. إلا أن اختلافهم يكمن في تفسير الآيات، وفي مفهوم الآيات، ودلالتها على إمامته(علیه السّلام)على ما مر بيانه وتوضيحه في الصفحات السابقة.

وعلى الرغم من الدلالة الواضحة للآيات السابقة، يطرح بعض أهل السنة شبهة عدم ذكر اسم الإمام علي(علیه السّلام)في القرآن الكريم بشكل خاص، ببيان أنه لو كان علي(علیه السّلام)هو الإمام لكان على الله أن يذكره في القرآن باسمه حسماً للنزاع ومنعاً للخلاف. وقد كانت هذه الشبهة مطروحة حتى في عصر الأئمة الأطهار(علیهم السّلام)مثل الإمام الباقر(علیه السّلام)(1)، وقد خاض فيها بعض المعاصرين أيضاً(2).

نقد ورأي:

في معرض الإجابة عن هذه الشبهة يجدر التدبر في الأمور الآتية:

أ - ذكر الصفات الخاصة يغني عن التصريح بالاسم: اتضح من الآيات السابقة أن الله سبحانه وتعالى أراد من خلال إنزالها التعريف بالإمام علي(علیه السّلام)بوصفه إماماً وخليفة بعد النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم).ومع ذكر هذا العدد من الآيات لا تعود هناك من حاجة إلى التصريح بالاسم الخاص؛ إذ إن بعض الآيات تشتمل على خصائص حصرية ومتعينة في شخص الإمام علي(علیه السّلام)لا يشاركه فيها غيره، من قبيل: آية الولاية، وإيتاء الزكاة أثناء الركوع، وهناك من الآيات ما يعرف الإمام على(علیه السّلام) بوصفه إماماً وولياً ومولى وهادياً في دلالة واضحة

ص: 257


1- انظر: شواهد التنزيل، ج 1، ص 191.
2- انظر: شاهراه اتحاد، ص 105 و 166 .

وصريحة يتفق في فهمها جميع الصحابة أو أغلبهم في الحد الأدنى، على ما تقدّم ذكره .

إذن ليس هناك أي مشكلة أو سوء فهم فيما يتعلق بأصل تطبيق آيات الولاية وأهل البيت وأولى الأمر والهادي والمولى على الإمام علي(علیه السّلام)حتى تكون هناك حاجة إلى التصريح باسم علي في القرآن بشكل خاص. فمثلاً لو كان لدى والد كثير من الأولاد وكان هناك واحد من أولاده حافظاً للقرآن فقط، وقال الأب عند احتضاره إن وصيي من بين جميع أولادي هو الحافظ للقرآن منهم، وحيث أن الجميع يعرفون من هو الحافظ للقرآن من بينهم؛ لأنه واحد لا غير، لا يشعرون بوجود حاجة أو ضرورة لتسميته، ولا يرد إشكال حقوقي على الأب من هذه الناحية. وخاصة إذا كان الأب قد اهتم شخصياً بمسألة حفظ هذا الابن للقرآن أو كونه وصياً. وعليه الشيء نفسه ينطبق على ما نحن فيه من خلافة الإمام علي(علیه السّلام)وإمامته وزيادة.

ب - تحويل الشبهة إلى شبهة أخرى: قد يشكك شخص أو يشتبه لا في تطبيق هذه الآيات والصفات على الإمام علي(علیه السّلام)، وإنما في تفسير هذه المفاهيم والمعاني. كأن يقول : صحيح أن القرآن قد وصف الإمام علياً(علیه السّلام)بأنه «ولي المؤمنين» وأنه «من أهل البيت» أو «الهادي» إلا أن الكلام في معنى «الولي»، فهل هو الإمام والحاكم والخليفة أو مجرد المحب والناصر؟ وفي هذه الصورة يجب القول: إذن لا يعود أصل الشبهة إلى عدم ذكر اسم على(علیه السّلام)في القرآن؛ إذ حتى لو فرضنا أن القرآن ذكر اسم الإمام علي صراحة بأن قال: «إنما وليكم علي ابن أبي طالب» سيرد السؤال أيضاً عن معنى الولي في هذه العبارة. وعليه فإن الشبهة تعود إلى تفسير معنى صفات الإمام علي(علیه السّلام)

ص: 258

الواردة في القرآن، وليس في انطباقها عليه. وبعبارة أخرى: إن الشبهة تتحول من موضوعها (عدم ذكر اسم الإمام علي في القرآن) إلى شبهة أخرى مفادها: (إجمال صفات الإمام علي(علیه السّلام)وإبهامها)، وهذه شبهة أخرى.

وفي حل هذه الشبهة سوف نثبت من خلال القرائن والشواهد المختلفة في الآيات وكذلك التمسك بالروايات النبوية أن أصل دلالة صفات الإمام علی(علیه السّلام) على مسألة الحكم والإمامة واضحة وصريحة.

ج - ذكر اسم الإمام علي(علیه السّلام)في الروايات النبوية: إذا كان المراد من ذكر الاسم الخاص للإمام علي(علیه السّلام)هو التعرف على إمامته في الإسلام ومن قبل الله سبحانه وتعالى، وجب القول : إن هذه الغاية غاية عقلانية ودينية، إلا أن تحصيلها لا ينحصر بذكر الاسم الخاص للإمام علي(علیه السّلام)في القرآن الكريم فقط، بل هناك قنوات أخرى يمكن لها أن تفي بالغرض، ومن بينها الروايات المأثورة عن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)بوصفه حامل الوحي ومفسر القرآن. وفي الصفحات القادمة سوف نشير إلى مجموعة من الروايات النبوية المتعددة والمتواترة التي يسعى النبي من خلالها - وبمختلف الأساليب والطرق - إلى التعريف بالإمام على(علیه السّلام)بوصفه خليفة له من بعده وعليه فإن الغاية المتمثلة بمعرفة خليفة النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)متحققة بالرجوع إلى الروايات النبوية، ومعها لا حاجة إلى ذكر اسم الإمام علي(علیه السّلام)في القرآن الكريم.

وإذا قال شخص إنه لا يؤمن بالنبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم) - والعياذ بالله - وأصر على ضرورة أن يذكر اسم الإمام علي في القرآن حصرياً، وجب القول أولاً : إن الذي لا يؤمن بمن أنزل عليه القرآن، كيف يمكنه تحصيل العلم بأن ما جاء به إنما نزل عليه من السماء. وثانياً: إن مثل هذا الشخص لا يمكن أن يكون

ص: 259

مسلماً، ولحسن الحظ فإننا لم نعثر على مثل هذا القائل.

د - تفويض الأمور الدينية إلى النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم): إن القرآن الكريم هو الذي فوض إلى النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)مهمة تفسير الأمور والتعاليم الدينية الضرورية وبيانها، إذ يقول تعالى:

- ﴿ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ﴾(1).

- ﴿ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ ﴾(2).

لقد ترك الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات أمر بيان الذكر - أي القرآن الكريم - وتعليمه إلى النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم). من هنا فإن الأحكام التشريعية للنبي التي لم يرد ذكرها في القرآن الكريم. من قبيل: عدد ركعات الصلاة اليومية، والطواف حول البيت في الحج سبعا عند الفريقين، تعد حجة إلهية. وعلى هذا الأساس حيث أن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)طبقاً للآيات المتقدمة والروايات النبوية - التي سنأتي على ذكرها في الصفحات القادمة - قد نسب أمر تعيين إمامة الإمام على(علیه السّلام)إلى الله سبحانه وتعالى، تعدّ إمامته مسألة سماوية وإلهية، وتكون حجة شرعية على جميع المسلمين.

وقد جاء مضمون ما تقدم في رواية مأثورة عن الإمام الباقر(علیه السّلام)يقول فيها: «قولوا لهم: إن الله أنزل على رسوله الصلاة ولم يسم ثلاثاً أو أربعاً، حتى كان رسول الله هو الذي يفسّر ذلك، وأنزل الحج فلم ينزل طوفوا سبعاً حتی فسّر ذلك لهم رسول الله ...»(3).

ص: 260


1- النحل: 44 .
2- آل عمران: 164 .
3- شواهد التنزيل، ج 1، ص 191.

بعبارة أخرى لمّا كان القرآن الكريم كتاب محدود، والأمور الجزئية والتفصيلية غير متناهية، واضح أن الكتاب المحدود يجب أن يقتصر على بيان الأمور الكلية والعامة، فإن القرآن قد ترك بيان الأمور الجزئية ومن بينها تسمية من يتولى الإمامة بعد النبي إلى رسوله الكريم(1). بعبارى أخرى: إن الأمور الجزئية غير محدودة وتشمل أهم المسائل الدينية من قبيل: البحث عن وجود الله، وما إذا كان جسماً أم لا؟ وصفات الله وما إذا كانت متحدة مع الذات أم لا؟ ففي هذه المسائل التي تعد من الأركان الأساسية في العقيدة لم يدخل القرآن في بيان الأمور الجزئية، فكانت مورد اختلاف بين المتكلمين والمفسّرين، ولو كان لابد من خوض القرآن في الجزئيات لكان عليه بيان هذه الأمور الخلافية أيضاً، وفي هذه الصورة كنا سنواجه عشرات بل مئات المجلدات من المصاحف السماوية والقرآنية.

ه_ - المنع من تحريف القرآن: إن من بين التبريرات المطروحة لتفسير عدم ذكر اسم الإمام على(علیه السّلام)في القرآن الكريم(2)، هي أن الإمام علياً(علیه السّلام)كان له كثير من المخالفين والأعداء الألداء والحاسدين الذين لا يتورعون عن

ص: 261


1- انظر: مرتضى مطهري، الأعمال الكاملة ، ج 4 ، ص 904، كتاب الإمامة والقيادة؛ الإمام الخميني، كشف الأسرار، ص 130 - 131.
2- انظر: الإمام الخميني، كشف الأسرار، ص 112 - 114؛ نسب العلامة الحسيني الطهراني في كتابه (امام شناسي) هذا الرأي إلى العلامة الطباطبائي، حيث قال إنه سمع هذا الجواب من العلامة الطباطبائي عن سؤال بهذا الشان. (انظر: امام شناسي، ج13، ص 159). ومما جاء في ذلك عن الأستاذ الشهيد مرتضى مطهري أنه قال: (إن النبي الأكرم أو الله تبارك وتعالى لم يشأ طرح هذا المفهوم الذي تدخلت فيه الأهواء والرغبات النفسية بهذا الشكل) انظر: مرتضى مطهري، الأعمال الكاملة، ج 4 ، ص 905.

ارتكاب أي موبقة من أجل طمس حقه واغتصاب الخلافة منه، وقد سبق أن أشرنا إلى أن الخليفة الثاني لم يتورع حتى عن نسبة الجنون والهجر إلى رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) - والعياذ بالله - عندما طلب منهم قرطاساً وقلماً ليكتب لهم كتاباً يضمن لهم الأمان من الضلال والانحراف؛ لمجرد أنه أحس أن النبي يريد أن يسمي علياً في وصيته(1).

ومع هذا الاحتمال وسيادة المناخ المتشنّج في صدر الإسلام لو ذكر اسم صلى الإمام علي(علیه السّلام)في القرآن، لتعرض النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)المثل الاتهام والإساءة التي تعرض لها في آخر لحظات حياته الشريفة، أو لتم السعي من قبل بعضهم إلى حذف الآية المتضمنة لذكر الاسم، وهذا سيؤدي بدوره إلى تحريف القرآن الكريم. وعليه لأجل الحفاظ على القرآن الكريم من التحريف لم يذكر الله اسم الإمام علي(علیه السّلام)واكتفى بذكر الصفات التي لا تنطبق على غيره، كما اكتفى بالروايات النبوية ليجمع بذلك بين أصل الغاية والغرض من تعريف وتنصيب الإمام على(علیه السّلام) خليفة وإماماً على المسلمين، والمحافظة على القرآن الكريم من التحريف.

و - الوقاية من الآفات السياسية والأمنية: المسألة الأخرى التی خطرت في ذهني هي أن الله سبحانه وتعالى قد تعمد عدم ذكر اسم الإمام(علیه السّلام)بوصفه خليفة وإماماً وحاكماً بعد رحيل النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)، وذلك لا علي لكي يقوم الله من هذا الطريق بتمييز المؤمن الحقيقى من غيره وفصل الغث عن السمين، وإنما لأن الله يعلم بعلمه الأزلي أن بحث الحكومة والسياسة ساحة للنقاش والمنافسات، بل حتى الحروب السياسية الدامية. وعليه لو ذكر اسم

ص: 262


1- راجع رواية الدوات والقلم في عنوان الوصية غير المكتوبة.

الإمام علي(علیه السّلام)بوصفه خليفة وإماماً بعد رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)في القرآن والوحي بشكل خاص وبوصفه أصلاً وركناً من أركان الإسلام، سوف يكون هناك اصطفاف بين جماعة تتذرّع بالدفاع عن الأصل القرآني وجماعة بمختلف الذرائع الأخرى من قبيل تفسير منزلة الإمامة ،والخلافة، أو الاستيلاء على هرم الحكم والسلطة، ويحتدم النزاع بين الطرفين، ولا يخفى على أحد ما في ذلك من الخطر على شجرة الإسلام الفتية، بل قد يشكل ذلك تهديداً لأصل بقاء الإسلام. وقد تقدم أن ذكرنا في بداية الفصل السابق في بحث شبهة التكفير بعض مشاهد اتهام المتعصبين من أهل السنة للشيعة والعكس أيضاً بالكفر والخروج عن الإسلام والعمل على اغتيال وقتل بعضهم بعضاً، وقد رصد التاريخ المئات بل الآلاف من هذه المشاهد. في حين أن الإسلام والقرآن لا يتضمن أي بيان واختلاف لمن يخالف الإمام على(علیه السّلام)صراحة. فلو افترضنا وجود مثل هذا النص في القرآن فإن نسبة الصراع ستكون أكبر، ولأخذت وتيرة القتل والتكفير منحى تصاعدياً، وسوف يشكل هذا الأمر أكبر تهديد للإسلام والمسلمين ولمّا كان الهدف من الإمامة هو تعزيز الإسلام والقيادة، فإن ذكر اسم الإمام في القرآن سيكون نقضاً لهذا الغرض(1).

ز - أخذ مصلحة المسلمين بنظر الاعتبار: المسألة الأخرى التي تبدو لنا هي أنه لو ذكر اسم الإمام علي(علیه السّلام)في القرآن الكريم بوصفه أصلاً أو مفردة دينية على غرار المفردات والتعاليم الدينية الأخرى، من قبيل: النبوة والمعاد، أو الأحكام الفقهية، مثل: الصلاة والصوم، لكان إنكاره أو الشك فيه بمنزلة إنكار

ص: 263


1- بعد تدوين هذا الجواب وجدته ضمن إجابة لسماحة الإمام الخميني(رحمه الله علیه). (انظر: كشف الأسرار، ص 112 - 114).

الله والنبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)، ولكان ذلك مساوقاً للكفر والإلحاد والارتداد، ولازم ذلك هو الخروج عن ربقة الإسلام والانحراف عن الصراط المستقيم. وعليه لو ذكر اسم الإمام علي(علیه السّلام)في القرآن الكريم لتوسل المخالفون للإمام علي بمختلف أنواع السبل والحيل لإنكار وتكذيب هذا الأصل، ولعملوا على استقطاب كثير من الناس نحو أهدافهم، وهو أمر يؤدي إلى خروج الكثير من الناس عن الإسلام، ولا يخفى ما في ذلك من مخالفة للغاية والحكمة والرحمة الإلهية.

من هنا يذهب علماء الشيعة إلى اعتبار الإمامة أصلاً من أصول المذهب، ولا يرونها أصلاً من أصول الدين، ولذلك لا يرون إخوتهم السنة بإنكارهم لأصل إمامة الإمام علي(علیه السّلام)خارجين من الدين، وإنما خارجين من مذهب التشيع فقط(1).

وأما لو ذكر اسم الإمام علي(علیه السّلام)في القرآن الكريم بوصفه إماماً وخليفة مباشراً، لما بقي هناك من مجال لهذه الرؤية والقراءة للإمامة؛ لأن منكر إمامة الإمام علي في مثل هذه الحالة سيكون مثل الذي ينكر أصل النبوة أو الصلاة، وسوف تجري عليه أحكام المرتد.

وعليه فإن الله إنما تعمد عدم ذكر اسم الإمام علي(علیه السّلام)في القرآن الكريم باللحاظ السابق من باب اللطف وأخذ مصلحة المسلمين بنظر الاعتبار.

ص: 264


1- لمزيد من التوضيح، انظر: محمد حسن قدردان قراملکي، کلام فلسفي، فصل الإمامة من أصول المذهب.

الشبهة الثالثة : عدم وجود التنصيب في الروايات النبوية:

اشارة

إن من بين الشبهات المعروفة والهامة لمخالفي الإمامة وتعيين الإمام بالتنصيب دعوى فقدان وعدم وجود النص على إمامة الإمام علي اللا في الروايات النبوية. فهؤلاء يدعون أنه لو كان هناك تنصيب من قبل النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)لوصل إلينا(1).

نقد ورأي:

لقد سبق لعلماء الشيعة منذ مرحلة الإمامة أن ألفوا كتباً تفصيلية في إثبات تنصيب الإمام علي(علیه السّلام) وإثبات إمامته وإمامة سائر الأئمة الأطهار(علیهم السّلام)، وقد سجل ذلك في المصادر المعتبرة. وفيما يأتي نشير - على سبيل المثال - إلى المؤلفات المفردة لأصحاب من أمثال: عيسى بن روضة (م 138 ه_)، وابن رئاب (م 148 ه_) ، والخليل بن أحمد الفراهيدى (م 170 ه_)، ومؤمن الطاق (م 160 ه_ ) ، وهشام بن الحكم (م 189 أو 199)(2).وحيث يوجد كثير من المصادر في هذا الشأن فإننا سنكتفي بنقل الأدلة النقلية المثبتة لنظرية أصل التنصيب لدى الشيعة باختصار:

ص: 265


1- انظر : المغني في أبواب التوحيد والعدل، ج 20 ص 99؛ شرح المواقف، ج 3، ص 265؛ تئوري امامت در ترازوي نقد، ص 50؛ أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي الشيعي، ص 16 فما بعد.
2- انظر: ابن النديم، الفهرست، ص 17 و 36 و 57 و 123 و 306 و 307؛ عبد الجبار الرفاعي، معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت ، ج 5، ص 134 ، ش 11974، وج 9، ش 23362.

أولاً: أحاديث الخلافة:

اشارة

لقد كان النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)في بداية رسالته يمارس الدعوة السرية إلى الإيمان بالله الواحد القهار ، واستمر الأمر على سريته مدة ثلاث سنوات مكتفياً بدعوة أهله والأقربين من أفراد عشيرته. وفي الرواية الواردة في كتب الفريقين من الشيعة والسنة عن الإمام علي(علیه السّلام):

«لما نزلت: ﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيْرَتَكَ الْأَقْرَبِيْنَ ﴾(1)دعاني النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) فقال : يا علي إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين، فضقت ذرعاً وعلمت أني متى أبادرهم بهذا الأمر أر منهم ما أكره، فصمت عليه حتى جاءني جبرائيل فقال: يا محمد إلا تفعل ما تؤمر به يعذبك ربك. فاصنع لنا صاعاً من طعام، واجعل عليه رجل شاة، واملأ لنا عساً من لبن، واجمع لي بني عبد المطلب حتى أكلمهم وأبلغهم ما أمرت به ففعلت ما أمرني به ثم دعوتهم، وهم يومئذ أربعون رجلاً يزيدون رجلاً أو ينقصونه، فيهم أعمامه أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب، فلما اجتمعوا إليه دعاني بالطعام الذي صنعته لهم. فلما وضعته تناول رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)حزة من اللحم فنتفها بأسنانه ثم ألقاها في نواحي الصحفة، ثم قال: خذوا باسم الله ، فأكل القوم حتى ما لهم بشيء من حاجة، وما أرى إلا مواضع أيديهم، وأيم الله الذي نفس علي بيده إن كان الرجل الواحد منهم ليأكل ما قدمت الجميعهم! ثم قال: اسق القوم، فجئتهم بذلك العس فشربوا منه حتى رووا جميعاً، وأيم الله إن كان الرجل الواحد ليشرب مثله! فلما أراد رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)أن يكلمهم بدره أبو لهب إلى الكلام فقال:لقدماً سحركم به صاحبكم. فتفرق القوم ولم يكلمهم(صلی الله علیه و آله و سلم)فقال : الغد يا علي، إن هذا الرجل سبقني إلى ما سمعت

ص: 266


1- الشعراء: 214 .

من القول، فتفرقوا قبل أن أكلمهم، فعدّ لنا من الطعام بمثل ما صنعت ثم اجمعهم إلي. ففعل مثل ما فعل بالأمس، فأكلوا، وسقيتهم ذلك العس، فشربوا حتى رووا جميعاً وشبعوا، ثم تكلم رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)فقال : يا بني عبد المطلب إني والله رسول ما أعلم شاباً في العرب جاء قومه بأفضل مما قد جئتكم به، قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه، فأيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم؟ فأحجم القوم عنها جميعاً، وقلت - وإني لأحدثهم سناً، وأرمصهم عيناً، وأعظمهم بطناً وأحمشهم ساقاً - أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه. فأخذ برقبتي ثم قال: إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا»(1).

لا كلام في سند هذا الحديث، فجميع رواته ثقاة طبقاً لمذهب أهل السنة، باستثناء أبي مريم عبد الغفارحيث ضعفه بعض أهل السنة، ويأتي سبب تضعيفه من تشيعه، أما الآخرون من أهل السنة فقد مدحوه(2).

كما أن دلالة نص الحديث ومتنه واضحة أيضاً، وفيما يأتي نشير إلى بعض المسائل في هذا الشأن:

أ - لقد تحدّث النبي الأكرم في هذه الرواية بشكل مطلق عن الخلافة في أمر نبوته، وهي تشمل الخلافة في الحقل السياسي والعلمي والديني.

ب - الدليل الآخر على وضوح وصراحة دلالة الحديث ما قام به بعض المؤرخين من أهل السنة من التحريف والحذف في مضامينه. فهذا الطبري

ص: 267


1- الكامل في التاريخ ، ج 2، ص 63؛ موسوعة الإمام علي، ج 2، ص 23.
2- انظر: لسان الميزان، ج 4 ، ص 43 .

مثلاً رغم روايته لواقعة الغدير في تاريخه لجأ في تفسيرها وبيانها إلى التقطيع، حيث حذف عبارة «وصيي وخليفتي» الواردة بعد كلمة «أخي» عبارة «وكذا وكذا»(1).

وقام ابن كثير (م 774) في كتابه التاريخى المعروف باسم (البداية والنهاية) رغم أنه يذكر عين عبارة تاريخ الطبري، إلا أنه في تقرير حديث الدعوة يعمد إلى اقتباسها من تفسير الطبري، ويقوم للأسف الشديد بحذف الكلام الناظر إلى إمامة الإمام على(علیه السّلام).

كما قام محمد حسين هيكل في كتابه «حياة محمد» بذكر جملة سؤال النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)، ولكنه حذف كلام النبي في التعريف بالإمام علي. ثم عمد ناشر الكتاب في الطبعات اللاحقة إلى حذف كل ما يشير إلى فضيلة من فضائل الإمام علي بالكامل.

ج - القرينة الأخرى تكمن في فهم المخاطبين والحاضرين حيث استفادوا من كلام النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)الخلافة والإمرة والولاية، كما يلوح ذلك من رفضهم وسخريتهم واستهزائهم بأبي طالب وقولهم له: «قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع».

التصريح بخلافة الإمام علي(علیه السّلام) :

لقد عمد النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)طوال حياته المباركة إلى التصريح مراراً بخلافة الإمام علي(علیه السّلام)، وفيما يأتي نشير إلى بعض هذه الموارد:

ص: 268


1- انظر: تفسير الطبري، ج 19، ص 75.

عن عبد الله بن مسعود قال: «استتبعني رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)ليلة الجن فانطلقت معه حتى بلغنا أعلى مكة فخط علي خطة وقال: لا تبرح ثم انصاع في أجبال فرأيت الرجال ينحدرون عليه من رؤوس الجبال حتى حالوا بيني وبينه فاخترطت السيف وقلت لأضر بن حتى استنقذ رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)ثم ذكرت قوله : لا تبرح آتيك قال: فلم أزل كذلك حتى أمنا الفجر فجاء النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)وأنا قائم فقال كما زلت على حالك؟ قلت: لو لبثت شهراً ما برحت حتى تأتيني ثم أخبرته بما أردت أن أصنع فقال : لو خرجت ما التقيت أنا ولا أنت إلى يوم القيامة ثم شبك أصابعه في أصابعي فقال: إني وعدت أن يؤمن بي الجن والإنس، فأما الإنس فقد آمنت بي وأما الجن فقد رأيت قال وما أظن أجلي إلا قد اقترب قلت: يارسول الله ألا تستخلف أبا بكر؟ فأعرض عني فرأيت أنه لم يوافقه، قلت: يا رسول الله ألا تستخلف عمر؟ فأعرض عنى فرأيت أنه لم يوافقه، قلت: يا رسول الله ألا تستخلف علياً؟ قال: ذاك والذي لا إله غيره لو بايعتموه وأطعتموه أدخلكم الجنة أكتعين»(1).

وقال النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم): «لما أسري بي إلى السماء ثم من السماء، إلى

السماء، إلى سدرة المنتهى، وقفت بين يدي ربي عزّ وجل فقال لي: يا محمد قلت لبيك وسعديك، قال: قد بلوت خلقى فأيهم رأيت أطوع لك؟ قال: قلت ربی علياً، قال: صدقت يا محمد فهل اتخذت لنفسك خليفة يؤدي عنك يعلّم عبادي من كتابي ما لا يعلمون؟ قال قلت يا ربِّ اختر لي فإن خيرتك خيرتي،

ص: 269


1- المعجم الكبير، ج 10 ، ص 67 ، ش 9969 و 9970؛موسوعة الإمام علي، ج 2، ص 138؛ تاريخ مدينة دمشق، ج 42 ، ص 421 ؛ فرائد السمطين، ج 1، ص 273؛ البداية والنهاية، ج 7، ص 361.

قال: اخترت لك علياً؛ فاتخذه خليفة ووصياً»(1).

وروى ابن عباس أنه رأى النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)ممسكاً بيد علي(علیه السّلام)وهو يقول: «هو فاروق هذه الأمة، يفرق بين الحق والباطل ... هو خليفتي من بعدي »(2).كما يصرّح الحديث الآتي بمسألة الإمامة والخلافة للإمام علي(علیه السّلام) :

«يا علي أنت الإمام والخليفة بعدي، وأنت أولى بالمؤمنين منأنفسهم»(3).

حديث خاصف النعل :

ومن بين الروايات الدالة صراحة على خلافة الإمام علي(علیه السّلام)الحكم، حديث أم سلمة الذي تقول فيه لعائشة ضمن حديث طويل: «وأذكرك أيضاً كنت أنا وأنت مع رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)في سفر له وكان علي يتعاهد نعلي رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) فيخصفها، ويتعاهد أثوابه فيغسلها، فنقبت له نعل فأخذها يومئذ يخصفها وقعد في ظل سمرة، وجاء أبوك ومعه عمر فاستأذنا عليه؛ فقمنا إلى الحجاب ودخلا يحادثانه فيما أراد، ثم قالا: يا رسول الله إنا لا ندري قدر ما تصحبنا، فلو أعلمتنا من يستخلف علينا ليكون لنا بعدك مفزعاً؛ فقال لهما : أما إني قد أرى مكانه ولو فعلت لتفرقتم عنه كما تفرقت بنو إسرائيل عن هارون بن عمران، فسكتا ثم خرجا. فلما خرجنا إلى رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) قلت له وكنتِ أجرأ عليه منا: من كنت يا رسول الله مستخلفاً عليهم؟ فقال: خاصف

ص: 270


1- مناقب الخوارزمي، ص 303، ش 299 ؛ فرائد السمطين، ج 1، ص 268 ، ش 210.
2- تاريخ مدينة دمشق، ج 42 ، ص 42 ، ش 8371 و 8373.
3- شمس الدين الذهبي، تاريخ الإسلام، ج 3، ص 643 ؛ البيهقي، دلائل النبوة، ج 6 ، ص 436؛ أسد الغابة، ج 3، ص 325؛ بحار الأنوار، ج 26، ص 349.

النعل فنظرنا فلم نرَ أحداً إلا علياً؛ فقلت: يا رسول الله ما أرى إلا عليا؟! فقال: هو ذاك»(1).

يتضح من هذا الحديث أن الخليفة الحقيقي للنبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)ليس شخصاً آخر غير علي(علیه السّلام)، إلا أن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)قد لحظ مصلحة ما، فلم يصرح باسمه لأبي بكر وعمر، ولكنه صرّح به لزوجتيه أم سلمة وعائشة. ولكنه فيما بعد صرّح باسمه لجميع المسلمين في عددٍ من المواطن ومن أشهرها غدير خم.

ثانياً : أحاديث إمامة أمير المؤمنين واستيزاره:

كان النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)منذ البداية يسعى إلى التعريف بالإمام علي(علیه السّلام)بوصفه حاكماً وأميراً للمؤمنين، وبذلك كان يعمل على تمهيد الطريق إلى إمامته في المستقبل، ومن هنا كان يوصي أصحابه بأنهم إذا أرادوا التسليم على أمير المؤمنين أن لا يسلموا عليه بسلام مجرّد من المحتوى، وإنما عليهم أن يضيفوا إلى سلامهم قيد «إمارة المؤمنين» أيضاً.

وفي هذا الشأن يروي صاحب تاريخ مدينة دمشق عن بريدة الأسلمي أنه قال: كنا سبعة فأمرنا رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)أن نسلم على علي بأمير المؤمنین(2).

كما قام رسول الله في موضع آخر بتعريف الإمام علي(علیه السّلام)بوصفه اماماً ونسب ذلك إلى جبرائيل(علیه السّلام)، إذ يقول: «ألا أدلكم على ما إن

ص: 271


1- ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، ج 6 ، ص 218؛ الكافي، أبو جعفر الإسكافي، المعيار والموازنة، ص 29؛ أعلام النساء، ج 1 و 2، ص 789.
2- تاريخ مدينة دمشق، ج 2، ص 303.

تساءلتم عليه لم تهلكوا، إن وليكم الله، وإن إمامكم علي بن أبي طالب، فناصحوه وصدقوه، فإن جبريل أخبرني بذلك»(1).

كما ورد هذا النوع من الأحاديث في المصادر الشيعية بكثرة(2).

وفي بعض المواطن يذكر النبي الأكرم الإمام علياً(علیه السّلام)بوصفه وزيراً له وإماماً للمسلمين من بعده، وينسب ذلك إلى الله سبحانه وتعالى، ومن ذلك قوله:

«يا أيها الناس إن الله أمرني أن أنصب لكم إماماً يكون وصبي فيكم وخليفتي في أهل بيتي وفي أمتي من بعدي ... يا أيها الناس إني قد أعلمتكم مفزعكم بعدي وإمامكم ووليكم وهاديكم بعدي، وهو علي بن أبي طالب»(3).

لقد استعمل رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)في هذه الرواية عنوان «الخليفة» و«الإمام» و«الولي» و«الهادي» في وصف خليفته، وهي تدل بأجمعها على المرجعية العلمية والسياسية والمعنوية للإمام(علیه السّلام). وفي رواية أخرى يضيف رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)إلى الصفات الآنفة صفات أخرى من قبيل : أن أمر علي(علیه السّلام)ونهيه هو أمر النبي(صلی الله علیه و آله و سلم) ونهيه، وأنه حجة الله على الناس، وأنه أمين الله على سره، إذ يقول :

«يا علي من قتلك فقد قتلني، ومن أبغضك فقد أبغضني، ومن سبك فقد سبني؛ لأنك مني كنفسي، روحك من روحي، وطينتك من طينتي، إن الله تبارك

ص: 272


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 3، ص 98.
2- انظر: فضائل ابن شاذان، ص 113.
3- النعماني، غيبة النعماني، ص 71؛ كمال الدين وإتمام النعمة، ص 277.

وتعالى خلقني وإياك، واصطفاني وإياك، واختارني للنبوة واختارك للإمامة؛ فمن أنكر إمامتك فقد أنكر نبوتي، يا علي أنت وصيي، وأبو ولدي، وزوج ابنتي، وخليفتي على أمتي في حياتي وبعد موتي، أمرك أمري، ونهيك نهيي، أقسم بالذي بعثني بالنبوة وجعلني خير البريه إنك لحجه الله على خلقه، وأمينه

على سره، وخليفته على عباده»(1).

وفي رواية أخرى يضيف النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)صفة «أمير المؤمنين» إلى الإمام على، وهو عنوان ناظر إلى مسألة الحكم وإدارة الدولة، وذلك إذ يقول:

«إمام المسلمين وأمير المؤمنين ومولاهم من بعدي علي بن أبي طالب»(2).

ثالثاً: حديث الغدير:

إن أشهر حديث في هذا الموضوع هو حديث الغدير، الذي صدر عن رسول الله عند عودته من حجة الوداع في موضع يقال له غدير خم، عندما نزل عليه الوحي يأمر بتنصيب الإمام علي(علیه السّلام)ولياً لجميع المسلمين، إذ يقول:

«أيها الناس من أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: إن الله مولاي، وأنا مولى المؤمنين، وأنا أولى بهم من أنفسهم؛ فمن كنت مولاه فعلي مولاه».

يعد هذا الحديث الشريف موضع اتفاق من قبل الشيعة وأهل السنة،

ص: 273


1- عيون أخبار الرضا، ج 1، ص 297، ش 57 ؛ أمالي الصدوق، ص 155 ، ش 149 .
2- أمالي الصدوق، ص 374.

بحيث رواه 110 صحابياً، و 84 تابعياً(1). وعلى الرغم من أن بعضهم حاول التشكيك في دلالة الحديث على إمامة الإمام علي(علیه السّلام)وحكمه من خلال حذف صدر الحديث وعبارة«من أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم؟»، ولكن مصادر أهل السنة الأخرى ذكرت صدر الحديث(2).

إلا أن البحث يدور حول مفهوم الحديث ودلالته، حيث ذهب أكثر علماء أهل السنة إلى تفسير «المولى» بالمحب، وهكذا فإنهم لا يرون فيه دلالة على إمامة الإمام علي(علیه السّلام).

الأدلة والشواهد على دلالة المولى على الأولى:

فيما يتعلق بتفسير كلمة «المولى» يجب القول: إن هذه الكلمة وإن كانت ذات معاني كثيرة ومختلفة، إلا أننا إذا أخذنا القرائن الآتية بنظر الاعتبار فسوف ندرك أنها في هذا الحديث تعنى الإمامة والحكومة حصراً:

أ - مفردة «الأولى»: لقد عمد النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)نفسه قبل وصف الإمام علی(علیه السّلام) بالمولى، إلى تفسير المولى بقوله هو: «الأولى بالمؤمنين من أنفسهم»(3). وإن هذه الأولية لا تعني النصرة أو المحبة، بل تعني تقدّم المولّى

ص: 274


1- انظر: مستدرك الحاكم النيسابوري، ج 3، ص 109 ؛ سنن الترمذي، ج 5، ص 297؛ شرح صحيح الترمذي، ج 13 ، ص 165 ؛ ابن كثير، البداية والنهاية، ج 7، ص 4 - 371؛ الغدير، ج 1،ص 41 فما بعد.
2- انظر: تاریخ ابن خلدون، ج 2، ص 481 ؛ ابن كثير، البداية والنهاية، ج 7، ص 4 - 371؛ المعجم الكبير، ج 5 ، ص 194 .
3- انظر: الغدير ، ج 1، ص 651 ؛ تاریخ ابن خلدون، ج 2، ص 481 ؛ ابن كثير، البداية والنهاية، ج 7، ص 4 - 371.

وسلطته على المولّى عليه بحيث يكون المولى أحق بالمولى عليه من نفسه؛ وهو أمر يعنى أن مولوية الإمام علي(علیه السّلام)تعني أنه أولى من المؤمنين في كل شيء، بل هو أولى بهم حتى فيما يتعلق بأنفسهم.

ب - خشية النبي من إبلاغ الأمر: طبقاً لروايات الفريقين فإن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)كان قد أمره الوحي الإلهي بإبلاغ أمر استدعى خوفه وخشيته من إبلاغه، ولما أبطأ في إبلاغه لذلك، أنزل الله عليه قوله: ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ إِنَّ الله لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾(1).

وهكذا أكد له الوحي أنه سيكون في مأمن من إساءة المخالفين، وأن عدم إبلاغه ذلك الأمر الخاص مهما كانت الأسباب يساوق عدم إبلاغ الرسالة الإلهية برمتها، وقد أجمع العلماء من الفريقين أن هذه الآية نزلت في سياق غدير خم(2)

واضح أنه لو كان مراد الآية من إبلاغ الرسالة الإلهية مجرد إضمار المحبة للإمام علي(علیه السّلام)أو اعتباره مجرد ناصر، لا يستدعي خوف النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)ولن يكون عدم إبلاغ مثل هذا الأمر مساوقاً لعدم إبلاغ الرسالة الإسلامية أصلاً؛ إذن لابد من أن يكون المراد أمراً أكبر من مجرد محبّة الإمام على(علیه السّلام)، ويجب أن يكون ذلك الأمر هو إمامته، ومن الطبيعي أن يكون

ص: 275


1- المائدة: 67.
2- انظر: تاريخ مدينة دمشق، ج 42 ، ص 213 - 237 ؛ أسباب نزول القرآن، ص 203؛ شواهد التنزيل، ج 1، ص 248-254؛كنزل العمال ، ج 13، ص 140، ش 36441 .

هناك خوف من هذه الناحية؛ إذ كان من الوارد أن يثقل هذا البلاغ على بعض المسلمين لمختلف السباب، من قبيل الأسباب القبلية والثأرية، واعتبار الإمام على صغير السن، وأنه قد قتل بعض المقربين من هؤلاء المسلمين في صدر الإسلام. ومن شأن هذه الأسباب أن تزعزع وحدة المسلمين وتلاحمهم.

ج - يأس الكفار وإكمال الدين: القرينة الثالثة على تفسير «المولى» بالإمام، الآية التي نزلت بعد إبلاغ الرسول(صلی الله علیه و آله و سلم)ما أنزل عليه من ربه، وهي قوله تعالى:

﴿ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا ﴾(1).

طبقاً لرواية المفسرين من أهل السنة(2)والشيعة كان نزول هذه الآية الشريفة بعد حادثة غدير خم، وتنصيب الإمام على(علیه السّلام)في مقام الولاية، حيث اعتبر الله هذا اليوم يوم يأس الكفار من القضاء على الدين الإسلامي، كما اعتبر هذا اليوم يوم إكمال الإسلام وإتمام النعمة ورضا الله باختيار الناس للإسلام بوصفه ديناً وشريعة للمسلمين.

واضح أن الآية لم تكن بصدد نصح الناس بمجرد حبّ الإمام علي(علیه السّلام)، إذ أولاً: إن هذا الأمر كان صادراً في مواطن سابقة بما فيه الكفاية. وثانياً: لا ملازمة بين الأمر بمحبة الإمام وبين إكمال الدين وإتمام النعمة ويأس الكفار،

ص: 276


1- المائدة: 3.
2- انظر: تفسير الدر المنثور، ج 3،ص 19؛تاريخ مدينة دمشق، ج42، ص 234 - 237؛ تاریخ بغداد، ج 8، ص 290؛ شواهد التنزيل ، ج 1، ص 200؛ مناقب الخوارزمي، ص 156.

بل يتضح من نتيجة إبلاغ نداء الغدير (إكمال الدين وإتمام النعمة والرضا بالإسلام) أن وهو أمر تم إبلاغه في غدير خم كان أمراً في غاية الأهمية والخطورة ويلعب دوراً محورياً في مجمل حركة الإسلام، ولا يمكن أن يكون ذلك مجرد الأمر بمحبة الإمام علي، بل هو القول بإمامته ومرجعيته العلمية والدينية وممارسة الحكم والسلطة على جميع المسلمين.

د - مبادرة وجوه القوم إلى تهنئة الإمام على(علیه السّلام): القرينة الأخرى على ذلك ما قام به كبار الصحابة والشخصيات السياسية والاجتماعية بعد إبلاغ النبي الأكرم لذلك الأمر الإلهي الخاص بالتهنئة والتبريك للإمام علي(علیه السّلام). فهاهو عمر بن الخطاب بعد فراغ النبي من خطبته يتقدم للإمام علي قائلاً: «هنيئاً يا ابن أبي طالب .. أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة»(1).

وفي بعض الروايات أضيفت عبارة «بخ بخ لمستهل عبارة عمر بن الخطاب، وهي تدل على المبالغة في الفخر والاعتزاز(2). فهل كان هناك من داع لكل هذه المبالغة من وجوه القوم في تهنئة الإمام علي(علیه السّلام)إذا كان الأمر مجرد الأمر بالمحبة والنصرة ؟! وهل كان مراد عمر من المولى في قوله: «هنيئاً يا ابن أبي طالب، أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة» مجرد المحبّة، أم أنها إشارة إلى مقام الإمامة والخلافة التى تم الإعلان عنها والمصادقة عليها من قبل

ص: 277


1- مسند أحمد بن حنبل، ج 6 ، ص 401؛ ابن حنبل، فضائل الصحابة، ج 2، ص 596؛ ابن كثير، البداية والنهاية، ج 7، ص 4-371؛تاريخ مدينة دمشق، ج42،ص 220؛ الغدير، ج 1، ص 508 .
2- انظر: النهاية، ج 1، ص 101 .

النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)في غدير خم؟

ه_ فهم الحضور والشعراء: القرينة الأخرى قرينة أدبية؛ حيث كان بإمكان الحاضرين في يوم الغدير أن يدركوا المعنى الحقيقي من كلام النبي الأكرم، وكان من بين الحاضرين الشاعر المعروف حسان بن ثابت، وقد طلب من النبي النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)بعد الفراغ من خطبته أن يقول شعراً في المناسبة؛ فأذن له النبي فقال قصيدة، نذكر منها البيتين الآتيين:

(إلهك مولانا وأنت نبينا *** ولم تلق منا في الولاية عاصيا

فقال له : قم يا علي فإنني *** رضيتك من بعدي إماماً وهادياً)(1)

إن حسّان بن ثابت فى شعره هذا لا يعتبر الإمام علياً(علیه السّلام)بوصفه شخصاً يستحق الحب فقط، بل يصفه بأنه إمام وهاد، وقد قرأ شعره هذه بحضور النبي الأكرم وجميع الصحابة، من دون أن يصدر عنهم أي اعتراض على مضمون شعره(2).

ومن القرائن الأخرى التي تعد من أقوى القرائن وأكثرها اعتباراً فهم الإمام على(علیه السّلام)نفسه وتفسيره، حيث فسر حديث الغدير بأنه ناظر إلى إمامته وحكومته، وكان يتمسك بعد رحيل النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)بهذا الحديث للاستدلال على أحقيته بالخلافة والحكم، ولم ينكر الخصوم عليه دلالة هذا

ص: 278


1- الغدير ، ج 2، ص 34. قال العلامة الأميني أن هناك اثنى عشر راوياً سنياً ذكروا هذا الشعر في كتبهم.
2- يستعمل المولى في اللغة العربية غالباً بمعنى الأولى بالتصرف، وقد استشهد العلامة الطهراني لذلك بالمصادر الأدبية في عصر الإسلام من قبيل المعلقات السبعة (انظر: امام شناسي، ج 7، ص 242 - 393).

الحديث على الإمامة والخلافة. وسيأتي تفصيل الأحاديث والاحتجاجات التي احتج بها الإمام علي على أصل تنصيبه في الصفحات القادمة في معرض نقد الشبهة القائلة بعدم تمسك الإمام علي(علیه السّلام)بأصل التنصيب.

و - ذهب بعض علماء أهل السنة، من أمثال: ابن الجوزى والحافظ أبو الفرج يحيى الثقفي، إلى الاعتراف بأن «المولى» يعني الأولى بالتصرف(1).

ز - عبارة «بعدي»: تشتمل بعض نصوص حديث الغدير في روايات أهل السنة على كلمة (بعدي»: «من كنت مولاه فإن علياً بعدي مولاه مولاه»(2).

وقد تقدم ذكر هذه المفردة في شعر حسان بن ثابت، فيكون تأييداً لهذا الأمر.

واضح أن الأمر من قبل النبي بالولاية لعلي إذا كان بمعنى المحبة فإنه يكون بشكل مطلق، ولا معنى لتقييد هذه المحبة بأن تبقى معلقة إلى ما بعد رحيل النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)، ولكن حيث أنه قيد الولاية بلفظ بعدي يتضح أن مراده هو الحكم والخلافة .

وقد ذكر المحققون من أمثال العلامة الأميني قرائن وشواهد كثيرة على دلالة حديث الغدير على خلاف مدعى الشبهة، وعليه فإننا نحيل القارئ الكريم إلى موسوعة الغدير القيمة(3).

ص: 279


1- انظر: ابن الجوزي، تذكرة الخواص، ص 37 ، تقديم : السيد محمد صادق بحر العلوم.
2- ابن كثير، البداية والنهاية، ج 7، ص 349؛ خلاصة عبقات الأنوار، ج 9، ص 93 .
3- انظر: الغدير ، ج 1 ، ص 650 ، حيث ساق هناك عشرين شاهداً على دلالة الحديث على الإمامة والولاية والخلافة.

رابعاً: أحاديث المنزلة:

في واقعة تبوك قام النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)بتعيين الإمام علي(علیه السّلام)خليفة له على المدينة المنورة، وتوجّه هو إلى القتال بسائر المسلمين؛ فاغتنم المنافقون هذا الأمر لتشويه شخصية الإمام علي(علیه السّلام)غامزين من قناة أن النبي لم يُشركه في جيشه. فسارع الإمام علي بعد سماع هذا الإرجاف إلى إيصال نفسه إلى جيش النبي وسأله الموافقة على انضمامه إلى الجيش وعدم إبقائه في المدينة، إلا أن النبي الأكرم كذب مقالة المنافقين، وأضاف قائلاً: «أفلا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي»(1).

وبذلك يكون النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)قد جعل الإمام علي(علیه السّلام)منه بمنزلة هارون من موسى في كل الأمور ولم يستثن من ذلك إلا النبوة. وأما منزلة هارون من موسى فيبينها قوله تعالى: ﴿ وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ﴾(2).

فإن هذه الآية تثبت لهارون صفة الوزارة لموسى(علیه السّلام)وأنه الناصر والمؤازر له في تبليغ الرسالة السماوية، وهو ما فوّضه النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)للإمام علي(علیه السّلام)باستثناء النبوة.

ص: 280


1- صحيح البخاري، ج 3، ص 1359 ، وج 4 ، ص 1602؛ صحيح مسلم، ج 4، ص 1871؛ مسند أحمد بن حنبل، ج 1، ص 170 فما بعد. وإذا قام القارئ ببحث عن عبارة (بمنزلة هارون) في برنامج المكتبة الإلكترونية (المكتبة الإسلامية الكبرى الشاملة) انتاج العربية السعودية، فسوف يعثر على ما يزيد على الستمئة مورد بهذا الشأن في مصادر أهل السنة المعتبرة.
2- طه : 29 - 32.

وعليه فإن هذا الحديث من الناحية المفهومية يدلّ على إمامة الإمام علي بن أبي طالب(علیه السّلام)وخلافته. كما أنه من الناحية السندية حظي بتأييد أكثر العلماء من أهل السنة، ولم يشكك فيه سوى الآمدي(1)، وشكه بالمقارنة إلى الأغلبية الغالبة من أهل السنة لا يؤثر شيئاً.

وروي عن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)أنه قال للإمام علي(علیه السّلام)في حديث آخر: «يا علي أنت الذي تبين لأمتي ما يختلفون فيه بعدي، وتقوم فيهم مقامي، قولك قولي، وأمرك أمري، وطاعتك طاعتي، وطاعتي طاعة الله، ومعصيتك معصيتي، ومعصيتي معصية الله عز وجل»(2).

ففي هذا الحديث يبين النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)أن لا فرق بينه وبين الإمام علي(علیه السّلام)في حل المسائل الخلافية، ولزوم إطاعة الناس له وللإمام علي، ويصرح بأن شخصية الإمام علي(علیه السّلام)القانونية مثل الشخصية القانونية والحقوقية لرسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)في هذه الأمور، وبذلك تكون هذه الرواية خير جواب لأولئك الذين يرون خاتمية النبي خاتمية لجميع مسؤولياته ومهامه.

الأمر الآخر أن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)قد أكد على مفهوم حديث المنزلة مراراً وفي مختلف المواضع من قبيل مستهل الدعوة، ويوم المؤاخاة، ويوم إغلاق أبواب المسجد في المدينة المنوّرة، ويوم فتح خيبر، وفي واقعة تبوك(3).

خامساً: حديث الدواة والقلم (الوصية غير المكتوبة):

إن من بين الأدلة التى يمكن التمسك بها بوصفها دليلاً على تنصيب

ص: 281


1- انظر: الإلهيات، ج 4، ص 79 (الهامش).
2- من لا يحضره الفقيه، ج 4 ، ص 179.
3- انظر: موسوعة الإمام علي(علیه السّلام)، ج 2، ص 152 فما بعد.

الإمام علي(علیه السّلام)إماماً على المسلمين، الحديث المعروف بحديث الدواة والقلم. وذلك ببيان أن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)أراد في الأيام الأخيرة من حياته الشريفة أن ينصب الإمام علي خليفة له على المسلمين وأن يوثق ذلك في سند مكتوب، فطالب بإحضار دواة وقلم وقرطاس؛ حيث قال: «ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً»(1).

ولكن حيث أدرك بعضهم ما أراد النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم) كتابته، فقد أثار اللغط واتهم النبي باشتداد المرض عليه وأنه - والعياذ بالله - يهجر ولا يعي ما يقول، واختلف الحاضرون بين من قال بمقالة الرجل وبين من أصر على الاستجابة لطلب الرسول؛ فخاف النبي أن تتفرّق وحدة المسلمين، وبان على وجهه الغضب وأمرهم بالخروج من عنده وعدم التنازع في حضرته.

دراسة وتحليل:

إن القرائن والشواهد الآتية تثبت أن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)كان يروم أن يثبت إمامة الإمام علي(علیه السّلام)في وصية مكتوبة له :

أ - يفهم من التعبير ب_«لن تضلوا بعدي» أن مراد النبي تعيين خليفة وإمام يقوم مقامه بعد رحيله. كما أن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)حيث صدرت منه عبارات مشابهة لهذه العبارة مراراً فيما يتعلق بالوصية لأهل بيته وعترته، من قبیل: حديث الثقلين، فقد أدرك المخاطبون - وخاصة أولئك الذين يمتلكون حاسة شم سياسية قوية - ما كان يرمي إليه الرسول؛ ولذلك سارع من فوره

ص: 282


1- الكامل في التاريخ، ج 2، ص 320؛ تاريخ الطبري، ج 3، ص 505؛ الطبقات الكبرى، ج 2، ص 188؛ امتاع الأسماع، ج 14 ، ص 449؛ البدأ والتاريخ، ج 5، ص 59.

إلى الحيلولة دون كتابة الرسول لذلك الكتاب، فأثار تلك الضجة المفتعلة في حضرة النبي رغم ما به من العلة والمرض، بل ذهب إلى أبعد من ذلك عندما اتهم النبي - والعياذ بالله - بأنه يهذي ويهجر، وقد صرحت المصادر السنية والشيعية بأن من تجرأ على رسول الله بهذه الكلمات هو عمر بن الخطاب،

حيث قيل: «فقال عمر: إن النبي قد غلب عليه الوجع، وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله»(1).

إن هذه المقالة لا تنطوي على جرأة من قبل عمر بن الخطاب في نسبة الهجر إلى النبي - والعياذ بالله - فحسب، وهو الذي يقول عنه تعالى: ﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾(2). بل ذهب إلى حد اعتبار نفسه فوق النبي الأكرم؛ إذ يقول : لا حاجة إلى وصية النبي، وإن القرآن يكفينا. وهنا نتساءل: ما هو تكليف المسلمين؟ هل عليهم اتباع أمثال عمر أم عليهم اتباع تعاليم رسول الله ؟ نترك الإجابة عن هذا السؤال لأصحاب الضمائر الحية من بني البشر !

ب -لقد اعترف عمر بن الخطاب نفسه فيما بعد بأن النبي كان ينوي تنصيب الإمام علي خليفة من بعده فمنعته من ذلك، وذلك في حديث له ابن عباس قال فيه: «إن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)أراد أن يذكره للأمر في مرضه

ص: 283


1- صحيح البخاري، ج 5 ، ص 2146؛ وأيضاً : صحيح مسلم، ج 3، ص 1259؛ مسند أحمد بن حنبل، ج 1، ص 336؛ الطبقات الكبرى، ج 2، ص 243؛ تاريخ الطبري، ج 2، ص 505؛ الكامل في التاريخ، ج 2، ص 320. ومن الجدير ذكره أن بعض هذه المصادر قد عمدت إلى حذف اسم عمر - ربما رعاية لحرمته - وهو من مصاديق تحريف التاريخ.
2- النجم: 3 - 4 .

فصددته عنه خوفاً خوفاً من الفتنة»(1).

كما روى ابن أبي الحديد عن عمر بن الخطاب قوله: «يا ابن عباس وأراد رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)الأمر له فكان ماذا إذا لم يرد الله تعالى ذلك؟ إن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)أراد أمرا وأراد الله غيره»(2).

وبطبيعة الحال فإن عمر بن الخطاب عمد إلى تبرير موقفه في منع رسول الله من كتابة وصيته بالقول: «فصددته ... خوفا منالفتنة». وفي هذاالتبرير يرى عمر بن الخطاب نفسه فوق النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم) - والعياذ بالله - إذ يتهمه بعدم لحاظ مصلحة الإسلام والأمة الإسلامية، أو أنه عاجز عن إدراكها، وأنه بحاجة إلى توجيه وهداية من عمر بن الخطاب! هل النبي الذي هو أشرف الكائنات وأعظم الأنبياء والمسدد بالوحي يعجز عن تشخيص مصلحة الدين والمجتمع، ولم يكن يمتلك من الإدراك والوعي ما يملكه عمر بن الخطاب؟! نترك

ص: 284


1- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 12، ص 79.
2- المصدر أعلاه، ص 78. وهذا الكلام من عمر بن الخطاب ينطوي على اتهام آخر منه لرسول الله، وهو القول بأنه كان يريد أمراً مخالفاً لإرادة الله والعياذ بالله. والإشكال الآخر أن عمر بن الخطاب برد مخالفته لإحضار الدواة والقلم والقرطاس لكتابة وصية النبي للإمام علي بالخلافة، بالخوف من الفتنة! وهنا يرد السؤال الآتي: لماذ لم يقم أبو بكر وعمر بن الخطاب بعد تثبيت أركان السلطة والخلافة والقضاء على المخالفين في الداخل والخارج بتطبيق وصية النبي وإعادة الخلافة والإمامة إلى الإمام علي(علیه السّلام)،ولماذا قام أبو بكر بتنصيب غير الذي أراده رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)وهو الإمام علي، وإنما أوصى لشخص آخر لعب الدور الأبرز في إيصاله إلى السلطة في حادثة السقيفة ولماذا لم يوص عمر بن الخطاب العلي(علیه السّلام)بعده وجعل الأمر في شورى تم الترتيب لها كي تؤدي بشكل طبيعي إلى نقل الخلافة إلى عثمان بن عفان ؟! سيكون لنا بحث تفصيلي بشأن الشورى.

الإجابة مرة أخرى عن هذا السؤال إلى أصحاب الضمائر الحية والحرة المنزهة عن العصبية.

ج - أضف إلى ذلك أن أبا بكر عندما كان على فراش الموت تنتابه الإغماءات بين الحين والآخر أوصى لعمر بن الخطاب فكان هو الذي يملي وعثمان يكتب، بل إن عثمان هو الذي أدرج اسم عمر بن الخطاب في لحظة إغماءة أبي بكر اعتماداً منه على حدسه في ذلك، تقول الوثيقة التاريخية: «أحضر أبو بكر عثمان وهو يجود بنفسه فأمره أن يكتب عهداً وقال: أكتب بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما عهد عبد الله بن عثمان إلى المسلمين أما بعد - ثم أغمي عليه - وكتب عثمان قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب، وأفاق أبو بكر ...»(1)!ومع ذلك لم يصدر من عمر ولا غيره معارضة، ولم يتهمه عمر بغلبة الوجع أو أثقل عليه المرض أو أنه يهجر!

فالحقيقة إذن هي أن أمثال عمر بن الخطاب كانوا يرون في تطبيق وصية النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)ضرباً لمصالحهم، والدليل على ذلك منع النبي من كتابة وصيته مهما كلف الأمر، بل حتى إذا بلغ الأمر حدّ اتهام النبي في عقله واتزانه الذهنى والعياذ بالله . وهكذا كان مصير هذه الوصية التي تصب في مصلحة غريم عمر بن الخطاب وهو الإمام علي بن أبي طالب(علیه السّلام) أن تخنق في مهدها، بل وحتى قبل أن تولد !

د - القرينة الأخرى أن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)كان يعلم مسبقاً أن بعض الصحابة لا يطيق أن يتولى الإمام علي(علیه السّلام)أعباء السلطة والإمامة، ولذلك

ص: 285


1- ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة ، ج 1، ص 165؛ نهاية الأرب، ج 3، ص 129.

أمر وهو على فراش المرض أن يُسيّر جيش بقيادة أسامة بن زيد وهو شاب لم يتجاوز الثمان عشرة سنة، رغم أنه لم تكن هناك حاجة ملحة إلى إنفاذ ذلك الجيش. وإنما أراد النبي من وراء ذلك إبعاد العناصر المؤثرة في المشهد السياسي والاجتماعي من أمثال أبي بكر وعمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح وسعد بن أبي وقاص (وغيرهم من العناصر المؤثرة في حادثة السقيفة). إلا أن هذه الشخصيات امتنعت عن امتثال أمر النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)بشتى الذرائع والحجج، رغم أن النبي لعن من يتخلف عن جيش أسامة(1). واضح لو أن الصحابة قد امتثلوا لأمر النبي في الالتحاق بجيش أسامة، لتمت عملية انتقال السلطة إلى الإمام علي(علیه السّلام)بعد رحيل النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)بانسيابية. ولكن يبدو أن هؤلاء الأشخاص أدركوا بحاسة شمهم السياسية، المغزى الذي كان يرمي إليه النبي من وراء عقد اللواء لهذا الجيش وإلزامهم بالالتحاق به، وإبعادهم عن المشهد السياسي المقبل، وعندها لن يحصلوا على شيء من السلطة التي كانوا يمنون أنفسهم بها.

والمغزى الآخر الذي أراد النبي التلويح به للصحابة من خلال تأمير أسامة بن زيد - رغم صغر سنه - على كبار القوم بمن فيهم المخضرمين من قادة الجيوش، قطع الطريق عليهم إذا أرادوا الاعتراض على إمامة الإمام علي(علیه السّلام)لجميع الأمة وهو في شرخ الشباب حيث كان في الرابعة والثلاثين من عمره الشريف. وبذلك يثبت لهم عملياً أن ملاك القيادة والإمامة هو الكفاءة الذاتية التي لا صلة لها بالأعمار وصغر السن أو كبره(2).

ص: 286


1- انظر: عبد الحسين شرف الدين، المراجعات، المراجعة رقم: 92 .
2- انظر: تاريخ مدينة دمشق، ج 8، ص 51 - 63 كنز العمال، ج 10، ص 571؛ الطبقات الكبرى، ج 4، ص 66 .

سادساً: أحاديث الحجة:

ورد التعريف بالإمام علي(علیه السّلام)في بعض الروايات النبوية بوصفه حجة الله، فقد روي أن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)أنه قال: «نزل علي جبرئيل(علیه السّلام)صبيحة يوم فرحاً مستبشراً، فقلت: حبيبي مالي أراك فرحاً مستبشراً؟ فقال: يا محمد وكيف لا أكون كذلك وقد قرّت عيني بما أكرم الله به أخاك ووصيك وإمام أمتك علي بن أبي طالب(علیه السّلام)فقلت : وبمَ أكرم الله أخي وإمام أمّتي؟ قال: باهى بعبادته البارحة ملائكته وحملة عرشه، وقال: ملائكتي انظروا إلى حجتي في أرضي على عبادي بعد نبيي، فقد عفر خده في التراب تواضعاً لعظمتي، أشهدكم أنه إمام خلقي ومولى بريتي»(1).

وروي عن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)في رواية أخرى أنه قال: «يا على أنت إمام المسلمين، وأمير المؤمنين، وقائد الغر المحجلين، وحجة الله بعدي على الخلق أجمعين»(2).

وقال في موضع آخر: «إنك لحجة الله على خلقي، وأمينه على سره، وخليفته على عباده»(3).

إن هذه الأحاديث تمثل الجواب الواضح والشافي لأولئك الذين يتذرعون بمفهوم الخاتمية لحصر الحجة الإلهية بالنبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)، وأنكروا لذلك إمكان أن يكون الأئمة(علیهم السّلام)أيضاً.

ص: 287


1- مناقب الخوارزمي، ص 319، ش 322.
2- أمالي الصدوق، ص 375؛ بشارة المصطفى ص 35؛ بحار الأنوار، ج 38، ص 100.
3- عيون أخبار الرضا، ج 1، ص 297؛ أمالي الصدوق، ص 155، ش 149.

سابعاً: أحاديث العصمة:

تقدّمت الإشارة إلى أن للإمامة ثلاثة شؤون ومنازل، وهي: (الحكومة،والمرجعية العلمية والدينية، والولاية المعنوية والباطنية)، وقد دلت الروايات المختلفة - بحسب مقتضى حال المخاطب والظرف - على إثبات شأن من هذه الشؤون الخاصة. وتوجد هنا روايات كثيرة عن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)تثبت عصمة الأئمة والإمام علي(علیه السّلام)، ولازم ذلك مرجعيتهم العلمية والدينية وحجيتهم الذاتية على مستوى سيرته النظرية والعملية. ولحسن الحظ فقد تم الالتفات إلى هذه الملازمة (أي الإطاعة المطلقة للأئمة) لمكان وجود العصمة، وقد تقدمت الروايات على ذلك في الفصل الثالث (الإمامة والخاتمية) على هامش الشبهة الثانية (عدم انسجام العصمة مع الخاتمية).

ثامناً: روايات المرجعية العلمية والدينية:

وصف النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)في كثير من رواياته الإمام علياً(علیه السّلام)بوصفه مرجعاً علمياً ودينياً، وأنه نصب في هذا المنصب من قبل الله ورسوله.

روی بن أنس مالك عن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)أنه قال لأبي ذر الأسلمي:

«إن ربِّ العالمين عهد إلى عهداً في على بن أبي طالب أنه راية الهدى، ومنار الإيمان، وإمام أوليائي، ونور جميع من أطاعني...»(1).

وروي عن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)في رواية أخرى أنه قال: «يا علي ... إنك السبيل الجنة، وراية الهدى، وعلم الحق، وإمام من آمن بي، وولي من

ص: 288


1- حلية الأولياء ، ج 1 ، ص 66؛ تاريخ مدينة دمشق، ج ،42، ص 270 و 291 و 330؛ تاریخ بغداد، ج 14، ص 99، ش 7441؛ مناقب الخوارزمي، ص 311.

تولاني»(1).

وقد صرّح النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)في رواية أن الإمام علي يمثل الفيصل

والمرجع الأخير عند الاختلاف، كما قال لعبد الرحمن بن سمرة: «يا ابن سمرة إذا اختلفت الأهواء وتفرقت الآراء فعليك بعلي بن أبي طالب؛ فإنه إمام أمتي، وخليفتي عليهم من بعدي»(2).

وفي رواية أخرى، أنه قال: «ألا أدلكم على ما إن تساءلتم عليه لم تهلكوا؟ إن وليكم الله، وإن إمامكم علي بن أبي طالب؛ فناصحوه وصدقوه، فإن جبريل أخبرني بذلك»(3).

وفي رواية أخرى عن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)أنه قال: «أيها الناس، قد بينت لكم مفزعكم بعدي وإمامكم بعدي ووليكم وهاديكم، وهو أخي علي بن أبي طالب وهو فيكم بمنزلتي فيكم. فقلدوه دينكم وأطيعوه في جميع أموركم، فإن عنده جميع ما علمني الله من علمه وحكمته فسلوه وتعلموا منه ومن أوصيائه بعده»(4).

وبعد نزول قوله تعالى: ﴿ إِنَّما أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ﴾(5)، عرف صَلَى النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)نفسه بأنه هو المنذر، ثم أشار إلى الإمام علي(علیه السّلام)وقال:

ص: 289


1- شرح الأخبار، ج 2، ص 264.
2- كمال الدين، ص 257؛ أمالي الصدوق، ص 78؛ بحار الأنوار، ج 36، ص 266 .
3- ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة ، ج 3، ص 98؛ أمالي الصدوق، ص 564؛ بحار الأنوار، ج 38، ص 104.
4- كتاب سليم بن قيس، ص 200.
5- الرعد: 7.

«أنت الهادي يا على، بك يهتدي المهتدون بعدي»(1).

وفي قضية المعراج قال النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم): طرقت هذه الآية سمعي؛ فسألت الله عن الهادي؟ فقال: ذلك على بن أبي طالب غاية المهتدين وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين»(2).

كما عرف النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)علياً(علیه السّلام)بوصفه مبيناً للدين ومرجعاً لحلّ اختلاف الأمة الإسلامية، ومن ذلك قوله:

- «يا علي أنت تبين لأمتي ما اختلفوا فيه من بعدي»(3).

- يا علي أنت الذي تبين لأمتي ما يختلفون فيه بعدي، وتقوم فيهم مقامي، قولك قولي، وأمرك أمري، وطاعتك طاعتي، وطاعتي طاعة الله، ومعصيتك معصيتي، ومعصيتي معصية الله عز وجل»(4).

وفيما يتعلق بعلم الإمام على(علیه السّلام)، وردت كثير من الروايات في مصادر الفريقين، حيث يقول رسول الله لعل الله: «أنا مدينة العلم وعلي بابها »(5).

وفيما يتعلق بعلم الإمام على(علیه السّلام)نكتفى بذكر هذه النقطة وهي أن علم الإمام لم يكن علماً اعتيادياً، بل هو مؤيد من قبل الله ومن جنس الإلهام.

ص: 290


1- تفسير الطبري، ج 8، ص 108؛ التفسير الكبير، ج 19 ، ص 15؛ الدر المنثور، ج 4، ص 608 .
2- تفسير فرات الكوفي ، وشواهد التنزيل، تفسير الآية السابعة من سورة الرعد.
3- من لا يحضره الفقيه، ج 4، ص 179.
4- كنز العمال، ج 11، ص 615؛ تاريخ مدينة دمشق، ج 42، ص 387.
5- صحيح الترمذي، ج 5 ، ص 637 ؛ مستدرك الحاكم، ج 3، ص 127 و 136؛ إحياء علوم الدين، ج 2، ص 190؛ أبو سعيد السمعاني الأنساب، ج 13، ص 404؛ ابن الجوزي، المنتظم، ج 11، ص 243؛ الزركلي، الأعلام ، ج 5، ص 17.

ومثل هذا العلم لا يتطرق إليه الخطأ، ولا يكون هناك شك في الإجابة عن المسائل. وحيث تقدم البحث عن علم الإمام(علیه السّلام)والإلهام في الشبهة السابعة من هذا الفصل فإننا نحيل القارئ الكريم إلى ذلك العنوان. وأما هنا فنشير إلى أن المرجعية العلمية والدينية للإمام على(علیه السّلام)وتفوقه في هذا المجال على الخلفاء الثلاثة كان من الوضوح والبداهة بحيث نقل عن الخليفة الثاني مراراً أنه قال معترفاً: لولا على هلك عمر»(1).

وفي موضع آخر عرّف عمر الإمام علياً(علیه السّلام)بوصفه مرجعاً لحل الخلافات، إذ يقول: «أمرنا إذا اختلفنا في شيء أن نحكم عليا»(2).

وروي في مصادر أهل السنة المعتبرة عن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)انه قال: «علي أقضاكم، علي أفقهكم، وأعلم أمتي بكتاب الله، وعلي مع الحق والحق مع علي حيثما دار، وأنا مدينة العلم وعلي بابها»(3).

سجل التاريخ ورصد كثيراً من الأمثلة على خطأ الخلفاء الثلاثة في المسائل القضائية، ومبادرة الإمام علي(علیه السّلام)إلى إصلاح هذه الأخطاء، وإن استقراء تلك الأمثلة يحتاج إلى تأليف كتاب مستق(4).

وقد وصف النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)الإمام علياً(علیه السّلام)في روايتين مختلفتين

ص: 291


1- سنن أبي داود، ج 4، ص 114؛ كنز العمال ، ج 3، ص 95 . ولمزيد من التوضيح انظر: العلامة الطهراني امام شناسي، ج 11.
2- مناقب الخوارزمي، ج 1، ص 258.
3- فرائد السمطين، ج 1، ص 97 ، ب ،18؛ مناقب الخوارزمي، ص 40 .
4- انظر: العلامة الحسيني الطهراني، امام شناسي، ج 11، ص 170 و 178 و 229 وغيرها من الصفحات.

قائلاً: «أنت يعسوب الدين ... أنت يعسوب المؤمنين»(1).

واليعسوب لغة يعني: رئيس أو ملكة النحل. وقال ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح هذه الرواية: «كأنه جعله رئيس المؤمنين وسيدهم أو جعل الدين يتبعه ويقفو أثره حيث سلك كما يتبع النحل اليعسوب»(2).

روايات الإمام علي(علیه السّلام): يُعدُّ الإمام علي(علیه السّلام)بالنسبة إلى الشيعة حجة وإماماً إلهياً، وقوله وفعله وتقرير معتبر عندهم ودليل يُستدل به. كما أنه مقبول من قبل أهل السنة بوصفه - في الحد الأدنى - أحد كبار الصحابة الذين يستدلون بأقوالهم وأحاديثهم.

وعليه لو رويت عن الإمام علي(علیه السّلام)رواية أو روايات تدل على أصل تنصيبه، كانت هذه الروية المأثورة عنه حجّة ومعتبرة ويجب الأخذ بها. ولحسن الحظ هناك روايات صريحة وواضحة مروية عن الإمام على(علیه السّلام)بهذا الشأن، وسوف نأتي على ذكرها إن شاء الله تعالى عند التعرض إلى شبهة عدم تمسك الإمام على بأصل التنصيب. وسنكتفى هنا بذكر روايتين يشكو فيهما الإمام علي من المسلمين في صدر الإسلام بسبب عدم معرفتهم بمكانته قائلاً:

«قَلِيلٌ مِنْ شِيعَتِيَ الَّذِينَ عَرَفُوا فَضْلِي وَفَرْضَ إِمَامَتِي مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَسُنَّةِ رَسُولِ الله»(3).

ص: 292


1- ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، ج 19 ، ص 225؛ تاريخ الإسلام، ج 46،ص391.
2- المصدر أعلاه.
3- الشيخ الكليني، أصول الكافي، ج 8، ص 59

كما صرح(علیه السّلام)في موضع ال في موضع آخر - في إطار اختيار عثمان بن عفان بوصفه خليفة ثالثاً، وإبعاد الإمام عن حقه - بأن حق الحاكمية على المسلمين من حقوقه الحصرية، إذ يقول:

«فنحن بيت النبوة ومعدن الحكمة، وأمان أهل الأرض، ونجاة لمن طلب، لنا حق إن نُعطه نأخذه، وإن نُمنعه نركب أعجاز الإبل ولو طال السرى»(1).

روايات سيدي شباب أهل الجنة ينظر أهل السنة إلى الإمام الحسن(علیه السّلام)والإمام الحسين(علیه السّلام)نظرة احترام وتبجيل لما صح عندهم من الروايات الكثيرة التى يروونها عن رسول الله في فضلهما، بل ربما فضلوهما على الإمام على(علیه السّلام)، ذلك أنهم إذا أرادوا وصف على(علیه السّلام)قالوا: والد سيدي شباب أهل الجنة.

وعلى هذا الأساس يجب على أهل السنة أن يأخذوا بجميع الروايات المروية عن الإمام الحسن(علیه السّلام) والإمام الحسين(علیه السّلام)بوصفهما راويين تقتين وبوصفهما سبطي رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم).وإلا فإن أخذهم ببعض رواياتهما ونبذ رواياتها الأخرى سيكون من قبيل الإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعضه الآخر.

بعد هذه المقدمة نقول : إننا عندما نطالع سيرة هذين الإمامين الهمامين ندرك بوضوح أنهما يذهبان إلى القول بأن الإمامة تكون بالتنصيب الإلهي، ومن ذلك تنصيب الإمام علی(علیه السّلام). وفيما يأتي نشير إلى بعض ما روي عنهمافي هذا الشأن:

ص: 293


1- الكامل في التاريخ، ج 3، ص 74.

أشار الإمام الحسن(علیه السّلام)في خطبة له إلى السنة الإلهية القائمة على تعيين الخليفة والإمام بعد النبي، وعرف مصداق ذلك في النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)وأهل بيته(علیهم السّلام)قائلاً: «إن الله لم يبعث نبياً إلا اختار له نقيباً ورَهْطاً وبيتاً، فو الذي بعث محمداً بالحق نبياً لا ينتقص من حقنا أهل البيت أحد إلا نقصه الله من عَمَله مثله، ولا تكون علينا دولة إلا وتكون لنا العاقبة»(1).

ويروى أيضاً أن الإمام الحسن الله قد اعتلى المنبر بعد شهادة الإمام علی(علیه السّلام)وصرّح بأن إمامته كانت بتنصيب من رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)، حيث قال: «... قد نصبه رسول الله»(2).

وقد أشار الإمام الحسن(علیه السّلام)إلى الأمانتين (الثقلين) اللتين استودعهما الله عند المسلمين وقال إنهما تعنيان القرآن وأهل البيت، وأكد أن طاعتهم قد فرضت على المسلمين في القرآن الكريم وسنة النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)، إذ يقول:

«نحن حزب الله المفلحون، وَعِتْرَة رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)الأقربون، وأهل بيته الطاهرون الطيبون ، وأحد الثقلين اللذين خَلَّفهما رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)والثاني كتاب الله فيه تفصيل كل شيء، لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خَلْفِه والمعول عليه في كل شيء، لا يخطئنا تأويله، بل نتيقن حقائقه، فأطيعونا، فإن طاعتنا مفروضة إذ كانت بطاعة الله والرسول وأولي الأمر مقرونة»(3).

وقال(علیه السّلام)في خطبة له فى مسجد الكوفة: «يا أهل الكوفة! اتقوا الله فينا فإنا ،أمراؤكم وإنا أضيافكم ونحن أهل البيت الذين قال الله فيهم: ﴿ اِنَّما

ص: 294


1- المسعودي، مروج الذهب، ج 3، ص 11.
2- نقلاً عن: رونالد سن، عقيدة الشيعة، ص 84.
3- المسعودي، مروج الذهب، ج 3، ص 11.

يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ﴾»(1).

وحيث كان يعلم أسباب وجود النفاق في معسكره فقد اضطر إلى الصلح مع معاوية بن أبي سفيان ثم قال: «أيها الناس، إن معاوية زعم أني رأيته للخلافة أهلاً ولم أرَ نفسي لها أهلاً، وكذب معاوية. أنا أولى الناس بالناس في كتاب الله وعلى لسان نبي الله»(2).

وقد دعا الإمام الحسين(علیه السّلام)كبار قومه في منى وطلب منهم الشهادة بأن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)قد نصب الإمام عليا(علیه السّلام)في مقام الولاية بغدير خم، قائلاً:

« أنشدكم الله، أتعلمون أن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)نصبه يوم غدیر خم فنادی

له بالولاية»(3).

وروي عنه عنه أنه وقف خطيباً في كربلاء، فقال:

«أما بعد أيها الناس فإنكم إن تتقوا الله وتعرفوا الحق لأهله يكن أرضى الله، ونحن أهل البيت أولى بولاية هذا الأمر من هؤلاء المدعين ما ليس لهم والسائرين فيكم بالجور والعدوان، فإن أنتم كرهتمونا وجهلتم حقنا وكان رأيكم غير ما أتتني به كتبكم ورسلكم انصرفت عنكم»(4).

ص: 295


1- سير أعلام النبلاء، ج 4 ، ص 394؛ شواهد التنزيل، ج 2، ص 31.
2- كتاب سليم بن قيس الهلالي، ص 459 .
3- المصدر أعلاه.
4- ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج 4 ، ص 47 ؛ تاريخ الطبري، ج 5، ص 402؛ وقعة الطف، ص 170 .

الشبهة الرابعة: التنصيب عنصر تفرقة:

اشارة

إن من بين الأدلة والشبهات التي يطرحها أهل السنة على إنكار أصل التنصيب، هو ما ينطوى عليه التنصيب من الأضرار والآفات بزعمهم بمعنى أنه لو كان هناك نص من النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)بشأن الإمامة والحكم فإن هذا النص سيؤدي إلى استقطاب جماعة من المسلمين معه، وجماعة أخرى من المسلمين ضده، ولا يخفى ما في ذلك من الخلاف والفرقة وشق وحدة المجتمع الإسلامي، وهذا لا ينسجم مع مصالح الإسلام والمسلمين.

وقد عمد سيف الدين الآمدي (م 631 ه_) إلى بيان كيفية لزوم الفرقة والضرر الذي يتسبب به التنصيب على النحو الآتي:

أ - بعد كراهة بعض من الناس للإمام والخليفة المنصوب، يتعرض المجتمع للفتنة والاختلاف، وهذا إضرار بالآخرين.

ب - إن الإمام المنصوب هو واحد من الناس، وإن رئاسة فرد على الآخرين من أمثاله هو من التحكّم والظلم، ولا يخفى ما في ذلك من الإضرار بالغير.

ج - إن الإمام المنصوب لا يخلو أمره، فهو إما أن يكون معصوماً أو غير معصوم، والأول ممتنع طبقاً لمتبنيات أهل السنة، وفي مورد غير المعصوم يحتمل كفر الإمام وفسقه، فإن لم يتم عزله في مثل هذه الحالة فإن ضرر كفره وفسقه سيطال المجتمع، وإن عزل لا يخفى ما في عزله من الفتنة والاختلاف أيضاً(1).

ص: 296


1- انظر: الآمدي، أبكار الأفكار، ج 3، ص 420 - 421 .

وقد عمد بعض علماء أهل السنة إلى المقاربة والموازنة بين ضرر التنصيب من جهة، وضرر عدم التنصيب من جهة أخرى؛ ليصل إلى القول بأن الضرر المترتب على التنصيب أكبر من الضرر المترتب على عدم التنصيب، وبذلك مال إلى القول بترجيح عدم التنصيب(1).

مناقشة وتحليل:

لقد عرضنا في الفصل الأول من هذا الكتاب إلى إثبات نظرية التنصيب بالأدلة والشواهد الوافية والكافية، وهو أمرٌ يثبت ضعف هذه الشبهة من الأصل. وفيما يأتي نشير إلى نقاط أخرى في ردّ هذه الشبهة:

أ - لزوم التبعية للحكم الشرعي:

قبل الدخول في تفاصيل تحليل هذا المدعى ونقده لابد من التذكير بأن المسلم الحقيقى يجب أن يكون ملتزماً ومنقاداً وممتثلاً لتكاليفه الدينية والشرعية، وأن لا يكون بصدد الموازنة بين أداء تكاليفه وترجيح مصالحه .

وعلى هذا الأساس إذا ثبت لنا بالأدلة الشرعية والدينية أن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)قد نصب للخلافة والإمامة شخصاً مثل على بن أبي طالب(علیه السّلام)،وجب علينا الالتزام بذلك. وعليه فإن ادعاء أهل السنة بأن التنصيب يؤدى إلى الضرر والإضرار بالآخرين، مضافاً إلى عدم واقعيته، خارج في حد ذاته عن دائرة أهل السنة، بمعنى أن السني الحقيقي هو الذي يلتزم بكل ما يقوله رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم).

ص: 297


1- شرح المواقف، ج 8، ص 384.

ب - التنصيب الخاص أفضل خيار:

إن ما ادعي من أن التعريف بالخليفة وتنصيبه على المجتمع يؤدي إلى الاختلاف، مجرد ادعاء لا يلازم التنصيب. بعبارة أخرى: يجب النظر في من يتولى عملية التنصيب (الناصب)، والشخص الذي يتم تتصيبه (المنصوب). فإن كان الناصب آخذاً بنظر الاعتبار جميع الخيارات والملاكات اللازمة لمنصب الإمامة والخلافة، وكان هذا الناصب عالماً وخبيراً ومخلصاً وحريصاً على المجتمع، وكان المجتمع بدوره مدركاً لهذه الأمور ومؤمناً بحسن اختيار الناصب وحكمته، فإن تنصيبه للإمام والخليفة سيحظى بترحيب عامة الناس. وحيث أن الفرض يقوم على أنه يحيط بجميع أبعاد مسألة القيادة وحاجة المجتمع، ولا يلاحظ إلا مصلحة المجتمع والدين، فإن مثل هذا التنصيب سيكون بالضرورة نافعاً للمجتمع، بل يجب تطبيقه على أرض الواقع.

إذن أصل التنصيب لا يشتمل على ضرر يطال المجتمع، بل على العكس من ذلك يمكن القول على الفرض المتقدّم (الشخصية الجامعة للناصب والمنصوب): تكون مصلحة المجتمع في التمسك بهذا التنصيب.

ثم لو أن شخص الناصب - بدلاً من لحاظ مصالح المجتمع - مال إلى تغليب مصلحته الشخصية ومصالح أسرته وقبيلته، فإن الشخص الذي سيتم تنصيبه لن يكون هو الخيار الأمثل. ففي مثل هذا الفرض هناك إمكان الاختلاف والفرقة والنقاش، ولو تم إجبار الناس وإكراهههم على القبول بهذا التنصيب، أو جرى في غيابهم، فإن مثل هذا الأمر سيؤدي إلى الإضرار في حقوق المواطنين بل وتشويه الدين نفسه.

بهذه المقدمة نتوجه بالسؤال إلى أهل السنة قائلين: لو اختار النبي

ص: 298

الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)شخصاً بعينه لمنصب الإمامة والخلافة (وهو ما حصل بالفعل)، فهل سيلاحظ في ذلك اختيار الفرد والجامع والكفوء والمتصف بأفضل الصفات والشروط المناسبة؟ أم أنه بدلاً من ذلك - والعياذ بالله - سيلاحظ المصالح الفردية والقبلية ؟

إن جواب كل مسلم عن هذا السؤال سيتم عبر اختيار الشق الأول.

وعليه هل سيؤدي اختيار هذا الشخص الذي هو وحده الصالح لإدارة وقيادة المجتمع إلى الإضرار بالمجتمع ، أم أن المجتمع سيرى فيه الخيار الأفضل، لعلمه بحرص النبي وحكمته في هذا الخيار، ويتصدى للدفاع عنه بكل ما أوتي من قوة.

نعم قد يخرج علينا بعض الأشخاص الذين يخالفون شخص المنصوب، ويسعون إلى تشويه سمعته واغتيال شخصيته من خلال التذرّع بمختلف الأدلة الواهية ، كما حصل ذلك مع الإمام علي(علیه السّلام)، حيث قيل: إنه حديث السن ا، ولا خبرة له بالقيادة ولا يصلح لها، أو أنه شخص به دعابة، أو أن قريشاً لن ترضى به (وقد أشرنا إلى هذه الذرائع في الصفحات السابقة). في مثل هذه الحالة قد يؤدي عزل الشخص المنصوب إلى تسنم غير الصالحين سدة حكم المجتمع، أو يؤدي ذلك إلى ظهور النزاع والاختلاف في المجتمع. إلا أن هذه الآفة لا تنشأ بسبب أصل التنصيب، وإنما تنشأ من جهة التآمر والتخطيط من قبل أصحاب المصالح الشخصية الضيقة.

وقد صرّح بهذه الإجابة - تنصيب الشخص الأفضل، واقتران عدم من أمثال الشيخ تنصيبه بلوازم سلبية من قبيل التشتت والاختلاف - فلاسفة الرئيس ابن سينا، حيث قال بعد الإشارة إلى خيار التنصيب والانتخاب:

ص: 299

«الاستخلاف بالنص أصوب، فإن ذلك لا يؤدي إلى التشعب والتشاغب والاختلاف»(1).

ج - إمكان الخطأ في الانتخاب:

اتضح أن الشخص الناصب إذا كان فرداً جامعاً وعالماً بجمیع الأمور وحريصاً ومؤثراً على المستوى الاجتماعي، فإن الناس سوف ينتفعون بالشخص الذي ينصبه خليفة وإماماً عليهم. في حين أن اختيار القائد من قبل الناس مباشرة أو الجماعات أو الشورى، ينطوي على احتمال أن يخطئوا في اختيارهم لمختلف الأسباب عمداً أو سهواً، ولا يخفى ما في اختيار الناس للشخص غير الكفوء من الأضرار والمخاطر الجسيمة على مستوى النزاعات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، والأهم من ذلك الجانب الديني والقيمي. (تقدم تفصيل البحث حول المحاذير المترتبة على اختيار الناس (الديمقراطية) في

الفصل الثاني على هامش تعاريف الإمامة والديمقراطية).

بعبارة أخرى: لو أجرينا مقارنة بين اختيار الناس والنصب الخاص (الشخصية الجامعة للفرد الناصب والمنصوب)، سندرك أن أرضية الوقوع في الأخطاء السياسية والاجتماعية فيما يتعلق بالنسبة إلى الشخص المنتخب من قبل الناس أكثر بكثير من الفرد الذي ينصبه الفرد الأكمل (النبي ) ؛ لأن كل قوم أو قبيلة تميل إلى تقليد فرد منها، مضافاً إلى أن ملاكات تحديد الفرد الأصلح للقيادة والإمامة هي الأخرى عرضة للخلافات والنزاعات، في حين لا وجود لهذه المحاذير فيما يتعلق بالتنصيب الخاص؛ إذ الفرض أن الجميع مؤمن ومعتقد بشخصية الفرد الناصب، وإن الجميع سيذعن لاختياره.

ص: 300


1- ابن سينا، الإلهيات من الشفاء، ص 451 .

د - صفح علي(علیه السّلام)محور المحافظة على وحدة الأمة:

قلنا: إن الاختلاف في أصل التنصيب أقل منها في الانتخاب الديمقراطي، وربما خطر على الذهن تساؤلاً مفاده: أن اختيار الخليفة الأول بعد رحيل النبي الأعظم(صلی الله علیه و آله و سلم)لم يكن بتنصيب منه، وإنما تم ذلك عبر شورى السقيفة، ومع ذلك لم يحدث أي خلاف أو نزاع يهدّد المجتمع الإسلامي وبيضة الإسلام.

في الجواب عن هذه الشبهة يجب القول: إن الخلاف قد احتدم منذ اللحظة الأولى من تشكيل شورى السقيفة، حيث كان الأنصار يريدون الخليفة منهم، وفي المقابل أصر المهاجرون (أبو بكر وعمر) على أن يكون الخليفة منهم، ثم صار بعضهم إلى القول أن يكون لكل فصيل أميره وخليفته، وبعد الأدلة التي ساقها أبو بكر بادر بعض الأنصار إلى مبايعته، في حين ذهب آخرون منهم إلى الالتحاق بشيعة الإمام علي(علیه السّلام)، وطالبوا بخلافته. وعلاوة على الأنصار ذهب جماعة من الصحابة إلى البقاء في صفّ على(علیه السّلام)من أمثال: ابن عباس والمقداد وسلمان.

وفي هذا الخضم كان هناك احتمال أن يؤدي هذا الاختلاف إلى حرب طاحنة داخل المجتمع الإسلامي بين أبي بكر وأنصاره من جهة، وبين الإمام علي(علیه السّلام)بوصفه منصباً للإمامة من قبل النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)وشيعته من جهة أخرى. ولكن الإمام على(علیه السّلام) - كما تقدّم أن ذكرنا في الصفحات السابقة - سحب البساط من تحت اقدام المنافقين والأعداء الخارجيين، حفاظاً على الوحدة الإسلامية، فغض الطرف عن هضم حقه، وقدم مصلحة المسلمين العامة على مصلحته الخاصة.

ص: 301

ولذلك حالت حكمة أمير المؤمنين(علیه السّلام)دون أن يتعرض الخلفاء الثلاثة طوال ربع قرن من حكمهم لأي حرب داخلية، فشكل الإمام علي بموقفه هذا صمّام أمان حال دون اندلاع الحروب الداخلية. وعلاوة على ذلك فإن الإمام لم يتنازل عن حقه فحسب، بل بادر في بعض المواطن حيث كان الخطر محدقاً بالإسلام إلى مساندة الخلفاء لتعزيز جبهة الإسلام ورفد المجتمع الإسلامي والحفاظ على وحدته وتماسكه.

ه_ - جواب نقضي (تنصيب الخليفة الأول والثاني):

تذرّع أهل السنة بالآفات والأضرار والمحاذير المترتبة على تنصيب النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم) للخليفة بعده، لإثبات عدم حصول التنصيب، والقول بمشروعية خلافة الخليفة الأول بانتخاب الناس. بيد أن هذا المبنى لم يتم تطبيقه بعد ذلك، حيث نقض من قبل الخليفة الأول والثاني، فقد عمد أبو بكر إلى تنصيب عمر بن الخطاب، كما قام عمر بتشكيل شورى من ستة أشخاص ووضع عليها شروطاً تؤدي تلقائياً إلى اختيار عثمان بن عفان. (تقدم بيان الأدلة على ذلك في البحث عن أسباب مشاركة الإمام علي(علیه السّلام)في الشورى).

فقد تذرّع أهل السنة بالمحاذير التي صوروها للتنصيب من أجل إنكار تنصيب النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)، وهنا عليهم الإجابة عن هذا السؤال: لماذا لم يواصل الخليفة الأول والخليفة الثاني سيرة رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)في هذا الشأن؟ ولماذا أصرًا على تنصيب من يخلفهما رغم الآفات والمحاذير المترتبة على التنصيب طبقاً لمنهج أهل السنة؟

ليس من السهل على أهل السنة الإجابة عن هذه الأسئلة، إلا إذا التزموا بأن الخليفة الأول والثاني كانا - والعياذ بالله - أقدر من رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)

ص: 302

على تحديد من هو الأجدر والأصلح لقيادة الأمة، وجاز لهما لذلك ما لم يجز لرسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم).

ولكن لا يبدو أن السنة يلتزمون بذلك، إذ ليس فيهم من يعتبر الخلفاء أفضل من رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)، مضافاً إلى ذلك يستفاد منه أن أصل التنصيب لا يستوجب الضرر والخلاف في حد ذاته. في حين أنهم اعتبروا أول الأمر أن مطلق التنصيب يساوق الضرر.

و - جواب الآمدي:

يتضح مما تقدّم ضعف وفساد الفرضيات الثلاثة التي ساقها سيف الدين الآمدي .

أما الفرض الأول القائم على أن كراهة البعض للإمام المنصوب سوف تؤدي إلى حدوث الفتنة في المجتمع، فقد تقدم بيان الإجابة عنه بالتفصيل.

وأما الفرض الثاني القائل بأن تنصيب الإمام والخليفة على الناس الذين هم مثله، تحكّم وتعسف، فيجب القول فيه: إن افتراض تنصيب الإمام من قبل النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)يعود في واقع الأمر إلى تنصيب الله وهو خالق الناس، ويمكن للخالق أن يعيّن حاكماً أو يفرض قانوناً على مخلوقاته، وهذا يعود إلى التوحيد في الحاكمية والتشريع، وليس هناك أي خدشة فيه. وأما على الفرضية الأخرى القائلة باختيار الحاكم من طريق البيعة، فيجب القول، أولاً: إن اتفاق الأكثرية على حاكمية شخص واحد لا يكتب له التحقق حتى في أكثر المجتمعات ديمقراطية، بل لا يشارك في الانتخابات إلا ما يقرب من نصف المجتمع الذي تتوفر فيه الشرائط، وعلى هذا النصف تتوزع النسبة المئوية من الآراء، ومن ثَمَّ لا يحصل الفائز في الانتخابات إلا على أقل من نصف الآراء؛

ص: 303

فكيف يمكن لهذا الحاكم أن يحكم أكثرية الناس أو جميعهم؟ ألا يكون في ذلك تحكم وتعسف؟!

الذي

وثانياً: على فرض حصول المرشح على أكثرية الآراء، فما هو الدليل يبيح له الحكم على الأقلية التي لم تنتخبه؟

وقد سبق لنا أن ذكرنا نقاط ضعف الديمقراطية ونقصها في بحث الإمامة والديمقراطية.

وفيما يتعلق بالفرضية الثالثة التي ساقها الآمدي، فيجب القول: إن الشيعة يذهبون إلى القول بعصمة الإمام، ويثبتون ذلك بالأدلة القطعية على ما سيأتي بيانه. وأما بناء على فرض عدم عصمة الإمام، فيجب القول: إن هذا الإشكال من قبل الآمدي يرتد على أهل السنة أيضاً، حيث لا يرون اشتراط العصمة بالنسبة إلى الخليفة والإمام، ولو ألقينا نظرة على تاريخ الخلفاء فسوف ندرك حجم البدع والانحرافات في الدين بسبب عدم عصمتهم؛ وقد أشار الإمام علي(علیه السّلام)إلى بعض هذه البدع والانحرافات، وسوف نأتي على ذكرها فى الصفحات القادمة إن شاء الله تعالى.

الشبهة الخامسة: عدم اشتهار التنصيب:

اشارة

إن من الشبهات القديمة والمعروفة بين أهل السنة قولهم: إنه لو كان هناك حديث على التنصيب من قبل النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)للإمام علي(علیه السّلام)بالإمامة، لكان ذلك النصّ معروفاً لدى المسلمين في صدر الإسلام ومشتهراً بينهم، ولنقلوه إلى الأجيال اللاحقة، في حين لا وجود لمثل هذا النص والشهرة، أو ما يعبّر عنه بين القدماء ب_«النص الجلي»؛ فيستنتج من ذلك عدم وجود

ص: 304

مثل هذا النص.

ويضيف مقرّرو هذه الشبهة لتأييد عدم وجود النص الجلي: أن افتراض وجود مثل هذا النص يستلزم كفر منكره، وسيؤدي تبعاً لذلك تكفير جميع أصحاب النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)(1).

مناقشة وتحليل:

في معرض تحليل هذه الشبهة يجدر الالتفات إلى الأمور الآتية:

أ - تأويل النص من قبل بعض الصحابة:

لو التزمنا بصحة هذا الادعاء، وقلنا بأنه لو ورد عن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)نص على إمامة الإمام على(علیه السّلام)بشكل متكرر؛ لعلم. يجب القول إن الشيعة يدعون علم الصحابة بأصل التنصيب ووجود هذه النصوص ولا ينكرونها أبداً، ولكنهم يقومون بتأويلها، وقد تقدم تفصيل هذه التأويلات وتحليلها ونقدها فلا نعيد.

إذن هذا النص بالتنصيب موجود، وقد بلغت معرفة الصحابة له حدّ الاشتهار، ولكن أهل السنة عمدوا إلى تأويله.

ب - إمكان الاختفاء:

على الرغم من وجود النص على إمامة الإمام(علیه السّلام)من قبل النبي

ص: 305


1- انظر : شرح الأصول الخمسة، ص 762؛ عبد القادر البغدادي، كتاب أصول الدين، 148؛ سيف الدين الآمدي، غاية المرام في علم الكلام، ص 319؛ الجويني، كتاب الإرشاد، ص 354 التفتازاني شرح المقاصد، ج 3، ص 491؛ شرح المواقف، ج 8، ص 386.

الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)، يحتمل أن يكون هذا النص قد خفي على أكثر المسلمين في صدر الإسلام، وليس هذا بالأمر المحال ؛ إذ له نظائر، كما هو الحال بالنسبة إلى كيفية وضوء النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)وبعض الأحكام الفقهية الأخرى التي اختلف فيها السنة والشيعة، فكان لكل منهما رأيه الخاص، أو الاختلاف فيما بين أهل السنة أنفسهم عندما نطالع الكتب الفقهية للفقهاء الأربعة.

كما يدعم رأينا هذا توجه الخليفة الأول ومن تلاه من الخلفاء الذين منعوا من تدوين الحديث النبوي، فقد صار الخليفة الأول إلى منع رواية أحاديث النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)لمختلف الأسباب والحجج، وكان شعارهم الأهم «حسبنا كتاب الله»، في حين أن هذا الكتاب نفسه قد فوّض للنبي أمر شرح الدين وبيانه للناس، إذ يقول تعالى: ﴿ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ﴾(1).

