أجوبة الشبهات الکلامية (العدل) المجلد 2

هوية الکتاب

العتبة العباسية المقدسة

المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية

قسم الکلام والعقیده

أجوبة الشبهات الكلامية / 2

العدل

تأليف محمد حسن قدردان قراملكي

ترجمة: السيد حسن علي مطر الهاشمي

ص: 1

اشارة

العدل

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحیم

ص: 3

العتبة العباسية المقدسة

المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية

يعنى بالاستراتيجية الدينية والمعرفية

أجوبة الشبهات الكلامية / 2

العدل

تأليف محمد حسن قدردان قراملكي

ترجمة: السيد حسن علي مطر الهاشمي

الإخراج الفني: نصير شكر

المطبعة: دار الكفيل للطباعة والنشر والتوزيع

الطبعة : الأولى 1437 ه- / 2016م

ص: 4

المُقدّمَةُ

أهمية التحقيق وضرورته

تمثل العدالة مفردة إنسانية مثالية، يطمح كل إنسان إلى تحقيقها وتجسيدها في المجتمع. وقد ثبت في الفلسفة وعلم الكلام أنّ الله سبحانه وتعالى يتصف بجميع الصفات الكمالية المطلقة، ولازم ذلك أن يتصف اللّه بصفة العدل أيضاً. وبالفعل فقد وصفه المؤمنون بهذه الصفة، وعبدوا اللّه العادل وأحبوه. وقد عدّ جميع المفكرين والعلماء المسلمين «العدل الإلهي» جزءاً لا يتجزأ من تعاليمهم الدينية.

بيد أنّ هذه الصفة قد تعرّضت لمختلف الشبهات والإشكالات وهو أمرٌ جعلها عامّة البلوى. وقد انسحبت الأبحاث والانتقادات من الدوائر والأروقة العلمية وانتقلت إلى المجتمعات العرفية أيضاً، وبذلك تضاعفت أهمية هذا البحث وضرورته. ولذلك فإننا نحاول من خلال هذا التحقيق أن نعمل

على دفع هذه الشبهات والإشكالات.

ص: 5

الجذور التاريخية للتحقيق

إن البحث في العدل الإلهي قائم في جميع الأديان السماوية والإلهية، بوصفه من الصفات الكمالية. بل حتى الفلاسفة قد وصفوا واجب الوجود بصفة الكمال في البحث عن الحكمة والنظام الأحسن فى الفلسفة، وأشبعوا هذه المسألة بحثاً وتحليلاً. كما قام علماء الإمامية والمعتزلة بشرح مفهوم العدل الإلهى في كتبهم الكلامية شرحاً مسهباً ، وأثبتوا ضرورة اتصاف اللّه بهذه الصفة الكمالية، وجعلوها واحدة من أصول مذهبهم. وبسب الاهتمام الكبير الذي أولاه علماء الإمامية والمعتزلة للعدل عرفوا ب- «العدلية»، أما الأشاعرة فحيث أنكروا الحسن والقبح العقلي، فقد قدّموا تعريفهم الخاص عن العدل، ومضمونه أن العدل هو ما يقرره الله سبحانه وتعالى فالحَسَن ما يُحسّنه الله، والقبيح ما يُقبحه الله .

وفي العقود الأخيرة يعدُّ أهم مؤلف تحقيقي في هذا المجال هو كتاب «العدل الإلهي» الذي كتبه الأستاذ الشهيد مرتضى مطهري، حيث عالج مفهوم العدل الإلهي ببيان رشيق وتحليل عقلي أنيق. ثم ظهرت بعد ذلك كثير من الأعمال في هذا المجال، وكلها يستحق الثناء والتقدير.

إن مسألة العدل من بين المسائل الكلامية التي شغلت حيّزاً كبيراً من تفكيري واهتمامي، وهو أمرٌ ساقني إلى الاشتغال في هذا الحقل، وتمخض ذلك عن كتاب تحت عنوان اللّه ومسألة الشرور» (1)، وقد مضى على ذلك عشر

ص: 6


1- عنوانه الأصلي في اللغة الفارسية (خدا) ومسأله شر)، طبعته مؤسسة انتشارات كتاب، في قم المقدسة.

سنوات، وقد سعيت في هذا الكتاب إلى بيان الحلول المطروحة حول مسألة الشرور من قبل الفلاسفة والعمل على تحليلها وبيان نقاط ضعفها وقوّتها. وفي الحقيقة فإن الكتاب المذكور قد تمّ تنظيمه على أساس الاتجاه الفلسفي التحليلي والانتقادي، وهو لذلك يتناسب بشكل أكثر مع مزاج المحققين والباحثين.

سؤال التحقيق وفرضيته

يتمحور هذا التحقيق حول الشبهات التي تحوم حول العدل الإلهي لا توجد فيه أسئلة رئيسة وأخرى فرعية وثانوية بل الذي يمثل مجموع التساؤلات فيه هو تلك الشبهات المثارة والتي تدور في أذهان مختلف الأفراد، والتي تتجه إلى صفة العدل الإلهي من مختلف الزوايا، وربما مثلت تلك الشبهات تحدياً أمام إثبات اتصاف اللّه بهذه الصفة. وبطبيعة الحال يمكن بيان سؤال البحث على النحو الآتي: مع وجود كل هذه الشرور في العالم، هل يمكن الدفاع عن العدل الإلهي؟

إن الإجابة عن هذا السؤال بالإيجاب هي التي تمثل فرضية هذا التحقيق. بمعنى أن العدل الإلهي قابل للإثبات، وإن بالإمكان الإجابة عن الشبهات والتساؤلات المثارة حول مفهوم العدل الإلهى، واتصاف الله سبحانه وتعالى بهذه الصفة، وتنطلق الإجابة عن تلك الشبهات من الاتجاه العقلي والنقلي.

أسلوب التحقيق

يقوم أسلوب التحقيق في هذا الكتاب على المنهج المكتبي الشامل

ص: 7

للكتب المجازية ومختلف البرامج الإلكترونية والمصادر المتوفّرة على الشبكة العنكبوتية أيضاً. وقد سعيت في هذا التحقيق إلى الدفاع عن العدل الإلهي من خلال اتباع الاتجاه الوصفي التحليلي. والجدير بالذكر أني في البدء قمت في معرض الإجابة العامة عن الشبهات المثارة تجاه العدل الإلهى في الفصل الأول بإثبات وبيان العدل الإلهي من خلال البرهان اللمّي .(1)


1- البرهان اللمي هو الذي يُستدل فيه بالعلة على المعلول ويقابله البرهان الإني الذي يُستدل فيه بالمعلول على العلة.

وفي هذا الفصل عمدنا لإثبات العدل الإلهي قبل كلّ شيء إلى تحليل وتقرير ثلاثة أمور تمهيدية (وهي تعريف العدل، وتعريف الخير والشر، وحاكمية قانون العليّة على أمور العالم). وبعد ذلك نثبت العدل الإلهي بالبرهان اللمي بمختلف تقريراته. من هنا يجب دراسة هذا الفصل بوصفه مقدمة وقاعدة للإجابة عن الشبهات، ولذلك ننصح القارئ الكريم بقراءته.

مزايا وإبداعات التحقيق:

1 - الإبداع في أصل الموضوع: لقد بحث العلماء من الإمامية والمعتزلة في مؤلفاتهم مسألة العدل الإلهي ،بالتفصيل وقد تمّت الإشارة فيها إلى بعض الشبهات أيضاً. ولكن يمكن القول بكل ثقة: إن كتابة تحقيق مستقل وجامع يحلل وينتقد مختلف الشبهات المثارة حول العدل الإلهي أمر غير مسبوق. وعليه فإن هذا الكتاب هو أول مؤلف يتناول العدل الإلهي بشكل يجعل الشبهات المثارة ضدّ هذا المفهوم محوراً للبحث والنقاش.

2 - استيعاب الشبهات: تمّ في هذا التحقيق رصد ما يربو على الخمسين

ص: 8

شبهة من مختلف المصادر - الأعم من الكتب القديمة والحديثة، وكذلك الشبهات الكثيرة المنشورة على مواقع التواصل الاجتماعي وغيرها - وقد تمّ جمعها، والإجابة عنها.

3 - تنوّع الإجابات: لقد عمدنا إلى الإجابة عن الشبهات من خلال اعتماد المنهج العقلي (الكلامي والفلسفي والعرفاني والعلمي)، والنقلي (الآيات والروايات). وفى الحقيقة رصدنا لكلّ شبهة أكثر من جواب واحد ولربما كانت الأجوبة تنتمي إلى مختلف المناهج، كي تناسب مزاج مختلف القراء. ولذلك فإننا في معرض الإجابة عن شبهاتٍ من قبيل: أسباب الزلازل والرعود والبروق. وأنواع الأمراض والتشوّهات الخلقية، عمدنا في حدود الإمكان إلى مراجعة العلوم ذات الصلة بهذه الأمور، لكي يتمّ بيان الشبهة وتحليلها من خلال قواعد وأسس تلك العلوم.

4 - الإبداع في طرح ونقد بعض الشبهات: رغم أن بعض الشبهات كان يُقتصر في تداولها على المستوى الشفهي فقط، من دون أن ترقى إلى مرحلة التداول والنقد في كتب المحققين، إلا أننا قمنا بتناولها بالنقد والتحليل في هذا الكتاب. ويمكن الإشارة هنا إلى شبهة فلسفة خلق الضواري والأفاعي السامة، وافتراس الحيوانات الكاسرة للحيوانات الضعيفة والسرّ في خلق أمثال نيرون وصدام وأسباب الشيخوخة، والتفريق في توزيع الجمال والثروة والذكاء بين

الناس.

كما عمدنا إلى الشبهات التى سبق أن أجيب عنها قديماً، وأجبنا عنها بأسلوب وبيان ،جديدين، وقمنا بتصنيفها وتبويبها ليغدو حلها ونقدها أيسر. علاوة على أن نقد بعض الشبهات جاء بعد إعمال التأمل من قبلنا.

ص: 9

5 - التوثيق: إن من بين مزايا هذا التحقيق هو أننا - خلافاً لبعض التحقيقات التى تمّ الاكتفاء فيها بذكر الشبهة والإجابة عنها - سعينا فيه جاهدين إلى ذكر مصادر الشبهات وأسماء أصحابها والتصريح بأسماء العلماء الذين أجابوا عنها، وذلك لحصول مزيد من الاطمئنان بالأجوبة، مضافاً إلى ما في ذلك من الفوائد الجمّة للمحققين والباحثين في التعرّف على أمّهات المصادر، بغية الاستفادة منها والانتفاع بها في المستقبل.

هيكلية التحقيق

إن هذا الكتاب عبارة عن كتاب ضمن سلسلة من ستة أجزاء تحمل عنوان «أجوبة الشبهات الكلامية»، وقد اشتمل على إجابات عن خمسين إشكال وشبهة في حقل العدل الإلهي. وقد تألف هذا الكتاب من ستة فصول على النحو الآتي:

الفصل الأول : تحت عنوان «المدخل» ويشتمل على بيان وتقرير أسس العدل الإلهي وأُصوله، وقد شرحنا فيه مفاهيم من قبيل: العدل، والخير، والشر، والنظام الأحسن، وكذلك أصل العلّية، وإثبات العدل الإلهي من طريق البرهان اللمّي.

الفصل الثاني: تحت عنوان (العدالة والحكمة في عالم الطبيعة والكوارث الطبيعية)، يتناول بالبحث والنقد شبهات من قبيل: أسباب انتشار الشرور في العالم المادي، وعلة عدم خلق العالم خالياً من الشرور والنقص، وفلسفة الشرور والبلايا ،الطبيعية وفلسفة خلق الضواري والحشرات والأفاعي السامة، وخلق

الشيطان.

ص: 10

الفصل الثالث: يتكفل ببيان الشرور في عالم الحيوانات، ويجيب عن شبهة فلسفة خلق الضواري والكواسر، وتغذية بعض الحيوانات على بعضها الآخر، أو ما يُسمّى ب- (النزاع من أجل البقاء).

الفصل الرابع: يتحدث عن شبهة فلسفة خلق الشيطان، وإعطاء المهلة له في إغواء الناس وإضلالهم .

الفصل الخامس: تحت عنوان (فلسفة الشرور والظلم في العالم

الإنساني). عرض فيه الكاتب دراسة ونقد شبهة الشرور في الرقعة الإنسانية ضمن ثلاثة بحوث.

البحث الأول: الشرور الأخلاقية، والاستفسار عن سبب قيام اللّه

-وهو الحكيم والمريد للخير - بخلق الإنسان الذي يميل إلى ارتكاب الشر؟ وفيه نستعرض شبهة فلسفة خلق الإنسان الشرِّير، وفلسفة خلق أمثال نيرون والحجاج وصدام، وإمكان خلق الإنسان المختار الذي لا ينزع إلى الشر، والعلة في عدم السيطرة على إرادة الأشرار.

البحث الثاني: الكوارث الطبيعية ويتعرّض للبحث في الشبهات الطبيعية التي تضرّ بالإنسان. ويمكن الإشارة هنا إلى المكروبات والأمراض والألم والعناء والشقاء، وولادة المعاقين جسدياً أو عقلياً، والشيخوخة والموت، مما ينشأ بفعل الطبيعة واختلالها وفسادها.

البحث الثالث: ينظر إلى آفات الإنسان وشروره من حيث التفاوت في المزايا والقدرات من قبيل الاختلاف في الجنس (ذكر وأنثى)، الاختلاف في الجمال والقبح، والغنى والفقر، والولادة في أجواء تربوية صالحة أو فاسدة، والسعادة والشقاء الذاتيين.

ص: 11

الفصل الرابع والأخير: نتعرّض فيه إلى دراسة وتحليل الشبهة القائلة بعدم تناسب التعاليم الأخروية في الدين مع العدالة الإلهية. وفيه نستعرض عدم التناسب بين العقوبة مع أصل المعصية، وتعارض الشفاعة، والاحباط والتكفيرمع العدالة، وكذلك إبطال أعمال الخير وعبادات الكفار، وعذاب الكافر مع الجاهل، وخلود الكفار في العذاب، وعقاب أولاد الكفار.

وفي الختام أشكر المقومين المفكرين: حجة الإسلام عبدالرحمن سليماني بهبهاني، ومحمد تقي سهرابي فر على إسهامهما في رفع نواقص هذا التحقيق من خلال قراءتهما له قراءة دقيقة ومتأنية.

