أجوبة الشبهات الکلامية (النبي الأعظم) المجلد 3

هوية الکتاب

النبیّ الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم

العتبة العباسیة المقدسة

المرکز الاسلامي للدراسات الاستراتیجیه

یعنی بالاستراتیجیة الدینیة و المعرفیة

أجوبة الشبهات الکلامیة / 3

النّبیّ الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم

تألیف : محمدحسن قدردان قراملکي / غلام حسن محرمي

ترجمه : السید حسن علي مطر الهاشمي

الإخراج الفني : نصیر شکر

المطبعة : دار الکفیل للطباعه و النشر و التوزیع

الطبعة : الأولی 1437ه-/2016م

ص: 1

اشارة

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 3

العتبة العباسیة المقدسة

المرکز الاسلامي للدراسات الاستراتیجیه

یعنی بالاستراتیجیة الدینیة و المعرفیة

أجوبة الشبهات الکلامیة / 3

النّبیّ الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم

تألیف : محمدحسن قدردان قراملکي / غلام حسن محرمي

ترجمه : السید حسن علي مطر الهاشمي

الإخراج الفني : نصیر شکر

المطبعة : دار الکفیل للطباعه و النشر و التوزیع

الطبعة : الأولی 1437ه-/2016م

ص: 4

المُقدَّمةُ

إنّ هذا الكتاب الذي بين أيدينا هو الكتاب الثالث من سلسلة كتب «أجوبة الشبهات الكلامية»، وقد سبق أن قدّمنا للقارئ الكريم كتابين من هذه السلسلة ، و هما الكتاب الأول تحت عنوان «معرفة الله» (1) ، والكتاب الثاني تحت عنوان «الدين والنبوة» (2) . وفي هذا الكتاب الثاني تناولنا مطلق الشبهات الناظرة إلى أصل الدين والنبوّة العامة بالنقد والتحليل ، وفى الختام تعرّضنا إلى الإجابة عن بعض الشبهات الهامة فيما يتعلّق ببعض الأنبياء السابقين أيضاً.

أمّا هذا الكتاب الذي بين أيدينا فيعالج خصوص الشبهات المطروحة بشأن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم، وقد عمدنا إلى تنظيمها وإنجازها ضمن قسمين.

في القسم الأول عمد كاتب السطور - كما في الكتابين السابقين - إلى تحليل الشبهات الكلامية والعقائدية من منطلق كلامي - فلسفي، وذلك ضمن سبعة فصول ، وهي كالآتي:

1 - أميّة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم .

ص: 5


1- عنوانه بالفارسية (خدا شناسي)، المعرّب.
2- عنوانه بالفارسية (دين ونبوّت)، المعرّب .

2 - علم الغيب.

3- المعاجز.

4 - العصمة .

5 - النبوّة والوحى.

6 - الخاتميّة.

7- الحكومة والمشروعية.

وفي القسم الثاني تحت عنوان «الشبهات التاريخية والاجتماعية» تناولنا الشبهات المتعلقة بشخصية النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم وأخلاقه الفردية والاجتماعية ضمن ثلاثة فصول، وذلك على النحو الآتي (السيرة والأخلاق الفردية، والأخلاق الجنسية، والأخلاق الاجتماعية).

وفي كلا القسمين تمّ تناول ما يقرب من مئة شبهة بالنقد والتحليل، وقد سعينا - من خلال نقد هذه الشبهات وإثبات زيفها وإنها لا تعدو أن تكون مجرّد اتهامات جوفاء لا صلة لها بالنبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم ومقام النبوّة - إلى إثبات التزام النبي بالأسس والقواعد الأخلاقية على المستوى الفردي والاجتماعي والحكومى بالشكل الأعلى والأكمل.

أسلوب التحقيق :

لقد سعيت في هذا الكتاب إلى تحليل الشبهات المثارة وتقييمها بشأن الشخصيّة الفذّة للنبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بأسلوب مكتبي في سياق النهج الكلامي (الكلام الفلسفى) والتاريخي . وبطبيعة الحال فإن الاتجاه الغالب على هذا الكتاب هو الاتجاه الكلامي - التاريخي، وقد نضظرّ أحياناً إلى الاستفادة من المسلك العرفاني والفلسفي أيضاً. والمسألة التي يجدر التنويه إليها هي أن

ص: 6

الإجابة عن الشبهات يتمّ تحديدها طبقاً لأهمية الشبهة، ولذلك قد تستغرق الإجابة عن بعض الشبهات أكثر من عشر صفحات أحياناً.

ضرورة التحقيق :

لا تخفى ضرورة البحث على القارئ الكريم؛ إذ تعرّض النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم -الذي يمثل محور الإسلام - إلى الانتقادات والشبهات حتى في حياته، ونشهد اليوم إعادة واجتراراً لهذه الشبهات والاتهامات بشأن السيرة النظرية والعملية لهذا الإنسان العظيم في بعض مواقع التواصل الاجتماعي، ومؤلفات بعض من يُصطلح عليهم بالمستنيرين. وعلاوة على ذلك فإننا نشهد اليوم حملة مسعورة لإنتاج عددٍ من الأفلام التي تهدف إلى تشوية صورة النبي الأكرم في أنظار الشعوب. وعليه فإن الإجابة عن هذا التشويه المتعمّد ، واغتيال شخصية النبي الأكرم بهذه الأساليب الخبيثة تستدعي أسلوباً عقلياً ومنطقياً، وإن الإجابة العلمية والمنطقية والموثقة تعدّ خير وسيلة لتحقيق هذه الغاية، وهذا ما سعينا إليه من خلال تأليفنا الكتاب .

وعلينا في هذه المناسبة أن نتقدّم بواجب الشكر لسماحة قائد الثورة المعظم على مبادرته إلى تسمية عام 1387 للهجرة الشمسية باسم «النبي الأعظم»، وبمناسبة هذه التسمية تمّت كتابة مجموعة من المقالات وإقامة كثير من المؤتمرات، وإن كانت غير كافية.

مزايا التحقيق وإبداعاته :

1 - حداثة أصل الموضوع لقد تمّ تأليف كثير من الكتب والمقالات حول سيرة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم ، تمّت الإشارة في ضمنها إلى بعض الشبهات

ص: 7

أيضاً . ولكن يمكن القول بكل جرأة وثقة بإنه لم يسبق لشخص أن قام بتدوين كتاب مستقل وجامع يتناول مختلف الشبهات بشأن شخصية النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بالنقد والتحليل، وعليه يكون هذا الكتاب هو الأول في تناول هذا الموضوع.

2 - شمولية الشبهات : لقد اشتمل هذا الكتاب على جواب ما يقرب من مئة شبهة تمّ جمعها من مختلف المصادر - الأعم من الكتب القديمة والحديثة - وكذلك الشبهات الكثيرة المثارة في مختلف المواقع الإلحادية في شبكة التواصل الاجتماعي. ومن بين الشبهات الحديثة المطروحة بشأن النبي الأكرم ، يمكن لنا الإشارة إلى شبهات البهائيين حول الخاتمية، وشبهات من يُصطلح عليهم بالمستنيرين بشأن شرعية الحكم وحقوق المواطنين في النظام السياسي النبوي.

3 - تعدّد الإجابات وتنوّعها: لقد سعى كاتب السطور - في سياق تقديم إجابة منطقية ومقنعة عن مختلف الشبهات - إلى توظيف الاتجاه العقلي (الكلامي والفلسفي والعرفاني) والنقلي (الآيات والروايات والتاريخ). وفي الحقيقة سيجد القارئ أكثر من إجابة واحدة عن كل شبهة، وربما كانت الإجابات مستوحاة من مختلف الاتجاهات ، كي تتناسب مع مختلف الأذواق والمشارب. وقد اشتمل هذا الكتاب على بعض الإجابات التي هي حصيلة تأملات المؤلف.

4 - التوثيق: إن من بين المزايا الأخرى لهذا الكتاب أنه - خلافاً لبعض الكتب التحقيقية الأخرى - لم يكتف بذكر الشبهات والإجابة عنها، وإنما سعينا فى هذا التحقيق إلى ذكر صاحب الشبهة والمجيب عنها والمصادر الواردة فيها ، وذلك ضماناً لمزيد من الاطمئنان إلى الإجابة ، وحصول المحققين والباحثين على معرفة بأمهات المصادر التي من شأنها أن تكون عوناً لهم في تحقيقاتهم الآتية.

ص: 8

جدير بالذكر أن المسائل الواردة في القسم الثاني - الذي يستغرق ما يقرب من ثلث الكتاب - قد تكفل بتأليفها وجمعها زميلنا الفاضل حجة الإسلام الدكتور غلام حسن محرمي والمحقق المحترم سماحة السيد محسن شريفي، ولم يكن لي من دور فيه سوى ما كان من بعض الإصلاحات التي أتت في سياق تنظيمي بحت يتعلق بوضع العناوين الرئيسة والفرعية، تحصيلاً لتحقيق الانسجام بينه وبين القسم الأول، وما كان من إكمال للإجابات أحياناً. وأرى من واجبي هنا أن أتقدم بجزيل الشكر إلى هذين المحققين والباحثين المحترمين على قبولهما عناء الإجابة عن الشبهات التاريخية.

كما تمّ نقل الإجابة عن ثلاث شبهات، وهي (أخذ الإسلام بعض المسائل من الأديان الأخرى ، وأسباب عدم نزول الإمدادات الغيبية، وأسباب الاندحار في بعض الحروب) من القسم الثاني إلى القسم الأول ؛ لكونها أقرب إلى الشبهات الكلامية منها إلى التاريخية.

وفي الختام أتقدّم بالشكر الجزيل إلى كل من الإخوة المحققين حجج الإسلام حسين ردائي ومحمد صفر جبرائيلي على ما بذلاه من مجهود فيما يتعلق بالقسم الأول، وحجة الإسلام محمد هادى اليوسفى الغروي على جهده المبذول بشأن القسم الثاني، وتفضله عليّ من خلال قراءته الدقيقة والمتأنية لهذا الكتاب وتذكيره ببعض المسائل الهامة التي كان لها الفضل في تكميل هذا التحقيق.

محمد حسن قدردان قراملكي

٭٭٭

ص: 9

ص: 10

القِسْمُ الاوّلُ

الشبهات العقائدية والكلامية

ص: 11

ص: 12

الفَصْلُ الأَوّل

عدم أميّة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم

هناك شبه إجماع من المؤرخين على وصف النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم ب-«الأمّی» (1)، بمعنى أنه لم يأخذ العلم من أيّ معلم، ولم يتعلم القراءة والكتابة من أحد (2). وقد تمّ التأكيد على هذا المعنى في القرآن الكريم أيضاً، و هو ما سيأتي بيانه.

تعدّ هذه الصفة بالنسبة إلى النبي الذي جاء بقرآن اعترف الكل بعجزهم عن الإتيان بمثله ، صفة إيجابية تؤكد إعجاز الكتاب الذي جاء به ونبوّته. بيد أن أعداء الإسلام في القرون السابقة عمدوا إلى التشكيك بأميّة النبي صلی الله علیه و آله و سلم ؛ لإثبات دعوى اقتباس القرآن من الكتب الأخرى، فقالوا بأن النبي

ص: 13


1- كلمة (الأمّي) مشتقة من الأم. وقد فسّر الراغب الإصفهاني الأمي في مادة (أم) من مفرداته قائلاً: (الأمي هو الذي لا يكتب ولا يقرأ)، بمعنى أنه بقي على الحالة التي ولدته عليها أمه، وأما إصطلاحاً فإن كلمة (الأميين) تطلق على الأمة التي تكون غالبيتها الكبرى لا تعرف القراءة والكتابة. (لمزيد من التوضيح، أنظر: مرتضى مطهري، مجموعه آثار "الأعمال الكاملة" ، ج 3، ص 229) .
2- سنأتي على ذكر المصادر التاريخية لهذه الدعوى في الصفحات القادمة إن شاء الله.

كان يعرف القراءة والكتابة قبل النبوّة (1) ، وإنه قرأ الكتب السماوية المتقدّمة، وأخذ منها تعاليم دينه الجديد.

الأدلة على إثبات أميّة النبي :

اشارة

في تحليل الشبهة المتقدّمة يجدر الانتباه إلى الأمور الآتية:

1 - القرآن الكريم:

لقد صرّح القرآن الكريم بأميّة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم في عدد من آياته، من قبیل :

- (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّي ) (2) .

- (فَآمِنُوا بِالله وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ ) (3) .

- (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ ) (4) .

فالآية الأولى والثانية تصفان النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بوصف «الأمي»، والآية الثالثة تعرّف سكان مكة بأنهم «أميّون»، ثمّ تشير إلى أن النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم هو على شاكلتهم في الاتصاف بهذه الصفة.

ولربما أشكل هنا بأن المراد من «النبي الأمي» النبيّ المنسوب إلى «الأم» التي هي مكة؛ لأنّ هذا اللفظ قد أطلق على مكة في بعض الاستعمالات،

ص: 14


1- أُنظر: ابن ورّاق، اسلام ومسلماني ، ترجمه إلى الفارسية مسعود أنصاري (روشنگر)، ص 123؛ فریدون آدمیت، اندیشه هاي میرزا آقاخان کرماني، ص 201؛ مسعود أنصاري (روشنگر)، بازشناسی قرآن ، ص 41 و 71 و 362.
2- الأعراف: 157 .
3- الأعراف: 158 .
4- الجمعة : 2 .

وعليه لا يدل هذا الوصف على أميته بمعنى عدم معرفته القراءة والكتابة. كما أن لفظ «الأميين» في الآية الثالثة يعني المكيين ( سكان مكة)، فلا يدلّ على المدعى أيضاً.

يجب القول في الجواب عن هذه الشبهة:

أولاً: إن المتبادر من لفظ «الأمي» عند استعماله في القرآن وغيره من الاستعمالات الأخرى، هو الشخص «الذي لا يقرأ»، وحمله على المعاني الأخرى يفتقر إلى قرينة ودليل.

وثانياً: لمّا كان «القرآن يُفسّر بعضه بعضاً»، هناك آية أخرى تدل بشكل واضح وصريح على أن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم لم يكن يقرأ ولم يكن يكتب، وهي قول الله تبارك وتعالى: ﴿ وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ ﴾ (1). فهذه الآية كما يلاحظ القارئ الكريم تنفي عن النبي صفة القراءة والكتابة بصراحة ووضوح.

وقد يتساءل شخص ويقول إن هذه الآية إنما تنفي قدرة النبي على القراءة والكتابة قبل البعثة والنبوة، وليس بعدهما.

وفى الجواب عن ذلك يجب القول:

أولاً : لمّا كانت الآية في مقام دفع شبهة اتهام النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بالأخذ عن الكتب الأخرى في عرض القرآن الكريم، فإنها تؤكد على نفي الكتابة والقراءة قبل البعثة، كما تثبت استحالة أن يقوم من كان أمياً قبل ذلك بكتاب يُذهل العقول.

ص: 15


1- العنكبوت: 48 .

ثانياً: إنّ الآية الشريفة سكتت عن قراءة النبي الأكرم وكتابته بعد البعثة، لتقوم الأدلة بعد ذلك على نفيها أيضاً.

ثالثاً: إنّ هذه الآية تدل على عدم قراءة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم وكتابته حتى بعد البعثة والنبوة أيضاً؛ ذلك لأنّ التعليل الوارد في الآية ذاتها لبيان فلسفة عدم كتابة النبي وقراءته يُشير إلى أنه لو كان يقرأ الكتب الأخرى ويقتبس عنها بعض التعاليم، لأثار بذلك ريبة في نفوس المبطلين، ولقالوا بأن النبي إنما أخذ تعاليم القرآن من الكتب السماوية السابقة، وهو أمرٌ يؤدّي بدوره إلى الشك في كون القرآن الكريم وحياً سماوياً. ولا يخفى على القارئ الكريم أن النبي الأكرم إذا تمكن من القراءة والكتابة بعد النبوة والرسالة، فإن الشبهة ستعود إلى الظهور ثانية. إذن لا بد من القول بدلالة مفهوم التعليل الوارد في هذه الشريفة على عدم كتابة النبي الأكرم ولا قراءته كي لا يبقى أيّ مجال للشك والريبة في كون القرآن وحياً سماوياً.

2 - التاريخ :

أما الدليل الثاني على إثبات أميّة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم فهو التاريخ. فإن المؤرخين وكتاب السيَر - الذين رصدوا أكثر المسائل الجزئية والدقيقة في حياة النبي في تواريخهم - لم يشيروا إلى تعلّم النبي، ولم يذكروا أسماء الذين تولوا تعليمه، والمكان الذي تعلم فيه، والفترة الزمنية التي قضاها في التعليم أبداً.

وقد يُقال بأن مسألة تعلّم النبي القراءة والكتابة مسألة تفصيلية، وهي في غاية الجزئية بحيث لا تستحق تسليط الأضواء عليها وتسجيلها في التاريخ.

ولكن يجب على القارئ الكريم أن يلتفت إلى هذه الحقيقة، وهي أن

ص: 16

صفة الأمّية في عصرنا الراهن قد تبدو جزئية بالقياس إلى انتشار التعلم، بحيث أصبح الأميّون من القلة لا يبدون للعيان، أمّا في عصر النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم فكان الأمر على عكس ذلك تماماً. حيث كانت الأغلبية الساحقة من سكان مكة من الأميين، بحيث حصر المؤرخون عدد الذين يعرفون القراءة والكتابة من قريش بسبعة عشر نفراً، والذين يعرفون القراءة والكتابة من أهل المدينة (الأوس والخزرج) باثني عشر نفراً فقط، وقد رصدت المصادر التاريخية أسماءهم وصفاتهم (1).

ولو كان النبي الأكرم قد كتب كتاباً أو سطراً لسجله التاريخ، ولقام المسلمون بالمحافظة عليه للذكرى والتبرّك، كما حصل ذلك بالنسبة إلى

ص: 17


1- كان الذين يعرفون القراءة والكتابة من أهل مكة هم: 1 - علي بن أبي طالب علیه السلام. 2- عمر بن الخطاب. 3 - عثمان بن عفان 4 - أبو عبيدة الجراح. 5- طلحة . 6 - يزيد بن أبي سفيان. 7- أبو حذيفة بن أبي ربيعة. 8- حاطب بن عمرو العامري . 9 - أبو سلمة المخزومي. 10 - أبان بن سعيد الأموي. 11 - خالد بن سعيد الأموي. 12 - عبد الله بن سعد. 13 - حويطب بن عبد العُزّى. 14 - أبو سفيان. 15 - معاوية بن أبي سفيان. 16 - جهيم بن الصلت. 17 - العلاء بن الحضرمي . و لم يكن من بين النساء من تعرف القراءة والكتابة سوى شفاء بنت عبدالله العدوي (أُنظر : ابن حجر العسقلاني، الإصابة في تمييز الصحابة، تحقيق عبدالموجود ومحمد معوض، ج 1، ص 27؛ تقي الدين المقريزي، إمتاع الأسماع، تحقيق عبد الحميد النميسي، ج 4 ص 270 ؛ البلاذري، فتوح البلدان، ص 453 ؛ وكذلك مرتضى مطهري، مجموعه آثار (الأعمال الكاملة)، ج 3، ص 210.

المصاحف المنسوبة إلى الأئمة مثل الإمام علي علیه السلام وسائر الصحابة. ونحن هنا لسنا بصدد تأييد هذه النِسَب أو رفضها، بيد أن الذي ينفعنا منها هو أن الأئمة كانوا يكتبون، وقد أثر عنهم ذلك، ولم يتحقق ذلك بالنسبة إلى النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم .

3 - اعتراف المستشرقين:

مع بداية عصر النهضة لم تكن شخصية النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم معروفة للغربيين ، من هنا كان أغلبهم ينطلق من مواقف متطرّفة بشأن النبي الأكرم. بيد أنه وبعد اتضاح الرؤية وانقشاع ضباب الجهل أخذت هذه المواقف بالانحسار، وكتب بعض المستشرقين مؤلفات في التعريف بشخصية النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم، ومن بينهم العالم الأمريكي «جون ديون بورت»، الذي اعترف في كتابه - الذي ترجم إلى الفارسية تحت عنوان «عذر تقصیر به پیشگاه محمد و قرآن» (1) - بأخطاء العلماء الغربيين السابقين ، واعتذر عن هذه الأخطاء. وقال بشأن أميّة النبي :

«يذهب الجميع إلى الاعتقاد بأن محمداً لم يحصل من العلم على غير ما كان سائداً بين قبيلته» (2).

وقال كارايل في كتاب «الأبطال»: «يجب أن لا ننسى شيئاً وهو أن محمّداً لم يدرس على يد معلم أبداً ...» (3).

ص: 18


1- ويعنى بالعربية (الاعتذار لمحمد والقرآن) ، المعرّب .
2- عذر تقصیر به پیشگاه محمد و قرآن، ترجمه إلى الفارسية غلام رضا سعيدي، ص 17 .
3- نقلاً عن مرتضى مطهري، پيامبر امى (النبي الأمّي)، ص 10 .

وقد أشار ويل ديوران إلى المكانة الخاصة للنبي عند جده «عبدالمطلب» وعمّه «أبو طالب»، وقد بيّن أميّته حيث قال:

«يبدو أن أحداً لم يعنَ بتعليمه القراءة والكتابة. ولم تكن لهذه الميزة قيمة عند العرب في ذلك الوقت، ولهذا لم يكن في قبيلة قريش كلها إلا سبعة عشر يقرءون ويكتبون. ولم يُعرف عن محمد أنه كتب شيئاً بنفسه» . (1) .

تحليل شبهات فرضية عدم الأميّة:

اشارة

لقد تمسّك القائلون بعدم أمية النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم لإثبات مدعاهم بالأدلة الآتية :

الشبهة الأولى : عدم انسجام أميّة النبي الأكرم مع موقع أبوطالب:

لقد تربى النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم بعد وفاة جدّه عبد المطلب في كنف عمّه «أبوطالب» الذي كان يتولى زعامة قريش. وقد تعلم ولداه جعفر وعلي علم القراءة والكتابة؛ فكيف يعقل من أبي طالب الذي كان يولي النبي من الاهتمام مثل الذي يوليه لأولاده - إذا لم نقل أنه كان يهتم به أكثر منهم - أن لا يوفر للنبي الظروف التي تساعده على تعلّم القراءة والكتابة كما صنع لأولاده؟ (2).

مناقشة وتحليل :

1 - يجب الإشارة قبل كل شيء إلى أنّ الذين يطرحون هذه الشبهة،

ص: 19


1- ول ديورانت، قصة الحضارة، عصر الإيمان، ج 13 - 14، ص 21، دار الفكر، بيروت، 2010 م.
2- أنظر : الشيخ المقدسي، خرافة أميّة محمد.

إنّما يقيسون مسألة طلب العلم وأهميته في القرون الماضية والراهنة بالعصر الجاهلي. في حين أن أهل مكة لم يكونوا يستشعرون في العصر الجاهلي ضرورة إلى طلب العلم حتى في حدود القراءة والكتابة . من هنا كانت الغالبية العظمى من أهل مكة أميين لا يُتقنون فن القراءة والكتابة، من دون أن يكون هناك فرق في ذلك بين طبقة الأشراف أو من هم دونهم من الطبقات الدنيا والمتوسطة، بحيث - كما سبق أن ذكرنا - لم يكن عدد المتعلمين من أهل مكة يتجاوز السبعة عشر شخصاً.

إن العلم والفن الأهم فى ذلك العصر كان يتمثّل بفنون الشعر والبلاغة والأدب. واللافت للانتباه أن أكثر الشعراء فى ذلك العصر كانوا يجهلون القراءة والكتابة، وبدلاً من ذلك كانوا يتمتعون بحافظة جبّارة تجعل من عدم القدرة على القراءة والكتابة أمراً فاقداً للأهمية، بل ربما اعتبروا العلم بالقراءة والكتابة نقصاً وعيباً» فقد روي عن الشاعر الشهير «ذو الرّمة» أنه قال عندما سُئل عن معرفته بالكتابة: «فإنه عندنا عيب» (1) .

2 - على الرغم من خلافة أبي طالب لأبيه في زعامة قريش، بيد أنه كان كثير الأولاد، وكان يعاني من أزمة في وضعه الاقتصادي، وهذا ما أكده

الإمام علي علیه السلام حيث قال: «أبي ساد فقيراً» (2). ولذلك قام العباس بكفالة جعفر، كما قام النبي محمد صلی الله عليه و آله و سلم بتكفل الإمام علي علیه السلام (3).

ص: 20


1- أُنظر: ابن قتيبة، الشعر والشعراء، ص 334، نقلاً عن السيد جعفر مرتضى العاملي، الصحيح من سيرة النبي الأعظم، ج 2، ص 23 .
2- أُنظر: ابن واضح اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، ج 2، ص 14.
3- أُنظر: ابن عبد البر، الاستيعاب في معرفة الأصحاب، تحقيق البجاوي، ج 1، ص 38؛ ابن كثير، البداية والنهاية، ج 3، ص 25 و 41 ؛ أبو الفرج ابن الجوزي، المنتظم في تاريخ الأمم والملوك، ج 2، ص 283 .

إذن علينا أن لا نتوقع من أبي طالب أن يرسل جميع أولاده لتعلم القراءة والكتابة، وأن يكون هناك ما يُثير التعجّب إذا لم يرسل النبي محمد صلى الله علیه و آله و سلم أسوة بهم . بل بالنظر إلى المسألتين المتقدمتين (عدم الحاجة إلى طلب العلم في العصر الجاهلي، والحالة الاقتصادية الضعيفة لأبي طالب)، لا يبقى هناك شيء ممّا يدعو إلى الاستبعاد والغرابة أبداً.

3- أمّا دعوى أن أبا طالب قد أرسل ولديه جعفراً وعلياً لتعلم القراءة والكتابة، فهي مجرّد دعوى لم يقم عليها شاهد من التاريخ. فقد تتبعت المصادر التاريخية ولم أعثر على ذكر لجعفر بن أبي طالب بين أسماء السبعة عشر شخصاً من متعلمي قريش. أمّا اسم الإمام علي علیه السلام فهو على الرغم من وروده، إلا أن التاريخ لم يوضح كيفية تلقيه علم القراءة والكتابة ومن تولى تعليمه! فهل قام أبو طالب باستئجار شخص يتولى مهمة تعليمه القراءة والكتابة؟ هذا غير ثابت أيضاً، بل الشواهد - ومنها فقر أبي طالب - تقوم على خلاف ذلك. ومن ناحية أخرى لمّا كان الإمام علي علیه السلام قد تربّى في كنف النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم، فإنه إذا كان له من معلم من بني البشر، فمسؤولية ذلك تقع على عاتق النبي الأكرم نفسه. بل هناك من ادعى أن تعلم الإمام علي للقراءة والكتابة كان بعد الإسلام . وعليه فإن أصل الدعوى التاريخية للمستشكل فيما يتعلق بتوفير أبي طالب الظروف المناسبة لتعلم جعفر وعلي علیه السلام مجرّد ادعاء لا تساعد عليه الشواهد والقرائن التاريخية، بل إنها تثبت خلافها أيضاً.

4 - إن مسألة أميّة النبي تعدّ من الألطاف الإلهية الخفية. فإن الله سبحانه وتعالى قد دبّر الأمور بحيث لا يتمكن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم من التعلّم على يد شخص ، كى لا يتمّ اتهامه فيما بعد باقتباس الوحى والإسلام من

ص: 21

الأديان الأخرى.

5 - لقد كان أبو طالب مدركاً لمقام نبوّة النبي محمد وشخصيته الفذّة (1)، ولذلك لم يكن يرى حاجة إلى تعليمه . بل إن أبا طالب لم يكن يرى من هو جدير بتعليم النبي وتربيته، ذلك لخوفه عليه، بالإضافة إلى هواجسه بشأن شخصيته الثقافية والاجتماعية، وخوفه من أن يتأثر بأجواء الثقافة الجاهلية.

6 - إن على الذي صاغ هذه الشبهة أن يثبت مدعاه (قدرة النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم على القراءة والكتابة) بالأدلة القطعية، لا أن يكتفى بمجرّد الاحتمال والاستبعاد؛ لأن أبا طالب لم يقم بتعليمه. فعندما يثبت في التاريخ أن اسم النبي الأكرم لم يسجّل في عداد الذين يعلمون القراءة والكتابة، لا نستطيع رفع اليد عن هذه الوثيقة التاريخية لمجرّد استبعادها؛ ذلك للأسباب الآتية:

أولاً: إن مجرّد الاستبعاد لا ينهض دليلاً على المدعى.

ثانياً: يمكن لنا أن نقيم كثيراً من الأدلة على رفع هذا الاستبعاد، وقد أشرنا إلى بعضها.

ثالثاً: إن الدعوى المقابلة (أميّة النبي) قد تمّ إثباتها بأدلة كثيرة، وقد تمّت الإشارة إلى بعض جوانبها.

7 - المسألة الأخيرة هي لمّا كان الجسد المادي والعضوي للإمام علي علیه السلام إنّما هو ظهور وتجلّ للعين الثابتة والراسخة لوجود النبي في عالم

ص: 22


1- على سبيل المثال في سنوات الجفاف والمجاعة لم يكن أبو طالب يخرج معه إلى الكعبة للاستسقاء غير النبي محمد وكان صغيراً، فكان يسأل الله أن يمطرهم بحق محمد؛ فيستجاب له (أُنظر : نور الدين الحلبي، السيرة الحلبية (إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون)، ج 1، ص 125).

المجرّدات «الأعيان الثابتة»، ومن جهة أخرى لمّا كانت أرواح الأئمة تحظى في تلك العوالم بمرتبة ومنزلة خاصتين، فإنهم يتمتعون بالعلم والمعرفة الربوبية، ولذلك يكون علمهم في هذه الدنيا من العلم اللدني والإلهي، فلا يكونون بحاجة إلى من يعلمهم من البشر (1) .

الشبهة الثانية: إخبار النبي الأكرم عن الأمم السابقة:

عمد بعض المعاصرين لإثبات عدم أميّة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم وقدرته على القراءة والكتابة إلى التمسّك بإخبار النبي عن المغيّبات، من قبيل إخباره باسم الحسن والحسين عند ولادتهما، مبرّراً ذلك بأن هارون كان لديه ولدان اسمهما شبّر و شبير، ولمكان المشابهة بينهما وبين ولديه اختار لهما هذين الاسمين.

وكذلك إخباره عن إيذاء بني إسرائيل للنبي موسى علیه السلام، وإخباره بأن عدد أصحاب طالوت عند اجتياز النهر كان 313 شخصاً، وإخباره عدي بن حاتم الطائي بتفاصيل ديانته المسيحية.

إن مقرّر هذه الشبهة يستند إلى هذه الأخبار لإثبات أن النبي إنما علم بها من خلال قراءته للكتب السماوية السابقة (2).

مناقشة وتحليل :

إنّ هذه الشبهة من الشبهات الواهية التي يمتلك القارئ الكريم جوابها؛ لأن الإخبار عن الأمم السابقة يأتي من قبل الوحي والعلم الإلهي ويوضع تحت تصرّف النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم . وهذا ما أكد عليه القرآن الكريم بقوله :

ص: 23


1- أُنظر : السيد جعفر مرتضى العاملي، الصحيح من سيرة النبي الأعظم ، ج 1، ص 23 .
2- أُنظر : معروف الرصافي، الشخصية المحمدية، ص 168 - 171.

(ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ) (1).

هذا وإن العلم بالأحداث الماضية لا يتوقف على قراءة الكتب السماوية السابقة، إذ يمكن الإحاطة بذلك من طريق السماع مشافهة عن

الآخرين.

أما المسألة الثالثة فهي أنه بالالتفات إلى المقام العلمي والمعنوي للنبي الأكرم، تكون إحاطة النبي بعلوم الماضي والمستقبل من لوازم هذا المقام، وهو ما سيأتي توضيحه في نقد شبهة إنكار علم النبي للغيب إن شاء الله.

الشبهة الثالثة: شهادة العباس عمّ النبي:

إنّ من بين الأدلة التي يتمسّك بها المنكرون لأمية النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم قول عمّه العباس، فقد صحب العباس أبا سفيان فى سفر وهناك سأله أحد اليهود عمّا إذا كان النبي يعرف الكتابة؟ فقال العباس فأردت أن أقول نعم؛ فخشيت من أبي سفيان أن يكذبني ويردّ عليّ، فقلت: لا يكتب (2).

إذ حاول مقرّر هذه الشبهة أن يستدل بهذا النص التاريخي ليُثبت أن علم النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بالقراءة والكتابة كان من الأسرار التي لم يطلع عليها غير عمّه العباس (3).

ص: 24


1- يوسف: 102 . وانظر أيضاً هود 49؛ آل عمران 44؛ يوسف 3.
2- أُنظر : نور الدين الحلبي، السيرة الحلبية (إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون)، ج 1، ص 301.
3- أُنظر : معروف الرصافي، الشخصية المحمدية، ص 169.

مناقشة وتحليل

1 - إن دعوى أن النبي كان يعرف القراءة والكتابة، ولكنه آثر أن يبقي ذلك طيّ الكتمان، حتى لم يطلع عليه سوى عمّه العباس، لا يعدو أن يكون ادعاءً واهياً؛ إذ كيف يمكن لطفل أن يذهب إلى المدرسة، ويدرس على يد المعلمين، حتى يتمكن من القراءة والكتابة على أعلى المستويات التخصصية بمعنى قراءة الكتب السماوية السابقة ودراستها، دون أن يطّلع عليه أحد؟! وما هو الداعي الذي يدفع طفلاً صغيراً إلى كتمان تعلّمه؟

وكيف يمكن لجميع أهل مكة وما حولها معرفة النبي الأكرم بالأمية، ولا يطلع على خلاف ذلك سوى العباس فقط ؟!

وعليه فإنّ حقيقة أميّة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم مسألة تحظى بتأييد جمیع النصوص التاريخية، ويقوم عليها إجماع أهل مكة، ولا يؤيد القول المخالف سوى شخص واحد، وهو أمرٌ يشكل في حدّ ذاته مؤشراً للتشكيك بصحة المصدر المنسوب إلى العباس. وأما إذا قلنا باعتبار هذا المصدر، فعلينا أن نحلل الدافع الكامن وراء كلام العباس، وهو ما سوف نناقشه في الكتاب اللاحق من هذه السلسلة إن شاء الله تعالى.

2 - يبدو أن ما أراده العباس من الجواب عن سؤال اليهودي بالإيجاب يهدف إلى رفع مكانة ومنزلة النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم ؛ إذ كان يرى في «أميّة» النبي عدم تناسب مع شأن النبوّة، وإن سؤال اليهودي كان ينظر إلى النقاط الإيجابية والسلبية من شخصية النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم، من قبيل الأسئلة المتعلقة بأخلاقه ومناقبه، ولذلك كان العباس يروم في هذا الموقف عدم إعطاء ذريعة للمخالف في ثلب النبي.

ص: 25

3 - لحسن الحظ فإن المصادر التاريخية قد أشارت إلى الحافز الذي دفع العباس إلى الإجابة عن سؤال اليهودي عن قدرة النبي على القراءة والكتابة بالإيجاب . فإن المصادر التاريخية الأخرى - التي عمد المستشكل إلى غضّ الطرف عنها! - قد اشتملت على تفصيل أكثر بشأن إجابة العباس عن سؤال اليهودي، إذ جاء فيها أن العباس قال: إنني في الجواب عن سؤال اليهودي بشأن قدرة النبي على القراءة والكتابة، ظننت أني لو قلت إنه أمّى لا يعرف شيئاً من الكتابة، فإن ذلك سيكون دون شأن النبي الأكرم؛ فأردت أن أقول «نعم»، فخشيت من أبي سفيان ... فظننت أنه خير له أن يكتب له (1) .

وعليه يتضح أن النبي كان أميّاً، وإن العباس إنما أراد أن يثبت تمكنه من القراءة والكتابة دفاعاً عن شخصية ابن أخيه. وهذا يشكل بدوره دليلاً

تاريخياً آخر على أميّة النبي الأكرم.

الشبهة الرابعة: كتابة صلح الحديبية:

إن من بين الأدلة التي تمسّك بها المنكرون لأميّة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم ، ادعاء أن النبي قد كتب اسمه في وثيقة صلح الحديبية بيده. فعندما كتب الإمام على علیه السلام عبارة «محمد رسول الله» في نصّ المعاهدة، اعترض عليها ممثل مشركي مكة «سهيل بن عمرو»؛ فامر النبي صلی الله علیه و آله و سلم علياً علیه السلام أن يمحو وصف «رسول الله»؛ فكره الإمام علي ذلك؛ فأخذ النبي المعاهدة منه و محا عبارة «رسول الله» وكتب بدلاً منها «محمد بن عبد الله»

ص: 26


1- أُنظر: تقي الدين المقريزي، إمتاع الأسماع، تحقيق عبد الحميد النميسي، ج 34، ص 374.

«فأخذ رسول الله الكتاب بيده فكتب هذا ما قاضی علیه محمد بن عبدالله» (1) .

مناقشة وتحليل:

1 - ورد في ذات المصادر التاريخية - التى تمسّك بها المنكرون لأميّة النبي الأكرم - التصريح بأن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم قد طلب من الإمام علي علیه السلام أن يريه موضع عبارة «محمد رسول الله» «فقال صلی الله علیه و آله و سلم أرنيه ؛ فأراه إيّاه» (2).

وعليه فإن كانت هذه المصادر حجّة، فيجب عدم إغفال هذه الفقرة التاريخية منها.

2- وأما أن يكون النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم هو الذي أخذ ميثاق الصلح وخطه بيده؛ فيجب القول في هذا الشأن ربما كان المراد أنه أمر بكتابة اسمه الخاص، أو أن يكون هو الذي كتب ولكن بإملاء أو إرشاد شخص آخر، كما يمكن للأمي أن يكتب بعض الكلمات بتوجيه من الآخرين.

وعليه مع وجود هذين الاحتمالين الآخرين والقرينة المتقدّمة (المطالبة بإراءة موضع اسم النبي الأكرم)، لا يمكن اعتبار عبارة «فكتب ...» دليلاً على معرفة النبي بالقراءة والكتابة.

3 - إن الذي نؤكد عليه في هذا الكتاب هو أميّة النبي الأكرم قبل البعثة

ص: 27


1- أُنظر: نور الدين الحلبي، السيرة الحلبية (إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون)، ج 3، ص 19 و31؛ تقي الدين المقريزي، امتاع الأسماع، تحقيق عبد الحميد النميسي، ج 13، ص 94 ؛ ابن كثير، البداية والنهاية، ج 4 ، ص 175 .
2- المصدر أعلاه.

والرسالة، كي لا يصح اتهامه بالأخذ عن الكتب السماوية السابقة، وأما أن يكون قد تعلم القراءة والكتابة بعد البعثة بعناية إلهية خاصة، فلم يتمّ إنكاره بشكل صريح . ومن جهة أخرى فإن قدرة النبي على الكتابة حتى بعد البعثة والنبوة لم تثبت بالدليل.

4 - أما الأمر الأخير فهو أنه بغض النظر عما تقدم، لو سلمنا جدلاً أن النبي قد كتب وثيقة صلح الحديبية بيده، يجب القول إن كتابة النبي من الناحية التاريخية قد اقتصرت على هذا المورد الخاص فقط، ويمكن اعتبار ذلك من الإعجاز الإلهي، حيث كان النبي قبل هذه الحادثة «أميّاً» - خاصة وأنه طلب من الآخرين أن يدلوه على موضع اسمه المبارك - وبعناية إلهية ناظرة إلى مصلحة المجتمع والأمة، تمكن من الكتابة في هذا المورد الخاص.

الإجابة عن شبهات الدكتور عبد اللطيف الهندي:

تولى عبد اللطيف الهندي في منتصف القرن المنصرم رئاسة مركز الدراسات الثقافية للمسلمين في الهند، وقد شكك - ضمن مقال له ألقاه في مؤتمر إسلامي عقد في مدينة حيدر آباد الهندية عام 1964 للميلاد - في أميّة النبي الأكرم (1) . وفيما يأتي نشير إلى ثلاثة من أهم أدلته، لنقوم بنقدها على نحو الاجمال.

ص: 28


1- للأسف الشديد لم نعثر في مؤلفات الدكتور عبد اللطيف الهندي وكذلك عند البحث في مواقع الأنترنيت على ما يوصلنا إلى آرائه مباشرة ، وهو أمرٌ اضطرنا إلى نقل آرائه ومواقفه في هذا الشأن عن مفكرين معاصرين ، وهما آية الله مطهري وجعفر سبحاني (أُنظر: مطهري، مجموعه آثار "الأعمال الكامله"، ج 3، ص 205 - 255؛ جعفر سبحاني، مفاهيم القرآن، ج 3، ص 323) .

الشبهة الخامسة : دعوى الاستبعاد :

لقد أشار الدكتور عبد اللطيف الهندي إلى الجانب العلمي والثقافي من شخصية النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم ، حيث كان طوال مسيرته الإصلاحية يحثّ على طلب العلم ويرفع من شأن المعلم، ويدعو الناس إلى التعلم، وبلغ به الأمر أن طلب من الأسرى أن يسعوا إلى تحرير أنفسهم بأن يعلّم كل واحد منهم عشرة من المسلمين، ثم استطرد قائلاً: «هل يمكن لنا أن نفهم كيف يمكن لمثل هذا القائد الملهم أن يحرم نفسه من الفوائد المترتبة على معرفة القراءة والكتابة؟!».

إنّ وهن هذه الشبهة يتضح من خلال المطالب المتقدّمة؛ إذ أنّ مدعانا يقوم على الأمية بمعنى عدم الكتابة وعدم الذهاب إلى مدرسة لتعلم القراءة والكتابة. بيد أنه - كما سبق أن أشرنا - يمكن للنبي أن يعلم القراءة والكتابة بالعلم اللدني، إلا أنه لم يمارس الكتابة طوال حياته دفعاً لتهمة اقتباسه القرآن والوحي من المصادر الأخرى. وإن عدم ممارسة النبي الأكرم للكتابة لا يتنافى مع اتصافه بصفة المعلم بمعنى تعليم الآخرين الحكمة والمعارف الأخلاقية السامية أبداً؛ ذلك لأنّ مصدره في ذلك هو الوحي والنفس القدسية للنبي.

الأمر الآخر أن عدم ممارسة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم للكتابة وإن أدّى إلى فوت بعض الفوائد الجزئية بالنسبة إلى النبي، إلا أن فوت هذه الفوائد الجزئية لا يعدّ شيئاً بالقياس إلى المصلحة المترتبة على عدم الكتابة، والتي تتمثل بدفع تهمة حصوله على الوحي من المذاهب والفلسفات والأديان الأخرى.

الشبهة السادسة: الاستناد إلى آيات تعليم النبي للكتاب والحكمة:

لقد وصف القرآن الكريم النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بأنه معلم للكتاب والحكم

ص: 29

حيث قال: ﴿ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ ) (1) .

يقول صاحب الشبهة إن الذي يروم تعليم الآخرين المضامين العلمية لكتاب معيّن، يجب أن يكون قبل كل شيء من العارفين بفنون القراءة والكتابة.

وهذا الاستدلال ضعيف أيضاً، للأسباب الآتية:

أولاً : يمكن العثور على بعض الحكماء والعباقرة بين الأميين الذين يحققون نجاحات باهرة في حقل تعليم الآخرين كثيراً من الحِكم الدينية

والأخلاقية، ولربما كانوا أنجح في استقطاب الأتباع من الدارسين والمثقفين.

ثانياً: إن المراد من تعليم الكتاب في هذه الآية الشريفة ليس هو تعليم القراءة والكتابة، وإنما المراد هو تعليم المضامين العلمية والأخلاقية في القرآن، وهو أمر يأتي من خلال حفظ الآيات والاستناد إليها في مقام الوعظ والتعليم. وإن مفردة «الحكمة» الواردة في الآية ذاتها تشهد على هذا المدعى وأن المراد من التعليم هو بيان المسائل الحكمية والأخلاقية وما تتضمّنها من التعاليم العقلية والدينية.

ثالثاً: إن المستشكل قد تجاهل منصب النبوة واتصال النبي الأكرم بالوحي وعلم الغيب الإلهي، ونظر إلى النبي بوصفه إنساناً اعتيادياً وأُميّاً، ومن الطبيعي أن لا يستطيع مثل هذا الإنسان أن يكون معلماً للقرآن والحكمة! في حين أن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم متصل بالوحي والعلم اللدني، بالإضافة إلى كونه أشرف الأنبياء، وإن تعليمه للكتاب والحكمة من مقتضيات النبوة، ومن لوازم صفاته الكمالية.

ص: 30


1- البقرة : 129 ؛ آل عمران: 164 ؛ الجمعة : 2 .

الشبهة السابعة: الاستناد إلى آيات التلاوة وتعليم الكتاب:

هناك من حاول الاستناد إلى قوله تعالى: ﴿ رَسُولٌ مِنَ الله يَتْلُوا صُحُفًا مُطَهَّرَةٌ ) (1)؛ لإثبات قدرة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم على القراءة والكتابة.

يقول مقرّر الشبهة إن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم كان يقرأ الوحي من الصحف؛ وعليه يجب أن يكون عالماً بالقراءة (2) .

وفي هذا الشأن يجب القول إن التاريخ لم يقدّم أي نصّ يُشير إلى أن النبي كان يقرأ الوحي من خلال الصحف، وإنما كان يقرأه عن حفظ.

وفيما يتعلق بالصحف المدعاة، يمكن طرح مختلف الاستفهامات، من قبيل ما هي طبيعة هذه الصحف ؟ ومن كتبها ؟ هل أنزل جبرائيل تلك الصحف إلى النبي الأكرم؟ أم أن النبي هو الذي كتبها في وقت سابق؟ إذ إنّ التاريخ لم يقدم لنا أيّ إشارة إلى هذه الأمور، بل هو ينكر وجود مثل هذه الصحف من الأساس، يكون أصل هذه الدعوى واهياً.

أمّا من الناحية اللغوية فإن كلمة «تلاوة» مشتقة من (تلو) بمعنى التبعية، وآخر الشيء، والقراءة. وقد استعملها اللغويون بشكل عام يشمل قراءة الشعر، والصلاة والقرآن، من دون أن تكون فيها دلالة على وجود صحيفة أو شيء مكتوب (3) .

وفضلاً عن الشاهد اللغوي فقد استعمل القرآن التلاوة بمعناها العام

ص: 31


1- البينة: 2 .
2- أُنظر : عبد اللطيف الهندي، نقلاً عن جعفر سبحاني، مفاهيم القرآن، ج 3، ص 323.
3- أُنظر: ابن منظور الأفريقى، لسان العرب، ج 11، مادة (تلو).

أيضاً، كما في قوله تعالى: ﴿ وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمانَ) (1) .

من الواضح أن تلاوة الشياطين لم تكن من لوح أو كتاب، بل ذهب جميع المفسرين واللغويين إلى تفسير التلاوة هنا بمطلق الكلام والحكاية، وعليه لا يمكن لنا أن نثبت وجود كتابة ولوح من خلال نسبة تلاوة الآيات إلى النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم لا من الناحية التاريخية، ولا من الناحية اللغوية.

الخلاصة:

لقد دلّت الأدلة السابقة على عدم وقوع وصف الكتابة والقراءة على النبي الأكرم. وأنّ الآية التي قيل بدلالتها على المدعى بشكل صريح وشفاف، إنما تؤيد عدم تحقق الوصف المذكور فقط.

أمّا فيما يتعلق بقدرة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم على القراءة والكتابة على مستوى الحقيقة والواقع، فهناك نظريات مختلفة، وإن اختلاف هذه النظريات يعود إلى اختلاف الأدلة والروايات؛ إذ دلّ بعضها على نفي قدرة النبي على القراءة والكتابة، ودلّ بعضها على نفي الكتابة وإثبات القراءة، ودلّ بعضها على إثبات الأمرين معاً (القدرة على القراءة والكتابة) (2).

وعلاوة على ذلك فإن هذه النظريات الثلاث تنشعب بالنسبة إلى ما قبل البعثة وما بعدها إلى قسمين، وبذلك يكون مجموع النظريات في هذا الشأن ستة، وإن تقرير هذه النظريات يحتاج إلى بحث مستقل. بيد أن الذي نراه على

ص: 32


1- البقرة: 102 .
2- أُنظر: البخاري، صحيح البخاري، ج 1، كتاب بدء الوحي، الباب الثالث؛ ابن هشام، سيرة ابن هشام، ج 1، ص 252 .

نحو القطع واليقين هو عدم تحقق القراءة والكتابة قبل البعثة، حيث ينطبق وصف «الأمّي» على النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم من هذه الناحية. وعليه يكون مجيء مثله بالقرآن الكريم معجزة، وإن شبهات المخالفين في نسبة وصف الكتابة والقراءة له قبل البعثة مجرد اتهام لا يقوم على دليل.

لقد كان النبي من هذه الناحية نبياً كاملاً ومن أشرف المخلوقات ومتصلاً بعالم الغيب، وعليه فإن القدرة على الكتابة والقراءة بالنسبة له أمر

سهل ويسير، ولكن حتى لا تتكرر شبهة المخالفين له في اتهامه باقتباس تعاليم الإسلام من الكتب السماوية الأخرى - التى تقدم ذكرها في الآية السابقة - فقد عمد سماحته إلى رعاية المصالح في عدم ممارسة القراءة والكتابة (1).

حصيلة الكلام أن عدم قدرة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم على القراءة والكتابة قبل البعثة أمر قطعي ويقيني، ومن هذه الناحية لا يوجد لدى أعداء الإسلام أي مستمسك أو دليل يثبت أن النبي قد أخذ تعاليم الإسلام والقرآن من المصادر الأخرى. بيد أن تحقق الوصف المذكور للنبي فيما يتعلق بفترة ما بعد البعثة فهو وإن كان من الأمور الخلافية، إلا أن كلا الأمرين (إثبات قدرة النبي على القراءة والكتابة أو عدم قدرته عليهما) لا يُجديان نفعاً لأعداء الإسلام؛ إذ لو ثبت وقوع القراءة والكتابة منه بعد البعثة، كان ذلك من الأمور الخارقة للعادة، ويكون معجزة تضاف إلى سائر معجزات النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم ؛ لأنه كان قبل البعثة أمياً، وإذا به يتحوّل فجأة إلى شخص قادر على القراءة والكتابة في

ص: 33


1- أُنظر: محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار ، ج 16، ص 135؛ العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 16، ص 139 ؛ مرتضى مطهري، مجموعه آثار ( الأعمال الكاملة)، ج 3، ص 208 و 211 و 217.

ضوء البعثة والنبوة. وأما على فرض بقائه على الأمية حتى بعد البعثة، فيمكن اعتبار ذلك من الإعجاز أيضاً، لمكان صدور كتاب على مثل عظمة القرآن - والذي هو معجزة من العديد من الجهات - عن النبي الأكرم رغم أميته.

ص: 34

الفَضْلُ الثَّاني

علم الغيب

الشبهة الأولى: إنكار علم النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم للغيب استناداً إلى القرآن:

هناك من تمسك بظاهر بعض الآيات للقول بأنّ القرآن الكريم ينفي علم الغيب عن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم ، وإليك بعض هذه الآيات (1)

- ﴿ قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّه وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ) (2) .

- (وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ) (3).

- ﴿ إِنَّمَا الْغَيْبُ الله فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنْ الْمُنْتَظِرِينَ ) (4).

- (وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ ) (5)

ص: 35


1- أُنظر : علي أكبر حكمي زادي، اسرار هزار ساله، ص 7؛ علي دشتي، بيست وسه سال، إعداد وتنقيح بهرام چوبینه، ص 90؛ نعمت الله صالحي نجف آبادي، عصای موسى، ص 56 .
2- الأنعام: 50؛ وانظر أيضاً هود: 31 .
3- الأعراف: 188 .
4- يونس: 20.
5- الأحقاف: 9 .

-(وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) (1).

أمّا القسم الآخر من أدلة المخالفين وشبهاتهم فيتمثّل بأحداث سيرة النبي الأكرم وحياته الاعتيادية التي كان يسلك فيها كأيّ إنسان آخر.

مناقشة وتحليل :

اشارة

وقبل أن ندخل في تفصيل نقد هذه الشبهة، لا بد من مقدمة لتوضيح أمرين

مقدمة:

أ - إمكان علم الغيب هل يمكن للإنسان أن يحصل على علم الغيب وإدراك خفايا العالم وأسراره - الأعم من الماضي والمستقبل - من الطرق والقنوات غير المألوفة؟

إنّ أدلّ دليل على إثبات إمكان شيء - كما يقول الفلاسفة - هو الوقوع والتحقق. وفيما يتعلق بدلالة التجربة ومختلف العلوم على إمكان وقوع علم الغيب لا نجد اليوم من ينكر ذلك إلا نادراً. وحالياً يتمّ التحقيق في الغرب بشأن هذا البحث تحت عنوان علم ال- «ماورائيات» وإدراك الأمور الميتافيزيقية (2) ، واستشراف المستقبل و«الاستبصار» (3) .

وقد تحدّث المتخصّصون من أمثال الدكتور «ألكسيس کارل» و «هانس يورغن آيزنك»، بهذا الصدد قائلين

ص: 36


1- التوبة: 101 .
2- Ex.sensory perception.
3- Laivoyance.

«يمكن لأصحاب البصائر أن يسبروا الأغوار الفكرية للآخرين دون حاجة إلى توظيف أعضائهم الحسيّة، ويتمكنون بذلك من رؤية الأحداث والوقائع الخارجة عن النطاق الزماني والمكاني ، وهذا من المواهب الإلهية» (1).

ويمكن لنا أن نشير هنا على سبيل المثال إلى المتنبئ الغربي الشهير في العالم الغربي «نوستر دامس» (1503 – 1566 م)، حيث تمكن من التنبؤ ببعض أحداث العالم قبل بضعة قرون (2) .

وبقطع النظر عن هذه الموارد فإن كل شخص قد جرّب بنفسه أو سمع من أقاربه أن بعض المنامات المتعلقة بالمستقبل تحوّلت إلى حقيقة، وبذلك يدرك المرء الأحداث قبل وقوعها.

وبالالتفات إلى هذين الأمرين فإن العلم بالغيب سيغدو من الأمور الممكنة للأنبياء ومن بينهم النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم .

ب - علم الأنبياء السابقين بالغيب من خلال دراسة حياة الأنبياء السابقين يتضح أنهم كانوا يعلمون الغيب في الجملة، وفيما يأتي نشير إلى

بعضهم:

ص: 37


1- أُنظر : ألكسيس كارل، انسان موجود ناشناخته (الإنسان ذلك المجهول)، ترجمه إلى الفارسیة پرویز دبیری، ص 140؛ هانس يورغن آيزنك، درست و نادرست در روان شناسى (الصواب والخطأ في علم النفس)، ترجمه إلى الفارسية ايرج آيين، ص 92.
2- حيث تنبأ بانتهاء سلطة الكنيسة، والإعلان عن الجمهورية الفرنسية في عام 1792م، وقلع عين الملك الفرنسي وموته من جراء ذلك في عام 1559 م، وسقوط سجن الباستيل، وظهور نابليون بونابرت. والملفت في الأمر أنه كان يسند تنبؤاته إلى النور الإلهي (أُنظر: شرف الدين اعرجي، پیشگویی های نوستر دامس).

1- النبي آدم علیه السلام إن أول علم للغيب هو علم الأسماء الذي علمه الله لأول إنسان ونبي على وجه الأرض وهو النبي آدم، وهو من العلوم المحجوبة عن الملائكة (1).

2 - النبي نوح علیه السلام إذ توجّه بالدعاء إلى الله سبحانه وتعالى بأن لا يُبقي أحداً من الكفار على قيد الحياة، وذلك لليأس من إيمانهم، وعلمه بأن أولاد المشركين لن يكونوا أحسن حالاً منهم (2) . وبالرجوع إلى آية أخرى ندرك أن منشأ علم النبي نوح بذلك هو الوحي الإلهي (3) .

3- النبي يعقوب علیه السلام فبعد أن استمع إلى المنام الذي رآه يوسف علیه السلام تنبأ بما سيناله من النبوّة والمقام الشامخ، كما أخبر بمكر إخوة يوسف وإعطائه علم تفسير الأحلام (4) .

وإن علم يعقوب بكذبة إخوة يوسف في قولهم: إن الذئب قد أكله، وسرقة شقيق يوسف «بنيامين» من بلاط حاكم مصر، يأتي في سياق إخباراته الغيبية (5) .

4 - النبي عيسى بن مريم علیه السلام حيث كان يخبر عن نوع الطعام الذي يدّخره الناس في بيوتهم (6) .

ص: 38


1- أُنظر: البقرة 3 - 31.
2- أُنظر: نوح 7 - 26 .
3- أُنظر: هود 36.
4- أُنظر: يوسف 4 - 6 .
5- أُنظر: يوسف 83.
6- أُنظر: آل عمران 49.

5- النبيان داوود وسليمان علیهما السلام حيث كانا طبقاً لصريح القرآن يتمتعان بعلم إلهي خاص، من قبيل العلم بلغات الطيور (1).

مناقشة وتحليل:

بعد الفراغ من هذه المقدمة، ندخل في تفصيل الإجابة عن شبهة إنكار علم النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بالغيب

1 - الفصل بين علم الغيب الذاتي والتبعى:

من خلال قراءتنا لآيات القرآن الكريم ندرك أن قسماً من الآيات في مقام نفي علم الغيب الذاتي والاستقلالي للنبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم، بمعنى أنّ علم النبي بالغيب لا يمكن أن يكون من طريق ذاته ومستقلاً عن الله عزّ وجل. وأنّ النبي الأكرم في سياق امتثاله للأوامر الإلهية يقرّ بأنه لا يمتلك علم الغيب بخزائن الله بقطع النظر عن الوحي والإلهام الإلهي . وإن هذا الاعتراف لا ينافي الناحية الأخرى من علم الغيب، بمعنى الحصول عليه من القنوات الإلهية، وقد تقدم ذكر الآيات الدالة على ذلك.

وعليه فإن الآيات التي تثبت علم الغيب للأنبياء إنما تثبت علم الغيب الناشئ عن الوحي والإلهام، بينما الآيات النافية لعلم الغيب عن الأنبياء، إنما هي بصدد علم الغيب الذاتي والاستقلالي بمعزل عن العناية الإلهية.

2 - علم النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بالغيب طبقاً لتقرير القرآن الكريم:

على الرغم من أن بعض آيات القرآن الكريم تقصر علم الغيب على

ص: 39


1- أُنظر: النمل 15 .

الذات الإلهية، إلا أنّ هذه الآيات ذاتها وغيرها من الآيات الأخرى تثبت الإخبار الغيبي الصادر عن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم من مختلف القنوات والطرق الإلهية، ومن بينها الوحي والإلهام. وإن هذه الآيات على ثلاث طوائف

1 - الآيات التي تحصر علم الغيب بالله سبحانه وتعالى مع بعض الاستثناءات.

2- الآيات التي تثبت علم الغيب للنبي بقول مطلق.

3 - الآيات التي تثبت علم الغيب للنبي بشكل خاص ومحدد. وفيما يأتي نشير إلى هذه الآيات:

- (وَمَا كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهُ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ یَشَاءُ) (1) .

- عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا ٭ إِلَّا مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ) (2) .

إنّ هذه الآيات تثبت أول الأمر اختصاص الله بعلم الغيب، ثم تستثني الأنبياء والرسل وتثبت لهم هامشاً من علم الغيب أيضاً.

أما الطائفة الثانية من هذه الايات فهي التي تدلّ على ثبوت علم الغيب للنبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم

- (ذَلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ ) (3).

- (تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ ﴾ (4) .

ص: 40


1- آل عمران : 179 .
2- الجن: 26 - 27 .
3- آل عمران: 44 .
4- هود: 49 .

أمّا الطائفة الثالثة من هذه الآيات فهى الآيات التي تشير إلى علم النبي الأكرم في موارد خاصة، من قبيل قوله تعالى:

- (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضٍ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِي الْعَلِيمُ الخبيرُ) (1).

- (وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيمًا ) (2) .

- (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّه عَلَى الْكَاذِبِينَ) (3) .

- (وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ ٭ وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ ٭ وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) (4) .

3 - النفي المطلق والإثبات الجزئي:

تقدّم أن قلنا بأن هناك آراء مختلفة في تفسير علم النبي بالغيب. وهناك من بين تلك الآراء ما يذهب إلى القول بالعلم الجزئي وفي موارد خاصة. وعلى هذا الأساس فإن الآيات المثبتة لعلم النبي بالغيب بصدد إثبات أصل العلم بالغيب على نحو الموجبة الجزئية، أمّا الآيات النافية فهي ليست بصدد نفي علم

ص: 41


1- التحريم: 3.
2- النساء: 113 .
3- آل عمران: 61 .
4- التكوير: 22 - 24 .

الغيب بشكل مطلق، وإنما هي بصدد النفى الجزئى وفي موارد خاصة. ومن هنا يمكن الجمع بين الآيات النافية والآيات المثبتة بسهولة.

4 - إخبار النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بالغيب بشهادة التاريخ:

لقد أخبر النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم مراراً وتكراراً بالأخبار الغيبية عن الماضي والمستقبل، وسيأتي تفصيل ذلك في الصفحات القادمة إن شاء الله.

5 - المقام العلمي والمعنوي للنبي «الاتجاه الفلسفي والعرفاني»:

تقدّم أن أشرنا إلى أن مقتضى الأدلة القرآنية والروائية يقوم على إثبات علم الغيب للنبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم . وهنا نضيف هذه المسألة، و هي أنه بالإضافة إلى الأدلة المذكورة فإن الأسس والمباني الفلسفية والعرفانية تدلّ على إثبات علم الغيب للنبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم أيضاً، وقد تمّ تنقيح هذا البحث في الفلسفة والعرفان بالتفصيل، وفيما يأتي نكتفي ببيان مختصر في هذا الشأن:

1 / 5 - النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم المظهر الإلهي الأول: إن ذات الباري تعالى المستجمعة لصفات الكمال واللاتناهي هي علة العلل، والمفيضة للوجودات الإمكانية، وإنّ الصادر الأول - طبقاً لكثير من الروايات وما هو المحقق في الفلسفة والعرفان - هو الوجود النوراني للنبي الأكرم بعنوان «الحقيقة المحمدية» أو «الصادر الأول» (1) . وإنّ وجود سائر الممكنات وخلقها تابع وظل للوجود النوراني للنبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم ؛ ذلك لأنّ المعلول شعاع وضوء لوجود علته، ومن هنا تكون العلة على الدوام محيطة بمعلولها، ويكون علمها به من قبيل العلم الحضوري.

ص: 42


1- فقد ورد في الحديث (أول ما خلق الله نوري)، و (نحن أول خلق الله)، أُنظر : محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار ، ج 25 ، باب بدء الخلق، ص 20 فما بعد.

طبقاً للتقرير العرفاني فإن كل فرد من الكاملين يمثل مظهراً وتجلياً لأسماء الله وصفاته الكمالية، وإن «العالم» و«العلام» و«عالم الغيب» من

اسماء الله وصفاته، إذ إنّ وجودها المطلق والبحت مستقرّ في ذات الله بالاستقلال، ويتحقق ظهورها وتجليها في الكاملين من الناس، وعلى رأسهم النبي الأکرم صلی الله علیه و آله و سلم .

وعلى هذا الأساس فإنّ النبي الأكرم بوصفه الصادر والظهور الأول لوجود الله عزّ وجل، يكون مظهراً وتجلياً لجميع صفات الله، ومن بينها «عالم الغيب»، ولمّا كانت التجليات والظهورات الأخرى تنشأ عن ظهور الحقيقة المحمدية، فإن علم الحقيقة المحمدية بسائر الوجودات والظهورات يأتي بالضرورة من طريق العلم بذاته (1).

2 / 5 - إن عالم المادة متنزّل عن العالم المجرّد فهو مسبوق به: إن عالم المادة وحوادثه متنزل عن عالم المثال والمجرّدات، وبعبارة أخرى إن مبدأ جميع الحوادث الدنيوية هو سبق وجودها في عالم المجرّدات، بيد أنه وجود بسيط وغير جزئي.

أمّا في عالم الملكوت والمثال فيمكن لها أن توجد بشكل جزئي أيضاً. وعلى هذا الأساس يمكن للشخص الذي يتحلى بالنفس القدسية - من خلال الاتصال بعالم المثال أو المجردات والإحاطة بها - أن يحيط بالضرورة علماً

ص: 43


1- أُنظر: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 1، ص273؛ العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي، بحثي كوتاه درباره علم امام (بحث مقتضب بشأن علم الإمام)، ص 4.

بحوادث العالم الأدنى (أي عالم المادة) أيضاً (1).

3 / 5 - اتصال النفس النبوية بعالم الغيب: إن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم يتصل من قناة الوحى والتعالي الروحى بعالم المثال والمجرّدات والحقيقة المحمّدية، وبذلك يمكنه أن يعلم ويدرك جميع حوادث عالم المادة على الدوام. وبعبارة فلسفية إن الإنسان من خلال سموّ النفس وتعاليها يحصل على العقل المستفاد الذي يستطيع بواسطته مشاهدة المعقولات.

وبعبارة أخرى إن الأنبياء بشكل عام والنبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بشكل خاص، قد بلغوا بقواهم الحسيّة والتخيلية والعاقلة أعلى مراتب الكمال، وفي ضوء هذه القوى يتمكن الأنبياء من اجتراح المعجزات والأمور الخارقة للعادة ومن بينها العلم بالمغيّبات.

وعلى هذا الأساس فإن القوّة المتصوّرة والمتخيلة للنبي من القوّة والشدّة بحيث يمكنها مشاهدة المثال في حال اليقظة والمنام، ومن خلال اتصالها بهذا العالم يمكنها الاطلاع على الأمور الماضية وتلك التي ستحدث في المستقبل.

وفي ضوء القوّة العاقلة تغدو نفس النبي شبيهة بالروح الأعظم؛ فتتصل بعالم الغيب والملأ الأعلى بمجرّد إرادة النبي لذلك؛ فيحصل على العلوم

ص: 44


1- أُنظر: أبو الحسن رفيعي قزویني، پاسخ به نامه ای درباره کتاب شهید جاويد (إجابة عن رسالة بشأن كتاب الشهيد الخالد)، المدرجة في نعمت الله صالحي نجف آبادي، عصاى موسى، ص 26، ورضا أستادي، سرگذشت کتاب شهید جاوید، ص 184. تجدر الإشارة إلى أن سرّ صدق بعض الإخبارات عن الماضي أو المستقبل التي تنتقل إلى الفرد في عالم الرؤيا يعود إلى اتصال روح صاحب الرؤيا بعالم المثال أو العقل (أُنظر السيد محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 11، ص 268 - 273).

اللدنية (1).

4 / 5 - الفصل بين المساحة المعنوية والدنيوية للنبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم: إن للنبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم

مقامين وحيثيتين، وهما:

المقام الأول: مقام نورانيته الذي يمثل ظهوراً وتجلياً للحقيقة المحمدية التي يشرف من خلالها ويطلع على جميع الكائنات الإمكانية. وإن هذه الحيثية هي من نوع العلم والإحاطة العلمية القيّومية التي لا يمكن أن يكون للغفلة والنوم والسهو والنسيان وتجدد الأحوال طريق إليها.

المقام الثاني: يلحظ فيه العنصر المادي والصورة الجسمانية. فالنبي الأکرم صلی الله علیه و آله و سلم مثل سائر الناس يتمتع بالغرائز والقوى المادية، وهو مكلف من قبل الله أن يسلك مثلهم من دون أن يقحم شأنه ومقامه النوراني - المشتمل على علم الغيب - في هذه الأمور.

إنّ النبي الأكرم بالنسبة إلى المقام الأول يمتلك قدرة الاطلاع على علم الغيب المطلق والفعلي بحيث لا يخفى عليه شيء، وأما بلحاظ المقام الثاني فهو مثل سائر الناس، ومن هذا المنطلق ينسب إلى نفسه الجهل والنسيان أحياناً، أو أن يطلب من الله سبحانه وتعالى أن يزيد في علمه.

وبعبارة أخرى إن علم النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم للغيب - بلحاظ نورانيته - علم مطلق وفعلي، وأمّا بلحاظ عنصره الجسماني فتتوقّف فعليته وإطلاقه على التفاته وحضوره الذهني. قال العلامة الطباطبائي بشأن علم الإمام (ويمكن

ص: 45


1- أُنظر: صدر المتألهين، الشواهد الربوبية، ص 341؛ صدر المتألهين، المبدأ والمعاد، ص 483؛ صدر المتألهين، الحكمة المتعالية في الأسفار الأربعة، ج 8، ص 158؛ عبدالرزاق اللاهيجي، گوهر مراد، ص 366 .

تعميمه على علم النبي بالأولوية): «إنّ الإمام بحسب مقامه النوراني يعتبر من أكمل الناس في عصره، ويكون مظهراً لجميع أسماء الله وصفاته، ويكون محيطاً بجميع الأشياء والوقائع الشخصية بالفعل، وبحسب الوجود العنصري تنكشف له الحقائق حيثما توجه» (1) .

وقال العلامة الطباطبائي في معرض الإجابة عن شبهة المخالفين لعلم الإمام الفعلي تمسّكاً بالروايات الدالة على حدوث علم الأئمة وتجدّده في كل يوم «إن الكاتب المحترم قد خلط بين العلم الاعتيادي للإمام علیه السلام وبين علمه بحسب المقام النوراني، إن التجدّد والتدرّج بحسب العلم العادي المرتبط بمقامه العنصري، لا يمنع من تحقق علم المقام النوراني الذي هو المخلوق الأول والصادر الأول والفعلية المحضة .. وعليه يمكن للإمام بحسب مقام النورانية أن يكون له علم ثابت بشيء، وإن العلم بذلك المعلوم ذاته بحسب المقام العنصري يتوقف على الإلهام الجديد» (2).

5/ 5 - سلوك النبي الأكرم بحسب العلم الاعتيادي: إنّ جميع الأنبياء،

ص: 46


1- العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي، بحثي كوتاه درباره علم امام (بحث مقتضب بشأن علم الإمام)، ص 36؛ العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 18، ص 273، وج 18، ص 192.
2- جواب العلامة عن فقرة من كتاب (عصای موسی)، ص 547، تضمنها كتاب الأستاذ رضا استادي (سرگذشت کتاب شهید جاوید). وقال الأستاذ جوادي آملي بشأن اعتبار النبي الأكرم هو الصادر الأول (إن جميع كائنات عالم الإمكان - مع حفظ التراتبية - قد وجدت بعده، وعليه فإن كل ما يوجد في العالم يخضع لإحاطته العلمية، وإن جميع أنواع الغيب والشهادة مشهود له) . (عبد الله جوادي آملي، پيامبر رحمت (نبي الرحمة)، ص 135) .

ومن بينهم النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم يكلمون أقوامهم بلغاتهم وخطاباتهم العرفية. وكان النبي يعتبر نفسه واحداً من الناس، إلا في مسألة واحدة تتعلق بتلقي الوحي الإلهي، ولذلك كان النبي يصرّح في الكثير من الموارد بأنه مثل سائر الناس، وفي ذلك قال الله تبارك وتعالى: ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ ) (1).

وبعبارة أخرى إن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم فيما يتعلق بسلوكه مع الناس كان مكلفاً بالعمل على طبق علمه العادي وليس بعلمه الغيبي. وعلى هذا الأساس فإن النبي وإن كان من الناحية المعنوية من أكمل الناس وأشرف المخلوقات، ويمتلك روحاً متصلة بعالم الغيب ، إلا أنه كان يتجاهل هذه الحيثية من حياته في محاوراته ومخاطبته لقومه . وعندما كانوا يطلبون منه اجتراح المعجزات وعلم الغيب كان النبي يشير إلى حيثيته وحياته الطبيعية الأولى، ويقول لهم بأنه مثلهم من هذه الناحية إلا إذا شملته العناية الخاصة من طريق الوحي والسماء.

6 / 5 - تفسير الآيات المنكرة لعلم الغيب: اتضح مما سبق أن مراد الآيات التي تضمّنت اعتراف النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بعدم علمه وإحاطته بالغيب، إذ إنّ مراده من ذلك نفي علم الغيب بالمعنى الذاتي والاستقلالي، أو من ناحية بشريته وحياته الطبيعية، كما أن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم فيما يتعلق بالأمور الدنيوية كان مكلفاً ومأموراً بالعمل على طبق علمه الظاهري وليس الغيبي، وإن الموارد الاستثنائية تستدعي أمراً خاصاً.

كما أن الآيات التي تنفي علم النبي الغيبي بأحوال المنافقين (2)، إنما

ص: 47


1- الكهف: 110 . وانظر أيضاً العنكبوت: 50 ؛ فصّلت: 6 ؛الأحقاف: 9 .
2- أُنظر: سورة محمد: 30؛ التوبة : 101.

تستند إلى طبيعة النبي ومساحته البشرية والمادية، وهذا لا يتعارض مع علم النبي الغيبي في إطار المساحة المعنوية والإلهية .(1)

ويمكن ملاحظة هذا المعنى والتفسير من خلال النظر في الآيات الأخرى التي تنفي علم النبي بالغيب، فعلى سبيل المثال هناك آية ترى ضبط مصير الأبرار من الناس في كتاب اسمه «العليون»، والآية تخاطب النبي وتقول حتى أنت عاجز عن إدراكه ومعرفته؛ إذ يقول تعالى:

(كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلَّيِّينَ ٭ وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلَّيُّونَ) (2).

بيد أنه يستدرك بعد ذلك ويقول إن بإمكان المقربين من الناس أن یحيطوا علماً به، وذلك حيث يقول (كِتَابٌ مَرْقُومٌ ٭ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ ) (3).

واضح أنّه إذا كان بعض الناس «المقرّبون» يحيطون علماً بهذا الكتاب، فإن النبي الذي هو من أشرف الكائنات لابد أن يكون على علم كامل به؛ وعليه يتضح أن هذه الفقرة من الآية الشريفة ﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلَّيُّونَ ﴾ ليست خطاباً للنبي.

وقد استفاد العلامة الطباطبائي من هذا الجمع في تفسير الآيات المثبتة والنافية لعلم الغيب، إذ قال: «إن الآيات النافية للعلم بالغيب عنه وعن سائر

ص: 48


1- أُنظر: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي، المصادر السابقة؛ وقال المحقق السيد عبد الحسين اللاري (لا تعلمهم بالأمارات والحواس الظاهرية مع فطنتك وصدق فراستك وعلمك الباطني بهم)، (السيد عبد الحسين اللاري، المعارف السلمانية، ص 66 ) .
2- المطففون : 18 - 19.
3- المطففون : 20 - 21 .

الأنبياء علیهم السلام إنما تنفيه عن طبيعتهم البشرية ... وهذا لا ينافي انكشاف الغيب لهم بتعليم إلهي من طريق الوحي» (1).

وهناك من عمد إلى القول بأن المخاطب الحقيقي في هذه الآيات ليس هو النبي وإنما المراد توجيه الخطاب من خلال النبي إلى الأمة، من باب (إياك أعني واسمعي يا جارة)، وهذا النوع من الخطاب شائع في الخطابات العرفية أيضاً (2). ويمكن تأييد هذا المعنى من خلال الإشارة إلى الآيات الأخرى التي تنفي علم النبي بأهوال جهنم وأحوال القيامة، مع أن المخاطب الحقيقي بها هم عامة الناس، وخاصة المنكرين للنبوّة والمعاد، من قبيل قوله تعالى: ﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ ٭ نَارُ الله الْمُوقَدَةُ ) (3).

حصيلة الكلام أن الآيات المنكرة لعلم النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بالغيب، يمكن بيانها وتفسيرها من خلال الأمور الآتية:

أ - نفي علم الغيب الذاتي والاستقلالي.

ب - نفي علم الغيب بحسب المساحة المادية والدنيوية.

ج - إن مراد الآيات النافية توجيه النفي إلى عامة الناس دون النبي الأکرم صلی الله علیه و آله و سلم .

ص: 49


1- العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 18، ص 195، وج 7، ص 95 ، وج 20، ص 58.
2- أُنظر: السيد عبد الحسين اللاري، المعارف السلمانية، ص 7 - 66؛ المظفر، علم الإمام، ص 60 .
3- الهمزة: 5 - 6 .

الشبهة الثانية : إنكار علم النبي بالغيب استناداً إلى الأحداث التاريخية :

اشارة

أما الدليل الآخر الذي يستند إليه المنكرون لعلم الأنبياء، وعلى رأسهم النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بالغيب، هو سلوكه الاعتيادي، فعلى سبيل المثال كان النبي الأكرم يشارك في الحروب، وكان يتعرّض للجراح مثل الآخرين، فلو كان يعلم زمن تعرّضه للضرب لقام بدفع الأذى عن نفسه، ولم يسمح لعدوّه بتسديد الضرب والطعن له . وفي حالة أخرى ضلّت له ناقة، وأخذ يبحث عنها (1).

وفي إحدى الغزوات تقاعس بعض الصحابة عن مشاركة المسلمين، مدعين أن لهم عذراً في ذلك، وقبل رسول الله عذرهم؛ فنزل القرآن يعاتب الرسول على سماحه لهم بعدم القتال قبل أن يتبيّن صدقهم من كذبهم (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ ﴾ (2).

ومن بين المستندات الأخرى التي تمسّك بها المنكرون مسألة تلقيح النخل من قبل المزارعين، فقال لهم النبي لو تركتم ذلك لكان أفضل؛ فكانت النتيجة بعكس ذلك (3).

مناقشة وتحليل :

من الجدير في تحليل هذه الشبهة النظر في الأمور الآتية:

ص: 50


1- أُنظر: نور الدين الحلبي، السيرة الحلبية (إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون)، ج 3، ص 134 ؛ ابن هشام، سيرة ابن هشام، ج 3، ص 523.
2- التوبة: 43 .
3- أُنظر: مسلم بن حجاج النيسابوري، صحيح مسلم، ج 4، ص 1836، كتاب الفضائل (باب وجوب امتثال ما قاله شرعاً) ، ح 139 - 141؛ ابن ماجة، سنن ابن ماجة، ج 2، ص 825 ، ح 2470 .

1 - الفصل بين المساحة المادية والمعنوية:

إنّ الإجابة عن هذه الشبهة تتضح من المسائل المتقدّمة أيضاً؛ إذ قلنا مراراً: إن لشخصية النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بعدين : البعد الأول ناظر إلى الوجود النوراني والمرتبط بالعالم القدسي، وهو من هذه الزاوية يعلم بجميع أحداث العالم، والبعد الثاني هو البُعد المادي والدنيوي لرسول الله. وإن المعيار والميزان في سلوك النبي يقوم على هذه الجهة. وفي الحقيقة يمكن القول إن النبي كان عالماً بجمیع أمور العالم من زاوية، وإنه كان فاقداً لهذه المعرفة من زاوية أخرى (1) .

2-علم النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بالغيب طبقاً لشهادة التاريخ:

بغض النظر عن الأدلة العقلية والقرآنية، فإن التاريخ يشهد أيضاً على علم النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بالغيب، وفيما يأتي نشير إلى بعض الموارد في هذه الإطار:

1 - ضمان أمن السبل والاستيلاء على كنوز کسری: فقد روي عن عدي بن حاتم الطائي، أنه قال: بينا أنا عند النبي صلی الله علیه و آله و سلم إذ أتاه رجل فشكى إليه الفاقة، وأتاه آخر فشكى إليه قطع السبيل، فقال صلی الله علیه و آله و سلم يا عدي بن حاتم هل رأيت الحيرة؟ قلت: لم أرها وقد انبئت عنها. قال: فإن طالت بك حياة لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحداً إلا الله عزّوجل .. ولئن طالت بك حياة لتفتحن کنوز کسری بن هرمز» (2).

ص: 51


1- لمزيد من الاطلاع أُنظر: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي، رسالة علم الإمام، وانظر أيضاً الميزان في تفسير القرآن، ج 1، ص 273، وج 18، ص 192.
2- ابن كثير، البداية والنهاية، ج 6 ، ص 209؛ البيهقي، السنن الكبرى، ج 5، ص 225 .

2 - التنبّؤ بظهور الخوارج ورئيسهم ذو الخويصرة: عن سعيد الخدري قال: بينا نحن عند رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وهو يقسم قسماً، أتاه ذو الخويصرة وهو رجل من بني تميم، فقال : يا رسول الله اعدل! قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم : «ويلك ومن يعدل إن لم أعدل، قد خبت وخسرت إن لم أعدل». فقال بعض الصحابة: يا رسول الله ائذن لي فيه أضرب عنقه. قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم : «دعه فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية» (1).

3 - الإخبار باستشهاد الإمام علي علیه السلام : قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم مخاطباً الإمام علياً بن أبي طالب علیه السلام : «كأني بك وأنت تصلي لربك، وقد انبعث أشقى الأولين والآخرين، شقيق عاقر ناقة ثمود فضربك، ضربة على قرنك؛ فخضب منها لحيتك» (2) .

4 - موت أبي ذر غريباً وحيداً: تخلف جمل أبي ذر عن اللحاق بركب رسول الله في طريقه إلى غزوة تبوك، فواصل أبوذر طريقه مشياً، حتى أدرك الرسول في بعض الطريق، فقال النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم في حقه: «رَحِمَ اللهُ أَبَاذَرّ ، يَمْشِي وَحْدَهُ وَيَمُوتُ وَحْدَهُ وَيُبْعَثُ وَحْدَهُ» .. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ لَمّا نَفَى عُثْمَانُ أَبَاذَرّ إِلَى الرِّبَذَةِ، وَأَصَابَهُ بِهَا قَدَرُهُ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتُهُ وَغُلَامُهُ» (3).

5 - خروج عائشة لقتال الإمام علي علیه السلام : روي عن رسول الله أنه

ص: 52


1- أحمد بن حنبل، مسند أحمد، ج 1، ص 92 ؛ أبو عبد الله بن إسماعيل البخاري، ج 4، ص 179؛ منصور علي ناصف، التاج، ج 5، ص 313 .
2- العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 42، ص 190.
3- ابن هشام، سيرة ابن هشام، ج 2، ص 523 .

قال لعائشة : كأني بك وأنت تهمّين بقتال علي، فتمرين بماء الحوأب، وتنبحك كلابها. ستقاتلين علياً وأنت ظالمة له (1) . وقد روى العلامة المجلسي في بحاره عن إخبار النبي عائشة بأنها ستخالفه، حيث قال: «يا حميراء قد خالفت أمري أشد خلاف، وأيم الله لتخالفين قولي هذا ولتعصنه بعدي، ولتخرجن من البيت الذي أخلفك فيه متبرجة قد حفّ بك فئام من الناس، فتخالفينه [أي علي علیه السلام] ظالمة له، عاصية لربك، ولتنبحنك في طريقك كلاب الحوأب، ألا إن ذلك كائن» (2) .

6 - خروج الزبير بن العوّام لقتال الإمام علي علیه السلام : وقد حدث مع الزبير أمر مشابه لما حدث لعائشة! وقد ذكّره الإمام علي علیه السلام بنبوءة النبي عندما خرج إلى قتاله قائلاً: «أما تذكر يوماً كنت مقبلاً علي بالمدينة تحدثني إذ خرج رسول الله؛ فرآك معی وأنت تبسم إليّ، فقال لك يا زبير أتحبّ علياً؟ فقلت: وكيف لا أحبه وبيني وبينه من النسب والمودّة في الله ما ليس لغيره. فقال: إنك ستقاتله وأنت له ظالم. فقلت: أعوذ بالله من ذلك. فنكس الزبير رأسه ثم قال: إني أنسيت هذا المقام» (3) .

7 - قتل خسرو برويز على يد شيرويه: عندما أرسل النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم إلى خسرو برويز كتاباً يدعوه فيه إلى اعتناق الإسلام، غضب غضباً شديداً، ثم كتب إلى باذان وهو باليمن - وكانت خاضعة لسيطرة كسرى في ذلك الحين -

ص: 53


1- أبو عبد الله النيشابوري، المستدرك على الصحيحين، ج 3، ص 120؛ أحمد بن حنبل، مسند أحمد، ج 6، ص 52. (لم نعثر على هذا المضمون في هذين المصدرين، المعرّب).
2- العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 28، ص 107.
3- أبو عبد الله النيشابوري، المستدرك على الصحيحين، ج 3، ص 366.

أن ابعث إلى هذا الرجل الذي بالحجاز رجلين من عندك جلدين، فليأتياني به .. فخرجا حتى قدما على رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ؛ فقال لهما رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ارجعا حتى تأتياني غداً. وأتى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم الخبر من السماء إن الله قد سلط على کسری ابنه شيرويه فقتله، فدعاهما رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وأخبرهما بقتل كسرى، وقال لهما إن ديني وسلطاني سيبلغ ملك كسرى» (1).

8 - تسلّط بني أمية على أرواح المسلمين وأموالهم ودينهم كما أخبر النبي بتسلّط بني أمية على رقاب المسلمين ودينهم، وطغيانهم عليهم، ومن ذلك قوله: «إذا كملت بنو أمية ثلاثين رجلاً اتخذوا بلاد الله دولاً، وعباد الله خولاً ، و دین الله دغلاً» (2) .

الإجابة عن شبهتين أخريين:

كما تمسّك بعضهم لإنكار علم النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بالغيب، بموردين آخرین:

أ - ضياع ناقة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم :

مما تقدّم تتضح الإجابة عن فقدان ناقة النبي في إحدى الغزوات أيضاً. فضلاً عن أنّ النبي الأكرم قال في الجواب عن غمز المنافقين حين عرّضوا به قائلين، أيّ نبيّ هذا الذي لا يعرف موضع جمله، وإليك تفصيل الواقعة كما رواها ابن هشام في سيرته:

ص: 54


1- أُنظر: ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج 2، ص 124؛ أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، تاريخ الطبري، ج 2، ص 656 .
2- أُنظر: أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، تاريخ الطبري، ج 10، ص 61 ؛ ابن واضح اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، ج 2، ص 67 و 172.

قال زيد بن اللصيت وهو في رحل عمارة أليس محمد يزعم أنه نبي، ويخبركم عن خبر السماء، وهو لا يدري أين ناقته ؟ فقال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم إنّ رجلاً قال: «هذا محمد يخبركم أنه نبي، ويزعم أنه يُخبركم بأمر السماء وهو لايدري أين ناقته، وإني والله ما أعلم إلا ما علمني الله، وقد دلّني الله عليها، وهي في هذا الوادي، في شعب كذا وكذا، قد حبستها شجرة بزمامها، فانطلقوا حتى تأتوني بها؛ فذهبوا فجاؤوا بها» (1).

كما يتضح من هذا النص التاريخي أن النبي إنما سلك في هذا المورد على أساس علمه الظاهري، وإنه لم يكن يعمل على توظيف علمه اللدني والباطني إلا في موارد الضرورة.

هذا وقد حاول بعضهم - بطبيعة الحال - أن يعزو هذا العلم إلى عبقرية النبي وذكائه المفرط (2) ، وهذا لا يعدو أن يكون مجرّد دعوى لم تثبت بدليل، علاوة على أنه لو كان الأمر ينطوي على مجرّد ذكاء وعبقرية، فما الذي دعا النبي إلى عدم توظيف هذه العبقرية المدعاة من أول الأمر؟!

ب - تحليل الحديث القائل (أنتم أعلم بأمر دنياكم):

1 - تعدّ عملية تلقيح النباتات وتأبير النخيل من بديهيات فنون الزراعة، ولمّا كان أكثر سكان شبه الجزيرة العربية يمتهنون الزراعة، يطرح هذا

السؤال نفسه كيف تغيب هذه الحقيقة البديهية عن شخص مثل النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم

ص: 55


1- ابن هشام، السيرة النبوية (سيرة ابن هشام، ج 4، ص 139، دار ومكتبة الهلال، بیروت، 2004 م. وانظر أيضاً نور الدين الحلبي، السيرة الحلبية (إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون)، ج 3، ص 134.
2- أُنظر: معروف الرصافي، الشخصية المحمدية، ص 497.

الذى عاش وسط هذه الثقافة ردحاً طويلاً من الزمن، حيث قضى حياته بين بساتين النخيل ورعي الأغنام؟!

2 - إنّ هذا الحديث المنسوب إلى النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم لا ينسجم مع الشخصية العظيمة لرسول الله، ذلك لأنّ النبي إذا كان قد نهى المزارعين عن تلقيح النخيل من دون اطلاع أو معرفة منه بأصول هذه العملية، فإنه سيكون قد ارتكب مخالفة للعلم، وعمل بالظن، وبذلك لم يُعرّض مصالح عامّة الناس للخطر فحسب، بل وقام بما يخالف صريح الآيات القرآنية أيضاً، وذلك إذ يقول تعالى - ﴿ وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً) (1).

- (إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا ) (2) .

- (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ﴾ (3).

3 - إن هذا الحديث لم يرد إلا في مصادر أهل السنة والجماعة، ولا أثر له في مصادر الشيعة، وعليه - بالنظر إلى ما تقدم - يصعب القبول بصدور مثل هذا الحديث عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم .

ص: 56


1- الإسراء: 36 .
2- يونس: 36؛ النجم: 28 .
3- الحجرات: 12 .

الفَصْلُ الثَّالِثْ

المعجزات

الشبهة الأولى : إنكار معجزات النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم :

اشارة

هناك من المخالفين من اكتفى بإلقاء نظرة سطحية على سيرة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم ، أو جمد على بعض الآيات ولم يلتفت إلى الآيات الأخرى، وذهب إلى القول مدعياً أن النبي لم تصدر عنه أيّ معجزة طوال حياته، كما أنه لم يدع إمكان صدور المعجزة عنه.

وهناك من عمّم إنكار صدور المعجزة ليشمل بذلك جميع الأنبیاء والمرسلين، وقد عمد أصحاب هذه الشبهة - في توثيق ما ذهبوا إليه من

الادعاء - إلى التمسك بالآيات الآتية (1) :

- (وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا ... قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلا بَشَرًا رَسُولاً ) (2) .

ص: 57


1- أُنظر: علي دشتي، بيست وسه سال، إعداد وتنقيح بهرام چوبینه، ص 52 و 94؛ هوشنگ معین زاده، آن سوي شراب، ص 30 .
2- الإسراء: 90 و 93 .

- (وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) (1) .

- (فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) (2) .

- (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا) (3) .

وهناك من هؤلاء من أضاف إلى هذه الأدلة عدم شفاء بعض المرضى والمعاقين في عصر النبي، من أمثال عبد الله بن مكتوم، وعقيل بن أبي طالب.

نقد ورأي:

فيما يتعلق بنقد هذه الشبهة وتحليلها يجدر الالتفات إلى المسائل الآتية:

1 - إعجاز القرآن الكريم:

إنّ أهم إعجاز صدر عن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم هو القرآن الكريم، وإعجازه ثابت من مختلف الجهات، وفيما يأتى نشير إلى بعض الجوانب الإعجازية في القرآن الكريم :

1/ 1 - الفصاحة والبلاغة: يعمد الأدباء والشعراء من خلال ما يكتبونه من النصوص النثرية أو الشعرية المتينة والفصيحة والبليغة إلى إثارة

إعجاب المتلقين، بسبب ما يتمتعون به من قريحة وموهبة فذّة وذوق سليم في انتقاء الكلمات والعبارات ذات الوقع المحبب إلى النفوس.

ص: 58


1- العنكبوت: 50 .
2- يونس: 102 .
3- يونس : 49 .

أما القرآن الكريم فلا هو من النثر ولا هو من الشعر، بل هو نوع ثالث من أنماط الأدب المشتمل على البلاغة والفصاحة، ولم يسبق لأحد أن أبدع مثله قبل النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم [ولا بعده].

وحيث عُرف عن النبي الأكرم أنه فرد أمي لم يسبق أن تعلم الدروس عند معلم أو أستاذ، ولم يؤثر عنه التمرّس في الصناعات الأدبية - الأعم من قول الشعر أو صياغة النثر - ومع ذلك يبدع هذا النوع الثالث من الأدب الفذّ والفريد في نوعه، يعتبر من الإعجاز الذي يثبت ارتباط صاحبه بوحي السماء بما لا يبقى معه أي مجال للشك أبداً.

وعلاوة على ذلك فإن أعداء الإسلام أذعنوا منذ البداية بتأثير القرآن البلاغي على السامعين، من هنا منعوا الناس من الاستماع إليه مخافة أن

يتأثروا به ويعلنوا عن إسلامهم (1) .

وقد انحنى لفصاحة هذا الكتاب السماوي وبلاغته كبار شعراء العرب، وهناك منهم من أشهر إسلامه فور الاستماع إليه، فهذا لبيد - وهو من مشاهير شعراء الجاهلية الذي استحق أن يخلّد ذكره بتعليق إحدى قصائده على أستار الكعبة فيما يعرف بالمعلقات التي لا يتجاوز عددها أصابع اليدين - يعلن عن إسلامه تأثراً منه ببلاغة القرآن.

كما اعترف بإعجاز القرآن كل من حسان بن ثابت والخنساء بنت تماضر والأعشى أيضاً (2).

ص: 59


1- أَنظر: فصّلت 26 .
2- أُنظر: ناصر مكارم الشيرازي، تفسیر موضوعی پیام قرآن، ج 8، ص 114 فما بعد؛ جعفر سبحاني، الإلهيات ، ج 3، ص 243 و 259 و 418 .

هذا ولا تزال فصاحة القرآن وبلاغته محتفظة بروعتها وعمق تأثيرها على السامعين، وخير دليل على ذلك تأثر العديد من الناس الذين أسلموا بفضل سماعهم لتلاوة القرآن من قبل مشاهير القرّاء من أمثال القارئ الراحل عبد الباسط عبد الصمد.

2 / 1 - المعارف العلمية للقرآن: مع تقدّم العلوم تمّ الكشف عن مختلف الأسرار الكامنة في العالم المادي التي لم تكن معروفة من قبل، إلا أن القرآن الكريم قد أشار إليها قبل أربعة عشر قرناً عندما لم يكن عدد المتعلمين في المجتمع الجاهلي يتجاوز عدد أصابع اليدين، حيث قام النبي الأمي من خلال الاستعانة بوحي السماء في عددٍ من آياته بالكشف عن الأسرار التي عجزت العلوم الطبيعية عن التوصّل إلى كنهها، من قبيل:

أ - عملية التلاقح بين النباتات والأشجار بفعل الرياح: ﴿وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ ) (1).

ب - إثبات قانون الزوجية العام في النباتات: ﴿ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ) (2) .

ج - حركة الأرض: ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمرُّ مَرَّ السَّحَابِ) (3) .

د - حركة المنظومة الشمسية: ﴿ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٌّ لَهَا... وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ) (4).

ص: 60


1- الحجر: 22.
2- الرعد: 3؛ يس: 36؛ لقمان: 10؛ الشعراء: 7؛ ق: 7.
3- النمل: 88 .
4- يس: 38 و 40

ه- - دور الجبال فى استقرار الأرض (1) .

و - وجود سقف خاص لحفظ الأرض (2) .

ز - عدم تشابه الناس في بصماتهم (تحديد هوية كل شخص على انفراد) (3) .

وهذه الأمور لم يتمّ الكشف عنها من قبل العلماء إلا في القرون الثلاثة المنصرمة، في حين أن القرآن قد صرّح بها قبل أكثر من أربعة عشر قرناً. وهنا يطرح هذا السؤال نفسه هل يمكن تفسير الإتيان بمثل هذا القرآن من قبل إنسان أمّي إلا من طريق المعجزة؟

3 / 1 - تحدّي القرآن: إن من بين الأمور التي تثبت إعجاز القرآن هو اشتماله على التحدّي عن الإتيان بمثله، بمعنى أن القرآن لو لم يكن كلاماً إلهياً، وكان من مختلقات البشر ، لأمكن لغير النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم - الذي لم يحصل على تعليم - أن يأتي بمثله، وهذا التحدّي يشمل حتى الأدباء ومشاهير الشعراء والبلغاء والفصحاء .

وقد كان القرآن الكريم في تحدّيه من الثقة بحيث تدرّج في هذا التحدّي من الأصعب إلى الأسهل، فكان التحدي أول الأمر يستدعي من الآخرين أن يأتوا بمثل كل القرآن:

(قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعُهُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ) (4).

ثم تنزّل ليكتفى بالإتيان بمثل عشر سور من القرآن:

ص: 61


1- أُنظر: النحل : 15 ؛ النبأ : 7؛ المرسلات: 27 ؛ لقمان 10 .
2- أُنظر: الأنبياء 32.
3- أُنظر: القيامة 3 - 4 .
4- القصص : 49 ؛ وانظر أيضاً الطور: 33.

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ)(1) .

حتى بلغ التحدي - في نهاية المطاف - حدّ الاكتفاء بسورة واحدة مثل سور القرآن:

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ الله إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ) (2) .

ومع ذلك لم يتمكن أحد من معارضة القرآن والإتيان بمثله. نعم كانت هناك محاولة مضحكة من مسيلمة الكذاب في عصر النبي صلی الله علیه و آله و سلم ، حيث جاء ببعض الكلمات التافهة فيما زعم أنه مثل القرآن، من قبيل قوله:

«الفيل ما الفيل، وما أدراك ما الفيل، له ذنب وبيل، وخرطوم طويل» (3) .

بيد أنّ ذلك لم يحمل في حينها إلا على حمق مسيلمة وغبائه؛ لأنّ هذه الكلمات مجرّد كلمات مقفاة خالية من المعنى والمضمون، ولم تخرج عن دائرة التفكّه والتندّر عند السامعين، في حين أن إعجاز القرآن لا يقتصر على الكلمات الموزونة، وإنما الإعجاز يكمن في اشتماله على المضامين العميقة التي تترك بتأثيرها وسحرها في نفس الإنسان أيضاً.

1/4 - الانسجام والتناغم وعدم الاختلاف: على الرغم من نزول القرآن طوال فترة تزيد على العشرين عاماً، وخوضه في مختلف المسائل

ص: 62


1- هود: 13 .
2- يونس: 38 . وانظر أيضاً البقرة: 23 .
3- أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، تاريخ الطبري، ج 2، ص 498 - 506 .

والموضوعات، إلا أن جميع آياته تحظى بانسجام و وحدة في المنهج، فلا ترى أي اختلاف أو تناقض فيما بينها، في حين أن الكاتب الذي يؤلف كتاباً، ما أن يفرغ من كتابته أو عند إخراج طبعته الثانية حتى يدرك أنه قد ارتكب أخطاء عدّة، ثم يبادر إلى تدارك الخطأ وتصحيحه، وهكذا دواليك. وقد صرّح القرآن بهذه الحقيقة، حيث قال: ﴿ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ الله لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ (1).

5 / 1 - الإخبار الغيبي: إن من بين الجهات المثبتة لإعجاز القرآن، ما يشتمل عليه من الإخبار الغيبي - الأعم من الماضي والمستقبل - وفيما يأتي نشير إلى بعض هذه الإخبارات :

أ - اندحار الروم وانتصارها مجدّداً: هناك آيات في القرآن تحدّثت عن خسارة القوّة العظمى المتمثلة بالروم في الحرب الدائرة بينها وبين الإمبراطورية الإيرانية، كما تنبّأت بمكان هذا الحدث وزمانه. وقد تكبّدت الروم خسارة كبيرة من الجيش الإيراني في ضواحي الشام (سوريا) في منطقة تقع بين بُصرى وأذرعات - التى كانت تعرف بالروم الشرقية - وذلك في السنة السابعة من البعثة (617م). قال تعالى: ﴿ غُلِبَتِ الرُّومُ ٭ فِي أَدْنَى الأَرْض ) (2).

والملفت في هذه الآية أنها تنبأت بخبر غيبى آخر تمثل بعودة الكرّة لصالح الروم وأنها سوف تنتصر على الجيوش الإيرانية بعد بضعة أعوام، إذ يقول تعالى: ﴿ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ﴾ (3).

ص: 63


1- النساء : 82 .
2- الروم: 2 - 3.
3- الروم: 3.

ب - انتصار المسلمين على المشركين في مكة: توجّه النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم في السنة السابعة من الهجرة بجيش إلى مكة - التي كانت في حينها تحت سيطرة المشركين - لأداء مناسك الحج، بيد أن الأعداء قد استوقفوه أثناء الطريق في منطقة تدعى الحديبية حيث أبرمت وثيقة الصلح المعروف بصلح الحديبية. وقد أخبر القرآن المسلمين وبشّرهم بأنهم سيدخلون المسجد الحرام وسيكون النصر حليفهم في المستقبل القريب (فتح مكة)، إذ قال تعالى: ﴿ لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلَّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا ﴾ (1) .

ج - الاستيلاء على مختلف الغنائم الحربية: لقد أخبر القرآن الكريم - في بداية تأسيس النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم للحكومة الإسلامية في المدينة المنوّرة -بالانتصارات والحصول على مختلف أنواع الغنائم الحربية، وقد تحققت هذه النبوءات والبشائر الإلهية في معارك من قبيل خيبر وحُنين وهوازن وإيران والروم.

د - عودة النبي إلى مكة المكرّمة: لقد اضطرّ النبي إلى مغادرة موطنه في مكة بفعل مؤامرات المشركين، فهاجر إلى المدينة، وقد أخبره القرآن بأنه سيعود إلى وطنه، إذ قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ) (2)، وقد تحققت هذه النبوءة بفتح مكة المكرّمة.

ه- - الإخبار عن عدم إيمان أبي لهب كان قادة المشركين وسادة مكة - الذين كانوا يؤذون النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بمختلف المؤامرات - يعتنقون الإسلام عند

ص: 64


1- الفتح : 28 .
2- القصص: 85 .

مشاهدتهم للانتصارات التي يحققها النبي عليهم . إلا أن القرآن كان يذكر شخصية أبي لهب - عم النبي - بالخصوص، ويصرّح بأنه لن يذوق حلاوة الإسلام، إذ يقول تعالى ( تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ) (1)، وهكذا كان.

و - ذلة أهل الكتاب وهوانهم (اليهود) كان اليهود في بداية الدولة الإسلامية التي أقامها النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم في المدينة المنوّرة يتمتعون بقوّة عسكرية واقتصادية كبيرة، وكانوا يهدّدون الإسلام في بعض المواطن، ولكن القرآن أخبر في بعض آياته عن ضعفهم ونكوصهم وهوانهم، وقد تحققت هذه النبوءة في عصر النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بفتح قلاع اليهود وحصونهم في خيبر، وإخراجهم من عاصمة الدولة الإسلامية (2).

حصيلة الكلام أنه بالالتفات إلى معجزات القرآن الكريم - التي أشرنا إلى بعضها آنفاً - لا يمكن الادعاء بأن النبي لم يجترح معجزة لإثبات نبوّته وصدقه، فإن مثل هذا الادعاء مخالف لصريح القرآن الكريم.

2 - القرآن وتعدّد معجزات النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم :

بالإضافة إلى القرآن الكريم الذي كان ولا يزال يعدّ المعجزة العقلية الأبرز لنبي الإسلام صلی الله علیه و آله و سلم، فقد اجترح النبي العديد من المعجزات الأخرى بحسب ما تقتضيه الموارد من المصالح، وفيما يأتي نشير إلى بعض تلك المعجزات:

1 / 2 - الإمدادات الغيبية: في الحروب كان يجدر بأولئك الذين أنكروا معاجز النبي الأكرم أن لا يقصروا النظر على بعض الآيات، بل كان

ص: 65


1- المسد: 1.
2- أُنظر: آل عمران 111.

عليهم التأمل في الآيات الأخرى التي تؤكد على نزول الإمدادات الغيبية على النبي بواسطة الملائكة.

هناك كثير من الآيات التي صرّحت بنزول الملائكة لنصرة المسلمين والنبي في المعارك، ولم يكن المسلمون بطبيعة الحال يشاهدونهم، ولكن آثار تدخلهم كانت مشهودة وملحوظة لهم، وإليك بعض هذه الآيات:

- ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّه عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّه بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا) (1) .

- ﴿ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّه وَأُخْرَى كَافِرَةٌ یَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأَوْلِي الأَبْصَارِ) (2) .

- (ثُمَّ أَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ﴾ (3) .

2 / 2 - المعراج: لقد أسرى النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم في السنة العاشرة من البعثة ليلا وعلى نحو إعجازي وفي لمح البصر من مكة المكرمة إلى المسجد الأقصى (بيت المقدس)، ومن هناك عرج نحو مختلف السماوات - التي هي كناية عن مختلف المنازل والعوالم المجرّدة والبرزخ والقيامة - وقد صرّح القرآن الكريم بتحقق هذه المعجزة في قوله تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ

ص: 66


1- الأحزاب: 9 .
2- آل عمران: 13 .
3- التوبة: 26 .

الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (1) .

وبعد ذلك كان النبي يخبر عن أوضاع القوافل بين مكة وبيت المقدس، وضياع جمل القافلة الكذائية، ونفور ناقة قافلة أخرى، وانكسار شخص بعينه، لينكشف بعد ذلك صدق رسول الله في إخباره بعد وصول القوافل إلى مكة المكرّمة (2).