لقد أمر الخليفة الثاني بجمع المكتوب من أحاديث النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)وحرقه، وقد بلغ تشدّده في هذا الأمر حداً حبس معه بعض الرواة من أمثال عبد الله بن مسعود وأبي الدرداء وأبي مسعود الأنصاري(2).

وقد استمر هذا النهج على وتيرة أشد في المراحل اللاحقة، فها هو معاوية بن أبي سفيان يكتب إلى عامله بإهدار دم كل من يروي فضيلة في علي بن أبي طالب وأهل البيت(3).

ص: 306


1- النحل: 44.
2- انظر: شمس الدين الذهبي، تذكرة الحفاظ، ج 1، ص 2 - 7؛ المتقي الهندي، منتخب الكنز (المدرج في حاشية مسند أحمد، ج 4، ص 64).
3- انظر: ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، ج 3، ص 15 - 16.

وعليه مع أخذ هذه الحقائق بنظر الاعتبار، هل يمكن لنا أن نتوقع شیوع و انتشار روايات الإمامة والخلافة في مصادر أهل السنة؟

إذن خفاء أمر على أكثر الناس وعدم شيوعه بينهم لا يدل على عدم وجوده من الناحية المنطقية.

وبالعودة إلى التاريخ يتعزز هذا الاحتمال ويظهر ذلك من خلال تذكير الإمام علي(علیه السّلام)بعض الأنصار بعد حادثة السقيفة، حيث أعاد على بشير بن سعد نصوص النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)في إمامته وخلافته، وطالبهم بمبايعته؛ فقال بشير في جواب الإمام: لو كنت ذكرتنا بهذه النصوص قبل بيعتنا لأبي بكر لما عدوناك، ولكن الأمر قد مضى(1).

ج - وجود الدوافع السياسية في مسألة الإمامة:

ذكرنا أن هناك اختلافاً بين المسلمين حتى في المسائل العبادية صلى الله والتعبدية، من قبيل: كيفية وضوء النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)، في حين أن وضوء النبي كان يتم بشكل يومي وعلى مرأى ومسمع من جميع المسلمين. وعليه يجب أن نضيف هنا إلى احتمال الخفاء أن المسألة المتنازع عليها إذا كانت من المسائل السياسية والدنيوية وكانت تتصل بالمصالح السياسية والاجتماعية الجوهري والحيوية، بل والقبلية أو المناطقية، فإن الدوافع إلى إخفائها والتحفظ عليها ستكون أشدّ وأقوى.

واضح أن مسألة الخلافة والسلطة وما هي المنطقة أو العشيرة التي ينتمي إليها الخليفة، ينطوي على ما لا يحصى من المصالح والمنافع لهذا الطيف

ص: 307


1- انظر: ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، ج 6، ص 11 - 12 .

الخاص من الناس، ولذلك يكون احتمال إنكار النص أو تأويله لمصلحة فئة دون فئة أخرى أشد.

فضلاً عن أنه بعد سيطرة الحكومة الفاقدة لدعامة شرعية وتدعي عدم وجود نص على أحد أو تنصيب لأحد، فإن أكثر الرواة لن يتمكنوا - بسبب خوفهم من بطش الحكومة القائمة - من بيان الحقائق ونقلها. من هنا يكون لاختفاء النص كثير من الدواعي والدوافع.

د - تصريح الإمام علي(علیه السّلام)وبعض الصحابة بوجود النص:

الأمر الآخر هو أن أهل السنة حيث يؤمنون بعدالة جميع الصحابة كيف يتعاملون مع الإمام علي(علیه السّلام)وبعض الصحابة الآخرين، من أمثال: أبي ذر الغفاري وسلمان الفارسي وعبد الله بن عباس وأبي أيوب الأنصاري وعمار بن ياسر وخزيمة بن ثابت وأبي بن كعب وعثمان بن حنيف وغيرهم، وقد صدر عنهم التأكيد مراراً وتكراراً بوجود النص على التنصيب والإمامة؟ وقد تقدم ذكر كثير من الروايات عن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)والإمام علي(علیه السّلام)فى أنه معيار الحق فيما يتعلق بالنص على إمامته. وسنأتي على ذكر نصوص الصحابة على أصل التنصيب في الصفحات القادمة إن شاء الله وتعالى.

على أهل السنة أن يحسموا أمرهم، فهل ما يدعيه الإمام على(علیه السّلام)وغيره من الصحابة بشأن وجود النص، أمر واقعي وحقيقي أم لا؟

فإن كان ما يدعيه هؤلاء حقاً، ثبت ما يدعيه الشيعة. وإن لم يكن حقاً - والعياذ بالله - فهل يعني ذلك أنهم كانوا يكذبون والعياذ بالله؟ وعليه كيف يتم التوفيق بين هذا الكلام وبين قولهم بعدالة جميع الصحابة ؟!

ص: 308

غاية ما يقوم به أهل السنة في معرض الإجابة عن هذه الأسئلة هي اللجوء إلى التأويل، وقد ذكرنا في نقد هذه التأويلات أنها لا تمثل حلاً للمشكلة، فهي في أغلبها اجتهاد في مقابل النص، وإنما تأتي في سياق الجمع بين الخلفاء الأربعة، فهي تنفعهم لإقناع أنفسهم، من دون أن تنطوي على أسس علمية.

ه_ - الفصل بين الإمامة والخلافة:

إن النقطة الدقيقة التي تجب علينا ملاحظتها بدقة وعناية خاصة هي البحث في أبعاد الإمامة وقد تقدم في بحث تعريف الإمامة أن أشرنا إلى مختلف أبعادها، من قبيل: المرجعية العلمية والدينية والولاية المعنوية والسياسية والاجتماعية. فلو فرضنا - جدلاً - اختفاء النص على التنصيب، فإن هذا يقتصر على الدائرة السياسية والاجتماعية من الإمامة، بمعنى أنه سينحصر بمسألة الحكم والخلافة. وأما فيما يتعلق بالبعد الآخر من الإمامة والذي يتمثل بالمرجعية العلمية والدينية - الممكن طرحه حالياً، ويمكن الاستناد إليه من قبلعموم المسلمين - فهناك نصوص متعددة ومتواترة في مصادر الفريقين، من قبيل حديث الثقلين، مما لا مجال إلى إنكاره أو تأويله (تقدم ذكر أصل روايات المرجعية العلمية والدينية وحجيتها في الصفحات السابقة).

وعليه فإن أقصى ما ينكره أهل السنة وغيرهم من الذين ينكرون وجود النص، إنما ينكرونه في دائرة التنصيب بمعنى الخلافة والحكم. وأما الإمامة بمعنى المرجعية العلمية والدينية والولاية المعنوية فيجب عدم إنكارها، وعليهم اعتبار السيرة النظرية والعملية للإمام على(علیه السّلام)معياراً للحق والحجة الإلهية، وأن يلتزموا بها؛ ذلك لأن مصادرهم مفعمة بأمثال هذه النصوص.

ص: 309

وعندما ننظر إلى الإمامة من هذه الزاوية يجب أن يكون هناك إجماع بين الشيعة والسنة في التمسك بسيرة الإمام على(علیه السّلام)و حجيتها، وإن الاختلاف بينهما يقتصر على حكومة الإمام علي وغيره من الخلفاء مما لا ثمرة عملية له حالياً. من هنا كان بعض مراجع الشيعة من أمثال آية الله السيد البروجردي - طبقاً لرواية بعض تلاميذه - يتمسك بحديث الثقلين (مبنى المرجعية العلمية والدينية)، دون حديث الغدير(1).

و - عدم دلالة عدم الاشتهار على العدم:

لو سلمنا بفقدان اشتهار النص وتنصيب الإمام علي(علیه السّلام)للإمامة، مع ذلك لا يستفاد من ذلك إثبات عدم إمامته، وذلك لأننا إذا اعتبرنا الآيات والروايات النبوية حجة ومعتبرة، وجب الأخذ بها بوصفها حجة شرعية معتبرة حتى لو اقتصرت على آية أو رواية واحدة غير مدعومة بروايات أخرى أو لم تبلغ حدّ الشهرة. إن ما يقوله أهل السنة من عدم بلوغ تنصيب الإمام علي(علیه السّلام)حد الشهرة ليس سوى ذريعة، فإنهم يعملون بالروايات النبوية الضعيفة ويأخذون بخبر الواحد في المجالات الأخرى من قبيل: المستحبّات، ولكن ما أن يصل الأمر إلى الإمامة تراهم يختلقون المعاذير اختلاقاً من أجل التنصل عن العمل بها، في حين يجب عدم التفريق بين الروايات في مقام العمل.

ص: 310


1- انظر: محمد واعظ زادة الخراساني، مجلة كتاب نقد، صيف عام 1380 ه_ ش، العدد: 19، ص 27؛ مجلة نهج البلاغة، العدد: 4 و 5 ، ص 194؛ ندای وحدت، ص 251 فيما بعد.

ز - عدم الملازمة بين ترك النص والكفر:

إن من بين الأدلة الهامة التي تمسك بها أهل السنة لإنكار النص والشهرة، هى الفرار من محذور تكفير الصحابة. وفى هذا الشأن يجب القول أولاً : إن كان هناك من وجود لأصل النص على التنصيب، فيجب عدم التهرب من الواقع بدفن الرؤوس في الرمال كما تصنع النعامة، بل يجب مواجهة الحقيقة والإقرار بلوازمها أيضاً. فإن عدم التزام البعض بالنص لا يمكنه أن ينهض دليلاً على عدم وجود النص أو عدم اشتهاره.

وثانياً: يمكن الجمع بين هذين الأمرين بالالتزام بوجود النص وشهرته، وكذلك عدم تكفير الصحابة، وذلك من خلال القول بأن الصحابة رغم علمهم بوجود النص، لم ينكروه وإنما قاموا بتأويله، وقد تقدّم أن أشرنا إلى جانب من ذلك في الصفحات السابقة، وأما تفصيل تلك التأويلات فسوف نأتي على ذكرها في الفصل الخامس «تأويلات أصل التنصيب».

وثالثاً: لقد ذكر الشيعة وجود نصوص من الآيات والروايات العديدة والمتواترة بمختلف الأسانيد من طرق الفريقين، وهو أمر يبطل دعوى عدم اشتهار النص، وقد تقدم أن ذكرنا ذلك بالتفصيل.

الشبهة السادسة مبايعة الصحابة لمرشح السقيفة (أبي بكر):

اشارة

إن من بين الأدلة أو الشواهد التي يقيمها أهل السنة على مذهبهم (عدم وجود أصل النص من قبل النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)على تنصيب أحدٍ إماماً على المسلمين)، دعوى الإجماع من قبل المسلمين من المهاجرين والأنصار

ص: 311

على ترشيح أبي بكر في يوم السقيفة بتقرير أنه لو كان النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)قد

نص على علي(علیه السّلام)بالإمامة والخلافة من بعده، بحيث يطلع عليه جميع المسلمين، فلماذا لم يلتزم المسلمون بهذا النص، وصاروا إلى دعم أبي بكر وبايعوه؟ ويضيف أهل السنة أن هذا الأمر يدعم ويقوّي عدم وجود النص(1).

ولكن هل يعدُّ تحقق مثل هذا الإجماع والتوافق حجة ومعتبراً؟ يذهب أهل السنة إلى اعتبار حجية هذا الإجماع استناداً إلى حديث ينسبونه إلى الرسول يقول: «لا تجتمع أمتي على خطأ».

مناقشة وتحليل:

تعود هذه الشبهة بنحو ما إلى شبهة عدم اشتهار التنصيب؛ إذ تذهب كلتا الشبهتين إلى عدم اشتهار النص، وقد أشرنا في معرض نقد شبهة عدم اشتهار التنصيب إلى الأمور الآتية:

1 - العلم بالنص والعمل على تأويله.

2 - إمكان الاختفاء.

3 - وجود الدوافع السياسية وراء حذف النص أو إخفائه.

4 - تصريح الإمام علي(علیه السّلام)وبعض الصحابة بوجود النص، والاحتجاج به.

وعليه فإن دعوى دلالة بيعة الناس لخليفة خاص على عدم النص،

ص: 312


1- انظر: أبو الحسن الأشعري، الإبانة، ص 126 - 145؛ ابن حزم، الفصل، ج 3، ص 15؛ شرح المواقف، ج ،8 ص 385 - 386؛ شرح المقاصد، ج3،ص 491 ؛ أبكار الأفكار في أصول الدين ، ج 3، ص 428؛شيخ الأزهر سليم البشري.

غير ثابتة لا من الناحية المنطقية، ولا من حيث الحقائق الخارجية، فلا تلازم بين الأمرين؛ إذ من الممكن أن يكون هناك نص على الإمام على(علیه السّلام)ذلك يذهب الناس أو طائفة أخرى لأسباب خاصة إلى دعم ترشيح شخص ،آخر، وفيما يأتي نشير إلى جانب من هذه الأسباب:

أ - استعجال تشكيل السقيفة وعدم مشروعيتها:

إن البيعة والإجماع المقبول والمعتبر هو الاجتماع القائم على أساس التشاور وإعمال الفكر والتأمل من قبل نُخَب المجتمع في مختلف أبعاد الموضوع المجمع عليه وزواياه، أما الإجماع الذي يتخذ بشكل متسرع، فإن اعتباره من ناحية العقل والعقلاء موضع جرح وتساؤل.

أما الإجماع الذي يدعيه أهل السنة فيما يتعلق بانتخاب الخليفة الأول، فهو طبقاً لرواية المؤرخين: إنه بعد رحيل النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة ليختاروا خليفة من بينهم، فأنهي الخبر إلى عمر؛ فسارع إلى أبي بكر يخبره باجتماع الأنصار ، فأقبلا مسرعين إلى السقيفة لمواجهة قرار الأنصار، وطبقاً لتقرير المؤرخين لم يتواجد في هذه السقيفة من المهاجرين سوى أبي بكر وعمر وأبي عبيد بن الجراح، وفي مثل هذه الأجواء المتشنجة تم اتخاذ القرار المتسرع، وتمت مبايعة أبي بكر بالخلافة.

والسؤال هنا: هل اتخاذ مثل هذا القرار الخطير في غياب نُخَب المجتمع من أمثال: علي(علیه السّلام)، وسلمان، وأبي ذر، والمقداد، وابن عباس، والزبير، انتخاب عقلاني؟ وهل يمكن إطلاق مصطلح الإجماع على مثل هذه البيعة والانتخاب؟

إن القول بمبايعة الناس للخليفة الأول فيما بعد بحث آخر، إلا أن

ص: 313

السؤال يكمن في منطقية أصل السقيفة ومشروعيتها التي تمت من دون حضور النخب الاجتماعية وما يصطلح عليهم بأهل الحل والعقد وعلى وجه التحديد الإمام على(علیه السّلام)، و الذي يشكل الكفّة الأهم بل المحور الأثقل في القضية.

اعتراض الإمام علي(علیه السّلام)على السقيفة:

إن مكانة الإمام علي(علیه السّلام)ومنزلته وعدالته ثابتة عند أهل السنة، كما أن عصمته بالإضافة إلى ما تقدم ثابتة عند الشيعة. وقد تعرض الإمام على(علیه السّلام)في أكثر من موضع إلى نفي شرعية السقيفة. ومن ذلك ما قاله لأبي بكر شعراً: «فإن كنت بالشورى ملكت أمورهم فكيف بهذا والمشيرون غُيّب»(1).

وفي موضع آخر، أن أمير المؤمنين(علیه السّلام)لما أنهيت له أَنْبَاءُ السَّقِيفَةِ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ الله(صلی الله علیه و آله و سلم)، قَالَ(علیه السّلام): «مَا قَالَتِ الْأَنْصَارُ؟ قَالُوا: قَالَتْ مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ. قَالَ(علیه السّلام): فَهَلاً اِحْتَجَجْتُمْ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ رَسُولَ الله(صلی الله علیه و آله و سلم)وَصَّى بِأَنْ يُحْسَنَ إِلَى مُحْسِنِهِمْ، وَيُتَجَاوَزَ عَنْ مُسِيئِهِمْ. قَالُوا: وَمَا فِي هَذَا مِنَ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ؟ فَقَالَ(علیه السّلام): لَوْ كَانَ اَلْإِمَامَةُ [الْإِمَارَةٌ) فِيهِمْ لَمْ تَكْنِ الْوَصِيَّةُ بِهِمْ. ثُمَّ قَالَ(علیه السّلام): فَمَاذَا قَالَتْ قُرَيْضٌ ؟ قَالُوا: اِحْتَجَّتْ بِأَنَّهَا شَجَرَةُ الرَّسُولِ(صلی الله علیه و آله و سلم)؛ فَقَالَ(علیه السّلام): اِحْتَجُوا بِالشَّجَرَةِ وَأَضَاعُوا الثَّمَرَةَ»(2).

كما قال أمير المؤمنين علي(علیه السّلام)بشأن بيعة الناس له: «لم تكن بيعتكم إياي فلتة»(3)، في إشارة منه إلى أن بيعة الناس له لم تكن متسرعة كما حصل

ص: 314


1- ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، ج 1، ص 132؛ السقيفة وفدك، ص 70.
2- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 68 ، الكتاب: 28؛ ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة ، ج 2، ص 25 ، وج 17، ص 164.
3- نهج البلاغة، الكتاب رقم: 136.

في بيعة الخليفة الأول.

وعندما أكره الإمام علي(علیه السّلام)على مبايعة أبي بكر، قال له بعد رفض مبايعته: «أنا أحق بهذا الأمر منكم، لا أبايعكم وأنتم أولى بالبيعة لي، أخذتم هذا الأمر من الأنصار واحتججتم عليهم بالقرابة من رسول الله؛ فأعطوكم المقادة وسلموا إليكم الإمارة، وأنا أحتج عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار؛ فأنصفونا - إن كنتم تخافون الله - من أنفسكم، واعرفوا لنا من الأمر مثل ما عرفت الأنصار لكم، وإلا فبوءوا بالظلم وأنتم تعلمون»(1).

فقال عمر: إنك لست متروكاً حتى تبايع. فقال له علي(علیه السّلام): «احلب يا عمر حلباً لك شطره، اشدد له اليوم أمره ليرد عليك غداً»(2).

ثم التفت الإمام علي(علیه السّلام)إلى المهاجرين وقال لهم: «يا معشر المهاجرين الله الله لا تخرجوا سلطان محمد عن داره وبيته إلى بيوتكم ودوركم، ولا تدفعوا أهله مقامه في الناس وحقه، فو الله يا معشر المهاجرين لنحن أهل البيت أحق بهذا الأمر منكم ، أما كان منا القارئ لكتاب الله، الفقيه في دين الله، العالم بالسنة، المضطلع بأمر الرعية، والله إنه لفينا؛ فلا تتبعوا الهوى؛ فتزدادوا من الحق بعداً»(3).

إن هذا المنطق من الإمام(علیه السّلام)في وصف الحكام في عصره بالعودة إلى الظلم والبعد عن الحق، يشكل دليلا علی أنهم قد اغتصبوا حقه، وارتكبوا ما

ص: 315


1- السقيفة وفدك، ص 60 ؛ ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، ج 6، ص 11؛ الإمامة والسياسة ، ج 1، ص 29.
2- السقيفة وفدك، ص 61 ؛ ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة ، ج 6 ، ص 12 .
3- المصدر أعلاه.

يخالف الشرع، وإلا لم يكن لاستدلاله محل من الإعراب. فلو كان النبي بصدد الاستدلال بمجرد الأولوية دون التنصيب، وأن الآخرين لائقون وليسوا هم الأليق، فما معنى وصفه لهم بالبعد عن الحق والتورط في ارتكاب الظلم؟

اعتراف الخليفة الأول والثاني بالتسرع في السقيفة:

إن السقيفة - كما تقدّم أن ذكرنا - لم تكن حصيلة مشاورة بين الشخصيات البارزة والنُخَب الاجتماعية، بل كانت عملاً متسرعاً، وهذا ما اعترف به حتى الذين خرجوا منها فائزين بالسلطة. فهذا أبو بكر يعترف ويقول: «إن بيعتي كانت فلتة وقى الله شرها»(1).

كما كان عمر بن الخطاب كثيراً ما يردّد ويقول: «كانت بيعة أبي بكر فلتة، وقانا الله شرها»(2).

ب - الدوافع الدنيوية في بيعة السقيفة:

لقد تشكلت السقيفة من بضعة من المهاجرين وهم: (أبو بكر بن أبي قحافة وعمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح)، وجمع من الأنصار (قبيلة الأوس والخزرج)، وكان الأنصار قد اتفقوا على خلافة سعد بن عبادة (وهو من قبيلة الخزرج). ولكن بمجرد وصول هؤلاء الثلاثة من المهاجرين وما ساقه أبو بكر وعمر من الأدلة، حيث قال عمر: «هيهات لا يجتمع اثنان في قرن، والله لا ترضى العرب أن يؤمروكم ونبيها من غيركم». وأقنعهم أبو بكر

ص: 316


1- ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، ج 1، ص 132؛ السقيفة وفدك، ص 70.
2- سيرة ابن هشام، ج ،4 ص 308؛ ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، ج 2، ص 25 ، وج 17، ص 164 .

بالتنازل عن الإمر على أن تكون لهم الوزارة قائلاً: «فنحن الأمراء وأنتم الوزراء»(1).

كما لعب التنافس الداخلي بين الأنصار وقبيلتي الأوس والخزرج - حيث يمتد الصراع التقليدي بينهما إلى ما قبل الإسلام - دوراً هاماً في انحراف الأمر عن مساره الصحيح، إذ كان يعني انتخاب الخليفة من إحدى هاتين القبيلتين اندحاراً وخسارة تسجل على القبيلة الأخرى، ويبدو أن كلا القبيلتين وجدت في دخول المهاجرين على خط النزاع حلاً وسطاً يرضيهما بقبول التعادل في الخسارة، وبذلك اقتنعوا بأن يكون الخليفة من المهاجرين.

ثم إن كلاً من الأوس والخزرج تنافسا فيما بينهما على مبايعة الخليفة المهاجر، إذ إن القبيلة التي تكون أسرع من أختها في المبادرة إلى مبايعته ستحصل لا محالة على امتياز أكبر وتكون مرضية عند السلطة على حساب أختها، كما اعترف بذلك بعض زعماء الأوس حيث خاطب قبيلته قائلاً: «والله لئن وليتها الخزرج عليكم مرة لا زالت لهم عليكم بذلك الفضيلة، ولا جعلوا لكم معهم فيها نصيباً أبداً؛ فقوموا فبايعوا أبا بكر ، فقاموا إليه فبايعوه»(2).

وبعبارة أوضح: إن الأنصار في قضية السقيفة بدلاً من مراعاة أصل الأصلح والأكفأ في تعيين الخليفة وانتخابه صاروا إلى ملاحظة المصالح القبلية، ومن ثَمَّ إلى الانتخاب أو عدم الانتخاب تحت وطأة التباغض والتحاسد، وهذه الحقيقة مذكورة في مصادر أهل السنة أنفسهم.

ص: 317


1- تاريخ الطبري، ج 2، ص 515 ؛ الكامل في التاريخ، ج 2، ص 325.
2- المصدر أعلاه.

فقد ذكر أبو بكر الجوهري (م 323 ه_) هذه الحقيقة قائلاً: فلما رأى بشير بن سعد الخزرجي، ما اجتمعت عليه الأنصار من تأمير سعد بن عبادة - وكان حاسداً له وكان من سادة الخزرج - قام فقال: أيها الأنصار، إنا وإن كنا ذوي سابقة ، فإنا لم نرد بجهادنا وإسلامنا إلا رضى ربنا وطاعة نبينا، ولا ينبغي لنا أن نستطيل بذلك على الناس، ولا نبتغي به وعوضاً من الدنيا؛ إن محمداً(صلی الله علیه و آله و سلم)رجل من قريش، وقومه أحق بميراثه، وأيم الله لا يراني الله أنازعهم هذا الأمر، فاتقوا الله ولا تنازعوهم، ولا تخالفوهم ... ولما رأت الأوس أن رئيساً من رؤساء الخزرج قد بايع، قام أسيد بن حضير - وهو رئيس الأوس فبايع حسداً لسعد أيضاً(1).

من هنا يتضح أن الدافع الأولي للأنصار من وراء عقد اجتماع السقيفة هو الاستيلاء على الحكم والخلافة وأخذها من المهاجرين، وهذا ما يشهد له توافقهم المبدئي على سعد بن عبادة الخزرجي. وأما قضية إخفاقهم في هذا المسعى، وتغلب المهاجرين (أبو بكر وعمر) عليهم، فهو بحث آخر. إلا أن الذي يهمنا هنا هو أن دوافع الأنصار الكامنة وراء هذا الأمر كانت مادية ودنيوية خالصة، ولا يمكن محو هذا الوصمة السيئة من صفحات تاريخهم.

بعبارة أخرى: إن التاريخ يثبت أن الأنصار رغم عظم التضحية التي قاموا بها في نصرة الإسلام والنبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)، لم يكونوا معصومين من الزلل. فلم يكن باستطاعتهم التغاضي عن مصالحهم الدنيوية والمناطقية في الاستيلاء على الحكم والسلطة، ولم يقوموا بما قام به الإمام علي(علیه السّلام)من واجب تجهيز رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)ورعاية حرمته وكرامته بتغسيله وتكفينه والصلاة على جثمانه

ص: 318


1- السقيفة وفدك، ص 59 .

الطاهر وتدفينه مهما كان واقع الأحداث السياسية. وإنما تخلوا عن هذا الواجب الديني وتكالبوا على السلطة، ولا يمكن أن يبدو هذا الفعل من وجهة نظر التاريخ والمؤمنين وعشاق النبي الأعظم(صلی الله علیه و آله و سلم)إلا عملاً شنيعاً وقبيحاً وسلوكاً غير مشرف.

المسألة الأخرى هي أن المؤرخين السنة - كما رأينا - يصرحون بأن انتخاب الأنصار كان بدافع الحسد، وهو كما نعلم من الكبائر، ومع ذلك لا يتم الحديث هنا من قبلهم عن عدالة الصحابة. في حين عندما يطرح الشيعة مسألة تجاوز الصحابة للنص النبوي بشأن تنصيب الإمام علي بن أبي طالب(علیه السّلام)، يستيقظ ضميرهم ويرتفع صوتهم بالاعتراض والدفاع عن مظلومية الصحابة وعدالتهم! وعليه ألا يكون أهل السنة في هذا مصداقاً لازدواجية المعايير؟!

ج - البيعة بالإكراه والإجبار:

إن دعوى الإجماع واتفاق الأمة على مبايعة الخليفة الأول ادعاء باطل؛ إذ كان هناك كثير من الذين عارضوا اختيار أبي بكر للخلافة، وهناك من لم يبايع أبداً، وكان من بين هؤلاء سعد بن عبادة المرشح الأول للخلافة في السقيفة، على ما سنأتي على ذكر مصيره. وهناك من بايع تحت وطأة الضغط والتهديد والإكراه. والنموذج البارز لهذه المعارضة، تحصن بعض أنصار الإمام علی(علیه السّلام) في بيت السيدة فاطمة الزهراء(سلام الله علیها)، حيث تم إجبارهم على البيعة بتهديدهم بحرق البيت عليهم(1).

ص: 319


1- انظر: ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، ج 2، ص 56؛ السقيفة وفدك، ص 38 و 70 - 72؛ ابن واضح اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، ج 2، ص 126؛ الإمامة والسياسة، ص 12 .

وعلى الرغم من التهديد، إلا أن الإمام علي(علیه السّلام)ظل على موقفه من عدم مبايعة أبي بكر ، لستة أشهر كاملة [حتى وفاة زوجته السيدة فاطمة بنت رسول الله(سلام الله علیها)]. وبعد ذلك بايع رعاية للمصلحة، وقد تقدم بيان أسباب ذلك في صفحات سابقة.

فمنذ البداية - طبقاً لاعتراف المؤرخين من أهل السنة - كان الذين يرفضون بيعة أبي بكر، يدفعون إلى البيعة بالشتم والضرب ووضع أيديهم بيد أبي بكر بالإكراه سواء أكان راغباً أم كارهاً، فعن أبي سعيد الخدري، قال: «سمعت البراء بن عازب يقول: لم أزل لبني هاشم محباً، فلما قبض رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)خفت أن تتمالاً قريش على إخراج هذا الأمر عنهم، فأخذني ما يأخذ الوالهة العجول، مع ما في نفسي من الحزن لوفاة رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)فكنت أتردّد الى بني هاشم وهم عند النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)في الحجرة ، وأتفقد وجوه قريش، فإني كذلك إذ فقدت أبا بكر وعمر، وإذ قائل يقول: القوم في سقيفة بني ساعدة، وإذا قائل آخر يقول: قد أبا بكر ، فلم ألبث وإذا أنا بأبي بكر قد أقبل ومعه عمر وأبو عبيدة وجماعة من أصحاب السقيفة وهم محتجزون بالأزر الصنعانية لا يمرون بأحد إلا خبطوه، وقدموه فمدوا يده فمسحوها على يد أبي بكر يبايعه، شاء ذلك أو أبى»(1).

وقد صرح سلمان الفارسي بأن بيعته كانت بعد حبسه والضغط عليه و تعذيبه جسدياً(2).

ص: 320


1- انظر: ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، ج 1، ص 219؛ السقيفة وفدك، ص 46 .
2- انظر: کتاب سليم بن قيس، ص 158.

وهكذا كان الأمر بالنسبة إلى أبي ذر والمقداد والزبير(1).

د - المخالفون لنتائج السقيفة:

يقسم المؤرخون والمحققون الصحابة من خلال مواقفهم السياسية والدينية بعد رحيل النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)إلى خمس جماعات أو خمسة أحزاب - بحسب المصطلح السياسي المعاصر - وذلك على النحو الآتي:

أ - حزب سعد بن عبادة (رئيس قبيلة الخزرج من الأنصار).

ب - حزب أبي بكر وعمر وجمع من المهاجرين.

ج - حزب علي بن أبي طالب(علیه السّلام)وبني هاشم وجمع كثير من الأنصار، وقليل من المهاجرين، من الذين طالبوا بالبيعة للإمام على حصرياً.

د - حزب عثمان بن عفان من بني أمية.

ه_ - حزب سعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف من بني زهرة. أما سعد بن عبادة - الذي كان رئيس الأنصار ومرشحهم الأول في سقيفة بني ساعدة للخلافة - فقد امتنع عن مبايعة أبي بكر، وامتنع عن بيعة عمر بعده، بل امتنع حتى عن المشاركة في المناسبات العبادية الجماعية، وكان يتجاهل الخلفاء إلى أن تم اغتياله بسهم في منطقة حوران من بلاد الشام، ونسبوا قتله إلى الجن!

قال الزبير بن بكار كان عامة المهاجرين وجُل الأنصار لا يشكون أن علياً هو صاحب الأمر بعد رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)(2).

ص: 321


1- انظر: کتاب سليم بن قيس، ص 158.
2- الأخبار بالوفيات، ص 580 ؛ شرح نهج البلاغة، ج 6، ص 21 .

وقد نسب ابن واضح اليعقوبي في تاريخه هذا الوصف إلى المهاجرين والأنصار أيضاً، إذ يقول: «وكان المهاجرون والأنصار لا يشكون في علي(علیه السّلام)»(1).

وقد ذكر المؤرخون أنه لم يبايع أحد من بني هاشم أبا بكر بن أبي قحافة مدة حياة السيدة فاطمة الزهراء بنت رسول الله(سلام الله علیها)(2).

وكانت جماعة من أصحاب رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)اعترضت على خلافة أبي بكر، وذهبت إلى القول بخلافة الإمام علي(علیه السّلام)، وفيما يلي نشير إلى أسماء بعضهم على النحو الآتى:

1 - العباس (عم النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)) .

2 - الزبير بن العوام.

3 - أبو أيوب الأنصاري.

4 - سلمان الفارسي

5 - أبو ذر الغفاري.

6 - المقداد بن الأسود.

7 - عمار بن ياسر.

8 - بريدة الأسلمي.

9 - أبو هيثم بن التيهان.

10 - سهل بن حنيف.

ص: 322


1- ابن واضح اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، ج 2، ص 124 ، باب في السقيفة.
2- انظر: أسد الغابة، ج 3،ص 329؛ ابن الأثير ، الكامل في التاريخ، ج 2، ص 321؛ المسعودي مروج الذهب، ج 2، ص 316.

11 - عثمان بن حنيف.

12 - خزيمة بن ثابت (ذو الشهادتين).

13 - أبي بن كعب.

14 - فروة بن عمرو.

15 - سعد بن بن أبي وقاص(1)

تصريح بعض الصحابة بإمامة الإمام علي(علیه السّلام):

لقد كان لبعض أصحاب النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)منذ البداية تعلقاً خاصاً

بالإمام علي(علیه السّلام)، وذلك اتباعاً منهم للروايات التي سمعوها من النبي الأكرم في فضل علي؛ ومن هنا يمكن القول إن التشيع - بمعنى الالتفاف حول الإمام علي باعتبار الخليفة والفرد الأكمل والأفضل والوصي الشرعي لرسول الله - قد نشأ في حياة رسول الله. وهناك من أهل السنة المنصفين من اعترف بهذه الحقيقة ايضاً، مثل الدوري الذي قال بأن وجود المؤيدين والمتحزبين للإمام علي(علیه السّلام)يعود إلى ما قبل السقيفة(2).

قال أبو حاتم الرازي: كان الشيعة في عصر النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)لقب أولئك النفر الذي أحبوا عليا(علیه السّلام)، من أمثال: سلمان وأبي ذر والمقداد وعمار بن ياسر(3).

ص: 323


1- نقلاً عن: موسوعة الإمام علي ، ج 3، ص 34؛ وأيضاً: عبد الله المامقاني، تنقيح المقال، ج 1، ص 198؛ ابن عبد ربه الأندلسي، العقد الفريد، ج 4، ص 247؛ تاريخ اليعقوبي، ج 2، ص 124.
2- مقدمة في تاريخ الإسلام، ص 48 .
3- انظر: أبو حاتم الرازي، كتاب الزينة، ص 259 .

1 - سلمان الفارسي كان سلمان الفارسي من خلّص أصحاب رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)، وكان من التفاني والذوبان في أهل البيت حتى عد منهم، حيث قال رسول الله في حقه: «سلمان منا أهل البيت». كان سلمان يصف عليا(علیه السّلام)بأنه فصل الخطاب، وأنه يمتلك علم الوصايا وأنه بمنزلة هارون من موسى(1).وقد عبّر عن بيعته له بالإمامة إذ يقول: «بايعنا رسول الله على النصح للمسلمين، والإئتمام بعلي بن أبي طالب والموالاة له»(2).

2 - عبد الله ابن عباس: وهو ابن عم النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)، وكان معروفاً بين الصحابة والمسلمين بوصفه من الصحابة البارزين والمفسرين المرموقين للقرآن الكريم. وقد روي عنه أنه حاوره عمر بن الخطاب يوماً في أمر الخلافة فقال له: يا ابن عباس أتدري ما منع الناس منكم؟ قال: لا يا أمير المؤمنين. قال: لكني أدري. قال: ما هو يا أمير المؤمنين؟ قال: كرهت قريش أن تجتمع لكم النبوة والخلافة .. فقال ابن عباس: أيميط أمير المؤمنين عني غضبه فيسمع؟ قال: قل ما تشاء. قال: أما قول أمير المؤمنين : إن قريشا كرهت، فإن الله تعالى قال لقوم: ﴿ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ الله فَأَحْبَطَ أَعْماهُمْ ﴾(3).

وروي عن ابن عباس أيضاً، قال: دخلت على عمر يوماً فقال: يا ابن العباس لقد أجهد هذا الرجل نفسه في العبادة حتى نحلته رياء. قلت: من هو ؟

ص: 324


1- انظر: كنز العمال، ج 4 ، ص 8 ، ح 9223.
2- کتاب سلیم بن قيس، ص 156 159؛ ابن الجوزي، صفوة الصفوة، ج 1، ص 215؛ معالم التنزيل، حاشية خازن، ج 5، ص 187؛ الشيعة في الميزان، ج 1، 215؛ ص 60 و 196 .
3- ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، ج 12، ص 53.

فقال : هذا ابن عمك - يعني علياً - قلت: وما يقصد بالرياء أمير المؤمنين؟ قال: يرشح نفسه بين الناس للخلافة. قلت: وما يصنع بالترشيح! قد رشحه لها رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)، فصرفت عنه(1).

3 - خزيمة بن ثابت وهو من الأنصار، وقد لقبه رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)ب_«ذي الشهادتين»، وقد روي عنه أنه قال بعد بيعة الإمام علي(علیه السّلام): «أيها الناس إنا قد تشاورنا، واخترنا لديننا ودنيانا رجلاً اختاره لنا رسول الله»(2).

4 - حجر بن عدي مدح الإمام علي(علیه السّلام)شعراً، قال فيه:

«يا ربنا سلم لنا عليا .. سلم لنا المبارك المضيا .. المؤمن الموحد التقيا .. لا خطل الرأي ولا غويا .. بل هادياً موفقاً مهديا .. واحفظه ربي واحفظ النبيا .. فيه فقد كان له وليا .. ثم ارتضاه بعده وصيا»(3).

5 - النعمان بن عجلان الأنصاري قال في مدح الإمام علي(علیه السّلام) شعراً:

«كيف التفرّق والوصى إمامنا .. لا كيف إلا حيرة وتخاذلا»(4).

6 - المغيرة بن الحارث بن عبد المطلب قال في مدح الإمام علي(علیه السّلام) شعراً:

«فيكم وصي رسول الله قائدكم .. وصهره وكتاب الله قد نشرا»(5).

7 - أبو ذر الغفاري: كان أبو ذر طوال فترة خلافة الخلفاء الثلاث

ص: 325


1- المصدر أعلاه، ص 80.
2- أبو جعفر الإسكافي، المعيار والموازنة، ص 54.
3- ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، ج 1، ص 9 - 143 .
4- المصدر أعلاه، ص 149.
5- المصدر أعلاه، ص 150 .

يصف الإمام علياً(علیه السّلام)بأنه «أمير المؤمنين»، وفي ذلك دلالة هامة ودقيقة. وقد وقف ذات مرة في موسم الحج وخطب في الناس قائلا:

«أيتها الأمة المتحيرة بعد نبيها! أما لو قدمتم من قدم الله، وأخرتم من أخر الله، وأقررتم الولاية والوراثة في أهل بيت نبيكم لأكلتم من فوق رؤوسكم ومن تحت أقدامكم، ولما عال ولي الله ولا طاش سهم من فرائض الله، ولا اختلفت الأمة بعد نبيها»(1).

ثم استشهد لتأييد كلامه بالأحاديث النبوية من قبيل: حديث المؤاخاة، وحديث الوزارة لعلى(علیه السّلام)(2).

كما روي عنه أنه قال مخاطباً قريش عند مبايعة أبي بكر:

«يا معشر قريش! تركتم قرابة رسول الله، والله ليرتد جماعة من العرب، ولتشكن في هذا الدين، ولو جعلتم الأمر في أهل بيت نبيكم ما اختلف عليكم سيفان. والله لقد صارت لمن غلب، ولتطمحن إليها عين من ليس بأهلها، إن علياً هو الصديق الأكبر، وهو الفاروق بعد رسول الله، يفرق بين الحق والباطل، وهو يعسوب الدين»(3).

ص: 326


1- انظر: ابن واضح اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، ج 1، ص 120؛ شرح الأخبار، ج 2، ص 500؛ نثر الدرر، ج 2، ص 177 ؛ کتاب سُلیم، ص 156؛ العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 27، ص 319 - 320.
2- انظر: المتقي الهندي، كنز العمال، ج 7، ص 305، طبعة حیدر آباد، وج 13، ص119؛ ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، ج 9، ص 169.
3- أسد الغابة، ج 5، ص 287؛ تاريخ اليعقوبي، ج 2، ص 120؛ کنز العمال، ج 7، ص 305؛ ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة ، ج 9، ص 169.

8 - المقداد بن الأسود: قال لعلي(علیه السّلام)يوم السقيفة: «إن أمرتني لأضر بن بسيفي، وإن أمرتني كففت، فقال له: أكفف»(1).

وقال المقداد بشأن خلافة عثمان بن عفان: «لو أجد على قريش أنصاراً، لقاتلتهم كقتالي إياهم مع النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)يوم بدر»(2).

وناظر المقداد عبد الرحمن بن عوف - الذي لعب دوراً محورياً في تذليل الخلافة لعثمان بن عفان - مستغرباً صنيع قريش في انتزاع سلطان النبي الأکرم(صلی الله علیه و آله و سلم)أهله، فقال: «إني لأعجب من قريش وتطاولهم على الناس بفضل رسول الله ثم انتزاعهم سلطانه من أهله ... أما والله لقد تركت رجلاً من الذين يأمرون بالحق وبه يعدلون، أما والله لو أن لي على قريش أعواناً لقاتلتهم قتالي إياهم ببدر وأحد. فقال عبد الرحمن: ثكلتك أمك لا يسمعن هذا الكلام الناس، فإني أخاف أن تكون صاحب فتنة وفرقة. قال المقداد: إن من دعا إلى الحق وأهله وولاة الأمر، لا يكون صاحب فتنة، ولكن من أقحم الناس في الباطل وآثر الهوى على الحق فذلك صاحب الفتنة والفرقة»(3).

9 - عمار بن ياسر: يعد عمار بن ياسر من طلائع أصحاب النبي الأكرم ومن أشدّهم إخلاصاً وتفانياً في ذات الله، وقد مدحه النبي في الكثير من المواطن، ومما قاله في وصفه: أنه تقتله الفئة الباغية، وأن مصير قتلته سيكون

ص: 327


1- كتاب سليم بن قيس، ص 56 .
2- لمسعودي، مروج الذهب، ج 1، ص 310، باب الثورة على عثمان.
3- ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة ، ج 9، ص 57؛ المسعودي، مروج الذهب، ج 1، ص 361؛ ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج 3، ص 7؛ الشيعة في الميزان، ج 1 ، ص 62 .

هو الخلود في جهنم وكان مقتله في حرب صفين على يد معاوية وهو يقاتل في جيش الإمام علي بن أبي طالب(علیه السّلام).

وقد روي عن عمار بن ياسر بشأن تعيين عثمان بن عفان في إطار الشورى المنتخبة من قبل عمر بن الخطاب، أنه قال: «يا معشر قريش، أما إذ صرفتم هذا الأمر عن أهل بيت نبيكم ههنا مرة وهنا مرة، فما أنا بآمن من أن ينزعه الله منكم فيضعه في غيركم كما نزعتموه من أهله ووضعتموه في غير أهله»(1).

10 - أبو سعيد الخدري: قال أبو هارون العبدي: كنت على مذهب الخوارج، حتى سمعت أبا سعيد الخدري يقول: «أمر الناس بخمس، فعملوا بأربع، وتركوا واحدة. ولما سئل عن الأربع؟ قال: الصلاة والزكاة وصوم رمضان والحج. قيل : فما الواحدة التي تركوها؟ قال: ولاية علي بن أبي طالب. قيل :له وإنها المفروضة معهن ؟ قال : نعم هي مفروضة معهن»(2).

11 - عمرو بن الحمق: من الذي أسلموا قبل فتح مكة، وكان من خلّص أصحاب الإمام علي(علیه السّلام)، ألقي القبض عليه وحبس من قبل زياد بن أبيه عندما كان والياً لمعاوية على الكوفة، وقام بقتله(3).

ذكر السيد حيدر الآملي في كتابه «الكشكول فيما جرى على آل الرسول»أكثر من مئة صحابي كانوا يدعون الناس إلى ولاية الإمام علي(علیه السّلام)

ص: 328


1- المسعودي، مروج الذهب، ج 1، ص 310، باب الثورة على عثمان.
2- الحسكاني، شواهد التنزيل، ج 1، ص 257 الشيعة في الميزان، ج 1 ، ص 63 .
3- انظر: ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، ج 3، ص 181؛ أبو جعفر الإسكافي، المعيار والموازنة، ص 130؛ وقعة صفين، ص 103.

وإمامته في الأمصار كما أورد العلامة عبد الحسين شرف الدين في كتابه «الفصول المهمة» أسماء مئتين من شيعة الإمام علي(علیه السّلام)، ورصد محمد حسين آل كاشف الغطاء أسماء ثلاثمئة صحابي شيعي.

ه_ - وقفة على حديث «لا تجتمع أمتي على خطأ»:

قلنا إن أهل السنة كي يضفوا المشروعية على إجماعهم المزعوم استندوا إلى الحديث القائل: «لا تجتمع أمتي على خطأ»، وفي تحليلنا لهذا الحديث تجدر الإشارة إلى الأمور الآتية:

أ - خبر الواحد: إن أول إشكال يثار بشأن هذا الحديث هو أنه من أخبار الآحاد، وقد ثبت ذلك عند أهل السنة أنفسهم، هذا والحال أن المسائل الكلامية والأصول الاعتقادية، وخاصة بالنسبة إلى مسألة على مثل أهمية الإمامة والحكم والخلافة يجب أن يكون هناك دليل قطعي، ولذلك عمد أهل السنة إلى رفض كثير من الروايات الدالة على إمامة الإمام علي(علیه السّلام)المروية في مصادرهم بحجة أنها من أخبار الآحاد، وأنها لم ترد في صحاحهم الستة! فكيف سمحوا لأنفسهم أن يثبتوا مشروعية خلافة خليفتهم الأول بمثل هذل الحديث الواحد ؟! بل ويتوقعون من الشيعة أن يلتزموا بهذا الدليل أيضاً!

ب - عدم تحقق موضوع الحديث: الأمر الآخر أن هذا الحديث يدلّ على أن الأمة الإسلامية إذا اجتمعت على أمر لن يكون ذلك الأمر خاطئاً، وهو ظاهر بل نص في إرادة تحقق الإجماع، وذلك عن اختيار وإرادة ومشورة . في حين أن بيعة الخليفة الأول على ما تقدم توضيحه مفصلاً لم تستوف شروط

الإجماع، بل كانت مجرد قرار فردي اتخذه عدد من الصحابة لا يتجاوز الاثنين أو الثلاثة، هذا أولاً.وثانياً: كان هذا القرار قد اتخذ من دون تشاور، بل كان قراراً متسرعاً وصفه نفس من اتخذه بأنه «فلتة». وثالثاً: غاب عن هذا الأمر

ص: 329

رؤوس الأمة من الذين تجب استشارتهم فى هذا الشأن، وهم أمثال على بن أبي طالب(علیه السّلام)، وعبد الله بن عباس، وسلمان الفارسي، وأبو ذر الغفاري. ورابعاً: إن مقدار الاجماع الذي تحقق فيما بعد، إنما كان بالإكراه والإجبار. وأخيراً: هناك من تخلف عن البيعة ولم يبايع حتى آخر لحظة من حياته، مثل: سعد بن عبادة وهو المرشح الأول في السقيفة.

وعليه فإن الحديث المذكور بشأن الخلافة للأدلة الخمسة المتقدمة لا يمكن أن يكون معتبراً، ولا يمكن التمسك به لإثبات مشروعية أصل بيعة وخلافة الخليفة الأول(1).

و - تأويل النصوص:

يعمل المناوئون للإمام علي(علیه السّلام)على تأويل النص النبوي الشريف بشتى الطرائق والسبل، على ما سيأتي تفصيله في الفصل القادم، وفيما يلي نكتفى بذكر العناوين الآتية:

1 - مجرد بيان الأفضلية.

2 - حمل الأمر على مجرد الترشيح.

3 - اختصاص الأمر بالهداية.

4 - بيان أصل الترتب.

5 - الضرورة.

6 - توقف الأمر على مبادرة الإمام

7 - توقف الأمر على البيعة .

ص: 330


1- انظر، رضواني، امام شناسي، ج 2، ص 39.

ز - اختفاء النص ونسيانه:

إن العامل الآخر الذي أدى إلى توجّه الناس إلى الخليفة الأول، وعدم التوجه إلى الإمام علي(علیه السّلام)، هو جهلهم ونسيانهم لأصل تنصيب النبي للإمام على، ويؤيد هذا الأمر جواب بعض الصحابة للإمام على(علیه السّلام)،من أمثال بشير بن سعد على ما تقدّم. حيث روى أن أمير المؤمنين(علیه السّلام) قال للمهاجرين: «يا معشر المهاجرين لنحن - أهل البيت - أحق بهذا الأمر منكم، أما كان منا القاريء لكتاب الله، الفقيه في دين الله، العالم بالسنة، المضطلع بأمر الرعية، والله إنه لفينا، فلا تتبعوا الهوى، فتزدادوا من الحق بعداً. فقال بشير بن سعد: لو كان هذا الكلام سمعته منك الأنصار يا علي قبل بيعتهم لأبي بكر، ما اختلف عليك اثنان، ولكنهم قد بايعوا»(1). وقد تقدم منا بيان هذا الجواب في الصفحات السابقة بالتفصيل.

ح - المنع من انتشار نظرية «النص»:

لقد نص النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)وأكد على خلافة الإمام علي(علیه السّلام)وإمامته في كثير من المواطن، من قبيل غدير خم. بيد أن المخالفين لخلافة الإمام وأولئك الذين كانوا يخططون للاستيلاء على السلطة، صاروا بصدد المنع من شیوع مسألة النص ورسميتها وتنصيب الإمام على(علیه السّلام)خليفة وإماماً على المسلمين. والمثال البارز على هذه الحقيقة ما عرف برزية الخميس حيث تم منع النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)من كتابة وصيته بشأن الحكم ومستقبل المسلمين، على ما تقدم تفصیله ضمن بیان حديث القلم والدوات.

ص: 331


1- السقيفة وفدك، ص 61 .

وعليه عندما يقع زمام الحكم والسلطة بشكل أو بآخر في يد المناوئين للإمام، أو المخالفين لأصل التنصيب، فمن الطبيعي أن يسعوا إلى العمل بشتى الطرق على تضعيف نظرية التنصيب أو تأويلها من أجل مواجهة أزمة مشروعية حكمهم. ومن بين تلك الطرق إجبار الناس والصحابة على مبايعة خليفة السقيفة، على ما ثبت تفصيله في المصادر التاريخية.

في ظل هذه الأجواء كان أنصار أصل التنصيب أو العالمون به لا يجرأون عن التصريح بوجود النص عليه، فضلاً عن التبليغ له ونشره، وهذه الحقيقة سيكون لها تأثير لا على تأييد وصدق هذه النظرية، بل وعلى شيوعها وانتشارها أيضاً. والشاهد الآخر على هذا الأمر هو نسيان يوم الغدير أو تجاهله طوال فترة خلافة الخلفاء الثلاثة الأوائل، حيث كان إحياء ذلك اليوم منافياً لمصالح تلك الحكومات، وأما عندما آل الأمر إلى الإمام علي(علیه السّلام)فقد بدأ يولي هذا اليوم أهمية خاصة.

ط - القراءة العلمانية للنص:

إن من بين العناصر الأخرى التي دعت إلى ابتعاد الناس عن أصل تنصيب النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)، وذهابهم إلى خلافة أبي بكر، هو القراءة الدنيوية والعلمانية للنص النبوي في حقل الدنيا .

إن هؤلاء على حد التعبير الدقيق لبعض الصحابة - قد قبلوا روايات النبي ونصوصه في الحقل الديني بوصفها وحياً سماوياً، وأما في حقل الدنيا فهناك متسع يتيح لهم العمل بهذه النصوص والروايات أو رفضها، من هنا فإنهم على الرغم من علمهم بوجود النصوص على إمامة الإمام علي(علیه السّلام)

ص: 332

وخلافته أباحوا لأنفسهم عدم الالتزام بها، واختيار مرشح آخر(1).

ي - إبعاد الإمام علي(علیه السّلام)بذرائع واهية:

على الرغم من أن الإمام علياً(علیه السّلام) - عندما رحل رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)عن هذه الدنيا - كان شاباً لا يتجاوز عمره الثالثة والثلاثين سنة، إلا أنه طبقاً لكثير من النصوص كان يرى نفسه جديراً بالحكم، بل يرى نفسه الأكفأ والأقدر والأجدر بالحكم، وهذا ما اعترف به حتى المناوئون لحكومته. وهنا يطرح هذا التساؤل نفسه : لماذا أعرض الناس - وبتعبير أدق: كبار القوم ورؤساؤهم - عن انتخاب الإمام علي(علیه السّلام)واختاروا أبا بكر بن أبي قحافة؟

بأدنى نظرة إلى التاريخ يتضح أن مخالفي الإمام علي(علیه السّلام)، وعلى رأسهم عمر بن الخطاب، قد لجأوا إلى مختلف الذرائع والحجج لتبرير فعلتهم وأهم تلك الذرائع عبارة عن:

أ - صغر سن الإمام علي(علیه السّلام).

ب - كونه صاحب دعابة.

ج - عدم دعم القبائل العربية له.

د - حب قبيلته .

وسيأتي توضيح هذه الأدلة ونقدها في الفصل الخامس «التبريرات»، على هامش شبهة رعاية المصلحة.

من خلال التدبّر في أدلة الخليفة الثاني يتضح أن لا شيء من هذه الأدلة يمكنه أن يبرر ما قام به من إبعاد الإمام على(علیه السّلام)عن الحكم مع

ص: 333


1- انظر: عبد الحسين شرف الدين، المراجعات، المراجعة رقم17.

اعترافه بشخصيته الفريدة والفذة. بل كان يتعين على جميع المسلمين في صدر الإسلام - الأعم من المهاجرين والأنصار - أن يسلموا زمام الأمور إلى الإمام على(علیه السّلام)ويسيروا في ركابه من أجل بقاء الإسلام، لما يتمتع به من المزايا الشخصية التي لا تتوفر في غيره، مضافاً إلى نصوص النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)في حقه. حاصل الكلام أن توجّه أو إعراض الناس عن حكومة أو حاكم وإن كان يمكن له أن يشكل أرضية وقاعدة حكومية أو يسقطها، إلا أن هذا لا ينهض دليلاً على صدقها وقانونيتها وأحقيتها ومشروعيتها نفياً وإثباتاً، وإن مقالة القدماء القائلة: «الناس على دين ملوكهم»وإن كانت لا تصدق على نحو الموجبة الكلية، ولكن يبدو أنها ذات مصاديق كثيرة.

الشبهة السابعة: عدم احتجاج الإمام علي(علیه السّلام) بأصل التنصيب:

اشارة

إن إحدى الشبهات القديمة لأهل السنة دعوى أن الإمام لم يستند إلى نص نبوي لإثبات إمامته وحكومته. فإنهم قد ادعوا أن الإمام علياً(علیه السّلام)قد استند لإثبات إمامته في احتجاجه على المخالفين بصلاحيته وكمالاته الذاتية فقط، ولو كان هناك نص من قبل النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)على إمامته، لكان قد استند إليه(1).

وهناك من المعاصرين من ذهب إلى أن الإمام علياً(علیه السّلام)لم يستند إلى

ص: 334


1- انظر: ابن حزم ،الفصل ، ج 3، ص 15؛القاضي عضد الدين الإيجي والسيد الشريف الجرجاني، شرح المواقف، ج 8، ص391؛ ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، ج 6، ص 11 ، وج 1 ، ص 140 ، وج 9 ، ص 306.

حديث الغدير في احتجاجه على المخالفين(1).

وقد التزم بذلك بعض القائلين بنظرية التنصيب أيضاً(2). إلا أننا في معرض إبطال هذا الظن والوهم سنكتفي بالإشارة إلى بعض الروايات المأثورة عن الإمام علي بهذا الشأن، لبيان كيف كان الإمام علي(علیه السّلام)يحتج بالروايات النبوية مراراً وتكراراً لإثبات إمامته.

مناقشة وتحليل:

إنّ الإمام علياً(علیه السّلام)كان يعمد إلى إثبات مشروعية إمامته وخلافته من خلال حيثيتين، الحيثية الأولى ترتبط بشخصيته الحقيقية والذاتية وصفاته الكمالية التي تستوجب أفضليته وأحقيته على الآخرين للجلوس على مسند الإمامة والحكومة. والحيثية الثانية: ترتبط بشخصيته الحقوقية حيث تم اختياره واصطفاؤه من قبل الله بوصفه إماماً وخليفة بعد رسول الله مباشرة. ولم يحدث نزاع أو جدل بشأن أفضلية الإمام علي(علیه السّلام)بين الصحابة بشكل جاد، ويمكن القول إن أكثر المناوئين والمخالفين للإمام علي(علیه السّلام)كانوا يذعنون ويعترفون له بالأفضلية، إلا ان النزاع كان يدور بشكل رئيس حول وجود تنصيب من قبل النبي بشأن الإمامة والحكومة، فقد كان النقاش والجدال ولا يزال محتدماً حول هذه المسألة منذ رحيل رسول الله إلى عصرنا الراهن. وفيما يأتي نكتفي بتقرير بعض الروايات وبيانها، ونترك التوسع فيها إلى القارئ المحقق.

ص: 335


1- انظر: أحمد القبانجي، خلافة الإمام علي(علیه السّلام)بالنص أو بالنصب، ص 21 و55؛ شاهراه اتحاد، ص 254 ؛ أحمد الكاتب، تطور الفكر السياسي الشيعي، ص 22 - 23 .
2- انظر: محمد رضا المظفر، السقيفة، ص 70 - 79.

أولاً: الروايات الواردة بلفظ النصب والعهد والاختصاص والاصطفاء والاختيار والأخذ :

كان الإمام على(علیه السّلام)فى مواطن كثيرة وبشكل متكرر، يستند إلى مختلف النصوص المأثورة عن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)لإثبات إمامته. وكان في بعض الموارد يتمسك بشكل مطلق بأصل تنصيبه وتعيينه إماماً من قبل النبي الأكرم والوحي الإلهي، وفيما يأتي نشير إلى ذلك عبر الفقرات الآتية:

1 - لقد أشار الإمام علي إلى قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصُ ﴾(1)،ليعرف بنفسه قائلاً:

«أنا صراط الله الذي من لم يسلكه بطاعة الله فيه، هوى به إلى النار، وأنا سبيله الذي نصبني للاتباع بعد نبيه»(2).

ففي هذا الاستناد يصرّح الإمام أولاً بأصل التنصيب، وثانياً ينسب ذلك إلى الله سبحانه وتعالى.

2 - استند الإمام علي في الشورى المقترحة من قبل عمر بن الخطاب في حديث طويل استدل فيه على مدعاه، مذكراً إياهم بوجود أصل التنصيب من قبل النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)، إذ يقول(علیه السّلام):

«نشدتكم بالله هل فيكم أحد نصبه رسول الله يوم غدير خم بأمر الله ؛ فقال: من كنت مولاه فعلى مولاه ... غيرى؟ قالوا: لا»(3).

ص: 336


1- الصف: 4.
2- الغدير، ج 1، ص ،159 نقلاً عن: الخوارزمي ، المناقب، ص 217؛ فرائد السمطين، الباب 52.
3- العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 31، ص 236.

واضح أنه لو لم يكن هناك أصل على التنصيب، لما استند إليه الإمام، هذا أولاً. وثانياً: لكذبه من خاطبهم وهم الستة أعضاء الشورى.

الأمر الآخر في دلالة هذا الحديث والأحاديث الأخرى التي يستند إليها الإمام علي(علیه السّلام)هو أن مضمونها يرمي إلى الإمامة والخلافة العامة الشاملة للمرجعية العلمية والدينية ومسألة الخلافة والحكومة أيضاً. ذلك لأن الموارد التي يستند فيها الإمام بهذه الأدلة ناظرة إلى مناقشة ومجادلة أمثال أبي بكر وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان، والقدر المتيقن منها هو مسألة الحكومة، وإلا لما استند إليها الإمام، ولكذبها المخاطبون وأنكروا دلالتها على المدعى، وقالوا: إن هذه النصوص غير ناظرة إلى مسألة الحكومة، كما توهم ذلك بعض المعاصرين(1).

3 - في بعض الروايات تم استعمال مفردة العهد بما يساوق التنصيب، بمعنى أن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)أخذ عهداً وميثاقاً على المسلمين بإمامة الإمام علي. وقد طالب الإمام على عليه السلام المهاجرين والأنصار في يوم السقيفة عدم تناسي عهد النبي بشأن الإمامة وقال:

«يا معاشر المهاجرين والأنصار، الله الله لا تنسوا عهد نبيكم في أمري لا تخرجوا سلطان محمد من داره وقعر بيته إلى دوركم وقعر بيوتكم»(2).

4 - وقد ذكر الإمام علي عهد النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)في موضع آخر على النحو الآتي:

ص: 337


1- انظر: أحمد القبانجي، خلافة الإمام علي(علیه السّلام)بالنص أو بالنصب، ص 54.
2- العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 28، ص 186.

«وقد كان رسول(صلی الله علیه و آله و سلم)عهد إلى عهداً فقال : يا ابن أبي طالب، لك ولايتي، فإن ولوك في عافية ورجعوا عليك بالرضا، فقم بأمرهم، وإن اختلفوا عليك فدعهم وما هم فيه».

5 - وفي روايات أخرى تم استعمال مفردة الاختصاص والاصطفاء بدلاً من النصب. كما قال الإمام علي(علیه السّلام)في خطبة الوسيلة بعد مرور سبعة أيام على وفاة رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)، إذ يقول: «فإن الله .. اختصني بوصيته واصطفاني بخلافته»(1).

6 - المعادل الآخر للنصب هو «الاختيار» بمعنى الانتخاب والاصطفاء الحرّ الذي يكون عن علم واختيار. وقد أشار الإمام على(علیه السّلام)في بيان مسألة الخلافة إلى نظريتين؛ النظرية الأولى هي نظرية المخالفين القائلة بأن الناس قد اختاروا أبا بكر . والنظرية الثانية: تقول بأن رسول الله قد اختار شخصاً بعينه، إذ يقول :

«وزعموا أن من اختاروا من آل أبي قحافة أولى بمقام رسول الله ممن اختاره رسول الله لمقامه»(2).

في هذه الرواية يستعرض الإمام على(علیه السّلام)رؤيتين، وهما: اختيار الناس، واختيار النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)، وإنما لم يذكر الإمام اسمه صريحاً لوضوحه.

كما أطلق الإمام علي(علیه السّلام)مفردة الاختيار ونسبها إلى الله في تنصيب الخليفة أيضاً، كما روى عن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)أنه قال:

ص: 338


1- الشيخ الكليني، أصول الكافي، ج 8، ص 26 .
2- المصدر أعلاه، ص 29.

«ألا وإن الله نظر إلى أهل الأرض نظرة؛ فاختار أخي علياً وزيري وخليفتي في أمتي»(1).

7 - إن من بين المفردات المعادلة للتنصيب مفردة الأخذ، حيث روى الإمام في تتمة الحديث السابق عن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم) قوله:

«فأوحى إلى أن اتخذ علياً أخاً ووصياً وخليفة في أمتي بعدي»(2).

الثاني: حديث الغدير:

لقد استشهد الإمام علي(علیه السّلام)في مواطن مختلفة بحديث الغدير لإثبات إمامته، وفيما يأتي نشير إلى جانب من تلك المواطن:

8 - ألقى الإمام على(علیه السّلام)بعد سبعة أيام على رحيل رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)خطبة عُرفت بخطبة الوسيلة، وتعرّض فيها إلى حادثة الغدير قائلاً:

«خَرَجَ رَسُولُ اللهِ(صلی الله علیه و آله و سلم)إِلَى حَجَّةِ الْوَدَاعِ، ثُمَّ صَارَ إِلَى غَدِيرِ خُمِّ، فَأَمَرَ فَأَصْلِحَ لَهُ شِبْهُ الْمِنْبَرِ ، ثُمَّ عَلَاهُ وَأَخَذَ بِعَضُدِي حَتَّى رُنِي بَيَاضُ إِبْطَيْهِ، رَافِعاً صَوْتَهُ قَائِلًا فِي تَحْفِلِهِ: مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ، اللهمَّ وَالِ مَنْ وَالاهُ وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ»(3)

9 - في سياق مطالبة بعض أنصار الخليفة الأول من الإمام علي(علیه السّلام)مبايعة أبي بكر، رفض الإمام مبايعته مستنداً في ذلك إلى حديث الغدير قائلاً:

«يا معاشر المهاجرين والأنصار، الله الله لا تنسوا عهد نبيكم في أمري،

ص: 339


1- كتاب سليم بن قيس الهلالي، ص 235 ، ح 14 .
2- المصدر أعلاه.
3- الشيخ الكليني، كتاب الكافي، ج 8، ص 27 .

لا تخرجوا سلطان محمد من داره وقعر بيته إلى دوركم وقعر بيوتكم»(1).

وقالت جماعة الأنصار: يا أبا الحسن لو كان هذا الكلام سمعته الأنصار منك قبل الانضمام لأبي بكر ، ما اختلف فيك اثنان! فقال علي(علیه السّلام):

«يا هؤلاء أكنت أدع رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)مسجى لا أواريه، وأخرج أنازع في سلطانه؟! والله ما خفت أحداً یسمو له وينازعنا أهل البيت فيه، ويستحل ما استحللتموه ولا علمت أن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)ترك يوم غدير خم لأحد حجة ولا لقائل مقالاً»(2).

ثم طلب الإمام علي(علیه السّلام)من الحضور أن يشهدوا بما سمعوه من كلام رسول الله في حجة الوداع وغدير خم، فقال: «فانشد الله رجلاً سمع النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)يوم غدير خم يقول: «من كنت مولاه فهذا على مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله»، أن يشهد بما سمع»، قال زيد بن أرقم: فشهد اثنا عشر رجلاً بدرياً بذلك.

10 - تحدث الإمام علي(علیه السّلام)واصفاً حديث الغدير بشكل صريح قائلاً: «هذا يوم النصوص على أهل الخصوص، هذا يوم شيث، هذا يوم إدريس، هذا يوم هود، هذا يوم يوشع، هذا يوم شمعون»(3).

إن دلالة ألفاظ هذا الحديث كالنص، وإن سرد الإمام علي(علیه السّلام)الأسماء أوصياء الأنبياء المنصوبين إلى الحكم والخلافة بعدهم من قبل الله سبحانه

ص: 340


1- العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 28 ، ص 186؛ الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 2، ص 115 .
2- العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 28 ، ص 186؛ الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 2، ص 2، ص 115 .
3- الغدير، ج 1 ، ص 284 .

وتعالى، لا يبقي حاجة إلى مزيد من التوضيح.

11 - عندما اقتحم أبو بكر وعمر دار الإمام على(علیه السّلام)، لأخذ البيعة منه بالإكراه، أجاب الإمام عن ذلك في مسجد الرسول(صلی الله علیه و آله و سلم)قائلاً بعد حمد الله والثناء عليه :

«إن فلاناً وفلاناً أتياني وطالباني بالبيعة لمن سبيله أن يبايعني،أنا ابن عم النبي وأبو بنيه والصديق الأكبر، وأخو رسول الل(صلی الله علیه و آله و سلم)لا يقولها أحد غيري إلا كاذب، وأسلمت وصليت قبل كل أحد، وأنا وصيه، وزوج ابنته سيدة نساء العالمين فاطمة بنت محمد، وأبو حسن وحسين سبطي رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)، ونحن أهل بيت الرحمة، بنا هداكم الله، وبنا استنقذكم من الضلالة، وأنا صاحب يوم الدوح(1)، وفي نزلت سورة من القرآن، وأنا الوصي على الأموات من أهل بيته(صلی الله علیه و آله و سلم)، وأنا بقيته على الأحياء من أمته»(2).

ثم رجع إلى بيته [ولم يبايع].

12 - عاد أبو بكر وعمر إلى دار الإمام على(علیه السّلام)ثانية، لأخذ البيعة منه هذه المرة بالإكراه والتهديد والعنف على ما هو مسجل في كتب التاريخ. فأصرّ الإمام على عدم البيعة؛ فهدّده عمر بالقتل. وحيث أن الإمام على(علیه السّلام)رأى أن العلاج في هذه الظروف لا يتم عبر الاحتكام إلى السلاح، توجه إلى الحاضرين من المهاجرين والأنصار بالخطاب مطالباً إياهم أن يتذكروا يوم الغدير وواقعة تبوك:

ص: 341


1- يعني بذلك يوم غدير خم.
2- العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 28، ص 248.

«يا معشر المسلمين والمهاجرين والأنصار أنشدكم الله أسمعتم رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)يقول يوم غدير خم كذا وكذا ، وفي غزوة تبوك كذا وكذا، فلم يدع علي(علیه السّلام)شيئاً قاله فيه رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)علانية للعامة إلا ذكرهم إياه، فقالوا اللهم نعم».

وقد تواصل الجدال بين الإمام على(علیه السّلام)وشيعته من جهة، والخليفة الأول والثاني وأتباعهما من جهة ثانية، ويمكن للقارئ الكريم أن يرجع إلى ذلك في المصادر التاريخية المذكورة في الهامش(1).

إن احتجاج الإمام علي(علیه السّلام)على مسألة التنصيب وكلماته الخاصة مع الخليفة الأول والثاني وسائر المسلمين من التضافر والتواتر بحيث تغنينا عن ذكرها.

13 - لم يقتصر احتجاج الإمام علي(علیه السّلام)بحديث الغدير على الأيام الأولى من رحيل النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)،بل استمر إلى عصر الخليفة الثاني والثالث، وفترة إمامته أيضاً، فعلى سبيل المثال قام في عهد عثمان في جمع من بني هاشم و سلمان وأبي ذر وصحابة آخرين في إشارة إلى الأخطاء التي ارتكبها الخليفة الأول والثاني، وحضورهم في يوم غدير خم، قائلاً:

«وهو [يعني عمر بن الخطاب] صاحب يوم غدير خم، إذ قال هو وصاحبه [يعني أبو بكر] - حين نصبني رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)لولايتي - فقال: (ما يألو أن يرفع خسيسته). وقال الآخر: (ما يألو رفعاً بضبع ابن عمه) وقال لصاحبه - وأنا منصوب -: (إن هذه لهي الكرامة). فقطب صاحبه في وجهه

ص: 342


1- انظر: المصدر أعلاه، ص 4 - 271؛ كتاب سليم بن قيس، ص 587.

وقال: لا والله لا أسمع له ولا أطيع أبداً ، ثم اتكأ عليه ثم تمطى وانصرفا، فأنزل الله فيه: ﴿ فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى * أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى﴾(1)»(2).

14 - حدّد الخليفة الثاني تعيين الخليفة القادم ضمن إطار من الشورى يضم ستة أشخاص، وهم: (علي بن أبي طالب(علیه السّلام)، وعثمان بن عفان، وطلحة، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص). وفي هذه الحبكة السياسية لم يتنازل الإمام عن حقه المشروع في أمر الإمام من طريق التنصيب الإلهى، واستند في ذلك علاوة على كفاءاته الذاتية إلى مختلف الأحاديث المروية عن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)في تنصيبه إماماً وخليفة على المسلمين، كما طالب الحضور بالاهتمام بمسألة تنصيب النبي وعدم تجاهل ذلك إذ يقول:

«نشدتكم بالله هل فيكم أحد نصبه رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)يوم غدير خم بأمر الله، فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، غيري؟ قالوا: لا.قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد أخو رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)فیالحضر ورفيقة فى السفر، غيرى؟ قالوا: لا ... قال: نشدتكم بالله هل فيكم أحد أخذ رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)يوم غدير خم فرفعها حتى نظر الناس إلى بياض إبطه ويقول: ألا إن هذا ابن عمي ووزيري فوازروه وناصحوه وصدقوه فإنه وليكم، غيري؟ قالوا: لا»(3).

ص: 343


1- القيامة : 31 - 35.
2- كتاب سليم بن قيس، الحديث: 14، ص 587 .
3- العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 31، ص 326.

15 - قال الإمام على(علیه السّلام)في عصر خلافة عثمان وكان في جمع من المهاجرين والأنصار، وكان كل واحد منهم يباهي ويفاخر بفضله: أتعلمون أن الناس عندما سألوا عن تفسير آية «أولي الأمر» و «وليكم الله»، أمر الله نبيه أن يعيّن لهم إمامهم؛ فنصبني إماماً على الناس. ثم قام الإمام بعد ذلك بتفصيل

روايات النص(1).

وقد استمر تمسّك الإمام بحديث الغدير في فترة خلافته وفي أيام الحرب على مخالفيه أيضاً، وفيما يأتي نشير إلى هذه المواطن على النحو الآتي:

16 - في معركة الجمل كان طلحة في الجيش الذي خرج لقتال الإمام علي(علیه السّلام)، فأرسل الإمام علي(علیه السّلام)إليه ليلتقيه، فناشده عند اللقاء أن يتذكر حديث الغدير، فقال طلحة: لا أتذكره. فتركه الإمام بعد تذكيره بذلك(2).

17 - أشار الإمام على(علیه السّلام)في معركة صفين إلى مشروعية حكومته ومسألة تنصيبه من قبل النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)في يوم الغدير، تشجيعاً لجيشه وحتّه على مواصلة القتال، قائلاً:

«أما سمعتم قول رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)يوم الغدير في ولايتي وموالاتي؟»(3).

18 - وفي يوم من أيام صفين صعد الإمام على(صلی الله علیه و آله و سلم)منبراً، فبيّن للناس فضائله وأكد في ضمن ذلك على مسألة تنصيبه إماماً على المسلمين من

ص: 344


1- انظر: مسند أحمد، ج 1، ص 84 و 101 و 118 و 119؛ مسند البزاز، ج 2، ص 133؛ مسند أبي يعلى، ج 1، ص 428، سنن النسائي الكبرى، ج 5 ، ص 136 و 154؛ كنز العمال، ج 13، ص 74.
2- الغدير، ج 32، ص 388.
3- العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 32، ص 388.

قبل النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)بأمر من الله . وكان في جيشه من كان حاضراً يوم الغدير؛ فصدقه على ذلك(1).

19 - وقال الإمام على(علیه السّلام)ردّاً على معاوية في إثبات مشروعية الحرب ومشروعية حكمه، مستنداً إلى مسألة التنصيب:

«فالعجب من معاوية بن أبي سفيان ينازعني الخلافة ويجحدني الإمامة ويزعم أنه أحق بها مني جرأة منه على الله وعلى رسوله بغير حق له فيها ولا حجة، ولم يبايعه عليها المهاجرون ولا سلم له الأنصار والمسلمون. يا معشر المهاجرين والأنصار ... أما سمعتم قول رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)يوم الغدير في ولايتي وموالاتي؟»(2).

20 - كان الإمام علي(علیه السّلام)يغتنم كل مناسبة وتجمع مهما صغر أو كبر،من أجل تذكير الناس بمسألة الإمامة وأصل التنصيب الإلهي، ويولي هذه المسألة عناية خاصة. وكان أحياناً يطلب من بعض الحاضرين أن يقوموا بالشهادة على ما رأوه وسمعوه من رسول الله فى يوم الغدير. ويطلق على مناشدات الإمام علي(علیه السّلام)للصحابة والمخاطبين بالشهادة على حادثة الغدير في المصطلح الروائي والتاريخي ب_ «المناقشات» على ما هو مسجل في المصادر التاريخية الأعم من الشيعية والسنة، ومن ذلك ما جاء في مسند أحمد بن حنبل روايته

ص: 345


1- كتاب سليم بن قيس، الحديث: 25، ص 7 - 294.
2- العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار ، ج 34 ، ص 133؛ مصباح البلاغة، ج 1، ص 294 .

«عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، قَالَ: جَمَعَ عَلِيٌّ - رَضِيَ الله تَعَالَى عَنْهُ - النَّاسَ فِي - الرَّحَبَةِ، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: أَنْشُدُ الله كُلَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ(صلی الله علیه و آله و سلم)يَقُولُ يَوْمَ غَدِيرِ خُمَّ مَا سَمِعَ لَما قَامَ؛ فَقَامَ ثَلَاثُونَ مِنْ النَّاسِ، وَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: فَقَامَ نَاسٌ كَثِيرٌ فَشَهِدُوا حِينَ أَخَذَهُ بِيَدِهِ، فَقَالَ لِلنَّاسِ : أَتَعْلَمُونَ أَنِّي أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ؟ قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ الله قَالَ: مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَهَذَا مَوْلَاهُ، اللهمَّ وَالِ مَنْ وَالَاهُ، وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ. قَالَ: فَخَرَجْتُ وَكَأَنَّ فِي نَفْسِي شَيْئًا، فَلَقِيتُ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ ، فَقُلْتُ لَهُ: إِنِّي سَمِعْتُ عَلِيًّا - رَضِيَ الله تَعَالَى عَنْهُ - يَقُولُ كَذَا وَكَذَا قَالَ: فَمَا تُنْكِرُ، قَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ ذَلكَ لَهُ»(1).

21 - اغتنم الإمام علي خطبة صلاة جمعة - صادفت يوم الغدير - فأخذ يشرح أبعاد هذه المسألة ثم وصف الغدير بأنه يوم عيد الدين وإكماله، حيث أوحى الله إلى نبيه أن يبلغ الناس بشأن المنتخبين والمنتجبين(2).

22 - عمد الإمام علي(علیه السّلام)في أواخر عمره الشريف بعد رجوعه من حرب النهروان - حيث عاد النقاش بشأن حكومة وخلافة الخلفاء الثلاثة الأوائل - إلى بيان مواقفه بشكل تفصيلي ضمن رسالة، ومما جاء فيها أن حكم الأمة أولاً كان على عاتق رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)، و بعد رحيله انتقلت هذه المسؤولية إليه؛ حيث اعتبر الإمام علي(علیه السّلام)نفسه هو الحجة، واستند لذلك بحديث

ص: 346


1- مسند أحمد بن حنبل، ج 7، ص 28 / 19321 ؛ مسند البزاز، ج 2، ص 133 و 492، نقلاً عن: موسوعة الإمام علي، ج 2، ص 322؛ الغدير، ج 1، ص 93؛ البداية والنهاية، ج 7، ص 346.
2- الغدير، ج 1، ص 284 .

الغدير، إذ يقول :

«إن نبي الله(صلی الله علیه و آله و سلم)قال: الولاء لمن أعتق، فجاء رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)بعتق الرقاب من النار ، وأعتقها من الرق، فكان للنبي(صلی الله علیه و آله و سلم)ولاء هذه الأمة، وكان لي بعده ما كان له، فما جاز لقريش من فضلها عليها بالنبي(صلی الله علیه و آله و سلم)جاز لبني هاشم على قريش، وجاز لي على بني هاشم، بقول النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)يوم غدير خم: من كنت مولاه فهذا على مولاه»(1).

ثالثاً: حديث المنزلة:

لقد طلب النبي موسى(علیه السّلام)من الله أن يشدّ عضده بأخيه هارون(علیه السّلام)،على ما بينه الله سبحانه وتعالى في قوله حكاية عنه: ﴿ وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي ﴾(2).

فيتضح من خلال هذه الآيات أن مسؤوليات هارون(علیه السّلام)تتلخص في الأمور الخمسة الآتية :

1 - الوزارة.

2 - الدعم والمؤازرة.

3 - المشاركة في أمر تبليغ الرسالة.

4 - الخلافة.

5 - النبوة.

وقد وصف النبيالأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)علاقته مع الإمام على(علیه السّلام)بأنها مثل

ص: 347


1- العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 30، ص 13 - 14.
2- طه : 29 - 32

العلاقة التي كانت قائمة بين النبي موسى(علیه السّلام)وأخيه هارون(علیه السّلام)، وقد بين هذه العلاقة في الكثير من المواطن، من قبيل: اليوم الأول من أيام الدعوة العامة، ويوم المؤاخاة بين المسلمين (اليوم الأول من وصوله إلى المدينة المنوّرة)، وعند إغلاق جميع الأبواب الشارعة إلى مسجد النبي باستثناء باب

الإمام علي(علیه السّلام)، وبعد فتح خيبر، وبعد واقعة تبوك، إذ قال لعلي في جميع المواطن: «أنت مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي»(1).

إن دلالة هذا الحديث على إمامة الإمام علي(علیه السّلام)وخلافته واضحة، فكما تقدم أن ذكرنا فإن لهارون وظائف ومسؤوليات مختلفة تفرعت إليه عن النبي موسى(علیه السّلام)،وهي: «القيادة الدينية والسياسية والاجتماعية، وبعبارة واحدة: الخلافة في جميع المجالات)، وقد عمد النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)إلى إثبات جميع هذه الوظائف والمسؤوليات لأخيه الإمام علي بن أبي طالب، ولم يستثن منها غير النبوة.

وكان الإمام على(علیه السّلام)يستند لإثبات مشروعيته الإلهية في الإمامة بحديث المنزلة، ولا يخفى ما في ذلك من تأكيد على دلالة هذا الحديث على إمامتة.

23 - احتج الإمام علي(علیه السّلام)في بعض احتجاجاته على أبي بكر بحديث المنزلة، إذ قال له: «أنشدك بالله ألى الوزارة من رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)والمثل من هارون وموسى أم لك؟ قال: بل لك»(2).

ص: 348


1- صحيح البخاري، ج البخاري، ج 3، ص ص 1359 ، وج 4، ص1602؛ صحيح مسلم، ج 4، ص 1871؛ مسند أحمد، ج 1، ص 170.
2- العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 29 ، ص 6.

24 - قال على(علیه السّلام): «...مررت بالصهاكي [يعني: عمر بن الخطاب ] یوماً فقال لي: «ما مثل محمد إلا كمثل نخلة نبتت في كناسة»؛ فأتيت رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) فذكرت له ذلك. فغضب النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)وخرج مغضباً فأتى المنبر، وفزعت الأنصار فجاءت شاكة في السلاح لما رأت من غضب رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)فقال: ما بال أقوام يعيرونني بقرابتي؟ وقد سمعوا مني ما قلت في فضلهم، وتفضيل الله إياهم، وما اختصهم الله به من إذهاب الرجس عنهم وتطهير الله إياهم، وقد سمعتم ما قلت في أفضل أهل بيتي وخيرهم مما خصه الله به وأكرمه وفضله من سبقه في الإسلام وبلاؤه فيه وقرابته مني وأنه بمنزلة هارون من موسى، ثم تزعمون أن مثلي في أهل بيتى كمثل نخلة نبتت في كناسة؟!»(1)

كما قال الإمام علي(علیه السّلام)في خطبة الوسيلة بعد مرور سبعة أيام على وفاة رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)، ضمن تذكيره بأن كل نبي كان يعين النبي وخليفته من بعده لهداية الناس وحمايتهم من الضلال، وهكذا كان النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)وهو خاتم الأنبياء، وأنه نصبني خليفة من بعده في جميع الأمور باستثناء النبوة إذ قال:

«أيها الناس إن علياً مني كهارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي». ثم استطرد الإمام علي(علیه السّلام)بعد ذلك شارحاً معنى هذا الحديث، حيث قال: «كان ذلك منه استخلافاً لي كما استخلف موسى هارون»(2).

25 - كما استند الإمام علي(علیه السّلام)إلى حديث المنزلة في مسألة الشورى بعد موت عمر بن الخطاب، لإثبات إمامته، حيث توجه إلى أعضاء تلك

ص: 349


1- كتاب سليم بن قيس الهلالي، ص 135 ، الحديث رقم: 14 .
2- الشيخ محمد بن يعقوب الكليني، كتاب الكافي، ج 3، ص 26 - 27 .

الشورى وقال لهم:

«نشدتكم بالله هل فيكم أحد، قال له رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): أنت مني بمنزلةهارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي، غيري؟ قالوا: اللهم لا»(1).

رابعاً: حديث الخلافة :

يأتي لفظ الخليفة والخلافة بمعنى الحكومة والقيادة السياسية والاجتماعية وكان في تلك العصور يدلّ على القيادة الدينية أيضاً. وقد عمد الإمام علي(علیه السّلام)في بعض المواطن في إثبات إمامته إلى الاستناد لاختياره من قبل رسول الله ليكون خليفة له، وفيما يأتي نشير إلى بعض هذه المواطن:

26 - استند الإمام علي(علیه السّلام)في خطبة الوسيلة بعد مرور سبعة أيام على وفاة رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)إلى مسألة تنصيبه من قبل النبي الأكرم خليفة له على الأمة الإسلامية، حيث قال:

«فَإِنَّ الله تَبَارَكَ اسْمُهُ ... اخْتَصَّنِي بِوَصِيَّتِهِ وَاصْطَفَانِي بِخِلَافَتِهِ فِي أُمَّتِه»(2).

ثم استطرد الإمام علي(علیه السّلام)بعد ذلك شاكياً من اغتصاب حقه، معتبراً ذلك انحرافاً عن الإسلام، وتمرداً على الرسول ، وظلما وجوراً عليه، حيث قال:

«وَاسْتَبْدَلُوا بِمُسْتَخْلَفِهِ بَدِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ، وَزَعَمُوا أَنَّ مَن اخْتَارُوا مِنْ آلِ أَبِي قُحَافَةَ أَوْلَى بِمَقَامِ رَسُولِ اللَّهُ(صلی الله علیه و آله و سلم)مِمَّنِ اخْتَارَ رَسُولُ اللَّهُ(صلی الله علیه و آله و سلم)لِمَقَامِهِ .. أَلَا وَإِنَّ أَوَّلَ شَهَادَةِ زُورٍ وَقَعَتْ فِي الْإِسْلَامِ، شَهَادَتْهُمْ أَنَّ صَاحِبَهُمْ

ص: 350


1- العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 31، ص 315 و 326.
2- الشيخ محمد بن يعقوب الكليني، كتاب الكافي، ج 8، ص 29.

مُسْتَخْلَفُ رَسُولِ الله(صلی الله علیه و آله و سلم)، فَلَمَّا كَانَ مِنْ أَمْرِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ مَا كَانَ، رَجَعُوا عَنْ ذَلِكَ وَقَالُوا: إِنَّ رَسُولَ الله(صلی الله علیه و آله و سلم)مَضَى وَلَمْ يَسْتَخْلِفْ؛ فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ(صلی الله علیه و آله و سلم)الطَّيِّبُ الْمُبَارَكُ أَوَّلَ مَشْهُودٍ عَلَيْهِ بِالنُّورِ فِي الْإِسْلَامِ»(1).

27 - قال الإمام على(علیه السّلام)في مقام الاستدلال في حادثة الشورى المعينة من قبل عمر بن الخطاب:

«نشدتكم بالله، هل فيكم أحد قال له رسول الله : أنت الخليفة في الأهل والولد والمسلمين في كل غيبة»(2).

28 - أشار الإمام علي(علیه السّلام)إلى خطبة رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)بشأن تعيينه خليفة له في أمته، قائلاً:

«ألا وإن الله نظر إلى أهل الأرض نظرة؛ فاختارني منهم، ثم نظر نظرة؛ فاختار أخي علياً ووزيري ووصيي وخليفتي في أمتي، وولي كل مؤمن بعدي. فبعثني رسولاً ونبياً ودليلاً، فأوحى إلي أن أتخذ علياً أخاً وولياً ووصياً وخليفة في أمتي بعدي»(3).

29 - أجاب الإمام علي(علیه السّلام)في المسجد بحضور عدد من بني هاشم، وبعض شيعته من أمثال: أبي ذر الغفاري، والمقداد بن الأسود، ومحمد بن أبي بكر، عن ادعاء المخالفين عدم استخلاف النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)الأحد، وتركه الأمر إلى المسلمين، قائلاً:

ص: 351


1- الشيخ محمد بن يعقوب الكليني، كتاب الكافي، ج 8، ص 29 .
2- الشيخ محمد بن يعقوب الكليني، كتاب الكافي، ج 8، ص 26؛ العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 3، ص 218.
3- كتاب سليم بن قيس الهلالي، ص 235 .

«سبحان الله، مما أشربت قلوب هذه الأمة من بليتهما وفتنتهما، من عجلها وسامريها. إنهم أقروا وادعوا أن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) لم يستخلف أحداً وأنه أمر بالشورى»(1).

ثم ذكر الإمام علي(علیه السّلام)بأنهم لم يلتزموا حتى بما ادعوه من أن النبي لم يستخلف، إذ قال : «والعجب أنهم أقروا ثم ادعوا أن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)لم يستخلف أحداً، وأنهم أمروا بالشورى، ثم أقروا أنهم لم يشاوروا في أبي بكر وأن بيعته كانت فلتة. وأي ذنب أعظم من الفلتة. ثم استخلف أبو بكر عمر ولم يقتد برسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)فيدعهم بغير استخلاف فقيل له في ذلك، فقال: (أدع أمة محمد كالنعل الخلق، أدعهم بغير أحد استخلف عليهم)؟ طعناً منه على رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)ورغبة عن رأيه!! ثم صنع عمر شيئاً ثالثاً. لم يدعهم على ما ادعى أن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)لم يستخلف ولا استخلف كما استخلف أبو بكر، وجاء بشيء ثالث وجعلها شورى بين ستة نفر وأخرج منها جميع العرب»(2).

خامساً: حديث الوزارة:

قام النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)في بعض النصوص بتعريف الإمام علي(علیه السّلام)بوصفه وزيراً له. ومن الواضح أن اختيار الإمام علي لهذا المنصب علاوة على صلاحيته وكماله الذاتي، يحكي عن تنصيبه وتعيينه لهذا المنصب من قبل النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم). وربما توهّم شخص هنا بأن وزارة الإمام علي(علیه السّلام)تختص بفترة . حياة النبي الأكرم ولا تشمل فترة ما بعد رحيله.

ص: 352


1- كتاب سليم بن قيس الهلالي، ص 241 .
2- المصدر أعلاه.

وفي الجواب عن ذلك يجب القول: إن النصوص المأثورة عن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)في هذا الشأن تعبّر عن أن هذا المنصب إنما خص به الإمام علياً لما يتمتع به من الصفات الذاتية، وليس هناك من داع أو سبب لتغييره وعزله عما ثبت له في حياة رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم). وبعبارة أخرى : إن نصوص النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم) مطلقة، بل صريحة في شمولها لما بعد رحيله(صلی الله علیه و آله و سلم).والدليل على ذلك استناد الإمام على إلى هذه النصوص واستشهاده بها في معرض الاستدلال على المخالفين، ولم يشكل عليه أحد من هؤلاء المخالفين بإيراد هذه الشبهة. وبعد هذا التوضيح، نشير إلى عدد من الروايات الواردة بهذا الشأن:

30 - إن الإمام طلب من أبي بكر بن أبي قحافة أن يجيبه في مقام المحاججة عن حديث الوزارة قائلاً: «أنشدك بالله ألي الوزارة من رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)والمثل من هارون وموسى، أم لك؟ قال: بل لك»(1).

وبذلك يذعن أبو بكر لدليل الإمام علي(علیه السّلام)، ولا يطرح شبهة اختصاص ذلك بفترة حياة النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم).

31 - تقدّم في الصفحات السابقة أن الإمام علياً(علیه السّلام)كان يستدل بحديث النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)على تعيينه في منصب الوزارة بأمر من لله في مقام احتجاجه على المخالفين، والملفت للانتباه في هذا الاستدلال هو إسناد اختصاص الوزارة بالإمام على(علیه السّلام)بأنها كانت بأمر من الله، وهو أمرٌ يُثبت استمرار هذه الإمامة إلى ما بعد رحيل رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)، إذ يقول:

«ألا وإن الله نظر إلى أهل الأرض نظرة؛ فاختار أخي علياً وزيري

ص: 353


1- العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 29، ص 6 - 7 .

وخليفتى في أمتي، وولي كل مؤمن بعدي»(1).

32 - كما استند الإمام علي في معرض الاحتجاج على أصحاب الشورى التي رشحها عمر بن الخطاب إلى فقرة من كلام رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)في حقه، إذ قال لهم:

«نشدتكم بالله هل فيكم أحد قال له رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): أنت أخي ووزيري وصاحبي من أهلي، غيري؟!قالوا: لا»(2).

واضح أن هذا الحديث لو لم يكن يدل على إمامته وحكومته لما استدل به أصلاً، هذا أولاً. وثانياً: لكان أعضاء الشورى قد اعترضوا على هذا الاستدلال، في حين أنهم لم يفعلوا ذلك، بل أيدوه.

33 - لقد استعمل النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)و وصف الإمام علي(علیه السّلام)بالوزير في حديث غدير خم أيضاً، من هنا نجد الإمام علياً(علیه السّلام)في معرض استدلاله على أصحاب الشورى ومناشدته لهم، يشير إلى حديث الغدير قائلاً:

«نشدتكم بالله هل فيكم أحد أخذ رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)يوم غدير خم بيده فرفعها حتى نظر الناس إلى بياض إبطه ويقول: ألا إن هذا ابن عمي ووزيري فوازروه وناصحوه وصدقوه فإنه وليكم، غيري؟! . قالوا : لا»(3).

إن تعريف النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)للإمام علي(علیه السّلام)بوصفه وزيراً له في سنوات حياته الأخيرة، ودعوة الناس إلى التعاطي معه بوصفه وزيراً،

ص: 354


1- كتاب سليم بن قيس الهلالي، ص 235، ح 14 .
2- العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 3، ص 330.
3- العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 3، ص 333.

ومناصحته وتصديقه وتعريفه بوصفه «وليا»، كلها شواهد على قيادته السياسية والمعنوية بعد رحيله ولا تختص بمرجعيته العلمية والدينية؛ لأن تعابير من قبيل: الوزير، والدعوة إلى مناصحته، وتعريفه بوصفه ولياً وخليفة له إنما ينسجم مع مرجعيته العلمية والسياسية.

سادساً: حديث أمير المؤمنين:

إن عبارة «أمير المؤمنين» في صدر الإسلام كانت تعد من العبارات السياسية والاجتماعية التي تطلق من قبل الناس - بشكل وآخر - على الحاكم والزعيم السياسي والروحي. وكان النبي يصف الإمام علياً(علیه السّلام) في مختلف المواطن بأنه «أمير المؤمنين»، أو ينادي عليه ب_ «إمرة المؤمنين»، وكان يأمر

المسلمين عند إلقاء التحية والسلام على الإمام علي بوصفه أمير المؤمنين، وليس بوصفه فرداً عادياً، وبذلك كان يرمي إلى تمهيد الأرضية لحكمه في المستقبل. وقد أشار الإمام علي إلى هذه الحقيقة في معرض احتجاجه على الخصوم، وهو أمر يثبت دلالة هذا المفهوم على المدعى، وفيما يأتي نشير إلى بعض هذه الموارد :

34 - إن الإمام علياً(علیه السّلام)في معرض محاججته لأبي بكر بذكر مختلف الأدلة على إمامته، يذكر هذا الحديث بوصفه واحداً من أدلته، إذ يقول:

«فأنشدك الله أنا الذي أمر لي رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)أصحابه بالسلام علي بالإمرة في حياته، أم أنت؟ قال: بل أنت»(1).

ص: 355


1- الغدير، ج 1، ص 270؛ مستدرك نهج البلاغة ، ج 3، ص 205؛ نقلاً عن: العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 29، ص 13.

الاستنتاجات:

1 - لست أدعي قطعية جميع الأسانيد والروايات الواردة في المصادر، ومن بينها اعتبار جميع روايات كتاب (سليم بن قيس الهلالي)(1)وقطعيتها، ولربما كان بعضها يعاني من بعض المشاكل الروائية، من قبيل: الضعف أو الرفع، ولكن هناك فى الوقت نفسه روايات صحيحة وموثوقة، أجمعت على نقلها المصادر الشيعية والسنية على السواء.

ومن خلال التأمل في مجموع الروايات والأسانيد المتنوعة الناظرة إلى محتوى واحد، يحصل لنا علم بالتواتر الاجمالي والمعنوي، ويمكن القول على هذا الأساس بأنّ الإمام علياً(علیه السّلام)قد احتج قطعاً على مخالفيه بالنصوص النبوية، ومن هذه الناحية لا يمكن التشكيك في اعتبار هذه الروايات والطعن بها.

2 - يستفاد من مجموع الروايات وكذلك استناد الإمام علي(علیه السّلام) و استشهاده بهذه النصوص فيما يتعلق بمسألة الخلافة والإمامة والبيعة، أن روايات النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)تعنى الإمامة بمعناها العام الناظر إلى المرجعية العلمية والدينية والخلافة والقيادة السياسية والاجتماعية.

3 - يُفهم من كلمات الروايات ومضامينها أن تعيين الإمام على(علیه السّلام)بوصفه خليفة وإماماً على الأمة، لم يكن مجرد تعريف على مستوى الترشيح، بل بوصفه تنصيباً إلهياً ونبوياً، وإن هذا التنصيب يجب على الأمة الإسلامية إطاعته بوصفه واجباً دينياً.

ص: 356


1- هناك في هذا الشأن رؤيتان، انظر: محمد باقر الأنصاري، مقدمة كتاب سليم بن قيس؛ قاسم جوادي، مقالة: (كتاب سُليم بن قيس)، مجلة: علوم حديث، الأعداد: 34 و 35 و 36 ، شتاء عام 1383ه_ ش، وربيع وصيف عام 1384 ه_ ش .