لقد استغرق تأليف هذه السلسلة «أجوبة الشبهات الكلامية»، ما يقرب من ثماني سنوات، وكان الهدف من ورائها هو( الدفاع عن التعاليم الدينية) من خلال الاتجاه الكلامي وإن إتمامها واستكمالها رهن بتوفيق اللّه وتسديده لهذا العبد الضعيف، الذي يرى من واجبه هنا أن يشكر اللّه على ما ناله من

التوفيق، وكلي أمل في أن تنفعني هذه البضاعة المزجاة يوم حشري ونشري ﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ ﴾ (1)

محمد حسن قدردان قراملكي

***

ص: 12


1- الشعراء: 88

الفصل الأول: المدخل

اشارة

ص: 13

ص: 14

أولاً: تعريف العدل

قالت كتب اللغة في تعريف العدل: إنه القصد في الأمور وهو خلاف الجور. التعادل والتساوى والتسوية بين الشيئين. والأمر المتوسّط بين طرفي الافراط والتفريط والاستقامة والتقصيد على السواء (1).ولأجل الاختلاف في بيان تعريف العدل في التفسير، وجب لحاظ معناه الدقيق أيضاً. فمثلاً قيل في موضع: إن العدالة تتحقق بمجرّد المساواة. وقيل في موضع آخر: العدالة تتحقق بإعطاء كلّ ذي حقٍّ حقّه. توضيح ذلك: لو كان عندنا من الماء ما يكفي لشخصين فقط، وكان هناك ستة أشخاص بحاجة إلى الماء بنسب متفاوتة، كأن يكون هناك اثنان من هؤلاء الستة مشرفين على الإغماء بسبب العطش. فإنّ العدل هنا لا يتحقق بتقسيم الماء على هؤلاء الستة بالسوية، بل لابد من إعطائه لمن هو أحوج من غيره إليه. و في فرض المثال فإن الإثنين المشرفين على التلف أحق بكمية الماء المتوفر عندنا من غيرهم. وبسبب اختلاف المعنى اللغوي للعدل، وكذلك الاختلاف في ملاك حقيقة العدل، قدّم العلماء بدورهم آراء مختلفة في تعريف العدل، نُشير إليها على النحو الآتي:

ص: 15


1- انظر : أبو العباس الفيومي المصباح المنير، ج 1، ص 51؛ سعيد الخوري الشرتوني، أقرب الموارد ، ج 2، ص 753؛ الراغب الإصفهاني، المفردات ص 325 .

1 - التوازن والاستقامة

لو توفّرت أجزاء مجموعةٍ ما على التناسب والانسجام اللازم للوصول إلى الهدف المحدّد، تحقق العدل والاعتدال والتوازن والتناسب والاستقامة. ويمكن لهذه المجموعة والكل المتكامل أن تكون مجموعة حقيقية وتكوينية، من قبيل الطائرة والجسم، أو مجموعة اعتبارية من قبيل: المجتمع، أو ما يحتوي عليه المجتمع من الفئات والطبقات مثل: طبقة المهندسين، وطبقة التجار، وطبقة المثقفين وما إلى ذلك.

إن الملاك الرئيس في اتصاف مجموعة ما بالعدل والاعتدال هو تحقيق الانسجام بين جميع أجزائها من أجل تحقيق الغاية والهدف المنشود لهذه المجموعة. من باب المثال إذا كانت أجزاء الطائرة وعناصرها موضوعة في أماكنها وقامت بالدور المطلوب منها على خير وجه، اتصف ذلك الكل بالاعتدال والتوازن. وإن حصل خلل ما في عناصر أو أجزاء ذلك الكل، سُلب عنه وصف الاعتدال واتصف بما يقابله من عدم التناسب وعدم التوازن قال الفيض الكاشاني: «العدل بأن وفر على كل مستعد مُستحقه، ووفر كلّ ذي حقٍّ حقه، حتى انتظم أمر العالم واستقام كماله» (1).

والمراد أن خلق الإنسان سواء في بُعده الجسماني أو بُعده الروحي، واتصافه بصفات الكمال كائن على حدّ الاعتدال والاستقامة.

وقد استفاد علماء الأخلاق والعرفان من ذلك معنى العدل، وفسّروا اعتدال القوى (الشهوية والغضبية والشيطانية)، وتحقق الصفات الكمالية بحدّ

ص: 16


1- الملا محسن الفيض الكاشاني، تفسير الصافي، ج 5 ص107 0

الاعتدال والاتزان (1)

ويمكن لتعريف بعضهم للعدل بأنه «وضع الشيء في موضعه» أن يكون ناظراً إلى المعنى المتقدّم، وأما إذا كانت الدائرة الإنسانية مرادة أيضاً؛ فإنه يعود على ما يبدو إلى رعاية الحقوق والاستحقاق، وهو مضمون التعريف الثالث.

2 - التساوي ونفي المحاباة

إن هذا المعنى من العدل أشبه بمعناه اللغوي ولكن علينا أن نلتفت - كما تقدّمت الإشارة في المعنى اللغوي - إلى أن مجرّد رعاية التساوي من دون الالتفات إلى عنصر الاستحقاق، لا ينسجم مع روح العدالة، وأما إذا أخذنا عنصر الاستحقاق بنظر الاعتبار في هذا التعبير، فإنه سيعود إلى التعريف التالي (2)

3- رعاية وإعطاء حق المستحق

إن لجميع الأفراد على مختلف الجهات حقوقاً يجب رعايتها. من باب المثال: إن لكل شخص الحق في الحياة، والحرية في العيش والانتقال من مكان إلى آخر وما إلى ذلك من الحريات من قبيل الحرية السياسية والاجتماعية والمدنية؛ فيجب احترام هذه الحقوق، وإن تم تقييد هذه الحريات بشكل غير مبرّر، فإن حقّ صاحب الحق سيتعرّض للهضم، ويقال في حقه إنه تعرّض

للظلم والجور.

ص: 17


1- انظر: السيد روح الخميني، عدل إلهي (العدل الإلهي)، ص 3.
2- انظر: مرتضی مطهري مجموعه آثار الأعمال الكاملة، ج 1، ص 82 - 86؛ ناصر کاتوزیان فلسفه حقوق (فلسفة الحقوق)، ج 1، ص 617.

وحيث يصدق الظلم في الاعتداء على حقوق الآخرين، من هنا كان شرط تحقق هذا المعنى من العدالة هو امتلاك الاستحقاق، وبعبارة أخرى: الحق السابق الذي يكون إعطاؤه عدلاً، وعدم إعطائه ظلما وجوراً. فمثلاً: تقسيم الأرباح على الشركاء في المضاربة بنسبة رؤوس أموالهم، وبذلك تتحقق العدالة، وأما تقسيم الأرباح بينهم بالتساوي من دون أخذ مقدار ما أسهم

به كل واحد منهم في مجموع رأس المال، فإنه يستتبع وقوع الظلم على من أسهم بنسبة أكبر من الأموال. قال القاضي عبد الجبار المعتزلي في تعريف العدل:

«توفير حق الغير، واستيفاء الحق منه» (1).

قد يُشكل على هذا التعريف بالقول: إن ترك العدل في بعض الأحيان لا يلازم فعل القبيح وارتكاب الظلم.

من باب المثال : إن معاقبة المجرم والمذنب - سواء من قبل المظلوم في الدنيا، أو من قبل الله في الآخرة - يُعدّ من العدل، وقد ورد في بعض النصوص الدينية وصف العقوبة الإلهية بالعدل والصفح الإلهي بالتفضّل: «يا من لا يُرجى إلا فضله، ولا يُخاف إلا عدله» (2).وأما الصفح والعفو عن المذنب والمجرم من قبل الله أو من وقع عليه الظلم، فهو حسن وممدوح ولا يُعدّ ظلماً أو أمراً- قبيحاً .

ص: 18


1- القاضي عبد الجبار المعتزلي شرح الأصول الخمسة ص 131 كما عرف الأستاذ الشهيد مرتضى مطهّري العدل في بعض كتبه على النحو الآتي: (رعاية الاستحقاق، ورعاية الحقوق)، انظر: مجموعه آثار (الأعمال الكاملة)، ج 21 ص 212 .
2- محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 91، ص 107؛ إبراهيم الكفعمي، ص 376 .

إن أخذ الظرفيات والاستحقاقات في منح الوجود والكمال بنظر الاعتبار يمكن وضعه في إطار التعريف السابق من باب المثال: إن سقي النباتات لا يكون بشكل متساو، وإنما يتم سقيها بمقدار حاجتها فهناك من النباتات ما يحتاج إلى مزيد من الماء، وبعضها لا يحتاج إلا لمقدار قليل من الماء. وهكذا الأمر بالنسبة إلى العفو والصفح عن المجرمين، فإنه يتوقف على

استحقاقهم وحجم توبتهم.

في الإجابة عن هذا الإشكال - كما تقدّم أن ذكرنا - يجب القول إن تحقيق معنى العدل رهن بوجود الحق السابق، إذ إن رعايته هي التي تحقق ،العدل وإن انتهاك هذا الحق هو الظلم والجور بعينه إلا إذا عفا صاحب الحق أو تنازل عن حقه لصالح فرد آخر أو نقله إلى موضع آخر. فمثلاً لو أن المضارب في مشروع تجاري مشترك، صرّح بتنازله عن حقه إلى شخص آخر، أو إلى المضاربين الآخرين، ففي هذا الفرض لا يكون إعطاء حقه لمن تنازل له عملاً جائراً، بل هو عين العدل وإعطاء ذي الحق حقه؛ لأنه قد تنازل عن حقه لصالح غيره، ولذلك يكون العمل بذلك رعاية لحقه ورغبته.

وفيما يتعلق بالعفو عن العقوبة يمكن القول أيضاً: إن أصل العقوبة على الذنب أمر عادل، وهو حق لمن وقع عليه الظلم. ومن ناحية أخرى، إن الحق الثاني يتمثل في التناسب بين الجناية والعقوبة ،وبالعكس، بمعنى أن العقوبة يجب أن تتناسب وحجم المعصية، فإذا كانت العقوبة أشد من المعصية، كان في ذلك ظلم يُرتكب في حق المدان، وإذا كانت العقوبة أخفٌ من المعصية والجرم، كان في ذلك جور على المظلوم وهضم لحقّه.

يمكن تصوّر خمس فرضيات في مسألة العقوبة :

ص: 19

1 - تناسب العقوبة والمعصية: مسألة عقلانية وعادلة ومبنائية، ولا يتمّ تحديدها من قبل المظلوم.

2 - شدّة العقوبة فيها ظلم للمذنب.

3 و 4 - ترك العقوبة أو تخفيفها : لازمها حكم العقل بهضم حقّ المظلوم، وهو أمر مخالف للعدل.

5 - العفو من قبل المظلوم عندما يتنازل المظلوم عن حقه أو يرضى بتخفيف العقوبة، كان المناط هو العمل على وفق رغبته؛ لأن ذلك من جملة حقوقه.

إن الملاك في وصف الفرضيات المتقدّمة بالعدل، هو إعطاء الحق و ممارسته. ففي الفرض الأول حيث التناسب بين الحق والعقوبة، فإن العدل قائم. وفي الفرضيات الثلاثة التالية، حيث يُهضم حق أحد الطرفين - الأعم من المظلوم والظالم - نكون قد استبدلنا العدل بالظلم. وفي الفرض الخامس يجب القول: حيث إنّ عقوبة المجرم ليست حكماً تكليفياً، ولا إلزاماً عقلياً أو شرعياً، بل هو مجرّد حق ثابت للمظلوم فله أن يتنازل عنه وأن يعفو، بل إنّ في كثير من الموارد يعدُّ أمراً ممدوحاً ويستحق فاعله الثناء.

وبعبارة أخرى: إن الملاك في اتصاف الفعل بالحُسنُ والثواب هو العدل. بيد أن ترك العدل لا يمكنه أن يكون موضوعاً وملاكاً لاتصاف الفعل بالقبح والظلم، ومن ثَمَّ موجباً للعقاب؛ لأن ترك العدل أعم من الظلم والعدوان على حقوق الآخرين. وإن ملاك المعصية والجناية هو العدوان على حقوق الآخرين وارتكاب الظلم. وأما على فرض العفو عن المذنب، فإنه لا يكون من العدوان وإنما هو عفو وتنازل طوعي من قبل المظلوم عن حق من حقوقه. وهكذا

ص: 20

الأمر بالنسبة إلى العفو والغفران من قبل اللّه أو الشفاعة في يوم القيامة، حيث يتنازل الباري تعالى عن حق من حقوقه (1).

هناك اختلاف بين العدل والإحسان، نشير إليه على النحو الآتي:

1 - يقوم تحقق معنى العدل على وجود حق سابق، يؤدي عدم رعايته إلى ارتكاب الجور والظلم. ولكن ثمة موارد يعطى فيها الشخص نعمة وفضلا من دون أن يكون هناك حق سابق.

من باب المثال : أن يبادر شخص إلى إخراج مقدار من حر ماله ويتبرع به إلى محتاج في هذا المثال لا يتصف فعله بالعدل، بل هو فوق التفضل؛ إذ هو من الجود والإحسان وإنه إذا ترك هذا الإحسان لا يتصف تركه له بالظلم وعدم العدل، وإنما غاية ما يقال في حقه إنه ترك فعل الخير. وفي ذلك يقول العلامة محمد حسين الطباطبائي: إن العدل يُساوق الحسن ويلازمه؛ إذ لا نعني بالحسن إلا ما من طبعه أن تميل إليه النفس وتنجذب نحوه وإقرار الشيء في موضعه الذي ينبغي أن يقرّ عليه من حيث هو كذلك مما يميل إليه الإنسان ويعترف بحسنه ويقدم العذر لو خالفه إلى من يُقرعه باللوم، لا يختلف في ذلك اثنان، وإن اختلف الناس في مصاديقه كثيراً باختلاف مسالكهم في الحياة) (2).

ص: 21


1- لا يخفى على القارئ الكريم أن هذا الفرض ينسجم مع القول باعتبارية العقوبة الأخروية (وقد تقدم البحث التفصيلي حول تكوينية أو اعتبارية العذاب الأخروي في كتاب المعاد هذه السلسلة انظر أيضاً محمد حسن قدر دان قراملكي (مفهوم الجحيم)، الفصل الأول والثاني.
2- العلامة محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 12، ص 332.

يبدو أن هذا الفارق موضع تأييد النصوص الدينية المقدّسة، فقد روي عن الإمام على علیه السلام أنه قال في جوابه عندما سُئل عن أفضلية العدل أو الجود:

«الْعَدْلُ يَضَعُ الْأَمُورَ مَوَاضِعَهَا، والْجُودُ يُخْرِجُهَا عَنْ جِهَتِهَا، وَالْعَدْلُ سَائِسُ عَامٌ، وَالْجُودُ عَارِضٌ خَاصٌ فَالْعَدْلُ أَشْرَفُهُما وَأَفْضَلُهُمَا»(1).