ولأهمية بحث المعراج والشبهات المتعلقة به، سنعقد له بحثاً مستقلاً إن شاء الله .

3 / 2 - نزول البلاء والعذاب على بعض المستهزئين بالنبي: كان بعض أعداء دعوة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم يتعرّضون للنبي بأنواع الأذى والعذاب، وكانوا يحولون دونه ودون ممارسة حريته في الدعوة إلى دينه، وكان على رأس هؤلاء خمسة وهم الوليد بن المغيرة المخزومي، والعاص بن وائل السهمي، والحارث بن حنظلة، والأسود بن المطلب بن أسد، والأسود بن عبد يغوث بن وهب الزهري . وقد سأل النبي من الله أن يكفّ عنه شرّهم، وقد استجاب الله الدعوة النبي، فهلكوا بأجمعهم لأسباب مختلفة، حيث تعفّنت رجل الوليد بن المغيرة، ومات العاص بن وائل بلدغة من أفعى سامّة، ومات ابن قيس بداء العطاش نتيجة لشربه كمية كبيرة من الماء من دون أن يرتوي، وأما الأسود بن المطلب فقد أصيب بالجنون حتى كان يضرب رأسه بالأشجار إلى أن هلك،

ص: 67


1- الإسراء: 1.
2- أنظر: الفضل بن الحسن الطبرسي، تفسير مجمع البيان، تفسير الآية الأولى من سورة الإسراء؛ وانظر أيضاً جعفر سبحاني، فروغ ابدیت (شعاع الأبدية)، بحث المعراج.

ومات الأسود بن يغوث مسموماً. وفي هذا الشأن نزل قوله تعالى: ﴿ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) (1).

والمورد الآخر ما حدث في غدير خمّ بعد تنصيب النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم الإمام علياً بن أبي طالب علیه السلام إماماً للمسلمين، حيث قام شخص يدعى النعمان بن حارث الفهري معترضاً على ذلك فقال مخاطباً الله سبحانه وتعالى «اللهم إن كان هذا من عندك ؛ فأمطر علينا حجارة من السماء»! وهذا ما حصل بالفعل، وقد أشارت الآية الأولى من سورة المعارج إلى هذه القضية، وهي قوله تعالى: ﴿سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعِ) (2).

4 / 2 - المباهلة : تعني المباهلة في المصطلح طلب نزول العذاب السماوي على منكر الحقيقة. بمعنى أنه عندما يبحث أتباع مذهبين أو دينين فيما بينهما ولم يقتنع أيّ منهما بأحقية الآخر، يتفقان على تحديد وقت ومكان محدد ويسأل كل منهما الله أن يهلك المبطل منهما. وعندما ينزل العذاب على أحدهما يتضح أنه هو المبطل وغريمه هو المحق. وهذا ما حدث في السنة العاشرة من الهجرة بين رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ونصاری نجران، حيث أصرّ النصارى على موقفهم، وصار الأمر إلى المباهلة. وعندما حان الموعد قال رؤساء النصارى: إن خرج لكم محمد بجيشه وأصحابه فباهلوه، إلا أنهم تفاجأوا عندما خرج لهم النبي صلی الله علیه و آله و سلم بابنته الوحيدة السيدة فاطمة الزهراء علیها السلام وسبطيه الحسن والحسين علیهما السلام وابن عمه علي بن أبي طالب علیه السلام ؛ فأيقنوا عندها بأحقيته

ص: 68


1- الحجر: 95 .
2- المعارج 1 . وأُنظر : العلامة الأميني، الغدير، ج 1، ص 239؛ التفسيرات الروائية، من قبيل نور الثقلين، في تفسير هذه الآية.

وأحجموا عن الاستمرار في المباهلة خوفاً من نزول العذاب عليهم، وسألوا أن يسمح لهم بالبقاء في المدينة تحت كنف الدولة الإسلامية، وقد أكد القرآن على هذه المعجزة في قوله تعالى: ﴿ فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ الله عَلَى الْكَاذِبِينَ ﴾ (1).

5 / 2 - إخبار النبي بالغيب: لقد نقلت المصادر التاريخية كثيراً من الإخبارات الغيبية التي أخبر بها النبي الأكرم، وهو أمرٌ يدلّ على ارتباطه بعالم الغيب وإعجازه في هذه المجال على ما تقدم بيانه في نقد شبهة عدم علم النبي بالغيب. وهنا سنكتفي بموردين في هذا الشأن:

أ - عندما حاول المنافقون تنفير ناقة رسول الله برميها في العقبة، نزل الوحي وأطلع النبي على هذه المؤامرة، وتمّ القضاء عليها في مهدها.

ب - حاولت امرأة يهودية اغتيال النبي من خلال تسميمها لحم شاة، فأخبر الوحي رسول الله بتفاصيل هذه القضية، وأخفقت هذه المحاولة.

3 - دلالة القرآن بشكل عام على تعدّد معجزات النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم :

اتضح من المسائل السابقة أن القرآن الكريم يدلّ ويؤكد بشكل خاص و واضح على أنواع المعجزات التي اجترحها رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم مع ذكر خصوصياتها، بيد أنّ هناك آيات أخرى تحدّثت بشكلٍ عام عن تعدّد معجزات النبي الأكرم وتنوّعها، وفيما يأتي نشير إلى هذا النوع من الآيات.

ولكن قبل التذكير بهذه الآيات نذكر بأن القرآن بدلاً من كلمة

ص: 69


1- آل عمران: 61 .

«المعجزة» عمد إلى استعمال كلمات أخرى مرادفة لها، من قبيل كلمة «الآية» بمعنى العلامة؛ ذلك لأنّ المعجزة تقوم علامة على النبوّة وصدق النبي في ما يدّعيه، كما يعبّر عنها ب- «البيّنة» و«البيّنات» أيضاً. قال تعالى: (وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ ٭ وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) (1) .

تتحدّث هذه الآية عن أن المشركين كلما رأوا من النبي صلی الله علیه و آله و سلم آية و معجزة، لا يكتفون بعد الإيمان بها، بل يسارعون إلى تكذيبها واتهام النبي بممارسة السحر. وهو أمرٌ يثبت أن هذه «الآية» لم تكن إلا معجزة، وذلك من خلال اتهام النبي بالسحر، إذ لو كان ما صدر عنه أمراً اعتيادياً ومألوفاً وليس فعلاً خارقاً للعادة، لما كان هناك من مبرر لاتهامه بالسحر.

وهناك من الآيات ما يروي اتهام المشركين للنبي بالسحر (2)، وهو أمرٌ يثبت أن ما كان يصدر عن النبي يدخل في دائرة الخوارق للطبيعة، كما كان أعداء موسى وعيسى علیهما السلام يبادرون إلى اتهامهما بتعاطي السحر أيضاً (3).

الشبهة الثانية: أسباب عدم اجتراح المعجزات عند مطالبة الأعداء باجتراحها:

اشارة

اتضح من الآيات السابقة أن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم قد اجترح كثيراً من المعجزات، ولكن هنا يطرح هذا السؤال نفسه ثانية لماذا كان يمتنع عن الإتيان بالمعجزة عندما يعمد المنكرون إلى مطالبته بها؟ (تقدم ذكر هذه الآيات في الشبهة الأولى).

ص: 70


1- الصافات: 14 - 15 .
2- أُنظر: سبأ: 43 ؛ الصافات: 15.
3- أُنظر : طه : 47 و 58 ؛ المائدة: 110 .

مناقشة وتحليل:

في معرض الإجابة عن هذه الشبهة يجب القول:

أولاً : لقد دلت آيات كثيرة على معجزات النبي صلی الله علیه و آله و سلم، وقد تقدّم منا بیانها، وعليه لا يمكن التمسك بامتناع النبي عن الاستجابة لمطالب الأعداء بالإتيان بالمعجزة دليلاً على إثبات عدم صدور المعجزة عن النبي. من هنا يجب تحليل وتفسير الموارد المدعاة بشكل خاص، وهو ما سنشير إليه لاحقاً.

ثانياً: إن الآيات مورد البحث، وهي الآيات التي تدل على عدم استجابة النبي عند مطالبة الأعداء له بالمعجزة، لا تدل إلا على عدم تلبيته لمطالب المخالفين الذي لا يريدون الاقتناع وإنما مجرّد إثارة الذرائع، فإن استجابة النبى لكل من سأله المعجزة سيخرجه عن مهمته الرئيسة.

ثالثاً: إن المطالب المتقدمة لم تكن تهدف إلى الاطمئنان والتأكد من صدق النبي في دعوته؛ وإلا فإن الأدلة والقرائن المثبتة لنبوّة النبي صلی الله علیه و آله و سلم من قبيل معجزة القرآن الكريم وغيرها من المعجزات متوفرة بشكل كافٍ، وإنما الغاية من ذلك هي مجرّد اختلاق الذرائع أو الحصول على منافع مادية واقتصادية؛ حيث كانوا يطالبونه بتحويل المناخ الصحراوي الجاف لشبه الجزيرة العربية إلى حدائق وجنائن تتفجّر منها الأنهار والينابيع التي تسقي مزارع النخيل والكروم ، وأن يملأ بيوتهم من الذهب والفضة (1).

رابعاً: إن بعض تلك المطالب لم تكن مجرّد اختلاق للذرائع، بل كانت تنطوي على أمور مستحيلة التحقق، من قبيل الإتيان بالملائكة، بل وحتى الذات القدسية للباري تعالى (2) .

ص: 71


1- أُنظر: الإسراء 3 - 90 .
2- أُنظر: الإسراء 92.

الشبهة الثالثة: إنكار المعجزة من قبل النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم نفسه:

اشارة

إن من الوجوه الأخرى لهذه الشبهة هي التمسك بما كان يصدر عن النبي صلی الله علیه و آله و سلم عند مطالبته بالمعجزة من التصريح بعدم قدرته على ذلك. وبعبارة أخرى إنه كان ينفي صدور المعجزة عنه، وعليه يُفهم من ذلك أنه لم يجترح معجزة على الإطلاق. وقد نزل القرآن بهذا الشأن في تقرير جواب النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم في قوله :

- (قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلا بَشَرًا رَسُولاً ) (1).

- (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرّاً ﴾ (2).

مناقشة وتحليل:

يتضج الجواب عن هذه الشبهة من المسائل المتقدمة أيضاً، ومع ذلك نشير إلى بعض المسائل في هذا الشأن:

1 - الجمع بين الآيات المثبتة والنافية

1 - الجمع بين الآيات المثبتة والنافية من خلال القول بالتبعية والاستقلال :

يجب في تفسير الآيات القرآنية عدم الاكتفاء بالنظر إلى آية واحدة على انفراد، بل لا بد من أخذ مجموع القرآن بوصفه وحدة كاملة بنظر الاعتبار. وقد تمّ التأكيد على هذه المسألة (أي تفسير بعض آيات القرآن ببعضها الآخر) في القرآن نفسه فى إطار قاعدة «الآيات المحكمات والآيات المتشابهات»، بمعنى أنه لا يمكن تفسير المتشابهات إلا من خلال الرجوع إلى

ص: 72


1- الإسراء: 93 .
2- الأعراف : 188.

المحكمات. قال الله تعالى في محكم كتابه الكريم: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأَخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ) (1).

وعلى هذا الأساس فإننا فيما يتعلق بالآيات القرآنية التي تتناول معجزات النبي نواجه للوهلة الأولى نوعين من الآيات، النوع الأول الآيات الدالة على صدور المعجزة وهي كثيرة جداً. والنوع الثاني الآيات التي يبدو من ظاهرها نفي النبي صدور المعجزة عنه. وعليه مع وجود النوع الأول من الآيات المثبتة، يجب علينا عدم التسرّع في تفسير الآيات من النوع الثاني، بمعنى أنه يجب تفسيرها في ضوء التأمل والتدّبر في المحكمات.

لقد واجه النبي كثيراً من مطالب المشركين باجتراح المعاجز التي يكون متعلقها ذا صبغة اقتصادية أو محال عقلي، من قبيل تفجير الأنهار، وخلق بساتين الكروم والنخيل، وإسقاط السماء، والمجيء بالله والملائكة، وملء البيوت من الذهب والفضة، وما إلى ذلك من الأمور التي يتضح أن الغاية من المطالبة بها لم تكن حصول القناعة واليقين بمعرفة الحقيقة، وإنما الغاية منها اختلاق الذرائع، ولذلك كان النبي يقول لهم إن اجتراح هذه الأمور خارج عن قدرتي البشرية، بمعنى أنني بوصفي من البشر لا أستطيع القيام بمثل هذه الأمور بشكل مستقل عن الإرادة الإلهية، وأما من حيث مقام النبوة والرسالة، فإن القيام بمثل هذه الأمور من الناحية الإمكانية داخل في دائرة القدرة الإلهية، وعليه لا بدّ

لتحققها من صدور الإذن من قبل الله عزّوجل.

ص: 73


1- آل عمران: 7 .

ولا بد من التدقيق في أن النبي الأكرم لم ينف أو ينكر قدرته على اجتراح المعجزات نفياً قاطعاً وصريحاً، وإنما قال: إنما أنا بشر بلغت مقام النبوّة، بمعنى إنني لست إلا واسطة بينكم وبين الله، وإن الله هو الذي يقرّر متى تجري المعجزة على يدي.

وبعبارة فلسفية وعرفانية إن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم إنما نفى صدور المعجزات عنه بالاستقلال.

ومما يؤكد صحة هذا الجمع أن هذا النوع من الآيات التي يبدو منها نفي النبي للمعجزة تتصدرها آيات تثبت الإعجاز القرآني بشكل قاطع وصريح، حيث تطالب المشركين والأعداء بأن يأتوا بمثله إن كانوا في شك منه، ثمّ تؤكد الآية على إعجاز القرآن بالقول: ﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾ (1).

كما تخبر الآية التالية عن معجزات النبي موسى علیه السلام واتهام فرعون له بالسحر، إذ يقول تعالى ﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا ) (2) .

2- عدم وجوب الاستجابة لجميع المطالبين بالمعجزة:

لقد شكل عدم شفاء المرضى على يد النبي الأكرم، وعدم امتثاله لمطالب من قبيل تحويل بطاح مكة إلى مزارع للكروم والنخيل، مستمسكاً

للقائلين بهذه الشبهة، حيث تساءلوا عن السبب الذي يمنع النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم من

ص: 74


1- الإسراء: 88 .
2- الإسراء: 101 .

شفاء المرضى من أمثال ابن مكتوم وعقيل بن أبي طالب، على غرار ما كان يصنع المسيح عيسى بن مريم علیه السلام .

وفى الجواب عن هذه الشبهة يجب القول:

أولاً: إن الواجب على النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم هو إثبات نبوّته من مختلف الطرق، ومن بينها المعجزة. وإن النبي قد أثبت صدقه من خلال الإتيان بعدد من المعجزات الكافية للدلالة على نبوّته، وعليه فليس من شأنه بعد ذلك أن يترك مهمة الهداية والإصلاح بالانشغال يومياً باجتراح المعجزات [فالمعجزة وسيلة وليست غاية].

وثانياً: كما تقدّم أن ذكرنا فإن أكثر المطالب باجتراح المعجزات كان يصبّ في ضمان الأمور المادية أو مجرّد اختلاق الذرائع، وعلى هذه الفرضية لا تكون هناك من حاجة إلى اجتراح معجزة جديدة لمجرّد تلبية الرغبات المادية والاقتصادية للناس، بل إن هذه الغاية ليست من مهام النبوّة، فليس من شأن النبي أن يرفع المستوى الاقتصادي والمادي للناس، وفوق ذلك أن يتحقق هذا الأمر من طريق المعجزة أيضاً.

أمّا لماذا كان النبي عيسى علیه السلام يشفي المرضى والمعاقين، ولم يقم بذلك النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم ؟ فجوابه إن عصر النبي عيسى كان عصر ازدهار العلوم الطبية، ولذلك كانت معجزة النبي عيسى تتناسب مع ازدهار الطبّ في هذا العصر؛ ليثبت لدى المتخصصين في هذا العلم أن ما يجترحه عيسى لا يأتي من طريق الأساليب الطبية المعروفة، بل هو من سنخ الوحى والقدرة الإلهية، ولذلك كان يتعيّن عليه أن يشفي بعض المرضى لإثبات نبوّته [بل ويحيي الموتى أيضاً].

أمّا في عصر النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم فإنّ الأمور الخارقة للعادة والطبيعة لم

ص: 75

تكن من هذا السنخ، وإنما الذي ساد هذا العصر هو الشعر والصناعات الأدبية والبلاغية، ولذلك كانت أهم معجزة جاء بها النبي هي القرآن الكريم؛ لكونه خارقاً للعادة فيما يتعلق بالجانب البلاغي والأدبي الذي بلغ الذروة في شبه الجزيرة العربية آنذاك، وقد تقدّم أن ذكرنا وجوه الإعجاز في القرآن الكريم.

الشبهة الرابعة: المعراج:

اشارة

إن من بين معجزات النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم معجزة المعراج التي تحققت على مرحلتين؛ المرحلة الأولى الإسراء من مكة المكرّمة إلى المسجد الأقصى وبيت المقدس، وكان ذلك في لحظة ليلية. والمرحلة الثانية العروج من المسجد الأقصى إلى السماوات، وما رافق ذلك من تفاصيل من قبيل رؤية الجنة وجهنم والملائكة على ما جاء في الروايات.

إلا أن الذين أنكروا المعراج أوردوا الشبهة على كلتا مرحلتيه، وقالوا بأن الرحلة بين مكة وبيت المقدس البالغة 450 كيلومتراً كانت تستغرق عدّة أيام، ومن المستحيل القيام بها في لحظات قليلة (1). أما المرحلة الثانية فهي تخالف العلوم التجريبية، بمعنى أن هناك موانع تقف في طريق الإيمان بالمعراج،

ص: 76


1- يعود منشأ هذه الشبهة إلى القول بنظرية بطليموس في علم الفلك والهيئة، حيث كانت تقسم العالم إلى قسمين، القسم العنصري، والقسم الفلكي. وإن الكرة الأرضية كانت تقع في مركز الكون، وبعد أن أحاطت العناصر الأربعة (الماء والهواء والنار والتراب) الكرة الأرضية، بدأت عملية تكوين الكرات الأربعة والأجرام السماوية والفلكية، حتى بلغت تسعة أفلاك متراكبة على بعضها تراكب طبقات البصلة، بحيث يستحيل اختراقها وفصلها ووصلها، وحيث أن المعراج الجسماني يتوقف على اجتياز الكرات الأربعة والأفلاك التسعة، كان ذلك محالاً. وحيث ثبت بطلان هذه النظرية بالعلوم الحديثة، لم نر حاجة إلى تحليلها ونقدها.

من قبيل:

1 - إنّ الخروج والعروج من الأرض إلى السماء بشكل اعتيادي مع وجود قانون الجاذبية ليس أمراً ممكناً، فلكي نتغلب على قانون الجاذبية نحن بحاجة إلى سرعة تقدّر بأربعين ألف كيلومتر في الساعة.

2 - وفي حال النجاح في الخروج من الأرض، والعروج في السماء، سنواجه مانعاً آخر يتمثل بالتنفس والأوكسجين.

3 - إن المناخ في الفضاء الخارجي إما شديد الحرارة أو شديد البرودة بشكل لا يُطاق.

4 - يحتوي الفضاء الخارجي على مختلف أنواع الأشعة، من قبيل الأشعة الكونية، والأشعة ما فوق البنفسجية، والأشعة السينيّة، الذي يعني

نفوذها داخل جسم الإنسان الموت المحتوم.

5 - إن المسير والحركة في السماوات على نحو ما هو مذكور في الروايات، يستغرق فترات زمنية طويلة، ويلزم من ذلك أن يسير النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم في المعراج بما يفوق سرعة الضوء، وهي سرعة مستحيلة على الجسم، بالإضافة إلى عدم وجود مثل هذه السرعة.

وعلى هذا الأساس أنكر المخالفون أصل المعراج، وفسّروه بأنه مجرّد رؤيا روحية أو رحلة معنوية (1).

مناقشة وتحليل:

فيما يتعلق بتحليل هذه الشبهة وبيان كيفية المعراج، يجدر الالتفات إلى ما يأتي:

ص: 77


1- أُنظر: علي دشتي، بيست وسه سال، إعداد وتنقيح بهرام چوبینه، ص 51؛ واشنطن أروينغ، التاريخ المقدس، ص 133.

1 - الوقوع أدلّ دليل على الإمكان:

إن أول سؤال يرد إلى الذهن بشأن المعراج هو هل الحركة الآنية للنبي الأكرم من مكة إلى المسجد الأقصى أمر ممكن؟ وهل يمكن أن يندرج معراج النبي الجسماني والمادي في دائرة الإمكان؟

من خلال الاستناد إلى وقوع الموارد والمصاديق المشابهة، يمكن لنا إثبات إمكان المعراج، وفيما يأتي نشير إلى بعض هذه الموارد:

1 / 1 - إحضار عرش بلقيس: يحكي القرآن الكريم قصة إحضار عرش ملكة سبأ بطلب من النبي سليمان علیه السلام على النحو الآتي: ﴿ قَالَ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِ مُسْلِمِينَ ٭ قَالَ عِفْرِيتٌ مِنْ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ ٭ قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْكِتَابِ (1) أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ﴾ (2).

وعليه ندرك أن بإمكان فرد بعينه - بسبب امتلاكه علماً خاصاً - أن يقطع مسافة تقدّر بمئات الكيلومترات في معشار من الثانية ويجلب معه عرش ملكة سبأ، وبذلك يثبت إمكان هذه السرعة بالنسبة إلى إنسان يمتلك هذا العلم الخاص.

وعلينا هنا أن نلتفت إلى أن الذي جاء بعرش بلقيس إنما هو أحد أفراد وحاشية النبي سليمان علیه السلام وحاشيته، وليس سليمان نفسه، وعليه إذا كان الشخص الاعتيادي يمتلك مثل هذه القدرة، فيجب أن يمتلك الأنبياء - وخاصة النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم الذي هو أشرفهم - هذه القدرة على نحو أعلى وأسمى.

ص: 78


1- قالت الروايات إنه (آصف بن برخيا).
2- النمل: 38 - 40 .

1/2 - النبي عيسى المسيح علیه السلام فيما يتعلق بمصير السيد المسيح يعتقد النصارى أنه بعد مقتله على يد اليهود، وبعد دفنه بثلاثة أيام أعاده الله إلى الحياة وعرج به نحو السماء (1).

هذا وقد أنكر القرآن الكريم مسألة قتل السيد المسيح وموته من الأساس، وصرّح بأنهم لم يقتلوه وإن الله رفعه إلى السماء (وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتَّبَاعَ الظَّنَّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا ٭ بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ (2) .

وعليه يتضح من عروج السيد المسيح عيسى بن مريم علیه السلام إلى السماء وبقائه حياً، أن أصل الصعود والعروج إلى العوالم العليا، والبقاء على قيد الحياة، أمر ممكن، بل واقع ومتحقق.

وسيأتي المزيد من التوضيح بشأن إمكان المعراج والأحداث المشابهة وتحقّقها فى الصفحات القادمة إن شاء الله تعالى.

2 - عدم تعارض المعراج مع القوانين الطبيعية والعلمية:

عندما نمعن النظر في مختلف صيغَ الشبهة، يتضح لنا أن أصحاب هذه الشبهة يسعون إلى إنكار المعراج من خلال التعويل على القوانين التجريبية المعروفة، ومن أهمها قانون الجاذبية، ومسألة انعدام الأوكسجين في الفضاء، والمناخ الشديد البرودة أو الحرارة، والأشعة ما فوق البنفسجية، والسرعة التي

ص: 79


1- ورد في إنجيل متى لأنه كما كان يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال، هكذا يكون ابن الإنسان في قلب الأرض ... (أُنظر: إنجيل متى، الإصحاح الثاني عشر، الفقرة 40 - 41).
2- النساء : 157 - 158 .

تفوق سرعة الضوء وما إلى ذلك. إلا أن هذه القوانين الطبيعية والمادية المدعاة ليست مطلقة، بل إن اعتبارها مؤقت وقابل للنقض، إذ إنّها إنما تقبل التأييد في إطارها المحدّد. وإن العلماء في حقل العلوم التجريبية إنما يصفون القوانين الطبيعية بأنها مجرد «قوانين إحصائية» (1). وقد ذهب فيلسوف العلم المعاصر «كارناب» إلى القول بأن القوانين العلمية تحمل «صفة الفرضية» (2).

وقد عمد الفيلسوف المعاصر الشهير كارل ريموند بوبر من خلال إبداعه نظرية «الحدس والإبطال» إلى إثبات أن جميع القوانين الطبيعية لها خاصية ال- «ad,hoc» بمعنى الاعتبار المرحلي (3) .

وقد أكد هانس رايشنباخ قائلاً: «لم يكن بالإمكان التشكيك بالقوانين الطبيعية أو الفيزيائية في القرن التاسع عشر للميلاد، وأما فيزياء القرن العشرين فقد أثبتت أن القوانين الاحتمالية والنسبية، قد حلت محل القوانين العلية والطبيعية المطلقة» (4) . وعليه حتى إذا كان المعراج مخالفاً للقوانين الطبيعية والعلمية، لا يمكن لنا أن نستنتج من ذلك إنكار المعراج؛ إذ تقدّم أن القوانين الطبيعية متغيّرة، فيحتمل أن يكون قانون طبيعي آخر قد حلّ محل القانون الطبيعى السابق. واليوم يتجوّل العلماء بصواريخهم العابرة للفضاء حول الكرات

ص: 80


1- statistical law.
2- أُنظر: بهاء الدین خرمشاهي، پوزیتیویسم منطقي، ص 29.
3- أُنظر: كارل ريموند بوبر، حدس ها وابطال ها، ص 77؛ کارل ریموند بوبر، منطق اکتشافات علمي (منطق الاكتشافات العلمية)، ترجمه إلى الفارسية أحمد آرام، ص 44 و 426 .
4- هانس رایشنباخ، پیدایش فلسفه علمی (ظهور الفلسفة العلمية)، ص 191 و194 و195 .

والأجرام السماوية الأخرى، وقد تغلبوا على مشكلة قانون الجاذبية والأشعة السينية وما إلى ذلك. ربما وضع الله تحت تصرّف نبيه وسيلة أكثر تطوّراً من الصواريخ العابرة للفضاء، وإن هذه الوسيلة هي التي قد اصطلح عليها في الروايات ب-«البراق». وبذلك يتحقق المعراج الجسماني. وإن العلم - كما تقدّم أن أشرنا - لا يستطيع إثبات عدم وجود هذه الوسيلة.

3 - عجز العلوم التجريبية عن بيان الأمور الخارقة للعادة:

لو تجاوزنا الإشكال السابق، وأخذنا القوانين الطبيعية بوصفها قوانين ثابتة لا تقبل التغيّر، مع ذلك يمكن بيان الأمور الخارقة للعادة - من قبيل المعراج - في ضوء المباني التجريبية والعلمية، ذلك على النحو الآتي:

أولاً : إن معرفة العلة الطبيعية والواقعية لظاهرة مادية أمر في غاية الصعوبة والتعقيد؛ فالعلم إنما يحكم بالتقارن الزمني بين ظاهرتين، ويعجز عن المعرفة الدقيقة والكاملة للعلة المادية للمعلول الطبيعي.

وثانياً: إلى جانب الحقائق والظواهر الاعتيادية والطبيعية، نشهد سلسلة من الأمور الخارقة للعادة وغير الطبيعية التي لا يمكن بيانها وتفسيرها في إطار العلوم التجريبية، وفيما يأتي نشير إلى بعض هذه الأمور:

1 / 3 - النوم في القبر لفترة طويلة: هناك من المرتاضين الهنود من يستطيع النوم في القبر لفترة طويلة - قد تستمر لأربعين يوماً - من دون أن تحدث له مشكلة فيما يتعلق بالهواء والأوكسجين (1) .

ص: 81


1- نقلاً عن محمد رشيد رضا، الوحي المحمدي، ص 143.

2 / 3 - الخروج من الأماكن المغلقة: لقد تمكن المواطن الأمريكي (هودني) من الخروج من صندوق حديدي مغلق أمام أعين الجماهير من دون أن يفتح بابه الذي أحكم قفله. كما تمكن من الهروب من السجون الأمريكية، بل وحتى سجون (الكي. جي. بي) في عهد الاتحاد السوفيتي السابق (1).

3 / 3 - تحريك الأجسام من بُعد: هناك من يستطيع التأثير في الأشياء والتحكّم بها من مسافة بعيدة، كأن يقوم بتحريكها ونقلها من مكان إلى آخر مثلاً. فعلى سبيل المثال كان بإمكان يوري جيلر (المولود عام 1946م) أن يثني الأشياء المعدنية، من قبيل الملاعق والشوكات والمفاتيح من خلال تركيز بصره عليها. وقد تمّ اختباره في مؤسسة بلاسما لماكس بلانغ للفيزياء، وكذلك مؤسسة استانفورد للتحقيقات في كاليفورنيا أيضاً. وقد وصفوا قدراته بلحاظ علم الفيزياء الحديث بأنها غير قابلة للتفسير (2).

4 / 3 - التخاطر عن بُعد (التلباثي): هناك من يستطيع مشاهدة الأشياء والأحداث من مسافات بعيدة قد تصل إلى مئات الكيلومترات،

والإخبار عنها. والمثال البارز على ذلك ما يحصل لقرّاء القرآن والحفاظ، حيث يتمكنون من تحديد الصفحة القرآنية المفتوحة من مسافة بعيدة، وتحديد الآية المكتوبة في بداية تلك الصفحة.

وكذلك الإخبار عن المستقبل، وعلاج المرضى في المراكز الروحية

ص: 82


1- نقلاً عن الطنطاوي الجوهري، تفسير الجواهر، ج 16 ، ص 212.
2- نقلاً عن عن ريدرز دايجست بوك، جهان عجایب (عالم العجائب)، ترجمه إلى الفارسية ارغون وشهكام جولاني، ص 110 .

والعبادية، وتحضير الأرواح وما سوى ذلك من الأحداث والوقائع التي يعجز العلماء في الحقول التجريبية عن بيانها وتفسيرها.

وعلى هذا الأساس يمكن لنا أن ندعي بأن معراج النبي من مصاديق الحوادث الطبيعية التي يعجز العلماء في الحقل التجريبي عن تفسيرها وبيان كنهها، رغم اعترافهم بواقعيتها.

4 - إمكان بيان المعراج من خلال العلوم التجريبية:

1 / 4 - انبساط الزمان مع زيادة السرعة طبقاً لمعادلة أنشتاين: إن من بين المشاكل الجادّة التي تواجه مسألة المعراج، تحقق كل تلك الأحداث التي شاهدها النبي في معراجه في تلك المدّة القصيرة التي استغرقها المعراج؛ لأن تلك الأحداث والوقائع تحتاج إلى فترات زمنية طويلة!

وفي معرض الإجابة عن هذه الشبهة نقول بالإضافة إلى أن أصل المعراج كان ضرباً من الإعجاز الذي لا يمكن تفسيره بالقوانين المادية والطبيعية، مع ذلك يمكن تقريب الفكرة إلى حدٍّ ما من خلال العلوم التجريبية ؛ وذلك لوجود علاقة وثيقة ومباشرة بين الزمان وزيادة السرعة.

فطبقاً للمعادلة (1-V2/C2 T0=T) - التي اكتشفها ألبرت أنشتاين - عندما يسير الجسم بسرعة الضوء، فإن الزمان سوف ينبسط بالنسبة له، فمثلاً إذا كانت V =0/000ge (بأن تكون سرعة الجسم 270000 متراً على الثانية تقريباً)، فإننا سنحصل على T= 1000T0، وهذا يعني أنّ الساعة الواحدة على الكرة الأرضية تعادل ألف ساعة للفرد الذي يسير بتلك السرعة

ص: 83

الهائلة (1).

وعلى هذا الأساس يحتمل أن تكون سرعة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم في المعراج قد بلغت سرعة الضوء أو أنها فاقت سرعة الضوء(2)، وتبعاً لذلك ينبسط الزمان بالنسبة له ويتسع، وبذلك يمكن تفسير تلك الوقائع والأحداث الكثيرة في ضوء هذا التفسير العلمي.

2 / 4 - تصوّر السرعة الهائلة والنفوذ من الأمكنة المغلقة من خلال البُعد الرابع (3) : لا يمكن لنا أن ندرك البُعد الرابع مباشرة؛ لأننا في الأساس نعيش عالماً ثلاثي الأبعاد. بيد أن بالإمكان تصوّر البُعد الرابع من خلال التدرّج من الأبعاد الأقل وتعميمها.

ص: 84


1- لفهم المعادلة أعلاه، لا بدّ من فهم رموزها، وهي كالآتي: T = الزمن المتحرك بسرعة كبيرة. V = السرعة المتحرّكة. C = سرعة الضوء. To = سكان الأرض.
2- وبطبيعة الحال فإن علم الفيزياء لا يقرّ إمكان بلوغ الجسم المادي إلى ما يفوق سرعة الضوء، وفي هذا الشأن يجب القول أولاً إن هذا هو الرأي الذي توصلت إليه الفيزياء المعاصرة، وكما تقدم أن أشرنا، فإن العلوم في معرض التغيّر والتبدّل. وثانياً إن تبرير السرعة التي تفوق سرعة الضوء بالنسبة إلى النبي الأكرم في المعراج قابلة للتحقق من خلال القدرة الإلهية.
3- أُنظر: روكر، رودولف، هندسه، نسبيت وبُعد چهارم (الهندسة والنسبية والبُعد الرابع)، ترجمه إلى الفارسية يوسف امير ارجمند؛ أليس، جورج ووليم روث، فضا زمان تخت و خميده، ترجمه إلى الفارسية يوسف ارجمند؛ وانظر أيضاً كاظم نفيسي، بُعد چهارم در قرآن (البُعد الرابع في القرآن)، مجلة مطالعات اسلامية الفصلية، العد 81.

إن العالم الذي تنعدم فيه الأبعاد عبارة عن نقطة، وهذا العالم لا ينطوي على كبير أهمية بالنسبة إلى بحثنا.

والعالم ذو البُعد الواحد عبارة عن خط مستقيم ينشأ من حركة النقطة (عدد كبير من النقط المتتالية). وسوف نصطلح في أبحاثنا القادمة على هذا العالم ب- «الخط المعمور». ومثال الجسم الأحادي البُعد، خط بطول a.

العالم ذو البُعدين ينشأ من وضع عدد كبير من الخطوط في اتجاه البعد الثاني (وليس في امتداد بعضها). وهو ما نصطلح عليه بعالم (العرش المعمور)، ومثال الجسم ذي البُعدين، مربع بمساحة a2.

أما العالم الثلاثي الأبعاد فينشأ من وضع عدد كبير من الصفحات في اتجاه البُعد الثالث، ومثال هذا العالم، مكعب بحجم a3.

وبتعميم ما تقدّم نحصل على العالم الرباعي الأبعاد من خلال حركة مكعّب ثلاثي الأبعاد في اتجاه البُعد الرابع، ومثال الجسم الرباعي الأبعاد مكعب هائل إلى حجم هائل a4.

كما أن البحث بشأن الكرات المتعددة الأبعاد ممتع إلى حدّ ما.

فالكرة ذات البعد الواحد هو المكان الهندسي لجميع النقاط في خطّ واحد، والتي تبتعد عن النقطة المركزية بنسبة واحدة . وإن هذه الكرة التي لا تعدو أن تكون مجرّد نقطتين معادلتها R2=x2 ، وإن حجم هذه الكرة في الواقع طول 2R.

والكرة ذات البُعدين عبارة عن المكان الهندسي لجميع النقاط في صفحة واحدة، والتي تبتعد عن النقطة المركزية بنسبة واحدة. ويتم تحديد هذه الكرة بمعادلة R2=y2+x2، والتي هي في الحقيقة عبارة عن دائرة بشعاع R وحجم R2.

ص: 85

وعلى هذا النحو فإنّ الكرة الثلاثية الأبعاد مكان هندسي لجميع النقاط في الفضاء، التي تبتعد عن النقطة المركزية بنسبة واحدة. ويتمّ تحديدها من خلال المعادة الآتية R2=Z2+X2، وهي بحجم R3.

وبعد تعميم هذا الكلام نتوصّل إلى ماهية الكرّة الهائلة ذات الأبعاد الأربعة من خلال معادلة y2+x2=t2+Z2+R2. ويمكن إثبات أنها تشتمل

على الحجم الهائل 2 R4.

وفيما يأتي ندرس كيف يمكن للكائن الثلاثي الأبعاد أن يشاهد جسماً رباعي الأبعاد.

نبدأ من عالم «الخط المعمور». لو أن دائرة (كائن ذو بُعدين) اجتازت بعالم الخط المعمور، فإن الكائنات ذات البُعد الواحد لا تشاهد في كل لحظة سوی وتر للدائرة. فهم يشاهدون في البداية نقطة ظاهرة تذهب بالتدريج لتغدو خطاً مستقيماً يأخذ بالطول حتى يبلغ أبعد مداه (أي قطر الدائرة) ثمّ يأخذ بالتضاؤل حتى يتحوّل إلى نقطة ، ليزول بعد ذلك نهائياً .

وشبيه بذلك ما يحدث للكائنات ذات البُعدين في عام «العرش المعمور» عندما تجتاز به كرة ثلاثية الأبعاد. حيث يشاهدون أول الأمر أن الكرة تظهر لهم على شكل نقطة، ثم تتحوّل إلى دائرة، ويبدأ شعاع الدائرة بالاتساع التدريجي حتى يبلغ غاية حجمه، بحيث يتساوى قطره مع قطر الكرة، ثم يبدأ بالتناقص ليتحول إلى مجرّد نقطة، ثم يتلاشى نهائياً.

ومن خلال تعميم ذلك على الكائن الرباعي الأبعاد (من قبيل كرة هائلة مثلاً) عندما تجتاز بعالم ثلاثي الأبعاد، فإنه سيبدو للوهلة الأولى على شكل نقطة، ثمّ تتحوّل بالتدريج إلى كرة صغيرة تأخذ بالاتساع التدريجي،

ص: 86

حتى تبلغ غاية حجمها (بمعنى أن يغدو شعاعها مساوياً لشعاع الكرة الهائلة)، ثم تأخذ بالتضاؤل والنقصان حتى تتحوّل إلى نقطة وتزول نهائياً.

وعليه إذا أراد الكائن الرباعي الأبعاد أن يدخل إلى غرفتك، لا تكون هناك ضرورة إلى تسوّره الجدران أو الأبواب، وإنما يكفيه أن يظهر فجأة

داخل فضاء الغرفة.

إنّ السجن ذا البُعدين ليس سوى شكل مغلق من قبيل المستطيل ولكن إذا تمكن كائن ذو بُعدين من الحركة في اتجاه البُعد الثالث، فإنه سيتمكن من الخروج واختراق هذا السجن من دون حاجة إلى العبور من أبوابه أو جدرانه.

وعلى هذا الأساس يمكن لمعراج النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم أن يكون قد تحقق من خلال البُعد الرابع، بأن يكون قد ظهر وسط السماوات الأخرى - المجهولة لنا - فجأة من دون أن تكون هناك حاجة إلى سلوك الطرق الاعتيادية، حتى ترد الإشكالات العلمية السابقة، من قبيل قانون الجاذبية والأوكسجين والحرارة وما إلى ذلك.

5 - المعراج المثالي والعقلي:

بالالتفات إلى ما تقدّم يتضح أن تفسير معراج النبي بأنه معراج جسماني لا يخالف العلم والعقل. وهناك من العرفاء من تجاهل احتمال تعارض المعراج الجسماني مع العلم والعقل، وقدّم تفسيراً عرفانياً للمعراج، وفيما يأتي نشير إلى تقريرين هامين بهذا الشأن:

1 / 5 - المعراج المثالي : هناك من العرفاء وفلاسفة الإشراق من يذهب إلى الاعتقاد بأن معراج النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم لم يكن بجسد مادي ولم يتحقق في

ص: 87

عالم المادة، وإنما كان بجسد مثالي (1) . وبعبارة أخرى إن معراج النبي لم يكن بعنصر مادي وجسد كثيف، وإنما بجسم مثالي ولطيف. قال الملا هادي السبزواري في هذا الشأن: «ففي نبينا الخاتم ليس الترقي بالجثة الكثيفة، بمعنى أن السالبة منتفية بانتفاء الموضوع، بل ترقيه بجسده اللطيف»(2).

وهكذا عمد سماحته إلى بيان موقف العرفاء، محذراً القرّاء من مغبّة نسبة المعراج الروحاني إليهم؛ لأنهم إنما يقولون بمعراج الجسم المثالي، حيث قال: «وإياك أن تتوهّم هذا قول بالمعراج الروحاني؛ لأن القائل بالروحاني فقط لا يقول بالصورة أصلاً» (3).

كما يذهب الشيخية (4) إلى القول بأن المعراج لم يكن مادياً ولا

ص: 88


1- يقسم فلاسفة الإشراق الوجود إلى ثلاثة أقسام: (عقلي) و (مثالي وملكوتي) و(مادة). وإن الوجود المثالي لا يمتلك من العنصر المادي سوى الشكل والصورة دون الوزن والجرم، من قبيل الصور التي يشاهدها الإنسان في المنام .
2- صدر المتألهين، الحكمة المتعالية في الأسفار الأربعة، ج 9، ص 48 ، الهامش.
3- المصدر أعلاه، ص 50 ؛ حسن حسن زاده آملی، هزار ويك نكتة (ألف مسألة ومسألة)، الرقم 249 و 284 و 855 و 943 ؛ حسن حسن زاده آملی، دروس معرفت نفس (دروس في معرفة النفس)، الكتاب الثالث، ص 530 ؛ علي زماني قمشه اي، رهاورد ومشهودات معراج (مسالك المعراج ومشاهداته)، الموجود في كتاب رفعت حكمت (سموّ الحكمة)؛ اندیشنامه رفيعي قزويني، ص 147 ، إعداد محمد علي اردستاني.
4- لقد قام الشيخ أحمد الأحسائي (1166 - 1241 للهجرة) بتأسيس هذه الفرقة من خلال التلفيق بين المنهج الإخباري في الفقه، والاتجاه الفلسفي والعرفاني في التفسير. وقد عمد هو وأتباعه إلى تأويل بعض التعاليم الدينية، فعلى سبيل المثال أنكر المعاد الجسماني، وفسره بحالة شبيهة بعالم المثال. (أُنظر: الحاج محمد خان، هداية المسترشدين، ص 182، نقلاً عن يوسف فضائی، (شیخی گری، بابی گری، بهائی گری)، ص 60).

جسمانياً، بل تحقق بجسم لطيف، ولكن هذا الكتاب لا يتسع إلى الخوض في تفاصيل ذلك.

2 / 5 - المعراج الروحاني والعقلي: أما التقرير الآخر فيذهب إلى الاعتقاد بأن معراج النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم كان أسمى من السير والسلوك في عالم المثال، وإنما قد تحقق في عالم «العقل»، ولكن الروايات عبّرت عنه بمضاين مادية لكي يتمكن الآخرون من فهم مسائله العرفانية والعقلية التي حصلت من خلال وقائع المعراج وتفصيلاته.

وينسب هذا الرأي إلى فلاسفة من أمثال ابن سينا، وإن لأبي علي بن سينا رسالة في بيان المعراج تحت عنوان «المعراجية»، وقد سعى من خلالها إلى تفسير المعراج العقلي (1) .

هذا وقد ذهب العلامة - ضمن إيمانه بدلالة ظاهر الآيات والروايات على المعراج الجسماني - إلى إمكان المعراج الروحاني أيضاً، وذلك حيث يقول «إنّه من الجائز أن يقال بكونه بروحه لكن لا على النحو الذي يراه القائلون به من كون ذلك من قبيل الأحلام و من نوع ما يراه النائم من الرؤى... بل ذلك - إن كان - بعروجه صلی الله علیه و آله و سلم بروحه الشريفة إلى ما وراء هذا العالم المادي مما يسكنه الملائكة المكرمون» (2) .

وقد ذهب العلامة الطباطبائي إلى القول بأن سبب تفسير معراج النبي بالمادي هو اعتقاد بعضهم بانحصار الوجود المجرّد بالله سبحانه وتعالى، إذ قال:

ص: 89


1- أبو علي بن سينا، الرسالة المعراجية، ص 98.
2- العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 13، ص 32.

«والقوم لذهابهم إلى أصالة الوجود المادي وقصر الوجود غير المادي فيه تعالى ... حملوا ذلك على كونها أجساما مادية» (1).

وقال العلامة بأنّ هذه الرؤية تمثل حالة وسطية بين الرؤيتين الأخريين (المعراج الجسماني، والمعراج في عالم الرؤيا والخيال)(2).

حصيلة الكلام أن النظرية الأولى (المعراج الجسماني) بالالتفات إلى ما تقدم، قابلة للهضم، وهكذا الأمر بالنسبة إلى النظرية العرفانية التي تخلو من الإشكالات الافتراضية أيضاً.

الأمر الأخير أنه على فرض المحال، لو لم يقتنع القارئ بما تقدم، يمكن تفسير المعراج الجسماني للنبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم على أنه معجزة، على غرار جعل النار برداً وسلاماً على إبراهيم، وإحياء الموتى، وتحويل العصا إلى أفعى. فإن الله القادر على هذه الأمور قادر أيضاً على الأخذ بنبيه بقدرته الغيبية إلى السماوات العليا فى لحظة واحدة، وأن يكشف له الحجب عن بعض الأحداث والوقائع، وإعادته ثانية إلى موضعه الأول.

ص: 90


1- المصدر أعلاه، ص 32.
2- المصدر أعلاه.

الفَضْلُ الرَّابع

اشارة

العصمة

إن من بين شبهات المخالفين إنكارهم لعصمة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم، وقد استندوا في ذلك إلى آيات وروايات يبدو من ظاهرها نسبة الذنب والمعصية إلى النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم (1) . وسيأتي تفصيل الآيات في الصفحات القادمة إن شاء الله تعالى.

وهناك من ذهب إلى الاعتقاد بأن النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم كان بشراً اعتيادياً، ولذلك لم يكن يتصف بصفات خاصة من قبيل علم الغيب أو العصمة، كما أنه لم يدّع لنفسه مثل هذه الصفات، ومما جاء في كلام هذا البعض:

«يُفهم من النصوص القرآنية الصريحة التي لا تقبل الشك، أنّ النبي لم يكن يدعي لنفسه العصمة والمراتب التي تفوق البشر - مما أثبته له الآخرون فيما بعد - وكان يرى نفسه غير معصوم من الخطأ» (2) .

ص: 91


1- أُنظر : مسعود انصاري (روشنگر) ، الله أكبر ، ص 163 و 306.
2- علي دشتي، بيست و سه سال، إعداد وتنقيح بهرام چوبینه، ص 91 .

إشارة إلى البراهين العقلية والنقلية على عصمة الأنبياء:

اشارة

قبل الخوض في تقرير نقد الشبهات والإجابة عنها، نرى من الضروري أن نقوم بتحليل وبيان أهمّ الأدلة والبراهين العقلية والنقلية المثبتة لعصمة الأنبياء وعلى رأسهم النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم .

1 - المقام العلمي والمعنوي للنبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم (التجرّد التام):

إن أول مسألة يجب التدقيق فيها هي مسألة التعارض بين العقل والنقل، بمعنى لو أن الدليل العقلي خالف الدليل النقلي بحسب الظاهر، فهل نقدّم الدليل العقلي على الدليل النقلي أم العكس هو الصحيح؟

يذهب الإخباريون إلى تقديم الدليل النقلي، أما أتباع المنهج العقلي فيقدّمون الدليل العقلي، ويعملون على تأويل الدليل النقلي.

وعليه لو دلّ الدليل النقلي في مسألة العصمة على وقوع المعصية والخطأ والنسيان من المعصومين وعلى رأسهم النبي الأكرم، فإن العقل سيقوم بتأويل هذا الدليل النقلى؛ وذلك لثبوت العصمة للمعصومين بالأدلة العقلية القاطعة.

فقد بلغ النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم - من خلال تربيته وتهذيبه لنفسه - مرتبة خاصة من المعرفة والقرب الإلهي، حتى عبّر عنها القرآن الكريم بقوله: «قاب قوسين»، وهي التي يعبّر عنها في المصطلح الفلسفي بمقام «التجرّد المحض». وإن الذي يمتلك مثل هذه النفس يسيطر على جميع أعضائه وجوارحه - الأعم من القوّة النظرية والفعلية - ويسعى إلى تعديلها وليس إلى تعطيلها. ولمّا كان النبي - من خلال نفسه القدسية والإلهية ولارتباطه بمقام الحقيقة المحمدية -

ص: 92

يطلع على جميع الأمور الماضية والآتية، فإن إمكان صدور الخطأ والنسيان عنه سوف يتعارض مع مقامه العلمي، كما أن إمكان صدور المعصية والذنب سوف يتعارض مع مقامه المعنوي ونفسه النبوية الكاملة. وطبقاً لمبنى أتباع المنهج العقلي، عندما يقع التعارض بين العقل والنقل يُصار إلى تأويل النقل، لا إلى إلغاء العقل (1) .

2 - اقتضاء فلسفة البعثة للعصمة :

يمكن بيان هذا الدليل من خلال تقريرين، نشير إليهما على النحو الآتى:

1/ 2 - العصمة لازمة للدور التعليمي للنبوّة:

إنّ بعثة الأنبياء وإرسال الرسل من الأمور الضرورية لهداية الناس، ونشر التعاليم والمعارف الدينية.

وعليه لو فرض أن الأنبياء كانوا معصومين عن الخطأ في تلقي الوحي وإبلاغه، وفي تفسير الدين وهداية الناس، فإن هؤلاء الناس سيطيعونهم ويتبعونهم بمزيد من الطمأنينة، وسوف يؤمنون ويلتزمون موقنين بسماوية التعاليم الدينية التي جاء بها الأنبياء. وأما إذا صدر الخطأ والزلل والمعاصي والذنوب عن الأنبياء، فإن ثقة الناس بهم سوف تنهار، وبذلك يتهاوى اتباعهم وتضعف طاعتهم، وهذا الأمر لا ينسجم مع الفلسفة والغاية من البعثة (2).

ص: 93


1- أُنظر: عبد الله جوادي آملي، أدب فنای مقربان، ج 3، ص 268.
2- أُنظر: الحسن بن يوسف الحلي، كشف المراد، مبحث النبوة؛ جعفر سبحاني، الإلهيات،ج 3 ، 167؛ محمد تقي مصباح اليزدي، آموزش عقيدة (دروس في العقيدة)، الدرس الخامس والعشرون.

حاصل القول إن البرهان اللمي يقتضي عصمة الأنبياء وخاصة خاتمهم.

وأما الآيات المخالفة للبرهان العقلى فيمكن تأويلها، وهو ما سنشير إليه لاحقاً.

2/ 2 - العصمة لازمة للدور التربوي للنبوّة:

يتولى الأنبياء مهمة تربية الناس وتزكية النفس والعمل على إزالة الخبائث والأدران النفسية عن صفحة النفس الإنسانية، حيث قال تعالى: (وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ﴾ (1) ، وإن هذه المهمة لا تنسجم مع إنكار عصمة الأنبياء؛ لأن الناس عندما يشاهدون سفير السماء وهو يرتكب المعاصي والأخطاء، لن يكون لمواعظه وتوجيهاته تأثير عليهم.

بعبارة أخرى إن لازم كون النبي قدوة وأسوة للآخرين - على ما هو مذكور في القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (2) - هو أن يكون منزهاً عن جميع أنواع المعاصي والأخطاء، كي لا يبقى لدى الناس من قلق وشك في الاقتداء والتأسّي به في جميع المجالات؛ لإمكان الخطأ والمعصية عليه (3) .

3 - الآيات :

وعلاوة على الدليلين المتقدّمين يمكن لنا أن نقتنص صفة العصمة للنبي الأكرم من بعض الآيات القرآنية أيضاً:

ص: 94


1- البقرة: 129 .
2- الأحزاب: 21. وانظر أيضاً الممتحنة: 4 و 6 .
3- أنظر: المصدر أعلاه.

1 / 3 - كل ما يقوله النبي الأكرم أو يفعله هو عين الوحي:

قال تعالى في محكم كتابه الكريم: ﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الهْوَى ٭ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ) (1) .

إن هذه الآية الشريفة صريحة في أن كل قول أو فعل لرسول الله مخالف للأهواء النفسية، وأنه من الوحي السماوي، وهو أمرٌ يدلّ على عصمته مطلقاً. وبالالتفات إلى الآيات والشواهد الأخرى - التي سنأتي على ذكرها - يتضح أن لا خصوصية لنطق الرسول في هذا الأمر، وإن العصمة تشمل حتى أفعاله وسلوكه.

2 / 3 - تطهير أهل البيت من جميع أنواع الرجس والآثام:

قال تعالى: ﴿ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) (2) .

تتحدّث هذه الآية الشريفة عن أصل وقاعدة إلهية، تعلقت إرادة الله ومشيئته بموجبها برفع جميع أنواع الرجس والذنوب عن ساحة أهل بيت النبوة. وإن التعبير ب- ﴿ يُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ) ، و﴿ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ﴾ ، صريحة الدلالة في إثبات العصمة لأهل البيت علیهم السلام .

وقد اختلف علماء الإسلام في تحديد مصداق أو مصاديق أهل البيت. وقد ذهب الشيعة إلى القول بأنهم الخمسة من أصحاب الكساء (النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم، والسيدة فاطمة الزهراء علیها السلام، والإمام علي علیه السلام ، والحسن

ص: 95


1- النجم: 3 - 4 .
2- الأحزاب: 33.

والحسين علیهما السلام). أما أهل السنة فذهبوا إلى رأي آخر. إلا أن القدر المتيقن من ذلك هو شمول الآية الشريفة للنبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بوصفه المصداق الأبرز لأهل بيت النبوّة. وهناك في تفسير هذه الآية وحملها على عصمة أهل البيت علیهم السلام ، روايات مأثورة عن النبي الأكرم نفسه، سوف نأتي على ذكرها في الصفحات القادمة إن شاء الله .

3 / 2 - الضمانة الإلهية بعصمة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم.

قال الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه الكريم: ﴿ وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ هَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهُ عَلَيْكَ عَظِيمًا) (1) .

تحكي هذه الآية الشريفة عن سعي أعداء النبي الأکرم صلی الله علیه و آله و سلم إلى إضلال النبی ، إلا أن صدر الآية يؤكد على أن فضل الله الخاص ورحمته قد تعلقت بصيانته وعصمته من الضلال، كما تؤكد الآية على أن أعداء النبي لن يتمكنوا من إلحاق الضرر والأذى برسول الله أبداً.

4 / 3 - علم النبي اللدني هو السرّ في العصمة:

لقد أشار الجزء الأخير من الآية المتقدّمة إلى بيان فضل الله على النبي الأكرم، وتعرّض إلى فلسفة عصمة النبي، وقال إن هذه العصمة ناشئة عن علم خاص لم يسبق للنبي أن حصل عليه، إذ يقول تعالى ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ).

ص: 96


1- النساء: 113 .

وقد أشارت آيات أخرى إلى هذا العلم اللدني للنبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بوصفه واحداً من أهم عناصر عصمته صلوات الله عليه، من قبيل قوله تعالى:

- (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) (1) .

- (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ ٭ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ) (2).

تشير الآية الأخيرة إلى أن العلم اليقيني يساوق رؤية الجحيم، وكفى بذلك عاصماً من اقتراف المعاصي والذنوب.

3/4 - المخلصون هم المعصومون:

قال الله تعالى حكاية عن لسان إبليس: ﴿ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ٭ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ) (3) .

تحكي هذه الآية الشريفة عن قدرة الشيطان على إضلال جميع البشر، بيد أنها قد استثنت جماعة خاصة منهم ، وهم «المخلصون» الذين بلغوا بعبادتهم ومعرفتهم وإيمانهم بالله أسمى مدارج الإخلاص. وقد اختلف العلماء في تحديد مصاديق المخلصين، إلا أن القدر المتيقن منهم هم الأنبياء وعلى رأسهم النبي الأكرم محمد بن عبد الله صلی الله علیه و آله و سلم .

وعليه طبقاً لصريح هذه الآية الشريفة، لا قدرة لإبليس على إضلال النبي الأكرم، بعد أن تمّ استثناؤه في هذه الآية بفضل الله، ولاذ بقلعة العصمة الحصينة.

ص: 97


1- البقرة: 143 .
2- التكاثر: 5 - 6.
3- ص: 82 - 83 .

3/6 - عدم وصول الظالمين إلى مقام النبوّة والإمامة:

قال الله تبارك وتعالى: ﴿ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ﴾ (1) .

نزلت هذه الآية جواباً على سؤال النبي إبراهيم من الله سبحانه وتعالى أن يمنح ذريته مقام الإمامة الذي هو فوق النبوّة؛ فقالت الآية إن الظالم غير جدير بمنصب الإمامة، وبذلك دلّت بمفهومها على أن الإمامة لا ينالها إلا الصالحون الذين لم يرتكبوا في حياتهم أدنى ظلم، ولمّا كانت المعاصي والذنوب من أبرز مصاديق الظلم في حق الفرد وفى حق الله، فلا يمكن لمرتكب المعصية والذنب أن يبلغ منصب الإمامة والنبوّة. ولمّا كان النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم هو أشرف الكائنات وأفضل الأنبياء، يتضح أنه لم يرتكب ظلماً، وبعبارة أخرى لم يرتكب معصية، وباختصار إنه معصوم من الخطأ.

7 / 3 - الأمر بإطاعة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم مطلقاً :

إنّ العقل والعقلاء يحكمون بعدم التبعية والطاعة العمياء لشخص، إلا إذا حصل اليقين بأن الشخص «المطاع» لا يحيد عن الطريق القويم مقدار أنملة، وكان أمره كاشفاً عن المصلحة الواقعية.

وقد تمّت مراعاة هذه المسألة وهذا الأصل في الأوامر والأحكام الإلهية الصادرة عن الله بوصفه سيد العقلاء أيضاً. ومن خلال النظر في الأوامر الإلهية في الكتب السماوية ندرك أنه يطلب من العباد أن يطيعوا الأنبياء طاعة مطلقة:

ص: 98


1- البقرة 124. ولمزيد من التوضيح، أُنظر: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، تفسير الآية أعلاه؛ محمد تقي مصباح اليزدي، آموزش عقايد (دروس في العقيدة)، الدرس السادس والعشرون .

(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ الله) (1).

كما تمّ التأكيد في القرآن الكريم على ضرورة اتباع وطاعة النبي بوصفه أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وإن أمره مقدم على أوامرهم، مراراً وتكراراً، كما في قوله تعالى:

- (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ (2).

- ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ) (3).

إن نفس الأمر بإطاعة النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم طاعة مطلقة، واعتباره أولى بالمؤمنين من أنفسهم لخير دليل على عصمته في جميع شؤون حياته.

وقد بيّن الإمام علي علیه السلام فلسفة الأمر بإطاعة «أولي الأمر» بشكل مطلق، هو عصمتهم وطهارتهم من كل معصية، حيث سيأتي بيان ذلك في قسم الروايات.

- (وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا ﴾ (4)

إنّ هذه الآية الشريفة، أولاً جعلت إطاعة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم في مرتبة إطاعة الله. وثانياً ذكرت بإن إطاعته إنما هي إطاعة للأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، ومن ثَمَّ فإنه ستؤدي إلى العاقبة الحسنة، ومثل هذا

ص: 99


1- النساء: 64 .
2- الأحزاب: 6 .
3- النساء : 50 . وانظر أيضاً المائدة: 92 ؛ النور: 54 ؛ محمد: 33؛ التغابن: 12.
4- النساء: 69 .

التحليل لا ينسجم إلا مع عصمة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم (1) .

4 - الروايات المأثورة عن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم:

لقد صرّح النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم سواء في تفسير الآيات الدالة على العصمة - التي تقدّم ذكرها - أو بشكل مستقل بعصمة مقام النبوّة والإمامة، وقال في بعض الموارد إن أهل البيت هم مصاديق العصمة، فعلى سبيل المثال أشار النبي إلى الخمسة من أصحاب الكساء في آية التطهير ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا﴾ (2)، وقال «اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصّتي، أذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً» (3).

وقال النبي الأكرم الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم في رواية أخرى بشأن أهل بيته «فإنهم مع الحق والحق معهم، وهم الأئمة الراشدون بعدي، والأمناء المعصومون» (4) .

وقال النبي صلی الله علیه و آله و سلم بشأن بيان فلسفة الإطاعة المطلقة ل- «أولي الأمر» التي تقدم ذكرها :

«هم المعصومون المطهّرون الذين لا يذنبون ولا يعصون، وهم المؤيّدون الموفقون المسدّدون» (5) .

ص: 100


1- أُنظر: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، تفسير آيات العصمة؛ جعفر سبحاني، الإلهيات ، ج 3، ص 155 - 188؛ محمد تقي مصباح اليزدي، آموزش عقايد (دروس في العقيدة)، الدرس الخامس والعشرون.
2- الأحزاب: 33.
3- جلال الدين السيوطي، الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور، ج 5 ، هامش الآية أعلاه.
4- علي بن محمد الخزاز القمي، كفاية الأثر ، ص 104؛ محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 36 ، ص 281 و 320 و 323 و 346.
5- العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 23، ص 19.

وإن دلالة هذه الروايات على عصمة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم نفسه تكون بالأولوية، وقد تقدّم بيان ذلك. وفي رواية أخرى تحدّث النبي عن عصمته الخاصّة صراحة، حيث قال: «أنا وعلي والحسن والحسين وتسعة من ولد الحسين مطهّرون ومعصومون» (1) .

الروايات المأثورة عن الأئمة الأطهار علیهم السلام :

أمّا الطريق الآخر لإثبات عصمة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم فيأتي من الطرق الخاصّة، أي التصريح بعصمة النبي صلی الله علیه و آله و سلم على لسان الأئمة الأطهار علیهم السلام . وقد وردت هذه الروايات في كتب التفسير الروائي في معرض تفسير الآيات الموهمة لخلاف عصمة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم ، وسيأتي الحديث عنها في الصفحات القادمة إن شاء الله تعالى.

وفي بعض الروايات صرّح الأئمة الأطهار علیهم السلام باتصاف النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بالعصمة بشكل مستقل، ومن ذلك ما روي عن الإمام علي علیه السلام مع أنه قال: «فتأسّ بنبيّك الأطيب الأطهر» (2).

ففي هذا الحديث تمّ وصف النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم ب- «الأطيب الأطهر» بشكل مطلق، وهو أمرٌ يدلّ على عصمته. وعلاوة على ذلك فإن الأمر باختيار الأسوة والقدوة المتمثلة بشخص يتصف بالطهر وطيب السجية، يتناسب مع التأسّي به، وإلا فإن الأمر بمطلق التأسّي والاقتداء لن يكون له

ص: 101


1- سليمان القندوزي، ينابيع المودّة، ج 2، ص 316؛ إبراهيم الجويني الخراساني، فرائد السمطين، ج 2، ص 313 ؛ العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 25، ص 201 .
2- نهج البلاغة الخطبة، الخطبة رقم 160 .

محلّ من الإعراب.

وقد وصف الإمام علي علیه السلام سيرة النبي في موضع آخر، منذ ولادته إلى آخر لحظة من حياته بالطهر والطيب، حيث قال:

«بأبي أنت وأمى يا رسول الله، طبت حياً وطبت ميتاً) (1).

وقال علیه السلام فى خطبة أخرى:

«وَلَقَدْ قَرَنَ اللهُ بِهِ صلی الله علیه و آله و سلم مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَتِهِ يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ الْمَكَارِمِ، وَمَحَاسِنَ أَخْلَاقِ الْعَالَمِ» (2).

وقد ذكر الإمام علي أن فلسفة أمر الله بإطاعة رسول الله وأولي الأمر تكمن فى العصمة، وقال في وصفهم:

«لأنهم معصومون مطهّرون لا يأمرون بمعصية» (3) .

وروي عن الإمام جعفر الصادق علیه السلام أنه قال:

«لا تصحّ إمامة مَن قد ارتكب المحارم شيئاً - صغيراً أو كبيراً - وإن تابَ منه بعد ذلك» (4) .

كما روي عنه علیه السلام أنه قال في موضع آخر :

«الأنبياء وأوصياؤهم لا ذنوب لهم؛ لأنهم معصومون مطهّرون» (5).

وروي عن الإمام أبي الحسن الرضا علیه السلام، أنه قال:

«الإمام المطهّر من الذنوب المبرأ عن العيوب، معدن القدس والنسك

ص: 102


1- محمد باقر المحمودي، نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة، ج 1، ص 33.
2- نهج البلاغة، الخطبة رقم 192.
3- الشيخ الصدوق، علل الشرائع، ج 1، ص 123.
4- الشيخ الصدوق، معاني الأخبار، ص 200.
5- العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 10، ص 226 .

والزهادة ونسل المطهّرة، فهو معصوم مؤيّد مُسدّد» (1).

وكما تقدّم أن ذكرنا، عندما تقتضي الإمامة من الإمام أن يتصف بالعصمة، فإن اتصاف النبي بها - وخاصة خاتم الأنبياء صلی الله علیه و آله و سلم بها - سيكون بطريق أولى.

نقد الشبهات القرآنية التي ساقها المنكرون لعصمة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم:

اشارة

ذكرنا في بداية الشبهة أن المنكرين لعصمة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم قد تمسكوا لإثبات ما ذهبوا إليه من الإنكار ببعض الآيات القرآنية. وقبل الخوض في تحليل هذه الآيات، لا بد من الإشارة إلى أصل ومسألة علمية من باب المقدّمة، فنقول:

لكي نفهم المعنى أو المعاني اللغوية من الكلمات والمفردات، يجب الرجوع إلى المعاجم اللغوية الأصيلة. فعلى سبيل المثال عندما نراجع كلمة «الضلال» و«الضلالة» فى كتب اللغة، نجد أنها تطلق على مجموعة من المعاني المختلفة، وإن معنى الضياع والانحراف هو واحد من معانيها الكثيرة. إلا أن أصحاب الشبهة يتجاهلون المعاني الأخرى، ويتمسكون لإثبات الشبهة التي يثيرونها بالمعنى الذي يريدونه على وجه التحديد، فيثبتون أن النبي كان ضالاً ومذنباً والعياذ بالله. في حين أن أسلوب البحث والتحقيق العلمي في قراءة

ص: 103


1- محمد بن يعقوب الكليني، أصول الكافي، ح 1، ص 200 . (ملاحظة لم نعثر على النص المتقدم في هذا المصدر، والذي عثرنا عليه كالآتي "الإمامُ الْمُطَهَّرُ مِنَ الذُّنُوبِ وَالمُبَرَّأُ عَنِ الْعُيُوبِ الْمَخْصُوصُ بِالْعِلْمِ الْمَوْسُومُ بِالحِلْمِ". المعرّب).

النص وتفسيره «علم الهرمنيوطيقا»، يقتضي منا - لكي نفهم النص بالشكل الصحيح - أن نضع أنفسنا في أجواء النص، وأن نأخذ بنظر الاعتبار جميع الشواهد والقرائن المحيطة بالنص، من قبيل المتكلم والمخاطب والنصوص السابقة والنصوص اللاحقة، وأن ندخل في تفاصيل العملية التفسيرية مسلحين برؤية شاملة فيما يتعلق بالنص التفسيري.

وعليه فإن التفسير الانتقائي للآيات مورد البحث بعيد عن منهج البحث العلمي والمعرفي. وبعد هذه المقدمة، ندخل في الإجابة عن أهم الآيات التي استند إليها أصحاب الشبهة الذين أنكروا العصمة:

الشبهة الأولى: نسبة الضلالة إلى النبي الأكرم صلی الله علیه و آله وسلم .

اشارة

يذهب القائلون بهذه الشبهة إلى الاعتقاد بأن الله تعالى يصف نبيه في الآية الآتي ذكرها بأنه كان على ضلال، وأن الله قد منّ عليه بالهداية (ألم يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى ٭ وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى﴾ (1) .

مناقشة وتحليل:

فيما يتعلق بتحليل هذه الشبهة وتفسير الآية ونسبة الضلالة إلى النبي، ذكر العلماء عدداً من الإجابات، وفيما يأتي نشير إلى أهمها:

1 - الضلالة بمعنى العزلة أو التوحّد:

إن من بين المعاني اللغوية لكلمة «الضلالة» هي العزلة أو التوحّد، ومن هنا يُطلق على الشجرة المنفردة وسط الصحراء «الشجرة الضالة». ولمّا كان النبي يعيش الوحدة واليتم والعزلة بين

ص: 104


1- الضحى: 6- 7.

أبناء قومه ومجتمعه، وقد جمع إلى اليتم من جهة الأب والأم، اعتزال الناس وعدم مشاركتهم في عباداتهم الوثنية، فقد كان مثل الشجرة الوحيدة، يمضي حياته المتوحّدة حتى شملته الألطاف الإلهية، وأخرجته من هذه الحالة.

2 - الضلالة بمعنى الشخص الضائع في قومه:

إن من بين المعاني اللغوية للضلالة هو ضياع منزلة الفرد المرموق وشخصيته بين أفراد قومه. كأن يكون الفرد متصفاً بأعلى المراتب من الناحية العلمية والأخلاقية والروحية، ومع ذلك لا يوليه قومه المكانة اللائقة به، بل ويتجاهلونه ويزدرونه أيضاً . من هنا فإن مثل هذا الفرد سيعيش حالة من الضياع. وقد عدّ اللغويون هذا المعنى من المعاني الرئيسة لكلمة «ضلّ» (1).

وعليه يكون مراد الآية إن الله قد أعاد إلى النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم مكانته التى تجاهلها قومه وأضاعوها. وبذلك يكون الله قد أعاد منزلة النبي إلى نصابها الصحيح (2) .

حصيلة الكلام لمّا كانت هذه الآية المشتملة على كلمة «ضالاً» لم تكن مسبوقة بأيّ ذكر للمعاصي والذنوب، فلا تتناسب كلمة ضالاً هنا

مع اقتراف المعاصي، وإنما هي تتحدّث عن يتم النبي صلی الله علیه و آله و سلم وغربته في قومه، وعليه فهي تدل على الضلالة بمعنى «الضياع» و«الغربة بين أبناء قومه».

3 - البعد عن مقام النبوّة:

إن من بين معاني الضلال هو الانصراف عن الأمر، تقول «أضللت بعيري، إذا ذهب منك» (3). فالمراد من ضلال النبي صلی الله علیه و آله و سلم،

ص: 105


1- أُنظر: الخليل بن أحمد الفراهيدي، كتاب العين، ج 7، مادة (ضلّ)، ص 8.
2- أُنظر: السيد المرتضى، تنزيه الأنبياء، ص 150 ؛ الفخر الرازي، عصمة الأنبياء، ص 93 .
3- أُنظر: ابن منظور الأفريقي، لسان العرب، مادة (ضلّ)؛ وانظر أيضاً السيد المرتضى، تنزيه الأنبياء ص 149 .

ابتعاده وانصرافه عن أمر النبوّة، وإن الله سبحانه وتعالى هو الذي هداه إليها، وإلا فإن النبي لم يكن ملتفتاً إليها (1).

وقد استدلّ الفخر الرازي لهذا المعنى بقوله تعالى (2): ﴿مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإيمَانُ ) (3) .

ففي هذه الآية تمّ افتراض النبي بعيداً عن حقيقة الكتاب السماوي. وبعبارة أخرى بعيداً عن وثيقة النبوّة، وكذلك عن ماهية الإيمان، وإنه لم يلتفت إلى هذه الأمور إلا بتوفيق وهداية من الله سبحانه وتعالى.

4- عدم معرفة الدين والشريعة:

إن من بين معاني الضلالة في اللغة العربية الجهل وعدم المعرفة (4). فلمّا كان النبي لم يكن يستطيع الاقتناع بما عليه المجتمع الجاهلي والوثني من الشرك، وكان بسبب فطرته الطاهرة تسوؤه عبادة الناس للأصنام، ومن ناحية أخرى لم يكن هناك دين خالص، حيث كان العالم في تلك المرحلة يعيش ما يُصطلح عليه ب- «عصر الفترة»، حيث خلت المدة الزمنية بين ارتفاع عيسى بن مريم علیه السلام إلى السماء وظهور الإسلام من أيّ رسالة سماوية، فكان النبي في تلك الفترة جاهلاً ومتحيّراً بشأن اختيار دينه (5).

ص: 106


1- أُنظر: السيد المرتضى ، تنزيه الأنبياء ص 149؛ الفخر الرازي، عصمة الأنبياء، ص92.
2- أُنظر: الفخر الرازي، عصمة الأنبياء، ص 93؛ وذكر الابتعاد عن الحياة وطلب الكسب والمعاش أيضاً.
3- الشورى: 52 .
4- أُنظر: فخر الدين الطريحي، مجمع البحرين، ج 5، ص 409 ، مادة (ضلّ).
5- لا يخفى على القارئ عدم دقة هذا الكلام، فقد كان النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم قبل البعثة على الحنيفية الإبراهيمية، ولم يكن جاهلاً أو متحيّراً في اختيار دينه أبداً والعياذ بالله، خاصة وأن الله قد وكل به أعظم ملائكته مذ كان فطيماً على ما هو المروي عن الإمام علي علیه السلام ، المعرّب .

من هنا فإن هذه الآية تعبّر عن تلك المرحلة بمرحلة الضلالة، بمعنى الجهل بالشريعة، والارتباك فى اختيار الدين، وإنه إنما اهتدى إلى المعبود الحقيقي بلطف وهداية من الله، وكان من نتائج ذلك تعبّد النبي قبل البعثة في غار حراء، وقد تكلل واكتمل هذا اللطف والهداية الإلهية فيما بعد بمقام النبوّة والرسالة.

5 - الضلالة بمعنى عدم الهداية :

ذهب العلامة الطباطبائي إلى القول بأن الضلالة المنسوبة إلى النبي صلی الله علیه و آله و سلم ليست بمعنى الضلال الفعلي، وإنما بمعنى عدم الهداية (1). بمعنى أن النبي لم يكن مهدياً قبل شمول اللطف الإلهي له. وبعبارة أخرى إن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم وسائر الناس بالالتفات إلى ذات الوجود الإنساني الممتزج بعنصر النفس والمادة، لا يمكنهم السير بمفردهم في طريق الهداية الحقيقية والعصمة» مئة بالمئة إلا إذا شملهم اللطف الإلهي. وفي الحقيقة فإن الإنسان بالالتفات إلى عنصره المادي والنفساني كائن ضال بالقوّة، وإنه يمتلك أرضية الضلال بالفعل. وإن النبي غير مستثنى من هذه القاعدة، إلا أنه قد هدي إلى طريق الحق والعصمة بهداية ولطف من الله سبحانه وتعالى.

وهذا هو مختار بعض المتكلمين المتقدمين من المعتزلة، من أمثال ابن أبي الحديد المعتزلي والمعاصرين (2).

الشبهة الثانية: نسبة الذنب والمغفرة إلى النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم:

اشارة

وهناك آية أخرى تتحدّث بشكل صريح عن ذنب سابق، وذنب لاحق

ص: 107


1- أُنظر : العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 20، ص 311.
2- أُنظر: الفخر الرازي، عصمة الأنبياء، ص 93؛ ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، ج 6 ، ص71؛ عبد الله جوادي آملي، ادب فنای مقربان، ج 3، ص 260 .

للنبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم في سياق الحديث عن العفو عنهما وغفرانهما، قال تعالى: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ٭ لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا﴾ (1) .

مناقشة وتحليل:

فيما يتعلق بهذه الشبهة يجدر الالتفات إلى المسائل الآتية:

1 - الذنب بمعنى التبعة والتأثير السيئ:

إن كلمة «الذنب» وإن كانت تعني المعصية والذنب على ما هو المعروف من كتب اللغة، إلا أن لها معنى آخر أيضاً، وهو الذليل وكل نتيجة وعاقبة سيئة، ولذلك يُطلق على عاقبة ونتيجة كل شيء «ذُناب»(2). ومنه اشتق لفظ «الذَنَب».

وفي كلام النبي موسى مخاطباً الله سبحانه وتعالى ﴿ وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ﴾ (3) - الذي يُشير فيه إلى حادثة قتل القبطي من قوم فرعون - يستعمل كلمة الذنب في ضرره وفي مصلحة القوم، ليس مراده الاعتراف بذنب صدر عنه، وإنما مراده الإشارة إلى وجود خطر يتهدد حياته، وتأثير سيئ يترتب على تبييت أهل القتيل نية الانتقام منه .

من الواضح أن كلمة «المغفرة» و«الغفران» إذا استعملت بهذا المعنى، يراد منها إزالة النتيجة والتبعة السيئة المترتبة على ذلك الفعل.

ص: 108


1- الفتح: 1 - 2 .
2- ابن منظور الأفريقي، لسان العرب، ج 1؛ أبو منصور الجوهري، الصحاح، ج 1؛ محمد مرتضى الزبيدي، تاج العروس، ج 1، مادة (ذنب).
3- الشعراء: 14 .

وعلى هذا الأساس عندما تستعمل كلمة في معنيين أو أكثر، لا بد في تعيين المعنى المراد من الرجوع إلى القرائن والشواهد المتصلة والمنفصلة. وبالنظر إلى الآية السابقة، أي ﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ) يتضح أن هذه الآية في مقام الامتنان واللطف الإلهي، وهي تبشّر النبي الأكرم صلی الله علیه و آله وسلم بفتح ونصر مؤزّر. وأما الآية مورد البحث وهي قوله تعالى: ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ)، إن كان الذنب الوارد فيها بمعنى المعصية، فإن ارتباطها لن ينقطع عما قبلها فحسب، بل سيكون تعليل المغفرة(لِيَغْفِرَ لَكَ)بالآية السابقة لغواً؛ إذ لا

ربط للبشارة بالفتح المبين بغفران الذنب الصادر عن النبي.

وعليه فإن الذي يبدو هو أن المراد من «الذنب» و«الغفران» في هذه الآية ليس هو المعنى المعروف والمتبادر منهما.

من ناحية أخرى فإن تفسير «الذنب» و«الغفران» بالمعنى الثاني، أي إزالة التأثيرات والتبعات السيّئة، ينطبق تمام الانطباق مع سياق هذه الآيات.

وذلك لأن الآية الأولى تتحدّث عن انتصار محتوم ومحقق للنبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم على المشركين في مكة، وهم الذين همّوا باغتياله وقتله ليلة الهجرة، والذين لم يألوا جهداً بعد هجرته إلى المدينة في السعى إلى النيل منه، وفرضوا على النبي عدّة حروب من أجل الوصول إلى غايتهم. وعلى هذا الأساس عندما نزلت الآية على النبي صلی الله علیه و آله وسلم بالبشارة بالفتح المبين والانتصار الحاسم على مشركي مكة، نوّهت مباشرة بالقول يا رسول الله، إننا حيث نزّف إليك هذه البشرى، نردفها ببشارة أخرى مترتبة عليها، وهي أن الله سيرفع عنك كل ذنب أو تبعة سوء وتهديد يتسبب به المشركون في مكة، الأعم مما كان يصدر عنهم في مكة في قديم الأيام، أو ما يمكنهم إثارته عليك في المدينة المنورة بعد الهجرة من

ص: 109

الحروب والمعارك (1).

2 - النبي الأكرم صلی الله علیه و آله وسلم واسطة خلق الناس (تفسير عرفاني):

إن التفسير العرفاني لكلمة «ذنبك» يذهب إلى الاعتقاد قائلاً: لمّا كان النبي الأكرم صلی الله علیه و آله وسلم هو «الصادر والمخلوق الأول» وإن سائر الكائنات إن هي إلا شعاع وشأن لوجوده المبارك في عالم العقل «الحقيقة المحمدية» فإن هذه الكائنات ومنها الناس وأعمالهم تستند إليه. فعلى الرغم من اختيار الناس في أفعالهم، إلا أن أعمالهم السيئة وذنوبهم في المرتبة العليا تنسب إلى رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم.

3 - النبي الأكرم صلی الله علیه و آله وسلم هو الأب الروحي للأمّة:

ذهب بعض في تفسير نسبة الذنب إلى النبي صلی الله علیه و آله وسلم أو الأئمة علیهم السلام إلى الاعتقاد قائلين كلما ارتكب ولد عملاً مخالفاً للقانون أو أدّى إلى حدوث ضرر على الآخرين، فإن أبويه سيشعران بالخجل وتحمّل المسؤولية ودفع التعويضات والخسائر، وكأنهم هم الذين ارتكبوا تلك المخالفة ؛ لأنهم يدركون قبح الذنب أكثر منه.

لمّا كان النبي الأكرم صلی الله علیه و آله وسلم يحمل عنوان الأب الروحي للناس الأعم من المسلمين وغيرهم على ما ورد على لسانه إذ قال: «أنا وعلي أبوا هذه الأمة» (2). فإنه كان ينظر إلى ذنوب الناس وكأنها صادرة عنه، وإن الله إنما نسب إليه الذنب على هذا الأساس.

وقد روي عن الإمام جعفر الصادق علیه السلام رواية تؤيد هذا التفسير، حيث قال:

ص: 110


1- أُنظر: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 18، ص 255 .
2- العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 23، ص 259.

«ما كان له ذنب، ولا همّ بذنب، ولكن الله حمّله ذنوب شيعته، ثمّ غفرها له» (1) .

4 - الذنب في نظر المشركين

كان مشركو مكة يبغضون رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم بسبب عدم عبادته لأصنامهم، ومن هنا كانوا يعتبرونه مذنباً. وإن الآية إنما تنسب الذنب إلى النبي باعتبار رؤية المشركين له، وقد وعده بالمغفرة، والمراد من المغفرة هنا رفع الآثار والتبعات السيئة المترتبة على مكر المشركين وتآمرهم على رسوله.

وبالنظر إلى سياق سورة الفتح التي نزلت بالبشارة بالنصر والفتح الكبير والمبين، من خلال فتح مكّة المكرّمة، يكون هذا المعنى من الذنب هو المناسب للسورة. وقد ورد هذا التفسير عن الإمام الرضا علیه السلام في جوابه عن شبهة المأمون في عدم التناغم بين الآية المذكورة والقول بعصمة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله وسلم، حيث قال علیه السلام:

«لم يكن أحد عند مشركي أهل مكة أعظم ذنباً من رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم؛ لأنهم كانوا يعبدون من دون الله ثلاث مئة و ستین صنماً ...» (2) .

5 - المفهوم الاجتماعي للذنب من حيث القيادة

إن المسألة التي تجول في ذهن كاتب السطور تدور حول تقسيم ذنوب وأخطاء الحكام والقادة.

فهناك قسم من الذنوب يرتبط بالجانب الشخصي والفردي للحاكم والقائد.

ص: 111


1- العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 17، ص 76 - 89 .
2- العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 11، ص 83؛ الطبرسي، الاحتجاج، ج 2، ص 430 .

وأمّا القسم الثاني فيرتبط بأعمال الحاكم من حيث إدارة الدولة ومواجهة الأعداء والمعارضين في الداخل والخارج. وفي هذا القسم يلجأ الحاكم إلى اختيار أنجع الطرق ويقوم بتطبيقه، وقد يرتكب الخطأ من هذه الناحية.

وإن النبي من الناحية الفردية والشخصية معصوم من جميع الجهات، وأما من الناحية الاجتماعية فإن أدلة العصمة - من قبيل العلم اللدني -تقتضي عصمته أيضاً، ولكنه لم يقم بإدارة شؤون الدولة على أساس من علمه الغيبي واللدني، وإنما كان ينطلق في ذلك من رعاية المصالح المختلفة، من قبيل التشاور مع الآخرين. وفي ذلك قد يتمّ اتخاذ قرارات غير صائبة مع علم النبي بها رعاية لمصلحة رفع شأن الأمة. ويمكن بيان ذلك من خلال ما حدث بالنسبة إلى غزوة أحد، فإن رأي النبي كان على البقاء في المدينة والتحصّن بها في مواجهة العدو، ولكن بعض الصحابة لم يستسيغوا هذه الإستراتيجية، وعمل النبي على احترام رأيهم، وهو أمرٌ انتهى بخسارة المسلمين للحرب على المستوى الظاهري، وفقد النبي في هذه الحرب عمّه حمزة بن عبد المطلب رضوان الله عليه.

وعلى الرغم من ذلك فإن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم حيث كان يرى نفسه هو المسؤول عن الأمة وشؤون الدولة، كان ينسب جميع الأخطاء والذنوب إلى نفسه، وإن لم يكن هو فاعلها، وكان يرى نفسه لذلك مسؤولاً أمام الله. والآية المتقدمة ناظرة إلى هذا النوع من الأخطاء والذنوب. والشاهد على ذلك الآية السابقة التي أخبرت عن غفران جميع ذنوب النبي بوصفه حاكماً من خلال البشارة بالنصر الكبير وفتح مكة الذي هو أمر اجتماعي ومن شؤون إدارة الدولة. والبشارة في هذه الآية مطلقة، تشمل الذنوب الماضية والمقبلة أيضاً.

ص: 112

6 - إنكار نسبة الذنب إلى النبي: هناك من المفسرين من أنكر نسبة الذنب إلى النبي الأكرم ، وذلك من خلال الاتجاه الأدبي في تفسير هذه الآية، وذلك بالقول إن «الذنب» مصدر بمعنى فعل المعصية، وهي تضاف إلى الفاعل تارة وإلى مفعولها تارة أخرى. وفى هذه الآية أضيف المصدر «ذنبك» إلى المفعول، بمعنى أن الله يغفر ذنوب مشركي مكة التي اقترفوها في حقك في الماضي، أو الذنوب التي سوف يرتكبونها بحقك في المستقبل.

الشبهة الثالثة: نسبة الوزر إلى النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم :

اشارة

قال الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه الكريم ﴿ وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ ٭ الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ ﴾ (1). حيث يبدو من ظاهر الآية إسناد الوزر والمعصية وإضافتهما إلى النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم .

مناقشة وتحليل:

فيما يتعلق بهذه الشبهة يجدر الانتباه إلى المسائل الآتية:

1 - عدم انسجام هذه الشبهة مع الآيات والعقل:

يبدو من ظاهر هذه الآية أنها تنسب الذنب إلى النبي صراحة، بحيث أنه أدى بسبب عظمته إلى انكسار ظهره، بيد أن هذا يتعارض مع الآيات الكثيرة الأخرى وكذلك الروايات الدالة على عصمة النبي بالإضافة إلى دلالة العقل على ذلك، والتي تقدّم أنها لا تجيز ولو صدور ذنب واحد عنه. وعليه لا بد من العمل على تأويل ظاهر هذه الآية (2).

ص: 113


1- الشرح : 2 - 3.
2- أُنظر : الشيخ المفيد، تفسير الشيخ المفيد، ص 454.

والوزر في اللغة يعني الشيء الثقيل والحمل، ويطلق على الذنب بسبب ثقله على صاحبه.

2 - حزن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم على أمته:

إن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم الذي كان قبل البعثة والنبوة على دين النبي إبراهيم علیه السلام ، كان مغموماً وحزيناً بسبب ما عليه أهل مكة من الشرك وعبادة الأصنام. وفي بداية البعثة والرسالة كان النبي وحيداً فريداً؛ ولكنه واصل حمل أعباء الرسالة متحملاً في سبيل ذلك شتى أنواع الأذى والتعذيب النفسي والجسدي من قبل المشركين في مكة. وكان أكبر حزنه - الذي أنقض ظهره - هو عدم إيمان المشركين. وبعد نزول هذه الآية التي بشرته بأنهم سيؤمنون، زال هذا الحزن والغم عن صدره (1). وإن الآيات التالية تؤيد هذا المعنى؛ إذ يقول الله تبارك وتعالى ﴿وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ ٭الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ ٭ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ٭ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ٭ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) (2) .

فإنّ رفع شأن النبي وذكره، وحلول الفرج بعد الشدّة، والرخاء يتناسب مع الحزن والأذى الاجتماعيين.

3 - ترك الأولى:

هناك من حمل الوزر في هذه الآية على ترك الأولى والمستحب؛ لأن ترك المستحبات والأولويات يُنظر إليه من قبل الواصلين إلى أعلى درجات الكمال ذنباً عظيماً يثقل كواهلهم (3) .

ص: 114


1- أُنظر: السيد المرتضى ، تنزيه الأنبياء، ص 158؛ الفخر الرازي، عصمة الأنبياء، ص 107؛ عضد الدين الإيجي، شرح المواقف، ج 8، ص 279؛ العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 20، ص 315 .
2- الشرح : 2 - 6 .
3- أُنظر: المحقق الحلي، المسلك في أصول الدين، ص 157.
4 - ثقل وشدّة مقام النبوّة:

هناك من وصف تحمّل مقام النبوة والوحي والإبلاغ والتبليغ الكامل والصحيح للرسالة الإلهية بأنه أمر في غاية الثقل والصعوبة، وإن التوفيق إليه لا يكون ممكناً إلا بعون الله وهدايته.

وقد نوّه صدر المتألهين من خلال التفسير العرفاني للنبوة بالعودة من السفر إلى الحق تعالى قائلاً: في بداية عودة السالك والنبي حيث يكون مستغرقاً في ذات الله وصفاته، فإن مشاهدته للتكثرات الدنيوية سوف تثقل على كاهله، وإن هذا الثقل سيزول عنه بفضل الله ولطفه (1) .

الشبهة الرابعة: طلب العفو والغفران:

اشارة

إنّ من بين الأدلة التي يستند إليها الذين ينكرون عصمة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم، ظاهر آيات يأمر فيها الله نبيه بطلب المغفرة والصفح عن ذنوبه، وفيما يأتي نشير إلى آيتين منها:

الآية الأولى قوله تعالى: ﴿ وَاسْتَغْفِرُ الله إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ (2) .

مناقشة وتحليل:

إنّ الناس فى معرض ارتكاب المعاصى والأخطاء على الدوام، ولذلك يجب على المرء أن يتوسّل إلى الله في كل لحظة كي يصونه من هذه الآفة. وإن كلمة الاستغفار وطلب العفو قد استعملت بمعنى الصفح عن ارتكاب المعاصي، واستعملت أيضاً في التوسّل إلى الله لتجنب المعصية، ويعبر عن الحالة الأولى

ص: 115


1- أُنظر: صدر المتألهين، المبدأ والمعاد، ص 275 و 386 ، فصل في مراتب القوّة العملية؛ وأيضاً صدر المتألهين، تفسير القرآن الكريم، ج 3، ص 123 و 210 و 487.
2- النساء: 106 .

بالاستغفار الرفعي، وعن الحالة الثانية بالاستغفار الدفعي.

وبالالتفات إلى الآية السابقة التي تعتبر أن الفلسفة من نزول القرآن هي الحكم والقضاء بين الناس، بحيث يكون الله شاهداً على أعمالنا، وقد نهى عن مناصرة الخائنين بقوله: ﴿ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا ) (1) .

يبدو من هذه الآية أن الله سبحانه وتعالى بصدد بيان أصل عام لنبيه، ويتمثل هذا الأصل برعاية العدالة في القضاء بين الناس، ولمّا كان منصب القضاء من المناصب الدقيقة والحساسة، يتعيّن على القاضي أن يتوسّل إلى الله دائماً كي يقيه من الزلل، ويطلب منه العفو والمغفرة، من هنا فإن الله يأمر نبيه بالاستغفار.

ويبدو أن منكر العصمة قد عمد إلى تفسير الآية لصالحه، فقام بفصل الآية عن سياقها، كما قطعها عن الآية التي قبلها والتي بعدها، في حين أننا إذا أردنا أن نفسّر نصاً بشكل أمين، علينا أن نأخذ بنظر الاعتبار الفقرات السابقة عليه واللاحقة له. ومن خلال التدبّر في الآية السابقة يتضح أن الآية حيث كانت في مقام بيان القاعدة والأصل العام في القضاء، فإنها قد أمرت بالاستغفار من هذه الناحية.

والذي يؤيد هذا التفسير وهذا الظهور من الآية الشريفة هو شأن نزولها، فقد ذكرت المصادر التفسيرية عند بيان هذه الآية أن أحد المسلمين سرق درعاً، وأودعها عند يهودي ، ثمّ عثر على الدرع عند هذا اليهودي؛ فتمّ اتهامه بسرقتها. وقد طلب رفاق السارق من النبي أن يحكم لصالحهم، وأن

ص: 116


1- النساء: 105 .

يدين اليهودي. فنزلت الآية تدعو النبي إلى عدم التسرّع في إصدار الحكم لصالح الخائنين، وذكّرت النبي بأن الناس - بقطع النظر عن العناية الإلهية - عرضة لارتكاب الأخطاء والذنوب، ولذلك يجب على النبي وغيره من أفراد الإنسانية أن يسألوا الله المغفرة وترك المعاصي، وكما يتضح من شأن نزول الآية فإن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم لم يصدر عنه أيّ ذنب، وإنما الآية لمجرّد التنبيه والتحذير. ومن ثَمَّ فقد كان النبي يهمّ بإصدار الحكم لصالح الخائنين(1)، إلا أن العناية الإلهية قد شملته هذه المرّة أيضاً.

إن العصمة التي تدّعى للأنبياء هي عصمة قائمة على اللطف والعناية الإلهية، وإن هذه الآية لا تعارض العصمة؛ إذ لم يصدر ذنب من الأساس.

الآية الثانية: قوله تعالى: ﴿ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ ﴾(2) .

فقد اشتملت هذه الآية على نسبة الذنب إلى النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم أيضاً، فضلاً عن مطالبته بالاستغفار عن هذا الذنب.

مناقشة وتحليل:

في تحليل هذه النسبة والإجابة عن كل الشبهات المدعاة بشأن عصمة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم، لا بدّ من الإشارة إلى مسألتين عامتين، وهما:

ص: 117


1- إلا أن العلامة الطباطبائي، لا يرتضي هذا الكلام من بعض المفسرين، وقد أضاف قائلاً: إن الآية 113 من هذه السورة ( وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ) تدلّ على عدم قصد النبي للدفاع عن الخائن. (أُنظر: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 5، ص 77).
2- غافر: 55

1 - تفسير الذنب بترك الأولى: إنّ الأنبياء والمعصومين من أمثال الأئمة الأطهار، يهدفون فى هذه الحياة إلى التقرّب من الله، ويبذلون كل جهدهم من أجل تحقيق هذه الغاية، وإن كل مانع أو عقبة تقف في وجه هذا الهدف، تُعدُّ من وجهة نظرهم عدواً، أو ذنباً ومعصية، فيبتعدون عنه، ويستمدون العون من الله على عدم تكراره ويستغفرونه، ومن هنا قيل «حسنات الأبرار، سيئات المقربين» (1) .

والشاهد على هذا التفسير، ما روي عن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم ، أنه قال:

«إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في كل يوم سبعين مرة» (2).

واضح أن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم لا يستغفر من ذنب يقترفه يومياً، وليس ذلك مرّة واحدة فحسب، بل سبعين مرّة (والعياذ بالله)، فهو لا يعني بالاستغفار طلب المغفرة من ذنب، وإنما من الموانع والشواغل وترك الفضائل والأولويات الناشئة من مختلف الأسباب والعلل، من قبيل مشاغل الحياة الدنيوية والمادية التي يضطرّ النبي إلى القيام بها اضطراراً (3).

وعلى هذا الأساس فإن الله سبحانه وتعالى يأمر نبيّه أن يستغفر من الذنوب التي تحول دون تقرّبه منه.

ص: 118


1- العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار ، ج 25 ، ص 205؛ علي بن عيسى الأربلي، كشف الغمّة، ج 2، ص 254 .
2- المحدّث النوري، مستدرك الوسائل، ج 5، ص 320؛ العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 60، ص 182.
3- الحسن بن يوسف الحلي، النافع يوم الحشر، ص 84؛ صدر المتألهين، تفسير القرآن الكريم، ج 3، ص 123؛ العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 9، ص 287.

2- عدم التعارض بين الدليل النقلي والعقلي: حيث قامت الأدلة العقلية والنقلية - ومن بينها القرآن الكريم نفسه - على عصمة الأنبياء، لا يمكن لظواهر الدليل النقلى أن تعارض نصّ الأدلة العقلية والنقلية؛ لأن قوّة نظرية العصمة وانسجامها قد ثبت بالدليلين العقلى والنقلى، وعليه لا يمكن لمجرد ظهور دلیل نقلي أن يخدش هذه النظرية الثابتة والراسخة.

الآية الثالثة: قوله تعالى: ﴿ عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ ﴾ (1) .

عندما أذن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم لبعض المنافقين بعدم المشاركة في غزوة تبوك، نزلت هذه الآية، واستعملت تعبير العفو عن صنيع الرسول، وهو أمرٌ يدلّ على أن صدور الإذن من الرسول للمنافقين بعدم المشاركة في الحرب إلى جانب المسلمين قرار غير صائب، حتى استحق أن يعفو الله عنه؛ لأن العفو لا يصدق إلا في مورد الذنب والمعصية.

مناقشة وتحليل:

1 - عدم الملازمة بين العفو وبين المعصية والخطأ: إن كلمة العفو تستعمل في موارد متعددة ومطلقة فيما هو أعم من وجود الخطأ والمعصية وترك الأولى في الماضي والمستقبل، فيقال مثلاً في التخاطب العرفي: «عفا الله عنك»، أو «غفر الله لك» للدعاء والتعظيم والتكريم، من دون أن يخطر ببال المخاطب شائبة نسبة الذنب والمعصية إليه.

وعليه فإن فقرة (عَفَا اللهُ عَنْكَ﴾ خطاب تكريم ودعاء من قبل الله

ص: 119


1- التوبة: 43 .

سبحانه وتعالى للنبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم. ومن هنا فإن عبارة (لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ﴾ ستعني السؤال والاستفهام.

وبطبيعة الحال يبدو من هذا الاستفهام أن عدم الإذن كان أرضى الله، وعليه فإن إذن النبي في الحقيقة سيكون تركاً للأولى والأفضل (1).

2 - معاتبة وتوبيخ المتخلفين عن الحرب: إن المخاطب الرئيس بالعتاب والذم الوارد في هذه الآية هم المنافقون الذين تخلفوا عن القتال والجهاد باستئذانهم النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم. ومن خلال التعبير ب- (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ) يتضح أن تمييز المؤمن الحقيقي من المنافق ضروري من أجل الإذن أو عدم الإذن لهم. وعليه يكون الخطاب هنا، من باب «إياك أعني واسمعي يا جارة»(2). ومن قبيل تأنيب القائد الأعلى للضابط عندما يسمح لبعض الجنود بعدم المشاركة في الاستعراض العسكري.

ثم إنه قد يلوح بعض العتاب من قبل الله لرسوله بسبب إذنه للمنافقين بعد الجهاد، ولذلك كان الأولى عدم الإذن لهم. ولكننا من خلال إمعان النظر في الآية التالية التي تقول:

(لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلا خَبَالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمْ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ (3) .

ص: 120


1- السيد المرتضى، تنزيه الأنبياء، ص 158؛ صدر المتألهين، تفسير القرآن الكريم، ج 3، ص 123.
2- أُنظر: علي بن جمعة العروسي الهويزي، تفسير نور الثقلين، ج2، ص 224، تفسير الآية.
3- التوبة: 47 .

يتضح أن مشاركة المنافقين في القتال إلى جانب المسلمين يعود بالضرر على الجبهة الإسلامية بسبب ما يقوم به المنافقون من تثبيط العزائم والمعنويات. وعلى هذا الأساس يكون قرار النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بالإذن لهم قراراً صائباً ومناسباً.

ويؤكد هذا المعنى الآية الآتية التي وردت بعد آيتين من الآية مورد البحث ﴿ وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ ) (1).

وعليه فإن هذه الآية تتحدّث عن كراهية الله وعدم رضاه بتواجد المنافقين في ساحة المعركة إلى جانب المؤمنين.

المسألة الأخرى هي أن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم قبل نزول الآية مورد البحث قد اطلع من خلال الآيات الأخرى، من قبيل قوله تعالى: ﴿ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) (2) على خبايا المنافقين وما تضمره نفوسهم من عدم الرغبة في خوض القتال، ولذلك فإن العتاب في هذه الآية لا يتجه إلى النبي، وإنما إلى المنافقين أنفسهم.

وقد رأى العلامة الطباطبائي بعد التذكير بالمسائل المتقدمة في معرض البيان الدقيق للآية من خلال الإشارة إلى آراء بعض المفسرين التي تقول بوجود شيء من الخطأ أو الذنب - وإن كان صغيراً - أو تركاً للأولى من قبل النبي، بأنه من «الجمود على مصطلح الذنب والعفو» (3) .

ص: 121


1- التوبة: 46 .
2- محمد: 30.
3- أُنظر : العلامة محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 9، ص 286.

وفيما يتعلّق بالشبهات القرآنية بشأن عصمة النبي الأكرم، استند المنكرون إلى كثير من الآيات الأخرى، ولكن فضلاً عن عدم اتساع المجال لذكرها ، يمكن للقارئ الكريم أن يناقشها من خلال نقد الشبهات السابقة في هذا المجال (1).

الشبهة الخامسة : الغرانيق (الآيات الشيطانية):

اشارة

ورد في بعض المصادر التاريخية أن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم عندما كان يتلو في مكة المكرمة الآيات القرآنية الآتى ذكرها، تلبّسه الشيطان وأخذ يتلو ما يلقيه عليه من آيات «الغرانيق» (2) بوصفها آيات من وحي السماء. وبعد أن تلا رسول الله قوله تعالى: (أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى ٭ وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى) (3) . أضاف إليه ما ألقاه له الشيطان (تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهنّ لترتجي).

وهذه الآية الأخيرة ليست من الوحي الإلهي في شيء، بل هي من إلقاءات الشيطان، حيث أخذ النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم يمجّد أصنام المشركين الثلاثة مشبّهاً إياها بالطيور الجميلة التى يمكن لها أن تشفع لمن يعبدها.

وقد استند بعض المستشرقين (4) لتأييد مدّعاه إلى الآيات الآتية: ﴿وَمَا

ص: 122


1- أُنظر: السيد المرتضى، تنزيه الأنبياء، ص 148 - 178 .
2- الغرانيق ( جمع غرنوق) طائر أبيض جميل أو طويل العنق، وقد تمّ في هذه الآية المزعومة تشبيه أصنام المشركين الثلاثة «اللات والعزى ومناة» بهذه الطيور الجميلة.
3- النجم: 19 - 20 .
4- أُنظر: كارل بروكلمان، وات، تاريخ الشعوب الإسلامية، ج 2، ص 34 و 43؛ بيتر ميلكوهولت، تاريخ الإسلام، جامعة كمبرج، ترجمه إلى الفارسية تيمور قادري، ص 5 - 12؛ محمود رامیار، تاریخ قرآن، ص 165 .

أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ) (1) .

مناقشة وتحليل:

فيما يتعلق بتحليل هذه التهمة وتقييمها يمكن لنا مناقشتها من خلال الاتجاهات الآتية:

1 - الإشكال السندي والتاريخي:

إن السؤال الذي يفرض نفسه هنا يدور حول أصل تحقق هذه الحادثة تاريخياً؟

إن كل تقرير تاريخي أو روائي يجب أن يستوفي سلسلة أسانيده بشكل كامل، بمعنى اتصال سلسلة رواة السند ببعضهم حتى تصل إلى الراوي الأول الذي شهد الواقعة.

هذا مع عدم كفاية خبر الواحد في المسائل الاعتقادية، وإنما نحتاج هنا إلى التواتر أو الخبر الذي تنقله جماعة بحيث يورث العلم واليقين.

من هنا لم يتحقق أيّ واحد من هذين الشرطين في التقرير التاريخي لأسطورة الغرانيق؛ ذلك لأن جميع رواتها لم يكونوا شاهدين على الواقعة مباشرة، وإنما نقلوا أصل تحققها من دون بيان مصدرهم إليها، وعليه لا يمكن التحقق من عدالة وصدق هذا المصدر، وهذا ما يصطلح عليه في علم دراية الحديث ب- «الحديث المرسل»، وهو ساقط عن الحجية.

ص: 123


1- الحج: 52 .

إن الرواة الأوائل لهذه الأسطورة هم أبو صالح (م 101 ه-)، وسعيد بن جبير (م 95 ه-) ، وأبو بكر بن عبد الرحمن (م 94 ه-)، وابن شهاب (م 124

ه-)، وموسى بن عقبة (م 141 ه-)، وعروة بن الزبير (م 94 ه-)، ومحمد بن كعب القرظي (م120 ه-)، ومحمد بن قيس (م126 ه-)، والضحاك بن مزاحم الهلالي (ما بعد العام 100ه-)، وأبو العالية (م 93 ه-)، وقتادة (م188 ه-)، ومجاهد (م103 ه-)، وعكرمة (م 107 ه-)، والسدّي (م 127 أو 128 ه-) (1) .

ومن هنا فقد أعرض أكثر المؤرخين عن نقل هذه الأسطورة، إلا ما كان من الطبري، فلم يتعرض لها حتى المعاصرون للطبري من أمثال مسلم

والبخاري في صحيحيهما.