4 - يُستفاد من الروايات النبوية التي يستند إليها الإمام علي(علیه السّلام)أنه كان يرى العنصر الأساسي في الإمامة هو وجود التنصيب الإلهي والسماوي، ويعتقد بأن هذا الأصل لم يتحقق إلا بالنسبة له، ولم يشمل أي واحد من الخلفاء الآخرين. وعليه ينبغي بالذي يؤمن بالإمام علي(علیه السّلام)وعدالته وصدقه في الحد الأدنى، أن يتعامل مع مذهب الإمام بوصفه أصلاً دينياً، وأن لا ينكره أو يعمل على تأويله لمجرد عدم العثور على نصوص التنصيب. وأما أهل السنة الذين يؤمنون - في الحد الأدنى - بصدق وعدالة الإمام(علیه السّلام) بوصفه واحداً من أفضل الصحابة، فعليهم أن يجيبوا عن جميع هذه الاحتجاجات المنطقية والوجدانية التي صدع بها الإمام؛ فإنهم مسؤولون عن ذلك أمام الله في الدنيا والآخرة. ولا يكفي مجرد حمل هذا الكم الهائل من النصوص على أحقيته وأفضليته، كما تقدم في بداية شبهة ابن أبي الحديد المعتزلي(1)، بل هذا في الحقيقة ترك لنصوص النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)، ويمكن القول بجرأة أن هذا الأمر ينطوي على اتهام الإمام بالمبالغة والكذب - والعياذ بالله - تبييضاً لصفحة سائر الخلفاء الآخرين.

5 - الأمر الأخير: إن أصل التنصيب هو من أركان مذهب التشيع، وليس الإسلام. فإذا قام شخص بتأويل النصوص صادقاً فيما بينه وبين الله، ولم يكن مكابراً أو معانداً، فإنه سيكون عندها منكراً لركن من الأركان الرئيسة في مذهب التشيّع، ولا يخرجه ذلك من ربقة الإسلام، فإن للإسلام والإيمان مراتب ودرجات. وبعبارة أخرى: إن أصل الإمامة من أصول التشيع دون الإسلام، وقد ذكرت تفصيل هذا الأمر في موضع آخر.

ص: 357


1- انظر: ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، ج 9، ص 306.

الشبهة الثامنة: عدم مبادرة الإمام للتصدي إلى الحكم:

اشارة

إن من بين الشبهات القديمة التى يتمسك بها علماء أهل السنة لرفض أصل التنصيب دعوى عدم مبادرة الإمام علي(علیه السّلام)إلى المطالبة بالحكم واستلام السلطة. فهؤلاء يدعون أنه لو كان هناك نص صادر عن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)بشأن خلافة الإمام علي حقاً، وبعبارة أدق: لو حصل تنصيب بالفعل، لتعين على الإمام على أن يفعل شيئاً لأخذ حقه الثابت ولا يسكت عنه أبداً، في حين لم يحصل شيء من ذلك. وقد طرح هذه الشبهة بعض أهل السنة(1)، وعدد من الشيعة الذين يصطلح عليهم بالمستنيرين(2).

مناقشة وتحليل:

من خلال إلقاء نظرة عابرة على التاريخ ندرك أن هذا الكلام لا يعدو أن يكون مجرد ادعاء باطل لا يستند إلى أي دليل، وهذا ما تثبته الأدلة الآتية:

أ - الاعتصام في بيت السيدة فاطمة الزهراء(سلام الله علیها):

بعد رحيل النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)،صار بعض الصحابة من الذين لم يبايعوا

ص: 358


1- انظر: انظر: ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة ، ج 7، ص 33؛ الفخر الرازي، الأربعين، الفصل الرابع، ص 76؛ التفتازاني، شرح المقاصد، ج 5، ص 262؛روزبهان، دلائل الصدق، ج 2، ص 21 - 33.
2- (أما الإمام علي فلم تأته الخلافة بمعنى الحكومة، ولا هو طالب بها أو طالب بها أو سعى إليها)، انظر: آخرت وخدا هدف بعثت، ص 45؛وانظر أيضاً: الدكتور الحائري اليزدي، حکمت وحكومت، ص 144؛ أحمد القبانجي، خلافة الإمام علي بالنص أم بالنصب، ص 22. ومن الجدير معرفته أن السيد عبد العلي بازركان (نجل المهندس مهدي بازركان) يعترف بجهود الإمام علي(علیه السّلام)في المطالبة بالسلطة كما نجد ذلك في کتابه (شوری وبیعت حاکمیت خدا در مردم)، ص 67 .

الخليفة الأول بصدد القيام بعمل ما من أجل الحصول على السلطة. ولكي يحقنوا دماءهم من بطش السلطة تحصنوا في دار السيدة فاطمة الزهراء(سلام الله علیها)بوصفها وديعة رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم).متصورين أن الخليفة وأجهزته الأمنية لا تستطيع هتك حرمة بنت الرسول الوحيدة واقتحامه بالإكراه لإلقاء القبض عليهم. إلا أن تصوّرهم ظل على حدود التصوّر. فقد أرسلت السلطة بعض قوات النخبة بقيادة عمر بن الخطاب لاقتحام بيت الزهراء وإلقاء القبض على المعتصمين فيه. وهنالك هدّد عمر المعتصمين بحرق البيت على من فيه إن لم يخرجوا، وبعد إصرار المعتصمين على مواقفهم تم اقتحام البيت وتجريد المعتصمين من أسلحتهم، وحدثت هناك مناوشة كسر على إثرها سيف الزبير بن العوام أيضاً(1).

ونحن هنا لسنا بصدد بيان تفاصيل الأحداث المتقدمة، وإنما نطرح هذا السؤال: لو أن الإمام علياً(علیه السّلام)والسيدة فاطمة الزهراء(سلام الله علیها)لم يكونا على خلاف مع الحكم الجديد، فلماذا فتحا بيتهما للمعارضين كي يتحصنوا فيه؟!

ب - كراهة البيعة:

هناك من الصحابة من كره مبايعة أبي بكر بن أبي قحافة، فتم إجباره على البيعة بالإكراه، وأما الإمام علي(علیه السّلام)فلم يبايع حتى مضت أشهر ستة، وبذلك أثبت عدم شرعية أصل خلافة الخليفة الأول. فإن كان الإمام من

ص: 359


1- انظر: ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، ج 2، ص 56، وج 20، ص 147؛ ابن واضح اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، ج 2، ص 126؛ الإمامة والسياسة، ج 1، ص 12؛ كتاب سُليم بن قيس، ص 146؛ أعلام النساء ، ج 4، ص 114؛ ابن هشام، سيرة ابن هشام، ج 1، ص 238.

القائلين بمشروعية الخليفة الأول منذ البداية، لما كان هناك من داع أو دافع لإصراره على عدم البيعة طوال هذه الفترة.

أجل هناك من المؤرخين السنة من حاول لدواع مختلفة أن يثبت بأن الإمام علياً سارع إلى مبايعة الخليفة الأول بعد رحيل النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)مباشرة(1). إلا أن المؤرخين المنصفين من أهل السنة(2)، حتى الذين ينتقدون مواقف الإمام(علیه السّلام)من أمثال ابن حزم(3)، يرفض هذه الأقوال ويعتبرها عديمة للقيمة. بل هناك منهم من أضاف أن الإمام علياً لم يبايع مدة حياة السيدة فاطمة الزهراء، وإنه لم يبايع أبا بكر أحد من بني هاشم إلا بعد وفاة فاطمة(سلام الله علیها).

ج - النشاط السري والعلني والمواجهة المسلحة:

إن نشاط الإمام علي(علیه السّلام)فيما يتعلق باسترجاع حقه في الحكم لم يقتصر على النشاط السلبي فقط، بل بادر إلى العمل في هذا المجال - على ما يراه من المصلحة - بشكل إيجابي وعملي. والمثال البارز على ذلك طواف الإمام على(علیه السّلام)بالسيدة فاطمة الزهراء(سلام الله علیها)والمحسنين(علیهم السّلام)ليلا على بيوت الأنصار بغية إقناعهم في العدول عن بيعتهم لأبي بكر، وإعادة الحقوق إلى

ص: 360


1- انظر: تاريخ الطبري، ج 3، ص 207؛ ابن كثير، السيرة النبوية، ج 4، ص 495 .
2- انظر: أبو الحسن علي المسعودي، التنبيه والإشراف، ص 250؛ ابن واضح اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، ص 126 ؛ البلاذري، أنساب الأشراف، ج 1 ، ص 586 ؛ ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج 2، ص 325؛ ابن الجوزي، تذكرة الخواص، ص 60 . ولا بد من التذكير بأن بعض هذه المصادر أشار إلى هذا الخبر بلفظ (قيل)، مما يدل على ضعفه.
3- انظر: ابن حزم، الفصل، ج 4 ، ص 235 .

أهلها، ولكنه للأسف الشديد لم يحصل على من يؤيّده سوى أربعة أشخاص أو خمسة بحجة أن بيعتنا قد مضت لهذا الرجل وقد روى الإمام علي(علیه السّلام)هذه الحادثة على النحو الآتي:

«ثم أخذت بيد فاطمة وابني الحسن والحسين ثم درت على أهل بدر وأهل السابقة فناشدتهم حقي ودعوتهم إلى نصري، فما أجابني منهم إلا أربعة رهط: سلمان وعمار والمقداد وأبو ذر ، وذهب من كنت أعتضد بهم على دين الله من أهل بيتي، وبقيت بين خفيرتين قريبي العهد بجاهلية: عقيل والعباس»(1).

وقد نقل أبو بكر الجوهري (م 323 ه_) وهو مؤرخ سني عين هذه الحادثة، وأضاف إليها قول الأنصار في الاعتذار للسيدة فاطمة الزهراء(سلام الله علیها)قائلين: «يا بنت رسول الله، قد مضت بيعتنا لهذا الرجل، لو كان ابن عمك سبق إلينا أبا بكر ما عدلنا به، فقال علي: أكنت أترك رسول الله ميتاً في بيته لا أجهزة، وأخرج إلى الناس أنازعهم في سلطانه»(2).

وقد أشار معاوية بن أبي سفيان إلى هذه الحادثة في رسالة بعث بها إلى الإمام، وقد اتهمه فيها بزعمه أنه كان يطالب بالباطل(3).

والشاهد الآخر على ذلك ما صرحت به السيدة فاطمة الزهراء في خطبتها المعروفة حيث تقول:

ص: 361


1- كتاب سُليم بن قيس، ص 146 - 148؛ العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 29، ص 419؛ وأيضاً: موسوعة الإمام علي بن أبي طالب، ج 3، ص 50 فما بعد.
2- السقيفة وفدك ، ص 61 .
3- ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، ج 2، ص 47، وج 11، ص 114.

«إيها بني قيلة! أأهضم تراث أبي وأنتم بمرأى مني ومسمع، ومبتد و مجمع ؟ تلبسكم الدعوة، وتشملكم الخبرة، وأنتم ذا العدد والعدة، والأداة والقوة، وعندكم السلاح والجنة، توافيكم الدعوة فلا تجيبون، وتأتيكم الصرخة فلا تغيثون»(1).

لقد كانت جهود الإمام على(علیه السّلام)في قول الحق والمطالبة به بعد رحيل رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)من الوضوح والصراحة والإصرار بحيث اتهمه المخالفون بالجشع والتهالك على السلطة، فكان جواب الإمام علي عن ذلك قائلاً: «طَلَبْتُ حَقًّا لِي وَأَنْتُمْ تَكُولُونَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ وَتَضْرِبُونَ وَجْهِي دُونَهُ»(2).

وقد اعترف بجهود الإمام علي(علیه السّلام)في هذا السياق حتى المخالفون المنصفون أيضاً(3).

إلا أن هذه الجهود التي قام بها الإمام علي(علیه السّلام)جوبهت - للأسف الشديد - بالإعراض والصدود. وعلى حد تعبير سلمان الذي كان من بين المدعويين أنه لم يستجب لدعوة الإمام سوى 44 شخصاً. فبايعهم على الموت، وأمرهم أن يصبحوا بكرة محلقي رؤوسهم ومعهم سلاحهم، فلما أصبح لم يوافه منهم إلا أربعة: الزبير والمقداد وأبو ذر وسلمان(4).

ص: 362


1- انظر: العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 29، ص 419.
2- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 17 .
3- انظر: ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، ج 11، ص 14؛ أعلام النساء، ج 4 ، ص 114 .
4- انظر: ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، ج 11، ص 14؛ الطبرسي، الاحتجاج، ج 1، ص 188.

حصيلة الكلام أنه بعد كل هذه الجهود والأنشطة التي يمكن القول إنها بلغت حد العمل على إسقاط السلطة بالسبل المشروعة، هل يمكن اتهام الإمام بأنه اختار السكوت ولم يقم بأي عمل يقوّض شرعية السلطة الغاصبة؟!

إن مثل هذه التهمة ليست ظلماً فحسب، بل تؤكد أن القائلين بها لا يمتلكون أدنى معرفة بتاريخ صدر الإسلام. وإلا لما قلبوا الحقائق، وقدموها إلى الناس بشكل معكوس(1).

د - نصوص الإمام(علیه السّلام)بشأن الإمامة :

إذا نحن تجاوزنا جميع هذه الحقائق التاريخية، وقلنا بأن الإمام عليا(علیه السّلام)لم يقم بأي نشاط عملي ضد الحكومات وأنه اختار السكوت، مع ذلك نقول: إن هذا السكوت لا يدل على الرضا ومشروعية خلافة الخلفاء في عصر الإمام علي(علیه السّلام)أيضاً؛ إذ هناك إلى جانب هذا السكوت الكثير من النصوص الدالة على اختصاص الإمامة والحكم بالإمام علي بن أبي طالب، واغتصابها من قبل الآخرين، والانتقادات التي وجهها الإمام بهذا الشأن إليهم، وهذه النصوص تدلّ بأجمعها على عدم رضاه عن الخلفاء وعدم شرعيتهم، وعلى الباحث والمحقق أن يأخذ جميع هذه النصوص بنظر الاعتبار.

الشبهة التاسعة: سكوت الإمام علي(علیه السّلام):

اشارة

اتضح من خلال نقد الشبهة السابقة أن الإمام علياً(علیه السّلام)كان في

ص: 363


1- المزيد من الاطلاع على آراء المتكلمين الشيعة، انظر: السيد المرتضى، الذخيرة، ص 474 ؛ ابن نوبخت، الياقوت، ص 82؛ الحمصي الرازي، المنقذ من التقليد، ج 2، ص 200؛ المحقق اللاهیجی، گوهر مراد، ص 490.

المرحلة الأولى بصدد المواجهة مع مغتصبي الخلافة، ولكنه فوجئ بقلة الناصر؛ فآثر الصبر واضطر إلى كظم غيظه. ومع ذلك هناك من اعتبر سكوت الإمام مدة خمسة وعشرين سنة تأييداً للحكومات التي عاصرها، ورأى في ذلك مؤشراً على العلاقة الودية بينه وبين الخلفاء، أو في الحد الأدنى عدم اعتراضه عليهم، وذهب إلى الاعتقاد بأنه حيث يتمتع الإمام علي(علیه السّلام)بشجاعة لا تنكر، ومعاناة المرشح المنافس له (أبو بكر بن أبي قحافة) من الشيخوخة، لماذا آثر السكوت. أليس السكوت علامة الرضا(1).

مناقشة وتحليل:

تمت الإشارة إلى أن اتهام الإمام(علیه السّلام)بالسكوت في المرحلة الأولى غير مقبول؛ إذ إن الإمام سعى بمختلف السبل - كما تقدم أن ذكرنا - إلى استرجاع السلطة، أو أن يتمّ الحجّة في الحد الأدنى. وأما في المرحلة الثانية حيث اختار الإمام السكوت النسبي، بمعنى عدم قيامه بحركة للاستيلاء على السلطة، لا بمعنى ترك الانتقاد وعدم تصحيح المسار. فهناك لتبريره أدلة مختلفة، وفيما يلي نشير إلى أربعة من الأدلة التي أكد الإمام عليها في النصوص المأثورة عنه بنفسه :

أ - غياب الأنصار:

روي عن الإمام علي(علیه السّلام)، أنه قال: «فَنَظَرْتُ فَإِذَا لَيْسَ لِي مُعِينٌ إِلَّا أَهْلُ بَيْتِي، فَضَنِنْتُ بِهِمْ عَنِ المَوْتِ، وَأَغْضَيْتُ عَلَى الْقَدَى، وَشَرِبْتُ عَلَى الشَّجَا، وَصَبَرْتُ عَلَى أَخْذِ الْكَظَمِ وَعَلَى أَمَرَّ مِنْ طَعْمِ الْعَلْقَمِ»(2).

ص: 364


1- انظر: شرح المقاصد، ج 3، ص 498؛ شرح المواقف، ج 8، ص 386 .
2- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 26 .

ذكر الإمام علي(علیه السّلام)في هذه الخطبة أن أنصاره لم يكونوا سوى أهل بيته، وأن القيام بهم لن يؤدي بهم لغير الشهادة، في حين أن هذا لن يخدم الإسلام، بل إن خسارة الأمة لقائد ومرجع مثل الإمام علي(علیه السّلام) كان سيؤدي إلى خسارة وثلمة لا يمكن لشيء أن يسدها.

وفي رواية أخرى يبرر الإمام علي(علیه السّلام)عدم مواصلة موقفه السلبي من السلطة بقوله: «فنظرت فإذا ليس لي رافد ولا معي مساعد إلا أهل بيتي فضننت بهم عن الهلاك، ولو كان لي بعد رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)عمى حمزة وأخى جعفر لم أبايع كرها [مكرها]، ولكني بليت برجلين - حديثي عهد بالاسلام - العباس وعقيل، فضننت بأهل بيتي عن الهلاك»(1).

وقد صرّح الإمام علي(علیه السّلام)في مواضع أخرى بأنه لو كان معه أربعون رجلاً أو بعدد أصحاب بدر وطالوت، لقام بهم.

ب - عدم حلول الوقت المناسب:

إن الثورة على السلطة القائمة، والعمل على قلب نظام الحكم رهن بتوفّر سلسلة من الشرائط والظروف التي لو اختل واحد منها فإن الثورة سوف تمنى بالفشل. وقد كان الإمام علي(علیه السّلام)ملتفتاً إلى هذه الحقيقة بشكل كامل، من هنا فإنه قابل حث أبي سفيان له بالثورة ومعارضة الخليفة على المستوى العملي، بالقول:

ص: 365


1- المحمودي، نهج السعادة ، ج 5، ص 219؛ كتاب سُليم بن قيس، ص 216، ح 12؛ العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 30، ص 15، وج 29، ص 419؛ مستدرك الوسائل، ج 11، ص 76.

«أَيُّها النَّاسُ، شُقُوا أَمْوَاجَ الفِتَنِ بِسُفْنِ النَّجَاةِ، وَعَرَّجُوا عَنْ طَرِيقِ الْمُنَافَرَةِ، وَضَعُوا تِيجَانَ الْمُفَاخَرَةِ. أَفْلَحَ مَنْ نَهَضَ بِجَنَاحٍ، أَوِ اسْتَسْلَمَ فَأَراحَ. هَذَا مَاءٌ آجِنٌ، وَلُقْمَةٌ يَغَضُّ بِهَا آكِلْهَا، وَمُجْتَنِي الثَمَرَةِ لِغَيْرِ وَقْتِ إِينَاعِهَا كالزَّارع بِغَيْرِ أَرْضِهِ. خلقه وعلمه فَإِنْ أَقُل يَقُولُوا: حَرَصَ عَلَى المُلْكِ، وَإِنْ أَسْكُتْ يَقُولُوا: جَزِعَ مِنَ المَوْتِ »(1).

ج - الحفاظ على وحدة المسلمين:

كما ذكر الإمام علي(علیه السّلام)أن الحفاظ على وحدة المسلمين، والخوف من عودة الناس إلى الكفر، كان من بين الأسباب التي دعته إلى اختيار السكوت والصبر على هضم حقه، إذ يقول:

«وأيم الله لو لا مخافة الفرقة بين المسلمين، وأن يعود الكفر ويبور الدين لكنا على غير ما كنا لهم عليه»(2).

وفي موضع آخر ذكر الإمام أن فلسفة سكوته عن حقه تكمن في رؤيته حالة من الردّة التي سادت الناس على الإسلام، وهو أمر هدد كيان الإسلام وعرض وجوده إلى الخطر، إذ يقول في الكتاب الذي بعثه إلى أهل مصر بيد مالك الأشتر النخعي:

«أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الله سُبْحَانَهُ بَعَثَ مُحَمَّداً(صلی الله علیه و آله و سلم)نَذِيراً لِلْعَالَمِينَ، وَمُهَيْمِناً عَلَى الْمُرْسَلِينَ، فَلَمَّا مَضَى(صلی الله علیه و آله و سلم)تَنَازَعَ الْمُسْلِمُونَ الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ، فَوَالله مَا كَانَ يُلْقَى فِي رُوعِي وَلَا يَخْطُرُ بِبَالِي ، أَنَّ الْعَرَبَ تُزْعِجُ هَذَا الْأَمْرَ مِنْ بَعْدِهِ(صلی الله علیه و آله و سلم)

ص: 366


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 5.
2- المصدر أعلاه، الخطبة رقم: 119؛ ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، ج 1، ص 307.

عَنْ أَهْلِ بَيْتِهِ ، وَلَا أَنَّهُمْ مُنَخُوهُ عَنِّي مِنْ بَعْدِهِ، فَمَا رَاعَنِي إِلا انْثِيَالُ النَّاسِ عَلَى فُلانٍ يُبَايِعُونَهُ، فَأَمْسَكْتُ بِيَدِي يَدِي ، حَتَّى رَأَيْتُ رَاجِعَةَ النَّاسِ قَدْ رَجَعَتْ عَنِ الْإِسْلَامِ، يَدْعُونَ إِلَى تَحْقِ دَيْنِ مُحَمَّدٍ(صلی الله علیه و آله و سلم)، فَخَشِيتُ إِنْ لَمْ أَنْصُرِ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ أَنْ أَرَى فِيهِ ثَلْماً أَوْ هَدْماً تَكُونُ المُصِيبَةُ بِهِ عَلَيَّ أَعْظَمَ مِنْ فَوْتِ وِلاَ يَتِكُمُ الَّتِي إِنَّمَا هِيَ مَتَاعُ أَيَّامٍ قَلَائِلَ، يَزُولُ مِنْهَا مَا كَانَ كَمَا يَزُولُ السَّرَابُ»(1).

د - تنازل الإمام عن حقه:

إن التصدي لمقام الحكم والسلطة لم يشكل هدفاً أولياً وذاتياً للإمام على(علیه السّلام)، بل كان يرى أن الحكومة الدنيوية أقل شأناً وقيمة من النعل الخلق(2). من هنا لم تكن غاية الإمام من المطالبة بالسلطة سوى إحياء الدين الحنيف وبسط تعاليم الإسلام. وحيث تدبّر في ظروف العصر ومقتضياته أدرك أن مصلحة الإسلام والمسلمين تكمن في إيثار الصبر والسكوت وعدم توسيع رقعة الخلاف، وبهذا السكوت لم يتعرّض كيان القرآن والإسلام إلى الخطر، وإن كان يؤدي إلى مصادرة حقه الشخصي الثابت، وهنا ترفّع الإمام عن المطالبة بحقه(3).

إن الإجابة عن هذه الشبهة تتضح من خلال تحليل الشبهة السابقة؛ إذ أشار الإمام إلى فلسفة إيثاره السكوت عن حقه. غير أن الملفت في كلام

367

ص: 367


1- نهج البلاغة، الكتاب رقم: 62؛ مناقب الخوارزمي، ص 313؛ فرائد السمطين، ج 1، ص 320، رقم 251؛ تاريخ مدينة دمشق،ج42 ، ص 434؛ لسان الميزان، ج 2، ص 156؛ كنز العمال ، ج 5، ص 724 .
2- انظر: نهج البلاغة، الخطبة رقم: 33.
3- انظر: مصادر الشبهة السابقة.

الإمام أنه يخص إيثاره وزهده عن حقه الدنيوي فقط، ثم يذكر بيوم القيامة وأن الله سيحكم ويقضي في هذا الشأن، إذ يقول:

«أَمَّا الْاِسْتِبْدَادُ عَلَيْنَا بِهَذَا الْمَقَامِ ، وَنَحْنُ الْأَعْلَوْنَ نَسَباً، وَالْأَشَدُّونَ بِرَّسُولِ الله(صلی الله علیه و آله و سلم)نَوْطاً، فَإِنَّهَا كَانَتْ أَثَرَةً شَجَّتْ عَلَيْهَا نُفُوسُ قَوْمِ، وَسَخَتْ عَنْهَا نُفُوسُ آخَرِينَ ، وَالْحَكَمُ الله وَالمَعُودُ إِلَيْهِ الْقِيَامَةُ»(1).

الشبهة العاشرة: قبول الإمام علي(علیه السّلام)ببيعة أبي بكر:

اشارة

هناك من لا يدقق في الفترة الزمنية لبيعة الإمام علي(علیه السّلام)لأبي بكر، ويعتقد لذلك بأن هذه البيعة تمثل دليلاً على شرعية خلافة الخليفة، وأن الإمام حتى إذا كانت لديه في بداية الأمر بعض الملاحظات على الحكومة، إلا أن هذه الملاحظات قد زالت في المرحلة اللاحقة بعد تأكده من سلامة طوية الخليفة بعد ستة أشهر، فبايعه مختاراً وحلّت العلاقات الطيبة والحسنة محل سوء التفاهم السابق. وبعبارة أخرى: بعد أن لمس الإمام عدالة الخليفة بايعه عن رضا وطيب نفس.

هذا وإن المتقدمين من أهل السنة يذعنون بأن بيعة الإمام علي(علیه السّلام)إنما كانت بيعة ظاهرية، ولم تكن منبثقة عن قناعة داخلية، ولكنهم التزموا بأن الملاك في تحقق البيعة وصحتها هو الظاهر دون السرائر.

ومن ذلك قولهم: «ولا يجوز لقائل أن يقول : كان باطن على والعباس خلاف ظاهرهما، ولو جاز هذا لمدعيه لم يصح إجماع وجاز لقائل أن يقول

ص: 368


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 161 .

ذلك في كل إجماع للمسلمين. وهذا يسقط حجية الإجماع؛ لأن الله عزّ وجل لم يتعبدنا في الإجماع بباطن الناس، وإنما تعبدنا بظاهرهم»(1).

مناقشة وتحليل:

في تحليل بيعة الإمام علي لأبي بكر بن أبي قحافة، وكذلك لعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان، لا بد من التأمل في الأمور الآتية:

أ - الحيلولة دون الكفر والردة:

كما تقدّم أن ذكرنا فإنّ الإمام علياً بعد استيلاء أبي بكر على السلطة امتنع عن مبايعته مدة ستة أشهر كاملة، وبذلك سجل عدم رضاه وأثبت عدم مشروعية الحكم. ولكن في هذه الفترة واجه الإسلام كثيراً من البدع وشتى الانحرافات. فمن جهة خرج مسيلمة الكذاب يدعي النبوة وغر بعض المسلمين واستقطبهم لدينه المزيف، وقد قويت بذلك شوكته حتى شكل جبهة واحدة قوية اعتزم أن يضرب المسلمين بها.

ومن هذه الناحية كان إيمان الناس وكذلك الرقعة الجغرافية للمسلمين في معرض الخطر والزوال، والسقوط بيد الأعداء الخارجيين. وفى هذه الأجواء المشحونة والمتوترة لم يتمكن الإمام من مواصلة موقفه السلبي من الخليفة الأول والإصرار على عدم مبايعته؛ إذ إن إصراره على موقفه لن يقتصر ضرره على شخص الخليفة ومنصب الخلافة فقط، بل قد يعرض إيمان المسلمين وبيضة الإسلام للخطر، أو يؤدي إلى إضعافها في الحد الأدنى. من هنا رأى

ص: 369


1- الإبانة، ص 148 ؛ البغدادي: كتاب أصول الدين، ص 149.

أمير المؤمنين أنه إذا بايع الخليفة الأول وتعاون معه فإن ذلك سيعزز جبهة الإسلام والمسلمين. ومع الالتفات إلى مكانة الإمام علي ومنزلته ودوره المحوري سترتفع معنويات المسلمين وتتمكن الحكومة مدعومة بتأييد الإمام من الوقوف سداً منيعاً فى وجه الكفر والكفار وصد هجمتهم الوشيكة.

ربما تصور القارئ الكريم أن هذا الكلام مجرد تحليل من كاتب هذه السطور أو رأي لعلماء الشيعة في تغريدة منهم خارج السرب يراد منها إثبات أمر لصالح المذهب، إلا أن الحقيقة هي أن هذا الكلام ليس مجرد تحليل وإنما هو تقرير للواقع، والمقرر هو شخص الإمام علي(علیه السّلام)الذي عايش تفاصيل الظروف وجزئياتها، ويعتبره الشيعة معصوماً من الخطأ، ويراه السنة في الحد الأدنى من الصحابة العدول. وقد صرّح الإمام علي(علیه السّلام)بفلسفة بيعته مراراً وتكراراً، ومن ذلك قوله:

«بايع الناس أبا بكر وأنا والله أولى بالأمر وأحق به، فسمعت وأطعت مخافة أن يرجع الناس كفاراً يضرب بعضهم رقاب بعض بالسيف، ثم بايع أبوبكر لعمر ، وأنا والله أولى بالأمر منه فسمعت وأطعت مخافة أن يرجع الناس كفاراً»(1).

كما بين الإمام علي(علیه السّلام)في موضع آخر - ضمن إشارته إلى كراهة مبايعة الخليفة - أن سبب بيعته يكمن في خوفه من تعرض الإسلام والمسلمين للخطر، وقد عبر الإمام عن أن مصيبته في ذلك ستكون أشد من ضياع حقه في

ص: 370


1- مناقب الخوارزمي، ص 313، الفصل 16؛فرائد السمطين، ج 1، ص 320، رقم 251؛ تاريخ مدينة دمشق، ج 42 ص،434؛كنز العمال، ج 5، ص 724.

الخلافة حيث يقول: «فَأَمْسَكْتُ يَدِي حَتَّى رَأَيْتُ رَاجِعَةَ النَّاسِ قَدْ رَجَعَتْ عَنِ الْإِسْلَامِ يَدْعُونَ إِلَى تَحْقِ دَيْنِ مُحَمَّدِصلی الله علیه و آله و سلم)فَخَشِيتُ إِنْ لَمْ أَنْصُرِ الْإِسْلَامَ وَأَهْلَهُ أَنْ أَرَى فِيهِ ثَلْماً أَوْ هَدْماً تَكُونُ المُصِيبَةُ بِهِ عَلَيَّ أَعْظَمَ مِنْ فَوْتِ وِلَايَتِكُمُ الَّتِي إِنَّمَا هِيَ مَتَاعٌ أَيَّامٍ قَلَائِلَ يَزُولُ مِنْهَا مَا كَانَ كَمَا يَزُولُ السَّرَابُ أَوْ كَمَا يَتَقَشَّعُ السَّحَابُ فَنَهَضْتُ فِي تِلْكَ الْأَحْدَاثِ حَتَّى زَاحَ الْبَاطِلُ وَزَهَقَ وَاطْمَأَنَّ الدِّينُ وَتَنَهْنَه»(1).

ب - الحفاظ على وحدة المسلمين:

ذكر الإمام علي(علیه السّلام)أن الحفاظ على وحدة المسلمين والخوف من الردة عن الإسلام إلى الكفر كان من بين الأسباب التي دعته إلى اختيار السكوت وإيثار الصبر، إذ يقول:

«وأيم الله لو لا مخافة الفرقة بين المسلمين، وأن يعود الكفر ويبور الدين لكنا على غير ما كنا لهم عليه»(2).

وبعبارة أخرى أن الإمام كان على مفترق محذورين، فإما أن يُصرّ على المطالبة بحقه على حساب ضياع وزوال أو إضعاف الدين، وإما أن يغض الطرف عن حقه الثابت؛ فاختار الثاني، إلا أن صبره الذي استمر خمسة وعشرين سنة كان بمثابة من يتحمل ألم الشوكة المعترضة في عينه، أو ذاك الذي اعترض عظم في حلقه، إذ يقول: «وَطَفِقْتُ أَرْتَنِي بَيْنَ أَنْ أَصُولَ بيَد جَذَاءَ، أَوْ أَصْبِرَ عَلَى طَخْيَة عَمْيَاءَ ، يَهْرَمُ فيهَا الكَبيرُ ، وَيَشِيبُ فِيهَا الصَّغِيرُ، وَيَكْدَحُ فِيهَا

ص: 371


1- نهج البلاغة، الكتاب: رقم 62 .
2- المصدر أعلاه، الخطبة رقم: 119؛ ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، ج 1، ص 307.

مُؤْمِنٌ حَتَّى يَلْقَى رَبَّهُ فَرَأَيْتُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى هَاتَا أَحْجَى، فَصَبَرَتُ وَفِي الْعَيْنِ قَدَى، وَفي الحَلْقِ شَجاً، أرى تُراثي نَهْباً »(1).

فهل يمكن وصف مثل هذا الشخص الذي يصف حياته طوال خمسة وعشرين سنة في ظل الخلفاء الثلاثة وضياع ميراثه بهذا الوصف بأنه كان راض عن خلافة الخلفاء الذين سبقوه، والادعاء أنه كان قائلاً بشرعية حكمهم؟!

ج - الحيلولة دون سفك الدماء:

لو أن الإمام علياً(علیه السّلام)كان قد اختار الإصرار على عدم بيعة الخليفة الذي استتبت له الأمور، واختار سلوك طريق المخالفة، لأدى ذلك إلى اتساع الشرخ بين المسلمين، بل ولجأ أنصار كلا الطرفين إلى السلاح والاحتكام إلى السيف رغم حاجتهم الماسة إلى الاتحاد فيما بينهم، ولاستعر القتال بينهم . ولكي يحول الإمام دون حدوث هذه الكارثة دعا أنصاره إلى التمسك بالصبر والمداراة والإرشاد والنصيحة، وبادر هو إلى المبايعة ليطوي بذلك صفحة الفتنة وإراقة الدماء بين المسلمين. وقد أشار الإمام إلى هذا السبب في معرض بيان جانب من جوانب فلسفة بيعته للخليفة الأول، على ما تقدم في الفقرة (أ) من تحليل هذه الشبهة ومناقشتها.

د - عدم اعتبار الإجماع:

وأما فيما يتعلق باعتبار الإجماع وكفاية البيعة الظاهرية من الإمام على(علیه السّلام)، فيجب القول :

ص: 372


1- المصدر أعلاه، الخطبة رقم 3؛وانظر أيضاً: موسوعة الإمام علي، ج 3، ص 60 .

أولاً : إن الشيعة يثبتون بالأدلة القطعية أن الحكومة والخلافة أمر منصوص من قبل الله سبحانه وتعالى والنبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)، وفيما يتعلق بالأمر الإلهي لا يكون هناك موضع لانتخاب الناس وحتى إجماعهم من الإعراب، لأن ذلك سيكون من باب تحكيم الآراء والاجتهاد في مقابل النص. مع أن الإجماع لو كان في تأييد الأمر الإلهى، لكان مرضياً الله.

وثانياً: إن المخالفة الباطنية لم تقتصر على الإمام علي(علیه السّلام)والعباس، بل تم تسجيل أسماء كبار الصحابة من أمثال: سلمان الفارسي وأبي ذر الغفاري والمقداد بن الأسود وعمار بن ياسر في الجهة المخالفة، على ما تقدم في الصفحات السابقة. وعليه إذا كان ملاك المشروعية يكمن في إجماع عامة الناس أو خصوص أهل الحل والعقد، فإن اعتبار هذا الإجماع سيخدش بغياب الصحابة المذكورين أعلاه، وإجبارهم على البيعة بالتهديد لاحقاً.

وثالثاً: على فرض القبول بالإجماع، فإن مشروعيته رهن بشرائط يفتقر إليها الإجماع المذكور للأسف الشديد؛ ذلك لأن مرشح السقيفة قد اختير على عجل وفي غياب الصحابة الكبار، وأما البيعة العامة والجماعية فقد تمت بالتهديد والإكراه أو الترغيب وشراء الذمم، وهذا الأمر يُفقد الإجماع مصداقيته.

ورابعاً: إن مقام الإمامة وعناصرها وأركانها الرئيسة لا تنحصر في الركن الحكومي والقيادة السياسة حتى يتحقق أو ينعدم بالإجماع من قبل البعض، بل إن العنصر الأساس في الإمامة يتمثل بالمرجعية العلمية والدينية، وهذا يقترن بعلم الغيب والعصمة، وتعيين مثل هذا الفرد الذي يتصف بهذه الخصال، خارج عن صلاحية الإجماع.

ص: 373

الشبهة الحادية عشرة: المشاركة في شورى تعيين الخليفة الثالث:

اشارة

قام الخليفة الثاني عمر بن الخطاب في آخر أيام حياته بتقديم صيغة لانتخاب الخليفة التالي له من خلال شورى مؤلفة من ستة أشخاص، وهم كل من: علي بن أبي طالب(علیه السّلام)، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وعثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص(1). وإن الإمام من خلال مشاركته في هذه الشورى أثبت على المستوى العملى مشروعية خلافة عمر بن الخطاب، كما أيّد صيغته المقترحة لتعيين الخليفة الثالث؛ إذ لو لم يكن مؤمناً بأصل خلافة عمر ؛ لوجب عليه رفض أوامره وأعلن عن انصرافه ورفضه للشورى المذكورة عملياً، في حين أن الإمام علي(علیه السّلام)لم يقم بذلك، وإنما شارك في هذه الشورى، وبذلك حكم بشرعية خلافة الخليفة الثاني وأمره بتشكيل الشورى المذكورة.

كان هذا الدليل منذ قرون ولا يزال يتم طرحه - من قبل المتكلمين من قدماء أهل السنة ومعاصريهم - بوصفه واحداً من الأدلة على فقدان الدليل على التنصيب فيما يتعلق بأمر الحكومة ومشروعية خلافة الخلفاء الراشدين(2).

ص: 374


1- انظر: الطبقات الكبرى، ج 3، ص 61 ؛ كنز العمال، ج 5، ص 732؛ ابن الأثير، الكامل في التاريخ ، ج 3، ص 66 ؛ تاريخ الطبري، ج 2، ص 750؛ مؤسسة الإمام علي ، ج 3، ص 97.
2- انظر: القاضي عبد الجبار المعتزلي، المغني، كتاب الإمامة ، ج 20؛ ابن حزم، الفصل، ج 3، ص 15؛ ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، ج 12، ص 256-271، ج 1، ص 189 ، ج 18 ، ص 415 ؛ أحمد الكاتب، تطور الفكر السياسي الشيعي، ص 23.

هذا بالإضافة إلى أننا إذا أمعنا النظر برجال الشورى سندرك جيداً أن مآل الأمور لا محالة ستصب في مصلحة عثمان بن عفان، فما عفان(1)؛ فما هي حجة الإمام علي(علیه السّلام)في المشاركة في هذه الشورى؟

مناقشة وتحليل:

فيما يتعلق بتحليل هذا الدليل أو الشاهد، يجدر التأمل في الأمور الآتية :

أ - دفع شبهة العلمانيين:

إن الأمر الأول الذي يبدو من مشاركة الإمام في الشورى المحدّدة من قبل الخليفة، هي أن هذه المشاركة تأتي في سياق دفع شبهة ابتعاد الإمام عن ممارسة السياسة، حيث تم طرح هذه الشبهة منذ قرون، واليوم يتم طرحها والترويج لها بشكل أشد وأقوى. حيث يسعى أنصار القول بالفصل بين الدين والسياسة إلى التشبث بكل ذريعة لتأييد مدعاهم. وقد تقدم في الصفحات السابقة أنهم اتخذوا من سكوت الإمام، وعدم قيامه بشيء من أجل الحصول

ص: 375


1- الملفت في البين أن عمر بن الخطاب نفسه قد جعل المناط فيما لو تعادلت الكفة بين المرشحين، بأن انقسم أعضاء الشورى على أنفسهم ثلاثة ثلاثة، كأن يقوم اثنان منهم على انتخاب شخص، واثنان آخران علی انتخاب شخص آخر، كان الترجيح للكفة التي يكون فيها عبد الرحمن بن عوف، وأمر عمر بن الخطاب بقتل الثلاثة الآخرين إن أصروا على المعارضة. ومن خلال توليفة الشورى يتضح بالالتفات إلى كون عبد الرحمن بن عوف صهراً لعثمان وابن عم لسعد أنهما سيتفقان على عثمان، وبذلك يستبعد الثلاثة الآخرون بمن فيهم علي بن أبي طالب(علیه السّلام). وهذا ما صرح به الإمامعلى(علیه السّلام)بنفسه وكذلك ابن عباس وآخرون (انظر: نهج البلاغة، الخطبة الثالثة؛ موسوعة الإمام علي ، ج 3، ص 118 و 127).

على السلطة، وكراهته لتولي الخلافة بعد مقتل عثمان بن عفان، دليلاً على تأیید دعواهم.

وفيما يتعلق بمسألة الشورى، لو لم يشارك الإمام علي(علیه السّلام)فيها لاتخذ العلمانيون هذا الموقف منه ليثبتوا على الفور أنه يصب في تأييد نظريتهم ومقالتهم.

ولكي لا يعمل أنصار العلمانية على مصادرة عدم مشاركة الإمام في الشورى المذكورة لصالحهم، بادر الإمام إلى المشاركة فى هذه الشورى بوصف ذلك تكليفاً إلهياً تعين عليه القيام به.

ب - إتمام الحجة :

على الرغم من ان نتيجة الشورى كانت محسومة سلفاً (على ما مرّ توضیحه في هامش الصفحة السابقة)، إلا أنه لو لم يشارك الإمام فيها لكان هناك احتمال أن يصف الشيعة وغيرهم موقف الإمام بالضعف وعدم الاهتمام في أمر سيادة الدين، وأنه كان بالإمكان في حال مشاركته أن يحصد أصوات الغالبية بالنظر إلى سابقته في الإسلام، وفضله على جميع الصحابة، مضافاً إلى امتلاكه لرصيد النص الإلهي القاضي بتنصيبه إماماً وخليفة على المسلمين من قبل شخص النبي الأكرم(علیه السّلام)في غدير خم وكثير من المواطن الأخرى. وقد أثبت الإمام علي(علیه السّلام)من خلال حضوره ومشاركته في الشورى مدى ابتعاد أعضاء الشورى عن الحق وانحيازهم إلى القرابة على إحقاق الحق. وبعبارة أخرى: إن الإمام من خلال مشاركته سجل مظلوميته ومظلومية العدالة والحق على طول التاريخ. أما لو امتنع الإمام عن المشاركة في الشورى؛ لاتهمه التاريخ بأنه من خلال اعتزال الشورى قدّم السلطة والحكم لغير الكفوئين

ص: 376

وغير الصالحين على طبق من ذهب، وبذلك يعد بنحو من الأنحاء شريكاً في الجريمة(1).

ج - تجنّب الخلاف والحفاظ على وحدة المسلمين وتماسكهم:

لو لم يشارك الإمام علي عليه السلام في الشورى المذكورة، لعمّت الخلافات والنزاعات الأمة الإسلامية ثانية، إذ إن عدم مشاركة الإمام فيها بمنزلة مواجهة السلطة والخليفة الجديد، وفي هذه الصورة سيعمد شيعة الإمام إلى التأسي بموقفه، وعندها سيدخلون في جدال ونزاع وصراع مع أنصار السلطة، ولا يخفى أن هذا الأمر سيؤدي إلى الفرقة بين صفوف المسلمين، وهذا سيؤدي بدوره إلى إضعاف أصل الإسلام. من هنا فإنّ الإمام علياً(علیه السّلام)رغم علمه بنتيجة الشورى، آثر مصلحة الإسلام على مصلحته الخاصة. هذا مضافاً إلى أن عدم مشاركة الإمام علي(علیه السّلام)في تلك الشورى المقترحة من قبل عمر بن الخطاب كان سيفسّر على أنه غمز وطعن في الخليفة الثاني، ولكان وقع ذلك على أتباعه - الذين يمثلون غالبية الناس الاعتياديين - ثقيلاً، وهو أمر من شأنه أن يوسع من شرخ الخلافات والصراعات الداخلية بين المسلمين.

د - نقض موقف الخليفة الثاني:

إن من بين أسباب مشاركة الإمام في الشورى المقترحة من قبل عمر بن الخطاب، أن عمر روى عن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)حديثاً مزعوماً يقول: إن

ص: 377


1- المراد من الجريمة هنا في الحد الأدنى ما قام به عثمان بن عفان من الانفاق العبثي للأموال، وتوزيع موارد بيت المال على أقربائه وأفراد حاشيته، الذي بلغ في بعض الموارد حدود الاستهتار، حتى كان ذلك واحداً من أسباب النقمة والثورة الشعبية عليه والتي أدّت إلى مقتله على ما هو مسجل في المصادر التاريخية.

النبوة والإمامة لا تجتمع في بيت واحد (البيت الهاشمي). وبعد تسمية الإمام علي(علیه السّلام)من قبل عمر نفسه بوصفه مرشحاً لاستلام الحكم والخلافة يكون قد ناقض نفسه بنفسه.

وقد أشار الإمام علي(علیه السّلام)إلى هذه الناحية في معرض رفضه اقتراح ابن عباس في عدم المشاركة في مهزلة الشورى بعد أن كانت النتائج معلومة سلفاً، وأنها ستؤدي لا محالة إلى انتخاب عثمان بن عفان، إذ قال له الإمام(علیه السّلام):

«أنا أعلم ذلك، ولكني أدخل معهم في الشورى؛ لأن عمر قد أهلني الآن للخلافة وكان قبل ذلك يقول : إن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)قال : إن النبوة والإمامة لا يجتمعان في بيت، فأنا أدخل في ذلك؛ لأظهر للناس مناقضة فعله لروايته»(1).

ومن الواضح أنه إذا لم يتم إثبات زيف الرواية التي يرويها عمر بن الخطاب عن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)القائمة على عدم الجمع بين النبوة والإمامة، لصار هذا الحديث المكذوب على لسان رسول الله مستمسكاً بيد الخصوم بعد مقتل عثمان، ولجعلوه دليلاً على عدم شرعية خلافة وإمامة الإمام علي(علیه السّلام)وسائر الأئمة من أبنائه المعصومين(علیهم السّلام). وسيؤدي ذلك إلى الانحراف عن ركن رئيس من أركان الدين وهو ركن الإمامة.

ه_ - نفي تهمة الاستبداد بالرأي:

إن عدم مشاركة الإمام علي(علیه السّلام)في الشورى المذكورة كان يترتب

ص: 378


1- ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة ، ج 1، ص 189، وج 10، ص 285؛ موسوعة الإمام علي(علیه السّلام)، ج 3، ص 119 .

عليه لازم سلبي، وهو أن أكثر العوام من الناس سوف يفسرون عدم مشاركته على أنها ترفع منه على سائر الصحابة من منه على سائر الصحابة من أعضاء الشورى، وأنه يرى نفسه فوق الجميع، وهذا يحمل في طياته نوعاً من الاستبداد بالرأي والتكبّر والاستعلاء على الآخرين. من هنا كان ما قام به الإمام من المشاركة في الشورى دفعاً لهذا المحذور.

و - روايات وسلوك الإمام ناقض المشروعية الخلفاء:

قد تطرح هنا شبهة مفادها: أنّ الإمام عليا(علیه السّلام)من خلال مشاركته في الشورى، يمنح الشرعية للخليفتين السابقين بالإضافة إلى الخليفة الثالث على المستوى العملى. إلا أن الأجيال اللاحقة تدرك من خلال قراءتها للروايات المأثورة عنه ودلالتها على اغتصاب الخلفاء السابقين لحقه، مضافاً إلى احتجاجاته المتكررة على أصل التنصيب في كثير من المواطن، بما في ذلك الشورى نفسها(1)، ولذلك لا تكون هذه الشبهة جديرة بالطرح. لأن مشاركة الإمام في الشورى تأتي في سياق كثير من الأسباب الأخرى التي تقدم ذكرها، ولا ربط لها بمسألة مشروعية الخلافة. نعم لو لم يكن الإمام قد ذكر تلك النصوص في نقد ما قام به الخلفاء السابقون، وما احتج به من الروايات حتى في معقد الشورى نفسها(2)، لكان هناك متسع لمثل هذا الاحتمال. إلا أن النصوص الواردة عن الإمام(علیه السّلام)لا تبقي مجالاً لطرح هذه الشبهة.

ص: 379


1- انظر: كنز العمال ، ج 5، ص 724 ، ح 14243؛ الصواعق المحرقة، ب 11؛ مناقب الخوارزمي، ص 213 .
2- انظر: الطبرسي، الاحتجاج، ج 1، ص 197 ؛ الغدير، ج 1، ص 160، وج 3، ص133.

علاوة على ذلك فإن الإمام علياً(علیه السّلام)بين موقفه السلبى من الخليفتين الأولين في ذات الشورى نفسها، وذلك عندما تقدم عبد الرحمن بن عوف نحوه في حركة استعراضية اقترح فيها عليه مبايعته بشرط أن يعمل بسنة النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)وسيرة الشيخين (أي الخليفتين السابقين: أبو بكر بن أبي قحافة وعمر بن الخطاب). فأكد الإمام علي(علیه السّلام)له أنه لا يعمل إلا بسيرة النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)واجتهاده ورأيه. وبذلك يكون الإمام علي(علیه السّلام)قد صرح بكراهته ومعارضته السيرة الخليفتين السابقين، مما يثبت عدم شرعية سيرتيهما. مضافاً إلى تذكيره بأن موافقة منافسه عثمان بن عفان على هذا الشرط لا ينسجم مع أصل الكتاب وسنة رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)وبذلك يكون الإمام على(علیه السّلام)قد أثبت عدم مشروعية الخليفتين السابقين وكذلك عدم مشروعية خلافة الخليفة الثالث (عثمان بن عفان) أيضاً.

الشبهة الثانية عشرة: رفض التصدي للخلافة بعد مقتل الخليفة الثالث:

اشارة

إن من بين الأدلة الأدلة التي يتمسك بها أهل السنة لإثبات عدم وجود النص على أصل التنصيب والإمامة والخلافة، رفض علي لقبول الخلافة عندما عرضت عليه من قبل الأمة بعد مقتل عثمان بن عفان؛ حيث روي عنه قوله: «دعوني والتمسوا غيري»(1). يقول أهل السنة: لو كان هناك نص على إمامة الإمام على(علیه السّلام)وخلافته، لكان عليه المسارعة إلى قبول هذا العرض والترحيب به، ولقام بتشكيل الحكومة التى يرتضيها، وإلا كان مصداقاً لتارك

ص: 380


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 92.

الواجب الديني(1).

كما يتم التسويق لهذه الشبهة حالياً من قبل بعض العلمانيين من الشيعة أيضاً، ويستفيدون منها صحة ما يذهبون إليه من الفصل بين الدين والسياسة قائلين: إن رفض الإمام لاستلام الحكم لم يكن رفضاً للقيام بواجب ديني، وإنما هو يرفض بذلك الاضطلاع بمهمة ومسؤولية دنيوية لا ربط لها بالفرائض والأحكام الدينية التي لا تترك بحال(2).

مناقشة وتحليل:

قبل الخوض في مختلف التبريرات، لا بد من الإشارة إلى هذه النقطة والإجابة الكلية، وهي أنه حتى على فرض عدم اتضاح الإجابة عن هذه الشبهة، لا يمكن لنا أن نستنتج من مجرد كراهة الإمام علي(علیه السّلام)لتولي منصب الحكم، بطلان نظرية التنصيب؛ ذلك لأن هذه النظرية قد ثبتت بالأدلة المتقنة والمحكمة المدعومة بالأحاديث المأثورة عن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)والأئمة الأطهار(علیهم السّلام)، وخاصة الإمام علي(علیه السّلام)نفسه، وإن مجرد الغموض في قضية تاريخية لا يمكن أن يخدش بها أو يضعفها. هذا مع أنّ هذه الخطبة ذاتها وامتناع الإمام عن استلام الحكم له تبريرات وأدلة تنسجم مع نظرية التنصيب، وفيما يأتي نشير إليها على النحو الآتي:

ص: 381


1- انظر: ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة ، ج 7، ص 34؛ الفخر الرازي، الأربعين، الفصل الرابع، ص 76؛ شرح المقاصد، ج 5، ص 262؛ دلائل الصدق، ج 2، ص 21 و 33؛ أحمد الكاتب، تطور الفكر السياسي الشيعي، ص 23.
2- انظر: مهدي حائري يزدي، حكمت و حکومت، ص 144؛ مهدي بازركان، آخرت وخدا هدف بعثت، ص 45.

أ - الاعتراض على سيرة الخلفاء السابقين:

طبقاً لعلم التفسير والتأويل والهرمنيوطيقا - الذي أشبعه المستنيرون شرحاً وبياناً - لابد في تفسير كلام ما من ملاحظة الظروف والثقافة التي تحيط بفترة صدور ذلك الكلام. ومن بين الأمور التي تساعد على فهم الكلام بيان الدافع والمخاطبين بالكلام، وهو ما يعبر عنه في علم التفسير ب_(شأن النزول». وعلى هذا الأساس لا ينبغي التسرع في تفسير هذه الخطبة والاستناد إلى ظاهرها والاحتجاج بها في أخذ المدعى، بل لا بد أولاً من بيان «شأن نزولها».

ذكر ابن أبي الحديد المعتزلي في شرحه أنه بعد مقتل الخليفة الثالث «عثمان بن عفان أقبل بعض كبار القوم على الإمام علي بن أبي طالب(علیه السّلام)واقترحوا عليه البيعة والخلافة على أن يعمل بكتاب الله وسنة النبي وسنة الخلفاء السابقين، فرفض الإمام هذا الشرط ؛ لاعتقاده ببطلان سيرة الخلفاء السابقين وعدم شرعيتها(1). إذ إن قبول هذا الشرط يعني إمضاء سنة الخلفاء السابقين. وهنا قال الإمام علي لأصحاب هذا المقترح المشروط: دعوني

ص: 382


1- وقد سبق أن حدث ما يشبه هذا الموقف بعد موت عمر بن الخطاب. حيث جعل عمر - الخلافة بعده الشورى مؤلفة من ستة أشخاص. وفي هذه الشورى انسحب الزبير لصالح الإمام علي(علیه السّلام)، وانسحب طلحة لصالح عثمان، وانسحب سعد بن أبي وقاص لصالح عبد الرحمن بن عوف. ثم انسحب عبد الرحمن من المنافسة حاملاً معه رصيده سعد بن أبي وقاص ليمثل بذلك بيضة القبان ترجح الكفة التي يرجحها، وهنا أقبل أولاً على الإمام علي(علیه السّلام)وقال له: أبايعك على أن تتبع كتاب الله وسنة رسول الله وسيرة الشيخين إلا أن الإمام رفض الشرط الأخير وألزم نفسه بالعمل بكتاب الله وسنة رسول الله فقط. ومن هنا مال عبد الرحمن إلى عثمان بن عفان ليعرض عليه البيعة بنفس الشروط، وهذا ما وافق عليه عثمان بن عفان فأصبح هو الخليفة. (انظر: شيخ الإسلام، ترجمة نهج البلاغة، الخطبة رقم:3).

والتمسوا من يوافق على هذه الشروط وعليه فإن الإمام علياً(علیه السّلام)لم يكن يرفض أصل استلام الحكم والسلطة، وإنما كان يرفض الحكم الذي يحمل في دستوره مادة تفرض عليه اتباع أمر أو سياسة لم يكن مقتنعاً بها أو كان يرى خلافها، وهي سيرة الخلفاء الذين سبقوه.

ب - إتمام الحجة:

إن الإمام علياً(علیه السّلام)في الحقيقة لم يرد من وراء رفض الحكم الامتناع عن أصل ممارسة الولاية والسلطة، وإنما كان يريد تعريف الناس بهوية حكومته، وإن من أهم أركانها العمل بكتاب الله وسنة رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)ورأيه الخاص، من دون سيرة من سبقه من الخلفاء، وذلك كي يبايعه الناس عن بصيرة من أمرهم، فلا يقولوا بعد توليه السلطة: وا سنة أبي بكر! أو وا سنة عمراه! ويتخذون ذلك ذريعة لمعارضة حكومة الإمام الفتية؛ إذ إنّه قد أتم عليهم الحجة منذ البداية، وبيّن لهم طبيعة حكومته وماهيتها، وهذا ما يتضح من خلال عبارات ذات الخطبة التى غابت عن أنظار القائلين بمبدأ فصل الدين عن السياسة، وذلك حيث يصرح(علیه السّلام)قائلاً:

«وَاعْلَمُوا أَنِّي إِنْ أَجَبْتُكُمْ رَكِبْتُ بِكُمْ مَا أَعْلَمُ، وَلَمْ أُصْغِ إِلَى قَوْلِ الْقَائِلِ وَعَتْبِ الْعَاتِبِ»(1).

ج - التنبؤ بالفتن القادمة:

إن الإمام علياً(علیه السّلام)في هذه الخطبة ذكر أن السبب الآخر الذي يدعوه إلى الامتناع عن قبول الحكم والخلافة، هو أن ممارسات الخلفاء السابقين قد

ص: 383


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 91.

تركت وراءها كثير من الألغام التي ستجعل المستقبل حافلاً بالصواعق المتفجرة، وإن إبطال مفعولها سيخلق كثيراً من المشاكل المريرة على المستوى الداخلي، وإن كثيراً من الشخصيات المرموقة، من أمثال: عائشة وطلحة والزبير وغيرهم، لن يخرجوا من التجربة القادمة مرفوعي الرأس، إذ إنّهم لن يتحملوا حكومته العادلة، وذلك إذ يقول(علیه السّلام):

دَعُونِي وَالْتَمِسُوا غَيْرِي؛ فَإِنَّا مُسْتَقْبلُونَ أَمْراً لَهُ وُجُوهٌ وَأَلْوَانٌ، لَا تَقُومُ لَهُ الْقُلُوبُ، وَلَا تَثْبُتُ عَلَيْهِ الْعُقُولُ ، وَإِنَّ الْآفَاقَ قَدْ أَغَامَتْ، وَالمُحَجَّةَ قَدْ تَنكَّرَتْ»(1).

ومن ثَمَّ فإن حكومة الإمام القصيرة بدلاً من أن تمكنه من نشر الإسلام، استهلكت الطاقة فى الإصلاحات الداخلية وتغيير نفوس الأعداء والمخالفين من إخوته في الإسلام.

بعبارة أخرى: يبدو أن الإمام(علیه السّلام)اعتبر الفترة غير مناسبة كي يمسك بمقاليد الأمور ، وذلك لأن الشبهات والفتن قد لوثت أذهان حتى المخلصين من الصحابة، وإن الفساد قد عم غالبية الناس، بحيث أنهم لن يكونوا قادرين على التمييز بين الحق والباطل.

إلا أن تطبيق العدالة - مهما كانت فترة الحكم قصيرة - والعمل بعهد من الدفاع عن حقوق المظلومين، وإجماع الناس عليه وإعلانهم الاستعداد للبيعة، خلق للإمام تكليفاً إلهياً يتمثل في الاستجابة لطلب الناس رغم عدم

ص: 384


1- المصدر أعلاه. ولمزيد من التوضيح انظر: مرتضى المطهري، امامت و رهبري، ص 139-140؛ ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، ج 7، ص 34.

رغبته بذلك، نظراً لثقل المسؤولية. وقد بيّن الإمام على(علیه السّلام)سبب قبول الخلافة رغم زهده فيها قائلا:

«أَمَا وَالَّذِي فَلَقَ الحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ ، لَوْ لَا حُضُورُ الْحَاضِرِ ، وَقِيَامُ الحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ ، وَمَا أَخَذَ الله عَلَى الْعُلَماء أن لا يُقَارُّوا عَلَى كِظَلَّةِ ظَالِمٍ وَلَا سَغَبِ مَظْلُوم، لألْقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا، وَلَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسٍ أَوَّلِهَا، وَلَأَلْفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هَذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْزِ»(1).

د - دفع شبهة التهالك على الحكم والسلطة:

من خلال التدبّر في هذه الخطبة يمكن لنا أن نستنتج سبباً آخر يدعو الإمام إلى رفض الخلافة، ذلك أنه أراد أن يفهم الناس أنه ليس له أدنى طمع أو تهالك على الحكم والسلطة، وإن ما صدر عنه سابقاً من الشكوى والتذمر من اغتصاب السلطة وإبعاده عنها إنما كان لأجل العمل بوصية النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)وأنه الأصلح لقيادة الأمة وإحياء الدين والشريعة. وهذا ما يمكن فهمه من خلال وصفه للخلافة لو لا العدل بقوله(علیه السّلام): «لَأَلْفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هَذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْز».

ه_ - الشكوى من الناس:

ومما ذكره بعض شارحي هذه الخطبة على ما نقله ابن أبي الحديد المعتزلي، أن الإمام علياً(علیه السّلام)يريد بهذا الرفض الشكوى من الناس، إذ يقول: وقد حمل بعضهم كلامه(علیه السّلام)على محمل ،آخر ، فقال: هذا كلام مستزيد شاك من أصحابه يقول لهم: «دعوني والتمسوا غيري» على طريق الضجر منهم

ص: 385


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 3.

والتبرم بهم والتسخط لأفعالهم؛ لأنهم كانوا عدلوا عنه من قبل واختاروا عليه فلما طلبوه بعد أجابهم جواب المتسخط العاتب(1). فهو من قبيل المثل القائل: إنكم جئتم بعد خراب البصرة

و - نفي صلاحية الناس والاستهزاء بهم:

إن من بين المحامل والوجوه التي ذكرها بعض شراح هذه الخطبة ما ذكره ابن أبي الحديد المعتزلي إذ يقول : وحمل قوم منهم الكلام على وجه آخر، فقالوا: إنه أخرجه مخرج التهكم والسخرية، أي أنا لكم وزيراً خير مني لكم أميراً، فيما تعتقدونه، كما قال سبحانه: ﴿ ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ﴾(2)أي: تزعم لنفسك ذلك وتعتقده(3)!

واضح أن الإمام في هذا الكلام ليس بصدد نفي أهليته وصلاحيته لتولي الحكم والسلطة وقيادة المجتمع الإسلامي، في حين أنه صرح في كثير من الموارد بحقه وصلاحيته الحصرية في التصدّي لهذا الأمر، ومن ذلك قوله:

«أَمَا وَالله لَقَدْ تَقَمَّصَهَا فُلَانٌ [ ابن أبي قحافة ]، وَإِنَّهُ لَيَعْلَمُ أَنَّ مَحَلِّي مِنْهَا مَحَلُّ الْقُطْبِ مِنَ الرَّحَى، يَنْحَدِرُ عَنِّي السَّيْلُ، وَلَا يَرْقَى إِلَيَّ الطَّيْرُ»(4).

الشبهة الثالثة عشرة: تعاون الإمام علي(علیه السّلام)مع الخلفاء:

هناك من يذهب إلى القول بأنه لو كان هناك نص صادر عن النبي

ص: 386


1- ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة ، ج 7، ص 28.
2- الدخان: 49.
3- ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، ج 7، ص 28 - 29 .
4- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 3.

الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)، ينص على خلافة الإمام علي(علیه السّلام)وإمامته ؛ لكانت الخلافة حقاً حصرياً من حقوقه، ولا يحق لغيره منازعته عليه، ولو نازعه عليه كان غاصباً وظالماً، ومعلوم أن الظالم والغاصب يحرم التعاون معه. وحيث ثبت أن الإمام علياً(علیه السّلام)قد تعاون مع جميع الخلفاء الثلاثة الذين سبقوه، وكان يحضر جماعتهم، وينصح لهم في المشورة، ويتمّ أحياناً استخلافه في غيبتهم. وفي بداية خلافة أبي بكر كان المرتدون بصدد الهجوم على المدينة المنورة؛ فانضم الإمام إلى جيش الخليفة برفقة طلحة والزبير وابن مسعود تولى مهمة حراسة المنافذ الرئيسة المؤدية إلى المدينة(1).

وفى سنة 14 للهجرة ترك عمر بن الخطاب المدينة لتجهيز جيش، فوافق الإمام على الحلول محله في إدارة شؤون المدينة(2).

كما كانت علاقة الإمام علي(علیه السّلام)مع الخليفة الثانى أكثر من علاقته بسائر الخلفاء الآخرين، وكانت نصائحه العلمية والدينية والعسكرية أشهر من نار على علم.

وعليه يتضح من ذلك كله أن الإمام عليا(علیه السّلام)كان ينظر إلى من سبقه من الخلفاء بوصفهم خلفاء شرعيين، وليسوا غاصبين وظالمين، وبذلك كان يضفى عليهم نوعاً من التأييد والشرعية، ومن ثَمَّ فإن هذا يثبت عدم وجود نص على تنصيبه من قبل النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)، وإلا لكانوا غاصبين وظالمين لحقه، ولما جاز له أن يتعاون معهم، وفي ذلك يقول ابن أبي الحديد المعتزلي:

ص: 387


1- انظر: الكامل في التاريخ، ج 2، ص 344.
2- انظر: تاریخ ابن خلدون، ج 2، ص 91؛ الكامل في التاريخ، ج 2، ص 450؛ تاریخ الطبري، ج 2، ص 611 .

«فلو أنه أنكر إمامتهم وغضب عليهم وسخط فعلهم فضلاعن أن يشهر عليهم السيف أو يدعو إلى نفسه، لقلنا إنهم من الهالكين ... ولكنا رأيناه رضي إمامتهم وبايعهم وصلى خلفهم وأنكحهم وأكل من فيئهم فلم يكن لنا أن نتعدى فعله ولا نتجاوز ما اشتهر عنه»(1).

وهناك من المعاصرين من يستنتج من تعاون الإمام علي(علیه السّلام)مع الخلفاء في المسائل السياسية وشؤون الحكم نوعاً من المشروعية والتأييد الإجمالي لحكم الخلفاء الذين سبقوه، ولو على نحو الضرورة والأحكام الثانوية. فهؤلاء بطبيعة الحال لا ينكرون وجود النص، ولكنهم يرونه عنواناً أولياً، وإنه عند عدم العمل به يتم الانتقال إلى المرحلة الثانية وهي الانتخاب والبيعة من قبل الناس، وهي مرحلة مشروعة أيضاً ويجوز التعبد بها(2).

مناقشة وتحليل:

الأمر الدقيق الذي ينبغي بيانه قبل كل شيء هو أن الحكومات والخلفاء الذين سبقوا الإمام علياً(علیه السّلام)كانوا من وجهة نظر الشيعة وشخص الإمام علي(علیه السّلام)،من المسلمين، وكانوا في الجملة من أتباع الإسلام والنبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)، ولم يكن الأمر كما لو أن الشيعة يكفّرون الخلفاء الثلاثة الأوائل، ويخرجونهم من الملة، كما قد يبدو شائعاً بين أهل السنة.

ص: 388


1- ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، ج 20 ، ص 221؛ وانظر أيضاً: ابن حزم الظاهري، الفصل ، ج 3، ص 15 .
2- انظر: محمد واعظ زادة الخراساني، فصلية كتاب نقد، العدد: 19، صيف عام ه_ ش، ص 24؛ مجلة نهج البلاغة، العدد: 4 البلاغة، العدد 4 و 5 ، ص 177. علينا التذكير هنا بأننا سنذكر بعض عباراته ضمن التبرير الرابع في فصل التبريرات والتخريجات.

غاية ما هنالك أن الخلفاء والساسة في حينها لم يعطوا الحق إلى صاحبه بعد رحيل رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)، بل اغتصبوا حقه في الخلافة وحلّوا محله ظلماً وعدواناً، وبذلك يكونون قد اقترفوا معصية. ولو أن الذي يتبنى الرؤية السنية كان منصفاً في إيمانه بصدق الإمام علي(علیه السّلام)كما السلام كما يصرح أهل السنة بذلك، فعلية أن يلتزم بكلام الإمام علي ويعتبره حجّة على نفسه. وقد تقدّم أن نقلنا في الصفحات السابقة تصريحات الإمام علي في بيان سلب حقه المسلّم بمختلف الطرق، وبين موقفه الناقد للخلفاء الذين عاصرهم.

وعليه لابد من أن نذعن أولاً بأن الخلفاء الذي تولوا منصب الخلافة بعد رسول الله كانوا من وجهة نظر الإمام علي(علیه السّلام)فاقدين للشرعية من ناحية النصوص الدينية. ولكن على أي حال فإنهم جلسوا على سدة الحكم لسبب وآخر - سواء من طريق البيعة أو غيرها - وقاموا بتطبيق الأحكام والحدود الإسلامية إلى حد ما (بغض النظر عن قيام بعضهم بما يخالف سيرة النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)في بعض الموارد، من قبيل: تحريم المتعة). ومن جهة أخرى كان أعداء الإسلام من المنافقين والكفار والمرتدين يتربصون بالإسلام الدوائر بغية الانقضاض عليه وإضعاف حكومته الفتية، وفي ظل هذه الظروف الخطيرة كان الحفاظ على أصل الإسلام (بغض النظر عن هوية الخليفة والحاكم) و حفظ وحدة المسلمين وتماسكهم من أهم الواجبات الأولية والأساسية، من هنا قام الإمام بالتنازل عن حقه الثابت، وغض الطرف عنه مؤقتاً، وقام بالتعاون مع الخلفاء الذين سبقوه في حدود الإمكان.

وسنذكر مزيداً من التوضيح في معرض الإجابة عن شبهة علة سكوت الإمام على(علیه السّلام)و عدم مطالبته بحقه الثابت في الإمامة والخلافة.

ص: 389

الشبهة الرابعة عشرة: اقتداء الإمام علي(علیه السّلام)بصلاة الخلفاء:

اشارة

إن من بين الشبهات الأخرى قولهم: إن الخلفاء الذين عاصرهم الإمام على(علیه السّلام)لو كانوا ظالمين وغاصبين لحقه، فلماذا كان الإمام يشارك في اجتماعاتهم العبادية، ويقتدي بإمامتهم في الصلاة؟(1)أليست العدالة شرطاً في إمام الجماعة؟ وإذا كان هناك من محمل يمكن لنا أن نحمل عليه تصرف الإمام علي(علیه السّلام)على المستوى الديني والاجتماعي في تعاونه مع الخلفاء، وقلنا بأنه كان في ذلك يراعي مصلحة الحفاظ على بيضة الإسلام، فبماذا يا ترى نبرر اقتداءه بهم في صلاة الجماعة ؟

وقد ذكر ابن أبي الحديد اقتداء الإمام على(علیه السّلام)بصلاة الخلفاء المعاصرين له بوصفه دليلاً وشاهداً على شرعية حكومة الخلفاء الثلاثة الأوائل(2).

كما ورد في بعض المصادر الروائية أن الإمامين الحسن والحسين(علیهما السّلام)كانا يصليان بإمامة مروان بن الحكم(3).

مناقشة وتحليل:

في معرض تحليل هذه الشبهة قدّم المفكرون إجابات مختلفة، وفيما يأتى نشير إلى هذه الإجابات:

ص: 390


1- انظر: جامع أحاديث الشيعة، ج 7، ص 307.
2- انظر: ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، ج 20 ، ص 221؛ مجله هفت آسمان، العدد: 30 مقال: (راه کارهاي تحكيم وحدت اسلامي).
3- انظر: ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة ، ج 7، ص 298؛ الحر العاملي، وسائل الشيعة، أبواب صلاة الجماعة، ب 5 ، ح 9 ، وج 8، ص 301.

أ - نفي الاقتداء وإنكار حصوله:

ذهب بعض المتكلمين إلى القول صحيح أن الإمام علياً(علیه السّلام)كان يتقيد بالحضور في المسجد والمشاركة في صلاة الجماعة، والاقتداء بإمامة الخلفاء الثلاثة الأوائل، إلا أنه كان في ذلك يمارس التقية، فكان يركع بركوعهم ويسجد بسجودهم، ولكنه في الواقع كان ينوي الصلاة فرادى(1).

كما أجاب الشيخ المفيد عن السؤال المطروح بشأن اقتداء الإمام على(علیه السّلام)بصلاة الخلفاء قائلاً:

«جعلهم بمثل سواري المسجد»(2).

ب - وقوع الخلاف بين المسلمين بسبب عدم حضور الإمام في الجماعة :

لو آثر الإمام علي(علیه السّلام)عدم الحضور في جماعة الخلفاء، لاعتبر ذلك مؤشراً سلبياً؛ بمعنى أن الخليفة من وجهة نظر الإمام لا يتصف بالحد الأدنى من الأوصاف التي يشترط بإمام الجماعة أن يتصف بها وهي العدالة، وانعدام العدالة تعبير آخر عن الفسق. وسيؤدي هذا الموقف والوصف إلى سريان الاختلاف بين المسلمين وانقسام مواقفهم بين مؤيد للخليفة ومؤيد للإمام، ولا يخفى ما فى ذلك من الإضرار بوحدة المسلمين واتفاق كلمتهم، وهو أمر سيضعف الكيان والحكومة الإسلامية. من هنا كان الإمام على(علیه السّلام)يؤثر الالتزام والمثابرة على الحضور في التجمعات العبادية للحكومة ضماناً لمصالح

ص: 391


1- انظر: الحمصي الرازي، المنقذ من التقليد، ج 2، ص 323.
2- الشيخ المفيد، سلسلة مؤلفات المفيد، ج 20 ، ص 69 ، كتاب الفصول المختارة.

المسلمين العالية(1).

ج - اعتبار عدم الحضور تركاً للفرائض الدينية:

لقد كان لصلاة الجمعة والجماعة في عصر النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)وغيرهما من التجمعات العبادية والاجتماعية أهمية قصوى، بحيث يعد تاركها والممتنع عن الحضور فيها منافقاً، ويترتب على ذلك جواز اغتيابه وحرق بيته بالنار(2).

على هذا النمط من المفاهيم ترعرع المسلمون، فهم ينظرون إلى الحضور في أمثال هذه التجمعات العبادية والدينية نظرة بالغة الأهمية، ويذمون تارك الحضور فيها ويستنكرون موقفه. وقد بلغ الاهتمام بالحضور في صلاة الجماعة بعد رحيل رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)حداً بحيث لم يشذ عنه أي واحد من الصحابة باستثناء سعد بن عبادة.

أما أن يكون إمام الجماعة هو شخص النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)أو أي شخص آخر مخول لذلك من قبله، فلم يكن يستوقف المسلمين كثيراً.

وعلى هذا الأساس لو أن الإمام علياً(علیه السّلام)قرر عدم الحضور في التجمعات العبادية، من قبيل: صلاة الجمعة والجماعة، فإن موقف المسلمين من الإمام سوف يتغيّر، ولربما رموه بترك الصلاة. كما حدث ذلك بالنسبة إلى أهل

ص: 392


1- يقول الإمام الخميني: (لقد شارك الإمام علي(علیه السّلام)في صلاة جماعتهم مدة ثلاثة وعشرين سنة حفاظاً على مصالح المسلمين العالية، وقام بمتابعتهم لوجود مصلحة في ذلك لا تدانيها مصلحة أخرى). انظر: صحیفه امام، ج 3، ص 241، بتاريخ : 10 / 9 / 1365 ه_ ش .
2- انظر: الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 8، ص 285؛الباب: 1 - 5؛ جامع أحاديث ، الشيعة، ج 7، ص 264 - 285 .

الشام حيث تأثروا بإعلام معاوية المضلل في اتهام الإمام على(علیه السّلام)بعدم إقامة الصلاة والعياذ بالله

إنّ الإمام علياً(علیه السّلام)لم يكن يخشى من أصل سوء ظن الناس به، إلا أن هذه المسألة سوف تتخذ من قبل المخالفين وأعداء الإسلام سلاحاً ضده كي يشوهوا سمعته ويتم بذلك اغتياله معنوياً، وسوف يشكل ذلك مقدمة لاغتياله وتصفيته جسدياً، وسيكون هذا الاغتيال مشروعاً بحسب الظاهر.

في حين أن المجتمع الإسلامي كان بأمس الحاجة إلى وجود الإمام بوصفه إماماً معصوماً ومرجعاً علمياً ودينياً، وإن فقدانه المبكر - حيث كان الإمامان الحسن والإمام الحسين(علیهما السّلام)لا يزالان صغيرين - يضر بأصل الإسلام من هنا كان الإمام على(علیه السّلام)يعتبر حضوره ومشاركته في التجمعات العبادية الاجتماعية أمراً ضرورياً(1).

د - صحة الصلاة:

الوجه الآخر الذي ذكره بعض العلماء المعاصرين هو حمل الصلاة واقتداء أمير المؤمنين بالخلفاء على حقيقته، بمعنى أن صلاة الإمام بصلاتهم لم تكن مجرد صلاة شكلية وظاهرية، وإنما كان يقتدي بصلاتهم حقيقة، وكان يلتمس الأجر بهذا الاقتداء من الله عز وجل.

بعبارة أخرى: إن اختلاف الإمام(علیه السّلام)مع الخلفاء لم يبلغ حداً يمنع من الصلاة خلفهم. وبعبارة ثالثة: كان الإمام يرى أن الخلفاء قد ارتكبوا بحقه ظلماً

ص: 393


1- هذه الإجابة أخذتها من سماحة الأستاذ أبو القاسم علي دوست عندما طرحت عليه سؤالاً بهذا الخصوص.

على المستوى الشخصي، وحيث كان هذا الظلم - على ما هو ظاهر من كلماته(علیه السّلام) - أمراً شخصياً، وأن الإمام تجاوز عن المطالبة بحقه الشخصي، لا يكون هناك محذور في المشاركة في صلاة الجماعة والاقتداء بالخلفاء. وقد وردت هذه المسألة في الروايات أيضاً، إذ يروي سماعة(1)عن الإمام(علیه السّلام)قائلاً: «سألته عن مناكحتهم والصلاة خلفهم؟ فقال: هذا أمر شديد، لن تستطيعوا ذلك، قد أنكح رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)، وصلى على(علیه السّلام)وراءهم»(2).

وروي عن الإمام الكاظم(علیه السّلام)، على ما رواه عنه أخوه علي بن جعفر في كتابه، أنه قال: «صلى حسن وحسين خلف مروان، ونحن نصلي معهم»(3).

وهذا ما ذهب له الإمام العلامة عبد الحسين شرف الدين في جوابه عن مسائل موسى جار الله، إذ يقول:

«حاشا أمير المؤمنين أن يصلي إلا تقرباً الله وأداء لما أمره الله به، وصلاته خلفهم ماكانت إلا لله خالصة لوجهه الكريم، وقد اقتدينا به(علیه السّلام)فتقربنا إلى الله عز وجل بالصلاة خلف كثير من أئمة جماعة أهل السنة، مخلصين في تلك الصلوات الله تعالى، وهذا جائز في مذهب أهل البيت، ويثاب المصلي منا خلف الإمام السني كما يثاب بالصلاة خلف الشيعي، والخبير بمذهبنا يعلم أنا نشترط العدالة في إمام الجماعة إذا كان شيعياً، فلا يجوز

ص: 394


1- لم يتحدّد في نص الرواية من هو الشخص الذي يروي عنه سماعة هذه الرواية، ولكن حيث أنه ثقة ولا يروي عن غير الإمام (وكان معاصراً للإمامين جعفر الصادق وموسى الكاظم عليهما السلام)، فقد اعتبر العلماء روايته.
2- الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 8، ص 301؛ أبواب صلاة الجماعة، الباب: 5 ، ح 10.
3- المصدر أعلاه، ح 9 .

الائتمام بالفاسق من الشيعة ولا بمجهول الحال أما السني فقد يجوز الائتمام به مطلقاً»(1).

الشبهة الخامسة عشرة: العلاقة الأسرية مع الخليفة الثاني:

اشارة

لقد كانت علاقة الإمام علي(علیه السّلام)مع الخلفاء الذين سبقوه - وخاصة علاقته وتعاونه مع الخليفة الثاني - أكثر من مجرد علاقة وتعاون في المجالات السياسية والعسكرية والعبادية والثقافية والاجتماعية، بل كانت علاقة وثيقة تصل إلى حد المصاهرة، حيث نجد الإمام يزوج ابنته أم كلثوم من عمر بن الخطاب. ويسعى بعض أهل السنة إلى التمسك بهذه المصاهرة والعلاقة الأسرية إلى إثبات شرعية خلافة وحكومة الخليفة الثاني، وإلا كان على الإمام علي(علیه السّلام)أن لا يزوجه من ابنته فحسب، بل كان عليه عدم التعاون معه أصلاً، في حين أننا نجد العلاقة قد تجاوزت حدود التعاون لتصل إلى حدود التقارب الأسري(2).

وهناك من الشيعة من رأى في هذه الظاهرة دليلاً على قيام المودة والعلاقة المتينة بين الإمام(علیه السّلام)والخليفة(3).

مناقشة وتحليل:

فيما يتعلق بتحليل هذا الدليل من قبل أهل السنة تجدر الإشارة إلى

ص: 395


1- عبد الحسين شرف الدين، أجوبة مسائل جار الله ، ص 66 ؛ وانظر أيضاً: محمد رضا حكيمي، مشعل اتحاد، ص 26.
2- انظر: ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة ، ج 20 ، ص 106 و 221؛ ابن حزم الظاهري الفصل، ج 3، ص 15.
3- انظر: السيد أحمد موثقي، استراتژي وحدت، ج 1، ص 125.

الأمور الآتية:

أ - التشكيك في سند الحديث:

هناك من يشكك في صحة أصل هذا الحديث، حيث يرى أن رواية تزويج أم كلثوم من الخليفة الثانية قد رويت من طريق الزبير بن بكار، وهو غير ثقة، وكان معادياً للإمام، وعليه هناك احتمال أن يكون هذا الحديث مختلقاً من قبله.

وعلاوة على ذلك لم يرو هذا الحديث في صحيح البخاري وصحيح مسلم. كما لم يرو حتى في الصحاح الأربعة ولا مسند أحمد بن حنبل.

أما الإشكال الآخر في سند هذا الحديث، حيث قال الذهبي في تلخيص المستدرك بأنه منقطع(1)، وذهب البيهقي إلى القول بأنه مرسل(2)، كما نقله ابن سعد في طبقاته بشكل مرسل.

وقد ذكر ابن حجر فى الإصابة من بين رواته عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وقد ضعفه بعض علماء أهل السنة(3). كما نلاحظ في سنده عبد الله بن وهب، وقد تم تضعيفه أيضا(4).

كما نقل ابن حجر بسند آخر عن عطاء الخراساني، وقد عده ابن عدي والبخاري في جملة الضعفاء. وفي نقل الخطيب البغدادي يوجد أحمد بن حسين الصوفي، وعقبة بن عامر الجهني وإبراهيم بن مهران المروزي، وقد تم التصريح

ص: 396


1- انظر: الذهبي، تلخيص المستدرك، ج 3، ص 142 .
2- انظر: البيهقي، سنن البيهقي ، ج 7، ص 64 .
3- انظر: العقيلي ،الضعفاء، ج 2، ص 331؛ ابن عدي، الكافي في الضعفاء، ج 7، ص 1581.
4- انظر: المصدر أعلاه، ج 5، ص 337.

بضعف الأول، والثاني كان من الأمراء في معسكر معاوية، والثالث مهمل.

وقد اختار الشيخ المفيد هذا الجواب في واحد من كتبه(1).

ومن المعاصرين من تناول مسألة الإشكال السندي في هذا الحديث بشكل تفصيلي، وبدورنا نحيل القارئ الكريم إلى مؤلفاته المذكوره في الهامش أدناه(2). إذن هناك إشكال من جهة سند الحديث الوارد في مصادر أهل السنة، ففي كل واحد من هذه المصادر هناك ضعف وإشكال سندي، ومعه لا يمكن التعويل عليه لإثبات أصل ديني واعتقادي من قبيل: إثبات مشروعية أو عدم مشروعية حكومة من الحكومات.

وهناك من يعتقد أن أم كلثوم لم تكن ابنة صلبية لأمير المؤمنين(علیه السّلام)، بل هي متبناة أو ربيبة له، وإنها كانت بنت لأبي بكر من أسماء بنت عميس التي كانت زوجة لأبي بكر ثم تزوجها الإمام علي(علیه السّلام)بعد وفاته(3).

وبطبيعة الحال هناك من المحدثين من قال بحدوث أصل الزواج(4)،

ص: 397


1- انظر: سلسلة مؤلفات الشيخ المفيد، ج 7، ص 86؛ المسائل السروية. كما ذهب ابن شهر آشوب وأبو سهل النوبختي إلى إنكار الأصل التاريخي لهذا الحديث.
2- انظر: السيد ناصر حسين الموسوي الهندي، إقحام الأعداء والخصوم بتكذيب ما افتروه على سيدتنا أم كلثوم؛ السيد علي الميلاني، تزويج أم كلثوم من عمر. يمكن قراءة هذين الكتابين في مكتبة أهل البيت الإلكترونية.
3- انظر: آية الله السيد شهاب الدين المرعشي النجفي، جواب استفتاء بتاريخ: ربيع الأول / 1407 ه_ نقلاً عن: تاريخ تحليلي وسياسي اسلام، ج 2، ص 59.
4- انظر: العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 42 ، ص 109؛ مرآة العقول، ج 20، ص 42 ، وج ،21، ص 198 . هذا وقد ذهب صاحب (الأنوار المضيئة) - على ما نقل عنه - إلى القول بأن التي أرسلها الإمام علي إلى بيت عمر لم تكن ابنته، بل هي بنت يهودية اسمها أم كلثوم أيضاً (انظر: مرآة العقول ، ج 21، ص 198 ، وج 20، . ص 42؛ بحار الأنوار، د 42 ، ص 106).

ولكنه عالج المسألة وبررها من طرق أخرى سوف نشير إليها.

ب - عدم الدلالة على المدعى:

لو أننا التزمنا بحدوث مثل هذا الزواج - ونقاشنا بطبيعة الحال على مستوى الفرضية، وإلا فإننا ننكر حصول مثل هذا الأمر على أرض الواقع - لا يمكنه أن يشكل دليلاً على شرعية أو عدم شرعية حكم الخليفة الثاني؛ لأن الزواج مسألة شخصية، وإن حدوث الأمور الشخصية يستند إلى عناصر وعلل وأسباب شخصية واجتماعية مختلفة، ومن غير الممكن الكشف عن جميع هذه العناصر والعلل.

بعبارة أخرى: يحدث في كثير من المجتمعات المختلفة أن تحصل حالات زواج ومصاهرة بين جماعتين أو قبيلتين أو بلدين متنازعين ومتخالفين و متنافسين، من دون أن يُعدّ ذلك دليلاً على إضفاء شرعية لأحد. وها نحن اليوم نشهد في البلدان التي يقطنها نسيج مختلط من الشيعة والسنة كثيراً من حالات المصاهرة والزواج بينهما، من دون أن يعتبر كل منهما الآخر على حق.

إن زواج عمر من أم كلثوم - إن تحقق بالفعل - إنما يثبت إسلام الخليفة الثاني، وهذا ما يلتزم به الشيعة. وأمّا محل الخلاف فهو شرعية خلافته، حيث يرى الشيعة أنه حق ثابت للإمام علي(علیه السّلام)، وأنه سلب منه مدة خمسة وعشرين عاماً من من قبل الخلفاء الثلاثة الذين سبقوه.

ج - تصريح الإمام علي(علیه السّلام)بغصب الخلفاء حقه:

لو أن الإمام علياً(علیه السّلام)بعد تزويج ابنته من الخليفة الثاني لم يواصل نقده لمن سبقه من الخلفاء على اغتصاب حقه الثابت، لكان هناك مجال

ص: 398

واحتمال - ولو على نحو ضعيف - ليتخذ أهل السنة هذا الزواج مستمسكاً ودليلاً على إثبات شرعية الخلافة، أو عودة المياه بين الإمام علي والخليفة الثاني إلى مجاريها، إلا أننا نجد الإمام يواصل انتقاداته اللاذعة بعد هذا الزواج (المزعوم) بشأن اغتصاب حقه الثابت فى الخلافة. وهذه الانتقادات من قبله لدليل صريح على أنه كان مصراً على حقه فيما يتعلق بالخلافة واغتصابها من قبل الخلفاء الثلاثة الذين سبقوه، وهو أمر يدل على أن هذا الزواج [لو ثبت] إنما كان أمراً شخصياً، ولا ربط له بإضفاء الشرعية على الخلافة، وإن واصل أهل السنة إصرارهم على مدعاهم رغم وجود هذه النصوص، فإن ذلك سيعني أنهم إنما يجتهدون في مقابل النصوص. (وقد تقدم ذكر كثير من النصوص الواردة عن الإمام بشأن اغتصاب حقه في الخلافة مراراً وتكراراً في الصفحات السابقة ).

إشارة إلى علل أخرى:

لمزيد من التوضيح بشأن أسباب تزويج الإمام ابنته من غاصب حقه في الخلافة، تجدر الإشارة إلى الأمور الآتية:

د - مراعاة المصلحة:

إن العاقل قبل أن يتخذ أي خطوة يُعمل فكره ويقارن بين المصالح والمفاسد المترتبة على تلك الخطوة التي سيتخذها، ويقرر بعد ذلك ما إذا كان سيمضي فيها أو يُحجم عنها. وبالالتفات إلى هذا الأصل يمكن لنا تقييم المصالح أو المفاسد المترتبة على هذا الزواج المذكور أعلاه بالشكل الآتي:

د / 1 - دفع التهديدات: إن من شأن هذه المصاهرة أن تبني أواصر

ص: 399

العلاقة بين الإمام وأقطاب الحكم والسلطة، ومن شأن ذلك أن يحصن الإمام وشيعته من أي خطر قد يصيبهم من أعدائهم ومخالفيهم، بما في ذلك رجال السلطة أنفسهم، وفي ذلك جاء في بعض مؤلفات الشيخ المفيد قوله: «كان أمير المؤمنين(علیه السّلام)محتاجاً إلى التأليف وحقن الدماء ... فأجابه إلى ملتمسه»(1).

كما أراد ذلك معاوية الذي لم يكن يسيطر على غير جزء من الجغرافيا الإسلامية حتى كان قد أثار عاصفة من الإعلام المضلل بحق الإمام علي(علیه السّلام)واتهامه بشتى التهم، وقد وصل الأمر بتشويه سمعته بين الناس حداً أنه عندما قتل فى محراب الصلاة ساجداً، استغرب أهل الشام ذلك، وأخذ سائلهم يقول: ماذا يمكن لعلي أن يفعله في المسجد؟!!

د / 2 - التأثير على الخليفة والعمل على تقويم سياسته: المصلحة الأخرى التي يمكن للإمام أن يحصل عليها من وراء هذا الزواج، هي التأثير على شخص الخليفة. فبقطع النظر عن الشخصية والمرجعية العلمية والدينية التي يتمتع بها الإمام على المستوى الذاتي، فإن نفس حمله عنوان صهر الخليفة لن يكون عديم التأثير. فإن الإمام من خلال توظيف تأثيره على الخليفة كان يجزل له النصح والمشورة والإرشاد والتوجيه والهداية، كما كان الخليفة الثاني يقر للإمام مكانته في حدود النصح والمشورة. وفي الحقيقة كان الإمام علي(علیه السّلام)بحكم المستشار الأول للخليفة، وهو أمر سهل عليه القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقد أجاب الشيخ المفيد عن سؤال القاضي أبوبكر أحمد بن يسار بشأن تزويج الإمام علي ابنته من عمر، قائلاً: «أراد بذلك

ص: 400


1- الشيخ المفيد، سلسلة المؤلفات، ج 7، ص 91 .

استصلاحه، وكفه عنه»(1).

إلا أن المفسدة الوحيدة التي يمكن أن تترتب على هذا الزواج هي تصوّر إضفاء المشروعية على خلافة الخليفة الثاني من قبل الإمام على(علیه السّلام).إلا أن هذه المفسدة تزول من خلال تصريحات الإمام باغتصاب الخلفاء لحقه الثابت له في الخلافة بالنصوص المأثورة عن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم).

ه_ - التهديد والإكراه:

تروي المصادر التاريخية أن الإمام علي(علیه السّلام)في البداية رفض عرض الخليفة عليه أن يزوجه من ابنته، ولكنه لجأ إلى العباس عم الإمام وهدده بأنه إذا واصل الإمام معارضته لهذا الزواج، فإنه سيجرده من منصب سقاية الحجيج، بل هدّده بما هو أشد من ذلك؛ إذ قال إنه سوف يستأجر شاهدي زور ليشهدا على الإمام علي(علیه السّلام)بالسرقة وإنه سيجري عليه حد السرقة ويقطع يده، وفي بعض المصادر كان الخليفة الثاني يروم فبركة اتهامه بجرائم من قبيل القتل(2).

ومع الالتفات إلى ما يعرف عن عمر من الشخصية الخشنة والفظة، لم يكن تنفيذه لتلك التهديدات مستبعداً منه. ولذلك رضي الإمام(علیه السّلام)بهذا الزواج مكرهاً تحت ضغط التهديد، للمحافظة على موقعه ومكانته العلمية والدينية التي كانت ضرورية للإسلام، ولم يكن الملحوظ للإمام في هذا الأمر مصلحته الشخصية.

ص: 401


1- المصدر أعلاه، ج 2، ص 70.
2- انظر: جامع أحاديث الشيعة، ج 20، ص 538.

وفي بعض الروايات تم التصريح بأن زواج السيدة أم كلثوم من عمر بن الخطاب قد تم بالضغط والإكراه(1).

وقد ذكر هذا الوجه المتكلّمون والمحدّثون من أمثال : السيد المرتضى، والشيخ المفيد، والشيخ الطوسي أيضاً(2).

و - جواب نقضي:

أما الإجابة الأخرى فهي إجابة نقضية، ويمكن لنا أن نستنبط منها أن نفس إقامة النسب والقرابة لا يدل على تأييد أو مشروعية شيء، فقد تم اقتراح تزويج البنات من المخالفين بل ومن غير المتدينين بدين من قبل الأنبياء السابقين، والنموذج البارز على ذلك نبي الله لوط(علیه السّلام)، حيث طمع أبناء قومه بضيوفه لحسنهم وجمالهم - وكانوا من الملائكة الذين تجسّدوا على أشكال الرجال - فاضطر الإمام إلى أن يعرض عليهم الزواج من بناته رغم فسقهم وعدم إيمانهم بنبوته(3)؛ إذ قال لهم على ما حكاه القرآن عنه: ﴿ وَجَاءَهُ قَوْمُهُ

ص: 402


1- انظر: فروع الكافي، ج 2، ص 141 ، وج ،5 ، ص 346؛ مرآة العقول، ج 20 ، ص 44 ؛ الإستغاثة، ص 92؛ أعلام الورى، ص 204.
2- انظر: الشافي، نقلاً عن مرآة العقول، ج 20 ، ص 44 ؛ الشيخ المفيد، سلسلة المؤلفات، ج 7، ص 92؛ الشيخ الطوسي، التهذيب، ج 18، ص 161 مرآة العقول، ج 20 ، ص 25
3- هناك رأي يقول: إن النبي لوط إنما أراد تزويجهم من بنات أمته؛ لأن كل نبي هو أبو أمته، وليس مراده تزويجهم من بناته اللاتي هن من صلبه، ويؤيد ذلك أن الذين جاؤوا إليه يهرعون هم قومه كما هو صريح الآية، والظاهر من لفظ القوم أنهم كانوا كثر، في حين أن التاريخ ينقل أن لوط لم يكن لديه من البنات الصلبيات سوى اثنتان أو ثلاث، فكيف يمكنه أن يزوّجهن من هذا العدد من أفراد قومه الذين جاؤوا يهرعون إليه طلباً لارتكاب الفاحشة ؟! المعرّب.

يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ﴾(1).

حاصل الكلام أن مجرد هذا الزواج - لو ثبت - لا يصلح دليلاً على تأييد الخلافة ومشروعية حكم الخليفة الثاني عمر بن الخطاب.

الشبهة السادسة عشرة: تسمية الإمام علي(علیه السّلام)ثلاثة من أبنائه بأسماء الخلفاء:

اشارة

يعمل بعض أهل السنة على التمسك بكل ما يصادفوه من أجل إثبات مشروعية خلافة الخلفاء الثلاثة الأوائل من قبل الإمام علي(علیه السّلام). ومن بين الأمور التي تمسكوا بها في هذا الشأن، ولإثبات العلاقة الطيبة والحميمة بين الإمام علي(علیه السّلام)والخلفاء الثلاثة قولهم إن الإمام قد وضع أسماء الخلفاء على ثلاثة من أبنائه(2).

مناقشة وتحليل

فى معرض تحليل هذه الشبهة يجدر التأمل في الأمور الآتية:

ص: 403


1- هود: 78
2- انظر: عبد العزيز نعماني، مقال: (حضرت فاطمه زهرا از ولادت تا افسانه شهادت)، شهرية نداي اسلام، العدد: 3 حوزه علمية أهل سنت زاهدان، وانظر: المصدر ذاته، العدد: 9 ، ربيع عام 1381 ه_ ش، ص ،71،كلمة إمام جمعة أهل السنة في زاهدان، سماحة الشيخ عبد الحميد مولوي؛ السيد أحمد ،موثقي، استراتژي وحدت، ج 1،ص135.