وقال الأستاذ الشهيد مرتضى مطهري في شرح هذا الحديث: سأل أحد الأذكياء أمير المؤمنين علي علیه السلام: «العدل أفضل أم الجود؟». ويبدو أن الإجابة عن هذا السؤال فى غاية البساطة؛ فالجواب الذي يبدو للوهلة الأولى هو: إن الجود والكرم أفضل من العدل؛ لأنّ العدل يعني رعاية حقوق الآخرين وعدم العدوان على حقوقهم [وهذا أمر طبيعي]. أما الجود فيعني أن يتبرّع المرء بحقوقه الطبيعية ويقدّمها للآخرين عن طيب نفس، ففي العدل أداء الواجب وفي الجود تضحية طوعية، وعليه لا شك في أن الجود

ص: 22


1- نهج البلاغة، الحكمة رقم 437؛ محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 72، ص 350 - 357؛ مرتضى مطهري، مجموعه آثار (الأعمال الكاملة)، ج 16 ، ص436. وقد يذهب التصور ببعضهم إلى القول بأن الحكم السابق بتفضيل الجود على العدل يتنافى مع مضمون هذه الرواية والحكمة العلوية ولكننا نقول في الجواب : إن جهات البحث تختلف. فإن أفضلية الجود على العدل إنما تكون من زاوية النظرة الجزئية والشخصية والأخلاقية، والتي يكون فيها الشخص الكريم والجواد خيراً من الشخص العادل. وأما إذا ذهبنا إلى ما هو الأخلاق الشخصية، وقمنا بالمقارنة بين هذين المفهومين على المستوى الاجتماعي والعام وقلنا هل العدل هو الأفضل على مستوى الواقع الاجتماعي أم الجود؟ وجب القول: حيث يُدار المجتمع على أساس القوانين العامة، فإنه يفتقر إلى تحقيق العدالة أكثر من افتقاره إلى الجود إن تحقيق العدالة على جميع المستويات يغني عن الجود والترحم والإحسان الشخصي الذي يلعب دور المسكن فحسب. المزيد من التوضيح انظر مرتضى مطهري، مجموعه آثار الأعمال الكاملة)، ج 16، ص 436).

أفضل. وهذا هو الجواب الصحيح إذا قصرنا النظر على المعايير الأخلاقية والفردية بمعنى أن الجود يُعبّر عن كمال النفس وسموّ الروح أكثر من تعبير العدل عن ذلك إلا أن الإمام على علیه السلام يجيب بعكس ذلك تماماً، ويقول إن العدل أفضل من الجود ويقيم على ذلك دليلين:

الدليل الأول: «الْعَدْلُ يَضَعُ الْأَمُورَ مَوَاضِعَهَا، وَالْجُودُ يُخْرِجُهَا عَنْ جِهَتِهَا». بمعنى أن العدل يضع مسار الأمور في مجاريها الطبيعية، أما الجود فإنه يخرج الأمور عن مجاريها الطبيعية؛ لأن مفهوم العدالة هو أن تؤخذ الاستعدادات الطبيعية والواقعية بنظر الاعتبار، وأن يُعطى كل فرد ما يتناسب مع نشاطه واستعداده وكفاءته إن المجتمع بمثابة السيارة التي يؤدّي كل جزء منها وظيفته الخاصة، وأما الجود، فصحيح أنه على مستوى شخص الكريم - الذي يجود بماله على غيره - يُعد أمراً يستحق ثناءً كبيراً، ولكن يجب الالتفات إلى أنه يبقى أمراً غير طبيعي فهو مثل الجسم الذي يشتكي بعض أعضائه من علة، فيضطرّ سائر الأعضاء الأخرى إلى ترك وظائفها، والتفرّغ لإصلاحه من الأفضل للمجتمع أن يكون جميع أعضائه أصحّاء [بفعل العدل]، على أن يكون فيه عضو مريض، فيحتاج إلى من يسعفه بالمساعدة والتكّرم عليه [بسبب غياب العدل].

الدليل الثاني: «الْعَدْلُ سَائِسُ عَامٌ، وَالْجُودُ عَارِضُ خَاصٌ». بمعنى أن العدل قانون عام، وإدارة شاملة تعمّ جميع أفراد المجتمع. وأما الجود والكرم فهو

حالة خاصة واستثنائية غير عامة وعليه لا يمكن التعويل والاعتماد عليها. وفي الأساس إذا تحوّل الجود إلى حالة قانونية عامة، وأضحى أمراً شاملاً، فإنه لا یعود جوداً و من هنا يصل أمير المؤمنين إلى النتيجة الآتية: «فَالْعَدْلُ

ص: 23

أَشْرَفُهُمَا وَأَفْضَلُهُمَا»(1).

وقد جاء في الدعاء المروي عن أمير المؤمنين علي علیه السلام وصف عفو اللّه بالفضل، وعذابه بالعدل، إذ يقول :

«إلهي إن عفوتَ فبفضلك، وإن عذّبتَ فبعدلك. فيا من لا يُرجى إلا فضله، ولا يُخاف إلا عدله»(2).

2 - إن الأمر الذي يبدو من خلال تحليل مثل هذا الفعل هو أنه رغم أن ترك الإحسان والجود وعدم رفع حاجة المحتاج عند الإمكان، لا يُعدّ فعلاً ظالماً وغير عادل؛ لعدم حصول ظلم وعدوان على حق أحد. بيد أننا هنا لا نشاهد المعنى الأول من العدل الذي هو التوازن والاعتدال في الشخص المذكور؛ إذ إنما يطلق وصف العادل على فرد إذا كان من ناحية الاتصاف بالصفات الكمالية الأخلاقية - من قبيل الصبر والصدق والشجاعة ومساعدة الآخرين - قد بلغ بهذه الصفات مرحلة الفعلية والازدهار في حدود الاعتدال

وبما يتناسب مع مواضع الحاجة. من هنا فإن عدم الإحسان وعدم تقديم العون للشخص المحتاج مع فرض الإمكان، وإن كان من بعض النواحي - (عدم ارتكاب فعل جائر وقبيح)، وبعبارة أخرى من الناحية الحقوقية - لا يكون مرتكباً لعمل إجرامي فلا يعد غير عادل إلا أنه من ناحية أخرى (الناحية الأخلاقية والمعنى الأول للعدل)، لا من حيث الفعل، بل من حيث فاعله، وليس في محكمة الحقوق، بل في محكمة الضمير والوجدان، يحكم عليه بعدم

الاتصاف بصفة العدل.

ص: 24


1- مرتضى مطهري، مجموعه آثار (الأعمال الكاملة)، ج 16، ص 436 - 437.
2- محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 91 ، ص 107 و 386.

بعبارة أخرى: يمكن تقسيم العدل من زاوية إلى قسمين: العدل الفعلي، والعدل الفاعلي على غرار تقسيم علماء الأصول لبحث الحسن والقبح إلى قسمين: حسن وقبح فعلي، وحسن وقبح فاعلي(1). بمعنى أن ترك فعل الإحسان والجود وإن كان من الناحية الفعلية لا يعد ظلماً، ولا يتصف بعدم

،العدل، إلا أنه يُعبّر عن عدم الاعتدال وعدم استقامة الصفات الكمالية والأخلاقية لدى مثل هذا الفرد، ويمكن وصفه بأنه ليس عادلاً.

3 -رغم أن الإحسان والجود أفضل من العدل، بيد أنه يجب في الإحسان رعاية القواعد الأخلاقية، بحيث لا يؤدّي إلى إيذاء الآخرين وإثارة أحزانهم.

من باب المثال: أن يجلب الوالد لأحد ولديه الصغيرين لعبة، ويترك الآخر دون أن يشتري له شيئاً؛ فينظر الطفل المحروم إلى لعبة أخيه من خلال دموعه المنهمرة(2). فهنا لا يمكن تبرير فعل الأب بالقول: إنه مجرّد جود وتفضّل ،وإحسان وله أن يفعل بحر ماله ما يشاء.

ص: 25


1- الفعل الذي يرتكبه الفاعل ظناً منه أنه حسن - من قبيل حكم القاضي لصالح المظلوم - ثم يتبيّن أنه لم يكن مظلوماً، وإنما كان ظالماً. إن مثل هذا الفعل يشتمل على حسن فاعلي لا على حسن فعلي. وبعكس ذلك الفاعل الذي يرتكب فعلاً بتصور أنه معصية أو فعل قبيح، من قبيل: مساعدة الظالم، ثم يتبين أنه مظلوم. إن مثل هذا الفعل قد يتصف بالحسن ،والصلاح ولكن حيث أن نية وسريرة الفاعل كانت سيئة وقبيحة، لا يمكن أن يتصف بالحسن الفاعلي.
2- لحسن الحظ تمة في هذا الخصوص روايات غاية في الدقة والروعة. من قبيل الروايات الواردة بمضمون أن الوالد قد تختلف محبته لأولاده شدة وضعفاً، ولكنه يجب أن يساوي بينهم في إبرازها ولا يفرّق بينهم من هذه الناحية.

4 - الإفاضة بحسب الاستعداد والقابلية

إن المعنى والمرتبة الأخرى للعدل، هي رعاية الكفاءات والقابليات، وقد سبق أن أشرنا ،له، حيث قلنا: إن العدل يعود إلى رعاية الاستحقاق.

1 / 4 - تقييم :

1 - بعد التأمل في التعاريف الآنفة، نستنتج من سعة رقعة الموارد التي يحتويها العدل وشموله للفعل والفاعل والتكوينيات والاعتباريات، صعوبة إبداء تعريف واحد جامع لحدود العدل. فمثلاً: إن الاعتدال والعدل في السيارة يختلف عن العدل والاعتدال في الإنسان من هنا يتمّ التعبير عن العدل في الأمور التكوينية - الأعم من الحدوث والاستمرار - بالاتزان والاعتدال والاستقامة و«العدالة التكوينية»، وعن العدل في شخص الإنسان بالاعتدال في الصفات الكمالية والأخلاقية والقوى النفسانية و«العدل الفاعلي»، وعلى حدّ تعبير العلامة الطباطبائي ب- «العدل الفردي»، إذ قال: «فالعدل وإن كان منقسماً إلى عدل الإنسان في نفسه وإلى عدله بالنسبة إلى غيره، وهما العدل الفردي

والعدل الاجتماعي»(1).

2 - إن التعريف الثاني للعدل ب- (التساوي والمساواة ونفي المحاباة) لا يمكن أن يكون ملاكاً للعدل دون دعوة إلى رعاية الحقوق والاستحقاقات.

3- التعريف الثالث (رعاية الحقوق والاستحقاقات) يعود إلى العدل في أفعال الإنسان الذي يحتاج إلى الآخرين وإلى المجتمع، والذي يعبّر عنه العلامة الطباطبائي ب-«العدل الاجتماعي»(2).

ص: 26


1- العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 12، ص 332.
2- المصدر أعلاه.

خلاصة القول: يجب أن نحصل على تعريف جامع للعدل كي يشمل جميع أقسامها وأنواعها من هنا يمكن القول: «إن العدل عبارة عن الاتزان والاستقامة وإعطاء الآخرين حقوقهم، أو إفاضة الفيض عليهم بحسب ظرفياتهم وكفاءاتهم».

وعلى هذا الاتجاه سار العلامة الطباطبائي في تعريف العدل؛ إذ قال: «فإن حقيقة العدل هي إقامة المساواة والموازنة بين الأمور بأن يُعطى كل من السهم ما ينبغي أن يُعطاه، فيتساوى في أن كلاً منها واقع موضعه الذي يستحقه، فالعدل في الاعتقاد أن يؤمن بما هو الحق والعدل في فعل الإنسان في نفسه أن يفعل ما فيه سعادته، ويتحرّز مما فيه شقاؤه باتباع هوى النفس، والعدل في الناس وبينهم أن يوضع كل موضعه الذي يستحقه في العقل أو في الشرع أو في العرف؛ فيُثاب المحسن بإحسانه ويُعاقب المسيء على إساءته، ويُنتصف للمظلوم من الظالم ولا يبعّض في إقامة القانون ولا يستثنى»(1).

4/2 - بيان العدل الإلهى:

بعد اتضاح المعاني المختلفة للعدل، ندخل الآن في تعريف وبيان مرادنا من العدل الإلهى.

1 / 2 / 4 - تناسب واستقامة مقام الذات والأسماء والصفات الإلهية:

قلنا: إنّ المعنى الأول للعدل هو التناسب والاستقامة، وإن هذا المعنى في الذات الإلهية (مقام الأحدية) يبلغ حدّ الكمال المطلق. بمعنى أن الذات الإلهية

تتصف بالوجود التام وصرف الوجود الشامل لجميع الكمالات على نحو

ص: 27


1- العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 12، ص 332

بسيط، ويهب الوجود لسائر الكائنات.

وبالإضافة إلى مقام الذات (مقام الأحدية)، فإن اللّه سبحانه وتعالى يتصف أيضاً - بلحاظ الصفات والأسماء (مقام الأحدية) - بأكمل الصفات والأسماء الكمالية بشكل موزون ومتناسب وعلى نحو بسيط. ولذلك فإن صفات من قبيل: القدرة والعلم والخير والحكمة موجودة في ذات اللّه على النحو الأسمى ومن خلال المبنى وهذا التعريف للعدل يمكن لنا من خلاله أن نجيب عن أكثر شبهات الشرور.

2/2/ 4 - التناسب والاتزان في إفاضة الفيض:

إن المراد من ان الله يفيض الفيض على الممكنات، هو أنه يراعي التناسب والتوازن لا في مجموعة واحدة بل يراعى التوازن والقابلية في كل ظواهر الوجود.

يرى بعض الفلاسفة، من أمثال صدر المتألهين أن معنىّ خاصاً من العدل يختص به اللّه سبحانه وتعالى وهو إعطاء الوجود إلى العوالم الممكنة في بداية

،الخلق ومن ثم استمرار الفيض إلى الوجودات الممكنة بحسب استعدادها وقابليتها؛ إذ يحصل للمادة من طريق حدوث الصور المختلفة(1).

وفي الحقيقة فإنّ شرط امتلاك الحق السابق في تحقق وصف العدل بالنسبة إلى اللّه سبحانه وتعالى يُعدُّ منتفياً؛ إذ ليس هناك كائن له حق سابق

ص: 28


1- انظر : صدر المتألهين، الأسفار الأربعة، ج 5، ص 191 - 192؛ عبد الله الزنوزي، لمعات إلهية، ص 456 السبزواري، أسرار الحكم، ص 439 السبزواري، مجموعة رسائل رسائل الحكيم السبزواري)، ص .267

على اللّه (المعنى الثالث المساوي لإعطاء الحق للمستحق)، كي يكون الله ملزماً بأدائه وإعطائه له.

قال الأستاذ الشهيد مرتضى مطهري في هذا الشأن:

«إن العدل الإلهي في نظام التكوين طبقاً لهذه النظرية يعني حصول كل كائن الدرجة والكمال الوجودي الذي يستحقه. وفي رؤية الحكماء الإلهيين إن صفة العدل كما تليق بذات الباري تعالى بعدّها صفة كمال، تثبت لذات الأحدية بهذا المعنى. وهكذا تسلب عنه صفة الظلم الذي هو نقص بهذا المعنى أيضاً.