وعليه لو أن هذه الحادثة قد حصلت بالفعل، لمثّلت حادثة عجيبة وهامة في تاريخ النبي صلی الله علیه و آله و سلم ، ولعمد المعاصرون للنبي من الصحابة إلى نقلها، في حين أن التاريخ لم يثبت أن صحابياً واحداً نقل مثل هذا الحديث، وعليه يثبت أنه لم يكن سوى خرافة.

2 - عدم انسجامها مع كثير من الآيات:

الاتجاه الثاني في مناقشة هذا الادعاء هو الاتجاه القرآني، بمعنى هل يسوّغ القرآن مثل هذا الاحتمال للنبي أم أنه ينكره بشدّة (2)؟

من خلال نظرة عابرة نلقيها على الآيات القرآنية ندرك أن القرآن

ص: 124


1- أُنظر: محمد بن جرير الطبري، جامع البيان، ج 10، ج 17 ، ص 244 - 250؛ جلال الدين السيوطي ، الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور، ج 6 ، ص 9 - 65 .
2- أُنظر: السيد المرتضى، تنزيه الأنبياء، ص 151 - 152.

يعتبر كل ما يصدر عن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم من قول أو فعل هو وحي إلهي لا يتطرّق إليه احتمال الخطأ أو الكذب، قال تعالى: ﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى ٭ إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى ) (1).

واضح أنّ الذي يصف النبي صلی الله علیه و آله و سلم هنا ليس شخصاً اعتيادياً يُحتمل في وصفه أن يكون وارداً في سياق المجاملة، أو أنه يحتمل الخطأ، بل إن قائله هو الله العالم والقادر المطلق، وهو في الحقيقة إنما يريد أن يقول للناس إنّ هذا النبي يتمتع برعاية خاصة من قبل الله، وإنه إذا لم يحصل على هذا التسديد الإلهي فإنّ الآيات القرآنية ذاتها، وبتبعها الوعود الإلهية ستكون عرضة لعلامات الاستفهام والتشكيك.

إنّ لازم صدور الآيات الشيطانية عن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم هو سيطرة الشيطان عليه. وهنا يطرح هذا السؤال نفسه هل يمكن للشيطان من الناحية التكوينية أن يسيطر على أعمال الناس الاعتياديين وسلوكهم فضلاً عن النبي أم لا؟

لحسن الحظ أنّ القرآن قد أجاب عن هذا السؤال في عدد من الآيات التي تدل بمجموعها على أن الشيطان لا يستطيع أن يقوم بما هو أكثر من الوسوسة والتحفيز إلى فعل القبيح، هذا أولاً. وثانياً إن هذه السلطة - التي لا ترقى إلى ما هو أكثر من الوسوسة - تشمل الاعتياديين من الناس فقط، فلا سلطان للشيطان على «المخلصين» و«المتوكلين الحقيقيين على الله»، وقد حكى القرآن الكريم هذه الحقيقة على لسان الشيطان نفسه حيث قال تعالى: ﴿قَالَ

ص: 125


1- النجم: 3 - 4 .

فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ٭ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ ) (1).

يتضح من هذه الآية أن سلطة الشيطان تبقى في حدود الإغراء (الوسوسة)، وإن المخلصين خارج حدود هذه السلطة. قال تعالى: ﴿ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ٭ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ) (2).

فضلاً عمّا تقدّم من الآيات، هناك آيات تحدثت عن شخص النبي صلی الله علیه و آله و سلم بشكل خاص، وبشكل أخص بشأن تلقي الوحي وإبلاغه، ونفت سلطة الشيطان على النبي في جميع هذه الموارد، وإن من بين أهم الآيات الواردة في هذا الشأن، قوله تعالى: ﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهوَى ٭ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) (3) ، وقد تقدم تفصيل الكلام حولها.

وهناك آية أخرى تتحدّث عن الفضل الإلهي في صيانة النبي من جميع أنواع الضلالة، وهو أمرٌ يعني علم النبي الخاص، إذ يقول الله تبارك وتعالى: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا) (4) .

وهناك آية أخرى تضع النبي صلی الله علیه و آله و سلم في حماية الله عزّ جلّ ورعايته الخاصة ﴿ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ) (5).

ص: 126


1- ص: 82 - 83.
2- النحل: 99 - 100 .
3- النجم : 3 - 4 .
4- النساء: 113.
5- الطور: 48 .

وهناك آيات أخرى تتحدّث عن عصمة النبي، وصيانة الله له في مقام تلقي الوحي وتبليغه بشكل صريح، من قبيل قوله تعالى: ﴿ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ) (1).

وهذه الآية تنفي أي تسلل للباطل في الكلام الإلهي ﴿ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا * لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ) (2) .

إن هذه الآية تتحدّث عن وجود أفراد حماية «رصد» يحفظون الوحي من حين تلقيه إلى حين إبلاغه إلى الناس، ولازم ذلك نفي الآيات الشيطانية، إلا إذا التزم شخص - والعياذ بالله - بأن قدرة الشيطان تفوق القدرة الإلهية! ولكن هذا مخالف لقوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا) (3) .

أما الآيات الأخرى الواردة في هذا السياق، فهي كالآتي:

- (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ (4).

- (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ﴾ (5) .

- (سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَى) (6) .

ص: 127


1- فصّلت: 42 .
2- الجن: 27 - 28.
3- النساء : 76 .
4- الحجر: 9 .
5- القيامة : 17 .
6- الأعلى: 6 .

إن هذه الآيات تنسب نزول القرآن وجمعه وحفظه إلى الله، وأنه في جميع هذه المراحل خاضع لعناية الله واهتمامه . وعليه طبقاً لهذه الرؤية القرآنية لا تكون تلاوة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم للآيات الشيطانية بتصور أنها آيات إلهية سوى ادعاء لا أساس له من الصحّة إطلاقاً.

3- عدم انسجامها مع القواعد الكلامية والعقلية:

تقدم في نقد شبهة العصمة أن شرحنا المكانة العلمية والروحية للنبي صلی الله علیه و آله و سلم بالتفصيل، وقلنا: إن المقام المعنوي للنبي قد أهّله لتلقي الوحي والعلم اللدني والعصمة، وعليه فإن نسبة سلطة الشيطان على النبي صلی الله علیه و آله و سلم في سياق تبليغ الوحي، تتعارض مع المتبنيات المتقدّمة، ومن هنا لا يمكن القبول بها طبقاً للاتجاه الفلسفي - العقلي والكلامي، وقد عمد السيد المرتضى إلى رفض الأحاديث المؤيدة لأسطورة «الغرانيق» منطلقاً من هذا الاتجاه، حيث قال: «فأما الأحاديث المروية في هذا الباب فلا يلتفت إليها من حيث تضمّنت ما قد نزهت عقول الرسل عنه. هذا لو لم يكن في أنفسها مطعونة ضعيفة عند أصحاب الحديث بما يستغنى عن ذكره» (1) .

وعلاوة على تعارض هذه النسبة مع مقام عصمة النبي صلی الله علیه و آله و سلم. فإن هذه النسبة لا تنسجم مع مقام التأسّي والاقتداء بالنبي واعتباره حجة إلهية على البشر، وقد تقدّم منا توضيح ذلك.

4 - المراد من الغرانيق هو الملائكة وليس الأصنام:

هذا وقد احتمل بعض العلماء أن يكون المراد من عبارة «تلك

ص: 128


1- السيد المرتضى، تنزيه الأنبياء، ص 151.

الغرانيق» ليس الأنام التي يعبدها المشركون في مكة، وإنما المراد هم الملائكة، وعندها يكون معنى الآية صحيحاً. ولكن عندما قال المشركون بأن المعنى ب-«الغرانيق» هو أصنامهم، نزلت الآية الأخرى في سياق رفع هذا الاتهام (1) .

5- تلاوة هذه الآية من قبل الشيطان وليس النبي صلی الله علیه و آله و سلم :

وقد احتمل بعض المفسرين من أمثال الفخر الرازي أن آيات الغرانيق لم تصدر عن النبي خطأ بسبب وسوسة الشيطان، وإنما صدرت عن الشيطان نفسه أثناء بعض وقفات النبي صلی الله علیه و آله و سلم ، حيث عمد الشيطان إلى تقليد صوت النبي وقرأ آية الغرانيق، ولم يلتفت السامعون إلى حقيقة الأمر، وإليك نص الفخر الرازي «أن يكون ذلك الكلام كلام الشيطان، وذلك بأن يلفظ الكلام من تلقاء نفسه في درج تلك التلاوة في بعض وقفاته» (2).

وبعد أن طرح الفخر الرازي هذا الاحتمال، أشكل عليه قائلاً: إن قلنا بمثل هذا الاحتمال، وأجزنا أن تكون لدى الشيطان مثل هذه القدرة على إقحام كلامه في ضمن آيات القرآن، فإن هذا الاحتمال سيكون وارداً بالنسبة إلى جميع آيات القرآن، وهو أمرٌ يسقط القرآن برمّته عن الحجية!

وقد عمد الفخر الرازي في الجواب إلى الالتزام بأصل الإمكان، بيد أنه قال بأن الحكمة الإلهية في هذا الفرض تقتضي الإعلان عن حقيقة الأمر للناس وللنبي صلی الله علیه و آله و سلم ، وذلك كيما لا يختلط الأمر عليهم، ويشتبه بين الغث والسمين، كما

ص: 129


1- أُنظر: السيد المرتضى، تنزيه الأنبياء، ص 152؛ الفخر الرازي، عصمة الأنبياء، ص99.
2- الفخر الرازي، عصمة الأنبياء، ص 96.

حصل ذلك بالنسبة إلى الآية مورد البحث، وحيث لم يرد مثل هذا الإعلان في الآيات الأخرى، يتضح من ذلك صدق هذه الآيات وصحّة صدورها عن الله (1) .

ومن وجهة نظر كاتب السطور فإن هذا الاحتمال لا ينسجم مع الآيات التي تؤكد على صيانة القرآن والمحافظة عليه عند نزوله وبقائه وحراسة الملائكة له، وكذلك لا ينسجم هذا الاحتمال مع الآيات التي تحصر سلطة الشيطان بقدرته على الوسوسة فقط، كما في قوله تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ﴾ (2) ، وقوله تعالى (إِنَّما النَّجْوَى مِنْ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ الله وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ) (3)، على ما مرّ بيانه.

وعلاوة على ذلك فإن اشتباه صوت النبي بصوت الشيطان وإن كان أمراً وارداً بالنسبة إلى المخاطبين، بيد أن هذا الاحتمال لا يمكن أن يكون وارداً بالنسبة إلى النبي نفسه؛ لإن الفرض أن كلام الشيطان إنما يكون عند توقف النبي عن الكلام، وهي حالة يعرفها النبي من نفسه؛ فيدرك أن الكلام عند توقفه لابدّ من أن يكون صادراً عن غيره، وعليه لابدّ من أن يعلن عن ذلك ويوضح الأمر للسامعين كي لا يقعوا في الخطأ.

6 - ضعف الشواهد (من الآيات) :

قيل في تقرير الشبهة إن القائلين بهذه الأسطورة قد تمسّكوا لإثباتها

ص: 130


1- الفخر الرازي، عصمة الأنبياء، ص 96 .
2- إبراهيم: 22 .
3- المجادلة: 10.

بعدد من الآيات، وفيما يأتي نعمل على تحليل هذه الآية:

الشاهد الأول:

قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ) (1) .

حيث يزعم القائلون بهذه الدعوى أن هذه الآية قد نزلت في عصر ذلك اليوم الذي تلفظ فيه النبي بتلك الآيات الشيطانية، تنبيهاً للنبي إلى خطئه، وتسكيناً لفؤاده.

مناقشة وتحليل:

أ - إن هذا القول مشكل من حيث الاستناد والمدرك ومن حيث الدلالة أيضاً؛ وذلك لإجماع المفسرين على أن هذه الآية لم تنزل في مكة المكرمة، وإنما الاختلاف في أنها هل نزلت في المدينة أم في الطريق إلى المدينة، وعليه ليس هناك من قائل بنزولها في المدينة، ولمّا كانت أسطورة الغرانيق قد حدثت في مكة بالإجماع، فلا يمكن للقائلين بهذه الأسطورة أن يتمسكوا بهذه الآية لإثباتها.

ب - أما من حيث الدلالة، فيجب القول إن هذه الآية تؤكد على أن الأنبياء السابقين من جهة كانوا يتمنون نشر دينهم وهداية الناس، ومن جهة أخرى كان الشيطان يعمل على عرقلة هذه الأمنية، ويسعى جاهداً إلى عدم تحقيق هذه الغاية. وقد تقدّم أن ذكرنا بعض الآيات الدالة على أن قدرة الشيطان وسلطانه لا يتجاوز الوسوسة أو أنها تقتصر على مجرّد الأمنية، وعليه

ص: 131


1- الحج : 52 .

ليس في الآية أيّ تصريح ولا إشارة إلى تلاوة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم لآيات الغرانيق بتأثير من الشيطان. وعلاوة على ذلك فإن تتمّة الآية تؤكد أن الله يُبطل محاولة الشيطان المشؤومة في وسوسة الأنبياء.

وبعبارة أخرى إن الضمير في قوله: «إلا إذا تمنى» يعود إلى النبي، وليس ثمّة أي كلام عن تلاوة آية، ليكون الشيطان بصدد إلقاء الشبهة. كما لا يستفاد من هذا الفرض إلقاء آية أخرى؛ لأن صريح الآية يقول إن الشيطان إنما كان بصدد إلقاء الشبهة في «أمنيته» المتمثلة في رغبة النبي في تحقيق هدفه، وليس هناك أى كلام بشأن إلقاء الشيطان لآياته المزعومة.

الشاهد الثاني:

كما استند الذين تصوروا أسطورة الغرانيق حقيقة، بقوله تعالى:

(وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً ) (1).

مناقشة وتحليل:

واضح أيضاً أن هذه الآية لا تدل على تحقق أسطورة الغرانيق؛ ذلك لأن الآية تتحدّث في نهاية الأمر عن خطة المشركين والكفار المشؤومة في استقطاب النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم إلى صفوفهم ولو بمقدار قليل «شيئاً قليلاً»، بید أن ذات هذه الآية تؤكد على أن العناية الإلهية القائمة على تثبيت أقدام نبيه قد أحبطت هذه المؤامرة، وعليه لم يحصل أي انحراف في سلوك النبي أبداً.

ص: 132


1- الإسراء: 73.

وعلاوة على ذلك فإن هذه الآية أولاً تتحدّث عن مخطط مشؤوم للمشركين، في حين تقوم دعوى أسطورة «الغرانيق» على إلقاء الآيات من قبل الشيطان، ولا ربط لها بموضع بحثنا أبداً. وثانياً لم تبين الآية ما إذا كان مخطط المشركين له صلة بإلقاءات الشيطان أم بشيء آخر، وعليه لا يمكن اعتبار هذه الآية مؤيدة لقصة الغرانيق أيضاً.

حصيلة الكلام أن أسطورة الغرانيق لم تثبت على المستوى التاريخي، كما أن الآيات القرآنية والقواعد الكلامية والفلسفية لا تتحمل وقوع مثل هذه الأسطورة (1) .

الشبهة السادسة: وقوع السهو والنسيان من النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم:

اشارة

إن من بين الأبحاث الفقهية والكلامية المعقدة، مسألة إمكان وقوع السهو والنسيان في سيرة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم. وقد اشتملت المصادر الروائية على عدد من الروايات الدالة على وقوع السهو للنبي، حيث تتحدث عن نسيان النبي لبعض السور، أو نسيان بعض آياتها في أثناء الصلاة فيذكره بعض من يصلي خلفه (2)، أو تفوته صلاة الصبح فيقضيها (3) (النسيان)، أو أن يصلي صلاة رباعية ركعتين فيذكره بذلك شخص اسمه «ذو اليدين» (4).

ص: 133


1- للمزيد من المعلومات بشأن أسطورة الغرانيق، أُنظر: محمود راميار، تاريخ قرآن، ص 148 - 166 .
2- أُنظر: البخاري، صحيح البخاري، ج 6، ص 110، وباب من لم يرَ بأساً، وكتاب الشهادات، باب شهادة الأعمى، ح 2655؛ مسلم النيسابوري، صحيح مسلم، ص 309، كتاب الصلاة، باب الأمر بتعهد القرآن، ح 788 .
3- أُنظر: العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 17، ص 103 - 104 .
4- أُنظر: المصدر أعلاه، ج 17، ص 100 فما بعد.

وقد ذهب الشيخ الصدوق (1) لا إلى أصل السهو، وإنما قال بأن الله لسبب خاص يُسهي النبي أو يُنسيه عمداً، كي يتعامل معه الناس على أنه بشر اعتيادي، فلا يؤلّهونه كما صنع النصارى مع السيد المسيح علیه السلام، ومن هنا سها في صلاة رباعية فأداها ركعتين. وبطبيعة الحال هناك من أنكر السهو على النبي في بعض الموارد الخاصة التي تتعلق بتبليغ أحكام الدين مثلاً (2) .

مناقشة وتحليل:

في معرض تحليل هذه الشبهة، يجدر التأمل في المسائل الآتية:

1 - الإشكالات السندية:

إن أول إشكال يتجه إلى روايات سهو النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم ونسيانه، يتعلق بسندها؛ إذ ذهب أكثر العلماء إلى القول بأن هذه الروايات تعاني من ضعف السند. ومن بين المعاصرين قام العلامة الشوشتري بإثبات ضعف أسانيد هذه الروايات بالتفصيل، وذلك في كتابه القيّم «قاموس الرجال» (3) .

ص: 134


1- أُنظر: الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ج 1، ص 234 ، الباب 29، أحكام السهو، مختلف الشيعة، ج 2، ص 199؛ محمد تقي المجلسي، روضة المتقين في شرح من لا يحضره الفقيه، ج 2، ص 453 .
2- أُنظر: السيد المرتضى، تنزيه الأنبياء، ص 87؛ الفضل بن الحسن الطبرسي، تفسير مجمع البیان، ج 2، ص 317؛ محمد تقي مصباح اليزدي، آموزش عقايد (دروس في العقيدة)، الدرس الخامس والعشرون.
3- أُنظر: محمد تقي الشوشتري، قاموس الرجال، ج 11، ص 233؛ العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج17، ص111 فما بعد؛ السيد عبد الحسين اللاري، المعارف السلمانية، ص 87 ، ومن المعاصرين السبحاني، حيث وصف نظرية السهو، ونظرية الشيخ الصدوق (الإسهاء) بالواقعية، معتبراً الإشكال الوحيد الوارد عليها هو ضعف سندها (جعفر سبحاني، منشور جاويد (الرسالة الخالدة)، ج 10، ص188).
2 - أخبار الآحاد:

وعلى افتراض تجاوز الإشكال السندي، يبقى الأمر على حاله من عدم جواز العمل بمضمون هذه الروايات؛ ذلك لأن القول بسهو النبي أو عصمته داخل في الأمور الاعتقادية التى لا يكفي فيها مجرّد خبر الواحد، بل لا بد فيها من التواتر الذي يورث القطع واليقين، هذا والحال أن الروايات المعتمدة في إثبات سهو النبي لا تتجاوز أخبار الآحاد التي لا تفيد إلا الظن الذي لا يغني من الحق شيئاً. وهذا ما استدل به الشيخ المفيد في نقده لنظرية الشيخ الصدوق (1)؛ فقد قال المفيد: «الحديث الذي روته الناصبة والمقلدة من الشيعة ... من أخبار الآحاد ... من عمل عليها كان بالظن عاملاً، حرم الاعتقاد بصحته» (2).

3- موافقة العامة :

والنقطة الثالثة التى أوجبت إعراض الفقهاء عن روايات سهو النبي ونسيانه، موافقة مضمونها لنظرية أهل السنة القائمة على عدم عصمة النبي في العبادات وفي سائر أفعاله (3). من هنا يحتمل أن تكون هذه الروايات المأثورة عن الأئمة علیهم السلام قد صدرت بداعي التقية.

4 - مخالفة الآيات القرآنية:

عندما نراجع القرآن الكريم ندرك أن هذا الكتاب السماوي يثبت

ص: 135


1- أُنظر: رسالة نقد سهو النبي، الموجودة في بحار الأنوار للعلامة محمد باقر المجلسي، ج 17 ، ص 123 - 126 .
2- الشيخ المفيد، تفسير الشيخ المفيد، ج 8، ص 3.
3- أُنظر: الشيخ الطوسي، تهذيب الأحكام، ج 1، ص 236؛ العلامة محمد باقر المجلسي، ج 17، ص 111.

عصمة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم تصريحاً وتلميحاً. وقد تقدمت الآيات الدالة على هذه الدعوى في مبحث إثبات عصمة الأنبياء، ولذلك سنكتفي هنا بمجرد الإشارة إلى بعضها :

- ﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى ٭ إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى ﴾ (1) .

وعلى الرغم من أن هذه الآية تعتبر كلام النبي هو عين الوحي المنزه عن الأهواء، بيد أن مجرد الكلام لا خصوصية له في عصمة النبي، وإنما يشمل حتى أفعال النبي أيضاً.

- (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) (2).

حيث لا يتناسب القول بإمكان صدور الخطأ والسهو والنسيان عن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم مع إطلاق هذه الآية الشريفة، خاصة بالنظر إلى كلمة «تطهيراً».

- (سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَى ) (3) .

حيث تنفي هذه الآية بشكل صريح كل أنواع النسيان عن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم .

كما تنسجم الآيات الدالة على وجوب إطاعة رسول الله بشكل مطلق، وكذلك تلك الدالة على اعتبار النبي أسوة وقدوة للمسلم في جميع شؤون حياته، مع القول بعصمة النبي في أقواله وأفعاله بالمطلق، فلابدّ من أن يكون النبي معصوماً عن الجهل والخطأ والسهو والنسيان ليكون أهلاً للاقتداء به؛ وإلا

ص: 136


1- النجم : 3 - 4 .
2- الأحزاب: 33 .
3- الأعلى: 6 . وأُنظر: عبد الله جوادي آملي، تفسیر تسنيم، ج 6 ، ص 88 - 112 .

فإن الأمر بجعله أسوة وقدوة بشكل مطلق مع جواز الخطأ والسهو والنسيان عليه، مخالف للحكمة.

5 - معارضة مع الروايات:

ولو غضضنا الطرف عن الإشكالات المتقدّمة (ضعف السند و وجه الصدور)، واعتبرنا تمامية السند والدلالة، مع ذلك لا نستطيع الاستناد إلى هذه الروايات والاحتجاج بها؛ ذلك لوجود روايات أكثر منها في نفي جميع أنواع السهو والنسيان عن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم، ذلك لأن النبي يتمتع بحماية وصيانة ورعاية من «الروح القدس»، وفيما يأتي نشير إلى جانب من هذه الروايات:

- قال النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم في وصف الأئمة:

«هم المعصومون من كل ذنب وخطيئة» (1) .

وروي عنه صلی الله علیه و آله و سلم أنه قال أيضاً:

«تنام عيني ولا ينام قلبي» (2) .

وروي عن الإمام علي علیه السلام أنه قال في بيان مقام الإمامة:

«إنه معصوم من الذنوب كلها صغيرها وكبيرها لا يزلّ فى الفتيا، ولا يُخطئ في الجواب، ولا يسهو ولا ينسى ولا يلهو بشيء من أمر الدنيا» (3). وروي عن الإمام الباقر علیه السلام أنه قال في وصف مقام نبوة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم :

«إن الله تبارك وتعالى جعل للنبي صلی الله علیه و آله و سلم خمسة أرواح ... وروح القدس

ص: 137


1- العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 36، ص 244.
2- المصدر أعلاه، ج 22، ص 27.
3- المصدر أعلاه، ج 17، ص 109 .

لا ينام ولا يغفل ولا يلهو ولا يسهو» (1).

وروي عن الإمام جعفر الصادق علیه السلام أنه قال في بيان مكمن السرّ في العصمة :

«إن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم كان مُسدّداً موفقاً مؤيداً بروح القدس لا يزل ولا يُخطئ في شيء مما يسوس به الخلق» (2) .

6 - مخالفة الأدلة العقلية:

أمّا الدليل الآخر الذي يمكن إقامته للتخلي عن روايات سهو النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم، ونسيانه، فهو الدليل العقلي القائم على ضرورة عصمة الأنبياء، وهو الدليل الذى أقامه المتكلمون والفقهاء المتقدّمون من أمثال الشيخ المفيد (3)، والشيخ الطوسي (4)، والمحقق الطوسي، والعلامة الحلي (5) ، والشهيد الأول (6) ، والعلامة المجلسي (7) .

وفيما يأتي نذكر بعض تقريرات هذا الدليل العقلي:

ص: 138


1- المصدر أعلاه، ج 17، ص 106.
2- محمد بن يعقوب الكليني، أصول الكافي، ج 1 ، ص 266 .
3- الشيخ المفيد، تفسير الشيخ المفيد، ص 510.
4- الشيخ الطوسي، تهذيب الأحكام، ج 2، ص 181 ؛ الشيخ الطوسي، الاستبصار، ج1، ص 271.
5- المحقق الطوسي والحسن بن يوسف الحلي، في كشف المراد، ص 195؛ منتهى المطلب، ص 418 .
6- الشهيد الأول، الذكرى، ص 215.
7- العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 17، ص 118 - 119 .

1 / 6 - المقام العلمي والمعنوي للنبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم : تقدم أن بحثنا بالتفصيل في معرض تحليل ونقد شبهة إنكار علم الغيب والمقام العلمي والروحي للنبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم أن قلنا: لمّا كان النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم هو الصادر الأول والعلة والواسطة في الفيض الإلهى على سائر المخلوقات، وله الإحاطة العليّة، فإن هذا المقام يتعارض مع نسبة السهو والنسيان إلى النبي الأكرم. وحيث تقدّم منا توضيح هذه المسألة في الصفحات السابقة بالتفصيل، فإننا نحيل القارئ الكريم إلى ذلك البحث.

2 / 6 - الأدلة العقلية على ضرورة العصمة: تقدّم أن أشرنا في معرض تحليلنا ونقدنا لشبهة إنكار العصمة إلى ثلاثة أدلة عقلية، وهي:

1 - إن العصمة من لوازم الدور التعليمي للنبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم .

2 - إن العصمة من لوازم الدور التربوي للنبي الأکرم صلی الله علیه و آله و سلم .

3 - المقام العلمي والروحي للنبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم .

وقلنا: إنّ نسبة السهو والنسيان إلى النبي يعرّض الغاية من بعثته ودوره في حقل التربية والتعليم إلى التشكيك ؛ لأننا إذا قلنا بجواز السهو والنسيان والخطأ على رسول الله في سلوكه وسيرته، وحتى في مثل الصلاة ونسيان الآيات القرآنية، فإن هذا الاحتمال سوف يرد، ويجوز حتى في الدور التربوي والتعليمي للوحي أيضاً، وبذلك يتمّ التشكيك بقداسة وسماوية الوحي، ويطال هذا التشكيك حتى اعتبار النبي ليكون أسوة وقدوة واجبة الاتباع والطاعة مطلقاً (1) .

ص: 139


1- أُنظر: عبد الله جوادي آملي، تفسير موضوعي قرآن، ج 9، ص 50؛ عبد الله جوادي آملي، تفسير تسنيم، ج 6، ص 112.

أما المسألة الأخيرة في هذا البحث فهي إنه بناء على ما ذهب إليه بعض علماء الإمامية، فإن القول بسهو النبي ونسيانه في غير الوحي وإبلاغه إلى الناس، وبعبارة أخرى حصر دائرة السهو والنسيان بالسلوك الفردى والشخصي لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، لا يضرّ بأصل الدين. وحاصل الكلام أن الذين ينكرون سهو النبي ونسيانه لا يعتبرون من الغلاة فيما ذهبوا إليه، وإنما اتبعوا في ذلك ما تقتضيه منهم الأدلة العقلية والنقلية. ومن جهة أخرى فإن القائلين بجواز السهو والنسيان على النبي، وإن كانوا غير مدركين لحقيقة مقام النبوة وعمق رسالة الرسول صلی الله علیه و آله و سلم ومقامه العلمي والروحي، إلا أنهم ليسوا سوى جاهلين قاصرين وليسوا بمقصرين.

ويجب الالتفات إلى أن إنكار السهو والنسيان ليس من أصول الدين والمذهب، وعلى حدّ تعبير بعض المعاصرين (1) لا يُعدّ من ضروريات العقيدة.

ص: 140


1- أُنظر: محمد تقي مصباح اليزدي، آموزش عقايد (دروس في العقيدة)، بداية الدرس الخامس والعشرين، ص 35.

الفَصْلُ الخَامِسْ

اشارة

النبوّة والوحي

الشبهة الأولى اختصاص بداية دعوة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بالعرب

ذهب بعض المستشرقين وغيرهم إلى القول (1) إن النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم في بداية دعوته كان يرمي إلى بسط سلطته على مكة وضواحيها فقط، وأن يخصّ بها العرب بعبارة أخرى، وفي هذا السياق جاء في القرآن الكريم:

(وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا ) (2) .

رأي ونقد:

1 - إن هذه الشبهة من الشبهات السطحية التي يتمكن القارئ الفاضل من الوقوف على هشاشتها بمجرّد التعرف على شأن نزول الآيات التي تمّ الاستناد إليها؛ ذلك لأنّ بداية كل أمر هام - بما في ذلك أمر تبليغ الدین

ص: 141


1- أُنظر: مسعود انصاري (روشنگر)، بازشاسی قرآن، ص 31؛ عبد الله محمد الأمين نعيم، الاستشراق في السيرة النبوية، ص 40 و 77 و 79.
2- الشورى: 7. وانظر أيضاً الأنعام: 92.

والتعريف به - تنطلق من نقطة الصفر، لتأخذ بالاتساع التدريجي من خلال ملاحظة بعض الأمور التمهيدية والجوهرية.

ولا يُستثنى من ذلك التعريف بالدين الإسلامي من قبل النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم أيضاً. فعندما بُعث رسول الله نبياً لم يكن يمتلك جيشاً كبيراً كي يتمكن بسطوته من إعلان دعوته ومطالبة جميع القبائل والبلدان بالانضواء تحت لوائها، فضلاً عن أن يعلنها حرباً شاملة، وإنما هو في بداية البعثة لم يكن يمتلك من الأنصار إلى جانبه سوى فتى صغيراً لا يتجاوز الثانية عشرة من عمره، وزوجته خديجة الكبرى، وفي المقابل كان جميع السكان في مكة بل وجميع الناس والشعوب والقبائل الأخرى من المشركين واليهود والنصارى يشكلون

جبهة المعارضة ضدّ دعوته الفتيّة.

بالالتفات إلى هذه النقطة فإن النبي - خلافاً لنصّ هذه الشبهة - لم يبدأ دعوته بإرشاد أهل مكة وما حولها، بل بدأ مما هو دون ذلك، حيث اقتصرت دعوته على الخاصة من أهل بيته وعشريته الأقربين، وفي ذلك قال الله تعالى في محكم كتابه الكريم: ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (1) .

إنّ هذا النوع من بداية الدعوة يُعدُّ أمراً منطقياً؛ لأن النبي كان عليه - لتعزيز موقفه - أن يقوم باستقطاب الأعوان والأنصار من خلال الدعوة السرية الخاصة بعشيرته الأقربين، لينطلق بعد ذلك إلى مرحلة الجهر بالدعوة، وهكذا كان.

فبعد ثلاث سنوات من الدعوة السرية، انتقل النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم إلى

ص: 142


1- الشعراء: 214 .

الإعلان عن دعوته بأمر من الله سبحانه وتعالى، حيث يقول: ﴿ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ )(1)، فأخذ يدعو أهل مكة وما حولها.

إن هذه المرحلة من الدعوة تمثل فى الحقيقة المرحلة الثانية من مراحل الدعوة. وقد تمكن النبي في هذه المرحلة من الحصول على الكثير من الأنصار، ولكن على الرغم من ذلك لم يؤمن به أكثر المكيين، بل بدأوا بالتضييق على أتباعه من خلال الحصار الاقتصادي وإلى ممارسة جميع أنواع التعذيب بحقهم وحتى قتلهم كي يجبروهم على ترك دينهم الجديد.

ومن الواضح أن النبي في هذه المرحلة كان ينتهج سياسة متدرّجة.

2 - وفي المرحلة الثانية حيث أعلن النبي عن دعوته، وحصل على عدد قليل من الأنصار ، بدأ النبي بتوسيع نطاق هذه الدعوة لينطلق إلى ما وراء مكة وشبه الجزيرة العربية ليشمل بها سكان الكرة الأرضية كافة، وإن الآيات الآتية التي نزلت في مكة المكرمة خير دليل على ذلك:

- (إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ) (2) .

- (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةٌ لِلنَّاسِ ) (3) .

- ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ) (4) .

- (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) (5).

ص: 143


1- الحجر: 94 .
2- يوسف : 104؛ ص: 87؛ التكوير: 27 .
3- سبأ: 28 .
4- الأعراف: 158 .
5- الأنبياء : 105 ؛ وانظر أيضاً الأنعام: 90؛ يوسف: 104.

يتضح من هذه الآيات أن أصل ادعاء المخالفين القائل بأن دعوة النبي في مكة قد اقتصرت على العرب، لا تقوم على أساس صحيح، وإنها مجرد ادعاء باطل.

3 - أما المرحلة الثالثة من دعوة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم، والتي مثّلت الذروة في حركة الرسول، حيث تبلورت في المدينة المنوّرة. فعندما تمكن النبي من الإفلات من قبضة أعدائه في مكة المكرّمة، ونجح في بناء الدولة الدينية، وصف القرآن الكريم دعوة النبي الأكرم بشكل صريح على أنها دعوة لجميع العالمين، وذلك إذ قال الله سبحانه وتعالى: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ) (1).

وإن لم يكتف في هذه المرحلة بمجرّد البيان والتنظير فقط، بل قام من أجل تطبيق الدعوة القرآنية، إلى ممارستها على المستوى العملي من خلال إرسال المبعوثين إلى الدول والإمبراطوريات العظمى، مثل إيران والروم والحبشة، وإن أصل الكتب التي بعث بها إليهم محفوظة في التاريخ.

حصيلة القول أن دعوة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم في السنوات الثلاثة الأولى قد اقتصرت على عشيرته والمقربين من أهل بيته، وكانت فلسفتها تكمن في التدرّج في الدعوة خطوة خطوة، وهو أمر يقتضيه العقل والمنطق أيضاً. و قد تمكن النبي صلی الله علیه و آله و سلم في ضوء ذلك من ترسيخ دعائم دعوته، حتى إذا كان له ذلك توجّه بالخطاب إلى عموم أهل مكة، ثم انتقل بعد ذلك وبالتدريج إلى توسيع رقعة الدعوة لتشمل جميع سكان المعمورة، بما في ذلك قادة الدول العظمى.

ص: 144


1- الفرقان: 1.

الشبهة الثانية: اضطراب النبي وغشيته عند نزول الوحي:

اشارة

إن من بين الشبهات المطروحة بشأن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم وشخصيته، عروض حالة من الاضطراب بل وفقدان الوعي والدخول في شبه غيبوبة أثناء نزول الوحي عليه. وقد سعى المخالفون إلى اتخاذ هذه الحالة دليلاً على عدم نبوته، وإنه لم يكن ثمّة وحي في البين أبداً، وإلا لما كان هناك من معنى لهذا الاضطراب.

وقد طرحت هذه الشبهة من قبل المستشرقين وبعض الملحدين (1) ، حيث فسّروا هذه الظاهرة على أنها نوع من الصرع أو الغيبوبة التي تعرض للنبي صلی الله علیه و آله و سلم من حين لآخر. وقد استندوا في ذلك إلى روايات مروية من مصادر أهل السنة تدل على ظهور هذه الحالة عليه عند نزول الوحي، وخاصّة في بدايته.

مناقشة وتحليل:

فيما يتعلق بتحليل هذه الشبهة لا بدّ من الالتفات إلى المسائل الآتية:

1 - عدم ابتلاء النبي بعارضة الصرع قبل البعثة:

طبقاً للروايات المتواترة فإن النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم قد بُعث بالرسالة بعد أن بلغ سنّ الأربعين من عمره الشريف، ولم تذكر المصادر التاريخية التي رصدت تلك الفترة أنه كان يعاني حالة غياب الوعي بسبب مرض نفسي أو عصبي، بل الأمر على عكس ذلك تماماً، حيث عُرف بين جميع الناس بالاستقامة وصدق

ص: 145


1- أُنظر: ابن وراق، اسلام ومسلماني (الإسلام والإسلاموية)، ترجمه إلى الفارسية مسعود انصاري (روشنگر)، ج 1، ص 197 .

الأمانة. ولو كان النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم يعاني من مشكلة نفسية، هل كانت السيدة خديجة وهي التي عرفت بثرائها وموقعها الاجتماعي وشخصيتها المؤثرة بين قريش أن تستأمنه على ثروتها وتجعله مديراً لأعمالها التجارية، وفوق ذلك تتخذه زوجاً لها، رغم رفضها الزواج من كثير من الوجهاء الذين تقدّموا لخطبتها ؟

وعندما تقدّم أبو طالب لخطبتها وزواجها من النبي محمد - وكان له من العمر حينها خمسة وعشرون سنة - أثنى على شخصية النبي واصفاً إياه بالشخص الفذ الذي لا يدانيه في الفضل أي رجل من رجال مكة.

وعليه فإن هذه الحالة التي بدأت تظهر عليه وتعتريه عند نزول الوحي، إنما هي بسبب ثقل الوحى وعظمته، ولا ربط لها بحالة الغيبوبة على ما سيأتى توضيحه في الصفحات القادمة إن شاء الله تعالى.

2 - اقتران عروض هذه الحالة بالنبوة:

أمّا احتمال أن تكون هذه الظاهرة المرضية قد عرضت للنبي صلی الله علیه و آله و سلم في مستهل النبوة والرسالة، فهو مجرّد احتمال لا يستند إلى دليل. ذلك لأنّ الأعراض النفسية التى تعتري الفرد إنما تنشأ عن أسباب وعوامل نفسية قد تكون تدريجية أو دفعية. وقد تقدّم أن ذكرنا أن النبي صلی الله علیه و آله و سلم قبل النبوّة كان يتمتع بالصحة والسلامة على المستوى الجسدي والنفسي، وكان يُعرف بالأمين من شدّة وثوق الناس بصدقه وأمانته وحكمته، ولو أنه كان يعاني من أدنى مشكلة على المستوى النفسي لبان ذلك واشتهر بين الناس، أو عرفه المقرّبون منه. في حين لم يرد في التاريخ أيّ ذكر لهذه المسألة. وعليه فإن دعوى أن النبي كان يعاني قبل النبوة من مؤشرات وعلامات هذه الظاهرة قبل النبوة، وإنها

ص: 146

بلغت ذروتها في بداية النبوة مجرّد دعوى باطلة لا تقوم على دليل.

كما أن القول باقتران النبوة بحادثة وقعت للرسول تسببت في عروض حالات الإغماء عليه بعد ذلك، فجوابها أن المؤرخين من المسلمين وغير المسلمين لم يذكروا حدوث مثل هذا الأمر، لكي يكون هو المبرر لعروض حالة الإغماء للرسول بعد بلوغه سن الأربعين.

ومع هذا التحليل، أي عدم وجود علّة ومنشأ لحالة الإغماء التي كانت تعتري النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم عند نزول الوحي عليه - سواء أكانت تلك العلة تدريجية أو دفعية - لا يبقى أمامنا لتفسير هذه الظاهرة سوى الفرضيتين الآتيتين :

أ - إنكار الإغماء، والالتزام بحالة من الاضطراب عند نزول الوحي.

ب - تصنّع الإغماء بمعنى أن النبي إنما كان يتظاهر بفقدان الوعي عند نزول الوحي.

والفرضية الأولى فرضية معقولة، حيث سنعمل على تقريرها ضمن العنوان الآتى. أما الفرضية الثانية فسوف نبحثها بشكل مستقل ونعمل على بيانها ونقدها ضمن الشبهة الآتية.

3 - بيان وتفسير الاضطراب الذي كان يعتري النبي صلی الله علیه و آله و سلم عند نزول الوحي:

ذكرنا أن نفس النبي نفس كاملة ومنزّهة من جميع الآفات الروحية والنفسية، بيد أنه عند نزول الوحي وخاصّة في بداية الرسالة، كان يعتريه اضطراب خاص يشعر معه بالبرد ويتفصّد منه العرق وتأخذه الرعدة من شدّة ثقل الوحي، وفي بيان ذلك تجدر الإشارة إلى الأمور الآتية:

ص: 147

1/ 3 - الاضطراب من متعلقات النفس الدنيوية إن النفس والروح المتصلة بعالم العقول والملكوت والعقل الفعال هي نفس النبي وروحه المجرّدة التي تحرّرت من الجسد المادي. وفي هذه المرحلة لا وجود لأيّ خوف أو اضطراب. ولكن بعد اتمام المسار والاتصال بعالم العقل، وعند عودة النفس النبوية إلى جسدها المادي، لا يعود بمقدور الجسد المادي والنفس المتعلقة بها أن تتحمّل نقل المعارف المجرّدة ومشاهدة الملَك الموكل بحمل الوحي، ومن هنا تكون عملية نقل الوحي مصحوبة باضطراب الجسد، حيث تطرأ على النبي حالة من الضعف والخوف (1) والنوم وما يشبه الإغماء، ومن هنا فإن الخوف والاضطراب إنما يتعلق بالجانب الجسدي من النبي الأكرم.

يرى الشيخ عبد الوهاب الشعراني ( 384 ه-) أن عروض حالة البرد والرعدة وتصبب العرق من جسد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم عند نزول الوحي ناشئة عن التقاء روح الملَك ونفس النبي، وهو أمر يؤدي إلى حدوث ضغط وثقل على الروح النبوية مما يستوجب اختلاط المزاج والهواء الداخلي والخارجي من جسد رسول الله (2).

وقد ذهب صدر المتألهين إلى الاعتقاد بأن اضطراب النبي لا يتعلق بعالم العقل، وإنما يرتبط بعالم الملكوت والمادة الذي تتمثل فيه الصور العقلية على صورة جزئية مثل جبرائيل، وهو أمر يؤدّي إلى اضطراب حواس النبي

ص: 148


1- ليس هناك من ضرورة إلى وصف هذه الحالة بالضعف والخوف، وإنما هي حالة يفرزها ثقل الوحي لا أكثر، من دون أن يكون هناك خوف أو وجل، خاصة وأن الله سبحانه وتعالى يقول في الآية العاشرة من سورة النمل (إنّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) ، المعرّب .
2- أُنظر: عبد الوهاب الشعراني، اليواقيت والجواهر ، ج 2، ص 358 .

«إذا نزل إلى ساحة الملكوت السماوي يتمثل له صورة ما عقلها وشاهدها ... وحينئذ يقع للحواس شبه دهش ونوم ... مرجع ذلك [الوحي] إلى انبعاث نفس النبي من نشأة الغيب إلى نشأة الظهور، ولهذا كان يعرض شبه الدهش والغشى» (1) .

وقال الإمام الخميني قدس سرّه في هذا الشأن:

«فإن ضعف أجسامهم الشريفة عن تحمل الأرواح المجرّدة فيها غير قوّة مقام الروحانية والجنبة الولوية» (2) .

وقد تمّت الإشارة إلى ثقل الوحي على النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم في آيات القرآن الكريم أيضاً، من قبيل قوله تعالى: ﴿ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً ) (3) .

2 / 3 - الاضطراب ناشئ عن المواجهة المباشرة للوحي: تقدّم أن ذكرنا في الصفحات السابقة أن الوحي على أقسام، فهو تارة ينزل به الملك، وتارة يكون من خلال سماع الكلام الإلهي، وتارة يتجلى الله للنبي مباشرة ومن دون واسطة، وهذا النوع الأخير من الوحي هو الذي يكون مصحوباً بالرعدة والاضطراب والخوف لدى النبي.

قال العلامة الطباطبائي في بيان أقسام الوحي:

«أحياناً يكون النظر الرئيس إلى ذات الحق تعالى، بحيث لا يُنظر إلى

ص: 149


1- صدر المتألهين الشيرازي ، الحكمة المتعالية في الأسفار الأربعة، ج 7، ص 27 - 28 .
2- السيد الإمام روح الله الموسوي الخميني، التعليقات على شرح فصوص الحكم، ص 37.
3- المزمل: 5 .

جبرائيل أو السَفَرة، وهذا هو الذي كان يتغيّر فيه وضع رسول الله» (1) .

وهناك من الروايات ما يؤيد هذا المعنى، ومن ذلك ما روي عن الإمام جعفر الصادق علیه السلام حيث قال في جوابه عن سؤال زرارة في هذا الشأن:

«ذلك [الإغماء] إذا لم يكن بينه و بين الله أحد، ذلك إذا تجلى الله له» (2) .

كما روي في حديث آخر عن الإمام الصادق علیه السلام أنه قال:

«وإذا أتى الوحى وليس بينهما جبرئيل تصيبه تلك السبتة، ويغشاه منه ما يغشاه؛ لثقل الوحي من الله عزّوجل» (3) .

وفي رواية أخرى يسأل السائل عن إغماء النبي عند نزول جبرائيل علیه السلام ، فأنكر الإمام الصادق علیه السلام أن يكون ذلك بصريح العبارة، وقال بأن هذه الحالة إنما كانت تعتريه عندما يخاطبه الله مباشرة:

«فسُئل الصادق علیه السلام عن الغشية التي كانت تأخذ النبي صلی الله علیه و آله و سلم كانت تكون عند هبوط جبرئيل ؟ فقال لا ... وإنما عند مخاطبة الله عزّوجل إيّاه بغير ترجمان وواسطة» (4) .

3 / 3 - الاضطراب ناشئ عن مواجه الأمر المجرّد: أما الرأي الآخر فلا يرى أن هذا الاضطراب مختص بمواجهة المقام الإلهي فقط، وإنما هو يحصل للنبي عند مواجهة الأمر المجرّد حتى إذا كان جبرائيل؛ فإن الجسد والنفس

ص: 150


1- العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي، مهر تابان (الشمس المضيئة)، ص 210.
2- أُنظر: الشيخ عباس القمي، سفينة البحار، ج 2، ص 638 .
3- العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 18، ص 271.
4- المصدر أعلاه، ص 260 .

الدنيوية للنبي مغايرة للأمر المجرّد، ولذلك يحصل لها خوف واضطراب عند مواجهتها له، قال ابن الفارض في هذا الشأن:

«وأعجب ما فيها شهدتُ فراعنى .. ومن نفخ روح القدس في الروح روعتي» (1) .

وقال سعد الدين الفرغاني في شرح هذا البيت:

«حيث أن المرتبة الروحانية لبساطتها، تختلف عن مرتبة المزاج والطبيعة لتركيبها، من هنا كانت تعرض على النبي المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم شدّة وكربة عند ظهور جبرائيل وإبلاغ الوحي له، فيستولي لذلك الخوف على النبي» (2) . وفي بعض الروايات تمّ إسناد حالة الاضطراب - التي كانت تعتري النبي عند نزول الوحي - إلى مطلق نزول الوحي، ومن ذلك :

«إن الرسول كان إذا نزل عليه الوحى أخذه مثل السبات» (3) .

وعن عثمان بن مضعون قال : «مررت عليه وهو بفناء بابه فجلست إليه، فبينا هو يحدثني إذ رأيت بصره شاخصا إلى السماء حتى رأيت طرفه قد انقطع، ثم رأيته خفضه حتى وضعه عن يمينه، ثم ولاني ركبته وجعل ينفض برأسه كأنه الهم شيئا فقال ثم رأيته أيضا رفع طرفة إلى السماء، ثم خفضه عن شماله ثم أقبل إلي محمر الوجه يفيض عرقا، فقلت: يا رسول الله ما رأيتك فعلت الذي فعلت اليوم ... قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: ذاك جبرئيل لم يكن لي همّة غيره» (4) .

ص: 151


1- نقلاً عن سعد الدين الفرغاني، مشارق الدراري، ص 536 .
2- المصدر أعلاه، ص 537 .
3- الشيخ عباس القمي، سفينة البحار، ج 8، ص 422 .
4- العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 18، ص 269.

وجاء في بعض الروايات الأخرى أن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم كان إذا نزل عليه الوحي وهو راكب على دابته، كانت الرعدة تأخذه وتأخذ دابته أيضاً (1) .

تحليل وجمع بين الروايات:

فيما يتعلق بتحليل هذه الروايات التي تبدو متعارضة في ظاهرها، نشير إلى نقطتين:

النقطة الأولى: يحتمل أن تكون حالة الاضطراب من مشاهدة جبرائيل علیه السلام عائدة إلى الأشهر والسنوات الأولى من نزول الوحي، ثم اعتاد العنصر المادي لجسد ونفس رسول الله على هذه المشاهدة بفعل التكرار، ومع ذلك كانت تظهر هذه الحالة عند مواجهة الوحي المباشر ومن دون أن تكون بين النفس النبوية واسطة بين الله ونبيه.

النقطة الثانية: قد يمكن لنا الفصل بين أنواع الاضطراب والحالة الشبيهة بالإغماء، بالقول إن مواجهة الأمر الإلهى على نحو مباشر كانت تستوجب الاضطراب والإغماء الشديد، وأما مشاهدة جبرائيل فكانت تستوجب ما يشبه النوم والاضطراب الخفيف الذي لا يمكن الإحساس به، وإن الروايات النافية للخوف من مشاهدة جبرائيل ناظرة إلى هذه الحالة.

4 - تجريح الروايات الدالة على الإغماء وشدّة الوحي

تجريح الروايات الدالة على الإغماء وشدّة الوحي في مراحله الأولى:

ورد في بعض المصادر الروائية - مثل صحيح البخاري وصحيح

ص: 152


1- أُنظر: المصدر أعلاه، ص 271؛ الشيخ عباس القمي، سفينة البحار، ج 8، ص 158 و 422 .

مسلم(1) - بعض الروايات الدالة على عروض ظاهرة الإغماء وما كان يصحب ذلك من العلامات، من قبيل الزبد الذي يُحيط بالفم، وهو أمرٌ اعتقد به أصحاب الجمود على الظاهر وأصبحت مستمسكاً بيد أعداء الإسلام في مقام المقارنة بين النبي الأكرم وسائر الأنبياء الآخرين، وقالوا بأن عروض هذه الحالة على محمد صلی الله علیه و آله و سلم دليل على عدم نبوّته أو نقص في مرتبته ومنزلته بالقياس إلى غيره من الأنبياء.

ويجب القول في هذا الشأن إن هذا الادعاء لا يمكن أن يُستفاد من أيّ وثيقة تاريخية أو روائية، وفيما يأتي نشير إلى جانب من ذلك(2) :

1 / 4 - مخالفة هذه الأدلة لآيات القرآن: إن أول شيء ينفي دلالة هذه الروايات الدالة على عروض حالة الإغماء وعدم التوازن الروحي للنبي صلی الله علیه و آله و سلم ، هو ظاهر بل نصّ الآيات الدالة على الاعتدال والتوازن الروحي والنفسي للأنبياء وعدم خوفهم عند مواجهة الوحي، من قبيل قوله تعالى: ﴿ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ ﴾ (3) .

حيث يدل ذيل هذه الآية بشكل مطلق على عدم خوف الأنبياء و طمأنينتهم عند تلقي الوحي.

2 / 4 - مخالفة هذه الأدلة للروايات الدالة على طمأنينة الأنبياء وسكينتهم عند نزول الوحي: هناك كثير من الروايات التي دلت على حصول الأنبياء عند اختيارهم ونزول الوحى عليهم من قبل الله على قوّة وطاقة عبّر

ص: 153


1- أُنظر: صحيح البخاري، ج 1، ص 5 ، وج 9، ص 28؛ صحیح مسلم، ج 1، ص 97.
2- أُنظر: السيد جعفر مرتضى العاملي، الصحيح من سيرة النبي الأعظم، ج 2، ص 295 و 310 - 311؛ محمد هادي معرفت، التمهيد في علوم القرآن، ج 1، ص 75 - 77 .
3- النمل: 10 .

عنها في بعض الروايات ب-«السكينة» و«الوقار»، كي يتمكنوا في ضوئها من تلقي الوحي بسكينة واطمئنان.

روي عن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم أنه قال: «إن الله إذا اتخذ عبداً رسولاً أنزل عليه السكينة والوقار؛ فكان الذي يأتيه من قبل الله مثل الذي يراه بعينه» (1) .

كما أكد الإمام جعفر الصادق علیه السلام هذا المعنى، عندما سُئل عن كيفية معرفة الرسل أنها رسل؛ فقال «كشف عنهم الغطاء» (2) .

الشبهة الثالثة: تصنّع النبي وتظاهره بالإغماء عند نزول الوحي عليه:

اشارة

كانت الشبهة المتقدمّة تقول إن حالة الإغماء التي كانت تعرض للنبي صلی الله علیه و آله و سلم هي حالة حقيقية، بيد أن بعض أعداء الإسلام في العالم الغربي قالوا بأن النبي - والعياذ بالله - كان يتصنّع هذه الحالة كي يوهم الناس أنه بذلك يرتبط بعالم الغيب (3) .

مناقشة وتحليل:

في تحليل هذه الشبهة لابدّ من التأمل فيما يأتي:

1 - مجرّد اتهام وادّعاء:

تقدّم أن قلنا في الشبهة السابقة: إن أصل الإغماء والحالات المشابهة

ص: 154


1- تفسير العياشي، ج 2، ص 201؛ العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 18، ص 262 .
2- العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 11، ص 56 .
3- أُنظر: ابن ورّاق ، اسلام ومسلماني، ترجمه إلى الفارسية مسعود انصاري (روشنگر)، ص 197 .

التي تعرض للإنسان المريض لم تعرض للنبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم حتى يصل الدور إلى البحث فيما إذا كانت حالة طبيعية أو مصطنعة، إلا أنه إذا كان المراد من التصنّع والإغماء يعني نوعاً من الشعور بالثقل والاضطراب الناجم عن تلقي الوحى، فيجب القول بأن هذه الحالة - للأدلة والشواهد التي تقدّم ذكرها - كانت موجودة بالفعل، وإن دعوى التصنّع مجرد اتهام لم يستند إلى دليل.

2 - عدم الانسجام مع شخصية النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم :

تقدّم أن ذكرنا في الحديث عن سيرة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم أن قلنا: إنه كان يتمتع قبل البعثة بشخصية اجتماعية مرموقة ومحترمة، وكان معروفاً بالوثاقة والصدق والأمانة. ومثل هذا الشخص يُستبعد أن يخدع الناس من خلال التظاهر بالإغماء، وإن حياته السابقة لا تؤيّد ذلك، ومن هنا يجب على المدّعى أن يأتي بدليل يثبت مدّعاه.

3 - المعجزات الكثيرة:

ولو سلمنا جدلاً باحتمال أن يتظاهر شخص بالإغماء، نقول إن غاية ما يستطيعه مثل هذا الشخص هو مجرّد التظاهر بالإغماء والاضطراب، أما أن يأتي لإثبات مدعاه (النبوّة) بكثير من البراهين العقلية، من قبيل الإتيان بالقرآن بما يشتمل عليه من كثير من وجوه الإعجاز وصدوره عن فرد أمّي، وإخباره بالغيب فيما يتعلق بالماضي والمستقبل، وكثير من المعجزات الأخرى، من قبيل شق القمر وتحريك الشجر (1) ، وهو أمرٌ يُثبت أنه كان متصلاً حقيقة

ص: 155


1- تقدم بيان وجوه الإعجاز في القرآن في معرض نقدنا لشبهة إنكار معجزات النبي الأکرم صلی الله علیه و آله و سلم ، فراجع.

بعالم الغيب ووحى السماء، وإلا فإن صدور هذه المعجزات عن مثل هذا الشخص يعدّ ضرباً من المحال.

4 - عدم اقتصار الاضطراب على النبي صلی الله علیه و آله و سلم :

ذكرت المصادر التاريخية والروائية أن الاضطراب الذي كان يصاحب نزول الوحي لم يقتصر على رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فحسب، بل كان ينتقل إلى من بجنبه من الصحابة وعلى الدابة التي يصدف أن يكون راكباً عليها عند مباغتة الوحي له. مما يدل على أن هذا الاضطراب كان أمراً حقيقياً ولم يكن مفتعلاً، ولو كان مجرّد تصنّع من النبي لما انعكس على مركوبه أيضاً.

كما تدل على صدق النبي في مدّعاه الكثير من الشواهد والقرائن الأخرى، من قبيل استقامته وصبره في بلوغ الهدف، وبشارة الأنبياء السابقين بنبوّته، وقد تقدّم توضيح ذلك في معرض نقد وشبهة اعتبار الوحي مجرّد وهم أو خيال.

الشبهة الرابعة: اتهام النبي صلی الله علیه و آله و سلم بالجنون:

إن من بين الشبهات القديمة التي أثارها المخالفون للإسلام ضدّ النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم حتى في عصره هو اتهامه بالجنون، بمعنى أن النبي الأكرم قد عرض عليه الجنون - والعياذ بالله - بتأثير من الجن أو لأسباب أخرى (1). ولمّا كانت هذه الشبهة تستند في الغالب إلى تأثير الجن، فقد أعرض المستشرقون عنها، وأخذوا يفسّرون هذه الحالة بإصابة النبي بالصرع (2) .

ص: 156


1- أُنظر: الصافات: 36؛ الطور: 29؛ الذاريات: 39 و 52.
2- أُنظر: مسعود انصاری (روشنگر)، کوروش بزرگ ومحمد بن عبد الله، ص 275 و 277؛ مسعود انصاري (روشنگر)، الله أكبر، ص 265 .

ويبدو ضعف هذه الشبهة من نقدنا لشبهة الإغماء والصرع، وفيما يأتي نكتفى بالإشارة إلى الأمور الآتية:

مناقشة وتحليل:

1 - محض اتهام:

إن نسبة الجنون إلى النبي هي مجرّد تهمة وجّهت إلى النبي من قبل أعدائه في مواجهة له على نبوته ونزول الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم القرآن عليه، وقد عبّر القرآن عنها بأنها مجرّد افتراء. وعليه لا بدّ لهم من إثبات هذا الاتهام بالدليل، في حين أنهم لا يعجزون عن إقامة الدليل على ذلك فحسب، بل إن الأدلة والشواهد الكثيرة تثبت العكس أيضاً، وهو ما سنشير له.

2 - عدم وجود سابقة لهذه التهمة:

لو أن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم كان مصاباً بالجنون حقيقة، فلماذا لم توجّه إلى النبي هذه التهمة من قبل أهل مكة قبل البعثة، بل كما تقدم أن ذكرنا فإن النبي على عكس ذلك كان يتمتع بشخصية مرموقة، وكان الناس يعرفونه بالصدق والاستقامة والأمانة، وهذا يتعارض مع اتهامه بالجنون. وبعبارة أخرى إن أصحاب هذه التهمة كانوا يمتدحون النبي قبل البعثة، ولكن ما أن أصبح نبياً حتی بدأوا ينسبونه إلى الجنون بسبب عدم استيعابهم لهذه المسألة.

كما أن فرضية اقتران إصابته بالجنون بزمن ادعاء النبوة، فهو مجرّد ادعاء لا يستند إلى دليل، ولذلك يجب على من يدّعى مثل هذا الاقتران أن يبيّن لنا أسبابه ومناشئه، وهل كان لذلك صلة بادعاء النبوّة أم لا؟ وقد تقدم بیان هذه المسألة في معرض نقدنا لشبهة الإغماء تحت عنوان اقتران الإغماء بالنبوّة.

ص: 157

3 - العجز عن تفسير معجزات النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم :

إن الذي يُصاب بمرض الصرع أو الجنون يكون فرداً ضعيفاً وانطوائياً وغير فاعل في المجتمع، في حين عُرف عن النبي أنه كان يتمتع بشخصية مؤثرة كما هو واضح للجميع، واليوم يثني المؤرخون الغربيون على عبقرية النبي وذكائه [حتى وضعه أحدهم على قائمة مئة عبقري في العالم] معترفين له بهذه المزية.

هذا بالإضافة إلى اجتراح النبي للكثير من المعاجز من قبيل نزول القرآن الكريم، وانشقاق القمر، والإخبار بالغيب وما إلى ذلك مما يتعارض مع

هذا الاتهام .

الشبهة الخامسة: اتهام النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بالكهانة :

إن الكاهن هو الشخص الذي يتصل بالجن ويحصل منهم على العلم بالمغيبات. وإن من بين التهم التى كالها المشركون إلى النبي صلی الله علیه و آله و سلم، هو اتهامه بالكهانة، وقد كانت هذه الشبهة مثارة حتى في عصر النبي الأکرم صلی الله علیه و آله و سلم (1) .

نقد ورأي:

تتضح ضحالة هذه الشبهة من خلال نقد الشبهة السابقة، وفيما يأتي نكتفي بعرض بعض المسائل على النحو الآتى:

1 - مجرّد ادعاء بلا دليل:

إن أعداء النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم عندما أحسوا بعجزهم في مواجهة شخصية النبي ومعجزاته لجأوا إلى اتهامه بأنواع التهم من دون أن يقدموا دليلاً على

ص: 158


1- أُنظر: الطور: 29؛ الحاقة: 69.

ذلك، فاتهموه بالكهانة في ضمن ما اتهموه به، وهذا النوع من مواجهة الخصوم يتنافى مع المنهج العلمي والاستدلالي .

ثم يتبادر هنا السؤال الآتي إذا كان النبي كاهناً حقاً - والعياذ بالله - فلماذا لم يتمّ توجيه هذا الاتهام له قبل البعثة ؟ ولماذا جاء هذا الاتهام في سياق عجزهم عن الإتيان بمثل معجزاته؟ أليس هذا خير دليل على أنهم إنما يتهمونه بهذا الاتهام لتبرير عدم إيمانهم بنبوّته، وإن هذا الاتهام لم يقم على دليل واقعي؟

2 - الكهانة تحتاج إلى تعليم وممارسات خاصة:

إن الاتصال بالجن وإن كان أمراً ممكناً وواقعاً، ولكن هذا الاتصال لا يأتي فجأة، وإنما يحتاج إلى تعلم وإلى ممارسات خاصّة يطويها الكهّان عادة، وأمرهم في ذلك معروف في المجتمع.

وعلى هذا الأساس، لو كان النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم قد تعلم الكهانة - والعياذ بالله - على يد كاهن متمرّس لشاع ذلك وتمّ الإعلان عنه من قبل أساتذته وزملائه في هذا الفن، ولما خفي منه ذلك على أحد، في حين أنه - كما تقدّم أن ذكرنا - لم يذكر التاريخ وجود مثل هذا المعلم في سيرة حياة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم أبداً.

3 - المعجزات ناقضة للكهانة:

إن الكهّان في الغالب يتوصلون إلى العلم بالغيب بالماضي والمستقبل من خلال التواصل مع الجن، من دون أن تكون لديهم القدرة على اجتراح المعجزات، في حين أن النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم قد جاء بكتاب ليس من سنخ الإخبار

ص: 159

بالغيب ولكنه مشتمل على المغيبات، ويأتي إعجازه من عدّة جهات، ومنها الناحية اللغوية من الفصاحة والبلاغة (بين النظم والنثر) بحيث لم يتمكن أحد في عصر النبي ولا بعده من الإتيان بمثله، بل لم يتمكن حتى من المجيء بسورة واحدة من سوره.

وفضلاً عن القرآن الكريم هناك معجزات أخرى من قبيل انشقاق القمر، وتسبيح الحصى بين يدي رسول الله، وما إلى ذلك مما يعدّ دليلاً واضحاً على إعجازه وإثبات صدق دعواه بما يفوق أمر الكهانة، ولا يمكن تفسيره إلا بمنطق الوحي والإعجاز. وبعبارة أخرى إن ما يقوم به الإنسان الاعتيادي مهما كان خارقاً هو قابل للتقليد والتكرار، ومن الممكن إثبات بطلانه، بل من الممكن لغيره أن يأتي بما هو أبلغ منه، في حين أن معجزات النبي ليست من هذا القبيل، خاصة معجزته الخالدة المتمثلة بالقرآن الكريم الذى يمثل تحدياً قائماً للبشر حتى هذه اللحظة من دون أن يتمكن أحد من الإتيان بمثله. من هنا فإن معجزات النبي ودعوته ليست من قبيل الكهانة، بل يمكن بيانها وتفسيرها في إطار النبوة والإعجاز.

الشبهة السادسة : اتهام النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بالسحر:

اشارة

إن اتهام النبي الأكرم بممارسة السحر يعدّ من التهم التي اشترك فيها جمیع أعداء النبي، وقد ظهرت هذه التهمة في عصر النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم حيث كان السحر أمراً شائعاً في ذلك العصر (1).

ص: 160


1- أُنظر: ص: 4؛ الذاريات 52 .

مناقشة وتحليل:

يتضح خواء هذه التهمة والشبهة من خلال الإجابة عن شبهة اتهام النبي بالكهانة، وفيما يأتي نكتفي بإشارة عابرة إلى ذلك :

1 - تهمة من دون دليل:

حيث يتكرر هنا ما ذكرناه آنفاً في نقد شبهة الكهانة؛ إذ إنّ الذين جاؤوا بهذا الاتهام لم يقيموا عليه أيّ دليل أو شاهد يثبته.

2 - عدم انسجام هذه التهمة مع شخصية النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم:

يسعى السحرة في الغالب وراء ضمان مصالحهم المادية والشخصية، وإن المجتمع ينظر إلى الساحر نظرة مشوبة بعدم الاحترام والتكريم. أما النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم فلم يكن قبل البعثة مهتماً بالسحر والكهانة أبداً، بل كان يعرف بين أهل مكة بوصفه إنساناً مستقيماً وأميناً وصادقاً على ما تقدّم بيانه في شرحنا لسيرة حياته وأخلاقه.

3 - اختلاف الإعجاز عن السحر:

إنّ بين السحر والإعجاز كثيراً من موارد الاختلاف، وإن التفريق بينهما يثبت إعجاز النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم ، وفيما يأتي نشير إلى بعض هذه الفوارق:

1 / 3 - عدم اشتمال السحر على التحدّي: إن المعجزة تقترن بادعاء النبوّة والتحدّي، وهذا لا يتوفر في السحر. وإن تجرّأ الساحر وادعى النبوة فإن أمره سرعان ما سيُفتضح وينكشف كذبه بالاستناد إلى المزايا الأخرى.

2 / 3 - اعتماد السحر على أسباب يمكن تعلمها: إن السحر يقوم على أسباب وعلل طبيعية ونفسية مجهولة لأكثر الناس، ولك بالإمكان الحصول

ص: 161

عليها من طريق التعلم والممارسة، وأما المعجزة فهي - طبقاً للرأي المشهور - فعل إلهى خارق للطبيعة، ولذلك لا يمكن للإنسان العادي أن يتوصّل إلى معرفة كنهها. ولذلك نجد السحرة يُسارعون إلى إظهار عجزهم أمام النبي موسی علیه السلام ؛ لعلمهم بأن ما قام به لا يندرج في ضمن دائرة السحر أبداً.

3 / 3 - اختصاص السحر بزمن خاص: إن ممارسة السحر تحتاج إلى زمن خاص، فلا يمكن للساحر أن يقوم بعمل السحر دائماً، بحيث أنه إذا ترك ممارسة السحر فترة فإنه سوف ينساه بالتدريج، حتى لا يعود قادراً على ممارسته إلا بعد تعلمه من جديد.

4/ 3 - الحاجة إلى التعلم والممارسة: إن السمة البارزة في السحر هي أنه من الفنون الاكتسابية. إذ يتعيّن على الساحر أن يدخل دورات تعليمية تمتد لفترات طويلة يتقن خلالها آليات عمل السحر وأدواتها ويمارسها لفترات طويلة في ضمن إطار بعض الطقوس والرياضات الروحية كيما يتمكن من الإتيان بما يبدو خارقاً للعادة، في حين أن صاحب المعجزة إنما يجترحها من دون مقدمات وبقدرة إلهية.

5 / 3 - فاعل السحر وغايته ليست إلهية: من خلال التأمل في حياة الساحر وخصوصياته الأخلاقية نتمكن من فهم ما يقوم به الساحر من الأعمال السحرية؛ وذلك لأن السحرة في الغالب يفتقرون إلى الأخلاق المثالية والكمالات البارزة، بل قد يتصف بعضهم بالرذائل الأخلاقية ولا تكون غايتهم من ممارسة السحر غير تحقيق بعض الأهداف الدنيوية والمادية، خلافاً لأصحاب المعجزات الذين يتمتعون قاطبة بمكارم الأخلاق ويتصفون بصفات الكمال العالية، ولا تكون غايتهم من اجتراح المعاجز سوى الكمال المعنوي

ص: 162

وهداية الناس إلى الدين الإلهي القويم.

6 / 3 - إمكان معارضة السحر والتغلب عليه: إن من بين السمات الفاصلة بين السحر والمعجزة، أن الساحر يمكن التغلّب عليه. فلمّا كان السحر والساحر يستندان إلى العلل والأسباب الطبيعية، وهي متوفرة للناس يمكن التغلب على الساحر في كل لحظة، وكما تقول الآية القرآنية ﴿وَفَوْقَ كُلَّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) (1) . أما المعجزة التي تستند إلى العلل الميتافيزيقية، فلا إمكانية للتغلب عليها أبداً.

من خلال الالتفات إلى هذه السمة الفارقة يمكن للقارئ الكريم أن يحكم بكل يسر على شخصية محمد بن عبد الله صلی الله علیه و آله و سلم وما إذا كان نبياً أو ساحراً، ذلك لأن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم قد قرن جميع ما قام به من المعاجز بالتحدي، وإن معجزته الخالدة المتمثلة بالقرآن لا زال التحدي فيها قائماً إلى هذه اللحظة وسيبقى قائماً حتى يرث الله الأرض ومن عليها، من دون أن يتمكن أحد من الأتيان ولو بسورة من مثل سورَه.

لا يمكن للبشر أن يدرك طبيعة معجزات النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم وماهيتها. لقد اجترح النبي المعجزات في جميع الأزمنة والحالات، ولم ينسب ذلك إلى مقدرته الشخصية، بل إلى قدرة الله سبحانه وعنايته وإذنه.

إنّ النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم يتمتع بشخصية يحترمها المجتمع، وإنّ معجزاته كانت تأتي في سياق الأصول الأخلاقية ودعماً لنبوّته، ولم يهدف من خلالها إلى تحقيق أهداف وغايات مادية أو غير أخلاقية.

ص: 163


1- يوسف: 76.

وأخيراً فإن معجزات النبي الأكرم وعلى رأسها القرآن الكريم قد تغلبت على البشر في إطار التحدي إلى يومنا هذا، وبذلك يثبت صدق نبوته

للجميع.

الشبهة السابعة: اتهام النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بقول الشعر:

اشارة

علاوة على ما تقدم من التهم، من قبيل (اتهام النبي بالجنون والكهانة والسحر وما إلى ذلك)، أضاف المشركون في مكة إلى ذلك اتهامه بقول الشعر، كيما يثبتوا بذلك أن آيات القرآن ليست وحياً أو كلاماً إلهیاً، وإنما هي مجرّد مقاطع شعرية ينظمها محمد، وبذلك ينكرون نبوته من الأساس. وقد استعرض القرآن الكريم هذه التهمة في عدد من الآيات القرآنية، من قبيل قوله تعالى:

- (بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) (1) .

- (وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ) (2) .

وتجدر الإشارة هنا إلى أن المشركين كانوا يذهبون إلى الاعتقاد بأن الشاعر يرتبط بشكل خاص بالجن والشياطين، وإنما يمكنهم نظم الشعر في ضوء هذا الارتباط.

مناقشة وتحليل:

في معرض تحليل هذه الشبهة يجب علينا أن نتبيّن جواز أو عدم جواز نظم الشعر لشخص النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم ، فنقول:

ص: 164


1- الأنبياء: 5.
2- الصافات: 36.

إن الشعر نفسه من حيث المادة (توظيف عنصر الخيال)، أو من حيث الصورة (بوصفه كلاماً موزوناً ذا أسلوب خاص) يعدُّ من الكمالات والفنون الإنسانية الراقية. وإن الأشعار الأخلاقية ومدح الأبرار يشكل مثالاً بارزاً على هذه الحقيقة. إلا أن هذا الفن - كسائر الفنون الأخرى - قد تمّ توظيفه من قبل البعض في غايات ومقدمات فاسدة وكاذبة وخاطئة، ومن هذه الناحية استحق الشعر والشعراء التوبيخ والذم. من هنا لا يوجد أي محذور في قول النبي أو الإمام للشعر الأخلاقي الذي يصب في بناء العقيدة الصحيحة، كما تمّ ذكر بعض الأشعار بالفعل في ديوان منسوب إلى الإمام علي علیه السلام .

إلا أنه بالالتفات إلى المسألتين الآتيتين، فإن القرآن ينكر وينفي أصل وجود ملَكة الشعر لدى النبي صلی الله علیه و آله و سلم .

1 - لمّا كانت المعجزة الرئيسة والخالدة للنبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم من جنس الكلام الذي له قرابة وسنخية خاصة بفن الشعر - فهو كلام له أسلوبه الخاص الذي لا هو من الشعر ولا من النثر - يكون هناك احتمال في أن النبي إذا عرف عنه قول الشعر ولو على مستوى بيت واحد - سواء قبل الرسالة أو بعدها - لشكل ذلك سنداً بيد المشركين لإنكار اعتبار إعجازه القرآني - سند النبوة والكلام الإلهي - وتذرعوا لذلك بوجود ملَكة الشعر لدى النبي. فلكي يُبعد الله عنه هذه التهمة والذريعة فقد جبل نبيه على نحو لا يستطيع معه قول الشعر، قال تعالى في محكم كتابه الكريم ﴿ وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ ) (1) .

ص: 165


1- يس: 69 .

وعلى الرغم من ذلك واصل بعض المعاندين اتهام النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بقول الشعر، وأن القرآن الذي جاء به ينشأ من قدرته على نظم الشعر، ولكن كان هناك أيضاً بعض المنصفين - الذين تمكنوا من ناصية الشعر - ممّن أقرّ بأن القرآن لا يمكن أن يكون شعراً، بل هو معجزة لا يستطيع أحد أن يأتي بمثلها.

واضح لو أن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم كان قادراً على نظم الشعر قبل النبوّة أو خلالها، لكان تأثير هذه الشبهة أشدّ، ولذلك حال الله من باب اللطف دون النبي وقول الشعر تمهيداً لهداية المنصفين من الناس، واعتبر أن قول الشعر لا ينبغي لنبيه.

2 - أمّا المسألة الثانية في عدم اتصاف النبي بنظم الشعر، وهي فرضية المشركين وتصورهم في مكة للشعر ونظمه. فقد تقدم أن أشرنا إلى أنهم كانوا يعتبرون القدرة على قول الشعر إنما تأتي من خلال ارتباط الشاعر بالجن والشياطين، وعلى هذا الأساس لو قال النبي شعراً، لسارعوا إلى اتهامه بأنه أبدع القرآن من خلال ارتباطه بهذين المصدرين من دون أن تكون ثمّة نبوّة في البين. فلكي يُبعد الله عنه هذه التهمة اقتضت حكمته أن يمنعه من القدرة على قول الشعر.

الأدلة والشواهد على عدم كون النبي الأكرم شاعراً:

تعرضنا في العنوان السابق إلى بيان فلسفة عدم كون النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم شاعراً. وأما لماذا لا يمكن اعتبار الآيات التى تنزل على رسول الله كلاماً شعرياً بل هو كلام إلهي ؟ فلابدّ في الجواب عنه من التدقيق في المسائل الآتية:

ص: 166

1 - عدم معرفة النبي للشعر قبل البعثة:

لقد أكدت الآيات المتقدمة أن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم لم يسبق له أن قال شعراً طوال عمره الشريف، حتى يقال إنه إنما أبدع الآيات المدعاة بفضل شاعريته وقوّة خياله. وهي آيات لا من سنخ النثر الاعتيادي ولا من سنخ الشعر والكلام الموزون، وفي الوقت نفسه قد بلغ ذروة الفصاحة والبلاغة حتى أعجز فطاحل الشعراء المعاصرين للنبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم واعترفوا بعجزهم عن وصفه.

2 - اختلاف القصائد الأولى للشعراء عن قصائدهم المتأخرة:

قد يقول أحد إن الشعر والقدرة على نظمه لابدّ من أن يبدأ من نقطة معيّنة، وإن ما ادعى رسول الله أنه آيات قرآنية هو في الحقيقة يمثل تجربته الشعرية الأولى.

وفي نقد هذا الكلام يجب القول من خلال التأمل في قصائد جميع الشعراء، يتضح أن قصائدهم الأولى بالقياس إلى قصائدهم المتأخرة - إذا لم تكن تعاني من بعض نقاط الضعف - فإنها في الحد الأدنى كانت تفتقر إلى شيء من الأمور الفنية، في حين أننا لا نجد شيئاً من ذلك في الآيات القرآنية سواء في ذلك ما نزل منها فى بداية البعثة وما نزل منها في المراحل اللاحقة، وعليه لا يمكن أن يكون القرآن من جنس الشعر.

3 - عدم اشتمال الشعر على عنصر التحدي:

لم يقم شاعر بتوظيف قصائده في مجال التحدّي أبداً، ولم يدّع شاعر أن قصائده تمثل دليلاً على نبوته، وإن على الذي يشك في ذلك أن يأتي بمثل تلك

ص: 167

القصائد، في حين أن النبي الأكرم منذ بداية رسالته دعا جميع الناس بل وحتى الجن إلى الإتيان بمثل هذا القرآن، فلو كانت آياته من سنخ الشعر، لأمكن للشعراء الكبار أن يعارضوه.

4 - النقاط الإعجازية الأخرى في القرآن الكريم:

إن إعجاز القرآن الكريم لا يقتصر على الجانب البلاغي والفصاحة منه حتى يقارن بالشعر وإبداع الشعراء، بل إن الآيات القرآنية تؤكد على جوانب إعجازية أخرى، من قبيل علم الغيب فيما يتعلق بالأحداث الماضية والآتية، والاتقان والإحكام الذي يحكم جميع آياته، والكشف عن القوانين العلمية كأصل حركة الأرض والشمس، وقانون الجاذبية وقانون الزوجية العام بين النباتات، وما إلى ذلك من الأمور التي نتوصل من خلالها إلى حقيقة القرآن السماوية، والإيمان بأنه من وحي الله .

الشبهة الثامنة: الوحي نتاج وهم النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم:

يذهب بعض المستشرقين إلى الاعتقاد بأن الوحي - وفي مورد بحثنا الوحي الذي نزل على رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم - إنما هو نتاج الضمير واللاشعور الباطني الذي يفرزه السير والسلوك الروحي والعرفاني للأنبياء (1) . حيث قال: إن الأنبياء الذين يمثلون شريحة من الأبرار والأتقياء الذين حملوا هموماً كبيرة من أجل هداية الناس إلى طريق الفضيلة والاستقامة، يحملهم هذا الهاجس - بعد تراكم هذه الحالة النفسية - إلى تصور ارتباطهم بعالم الغيب والملائكة،

ص: 168


1- أُنظر: ابن وراق، اسلام ومسلماني، ترجمه إلى الفارسية مسعود انصاري (روشنگر)، ص 177؛ سیاوش اوستا (حسن عباسي)، دين داري و خرد گرایی (التديّن والعقلانية)، ص 13 - 16 .

ويتصورون نوازعهم الداخلية على أنها رسائل تصدر إليهم من عالم الغيب والسماء، ويبلغونها إلى الناس بوصفها من «الوحي الإلهي».

إنّ هذا الاتجاه ينكر الارتباط الحقيقي القائم بين الأنبياء والعالم الإلهي والملائكة، ويعتبرونه مجرد وهم يتوهمه الأنبياء.

وقد ذهب بعض المستشرقين وعلماء اللاهوت في الغرب بعد دراسات جامعة بشأن شخصية النبي محمد صلى الله عليه و آله و سلم إلى الإذعان بأنه يتصف بالأمانة والصلاح والثقة، وإنه يتمتع بنبوغ خاص صرفه في شأن الدعوة إلى الدين، ولكن هل كان إلى جانب ذلك نبياً مرسلاً من السماء؟ هذا ما لا يمكن إثباته بضرس قاطع.

يرى البروفسور مونتغمري واط الباحث الغربي في حقل الإسلام، أنّ الوحى بشكل عام «خيال مبدع» يتصف به الأنبياء الذين يتمتعون بخيال خصب، مثل سائر الفنانين والشعراء والأدباء، فهم يستطيون تجسيد ما يشعر به الآخرون ولا يستطيعون التعبير عنه بشكل ملموس (1) .

وهناك من المعاصرين من تأثر بهذه الرؤية. فقد عجز علي دشتي في العقود المنصرمة عن استيعاب مسألة الوحى وفهمها وحقيقته الغيبية والسماوية، ولذلك عمد إلى تفسير وحي النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم من قبل جبرائيل علیه السلام على أنه مجرد أوهام وإفرازات لتمنيات الرسول الكامنة في صقع ضميره وما يضمره في اللاشعور من نفسه(2).

ص: 169


1- أُنظر: مونتغمري واط، محمد النبي والسياسي، ص 298.
2- أُنظر : علي دشتي، بيست و سه سال، إعداد و تنقیح بهرام چوبینه، ص 43 ؛ وقد قام آية الله الشيخ جعفر سبحاني بنقد هذا الكتاب نقداً علمياً في كتاب له تحت عنوان (راز بزرگ رسالت).

وتعود بداية التفسير النفسي للوحى وتجاهل ارتباط النفس النبوية بعالم الغيب إلى عصر نزول القرآن. حيث كان المشركون والكفار يلجأون إلى هذا التفسير لتبرير إنكار الوحي و نبوّة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وارتباطه بعالم الغيب. وقد أرجع القرآن بعض تبريرات وحجج أعداء النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم إلى التفسير الحسي والنفسي للوحي، وفي تحليل هذا الموقف منهم، نشير إلى قوله تعالى:

- مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاَقٌ ﴾ (1) .

- (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ) (2) .

- (بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) (3) .

مناقشة وتحليل:

1 - مجرّد ادعاء بحت: إن هذا الاتجاه لا يعدو أن يكون مجرّد ادعاء محض، فإن كون بعض الناس تتنازعهم حالات نفسية وباطنية مختلفة تصل عند بعضهم إلى مستوى النبوغ والعبقرية الخاصّة، لا تنهض دليلاً على النبوة وإرجاعها إلى الوحي. وبعبارة أخرى لم يقم تمّة دليل على اعتبار الوحي نتاج قوّة الخيال التي يتمتع بها النبي.

2 - الخيال رهن بتوفر الظروف والشرائط الخاصة: إن تجلي الحالات

ص: 170


1- ص: 7 .
2- الأنعام: 25 .
3- الأنبياء: 5.

النفسية والضمير اللاشعوري رهن بالشرائط والظروف الخاصة، فإنها تُشاهد في الغالب - مثلاً - عند أولئك الذين يعانون من بعض الأمراض أو الذين يعانون الحزن والقلق والاحباط أو المرتاضين، في حين أن تاريخ حياة الأنبياء بمن فيهم النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم لا يتحدّث عن مثل هذه الموارد، بل على العكس من ذلك فإن بعض الآيات قد نزلت على رسول الله في أجواء من قبيل الحرب والقتال التي يستحيل مقارنتها بقوّة الخيال والطاقات النفسية العادية.

3 - الطريق العقلي لمعرفة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم : ذكر علماء الإسلام لإثبات صدق مدّعي النبوة وتمييز النبي الصادق من النبي الكاذب - فضلاً عن النص على النبي اللاحق من قبل النبي السابق - طريقين آخرين، وهما:

الطريق الأول الدليل العقلي، بمعنى أن العقل يحكم بضرورة دراسة القرائن والشواهد التي تثبت صدق مدعي النبوة، وإن التأمل في تاريخ وسيرة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم يُثبت أنه كان منذ الصغر يتصف بالصلاح والصدق والأمانة والوثاقة، ولذلك كان يحظى بثقة عالية بين أفراد مجتمعه، كما كان متصفاً بسائر الصفات الأخلاقية الإيجابية الأخرى أيضاً. بل أبدى مقاومة منقطعة النظير - على المستوى الروحي والجسدي - في مواجهة شتى أنواع التعذيب والألم والأذى، ولم يستسلم للضغوط والمغريات والوعود والتهديدات، مما يعكس عمق إيمانه الراسخ، وثباته على المبدأ والهدف المنشود.

وفي مقابل الأنبياء الحقيقيين نجد أولئك الذين يدّعون الوحي والنبوة يفتقرون إلى الصفات المتقدمة، وإنهم منذ مراحل الطفولة والشباب كانوا يعانون من ضعف في واحدة من الجهات والصفات الأخلاقية في الحد الأدنى، من قبيل مسألة الأخلاق والسلوك أو الأمراض الجسدية و النفسية، أو الإيمان

ص: 171

بالهدف وتحمّل أنواع التهديد والوعيد، بحيث أنهم يستسلمون غالباً ويتراجعون عن ادعاء النبوة.

وعليه يمكن لنا من خلال التأمل والنظر في سيرة النبوة ومرحلتها وجهاد النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم أن نثبت صدقه فيما ذهب إليه من ادعاء النبوة وارتباطه بعالم الغيب واتصاله بالله سبحانه وتعالى (1) .

4 - الإعجاز دليل النبوة: أما الطريق العقلي الآخر لإثبات صدق الأنبياء في ادعائهم فهو المعجزة. فالأنبياء لم يكتفوا بادعاء النبوة، وإنما قرنوا ذلك باجتراح المعجزات التي لم يستطع الآخرون أن يأتوا بمثلها. وقد قام النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم لإثبات نبوته باجتراح معجزة هي من جنس ما يخرق العادة وتتناسب في الوقت نفسه مع طبيعة ما كان شائعاً في عصره من الصناعات الأدبية والبلاغية، فكان «القرآن الكريم» يمثل تحدياً لمن كان الشعر يمثل خبز یومهم، هذا مع أن النبي لم يدخل مدرسة أو يتعلم العلوم عند معلم، وجاء بكتاب وكلام أذهل الجهابذة من فطاحل الأدب العربي في عصره.

فإن كان الوحي والقرآن الكريم حصيلة الخيال أو نبوغ النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم ، فلماذا لم يتمكن سائر العباقرة والأفذاذ طوال القرون الأربعة عشر المنصرمة من الإتيان بمثل هذا القرآن أو سورة واحدة من سوره في الحدّ الأدنى؟ ألا يُشكل ذلك دليلاً على أن الوحي الذي نزل على النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم كان من سنخ الخوارق للطبيعة؟

ص: 172


1- أُنظر: محمد رشيد رضا، الوحي المحمدي، ص 35؛ جعفر سبحاني، الإلهيات، ج 2، ص 109 و 436 .

5 - إخبار الأنبياء السابقين وبشارتهم : لقد اشتملت الكتب السماوية السابقة، ومن بينها التوراة والإنجيل على البشارة بظهور نبي في مكة يحمل صفات النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم . وقد قام عدد من المحققين من اليهود والمسيحيين المعاصرين باعتناق الدين الذي جاء به النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بالنظر إلى ما وجدوه في كتبهم مما ينطبق على النبي محمد انطباقاً كاملاً لا يبقى معه من شك. بل هناك منهم من ألف الكتب في إثبات هذا المدعى، من أمثال الميرزا محمد رضا، من علماء اليهود في طهران، حيث ألف كتاب «إقامة الشهود في ردّ اليهود»، و محمد صادق فخر الإسلام في كتابه «أنيس الأعلام في نصرة الإسلام»، وعلي بن ربان الطبري في كتابه «الكتاب والدين والدولة».

الشبهة التاسعة: اعتبار النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم نابغة وعبقرياً:

اشارة

أدرك بعض المستشرقين استحالة إنكار الإنجازات التي حققها النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم على مختلف الأصعدة والمجالات - الأعم من الروحية والمعنوية (المتمثّلة بنشر الدين التوحيدي والقضاء على مظاهر الشرك والوثنية)، أو بناء الدولة والمجتمع وتأسيس الحكومة الإسلامية المقتدرة - ولكنهم من ناحية أخرى لم يرق لهم تفسير هذه الإنجازات من خلال الاعتراف بارتباط النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بعالم الغيب والوحي؛ فعمدوا - لتبرير هذه الإنجازات - إلى القول بأن محمداً صلی الله علیه و آله و سلم كان عبقرياً، من دون أن يكون ثمّة وحي في البين بزعمهم. وإن المستشرقين الذين يستعملون مصطلح «المحمدية»(1) بدلاً من الإسلام، يذهبون إلى هذا التبرير بشكل عام.

ص: 173


1- أُنظر: إدوارد سعيد، الاستشراق، ص 114 - 499؛ محمد حسن زماني، مستشرقان وقرآن (المستشرقون والقرآن)، ص 129 .

مناقشة وتحليل:

تتضح الإجابة عن هذه الشبهة من خلال النظر في الإجابات المتقدمة الواردة في نقد اتهام النبي صلی الله علیه و آله و سلم بالكهانة وممارسة السحر. بيد أن دفع هذه الشبهة من الأساس يقتضي منا الإشارة إلى الأمور الآتية:

1 - ادعاء بلا دليل:

من السهل جدّاً لشخص أن يطرح فرضية أو يدعي رأياً، ولكن عليه أن يثبته بالدليل، وفيما نحن فيه يجب على صاحب هذا الادعاء أن يثبت أن

النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم لم يكن لديه أي ارتباط بالوحي وعالم الغيب. في حين أن الأدلة والشواهد تثبت خلاف ما يدّعيه المنكرون، إذ أنّها تثبت ارتباط النبي وصلته بالوحي وعالم الغيب.

2 - عدم ظهور آثار العبقرية على النبي في مرحلة الصغر

عدم ظهور آثار العبقرية على النبي في مرحلة الصغر وفترة الشباب:

إن العباقرة تظهر عليهم مخايل النبوغ منذ الصغر، فيكون المقرّبون منهم هم أول من يدرك العبقرية فيهم، كأن يتمكن وهو في سن الثالثة أو الرابعة من تعلم لغة أجنبية أو عدّة لغات، أو أن يحفظ نصوصاً كبيرة من القرآن الكريم أو القصائد الشعرية الطويلة. وتتجلّى هذه العبقرية في فترة الشباب بشكل أكبر. في حين أن التاريخ لم يرصد هذه الظاهرة لدى النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم ، وإنما عرف بوصفه شخصاً أميّاً يشتغل في رعي الأغنام، وهو أمرٌ لا يتناسب مع کونه عبقرياً.

أجل، لقد سجّل التاريخ أن النبي محمداً صلی الله علیه و آله و سلم كان قبل البعثة يتمتع بكامل الصفات والسجايا الأخلاقية، وكان يُعرف بين أبناء مجتمعه ب- «محمد

ص: 174

الأمين»، إلا أن هذا لا علاقة له بالعبقرية والنبوغ، وإنما هو دليل على النبوة كما سنشير إلى ذلك.

3 - السيرة الأخلاقية:

أشرنا إلى أن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم كان متصفاً في صباه وشبابه بكامل الصفات الأخلاقية، ومن بينها الصدق في القول والعمل والأمانة. وعليه فإن كانت نسبة العبقرية إلى النبي تعني إنكار ارتباطه بالوحي وعالم الغيب، للزم من ذلك اتهامه بالكذب - والعياذ بالله - وهذه التهمة لا تنسجم مع ما عرف عنه من التحلّي بمكارم الأخلاق، ولذلك فإن هذا الاتهام نفسه بحاجة إلى اثبات.

4 - إثبات النبوّة بالأدلة الخاصة:

تقدم في الصفحات السابقة إمكان إثبات نبوّة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بمختلف الأدلة، من قبيل:

أ - النص على النبي اللاحق من قبل الأنبياء السابقين.

ب - المعجزة.

ج - الشواهد العقلية.

5 - اختلاف النبوة عن العبقرية:

رغم الاشتراك القائم بين العباقرة والأنبياء في اجتراح بعض الأعمال الخاصة المخالفة لما يألفه العرف العام. إلا أن النبوّة وما يصحبها من الإعجاز والأمور التي يجترحها النبي، تنفرد بخصائص فذة تميّزه من العباقرة، وفيما يأتي نشير إلى بعض جوانب هذه الخصائص:

ص: 175

1 / 5 - احتياج العبقري إلى التعليم والممارسة: إن العباقرة يحتاجون للوصول إلى أهدافهم إلى بذل شيء من الجهود وإن كانت قليلة جداً بالمقارنة إلى غيرهم، فالعبقري يتمكن من حفظ كتاب أو نصّ في فترة زمنية قياسية لا يستطيع غيره حفظه إلا بعشرة أضعافها أو حتى أكثر من تلك المدة بمئة مرّة، أو أن بإمكان العبقري أن يجتاز المراحل الدراسية في فترات قياسية، في حين أن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم لم يتحقق له ذلك، إذ تمكن بوصفه «أميّاً» من الإتيان بكتاب أعجز أفصح الفصحاء من أبناء عصره من دون أن يجتاز أي مرحلة دراسية، ومن دون أن يخوض تجربة في هذا السياق أو ممارستها.

2 / 5 - عدم لجوء العباقرة إلى التحدي: إن العباقرة لم يكونوا يوماً ما بصدد اعتبار ما توصلوا إليه من الإنجازات نهاية النبوغ في مجال اختصاصهم، فالمكتشف أو المخترع مثلاً لا يدّعي استحالة أن يقوم غيره باكتشاف أو اختراع شيء يفوق اختراعه واكتشافه، وإنما يكتفي بمجرّد الاغتباط بإنجازه من دون أن يكون ذلك مصحوباً بالتحدّي، ولا يمكن لهذا الادعاء - لو حصل - أن يكون ممكناً؛ إذ يمكن للعباقرة الآخرين أن يأتوا بمثل ما أتى به هذا العبقري أو بما هو أفضل منه. وإن التطوّر العلمى في مختلف الحقول التجريبية والعقلية قد أثبت أن العلوم في طريقها إلى التقدّم والازدهار، وإن العبقري اللاحق يمضي قدماً بما أنجزه العبقري السابق. أما النبي فينطلق من مقام التحدّي، وقد قام النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم لإثبات مدّعاه باجتراح مختلف المعاجز، ومن بينها القرآن الكريم، والإخبار عن الغيب فيما يتعلق بالماضى والمستقبل، مما لا يمكن لغيره أن يقوم به مهما بلغ من العبقرية. وعليه لا يكون النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم عبقرياً، بل هو نبي.

ص: 176

أمّا المسألة الأخرى فهي أن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم كان يتمتع بعد البعثة بنوع من السياسة الخاصة التي مكنته بفضل الله ورعايته من التغلّب على الأعداء في كلا البُعدين (المعنوي والسياسي). يمكن لنا أن ندعي أنه لولا هذه العناية الإلهية لما أمكن للنبي أن يحقق كل هذه الانتصارات الباهرة على أعدائه. وأنّ الآيات التي تأمر النبي بفعل أمر أو تنهاه عن شيء تؤيد هذا الادعاء، وإليك بعضاً من هذه الآيات:

- (وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا) (1) .

- (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) (2) .

- (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (3) .

- (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ) (4) .

وعليه فإن نسبة النبوّة وهذه الانتصارات الباهرة التي حققها النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم إلى الناحية البشرية من وجوده الشريف - بقطع النظر عن العناية الإلهية - لا تنسجم مع الأدلة السابقة و لا تتناغم مع الحقائق.

ص: 177


1- الإسراء: 74 .
2- النساء : 113 .
3- آل عمران: 159 .
4- الطور: 48 .

الشبهة العاشرة: دعوى اقتباس الإسلام من الأديان الأخرى

اشارة

الشبهة العاشرة: دعوى اقتباس الإسلام من الأديان الأخرى و مختلف الثقافات في العالم (1):

لقد سعی أعداء الإسلام إلى إظهاره بوصفه متأثراً بالأديان والثقافات السابقة، وأرادوا بذلك إنكار أن يكون للإسلام من خلفية سماوية أو أنه نتاج الارتباط بالوحى وعالم الغيب. وفي هذا الإطار جاء في كتاب «الإسلام والإسلاموية» لمؤلفه ابن وراق (2) قوله :

«لا يحتوي القرآن على عقيدة إلا وهناك إشارة إليها من قبل الأديان والحضارات السابقة، وإن جميع الأصول الأخلاقية الواردة في القرآن تُعدّ من بديهيات القواعد العامة في حياة الإنسان، وإن القصص الواردة في القرآن مأخوذة من تعاليم اليهود والمسيحيين.

فقد حاور النبي محمد في أسفاره التي قام به إلى الشام حاخامات اليهود والرهبان في صوامعهم والمنحدرين من أقوام عاد وثمود، وتعلم منهم

ص: 178


1- تم نقل الإجابة عن هذه الشبهة والشبهتين الأخريين (أسباب عدم نزول الإمدادات الغيبية في الحروب، وأسباب انكسار النبي في بعض الحروب) من الفصل الثاني إلى هذا الفصل بعد إجراء بعض التعديلات الطفيفة عليها.
2- ابن وراق اسم مستعار لكاتب باكستاني، ولد في الهند عام 1946 للميلاد، والتحق هناك بإحدى مدارس تعليم القرآن. درس بعد ذلك في جامعة ادينبرا وتخلى عن اعتناق الاسلام. وهو يعيش اليوم في الولايات المتحدة الأمريكية حيث يعمل في معهد علمنة المجتمع الإسلامي. وقد نشرت له عدة مؤلفات تحت اسمه المستعار (ابن ورّاق)، مثل كتابه الرائج جداً الصادر عام 1994م، بعنوان "لماذا لم أعد مسلما"، وكتابه الجديد "الدفاع عن الغرب" وهو نقد لكتاب إدوارد سعيد "حول الاستشراق".

القصص القرآني» (1).

مناقشة وتحليل:

في معرض نقدنا لهذه الشبهة تجدر الإشارة إلى الأمور الآتية:

1 - أميّة النبي:

إنّ الكلام القائل بأن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بوصفه نبي الإسلام ومؤسس شريعته، إنما استنسخ الإسلام من الأديان أو الثقافات والحضارات الأخرى، يخالف جميع الحقائق والوقائع التاريخية؛ إذ شهد التاريخ أن النبي لم يدرس عند أي عالم من علماء الأديان الأخرى، كما أنه لم يدرس في أي مركز أو مؤسسة من المؤسسات والمراكز العلمية العالمية في ذلك العصر.

بعبارة أخرى إن اتصاف النبي بالأمية يعني أنه لم يتعلم القراءة والكتابة، ولم يكن باستطاعته أن يقرأ أو يكتب. في حين أن لازم الادعاء المتقدّم وجود الحد الأدنى من المعرفة التى تمكنه من قراءة الكتب المقدّسة للأديان الأخرى أو الثقافات والحضارات التي كانت معروفة في حينها، لكي

ص: 179


1- ابن وراق، اسلام ومسلماني (الإسلام والإسلاموية)، ترجمه إلى الفارسية مسعود انصاري (روشنگر) ، ص 35، كما قال هذا الكاتب نفسه في موضع آخر (إن النظرة المقارنة لدين الإسلام واليهودية والنصرانية تثبت أن الدين الإسلامي يعود بجذوره إلى اليهودية والنصرانية، وإن نصوص القرآن وأحكامه إن هي إلا استنساخ للتعاليم الواردة في الأديان السابقة، بل إنها في كثير من الموارد عبارة عن استنساخ مشوّه وناقص وغير مفهوم عنها) ، أُنظر : مسعود انصاري (روشنگر)، ص 123؛ علي میر فطروس، اسلام شناسی، ج 1، ص 21 .

يتمكن من الاقتباس منها لبناء دينه الجديد (1).

2 - عدم الارتباط التفصيلي والدائم بين النبي صلی الله علیه و آله و سلم وأتباع الأديان الأخرى:

يشهد التاريخ أن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم لم يرتبط بعلماء النصارى إلا في موردين عندما سافر إلى الشام، وكان أحدهما عندما كان يافعاً، والمورد الثاني عندما كان شاباً، وكان كلا اللقائين على مستوى اللقاء العابر الذي لا يمكن أن يكون كافياً لفهم التعاليم الواردة في شريعة عيسى وموسى (عليهما السلام)، فضلاً عن التأسيس عليه لبناء شريعة متكاملة الحلقات، وذلك في مدّة لا تتجاوز العشرين سنة، ومن دون أن يكون قد كتب شيئاً عن تلك الأديان.

3- عدم ذكر دعوى أخذ الإسلام من الأديان الأخرى من قبل الأعداء في صدر الإسلام:

الأمر الآخر أننا نلاحظ أن أعداء الإسلام الألدّاء الذين لم يتركوا وسيلة لدحر الإسلام في باكورة أمره إلا واستخدموها، لم يتهموا النبي بهذه التهمة أبداً، في حين أنهم اتهموه بمختلف الاتهامات من قبيل الاتصال بالجن وممارسة الكهانة وقول الشعر، بل ونسبوه حتى إلى الجنون أيضاً، ولكن حيث أنهم يعلمون أنه لم يسبق له أن التقى عالماً مسيحياً أو يهودياً لم يخطر ببالهم أن يتهموه بمثل هذه التهمة، لأنها ستكون بعيدة عن الواقع جداً، ولن تقنع أحداً. ثم إن أحبار اليهود ورهبان النصارى قد جدّوا بعد ذلك في مواجهة الإسلام من أجل الحيلولة دون اعتناق أبنائهم للإسلام، فلو كان النبي الأكرم مجرد ناسخ

ص: 180


1- تقدم تفصيل البحث بشأن أميّة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم في الفصل الأول من هذا الكتاب.

لتعاليمهم لاتخذوا ذلك سلاحاً ضدّه، كما كان اليهود يغتنمون أبسط الجزئيات لغمز قناة النبي منها، ومن ذلك ما كان من أمر القبلة وتوجه المسلمين في صلاتهم إلى بيت المقدس، معتبرين ذلك نقطة ضعف في الإسلام، وكان النبي لذلك يقلب طرفه إلى السماء متوقعاً تغيير القبلة في كل لحظة، حتى انتهى الأمر إلى إذن السماء بتغيير القبلة إلى الكعبة المشرفة.

4 - اشتراك الإسلام مع سائر الأديان يعود إلى اتحاد المصدر (وحي السماء):

وفيما يتعلق بشبهة التشابه القائم بين القرآن الكريم ومضامين الشريعة الإسلامية وبين الكتب السماوية الأخرى - التى يتخذها بعض المستشرقين مستمسكاً للطعن في الإسلام - يجب القول لا يمكن إنكار وجود هذا التشابه، إلا أنه لا يعود إلى اقتباس القرآن من الكتب السماوية الأخرى، وإنما سببه هو أن جميع الأديان التوحيدية ذات منشأ واحد وهو الوحي، وإن جميع الأنبياء والأديان السماوية تستند إلى إله واحد. ويمكن القول إن جميع الأديان عبارة عن دين واحد قد تكامل عبر العصور، وإن دين النبى الخاتم هو أكمل الأديان و ناسخها. وعليه حيث تشترك هذه الأديان في الخطوط العامة، فمن الطبيعي أن تتشابه في كثير من الموارد التفصيلية.

أما وجود عناصر الحضارات الأخرى في الإسلام ومن بينها بعض المسائل الفلسفية، فهو أمر يعود إلى طبيعة الحضارة الإسلامية، حيث تسرّبت هذه العناصر إليها بعد النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم ، ولا شأن للنبي بها، رغم أن هذه العناصر قد تمّ اجتذابها طبقاً للمباني الإسلامية وتعاليم النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم .

ص: 181

الشبهة الحادية عشرة: أسباب عدم نزول الإمدادات الغيبية في الحروب:

تمسك بعض أعداء الإسلام بعدم تأييد الله للنبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم و عدم إنزال الإمداد الغيبي عليه لاستنتاج أنه لم يكن نبياً، حيث قال:

«لقد ادعى محمد بعد معركة بدر أن الملائكة قد نزلت لنصرة جيش الإسلام، ولذلك على الرغم من التفوق العددي للمشركين تمكن المسلمون من تحقيق النصر عليهم، بل إن القرآن الكريم يتحدث عن عدد الملائكة، ويعد بأنه سينزل الملائكة المردفين لنصرة محمد في الحروب. ولسنا ندري ما الذي جعل الله لا يفي بوعده في معركة أحد، مكتفياً بالنظر إلى الهزيمة النكراء والمذلة التي تعرّض لها محمد والمسلمون؟» (1) .

الجواب:

لا شك في أن الله ينصر رسله وأنصارهم وأتباعهم، كما قال الله تعالى فى محكم كتابه الكريم:

(إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ ) (2) .

وهذا ما تحقّق فعلاً فى نهاية المطاف، حيث جعل الله سبحانه دينه هو الغالب، رغم كراهة المشركين والكافرين ورغم حشدهم لجميع إمكاناتهم وطاقاتهم للحيلولة من دون تحقّق هذا النصر، ولكن لا يسع شيء أن يحول دون تحقق إرادة الله التي قامت على ظهور الحق على الباطل.