أ - سطحية هذا الدليل وعدم دلالته على المدعى:

أولاً: إنّ هذا الشاهد أو الدليل في غاية السطحية. ففي بداية الإسلام وفي مرحلة الجاهلية كان هناك كثير من الذين يحملون أسماء من قبيل: أبو بكر وعمر وعثمان. وعليه فإن مجرد مشابهة أسماء بعض أبناء الإمام على(علیه السّلام)الإسماء الخلفاء وغيرهم لا يدل على وجود العلاقة المتينة بينه وبينهم، ولا يدل على إضفاء الشرعية على خلافتهم وأفعالهم وحكمهم.

وفي الحقيقة فإن الذين يطرحون مثل هذا الشاهد إنما يسطّحون مسألة مشروعية الخلافة والحكم إلى حد كبير، حيث يتمسكون بأمر جزئي وخاص ليجعلوه قاعدة ليبنى عليها فلسفة سياسية، ويستنتجون من خلالها مشروعية الدولة، وهذا أمر يفتقر إلى أبسط الملاكات العلمية والعقلية والعقلائية.

ب - شيوع التسمية بأسماء المخالفين:

الأمر الآخر الذي يدلّ على عدم وجود أي صلة بين التسمية باسم معيّن وبين تأييد أعمال المخالفين وسلوكيتهم ومشروعيتهم، هو شيوع أسماء المخالفين وانتشارها بين الأئمة الأطهار(علیهم السّلام)وبين الشيعة، وفيما يأتي نشير إلى بعض الأمثلة على ذلك:

ب / 1 - اسم معاوية : ليس هناك من يشك في معاداة الإمام علي(علیه السّلام)ومحاربته لمعاوية بن أبي سفيان، ومع ذلك كان بعض الشيعة وخلّص أصحابه يضعون على أبنائهم اسم معاوية، أو كان هناك منهم من يحمل اسم معاوية من البداية ولم يسع إلى تبديل اسمه، ومن الأمثلة على ذلك:

- معاوية بن جعفر: فقد تزوّج جعفر من السيدة زينب الكبرى بنت

ص: 404

الإمام علي(علیه السّلام)فولدت له ولداً سمياه معاوية. ولم يعاتبه الإمام علي على اختيار هذا الاسم، كما لم يعترض الإمام الحسن ولا الإمام الحسين على ذلك، ولا زينب الكبرى نفسها.

- معاوية بن الحارث: من شيعة الإمام علي(علیه السّلام)وأصحابه.

- معاوية بن صعصعة: من كبار شيعة الإمام على(علیه السّلام)وأصحابه.

- معاوية بن عمار: من شيعة الإمام الباقر(علیه السّلام)وأصحابه.

- معاوية بن سعيد، ومعاوية بن سلمة، ومعاوية بن سوادة، ومعاوية بن صالح، ومعاوية بن طريف، ومعاوية بن عبد الله، ومعاوية بن عطاء، ومعاوية بن كليب، ومعاية بن ميسرة، وجميع هؤلاء من خلّص شيعة الإمام الصادق(علیه السّلام)وأصحابه.

ب / 2 - اسم يزيد: يعتبر يزيد بن معاوية مكروهاً من قبل أكثر المسلمين إذا لم نقل جميعهم؛ لارتكابه جريمة قتل سبط النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)الإمام الحسين(علیه السّلام).ومع ذلك لم يجد بعض الشيعة مشكلة في تسمية أبنائهم باسم يزيد، ومن الأمثلة على ذلك:

- يزيد بن معاوية بن عبد عبد الله بن جعفر (وأم يزيد هذا هي فاطمة بنت الإمام الحسين(علیه السّلام)).

- يزيد بن حاتم: من شيعة الإمام زين العابدين(علیه السّلام).

- يزيد الكناسي، ويزيد النبراز، ويزيد بن خيثم، ويزيد بن زياد، وعدد آخر من أصحاب الإمام الباقر(علیه السّلام)، ويزيد بن أسباط، ويزيد الأعور وغيرهما من شيعة الإمام الصادق(علیه السّلام).

وعلى هذا الأساس لا يمكن لمجرد التشابه في الاسم إيجاد علاقة حميمة

ص: 405

ومودة، فضلاً عن إضفاء الشرعية على مسائل خطيرة مثل الخلافة والحكومة. لأن تسمية الأبناء في القرون الثلاثة الأولى من الإسلام بأسماء الخلفاء والمخالفين لم يكن يحمل مفهوماً إيجابياً أو سلبياً بالنسبة إلى الأعداء

والمخالفين.

أجل بدأ هذا الأمر يتفشى في العصر الراهن، حيث بدأ الناس في كل منطقة يختارون لأبنائهم أسماء مشابهة لأسماء الأولياء والصالحين الذين تركوا ذكرى أو مآثر طيّبة في المجتمع الإسلامي، ويندر أن نجد أحداً يضع على ولده اسم المخالف، ولكن هذا الأمر يختص بالمجتمعات الراهنة، ولا ينسحب على المجتمع في صدر الإسلام.

إن المستمسكين بهذه الحجة إنما يرتكبون في حقيقة الأمر مغالطة الاشتراك اللفظي، حيث قاموا بتسرية التقاليد الراهنة في وضع الأسماء إلى العصور الأولى من الإسلام، حيث لا وجود لمثل هذه الحساسيات الراهنة كما

أسلفنا.

ومن هنا يتضح سبب عدم ذكر المتكلمين الأوائل من أهل السنة لهذه الظاهرة في إثبات مشروعية الخلافة وتضعيف رؤية الشيعة في هذا الخصوص، ذلك لوقوفهم على ضعف هذا الدليل في أعراف الناس وتقاليدهم في صدر الإسلام بالنسبة إلى اختيار الأسماء. ولكن المعاصرين من أهل السنة بدأوا - للأسف الشديد - يتمسكون بمثل هذه الأدلة الواهية ظناً منهم أنهم إنما جاؤوا بما عجز السابقون عن المجيء بمثلة! وبذلك يثبتون غفلتهم، وعدم معرفتهم بأن هذا الدليل يفتقر إلى الأسس العلمية والعقلية.

ص: 406

ج - فرض الأسماء بالإكراه:

كان عمر بن الخطاب يبدي حساسية مفرطة تجاه بعض الأسماء، فكان يغير أسماء الأشخاص التي تشبه أسماء الأنبياء السابقين، من ذلك أنه بدل اسم إبراهيم الذي ترعرع في كنفه، وكذلك غيّر اسم أبي مسروق الأجدع وخلع عليه اسم عبد الرحمن(1).

وحيث كان في موقع خليفة المسلمين، وبغض النظر عن القسوة والغلظة التي كان يتصف بها عمر بن الخطاب، لم يكن هناك من يجرؤ على مخالفته.

وفيما يتعلق باسم نجل الإمام علي(علیه السّلام)كان الأمر كذلك أيضاً، حيثاختار عمر أن يتسمى باسمه(2)وحيث كان تشابه الأسماء - كما أسلفنا - شائعاً في ذلك العصر، من دون أن تكون لهذه الظاهرة دلالة على تأييد أمر أو نفيه، لم يجد الإمام علي(علیه السّلام)ضرورة إلى إثارة مشكلة الخليفة مع بسبب هذه المسألة البسيطة؛ فيلحق بذلك ضرراً على وحدة المجتمع الإسلامي وتماسكه.

وعليه فإن أصل الدليل المتقدم القائل بأنّ الإمام علياً هو من وضع اسم عمر لابنه، لا أساس له من الصحة، بل الأصح أن عمر هو الذي فرض على الإمام علي أن يُسمّي ابنه باسمه، ولم يعترض الإمام علي على ذلك للسبب الذي أسلفناه.

ص: 407


1- انظر: أسد الغابة، ج 3، ص 284 ؛ الطبقات الكبرى، ج 6، ص 76.
2- انظر : شمس الدين الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج 4 ، ص 134؛ جمال الدين المزي، تهذيب الكمال، ج 21 ، ص 467 ؛ ابن حجر العسقلاني، تهذيب التهذيب، ج 7، ص 411 ؛ أحمد البلاذري، أنساب الأشراف، ج 2، ص 92 .

د - عثمان اسم صاحب الأمام(علیه السّلام):

إن المعاصرين من أهل السنة الذين يتشبثون بكل قشة لإثبات مدعاهم، حيث عثروا على ابن للإمام علي(علیه السّلام)اسمه عثمان، اتخذوه مستمسكاً للقول بأن الإمام علياً إنما أراد من ذلك عثمان بن عفان، مما يدلّ على عمق المحبة والعلاقة الوثيقة التى كانت تسود بينهما. في حين أن الإمام علياً(علیه السّلام)يصرح بأنه إنما سمى ولده عثمان تخليداً لذكرى أخيه «عثمان بن مظعون»(1).

ه_ - اللجوء إلى التورية:

كان المسلمون عامة في صدر الإسلام يكنون احتراماً خاصاً للخلفاء بوصفهم خلفاء الرسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)، وكانوا يتوقعون من سائر الصحابة بمن فيهم علي بن أبي طالب(علیه السّلام)أن يحترم مشاعرهم تجاه هؤلاء الخلفاء. وفي تلك الحقبة كان كثير من المقاتلين فى معسكر الإمام والذين بايعوه يحبون الخلفاء الثلاثة الأوائل، وكانوا يتوقعون من الإمام(علیه السّلام)أن يحترمهم، وأن يشيد بإنجازاتهم، وعليه لو صدر من الإمام ما يسيء لمكانتهم التي يرونها فيهم، فإن ذلك سيؤدي إلى انفراط عقد معسكره، من هنا لم يكن الإمام علي(علیه السّلام)يوسع من شرخ المسائل الخلافية، رعاية لمشاعر الآخرين.

وعليه بالالتفات إلى طبيعة الناس في عصر الإمام على(علیه السّلام)، يجب أن نكون قد أدركنا المشاكل والمحاذير التي كان يعاني منها الإمام، فكان يتحتّم

ص: 408


1- انظر: أبو الفرج الإصفهاني، مقاتل الطالبيين، ترجمه إلى الفارسية: رسول محلاتي، ص 80؛ السيد علي الحسيني الميلاني، امامت بلا فصل ، ص 235 ؛ علی لباف، معمای نام.

عليه أن لا يسكت عن اغتصاب حقه في الخلافة طوال خمسة وعشرين عاماً فحسب، بل وكان يتعين عليه - حفاظاً على وحدة المسلمين - أن يمجدهم

- ويثني عليهم من حين لآخر، في حين أن هذا يلزم منه الكذب والعياذ بالله، وشأن الإمام(علیه السّلام)أرفع من ذلك. وعليه في الفرضية الأولى تعين على الإمام علي إما أن يمدح الخلفاء الذي سبقوه، وهذا الخيار يستلزم اللجوء إلى نوع من الكذب، أو أن يترك مدحهم فراراً من محذور الكذب، ولكن هذا سيلزم منه انهيار معسكره، وإضعاف حكومته في مواجهة معاوية بن أبي سفيان وغيره من المخالفين والأعداء.

إلا أن الإمام اختار طريقاً ثالثاً، أن وهو يسمى ثلاثة من أبنائه بأسماء الخلفاء الثلاثة الأوائل، حتى إذا اضطر إلى مدح أبي بكر وعمر وعثمان أراد بذلك أبناءه الذين يستحقوق هذا الثناء والمديح منه؛ لكونهم ترعرعوا في حجره. وهكذا أمكن للإمام من خلال هذا الإجراء (مدح الخلفاء بحسب الظاهر، وإرادة مدح أبنائه حقيقة، وهو ما يعبر عنه في المصطلح الفقهي بالتورية)، أن يحافظ على تماسك معسكره، من دون أن يضطر إلى ارتكاب

موبقة الكذب.

وهذا ما أسرّ به الإمام علي(علیه السّلام)إلى بعض شيعته المقربين. ويبدو أن أحدهم قد أفشى هذا الأمر إلى معاوية بن أبي سفيان، وهو ما نراه في بعض رسائل معاوية إلى الإمام علي(علیه السّلام)(1).

ص: 409


1- أسرار آل محمد، ترجمه إلى الفارسية: محمد إسماعيل أنصاري زنجاني، ص 435 .

الشبهة السابعة عشرة: الثناء على الخلفاء:

اشارة

روى أهل السنة في بعض مصادرهم الروائية عن الإمام على(علیه السّلام)أحاديث تؤكد أفضلية ومنزلة أبي بكر بن أبي قحافة وعمر بن الخطاب على منزلته، وهذا الأمر يدلّ على مدح الخلفاء بوصفهم أفضل من علي بن أبي طالب(علیه السّلام)،ومن ذلك أنهم يروون عنه أنه قال: «خير الناس بعد النبيين أبوبكر ثم عمر »(1).

وقد روى أحمد بن حنبل عن الحكم بن جحل، قال: سمعت علياً يقول: «لا يفضلني أحد على أبي بكر وعمر إلا جلدته حدّ المفتري»(2).

وقد مال إلى هذا الرأي بعض المعاصرين من أهل السنة(3)، وبعض المؤلفين من الشيعة أيضاً(4).

وقد تمسّك أصحاب هذا الدليل ببعض الروايات الموجودة في نهج البلاغة أيضاً، ومن ذلك قول الإمام على(علیه السّلام)بشأن عمر بن الخطاب:

«لله بِلادُ فُلَانٍ فَلَقَدْ قَوَّمَ الْأَوَدَ، وَدَاوَى الْعَمَدَ، وَأَقَامَ السُّنَّةَ، وَخَلَّفَ الْفِتْنَةَ، ذَهَبَ نَقِيَّ الثَّوْبِ، قَلِيلَ الْعَيْبِ، أَصَابَ خَيْرَهَا، وَسَبَقَ شَرَّهَا، أَدَّى إِلَى

ص: 410


1- شرح المواقف، ج 8، ص 367.
2- أحمد بن حنبل، فضائل الصحابة ، ج 1، ص 336 و 364 و 382.
3- انظر: محمد برفي، سيماي علي از منظر اهل سنت، ص 115.
4- انظر: محمد جواد حجتي كرماني، صحيفة اطلاعات، بتاريخ : 29 / خرداد / 1379 ه_ ش محمد واعظ زاده خراساني، فصلية كتاب نقد، صيف عام 1380ه_ ش، ص 31؛ سید جواد اد مصطفوي، مقال في كتاب وحدت، ص 143؛ مجلة مشكاة، العدد: 2 ، ربيع عام 1362 ه_ ش، ص 58 .

الله طَاعَتَهُ، وَاتَّفَاهُ بِحَقِّهِ، رَحَلَ وَتَرَكَهُمْ فِي طُرُقٍ مُتَشَعْبَةٍ، لَا يَهْتَدِي فِيهَا الضَّالُ، وَلَا يَسْتَيْقِنُ المُهْتَدِي»(1).

وبعد استعادة مصر من جند معاوية بن أبي سفيان، عمد بعض من في معسكر الإمام علي(علیه السّلام)إلى سؤاله عن رأيه في أبي بكر وعمر، فقال(علیه السّلام): سوف أعلن عن رأيي فيهما ضمن كتاب، ومما جاء في ذلك الكتاب على ما رواه إبراهيم بن محمد الثقفي في (غاراته)، قوله:

«فتولى أبو بكر تلك الأمور فيسّر وتشدّد، وقارب واقتصد، فصحبته مناصحاً، وأطعته فيما أطاع الله فيه جاهداً، وما طمعت أن لو حدث به حدث وأنا حي أن يرد إلي وهو أمر بايعته فيه طمع مستيقن، ولا يئست منه يأس من لا يرجوه، فلولا خاصة ما كان بينه وبين عمر لظننت أنه لا يدفعها عني. فلما احتضر بعث إلى عمر فولاه فسمعنا وأطعنا وناصحنا، وتولى عمر الأمر فكان مرضي السيرة ميمون النقيبة ...»(2).

مناقشة وتحليل:

في معرض تحليل هذه الشبهة يجدر التأمل في الأمور الآتية:

أ - المشكلة السندية في روايات أهل السنة:

إن روايات أهل السنة عن الإمام علي(علیه السّلام)بشأن مدحه للخلفاء

ص: 411


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 219؛فيض الإسلام، ص 721؛ تاريخ مدينة دمشق، ج 44، ص 458 .
2- إبراهيم بن محمد الثقفي، الغارات، ج 1، ص 307؛ العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 33، ص 458 ؛ عبد الكريم بي آزار شيرازي، نشريه آرام، العدد الثالث.

الذين سبقوه، وخاصة تلك الروايات الدالة على تفضيلهم على نفسه، تعاني من مشكلة في السند، وبحسب المصطلح الرجالي إنها منقولة على صيغة «روي» أو «حُكي»، بمعنى أن ناقلها مجهول، فهي تُعدُّ لذلك «مرسلة» أو «ضعيفة»، فلا تكون حجة ولا معتبرة. وقد قام العلامة الأميني بتحليلها ونقدها في كتابة القيم

(الغدير).

وفيما يتعلق بالرواية المنسوبة إلى الإمام علي(علیه السّلام)في نهج البلاغة يجب القول:

في تاريخ الطبري يعمد راوي الحديث أولاً إلى نسبته إلى بنت أبي حثمة، وأن الإمام قد أقر بذلك المضمون(1). وأما ابن عساكر فقد نسبه في تاريخه (تاريخ مدينة دمشق) إلى امرأة اسمها عاتكة، وجاء في ذيل شعر عاتكة قولها: «أبقى الفتنة»، فأضاف الإمام قائلاً: «والله ما قالت، ولكنها قولت»، أي إن إملاء هذا الشعر قد كُلّفت به أو أجبرت على قوله(2).

وكما تقدم أن ذكرنا فقد تم الخلط بين كلام الإمام وشعر الشاعرة الأعم من أن تكون عاتكة أو بنت أبي حثمة - والظاهر منه هو قوله: «ذهب بخيرها ونجا من شرها»، فإنه إذا ثبتت نسبته إلى الإمام على(علیه السّلام)،يكون المراد منه كالآتي:

(إنّ عمر قد نال خير الدنيا بدهائه، ونجا من شرورها بكياسته، كما وصل إلى الخلافة بذكائه، وتفوق فى ذلك على أقرانه ومنافسيه).

ص: 412


1- انظر: تاريخ الطبري، ج 2، ص 746.
2- انظر: ابن عساکر، تاريخ مدينة دمشق، ج 44 ، ص 458 .

وبذلك فإن الرواية لا تنطوي على مدح للخليفة الثاني في الأمور الدينية، وإنما هي بيان ما كان عليه واقع الأمر من الناحية الدنيوية.

ب - عدم ذكر روايات الأفضلية في المصادر الشيعية:

يحق للشيعة أن يرفضوا مضمون ما جاء من الروايات المروية في مصادر أهل السنة بخصوص تفضيل الإمام علي(علیه السّلام)للخلفاء على نفسه؛ إذ هناك احتمال إضافته من قبلهم لتعزيز مذهبهم، والسؤال الذي يفرض نفسه هنا هو: لماذا لا توجد هذه الروايات في المصادر الشيعية الروائية؟ وعليه يجب على أهل السنة أن يقدموا دليلاً معتبراً عند الشيعة.

ج - تعارض هذه الرواية مع روايات أخرى في مصادر أهل السنة:

لقد أثبت بعض المحققين في التراث التاريخي من أمثال المحقق الشوشتري أن هذا النوع من الأحاديث التي يرويها أهل السنة في فضل أبي بكر وعمر وعثمان، وتفضيلهم على الإمام علي(علیه السّلام)هي من الروايات الموضوعة، وإن غرض الذين وضعوها هو النيل من فضائل الإمام علي(علیه السّلام). وإن هذه الظاهرة ليست جديدة، بل كانت واضحة حتى فى عصر الأئمة الأطهار(علیهم السّلام)، وخاصة في المناظرات التي كانت تحدث بين الشيعة وأهل السنة في عصر المأمون العباسي. وفيما يأتي نشير إلى بعض هذه الأحداث والمواقف:

أ - أجاب المأمون رجلاً تمسك بروايات تثبت أفضلية أبي بكر، فقال له: إن هذه الروايات معارضة برواية «الطير المشوي» التي تقول بأن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)قدم له طائر مشوي، فرفع يديه بالدعاء طالباً من الله أن يأتي

ص: 413

بأحب الخلق إليه ليشاركة في أكل الطير؛ فدخل عليه الإمام علي بن أبي طالب(علیه السّلام).

ب - إن فقيه أهل السنة الذي كان يستدل على أفضلية أبي بكر بالحديث المنسوب إلى الإمام علي(علیه السّلام)القائل: «خير الناس بعد النبيين أبو بكر ثم عمر». علّق عليه المأمون قائلاً:

وهذا محال أيضاً؛ لأنهما لو كان أفضل الناس بعد النبي حقيقة، لما أمر عليهما النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)عمرو بن العاص وأسامة بن زيد. ولو أن الإمام علياً كان معتقداً بأفضليتهما على نفسه، فلماذا احتج عليهما بعد رحيل رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)بأنه أولى منهما بالخلافة والحكم؟! بعبارة أخرى: إن الروايات الدالة على أفضلية الخليفتين الأولين تتعارض مع كلمات الإمام علي(علیه السّلام)ومواقفه الواردة في مصادر الفريقين بالتواتر، ذلك حيث تحدث عن أولويته، وحقه الثابت، والوراثة، وفضائله التى لم يشاركه فيها أحد من الصحابة، وقوله «لا يقاس بال محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)من هذه الأمة أحد»(1).

كما أن الإمام علياً(علیه السّلام)كان يرى أفضليتهما حقاً، فلماذا كان يطالب بالخلافة لنفسه؟ ولماذل حمل الزهراء(سلام الله علیها)والحسنين(علیهما السّلام)وأخذ يطوف بهم على بيوت الأنصار والمهاجرين يطلب منهم النصرة والبيعة؟! ولماذ تأخر عن بيعة أبي بكرة مدة حياة السيدة الزهراء(سلام الله علیها)، ولم يبايع إلا بعد ستة أشهر كاملة ؟!

ألا تكفي هذه الحقيقة والحقائق الأخرى لإثبات أن هذه الروايات

ص: 414


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 2 و 119 ؛ تاريخ مدينة دمشق، ج 42 ، ص 434 .

الواردة في مدح الخلفاء، وخاصة تلك التي تفضلهم على سائر الصحابة، هي مجرد مختلقات جماعة بعينها؟

تكفى نظرة إجمالية إلى كلمات أمير المؤمنين(علیه السّلام)في نهج البلاغة، ليذعن المحقق المنصف بأفضلية الإمام على(علیه السّلام)على غيره من الخلفاء، وفي الحد الأدنى من وجهة نظر الإمام نفسه(1).

مناقشة وتحليل رواية نهج البلاغة (لله بلاد فلان):

في معرض تحليل الرواية الموجودة في نهج البلاغة وتقييمها، والتي يبدو منها مدح الخليفة الثاني، يجدر الالتفات إلى الأمور الآتية:

1 - الإشكال السندي: لقد بذل الشريف الرضي جامع نهج البلاغة جهداً كبيراً يستحق الثناء في توخي الصحيح من كلام الإمام، ولكنه مع ذلك لم يسلم من الوقوع في الأخطاء أحياناً، غير أن هذه الأخطاء لحسن ظن علماء الشيعة بإنجازه الفذ، لم يتم تسليط الأضواء عليها في القرون الماضية. أما في الآونة الأخيرة فقد بدأ بعض المحققين المدققين يبرزون نقاط ضعف الشريف الرضى في جمعه للكلمات المروية عن أمير المؤمنين(علیه السّلام). وقد بين المحقق المعاصر الشهير الشيخ محمد تقي الشوشتري في شرحه الموضوعي على نهج البلاغة جانباً من جانباً من هذه الحقيقة. من ذلك مثلاً أن الشريف الرضي(قدس سره)ذكر عبارة «كان لي في ما مضى أخي في الله» في باب الحكم (تحت الحكمة رقم: 289)، ونسبها إلى أمير المؤمنين(علیه السّلام)، في حين أنها من كلمات الإمام الحسن(علیه السّلام).

ص: 415


1- انظر: السيد عبد الزهراء الحسيني الخطيب، مصادر نهج البلاغة، ج 1، ص 336.

كما نسب الحكمة رقم (22) التي تقول: «من أبطل به عمله» إلى الإمام علي(علیه السّلام)، ولكنه عاد ونسبها إلى النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)في كتابه الآخر(1).وهكذا الأمر بالنسبة إلى عشرات الموارد الأخرى من مختلقات أمثال سيف ومعاوية التي أبدع المحقق الشوشتري في بحثها ومناقشتها وتحقيقها(2).

من هنا يتضح أنه على الرغم من اعترافنا بقيمة نهج البلاغة والجهد المشكور الذي قام به الشريف الرضي في جمعه، إلا أننا لا نستطيع أن ننسب جميع مضامينه إلى الإمام علي(علیه السّلام)من دون بحث وتمحيص، أو أن نعتبر كل ما ورد فيه من كلام أمير المؤمنين حتى مع وجود القرائن والشواهد على الخلاف.

بل يجب علينا تجديد النظر فى أصالة بعض الخطب من الناحية السندية في الحد الأدنى في مورد شبهة عدم الانسجام مع أسس الإمام نفسه وقواعده. من هنا يذهب المحقق الشوشتري بالالتفات إلى الأدلة والشواهد الآتية، وهي:

أ - مضمون الرواية.

ب - أسلوب الشريف الرضي وطريقته في نسبة الكلام الفصيح المنسوب إلى الإمام علي(علیه السّلام)، من دون التدبّر في مضمونه.

ص: 416


1- انظر: المجازات النبوية ، ص 401، الحدیث: 317.
2- انظر: بهج الصباغة، ج 4 ، ص 369 - 373 ، 67 و 401 و 519؛ وج 6، ص 369 و 371 و 40 و 443 ، وج 7، ص 334 و 598 ، وج ،8 ص 82، وج 9، ص 59 و 365 - 448 و 480 - 509 ، وج 11 ، ص 86 و 409 و 429 و 568، وج 12، ص 19 و 22 و 505 و 601 ، و 13 ، ص 338 ، وج 14 ، ص 224 و 265 ،(نقلاً عن: محمد صحتي سردرودي، مقال: گامي كوچك در شناخت اثري سترگ، المدرج ضمن كتاب: مشعل تجاويد، ص 271. كما تم تضمين هذا الجزء من هذه المقال في کتاب «مظلوم گمشده در سقیفه» الجزء الثاني، ص 275 فما بعد).

ج - المصدر التاريخي لهذه الرواية (تاريخ الطبري، وهو من أهل السنة).

د - غموضها على المستوى الدلالي.

إلى استنتاج أن هذه الرواية تعاني من الإشكال السندي، وعليه لا يمكن نسبتها إلى الإمام علي(علیه السّلام)(1).

2 - انتساب أصل الرواية إلى شخص آخر: إن أصل هذه الرواية صادر عن غير الإمام. فمن خلال الرجوع إلى المصادر التاريخية، من قبيل: تاريخ الطبري وتاريخ ابن عساكر(2)يتضح لنا أنه بعد وفاة الخليفة الثاني قامت شاعرة من شواعر العرب اسمها عاتكة أو ليلى بنت أبي حثمة وأنشدت شعراً في رثاء الخليفة. فأراد المغيرة بن شعبة أن يسمع رأي الإمام علي(علیه السّلام)بشأن موت الخليفة الثاني في هذه المناسبة، فطلب من الإمام أن يبدي رأيه. فأشار الإمام إلى كلام هذه الشاعرة وأضاف إليه شيئاً من كلامه. إذن يجب عدم نسبة مجموع هذا الكلام إلى الإمام علي(علیه السّلام)من دون التفكيك والفصل بين مبتدئه وخاتمته. وأما ما هو الجزء الخاص بالإمام(علیه السّلام)من هذا الكلام فسوف يتضح من خلال النقاط الآتية.

3 - عدم تحديد هوية المعني ب_ «فلان»: الأمر الآخر أنه لم يتم في صدر الرواية ذكر اسم الخليفة الثاني عمر - لا تصريحاً ولا تلويحاً - وإنما هناك إشارة إلى عنوان «فلان» وهو عنوان فضفاض، وحمله على خصوص الخليفة الثاني يحتاج إلى مؤونة. من هنا ذهب بعض المفكرين المتقدمين من أمثال

ص: 417


1- بهج الصباغة، ج 9، ص 481.
2- انظر: تاريخ الطبري، ج 2، ص 746؛ تاريخ مدينة دمشق، ج 4 4، ص 458.

الراوندي(1)، ومن المعاصرين الشيخ صبحي الصالح(2)، إلى احتمال أن يكون المراد من «فلان» هو أحد قادة جيشه، مثل: مالك الأشتر أو سلمان الفارسي(3).والذي يقوي احتمال الراوندي نقله نهج البلاغة عن الشيخ عبد الرحيم البغدادي المعروف ب_ «ابن الإخوة»، عن بنت الشريف المرتضى، عن عمها الشريف الرضي مؤلف نهج البلاغة(4).

4 - التناقض بين صدر الرواية وذيلها: إن الرواية الموجودة في نهج البلاغة تشتمل على تهافت وتضارب وتناقض ما بين أولها وآخرها، فبينما يتحدث صدر الرواية عن تمجید «فلان»، نجد آخر الرواية يقول إن هذا ال_ «فلان» قد ترك الأمة أمام طرق متعددة لا ترجى له الهداية في متاهاتها. إن هذا النوع من الكلام لا يتناسب وشأن الذي نعرفه بالفصاحة والبلاغة. من هنا يبدو وجود تلاعب في هذه الرواية، وعليه ينبغي بأهل السنة أن يلتزموا بمجموع ما ورد في هذه الخطبة، بما في ذلك وصف الخليفة الثاني بأنه عرض الأمة إلى الضلال والضياع وإلى طرق لا تضمن الهداية لمهتدي.

الأمر الآخر أن هذا التناقض يجعل من الصعب القول إن المعني ب_«فلان» هو مالك الأشتر أو سلمان الفارسي أيضاً.

حصيلة الكلام أن هذه الرواية مضطربة ومتهافتة، وإن حمل المراد من «فلان» الوارد فيها على الخليفة الثاني أو أحد قادة جيش الإمام يصطدم

ص: 418


1- انظر: ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 12، ص 3 - 4 .
2- انظر: صبحي الصالح، نهج البلاغة، الخطبة رقم: 219.
3- انظر: الخوئي، شرح نهج البلاغة ، ج 14، ص 374.
4- انظر: مصادر نهج البلاغة، ج 1، ص 208.

بمحذور من نوع خاص، ومن هذا الاضطراب يتضح أن هذه الرواية لا يمكن أن تنسب إلى شخص واحد. وإنما صدر الرواية يعود إلى الشاعرة عاتكة أو بنت حثمة، وآخرها لشخص آخر يمكن أن يكون هو الإمام علي بن أبي طالب(علیه السّلام). وعليه فإن هذه الرواية بصيغتها المنقولة لا تصلح لأن تكون مستنداً، فلا تكون معتبرة.

5 - تناقض الرواية مع مواقف الإمام وكلماته الأخرى: المسألة الأخرى الموجودة في هذه الرواية هي أنها تتناقض مع كلمات الإمام(علیه السّلام)الأخرى، وهي الروايات والكلمات التي تقدم منا ذكرها في الصفحات السابقة، والتي بموجبها كان عمر في رأي الإمام علي قد تعاون مع الخليفة الأول في سلبه حقه في الخلافة بعد رحيل النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)، وأنهما قد خططا بحيث تؤول الخلافة بعد موت الخليفة الأول إلى عمر بن الخطاب، ثم قام هذا الأخير إلى ترتيب صيغة تحرم الإمام علياً من استعادة حقه الثابت، ووصول الأمر إلى عثمان بن عفان

يضاف إلى ذلك أن الإمام عليا(علیه السّلام)قد انتقد سياسة الخليفة الثاني في كثير من المواطن بشدة، فكيف يمكن القول إنه جاء في هذا الموضع ليخالف جميع مواقفه السابقة؟!(1)

6 - التورية والاستهزاء: بالالتفات إلى ما تقدم يحتمل - على فرض صحة صدور الرواية عن الإمام علي(علیه السّلام) - أنها لم تصدر عنه بداعي الحقيقة، وإنما بداعي النقد والتهكم. وهو أسلوب شائع بين المختلفين في الرأي، فلو أن

ص: 419


1- منهاج البراعة، ج 14 ، ص 373؛ الشوشتري، بهج الصباغة، ج 9، ص 481 - 483 .

رجلاً أخذ يكيل الثناء والتمجيد لشخص معروف في اختلافه معه، يفهم منه أنه في سياق التهكم به ونقده بشكل لاذع لوجود قرينة حالية على ذلك، فلا يحمل

كلامه على محل الحقيقة. ويفهم هذا التفسير من الكتاب الذي بعث به معاوية إلى الإمام علي(علیه السّلام)حيث يقول له: «ثم كرهت خلافة عمر وحسدته، واستطلت مدته، وسررت بقتله، وأظهرت الشماتة بمصابه»(1).وقد اختار هذا التفسير بعض المحققين أيضاً(2).

7 - التقية ورعاية المصلحة: الوجه الآخر هو القول بأن الإمام(علیه السّلام)في هذه الرواية إنما يثني على الخليفة الثاني اضطراراً ورعاية للمصلحة من باب التقية. وقد تقدّم أن الخليفتين الأولين - وحتى الخليفة الثالث وإن بنحو أقل - كانوا يحظون باحترام الناس ويتمتعون بالمقبولية والوجاهة عندهم، وإن هذه الوجاهة بطبيعة الحال تشتدّ بعد وفاتهم، وإن الإمام قال تلك الكلمات في حضور من أتباع الخليفتين الأولين من الذين كانوا يتوقعون من الإمام أن يقول شيئاً في تلك المناسبة التي اقترنت بوفاة الخليفة الثاني. كما أن أعداء الإمام من أمثال معاوية كانوا يسعون إلى استدراج الإمام ودفعه إلى التصريح بنقد الخلفاء نقداً لاذعاً على الملأ وبمرأى ومسمع من الناس، كي يغتنموا كلامه في إثارة الدهماء ضدّه، ويضعفون من مكانته، ويرفعون من رصيدهم بين الناس.من هنا كان الإمام محشوراً بين انتقاد سيرة الخلفاء أو الثناء عليهم، وكان عليه أن يراعي المصلحة من جميع الجوانب والجهات(3).

ص: 420


1- الشيخ المحمودي، نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة، ج 4، ص 189 .
2- انظر: المصدر أعلاه؛ شرح الخوئي، ج 14، ص 375.
3- انظر: ابن ميثم البحراني، شرح نهج البلاغة ، شرح الخطبة رقم 219، ج 2، ص 153؛ بحار الأنوار، ج 3، ص 574 .

8 - طرح الكلام على صيغة سؤال وتعجب: إن أصل الكلام المتقدم كان في سياق لقاء المغيرة بن شعبة بالإمام على(علیه السّلام)، وقد أراد المغيرة من الإمام أن يبيّن موقفه من الخليفة الثاني، كي يُفيد من جواب الإمام على جميع الأحوال سلباً أو إيجاباً، فبدأ كلامه بذكر ما قالته بنت أبي حثمة في مدح عمر بنالخطاب، فقال له الإمام(علیه السّلام)على طريقة الاستفهام التعجبي : هل قالت ابنة أبي حشمة هذا الكلام حقاً من أن ...؟!

فالكلام الذي قاله الإمام آنفاً كان على شكل سؤال، إلا أن أهل السنة تعمدوا فيما بعد تجاهل هذه الصيغة الاستفهامية عند شرحهم لنهج البلاغة عمداً أو سهواً(1).

ويؤيد هذا الرأي قول الإمام(علیه السّلام)لها فيما بعد: «أما والله ما قالت، ولكن قولت»(2).

9 - التعريف النسبي: الأمر الأخير الذي يمكن أن يبدو للناظر، وهو أمر متفرع عن ثبوت أصل الرواية هو أن الإمام في هذه الرواية كان غاية الأمر بصدد التعريف النسبي بفضائل الخليفة على المستوى الأخلاقي والديني، وهو أمر شائع بالنسبة إلى رجال السياسة بعد موتهم. لا يخفى أن الخليفة الأول والثاني كانا ملتزمين إلى حد ما فيما يتعلق بأحكام الدين وبيت مال المسلمين. كما أن الخليفة كان يستشير الإمام على(علیه السّلام)وقد أصاب كثيراً من الانتصارات وحقق الإنجازات بفضل تلك المشاورات التي كان الإمام يغدقها عليه، وهذا أمر لا ينكره الشيعة، إلا أن الشيعة يرون مع ذلك أن الخلفاء كانوا

ص: 421


1- انظر: مرتضی مطهري، سيري در نهج البلاغة، ص 164.
2- تاريخ الطبري، ج 2، ص 746 ، وقائع عام 23 للهجرة.

غاصبين لحق الإمام الثابت في الخلافة، وأن الخلفاء الثلاثة قاموا طوال حكمهم ببعض البدع ومارسوا بعض الأعمال المنافية للدين الإسلامي الحنيف.

من هنا فإن رؤية الإمام علي(علیه السّلام)ورؤية الشيعة تبعاً لذلك تجاه الخلفاء رؤية نسبية، فهي من جهة تأخذ الإنجازات التي تستحق التقدير، ومن جهة أخرى لا تغض الطرف عن الأعمال غير المشروعة التي صدرت عن الخلفاء، وعلى رأسها اغتصاب الخلافة من أهلها وأصحابها الشرعيين. وعليه فإن روايات المدح تنظر إلى جانب من الصفات الإيجابية للخلفاء، وكما يقال: «إن إثبات شيء لشيء لا ينفي ما عداه».

تحليل رواية إبراهيم بن محمد الثقفي (فتولى أبو بكر):

تقدم في نقل الشبهة أنّ الإمام علياً(علیه السّلام)مدح الخليفتين الأولين في كتاب له فقال: «فتولى أبو بكر تلك الأمور فيسّر وتشدّد، وقارب واقتصد، فصحبته مناصحاً، ... فلما احتضر بعث إلى عمر فولاه فسمعنا وأطعنا وناصحنا، وتولى عمر الأمر فكان مرضي السيرة ميمون النقيبة».

في تحليل هذا الإسناد والاستدلال يجدر الالتفات إلى الأمور الآتية:

1 - الإقرار بالأخلاق والسلوك النسبي للشيخين: تقدم توضيح هذه الإجابة حيث أشرنا إلى أن الخليفتين الأولين وإن اقترفا خطيئة في أصل التصدّي للخلافة واغتصابها من صاحبها الشرعي عامدين، إلا أنه على الرغم من ذلك كانا يسعيان ما أمكنهما إلى الابتعاد عن العصبية والتطرف في إدارة السلطة، واحتفظا بطريقة عيش طبيعية متوازنة، ولم يتورطا في اكتناز الأموال والثروة لهما أو لذويهما، ولذلك أنصفهما الإمام في مقام تحليل سيرتيهما وقال

ص: 422

فيهما ما يقتضيه العدل والمنطق. وفي الوقت نفسه صرح في ذات الرسالة بسلبياتهما أيضاً، على ما ستأتي الإشارة له. وبعبارة أخرى: إنّ الإمام علياً(علیه السّلام)وشيعته لا ينكرون القيم والأعمال التي قام بها الشخان، وإنهم يثنون على إيجابياتهما، وينكرون عليهما سلبياتهما وأخطاء هما(1).

2 - ملاحظة المخاطبين بالرسالة ومكانة الشيخين عندهم: تقدم هذا التحليل في معرض الإجابة عن الرواية السابقة في نهج البلاغة، حيث قلنا: إن العقل يحكم بأن نأخذ بنظر الاعتبار الأجواء المحيطة بالإمام، والمخاطبين الذين توجه لهم الإمام بالكلام، وعلينا أن ندرك أن أكثر جيش الإمام(علیه السّلام) - من الذين كانوا يريدون منه بيان موقفه ورأيه في الخلفاء - هم من الذين يوالون الخلفاء السابقين، وكانوا يعيشون لحظة فراق الخلفاء بعد رحيلهم، ولذلك فإن الإمام رغم انتقاده لأدائهم في ذلك الكتاب، ولكن حافظ على سقف من النقد لايثير حفيظة المخاطبين، ولم يعدل عن رعاية المصالح العامة. ولذلك نجد العلامة المجلسي يقول في شرح هذا الكلام: «فكان مرضي السيرة : أي ظاهراً عند الناس، وكذا ما مرّ في وصف أبي بكر ، وآثار التقية والمصلحة في الخطبة ظاهرة، بل الظاهر أنها من إلحاقات المخالفين»(2).

3 - مقارنة الخليفتين الأولين بالخليفة الثالث: عندما ندقق في كتاب الإمام علي(علیه السّلام)ندرك أنه كان بصدد الإشارة إجمالاً إلى تاريخ الخلفاء بعد رحیل رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)، وإن الإمام كان في معرض المقارنة بين سيرة الخليفتين

ص: 423


1- انظر: الشيخ علي البحراني، منار الهدى في إثبات النص على إثبات الأئمة الإثنى عشر النجباء، ص 691.
2- العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 33، ص 574.

الأولين وسيرة الخليفة الثالث، والذي يؤيّد ذلك أن أهل السنة أنفسهم يعترفون بأن الخليفة الأول والثاني كانا يراعيان الأحكام الإسلامية ويحافظان على الحياة البسيطة البعيدة عن التجمّل والترف، خلافاً لما كانت عليه سيرة عثمان بن عفان التى بلغت حداً جرّت عليه نقمة المسلمين حتى قتلوه.

وعلى هذا الأساس فإن الإمام عليا(علیه السّلام)كان بصدد المقارنة بين سيرة الشيخين بالقياس إلى سيرة عثمان، ولا يخفى أن سيرتهما لو قيست إلى سيرته فهي تستحق التعريف والتمجيد والثناء، ومن هنا يكون كلام الإمام مبرراً ولا غبار عليه.

4 - انتقادات الإمام اللاذعة للخلفاء في ذات الرسالة: قلنا مراراً وتكراراً إن معرفة مواقف شخص تجاه مسألة ما، لا تتم من خلال انتقاء فقرة من مجموع كلماته، وأخذها بشكل منفصل واعتبارها فصل الخطاب في الموضوع المتنازع عليه، وإنما لا بد من أخذ مجموع كلامه في خصوص تلك القضية بنظر الاعتبار.

إن الذين ذكروا الشبهة المتقدمة عمدوا إلى تقطيع كلام الإمام(علیه السّلام)ليظهروا الخلفاء السابقين بوصفهم مرضيين عند الإمام من جميع الجهات، في حين أن الأمر لم يكن كذلك؛ إذ تشهد ذات الرسالة - التي اشتملت على هذا المقطع من الكلام - على أنهم لو قرأوها من بدايتها إلى نهايتها لاتضح لهم أن الإمام بعد هذين السطرين من المديح المتواضع شحن الرسالة ببيان أعمالهم المنافية لرعاية حقوقه المنصوص عليها من قبل النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)،وفيما يلي نشير إلى بعض هذه الأمور:

ص: 424

1 - التصريح بأحقيته في الخلافة على الناس من الآخرين؛ إذ يقول: «إني أحق بمقام محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)في الناس ممن تولى الأمر من بعده»(1).

2 - بيان فلسفة بيعته لأبي بكر خشية على الناس من الانحراف،وإشفاقاً عليهم من الارتداد، وفي ذلك يقول: «حتى رأيت راجعة من الناس عن الإسلام ... فمشيت عند ذلك إلى أبي بكر فبايعته»(2).

3 - وجود علاقة خاصة بين أبي بكر بن أبي قحافة وعمر بن الخطاب في خصوص تنصيب أبي بكر لعمر في الخلافة بعده، إذ يقول: «فلولا خاصة ما كان بينه وبين عمر؛ لظننت أنه لا يدفعها عني»(3).

4 - تجاهل عمر بن الخطاب لحق الإمام على(علیه السّلام)في الخلافة بعد طعنه، فرتّب الأمور بشكل ينتهي الأمر فيها إلى عثمان بن عفان، وفي ذلك يقول الإمام : حتى إذا احتضر فقلت في نفسي لن يعدلها عني ليس يدافعها عني فجعلنى سادس ستة»(4).

5 - عدم انتخاب أعضاء الشورى للإمام علي(علیه السّلام)لخوفهم من حرمان الإمام لهم من المناصب الحكومية، إذ يقول الإمام علي(علیه السّلام)في ذلك: «فخشي القوم إن أنا وليت عليهم ألا يكون لهم من الأمر نصيب ما بقوا؛ فأجمعوا

ص: 425


1- العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 33 ، ص 568 .
2- نهج البلاغة، الكتاب رقم 62؛مناقب الخوارزمي ، ص 313؛ فرائد السمطين، ج 1، 320، رقم 251؛ تاریخ مدينة دمشق، ج 42 ، ص 434؛ لسان الميزان، ج 2، ص 156 ؛ كنز العمال ، ج 5 ، ص 724 .
3- إبراهيم بن محمد الثقفي، الغارات، ج 1، ص 307؛ العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 33، ص 458.
4- ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، ج 1، ص 97.

إجماعاً واحداً فصرفوا الولاية إلى عثمان وأخرجوني منها»(1).

6 - تصريح الإمام علي بأن بيعته لعثمان كانت بالإكراه والإجبار، إذ يقول: «ثم قالوا هلم فبايع وإلا جاهدناك؛ فبايعت مستكرهاً، وصبرت محتسباً»(2).

7 - تصريح الإمام بتنصيبه للخلافة من قبل النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)، وأنه حق وميراث خصه به الله تعالى بواسطة نبيه، إذ يقول: «أنا الذي طلبت ميراثي وحقي الذي جعلنى الله ورسوله أولى به»(3).

8 - سلب الإمام حقه في الخلافة وتجريده منها ، إذ يقول: «فقال قائلهم يا ابن أبي طالب إنك على هذا الأمر لحريص ! فقلت: أنتم أحرص مني وأبعد، أينا أحرص؟ أنا الذي طلبت ميراثي وحقي؟ ... أم أنتم إذ تضربون وجهي دونه وتحولون بيني وبينه؟ فبهتوا، والله لا يهدي القوم الظالمين. اللهم إني أستعديك على قريش فإنهم قطعوا رحمي وأضاعوا إياي، وصغروا عظيم منزلتي وأجمعوا على منازعتي حقاً كنت أولى به منهم، فسلبونيه»(4).

إن الذي يتمسك بفقرة قصيرة من كتاب للإمام على(علیه السّلام)، عليه أن يدقق في الفقرات الأخرى من الكتاب نفسه أيضاً، وأن يجيب عن سبب حديث الإمام علي - بحدود الهامش المتاح له بالنظر إلى مزاج المخاطبين - عن سلب حقه في الحكم، مما يعني بحسب اللازم عدم مشروعية الخلفاء الذين سبقوه؟!

ص: 426


1- ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، ج 1، ص 97.
2- المصدر أعلاه.
3- المصدر أعلاه.
4- المصدر أعلاه.

وعلى هذا الأساس فإن خير جواب يمكن تقديمه عن هذا السؤال هو أنّ الإمام علياً(علیه السّلام)يؤكد من ناحية على اغتصاب الخلافة من أهلها، وسلب حقه فيها وعدم مشروعية الخلفاء الذين سبقوه، ولكن هذا في الوقت نفسه لا يمنعه بوصفه حكماً عادلاً ألا يتجاهل بعض الأعمال الحسنة والإيجابية، عندما يكون في مقام المقارنة وبيان من هو الأفضل من الخلفاء على المستوى النسبي.

حصيلة الكلام أن مديح الإمام المقتضب للخليفتين الأولين يشبه من يشير إشارة عابرة إلى محاسن شخص، ثم ينهمر عليه بوابل من النقد الشديد الذي يبين مواطن الضعف والأخطاء والمظالم والأعمال المخالفة لروح الإسلام. وهذا النوع من أساليب الكلام شائع على المستوى العرفي في بيان مزايا شخص من الأشخاص سيما إذا كان على مستوى من المسؤولية السياسية والاجتماعية.

الشبهة الثامنة عشرة: تعارض نصوص الخلافة:

اشارة

عمد بعض أهل السنة في مقام نقد ورد النصوص المأثورة عن النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)في إمامة الإمام علي(علیه السّلام)إلى التمسك بالجواب النقضي، وذلك من خلال ادعاء وجود روايات أخرى عن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)أيضاً في خلافة أبي بكر، وهي مروية في مصادر أهل السنة وعلى هذا الأساس تتعارض الروايات المثبتة لإمامة الإمام علي مع الروايات المثبتة لخلافة أبي بكر، والقاعدة الأصولية تقول : «إذا تعارض دليلان تساقطا»، وعليه تسقط الروايات الدالة على إمامة الإمام علي وخلافة أبي بكر عن الاعتبار، وتسقط حجيّتها أيضاً. وحيث لا يكون النص معتبراً، يكون المرجع هو البيعة والشورى(1).

ص: 427


1- انظر: مير شريف الجرجاني، شرح المواقف، ج 8، ص 395؛ الباقلاني، تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل، ص 450 ؛ ابن حزم، الفصل، ج 4 ، ص 9 - 170 .

مناقشة وتحليل:

في معرض نقد هذه الشبهة يجدر التأمل في الأمور الآتية:

أ - عدم وجود روايات خلافة أبي بكر في المصادر الشيعية:

إن أول نقطة تخطر على ذهن أى محقق وباحث منصف حيادى هو هذا السؤال القائل: لماذا لم ترد النصوص والروايات الدالة على خلافة أبي بكر في المصادر الشيعية أصلاً، وإنما اقتصر ذكرها على مصادر أهل السنة فقط، في حين أن النصوص الدالة على إمامة الإمام علي(علیه السّلام)موجودة في مصادر الفريقين من الشيعة وأهل السنة، وهى كثيرة ومتضافرة جداً على ما مر بيانه في الفصل السابق بالتفصيل في معرض الإجابة عن شبهة عدم النص على إمامة الإمام على(علیه السّلام).

بعبارة أخرى: إن مصادر روايات إمامة الإمام علي(علیه السّلام)معتبرة على كلا الفريقين والمذهبين، في حين أن مصادر نصوص خلافة أبي بكر لا تحظى بتأييد من قبل الشيعة؛ إذ لم يرد لها ذكر في المصادر الشيعية القديمة، ومن هنا يذهب التصوّر إلى أن هذه الروايات من إضافات بعض الرواة المتأخرين، وخاصة أولئك الذين يناصبون العداء للإمام علي(علیه السّلام). وهنا لا بد من الإشارة إلى أن رواة الطبقة الأولى لنصوص خلافة أبي بكر إما هم من أنصار معاوية، أو أنها مستندة بشكل وآخر إلى أمثال عائشة التي كانت تضمر البرود أو الكراهية لعلي(علیه السّلام)على ما هو واضح لجميع المتابعين. وعليه لا يمكن لنصوص خلافة أبي بكر أن تعارض روايات إمامة الإمام علي(علیه السّلام)

ب - ضعف النصوص الوارد في مصادر أهل السنة على خلافة أبي بكر:

بالنظر إلى مصادر أهل السنة التي تروي أحياناً النص على غير الإمام علی(علیه السّلام)،يتضح أنها مجروحة وضعيفة، بحيث أن العلماء المنصفين والمحققين

ص: 428

من أهل السنة أنفسهم لا يؤيّدونها، وفيما يأتي نشير إلى بعض هذه المصادر:

تحلیل رواية الحسن البصري:

إن من بين رواة وصية النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)لأبي بكر في مسألة الخلافة

هو الحسن البصري. إلا أنه أولاً: لم يكن معاصراً للنبي، بمعنى أنه لم يكن صحابياً كي يمكن له الرواية عن رسول الله مباشرة.

وثانياً: إن الحسن البصري إنما استنتج اختيار النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)أبا بكر للخلافة من وصيته له بإمامة الجماعة في مرضه. وفي هذا الشأن يجب القول أولاً: هل كانت إمامة أبي بكر لجماعة المسلمين بأمر من شخص النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)أم بإشارة من عائشة؟ هناك من ينكر أمر النبي بذلك، وإنما الذي أمر بذلك هي عائشة، وقال إن النبي عندما علم بالأمر تحامل على نفسه وخرج لكي يصلي بالمؤمنين ويؤم جماعتهم بنفسه.

وثالثاً: كما نبه المنصفون من أهل السنة من أمثال القاضي عبد الجبار المعتزلي(1)،فإنّ إمامة الجماعة نفسها لا تدلّ على تعيين الخلافة لا صراحة ولا تلويحاً.

تحليل رواية بكر بن أخت عبد الواحد:

ومن بين رواة هذه النصوص بكر بن أخت عبد الواحد بن زيد. وقد عدد الشيخ أبو الحسن الأشعري مؤسس المذهب الأشعري في كتابه بعض آرائه الشاذة عن الإسلام، وكونه منافقاً ومن عبدة الشيطان، إضافة إلى ارتكابه للكبائر، مما أستنكره الأشاعرة(2).من هنا يتضح أنه صاحب آراء

ص: 429


1- انظر : المغني، ج 2، ص 123.
2- مقالات الإسلاميين، ص 286 .

شاذة ومخالفة للحق، وإن ادعاءه النص على أبي بكر يعد واحداً من مصاديق تلك الآراء الشاذة.

وقد ردّ الإمام النووي في شرحه على صحيح مسلم رواية بكر بن أخت عبد الواحد وغيره من القائلين بالنص على أبي بكر.

حاصل الكلام أنه لا وجود في مصادر أهل السنة لرواية عن الصحابة الموثوق بهم عند أهل السنة في النص على أبي بكر ، وإن ادعاء ذلك جاء في العصور المتأخرة على لسان رواة تم تضعيفهم وجرحهم من قبل رجال أهل السنة أنفسهم. وعلاوة على ذلك لو كانت هذه الروايات موجودة في عصر الصحابة فعلاً، فلماذا لم تظهر على ألسنة الصحابة وفي عصر أبي بكر نفسه ليضفي بها الشرعية على خلافته؟!

وعلاوة على ما تقدم فقد ادعى بعض العلماء من أهل السنة الإجماع على عدم وجود النص، وقد استثنوا من ذلك بكر بن أخت عبد الواحد فقط ؛ حيث انفرد برواية النص على أبي بكر، ويظهر من ذلك أن بكراً يمثل حالة شاذة في قبال إجماع أهل السنة.

ج - اعتراف أهل السنة بعدم النص:

إن الأكثرية من أهل السنة متفقون ويعترفون بأنه لم يرد أي نص من النبي الأكرم بشأن الإمامة والخلافة بحق أي شخص من الصحابة - بمن فيهم أبو بكر بن أبي قحافة - وهذا الاعتراف من قبل أهل السنة يعني أن أهل السنة أنفسهم لا يقبلون بروايات خلافة أبي بكر، ويشكلون عليها بإشكالات سندية ودلالية. بعبارة أخرى: حيث إن الخصم نفسه لا يؤمن بروايات خلافة أبي بكر ، ولا يعتبرها حجّة، يتضح أمر عدم اعتبارها، وعليه كيف يمكن لمثل

ص: 430

هذه الروايات - التى تعانى من الإشكال السندي والمضمونى باعتراف السنة أنفسهم - أن تعارض النصوص الدالة على إمامة الإمام على(علیه السّلام)؟

بتقرير آخر: إن أهل السنة الذين كانوا يتمنون إثبات مشروعية خلافة خلفائهم بأي وسيلة من الوسائل من خلال إسنادها إلى الشرع والنبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)،غاية ما قالوه بشأن دلالة النصوص على خليفة أبي بكر: إنها لا تبلغ حد الدلالة الواضحة الصريحة، وإنما تبقى على مستوى الخفاء. ومن هنا يتضح أن الروايات التي لا تتجاوز في دلالتها الإشارة والخفاء، لا تستطيع معارضة الروايات الواضحة والصريحة.

وقد أجمع أهل السنة على الاعتراف بعدم وجود النص الصريح على خلافة أبي بكر وعمر بن الخطاب(1).

وعليه فبالالتفات إلى هاتين النقطتين تسقط النصوص الدالة على خلافة أبي بكر عن الاعتبار، وبعدها لا تبقى هناك من حاجة ولا متسع من المجال لذكر جميع الروايات المذكورة في هذا الشأن(2).

د - عدم تمسك أبي بكر وعمر بالنص:

إن الدليل الآخر الذي يُثبت عدم وجود نص على خلافة أبي بكر، هو استناد أبي بكر وشريكه في السقيفة أعني عمر، حيث لم يستشهد أي

ص: 431


1- انظر: البغدادي، الفرق بين الفرق، ص 349 الغزالي، قواعد العقائد،ص 226؛النووي شرح صحيح مسلم، حاشية النووي، ج 12، ص 205؛ ابن كثير، البداية والنهاية، ج 5، ص 219 .
2- انظر: الكتب الكلامية، ذيل بحث الإمامة؛ وانظر أيضاً: علي أصغر رضواني، امام شناسي، ج 2، ص 634 - 645.

منهما هناك بمثل هذا النص. وغاية ما تمسك به أبو بكر في مواجهة الأنصار رواية مطلقة تقول: «الأئمة من قريش». ومن الواضح لو كان هناك نص وارد عن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)في حقه يثبت له الخلافة بما لا يقبل التأويل، لكان قد ذكره في معمعة السقيفة، ولما احتاج إلى التمسك بمثل تلك الاطلاقات التي لا تسمن ولا تغني.

وقد ذكر هذا الدليل بعض مشاهير علماء أهل السنة من أمثال: الإمام النووي في معرض رده وإنكاره لوجود نص على خلافة أبي بكر(1).

ه_ - إقرار الخليفة الأول:

أعرب أبو بكر في الأيام الأخيرة من حياته عن أسفه إذ لم يكن سأل النبي الأكرم عن الأكرم عن أشياء، وذكر من بينها من هو الخليفة بعده، إذ يقول: «فوددت أني سألته هذا الأمر؛ فكنا لا ننازعه أهله»(2).

وكان في تلك الأيام يتحدث عن تعيين الخليفة، ويقول: «إن الله عزّ وجل يحفظ دينه، وإنى لئن لا أستخلف فإنّ رسول الله - صلى الله عليه [وآله] وسلم - لم يستخلف، وإن أستخلف فإن أبا بكر قد استخلف(3).

وعليه فإنه في هذا الكلام علاوة على إقراره بوجود النزاع بشأن

ص: 432


1- شرح مسلم، حاشية النووي، ج 12، ص 204.
2- أبو بكر أحمد الجواهري البغدادي، السقيفة، ص 41 ، بتحقيق ومقدّمة: محمد هادي الأميني.
3- لا يخفى أن هذا الكلام لعمر وليس لأبي بكر، المعرّب. انظر: صحیح مسلم، ج 3، ص 1455 ، الحديث رقم: 1823؛ تاريخ الطبري، ج 2، ص 750؛ ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج 3، ص 65.

الحكم والخلافة، يعترف - فيما يتعلق بشخصه في الحد الأدنى - بعدم وجود نص. أما أن لا يكون هناك نص صادر عن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)في من يلي الأمة، فهو ما سنثبت خلافه.

و - إقرار الخليفة الثاني وغيره بالنص على الإمام علي(علیه السّلام):

بالرجوع إلى مؤلفات أهل السنة نستطيع العثور على موارد من هنا وهناك، حيث يعترف فيها الخلفاء أنفسهم بوجود النص على الإمام على(علیه السّلام)في مجالسهم الخاصة، وفيما يلي نشير إلى بعض هذه الموارد:

و / 1 - إن من بين الموارد هي الحوارات المتعددة بين الخليفة الثاني وابن عباس حيث كان مقرّباً من الخليفة الأول، بوصفه أحد الصحابة المبرزين، وبوصفه عالماً ومفسراً للقرآن، وفي الوقت نفسه كان يؤمن بحق الإمام علي(علیه السّلام)في الإمامة والخلافة ولا يخفى ذلك.

إذ روى ابن عباس، قال: «خرجت مع عمر إلى الشام في إحدى خرجاته، فانفرد يوماً يسير على بعيره فاتبعته، فقال لي: يا ابن عباس أشكو إليك ابن عمك، سألته أن يخرج معي فلم يفعل ، ولم أزل أراه واجداً، فيم تظن موجدته؟ قلت: يا أمير المؤمنين إنك لتعلم. قال: أظنه لا يزال كئيباً لفوت الخلافة! قلت: هو ذاك إنه يزعم أن رسول الله أراد الأمر له. فقال: يا ابن عباس وأراد رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)الأمر له فكان ما ذا إذا لم يرد الله تعالى ذلك، إن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)أراد أمراً وأراد الله غيره فنفذ مراد الله تعالى ولم ينفذ مراد رسوله»(1).

ص: 433


1- ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، ج 12، ص 9 - 78.

وقد تقدم في معرض تحليلنا لحديث الدواة والقلم أن ذكرنا إقرار عمر واعترافه، وقلنا بأنه اتهم النبي الأكرم بمخالفة الوحي والأمر الإلهي، في حين أن أهل السنة أنفسهم يؤمنون بعصمة النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)في مقام الوحي وإبلاغ الرسالة. وعليه فإن استدلال عمر بتحقق الإرادة الإلهية، صحيح. ولكن لا بد من الالتفات إلى أن الإرادة الإلهية على نوعين: إرادة تكوينية، وإرادة تشريعية.

والإرادة التكوينية تشمل جميع الأمور، فليس هناك من شيء صالحاً كان أو طالحاً، واجباً أو حراماً، إلا وقد تعلقت إرادة الله التكوينية به.

وأما الإرادة التشريعية الله، فقد تعلقت بصالح الأعمال ولم تتعلق بطالحها، بمعنى أن إرادة الله التشريعية قد تعلّقت بإسلام جميع الناس، وقيامهم بجميع الأعمال الحسنة، وفي المقابل لم تتعلق إرادة الله التشريعية بالأعمال

القبيحة، من قبيل: المعاصي والكفر. وهذه الإرادة مجرد إرادة تشريعية واعتبارية، بمعنى أن الله يحب لجميع الناس أن يكونوا مسلمين وأن تتصف جميع أفعالهم بالحسن، ولكن للناس في هذه الإرادة حرية كاملة في العمل على تحقيقها أو تركها.

وعليه فإن عدم تعلق إرادة الله بخلافة الإمام علي(علیه السّلام)صحيح من جهة وباطل من جهة أخرى، بمعنى إذا كان المراد من ذلك عدم تعلق إرادة الله التشريعية، فيجب القول: إن إرادة الله قد اتحدت مع إرادة رسوله في تعلقها بخلافة الإمام علي(علیه السّلام)، وقد أمر الله ورسوله بتحقيق وتفعيل هذه الإرادة التشريعية.

أما أن يكون هناك من الناس من حالوا دون تحقيق إرادة الله التشريعية، وخالفوا إرادة رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)،واستولوا على الخلافة بمختلف

ص: 434

الوسائل والطرق، فإن هذا لا يمكن أن يكون خارجاً عن دائرة الإرادة الإلهية، حيث تتعلق إرادة الله به من الناحية التكوينة، إلا أن تعلق مثل هذه الإرادة لا ينتج تشريعاً؛ لأن هذا النوع من الإرادة التكوينية يتعلق بجميع الأمور، حتى ما كان من قبيل الكفر وارتكاب الكبائر أيضاً، وفي الوقت نفسه لا يرضى الله بها.

و / 2 - عن الحسين بن محمد السيني، قال: قرأت على ظهر كتاب أن عمر نزلت به نازلة؛ فقام لها وقعد وترنح لها وتقطر، وقال لمن عنده: معشر الحاضرين ما تقولون في هذا الأمر؟ فقالوا: يا أمير المؤمنين أنت المفزع والمنزع. فغضب ... ثم قال: أما والله إني وإياكم لنعلم ابن بجدتها والخبير بها. قالوا: كأنك أردت ابن أبي طالب؟ قال: وأنى يعدل بي عنه، وهل طفحت حرة مثله؟ قالوا: فلو دعوت به يا أمير المؤمنين؟ قال: هيهات إن هناك شمخاً من هاشم، وأثرة من علم، ولحمة من رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)،يؤتى ولا يأتي؛ فامضوا بنا إليه فانقصفوا نحوه وأفضوا إليه، فألفوه في حائط له عليه تبان وهو يتركل على مسحاته ويقرأ: ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدى﴾(1)، إلى آخر السورة، ودموعه تهمي على خديه؛ فأجهش الناس لبكائه فبكوا، ثم سكت وسكتوا، فسأله عمر عن تلك الواقعة، فأصدر جوابها؛ فقال عمر: أما والله لقد أرادك الحق، ولكن أبي قومك فقال : يا أبا حفص خفض عليك من هنا ومن هنا ﴿إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً﴾(2)، فوضع عمر إحدى يديه على الأخرى، وأطرق إلى الأرض وخرج كأنما ينظر في رماد»(3).

ص: 435


1- القيامة : 36 .
2- النبأ: 17 .
3- ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، ج 12، ص 79 - 80.

و / 3 - الموضع الآخر الذي اعترف فيه عمر بالنص على الإمام علي(علیه السّلام)يعود إلى حديث الدواة والقلم، حيث أقر بأن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)كان يريد في ذلك المجلس تسمية الإمام علي للخلافة، فمنعته من ذلك، على ما مر توضيحه في تحليله في فصل نقد الشبهات المتقدمة.

و / 4 - روي عن ابن عباس أيضاً قال: دخلت على عمر يوماً؛ فقال يا ابن العباس، لقد أجهد هذا الرجل نفسه في العبادة، حتى نحلته رياء! قلت: من هو؟ فقال: هذا ابن عمك - يعني علياً - قلت: وما يقصد بالرياء أميرُ

المؤمنين؟ قال: يرشح نفسه بين الناس للخلافة! قلت: وما يصنع بالترشيح؟! قد رشحه لها رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)فصرفت عنه.

وهنا لا بد من التدقيق في جواب عمر، إذ إنّه لم ينكر أصل الترشيح وانتخاب النبي له، وإنما أخذ يبرر استبعاد الإمام علي(علیه السّلام)عن الخلافة! حيث كان جوابه على ما رواه ابن أبي الحديد المعتزلي السني، أنه قال: «إنه كان شاباً حدثاً، فاستصغرت العرب سنه»(1).

وعليه فإن الخليفة الثانى فى هذا الجواب لم ينكر أصل ادعاء ابن عباس القائل بانتخاب الإمام علي(علیه السّلام)للإمامة والحكم من قبل رسول الله، وإنما عمد إلى تبرير فعلته يوم السقيفة، حيق قدّم أبا بكر على الإمام علي، وقد نسب ذلك إلى العرب زاعماً أنهم أبوا أن يتولى عليهم حدث السن.

وقد ردّ عليه ابن عباس هذا التبرير فى ذات المجلس، ولكن الذي يهمنا هنا ونحن بصدده هو اعتراف الخليفة الثاني بأصل تنصيب الإمام علي(علیه السّلام)من قبل النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم).

ص: 436


1- ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، ج 12، ص 80

و / 5 - روى أبو بكر الأنباري في أماليه: «أن علياً(علیه السّلام)جلس إلى عمر في المسجد وعنده ناس، فلما قام عرض واحد بذكره، ونسبه إلى التيه والعجب؛ فقال عمر: حق لمثله أن يتيه، والله لو لا سيفه لما قام عمود الإسلام، وهو بعد أقضى الأمة وذو سابقتها وذو شرفها؛ فقال له ذلك القائل: فما منعكم يا أمير المؤمنين عنه؟».

ويتضح من سؤال هذا السائل أن أذهان المسلمين في صدر الإسلام لم تكن بعيدة عن وجود النص النبوي على الإمام علي بالخلافة، ولذلك لم ينكر عمر وجود النص، وإنما تذرّع بذات الإسطوانة القديمة وهي صغر سنه، مع إضافة شيء آخر هو أبعد ما يكون عن أخلاق الإمام علي(علیه السّلام)، إذ قال: «كرهناه على حداثة السن، وحبّه بني عبد المطلب»(1).

و / 6 - وفي حوار آخر جرى بين عمر بن الخطاب وابن عباس، قال عمر: «يا ابن عباس، أما والله إن كان صاحبك هذا أولى الناس بالأمر بعد وفاة رسول الله، إلا أنا خفناه على اثنتين. قال ابن عباس: فجاء بمنطق لم أجد بداً معه من مسألته عنه؛ فقلت: يا أمير المؤمنين ما هما؟ قال: خشيناه على حداثة سنه، وحبه بني عبد المطلب»(2).

وقد روى ابن عباس هذه الحادثة مستغرباً منطق عمر بن الخطاب،حيث رآه بعيداً كل البعد عن الاقناع، واعترض عليه بشكل واضح وصريح.

و / 7 - كما ورد الاعتراف والإقرار بوجود النص على إمامة الإمام

ص: 437


1- ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، ج 12، ص 81 - 82.
2- المصدر أعلاه، ج 2، ص 57.

علي(علیه السّلام)عن غير الخليفة الثاني من كبار الصحابة وبعبارة أدق: هناك كثير من الصحابة الذين رووا النص عن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)بخلافة الإمام علي وإمامته، وقد تقدم أن ذكرنا تفصيل ذلك في الفصل الرابع، وعليه نحيل القارئ الكريم إلى ذلك الفصل.

و / 8 - اعترف ابن أبي الحديد المعتزلي شارح نهج البلاغة بعد بيان هذه الموارد بدلالتها على النص، حيث قال: «ما أراها إلا تكاد تكون دالة على النص»(1). ولكنه وقع بين محذورين؛ فإما أن يأخذ بظاهر النصوص، ولازم ذلك القول بقول الشيعة والأخذ بمذهبهم، وبين توجيه سلوك الصحابة الذين أعرضوا عن جميع هذه النصوص، لذلك لجأ إلى أبي جعفر يحيى بن محمد أبي زيد، كي يخرجه من حيرته، وسوف نذكر تبريراته ضمن تبرير الفصل بين النصوص النبوية وتقسيمها إلى دينية ودنيوية، وسوف نقوم هناك بنقد هذه التبريرات.

و / 9 - القاضي عبد الجبار المعتزلي من كبار علماء المعتزلة، وله مؤلفات قيمة، مثل: (المغني في أبواب التوحيد والعدل)، و(شرح الأصول الخمسة) في الإمامة والإمام بعد رحيل النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)،وقد صرّح قائلاً:

«إن مذهبنا أن الإمام بعد النبي علي بن أبي طالب»(2).

ص: 438


1- ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، ج 12، ص 82
2- المغني، ج 1، ص 516 . واستطرد قائلاً: إن الإمام عند المعتزلة بعد النبي الخلفاء الأربعة، وبعدهم يعود الأمر إلى اختيار الأمة. الأمر الآخر أنه على الرغم من اعتباره الإمام علياً إماماً بعد النبي مباشرة ، ولكنه يخالف الإمامية في اشتراط اتصافه بالعصمة والعلم بالغيب، والعلم اللدني فلايشترطها في الإمام . (انظر : المغني، ج20، ص18).

الأمر الآخر أن بعض المعتزلة يفضلون الإمام على(علیه السّلام)على الخليفة الأول، ولكنهم يذهبون إلى عدم اشتراط تقديم الأفضل على المفضول في الإمامة والخلافة، حيث يقولون: «فأما عندنا: إن أفضل الصحابة أمير المؤمنين علي، ثم الحسن والحسين»(1).

ص: 439


1- القاضي عبد الجبار المعتزلي، شرح الأصول الخمسة، ص 767.

ص: 440

الفضيل الخامس

الشبهة في دلالة النصوص على إمامة علي(علیه السّلام)( تأويلات المخالفين)

ص: 441

ص: 442

ذكرنا في الفصول السابقة أن المخالفين لأصل النص والإمامة قد افترقوا إلى طائفتين. الطائفة الأولى أنكرت أصل وجود النص على إمامة الإمام(علیه السّلام)وسائر الأئمة الأطهار(علیهم السّلام). وأما الطائفة الثانية فهي تؤمن بوجود النصوص على الإمامة، وخاصة الأحاديث النبوية الظاهرة في إمامة علي(علیه السّلام)،

ولكنها تشكك في دلالتها، وتعمل على تأويلها. وفي هذا الفصل نتناول تأويلات المنكرين للإمامة بالنقد والتحليل على النحو الآتي:

التأويل الأول: بيان الأولوية والأحقية:

اشارة

إن المخالفين لأصل التنصيب حيث لم يتمكنوا من إنكار أو رفض الروايات الكثيرة المأثورة عن النبي الأعظم(صلی الله علیه و آله و سلم)أو الإمام على(علیه السّلام)في إثبات إمامته بمختلف الألفاظ، عمدوا إلى تأويل هذه الروايات. وقالوا بأن روايات النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)في مقام تعيين وانتخاب الخليفة والإمام بعده لم تكن أمراً دينياً ملزماً، وإنما هي بصدد بيان وتعريف الإمام علي(علیه السّلام)بوصفه أفضل من غيره في التصدي لأمر الإمامة. إذن ليس هناك تنصيب فعلي للإمام علي(علیه السّلام)في أمر الحكم والدولة.

وقد ذكر ابن أبي الحديد رأي معتزلة بغداد على النحو الآتي:

ص: 443

«فإن قيل: فهذا تصريح بمذهب الإمامية. قيل: ليس الأمر كذلك، بل هذا تصريح بمذهب أصحابنا من البغداديين؛ لأنهم يزعمون أنه الأفضل والأحق بالإمامة، وأنه لو لا ما يعلمه الله ورسوله من أن الأصلح للمكلفين من تقديم المفضول عليه، لكان من تقدم عليه هالكاً، فرسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)أخبره أن الإمامة حقه، وأنه أولى بها من الناس أجمعين، وأعلمه أن في تقديم غيره وصبره على التأخر عنها مصلحة للدين راجعة إلى المكلفين، وأنه يجب عليه أن يمسك عن طلبها، ويغضي عنها لمن هو دون مرتبته. فامتثل ما أمره به رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)، ولم يخرجه تقدم من تقدم عليه من كونه الأفضل والأولى والأحق»(1).

وقال أيضاً: وقد صرح شيخنا أبو القاسم البلخي - رحمه الله تعالى - بهذا وصرح به تلامذته(2).

كما قال في تعليقه على كلام الإمام علي(علیه السّلام)إذ يقول: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَعْدِيكَ عَلَى قُرَيْشٍ وَمَنْ أَعَانَهُمْ؛ فَإِنَّهُمْ قَطَعُوا رَحِمِي، وَصَغَرُوا عَظِيمَ مَنْزِلَتِي، وَأَجْمَعُوا عَلَى مُنَازَعَتِي أَمْراً هُوَ لي»(3):

(وأصحابنا يحملون ذلك كله على ادعائه الأمر بالأفضلية والأحقية،وهو الحق والصواب؛ فإن حمله على الاستحقاق بالنص، تكفير أو تفسيق لوجوه المهاجرين والأنصار ...)(4).

ص: 444


1- ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة ، ج 2، ص 296 ، وج 19، ص 306.
2- المصدر أعلاه.
3- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 173.
4- ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، ج 9، ص 307.

وقال في موضع آخر: «وهذا المذهب هو أعدل المذاهب عندي وبه أقول»(1).

وقد مال إلى هذا الرأي الذي صدع به المعتزلة بعض المعاصرين أيضاً(2).وقد تمسك أصحاب هذا الرأي لإثبات رأيهم بروايات مروية عن الإمام علي(علیه السّلام)(3)، أكد فيها على أحقيته بالحكم والخلافة، من قبيل قوله:

«لقد علمتم أني أحق بها من غيري»(4).

نقد ورأي:

في تحليل هذا التأويل يجدر التأمل في النقاط الآتية :

أ - الاجتهاد في مقابل النص:

إن هذا التأويل هو المصداق الأبرز ل_ «الاجتهاد في مقابل النص». بمعنى أن الروايات النبوية - على مختلف ألفاظها - ظاهرة بل نص في جعل وإنشاء الإمامة والخلافة والحكم لعلي(علیه السّلام)، ولكي نعيد تجسيدها إلى الأذهان نذكر نماذج أخرى منها، من قبيل:

-«علي ... إمام أوليائي».

ص: 445


1- المصدر أعلاه، ج 2، ص 297.
2- انظر: أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي الشيعي، ص 21؛ حيدر علي قلمداران، شاهراه اتحاد، ص 95 - 96؛ حکومت در اسلام ص 9 - 141؛ وانظر أيضاً: أحمد القبانجي، خلافة الإمام علي(علیه السّلام)، ص 136 .
3- حيدر علي قلمداران، شاهراه اتحاد، ص 102.
4- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 74.

-«إنك ... إمام من آمن بي».

-«فإنه إمام أمتي وخليفتي عليهم من بعدي».

-«إن إمامكم على»(1).

-«إنه إمام خلقي».

-«يا علي أنت إمام المسلمين، وأمير المؤمنين».

-«إنك لحجة الله على خلقه»(2).

-«أمرنا رسول الله أن نسلّم على علي بأمير المؤمنين».

-«يا أيها الناس إن الله أمرني أن أنصب لكم إماماً ...».

-«إنك لحجة الله على خلقه، وخليفته على عباده».

-«من كنت مولاه، فعلي مولاه»(3).

-«إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم؛ فاسمعوا له وأطيعوه».

-«اخترت لك علياً؛ فاتخذه خليفة ووصيّاً».

-«هو خليفتي من بعدي».

-«يا علي أنت الإمام والخليفة بعدي»(4).

ص: 446


1- إن الآيات المذكورة تحت عنوان روايات المرجعية العلمية والدينية، قد تقدم ذكرها في نقد شبهة فقدان النص ضمن الروايات النبوية في الفصل الرابع.
2- تقدّم بيان هذه الأحاديث ضمن روايات الحجة، في الفصل الرابع.
3- تقدّم بيان هذه الأحاديث ضمن روايات إمامة أمير المؤمنين ووزارته، في الفصل الرابع.
4- تقدّم بيان هذه الأحاديث ضمن روايات الخلافة، في الفصل الرابع. وانظر أيضاً: ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، ج 3، ص 98؛ تاريخ بغداد، ج 14، ص 99؛ تاریخ ابن خلدون، ج 2، ص 481 ؛ كنز العمال، ج 13 ، ص 140؛ تاريخ مدينة دمشق، ج 42 ، ص 41 - 56 و 303 و 330 و 291 و 270.

ونحن نطالب القارئ الكريم والمحقق الفاضل أن يلقى نظرة حيادية مجردة عن الحب والبغض والأحكام المسبقة ولو لمرة واحدة، وأن يقرأها بإنصاف وتجرد. للحق والإنصاف أليست هذه النصوص في مقام جعل حكم الإمامة والخلافة وإنشائها ؟ هل كان النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)في مقام مجرد الإخبار، أو في مقام إنشاء منصب الإمامة للإمام علي(علیه السّلام)؟ ألا يشكل أمر الله لنبيه (بصيغة آمرك)، وما يقوله النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم): «أنصب»، و«أطيعوا» وما إلى ذلك، دليلاً قاطعاً على مقام التنصيب والإنشاء؟! وعليه يكون تأويل المخالفين اجتهاداً في مقابل النص!

ب - تعارض التأويلات مع سيرة الإمام علي(علیه السّلام):

الإشكال الآخر الذي يرد على هذا النوع من التأويلات، أنها تتعارض مع المباني والسيرة النظرية والعملية للإمام علي(علیه السّلام). إن الاحتمال الضعيف القائل بأن الإمام من خلال التصريح بحقه بصدد إثبات أولويته وأفضليته فقط وأنه كان مؤمناً بفضل الآخرين ولكن بدرجة أقل من فضله، يخالف سيرته؛ لأن الإمام عمد مراراً وتكراراً إلى بيان عدم صلاحية الخليفة الأول، بشكل صريح تارة، وبالتلميح تارة أخرى، وفيما يأتي نشير إلى بعض هذه الموارد:

ب - طلب النصرة من الأصحاب لاسترجاع حقه في تشكيل الحكم: لو أنه لم يكن هناك نص من قبل النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)على إمامة الإمام علي(علیه السّلام)، وأن الخلفاء الثلاثة الأوائل كانوا يتمتعون بالصلاحية الكافية لتولي الحكم، فما هو المبرّر والمسوّغ الذي أباح للإمام علي أن يخرج بالسيدة فاطمة الزهراء(سلام الله علیها)والحسنين(علیهما السّلام)ليلاً لطلب النصرة من أصحاب النبي وأصحابه أن يعينوه على

ص: 447

استعادة حقه المغتصب في الخلافة؟(1).

وسوف نذكر تفصيل هذا الموقف من الإمام على(علیه السّلام)في معرض الإجابة عن شبهة عدم قيام الإمام بأي فعل للحصول على الحكم في الصفحات القادمة إن شاء الله تعالى.

ب - تصريح الإمام بمنع حقه واغتصابه: لو ألقينا نظرة مقتضبة على

مقاطع من نهج البلاغة، سندرك أن الإمام علياً(علیه السّلام)قد تحدث مراراً عن منع حقه المسلّم والثابت من قبل بعض الأشخاص المعلومين، وتارة يشكوهم إلى الله وتارة يصفهم بالظلم والاغتصاب، وهذه التصريحات لا تنسجم مع نظرية كونه مجرد أفضل أو أولى. وفيما يأتي نشير إلى بعض هذه المقاطع:

-«فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجى، أرى تراثي نهباً»(2).

وعليه لو تولى الخلافة بدل الإمام حاكم على درجة من العدل والانصاف، والاتصاف بشروط الحاكم الصالح ( في الحدود الدنيا، دون العليا)، هل كان هناك من موقع للشكوى وبث الهموم والآهات؟ أم أن المسألة أكبر وأبعد من ذلك بكثير؟ إن تعبير الإمام حيث يقول: «تراثي» يثبت أن الإمامكان يعني أن الأمر قد بلغ حد اغتصاب التركة التي أوصى بها رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)

ص: 448


1- انظر: نهج البلاغة، الخطبة الثانية؛ ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، ج 2، ص 47 ، وج 11، ص 114؛ العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 29، ص 419؛ كتاب سليم بن قيس الهلالي، ص 146 - 148؛ مستدرك الوسائل، ج 11، ص 47.
2- نهج البلاغة، الخطبة الثالثة؛ ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، ج 1، ص 151 ، وج 10، ص 286.

له بالحكم والخلافة.

- «اللهم أخز قريشاً؛ فإنها منعتني حقي، وغصبتني أمري»(1).

ربما شكك أحد في الفقرة السابقة، وعمد إلى حمل كلمة «تراثي» على مسألة فدك أو مسائل أخرى غير الخلافة، إلا أن هذا النص من الإمام يتحدث عن اغتصاب حق و «أمر»، وهو صريح في الحكم والخلافة.

- «أما بعد، فإنه لما قبض الله نبيه(صلی الله علیه و آله و سلم) قلنا: نحن أهله وورثته وعترته وأولياؤه دون الناس، لا ينازعنا سلطانه أحد، ولا يطمع في حقنا طامع، إذ انتزى لنا قومنا فغصبونا سلطان نبينا، فصارت الإمرة لغيرنا، وصرنا سوقة يطمع فينا الضعيف ويتعزّر علينا الذليل»(2).

إن مفردات هذا النص زاخرة بالمضامين السياسية على ما هو واضح.

- «فإنهم غصبوني حقي، واغتصبوني سلطان ابن أمّي»(3).

وفي موضع آخر انتقد الإمام على(علیه السّلام)جميع الخلفاء الذين سبقوه، وحكم عليهم بالخروج عن سنة النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)، إذ يقول:

- «فإن هذا الدين كان أسيراً في أيدي الأشرار، يُعمل فيه بالهوى، وتطلب به الدنيا»(4).

- «زرعوا الفجور، وسقوه الغرور ، وحصدوا الثبور»(5).

ص: 449


1- ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، ج 9، ص 306.
2- محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 29، ص 634.
3- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 9، ص 306.
4- نهج البلاغة، الكتاب رقم: 53 .
5- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 1، ص 139.

قال ابن أبي الحديد في وصف هذه الروايات وما كان على شاكلتها من المأثور عن الإمام علي(علیه السّلام): إنها تبلغ حد التواتر، ولكنه لتعصبه للخلفاء السابقين، لا يجد مندوحة من تأويلها والتصرف في دلالتها على ما مر بيانه(1).

ج - تعارض التأويلات مع مواقف بعض الصحابة وسائر الأئمة:

إن حمل نصوص الإمامة على الأحقية البحتة والصرفة، يُنافي فهم بعض كبار الصحابة ومواقفهم من أمثال : سلمان الفارسي وأبي ذر الغفاري والمقداد بن الأسود وعمار بن ياسر ومالك الأشتر النخعى وابن عباس، وكذلك مواقف سائر الأئمة المعصومين(علیهم السّلام)؛ إذ إنهم كانوا يعتقدون بأصل تنصيب الإمام علی(علیه السّلام) وحقه الحصري في الإمامة ،والخلافة، وقد تقدم نقل كلماتهم في الفصل السابق.

والشاهد الآخر على هذا الفهم من قبل الصحابة ما كان يقوم به الإمام على(علیه السّلام)من مناشدته للصحابة ومطالبتهم بالشهادة له بما سمعوه من النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)بحقه في مقام إثبات إمامته وحكومته الإلهية، وذلك حيث سمعوا نص التنصيب من لسان النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)مباشرة ، وقد عرفت هذه الظاهرة في تاريخ ولاية الإمام علي(علیه السّلام) ب_ «المناشدات». وقد شهد له على أساس ذلك الكثير من الصحابة، حيث لم ينكروه، وإنما صدقوه وأيدوه(2).

كما أكد سائر الأئمة الأطهار(علیهم السّلام) - وخاصة الإمام الحسن والإمام

ص: 450


1- ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، ج 9، ص 306.
2- انظر: ابن كثير، البداية والنهاية، ج 7، ص 47 ؛ ابن جرير الطبري، تاريخ الطبري، ج 5، ص 402.

الحسين(علیهما السّلام)اللذين يتمتعان بمنزلة عالية عند الشيعة وأهل السنة على السواء على أصل التنصيب، وما لحق بهم من الظلم في اغتصاب الخلافة منهم(1).تقدم تفصيل آراء بعض الصحابة بشأن أصل التنصيب في معرض نقد شبهة مبايعة مرشح السقيفة، ودعم الناس والأنصار للخليفة الأول في الفصل الرابع.

اعتراف المبررين والمتأولين : يسعى ابن أبي الحديد المعتزلي في معالجته لجميع نصوص الإمام إلى تأويلها وتكلّف حملها على غير ظاهرها لمختلف الذرائع والحجج، رغم اعترافه المتكرر بأن ظاهرها يدل على ما يذهب إليه الشيعة من القول بأصل الإمامة والخلافة. ومن ذلك ما قاله في تأويل وتبرير كلام الإمام علي(علیه السّلام)بشأن اختصاص الإمامة والخلافة به، فقال:

«لكن الإمامية والزيدية حملوا هذه الأقوال على ظواهرها، وارتكبوا بها مركباً صعباً، ولعمري إن هذه الألفاظ موهمة مغلبة على الظن ما يقوله القوم»(2).

د - حيرة المتأولين ما بين الإمام علي(علیه السّلام)وبعض الصحابة:

لقد وقع القائلون بفضائل الإمام علي(علیه السّلام)وكمالاته من أهل السنة بين محذورين، إذ تحتم عليهم من جهة - لعلمهم بفضائل الإمام علي الثابتة التي لا سبيل إلى إنكارها ومكانته من رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) - أن يؤمنوا بشخصيته الإلهية - وصدق حجيته وقوله، ومن جهة أخرى فإنهم حيث يذهبون إلى (نظرية

ص: 451


1- انظر: ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج 4،ص 47؛ابن جرير الطبري، تاريخ الطبري، ج 5 ، ص 402 .
2- ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة ، ج 9، ص 307.

عدالة جميع الصحابة ) يرون سلوك الصحابة مطابقاً للكتاب والسنة(1).فيقفون بين هاتين الرؤيتين (الإيمان بشخصية الإمام علي(علیه السّلام)وقامته العملاقة وبين عدالة الصحابة جميعهم) على مفترق طريقين، وخاصة عندما يقفون أمام التصريح الواضح من الإمام علي(علیه السّلام)وحديثه عن اغتصاب الآخرين لحقه وتراثه الثابت له بوصيّة من رسول الله في الخلافة، وشكواه من الظلم والجور الذي لحقه في هذا الشأن خاصة من الخليفة الأول والثاني. وقد سعى إخواننا من أهل السنة للخروج من هذا المأزق بحمل كلام الإمام علي على خلاف ظاهره، وهناك من عمد إلى تفضيل بعض الصحابة عليه، وهذا المنهج أولاً : يخالف مبنى بعض المعتزلة الذين يرون أفضلية الإمام علي(علیه السّلام)على سائر الصحابة؛ إذ وجدوا أن الذهاب إلى هذا الرأي سيضطرهم إلى الوقوف مع الإمام وتخطئة ما قام به بعض الصحابة. وثانياً: إن التبرير الذي يذكره هذا البعض من أهل السنة يؤدي - عند التدقيق فيه - إلى تخطئة أمير المؤمنين(علیه السّلام)

ص: 452


1- وهذا هو المحذور الذي وقع فيه ابن أبي الحديد المعتزلي، كما يتجلى ذلك من محاورته لأستاذه أبي جعفر يحيى بن محمد حول الخطبة رقم 163 من نهج البلاغة، التي قال فيها الإمام علي(علیه السّلام): «فإنها كانت شحت عليها نفوس قوم». حيث يقول: سألت أبا جعفر يحيى بن محمد العلوي نقيب البصرة وقت قراءتي عليه، عن هذا الكلام وكان - رحمه الله - على ما يذهب إليه من مذهب العلوية منصفاً وافر العقل، فقلت له: من يعني(علیه السّلام)بقوله «كانت أثرة شحت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس آخرین»؟ .. إن نفسي لا تسامحني أن أنسب إلى الصحابة عصيان رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)ودفع النص؛ فقال: وأنا فلا تسامحني أيضاً نفسى أن أنسب الرسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)إلى إهمال أمر الإمامة وأن يترك الناس فوضى سدی مهملين، وقد كان لا يغيب عن المدينة إلا ويؤمر عليها أميراً وهو حي ليس بالبعيد عنها، فكيف لا يؤمر وهو ميت لا يقدر على استدراك ما يحدث ؟!.

والعياذ بالله ؛ إذ عندما يتحدث الإمام عن الظلم الذي لحق به واغتصاب حقه الثاب والحصرى، يكون لازم ما ذهب إليه أهل السنة أن يكون الإمام علی(علیه السّلام)كاذباً في ما يدعيه والعياذ بالله .

في حين أن عصمة الإمام على(علیه السّلام)ومقامه الخاص ومنزلته الرفيعة ثابتة بالروايات المستفيضة المأثورة عن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)على ما تقدم بيانها والتأكيد عليها. وإن ابن أبي الحديد - الذي يُعدُّ من بين المبررين والذين يختلقون الذرائع لتوجيه عمل الصحابة - من المعترفين بعصمة الإمام علي(علیه السّلام)أيضاً(1).

واللازم الآخر الذي يترتب على موقف أهل السنة في التبرير المتقدم هو أن الصحابة الذين وقفوا إلى جانب الإمام علي(علیه السّلام)من أمثال: سلمان الفارسي وأبي ذر الغفاري، والأهم من ذلك سيدي شباب أهل الجنة، أي الإمامين الحسن والحسين(علیهما السّلام)، منحرفون عن طريق الحق وجادة الصواب والعياذ بالله .

ه_ - وجوب اتباع الحق دون الأشخاص:

إن لازم البحث الاستدلالي هو اتباع جوهر الحقيقة حيثما وجدت وكانت. وبعبارة أخرى: يجب علينا أن نتبع الدليل والحقيقة، من دون الالتفات إلى من يمتلكها، وقد قيل في ذلك: «انظر إلى ما قال، ولا تنظر إلى من قال»، و«نحن أبناء الدليل، حيثما مال نميل».

ص: 453


1- انظر: شرح نهج البلاغة، ج 6 ، ص 376 .

وعلى هذا الأساس فإننا إذا كنا نؤمن حقيقة بشخصية الإمام علي(علیه السّلام)، ونعتبر كلماته صادقة وأنها تمثل عين الواقع والحقيقة، فما ذلك إلا لدلالة النصوص النبوية والعلوية على حصر أمر الخلافة والحكومة عليه، وعليه ليس أمامنا غير اتباع هذه الأدلة والحقائق حتى إذا سار كل من في هذا العالم على خلافها. وأما أهل السنة فقد تنكبوا جادة الصواب وتنكروا لهذا الحكم العقلي، فإنهم - للأسف الشديد - حيث وجدوا أن هذه الأدلة والنصوص المتواترة تمس بعض الأشخاص، سارعوا إلى الانحياز إلى جانب الأشخاص على حساب الدليل والحقيقة!

و - عدم دلالة شيء على نفى ما عداه:

إن من بين الأدلة التي تمسك بها أنصار هذا التبرير والتأويل كانت هي الأحاديث المأثورة عن الإمام علي(علیه السّلام)التي وصف فيها نفسه بأنه «الأحق» بمنصب الخلافة من غيره. إلا أن هذا الاستدلال على هذا التبرير في غاية الضعف؛ إذ بناء على الأصل العقلي القائل: «إن إثبات شيء لا ينفي ما عداه»، وعليه لا يمكن أن يستنتج من أحقية الإمام علي بمنصب الخلافة نفي أصل التنصيب. بعبارة أخرى: إنّ الإمام علياً(علیه السّلام)كان يستدل لإثبات إمامته في مختلف المقامات وبحسب المقتضيات والظروف. وإن من بين أساليبه إثبات أحقيته لأولئك الذين كانوا يسعون إلى إضعاف موقعه ومكانته ومنزلته بمختلف الذرائع والحجج ، من قبيل: صغر سنه، أو قلة تجربته بالمقارنة إلى الخليفة الأول، وقد استند الإمام في مواطن أخرى بأصل التنصيب، وخاصة بحديث الغدير، وحديث المنزلة، وحديث الخلافة، وحديث إمرة المؤمنين. وعليه يجب في تحليل موقف الإمام(علیه السّلام)مسألة الإمامة أخذ جميع الأبعاد والأحاديث

ص: 454

المروية عنه، وعدم التركيز على حديث واحد. وتجاهل أو إنكار سائر الأحاديث الأخرى.

التأويل الثاني: الحمل على الترشيح:

اشارة

وهناك من يذهب إلى الاعتقاد بأن الروايات النبوية الدالة على إمامة الإمام علي(علیه السّلام)ظاهرة بل صريحة في حكومته وإمامته، إلا أن هذا الظهور لا يبلغ حد الجعل والإنشاء بوصفه حاكماً ودستوراً دينياً وشرعياً، بل هو مجرد إرشاد واقتراح على الأمة الإسلامية بأن الإمام علياً(علیه السّلام)كان موضع اهتمام النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)بوصفه خليفة وحاكماً، مع احتفاظ الأمة بحقها في حرية الاختيار والانتخاب، وإن اتباع اختيار النبي وإن كان فعلاً مرضيا للنبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)، إلا أن عدم اتباعه لا يبلغ حدود المعصية والخروج على طاعته.

وبعبارة أخرى: إن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)في مقام التعريف بالمرشح المدعوم من قبله والمفضل عنده، عمد إلى تقديم الإمام على(علیه السّلام)إلى الناس مراراً، كما عليه العُرف السائد حالياً بين الأحزاب والشخصيات السياسية والدينية والاجتماعية عندما تقدم مرشحيها إلى الناس بغية انتخابهم. والجدير بالذكر هو أن اختلاف هذه الرؤية عن الرؤية السابقة (الحمل على الأحقية)، يكمن فى أن الرؤية السابقة كانت ترى أن الإمام علياً(علیه السّلام)هو الأفضل والأولى من جمیع الصحابة، وفي الوقت نفسه تذعن بصلاحية الخلفاء السابقين ولو بشكل سطحي، وأما هذه الرؤية (الترشيح) فقد لا تستوعب صلاحية الخلفاء السابقين، ولكنها في الوقت نفسه تنكر أصل التنصيب بمعنى الإلزام الشرعي، بل تحمل جميع النصوص الواردة في إمامة الإمام علي(علیه السّلام) - كما تقدم أن ذكرنا - على الترشيح لا أكثر.

ص: 455

الأمر الآخر أن القائلين بنظرية الترشيح قد يذعنون بأصل التنصيب في مقام الهداية والمرجعية العلمية والدينية للإمام على(علیه السّلام)، ولكنهم ينكرون التنصيب بمعنى الحكم وقيادة الدولة، وغاية ما هنالك يسلّمون بوجود «النص» دون «التنصيب» ويحملون ذلك على مجرد الترشيح، كما نجد ميلا إلى ذلك مؤخراً عند بعض العلمانيين من الشيعة(1). فهؤلاء يُنكرون أصل الحكومة الشرعية والإلهية فضلاً عن الحكومة الشرعية للنبي أو الإمام. وقد نسب الدكتور علي شريعتي هذا الرأي إلى بعض المستنيرين من المسلمين، وأضاف أنه كان على هذا الرأي ردحاً من الزمن حتى عدل عنه فيما بعد(2).