يرى الحكماء أن ليس لكائن أي حق على اللّه، حتى يكون إعطاؤه وفاء بذلك الحق و«أداء للتكليف»، أو «تسديداً لدين». وإن اللّه إنّما يتصف بالعدل ويعدُّ عادلاً؛ لأنه يقوم بجميع أعماله تجاه الآخرين بدقة كاملة واتقان تام. وإن عدل اللّه هو عين فضله وجوده. بمعنى أن عدل اللّه عبارة عن أن اللّه لا يبخل بفضله عن أي كائن وموجود، يمكن له تقبّل الفضل المفاض عليه من اللّه»(1).

إن تحقيق هذا المعنى من العدل ونسبته إلى اللّه في الدنيا مع اقترانه بالشرور الطبيعية، من قبيل: الزلازل أو خلق الأطفال المشوّهين، يقع موضعاً للاستفهام ويكون مثاراً للتساؤل. وعلى حدّ تعبير الأستاذ الشهيد مرتضى مطهري:

«لو أردنا القياس بهذا المقياس - الذي هو وحده المقياس الصحيح -

ص: 29


1- مرتضى مطهري، مجموعه آثار (الأعمال الكاملة)، ج 1، ص 82.

وجب علينا أن نرى من بين جميع الأشياء التي هي «شر» و«محاباة» و«ظلم» وما إلى ذلك، هل هناك كائن من الكائنات كان له إمكان الوجود في نظام الوجود ،برمّته، ولم يوجد ؟ أو كان له إمكان الكمال الوجودي في النظام العام، وسُلب منه ذلك؟ وهل أعطي كائن شيئاً لم يكن ينبغي أن يُعطى له؟ بمعنى هل صدر عن ذات اللّه بدلاً من الخير والرحمة ،والإفاضة ما ليس خيراً ولا رحمة، بل شرّاً ،ونقمة، وليس كمالاً، بل عين النقص؟(1).

3 / 2 / 4 - التناسب والتوازن في الخلق:

إن اتصاف اللّه بالصفات الكمالية من قبيل: الجود والخير والقدرة على نحو الكمال والتوازن يستوجب أن يكون صنعه وخلقه كاملاً ومتناسباً مع مقامه المفيض للوجود بعبارة أخرى: إن مقتضى أصل السنخية والتناسب بين العلة والمعلول هو خلق المخلوقات على نحو كامل ومتناسب مع قابلياتها.

ويمكن لهذا المعنى أن يكون أحد معاني العدل الذي يُنسب إلى اللّه في خلق العالم. فقد ورد في الحديث النبوي الشريف أنه صلی الله علیه و آله و سلم قال : «بالعدل قامت السماوات والأرض»(2).

بمعنى أن خلق اللّه وتدبير العالم يتمّ بالعدل وملاحظة التناسب بين الأجزاء من حيث الكميات والكيفيات والغايات. وقد نُسب هذا المعنى من العدل في القرآن الكريم إلى خلق الإنسان أيضاً؛ إذ قال تعالى:

«الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ»(3).

ص: 30


1- مرتضى مطهري، مجموعه آثار (الأعمال الكاملة)، ج 1، ص 82.
2- ابن أبي جمهور الأحسائي عوالي اللآلي، ج 4، ص 102.
3- الانفطار: 7

إن هذا المعنى من العدل ليس في قبال الظلم والجور، بل في قبال انعدام النظم والشرور والكوارث الطبيعية مثل الزلازل والبراكين. بمعنى أنه من الممكن لشخص أن يسأل: إذا كان اللّه عادلاً، وكان العالم الذي خلقه متوازناً ومتعادلاً.

فما معنى كل هذه الكوارث والشرور الطبيعية مثل الزلازل والسيول والعواصف المدمّرة؟ وهل تنسجم هذه الأمور مع توازن نظام الخلق واعتداله؟

4 / 2 / 4 - رعاية التساوي وحقوق الأفراد:

تقدم أن ذكرنا أن الإنسان حيث يحصل على أصل وجوده وحقوقه الطبيعية والفطرية مثل حق الحياة والصحة وكونه مديناً إلى اللّه سبحانه وتعالى فى ذلك، وأن استمراره فى الحياة - لافتقاره الوجودي واحتياجه - رهن بنعم اللّه من قبيل: الهواء والماء والطعام، وكذلك إفاضة الفيض، لذلك تكون النسبة

فى الحق بين اللّه وعبده ذات طرف واحد؛ حيث تفاض ذات طرف واحد؛ حيث تفاض جميع الحقوق من قبل اللّه على العبد. وليس للعبد أيّ حق على اللّه، وعليه فإنه بإزاء جميع هذه الحقوق لا يكون العبد أمام اللّه إلا مكلفاً وحيث ليس للمكلف أيّ حق على الله ، لذلك لا يكون الله سبحانه وتعالى مكلفاً تجاه العبد(1).

ص: 31


1- قال الأستاذ الشهيد مرتضى المطهري في هذا الشأن إن ذات الحق المقدسة التي هي كمال مطلق، وخير مطلق، وفيض مطلق، تعطي الوجود لكل كائن بما يستحقه ويستوعبه من كمال الوجود، ولا يمسكه عنه. إن العدل الإلهي في نظام التكوين - طبقاً لهذه النظرية - يعني أن ينال كل موجود أي درجة من الوجود والكمال الوجودي الذي يستحقه بحدود إمكانه. والظلم يعني منع الفيض وإمساك الجود عن الوجود المستحق. ويرى الحكماء الإلهيين أن صفة العدل كما تليق بذات الخالق - بوصفها نعت كمال . تثبت لذات الأحدية وبهذا المعنى يُسلب عنه وصف الظلم الذي هو نقص يرى الحكماء أن ليس لموجود أي حق ( على الله بحيث يُعد أداء ذلك الحق امتثالاً للتكليف) و (أداء للدين). وإن الله إنما يُعدّ عادلاً؛ لأنه يقوم بعمله تجاه الخلق على أدق الوجوه وأتمها. إن عدل الله هو عين الفضل وعين الجود. بمعنى أن الله عبارة عن أن لا يبخل بفضله على أي كائن في أي حد من حدود إمكان التفضّل عليه )، انظر: مرتضى ،مطهري (الأعمال الكاملة) ج 1، ص 82.

وهذا ما أشار إليه الإمام علي علیه السلام بقوله:

«لايَجْرِي لِأَحَدٍ إِلا جَرَى عَلَيْهِ، وَلاَ يَجْرِي عَلَيْهِ إِلَّا جَرَى لَهُ. وَلَوْ كَانَ لِأَحَدٍ يَجْرِيَ لَهُ وَلاَ يَجْرِيَ عَلَيْهِ ، لَكَانَ ذلِكَ خَالِصاً لله سُبْحَانَهُ دُونَ خَلْقِهِ، لِقُدْرَتِهِ عَلَى

عِبَادِهِ، وَلِعَدْلِهِ فِي كُلِّ مَا جَرَتْ عَلَيْهِ صُرُوفُ فَضَائِهِ»(1).

إذن فالمراد من عدل الله أنه لا يبخل بفيضه على المستحق الذي لديه القابلية والاستعداد لتقبّل الفيض. وفي الحقيقة فإن العدل بهذا المعنى هو عين

الجود والفضل والإحسان الذي يكون منشؤه ومصدره هو العدل والاعتدال في ذات اللّه وصفاته.

إن فيض اللّه بمثابة نور الشمس الذي يسطع على النباتات بالتساوي. وبطبيعة الحال فإن هذا لا ينافي أن يصل مقدار أكبر من النور للذوات التي تتمتع بقابلية واستعداد أوسع، فتستلم من النور ما يتناسب وقابليتها. من قبيل إعداد الإمكانات الدراسية الخاصة للكفاءات اللامعة من قبل الدولة أو الأسرة.

يتمّ التعبير عن تنوّع واختلاف الفيض والإمكانات بحسب اختلاف القابليات ب-«التفاوت» وهو أمر مقبول، خلافاً ل-«المحاباة» التي يكون فيها إعمال

ص: 32


1- الشريف الرضي، نهج البلاغة الخطبة رقم 216؛ المحدّث الكليني، الكافي، ج 8، ص 353؛ محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 27، ص 151.

التفاوت وإعطاء المزايا أو الحد منها، من دون رعاية الاستحقاق والجدارة.

3 / 4 - المكافأة والثواب الإلهى، هل هو استحقاق أو تفضّل؟

أما البحث الآخر فيدور حول إمكان العدل وصحة نسبته -بالمعنى المتقدّم - إلى اللّه لا في العقاب، بل في الأعمال الحسنة وإعطاء الثواب والمكافأة، بمعنى: هل عدل اللّه يعني إعطاء الثواب للمحسن بوصفه حقاً له، بحيث لو منعه اتصف - والعياذ باللّه - بالظلم وعدم العدل؟ بعبارة أخرى: هل إعطاء الثواب والمكافأة من قبل الله للعبد يوم القيامة من باب الاستحقاق أم هو من باب التفضّل؟

قدّم العلماء إجابتين عن هذا السؤال:

الأولى : هناك من يذهب إلى الاعتقاد بأن اللّه حيث هو المالك المطلق وواهب النعم والحقوق فهو مالك للإنسان وهو الذي وهبه حتى الحقوق من قبيل حق الحياة، من هنا لا يكون للإنسان أيّ حقٌّ على اللّه ؛ ليكون اللّه ملزماً برعايته وإعطائه كي يتحقق العدل وفي صورة عدم ذلك يكون هنالك ظلم وجور. إن عموم الأشاعرة الذين ينكرون الحسن والقبح العقلي، لا يجوّزون أي إلزام على اللّه حتى على المستوى العقلي، ومن هنا فقد ذهبوا إلى إنكار استحقاق العبد لأيّ ثواب على الله فيما يقوم به تجاهه من الأعمال

والعبادات(1).

الثانية: هناك من ذهب إلى الاعتقاد بأن الإنسان في مرحلة الخلق

ص: 33


1- انظر : القاضي الإيجي، شرح المواقف، ج 8، ص 183 و 205؛ مرتضى مطهري، (الأعمال الكاملة) ج 1، ص 81.

والحياة لا يمتلك أيّ حقّ على اللّه سبحانه وتعالى، ولكن حيث يكلّفه اللّه بجملة من الأمور، ويتكلف الإنسان في أدائها ويبذل مشقة في القيام بها على أحسن وجه يترتّب له حقُّ على اللّه فيجب على اللّه أن يثيبه وإن استنكف العبد عن الطاعة وآثر العصيان كان مستحقاً للعقاب.

وهذا البحث مطروح في علم الكلام تحت عنوان: هل الثواب الأخروي يأتي من باب الاستحقاق أو هو من باب التفضّل، وقد دافع عنه المعتزلة وجماعة من الإمامية(1).

يبدو أن عدم امتلاك العبد أي حق على اللّه إنما يخصّ أولئك الذين توفّرت لهم كل الظروف والمستلزمات الإيجابية في الحياة وحصلوا على جميع أو أكثر الحقوق والنعم الإلهية من قبيل إعطائه الروح والجسم السليم والحياة الدنيوية المقبولة في الجملة. أما أولئك الذين ابتلاهم الله بالأمراض الوراثية أو الذين تعرّضوا لحادثة أصابتهم بإعاقة أو عاهة أقعدتهم عن التمتع بالحياة وأخذوا يعانون من أنواع العذابات الروحية والجسدية بحيث أخذوا يؤثرون الموت على الحياة، أو الطفل الذي ولد مشوّهاً في قرية نائية من قرى الصين الشيوعية، وعاش على هذه الحالة ثمانين سنة جاهلاً قاصراً لا يمكنه اختيار الدين الحق والصحيح.

ص: 34


1- انظر الشيخ الطوسي، الاقتصاد فيما يتعلق بالاعتقاد، ص 111 - 119 و 128؛ العلامة الحلي الباب الحادي عشر ، ص 215؛ العلامة الحلي أنوار الملكوت، ص 170؛ محمد باقر الأسترآبادي البراهين القاطعة، ج ،4 ص 224 العلامة الحلي، معارج الفهم في شرح النظم، ص 583 ؛ المحقق الكراجكي كنز الفوائد ص 216؛ الشيخ الحر العاملي الجواهر السنية ص 49

فهل هناك حق لمثل هؤلاء على اللّه سبحانه وتعالى؟ كأن يطالبوه بالتعويض عن كل الألم الذي كابدوه والمحن التي قاسوها؟ إن القول بأن مثل هؤلاء لا يذهبون إلى جهنم أو إن اللّه يدخلهم الجنة تفضّلاً وإحساناً، ليس جواباً مناسباً عن السؤال المتقدّم.

بعبارة أخرى إن تحقيق العدل يقتضي على اللّه أن يعوض عن الآلام التي تنتج عن مصائب لا دخل للفرد في حصولها، وإنما هي حصيلة النظام المادي والدنيوي التى تنتهى سلسله العلل فيه إلى العلة الأولى المتمثلة بالله عزّ وجلّ.

4 / 4 - أصل الانتصاف والتعويض:

ذكر المتكلمون المسلمون أصلاً باسم «الانتصاف» (1)، ويعني أن كل ظلم يتعرّض له الفرد من قبل ،ظالم، يجب على اللّه أن ينتقم وينتصف له من الظالم، ويكون هذا الانتصاف في يوم القيامة على شكل تبادل الذنوب أو الحسنات. وإذا افتقر الظالم إلى الحسنات، فإن اللّه سيعطي المظلوم حسنات من

عنده حتى يُرضيه.

كما ذكر المتكلمون أصلاً آخر باسم «الأعواض»، بمعنى أن الفرد إذا أصيب في الدنيا بعاهة لا دخل له فيها، وجب على الله أن يُثيبه عليها من باب (التعويض والأعواض)، حتى يرضيه.

ص: 35


1- سيأتي البحث التفصيلي في الانتصاف على هامش شبهة التكفير في فصل آخر، وسيأتي البحث عن الأعواض في فصل الكوارث الطبيعية على هامش الإجابة عن التعويض إن شاء اللّه تعالى.

ثانياً : تعريف الخير والشر:

هناك كثير من التعقيدات فيما يتعلق بتحليل وتعريف الخير والشر على المستوى المفهومي والمنطقي. حيث يستحيل تعريف بعض المفاهيم البديهية، من قبيل: مفهوم الوجود والعلم، حيث يُكتفى في تعريفها بالتعريف اللفظي أو ما يُعرف بشرح الاسم فقط. ذلك بادر أهل الفن إلى تعريف هذين المفهومين الجوهريين من خلال نوعين من أنواع التعريف وهما: (التعريف الماهوي، والتعريف المصداقي)، حيث مختصر تعريفهما على النحو الآتي:

1 - التعريف الماهوي للخير والشر

أ - تساوق الخير والوجود: عمد الحكماء المتقدّمون، وتبعهم الفلاسفة المسلمون إلى تعريف الخير والشر بالوجود والعدم ببيان أن الوجود مساوق للخير، أما الشر فهو عدم محض.