ص: 182


1- مسعود أنصاري (روشنگر)، بازشناسي قرآن (إعادة قراءة القرآن)، ص 161 - 162 .
2- غافر: 51 .

وأما إذا كان المراد من الإمداد الغيبى هو المعجزة، فيجب القول لا شك فى أن الأنبياء إنما يتوصّلون من خلال المعجزة إلى إثبات صدق دعوتهم (1) ، وقد كان للنبي الأكرم في هذا السياق الكثير من المعاجز (2) ، ولما كان هو خاتم الأنبياء، فقد كانت إحدى معاجزه خالدة إلى يوم القيامة، وهي معجزة القرآن؛ لتكون شاهداً على صدقه على مرّ العصور.

1 - الإمداد الغيبي من العناصر الطبيعية الخاصة:

ومن جهة أخرى يجب القول إن الإمداد الغيبي هو نوع من الإعجاز والكرامة التى يمنّ بها الله على عباده في بعض الموارد، وكانت تؤدّي إلى انتصار المسلمين، بيد أن هذا الإمداد كان في الغالب يتمّ عبر الوسائل الطبيعية، من قبيل قذف الخوف والرعب في قلوب الأعداء، وهو أمرٌ كان يضعفهم من جهة ويقوّي المسلمين من جهة، كما حدث ذلك في واقعة بدر، وفي ذلك قال الله تعالى:

- (سَألْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) (3).

- (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) (4) .

وقال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في هذا الشأن: «نُصرت بالرعب» (5) .

ص: 183


1- أُنظر: آية الله محمد هادي معرفت، علوم قرآني، ص 345.
2- أُنظر: القطب الراوندي، جلوه های اعجاز قرآني، نقله إلى الفارسية غلام حسن محرمي، ص 650 .
3- الأنفال: 12 .
4- آل عمران: 151.
5- محمد بن عمر الواقدي، تحقيق مارسيدن جونز، ج 1، ص 322.

ومن بين الأسباب الطبيعية الأخرى التي أدت إلى انتصار المسلمين هي الرياح، وقد تحدّث رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم عن ذلك بشأن معركة بدر والخندق، فقال «نُصرت بالصبا» (1) .

2 - دخول الملائكة في القتال لرفع معنويات المؤمنين:

كما تحدّث القرآن الكريم أحياناً عن نزول الملائكة لمدّ يد العون إلى المؤمنين، وكان ذلك لغرض تقوية قلوبهم والشدّ على أيديهم، وإن لم يباشروا القتال بأنفسهم، قال تعالى: ﴿أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ) (2) .

وليس هناك تقرير تاريخى بأن الملائكة شاركت في قتل أحد من المشركين في الحرب، فقد رصدت كتب التاريخ عدد القتلى من الأعداء بسبعين شخصاً، وقد ذكرت كتب السير والمغازي أسماء الذين قتلوهم، من دون أن يرد ذكر للملائكة ضمن قائمة الذين قتلوهم.

3 - تعلق مشيئة الله على تعويل النبي على نظام العلية:

وعليه يمكن القول إن الله كان يمدّ يد العون على الدوام إلى النبي والمسلمين، وكان ينصرهم بالإمدادات الغيبية، ولكن المناط كان قائماً في أغلب الأحيان على الاستناد إلى الأمور الطبيعية، إلا في حالات الضرورة القصوى التي يكون فيها الكيان الإسلامي معرضاً للخطر الوجودي، وهنالك يأتي المدد الإلهى على شكل معجزة.

ص: 184


1- المصدر أعلاه، واقعة بدر، ج 1، ص 78؛ واقعة الخندق، ج 2، ص 476.
2- آل عمران: 124 .

الشبهة الثانية عشرة: إنكار دور النبي الأكرم صلی الله علیه و آله وسلم في الوحي (شبهة النحلة والببغاء):

اشارة

هناك من يرى أن اللازم من نظرية علماء الإسلام بشأن نزول ألفاظ القرآن من قبل الله على النبي هو إنكار دور النبي في الوحي، بمعنى أن الوحي والقرآن الكريم إذا لم يكن ثمرة تمخّضت عنها التجربة الدينية للنبي، فإن ذلك سيلزم منه تدني مستوى دور النبي إلى مجرد وسيط، أو أنه - على حدّ تعبير صاحب الشبهة - سيكون مثل الببغاء أو آلة التسجيل (1) .

قال أصحاب هذه الشبهة : إن القول بنظرية «النزول اللفظي للوحي» لا يتناسب مع «شخصية النبي»، ولذلك لا بد - للحفاظ على مكانة النبي - من إنكار النزول اللفظي للوحي بزعمهم والاعتقاد بأن القرآن الكريم هو ثمرة التجربة الدينية للنبي.

نقد ورأي:

إنّ الإشكال الهام في هذه المقاربة يكمن في الغفلة عن نظرية علماء الإسلام، فإنهم رغم اعتقادهم بأن الوحي والقرآن عين الألفاظ الصادرة عن

ص: 185


1- "إن القرآن نتاج كشف وتجربة بشرية مرسلة ومؤيدة بشكل خارق للعادة ... [ النظرية المشهورة ] إن النموذج الذي يجعل من النبي مجرّد قابل وناقل للوحي، واعتبار النسبة بين الله ونبيه من قبيل نسبة الخطيب إلى مكبر الصوت (اللاقطة)، لو أنه استعمل مثال النحلة أو النخلة بدلاً من الببغاء، لكن أبلغ وأجلى في بيان نسبة الوحي إلى النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم، فأين الببغاء الذي هو مجرد مقلد من النحلة التي ترقى إلى مستوى الخلق والانتاج المبدع ؟" (أُنظر: طوطي وزنبور، الجواب الثاني لآية الله جعفر سبحاني، موقع سروش).

الله، إلا أنهم من ناحية أخرى يؤكدون على دور النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم في مختلف الحقول التكوينية والتشريعية من العقيدة. ولأجل عدم طرح المباحث الجديدة من هذا النوع، لم يتم بيانه وتقريره بوصفه دوراً للنبي في الوحي، وهذا ما سنعمل على عرضه هنا من خلال التأمل فى آراء العلماء من المسلمين.

كما سنشير في الختام إلى إمكان الجمع بين نظرية المتكلمين والفلاسفة والعرفاء.

إشارة إلى حقيقة الوحي:

إن الوحي حقيقة خافية ومستترة لا يمكن التوصّل إلى إدراك كنهها إلا لأصحاب الوحى من «الأنبياء» أنفسهم. وبالالتفات إلى هذه الحقيقة فإن دور أصحاب الوحي في تلقي الوحي سيكون خافياً بدوره على الناس العاديين، شأنه في ذلك شأن حقيقة الوحي نفسها. ومع ذلك قد يمكن - من خلال التمسّك بالروايات المأثورة عن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بشأن الوحي، والنظر في قواعد وأصول علوم من قبيل العرفان والفلسفة - تقديم صورة إجمالية عن حقيقة الوحى ودور الأنبياء فيه. ولهذه الغاية لا بد أولاً من الإشارة إلى حقيقة الوحي.

أ - الاتجاه الإخباري والموضوعي:

في هذا الاتجاه يتمّ تفسير حقيقة الوحي على أنها الإخبار والإعلان عن نداء ورسالة السماء من قبل الله بشكل مباشر أو بواسطة إنسان خاص (النبي)، لغرض إبلاغه إلى الناس.

وإن مثل هذا الوحي يتحقق على مختلف الصور، من قبيل نزول الملك، والرؤيا، والإلقاء في القلب والروع، أو سماع النداء الغيبي.

ص: 186

وقد استدلّ أصحاب هذا الرأي على نظريتهم بقوله تعالى:

(وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلَّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيَا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) (1).

فقد تحدّثت هذه الآية الشريفة أولاً عن «الكلام» بوصفه وسيلة للتخاطب بين الله والبشر، والمراد منه مطلق الارتباط والإخبار والإعلان من قبل الله والذي يكون أحياناً من خلال الكلام والألفاظ والإلقاء في القلب والروع (الإلهام = القريب من معنى الحدس) الذي يدل عليه القسم الأول منه «إلا وحياً» طبقاً لما عليه رأي المفسرين. ويؤيد هذا القسم القسمان الآخران، أي «من وراء حجاب» و«يرسل رسولاً»؛ وذلك لأن الأول يعني سماع النداء الإلهي من وراء حجاب مثل الشجر، والثاني يعني الحوار الملَك، فيبقى العبارة «إلا وحياً» مفهوم الإلهام في القلب أو الإلهام في عالم الرؤيا.

وهذا التفسير هو التفسير التقليدي للوحى والذي عليه أكثر علماء الإسلام وحتى المسيحيين أيضاً.

ب - الاتجاه الفلسفي والعرفاني:

الاتجاه الآخر يعود إلى الفلاسفة والعرفاء، حيث يُدّعى أن الوحى ليس مجرّد نزول ملَك الوحي أو التكلم الإلهي مع النبي، بل يتحقق في ضوء الكشف والشهود الذي يحصل للنفس النبوية بفعل تكاملها بحيث يغدو بإمكانها الارتباط بعالم الغيب، وتنجح في الحصول على الأخبار والأحكام المغيبة عن سواهم.

ص: 187


1- الشورى: 51.

وقد وصف صدر المتألهين مبدأ الوحى بالتفات النفس وتوجّهها إلى عالم الغيب، فقال «إن جهة النفس التي إلى عالم الغيب هي مدخل الإلهام والوحي» (1).

وقال سماحة الإمام الخميني قدس سرّه في توضيح مفهوم الوحي:

«بعد خروج النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم من الحالة البشرية، وتوجيه شطر قلبه إلى ناحية الجبروت، يتصل بتلك الروح العظمى المتمثلة بجبرائيل علیه السلام» (2) .

حصيلة الكلام أنّ هناك تفسيرين مختلفين لحقيقة الوحي، وطبقاً للتفسير التقليدي نجد الوحى عبارة عن نزول النداء السماوى من طريق الملَك أو النداء الغيبي. وطبقاً للتفسير الفلسفي والعرفاني فإن الوحي يعني صعود النبي واتصاله النفسي والروحي بالعوالم العليا التي هي عوالم العقول والملائكة.

الأول: رؤية المتكلمين والفلاسفة:

اشارة

نبدأ أولاً ببيان دور النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم في الوحي على أساس النظرية المشهورة والتقليدية:

1 - الاستعداد اللازم لتلقي الوحي:

إنّ أهم دور يراه هذا الاتجاه لأصحاب الوحى - أي الأنبياء - هو الاستعداد الخاص لتقبّل الوحي، بمعنى أن الوصول إلى مقام النبوّة وتلقي الوحي ليس مقدوراً لجميع الناس، وإنما يتوقف ذلك على توفر الصلاحية والاستعداد لتقبّل الوحي، ذلك من خلال الاتصاف بالصفات الكمالية بشكل

ص: 188


1- صدر المتألهين، المبدأ والمعاد، ص 599.
2- السيد روح الله الموسوي الخميني، تفسير سورة الحمد، ص 183 .

تام. بعبارة أخرى إن الأنبياء هم من الأفراد الصالحين والكاملين الذي اجتباهم الله واصطفاهم لحمل رسالته. فهم يتمتعون بأقصى درجات الكمال والصلاح في مختلف الأبعاد العقلية والأخلاقية.

وهذا المعنى من النبوة قد تمّ التأكيد عليه في الروايات، فقد روي عن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم أنه قال:

«وَلا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيّاً وَلا رَسُولًا حَتَّى يَسْتَكْمِلَ الْعَقْلَ وَيَكُونَ عَقْلُهُ أَفْضَلَ مِنْ جَميع عُقُولِ أُمَّتِهِ» (1) .

وكما روي عن الإمام الحسين علیه السلام أنه قال:

«إن الله وجد قلب محمد أفضل القلوب وأوعاها؛ فاختاره للنبوة» (2) .

وقد أكد بعض الفلاسفة على لزوم توفر شرط الكفاءة والاستعداد والنورانية في النفس النبوية، كي يتمكن النبي من اللقاء بملك الوحي (3) . وقد صرّح الأستاذ الشهيد مرتضى المطهري من المعاصرين قائلاً:

«إن الوحي - خلافاً للغريزة - هداية تتخطى الحس والعقل، بل هو من الأمور الاكتسابية إلى حدّ كبير. بل هو من أعلى درجات الوعي والإدراك» (4) .

وعليه فإن أول دور للنبي في الوحي يكمن في استعداده لتقبل الوحي

ص: 189


1- محمد بن يعقوب الكليني، أصول الكافي، ج 1، ص 13.
2- محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 18، ص 205.
3- سلسلة مصنفات شيخ الإشراق، مقدمة و تصحيح هنري كوربان، ج 1، ص 95؛ شیخ الإشراق، سه رساله از شیخ اشراق (ثلاث رسائل لشيخ الإشراق)، ص 6 .
4- مرتضى المطهري، مجوعه آثار (الأعمال الكاملة)، ج 2، ص192.

وتوجيه خطابه إليه. وهذه الصفة في حدّ ذاتها تحظى بأهمية بالغة، إذ لا يمكن الاتصاف بهذه الصفة إلا للأفراد من البشر؛ ليكونوا أهلاً لتلقي رسالة السماء.

زبدة الكلام أن الرؤية التقليدية لا ترى دور حامل الوحي يقتصر على مجرد دور الوسيط والببغاء وآلة التسجيل؛ لأن هذه الأمور مجرّد وسائل مادية تمّ تصميمها من قبل شخص بعينه. وأما حامل الوحي فهو إنسان مختار ومجتبى؛ إذ لا بد لتقبل خطاب الوحي من مواصفات خاصة، وإن هذا الأمر رهن بأن يتحلى الإنسان (النبي) بأتمّ الصفات الكمالية.

2 - تحمّل الوحي:

لقد أشرنا إلى أن الشرط الأساس في تقبّل حمل خطاب الوحي هو الاستعداد الخاص لتلقي نداء الخالق تعالى. وإن المرحلة التالية أو الدور التالي لحامل الوحي يكمن في قدرته على تحمّل الوحي، توضيح ذلك:

إن ارتباط الإنسان بمحيطه يتمّ عادة من خلال الحواس الخمسة. أما الارتباط بعالم الغيب فهو ارتباط خاص وخارق للعادة، وإن أصل إقامة هذا الارتباط والقدرة على المحافظة عليه تستدعي وجود أرضية خاصة، من قبيل الأفراد الذين يقيمون الارتباط مع العوالم الغيبية من خلال اللجوء إلى مختلف الأساليب، مثل إحضار الأرواح والجن وما إلى ذلك مما يصعب على البعض تحمّله، وقد يؤدي بهم أحياناً إلى الاضطراب أو الحالات النفسية الأخرى، كما أن استمرار مثل هذا الارتباط يتوقف على أسباب وعناصر، من بينها وجود بعض الصفات الخاصة لدى الفرد، والمثابرة على مزاولتها.

ولمّا كانت النبوة والوحي عبارة عن ارتباط من نوع خاص بعالم الغيب، فإن شرائطه ستكون أكثر تعقيداً من سائر أنواع الارتباط الأخرى

ص: 190

بالغيب، وإن على شخص النبي أن يستعد ويوفّر في نفسه أرضية نزول الوحي والملَك أو سماع النداء الغيبي؛ ذلك لأن الوحي ليس مجرّد رؤية شخص عادي أو سماع صوت مألوف. وإن ما ورد في الروايات من الأحوال العجيبة التي كانت تظهر على النبي أثناء نزول الوحى من قبيل الضعف والإحساس بالبرد وترشّح العرق والاضطراب وما يُشبه الإغماء تعكس صعوبة تحمّل الوحي، وقد روي عن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم، أنه قال:

«أحيانا يأتي مثل صلصلة الجرس وهو أشد علي فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال» (1) .

وقال في موضع آخر في جوابه عن سؤال بشأن كيفية الشعور بالوحي:

«أسمع صلاصل ثمّ أسكت عند ذلك، فما من مرّة يوحى إليّ، إلا ظننت أن نفسي تُقبض» (2) .

بالالتفات إلى حقيقة أن تلقّي الوحي يكون محفوفاً بالصعوبات في بعض الحالات في الحدّ الأدنى، يتضح أن نزول الوحي لم يكن مجرّد سماع

صوت أو رؤية اعتيادية كي نكون قد تنزلنا بدور النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم إلى مستوى الببغاء أو آلة التسجيل، بل إن لنزول الوحي إطاره الخاص المصحوب بكثير من الصعوبات التي لم يكن بمقدور غير النفس الإلهية التي يتمتع بها النبي أن تتحملها، أو أن تنقلها بفضل العناية الإلهية بشكل خالص.

ص: 191


1- محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 18، ص 260 ، وج 56 ، ص 214؛ ابن شهر آشوب، المناقب، ج 1، ص 43 .
2- السيوطي ، جلال الدين، الإتقان في علوم القرآن، ج 1، ص 127 .
3 - تلقي الوحي الخالص:

أمّا الدور اللاحق للنبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بعد أصل التعرّض للوحي والخطاب الإلهي، فيكمن في تلقي الوحي الخالص من الله مباشرة من خلال الواسطة. ولمّا كان الارتباط بعالم الغيب يُعدّ أمراً خارقاً للعادة بالنسبة إلى الإنسان الدنيوي، فهناك إمكانية لوقوع حامل الوحي في الخطأ أو النسيان في تلقي الوحي. من هنا فقد لحظ الله سبحانه وتعالى طريقين لصيانة الوحي؛ الطريق الأول اختيار النبي من بين الكاملين من الناس الذين يتوفّر لديهم الاستعداد لحفظ الوحي. ويكون دور النبي في هذا الطريق بارزاً، ذلك لأن النبي لما يتمتع به من الصفات الكمالية يتمكن من الاضطلاع بتلقي الوحي. وبعبارة أخرى إن كفاءة النفس النبوية دخيلة ومؤثرة في هذا المقام. وقد تحدّث القرآن الكريم عن التعليم الإلهي للنبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم، وهذا فرع استعداد المتعلم، قال تعالى:

- (وَأَنزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا) (1) .

وأما الطريق الثاني فيتمثل في عناية الله وفضله الشامل للنفس النبوية، وهو ما تؤكد عليه الآيات الآتية:

- (لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْ عَدَدًا) (2) .

ص: 192


1- النساء: 113 .
2- الجن: 28 .

- (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا ٭ إِلَّا مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا) (1) .

- (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (2) .

وإن نتيجة هذين الطريقين (النفس النبوية، والعناية الإلهية)، تثبت عصمة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم في مقام تلقي الوحي (3) .

4 - حفظ الوحي:

أمّا الدور الرابع الذي يضطلع به النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم فيما يتعلق بالوحي، والذي يرتبط بمرحلة ما بعد الحصول على الوحي الخالص، فيتمثل بمرحلة الحفظ. بمعنى أن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم يمكنه بفضل الله وعنايته من حفظ جميع الآيات النازلة عليه من دون نقصان ومن دون تقديم حرف على حرف، حتى يبلغه إلى المخاطبين. قال تعالى في محكم كتابه الكريم: ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَی) (4) . كما أكد النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم نفسه على مسألة حفظ الوحي بعد بواسطة الملَك قائلاً: «فقد وعيت ما قال» (5) .

وكان النبي - كما قال الإمام علي علیه السلام في وصفه - مستأمناً على الوحى الإلهى «أمين وحيه» (6) .

ص: 193


1- الجن: 26 - 27.
2- الحجر: 9 .
3- أُنظر: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 20، ص 133 .
4- الأعلى: 6 .
5- العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 18، ص 260.
6- نهج البلاغة، الخطبة 172.
5 - إبلاغ الوحي بشكل كامل وتام:

وفي مرحلة إبلاغ نداء الوحي إلى الناس، قد يُقال بأن النبي يعمل على تغيير رسالة الوحي، أو يؤجل إبلاغه إلى وقت آخر بسبب بعض المصالح، من قبيل الخوف أو الطمع، أو أن يمتنع عن إبلاغه من الأساس. بيد أن القرآن الكريم قال في هذا الشأن:

- (وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ﴾ (1) .

- (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (2) .

أما الآية الآتية فتؤكد على أن جميع ما ينطق به النبي هو عين الوحي الإلهي:

- ﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى ٭ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) (3) .

فهذه الآية الشريفة تبرّئ النبي من اتباع جميع أنواع الهوى في القول، وترى أن ما ينطق به هو الوحي الإلهي، وهو أمرٌ يحكي عن قداسة النفس النبوية وتكاملها.

هذا وقد ذهب بعض أهل الحديث من أهل السنة إلى الاعتقاد بإمكان تلبيس الشيطان في الوحى، وهو ما عرف عندهم بقصة «الغرانيق»، وقد تقدم تحليلها ونقدها ضمن الشبهات المتقدمة.

ص: 194


1- التكوير: 24 .
2- يونس: 15 .
3- النجم: 3 - 4 .
6 - تفسير وبيان الوحي «الولاية التشريعية»:

إنّ من بين أهمّ الأدوار التي يضطلع بها رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، بيان الوحي وتفسيره بشكل خالص. فإن القرآن الكريم يحتوي على قسمين من الآيات، وهما المحكمات والمتشابهات. والمتشابهات لا يمكن تفسيرهن إلا للراسخين في العلم، والنبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم على رأسهم، حيث يستطيع بسبب ارتباطه بعالم الغيب أن يقدم تفسيراً صادقاً وخالصاً لهذا النوع من الآيات، وهذا ما أكد عليه القرآن الكريم بقوله:

- (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (1) .

- (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ (2).

- ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) (3) .

و بعبارة أخرى إن الله سبحانه وتعالى قد فوّض لرسوله الكريم تشريع بعض الأحكام على أن يكون ذلك بإذنه، وطبقاً لبعض الروايات يمكن للنبي أن يضيف ركعتين إلى الصلاة اليومية، واستحباب صيام ثلاثة أيام في كل شهر، وتحريم جميع المسكرات بالإضافة إلى الخمر، ودية النفس والأنف، وتفصيلات

ص: 195


1- النحل: 44 .
2- البقرة: 151 .
3- آل عمران: 164 .

الصلاة وما إلى ذلك (1) .

وعليه رغم أن الرؤية التقليدية تصف دور النبي صلی الله علیه و آله و سلم بالدور القابل والمتلّقي للوحي، إلا أن الدور الذي يضطلع به النبي أكثر أهمية وأكبر تأثيراً من ذلك بكثير، إذ إنّه من السنخ التكويني الذي يعود إلى طبيعة النفس القدسية والإلهية التي يتمتع بها النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم ، ولولا هذه النفس النبوية القدسية التي هي نفس إلهية، لما أمكن للنبي أن يتصل بعالم الغيب أبداً، ولما تمكن من الحصول على الوحى وحفظه وإبلاغه . ولا تتوفر هذه الخصال والصفات إلا لدى الأنبياء، وإن تفسير النظرية التقليدية لدور النبي في الوحي بدور الببغاء ينشأ من عدم الفهم الصحيح لنظرية علماء الإسلام فيما يتعلق بحقيقة الوحي والنبوة.

الثاني: رأي الفلاسفة والعرفاء (الدور التكويني):

تقدّم أن أشرنا إلى أن الفلاسفة والعرفاء قد فسّروا حقيقة النبوّة والوحي بتكامل النفس النبوية والاتصال بعالم الغيب (عالم العقول والبرزخ والملكوت)، وإنه بموجب ذلك يتمكن النبي من الاتصال بعالم الغيب ويحصل بذلك على الأخبار والمعلومات بشأن عالم التكوين والتشريع.

ولمزيد من التوضيح بشأن نظرية الفلاسفة والعرفاء لا بدّ من الإشارة إلى النقاط الآتية:

ص: 196


1- أُنظر: محمد بن يعقوب الكليني، أصول الكافي، ج 1، ص 266؛ محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 25 ، ص 332؛ العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 4 ، ص 388 ، و ج 12، ص 259 .

1 - إن الاختلاف الجوهري بين الوحي النازل على نبي الإسلام وسائر الأنبياء الآخرين يعود إلى كون النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم هو المخلوق والصادر الأول. ففي عالم العقول قام الله سبحانه وتعالى بخلق العقل الأول الذي هو عبارة عن «الحقيقة المحمدية»، وإن سائر الكائنات - ومنها الملائكة والأنبياء - قد وجدت في ضوء وجود هذه الحقيقة المحمدية». وبعبارة أخرى إن الحقيقة المحمدية هي واسطة الفيض الإلهي إلى سائر الكائنات، وطبقاً لقاعدة «الواحد» فإن «الحقيقة المحمدية» تلعب دوراً إيجابياً فى ظهور الحياة وبقائها ووجود سائر الكائنات، ومن بينها ملائكة الوحي. وهذا ما تدلّ عليه بعض الروايات أيضاً، فقد روي عن الإمام علي علیه السلام، أنه قال:

«نحن صنائع الله، والخلق صنائع لنا» (1) .

يذهب الفلاسفة والعرفاء إلى الاعتقاد بأن العقل الأول «الحقيقة المحمدية» هو أكمل الموجودات، وإن العوالم الأخرى إنما تنشأ وتتفرّع عنها (2) .

2 - وعلى هذا الأساس هناك للقرآن الكريم وجود عقلي بسيط سابق فى عالم العقول أيضاً، وعلى رأس هذه العقول «الحقيقة المحمدية»، وقد نزل منها إلى عالم المادة والألفاظ، وقد دلّ القرآن الكريم على هذا المعنى أيضاً، ومن ذلك قوله تعالى:

- (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ﴾ (3) .

ص: 197


1- نهج البلاغة، الكتاب رقم 28 .
2- أُنظر: الإمام السيد روح الله الموسوي الخميني، آداب الصلاة، ص 149 - 180؛ السيد روح الله الموسوي الخميني، تفسير سورة الحمد، ص 65-66.
3- الزخرف : 4 .

- (الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِیرٍ) (1) .

- (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ) (2) .

- (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ٭ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ ٭ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾ (3).

3 - طبقاً لنظرية العرفاء فإن للوجودات الدنيوية للناس وجوداً مجرداً وسابقاً باسم «العين الثابتة» في عالم العقول أو «الأعيان الثابتة» وإن العنصر المادي للإنسان هو من مقتضيات العين الثابتة.

وإن العنصر المادي للنبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم لا يشذ عن هذه القاعدة. وطبقاً لذلك تكون النفس النبوية مظهراً ومقتضى ل- «العين الثابتة». ولمّا كانت العين الثابتة للنبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم قد بلغت مقام النبوة، فإن العنصر المادي له يقتضي ذلك أيضاً.

4 - لكي يبلغ الفرد مقام النبوّة فإنه بحاجة إلى تهذيب على مستوى النفس والجسد وإلى عناية إلهية. ولتحقيق هذه الغاية فإن النفس النبوية بعد اكتساب الأهلية اللازمة ترتبط بالعقل الفعال (جبرائيل)، ويقوم جبرائيل بنقل شيء من المعلومات والمعارف القرآنية التي حصل عليها بدوره من الحقيقة المحمدية إلى النفس الدنيوية للنبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم .

5 - من خلال سموّ وقوّة النفس النبوية يشتدّ ارتباطها بجبرائيل، ولربما أمكن للعنصر المادي للنبي أن يتصل ب- «حقيقته المحمدية» مباشرة، ليأخذ منها

ص: 198


1- هود: 1.
2- البروج : 21 .
3- الواقعة: 77 - 79 .

المعارف الدينية الخالصة (1) . وفى ضوء هذا الارتباط تتكامل النفس النبوية بحيث تغدو الملائكة - ومن بينها ملَك الوحي (جبرائيل) - مأتمرة بأمره، وتأخذ الإذن منه بالنزول والصعود (2) .

خلاصة واستنتاج:

يمكن لنا أن نختصر نظرية العرفاء على النحو الآتي إن للقرآن الكريم مختلف الوجودات العقلية، وإن نزول حقيقته العقلية من مقام الحقيقة المحمدية إلى النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم تكون من خلال الحقيقة المحمدية أو باتصال النفس النبوية بذلك المبدأ، إلا أن النزول اللفظي للقرآن يكون من قبل نزول جبرائيل على العنصر المادي للنبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم .

وعلى هذا الأساس، فإن دور العنصر المادي للنبي بالنسبة إلى ألفاظ القرآن يمثل دور القابل والمتلقى، وإن كان يمكن للعنصر المادي أن يتصل بالحقيقة المحمدية مباشرة ليأخذ منها الوحي المجرّد، إلا أن تنزل القرآن في قالب اللفظ يكون عبر ملك الوحي .

ومن خلال التدبّر في مختلف الآراء يمكن لنا أن نستنتج إمكان الجمع بين رأي المشهور (النظرية التقليدية) القائل بأن دور النبي هو مجرد متقبل للوحي، وبين رأي الفلاسفة والعرفاء (الدور التكويني للنبي)، بمعنى أن النبي

ص: 199


1- أُنظر: صدر المتألهين، الحكمة المتعالية في الأسفار الأربعة، ج 7، ص 27؛ السيد جلال الدين الآشتياني، شرح رساله قیصری، ص 172 .
2- أُنظر: الإمام السيد روح الله الموسوي الخميني، صحيفه نور (صحيفة النور)، ج 19، ص 176 .

(العنصر الدنيوي) في بداية الوحي والرسالة كان يرتبط بملَك الوحي وجبرائيل، وكان جبرائيل يقوم بعملية إنزال الوحي عليه. وكان هذا يتمثل بالنزول اللفظي للقرآن الذي استمرّ حتى النهاية. ومن جهة أخرى فإن النبي من خلال سموّ النفس والتعالى والتكامل يتصل بالحقيقة المحمدية وهناك يتمكن من الإحاطة بالمعارف الحقة ومن بينها الحقيقة المجرّدة السابقة للقرآن.

وعلى هذا الأساس لا تهافت بين القول بوحيانية القرآن وسماويته والقول بشخصية النبي ودوره في الوحي، وإن بالإمكان الجمع بين هذين القولين.

ص: 200

الفَصْلُ السَّادِسْ

اشارة

الخاتمية

طبقاً لصريح الآيات وعدد من الروايات، تعدّ الخاتمية أصلاً من أصول الدين الإسلامي الحنيف، بمعنى أن النبي محمداً صلی الله علیه و آله و سلم هو آخر الأنبياء وخاتم سفراء السماء إلى الناس، وبوفاته يُغلق ملف النبوّة. بيد أن التاريخ شهد كثيراً من حالات الطامحين إلى الرئاسة الذين يدعون النبوة. ولا تقتصر هذه الظاهرة على التاريخ الحديث، بل تعود إلى عصر النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم نفسه، و من أشهر الذين ادعو النبوة في عصر النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم، هو مسيلمة الكذاب.

هذا وتذهب الفرَق الباطنية (من القرامطة والإسماعيلية) إلى الاعتقاد بوجود سبعة أوصياء لنبي الإسلام صلی الله علیه و آله و سلم، و إن الوصي أو الإمام السابع يتمتع بمقام خاص، و إن من أهم ما يميّزه من غيره هو مقام النبوة) (1) . وفي القرن العشرين ظهرت بعض التيارات التي ادعت النبوة أيضاً، من قبيل القاديانية والبابية والبهائية (2) .

ص: 201


1- أُنظر: النوبختي، فرق الشيعة، ص 73؛ العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي، شيعه در اسلام، ص 65 .
2- سيأتي الحديث في الصفحات القادمة عن هؤلاء المدّعين ومصادر طرح هذه الشبهة إن شاء الله تعالى.

الشبهة الأولى: تجريح أدلة الخاتمية:

اشارة

يسعى منكرو الخاتمية قبل كل شيء إلى إنكار وجود أيّ نص وآية تثبت الخاتمية (1) . وإن هذه الشبهة أضعف من أن تطرح؛ لأن الآيات القرآنية والروايات النبوية تثبت بطلان هذه الشبهة بشكل صريح وقاطع.

مناقشة وتحليل:

تقدم منا أن ذكرنا الأدلة العقلية والنقلية بشأن أصل الخاتمية بالتفصيل في كتابين لنا (2) ، وعليه سنكتفي هنا بنقل إجمالي لآيات الخاتمية ورواياتها.

الآيات:

قال الله تعالى في محكم كتابه الكريم:

- (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ الله وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) (3) .

فإن هذه الآية تثبت بشكل صريح لا يقبل التأويل والشك بأن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم هو آخر الأنبياء وخاتمهم. وأما الآية الآتية فتنفي وجود أي خلل أو إمكان أي تغلغل للباطل في القرآن الكريم، وذلك إذ يقول تعالى:

- (لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدِ) (4) .

ص: 202


1- يتمّ الترويج لهذه الشبهة على مواقع التواصل الاجتماعي التي تعود للفرقة البهائية.
2- أُنظر: محمد حسن قدردان قراملکي، آيين خاتم (خاتم الأديان)، ص 427 فما بعد؛ وانظر أيضاً پاسخ به شبهات كلامى (أجوبة الشبهات الكلامية)، فصل الدين والنبوّة، ص 202.
3- الأحزاب: 40 .
4- فصّلت: 42 .

وحيث أن النبي الجديد يأتي بشريعة جديدة، أو أنه يُحدث في الحد الأدنى تغييراً وتحوّلاً جوهرياً في الشريعة السابقة، وفي كلتا هاتين الحالتين (الشريعة الجديدة أو التغيير الجذري في أحكام الشريعة السابقة)، نشهد عروض البطلان فى الشريعة السابقة، وهو أمرٌ يتعارض مع هذه الآية. بعبارة أخرى إن عروض الباطل على الكتاب يكون من خلال واحدة من ثلاث صور، وهي:

أ - حذف آية أو إضافة آية.

ب - نسخ الكتاب بأجمعه.

ج - احتمال الكذب في معنى الآيات.

ولمّا كانت هذه الآية تنفى عروض الباطل على القرآن بشكل مطلق، يثبت أنه آخر الكتب السماوية وأنه نزل كاملاً لا نقص فيه، وسيبقى حقاً ومعتبراً إلى يوم القيامة. قال تعالى على لسان نبيه الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم:

- (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأَنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ) (1) .

فصريح هذه الآية يُثبت أحقية القرآن الكريم وحجيته على جميع الناس الذين يصلهم، من دون تقييد بفترة زمنية خاصّة:

- (وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُمْتَرِينَ ٭ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (2).

ص: 203


1- الأنعام: 19 .
2- الأنعام: 114 - 115.

الروايات:

فضلاً عن الآيات القرآنية، فقد صرّح النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم نفسه في كثير من الروايات المأثورة عنه - بوصفه مفسراً ومبيّناً للقرآن الكريم - بأصل الخاتمية، وفيما يأتي نشير إلى بعض عناوينها:

- «أرسلت إلى الناس كافة، وبي خُتم النبيون» (1) .

- «لى خمسة أسماء ... أنا العاقب الذي ليس بعده نبي» (2) .

- «أنا خاتم النبيين» (3) .

وقال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم لعلي علیه السلام ، فيما يعرف بحديث المنزلة، وقد روي بصور وأشكال مختلفة، ومنها الصيغة الآتية:

- «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي» (4) .

وروي عن الرسول الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم أنه قال: «مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بني بنياناً فأحسنه وأجمله؛ فجعل الناس يطيفون به ويقولون ما رأينا بنياناً أحسن من هذا إلا هذه اللبنة، فكنت أنا تلك اللبنة» (5) .

-«لا نبي بعدي، ولا أمّة بعدكم» (6) . ورد ذلك عن النبي في سياق

ص: 204


1- ابن سعد، الطبقات الكبرى، تحقيق عبد القادر عطا، ج 1، ص 128؛ أحمد بن حنبل، مسند أحمد، ج 2، ص 412.
2- مسلم، صحیح مسلم ، ج 8، ص 89 ؛ أحمد بن حنبل، مسند أحمد، ج 4، ص 81.
3- البخاري، صحيح البخاري، ج 3، ص 26؛ جلال الدين السيوطي، الدر المنثور في التفسير بالمأثور، ج 5، ص 203.
4- العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 57 ، ص 254 و 289.
5- مسلم، صحیح مسلم ، ج 4 ، ص 1790، وج 7، ص 64.
6- العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 21، ص 381.

غدیر خم.

- «فلا نبوّة بعدی» (1) .

وعلاوة على الروايات النبوية، هناك كثير من الروايات المأثورة بشأن الخاتمية عن الأئمة الأطهار علیهم السلام ، وفيما يأتي نشير إلى بعضها:

قال الإمام علي علیه السلام في بيان صفة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم:

- «بعث الله محمداً لإنجاز عدته وتمام نبوّته» (2) .

- «أمين وحيه وخاتم رسله» (3) .

- «بأبي أنت وأمي، لقد انقطعت بموتك ما لم تنقطع بموت غيرك من النبوّة و الأنبياء و أخبار السماء» (4) .

- «فقفّی به الرسل، وختم به الوحي» (5) .

- «أما رسول الله فخاتم النبيين ليس بعده نبي و لا رسول، وفتح برسول الله الأنبياء إلى يوم القيامة» (6) .

- «حتى تمّت بنبينا محمد صلی الله علیه و آله و سلم حجته وبلغ المقطع عذره ونذره» (7) .

- «الخاتم لما سبق» (8) .

وسأل الإمام الحسين علیه السلام جدّه رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم :

ص: 205


1- أحمد بن عبد الله أبو نعيم، حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، ج 1 ، ص 66.
2- نهج البلاغة، الخطبة الأولى.
3- المصدر أعلاه، الخطبة 172.
4- المصدر أعلاه، الخطبة 230 .
5- المصدر أعلاه، الخطبة 133 .
6- الطبرسي، الاحتجاج، ج 1، ص 220 .
7- نهج البلاغة، الخطبة 87.
8- المصدر أعلاه، الخطبة 87 .

«فأخبرني يا رسول الله، هل يكون بعدك نبي؟ فقال لا، أنا خاتم النبيين» (1) .

وقال الإمام الحسين علیه السلام في دعاء عرفة:

«صلى الله على خيرته محمد خاتم النبيين» (2) .

«وعنه علیه السلام أيضاً «أبي علي وجدي خاتم الرسل» (3) .

الشبهة الثانية: تفسير آية الخاتمية:

اشارة

تقدم أن أشرنا إلى أن الآية الآتية تبيّن خاتمية النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم للنبوّة بشكل صريح:

﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) (4).

وحيث وجد البهائيون هذه الآية معارضة لادعاء نبوّة الباب والميرزا حسين علي بهاء الله - مؤسس الفرقة البهائية - فقد عمدوا إلى تأويل لفظ «الخاتم» فيها.

أ - الخاتم بمعنى الزينة:

حيث مالوا في تفسيرهم الأول إلى الاعتقاد بأن الخاتم لغة يعني الزينة، من قبيل ما يتختم به المرء من أنواع الخواتم المرصعة بالأحجار الكريمة، فحيث أن النبي الأكرم قد تفوّق على من سبقه من الأنبياء من حيث المقامات وعلوّ

ص: 206


1- المحدث العاملي، إثبات الهداة ، ج 2، ص 544 .
2- دعاء عرفة، إقبال الأعمال، ص 343.
3- علي بن عيسى الأربلي، كشف الغمة، ج 2، ص 213.
4- الأحزاب: 40 .

الدرجات، وصفه القرآن الكريم بأنه «خاتم النبيين» (1) .

مناقشة وتحليل :

في تحليل هذه الشبهة تجب الإشارة إلى أن كلمة «الخاتم» - بكسر التاء - تعني اسم الفاعل من الذي يختم الأمر وينهيه، وأما - بفتح التاء - فيعني الخاتم الذي كان يستعمله أغلب الكتاب للتوقيع على نهاية نصوص كتبهم ورسائلهم إيذاناً بانتهائها، كما كانوا يختمون رؤوس الظروف والدوارق الزجاجية بالشمع والرصاص، ويطلقون عليه مصطلح «الختم» (2) .

وعلى كلتا الحالتين (بكسر التاء أو بفتحها) فإن الخاتمية تعني الانتهاء، وإن كون النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم هو خاتم الأنبياء ونهاية عهد الرسالات كان من الوضوح بحيث يعترف له بذلك حتى بهاء الله نفسه إذ يقول:

«والصلاة والسلام على سيد العالم ومربّي الأمم الذي به انتهت الرسالة والنبوّة» (3) .

ب - الخاتم بمعنى المصدّق:

بعد أن التفت أصحاب التأويل السابق إلى ضعف تأويلهم، صاروا في المرحلة التالية مع إذعانهم بمعنى الخاتم إلى القول بأن المراد من الخاتم الذي يختمّ به الكتّاب رسائلهم هو التصديق على ما جاء في نص الرسالة، وهذا

ص: 207


1- أُنظر: أحمد روحي روشني، خاتميت (الخاتمية)، ص 29.
2- أُنظر: المقاييس، قاموس اللغة؛ ابن منظور الإفريقي، لسان العرب، مادة (ختم)، و (خاتم).
3- حسين علي بهاء الله، إشراقات، ص 292.

المعنى هو الذي أرادته الآية من «خاتم النبيين» بمعنى أن رسول الله مصدق لمن سبقه من الأنبياء، ولا دلالة فيها على أنه خاتم الأنبياء وأن لا نبي بعده (1) .

مناقشة وتحليل:

في تحليل هذه الشبهة والتأويل يجب القول:

أولاً: لم يرد في أيّ معجم لغوي أن الخاتم يستعمل في معنى التصديق والتأييد، وكما تقدم أن أشرنا فإن لفظ الخاتم قد استعمل في اللغة بمعنى الانتهاء من الشيء وختم نهاية الرسالة وبعض الظروف، وعليه تكون هذه الدعوى مخالفة للاستعمالات اللغوية.

ثانياً : إذا كان المراد من التصديق لازم استعمال معنى الخاتم - بمعنى الخاتم الذي يستعمل لختم آخر الرسالة - يجب القول إن هذا المعنى (أي تأييد محتوى الرسالة) هو معنى صحيح، إلا أن وضع الختم على نهاية الرسالة يشتمل على معنى آخر لم يذكره مفسّر الخاتمية عمداً أو سهواً، وهو انتهاء الرسالة، بمعنی أنه عندما يتم وضع الختم في أسفل الرسالة، فإن ذلك يعني تأييد ما ورد قبل الختم، فإن أضيف شيء إلى ما بعد الختم لا يكون الشيء المضاف معتبراً. وهكذا الأمر بالنسبة إلى الخاتمية، فالنبي هو المؤيد للأنبياء السابقين، و هو آخرهم. وإن ظهور نبي جديد سيكون بمنزلة ما يُضاف بعد الختم، وسيتم التعامل معه على أساس أنه من «المتنبّئة».

ثالثاً: لقد استعمل القرآن الكريم لبيان معنى التأييد والتصديق مفردة «مصدّق» للدلالة على ذلك في ثمانية عشر مورداً، ولا نجد في آية واحدة

ص: 208


1- أُنظر: أحمد روحي روشني، خاتميت (الخاتمية)، ص 33.

استعمال كلمة «خاتم» بمعنى التصديق حتى تكون شاهداً ودليلاً على مدعى صاحب الشبهة. من هنا إذا كان مراد الله سبحانه وتعالى من هذه الآية الشريفة معنى التصديق، لكان قد استعمل لفظ «المصدق» كما استعمله في سائر الموارد الأخرى.

رابعاً من خلال التدبّر في ما يقرب من ثماني عشرة آية ورد فيها استعمال مفردة «مصدقاً»، ندرك أن متعلق التصديق - خاصة تصديق النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم والقرآن الكريم - هو الكتاب السماوي دائماً، إذ يرد التعبير ب- «لما معهم - لما معكم - لما بين يديه»، كما في قوله تعالى:

- (وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ﴾ (1) .

- (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ) (2) .

- (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ) (3) .

- (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ﴾ (4) .

من هنا فإن استفادة معنى «مصدقاً» من عبارة «خاتم النبيين» استفادة لا يُساعد عليها الدليل، ولم يرد مثيل لها أيضاً.

بعبارة أخرى يتضح من سياق الآية أنها لم تكن في مقام الدلالة على كون النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم مصدقاً، وإنما هي واردة في مقام النفي القاطع لكون

ص: 209


1- البقرة: 41 .
2- آل عمران: 3 .
3- النساء: 47 .
4- المائدة: 48 .

النبي أباً لرجالكم، والتأكيد على أنه خاتم النبيين.

وأما إذا تمّ الإصرار على احتمال أن يكون معنى الخاتم واحداً من التأويلين المتقدمين (الزينة أو تصديق الأنبياء السابقين)، ومع ورود الاحتمال

يبطل الاستدلال بالآية على الخاتمية فنقول في الجواب يجب في مثل هذه الحالة الرجوع إلى تفسير مفسّر القرآن، وهو النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم وسائر الأئمة علیهم السلام، وكذلك فهم المخاطبين بهذه الآية. وعندها سنجد الروايات المأثورة عن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم والأئمة الأطهار والدالة على نفي ظهور نبي جديد، تشكل قرينة ودليلاً على أن المراد من الخاتم هو النبي الأخير الذي لن يأتي نبي بعده.

ج - خاتم النبوّة دون الرسالة:

بالالتفات إلى صريح آية «خاتم النبيين» عمد المأوّلون إلى الجمود على لفظ «النبيين» وقالوا إن النبي محمداً صلی الله علیه و آله و سلم إنما هو خاتم النبيين وليس خاتم الرسل. وحيث أن «النبي» يباشر عملية التبليغ وهداية الناس من دون أن تكون لديه شريعة، في حين أن «الرسول» يُعدّ نبياً خاصاً وصاحب شريعة مستقلة، فإن الآية بصدد ختم الأنبياء دون الرسل، وبذلك يكون الباب أمام إرسال الرسل مفتوحاً، والآية ليست بصدد إغلاق الباب من هذه الناحية (1) .

مناقشة وتحليل:

في معرض تحليل هذه الشبهة، لابد من الإشارة أولاً إلى المسائل الآتية

1 - إذا كان الشخص في مقام التأويل وإثبات المعنى الذي يريده فإن

ص: 210


1- أُنظر: أبوالفضل گلبایگانی، الفرائد، ص 185 و 189 ؛ أحمد روحى روشنى، خاتمیت، ص 33.

الطريق سيكون مفتوحاً أمامه، فباب التأويل واسع، فلو كانت العبارة في الآية «خاتم المرسلين» بدلاً من «خاتم النبيين» لأمكن لمخالف الخاتمية أن يدعي بأن الأية بصدد بيان خاتمية الرسول (صاحب الشريعة) ، وعليه يكون ظهور النبي الذي لا يمتلك شريعة مستقلة أمراً ممكناً.

2 - يستعمل «النبي» أحياناً بشكل مطلق، فيقال: «النبي هو من أنبأ عن الله» (1) .

وفي هذه الصورة يكون «النبي» مطلقاً بحيث يشمل كل نبي - سواء أكان صاحب شريعة أم لا - وقد استعمل هذا المعنى في الكثير من الآيات، من قبيل قوله تعالى حكاية على لسان عيسى بن مريم علیه السلام : ﴿وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) (2) .

وقوله تعالى في وصف سيدنا إبراهيم علیه السلام (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا) (3) .

وقوله تعالى بشأن النبي موسى علیه السلام ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولاً نَبِيًّا) (4) .

وقوله تعالى بشأن سيدنا إبراهيم الخليل علیه السلام في موضع آخر ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ المُؤْمِنِينَ) (5) .

وفي كثير من الآيات تمّ وصف النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم أكثر من سبع عشرة

ص: 211


1- ابن منظور الإفريقي، لسان العرب، ج 14، ص 9.
2- مریم: 30 .
3- مريم: 41 .
4- مریم: 51 .
5- آل عمران: 68.

مرّة بعبارة ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ) (1) ومشتقاتها الأخرى.

إذن لفظ «النبي» لا يطلق على الرسل من أصحاب الشريعة فقط، بل قد يُطلق حتى على الأنبياء من أولي العزم، بل وعلى أشرف وأكمل المخلوقات وهو النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم أيضاً.

نعم قد يقال إن لفظ النبي والرسول إذا اجتمعا يفترقان، كما في قوله تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ) (2) ، بيد أن لفظ «النبي» في آية «خاتم النبيين» قد جاءت مفردة؛ وعليه فإنها تشمل كل نبي ورسول.

3 - وبمراجعة الروايات المأثورة عن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم والأئمة الأطهار علیهم السلام - الواردة في نقد شبهة إنكار أصل الخاتمية - يتضح أن بعض الروايات قد اشتمل على التعبير ب- «ختم النبوّة» و«خاتم رسله» و «انقطاع النبوّة وأخبار السماء» و«ختم به الوحي» و«ليس بعده نبي ولا رسول» و «خاتم الرسل» مما يبطل التوهم والشبهة من الأساس.

4 - لو قبلنا بهذا الفارق المذكور بشكل مطلق، وسلمنا بأن «النبي» أعم مطلقاً من «الرسول» وقلنا بأن النبي رسول يحصل على الأخبار من عوالم الغيب من دون أن يأتي بشريعة، يجب القول بهذا المعنى تدل الآية على خاتمية «النبي» وعلى خاتمية «الرسول» أيضاً؛ ذلك لأن الآية عندما تدل على ختم النبوة - بمعنى المجيء بالأخبار الغيبية - فإن لازم ذلك خاتمية «الرسالة» أيضاً؛ لأن من بين شؤون الرسالة المجيء بالأخبار من الغيب.

بعبارة أخرى حيث أن «النبي» مطلق وعام، وأن «الرسول» خاص،

ص: 212


1- أُنظر: الأنفال 64 ، 65 ، 70؛ التوبة: 73؛ الأحزاب : 1، 45 ، 59،50 .
2- الحج : 52 .

فإن نفي العام سيدل بنفسه على نفي الخاص، وعليه فإن الآية تدل على خاتمية النبوة والرسالة في وقت واحد (1) .

الشبهة الثالثة: تأويل روايات الخاتم:

اشارة

كما عمد المخالفون للخاتمية - الذين يقف البهائية في العصر الراهن على رأسهم - في الخطوة الأخرى إلى تأويل روايات الخاتمية. وقد تقدّم أن أشرنا إلى أن إحدى تأويلاتهم هي حمل معنى «النبي» بالمعنى الخاص في آية الخاتمية. وقد تكرر هذا التأويل على هذا الشكل في الروايات النبوية «لا نبي بعدي» أيضاً. وإن ضعف هذا الكلام وهشاشته تتضح مما تقدّم.

أمّا التأويل الآخر للبهائية فيكمن في لفظ «الخاتم»، حيث ورد عن النبي وصف نفسه ب- «الخاتم» في كثير من الروايات، من قبيل:

- «أنا خاتم النبيين» (2) .

- «بنا يختم الله كما بنا فتح الله» (3) .

وقد ذهب المأوّلون من البهائية (4) إلى الاعتقاد بأن مراد النبي صلی الله علیه و آله و سلم من الخاتمية ليس هو المعنى الظاهري واللغوي، وإنما المراد هو المعنى المجازي؛ إذ إنّ مقام النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم كان أرفع من مقام جميع الأنبياء السابقين، فقد نسب

ص: 213


1- أُنظر: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 16، ص 344 .
2- البخاري، صحيح البخاري، ج 3، ص 26 .
3- الشيخ الصدوق، كمال الدين وإتمام النعمة، ج 1، ص 230؛ العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 52 ، ص 316.
4- أُنظر : حسين علي بهاء، ايقان، ص 107 و 108 و 126.

ختم النبوة لنفسه بهذا المعنى، كما أنه لذات هذا الدليل يصف نفسه بأنه أول نبي، مع أنه لم يكن كذلك بالمعنى الحقيقي والظاهري؛ فقال:

«كنت نبياً وآدم بين الماء والطين» (1) .

مناقشة وتحليل:

لا يخفى ضعف هذا التأويل على القارئ الكريم، وذلك للسببين الآتيين:

أولاً : إنّ هذا التأويل مخالف للمعنى اللغوي والعرفي لكلمة «الخاتم»، وعليه فإن العدول عنه يفتقر إلى دليل قطعي. أما أن يكون النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم هو أول نبي أم آدم علیه السلام ؟ فقد تمّ التصريح به في الروايات نفسها، حيث قالت: إن المراد ليس هو الإنسان المادي الذي يعيش على هذه الكرة الأرضية، وإنما روح النبي في عالم الأرواح والعقول، حيث يتصف النبي بأنه المخلوق والصادر الأول، والذي له السيادة والشرف على جميع المخلوقات.

وثانياً: لقد تمّ التصريح في الروايات المأثورة عن النبي النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم أنه لن يُبعث نبي بعده. ومع هذا التصريح لا يبقى مجال لحمل الخاتم على المعنى المجازي .

الشبهة الرابعة: إمكان ادعاء الخاتمية بوصفها مظهر الله:

اشارة

لقد كان لفرقة الشيخية اتجاهاً باطنياً وتأويلياً في تفسير النصوص والتعاليم الدينية، وقد كان لهم دور هام في انحراف البابية والبهائية، وقد سعوا من خلال ذلك إلى إضفاء مسحة دينية على فرقتهم، ومن هنا عمدوا إلى

ص: 214


1- سليمان القندوزي، ينابيع المودة، ج 1، ص 9.

تأويل النصوص التي تخالف متبنياتهم، ومن الأمثلة على ذلك تأويلهم لنصوص «الخاتمية» على ما تقدمت الإشارة إليه.

وقد قال البهائية وعلى رأسهم المؤسس لهم (الميرزا حسين علي) في تأويل نصوص الخاتمية: إن جميع الناس وسائر المخلوقات ما هم إلا ظهورات لوجود الله، وحيث كان الله هو الأول والآخر، أمكن لجميع الكائنات والمظاهر أن تدعي الأولية والآخرية (1) ، وعلى هذا الأساس ادعى النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم الخاتمية أيضاً.

وقد ذكر الميرزا حسين علي - في موضع آخر - اتحاد المظهرية بشكل خاص بين جميع الأنبياء، وقال بأن جميع الأنبياء يشتركون في روح واحدة، وعليه لا معنى لأن يكون هناك أول وآخر بالنسبة لهذه الروح الواحدة، ويمكن أن تكون في جميع الأحوال متصفة بأنها الأول والآخر (2) .

مناقشة وتحليل:

في تحليل هذه الشبهة يجدر التأمل في النقاط الآتية:

1 - سريان حكم الظاهر إلى المظهر:

لقد عمد المأوّلون لتأييد مدّعاهم إلى ارتكاب المغالطات، وفي واحدة من مغالطاتهم قاموا بتسرية حكم «الظاهر» إلى «المظهر». بمعنى أن الله سبحانه بسيط وبحت وصرف الوجود الذي لا يقبل التعدد والمغايرة والحدود والبداية

ص: 215


1- أُنظر: الميرزا حسين علي بهاء الله، ايقان، ص 118.
2- إن لها حكم نفس وذات واحدة؛ لأن جميع الناس ينهل من كأس المحبة الإلهية (المصدر أعلاه، ص 101 و 107).

والنهاية، بل الله جامع لجميع الصفات الكمالية على نحو البساطة، ولذلك لا يمكن سلب صفة كمال عنه، قال تعالى:

(هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهْوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ (1) .

أمّا الوجودات الأخرى فحيث تتصف بالماهية الإمكانية وتحدّها الحدود (فهي تركيب من الوجود والعدم)، فإنها تتصف بمختلف صفات النقصان الوجودي ، فعلى سبيل المثال يتصف أول مخلوق إلهي بوصف الأول، ولا يمكن وصفه بالآخر، وفي المقابل لا يمكن وصف سائر الوجودات التالية بوصف الأول. وعلى الرغم من اشتراك الوجودات الإمكانية مع الله من حيث أصل الوجود (الاشتراك المعنوي المشكك)، ولكن حيث يتصف الله بالوجود الكامل والبحت - بينما تتصف الوجودات الإمكانية بوجود ناقص - لا يمكن الحديث عن عينية وجود الله ووجود الممكنات، وإن الاختلاف بينهما لا یبیح لنا المقارنة بينهما ؛ فأين ضوء الشمعة من ضياء الشمس؟!

وبعبارة أخرى إن جميع الكائنات تستمدّ إمكانيتها ومحدوديتها وقوالبها الخاصة من أصل الوجود والصفات الكمالية، وإن الناس مشمولون هذه القاعدة أيضاً. وإن كل إنسان يتنعم بالوجود الإلهى والصفات الكمالية بما يتناسب وسعته الوجودية واستعداده وقدرته الاستيعابية.

وبعد بيان هذه المقدمة يتضح ضعف ادعاء الميرزا حسين علي بهاء الله؛ إذ رغم أن جميع الناس مظاهر وتجليات وجود الله ، إلا أن كل إنسان يختلف عن غيره في مقدار الكمال الذي يأخذه من الله سبحانه وتعالى. وإن كمال

ص: 216


1- الحديد: 3 .

وجود الأنبياء يختلف عن سائر الناس، بل حتى الأنبياء يختلفون فيما بينهم في المقامات والدرجات والصفات الكمالية، وقد صرّح القرآن الكريم بهذه الحقيقة حيث قال: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ) (1).

ففي هذه الآية تمّ التصريح بتعدد الرسل وعدم اعتبارهم شخصاً واحداً، كما تمّ التصريح أيضاً باختلافهم في الفضل والمراتب الكمالية.

وعلى هذا الأساس نقول:

أولاً : لا يمكن لأيّ إنسان أن يدعي النبوّة لنفسه، فضلاً عن أن يقول: «أنا خاتم النبيين»؛ لأن مقام النبوة مرتبة خاصة من الكمال الإلهي يختص بها الله خاصّة أوليائه، قال تعالى: ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ (2) .

وثانياً: إن الوجود الممكن غاية ما يمكنه هو الاتصاف بالصفات الكمالية التي يمكن تصوّرها في حقّ الوجود الممكن، من قبيل الحياة والعلم والجود والقدرة، وذلك بمقدار سعته الوجودية بطبيعة الحال. أما الصفات الخاصة بالوجود الصرف والبحت، فلا يمكن للإنسان أن يتصف بها أبداً، من قبيل صفة الوجود الخالص والبحت والمطلق واللامتناهي والجمع بين صفة الأول والآخر والظاهر والباطن.

وعليه فإن القول بأن الإنسان حيث يمثّل مظهراً وتجلياً من تجليات الله، فإنه يتصف بصفات إلهية من قبيل الصرف واللامتناهى والأول والآخر قول ضعيف وخاطئ.

ص: 217


1- البقرة: 253 .
2- الأنعام: 124 .

بعبارة أخرى تمّ هنا نسبة حكم «الظاهر» (وهو اتصافه بالبساطة واللاتناهي والأول والآخر) إلى «المطهر» و «التجلي» الذي هو الإنسان، دون سند أو دليل، ولا يخفى على القارئ ما في ذلك من المغالطة الواضحة.

2 - ادعاء من دون دليل:

إن دعوى القائلين بأن جميع الأنبياء لهم حكم الذات والروح الواحدة، بحاجة إلى بيان وإثبات. فإن كان مرادهم أن جميع الأنبياء بمثابة النفس الواحدة المذعنة والمطيعة للأوامر الإلهية، وإنهم مصطفون من قبل الله، فهو ادعاء صحيح، ولكن لا يُفهم منه وحدة أرواحهم على نحو الحقيقة. وأما إذا كان مرادهم من هذا الكلام الاتحاد الحقيقي والواقعي، فلا يعدو أن يكون ذلك مجرّد ادعاء؛ إذ كما تقدّم أن أشرنا فإن لكل وجود إمكاني قالباً وحدّاً وماهية إمكانية خاصّة به، (وطبقاً لأصالة التشكيك (الوجودي)) يصدق هذا الكلام على القول بالتجلي والظهور أيضاً. إذ بناءً على اعتبار الوجودات الإمكانية مظاهر وتجليات إلهية، فإنها ستكون من مقتضيات وظهور الأعيان الثابتة والأسماء والصفات الإلهية، وحيث تكون هذه الصفات متعدّدة ومختلفة، سينعكس هذا الاختلاف والتعدد بدوره على هذه الظهورات. (إلا أن هذا المقال لا يتسع لمزيد من التوضيح بهذا الشأن) (1).

3 - مخالفة القرآن الكريم:

حيث أن البهائيين يعترفون بالقرآن الكريم، بل ويستدلون به لإثبات بعض ادعاءاتهم، يجب القول إن حكمهم هذا مخالف لصريح القرآن؛ فقد تقدّمت الإشارة إلى أن القرآن يتحدث بصريح العبارة عن تعدد الرسل واختلاف

ص: 218


1- أُنظر: سعید رحیمیان، تجلی و ظهور در عرفان نظری (التجلي والظهور في العرفان النظري).

درجاتهم، ولازم ذلك تعدّد أرواحهم، قال تعالى: ﴿ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ﴾ (1).

4 - مخالفة الروايات:

إن هذه الشبهة التأويلية تعمل في الواقع على سلب المعنى الظاهري للآيات والروايات الدالة بصريح العبارة على أن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم هو آخر الأنبياء، وإنه لن يأتي نبي بعده أبداً، وهذا المعنى نصّ في تفسير الخاتم بمعناه الحقيقي واللغوي.

حصيلة الكلام، أولاً لا يمكن لنا أن ننسب بحال من الأحوال الأحكام الخاصة ب- «الظاهر» إلى «المظهر»، ولذلك لا يمكن أن نطلق اسم الخاتم والآخر على ذات المظاهر الوجودية. وثانياً حيث أن الممكنات - سواء على القول بنظرية التشكيك الوجودي أو القول بنظرية تجلي الوجود - متعددة ومختلفة، سيكون لكل منها أحكامها وأسماؤها الخاصة، فيكون منها ما هو أول، ومنها ما هو خاتم. وهذا ما يؤيده القرآن الكريم والروايات الشريفة أيضاً.

الشبهة الخامسة : عدم ختم النبوّة، بل ظهور وتجلّ إلهي:

اشارة

عمد البهائيون في خطوة لاحقة للفرار من إشكال ادعاء بهاء الله للنبوة ومعارضة ذلك لأصل الخاتمية إلى القول بأن الميرزا حسين علي بهاء الله لم يكن نبياً جديداً، وإنما هو ظهور وتجل لله عزّوجل، وبذلك يكون مقامه أسمى من مجرّد النبوّة (2).

ص: 219


1- البقرة : 253 .
2- أُنظر: عبد المجيد اشراق خاوري، قاموس توقيع منيع مبارك، ص 114؛ أبوالفضل گلبایگانی، الفرائد، ص 183 فما بعد.

مناقشة وتحليل:

لمّا كانت هذه الشبهة خارجة عن موضوع التحقيق في الشبهات المثارة ضدّ النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم، فإننا سنكتفي بمجرّد الإشارة إليها عبر النقاط الآتية:

أولاً: إن هذه الكلام هو مجرّد دعوى اعتباطية وغير ثابتة، وأنى للبهائيين أن يثبتوها؟!

وثانياً: لم يتضح معنى الظهور والمظهرية من كلامهم، فطبقاً لعبارة بهاء الله التي تقدم ذكرها في الصفحات السابقة يكون جميع الناس هم مظهر وظهور الحق تعالى، وبذلك لن تكون هذه الدعوى خاصة بالباب أو البهاء، وإن كان المراد نوعاً ومعنى خاص من المظهرية، فلا بدّ أولاً من تحديد هذا المعنى بشكل واضح كي نتبيّن ضعفه من خلال التحليل والمناقشة أيضاً. فكيف يتجلى الله في إنسان على غير المعنى المعروف من الظهور والتجلي؟ أفلا يؤدي هذا الكلام إلى القول بالحلول أو التجسيم الإلهي؟

وقد كان من النصارى ما يُشبه هذه الدعوى بحق السيد المسيح عيسى علیه السلام، حيث قالوا بأنه ظهور وتجل لله بدلاً من القول بأنه نبي. ويبدو أن البهائية قد أعجبوا بهذا الكلام فادعوا ما يشبهه في حق الباب والبهاء. ولكن هذا الادعاء مخالف لصريح الآيات القرآنية التي أبطلت ظن النصارى وقولهم في المسيح عيسى بن مريم علیه السلام ، والمفروض أن البهائيين يتظاهرون بالالتزام بالقرآن.

وإن كان مرادهم من ذلك مجرّد التأييد الإلهى، فيجب القول:

أولاً: إن هذا الافتراض ممكن، ولكن المهم هو إثباته، ولم يقدم

ص: 220

البهائيون والقاديانيون أي إثبات على ذلك.

وثانياً: لو سلمنا أصل هذا الافتراض، فإنه لا يختص بهم، وإنما يعم جميع الناس، وفي هذه الصورة ستكون الدرجة المترتبة على هذا الاتصاف دون درجات الأنبياء، ولازم ذلك عدم التأسيس لشريعة جديدة تنسخ الشريعة القديمة. وقد تقدمت إشكالات أخرى في نقد ادعاء أحمد القادياني.

الشبهة السادسة: ادعاء الآيات المثبتة لظهور نبي جديد:

اشارة

كما ذهب المخالفون الخاتمية النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم إلى ما هو أبعد من ذلك، فصاروا بصدد إثبات ظهور نبي جديد من خلال القرآن الكريم، فتمسّكوا بالآيات الآتية:

الآية الأولى:

(يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي) (1) .

حيث ورد الإخبار في هذه الآية بالفعل المضارع «يأتينّكم» الدال على تحقق الفعل في الحال والمستقبل، الذي يحكي عن ظهور الأنبياء في المستقبل (2) .

مناقشة وتحليل:

1 - يجب القول في تحليل هذه الشبهة إن الذين صاغوها لم يُشيروا - للأسف الشديد - إلى زمن هذه الآية، وما إذا كانت خطاباً للمسلمين أم إنها ناظرة إلى تاريخ الأنبياء والأمم السالفة؟

ص: 221


1- الأعراف: 35.
2- أُنظر: أحمد روحى روشنی، خاتمیت، ص 38؛ أبوالفضل گلبایگانی، الفرائد، ص 202 .

وبالعودة إلى الآيات المتقدّمة عليها نجد أن الله سبحانه وتعالى كان في معرض الحديث عن قصة آدم علیه السلام وحوّاء ودخولهما إلى الجنة وإخراجهما منها. ثمّ صار الله بعد ذلك إلى وعظ آدم وحواء وأبنائهما، مبتدئاً ذلك بعبارة «یا بنی آدم»، من قبيل قوله:

(يَابَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ) (1).

ثمّ أنزل الله سبحانه وتعالى الآية مورد البحث في سياق هذه المواعظ والإرشادات، والتي هي - بطبيعة الحال - خطاب لجميع بني آدم على طول التاريخ. وعليه فإن القول بأن الفعل المضارع الوارد في هذه الآية يدل على ظهور الأنبياء في المستقبل صحيح (2) ، ولكن يجب التدقيق في أخذ الزمن الحاضر والمستقبل بالنسبة إلى الزمن الذي تتحدّ ث عنه هذه الآية. وحيث أن الآية تتحدث عن الأزمنة الأولى التي تعود إلى مخاطبة بني آدم، يكون الملحوظ هو الزمن الحالي والآتي لظهور جميع الأنبياء - والبالغ عددهم أربعاً وعشرين ومئة ألف نبي - إلى عصر خاتم الأنبياء صلی الله علیه و آله و سلم.

ولتقريب الأذهان نذكر المثال الآتي لو أن ملكاً أصدر قبل عشرين سنة مرسوماً يقضي بأنه سوف يرسل إلى الناس من يمثله، ثم أخذ في كل سنة

ص: 222


1- الأعراف: 27 .
2- إن التدقيق في الأفعال المضارعة - المستعملة في القرآن الكريم - يثبت أن بعضها منسلخ عن الزمن، بمعنى أن بعض الأفعال المضارعة يدل على الماضي والحاضر والمستقبل على السواء، بل هو يتحدث عن تحقق مطلق الفعل، كما في قوله تعالى: ﴿عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ) سبأ3 . فلو أخذنا دلالة الفعل المضارع على المستقبل في مثل هذه الآيات لوجب علينا أن نقصر علم الله على المستقبل فقط، وإنه - والعياذ بالله - لا يعلم ما جرى في الماضي، والآية مورد البحث من هذا القبيل.

يرسل مندوباً عنه، وفي السنة العشرين أرسل رسولاً وأبلغ الناس بأنه آخر الرسل وإنه لن يكون رسولاً بعده. فهل يمكن للناس في مثل هذه الحالة أن يحتجوا عليه بالمرسوم الملكي الذي صدر قبل عشرين سنة، لإثبات أن عدم إرسال المزيد من الرسل في المستقبل سيكون مخالفاً لهذا المرسوم؟!

كلا طبعاً، إذ مع افتراض أن الرسول العشرين يمثل الملك قطعاً، سيكون كلامه معبراً عن إرادة الملك، وبذلك فإنه يقيّد الفترة الزمية ويضع لها حدّاً في الدلالة على الاستقبال.

والكلام نفسه يأتي بالنسبة إلى النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم. فصحيح أن الله قد أخبر قبل ألف عام بإرسال الأنبياء، ولكن حيث أن الله تعالى قد تحدّث في القرآن عن «خاتم النبيين»، وإن النبي محمداً صلی الله علیه و آله و سلم عرّف نفسه بأنه هو النبي الخاتم، نستفيد من ذلك ختم النبوّات بمحمد صلی الله علیه و آله و سلم.

2 - أما الجواب الثانى عن الاستدلال بهذه الآية الشريفة، فنقول فيه إن التدبّر في هذه الآية يُثبت أنها ليست في مقام بيان إرسال عددٍ من الأنبياء في المستقبل، وإنما هي بصدد بيان ملازمة نحصل عليها من خلال التدقيق في أداة الشرط «إما » المركبة من (إن) و(ما)، وعلى هذا الأساس لا تكون الآية بوارد الحديث عن حتمية ظهور الأنبياء، وإنما هي بصدد بيان الملازمة بين إيمان المؤمنين بالأنبياء وبين عدم خوفهم وحزنهم، وبعبارة أخرى إن القضية الشرطية تكون منسلخة عن الدلالة على الزمان، وتؤكد فقط على بيان الملازمة.

الآية الثانية:

(رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ

ص: 223

لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ) (1) .

في هذه الآية يؤكد المنكرون للخاتمية - من خلال التمسك بصيغة الفعل المضارع أيضاً - على استمرار نزول الوحي وعدم انقطاع سلسلة الأنبياء (2).

مناقشة وتحليل:

1 - من خلال التأمّل في عبارة «من يشاء» ندرك أن الآية بصدد بيان قدرة الله واختياره، وأنه ينزل الوحي على من يشاء.

إنّ هذه الآية الشريفة في مقام الإجابة عن اعتراض أو توهّم اعتراض صادر عن البعض، إذ يقول لماذا لم ينزل القرآن جملة واحدة؟ أو لماذا لم ينزل على رجل عظيم؟ كما في قوله تعالى:

- (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً) (3) .

- (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) (4) .

وعليه فإن الفعل المضارع في هذه الآية منسلخ عن الدلالة على الحال أو الاستقبال، بل هو منسلخ عن الدلالة على الزمان مطلقاً، و جلّ التأكيد في هذه الآية على قدرة الله سبحانه وتعالى في اجتباء من يشاء.

فلو قال ملك مثلاً: «إني أنصب من أشاء ممثلاً عني»، لا يُستفاد من ذلك أنه سينصّب ممثلاً عنه في المستقبل حتماً، ولو كان هناك ممثل عنه، لا يعني ذلك أنه سينصّب في المستقبل شخصاً غيره. وإنما محور كلام الملك يدور حول

ص: 224


1- غافر: 15 .
2- أُنظر: أبوالفضل گلبایگانی، الفرائد، ص 136.
3- الفرقان: 32.
4- الزخرف: 31.

التأكيد على سلطته الكاملة وقدرته التامة على اختيار من يشاء.

2 - علاوة على ذلك فإن الآية تتحدّث بشكل مطلق عن استمرار الوحي بغض النظر عن الإشكال الأول، في حين أن القرينة الخاصة (آية ختم

النبوّة والرويات النبوية) تدلّ على انتهاء الوحي، ومع قيام الدليل الخاص يتمّ رفع اليد عن إطلاق الدليل المطلق.

الآية الثالثة:

﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (1) .

حيث يستدل أصحاب هذه الشبهة من خلال التمسّك بهذه الآية قائلين إذن يجب أن يكون لكل أمّة نبي، ولازم ذلك ظهور نبي أو أنبياء لكل الأمم التى تأتي بعد نبي الإسلام (2) .

مناقشة وتحليل:

1 - إن هذه الآية الشريفة تؤكد على وجود رسول ونبي لكل أمة، ولا يُستفاد من ذلك استمرار بعث الأنبياء، بل إن هذه الآية الشريفة تنسجم مع أصل الخاتمية؛ ذلك لأن الله قد بعث إلى الأمة الأخيرة أعظم رسله، أي النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم، ولم تبق هذه الأمة دون رسول.

وأما وجوب أن يبعث الله رسولاً جديداً في كل عصر وزمان، فهو ما

ص: 225


1- يونس: 47 .
2- أُنظر: حيدر علي الإصفهاني، دلائل العرفان، ص 48؛ أحمد روحی روشنی، خاتمیت، ص 38 .

لا يفهم من هذه الآية، بل إن الشبهة هنا شبيهة بما كان يقال في صدر الإسلام من الاعتراض على اختيار الله للنبوة شخصاً مثل محمد صلی الله علیه و آله و سلم وهو على ما هو عليه من الفقر ؟! أو إنه لماذا يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق مثلنا؟! أو لماذا لم ينتخب الله ملكاً من ملائكته ليكون نبياً؟ وما إلى ذلك من عشرات الأسئلة والاعتراضات الأخرى.

2 - إنّ الآية ساكتة عن استمرار النبوات أو اختتامها، ومن ثَمّ لابدّ من الحصول على الحكم بهذا الشأن من خلال الرجوع إلى الآيات الأخرى، من قبيل آية الختم . وقد تقدم ذكر آيات وروايات ختم النبوّة.

الآية الرابعة:

(لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ) (1) .

حيث يزعم المخالفون للخاتمية أن هذه الآية تدل على محدودية الأمم بآجالها - بما في ذلك أمة الإسلام - ولازم انتهاء أجل الأمة ظهور نبي جديد. وهناك من فسّر كلمة «الأمة» بمعنى الدين أيضاً (2) .

مناقشة وتحليل:

1 - بالنظر إلى استعمال كلمة «الأمة» في القرآن الكريم، نعثر على مختلف المعاني المستفادة من هذه المفردة، من قبيل:

أ - الجماعة التى تشترك في اعتناق دين واحد:

(كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (3) .

ص: 226


1- يونس: 49 .
2- أُنظر : حيدر علي الإصفهاني، دلائل العرفان، ص 48.
3- آل عمران: 110 .

ب - الجماعة التي تشترك في العيش ضمن زمان ومكان واحد :

(لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ) (1) .

(وَلا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةٌ مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ ﴾ (2) .

ج - الشخصية الكبيرة والبارزة:

(إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً ) (3).

د - الدين:

(إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ﴾ (4) .

وعليه بالالتفات إلى مختلف معاني الأمة، يجب النظر إلى أي هذه المعاني هي الأنسب بالآية مورد البحث فبالالتفات إلى قوله تعالى: ﴿فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةٌ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ) (5) . وعود ضمير الجمع في «أجلهم» إلى «الأمة» يثبت أن المراد في الحدّ الأدنى ليس هو الدين، إذ لا بدّ حينها من استعمال ضمير المفرد دون الجمع، وعليه يكون المراد من الأمة هنا الجماعة التي تشترك في أمر واحد أعم من الدين أو الزمان والمكان.

وعلى هذا الأساس فإن الآية ليست بصدد تحديد وقت وفترة خاصة للدين كي يتمّ بها الاستدلال على ضرورة أن يتحدد الإسلام بفترة محدّدة، وأن ينتهي بأمد وأجل.

ص: 227


1- يونس: 49 .
2- القصص : 23 .
3- النحل: 120 .
4- الزخرف: 22 .
5- الأعراف: 34 .

بعبارة أخرى إن الآية الشريفة تتحدّث عن بيان الحدود التكوينية لعمر الأمة والجماعة التى تزول عن الوجود بانتهاء أجلها المحدّد.

2 - ولو سلمنا جدلاً أن المراد من «الأمة» في هذه الآية هی أمة الإسلام، وقلنا بأن الآية بصدد بيان تحديد أجل وفترة زمنية لهذه الأمة، مع ذلك لا تكون هناك دلالة في هذه الآية على إمكان ظهور نبي جديد؛ ذلك لأنّ الآية تقول هناك أجل وأمد محدّد لهذه الأمة الإسلامية. ولكن هل تبيّن أين ومتى ينتهي هذا الأجل؟ هذا ما لم تحدّده الآية، بل هناك آيات أخرى ظاهرة وصريحة في بيان غلبة وظهور الإسلام على سائر الأديان الأخرى رغم كراهة المشركين والكفار، إذ يقول تعالى:

- ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (1).

- (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَیُمَكَّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ﴾ (2) .

وبذلك يتمّ افتراض أجل الأمة الإسلامية بقيام الساعة ويوم القيامة.

بعبارة أخرى إن أجل وفترة كل دين رهن بأحقيته وكماله، وحيث أن الأديان السابقة كانت تعاني من النقص والتحريف والبدَع، يكون أجلها قد انقضى، وأما الإسلام فهو دين كامل وشامل وجامع وإن نبيه إنسان كامل، وعليه فإن أجل هذا الدين سيستمر إلى يوم القيامة.

ص: 228


1- التوبة : 33 .
2- النور: 55 .

الآية الخامسة :

(لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ﴾ (1).

كما التمسك بهذه الآية من قبل المخالفين للخاتمية، حيث يستندون إليها في إثبات ضرورة أن يكون لكل فترة زمنية وأجل كتاب وشريعة سماوية (2) .

مناقشة وتحليل:

1 - لو اعتبرنا الكتاب في هذه الآية بمعنى الكتاب التشريعي وما يكون دليلاً على النبوّة، فيتضح الجواب عنه من الجواب عن الآية السابقة؛ لأن هذه الآية ترصد كتاباً في نهاية كل مرحلة، بيد أننا نعيد السؤال نفسه ونقول ما هو المراد من هذه المرحلة؟ هل تقدّر بمئة سنة ؟ أو بألف سنة؟ أو إلى يوم القيامة؟

إن المراحل بالنسبة إلى الأنبياء السابقين كانت تتحدّد بظهور الأنبياء اللاحقين، فبعد ظهور كل نبي جديد تنتهي مرحلة قديمة ويبدأ عهد جديد، أما مرحلة الإسلام فلم يتمّ تحديدها في هذه الآية، ولتحديد هذه المرحلة نجد الآيات الأخرى، من قبيل آية الخاتمية، وآيات غلبة الإسلام وظهوره على الكفر والشرك، وآية الوعد باستخلاف المسلمين على الأرض، تدل بأجمعها على خلود الإسلام واستمراره إلى يوم القيامة.

2 - إن مفردة «الكتاب» في هذه الآية لا تشير إلى شريعة أو كتاب نبي، بل بالالتفات إلى الآية السابقة ﴿وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ

ص: 229


1- الرعد: 38 .
2- أُنظر: حيدر على الإصفهاني، دلائل العرفان، ص 48 .

الله) (1) ، والآية اللاحقة (يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) (2) یبدو أن الآية في مقام الإعلان عن هذه الحقيقة وهي أن اجتراح معجزة أو آية إنما يكون بحسب المقتضيات الزمانية والمكانية ونوع المخاطب، وإن اختيار ذلك بید الله سبحانه وتعالى.

أما الحدود التي تقتضيها الشريعة الإسلامية، فهو ما لم تتمّ الإشارة إليها أبداً، وإن الإجابة عن ذلك ممكنة من خلال الرجوع إلى الآيات الأخرى على ما تقدّم توضيحه.

الشبهة السابعة: ادعاء النبوّة الظلية:

إن إنكار الخاتمية لم يقتصر على فرقة البهائية، وإنما ظهر في القرنين الأخيرين شخص اسمه أحمد القادياني (1255 - 1326 م) في باكستان، وقد ادعى النبوّة أيضاً وأنكر الخاتمية. وحيث التفت هو وأتباعه إلى وجود الآيات والروايات النافية لظهور نبي جديد، فقد عمدوا إلى تبرير واهٍ وضعيف، إذ قالوا: إنهم يؤمنون بأصل الخاتمية بمعنى نفي ظهور نبي جديد، ولكنهم مع ذلك لا يمنعون من حلول روح النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم أو روح عيسى بن مريم علیه السلام في شخصه أو مراده، وفي الحقيقة فإن نبوّته ليست نبوّة مستقلة وجديدة يتمّ ردّها بالآيات والروايات، وإنما هي تجلٍّ وظهور لنبوة النبي السابق، فنبوّة القادياني بمنزلة الغصن إلى الجذور.

قد وصف غلام أحمد القادياني نبوّته المدعاة ب- «النبوّة الظليّة» بمعنى أن

ص: 230


1- الرعد: 38.
2- الرعد: 39.

نبوته ظل لنبوة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم أو أنها شعاع من قبسها (1) . وقال في موضع آخر بعبارة أكثر صراحة «لقد أراد الله أن يتمثل جميع الأنبياء والمرسلين في شخص واحد وإنني ذلك الرجل» (2) .

كما عمد لتأييد نبوته من خلال التمسّك بقوله تعالى:

(وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ﴾ (3) .

مناقشة وتحليل:

1 - إن أول ما يتبادر إلى الذهن عند تحليل هذا الكلام هو عدم إمكان فهمه؛ فما معنى أن تتجلى أو تتمثل روح النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم أو روح جميع الأنبياء فيه؟ فإن كان المراد من ذلك هو حلول روح نبي أو أرواح عدد من الأنبياء، فإن هذا سيؤدي إلى القول بالتناسخ الذي اتضح بطلانه في الفلسفة.

وإن كان المراد هو دعم روح نبي الإسلام أو الأنبياء السابقين، فهذا المعنى مخالف لظاهر ادعاء غلام أحمد القادياني، وعلى فرض قبوله لا يستفاد منها ادعاء النبوّة، إذ هناك من المؤمنين من يحظى بتأييد الله الذي هو فوق الأنبياء، ومع ذلك لا يكون هذا التأييد مساوقاً للنبوّة.

2 - وعلاوة على ذلك كيف يمكن إثبات تحقق كلا الفرضين - أي

ص: 231


1- أُنظر: غلام أحمد القادياني، التعليم، ص 15، وانظر أيضاً غلام أحمد القادياني، براهين أحمدية، ج 1، ص 239 ، نقلاً عن محمد عبد الله الدرّاز، حقيقة الوحي، ص 27 و 304 ، نقلاً عن إحسان إلهي ظهير، القاديانية، ص 79 - 89 .
2- غلام أحمد القادياني، البراهين الأحمدية، ص 89 - 90 .
3- الصف: 6 .

الحلول الحقيقي لروح الأنبياء أو تأييدهم لشخص القادياني – بالفعل (1) ؟ وبعبارة أخرى إن هذا الكلام مجرد ادعاء فارغ.

3 - إن إدعاء النبوة قد أنكرته الآيات والروايات - على ما تقدم في الصفحات السابقة - بشكل مطلق. فإن كان غلام أحمد القادياني يعتبر نفسه تابعاً وفرعاً عن النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم حقيقة، فعليه أن يؤمن بجميع شريعته وتعاليمه ومن بينها الخاتمية، لا أن ينكرها وينصّب نفسه علماً في مواجهة النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم، و مع ذلك يصف نفسه بكل جرأة أنه فرعه وخادم له!

4 - أما هشاشة الاستناد إلى الآية الشريفة فواضحة أيضاً؛ إذ أولاً إن هذه الآية تتحدّث عن ظهور النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم کبشارة من قبل النبي عيسى بن مريم، ولا شأن لها بنبي یأتي بعد النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم . وثانياً يبدو أن غلام أحمد القادياني إنما تمادى في ادعائه لمكان انطباق اسم أحمد عليه، ولكن إذا اعترفنا له بذلك فسوف يتسع الباب لكل من كان اسمه أحمد كي يدعي النبوة متمسكاً ببشارة القرآن بنبوّته!

ص: 232


1- عند دراسة آيات القرآن الكريم ندرك أن من بين مهام الأنبياء مواجهة الطواغيت في عصرهم، في حين أن غلام أحمد القادياني قد اعترف شخصياً أنه قد أفنى أكثر حياته في خدمة ودعم الإنجليز، وكان يدعو لقادة الإنجليز، واعتبر طاعتهم واجبة على أتباعه. (أُنظر: عبد الرزاق الكنج، ترياق القلوب، ص 15؛ روحانی خزائن، نجم الهدى، ج 14 ، ص 65)، فهل يعقل أن تحل أو تتمثل روح النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم أو أرواح الأنبياء في مثل هذا الشخص؟!

الفَصْلُ السَّابِعْ

اشارة

الحكومة والمشروعية

الشبهة الأولى: إنكار المشروعية الإلهية والدينية لحكومة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم:

اشارة

هل أقام النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم حكومة دينية كان على رأس السلطة فيها ؟

وبعبارة أخرى هل الولاية السياسية من جملة مسؤوليات النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم ؟

ليس هناك من يتردد في الإجابة عن السؤال الأول بالإيجاب، إلا أن السؤال بل الشبهة التي عمد العلمانيون من المسلمين إلى طرحها في العقود الأخيرة تكمن في قولهم إن الحكومة التي أقامها النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم في المدينة لم تكن من منطلق كونه نبياً مرسلاً من قبل الله، وإنما أقامها بوصفه مواطناً واستجابة لرغبة أهل المدينة في تنظيم شؤونهم، ومن هنا تكون هذه المسألة أمراً شخصياً واجتماعياً، ولا يمكن استنباطها بشكل خاص من القرآن الكريم، كي يتمّ نسبة نظرية تأسيس الحكومة الإسلامية إلى القرآن والدين.

يعمد المخالفون في مقام التنظير إلى القول بأن الحكم والحاكمية ليست من شؤون «الله» كما أنها ليست من شؤون «النبي» تبعاً لذلك، بل هي ملك

ص: 233

للشعب. وبعبارة أخرى إنهم ينكرون وجود «المشروعية الإلهية» للحكومة، ويرون أن المصدر الوحيد لإضفاء الشرعية على الحكم يأتي من قبل «الناس»، وبحسب المصطلح إنهم يؤمنون ب- «المشروعية السياسية» و«الديمقراطية» في قبال «المشروعية الإلهية» (1) .

إنّ هذا النوع من الرؤية إلى مقولة المشروعية وتنزيل الحق الإلهي ورفع حق الناس بدأ منذ القرن السابع عشر للميلاد تقريباً، ذلك من خلال القضاء على النظام الإقطاعي وسقوط الإمبراطورية الملكية، وإن من بين أشهر المنظرين لهذه الرؤية جون لوك (1632 - 1704م)، الذي تأثرت بأفكاره وفلسفته كل المذاهب السياسية الديمقراطية والليبرالية وحقوق الإنسان (2).

ص: 234


1- إن كل حكومة يجب أن تقوم على مبنى وملاك للمشروعية (الأحقية والدستورية القانونية)، ولكن ما هو هذا المبنى والملاك ؟ هناك في هذا الشأن عدّة آراء وملاكات، من قبيل 1 - القهر والغلبة. 2 - الحق الطبيعي. 3 - الحكومة التقليدية. 4 - الاعتبار والتواضع العام. 5 - الشخصية والمشروعية الإلهية. (ولمزيد من التوضيح، أُنظر: محمد حسن قدردان قراملكي، حکومت دینی از منظر استاد مطهري (الحكومة الدينية من وجهة نظر الأستاذ المطهري)، الفصل الأول).
2- أُنظر: جون لوك، رسالة في الحكم؛ ريتشارد بابكين، كليات فلسفه، ص 113 فما بعد. وللمزيد من التوضيح بشأن ظهور العلمانية في العالم الغربي، أُنظر: محمد حسن قدردان قراملکي، سکولاریزم در مسیحیت و اسلام (العلمانية في المسيحية والإسلام)، الفصل الأول.

وها نحن اليوم نشهد تسلل هذه الزوبعة بين المسلمين من الشيعة والسنة، حيث يذهبون إلى القول بحزم إن مشروعية الحكم لا تستمد

من الله ورسوله، بل هي حق من حقوق الشعب، ومما قاله بعضهم في هذا الشأن «إن الحق في الحكم هو ملك للشعب على جميع الأحوال، فإن حكومة العباد من شأن العباد دون الآلهات، فإن الحكم ينبثق عنهم ويجب أن يعود إليهم» (1) . وقال آخر «إن الخلافة والحكومة من وجهة نظر الإمام الحسين ليست ملكاً ليزيد ولا لغيره من الخلفاء، فهي ليست ملكاً لهم ولا ملكاً لله، وإنما هي من حقوق الناس، ومن حقهم أن ينتخبوا للحكم من يشاؤون» (2) .

مناقشة وتحليل:

إنّ البحث في منشأ الحكم والحاكمية وملاكات مشروعيتها يُعدُّ من مباحث فلسفة السياسة الهامة، وهناك كثير من الآراء المطروحة بهذا الشأن. وفي البداية يمكن تقسيم الآراء المختلفة في بيان مشروعية الحكم إلى قسمين، وهما أولاً استناد حق الحاكمية والمشروعية إلى الله، وثانياً استناد حق الحاكمية والمشروعية إلى غير الله، والقسم الثاني يشمل الشعب، والنُخَب (أهل الحل والعقد)، والقهر والغلبة وما إلى ذلك.

إن المنكر لوجود الله سوف يرى عدم نسبة مشروعية الحكم إلى الله من باب السالبة بانتفاء الموضوع ضرورة. أما المؤمن والمعتقد بوجود الله فعليه أن يتأمل ويتدبّر في نسبة المشروعية إلى أحد طرفيها (الله وغيره) بشكل أكبر.

ص: 235


1- أُنظر: عبد الكريم سروش، مدارا و مديريت، مجلة كيان، العدد 21، ص 12، وانظر أيضاً عبد الكريم سروش، فربه تر از ایدئولوژی، ص 52.
2- أُنظر: مهدی بازرگان، آخرت و خدا هدف بعثت، ص 4 و 43.

بعبارة أخرى إن على المؤمن والمتأله أن يكون تابعاً ل- «الدليل» أو «الأدلة»، ليرى ما الذي تقتضيه ؟ والأدلة تنقسم إلى قسمين «عقلية» و«نقلية».

يذهب أكثر المتألهين إلى الاعقاد بأن مقتضى كلا هذين القسمين من الأدلة (العقلية والنقلية) هو إثبات حق الحاكمية لله، وحيث أن هذا المقال لا يتسع لبيان هذه الأدلة وتحليلها، سنكتفي بمجرد الإشارة إليها ضمن النقاط الآتية:

1 - عدم الانسجام مع العقل:

يرى المتألهون أن الله هو الخالق (1) والمالك المطلق (2) والمدبّر لعالم الممكنات (3) وعلى رأسها وجود الإنسان، فهو الذي خلق الإنسان من العدم (التوحيد في الخالقية)، وهو المالك المطلق وواهب الوجود للإنسان ابتداءً وبقاءً (التوحيد في المالكية)، وهو الذي يدبّر عالم الوجود ويعمل على إدارته (التوحيد الربوبي).

إنّ المجتمع الإنساني بحاجة إلى قانون وحكومة تنظم الحياة فيه، ولازم ذلك تحديد دائرة حقوق الإنسان ورسمها، أي المخلوق والمملوك لله. وهنا يطرح هذا السؤال نفسه من الذي يمتلك الصلاحية والمشروعية لتحديد أو سلب حقوق مملوك ومخلوق لآخر غير المالك والخالق؟ فهل يمكن لشخص

ص: 236


1- قال تعالى ﴿قُلْ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) ، الرعد 16، وانظر أيضاً فاطر 114.
2- قال تعالى ﴿قُلْ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) ، الفرقان 2 . وأُنظر: أيضاً البقرة 107؛ آل عمران 189 ؛ النور 42 ، وغيرها.
3- قال تعالى (الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمينَ) ، الحمد: 1. وانظر أيضاً الأنعام: 45؛ يونس: 10؛ الصافات: 182 ، وغيرها.

أجنبي - على سبيل المثال - أن يقيّد أو يسلب حقل طفل لغيره أو مصالحه المادية والمعنوية؟ أو أن هذا الأمر إذا كان لازماً فإنما يكون من صلاحية ولى أمر الطفل وصاحب المصالح المادية والمعنوية فقط ؟ إن العقل يحكم بعدم تدخل الأجنبي في حقوق ومصالح الآخرين، وإن هذا الحق يدخل ضمن صلاحية «ذي الحق».

وهكذا الأمر بالنسبة إلى الحكومة ووضع التشريعات والقوانين في المجتمع. فإن وضع التشريعات وإقامة الحكم وإن كان في نفسه يعود لمصلحة المجتمع، إلا أنه يستوجب تحديد أو سلب حقوق ومصالح المواطنين، وهم أناس مخلوقون ومملوكون ولهم خالق ومالك وربّ.

وهنا يطرح هذا السؤال نفسه هل يُعدّ تعيين الحاكم ووضع القوانين الشاملة والجامعة من حقوق الخالق والمالك والرب أم لا؟

إن الجواب عن هذا السؤال بالإيجاب يعني تأیید مشروعية الحاكمية الإلهية التي يدّعيها المتألهون. وأما الجواب بالنفي فيعني رفض حق الخالقية والمالكية والربوبية لله عزوجل، إلا أن العقل لا يتحمل مثل هذا القول.

وأما إذا أنكر شخص أصل هذه الصفات المتقدّمة، فإنه سيكون خارجاً عن دائرة الاعتقاد بالله المتصف بالخالقية والمالكية والربوبية.

بعبارة أخرى مع افتراض اتصاف الله بهذه الصفات، فإما أن نعتقد بحق الله في الحاكمية أم لا ؟ إن إنكار حق الله في الحاكمية يعني أن تعيين الحاكم أو وضع القانون خارج عن دائرة صلاحية واستحقاق الله، ولو صدر عن الله مثل هذا الشيء فسوف يعني ذلك تحديداً أو سلباً لحق أو حقوق الناس والمواطنين، وسيكون ذلك من سنخ غير الحق، وبعبارة صريحة سيدخل في «الباطل»

ص: 237

و «الغصب» و «عدم العدل» والعياذ بالله!

فهل يمكن للمتأله أن يلتزم بمثل هذه النتيجة؟ ألا يرى العقل مثل هذا الحكم «ظلماً» و «باطلاً»؟ لأن مثل هذا الحكم بدوره سيؤدي إلى تحديد أو سلب حق الله في التصرف والاختيار بوصفه المالك المطلق والمدبّر والربّ الذي يجب أن يتولى إدارة شؤون عبده ومملوكه. قد يقال هنا إن مراد أصحاب نظرية حاكمية الشعب لا بمعنى إنكار حق الحاكمية لله من الأساس، وإنما المراد هو تفويض الله هذا الحق من قبله للناس.

وعندها يجب القول أولاً : إن مثل هذا التفسير مخالف لظاهر بل صريح عبارة المنكرين لحق الحاكمية الإلهية. وثانياً: إن مثل هذا التفسير يعني الخروج عن محل البحث؛ لأن الفرض يقوم على شبهة المنكرين لحق الحاكمية الإلهية واعتقادهم بملاك المشروعية الأرضية فى عرض المشروعية الإلهية، وليس في طولها. ولكن لو اعتقد شخص بمثل هذا القول فإنه سيكون من المعتقدين بمشروعية الحاكمية الإلهية.

2 - عدم الانسجام مع الآيات القرآنية:

أشرنا إلى وجود الكثير من الطرق لنقض الشبهة والإجابة عنها، وقد تقدم منا إيضاح الطريق العقلي باختصار. وهنا نحاول إثبات حق الحاكمية الإلهية من آيات القرآن الكريم - وهذا الطريق لا يقنع إلا المؤمنين بالقرآن بطبيعة الحال - وفيما يأتي نشير إلى بعض الآيات الدالة على هذا الحق:

2 / 1 - الحكم والحاكمية حق إلهي: هناك آيات تصف القائد والحاكم

ص: 238

والمدير الذي يسوس الناس، وكذلك أصل الحكومة بأنها حق الله، من قبيل قوله تعالى:

- (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله) (1).

- ﴿وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ﴾ (2) .

- ﴿مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ) (3) .

- (فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ) (4) .

- (إِنْ الْحُكْمُ إلا لله) (5).

- (لَهُ الْمُلْكُ) (6) .

- (أَنْتَ وَلِيّ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ) (7).

ودلالة هذه الآيات على انحصار الحكم والحاكمية على الله في غاية الوضوح .

2 / 2 - تفويض الحاكمية إلى أفراد بعينهم: هناك آيات أخرى تذكر أن إعطاء الحكم إلى الآخرين يدخل في نطاق الدائرة الإلهية حصراً، من قبيل

قوله تعالى:

- (وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ) (8) .

ص: 239


1- المائدة: 55 .
2- الرعد: 11 .
3- السجدة: 4 .
4- الشورى: 9 .
5- الأنعام: 57؛ يوسف: 40 و 67 .
6- البقرة : 247؛ الأنعام: 73؛ فاطر: 13؛ الزمر: 6؛ التغابن: 1.
7- يوسف: 101.
8- البقرة: 247 .

وقد تحدّثت آيات أخرى عن إعطاء الحكم إلى أفراد بعينهم، من أمثال النبي داوود (1)، وسليمان (2)، وإبراهيم (3) علیه السلام .

3 / 2 - حق التشريع والتقنين منحصر بالله سبحانه وتعالى: هناك آيات تحصر حق التشريع ووضع القوانين بالله عز وجل، من قبيل قوله تعالى:

- (إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لله) (4) .

- (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (5).

- (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى الله﴾ (6).

لا حاجة إلى التذكير بأن المراد من حصر التقنين والتشريع على الله سبحانه وتعالى إنما يقتصر على الأمور العامة والكلية والثابتة، أما التفاصيل والأمور الجزئية المستحدثة فى كل عصر، فيمكن تشريعها من قبل الحاكم الصالح واستشارة الخبراء؛ واستنباط حكمها من خلال إرجاع الفروع إلى الأصول.

4 / 2 - الآيات الدالة على حاكمية النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم : هناك آيات لا تكتفي بمجرّد تعريف النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بوصفه حاكماً على الناس فقط، وإنما تعتبره هو الحاكم المطلق، وبعبارة أخرى تراه صاحب سلطات واختيارات مطلقة، من قبیل قوله تعالى:

ص: 240


1- أُنظر: آل عمران: 26 و 54 .
2- أُنظر: ص 35.
3- اُنظر: النساء 55 .
4- الأنعام: 57 ؛ يوسف: 40 و 67 .
5- المائدة: 45 . وانظر أيضاً المائدة: 44 و 47.
6- الشورى: 10 .

- (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ) (1).

فهذه الآية تتحدث عن انحصار الحكم المستفاد من أداة الحصر «إنما» بالله ورسوله، وأضافت إليهما المؤمن الذى يزكى أمواله أثناء الصلاة (في إشارة واضحة إلى الإمام علي علیه السلام ). من دون أن تتوسع في شمول هذا الحكم لسائر الناس في تحديد الحاكم أو خليفته.

- (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ (2) .

وهذه الآية الشريفة تثبت بدورها أن حدود اختيارات النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم مطلقة وشاملة ومقدّمة على الاختيارات الفردية للمواطنين.

- (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهُ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا) (3).

وهذه الآية تؤكد بدورها أيضاً على الاختيارات الخاصة لله ورسوله، وتضيف صراحة أن ليس أمام الناس سوى الطاعة والتسليم لأحكام الله ورسوله ، وإن التمرّد على أوامر الله ورسوله تؤدي إلى الضلال والانحراف عن جادة الصواب.

3- عدم الانسجام مع الروايات النبوية:

كما أن نظرية سلب حق الحاكمية الإلهية والنبوية تواجه إشكالاً ثالثاً أيضاً، يتمثل بالروايات المأثورة عن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم، إذ أثبتت حق الحاكمية

ص: 241


1- المائدة: 55 .
2- الأحزاب: 6.
3- الأحزاب: 36.

لله وللنبي بوصفه رسولاً إلهياً، وليس لانتخابه من قبل الناس، وفيما يأتي نشير إلى جانب من هذه الروايات:

روي عن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم أنه قال ضمن رواية طويلة أشار فيها إلى منزلته وأهل بيته، وإلى الولاية والإمامة والعصمة والتوسّل إلى الله، وحق السيادة على العباد وسياسة البلاد (الحكم) بوصفها من شؤونهم الخاصة، إذ يقول :

«ونحن سادة العباد، ونحن ساسة البلاد، ونحن الكفاة والولاة والحماة والسقاة والرعاة وطريق النجاة، ونحن السبيل والسلسبيل، ونحن النهج القويم والطريق المستقيم. من آمن بنا آمن بالله، ومن رد علينا رد على الله، ومن شك فينا شك في الله، ومن عرفنا عرف الله، ومن تولى عنا تولى عن الله، ومن أطاعنا أطاع الله، ونحن الوسيلة إلى الله والوصلة إلى رضوان الله، ولنا العصمة والخلافة والهداية، وفينا النبوة والولاية والإمامة» (1) .

إن تعيين الخليفة للحاكم والقائد السياسي في الأنظمة الديمقراطية والجماهيرية لا يدخل فى صلاحيات القائد نفسه، بيد أنه عندما أسلمت بعض القبائل مثل قبيلة بني عامر اشترطت على النبي أن يكون لها الخيرة في اختيار خليفته، إلا أن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم لم يستند في ذلك إلى حقوق الناس، وإنما قال لهم صراحة: «إن الملك لله، يجعله حيث يشاء» (2).

ص: 242


1- العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 25 ، ص 23.
2- ابن هشام، سيرة ابن هشام، ج 2، ص 424 ؛ ابن كثير، السيرة النبوية، ج 1، ص 159؛ العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 25 ، ص 23 .

ومن ناحية أخرى فإن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم قد حدد خليفته على مستوى القيادة السياسية والمعنوية في كثير من المواضع والمواطن بأمر من الله، ويذهب الشيعة إلى الاعتقاد بإمامة الإمام على علیه السلام استناداً إلى هذه الأدلة.

الشبهة الثانية: انحصار شأن النبوة والنبي صلی الله علیه و آله و سلم بإبلاغ الوحي والهداية دون الحكم:

اشارة

يذهب العلمانيون إلى الادعاء بأن الرجوع إلى القرآن يثبت أن شأن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم ومهمته تقتصر على إبلاغ رسالة السماء وهداية الناس إلى الله والآخرة، ولم ترد أيّ آية بشأن الدنيا والحكم، واستندوا لإثبات مدعاهم ببعض الآيات القرآنية، من قبيل قوله تعالى:

- (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّنَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ (1) .

- (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ٭ وَدَاعِيَّا إِلَى اللَّهُ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا) (2) .

وقد سبق أن تمّ طرح هذه الشبهة أولاً من قبل علي عبد الرزاق (3) بين أهل السنة، وتسرّبت في العقود الأخيرة لتلقى رواجاً بين العلمانيين من الشيعة (4) .

ص: 243


1- الجمعة: 2 .
2- الأحزاب: 45 - 46 .
3- أُنظر: عبد الرزاق، على، الإسلام وأصول الحكم، ص 60 و 150 . وقد ترجم هذا الكتاب إلى اللغة الفارسية تحت عنوان (اسلام و مبانی قدرت) .
4- أُنظر: مهدي بازرگان، آخرت و خدا هدف بعثت، ص 82 و229؛ مهدي حائري يزدي، حكمت و حکومت، ص 140 .

1 - أبعاد منزلة النبوّة والنبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم:

يذهب أكثر الباحثين الغربيين وبعض المستنيرين المسلمين في السنوات الأخيرة إلى دعم «التعددية الدينية»، ولا يتحملون حصر الحق في دين خاص، وقد أصبحوا فيما يتعلق بتفسير النبوّة وغايتها حصريين للأسف الشديد، حيث قالوا بأن فلسفة النبوة الوحيدة هي الله، وتأتي الآخرة تبعاً لذلك. إلا أن الرجوع إلى القرآن الكريم يثبت لنا أن جميع الأنبياء كانوا يمتازون برؤية جامعة وشاملة، بمعنى أنهم كانوا يسعون بمختلف الوسائل والسُبل إلى التأثير في البُعد الدنيوي والأخروي من حياة الإنسان. حيث كانوا ينشدون مختلف الغايات والأهداف التي يمكن تسميتها بالتعددية في الأهداف أو «التعددية الغائية». نعم إنّ أول الأهداف والغايات وأهمّها من البعثة والنبوّة ينظر إلى الآخرة وهداية الناس إلى الفلاح والنجاح الروحي والمعنوي، ولكن هذا هو أول الأهداف وليس آخرها . فإن الأنبياء إلى جانب هذا الهدف، كانوا يسعون إلى إقامة العدل والحرية وبناء الدولة وحل النزاعات والخصومات بين الناس، ولم تكن هذه الغايات من منطلق أنهم من جملة الناس الذين يحملون هموم المواطنة والحياة الاجتماعية، بل يأتي اهتمام الأنبياء بهذه الأهداف طبقاً لإرشادات السماء وتعاليمها، من هنا فإنّ الأهداف الثلاثة الآنفة تدخل في ضمن البرنامج والرسالة الإلهية التي حملها الأنبياء، وهو ما سنقوم بتوضيحه.