ومن خلال التدبر والتأمل في آراء بعض القدماء من أهل السنة يمكن استظهار هذا الرأي من ظاهر عباراتهم، كما نجد ذلك من ابن أبي الحديد المعتزلي حيث قال بعد إنكاره النص الصريح والقطعي بشأن إمامة الإمام علي(علیه السّلام): «ولكن قد سبق إلى النفوس والعقول أنه قد كان هناك تعريض وتلويح وكناية وقول غير صريح وحكم غير مبتوت، ولعله(صلی الله علیه و آله و سلم)كان يصده عن التصريح بذلك أمر يعلمه ومصلحة يراعيها أو وقوف مع إذن الله تعالى في ذلك»(3).

ص: 456


1- انظر: سيد أمير علي الهندي، نقلاً عن: محمد واعظ زادة مجلة مطالعات اسلامي، العدد: 60 ، ص 38؛أحمد القبانجي، خلافة الإمام علي(علیه السّلام)، ص 11 و 13 و 14 و 40 و 136 .
2- انظر: الدكتور علي شريعتي، الأعمال الكاملة ، ج 15، ص 47 ، ج 30، ص 626، هامش 213، ج 35 ، ص 346.
3- ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، ج 2، ص 59 .

نقد ورأي:

إن أكثر الانتقادات الواردة على القول بمجرد الأفضلية، واردة على هذه الرؤية أيضاً، وعليه سنشير إلى هذا الانتقادات إشارة عابرة ضمن العناوين الآتية:

أ - الأصالة التأسيسية والاحترازية في عملية التقنين:

إن القوانين والمواد الدستورية التي تتم المصادقة عليها في السلطة التشريعية أو الجهة المشرعة، تتمتع بأصالة في التأسيس والإنشاء والإلزام، وليس لأحد أن يعارض القانون أو يخالفه بحجة عدم كونه ملزماً.

الأمر الآخر هو أن القرارات والأحكام الإلزامية في إطار القوانين والتشريعات يستعمل غالباً على صيغة الجملة الخبرية، ودلالة هذه الصيغة على الوجوب والإلزام واضحة عند خبراء الحقوق وضوح الشمس. وإن أكثر أحكام القرآن الكريم والسنة الشريفة جاءت في إطار الجمل الخبرية التي يصفها الأصوليون بأنها في مقام الوجوب(1). من قبيل حكم عدة المرأة في قول الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ المطلقة قُرُوع ﴾(2).

إنّ الأصل والمبنى العرفي والحقوقي يمثل أصل التشريع وجعل الحكم الجديد، وهو أمر يستتبع كونه واجباً وملزماً.

ص: 457


1- انظر: الآخوند الخراساني، كفاية الأصول، ج 1، ص 104؛ الإمام الخميني، تهذيب الأصول، ج 1، ص 205.
2- البقرة: 228.

ب - ظهور الروايات في الجعل والإنشاء بل نصها:

إن إعادة النظر في روايات الإمامة المأثورة عن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)،تثبت أن ظهورها بل نصها في جعل إمامة الإمام علي(علیه السّلام)وإنشائها من قبل الله سبحانه وتعالى. وقد تقدّم منا إيضاح هذا الدليل.

ج - التعارض مع سيرة الإمام(علیه السّلام):

إنّ خُطب الإمام علي(علیه السّلام)وكلماته ظاهرة بل نص في أن الخلفاء السابقين قد اغتصبوا حقه وظلموه، إلا أن هذا الموقف من الإمام على تجاه الخلفاء السابقين لا ينسجم مع نظرية الترشيح للإمامة. إذ مع ترشيح النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)للإمام على بوصفه مرشحاً وأنه أفضل من يقود المسلمين، لا يكون هناك في انتخاب الخلفاء الثلاثة الأوائل أي ظلم أو جور أو اغتصاب لحق الإمام علي(علیه السّلام). وبعبارة أخرى إن لازم القول بالترشيح، تخطئة الإمام علي(علیه السّلام)في ادعاء المظلومية والعياذ بالله.

د - التفسير العلماني للإمامة:

إن الاتجاه الآنف نحو الإمامة هو اتجاه علماني، ويتمثل ضعف هذا الاتجاه في تقطيع أوصال شأن الإمامة ومنزلتها، وقد أوضحنا في الفصل السابق عند تعريفنا للإمامة أن الإمامة في لغة القرآن الكريم والسنة الشريفة لها معنى جامع يشمل الرئاسة الدنيوية والدينية أيضاً.

وما ذكرناه على الشبهة السابقة من أمور وانتقادات يجري على هذه الشبهة أيضاً، ولذلك فإنا نكتفى هنا بإحالة القارئ الكريم عليها.

ص: 458

التبرير الثالث: اختصاص الإمامة بالهداية والمرجعية العلمية والدينية:

اشارة

هناك من يذهب إلى الاعتقاد بأن ماهية الإمامة تقوم على عنصر الهداية في الإمام، وبعبارة أخرى تقوم الإمامة على القيادة والمرجعية الدينية، من هنا فإن الروايات الواردة عن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)بشأن تنصيب الإمام علي(علیه السّلام)إماماً على المسلمين، تقتصر في دلالتها على الهداية فقط، وليست ناظرة إلى أمر الحكم والخلافة.

وبعبارة أخرى: إذا واجه الناس مشكلة في أمر الهداية وتفسير التعاليم الدينية، فإن مرجعهم الشرعي الوحيد في تفسير الدين هم الأئمة.

قال ابن أبي الحديد في تفسير الحديث النبوي القائل: «إن إمامكم علي بن أبي طالب فناصحوه وصدقوه ... »:

«فإن قلت هذا نص صريح في الإمامة فما الذي تصنع المعتزلة بذلك. قلت يجوز أن يريد أنه إمامهم في الفتاوي والأحكام الشرعية لا في الخلافة»(1).

ثلاثة تقريرات أخرى:

تقديم ثلاثة تقريرات وقراءات عن هذه الشبهة نذكرها على النحو الآتي:

أ - الفصل بين الإمامة والخلافة:

يذهب بعض علماء الشيعة إلى الفصل بين الإمامة والخلافة، حيث

ص: 459


1- ابن أبي الحديد المعنزلي، شرح نهج البلاغة، ج 3، ص 98.

يقولون : إنّ النصوص الروائية الدالة على تنصيب الإمام علي(علیه السّلام)في منصب الإمامة تعني المرجعية العلمية والدينية للإمام علي(علیه السّلام)، وهي غير ناظرة إلى منصب الحكومة والخلافة(1). وقد مال آية الله الشيخ محمد صالح الحائري إلى هذا الرأي؛ إذ قال:

«لا يجب على الإمام المنصوب والمنتخب أن يقوم بالشؤون السياسية وأمور الدولة والخلافة؛ لأن هذه الأمور ترتبط بأشياء أخرى لا تشترط في الإمامة ... إن الإمام في قاموس الشيعة لا ينافي الخلافة، وعليه ففيما يتعلق بإثبات الخلافة لا حاجة إلى إنكار الإمامة»(2).

وقد استطرد قائلاً بتصحيح وشرعية خلافة الخلفاء الثلاثة الأوائل،مقترحاً طريقاً إلى التقريب بين أهل السنة والتشيع من خلال الفصل بين الإمامة والخلافة.

وهناك من نقل أن آية الله البروجردي كان يستتند ويؤكد مراراً على حديث الثقلين دون حديث الغدير. بيد أن الراوي يرى موقف آية الله البروجردي بشأن غصبية أو شرعية خلافة الخلفاء الثلاثة الأوائل ملتبساً.

ص: 460


1- انظر: العلامة السمناني، مقال: «منهاج علمي للتقريب إلى إخواننا المسلمين»، المطبوع في كتاب (الوحدة الإسلامية أو التقريب بين المذاهب الإسلامية)، إعداد: عبد الكريم بي آزار الشيرازي.
2- مقال: «إمامت وخلافت» المطبوع في: (همبستگي مذاهب اسلامي)، ص 257، :ترجمة عبد الكريم بي آزار الشيرازي. جدير بالذكر أن مجموع مقالات هذا الكتاب عبارة عن مجموعة مختارة من مقالات مجلة رسالة الإسلام نشرت قبل عقود عن دار التقريب في مصر.

ب - الفصل بين الإمامة والحكومة (العلمانية):

عمد بعض العلمانيين من المسلمين الأعم من أهل التسنن والتشيع إلى تخصيص أصل الدين والتديّن بحقل الهداية المعنوية ودائرة الأحكام والشريعة وأنكروا أي نوع من أنواع تدخل الدين في دائرة الحكم والسياسة، حيث عمدوا في المرحلة الأولى إلى فصل النبوة عن الشؤون الدنيوية، وبعبارة أخرى قالوا بالعلمانية. ومن بين الدعاة إلى هذه النظرية في العالم السني في القرن الأخير عبد الرزاق المصري(1).

كما شاعت هذه الرؤية في عالم التشيّع في القرن الأخير أيضاً، حيث هناك من أنكر تدخل مقام النبوة في حقل السياسة والدنيا(2). ومن خلال هذه الرؤية يتضح الموقف من الإمامة أيضاً. ولكن هناك طيفاً من هذه الجماعة قال بتدخل النبوة في الحياة الدنيوية للإنسان، إلا أنه أنكر مثل هذا الأمر على الإمامة والأئمة(3). وفى العقود الأخيرة تمّ تناول التوجه العلماني إلى النبوة والدين بالتحليل والنقد التفصيلي، وقد عملت في حدود وسعي على تناول هذه المسألة في كتاب (آيين خاتم)(4).وموضوع بحثنا هنا هو بحث نسبة الإمامة إلى الدنيا، وبتبع ذلك مسألة السياسة والحكومة، وقد قيل في تقرير هذه الشبهة:

ص: 461


1- انظر: عبد الرزاق المصري، الإسلام وأصول الحكم.
2- انظر: مهدي الحائري اليزدي، حكمت و حکومت، ص 82 و 143 و 159 و 170؛ مهدي بازرگان، آخرت و خدا هدف بعثت، ص 43 - 229 .
3- انظر : حيدر علي قلمداران، حکومت در اسلام، ص 28 فما بعد.
4- انظر: محمد حسن قدردان قراملکي، آيين خاتم، فصل «شمولية وكمال الدين وأهداف الأنبياء»؛ وانظر لنا أيضاً: «قرآن وسكولاريزم».

«إن حقيقة النبوة والرسالة تعني معرفة الأحكام والإرادة التشريعية لله من طريق الوصول إلى قمة الكمال الإنساني والأخلاقي الحاصل من طريق العلم الحضورى وشمول العناية الإلهية. وإن الإمامة جزء من مفهوم وماهية النبوة، وهي مثل مقام النبوة ظاهرة معنوية وروحية إلهية سامية تتجلى على الأرض من قبل الله، وهي غير متوقفة أبداً على بيعة الناس وانتخابهم ... أما الخلافة التي تعني القيادة السياسية فهي ظاهرة دنيوية، ولا تعني سوى منهج إدارة الدولة الذي ينبثق عن الضرورات الطبيعية والتعايش السلمي بين الناس، وليس لها أي ارتباط منطقي أو كلامي أو اعتقادي بمقام النبوة والإمامة الرفيع أبدأ »(1).

ج - الفصل بين النصوص النبوية الدنيوية وبين النصوص النبوية الدينية (القراءة العلمانية للصحابة):

أما التبرير الذي تم طرحه مؤخراً، والذي يعكس في الوقت نفسه رأي بعض القدماء من أهل السنة - وخاصة من مذهب المعتزلة - فهو يعترف بأصل النصوص الواردة من قبل النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)في إمامة الإمام علي(علیه السّلام)، ولكنه يقول إن هذه النصوص لم ترد بوصفها نصوصاً وأوامر ملزمة على المستوى الديني والشرعي والإلهي؛ إذ إن شأن النبوة في الأساس يقتصر على بيان الأمور الدينية فقط، وأما الأمور التي لا ترتبط بالدين، من قبيل: الدنيا والحكم فهي خارجة عن دائرة الوحي والدين، ولو ورد في هذا الشأن أمر ونص من جانب الدين - الأعم من القرآن الكريم والسنة النبوية - فإنه لن يكون ملزماً

ص: 462


1- مهدي الحائري اليزدي، حكمت وحکومت، ص 171 - 172؛ أحمد القبانجي، خلافة الإمام علي(علیه السّلام)، ص 40 - 48.

من الناحية الدينية والشرعية وسوف يُحمل على الإرشاد وتوجيه المسلمين لا أكثر.

إن هذه الرؤية تذهب إلى الاعتقاد بأن المسلمين في صدر الإسلام كانوا يحملون مثل هذه القراءة والفهم لأوامر النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم). فقد كانوا يبذلون علي الله الغالي والنفيس من أجل امتثال الأوامر الدينية الصادرة عن النبي الأكرم، أما الأوامر الدنيوية الصادرة عنه فكانت عرضة للنقاش والأخذ والرد. ومن بين هذه الأمور مسألة الحكم وتنصيب الإمام علي(علیه السّلام)للإمامة والحكم حيث رأى الصحابة أنه يندرج ضمن الأوامر الدنيوية، وحيث أنهم ذهبوا - خلافاً لتشخيص النبي الأكرم طبعاً - إلى الاعتقاد بأن الإمام علي - للأسباب المتقدمة، من قبيل: صغر سنه، وكراهية العرب له، واتصافه بالدعابة - ليس هو المرشح الأمثل لتولي منصب الإمامة والخلافة، فعمدوا إلى إبعاده، وعمد الأنصار والمهاجرون في الخطوة الأولى إلى تقديم مرشحين عنهم، حتى آل الأمر في السقيفة إلى إجماعهم على خلافة أبي بكر بن أبي قحافة.

وكما تقدّم فإن هذا التبرير قد ذكره بعض المطلعين على وجود النص من قبل النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)على إمامة الإمام على(علیه السّلام)منذ القرون المتقدمة، ويمكن هنا الإشارة إلى ابن أبي الحديد المعتزلي، فإنه حيث نقل نصوص الخليفة الثاني في الالتزام بالنص النبوي على إمامة الإمام على(علیه السّلام) - حيث تقدم اعترافه في معرض الحديث عن شبهة التعارض بين النصوص في الفصل السابق - صرّح بأن هذه النصوص تثبت ما يذهب إليه الشيعة من القول بوجود النص على الإمامة، ولذلك لجأ لحل الإشكال إلى النقيب أبي جعفر يحيى بن محمد بن أبي زيد، وأشار من جهة أخرى إلى استبعاد أن يعمل

ص: 463

الصحابة على عزل الإمام علي(علیه السّلام)مع وجود أصل التنصيب.

وقد استند الشيخ النقيب أبو جعفر يحيى بن محمد في جوابه لابن أبي الحديد إلى الحل المذكور، أي وجود قراءتين مختلفتين وفهمين متفاوتين عند الصحابة للنصوص النبوية، وأنهم كانوا يرون جواز العمل على خلاف أوامر

النبي الدنيوية، والعدول عنها إلى ما يرونه صالحاً لأنفسهم(1).

مناقشة وتحليل:

إن أصل هذه الشبهة لا يختص بالإمامة، وإنما أراد الذين قالوا بها أن يثبتوا القول بالفصل بين الإسلام والسياسة والحكم، وذهبوا إلى الاعتقاد بأن إقامة النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)للحكومة الدينية إنما كان مبادرة شخصية وليست دينية. وأما نحن فنفترض هنا المشروعية الإلهية والسماوية لحكومة النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)، ونعمل على إثبات المشروعية الدينية والإلهية لحكومة الأئمة الأطهار(علیهم السّلام) :

1 - تعميم مشروعية الحكومة الإلهية وتفويضها للأئمة(علیهم السّلام): إن البحث عن منشأ مشروعية الحكم من البحوث الهامة في الفلسفات السياسية. أشرنا في القسم الأول إلى أن الفلسفة التي سادت اليونان وروما في العصور الأولى كانت تقوم على أن حكم السلاطين في الامبراطوريات تستند إلى الشرعية الإلهية، كما يمكن العثور على هذا الاتجاه باختلاف يسير في الديانة المسيحية أيضاً. وفي عصر النهضة في العالم الغربي حلت الفلسفة السياسية الديمقراطية محل الفلسفة الإلهية للحكم.

ص: 464


1- ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، ج 12، ص 82.

أما رؤية الإسلام والنبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)فكانت تختلف عن كلتا الرؤيتين. فقد أشار النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)في رواية طويلة إلى تقدم خلقه وخلق الأئمة الأطهار(علیهم السّلام)على سائر موجودات عالم الإمكان في عالم العقول، ليضيف إلى ذلك بيان المشروعية الإلهية لحكومته وسياسته وحكومة وسياسة الأئمة على النحو الآتي:

«نحن سادة العباد، ونحن ساسة البلاد، ونحن الكفاة والولاة والحماة والسقاة والرعاة وطريق النجاة، ونحن السبيل والسلسبيل، ونحن النهج القويم والطريق المستقيم. من آمن بنا آمن بالله، ومن ردّ علينا ردّ على الله، ومن شك

فينا شك في الله ، ومن عرفنا عرف الله، ومن تولى عنا تولى عن الله، ومن أطاعنا أطاع الله، و نحن الوسيلة إلى الله، والوصلة إلى رضوان الله، ولنا العصمة والخلافة والهداية، و فينا النبوة والولاية والإمامة»(1).

إن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)قد عرف الحكم وإدارة الدولة في هذه الرواية بوصفها جزءاً من الشؤون والوظائف الإلهية الملقاة على عاتقه وعاتق الأئمة الأطهار(علیهم السّلام)، وقال صراحة بأن الخلافة والولاية والإمامة قد تلخصت فيهم، وأن إطاعتهم إطاعة الله ومخالفتهم مخالفة لله .

إن دلالة هذه الرواية على المشروعية الإلهية لحكومة وسياسة النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)وكذلك الأئمة الأطهار(علیهم السّلام)واضحة وضوح الشمس؛ إذ الرواية لا يتبين لها من معنى إلا من خلال القول بالمشروعية الإلهية لولاية النبي والأئمة.

وإن وجود عناوين من قبيل: السياسة والخلافة والولاية والإمامة،

ص: 465


1- العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، صح 25، ص 23.

لا يُبقي مجالاً لتوهّم اختصاص وجوب الإطاعة بدائرة العبادة والدين، وإخراج الشؤون الاجتماعية عن دائرة وجوب الإطاعة.

وقد ذكر ابن كثير كاتب السيرة الشهير أن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)كان منذ بداية النبوة يبين خليفته لا بوصفه مرشحاً من قبل الأمة، بل يصرح بأن ذلك من الشؤون الإلهية، من ذلك أننا نجد النبي قبل الهجرة يجيب زعيم قبيلة «بني عامر» الذي علق إسلامه على جعل الخلافة له ولقومه بعد رحيل النبي قائلاً: «إن الملك الله يجعله حيث يشاء»(1)

3 - السيرة العملية للأئمة الأطهار(علیهم السّلام): إن الأئمة الأطهار(علیهم السّلام)الذين هم ورثة كتاب الله ونبيه الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)، واستلهاماً من هذين المصدرين المباركين، لم يساوموا أو يتعاونوا مع أي من حكومات الظلم والجور أبداً، بل كانوا يسعون في الكثير من الموارد إلى مواجهة هذه الحكومات الطاغية والمنحرفة في سعي منهم إلى إقامة الحكومة الإسلامية الصحيحة والشريعة الحنيفة، إلا أن الظروف الاجتماعية والسياسية للمجتمع - وللأسف الشديد - لم تسمح لهم بتحقيق هذه الغاية المقدسة. فلم يتمكن أحد منهم من التصدي للحكم إلا الإمام علي بن أبي طالب(علیه السّلام)، والإمام الحسن المجتبى(علیه السّلام)لفترة

قصيرة (حيث حكم لستة أشهر تقريباً)، وأما سائر الأئمة الأطهار(علیهم السّلام) - باستثناء الإمام الحجة المنتظر(علیه السّلام) - فقد كانوا لاعتبارهم أنفسهم أصحاب الحق الشرعيين، وأنهم الأئمة الحقيقيين وورثة النبي الأكرم وعترته وأهل بيته، كانوا موضع غضب الحكام ونقمتهم على مر التاريخ، وتعرضوا لذلك إلى أنواع

ص: 466


1- سيرة ابن هشام، ج 2، ص 424 ؛ ابن كثير، السيرة النبوية، ج 2، ص 159؛ البداية والنهاية، ج 3، ص 140 .

السجن والتعذيب الروحي والجسدي والنفي والتشريد، وفي نهاية المطاف كانت خاتمتهم الاستشهاد في سبيل الله ذوداً عن الإسلام الحنيف، وأضحى استشهادهم رمزاً للاتحاد والتلاحم بين الدين والسياسة. فلو أن الأئمة كانوا لا يشكلون خطراً وجودياً على الجهاز الحاكم، ولو أنهم تركوا ما لقياصرة عصرهم (من سلاطين بني أمية وبني العباس) لهم، واكتفوا بالوعظ والعبادة في أقبية المساجد، لما وجدت الحكومات ذريعة ودافعاً إلى التعرّض لهم بالحبس والنفي والتعذيب ثم القتل، ولما أوقعوا أنفسهم في مغبة تحمل تبعات استشهادهم، لما كان يتمتع به الأئمة الأطهار(علیهم السّلام)من الاحترام والتقدير والتكريم - في أعين الناس بوصفهم من كبار العلماء وذرية الرسول الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)في الحد الأدنى - ولما وجد الحكام حاجة إلى هذه الجرائم، ولما حملوا وصمة هذا العار على جباههم(1).

3 - الولاية والإمامة تعني الحكومة: إن الأئمة الأطهار(علیهم السّلام)بالإضافة إلى كونهم رمزاً للوحدة بين الدين والسياسة على المستوى العملي، قاموا كذلك على المستوى النظري والفكري بعرض الفلسفة السياسية للإسلام عبر مختلف التقريرات والسُبل، وفيما يأتي نشير إلى بعض هذه التقريرات:

تحدثت الروايات الكثيرة عن الإمامة والولاية، حيث تم التعبير عنهما بوصفهما أحد أركان الإسلام ودعائمه

ص: 467


1- كان المهندس مهدي بازركان قبل انتصار الثورة الإسلامية في إيران يرى أن حبس الأئمة واستشهادهم على أيدي سلاطين الجور دليلاً على إدغام الدين بالسياسة والحكم، حيث يقول: «إن ما تعرّض له الأئمة وذريتهم من الكبت والمتابعة والسجن والقتل خير دليل على أن السلاطين والحكام وجدوا فيهم منافساً شرساً يهدّد سلطانهم، وإلا فإن السلاطين لا يتعرّضون إلى أولئك الذين يقفون على الحياد أو ينتهجون المسالمة مع النظام الحاكم». (مرز دين و علوم اجتماعي، ص 13).

هناك احتمال للتوهم بأن يكون المراد من الإمامة هنا هو المقام والمرجعية العلمية والمعنوية، من قبيل مقام رسالة الأنبياء، وليس مقام الحكم والسياسة، وعليه لا يمكن الاستدلال بهذه الروايات على وجود فلسفة السياسة فى الإسلام، فيتخذ وثيقة بيد أنصار القول بالوحدة بين الدين والسياسة.

إلا أن ضعف هذا التوهّم يتضح من خلال الرجوع إلى أصحاب هذه الروايات، حيث قاموا بأنفسهم بتبيين المراد من معنى الإمامة والولاية وتفسيره، حيث قالوا: إنّها تعني الحكومة والسياسة، [وعليه يكون التبرع بتأويلها وحملها على خارج سياقها والمعنى الصريح والمبين والمراد منها، من المصاديق البارزة على الاجتهاد في مقابل النص ](1). وفيما يأتي نشير إلى بعض هذه الروايات والنصوص.

لم يقتصر الإمام علي(علیه السّلام) - في رواية - على تعريف الإمامة بوصفها مجرد مرجعية علمية ودينية، بل هو منصب يجب أن يتحلّى صاحبه بالوعى السياسى وأن يكون مديراً ومدبّراً وحافظاً للحدود الإسلامية ومتصدياً لأمور الحكم، إذ يقول: «الولاية هي حفظ الثغور وتدبير الامور .. [الإمام] عالم بالسياسة، قائم بالرياسة»(2).

وفي رواية نورانية أخرى عن الإمام الرضا(علیه السّلام)، تم التأكيد في تعريف الإمامة على مفاهيم وقيود، من قبيل: «العلم بالسياسة»، و«حفظ الثغور»، و «تدبير أمور المجتمع»، و«استحقاق الرئاسة»، بحيث لا يبقى معه أي مجال

ص: 468


1- ما بين المعقوفتين إضافة من المعرّب.
2- العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار ، ج 25، ص 170؛ وص 172.

للشك في إطلاق الإمام والإمامة وشمولها للأمور السياسية وشؤون الحكم، يقول الإمام الرضا(علیه السّلام)في هذه الرواية: «[إن الإمام] زمام الدين، ونظام المسلمين، وصلاح الدنيا وعدة [وعز] المؤمنين .. [الإمام] عالم بالسياسة، مستحق للرئاسة، مفترض الطاعة. قائم بأمر الله. ناصح لعباد الله»(1).

قال الإمام الحسين(علیه السّلام)في جوابه عن كتاب أهل الكوفة له إن شرط الإمامة والقيادة هي العمل بالقرآن وإقامة الدين وتطبيق الدين الحق، حيث قال ما نصه: «فلعمري ما الإمام إلا العامل بالكتاب، والقائم بالقسط، والدائن بدين الحق، والسلام»(2).

إنّ الإمامة والقيادة التي تم تفويضها إلى الأئمة الأطهار(علیهم السّلام)، من قبل النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)، أوسع من الدائرة الجغرافية، ويتجلى ذلك في القصة الشهيرة التي حدثت للمهدي العباسي (ثالث سلاطين بني العباس)(3) مع الإمام موسى

ص: 469


1- المصدر أعلاه، ص 126 ؛ ابن شعبة الحرّاني، تحف العقول، ص 323.
2- ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج 4 ، ص 21؛ تاريخ ابن خلدون، ج 3، ص 27.
3- كما تروى هذه الحادثة في ثلاثة مواضع أخرى من بحار الأنوار على أنها حصلت مع هارون الرشيد وليس مع المهدي العباسي، وإليك بيان بعض هذه الروايات: «في كتاب أخبار الخلفاء أن هارون الرشيد كان يقول لموسى بن جعفر: حُدّ فدكاً حتى أردها إليك، فيأبى حتى ألح عليه فقال(علیه السّلام)لا آخذها إلا بحدودها. قال: وما حدودها ؟ قال: إن حددتها لم تردها. قال: بحق جدك إلا فعلت؟ قال: أما الحدّ الأول فعدن، فتغير وجه الرشيد، وقال: إيها! قال: والحد الثاني سمرقند؛ فاربد وجهه! قال: والحد الثالث أفريقية؛ فاسود وجهه!وقال :هيه!قال: والرابع سيف البحر مما يلي الجزر وأرمينية. قال الرشيد: فلم يبق لنا شي، فتحوّل إلى مجلسي، قال موسى: قد أعلمتك أنني إن حددتها لم تردّها؛ فعند ذلك عزم على قتله». العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج48، ص 144؛ وانظر أيضاً : بحار الأنوار، ج 29، 200،وج29،ص 201. [المعرّب].

الكاظم(علیه السّلام)، حيث أراد أن يعيد له فدكاً لبعض الدواعي السياسية في تلك الفترة، وطلب من الإمام لذلك أن يرسم له حدودها حتى يرجعها له من دون نقص فرسم له الإمام الحدود الجغرافية للدولة الإسلامية في ذلك العصر، في إشارة منه إلى أنّ المسألة لم تكن مسألة قطعة أرض مغتصبة، بل هو حق مستلب كان يتمثل بالإمامة وإدارة المجتمع والأمة والدولة، فحدّها له قائلاً: Lحد منها جبل أحد، وحدّ منها عريش مصر، وحدّ منها سيف البحر، وحد منها دومة الجندل»، وبذلك يكون الإمام قد طالبه بإعادة الخلافة المغتصبة(1).

إن هذه الروايات التي كانت بصدد تفسير الإمامة وأنها تشتمل على ركنين أساسيين، أي الوعي والعمل بالقرآن والعلم بشؤون العصر والسياسة، تثبت بالكناية والالتزام عدم مشروعية الحكومات الغاصبة، إذ ترى افتقار هذه الحكومات للركن الأول من أركان الإمامة.

4 - الشرعية الإلهية للحكم من وجهة نظر الأئمة: تقدم في معرض تحليل السنة النظرية للنبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)أن النبي كان يرجع منشأ مشروعية حكمه إلى الله مباشرة. كما تواترت الروايات عن الأئمة الشيعة بهذا الشأن أيضاً، وفيما يأتي نشير إلى بعضها:

الإمام علي(علیه السّلام): إن الحديث عن أمر حكومة الإمام علي(علیه السّلام)وكيفية حرمانه من الحكم وإبعاده عن ممارسة السلطة لفترة امتدت لخمس وعشرين سنة قصة طويلة لا يتسع هذا البحث المختصر للخوض فيها، إلا أننا سنجيب عن شبهة اعتزال الإمام عن أمر الخلافة - والتي سنشير إليها لاحقاً - وكيف

ص: 470


1- انظر: بحار الأنوار، ج 48 ص 156؛ محمد بن يعقوب الكليني، أصول الكافي، ج 2، باب: «إن الأرض كلها للإمام(علیه السّلام)».

أنه ينتقد أداء الخلفاء الثلاثة الذين سبقوه، ويعتبرهم مغتصبين لحقه الخاص والمنصوص عليه من قبل رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)، ويشكو ذلك إلى الله ورسوله. ومن ذلك أنه بعث بكتاب إلى أهل مصر يأسف فيه من تصدّي الأشرار للحكم قائلا:

«وإني إلى لقاء الله لمشتاق، ولحسن ثوابه لمنتظر راج، ولكني آسى أن يلى هذه الأمة سفهاؤها وفجارها فيتخذوا مال الله دولاً، وعباده خولاً، والصالحين حرباً، والفاسقين حزباً»(1).

ثم أجاب في رواية أخرى عن هذا السؤال المقدر، وهو أن الله يجب أن يعطي حق الحكم لمن يتصف بالعدل والعلم بالدين والقضاء، إذ يقول:

«اتقوا الحكومة، فإن الحكومة إنما هي للإمام العالم بالقضاء، العادل في المسلمين»(2).

وعمد الإمام علي(علیه السّلام)في رواية أخرى إلى بيان مزيد من التوضيح بشأن الحاكم والإمام معتبراً إياه شخص النبي ووصيه، إذ يقول:

«يا شريح قد جلست مجلساً لا يجلسه إلا نبي أو وصي أو شقي»(3).

إن الدخول في حلبة السياسة والحكومة سيثير اعتراض المتظاهرين بالقداسة شئنا أم أبينا. ولم يكن الإمام على(علیه السّلام) بمنجى من هذا الاعتراض،وقال في جواب الأشعث - الذي كان يعاني من الجمود الفكري، ويقول بضلال من يتولى أمر الحكم وكفره - متمسكاً بالسيرة العملية للنبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)،

ص: 471


1- نهج البلاغة، الكتاب رقم: 62 .
2- الشيخ الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج 18، ص 7، قم، مؤسسة آل البيت.
3- المصدر أعلاه.

ومذكراً بأن الحكم في حد ذاته عملاً عبادياً، وقد كلف الله به عباده الصالحين: «الحكومة فرض من الله، وقد حكم رسول الله»(1).

الإمام الصادق(علیه السّلام):يرى الإمام الصادق أيضاً أن الإمامة عهد من الله يفوضه إلى بعض الأشخاص المنتجبين:

«إنّ الإمامة عهد من الله عزّ وجل معهود لرجال مسمّين»(2).

وفي رواية أخرى عرف الإمام الصادق(علیه السّلام)الأئمة - وهو منهم - بوصفهم قادة الناس، والقائمين بأمر الأقطار والبلدان:

«نحن سادة العباد ، وساسة البلاد»(3).

الإمام الرضا(علیه السّلام):فسر الإمام الرضا(علیه السّلام)الإمامة في رواية نورانية بالحكومة، وانتقد نظرية الانتخاب فيما يتعلق بكيفية تعيين شخص الحاكم والإمام مع وجود المعصوم بشدّة، وقد وصف الناس في الصدر الأول من الإسلام - بسبب إعراضهم عن مسألة النص وانتخاب الإمام علي(علیه السّلام) - بالضلال والانحراف والوقوع في حبائل الشيطان. واضح أن أمر الخلافة إذا كان متروكاً للناس بعد رحيل النبي، ولم يكن هناك نص على إمامة الإمام علي، لكان هذا الكلام من الإمام الرضا - والعياذ بالله - في غير محله قال الإمام الرضا(علیه السّلام):

«أَتَظُنُّونَ أَنَّ ذَلِكَ يُوجَدُ فِي غَيْرِ آلِ الرَّسُولِ مُحَمَّدِ(صلی الله علیه و آله و سلم)كَذَبَتْهُمْ وَالله أَنْفُسُهُمْ وَمَنَتْهُمُ الْأَبَاطِيلَ فَارْتَقَوْا مُرْتَقَى صَعْباً دَحْضَاً تَزِلُّ عَنْهُ إِلَى الْحَضِيضِ

ص: 472


1- محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 23، ص 393.
2- المصدر أعلاه، ج 2، ص 26.
3- المصدر أعلاه، ج 26 ، ص 259.

أَقْدَامُهُمْ رَامُوا إِقَامَةَ الْإِمَامِ بِعُقُولٍ حَائِرَةِ بَائِرَةِ نَاقِصَةٍ وَآرَاءٍ مُضِلَّةٍ، فَلَمْ يَزْدَادُوا مِنْهُ إِلَّا بُعْداً قاتَلَهُمُ الله أَنَّى يُؤْفَكُونَ، وَلَقَدْ رَامُوا صَعْباً وَقَالُوا إِفْكَاً وَضَلُّوا ضَلالَا بَعِيداً وَوَقَعُوا فِي الخَيْرَةِ إِذْ تَرَكُوا الْإِمَامَ عَنْ بَصِيرَةٍ وَزَيَّنَ هُمُ الشَّيْطانُ أَعْمَاهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ رَغِبُوا عَنِ اخْتِيَارِ الله وَاخْتِيَارِ رَسُولِ الله(صلی الله علیه و آله و سلم)وَأَهْلِ بَيْتِهِ إِلَى اخْتِيَارِهِمْ ... فَكَيْفَ لَهُمْ بِاخْتِيَارِ الْإِمَامِ؟ وَالْإِمَامُ عَالِمٌ لَا يَجْهَلُ، وَرَاعٍ لَا يَنْكُلُ مَعْدِنُ الْقُدْسِ وَالطَّهَارَةِ وَالنُّسُكِ وَالزَّهَادَةِ وَالْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ، مَخصُوصٌ بِدَعْوَةِ الرَّسُولِ(صلی الله علیه و آله و سلم)وَنَسْلِ المُطَهَّرَةِ الْبَتُولِ »(1).

وقد وصف الإمام الرضا(علیه السّلام)في رواية أخرى ما قام به البعض من الإعراض عن الإمام علي(علیه السّلام)بوصفه خليفة النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)، وذهابهم إلى غيره، بإطفاء نور الله، إذ يقول :

«إن الناس قد جهدوا على إطفاء نور الله حين قبض الله تبارك وتعالى رسوله، وأبى الله إلا أن يتم نوره»(2).

وقد أشار الإمام الرضا في روايات أخرى إلى هذه النظرية حيث سيأتي بيانها في معرض الإجابة عن شبهة ولاية عهده لاحقاً.

السيدة فاطمة الزهراء(سلام الله علیها): إن السيدة فاطمة الزهراء وإن لم تكن في عداد الأئمة، ولكنها حيث تمتاز بشخصية ومكانة مساوية لهم عند الله، وما تتصف به من العصمة، يكون كلامها وروايتها حجة ومعتبرة. ومن هنا سنشير إلى موقفها من مشروعية حكومة الإمام علي(علیه السّلام)من طريق التنصيب، وعدم

ص: 473


1- محمد بن يعقوب الكليني، الكافي، ج 1، ص 201؛ معاني الأخبار، ص 96.
2- نقلاً عن: عزيز الله العطاردي الخبوشاني، مسند الرضا، ج 1، ص 233.

شرعية حكم الخلفاء الذين اغتصبوا الخلافة منه.

لقد جاهدت السيدة فاطمة الزهراء(سلام الله علیها)كثيراً من أجل تولي الإمام على(علیه السّلام)أمر الخلافة. من ذلك أنها دارت ليلاً على بيوت الأنصار تجر خلفها ولديها الصغيرين الإمامين الحسن والحسين(علیهما السّلام)، ومعها الإمام على، تطالبهم بالبيعة للإمام، رغم أنها لم تحصل منهم على غير الاعتذار.

ولكن من الناحية النظرية، عمدت السيدة الزهراء(سلام الله علیها)إلى مخاطبة الناس في خطبتها الشهيرة، واعتبرت عدم انتخابهم الإمام علياً(علیه السّلام)مساوياً للسقوط في الفتنة والانحراف، وذكرتهم قائلة:

«فوسمتم غير إبلكم، وأوردتم غير شربكم ، هذا والعهد قريب، والكلم رحيب، والجرح لما يندمل والرسول لما يقبر ابتداراً زعمتم خوف الفتنة و ﴿ ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين ﴾(1)فهيهات منكم! وكيف بكم؟! وأنى تؤفكون؟»(2).

5 - وجوب إطاعة الإمام شرعاً: هناك كثير من الروايات المتواترة التي التأكيد فيها على وجوب إطاعة الأئمة. والدليل الذي يسوقه الأئمة على ذلك هو مساواة إطاعتهم لإطاعة الله ورسوله. وقد عرف الأئمة أنفسهم في بعض الروايات على أنهم المصاديق الحقيقيين لقوله تعالى: ﴿ أَطِيعُوا الله وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ ﴾، وقوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ الله وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا ﴾(3).

ص: 474


1- التوبة: 49 .
2- العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار ، ج 29 ، ص 419؛ ابن أبي الحديد المعتزلي ،شرح نهج البلاغة ، ج 2، ص 47 ، وج 11، ص 114 ، وج 16 ، ص 211.
3- انظر: محمد بن يعقوب الكليني، أصول الكافي، ج 1، ص 264 - 265 .

ومن ذلك قول الإمام الصادق(علیه السّلام): «نَحْنُ قَوْمُ فَرَضَ اللَّهُ طَاعَتَنَا، وَأَنْتُمْ تَأْتُونَ بِمَنْ لَا يُعْذَرُ النَّاسُ بِجَهَالَتِهِ »(1).

وقال في رواية أخرى: «أشهد أن علياً إمام فرض الله طاعته»(2).

يتحدث الإمام الصادق(علیه السّلام)في هذه الرواية عن الولاية الإلهية، وأنها جعلت في حق الأئمة(علیهم السّلام)، وإن واجب الناس لا يكمن في الانتخاب وإضفاء الشرعية، بل عليهم مجرد الاتباع والاقتداء.

وقال الإمام الرضا(علیه السّلام)أيضاً: بَلَغَنِي أَنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ: إِنَّا نَزْعُمُ أَنَّ النَّاسَ عَبِيدٌ لَنَا، لَا وَقَرَابَتِي مِنْ رَسُولِ الله(صلی الله علیه و آله و سلم)مَا قُلْتُهُ قَطَّ، وَلَا سَمِعْتُهُ مِنْ آبَائِي قَالَهُ، وَلَا بَلَغَنِي عَنْ أَحَدٍ مِنْ آبَائِي قَالَهُ، وَلَكِنِّي أَقُولُ : النَّاسُ عَبِيدٌ لَنَا فِي الطَّاعَةِ، مَوَالٍ لَنَا فِي الدِّينِ»(3).

تم التأكيد في هذه الروايات على المشروعية الإلهية لحكومة الأئمة(علیهم السّلام)، ولزوم اتباعهم من الناحية الشرعية باعتبار ذلك أمراً مسلماً ولا جدال فيه، وهذا لا ينسجم مع ادعاء عدم المشروعية الإلهية لحكومة النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)،والأئمة الأطهار(علیهم السّلام).

حصيلة ذلك أنّ أئمة الهدى قد سعوا بمختلف السبل - من قبيل: تحليل ماهية الإمامة، والتأكيد على المشروعية الإلهية لحكومة المعصومين، واغتصابها من قبل الحكام - إلى تعريف الناس بمسؤوليتهم وأن لا يتخذوا موقف

ص: 475


1- انظر: محمد بن يعقوب الكليني، أصول الكافي، ج 1، ص 263.
2- المصدر أعلاه.
3- المصدر أعلاه، ص 265.

اللامبالاة تجاه الإسلام والإمامة، وأن يعتبروا أنفسهم مكلفين من الناحية الإلهية والدينية بتطبيق أحكام شريعة الإسلام والتبعية المطلقة للأئمة الأطهار، وأن لا يتركوا الساحة للعلمانيين (من بني أمية وبني العباس).

رعاية المصلحة:

إن أنصار القول بأصل الانتخاب، وبعبارة أدق إن المخالفين لأصل التنصيب في عصر انتخاب الخليفة الأول، كانوا يتمسكون لتبرير إعراضهم عن النصوص النبوية الدالة على إمامة الإمام علي(علیه السّلام)بمستمسكات وذرائع مختلفة، ومن بين الذرائع التي تمسكوا بها ادعاء المصلحة في استبعاد الإمام علي(علیه السّلام)عن منصب الإمامة والخلافة، فقد ادعوا أن مصلحة المسلمين - بل وربما أمكن القول بأن مصلحة الدين - قد اقتضت تجريد الإمام من حقه في الخلافة، وكان المنظر لهذا الرأي والأطروحة هو الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، حيث صرّح بها في مختلف المواضع، ومن بينها حواره مع ابن عباس في تبرير سلوكه السياسي على ما ستأتي الإشارة إليه.

التبرير الرابع: استصغار سن الإمام علي(علیه السّلام):

إن من بين الأدلة، أو بعبارة أدق: إن من بين الذرائع والحجج التي ساقها مخالفو إمامة الإمام على(علیه السّلام)لتبرير استبعاده عن الخلافة حداثة سنه وصغره. فقد كان الإمام علي(علیه السّلام)عند رحيل النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)قد بلغ الثلاثين سنة من عمره الشريف. وعندما كان عمر بن الخطاب يشيد بمكانة الإمام ومنزلته وسابقته في الإسلام، سأله بعض الحاضرين عن سبب إبعاده عن الخلافة مع أنه يتمتع بكل هذه الفضائل؟ فتذرّع بالقول إنه كان صغيراً وكان

ص: 476

يؤثر بني عبد المطلب، وإليك نص الحادثة كما رواها ابن أبي الحديد في شرحه لنهج البلاغة:

«روى أبو بكر الأنبارى فى أماليه: أن علياً(علیه السّلام)جلس إلى عمر في المسجد وعنده ناس، فلما قام عرض واحد بذكره ونسبه إلى التيه والعجب! فقال عمر: حق لمثله أن يتيه، والله لو لا سيفه لما قام عمود الإسلام، وهو بعد أقضى الأمة وذو سابقتها وذو شرفها؛ فقال له ذلك القائل: فما منعكم يا أمير المؤمنين عنه ؟ قال: كرهناه على حداثة السن، وحبّه بني عبد المطلب»(1).

وقد سعى أبو عبيدة بن الجراح - وهو من المخرجين البارزين الذين عملوا كل ما بوسعم من أجل إنجاح سيناريو السقيفة لمصلحة أبي بكر وعمر - إلى إقناع الإمام علي لمبايعة أبي بكر والتنازل عن الخلافة محتجاً عليه بصغر سنه وقلة تجربته، قائلاً: «يا أبا الحسن إنك حديث السن، وهؤلاء مشيخة قریش قومك، ليس لك مثل تجربتهم ومعرفتهم بالأمور»(2).

كما ذكر عمر بن الخطاب هذا التبرير ذاته في حواره مع ابن عباس أيضاً(3).

مناقشة وتحليل:

1 - النظرة السطحية إلى شخصية الإمام على(علیه السّلام)وتجاهل صفاته

ص: 477


1- ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، ج 12، ص 82 ، وج 2، ص 57 ، وج 6، ص 12؛ تاريخ مدينة دمشق، ج 42 ، ص 349.
2- ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة ، ج 6 ، ص 12 .
3- انظر: المصدر أعلاه، ج 12، ص 46 ، وج 6 ، ص 45؛ تاريخ مدينة دمشق، ج ص 342.

الكمالية: إن أول ما يتبادر إلى الذهن في تحليل هذا التبرير ونقده، هو أنه يُمثل الرؤية السطحية والدنيوية إلى شخصيّة الإمام على(علیه السّلام)، في حين أنه منذ نعومة أظفاره قد تربى في حجر أطهر الناس وأعظم الأنبياء، حتى امتزجت شخصيّته وعُجنت بشخصية رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم).وقد تعرّضنا في الفصل الأول من هذا الكتاب في بحث: «الأئمة واسطة الفيض الإلهي مباشرة»، وفي الفصل الثاني في معرض نقد شبهات «الإمامة في الصغر»، و«أفضلية الإمامة على النبوة»، و«أفضلية الأئمة على الأنبياء»، و«الإمامة علة البقاء وحفظ الأرض

والسماوات»، إلى المنازل المعنوية والروحية والكمالات والفضائل الخاصة بالأئمة(علیهم السّلام)، وعلى رأسهم الإمام علي(علیه السّلام)بالتفصيل، ونرجو من القارئ الكريم أن يرجع إلى تلك الروايات مرة ثانية كي يتضح له أن الإمام علي(علیه السّلام)کان يتمتع بشخصية خاصة تفوق الطبيعة ولا تخضع للظروف الزمنية. ولذلك فإن إدخال عنصر صغر السن يُمثل تجاهلاً واستهانة بكل تلك الروايات النبوية المتواترة في حق الإمام علي(علیه السّلام)، التي تجعل منه أهلاً لتولي أي منصب ومقام.

2 - سيادة الأهلية أو النزعة الحزبية: بغض النظر عن الإشكال المتقدم، حتى إذا أردنا النظر إلى الأمر من الزاوية العادية والدنيوية، مع ذلك يجب القول: إن الإمام علي(علیه السّلام)كان هو الأوفر حظاً لتولي منصب الخلافة من بين سائر المرشحين الآخرين بمن فيهم الخليفة الأول؛ لأنه كان هو الأفضل بسبب اتصافه بجميع الخصائص اللازمة لإدارة الحكم الديني وخلافة النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)،من قبيل: العلم، والتدبير، والإدارة، والشجاعة، والسابقة في الإسلام، والانتساب إلى رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)

ص: 478

وكان من بين المبررات التي دعت إلى تعيين الخليفة الأول هو التسرع. وقد ذكرنا في أكثر من موضع من هذا الكتاب أن السقيفة قد تشكلت من قبل الأنصار لانتخاب قائد وخليفة من بينهم، وقد سارع عمر بن الخطاب وأبو بكر إلى التوجه نحو السقيفة كي لا يتم إخراجهم من الدائرة السياسية، فأقحما نفسيهما وأقنعا الأنصار من خلال الوعد والوعيد ليكون المنتخب هو أبو بكر دون غيره.

وقد اعترف كل من أبي بكر وعمر بأن ما حدث في السقيفة كان أمر مستعجلاً ومتسرّعاً وأنه كان «فلتة »(1).

وعليه لم يتم أخذ الصفات التي يجب توفرها في خليفة النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)فيما يتعلق بتعيين أبي بكر في حادثة السقيفة أبداً.

وأما بيان أفضلية الإمام علي(علیه السّلام)على أبي بكر بشكل تفصيلي ومقارن، فيحتاج إلى مجال آخر.

3 - معارضة النصوص النبوية : لقد أثنى النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)على الإمام علي(علیه السّلام)في مختلف المواطن والمواضع واصفاً إياه بأسمى العناوين والصفات، من قبيل: «أنه الميزان والمعيار للهداية، وأنه الفارق بين الحق والباطل، وأنه الملازم للقرآن، وأنه سفينة النجاة، وأنه أمير المؤمنين وحجة الله على العالمين». ويتضح من اهتمام النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)بالإمام علي(علیه السّلام)أنه كان يتمتع بشخصية تجعله هو المؤهّل لتولي منصب الخلافة عن رسول الله، من دون أن يكون لحداثة السن أي دور أو تأثير في البين. وقد سبق للنبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)أن أسند

ص: 479


1- انظر: ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، ج 2، ص 50 .

له في حياته مهام خطيرة من دون أن يأخذ حداثة سنه بنظر الاعتبار کاستخلافه على المدينة المنوّرة عندما غادرها متوجها إلى جبهات القتال في بعض غزواته، وكذلك أسند له قيادة بعض السرايا والجيوش، والقضاء والإمرة على منطقة اليمن. وقد كان ابن عباس ملتفتاً إلى هذه الحقائق. ولذلك نجده عندما يحتج عمر بن الخطاب بحداثة سن الإمام، يقول له في الجواب:

روى الزبير بن بكار في كتاب الموفقيات، عن عبد الله بن عباس قال: إني لأماشي عمر بن الخطاب في سكة من سكك المدينة، إذ قال لي: يا ابن عباس ما أرى صاحبك إلا مظلوما؛ فقلت في نفسي: والله لا يسبقني بها،فقلت: يا أمير المؤمنين فاردد إليه ظلامته، فانتزع يده من يدي ومضى يهمهم ساعة ثم وقف؛ فلحقته، فقال: يا ابن عباس ما أظنهم منعهم عنه إلا أنه استصغره قومه! فقلت في نفسي: هذه شر من الأولى؛ فقلت: والله ما استصغره الله ورسوله حين أمراه أن يأخذ براءة من صاحبك)»(1).

إن النصوص النبوية المتعدّدة الدالة على تنصيب الإمام على(علیه السّلام)للإمامة والخلافة - أو في الحد الأدنى دلالتها على مجرد تعريفه على مستوى التريشح والأولوية من الدرجة الأولى، والذي يُمثل القدر المتيقن من دلالة النصوص - يدل على كلا الفرضيتين على الصلاحية والاستحقاق الذاتي للإمام علي(علیه السّلام)لتولي منصب الخلافة والإمامة رغم صغر سنه.

وعليه عندما يتذرّع أمثال عمر بن الخطاب بصغر سنّ الإمام علي(علیه السّلام)لإبعاده عن حقع في خلافة رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)يرد هذا التساؤل المشروع والمنطقي :

ص: 480


1- انظر: محاضرات الأدباء، ج 4 ، ص 4464 أخبار الدولة العباسية، ص29؛ فرائد السمطين، ج 1، ص 334.

هل كان النبي الأكرم - والعياذ بالله - يطرح تنصيبه أو ترشيحه للخلافة رغم علمه بحداثة سنه، فيكون الداعي إلى تصيبه وترشحه مجرد دوافع شخصية وأسرية؟!

كيف يمكن لإخواننا من أهل السنة أن يجيبوا عن مثل هذه الأسئلة؟ ألا يكون في تصرف أهل السنة فيما يسوقونه من التبريرات من أجل الدفاع عن مقام الصحابة من أمثال الخليفة الأول والثاني، تجريحاً لمقام الوحي والنبوة؟ أليس في ما قاموا به من الدفاع عن بعض الصحابة تجريحاً لصحابة آخرين من أمثال : الإمام علي(علیه السّلام)وشيعته من أمثال: سلمان وأبي ذر والمقداد وابن عباس، والأهم من ذلك أهل بيت النبوة المتمثلين بالسيدة فاطمة الزهراء(سلام الله علیها)والحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة؟!

4 - التعارض مع مبنى وسيرة الإمام علي(علیه السّلام): إن أهل السنة الذين يظهرون استماتة في الدفاع عن الصحابة، نجد دفاعهم في الغالب أحادي الاتجاه. فإنهم فيما يتعلق بالخلافة تبنوا دليل أبي بكر وعمر في عزل الإمام على(علیه السّلام)وإبعاده عن السلطة، ولكن يجب عليهم الالتفات إلى أن الإمام علي قد ساق كثيراً من الروايات المتواترة - التي تقدم ذكرها - ليثبت أحقيتها بالخلافة والإمامة، وصرّح بعدم أهلية الآخرين وعدم صلاحيتهم للحكم. وعليه يطرح هذا السؤال نفسه: هل كان الإمام علي(علیه السّلام) - والعياذ بالله - كاذباً في ادعائه الحق وتقدمه على الآخرين في أمر الخلافة والإمامة، ووصف الآخرين بعد الأهلية والكفاءة وأن ما قاموا به كان غصباً للخلافة؟ لو كانت مصلحة الأمة الإسلامية من بداية الأمر تكمن في خلافة أبي بكر، فلماذا أصرّ الإمام علي من خلال هذا الكم الهائل من التصريحات والمواقف لإثبات أحقيته

ص: 481

وأولويّته على الآخرين، بل كانت له في باكورة الأمر ممارسة عملية لاستعادة حقه في الخلافة والإمامة واستلام السلطة؟

على الإخوة من أهل السنة أن يبينوا لماذا عمدوا في دفاعهم عن الصحابة إلى الانحياز إلى جماعة من الصحابة على حساب جماعة أخرى من الصحابة من أمثال: الإمام علي(علیه السّلام)، وسلمان وأبي ذر الغفاري؟

5 - جواب نقضي على التذرّع بحداثة سن الإمام علي(علیه السّلام): لقد تمسك مخالفو الإمام علي بحداثة سنه، ولأنّ أبا بكر أكبر منه سناً، ولذلك رأوا فيه الأجدر للخلافة والأولى والأنسب من الإمام علي(علیه السّلام). ولكن لو كان كبر السن والتجربة الظاهرية في الأمور الدنيوية هو الملاك فى الأفضلية، وكان الأسن هو الأولى بالخلافة، فإنّ هناك كثيراً من الشيوخ وكبار السن الذين فاقوا أبا بكر من أمثال والده «أبي قحافة»، ولذلك يكون على هذا القياس أولى من أبي بكر، وهذا ما صرح به نفس أبي قحافة في بعض المواقف، كما أورد موقفه العلامة المجلسي في بحار الأنوار على النحو الآتي:

«روي أن أبا قحافة كان بالطائف لما قبض رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)وبويع لأبي بكر، فكتب إلى أبيه كتاباً عنوانه: من خليفة رسول الله إلى أبي قحافة، أما بعد، فان الناس قد تراضوا بي، فأنا اليوم خليفة الله، فلو قدمت علينا لكان أحسن بك. فلما قرأ أبو قحافة الكتاب قال للرسول: ما منعهم من علي ؟ قال الرسول: هو حدث الحسن، وقد أكثر القتل في قريش وغيرها، وأبو بكر أسن منه. قال أبو قحافة: إن كان الأمر في ذلك بالسن؛ فأنا أحق من أبي بكر ، لقد ظلموا علياً حقه، ولقد بايع له النبي وأمرنا ببيعته»(1).

ص: 482


1- العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 29، ص 95.

النقض الآخر الذي يمكن إيراده على استدلال المخالفين للإمام علي هو توظيف الشباب وأحداث السن من قبل شخص النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)لتولي مختلف المسؤوليات الحساسة - الأعم من العسكرية والسياسية والاجتماعية - على ما تقدّم ذكره. فقد أسند النبي للإمام على(علیه السّلام)كثيراً من المسؤوليات في ما حياته عندما كان الإمام أحدث سناً، ومع ذلك لم يشكل ذلك مانعاً من تنصيبه من قبل سيد الحكماء.

ولم يقتصر تنصيب الرسول على الإمام علي فقط، بل أسند مسؤوليات لغيره من الشباب وكان من بينهم من لم يتخط العقد الثاني من عمره، وأمره على الكثير من الشيوخ والطاعنين في السن، كما حصل ذلك مع أسامة بن زيد حيث عقد له اللواء بيده الشريفه وجعله قائداً على أمثال أبي بكر وعمر وغيرهما، كي يؤصل لمسألة قيادة الأصلح على حساب مبدأ الأسن والأكبر. وقد لاقى ذلك اعتراضاً على سلوك النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)من الذين لم يدركوا لعل حقيقة مقام النبوة، إلا أن النبي أصرّ على موقفه مؤكداً أن الأفضلية والجدارة ليست بكبر السن:

ذكر ابن واضح اليعقوبي في تاريخه ما نصه: «ولما قدم [رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)]

المدينة أقام أياماً وعقد لأسامة بن زيد بن حارثة على جلة المهاجرين والأنصار ... وكان في الجيش أبو بكر وعمر، وتكلم قوم وقالوا: حدث السن،وابن سبع عشرة سنة! فقال : لئن طعنتم عليه، فقبله طعنتم على أبيه، وإن كانا لخليقين للإمارة»(1).

ص: 483


1- ابن واضح اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، ج 1، ص 509

وعليه فإن مجرد حداثة السن لا تشكل عقبة أمام تفويض المهام والمسؤوليات الكبرى للأشخاص إذا كانوا أهلاً لها.

إقرار الخليفة الأول والثاني بصلاحية الإمام علي(علیه السّلام):

لقد اعترف أبو بكر بعدم صلاحيته وعدم أولويته للجلوس على مسند الخلافة في كثير من المواطن، ومن ذلك قوله :

«فإني وليت أمركم ولست بخيركم .. أقيلوني ولست بخيركم »(1).

وجاء في رواية بعض كلماته التعبير ب_ «وعلي فيكم» أيضاً، وهو أمر يُظهر أن أبا بكر أولاً: لم ير نفسه صالحاً لمنصب الخلافة بشكل مطلق، وفي بعض الروايات إنه إنما لم يكن يرى نفسه صالحاً لتولي الخلافة بسبب وجود

علي(علیه السّلام).

وقد أشار الإمام علي(علیه السّلام)إلى هذه المسألة في خطبة له حيث يقول إن أبا بكر من جهة لا يرى صلاحية نفسه للخلافة، ولكنه من جهة أخرى يعيّن عمر بن الخطاب خليفة من بعد:

«فَيَا عَجَباً !! بَيْنَا هُوَ يَسْتَقِيلُها فِي حَيَاتِهِ إِذْ عَقَدَهَا لَآخَرَ بَعْدَ وَفَاتِهِ»(2).

يذكر الإمام علي هنا أن هنا أن سبب عدم تنازل الخليفة عن الخلافة لصالحه هو شدة تعلق الخليفتين الأولين باحتلاب أثداء الخلافة: «لَشَدَّ مَا تَشَطَّرَا

ص: 484


1- انظر: الصواعق المحرقة ، ص 30؛ ابن أبي الحديد المعتزلي شرح نهج البلاغة، ج 1، ص 168 ؛ أبو حامد الغزالي، سر العالمين، شرح التجريد للقوشجي، المقصد الخامس بحث الإمامة، ص 371 .
2- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 3.

ضَرْعَيْهَا». وقد برّر أبو بكر - على ما نقله أبو حيات التوحيدي - قبوله بالخلافة من أجل المنع من الاختلاف وكذلك المنع من تقدم الأنصار على قريش في السقيفة، مذكراً بأنه لو كان علي(علیه السّلام)حاضراً لبايعه، إذ قال: «ولو كنت حاضراً لبايعتك»(1).

كما أقرّ الخليفة الثاني مراراً وتكراراً وفي كلماته مع ابن عباس وغيره بأحقية الإمام علي(علیه السّلام)وأفضليته لتولي منصب الخلافة - على ما تقدّم في الصفحات السابقة - واكتفى بذكر ثلاثة أسباب، أو بتعبير أدق: ثلاث ذرائع

منعت من تنصيبه للخلافة، وهي: حداثة سنه، واتصافه بالدعابة، وحبّه لبني عبد المطلب، وأنه لولا هذه الأمور، لما كان هناك من بحث ونقاش حول تنصيبه خليفة على المسلمين.

وقد اثبتنا في الصفحات السابقة - وسوف نثبت فى الصفحات اللاحقة . هذه الأمور التي تذرّع بها الخليفة الثاني مجرّد ادعاءات وحجج واهية، ومع إثبات هذا الأمر تتضح صلاحية الإمام علي(علیه السّلام)وأفضليته للإمساك بزمام الحكم والسلطة.

التبرير الخامس : اتهام الإمام علي(علیه السّلام)بالدعابة:

إن من بين التبريرات التي ساقها الخليفة الثاني لإبعاد الإمام علي(علیه السّلام)عن السلطة، هي كونه ذا دعابة ومزاح، وأشار في حواره مع ابن عباس إلى ثلاثة أسباب دعت إلى استبعاد الإمام علي(علیه السّلام)، وهي: (كثرة دعابته، وبغض

ص: 485


1- نقلاً عن: ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، ج 10، ص 283.

قريش له، وصغر سنه)(1)،وصرّح بأنه لولا هذه الخصال لم يكن هناك من هو أنسب منه للخلافة.

مناقشة وتحليل:

في معرض تحليل هذه الشبهة يجدر التأمل فيما يأتي:

1 - عدم تناسب الدعابة مع شخصيّة الإمام علي(علیه السّلام): إذا كان المراد من كون الإمام علي(علیه السّلام)صاحب دعابة، أنه كان ذلك منه بشكل مفرط بحيث يهتك قيمته وكرامته لدى الآخرين، فيجب القول إن سيرة الإمام علي(علیه السّلام)لا تؤيد ذلك، بل الملاحظ من سيرته أنه كان من أهل الحزم والجد في تنفيذ الأمور ، فلم يكن يتسامح أو يتساهل أو يمازح، وكان في سوح القتال رجلاً ماضياً شجاعاً مقداماً لا يلوي على شيء، وكانت فرائص أعدائه ترتعد خوفاً وفرقاً من سيفه وجديته في القتال، يشهد لذلك ما كان منه مع عمرو بن عبد ود في حرب الأحزاب، واقتلاعه باب خيبر.

كما كان حازماً في تطبيق الأحكام الدينية وحدود الشريعة من دون أدنى تسامح، وقد روي أن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)قد أمره على جيش، وعند العودة قام بعض من في هذا الجيش بالشكاية لرسول الله من شدة الإمام على(علیه السّلام)معهم، ولكن الرسول(صلی الله علیه و آله و سلم)هب للدفاع عن الإمام علي(علیه السّلام)مؤيداً أسلوبه الحازم، قائلاً:

«يا أيها الناس لا تشكوا علياً فوالله إنه لأخشى [لأخشن، أو لأخيشن]

ص: 486


1- فرائد السمطين، ج 1، ص 334.

في ذات الله، أو في سبيل الله من أن يشكى»(1).

وقد قام الإمام علي(علیه السّلام)بإعدام الذين بالغوا وغلوا في حبّه حتى ألهوه، بعد أن استنابهم، وعدم رجوعهم عن غيهم(2). وقد أجرى الحد على أحد أصحابه وهو النجاشي بعد أن ثبت عليه أنه شرب الخمر في شهر رمضان، ولم يستمع لمن جاء يتشفّع له(3).

من خلال هذه الأمثلة - التى تثبت المنهج العملي للإمام علي(علیه السّلام) - يتضح أنه لم يكن من أهل المزاح، وإنما كان سهل المعشر دمث الأخلاق طلق المحيّا، وكان يتعامل مع من حوله بلطف ودمائة، فلم يكن فظاً غليظ القلب، وقد ورد عن بعض أصحابه من أمثال سعد بن مالك: «إنه لم يكن من ذوي الغلظة وسوء الصحبة»(4). وقد تأسى الإمام علي(علیه السّلام) في هذه الصفة بالنبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)، حيث وصفت كتب التاريخ النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)بأنه كان «دائم البشر»، وكان يتبسط إلى الناس ب_ «الدعابة»:

- «كان رسول الله دائم البشر، سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظ، ولا غليظ ، ولا صحاب»(5).

ص: 487


1- انظر: ابن جرير الطبري، تاريخ الملوك والأمم ، ج 2، ص 402 ؛ كنز العمال ، ج 11 ، ص 620؛ فرائد السمطين، ج 1، ص 163 ، رقم: 125؛ أحمد ابن حنبل، فضائل الصحابة، ج 2، ص 679 ؛ السيرة النبوية، ج 6 ، ص 8.
2- انظر: الحر العاملي وسائل الشيعة، ج 18 ، ص 552 ، طبعة العشرون مجلداً؛ ابن يعقوب الكليني، الكافي، ج 7، ص 257 .
3- انظر: ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة ، ج 4 ، ص 88؛ ابن يعقوب الكليني، الكافي، ج 7، ص 216؛ وانظر أيضاً: الفصول المئة في حياة أبي الأئمة ج 4 ، ص 88.
4- انظر: الفصول المئة، ج 4 ، ص 92؛ تاریخ دمشق، ج 1، ص 387، الحديث: 493 .
5- دلائل النبوة، ج 1، ص 291 .

- «كانت في النبي دعابة. وعن بعض السلف: كان للنبي مهابة؛ فكان يبسط الناس بالدعابة»(1).

وعليه فإنّ التحلّي بالصفات الجمالية والكمالية - من قبيل: اللين و دماثة الخلق - لا يعد من الصفات السلبية للحاكم، بل على عكس ذلك تماماً؛ إذ إنّها تعدّ من الصفات الإيجابية التي تساعده على التقرب من الرعية، ولو أنها كانت تُعدُّ من الصفات القبيحة والسلبية التي تعد نقصاً في الحاكم، لما اتصف بها النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم).

بعبارة أخرى: إن الصفات المقابلة أي الخشونة والشدة والقسوة، هي

التي تعد من الصفات القبيحة والسلبية، بالنسبة إلى الحاكم . وإذا كان يشترط في الحاكم أن لا يتصف بالصفات السلبية، فيجب عليه أن لا يتصف بالغلظة والشدة والقسوة وسوء الخلق، فيجب على من يخلف رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)أن لا يتصف بهذه الصفات.

2 - إنكار الإمام علي(علیه السّلام)لهذه التهمة: إن اتهام الإمام علي بهذه التهمة لم يقتصر صدوره عن الخليفة الثاني فقط، بل عمد آخرون من أمثال عمرو بن العاص - وكانت أمه من ذوات الأعلام - إلى الترويج لهذه التهمة،

فردّ عليه الإمام بجواب صريح يذكّره فيه بما كانت عليه حقيقة أمه قائلاً:

«عَجَباً لِاِبْنِ النَّابِغَةِ يَزْعُمُ لِأَهْلِ الشَّامِ أَنَّ فِي دُعَابَةٌ، وَأَنِّي امْرُقٌ تِلْعَابَةٌ أَعَافِسٌ وَأَمَارِسُ، لَقَدْ قَالَ بَاطِلاً، وَنَطَقَ أَيْمَا، أَمَا وَشَرُّ الْقَوْلِ الْكَذِبُ، إِنَّهُ لَيَقُولُ فَيَكْذِبُ، وَيَعِدُ فَيُخْلِفُ، وَيُسْأَلُ فَيَبْخَلُ، وَيَسْأَلُ فَيُلْحِفُ، وَيَكُونُ

ص: 488


1- السيرة الحلبية، ج 3، ص 440 .

الْعَهْدَ، وَيَقْطَعُ الْإِلَّ، فَإِذَا كَانَ عِنْدَ الْحَرْبِ فَأَيُّ زَاجِرٍ وَآمِرٍ هُوَ مَا لَمْ تَأْخُذِ اَلسُّيُوفُ مَآخِذَهَا، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَانَ أَكْبَرُ [أَكْبَرَ] مَكِيدَتِهِ أَنْ يَمْنَحَ الْقَوْمَ الْقِرْمَ سَبَّتَهُ، أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَيَمْنَعُنِي مِنَ اللَّعِب ذِكْرُ الْمَوْتِ، وَ إِنَّهُ لَيَمْنَعُهُ مِنْ قَوْلِ اَلْحَقِّ نِسْيَانُ الأَخِرَةِ»(1).

3 - عدم انسجام التهمة مع نصوص التنصيب: تقدم أن ذكرنا في فصل الإجابة عن شبهة عدم وجود النص بشأن إمامة الإمام علي(علیه السّلام)، كثيراً من الروايات المأثورة عن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)والتي بموجبها تم تنصيبه إماماً وخليفة على المسلمين، فإذا صحت هذه الشبهة (أي عدم صلاحية الإمام علي للإمامة والخلافة بسبب دعابته)، يرد هذا الإشكال القائل: كيف تسنى للنبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)أن ينصبه في هذا المنصب مع علمه باتصافه بهذه الصفة؟ وهل كان النبي يجهل اتصاف الإمام علي(علیه السّلام)بهذه الصفة رغم أنه تربّى في حجره منذ نعومة أظفاره؟! أم أنه - والعياذ بالله - أهمل هذا الجانب، وعمد إلى تنصيبه في هذا المنصب الحسّاس والخطير رغم علمه بعدم صلاحيته، وأنه كان في ذلك مدفوعاً بالعواطف الشخصية، من قبيل: الرابط الأسري الذي يربط بينه وبين ابن عمه علي بن أبي طالب(علیه السّلام)! هل يمكن للخليفة الثاني وأفراد حاشيته وبطانته أن يلتزموا بتبعات هذا القول (جهل النبي لمثل هذه المسألة الواضحة، وانحيازه إلى العامل الأسري والقبلي)، ويدعون مع ذلك أنهم من أهل السنة والمدافعين عن السنة النبوية ؟!

4 - عدم انسجام التهمة مع الأولوية والأحقية: لو قيل إن دلالة

ص: 489


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 83 و 84 ؛ وانظر أيضاً: ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، ج 6 ، ص 280 .

النصوص النبوية على إمامة الإمام علي(علیه السّلام)بوصفها أصلاً دينياً في مجال «التنصيب» موضع نقاش، وأن هذه الدلالة بحسب المصطلح أول الكلام، يجب القول: لو سلمنا بهذه الشبهة، يبقى أصل التعارض قائماً، إذ لا نقاش في الحد الأدنى في دلالة هذه النصوص المتظافرة على ترشيح الإمام علي وتعريفه بوصفه صالحاً لتولي أمر الخلافة والإمامة وأحقيته في ذلك، وعليه يأتي السؤال المتقدم والقائل: مع افتراض عدم صلاحية الإمام علي لتولي مثل هذا المنصب الخطير، كيف تسنى للنبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)ترشيحه لهذا المنصب؟ هل كان النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)يجهل اتصاف الإمام علي(علیه السّلام)بهذه الصفة (كثرة المزاح والدعابة)؟ أم أنه والعياذ بالله - غلّب المصالح الشخصية على مصلحة الأمة في ترشيحه للإمام علي(علیه السّلام)؟!

5 - تمسك الإمام علي(علیه السّلام)بأحقيته وصلاحيته: لقد تمسك الإمام على(علیه السّلام)فى كثير من خطبه بصلاحيته الحصرية وأحقيته بمنصب الإمامة والخلافة، واصفاً نفسه فى ذلك بالقطب من الرحى، وأخذ يشكو بمرارة من اغتصاب الآخرين لحقه في الخلافة، على ما مرّت الإشارة إلى ذلك في الفصول المتقدمة.

وهنا يطرح هذا السؤال نفسه هل كان النبي في هذه الموارد يؤكد على صلاحيته وأحقيته بالحكم والخلافة رغم علمه بعدم صلاحيته لذلك؟ ألا يعني ذلك اتهام الإمام على(علیه السّلام) - والعياذ بالله - بالكذب؟!

كيف يبيح أهل السنة لأنفسهم - وهم الذين يتبجحون بالتحمّس في الدفاع عن الصحابة والقول بعد التهم - أن يتهموا الإمام علي بعلم أو بغير علم منهم بمثل هذا الاتهام، وهو الذي وصفه النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)بكثير من الفضائل والمناقب من قبيل: ميزان الفصل بين الحق والباطل، وأنه مدار الهداية، وأنه مع

ص: 490

القرآن والقرآن معه، وأنه سفينة النجاة، وما إلى ذلك من الصفات الإيجابية؟

6 - تعارض هذه التهمة مع إقراره بصلاحية الإمام للخلافة: لو أن الإمام علي كان حقاً غير مؤهل لتولي منصب الخلافة من وجهة نظر عمر بن الخطاب بسبب ما وصفه به من الدعابة وكثرة المزاح، فإننا نتساءل: كيف أباح عمر لنفسه إذن أن يرشح الإمام علي(علیه السّلام)للخلافة ضمن الشورى المؤلفة من المرشحين الستة لأحراز هذا المنصب بعد وفاته؟ فهل تغيّر الإمام علي خلال هذه الفترة ولم تعد فيه دعابة؟ أو أن هذه الصفة لم تكن تشكل مانعاً حقيقياً لتولي هذا المنصب، أو أن هذا المنصب ينسجم تمام الانسجام مع الاتصاف بهذه الصفة ؟

تكذيب ابن أبي الحديد المعتزلي: في ختام هذا البحث نشير إلى إقرار ابن أبي الحديد المعتزلي وإنكاره أن يكون الإمام علي(علیه السّلام) متصفاً بصفة الدعابة بمعناها السلبي، وذلك إذ يقول:

من تأمّل كتب السير عرف صدق هذا القول وعرف أن عمرو بن العاص أخذ كلمة عمر إذ لم يقصد بها العيب فجعلها عيباً، وزاد عليها أنه كثير اللعب يعافس النساء ويمارسهن وأنه صاحب هزل! ولعمر الله لقد كان أبعد الناس من ذلك وأي وقت كان يتسع لعلى(علیه السّلام)حتى يكون فيه على هذه الصفات، فإن أزمانه كلها في العبادة والصلاة والذكر والفتاوي والعلم، واختلاف الناس إليه في الأحكام، وتفسير القرآن ونهاره كله أو معظمه مشغول بالصوم، وليله كله أو معظمه مشغول بالصلاة، هذا في أيام سلمه، فأما أيام حربه فبالسيف الشهير والسنان الطرير وركوب الخيل، وقود الجيش ومباشرة الحروب. ولقد صدق(علیه السّلام)في قوله : إنني ليمنعني من اللعب ذكر الموت، ولكن

ص: 491

الرجل الشريف النبيل الذي لا يستطيع أعداؤه أن يذكروا له عيباً، أو يعدوا عليه ،وصمة، لا بد أن يحتالوا ويبذلوا جهدهم في تحصيل أمر ما - وإن ضعف - يجعلونه عذراً لأنفسهم في ذمّه»(1).

التبرير السادس: مخالفة العرب له:

إن من بين التبريرات التي ذكرها المخالفون لتولي الإمام علي(علیه السّلام)للخلافة والإمامة، أن العرب وقريش كانوا يكرهون خلافته. وذلك لأن الإمام علي قد قتل كثيراً من صناديد العرب، وخاصة من أهل مكة وقبيلة قريش في الحروب عندما لم يكونوا مسلمين، وهو أمرٌ أوغر صدور ذويهم حقداً وكراهية له. وهذا ما صرح به الخليفة الثاني في كلام له مع ابن عباس، حيث قال: «إنا والله ما فعلنا الذي فعلنا عن عداوة، ولكن استصغرناه، وخشينا أن لا تجتمع عليه العرب وقريش لما قد وترها»(2).

وفي موضع آخر تحدث مع ابن عباس عن بغض قريش بوصفه أحد التبريرات لما قام به فى يوم السقيفة(3).

مناقشة وتحليل:

في معرض تحليل وتقييم هذه النسبة يجدر التأمل في الأمور الآتية:

1 - ادعاء من دون دليل : إن أول ما يمكن قوله في تحليل هذا التبرير

ص: 492


1- ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، ج 6، ص 328 - 329.
2- محاضرات الأدباء، ج 4 ، ص 4464 اليقين، ص 523 ، نقلاً عن: موسوعة الإمامة علي(علیه السّلام)، ج 3، ص 70.
3- انظر: أخبار الدولة العباسية، ص 129.

فلماذا

هو أن الخليفة الثاني كيف عرف جازماً بأن العرب سوف تمتنع عن القبول بخلافة الإمام علي(علیه السّلام)؟ فإذا كان الإمام علي(علیه السّلام)منصباً من قبل رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)بوصفه خليفة له، أو أنه فى الحدّ الأدنى مؤهّل ومستحق لهذا المنصب، تمتنع الأمة عن القبول بالخليفة المرشح والمؤيّد من قبل النبي من جهة، والذي يتمتع بالحظ الأوفر لكونه الأصلح من غيره لهذا المقام من جهة أخرى؟

وعلى حد تعبير المحقق السني المعاصر والبارز والمنصف عبد الفتاح عبد المقصود (م 1372 ه_ ش): ما الذي كان ينقص الإمام علياً(علیه السّلام)من حيث مؤهلات القيادة(1). ألم يكن عميد الأسرة الهاشمية، وحفيد عبد المطلب وهاشم وابن أبى طالب الذين توارثوا رئاسة وزعامة مكة أباً عن جد لسنوات طويلة ومتعاقبة ؟ ألم يتربّ على(علیه السّلام)في حجر رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)منذ أن كان صغيراً حتى شب وترعرع واشتد عوده؟ ألم يكن من حيث القرابة والنسب ابن عم النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)وصهره ؟ ألم يختره النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)أخاً له ؟ ألم يكن أبا الحسن والحسين(علیهما السّلام)«سيدي شباب أهل الجنة»؟

من خلال ملاحظة هذه الخصائص يتضح أن الإمام علياً(علیه السّلام)لم يكن يعاني من أي نقص يمنعه من تولي رئاسة العرب، كي يتذرّع به العرب في تبرير امتناعه عن القبول بحكمه. وقد أشار الصحابي الجليل سلمان الفارسي إلى هذه الحقيقة حيث قال: «أصبتم ذا السن منكم ولكنكم أخطأتم أهل بيت نبيكم، أما لو جعلتموها فيهم ما اختلف منكم اثنان، ولأكلتموها رغداً»(2).

ص: 493


1- خاستگاه خلافت، ص 468 - 476 .
2- ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، ج 2، ص 49.

2 - عدم تأثير الحاقدين والمبغضين لو سلمنا جدلاً بتبرير عمر بأن العرب وخاصة المكيين منهم كانوا يبغضون علياً(علیه السّلام)بسبب الحروب التي خاضها تحت لواء رسول الله ضدّهم، والتي قتل فيها وجرح كثيراً من المشركين، فجر عليه لذلك أحقاد ذويهم، فلا بد من القول:

أولاً: يجب إيضاح هذه النقطة، وهي أن القتال في تلك الأزمنة كان يتم بالسلاح الأبيض والالتحام الفردي، ولو أحصينا الذين قتلوا على يد الإمام علي(علیه السّلام)فسوف يكون عددهم محدوداً، وعليه لا يمكن أن يكون مؤثراً في

مخالفة حكمه.

وثانياً: إن هذا العدد المحدود - الأعم من الجرحى أو أسر المقتولين وذويهم - قد أسلموا لاحقاً وحسن إيمانهم، وأدركوا أن الإمام علياً(علیه السّلام)لم يقتلهم لأغراض وأحقاد شخصية، وإنما قتلهم في سبيل الله ومن أجل الإسلام، ولذلك لا يبقى لأحقادهم محل من الإعراب. وهذا ما أجاب به ابن عباس في حواره مع عمر بن الخطاب عندما تذرع ببغض قريش له(1).

وثالثاً: حتى لو سلمنا بقاء شيء من الغل والحقد في قلوب البعض منهم، إلا أنهم من القلة بحيث لا يشكلون رقماً صعباً يمكنه الوقوف بوجه حكومة النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)علي وخلافته المتمثلة بقيادة الإمام علي(علیه السّلام).

3 - الإساءة إلى قريش والصحابة: يبدو أن نفس نسبة الحقد والبغض للعرب وخاصة قريش وأهل مكة الذين أسلم أكثرهم لاحقاً وحسن إسلامهم، وأخلصوا إخلاصاً حقيقياً في طاعة رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)، وحسنت صحبتهم فيه

ص: 494


1- انظر: فرائد السمطين، ج 1، ص 334.

إساءة لهم، وعليه فإن توجيه هذا النسبة لهم، يتعارض مع مبنى أهل السنة في القول بعدالة الصحابة، علاوة على أن هذه النسبة تنطوي على إساءة للعرب وقريش، إذ تعني أنهم كانوا في خياراتهم يقدمون أحقادهم وأهواءهم الشخصية على مصالح الدين الإسلامي الحنيف. وعلى حد تعبير ابن عباس في رده على مزاعم عمر بن الخطاب: «أما بغض قريش له فعلى من تنقم؟ أعلى الله حين بعث فيهم نبياً، أم على نبيه ، أدّى فيهم الرسالة، أم على علي

حين قاتلهم فى سبيل الله ؟»(1).

4 - ضرورة السعي إلى انتخاب القائد الأصلح لا إضعافه: لو آمنا بصلاحية - بل أصلحية - شخص مثل الإمام علي(علیه السّلام)للخلافة، وهو ما أذعن به الخليفة الثاني، ولكنه أشار في مقام تبرير عدم انتخابه إلى موانع مثل مخالفة قريش له واعتراضها عليه، يجب إعداد الأرضية لتولي الأصلح مقاليد الأمور، بيد أن النظر في تاريخ عصر النبي النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)وخاصة الأيام الأخيرة من عمره الشريف وما كان من أمر السقيفة يُثبت أن الخليفة الأول والثاني لم يقتصرا على عدم القيام بأي مسعى في هذا الاتجاه وفي تعريف الإمام علي(علیه السّلام)وانتخابه بوصفه الأصلح للحكومة فحسب، بل تم السعي على العكس من هذا الاتجاه، حيث بذل المستحيل من أجل تنصيب الخليفة الأول وانتخابه، كما يتجلى ذلك - على سبيل المثال - في منعه رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)من كتابة وصيته في اللحظات الأخيرة من حياته، على ما تقدم أن ذكرناه في الفصول السابقة تحت عنوان «الوصية غير المكتوبة»، وإصرار عائشة على أن يتولى أبوها (أبو بكر) إمامة الصلاة بالمسلمين جماعة، عندما كان النبي طريح المرض، وتداول أمر

ص: 495


1- أخبار الدولة العباسية، ص 129 ، نقلاً عن: موسوعة الإمام علي(علیه السّلام)، ج 3، ص 71.

الخلافة وتناولهما فيما بينهما (عمر وأبي بكر ) في يوم السقيفة، من دون إتيانهما على أي ذكر للإمام علي(علیه السّلام)في هذا الشأن، إلى غير ذلك من الموارد التي تثبت أن الخليفتين الأولين تعاونا وتعاضدا على الاستيلاء على مسند الحكم والسلطة واغتصاب الحق من صاحبه الشرعي.

إن مثل هذه الجهود والمساعي لا تنسجم مع مبنى الشيخين - وخاصة عمر بن الخطاب - حيث اعترفا في أكثر من موضع بأصلحية وأحقية الإمام علي(علیه السّلام)بالخلافة بشكل صريح.

5 - لزوم تفوض الأمر لعلي(علیه السّلام)بعد استقرار الحكومة: لو أننا أغمضنا الطرف عن الإشكالات السابقة، وسلّمنا بأن الأرضية لاستلام الحكم لم تكن ممهدة للإمام علي(علیه السّلام)بعد رحيل النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)، لابد من التوجه إلى الخليفة الأول بالسؤال:

لماذا لم ينقل السلطة بعد استقرار الأمور إلى من هو الأصلح منه بالطرق السلمية؟

ولماذا اختار عمر بن الخطاب خليفة بعده وليس الإمام علياً(علیه السّلام)؟ ولماذا لم يبادر عمر بعد استتاب الأمور إلى نقل السلطة إلى الإمام على(علیه السّلام)بوصفه صاحبها الشرعي، وقد سبق أن اعترف له بذلك متذرعاً لإبعاده عن حقه ببغض العرب له واعتراضهم عليه ؟ ولماذا لم يجعل الخليفة الثاني مرشحه للخلافة بعده الأصلح من بين أفراد الأمة؟ بل جعله سادساً ضمن مهزلة الشورى على ما تقدّمت الإشارة لذلك، والذي كانت نتيجته الطبيعة لمصلحة انتخاب عثمان بن عفان. ألا تدلّ هذه القرائن على أن الشيخين كانا بصدد تبرير أفعالهما في اغتصاب السلطة والخلافة؟

ص: 496

التبرير السابع: إيثار قبيلته من بني عبد المطلب:

إن من بين الذرائع - بل التهم - التي ساقها الخليفة الثاني ونسبها إلى الإمام علي اتهامه بتقديم مصالح أقاربه وقبيلته على مصالح الدين والأمة، حيث قال في بعض تبريراته التي ذكرها لإبعاد الإمام علي(علیه السّلام)عن السلطة والخلافة أنه كان يُحبّ أبناء قبيلته، يعني بذلك أبناء «عبد المطلب»، ولذلك لم يرتض العرب حكمه. وإليك نص عبارته التي ألقاها على ابن عباس:

«يا ابن عباس أما والله إن كان صاحبك هذا أولى الناس بالأمر بعد وفاة رسول الله، إلا أنا خفناه على اثنتين! قال ابن عباس: فجاء بمنطق لم أجد بداً معه من مسألته عنه: فقلت: يا أمير المؤمنين ما هما؟ قال: خشيناه على حداثة سنه وحبّه بني عبد المطلب»(1).

مناقشة وتحليل:

إن كلّ من لديه أدنى اطلاع - ولو على نحو الإجمال - على سيرة الإمام علي(علیه السّلام)وصفاته، سوف يأخذه العجب والذهول والحزن عند سماعه لهذه التهمة. فإن لازم هذا الاتهام هو أن الإمام علياً(علیه السّلام)لم يكن يمتلك - والعياذ بالله - من الإيمان والورع والعدالة ما يمنعه من إيثار مصلحة قبيلته وأسرته على مصالح الدين والمسلمين وبيت المال. في حين تقدم أن ذكرنا أن بعض الذين أمر النبي الأكرم عليهم الإمام علياً(علیه السّلام) كانوا يشكون من شدته وعدم تسامحه فيما يتعلق بأمور بيت المال، وأن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)الرفض مضمون هذه الشكوى واصفاً الإمام على بقوله:

ص: 497


1- ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، ج 2، ص 57 .

«يا أيها الناس لا تشكوا علياً فوالله إنه لأخشى [لأخشن] في ذات الله، أو في سبيل الله من أن يشكى»(1).

وعندما وصل الإمام علي(علیه السّلام)إلى الحكم سار سيرة عادلة، بل أكثر من ذلك على ما ورد في كثير من المشاهد الموجودة في العديد من المصادر الروائية والتاريخية عند أهل السنة والشيعة. وفيما يأتي سنكتفي بالإشارة إلى مثالين بارزين في هذا الشأن:

أ - عندما بلغ عقيل - شقيق الإمام علي - سن الشيخوخة، وكان يعاني من فقدان البصر، لجأ إلى الإمام علي(علیه السّلام)واصطحب معه صبيته يشكو إليه شدة الفقر، وطلب منه العون من بيت المال فما كان من الإمام على إلا أن لقنه درساً عملياً بليغاً على ما هو وارد في نهج البلاغة على النحو الآتي:

وَالله لَقَدْ رَأَيْتُ عَقِيلاً وَقَدْ أَمْلَقَ، حَتَّى اسْتَمَاحَنِي مِنْ بُرَّكُمْ صَاعاً، وَرَأَيْتُ صِبْيَانَهُ شُعْثَ الشُّعُورِ، غُبْرَ الْأَلْوَانِ مِنْ فَقْرِهِمْ، كَأَنَّمَا سُوِّدَتْ وُجُوهُهُمْ بِالْعِظْلِمِ، وَعَاوَدَنِي مُؤَكَّداً ، وَكَرَّرَ عَلَيَّ الْقَوْلَ مُرَدَّداً، فَأَصْغَيْتُ إِلَيْهِ سَمَعِي، فَظَنَّ أَنِّي أَبِيعُهُ دِينِي، وَأَتَّبِعُ قِيَادَهُ مُفَارِقاً طَرِيقي، فَأَحْمَيْتُ لَهُ حَدِيدَةٌ، ثُمَّ أَدْنَيْتُهَا مِنْ جِسْمِهِ لِيَعْتَبِرَ بِهَا ، فَضَجَّ صَحِيحَ ذِي دَنَفٍ مِنْ أَلَهَا، وَكَادَ أَنْ يَحْتَرِقَ مِنْ مِيسَمِهَا، فَقُلْتُ لَهُ: ثَكِلَتْكَ الثَّوَاكِلُ، يَا عَقِيلُ أَتَيْنُ مِنْ حَدِيدَةٍ أَحْمَاهَا إِنْسَانُهَا لِلَعِبِهِ، وَتَجُرُّنِي إِلَى نَارٍ سَجَرَهَا جَبَّارُهَا لِغَضَبِهِ! أَتَيْنُ مِنَ الْأَذَى وَلاَ أَئِنُّ مِنْ لَظَى ؟!»(2).

ص: 498


1- انظر: ابن جرير الطبري، تاريخ الملوك والأمم ، ج 2، ص 402؛ كنز العمال، ج 11، ص 620؛ فرائد السمطين، ج 1، ص 163 ، رقم: 125؛ أحمد ابن حنبل، فضائل الصحابة ، ج 2، ص 679 ؛ السيرة النبوية، ج 6 ، ص 8.
2- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 224 .

ب - عن علي بن أبي رافع، قال: كنت على بيت مال علي بن أبي طالب(علیه السّلام)وكاتبه، وكان في بيت ماله عقد لؤلؤ كان أصابه يوم البصرة، قال: فأرسلت إلي بنت أمير المؤمنين(علیه السّلام)فقالت لي : بلغني أن في بيت مال أمير المؤمنين(علیه السّلام)عقد لؤلؤ وهو في يدك، وأنا أحب أن تعيرنيه أتجمل به في أيام عيد الأضحى، فأرسلت إليها عارية مضمونة مردودة يابنت أمير المؤمنين؟ قالت: نعم، عارية مضمونة مردودة بعد ثلاثة أيام. فدفعته إليها وأن أمير المؤمنين(علیه السّلام)رآه عليها فعرفه، فقال لها: من أين صار إليك هذا العقد؟ فقالت: استعرته من علي بن أبي رافع خازن بيت مال أمير المؤمنين لأتزيّن به في العيد ثم أردّه ، قال : فبعث إلي أمير المؤمنين(علیه السّلام)فجئته، فقال لي: أتخون المسلمين يا ابن أبي رافع؟! فقلت له: معاذ الله أن أخون المسلمين، فقال: كيف أعرت بنت أمير المؤمنين العقد الذي في بيت مال المسلمين بغير إذني ورضاهم؟! فقلت: يا أمير المؤمنين إنها ابنتك وسألتني أن أعيرها إياه تتزين به فأعرتها إياه عارية مضمونة مردودة، فضمنته في مالي وعلى أن أرده سليماً إلى موضعه، قال: فرده من يومك، وإياك أن تعود لمثل هذا فتنالك عقوبتي، ثم أولى لابنتي لو كانت أخذت العقد على غير عارية مضمونة مردودة، لكانت إذا أول هاشمية قطعت يدها في سرقة»(1).

من هنا فإننا نطلب من القارئ من أهل السنة ونخاطب وجدانه السليم أن يتجرد للحظة من عنوان الخليفة الثاني واسم عمر بن الخطاب، وأن يحكم

ص: 499


1- الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج 28، ص 292 ، كتاب الحدود، الباب 26، الحديث رقم: 1؛ وانظر أيضاً: وسائل الشيعة، ج 18، ص 521؛ العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 40 ، ص 106.

بحيادية هل كان اتهام عمر لمن يفعل مثل هذه الأمور مع أخيه المكفوف وبنته، مبرراً ووارداً؟ أم أنها تهمة اعتباطية كبرى في حق هذا الشخص العظيم؟ وإن هذا الاتهام إنما كان مجرد تبرير ناشئ عن شدة تعلق صاحبه بالمنصب والحكم والسلطة، وإبعاد الإمام على(علیه السّلام)عن حقه في الإمامة والخلافة.

التبرير الثامن: كراهة الجمع بين النبوة والإمامة في بيت واحد :

إن من بين الأدلة التي ذكرها عمر بن الخطاب - في تبرير إبعاد الإمام علي(علیه السّلام)عن الخلافة - كراهة الجمع بين النبوة والخلافة في بيت واحد. فعلى الرغم من أن النبوة والحكومة قد اجتمعت في شخص النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)، إلا أن عمر أراد طبقاً لما رآه من المصلحة أن يفرّق بين هذين المفهومين، ونسب هذا الأمر حيناً إلى العرب، وحيناً آخر إلى النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)، حيث قال إن العرب أو النبي قد كرهوا أن تجتمع النبوة والخلافة في بيت واحد(1)!ويرد على هذا التبرير من قبل عمر بن الخطاب، ما يأتي:

أولاً: إنه يفتقر إلى القاعدة والأصل الشرعي. فهل يكفي مجرد كراهية العرب أو أي أمة أخرى لأمر، ليكون يكون مسوّغاً ومبرراً لعدم امتثال أمر الله ورسوله، وإبعاد الخيار الجامع والحصري للحكومة باعترافه شخصياً؟!

وثانياً: كيف أمكن لعمر أن يكتشف هذه الكراهية من قبل العرب؟

وثالثاً: لماذا عمد عمر نفسه بنقض ما ذهب إليه، عندما قام بترشيح

ص: 500


1- انظر: ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، ج 12، ص 9؛ الطبري، تاريخ الطبري، ج 4، ص 223؛ ابن الأثير ، الكامل في التاريخ، ج 2، ص 218.

الإمام علي بن أبي طالب(علیه السّلام)؛ ليكون واحداً من الستة أعضاء الشورى؟ ألا يدل هذا التصرف من قبل الخليفة على ما يخالف مواقفه السابقة على المستوى النظري والعملي؟ إن وضع اليد على هذا التناقض كان من الأسباب التي دعت الإمام علياً(علیه السّلام)إلى الدخول فى هذه الشورى على ما مر بيانه في الصفحات السابقة.

وأما إذا كان مراد عمر من كراهية الجمع بين النبوة والخلافة في أهل البيت(علیهم السّلام)استناداً إلى الرواية التي أسندها أبو بكر إلى النبي، فهذا ما سوف نعرضه في الصفحات القادمة إن شاء الله، حيث سنثبت أن هذه النسبة إلى النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)،مجرد اتهام باطل ولا أساس له من الصحة.

التبرير التاسع: أصل الترتب (مرحلتان مع أولوية الخلافة):

هناك من يؤمن بإمامة الإمام علي(علیه السّلام)كما يؤمن بوجود النصوص القرآنية والروايات النبوية بشأن إمامته وخلافته، ولكن بشكل نظري قابل للأخذ والردّ ، لا بوصفها عقيدة قطعية لا تقبل النقاش. حيث يقول هذا بعضهم إن هذا النوع من إمامة الإمام(علیه السّلام)يمثل المرحلة والأولوية الأولى من بين مرحلتين، أما المرحلة أو الأولوية الثانية فهي تعيين الخليفة من قبل الشورى وأهل الحل والعقد، وتبعاً لذلك البيعة. إلا أن فعلية المرحلة الثانية وتنجزها ليست في عرض المرحلة الأولى (المتمثلة بالتنصيب)، وإنما هي في طولها، بمعنى أن المسلمين مكلفون في المرحلة الأولى بتطبيق نصوص التنصيب، أي: قبول إمامة وخلافة الإمام علي(علیه السّلام)وفي حالة العصيان وعدم امتثال هذه المرحلة، يُصار إلى المرحلة الثانية (المتمثلة بتعيين الخليفة عن طريق الشورى والبيعة).

ص: 501

يقول أحد المعاصرين من خلال طرح هذه الرؤية:

«بعد بحث طويل في هذا النوع من المسائل توصلت لا إلى عقيدة قطعية، وإنما إلى رؤية قابلة للدراسة في الحد الأدنى، وهي أن مسألة الخلافة ذات مرحلتين وأولويتين .. الأولوية الأولى تتمثل بالالتزام بالنص على خلافة الإمام علي(علیه السّلام)وأبنائه وإمامتهم، بالنظر إلى الأدلة والشواهد الكثيرة الواردة في هذا الشأن والتي لا يمكن إنكارها أبداً .. والأولوية الثانية تأتي في ظلّ ظروف خاصة، من قبيل: عدم توفّر الأرضية الاجتماعية لتحصيل الأولوية الأولى، أو عصيان المجتمع الإسلامي وأكثرية الأمة لسبب وآخر، يُصار من باب الضرورة أو لقطع الطريق على المنافقين - الذين كانوا يخالفون أصل

الإسلام، ولما يشكلونه من الخطر على بيضة الإسلام بعد الرسول الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)طبقاً لكثير من الشواهد التاريخية والنصوص القرآنية والروايات الثابتة - في مثل هذه الحالة إلى خيار الشورى وأهل الحل والعقد من المهاجرين والأنصار الذين كان بإمكانهم الوقوف بوجه المنافقين والمرتدين وكذلك اليهود والنصارى

من الذين كانوا يتربصون بالإسلام، ويتحينون فرصة رحيل النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)، فلم يكن هناك بد - والحالة هذه - من المصير إلى الخيار والأولوية الثانية، وقد أعطى الإمام علي(علیه السّلام)لخلفاء عصره مثل هذا الاعتبار بالنظر إلى هذه الشرائط ، وأذعن لذلك عملاً من أجل الحفاظ على بيضة الإسلام»(1).