ب - الخير وجود مطلوب: هناك من عرّف الخير بأنّه وجود مطلوب يتمناه الناس فإن أنصار هذه الرؤية لا يعتبرون ذات الوجود خيراً من دون أخذ مصلحة الإنسان بنظر الاعتبار، بل يرون أن خير الوجود رهن بالمطلوبية والرغبة. خلافاً للرؤية الأولى التى تعدُّ ذات الوجود خيراً من دون لحاظ اقترانه بأيّ أمر آخر. ويمكن لنا أن نتوصل إلى هذه الرؤية من خلال التعاريف الآتية:

قال أرسطوطاليس: «كل الفنون، وكل الأبحاث العقلية المرتبة وجميع أفعالنا وجميع مقاصدنا الأخلاقية يظهر أن غرضها شيء من الخير يرغب في بلوغه، وهذا هو ما يجعل تعريفهم للخير تاماً؛ إذ قالوا: إنه هو موضوع جميع الآمال»(1).

ص: 36


1- أرسطو طاليس، علم الأخلاق إلى نيقوماخوس، ج 1، ص 167 - 168، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2008

وقال ابن سينا: «فالخير في الجملة هو ما يتشوّقه كل شيء في حدّه، ويتمّ به ،وجوده والشرّ لا ذات له بل هو إما عدم جوهر أو عدم صلاح لحال الجوهر، فالوجود خيرية، وكمال الوجود خيرية الوجود»(1).

وقال صدر المتألهين: «إن الخير ما يتشوّقه كل شيء ويتوخّاه، ويتمّ به قسطه من الكمال الممكن في حقّه ... والشرّ أمر عدمي؛ ... ولأجل ذلك قالت الحكماء : إن الشرّ لا ذات له بل هو أمر عدمي، إما عدم ذات ذات أو عدم كمال ذات(2).

وفي الحقيقة فإن نفس الوجود مع ملاحظة النفع الذي يوصله إلى الآخرين (الإنسان)، يقع مطلوباً، ويتصف بالخير.

ج - الخير والشر المعقول الثاني الفلسفى: طبقاً للنظريتين الآنفتين، كان بإمكاننا في الأقل أن نعثر على مصداق الخير في ضمن عنوان الوجود، غاية ما هنالك أننا في النظرية الأولى نجد صرف الوجود الخارجي كافياً في العثور على الخير. وأما فى النظرية الثانية، فإن وجود الخير يكون منوطاً بالطلب، واشتياق الطالب .ورغبته وأما طبقاً للنظرية الثالثة فليس لأيّ واحد من مفاهيم الخير والشر من مصداق في الخارج، وليس لهما ما بإزاء في العالم الخارجي. وإنما غاية ما يمكن لنا الحصول عليه هو العثور على منشأ اتصافهما في الخارج، مثل سائر المعقولات الفلسفية من قبيل: الإمكان والوجوب والعلية. وعليه فإن

ص: 37


1- ابن سينا الإلهيات من كتاب الشفاء، المقالة الثامنة، الفصل السادس: أبو نصر الفارابي التعليقات 27 و 77؛ ابن سينا النجاة ص 229.
2- صدر المتألهين، الحكمة المتعالية في الأسفار الأربعة، ج 7، ص 58، دار المحجة البيضاء؛ الميرداماد، القبسات، ص 428

رؤية الوجود) بما هو وجود لا تتصف بالخير أو الشر(1).

الفصل بين الخير والشر الواقعي والخير والشر الظاهري:

إن المراد من «الخير» في هذه الدراسة، هو الوجود المطلوب والنافع والملائم للمصلحة الواقعية. و«الشرّ» هو الأمر المضرّ بالنسبة إلى الإنسان ومصلحته الواقعية. وبعبارة أخرى: علينا أن نحذر من الخلط بين الخير الواقعي والخير الظاهري، كما يتعيّن علينا أن لا نخلط بين الشرّ الواقعي والشر الظاهري. فقد يبدو الشيء في الوهلة الأولى خيراً ومرغوباً ومحبوباً، ولكنه يثبت بعد التأمّل والرؤية الواقعية أن العكس هو الصحيح، وكما يقول حافظ الشيرازي في افتتاحية ديوانه:

«كه عشق آسان نمود أول، ولي أفتاد مشكل ها»(2).

من باب المثال: الشخص المريض الذي يُبدي رغبة عارمة في تناول طعام لا يُناسبه في النظرة الأولى قد يبدو أكله لذلك الطعام أمراً مطلوباً ومن الخير، وذلك بالنظر إلى رغبة المريض في تناول هذا الطعام، ولكن عندما ندقق

ص: 38


1- انظر: محمد تقي مصباح يزدي، آموزش فلسفه (دروس في الفلسفة)، ج 2، ص 224. لم يقدم سماحته تعريفاً دقيقاً للخير والشر، فإنه في تعليقته على نهاية الحكمة بعد أن اعتبر الخير والشر معلولان للقياس ونسبة الأشياء إلى بعضها ومطابقتها أو عدم مطابقتها الرغبة واشتياق الإنسان إلا أنه في نهاية المطاف يُعيد الخير والشر إلى ملاك الأمر الوجودي والعدمي ويستنتج من ذلك أن الخير لا يختص بالكائنات الشاعرة، بل يشمل جيع الكائنات، وهذا التعريف لا يتطابق مع اعتبار الشر من المعقول الثاني الفلسفي. (انظر: محمد تقي مصباح يزدي، تعليقة على نهاية الحكمة، رقم: 454).
2- ويعني بالعربية: (إن العشق بدا هيناً للوهلة الأولى، ولكنه تسبب في الكثير من الأزمات)، انظر : ديوان حافظ البيت الأول من القصيدة الأولى.

في التبعات والآثار السلبية التى سوف تترتب على تناول الطعام من تفاقم المرض، سيتحوّل هذا الخير الظاهري إلى شرّ واقعي. وكذلك العكس أيضاً، بمعنى أن الأمر قد يبدو شرّاً في الوهلة الأولى من قبيل تناول الدواء المرّ، بيد أنه عندما يتمّ التدقيق في آثاره الإيجابية على المريض، لن يشك عاقل عند ذلك في أن هذا الدواء المرّ هو الخير الواقعي والحقيقي. من هنا فإن المناط في اتصاف الفعل بالخير أو الشر، إنما يكون بلحاظ واعتبار جميع جوانب الفعل وأبعاده، وعليه لا ينبغي الاستعجال في وصف الفعل بالخير أو الشر.

وبعبارة أخرى: يجب الفصل بين الخير والأمر المناسب، وبين الشر والأمر غير المناسب؛ إذ ربّما يكون الأمر مناسباً، ولكنه لا يكون خيراً حقيقياً، كما قد يبدو الأمر غير مناسب ولكنه يكون خيراً حقيقياً وعليه يمكن القول في تعريف الخير والشر : «إن الخير هو الأمر الذي يكون في مآله خيراً على الإنسان، وينتهي لمصلحة الإنسان ومنفعته والشر هو الأمر الذي يعود على الإنسان بالضرر، بحيث يكون ضرره أكثر من منافعه الظاهرية». ولكن يجب

اعتبار الشر من خلال الرؤية الفلسفية الثاقبة من خلال الضرر المترتب عليه إلا أن المنفعة الظاهرية التي توجب ظهور الشر، لا تكون شرّاً في نفسها، وإنما تكون شرّاً؛ لأنها تمهّد الأرضية للشر.

وبعبارة أخرى: إن النظرية الثانية مع إمعان النظر في كلمة «مطلوب» أو «مبغوض» قابلة للقبول بمعنى أن الخير هو الأمر الوجودي المطلوب في ظرف الواقع، بحيث أنه رغم عدم رغبة المرء به في المرحلة الظاهرية، ولربما كان مبغوضاً له، إلا أنه عند انكشاف الواقع والعلم بالحقيقة سيغدو مطلوباً ومحبوباً ومرغوباً لذلك الفرد، وهكذا الأمر بالنسبة إلى الشر أيضاً. وبذلك تخرج الخيرات والشرور الظاهرية عن تعريف الخير والشر. وهناك آيات تدلّ على

ص: 39

هذا التعريف أيضاً، من قبيل قوله تعالى:«وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ»(1)، وقوله تعالى: «فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا»(2).

2 - التعريف المصداقي للشر

اشتمل التعريف الماهوي للخير والشر على بعض النواقص، فقد صار أكثر الفلاسفة الغربيين إلى الاستغناء عن التعريف ،الماهوي واستبداله بالتعريف

المصداقي.

لا يخفى على أهل الفن أننا في التعريف المصداقي لمفهوم ما، بدلاً من العمل على ضمّ عدد من المفاهيم إلى بعضها، ووضع حدٍّ ورسم لها، نعمل على توظيف مصداق المفهوم، وذلك من خلال هذين الطريقين:

1 - الإشارة إلى المصاديق (التعريف الإشاري).

2 - تسمية المصاديق (التعريف الاسمي).

من باب المثال: يمكن لنا تعريف الشخص الذي لم يسبق له أن رأى الثلج من خلال الإشارة إلى نفس الثلج، أو أن نسمي البلدان الواقعة ضمن الشرق الأوسط أو الشرق الأدنى أو الشرق الأقصى للشخص الذي لا يعلم البلدان الواقعة في ضمن هذه الحدود الجغرافية.

وفيما يأتي نشير إلى بعض مصاديق الشر، وذلك على النحو الآتي:

ص: 40


1- البقرة: 216.
2- النساء: 19

1 - الشرّ الميتافيزيقي : الشر الذي يشمل جميع أجزاء العالم الإمكاني -الأعم من عالم المادة والمجرّدات - وسبب هذا الشر هو المحدودية في عالم

الإمكان بالقياس إلى عدم محدودية اللّه. وقد عبّر الفلاسفة المسلمون عن هذا النوع من الشر بعدم الكمال المطلق. إنّ هذا النوع من الشر في عالم المادة

يتحقق بسبب المحدودية الكبيرة، ومن ثَمَّ فقدان مزيد من الكمال، بحيث إنّ بعض الفلاسفة يذهبون إلى القول بتركّب المادّة من جزئين وهما: «الشر»

و«الخير»، إذ يكون الشرِّ على شكل هيولى، والخير على شكل صورة المادة(1).

2 - الشر الطبيعي: يطلق هذا النوع من الشر على الشرور الطبيعية في العالم من قبيل الزلازل والبراكين والأمراض والآلام وما إلى ذلك.

3 - الشر الأخلاقي: وهو عبارة عن الشرور التي تصدر عن الإنسان بإرادته واختياره من قبيل الذنوب والأفعال القبيحة.

وقد ذكر صدر المتألهين في شرح أصول الكافي أربعة مصاديق للشر،وهي:

1 - الأمور العدمية من قبيل الفقر والموت.

2 - الشر الإدراكي من قبيل الألم والحزن والجهل المركّب.

3 - الشرور الأخلاقية والأفعال القبيحة والسيّئة من قبيل: القتل والزنا.

ص: 41


1- انظر أرسطو طاليس متافزيك (الميتافيزيقا ) الفصل العاشر الكتاب الثاني عشر ص 411، نقله إلى الفارسية : شرف الدين خراساني؛ محمد بن أحمد بن بن رشد، تفسیر ما بعد الطبيعة، ص 1721.

4 - مبادئ الشرور الأخلاقية التى هى عبارة عن الملكات الرذيلة من قبيل الشهوة والغضب والبخل والمكر(1).

التقييم:

من خلال التعمّق والتدقيق في مصاديق الشرور الطبيعية من قبيل: السيول والزلازل والبراكين والجروح التي تصيب أجساد الناس، ندرك أن جميع هذه الشرور تعود في حقيقتها إلى أنها تؤدّى إلى الحزن والألم والاستياء الذي يصيب الناس بفعل تداعيات هذه الأمور من باب المثال : إن أموراً من قبيل: السيل إنما يُعدُّ شرّاً؛ لأنه يحطم الممتلكات ويقضي أحياناً على على الأحبة من الناس وإلا فإن السيول والزلازل والبراكين إذا لم تؤد إلى هذه الأمور المأساوية وهذه الكوارث، لما عدها الإنسان من الشرور المنافية للعدالة الإلهية.

وإذا ولد للشخص طفل متخلف ذهنياً أو مات له عزيز، فإن ذلك سيؤدّي به إلى الحزن والألم، وذلك لأن الإنسان بطبيعته عندما ينظر إلى ولده المريض أو يفقد شخصاً أثيراً على قلبه، فإنه سيقع تحت وطأة الحزن ويستشعر الألم بكل وجوده، ولولا هذا الشعور لما أحسّ بالألم أبداً ولتجاوز المسألة بكل بساطة، ولما وصف هذه الأمور بالشر. إذن فالشر الحقيقي في هذا النوع من الأمور هو الحزن والألم النابع من جبلّة الإنسان وفطرته. وبعبارة أخرى لو لم يشعر الإنسان بالألم والحزن عند رؤيته شخصاً يصارع المرض أو عند وفاة

ص: 42


1- انظر: : صدر المتألهين شرح أصول الكافي، إعداد وتصحيح محمد خواجوي، كتاب العقل والجهل، ص 414 (الطبعة القديمة).

عزیز ،عليه فإن الشر هنا سوف يقتصر على المبتلى بالمرض ولا يطال الآخرين، إلا أن ملاك الشرور عند المريض أو المشرف على الموت هو الشعور بالألم والوجع الجسمي والروحي ويبدو أن هذا الأمر لبداهته لا يحتاج إلى مزيد من الشرح والتوضيح.

وعليه فإن ملاك جميع الشرور يعود إلى الشعور بالحزن والألم، وأما سائر الأمور التي تتصف بالشر، فإنها في الحقيقة تشكل موجبات «الشر»، لا أنها تكون شرّاً في واقعها، وإنما يكون شرّها تبعياً وبالعرَض.

وقد أدرك الفخر الرازي هذه الحقيقة بشكل دقيق، إذ يقول: «اعلم أن الناس لا يريدون بلفظ الشر في العرف المشهور إلا الألم أو ما يكون مؤدّياً

إليه»(1).

أما في الشر الأخلاقي، فلا تكون شرور النفس وذات الأعمال شرّاً في ذاتها، بل إنما يطلق عليها الشر لاعتبارات وجهات أخرى.

أما الشر الميتافيزيقي، فيعود إلى عدم وجود الكمال المطلق والخالص وكما تقدّم أن ذكرنا فإن هذا الشر مطبق على عالم الإمكان من جميع انحئه وإن عدم هذا الشر في العالم مساوق لعدم خلق عالم الإمكان من الاساس وعليه فإن هذا النوع من الشر خارج عن دائرة البحث، ولم يتعرّض له أحد حتى الآن، حيث لم يستشكل على ذلك أحد بالقول: لماذا خلق عالم الإمكان محدوداً ومتناهياً.

من هنا فإن النواة المركزية للشبهات في العدل الإلهي تدور حول الشر

ص: 43


1- الفخر الرازي شرح الإشارات، ج 2، ص 80.