1 / 1 - العدالة الاجتماعية:

تذهب بعض الآيات إلى بيان أحد أهداف بعثة الأنبياء الإلهيين بشكل عام في إبلاغ مجموعة من القرارات والقوانين الاجتماعية والدنيوية، وتعتبر امتثالها موجباً لتحقيق القسط والعدل، من قبيل قوله تعالى:

ص: 244

(لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ) (1) .

فهذه الآية لا تتحدّث عن الهداية وإنزال النور، بل هي تشير إلى بعض القوانين ذات الصلة بعالم الدنيا، والتي تؤدي مراعاتها إلى تحقيق العدالة، وهي قوانين أرسلت للناس بواسطة الأنبياء لتكون جزءاً من جدول أعمالهم. وهذه المسألة تعني الاهتمام بالبُعد الدنيوي من حياة الناس.

توضیح ذلك أن عنوان «الكتاب» في الآية الشريفة لا يختص بالأحكام الفردية والعبادية، وإنما هو بشكل عام يشمل حتى الأحكام الاجتماعية أيضاً؛ إذ تمّ وصف تحقيق العدالة والقسط من قبل الناس بأنه من نتائج إنزال الكتاب، وبين هذين الأمرين ارتباط وثيق. فلو قلنا بعدم شمول الكتاب للأحكام الدنيوية، وقصرناه على الهداية والآخرة، سيعني ذلك زوال هذا الارتباط.

وعلاوة على ذلك فإن التذكير بالحديد (بوصفه رمزاً للقهر والقضاء المبرم) في الآية بهذا الوصف لما يثيره من الرعب، يُعدّ شاهداً آخر على عمومية «الكتاب» وشموله للأحكام الاجتماعية ومعاقبة المتخلفين في هذه الدنيا؛ لأن ظاهر التهديد بالسيف، فعليته وتحققه في هذه الدنيا، كما أن منافع

ص: 245


1- الحديد: 25 . قال الأستاذ الشهيد مرتضى المطهري في تفسير هذه الآية "إن كل نبي قام بالثورة على النظام الديني القائم، وسعى إلى إصلاح النظم الاجتماعي، وهذا ما يؤكد عليه القرآن بشكل خاص. فإن الثورة على النظام الفاسد وبناء نظام عادل بدلاً منه كان يمثل غاية لجميع الأنبياء والرسالات، بيد أن هذه الحقيقة قد تجلت في الإسلام - بوصفه الدين الخاتم - بشكل أوضح". (أُنظر: مرتضى المطهري، پيرامون انقلاب اسلامی، ص 101) .

الحديد إنما تكون للناس في هذه الدنيا أيضاً.

حاصل الكلام أن الآية الشريفة تقرّ في الحدّ الأدنى بحقيقة إنزال بعض القوانين الناظرة إلى الأمور الدنيوية من حياة الناس من قبل الله بواسطة الأنبياء، وإن مهمة هؤلاء الأنبياء لم تقتصر على الوعظ والإرشاد فقط. وهناك كثير من الآيات التي تدعو النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم وسائر المؤمنين برعاية العدل في القضاء وفى الأمور الاقتصادية والاجتماعية أيضاً، من قبيل قوله تعالى:

- (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) (1).

- ﴿فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (2) .

- (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ) (3) .

- ﴿یَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ) (4) .

والآية الأولى والثانية ذات صلة بالقضاء، والآيتان الأخيرتان ترتبطان بالاقتصاد، وفي جميع هذه الحالات يأمر الله رسوله وسائر العباد بتطبيق العدل.

1/2 - الحرية الاجتماعية:

كانت الطبقة التي تنتمي إلى الأقلية على طول التاريخ هي التي تتسلط

ص: 246


1- النساء: 58 .
2- المائدة: 42 .
3- الأنعام: 152.
4- هود: 85 .

على رقاب الأكثرية من أبناء المجتمع، وتعمل على الاستئثار في السلطة وتستثمر أرواح المواطنين وأموالهم وأعراضهم. ولربما حظي هذا الواقع المرير بدعم وتأييد كبار المفكرين والفلاسفة في العالم، كما نشهد ذلك في نظريات الفلسفة السياسية لكل من أرسطو (1) فيما ذهب إليه من الحق الطبيعي، وإفلاطون في حكم الأشراف والطبقات الفذة. أما الأنبياء فقد وقفوا بأجمعهم في وجوه حكام الجور والطاغوت، وكانوا يطالبونهم برعاية الحقوق الفطرية والحريات البديهية للمواطنين، وأن لا ينتهكوا حقوقهم، وفيما يأتي نشير إلى بعض هذه الاعتراضات:

يؤكد القرآن الكريم على أن الله تعالى قد أرسل كل نبي إلى أمتي لغاية الدعوة إلى عبادة الله ونبذ الطاغوت:

- (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ أعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) (2) . يبادر النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم مستلهماً تعاليم وحي السماء إلى دعوة الأمة الإسلامية إلى تحرير سائر الشعوب الأخرى من ربقة الظالمين - ولو باللجوء إلى الحرب - ويرى الركون إلى السلم في هذه الحالات أمراً غير مقبول:

- ﴿ وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا﴾ (3) .

كما أخبر القرآن بقتل كثير من الأنبیاء بسبب معارضتهم لظلم الحكومات، من قبيل قوله تعالى:

ص: 247


1- أُنظر: أرسطو، السياسة، نقله إلى الفارسية حميد عنايت، ص 10 .
2- النحل : 36 .
3- النساء: 75 .

- (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ) (1) .

- (وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٌّ) (2) .

وقد تحدثت آية أخرى عن مواجهة أتباع الأنبياء على طول التاريخ للطغات والظالمين مشكلين جبهة محكمة وراسخة، وكان دعاؤهم من الله أن

يثبت أقدامهم وينصرهم على الكافرين:

- (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ الله وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ ٭ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ (3) .

وفي عصر النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم لم تكن هناك حكومة أو حاكم بعينه ممسكاً بمقاليد الأمور في شبه الجزيرة العربية، وإنما كانت المنطقة نهباً للنزاعات القبلية. وكانت الطبقة الارستقراطية تستثمر الطبقة المستضعفة لصالحها وتلبية مآربها، وكانوا يستعبدون الناس ضمن نظام الرِّقيّة ويحمّلونهم ما لا يطيقون ويصادرون جهودهم ويبخسونهم حقوقهم. في مثل هذا المجتمع ظهر النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم فلقي ترحيباً واسعاً من الطبقات المستضعفة والمحرومة، وهو أمرٌ أثار مخاوف الطبقة الارستقراطية في مكة. وقد سعى قادة قريش في المرحلة الأولى إلى ثني الرسول عن المضي في دعوته من خلال الوعود بتأميره أو جعله ملكاً عليهم (4) ، وبعد أن يأسوا من ذلك خططوا لقتله، ولكن الله أخبره

ص: 248


1- البقرة: 61 .
2- آل عمران: 181؛ النساء: 155.
3- آل عمران: 146 - 147 .
4- أُنظر: ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، ج 1، ص 58؛ محمد رضا الحكيمي وآخرين، الحياة، ج 2، ص 237 .

بما يضمرونه له (1) ، فاختار الهجرة إلى المدينة للنجاة من كيد الأعداء.

وقد ذكر القرآن الكريم أن من بين الأهداف التي كان ينشدها رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم تحرير الناس من جميع قيود العبودية التي فرضها عليهم النظام الجاهلي، قال تعالى:

﴿وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾ (2) .

وقد صرّح النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم في رسالته إلى نصارى نجران قائلاً بأن دعوته تتلخص في تحرير الناس من عبادة العباد والدعوة إلى عبادة الله، إذ يقول:

«أما بعد فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد، وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد» (3).

وقال رسول الله في رواية أخرى إن الهدف من بعثه هو مواجهة الطغاة من السلاطين: «إن الله بعثني أن أقتل جميع ملوك الدنيا» (4).

كما توجد هناك إشارات صريحة إلى هذه الغاية في مختلف الروايات المأثورة عن الأئمة الأطهار علیهم السلام .

والجدير بالذكر فيما يتعلق بمقارعة الأنبياء للظلم أنّ الله يحذّرهم من مغبّة الوقوع في نفس الأخطاء التي ارتكبها الطغاة من قبلهم، فلا ينبغي بالمؤمنين بعد تحقيق الانتصار أن يمارسوا ذات الظلم الذي كان يمارسه الطغاة بحق الناس، كما هي الحالة السائدة بالنسبة إلى أكثر الثورات والانقلابات في

ص: 249


1- أُنظر: الأنفال: 30.
2- الأعراف: 157 .
3- العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 21 ، ص 285 .
4- المصدر أعلاه، ج 9، ص 210 ، وج 18، ص 234.

العالم، قال تعالى في محكم كتابه الكريم:

(مَا كَانَ لِبَشَرِ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لي مِنْ دُونِ الله وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلَّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ) (1) .

3 / 1 - حلّ الخصومات والنزاعات بين أفراد الشعب والدولة:

لا تخلو طبيعة الحياة الاجتماعية من الاختلافات والنزاعات بين مختلف الأفراد لمختلف الأسباب والدوافع وإن حل هذه النزاعات يكون من خلال السلطة القضائية. ومن ناحية أخرى قد يتمرّد الخصم الذي تحكم المحكمة عليه فلا ينصاع لقرارها، وهو أمرٌ يستدعي تأسيس كيان رافد للسلطة القضائية يمكنه إلزام المحكوم عليه بما قضت به المحكمة عملياً.

إن نظرة القرآن إلى النبوة ليست نظرة أحادية، ولا يريد القرآن من الأنبياء أن يقتصروا على بيان التعاليم الدينية فقط، بل إن من بين أهداف النبوة وإنزال الكتاب هو القضاء بين الناس وحسم النزاعات والخصومات بينهم. وفي الحقيقة فإن الله يريد من الأنبياء أن لا يتخذوا موقف المتفرّج تجاه الاختلاف بين أفراد الأمة، بل يأمرهم بالتدخل من أجل حلها، قال تعالى:

(كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ (2) .

كما أمر الله تعالى الناس في آية أخرى بالاحتكام إلى المراجع القضائية

ص: 250


1- آل عمران: 79 .
2- البقرة: 213 .

وإلى حكم الله ورسوله عند احتدام الخلاف فيما بينهم، إذ يقول تعالى:

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً)(1) .

فهذه الآية الشريفة لا تكتفى بمجرّد إلزام الناس بالرجوع عند الاختلاف إلى حكم النبوّة فقط، بل ترى ذلك من شروط الإيمان بالله والمعاد.

وهناك آية أخرى تؤكد على حسم جميع أنواع الخلافات من خلال الانصياع لحكم الله، قال تعالى:

(وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى الله) (2) .

وقد اشتملت هذه الآيات الثلاث على نوعين من الإلزام؛ النوع الأول إلزام للنبي حيث يؤمر بالعمل على حل الخلافات والفصل بين النزاعات الدنيوية. والنوع الثاني إلزام للناس حيث يؤمرون بالرجوع إلى الأنبياء في حل نزاعاتهم.

والجدير بالذكر هنا أن من لوازم الحكم بين الناس امتعاض المحكوم من قرار المحكمة الإلهية ولربما عمد الطرف المحكوم إلى اتهام المحكمة بالانحياز ضدّه، إلا أن هذا لا يشكل سبباً وجيها أو مبرراً منطقياً يمنع الله من إرسال الرسل لحل المشاكل الاجتماعية، كما يقول نصّ الشبهة التي يتبنى العلمانيون طرحها حيث ينطلقون من منطلق الحفاظ على قداسة الدين وعدم الدخول في معمعات الدوائر السياسية.

ص: 251


1- النساء: 59.
2- الشورى: 10 .

وفيما يأتي نشير إلى آيتين أخريين تم التعريف فيهما بالقضاء والحكم بين الناس بوصفه من أهداف بعثة الأنبياء والمرسلين، إذ يقول تعالى:

- (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا) (1) .

-(كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ (2).

إن هذه الآيات لا تعرّف القرآن الكريم وسائر الكتب السماوية بوصفها كتب هداية فحسب، بل إن الله في هذه الآيات يُشير إلى الفلسفة الدنيوية والمادية من بعث الأنبياء، وإن هذه الفلسفة تتمثل في مهمة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم وسائر الأنبياء في حسم الخلافات والفصل بين الخصومات، ليكونوا بذلك عاملين على وفق التعاليم والموازين المذكورة فى الكتب السماوية. وهذا الأمر لا يعتبر دون شأن الأنبياء، بل هو الغاية والهدف من وراء نزول الكتب السماوية وبعثة الأنبياء.

وقد ورد في بعض الروايات أن الاهتمام بأمور الدنيا وإصلاحها مسألة تقضي بضرورة النبوّة، فقد روي عن الإمام الرضا علیه السلام أنه قال في هذا الشأن:

«لم يكن بدّ من رسول بينه وبينهم، معصوم يؤدي إليهم أمره ونهيه وأدبه، ويقفهم على ما يكون به إحراز منافعهم ودفع مضارهم، إذ لم يكن في خلقهم ما يعرفون به ما يحتاجون إليه من منافعهم ومضارهم» (3) .

ص: 252


1- النساء: 105 .
2- البقرة: 213 .
3- العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 6 ، ص 60 ، وج 11، ص 40 .

من هنا ذهب الحكماء وبعض المفكرين من أمثال القاضي عبد الجبار المعتزلي (م 415 للهجرة ) (1) ، وابن ميثم البحراني (م699 للهجرة ) (2)، والفاضل المقداد السيوري (م826 للهجرة) (3) ، والعلامة محمد حسين الطباطبائي والشهيد الأستاذ مرتضى المطهري (4) ، إلى القول باعتبار القيام بالشؤون الدنيوية للناس جزءاً من حقيقة «النبوّة».

وقال العلامة الطباطبائي في تعريف النبي في تفسير الميزان:

«النبي هو الذي يبيّن للناس صلاح معاشهم ومعادهم» (5) .

ثمّ إن الهدف الذاتي من خلق الإنسان وبعثة الأنبياء وإنزال الكتب السماوية يكمن في هداية الناس إلى المنازل المعنوية والروحية التي تبلغ ذروتها من الزاوية القرآنية في الوصول من الله «قاب قوسين». ويأتي وضع القوانين والتشريعات الحكومية في إطار بلوغ الإنسان محطة القرب من الله، الذي يلعب في الحقيقة دور المقدمة الموصلة. كما أن ذكر «الآخرة» بوصفها هي الفلسفة من البعثة في عرض «الله» لا يخلو من مسامحة؛ لأن الآخرة - الأعم من الجنة أو النار - ليست هي الغاية من البعثة، وإنما هي غاية مطمح العبيد والتجار.

ص: 253


1- أُنظر: القاضي عبد الجبار المعتزلي، شرح الأصول الخمسة، ص 564.
2- أُنظر: ابن ميثم البحراني، قواعد المرام، ص 122 .
3- أُنظر: الفاضل المقداد السيوري، اللوامع الإلهية، ص 165.
4- أُنظر : مرتضى المطهري، مجموعه آثار (الأعمال الكاملة)، ج 2، ص 175 و 443، و ج 1، ص 575؛ مرتضی المطهري، پيرامون انقلاب اسلامی، ص 101؛ مرتضی المطهري، نظام حقوق زن در اسلام، ص 88 .
5- العلامة محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 2، ص 122. ولمزيد من الاطلاع على آراء العلماء المسلمين، أُنظر أحد فرامرز قراملکی، مبانی کلامی جهت گیری دعوت انبيا (الأسس الكلامية لدعوة الأنبياء).

وعليه فإن الالتزام بأن القرآن الكريم إنما يطرح المسائل والأسس المطروحة في أمور الدنيا لغاية تربية الإنسان وإيصاله إلى محطة القرب من الله، وإن الأمور الدنيوية تأتي في المرحلة الثانوية من أهداف الأنياء لا يخدش في ذكر الحياة الدنيوية بوصفها واحدة من أهداف البعثة أبداً.

قال سماحة الإمام الخميني قدس سرّه في هذا الشأن: «إن جميع ما جاء به الأنبياء لم يكن هو المقصود بالذات، ومن ذلك إقامة الحكومة أيضاً» (1) .

من هنا أرى أن وصف التعاليم والأحكام القرآنية الناظرة إلى الأمور الدنيوية بأنها «نتاج فرعي» أو «ضمني» (2) صحيح ومطابق للواقع من بعض الزوايا. وفى ذلك يقول السيد مهدي بازرگان:

«لقد كان الهدف من البعثة يرصد هذين الأمرين (الله والآخرة)، بيد أن تحقيق هذه الغاية يقتضي قيام دولة يقودها المسلمون» (3) .

بيد أن محل الخلاف يأتي من منشأ المشروعية لمثل هذه الحكومة التي اعتبرها السيد مهدي بازرگان عبارة عن الرأي العام، ولا يستثني من ذلك حتى حكومة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم، وفي الصفحات القادمة سيتضح بطلان هذا القول.

2 - الخلط بين الحصر الإضافي والحصر الحقيقي:

إن الحصر الوارد في الآيات التي ترى شأن النبي ومسؤوليته منحصراً

ص: 254


1- السيد الإمام روح الله الموسوي الخميني، صحیفه نور، ج 1، ص 238 ، وج 18، ص 181 .
2- أُنظر: مهدي بازرگان، آخرت وخدا هدف بعثت، ص 74.
3- المصدر أعلاه، ص 227 .

بالإبلاغ والذكر هو حصر إضافي. وقد تقدّم في علم المعاني والبيان أن هذا المورد من الحصر يستعمل لبيان الموارد التي تحظى بأهمية كبيرة، كأن يقول الأب لولده إن مهمتك اليوم تنحصر بالدراسة. ومن الواضح أن الأب في هذا الكلام لا يريد من الولد إهمال الوظائف الأخرى، من قبيل مسألة التربية، والأخلاق وسائر الوظائف والتكاليف الأخرى.

وهكذا الأمر بالنسبة إلى هذه الآيات التي تحصر مهمة النبي بالتبليغ بوصفه المسؤولية الأولى والأهم بالنسبة له بوصفه سفير السماء، وهو أمرٌ يعكس الأهمية القصوى للتبليغ، ولا يمكن التمسك بذلك دليلاً على العلمانية. وذلك لوجود سائر الشؤون والمسؤوليات الأخرى التي تصرّح الآيات بأنها من جملة مهام النبي على ما تقدم بيانه في الصفحات السابقة.

الأمر الآخر أنّنا إذا اعتبرنا الحصر هنا حصراً حقيقياً، للزم من ذلك أن تكون مسؤولية النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم أدنى من مسؤوليات بعض الأنبياء؛ إذ إنّ بعض الأنبياء - طبقاً لكثير من الآيات - قد تولى مناصب من قبيل الحكم والقضاء وتحقيق الحريات الاجتماعية وإقامة الحدود بتخويل من الله سبحانه وتعالى. وعليه فإن أفضل السبل للجمع بين آيات الحصر، والآيات الأخرى التي تدل على وجود وظائف ومهام أخرى للنبي هو حمل الحصر المتقدم على الحصر الإضافي.

الشبهة الثالثة: دلالة القرآن الكريم على نفي حاكمية النبي الأکرم صلی الله علیه و آله و سلم:

اشارة

كانت الشبهة السابقة تحصر مهمّة النبي بالتبليغ والدعوة إلى التعاليم السماوية، وهى تقتصر على المعنويات والخالق والمعاد فقط. أما هذه الشبهة

ص: 255

فتدّعي بأن القرآن ينفي الحاكمية عن النبي، وهي صريحة في الفصل بين النبوة والسياسة والحكومة.

قال الدكتور مهدي الحائري بالإشارة إلى قوله تعالى: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكَّرٌ ٭ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ ﴾ (1) :

«لقد وردت مفردة (مصيطر) على شكل (مسيطر) أيضاً، وكلاهما يعني السيطرة والسلطة، وهي تعني تلك الولاية التي سعى بعض الفقهاء في القرن ونصف القرن الأخير إلى ادعائها لأنفسهم بأدلة واهية، هذا في حين أن تصريحات القرآن الكريم تؤكد على نفي هذا النوع من الولاية حتى بالنسبة إلى النبي نفسه» (2) .

وقال في موضع آخر ضمن الإشارة إلى الآية الآنفة:

«إن مسؤوليتك أيها النبي تنحصر بالتذكير والإنذار، وليس ممارسة السلطة (الولاية )» (3) .

كما قام بعضهم الآخر بتقسيم آيات الدليل المتقدم إلى ثلاثة أقسام، فقال «إن القرآن يخاطب النبي صراحة ويقول أنت لست قيّماً ولا ولياً على الناس» (4) .

ومن خلال الإشارة إلى الآيات الآتية:

ص: 256


1- الغاشية: 21 - 22 .
2- مهدي حائري يزدي، حكمت و حکومت، ص 153.
3- المصدر أعلاه، ص 152 - 153 .
4- قال تعالى (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلا الْبَلَاغُ) الشورى 48. أُنظر: محمد بسته نگار، دین و حکومت، ص 398 .

- (فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾ (1).

- (وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) (2) .

- (وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) (3) .

قال علي عبد الرزاق:

«القرآن كما ترى يمنع صريحاً أن يكون النبي صلی الله علیه و آله و سلم حفيظاً على الناس ولا وكيلاً ولا جباراً ولا مسيطراً، فليس بملك؛ لأن من لوازم الملك السيطرة العامة والجبروت سلطاناً غير محدود، ومن لم يكن وكيلاً على الأمة فليس بملك أيضاً» (4) .

كما استدل لرأيه بقوله تعالى: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ الله وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾ (5) . بتقريب أن الله سبحانه وتعالى بصدد حصر مقام النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بالرسالة والنبوّة، وإذا كان الحكم حقاً إلهياً على غرار الرسالة والنبوة لذكره. وفي ذلك يقول الدكتور عبد الرزاق علي:

«القرآن صريح في أن محمداً صلی الله علیه و آله و سلم لم يكن له من الحق على أمّته غير حق الرسالة، ولو كان صلی الله علیه و آله و سلم ملكاً لكان له على أمته حق الملك أيضاً» (6) .

رأي ونقد:

في معرض تحليل هذه الشبهة يجب التأمل في الأمور الآتية:

ص: 257


1- النساء: 80؛ الشورى: 48 .
2- الأنعام: 107؛ الشورى: 6؛ الزمر: 41 .
3- ق: 45 .
4- عبد الرزاق، علي، الإسلام وأصول الحكم، ص 81 و 144 .
5- الأحزاب: 40 .
6- المصدر أعلاه، ص 81.

1 - النص على حكومة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم :

ذهب الدليل المتقدم إلى ادعاء عدم وجود أيّ آية تدلّ على إثبات الحکم لنبي الأکرم صلی الله علیه و آله و سلم. في حين هناك آيات واضحة الدلالة على إثبات حكومة النبي الأكرم على ما تقدم في الصفحات السابقة، وفيما يأتي نكتفي بذكر بعضها الآخر:

- (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ) (1) .

- (فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُ الْهَوَى) (2) .

- (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ) (3).

إن الآيات المتقدمة تشتمل على خطاب وأمر للنبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بتولي الحكم والقضاء بين الناس، والآية الأخيرة تصرّح بأن الحكم و إدارة البلاد والعباد تمثل الفلسفة والغاية من نزول الكتب السماوية. وعليه تكون هذه الآيات دليلاً على تنصيب النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم في الحكم والقضاء.

وهناك آيات أخرى تلزم الناس بالرجوع إلى النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم في حلّ اختلافاتهم ونزاعاتهم، من قبيل قوله تعالى:

- (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهُ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) (4) .

- (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّه وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ

ص: 258


1- المائدة: 48 .
2- ص: 26 .
3- النساء: 105 .
4- النساء : 59 .

يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (1) .

- (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) (2) .

- (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِينًا ﴾ (3).

وكما نلاحظ فإن هذه الآيات الأخيرة لا تكتفي بدعوة الناس إلى الرجوع إلى النبي الأكرم بوصفه واجباً شرعياً فحسب، بل وتحذّرهم من مغبة التمرّد على هذه الأحكام الصادرة عن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم.

2 - الحصر الإضافي:

إنّ الآيات التى تمسّك بها الدكتور الحائري وعبد الرزاق في نفى سلطة وسيطرة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم، وحصر مسؤوليته ومهمته بالتبليغ والهداية إلى الله والوعظ والتذكير وإبلاغ الوحي ورسالة السماء، يجاب عنها بأن هذا الحصر الوارد فيها إنما هو من الحصر الإضافي، وليس حصراً حقيقياً على ما تقدم بیانه .

3- عدم سلطة النبي في هداية الكفار:

يتضح ضعف هذا الإسناد من خلال الرجوع إلى الآيات ذات الصلة؛ إذ أن الآيات المشتملة على نفي سلطة النبي ووكالته وسيطرته إنما تتحدّث عن الكفار الذين لم يعتنقوا الإسلام، رغم الجهود المضنية التي بذلها الرسول

ص: 259


1- النور: 51 .
2- المائدة: 44 . وانظر أيضاً المائدة: 45 و 47 .
3- الأحزاب : 36.

الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم من أجل وضعهم على الصراط المستقيم المتمثل بالدين الإسلامي الحنيف، وعليه فإن المراد من نفي وكالة النبي في ما يقرب من عشر آيات هو بيان هذه الحقيقة، وهي إن الهداية لا تكون بالإكراه، فلا تستطيع أن تكون وكيلاً ومتكفلاً لإيمانهم، من هنا فإن هذه الآيات ليست بوارد الحديث عن الحكومة والسلطة أبداً، ولذلك فهي خارجة عن محل البحث، وإن الاستدلال بها خروج عن موضع البحث. وقد أشار المفسرون من المسلمين إلى هذه الحقيقة عند تفسيرهم لهذه الآيات (1) . وفيما يتعلق بالآية الثمانين من سورة النساء التي تنفي كون النبي حفيظاً، يجب القول على الرغم من أن المخاطب بهذه الآية هم المسلمون، ولكن يتضح من خلال الرجوع إلى الآيات السابقة أن المخاطب في هذه الآية هم أولئك المسلمون الذين خافوا من خوض الجهاد والشهادة في سبيل الله، وكانوا يعتقدون بأن الانتصارات والحسنات هي من عند الله، وأن الخسائر والسيئات من رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وقد عبّر القرآن عن موقفهم هذا بقوله:

(وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا) (2) .

ص: 260


1- أُنظر: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 5، ص 5، وج 12، ص 25 ، وج 10 ، ص 136؛ آية الله السيد أبوالقاسم الخوئي، تفسير البيان، ص 327. ومن الجدير ذكره أن بعض المفسّرين يقول بنسخ هذه الآيات بآيات الجهاد، وبذلك يستطيع النبي أن يكره الكفار ويجبرهم على اعتناق الإسلام (أُنظر: محمد القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج 5، ص 288).
2- النساء: 78 .

الشبهة الرابعة: اختصاص الحكم بقريش:

اشارة

هناك من يذهب إلى الاعتقاد بأن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم لم يكتف بتعريف نفسه قائداً وحاكماً سياسياً في المجتمع بوصفه خليفة من قبل الله، بل قدّم قبيلته (وهي قبيلة قريش) في الحكم على القبائل الأخرى، وقال في حديث مأثور عنه «إن الأئمة من قريش».

مناقشة وتحليل:

1 - إن الأمر الأول الذي يفرض نفسه في تحليل هذه الشبهة هو البحث في سند هذه الرواية، بمعنى هل صدر مثل هذا الكلام عن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بالفعل؟ وهل هو من أخبار الآحاد من الأخبار المتواترة (1) ؟

ينقل التاريخ أن هذا الحديث رواه أبوبكر في سقيفة بني ساعدة. حيث اجتمع الأنصار لتولي السلطة بعد رحيل النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم، فتوجه أبوبكر وعمر إلى هذا الاجتماع، وحاولا صرف الأنصار عما كانوا بصدده، ولم يمتثل الأنصار إلى مطالبهما حتى ادّعى أبوبكر أن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم قد حصر الخلافة في قريش، وقرأ الحديث المذكور لتأييد مدّعاه، وبذلك تراجع الأنصار عن موقفهم، ولم يكتفِ أبوبكر بذلك بل عرّف نفسه خليفة للمسلمين في ذات الاجتماع.

وبغض النظر عن دوافع رواية هذا الحديث في هذا الاجتماع، يجب القول إن المصدر الرئيس لهذا الحديث يقتصر على مصادر أهل السنة، وقد أذعن كبار المحدّثين عندهم بأنه من الأخبار الآحاد. ويمكن لنا الإشارة في ذلك

ص: 261


1- أُنظر: معروف الرصافي، الشخصية المحمدية، ص 30.

هنا إلى الفخر الرازي (1) ، والآمدي (2) ، وعضد الدين الإيجي (3) .

وإن العمل بأخبار الآحاد في مجال العقائد موضع ترديد وإنكار، خاصة إذا أحيط موقف الراوي ودلالة مضمون الحديث بالغموض، وهو ما سنشير إليه لاحقاً.

2 - إن كان المراد من الحديث اختصاص الحكم بقبيلة قريش بشكل مطلق ومن دون قيد أو شرط، فإن هذا الحديث سوف يتعارض مع الآيات والروايات الدالة على إمامة علي بن أبي طالب علیه السلام. ولمّا كانت الروايات النبوية الدالة على إمامة علي تبلغ حدّ التواتر، فلا يمكن لخبر الواحد أن يعارضها. وأما إذا كان المراد منه هو أن الأئمة سينبثقون من قريش مع مراعاة بعض الشروط، فعندها يمكن القبول بمضمون الحديث. وعلى هذا المعنى يؤكد الإمام علي علیه السلام - وهو المفسر والمرجع العلمي والديني لكتاب الله والسنة الشريفة - إذ يقول :

«إِنَّ الأَئِمَّةَ مِنْ قُرَيشِ غُرِسُوا فِي هَذَا الْبَطْنِ مِنْ هَاشِمٍ، لَا تَصْلُحُ عَلَى سِوَاهُمْ، وَلاَ تَصْلُحُ الْوُلاَةٌ مِنْ غَيْرِهِمْ» (4) .

وعلى هذا الأساس فإن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم لم يكن بوارد اعتبار الانتماء إلى قبيلة قريش هو الملاك في اضفاء المشروعية الدينية في تولي الحكم والسلطة وتفضيله على أبناء القبائل الأخرى، وإنما المراد هو مجرّد الإعلان عن

ص: 262


1- أُنظر: الفخر الرازي، المحصول في علم أصول الفقه، ج 2، ص 180.
2- أُنظر: الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام، ج 2، ص 297 .
3- أُنظر: عضد الدين الإيجي، شرح المختصر لابن الحاجب، ج 2، ص 58.
4- نهج البلاغة، الخطبة رقم 144 .

تعيين خلفائه الذين اتفق أن يتمثلوا بالأئمة من أهل البيت علیهم الاسلام .

ولكن ألا يعني تعيين النبي خلفاءه من بين أفراد أسرته - أي علي بن أبي طالب علیه السلام بوصفه ابن عمه وصهره وابنيه الحسن والحسين (وهما سبطاه) وتسعة من ذرية الحسين علیه السلام - تقديماً لطبقة وأسرة خاصة على سائر الأسر والقبائل الأخرى؟

وهذه شبهة أخرى لا بدّ من ذكرها والإجابة عنها بشكل مستقل ضمن العنوان الآتي

الشبهة الخامسة: توريث السلطة:

اشارة

تقدم في تحليل الشبهة السابقة (اختصاص الحكم بقريش) أن أشرنا إلى أن أصل الحديث المنسوب إلى النبي في هذا المقام موضع شكّ وإنكار، ولكن قد تورد شبهة أخرى على خصوص المذهب الشيعي، ذلك من خلال تعيين خليفة النبي في الرقعة السياسية وقيادة الدولة من قبل الله ورسوله صلی الله علیه و آله و سلم مسبقاً، حيث تمّ تحديد الخلفاء بالإمام علي وابنيه وتسعة من نسل الإمام الحسين علیه السلام . يقول أصحاب الشبهة: إن هذا الأمر يعني التوريث - وبعبارة أخرى إن هذا النظام السياسي في انتقال السلطة - أشبه بما عليه الحال في الأنظمة الملكية التي تتوارث السلطة فيها أسرة واحدة (1).

مناقشة وتحليل:

1 - توفر الصفات والشروط للقيادة بشكل حصري:

إن أول شيء ينبغي التدقيق فيه هو أن تعيين الإمام علي علیه السلام وسائر

ص: 263


1- أُنظر: عبد القاهر البغدادي، أصول الدين، ص 150.

الأئمة من ذريته لم يكن قائماً على أساس النظام الملكي الذي يعتمد مجرّد الانتساب والتوريث، بل الملاك في الإسلام هو توفر الصفات والشرائط اللازم توفرها في القيادة والإمامة، وإن أصل التنصيب هو الكاشف عنها، بمعنى أن الإمام على علیه السلام إذ توفرت فيه الصفات والشرائط الواجب توفرها في من يتولى أمر المجتمع على مستوى القيادة الروحية والسياسية كان المصداق الكامل الوحيد من بين جميع أفراد الأمّة، ولذلك وقع اختيار الله ورسوله عليه. وإن أصل القول باتصاف الإمام علي علیه السلام والأئمة الأحد عشر علیهم السلام من بعده بالصفات اللازمة التي يجب توفرها في الإنسان الكامل، قد ورد في مختلف الروايات المأثورة عن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم، من قبيل الروايات الناظرة إلى الخلق الأول لنور النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم وأنوار أهل البيت علیهم السلام «كنت أنا وعلي بين يدي الله عزّوجل قبل أن يخلق آدم» (1) . وقول الإمام علیه السلام «لولا نحن ما خلق آدم ... فكيف لا نكون أفضل من الملائكة» (2). وكذلك الروايات الخاصة عن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم والتي يخاطب فيها الإمام علياً علیه السلام وورد التصريح والتأكيد فيها على اتصافه بهذه الصفات. وقد سبق أن ذكرت تفصيل هذه الروايات في موضع آخر (3). من قبيل حديث الثقلين، وحديث المنزلة، وحديث العصمة، والمرجعية العلمية والدينية. وعليه مع توفر شخص معصوم ومبيّن للدين، وحجّة الله المرتبط بعالم الغيب من طريق الإلهام والمدير والمدبّر والشجاع، لا يصل الدور في الحكم لغيره.

ص: 264


1- ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، ج 9، ص 171.
2- العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 26 ، ص 335.
3- أُنظر: محمد حسن قدردان قراملکی، پاسخ به شبهات كلامي، الكتاب الرابع (الإمامة)، ص 228.

وفي الحقيقة فإن عدم تعريف الله ورسوله لمثل هذا الفرد وتعيينه في منصب الإمامة وقيادة الأمة على أعلى المستويات السياسية والروحية، يُعتبر تضييعاً لحقوق الأمة في التنعّم بوجود مثل هذا الإمام، وهذا لا ينسجم مع صفات الله الكمالية.

2 - معنى الإمامة أوسع من الحكومة:

تصور المخالفون للإمامة أن نظرية الشيعة بشأن الإمامة تنحصر بالجانب السياسي والاجتماعي من مفهوم الإمامة، وتبعاً لهذا التصوّر الخاطئ أشكلوا بأن منظومة الإمامة تشبه النظام الملكي في توريث الحكم والسلطة. ولكن تقدم أن أشرنا إلى أن الإمامة في المنظومة الاعتقادية لدى الشيعة تشتمل على معنى عالٍ وجامع يشمل المرجعية العلمية والدينية (تفسير الكتاب والسنة بشكل لا يقبل الخطأ)، والولاية الروحية (التحلي بالقوّة القدسية والغيبية وحق التصرّف في الكائنات) والولاية السياسية (الحكومة)، وحيث يستحيل الفصل بين هذه الأمور الثلاثة، وخاصة قسم المرجعية العلمية والدينية عن الحكومة، وإن كمال الدين في الحدّ الأدنى يكمن في الانسجام والتلاحم بين هذه المقامات الثلاثة. ولذلك تجتمع في الإسلام الشيعي هذه المقامات الثلاثة في شخص واحد محدّد، يتمّ تعيينه من قبل الله ليستمر أصل الخط التقدمي الذي يحفظ علوّ الإسلام مع الحفاظ على أصالته والحيلولة دون تحريفه والابتداع فيه.

ومع افتراض لزوم اجتماع هذه المقامات الثلاثة في شخص واحد يكون طريق التعرّف عليه منحصراً بالله ورسوله صلی الله علیه و آله و سلم، وليس ذلك من باب التنصيب والتعيين، بل هو من باب الكشف عن المصداق البارز والمنحصر بهذا الشخص.

ص: 265

بعبارة أخرى إن أصحاب هذه الشبهة قد نظروا إلى الدين الخاتم من منظار علماني؛ فتصوروا أن لا صلة للإسلام بالدنيا والمجتمع والسياسة والحكم، ومن هنا أوردوا الشبهة على الرؤية الشيعية، في حين أنه بناءً على نظرية الترابط بين الدين (الإسلام) والسياسة والحكم، يصبح تعيين نوع الحكم والحاكم من شؤون الدين والخالق على ما تقدم بيانه في الصفحات السابقة.

3 - الفصل بين المشروعية السياسية والإلهية:

والمسألة الدقيقة التي يجب الالتفات إليها في البين هي أنّ الإسلام في ضمن تعريفه وتحديده للحاكم السياسي الذي يتمتع بصفات كمالية لا تتوفر في غيره، والإعلان عن وجوب إطاعته شرعاً، وإن الإعراض عنه والتمرّد عليه يمثل تمرّداً على (الشرعية الإلهية والدينية)، يؤكد على أن حاكمية مثل هذا الشخص يجب أن تقترن بإقبال الناس ورضاهم به (المشروعية السياسية). وإن الحاكم الديني إذا لم يحصل على مثل هذا الدعم الشعبي، فإنه على الرغم من تمتعه بالمشروعية الإلهية لممارسة الحكم، وإن الناس سوف يؤثمون بسبب عدم بذل الطاعة له ويعذّبون في الآخرة، إلا أنه لا يستطيع بسط سلطته عليه بالقهر والغلبة؛ فقد روي عن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم أنه قال للإمام علي علیه السلام : «يا ابن أبي طالب لك ولاء أمتي، فإن ولّوك في عافية وأجمعوا عليك بالرضا فقم بأمرهم، وإن اختلفوا عليك فدعهم وماهم فيه» (1)

وهذه نقطة دقيقة يجب الوقوف عندها في التمييز بين نظرية الشيعة بشأن الإمامة والحكومات الوراثية والملكية، وهنالك سندرك خطأ المقارنة بين المنظومتين، وبذلك لا يكون هناك لهذه الشبهة أي موضع من الإعراب.

ص: 266


1- محمد باقر المحمودي، نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة، ج 11، ص 78.

الشبهة السادسة: تجاهل حقوق الشعب وموقعه في الدولة النبوية:

اشارة

هناك من المخالفين من ادّعى أن حقوق المواطنين الاعتياديين أو المعارضين تتعرض للهدر والانتهاك في الحكومات الدينية مثل الحكومة النبوية.

مناقشة وتحليل:

لأهمية البحث وكونه من الشبهات المستحدثة سنجيب عنه بتفصيل أكبر، وسنعمل من خلال ذلك على بيان واقع الحقوق والأمة في مدينة النبي «الفكر السياسي للنبي».

وفي نظرة عامة يمكن تقسيم الحكومات إلى قسمين الحكومات الدكتاتورية، والحكومات الديمقراطية. وفي القسم الأول يتمّ إهدار حقوق

الناس من قبل الحكومة والحاكم، حيث تتمّ إدارة شؤون الحكم والسلطة في إطار الدكتاتورية والاستبداد في الرأي والعمل، وممارسة البطش والقسوة، وقد شهد التاريخ الكثير من الأمثلة على هذا النوع من الحكومات، من قبيل الحكم الفرعوني، وصولاً إلى الأنظمة الفاشية والدكتاتورية في العصر الحديث، كنظام البعث الصدامي في العراق وسائر الحكومات الملكية.

وهناك من المناوئين من يسعى إلى إدراج الحكومات الدينية وعلى رأسها حكومة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم تحت عنوان الحكومات المستبدة التي لا تأخذ رأي المواطنين في حساباتها، ولا تولي أهمية لحقوقهم الأساسية. وفيما يأتي نستعرض هذه الشبهة مع بيان موقع الأمة والشعب في النظام السياسي للحكومة النبوية.

ويمكن بيان موقع الأمّة في الحكومة النبوية من خلال إلقاء نظرة شاملة إلى السيرة النظرية والعملية للنبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم في إطار الأصول الآتية:

ص: 267

المبحث الأول دور الأمة في الحكومة:

اشارة

إن من بين مقومات الحكومة الجمهورية والديمقراطية، أخذ آراء الناس بنظر الاعتبار على المستوى السياسي والاجتماعي، ومن أبرز الأمثلة على ذلك انتخاب الدولة والحاكم عن طريق آراء الناس ورضاهم. وفي الحكومات الديمقراطية غير الدينية تتوقف شرعية الحكم على آراء الشعب، وهو ما يعرف في المصطلح السياسي بالمشروعية (1).

وفي الحكومة النبوية هناك نوعان من المشروعية؛ والنوع الأول هو المشروعية الإلهية والدينية، بمعنى أن الله قد نصب النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم - بحسب اعتقاد أكثر المسلمين - والأئمة المعصومين علیهم السلام - كما يذهب الشيعة - خلفاء له في الدنيا، وطلب من جميع المسلمين أن يتبّعوهم وأن يستمعوا لهم ويطيعوهم، وإلا كانوا من العصاة. وعليه تكون المشروعية في المرحلة الأولى مشروعية سماوية، وبعبارة أخرى (إنها مشروعية تأتي من الأعلى إلى الأسفل).

ومع ذلك فإن استلام النبي للسلطة وإدارة المجتمع لا يكون من طريق القهر والغلبة وممارسة الدكتاتورية، بل برضا الناس واختيارهم وانتخابهم، وفي الحقيقة فإن رضا الناس يبلغ بالمشروعية الإلهية الثابتة للحكومة النبوية في الأساس إلى مرحلة الفعلية والتحقق، ومن دون ذلك لا يتمّ فرض الحكومة النبوية والدينية على الناس. وهو ما يصطلح عليه ب- «المشروعية السياسية»، وهذا هو النوع الثاني من المشروعية للحكومة الدينية.

ص: 268


1- Legitimacy.

وبعبارة أخرى يلعب الناس دوراً محورياً وأساسياً في انتخاب الحاكم في الحكومة الدينية والنبوية، ويمكن استنباط هذا الادعاء من خلال السيرة النبوية والتعبير عنه بمختلف العناوين والمصطلحات، وذلك على النحو الآتى

1 - نسبة الحكومة إلى الناس:

في الحديث الآتي عمد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم إلى إسناد الحكم إلى الأمة في موضعين، حيث قال: «ما ولّت أمّة أمرها رجلاً قط وفيهم من هو أعلم منه إلا لم يزل أمرهم يذهب سفالاً حتى يرجعوا إلى ما تركوا» (1).

ففي هذا الحديث ينسب الحكم وإدارة أمور الدولة والمجتمع إلى الناس من خلال التعبير ب- «ما ولّت أمّة» و«أمرها»، ويتضح من خلال ذلك أن هذا الأمر (أي إرجاع شأن الحكم إلى شخص منتخب ومخوّل من قبل الشعب) مشروع وقانوني، ولكن ينبغي التدقيق في أن ينتخب الناس شخصاً صالحاً ليتولى هذا الأمر.

وفي رواية أخرى ينسب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم الحكم إلى الأمة، إذ يقول

«من جاءكم يريد أن يفرق الجماعة، ويغصب الأمة أمرها، ويتولى من غير مشورة فاقتلوه» (2) .

وفي هذا الحديث تمّ وصف الحكم بأنه من أمور الأمة، وتمّ التنديد بمن يريد اغتصابها، وستكون لنا عودة إلى هذا الحديث في الصفحات القادمة إن شاء الله .

ص: 269


1- العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 44 ، ص 27 .
2- الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضا، ج 1، ص 67.
2 - وجوب رضا الناس عن الحكومة:

إن من بين العناصر الأساسية في الحكومات الديمقراطية هو وجوب ضمان رضا الناس على الحاكم المنتخب لإدارة شؤون الدولة، وهو أمر تمّ

التأكيد عليه في التعاليم النبوية. فقد نهى النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بشكل صريح وواضح عن الإمامة والحكم على الناس إلا في إطار الحصول على إذنهم، فقد روي عنه أنه قال: «نهى رسول الله أن يؤمّ الرجل قوماً إلا بإذنهم» (1) .

وفي رواية أخرى وصف رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم الإمامة وقيادة الأمة بأنها لاتكون مشروعة ولا يترتب عليها الثواب إلا إذا كانت مقرونة برضا الناس، وذلك إذ يقول:

«من أمّ قوماً بإذنهم وهم به راضون ... فله مثل أجر القوم» (2) .

كما نهى عن تولي زمام قوم دون إذنهم «من أمّ قوماً بغير رضاً منهم» (3) .

إنّ هذه الروايات الثلاثة وإن كانت ناظرة إلى مسألة الإمامة في الصلاة، ولكن يمكن تسريتها إلى القيادة والإمامة في الحكم والسياسة بالأولوية، بمعنى أن إمامة عدد قليل من الناس في صلاة الجماعة إذا كانت مشروطة بإذن الناس، فإن إدارة شعب ومجتمع بأكمله أولى بأن يكون مشروطاً بإذنهم.

ص: 270


1- الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ج 4 ، ص 448.
2- أُنظر: الشيخ الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 8، ص 349؛ محمد باقر المجلسي، بحارالأنوار، ج 88، ص 8 .
3- نقلاً عن جعفر سبحاني، مباني حكومت اسلامي (أسس الحكومة الإسلامية)، ص192.

هذا وقد لحظ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أهمية رضا الناس بالحكم والحاكم حتى بالنسبة إلى إمامة أمير المؤمنين علیه السلام، إذ قال له ضمن تصريحه بأصل تنصيبه المشروع من قبل الله سبحانه وتعالى:

«يا ابن أبي طالب لك ولاء أمتي فإن ولوك في عافية وأجمعوا عليك بالرضا فقم بأمرهم وإن اختلفوا عليك فدعهم وما هم فيه» (1) .

3 - أصل البيعة:

إن المشاركة في الانتخابات والاستفتاءات العامة تعد واحدة من خصائص الحكومات الديمقراطية المعاصرة، حيث يمارس المواطنون دورهم من

خلال حضورهم وتواجدهم الفاعل في الحكم . وقد كان هذا النوع من المشاركة السياسية في الأزمنة القديمة يتجلى في الحكومات الشعبية على شكل «البيعة». والبيعة عبارة عن ميثاق وتعهّد تقطعه الأمة أو من يمثلها مع مرشح السلطة قبل أن يمسك بمقاليد الحكم، بمعنى أن الناس يعقدون ميثاق الولاء والوفاء القائم على دعمه في إدارة البلاد ودفع العدوان.

وقد تحقق هذا الأمر بالنسبة إلى الحكومة النبوية في المدينة المنورة قبل تشكيل الدولة. فقد طلب أهل المدينة من النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم في السنة الثانية عشرة والثالثة عشرة من البعثة أن يغادر مكة إلى المدينة، وأن يتولى قيادتهم وإدارة شؤونهم، وهو ما عرف ببيعة العقبة الأولى وبيعة العقبة الثانية (2).

ص: 271


1- محمد بن يعقوب الكليني، أصول الكافي، ج 5، ص 28؛ محمد باقر المحمودي، نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة، ج 5 ، ص 214.
2- أُنظر: ابن هشام، السيرة النبوية، ج 2، ص 59 و 65 و 66 ، وج 2 ، ص 444 .

وقد أيّد الله سبحانه وتعالى سيرة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم في أخذ البيعة من أهل المدينة، وأعرب عن رضاه عنها ومباركتها، وذلك إذ يقول:

(لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا) (1) .

وقد وصفت آية أخرى بيعة الناس للنبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم على أنها بيعة الله، وأثنى على من يحافظ على وفائه له، كما تضمنت تهديداً للناكثين لها؛ إذ يقول تعالى:

(إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهُ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ (2) .

وقد تمّ رصد ما لا يقل عن ثمان بيعات في تاريخ النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم، من قبيل [بيعة العقبة الأولى، وبيعة العقبة الثانية، وبيعة الرضوان، وبيعة بدر، وبيعة الفتح، وبيعة النساء، وبيعة الغدير، وما إلى ذلك].

يتضح من خلال تكرار البيعات في عهد النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم، وخاصة بيعة العقبة الأولى والثانية - التي حدثت قبل تشكيل الحكم في المدينة المنوّرة - أن النبي الأكرم كان يولي أهمية قصوة لآراء عامة الناس فيما يتعلق بإقامة الدولة، وكان يراها مؤثرة في ممارسة السلطة الإلهية على آحاد الناس.

ويتضح من كلام أمير المؤمنين أن البيعة التي تعني تعهد الناس أمام الحكومة أنهم في حل منها ما لم يبايعوا، وذلك إذ يقول علیه السلام :

ص: 272


1- الفتح: 18 .
2- الفتح: 10 .

«إنما الخيار للناس قبل أن يبايعوا» (1).

صريح هذا الحديث أن الناس قبل بيعتهم للحاكم أحرار في انتخاب أي شخص آخر غيره، ولكنهم ما أن يعقدوا معه ميثاق البيعة، حتى يجب عليهم الالتزام بها. وبعبارة أخرى إن حرية الناس في انتخاب الحكم والحاكم أمر بديهي يتجه به الناس في إطار التعهدّ والالتزام، وعليه يكون الناس هم الأصل في تحديد شكل السلطة والحاكم.

4 - أصل الشورى:

إن من بين معايير الحكومة الشعبية والجماهيرية، مشاركة الرأي العام في إدارة أمور الدولة، وإن من بين آليات تحقيق ذلك مبدأ الشورى. بمعنى أن يبادر القائد ورأس السلطة وغيره من المسؤولين فى الدولة إلى استشارة الناس في إدارة الدولة واتخاذ القرارات الحاسمة والمصيرية. واليوم حيث ارتفاع عدد السكان واتساع الرقعة الجغرافية يتمّ العمل بمبدأ الشورى عن طريق التشاور مع الممثلين الذين ينوبون عن الناس والمتخصصين والنخَب. إن الدور الرئيس لمسألة الشورى والاهتمام بآراء الناس يثبت حقهم في الحكم وإدارة الدولة.

وإن أهمّ قاعدة لهذا الأصل تتمثل في آيات القرآن الكريم، وهناك آية تأمر النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم صراحة باستشارة الناس في إدارة شؤون الدولة، إذ يقول تعالى ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ﴾ (2) .

ص: 273


1- أُنظر : العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ص 33؛ محمد باقر المحمودي، نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة، ج 1، ص 196.
2- آل عمران: 159 .

وهناك آية أخرى تعتبر المشاورة من صفات المؤمنين، إذ يقول تعالى (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (1) .

ونعيد هنا تفصيل رواية تقدم الحديث عنها، وهي تعدّ من يتولى الحكم من دون مشورة من الناس مستحقاً للقتل :

«من جاءكم يريد أن يفرق الجماعة، ويغصب الأمة أمرها، ويتولى من غير مشورة فاقتلوه، فإن الله عزّوجل قد أذن ذلك» (2) .

5 - الحكومة أمانة الناس في عنق الحاكم:

تعدّ الحكومات الاستبدادية والدكتاتورية نفسها مالكة لأمور الناس، وأن من الواجب على الناس أن يطيعوا ويسمعوا ويمتثلوا أوامرها من دون نقاش. فإن المستبد والدكتاتور يرى نفسه المالك المطلق لرقاب الناس، وأن الناس عبيد وأقنان له. وعلى حد تعبير بعض الفلاسفة المتقدمين إن طبيعة بعض الناس تميل إلى الحكم وممارسة السلطة، وطبيعة البعض الآخر هي الرضوخ للحاكم. إلا أن الإسلام والدين النبوي لا يطيق هذه الرؤية، وإنما يرى الناس هم أصحاب السلطة والدولة، وإنهم إنما يضعون الدولة والحكومة أمانة عند الحاكم.

فقد أجاب النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم شخصاً طلب منه تنصيبه في مركز حساس في الدولة، فقال له «إنك ضعيف، وإنها أمانة» (3) .

ص: 274


1- الشورى: 38 .
2- الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضا، ج 2، ص 62 ، ب 31 ، ح 254 .
3- أُنظر: ابن عساکر، تاريخ مدينة دمشق، ج 66 ، ص 219؛ مسلم، صحیح مسلم، ج 2، ص 124 .

كما أكد القرآن الكريم على اعتبار السلطة والحكم أمانة للناس في أعناق المسؤولين، وذلك إذ يقول الله تبارك وتعالى:

(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحكُمُوا بِالْعَدْلِ) (1) .

حيث يتضح من فقرة ﴿وَإِذَا حَكَمْتُمْ) أنّ المراد من الأمانة هي الحكم.

6 - الحاكم أجير الناس ومستأمنهم:

سبق أن ذكرنا أن الحكم في الرؤية النبوية عبارة عن أمانة من الناس، مما یعنی أن الحاكم إن هو إلا مستودع ومستأمن على أمانة أودعها الناس لديه، وإنه لا يعدو أن يكون أجيراً وعاملاً يتولى إدارة أمور الناس بتخويل منهم. وحتى النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم نفسه رغم تنصيبه من قبل الله، يرى نفسه أجيراً عند الناس، حيث قال:

«ألا وإني أنا أبوكم، ألا وإني أنا مولاكم، ألا وإني أنا أجيركم» (2).

وفي فلسفة السياسة النبوية يكون الحاكم بمنزلة الراعي الذي يتولى عملية هداية الناس إلى الأهداف السامية والمقاصد العالية، وعليه أن يكون على مستوى المسؤولية، فقد روي عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أنه قال:

«كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته، والإمام راع ومسؤول عن رعيته» (3) .

ص: 275


1- النساء : 58 .
2- العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 42 ، ص 205.
3- البخاري، صحيح البخاري، ج 1، ص 267، رقم الحديث 893؛ كتاب الجمعة، الباب 11 ، ح 2 .
7 - الحاكم ممثل الناس ونائب عنهم:

يُعدّ الناس في الرؤية النبوية هم أصحاب السلطة والدولة، وأن الحكام ما هم إلا ممثلين عنهم. ومن الواضح أيضاً أن تعيين الحاكم من صلاحيات الناس كما أن ذلك من جملة حقوقهم. وقد وصف النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم الحكام بأنهم ممثلون عن الناس، وأن على الناس أن يدققوا في اختيار من يمثلهم وينوب عنهم «وإن أئمتكم وفدكم إلى الله، فانظروا من توفدون في دينكم وصلاتكم» (1).

المبحث الثاني: موقع الناس وحقوقهم في إدارة الدولة:

اشارة

أما الدائرة الأخرى التي أولى النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم فيها أهمية لحقوق الناس بشكل خاص، فهي الدائرة التنفيذية في إدارة شؤون الدولة، وهي الدائرة التي سنتناولها ضمن العناوين الآتية:

1 - وجوب استشارة الناس:

إن من بين الخصائص التي تميّز الحكومات المنبثقة عن إرادة الشعب، اهتمامها بمطالب الجماهير في إدارة الدولة. وقد كان ذلك يتم في المجتمعات الغابرة من طريق التشاور المباشر مع الناس وممثليهم، أما في العصر الحاضر فيتمّ ذلك في الأعم الأغلب من خلال التشاور مع من يمثل الناس والنُخَب في المجتمع، والذين يتمّ انتخابهم في الغالب من قبل الشعب، وهو أمرٌ يعبّر عن مستوى مشاركة الناس والمواطنين في القرار السياسي والاجتماعي.

ص: 276


1- الشيخ الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 8، ص 347؛ العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 23، ص 30 .

وقد حظي هذا الأصل والمبنى باهتمام الحكومة النبوية، وقد شكل القرآن الكريم المبنى الأول لهذا الأصل، حيث خاطب النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بالقول :

(وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله﴾ (1) .

وهناك آية أخرى تعتبر المشاورة من صفات المؤمنين، إذ يقول تعالى:

(وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ (2) .

وكان النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم انطلاقاً من تعاليم القرآن لا ينفك يستشير أصحابه. كما نشاهد نماذج من ذلك في أغلب الحروب، مثل معركة بدر وأحد والأحزاب (3) . لم يكن اهتمام النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بالشورى مجرّد مسألة شكلية وصورية، بل كان أحياناً يقدم ما تتمخض عنه الاستشارة على رأيه الشخصي، كما حصل ذلك في استشارة أصحابه في طريقة مواجهة المشركين في معركة أحد، إذ كان هناك رأيان رأي يذهب إلى بناء تحصينات داخل المدينة والدفاع عنها في مواجهة المشركين من الداخل. ورأي آخر يذهب إلى ضرورة الخروج إلى العدو وموجهته في الصحراء. وعلى الرغم من انحياز النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم إلى الرأي الأول، إلا أنه وافق على الرأي الثاني لكونه يمثل رأي الأكثرية.

وحتى على الصعيد التنظيري كان النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم یهتم بأصل الشورى بشكل خاص، وقد أكد عليه في كثير من الروايات، وفي بعضها وصف رأى من يستبد برأيه ولا يعمل بمبدأ الاستشارة بأنه يستحق القتل

ص: 277


1- آل عمران: 159 .
2- الشورى: 38 .
3- أُنظر: ابن هشام، سيرة ابن هشام، ج 2، ص 199 و204؛ ابن سعد، الطبقات الكبرى، تحقيق عبدالقادر عطا، ج 2، ص 38.

«من جاءكم يريد أن يفرق الجماعة، ويغصب الأمة أمرها، ويتولى من غير مشورة فاقتلوه، فإن الله عزّ وجل قد أذن ذلك» (1).

وروي عن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم أنه قال للإمام علي علیه السلام في تأكيد منه على أهمية الاستشارة: «لا مظاهرة أوثق من المشاورة» (2).

وقد وصف النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم المشاورة بأنها الأصل في إصلاح الأمور ونزول النعم الإلهية، حيث قال: «إذا كان أمراؤكم خياركم، وأغنياؤكم سمحاءكم، وأمركم شورى بينكم، فظهر الأرض خير لكم من بطنها» (3).

2 - رعاية الحقوق الفطرية والاجتماعية للمواطنين:

إن للإنسان في عالم الواقع بما هو إنسان ومخلوق من مخلوقات الله حقوقاً أودعها الله تعالى - من وجهة نظر الأديان - أمانة في عنقه، وهي التي يعبر عنها اصطلاحاً ب- «الحقوق الفطرية»، من قبيل حق الحياة، وحرية الرأي، والمساواة، والملكية، والحريات الاجتماعية. ويتم التعبير عن هذه الحقوق على لسان فلاسفة الغرب غالباً ب- «الحقوق الطبيعية»، التي أدّت في القرون الأخيرة إلى تدوينها من قبل أمثال جان جاك روسو، وفولتير، ومونتسكيو ضمن «إعلان حقوق الإنسان».

ص: 278


1- الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضا، ج 2، ص 62 ، ب 31، ح 254.
2- محمد بن يعقوب الكليني، أصول الكافي، ج 8 ، ص 20؛ الشيخ الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 12، ص 341؛ العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 72، ص 100 .
3- أبو محمد الحراني، تحف العقول عن آل الرسول، ص 36؛ محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 74، ص 141 .

إن أحد عناصر الحكومات الشعبية والجماهيرية هو الاهتمام بالحقوق الفطرية والاجتماعية للإنسان، وقد حظي هذا العنصر باهتمام النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم منذ قرون على المستويين التنظيري والتطبيقي، وهو أمرٌ يثبت اهتمام النبي صلی الله علیه و آله و سلم بمكانة الشعب والأمة في صنع قرارها. وفيما يأتي نشير إلى بعض هذه الحقوق:

أ - الحق في الحياة إن من بين أول الحقوق الفطرية والبديهية للإنسان هو حقه في الحياة. وقد بلغت أهمية حق الإنسان في الحياة في القرآن الكريم، ورعاية هذا الحق بأيّ شكل من الأشكال سواء من خلال علاجه من المرض أو إنقاذه من مخالب الموت أو تخليصه من القتل حدّاً بحيث كان بمثابة إحياء جميع الناس، ذلك إذ يقول تعالى:

(مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) (1) .

وبهذا المبنى يكون الله سبحانه وتعالى قد أقرّ مبدأ احترام حق الإنسان في الحياة على أعلى المستويات، وأنه شجب العنف والإرهاب والقتل وحرّمها بأشدّ العبارات.

وقد ورد في الحديث عن الإمام الصادق علیه السلام أنه قال: «الإسلام قيد الفتك» (2) .

ص: 279


1- المائدة: 32 .
2- أُنظر: محمد بن يعقوب الكليني، أصول الكافي، ج 7، ص 375؛ الشيخ الطوسي، التهذيب، ج 10، ص 214؛ العلامة محمد باقر المجلسي، ج 28، ص 328 .

ولم يتمّ التغاضي عن هذا الأصل إلا في موارد خاصة مثل القصاص والحرابة والفساد في الأرض.

ب - أصل المساواة بين الناس: إن أصل المساواة بين المواطنين، وعدم ممارسة التفريق والمحاباة والعنصرية بشأنهم، يُعدّ من الحقوق الفطرية والبديهية التي أكد عليها النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم، إذ روي عنه أنه قال:

«أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، وليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى»(1) .

وفي حديث آخر اعتبر النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم الناس جميعاً كأسنان المشط في المساواة، وذلك إذ يقول «الناس سواء كأسنان المشط» (2) .

ج - عدم المحاباة والتبعيض بين الأشخاص وطبقات المجتمع: إن الحاكم من وجهة نظر النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم هو بمنزلة الأب لجميع المواطنين، فيجب عليه لذلك أن لا يفرق بين أبناء بلده.

وعلى هذا الأساس عندما أقام النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم حكومته في المدينة المنوّرة، وصف جميع طبقات المجتمع - الأعم من المسلمين واليهود والمشركين - بأنهم «أمّة واحدة»، ولم يستثن إلا قريش التي كانت تناصبه العداء في مكة المكرّمة.

ص: 280


1- أبو محمد الحراني، تحف العقول عن آل الرسول، ص 56 ؛ العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 73، ص 348 .
2- أبو محمد الحراني، تحف العقول عن آل الرسول، ص 368؛ العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 75، ص 251 .

د - الحرية في التنقل والسفر إن من حقوق الناس والمواطنين أن ينعموا بالحرية في مختلف مجالات الحياة، ومن بينها حريته في تحديد مكان سكنه وحياته، وهذا ما لم يتجاهله النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم أيضاً، إذ روي عنه أنه قال:

«البلاد بلاد الله، والعباد عباد الله، فحيثما أصبت خيراً فأقم» (1) .

ه- - الحرية الاقتصادية إن من بين حقوق المواطنين الأخرى هي الحرية الاقتصادية، ومن أوليات هذا الحق احترام حق الملكية الشخصية. وقد

وصف النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم احترام أموال المواطنين في الدولة الإسلامية قائلاً: إن حرمتها كحرمة دمائهم، وذلك إذ روي عنه أنه قال: «حرمة ماله كحرمة دمه» (2)

وفي موضع آخر ذكر النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم هذا الحق في إطار قانون عام، حيث قال: «الناس مسلطون على أموالهم» (3).

وفي موضع آخر بيّن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم مؤدّى هذا الأصل بوضوح قائلاً: «لا يحلّ لأحد أن يتصرف في مال غيره بغير إذنه» (4) .

و - حرية المعتقد إن من بين حقوق المواطنين الأخرى هو حقهم وحريتهم في المعتقد، بمعنى أن عقيدة كل شخص يجب أن تحترم، وعلى الحكومة الدينية أن لا تكره الناس على اختيار الدين، وهذا هو صريح قوله

ص: 281


1- نهج الفصاحة، ص 223.
2- محمد بن يعقوب الكليني، أصول الكافي، ج 2، ص 359.
3- العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 2، ص 272؛ ابن أبي جمهور الأحسائي، عوالي اللآلئ، ج 1، ص 222.
4- الشيخ الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 6، ص 337، وج 19، ص 3.

تعالى (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) (1) .

وقد تقدّمت الإشارة إلى أن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم قد أكد في أول مرسوم حكومى له، وفي الأيام الأولى من تأسيس الدولة الإسلامية في المدينة المنوّرة على حرية جميع أصحاب الأديان الأعم من اليهود والمسلمين قائلاً: «إن لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم» (2).

وقد أكد النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم في كتابه إلى أسقف نجران على حرية المعتقد والعمل على طبق الشرائع الدينية وعدم التدخّل في ممارساتهم الداخلية (3) .

ز - توفير الأمن إن من بين أهم حقوق المواطنين هو توفير الأمن ليضمنوا حماية أرواحهم. وقد صرّح النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم في أول مرسوم حكومي أصدره بعد تأسيس دولته في المدينة المنوّرة بالأمن الفردي والديني في المجتمع، وقد تمّ التأكيد على عقوبة القصاص كوسيلة رادعة من شأنها أن تضمن بسط الأمن والمحافظة على أرواح المواطنين. كما رصد النبي عقوبات مشدّدة لمن يعتدي على الحرمات الشخصية ودخول البيوت بغير إذن من أصحابها، إذ روي عنه صلی الله علیه و آله و سلم أنه قال: «من اطلع في بيت بغير إذنهم، حلّ لهم أن يفقأوا عينيه» (4) .

ص: 282


1- البقرة: 256 .
2- ابن هشام، سيرة ابن هشام، ج 2، ص 147 .
3- ابن سعد، الطبقات الكبرى، تحقيق عبد القادر عطا، ج 1، ص 266؛ علي أحمدي ميانجي، مكاتيب الرسول، ج 2، ص 223.
4- نقلاً عن أبو الفتوح الرازي، تفسير أبي الفتوح الرازي، ج 7، ص 237. وانظر أيضاً علي أحمدي ميانجي، مكاتيب الرسول، ج 3، ص 237.

ح - ترشيح الأصلح والأكفأ: إن من بين الحقوق الشعبية التي يجب على الحاكم والدولة مراعاتها، هو أخذ الملاكات الواقعية في انتخاب المرشحين

والمسؤولين فى مختلف قطاعات الدولة بنظر الاعتبار، وتحديد المناصب التنفيذية في البلاد. فعلى المسؤولين في الدولة أن لا يتجاهلوا هذه الملاكات في تعيين الأفراد المنتسبين إليها، بل عليهم أن يجعلوا الملاك في ذلك هو الكفاءة، وبعبارة أخرى يجب أن يكون هذا الأمر محكوماً للضوابط دون المحسوبيات، وبذلك لا تغمط حقوق أصحاب الكفاءات، ولا يُظلم أفراد الشعب بسبب تنصيب من لا يمتلك الأهلية لهذه المناصب.

وهذا ما تمّ التأكيد عليه في الحكومة النبوية بدقة. فقد روي أن شخصاً من الصحابة قد طلب من النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم تنصيبه في منصب حكومي معيّن، فأجابه صلوات الله عليه قائلاً: «إنك ضعيف، وإنها أمانة» (1) .

كما أكد النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم في مقام التنظير على هذه المسألة مراراً وتكراراً، ومن ذلك قوله: «من تولى شيئاً من أمور المسلمين .. وهو يعلم [بمن] هو أعلم منه، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين» (2) .

كما كان النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم يؤكد مراراً على أن الرئاسة لا تصلح إلا لأهلها، ومن ذلك قوله :

«إن الرئاسة لا تصلح إلا لأهلها، فمن دعا الناس إلى نفسه وفيهم من هو أعلم منه لم ينظر الله يوم القيامة» (3) .

ص: 283


1- ابن عساکر، تاريخ مدينة دمشق، ج 66 ، ص 219؛ مسلم، صحیح مسلم، ج 2، ص 124 .
2- أُنظر : أبو الفتح الكراجكي، التعجب، ص 4.
3- محمد بن يعقوب الكليني، أصول الكافي، ج 1 ، ص 47 .

إن رعاية هذا الأصل تؤدي إلى وضع الأمور في نصابها الصحيح، حيث يتمكن المؤهلون من التصدي للمسؤوليات الملقاة على عواتقهم بجدارة وكفاءة، فيقومون بمهامهم على أحسن وجه، وينعم المواطنون بحسن أدائهم، و بعكس ذلك لو تولى الأمور أشخاص غير أكفّاء فإن الأمور ستؤول إلى الضعف، ولا تدور عجلة البلاد على محاورها الصحيحة، وفي ذلك يصرّح النبي الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم قائلاً:

«من أمّ قوماً وفيهم أعلم منه أو أفقه منه، لم يزل أمرهم في سفال إلى يوم القيامة».

وقد كان النبي ملتزماً بهذا الأصل في سيرته العملية في إدارة شؤون الحكم أيضاً. ومن الواضح أن لا مدخلية للسنّ في هذا الأمر. ولذلك كان النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم ينصب مختلف الأفراد في مختلف المناصب من دون ملاحظة الفئة السنية التي ينتمي إليها الأفراد، وإنما يلاحظ الكفاءة والأهلية فقط، كما حصل ذلك في تعيينه لأسامة بن زيد قائداً على الجيش الذي بعثه في آخر حياته، كما نصب عمرو بن حزم على ولاية نجران وكان عمره سبعة عشر عاماً، و نصب عتاب بن أسيد على مكة وكان ابن عشرين ونيف.

ط - بيت المال : يتمّ الحفاظ على ثروة المجتمع وممتلكاته في صندوق - كان يُطلق عليه قديماً عنوان بيت المال - من قبل الحكومة، ويكون المواطنون أصحاب حق فيه.

يجب على الحاكم الديني أن يعمل على حفظ بيت المال ومصالح الناس وأموالهم العامة، وعليه أن لا يتسامح في هذا الشأن مع من يحاول السطو على أموالهم. روي عن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم أنه قال لبعض عماله (وهو معاذ بن جبل

ص: 284

عندما كان حاكماً على اليمن): «ولا تحاش في أمره، ولا ماله أحداً فإنها ليست بولايتك ولا مالك» (1) .

في واحدة من معارك صدر الإسلام أراد بعض المقاتلين زيادة على سهمه من الغنيمه، فردعه الإمام علي علیه السلام عن ذلك، فشكاه إلى النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم، إلا أن النبي الأكرم أقرّ ما قام به الإمام علي علیه السلام بوصفه من القسوة المشروعة في الحفاظ على الأمور الدينية، التى لا تجوز المداهنة فيه (2) .

وفي مورد آخر قتل غلام لرسول الله في معركة خيبر، فاستبشر الأصحاب وقالوا هنيئاً له الجنة، إلا أن رسول الله قال ما معناه: (ليس الأمر كما تقولون، وإنما هو يحترق بنار رداء حصل عليه بسبب خيانته بيت مال المسلمين) (3) .

وفي هذه المعركة أمر النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بجمع الغنائم في موضع واحد، وأرسل منادياً يأمر كل المقاتلين بأن يؤدّوا جميع ما حصلوا عليه من المغانم حتى ما كان من قبيل الخيط والإبرة وإعادته إلى بيت مال المسلمين، ومن ذلك قوله:

«فَأَدّوا الْخِيَاطَ وَالْمِخْيَطَ فَإِنّ الْغُلُولَ يَكُونُ عَلَى أَهْلِهِ عَارًا وَنَارًا وَشَنَارًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (4) .

ص: 285


1- أبو محمد الحراني، تحف العقول عن آل الرسول، ص 44.
2- أُنظر: العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 21، ص 385.
3- أُنظر: ابن هشام، سيرة ابن هشام، ج 3، ص 245.
4- ابن هشام، سيرة ابن هشام، ج 4، ص 108 .

وفي معركة خيبر طلب النبي الأكرم من كنانة بن ربيعة - وهو من كبار اليهود وخازن كنوز بني النضير (1) - أن يدله على مخبأ الكنوز، فامتنع من ذلك. فأمر النبي الأكرم الزبير أن يستعلم منه على مكان الكنز بالقوّة (2) .

3 - حرية السؤال والنقد والاعتراض:

إن الحكومات الدكتاتورية والمستبدة لا تسمح للناس بالنقد والاعتراض أو حتى طرح الأسئلة، وتواجه كل حركة من هذا النوع بالقمع والقسوة، وأما الحكومات الديمقراطية والمنتخبة فإنها ترحّب بجميع أنواع النقد والاعتراض، وتعتبرها مؤشراً صحّياً يؤدي إلى الإصلاح والتكامل.

وكانت الحكومة النبوية - على غرار الحكومات الديمقراطية وأكثر - تتعاطى مع المعترضين بكل صبر وحكمة ورويّة، وتستجيب للنقد والاعتراض برحابة صدر. فإن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم رغم اتصاله بوحي السماء وعصمته في جميع ما يصدر عنه، قد أوجد للناس أرضية إبداء الرأي والتساؤل، بل وحتى الاعتراض عليه شخصياً.

ومن ذلك ما حصل في واقعة صلح الحديبية في السنة السادسة من الهجرة حيث بادر بعض الصحابة إلى الاعتراض على بنود الصلح مع المشركين واتهم النبي بالمهادنة وعدم الحزم في مواجهة المشركين (3) .

ص: 286


1- يبدو أن المراد من الكنز صندوق للنقود كان يجمع فيه يهود بني النضير بعض الأموال والنقود لشراء الأمور الضرورية من قبيل المعدات الحربية، والأمور ذات النفع العام، ودفع الديات، وقد وضعوه أمانة عند كنانة بن الربيع.
2- أُنظر: ابن هشام، سيرة ابن هشام، ج 3، ص 243.
3- أُنظر: المصدر أعلاه، ج 3، ص 227 .

وكان هناك من الصحابة من يسمح لنفسه بالاعتراض على رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في طريقة تقسيم الغنائم، فقد تحدث التاريخ عن شخص اسمه ذو الخويصرة وما كان من اتهامه النبي بعدم العدل في قسمة الغنائم. ويأتي اتهام النبي بعدم العدالة رغم تصريح القرآن بعصمته. ولو حدث أن بادر شخص في الحكومات الراهنة إلى اتهام المسؤول الأول في الدولة بمثل هذا الاتهام فإن العقاب بحقه سيكون قاسياً. وأما النبي فلم يزد على إبداء غضبه وقال له «ويلك من يعدل إن أنا لم أعدل؟».

بل كان النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم يداري حتى من يغلظ له في القول، ويمنع الأصحاب من التعرّض له بالسوء، وفي ذلك قال الإمام علي علیه السلام :

«ويصبر للغريب على الجفوة في مسألته ومنطقه، حتى أن كان أصحابه ليستجلبونهم» (1) .

وكان التساؤل والاعتراض في الحكومة النبوية يمتد لجميع المرافق والمجالات، ويشمل حتى شؤون القضاء أيضاً. من ذلك اعتراض ورثة شخص سقط عن ظهر فرس هاربة على حكم الإمام علي علیه السلام - عندما كان والياً على اليمن - بتبرئة صاحب الفرس، وشكوه إلى النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم (2) .

4 - النصيحة للحاكم ورجال الدولة:

إن من بين الحقوق الأخرى للمواطنين في السياسة النبوية، النصيحة والدعوة إلى الخير والإحسان، حيث يقوم المواطنون بواجب النصح للمسؤولين

ص: 287


1- محمد باقر المحمودي، نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة، ج 1، ص 104 .
2- أُنظر: العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 21، ص 362.

انطلاقاً من الإخلاص والمحبة. فقد منح رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم هذا الحق للمواطنين ليتمكنوا من فرض رأيهم على المسؤولين من منطلق النصح في طريقة إدارة البلد؛ لأن أصل النصيحة يقوم على العلم والإدراك بأمور البلاد الأعم من السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وإن هذا الأصل يُعبّر عن غاية الاهتمام بحقوق الناس ومنحهم حق المشاركة السياسية والاجتماعية في فلسفة السياسة النبوية .

لقد ذكر النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم أصل النصيحة ضمن ثلاثة أصول أخرى لا يمكن للمسلم أن يخونها، إذ قال:

«ثَلَاثٌ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِخْلَاصُ الْعَمَلِ للَّهِ، وَالنَّصِيحَةُ لِأَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ، وَالنُّزُومُ لَجَمَاعَتِهِمْ» (1) .

وقد روي عن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم أيضاً، أنه قال:

«إِنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ إِنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ إِنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ .. قَالُوا لِمَنْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ للهُ وَلِكِتَابِهِ وَلِنَبِيَّهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُؤْمِنِينَ وَعَامَّتِهِمْ» (2) . وفي حديث آخر وصف النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم النصيحة في الموارد المتقدمة بأنها «رأس الدين» (3) .

ومن الواضح - طبقاً لما أورده بعض المفسرين - أن النصيحة لله ورسوله تعني طلب الخير المحض والالتزام والاتباع لأمرهم، ونصيحة الكتاب تلاوته والتأمل والتدبّر في معانيه والعمل به، أما النصيحة للحكام فلا تنحصر

ص: 288


1- محمد بن يعقوب الكليني، أصول الكافي، ج 1، ص 403.
2- أحمد بن حنبل، مسند الإمام أحمد، ج 1، ص 351.
3- الجامع الصغير، ج 1، ص 675.

بإطاعتهم، وإنما تشمل إرشادهم ودعوتهم إلى الحق عند الغفلة عنه (1) .

في النظام النبوي تكون النصيحة متبادلة، فكما يجب على الناس من أصحاب الحق والتكليف الشرعي أن يقوموا بواجب النصح للحاكم وسائر المسؤولين في الدولة، يجب في المقابل على الحكام أن يطلبوا الخير للمواطنين وأن يلتزموا بهدايتهم إلى الحق والسعادة، فقد روي عن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم أنه قال: «أيما والٍ ولي شيئاً من أمر المسلمين فلم ينصح لهم ولم يجتهد لهم كنصيحته وجهده لنفسه، كبّه الله على وجهه يوم القيامة في النار» (2) .

المبحث الثالث: مداراة المواطنين ومختلف أطياف المجتمع:

اشارة

إن من بين الحقوق الهامة للمواطنين على الحاكم، هو الارتباط الإنساني واللين والعاطفي في التعامل معهم، فعلى الحاكم أن يعفو عن مواطن الزلل التي تبدر من قبل المواطنين، وأن يغفر أخطاء مختلف شرائح المجتمع، وقد تمثل هذا الأصل بشكل جليّ في السيرة العملية للنبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم. وفيما يأتي نستعرض بعض عناوين هذا الأصل على النحو الآتى:

1 - مداراة المواطنين:

قال الله تعالى في محكم كتابه الكريم مخاطباً النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بوصفه حاكماً دينياً أن يعفو عن الناس ويقيل عثراتهم، بل وعليه أن يطلب لهم المغفرة من الله سبحانه وتعالى :

ص: 289


1- أُنظر: محمد القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج 8، ص 227؛ ابن حجر، فتح الباري، ج 1، ص 184.
2- البخاري، صحيح البخاري، ج 1، ص 93؛ مسلم، صحیح مسلم، ج 2، ص 39.

(فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ﴾ (1) .

إن هذه الآية التى نزلت إثر معركة أحد، وهروب عدد من المسلمين من ساحة المعركة، تأمر النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بأن يصفح عن الخاطئين، وأن يعمل على مداراتهم، بل وعليه أن يُدخلهم في إدارة المسائل الاجتماعية ويستشيرهم أيضاً (2) .

وقد روي أن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم قد ربط بين رفق الحاكم والوالي بأبناء رعيته ورفق الله به يوم القيامة، ولا يخفى ما في ذلك من الحثّ والتشجيع للحكام على الرفق بالمواطنين، ومن ذلك قوله: «أيما والٍ ولي؛ فلانَ ورفقَ، رفق الله تعالى به يوم القيامة» (3) .

وفي وصية النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم لمعاذ بن جبل عندما كان حاكماً على اليمن «عليك بالرفق والعفو في غير ترك الحق .. وأوصيك بلين الكلام» (4) .

وفي نسخة أخرى من هذا الكتاب، قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: «وأن يكون لهم أباً رحيماً يتفقد صلاح أمورهم» (5) .

كما أوصى صلی الله علیه و آله و سلم حاكماً آخر في اليمن وهو عمرو بن حزم قائلاً: «ويلين للناس في الحق» (6) .

ص: 290


1- آل عمران: 159.
2- أُنظر: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 4، ص 56.
3- نهج الفصاحة، رقم 1040.
4- أبو محمد الحرّاني، تحف العقول عن آل الرسول، ص 44.
5- المصدر أعلاه، ج 2، ص 595 .
6- علي أحمد ميانجي، مكاتيب الرسول، ج 2، ص 519؛ ابن هشام، سيرة ابن هشام، ج 4 ، ص 188.

وقد كتب صلی الله علیه و آله و سلم إلى أهل البحرين عندما بعث العلاء بن الحضرمي حاکماً عليهم «أمرتُهُ .. أن يلين فيكم (الجناح)».

يرى النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم إصلاح أمور الأمة في ثلاث خصال، ثالثها حسن الولاية ورفق الحاكم بالمحكومين، كما يرفق الأب بأولاده:

«لا تصلح الإمامة إلا لرجل فيه ثلاث خصال ورع يحجزه عن معاصي الله، وحلم يملك به غضبه، وحسن الولاية على من يأتي حتى يكون لهم كالوالد الرحيم» (1) .

المداراة الخاصة بمقام النبوة:

إن الحقلين المتقدمين (أي حقل الأخلاق، وحقل الحكومة) من الحقول العامة التي تشمل جميع الناس ، بيد أن للنبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم مضافاً إلى هذين الحقلين، حقلاً خاصاً بمقام النبوّة، وهو يستدعي دقة خاصة من النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم حيث أمره الله سبحانه وتعالى برعاية ذلك. إن جميع الأنبياء - سواء تمكنوا من بناء الدولة أو لم يتمكنوا - مأمورون برعاية هذا النوع من المداراة. وإن للنبي الأكرم سجل مشرق بهذا النوع من المداراة، وفي ما يأتي نشير إلى بعض المصاديق في هذا الشأن

أ - النبي رحمة للعالمين: إن من بين المباني النظرية والتكوينية لخلق المداراة وسجيتها هي أنّها تعود إلى صفة الرحمة والجود في نفس الشخص المداري. وقد وصف القرآن الكريم منذ البداية رسول الله بأنه رسول الرحمة لا للمسلمين فحسب، بل هو رحمة لجميع العالمين، قال تعالى:

ص: 291


1- العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار ، ج 27 ، ص 250، ج 96 ، ص 121 .

(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ (1) .

إن هذه الآية من خلال توظيفها لأكثر من أداة للحصر، من قبيل حرف النفى «ما»، وأداة الاستثناء «إلا» تحصر مهمة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم في كونه رحمة لجميع العالمين، مما يعني أن دائرة رحمته تشمل المسلم وغير المسلم.

وهناك آية أخرى تبيّن كيفية تحلق المسلمين المخلصين والأصفياء، بل حتى البسطاء منهم حول رسول الله، بسبب لينه و مداراته وتبسّطه في حضرتهم، قال تعالى:

(فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ (2) .

يفهم من هذه الآية أنها تأمر النبي بالمثابرة على صفة الرحمة والتواضع للمسلمين، بغية استحكام جبهة المسلمين في ظل هذه الرحمة.

وهناك آية أخرى تصف النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم والمسلمين بالتماسك والاتحاد والتراحم فيما بينهم، إذ يقول تعالى ﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ (3) .

ب - النبي مأمور بالتواضع وبسط الجناح للناس: هناك من آيات القرآن الكريم ما يأمر النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بخفض الجناح للمؤمنين، وهو أمرٌ يثبت أهمية التواضع في هداية الأمة، وفي ذلك يقول الله تعالى:

ص: 292


1- الأنبياء : 107 .
2- آل عمران: 159 .
3- الفتح: 29 .

- (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ) (1) .

- (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) (2) .

ج - النبي رؤوف بالمؤمنين وحريص عليهم: يؤكد القرآن الكريم على أن النبي الأکرم صلی الله علیه و آله و سلم حريص على هداية المسلمين وسعادتهم في الدنيا والآخرة، وهو رؤوف ورحيم بهم ويعزّ عليه أن يرى ما يؤذيهم، قال تعالى:

(لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (3).

د - النبي مأمور بمداراة الناس: روي عن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم نفسه أنه صرّح بأنه قد أمر بمداراة الناس بوصفه نبياً مبعوثاً من قبل الله سبحانه وتعالى، وذلك إذ يقول:

- «أمرت بمداراة الناس كما أمرت بتبليغ الرسالة» (4).

-«أمرني ربّي بمداراة الناس كما أمرني بأداء الفرائض» (5) .

-«جاء جبرائيل إلى النبي فقال يا محمد، ربك يقرؤك السلام ويقول لك دارِ خلقى» (6).

ص: 293


1- الشعراء: 215 .
2- الحجر: 88 .
3- التوبة: 128 .
4- أبو محمد الحرّاني، تحف العقول عن آل الرسول، ص 80 .
5- محمد بن يعقوب الكليني، أصول الكافي، ج 2، الإيمان والكفر، باب المداراة، ح 4، ص 117 .
6- محمد بن يعقوب الكليني، أصول الكافي، ج 2، الإيمان والكفر، باب المداراة، ح 2، ص 117.

ه- - النبي مأمور بالعفو وطلب الغفران: وهناك مرحلة تفوق المداراة وهي مرحلة العفو والغفران عن الخاطئ والمجرم، وذلك بأن يقوم الشخص الذي يتعرّض للظلم بالصفح والعفو عمّن ظلمه. والأسمى من ذلك أن يُطلب من الله سبحانه وتعالى أن يعفو عن الخاطئ، وقد تجلت كلتا المرحلتين في شخص النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم.

إن الآية الآتية التي تؤكد أولاً على اتصاف النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بالرحمة - على ما مرّ بيانه - تأمر النبي في المرحلة التالية أن يقوم بعملين تجاه أمته، وهما العفو عنهم، وطلب المغفرة لهم، وذلك إذ يقول تعالى:

(فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾ (1) .

يدرك القارئ من خلال مطالعته فى المصادر التاريخية أو القصص المذكورة في القرآن الكريم، أن الأمم السابقة كانت تؤذي أنبياءها، وكان هذا الأذى يبلغ بالأنبياء حدّ اليأس منهم؛ فكانوا يهجرونهم، بل ويطلبون من الله إنزال العذاب عليهم وإبادتهم، إلا أن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم رغم كل ما تعرّض له من الاستهزاء ومختلف أنواع الأذى من قبل أشخاص معروفين بأسمائهم كما ورد في كتب التاريخ (2) ، وروي عنه أنه قال: «ما أوذي نبيّ مثل ما أوذيت» (3) . فلم يقم النبي بلعن قومه، ولم يدع الله بإنزال العذاب عليهم، وإنما كان يقول «اللهم اغفر لقومي إنهم لا يعلمون» (4) .

ص: 294


1- آل عمران: 159 .
2- أُنظر: ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج 2، ص 70 .
3- العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 39، ص 6.
4- المصدر أعلاه، ج 98، ص 167، وج 20، ص 174 .

وقد بلغ النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم في شدّة تعلقه بهداية قومه، وتفانيه وإخلاصه في ذلك حدّاً عبّر عنه القرآن بقتل النبي نفسه من أجل تحقيق ذلك، إذ يقول تعالى:

(فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا) (1).

وقد كان استهزاء المشركين في مكة من النبي من الشدّة على رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم حتى أنزل الله آية يؤكد له فيها أنه سيقطع دابر المستهزئين، ويبشره بتحقيق النصر عليهم، وذلك إذ يقول:

(فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) (2) .

2 - المداراة مع الأقليات الدينية:

إن السلوك الإسلامي للرسول صلی الله علیه و آله و سلم في مداراة الناس لا يختص في تعامله مع المسلمين فقط، وإنما هو أصل عام وشامل لكل المواطنين في الدولة الإسلامية سواء أكانوا من المسلمين أم من غيرهم. فقد كان النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم

يتعامل مع أتباع الديانات الأخرى (مثل النصارى واليهود) بصدر رحب ووجه طلق.

وإن أحد أسس هذا الأصل قد تجلى فى عنوان أهل الكتاب والبحث عن المشتركات في بعض المباني الدينية، من قبيل الاعتقاد بالله والمعاد؛ إذ يقول تعالى:

(وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ

ص: 295


1- الكهف: 6 .
2- الحجر 94 - 95 . وانظر أيضاً ابن هشام، سيرة ابن هشام، ج 2، ص 44.

وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (1) .

كما تمثل ذلك في دعوة القرآن الكريم لأهل الكتاب إلى الحوار والاتحاد تحت لواء التوحيد، إذ يقول تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا) (2) .

لقد كان النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم يترك لأهل الكتاب كامل الحرية في بيان معتقداتهم في مقام الاحتجاج والمناظرة، وكان يبادر إلى مناظرتهم والاحتجاج عليهم علمياً. وكان من أهل الكتاب من يغلظ له القول، وتبلغ به الجرأة إلى سوء الأدب والعنف في القول أحياناً، وكان منهم من يسيء إليه بكلمات جارحة حتى في إلقاء التحية؛ فيقول (السام عليكم) مثلاً، بدلاً من (السلام عليكم)، فكان النبي يكتفي بالرد مستعملاً عبارة (عليكم). ولكن عائشة كانت تريد رداً أشد، فتتبرّع من عندها قائلة «عليكم السام والغضب واللعنة يا معشر اليهود، يا إخوة القردة والخنازير»، فقال لها رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم «يا عائشة إن الفحش لو كان ممثلاً لكان مثال سوء، إن الرفق لم يوضع على شيءٍ قط إلا زانه، ولم يرفع عنه قط إلا شانه» (3) .

ولم يكن النبي ليكتفي بمداراة أتباع الأقليات الدينية في حكومته فحسب، بل كان يدافع عن حقوقهم الفردية والاجتماعية بشدّة، وكان يضمن

ص: 296


1- العنكبوت: 46.
2- آل عمران: 64.
3- العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 16، ص 258؛ محمد بن يعقوب الكليني، أصول الكافي، ج 2، ص 2504.

لهم الحرية الكاملة في ممارسة شعائرهم وطقوسهم العبادية. وقد نهى عن إلحاق أي نوع من أنواع العدوان والظلم والأذى، بحقهم، وتوعد عليه بالعذاب في يوم القيامة، فقد روي عنه أنه قال:

- «من ظلم معاهداً أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس منه، فأنا حجيجه يوم القيامة» (1) .

- «من آذى ذمياً فأنا خصمه، ومن كنت خصمه خصمته يوم القيامة» (2) .

وكان النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم في حكومته الدينية يُبرم المواثيق ويوقع معاهدات السلام مع مختلف الأقليات الدينية، ويبقى وفياً لهذه العهود والمواثيق، إلا إذا قاموا هم بنقضها وخرقها. ويمكن لنا أن نشير هنا إلى أول معاهدة أبرمها النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم مع أهل المدينة واليهود في السنة الأولى من حكومته، والتي رأى فيها البروفيسور (هوستن سميث) أول معاهدة كتبت في بيان حرية

المعتقد في تاريخ البشرية. فقد كانت مواد هذه المعاهدة وبنودها راقية ومتقدمة على زمانها. وقد تمّ التأكيد في هذه المعاهدة على التعايش السلمي، وعلى حرية الممارسات الدينية، وأصول الدفاع المشترك (3) .

ومن بين المعاهدات الأخرى التي أبرمها النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم معاهدته مع نصاری نجران، التي جاء فيها:

ص: 297


1- محمد محمدي ري شهري، ميزان الحكمة، ج 3، ص 2147.
2- المصدر أعلاه.
3- أُنظر: على أحمدي ميانجي، مكاتيب الرسول، ج 3، ص 35 و 43.

«وَلِنَجْرَانَ وَحَاشِيَتِهِمْ جِوَارُ الله وذمة محمد النبي رسول الله على أنفسهم وَمِلَّتِهِمْ وَأَرْضِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَغَائِبِهِمْ وَشَاهِدِهِمْ وَبِيَعِهِمْ وَصَلَوَاتِهِمْ، لا يُغَيِّرُوا أَسْقُفًا عَنْ أُسْقِفِيَّتِهِ، وَلا رَاهِبًا عَنْ رَهْبَانِيَّتِهِ، وَلا وَاقِفًا عَنْ وَقْفَانِيَّتِهِ، وَكُلُّ مَا تَحْتِ أَيْدِيهِمْ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ، وَلَيْسَ رِبًا وَلا دَمَ جَاهِلِيَّةٍ ... وَلا يُؤَاخَذُ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِظُلْمٍ آخَرَ . وَعَلَى مَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ جِوَارُ الله وَذِمَّةُ النَّبِيِّ أَبَدًا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنْ نَصَحُوا وَأَصْلَحُوا فِيهَا عَلَيْهِمْ غَيْرَ مُثْقَلِينَ بِظُلْمٍ» (1) .

كما كان للنبي مواثيق ومعاهدات أخرى شبيهة بهذا العهد والميثاق مع القبائل اليهودية والنصرانية الأخرى، من قبيل بني ثقيف (2) ، وبني عادياء (3)، وبني عُريض (4) ، وأسقف إيلة وأهلها (5) ، وأهل حيرباء (6) ، ما يحكي عن حلم الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم ومداراته في سيرته وسياسته في ممارسم الحكم والسلطة.

3 - مداراة النبي مع المنافقين:

عمد بعض الكفار والمشركين في عصر النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم إلى التظاهر بالإسلام، مع بقائهم على ما كانوا عليه من عقائدهم السابقة قلباً وقالباً. وقد كان عدد هؤلاء الأفراد الذين تمّ التعبير عنهم في المصطلح القرآني ب-«المنافقين» ملحوظاً. وكانوا يعملون أحياناً على تثبيط عزائم المؤمنين وإضعاف معنوياتهم،

ص: 298


1- المصدر أعلاه، ج 3، ص 148 - 149، 152، 154، 172؛ محمد حميد الله، مجموعة الوثائق السياسية، ص 80، الرقم 90 فما بعد.
2- أُنظر : علي أحمدي ميانجي، مكاتيب الرسول، ج 3، ص 56 و 65.
3- أُنظر: محمد حميد الله، مجموعة الوثائق السياسية، ص 22.
4- أُنظر: المصدر أعلاه، ص 23 .
5- أُنظر: المصدر أعلاه، ص 32 و 34.
6- أُنظر: المصدر أعلاه، ص 35.

وكانوا يتعرّضون لشخصية النبي الأكرم، ويستهدفون على العموم كيان الدولة الإسلامية. ولكي يفضح الله مؤامراتهم أنزل بحقهم سورة مستقلة اسمها «المنافقون»، وقد اشتملت على تحذيرات للنبي والمسلمين من كيدهم (1) .

وفضلاً عن بثّ الشائعات لإضعاف معنويات المؤمنين، وتضعيف عزائمهم في الحروب، كان المنافقون كذلك يتناولون شخصية الرسول ويتهمونه بالسذاجة وضعف الشخصية، من قبيل وصفهم إياه بأنه يسمع كل ما يقال له، ويقولون ما هو إلا أذن، ومع ذلك لم يتعرّض النبي لهم، وقد ذكر القرآن هذا الأمر واصفاً النبي بأنه أذن خير للمؤمنين، قال تعالى:

(وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيِّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنْ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّه وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (2)

وقد بلغ الأمر بأحد المنافقين يدعى ذو الخويصرة إلى الاعتراض صراحة على تقسيم الغنائم من قبل رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في بعض المعارك، وقال له يا رسول الله اعدل! وهذا يعني بمفهومه أن النبي الأكرم لم يكن عادلاً في تقسيم الغنائم على المسلمين والعياذ بالله؛ فقال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم «ويلك من يعدل إن أنا لم أعدل؟ وقد خبت أو خسرت إن أنا لم أعدل». فقال عمر بن الخطاب يا

ص: 299


1- لا بد من التنويه إلى أن فضح المنافقين في القرآن الكريم لم يقتصر على سورة المنافقين فقط، بل هناك سور أخرى تعرّضت إلى مؤامرات المنافقين والكشف عنها، من قبيل ما في سورة التوبة من الآية 49 فما بعدها.
2- التوبة 61. ولمزيد من التوضيح، أُنظر: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 9، ص 325 .

رسول الله ائذن لي فيه أضرب عنقه، فقال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم «دعه» (1) .

وذات مرّة حاول عبد الله بن أبيّ بن سلول، وهو من رؤوس المنافقين أن يستغل الخلاف الحاصل بين الأنصار والمهاجرين أثناء غزوة بني المصطلق، فعمد إلى إثارة الأنصار ضد المهاجرين ليخرجوهم من المدينة. وقد جاء ذلك منه بهدف بثّ الفرقة بين صفوف المسلمين، بيد أن رسول الله انتهج المداراة معه، وقال عمر مُرْ بِهِ عَبّادَ بْن بِشَرِ فَلْيَقْتُلْهُ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله صلی الله علیه و آله و سلم «فَكَيْفَ يَا عُمَرُ إِذَا تَحَدّثَ النَّاسُ أَنْ مُحَمّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ» (2) .

ثم قال رسول الله لابن عبد الله بن أبي بن سلول لما بلغه أنه يريد قتله :

«بَلْ نَتَرَفّقُ بِهِ وَنُحْسِنُ صُحْبَتَهُ مَا بَقِيَ مَعَنَا » (3).

بل لم يتوان المنافقون عن اغتيال النبي كلما واتتهم الفرصة إلى ذلك، ومن بين المحاولات التي قام بها المنافقون لاغتيال الرسول ما كان منهم في حادثة العقبة بعد رجوع النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم من غزوة تبوك، وإليك بعض نصوصها على ما جاء في كتاب بحار الأنوار:

«رجع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قافلاً من تبوك إلى المدينة حتى إذا كان ببعض الطريق مكر به ناس من أصحابه، فأتمروا أن يطرحوه من عقبة في الطريق أرادوا أن يسلكوها معه، فأخبر رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم خبرهم، فقال من شاء منكم أن يأخذ بطن الوادي فإنه أوسع لكم، فأخذ النبي صلی الله علیه و آله و سلم العقبة، وأخذ الناس بطن الوادى إلا النفر الذين أرادوا المكر به، استعدوا وتلثموا وأمر رسول

ص: 300


1- محمد بن علي الشوكاني، نيل الأوطار، ج 7، ص 344؛ العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 21، ص 173 .
2- ابن هشام، سيرة ابن هشام، ج 3، ص 206.
3- المصدر أعلاه، ص 208 .

الله صلی الله علیه و آله و سلم حذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر فمشيا معه مشياً، وأمر عماراً أن يأخذ بزمام الناقة، وأمر حذيفة بسوقها، فبيناهم يسيرون إذ سمعوا وكزة القوم من ورائهم قد غشوه، فغضب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وأمر حذيفة أن يراهم، فرجع ومعه محجن فاستقبل وجوه رواحلهم وضربها ضرباً بالمحجن، وأبصر القوم وهم متلثمون، فرعبهم الله حين أبصروا حذيفة وظنوا أن مكرهم قد ظهر عليه، فأسرعوا حتى خالطوا الناس، وأقبل حذيفة حتى أدرك رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، فلما أدركه قال : اضرب الراحلة يا حذيفة، وامش أنت يا عمار؛ فأسرعوا فخرجوا من العقبة ينتظرون الناس، فقال النبي صلی الله علیه و آله و سلم يا حذيفة هل عرفت من هؤلاء الرهط أو الركب أحداً؟ فقال حذيفة عرفت راحلة فلان وفلان، وكان ظلمة الليل غشيتهم وهم متلثمون، فقال صلی الله علیه و آله و سلم هل علمتم ما شأن الركب وما أرادوا؟ قالوا: لا يا رسول الله، قال : فإنهم مكروا ليسيروا معي حتى إذا أظلمت بي العقبة طرحوني منها، قالوا: أفلا تأمر بهم يا رسول الله إذا جاءك الناس فتضرب أعناقهم؟ قال: أكره أن يتحدث الناس ويقولون: إن محمداً قد وضع يده في أصحابه، فسماهم لهما ثم قال: اكتماهم» (1).

واللافت للانتباه أن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم كان في مثل هذه الحالات على درجة عالية من الدقة، وعدم الانفعال في مواجهة الأزمات؛ حيث نراه يقدم المصلحة الأهم والمتمثلة في الحفاظ على بيضة الإسلام وسمعة كيان الدولة، فلا يقال في حقها أنها تقتل أصحابها؛ فيغض الطرف عن معاقبة المتآمرين.

4 - مداراة النبي مع المخالفين والمتآمرين:

لقد أقام النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم في المدينة المنوّرة دولة دينية فتية، أحاط بها

ص: 301


1- العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 21، ص 247.

الأعداء من مشركي مكة ومن القبائل اليهودية والمسيحية ومن المنافقين الذين كانوا يتربّصون بها الدوائر، ويهددونها من حين لآخر. يضاف إلى ذلك أن بعض المسلمين من ضعاف الإيمان كانوا يبادرون لمختلف الدوافع إلى إضعاف الجبهة الإسلامية عن وعي أو غير وعي منهم.

ولكن لم يكن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم يتعامل مع المعارضين بعنف وحزم وقوّة، وإنما كان يصفح عنهم ويعفو عن أخطائهم ما أمكن، وهو أمرٌ يثبت غاية ما كان عليه النبي من الاتصاف بالحلم والمداراة. وفيما يأتي نشير إلى بعض هذه الحالات:

1 - تقدم في بحث مداراة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم مع المنافقين أن مجموعة منهم حاولت اغتياله عند عودته من غزوة تبوك بتنفير ناقته من أعلى الجبل، ولكن الله فضح أمرهم، وآثر النبي أن يغض الطرف عنهم، وأن يعمل على مداراتهم.

2 - حاولت بعض نساء اليهود في واقعة خيبر اغتيال رسول الله؛ فقدمت له لحم ضأن مسموم على سبيل الهدية، فأخبر الله نبيه بحقيقة الأمر، ولكن كان أحد المسلمين اسمه بشر قد تناول شيئاً منه؛ فمات على الأثر، ومع ذلك عفا رسول الله عنها (1) .

وفي رواية أخرى أنه أصدر حكما بقتلها (2) ، ورغم أن حكم الرسول هنا لم يجانب العدل، ولكن هذه الرواية بحاجة إلى إثبات تاريخي.

ص: 302


1- ابن هشام، سيرة ابن هشام، ج 3، ص 244 .
2- أُنظر: ابن سعد، الطبقات الكبرى، تحقيق عبد القادر عطا، ج 1، ص 487 .

3 - لقد آثر النبي أن ينتهج سياسة الرفق واللين مع قبيلة بني النضير رغم تخطيط أفرادها لاغتياله، فلم يمارس العنف بحقها، وإنما اكتفى بإجلائها على أن تحمل أموالها معها؛ لأن احتمال التآمر منها كان وارداً، فكان ما قام به إجراء احترازياً، كي لا يصدر عنهم ما لا يحمد عقباه في المستقبل (1).

4 - لمّا أَجْمَعَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وَسَلَّمَ الْمَسِيرَ إِلَى مَكَّةَ، كَتَبَ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ كِتَابًا إِلَى قُرَيْشِ يُخْبِرُهُمْ بِالَّذِي أَجْمَعَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ مِنْ الْأَمْرِ فِي السَّيْرِ إِلَيْهِمْ، ثُمّ أَعْطَاهُ امْرَأَةً [قيل إِنها] سَارَةً مَوْلَاةٌ لِبَعْضٍ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَجَعَلَ لهَا جُعْلًا عَلَى أَنْ تُبَلِّغَهُ قُرَيْشًا، فَجَعَلَتْهُ فِي رَأْسِهَا، ثُمّ فَتَلَتْ عَلَيْهِ قُرُونَهَا، ثُمَّ خَرَجَتْ بِهِ وَأَتَى رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ الْخَبَرُ مِنْ السّمَاءِ بِمَا صَنَعَ حَاطِبٌ؛ فَبَعَثَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبِ وَالزِّبَيْرَ بْنَ الْعَوّامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا؛ فَقَالَ أَدْرِكَا امْرَأَةً قَدْ كَتَبَ مَعَهَا حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ بِكِتَابِ إِلَى قُرَيْشٍ، يُحَذِّرُهُمْ مَا قَدْ أَجْمَعْنَا لَهُ فِي أَمْرِهِمْ بَنِي أَبِي أَحْمَدَ؛ فَاسْتَنْزَلَاهَا؛ فَالْتَمَسَا فِي رَحْلِهَا فَلَمْ يَجِدَا شَيْئًا، فَقَالَهَا عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ إِنِّي أَحْلِفُ بِاللَّهِ مَا كَذَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ وَلَا كَذَبْنَا، وَلَتُخْرِجِنَّ لَنَا هَذَا الْكِتَابَ أَوْ لَنَكْشِفَنّكَ، فَلَمَّا رَأَتْ الجدّ مِنْهُ قَالَتْ أَعْرِضْ فَأَعْرَضَ فَحَلَّتْ قُرُونَ رَأْسِهَا، فَاسْتَخْرَجَتْ الْكِتَابَ مِنْهَا، فَدَفَعَتْهُ إِلَيْهِ فَأَتَى بِهِ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ؛ فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وسَلَّمَ حَاطِبًا فَقَالَ يَا حَاطِبُ مَا حَمَلَك عَلَى هَذَا؟ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهُ أَمَا وَاللَّهُ إِنِّي لَمُؤْمِنٌ بِالله وَرَسُولِهِ مَا غَيّرْت وَلَا بَدّلْت، وَلَكِنِّي كُنْت أَمْرَأَ لَيْسَ لِي فِي الْقَوْمِ مِنْ أَصْلٍ وَلَا عَشِيرَةٍ، وَكَانَ لِي بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ وَلَدٌ وَأَهْلٌ فَصَانَعْتهِمْ عَلَيْهِمْ؛ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الخُطّابِ يَا رَسُولَ الله دَعْنِي فَلْأَضْرِبْ عُنُقَهُ فَإِنّ الرّجُلَ قَدْ نَافَقَ؛ فَقَالَ رَسُولُ الله

ص: 303


1- أُنظر: ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج 2، ص 173.