وعمد إلى بيان المرحلة الثانية وتبريرها من خلال سلوك طريقين، وهما: «الترتب» و«الضرورة»، وفى بيان المرحلة الأولى وشرحها قال:

ص: 502


1- محمد واعظ زادة الخراساني، في حوار مع مجلة «نهج البلاغة»، العدد المزدوج : 4 و 5 ، ص 176 .

«الأول على طريقة الترتب، بمعنى اتباع القاعدة الأصولية الهامة فيما يتعلق بالحكمين المتعارضين اللذين يكون هناك ترتب طولي بينهما، والتي يكون الحكم الأول فيها مطلقاً، ويكون الحكم الثاني فيها مشروطاً بعصيان الحكم الأول. بمعنى أن المكلفين لو أطاعوا الحكم الأول، لا تصل النوبة إلى الحكم الثاني، وأما إذا عصوا الحكم الأول، ففي مثل هذه الحالة سوف تتحقق فعلية الحكم الثاني بلحاظ أهمية الموضوع.

وفيما نحن فيه كان المسلمون مكلّفين بالالتزام بخلافة الإمام علي(علیه السّلام)بعد رحيل رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)، ولكنهم عصوا هذا التكليف، وبذلك نصل إلى فعلية التكليف الثاني ومشروعيته الذي يعني إقامة الخلافة من خلال إجماع المهاجرين والأنصار، والمراد من الإجماع هنا بطبيعة الحال هو اتباع رأي الأكثرية من دون الإجماع الكامل، وعليه لا ينبغي التشبث بتخلف عدد محدود من الأفراد للقول بانخرام الإجماع. وعليه تكون هذه الفعلية والمشروعية للحكم الثاني بلحاظ الظرف الحساس الذي كان يعيشه الإسلام في تلك الفترة»(1).

وقد صرّح القائل بهذه النظرية على أساس أصل الترتب المقترح من ،قبله بأن هذه النظرية لا تبرئ ساحة الذين اختاروا الحكم الثاني، إذ يقول:

«نعم، إن هذا الوجه لا يبرئ الصحابة، أو أنه فى الحد الأدنى يحمّل المسؤولية لأولئك الذين لعبوا دوراً محورياً في مسألة الخلافة، وبذلك فإن هذا الوجه يأخذ بنظر الاعتبار ويتفهم أسباب غضب وانزعاج أتباع وشيعة الإمام على(علیه السّلام)وأهل البيت(علیهم السّلام)»(2).

ص: 503


1- محمد واعظ زادة الخراساني، في حوار مع مجلة «نهج البلاغة»، العدد 4و5، ص 176.
2- المصدر أعلاه، ص 177

يمكن العثور على جذور هذه النظرية عند بعض الفرق الشيعية، مثل: «البترية»، فطبقاً لتقرير النوبختي: إن هؤلاء كانوا يعتقدون بأن الإمام علياً(علیه السّلام)هو الأولى بالخلافة من غيره، وإنما قبلوا خلافة أبي بكر وعمر، لأن الإمام علي قد رضي بها في نهاية الأمر، وقد صرّحوا في الوقت نفسه بأنه لولا رضا الإمام علي(علیه السّلام)وتسليمه لكان أبو بكر في ضلال وهلكة(1).

مناقشة وتحليل:

يبدو أن المرحلة الأولى من هذه النظرية ليست شيئاً جديداً؛ إذ إنّها ذات نظرية الشيعة الذين يصرون على أن الإمامة بجميع توابعها ومتفرعاتها - بما في ذلك مسألة الحكم والسياسة - أمر منصوص عليه من قبل الله حيث تم تنصيب الإمام علي(علیه السّلام)من قبل النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)، وأن المسلمين كانوا مكلفين بالعمل على طبق هذا الحكم الإلهى، وأنهم إذا امتنعوا عن البيعة للإمام

ص: 504


1- أبو محمد حسن النوبختي، فرق الشيعة، ص 20 ، والملفت هنا أن النوبختي قد اكتفى - بذكر خلافة أبي بكر وعمر، وأحجم عن ذكر خلافة عثمان. كما يستظهر هذا الرأي من عبارة بعض المعاصرين أيضاً، فعلى سبيل المثال أشار مؤلفو التفسير الأمثل إلى وعد الله بنصرة ة المستضعفين وجعلهم الأئمة ووصولهم إلى الحكم والسلطة، على ما هو وارد في القرآن الكريم، إذ فسروا قوله تعالى: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ) (القصص: 5). بالقول: «فهي بشارة في صدد انتصار الحق على الباطل .. ما هي إلا نموذج لتحقق هذه المشيئة الإلهية، والمثل الأكمل هو حكومة نبي الإسلام(صلی الله علیه و آله و سلم)وأصحابه بعد ظهور الإسلام .. حكومة الحفاة العفاة والمؤمنين المظلومين .. وكانت العاقبة أن الله فتح على أيدي هؤلاء المستضعفين أبواب قصور الأكاسرة والقياصرة». آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج 12، ص 113 ، دار الأميرة للطباعة والنشر، بيروت،2009.

علي وامتثال الأمر الإلهي في ذلك يكونون من العصاة لتركهم الأمر الإلهي.

إلا أن المرحلة الثانية من هذه النظرية، بمعنى ضرورة أن تكون هناك حكومة تعمل على تنظيم أمور المجتمع، والعمل إلى حد ما على حفظ أصل الإسلام فهي ثابتة بحكم العقل وسيرة العقلاء القائمة على ضرورة إقامة الحكم وتعيين الحاكم، وهو ما يؤكد عليه الحديث المأثور عن الإمام على(علیه السّلام)القائل: «لا بد للناس من أمير برّ أو فاجر»(1). وقد أذعن المسلمون في صدرالإسلام - للحفاظ على نظم المجتمع واستمرار المجتمع الإسلامي على المستويات الدنيا - للشورى وتعيين الحاكم، وبعبارة أدق: رضخوا لحكم الخليفة الأول. ولكن يمكن طرح هذا الأمر من باب اللجوء إلى أقل المحذورين. وعليه فإن هذا الأمر يأتي بوصفه حكماً عقلياً إرشادياً، ولا يرقى ليكون حكماً شرعياً، وبعبارة أخرى: لا يكون مصدراً يُثبت الشرعية لحكومة الخلفاء الذين اغتصبوا الحق من صاحبه الشرعي. وعليه لا يمكن تسمية المرحلة الثانية (الانتخاب) ب_ «الأولوية الشرعية الثانية»؛ إذ لم يرد نص على هذا المدعى، بل الأمر على عكس ذلك تماماً، إذ إنّ الإمام علياً(علیه السّلام)نفسه وصف الخلفاء في عصره بأنهم «غاصبون» لحقه الثابت، وهذا لا ينسجم مع افتراض الشرعية ولو على مستوى المرحلة الثانية.

وأما الروايات التى تدل على مصدر شرعية البيعة، فسوف يأتي تحليلها في الصفحات القادمة بالتفصيل، وسوف نذكر أولاً : إن اعتبارها يقتصر على الموارد غير المنصوصة، أو المورد الذى يسحب فيه الشخص المنصوص

ص: 505


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 40 ؛ العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار،ج33، ص 358.

نفسه ويتنازل - لسبب من الأسباب عن حقه في الحكم بكامل إرادته واختياره. وثانياً: إن مشروعية البيعة ليست مطلقة، وإنما هي مختصة بالحاكم الذي يتصف بالحد الأدنى من الشرائط والصفات التي يجب أن يتصف بها الحاكم الديني.

وأما فيما يتعلق بتحقق الإجماع بشأن الخليفة الأول أم لا؟ فقد أشرنا

في الصفحات السابقة إلى المخالفين لهذه البيعة المدعاة، وقلنا بأن الخليفة الثاني نفسه قد عد خلافة الخليفة الأول «فلتة»(1)،[بل أمر بقتل من يعود إلى مثلها](2)

التبرير العاشر : أصل الضرورة والحكم الثانوي:

اشارة

في القراءة السابقة كانت المرحلة الثانية (تعيين الخليفة من طريق شورى أهل الحل والعقد أو البيعة ) مترتبة على العصيان وعدم امتثال المرحلة الأولى (التنصيب الإلهى)، وأما القراءة الجديدة فتنكر حصول المعصية عند عدم تحقق المرحلة الأولى، إذ طبقاً لهذه القراءة تكون المرحلة الأولى الحكم الأولي للمسلمين، وأما عند عدم تحققها لعدم وجود الأرضية اللازمة والمناسبة لخلافة الإمام المنصوب مثلاً، تصل النوبة إلى تعيين الخليفة من طريق أهل الحل والعقد والبيعة من باب الضرورة كى لا يتمّ تعطيل الأحكام الإسلامية.

طبقاً لهذه القراءة لا يكون هناك بتجاوز المرحلة الأولى أي عصيان أو

ص: 506


1- انظر: ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، ج 2، ص 25؛ ج 17 ، ص 164 .
2- ما بين المعقوفتين إضافة من عندنا استناداً إلى النصوص التاريخية الواردة بهذا الشأن أيضاً، المعرّب.

مخالفة. وقد قال أحد المعاصرين في بيانه وتبريره الثاني:

«الثانية : لا على نحو الترتّب والقول بالتقصير، وتحميل المسؤولية على المتسببين الأصليين، بل من باب الضرورة، وعدم إمكان العمل بالأولوية الأولى، وعدم توفّر الأرضية لتطبيق النص والالتزام بمضمونه على المستوى العملي ... وهذه الرؤية الثانية تستلزم القول بشرعية خلافة الخلفاء في الظروف الخاصة التي حصلت بوصفها ضرورة ومن باب رعاية المصالح الإسلامية والحفاظ على كيان الإسلام(1).

أدلة هذه الرؤية (البيعة المنتجة للشرعية):

يذهب القائلون بهذه الرؤية إلى الاعتقاد بأن نفس مبايعة الناس الخليفة، تُعد مصدراً لإثبات شرعيته ومشروعية حكمه، وإن الله بدوره يرضى بتحقق مثل هذه البيعة.

أما القاعدة التي استند إليها القائلون بهذه النظرية، فهي عبارة عن آيات وروايات واردة في باب مبايعة الناس للنبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)، وكذلك الرواية المأثورة عن الإمام علي(علیه السّلام)في تعبيره عن الرضا بالخلفاء السابقين بسبب مبايعة الناس لهم، وفيما يأتي نشير إلى ذلك :

أ - كتب الإمام على(علیه السّلام)رسالة إلى معاوية، وكان مما جاء فيها: إِنَّهُ بَايَعَنِي الْقَوْمُ الَّذِينَ بَايَعُوا أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمانَ عَلَى مَا بَايَعُوهُمْ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَكُنْ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَخْتَارَ، وَلاَ لِلغَائِبِ أَنْ يَرُدَّ، وَإِنَّمَا السُّورَى لِلْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَإِنِ اجْتَمَعُوا عَلَى رَجُلٍ وَسَمَّوْهُ إِمَاماً كَانَ ذلِكَ الله

ص: 507


1- محمد واعظ زادة الخراساتي، مجلة نهج البلاغة، العدد المزدوج : 4 - 5 ، ص 177 - 181.

رِضَى، فَإِنْ خَرَجَ عَنْ أَمْرِهِمْ خَارِجٌ بِطَعْنِ أَوْبِدْعَةٍ رَدُّوهُ إِلَى مَاخَرَجَ مِنْهُ، فَإِنْ أَبِي قَاتَلُوهُ عَلَى اتَّبَاعِهِ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَوَلَاهُ اللَّهُ مَا تَوَلَّى»(1).

وقال الذي تبنى هذه الرؤية في تقرير هذه الرسالة:

«يصرح الإمام علي(علیه السّلام)في هذه الرسالة بأن إجماع المهاجرين والأنصار على إمامة شخص يضفي عليه الشرعية، بما في ذلك خلافته وإمامته،معتبراً هذه البيعة مورداً لرضا الله، والطعن فيمن يخالفها، وحلّية قتال من يتمرد عليها»(2).

ب - قال الإمام على(علیه السّلام)عندما صار أمر الشورى إلى عثمان بن عفان:

«لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي أَحَقُّ بِهَا مِنْ غَيْرِي، وَوَالله لَأَسْلِمَنَّ مَا سَلِمَتْ أُمُورُ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا جَوْرٌ إِلا عَلَيَّ خَاصَّةً»(3).

ففي هذا البيان يصرح الإمام بأحقيته في منصب الحكم، ولكنه إنما يرضى بنتيجة الشورى رعاية لمصالح المسلمين، مؤكداً على أن الظلم والجور - في هذه الشأن -- قد وقع عليه خاصة.

ج - قال الإمام علي(علیه السّلام)في جوابه عن سؤال بعض أصحابه، من أمثال: حجر بن عدي، وعمرو بن الحمق بشأن موقفه من الخليفة الأول والثاني في رسالة ضمنها شكواه من عدم اختياره بوصفه خليفة للمسلمين:

ص: 508


1- نهج البلاغة، قسم الرسائل والكتب، الكتاب السادس؛ الفتوح، ج 2، ص 494 .
2- محمد واعظ زادة الخراساتي، مجلة نهج البلاغة، العدد المزدوج : 4 - 5 ، ص 177 .
3- نهج البلاغة، قسم الخطب، الخطبة رقم : 74.

«فلما مضى [رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)]لسبیله، تنازع المسلمون الأمر بعده، فو الله ما كان يلقى في روعي ولا يخطر على بالي أن العرب تعدل هذا الأمر بعد محمد عن أهل بيته، ولا أنهم منحوه عني من بعده، فما راعني إلا انثيال الناس على أبي بكر وإجفالهم إليه ليبايعوه، فأمسكت يدي ورأيت أني أحق بمقام محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)في الناس ممن تولى الأمر من بعده، فلبثت بذاك ما شاء الله حتى رأيت راجعة من الناس رجعت عن الإسلام، يدعون إلى محق دين الله وملة محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)؛ فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً وهدماً يكون المصاب بهما علي أعظم من فوات ولاية أموركم التي إنما هي متاع أيام قلائل، ثم يزول ما كان منها كما يزول السراب وكما يتقشع السحاب، فمشيت عند ذلك إلى أبي بكر فبايعته ونهضت في تلك الأحداث حتى زاغ الباطل وزهق، وكانت كلمة الله هي العليا ولو كره الكافرون»(1).

مناقشة وتحليل:

يجدر الانتباه في معرض تحليل هذه الشبهة إلى الأمور الآتية:

1 - التصريح بالشرعية الإلهية للإمام علي(علیه السّلام): يُصطلح على الشرعية في اللغة الإنجليزية ب_ ( Legitimacy) بمعنى حق الحاكمية القانوني. أصحاب نظرية الشرعية إلى تبرير حاكمية القطب الحاكم من خلال ويسعى طرح مختلف النظريات. يمكن أن يكون لتعدّد النظريات واختلافها في هذا الشأن أسباب مختلفة، ومن أهمها تعريف الإنسان ونوع ارتباطه بالخالق. فإذا

ص: 509


1- انظر: نهج البلاغة، الخطبة رقم : 26 ، والكتاب رقم: 62 ؛ ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة ، ج 2، ص 35 الغارات، ج 1، ص 307.

كان الإنسان ملحداً من الطبيعي أن لا يكون لديه أدنى معرفة بالله وخالقه والعالم الذي يعيش فيه، ولن يعترف بأي دور أو منزلة لله سبحانه وتعالى في إضفاء الشرعية على الحكم. أما إذا كان الإنسان متألهاً - وخاصة إذا كان متألهاً مسلماً - الذي تم التأكيد في كتابه السماوي على مسائل وقواعد النظام السياسي الذي تقدّم بحثه في نقد شبهة تبرير الإمامة وتفسيرها بالعلمانية)، فلا يسعه أن يتجاهل الدور الإلهي في هذا الشأن من خلال قراءة آيات القرآن الكريم يتضح أن الحق الأول لله على الناس هو حق الحاكمية، وليس لأحد من الناحية العقلية حق تعيين التكليف ودائرته في إطار القانون والحكومة. كما يتضح من حكم العقل هذا فقدان حتى القانون والتكليف الذي تضعه الأكثرية للشرعية بالنسبة إلى تطبيقه في حق الأقلية (وقد تقدم هذا البحث في الصفحات السابقة عند بحث نواقص الديمقراطية).

وعليه فإن المصدر الوحيد لإثبات الشرعية - من وجهة نظر المسلمين في الحد الأدنى - هو الله سبحانه وتعالى حيث يجعله في عباده الصالحين تحت عنوان الأنبياء، وعلى رأسهم النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)، فهو المصداق البارز للنبي الذي أعطاه الله النبوة والإمامة بمعناها الكامل، فأصبح النبي بذلك مكتسباً للشرعية الإلهية لممارسة السلطة بوصفه خليفة من قبل الله .

طبقاً للكثير من النصوص الواردة في القرآن الكريم وأحاديث شخص النبی الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم) - التي تقدم تفصيلها في نص هذا الكتاب وخاصة في نقد شبهة فقدان النص فى الكتاب والسنة النبوية - فإنّ الإمام علياً(علیه السّلام)بوصفه خليفة النبي في حقل بيان الدين وتفسيره وإدارة السلطة وممارسة الحكم على الناس.

ص: 510

2 - لازم التمرد على الشرعية الإلهية ارتكاب المعصية: إن معنى الشرعية الإلهية للحكم ولازمها، هو أنه يجب على الآخرين من الناحية الشرعية والدينية أن يدافعوا عن صاحب الشرعية الإلهية في ممارسة الحكم والسلطة، والعمل على تمكينه من الوصول إلى سدة الحكم وإدارة الدولة، وإذا تخلفوا عن ذلك يكونون قد ارتكبوا ذنباً ومعصية شرعية.

وإن النصوص التي تدعى اختصاص الوصية والإمامة بالإمام علي(علیه السّلام)(1)ناظرة بأجمعها إلى الشرعية الإلهية، وللأسف الشديد فقد تم تجاهل هذه الشرعية من قبل الخلفاء الثلاثة الأوائل وأتباعهم، حيث عملوا على إبعاد الشخص المنصوص عليه، واغتصبوا حقه في الخلافة، من هنا كان الإمام علي(علیه السّلام)يصرح بأنهم مغتصبين لحقه(2)، ويشكو من تجاهلهم لشرعيته الإلهية باستمرار(3).

3 - لزوم الجمع بين الشرعية الإلهية والسياسية: إن المسألة الدقيقة في باب الشرعية تكمن في طرفها الآخر. بمعنى أنه طبقاً للروايات النبوية كان

ص: 511


1- من قبيل قول النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)للإمام علي(علیه السّلام): «يا ابن أبي طالب لك ولاء أمتي، فان ولوك في عافية، وأجمعوا عليك بالرضا، فقم في أمرهم، وإن اختلفوا عليك فدعهم وما هم فيه». (كاشف الغطاء، مستدرك نهج البلاغة، ج 4، ص 480؛ محمد بن الطبري، المسترشد، ص 474).
2- من قبيل قوله(علیه السّلام): «فغصبونا سلطان نبينا؛ فصارت الإمرة لغيرنا»، ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، ج 1، ص 307)، وقوله: «سلبوني سلطان ابن أمي»، (نهج البلاغة الخطبة رقم:3).
3- من ذلك قوله(علیه السّلام): «اللهم إني أستعديك على قريش ... أجمعوا على منازعتي أمراً هو لي، (نهج البلاغة، الخطبة رقم:171).

الإمام على(علیه السّلام)هو الخليفة الوحيد للنبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)في حقل الدين والحكم، إلا أن ممارسة الإمام علي(علیه السّلام)للسلطة لم تكن مطلقة، بل كانت طبقاً للروايات النبوية مشروطة بتحقق بعض الأمور، ومن أهمها إقبال الناس عليه، وعدم الاختلاف بشأنه، دفعاً لمحذور الاختلاف بما ينعكس سلباً على جوهر الإسلام، على ما تقدم نقل بعض الروايات في هذا الشأن في هامش الصفحة السابقة.

وقد أصر الإمام علي(علیه السّلام)في معرض تلبيته لرغبة الناس في مبايعته بعد قتل الخليفة الثالث، على أن بيعته يجب أن تكون علنية، وأن يبايعه الناس عن رضا وطيب خاطر، إذ ورد في هذا الشأن عن محمد بن الحنفية، قوله:

«كنت مع أبي حين قتل عثمان رضي الله عنه؛ فقام فدخل منزله فأتاه أصحاب رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم)، فقالوا: إن هذا الرجل قد قتل، ولا بد للناس من إمام، ولا نجد اليوم أحداً أحق بهذا الأمر منك، لا أقدم سابقة ولا أقرب من رسول الله(صلى الله عليه [وآله] وسلم)؛ فقال: لا تفعلوا، فإني أكون وزيراً خير من أن أكون أميراً؛ فقالوا لا والله ما نحن بفاعلين حتى نبايعك، قال : ففى المسجد، فإن بيعتى لا تكون خفياً، ولا تكون إلا عن رضا

المسلمين»(1).

وقد ذكر الإمام علي(علیه السّلام)في رسالة له إلى معاوية أن الشورى وحق اختيار الحاكم من شأن المهاجرين والأنصار، الذين يرضى الله عن إجماعهم واتفاقهم: «وَإِنَّا الشُّورَى لِلْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَإِنِ اجْتَمَعُوا عَلَى رَجُلٍ

ص: 512


1- تاريخ الطبري، ج 4 ، ص 427 ؛ موسوعة الإمام علي(علیه السّلام)، ج 2، ص 62 .

وَسَمَّوْهُ إِمَاماً كَانَ ذلِكَ الله رِضى»(1).

وصرّح الإمام علي(علیه السّلام)في موضع آخر بأن الحكم وانتخاب الحاكم من حقوق الناس التى لا يشاركهم فيها أحد، وذلك إذ يقول:

«يا أيها الناس عن ملاء وإذن إن هذا أمركم ليس لأحد فيه حق إلا من أمرتم ... ألا وإنه ليس لي أمر دونكم إلا أن مفاتيح مالكم معي»(2).

وقد تقدم بعض الروايات المثبتة للمشروعية السياسية للناس في

معرض تحليل ونقد شبهة عدم انسجام الديمقراطية مع الإمامة. إن لازم الروايات المتقدم ذكرها هو أن على الناس من خلال مسؤوليتهم الدينية والإلهية بعد رحيل النبي الأكرم(صلى الله عليه [وآله] وسلم)وحقهم في انتخاب الحاكم، أن يجعلوا الشرعية السياسية» في طول الشرعية الإلهية»، وأن يقبلوا على من اختاره الله وينتخبوه إماماً لهم، وحاكماً عليهم.

إلا أن هذا الأمر لم يكتب له التحقق للأسف الشديد، ووجد الناس أنفسهم أمام أمر واقع فرضته عليهم أحداث السقيفة، وأقبلوا على مرشح السقيفة، لمختلف الذرائع والتبريرات (التي تقدم ذكرها في الصفحات السابقة)، وقاموا بدعمه، وكان لازم ذلك إبعاد الإمام على(علیه السّلام)أو حرمانه من ممارسة حقه السياسي في الحكم والسلطة، وفي ظل هذه الظروف اضطر الإمام علي(علیه السّلام) - رغم تصريحاته المتكررة بحقه الحصري في الشرعية الإلهية، واعتبار الآخرين غاصبين لهذا الحق - إلى الانسحاب واعتزال السلطة، وقد تقدم منا أن ذكرنا أساب سكوته، وبيعته لأبي بكر بعد ستة أشهر، واشتراكه في قضية

ص: 513


1- نهج البلاغة، الكتاب رقم: 6.
2- ابن الأثير ، الكامل في التاريخ ، ج 3، ص99؛ تاريخ الطبري، ج 3، ص 456 .

الشورى التي دعا إليها عمر بن الخطاب، وسبب امتناعه عن قبول الحكم بعد مقتل عثمان للوهلة الأولى، فى فصل شبهات حول التنصيب بالتفصيل.

إذن لا تهافت بين ترك الإمام على(علیه السّلام)لمنصب الحكم وشرعيته الإلهية، بل إن دليل ذلك عدم تحقق المشروعية السياسية.

ولكن حيث يشترط الإمام علي(علیه السّلام)أن يكون توليه الحكم من خلال مبايعة الناس له بشكل علني، وذلك في المسجد (الذي كان يمثل في ذلك العصر رمز السلطة الدينية الرسمي)، فإن المبرر لذلك، أولاً: تدعيم أسس حكمه، وثانياً: غلق باب الذرائع على بعض المتخلفين عن بيعته في المستقبل، وثالثاً: الجمع بين الشرعية الإلهية والشرعية السياسية، على ما تقدم بيانه في معرض بيان هذه الأسباب في نقد شبهة رفض الإمام للحكم بعد مقتل عثمان بن عفان في فصل أصل التنصيب.

وأما كلمات الإمام على(علیه السّلام)بشأن تأييد بيعة الناس والشرعية السياسية دون الشرعية الإلهية، فإن ذلك وإن كان بسبب الإعراض عن الحاكم، يعني المبادرة إلى ارتكاب ما يخالف الشرع، ويعد لذلك ذنباً ومعصية، ولكنه قابل للتبرير بوصفه مرحلة ثانية في ظل بعض الشرائط الخاصة على ما سيأتي توضيحه والإشارة إليه.

4 - تقييد البيعة بالحاكم الواجد للشرائط: إن الحاكمية والسيادة وإقامة الحكومة والسلطة في النظام السياسي للإسلام، تتقوم وتتوقف على عنصرين من عناصر المشروعية، وهما: المشروعية الإلهية والسياسية، فإن توفرت شرائط اجتماع هذين العنصرين، تشكلت هذه الحكومة الدينية والشرعية بشكل كامل. وأما في المرحلة التالية (بمعنى تخلّف المسلمين عن انتخاب الحاكم

ص: 514

المنصوص عليه من قبل الله)، وجب عليهم الانصياع إلى حكم العقل والعقلاء، وذلك بانتخاب حاكم من بينهم، ولكن يجب أن يتصف هذا الحاكم بالصفات والشرائط التي يجب توفرها في الحاكم الديني. وبعبارة أخرى: إنه في حال العدول عن الحاكم المنصوص عليه، وجب أن يُصار إلى قاعدة «الأصلح فالأصلح»، وأن يتم في الحد الأدنى أنتخاب الشخص الأقرب من الفرد المنصوص عليه من قبل الله. فإن فعلوا ذلك فإنهم على الرغم من عصيانهم بترك الإمام والخليفة المنصوص عليه، إلا أنهم في المرحلة التالية حيث ينتخبون الأقرب منه في الصفات، يكون هذا الاختيار والانتخاب منهم مرضياً ومقبولاً من قبل الله (ولا بدّ من الالتفات - بطبيعة الحال - إلى أن هذا الرضا من قبل الله نسبي ومقرون في الوقت نفسه بعدم الرضا على تجاوز الفرد المنصوص عليه من قبله).

الأمر الآخر هو أن هذا الرضا النسبي من قبل الله إنما يقتصر على الناس الذين أقبلوا على انتخاب الحاكم المتصف بالشرائط والصفات النسبية من باب «الأصلح فالأصلح»، ولا يشمل الحاكم المنتخب من قبلهم؛ إذ كان بالإمكان لو انسحب من الترشح أن يصل الفرد المنصوص عليه من قبل الله إلى الحكم، وبذلك لا يكون مرتكباً للذنب والمعصية.

وربما قيل: إن كلام الإمام على(علیه السّلام)هنا في إثبات رضا الله عن بيعة الناس وانتخاب الخليفة مطلق، وغير مقيد بقيد ؟

ولكن يجب القول في جوابه، أولاً : إن هذا القيد (انتخاب الخليفة المتصف بالشرائط والصفات الدينية في الحد الأدنى) من ضروريات النظام السياسي في الإسلام؛ إذ من البديهي أنه لا يمكن للحاكم - الذي يريد أن

ص: 515

يكون على رأس السلطة من أجل تطبيق أحكام الدين وتحصيل مقاصده - أن يحقق أهداف الإسلام من دون أن تتوفّر فيه صلاحية الحاكم الديني، والشيعة والسنة متفقون على هذا الأصل. وثانياً: يُفهم من النصوص المأثورة عن النبي الأکرم(صلی الله علیه و آله و سلم)والإمام على(علیه السّلام)أن الحاكم الدينى بالإضافة إلى الشرائط العامة، يجب أن يتحلّى بسلسلة من الصفات والشرائط الخاصة أيضاً، فقد روى عن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)أنه قال:

«ما ولّت أمة رجلاً قط أمرها وفيهم أعلم منه إلا لم يزل أمرهم يذهب سفالاً حتى يرجعوا إلى ما تركوا»(1).

وروي عن الإمام على(علیه السّلام)أنه قال: «اتقوا الحكومة، فإن الحكومة إنما هي للإمام العالم بالقضاء، العادل في المسلمين»(2).

وقد أعرب الإمام علي(علیه السّلام)في موضع آخر عن تأسفه لصيرورة الحكم في أيدي السفهاء والفجّار (من أمثال معاوية بن أبي سفيان)، إذ يقول:

«ولكني أسى أن يلي أمر هذه الأمة سفهاؤها وفجارها»(3).

وقد عمد الإمام علي(علیه السّلام)في موضع آخر إلى بيان أركان الإسلام الخمسة، وهي: (الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والولاية)، جاعلاً الحكم والولاية خامس أركان الإسلام لكونه حافظاً وصائناً لجميع الفرائض والسنن؛ إذ يقول :

ص: 516


1- كتاب سليم بن قيس الهلالي، ص 205.
2- الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 18، ص 7.
3- نهج البلاغة، الكتاب رقم: 62 .

«أما ما فرضه الله عز وجل من الفرائض في كتابه فدعائم الإسلام، وهي خمس دعائم، وعلى هذه الفرائض بني الإسلام، فجعل سبحانه لكل فريضة من هذه الفرائض أربعة حدود، لا أحداً جهلها، أولها الصلاة، ثم يسع الزكاة، ثم الصيام، ثم الحج، ثم الولاية، وهي خاتمتها، والحافظة لجميع الفرائض والسنن»(1).

وعلى الرغم من أن الإمام يرى في انتخاب الإمام والخليفة بوصفه عملاً واجباً له، إلا أنه يقيد ذلك بقيود، من قبيل: الإمام العفيف، والعالم، والمتقي، والمختص بأمور القضاء والسنة النبوية، إذ يقول: «الواجب في حكم الله وحكم الإسلام على المسلمين بعد ما يموت إمامهم أو يقتل - ضالاً كان أو مهدياً - أن لا يعملوا عملاً، ولا يقدموا يداً ولا رجلاً، قبل أن يختاروا لأنفسهم إماماً عفيفاً عالماً ورعاً عارفاً بالقضاء والسنة»(2).

وفضلاً عن هذه الموارد التي يُصرّح فيها الإمام علي(علیه السّلام)بالشرائط والصفات الخاصة التى يجب أن تتوفر في الحاكم الديني بشكل عام، هناك لحسن الحظ نص خاص في مسألة تعيين الخليفة بعد رحيل النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)قاله الإمام علي(علیه السّلام)في جواب تبرير طلحة في بيعته لأبي بكر - حيث ادعى أن النصوص على إمامة الإمام على(علیه السّلام)قد نسخت بالحديث النبوي القائل بعدم اجتماع النبوة والخلافة في بيت واحد، وعلى أساس ذلك كان على الإمام علي أن - يبايع أبا بكر أيضاً - مشيراً إلى حديث الثقلين قائلاً: «فينبغي أن لا يكون الخليفة على الأمة إلا أعلمهم بكتاب الله وسنة نبيه ...»(3).

ص: 517


1- الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 1، ص 18.
2- العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 89، ص 196.
3- كتاب سليم بن قيس الهلالي، ص 204.

ثم عمد الإمام إلى تأييد كلامه ومدعاه وإثباتهما (لزوم أعلمية الحاكم) بالآيات والروايات النبوية، ومن الآيات التي تمسك بها قوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لاَ يَهدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾(1).

من هنا فإن النصوص التي تحدّث فيها الإمام على(علیه السّلام)بشأن تأييد انتخاب الناس للخليفة والحاكم، إنما هي أولاً: تتعلق بموارد فقدان الإمام والحاكم المنصوص عليه من قبل الله . بمعنى أن مبايعته إنما تكون مبررة إذا إبعاد الإمام المنصوص عليه لأي سبب من الأسباب، من قبيل: عدم إقبال الناس عليه، ووجود المانع، أو عدم توفر الأرضية المناسبة وما إلى ذلك. وثانياً: إن مقبولية مثل هذه البيعة ليست مطلقة، وإنما تختص بالحاكم الذي تتوفر فيه الصفات والشرائط اللازمة التي تثبت صلاحيته لتولي هذا المنصب.

5 - عدم تعيين مصداق البيعة المقبول: سبق أن أشرنا إلى أن أصل بيعة الأمة للحاكم الذى تتوفّر فيه الصفات اللازمة للقيادة والإمامة، يُعد مقبولاً من وجهة نظر الإمام علي(علیه السّلام)، ولكن يجب الالتفات إلى أنه مع وجود الإمام والقائد المنصوب من قبل الله يجب أن تتجه بيعة الناس إلى هذا الإمام، وعند العدول عنه، يكون المخالفون لأمر الله مذنبين وعصاة.

وفي هذه المرحلة رغم كون العدول عن الإمام المنصوص عليه من قبل الله معصية، إلا أن الأمة تبقى مكلفة بالبيعة للحاكم المتصف بالصفات اللازمة للقيام بأعباء القيادة. وفي مثل هذه الحالة تكون بيعتهم الثانية عملاً مقبولاً

ص: 518


1- يونس : 53 . وانظر أيضاً : البقرة: 247؛ الأحقاف: 4.

ومرضيّاً عند الله سبحانه وتعالى على نحو نسبي.

والمسألة الدقيقة في هذا البحث هي أن بالإمكان استنباط هذا الأمر من خلال الفلسفة السياسية للإمام علي(علیه السّلام)في مقام الثبوت والتنظير، وأما في مقام الإثبات والتطبيق على المصاديق فهو بحث آخر فهل كان الإمام علي(علیه السّلام)يرى في الخلفاء الثلاثة الذين اغتصبوا حقه مصاديق لهذا النوع من البيعة أم لا؟

إن الإجابة عن هذا السؤال بحاجة إلى مزيد من التأمل. إذ إن افتراض قبول الإمام علي بهم يتوقف على أنهم كانوا هم الأفضل بعد الإمام علي(علیه السّلام)من سائر الصحابة الآخرين، من أمثال: سلمان الفارسي، وأبي ذر الغفاري، والمقداد بن الأسود. هذا أولاً، وثانياً: أن يبقوا طوال حكمهم محافظين على صفة الأفضلية على غيرهم من الصحابة.

إن إثبات هذين الأمرين لا يحتاج إلى مزيد من البحث والمؤونة، إذ إنّ القرائن والشواهد تثبت عدم اتصافهم بالأفضلية على غيرهم [منذ البداية فضلاً عن الاستمرار في الحفاظ عليها]، فإن وصف الإمام علي(علیه السّلام)لهم بأنهم غاصبون لحق أهل البيت(1)عن سابق عمد وإصرار، وما إلى ذلك من الأمور التي واكبت عملية مصادرة حق الإمام في الخلافة، من قبيل: مصادرة أرض فدك وسلب السيدة الزهراء(سلام الله علیها)حقها في إرث رسول الله من قبل الخليفة الأول والثاني، وما قام به الخلفاء الثلاثة من البدع والانحراف في الدين

ص: 519


1- من ذلك قول الإمام علي(علیه السّلام)في مجلس أبي بكر: «القد وفيتم بصحيفتكم الملعونة التي تعاقدتم عليها في الكعبة، إن قتل الله محمدا أو مات لتزون هذا الأمر عنا أهل البيت»،(کتاب سليم بن قيس الهلالي، ص 155).

والشريعة(1)، حتى اضطر الإمام إلى تصحيح بعضها، في حين تعذر عليه إصلاح البعض الآخر، [كل ذلك يثبت أنهم لم يكونوا أفضل الصحابة، إذا لم نقل إنهم كانوا أسوأ من الكثير من الصحابة](2).

يضاف إلى ذلك أن الخليفة الأول عمد إلى تنصيب عمر بن الخطاب بوصفه خليفة له على المسلمين، على الرغم من وجود الإمام علي(علیه السّلام)من دون أي مبرر ديني. وقام عمر بدوره بتعيين الخليفة الذي يليه من خلال الشورى التى جعلها في ستة، والتي تمخضت عن خلافة عثمان، وهو أمر كان متوقع منذ البداية على ما صرح به الإمام علي(علیه السّلام)(على ما تقدم توضيحه في نقد شبهة اشتراك الإمام في هذه الشورى).

6 - الجدل في البيعة لفرد خاص هناك من العلماء من سعى إلى حمل جميع كلمات الإمام علي(علیه السّلام)بشأن مشروعية بيعة الناس وحقهم في اختيار الحاكم، على أنه يأتي في سياق الجدل مع مناوئيه من أمثال معاوية بن أبي سفيان(3)، بمعنى أن الإمام علياً(علیه السّلام)حيث وجد المخالفين يستدلون بالبيعة

ص: 520


1- انظر: نهج البلاغة، الخطبة رقم: 150؛ محمد بن يعقوب الكليني، الكافي، ج 8،ص59.
2- ما بين المعقوفتين إضافة توضيحية من عندنا، المعرّب.
3- انظر: المير حامد حسين اللكهنوي، خلاصة عبقات الأنوار، ج 3، ص 299؛ المحقق الشوشتري، بهج السعادة في شرح نهج البلاغة ، ج 9، ص 396. وقد أشار العلامة الطباطبائي إلى عبارة (كان الله رضى) قائلاً : «معناها إلزام الخصم بما ألزم به نفسه ظاهراً، ويرى إجماع الأمة مورداً لمرضاة الله. وإذا كانت العبارة تتعلق بمورد الإمام علي(علیه السّلام)، كان معناها أنني نظرت في مصلحة الإسلام، فلم يكن لي بد من البيعة، وكانت بيعتي هذه مرضية عند الله سبحانه وتعالى».(سلسلة المقالات ج 2، ص 296) .

وانتخاب الناس، وأنهم اختاروا الخلفاء الذين سبقوه بالانتخاب، وجد نفسه مضطراً إلى عدم الاستدلال بأصل النصّ والتنصيب (الذي يؤدي إلى الاعتقاد بعدم شرعية خلافة الخلفاء الذين سبقوه)، وإنما صار إلى توظيف أدلة المخالفين (البيعة)، من باب الجدل بالتي هي أحسن، وإلزام الخصم بما ألزم به نفسه. وعليه فإن تأييد الإمام لبيعة الناس للخلفاء الثلاثة الذين سبقوه لا يمثل اعتقاداً من الإمام بذلك حقيقة، وإنما يأتي في سياق إلزام الخصم والمخالف بأصل ألزم به نفسه، لكي يثبت مشروعية حكمه لهؤلاء المخالفين من أمثال معاوية وطلحة والزبير.

ولكن يبدو من ظاهر بعض الأدلة وكلمات الإمام أنها في سياق تأييد أصل بيعة الأمة للحاكم الذي يتصف بصفات الحاكم الخاصة (على ما تقدمت الإشارة له)، وإن تقييدها أو حملها على الجدل بحاجة إلى دليل.

ولكن عندما يستدل الإمام ببيعة الناس للخلفاء المعينين والمعروفين، فإن هذا النوع من البيعات بشكل مطلق غير ظاهر في تأييد خلافة خليفة بعينه، وإنما ينصب اهتمام الإمام فيها على الاستدلال بالجزء الأول فقط، أي: بيعة الأمة، وأنها تمثل دعامة لحكومة الإمام أيضاً، ولكن هل حصلت مثل هذه البيعة من قبل الناس للخلفاء الذين سبقوه وفق الضوابط والشرائط اللازمة أم لا؟ هذا ما لا يمكن لنا أن نفهمه من كلمات الإمام علي(علیه السّلام)، بل إن كلمات الإمام - طبقاً للتعبير الأصولي والحقوقي - لم تكن ناظرة إلى هذه الناحية. بل ربما أمكن الادعاء بأن كلمات الإمام كانت ناظرة إلى عدم مشروعية الخليفة المنتخب من قبل الأمة أيضاً؛ وذلك حيث يُحجم الإمام عن مبايعة الخليفة الأول، ويكون بصدد إعداد جيش للقضاء عليه، ولكنه لم ينجح في ذلك (على

ص: 521

ما تقدم بيانه في نقد شبهة عدم قيام الإمام باتخاذ أي إجراء لاستعادة حقه في الحكم، في فصل أصل التنصيب).

التبرير الحادي عشر: إمامة الإمام علي(علیه السّلام)رهن بسعيه إليها:

هناك من ذهب إلى القول بدلالة النصوص النبوية على إمامة الإمام علي(علیه السّلام)، بمعنى الخلافة والسلطة،بید أن تنجز ذلك وفعليته يتوقف على سعي الإمام علي ومبادرته إلى استلام السلطة. وبعبارة أخرى: إن الإمامة والخلافة بعد رحيل رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)هي من حق الإمام علي(علیه السّلام)شرعاً، إلا أن هذا يتوقف على قيام الإمام علي - طبقاً لما يراه من طبقاً لما يراه من المصلحة - باستلام الحكم والتصدّي لمنصب الخلافة على المستوى العملي، أما إذا ترك المطالبة بالسلطة وعدم قيامه بشيء من ذلك، تبقى النصوص الشرعية على إمامته معلقة. وفي الحقيقة فيما يتعلق بتعيين الحاكم الإسلامي في هذا الفرض (سكوت الإمام المنصوب) تكون النصوص الواردة كالملغاة، ويعود الأمر فيما يتعلق بالحكم إلى اختيار الأمة والبيعة.

أما فيما يتعلق بمقام الإثبات والخارج، فهل حصل تعيين وانتخاب للخليفة الأول، وهل كانت هناك انتخابات حقيقية، أم الأن الأمر كان كما قال عمر بن الخطاب فلتة وأمر متسرع حدث على عجل؟!(1)فهذا ما يجب الحصول على جوابه في موضع آخر.

إن التبرير السابق هو الذي ذهبت له شريحة خاصة من المعتزلة (البغداديين)، كما قال ابن أبي الحديد

ص: 522


1- انظر: ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة ، ج 2، ص 25 ، وج 17 ، ص 164 .

«قد شرحنا من قول شيوخنا البغداديين ما محصله أن الإمامة كانت العلي(علیه السّلام)إن رغب فيها ونازع عليها، وإن أقرها في غيره وسكت عنها، تولينا ذلك الغير وقلنا بصحة خلافته، وأمير المؤمنين(علیه السّلام)لم ينازع الأئمة الثلاثة، ولا جرد السيف، ولا استنجد بالناس عليهم؛ فدل ذلك على إقراره لهم على ما كانوا فيه»(1).

مناقشة وتحليل:

في معرض تحليل هذا التبرير يجدر الالتفات إلى الأمور الآتية:

1 - دعوى من دون دليل: يبدو أن تقييد إمامة الإمام علي(علیه السّلام)وخلافته بقيامه العملي وسعيه إلى السلطة، وذلك بإشهار السيف والثورة المسلّحة، مجرد ادّعاء لا يؤيّده الدليل؛ إذ لا يمكن استنتاج ذلك من الروايات، ولذلك لم يذكر أصحاب هذه الرؤية - في حدود تتبعي - رواية واحدة لإثبات ما ذهبوا إليه.

2 - السعي العملي من قبل الإمام(علیه السّلام) : الأمر الآخر أننا إذا عدنا إلى الأحداث الأولى التي أعقبت رحيل رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)، سيتضح لنا أن الإمام علياً(علیه السّلام)قد اتخذ بعض الإجراءات العملية لاستلام السلطة، كمطالبته الناس بالنصرة والبيعة له، وخروج الإمام(علیه السّلام)مع السيدة الزهراء(سلام الله علیها)وسبطي رسول الله الإمامين الحسن والحسين(علیهما السّلام)ليلاً يقرع أبواب الصحابة طلباً للنصرة على ما مر بيانه وتفصيله في شبهة عدم قيام الإمام(علیه السّلام)وعدم سعيه إلى المطالبة بالخلافة والسلطة.

ص: 523


1- انظر: ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة ، ج 3، ص 99.

3 - إنكاره على الخلفاء الذين سبقوه : لو لم يقم الإمام على(علیه السّلام)بأي بادرة إلى الحكم، لكان عليه عدم الشكوى مما فعله الخلفاء الذين سبقوه، في حين أن أدنى قراءة لكلمات الإمام علي(علیه السّلام)تثبت أنه كان يشكو في كثير من المواضع المتعدّدة والمتواترة من غصب الخلفاء لحقه، وذمهم وشجب صنيعهم، وقد تقدّم بيان جانب من هذه الكلمات في الصفحات السابقة.

4 - مراعاة مصلحة الإسلام: عندما رأى الإمام على(علیه السّلام)أنه لا يمتلك العدد الكافي من الأنصار، ووجد أن القيام بهذه العصبة لن يحقق الهدف والغاية، بل سيؤدي إلى إضعاف شجرة الإسلام الفتية، آثر التنازل عن حقه الثابت له وإرثه من رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم) - على حد تعبير - حفاظاً على وحدة المسلمين، وتفويت الفرصة على المنافقين والأعداء. وقد صرّح الإمام بذلك في العديد من المواطن على ما مر تفصيله في بحث أسباب سكوته(علیه السّلام).

التبرير الثاني عشر: إمامة الإمام رهن ببيعة الأمة (الشرعية السياسية):

هناك من يذهب إلى الاعتقاد بورود النص بشأن إمامة الإمام علي(علیه السّلام)وخلافته، ولكنه يرى تحقق الإمامة وتنجزها - بالمعنى السياسي والاجتماعى - متوقفاً على بيعة الناس، كما قال بعضهم:

«يتم تنصيب الحاكم والقائد السياسي في الإسلام من خلال بيعة الناس... أجل، ما لم تنعقد البيعة للحاكم من قبل الناس، لن تقوم له الحجة في أعناقهم، ولكنهم ما أن يبايعوه حتى يكون حكمه ملزماً لهم، وتغدو سلطته شرعية، وتجب عليهم الطاعة له شرعاً ... من هنا فإن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)عمد

ص: 524

في صحراء الغدير إلى أخذ البيعة من الناس لعلي(علیه السّلام)، ولم يكتف بإعلان الولاية له على الناس فقط بل إن البيعة بوصفها حق للحاكم على الناس تضفي الشرعية على سلطته»(1).

وروي عن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)أنه قال في رواية أخرى:

«يا على، إنك ستلقى بعدي من قريش شدة، من تظاهرهم عليك وظلمهم لك. فإن وجدت أعواناً عليهم فجاهدهم وقاتل من خالفك بمن وافقك، فإن لم تجد أعواناً فاصبر وكف يدك ولا تلق بيدك إلى التهلكة؛ فإنك مني بمنزلة هارون من موسى، ولك بهارون أسوة حسنة. إنه قال لأخيه موسى ﴿ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي ﴾(2)»(3).

وفي رواية أخرى قال النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)لعبد الله بن مسعود حين سأله عن خلافة الإمام على(علیه السّلام):

«ذاك - والذي لا إله غيره - لو بايعتموه وأطعتموه، أدخلكم الجنة أكتعين»(4).

لقد أسند الإمام على(علیه السّلام)حكمه مراراً إلى بيعة الأمة له، وقد تجلى ذلك في استجابته لإصرار الصحابة عليه - بعد مقتل عثمان - بشأن استلام السلطة ومبايعتهم له، حيث قال لهم بعد امتناع:

ص: 525


1- واعظ زادة الخراساني، مجلة نهج البلاغة، العدد المزدوج : 4 - 5 ، ص 171 - 172 .
2- الأعراف: 150 .
3- كتاب سُليم بن قيس الهلالي، ص 134 و 568.
4- المعجم الكبير، ج 10 ، ص 67 ، رقم: 9969 و 9970؛ تاریخ دمشق، ج 42، ص 2 421 ؛ البداية والنهاية، ج 7، ص 361 .

«ففي المسجد، فإن بيعتي لا تكون خفياً، ولا تكون إلا عن رضا المسلمين»(1).

وكتب الإمام علي(علیه السّلام)في رسالة منه إلى معاوية بن أبي سفيان:

«وَإِنَّمَا الشُّورَى لِلْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَإِنِ اجْتَمَعُوا عَلَى رَجُلٍ وَسَمَّوْهُ إِمَاماً كَانَ ذلِكَ الله رِضى»(2).

ففي هذه الرواية يُثبت الإمام علي(علیه السّلام)تأييده لمبدأ الشورى، وحق هذه الشورى في اختيار الحاكم، معتبراً ذلك مورداً لمرضاة الله سبحانه وتعالى.

إن من بين الأسس والثوابت التي يمكن لها تأييد هذا الرأي روايات تم التأكيد فيها على أن الإمام بمثابة الكعبة التي يقصدها الناس ولا تقصدهم، فعلى الناس أن يقصدوا الإمام، لا أن يقصدهم الإمام ويستجدي منهم حقه في الخلافة، ومن ذلك قول النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)للإمام علي(علیه السّلام) : «يا علي أنت بمنزلة الكعبة تؤتى ولا تأتى، فإن أتاك هؤلاء القوم فسلموها إليك فاقبل منهم، وإن لم يأتوك فلا تأتهم حتى يأتوك»(3). وقالت السيدة فاطمة الزهراء(سلام الله علیها)في بيان تراجع الإمام علي(علیه السّلام)عن المطالبة بحقه في الخلافة: «مثل الإمام مثل الكعبة؛ إذ تؤتى ولا تأتي»(4).

ص: 526


1- ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، ج 11، ص 9 - 11؛ تاريخ الطبري، ج 5 ، 152 و 450 ؛ كنز العمال ، ج 3، ص 161 العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 32، ص 7.
2- نهج البلاغة، قسم الرسائل والكتب، الكتاب السادس.
3- نهج البلاغة، الكتاب رقم: 28.
4- ميزان الحكمة، ج 8، ص 119.

نقد ورأي:

سوف نعمل في الصفحات القادمة على نقد الشبهة المتقدمة على هامش شبهة المشروعية الشعبية للحكومة بالتفصيل. وأما هنا فنشير إلى أن روايات البيعة ليست نافية لأصل التنصيب في الإمامة بمعنى الخلافة والحكومة، بل وتؤيد ذلك أيضاً. إذ تم التأكيد والتصريح في هذه الروايات بالحق الإلهي الثابت للإمام علي(علیه السّلام)في الإمامة والخلافة، وتمت مطالبة الناس فيها مبايعته، وبعبارة أخرى: إن بيعة الأمة المسلمة للإمام المنصوص والمنصوب من قبل الله ورسوله واجب شرعي.

ولابد من التذكير هنا بوجود نقطة دقيقة بين الشرعية الإلهية والشرعية السياسية، ويجب عدم الخلط بين هذين الأمرين. بمعنى أن إمامة الأئمة وحكومتهم قد تم التنصيص عليها من طريق الوحي، وإن مصدر شرعيتهم هو مصدر سماوي وديني، وأن الناس مكلفون باتباعهم في جميع الحقول والمجالات (الشرعية الإلهية).

إلا أن المنصوبين للحكم والإمامة والخلافة من قبل الله يتعين عليهم عدم ممارسة حاكميتهم الدينية من خلال استخدام القوة والقهر والغلبة وفرض سلطتهم على الناس بالسلاح، بل إن الطريق العملي لتطبيق الشرعية الدينية يمر عبر إرادة واختيار الأمة ورضا عامة الناس، وهو ما يمكن التعبير عنه ب_ «المشروعية الشعبية والأرضية».

وبعبارة أخرى: فيما يتعلق بحكومة الأئمة تم الجمع بين مشروعيتين؛ الأولى: المشروعية السماوية والإلهية، والثانية: المشروعية الشعبية والأرضية، أو الفاعلية والوضعية بتعبير آخر.

ص: 527

من هنا يتضح أن حكومة الإمام علي(علیه السّلام)هی الحكومة الوحيدة التي توفرت على كلا عنصري المشروعية، (أي التنصيب السماوي وانتخاب الأمة). ولذلك فإنّ الإمام علياً(علیه السّلام)كان في مختلف المواضع وبما يتناسب وظرفية المخاطب يستند فى إثبات شرعيته إلى النصوص الدينية، من قبيل: حديث الغدير، ويستند إلى البيعة أيضاً، وإن استناده إلى أحدهما لا ينفى الآخر؛ لأن إثبات الشيء لا ينفي ما عداه.

خلاصة الكلام أنّ تبرير نصوص الإمامة وتأويلها بمعنى الخلافة على أساس البيعة يمكن جمعه مع أصل نظرية الإمامة، إلا أن فروع الإمامة الأخرى، من قبيل: مقام المرجعية العلمية، والدينية، والولاية المعنوية، فلا علاقة لها بانتخاب الناس، وأن إمامة الأمة من هذه الناحية كاملة ومطلقة.

التبرير الثالث عشر : ادعاء نسخ إمامة الإمام علي(علیه السّلام):

إن أصحاب مشروع السقيفة الذين عملوا على إبعاد الإمام علي(علیه السّلام)عن دائرة السلطة والخلافة، عمدوا - لتبرير فعلتهم وإضفاء المشروعية على حكمهم - إلى وضع الحديث على لسان رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)؛ إذ ادعى أبو بكر أنه سمع من النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)أنه قال : لا تجتمع الخلافة والنبوة في بيت واحد بعدي، ولمّا كان الإمام علي(علیه السّلام)هو من بيت النبي، يكون هذا الحديث من النبي رجوعاً رجوعاً وعدولاً وعدولاً عن جميع الروايات التي وردت بشأن إمامة الإمام علي(علیه السّلام). فبعد أن استمع أبو بكر لجميع أدلة الإمام علي(علیه السّلام)وبراهينه المتقنة والمنطقية بشأن إمامته بعد النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)قال: «كل ما قلت حق قد سمعناه بآذاننا وعرفناه ووعته قلوبنا، ولكن قد سمعت رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)يقول بعد هذا :

ص: 528

(إنا أهل بيت اصطفانا الله وأكرمنا واختار لنا الآخرة على الدنيا، وإن الله لم يكن ليجمع لنا أهل البيت النبوة والخلافة)»(1).

وقد كرّر أبو بكر ادعاءه سماع هذا الحديث عن رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)في جوابه لشيعة الإمام علي(علیه السّلام)من أمثال: أم أيمن وبريدة(2). وقد لعب هذا الحديث [المختلق] دوراً كبيراً في التأثير على عامة الناس، وزعزعة عزيمتهم في دعم الإمام علي(علیه السّلام)ونصرته، وترك بعض الناس في حيرة من أمرهم. حتى أن طلحة بن عبيد الله أشار في احتجاجه على الإمام علي(علیه السّلام)إلى هذه الشبهة التي أثارها أبو بكر، فقال: «فكيف نصنع بما ادعى أبو بكر وعمر وأصحابه ...»(3).

لقد كان لهذا التبرير أثر قوي على حرف أذهان الناس، بحيث أن الإمام جعفر الصادق(علیه السّلام)أشار إلى هذه الشبهة بعد سنوات واصفاً إياها بأنها هي السبب في اشتباه الأمر على الناس وعدم تشخيص الحق، على ما روي عنه أنه قال:

«فتظاهروا على علي(علیه السّلام)فاحتج عليهم بما قال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)فيه وما سمعته العامة. فقالوا: صدقت، قد قال ذلك رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)ولكن قد نسخه فقال: (إنا أهل بيت أكرمنا الله عز وجل واصطفانا ولم يرض لنا بالدنيا، وإن الله لا يجمع لنا النبوة والخلافة)فشهد بذلك أربعة نفر: عمر وأبو عبيدة ومعاذ بن جبل وسالم مولى أبي حذيفة، فشبّهوا على العامة وصدقوهم وردّوهم على

ص: 529


1- كتاب سليم بن قيس، ص 153.
2- انظر: المصدر أعلاه، ص 157 .
3- المصدر أعلاه، ص203.

أدبارهم، وأخرجوها من معدنها من حيث جعلها الله»(1).

وهناك من اعترف من علماء أهل السنة المنصفين بدور هذه الشبهة في حرف أذهان الصحابة عن الإمام علي(علیه السّلام)، وإقبالهم على أبي بكر. حيث نجد النقيب أبا جعفر يحيى ابن أبي زيد(2)يذكر هذا الحديث المدعى من قبل أبي بكر في جوابه عن ابن أبي الحديد المعتزلي(3)في بيان أسباب عدم عمل الصحابة بنصوص الإمامة الواردة بشأن الإمام علي(علیه السّلام)(4).

مناقشة وتحليل:

إن هذا الحديث المنسوب إلى النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)هو من هو من وضع الواضعين،

ص: 530


1- کتاب سليم بن قيس ، ص 187 .
2- يصرح ابن أبي الحديد المعتزلي في أكثر من موضع من شرحه لنهج البلاغة بأن النقيب أبا جعفر يحيى بن أبي زيد كان علوياً، ولكنه بريء من التعصب، وعليه ليس من المناسب الاستشهاد بكلامه هنا بوصفه من أهل السنة، المعرّب.
3- انظر: ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة ، ج 12 ، ص 86 - 88.
4- ذهب الأستاذ الشهيد مرتضى المطهري في بيان وتبرير أسباب أو علل إعراض الأمة في صدر الإسلام عن الإمام علي(علیه السّلام) - بعد بيان مختلف الفرضيات في هذا الشأن، من قبيل: الردّة، والتمرّد على أصل الإسلام، ومخالفة أوامر النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)بسبب مرونة الإمام علي(علیه السّلام)، أو أحقاد بعض الناس على الإمام علي بسبب قتله لصناديدهم في مختلف المعارك والحروب - إلى القول بأن الرأي الصحيح يكمن في عملية خداع واحتيال تعرّض لها المسلمون على يد بعض العناصر الداخلية، وذلك إذ يقول: «لقد عمد عدد من الدهاة المتمردين إلى استغفال عامة المسلمين في هذا الشأن ... ومن هنا يمكن لكم أن تدركوا كيف أمكن للمجتمع الإسلامي أن يصل إلى ما وصل إليه بسبب تأثير شرذمة منافقة متمرّدة وأكثرية مؤمنة ولكنها ساذجة»، (مرتضى المطهري، الأعمال الكاملة،ج25،ص 187 و 193)، يعود هذا التحليل من قبل الأستاذ الشهيد إلى التبرير المتقدّم وخاصة الجزء الثاني منه.

ويشهد على اختلاقه القرائن الآتية:

1- عدم ادعاء أحد لهذا الحديث أو سماعه في عهد النبي(صلی الله علیه و آله و سلم): إن أول نقطة تثار حول اختلاق هذا الحديث المنسوب إلى النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)، هي عدم الإتيان على ذكره إلا في سياق أحداث السقيفة، إذ إن أبا بكر وعمر عمدا لإثبات شرعية حكمهما في مواجهة الأدلة المتقنة التي ساقها الإمام علي(علیه السّلام)مستنداً إلى الروايات المتعددة والمتواترة عن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم) - الدالة على تعريف الإمام علي(علیه السّلام)وتنصيبه بوصفه إماماً للمسلمين وخليفة للنبي(صلی الله علیه و آله و سلم) - وكذلك في مواجهة تمسك شيعته بالنصوص النبوية، حيث عمدا إلى اختلاق هذا الحديث. والسؤال هنا : لو كان مثل هذا الحديث قد صدر حقاً عن النبي الأكرم، فلماذا لم يسمع به أحد في عهد رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)، ولم يدع سماعه إلا أبطال السقيفة من أمثال أبي بكر وعمر الذين اغتصبوا حق الإمام علي في الخلافة، وذلك بعد رحيل النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)حيث لا مجال لتكذيبه من قبل النبي.

2 - انتماء شهود الحديث إلى أبطال السقيفة: جاء في المصادر التاريخية أن الذي صاغ هذا الحديث هو أبو بكر، وذلك في مواجهة الإمام علي(علیه السّلام)، والذين شهدوا له بصدور هذا الحديث هم: عمر بن الخطاب، وأبو عبيدة بن الجراح، وسالم مولى أبي حذيفة، ومعاذ بن جبل(1)، وهم بأجمعهم من الأوائل الذين اصطفوا مع أبي بكر في ادعاء الخلافة، بل إن هؤلاء هم الذين سبق لهم أن تعاقدوا في الكعبة وأبرموا عهداً يقضى بسلب أهل بيت النبي(علیهم السّلام)حقهم في الخلافة والإمامة مهما كلف الأمر. وهذا ما صرّح به الإمام علي(علیه السّلام)نفسه إذ

ص: 531


1- انظر: کتاب سليم بن قيس، ص 154 .

كشف عن مؤامرة أبي بكر من وراء اختلاق هذا الحديث ومن شهد له بصحته(1).

والسؤال الذي يرد هنا: إذا كان هذا الحديث صادراً عن النبي الأكرم حقيقة، فلماذا لم يسمعه الصحابة الآخرون، من أمثال: سلمان، وأبي ذر، والمقداد، والزبير، بل إن جميع هؤلاء قد أنكروا صدور هذا الحديث، وتشبّثوا بنصوص النبي الأكرم بشأن إمامة الإمام علي(علیه السّلام)على ما مر تقريره في فصل أصل التنصيب. وعليه يمكن التشكيك في صحة هذا الحديث المنسوب إلى النبي، بل القطع باختلاقه بالنظر إلى الشواهد الأخرى.

3 - منع عمر من كتابة النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)لوصيته الأخيرة: تقدم أن ذكرنا في فصل تنصيب الإمام، ونقد الشبهات الواردة في هذا الشأن أن تعرضنا إلى نقد شبهة عدم وجود النص في الروايات المأثورة عن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)،على هامش حديث الدواة والقلم، وذلك عندما أمر النبي بأن يؤتى له بدواة وكتف ليكتب للمسلمين وصيته الأخيرة، إلا أن عمر بذل المستحيل من أجل منع النبي من ذلك، حتى بلغ حد اتهام النبي بأنه - والعياذ بالله - يهجر، حتى كان له ذلك.

والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: إذا كان النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)قد رجع حقاً عن جميع النصوص الإلهية الواردة في إمامة الإمام علي(علیه السّلام)؛ فلماذا قام بكل تلك الجهود المضنية عندما سمع النبي يأمر بإحضار الدواة والكتف، ولم يسمح للنبي بتنفيذ وصيته؟ ألا يدلّ ذلك على عدم وجود نسخ من الأساس،

ص: 532


1- انظر: المصدر أعلاه؛ بحار الأنوار، ج 28، ص 96 - 111 .

وأن النبي كان يريد من وراء كتابة تلك الوصية التأكيد على إمامة الإمام علي(علیه السّلام)من خلال تدوينها في كتاب؟! ولكن للأسف الشديد عمد الطامعون في بلوغ الخلافة إلى منع إبرام هذا الكتاب الذي كان من شأنه - على حد تعبير الرسول - أن يمنع الأمة من الضلالة.

4 - إنكار الإمام على(علیه السّلام)وسائر الصحابة هذا الحديث: الدليل الآخر على اختلاق هذا الحديث إنكاره من قبل الإمام علي(علیه السّلام)في مستهل الترويج له من قبل أبي بكر، وقد تكرر هذا الإنكار من الإمام(علیه السّلام)في مواطن أخرى، ومن ذلك عندما أعاد طلحة بن عبید الله الاستناد إلى هذا الحديث.

وهنا لا يبقى أمام المسلمين إلا واحد من طريقين: فإما التصديق بالحديث الذى ادعاه أبو بكر وشهد له به أربعة نفر من أنصاره وأعوانه، ولازم ذلك - والعياذ بالله - أن يكون الإمام علي(علیه السّلام)رغم علمه بنسخ إمامته مصراً على تشبثه بنصوص الإمامة، وتكذيب حديث أبي بكر، مما يعني نسبة الكذب والتمرد للحصول على السلطة حتى ولو كان على حساب تكذيب رواية الني الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم).

كما يلزم من القول بالحديث المدعى من قبل أبي بكر، هو تكذيب الصحابة من أمثال: العباس، وابن عباس، وسلمان، وأبي ذر، والمقداد، والإمام الحسن(علیه السّلام)، والإمام الحسين(علیه السّلام)، وسائر الأئمة الذين أكدوا فيما بعد على أصل التنصيب واستندوا إليه.

فضلاً عن على هذا اللازم الباطل، فإن أهل السنة لم يتمكنوا من إقامة أي دليل أو شاهد عليه.

والطريق الآخر أن يذهب المسلمون إلى تبني إنكار الإمام علي(علیه السّلام)

ص: 533

لهذا الحديث المدعى من قبل أبي بكر، والالتزام بأن أبا بكر وجماعته قد اختلقوا هذا الحديث طمعاً في الاستيلاء على السلطة واغتصابها من أصحابها الشرعيين، وقد تقدمت الإشارة إلى أدلة وشواهد هذه الفرضية.

وعلاوة على ذلك بالالتفات إلى كون الإمام علي(علیه السّلام)من أهل بيت النبوة، ومن باب «أن أهل البيت أعلم بما في البيت»، و[أن أهل مكة أدرى بشعابها]، فهو الأعلم بموضوع الإمامة والخلافة من الآخرين، ولذلك فإننا

ننحاز إلى موقفه.

والوجه الثالث في تأييد موقف الإمام علي(علیه السّلام)، إطلاق النصوق من القرآن والسنة المأثورة عن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)بشأن إمامته، مضافاً إلى الشواهد الأخرى التي سنأتي على ذكرها إن شاء الله.

5 - اعتراف الخليفة الثاني بأصل التنصيب: لقد أقر عمر بن الخطاب بأحقية الإمام علي(علیه السّلام)وأولويته بمنصب الإمامة والخلافة، والأهم من ذلك اعترافه بأصل تنصيبه من قبل النبيالأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)مراراً وتكراراً، على ما مرّ بيانه في نقد شبهة تعارض النصوص، في فصل أصل التنصيب، فلا حاجة إلى الإعادة هنا.

وعلى هذا الأساس فإن عمر لا يكتفي بعدم ذكر أي دليل على أصل النسخ فحسب، بل يعترف بوجود أصل التنصيب، وإنه لجأ أحياناً لتبرير الاستيلاء على الخلافة بأمور من قبيل: صغر سن الإمام علي(علیه السّلام)، وكراهة العرب لخلافته. وعليه ففي الحقيقة لم يكن هناك للنسخ أثر؛ إذ لو كان النسخ حاصلاً على أرض الواقع، لما كان هناك من وجه لذهاب عمر بن الخطاب إلى تلك التبريرات والاعترافات، هذا أولاً ، وثانياً: كان يكفي لعمر وأبي بكر أن

ص: 534

يتمسكوا بهذا النسخ بوصفه فصل الخطاب دائماً وأبداً، من دون الحاجة إلى تكلّف الأعذار الواهية(1).

6 - ترشيح عمر للإمام على في الشورى السداسية للخلافة: إذا كان الحديث المدعى من قبل أبي بكر وعمر القائم على عدم الجمع بين النبوة والخلافة في أهل بيت النبي صحيحاً، وأن الله كره لهم ذلك، فالسؤال هنا: لماذا عمد عمر إلى ترشيح الإمام علي(علیه السّلام)في الشورى التي دعا إليها ضمن الأعضاء الستة الذين رشحهم، وبذلك يكون قد اعترف بصلاحيته لتولي الخلافة [من دون أن يكون هنا بأس في أن يجمع هذا البيت بين الخلافة والنبوة] .

فإذا كان الإمام علي(علیه السّلام) - طبقاً للحديث المدعى من قبل أبي بكر - غير صالح لتولي الخلافة - والعياذ بالله - لماذا جعله عمر بن الخطاب واحداً من الأعضاء المرشحين في الشورى؟

وإذا كان الإمام علي(علیه السّلام)صالحاً لتولي الخلافة - وهو كذلك - يثبت أن هذا الحديث المدعى مجرد حديث مختلق، وإن صلاحيته قد انتهت بعد انقضاء فترة من الزمن.

7 - عدم تعارض الحديث مع القرآن الكريم: تقدم أن ذكرنا في فصل أصل التنصيب - على هامش شبهة عدم النصّ في القرآن الكريم - عدداً من الآيات بشأن إمامة الإمام علي(علیه السّلام)من قبيل: آية التطهير، والإنذار، والولاية، والتبليغ، وإكمال الدين، وأولي الأمر، والتي أثبتنا بموجبها أنّ الإمام

ص: 535


1- لا يخفى أن هذا التعليل الثاني هو تكرار للتعليل الأول، المعرّب.

علياً(علیه السّلام)كان إماماً وخليفة لرسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)، ولمّا كان تنصيب الإمام علي قد ورد في القرآن الكريم ومن قبل الله، فإن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)كان بدوره مأموراً بإبلاغ ذلك، ولم يكن بوسعه أن يغيّره من عنده. وعلى هذا الأساس فإن دعوى نسخ إمامة الإمام علي وخلافته مخالف لآيات القرآن، مضافاً إلى أنه عند حصول التعارض بين رواية وبين القرآن يكون التقدم للقرآن، خاصة إذا كانت الرواية ينفرد بروايتها أربعة أشخاص فقط لدوافع سياسية، وكانت الأدلة والشواهد تثبت اختلاقها على ما مر بيانه

8 - حكومة غير الإمام علي(علیه السّلام)مخالفة للأسس الدينية: رصدت الآيات القرآنية الكريمة والروايات الشريفة للحاكم الإسلامي صفات وشرائط، ومن أهمها بعد العدالة والورع والتقوى، الأفضلية والأعلمية، بحيث يجب على الحاكم الديني أن يكون أفضل من الآخرين من حيث الصلاحية والاستحاق. قال تعالى في محكم كتابه الكريم: ﴿ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَنْ لَا يَهدِّي إِلا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴾(1).

إن هذه الآية تذكر أن الذي يتصف لزوماً بالهداية إلى الحق يستحق الاتباع وممارسة الحكم والسلطة، وبعبارة أخرى: إن الشخص الهادي يجب أن يكون معصوماً في أمر الهداية، وأن يكون مهدياً بالفيض الإلهي بالذات، وأن يكون هادياً للآخرين من خلال الاتصال بالحق تعالى، وإلا فإن غير المعصوم لا يمكن أن يكون هادياً لزوماً ومنطقياً(2).

ص: 536


1- يونس: 35.
2- انظر: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 2، ص 269، وج 10، ص 55.

وإذا فقد الهادي المعصوم، يتضح من مفهوم الآية الشريفة أنه إذا كان هناك هاديان، وكان أحدهما أهدى من الآخر كان ملاك تبعيته أكثر من تبعية الآخرى. وعلى هذا الأساس طبقاً لمذهب الشيعة (عصمة الإمام)، أو طبقاً لمذهب أهل السنة (القول بأعلمية الإمام علي(علیه السّلام))، يكون الإمام علي على كل حال هو الأنسب والأجدر والأصلح لتولي الحكم من غيره، وإن الآخرين - طبقاً لهذه الآية الشريفة - ملزمون باتباعه والرجوع إليه.

وقد روي عن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)أنه حدد شرط الحاكمية باتصاف الحاكم ب_ «الأعلمية»، إذ يقول: «ما ولت أمة رجلاً قط أمرها وفيهم أعلم منه إلا لم يزل أمرهم يذهب سفالاً حتى يرجعوا إلى ما تركوا»(1).

وقد أوصى النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)بلزوم التبعية لعترته الطاهرة من أهل بيته(علیهم السّلام)في حديث الثقلين الشهير.

فيما يتعلق بأفضلية الإمام على(علیه السّلام)على سائر الخلفاء، واستحقاقه للخلافة، ليس هناك إجماع من قبل الشيعة وبعض المعتزلة من أهل السنة على ذلك فحسب، بل تقدم في فصل أصل التنصيب اعترافات على لسان الخليفة الأول والثاني بأولوية وتنصيب الإمام على(علیه السّلام)خليفة وإماماً على المسلمين.

يضاف إلى ذلك أن أبا بكر قد اعترف في مواضع مختلفة أنه ليس الأنسب والأصلح للحكم، وكان يدعو المسلمين إلى التماس غيره، وجاء في بعض الروايات قوله: «لست بخيركم، وعلى فيكم»(2).

ص: 537


1- كتاب سليم بن قيس الهلالي، ص 205 .
2- انظر: ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، ج 1، ص 168 .

وعلى هذا الأساس مع وجود الشخص الأعلم والأفضل مثل الإمام على(علیه السّلام)، لا يصل الأمر - بغض النظر عن النصوص الدينية - إلى خلافة أمثال أبي بكر وعمر، وعلى فرض عدم وجود أي نص بشأن الإمام على(علیه السّلام) - على ما تقدم ذكره - مع ذلك كان يجب على الأمة أن تختار الأعلم والأفضل وهو الإمام علي(علیه السّلام)ليكون هو الحاكم والخليفة عليهم.

وعليه كيف يمكن للنبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)الذي تلا بنفسه آيات القرآن الكريم بشأن لزوم اتباع الهادي إلى الحق، وصدر عنه حديث لزوم اتصاف الإمام والحاكم بالأعلمية مضافاً إلى حديث الثقلين والعترة، كيف يمكن له أن يعمل على خلاف مضمون القرآن الكريم وصريحه والأحاديث التي نطق بها بنفسه، ليعدل عن تعيين الخليفة الأفضل والأعلم وتنصيبه، ويعمل على نسخها ؟!

وهذا ما أشار له الإمام علي(علیه السّلام)في جوابه عن الحديث المدعى من قبل أبي بكر بن أبي قحافة(1).

يتضح من هذا الجواب أنه حتى لو فرضنا جدلاً وقبلنا بورود الحديث الناسخ لتنصيب الإمام علي(علیه السّلام)،مع ذلك يبقى الحق بالخلافة محصوراً بالإمام علي(علیه السّلام)؛ لأنه الشخص الوحيد الذي يتصف بالصفات اللازمة لتولي الحكم والخلافة في الحد الأعلى والأكمل، وإن حديث النسخ المدعى - حتى إذا صح - إنما ينسخ أصل التنصيب، ولكنه لا يمنع استحقاق الإمام علي للإمامة والخلافة لتوفر الصفات والشروط التي تؤهله لذلك فيه.

ص: 538


1- انظر: ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، ج 1، ص 5 - 204.

9 - استحالة تبرير أصل النسخ: إن أصل النسخ في الأحكام والقوانين الفردية والاجتماعية والسياسية أمر ممكن، بل واقع. ولكن لا بد لكل نسخ علة وتغيير من وسبب مقنع، ولا يمكن تغيير أي قانون أو حكم من دون سبب أو مبرر وجيه. وبعد هذه المقدّمة لا بد من السؤال بشأن الحديث المدعى من قبل أمثال أبي بكر وعمر، والمنسوب إلى النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)، بالقول: لماذا عدل النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)في لحظة واحدة عن جميع النصوص الواردة عنه - طوال الفترة الممتدة من بداية رسالته إلى أواخر عمره الشريف - لينسخها بأجمعها [من خلال هذا الحديث اليتيم الذي لم يسمعه من كل الصحابة سوى عدد يسير لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، وهم: أبو بكر وعمر والثلاثة الذين شهدوا لهما به]؟!فهل حصل هناك أمر خاص ؟ هل صدر عن الإمام علي - والعياذ بالله - معصية تعارض الدين؟ أم هل ظهر بين الصحابة من هو أعلم وافضل من الإمام علي(علیه السّلام)؟

على من صاغ هذا الحديث أن يجيب عن هذه الأسئلة المشروعة. وبطبيعة الحال قد يلجأ بعضهم للإجابة عن هذه الأسئلة إلى اجترار الأعذار السابقة، من قبيل: حداثة سن الإمام علي(علیه السّلام)، ومخالفة الناس له، مما هو بأجمعه - كالحديث نفسه - مختلق، وقد تقدم أن أجبنا عنه في معرض نقد شبهة فلسفة بيعة الناس لأبي بكر تحت عنوان إبعاد الإمام علي(علیه السّلام)عن الخلافة بمختلف الأعذار التي تقدم نقدها بالتفصيل.

10 - انقضاء زمن النسخ: تقدّم أن أشرنا إلى أن هذه الرواية مختلقة ولا أساس لها من الصحة، وعلاوة على ذلك يطرح السؤال نفسه بشأن زمن صدورها - لو سلمنا صدورها عن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم) - إذ يقال: حتى ما قبل رحيل النبي الأكرم بثلاثة أيام لم تصدر مثل هذه الرواية عنه، بل هناك قرائن

ص: 539

مثل حديث الدوات والقلم وشغب عمر ومنعه من تنفيذ وصية النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)تحكي عن اعتبار واستمرار النصوص النبوية على إمامة الإمام علي(علیه السّلام).

والآن بغض النظر عن الإشكال السابق المطروح بشأن ما هو الحدث الهام الذي دعا النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)إلى نسخ جميع النصوص على إمامة الإمام علي(علیه السّلام)،يطرح هذا التساؤل نفسه: لماذا تأخر النبي في الإعلان عن هذا الحديث الهام والمصيري؟ فقد ألف الناس سماع النصوص على إمامة الإمام علي(علیه السّلام)مراراً وتكراراً منذ بداية النبوة والبعثة إلى الأيام الأخيرة من حياته المباركة عندما أمر بإحضار الدواة والقلم، مضافاً إلى عشرات الآلاف من الحجاج الذين شهدوا يوم غدير خم والإعلان عن إمامة الإمام علي(علیه السّلام)، وقد نقلوه في جميع البلدان التي انتشروا فيها. وما هو حكم آلاف المسلمين الذين لم يسمعوا بالحديث المدعى من قبل أبي بكر، وتمسكوا بالعمل على طبق نصوص إمامة الإمام علي(علیه السّلام)؟

وعليه يتضح أن زمن نسخ أصل هام مثل إمامة الإمام علي(علیه السّلام)كان قد انتهى، وإن الحديث المدعى من قبل أبي بكر وشهوده لم يكن في المستوى والحد الذي يمكن أن يورث اليقين والاطمئنان، ولذلك كان أمثال الإمام

علي(علیه السّلام)، وسلمان، وأبي ذر والمقداد، وقبيلة بني هاشم، وسائر الصحابة يميلون إلى إمامة الإمام علي(علیه السّلام)، ولم تكن بيعتهم لأبي بكر إلا عن ضغط وإكراه على ما مرّ بيانه في فصل أصل التنصيب.

التبرير الرابع عشر: تعارض النصوص:

هناك من أهل السنة من ذهب إلى القول بورود كثير من النصوص

ص: 540

والروايات عن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)بشأن الإمامة والخلافة، وهي تنقسم إلى نوعين من النصوص، حيث تشمل النص الجلي (الواضح) والخفي، وبعضها ظاهر في إمامة الإمام علي(علیه السّلام)، وبعضها الآخر ظاهر في خلافة أبي بكر، وبذلك يقع التعارض بين هذه النصوص، ويصير الأمر إلى سقوطها عن

الاعتبار(1).

مناقشة وتحليل:

لقد تقدّم بحث التعارض بين النصوص في الفصل السابق عند الحديث عن شبهة «تعارض النصوص»، وعمدنا إلى نقدها، ولذلك نحيل القارئ الكريم إلى ذلك البحث، ولا نرى حاجة إلى الإعادة ولكن نكتفي هنا بذكر خلاصة ذلك البحث وهي أن أكثر أهل السنة أنكروا وجود النص على أبي بكر، ومن خلال التبريرات التي تقدمت في فصل التبريرات - وسيأتي بعضها الآخر لاحقاً - يتضح أنهم كانوا يؤمنون بنوع خاص من النص على الإمام علي(علیه السّلام)، ولكنهم صاروا بصدد تأويله بشكل وآخر، بيد أن جميع تلك التأويلات لم تكن ناهضة. وعليه لا تكون هذه الشبهة صالحة لتبرير إبعاد الإمام علي(علیه السّلام)عن السلطة.

التبرير الخامس عشر: إثبات مطلق الخلافة دون الخلافة المباشرة:

ربما أمكن القول: إن الشبهة الأخيرة أو الدفاع الأخير لأهل السنة

ص: 541


1- انظر: شرح المواقف، ج 8، ص 395؛ الباقلاني، تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل، ص 450؛ ابن حزم، الفصل، ج 4، ص 9 - 107 .

- من وجهة نظرهم - في مواجهة النصوص الصريحة على إمامة الإمام على ،وخلافته تظهر من خلال قولهم: إن النصوص الواردة بشأن الإمامة والخلافة

عن النبي النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)بألفاظ من قبيل: «الإمامة»، و«الخلافة»، و«إمامة المتقين» إنما تثبت أصل الإمامة والخلافة للإمام علي(علیه السّلام)، ولكنها ليست بصدد نفي إمامة الآخرين وخلافتهم من أمثال الخلفاء الثلاثة الذين سبقوا الإمام علياً(علیه السّلام)في ممارسة السلطة والخلافة.

فقد قال التفتزاني بعد تقرير الروايات النبوية الصريحة في خلافة الإمام علي(علیه السّلام)، في معرض تبريرها: «ولو سلم، فغايته إثبات خلافته، لا نفي خلافة الآخرين»(1).

وبذلك فإنه كان بصدد بيان الأصل القائل: «إثبات الشيء لا ينفى ما عداه».

مناقشة وتحليل:

إن هذا التبرير يُعدّ من التبريرات الضعيفة والواهية لأهل السنة؛ إذ تأتي على خلاف ظهور - بل نصوص - روايات إمامة الأمة وخلافة النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)، كما أنها تخالف العقل والعقلاء، على ما سنوضحه تباعاً ضمن الفقرات الآتية:

1 - ظهور الآيات في الخليفة والإمام المباشر: لو أننا ألقينا نظرة فاحصة على الآيات القرآنية الواردة بشأن إمامة الإمام علي(علیه السّلام)، من قبيل:

ص: 542


1- انظر: سعد الدين التفتزاني، شرح المقاصد ، ج 3، ص 507؛ وانظر أيضاً: عبد العزيز الدهلوي، التحفة الإثنى عشرية، نقلاً عن: خلاصة عقبات الأنوار، ج 9، ص 267.

آية الولاية: ﴿ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ﴾(1).

- آية إكمال الدين وإتمام النعمة: ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَالله يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ ﴾(2)، وقوله تعالى: ﴿ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَقْمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلَامَ دِينًا ﴾(3)

- آية أولي الأمر: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّه وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وأول الأمر منكم ﴾(4).

سيتضح لنا أنها بصدد البيان والإعلان عن خليفة النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)وتنصيبه بعده حاكماً وخليفة له على المسلمين مباشرة وبلا فصل؛ إذ إن هذه الآيات تثبت أن ولي المسلمين وحاكمهم هو الله ورسوله والذين يتصفون بهذه الصفات التي تذكرها هذه الآيات، والتي لا نجد مصداقها في غير الإمام على(علیه السّلام). وبعبارة أخرى: إن هذه الآيات في مقام بيان وتبيين أصل ديني هام، وهو تحديد هوية الحاكم والخليفة الذي يجب أن يتولى إمامة المسلمين وخلافة رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)بعد رحيله، وفي مقام بيان الصفات التي يجب أن تتوفر في خليفة رسول الله لم تذكر هذه الآيات سوى الصفات التي لا تنطبق إلا على الإمام علي(علیه السّلام). فإذا كان هناك من يمكن له أن يتولى إمامة المسلمين وخلافة

ص: 543


1- المائدة: 55 .
2- المائدة: 67.
3- المائدة: 3.
4- النساء: 59..

رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)في عرض الإمام علي(علیه السّلام)، فلماذا أحجمت الآيات عن ذكر صفاته؟! فإن لازم عدم ذكر صفات هؤلاء مع استحقاقهم وأهليتهم لتولي منصب الإمامة والخلافة، هو قصور البيان ونقصانه، وبعبارة أوضح: إغراء المخاطبين وإبقائهم في دائرة الجهل، وهذا بعيد كل البعد عن طبيعة آخر الكتب السماوية الذي يتصف بأنه الكتاب الأكمل والذي يصفه الله سبحانه وتعالى بقوله: ﴿ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾(1).

2 - نصوص الروايات النبوية في الخليفة المباشر: بالإضافة إلى ما تقدم من الآيات، نجد الروايات النبوية ظاهرة - بل صريحة ونص - في إثبات الإمامة والخلافة للإمام علي(علیه السّلام)مباشرة وبلا فصل. ومن ذلك الحديث النبوي المعروف الذي قاله في بداية الجهر بالدعوة حيث دعا إليه كبار عشيرته الأقربين، وقال لهم في تلك الدعوة: «يا بني عبد المطلب! إني والله ما أعلم شاباً في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به، إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه، فأيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟»(2).

فهل المراد من هذا أن يكون خليفة له بشكل غير مباشر ؟!

يضاف إلى ذلك وجود روايات نبوية أخرى صريحة في خلافة الإمام علی(علیه السّلام)بعد رسول الله مباشرة ومن غير فصل، من قبيل قوله:

- «إمام المسلمين وأمير المؤمنين ومولاهم بعد علي بن أبي طالب»(3).

ص: 544


1- النحل: 89.
2- بحار الأنوار، ج 28، ص 272 .
3- أمالي الصدوق، ص 374.

- «يا علي أنت الإمام والخليفة بعدي»(1)

- «فإن علياً وليكم بعدي»(2)

أليست هذه الأحاديث والروايات نصوصاً صريحة في بيان إمامة الإمام على(علیه السّلام)؟ اللهم إلا إذا ظهر من بين أهل السنة مكابر يقول: إن كلمة«بعدي» في هذه الروايات مطلقة، وتشمل فترة ما بعد النبي بربع قرن من الزمن أو أكثر!

3 - عموم الروايات النبوية: بالإضافة إلى نص الروايات النبوية، يمكن أن نستنبط إمامة الإمام علي(علیه السّلام)من عمومها أيضاً، وذلك بالقول: إن الروايات الدالة على إمامة الإمام علي عامة وتشمل كل زمان من حين صدورها، وبذلك تكون الإمامة بمعنى المرجعية العلمية والدينية والولاية صلى الله المعنوية والقيادية قد تحققت حتى في عصر النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)نفسه. فقد قام النبي مراراً وتكراراً بتعريف الإمام علي(علیه السّلام)بوصفه مرجعاً علمياً والدينية وحجّة الحق ومدار الهداية، وقد تقدم ذكر الروايات الدالة على هذه المعاني في الفصول السابقة. ولم يبق من معاني الإمامة سوى بعد الخلافة والحكومة حيث لم تتحقق فعليتها في حياة النبي الأكرم؛ لأن ماهية الخلافة - كما هو واضح من اسمها - هي الاستخلاف والحلول محل النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)بعد رحيله.

لو أن مراد النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)من النصوص الكثيرة في تعريف الإمام على(علیه السّلام)وتنصيبه في مقام الإمامة لم يكن عاماً، كان عليه منذ البداية أن يقيده بزمنه، كي لا يلزم من ذلك تأخير البيان عن وقت الحاجة.

ص: 545


1- تاريخ دمشق، ج 42 ص 42 - 43؛ بحار الأنوار، 36 ص 349.
2- البداية والنهاية، ج 7، ص 369.

وفيما يلي نقدّم توضيحاً مختصراً لرواية الغدير مع الإشارة إلى كيفية استفادة العموم منها. حيث تدل كلمة (من) في بداية حديث الغدير: «من كنت مولاه؛ فعلي مولاه»على العموم، بمعنى أن كل من كان النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)مولاه ومقتداه وقائده وإمامه، كان على(علیه السّلام)من الآن فصاعداً مولاه ومقتداه وقائده وإمامه، وهذا العموم يسري في حق الناس جميعهم حتى الخلفاء الثلاثة الأوائل ؛ فكان عليهم أن يعتبروا الإمام علياً(علیه السّلام)مولى وإماماً لهم في جميع الأمور، وأن يرجعوا إليه بعد رحيل رسول الله لمعرفة مسؤولياتهم وتكاليفهم، لا أن يغتنموا غيابه وانشغاله للتآمر عليه في السقيفة ويسلبوا منه حقه في الخلافة، بل ويجبروه على مبايعة أبي بكر تحت الضغط والتهديد، فهل هذا هو المفهوم من المولوية؟

4 - الروايات النبوية الدالة على عدم خلافة الشيخين: كان بعض الصحابة يسألون النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)عن ترشيح بعض الصحابة للخلافة، من أمثال أبي بكر وعمر وعلي(علیه السّلام)، وقد ورد في روايات الفريقين أنه كان يجيب بالنفي عن سؤال كل من يطرح احتمال ترشيح أبي بكر وعمر، ولكن ما أن كان يؤتى على اسم الإمام على(علیه السّلام)حتى يقول: «هو ذاك»(1).

صلى يستفاد من هذه الروايات أن مراد النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)من إمامة الإمام علی(علیه السّلام)

هو خلافته وإمامته المباشرة .

5 - عدم الفصل بين مهام الإمام ذكرنا في الفصل الأول في تعريف

ص: 546


1- انظر: بدر الدين محمد الشبلي الحنفي، آكام المرجان في أحكام الجان،ص48 - 52،نقلاً عن: خلاصة عبقات الأنوار، ج 9، ص 275.

الإمام وماهيته بالتفصيل أن للإمام ثلاثة شؤون ووظائف ومسؤوليات هامة، وهي: (المرجعية العلمية والدينية، والحكم، والولاية المعنوية)، وأن المرجعية العلمية والولاية المعنوية تكمن في النفس القدسية للإمام علي(علیه السّلام)على نحو تكويني، ولا يمكن فصلها عنه أو فرض زمن محدد لها، فلا يمكن القول مثلاً: إن الإمام علياً(علیه السّلام) رغم اتصافه بجميع صفات وشرائط الأعلمية وملاكات الأحقية على النحو الأكمل والأتم، إلا أن فعلية إمامته وحجيتها لن تتحقق إلا بعد انتهاء فترة الخلفاء الثلاثة الذين سبقوه في التربع على سدة الحكم.

لم يهتم أهل السنة - بما لهم من قراءة خاصة بشأن حقيقة الإمامة - بهذه الحالة المترابطة والشؤون والمسؤوليات المتماسكة والتي لا تقبل الفصل في مفهوم الإمامة. إلا أن مسألة فصل الحكم مخالف لظهور الآيات والروايات ونصها على ما مر توضيحه.

6 - مخالفة سيرة العقلاء: لو نظرنا إلى سيرة الحكام الدينيين وغير الدينيين وتاريخهم، فسوف ندرك أنهم كانوا -بشكل عام - بصدد التعريف بمن يخلفهم أو تنصيبه، ويمهدون الأرضية لذلك، ومن بين وسائل ذلك بيان الخصائص البارزة التي يجب توفرها في القيادة، ويقومون بتطبيق تلك الخصائص على المرشح المنشود لهم، ويتم التصريح أحياناً باسم الخليفة أو الوريث لعرش المملكة والحكم والدولة.

وهنا نتساءل: هل ظهر في جميع هذه الحالات - التي قام فيها الحكام بتعيين من يخلفهم - محقق أو باحث احتمل أن يكون المراد من هذا التعيين والاستخلاف هو الاستخلاف غير المباشر؟ لو عُثر على مثل هذا المحقق، فإننا بدورنا سوف نعطي الحق لأهل السنة في طرح هذا الاحتمال بشأن النصوص

ص: 547

الدالة على إمامة الإمام علي(علیه السّلام). إلا أن التاريخ لم يشهد مثل هذه الظاهرة أبداً، لأن هذه الظاهرة أساساً على خلاف السيرة العقلائية. فإن جميع عقلاء العالم يحملون ويُفسّرون مثل هذا النص والتنصيب على التنصيب والاستخلاف المباشر

ثم إذا كانت هناك من عقبة أو مشكلة خاصة تمنع من فعلية لوازم التنصيب وتحققه من قبيل: حداثة السن أو المرض وما إلى ذلك، مما يتوقف فعلية هذا التنصيب على رفع هذا المانع. ولكن لحسن الحظ فإن أهل السنة ومن صاغ هذه الشبهة لم يأتوا على ذكر هذه الموانع، بل لم تكن هناك أي مشكلة أو عقبة تحول دون تولي الإمام علي(علیه السّلام)وتسلّمه للحكم والسلطة، بل كان هو الأفضل والأولى من الجميع والأصلح لخلافة النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم).

7 - عدم تعدّد الخلفاء : إن صاحب هذه الشبهة كان يدعي أن غاية ما تدل عليه الروايات النبوية هو المشروعية المطلقة لخلافة الإمام علي(علیه السّلام)، ولا تنفي مشروعية خلافة الآخرين. يمكن القول في نقد هذا الجانب من الاستدلال: لو كان النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)قد نص على أشخاص عدة لتولي منصب الخلافة، لكان هناك مجال للاستدلال على هذه الفرضية؛ إذ مع افتراض تعدد المرشحين للخلافة وعدم تحديد فترة حكوماتهم، يحظى جميعهم بالمشروعية اللازمة والمطلوبة، ولكن طبقاً لرأي المشهور من أهل السنة، فإنهم يخالفون وينكرون وجود النص على خلافة شخص بعينه، وحتى خلافة أبي بكر لا يرون أنها كانت بالنص، وإنما يثبتونها بالبيعة وما إلى ذلك.

ومع هذا الافتراض (حصر التنصيب بشخص واحد)، لو لم يتم تنصيب هذا الشخص في منصبه مباشرة، وتم تنصيب غير المنصوص عليه، للزم من

ص: 548

ذلك تقديم غير المنصوص عليه على المنصوص عليه، وهذا مخالف لأصل التنصيب وغايته. بعبارة أخرى إن غير المنصوب الذي يعتبر من وجهة نظر الله ورسوله بوصفه «تابعاً»و«مطيعاً»، لا يمتلك صلاحية الإمام والخليفة و«المتبوع» والذي تم تنصيبه من قبل الله ورسوله، ولا يحق له الجلوس في منصب الإمام علي(علیه السّلام)(1).

8 - مخالفة رأي الإمام علي(علیه السّلام)وغيره من الصحابة: لو أن هذا الرأي كان مطروحاً في حياة النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)، لوجب أن يتم تداوله في الأبحاث السياسية التي احتدمت في تلك الفترة التي أعقبت رحيل رسول الله،مثل: شورى السقيفة، ولاستدل بها الأنصار والمهاجرون، ولكننا لو ألقينا نظرة على الجدل المحتدم آنذاك لما وقفنا على أثر من ذلك، من هنا يتضح أن فرضية تعدّد خلفاء النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)لم تكن مطروحة أبداً.

يُضاف إلى ذلك أنه لو لم تكن خلافة أمير المؤمنين(علیه السّلام)وإمامته مباشرة، وإنما كان لا بد لها من مضى فترة على رحيل رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)،لكان على الإمام علي أن يذعن لهذا الأمر، لا أن يعتصم في بيت فاطمة(سلام الله علیها)أو أن يدور بالسيدة الزهراء مع الحسنين على بيوت المؤثرين من المهاجرين والأنصار من أصحاب بدر ليلاً يستنصرهم في استرجاع حقه في الحكم والخلافة. فلو كانت خلافة الإمام على غير مباشرة، فلماذا تحدث عن حقه الثابت المسلوب والمغتصب، ولم يترك الشكوى من الخلفاء الثلاثة في كثير من المواقف والمواضع؟!

إلى غير ذلك من الأسئلة التي لا يسعنا الإجابة عنها جميعاً، مكتفين

ص: 549


1- انظر: نفحات الأزهار، ج6 ، ص 31، وج 9، ص 32 و 125 .

بالقول إلى القول بأنه لا بد - والعياذ بالله - أن نعتبر جميع أنواع الشكوى والاعتراض الصادر عن الإمام علي(علیه السّلام)وشيعته أموراً غير مبررة، كي نبرر بذلك أفعال الخلفاء الثلاثة(1)!

أما الأمر الأخير فيتعلق بالأصل العقلي القائل: «إثبات الشيء لا ينفي ما عداه». فيجب القول: إن أهل السنة أنفسهم لا يرتضونه فيما يتعلق بإمامة الإمام علي(علیه السّلام)؛ لأن هذا الأصل يقول: «إثبات شيء» وفي المسألة مورد البحث - وهي الخلافة المباشرة للإمام - لا بد لهم أولاً من القول بهذا النوع من الحكم والإمامة، كي يصل الأمر إلى «نفي ما عداه»، والقول بعد ذلك: من يتولى الحكم بعد إمامة الإمام على(علیه السّلام)التي ثبتت له مباشرة بعد رحيل رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)؟

ثمّ إنّ الآيات والروايات المثبتة لإمامة الإمام علي(علیه السّلام)إنما تثبت الإمامة المباشرة للإمام علي حصرياً، وأما بشأن إمامة غيره وخلافته فهي ساكتة ولا تتطرق إليها نفياً ولا إثباتاً.