الطبيعي والشر الأخلاقي. وهذا ما سنحاول الإجابة عنه في تضاعيف فصول هذا الكتاب.

ثالثاً: تدبير العالم وإدارته على أساس نظام العلية:

هناك من يذهب به التصوّر إلى القول بأن عالم المادة لا يقوم على أيّ قانون أو أصل عقلي أو تكويني أبداً، وإن جميع الأمور تجري وفقاً لمشيئة اللّه مباشرة من دون دخل للقوانين التكوينية. فهل هذا التصور عن العالم صحيح؟

هناك رؤيتان بين المؤمنين بشأن مسار الحوادث في عالم الطبيعة؛ إذ يذهب الفلاسفة والمفكرون من الإمامية والمعتزلة إلى القول بأصل العلية، حيث

يقوم نظام العالم في هذه الرؤية من بدايته وحدوثه إلى استمراره وبقائه على أساس العلاقة التكوينية بين (العلة والمعلول). وقد تمّ التأكيد على هذه الرؤية وإثباتها بالأدلة العقلية والنقلية، وفيما يلى نكتفى بإيضاحها على نحو الإجمال.

يذهب القائلون بأصل العلية إلى الاعتقاد بأن اللّه سبحانه وتعالى - بوصفه خالقاً لجميع عوالم الإمكان - يقف على رأس الهرم في سلسلة العلل، وإنه «علة العلل»، وإنه يدير العالم بواسطة خلق المعلول الأول (العقل الأول أو ما يعبّر عنه العرفاء بالحقيقة المحمدية)، ومن العقل الأول تصدر سائر العقول الأخرى وصولاً إلى العقل الأخير (العقل الفعّال)، حيث يكون عالم الطبيعة معلولاً لهذا العقل الأخير. وفي الحقيقة فإن دور اللّه سبحانه في العالم دور غير مباشر، وإنما يأتي من طريق سلسلة العلل الطولية، وهو المعبّر عنه في الفلسفة بقاعدة «الواحد». قال الأستاذ الشهيد مرتضى المطهري في هذا الشأن:

إن إرادة الباري تعالى لوجود كل شيء إنما تكون من طريق إرادة

ص: 44

وجود سبب ذلك الشيء، وإن إرادة وجود ذلك السبب تكون من طريق إرادة وجود السبب وغير ذلك محال. إن الموجودات في النظام الطولي تنتهى إلى

السبب الذي تعلقت به إرادة الله مباشرة، وإن إرادة الباري تعالى لوجود ذلك السبب هي عين إرادته لوجود جميع الأشياء وجميع النُظُم، قال تعالى في محكم كتابه الكريم:«وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحِ بِالْبَصَرِ»(1).

وقال سماحته في بيان النظام الطولي الذي يحكم العالم:

«إن المراد من النظام الطولي والعلية والمعلولية هو الترتيب في خلق الأشياء، أو ما يُصطلح عليه بالترتيب في فاعلية اللّه تجاه الأشياء، وصدور الأشياء عنه إن علوّ ذات الباري تعالى وقدّوسيّته تقتضي وجود الأشياء بشكل رتبي ،وتعاقبي بأن يكون هناك صادر أول، وصادر ثان وثالث وهكذا، ويكون كل صادر معلولاً للصادر قبله وبطبيعة الحال فإن المراد من الترتّب بين الأول والثاني والثالث هنا ليس ترتباً زمنياً، بل لا مجال للحديث عن الزمان هنا؛ لأن الزمان في حد ذاته واحد من المخلوقات. وكذلك الملائكة يدخلون بدورهم في سلسلة العلل والمعاليل التكوينية أيضاً»(2).

ومما ورد شعراً بالفارسية في هذا الشأن:

(این جهان يك فكرت است از عقل کل عقل چون شاه است وصورت ها رُسل)(3).

ص: 45


1- القمر: 50 .مرتضى مطهري، مجموعه آثار الأعمال الكاملة)، ج 1، ص 123.
2- المصدر أعلاه، ص 128
3- ويعني بالعربية: (ما العالم إلا فكرة واحدة صادرة عن العقل الكل، فالعقل ملكُ والصور رسل لذلك الملك)، المعرّب.

يذهب أكثر الفلاسفة والعرفاء (1)إلى اعتبار قاعدة الواحد قاعدة بديهية أو مبرهنة ،وقطعية، ويمكن الإشارة من بين هؤلاء الفلاسفة إلى: أرسطو طاليس (2)، وإفلوطين(3)، والكندي (4)، والفارابي(5) ، وابن سينا(6)، و بهمنیار(7)، وابن رشد(8)، وابن عربي(9)والقونوي(10)، والمحقق الطوسي(11)، وشيخ الإشراق السهروردي(12)، والميرداماد(13)،

ص: 46


1- يذهب الفلاسفة إلى اعتبار الصادر الأول هو العقل الأول، بينما يذهب العرفاء إلى اعتباره الوجود المنبسط الساري في جميع الموجودات (انظر: القونوي رسالة النصوص ص 74؛ عبد الرحمن الجامي الدرة الفاخرة ص 40 - 42؛ الملا نعيما الطالقاني، أصل الأصول تعليق السيد جلال الدين الآشتياني، ص .(94)
2- انظر رسالة زنون (في مجموعة رسائل الفارابي)، ص 7.
3- انظر: إفلوطين عند العرب، تحقيق وتقديم عبد الرحمن بدوي، ص .134
4- انظر: ابن ،رشد ما بعد الطبيعة ص 160 ؛ ابن ،رشد تهافت التهافت المسألة الثالثة.
5- انظر: الكندي رسالة في وحدانية الله وتناهي جرم العالم (من) سلسلة فلاسفة العرب)، أبو نصر الفارابي، رسالة الدعاوى القلبية من مجموعة الرسائل، ص 4، أبو نصر الفارابي آراء أهل المدينة الفاضلة، ص26.
6- انظر: ابن سينا الإشارات ، ج 3، ص 122
7- انظر بهمنیار، التحصيل، ص 341.
8- انظر ابن ،رشد ما بعد الطبيعة ص 160؛ تهافت التهافت ص .290
9- انظر: ابن عربي ، الفتوحات المكية، ج 2، ص 434، وج 10، ص 379، الطبعة الجديدة.
10- انظر: صدر الدين القونوي نصوص الحكم، ص 23 - 28 و 74؛ محمد بن حمزة الفناري، مصباح الأنس، ص 30 - 69.
11- انظر: الخواجة نصير الدين الطوسي، شرح الإشارات ، ج 3، ص 122؛ نقد التحصيل، ص 237 كشف المراد، ص 116 ،
12- انظر السهروردي المطارحات ص 385؛ قطب الدين الشيرازي؛ شرح حكمة الإشراق، ص 314، رساله پرتونامه
13- انظر میرداماد قبسات ص 351 و 410.

وصدر المتألهين (1) ، والمحقق اللاهيجى ، والملا هادي السبزواري، والملا

عبد الله الزنوزي (4) ، والملا نعيما عرفي طالقاني (5) ، وأبي الحسن الأشعراني (6) والميرزا مهدي الآشتياني) والإمام الخميني (8)، والعلامة الطباطبائي (9) وحسن زادة الأملي

(1+)

(1) انظر: صدر المتألهين الأسفار الأربعة، ج 2، ص 177 و 193 و 204 و 209؛ ج 7، ص

192 و 207.

(2) انظر: عبد الرزاق اللاهيجي گوهر مراد ص 290؛ الشوارق الإلهية، ص 205. (3) انظر الملا هادي السبزواري، شرح الأسماء،

الرسائل)، ص

375

ص

337؛ مجموعه رسائل (مجموعة

(4) انظر : الملا عبد الله الزنوزي، لمعات إلهية تقديم وتصحيح: السيد جلال الدين الآشتياني،

ص

165 و 226.

.A.

(5) انظر : الملا نعيما الطالقاني، أصل الأصول تعليق السيد جلال الدين الآشتياني، ص (6) انظر : المولى محمد صالح المازندراني، شرح أصول الكافي، ج 3، ص 123، التعليقات. (7) انظر: الميرزا مهدي الآشتياني، أساس التوحيد، ص 504. (8) انظر: روح الله الموسوي الخميني مصباح الهداية ص 64 رسالة طلب وإرادة الطلب

والإرادة)، ترجمة وشرح: : أحمد الفهري ص 69. (9) انظر: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي، نهاية الحكمة، المرحلة الثامنة، الفصل

الرابع.

.79

(10) انظر حسن زادة الآملي رساله وحدت از دیدگاه عارف و حكيم (رسالة الوحدة في رؤية العارف والحكيم، ص 84؛ نثر الدراري على نظم ،اللآلئ، ج 1، ص 198؛ مهدي الآشتياني، تعليقة على شرح المنظومة، ج 2، ص 668؛ ولمزيد من التوضيح انظر غلام حسين إبراهيمي ديناني قواعد كلي فلسفي (القواعد الفلسفية العامة)، 2، ص 267 السيد محسن ،ميري مروري بر قاعده الواحد إطلالة على قاعدة الواحد)؛ ماهنامه كتاب ماه (شهرية كتاب الشهر)، العدد الخاص بالدين العدد 19؛ سعید رحیمیان تجلي وظهور در عرفان نظري التجلي والظهور في العرفان النظري)، ص 229 - 239.

47

ص: 47

إن قانون العلية، بالإضافة إلى العلل الطولية - التي تقدم شرحها آنفاً - يجري ويسري في عالم المادة أيضاً، بمعنى أن علاقة الأشياء ببعضها هو تكوينى أيضاً ومن ومن سنخ التأثير والتأثر المتبادل. وفي الحقيقة فإن كل فعل وانفعال في العالم المادي تابع لقانون عام باسم قانون العلية بمعنى أن تحقق كل حادثة أو فعل أو أثر يتوقف على وجود علة تكوينية مسانحة له، وبشكل خاص فإن

كل جسم في عالم الطبيعة بل كل عنصر له خواص وخصائص ينفرد بها، من باب المثال: قانون الجاذبية، ووجود أنواع الطاقة في أجسام من قبيل: الطاقة

الحركية في الماء وبخار الماء وتحوله إلى سحاب إثر كثافة الهواء، وتحوله ثانية إلى ماء إثر انخفاض درجات الهواء، والقوانين الأخرى التي تترتب عليها آثار مختلفة لصالح الإنسان أو في ضرره.

معطيات حاكمية أصل العلية :

في ضوء وجود أصل العليّة وسيادته في عالم الممكنات، وفي عالم المادة

بشكل خاص نحصل على الأمور الآتية:

1 - انحصار العلل المؤثرة في الطبيعة بالعلل المادية

طبقاً لأصل السنخية والعلية - الذي أثبت فلسفياً بالدليل والبرهان - يجب لكلّ تأثير وفعل وانفعال في العالم المادي أن يتحقق لعلة وسبب مادي. أما المجرد المحض فلا يمكنه التأثير في عالم المادة، ولا يمكن أن يقع علة له.بعبارة أخرى: إن الأمر الطبيعي يحتاج إلى علة وفاعل طبيعي ومادّي(1). من

ص: 48


1- قال العلامة الطباطبائي في هذا الشأن: هناك في عالم المادة والأحداث المادية، علل وأسباب مادية، يتوقف على تحققها تحقق كل حادث ولا يكون هناك أي تخلف أبداً)، اعجاز از نظر عقل وقرآن (الإعجاز من زاوية العقل والقرآن) ص 15 وقال في موضع آخر، بعد تقسيم عالم الخلق إلى ثلاث مراتب وهو: (العقل والمثال والمادة) (إن ظواهر كل واحدة من هذه العوالم معلولة لعلل من سنخها. فالحادث المادي معلول للعلل المادية والكائن المثالي معلول للكائن المثالي، والموجود العقلي معلول لموجود من سنخه اصول فلسفه وروش رئاليسم (أصول الفلسفة والمذهب الواقعي)، ج 5، ص 199

هنا فإن فاعلية اللّه سبحانه وتعالى وعلّيته - وهو المجرّد المحض - المباشرة من المحال(1).

وقال صدر المتألهين في معرض إنكار ما ذهبت إليه الأشاعرة من إسناد الأفعال الطبيعية والجزئية إلى اللّه مباشرة محللاً ذلك بعدم سنخية المجرّد لعالم المادة:

«والأول محال بالبراهين القطعية والأدلة النقلية؛ لأن ذاته أجل أن يفعل فعلاً جزئياً متغيّراً مستحيلاً كائناً فاسداً، ومن نسب إليه تعالى هذه الانفعالات والمتجدّدات، فهو من الذين لم يعرفوا حق الربوبية ومعنى الإلهية»(2).

وقال في موضع آخر إن الفاعل المباشر للأفعال الطبيعية هو القوى الجسمانية(3).

ص: 49


1- وبطبيعة الحال هناك دراسات هامة بشأن كيفية الصلة بين عالم المادة وعالم المجردات في الفلسفة تحت عنوان (ربط) المتغيرات بالثابتات) و (ربط) الحادث بالقديم)، وعلى القارئ الكريم مراجعتها في مظانها في الكتب الفلسفية والرأي المشهور هو أن العلة والفاعل المجرد قد خلق العالم المادي على شكل مادة متغيّرة، وبعدها أخذت إدارة العالم وتأثير الماديات في بعضها تقوم على الأسباب المادية، انظر: مرتضى مطهري، مجموعه آثار (الأعمال الكاملة ) ، ج 8، ص 376؛ ج 11، ص 239.
2- صدر المتألهين الأسفار الأربعة، ج 8، ص 118
3- انظر: المصدر أعلاه، ص 109

وقال المحقق اللاهيجي بعد بيان الإعجاز من طريق النفس النبوية في تعليل عدم استنادها المباشر إلى اللّه:

«حيث إنّ حدوث الأمور المذكورة يفتقر إلى تحريك المادة والتصرّف في الطبائع، ومباشرة التحريك والتصرف المذكور لا يليق بحق الوجود القدسي ولا

يتناسب مع كبريائه الذاتي»(1).

وقال العلامة الطباطبائي في هذا الشأن:

«فالأمور جميعاً سواء كانت عادية أو خارقة للعادة، وسواء كان خارق العادة في جانب الخير والسعادة كالمعجزة والكرامة، أو في جانب الشرّ كالسحر والكهانة - مستندة في تحققها إلى أسباب طبيعية»(2).

كما ذهب سماحته في موضع آخر إلى القول باستناد هذا الأصل إلى القرآن الكريم، حيث قال: «وأما القرآن الكريم فإنه ... يثبت لكل حادث مادي سبباً مادياً بإذن اللّه . وبعبارة أخرى يُثبت لكل حادث مادي مستند في وجوده إلى اللّه سبحانه (والكلّ مستند [إليه]) مجرىٌ مادياً وطريقاً طبيعياً به يجري فيض الوجود منه تعالى إليه»(3).