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ وَمَا يُدْرِيكَ يَا عُمَرُ لَعَلَّ الله قَدْ اطّلَعَ إِلَى أَصْحَابِ بَدْرٍ يَوْمَ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ، فَقَدْ غَفَرْت لَكُمْ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي حَاطِبٍ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوّي وَعَدُوّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ﴾ (1) ، إلى آخر القصة (2).

5 - عندما فتح النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم مكة المكرمة بعد أن بالغ المشركون والكفار فيها وأمعنوا في إيذاء رسول الله ومحاربته، حتى قتلوا أعز الناس عليه من أهل بيته، ولم يكتفوا بقتل عمه حمزة بن عبد المطلب رضوان الله عليه، حتى مثلوا بحثمانه الطاهر، كان الناس يتوقعون من النبي أن يبادر إلى الانتقام وأن یستبیح مكة ويثأر ممن ناصبه العداء طوال الأعوام المنصرمة. ولكن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم فاجأ الجميع بإصدار عفو عام، وأمر المنادي أن ينادي بالأمان للجميع، حتى لمن دخل دار فلان وفلان، بل توجه إلى من ناصبه العداء طوال كل تلك الفترة، وقال لهم اذهبوا فأنتم الطلقاء (3).

ص: 304


1- الممتحنة: 1 .
2- ابن هشام، سيرة ابن هشام، ج 4 ، ص 29.
3- أُنظر: ابن هشام، سيرة ابن هشام، ج 4، ص 41 .

القِسْمُ الثَّاني

الشبهات التاريخية والاجتماعية

ص: 305

ص: 306

الفَصْلُ الأَوّل

اشارة

مرحلة الطفولة والشباب، الأخلاق السلوكية والفردية

للنبي الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم

الشبهة الأولى: فترة الطفولة، الحرمان والألم والاضطراب الروحي:

اشارة

حاول بعض الناقدين أن يتشبّث بيتم النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم حيث رحل والده عن الحياة قبل ولادته، لتلتحق به والدته بعد ذلك عندما لم يكن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم قد أكمل السنة السادسة من عمره؛ ليثبت أنه كان يعيش الحرمان على المستوى المالي والنفسي والعاطفي، وبذلك يكون النبي على مستوى اجتماعي ونفسي وضيع، وفي ذلك يقول مسعود أنصاري:

«كان والد محمد ووالدته يعيشان في عسر وفقر شديد، محرومان من سبل الحياة العادية في تلك الفترة من حياتهما. فقضى محمد فترة الطفولة حبيس العزلة والعوز والفاقة. وخلافاً لسائر العرب الذين كانوا يتأقلمون مع ظروفهم القاسية فيتحوّلون إلى رجال أشداء محاربين يأخذون حقهم بقوة سواعدهم، كان محمد يعاني شضف العيش، فتراه يبكي مثل النساء عند مواجهة قسوة الحياة. عندما أبصر محمد النور كان والده قد فارق الحياة، وأما والدته التى كانت تعاني من الأمراض الجسدية والنفسية فقد ماتت هي

ص: 307

الأخرى بعد ذلك بست سنوات. وبذلك كان النبي منذ ولادته يعاني من اليتم والحرمان والبؤس والفقر ... إن هذه الأسباب وخاصة الإذلال الذي كان يلقاء من قادة القوافل التجارية من أثرياء مكة قد تركتأثراً كبيراً عليه؛ فكان لذلك دائم الاكتئاب والانطواء على ذاته» (1) .

الجواب:

في معرض نقد هذه الشبهة وتحليلها، يجب الالتفات إلى الأمور الآتية:

1 - اشتغال أسرة الرسول بالتجارة:

لم تكن أسرة الرسول في مكة من الأسر التي تعاني الفقر من الناحية الاقتصادية، حيث كانت تمتهن التجارة، وكانت التجارة تدرّ عليهم أرباحاً طائلة، وهذا ما يؤكده موت الجدّ الأكبر للنبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم وكذلك موت أبيه عبد الله بعيداً عن الوطن أثناء السفر للتجارة، فمات هاشم ودفن في مدينة غزة في فلسطين، كما دفن عبد الله في الشام، ومع ذلك لا يمكن القول إن جميع الأسَر من بني هاشم كانوا على نفس ما كان عليه العباس عمّ النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم من الثراء.

2 - الانتساب إلى «عبد الله» يستدعي اهتماماً خاصاً:

على الرغم من فقدان النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم لأبيه قبل ولادته، إلا أنه حظي بمكانة مرموقة بين الناس بسبب انتسابه إلى عبد الله الذي كان يتمتع بمنزلة واحترام كبيرين من قبل أفراد قبيلته، فكان جميع أبناء القبيلة ينظرون إلى هذا الطفل بإكبار واحترام، وحتى جدّه عبد المطلب الذي كان يؤثر عبدالله

ص: 308


1- مسعود الأنصاري (روشنگر)، بازشناسی قرآن، ص 39 .

بمزيد من الحب والتكريم قام بتعويض النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم عن الفراغ الذي خلفه والده في حياته، ولا شك في أن هذا الطفل كان يتمتع بالنسبة إلى جده وأمه بأهمية قصوى؛ لكونه يمثل الذكرى الوحيدة التي تركها عبد الله لهما.

3- وجود الحاضنة والخادمة:

لقد كان للنبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم في صغره على الدوام حاضنة ترعاه وخادمة تقوم على شؤونه، فكانت أمّ أيمن تشرف على تنشئته حتى في حياة والدته، وبعد وفاة السيدة آمنة، واصلت أم أيمن رعايتها للنبي الأكرم وعادت به إلى مكة.

4 - الاهتمام الخاص الذي أولته أسرة حليمة السعدية للنبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم :

وعندما كان النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم في بيت حليمة السعدية، كان يحظى بمكانة ومنزلة خاصة بين أبنائها بسبب ما كان يتمتع به من السجايا الأخلاقية الكريمة. فطبقاً لما يروى في الكتب التاريخية كان لوجود الرسول في بيت حليمة السعدية أثراً ملموساً في دخول الخير والبركة على أسرتها وأهل بيتها.

وعلى الرغم من أن التاريخ يتحدّث عن إحجام الكثير من المرضعات عن القيام بمهمة إرضاع النبي لكونه يتيماً، إلا أن هذا لا يتناسب مع المکانة المرموقة والمنزلة التي كان يتمتع بها عبد المطلب في قريش التي كان يمثل زعيمها وسيدها، بل الرواية الصحيحة هي التي تقول:

إن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم هو الذي كان يرفض المرضعات، في حين كن يتنازعن ويتسابقن فيما بينهن على إرضاعه؛ فقد سأل مجاهد ابن عباس هل كانت المرضعات يتنازعن على إرضاع محمد؟ فقال نعم، وأقسم بالله أن جميع

ص: 309

نساء الجن والإنس تنافسن على إرضاعه، ولكنه لم يرتض غير حليمة السعدية (1) .

5 - الاهتمام الخاص بالنبي من قبل عبد المطلب:

على الرغم من تعلق إرادة الله برحيل أم النبي آمنة بنت وهب، وهو في السنة السادسة من عمره الشريف، إلا أن هذه المصيبة لم تكن سبباً في حرمان النبي أبداً؛ لأنه كان يتمتع بحماية ورعاية كبير قريش جدّه عبد المطلب.

لقد كان النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم منذ نعومة أظفاره ينعم بتكريم جدّه عبد المطلب. وكان عبد المطلب ينسب محمداً صلی الله علیه و آله و سلم إلى نفسه. فلم يكن يقول إنه محمد بن عبد الله، وإنما كان يقول له «يا ولدي»، كي يؤنسه ويأنس به، وكي لا يشعر بالغربة بين أبناء عبد المطلب، أو أن يشعر بأنه دونهم في الحصول على اهتمامه (2) .

بالاسناد عن ابن عباس قال: كان يوضع لعبدالمطلب - رضي الله عنه - فراش فى ظل الكعبة لا يجلس عليه أحد إجلالاً له، وكان بنوه يجلسون

حوله حتى يخرج عبدالمطلب. وكان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يخرج وهو غلام فيمشي حتى يجلس على الفراش فيعظم ذلك أعمامه، ويأخذونه ليؤخروه، فيقول لهم عبدالمطلب إذا رأى ذلك منهم دعوا إبني! فوالله إن له لشأناً عظيماً، إني أرى أنه سيأتي عليكم يوم وهو سيدكم، ثم يحمله فيجلسه معه، ثم يلتفت إلى أبي طالب - وذلك أن أبا طالب وعبد الله رضي الله عنهما من أم واحدة - فيقول إن

ص: 310


1- أُنظر: العلامة السيد جعفر مرتضى العاملي، الصحيح من سيرة النبي الأعظم، ج 1، ص 192.
2- أُنظر: حسين صابري، خاتم بیامبران صلی الله علیه و آله و سلم، ج 1، ص 239.

لهذا الغلام شأناً عظيماً فاحفظه واستمسك به فإنه فرد وحيد، وكن له كالأم، لا يصل إليه شيء يكرهه . ثم يحمله على عاتقه فيطوف به أسبوعاً [أي سبعة أشواط]» (1).

كان النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم يعيش في كنف وحماية جدّه عبد المطلب. وكان عبد المطلب قد أحسن رعاية حفيده حتى أنه لم يكن يتناول الطعام حتى يأتي محمد ويشاركه الجلوس على المائدة. وهناك رواية تؤكد أنه كان على علم بنبوّته. وطبقاً لهذه الرواية فإن عبد المطلب قال لمن أراد إزاحة النبي عن مكانه: اترك ولدي فإنه ملك (2).

عندما توفيت أم النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم آمنة بنت وهب، قام عبد المطلب بكفالة النبي، وأولاه من العطف والحنان ما لم يوله لأحد من أبنائه، وكان لشدّة عطفه عليه أنه لم يأكل طعاماً إلا وقال «إيتوني بولدي» (3) .

توفي عبد المطلب عندما كان النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم في السنة الثامنة من عمره الشريف، ولكنه قبل موته أوصى أباطالب أن يتكفل برعايته؛ إذا كان أبوطالب شقيقاً لعبد الله، فقد كانت أمهما فاطمة المخزومية. وكان من الطبيعي لذلك أن يكون أكثر حناناً وعطفاً على ابن أخيه الوحيد. وقد كان أبو طالب وزوجه فاطمة بنت أسد من الفضائل والمكارم الروحية والطهارة النفسية بحيث استحقا أن يحظيا بشرف كفالة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم (4) .

ص: 311


1- قطب الدين الراوندي، الخرائج و الجرائح، ج 3، ص 1069.
2- أُنظر: السيد جعفر مرتضى العاملي، الصحيح من سيرة النبي الأعظم، ج 1، ص 198.
3- أُنظر: حسين صابري، خاتم پیامبران صلی الله علیه و آله و سلم، ج 1، ص 239.
4- أُنظر: السيد جعفر مرتضى العاملي، الصحيح من سيرة النبي الأعظم، ج 1، ص 192.

فلما أدرك عبد المطلب - رضي الله عنه - الوفاة، ومحمد صلی الله علیه و آله و سلم علی صدره وهو في غمرات الموت، وهو يبكي، ويلتفت إلى أبي طالب - رضي الله عنه - ويقولأبصر أن تكون حافظاً لهذا الوحيد الذي لم يشم رائحة أبيه، ولا ذاق شفقة أمه .. يا أباطالب إذا أدركت أيامه فاعلم أني كنت من أبصر الناس له، وأعلم الناس به، فإن استطعت أن تتبعه فافعل، وانصره بلسانك ويدك ومالك فإنه - والله - سيسودكم، ويملك ما لم يملك أحد من آبائي، هل قبلت وصيتي؟» (1) .

6 - الاهتمام الخاص من قبل أبي طالب بالنبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم:

بعد وفاة عبدالمطلب انتقلت كفالة النبي إلى أبي طالب، فضمّه أبوطالب إلى كنفه وبيته، ودافع عنه بكل وجوده وكيانه مدّة حياته، وحيث كان أبوطالب كبير مكة، فلم يبخل على النبي بجميع أنواع الدعم والتأييد والنصرة، حتى كان النبي يتمتع بدعم النبي طوال دعوته وحمله لرسالة السماء، وكانت قريش بسبب هذا الدعم تعجز من أن تنال النبي الأكرم بسوء، ولهذا السبب لم يفكر النبي بالهجرة من مكة المكرّمة إلا بعد رحيل عمه أبي طالب.

وقد بلغ دعم أبي طالب للنبي الأكرم أنه كان يتولى حراسة النبي في شعب أبي طالب بنفسه، وكان في بعض الليالي حيث يغفو الجميع يغير مكان نوم الرسول فينيم ولده علياً مكانه، حتى إذا وقع مكروه وقع على ولده وليس على ابن أخيه (2) .

ص: 312


1- قطب الدين الراوندي، الخرائج و الجرائح، ج 3، ص 1069 .
2- أُنظر: السيد جعفر مرتضى العاملي، الصحيح من سيرة النبي الأعظم، ج 1، ص391.

وأما زوج أبي طالب فكانت في غاية الحنو والعطف على رسول الله في صغره، وكانت للنبي بمنزلة أمّه. فقد روي عن رسول الله لما توفيت فاطمة بنت أسد، وكانت مسلمة فاضلة، أنه قال: «اليوم ماتت أمي، وكفنها بقميصه ونزل على قبرها واضطجع في لحدها. فقيل له يا رسول الله لقد اشتد جزعك على فاطمة. قال: إنها كانت أمي، أن كانت لتجيع صبيانها وتشبعني، وتشعثهم وتدهنني» (1) .

وبذلك فعلى الرغم من فقدان النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم لأبويه في الصغر، وكان ذلك يمثل مصيبة كبيرة له، إلا أنه لم يترعرع وسط الحرمان والعوز والفقر والفاقة أبداً، وإنما قام أهله وأسرته بالتعويض عن يتمه بأفضل أنواع العطف والرعاية والاحتضان.

الشبهة الثانية: العمل في رعي الأغنام:

اشارة

هناك روايات تقول إن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم قد مارس العمل في شبابه في رعي الماشية فترة من الزمن. فتمسك البعض بهذه الروايات لتشويه صورة النبي، فقال:

«فى الفترة ما بين السنة العاشرة إلى الرابع عشرة من عمر النبي أرسله عمه أبوطالب ليعمل في رعي جمال القوافل التجارية بين مكة وسوريا. وادعوا أن النبي عندما بلغ الخامسة والعشرين من عمره لم يكن له مورد مالي يستعين به على رفع ضرورات الحياة وضمان معيشته اليومية؛ فاشتغل لذلك في رعي الماشية الذي كان يعد من أرذل الأعمال، وحيث كان هذا العمل من الأعمال

ص: 313


1- ابن واضح اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، ج 2، ص 14 .

الوضيعة، فقد تخلى عنه ليعمل في التجارة» (1).

الجواب:

في معرض تحليل هذه الشبهة لا بد من ملاحظة النقاط الآتية:

1 - رعي الأغنام من المهن المألوفة لأهل المكة:

كان رعي المواشي ولا يزال من المهن المألوفة. وفي الأزمنة القديمة كانت الزراعة ورعي الماشية من الأمور الشائعة التي يمتهنها سكان القرى والأرياف، وحتى المدن أحياناً، وكان كثير من الناس يلجأون إلى تربية المواشي ورعيها كسباً لقوت الحياة، وقد مارس هذه المهنة حتى الشخصيات الكبيرة في التاريخ، من هنا لا يمكن وصف العمل في رعي الماشية بأنه من الأعمال الحقيرة والوضيعة مطلقاً.

لقد كانت كل أسرة تحتفظ - حسب إمكاناتها - بعدد من رؤوس الماشية بطبيعة الحال، وكان من الطبيعي أن ترسل بعض أفرادها من اليافعين لرعيها من حين لآخر، وقد يباشر العمل الرجال الكبار في الأسرة أيضاً.

ففي الأزمنة القديمة كانت الزراعة ورعى المواشي من أكثر المهن شيوعاً بين المجتمعات الإنسانية. وفي أجواء مكة وما لها من الموقع الجغرافي، كان العمل في الزراعة معدوماً أو شحيحاً، وهو أمرٌ اضطر معه أهل مكة إلى ممارسة التجارة أو العمل في رعي المواشي (الأعم من الأغنام والإبل والخيل). وكان من الطبيعي في مثل هذه الظروف أن يعمل النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم في كلا الحقلين.

ص: 314


1- مسعود انصاری (روشنگر)، بازشناسی قرآن، ص 39 .

2 - اعتراف صاحب الشبهة بممارسة الأنبياء لرعي الماشية:

ولكن هذا الكاتب نفسه الذي يطرح هذه الشبهة، قد أذعن في كتاب آخر أن رعي الماشية لم يكن معدوداً من الأعمال الوضيعة آنذاك، وأنّ كثيراً من الفتيان كانوا يشتغلون في رعي المواشي:

«في فترة من الزمن اشتغل محمد مثل سائر الفتيان في مكة برعي الأغنام في صحرائها، وبعد أن بُعث نبياً أشار إلى تلك المرحلة من حياته التي قضاها برعي الأغنام، معتبراً ذلك من علامات الرسالة، حيث كان جميع الأنبياء قد مارسوا رعي الماشية» (1).

3 - إنكار أن يكون النبي قد عمل أجيراً في رعي الماشية:

وبطبيعة الحال لا يبدو ما قاله بعض المؤرخين (2) من أن النبي قد عمل أجيراً لدى بعض أهل مكة في رعي ماشيتهم؛ وهذا ما أكد عليه ابن واضح اليعقوبي في تاريخه، إذ يقول «لا كان أجيراً لأحدٍ قط».

كما عمد بعض العلماء إلى رفض هذا الكلام من البخاري، وذلك بالنظر إلى أن النبي قد أضاف إلى هذا الحديث عبارى «لأهلي»، وهو أمرٌ يثبت أنه كان يرعى الغنم لأسرته، وليس للآخرين (3).

ص: 315


1- مسعود انصاري (روشنگر)، کوروش بزرگ و محمد بن عبدالله ، ص36.
2- أُنظر: تقي الدين المقريزي، امتاع الأسماع، تحقيق محمد عبد الحميد النميسي، ج 1، ص 16 ؛ أبوبكر البيهقي، دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة، تحقيق عبد المعطي قلعجي، ج 2، ص 11؛ شمس الدين الذهبي، تاريخ الإسلام، تحقيق عبد السلام التدمري، ج 1، ص 54، حيث نقلوا بأجمعهم عن صحيح البخاري.
3- أُنظر: محمد هادي اليوسفي الغروي، تاريخ تحقيقي اسلام، حسين علي العربي، ج 1، ص 269 .

وقال الأستاذ جعفر مرتضى في هذا الشأن:

«يذكر المؤرخون أنه صلی الله علیه و آله و سلم قد رعى الغنم في بني سعد، وأنه رعاها لأهله، بل ويقولون رعاها لأهل مكة أيضاً، حتى ليذكرون والبخاري منهم في كتاب الإجارة وغيره أنه صلی الله علیه و آله و سلم قال: (ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنم. فقال أصحابهو أنت؟ قال: نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة) وفسرت القراريط بأنها أجزاء الدراهم والدنانير يشترى بها الحوائج الحقيرة. ولكننا نشك كثيراً في أن يكون صلی الله علیه و آله و سلم قد رعى لغير أهله بأجر كهذا، تزهد به حتى علي العجائز، ولا يصح مقابلته بذلك الوقت والجهد الذي يبذله في رعي الغنم، نعم نشك في ذلك، لأننا نجد:

أولاً: أن اليعقوبي - وهو المؤرخ الثبت - قد نصّ على أنه صلی الله علیه و آله و سلم لم يكن أجيراً لأحد قط.

وثانياً: تناقض الروايات، فبعضها يقول لأهلي، وبعضها يقول لأهل مكة، وبعضها يقول بالقراريط، وأخرى قد أبدلت ذلك بكلمة «بأجياد» ... ثم ختم

العلامة السيد مرتضى جعفر العاملي كلامه قائلاً: «لا يمكن الاعتماد على هذه الرواية» (1).

وقد سبق أن ذكرنا - بالالتفات إلى حديث رسول الله - أن جميع الأنبياء قد مارسوا مهنة رعي الماشية، وقد تمّ بيان حتى مسألة رعي النبي موسى كليم الله للماشية (2) ، وقيل إنه عمل أجيراً للنبي شعيب في رعي الأغنام

ص: 316


1- أُنظر: ابن هشام، السيرة النبوية، تحقيق مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري شلبي، ج1، ص 50. ج 2، ص 70 - 71.
2- أُنظر: القصص 26 .

مهراً لزواجه من ابنته (1).

ومن ثمَّ لا بد من القول بأن مسألة رعي رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وسائر الأنبياء بالالتفات إلى الظروف الزمنية كانت مسألة شائعة ومألوفة ومقبولة، ولكن بالالتفات إلى الشواهد المتقدمة فإن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم لم يمتهن هذه المهنة بوصفه أجيراً، نعم يمكن أن يكون قد مارسها لمساعدة أسرته أو مرضعته أو جدّه وعمّه لا غير.

4 - تناسب وعلاقة مهنة رعي الأغنام مع النبوة:

ورد في الروايات أن أكثر الأنبياء أو جميعهم قد عمل لبرهة من الزمن في رعي الماشية. وقد يتم التساؤل هنا عن العلاقة بين هذه المهنة وبين مقام النبوة، وخاصة فيما يتعلق بنبوة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم.

أ - ممارسة الصبر والحلم: لا شك في أن العمل في رعي الماشية وخاصة في صحراء مكة اللاهبة، هو من الأعمال الشاقة، التي لا يمكن لأي شخص أن يضطلع بها. وإن اشتغال النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم في رعي الماشية يؤسس لأرضية الصبر والحلم لاستيعاب أمواج المشاكل والعواصف التي سوف تواجهه من قبل المخالفين من أعداء الرسالة. وبعبارة أخرى إن اشتغال النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بهذه الحرفة يعد نوعاً من التمرين واختزان التجربة التى تمكنه من تحمل أعباء النبوّة.

ب - الابتعاد عن الفضاء الثقافي والاعتقادي الملوّث في مكة: لقد كانت الثقافة السائدة في مكة ثقافة جاهلية ومنحطة، حيث كان أهل مكة يعبدون الأصنام التي يصنعونها بأيديهم، ويؤمنون بالخرافات والأساطير. وكان من

ص: 317


1- أُنظر: قطب الدين الراوندي، الخرائج والجرائح، ج 3، ص 151.

شأن اشتغال النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم برعي الماشية أن يبعده عن هذه الأجواء الثقافية والعقائدية الفاسدة.

ج - مهنة الرعى فرصة دراسة الكون ونظام التكوين والتدبر فى الآفاق من خلال الابتعاد عن ثقافة الشرك السائدة في مكة، كان النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم يحصل على فرصة التدبر في السماء المفعمة بالنجوم وهو في قلب الصحراء، وهو أمرٌ يوفر له أجواء مناسبة للتمعن في آثار حكمة الخالق وبديع صنعه وما يكتنف هذا الكون من الأسرار، وهكذا يرتبط بخالق هذا النظام الكوني، تمهيداً لنزول الوحي عليه (1).

الشبهة الثالثة: شاب مغمور وغير مؤثر:

اشارة

هناك من المعاندين من لا يرعوي عن ذكر أي شيء من أجل الوصول إلى غايته المتمثلة بتشويه الساحة المقدسة للنبي الأکرم صلی الله علیه و آله و سلم، کما سبق لهم أن تذرعوا بيتم النبي الأكرم، والقول:

«عندما كان محمد يعيش في الفقر والفاقة، كان مثل جميع الأفراد الذين يعانون من عصبية المزاج، فاقداً للحيوية، وتحول إلى شاب انطوائي مهزوز. وبشكل عام فقد كان محمد في شبابه وقبل ادعاء النبوة رجلاً مغموراً لا يُعباً به، ولم يكن يتمتع بشخصية مرموقة» (2) .

الجواب:

إن دعوى أن النبي كام مغموراً وغير فاعل أو مؤثر في المجتمع المكي،

ص: 318


1- أُنظر: جعفر سبحاني، فروغ ابدیت، ج 1، ص 188.
2- مسعود انصاری (روشنگر)، بازشناسی قرآن، ص 40 .

مجرد ادعاء اعتباطي، وإن الأدلة والشواهد تثبت العكس من ذلك تماماً. فقد كان النبي الأكرم معروفاً بين أهل مكة بسجاياه الحميدة وأخلاقه الكريمة، وكانت التقاليد والأعراف القبلية تقضي بمعرفة أبناء القبائل منذ ولادتهم.

1 - ظهور العديد من المعجزات التي رافقت ولادة النبي الأكرم:

من ناحية أخرى يجب القول هناك طائفة من الروايات أثبتت وقوع الكثير من المعجزات التي اقترنت بولادة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم واطلع عليها عامة الناس من خلال أخبار الكهان فأخذوا لذلك ينظرون إلى محمد بوصفه صاحب شأن حتى في طفولته (1).

2 - تحديد الهوية الحقيقية والاعتبارية للنبي من قبل اليهود:

الشاهد الآخر أن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم سافر في صغره إلى المدينة برفقة أمه، وطبقاً لرواية أم أيمن، فإن اليهود في المدينة قد عرفوه وأخبروا بنبوّته (2).

كما أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة مبيناً أن اليهود كانوا يعرفون النبي كما يعرفون أبناءهم الذين هم من أصلابهم، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (3) .

ونقل عن عبدالله بن سلام - وكان من أحبار اليهود ثم أسلم - أنه كان يقول «أنا أعلم به مني بابني» (4) .

ص: 319


1- أُنظر: قطب الدين الراوندي، الخرائج والجرائح، ج 1، ص 22.
2- أُنظر: ابن كثير، البداية والنهاية، ج 2، ص 279 .
3- البقرة: 146 .
4- أُنظر: ناصر مكارم الشيرازي، تفسير نمونه (التفسير الأمثل)، ج 1، ص 273 .

وطبقاً لتصريح القرآن الكريم إذ يقول (وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ الله مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ الله عَلَى الْكَافِرِينَ) (1) ، أن اليهود عندما كانوا يندحرون أمام العرب، كانوا يقولون لهم (أما لو بعث محمد لنخرجنكم من ديارنا وأموالنا) (2).

3 - تسمية المواليد باسم «محمد»:

ذكر ابن سعد في طبقاته الكثير من الذين اختاروا لأولادهم اسم «محمد» رجاء أن يكون من يحمل هذا الاسم منهم هو النبي الموعود (3) .

4 - اشتهاره بلقب «الأمين»:

واضح أن النبي لم يكن مغموراً بين الناس، ولم يكن مجهولاً أبداً، كما كان عامة الناس يعرفونه باسم «محمد الأمين»، مما يؤكد فاعليته الاجتماعية في حفظ الأمانة وما إلى ذلك من مكارم الأخلاق، وهو أمرٌ لا ينسجم مع القول بأنه كان يعاني من الانطوائية أبداً (4) .

5 - المساهمة في «حلف الفضول»:

هذا وقد شهد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في شبابه في مكة حلف الفضول، وهناك

ص: 320


1- البقرة: 89 .
2- أُنظر: ناصر مكارم الشيرازي، تفسير نمونه (التفسير الأمثل)، ج 1، ص 197.
3- أُنظر: ابن سعد، الطبقات الكبرى، تحقيق عبد القادر عطا، ج 1 ، ص 134 .
4- ابن سعد، الطبقات الكبرى، ج 1، ص 97 ؛ ابن واضح اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، ج 2، ص 19.

قول يقول إن هذا الحلف إنما عقد بتوجيه منه صلی الله علیه و آله و سلم، مما يثبت أنه كان ناشطاً على المستوى الاجتماعي ومباشرة مشاكل الناس والتماس الحلول لها، رغم أنه لم يكن يرغب في التواصل مع المشركين كثيراً (1) .

6 - الرضوخ لحكم النبي في مسألة التنازع على إعادة الحجر الأسود:

لقد كانت كلمة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم نافذة على أهل مكة، وكان له بسبب ما يتمتع به من الشخصية الكبيرة تأثير واسع على أهل مكة، ومما يؤكد هذا المعنى حكمه في النزاع بين القبائل على شرف إعادة الحجر الأسود إلى موضعه من الكعبة المشرفة، حيث أقرّ الجميع بأمانته وحكمته، فبادر النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم إلى معالجة الموقف سلمياً، وتدارك أمراً أوشك أن يؤدي إلى إراقة الدماء (2).

ص: 321


1- حلف الفضول هو أحد أحلاف الجاهلية، قال ابن إسحاق على ما يرويه ابن الأثير في الكامل وكان نفر من جرهم وقطوراء يقال لهم الفضيل بن الحارث الجرهمي، والفضيل بن وداعة القطوري، والمفضل بن فضالة الجرهمي، اجتمعوا فتحالفوا أن لا يقروا ببطن مكة ظالماً، وقالوا لا ينبغي إلا ذلك لما عظم الله من حقها، فقال عمرو بن عوف الجرهمي (إن الفضول تحالفوا وتعاقدوا ألا يقر ببطن مكة ظالم .. أمر عليه تعاهدوا وتواثقوا .. فالجار والمعتر فيهم سالم) ، ثم درس ذلك فلم يبق إلا ذكره في قريش. ثم إن قبائل من قريش تداعت إلى ذلك الحلف، فتحالفوا في دار عبد الله بن جدعان لشرفه وسنه، وكانوا بني هاشم، وبني المطلب، وبني أسد بن عبد العزى، وزهرة بن كلاب، وتيم بن مرة؛ فتحالفوا وتعاقدوا أن لا يجدوا بمكة مظلوماً من أهلها، أو من غيرهم من سائر الناس إلا قاموا معه، وكانوا على ظلمه، حتى ترد عليه مظلمته فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول، وشهده رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم فقال حين أرسله الله تعالى "لقد شهدت مع عمومتي حلفا في دار عبد الله بن جدعان ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو دعيت به في الإسلام لأجبت". ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج 2، ص 34 - 35.
2- أُنظر: ابن هشام، السيرة النبوية، ج 1، ص 197.

كان النبي يتمتع بمكانة قدسية خاصة بين المسلمين، وكانوا لذلك يتبركون بماء وضوئه، ولا يفرطون بقطرة واحدة منه، وكانوا يحتفظون بخصلات من شعره الشريف لعشرات السنين. ومع ذلك لم تكن حياته الخاصة بعيدة المنال، فكان يعيش مثل سائر الناس، مع فارق أن سلوكه كان يقوم على أدق المعايير العقلية والشرعية، فلم تسجل ضده أي زلة أو خطأ في سلوكه وأقواله. من هنا فقد جعل الله سبحانه وتعالى جميع ما اشتملت عليه سيرة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم مثالاً يتأسى به المسلمون لنيل السعادة في الدنيا والآخرة، كما وصفه القرآن الكريم بأنه لا ينطق عن الهوى، وإن كل ما يقوله هو من وحي السماء الذي لا يتطرّق إليه الباطل. ومن هنا تثبت العصمة لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، و مع ذلك لا يزال الأعداء والمعاندون يختلقون المعاذير ويثيرون بعض الشبهات التي تهدف إلى النيل من مكانته السامية.

الشبهة الرابعة: الهروب من مواجهة جيش إبرهة:

اشارة

ذكر مسعود أنصاري في كتب له نقلاً عن شخص اسمه شبرينجر قوله: اقترنت فترة شباب النبي الأكرم بهجوم إبرهة الحبشي على مكة، فحشد أبو طالب القبائل التي تقطن في مكة وما حولها للدفاع عن المدينة، وقد شارك في الإعداد لصد العدوان جميع الشباب والفتيان، ولكن النبي حيث كان يعاني من الضعف والاعتلال، لم تكن لديه القدرة على خوض القتال فآثر الهروب، وهو أمرٌ أثار سخرية أقرانه منه حتى اضطر إلى ترك بيت عمه أبي طالب، بل والخروج من مكة أيضاً (1) .

ص: 322


1- أُنظر: مسعود أنصاري (روشنگر)، بازشناسي قرآن، ص 39؛ مسعود انصاري (روشنگر)، کوروش بزرگ و محمد بن عبد الله، ص 35.

الجواب:

1 - هجوم جيش إبرهة على مكة قبل ولادة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم:

لا تعدو هذه الشبهة أن تكون مجرد افتراء لا يقوم على أي سند أو أساس من الصحة؛ إذ يُجمع المؤرخون (1) على أن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم عند هجوم إبرهة - الذي كان ملكاً على اليمن - على مكة لهدمها، ونزول العذاب الإلهى عليه بإرسال الطيور الصغيرة التي رمته بالحجارة حتى أهلكته وأهلكت جيشه، لم يكن النبي قد ولد بعد أو أنه كان حديث الولادة. وقد اكتفى بعض المؤرخين بالقول إنه ولد في عام الفيل، وهناك من قال: إنه ولد بعد شهرين من هجوم إبرهة، وطبقاً لهذا القول المجمع عليه من قبل المؤرخين لا يكون للنبي

ص: 323


1- أُنظر: محمد بن جرير الطبري، تاريخ الطبري، ج 1، ص 273؛ البلاذري، أنساب الأشراف، ج 1، ص 77. قال نور الدين الحلبي (ولادته صلی الله علیه و آله و سلم قيل كانت في عام الفيل .. و في تاريخ ابن حبّان ولد عام الفيل .. وعند ابن سعد ولد يوم الفيل، يعني عام الفيل .. وقيل: ولد بعد الفيل بخمسين يوماً، كما ذهب إليه جمع منهم السهيلي، قال بعضهم وهو المشهور. قال وقيل بخمسة وخمسين يوماً ، وقيل بأربعين يوماً ، وقيل بشهر ، وقيل بعشر سنين، وقيل بثلاث وعشرين سنة، وقيل بثلاثين سنة، وقيل بأربعين سنة، وقيل: بسبعين سنة .. وعلى أنه بعد الفيل بخمسة وخمسين يوماً اقتصر الحافظ الدمياطي (رحمه الله)، وعبارة المواهب حكاه الدمياطي في آخرين. وكونه في عام الفيل قال الحافظ ابن كثير هو المشهور عند الجمهور. وقال إبراهيم بن المنذر شيخ البخاري: لا يشك فيه أحد من العلماء. ونقل غير واحدٍ فيه الإجماع، وقال: كل قول يخالفه وهم، أي وقيل: قبل عام الفيل بخمس عشرة سنة قال بعضهم: وهذا غريب منكر وضعيف أيضاً)، نور الدين الحلبي، السيرة الحلبية نور الدين الحلبي، (إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون)، ج 1 ، ص 86-87 .

الأكرم أي دور في عدم دفاع أهل مكة عنها في مواجهة جيش إبرهة، وهناك قول شاذ ونادر يقول إن ولادة النبي كانت بعد تلك السنة، ولكن حتى لو سلمنا هذه الرواية الشاذة لا يكون النبي في عمر يخوله المشاركة في القتال، حتى يصدق عليه أنه فرّ من أرض المعركة.

2 - عدم وقوع الحرب:

لو سلمنا جدلاً أن النبي لحظة هجوم جيش إبرهة على مكة كان شاباً، مع ذلك لا يمكن لشبهة هروبه من أرض المعركة أن تكون صحيحة، وذلك لعدم حصول المعركة أصلاً حتى يصدق عليه أن هرب منها؛ فالمسألة من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع، فقد قرر أهل مكة وعلى رأسهم عبدالمطلب جد الرسول أن لا يدخل في قتال مع إبرهة. وقد كانت هذه الخطوة منهم خطوة حكيمة فرضتها المصلحة، ولم يكن سبب ذلك هو الخوف أو الجبن، وإنما وجدوا أن الفرص بين الطرفين غير متكافئة، ولن تكون هناك فائدة من الوقوف بوجه هذا الجيش المجهز بأسلحة لم يكن يجدي في صدها أي سلاح من الأسلحة التي توفرت لديهم في حينها. نعم ذكر ابن هشام حصول مقاومات طفيفة هنا وهناك، إلا أن عبد المطلب بوصفه كبير مكة قد قال لإبرهة في لقائه به: إنّي أَنَا رَبّ الْإِبِلِ وَإِنّ لِلْبَيْتِ رَبّا سَيَمْنَعُهُ قَالَ : مَا كَانَ لِيَمْتَنِعَ مِنِّي، قَالَ أَنْتَ وَذَاكَ .. ثُمّ قَامَ عَبْدُ المُطَّلِبِ ، فَأَخَذَ بِحَلْقَةِ بَابِ الْكَعْبَةِ، وَقَامَ مَعَهُ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ يَدْعُونَ اللَّهُ ويستنصرونه عَلَى أَبْرَهَةَ وَجُنْدِهِ فَقَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ وَهُوَ آخِذٌ بِحَلْقَةِ بَابِ الْكَعْبَةِ :

(اللهُمّ إنّ الْعَبْدَ يَمْنَعُ ٭٭٭ رَحْلَهُ فَامْنَعْ حِلَالَكْ

لَا يَغْلِبَنّ صَلِيبُهُمْ ٭٭٭ وَمِحَالُهُمْ غَدْوًا محَالَك) (1) .

ص: 324


1- ابن هشام، السيرة النبوية، تحقيق مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري، ج 1، ص 50 .

3 - الإشكالات التاريخية على هذه الشبهة:

ومن ناحية أخرى يجب القول إن الذي طرح هذه الشبهة والتهمة لم يلتفت إلى أن المؤرخين لعام الفيل يجمعون على الحديث عن عبدالمطلب بوصفه كبير قريش (1) ، فكيف يكون أبوطالب هو الذي يتولى عملية الإعداد لجيش يصدّ به هجوم إبرهة الحبشي؟! والأهم من ذلك أن النبي الأكرم لو كان قد ولد في تلك الفترة، لكان في كنف عبدالمطلب ولم يكن في بيت أبي طالب، حتى يكون قد هرب من بيته كي لا يشهد الحرب، وعليه فإن بطلان هذه الشبهة أوضح من أن تستحق الرد.

تقرير آخر للشبهة (المشاركة في حرب الفجار):

اشارة

في تتميم الشبهة قد يقال إن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم لم يهرب من مواجهة إبرهة، وإنما هرب من حرب أخرى هي حرب الفجار، ولو أنه لم يهرب لكان قد ارتكب قتلا.

الجواب:

للإجابة عن هذه الشبهة يجب الالتفات إلى النقاط الآتية:

عندما كان النبي يافعاً وقع عدد من الحروب عرفت بحروب الفجار. وإنما سميت بحروب الفجار لكونها قد اشتملت على تجاوز للأعراف والتقاليد المتواضع عليها بين القبائل العربية في خوض الحروب، أو أن منشأ هذه الحروب كان نوعاً من الأعمال المخالفة للقيم، وإن هذه الحروب قد وقعت في الأشهر الحُرُم.

ص: 325


1- أُنظر: المصدر أعلاه، ج 1، ص 48.

قيل كان بين العرب أربع حروب أطلق عليها «حروب الفجار»؛ لأنها اشتملت على كثير من الأمور المحرمة، وهي كالآتي:

الفجار الأولى: وقعت بين قبيلة بني كنانة وقبيلة هوازن.

الفجار الثانية: وقعت بين قبيلة قريش وقبيلة هوازن.

الفجار الثالثة: وقعت بين قبيلة بني كنانة وقبيلة هوازن أيضاً .

الفجار الرابعة: وقعت هذه الحرب بين قبيلة كنانة وقبيلة قريش، وبين هوازن وقيس عيلان حيث وقعت الحرب بينهم في شهر رجب، وقد حرم القتال فيه وإراقة الدماء. وقد كان قائد قريش في هذه الحرب هو (حرب بن أمية) والد أبى سفيان (1) .

وقد تحدث بعض المؤرخين عن مشاركة النبي الأكرم في (حرب الفجار الرابعة)، وقد روى عن النبي أنه قال: «كُنْت [في هذه الحرب] أَنْبُلُ عَلَى أَعْمَامِي أَيْ أَرُدّ عَلَيْهِمْ نَبْلَ عَدُوِّهِمْ إِذَا رَمَوْهُمْ بِهَا » (2) .

1 - الاختلاف في النقل:

ذكر اليعقوبي في تأريخه أن النبي كان له سبعة عشر عاماً أثناء حرب الفجار (3) . كما نقل ابن هشام عن غير ابن إسحاق أن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قد

ص: 326


1- أُنظر: محمد هادي اليوسفي الغروي، تاريخ تحقيقي اسلام؛ حسين علي العربي، ج 1، ص 302.
2- ابن هشام، السيرة النبوية لابن هشام، تحقيق مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري الشلبي، ج 1، ص 186 .
3- أُنظر: ابن واضح اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، ج 2، ص 15.

حضر حرب الفجار مع أعمامه وكان له من العمر عشرين عاماً (1) . إلا أن ابن إسحاق لم يذكر حضور النبي الأكرم في حرب الفجار، وإنما اقتصر على القول بأن النبي كان له من العمر في حينها عشرون سنة (2) . وقد نقل الطبري ذلك في تأريخه أيضاً.

وعليه بالنظر إلى عدم نقل ابن إسحاق والطبري حضور النبي في حرب الفجار، وما رواه ابن هشام من مرافقة النبي صلی الله علیه و آله و سلم لأعمامه في هذه الحرب وكان له من العمر خمسة عشر عاماً، مع الالتفات إلى تضارب النصوص في نقل هذه المسألة لا يمكن اعتبار هذا التقرير مطابقاً للحقيقة.

ومن ناحية أخرى نجد اختلافاً كثيراً في بيان دور النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم في هذه الحروب، فكما رأينا فقد اقتصر دور النبي في بعض الروايات على دفع النبل إلى أعمامه وحفظ أموالهم (3) . وجاء في بعض التقارير الأخرى أن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم قد شارك في هذه الحرب برمي بعض السهام وكان يتمنى لو أنه لم يفعل ذلك (4) .

وهناك رواية ثالثة تقول إنّ النبي قد اشترك في حرب الفجار وصرع فيها رجلاً اسمه أبو البراء وأوقعه أرضاً (5). ومع وجود كل هذا الاختلاف في

ص: 327


1- ابن هشام، السيرة النبوية لابن هشام، تحقيق مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري الشلبي، ج 1، ص 186 . بيد أن رواية العشرين سنة قد نقلها ابن هشام عن ابن إسحاق، أُنظر: سيرة ابن هشام، ج 1، ص 186 ، (المعرِّب).
2- أُنظر: المصدر أعلاه.
3- أُنظر: المصدر أعلاه.
4- أُنظر: السيرة الحلبية، ج 1، ص 185.
5- أُنظر: المصدر أعلاه، ص 186.

بيان أصل مشاركة النبي في حرب الفجار والاختلاف في بيان دوره، يصعب أثبات المدعى.

2 - عدم مشاركة بني هاشم في هذه الحرب:

ومن جهة أخرى يروى أن أباطالب منع أن يشارك أي رجل من بني هاشم في هذه الحرب، وقال «هذا ظلم وعدوان وقطيعة واستحلال للشهرالحرام، ولا أحضره ولا أحد من أهلي، فأخرج الزبير بن عبد المطلب مستكرهاً، وقال عبدالله بن جدعان التيمي وحرب ابن أمية لا نحضر أمراً تغيب عنه بنو هاشم؛ فخرج الزبير» (1).

وفى هذا الشأن قال بعض المحققين:

«وفيما يتعلق بمشاركة بني هاشم في حرب الفجار، روي أن أبا طالب منع أن يكون فيها أحد من بني هاشم وقال هذا ظلم وعدوان وقطيعة واستحلال للشهر الحرام، ولا أحضره ولا أحد من أهلي، فأخرج الزبير بن عبدالمطلب مستكرها. وقال عبد الله بن جدعان التيمي وحرب ابن أمية لا نحضر أمراً تغيب عنه بنو هاشم فخرج الزبير. فقالوا [لأبي طالب] يا ابن مطعم الطير وساقي الحجيج لا تغب عنا فإنا نرى مع حضورك الظفر والغلبة. قال: فاجتنبوا الظلم والعدوان والقطيعة والبهتان فإني لا أغيب عنكم. فقالوا ذاك لك. فلم يزل يحضر حتى فتح عليهم. وروي عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أنه قال: شهدت الفجار مع عمي أبي طالب وأنا غلام. وقيل إن أباطالب كان يحضر في الأيام ومعه رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، فإذا حضر هزمت كنانة قيساً، فعرفوا البركة

ص: 328


1- ابن واضح اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، ج 2، ص 15 .

بحضوره»(1) .

وبید أن المحققين المتأخرين لا يذهبون إلى هذا الرأي، وهناك منهم من قال بهذا الشأن:

«ولكننا بدورنا لا نستطيع أن نؤكد صحة ذلك، بل نشكّ كثيراً فيه، وذلك لأمور:

الأول: لقد وقعت حرب الفجار في الأشهر الحرم، في رجب. ولانرى مبرراً لأن ينتهك أبوطالب ومعه الرسول صلی الله علیه و آله و سلم حرمة الأشهر الحرم، كما يظهر لمن راجع سيرتهما وحياتهما، ومدى تقيدهما بمثل هذه الأمور، فإنهما كانا مسلمين، بل لقد كان أبوطالب مستودعاً للوصايا، كما ورد في بعض الأخبار في الكافي، بالإضافة إلى نصوص أخرى تدل على عظمته وثبات قدمه في الدين ... إلا إذا وجّهت المشاركة بأن حرب الفجار قد وقعت في أشهر النسيء، أو في شعبان أو شوال، وكان سببها في الأشهر الحرم (وهو توجيه نور الدين الحلبي، مؤلف السيرة الحلبية). ولكنه توجيه لا يعتمد على أي سند تاريخي، فلا مجال للتعويل عليه» (2) .

طبقاً لهذه الشواهد المتقدمة، وعدم وجود سند تاريخي معتبر يمكن القول إن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم لم يكن له أي دور في حرب الفجار، وإذا كان هناك إصرار من البعض على إثبات مشاركة النبي في حرب الفجار، نقول أولاً ليس

ص: 329


1- أُنظر: محمد هادي اليوسفي الغروي، تاريخ تحقيقي اسلام؛ حسين علي العربي، ج 1، ص 302.
2- السيد جعفر مرتضى العاملي، الصحيح من سيرة النبي الأعظم، ج 2، ص 137.

هناك ما يثبت فرار النبي من الحرب في أي من المصادر التاريخية، وثانياً إن المشاركة نفسها في حرب دفاعية مشروعة تعد امتيازاً يسجل للنبي، حيث يثبت تمتعه بالصفات والخصال الإنسانية من قبيل الفتوّة والشجاعة وما إلى ذلك.

الشبهة الخامسة: اتصاف النبي بالصفات القبيحة:

اشارة

لقد حاول بعضهم تشويه سمعة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم من خلال وصفه ببعض الصفات القبيحة، كما صنع مؤلف كتاب (إسلام ومسلماني) نقلاً عن مويير حيث قال:

«بالتزامن مع النزعة الشديدة التي أظهرها النبي إلى تحطيم الأصنام ونشر الدين والطهر في العالم، فقد تكشف عن حماسة شديدة إلى الأنا والاعتداد بالنفس وحب الظهور» (1) .

وجاء في موضع آخر:

«إن النتيجة الواضحة التى يمكن التوصل إليها من خلال مؤلفات المختصين في الإسلام وكبار المحققين في التاريخ الإسلامي وخاصة المؤلفين العرب، هي أن الغاية التي كان ينشدها محمد من خلال دعوته إلى دين الإسلام هي الحصول على السلطة والمال، ولم يكن يهدف إلى بناء دين سماوي حقيقي أو رفع مستوى القيم الأخلاقية والإنسانية» (2) .

ص: 330


1- ابن وراق، اسلام ومسلماني، ترجمه إلى الفارسية مسعود انصاري (روشنگر)، ص 33 و 194.
2- مسعود انصاري (روشنگر)، شیعه گری و امام زمان، ص 15.

الجواب:

فضلاً عمّا كان يتمتّع به النبي من المنزلة والمكانة المعنوية بوصفه نبياً، فقد أقرّ له العدوّ قبل الصديق بوصفه فرداً متميّزاً من أقرانه، وإن هذا التميّز كان واضحاً عليه من الصغر وفترة الشباب وقبل البعثة، حتى شُهِرَ منذ باكورة أيامه بلقب «محمد الأمين».

قال الواقدي في المغازي:

«لقد حباه الله من كريم الأخلاق أن غلب عليه لقب الأمين، فكان معروفاً في كل أنحاء مكة بمحمد الأمين» (1).

هناك كثير من القرائن والشواهد التاريخية التي تثبت أن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم كان معروفاً بين الناس بالصدق والأمانة وما إلى ذلك من السجايا الأخلاقية، وإن السيدة العظيمة خديجة الكبرى إنما قبلت الزواج منه لما توسّمته فيه من هذه السجايا الأخلاقية الكريمة، رغم تقدم الكثير من وجهاء مكة لخطبتها. لقد كانت السيدة خديجة من أشرف نساء قريش وأجملهن وأوسعهن مالاً وثراءاً، وقد كان جميع الرجال في قريش يتمنى الاقتران بها، وقد تقدم لها كثير منهم بالفعل وعرضوا عليها الأموال الطائلة، ولكنها رفضت الجميع واختارت محمد صلی الله علیه و آله و سلم من بينهم، لمعرفتها بما يتمتع به من الأخلاق العالية وشرف النفس والخصال الحميدة (2) .

ص: 331


1- محمد بن عمر الواقدي، المغازي، تحقيق مارسدن جونس، ج 1، ص 97.
2- أُنظر: السيد جعفر مرتضى العاملي، الصحيح من سيرة النبي الأعظم، ترجمه إلى الفارسية محمد سبهري، ج 1، ص 137.

وبعد البعثة كان النبي الأكرم أسوة كاملة يتأسى الناس بسجاياه الكريمة من جميع الجهات، وفي ذلك قال الله تعالى في كتابه الكريم:

(لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ (1) .

وفي الحقيقة إن الأخلاق العالية والسجايا الكريمة التي كان يتصف بها النبي هي التي کانت تستقطب الناس إليه وتحببه إليهم، وقال تعالى في وصف أخلاق النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم (فَبَمَا رَحْمَةٍ مِنْ الله لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) (2) .

كما أمره الله سبحانه وتعالى قائلاً:

(وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لَمِنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ) (3) .

إن جميع هذه الموارد تحكي عن الأخلاق الكريمة التي كان يتمتع بها رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، ولم يكن يتصف أبداً بالصفات الرذيلة التي حاول صاحب الشبهة أن يلصقها به من قبيل الأنا وحب الذات والشهوة إلى السلطة والركون إلى الدعة أبداً، وفيما يأتي نشير إلى هذا الموارد إجمالاً:

1 - رفض الوعود الدنيوية وتسويده من قبل المشركين على مكة:

يشهد التاريخ أن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم لم يكن شخصاً متعطشاً إلى السلطة أو محباً للجاه والمال والثروة، وليس هناك من يمكنه الادعاء بأنه قد أساء استغلال موقعه الرسالي. فإن النصوص التاريخية المتوفرة بين أيدينا تثبت أنه

ص: 332


1- الأحزاب: 21 .
2- آل عمران: 159 .
3- الشعراء: 215. وانظر أيضاً الحجر: 88 .

لم يكن يسعى إلى الجاه والسلطة أبداً. فعلى الرغم من عرض كبار قريش التخلي عن دعوته وتعهدهم بأنهم سيجعلون منه أغنى شخص في مكة و یزوجونه من أجمل نسائها، بل ويجعلونه سيداً عليهم (1) ، إلا أنه رفض التخلي عن دعوته، وآثر تحمل العناء وحتى الموت من أجل تلبية نداء السماء، وعدم الرضوخ لوعودهم رغم أن هذه الوعود كانت حقيقية؛ لأنه إنما كان يقوم بمسؤوليته التي كلفه بها الله سبحانه وتعالى، ولو أنه كان يسعى إلى السلطة لكان قبلها بمجرد عرضها عليه وتقديمها له على طبق من ذهب. إلا أن النبي لم يساوم أحداً ولم يقايض رسالته بحطام الدنيا.

وفي ذلك يروي ابن هشام في سيرته:

«قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَحَدَثَنِي الزَّهْرِيّ أَنَّهُ أَتَى بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ وَعَرَضَ عَلَيْهِمْ نَفْسَهُ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ أَرَأَيْتَ إِنْ نَحْنُ بَايَعْنَاك عَلَى أَمْرِكَ، ثُمّ أَظْهَرَك اللهُ عَلَى مَنْ خَالَفَك، أَيَكُونُ لَنَا الْأَمْرُ مِنْ بَعْدِكَ؟ قَالَ الْأَمْرُ إِلَى الله يَضَعُهُ حَيْثُ يَشَاءُ» (2) .

2 - عدم توسيع رقعة الحكم بالحرب والسيطرة:

إن من المؤشرات الأولى على التعطش إلى السلطة وتوسيع رقعتها، هي إثارة الحروب، أما النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم فإنه على الرغم من إرادته تحصين السلطة ورفع القدرة على إدارة المجتمع، إلا أنه لم يكن شخصاً طالباً للسلطة بحيث يستنزف جميع طاقاته من أجلها، وإنما كان في ذلك واضعاً مرضاة الله

ص: 333


1- أُنظر: ابن هشام، السيرة النبوية، تحقيق مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري الشلبي، ج 1، ص 295.
2- المصدر أعلاه، ج 1، ص 424 - 425 .

نصب عينيه.

لقد كانت حروب النبي بشكل عام ذات طابع دفاعي، فكانت تأتي إما في سياق الدفاع عن المدن أو لاستباق هجوم يخطط له العدو أو معاقبة العدو بسبب نقضه لعهوده ومواثيقه. والذي كان يؤكد عليه رسول الله هو توسيع رقعة الإسلام وانتشاره بين القبائل . فكانت كل قبيلة تعلن عن إسلامها يبادر النبي إلى إعطائها كامل الصلاحيات في إدارة شؤونها، بل كان يأمر بأخذ زكاة أموال الأغنياء من كل قبيلة وإنفاقها على فقراء القبيلة ذاتها فلا تخرج إلى القبائل الأخرى، وهو أمرٌ تسبب ببعض المشاكل للحكومات التي جاءت بعد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، حيث أصرّت بعض القبائل على إنفاق زكاة أموالها على فقرائها وعدم إرسالها إلى المدينة، بينما كان أبوبكر يريد أن تكون جميع أموال الزكاة تحت إشرافه، فاندلعت لذلك بعض المعارضات التي تمّ قمعها تحت مسمّى حروب الردّة (1) .

3 - التشاور مع الناس:

لم يرو عن النبي موردٌ واحدٌ دالٌّ على أنانيته لا قبل البعثة ولا بعدها، فقد كان شخصا متناغماً ومنسجماً مع قومه. وكان يستشير أصحابه في إدارة شؤون المدينة على الدوام، بل ويعمل أحياناً على طبق مشورتهم حتى إذا كانت على خلاف رأيه، كما حصل ذلك في واقعة أحد.

شبهة الركون إلى الدعة:

أما شبهة ركون النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم إلى الدعة والكسل فهي أبعد ما

ص: 334


1- أُنظر: ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج 2، ص 342.

تكون عن الانصاف؛ لأن النبي قضى جميع أيام حياته ولحظاته بالجدّ والعمل والمثابرة، وبطبيعة الحال لا يمكن مقارنته بغيره من الناس في هذا المجال، فقد كان - صلوات الله عليه - متقدماً على أقرانه، وبغض النظر عن صفة النبوة كان أقرانه يرونه وافر النشاط والحيوية، بل كان النبى حتى ما قبل البعثة يذهب إلى العبادة في مغارة في منطقة جبلية في ضواحي مكة ذات تضاريس معقدة لا يمكن الوصول إليها إلا بشق النفس، وكان يقضي وقته هناك بالتهجد والعبادة، ولم يكن يكتفي بالتعبد في حلس بيته.

لقد كان النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم أمة في رجل، كما هو شأن سيدنا إبراهيم علیه السلام بصريح القرآن الكريم، فقد خاض النبي في المدينة ما يقرب من ثمانين معركة، مما یعني أنه كان قائداً عسكرياً إلى جانب كونه سياسياً وعالماً دينياً، وفقا لمقتضيات هداية الأمة والاضطلاع بتعليمها وهدايتها، وعلى الرغم من ذلك كانت له حياته التفصيلية، فكان يدير ما يقرب من عشر زوجات تعيّن عليه أن يفي باحتياجاتهن العاطفية والاقتصادية وأن يقوم بحلّ خلافاتهن أيضاً.

وعلى الرغم من جميع هذه المشاكل كان - صلوات الله عليه - من أكثر أفراد أمته عبادة، وكان من كثرة العبادة أن اعترضت بعض زوجاته على كثرة تعبده رغم أن الله قد وعده بالجنة، فلا حاجة منه إلى كل هذا الشقاء، وهذا بالإضافة إلى قيامه بمهة كتابة القرآن الكريم. فلو نظرنا بعين منصفة هل يصح لنا أن نتهمّه بالكسل وإيثار الدعة؟!

الشبهة السادسة: لقب أبي القاسم يعكس الثقافة الذكورية:

إن لقب أبي القاسم - الذي كان سائداً في الثقافة التي عاش النبي في وسطها - أدّت ببعض المثقفين المتأثرين بالنزعة النسوية إلى اعتبارها دليلاً

ص: 335

على غلبة الثقافة الذكورية في الإسلام وفي شخص النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم، وقالوا بأنه إنما تأثر فى ذلك ببيئته الجاهلية، ولذلك فإنه على الرغم من وجود ابنة له أكبر من ابنه القاسم، ولكنه آثر أن يلقّب باسم ابنه دون ابنته، مما يدل على تفضيله الذكر على الأنثى (1) .

الجواب:

في البداية علينا التنويه إلى أن أبا القاسم ليس لقباً، وإنما هو كنية لرسول الله، وأما لقبه فهو (الأمين). وإن كل اسم مسبوق بأب أو أم فهو كنية.

قال المقريزي «إعلم أن الكنية وضعت لاحترام المكنى بها وإكرامه وتعظيمه كي لا يصرّح في الخطاب باسمه .. ويقال كنيت الرجل بأبي فلان» (2) . وهذا أمر شائع بين العرب، وهي ثقافة سائدة بينهم إلى يومنا هذا، حيث نشاهد الكثير منهم يختار لنفسه كنية كي يستعملونها في التخاطب فيما بينهم.

ليس هناك نقاش في أن أبا القاسم كنية للنبي، بل هناك من ادعى ثبوت هذه الكنية للنبي بالتواتر (3) ، أما أن يكون ذلك دليلاً على تغليب الثقافة الذكورية، والقول بأن النبي إنما لم ينتخب لنفسه كنية أخرى، من قبيل أبو فاطمة أو أبو رقية، لأنه لم يكن يحترم المرأة، فيجب القول إن الكنية في الغالب لا تنشأ من الاختيار، وإنما تنشأ عادة من غلبة الاستعمال، فالمرء

ص: 336


1- أسبوعية (پیام هاجر)، العدد 286 ، ص 8 ، بتاريخ 13/ مهر / 1378 ه- ش .
2- تقي الدين المقريزي، إمتاع الأسماع، تحقيق محمد عبد الحميد النميسي، ج ، ص 146 .
3- الذهبي، تاريخ الإسلام، تحقيق عمر عبد السلام التدمري، ج 1، ص 33.

لا يختار كنيته وإنما يختارها له الآخرون (1).

لقد كان اختيار الكنية للرجل يتمّ طبقاً لعادات العرب وتقاليدهم، حيث ينادون الرجل باسم بكره من الذكور دون أن يختار هو ذلك، بل ربما اختاروا للرجل كنية حتى قبل أن يتزوّج، بل قد يكنّى الصغار أيضاً.

وإنما يأتي اختيار الكنية للصغار تيمناً و تفاؤلاً بأنهم سيكبرون ویرزقون بالأولاد، وبالنسبة إلى الكبار يتم اختيار الكنية على اسم البكر من الذكور (2) . وقد ورد في بعض النصوص أنه عندما ولد لرسول الله ابنه إبراهيم، خاطبه جبرائيل علیه السلام بأبي إبراهيم (3) .

وأحياناً يتم اطلاق الكنية على شخص في مناسبة معينة، كما أطلق رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام، كنية أبا تراب في حرب العشيرة (4) .

وأحياناً يتم اختيار الكنية لشخص لتناسب اسمه مع اسم أحد المشاهير، فيمنحونه كنية صاحب ذلك الاسم، فمثلاً حيث كان العباس عم النبي يكنى بأبي الفضل، لأنّ اسم بكره كان هو الفضل، أخذوا يطلقون على كل من اسمه العباس كنية أبي الفضل، أو أن يطلقوا كنية أبي الحسن على كل من كان اسمه علياً، لأن هذه هي الكنية التي كان يكنى بها الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام .

ص: 337


1- أُنظر: تقي الدين المقريزي، إمتاع الأسماع، تحقيق محمد عبد الحميد النميسي، ج 2، ص 146 .
2- أُنظر: المصدر أعلاه.
3- أُنظر: أبوبكر البيهقي، دلائل النبوة، تحقيق عبد المعطي قلعجي، ج 1، ص 164.
4- أُنظر: ابن هشام، السيرة النبوية، تحقيق مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري الشلبي، ج 1، ص 599 .

إنّ سبب كنية رسول الله بأبي القاسم - طبقاً لما ذكره المؤرخون (1) - أن ابنه البكر الذي ولد له كان هو القاسم، وقد توفي قبل البعثة.

المعنى الكنائي لأبي القاسم:

روى الشيخ الصدوق حديثاً عن الإمام الرضا علیه السلام في كتاب (عيون أخبار الرضا)، أنه سُئل عن سبب كنية رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بأبي القاسم ؟ فقال علیه السلام «حدثنا علي بن الحسن بن علي بن فضال عن أبيه، قال: سألت أبا الحسن علیه السلام، فقلت له لم كني النبي صلی الله علیه و آله و سلم بأبي القاسم؟ فقال لأنه كان له ابن يقال له قاسم فكنى به قال فقلت له: يا ابن رسول الله فهل تراني أهلاً للزيادة؟ فقال: نعم، أما علمت أن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قال: أنا وعلي أبوا هذه الأمة؟ قلت: بلى، قال: أما علمت أن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أبٌ لجميع أمته وعلي علیه السلام منهم؟ قلت: بلى، قال: أما علمت أن علياً علیه السلام قاسم الجنة والنار؟ قلت: بلى، قال: فقيل له: أبو القاسم؛ لأنه أبو قسيم الجنة والنار» (2) .

وعليه لا توجد في هذه الكنية أي نزعة ذكورية، وإنما هي مجرد كنية جاءت على سياق الأعراف العربية.

الشبهة السابعة: أن النبي كان يريد الحصول على مكاسب مادية ودنيوية من وراء إدعائه النبوة:

اشارة

ادعى مؤلف كتاب «اسلام ومسلماني» أنّ الهدف من نبوّة النبي كان

ص: 338


1- أُنظر: أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، تاريخ الطبري، ج 2، ص 281؛ ابن هشام، سيرة ابن هشام، ج 1، ص 190.
2- الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضا، ج 2، ص 85.

دنيوياً، وقال بكل وقاحة إن هذا هو مكمن السر في تخلف المسلمين، وأضاف قائلاً:

«لقد عمد محمد منذ البداية إلى الحصول على السلطة والحكم والاستيلاء على شبه الجزيرة العربية، مستخدماً أساليب الخداع والاحتيال تحت غطاء النبوة والدعوة إلى الإسلام» (1) .

«لا بد من الالتفات إلى أن محمداً لو كان ينشد التدين الحقيقي والمعنويات، لكان خلفاؤه الذين جاؤوا بعده قد اتبعوا النهج ذاته، إلا أن النهج الحقيقي الذي انتهجه هو الوصول إلى السلطة ونهب الأموال والحصول على الغنائم، وخلافاً لما اعتدنا سماعه من القصاصين من المعممين، فإن الأئمة لم يكونوا فقراء إطلاقاً، بل كانوا في غاية الثراء هم والمقربون منهم، ومحمد نفسه كان من أصحاب الإقطاعات، فبالإضافة إلى فدك وخيبر كان قد استولى على كثير من الأراضي الأخرى» (2) .

الجواب:

1 - امتلاك الثروة الكافية:

إنّ النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم لم يكن فقيراً على المستوى المادي أبداً، صحیح أنه كان يتيماً في الصغر، ولكنه كان ينعم تحت كنف جدّه عبدالمطلب وعمه أبي طالب، وكان كلاهما من كبار القوم وأصحاب النفوذ في قريش، وفي مرحلة

ص: 339


1- ابن وراق، اسلام ومسلماني، ترجمه إلى الفارسية مسعود انصاري (روشنگر) ص 20 .
2- مسعود انصاري (روشنگر)، شیعه گري و امام زمان، ص 17 - 18؛ شهريار شيرازي، پيامبران خرد در پیکار با تاریکیها، إعداد هوشنگ معین زاده، ص 285 .

الشباب مارس النبي مهنتين كانتا شائعتين في عصره، وهما رعي الماشية والتجارة. وقد كانت السيدة خديجة من أثرياء الحجاز، وكانت تمتلك الكثير من الأموال، وقد عمدت إلى توظيف الكثير من الرجال ليسيروا في تجارتها إلى اليمن والشام، وكانت تقوم بالمضاربات أيضاً (1) . وبعد زواجها من النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم وهبته كل أموالها، وكان ذلك يعود إلى فترة ما قبل البعثة. وبذلك يتضح أن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم لم بحاجة إلى الأموال كي يسعى إلى الحصول عليها من خلال الاحتيال وادعاء النبوة.

2 - إنفاق ثروته وثروة زوجه خديجة في سبيل الله:

لقد كان النبي الأكرم من الاندفاع والشوق إلى هداية الناس وتحقيق الأهداف الإلهية التى أنيطت به بحيث لم يتحمل أنواع العذاب الجسدي والروحي من أجل هذه الغاية، من دون أن يطلب من أتباعه أجراً فحسب، وإنما أنفق ثروته وأنفق الثروة الطائلة التي كانت تمتلكها زوجه خديجة من أجل تحقيق هذه الغاية.

ولم يقتصر النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم على هذا النهج في مستهل دعوته فحسب، بل واصل النهج ذاته حتى بعد بناء الدولة في المدينة المنورة، بحيث كان غالباً ما ينفق سهمه من الغنائم الحربية وسائر حقوقه على الفقراء والمساكين، ولا يبقي منها لنفسه سوى قليل مما يكفيه لاحتياجاته البسيطة والمتواضعة (2) .

ص: 340


1- أُنظر: الزركلي، الأعلام، ج 2، ص 302.
2- أُنظر: ابن هشام، السيرة النبوية، تحقيق مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري الشلبي، ج 2، ص 492 .

3 - رفض الوعود الدنيوية التي قطعها له شيوخ مكة:

كان سادة قريش بعد البعثة قد خبروا النبي من هذه الناحية. يروي ابن إسحاق أن سادة قريش قد اجتمعوا وقالوا للنبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم «يَا مُحَمَّدُ إِنَّا قَدْ بَعَثْنَا إِلَيْكَ لِنُكَلَّمَكَ، وَإِنَّا وَالله مَا نَعْلَمُ رَجُلًا مِنْ الْعَرَبِ أَدْخَلَ عَلَى قَوْمِهِ مِثْلَ مَا أَدْخَلْتَ عَلَى قَوْمِك ... فَإِنْ كُنْتَ إِنَّمَا جِئْتَ بِهَذَا الحدِيثِ تَطْلُبُ بِهِ مَالًا جَمَعْنَا لَكَ مِنْ أَمْوَالِنَا حَتَّى تَكُونَ أَكْثَرَنَا مَالًا، وَإِنْ كُنْتَ إنّما تَطْلُبُ بِهِ الشَّرَفَ فِينَا، فَنَحْنُ نُسَوّدُك عَلَيْنَا، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ بِهِ مُلْكًا مَلّكْنَاكَ عَلَيْنَا .. فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ الله (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) مَا جِئْتُ بِمَا جِئْتُكُمْ بِهِ أَطْلُبُ أَمْوَالَكُمْ وَلَا الشّرَفَ فِيكُمْ وَلَا المُلْكَ عَلَيْكُمْ وَلَكِنّ اللَّهُ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ رَسُولًا، وَأَنْزَلَ عَلَيَّ كِتَابًا ، وَأَمَرَنِي أَنْ أَكُونَ لَكُمْ بَشِيرًا وَنَذِيرًا، فَبَلَّغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي، وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَإِنْ تَقْبَلُوا مِنِّي مَا جِئْتُكُمْ بِهِ فَهُوَ حَظّكُمْ فِي الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِنّ تَرُدّوهُ عَلَىّ أَصْبِرْ لِأَمْرِ الله حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ» (1) .

وعلى رواية أخرى أن سادة قريش قصدوا أباطالب للمرّة الثانية، واقترحوا أن يعطوه كل ما يريد على أن يترك دعوته، فقال لهم رسول الله في الجواب «يَا عَمّ ، وَالله لَوْ وَضَعُوا الشَّمْسَ فِي يَمِينِي، وَالْقَمَرَ فِي يَسَارِي عَلَى أَنْ أَتْرُكَ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يُظْهِرَهُ الله أَوْ أَهْلِكَ فِيهِ مَا تَرَكْتُهُ» (2) .

وقد نزلت الآية السابعة والأربعون من سورة سبأ في شأن اقتراح المشركين تزويد النبي بأموالهم، حيث قال الله تعالى على لسان نبيه: (قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّه وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (3) .

ص: 341


1- ابن هشام، السيرة النبوية، تحقيق مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري ، ج 1، ص 295.
2- المصدر أعلاه، ج 1، ص 265 .
3- سبأ: 47 .

وقد ذكر صاحب كتاب (دلائل النبوة) في بحث إثبات النبوة من القرآن الكريم هذه الآية، وقال لا شك في أن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم كان مجرّداً ومنزّهاً من جميع المطامع الدنيوية (1) .

4 - حياة الزهد:

ومما ذكروا في زهد النبي وحالاته العرفانية بهذا الشأن «كان النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم لشدّة الجوع الذي يلمّ به يشدّ حجر المجاعة على بطنه .. مَا شَبعَ آلُ مُحَمَّدٍ غَدَاءً وَعَشَاءً مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ حَتَّى لَحِقَ بِاللَّهِ. كَانَ يَمُرُّ بِآلِ رَسُولِ الله صلی الله علیه و آله و سلم هلالٌ ثُمَّ هِلالٌ ثُمَّ هِلالٌ لا يُوقَدُ فِي شَيْءٍ مِنْ بُيُوتِهِ نَارٌ لا لِخُبْزِ وَلا لِطَبيخٍ» (2) .

ص: 342


1- أبوبكر البيهقي، دلائل النبوة، تحقيق عبد المعطي قلعجي، ج 1، ص 12.
2- ابن سعد، الطبقات الكبرى، تحقيق محمد عبد القادر عطا، ج 1، ص 306.

الفَصْلُ الثَّاني

اشارة

الأخلاق الجنسية وزواج النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم

الشبهة الأولى : الأخلاق الجنسية وتعدد الزوجات:

اشارة

حاول بعضهم أن يلصق بالنبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم كلاماً لا أساس له من الصحة، ذلك من خلال اتهامه - رغم ما يتمتع به من الأخلاق الإلهية الكاملة - بضعف الشخصية والسلوكيات الجنسية القبيحة (1) .

كما حاول بعض المستشرقين المغرضين - من أجل تحقيق أهدافهم و غاياتهم المشؤومة في ضرب الإسلام - أن يتهم النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بأنه رجل

ص: 343


1- قال مسعود أنصاري في كتابه (بازشناسي قرآن) "إن ميل محمد إلى النساء وزواجه المتكرر يشكل واحدة من نقاط الضعف الأخلاقية الكبيرة، وواحدة من المثالب التي يأخذها عليه خصومه والتي لا يمكن الدفاع عنه وتبرئته منها. بعد أن استلم محمد مقاليد الحكم وقد تجاوز عمره الخمسين سنة، كان في حريمه ما يقرب من عشرين امرأة بين معقودة بالنكاح الدائم أو النكاح المنقطع على الجواري والإماء وغيرهن. لقد أصدر محمد رسول الله إعلاناً ادعى نزوله من السماء يحرره من القيود الأخلاقية فيما يتعلق بالزواج من النساء ويستثنيه دون سائر المسلمين، فيجوز له أن يتخطى القوانين الموضوعة للمسلمين ليتزوّج من أي امرأة شاء". أُنظر: مسعود أنصاري (روشنگر)، بازشناسي قرآن، ص 362 - 363.

شهواني وزير نساء. ومن بين هؤلاء المستشرقين رجل اسمه (ديدرو) حيث قال: لقد كان محمد أكبر عاشق للنساء، ومن أشدّ أعداء العقل السليم، وإن العالم لم يشهد مثيلاً له من هذه الناحية.

الجواب:

في معرض تحليلنا لهذه الشبهة، لابدّ من الالتفات إلى الأمور الآتية:

1 - الميل إلى المرأة غريزة إنسانية:

إن ميل الرجل إلى المرأة أمر طبيعي، وقد عبّر القرآن الكريم عن النساء بأنهن عامل طمأنة وسكن للرجال، إذ يقول تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةٌ﴾ (1) .

وإن هذا السكون هو سكون جسدي وروحي، كما هو سكون فردي واجتماعي، وعليه فإن علاقة الحب والودّ القائمة بين الرجل والمرأة مجعولة من قبل الله، وهى لذلك تُعدّ بطبيعة الحال صفة كمال للرجل.

وقد عبّر القرآن الكريم في موضع آخر عن أن هذه العلاقة إنما تأتي من أن الله قد خلق الناس من نفس واحدة، وأنه اختار لهم النساء أزواجاً من أنفسهم ليأنسوا بهن، قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا) (2) .

لا يمكن اعتبار هذه الرغبة نقصاً في الرجل، بل هي من كمالات الرجل أن يميل إلى الجنس الآخر. وأنّ النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بوصفه إنساناً كاملاً من جميع

ص: 344


1- الروم: 21 .
2- الأعراف: 189 .

الجهات، كانت له ميوله الإنسانية، ولا يمكن إنكار ميله إلى النساء، بل هو نفسه لم ينكر ذلك، وقد عبّر عن حبّه للنساء في أكثر من رواية، وبطبيعة الحال فإن هذا الكلام من النبي إنما هو ناظر إلى الناحية الإنسانية من وجوده الشريف، لأنه أراد للناس أن لا يغلوا فيه، فيجرِّدوه من الصفات الإنسانية الدالة على محدوديته، وعدم اتصافه بصفات المطلق الذي هو الخالق سبحانه وتعالى.

2 - ضبط الغريزة الجنسية وتهذيبها:

وعلى الرغم ذلك فإن هذه الميول الإنسانية والمادية لدى النبي، إلا أنها كانت تحت سيطرته، حيث كان على الدوام سالكاً طريق العبودية لله، والهدف السامي الذي خلق الله الإنسان من أجله، وعليه لا يمكن النظر إلى تعدد زواج النبي من زاوية الشبق والإفراط في الجنس.

من ناحية أخرى يجب الالتفات إلى أن طبيعة زواج النبي المتكرر لم تأت فى ظل ظروف تساعد على القول بأنها ناشئة عن الرغبة الجنسية. فمن خلال النظر في كتب التأريخ التي رصدت حالات زواج النبي والظروف التي اكتنفت لجوء النبي إلى ذلك ندرك أن النبي إنما كان يهدف من ورائها معالجة بعض الأزمات الاجتماعية ويراعي بعض المصالح الخاصة، وقد تقدّم منا توضيح ذلك في الصفحات السابقة.

لقد كان النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم مطيعاً للأوامر الإلهية في جميع شؤون الحياة، ولذلك فإننا لا نستبعد أن تكون هذه الحالات من الزواج إنما تأتي في إطار القيام بالمسؤولية الملقاة على عاتقه من قبل الله بوصفه سفيراً له بين الناس. كما نرى من خلال نزول الآية الخامسة والعشرين من سورة الأحزاب إنهاء هذه

ص: 345

المهمة، حيث يقول تعالى:

(لاَ يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجِ) (1).

وقد قضى النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم الفترة المتبقية من حياته مع تلك المجموعة من النساء اللاتي سبق له أن اقترن بهن، بل وقد صدر له الأمر من قبل الله بتخييرهن بين البقاء عنده مع الفقر أو الانفصال عنه وأخذ حقهنّ من المهر.

3 - شيوع تعدد الزوجات في صدر الإسلام:

فيما يتعلّق بتعدد زوجات النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم لا يمكن عدّ ذلك مثلبة عليه، فقد كان تعدد الزوجات أمراً شائعاً في عصره، حتى أن خلاف ذلك يُعدُّ هو الاستثناء.

وبشكل عام يمكن القول إن أكثر العرب وساداتهم وكبرائهم في ذلك الزمان كان لهم كثير من الزوجات، لا يستثنى من ذلك إلا أباطالب إذ يقال

إنه لم يتخذ غير زوجة واحدة، وربما كان السبب في ذلك يعود إلى فقره رغم أنه كان من سادة العرب، فقد قيل (إنه ساد قومه فقيراً) (2) . وقال الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام بشأن سيادة والده «أبي ساد فقيراً، وما ساد فقير قبله»(3) . وأما في مورد غير أبي طالب فإن جميع الأشراف كانوا قد تزوجوا بعددٍ من النساء، وقد كانت هذه الظاهرة اعتيادية في ذلك العصر، وإن کثیراً من الصحابة كانوا قد تزوجوا بأكثر من عشر نساء بين من تزوجوهن بعقد دائم أو بملك اليمين.

ص: 346


1- الأحزاب: 52 .
2- أُنظر : خير الدين الزركلي، الأعلام، ج 4، ص 200.
3- ابن واضح اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، ج 2، ص 14.

4 - تعدّد الزوجات في الأديان السابقة:

إن ظاهرة تعدد الزوجات ليست من المسائل المقتصرة على الشريعة الإسلامية، بل إن مسألة تعدد الزوجات كانت شائعة بين بني إسرائيل حتى قبل نزول شريعة موسى عليهم. وبعد إرسال النبي موسى إليهم من قبل الله، أمضت شريعته ما كانوا عليه من تعدد الزوجات، وحتى النبي موسى کانت لديه أكثر من زوجة، وقد اقترن النبي داود علیه السلام بالكثير من النساء. وبعد أن انتشرت المسيحية في أوروبا كان تعدد الزوجات أمراً شائعاً ومقبولاً هناك (1) . وحتى في عصر النبي عيسى علیه السلام كان تعدد الزوجات منتشراً ولم يكن محظوراً. وعليه لم يكن الإسلام هو الدين الوحيد الذي أقرّ هذه الظاهرة الاجتماعية، كما يحاول أعداء الإسلام أن يسوّقوا لهذه التهمة زوراً وبهتاناً، بل كان الإسلام هو الدين الوحيد الذي نظم هذه الظاهر وعمل على تحديد الزوجات بعدد معیّن (2) .

5 - الاكتفاء بزوجة واحدة في فترة الشباب والكهولة:

من الواضح أن الغرائز الجنسية تكون في أوج استعارها في مرحلة الشباب وإلى حد ما في فترة الكهولة، لتأخذ جذوتها بالانطفاء التدريجي عند تجاوز الرجل عتبة الخمسين سنة فما بعد .

ص: 347


1- أن تعدد الزوجات كان موجوداً حتى في القرن المسيحي الأول، ولم تمنعه الكنيسة إلا في القرن الثاني، وكان (أوغسطين) مؤرّخ الكنيسة يهاجم (تروتوليان) أحد أعمدة الكنيسة في القرن الأول؛ لاتخاذه أحد عشر امرأة له. المعرِّب.
2- أُنظر: هاشم معروف الحسني، سيرة المصطفى، ترجمه إلى الفارسية حميد ترقي جاه، ج 2، ص 126 - 128 .

وإن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم كان في جميع هذه الفترة من شبابه وكهولته معروفاً بالطهر والعفاف، وقد شهد له بذلك حتى أعداؤه، فلم يتهم من قبلهم وهم الأقرب منه من هذه الناحية بما يخالف العفة أو السعي وراء الشهوة. وقد سبق أن ذكرنا أنه على الرغم من وجود الإمكانات المادية لدى النبي في مرحلة الشباب قد اكتفى بزوجة واحدة، ولم يتزوج من غيرها حتى بعد رحيلها إلا بعد أن مضى على ذلك عاماً كاملاً [قضاه بالحزن عليها وعلى عمّه أبي طالب، وسمّى ذلك العام بعام الحزن] (1) ، في حين أن الذي يجعل من الشهوة الجنسية تمام همّه، يمكنه أن يسعى إلى تلبيتها بالطرق المشروعة في الحد الأدنى، خاصة وأن تعدد الزوجات كان أمراً طبيعياً كما أسلفنا.

وعليه لا يمكن أن ترد هذه الشبهة والتهمة في حق النبي الأکرم صلی الله علیه و آله و سلم أبداً؛ وذلك لأن التاريخ يثبت أن النبي لم يلجأ إلى تعدد الزوجات إلا في العقد الأخير من عمره الشريف، وإنه على الرغم من شيوع ظاهرة تعدد الزواج حتى كان أكثر رجال قريش قد اقترنوا بالعديد من الزوجات، اكتفى بزوجة واحدة وعاش معها خمساً وعشرين سنة، وهي زوجته خديجة الكبرى، ولم يدخل فى حياته امرأة أخرى غيرها مدّة حياتها معه.

ولم يلجأ النبي إلى تعدد الزوجات إلا بعد العام الهجري الثاني، وكان له من العمر حينها خمس وخمسون سنة (2) .

6 - زواج النبي تابع للمصالح الدينية والاجتماعية:

اشارة

إن دوافع النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم من الزواج المتعدد لم تكن تلبية لشهوة أو

ص: 348


1- ما بين المعقوفتين من المعرّب.
2- أُنظر: حسن عاشوري لنگرودي، همسران پيامبر، ص 56.

طلباً لقضاء الوطر، وإنما جاءت في إطار الإرشادات والأوامر الإلهية على أساس المصالح والمقتضيات الإسلامية في تلك الحقبة التاريخية.

ولما بلغ أبا سفيان بن حرب - عدو النبي اللدود - خبر زواج رسول الله من ابنته (أم حبيبة) وقد بقيت وحيدة في الحبشة، قال «ذلك الفحل لا يُقرع أنفه» يعني بذلك الرجل الصالح الذي لا يرد نكاحه (1) .

إن الظروف الزمنية التي جاءت فيها حالات زواج النبي في ذروة الأزمات والحروب، ومن جهة أخرى الزواج من الأرامل اللاتي سبق لهن أن تزوجن أكثر من مّرة، وعدم الزواج من نساء الأنصار الذين أسلموا بكامل رغبتهم، وعدم انتقاد زواج النبي في تلك الفترة (2) ، يثبت أن زواجه المتعدد إنما كان يهدف إلى رعاية سلسلة من المصالح والمقتضيات الزمنية التي لا يمكن أن ندخل فيها عنصر الشهوة واللذة، كما يحاول بعضهم أن يلصق ذلك بالنبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم رغم الشواهد والمؤشرات الكثيرة التي تدل على خلاف ذلك.

يمكن حصر دوافع النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم من تعدد الزوجات في السنوات الأخيرة من عمره بشكل عام في ثلاثة، وهي (الدوافع السياسية، والدوافع الاجتماعية، والدوافع الأخلاقية والدينية)، ولذلك سنقتصر على هذه الدوافع لنتناولها بالشرح والتحليل، على النحو الآتي:

أ - الدوافع السياسية والاجتماعية (التحالف مع القبائل المختلفة):

عندما دعا النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم الناس إلى الإسلام، لم يستجب له سوى

ص: 349


1- أُنظر: أحمد عابديني، شیوه همسرداری پیامبر به گزارش قرآن وسنت، ص 58 ابن عساکر، تاریخ دمشق، ج 23، ص 446 .
2- أُنظر: المصدر أعلاه، ص 56 - 57 .

قليل من الناس، وكان هذا أمراً طبيعياً، لأنّه جاء بدعوة تنسف جمیع المعتقدات الخرافية لأبناء مجتمعه، وقد أعلنها حرباً على الجميع، وعليه فمن الطبيعي أن تحتشد جميع القبائل في تلك البيئة ضدّه. ولذلك كان عليه في المقابل أن يحشد كل الوسائل المشروعة والمتاحة للقضاء على هذه التحالفات المشؤومة، ومن بين تلك الوسائل الأكثر تأثيراً هي المصاهرة وإقامة العلاقات السببية من طريق الزواج؛ ذلك لأن علاقة القرابة كانت من أوثق العلاقات في المجتمعات العربية في زمن الجاهلية، فكانوا يعتبرون من ينتسب إليهم بالزواج واحداً من أفراد قبيلتهم، ويمنعونه مما يمنعون منه أنفسهم وأبناءهم، ويرون الدفاع عنه واجباً أخلاقياً لا محيص عنه، وإن بأيدينا كثيراً من الأدلة التي تثبت أن زواج

النبي في تلك الفترة كان ذا خلفية سياسية فى الكثير من الحالات (1) .

وفي إطار هذه الأهداف يأتي اقتران النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بعائشة بنت أبي بكر، لانتمائها إلى قبيلة «تيم» وهي من القبائل الكبيرة، وحفصة بنت عمر من قبيلة «عَديّ» الكبيرة أيضاً، وأم حبيبة بنت أبي سفيان، وهو من قبيلة بني أمية المعروفة، وأم سلمة من بني مخزوم، وسودة بنت زمعة من بني أسد، وميمونة من بني هلال، وصفية من بني إسرائيل. فإن الزواج من أهم أشكال المعاهدات والمواثيق الاجتماعية، خاصة في ثقافة القبائل العربية آنذاك، وكانت هذه المصاهرات ذات تأثير كبير وفاعل.

ففي تلك البيئة التي ألفت الحروب والغارات وسفك الدماء، والتي كانت هذه المسائل من الكثرة بحيث اعتبرها ابن خلدون (2) خصلة ثانية من خصال

ص: 350


1- أُنظر: الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، تفسير نمونه (الأمثل)، ج 17، ص381.
2- أُنظر: ابن خلدون، مقدمة ابن خلدون، ج 1، ص 286.

العرب، كان الزواج يمثل عنصراً مانعاً من الحروب ورادعاً عن سفك الدماء، وكان عاملاً مؤثراً في إقامة التحالفات، وإعادة الألفة والوئام.

من خلال التدقيق في زواج النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم ندرك أن جميع زوجاته كن من بين نساء المهاجرين دون الأنصار، ذلك لوجود التحالف والتعاطف والانسجام فيما بينه وبين الأنصار ، فلم تكن هناك حاجة إلى تحصيل ما هو حاصل، في حين كانت قد حصل هناك جفاء وعداوة وتباغض في القلوب بينه وبين القبائل المهاجرة، وكان لا بد من تجاوز هذه البغضاء، فكان لا بد من تحقيق ذلك من خلال اللجوء إلى المصاهرة. وهكذا كان أن أقدم النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم على الاقتران ببعض النساء المنتسبات إلى كبرى القبائل العربية، خاصة تلك التي كانت تضمر له أكبر أنواع العداء، من قبيل بني أمية وبني إسرائيل. وأما قبائل الأنصار فلم يكن هناك شعور بأي خطر منهم تجاهه.

قال الكاتب المسيحي جيور جيو:

«لقد تزوّج محمد صلی الله علیه و آله و سلم من أم حبيبة، ليكون صهراً لأبي سفيان، ليخفف بذلك من عدوان قريش ضده. وهكذا أصبح النبي صهراً لآل بني أمیة و هند زوج أبي سفيان وسائر أعدائه الألداء، وبذلك أصبحت أم حبيبة عنصراً فاعلاً في الدعوة إلى الإسلام بين الأسر المكيّة» (1) .

ب - الدوافع الأخلاقية وغير الجنسية:

المسألة الأخرى الحائزة على أهمية قصوى، هي أننا إذا أمعنا النظر في سيرة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم سندرك أنه لم يقصد من وراء زواجه المتعدد أهدافاً

ص: 351


1- جيور جيو، محمد بیامبری که باید از نو شناخت، ص 207.

شهوانية أبداً. فإننا عندما نطالع حالات زواجه سنرى دوافع أخلاقية تصب في دعم زوجاته مادياً، وفيما يأتي نستعرض بعض الشواهد التي تؤكد هذه الحقيقة :

1 – إن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم في القسم الأكبر من عمره وذروته (أي من الخامسة والعشرين إلى الخمسين) لم يزد على زوجة واحدة وهي زوجه السيدة خديجة الكبرى، ولم يتخذ زوجة غيرها مدّة حياتها (1) ، رغم أنه كان في عنفوان الشباب، ولم يتزوج بعد ذلك إلا بعد انقضاء سنة كاملة على وفاتها.

وقد كان زواجه المتكرر في السنوات السبع الأولى من الهجرة، أي في الفترة ما بين السنة الرابعة والخمسين إلى الحادية والستين من عمره الشريف.

2 - وعلاوة على ذلك ليس هناك من شك في أن الذي يسعى إلى مجرّد طلب اللذة والشهوة من الزواج، لابدّ من أن يسعى إلى الجمال والفتيات الصغيرات ذوات النضرة والشباب، في حين أننا لا نلاحظ شيئاً من ذلك في زواج النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم أبداً، فهو بعد أن تزوج من فتاة بكر صار إلى اختيار الأرامل بل حتى العجائز، وهذا الأمر لا يتناسب مع السعي وراء اللذة والشهوة .

3 - لقد كان سبب زواجه من أم حبيبة (رملة بنت أبي سفيان) أن زوجها قد ارتد عن الإسلام وتنصّر في الحبشة، وبقيت هي على إسلامها، فعقد عليها رسول الله غيابياً دعماً لموقفها الثابت من الإسلام، وكان النجاشي هو

ص: 352


1- ابن هشام، السيرة النبوية، تحقيق مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري شلبي، ج 1، ص190.

الذي تولى إجراء العقد بالنيابة عن النبي (1) .

وهنا يمكن لنا أن نرى الدافع الديني واضحاً في هذا الزواج، حيث يتجلى دعم النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم لأصحابه في العمل الرسالي، وهذا لا ينسجم أبداً مع كلام أولئك الذين يسعون إلى تصوير هذه الظاهرة على أنها ذات خلفيات شهوانية؛ لأن هذه المرأة كانت في الحبشة، ولم يكن يعلم متى يتسنى لها العودة إلى حياتها الطبيعية بين أهلها في الوطن.

4 - وتارة يكون الهدف من زواج النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم العمل على توفير الحماية للمرأة المسلمة، فقد قيل في بيان سبب زواج النبي الأكرم من السيدة (سودة بنت زمعة) إن زوجها قد مات عنها وكان جمیع أهلها من الكفار، فكان يتعين عليها العودة إليهم بعد رحيل زوجها، وكان احتمال قتلها أو تعذيبها وارداً، فعقد عليها رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بعد انتهاء عدّتها؛ ليوفر الحماية لها.

5 - كما كان النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم يتزوّج أحياناً من بعض الناس لتوفير الحماية لهن على المستوى المادي، وفي هذا السياق جاء زواجه من بعض الأرامل، من أمثال زينب بنت خزيمة، التي اشتهرت في الجاهلية بإنفاقها على الفقراء والمساكين حتى لقبت بأم المساكين، ولكن أصابها فيما بعد من الفقر ما أصابها وعاشت حالة من الفقر المدقع؛ فتزوجها رسول الله تكريماً لها وحفاظاً على مكانتها السابقة.

6 - وأما دافعه إلى الزواج من السيدة أم سلمة (رضوان الله عليها)، فهو أنها كانت ذات أيتام كثر، ولم تكن قادرة على إعالتهم (2) .

ص: 353


1- أُنظر: ابن حجر العسقلاني، الإصابة في معرفة الصحابة، ج 8، ص 140.
2- ابن هشام، السيرة النبوية، تحقيق مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري شلبي، ج 2، ص 0647

7 - وفي بعض الحالات كان النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم يهدف من وراء الزواج إلى تحرير الأسرى وفكاك الرقاب، كما حصل ذلک بالنسبة إلى زواجه من السيدة صفية بنت حُيي بن أخطب اليهودي، حيث كانت بنتاً لكبير من كبار اليهود، وعمل بذلك على فكاك أسرها (1).

8 - كما عمد النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم - من خلال الاقتران بجويرية بنت الحارث بن أبي ضرار (كبير قبيلة بني المصطلق) الذي كان قد أسر - إلى العمل على إطلاق جميع الأسرى من قبيلتها. فقد وجد المسلمون أن جمیع أفراد هذه القبيلة من الأسرى في أيديهم هم أصهار للنبي، فاستقبحوا أن يكون لديهم أسير من أنسباء الرسول فقاموا بإطلاقهم جميعاً، وكان ذلك سبباً في إسلامهم (2) .

وعليه ندرك أن زواج النبي بعددٍ من النساء كان بدافع إيجاد الحلول لسلسلة من المشاكل الاجتماعية والسياسية.

ج - الدوافع الدينية:

كما تقدم أن ذكرنا فإن بعض حالات زواج النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم كانت تأتي استجابة للأوامر الإلهية بهدف القضاء على التقاليد الجاهلية والعادات الخاطئة، فكان النبي يضطلع بهذه المسؤولية من موقعه كصاحب رسالة؛ ليكون ذلك أوقع في ترسيخ الحكم الشرعي وجعله واضحاً لدى المسلمين، وهنا يمكن

ص: 354


1- أُنظر: تقي الدين المقريزي، امتاع الأسماع، تحقيق محمد عبد الحميد النميسي، ج 1، ص 316.
2- ابن هشام، السيرة النبوية، تحقيق مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري شلبي، ج 2، ص 645 .

لنا الإشارة مثلاً إلى زواج النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم من زينب بنت جحش.

لا يعدُّ الولد (بالتبني) في الإسلام ولداً حقيقياً، ولا تجري عليه أحكام الولد الصلبي، من تحريم زوجة المتبنى على أبيه بالتبنى، في حين كانت التقاليد في الجاهلية تقضي باعتبار المتبنى ولداً صلبياً؛ فجاء الدين الإسلامي ليُبطل هذا الأمر (1) . فصدر الأمر من الله إلى رسوله بالعقد على زينب بنت جحش بعد طلاق زيد بن الحارثة لها، وكان النبي قد تبنى زيداً؛ ذلك ليبطل حكم الجاهلية في تحريم مطلقة المتبنى، وإباحتها للمتبني (2) .

ولو لم يتمّ هذا الأمر لكان هناك احتمال أن يُطالب زيد بن حارثة أو نجله أسامة بن زيد بوراثة النبي بعد رحيله بوصفهما من أولاده وورثته

الشرعيين، وبذلك تأخذ الإمامة ووراثة أهل بيت النبي صلی الله علیه و آله و سلم منحىً آخر.

الشبهة الثانية : الزواج من السيدة خديجة طمعاً بثروتها:

اشارة

على الرغم من أن زواج النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم من السيدة خديجة الكبرى كان زواجاً مثالياً، لما يشتمل عليه من القيم الإنسانية الراقية، حيث تكلل بالنجاح وتمكن الطرفان من نسج أروع ما تكون عليه العلاقة بين الزوج وزوجه من الودّ والمحبّة والألفة والتعاون على صعوبات الحياة ومتطلباتها، وكان النبي يتذكر جميل تلك الأيام التي عاشها مع السيدة خديجة حتى بعد وفاتها، وبعد زواجه من كثير من النساء غيرها. ولكن مع ذلك هناك من حاول صنع المستحيل ليثبت أن زواج النبي الأكرم من السيدة خديجة كان زواج

ص: 355


1- أُنظر: الأحزاب 4 .
2- العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي، فرازهائی از اسلام، ص 174 .

مصلحة، عازفاً في ذلك على وتر ثروة السيدة خديجة؛ حيث قال: إن النبي إنما تزوج منها طمعاً في مالها، وإليك نصّ كلام هذا القائل:

«واضح أن زواج محمد من السيدة خديجة كان الهدف منه توظيف محمد للموقع الاجتماعي الذي تحتله السيدة خديجة بسبب الثروة الطائلة التي تمتلكها، وليس طمعاً بجمالها. وبعبارة أخرى إن محمداً إنما تزوج خديجة لمالها ومكانتها، وليس حباً لها حقيقة. وبعد أن تزوّج محمد من السيدة الخديجة انتعش وضعه الاقتصادي، وظهر إلى الناس بحلة جديدة» (1).

الجواب:

قبل كل شيء لا بد من التنويه إلى أن الثروة ليست أمراً مذموماً في الإسلام، بل إذا أحسن التصرف فيها والاستفادة منها يمكن أن تكون وسيلة صالحة لتحصيل السعادة في الدنيا والآخرة، وإن خير الناس من يمكنه أن يحسن الاستفادة من الثروات والنعم الإلهية هم عباد الله الصالحون، وفي ذلك يقول الله تعالى في محكم كتابه الكريم:

(قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ) (2) .

وفي هذا الإطار نجد الإسلام يشجب البطالة، ويربأ بالفرد أن يكون كلّاً على غيره، ودعا جميع الناس إلى العمل وكسب الرزق الحلال، وقد ورد في الحديث «الكاد على عياله كالمجاهد في سبيل الله» (3) .

ص: 356


1- مسعود انصاری (روشنگر)، بازشناسی قرآن، ص 42 .
2- الأعراف: 32.
3- محمد بن يعقوب الكليني، الكافي، ج 5، ص 88 .

وقد أمر الله الأغنياء بالنظر إلى الفقراء والمساكين نظرة حانية، وأن يفكروا ويعملوا على انتشالهم من مستنقع الفقر والمسكنة. ولم ينكر عليهم الثراء، وإنما أنكر التبذير والإسراف والأثرة والطمع.

وقد أثبت رسول الله بسيرته العملية أن الثروة بالنسبة له لم تكن هدفاً لذاتها أبداً. ولم تكن ثروة السيدة خديجة (رضوان الله عليها) لتكون هي الهدف من زواجه منها، ويمكن لنا إثبات ذلك من خلال الأدلة الآتية:

1 - كان الزواج باقتراح من السيدة خديجة الكبرى:

إن الرواية التاريخية تؤكد أن السيدة خديجة الكبرى وقفت على السمو الروحي والأخلاقي الذي يتمتع به رسول الله، وتعرّفت على حسن أدائه

للأمانة، فكانت هي التي تقدّمت له بطلب الزواج منها (1) . ولذلك فإنها لم تستغرب نبوّته ونزول الوحي عليه أبداً، انطلاقاً مما توسّمته فيه من الصفات الأخلاقية الفذة التي لم تتوفر في غيره، فكانت هي أول من آمن به من النساء.

2 - بساطة عيش رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم:

تؤكد لنا المصادر التاريخية أن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم لم يكن من أولئك الذين يبحثون عن الثروة، وكانت حياته البسيطة خير شاهد ودليل على هذه الحقيقة، فكان يرتدي أبسط الثياب (2) ، وكان يركب دابة غير مسرجة (3) ،

ص: 357


1- أبو محمد بن جرير الطبري، تاريخ الطبري، ج 1، ص 320 .
2- أبو الفرج عبد الرحمن بن علي ابن الجوزي، الوفا بأحوال المصطفى، ص 575.
3- نور الدين الحلبي، السيرة الحلبية (إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون)، ج 3، ص 464 .

وكان يردف خلفه (1) ، ويحلب المعزى بنفسه، وكان بيته من الطين (2) ، وكان إذا رفع يده بلغت سقف البيت، وكان فراشه الحصير (3) ، وروي أنه صلی الله علیه و آله و سلم رحل الدنيا وكانت له درع مرهونة عند يهودي على شيء من طحين الشعير اشتراه منه ديناً (4).

إن مسجد النبي الذي كان موضع عبادته ومقرّ حكومته في الوقت نفسه، قد بني على أبسط ما يكون، وكان لفترة من دون سقف، ثم وضع له بعد ذلك سقف لضروة فرضها المناخ (5) .

3- إنفاق السيدة خديجة ثروتها لنشر الإسلام:

إن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم لم ينفق أموال السيدة خديجة الكبرى في أغراضة الشخصية، وإنما عمل على استثمارها من أجل نشر الإسلام، وأعان بها الفقراء والمساكين.

4 - إنفاق ثروته وسهمه من بيت المال:

لو أن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم كان من المتهالكين على طلب الدنيا، لكان بوسعه أن يحتفظ في الحدّ الأدنى بذلك السهم الذي له من بيت المال أسوة بسائر المسلمين، ولكنه - صلوات الله عليه - كان ينفق حتى ذلك المقدار الخاص به، حتی أنه قد أصاب في يوم واحد في معركة حنين أضعاف ما كانت السيدة

ص: 358


1- أبو الفرج عبد الرحمن بن علي ابن الجوزي، الوفا بأحوال المصطفى، ص 590.
2- المصدر أعلاه، ص 259 .
3- المصدر أعلاه، ص 479 .
4- المصدر أعلاه، ص 486 .
5- المصدر أعلاه، ص 257 .

خديجة الكبرى تمتلكه، فعمل على تقسيم ما حصل عليه وتفريقه بين المسلمين، بل أعطى حتى المنافقين الذين كانوا يتربصون به الدوائر.

الشبهة الثالثة: الضغط النفسي الناشئ عن زواجه من السيدة خديجة:

اشارة

قال بعض المغرضين:

«لقد كانت السيدة خديجة أول زوجة لمحمد، وعلى الرغم من أن النبي - على ما يبدو - لم يكن يضمر أي مشاعر عاطفية تجاهها، خلافاً لما هو شأنه مع سائر النساء اللائي تزوّج منهن بعد البعثة، ولكنه كان مع ذلك يكثر من ذكرها والثناء عليها بعد وفاتها. يقول بعض المختصين في علم النفس لقد كان سبب تعلق محمد بخديجة على المستوى العاطفي أنه كان محروماً من حنان الأم، ومن هنا وجد في امرأة تكبره سناً ملاذاً يوفّر له ذلك الحضن الدافئ الذي حُرم منه في طفولته، فكان يمكن للسيدة خديجة أن تملأ ذلك الخلأ والفراغ الحاصل في حياته، ولذلك كان يشعر تجاهها بالعاطفة من هذه الناحية» (1).

الجواب:

إن من يمتلك الحدّ الأدنى من المعلومات بشأن سيرة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم وتاريخه يدرك أن هذه الدعوى فاقدة لمصداقية، وفيما يأتي نشير إلى بعض ما يدحض هذه الدعوى الواهية:

1 - تصريح النبي برضاه واغتباطه بالزواج من السيدة خديجة الكبرى:

لم يشعر النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بأي ضغط على المستوى النفسي بسبب

ص: 359


1- مسعود انصاری (روشنگر)، بازشناسی قرآن، ص 363 .

زواجه من السيدة خديجة الكبرى أبداً، بل الأمر على عكس ذلك تماماً، حيث كان يعبّر عن اغتباطه وسعادته بسبب اقترانه بهذه السيدة العظيمة.

طبقاً لما رواه المؤرخون فإن هذا الزواج قد تمّ باقتراح من السيدة خديجة الكبرى، وهو ما سارع النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم إلى الموافقة عليه بكل سرور، وربّما كان يباهي بزواجه منها؛ لأن كبار العرب كانوا يرغبون في الزواج منها (1) ، وكانت السيدة خديجة من خيرة نساء قريش، وأوسعهن ثراء إلى جانب كونها ذات حسب ونسب مرموق، وكان كثير من نساء قريش قد عاتبنها على رفضها الزواج من كبار القوم الذين تقدموا لخطبتها (2)، واعترضن عليها، وكان منهن من قاطعنها لمدة عشرين عاماً ولم يتكلمن معها (3).