وقد أثبت الشيعة إمامة سائر الأئمة بالروايات النبوية الأخرى، مضافاً إلى الروايات المروية عن الإمام علي(علیه السّلام)نفسه.

التبرير السادس عشر: اختصاص الإمامة بالولاية المعنوية:

ذهب بعض أهل التصوّف الذين يؤولون ويُفسّرون أكثر الظواهر والنصوص الدينية من خلال قناة التصوّف والعرفان ومسالكهم الخاصة، ومن

ص: 550


1- على ما مرّ توضيحه في معرض نقدنا لشبهة تعارض النصوص في الفصل الرابع من هذا الكتاب.

ذلك أنهم فسّروا الإمامة لا في القيادة السياسية والاجتماعية، بل في الأمور المعنوية ومن خلال سلوك الطريقة والأخبار عن المعارف والأسرار الغيبية. وقد ذهب محيي الدين بن عربي إلى تقسيم الخليفة إلى قسمين؛ خليفة من قبل الله، وخليفة من قبل النبي، وقال بأن الأول غير قابل للتنصيب، أما الثاني فهو قابل للتنصيب، ولكنه يؤكد بأن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)رحل عن الدنيا ولم ينصب أحداً للخلافة بعده، معللاً ذلك بأن النبي كان يعلم أن في الأمة من أخذ الخلافة عن الله، إذ يقول:

«أخذ النبي عن الله عين ما أخذه منه الرسول، فنقول فيه بلسان الكشف خليفة الله وبلسان الظاهر خليفة رسول الله، وهذا مات رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)وما نص بخلافة عنه إلى أحد ولا عيّنه؛ لعلمه أن فى أمته من يأخذ الخلافة عن ربه»(1).

إن مراده من الولاية هي الولاية الباطنية التي لا تحتاج إلى نص وتنصيب، خلافاً للخلافة والولاية السياسية التي لا تحتاج إلى تنصيب؛ لكونها من الأمور التواضعية والاعتبارية.

وقد ذهب آخرون إلى حمل النصوص النبوية الأخرى الدالة على

ص: 551


1- فصوص الحكم، الفص الداوودي. وقد ذكر الإمام الخميني (رحمه الله) في تعليقاته أن هذا الكلام من ابن عربي يندرج تحت مغالطة الخلط بين الولاية الباطنية والولاية السياسية (انظر: تعليقات على الفصوص، الفص الداوودي). وقد أعطى الشيخ العطار والمولوي في أشعارهما أهمية خاصة في بحث الولاية للمقام المعنوي والارتباط الباطني للإمام، وقال الشيخ العطار: إن الإمامة بمعنى الخلافة والسلطة قد استهان بها الإمام علي نفسه، واعتبرها فاقدة للقيمة.

إمامة الإمام علي(علیه السّلام) - من قبيل حديث الغدير - وفسروها على هذا المعنى أيضاً(1).

مناقشة وتحليل:

لمّا كان هذا الاتجاه لا ينسجم مع النصوص القرآنية والروائية المتظافرة الدالة على التفسير الجامع لمسألة الإمامة، ولضعفها الواضح من خلال النظر في المسائل المتقدّمة، نرى عدم ضرورة إلى الدخول في تفاصيل الإجابة عن هذه الشبهة، ولذلك سنكتفي بإرجاع القارئ الكريم إلى تلك المسائل.

ص: 552


1- انظر: سلامت علي هندي، التبصرة، نقلاً عن: خلاصة عبقات الأنوار، ج 9،ص 320.

الفضل السادين

شبهات حول صفات الإمام(علیه السّلام)

ص: 553

ص: 554

الشبهة الأولى : إنكار علم الأئمة للغيب:

اشارة

إن من بين الصفات اللازمة للإمام صفة العلم الكامل والجامع بتعاليم الدين والشريعة، والتي تم التعبير عنها في بعض الروايات ب_«علم الغيب» أو «العلم اللدني».

وقد ذهب أهل السنة(1)وبعض المعاصرين(2)إلى إنكار مثل هذا العلم، وقالوا بأن علم الإمام هو علم مادي كعلم أي إنسان آخر، وليس لعلمه أيّ مزية على العلوم التي يكتسبها سائر الناس، ومن ثُمَّ فإن علم الأئمة هو علم اجتهادي خاضع لأصل القبض والبسط في المعارف البشرية وقابل للخطأ وإن بنسبة قليلة. وقد ذهب هؤلاء إلى نسبة العلم بالغيب وغير المحدود وما إلى ذلك إلى الأئمة الأطهار لغلاة الشيعة، واقتصروا على وصف الأئمة ب_

ص: 555


1- يذهب أهل السنة إلى القول بأن علم الإمام لا يتجاوز حدود علم الفقيه والمجتهد، انظر: البغدادي، كتاب أصول الدين، ص 277؛ التفتزاني، شرح المقاصد، ج 3، ص 480 - 482؛ عضد الدين الإيجي، شرح المواقف، ج 8، ص 380.
2- انظر: محسن کدیور، مجلة مدرسة، العدد: 3،اردیبهشت، 1385 ه_ ش، ص 96؛ إعادة قراءة الإمامة في ضوء الثورة الحسينية، روزنامه شرق، العدد: 14 و 15 ، اسفند، 1384 ه_ ش ؛ عبد الكريم سروش، بسط تجربه نبوي، ص 135 و 148 و 159 .

العلماء الأبرار»(1).

مناقشة وتحليل:

في معرض تحليل هذه الشبهة وتقييمها لابد من التأمل في المسائل الآتية :

أ - القراءة المختلفة لحقيقة الإمامة:

إن أول مسألة تبدو للناظر بشأن اعتبار أو عدم اعتبار علم الغيب في الإمامة وشخص الإمام، وجود قراءتين مختلفتين عن حقيقة الإمامة عند أهل السنة والشيعة(2). فإن أهل السنة حيث ينظرون إلى الإمام وحقيقة الإمامة بوصفه مجرد حاكم تنفيذي منتخب من قبل الناس بالبيعة أو الشورى بل وحتى القهر والغلبة، لا يرون أي صلة له بالغيب وعالم ما وراء الطبيعة، وغاية ما يثبتونه للحاكم هو القول بأنه عالم بمسائل الدين على مستوى الاجتهاد، بل وأدنى من ذلك.

من خلال التأمل فى آراء علماء أهل السنة، وخاصة مع الالتفات إلى مصاديق خلفائهم، يتضح أن هذه القراءة متطابقة مع خلفائهم؛ لأن أفضلهم هو أبو بكر وعمر، ومع ذلك فقد اعترفا بعجزهما العلمي، خاصة بالقياس إلى الإمام علي(علیه السّلام)، وقد سمع الناس في الكثير من المواطن اعتراف عمر بن الخطاب القائل: «لولا علي لهلك عمر».

ص: 556


1- انظر: حسين مدرسي طباطبائي، مکتب در فرایند تکامل، ص 14 و 31 و 39 و 43 و 48 و 54 .
2- لقد تقدّم توضيح ذلك في الفصل الأول.

أما الشيعة فبالالتفات إلى فلسفة الحاجة إلى الإمامة في عصر الخاتمية ووجود أئمة مثل الإمام علي(علیه السّلام)، لديهم قراءة مختلفة عن قراءة أهل السنة لحقيقة الإمامة، وفي ضوء ذلك يرون أن الإمام هو الشخص الأعلم من سواه وهو الذي يتمتع بعلم الغيب.

وهناك من الشيعة المعاصرين من ابتلى بهذه الآفة. فإنه من خلال تنزيله مقام الإمامة والأئمة إلى مستوى العلماء العاديين، وأنهم من ثَمَّ قد يخطئون! تخلّف عن إدراك مقام الإمامة والأئمة. تقدم أن ذكرنا في الصفحات السابقة العديد من الروايات المأثورة عن الأئمة والنبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)بشأن المقام السامي للإمامة. وهنا نكتفي بطرح هذا السؤال: أليس سماع صوت جبرائيل(علیه السّلام)ومشاهدته من قبل الإمام علي(علیه السّلام)وتأييد ذلك من قبل النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)، والعديد من الأخبار الغيبية المأثورة عن الإمام علي(علیه السّلام)،خیر دليل على مدعى الشيعة القائل بأن جوهر الإمامة وشخصيّة الأئمة لا يمكن أن تقاس بغيرهم من الأشخاص الاعتياديين؟!

ب - اعتبار علم الغيب في حقل الدين:

أما المسألة الثانية فهي أن العلم بالغيب والعلم اللدنّي الذي يؤكد الشيعة على اعتباره وضرورته بالنسبة إلى الإمام، فهو ليس مطلقاً وغير عام، وإنما يختص بحقل الدين وتعاليمه الأعم من الدائرة المعرفية والتشريعية، بمعنى أن الإمام - فيما يتعلق بتعاليم الدين والشريعة - يجب أن يتحلى بالعلم المؤيَّد من قبل الله تعالى، بحيث لا تكون هناك من شاردة وواردة في الدين إلا ويعلمها. وأما في غير الحقل الديني من قبيل العلم بالغيب فيما يتعلق بالأحداث الماضية والمقبلة، والأمور الغيبية بشكل عام والتى لا صلة لها بالدين، مثل علم الإمام

ص: 557

الحسين(علیه السّلام)باستشهاده في يوم عاشوراء، أو علم الإمام علي(علیه السّلام)بجرحه واستشهاده في ليلة التاسع عشر والحادي والعشرين من شهر رمضان، هناك اختلاف في الآراء بين علماء الإمامية، ولمّا كان الشيعة لا يعتبرون مثل هذا العلم شرطاً في حقيقة الإمامة(1)، فإن نفيه أو إثباته لن يؤثر في أصل تحقق الإمامة، ولذلك فإننا لا نرى ضرورة هنا إلى الدخول في تفاصيل هذه المسألة(2).

ج . - فلسفة الإمامة الملازمة لعلم الغيب:

لقد أشرنا في الفصل الأول إلى بعض المسائل والنقاط بشأن ضرورة وجود الإمام بعد رحيل النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)بوصفه خاتم الأنبياء والمرسلين، حيث ذكرنا هناك: بعد رحيل رسول الله - حيث لا يكون هناك نبي بعده بحسب الفرض - سيكون المجتمع والدين بحاجة إلى إمام يكون شبه رسول الله في كل شيء باستثناء نزول الوحي والنبوة، لكي يعمل على صيانة الاسلام الفتي من أيّ آفة من تحريف أو بدعة، وأن يقف في وجه أعداء الإسلام، وأن يجيب عن المسائل المستحدثة بشكل صحيح (مطابق للواقع). ذلك لأن فلسفة وجود الإمام هي التفسير الصحيح للتعاليم الدينية، فإذا كان علم الإمام عادياً، ويجوز عليه الخطأ في تفسير الدين - خاصة بالنظر إلى أن هذا الدين هو خاتم الأديان وأنه الدين الكامل والخالد - فإنه سيكون عرضة للآفات والمشاكل قد تصل إلى مستوى التحريف والبدع، وعليه سوف تتعرض فلسفة الخاتمية

ص: 558


1- انظر: أوائل المقالات، ص 313.
2- انظر: الصافي الگلپایگانی، شهید آگاه؛ صالحی نجف آبادي، شهيد جاويد؛ المؤلف، كلام فلسفي، مقالة: علم الإمام الحسين باستشهاده.

والخلود إلى الضياع والزوال(1).

د - علم الغيب ثمرة الولاية الباطنية للإمام:

سبق أن أشرنا إلى أن أهل السنة قد فسّروا الإمام والخليفة بأنه لا يتجاوز الإنسان العادي، وغاية ما أثبتوا له من العلم والمعرفة ما كان في حدّ الاجتهاد والعدالة، في حين ذهب الشيعة إلى رفع الإمامة إلى مستوى النبوة بل إلى ما هو أسمى منها، واستدلوا لذلك بإعطاء النبي إبراهيم(علیه السّلام)مقام الإمامة بعد مقام النبوة، على ما مرّ توضيحه في الفصل الأول في معرض تفسير الإمامة من وجهة نظر أهل السنة والشيعة.

وعلى هذا الأساس فإن للإمام عند الشيعة مقاماً معنوياً خاصاً، حيث يتمكن من الارتباط بعالم الغيب، ويحصل على علمه من هذا الطريق. وقد تقدم ذكر روايات وتوضيحات هذا البحث في فصل شبهة تعارض الإمامة والخاتمية تحت عنوان «علم الغيب ثمرة الولاية الباطنية».

إن ارتباط الأئمة الأطهار(علیهم السّلام)بالملائكة والتعبير عن ذلك في الروايات بأن بيوتهم كانت «مختلف الملائكة»، والتعبير عن الأئمة أنفسهم بأنهم «محدثون»(2)، يثبت ارتباطهم بالغيب ومن ثُمَّ أخذهم علمهم من هذه القناة.

لقد كانت مسألة علم الأئمة مطروحة في عصر الأئمة الأطهار(علیهم السّلام)أنفسهم، إذ كان يُقال إن مصدر علم الأئمة هو الارتباط الغيبي مع الملائكة،

ص: 559


1- انظر: الشافي في الإمامة ، ج 1، ص 179.
2- انظر: الدرّ المنثور، ج 5، ص378 ، تفسير الآية 33 من سورة الأحزاب؛ ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة ، ج 2، ص 283 ؛ الكليني، الكافي، ج 1، ص 221 و 270 .

ولذلك كان أصحاب الأئمة لتأييد هذا الرأي والحصول على الاطمئنان القلبي بهذا الأمر يسألون الأئمة، وكان الأئمة(علیهم السّلام)على ما جاء في مختلف الروايات

يؤيدون مضمون ذلك بعبارات متنوعة. ومن ذلك النماذج الآتية:

- «عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَحْيَى، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الله(علیه السّلام)، قَالَ: قُلْتُ: أَخبرْنِي عَنْ عِلم عَالِمِكُمْ قَالَ: وِرَاثَةَ مِنْ رَسُولِ الله(صلی الله علیه و آله و سلم)،وَمِنْ علي(علیه السّلام). قَالَ قُلْتُ: إِنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّهُ يُقْذَفُ فِي قُلُوبِكُمْ وَيُنْكَتُ فِي آذَانِكُمْ؟ قَالَ(علیه السّلام): أَوْ ذَاكَ »(1).

- «حدثنا الحسن بن موسى الخشاب، عن إبراهيم بن أبي سماك، عن داود عن الحرث النضري [النصري]، قال: قلت لأبي عبد الله(علیه السّلام): الإمام يسأل الشيء الذي ليس عنده شيء من أين يعلمه ؟ قال(علیه السّلام)،: ينكت في القلب نكتاً، وينقر في الأذن نقراً »(2).

- «عَنْ عَلِيَّ السَّائِي، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْأَوَّلِ مُوسَى(علیه السّلام)، قَالَ: مَبْلَغ عِلْمِنَا عَلَى ثَلَاثَةِ وُجُوهِ: مَاضٍ وَغَابِرٍ وَحَادِثٍ، فَأَمَّا الْمَاضِي فَمُفَسَّرْ، وَأَمَّا الْغَابِرُ فَمَزْبُورٌ، وَأَمَّا الْحَادِثُ فَقَذْفٌ فِي الْقُلُوبِ، وَنَقْرٌ فِي الْأَسْمَاعِ، وَهُوَ أَفْضَلُ عِلْمِنَا . وَلَا نَبِيَّ بَعْدَ نَبِيِّنَا»(3).

- وقد أقام الإمام الرضا(علیه السّلام)ملازمة بين الإمامة بمعنى المرجعية العلمية والدينية وبين العلم الذي هو من نوع الإلهام، وأكد على ذلك قائلاً: «إِنَّ الْعَبْدَ

ص: 560


1- الكافي، ج 1، ص 264؛ بصائر الدرجات، ص 317 و 327.
2- أمالي الطوسي، ص 408؛ بصائر الدرجات، ص 316 ومثله عن أبي بصير أيضاً، انظر: بصائر الدرجات، ص 316 .
3- الكافي، ج 1 ، ص 264.

إِذَا اخْتَارَهُ الله عَزَّ وَجَلَّ لِأُمُورِ عِبَادِهِ شَرَحَ صَدْرَهُ لِذَلِكَ، وَأَوْدَعَ قَلْبَهُ يَنَابِيعَ الحِكْمَةِ، وَأَهْمَهُ الْعِلْمَ الْمَاماً، فَلَمْ يَعْيَ بَعْدَهُ بِجَوَابٍ، وَلَا يُخَيَّرُ فِيهِ عَنِ الصَّوَابِ، فَهُوَ مُؤَيَّدٌ مُوَفَّقٌ مُسَدَّدٌ، قَدْ أَمِنَ مِنَ الْخَطَايَا وَالزَّلَلِ وَالْعِثَارِ، يَخْصُّهُ الله بِذَلِكَ لِيَكُونَ حُجَّتَهُ عَلَى عِبَادِهِ، وَشَاهِدَهُ عَلَى خَلْقِهِ»(1).

ه_ - علم الغيب من لوازم العصمة والحجة الإلهية:

تم التعبير في كثير من الروايات النبوية عن الإمام - وخاصة الإمام على(علیه السّلام) - بتعبيرات من قبيل: وجوب الاتباع، وأنه حجة الله، وإثبات العصمة له، وأنه ميزان الحق، وأن الحق يدور معه حيثما دار، وأنه مع الحق والحق معه، وإن الاهتداء بأهل البيت ملازم للنجاة، وأنه معدن العلم، مما لازمه العلم الإلهي الخاص الممتنع عن الخطأ، وإلا فإن نسبة هذه الصفات المذكورة للإمام الذي يجوز عليه الخطأ في الأحكام والآراء لن يكون صحيحاً ولا مبرراً.

و - الروايات الدالة على علم الأئمة للغيب:

فضلاً عن الأدلة المتقدمة فإنه قد تم التأكيد على علم الأئمة للغيب والعلم الإلهي في الروايات المأثورة عن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)والإمام علي(علیه السّلام)أيضاً. ولو غضضنا الطرف عن الأدلة العقلية السابقة، وكان ملاكنا هو مجرد الروايات، فإن هذا المعنى من العلم بالنسبة إلى الإمام سيكون قابلا للإثبات أيضاً، وفيما يأتي نشير إلى بعض هذه الروايات:

- روي عن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)أنه قال في رواية متفق عليها من قبل

ص: 561


1- الكافي، ج 1، ص 202؛ عيون أخبار الرضا، ج 1، ص 221؛ معاني الأخبار، ص 101؛ وانظر أيضاً : الري شهري، أهل البيت في الكتاب والسنة، ص 230 - 236 .

الفريقين (من أهل السنة والشيعة): «من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه، وإلى نوح في عزمه [تقواه]، وإلى إبراهيم في حلمه، وإلى موسى في فطنته [هيبته]، وإلى عيسى في زهده [عبادته]، فلينظر إلى علي بن أبي طالب»(1).

وحيث كان علم آدم بالأسماء فوق علم الملائكة، يتضح أن علمه كان علماً خاصاً ومن قبيل العلم اللدنّي، وتبعاً لذلك كان علم الإمام علي(علیه السّلام)من سنخ علم آدم، وأنه من العلم الإلهي اللدني.

- روي عن الإمام الصادق(علیه السّلام)أنه قال: «نحن خزان علم الله، ونحن معدن وحي الله»(2)،وقال أيضاً: «نَحْنُ وَلَاهُ أَمْرِ الله وَخَزَنَةٌ عِلْم الله ، وَعَيْبَةٌ وَحْي الله»(3).

- لقد أخبر الإمام الباقر(علیه السّلام)عن وجود روح خاص بالأنبياء والأوصياء يتعرفون من خلاله على جميع ما يحدث من أخبار ووقائع ما بين العرش والأرض، ومن ذلك قوله: «فبروح القدس - يا جابر - عرفوا ما تحت العرش الى ما تحت الثرى»(4).

- وعنه(علیه السّلام)أيضاً في رواية أخرى: «الإمام المخصوص بالعلم ... واحد دهره، لا يدانيه أحد، ولا يعادله عالم، ولا يوجد منه بدل، ولا له مثل ولا نظیر، مخصوص بالفعل كله من غير طلب منه له ولا اكتساب، بل اختصاص

ص: 562


1- انظر: الفخر الرازي، التفسير الكبير، ج 7، ص 86،تفسير آية المباهلة؛ ينابيع المودة، ص 214؛ شرح نهج البلاغة، ج 2، ص 229؛ ابن تيمية، منهاج السنة النبوية، ج 5،ص510 . ما بين المعقوفتين لم نجده في ينابيع المودة، المعرّب.
2- أمالي الصدوق، ص 252؛ بصائر الدرجات، ص 103، ب 19.
3- الكافي، ج 1، ص 192 .
4- السيد هاشم البحراني، ينابيع المعاجز، ص 70.

من المفضل الوهاب فمن ذا الذي يبلغ معرفه الإمام ويمكنه اختياره ... الإمام عالم لا يجهل ...»(1).

ومع الالتفات إلى هذه الروايات وما تقدّم من الأدلة هل يمكن الادعاء بأن علم الأئمة(علیهم السّلام)من جميع الجهات مثل علم سائر البشر، بمعنى أنه علم اجتهادي، ومن ثُمَّ يجوز عليهم الخطأ؟ أليست هذه الدعوى مخالفة للواقعية

التاريخية والنصوص الدينية القطعية؟

الشبهة الثانية: إن علم الأئمة بالغيب من اختلاقات المتكلمين:

يتضح مما تقدّم - وخاصة التأكيد على ثبوت علم الغيب للأئمة وكونه من نوع الإلهام، وكذلك وجود هذه الرؤية في عصر الأئمة الأطهار(علیهم السّلام)أنفسهم بين الشيعة، وتوجيه السؤال إليهم بهذا الخصوص، وتأييد الأئمة وتصريحهم بوجود هذا النوع من العلم لديهم - أن القول بأنه من موضوعات المتكلمين الشيعة في القرون الأولى التي أعقبت عصر الغیبة(2)،هو في حد ذاته مختلق، فهو لا يعدو أن يكون تحريفاً للحقائق الدينية والتاريخية، والتي نشأت من تأمّل من صاغ هذه الشبهة في النصوص الروائية.

ص: 563


1- انظر: عيون أخبار الرضا، ج 2، ص 6 - 195.
2- «إن العصمة، والعلم بالغيب، والنص الإلهي، والنصّ من قبل النبي، أربع مسائل قالها متكلمونا المحترمون منذ القرنين الثالث والرابع للهجرة فما بعد ... ولكننا لا نذكر أن سيد الشهداء والإمام علي وسائر الأئمة عمدوا إلى تعريف أنفسهم من خلال الاستناد إلى المناحي ما فوق البشرية». (محسن كديور، مجلة مدرسة، اردیبهشت، 1385، العدد: 3، ص 95).

إن السؤال عما إذا كان المتكلمون يتفقون في تفسير علم الأئمة ومدى سعة هذا العلم، أو أنهم يختلفون في الآراء بهذا الشأن؟ يحتاج إلى بحث مستقل، ولكن يكفي هنا التذكير بأنهم متفقون على امتلاك الأئمة(علیهم السّلام)ما يعرف بالعلم اللدني في حقل الدين. وأن القول بأن علم الأئمة بالغيب لا وجود له في المصادر الدينية الأصيلة، وأنه من وضع المتكلمين واختلاقهم - كما ذكر - فهو لا ينسجم مع المصادر التاريخية والروائية، فهو في حد ذاته مجرد ادعاء واختلاق. وسيأتي ذكر بعض الروايات الأخرى التي تثبت علم الغيب للأئمة - والتي كانت مستنداً للقول بعلم الأئمة بالغيب منذ القدم - في الصفحات القادمة إن شاء الله .

الشبهة الثالثة: نفي علم الغيب في بعض الروايات

اشارة

ربما تم طرح هذه الشبهة أو التساؤل هنا، وهو: لو أن أصل العلم بالغيب، أو بعبارة أدق : العلم اللدني للأئمة(علیهم السّلام)، كان أصلاً ثابتاً، فلماذا تمّ نفيه في بعض الروايات، حيث أنكره بعض الأئمة في سياق الإجابة عن تساؤلات أصحابهم؟

مناقشة وتحليل:

في معرض نقد هذه الشبهة لا بدّ من الإشارة إلى الأمور الآتية:

أ - رعاية القدرة الاستيعابية للمخاطب المقصر:

*أ - رعاية القدرة الاستيعابية للمخاطب المقصر(1)

ص: 564


1- المقصر مصطلح في علم الكلام يطلق على تلك الجماعة من الشيعة التي تخلفت عن إدراك الصفات المعنوية والكمالية للأئمة، ولا يستطيعون وصف الأئمة بصفات خاصة، من قبيل: العصمة والعلم اللدني والإلهام وما إلى ذلك.

ورد في القرآن الكريم أن علم الغيب من مختصات الله سبحانه وتعالى، إذ يقول الله عزّ وجل: ﴿ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ ﴾(1).

إن بعض الناس - وحتى بعض عوام الشيعة - لم يكونوا يستطيعون استيعاب أن يكون للأئمة القدرة على العلم بالغيب وهو من مختصات الله سبحانه حيث يعلمه بشكل ذاتي واستقلالي، حتى ولو قلنا بأن علم الأئمة

بتعليم من الله، فإنهم على كل حال لا يطيقون أن يكون الإمام عالماً بالغيب سواء على نحو الاستقلال أو التبعية. من هنا كان الأئمة يراعون هذه الجماعة من الشيعة التي لم تكن لديها القدرة على التحليل العقلاني لمسألة الغيب؛ فكانوا لذلك ينكرون وينفون نسبة علم الغيب إليهم. ومن الأمثلة على ذلك ما ورد في ذكر الإمام علي(علیه السّلام)بعض أخبار الملاحم والفتن حيث أثار استغراب بعض أصحابه ودهشتهم إذ يقول: «لقد أعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب»! فضحك(علیه السّلام)، وقال للرجل وكان كلبياً: «يَا أَخَا كَلْبِ، لَيْسَ هُوَ بِعِلْمٍ غَيْبٍ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَّمُ مِنْ ذِي عِلْمٍ»(2). وسيأتي تفصيل الرواية لاحقاً.

ب - رعاية القدرة الاستيعابية للمخاطب الغالي:

وكان بعض الشيعة من مخاطبي الأئمة(علیهم السّلام)من ناحية أخرى يعانون من سذاجة وبساطة من نوع آخر، حيث لا يدركون حقيقة علم الغيب، وتبعية

ص: 565


1- الأنعام: 59؛وأيضاً النمل: 65؛الأعراف: 188.وانظر أيضاً: العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار ، ج 25 ، ص 267 و 322؛ الأحاديث الغيبية للأئمة الإثنى عشر (ثلاث مجلدات).
2- نهج البلاغة، الخطبة رقم:128؛ ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، ج 8، ص 215 .

علم الأئمة بالغيب لعلم الله، ولذلك كانوا لدى أدنى مشاهدة لما يثبت علم الأئمة الخارق يرفعونهم إلى مستوى النبوة، بل قد يصل بهم الأمر إلى حد الغلو والتأليه أحياناً من هنا عندما كان الأئمة(علیهم السّلام)يستشعرون من السائل وجود أرضية للغلو، كانوا يبادرون إلى مواجهة هذه الظاهرة الخطيرة، ويسعون إلى القضاء عليها في مهدها، ولتحقيق ذلك لم يكن أمامهم من بد أحياناً غير إنكار علمهم بالغيب. وإليك مثلاً الحادثة الآتية:

«عَنْ سَدِيرٍ قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَأَبُو بَصِيرٍ، وَيَحْيَى الْبَزَّازُ، وَدَاوُدُ بْنُ كَثِيرِ، فِي مَجْلِسِ أَبِي عَبْدِ الله(علیه السّلام)إِذْ خَرَجَ إِلَيْنَا وَهُوَ مُغْضَبٌ، فَلَما أَخَذَ تَجْلِسَهُ قَالَ: يَا عَجَبا لا قوامٍ ير أَنَّا نَعْلَمُ الْغَيْبَ مَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ إِلَّا الله عَزَّ وَجَلَّ، لَقَدْ هَمَمْتُ بِضَرْبِ جَارِيَتِي فُلَانَةَ فَهَرَبَتْ مِنِّي ، فَما عَلِمْتُ فِي أَيِّ بُيُوتِ الدَّارِ هِيَ. قَالَ سَدِيرٌ: فَلَما أَنْ قَامَ مِنْ تَجْلِسِهِ وَصَارَ فِي مَنْزِلِهِ دَخَلْتُ أَنَا وَأَبُو بَصِيرٍ وَمُيَسِّرٌ، وَقُلْنَا لَهُ: جُعِلْنَا فِدَاكَ سَمِعْنَاكَ وَأَنْتَ تَقُولُ كَذَا وَكَذَا فِي أَمْرِ جَارِيَتِكَ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّكَ تَعْلَمُ عِلْماً كَثِيراً، وَلَا نَنْسُبُكَ إِلَى عِلْمِ الْغَيْبِ. قَالَ فَقَالَ: يَا سَدِيرُ أَلَمْ تَقْرَأ الْقُرْآنَ؟ قُلْتُ : بَلَى . قَالَ : فَهَلْ وَجَدْتَ فِيمَا قَرَأْتَ مِنْ كِتَابِ الله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ﴾(1)؟ قَالَ قُلْتُ : جُعِلْتُ فِدَاكَ قَدْ قَرَأْتُهُ. قَالَ: فَهَلْ عَرَفْتَ الرَّجُلَ؟ وَهَلْ عَلِمْتَ مَا كَانَ عِنْدَهُ مِنْ عِلْمِ الْكِتَابِ؟ قَالَ قُلْتُ: أَخْبِرْنِي بِهِ. قَالَ : قَدْرُ قَطْرَةِ مِنَ الماءِ فِي الْبَحْرِ الْأَخْضَرِ ، فَمَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ عِلْمِ الْكِتَابِ؟ قَالَ قُلْتُ : جُعِلْتُ فِدَاكَ، مَا أَقَلَّ هَذَا ؟ فَقَالَ : يَا سَدِيرُ مَا أَكْثَرَ هَذَا أَنْ يَنْسُبَهُ الله - عَزَّ وَجَلَ - إِلَى الْعِلْمِ الَّذِي أُخْبِرُكَ بِهِ يَا سَدِيرُ فَهَلْ وَجَدْتَ فِيمَا قَرَأْتَ مِنْ

ص: 566


1- النمل: 40 .

كِتَابِ الله - عَزّ وَجَلَّ - أَيْضاً: ﴿ قُلْ كَفى بِالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ ﴾(1)؟ قَالَ قُلْتُ : قَدْ قَرَأْتُهُ جُعِلْتُ فِدَاكَ. قَالَ: أَفَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمٌ الْكِتَابِ كُلُّهُ أَفْهَمُ أَمْ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ بَعْضُهُ؟ قُلْتُ: لَا ، بَلْ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ كُلُّهُ. قَالَ: فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى صَدْرِهِ وَقَالَ: عِلْمُ الْكِتَابِ وَالله عِنْدَنَا، عِلْمُ الْكِتَابِ وَالله كُلُّهُ عِنْدَنَا»(2).

يتبين لنا من هذا النص بوضوح تام أن الإمام(علیه السّلام)كان يراعي القدرة الاستيعابية لدى المخاطب، ويوازن ما بين العامة والخاصة من شيعته وأصحابه.

ج - نفي العلم الاستقلالي دون التبعي:

أما الوجه الثالث في تفسير الروايات النافية لعلم الأئمة الأطهار(علیهم السّلام)بالغيب، فهو أن مراد الأئمة من هذا النفي هو علم الغيب الاستقلالي، بمعنى أن يدعي الأئمة علمهم بالغيب من عندهم ومن دون عناية أو إذن من الله سبحانه وتعالى، فهذا النوع من العلم هو المنفي في الروايات المأثورة عن الأئمة الأطهار(علیهم السّلام)في هذا الشأن، وحتى علم النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)كان علماً تبعياً يتنزل عليه برعاية وعناية من السماء ومخزون العلم الإلهي، وإن قول الله تعالى على لسان النبي الأكرم: ﴿ قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلا مَا شَاءَ الله وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنْ الخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾(3)، إنما ينفي عنه هذا النوع من العلم الاستقلالي بالغيب دون العلم الذي يفتحه الله عليه .

ص: 567


1- الرعد: 43 .
2- الكليني، الكافي، ج 1 ، ص 257 .
3- الأعراف: 188 .

ولحسن الحظ فقد جاء بيان التفريق بين هذين النوعين من علم الغيب في الروايات المأثورة عن الأئمة الأطهار(علیهم السّلام)، ومن ذلك الرواية التي تقدمت الإشارة إليها في بيان بعض المغيّبات على لسان الإمام علي(علیه السّلام)، وإليك تفصيلها من كتاب نهج البلاغة:

«يَا أَحْنَفُ، كَأَنِّي بِهِ وَقَدْ سَارَ بِالْجُيْشِ الَّذِي لَا يَكُونُ لَهُ غُبَارٌ وَلَا تَجَبٌ، وَلَا قَعْقَعَةُ مُجمٍ، وَلَا حَمْحَمَةٌ خَيْلٍ، يُثِيرُونَ الْأَرْضَ بِأَقْدَامِهِمْ كَأَنَّهَا أَقْدَامُ النَّعَامِ ... ثم قال(علیه السّلام): وَيْلٌ لِسِكَكِكُمُ الْعَامِرَةِ، وَدُورِكم المُزَخْرَفَةِ الَّتِي لَهَا أَجْنِحَةُ

لا كَأَجْنَحَةِ النُّسُورِ، وَخَرَاطِيمُ كَخَرَاطِيمِ الْفِيَلَةِ، مِنْ أُولئِكَ الَّذِينَ لَا يُنْدَبُ قَتِيلُهُمْ، وَلاَ يُفْقَدُ غَائِبُهُمْ. أَنَا كَابُّ الدُّنْيَا لِوَجْهِهَا، وَقَادِرُهَا بِقَدْرِهَا، وَنَاظِرُهَا بِعَيْنِهَا ... كَأَنِّي أَرَاهُمْ قَوْماً كَأَنَّ وَجُوهَهُمُ المَجَانُ المُطَرَّقَةُ، يَلْبَسُونَ السَّرَقَ وَالدِّيباج، وَيَعْتَقِبُونَ الْخَيْلَ الْعِتَاقَ، وَيَكُونُ هُنَاكَ اسْتِحْرَارُ قَتْلِ، حَتَّى يَمْشِيَ المَجْرُوحُ عَلَى المُقْتُولِ، وَيَكُونَ الْمُفْلِتُ أَقَلَّ مِنَ المَأْسُورٍ! فقال له بعض أصحابه: لقد أعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب! فضحك(علیه السّلام)، وقال للرجل - وكان كلبياً: يَا أَخَا كَلْبِ، لَيْسَ هُوَ بِعِلْمٍ غَيْبٍ، وَإِنَّمَا هُوَ تَعَلُّمٌ مِنْ ذِي عِلْمٍ، وَإِنَّمَا عِلْمُ الْغَيْبِ عِلْمُ السَّاعَةِ»(1).

ثم أردف الإمام علي(علیه السّلام)قائلاً: «فَهذَا عَلْمُ الْغَيْبِ الَّذِي لاَ يَعْلَمُهُ أَحَدٌ إِلا اللهُ، وَمَا سِوَى ذلِكَ فَعِلْمٌ عَلَّمَهُ اللهُ نَبِيَّهُ فَعَلَّمَنِيهِ، وَدَعَا لِي بِأَنْ يَعِيَهُ صَدْرِي، وَتَضْطَمَّ عَلَيْهِ جَوَانِحِي»(2).

ص: 568


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 128؛ ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، ج 8، ص 215 .
2- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 128 .

د - نفي العلم الفعلي دون مطلق العلم:

المسألة الأخرى التي تستنتج من بعض الروايات هي أن الأئمة الأطهار(علیهم السّلام)لا يحيطون بجميع الأمور والعلوم بشكل فعلي، وإنما يعلمون ذلك إذا أرادوا بتعليم من الله. وهذا ما يظهر جلياً من سؤال عمار الساباطي الإمام الصادق(علیه السّلام)عن علم الغيب، فقال له الإمام(علیه السّلام): «لَا وَلَكِنْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَعْلَمَ الشَّيْءَ أَعْلَمَهُ الله ذَلِكَ»(1).

الشبهة الرابعة: عدم اعتبار علم الغيب في الإمام والإمامة:

اشارة

إن الذين تنزلوا بمقام الإمامة والإمام إلى مستوى الحاكم أو إلى مجرد عالم في الدين، يطرحون شبهة حول اعتبار علم الغيب في الإمام والإمامة، حيث قالوا بعدم اشتراط علم الغيب أو العلم اللدني في مقام الإمامة وشخص الإمام. وقد كان أهل السنة منذ البداية - طبقاً للتعريف الذي يقدمونه للإمام والإمامة، على ما مر بيانه في الفصل الأول من هذا الكتاب - من المنكرين للعلم اللدني بالنسبة إلى الأئمة. وقد عاد تداول هذه الشبهة بين بعضهم في الآونة الأخيرة، حيث يتمسكون بمقتطفات من الروايات والكلمات المروية عن الأئمة الأطهار(علیهم السّلام)، ومن بينها كلمات أمير المؤمنين في نهج البلاغة، من قبيل قوله: «أَمَا وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ ، وَبَرَأَ النَّسَمَةَ لَوْلاَ حُضُورُ الْحَاضِرِ ، وَقِيَامُ الْحُجَّةِ ، بِوُجُودِ النَّاصِرِ، وَمَا أَخَذَ اللَّهُ عَلَى العُلَمَاءِ أَلا يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِمٍ، وَلا سَغَبِ مَظْلُومِ، لَأَلْقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا، وَلَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسٍ أَوَّلِها»(2). ليثبتوا

ص: 569


1- الكافي، ج 1، ص 258 ، باب أن الأئمة إذا شاؤوا علموا.
2- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 3.

بذلك أن الإمام علي(علیه السّلام)لم يكن سوى عالم دين، إذ إنّه يعرف نفسه في هذه الكلمات بوصفه مصداقاً ل_ العلماء»، وهذا يتنافى مع اعتبار اشتراط علم الغيب في الإمامة.

وقد ذكر الشيخ محسن كديور مستنداً إلى هذه الفقرة من نهج البلاغة: «إن الامام علياً(علیه السّلام)يعرف نفسه في هذه الكلمة بأنه سيّد العلماء ... إنّ الإمام علياً(علیه السّلام)في نهج البلاغة بدلاً من أن يعرف نفسه بامتلاكه لعلم الغيب (كما يحلو للمتكلمين أن يصفوه بهذه الصفة)، يتحدث عن العهد الذي أخذه الله على العلماء، ونحن نؤمن بأن الإمام علياً(علیه السّلام)هو أعلم العلماء إن بحثنا يدور حول ما إذا كان «علم الغيب» شرط في الإمامة أم لا؟ وعلى أي حال فإن أصل علمه بالغيب ليس محور بحثنا، وإنما الذي يشكل محور بحثنا هو شرطيته في الإمامة»(1).

نقد ورأي:

في معرض نقد هذه الشبهة لا بد من التذكير بالأمور الآتية:

أ - التنزل بمقام الإمامة إلى مستوى الحاكم والفرد العادي:

تقدم أن ذكرنا - في الفصل الأول في معرض تعريف الإمامة بالتفصيل - أن أهل السنة قد نظروا إلى موضوع الإمامة بنظرة سطحية، وقد تنزلوا بمقام الإمام إلى مستوى الحاكم الديني، ومن ثم إلى مجرد العالم والمجتهد الذي يجوز عليه الخطأ. أما الإمامية فقد استلهموا من آيات القرآن الكريم، من قبيل الآية

ص: 570


1- محسن كديور، مجلة مدرسة، العدد: 3، ص 95 ، بتاریخ: شهر اردیبهشت 1385 هش.

التي تثبت رفع الله سبحانه للنبي إبراهيم الخليل(علیه السّلام)إلى مستوى الإمامة بعد أن أعطاه النبوة(1)،ليجعلوا شأن الإمامة مساوياً لشأن النبوّة أو أعلى منها، ولمّا كان الإمام علي(علیه السّلام)وسائر الأئمة الأطهار(علیهم السّلام)قد انتخبوا لمنصب الإمامة من قبل النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)،فإنهم سيكونون قد تحلوا بالضرورة بصفات الإمام وحالاته، هذا فضلاً عن أن الروايات النبوية قد صرحت بالصفات العليا للإمام على(علیه السّلام)، من قبيل: العصمة، والعلم اللدني أيضاً.

ب - مخالفة الروايات:

ربما أمكن القول هنا إن لازم ما تقدّم من القول بالتنزل بمقام الإمامة إلى مستوى الفرد العادي، هو ما يدعيه المنكرون ويلتزمون به، وفي هذه الحالة يرد إشكال آخر على هذه الشبهة، وهو أنه لا بد من تحديد المعيار والملاك في تعريف الإمام والإمامة والشرائط والصفات الداخلة والمؤثرة فيهما.

فهل يمكن لكل شخص أن يعرف الإمام وصفاته وينكر الصفات الأخرى كما يحلو له؟

نقول لأصحاب هذه الشبهة والمخالفين لصفات من قبيل: العلم اللدني والعصمة: إننا في تعريف الإمام والإمامة يجب أن نرجع إما إلى القرآن والروايات المأثورة عن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)والأئمة المعصومين(علیهم السّلام)أنفسهم، أو أن نتعرف على حقيقة الإمامة من خلال توظيفنا للتحليل العقلي. وبعبارة أخرى: إن الطريق إلى كشف حقيقة الإمام والإمامة من خلال مقام النقل أو العقل.

ص: 571


1- انظر: البقرة: 124 .

أما إذا دخلنا من قناة العقل، فقد ذكرنا في الفصل الأول في معرض الحديث عن فلسفة الإمامة أن المجتمع الإسلامي بحاجة ماسة ومبرمة لإمام يتمتع بصفات العصمة والعلم اللدني في عصر ما بعد رحيل خاتم الأنبياء(صلی الله علیه و آله و سلم)، كيما تواصل شجرة الإسلام الفتية نموها وتقدمها وازدهارها. كما كان هناك بعض التوضيحات في نقد شبهة أفضلية الإمامة على النبوة في الفصل الثاني. وقد ذكرنا مفصلاً في الصفحات السابقة أن علم الغيب من لوازم الولاية الباطنية والعصمة وكون الإمام حجة إلهية.

وأما إذا أردنا بحث اعتبار الصفات الخاصة (العلم اللدني والعصمة) في الإمامة من خلال النقل، فيجب القول: هناك لحسن الحظ كثير من الروايات الواردة في هذا الشأن. إن القول بعدم ورود هذه الصفات في النصوص الروائية،

والقول بأنها من مبتدعات المتكلمين فى القرن الهجري الثالث - على ما تقدم في الصفحات السابقة - ناشئ عن الجهل والغفلة عن الروايات، وفيما يأتي نشير إلى بعض الروايات الواردة في هذا المعنى على سبيل التمثيل دون الحصر:

- عن الإمام زين العابدين وسيد الساجدين(علیه السّلام)في رواية مطولة يثبت فيها الصفات الاستثنائية والخاصة بالإمامة والأئمة(علیهم السّلام)، إذ يقول: «نحن أئمة

المسلمين، وحجج الله على العالمين، وسادة المؤمنين وقادة الغر المحجلين، وموالي المؤمنين، ونحن أمان أهل الأرض كما أن النجوم أمان لأهل السماء، ونحن الذين بنا يمسك الله السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، وبنا يمسك الأرض أن تميد بأهلها، وبنا ينزل الغيث، وبنا ينشر الرحمة، ويخرج بركات الأرض، ولولا ما في الأرض منا لساخت بأهلها»(1).

ص: 572


1- العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 23، ص 5.

- وعن الإمام الرضا(علیه السّلام)في تعريف الإمام، قال: «الإمام المخصوص بالعلم ... الإمام واحد دهره لا يدانيه أحد، ولا يعادله عالم، ولا يوجد منه بدل ولا مثل ولا نظير مخصوص بالفضل كله من غير طلب منه له ولا اكتساب، بل اختصاص من المفضل الوهاب ... الإمام عالم لا يجهل، وأودع قلبه ينابيع الحكمه وألهمه العلم إلهاماً»(1).

إن الإمام (علیه السّلام)في هذه الرواية بصدد التعريف والتشريح الدقيق والتخصصي لحقيقة الإمام وماهيّته ومقام الإمامة، وقد تم التصريح في مستهل الرواية أن الإمامة من حيث علوّ شانها ومنزلتها أكبر وأجلّ من أن تدرك كنهها وحقيقتها عقول البشر. يصف الإمام في هذه الرواية علم الإمام بأنه علم خاص ليس له نظير، بل لا يمكن لأيّ عالم أن يقترب أو يدنو منه. إن علم الإمام لا يتطرق إليه الشك. ومن ثَمَّ فإن علم الإمام إن هو إلا تفضّل من الله اختص به الأئمة وألهمه إليهم إلهاماً .

وعليه هل يمكن القول بعد هذا أن الأئمة لم يستخدموا الصفات الميتافيزيقية وما فوق البشرية في وصف أنفسهم؟! وهل يمكن القول بأن علم الإمام هو مثل سائر العلوم الاعتيادية، وإن الإمام واحد من بين سائر العلماء الآخرين، غاية ما هنالك أنه أعلمهم ؟! هل هذا الكلام حري بأن يصدر من محقق؟ وهل هو ينسجم مع منزلة الأئمة الأطهار(علیهم السّلام)؟!

وأما كلام الإمام علي(علیه السّلام)في نهج البلاغة في خصوص أخذ الله العهد من العلماء والذي يقول فيه : «أَمَا وَالَّذِي فَلَقَ الحَبَّةَ ، وَبَرَأَ النَّسَمَةَ ، لَوْلاَ حُضُورُ

ص: 573


1- انظر: عيون أخبار الرضاء(علیه السّلام)، ج 2، ص 6- 195.

الْحَاضِرِ ، وَقِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ ، وَمَا أَخَذَ اللَّهُ عَلَى العُلَمَاءِ أَلأَيْقَارُوا عَلَى كِظَلَّةِ ظَالِمٍ، وَلا سَغَبِ مَظْلُوم»(1). وتطبيقه على الإمام علي(علیه السّلام)نفسه؛ فيجب القول فيه : إن الإمام هنا بصدد بيان فلسفة القبول بتولي مقاليد الحكم، والقول بأن تولي السلطة والدفاع عن حقوق الجياع والوقوف مع المظلومين بوجه الظالمين، لا يقتصر على «الإمام» فقط، وإنما هو واجب على جميع العلماء،ولذلك لا يمكن الاستناد إلى هذا الكلام والقول بأن الإمام على(علیه السّلام)كان بصدد تعريف الإمامة بالعلم فقط. إن هذا النوع من الاستدلال يذكرنا بالمثل القائل: «إن الغريق يتشبّث بكل حشيش». وإلى ذلك لنا أن نسأل صاحب هذه الشبهة : لماذا تجاهلت الروايات والنصوص الأخرى الواردة عن الإمام علي(علیه السّلام)نفسه والتي يذكر فيها الصفات الخارقة التي يتمتع بها والتي لا يمكن للإنسان الاعتيادي أن يتصف بها؟! ومن ذلك حيث يشتكي من تجاهل الصحابة وأبناء عصره لمقام الإمامة وحقيقتها وأصلها الواردة في القرآن الكريم. ومن ذلك قوله:

«قَدْ عَمِلَتِ الْوُلَاةُ قَبْلِي أَعْمَالَا خَالَفُوا فِيهَا رَسُولَ الله(صلی الله علیه و آله و سلم)، مُتَعَمِّدِينَ لخلافِهِ، نَاقِضِينَ لِعَهْدِهِ، مُغَيّرِينِ لِسُتَّهِ . وَلَوْ حَمَلْتُ النَّاسَ عَلَى تَرْكِهَا وَحَوَّلْتُهَا إِلَى مَوَاضِعِهَا وَإِلَى مَا كَانَتْ فِي عَهْدِ رَسُولِ الله(صلی الله علیه و آله و سلم)، لَتَفَرَّقَ عَنِّي جُنْدِي حَتَّى أَبْقَى وَحْدِي أَوْ قَلِيلٌ مِنْ شِيعَتِيَ الَّذِينَ عَرَفُوا فَضْلِي وَفَرْضَ إِمَامَتِي مِنْ كِتَابِ الله عَزَّ وَجَلَّ وَسُنَّةِ رَسُولِ الله »(2).

وعشرات بل مئات الروايات الأخرى التي تحدث فيها الإمام علي(علیه السّلام)

ص: 574


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 3.
2- الكافي، ج 8، ص 59 .

عن خلقته الخاصة، واتحاد روحه بروح النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)، والتي تحدث فيها عن حقيقة أصل التنصيب.

ج - عدم الانسجام مع فلسفة الإمامة:

لو نفينا العلم اللدنّي والإلهي عن الأئمة الأطهار(علیهم السّلام)، وتنزلنا بهم إلى مستوى العلماء الأبرار - الذين لا يتجاوز علمهم العلم البشري العادي - فإن مثل هذه الرؤية إلى الإمامة سوف تمثل تجاهلاً لفلسفة الإمامة. وقد أشرنا في الفصل الأول بالتفصيل - في معرض بيان فلسفة الإمامة وتقريرها - إلى شؤون مثل الهداية، والمرجعية الدينية، وتشريع الأحكام الفرعية، وتحقيق هذه الأمور رهن باتصاف الإمام وتمتعه بالعلم الإلهي الخاص. ولمزيد من التوضيح راجع الفصل الأول.

الشبهة الخامسة: عدم انسجام علم الغيب مع بعض أفعال الأئمة الأطهار(علیهم السّلام):

اشارة

لو قلنا بالصفات ما فوق البشرية للأئمة الأطهار(علیهم السّلام)، من قبيل: العلم بالغيب في جميع الأمور وجزئيات الأحداث في الماضي والمستقبل، فإننا سنواجه عجزاً في تبرير وتفسير بعض أفعال وأعمال الأئمة الأطهار بحسب الظاهر. مثل توجّه الإمام علي(علیه السّلام)إلى مسجد الكوفة، مع أن الفرض يقضي بأنه يجب أن يعلم - عن طريق علم الغيب - أنه سيتعرض لعملية اغتيال سينفذها ابن ملجم المرادي.

وكذلك الأمر بالنسبة إلى إرسال الإمام الحسين(علیه السّلام)سفيره مسلم بن عقيل إلى الكوفة، وكذلك خروجه إلى كربلاء رغم علمه - بحسب الفرض -

ص: 575

أن ذلك سيقوده وسيقود ابن عمه إلى القتل والشهادة.

ومن سنخ هذه الشبهة شبهة تناول الأئمة الأطهار(علیهم السّلام)للسم، وقد كان أكثرهم قد تمت تصفيته من قبل الخلفاء بدس السم إليهم في الطعام.

مناقشة وتحليل:

إن بحث موضوع علم الأئمة(علیهم السّلام)بالغيب في حد ذاته يحتاج إلى كتاب مستقل، ولكننا سنكتفي هنا بذكر بعض الأمور باختصار لغرض الإجابة عن هذه الشبهة:

أ - الآراء المختلفة بشأن علم الإمام بالغيب:

تقدّم أن أشرنا إلى أن الشيعة يذهبون إلى اعتبار أصل علم الإمام بالغيب شرطا في الإمام في الجملة وليس بالجملة، ولكن هل الأئمة بالإضافة إلى الأحكام والتعاليم الدينية يعلمون بالغيب في كل ما يتعلق بأمور العالم الأعم من الماضي والمستقبل، وذلك بشكل مطلق وعام وبجميع الأمور الجزئية والكلية وعلى نحو فعلي؟ أولاً: إن هذا النوع من العلم ليس شرطاً في تحقق الإمامة. وثانياً : إن بعض علماء الإمامية رفضوا ذلك، وأضافوا له بعض القيود، و حاصل ذلك تعدد الآراء والأقوال في هذا الشأن، ويمكن بيان هذه الأقوال على النحو الآتي:

1 - علم الغيب المطلق والفعلي بلوح المحو والإثبات واللوح المحفوظ.

2 - علم الغيب المطلق والفعلي بلوح المحو والإثبات فقط.

3 - علم الإمام بالغيب منوط بطلبه من الله.

4 - نظرية توقف علم الأئمة بجزئيات الأمور إلى الأئمة الأطهار

ص: 576

أنفسهم(1).

يمكن طرح أصل الشبهة بناء على القول بالرأي الأول والثاني. وأما بناء على الرأي الثالث، فإن الإمام لا يعلم بأحداث الماضي والمستقبل بالفعل، وإنما تنفتح عليهم أبواب العلم بالغيب من خلال طلبهم ذلك من الله واستجابة الله لهم، وليس من اللازم أن يطلب الأئمة علماً إلهياً خاصاً لكل أمر ، ومن هنا يُحتمل أن تكون الموارد المذكورة في الشبهة هي من الأمور التي لم يطلب الأئمة علمها من الله، وبذلك يرتفع أصل الإشكال.

ب - محاذير العمل بعلم الغيب:

على الرغم من علم الأئمة الأطهار(علیهم السّلام)بالغيب وأحداث وأعمال الناس وتصرفاتهم، كان الأئمة مكلفين بالعمل على طبق علمهم الظاهري والعادي، وإلا لزم من ذلك اختلال الأمور، وفيما يأتي نشير إلى بعض المحاذير المترتبة على عمل الأئمة على طبق علمهم بالغيب:

1 - لو لزم ترتيب الآثار على علم الأئمة بالغيب، وخاصة الإمام على(علیه السّلام)الذي تمكن من ممارسة الحكم، للزم من ذلك أن يُبادر الإمام في الحد الأدنى إلى أن يزج في السجن كل من علم بأنه سوف يقترف اليوم أو في المستقبل جريمة مثل: السرقة أو الزنا أو القتل وما إلى ذلك، وذلك للحيلولة دون وقوع الجرم. وفي هذه الصورة كان يتعين على الإمام علي(علیه السّلام)أن يزج كثيراً من الناس في السجن على أمور لم يرتكبوها بعد، ولا يخفى ما في ذلك

ص: 577


1- للتعرّف على القائلين بهذا الرأي، انظر: الصافي الگلبایگانی، شهید آگاه؛ وكتابنا: كلام فلسفي، مقال: علم الإمام الحسين(علیه السّلام)باستشهاده.

من المحاذير المضرة بالمجتمع والحكومة والسلطة الدينية على السواء.

وفيما يتعلق بهذا النوع من ترتيب الآثار على علم الأئمة بالغيب يتمّ طرح سؤال جديد، وهو أيّ الأفراد الذين سيرتكبون المعصية في المستقبل سيتم حبسهم؟ هل أولئك الذين سيركتبون الجرم غداً، فيتم إلقاء القبض عليهم اليوم؟ أم حيث أن علم الإمام بالغيب مطلق ويشمل حتى آخر يوم من حياة الأفراد، يتم القبض على جميع الذين سيرتكبون الذنوب حتى بعد خمسين سنة؟ فهل يمكن تصور إمكان هاتين الفرضيتين؟

2 - إن هذا النوع من المواجهة مع المذنبين والعصاة، ينافي أصل القول باختيار الإنسان. ذلك لأن بلوغ الإنسان مقام الخلافة الإلهية إنما يتم من خلال الابتعاد عن الذنوب واجتناب المعاصي عن حرية واختيار. وأما بناء على الفرض المذكور فإن الناس سيبتعدون عن ارتكاب الذنوب بسبب علم الإمام بالغيب وما ينتظرهم من العقوبة المعجّلة، ومثل هذا الأمر لا يستحق عليه الإنسان أن يكون خليفة الله .

3 - إن مثل هذا التعامل مع من يفترض فيه علم الإمام بأنه سيقترف الذنب، قد يحمله على الاعتراض والقول إنه ربما ندم في المستقبل على ما اقترفت يداه وأنه سيتوب إلى الله توبة نصوحاً، ولا يمكن لعلم الإمام الغيبي أن يكون مقنعاً بالنسبة له في الحد الأدنى.

4 - إن معاقبة المذنبين سيشمل الاعتياديين من الناس والأصحاب المقربين وحتى المسؤولين في سلك الدولة، وفي هذه الحال فإن انكشاف أمرهم وفضحهم وزجهم في السجون سيضعف جبهة الإمام والمسؤولين في حكومته الدينية.

ص: 578

5 - والمشكلة الأخرى تكمن فيما يتعلق بأولئك الذين ارتكبوا المعاصي والذنوب في السابق، فيلزم من ذلك أن يعمل الإمام على حبس أعداد غفيرة من الناس ومعاقبتهم.

6 - يضاف إلى المشاكل والمحاذير السابقة المذنبين الذين يسكنون في المدن النائية، فكيف للإمام والحاكم الدينى أن يجمعهم ويسجنهم؟ فعلى سبيل المثال هل يعمد الإمام إلى إعداد قائمة في كل يوم بأسماء الذين سيقترفون الذنوب غداً ويرسلها إلى جميع عماله في الأمصار ليقوموا بإلقاء القبض عليهم؟! وهل يجب أن تتضمن القائمة عناوينهم الدقيقة كي لا يفلت منهم أحداً؟ إذا كان الأمر كذلك، سوف لا يكون لدى الإمام من مهام سوى إعداد هذه القوائم. فهل يكون ذلك عملياً؟ أليس للإمام من شأن ومنزلة غير الإنشغال بهذه السفاسف؟!

7 - وأما إذا قيل: إن على الإمام أن يرتب الآثار فيما يتعلق بعلمه بالغيب على الأمور الخاصة به فقط، كأن يسارع الإمام علي(علیه السّلام) - مثلاً - إلى إلقاء القبض على قاتله عبد الرحمن بن ملجم، فلا بد من القول في هذا الشأن:

أ - يمكن لابن ملجم أن ينكر إضماره هذه النية الغاشمة.

ب - هل يمكن اعتقال شخص لمجرد الاستناد إلى علم الإمام بالغيب؟ فإذا كان الجواب بالإيجاب، فما هي المدة التي يجب أن يقضيها في السجن؟ في المحاكم الاعتيادية حيث لا يكون هناك علم بما يضمره المرء في خبيئته، يتم الحكم عليه لفترة من الزمن ثم يُطلق سراحه، أما بالنسبة إلى الإمام حيث يقوم الفرض على أنه يعلم الغيب ويعلم بالنوايا الفاسدة التي تنطوي عليها صدور الناس، ويعلم عدم توبة أمثال ابن ملجم، فعليه أن يسجن كثيراً من الناس

ص: 579

ويحكم عليهم بالحبس المؤبد؟ وعلاوة على الشخص المنفذ نفسه ألا يجب اعتقال المتواطئين معه وقدموا له المساعدة لتحقيق غايته الدنيئة؟!

ج - يمكن للمعتقل أو المعتقلين أن يدعوا احتمال توبتهم، وعدم قيامهم بما كانوا بصدد القيام به في اللحظة الأخيرة. وعليه هل يمكن عندها هل يصح التمسك بعلم الغيب دليلاً دامغاً لإدانة المتهمين في المحاكم القضائية، وهل يمكن اعتماد هذا الدليل للحكم عليهم بالقصاص أو الحبس المؤبد أو المؤقت؟

د - مضافاً إلى القاتل، هل يجب على الإمام أن يُلقي القبض على الذين يسعون أو يهمون بإلحاق أنواع الضرر بالإمام، من قبيل: الجرح في الحرب، والاتهام وأنواع الإيذاء الأخرى أيضاً؟ عندها سيكون عدد المعتقلين كثيراً جداً!

ه_ - لو اقتصر الإمام على معاقبة الخاطئين بحقه الخاص والشخصي فقط استناداً لعلمه الغيبي، عندها يحق للمجتمع أن يعترض على الإمام ويقول له: ما هذه المحاباة، إذ تعاقب من يضمرون السوء لك، ولا تعاقب الذين يضمرون الشرِّ للأمة وابنائها والذين يعبثون بقوت الناس وبيت المال؟!

شبهة علم الإمام الحسين(علیه السّلام)بالغيب:

فيما يتعلق بإرسال الإمام الحسين(علیه السّلام)سفيره مسلم بن عقيل إلى الكوفة، وتوجهه شخصيّاً إلى كربلاء، يمكن القول: إنه(علیه السّلام)كان مأموراً بالعمل بحسب العلم الظاهري، ولم يكن بإمكانه تجنّب إرسال مسلم أو يمتنع عن التوجه إلى كربلاء استناداً إلى علم الغيب؛ إذ إنّ أهل الكوفة - في مثل هذه الحالة - سوف يسجلون موقفهم وشهادتهم للتاريخ بأنهم رغم استعدادهم

ص: 580

لإقامة الحكومة الدينية وإرسال الرسائل والكتب العديدة إلى الإمام الحسين بهذا الشأن للقدوم إليهم وتولي قيادة ثورتهم، إلا أنه لم يستجب لدعوتهم وندائهم، وسوف يُتهم الإمام - والعياذ بالله - بأنه خاف على نفسه وعلى أسرته؟

في حالة ترتيب الآثار على علم الغيب سيعمد المؤرخون من أهل السنة وغير المسلمين من الذين لا يعترفون بعلم الغيب للإمام، سيرسمون صورة سلبية عن الإمام، ولما تم الحصول على كل النتائج والآثار المباركة لثورة كربلاء. وعليه فقد أدرك الإمام الحسين(علیه السّلام)أن مصلحته ومصلحة المجتمع تكمن في عدم ترتيب الآثار على علمه بالغيب.

تناول الأئمة(علیهم السّلام)للسم:

وأما فيما يتعلق بشبهة تناول الإمام للطعام المسموم، فيجب القول: إن الإمام رغم علمه بكون الطعام مسموماً، ولكنه حيث كان مكرهاً على تناوله، لم يكن له بد من تناوله.

مضافاً إلى أنه لو أصرّ على عدم تناول السم، فإن الخليفة والحاكم كان يقتله بطريقة أخرى، فرأى الإمام أن المصلحة في أن يكون استشهاده بتناول السم. وإن كان السرّ في ذلك خافياً علينا. وربما أمكن القول مثلاً: إن اختيار الإمام هذه الطريقة لاغتياله من قبل الحاكم، لأنها تنطوي على شيء من التكتم، وعدم افتضاح أمر الحاكم وجريمته النكراء، ولما كان الحاكم إنما يختار هذه الطريقة في التخلّص من الإمام(علیه السّلام)، فإنه سوف يستمر في الحفاظ على الشكليات الظاهرية، فلا يتعرّض لأتباعه وأسرته، بمن فيهم ابن الإمام(علیه السّلام) -

ص: 581

الذي سيتولى مقاليد الإمامة بعده - ويوفر لهم الحماية، أو أن لا يظهر العداء لهم علناً في الحد الأدنى. الأمر الذي يوفر الأرضية المناسبة لاستمرار حياة الشيعة في الوسط المخالف.

حمل الاعتراف والأعمال المخالفة لعلم الغيب على العلم الظاهري:

اتضح مما تقدم، كما تم التأكيد أيضاً على أن الأئمة(علیهم السّلام)كانوا يعملون بمقتضى علمهم الاعتيادي والظاهري. وعلى هذا الأساس لو اعترف الأئمة أنفسهم في بعض الروايات بعدم علمهم بأمور من قبيل: موضع اختباء العدو (1)، أو الموضع الذي أختبأت فيه الجارية(2)، أو الاعتماد على صلاح الأشخاص بحسب الظاهر(3)، أمكن تفسير ذلك وحمله على القاعدة السابقة، والقول بأن الأئمة فى هذه الموارد بصدد العمل على طبق علمهم الظاهري، وإن الأئمة طبقاً لعلمهم العادي والظاهري لم يكونوا يعلمون بموضع اختباء العدو أو الجارية أو معرفة الأشخاص على حقيقتهم، رغم علمهم بجميع ذلك بواسطة علمهم الغيبي.

وفي تأس أييد هذا القول يمكن الإشارة إلى قضية إرسال أبي موسى الأشعري بوصفه حكماً وممثلاً من قبل الإمام علي في قضية التحكيم المشهورة بعد حرب صفين للتفاوض مع عمرو بن العاص، حيث تنبأ الإمام بأن عمراً سيخدعه، فقال: «وكأني به وقد خُدع». وهنا قام أحد أصحابه (ويدعى عبد

ص: 582


1- انظر: ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، ج 3، ص 132.
2- انظر الكليني، الكافي، ج 1 ، ص 257 .
3- انظر: نهج البلاغة، الكتاب رقم: 72.

الله ابن أبي رافع) حيث لم يستوعب عدم ترتيب الإمام لأثر علمه بالغيب؛ فسأل الإمام عن سبب إرساله أبي موسى الأشعري رغم علمه بأنه سينخدع، فأشار الإمام في جوابه إلى فلسفة إرسال الله سبحانه وتعالى للرسل والأنبياء والسفراء إلى الناس. إن الله رغم علمه الأزلي بأن قوم يونس وغيرهم من الأمم الأخرى مثلاً سوف لا يؤمنون وأنهم سيتعرضون للعذاب الدنيوي، إلا أنه مع ذلك لم يرتب الآثار على علمه الأزلي، وأرسل إليهم الرسل ليتم الحجة عليهم. وإليك بيان هذه الرواية على لسان ابن أبي رافع نفسه:

«عن عبد الله بن أبي رافع قال حضرت أمير المؤمنين(علیه السّلام)وقد وجه أبا موسی الأشعري، فقال له : أحكم بكتاب الله ولا تجاوزه، فلما أدبر قال: كأني به وقد خدع، قلت: يا أمير المؤمنين فلم توجهه وأنت تعلم أنه مخدوع؟ فقال(علیه السّلام): يا بني لو عمل الله في خلقه بعلمه ما احتج عليهم بالرسل»(1).

أما المؤيد الآخر نراه في الحديث الذي يُصرّح فيه الإمام الصادق(علیه السّلام)بعدم علمه بموضع اختباء جاريته. إذ قال سدير الصيرفي بعد ذلك: فَلَمَّا أَنْ قَامَ مِنْ تَجْلِسِهِ وَصَارَ فِي مَنْزِلِهِ دَخَلْتُ أَنا وَأَبُو بَصِيرٍ وَمُيَسِّر، وَقُلْنَا لَهُ: جُعِلْنَا فِدَاكَ سَمِعْنَاكَ وَأَنتَ تَقُولُ كَذَا وَكَذَا فِي أَمْرِ جَارِيَتِكَ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّكَ تَعْلَمُ عِلْا كَثِيراً، وَلَا نَنْسُبُكَ إِلَى عِلْمِ الْغَيْبِ. قَالَ فَقَالَ: يَا سَدِيرُ أَلَمْ تَقْرَأ الْقُرْآنَ؟ قُلْتُ: بَلَى . قَالَ : فَهَلْ وَجَدْتَ فِيمَا قَرَأْتَ مِنْ كِتَاب الله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ﴾(2)؟ قَالَ قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ قَدْ قَرَأْتُهُ. قَالَ: فَهَلْ عَرَفْتَ الرَّجُلَ؟ وَهَلْ عَلِمْتَ مَا كَانَ عِنْدَهُ

ص: 583


1- محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 41 ، ص 310؛ المناقب، ج 2، ص 261.
2- النمل: 40 .

مِنْ عِلْمِ الْكِتَابِ؟ قَالَ قُلْتُ: أَخْبِرْنِي بِهِ. قَالَ: قَدْرُ قَطْرَةٍ مِنَ الْمَاءِ فِي الْبَحْرِ الْأَخْضَرِ».يتضح من تتمة هذا الحديث أن إنكار الإمام لعلمه بالغيب في بداية الحديث كان بداعي رعاية مقتضى حال المخاطبين، وإلا فإن خاتمة الحديث سوف تتهافت مع بدايته(1).

الشبهة السادسة: عدم توظيف الأئمة(علیهم السّلام)لصفاتهم الخارقة في التعريف بأنفسهم

هناك من الذين ينكرون الصفات ما فوق البشرية للأئمة(علیهم السّلام)من يسعى إلى القول بأن الأئمة أنفسهم لم يقولوا بأنهم مصداق لمثل هذه الصفات، ولم يستفيدوا من هذه الصفات للتعريف بأنفسهم(2). كما أنهم(علیهم السّلام)في الخلاف والجدال بين الشيعة في هذا الشأن كانوا ينحازون إلى الدفاع عن الموقف الذي ينفي عنهم هذه الصفات(3).

ولكن اتضح من الروايات الأخيرة ل_ (الإمام علي(علیه السّلام)، والإمام السجاد(علیه السّلام)، والإمام الرضا(علیه السّلام))، أن الأئمة(علیهم السّلام)لم يتوانوا عن التعريف عن أنفسهم بهذه الصفات عندما كانوا يأنسون من المخاطب الأهلية والقدرة على تحمل ذلك. وفيما يأتي نكتفي بذكر خطبة الإمام الحسن(علیه السّلام)في مسجد الكوفة، حيث قال في التعريف بأهل البيت(علیهم السّلام):

ص: 584


1- انظر: الكليني، الكافي، ج 1، ص 257؛العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 26 ، ص 230.
2- انظر: كديور، مجلة مدرسة، أرديبهشت، 1385 ه_ ش، العدد: 3 ، ص 95.
3- انظر: حسين المدرّسي الطباطبائي، مکتب در فرایند تکامل، ص 43 و 54.

«يا أهل الكوفة اتقوا الله فينا، فإنا ،أمراؤكم، وإنا أضيافكم، ونحن أهل البيت الذين قال الله فيهم: ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ ﴾(1)»(2).

في هذا التعريف نجد تأكيداً من الإمام(علیه السّلام)على أصل التنصيب الإلهي، وعلى أصل العصمة.

إلا أن المشكلة التي كان يعاني منها الأئمة - كما قال الإمام علي(علیه السّلام) - تكمن في عدم وجود من يعرف منزلتهم الحقيقية سوى النزر القليل من خلّص أصحابهم، ويبدو أن هذه الآفة لا زالت ضاربة بجرائها - للأسف الشديد - حتى بعد مضي أربعة عشر قرناً من تاريخ الإسلام.

وعلى هذا الأساس تكون الشبهة التي أثارها بعضهم والتي تقول: إن الأئمة أنفسهم لم يستفيدوا من هذه الصفات للتعريف بأنفسهم، باطلة من الأساس.

الشبهة السابعة : إنكار عصمة الأئمة(علیهم السّلام):

إن من بين الشبهات القديمة التي يسوقها أهل السنة وبعض المعاصرين(3) - ضمن إنكارهم عصمة الأئمة(علیهم السّلام) - القول بأن صفة العصمة من مقترحات هشام بن الحكم أو أنها من مختلقات المتكلمين في القرنين الثاني

ص: 585


1- الأحزاب: 33.
2- سیر أعلام النبلاء، ج 4، ص 394.
3- انظر: أبو الفضل برقعي، تضاد مفاتیح با قرآن، ص 21؛ أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي الشيعي، ص 51 - 80.

والثالث للهجرة(1).إلا أن هذه التهمة ناشئة عن الرؤية السطحية لتعريف الإمامة وحقيقتها.

ولقد أجبنا عن هذه الشبهة بالأدلة العقلية والنقلية في الفصل الثالث (عدم انسجام الإمامة مع الخاتمية)، عند ذكر شبهة عدم انسجام الخاتمية مع العصمة بالتفصيل، ولذلك نحيل القارئ الكريم إلى ذلك الموضع، كي لا نضطر إلى التكرار الممل. ولكننا نكتفي هنا بذكر هذه النقطة،وهي أن الروايات النبويّة الدالة على صفة العصمة للأئمة الأطهار(علیهم السّلام)تثبت ضعف هذا الادعاء القائل بأن العصمة من مقترحات هشام بن الحكم.

نعم لقد كان لهشام بن الحكم فضل كبير في الجهود التي بذلها من أجل الاستدلال على العصمة الثابتة للأئمة(علیهم السّلام)بالأدلة النقلية والعقلية، وكما قال تلميذه ابن أبي عُمير فإن بعض الأدلة التي ذكرها هشام بن الحكم في إثبات نظرية العصمة لم يسبقه إليها أحد قبله، من قبيل: التمسك بقوله تعالى :

ص: 586


1- انظر : حسين المدرّسي الطباطبائي، مکتب در فرایند تکامل، ص 14. حيث نقل هذه التهمة ونسبتها إلى هشام بن الحكم عن مقال تحت عنوان: «العصمة» لكاتبه مادلونغ الموجود في دائرة المعارف الإنجليزية باسم العالم الإسلامي، الطبعة الجديدة، ج 4،ص 1820، ويبدو أن مصدر هذه المقالة كتاب (مقالات الإسلاميين) لأبي الحسن الأشعري. وفي هذا الشأن يجب القول، أولاً : كان على الكاتب أن يتأكد اولاً من هذا الاتهام ونسبته إلى هشام بن الحكم. وثانياً: كان عليه إرجاع هذه النسبة إلى مصدر معتبر، لا إلى مصدر مناوئ ومخالف للشيعة ومن قبل الذين كانوا يسعون إلى تشويه هشام بن الحكم بشتى الوسائل والطرق. وثالثاً : إذا رجعنا إلى كتاب (مقالات الإسلاميين) لوجدناه في الصفحة رقم 48 يصف هشام بن الحكم بأنه من القائلين بعصمة الأئمة، لا أنه أول من أسسها وابتكرها، وفرق بين الأمرين.

﴿ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾(1)،(2).

وهناك قرائن وشواهد أخرى تنفي نسبة القول بأن العصمة من مبتدعات هشام بن الحكم، مثل: عدم وجود هذه النسبة إلى هشام في أيواحد من المصادر الشيعية، وحتى الشيخ الصدوق الذي يصفه البعض بأنه من أشدّ المخالفين لوصف الأئمة بالصفات ما فوق البشرية لم يؤثر عنه أنه نسب هذا الاتهام لهشام. وهناك من المحققين الغربيين من يذهب إلى الاعتقاد بأن نظرية العصمة كانت سائدة قبل عصر هشام وفي زمن الإمام الباقر(علیه السّلام)(3).

بل إن الشيخ الصدوق يثبت في كتابه القيم (معاني الأخبار) أن هشام بن الحكم قد استلهم العصمة وحقيقتها من الإمام الصادق(علیه السّلام)(4).

الشبهة الثامنة: تعارض عصمة الأئمة مع الأدعية والروايات:

اشارة

سبق أن أشرنا إلى أن العصمة من الصفات اللازمة لمقام الإمامة، وقد تم التأكيد على هذا المعنى في الآيات والروايات المستفيضة. إلا أن أهل السنة حيث تنزلوا بمقام الأئمة الأطهار(علیهم السّلام)إلى مستوى الحاكم أو العالم الديني، فقد تمسكوا لإثبات مدعاهم (عدم عصمة الأئمة الأطهار) بروايات عن الأئمة لم يصفوا أنفسهم فيها بالعصمة، بل على عكس ذلك تماماً فقد اعترفوا بعدم

ص: 587


1- البقرة: 124 .
2- انظر: عبد الله نعمة، هشام بن الحكم، ص 204 .
3- انظر: ارزينا لالائي، نخستین اندیشه هاي شيعي «تعاليم امام محمد باقر(علیه السّلام)»،ص 132 ، ترجمه إلى الفارسية: الدكتور فريدون بدره اي.
4- انظر: معاني الأخبار، ص 132.

العصمة. وفيما يأتي نخوض في تحليل تلك الروايات، ونعمل على نقد استناد المخالفين إليها(1).

- من ذلك قول الإمام علي(علیه السّلام): «فَلَا تَكْفُوا عَنْ مَقَالَةٍ بِحَقِّ أَوْ مَشُورَةٍ بِعَدْلٍ، فَإِنِّي لَسْتُ فِي نَفْسِي بِفَوْقِ أَنْ أُخْطِيَ، وَلَا آمَنُ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِي»(2).

- كما استند أصحاب هذه الشبهة إلى فقرة من دعاء للإمام علي(علیه السّلام)إذ يقول: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي مَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، فَإِنْ عُدْتُ فَعُدْ عَلَيَّ بِالْمَغْفِرَةِ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي مَا وَأَيْتُ مِنْ نَفْسِي وَلَمْ تَجِدْ لَهُ وَفَاء عِنْدِي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي مَا تَقَرَّبْتُ بِهِ إِلَيْكَ بِلِسَانِي، ثُمَّ خَالَفَهُ قَلْبِي، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي رَمَزَاتِ الْأَلْحَاظِ، وَسَقَطَاتِ الْأَلْفَاظِ ، وَشَهَوَاتِ الْجَنَانِ، وَهَفَوَاتِ اللَّسَانِ»(3).

دراسة وتحليل:

فيما يتعلق بنقد هذه الشبهة يجدر الالتفات إلى الأمور الآتية:

أ - مخالفتها للآيات والروايات النبوية:

لقد شرحنا في الفصل الثالث مباني عصمة الإمام وعلى رأسها الآيات والروايات النبوية في معرض الحديث بشأن نقد شبهة «عدم انسجام الإمامة مع الخاتمية» بالتفصيل، ولذلك نحيل القارئ الكريم إلى ذلك الموضع، خوفاً من

التكرار.

ص: 588


1- انظر: أحمد الكاتب، تطوّر الفكر السياسي الشيعي، ص 24 و 81؛ عبد الكريم سروش، بسط تجربه ديني، ص 279.
2- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 207؛ فيض الإسلام، ص 687 .
3- المصدر أعلاه، الخطبة رقم: 77، ص 176 .

طبقاً لهذه النصوص المتقنة، لا بد من اتصاف الإمام بالعصمة، كما أن الآيات والروايات فيما يتعلق بخصوص الإمام علي(علیه السّلام)صريحة في هذا الشأن. وعليه إذا واجهنا مورداً أو عدداً قليلاً من النصوص الدالة عل خلاف العصمة الثابتة بتلك الأدلة المستفيضة، يجب العمل على تفسيرها وتبيينها بما يتناسب ودلالة تلك الأدلة والنصوص على العصمة.

وأما إذا عمد شخص منذ البداية إلى التنزل بمقام الإمام على(علیه السّلام)إلى مستوى الخلفاء الثلاثة الذين سبقوه، بل أدنى من ذلك - (كما يذهب أكثر أهل السنة ) - متجاهلاً بذلك كثيراً من الآيات والروايات الدالة على عصمة أهل البيت(علیهم السّلام)، إنه يكون قد سار على خلاف هذه الآيات والروايات، وأقام مذهبه على ظاهر نصوص يتيمة هي في حدّ ذاتها بحاجة إلى تبرير عقلائي.

ب - كلام الإمام يُشير إلى أصل عام ولا يختص بشخصه:

فيما يتعلق بكلام الإمام علي(علیه السّلام)، ومطالبته من الناس أن يشيروا عليه بحق؛ لأنه ليس بمأمن الخطأ، يجب القول: إذا طالعنا الخطبة التي ورد فيها هذا النص بشكل كامل، سوف يتضح لنا أن الإمام علي(علیه السّلام)إنما قال هذه الخطبة في أحداث حرب صفين، وفي الأثناء قام شخص من بين أصحابه وبدأ بإطرائه ومدحه وثنائه بكلمات يظهر منها التملّق، وحيث كان الإمام يكره المديح والثناء، فقد أضاف إلى كلمته هذه الفقرة مذكراً الناس أن الأجدر بهم بدل الثناء على الحاكم أن يشيروا عليه بما هو حق؛ ذلك لأن الحاكم من موقعه أحوج إلى الكلمة الناصحة من الكلمات المداهنة، وبطبيعة الحال حيث كان الإمام على(علیه السّلام)في حينها هو الحاكم، لم يكن يرى لنفسه من الناحية الأخلاقية أفضلية على الآخرين، ومن هنا تأتي إشارته إلى نفسه وأنه ليس

ص: 589

استثناء من احتمال الخطأ والحاجة إلى المشورة. وأما في الواقع فإن لب مراده هو ذمّ مدح وثناء الحاكم، وبيان أصل عام للحكام فيما يتعلق بضرورة التشاور مع الناس. أما شخص الإمام فكان معصوماً ومبرءاً من الخطأ، ولذلك

فإنه كان في غنى عن الاستشارة. والدليل على ذلك النصوص والكلمات الواردة عنه بهذا الشأن حيث يصرح فيها بعصمته وعدم حاجته إلى المشورة لعلمه التام والجامع بجميع أبعاد وزوايا الحكم والموضوع، وقد تقدم أن ذكرنا الروايات الواردة في هذا الشأن في الصفحات السابقة.

ج - تعليق إمكان صدور الخطأ على عدم تدخل العناية الإلهية:

كان على المنكرين للعصمة - أو بعبارة أخرى: الذين يقولون بإمكان صدور الخطأ والمعصية عن الأئمة(علیهم السّلام) - أن يستشهدوا بروايات صريحة في دلالاتها على صدور المعصية والخطأ عنهم. أما خطبة الإمام علي(علیه السّلام)في نهج البلاغة فغاية ما تدلّ عليه هو الطبيعة الإنسانية للإمام، والقول بأنها بحيث لو خلّيت وطبعها، أمكن أن تكون منشأ لصدور الخطأ والمعصية. وهذا ما يدل ويشهد له بشكل كامل لفظ «في نفسي» إذ يقول: «فَإِنِّي لَسْتُ فِي نَفْسِي بِفَوْقِ أَنْ أُخْطِىَ». وأما أن تكون هذه النفس والطبيعة التي يتحلى بها الإمام باقية على هذه الشاكلة أم لا؟ فيمكن للفقرة الثانية في الخطبة نفسها أن تجيب عنها، إذ يقول: «إِلَّا أَنْ يَكْفِيَ الله مِنْ نَفْسِي مَا هُوَ أَمْلَكُ بِهِ مِنِّي». وعليه فإن هذه الفقرة تجعل إمكان صدور الخطأ والمعصية عنه معلقاً على عدم كفاية الله له من نفسه وتركه وشأنه، ولمّا كان قد ثبت في موضعه عند إثبات العصمة بالأدلة العقلية والنقلية، أن الله سبحانه قد كفاه من نفسه بالعصمة، فيكون مستثنى من ذلك الحكم العام، فلا يكون صدور الخطأ والمعصية في حقه ممكناً.

ص: 590

وعليه يكون صاحب هذه الشبهة قد ارتكب مغالطة حذف النص وتقطيعه، وحجب الاستثناء الوارد في الفقرة التي جعلها دليلاً على مدعاه.

د - نصوص الإمام الدالة على عصمته:

أشرنا في العنوان المتقدّم إلى أن غاية ما تدلّ عليه الخطبة أعلاه هو طبيعة وإمكان صدور الخطأ من دون وقوعه حقيقة، وأضفنا إلى ذلك أن هذا الإمكان قد تم نفيه من قبل الإمام علي(علیه السّلام)في فقرة أخرى من الخطبة نفسها. وهناك روايات أخرى مأثورة عن الإمام تدلّ على عصمته وعدم صدور الخطأ عنه نشير إليها فيما يأتي. إنّ الإمام(علیه السّلام)في هذه الخطبة رغم مطالبته من الحاضرين أن لا يبخلوا عليه بالمشورة، إلا أنه يُصرّح في موضع آخر بأنه غير محتاج إلى المشورة أصلاً، وذلك لعدم إمكان صدور الجهل والخطأ عنه. كما يظهر ذلك من جوابه عن عتاب طلحة والزبير وانتقادهما له بعدم استشارتهما، إذ أورد الشريف الرضي في نهج البلاغة قائلاً:

«ومن كلام له(علیه السّلام)كلم به طلحة والزبير - بعد بيعته بالخلافة و قد عتبا عليه من ترك مشورتهما، والاستعانة في الأمور بهما - لَقَدْ نَقَمْتُها يَسِيراً وَأَرْجَأْتُمَا كَثِيرًا، أَلَا تُخْبِرَانِي أَيُّ شَيْءٍ كَانَ لَكُمَا فِيهِ حَقٌّ دَفَعْتُكُمَا عَنْهُ، أَمْ أَيُّ قَسْمِ اسْتَأْثَرْتُ عَلَيْكُما بِهِ، أَمْ أَيُّ حَقٌّ رَفَعَهُ إِلَيَّ أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، ضَعْفْتُ عَنْهُ أَمْ جَهِلْتُهُ أَمْ أَخْطَأْتُ بَابَهُ؟ ... فَلَمْ أَحْتَجْ فِي ذَلِكَ إِلَى رَأْيِكُمَا وَلَا رَأْي غَيْرِ كُمَا، وَلَا وَقَعَ حُكْمٌ جَهِلْتُهُ فَأَسْتَشِيرَكُما وَإِخْوَانِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لَمْ أَرْغَبْ عَنْكُما وَلَا عَنْ غَيْرِ كُما »(1).

ص: 591


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 196 ؛ فيض الإسلام، ص 656 .

وقال الإمام علي(علیه السّلام)بعد مقتل طلحة والزبير، مبيناً عدم تردّده وشكه في معرفة الحق:

«بنَا اهْتَدَيْتُمْ فِي الظُّلْمَاءِ، وَتَسَنَّمْتُمْ ذُرْوَةَ الْعَلْيَاءِ، وَبِنَا أَفْجَرْتُمْ عَنِ السَّرَارِ، وَقِرَ سَمْعٌ لَمْ يَفْقَهِ الْوَاعِيَةَ، وَكَيْفَ يُرَاعِي النَّبأَةَ مَنْ أَصَمَّتْهُ الصَّيْحَةُ، رُبطَ جَنَانٌ لَمْ يُفَارِقْهُ الْخَفَقَانُ، مَا زِلْتُ أَنْتَظِرُ بِكُمْ عَوَاقِبَ الْغَدْرِ، وَأَتَوَسَّمُكُمْ بِحِلْيَةِ المُغْتَرِّينَ، حَتَّى سَتَرَنِي عَنْكُمْ جِلْبَابُ الدِّينِ، وَبَصَّرَنِيكُمْ صِدْقُ النِّيَّةِ، أَقَمْتُ لَكُمْ عَلَى سَنَنِ الحَقِّ فِي جَوَادُ المُضَلَّةِ، حَيْثُ تَلْتَقُونَ وَلَا دَلِيلَ، وَتَحْتَفِرُونَ وَلَا تُميهُونَ، الْيَوْمَ أُنْطِقُ لَكُمُ الْعَجْمَاءَ ذَاتَ الْبَيَانِ، عَزَبَ رَأْيُّ امْرِئٍ تَخَلَّفَ عَنِّي، مَا شَكَكْتُ فِي الحَقِّ مُذْ أُرِيتُهُ ... مَنْ وَثِقَ بِمَاءٍ لَمْ يَظْمَأُ»(1).

وقال الإمام علي الا بشأن عصمته وعدم صدور الكذب والضلال عنه: «مَا كَذَبْتُ وَلَا كُذَّبْتُ وَلَا ضَلَلْتُ وَلَا ضُلَّ بي»(2).

تقرير آخر للشبهة: اعتراف الأئمة في أدعيتهم بأنهم مذنبون:

اشارة

إن من بين التقريرات الأخرى لشبهة إنكار عصمة الأئمة(علیهم السّلام)،التمسك بالأدعية المتعدّدة الواردة عنهم والتي يعترفون فيها بذنوبهم(3).

مناقشة وتحليل:

في معرض تحليل هذه الشبهة يجب القول: إن مباحث المعاني والألفاظ

ص: 592


1- نهج البلاغة، الخطبة رقم: 4 .
2- المصدر أعلاه، الحكمة رقم: 176 .
3- انظر: الآلوسي، تفسير روح المعاني، ج 12، ص 26 ، تفسير الآية رقم 33 من سورة الأحزاب.

تعد اليوم من المباحث الهامة في العلوم الإنسانية، ولأهمية هذه المباحث وارتباطها بالتعاليم والنصوص الدينية في علم فلسفة الدين والبحث الديني والتفسير، فإنها تحظى بأهمية خاصة. وعليه نقول: ما هي لغة الدين؟ وهل هي ذات اللغة العرفية أم أنها تختلف عنها ؟ وما هو مكمن الاختلاف بينهما؟ إن القدر المتيقن هو أن لغة الدين - وخاصة لغة القرآن - لا تختلف عن لغة العرف من الناحية الماهوية، فإنها مثلها في الاشتمال على الاستعارة والكناية والتعليم والمبالغة، وفي الوقت نفسه تشتمل على معاني سامية وعميقة لا تتوفر في لغة العرف.

أ - التفسير العرفاني:

يمثل الدعاء نوعاً أخص من لغة الدين، فهو يمثل في الحقيقة لغة وواسطة الارتباط بين الداعي وبين الله والمعبود والعالم القدسي وما فوق الطبيعي. حيث الداعي يرى نفسه أمام خالق الوجود وواهب الحياة في غاية التضاؤل والعدم، فهو يرى نفسه متقوماً - في كل لحظة من حياته - بذلك الوجود القدسي، ولذلك يرى وجوده إلى وجود ذلك الخالق بمنزلة وجود قطرة الماء إلى المحيط الهادر، وأن ليس له من وظيفة سوى عبادة أوامر ذلك المعبود الفياض وإطاعته، ويرى كل خطوة يرفعها في هذا المسير باتجاه مرضاة المحبوب والمعبود، وتبعاً لذلك يضمن النجاح والفوز والفلاح، وبعكس ذلك فإن كل فعل ولحظة تؤدّي إلى الابتعاد عن غايته ومعبوده، تستتبع خسراناً وإثماً لا كفارة له حتى وإن كان ذلك لا يعد معصية وذنباً في إطار الشريعة.

إن العارف الذي لا يكتفي بترك المحرمات فحسب، بل يُضيف لها ترك المكروهات، بل حتى بعض المباحات لغاية القيام بالمستحبات والواجبات،

ص: 593

تكمن غايته ودافعه في الوصول إلى هدفه الأخير المتمثل بالاتصال بالمحيط الإلهي الذي يتم التعبير عنه في المصطلح العرفاني ب_ «الفناء». وقيل في ذلك:

«حسنات الأبرار، سيئات المقربين».

إن شخصية مثل شخصية الإمام على(علیه السّلام)الذي يمثل قمة العارفين، وأفضل الكائنات بعد النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم) - على ما مر بيانه وذكرنا رواياته في الفصل الأول والثاني عند بحث مقام الإمامة - قد بذل كل وجوده من أجل الوصول إلى المقصود وكمال الله اللامتناهي، ويرى كل فعل أو حركة أو كلمة تبعده عن غايته، بل حتى إذا أدت إلى عرقلة حركته إلى الله أو كبحها (مثل المباحات)، خطأ وزلّة وذنباً، من هنا فإنه يلجأ لذلك إلى الدعاء والاستغفار وطلب الصفح

من هنا فقد صدر عن الإمام علي(علیه السّلام)كثير من الأدعية - من قبیل: دعاء كميل ودعاء الصباح - في هذا الشأن، وهي تنطوي بأجمعها - كما أسلفنا - على لغة الدعاء وطلب العفو والصفح عن المكروهات والمباحات التي لا تُعدُّ ذنباً في إطار الشريعة، وإنما هي معصية في حقل العرفان والإنسان الكامل(1).

ب - التفسير العلمي والتربوي:

الوجه الثاني هو القول بأن الأئمة(علیهم السّلام)يرومون من خلال هذه الأدعية تعليم الآخرين كيفية الدعاء والارتباط مع الله في خطابهم، فهم بصدد تعليم المذنبين بشكل غير مباشر كيفية تطهير صدورهم وجلاء قلوبهم من الأدران من خلال الاعتراف بذنوبهم بشكل مستمر، والانطلاق بذلك نحو مصدر النور

ص: 594


1- انظر: أبو الفتح الإربلي، كشف الغمة في معرفة الأئمة، ج 3، ص 46 .

والطهر والنقاء. بيد أن هناك من لا يرى هذا الجواب مقنعاً(1).

ج - الحمل على الاستغفار الدفعي:

قال بعض المعاصرين فى تحليل اعتراف الأئمة(علیهم السّلام)وتبريره ما حاصله: «إن الاستغفار الوارد في هذه الأدعية هو من الاستغفار الدفعي، بمعنى الاستغفار الذي يحول دون عروض الغفلة والمعصية، وليس من الاستغفار الرفعي الذي يأتي بعد اقتراف الذنوب حقيقة. ومثل ذلك مثل الغطاء الذي يوضع على المرآة كي لا يقع عليها شيء من الغبار، لا كمثل المنديل الذي يمسح به الغبار الواقع عليها أصلاً»(2).

د - طلب الاستغفار لذنوب الأمة:

الأمر الآخر الذى يمكن أن نستفيده من بعض الروايات(3)هو أن

ص: 595


1- انظر: ابن أبي الفتح الإربلي، كشف الغمة في معرفة الأئمة، ج 3، ص 46. إذ قال: «كنت أفكر في معناه وأقول: كيف يتنزل على ما تعتقده الشيعة من القول بالعصمة؟ وما اتضح لي ما يدفع التردد الذي يوجبه ! فاجتمعت بالسيد السعيد النقيب رضي الدين أبي الحسن علي بن موسى بن طاوس العلوي الحسيني - رحمه الله - وألحقه بسلفه الطاهر فذكرت له ذلك فقال إن الوزير السعيد مؤيد الدين العلقمي - رحمه الله تعالى - سألني عنه ؛ فقلت: كان يقول هذا ليعلم الناس. ثم إني فكرت بعد ذلك فقلت: هذا كان يقوله في سجدته في الليل وليس عنده من يعلمه» وانظر أيضاً: العلامة عبد الله جوادي آملي، ادب فناي مقرّبان: (شرح زيارة الجامعة الكبيرة)، ج 3، ص 262.
2- العلامة عبد الله جوادي آملي، ادب فناي مقرّبان: (شرح زيارة الجامعة الكبيرة)، ج 3، ص 263 .
3- انظر: تفسير مجمع البیان، ج 9،ص185؛ تفسير الآية الرابعة من سورة الفتح ؛ العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار ، ج ،68 ، ص 24 ؛ ادب فناي مقربان، ج 3،ص263.

أولئك السادة الهداة أنفسهم معصومون ومبرأون من الأخطاء والذنوب، ولكن حيث كانوا مثل النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)في هداية الأمة المسلمة على المستوى الروحي والمعنوي، وأنهم اضطلعوا بشكل وآخر بمهمة هداية الناس، فإنه وإن لم تتوفر لهم الأرضية المناسبة للهداية، ولكنهم مع ذلك كانوا يشعرون بالمسؤولية، وكانوا يعتبرون أخطاء الناس أخطاءهم، فكانوا لذلك يستغفرون الله منها ويطلبون منه العفو والصفح. ويمكن تشبيه ذلك بالخطأ الذي يرتكبه الولد؛ فيأخذ الوالد خطأ الولد وكأنه صادر عنه، وهكذا نرى الوالدين يتحملان تبعات أخطاء أبنائهما، ويتوجهان إلى الشخص الذي أخطأ ابنهما في حقه؛ فيطلبان منه الصفح ويسألانه أن يقبل اعتذارهما، وهكذا كان الأمر بالنسبة إلى الأئمة بوصفهم آباء للأمة الإسلامية، وهذا ما تؤكد عليه النصوص الروائية، مثل الحديث النبوي الشريف القائل: «أنا وعلي أبوا هذه الأمة»(1).

والذي يؤيد هذا الأمر والتفسير، جواب الإمام الصادق(علیه السّلام)عن نسبة الذنب إلى النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)الواردة في قوله تعالى: ﴿ لِيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ﴾(2)، حيث قال(علیه السّلام):

«والله ما كان له ذنب ولكن الله ضمن له أن يغفر ذنوب شيعة علی(علیه السّلام) ما تقدم من ذنبهم وما تأخر»(3). وفي قول آخر: «ما كان له ذنب، ولا هم بذنب، ولكن الله حمله ذنوب شيعته ثم غفرها له»(4).

ص: 596


1- العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 23، ص 259.
2- الفتح : 2 .
3- العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 17، ص 76.
4- المصدر أعلاه.

وعلى هذا الأساس فإن استغفار الأئمة(علیهم السّلام)من قبيل استغفار الآباء لأمتهم، حيث كانوا يشاهدون ذنوب الأمة بعين البصيرة والوجود النوراني الذي يتمتعون به، ويطلبون الصفح والمغفرة من الله على ذلك.