كما قال الإمام الخميني قدِّس سرُّه أيضاً:

«فلو صدر المتجدّدات المتصرمات عنه من غير وسط بالمباشرة والمزاولة

ص: 50


1- عبد الرزاق اللاهيجي، گوهر مراد، ص 334.
2- العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 1، ص 81 – 82
3- المصدر أعلاه، ص 68 ، تفسير الآيات من 21 إلى ،25 تحت عنوان تصديق القرآن لقانون (العلية العامة)، مؤسسة التاريخ العربي، ط 1، بيروت، 2006.

يلزم منه التصرّم والتغيّر في ذاته وصفاته التي هي

ذاته»(1).

وقد ذهب إلى هذا الرأي بعض المفكرين المعاصرين من أمثال: جعفر سبحاني، إذ قال: «انتساب الحوادث الجزئية المتجددة المقتضية بلا واسطة علل وأسباب إلى اللّه تعالى المنزّه عن التجدد والحدوث، مما لا تقبله الأصول الفلسفية»(2). وعبد اللّه جوادي آملي إذ يقول: «إن المعجزة إذا كانت أمراً مادياً متعلقاً بالمادة نحواً من التعلق - بأن كان فيها كالصورة أو عليها كالعرض أو معها كالنفس المتحدة مع البدن - فلا بدّ له من سبب قريب مادي، وإن كان له سبب بعيد غير مادي. فلا يُمكن أن يحدث موجود مادي بدون سبب

مادى»(3).

2 - عدم تخلف القوانين الطبيعية :

لما كانت القوانين الطبيعية (العلاقة العلية والمعلولية) قوانين تكوينية، فإنّ آثار القوانين الطبيعية ولوازمها من قبيل إحراق النار، تحدث بشكل علّي وتلقائي، فلا يمكن في الظروف الاعتيادية أن يضع الإنسان يده في النار ولا تحترق، أو أن يرمي بنفسه من شاهق ولا يسقط إلى الأرض. وهكذا الأمر بالنسبة إلى الطاقة المتحركة الموجودة في الماء التي توجب سيلانه وحركته مما

يُسهل عملية التحكم به وحفظه وحصره في ضمن المخازن والسدود لسقى الحقول الزراعية وانتاج الطاقة، بيد أن هذه الحالة نفسها قد تطغى أحياناً

ص: 51


1- السيد الإمام روح الله الموسوي الخميني رساله طلب واراده (رسالة الطلب والإرادة)، ترجمة وشرح أحمد الفهري، ص 64.
2- جعفر سبحاني، الإلهيات، ج 3، ص 76، الهامش.
3- عبد الله جوادي آملي علي بن موسى الرضا عال، ص 139.

فتحدث السيول الجارفة التي تحدث ما تحدثه من الخسائر في الأموال والأرواح(1). أمّا أن يتدخل اللّه في تغيير مجرى القوانين الطبيعية عندما لا تعمل لمصلحة الإنسان بأن يغيّر عمل القوانين الطبيعية لصالحه، فهو أمر غير وارد، وذلك للأسباب الآتية:

أولاً: بالالتفات إلى تكوينية العلاقات في عالم الطبيعة، لا يمكن لشخص - مثلاً - أن يرمى الفرد بنفسه من أعلى الجبل إلى الوادي، أو أن يتناول السمّ القاتل من دون أن يصيبه أي ضرر وثانياً: إذا قلنا بإمكان ذلك، سيحدث اختلال في عالم التكوين، فمثلاً إذا أيقن الفرد بعدم الضرر إن هو تسوّر جدران البيوت أو قفز من فوقها، أو إذا اجتاز الشوارع السريعة المزدحمة بالسيارات من دون أن يأخذ الحيطة والحذر، بحجة أن الله سوف يغيّر القوانين الطبيعية لمصلحته؛ سيعرّض الأمور التكوينية والأخلاقية إلى مشكلة. وقد بيّن بعض الفلاسفة الغربيين هذه المسألة في إطار فرضية تحت عنوان «المنافي لخلاف الواقع»(2)، ولأهمية هذه الفرضية نجد من الضروري أن نشير إليها في هذا البحث.

فرضية المنافي لخلاف الواقع

إن الصورة العامة والإجمالية لهذه النظرية طرحت من قبل إيرناؤوس، عمد أتباعه إلى شرحها بالتفصيل، وقد قام جون هيك ببيانها على النحو الآتي:

ص: 52


1- قد تثار هنا شبهة على هذا المبنى بشأن وقوع المعجزات وكيفية تفسيرها. ولتوضيح هذه الشبهة والإجابة عنها، انظر: محمد حسن قدردان ،قراملكي معجزه در قلمرو عقل ودين (المعجزة في الدائرة العقلية والدينية)، القسم الثالث.
2- Counter fatual hypothesis.

«لنقل إنّ هذا العالم قد تحوّل إلى جنة على خلاف واقعه، حتى لم نعد نتصور فيه وجود أيّ نوع من أنواع الحزن والألم. إن تبعات هذه المسألة ستكون أبعد مما نتصوّر فمثلاً لن يكون هناك شخص بإمكانه أن يصير شخصاً آخر بالأذى أبداً، وسوف تتحول مُدية القاتل إلى قطعة ورقية وتستحيل الطلقة النارية إلى رماد تذروه الرياح، وعندما يسرق النشال حقيبة نسائية تحتوي على مليون دينار سوف تمتلئ بقدرة قادر بملايين الدنانير الأخرى ومهما حصلت من أحداث خداع أو تزوير أو تأمر أو خيانة، فإن ذلك لن يحدث أيّ ضرر في النسيج الاجتماعي، ولن يصيب السوء شخصاً إن هو تعرّض لحادثة دهس أو ما شاكلها، وإن متسلق الجبال والذي يبني المنائر والمراهق المشاكس لن يُصاب بالضرر إن هو سقط من مكان مرتفع نتيجة لإهماله أو تهوّره، لأن قانون الجاذبية سيتعطّل وسينزل إلى الأرض كما يفعل المظلي بانسيابية وهدوء وسوف تتلقاه الأرض بكل حنان ومحبّة، ولن يخشى السائق المجازف وقوع حادثة اصطدام عنيف نتيجة لحركاته الإكروباتية التي سيبالغ في القيام بها. ولن يجد الإنسان ضرورة للعمل وكسب الرزق؛ لأن الامتناع عن العمل لن تترتب عليه آثار سيئة ولن يكون هناك من مبرر لتفقد حال الآخرين عند وقوع الحوادث؛ لأننا على يقين مسبق من عدم ترتب الآثار السيئة، وإن القوانين الطبيعية في هذا العالم سوف تتخلف.

ولكي تستمر سلسلة هذه النتائج الحسنة في عالم الطبيعة، يجب تنظيم عالم الطبيعة بحيث يعمل على وفق «المشيئات الخاصّة»، لا على القوانين العامة

التي تحاسبنا على أخطائنا بالعذاب والألم وحتى بالموت أحياناً. بمعنى أن القوانين الطبيعية يجب أن تكون في غاية المرونة، بأن يكون قانون الجاذبية مؤثراً أحياناً وعديم التأثير في أحيان أخرى، وأن يكون الشيء سائلاً ومرناً

ص: 53

تارة وجامداً وصلباً تارة أخرى»(1).

ثم أشار جون هيك إلى التبعات السيئة التي سوف تترتب تلقائياً على مثل هذا العالم، فقال:

«في هذه الحالة لن تكون هناك من حاجة إلى تأسيس العلوم؛ إذ لا يكون هناك قواعد بنيوية ثابتة في هذا العالم حتى يكون خاضعاً لدراسته. ومن أجل رفع المشاكل والصعاب الموجودة في محيطنا الواقعي من خلال القوانين الخاصة، سوف تتحوّل الحياة إلى ما يُشبه الحلم الذي نشعر فيه بسعادة غامرة ولكنها غير هادفة، ولذلك نسير داخل دائرة هذا الحلم في كافة الاتجاهات»(2).

واستطرد جون هيك في بيان تبعات هذا العالم قائلاً: إن هذا العالم سيؤدي إلى انحطاط المفاهيم الأخلاقية الفاضلة من قبيل: الشجاعة والاستقامة والكرم والصفح والإيثار والتواضع وخرج من ذلك بالنتيجة الآتية:

«إن هذا العالم رغم أنه يوفر لنا الحياة السعيدة، ولكنه لا يناسب الإنسان إن هو أراد الوصول إلى الرقي والكمال على مستوى الأخلاق الشخصية. بل قد يكون هذا العالم من أسوأ العوالم المتصوّرة في هذا المجال»(3).

رابعاً: إثبات العدل الإلهي من طريق البرهان اللمي

إن المتألهين - الأعم من المتكلمين والفلاسفة - يعمدون بعد إثبات واجب الوجود بالأدلة العقلية إلى الخوض في إثبات العدل الإلهي من طريق

ص: 54


1- جون هيك، فلسفه دین (فلسفة الدين) ص 101 - 102 ، ترجمه إلى الفارسية: بهرام راد.
2- المصدر أعلاه.
3- المصدر أعلاه، ص 103

البرهان اللمي بصيَغ متعدّدة على قاعدة إثبات الصفات الكمالية المطلقة اللّه ولذلك نجد ضرورة إلى بيان الصفات الكمالية المطلقة لله عز وجل باختصار:

لا يتسع نطاق هذه الدراسة لاستيعاب جميع صيَغ إثبات الصفات المذكورة، ولذلك سنقتصر على بيان أربع من الصفات المذكورة، وهي: القدرة والغنى والعلم والخير الإلهي، ومن خلال إثبات هذه الصفات يثبت اتصاف الأفعال الإلهية بالعدل بالبرهان اللمّي.

1 - إثبات القدرة المطلقة :

قام الفلاسفة وبعض المتكلمين من خلال تحليل مفهوم واجب الوجود إلى إثبات الصفات الكمالية اللّه سبحانه وتعالى، ومن بين تلك الصفات القدرة والحكمة وطلب الخير المطلق(1). بمعنى أن القدرة التي تعني التمكن من القيام بالفعل، وبعبارة أدق مبدأ الفعل عن علم واختيار(2)، وحيث إنّ الوجودات الأخرى هي ممكنة الوجود في قبال واجب الوجود، وإنها أخذت أصل وجودها منه وإن بقاءها واستمرارها فى الوجود متقوّم بوجوده (تعریف ممکن الوجود في الحدوث والبقاء = الحدوث الذاتي)؛ من هنا فإن نفس خلق ممكن الوجود يدلّ على اتصاف واجب الوجود بالقدرة؛ إذ صدر عنه فعل باسم ممكن الوجود (إثبات أصل قدرة اللّه).

إذ إنّ وجود الممكنات ينتهى إلى العلة الأولى، فإنّ جميع الوجودات

ص: 55


1- الخواجة نصير الدين الطوسي، كشف المراد، ص 281؛ العلامة الحلي، أنوار الملكوت في شرح الياقوت، ص 76 - 80 و 99
2- صدر المتألهين الأسفار الأربعة في الحكمة المتعالية ، ج 6، ص 307؛ السيد محمد حسين الطباطبائي، نهاية الحكمة، المرحلة الثانية عشرة ، الفصل الثالث عشر، ص 297.

الممكنة الوجود تعدّ من فعل واجب الوجود ومعلولة له، وإن حكم المعلول بالنسبة إلى العلة من قبيل الظل إلى صاحب الظل ؛ وعليه فإن العلة الفاعلية الحقيقية، أي: اللّه يمكنه أن يقوم بأيّ نوع من أنواع الدخل والتصرف في فعله ومعلوله؛ وذلك لوجود المقتضي - الذي هو العلة الفاعلية - في ناحية واجب الوجود؛ لأنه واحد الوجود وتام الوجود الذي لا تتطرّق إليه حالة القوّة والانفعال، إلا أن المانع من فعل الله مفقود أيضاً؛ لأن كل ما سوى اللّه هو ممكن الوجود، ومعلول ومتقوّم بالباري تعالى وإن ممكن الوجود في ذاته الوجودية لا يمكنه أن يُشكل مانعاً أمام واجب الوجود الذي هو علته الفاعلية؛ وعليه فإن اللّه قادر مطلق.

وعلى حدّ تعبير الحكمة المتعالية: إن واجب الوجود هو صرف الوجود، وإن سائر الوجودات عبارة عن تجلٍّ وشأن وظهور، وفي الحقيقة فإن ذات وجودها إنما هو عُلقة ورابط وتبعية لواجب الوجود(1). ومن الواضح أن

مثل هذه الوجودات - التي لا يكون لها وجود بقطع النظر عن إفاضة واجب الوجود لها - لا يمكنها أن تشكل ما نعاً أمام واجب الوجود.

2 - إثبات الغنى وعدم الافتقار :

إن نفس عنوان واجب الوجود يدلّ على عنوان الوجود الكامل والغني المطلق وغير المفتقر ؛ إذ في حالة الافتقار والحاجة يلزم أن لا يكون ذلك الوجود بحتاً وخالصاً وواجباً للوجود، وهذا في حدّ ذاته لا ينسجم مع افتراض أنه «واجب الوجود».

ص: 56


1- انظر: العلامة محمد حسين الطباطبائي، نهاية الحكمة المرحلة الثانية عشرة، الفصل : 13-14، ص 259 - 273

الدليل الآخر على نفى الحاجة والافتقار هو أن اللّه لو كان فاقداً لصفة كمال يحتاج إليها لزم من ذلك أن يكون اللّه في ذاته فاقداً لها، وهذا يستوجب تركّب الذات من الوجود والعدم.

وبالإضافة إلى ذلك فإن وجود الافتقار دليل على وجود الترقّب والتحوّل والتكامل وهذا يستلزم وجود حالة الإمكان الاستعدادي، وإمكان التغيير والتحوّل في ذات الباري تعالى، وهذا أيضاً لا ينسجم مع عنوان واجب الوجود والوجود التجرّدي؛ إذ ثبت في الفلسفة أن الإمكان الاستعدادي وعروض التكامل والتغيير من خصائص الوجود المادّي دون الوجود المجرّد.

وإن الفلاسفة رفضوا اللوازم والتوالى المتقدمة في هذه العبارة المختصرة: «إن واجب الوجود بالذات واجب الوجود من جميع الجهات»(1).

3- إثبات العلم المطلق:

كما تقدم أن أشرنا فإن جميع الوجودات الممكنة هي فعل واجب الوجود ومعلولة له، بل هي طبقاً للرؤية العرفانية والحكمة المتعالية شعاع وبارقة من بوارق الوجود الإلهي . ومن الواضح أن علم الفاعل بفعله ومعلوله هو علم حضوري سابق يشمل جميع أبعاده وجوانبه؛ لأن جميع الأمور الممكنة تنشأ عن ذات اللّه البسيطة، وإن علم اللّه بذاته إنما هو في الواقع علم بمعاليله وأفعاله. قال الطوسي: «إن كل موجود سواه ممكن - على ما يأتي في باب الوحدانية - وكل ممكن فإنه مستند إلى الواجب، إما ابتداء أو بوسائط - على

ص: 57


1- ابن سينا النجاة ص 228 صدر المتألهين الأسفار الأربعة في الحكمة المتعالية، ج 1، 122؛ العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي، نهاية الحكمة، المرحلة الرابعة الفصل الرابع، ص 55.