2 - تسمية العام الذي توفيت فيه السيدة خديجة الكبرى بعام الحزن:

لو كان النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم يعاني حقاً من ضغط نفسي بسبب زواجه من السيدة خديجة، لكان وجد في رحيلها تحرراً من هذا الضغط النفسي المزعوم، ولكننا نجد الأمر على عكس ذلك تماماً، فإن الألم الذي شعر الرسول به من أجل رحيلها كان من الأثر العميق حتى أطلق على ذلك العام اسم عام الحزن، وروي عنه صلی الله علیه و آله و سلم أنه قال أيضاً:

«اجتمعت على هذه الأمة في هذه الأيام مصيبتان، لا أدري بأيهما أنا

ص: 360


1- لا أعتقد أن مباهاة الرسول الأكرم بزواجه من السيدة خديجة كانت بسبب كثرة الراغبين بالزواج منها، وإنما تأتي مباهاته بذلك لما تتمتع به السيدة خديجة نفسها من السجايا الحميدة والأخلاق الفاضلة، المعرِّب.
2- أُنظر: محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 16، ص 80.
3- أُنظر: محمد مهدي الإشتهاردي، حضرت خديجة اسطوره ایثار و مقاومت، ص102.

أشد جزعاً» (1).

ولا شك في أن هذا الكلام لا يمكن أن يكون صادراً إلا عن حزن وغمّ شدید.

3 - عدم الزواج مجدداً:

بالالتفات إلى أن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم لم يتخذ لنفسه ضرّة على خديجة مدّة حياتها معه، بل وبقائه بعدها سنة كاملة دون زواج (2)، فإن ذلك يشكل خير دليل على أنه كان سعيداً في حياته مع السيدة خديجة، لأن تعدد الزوجات كان أمراً شائعاً في عصره، ولم يكن ذلك ليشكل حرجاً عليه، كما حصل بعد ذلك أن جمع بين العديد من النساء.

من خلال النظر في الروايات المأثورة عن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بشأن السيدة خديجة الكبرى، يمكن لنا أن ندرك المكانة التي كانت تحظى بها هذه السيدة عند رسول الله، حيث كانت أول النساء إسلاماً(3)، وأسرع الناس إلى اعتناق الدين السماوي الجديد.

وقد لقبها النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بخديجة الكبرى (4) كما قَالَ رَسُولُ الله صلی الله علیه و آله و سلم: «أُمِرْتُ أَنْ أُبَشِّرَ خَدِيجَةَ بِبَيْتٍ مِنْ قَصَبِ لا صَخَبٌ فِيهِ وَلَا نَصَبٌ»(5). وإن قول

ص: 361


1- ابن واضح اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، ج 2، ص 35.
2- أُنظر: محمد مهدي الإشتهاردي، حضرت خديجة اسطوره ايثار ومقاومت، ص 104.
3- ابن هشام، السيرة النبوية، تحقيق مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري شلبي، ج 1، ص 240 .
4- أُنظر : محمد مهدي الإشتهاردي، حضرت خديجة اسطوره ایثار و مقاومت، ص 29.
5- ابن هشام، السيرة النبوية، تحقيق مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري شلبي، ج 1، ص 241. قَالَ ابْنُ هِشَامِ الْقَصَبُ (هَهُنَا) اللُّؤْلُؤُ الْمُجَوّفُ.

النبي إن السيدة خديجة زوجه في الدنيا والآخرة، يعكس عمق رضاه عن هذه الزوجة الصالحة (1).

4 - إكثار النبي الأكرم من الحديث عن فضائل وشمائل السيدة خديجة بعد وفاتها:

إن حبّ النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم لخديجة الكبرى وثنائه عليها وإجلاله وإكرامه لها طوال حياتها وبعد وفاتها كان من الشدّة بحيث أثار غيرة بعض نسائه منها، مع أنهن لم يكن رأينها أو يعشن معها، وهذا دليل واضح على بطلان الادعاء المتقدّم.

عن عائشة قالت: «كان رسول الله إذا ذكر خديجة لم يسأم من ثناء عليها واستغفار لها فذكرها ذات يوم فحملتنى الغيرة فقلت لقد عوضك الله من كبيرة السن، قالت: فرأيت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم غضب غضباً شديداً، فسقطت في يدي، فقلت اللهم إنك إن أذهبت بغضب رسولك صلی الله علیه و آله و سلم لم أعد بذكرها بسوء ما بقیت، قالت: فلما رأى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ما لقيت، قال: كيف قلت؟ والله لقد آمنت بي إذ كفر الناس، وآوتني إذ رفضني الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، ورزقت مني حيث حرمتموه، قالت: فغدا وراح علي بها شهراً » (2) .

بل لم يكتف النبي بذكر فضائل السيدة خديجة الكبرى فحسب، وإنما كان يزيد على ذلك تكريمه لصاحباتها، فكان يغدق عليهن من كرمه ويرسل لهن اللحم من الأضاحي والقرابين، ومما ورد في كتب السيرة في هذا الشأن «كان النبي إذا ذبح الشاة يقول أرسلوا بها إلى صديقات خديجة .. وكان إذا

ص: 362


1- أُنظر: محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 43، ص 53.
2- أُنظر: المصدر أعلاه، ج 16، ص 12 .

أتي بهدية قال: إذهبوا بها إلى فلانة فإنها كانت صديقة لخديجة، إنها كانت تحبّ خديجة» (1).

5 - الشك في عمر السيدة خديجة الكبرى:

إن هذا الاتهام الذي يتمّ توجيهه إلى النبي إنما هو ناظر إلى اعتبار السيدة خديجة كبيرة في السن عند اقترانها برسول الله صلی الله علیه و آله و سلم. وطبقاً للمشهور كان للسيد خديجة أربعين سنة في حينها، وأنها كانت أكبر من النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم. في حين هناك تشكيك في صحّة هذه الرواية من قبل بعض المحققين، وقد اختلفت الأقوال فى ذلك بين أن يكون عمر السيدة خديجة عند اقترانها برسول الله ص 25 سنة أو 28 أو 35، وهناك ترجيح للقول بأنها كانت ذات خمسة وعشرين ربيعاً (2) .

والذي يبدو أن الصحيح هو أن السيدة خديجة الكبرى لم تكن تكبر النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم كثيراً، وأن الإصرار على القول بأنها كانت كبيرة السن، والقول بأن سائر نساء النبي كن أقل منها سناً يأتي من حسد النساء وغيرتهنّ منها، أو القول بوجود اعتبارات سياسية وراء هذا الإصرار. وإن الكلام الآتي على لسان عائشة مؤيد لهذا القول «ما غرت على امرأة كما غرت على خديجة، وما بي أن أكون أدركتها. ولكن لكثرة ذكر رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم إياها، وإن كان ليذبح الشاة؟ فيتبع بذلك صدائق خديجة يهديها لهن» (3) .

ص: 363


1- أُنظر: ابن هشام، السيرة النبوية، تحقيق مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري شلبي، ج 1، ص 207.
2- السيد جعفر مرتضى العاملي، الصحيح من سيرة النبي الأعظم، ج 1 ، ص 126 .
3- المصدر أعلاه، ج 2، ص 184 .

هذا وقد تقدم أن ذكرنا أن كثيراً من سادة قريش كانوا يرغبون بالزواج منها، وكانت ترفضهم، وهذا الأمر لا ينسجم مع الادعاء القائل إنها كانت متقدّمة في السن كثيراً.

6 - الشك في ترمّل السيدة خديجة الكبرى:

هناك من المؤرخين من أمثال الأستاذ العلامة السيد جعفر مرتضى العاملي من يذهب إلى الاعتقاد بأن السيدة خديجة لم تكن أكبر من النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم سناً، بل إنها كانت كذلك بكراً ولم تتزوج قبل رسول الله. وقال بأن القول بأن السيدة خديجة كانت متزوجة يأتي من خلفيات سياسية. ثم ذكر أدلة وجيهة لقوله، ونحن نكتفى هنا بذكر واحد من تلك الأدلة

يروي أحمد البلاذري وأبوالقاسم الكوفي، وكذلك السيد المرتضى في كتاب الشافي أن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم قد تزوج من

السيدة خديجة وهي بكر (1) .

الشبهة الرابعة: منع القرآن للنبي من الزواج مجدّداً:

مما جاء في كتاب (بازشناسي قرآن) قول كاتبه:

«بعد نزول الآية الخمسين من سورة الأحزاب (2) والتي تستثني النبي من سائر المسلمين وتطلق يده في الزواج بما شاء من النساء، أثار ذلك حفيظة

ص: 364


1- المصدر أعلاه، ج 1، ص 121.
2- ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) (الأحزاب / 50).

أبي بكر وعائشة واعتراضهما، وحيث لم يكن لدى محمد ما يجيب به، فقد أنزل عليه ربّه الآية الثانية والخمسين من السورة نفسها (1) ، ونسخت الحكم السابق، وحظرت عليه الزواج مجدداً» (2) .

الجواب:

إنّ النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بوصفه خاتم الأنبياء وآخر الرسل، وأشرف الأنبياء وأكرمهم، كان تابعاً محضاً للأوامر الإلهية. وإنه بوصفه نبياً كان محط اهتمام الله تعالى، وكانت تنزل عليه بعض الآيات التي ترصد حياته الشخصية، و هو أمر طبيعي بالنظر إلى فلسفة الهداية الملقاة على عاتق النبي، فيكون في ذلك بياناً للحلول الناجعة بالنسبة إلى النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم ولسائر المسلمين أيضاً. وبطبيعة الحال كان النبي مطيعاً لهذا النوع من الأوامر والإرشادات بشكل دقیق، حتى قالت عنه بعض زوجاته: «كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ» (3) .

ومن بين هذه الآيات والأوامر الإلهية تأتي هذه الآية التي منعت النبي الأکرم صلی الله علیه و آله و سلم أن يتخذ زوجة أخرى، وهي قوله تعالى: ﴿لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجِ﴾ (4).

وكما تقدّم أن أسلفنا فإن ظاهرة تعدد الزوجات بالنسبة إلى النبي قد

ص: 365


1- ﴿لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجِ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا) (الأحزاب / 52 ) .
2- مسعود انصاري (روشنگر)، بازشناسی قرآن، ص 203؛ مسعود انصاری (روشنگر)، الله أكبر، ص 134 .
3- ابن سعد، الطبقات الكبرى، ج 1، ص 273 .
4- الأحزاب: 52 .

جاءت في سياق العمل الرسالي والإصلاح الاجتماعي، وتقريب القبائل إلى الإسلام، وكانت الدوافع السياسية غالبة على أكثر هذه الحالات.

رفض النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم العروض الزواج:

يذهب المفسرون في هذا الشأن إلى القول إن الظاهر من التعبير ب- «من بعد» هو البعدية الزمنية. بعبارة أخرى لا يحق لك بعد هذه اللحظة أن تضيف زوجة إلى زوجاتك السابقات، ولا أن تستبدل زوجة سابقة بأخرى جديدة. وهذه المحدودية لا تعد نقصاً بالنسبة إلى النبي، وإنما هو حكم قائم على فلسفة دقيقة ومدروسة؛ إذ طبقاً للشواهد التاريخية الكثيرة، كان كثير من القبائل العربية تمنى نفسها بأن تصاهر رسول الله وتحصل على هذا الشرف، فكانت عروض الزواج تترى على رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، بل كان هناك من النساء من عرضت نفسها على رسول الله من دون أن تطلب المهر. وعليه فإن موافقة النبي على جميع هذه العروض سيدخله في مأزق وحرج كبير. من هنا نجد الله سبحانه وتعالى - وهو الحكيم والمدبّر - يرصد هذه الظاهرة، ويضع لها هذا القانون الذي يقطع الطريق على هذه المشكلة، فيمنعه لا من الزواج الجديد، بل ويمنعه حتى من استبدال زوجة بأخرى.

وأمّا فيما يتعلق بعبارة (وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ)، فيجب القول إن هذا القيد لا يعود إلى النبي - والعياذ بالله - بمعنى أنه لا يحق له الزواج إن أعجبه حسن امرأة وجمالها، وإنما هو ناظر إلى الذرائع التي كان يسوقها أولئك الذين يسألونه أن يصاهرهم، فيقولون له إن أكثر النساء اللائي تزوّجت منهن عجائز وكبيرات في السن، ولسن على شيء من الجمال، خلافاً للموارد التي نعرضها عليك، فيأتي حكم الله قاطعاً في هذه الآية، حيث يشمل الحظر حتى مثل هذه

ص: 366

الحالات التي يتذرّع بها بعضهم لترغيب النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم وحثه على الموافقة على عروضهم (1) .

الشبهة الخامسة : اتخاذ الإماء والزواج من أرامل المقتولين:

في سياق اختلاق المثالب ونسبتها إلى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يعمد بعض الخبراء الغربيين في الشأن الإسلامي إلى وصم النبي ببعض الأعمال المنافية للأخلاق، حيث يقول

«إنّ من بين الفضائح التي قام بها محمد ولا يمكن توجييها بحال، هي أن الثقافة العربية كانت تستقبح الزواج من الأسيرة التي قتل ذووها في الحرب، ولم يكونوا يبيحون ذلك إلا بعد انقضاء فترة ثلاثة أشهر كاملة، ولكن محمداً ضرب هذه القاعدة الأخلاقية عرض الجدار وبنى بصفية في ذات الليلة التي أمر فيها بقتل زوجها» (2) .

«لقد دأب محمد على اختيار شريكات حياته من النسوة اللائي يأسرهن غالباً في الحروب» (3) .

الجواب:

إنّ القول بأن النبي قد أمر بإعدام شخص ثمّ بنى بزوجته في الليلة التي أعدم فيها زوجها، لا يستند إلى أي وثيقة تاريخية، وإنما كل ما هنالك هو أن ثلاثاً من زوجات الرسول كن من أسرى الحرب.

ص: 367


1- أُنظر: الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، تفسير نمونه (الأمثل)، ج 17، ص 391.
2- مسعود انصاری (روشنگر)، بازشناسی قرآن، ص 378 .
3- مسعود انصاري (روشنگر)، الله أكبر، ص 263 .

والنقطة التي يجب الإشارة إليها هنا أن أخذ الأسرى كان أمراً شائعاً في الحروب القديمة، كما هو الحال في الحروب الحديثة، مع فارق أن الأسرى في الحروب القديمة كان بالإمكان افتداؤهم من قبل ذويهم وأبناء عشيرتهم، وإذا عجزوا عن ذلك تمّ استرقاقهم.

وكان القائد يخصّ نفسه بأشياء من الغنائم يطلق عليه مصطلح الصفايا، ومن بين الصفايا التي ذكرها التاريخ لرسول الله عبارة عن سيف ذي الفقار في معركة بدر، ودرع في معركة بني قينقاع، وأمة في وقعة ذات الرقاع، وعبد أسود اسمه رباح في معرك المريسيع، وكذلك ثلاث أسيرات وهن كل من ريحانة في وقعة بني قريظة، وصفية في معركة خيبر (1) ، وجويرية في معركة بنى المصطلق (2) . وربما كان السبب في دخولهن في سهم رسول الله من الغنيمة أنهن كن من بنات رؤساء القبائل، ويأتي اختيارهن ليكن من حصة الرسول بوصفه نوعاً من التكريم للإنسانية واحتراماً لمكانتهن في قومهن.

وقد كان الزواج منهن يتمّ في غاية الاحترام والتكريم، فكان يتمّ عتقهن وتحريرهن من الأسر أولاً، ثم يدعوهن إلى الإسلام، وبعد اعتناقهن الإسلام، يقترح الزواج عليهم، فيتزوجهن باختيارهن وإرادتهن. بل قيل في مورد السيدة جويرية إن أباها جاء وافتداها وحررها، ثم زوجها من الرسول بعد أن اقترح عليه تزويجها منه، وببركة زواجها منه أطلق جميع أبناء قبيلتها من الأسر، ولذلك قيل إنها أكثر النساء بركة على أهلها وقومها (3) .

ص: 368


1- أُنظر: البلاذري، أنساب الأشراف، ج 2، ص 78.
2- أُنظر: أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، تاريخ الطبري، ج 2، ص 495.
3- أُنظر: البلاذري، أنساب الأشراف، ج 2، ص 77.

بل لم يكن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم يكرههن على تغيير دينهم، كما نقل ذلك بشأن السيدة ريحانة بنت شمعون اليهودي التي وقعت في أسر المؤمنين بعد حصار بني قريظة، فكانت من صفايا النبي، وقد عرض عليها النبي الإسلام، ولكنها آثرت البقاء على اليهودية، كما آثرت أن تبقى أمة تخدمه على أن تكون زوجة له، ثم تأثرت بأخلاق النبي السمحة بالتدريج وأسلمت طوع إرادتها (1) .

الشبهة السادسة: عدم رعاية العدالة بين النساء:

إنّ رعاية العدالة في تقسيم الليالي على الزوجات قانون أسس له النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بنفسه. ومع ذلك نجد بعضهم يحاول بثّ سمومه من هذه القناة أيضاً، وذلك حيث يقول:

«لقد خاطب الله محمداً، وقال له ليس من الواجب عليك أن تراعي حق النساء في تقسيم الليالي، فيمكن لك أن تؤجل ليلة أيّ واحدة منهن إن أردت ذلك، واستدع من تشاء منهن لتقضي وطرك منها» (2).

وقال علي دشتي في كتابه (بیست وسه سال):

«إنّ كل امرأة تهب نفسها له (للنبي)، يمكن أن ينال وطره منها من دون أن يكون في البين مهر أو شهود ويكون النبي فيما يتعلق بها حرّ في عدم رعاية العدالة تجاه سائر نسائه الشرعيات، وإن كل امرأة يخطبها النبي تحرم على سائر

ص: 369


1- أُنظر: البلاذري، أنساب الأشراف، ص 91.
2- مسعود انصاري (روشنگر) ، الله أكبر ، ص 134 . والآية المشار إليها هي قوله تعالى: (تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا) (الأحزاب / 51).

المسلمين، وفوق هذا كله لا يحق لنساء النبي أن يطالبنه بالمزيد من النفقة» (1) .

الجواب:

لقد كان النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بوصفه إنساناً إلهياً كاملاً يتمتع بأفضل السجايا الأخلاقية الكريمة، حتى وصفه الله سبحانه في القرآن الكريم بقوله تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (2).

بل إنه صلی الله علیه و آله و سلم كان على درجة عالية من الأخلاق، وخاصة فيما تعلق برعاية العدالة، بحيث أقرّ له بها العدو قبل الصديق حتى عرف بين أبناء مجتمعه قاطبة ب- «الأمين»، وكان ذلك قبل أن يبعث بالنبوة، وكانوا لذلك يستأمنونه على ودائعهم، وقد روي عن الربيع بن خثيم في ذلك أنه قال: لقد كان الناس قبل الإسلام يرجعون إلى النبي في حل مشاكلهم، ويذعنون لحكمه (3) .

وفيما يتعلق بتعدد الزوجات، لا بد من القول بأن الإسلام لم يكن هو الدين الوحيد الذي انفرد بتشريع هذا الحكم، كما يحاول أعداء الإسلام تصوير ذلك بشتى الوسائل الكاذبة، وإنما هو الدين الوحيد الذي عمل على تنظيم هذه الظاهرة، ووضع لها الأسس والقواعد وحددها بعدد معين لا يمكن تجاوزه، وحصر ذلك بحالات الحاجة والضرورة، مع اشتراط رعاية العدالة بين الزوجات (4)، وإلا لم يجز الزواج بأكثر من واحدة. وهو صريح قوله تعالى:

ص: 370


1- علي دشتي، بيست و سه سال، اعداد و تنقیح بهرام چوبینه، ص 134 .
2- القلم: 4 .
3- أُنظر: محمد محمدي اشتهاردي، سيرت پيامبر أعظم و مهربان، ص 178.
4- أُنظر: هاشم معروف الحسني، سيرة المصطفى، ترجمه إلى الفارسية حميد ترقي جاه، ج 2، ص 128 .

(فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾ (1).

فما هو المراد من رعاية العدالة بين النساء؟ فهل ترتبط هذه العدالة بشؤون الحياة، من قبيل المضاجعة ووسائل الحياة وتوفير أدوات الرفاه والراحة، أم أن المراد من العدالة ما يشمل حتى العواطف والمشاعر الداخلية؟ لا شك في أن رعاية العدالة فيما يتعلق بالمشاعر القلبية أمر خارج عن إرادة الإنسان، فمن ذا يمكنه السيطرة على مشاعره القلبية وعواطفه الروحية بعد أن كانت عناصر إيجادها بيد الطرف الآخر من جميع الجهات؟ لذلك فإنّ الله سبحانه وتعالى لم يوجب هذا النوع من رعاية العدالة على الإنسان، ولذلك قال: ﴿وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ﴾ (2) .

من هنا لا مانع من المحبة العاطفية إذا لم تؤد إلى محاباة بعض النساء على بعضهن على المستوى العملي، وإن الواجب على الرجل هو رعاية العدالة على المستوى العملي والسلوك الخارجي (3) .

من خلال قراءة التاريخ وسيرة النبي الأكرم سندرك أنه صلی الله علیه و آله و سلم كان يراعي العدالة بين زوجاته على أحسن وجه، ذلك لأنّه أفضل الأنبياء، ويمثل أسوة للآخرين.

وفي مجمع البيان عن أبي قلابة عن النبي صلی الله علیه و آله و سلم أنه كان يقسم بين نسائه، ويقول «اللهم هذه قسمتي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك» (4) .

ص: 371


1- النساء: 3 .
2- النساء: 129.
3- أُنظر: ناصر مكارم الشيرازي، تفسير نمونه (الأمثل)، ج 3، ص 255 .
4- السيد محمد حسين الطباطبائي، سنن النبي، ص 173 .

وفي أمالي الطوسي عن أم سلمة زوجة النبي صلی الله علیه و آله و سلم قال: حج رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم حجة الوداع بأزواجه، فكان يأوي في كل يوم وليلة إلى امرأة منهن، يبتغي بذلك العدل (1) .

وفي المجمع أن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم إذا صلى الغداة يدخل على أزواجه امرأة امرأة (2) .

لقد كان النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم يراعي العدالة في جميع شؤون الحياة، من قبيل دفع النفقة لزوجاته. وفي ذلك يقول الواقدي إن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بعد فتح خيبر أعطى نساءه مقادير متساوية من التمر والشعير (3) .

بل واصل النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم رعايته للعدالة بين نسائه حتى عندما أقعده المرض عن الحركة. وفي ذلك يروي الإمام الصادق علیه السلام - على ما جاء في مجمع البيان - عن آبائه علیهم السلام أن النبي صلی الله علیه و آله و سلم كان يقسم بين نسائه في مرضه، فیطاف به بينهن (4) .

بل كان النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم عالماً ومطلعاً حتى على الخصوصيات الروحية لزوجاته، وكان يتعامل مع كل واحدة منهن على أساس ما تتمتع به من الخصائص النفسية، فكان مثلاً يخاطب السيدة عائشة بألفاظ من قبيل «كلميني يا حميراء» حيث كان يروقها أن تسمع منه ذلك، وبشأن أم سلمة التي كانت معروفة باهتمامها بأولادها، كان النبي يتحبب إليها من خلال التودد إلى

ص: 372


1- السيد محمد حسين الطباطبائي، سنن النبي ، ص 173 .
2- أُنظر: المصدر أعلاه.
3- أُنظر: محمد بن عمر الواقدي، المغازي، تحقيق مارسدن جونس، ج 2، ص 653 .
4- السيد محمد حسين الطباطبائي، سنن النبي، ص 173.

أولادها، وكان يختار لهم بعض الأسماء المحببة، فيخاطب ابنتها زينب ب-«زناب». وعندما توقفت راحلة صفية عن الحركة في حجة الوداع، وأخذت بالبكاء بادر إلى كفكفة دموعها بيدية الشريفتين، وأمر القافلة بالتوقف، أو عندما قاطع زينب بن جحش بسبب إهانتها لصفية، شعرت زينب بالندم من فعلتها، وبعد أن بان عليها الندم دخل النبي إلى غرفتها وأخذ يرتب سريرها، وبذلك أشعرها بأنه راض عنها، وعندما وقعت برة بنت الحارث من بني المصطلق في الأسر، اقترح عليها الزواج، وقد كان يظهر حبه لها من خلال تغيير اسمها من برة إلى جويرية (1) .

وقد كانت هذه العدالة في سلوك النبي الأعظم هي التي شكلت القدوة لكثير من المسلمين في التأسي به واعتباره مثلاً أعلى لهم، فكانوا يسيرون على خطاه وهديه، وإن الروايات الإسلامية التي تحدّثت عن رعاية العدالة بين الزوجات، يحدّد عظمة هذا القانون ومن ذلك الحديث القائل أن الإمام علياً علیه السلام في الليلة التي تكون خاصة بإحدى نسائه لم يكن يتوضأ في غير بيتها، ويروى عن معاذ بن جبل أنه كانت له زوجتان توفيتا بمرض الطاعون في وقت واحد، ولكي يراعي العدالة في تقديم دفن إحداهما على الأخرى لجأ إلى القرعة (2) .

جدير بالذكر أن من بين خصائص النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم أنه بفعل الظروف القاسية والمتأزمة التي رافقت حياته وخاصة في المدينة المنورة حيث كانت تفرض عليه معركة في كل شهر تقريباً، وكان في الفترة ذاتها يدير شؤون عددٍ من الزوجات، كانت رعاية العدالة بينهن لذلك ساقطة عنه بحكم قوله تعالى:

ص: 373


1- أُنظر: أحمد عابديني، شيوه همسرداری پیامبر به گزارش قرآن وسنت، ص 135 .
2- أُنظر: ناصر مكارم الشيرازي، تفسير نمونه (الأمثل)، ج 4 ، ص 154 .

(تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ) (1). فكان لذلك بإمكانه أن يتحكم بتقسيم أوقاته عليهن طبقاً لما تسمح له ظروفه. رغم أنه على الرغم من ذلك كان يسعى في حدود الإمكان إلى مراعاة العدالة بينهن، كما صرّح بذلك الواحدي في كتاب (أسباب النزول) (2) .

الشبهة السابعة: العلاقة المشبوهة بين النبي ودحية الكلبي:

إنّ من بين حالات عدم الانصاف في اتهام النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم ما أثاره بعضهم بشأن علاقته بأحد أصحابه وهو دحية الكلبي. ومما قاله هؤلاء بهذا الشأن «ما هو دافع النبي الأكرم في العقد الأول من الهجرة في العلاقة التي أقامها مع دحية الكلبي وهو ابن العشرين ربيعاً، والذي كان مشهوراً بين العرب بجماله. وكان من قرب الاحتكاك به حتى شاهده أصحابه وهو يتحدث في حضور النبي وهو نائم؟ لماذا أمر محمد بعدم دخول أحد عليه إذا كان دحية عنده؟ ما هو سرّ العلاقة بين النبي ودحية حتى يخصه بلقاءات سرية للغاية؟ مع

العلم أن دحية لم يعتنق الإسلام إلا بعد معركة أحد والخندق! ما هي طبيعة علاقة محمد بشاب وسيم لم يتجاوز العشرين ولم يكن مسلماً في تلك الأعوام؟!» (3).

الجواب:

لقد كانت علاقة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بأصحابه بوصفه خاتم الأنبياء هي

ص: 374


1- الأحزاب: 51 .
2- أُنظر: علي بن أحمد الواحدي، أسباب نزول القرآن، ص 371 .
3- مسعود انصاری (روشنگر)، شیعه گری و امام زمان، ص 21 - 22؛ مسعود انصاري (روشنگر)، کوروش بزرگ و محمد بن عبد الله، ص 28 و 285.

علاقة الأب بأبنائه من المسلمين، وقد ورد في الحديث «أنا وعلي أبوا هذه الأمة» (1) .

بغض النظر على الناحية الرسالية في وجود النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم، يجب القول إنه كان معروفاً بالعفة والأمانة، حتى قبل الرسالة، وقد لقب لذلك ب- (محمد الأمين) (2) . أما دحية بن خليفة الكلبي فهو واحد من الصحابة ليست له سابقة في الإسلام، وكل ما عرف عنه في كتب الأنساب أن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم أرسله مبعوثاً عنه إلى قيصر الروم. ولا نعرف عنه شيئاً أكثر من ذلك، وربما جاء إرساله من قبل النبي الأكرم إلى قيصر الروم بسبب اتقانه لغة السكان في تلك الأصقاع. ومما حكي أن جبرئيل كان يتمثل للرسول على شكل دحية الكلبي في أكثر الأوقات.

هناك كثير من الروايات التي تذكر مشاهدة جبرئيل على شكل دحية كما هو الحال في غزوة بني قريظة «عَنْ عائشة، قالت ضرب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم عَلَى سَعْدٍ قُبَّةً فِي الْمَسْجِدِ، وَوَضَعَ السِّلاحَ - يعنى عند منصرف رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم مِنَ الْخَنْدَقِ - وَوَضَعَ الْمُسْلِمُونَ السِّلاحَ، فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ علیه السلام، فقال اوضعتم السلاح! فوالله مَا وَضَعَتِ الْمَلائِكَةُ بَعْدُ السِّلاحَ، اخْرُجْ إِلَيْهِمْ فقاتلهم، فدعا رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بِلَأْمَتِهِ فَلَبِسَهَا، ثُمَّ خَرَجَ وَخَرَجَ الْمُسْلِمُونَ، فَمَرَّ بِبَنِي غَنْمٍ، فَقَالَ مَنْ مَرَّ بِكُمْ؟ قَالُوا مَرَّ عَلَيْنَا دِحْيَةُ الْكَلْبِيُّ، وَكَانَ يُشَبِّهُ سُنَّتَهُ ولحيته ووجهه بجبريل علیه السلام» (3) .

ص: 375


1- العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 16، ص 95 .
2- أُنظر: ابن هشام، السيرة النبوية، تحقيق مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري، ج 1، ص197.
3- أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، تاريخ الأمم والملوك، تحقيق محمد أبوالفضل إبراهيم، ج 2.

واضح أنّ جبرائيل كان يتجلى للنبي على صورة دحية الكلبي في كثير من الأحيان، ومن هنا كان النبي يقول «إذا رأيتم دحية الكلبي عندي فلا یدخلن علي أحد» (1) .

لا شك في أنه لم يكن هناك بين النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم وبين دحية أي علاقة وثيقة، ولم يكن مقرباً منه بالدرجة التي يحاول المغرضون تصويرها، وإنما كل ما هنالك أن جبرائيل علیه السلام كان يتجلى للنبي على صورة شبيهة بصورة دحية، وكان النبي يستغل هذا الشبه فيأمر بعدم دخول الصحابة عليه أثناء تواجد دحية الكلبي عنده؛ لأنهم لم يكونوا يعلمون أنه جبرائيل، فلا يزعجونه بحضوره .

ولو كانت هنالك علاقة وثيقة بين النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم ودحية الكلبي، لكان في ذلك فخراً لدحية طارت بشهرته الآفاق، ولما بقى مغموراً لا يذكر التاريخ عنه شيئاً غير هذا اليسير، ولو كان لدحية مثل هذه المنقبة لعمل على استثمارها سلباً أو إيجاباً، ولوجد لنفسه موقعاً فى السلطة الحاكمة، ولكان من أكثر الشخصيات تأثيراً بعد رسول الله، أو كان بإمكانه الانتفاع بتأثيره في مواجهة سائر المؤثرين، في حين أننا لا نجد شيئاً من ذلك أبداً، ولا نرى لدحية أي ذكر في غير السفارة اليتيمة إلى الروم.

ص: 376


1- العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 37، ص 326.

الفَصْلُ الثَّالِث

اشارة

الأخلاق والسيرة الاجتماعية والسياسية والحكومية

الشبهة الأولى: اختلاف المنهج السلوكي للنبي بين مكة والمدينة:

هناك من حاول أن يصور النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم شخصاً اعتيادياً من خلال تشويه سلوكه وسيرته، وإثبات أنه لم يكن نبياً مسدداً من السماء، ولذلك كان يسرد الأحداث بشكل يُستنتج منه أن النبي إنما كان يتصرف بوحي من أفكاره ومزاجه الشخصي، لا على أساس الوحي، فقال نقلاً عن مويير:

«إنّ تعاليم النبي التي تمّ اجترارها مراراً وتكراراً من قبل سائر المفكرين، تنقسم إلى مرحلتين، وهما المرحلة المكية، والمرحلة المدنية. عندما كان النبي في مكة كان يلعب دور المتدين والصادق والمصلح، ولكنه عندما هاجر إلى المدينة وأمسك بمقاليد السلطة اتجه نحو الفساد وتحصيل المكاسب والمنافع الدنيوية» (1) .

ص: 377


1- ابن وراق، اسلام و مسلماني، ترجمه إلى الفارسية مسعود انصاري (روشنگر)، ص192 و 198 و 653 .

يسعى هؤلاء إلى إثبات شخصيتين مختلفتين للنبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم. من ذلك ما ذكره الأنصاري في كتابه (بازشناسي قرآن) ضمن عنوانين، حيث قال:

«العنوان الأول محمد المكي نبي ناصح، محبّ للخير، داعية سلام و مخلّص.

العنوان الثاني محمد المدني سلطان ثيوقراطي، طالب للسلطة، جائر ومنتقم» (1) .

الجواب :

لقد كان النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بوصفه قائد المجتمع الإسلامي، يعمل بشكل دؤوب ومستمر على دعوة الناس إلى الدين الإسلامي العالمي، ولم يحصل أي تغيير في سيرته وسلوكه طوال دعوة الناس إلى الإسلام سواء في مكة أو المدينة. نعم ربما اضطرته الظروف إلى ممارسة العمل السري في بعض المراحل، ولكن لا يقال لذلك تغيير في السلوك والسيرة. كما أنه كان يغتنم في مكة كل فرصة من أجل الدعوة، وهكذا كان شأنه في المدينة أيضاً، ولم تشهد علاقته بأصحابه أي نوع من أنواع التغيير، وكان كما قال الله عنه أسوة كاملة لأصحابه في جميع مراحل حياته، قال تعالى في محكم كتابه الكريم (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ

الآخِرَ) (2).

ص: 378


1- مسعود انصاري (روشنگر)، بازشناسی قرآن، ص 183 و186؛ مسعود انصاري (روشنگر)، کوروش بزرگ و محمد بن عبد الله، ص 276.
2- الأحزاب: 21.

والفرق الوحيد الذي يميز العصر المكي من العصر المدني هو أن الظروف في المدينة كانت ملائمة لقيام وتأسيس الحكومة الإسلامية التي يطمح إليها رسول الله. وحتى في مكة كان النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم يتصرّف على أساس كونه الحاكم والمسؤول عن تصريف أعمال المسلمين وتوجيه دفتهم. ولا شك في أن بعض السلوكيات تعدّ من لوازم إدارة الحكم، وتعد ضرورية للحفاظ على السلم والأمن الاجتماعي، من قبيل معاقبة المجرمين واللصوص أو قطاع الطرق، عن طريق إقامة الحدود والقصاص وما إلى ذلك من العقوبات المتبعة في كل مجتمع، والتي يتعين على كل حاكم أن يأخذها بنظر الاعتبار. وعلى الرغم من أن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم كان متصفاً بالحلم والرحمة واللين في جميع مراحل حياته، إلا أن هذا الجانب يعود إلى سيرته الشخصية، أمّا فيما يتعلق بالمسائل الأصولية ذات الارتباط بتطبيق الدين، فكان في غاية الحزم والصلابة.

من ناحية أخرى كانت الدولة الإسلامية في المدينة فتية وطرية العود، وكان الأعداء يتربصون بها الدوائر وينتهشون جسدها الغض من كل الجهات، فكان النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم والمسلمون يذبون عنها بكل ما أوتوا من قوّة، وكانوا يعملون جاهدين على توفير الأمن لهذه الدولة الفتية والمجتمع الإسلامي، فخاضوا من أجل ذلك مختلف الحروب الدفاعية لردع الأعداء وصدّهم عنها فلا يمسّونها بسوء. وإنما لجأ المسلمون إلى الدفاع بعد صبر طويل على الأذى حتى نزل الإذن بالجهاد على رسول الله في قوله تعالى:

(أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ٭ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ...) (1) .

ص: 379


1- الحج : 39 - 40 .

الشبهة الثانية: محاربة النبي للفن والشعر والرسم:

اشارة

هناك من المعاندين من يتمسك بعدم كون النبي شاعراً، وكذلك ما ورد في بعض الأحكام الفقهية الصادرة في سياق تهذيب الفن، من قبيل حرمة النحت لعلاقته بعبادة الأصنام والأوثان، للقول بأن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم كان يعادي كل أشكال الفن. من ذلك قول قائلهم

«كان محمد شديد الانتقاد للشعر، وكان الإسلام على الدوام معادياً للفن، ولولا الفنون الإيرانية والساسانية لما كان هناك في الإسلام شيء اسمه الفن، كما ذمّ الإسلام فن الرسم بشدّة» (1) .

الجواب:

1 - النحت والرسم جزء من الثقافة الوثنية:

لقد حرّمت الشريعة الإسلامية بعض الأمور التي تُعدُّ اليوم من الفنون السامية، من قبيل نحت صور الناس والحيوانات، وكذلك رسمها، وكان هذا الحكم بطبيعة الحال يأتي في سياق رعاية بعض المصالح وتقديم الأولويات، وكانت مصلحة التحريم في حينها أهم من مصلحة الإباحة، بالنظر إلى ارتباط هذه الأمور بالوثنية وعبادة الأصنام في تلك الفترة حيث كان الشرك منتشراً ومتفشياً بين الناس، وقد وجدت صناعة النحت لها سوقاً رائجة في تلك الأجواء، كما كان هذا الأمر وارداً في رسم ذوات الأرواح. ولذلك تدخل الإسلام بشكل حازم لقطع الطريق على كل ما يمتّ إلى مظاهر الشرك بصلة من قريب أو بعيد، فحرم صناعة جميع أنواع المجسّمات بغية إبعاد الناس عن

ص: 380


1- ابن وراق، اسلام ومسلماني، ترجمه إلى الفارسية مسعود انصاري (روشنگر)، ص28.

عبادة الأوثان حتى يطوي صفحة هذه المرحلة الحالكة من حياة الإنسان على الأرض؛ وذلك لأن هذا النوع من الفن لم يكن يمارس إلا في نطاق الترويج للأرباب والآلهات، ولم يكن لهذا العمل ناحية فنية، وإنما ينظر إليها بما تحمل من الغايات والأهداف العبادية المقدسة. فكان كثير من الناس في تلك الحقبة يمتهنون النحت لصناعة الأصنم، فكان من الضروري القضاء على هذه الظاهرة لمحو هذه الحرفة من أذهان الناس، ولم يكن لذلك من طريق سوى التحريم، من قبيل حرمة صناعة الأصنام وشرائها وأخذ الأجرة عليها. وكما نعلم فإن أول عمل قام به رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بعد فتح مكة هو تحطيم الأصنام المحفوظة في مكة وحتى في جوف الكعبة. وبطبيعة الحال هناك خلاف بشأن الرسم، وهناك من الروايات ما يقصر التحريم على صناعة الأصنام فقط.

2 - الإسلام والتشجيع على ممارسة سائر الفنون:

إن الشريعة الإسلامية المقدسة لم تحظر ممارسة الفن أبداً، بمعنى أن العمل الذي تطغى عليه الناحية الفنية لا يتعرض للمنع والتحريم إطلاقاً، بل إن الإسلام دين جميل ويدعو إلى الجمال، قال الله تعالى وهو خالق الجمال فى هذا العالم ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّه الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ﴾ (1) .

أما النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم فلم يكن يخالف الفن والجمال أبداً، وإنما كان ينقل عنه قوله: «إن الله جميل يحب الجمال» (2) .

لقد عاش النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم عيشاً جميلاً طوال حياته، فكان يلبس

ص: 381


1- الأعراف: 32 .
2- محمد محمدي ري شهري، منتخب ميزان الحكمة، تلخيص السيد أحمد لاحسیني، ص 108 .

الجميل، ويسلك السلوك الجميل، ومن هنا أبدع المسلمون في فنون العمارة وسائر الفنون غير النحت والرسم، وقد تركوا كثيراً من الآثار الفنية المعبّرة عن اهتمام الإسلام والمسلمين بالفن. وقد أبدعوا أيضاً في رسم غير ذوات الأرواح من قبيل الأزهار والأشجار والمناظر الطبيعية الخلابة وما سوى ذلك مما يمكن لنا أن نشاهده في الأبنية الإسلامية، من قبيل المساجد والمحاريب والمدارس والقصور والعمارة الإسلامية، وما زال هذا الفن حتى هذه اللحظة من مختصات العالم الإسلامي، حيث يُفيد المسلمون منه في تزيين عمارتهم بلا منازع.

كما كان الأئمة علیهم السلام هم الرائدون في الحثّ على ممارسة فن الخط، فكانوا يدعون إلى حسن الخط، حتى ظهر في الإسلام فن عريق من الفنون الإنسانية الرائدة، وقد تفرّعت الخطوط إلى مختلف الأنواع والأقسام، وتم توظيف هذا الفن الجميل في العمارة والأبنية والبوابات والكثير من الأمكنة، مما ضاعف من جمال العمارة الإسلامية.

أمّا فيما يتعلق بالشعر فيجب القول على الرغم من أن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم يكن شاعراً، وإلا كان يمكن الشك في الإعجاز القرآني، ولذلك كان عدم قول النبي للشعر لحكمة إلهية، وليس لعجز النبي عن ذلك، كما هو الحال في عدم قدرته على القراءة والكتابة. ولكن النبي مع ذلك كان من أهم المشجعين للآخرين على نظم الشعر، حتى شهد الشعر في المرحلة الإسلامية تطوراً وتقدماً كبيرين، بل اتخذ النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم لنفسه عدداً من الشعراء من الصحابة، وقد اشتهر هؤلاء النفر بأنهم «شعراء النبي»، ومن بينهم حسان بن ثابت (1).

ص: 382


1- أُنظر: ابن حجر العسقللاني، الإصابة في تمييز الصحابة، تحقيق عبد الموجود ومحمد معوض، ج 2، ص 55 .

وعلاوة على ذلك فإن القرآن الكريم من الناحية الفنية والجمالية يعدُّ على درجة عالية من الفن، وقد ترك أثراً عميقاً على الأدب العربي، ويمكن الوقوف على هذه الحقيقة من خلال الرجوع إلى الكتب التي صنفت في الأدب والخطب، من قبيل البيان والتبيين للجاحظ، حيث نشاهد عمق تأثير القرآن الكريم على الخطباء.

الشبهة الثالثة: الاعتراض على تدوين الكتب وترجمتها:

لقد سعى المعاندون من أعداء النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم من خلال إثارة هذه الشبهة إلى إظهار النبي بوصفه مخالفاً، من ذلك أن بعضهم قال في هذا السياق:

«لولا تدخل الفلسفة الإغريقية، لما شهدنا في الإسلام شيئاً من العلم والفلسفة؛ ذلك لأنّ الإسلام كان على الدوام ينظر إلى العلوم والأفكار الأجنبية بعين الشك والريبة. وإن كثيراً ممن كان لهم الأثر الهام أو الذين أسسوا للفلسفة والعلوم الإسلامية، أو الذين أسهموا في نشر هذه الفروع العلمية في الإسلام، إما كانوا من غير المسلمين أساساً، أو كانوا يخالفون بعض أو جميع الأصول والأحكام الإسلامية» (1).

الجواب:

ليست هناك إشارة في تاريخ النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم وسيرته أيّ إشارة إلى تدوين أو ترجمة كتاب؛ إذ لم تشهد الجزيرة العربية آنذاك - حيث الجاهلية ضاربة بأجرانها - حركة علمية من هذا القبيل، وإن الحركة العلمية في إطار الترجمة والتأليف التي ظهرت فيما بعد إنما هي مدينة إلى الجهود الإسلامية

ص: 383


1- ابن وراق، اسلام و مسلماني، ترجمه إلى الفارسية مسعود انصاري (روشنگر)، ص28.

والتعاليم التي جاء بها الإسلام والتي كانت تحث وتشجع على طلب العلم والمعرفة.

هناك كثير من الإرشادات والأوامر الواردة في القرآن الكريم والسنة الشريفة التي تحثّ وتشجع على طلب العلم وحفظه بالكتابة، من قبيل الحديث المروي عن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم والذي يقول فيه:

«اكتبوا؛ فإنكم لا تحفظون حتى تكتبوا» (1).

وماسوى ذلك من التعابير التي تدفع المسلمين إلى طلب العلم والتأليف، هذا في حين أن عصر النبي الأکرم صلی الله علیه و آله و سلم لم يشهد كتاباً في تلك البيئة الجاهلية، وعندما كان يُعرض على النبي كتاب كان يثني عليه كما حصل ذلك بالنسبة إلى رجل من الأنصار حيث عرض على النبي كتاباً بعنوان مجلة لقمان، فاستحسنه النبي وأثنى عليه، ثم عقب على ذلك قائلاً: إن قرآننا أفضل وأكمل منه (2) .

والدليل الآخر على اهتمام النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بمسألة التدوين، يتجلى من خلال اهتمامه بحفظ القرآن الكريم وتدوينه منذ بداية نزوله، حيث كان یشجع أصحابه على ذلك، وكانوا بدورهم يكتبون الآيات بمجرد أن يتلوها عليهم. والشاهد على ذلك أن أخت عمر كانت تحتفظ ببعض السور والآيات المكتوبة، ويحكى في إسلام عمر أنه وجد عندها شيئاً من القرآن مكتوباً على الرقاع (3). وطبعاً كان هذا في بداية البعثة، وعليه فإنه يشير إلى أمرٍ في غاية

ص: 384


1- العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 2، ص 152.
2- أُنظر: أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، تاريخ الأمم والملوك، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ج 2، ص 352.
3- أُنظر: ابن هشام، السيرة النبوية، ج 1، ص 344.

الأهمية؛ إذ انه يعكس الاهتمام المبكر لرسول الله والمسلمين بمسألة حفظ القرآن الكريم.

وعلاوة على ذلك فقد كان النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم قد رصد عدداً من أصحابه ليكتبوا له غير القرآن الكريم من الأمور الأخرى أيضاً، من قبيل الرسائل والكتب والمواثيق، وقد بلغ عدد كتّاب النبي أكثر من مئة كاتب، وقد بقيت بعض المكتوبات عن النبي الأكرم في مختلف الموضوعات والمسائل، كما كان من الصحابة من يكتب أحاديثه أيضاً (1) .

اختلاف سنة الخلفاء عن سنة النبي الأكرم:

إن المذكور في كتب التاريخ بشأن المنع من تدوين الكتاب إنما يعود إلى عهد الخلفاء، فإن الخليفة الثاني - طبقاً للمشهور - هو الذي منع من كتابة الحديث بحجة الخشية من اختلاط الحديث بالقرآن الكريم!

كما أنّ أجهزة السلطة إلى نهاية العصر الأموي لم تكن تبدي رغبتها نحو تدوين الكتب، وهذا الأمر لا دخل للنبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم به، ذلك لأنّ هؤلاء الخلفاء كانوا يحكمون المسلمين، ولكن أعمالهم لا تمتّ إلى الإسلام بصلة، لأن خلفاءه الحقيقيين هم الأئمة الأطهار من أهل بيته وذريته، وقد كان سلوكهم في هذا الاتجاه في غاية السمو والرفعة، فهم الذين حملوا راية العلم، وكانوا أول من صنف الكتب في تاريخ الإسلام. حيث قيل إن كتب التأريخ والسيرة قد كتبت في عصر الأئمة (عليهم السلام) (2). كما أن الكتب الأجنبية قد ترجمت إلى

ص: 385


1- أُنظر: محمد هادي معرفت، علوم قرآني، ص 45.
2- أُنظر: رسول جعفریان، حياة فكري وسياسی امامان شیعه، ص 14 - 16 .

اللغة العربية في بداية الأمر من قبل أصحاب الأئمة الأطهار علیهم السلام من أمثال جابر بن حیان، وآل نوبخت، ومحمد بن إبراهيم الفزاري، وقد ورد الثناء من قبل الإمام الصادق علیه السلام على فلاسفة الإغريق على ما هو المحكي عنه في كتاب توحيد المفضل (1) .

الشبهة الرابعة: التملك والتصرّف الشخصى في الأنفال والغنائم الحربیة:

على الرغم من إجماع المؤرخين على أن النبي قد رحل من الدنيا ولم يملك شيئاً من حطام الدنيا، حيث لم يكن من المتهافتين على جمع الأموال والثروة، نجد بعض الحاقدين والمغرضين يطرح هذه الشبهة ويقول

«لقد تمكن محمد بذكائه الفذ ورصانته الفريدة من ضمان البنية المالية لأتباعه وبناء جيش الإسلام وتعزيز الهيكل العام للحكومة الإسلامية، فابتكر لذلك نظرية الخمس والزكاة والجهاد والغنائم والجزية والفدية. كيف يمكن للمسلم أن يدفع الخمس إلى الله؟ لا يوجد هناك تفسير معقد لهذا الأمر، فقد كان محمد يساوي بين نفسه وبين الله، وكان يعمل على تقديم اسم الله على اسمه كي يظهر للمسلمين أن الإنفاق عليه وعلى أهل بيته إنما هو إنفاق على الله» (2) .

وذات هذا الشخص يتحدّث في موضع آخر ويقول:

«لقد ذكر إله العالم طبقاً للآية الأولى من سورة الأنفال أن جميع الأموال

ص: 386


1- أُنظر: توحيد المفضل، ترجمه إلى الفارسية نجف علي ميرزائي، ص 162 .
2- مسعود انصاری (روشنگر)، بازشناسی قرآن، ص 193 .

المذكورة هي ملك صرف له ولنبيه. ومن الواضح حيث أن الله لا يمكن أن يرى، فإن هذه الأموال تكون ملكاً خالصاً لرسوله، حيث سينوب عنه في حيازة سهمه من تلك الأموال».

الجواب:

هناك فى الشريعة الإسلامية المقدّسة أسس وقواعد مرسومة لسلوك الحاكم الإسلامي يمكن الوقوف عليها في الكتب والمصادر الفقهية والروائية، وهي مقتبسة ومستنبطة من القرآن الكريم والسنة المطهّرة.

لقد كان النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بوصفه القائد العام للقوات المسلحة يقوم بتوزيع الغنائم بين المقاتلين، وكان يعطي للفرسان أكثر من حصص المشاة؛ إذ كان للخيل آنذاك قيمة حربية وقتالية كبيرة. وطبقاً للآيات الواردة في هذه السورة تم تحديد تكاليف أخرى للمسلمين، وهي عبارة عن خمس الغنائم، ويتم تقسيم الخمس إلى ست حصص بعدد موارد مصرف الخمس، على ما هو وارد في قوله تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمْسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) (1) .

وكان المسلمون بعد كل معركة يدفعون خمس الغنائم التي يحصلون عليها إلى النبي الأكرم؛ ليتصرّف بها طبقاً لتعاليم القرآن الكريم. وفي سرية عبد الله بن جحش - حيث وقعت في الشهر الحرام - تردد النبي في التصرّف في أموال الخمس، حتى نزل القرآن من قبل الله بإباحة ذلك (2).

ص: 387


1- الأنفال: 41 .
2- أُنظر: ابن هشام، السيرة النبوية، ج 1، ص 604 .

وعندما يحصل المسلمون على غنيمة دون قتال، أعم من أن تكون تلك الغنيمة من الأموال المنقولة أو غير المنقولة، يطلق على هذه الغنيمة مصطلح الأنفال طبقاً لقوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ قُلْ الأَنْفَالُ للهِ وَالرَّسُولِ﴾ (1).

وقد كان أمر هذه الأنفال بيد الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم، ينفقها كيف يشاء طبقاً لما يراه من المصالح، ولذلك نجده في غزوة بني النظير التي انتهت من دون قتال قد قسم الأراضي على المهاجرين، ولم يعط شيئاً منها إلى الأنصار سوى لرجلين كانا بحاجة إلى أرض يزرعان عليها لكونهما فقيرين (2) .

وكانت خيبر ملكاً لجميع المسلمين، لأنها فتحت عبر القتال؛ فيكون ريعها للمسلمين، خلافاً لفدك التي فتحت من دون قتال ولا إراقة دماء، فأضحت ملكاً خالصاً لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم (3)، وقد أعطاها لابنته السيدة فاطمة الزهراء علیها السلام نحلة، وذلك امتثالاً لأمر الله الوارد في الآية الثامنة والثلاثين من سورة الروم (4). وفي معركة حنين قام النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بتوظيف صلاحيته في هذا الشأن، فأعطى بعض أموال الغنائم لأهل مكة من أجل تأليف قلوبهم (5) .

إذن يتضح من خلال هذه الآيات والروايات وسنة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أن أساس تصرّف النبي الأكرم في أموال الغنيمة يقوم على الأوامر الإلهية؛ لأنه على المستوى الشخصي كان حتى اللحظات الأخيرة من عمره الشريف يعيش

ص: 388


1- الأنفال: 1.
2- أُنظر: ابن هشام، السيرة النبوية، ج 2، ص 192.
3- أُنظر: المصدر أعلاه، ج 2، ص 353.
4- أُنظر: ناصر مكارم الشيرازي، تفسير نمونه (الأمثل)، ج 16، ص 441 .
5- أُنظر: ابن هشام، السيرة النبوية، ج 2، ص 494 .

في حجرات طينية صغيرة في غاية البساطة، وكان يحدث مراراً أن يبيت النبي صلی الله علیه و آله و سلم طاوياً ليالي متوالية هو وأهل بيته حيث لا يجدون ما يأكلونه من الطعام. وكان الطعام إذا توفر عندهم لا يتجاوز خبز الشعير، وكان يحدث أحياناً أن يشدّ النبي على بطنه حجر المجاعة من شدّة الجوع.

وقد روي عن السيدة عائشة أنها قالت: لم يحدث أن أكل النبي وأهل بيته ثلاثة أيام متتالية طعاماً لا يتجاوز خبز الشعير، وقد استمر الوضع على هذا الحال حتى رحيل النبي الأكرم عن هذه الدنيا، ولم يأكل أهل البيت ثلاث وجبات يومياً حتى فارق النبي صلی الله علیه و آله و سلم الحیاة (1) .

وفي الختام يجب التنويه إلى أن صاحب هذه الشبهة نفسه، اضطر في موضع آخر من كتابه المشتمل على هذه الشبهة إلى الاعتراف بأن رسول الله لم يسع أبداً إلى جمع الأموال والثروة لأهداف شخصية، وقال يجب الإذعان والإقرار بأن محمداً من الناحية المالية بقى حتى آخر لحظة من حياته طاهر الذيل جديراً بالمدح والثناء من هذه الناحية، وقلما سعى إلى توظيف الأموال لمصلحته الخاصة، وعاش في منتهى الزهد والقناعة (2) .

الشبهة الخامسة: عدم الوفاء بالعهود والمواثيق:

هناك في كتاب «اسلام و مسلماني» دعوى باطلة تتهم النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بعدم الوفاء بالعهود والمواثيق التي كان يبرمها مع الآخرين، وكان ينتهكها، ومما جاء في هذا الكتاب بشأن صلح الحديبية

ص: 389


1- أُنظر: ابن سعد، الطبقات الكبرى، ج 1، ص 306.
2- مسعود انصاري (روشنگر)، بازشناسی قرآن، ص 197.

«في المفاوضات التي دارت بين محمد وأهل مكة وأدت إلى توقيع ميثاق الحديبية، اتفق الطرفان على أن يرجع محمد إلى مكة في العام المقبل وهنالك يمكنه أداء مناسك الحج، ولكن عليه في المقابل أن يتخلى عن وصف نفسه بالنبوّة، وأن يكفّ عن الدعوة إلى دين الإسلام. ومن البديهي أن محمداً تنكر فيما بعد لهذا الميثاق والمعاهدة وقام بانتهاك بنودها» (1).

الجواب:

إن اتهام النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بعدم احترام المواثيق مجرّد كلام لا أساس له من الصحّة، بل هو اتهام لا يخلو من انعدام المروءة؛ لأن النبي الأكرم لم يكن وفياً بالمواثيق والعهود فحسب، بل كان حتى أهل بيته وذريته من أوثق الناس بين العرب في رعاية هذا النوع من العهود والمواثيق.

وقد كان عبدالمطلب جد النبي قد عاهد قبيلة خزاعة قبل أن يولد النبي، بل وقبل أن يولد عبدالله والد النبي (2)، وقد بقي هذا العهد ساري المفعول عبر التاريخ.

وقد كانت قبيلة خزاعة ظهيراً للنبي في جميع الحروب التي خاضها، وكانت تخبره بما عليه واقع أعدائه، وفي صلح الحديبية كانت إلى جانب النبي في مواجهة بني كنانة (بني بكر) الذين تحالفوا مع قريش (3).

ص: 390


1- ابن وراق، اسلام و مسلماني، ترجمه إلى الفارسية مسعود انصاري (روشنگر)، ص 224 .
2- أُنظر: البلاذري، أنساب الأشراف، ج 1، ص 78.
3- أُنظر: محمد بن عمر الواقدي، المغازي، تحقيق مارسدن جونس، ج 2، ص 612 .

لقد كانت هذه المودة المتبادلة بين قبيلة خزاعة وأهل بيت النبي الأكرم باقية وراسخة على مرّ الأزمنة، حتى كان عدد من كبار قبيلة خزاعة من عمال أميرالمؤمنين على بن أبي طالب، وقد استشهد عدد من أفراد هذه القبيلة في معركة كربلاء، ومن بين مشاهير هذه الأسرة الشاعر الشيعي المعروف دعبل الخزاعي.

ومن ناحية أخرى قيل إن حلف الفضول من أشرف المعاهدات العربية التي أبرمت في عصر الجاهلية، وإن مصدر حلف الفضول في واقع الأمر هم بنو هاشم (1) .

روى ابن إسحاق عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أنه قال:

«وأيما حلف كان فى الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدّة».

روى ابن منظور هذا الحديث في لسان العرب، وقال «وفي حديث آخر «لا حلف في الإسلام». قال ابن الأثير: أصل الحلف المعاقدة والمعاهدة على التعاضد والتساعد والاتفاق، فما كان منه في الجاهلية على الفتن والقتال بين القبائل والغارات فذلك الذي ورد النهي عنه في الإسلام بقوله: لا حلف في الإسلام، وما كان منه في الجاهلية على نصر المظلوم وصلة الأرحام كحلف المطيبين وما جرى مجراه فذلك الذي قال فيه رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: (وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدّة)، يريد منه المعاقدة على الخير ونصرة الحق، وبذلك يجتمع الحديثان (2).

ص: 391


1- أُنظر: العلامة السيد جعفر مرتضى العاملي، الصحيح من سيرة النبي الأعظم، ج 5، ص 182.
2- أُنظر: محمد هادي اليوسفي الغروي، تاريخ تحقيقي اسلام، حسين علي العربي، ج 1، ص 266 - 267 .

وكان النبي يفخر دائماً بحلف الفضول الذي عقد في الجاهلية، ويرى نفسه ملزماً باحترامه ورعايته، وقد روي عنه في هذا الشأن قوله: «لقد شهدت مع عمومتي حلفا في دار عبد الله بن جدعان ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو دعيت به في الإسلام لأجبت» (1). وقد التزم النبي بالعهود التي أبرمها مع قريش، ولم يقم بما ينقضها أبداً، بل كان طبقاً لبعض بنود هذه العهود يعيد المسلمين الهاربين من مکة إلی قريش، حتى قام أهل مكة أنفسهم بإلغاء هذا البند.

كما أبرم النبي الأكرم معاهدة مع اليهود، وبقي ملتزماً بمضمون هذا العهد مدّة التزامهم واحترامهم له، حتى إذا نقضوه ولم يحترموه اضطر إلى

ردعهم ومحاربتهم.

كما عاهد النبي قبائل أخرى أيضاً، ورأى نفسه ملزماً باحترام عهده، ومن بين تلك القبائل (قبيلة بني عامر)، وقام أحد المسلمين بقتل اثنين من أفراد هذه القبيلة عن طريق الخطأ. وبمجرد أن علم النبي بالأمر أخبرهم بأن المسألة كانت مجرد حادثة وأنه باق على احترامه للعهد الذي قطعه معهم، وأنه على استعداد لدفع دية القتيلين، وكان في سياق هذا الأمر أن توجه إلى بني النظير للاستعانة بهم، ولكنهم كانوا قد خططوا لاغتياله، وهو أمرٌ أدى إلى محاصرتهم وإخراجهم (2) .

كما روي هذا الالتزام بالعهود عن الأئمة الأطهار من ذرية الرسول الأكرم أيضاً، فقد ذكرت كتب التأريخ أن الإمام الحسن علیه السلام أبرم عهد الصلح

ص: 392


1- أُنظر: ابن هشام، السيرة النبوية، ج 1، ص 134.
2- أُنظر: المصدر أعلاه، ج 2، ص 186 .

مع معاوية بن أبي سفيان، وعلى الرغم من عدم احترام معاوية لبنود الصلح، إلا أن الإمام الحسن علیه السلام كان يحترمها. وحتى الإمام الحسين علیه السلام كان يرى نفسه ملزماً باحترام العهد الذي وقعه أخوه الإمام الحسن، وكان يجيب الشيعة الذين يطلبون منه الثورة قائلاً: إن بيننا وبين هذا الرجل عهداً، ولذلك فإنه علیه السلام لم يطلق ثورته في عهد معاوية.

وعليه فإنا نشاهد أن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بعد البعثة يمضي العهود التي أبرمها جدّه عبدالمطلب مع قبائل خزاعة، ويفخر بحلف الفضول، كما أبرم بعد دخوله إلى المدينة عدداً من المواثيق والعهود مع مختلف الفئات، وكان يلتزم برعايتها على الدوام، من هنا تكون دعوى عدم احترام النبي للعهود والمواثيق مجرد ادعاءات باطلة ولا أساس لها من الصحة.

الشبهة السادسة: تنصيب الأعيان والأشراف:

اشارة

هناك من يدعي انّ النبي الاكرم صلی الله علیه و آله و سلم قد نصّب بعض أعيان القوم وأشرافهم في مناصب حكومية واجتماعية (1).

الجواب:

1 - التقوى والكفاءة معيار تنصيبات النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم:

لقد بُعث النبي في شبه الجزيرة العربية وكانت المجتمعات العربية في الجاهلية تمنح جميع الامتيازات والتفاخر على أساس النظام الطبقي الذي يسود القبائل، وإن الشخص العربي البارز في القبيلة كان يتمتع بامتيازات لا يدانيه

ص: 393


1- أُنظر: على مير فطرس، اسلام شناسی، ج 1، ص 34 و 39.

فيها غيره، وكان الشخص العربي يرى نفسه أصلح من غيره لتسنّم المناصب العليا، حيث كانت العصبية والحمية وكذلك الانتساب إلى القبيلة شرطاً كافياً للوصول إلى سدّة الحكم في مثل هذا المجتمع، وكان الانتماء إلى قبيلة كبيرة من أكبر المفاخر عند العرب.

وفي خضمّ هذه الاعتبارات الاجتماعية قام النبي الأكرم بنشر التعاليم القرآنية التي نزلت عليه من وحي السماء وتوظيفها في جعل ملاك التفاضل على أساس التقوى.

وعلى أيّ حال فإن القرآن الكريم بعد إسقاط ما كان يعدُّ أهم الأمور التي تدعو إلى التفاخر والتباهي في العصر الجاهلي من الانتساب إلى القبيلة، ذكر أن المعيار الحقيقي للتقييم والتفاضل على النحو الآتي:

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (1).

كما أشار النبي في كثير من الروايات والأحاديث المروية عنه إلى الملاك والمعيار الحقيقي للتفاضل في الإسلام، وهو التقوى، ومن ذلك قوله:

«أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى، قال الله تبارك وتعالى في محكم كتابه: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله أَتْقَاكُمْ) (2) .

ص: 394


1- الحجرات: 13.
2- أبو الفتح الكراجكي، معدن الجواهر، ص 21.

وذكر في حديث آخر أن كبار أمته هم من يقومون على خدمة القرآن ويحيون الليل بالتهجّد والعبادة، إذ يقول:

«أشراف أمتى حملة القرآن، وأصحاب الليل» (1).

وروي عنه صلی الله علیه و آله و سلم أنه قال أيضاً:

«ألا إن كل دم ومأثره كانت في الجاهلية فإنها تحت قدمي هاتين» (2).

وكان النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم يأخذ هذا الملاك معياراً لتقسيم المناصب، فكان يختار الصلحاء من المؤمنين على أساس التقوى والكفاءة.

وفيما يأتي نكتفي بذكر بعض الأمثلة:

1 - عتاب بن أسيد شاب يتمتع بالحلم والذكاء، ولم يكن مضى على عمره أكثر من عشرين ربيعاً، وقد نصبه رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم حاكماً على مكة وأجرى عليه جراية يومية قدرها درهماً واحداً، وبذلك حطّم سدود الوهم التي كانت الجاهلية تفاخر به (3) .

2 - أسامة بن زيد كان والده مجرد غلام، وكان إلى ذلك حدث السن، و مع ذلك قام النبي بتسويده على كثير من كبار الصحابة، وهو أمرٌ أثار

اعتراض بعضهم، متذرعاً بصغر سنه. (إلا أن الدوافع الحقيقية والسياسية وراء هذا الاعتراض تكمن في أن صحة النبي كانت قد انتكست، وكانوا يضمرون الاستيلاء على السلطة بعد رحيل النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم)، فتألم النبي من مقالتهم بشدّة، وتحامل على نفسه رغم ما به من الضعف وتوجّه إلى المسجد، وقال

ص: 395


1- الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ج 4، ص 399.
2- العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 37، ص 116.
3- أُنظر: جعفر سبحاني، فروغ ابدیت، ج 2، ص 372 .

مقالته الشهيرة «أَيُّهَا النَّاسُ فَمَا مَقَالَةٌ بَلَغَتْنِي عَنْ بَعْضِكُمْ فِي تَأْمِيرِي أُسَامَةَ بْنَ زَيْدِ؟ وَاللَّه لَئِنْ طَعَنْتُمْ فِي إِمَارَتِي أُسَامَةَ لَقَدْ طَعَنْتُمْ فِي إِمَارَتِي أَبَاهُ مِنْ قَبْلِهِ وَأَيْمُ اللَّه إِنْ كَانَ لِلْإِمَارَةِ لَخَلِيفًا، وَإِنّ ابْنَهُ مِنْ بَعْدِهِ لَخلِيقٌ لِلْإِمَارَةِ» (1).

كان النبي يسعى إلى إفهام أصحابه أن بلوغ المناصب والقيادات إنما يقوم على أساس الكفاءة الذاتية للأشخاص ولياقتهم وخبرتهم، وليس على أساس الأقدمية في السن أو الانتماء إلى القبيلة، فلا يُعدُّ الانتماء إلى القبائل المغمورة نقصاً يقعد بالفرد عن بلوغ المناصب.

3 - بلال بن رباح الحبشي تسنّم منصب مؤذن النبي الأكرم [شبيه بمنصب الناطق الرسمي باسم الحكومة في العالم المعاصر)، رغم أنه لم يكن عربياً، وكان عبداً محرراً، وبذلك أثبت النبي أن الملاك والمعيار في التفاضل بين الناس في الدين الجديد إنما يقوم على أساس التقوى، وهو أمر لم يعهده العرب من قبل ذلك.

وبعد فتح مكة المكرمة أمر النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بأن يؤذن فوق الكعبة المشرّفة، فاعتلى بلال ظهر الكعبة وصدح بالأذان؛ فقال عتاب بن أسيد (2)

ص: 396


1- محمد بن عمر الواقدي، المغازي، تحقيق مارسدن جونس، ج 3، ص 1118.
2- هو ذاته عتاب بن أسيد الذي ذكره المؤلف في الصفحة السابقة في التسلسل الأول، واصفاً إياه بالحلم والذكاء، في سياق الأمثلة لتنصيبات النبي الأكرم على أساس التقوى وأنها كانت هي المعيار في تنصيب (عتاب بن أسيد) حاكماً على مكة من قبل رسول الله رغم صغر سنه، وسوف يذكره أيضاً في الصفحة اللاحقة بوصفه من الطلقاء الذين لم يسلموا إلأ بعد الفتح، وإنما جاء تنصيبه حاكماً على مكة لبسط الإسلام وتأليف القلوب، وليس على أساس التقوى، وهذا تهافت واضح من المؤلف! المعرّب.

الذي كان من الأحرار [الطلقاء] - أشكر الله أن مضى أبي من هذه الدنيا ولم يرَ مثل هذا اليوم! .. وقال الحارث بن هشام «ألم يجد رسول الله غير هذا الغراب الأسود للأذان؟!»؛ فنزلت الآية الآنفة [الآية الثالثة عشرة من سورة الحجرات]، وبيّنت معيار القيم الواقعية (1).

4 - سلمان الفارسي لم يكن عربياً، وكان مملوكاً محرراً، فأضحى مستشاراً للنبي، بل كان أقرب إلى النبي من سائر الصحابة، حتى قال عنه النبي «سلمان منا أهل البيت» (2).

5 - لقد كان للنبي عندما يخرج إلى الغزوات كثير من الخلفاء، ولكنه كان في أكثر الأحيان يستخلف ابن أم مكتوم وهو شخص ضرير لا يستطيع الخروج مع الصحابة للقتال، فكان النبي يستخلفه ليؤمّ الناس في الصلاة (3).

قيل إن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم عندما كان يخرج من المدينة لم تكن لديه معايير محددة لاختيار من يخلفه على المدينة، ولذلك نجده يستخلف ابن أم مكتوم إحدى عشر مرّة واختار غيره مرتين أو مرّة واحدة (4) . لا شك في أنه لم تكن هناك أسباب محددة في هذا الاختيار، وربما كان ذلك يعود إلى أن مهمة الذي يستخلفه النبي في مثل هذه الحالات لم تكن تعدو إقامة الجماعة، ولم يكن يبتعد عن المدينة مسافة طويلة، أو لم تكن الأوضاع شديدة الخطورة.

ص: 397


1- الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج 16، ص 361، الأمير للطباعة والنشر، ط 2، بیروت، 2009.
2- أُنظر: ابن حجر العسقللاني، الإصابة في تمييز الصحابة، تحقيق عبدالموجود ومحم معوض، ج 2، ص 265.
3- أُنظر: ابن سعد، الطبقات الكبرى، ج 4، ص 154.
4- أحمد العلي، صالح، دولت رسول خدا، ترجمه إلى الفارسية هادي أنصاري، ص 89 .

ولكنه عندما شعر بقوّة الخطر على المدينة عندما توجّه إلى تبوك لم يستخلف غير علي بن أبي طالب.

2 - توظيف الأعيان بغية بسط سلطة الإسلام:

بطبيعة الحال لا يمكن أن ننكر أن طبيعة إدارة المجتمعات العربية حيث تأبى في غالبيتها من تسويد الغريب عليها، كان النبي يراعي المصلحة في ذلك، فينصب أحياناً بعض كبار العرب من قريش، كما كان الأمر بالنسبة إلى عتاب بن أسيد الذي أسلم يوم فتح مكة، وحيث كان فرداً كفوءاً، عمد النبي إلى تنصيبه حاکماً على مكة عند خروجه منها إلى الطائف (1) . كما قام النبي بعد فتح مكة بإلغاء جميع المناصب الزائفة والكاذبة التي لا تقوم على أساس منطقي، ولم يبق إلا سدانة الكعبة وسقاية الحاج.

كان عثمان بن طلحة بن شيبة المكي صاحب مفتاح الكعبة في الجاهلية، وبعد فتح النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم لمكة المكرّمة، عمد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم إلى إعادة مفتاح الكعبة له قائلاً: لطالما كان مفتاح الكعبة في أسرتك، فليكن المفتاح عندك أيضاً (2).

وحتى أبو سفيان الذي أسلم بعد فتح مكة، أعطاه النبي في غزوة حنين قيادة مجموعة من فتيان قريش من الذين أسلموا حديثاً (3) .

وعندما أراد النبي الأكرم تحطيم أصنام الطائف، أرسل إلى هذه المهمة

ص: 398


1- عز الدين بن الأثير الجزري، أسد الغابة في معرفة الصحابة، د 3، ص 452.
2- أُنظر: جعفر سبحاني، فروغ ابدیت، ج 2، ص 338.
3- المصدر أعلاه، ج 2، ص 352.

أبا سفيان؛ لأنه كان الأقدر على ذلك(1) . وكان السبب في ذلك أن هذا الأسلوب كان هو الأدعى إلى بسط الإسلام هناك.

كما كان النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم يجهد عند جمع الصدقات والحقوق الشرعية في تكليف رجال القبائل أنفسهم ليقوموا بجمع الحقوق من قبائلهم (2)، وكان أكثر هؤلاء من زعماء القبائل، وكان ذلك بطبيعة الحال هو المعمول به ما دام لم يتعارض مع أصل الإسلام.

الشبهة السابعة: نشر الإسلام بالعنف والسيف:

اشارة

هناك من يذهب إلى الاعتقاد بأن السبب الرئيس أو أحد الأسباب الرئيسة في نجاح النبي في توسيع رقعة الإسلام وبسط سلطته يكمن في توظيف القوّة والعنف وإثارة الحروب، حيث كان يفرض على القبائل الإسلام أو الموت بحدّ السيف (3) . وقد استدل هذا المدعى لكلامه هذا بالحروب الكثيرة التي اندلعت في عصر النبي الأكرم.

الجواب:

1 - الطرق العملية في أسلوب الدعوة إلى الإسلام:

يؤكد القرآن الكريم في خطابه للنبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم في العديد من آياته على أصل الحرية في اختيار الدين وعدم الإكراه في ذلك، كما أن سيرة النبي الأكرم بعيدة كل البعد عن إجبار الناس على اعتناق الدين الإسلامي الحنيف،

ص: 399


1- محمد بن عمر الواقدي، المغازي، تحقيق مارسدن جونس، ج 3، ص 483 .
2- أحمد العلي صالح، دولت رسول خدا، ترجمه إلى الفارسية هادي أنصاري، ص 360 .
3- علي دشتي، بيست و سه سال، اعداد و تنقیح بهرام چوبینه، ص 149.

ومن بين آيات القرآن النافية للإكراه يمكن لنا الإشارة إلى الآيات الآتية:

- (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾ (1).

- (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) (2) .

- (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) (3).

جاء في شأن نزول الآية الأخيرة أن أحد النصارى اعتنق الإسلام، وكان يروم إدخال أولاده إلى الإسلام بالعنف والإكراه والتهديد، ولكنهم رفضوا ذلك، فالتجأ الرجل إلى النبي وطلب منه العون في إكراههم على اعتناق الإسلام، فنزلت هذه الآية في رفض طلبه (4).

- (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) (5).

وهناك آيات أخرى تنفي توظيف النبي للقوة والإكراه في الدعوة إلى الدين، والتصريح بأن مسؤوليته تتلخص في إبلاغ وحي السماء إلى الناس، ومن ذلك قوله تعالى:

- (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ ) (6) .

- (فَذَكَّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكَّرٌ ٭ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ) (7) .

ص: 400


1- الإنسان: 3.
2- الكافرون: 6 .
3- البقرة: 256 .
4- أُنظر: مختلف التفاسير في موضع هذه الآية.
5- الكهف: 29 .
6- آل عمران: 20.
7- الغاشية: 21 - 22 .

وهناك آيات أخرى تصرّح بشكل خاص وواضح وتعبر عن اتجاه في دعوة النبي من خلال الأمور الثلاثة الآتية، وهي «الحكمة»، و«الموعظة الحسنة»، و«المجادلة بالتي هي أحسن»، من دون أن يكون هناك موضع لأي حل يلوح منه العنف واللجوء إلى القسوة، ومن ذلك قوله تعالى:

- (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) (1).

وهناك آية أخرى تحدد وتقيّد نوعية الحوار الذي يجب على الرسول أن يقيمه مع أهل الكتاب بأن يكون بالتي هي أحسن، إذ يقول تعالى:

﴿وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (2) .

وقد أشار المفسّرون في شرح الجدال بالتي هي أحسن إلى الحوار القائم على أساس الودّ والرفق والليبن والبعد عن العنف والغمز والإساءة والغلظة (3) . وقد اعتبر الشهيد الأستاذ مرتضى المطهري الآيتين الأخيرتين دليلاً آخر على نفي الإكراه في اعتناق الدين.

وقد كان النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم في سيرته العملية ومن خلال الاستلهام من الآيات المتقدمة في دعوته إلى الإسلام ملتزماً بانتهاج هذه الطرق الثلاث المتقدمة. ورغم بلوغ النبي مرحلة بناء الدولة وقيادتها في المدينة واصل هذا النهج في الدعوة إلى الإسلام حيث كان في مواجهته لأهل الكتاب - الذين

ص: 401


1- النحل: 125 .
2- العنكبوت: 46 .
3- أُنظر: العلامة محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 16، ص 137.

كانوا يعيشون بوصفهم أقلية في المجتمع المدني الذي يقوده النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم - يدعوهم إلى الإسلام من خلال الحوار العلمي الهادئ المشبع بالحجج والبراهين، وقد سجلت كتب التاريخ هذه الحوارات الكثيرة التي أقامها النبي مع مختلف الجماعات والمذاهب (1) . غاية ما هنالك أن النبي كان في نهاية المطاف عندما يرفض أتباع الأقليات الدينية من المواطنين في المدينة المنورة اعتناق الدين الإسلامي الحنيف يطلب منهم ضريبة مالية تدفع إلى الدولة - وكان يُصطلح عليها في ذلك العصر بالجزية - بإزاء توفير الحماية لهم من قبل الدولة الإسلامية في مختلف المجالات الاقتصادية وضمان حريّتهم الاجتماعية وممارسة طقوسهم الدينية. وعندما كان النبي يرسل حاكماً إلى منطقة يقطنها بعض أتباع الأقليات الأخرى، يرسم له سياسة التعاطي معهم عبر تراتبية تقوم على دعوتهم إلى الإسلام أولاً، فإن رفضوا اعتناق الإسلام، دعاهم إلى التعايش السلمي مع المسلمين ودفع ضريبة مالية تساعد الدولة على توفير الحرية والأمن لهم. ونرى هذه الإرشادات في الكثير من الكتب التي حملها عمال النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم إلى اليمن (2) .

إنّ دوافع النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم من وراء خوض المعارك والحروب وتشريع الجهاد لم تكن دواعي ترمي إلى نشر الدين بالعنف وفرضه على الناس بالقوة، وإنما كان الهدف منها هو القضاء على الحكومات الطاغوتية التي استضعفت مواطنيها على جميع المستويات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية. والدليل

ص: 402


1- أُنظر: الشيخ الصدوق، الاحتجاج، قسم نبي الإسلام؛ ابن هشام، سيرة ابن هشام، ج 2، ص 141.
2- علي الأحمدي الميانجي، مكاتيب الرسول، ج 2، ص 543 و 595.

على ذلك هو سلوك النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بعد الفتوح والاستيلاء على تلك المناطق حيث كان يدعو الناس بعد ذلك إلى الإسلام دون إكراه، ويخيّرهم بين اعتناق الإسلام والبقاء على دينهم، ولم يقم النبي بهدم أيّ كنيسة أو كنيس في كلّ فتوحه.

وعندما كان النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم يرسل معاذ بن جبل إلى نشر الدعوة في اليمن كان يوصيه بالرفق واللين والبشارة وعدم التضييق عليهم، إذ روي عنه أنه قال له:

«يا معاذ بشّر ولا تنفّر، يسّر ولا تعسّر» (1) .

وقد أكد النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم على معاذ بن جبل بأن یتبع الحكمة والموعظة في دعوة الناس إلى الإسلام، إذ كتب معه إلى أهل اليمن قائلاً:

«وأمرته أن يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة» (2) .

وربما أمكن لنا إثبات حلم النبي وصبره في الدعوة إلى الدين الإسلامي الحنيف، من خلال سلوكه مع أهل مكة الذين مارسوا كل أنواع الظلم والجور والاضطهاد والتعذيب بل وحتى إثارة الحروب ضده وضد أنصاره لسنوات طويلة، وقد تراوحت الضغوط على أنصاره وأتباع دينه ما بين الضغوط النفسية والجسدية، بل وصل الأمر حتى إلى قتل أعز الناس عليه من أهل بيته، ولكنه عندما فتح مكة أعلن العفو العام، وترك للناس كامل الحرية في اعتناق الإسلام أو البقاء على دينهم.

ص: 403


1- ابن هشام، سيرة ابن هشام، ج 4 ، ص 185.
2- علي الأحمدي الميانجي، مكاتيب الرسول، ج 2، ص 595 .

وفي الكتاب الذي أرسله النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم إلى عامله على اليمن وكان فيها من يدين بدين اليهودية والمسيحية، أكد فيه على أنه إن اعتنق الإسلام أحد منهم دخل في عداد المؤمنين، له ما لهم وعليه ما عليهم، وأمّا إذا آثر البقاء على دينه فلا يُكره على تبديل دينه، وإنما يكتفى منه بدفع الجزية، ومما ورد في ذلك الكتاب «ومن كان على نصرانيته أو يهوديته، فإنه لا يُردّ عنها» (1).

وفي أثناء الدخول إلى مكة كانت راية المسلمين في يد رجل اسمه عبدالله بن أبي نجيح (2) ، فأخذ يرتجز ويتلو أشعاراً يقول فيها «اليوم يوم الملحمة .. اليوم هتك الحرمة»، فما أن سمع النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم منه ذلك، حتى أمر الإمام علياً بن أبي طالب علیه السلام فقال له «أَدْرِكْهُ فَخُذْ الرّايَةَ مِنْهُ فَكُنْ أَنْتَ الَّذِي تَدْخُلُ بِهَا» (3) .

وطوال فترة إقامة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم في مكة المكرّمة كان يدعو الناس إلى الإسلام بالرفق واللين واتباع الأساليب السلمية. وإن أهل المدينة إنما اعتنقوا الإسلام من خلال معرفتهم لهذا النهج، ولمجرد سماعهم لتعاليم القرآن السمحة، ومن هنا اشتهر أن المدينة المنوّرة قد فتحت بالقرآن (4).

ص: 404


1- ابن هشام، سيرة ابن هشام، ج 4، ص 189؛ علي الأحمدي الميانجي، مكاتيب الرسول، ج 2، ص 543 و 558.
2- لم يكن ابن نجيح هو الذي يحمل راية المسلمين، بل إن ابن نجيح هو الراوي الذي يروي عنه ابن إسحاق هذه الرواية، وأما الذي رفع عقيرته بشعار (اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة) فكان على ما نقل ابن إسحاق عن بعض أهل العلم هو سعد بن عبادة، (أُنظر: سيرة ابن هشام، ج 2، ص 406)، المعرّب.
3- ابن هشام، سيرة ابن هشام، ج 4، ص 36.
4- أُنظر: جعفریان، سیره رسول خدا، ج 1، ص 447 .

هكذا تمّ فتح المدينة المنوّرة بوصفها أهم المدن في عصر النبي الأكرم وعاصمة حكومته، حيث أسلم أهلها من دون أدنى إكراه، بل اعتنقوا الإسلام بكامل حريتهم واختيارهم، ووجهوا دعوة إلى النبي. وبطبيعة الحال عندما أقام النبي الأكرم فى المدينة المنوّرة، كان يرسل الأفراد والجماعات إلى أطراف المدينة لنشر الإسلام.

وخير شاهد على ذلك المذبحة الوحشية التي تعرض لها عدد من المبلغين، والتي يرويها الواقدي في كتاب المغازي على النحو الآتي:

«قَدِمَ عَامِرُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جَعْفَرٍ أَبُو الْبَرَاءِ مَلَاعِبَ الْأَسِنَّةِ عَلَى رَسُولِ الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ) فَأَهْدَى لِرَسُولِ الله فَرَسَيْنِ وَرَاحِلَتَيْنِ فَقَالَ رَسُولُ الله لَا أَقَبْلُ هَدِيّةَ مُشْرِكِ، فَعَرَضَ رَسُولُ الله عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ، فَلَمْ يُسْلِمْ وَلَمْ يُبْعِدُ، وَقَالَ يَا مُحَمَّدُ إِنِّي أَرَى أَمْرَك هَذَا أَمْرًا حَسَنًا شَرِيفًا؛ وَقَوْمِي خَلْفِي، فَلَوْ أَنَّكَ بَعَثْت نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِكَ مَعِي لَرَجَوْت أَنْ يُجِيبُوا دَعْوَتَكَ وَيَتَّبِعُوا أَمْرَكَ، فَإِنْ هُمْ اتَّبَعُوكَ فَما أَعَزّ أَمْرَك فَقَالَ، رَسُولُ الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْهِمْ أَهْلَ نَجْدٍ. فَقَالَ عَامِرٌ لَا تَخَفْ عَلَيْهِمْ أَنَا لهُمْ جَارٍ أَنْ يَعْرِضَ لَهُمْ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ. وَكَانَ مِنْ الْأَنْصَارِ سَبْعُونَ رَجُلًا شَبَبَةً يُسَمّونَ الْقُرّاءَ كَانُوا إِذَا أَمْسَوْا أَتَوْا نَاحِيَةً مِنْ الْمَدِينَةِ فَتَدَارَسُوا وَصَلَّوْا، حَتّى إِذَا كَانَ وِجَاهَ الصّبْحِ اسْتَعْذَبُوا مِنْ الْمَاءِ وَحَطِبُوا مِنْ الْحطَبِ فَجَاءُوا بِهِ إِلَى حِجْرِ رَسُولِ اللهِ ، وَكَانَ أَهْلُوهُمْ يَظُنُّونَ أَنّهُمْ فِي المَسْجِدِ، وَكَانَ أَهْلُ المَسْجِدِ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ فِي أَهْلِيهِمْ. فَبَعَثَهُمْ رَسُولُ الله (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ)، فَخَرَجُوا فَأَصِيبُوا فِي بِئرِ مَعُونَةَ، فَدَعَا رَسُولُ الله عَلَى قَتَلَتِهِمْ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةٌ ..».

وفي موضع آخر «لمّا قُتِلَ سُفْيَانُ بْنُ خَالِدِ بْنِ نُبَيْحِ الْهُذَلِيّ مَشَتْ بَنُو لِحْيَانَ إِلَى عَضَلِ وَالْقَارّةِ، فَجَعَلُوا لَهُمْ فَرَائِضَ عَلَى أَنْ يَقْدَمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّه فَيُكَلّمُوهُ

ص: 405

فَيُخْرِجَ إِلَيْهِمْ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِهِ يَدْعُونَهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ. فَتَقْتُلَ مَنْ قَتَلَ صَاحِبَنَا وَنَخْرُجَ بِسَائِرِهِمْ إِلَى قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ فَنُصِيبَ بِهِمْ ثَمَنًا ؛ فَإِنَّهُمْ لَيْسُوا لِشَيْءٍ أَحَبّ إِلَيْهِمْ مِنْ أَنْ يُؤْتَوْا بِأَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِ مُحَمّدٍ يُمَثّلُونَ بِهِ وَيَقْتُلُونَهُ بِمَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ بِبَدْرٍ. فَقَدِمَ سَبْعَةُ نَفَرٍ مِنْ عَضَلٍ وَالْقَارّةِ - وَهُمَا حَيّانِ إِلَى خُزَيْمَةَ - مُقِرّيْنِ بِالْإِسْلَامِ فَقَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ إِنّ فِينَا إِسْلَامًا فَاشِيًا ، فَابْعَثْ مَعَنَا نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِك يُقْرِئُونَنَا الْقُرْآنَ وَيُفَقّهُونَنَا فِي الْإِسْلَامِ. فَبَعَثَ مَعَهُمْ سَبْعَةَ نَفَرٍ .... وَيُقَالُ كَانُوا عَشْرَةً ... فَخَرَجُوا حَتّى إِذَا كَانُوا بِمَاءٍ لهُذَيْل - يُقَالُ لَهُ الرّجِيعُ قَرِيبٌ مِنْ الْهدّةِ خَرَجَ النَّفَرُ فَاسْتَصْرَخُوا عَلَيْهِمْ أَصْحَابَهُمْ الَّذِينَ بَعَثَهُمُ اللَّحْيَانِيّونَ فَلَمْ يُرَعْ أَصْحَابُ مُحَمّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ إِلّا بِالْقَوْمِ مِائَةُ رَامٍ وَفِي أَيْدِيهِمْ السّيُوفُ. فَاخْتَرَطَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ أَسْيَافَهُمْ ثُمَّ قَامُوا، فَقَالَ الْعَدُوّ مَا نُرِيدُ قِتَالَكُمْ وَمَا نُرِيدُ إِلّا أَنْ نُصِيبَ مِنْكُمْ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ ثَمَنًا، وَلَكُمْ عَهْدُ اللهِ وَمِيثَاقُهُ لَا نَقْتُلُكُمْ. فَأَمّا خُبَيْبُ بْنُ عَدِيّ، وَزَيْدُ بْنُ الدِّثنّة، وَعَبْدُ الله بْنُ طَارِقٍ، فَاسْتَأْسَرُوا وَقَالَ خُبَيْبٌ إِنّ لِي عِنْدَ الْقَوْمِ يَدًا. وَأَمّا عَاصِمُ بْنُ ثَابِتٍ وَمَرْثَدٌ وَخَالِدُ بْنُ أَبِي الْبُكَيْرِ وَمُعَتّبُ بْنُ عُبَيْدٍ، فَأَبَوْا أَنْ يَقْبَلُوا حِوَارَهُمْ وَلَا أَمَانَهُمْ. وَقَالَ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتِ إِنِّي نَذَرْت أَلّا أَقْبَلَ حِوَارَ مُشْرِكٍ أَبَدًا. فَجَعَلَ عَاصِمٌ يُقَاتِلُهُمْ ... [فقاتلوا حتى قتلو صبراً رضوان الله عليهم]» (1).

لقد كان النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم يعمل على استمالة قلوب المحايدين ودعوتهم إلى الإسلام من خلال إرسال المجاميع التبليغية والإرشادية إلى مختلف المناطق والقبائل، وكان هؤلاء المبلغون من حفاظ القرآن وحملة المعارف والتعاليم الإسلامية، وكانوا قد وضعوا أرواحهم على أكفهم من أجل نشر

ص: 406


1- أُنظر: محمد بن عمر الواقدي، المغازي، تحقيق مارسدن جونس، ج 1، ص 346-355 .

الإسلام ودعوة الناس إلى هذا الدين الحنيف.

وبطبيعة الحال فإن الحاقدين والمغرضين الذين يطرحون هذا النوع من الشبهات، يتجاهلون هذه الأحداث. وإلا فإن قتل هؤلاء المعلمين والمبلغين دليل واضح على بطلان الشبهة القائلة بأن النبي كان ينشر دين الإسلام بواسطة العنف، وإنما العكس هو الصحيح.

ومن خلال التدبر والتأمل في الحروب التي بدأت منذ السنة الأولى من الهجرة إلى آخر أيام حياة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم يمكن لنا الوقوف على أسلوبه ومنهجه الصحيح في نشر الإسلام. فقد روي أن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم عندما كان يرسل المقاتلين إلى الحرب يأمرهم بالمحافظة على حرمة الناس وكرامتهم، وكان يقدم الدعوة إلى الإسلام والتوحيد والنبوة على الجهاد (1) .

وقد نقل المحققون أن مجموع من قتل من المشركين والكفار في جميع هذه الغزوات والحروب على يد المسلمين طوال هذه المدة في كافة أنحاء شبه الجزيرة العربية لم يبلغ الألف نسمة (2) .

وعندما أخفق خالد بن الوليد في دعوة أهل اليمن الى الإسلام، عمد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم إلى إرسال الإمام علي بن أبي طالب بدلاً منه، فقام الإمام بدعوتهم إلى الإسلام من خلال الحلم والصبر والروية، وبذلك لم يجد أهل اليمن غضاضة في اعتناق الإسلام بعد ما لمسوه من الحلم والسماحة (3).

ص: 407


1- أُنظر: المحدث حسين النوري، مستدرك الوسائل، ج 11، ص 31.
2- أُنظر: العلامة السيد جعفر مرتضى العاملي، الصحيح من سيرة النبي الأعظم، ج 4، ص 326.
3- نظر أحمد بن يحيى البلاذري، أنساب الأشراف، تحقيق سهيل زكار وخير الدين الزركلي، ج 1، ص 384 .

والدليل الآخر الذي يمكن لنا أن نسوقه على إثبات أن اعتناق الإسلام كان يتم بكل حرية واختيار ومن دون إجبار ولا إكراه ظاهرة الوفود. ففي السنة التاسعة من الهجرة وبعد فتح مكة، كان الناس يأتون إلى النبي أفواجاً وجماعات لاعتناق الإسلام والالتحاق بالأمة الإسلامية، ومن هنا فقد اشتهرت تلك السنة باسم (سنة الوفود) (1) .

وأما في الفترة التي أعقبت رحيل النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم عن هذه الدنيا، وما كان يصدر باسم دولة الخلافة وما سمي بعصر الفتوحات، فكان يتم التركيز فيه على توسيع الرقعة الجغرافية فقط دون الاهتمام بهداية الناس، وهذا كلام صحيح ولكنه لا يمتّ إلى الإسلام بصلة، فهو بعيد كل البعد عن روح الإسلام وحقيقته ومنهجه (2) . ومع ذلك فإن هذه الفتوحات إنما كانت تهدف إلى توسيع الامبراطورية المنشودة لملوك بني أمية وبني العباس باسم الإسلام فقط، ولم يكن هناك فيها أي إكراه للناس على اعتناق الإسلام، بل كان يترك لهم كامل الحرية في اعتناق الإسلام أو البقاء على دينهم، والشاهد على ذلك أن سكان البدان المفتوحة قد أسلموا بشكل تدريجي، وحتى إسلام الإيرانيين لم يحدث إلا في القرن الهجري الرابع.

2 - الإسلام عقيدة قلبية لا مجال فيها للإكراه:

من ناحية أخرى يجب القول إن الإسلام والإيمان من الأمور القلبية

ص: 408


1- أُنظر: محمد هادي اليوسفي الغروي، تاريخ اسلام، ترجمه إلى الفارسية حسين علي العربي، ص 696 .
2- أُنظر: العلامة السيد جعفر مرتضى العاملي، الصحيح من سيرة النبي الأعظم، ج 4، ص 318 .

التي لا تنسجم مع الإكراه والإجبار، وعليه لا يمكن فرض العقيدة على شخص بالعنف والقوّة، وفي ذلك يقول الله تعالى في القرآن الكريم (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) (1) .

وعليه فإن الدين الذي هو عبارة عن مجموعة من التعاليم الاعتقادية التي لا ينعقد عليها غير القلب، لا يمكن أن تفرض على الأفراد بالإكراه. نعم يمكن للسيف والقوة العسكرية أن تتحكم بأجساد الناس، ولكنها لا تستطيع التأثير على ما تنطوي عليه أفئدتهم وظمائرهم، ولا يمكنها تغيير الأفكار والعقائد (2) .

3 - الدوافع الدفاعية لحروب الرسول صلی الله علیه و آله و سلم :

بعد هجرة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم إلى المدينة اندلعت حروب كان موقف المسلمين فيها بشكل عام موقفاً دفاعياً، فهي إما للدفاع عن المدينة أو لصد هجمات القبائل أو ردع المعتدين، وهذا أمر طبيعي؛ لأن حق الدفاع تكفله جميع التشريعات السماوية وحتى الوضعية لكل من يتعرّض إلى العدوان. والقدر المتيقن أن الله سبحانه وتعالى قد وضع برنامجاً ودستوراً يضمن للإنسان السعادة والرفاه، وكان الأنبياء مكلفين بإبلاغ هذه الدساتير إلى جميع الناس، وعليه فإذا سعى شخص أو جماعة إلى الحيلولة دون إيصال الأوامر والتعاليم الإلهية إلى الناس، كان من حق الناس أن يوقفوا هذا الشخص أو الجماعة عند حدّهم وإزاحتهم عن طريق الدعوة، لضمان حرية نشر الدعوة لأنفسهم.

ص: 409


1- البقرة: 256 .
2- أُنظر: ناصر مكارم الشيرازي، تفسير نمونه (الأمثل)، ج 2، ص 281.

كما سمح الله تعالى للمؤمنين في قرآنه الكريم وأذن لهم بالجهاد وردع الذين يمارسون الظلم بحقهم، وردّ العدوان من حيث أتى، وذلك إذ يقول تعالى

(أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ٭ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا) (1) .

الشبهة الثامنة: التعرّض لقوافل مكة التجارية:

اشارة

يحاول الأستاذان على دشتي ومسعود أنصاري وغيرهما من الكتّاب المغرضين الحاقدين على الإسلام من الأساس، تصوير محاصرة النبي لقريش على أنها مسألة لا تختلف عما كان عليه مألوف عادة العرب من الغزو والنهب والغارات (2) .

ومما قاله أنصاري في هذا الشأن:

«بعد أن استقرّ المقام بمحمد في المدينة أمر أتباعه بأن يغيروا على الناس، فبدلاً من العمل على كسب الأموال بالطرق الشريفة والمشروعة لجأ إلى تحصيلها من خلال السلب والنهب، فكان في ذلك مجرد زعيم عصابة تمارس قطع الطرق. وقد قام محمد بمهاجمة القوافل التجارية بين مكة والشام ثلاث مرات ولكنه لم يحقق أي نجاح فيها. وقد حقق محمد أولى انتصاراته في

ص: 410


1- الحج: 39 - 40 .
2- أُنظر: علي دشتي، بيست و سه سال، إعداد وتنقيح بهرام چوبینه، ص 144؛ مسعود أنصاري (روشنگر)، کوروش بزرگ و محمد بن عبد الله، ص 284؛ ابن وراق، اسلام ومسلماني، ترجمه إلى الفارسية مسعود أنصاري (روشنگر)، ج 1، ص 203 و 207 و 224 .

شهر محرم الحرام مغتنماً غرّة عدّوه حيث كان هذا الشهر يُعدّ من الأشهر التي يحرم فيها سفك الدماء طبقاً للتقاليد والأعراف العربية المتأصّلة» (1) .

الجواب :

إنّ هذه الشبهة لا تعدو أن تكون اجتراراً لما سبق للمستشرقين أن تذرّعوا به فيما يتعلق بدراستهم لسيرة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم. حيث ركزوا على تعرض النبي لقوافل قريش من أجل إثبات أن النبي وأتباعه لم يكونوا يختلفون عن أبناء جيلهم من المنتسبين إلى القبائل التي كانت تعيش في بادية الحجاز القاحلة على النهب والسلب والتعرّض للقوافل التجارية، وأنه إنما ادعى النبوّة بغية الوصول إلى أطماعه الشخصية وأهدافه الخاصة.

1 - السيرة النظرية والعملية للنبي الأكرم تقوم على المداراة والرحمة:

إن دعوى الهجوم على القوافل وسرقة أموالها عارية عن الصحّة تماماً؛ لأنّها مخالفة للحقائق التاريخية بالكامل. فقد كان النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بوصفه خاتم النبيين وأفضل أنبياء الله متصفاً بالأخلاق الكريمة والفاضلة، وفي ذلك روي عنه أنه قال: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» (2).

كما وصفه القرآن الكريم بقوله تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (3) .

ص: 411


1- ابن وراق، اسلام و مسلماني، ترجمه إلى الفارسية مسعود أنصاري (روشنگر)، ج 1، ص 203 .
2- السيد علي أكبر القرشي، أحسن الحديث، ج 11، ص 279؛ ناصر مكارم الشيرازي، تفسير نمونه (الأمثل)، ج 24، ص 379.
3- القلم: 4 .

وعليه لا يمكن لهذا الاتهام أن يكون وارداً على ساحته المقدسة. فلم يكن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم من الذين يمارسون القتل والنهب والسلب. وليس بوسع أحد أن يأتي بشاهد واحد من سيرة حياته يثبت أنه كان معتدياً أو ظالماً، بل كان موضع ثقة الجميع حتى لُقّب بالصادق الأمين، وكانوا ينادونه ب- «محمد الأمين» (1). وكان على الدوام يقف في وجه الظالم والمعتدي حتى لو كان واحداً من أفراد قبيلته، وإن حلف الفضول خير شاهد على ذلك، وقد أكد على هذا الحلف حتى بعد نبوته، حيث قال: «لقد شهدت مع عمومتي حلفاً في دار عبد الله بن جدعان ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو دعيت به في الإسلام لأجبت» (2).

من جهة أخرى فإن الدين الإسلامي الذي جاء به رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ينهى عن مثل هذه الأعمال والممارسات بشدّة، وقد أدرجها في خانة الحرمة والأعمال القبيحة، فكيف يعقل أن يكون هو من يمارسها بعد أن كان الدين الحنيف الذي نزل عليه يشجبها ويحرّمها؟!

ومما ورد في سيرة النبي الأعظم أنه عندما كان ينظم جيشه ليرسله إلى القتال، كان يقدم للجنود والمقاتلين بعض النصائح والإرشادات بضرورة الحفاظ على حرمة الإنسان، ومن ذلك قوله صلی الله علیه و آله و سلم:

«اغزوا بسم الله، وفي سبيل الله تعالى، قاتلوا من كفر بالله، ولا تغدروا، ولا تغلوا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليداً، ولا مبتلاً في شاهق» (3).

ص: 412


1- أُنظر: ابن هشام، سيرة ابن هشام، ج 1، ص 197.
2- ابن واضح اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، ج 2، ص 17 .
3- السيد جعفر مرتضى العاملي، الصحيح من سيرة النبي الأعظم، ج 4، ص 332.

وقد أفرد الشيخ الطوسي في كتاب التهذيب باباً تحت عنوان «باب ما ينبغي لوالي الإمام أن يفعله إذا سري في سرية» (1) وجمع فيه الروايات التي تتحدّث عن كيفية توجيه الجيوش ووصايا الرسول في هذا الشأن، فكان يجتمع بالسرايا التي لم يشاركها القتال، أو أنه كان يشيعها إلى مسافة من الطريق وهو يوصيهم ببعض الوصايا ويقدّم لهم النصائح ويأمرهم برعاية التقوى (2). فعن بريدة الأسلمي أن النبي صلی الله علیه و آله و سلم كان إذا أرسل أميراً في سرية أوصاه بتقوى الله (3) .

واللافت في البين أنه كان يأمر حتى بالمحافظة على البيئة، فينهي عن قطع الأشجار، ومن ذلك قوله صلی الله علیه و آله و سلم: «ولا تحرقوا النخل، ولا تغرقوه بالماء، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تحرقوا زرعاً» (4).

لقد كان النبي يقدم هذه النصائح والإرشادات إلى الجيوش عند تسييرها إلى القتال، فكيف يمكن لهذه القوات المشحونة بكل هذه الوصايا الأخلاقية العالية أن تكون مرسلة للقتل والغارة والسلب والنهب؟ فإذا كان النهي يصل حتى إلى قطع الشجر، فكيف يمكن لهذا الجيش أن يسلك ما عليه القبائل البدوية؟!

إن المتيقن هو أن النبي لم يتعرّض إلى أي قافلة تجارية غير قوافل قريش، ويشهد لذلك ما رواه الواقدي الذي لم يترك شاردة ولا وادرة ولا

ص: 413


1- الشيخ الطوسي، التهذيب، ج 6، ص 138.
2- أُنظر: المصدر أعلاه، ص 138 - 139.
3- أُنظر: جعفریان، سیره رسول خدا، ج 1، ص 449.
4- محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 19، ص 177.

صغيرة ولا كبيرة من الحركات العسكرية للنبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم إلا أتى على ذكرها في كتاب المغازي.

2 - حصر الهجمات على قوافل المشركين من أهل مكة:

وعليه فقد اتضح من خلال هذا الكلام أن سيرة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم لم تقم على السلب والنهب ومهاجمة القوافل التجارية، ولكن هناك من ناحية أخرى بعض الروايات التي تتحدّث عن قيادة النبي لبعض السرايا أو توجيهها لتعقّب بعض القوافل ومصادرة أموالها. وفي هذا الشأن يجب القول بأن هذا أمر ثابت ولا ننكره، وحتى غزوة بدر جاءت في هذا السياق.

ولكن علينا أن ننظر إلى من هم أصحاب هذه القوافل؟ وفي الجواب نقول لا شك في أن هذه القوافل تعود ملكيتها إلى مشركي مكة، وهم أعداء النبي وسائر المسلمين، وهم الذين أخرجوهم من ديارهم وصادروا ممتلكاتهم بغير وجه حق، وعليه فإن التعرض إلى قوافلهم كان من أجل استرداد الحقوق المستلبة، وهذا أمر منطقي تقرّه جميع القوانين والتشريعات الوضعية والإلهية.

3 - استعادة المسلمين أموالهم التي صادرها المشركون:

بل إن هذه القوافل كانت تحمل أموال المسلمين التي تمّت مصادرتها من قبل المشركين وانطلقوا يتاجرون بها على مرأى من أعين أصحابها من المسلمين المهاجرين، حيث عمد مشركو قريش إلى الاستيلاء على بيوت المهاجرين وممتلكاتهم في مكة، أو حالوا أحياناً دون خروجهم من مكة أو السماح لهم بإخراج أموالهم وممتلكاتهم، بل كانوا يفرقون بين الأسر أحياناً (1).