ه_ - عدم إمكان حمل الأدعية على الظاهر:

لو كان الذين يطرحون هذه الشبهة - الأعم من السنة والشيعة - من الذين يُعربون عن حبّهم للإمام علي(علیه السّلام)وشدة تعلقهم به، يصرون على حمل لغة الأئمة فى أدعيتهم على اللغة العرفية، وأن الإمام في أدعيته لا يريد غير المعاني الحقيقية، وأنه إنما يعترف فيها - والعياذ بالله - باقتراف الذنوب وارتكاب المعاصي. فهنا يحق لنا أن نسألهم: ما هو موقفكم بشأن تفسير الأدعية المشابهة للأدعية الآتية؟ من قبيل: دعاء الإمام علي(علیه السّلام)الذي يقول فيه:

- «الهي قَلبي مَحْجُوبٌ، وَنَفْسي مَعْيُوبٌ، وَعَقْلِي مَغْلُوبٌ، وَهَوائي غالِبٌ، وَطاعَتِي قَليلٌ، وَمَعْصِيَتِي كَثِيرٌ »(1).

- «وَلا تُعاجِلْني بِالْعُقُوبَةِ عَلى ما عَمِلْتُهُ فِي خَلَواتِي مِنْ سُوءٍ فِعْلي وَإِساءَتي»(2).

أو دعاء الإمام الحسين(علیه السّلام)في يوم عرفة، والذي يقول فيه:

- «وَلَوْلا سَتْرُكَ إِيَّايَ لَكُنْتُ مِنَ المُفْضُوحِينَ»(3).

أو دعاء الإمام زين العابدين وسيد الساجدين(علیه السّلام)، إذ يقل فيه:

ص: 597


1- المحدث عباس القمي، مفاتيح الجنان، دعاء الصباح.
2- المصدر أعلاه، دعاء كميل.
3- المصدر أعلاه، دعاء عرفة.

- «الهي الْبَسَتْنِى الخطايا ثَوْبَ مَذَلَّتِي، وَجَلَّلَنِي التَّباعُدُ مِنْكَ لِباسَ مَسْكَنَتِي، وَاَماتَ قَلْبِي عَظيمُ جِنايَتي»(1).

هل يمكن للشخص المنصف - الأعم من الشيعي والسني - أن يلتزم بأن هوى الإمام علي(علیه السّلام) - والعياذ بالله - غالب على عقله، وأن ذنوبه أكثر من طاعته ؟! وهل إذا كُشف الغطاء والحجاب عن الإمام الحسين(علیه السّلام) [وهو سيد شباب أهل الجنة]؛ سيكون من المفضوحين على رؤوس الأشهاد؟! وهل كانت ذنوب الإمام السجاد - الذي كان دائم السجود في صلاته - بحيث تميت قلبه؟!

و - النقض بأدعية النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم):

لو أصر المخالف على حمل الأدعية المأثورة عن الأئمة على ظاهرها، ليثبت بذلك عدم عصمتهم، فإننا نسأله عن تفسير الأدعية الواردة عن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)الدالة على اعترافه بالذنوب أيضاً، من قبيل قوله:

- «أنت الجواد وأنا البخيل .. أنت الغافر وأنا المسيء»(2).

وهكذا فإن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)يكرر قول: «أجرنا من النار»(3)ما يقرب من تسعين مرة، وفي الجوشن الكبير، يكرر ذكر: «الغوث الغوث خلصنا من النار يا رب»(4)مئة مرة.

فهل يمكن للشخص الشيعي والسني أن يحملا أو يُفسّرا هذه الأدعية

ص: 598


1- المحدّث عباس القمي، مفاتيح الجنان، المناجيات الخمسة عشرة، المناجاة الأولى.
2- المصدر أعلاه، دعاء يستشير؛ الكفعمي، المصباح، ص 286 .
3- المصدر أعلاه، دعاء المجير.
4- المصدر أعلاه، دعاء الجوشن الكبير.

المأثورة عن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)على ظاهرها ؟ فإذا كان لدعاء النبي تفسير خاص، لماذا لا نحمل معنى الدعاء المأثور عن أبنائه والمقربين منه من الأئمة المعصومين(علیهم السّلام)على المحمل ذاته؟!

الشبهة التاسعة: إنكار اتصاف الأئمة(علیهم السّلام)بكونهم حججالله تعالى:

هناك من أنكر وصف الأئمة(علیهم السّلام)بأنهم حجج الله من الأساس، وقد تقدم تحليل هذا الشبهة فى الفصل الثالث بالتفصيل.

الشبهة العاشرة اختصاص الحجية بالأمور العبادية والفردية:

هناك من ارتضى القول بحجية الأئمة(علیهم السّلام)أنهم حجج الله على الخلق في الجملة، ولكنه خص ذلك بالأحكام العبادية والفردية، أما في حقل السياسة والاجتماع والموقف والكلمة والعمل، فلا يكونون حجة على الآخرين ولا يمثلون أسوة لهم.

مناقشة وتحليل :

في تحليل هذا الاتجاه يجب القول أولاً: تقدّم في القراءة العلمانية للدين وتعاليمه، من قبيل: حجيّة النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)والأئمة(علیهم السّلام)، حيث فصلنا البحث بالنقد والتحليل في الفصل الخامس (تبريرات التنصيب)، على هامش تبریر اختصاص الإمامة بأمر الهداية.

وقلنا هناك: إن الإمامة مفهوم ومعلومة عامة تشمل دائرتها وتتسع للأمور الفردية والعبادية والسياسية والاجتماعية، وتبعاً لذلك تكون مواقف

ص: 599

الأئمة في دائرة السياسة والاجتماع والحكومة حجّة أيضاً(1).

وثانياً: تقدّم في الفصل الثالث (عدم انسجام الإمامة مع الخاتمية) علىهامش شبهة حجية الأئمة، ذكر كثير من الروايات المأثورة عن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)بشأن حجيّة الإمام علي(علیه السّلام)على مختلف المستويات، من قبيل: المرجعية العلمية، وتفسير الدين، وحقول السياسة والإمامة والخلافة، وكانت نتيجة ذلك إطلاق حجيّة الأئمة وشمولها لدائرة السياسة والحكومة.

لا بد من الالتفات إلى أن للدين في حقل السياسة والحكم والمجتمع سلسلة من الأصول التي تحظى باعتبار خالد، فالإمام يقدّم تفسيرات وحلولاً

للمتغيّرات الجزئية وللمسائل الاجتماعية، وقد تتغيّر هذه المسائل على مرّ الأزمنة، والمراد من الحجيّة المطلقة للتعاليم الدينية ومواقف الأئمة هو القسم الأول (أي القواعد والأصول الكلية)، إلا أن الآليات والجزئيات تتغير بتغيّر الظروف والأزمنة.

وبطبيعة الحال فإن تشخيص هذين القسمين وتقديم الحل والحكم الآخر من صلاحية المتخصصين في الدين، إذ إنّهم بالإضافة إلى المباني والأصول الدينية مهيمون على الأوضاع السائدة أيضاً.

من هنا يظهر ضعف الشبهة القائلة بأن حجيّة الأئمة على الآخرين إنما تخص عصرهم(2)؛ إذ لو تم البحث بشأن موضوع وسعة حجيتهم في تعاليم

ص: 600


1- انظر: محمد مجتهد شبستري، مجلة كيان، العدد: 14 ، ص 13 نقدي بر قرائت رسمي از دین؛ مهدی رستم نجاد، شگردهاي دين ستيزي، ص 25.
2- انظر: مهدي رستم نجاد، عاشوراء، ص 102.

القسم الأول الأصول والمباني العامة، فإن اعتبار الحجية واستمرارها - من قبيل: ضرورة تطبيق العدالة وهداية المجتمع إلى الله - لن يختص بزمن دون زمن كي يتم الكلام حول الزمان. أما إذا كان المراد هو القسم الثاني (الحلول والأمور الجزئية)، ففى مثل هذه الحالة لا بدّ أولاً من تحديد مصداقه، وبيان ما هي القضيّة التي تمثل موقف الإمام(علیه السّلام)وتختص بزمن معين، للانتقال بعد ذلك إلى البحث بشأن ما هو البديل لها.

الشبهة الحادية عشرة: نسبة بقاء وحفظ الأرض والسماوات إلى الأئمة(علیهم السّلام):

اشارة

إن من بين الشبهات التي يسوقها أهل السنة(1)على الإمامية هي نسبة الغلو والتطرف في تعريف الأئمة(علیهم السّلام)، ومن المصاديق على ذلك ما ورد في كثير من الروايات في التعريف بالأئمة بوصفهم علة بقاء وحفظ الأرض والسماوات، ومن بينها الرواية التي تقول: «يا آدم لولاهم لما خلقتك، ولما خلقت النار والعرش والكرسي واللوح والقلم»(2).

في حين أن الأئمة(علیهم السّلام)هم مثل سائر الناس والأفراد الاعتياديين لا شأن لهم ولا دور في تكوين العالم وبقائه. يُضاف إلى ذلك: لو أن الإمام كان هو السبب والعلة في الحفاظ على الأرض والسماوات وبقائها، يرد هذا السؤال القائل: من الذي كان يتولى هذه المهمة قبل أن يُخلق الأئمة ؟

ص: 601


1- انظر : القاضي عبد الجبار المعتزلي، المغني في أبواب التوحيد والعدل، ج 2، ص 18؛ المدرسي الطباطبائي، مکتب در فرایند تکامل، ص 40 و 62 فما بعد.
2- تاریخ بغداد، ج 1،ص 247 تاريخ مدينة دمشق، ج14،ص170؛موسوعة الإمامة في نصوص أهل السنة ، ج 3، ص 69 وص 304 وص 400 .

مناقشة وتحليل:

إن هذه الشبهة تنشأ من عدم معرفة مقام الإمامة، وموقع الأئمة ومنزلتهم. ويبدو أن بإمكان القارئ الكريم، من خلال مطالعة الآيات والروايات الواردة في بيان موقع الإمامة والأئمة ومكانتهم - والتي تقدم بعضها في الفصل الأول تحت عنوان «الإمام واسطة الفيض»، وبعضها الآخر في نقد شبهة أفضلية الأئمة والإمامة على الأنبياء والنبوة فى الصفحات الأخيرة - أن يجيب بنفسه عن هذه الشبهة. ومع ذلك نشير في نقد هذه الشبهة إلى الأمور الآتية :

1 - النبي(صلی الله علیه و آله و سلم)والأئمة(علیهم السّلام)غاية الخلق: من أجل تحقق فعل أو إيجاد شيء، تذكر في الفلسفة أربع علل، وهي: (العلة الفاعلية، والعلة المادية، والعلة الصورية، والعلة الغائية)، فالعلل التى يجب توفّرها لبناء مدرسة على سبيل المثال، هي كالآتي: العلة الفاعلية هي: المهندس والعمال والمعمار، والعلة المادية هي: المواد الإنشائية من الطابوق والإسمنت والحديد وما سوى ذلك، والعلة المخطط والخارطة الهندسية لشكل المدرسة والعلة الغائية هي : الطلاب وتعليمهم، والقارئ الكريم يدرك جيّداً أن الغرض والغاية من تأسيس وإحداث المدرسة وكل هذه النفقات إنما هي من أجل تلك العلة الغائية المتمثلة ببناء جيل متعلم وتدريس التلاميذ والطلاب. ولازم العلة الغائية أن القائمين على إنشاء المدرسة إذا كانوا يعلمون مسبقاً أنه لا يوجد تلاميذ أصلاً، وأنه لن يأتي طالب واحد ليتعلم في هذه المدرسة ولا ينتسب إليها، لما بادروا إلى بناء تلك المدرسة أبداً. إذن يمكن القول: لولا وجود الطلاب، لما بنيت المدرسة أصلاً، ولو أنها بنيت ثم هجرها الطلاب لسبب من الأسباب، كما يحصل في

ص: 602

بعض القرى عندما يترك السكان المنطقة، أو يتوجه الطلاب إلى مدرسة أفضل في ناحية أخرى، فإن هذه المدرسة سوف تعطل وتتحول إلى خربة بمرور الأيام، أو أن تتحول إلى منشأة أخرى. وعليه لولا وجود الطلاب لما كانت هناك مدرسة.

ومن جهة أخرى فقد جاء فى كثير من الروايات النبوية - الواردة في مصادر الفريقين - التأكيد على أن وجود أهل البيت(علیهم السّلام)(النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)والسيدة الزهراء(سلام الله علیها)والأئمة الإثنى عشر(علیهم السّلام)) هو الفلسفة والغاية من خلق

عالم الإمكان، وقد تم التصريح بأنه لولا وجودهم لما أوجد الله العالم. يروي أنس بن مالك عن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)أن آدم(علیه السّلام)عندما رأى أسماء الخمسة من أصحاب الكساء (محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين(علیهم السّلام)) مكتوبة على ساق العرش، سأل عن أصحاب تلك الأسماء، فقال له الله عز وجل: «يا آدم لولاهم لما خلقتك، ولما خلقت النار والعرش والكرسي واللوح والقلم»(1).

بهذا النوع من الرؤية والنظرة إلى أهل البيت والأئمة(علیهم السّلام)يتضح أن وجودهم النوراني والقدسي، كان هو الغاية والهدف من أصل الوجود وخلق العالم منذ البداية، وأنه لو تصوّرنا أن وجودهم لم يكن هو الغاية من خلق العالم، لما كان هناك من خلق أو وجود أصلاً، أو أنه كان يزول وينهار بعد خلقه وإيجاده، كما هو الحال بالنسبة إلى المدرسة عندما يهجرها الطلاب.

من هنا يمكن القول: إن وجود أئمة الهدى يلعب دوراً هاماً ومحورياً وجوهرياً في أصل خلق العالم ابتداء وبقاء، ولذلك فإن العالم في بقائه رهن

ص: 603


1- تاريخ بغداد، ج 1، ص 247؛ تاريخ مدينة دمشق، ج 14، ص 170؛ موسوعة الإمامة في نصوص أهل السنة ، ج 3، ص 69 وص 304 وص 400.

بوجودهم ،وبقائهم، كما أنه يزول بزوالهم من باب انتفاء المعلول بانتفاء علته الغائية). من هنا ورد في الروايات النبوية قوله(صلی الله علیه و آله و سلم): «أهل بيتي أمان أهل الأرض»(1).

وروي عن الإمام علي(علیه السّلام) - على ما هو منقول في مصادر أهل السنة - عن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)أنه قال: «أهل بيتي أمان لأهل الأرض، فإذا ذهب أهل بيتي ذهب أهل الأرض»(2).

وهناك كثير من الروايات الأخرى الواردة في مصادر أهل السنة تحت عنوان: «أهل بيتي أمان أمتي»(3).

وفي حديث طويل عن الإمام زين العابدين(علیه السّلام) - مروي في مصادر أهل السنة - أنه قال: «نحن أمان أهل الأرض، كما أن النجوم أمان لأهل السماء. ونحن الذين بنا يُمسك الله السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، وبنا يُمسك الأرض أن تميد بأهلها... ولولا ما في الأرض منا لساخت الأرض بأهلها»(4).

إن أصل ورود الروايات بهذا المضمون يبلغ حد التواتر المعنوي، كما أنه لا مجال للبحث فيها من حيث الصدور والسند. وبعد ضم القاعدة العقلية والفلسفية فيما يتعلق بموقع العلة الغائية في وجود وبقاء فعل أو شيء، بل

ص: 604


1- السمهودي، جواهر العقدين، ج 2، ص 119 ، نقلاً عن: موسوعة الإمامة، ج 3، ص 295 .
2- فرائط السمطين ، ج 2، ص 252؛ فضائل الصحابة لأحمد، ج 2، ص 671.
3- انظر: تاريخ مدينة دمشق، ج 40 ، ص 20 ؛ المعجم الكبير، ج 7، ص 22؛ مسند الصحابة، ج 2، ص 167 - 170.
4- فرائد السمطين، ج 1 ص 45؛ موسوعة الإمامة في نصوص أهل السنة، ج 5 ص 286 .

وتصريح الروايات بذلك أيضاً، يتضح أن اعتقاد الشيعة في وصف الأئمة(علیهم السّلام)بأنهم العلة الغائية للوجود ولعالم الإمكان ابتداء وبقاء، مطابق للعقل والفلسفة ومطابق لصريح الروايات الواردة عن النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)، وهذا يوجب على أهل السنة أن يذهبوا إلى الاعتقاد بهذا المضمون أيضاً.

وقد تعرض بعض فلاسفة الشيعة من أمثال صدر المتألهين إلى هذه

النظرية، من خلال التمسك بالبرهان الغائي في تفسير الروايات مورد البحث، إذ يقول: «الأرض وما فيها إنما خلقت لأجله، وكل ما خلق لأجل شيء، فمتى لم يكن لم يكن ذلك الشيء ... فمعنى قوله: لو بقيت بغير إمام لساخت، أي: لو فرض أنها خلت من إمام لهلكت و سقطت عن درجة الوجود»(1).

2 - النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)والأئمة(علیهم السّلام)واسطة الفيض الإلهي: أشرنا في الفصل الأول تحت هذا العنوان إلى أنه طبقاً لكثير من الروايات النبوية - المذكورة في مصادر الفريقين - تُعدّ الروح الحقيقية والنورانية لنبي الاسلام(صلی الله علیه و آله و سلم)وأهل بيته(علیهم السّلام)هم الوجود الإلهي الأول الذي يلعب دور الواسطة في انتقال الفيض الإلهي إلى سائر الوجود، وهذا الدور محفوظ في الحدوث والبقاء. وهذا ما يُعبّر عنه العرفاء بالظهور والتجليات المختلفة، ويُعبّر عنه الفلاسفة بالعلل الوسيطة والعقول العشرة (في فلسفة الإشراق).

بهذه النظرة العرفانية والفلسفية إلى المراتب الوجودية - الضاربة بجذورها في الروايات النبوية - لدور الأئمة في حدوث عالم الإمكان وبقائه، يتضح أن وجودهم لا يقتصر على العلة الغائية فحسب، بل إنه بوصفه علة

ص: 605


1- صدر المتألهين، شرح أصول الكافي، كتاب الحجة، ص 488 - 502؛ جعفر سبحاني، كليات في علم الرجال، ص 422 .

فاعلية (بحسب البيان العرفاني والحكمة المتعالية) يلعب دوراً هاماً، تم التعبير عنه في لسان الروايات ببقاء الأرض والسماوات بوجود الأئمة(علیهم السّلام)، وأن زوالها رهن بزوالهم.

إن هذه الإجابة تقوم على التوجه العرفاني القائل بأن وجود العالم في كل مرحلة يتوقف على وجود قطب وإنسان كامل.

وإن مصداق هذا الإنسان الكامل في عصر الأنبياء هم الأنبياء أنفسهم، إذ إنّهم بمختلف مراتبهم الكمالية يمثلون الفرد الأكمل في كل عصر من عصورهم، وسوف يحتل كل واحد منهم مقام القطب فى عصره. ولذلك يذهب العرفاء إلى الاعتقاد بأنه بعد موت كل نبي، يعمد الله إلى إحياء بعض الأنبياء بقدرته الإلهية، كي لا تخلو الأرض من الحجة الإلهية. وقد ذهب محيي الدين ابن عربي إلى اعتبار كل من: إلياس وإدريس وعيسى والخضر [بناء على القول بنبوته]، من مصاديق الأقطاب(1).

كما أن مصداق القطب والإنسان الكامل في مرحلة الخاتمية ونبوة الإسلام بعد النبي هم الأئمة المعصومون(علیهم السّلام)والإمام المهدي(علیه السّلام)، الذي لا يزال حياً بالقدرة الإلهية وقوام الوجود رهن بوجوده.

3 - النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)والأئمة(علیهم السّلام)واسطة المعرفة الإلهية والدينية: إن الفلسفة من خلق الإنسان هي معرفة الله وعبادته، كي يسلك الإنسان بذلك مراتب الكمال، ويقترب من مقام القرب الربوبي والسعادة الخالدة.

وإن هذا الهدف وهذه الغاية لا يكتب لها التحقق إلا من خلال معرفة

ص: 606


1- انظر: محيي الدين بن عربي، الفتوحات المكية ، ج 2، ص 5 .

الأنبياء والشريعة الإلهية المشتملة على سلسلة من الوسائل والسبل والضرورات والمحظورات. يتربّع الأنبياء والأئمة من الناحية العلمية والعملية على أسمى قمم المعرفة الإلهية، ولذلك يجب على سائر أفراد الإنسانية أن يتعرفوا على هؤلاء العظام وأن يلتزموا بمواعظهم وتعاليمهم على المستوى العملي كي يتمكنوا من الوصول إلى مقام القرب والغاية من خلقهم. وفي ذلك روي عن الإمام الباقر(علیه السّلام)أنه قال: «مَا زَالَتِ الْأَرْضُ إِلَّا وَلله فِيهَا الْحُجَّةُ يُعَرِّفُ الخَلَالَ وَالحَرَامَ وَيَدْعُو النَّاسَ إِلَى سَبيل الله»(1).

وعليه فإن معرفة الله وسلوك طريق التكامل والسعادة إنما يكون من خلال معرفة واتباع الأنبياء والأئمة(علیهم السّلام)، ولولا وجود هؤلاء العظام في عالم الإمكان لما كُتب التحقق لفلسفة خلق الإنسان المتمثلة بمعرف فة الله، ومع عدم تحقق العلة الغائية، لن يُكتب التحقق لمقدمتها المتمثلة بأصل خلق الإنسان أيضاً.

هنا يمكن القول: إن الإنبياء والأئمة الأطهار في مرحلة الخاتمية من بوصفهم حجج الله على العباد إنما يمثلون المصدر الوحيد للمعرفة الدينية، ولولا وجودهم، لكان خلق الناس عبثاً ولغواً، إذ ورد في الحديث: «إن الحجة يُعرّف الحلال والحرام، ويدعو الناس إلى سبيل الله ... وأنه لولاه لما عُرف الحق من الباطل»(2)،ومن هنا جاء في بعض الروايات أنه لو خلت الأرض من إمام

ص: 607


1- الكليني، الكافي، ج 1، ص 178 . بيد أن الحديث في المصدر المذكور مروي عن الإمام الصادق(علیه السّلام)وليس عن الإمام الباقر(علیه السّلام)، وإليك السند : (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ عَنْ رَبِيعِ بْنِ مُحَمَّدِ المُسْلِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْعَامِرِيٌّ عَنْ أَبي عَبْدِ الله(علیه السّلام)، قَالَ: ... الحديث)، المعرب.
2- جعفر سبحاني، كليات في علم الرجال، ص 422 .

لساخت بأهلها، ومن هنا أيضاً ورد في بعض الروايات عن الإمام الباقر(علیه السّلام)أنه قال: «إِنَّ آخِرَ مَنْ يَمُوتُ الْإِمَامُ؛ لِئَلَّا يَحْتَجَّ أَحَدٌ عَلَى اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَنَّهُ ترَكَهُ بِغَيْرِ حُجَّةِ الله عَلَيْهِ»(1).

حاصل القول إن شبهة كيفية علة بقاء العالم بالأئمة، يمكن دفعها من خلال الاتجاه النقلى والعقلى، وقد أشرنا في هذا السياق إلى ثلاث إجابات عن هذه الشبهة. إلا أن بعض القدماء من متكلمى الإمامية قد أذعنوا للشبهة ونسبوا القول بنظرية كون الأئمة علة لبقاء عالم الإمكان إلى الغلاة، ومن ذلك

قول السيد المرتضى في جوابه عن الشبهة المذكورة عن القاضي عبد الجبار المعتزلي: «فليس نعرفه قولاً لأحد من الإمامية تقدم ولا تأخر، إلا أن يريد ما تقدم حكايته من قول الغلاة»(2). وهذا الجواب يعبّر عن عدم تطوّر وتكامل علم الكلام في ذلك العصر، وأما في العصر الراهن فقد تم جبران هذا الضعف من خلال استعانة علم الكلام بالعرفان والفلسفة، وخاصة الفلسفة المتعالية، وكانت الإجابة الثانية حصيلة هذا التطور والتكامل في علم الكلام.

الإجابة عن شبهة من تولى حفظ العالم قبل الأئمة(علیهم السّلام):

مما تقدم اتضح الجواب عن الجزء الثاني من الشبهة، وهو الجزء الذي يتساءل عن كيفية قوام السماوات والأرض فى العصور السابقة على

ص: 608


1- الكليني، الكافي، ج 1، ص 180 وهو مثل سابقه مروي عن الإمام الصادق(علیه السّلام)،وسنده على النحو الآتي: (مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى عَمَّنْ ذَكَرَهُ، عَنِ الحَسَنِ بْنِ مُوسَى الخشاب الْخَشَّابِ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ كَرَّام :قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ الله لا : لَوْ كَانَ النَّاسُ رَجُلَيْنِ لَكَانَ أَحَدُهُمَا الْإِمَامَ، وَقَالَ إِنَّ ... الحديث)، المعرّب.
2- السيد المرتضى، الشافي في الإمامة، ج 1، ص 2.

الأئمة(علیهم السّلام)أيضاً؛ إذ بالالتفات إلى الجواب الأول (الأنبياء والأئمة غاية الخلق) لا ضرورة لوجود الغاية منذ المرحلة الأولى لبداية الفعل، بل الأمر كما هو واضح من تسمية العلة بالعلة الغائية، أنه غاية للخلق وليس مقدمة له. وعليه لا يكون وجود الأئمة في الأعصار السابقة عليهم واجباً ولازماً.

والجواب الثاني (النبي والأئمة واسطة الفيض الإلهي) كان يعتبر الوجود النوراني للنبي الأكرم والأئمة لا في هذه الدنيا، بل في عالم الأرواح والأنوار على ما جاء في التعبير الروائي، وعالم العقول بحسب التعبير الفلسفي، وهذا الأمر متحقق أيضاً.

والجواب الثالث (الأئمة واسطة المعرفة الدينية) ناظر إلى الوجود المادي للأئمة في العالم والدنيا، حيث كانوا مصدر المعارف الدينية من هذه الناحية. وعليه فإن مراد الروايات من القول بأنه لولا الإمام لساخت الأرض بأهلها، هو الإمام في عصر الخاتمية، وينحصر مفهوم الإمام في هذه المرحلة بالأئمة الإثني عشر. يُضاف إلى ذلك أنه يمكن القول إن المراد من الإمام مطلق الحجّة الإلهية الشامل للأنبياء أيضاً، حيث كانوا بدورهم حجة إلهية، ومبينون لأحكام الحلال والحرام أيضاً.

إن الشبهة المذكورة ناظرة إلى الولاية التكوينية، حيث سنأتي في الصفحات التالية على ذكر مزيد من الإيضاحات وبيان المسائل والنقاط الأخرى.

الشبهة الثانية عشرة : إنكار الولاية التكوينية للأئمة(علیهم السّلام):

اشارة

هناك من أنكر الولاية الباطنية والتكوينية للأئمة الأطهار(علیهم السّلام):

ص: 609

وينسبون ذلك إلى العرفاء من أمثال محيي الدين بن عربي، والسيد حيدر الأملي، حتى جاء القرن الحادي عشر، حيث تم التأسيس لنظرية «الولاية التكوينية» في المذهب الفلسفي لصدر المتألهين(1).

وقد تقدم الجواب عن هذه الشبهة في فصل عدم انسجام الإمامة مع الخاتمية في معرض الحديث عن شبهة الإلهام والولاية الباطنية بالتفصيل، ومع ذلك نشير هنا إلى بعض النقاط:

أ - الولاية التكوينية ثمرة القرب الإلهي:

إن المسألة الأولى التى يجب الالتفات إليها هي أن الولاية التكوينية - بمعنى إمكان التدخل والتصرف في التكوينيات بإذن الله - لا تنحصر بالأنبياء والأئمة فقط، إذ إن هذه الولاية وهذه القدرة إنّما هي حصيلة تكامل النفس الإنسانية وثمرة تهذيبها بالصفات الكمالية. ولذلك يمكن للإنسان الكامل بمقدار ما يتمتع به من المراتب الكمالية للنفس أن يتصرف في الكون، فتصدر عنه بعض الأعمال الخارقة للعادة، أو «الكرامات» بحسب المصطلح الكلامي. وقد تم التأكيد في الروايات على منزلة القرب الإلهي للإنسان وحصوله على الفيض الإلهي أيضاً ومنها هذه الرواية القدسية المعروفة التي تقول: «لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها»(2).

ص: 610


1- انظر: مکتب در فرایند تکامل، ص 71.
2- كنز العمال، ج 7، ص 770 ، ح 21327 ؛ المعجم الوسيط، ج 10، ص 163، ح 9348؛ الكافي، ج 2، ص 352.

وقد ذكر الإمام على(علیه السّلام)أن قلعه لباب خيبر، وقذفه وراء ظهره مسافة أربعين ذراعاً لم يكن بقوة جسدية أو اتباع حمية غذائية، بل كان بقوة ملكوتية ونفس مستضيئة بنور ربها، وإليك نص كلامه(علیه السّلام)إذ يقول: «والله ما قلعت باب خيبر ورميت به خلف ظهري أربعين ذراعاً بقوة جسدية، ولا حركة غذائية، لكني أيّدت بقوة ملكوتية، ونفس بنور ربها مضيئة»(1).

ب - التجارب العادية والعرفانية:

إن هذا ليس مجرد ادّعاء فقط، بل يكفي أن نلقي نظرة عابرة على الأتقياء والواصلين من عباد الله في مجتمعاتنا أو المصادر المعتبرة، حتى ندرك أو نعثر على الكثير من هذه الشخصيات الموثقة في المصادر الأخلاقية والعرفانية، وما تواتر عنهم من الأمور والكرامات الخارقة للعادة. ففضلاً عن المجتمعات العرفية يتم التأكيد من قبل العرفاء - الأعم من الشيعة والسنة - وكذلك بعض الفلاسفة على صدور الكرامات من بعض الخاصة من الأشخاص، فإن الشيخ الرئيس ابن سينا يحذر أولئك الذين يُنكرون صدور الأفعال الخارقة عن العرفاء، ويدعوهم إلى وضعها في الحد الأدنى ضمن خانة الإمكان(2).

وقد تعرّض الفلاسفة والعرفاء من طريق النفس القدسية للإنسان وكمالها ومقدرتها إلى بيان معجزات الأنبياء وتقريرها، وكذلك خوارق العادة والكرامات الأخرى لبعض الأشخاص، وقد تحدثت عن ذلك بالتفصيل في كتاب مستقل(3).

ص: 611


1- الأمالي، المجلس: 77 ، ج 10 ؛ العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 21 ، ص 26 .
2- الإشارات والتنبيهات، ج 3، ص 397.
3- انظر کتابنا: معجزه در قلمرو عقل و دین.

ج - اعتراف الأشاعرة:

تقدم في نقد شبهة عدم انسجام الإلهام والولاية الباطنية مع الخاتمية في فصل الإمامة والخاتمية، أن أكثر أهل السنة - أي الأشاعرة - يعترفون بصدور الأمور الخارقة للعادة، وجريان «الكرامات» على أيدي أوليائهم وشيوخهم، وهناك منهم من أثبت هذه الكرامات والمراتب لعمر بن الخطاب.

وعليه هل يكون هناك ما يدعو إلى العجب لو أن الشيعة أثبتوا هذه المنزلة للأئمة الأطهار(علیهم السّلام)والإمام علي(علیه السّلام)الذي تربى في حجر النبي منذ نعومة أظفاره، ورويت في فضله الكثير من الروايات؟ أم أن العجيب هو استكثار ذلك على مثل الإمام على(علیه السّلام)؟

د - القرآن والولاية التكوينية لغير الأنبياء:

يذكر القرآن الكريم في الكثير من آياته نماذج من الإنسان الكامل الذي يتمتع بمنزلة القرب من الله حتى وإن لم يكونوا أنبياء، وأثبت لهم مبدأ القيام بالأمور الخارقة للعادة، وفيما يأتي نشير إلى بعض هذه النماذج :

د / 1 و 2 - عفريت الجن وآصف بن برخيا: عندما سأل النبي سليمان أفراد حاشيته والمقربين منه من يمكنه أن يأتيه بعرش بلقيس من مدينة سبأ في اليمن فوراً، ذكر القرآن الكريم شخصين، أحدهما عفريت من الجن والآخر من الإنس اسمه - على ما ورد في بعض الروايات - آصف بن برخيا، حيث قال الجني: ﴿ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ ﴾، بينما زاد علیه آصف بن برخيا - وكان عنده علم من الكتاب - قائلاً: ﴿ أَنَا آتِيكَ

بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ﴾(1).

ص: 612


1- انظر: النمل: 39 - 40 .

والملفت أن القرآن الكريم يذكر لآصف بن برخيا خصوصية أنه يمتلك علم شيء من الكتاب إذ يقول تعالى: ﴿ قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْكِتَابِ ﴾، وهو أمرٌ يُثبت أن الذي يمتلك مثل هذا العلم بالكتاب، خاصة إذا كان هذا الكتاب السماوي كتاباً مثل القرآن الكريم، وكان العالم به شخصاً مثل رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)أو الإمام علي(علیه السّلام)، فإنه سيكون - بطبيعة الحال - أقدر من آصف بن برخيا في التحكم بالظواهر الكونية والولاية التكوينية.

د / 3 - ذو القرنين كان ذو القرنين على ما ورد في القرآن الكريم، قد وهبه الله القدرة على تسخير الظواهر الكونية والتحكم بها، إذ يقول تعالى: ﴿ إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا ﴾(1)، ومن بين مصاديق تحكمه بالظواهر الكونية أنه كان يطوي المسافة ما بين المشرق والمغرب في فترة زمنية قصيرة جداً.

كما تحدث القرآن عن أم موسى(علیه السّلام)، والسيدة مريم العذراء أم السيد المسيح، ولقمان والخضر بوصفهم من الأشخاص الكاملين الذين منحهم وأكرمهم بقدرة التحكم بالظواهر الطبيعية والكونية، ولذلك كانت تصدر عنهم الكرامات وما سوى ذلك من الأمور الخارقة للعادة(2).

ه_ - بيان الولاية التكوينية من طريق العليّة الطولية أو المظهرية:

قد يتبادر إلى الذهن هنا أن القول بامتلاك الأولياء والأئمة القدرة على التصرف والتحكم بالتكوينيات، ونسبة الأمور الخارقة إليهم قد يمنح «تفويض»

ص: 613


1- الكهف: 84.
2- انظر: آل عمران: 38؛النمل: 41 مريم: 25؛ الكهف: 66 .

أمر الكون إلى صاحب الولاية التكوينية، وهذا يتعارض مع أصل التوحيد الفاعلي الله سبحانه .

في الجواب عن هذا السؤال يجب القول: إن هذا الأمر من قبيل أفعال الإنسان وتصرفاته الاعتيادية التي أدّت بالمعتزلة إلى القول بالتفويض، كما أدّت بالأشاعرة إلى القول بالجبر ولكن الطريق الصحيح في ذلك هو القول بمبدأ «الأمر بين الأمرين»(1). ومن بين تقريرات هذا المبدأ طرح المسألة من خلال «العليّة الطولية» بمعنى أن العلة الأولى لكل فعل هو الله، إلا أن الله يقوم بأفعاله من خلال الأسباب والعلل والوسائط، وإن العلل الوسيطة تأخذ أصل وجودها وقوامها من العلة الأولى المتمثلة بالله سبحانه، وعليه فإن الفعل الخارق للعادة الذي يصدر عن «الولي» أو «الإمام المعصوم» حيث يكون بإذن الله ويصدر من طريق العلل الوسيطة، فإنه يُنسب إلى الله، وإن جميع سلسلة العلل في أصل وجودها وقوامها متقومة بالله أيضاً، ولذلك لا يكون هناك أدنى تعارض مع فاعلية الله. وهذا التقرير يعود إلى الفلسفة المشائية(2).

أما التقرير الآخر - الذي يتقدّم به عادة العرفاء وفلاسفة الإشراق والحكمة المتعالية - فلا يقول بالعلية، وإنما يقول بالمظهرية والتجلّي، بمعنى أن الإنسان - وخاصة الأولياء والأئمة - هم مظهر وتجل للفعل الإلهي، حيث وصلوا من حيث الإيمان والتهذيب وتكامل النفس إلى أعلى درجات القرب الإلهي، وأصبحوا محلاً لتجلي وظهور الفعل الإلهي، كالمرآة التي تعكس نور

ص: 614


1- لمزيد من التوضيح بشأن تقريرات مبدأ الأمر بين الأمرين، انظر کتابنا: نگاه سوم به جبر و اختيار، فصل الأمر بين الأمرين.
2- انظر: جوادي آملي، تفسير موضوعي، توحید در قرآن، ج 2، ص447-451.وبطبيعة الحال هناك اختلاف بشأن ما إذا كان دور العلل الوسيطة هو دور العلل الحقيقية أم دور العلل الإعدادية، على ما تجده في المصدر المذكور.

الصورة، وإلى هذا المعنى يُشير الحديث القدسي المتقدم: «لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشى بها»، والرواية المأثورة عن الإمام الباقر(علیه السّلام)، إذ يقول: «نَحْنُ حُجَّةُ الله وَنَحْنُ بَابُ الله وَنَحْنُ لِسَانُ الله ونحن وجه جه الله وَنَحْنُ عَيْنُ اللهِ فِي خَلْقِهِ وَنَحْنُ وَلَاةٌ أَمْرِ اللَّهِ فِي عِبَادِهِ»(1).

وعلى هذا الأساس، لو قيل: إن الأئمة الأطهار(علیهم السّلام)لهم تأثير في تحقق بعض الأحداث أو جميع أمور العالم - بالالتفات إلى التقريرين المتقدمين (العلية الطولية والمظهرية الإلهية) - لن يلزم من ذلك أي تالم فاسد، بل إن بعض الروايات - من قبيل الرواية الدالة على كون النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)والأئمة الأطهار(علیهم السّلام) وسطاء في الفيض، على ما تقدّم في الفصل الأول في بحث فلسفة الإمامة - يُؤيّد هذا المعنى أيضاً.

فضلاً عن ذلك فإن آيات القرآن الكريم، تؤكد على وجود الوسائط في إدارة العالم، فنجد القرآن تارة ينسب مهمة قبض الأرواح لنفسه، وتارة أخرى لملك الموت «عزرائيل»(علیه السّلام)، أو إلى الملائكة في بعض الموارد(2). وقال الله تعالى في محكم كتابه الكريم: ﴿ فَالمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا ﴾(3)، وفي موضع آخر:﴿ فَالْمُقَسْمَاتِ أَمْرًا ﴾(4)، إن هاتين الآيتين الشريفتين تخبران عن وجود إدارة وهناك من يقسّم تدبير أمور العالم والمصداق الأبرز لهؤلاء هم الملائكة المقربون من الله. ويتضح من ذلك أن الله قد ترك إدارة بعض الأمور وتدبيرها

ص: 615


1- الكليني، الكافي، ج 1 ، ص 145 .
2- انظر: السجدة: 11؛ النحل: 32.
3- النازعات: 5 .
4- الذاريات: 4 .

إلى مخلوقاته الأخرى، ومثل هذا التفويض لا يكون باطلاً، بل هو مو موضع تأیید القرآن أيضاً.

وعليه فإن الشيعة عندما يؤكدون على الولاية التكوينية للأئمة الأطهار(علیهم السّلام)وينسبون إليهم تدبير شؤون العالم بإذن الله وعنايته - بأحد المعنيين المتقدمين (العلية الطولية، والمظهرية) - لن يكون في ذلك أي نوع من أنواع التهافت أو المعارضة مع التوحيد الأفعالي والربوبي. ولو أضفنا إلى هذا البحث مبنى الشيعة القاضي بأفضلية أهل البيت على الملائكة وأدلتهم - و قد تقدم بحثه في الفصل الثاني على هامش شبهة أفضلية الإمامة والأئمة - يتضح أن الولاية التكوينية للأئمة أولى بالقبول من الولاية التكوينية للملائكة أيضاً.

حصيلة الكلام أن الولاية التكوينية لأئمة الهدى(علیهم السّلام) ليست في عرض الولاية التكوينية الله، كي تكون متعارضة مع التوحيد الأفعالي والربوبي، وتوهم الشرك، بل أن ولايتهم تقع في طول الولاية الإلهية (سواء في ذلك العلية الحقيقية أو الإعدادية)، وبعبارة عرفانية وروائية: إن المعصومين مظهر وتجل لولاية الله. وبعبارة أخرى: إن أفعال المعصومين، من قبيل نزول المطر، وحفظ السماوات ليس من باب الفاعل الحقيقي «ما منه»، وإنما من باب الوسيلة والأداة القابلة وواسطة الفيض والإفاضة «ما به». وقد تقدم توضيح ذلك وذكر الروايات الواردة بهذا الشان في الفصل الأول تحت عنوان: «الإمام علة البقاء وحفظ الأرض».

ص: 616

المصادر

- أ -

1 - آشوري ،داریوش، دانشنامه سیاسی ،مروارید، طهران، 1382 ه_ ش .

2 - الألباني، محمد ناصر الدين، سلسلة الأحاديث الصحيحة، ج 4،مكتبة المعارف للنشر والتوزيع، الرياض، 1415 ه_

3 - الآلوسي، محمود بن عبد الله، مختصر التحفة الإثنى عشرية، إدارة البحوث الإسلامية، بنارس، 1403 ه_.

4 - الآمدي، سيف الدين، أبكار الأفكار في أصول الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، 2003 م.

5 - الآمدي، سيف الدين، غاية المرام في علم الكلام، دار الكتب العلمية، بيروت، 2004 م.

6 - أحمد بن حنبل، فضائل الصحابة، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1403 ه_

7 - الإسكافي، المعيار والموازنة، تحقيق: الشيخ محمد باقر المحمودي، ترجمه إلى الفارسية : محمود مهدي الدامغاني، نشر ني، طهران، 1374 ه_ ش .

8 - الإسفرائيني، شهقور بن طاهر، التبصير في الدين، خانجي، مصر، 1374ه_.

9 - ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء التراث العربي، 1963م.

10 - ابن الأثير، الكامل في التاريخ، دار بیروت، 1399 ه_ ق.

11 - ابن تيمية، كتب ورسائل وفتاوى ابن تيمية، ج 12، أحمد عبد الحليم بن تيمية، دار النشر: ابن تيمية، ص 2.

ص: 617

12 - ابن تيمية، مجموعة الرسائل الكبرى، ج 6 ، إحياء التراث العربي، بيروت.

13 - ابن تيمية، مجموعة فتاوى ابن تيمية، إعداد: عاصم النجدي.

14 - ابن تيمية، منهاج السنة النبوية، دار النشر: مؤسسة قرطبة، 1406 ه_.

15 - ابن حیان، صحيح ابن حيان، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1414 ه_.

16 - ابن خلدون، تاریخ ابن خلدون، دار الفكر، بيروت، 1421 ه_

17 - ابن خلدون، المقدمة، دار الفكر، بيروت، 1421 ه_

18 - ابن عربي، محيي الدين، الفتوحات المكية، دار صادر، بيروت.

19 - ابن عربي، محيي الدين، فصوص الحكم، مع تعليقات العقيقي، الزهراء، طهران، 1370 .

20 - ابن عساکر، تاريخ مدينة دمشق، دار الفكر، بيروت، 1995 م.

21 - ابن كثير، البداية والنهاية، دار المعرفة، بيروت، 1419 ه_.

22 - ابن میثم، ميثم بن علي، النجاة في القيامة في تحقق أمر الإمامة، بژوهشگاه علوم انساني، 1384.

23 - ابن میثم، ميثم بن علي، شرح نهج البلاغة، نشر: دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1412 ه_

24 - ابن ميثم، ميثم بن علي، قواعد المرام، مكتبة آية الله المرعشي النجفي، قم المقدسة، 1406 ه_.

25 - ابن هشام، السيرة النبوية، دار الفكر، بيروت، 1421 ه_

26 - الإربلي ، ابن أبي الفتح، كشف الغمة، دار الأضواء، بيروت.

27 - الإصفهاني، محمد حسين، حاشية المكاسب، نشر: آل سباع القطيفي، 1418ه_

28 - أمين أحمد ضحى الإسلام، دار الكتاب العربي، بيروت.

29 - أمين، الشيخ، الصراع بين الإسلام والوثنية، إعداد: الشيخ فارس الحسون (تبریزیان).

30 - الأميني (العلامة)، الغدير، دار الكتب الإسلامية، طهران، 1366.

31 - الإيجي، القاضي عضد الدين، المواقف، شرح السيد الشريف الجرجاني، دار الكتب العلمية، بيروت، 1419 ه_.

32 - الإيماني، محمد مهدي، الإمام علي في آراء الخلفاء، ترجمه إلى الفارسية: الشيخ يحيى الكمالي البحراني، مؤسسة المعارف الإسلامية، قم 1420ه_

ص: 618

-ب-

33 - با تورمور، تامس برتون، نخبگان و جامعه، علي رضا طیب، دانشگاه طهران، 1371 ،

34 - بازرگان ،مهدي، آخرت وخدا هدف بعثت، مؤسسة خدمات فرهنگي رسا، طهران، 1377.

35 - الباقلاني، محمد بن طيبة، تمهيد الأوائل، دار الكتاب الثقافة، بيروت، 1414 ه_

36 - البحراني، الشيخ على، منار الهدى في النص على إمامة الأئمة الإثنى عشر، دار المنتظر، بيروت، 1415 ه_

37 - البخاري، محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري، دار ابن كثير، اليمامة، ط 3، بيروت، 1407 ه_

38 - البرفي، محمد، سيماي علي از منظر أهل سنت، دار نشر: إحسان، بيروت، 1383 .

39 - البرقعي، أبو الفضل، تضاد مفاتیح با قرآن.

40 - البروجردي، آية الله العظمى السيد حسين، جامع أحاديث الشيعة، چاپخانه مهر، قم المقدسة، 1409 ه_

41 - البغدادي، أبو بكر، تاريخ بغداد، دار الكتب العلمية، بيروت، 1417 ه_

42 - البغدادي، أحمد بن عبد العزيز السقيفة، تحقيق: محمد هادي الأميني، بيروت: شركة الكتبي، 1401 ه_

43 - البغدادي، عبد القاهر، الفرق بين الفرق، دار الكتب العلمية، بيروت.

44 - البغدادي ،عبدالقاهر، كتاب أصول الدين، دار الفكر، بيروت، 1417ه_.

45 - البلاذري، أحمد، أنساب الأشراف، دار التعارف، بيروت، 1394 ه_

46 - بو علي سينا، إلهيات الشفاء، تقديم وتعليق: إبراهيم مذكور، بيروت.

47 - بی آزار الشيرازي، عبد الكريم، الوحدة الإسلامية أو التقريب بين المذاهب الإسلامية، المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية، طهران، 1384.

48 - بي آزار الشيرازي، عبد الكريم، همبستگي مذاهب إسلامي، دار نشر الهدى، طهران، 1381.

49 - بيات، عبد الرسول و آخرون، فرهنگ واژه ها، مؤسسة انديشه وفرهنگي ديني، قم المقدسة، 1381.

ص: 619

- پ / ت

50 - پوبر، کال ریموند، جامعه باز و دشمنانش، ج ، دار نشر الخوارزمي، 1369 هش.

51 - تارو ،لستر، آینده سرمایه داري، ترجمه إلى الفارسية: عزيز كياوند، نشر دیدار، طهران، 1376 ه_ ش .

52 - التفتازاني، سعد الدين، شرح العقائد النسفية، الكليات الأزهرية.

53 - التفتازاني، سعد الدين، شرح الدين شرح المقاصد، انتشارات الشريف الرضي، قم المقدسة، 1409ه_

- ج / ح / خ -

54 - جعفریان ،رسول، تاریخ تشیع در ایران، انتشارات أنصاريان، قم المقدسة، 1385ه_

55 -جوادي ،سید کمال، فهرستواره ایرادات و شبهات علیه شیعیان در هند وباكستان، وزارت فرهنگ و ارشاد، طهران، 1375 ه_ ش .

56 - جوادي آملي، عبد الله، تفسير موضوعي، توحید در قرآن، ج 2، نشر إسراء، قم المقدسة، 1383.

57 - جوادي آملي، عبد الله، ولایت در قرآن، مرکز نشر فرهنگي رجاء.

58 - الجويني، إمام الحرمين، غياث الأمم في التياث الظلم، الدوحة، 1400ه_.

59 - الجويني، إمام الحرمين، كتاب الإرشاد، مكتبة الخانجي، مصر، 1369ه_ ش.

60 - الحاكم الحسكاني، عبيد الله، شواهد التنزيل لقواعد التفضيل، تحقيق: الشيخ محمد باقر البهبودي، وزارت فرهنگ و ارشاد اسلامی، طهران، 1411 ه_ ش .

61 - الحائري اليزدي، مهدي، حكمت و حکومت، لندن، 1994

62 - حجاریان ،سعید، از شاهد قدسي تا شاهد بازاري.

63 - حجتي كرماني، محمد جواد، صحيفة اطلاعات، بتاريخ : 29 خرداد 1379 ه_.ش.

64 - الحر العاملي، الشيخ وسائل الشيعة مؤسسة آل البيت، قم المقدسة.

65 - الحراني، ابن شعبة، تحف العقول، ترجمه إلى الفارسية: صادق حسن زاده الآملي، انتشارات آل علي، قم المقدسة، 1381 ه_ ش .

66 - الحسيني الخطيب، السيد عبد الزهراء، مصادر نهج البلاغة، ج 1، دار الأضواء، بيروت، 1405 ه_

ص: 620

67 - حسيني طهراني، السيد محمد حسین، امام شناسي، نشر حکمت، طهران، 1362 ه_ ش .

68 - الحكيم، محسن، مستمسك العروة الوثقى، مؤسسة اسماعيليان، قم، 1411 ه_.

69 - الحكيمي، محمدرضا، خورشید مغرب، انتشارات دليل ما، قم، 1382 ه_ش.

70 - الحكيمي، محمد رضا، مشعل جاويد، إعداد: محمد علي مهدوي راد، وزارت فرهنگ و ارشاد، طهران، 1381 ه_.ش.

71 - الحلي ،العلامة، الألفين في إمامة مولانا أمير المؤمنين، دار الهجرة، قم المقدسة، 1409 ه_

72 - الحلي العلامة مبادئ الوصول إلى علم الأصول، مكتب الإعلام الإسلامي، قم المقدسة، 1404ه_

73 - الحمصي الرازي، المنقذ من التقليد، انتشارات اسلامي، قم، 1412ه_

74 - الحنبلي القدسي، أبو عبد الله محمد، الأحاديث المختارة، تحقيق: عبد الملك دهيش، مكتبة النهضة الحديثة، مكة المكرمة، 1410 ه_.

75 - الحنفي، الشيخ نوح، تنقيح الفتاوى، الحامدية.

76 - الخميني، السيد روح الله، التعليقات على شرح الفصوص، مؤسسة باسدار اسلام، قم المقدسة، 1410 ه_.

77 - الخميني، السيد روح الله، صحیفه امام، وزارت ارشاد، طهران، 1378ه_.ش.

78 - الخميني، السيد روح الله، كتاب الطهارة، مؤسسه مطبوعاتي إسماعيليان، قم المقدسة، 1385 ه_ ش .

79 - الخميني، السيد روح الله ، كشف الأسرار.

80 - الخميني، السيد روح الله، مصباح الهداية إلى الولاية، مؤسسة نشر آثار إمام خميني، طهران، 1372 ه_ ش .

81 - الخوئي، السيد أبو القاسم، مصباح الأصول، ج 3، مكتبة الداوري، قم المقدسة، 1367 ه_ ش .

82 - الخوئي، السيد أبو القاسم، معجم رجال الحديث، 1413 ه_

- د / ذ -

83 - الدهلوي الهندي، الشاه ولي الله، التفهيمات الإلهية، تصحيح وتعليق: غلام مصطفى قاسمی، مطبعة الحيدري، باكستان .

ص: 621

84 - الذهبي، الإمام شمس الدين، سير أعلام النبلاء، دار الفكر، بيروت، 1417 ه_

- ر / ز -

85 - الرازي، أبو حاتم، كتاب الزينة، ترجمه إلى الفارسية: علي آقا نوروزي، مركز مطالعات وتحقيقات أديان و مذاهب، قم المقدسة، 1382 ه_ ش .

86 - الربانی الگلپایگانی ،علی مبانى حجیت روايات أهل البيت، مجلة كلام اسلامي، ربيع عام: 1383 ه_ ش .

87 - رستم نژاد، مهدي، شگردهاي دين ستيزي از نگاه قرآن، ياقوت، قم المقدسة، 1381 ه_ ش.

88 - رستم نژاد، مهدي، عاشورا ريشه ها، مدرسة الإمام علي بن أبي طالب، قم المقدسة، 1384 ه_ ش .

89 - رضواني، علي أصغر، امام شناسی در قرآن و پاسخ به شبهات، انتشارات مسجد جمكران، قم المقدسة، 1384 ه_ ش .

90 - الرفاعي، عبد الجبار، معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت، ج 5، و9، وزارت فرهنگ و ارشاد، طهران، 1374 ه_ ش .

91 - ري شهري، محمد ،میزان الحکمة، دفتر تبلیغات اسلامي، قم، 1404 ه_.

92 - الزمخشري، محمود بن عمر، الكشاف، دار الكتاب العربي، بيروت.

- س / ش -

93 - سبحاني، جعفر، الإلهيات على هدى الكتاب والسنة والعقل، مؤسسة الإمام الصادق(علیه السّلام)، قم المقدسة، 1423 ه_

94 - سبحاني، جعفر، حسن وقبح عقلي، مؤسسة الإمام الصادق(علیه السّلام)، قم المقدسة، 1382 ه_ ش.

95 - سبحاني، جعفر، ولايت تشريعي وتكويني، مؤسسة الإمام الصادق(علیه السّلام)، قم المقدسة، 1382 ه_ ش .

96 - سروش، عبد الكريم، بسط تجربه نبوي، مؤسسه فرهنگي صراط، طهران، 1376 ه_ ش .

97 - سروش عبد الکریم، فربه تر از ایدئولوژي، مؤسسة فرهنگی صراط، طهران،1376 ه_ ش .

ص: 622

98 - السيد المرتضى، ( علم الهدى)، الذخيرة في علم الكلام، جامعه مدرسين، قم المقدسة، 1370 ه_ ش .

99 - السيد المرتضى، ( علم الهدى)، الشافي في الإمامة، مؤسسة الإمام الصادق(علیه السّلام)، بيروت، 1426 ه_ ق .

100 - شرف الدين، عبد الحسين، الفصول المهمة في تأليف الأمة، المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية، طهران، 1417ه_.

101 - شرف الدين، عبد الحسين، المراجعات، مؤسسة الأعلمي، بيروت، 1416 ه_

102 - الشعراني، أبو الحسن، ترجمة وشرح كشف المراد، كتابفروشي اسلامية، طهران، 1363 ه_ ش .

103 - الشوشتري ، الشيخ محمد تقي، بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة، أمير كبير، طهران، 1376 ه_ ش .

104 - الشوكاني، فتح القدير من علم التفسير، مكتبة الرشد، الرياض، 1423ه_.

105 - شومبیتر ،جوزیف، کاپیتالیسم سوساليسم ودموكراسي، حسن منصور، نشر مركز، طهران، 1375 ه_ ش .

106 - الشهرستاني، عبد الكريم، الملل والنحل، دار المعارف، بيروت.

107 - الشهرستاني، عبد الكريم، نهاية الإقدام، مكتبة المتنبي، القاهرة.

108 - الشيرازي، السيد محمد حسين، الفقه، كتاب الحكم في الإسلام، دار القرآن الكريم، قم المقدسة.

- ص / ض -

109 - الصافي الگلپایگانی، لطف الله، امامت و مهدویت، انتشارات حضرت معصومه، قم المقدسة، 1380 ه_ ش .

110 - الصدر، السيد صدر الدين، المهدي، دفتر تبليغات اسلامي، قم المقدسة، 1379 ه_ ش .

111 - الصدر، السيد محمد باقر، الأعمال الكاملة، ج 12، دار التعارف، بيروت.

112 - الصدر، السيد محمد باقر، بحث حول الولاية، دار التعارف، بيروت، 1399 ه_

113 - صدر المتألهين، محمد، تفسير القرآن الكريم، انتشارات بيدار، قم المقدسة، 1361 ه_ ش .

ص: 623

114 - الصدوق، محمد بن عل، الاعتقادات، الموجود في سلسلة مؤلفات الشيخ المفيد، ج

115 - الصدوق، محمد بن علي، الهداية، مؤسسة الإمام الهادي، قم ، 1418ه_

116 - ضيائي فر، سعید، جایگاه مباني کلامي اجتهاد، بوستان كتاب، قم المقدسة، 1382 ه_ ش .

- ط -

117 - الطباطبائي، السيد محمد حسین، اسلام و انسان معاصر، إعداد: السيد هادي خسروشاهي، انتشارات رسالت، طهران، 1379 ه_ ش .

118 - الطباطبائي، السيد محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، مؤسسة الأعلمي، بيروت، 1417 ه_ ق .

119 - الطباطبائي، السيد محمد حسين، حاشية الكفاية، بنياد علمي علامه طباطبائی، طهران.

120 - الطباطبائي، السيد محمد حسین، شیعه در اسلام، انتشارات اسلامي، قم المقدسة، 1362 ه_ ش .

121 - الطباطبائي، السيد محمد حسین، ظهور شيعه، نشر شریعت، طهران.

122 - الطباطبائي، السيد محمد حسین، قرآن در اسلام، انتشارات اسلامي، قم المقدسة، 1361 ه_ ش .

123 - الطباطبائي، السيد محمد حسين، معنويت تشيع، إعداد: محمد بديعي، انتشارات تشيع، قم المقدسة.

124 - الطبراني، سليمان أبو القاسم، المعجم الأوسط، القاهرة، دار الحرمين، 1415 ه_

125 - الطبراني، سليمان أبو القاسم، المعجم الكبير، مكتبة الزهراء، الموصل 1404 ه_

126 - الطبري، أبو جعفر، تاريخ الطبري، دار ومكتبة الهلال، بيروت، 1424ه_

127 - الطبسي، نجم الدین، چشم اندازي به حکومت مهدي، بوستان کتاب، قم المقدسة، 1382 ه_ ش .

128 - الطوسي، نصير الدين، تلخيص المحصل، دار الأضواء، بيروت، 1985م.

129 - الطوسي، نصير الدين، شرح العبارات المصطلحة بين المتكلمين.

130 - الطوسي، نصير الدين، كشف المراد، انتشارات مصطفوي، قم المقدسة.

ص: 624

- ع / غ -

131 - عبد الجبار، القاضي، المغنى في أبواب التوحيد والعدل، المؤسسة المصرية العامة، القاهرة.

132 - عبد الجبار، القاضي، شرح الأصول الخمسة، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1422 ه_

133 - عبد الرحمن، صالح، عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب.

134 - عبد الصمد، عبد الفتاح، خاستگاه خلافت، ترجمه إلى الفارسية: السيد حسن افتخار زاده، نشر آفاق، طهران، 1376 ه_ ش .

135 - العراقي الحنفي، أبو محمد عثمان، الفرق المفترقة بين أهل الزيغ والزندقة.

136 - العطاردي الخبوشاني، عزیز الله، مسند الرضا، کنگره جهاني حضرت امام رضا(علیه السّلام)، 1406 ه_

137 - الغزالي، أبو حامد، الاقتصاد في الاعقادات، دار الهلال، بیروت 1993م.

138 - الغزالي، أبو حامد، المستصفى في علم الأصول، دار الفكر، بيروت، 1322 ه_ ش.

139 - الغزالي، أبو حامد، قواعد العقائد، نشر موقع الوراق، الموجود في المكتبة الإلكترونية الشاملة.

- ف / ق -

140 - الفاضل المقداد، السيوري، اللوامع الإلهية، مكتب الإعلام الإسلامي، قم المقدسة، 1422 ه_.

141 - الفخر الرازي، الأربعين.

142 - الفخر الرازي، التفسير الكبير ، دار الفكر، بيروت، 1415 ه_

143 - الفضل بن شاذان ،الإيضاح، مؤسسة الأعلمي، بيروت، 1420 ه_

144 - القبانجي، أحمد، خلافة الإمام علي بالنص أم بالنصب؟ منشور سيدي، قم والنجف، 2004م.

145 - قدردان قراملكي، محمدحسن، آیین خاتم، بژوهشگاه فرهنگ و اندیشه اسلامي، طهران، 1386 ه_ ش .

146 - قدردان قراملکي، محمد حسن، سکولاریزم در مسیحیت و اسلام، دفتر تبليغات اسلامي، قم المقدسة، 1378 ه_ ش.

ص: 625

147 - قدردان قراملكي، محمد حسن، كلام فلسفي، انتشارات وثوق، قم المقدسة، 1383 ه_ ش .

148 - قدردان قراملکي، محمد حسن، معجزه در قلمرو عقل ودين، دفتر تبلیغات اسلامي، قم المقدسة، 1381 ه_ ش .

149 - قلمداران ،علی، حکومت در اسلام، مؤسسه مطبوعاتي إسماعيليان، طهران، 1385 ه_ ش .

150 - قلمداران، علي، شاهراه اتحاد، تقديم وتهميش: السيد أبو الفضل البرقعي.

151 - القصيمي، عبد الله، الصراع بين الإسلام والوثنية.

152 - القندوزي الحنفي، سليمان بن إبراهيم، ينابيع المودة لذوي القربى، دار الأسوة للطباعة والنشر، طهران، 1416ه_

153 - القوشجي، علاء الدين، شرح التجريد، الطبعة الحجرية.

154 - القيصري، داود، شرح فصوص الحكم، انتشارات علمي وفرهنگي، طهران، 1375 ه_ ش .

- ك / گ -

155 - الكاتب، أحمد، تطور الفكر السياسي من الشورى إلى ولاية الفقيه، دار الجديد، بيروت، 1998 م.

156 - كاشف الغطاء، الشيخ محمد حسين، أصل الشيعة وأصولها، دار الأضواء، بيروت، 2003 م.

157 - كلايمرودي وآخرون، آشنائی با علم سیاست، ترجمه إلى الفارسية: بهرام ملكوتي، سيمرغ طهران.

158 - الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، دار الكتاب الإسلامية، طهران، 1365 ه_ ش.

159 - غينون، رینه، بحران دنياي متجدّد، ترجمه إلى الفارسية: ضياء الدين دهشيري، أمير كبير، طهران، 1378 ه_ ش.

160 - غيدنز، أنطوني، جامعه شناسي، ترجمه إلى الفارسية: منوتشهر صبوري، نشر ني، طهران، 1373 ه_.ش.

ص: 626

- ل -

161 - اللاهيجي، عبد الرزاق، گوهر مراد، نشر سایه، طهران، 1383 ه_ ش.

162 - لباف، علي، معماري نام، نشر منير، طهران، 1384 ه_ ش .

163 - لباف، علي، مظلومي گمشده در سقیفه ،منیر، طهران، 1381 ه_ ش.

164 - اللكهنوي، مير حامد حسين، خلاصة عقبات الأنوار، إعداد ونشر: السيد علي الميلاني، 1414 ه_

- م -

165 - الماتريدي، أبو منصور، تأويلات أهل السنة، مؤسسة الرسالة، بيروت، 2004 م.

166 - الماوردي، علي بن محمد، الأحكام السلطانية، المجمع العلمي، بغداد، 1422

167 - المتقي، علي بن حسام، كنز العمال، دار الكتب العلمية، بيروت، 1424ه_.

168 - مجتهد شبستري، محمد، 1379 نقدي بر قرائت رسمي از دين، طرح نو، طهران، 1379 ه_ ش .

169 - المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، دار الكتب الإسلامية، طهران.

170 - المجلسي، محمد باقر، مرآة العقول، دار الكتب الإسلامية، طهران، 1363ه_ ش.

171 - المرعشي النجفي، السيد محمود ،وإسفندياري ،محمد، موسوعة الإمامة في نصوص أهل السنة، مكتبة آية الله المرعشي النجفي، قم المقدسة.

172 - المسعودي، أبوالحسن، مروج الذهب، مؤسسة النور، بيروت، 1421ه_ ق.

173 - المسعودي، علي، إثبات الوصية، دار الأضواء، بيروت، 1409 ه_.

174 - مسلم بن حجاج، صحیح مسلم، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت.

175 - مصباح اليزدي، محمد تقي، آموزش عقاید، سازمان تبلیغات اسلامي، طهران، 1378 ه_ ش .

176 - مطهري، مرتضی، آشنائی با علوم اسلامي، انتشارات اسلامي، قم المقدسة.

177 - مطهري، مرتضی، امامت و رهبري، صدرا، طهران، 1366 ه_ ش .

ص: 627

178 - مطهري، مرتضی، حماسه حسيني، صدرا، طهران، 1365 ه_ ش .

179 - مطهري ،مرتضی ،خاتمیت صدرا، طهران، 1366 ه_ ش .

180 - مطهري ،مرتضى، سيري در نهج البلاغة، انتشارات اسلامي، قم المقدسة، 1361 ه_ ش .

181 - مطهري، مرتضی، عدل الهي، انتشارات اسلامي، قم المقدسة.

182 - مطهري، مرتضی، قيام وانقلاب مهدي، صدرا، طهران، 1398 ه_

183 - مطهري، مرتضى، الأعمال الكاملة، صدرا، طهران.

184 - مطهري ،مرتضی ،نبوت صدرا، طهران، 1377 ه_ ش .

185 - مطهري، مرتضى، ولاءها وولايت ها، صدرا، طهران، 1377 ه_ ش.

186 - المظفر، محمدرضا، أصول الفقه، دفتر تبليغات اسلامي، قم، 1379ه_ش.

187 - مغنية، الشيخ محمد جواد، الشيعة في الميزان، مؤسسة دار الكتاب الإسلامي، بيروت، 1427 ه_

188 - المفيد، محمد بن النعمان، سلسلة مؤلفات الشيخ المفيد، دار المفيد، بيروت، 1414 ه_

189 - مكارم الشيرازي ،ناصر، أنوار الفقاهة، كتاب البيع ، ج 1، مدرسة الإمام علي بن أبي طالب، 1371 ه_ ش.

190 - منتظري، حسين علي، دراسات في ولاية الفقيه، دار الفكر، طهران.

191 - موثقي، سيد أحمد، استراتژي وحدت در اندیشه اسلام، دفتر تبلیغات اسلامي، قم المقدسة، 1370 ه_ ش .

192 - موسوي، عبد الحميد، مجلة (نداي اسلام)، الصادرة عن الحوزة العلمية لأهل السنة في زاهدان، العدد:9، ربيع عام 1381 ه_ ش .

193 - الموسوي الهندي، السيد ناصر حسين، إفحام الأعداء والخصوم بتكذيب ما افتروه على سيدتنا أم كلثوم، مكتبة نينوى، طهران.

194 - مير لوحي، السيد أبو الفضل، تجلي فضيلت (اعترافات ابن أبي الحديد)، ترجمه إلى الفارسية: حسين شفيعي، انتشارات اسلامي، قم المقدسة، 1375 ه_ ش .

195 - الميلاني، السيد علي، إبطال ما استدل به لإمامة أبي بكر، مركز الأبحاث العقائدية، قم المقدسة، 1421 ه_.

196 - الميلاني، السيد علي، امامت بلا فصل، الموجود في مكتبة أهل البيت الإلكترونية.

ص: 628

197 - الميلاني، السيد علي، تزويج أم كلثوم من عمر، مركز الأبحاث العقائدية، قم المقدسة، 1421 ه_.

- ن -

198 - ناظم زادة قمي، سيد أصغر، الفصول المئة في حياة أبي الأئمة علي بن أبي طالب، الناشر : المؤلف، توزيع انتشارات أهل البيت، قم المقدسة، 1411 ه_

199 - النائيني، محمد حسين، تنبيه الأمة وتنزيه الملة، شركت سهامي خاص، طهران.

200 - النسفي، عمر بن محمد، العقائد النسفية، في شرح عقائد أهل السنة، عبد الملك السعدي، انتشارات کردستان، سنندج، 1380 ه_ ش.

201 - النوبختي، أبو محمد الحسن بن موسى، فرق الشيعة، انتشارات مرتضوي، النجف، 1355 ه_.

202 - النوري، حسين، مستدرك الوسائل، مؤسسة آل البيت، قم، 1408 ه_

203 - النيسابوري، الحاكم، شواهد التنزيل لقواعد التفضيل في الآيات النازلة في أهل البيت، وزارة الإرشاد، طهران، 1411ه_

204 - نيكوئي، حجة الله، تئوري إلهي إمامت در ترازوي نقد.

- ه_ / ي -

205 - الهاشمي الشافعي، السيد محمد طاهر، مناقب أهل البیت از دیدگاه اهل سنت،بنیاد بژوهشهاي اسلامي، مشهد المقدسة، 1378 ه_ ش .

206 - اليعقوبي، ابن واضح، تاريخ اليعقوبي، ترجمه إلى الفارسية: محمد آيتي، انتشارات علمي فرهنگي، 1374ه_.ش.

207 - يوسفيان، حسن؛ شريفي، أحمد، پژوهشي در عصمت معصومان، چژوهشگاه فرهنگ و اندیشه اسلامی، طهران، 1377 ه_.ش.

المقالات

208 - سروش، عبد الكريم، اسلام ووحي، مجلة آفتاب، العدد: 15، بتاريخ: شهر اردیبهشت / 1381 ه_ ش .

ص: 629

209 - سروش، عبدالکریم، تشیّع و چالش مردم سالاري، موقع سروش، كلمته في جامعة السوربون الفرنسية، بتاريخ: شهر مرداد، 1381 ه_ ش.

210 - کدیور، محسن، بازخواني امامت در برتو نهضت حسيني، صحيفة شرق، وكذلك موقع كديور، العدد: 14 - 15 ، بتاريخ : اسفند، 1384 ه_ ش .

211 - كديور ،محسن، قرائت فراموش شده، مجلة مدرسة، وكذلك موقع كديور، العدد:3، بتاریخ: اردیبهشت، 1385 ه_ ش .

212 - مجتهد شبستري، محمد، مجلة كيان، العدد: 45 .

213 - نعماني، عبد العزيز، حضرت فاطمة زهراء از ولادت تا افسانه شهادت، مجله نداي اسلام، العدد: 2، الحوزة العلمة لأهل السنة في زاهدان .

214 - واعظ زاده الخراساني، محمد، راه کارهای تحکیم وحدت اسلامي مجلة هفت آسمان، العدد:،30

215 - واعظ زاده الخراساني، محمد، حوار، مجلة كتاب نقد، العدد: 19، صيف عام 1380 ه_ ش .

216 - واعظ زاده الخراساني، محمد، مجلة مطالعات اسلامي، العدد: 60.

217 - واعظ زاده الخراساني، محمد، حوار مجلة نهج البلاغة، العدد: 4 - 5.

ص: 630

المحتويات

مقدمة ... 5

الفصل الأول

أمور عامة

أولاً : ماهية الإمامة ... 11

أ - الإمامة من وجهة نظر أهل السنة ... 11

ب - الإمامة من وجهة نظر الإمامية ... 14

1 - طريقة تعيين الحاكم (أصل التنصيب أو الانتخاب) ... 17

1 - الحد الأدنى والأعلى من اتصاف الإمام بصفة ... 19

- الحجية الإلهية والمرجعية العلمية والدينية للإمام ... 21

4 - الإمام واسطة الفيض والقطب (الاتجاه الفلسفي - العرفاني) ... 21

ه - وجوب الإمامة عقلي أم نقلي ؟ ... 23

ج - مراتب وشؤون الإمام والإمامة ... 25

ثانياً : فلسفة الإمامة ... 27

ص: 631

أ - هداية البشر ... 28

ب - المرجعية الدينية ... 29

ج - عدم البلوغ العقلي الكامل للمخاطبين ... 30

د - تشريع الأحكام الفرعية ... 32

ه_ - إقامة الحكومة الدينية ... 33

و - الأئمة وسائط الفيض الإلهي ... 34

ثالثاً: وجوب معرفة الإمام ... 40

رابعاً: إثبات نظرية الشيعة في تنصيب الإمام ... 42

أولاً: الاتجاه النقلي ... 42

ثانياً: الاتجاه التحليلي والعقلي ... 43

النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)على مفترق ثلاثة طرق ... 44

الأدلة والشواهد على وجوب التنصيب ... 45

أ - الأخطار الخارجية والداخلية التي تهدّد الإسلام ... 46

ب - التنصيب عنصر الصيانة والوحدة ومنع الخلافات القومية ... 46

ج - العلم بالأصلح وضرورة التعريف به وتنصيبه ... 48

د - عصمة الإمام تقتضي التنصيب ... 49

ه_- تنصيب الإمام من لوازم خلود الدين وخاتمیته ... 49

و - تعيين الخليفة منهج متبع لدى جميع الأنبياء السابقين ... 50

ز - وصية القرآن الكريم بتعيين الخليفة والوصي ... 51

ح - تعيين الخليفة منهج للنبي الأكرم في إدارة الدولة ... 51

ص: 632

ط - لازم عدم النصّ أفضلية الخليفتين الأولين على النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم) ... 52

ي - الكشف دون التنصيب ... 54

ك - الإشكالات الفقهية والحقوقية الواردة على نظرية الخصم ... 55

مصداق التنصيب ... 56

الفصل الثاني

شبهات الإمامة ونقدها

الشبهة الأولى: نظرية وجوب الإمامة تعيين للتكليف على الله تعالى ... 59

مناقشة وتحليل ... 59

أ - الإشكال المرتبط بإنكار الحُسن والقبح العقليين ... 60

ب - الخلط بين الوجوبين الاعتباري والتكويني ... 61

الشبهة الثانية: اعتبار نظرية وجوب تعيين الإمام بدعة ... 62

مناقشة وتحليل ... 63

الشبهة الثالثة : البدعة في اعتبار الإمامة مسألة كلامية ... 68

الشبهة الرابعة: تكفير من ينكر الإمامة ... 70

الشبهة الخامسة توريث الإمامة ... 78

اعتراف علماء أهل السنة بفضائل الأئمة ... 81

اعتراف الخلفاء الثلاثة ... 81

اعتراف أئمة المذاهب الفقهية الأربعة بفضائل الأئمة ... 81

اعتراف المعتزلة ... 83

الشبهة السادسة : الإمامة في الصغر ... 84

الشبهة السابعة : أفضلية الإمامة على النبوة ... 94

الشبهة الثامنة: أفضلية أئمة الشيعة على الأنبياء(علیهم السّلام) ... 99

ص: 633

أ - أهل البيت هم المخلوق الإلهى الأول ... 102

ب - كتابة أسماء الأئمة فى الجنة وتعريف الأنبياء بها ... 103

ج - النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)والأئمة(علیهم السّلام)غاية الخلق ... 104

د - عدم قياس أحد بالأئمة(علیهم السّلام) ... 105

ه_ - التصريح بأفضلية الإمام علي(علیه السّلام) ... 106

و - الروايات المأثورة عن الأئمة الأطهار(علیهم السّلام) ... 107

الشبهة التاسعة: استبعاد مقام الإمامة من دون نبوّة ... 109

مناقشة وتحليل (الولاية جوهر النبوة) ... 109

الشبهة العاشرة: عدم انسجام الإمامة مع الديمقراطية ... 111

نقد ورأي ... 112

النقد الأول: تعدّد نماذج الديمقراطية ... 112

النقد الثاني: مشاركة الشعب في مضمار السياسة عند الشيعة ... 119

النقد الثالث : اختلاف الإمامة عن الحكومة... 125

النقد الرابع: الأئمة المنتخبون حصرياً هم الحكام الأكفاء...127

النقد الخامس : حاجة الديمقراطية الحقيقية للأرضية المناسبة ... 128

النقد السادس : تقديم الحكم الإلهي على الديمقراطية ... 130

النقد السابع: ثغرات الديمقراطية ... 130

إقرار المفكرين الغربيين ... 132

النقد الثامن: جواب نقضي ... 133

تقييم عام ...134

الشبهة الحادية عشرة: غيبة الإمام تنافي فلسفة ضرورة الإمامة ... 135

نقد ورأي ... 136

ص: 634

1 - ضرورة الإمام المعصوم في صدر الإسلام ... 136

2 - إعطاء اللطف الإلهي رهن بعدم المانع ... 139

3 - إمكان الهداية التشريعية والتكوينية في عصر الغيبة ... 139

4 - فوائد أخرى للغيبة والانتظار ... 142

الشبهة الثانية عشرة: عدم انسجام المهدوية مع الديمقراطية ... 142

نقد ورأي ... 144

أ - تجاهل فضائل المجتمع المهدوي ... 144

إشارة إلى خصائص الحكومة المهدوية العالمية ... 144

ب - موافقة جميع المواطنين عن حكومة الإمام المهدي(علیه السّلام) ... 149

الديمقراطية وسيلة ومقدمة وليست هدفاً وغاية ... 150

د - المسلمون هم غالبية المجتمع المهدوي ... 152

ه_ - رعاية حقوق الأقليات ... 152

الفصل الثالث

شبهة التنافي بين الإمامة_وأصل الخاتمية

الشبهة الأولى: المبنى العقلي لضرورة الإمامة يتنافى مع الخاتمية... 157

مناقشة وتحليل ... 158

اختلاف صدر الإسلام عن عصر الغيبة ... 159

الشبهة الثانية: تنافي عصمة الإمام مع الخاتمية ... 161

رأي وتحليل ... 162

1 - اختصاص العصمة بالانبياء(علیهم السّلام)مجرد دعوى بلا دليل ... 162

2 - جوهر الإمامة يقتضي العصمة ... 163

3 - الدليل العقلي على ضرورة وجود المعصوم ... 164

ص: 635

4 - دلالة الأدلة القرآنية على عصمة أهل البيت(علیهم السّلام) ... 165

5 - دلالة الروايات النبوية على عصمة الأئمة ... 166

أ - علي(علیه السّلام)ميزان الحق ... 168

ب - علي(علیه السّلام)يلازم القرآن والحق ويلازمانه ... 169

ج - علي(علیه السّلام)مرجع التمييز بين الحق والباطل ... 169

6 - دلالة الروايات الولائية على العصمة ... 170

7 - الاعتقاد بالعصمة من قبل بعض أهل السنة ... 172

الشبهة الثالثة: القول بوجوب إطاعة الإمام يتنافى مع الخاتمية ... 173

الشبهة الرابعة: القول بالحجية الإلهية للأئمة ينافي الخاتمية... 175

تقرير الشبهة ... 176

أ - عدم الانسجام مع الشخصية الحقوقية للنبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم) ... 176

ب - عدم حجية روايات الأئمة(علیهم السّلام) ... 177

نقد ورأي ... 179

أ - مجرّد دعوى من دون دليل ... 179

ب - الحجة وافتراض الطاعة من لوازم العصمة ...179

ج - أمر القرآن بالإطاعة وجعل الحجية ... 180

د - جعل الحجية من قبل النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم) ... 181

ه- - حجية الإمام علي(علیه السّلام)في طول حجية النبي وحجية الله ... 187

البرقعي وتمسكه بالأدلة النقلية في تقرير الشبهة ... 188

أ - دلالة القرآن على خاتمية الحجة الإلهية؟! ... 188

ب - كلام الإمام علي(علیه السّلام)في خاتمية الحجة الإلهية؟! ... 189

ج - حصر الحجة بالنبي والعقل ... 193

ص: 636

الشبهة الخامسة: عدم انسجام الإلهام والولاية الباطنية للإمام مع الخاتمية ... 195

أ - تحقق الإلهام والاتصال الغيبي لغير الأنبياء ... 196

ب - مقام الإمامة والولاية أسمى من مقام النبوة (رؤية عرفانية) ... 203

ج - اعتراف أهل السنة بأصل الإلهام والمكاشفة ... 205

د - التصريح بالروح الباطنية للأئمة في الروايات النبوية ... 207

ه- - الجواب النقضي على شبهة الدهلوي والدكتور سروش ... 209

الشبهة السادسة: عدم انسجام الولاية التشريعية للإمام مع كمال الدين وخاتميته ... 213

أ - توضيح أصل التشريع والتخطئة ... 216

ب - تشريع النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)كاشف عن الواقع ... 218

ج - تشريع الأئمة(علیهم السّلام)في طول التشريع النبوي ومكمل له ... 220

د - تشريع الأئمة(علیهم السّلام)في طول التشريع الإلهي ... 221

ه- تشريع الأئمة(علیهم السّلام)مكمل للدين في الجزئيات ... 226

و - الجمع بين نظرية الموافقين والمخالفين ... 228

الشبهة السابعة: تعارض علم الإمام اللدني مع الخاتمية ... 230

أ - عدم اختصاص العلم اللدني بالأنبياء ... 231

ب - تصريح النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)بالعلم اللدني للأئمة(علیهم السّلام) ... 233

ج - تصريح الإمام علي(علیه السّلام)بعلمه للغيب ... 234

د - اعتراف بعض أهل السنة بعلم الإمام للغيب ... 236

ه- - علم الغيب من نتائج الولاية الباطنية ... 237

الشبهة الثامنة: تفويض أمور النبوة للإمام نقض للخاتمية ... 240

مناقشة وتحليل ... 241

ص: 637

الفصل الرابع

شبهات حول أصل التنصيب ونقدها

الشبهة الأولى: عدم ذكر التنصيب في القرآن الكريم ... 245

وجود الآيات الظاهرة في التنصيب ... 246

1 - آية التطهير ... 246

2 - آية الإنذار ... 247

3 - آية الولاية ... 248

4 - آية التبليغ ... 251

5 - آية إكمال الدين ... 253

6 - آية أولي الأمر ... 254

الشبهة الثانية: عدم ذكر اسم الإمام علي(علیه السّلام)في القرآن الكريم ... 256

أ - ذكر الصفات الخاصة يغني عن التصريح بالاسم ... 257

ب - تحويل الشبهة إلى شبهة أخرى ... 258

ج - ذكر اسم الإمام علي(علیه السّلام)في الروايات النبوية ... 259

د - تفويض الأمور الدينية إلى النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم) ... 260

المنع من تحريف القرآن ... 261

و - الوقاية من الآفات السياسية والأمنية ... 262

الشبهة الثالثة عدم وجود التنصيب في الروايات النبوية ... 265

أولاً: أحاديث الخلافة ... 266

التصريح بخلافة الإمام علي(علیه السّلام) ... 268

حديث خاصف النعل ... 270

ثانياً: أحاديث إمامة أمير المؤمنين واستيزاره ... 271

ص: 638

ثالثاً: حديث الغدير ... 273

رابعاً: أحاديث المنزلة ... 280

خامساً: حديث الدواة والقلم (الوصية غير المكتوبة) ... 281

سادساً: أحاديث الحجة ... 287

سابعاً : أحاديث العصمة ... 288

ثامناً: روايات المرجعية العلمية والدينية ... 288

الشبهة الرابعة: التنصيب عنصر تفرقة ... 296

أ - لزوم التبعية للحكم الشرعي ... 297

ب - التنصيب الخاص أفضل خيار ... 298

ج - إمكان الخطأ في الانتخاب ... 298

د - صفح علي(علیه السّلام)محور المحافظة على وحدة الأمة ... 301

ه_ - جواب نقضي (تنصيب الخليفة الأول والثاني) ... 302

و - جواب الآمدي ... 303

الشبهة الخامسة: عدم اشتهار التنصيب ... 304

أ - تأويل النص من قبل بعض الصحابة ... 305

ب - إمكان الاختفاء ... 305

ج - وجود الدوافع السياسية في مسألة الإمامة ... 307

د - تصريح الإمام علي(علیه السّلام)وبعض الصحابة بوجود النص ... 308

ه_ - الفصل بين الإمامة والخلافة ... 309

و - عدم دلالة عدم الاشتهار على العدم ... 310

ز - عدم الملازمة بين ترك النص والكفر ... 311

الشبهة السادسة : مبايعة الصحابة لمرشح السقيفة ... 311

ص: 639

أ - استعجال تشكيل السقيفة وعدم مشروعيتها ... 313

ب - الدوافع الدنيوية في بيعة السقيفة ... 316

ج - البيعة بالإكراه والإجبار ... 319

د - المخالفون لنتائج السقيفة ... 321

ه_ - وقفة على حديث «لا تجتمع أمتي على خطأ»... 329

ز - اختفاء النص ونسيانه ... 331

ح - المنع من انتشار نظرية «النص» ... 331

ط - القراءة العلمانية للنص ... 332

ي - إبعاد الإمام علي(علیه السّلام)بذرائع واهية ... 333

الشبهة السابعة: عدم احتجاج الإمام على(علیه السّلام)بأصل التنصيب ... 334

أولاً: الروايات الواردة بلفظ النصب والعهد والاختصاص ... 336

الثاني: حديث الغدير ... 339

ثالثاً: حديث المنزلة ... 347

رابعاً: حديث الخلافة ... 350

خامساً: حديث الوزارة ... 352

سادساً: حديث أمير المؤمنين ... 355

الاستنتاجات ... 356

الشبهة الثامنة: عدم مبادرة الإمام للتصدي إلى الحكم ... 358

أ - الاعتصام في بيت السيدة فاطمة الزهراء(سلام الله علیها)... 358

ب - كراهة البيعة ... 359

ج - النشاط السري والعلني والمواجهة المسلحة ... 360

د - نصوص الإمام(علیه السّلام)بشأن الإمامة ... 363

الشبهة التاسعة: سكوت الإمام علي(علیه السّلام) ... 363

ص: 640

أ - غياب الأنصار ... 364

ب - عدم حلول الوقت المناسب ... 365

ج - الحفاظ على وحدة المسلمين ... 366

د - تنازل الإمام عن حقه ... 367

الشبهة العاشرة: قبول الإمام علي(علیه السّلام)ببيعة أبي بكر ... 368

أ - الحيلولة دون الكفر والردة ... 369

ب - الحفاظ على وحدة المسلمين ... 370

ج - الحيلولة دون سفك الدماء ... 372

د - عدم اعتبار الإجماع ... 372

الشبهة الحادية عشرة: المشاركة في شورى تعيين الخليفة الثالث ... 374

أ - دفع شبهة العلمانيين ... 375

ب - إتمام الحجة ... 376

ج - تجنّب الخلاف والحفاظ على وحدة المسلمين وتماسكهم ... 377

د - نقض موقف الخليفة الثاني ... 377

ه_ - نفي تهمة الاستبداد بالرأي ... 378

و - روايات وسلوك الإمام ناقض لمشروعية الخلفاء ... 379

الشبهة الثانية عشرة: رفض التصدي للخلافة بعد مقتل عثمان ... 380

أ - الاعتراض على سيرة الخلفاء السابقين ... 382

ب - إتمام الحجة ... 383

ج - التنبؤ بالفتن القادمة ... 383

د - دفع شبهة التهالك على الحكم والسلطة ... 385

ه_ - الشكوى من الناس ... 385

و - نفي صلاحية الناس والاستهزاء بهم ... 386

ص: 641

الشبهة الثالثة عشرة: تعاون الإمام علي(علیه السّلام)مع الخلفاء ... 386

الشبهة الرابعة عشرة: اقتداء الإمام علي(علیه السّلام)بصلاة الخلفاء ... 390

أ - نفى الاقتداء وإنكار حصوله ... 391

ب - وقوع الخلاف بين المسلمين بسبب عدم حضور الإمام في الجماعة ... 391

ج - اعتبار عدم الحضور تركاً للفرائض الدينية ... 392

د - صحة الصلاة ... 393

الشبهة الخامسة عشرة: العلاقة الأسرية مع الخليفة الثاني ... 395

أ - التشكيك في سند الحديث ...396

ب - عدم الدلالة على المدعى ... 398

ج - تصريح الإمام علي(علیه السّلام)بغصب الخلفاء حقه ... 398

د - مراعاة المصلحة ... 399

ه_ - التهديد والإكراه ... 401

و - جواب نقضي ... 402

الشبهة السادسة عشرة: تسمية الإمام علي(علیه السّلام)ثلاثة من أبنائه بأسماء الخلفاء ... 303

أ - سطحية هذا الدليل وعدم دلالته على المدعى ... 404

ب - شيوع التسمية بأسماء المخالفين ... 404

ج - فرض الأسماء بالإكراه ... 407

د - عثمان اسم صاحب الأمام(علیه السّلام) ... 408

ه_ - اللجوء إلى التورية ... 408

الشبهة السابعة عشرة: الثناء على الخلفاء ... 410

أ - المشكلة السندية في روايات أهل السنة... 411

ب - عدم ذكر روايات الأفضلية في المصادر الشيعية ... 413

ج - تعارض هذه الرواية مع روايات أخرى في مصادر أهل السنة... 413

ص: 642

مناقشة وتحليل رواية نهج البلاغة (لله بلاد فلان) ... 415

تحلیل رواية إبراهيم بن محمد الثقفى (فتولى أبو بكر) ... 422

الشبهة الثامنة عشرة: تعارض نصوص الخلافة ... 427

أ - عدم وجود روايات خلافة أبي بكر في المصادر الشيعية ... 428

ب - ضعف النصوص الوارد في مصادر أهل السنة على خلافة أبي بكر ... 428

ج - اعتراف أهل السنة بعدم النص ... 430

د - عدم تمسك أبي بكر وعمر بالنص ... 431

ه_ - إقرار الخليفة الأول ... 432

و - إقرار الخليفة الثاني وغيره بالنص على الإمام علي(علیه السّلام) ... 433

الفصل الخامين

الشبهة في دلالة النصوص على إمامة علي(علیه السّلام)

التأويل الأول: بيان الأولوية والأحقية ... 443

أ - الاجتهاد في مقابل النص ... 445

ب - تعارض التأويلات مع سيرة الإمام على(علیه السّلام) ... 447

ج - تعارض التأويلات مع مواقف بعض الصحابة وسائر الأئمة ... 450

د - حيرة المتأولين ما بين الإمام علي(علیه السّلام)وبعض الصحابة ... 451

ه_ - وجوب اتباع الحق دون الأشخاص... 453

و - عدم دلالة شيء على نفي ما عداه ... 454

التأويل الثاني: الحمل على الترشيح ... 455

أ - الأصالة التأسيسية والاحترازية في عملية التقنين ... 457

ب - ظهور الروايات في الجعل والإنشاء بل نصها... 458

ج - التعارض مع سيرة الإمام(علیه السّلام) ... 458

ص: 643

د - التفسير العلماني للإمامة ... 458

التبرير الثالث: اختصاص الإمامة بالهداية والمرجعية العلمية والدينية ... 459

أ - الفصل بين الإمامة والخلافة ... 359

ب - الفصل بين الإمامة والحكومة (العلمانية) ... 461

ج - الفصل بين النصوص النبوية الدنيوية والنصوص النبوية الدينية ... 462

مناقشة وتحليل ... 464

التبرير الرابع استصغار سنّ الإمام علي(علیه السّلام) ... 476

مناقشة وتحليل ... 477

إقرار الخليفة الأول والثاني بصلاحية الإمام علي(علیه السّلام) ... 484

التبرير الخامس: اتهام الإمام علي(علیه السّلام)بالدعابة .. 485

مناقشة وتحليل ... 486

• التبرير السادس: مخالفة العرب له ... 492

مناقشة وتحليل ... 492

التبرير السابع: إيثار قبيلته من بني عبد المطلب ... 497

مناقشة وتحليل ... 497

التبرير الثامن: كراهة الجمع بين النبوة والإمامة في بيت واحد ... 500

التبرير التاسع: أصل الترتب (مرحلتان مع أولوية الخلافة) ... 501

مناقشة وتحليل ... 504

التبرير العاشر: أصل الضرورة والحكم الثانوي ... 506

أدلة هذه الرؤية (البيعة المنتجة للشرعية) ... 507

مناقشة وتحليل ... 509

1 - التصريح بالشرعية الإلهية للإمام علي(علیه السّلام) ... 509

ص: 644

2 - لازم التمرد على الشرعية الإلهية ارتكاب المعصية ... 511

- لزوم الجمع بين الشرعية الإلهية والسياسية ... 511

4 - تقييد البيعة بالحاكم الواجد للشرائط ... 514

5 - عدم تعيين مصداق البيعة المقبول ... 518

6 - الجدل في البيعة لفرد خاص ... 520

التبرير الحادي عشر: إمامة الإمام علي(علیه السّلام)رهن بسعيه إليها ... 522

1 - دعوى من دون دليل ... 523

2 -- السعي العملي من قبل الإمام(علیه السّلام)... 524

3 - إنكاره على الخلفاء الذين سبقوه ... 524

4 - مراعاة مصلحة الإسلام ... 524

التبرير الثاني عشر إمامة الإمام رهن ببيعة الأمة ... 524

التبرير الثالث عشر: ادعاء نسخ إمامة الإمام علي(علیه السّلام) ... 528

التبرير الرابع عشر : تعارض النصوص ... 540

التبرير الخامس عشر : إثبات مطلق الخلافة دون الخلافة المباشرة ...541

التبرير السادس عشر : اختصاص الإمامة بالولاية المعنوية ... 550

الفصل السادين

شبهات حول صفات الإمام(علیه السّلام)

الشبهة الأولى : إنكار علم الأئمة للغيب... 555

أ - القراءة المختلفة لحقيقة الإمامة ... 556

ب - اعتبار علم الغيب فى حقل الدين ... 557

ج - فلسفة الإمامة الملازمة لعلم الغيب ... 558

د - علم الغيب ثمرة الولاية الباطنية للإمام ... 559

ه_ - علم الغيب من لوازم العصمة والحجّة الإلهية ... 561

ص: 645

و - الروايات الدالة على علم الأئمة للغيب ... 561

الشبهة الثانية: علم الأئمة بالغيب من اختلاق المتكلمين ... 563

الشبهة الثالثة: نفي علم الغيب في بعض الروايات ... 564

أ - رعاية القدرة الاستيعابية للمخاطب المقصّر ... 564

ب - رعاية القدرة الاستيعابية للمخاطب الغالي ... 565

ج - نفي العلم الاستقلالي دون التبعي ... 567

د - نفي العلم الفعلي دون مطلق العلم ... 569

الشبهة الرابعة: عدم اعتبار علم الغيب في الإمام والإمامة ... 569

أ - التنزل بمقام الإمامة إلى مستوى الحاكم والفرد العادي ... 570

ب - مخالفة الروايات ... 571

ج - عدم الانسجام مع فلسفة الإمامة ... 575

الشبهة الخامسة: عدم انسجام علم الغيب مع بعض أفعال الأئمة الأطهار(علیهم السّلام) ... 575

أ - الآراء المختلفة بشأن علم الإمام بالغيب ... 576

ب - محاذير العمل بعلم الغيب ... 576

شبهة علم الإمام الحسين(علیه السّلام)بالغيب ... 580

تناول الأئمة(علیهم السّلام)للسم ... 581

حمل الاعتراف والأعمال المخالفة لعلم الغيب على العلم الظاهري ... 582

الشبهة السادسة : عدم توظيف الأئمة(علیهم السّلام)الصفاتهم الخارقة في التعريف بأنفسهم ... 584

الشبهة السابعة : إنكار عصمة الأئمة(علیهم السّلام) ... 585

الشبهة الثامنة: تعارض عصمة الأئمة مع الأدعية والروايات ...587

أ - مخالفتها للآيات والروايات النبوية ... 588

ب - كلام الإمام يُشير إلى أصل عام ولا يختص بشخصه ... 589

ص: 646

ج - تعليق إمكان صدور الخطأ على عدم تدخل العناية الإلهية ... 590

د - نصوص الإمام الدالة على عصمته ... 591

تقرير آخر للشبهة: اعتراف الأئمة في أدعيتهم بأنهم مذنبون ... 592

أ - التفسير العرفاني ... 593

ب - التفسير العلمي والتربوي ... 594

ج - الحمل على الاستغفار الدفعي ... 595

د - طلب الاستغفار لذنوب الأمة ... 595

ه_ - عدم إمكان حمل الأدعية على الظاهر ... 597

و - النقض بأدعية النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم) ... 598

الشبهة التاسعة: إنكار اتصاف الأئمة(علیهم السّلام)بكونهم حجج الله ... 599

الشبهة العاشرة : اختصاص الحجية بالأمور العبادية والفردية ... 599

الشبهة الحادية عشرة: نسبة بقاء وحفظ الأرض والسماوات إلى الأئمة ... 601

الإجابة عن شبهة من تولى حفظ العالم قبل الأئمة(علیهم السّلام) ... 608

الشبهة الثانية عشرة : إنكار الولاية التكوينية للأئمة(علیهم السّلام) ... 609

أ - الولاية التكوينية ثمرة القرب الإلهي ...610

ب - التجارب العادية والعرفانية ... 611

ج - اعتراف الأشاعرة ... 612

د - القرآن والولاية التكوينية لغير الأنبياء ... 612

المصادر ... 617

المحتويات ... 131

***

ص: 647

ص: 648

لا تخفى ضرورة هذا البحث على القارئ الكريم ؛ فإن الإمامة ركن رئيس في مذهب التشيّع ، وقد تعرّضت للشبهات من قبل الخصوم منذ بدايتها برحيل النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) وتجاهل أصل خلافة الإمام علي (عليه السلام) في حادثة السقيفة .

وقد شهدنا في الآونة الأخيرة اجترار تلك الشبهات وإعادة صياغتها على بعض مواقع التواصل الاجتماعي، وفي مؤلفات عدد من المستنيرين...

www.iicss.iq

islamic.css@gmail.com

رقم الإصدار (19)

ص: 649

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.