ص: 414


1- أُنظر: ابن هشام، السيرة النبوية لابن هشام، ج 1، ص 469.

وكان كثير من هؤلاء المهاجرين قد عانوا كثيراً من المشاكل الاقتصادية الخانقة في المدينة المنوّرة، واستمرّت معاناتهم مدّة زمنية طويلة. واللافت أنّه عندما قامت سرية عبدالله بن جحش بالتعرّض لقافلة قريش ومصادرتها فى الشهر الحرام، وما ترتب على ذلك من ارتفاع أصوات الاستنكار من قبل المنافقين والكفار واليهود وحتى بعض المسلمين، أنزل الله تعالى قرآناً يؤيد فيه ما قام به المسلمون من استرجاع أموالهم المستلبة، مبيناً أن إخراج المسلمين من أوطانهم على يد المشركين أكبر من قتالهم في الشهر الحرام؛ إذ قال تعالى:

(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) (1) .

4 - محاصرة العدو اقتصادياً:

ومن جهة أخرى يجب القول إن المشركين من أهل مكة كانوا أعداء النبي، وإن الطريق التجاري من مكة إلى الشام كان يمرّ بمحاذاة المدينة، وعليه فقد عمد أصحاب النبي - من خلال إغلاقهم الطريق أمام القوافل المكية - إلى محاصرة المشركين اقتصادياً. وكان الهدف من كثير من هذه السرايا هو الضغط على قريش. ومن بين تلك السرايا سرية عبيدة بن الحارث، وسرية حمزة بن عبدالمطلب، وسرية عبد الله بن جحش، وسرية زيد بن حارثة، حيث التحمت بعض هذه السرايا بالقوافل وحصلت على بعض الغنائم، بينما اقتصر بعضها الآخر على التخويف والتهديد.

ص: 415


1- البقرة: 217 .

5 - تسقّط أخبار العدو وتقصّي أخبار المشركين:

جدير بالذكر أنّ بعضهم يذهب إلى الاعتقاد بأن الهدف والغاية من إخراج هذه السرايا هو الحصول على معلومات عن جبهة العدو واستقصاء

أخبارهم ورصد تحرّكاتهم في المنطقة (1).

الشبهة التاسعة: اغتيال المعارضين:

اشارة

إن الاغتيال عمل قبيح ومستهجن ومخالف للمروءة. كما أن العالم المعاصر يستقبح هذا العمل، ويعدُّ سياسة الاغتيال عملاً إجرامياً والذي يمارسه يعدّ مجرماً في القوانين المتبعة بين الدول، كما كان هو الحال في العصور الماضية أيضاً، وخاصة في التعاليم الإسلامية حيث تمّ النهي عن ذلك بشدّة. بيد أن الذين يجهلون حقيقة الإسلام الناصعة أو الذين يعادون تعاليمه الأخلاقية السامية يسعون من خلال هذا الاتهام إلى تشويه صورة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم والمسلمين. ومما جاء في كتاب (إسلام ومسلماني)

«عندما اطمأن محمد إلى بسط سلطته على المدينة، صار بصدد حسم مصیر أعدائه وتصفيتهم الواحد تلو الآخر، ولتحقيق هذه الغاية أمر باغتيال من يعارضه، مرسخاً بذلك أركان حكمه في المدينة بكل ما أوتي من قوة على البطش والقسوة. واللافت للانتباه أن الله هو الذي ألهم النبي باتباع هذه السياسة وأنزل القرآن بمباركتها وإضفاء الشرعية عليها» (2) .

ص: 416


1- أُنظر: السيد جعفر مرتضى العاملي، الصحيح من سيرة النبي الأعظم، ج 4 ، ص 344.
2- ابن وراق، اسلام و مسلماني، ترجمه إلى الفارسية مسعود انصاري (روشنگر)، ص 204؛ علي دشتي، بيست وسه سال، اعداد و تنقیح بهرام چوبینه، ص 149؛ عبد الکریم سروش، ماهانه آفتاب، العدد 25، ص 79 .

الجواب:

1 - تحريم قتل النفس المحترمة:

لقد أقرّت الشريعة الإسلامية المقدّسة حرمة أرواح جميع الناس، وعبّرت عن كل روح إنسانية بالنفس المحترمة، حيث يرى الإسلام لأرواح المسلمين والحفاظ على أمن الناس أهمية بالغة، وعارض قتل الأبرياء بشدة، ورصد للقاتل عقوبات مشدّدة تصل إلى حدّ القصاص، إذ يقول الله تعالى في محكم كتابه الكريم ﴿وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلا بِالحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَليّهِ سُلْطَانًا﴾ (1) .

كما رصد الإسلام لقاتل النفس المحترمة عقوبة أخرى تنتظره يوم القيامة، حيث سيكون مصيره الخلود في نار جهنم علاوة على غضب الله عليه وطرده من رحمته، قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) (2) .

وقد وصف القرآن الكريم قتل إنسان واحد بقتل الإنسانية بأسرها، كما عدّ إنقاذ شخص واحد من الموت بمثابة إنقاذ الناس بأجمعهم، إذ يقول تعالى (مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) (3) .

والذي يلوح بوضوح من جميع هذه الآيات الشريفة هو النهي عن قتل

ص: 417


1- الإسراء : 33 .
2- النساء: 93 .
3- المائدة: 32 .

الأبرياء من الناس من دون وجه حق. وبذلك يتضح أن الله يرى حرمة جميع الناس، فضلاً عن المؤمنين.

من ناحية أخرى نرى في كثير من الأحاديث المأثورة عن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم ما يحرّم وينهى عن قتل الناس. فمما روي عنه أنه قال: «أول ما يحكم الله فيه يوم القيامة الدماء» (1).

وفي حديث آخر قال رسول الله: «فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى يوم القيامة تلقونه

فيسألكم عن أعمالكم» (2).

كما تمّ التصريح في كثير من الروايات باعتبار القتل من كبائر الذنوب، من ذلك

1 - إنّ قتل الأبرياء هو أول ما يتمّ السؤال عنه في يوم القيامة.

2 - إنّ أكثر الناس إجراماً هو الذي يقتل إنساناً.

3 - إنّ القاتل بالإضافة إلى حمل أوزاره الخاصة، سيحمل أوزار المقتول أيضاً.

4 - لو أن أهل السماوات والأرض اشتركوا في قتل مؤمن، فإن العذاب سيطالهم بأجمعهم.

5 - لئن تزول الدنيا أسهل على الله من قتل إنسان بريء (3) .

كما كان النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم يعارض في سيرته قتل الأبرياء بشدّة، ولو

ص: 418


1- محمد بن يعقوب الكليني، أصول الكافي، ج 7، ص 271.
2- المصدر أعلاه، ج 7، ص 273 .
3- أُنظر: الشيخ محسن قراءتي، تفسير نور، ج 2، ص 356.

حدث أحياناً أن صدر عن أحد المسلمين من المقاتلين قتلاً غير متعمّد كان صلی الله علیه و آله و سلم يبادر إلى التعويض على أولياء الدم، كما حصل ذلك في حادثة ذهابه إلى بني النضير لطلب المساعدة على دفع دية قتيلين ينتميان إلى قبيلة بني عامر إذ قتلهما أحد لمسلمين وهو (عمرو بن أمية) عن طريق الخطأ حيث تصورهما من الأعداء (1) .

وكذلك نرى النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم يتبرّأ من فعل خالد بن الوليد حيث بادر إلى قتل عدد من أفراد بني جذيمة، إذ روي عنه قوله:

«اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد» (2).

ثم أرسل الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام كي يدفع إلى أهلهم دیتهم.

وبذلك يتضح أن سيرة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم لم تقم على سياسة الاغتيالات وقتل الناس من دون وجه حق، وإنه كان يرى حرمة خاصة لأرواح الناس. صحيح أنه أهدر دماء بعض المنافقين والمشركين ممن كانوا يشكلون خطراً على بيضة الإسلام، فجاء الأمر بإهدار دمهم حفاظاً على دماء المسلمين وقطعاً لشرورهم.

2 - الأمر بقتل كعب بن الأشرف:

إن من بين الأشخاص الذين حكم النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بإهدار دمهم كعب بن الأشرف، وهو أحد كبار اليهود من بني النضير. وكان من أمره أنه عندما بلغه خبر اندحار قريش في معركة بدر خرج من المدينة قاصداً مكة

ص: 419


1- أُنظر: ابن هشام، السيرة النبوية لابن هشام، تحقيق مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري الشلبي، ج 2، ص 190.
2- نور الدين الحلبي، السيرة الحلبية، ج 3، ص 277 .

المكرّمة وشارك المشركين حزنهم على قتلاهم وذرف هناك الدموع وألقى الأشعار التي تشيد بمآثر القتلى وإثارة الناس ضدّ رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم. ثم عاد إلى المدينة ليمارس أعمالاً تصبّ في إيذاء المسلمين، بل قيل إن الأمر بلغ به حتى إلى التشبيب بنساء المسلمين وهجائهنّ. فلما بلغ ذلك سمع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، ساءه ذلك جداً وطلب من أصحابه أن يكفوا أذاه عن المسلمين، فبادر رجال من الأوس إلى قتله (1).

3 - الأمر بقتل سلام بن أبي الحُقيق:

إنّ من بين كبار اليهود الذين ناصبوا رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم العداء، وقام بنشاط محموم ضد المسلمين هو سلام بن أبي الحُقيق. وقد كان له دور فاعل في إثارة وتشجيع قريش والأحزاب على محاربة رسول الله من دون أن يدخل في الحرب مباشرة. وبعد حرب الخندق هرب إلى خيبر. وقد أهدر النبي دمه لهذه الأسباب، حيث قتله بعض رجال قبيلة الخزرج (2) .

4 - الأمر بقتل عدد من شعراء اليهود:

فضلاً عن هذين الشخصين كان هناك عدد من يهود المدينة كرّسوا نشاطهم في نظم الشعر ضدّ الإسلام والمسلمين، وكانوا يسخرون من المنزلة الروحية والمعنوية للنبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم ويثيرون الدهماء ضدّه وضدّ المسلمين، وهو أمرٌ دعا النبي إلى إهدار دمائهم، وكان بعض المسلمين - الذين هم من أفراد القبائل نفسها التي ينتمي إليها هؤلاء الخاطئين - يبادرون إلى قتلهم،

ص: 420


1- أُنظر: ابن هشام، السيرة النبوية لابن هشام، تحقيق مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري الشلبي، ج 2، ص 51.
2- أُنظر: المصدر أعلاه، ج 2، ص 273.

ومن بين هؤلاء أبو العفك حيث قتل على يد سالم بن عمير (1) . وأسماء بنت مروان وهي من يهود قبائل الأنصار، إذ نالت جزاءها على يد شخص من الأنصار يُدعى عمير بن عوف (2) . وكذلك ابن سنية حيث قتل على يد رجل من الأنصار اسمه محيصة بن مسعود (3) .

وعليه من الواضح أن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم كان يسعى حتى الإمكان إلى حفظ الأنفس من القتل، ولكن كان هناك من الناس من يضيّق الخناق على الإسلام والمسلمين بحيث يتحوّل إلى مصدر خطر يعرّض بيضة الإسلام إلى الزوال، وهناك كان النبي يضطر إلى إرسال سرية لتتولى أمره، كما ورد التعبير بذلك فى بعض المصادر التاريخية إذ يقول «أرسل سرية لقتل كعب بن الأشرف» (4).

والأمر الآخر الذي يؤكد قولنا بأن النبي لم يكن يأمر بقتل شخص إذا لم يشكل خطراً على بيضة الإسلام هو أنه بعد فتح مكة أصدر عفواً عاماً على جميع الذين حاربوا النبي والمسلمين، باستثناء عدد قليل مردوا على الفساد والإفساد فأمر بقتلهم حتى لو وجدوا متعلقين بأستار الكعبة، وحتى هؤلاء نجا أغلبهم من القتل بشفاعة بعض المسلمين، ولعل ذلك يعود إلى أنهم لم يعودوا يشكلون خطراً على الإسلام والمسلمين بعد فتح مكة.

ص: 421


1- أُنظر: محمد بن عمر الواقدي، المغازي، تحقيق مارسدن جونس، ج 1، ص 174 - 175 .
2- أُنظر: المصدر أعلاه، ص 172 - 173.
3- أُنظر: المصدر أعلاه، ص 191 - 192.
4- أُنظر: محمد هادي اليوسفي الغروي، تاريخ اسلام، ترجمه إلى الفارسية حسين علي العربي، ص 325.

الشبهة العاشرة: قتل الأسرى:

اشارة

هناك من يتهم النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بسوء معاملة الأسرى وتعذيبهم، بل حتى قتلهم كما حصل لرجال من قبيلة بني قريظة حيث أمعن في قتلهم والتنكيل بهم بعد محاصرتهم.

الجواب:

لقد وصف الله سبحانه وتعالى رسوله الكريم صلی الله علیه و آله و سلم في محكم آياته بأنه مظهر الرحمة والرأفة، حيث يقول (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (1) .

لقد قامت سيرة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم على الرحمة في جميع الحروب التي خاضها ضدّ أعداء الإنسانية، وكان يقدم الصفح والعفو على القصاص والانتقام، وكان يسعى جاهداً إلى عدم بلوغ الأمر إلى الحرب والقتال وسفك الدماء. وإن اتهامه بأنه كان يقتل الأسرى مجرد كلام فارغ لا يقوم على أساس من الصحة أبداً؛ إذ يجمع المفسرون من المسلمين (2) (من السنة والشيعة) على أن أهل بيته قد تصدّقوا بطعام إفطارهم لليوم الثالث على التوالي لأسير جائع؛ فنزل قول الله تعالى في هذا الشأن (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا) (3) .

ص: 422


1- الأنبیاء: 107 .
2- أُنظر: البيضاوي، أنوار التنزيل وأسرار التأويل، ج 5، ص 270؛ علاء الدین البغدادي، أسباب التأويل في معاني التنزيل، ج 4، ص 378؛ الثعلبي النيشابوري، كشف البيان عن تفسير القرآن، ج 10، ص 99، العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 20، ص 132؛ ناصر مكارم الشيرازي، تفسير نمونه (الأمثل)، ج 21 ، ص 411 .
3- الإنسان: 8 .

وقد عمد النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم إلى تفريق أسرى معركة بدر بين أصحابه وأمرهم بأن يحسنوا معاملتهم (1) . حتى قال أبو عزيز بن عمير بن هاشم [شقيق مصعب بن عمير] وهو حامل لواء قريش وكان ضمن من أسر في المعركة: «كُنْتُ فِي رَهْطٍ مِنْ الْأَنْصَارِ حِينَ أَقْبَلُوا بي [أسيراً] مِنْ بَدْرٍ فَكَانُوا إِذَا قَدّمُوا غَدَاءَهُمْ وَعَشَاءَهُمْ خَصّونِي بِالْخُبْزِ وَأَكَلُوا التّمْرَ لِوَصِيَّةِ رَسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ إِيَّاهُمْ بِنَا، مَا تَقَعُ فِي يَدِ رَجُلٍ مِنْهُمْ كِسْرَةُ خُبْزِ إِلّا نَفَحَنِي بِهَا. قَالَ: فَأَسْتَحْيِيَ فَأَرُدّهَا عَلَى أَحَدِهِمْ فَيَرُدّهَا عَلَيَّ مَا يَمَسّهَا» (2).

كما تؤكد الأخبار والروايات على أن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم كان يستثمر كل مناسبة للعمل على إطلاق الأسرى وتحريرهم من قيود الأسر، فعلى سبيل المثال نجده يبادر بنفسه إلى دعوة هوازن للوفود عليه في وقت الصلاة وتشفيعه لإطلاق سراح الأسرى من أبنائها، فقام باحترام قدومهم وعمل على إكرامهم وأعتق من بحوزته ومن بحوزة أهل بيته من بني هاشم وبني عبدالمطلب من الأسرى فأطلقهم، وعمد بعض المهاجرين والأنصار إلى فعل الشيء نفسه أسوة برسول الله، وكان هناك من امتنع من المسلمين عن إطلاق من في يده من أسرى هوازن، فقام النبي وألقى عليهم خطبة مؤثرة بحيث أجمع المسلمون بعدها على تخويل رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أمر من في أيديهم من الأسرى (3) .

ص: 423


1- أُنظر: ابن هشام، السيرة النبوية لابن هشام، تحقيق مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري الشلبي، ج 1، ص 645 .
2- المصدر أعلاه.
3- أُنظر: محمد بن عمر الواقدي، المغازي، تحقيق مارسدن جونس، ج 3، ص 951 - 952 .

وفيما يتعلق بأسرى بني المصطلق قام النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بانتهاج سياسة مدروسة تمهد إلى إطلاق سراحهم، حيث أنه عمد إلى بعض الإماء من نسائهم - وهي بنت زعيم من زعمائهم - فأعتقها ثم تزوّج منها؛ فبادر المسلمون إثر ذلك إلى إطلاق سراح سائر الأسرى من بني المصطلق والذين بلغ عددهم مئة أسرة، وقالوا إن هؤلاء قرابة الرسول وليس من الأدب أن نستعبدهم (1) .

وعلى الرغم من أن العادة المتبعة آنذاك كانت تقوم على افتداء الأسرى بشيء من المال، إلا أن سيرة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم كانت تقوم في الغالب على إطلاق سراح الأسرى من دون إجبار ذويهم أو عشيرتهم على دفع الفدیة، كما حصل ذلك بالنسبة إلى كثير من أسرى بدر، حتى عقد ابن هشام في سيرته باباً مستقلاً تحت عنوان (الذين أطلقوا من غير فداء) (2).

كما تمّ الإعلان من قبل النبي في هذه المعركة عن أن كل أسير يستطيع أن يشتري حريته بتعليم عشرة من أطفال المسلمين القراءة والكتابة، وفي رواية أخرى أن يعلم عشرة من المسلمين، وكان من بين من تعلم القراءة والكتابة من هذا الطريق زيد بن ثابت (3). وكان هذا الأمر يعد بادرة استثنائية.

ولم يتمّ قتل الأسرى إلا في بعض الموارد الخاصة جداً، ومن بينهم شخصان في معركة أحد، أحدهما أبو عزّة الذي كان يؤذي النبي بأشعاره (4).

ص: 424


1- أُنظر: ابن هشام، السيرة النبوية لابن هشام، تحقيق مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري الشلبي، ج 2، ص 294 - 295 .
2- أُنظر: المصدر أعلاه، ج 1، ص 659.
3- أُنظر: ابن سعد، الطبقات، ج 2، ص 16 .
4- أُنظر: الحلبي، السيرة الحلبية، ج 2، ص 462 .

والآخر معاوية بن المغيرة بن أبي العاص حيث أسر في معركة أحد، وتمّ إطلاق سراحه بشفاعة من عثمان بن عفان بشرط أن يغادر المدينة المنوّرة خلال ثلاثة أيام، ولكنه أساء استغلال عفو النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم عنه، وأخذ يتجسس لصالح الكفار ويتسقط أخبار المسلمين لهم في المدينة المنوّرة؛ فتمّ إلقاء القبض عليه في اليوم الرابع وأهدر دمه (1).

التشكيك والتردّد في أصل قتل رجال بني قريظة:

إن مما لا شك فيه أن سيرة النبي الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم لم تقم أبداً على قتل الأسرى، والذي نستفيده من المصادر المعتمدة والموثوقة أنه كان يتعامل مع الأعداء بمنتهى اللطف والكرم والعفو والمغفرة والصفح. وربما كان منشأ الشبهة في هذا المورد قد أتى من أحداث الحرب مع بني قريظة وقتلهم.

من خلال إطلالة على سيرة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم ندرك أنه كان يتعامل بمنتهى العطف والرحمة، وأنه كان على الدوام يقدم الصحف والعفو على القتل والانتقام.

وإذا تجاوزنا المورد آنف الذكر، نجده غير منسجم مع الحقائق التاريخية في الحرب مع قبيلة بني قريظة التي لم يرصد التاريخ سوى قتل رجالها من دون الإشارة إلى التفاصيل الأخرى، فمثلاً لم يذكر التاريخ أين تمّ دفن هذا العدد الهائل من القتلى، وما هو الاسم الذي أطلق على هذه المقبرة التي يجب أن تكون مترامية الأطراف؟! أم ما الذي حدث لذراريهم من بعدهم؟ كيف يمكن للتاريخ أن لا يشتمل على حقائق بمثل هذا الحجم والأهمية؟! ولذلك فإننا

ص: 425


1- أُنظر: المصدر أعلاه، ج 2، ص 556 .

نرى أن المبالغة في ذكر عدد القتلى بعيدة عن الحقيقة والصواب.

هذا في حين هناك تشكيك وغموض في أصل هذه الحادثة، حيث يُستبعد حدوث مثل هذا القتل الذريع، إذ نجد هناك اختلافاً كبيراً بين النصوص في ذكر عدد القتلى، فهناك من النصوص ما يذكر أن عدد القتلى قد بلغ ستمئة رجل، وهناك من ذكر أنهم سبعمئة، وهناك من ذكر أنهم تسعمئة، وهناك من قال: إن العدد يتجاوز الألف. وبالإضافة إلى هذا الاختلاف يأتي السؤال عن عدد أفراد هذه القبيلة بأسرها؟ وهل يمكن قتل هذا العدد الكبير في يوم واحد؟ إذ تقول بعض المصادر إن الذي تولى قتلهم رجل واحد أو رجلان! والذي يفاقم من تشكيكنا في أصل هذه الواقعة هو اختلاف النصوص في بيان طريقة قتل هؤلاء الأسرى. ومن خلال النظر في المصادر ندرك حجم التهافت والاضطراب في النقل، حتى نجد نهاية هذه الحادثة في نقل الواقدي تختلف عنها في نقل ابن إسحاق، حيث يذهب ابن إسحاق (1) إلى الاعتقاد بأنه تمّ ذبح جميع الأسرى إلى جوار الخندق، بينما يذهب الواقدي(2) إلى تقسيم الأسرى على قبيلة الأوس، كي يثبتوا ولاءهم وطاعتهم للنبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بإقامة الحدّ عليهم (3) .

يقول الأستاذ شهيدي «لقد قامت قصة قتل اليهود من بني قريظة منذ بدايتها على أساس التنافس بين قبيلتي الأوس والخزرج (لأن بني قينقاع كانوا

ص: 426


1- أُنظر: ابن هشام، السيرة النبوية لابن هشام، تحقيق مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري الشلبي، ج 2، ص 241 .
2- محمد بن عمر الواقدي، المغازي، تحقيق مارسدن جونس، ج 2، ص 515 .
3- يمكن الجمع بين القولين بقتلهم على يد قبيلة الأوس إلى جوار الخندق، المعرّب.

حلفاء الخزرج، وقد أوكل أمرهم إلى عبد الله بن أبي، وقد عفا عنهم، وكان بنو قريظة متحالفين مع الأوس). وقد عمد ناقل هذه الحادثة - ولا يبعد أن يكون من الخزرج - إلى رواية الحادثة بشكل يصبّ في مصلحة قبيلة الخزرج في محاولة منه لإظهار أن قومه أقرب إلى الرسول من قبيلة الأوس بوصفهم الغريم التقليدي لقبيلة الخزرج (1).

ممارسة بني قريظة للتجسس والتمرّد والسعي إلى خلق الفوضى:

وعلى فرض تسليم وقوع هذه الحادثة يجب القول إن قبيلة بني قريظة لا ينطبق عليها مفهوم العدو الخارجي، ولم يحدث إلقاء القبض على أفرادها في حرب ضدّ عدوّ خارجي، وإنما كانوا مواطنين يتمتعون بكل حقوق المواطنة في ظل الحكومة الإسلامية، ولكنهم على الرغم من ذلك وبدلاً من القيام بواجب الوفاء والإخلاص لهذه الدولة والدفاع عنها عمدوا إلى التجسس لصالح العدو والتنسيق معه للإستيلاء على مفاصل الدولة في الوقت المناسب، وبذلك يتمّ القضاء على دعوة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم.

وعندما انكشف تآمرهم لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، ولزمتهم الحجة، قام المسلمون بإلقاء القبض على المتآمرين، ولم يكن ما قاموا به عملية أسر في حرب تقليدية.

صدور الحكم بالقتل من قبل حكَم محايد:

هذا وإن الحكم بالقتل لم يصدر عن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم، بل إن بني قريظة أنفسهم اختاروا سعد بن معاذ ليكون هو الحكم بينه وبين رسول الله

ص: 427


1- السيد جعفر شهيدي، تاريخ تحليلي اسلام، ص 95 .

ليحدد مصيرهم وما هي العقوبة المناسبة لجريمتهم، ولم يكن من ابن معاذ بعد وقوفه على عظم الخيانة التي ارتكبوها إلا أن حكم عليهم بالقتل، وعليه فإن الحكم على رجال هذه القبيلة بالموت لم يصدر عن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم، وإنما من قبل وسيط حيادي هم الذين انتخبوه.

الشبهة الحادية عشرة: القسوة على اليهود وقتلهم:

اشارة

يسعى بعضهم - من خلال إثارة موضوعات من قبيل الإبادة الجماعية الفجيعة لليهود - إلى تعريف الإسلام بوصفه ديناً معادياً للديانة اليهودية، واختلقوا لإثبات ذلك أموراً لا أساس لها من الصحة، وقد كتب أحدهم في هذا الإطار:

«طبقاً لما توصل له عدد من المفكرين البارزين فإن محمداً قد دوّن دستور المدينة بحيث يمكنه منذ البداية من العمل على خلاف مصالح اليهود. وفي ذلك يقول فلهاوزن (إن مفهوم دستور المدينة يعبّر عن عدم الوثوق بيهود المدينة). كما ذهب فنسنك إلى القول بأن محمداً قد كتب دستور المدينة بشكل يتيح له السيطرة والحد من النفوذ السياسي لليهود في المدينة. وبعد بسط سلطته على المدينة كان محمد يتحيّن الفرص للقضاء على اليهود، بعد أن أدرك أنهم لم يصدقوا ادعاءه النبوّة. فاستغل الحادثة الصغيرة التي وقعت في سوق الصاغة للدعوة إلى إخراج اليهود من المدينة. كما كان محمد بعد الهزيمة التي لحقت به في واقعة أحد بحاجة إلى انتصار جديد لاستعادة الحيثية والتعويض عن تلك الخسارة، فلم يجد غير الهجوم على قبيلة بني النظير اليهودية مخرجاً لحالة الإحباط التي استولت على أصحابه، وبعد واقعة الخندق هاجم ما تبقى من الطوائف اليهودية التي يبدو أنها كانت محايدة ولم يصدر عنها سوى الدفاع عن

ص: 428

مناطقها في معركة الخندق، فلم تجد بعد ذلك مناصاً من الاستسلام، فقتلوا عن بكرة أبيهم» (1).

الجواب:

منذ أن دخل النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم إلى المدينة تواصل مع اليهود عن كثب، ويمكن القول إن سلوك اليهود منذ البداية لم يكن إيجابياً، ففى الوقت الذي كان النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم يسعى لكي يقيم معهم علاقة منطقية وإنسانية مقرونة بالرأفة

والرحمة، كان اليهود يقابلون إحسانه بالإساءة. ففي مستهل إقامة النبي الأكرم في المدينة عقد مع اليهود ميثاقاً يقوم على رعاية حسن الجوار واحترام الحقوق المتبادلة بين الطرفين، وعدم القيام بأيّ نشاط مناوئ، والحفاظ على التعايش السلمي وبقاء اليهود على يهوديتهم. لقد كان اليهود في المدينة قبل هجرة النبي الأكرم إليها ينعمون - في ظل الخلاف المستفحل بين الأوس والخزرج، و امتلاكهم العلم والمعرفة بكتب الأنبياء السابقين وسننهم - بمكانة ومنزلة مرموقتين، ولكنهم بعد مجيء النبي وما قام به من الصلح بين الأوس والخزرج وجدوا في النبي خطراً يهدد مصالحهم، فأخذوا يحيكون المؤامرات على خلاف الميثاق الذي أبرموه معه، فضلاً عن أنّ كثيراً من علماء اليهود وأحبارهم كانوا يحسدون النبي على اصطفاء الله له بالنبوة؛ فكانوا لذلك يتآمرون عليه، واتحدوا مع بعض المنافقين في المدينة لرفع لواء المعارضة بوجه رسول الله (2) .

ص: 429


1- ابن وراق، اسلام و مسلماني، ترجمه إلى الفارسية مسعود انصاري (روشنگر)، ص 202 -210؛ مسعود الأنصاري (روشنگر)، بازشناسی قرآن، ص 162.
2- أُنظر: ابن هشام، السيرة النبوية، تحقيق مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري شلبي، ج 1، ص 513.

ثمّ حدثت بعد ذلك مواجهة فكرية بين اليهود والنبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم، حيث كان اليهود يسعون إلى التغلب على النبي بشتى الطرق، والعمل على تشكيك المسلمين - الذين كانوا من العرب ودونهم في العلم مرتبة - بنبوّة النبي وأحقية الإسلام، كما لم يقصروا في توظيف عنصر الاستهزاء والسخرية للحطّ من قداسة الإسلام، كما نشاهد نموذج ذلك في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا﴾ (1) . وذلك لأن اليهود كانوا يستعملون كلمة راعنا ويقولون «محمد راعناً» بداعي السخرية والاستهزاء بالنبي؛ إذ تتضمن هذه الكلمة معنى سلبياً بالإضافة إلى المعنى الإيجابي الموجود في النظرة (2) . وما سوى ذلك من الممارسات التي كان النبي يعمل على احتوائها وتحجيمها بالتعاطي معها منطقياً.

1 - تجسّس اليهود لمصلحة الأعداء:

إنما بدأ النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بمواجهة اليهود بشدة عندما ظهر منهم نقضهم للعهد والميثاق الذي أبرموه معه. وقد مثّل اليهود في واقع الأمر الطابور الخامس الذي يتقصّى الأخبار لصالح أعداء الإسلام من قريش، بل دخلوا حتى في النزاع المسلح الدائر بين المسلمين والمشركين، وكانوا يكشفون لهم مواطن القوة والضعف في مواقع المسلمين.

2 - مواجهة الشعراء المتآمرين:

ومن جهة أخرى كان شعراء اليهود يوظفون أشعارهم في الاستهزاء

ص: 430


1- البقرة: 104 .
2- أُنظر: ناصر مكارم الشيرازي، تفسير نمونه (التفسير الأمثل)، ج 1، ص 384.

بالنبي والمسلمين وعقائدهم الإسلامية وذلك في محاولة منهم إلى تقويض دعائم الإسلام الفتي من خلال الحرب الإعلامية والثقافية. وقد كان الشعر في حينها من أمضى الأسلحة، إذ يقوم مقام الصحافة والتلفزيون في العصر الحاضر.

فكان الشعر الذي ينظمه الشاعر يصل إلى المناطق المجاورة قبل بلوغ القوافل إليها، ولذلك أمر النبي بوضع حدّ لهذه الظاهرة ولم يكن هناك بدّ من ذلك.

3 - محاربة اليهود للنبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم:

وفي المرحلة اللاحقة دخل اليهود في مواجهة علنية وحرب مكشوفة مع النبي والمسلمين، حيث تدخلوا على المستوى الشخصي في مواجهات عسكرية ضدّ المسلمين، كما حدث ذلك في حرب بني قينقاع وبني قريظة، حيث شكلوا دعامة هامة لمصلحة المشركين في حرب الأحزاب، حتى اندلعت المعركة مع بني قريظة في نهاية المطاف. فلم يكن أمام المسلمين من خيار سوى خوض هذه الحرب، إذ كانت بيضة الإسلام مهددة بخطر الزوال، وقد تجلى هذا الخطر واضحاً في حرب الأحزاب.

و مع ذلك هناك أدلة وشواهد تجعلنا نشكك في أصل حدوث هذه القصة وسقوط هذا العدد الكبير من القتلى من اليهود من بني قريظة، وهو ما تعرّضنا له فى بيان شبهة قتل الأسرى.

تنويه: تعرّضنا في نهاية القسم الأول إلى تحليل شبهة تضييع الحقوق وموقع الشعب والأمة في حكومة النبي الأكرم بالتفصيل وأشرنا هنالك إلى سعة صدر النبي وصبره وحلمه في التعاطي مع من يخالفه سواء من أهل الكتاب أو المشركين والمنافقين، ونجد من المناسب هنا إحالة القارئ الكريم إلى ذلك البحث.

ص: 431

الشبهة الثانية عشرة: العنف والقسوة مع الكفار:

اشارة

لقد كان النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بوصفه خاتم الأنبياء والرسل المظهر الكامل للرحمة الإلهية، ولم يكن ليحمل في قلبه الشريف ذرّة حقد على أيّ إنسان حتى إذا كان من ألدّ أعدائه والمعاندين له، وكان يسعى إلى التعايش السلمي مع المخالفين. ولكن الكفار أنفسهم هم الذين بنوا علاقتهم مع النبي على العداوة والبغضاء واستخدام العنف وسيلة للوصول إلى مآربهم في التصدي للنبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم والإسلام الفتي، ومارسوا جميع أنواع العنف ضدّه وضد أتباعه وأصحابه، ومع ذلك نجد اليوم بعض الذين ينطلقون في أحكامهم على الإسلام من منطلق الحقد والكراهية، يرومون عكس الحقائق فينسبون إلى النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم ما هو ثابت في حق الجهة التي يريدون تبرئتهم .

ومما جاء في كتاب (بازشناسي اسلام):

«ذهب عامّة المؤرخين الذين رصدوا سيرة محمد وحققوا في شخصيته إلى الإجماع على أنه شخص عنيف وقسي القلب» (1) .

كما قال الكاتب المذكور في موضع آخر من نفس هذا الكتاب:

«ربما لم يكن النبي يشعر بسعادة وغبطة كتلك السعادة التي يشعر بها عندما ينظر إلى عملية قطع رأس لعدو من أعدائه، فكان حينها يشعر بالسرور والابتهاج. ومع ذلك كان يظهر التودّد لأعدائه في بعض المناسبات بحيث يثير حنق أصحابه» (2) .

ص: 432


1- مسعود أنصاري (روشنگر)، بازشناسی قرآن، ص 374.
2- أُنظر: المصدر أعلاه، ص 162 و 362؛ مسعود أنصاري (روشنگر)، الله أكبر، ص 17.

الجواب:

1 - تحريف التاريخ:

إن ما يدّعيه هذا الكاتب فى قوله: إن عامّة المؤرخين يذهبون إلى وصف النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بكونه قسيّ القلب، ادعاء جزافي لا يقوم على أيّ أساس من الصحة، بل هو تحريف صارخ للتاريخ؛ إذ لم يرد هذا الادعاء على لسان أي مؤرخ من الذين رصدوا سيرة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم أبداً، بل هناك من المفكرين الغربيين المنصفين من تفوّه بالثناء على رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم معتبراً إياه على درجة كبيرة من الناحية الأخلاقية والشخصية، وقال بأن الناس لم يجتمعوا حوله إلا لما لمسوه منه من الأخلاق الرفيعة والسجايا الكريمة (1) . وعليه فإن ما قاله هذا الكاتب المغرض لا يعدو أن يكون مجرّد ادعاء لا يقوم على أساس من الصحّة.

2 - قيام سيرة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم على الشفقة والرحمة:

قال الله تعالى في وصف رسوله الكريم وأصحابه الأبرار:

(مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ) (2) .

ومن الطبيعي أن يكون موقفه صلباً في مواجهة المشركين؛ إذ بالإضافة إلى وجوب الدفاع عن النفس في مواجهة العدو، كان على النبي أن يدافع عن شريعته ودينه؛ لأن المشركين كانوا يهدفون إلى تقويض دعائم هذا الدين

ص: 433


1- أُنظر: مينو صميمي، محمد در اروبا (محمد في أوروبا)، ترجمه إلى الفارسية عباس مهر بويا، ص 17 .
2- الفتح : 29.

والقضاء على الإسلام. ولكي لا يبدو النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم ضعيفاً في الدفاع عن مبادئه كان من الضروري أن يجدوا فيه غلظة فيما يتعلق بالدفاع عن المقدسات. كما كان فى الوقت ذاته يتصف في الدعوة إلى الدين وبين أنصاره وأصحابه بالرحمة واللين، فكان يتحمّل حتى تصرّفات المنافقين. ومع ذلك فإن قسوته تجاه المشركين لم تخرج عن حدود الاعتدال، فكان من بين التعاليم التي يعمّمها على أصحابه قبل خوض الحرب في مواجهة الكفار والمشركين «أغزوا في سبيل الله، على بركة الله لا تقتلوا شيخاً كبيراً، ولا طفلاً صغيراً، ولا إمرأة، ولا منعزلاً في صومعة» (1).

وكان تعامله مع الأسرى متصفاً بالإنسانية الكاملة، فكان يبادر إلى فكاك أسرهم عند أدنى مناسبة، ويمكن لنا أن نشير في هذا الخصوص إلى الأسرى في واقعة حنين وبني المصطلق، حيث تمّ إطلاق سراحهم بشكل جماعي. وفي واقعة بدر اشترط على الأسرى أن يحرروا أنفسهم من خلال تعليم كل واحد منهم عشرة من المسلمين القراءة والكتابة، وكان زيد بن ثابت من الذين تعلموا القراءة والكتابة بهذه الطريقة (2).

ولم تصدر عن النبي أي قسوة تجاه الأسرى إلا في موردين، وهما رجلان وقعا في الأسر في واقعة أحد بعد أن أتمّ النبي عليهما الحجّة في معركة بدر، حيث أطلق سراحهما بشرط أن لا يشاركا في أي حرب أو مواجهة مقبلة ضد المسلمين، ولكنهما نقضا عهديهما، وكان أحدهما يدعى أبو عزة وكان

ص: 434


1- محمد بن يوسف الصالحي الشامي، سُبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد، تحقيق عادل أحمد وعلي محمد عوض، ج 9، ص 313 .
2- أُنظر: السيد جعفر مرتضى العاملي، الصحيح من سيرة النبي الأعظم، ترجمه إلى الفارسية محمد سپهري، ج 1، ص 640 .

شاعراً وقد وظف شعره لإثارة الأعداء ضدّ المسلمين، وشارك في حرب أحد (1) . والآخر هو معاوية بن المغيرة بن أبي العاص حيث أسر في معركة أحد، وتمّ إطلاق سراحه بعد أن تشفّع له عثمان بن عفان شريطة أن يترك المدينة خلال ثلاثة أيام، ولكنه أساء استغلال غياب النبي، وقام بجمع الأخبار للكفار، فتمّ إيقافه في اليوم الرابع، وأعدم بأمر رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم (2) .

وفي سوى هذين الموردين لا نرى أي قسوة من جانب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم تجاه أعدائه، حيث كانت رحمته تشمل حال الأعداء على الدوام، وإنما كانت قريش هي التي تمارس أصناف العنف والقسوة تجاه النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم والمسلمين من خلال تعذيبهم والإساءة إليهم ونفيهم ومصادرة أموالهم، وكان من جيران النبي في مكة من يؤذيه بأنواع الإساءات، من قبيل إلقاء السلي على رأسه الشريف، حتى كان النبي يضطر أحياناً إلى الاختباء خلف بعض الصخور لأداء الصلاة (3).

في حين أننا نشاهد في المقلب الآخر عندما تمّ أسر عدد من المشركين في معركة بدر من الذين كانوا يقومون بتعذيب المؤمنين ويمارسون أصناف الظلم والجور بحق المسلمين، وها هم الآن يعيشون حالة الذل والهوان والنظر باستعطاف إلى المسلمين، وربما كانوا يتوقعون منهم الانتقام، إلا أن الذي قام به المسلمون تجاههم كان مخالفاً لتوقعاتهم. فإن أتباع الإسلام لم يلجأوا إلى الانتقام أبداً، وإنما امتثلوا أمر نبيهم بالإحسان إليهم، وقام بعضهم بإشراكهم في

ص: 435


1- أُنظر: الحلبي، السيرة الحلبية، ج 2، ص 462.
2- أُنظر: المصدر أعلاه، ج 2، ص 556 .
3- أُنظر: محمد إبراهيم آيتي، تاريخ بيامبر اسلام، ص 111.

أموالهم، وهناك من قدمهم على نفسه في الطعام، [فكان يقدم لهم الخبز ويكتفي بتناول التمر] (1).

وكان هذا هو واقع ما عليه منهج رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم الذي يمثل التجلي الكامل للمحبة والرحمة، والذي بلغ ذروته في فتح مكة، حيث كان جميع رؤوس قريش يفكرون في مصائرهم وما ستؤول إليه عواقب أعمالهم إذ كانوا يتوقعون أن تصدر بحقهم أشدّ العقوبات، وإذا بهم يتفاجأون بنداء الرسول وهو يقول «اليوم يوم المرحمة»(2). وبذلك أصدر العفو العام بحق الجميع. ولم يصدر عن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم ما يُشير إلى نقضه لهذا الإعلان، إلا عندما صدر عن المشركين ما يثبت عدم تقديرهم لهذا الموقف النبيل من جانب رسول الله.

الشبهة الثالثة عشرة: أشدّ العقوبات على الاستهزاء برسول الله (سبّ النبي):

اشارة

هناك من يحاول القول إن النبي لم يتسع صدره للمستهزئين به، وعاملهم بأشدّ أنواع القسوة، بل وصل به الأمر إلى قتلهم أيضاً (3).

الجواب:

1 - النبي رسول الرحمة:

لقد كان النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم في واقع الأمر رسول الرحمة والعطف

ص: 436


1- أُنظر: السيد جعفر مرتضى العاملي، الصحيح من سيرة النبي الأعظم، ترجمه إلى الفارسية محمد سبهري، ج 1، ص 642 .
2- أُنظر: محمد بن عمر الواقدي، المغازي، تحقيق مارسدن جونس، ج 2، ص 822.
3- أُنظر: عبد الكريم سروش، مجلة (آفتاب) الشهرية، العدد 25، ص 79 .

والشفقة، حتى خاطبه الله سبحانه وتعالى بوصفه خاتم الأنبياء بقوله: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (1)

لقد كانت سيرة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم تقوم على المحبة واللطف، ولم يكن فظاً غليظ القلب، حتى في فتح مكة أطلق العفو العام على أهلها رغم ممارستهم أصناف العذاب والأذى بحقه وحق أصحابه. وعندما كان سعد بن عبادة ينادي بأعلى صوته «اليوم يوم الملحمة، اليوم تسبى الحرمة»، ردّ عليه النبي بقوله: «اليوم يوم المرحمة، اليوم تحمى الحرمة»، وأخذ اللواء من يد سعد (2). وألقى في ذلك اليوم خطبة قال فيها: «الْحَمْدُ لله الَّذِي صَدَقَ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ مَاذَا تَقُولُونَ وَمَاذَا تَظُنُّونَ؟ قَالُوا نَقُولُ خَيْرًا وَنَظُنّ خَيْرًا، أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ وَقَدْ قَدَرْت فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَسَلَّمَ فَإِنِّي أَقُولُ كَمَا قَالَ أَخِي يُوسُفُ (لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ الله لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرّاحِمِينَ﴾ [أَلا فاعلموا لقد كنتم أسوأ جار لرسول الله، فقد كذبتموه وأخرجتموه من مكة، ووضعتم العقبات في طريق دعوته، ولم تكتفوا بذلك حتى خرجتم إلى قتاله.. ألا فاذهبوا فأنتم الطلقاء» (3).

يمكن لنا من خلال هذا العفو العام أن ندرك الروح السامية التي كان يتمتع بها رسول الله . فعلى الرغم من علمنا بحجم القسوة التي مارستها قبيلة قريش بحق النبي الأكرم وأصحابه الميامين، وما كان ينظمه بعضهم من الأشعار

ص: 437


1- الأنبياء: 107 .
2- أُنظر: محمد بن عمر الواقدي، المغازي، تحقيق مارسدن جونس، ج 2، ص 821.
3- أُنظر: محمد هادي اليوسفي الغروي، تاريخ اسلام، ترجمه إلى الفارسية حسين علي عربي، ص 596 .

اللاذعة في ذم المسلمين، إلا أننا نجد تعامل النبي معهم يحكي عن عظم شخصيته وتساميه على الإساءة.

وفي المدينة المنورة رغم أن عبدالله بن أبي كان يتمادى أحياناً في الإساءة إلى رسول الله، إلى أنه كان يعمل على استيعابه وتحمله، وقد بلغ به الأمر بعد غزوة بني المصطلق إلى إثارة فتنة طلب فيها ابنه من رسول الله أن يكون هو من يتولى قتله، فقال له رسول الله لا نسعى إلى قتل أبيك، وسوف نسالمه ما سالمنا (1). كما قام اليهود بكثير من الممارسات الشائنة ضد المسلمين، ولكن النبي آثر الصبر في التعاطي معهم، حتى بلغ السيل الزبى.

2 - اختصاص العقوبة بمن يمثل خطراً على أمن الإسلام والمسلمين:

عندما يتجاوز السب والاستهزاء الدائرة الحقيقية والشخصية للنبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم، ويصل إلى دائرته الحقوقية والاعتبارية، فإن السب والاستهزا سيأخذ طابع توهين الدين أو إعلان الحرب، وقد كان لذلك تأثير في إثارة مشاعر الناس، وأوشك الأمر أن يهدد الكيان الإسلامي بشكل مباشر، وعليه کان من الطبيعة أن نشهد ردّة فعل من النبي الأكرم ومن المسلمين، كما نجد بعض حالات إهدار دم بعض الشعراء في هذا السياق، لما كانوا يمثلونه من الخطر على الإسلام حتى وإن اقتصر استهزاؤهم على شخص رسول الله، إلا أن قتلهم لم يصدر بداعى الاستهزاء برسول الله، وإلا وجب إهدار دم كثير غيرهم.

تنويه نحيل القارئ الكريم إلى نهاية القسم الأول الخاص بالإجابة عن

ص: 438


1- أُنظر: ناصر مكارم الشيرازي، تفسير نمونه (الأمثل)، ج 24 ، ص 156 .

شبهة تجاهل حقوق الإنسان في الدولة النبوية، حيث أشرنا بالتفصيل إلى حلم النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم وتسامحه في التعاطي مع مخالفيه سواء كانوا من أهل الكتاب أو المشركين والمنافقين.

الشبهة الرابعة عشرة: التمثيل بجثث الأعداء في الحرب:

اشارة

یسعی أعداء الدين الإسلامي الحنيف إلى توظيف شتى الوسائل من أجل الإشكال على سيرة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وحيث لا يجدون شيئاً من ذلك على أرض الواقع تجدهم يلجأون إلى الأوهام والتصوّرات التي لا موطن لها إلا في أذهانهم، وإلصاق هذه التهم الواهية برسول الله. ومن ذلك اتهام النبي الأكرم بالتمثيل بجثث أعدائه، وفي ذلك يقول مؤلف كتاب اسلام ومسلماني

«لقد أمر محمد بإلقاء القبض على عدد من أبناء القبائل الذين سرقوا إبل الصدقة، وتقطيع أيديهم وأرجلهم واقتلاع أعينهم، فنزفت الدماء منهم دون ولم يبذل محمد أي جهد من أجل تضميد جراحهم، حتى ماتوا بسبب النزف» (1).

الجواب:

1 - قيام تعاليم الإسلام على تحريم المثلة:

لقد نهت الشريعة الإسلامية المقدسة عن جميع التصرّفات المنافية للإنسانية بحق الأسرى والجرحى والقتلى، وقامت التعاليم الإسلامية في

ص: 439


1- ابن وراق، اسلام ومسلماني، ترجمه إلى الفارسية مسعود انصاری (روشنگر)، ص 649 .

الحروب على الحلم، فيحرم منع الماء أو تلويثه، كما تمّ النهي عن التمثيل بأجساد القتلى من الأعداء، وهو ما يُعبّر عنه بالمُثلة.

وهناك بعض الروايات المروية بهذا الشأن عن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم، من قبيل قوله: «لا تجوز المثلة ولو بالكلب العقور» (1). وهناك باب في كتاب الكافي تحت عنوان (وصايا النبي وأمير المؤمنين في السريات التي لم يشترك فيها) وهو يشتمل على نصائح النبي وتعاليمه لأصحابه عند خوض الحرب (2).

هذا وأن المصادر التاريخية وخاصة تلك التي تحدّثت عن حروب النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم لم تتحدّث عن هذا النوع من الممارسات، فلم يرصد التاريخ حالة مثلة واحدة قام بها النبي الأعظم.

2 - ارتكاب العدو للمثلة:

استشهد حمزة عم النبي في واقعة أحد على يد المشركين من قبيلة قريش، وعمدت هند أم معاوية إلى غلامها وحشي فأمرته بالتمثيل بجسده الشريف وإخراج كبده، ورامت أن تمضغه بأسنانها، فتحول الكبد بإرادة الله إلى كتلة صلبة فلم تتمكن من استساغته. وبعد أن وضعت الحرب أوزارها انصرف المسلمون إلى أجساد الشهداء لدفنها، فإذا بهم يواجهون جسد حمزة المقطّع. فتأثر النبي الأكرم لذلك بشدّة. وهناك من نسب إلى النبي قوله: إنه سيمثل بثلاثين رجلاً من قريش (3)، وقد صدر مثل هذا الكلام عن بعض المسلمين

ص: 440


1- ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، ج 17، ص 6 .
2- محمد بن يعقوب الكليني، أصول الكافي، ج 5، ص 27 .
3- لا يصحّ صدور مثل هذا الكلام عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم؛ لمنافاته للعصمة والأخلاق النبوية. المعرّب.

أيضاً، فنزل القرآن يمنعهم من ذلك إذ يقول تعالى ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ﴾ (1).

3 - تحليل كلام النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم:

بيد أنه يجب القول بشأن هذه الرواية المنسوبة إلى النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم

أولاً: إنها غير معتبرة. وثانياً: جاء في المصادر أن النبي الأكرم بعد نزول هذه الآية التزم جانب الصبر وكان يأمر جميع أصحابه بالتزام الصبر أيضاً (2) . روى سمرة بن جندب أن النبي لم يقف موقفاً إلا أمرنا فيه قبل الانصراف بالصدقة واجتناب المثلة.

كما ورد في تفسير هذه الآية أن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم قال عند نزولها: «أصبر، أصبر». على الرغم من أن هذه اللحظات كانت من أقسى وأصعب اللحظات التي مرّت عليه في كل حياته الشريفة، ولكن النبي امتلك زمام أعصابه ولم ينفعل ولم ينجر وراء عاطفته، وآثر الصفح والعفو، وكما يروي لنا التاريخ فإنه في فتح مكة حيث انتصر النبي على أولئك المجرمين من الوحوش البشرية حافظ على الوعده الذي قطعه مع الله في يوم أحد، وأصدر مرسوم العفو العام الذي شمل به الجميع (3).

ص: 441


1- النحل: 126 .
2- لا يخفى ما في هذا الكلام من تأكيد التهمة! المعرّب.
3- أُنظر: الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، تفسير نمونه (الأمثل)، ج 11، ص 458 .

ص: 442

المصادر

1 - آدمیت، فریدون، اندیشه های میرزا آقاخان کرمانی، طهران، 1346 ه- ش .

2 - البلاذري، أحمد بن يحيى، أنساب الأشراف، تحقيق سهيل زكار وخير الدين الزركلي، ط 1، بيروت، دار الفكر، 1417 ه-

3 - آشتياني، سيد جلال الدین، شرح مقدمة قيصري بر فصوص الحکم، قم، دفتر تبلیغات اسلامي، 1375 ه-ش.

4 - آيتي، محمد إبراهيم، تاریخ پیامبر اسلام، ط 6، جامعة طهران، 1378 ه-ش.

5 - ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، بيروت، دار إحياء التراث العربي، 1387 ه-

6 - ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، قم، انتشارات مكتبة آية الله المرعشي النجفي، 1404 ه-

7 - ابن الأثير، عز الدين، الكامل في التاريخ، بيروت، دار بيروت، 1402 ه-.

8 - ابن الأثير الجزري، عز الدين، أسد الغابة في معرفة الصحابة، بيروت، دار الفكر، 1409 ه-

9 - ابن سعد، الطبقات الكبرى، تحقيق عبد القادر عطا، ط 1، بيروت، دار الكتب العلمية، 1410ه-.

10 - ابن سيد الناس، عيون الأثر، تعليق إبراهيم محمد رمضان، ط 1، بیروت، دار القلم، 1414 ه-

11 - ابن شهر آشوب، مناقب آل أبي طالب، قم، انتشارات علامه، 1379 ه- ش.

12 - ابن عبد البر، الاستيعاب في معرفة الأصحاب، تحقيق البجاوي، ط 1، دارالجيل، 1412 ه-.

13 - ابن عساکر، تاريخ مدينة دمشق، بيروت، دار الفكر، 1415 ه-.

ص: 443

14 - ابن كثير، البداية والنهاية، بيروت، دار الفكر، 1407 ه-.

15 - ابن وراق، اسلام و مسلماني، ترجمه إلى الفارسية مسعود انصاري (روشنگر)، طبعة أمريكا الشمالية، 1378 ه- ش .

16 - ابن هشام، السيرة النبوية، بتحقيق وتعليق سعيد محمد اللحام، بيروت، دار الفكر، 1412 ه-.

17 - ابن هشام، السيرة النبوية، بيروت، دار الفكر، 1421 ه-

18 - ابن هشام، السيرة النبوية، تحقيق مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري شلبي، بيروت، دار المعرفة.

19 - ابن الجوزي، أبو الفرج عبد الرحمن بن علي، الوفا بأحوال المصطفى، ط 1، بيروت، دار الكتب العلمية، 1408 ه-

20 - ابن الجوزي، أبو الفرج عبد الرحمن بن علي، المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، بيروت، دار الكتب العلمية، 1412 ه-

21 - ابن الجوزي، أبو الفرج عبد الرحمن بن علي، تذكرة الخواص، بيروت، مؤسسة آل البيت، 1981م.

22 - ابن خلدون، تاریخ ابن خلدون، تحقيق خليل شحاة، ط 2، بيروت، دار الفكر، 1408 ه-

23 - أبو نعيم، أحمد بن عبد الله، حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، بيروت، دار إحياء التراث العربي، 1421 ه-

24 - الأحمدي الميانجي، علي، مكاتيب الرسول، قم، مؤسسة دار الحديث الثقافية، 1419 ه-

25 - إدوارد سعيد، شرق شناسي، ترجمه إلى الفارسية عبد الرحيم گواهي، طهران، دفتر نشر فرهنگ اسلامي، 1371 ه- ش.

26 - الأربلي، علي بن عيسى، كشف الغمة، قم، انتشارات الشريف الرضي، 1379 ه- ش .

27 - أرسطو، سیاست، حمید عنایت، طهران، شرکت سهامي كتاب هاي جيبي، 1387 ه-ش.

28 - أورنيغ، واشنطن، تاريخ مقدس، الميرزا إبراهيم خان الشيرازي، إعداد نقيب زاده الطباطبائي، طهران، 1344 ه- ش .

ص: 444

29 - استادی، رضا، سرگذشت کتاب شهید جاوید، قم، نشر قدس، 1382 ه- ش.

30 - اسمیث، هوستن، اسلام از نظرگاه دانشمندان غرب، ترجمه إلى الفارسية علي أصغر حكمت.

31 - إشراق خاوري، قاموس توقيع منيع مبارك.

32 - السهروردي، شيخ الإشراق، سه رساله از شیخ اشراق، تصحيح نجف قلي حبیبي، طهران، انجمن فلسفه ایران، 1356 ه- ش.

33 - السهروردي، شيخ الإشراق، مجموعه مصنفات، طهران، انجمن شاهنشاهي ایران، 1355 ه-ش.

34 - الأعرجي، شرف الدین، پیشگویی های نوسترا داموس، ترجمه إلى الفارسية عباس علي براتي، قم، نشر کامکار، 1383 ه- ش.

35 - أليس، جورج وليم روث، فضا زمان تخت و خمیده، ترجمه إلى الفارسية يوسف ارجمند، طهران، مرکز نشر دانشگاهي، 1376 ه- ش .

36 - انصاري، مسعود، (روشنگر)، الله أكبر، ولاية سان فرانسیسکو، بنگاه انتشارات باريس، 1375 ه- ش .

37 - انصاري، مسعود، (روشنگر)، بازشناسی قرآن، ولاية سان فرانسیسکو، بنگاه انتشارات باريس، 1373 ه-ش.

38 - انصاري، مسعود، (روشنگر)، بازشناسی قرآن، ط 6، ألمانيا، نيما، 1378 ه- ش.

39 - انصاري، مسعود، (روشنگر)، شیعه گري و امام زمان، ط 3، ألمانيا، نيما، 1378 ه- ش .

40 - انصاري، مسعود، (روشنگر)، کوروش بزرگ و محمد بن عبد الله، ط 6، 1379 ه- ش .

41 - أوستا، سياوش (حسن عباسی)، دین داری و خرد گرایی، نشر هما (همبستگی ایران).

42 - بازرگان، مهدي، آخرت وخدا هدف بعثت، طهران، مؤسسه خدمات فرهنگي رسا، 1377 ه- ش.

43 - البحراني، ابن ميثم، قواعد المرام، قم، مكتبة آية الله المرعشي النجفي، 1398ه-

44 - البغدادي، عبدالقاهر، كتاب أصول الدين، بيروت، دار الكتب العلمية، 1400ه-

ص: 445

45 - البغدادي، علاء الدين، لباب التأويل في معاني التنزيل، ط 1، بيروت، دار الكتب العلمية، 1415 ه-

46 - البلاذري، أحمد، فتوح البلدان، القاهرة، مكتبة النهضة المصرية، 1956م.

47 - البلاذري، أحمد، أنساب الأشراف، ط 1، بيروت، دارالفكر للطباعة والنشر والتوزيع.

48 - أبو على ابن سينا، رساله معراجيه، ملحق كتاب المبدأ والمعاد، مشهد، آستان قدس رضوي، 1375 ه- ش.

49 - بهاء، حسين علي، اشراقات، المضمّنة في كتاب (ألواح مباركة).

50 - بهاء، حسين علي، إيقان، ألمانيا، مؤسسه ملي مطبوعات بهائي، 1998م.

51 - البيضاوي، أنوار التنزيل وأسرار التأويل، ط 1، بيروت، دار إحياء التراث العربي، 1418 ه-

52 - البيهقي، أبوبكر، دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة، تحقيق عبد المعطي قلعجي، ط 1، بيروت، دار الكتب العلمية، 1405 ه- 53 - بوبر، ریموند کارل، منطق اكتشاف علمي، ترجمه إلى الفارسية أحمد آرام، طهران، انتشارات سروش، 1370 ه- ش.

54 - بوبر، ریموند کارل، حدس ها وابطال ها، ترجمه إلى الفارسية أحمد آرام، طهران، شرکت سهامی انتشار، 1357 ه- ش .

55 - پور أميني، محمد باقر ومجموعة من المؤلفين، پيامبر اعظم سیره و تاریخ، ط 2، قم، دفتر نشر معارف، 1385 ه- ش .

56 - الشيخ المفيد، تفسير الشيخ المفيد، مقتبس من مؤلفات الشيخ المفيد، بوستان كتاب، 1424 ه-

57 - الثعلبي النيشابوري، كشف البيان عن تفسير القرآن، ط 1، بيروت، دار إحياء التراث العربي، 1422ه-.

58 - جعفریان، رسول، حياة فكري وسياسي امامان شیعه، ط 10، قم، انصاریان، 1386 ه- ش .

59 - جعفریان، رسول، سیره رسول خدا، ط 4، قم، دليل ما، 1385 ه- ش .

60 - جوادي آملي، عبد الله، پیامبر رحمت، قم، مؤسسه اسراء، 1385 ه- ش.

61 - جوادي آملي، عبد الله، تفسير موضوعي قرآن، قم، مؤسسه اسراء.

ص: 446

62 - الجويني الخراساني، إبراهيم، فرائد السمطين، بيروت، 1398 ه-

63 - الحائري اليزدي، مهدي، حكمت وحکومت، لندن.

64 - الحراني، أبو محمد، تحف العقول عن آل الرسول، ترجمه إلى الفارسية صادق حسن زاده، قم، انتشارات آل علي، 1382 ه- ش.

65 - حسن زاده آملی، حسن، دروس معرفت، دفتر سوم، طهران، انتشارات علمي وفرهنگي، 1375 - 1376 ه- ش .

66 - حسن زاده آملي، حسن، هزار ويك نكته، طهران، مرکز فرهنگي رجاء، 1365 ه- ش .

67 - الحسيني الطهراني، السيد محمد حسین، مهر تابان، سلسلة الحوارات العلمية للعلامة الطباطبائي، مشهد، انتشارات العلامة الطباطبائي، 1380 ه- ش .

68 - حكمي زاده، علي أكبر، اسرار هزار ساله، طهران، دفتر پرچم، 1322 ه-ش.

69 - حكيمي، محمد رضا، الحياة، ج 2، طهران، دفتر نشر فرهنگ اسلامي، 1370ه- ش.

70 - الحلبي، نور الدين، السيرة الحلبية، بيروت، دار المعرفة، 1400 ه-

71 - الحلبي، نور الدين، السيرة الحلبية (إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون)، بيروت، ط 2، دار الكتب العلمية، 1427 ه-

72 - الحلى (المحقق)، المسلك في أصول الدين، مشهد، بنياد پژوهشهاي اسلامي آستان قدس رضوي، 1383 ه- ش.

73 - الحلي، الحسن بن يوسف، النافع يوم الحشر في شرح الباب الحادي عشر، بيروت، دار الأضواء، 1417 ه-

74 - الحلي، الحسن بن يوسف، كشف المراد، قم، انتشارات مصطفوي.

75 - الحلي، الحسن بن يوسف، مختلف الشيعة، قم، مكتب الإعلام الإسلامي، 1418ه-

76 - الحلي، الحسن بن يوسف، منتهى المطلب في تحقيق المذهب، مجمع البحوث الإسلامية، 1412ه-.

77 - الحميري، قرب الإسناد، طهران، مكتبة نينوى.

78 - خرمشاهي، بهاء الدین، پوزیتیویسم منطقي، طهران، انتشارات علمي وفرهنگي، 1361 ه- ش.

ص: 447

79 - الخزاز القمي، علي بن محمد، كفاية الأثر، انتشارات بيدار، قم، 1401 ه-

80 - الخوئي، أبو القاسم، البيان في تفسير القرآن، طهران، نشر محمدي، 1363ه- ش.

81 - دایجست ريدرز بوك، جهان عجايب، ترجمه إلى الفارسية ارغوان جولائي، طهران، نشر جويا، ص ، 1374

82 - الدراز، محمد عبد الله، حقيقة الوحي، دمشق، دار الحافظ، 2000م.

83 - دشتي، علي، بيست وسه سال، إعداد وتنقيح بهرام چوبینه.

84 - ديون بورت، جان، عذر تقصیر به بیشکاه محمد و قرآن، ترجمه إلى الفارسية غلام رضا سعيدي، طهران، نشر انتشار، 1344 ه- ش .

85 - الذهبي، شمس الدين، تاريخ الإسلام، تحقيق عبد السلام التدمري، ط 2، بيروت، دار الكتاب العربي، 1413 ه-

86 - روکر، رودولف، هندسه نسبیت و بُعد چهارم، ترجمه إلى الفارسية يوسف ارجمند، طهران، انجمن فيزيك ايران، 1374 ه- ش .

87 - رامیار، محمود، طهران، انتشارات أمير كبير، 1385 ه- ش .

88 - الراوندي، قطب الدين، الخرائج والجرائح، قم، مؤسسة الإمام المهدي، 1409ه-

89 - الراوندي، قطب الدين، قصص الأنبياء، قم، مؤسسة البحوث الإسلامية، 1409ه-

90 - رایشنباخ، هانس، پیدایش فلسفه علمي، ترجمه إلى الفارسية موسى أكرمي، طهران، انتشارات علمي وفرهنگي، 1371 ه-ش.

91 - رحیمیان، سعید، تجلي وظهور در عرفان نظري، قم، بوستان کتاب، 1376 ه- ش.

92 - روحي روشني، أحمد، خاتمیت، طهران، مؤسسه ملي مطبوعات أمري، 1351 ه- ش .

93 - الزركلي، خير الدين، الأعلام، ط 8، بيروت، دار العلم للملايين، 1989م.

94 - زماني، محمد حسن، مستشرقان وقرآن، قم، بوستان کتاب، 1385 ه- ش.

95 - جولي سادا، جاندرون، تساهل در تاریخ اندیشه غرب، ترجمه إلى الفارسية عباس باقري، طهران، نشر ني، 1382 ه- ش .

96 - سبحاني، جعفر، الإلهيات، قم، المركز العالمي للدراسات الإسلامية، 1413 ه-

97 - سبحاني، جعفر، در مكتب وحي، تبريز، نشر سروش، 1348 ه- ش.

ص: 448

98 - سبحانی، جعفر، راز بزرك رسالت، طهران، کتابخانه مجد جامع، 1358 ه- ش .

99 - سبحاني، جعفر، فروغ ابدیت، قم، دفتر تبلیغات اسلامي، 1383 ه- ش .

100 - سبحاني، جعفر، منشور جاويد، قم، مؤسسة سيد الشهداء، 1369 ه- ش .

101 - سروش، عبد الكريم، مدارا و مديريت، مجلة كيان، العدد ،21

102 - سروش، عبد الكريم، فربه تر از ایدیولوژی، طهران، انتشارات صراط، 1375 ه- ش.

103 - سروش، عبد الكريم، مدارا ومديريت، طهران، مؤسسه فرهنگی صراط، 1376 ه- ش .

104 - سروش، عبد الكريم، مجلة كيان، العدد ،45

105 - السيوطي، جلال الدين، الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور، قم، مكتبة آية الله المرعشي النجفي، 1404 ه-

106 - الشافعي الصالحي الشامي، محمد بن يوسف، سبل الهدى والرشاد، تحقيق عادل أحمد وعلي محمد معوض، ط 1، بیروت، دار الكتب العلمية، 1414ه-

107 - الشعراني، عبد الوهاب، اليواقيت والجواهر، بيروت، دار إحياء التراث العربي.

108 - الشوشتري، محمد تقي، قاموس الرجال، قم، دفتر انتشارات اسلامي، 1400ه-

109 - الشهيد الأول، الذكرى، قم، مؤسسة آل البيت، 1418 ه-.

110 - الشهيدي، السيد جعفر، تاریخ تحليلي اسلام، انتشارات علمي فرهنگي.

111 - الشيخ الحر العاملي، وسائل الشيعة، قم، مؤسسة آل البيت، 1409 ه-

112 - الشيخ الصدوق، الاحتجاج، قم، انتشارات اسلامي.

113 - الشيخ الصدوق، علل الشرائع، قم، انتشارات مكتبة الداوري.

114 - الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضا، بيروت، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، 1404 ه-

115 - الشيخ الصدوق، كمال الدين وإتمام النعمة، قم، دار الكتب الإسلامية، 1395ه-

116 - الشيخ الصدوق، معاني الأخبار، انتشارات اسلامي، قم، 1361 ه- ش .

117 - الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، 1413ه-

118 - الشيخ الطوسي، الاستبصار، طهران، دار الكتب الإسلامية، 1390 ه-

ص: 449

119 - الشيخ الطوسي، تهذيب الأحكام، طهران، دار الكتب الإسلامية، 1365ه-ش.

120 - الشيخ المفید، الاختصاص، کنگره شیخ مفید، قم، 1413 ه-

121 - صابري، حسین، خاتم پیامبران صلی الله علیه و آله و سلم، ط 3، مشهد، بنياد پژوهشهاي اسلامي آستان قدس رضوي، 1380 ه- ش .

122 - صالحي نجف آبادي، نعمت الله، عصاي موسى، طهران، انتشارات امید فردا، 1382 ه- ش .

123 - صدر المتألهين، الأسفار الأربعة في الحكمة المتعالية، انتشارات مصطفوي، 1379 ه-

124 - صدر المتألهين، الشواهد الربوبية، مشهد، المركز الجامعي للنشر، 1360

125 - صدر المتألهين، المبدأ والمعاد، طهران، انجمن فلسفه ایران، 1354 ه- ش .

126 - صدر المتألهين، تفسير القرآن الكريم، بيروت، دار التعارف للمطبوعات، 1419 ه-

127 - صميمي، مینو، محمد در اروبا ترجمه إلى الفارسية عباس مهر بويا، ط 1، طهران، انتشارات اطلاعات، 1382 ه- ش .

128 - الطباطبائي، السيد محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، انتشارات اسلامي قم وبيروت.

129 - الطباطبائي، السيد محمد حسين، بحثي کوتاه درباره علم امام، تقديم الشهيد قاضي طباطبائي، تبريز، 1326 ه- وكذلك المرفق بکتاب سرگذشت کتاب شهید جاويد رضا استادي.

130 - الطباطبائي، السيد محمد حسين، سنن النبي (آداب زندگي پيامبر)، ترجمه إلى الفارسية لطيف راشدي، ط 6، قم، انتشارات تهذيب، 1385 ه- ش .

131 - الطباطبائي، السيد محمد حسین، شیعه در اسلام، قم، انتشارات اسلامي، 1362 ه- ش .

132 - الطبرسي، أبو منصور، الاحتجاج، مشهد المقدسة، نشر مرتضى، 1403 ه-

133 - الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير، تاريخ الأمم والملوك، تحقيق محمد أبوالفضل إبراهيم، ط 2، بيروت، دار التراث، 1387 ه-

134 - الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير، تاريخ الطبري، بيروت، دار ومكتبة الهلال، 1424 ه-

ص: 450

135 - الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير، جامع البيان في تفسير القرآن، بيروت، دار المعرفة، 1412 ه-

136 - الطنطاوي الجوهري، الجواهر فى تفسير القرآن الكريم، طهران، آفتاب، 1350ه-

137 - إلهي ظهير، إحسان، القاديانية، لاهور، ادارة ترجمان السنة.

138 - عابديني، أحمد، شيوه همسرداری پیامبر به گزارش قرآن وسنت، ط 1، طهران، هستي نما، 1381 ه- ش.

139 - عاشوري لنگرودي، حسن، همسران پیامبر، طهران، هستي نما، 1386ه-ش.

140 - عبد الرزاق، علي، الإسلام وأصول الحكم، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب.

141 - العسقلاني، ابن حجر، الإصابة في معرفة الصحابة، تحقيق عبد الموجود وعلي محمد معوض، ط 1، بيروت، دار الكتب العلمية، 1415 ه-

142 - علم الهدى، السيد المرتضى، تنزيه الأنبياء، بيروت، مؤسسة الأعلمي، 1412ه-

143 - العلي، صالح أحمد، دولت رسول خدا، ترجمه إلى الفارسية هادي انصاري، قم، پژوهشکده حوزه و دانشگاه، 1381 ه- ش.

144 - العياشي، محمد بن مسعود، تفسير العياشي، طهران، چابخانه علميه، 1380 ه-ش.

145 - الفخر الرازي، المحصول في علم الأصول، بيروت، المكتبة العصرية، 1378 ه-

146 - الفخر الرازي، عصمة الأنبياء، قم، منشورات الكتب النجفية، 1406 ه-

147 - فرامرز قراملكي، أحد، مباني كلامي جهت كيري دعوت انبياء، طهران، سازمان انتشارات پژوهشگاه فرهنگ و اندیشه اسلامی، 1376 ه- ش .

148 - فرغاني، سعد الدين، مشارف الدراري، قم، بوستان کتاب، 1379 ه- ش.

149 - فضائي، يوسف، شيعي گري، بابي گري، بهائي گري، طهران، نشر آشيانه کتاب، 1382 ه- ش .

150 - القادياني، أحمد، براهين احمدیه، طهران، چاپخانه فردوسی، 1327 ه-ش.

151 - القاضي عبدالجبار المعتزلي، شرح الأصول الخمسة، مصر، انتشارات وهبة، 1384 ه-

ص: 451

152 - قدردان قراملكي، محمد حسن، آیین خاتم، طهران، سازمان انتشارات پژوهشگاه فرهنگ و اندیشه اسلامي، 1386 ه- ش .

153 - قدردان قراملكي، محمد حسن، حکومت دینی از منظر استاد مطهري، طهران، سازمان انتشارات پژوهشگاه فرهنگ و اندیشه اسلامی، 1379 ه-ش.

154 - قدردان قراملكي، محمد حسن، سکولاریزم در مسیحیت و اسلام، قم، بوستان کتاب، 1378 ه- ش .

155 - قدردان قراملكي، محمد حسن، معجزه در قلمرو عقل ودين، قم، بوستان کتاب، 1381 ه- ش .

156 - القرشي، السيد علي أكبر، أحسن الحديث، طهران، ط 3، بنیاد بعثت، 1377ه- ش.

157 - القرطبي، محمد، الجامع لأحكام القرآن، طهران، انتشارات ناصر خسرو، 1364 ه- ش .

158 - القمي، الشيخ عباس، سفينة البحار، طهران، دار الأسوة للطباعة والنشر، 1416 ه-

159 - القندوزي الحنفي، سليمان، ينابيع المودة، بيروت، دار الأسوة، 1294 ه-

160 - كارل، ألكسس، انسان موجود ناشناخته (الإنسان ذلك المجهول)، ترجمه إلى الفارسية برويز دبيري، طهران، 1354 ه- ش .

161 - الكراجكي، أبو الفتح، التعجب، دار الغدير.

162 - الكراجكي، أبو الفتح، معدن الجوهر، طهران، المكتبة الرضوية، 1394

163 - الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، طهران، دار الكتب الإسلامية، 1365ه-ش.

164 - الكنجي، عبد الرزاق، ترياق القلوب، بيروت، دار الأضواء، 1998 م.

165 - الگلپايگاني، أبو الفضل، الفرائد، ألمانيا، مؤسسه مطبوعاتي امري، 158 بديع.

166 - اللاري، السيد عبد الحسين، المعارف السلمانية، قم، اللجنة العلمية للمؤتمر، 1377 ه- ش.

167 - لوك، جان، رساله اي درباره حكومت، ترجمه إلى الفارسية حميد عضدانلو، طهران، نشر ني، 1387 ه- ش .

168 - اللاهيجي، عبد الرزاق، گوهر مراد، طهران، انتشارات وزارت ارشاد، 1372ه- ش.

ص: 452

169 - المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، بيروت، مؤسسة الوفاء، 1403 ه-

170 - المجلسي، محمد تقي، روضة المتقين في شرح من لا يحضره الفقيه، قم، بنياد فرهنگي اسلامي حاج محمد حسین کوشانپور، 1364 ه- ش .

171 - المحدث النوري، مستدرك الوسائل، قم، مؤسسة آل البيت، 1408 ه-

172 - محرمي، غلام حسن، جلوه هاي اعجاز معصومین، ط 2، قم، دفتر انتشارات اسلامي، 1378 ه- ش.

173 - محمد، رشيد رضا، الوحي المحمدي، طهران، مكتبة القاهرة، دار الأسوة للطباعة والنشر، 1416 ه-

174 - محمدي اشتهاردي، محمد، حضرت خديجة اسطوره ایثار و مقاومت، طهران، انتشارات نبوي، 1384 ه- ش .

175 - محمدي اشتهاردي، محمد، سیرت پیامبر اعظم و مهربان، ط 1، قم، انتشارات ناصر، 1385 ه- ش .

176 - محمدي ري شهري، محمد، منتخب ميزان الحكمة، تلخيص السيد حميد الحسيني، قم، دار الحديث، 1383 ه- ش.

177 - محمدي ري شهري، محمد، ميزان الحكمة، قم، بوستان کتاب، 1404 ه-

178 - محمودي، محمد باقر، نهج السعادة إلى مستدرك نهج البلاغة، طهران، مؤسسة الطباعة والنشر، 1379 ه- ش .

179 - مرتضى العاملي، السيد جعفر، الصحيح من سيرة النبي الأعظم، ط 4، بيروت، دار السيرة، 1415 ه-

180 - مرتضى العاملي، السيد جعفر، الصحيح من سيرة النبي الأعظم، قم، جامعة المدرسين، 1402 ه-

181 - مرتضى العاملي، السيد جعفر، الصحيح من سيرة النبي الأعظم، قم، دار الحديث، 1428 ه-.

182 - مرتضى العاملي، السيد جعفر، الصحيح من سيرة النبي الأعظم، ترجمه إلى الفارسية، محمد سپهري، ط 4، طهران، سازمان انتشارات پژوهشگاه فرهنگ واندیشه اسلامي، 1376 ه- ش .

183 - مرتضى العاملي، السيد جعفر، بنات النبي أم ربائبه، ط 2، قم، مكتبة الإعلام الإسلامي، 1416 ه-

ص: 453

184 - مصباح اليزدي، محمد تقي، آموزش فلسفه، طهران، سازمان تبلیغات اسلامی، 1366 ه- ش .

185 - المطهري، مرتضى، پيامبر أمّي، قم، انتشارات اسلامي.

186 - المطهري، مرتضی، پیرامون انقلاب اسلامی، قم، انتشارات اسلامي.

187 - المطهري، مرتضی، پیرامون جمهوري اسلامي، طهران، انتشارات صدرا، 1364 ه- ش .

188 - المطهرى، مرتضی، مجموعه آثار، طهران، انتشارات صدرا.

189 - المطهري، مرتضى، نظام حقوق زن در اسلام، قم، انتشارات اسلامي، 1359 ه- ش .

190 - المظفر، محمد حسين، علم الإمام، بيروت، دار الزهراء، 1402 ه-

191 - معرفت، محمد هادي، التمهيد في علوم القرآن، قم، مؤسسة النشر الإسلامي، 1415 ه-

192 - معرفت، محمد هادي، علوم قرآني، ط 2، قم، مؤسسه فرهنگي تمهید، 1380ه- ش.

193 - معروف الحسنى، هاشم، سيرة المصطفى، ترجمه إلى الفارسية حميد ترقی جاه، ط 1، طهران، حکمت، 1412 ه-

194 - معروف الرصافي، الشخصية المحمدية، ألمانيا، نشر دار الجمل، 2002 م.

195 - معین زاده، هوشنگ، آن سوي شراب، ألمانيا، انتشارات آذربخش، 1377 ه-ش.

196 - المقدسي، مطهر بن طاهر، البدء والتاريخ، تحقيق بور سعيد، مكتبة الثقافة الدينية.

197 - المقريزي، تقي الدين، امتاع الأسماع، تحقيق محمد عبد الحميد النميسي، ط 1، بيروت، دار الكتب العلمية، 1420ه-

198 - مكارم الشيرازي، ناصر، تفسیر پیام قرآن، قم، انتشارات مدرسة أمير المؤمنين، 1375 ه- ش .

199 - مكارم الشيرازي، ناصر، تفسير نمونه (الأمثل)، قم، دار الكتب الإسلامية.

ص: 454

200 - الموسوي الخميني، السيد روح الله، آداب الصلاة، طهران، مؤسسه تنظيم ونشر آثار امام، 1373 ه- ش .

201 - الموسوي الخميني، السيد روح الله، تعليقات على شرح فصوص الحكم، قم، مؤسسه پاسدار اسلام، 1410 ه-.

202 - الموسوي الخميني، السيد روح الله، تفسير سورة الحمد.

203 - الموسوي الخميني، السيد روح الله، صحیفه نور، طهران، وزارت ارشاد اسلامي، 1365 ه- ش .

204 - نعيم، عبد الله محمد الأمين، الاستشراق في السيرة النبوية، القاهرة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 1417 ه-

205 - نفيسي، کاظم، بعد چهارم در قرآن، فصلية مطالعات اسلامي، العدد 81، دي / 1381 ه- ش .

206 - النوبختي، أبو محمد، فرق الشيعة، النجف، انتشارات مرتضوي، 1355 ه-

207 - نهج الفصاحة، ترجمه إلى الفارسية أبو القاسم پاینده، طهران، انتشارات جاویدان، 1360 ه- ش .

208 - واط، مونتغمري، محمد پیامبر وسياستمدار، ترجمه إلى الفارسية إسماعيل والي زاده، طهران، کتاب فروشي اسلامية، 1344 ه- ش .

209 - واط، کارل بروکلمان، تاريخ الشعوب الإسلامية، ترجمة نبيه أمين فارس، بيروت.

210 - الواقدي، محمد بن عمر، المغازي، تحقيق مارسدن جونس، ط 3، بیروت، الأعلمي، 1409 ه-.

211 - هولت، بیتر ملکو، تاریخ اسلام كمبرج، ترجمه إلى الفارسية تيمور قادري، طهران، امير كبير، 1382 ه- ش .

212 - الهيتمي، ابن حجر، الصواعق المحرقة لأهل البدع والزندقة، بيروت، دار الكتب العلمية، 1414ه-

213 - يابكين، ريتشارد وأوروم استرول، کلیات فلسفه، ترجمه إلى الفارسية جلال الدين مجتبوي، طهران، قسمت، 1376 ه- ش .

ص: 455

214 - اليعقوبي، أحمد بن أبي يعقوب، تاريخ اليعقوبي، بيروت، دار صادر.

215 - اليعقوبي، أحمد بن أبي يعقوب، تاريخ اليعقوبي، ترجمه إلى الفارسية محمد آيتي، طهران، انتشارات علمي وفرهنكي، 1374 ه- ش.

216 - يورغن آيزنك، هانس، درست و نادرست در روانشناسی، ترجمه إلى الفارسية ايرج آيين، طهران، انتشارات جيبي، 1350 ه- ش .

217 - اليوسفي الغروي، محمد هادي، تاريخ تحقيقي اسلام، ترجمه إلى الفارسية حسين علي عربي، ط 4، قم، مؤسسه الإمام الخميني، 1383 ه- ش .

٭٭٭

ص: 456

الْمُحْتَويَات

المقدمة ... 5

أسلوب التحقيق ... 6

ضرورة التحقيق ... 7

مزايا التحقيق وإبداعاته ... 7

القِسْمُ الأَوّلُ

الشبهات العقائدية والكلامية

الفَصْلُ الأوّل

عدم أمية النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم

الأدلة على إثبات أميّة النبي ... 14

1 - القرآن الكريم ... 14

2 - التاريخ ... 16

3 - اعتراف المستشرقين ... 18

تحليل شبهات فرضية عدم الأميّة ... 19

الشبهة الأولى عدم انسجام أميّة النبي الأكرم مع موقع «أبوطالب» ... 19

ص: 457

الشبهة الثانية إخبار النبي الأكرم عن الأمم السابقة ... 23

الشبهة الثالثة شهادة العباس عمّ النبي ... 24

الشبهة الرابعة كتابة صلح الحديبية ... 26

الشبهة الخامسة دعوى الاستبعاد ... 29

الشبهة السادسة الاستناد إلى آيات تعليم النبي للكتاب والحكمة ... 29

الشبهة السابعة الاستناد إلى آيات التلاوة وتعليم الكتاب ... 31

الخلاصة ... 32

الفَصْلُ الثَّاني

علم الغيب

الشبهة الأولى إنكار علم النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم للغيب استناداً إلى القرآن ... 35

مناقشة وتحليل ... 36

1 - الفصل بين علم الغيب الذاتي والتبعي ... 39

2 - علم النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بالغيب طبقاً لتقرير القرآن الكريم ... 39

3 - النفي المطلق والإثبات الجزئي ... 41

4 - إخبار النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بالغيب بشهادة التاريخ ... 42

5 - المقام العلمي والمعنوي للنبي «الاتجاه الفلسفي والعرفاني» ... 42

الشبهة الثانية إنكار علم النبي بالغيب استناداً إلى الأحداث التاريخية ... 50

1 - الفصل بين المساحة المادية والمعنوية ... 51

2 - علم النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بالغيب طبقاً لشهادة التاريخ ... 51

الإجابة عن شبهتين أخريين ... 54

أ - ضياع ناقة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم ... 54

ص: 458

ب - تحليل الحديث القائل (أنتم أعلم بأمر دنياكم) ... 55

الفَصْلُ الثَّالِثْ

المعجزات

الشبهة الأولى إنكار معجزات النبي الأکرم صلی الله علیه و آله و سلم ... 57

1 - إعجاز القرآن الكريم ... 58

2 - القرآن وتعدّد معجزات النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم ... 65

3 - دلالة القرآن بشكل عام على تعدّد معجزات النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم ... 69

الشبهة الثانية: أسباب عدم اجتراح المعجزات عند مطالبة الأعداء ... 70

مناقشة وتحليل ... 71

الشبهة الثالثة: إنكار المعجزة من قبل النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم نفسه ... 72

مناقشة وتحليل ... 72

1 - الجمع بين الآيات المثبتة والنافية ... 72

2 - عدم وجوب الاستجابة لجميع المطالبين بالمعجزة ... 74

الشبهة الرابعة: المعراج ... 76

مناقشة وتحليل ... 77

1 - الوقوع أدلّ دليل على الإمكان ... 78

2 - عدم تعارض المعراج مع القوانين الطبيعية والعلمية ... 79

3 - عجز العلوم التجريبية عن بيان الأمور الخارقة للعادة ... 81

4 - إمكان بيان المعراج من خلال العلوم التجريبية ... 83

5 - المعراج المثالي والعقلي ... 87

ص: 459

الفَصْلُ الْرَّابِعْ

العصمة

إشارة إلى البراهين العقلية والنقلية على عصمة الأنبياء ... 92

1 - المقام العلمي والمعنوي للنبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم (التجرّد التام) ... 92

2 - اقتضاء فلسفة البعثة للعصمة ... 93

3 - الآيات ... 94

4 - الروايات المأثورة عن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم ... 100

الروايات المأثورة عن الأئمة الأطهار علیهم السلام ... 101

نقد الشبهات القرآنية التي ساقها المنكرون لعصمة النبي الأكرم ... 103

الشبهة الأولى نسبة الضلالة إلى النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم ... 104

مناقشة وتحليل ... 104

1 - الضلالة بمعنى العزلة أو التوحّد ... 104

2 - الضلالة بمعنى الشخص الضائع في قومه ... 105

3 - البعد عن مقام النبوّة ... 105

4 - عدم معرفة الدين والشريعة ... 106

5 - الضلالة بمعنى عدم الهداية ... 107

الشبهة الثانية نسبة الذنب والمغفرة إلى النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم ... 107

مناقشة وتحليل ... 108

1 - الذنب بمعنى التبعة والتأثير السيئ ... 108

2 - النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم واسطة خلق الناس (تفسير عرفاني) ... 110

3 - النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم هو الأب الروحي للأمّة ... 110

4 - الذنب في نظر المشركين ... 111

ص: 460

5 - المفهوم الاجتماعي للذنب من حيث القيادة ... 111

الشبهة الثالثة نسبة الوزر إلى النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم ... 113

مناقشة وتحليل ... 113

1 - عدم انسجام هذه الشبهة مع الآيات والعقل ... 113

2 - حزن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم على أمته ... 114

3 - ترك الأولى ... 114

4 - ثقل وشدّة مقام النبوّة ... 115

الشبهة الرابعة طلب العفو والغفران ... 115

مناقشة وتحليل ... 115

الشبهة الخامسة الغرانيق (الآيات الشيطانية) ... 122

مناقشة وتحليل ... 123

1 - الإشكال السندي والتاريخي ... 123

2 - عدم انسجامها مع كثير من الآيات ... 124

3 - عدم انسجامها مع القواعد الكلامية والعقلية ... 128

4 - المراد من الغرانيق هو الملائكة وليس الأصنام ... 128

5 - تلاوة هذه الآية من قبل الشيطان وليس النبي صلی الله علیه و آله و سلم ... 129

6 - ضعف الشواهد (من الآيات) ... 130

الشبهة السادسة وقوع السهو والنسيان من النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم ... 133

1 - الإشكالات السندية ... 134

2 - أخبار الآحاد ... 135

3 - موافقة العامة ... 135

4 - مخالفة الآيات القرآنية ... 135

ص: 461

5 - معارضة مع الروايات ... 137

6 - مخالفة الأدلة العقلية ...138

الفَصْلُ الْخَامِسْ

النبوّة والوحي

الشبهة الأولى اختصاص بداية دعوة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بالعرب ... 141

الشبهة الثانية اضطراب النبي وغشيته عند نزول الوحي ... 145

1 - عدم ابتلاء النبي بعارضة الصرع قبل البعثة ... 145

2 - اقتران عروض هذه الحالة بالنبوة ... 146

3 - بيان وتفسير الاضطراب الذي كان يعتري النبي عند نزول الوحي ... 147

4 - تجريح الروايات الدالة على الإغماء وشدّة الوحي ... 152

الشبهة الثالثة تصنّع النبي وتظاهره بالإغماء عند نزول الوحي ... 154

1 - مجرد اتهام وادّعاء ... 154

2 - عدم الانسجام مع شخصية النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم ... 155

3 - المعجزات الكثيرة ... 155

4 - عدم اقتصار الاضطراب على النبي صلی الله علیه و آله و سلم ... 156

الشبهة الرابعة اتهام النبي صلی الله علیه و آله و سلم بالجنون ... 156

الشبهة الخامسة اتهام النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بالكهانة ... 158

الشبهة السادسة اتهام النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بالسحر ... 160

1 - تهمة من دون دليل ... 161

2 - عدم انسجام هذه التهمة مع شخصية النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم ... 161

3 - اختلاف الإعجاز عن السحر ... 161

ص: 462

الشبهة السابعة اتهام النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بقول الشعر ... 164

الأدلة والشواهد على عدم كون النبي الأكرم شاعراً ... 166

1 - عدم معرفة النبي للشعر قبل البعثة ... 167

2 - اختلاف القصائد الأولى للشعراء عن قصائدهم المتأخرة ... 167

3- عدم اشتمال الشعر على عنصر التحدي ... 167

4 - النقاط الإعجازية الأخرى في القرآن الكريم ... 168

الشبهة الثامنة الوحي نتاج وهم النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم ... 168

الشبهة التاسعة اعتبار النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم نابغة وعبقرياً ... 173

1 - ادعاء بلا دليل ... 174

2 - عدم ظهور آثار العبقرية على النبي في مرحلة الصغر ... 174

3 - السيرة الأخلاقية ... 175

4 - إثبات النبوّة بالأدلة الخاصة ... 175

5 - اختلاف النبوة عن العبقرية ... 175

الشبهة العاشرة دعوى اقتباس الإسلام من الأديان الأخرى ... 178

1 - أميّة النبي ... 179

2 - عدم الارتباط التفصيلي والدائم بين النبي وأتباع الأديان ... 180

3 - عدم ذكر دعوى أخذ الإسلام من الأديان الأخرى ... 180

4 - اشتراك الإسلام مع سائر الأديان يعود إلى اتحاد المصدر ... 181

الشبهة الحادية عشرة: أسباب عدم نزول الإمدادات الغيبية في الحروب ... 182

الشبهة الثانية عشرة إنكار دور النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم في الوحي ... 185

نقد ورأي ... 185

إشارة إلى حقيقة الوحي ... 186

الأول رؤية المتكلمين والفلاسفة ... 188

ص: 463

1 - الاستعداد اللازم لتلقى الوحي ... 188

2 - تحمّل الوحي ... 190

3 - تلقي الوحي الخالص ... 192

4 - حفظ الوحي ... 193

5 - إبلاغ الوحي بشكل كامل وتام ... 194

6 - تفسير وبيان الوحى «الولاية التشريعية» ... 195

الثاني رأي الفلاسفة والعرفاء (الدور التكويني) ... 196

خلاصة واستنتاج ... 199

الفَصْلُ الْسَّادِسْ

الخاتمية

الشبهة الأولى تجريح أدلة الخاتمية ... 202

مناقشة وتحليل ... 202

الآيات ... 202

الروايات ... 204

الشبهة الثانية تفسير آية الخاتمية ... 206

أ - الخاتم بمعنى الزينة ... 206

ب - الخاتم بمعنى المصدّق ... 207

ج - خاتم النبوّة دون الرسالة ... 210

الشبهة الثالثة تأويل روايات الخاتم ... 213

مناقشة وتحليل ... 214

الشبهة الرابعة إمكان ادعاء الخاتمية بوصفها مظهر الله ... 214

1 - سريان حكم الظاهر إلى المظهر ... 215

ص: 464

2 - ادعاء من دون دليل ... 218

3 - مخالفة القرآن الكريم ... 218

4 - مخالفة الروايات ... 219

الشبهة الخامسة عدم ختم النبوّة، بل ظهور وتجلّ إلهي ... 219

مناقشة وتحليل ... 220

الشبهة السادسة ادعاء الآيات المثبتة لظهور نبي جديد ... 221

الآية الأولى ... 221

الآية الثانية ... 223

الآية الثالثة ... 225

الآية الرابعة ... 226

الآية الخامسة ... 229

الشبهة السابعة ادعاء النبوّة الظلية ... 230

الفَصْلُ السَّابِع

الحكومة والمشروعية

الشبهة الأولى إنكار المشروعية الإلهية والدينية لحكومة النبي صلی الله علیه و آله و سلم ... 233

1 - عدم الانسجام مع العقل ... 236

2 - عدم الانسجام مع الآيات القرآنية ... 238

3- عدم الانسجام مع الروايات النبوية ... 241

الشبهة الثانية: انحصار شأن النبوة والنبي بإبلاغ الوحي والهداية ... 243

1 - أبعاد منزلة النبوّة والنبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم ... 244

2 - الخلط بين الحصر الإضافي والحصر الحقيقي ... 254

ص: 465

الشبهة الثالثة دلالة القرآن الكريم على نفي حاكمية النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم ... 255

1 - النص على حكومة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم ... 258

2 - الحصر الإضافي ... 259

3 - عدم سلطة النبي في هداية الكفار ... 259

الشبهة الرابعة اختصاص الحكم بقريش ... 261

مناقشة وتحليل ... 261

الشبهة الخامسة توريث السلطة ... 263

1 - توفر الصفات والشروط للقيادة بشكل حصري ... 263

2 - معنى الإمامة أوسع من الحكومة ... 265

3 - الفصل بين المشروعية السياسية والإلهية ... 266

الشبهة السادسة تجاهل حقوق الشعب وموقعه في الدولة النبوية ... 267

مناقشة وتحليل ... 267

المبحث الأول دور الأمة في الحكومة ... 268

1 - نسبة الحكومة إلى الناس ... 269

2 - وجوب رضا الناس عن الحكومة ... 270

3 - أصل البيعة ... 271

4 - أصل الشورى ... 273

5 - الحكومة أمانة الناس في عنق الحاكم ... 274

6 - الحاكم أجير الناس ومستأمنهم ... 275

7 - الحاكم ممثل الناس ونائب عنهم ... 276

المبحث الثاني موقع الناس وحقوقهم في إدارة الدولة ... 276

1 - وجوب استشارة الناس ... 276

2 - رعاية الحقوق الفطرية والاجتماعية للمواطنين ... 278

ص: 466

3 - حرية السؤال والنقد والاعتراض ... 286

4 - النصيحة للحاكم ورجال الدولة ... 287

المبحث الثالث مداراة المواطنين ومختلف أطياف المجتمع ... 289

1 - مداراة المواطنين ... 289

2 - المداراة مع الأقليات الدينية ... 295

3 - مداراة النبي مع المنافقين ... 298

4 - مداراة النبي مع المخالفين والمتآمرين ... 301

القِسْمُ الثَّاني

الشبهات التاريخية والاجتماعية

الفَصْلُ الأَوّلْ

مرحلة الطفولة والشباب، الأخلاق السلوكية والفردية للنبي الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم

الشبهة الأولى فترة الطفولة، الحرمان والألم والاضطراب الروحي ... 307

1 - اشتغال أسرة الرسول بالتجارة ... 308

2 - الانتساب إلى «عبد الله» يستدعي اهتماماً خاصاً ... 308

3 - وجود الحاضنة والخادمة ... 309

4 - الاهتمام الخاص الذي أولته أسرة حليمة السعدية للنبي صلی الله علیه و آله و سلم 309

5 - الاهتمام الخاص بالنبي من قبل عبد المطلب ... 310

6 - الاهتمام الخاص من قبل أبي طالب بالنبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم ... 312

الشبهة الثانية العمل في رعي الأغنام ... 313

ص: 467

1 - رعي الأغنام من المهن المألوفة لأهل المكة ... 314

2 - اعتراف صاحب الشبهة بممارسة الأنبياء لرعي الماشية ... 315

3 - إنكار أن يكون النبي قد عمل أجيراً في رعي الماشية ... 315

4 - تناسب وعلاقة مهنة رعي الأغنام مع النبوة ... 317

الشبهة الثالثة شاب مغمور وغير مؤثر ... 318

1 - ظهور العديد من المعجزات التي رافقت ولادة النبي الأكرم ... 319

2 - تحديد الهوية الحقيقية والاعتبارية للنبي من قبل اليهود ... 319

3 - تسمية المواليد باسم «محمد» ... 320

4 - اشتهاره بلقب «الأمين» ... 320

5 - المساهمة في «حلف الفضول» ... 320

6 - الرضوخ لحكم النبي في مسألة التنازع على إعادة الحجر الأسود ... 321

الشبهة الرابعة الهروب من مواجهة جيش إبرهة ... 322

1 - هجوم جيش إبرهة على مكة قبل ولادة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ... 323

2 - عدم وقوع الحرب ... 324

3 - الإشكالات التاريخية على هذه الشبهة ... 325

تقرير آخر للشبهة (المشاركة في حرب الفجار) ... 325

1 - الاختلاف في النقل ... 326

2 - عدم مشاركة بنى هاشم في هذه الحرب ... 328

الشبهة الخامسة اتصاف النبي بالصفات القبيحة ... 330

1 - رفض الوعود الدنيوية وتسويده من قبل المشركين على مكة ... 332

2 - عدم توسيع رقعة الحكم بالحرب والسيطرة ... 333

3 - التشاور مع الناس ... 334

ص: 468

الشبهة السادسة لقب أبي القاسم يعكس الثقافة الذكورية ... 335

الشبهة السابعة: أن النبي كان يريد الحصول على مكاسب مادية ودنيوية ... 338

1 - امتلاك الثروة الكافية ... 339

2 - إنفاق ثروته وثروة زوجه خديجة في سبيل الله ... 340

3 - رفض الوعود الدنيوية التي قطعها له شيوخ مكة ... 341

4 - حياة الزهد ... 342

الفَصْلُ الْثَّانِي

الأخلاق الجنسية وزواج النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم

الشبهة الأولى الأخلاق الجنسية وتعدد الزوجات ... 343

1 - الميل إلى المرأة غريزة إنسانية ... 344

2 - ضبط الغريزة الجنسية وتهذيبها ... 345

3 - شيوع تعدد الزوجات في صدر الإسلام ... 346

4 - تعدّد الزوجات في الأديان السابقة ... 347

5 - الاكتفاء بزوجة واحدة في فترة الشباب والكهولة ... 347

6 - زواج النبي تابع للمصالح الدينية والاجتماعية ... 348

أ - الدوافع السياسية والاجتماعية (التحالف مع القبائل المختلفة) ... 349

ب - الدوافع الأخلاقية وغير الجنسية ... 351

ج - الدوافع الدينية ... 354

الشبهة الثانية الزواج من السيدة خديجة طمعاً بثروتها ... 355

1 - كان الزواج باقتراح من السيدة خديجة الكبرى ... 357

2 - بساطة عيش رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم ... 357

ص: 469

3 - إنفاق السيدة خديجة ثروتها لنشر الإسلام ... 358

4 - إنفاق ثروته وسهمه من بيت المال ... 358

الشبهة الثالثة الضغط النفسي الناشئ عن زواجه من السيدة خديجة ... 359

1 - تصريح النبي برضاه واغتباطه بالزواج من السيدة خديجة الكبرى ... 359

2 - تسمية العام الذي توفيت فيه السيدة خديجة الكبرى بعام الحزن ... 360

3 - عدم الزواج مجدداً ... 361

4 - إكثار النبي الأكرم من الحديث عن فضائل وشمائل السيدة خديجة ... 362

5 - الشك في عمر السيدة خديجة الكبرى ... 363

6 - الشك في ترمّل السيدة خديجة الكبرى ... 364

الشبهة الرابعة منع القرآن للنبي من الزواج مجدّداً ... 364

الشبهة الخامسة اتخاذ الإماء والزواج من أرامل المقتولين ... 367

الشبهة السادسة عدم رعاية العدالة بين النساء ... 369

الشبهة السابعة العلاقة المشبوهة بين النبي ودحية الكلبي ... 374

الفَصْلُ الثَّالِثْ

الأخلاق والسيرة الاجتماعية والسياسية والحكومية

الشبهة الأولى اختلاف المنهج السلوكي للنبي بين مكة والمدينة ... 377

الشبهة الثانية محاربة النبي للفن والشعر والرسم ... 380

1 - النحت والرسم جزء من الثقافة الوثنية ...380

2 - الإسلام والتشجيع على ممارسة سائر الفنون ... 381

الشبهة الثالثة الاعتراض على تدوين الكتب وترجمتها ... 383

الشبهة الرابعة التملك والتصرّف الشخصي في الأنفال والغنائم الحربية ... 386

الشبهة الخامسة عدم الوفاء بالعهود والمواثيق ... 389

ص: 470

الشبهة السادسة تنصيب الأعيان والأشراف ... 393

1 - التقوى والكفاءة معيار تنصيبات النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم ... 393

2 - توظيف الأعيان بغية بسط سلطة الإسلام ... 398

الشبهة السابعة نشر الإسلام بالعنف والسيف ... 399

1 - الطرق العملية في أسلوب الدعوة إلى الإسلام ... 399

2 - الإسلام عقيدة قلبية لا مجال فيها للإكراه ... 408

3 - الدوافع الدفاعية لحروب الرسول صلی الله علیه و آله و سلم ... 409

الشبهة الثامنة التعرّض لقوافل مكة التجارية ... 410

1 - السيرة النظرية والعملية للنبي الأكرم تقوم على المداراة والرحمة ... 411

2 - حصر الهجمات على قوافل المشركين من أهل مكة ... 414

3 - استعادة المسلمين أموالهم التي صادرها المشركون ... 414

4 - محاصرة العدو اقتصادياً ... 415

5 - تسقّط أخبار العدو وتقصّي أخبار المشركين ... 416

الشبهة التاسعة اغتيال المعارضين ... 416

1 - تحريم قتل النفس المحترمة ... 417

2 - الأمر بقتل كعب بن الأشرف ... 419

3 - الأمر بقتل سلام بن أبي الحُقيق ... 420

4 - الأمر بقتل عدد من شعراء اليهود ... 420

الشبهة العاشرة قتل الأسرى ... 422

التشكيك والتردّد في أصل قتل رجال بني قريظة ... 425

ممارسة بني قريظة للتجسس والتمرّد والسعي إلى خلق الفوضى ... 427

صدور الحكم بالقتل من قبل حكَم محايد ... 427

ص: 471

الشبهة الحادية عشرة القسوة على اليهود وقتلهم ... 428

1 - تجسّس اليهود لمصلحة الأعداء ... 430

2 - مواجهة الشعراء المتآمرين ... 430

3 - محاربة اليهود للنبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم ... 431

الشبهة الثانية عشرة العنف والقسوة مع الكفار ... 432

1 - تحريف التاريخ ... 433

2 - قيام سيرة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم على الشفقة والرحمة ... 433

الشبهة الثالثة عشرة أشدّ العقوبات على الاستهزاء برسول الله ... 436

1 - النبي رسول الرحمة ... 436

2 - اختصاص العقوبة بمن يمثل خطراً على أمن الإسلام والمسلمين ... 438

الشبهة الرابعة عشرة التمثيل بجثث الأعداء في الحرب ... 439

1 - قيام تعاليم الإسلام على تحريم المثلة ... 439

2 - ارتكاب العدو للمثلة ... 440

3 - تحليل كلام النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم ... 441

المصادر ... 443

المحتويات ... 457

٭٭٭

ص: 472

تعرّض النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله و سلم) - الذي يمثل محور الإسلام - إلى الانتقادات والشبهات حتى في حياته ، ونشهد اليوم

إعادة واجتراراً لهذه الشبهات والاتهامات بشأن السيرة النظرية والعملية لهذا الإنسان العظيم في بعض مواقع التواصل الاجتماعي، ومؤلفات بعض من يُصطلح عليهم بالمستنيرين. وعلاوة على ذلك فإننا نشهد اليوم حملة مسعورة لإنتاج عددٍ من الأفلام التي تهدف إلى تشوية صورة النبي الأكرم في أنظار الشعوب. وعليه فإن الإجابة عن هذا التشويه المتعمّد ، واغتيال شخصية النبي الأكرم بهذه الأساليب الخبيثة تستدعي أسلوباً عقلياً ومنطقياً، وإن الإجابة العلمية والمنطقية والموثقة تعدّ خير وسيلة لتحقيق هذه الغاية، وهذا ما سعينا إليه من خلال

تأليفنا الكتاب ...

www.iicss.iq

islamic.css@gmail.com

رقم الإصدار (18)

ص: 473

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.