ما تقدم - وقد سلف أن العلم بالعلة يستلزم العلم بالمعلول، واللّه تعالى عالم بذاته - على ما تقدّم - فهو عالم بغيره»(1).

وبعد أن أثبتنا الصفات الكمالية المطلقة اللّه باختصار، نخوض الآن في بيان عدالة اللّه بالبرهان اللمّي.

التقرير الأول: انعدام الدوافع القبيحة في الفعل الإلهي:

إن كلّ إنسان وفاعل عندما يرتكب فعلاً قبيحاً ومخالفاً للعدل، يجب أن يكون فعله - طبقاً لقانون العلية - معلولاً لعلة، وإن تلك العلة أو العلل هي التي تسوقه نحو فعل القبيح.

ومن ناحية أخرى، عندما نحلل وندرس الدوافع والدواعي إلى ارتكاب الأفعال القبيحة ،والجائرة، فإننا سنصل إلى دافعين، وهما: الافتقار .والجهل. بمعنى أن الفاعل عندما يرتكب الفعل القبيح والمستهجن، فإن فعله

یستند بالضرورة إلى واحد من هذين الدافعين.

فمثلاً: إن الذي يسرق إنما يريد رفع احتياجه بسبب افتقاره، أو إنّ الذي يغضب ويضرب شخصاً أو يدميه، إنما يريد أن يشفي غليله ويطفئ نار غضبه الذي يجد نفسه بحاجة إليه، أو ربما يقوم بظلم شخص من دون علم منه، أو أن يرتكب القبيح عن غير وعي. من هنا فإن دوافع الفاعل إلى فعل القبيح يعود إلى أحد هذين الأمرين.

ص: 58


1- الخواجة نصير الدين الطوسي، كشف المراد، بحث صفات الله المسألة الثانية في أنه تعالى عالم؛ وانظر أيضاً: السيد محمد حسين الطباطبائي، نهاية الحكمة، المرحلة الثانية عشرة، الفصل الحادي عشر، ص 288

من خلال هاتين المقدمتين نصل إلى النتيجة الآتية، وهي أن اللّه لا يمكن أن يكون فاعلاً للأفعال القبيحة والشائنة(1)؛ إذ لا يمكن تصور أياً من هذين الدافعين فى حق اللّه سبحانه وتعالى. والدليل على ذلك هو أن اللّه سبحانه وتعالى بحسب البراهين يتصف بأنه غنىّ وقادر وعالم مطلق(2).

من هنا لا يوجد أيّ دافع أو مبرّر يبرر قيام اللّه سبحانه وتعالى بفعل القبيح والظلم في حق مخلوقاته ولا سيّما الإنسان منها. وإن ما يبدو شرّاً وظلماً في حق العباد، لابدّ من أن ينطوي على خير ومصلحة لا نعلمها.

وطبقاً لتقرير الفلاسفة فإن الوجود خيرٌ ،محض، وإن الشرّ أمر عدمي، وإن اللّه معطي الوجود بمعنى الخير. أما الشرّ وعدم الكمال فلا يحتاج إلى علة فاعلية، وإنما هو من لوازم عالم المادة الذي ينشأ من المحدوديات والأضداد.

أما أن يقوم اللّه بالقضاء على كمال - كما تقدم أن أشرنا إليه - فهو معلول لوجود الافتقار والحاجة، وهو منتف في حق الوجود الإلهي المتصف

ص: 59


1- لا يخفى على القارئ الفطن - طبقاً لقاعدة الحسن و القبح العقلي - أن الله إنما يقوم بأعمال الخير والكمال من باب اقتضاء ذاته وصفاته الكمالية. وإن مقامه الكبريائي منزه عن فعل القبيح. إن هذا الوجوب القيام بأفعال الخير) والامتناع (تجنب فعل القبيح إنما ينطلق بمقتضى صفاته الكمالية، ويتم التعبير عن هذا الوجوب في المصطلح الكلامي ب- (يجب عنه)، في قبال الوجوب الفقهي الذي يُعبّر عنه ب- (يجب عليه) الذي يُطلق في حق المكلفين؛ وعليه لا ترد شبهة الجبر، كأن يقال : يجب على حاتم الطائي أن يتصدق على المسكين بدرهم.
2- انظر محمد حسين المظفر دلائل الصدق، ج 2، ص 978 وقد ورد هذا الدليل في الروايات إجمالاً. وعلى سبيل المثال ما ورد عن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم في الاستدلال على العدل الإلهي في معرض جوابه عن سؤال الحبر اليهودي: العلمه بقبحه واستغنائه عنها)، انظر: السيد المرتضى، أمالي المرتضى، ج 1، ص 106.

بالغنى والبساطة(1).

ويمكن بيان هذا الاستدلال من خلال التقريرين الآتيين:

استحالة صدور الفعل الظالم عن الله :

وبتقرير آخر فإن ارتكاب الشر والظلم والجور معلول لواحد من العلل الأربع الآتية:

أ - الاحتياج والافتقار .

ب - عجز الفاعل وعدم قدرته على فعل الخير.

ج - جهل الفاعل بفعل الخير.

د - بخل الفاعل في فعل الخير.

فإنّ وجود أحد هذه الأمور هو الموجب لفعل الظلم على ما يتضح لنا من تحليل الأفعال الظالمة والجائرة الصادرة عن مجمل البشر. إذ إنّ أضداد هذه الصفات من القدرة المطلقة والغنى المطلق، وإرادة الخير المطلق من الصفات الثابتة للّه عزّ وجل يثبت بالبرهان اللمي أن جميع أفعال اللّه هي خير محض ولا يصدر عنه أي نوع من أنواع الشرور والجور أبداً.

ويستنتج المتكلمون التقرير المتقدم من تحليل مفهوم واجب الوجود واتصافه بالغنى والقدرة المطلقة، كما يستنتجون علمه الشامل؛ إذ لو كانت صفات الكمال الإلهية محدودة لم يصدق عليه وصفه ب- «واجب الوجود»، وهو خلاف الفرض، وعليه يثبت أن الله غنى وعالم بشكل مطلق.

ص: 60


1- انظر: مرتضى مطهري، مجموعه آثار (الأعمال الكاملة)، ج 1، ص 113 - 114.

قال المحقق الطوسي في هذا الشأن:

«وجوب الوجود يدل على سرمديته ونفي الزائد والحاجة، وعلى ثبوت الجود والتمام وفوقه والخيرية والحكمة والتجبر»(1).

التقرير الثاني: لزوم السنخية بين الفعل والفاعل:

إذ إنّ ذات اللّه تعالى تتصف بالصفات الكمالية المطلقة من قبيل: الجود والفيض والرحمة والحكمة والكرامة ،وغيرها ولا يتصف بأي صفة من صفات النقص، مثل: البخل والحسد والتشفي وما إلى ذلك، فإن كل ما يصدر عن مصدر النور، وينعكس على صفحة مرآة الوجود الإمكاني ، سيكون بأجمعه بمقتضى قاعدة السنخية - نورانياً وجميلاً وحسناً ومريداً للخير وحكيماً(2).

قال تعالى في محكم كتابه الكريم: «قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ»(3).

وقد ورد في الحديث الشريف: «إن اللّه جميل يحب الجمال»(4).

ص: 61


1- تعود جذور هذا الدليل إلى أحاديث المعصومين من النبي الأكرم والأئمة الأطهار من اهل بیته علیهم السلام ، فقد روي عن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم، أنه قال في استدلاله على عدل اللّه ونفي الظلم عنه في جواب أحد أحبار اليهود: (لعلمه بقبحه واستغنائه عنه)، انظر: السيد المرتضى، أمالي المرتضى، ج 1، ص 106.
2- ونرى هذا الاستدلال في بعض آثار إفلاطون بشكل بديع للغاية، انظر: الجمهورية، رقم: .973
3- الإسراء: 84
4- انظر: المحدث الكليني، الكافي، ج 6، ص 438

التقرير الثالث : النظام الأحسن عند الفلاسفة:

يذهب الفلاسفة إلى الاعتقاد بأن العالم الراهن قائم على «النظام الأحسن» من بين جميع الاحتمالات التي كان يمكن أن توجد(1). وقد تمسكوا لإثبات هذه الدعوى بوجود العلة التامة (الصفات الكمالية المطلقة)، وعدم اتصاف اللّه بالصفات المانعة. بمعنى أن المقتضي للقيام بأحسن الأعمال والوجودات موجود في اللّه وحيث ينحصر الوجود باللّه لا يمكن أن نتصور ما يمنع اللّه من القيام بالأحسن والأفضل. وعلى هذا الأساس فإن أول فعل وصادر عن اللّه هو أكمل الوجودات الممكنة.

وفي الوجودات الممكنة المجردة - حيث لا وجود للمادة والاستعداد - لا يمكن للشر أن ينفذ فيها غير الشر الميتافيزيقي الذي ينشأ عن ذات وجود الممكنات وماهيتها ومحدوديتها. إن دليل أنصار هذه الرؤية يتلخص في البيان الآتي: إذ إنّ اللّه حكيم وعالم وقادر ومريد للخير بشكل مطلق، فإنه لايمتلك أي داع أو دافع لإيجاد الشرور، وإن كل ما يصدر ويُفاض من اللامتناهي هو خير وحسن.

أجل إن الوجودات الممكنة عندما تنتهي في قوسها النزولي إلى الوجود المادي فإنها بسبب وجودها المادي - المركب من كثير من المحدوديات والاستعدادات والأعدام المتعددة - تتصارع وتتنافس فيما بينها من أجل تحقيق ذاتها والوصول إلى فعلية استعداداتها وقابلياتها. وبفعل هذا الصراع تزدهر بعض الاستعدادات وتنمو، بينما ينعدم البعض الآخر. فمثلاً نجد الأشجار

ص: 62


1- The best of possible worlds.

والنباتات في الغابات تتنازع فيما بينها من أجل الحصول على المزيد من نور الشمس أو اجتذاب المواد الغذائية من التربة، ومن ثُمَّ فإن بعض الأزهار والأشجار سوف تزدهر وتتفتح وتنمو، ويموت وينعدم بعضها الآخر.

بعبارة أخرى: إن جميع الشرور في العالم معلولة للتضاد القائم في عالم المادة، والذي يؤدي تلقائياً إلى تعريض بعضها البعض للخطر، ويلحق بها الأذى والضرر، ولكن لا مناص من هذه الشرور من أجل الحصول على المنافع التي لا تحصى لكثرتها في هذا العالم ؛ وذلك لأن أمور هذا العالم تجري - بناء على مشيئة اللّه - على «قاعدة العلية» التي تقضي باستناد جميع الآثار والمعاليل

إلى ذات الأشياء وطبيعتها وعللها الفاعلية، وإن صدور الآثار عن فواعلها طبقاً لقانون «ضرورة العلية والمعلولية» أمر لا يمكن اجتنابه. وفي مثال النار فإن الحرارة والإحراق يستند إلى طبيعتها. وإن تصور نار من دون إحراق من قبيل تصور الأربعة من دون الزوجية، وهو محال.

وقد دافع الفلاسفة عن هذا الأصل بتقريرات مختلفة(1). ونكتفي هنا بما قاله صدر المتألهين في هذا الشأن:

«لا شبهة لأحد من أهل التحقيق حسبما يجيء شرحه في أن نظام العالم

ص: 63


1- انظر: ابن سينا التعليقات ص ،46 وص 157؛ الغزالي كيمياي سعادت ج1 ص 28؛ محمد بن احمد بن رشد تفسير ما بعد الطبيعة ص 1715 بهمنیار، التحصيل، ص 577؛ شيخ الإشراق، مجموعة مصنفات، ج 1، ص 472 قطب الدين الشيرازي، شرح حكمة الإشراق ص521؛ المیرداماد ،القبسات ص 425؛ ومن الجدير ذكره أن الفلاسفة الإسلاميين قد بينوا هذا الدليل بصيغة أخرى وهي (إمكان الأشرف) أيضاً، كما لا يخفى على أرباب المعرفة.

على هذا الوجه أشرف النظامات الممكنة وأكملها وأفضلها بحيث لا يتصور فوقه نظام آخر، وهذا ثابت محقق عند الكل ، والحكيم والمتكلم متفقان

فيه»(1).

ص: 64


1- صدر المتألهين، الأسفار الأربعة في الحكمة المتعالية، ج 7، ص 91 و 106.

الفصل الثاني: الشرور والحكمة في خلق عالم المادة والكوارث الطبيعية

اشارة

ص: 65

ص: 66

الشبهة الأولى: علة عدم خلق العالم خالياً من الشرور والحزن والألم:

إن العالم المادي مقرون بأنواع الشرور والنواقص، وهنا يطرح هذا التساؤل نفسه: لماذا لم يخلق اللّه العالم مجرداً من أيّ نوع من أنواع الشرّ، ولماذا لم يجعله خيراً محضاً لا مكان فيه للألم والحزن والعناء؟

تحليل ودراسة ( عالم المجرّدات عالم الخير (المحض)

للإجابة عن هذا السؤال يجب القول: إن خلق اللّه لا ينحصر بعالمنا، بل هناك الكثير من العوالم المختلفة غير عالمنا، وإن جنس تلك العوالم ليس من جنس المادّة، بل وجودها وجود مجرّد، ولعدم تكوّنها من المادّة فهي تخلو من الشر والحزن والألم. ومن بين تلك العوالم عالم الملائكة. يقوم الفلاسفة بتقسيم العوالم ونظام الخلق الإلهي بشكل عام إلى العالم الأول، وهو عالم المجرّدات والعقول والعالم الثاني، وهو عالم المثال والبرزخ النزولي. والعالم الثالث، وهو عالم المادة. وعليه لا يمكن لشخص أن يشكل ويقول: لماذا لم يخلق اللّه عالماً يكون خيراً محضاً، لا وجود للشرّ فيه؛ لأن هذا السؤال ناشئ عن عدم العلم

ص: 67

بوجود العوالم السابقة.

وربما تمّ طرح الشبهة الآتية، وهي: إننا لا نتحدّث عن الخير المحض الموجود في العوالم الأخرى، وإنما المهم بالنسبة لنا هو أن يخلو عالمنا الإنساني من هذه الشرور.

وفي معرض الإجابة عن هذا الكلام علينا أن نتساءل: إذا كان السؤال عن سبب وجود الشرِّ في عالم المادّة، وجب القول: إن الشرّ ملازم لوجود المادة، وهو ما سيأتي توضيحه وبيانه في معرض الإجابة عن الشبهات القادمة. وأما إذا كان المراد هو القول: ما دام الشرِّ ملازماً لعالم المادة؛ إذن لماذا لم يكتف اللّه بخلق العوالم المجرّدة وتلك التي تشتمل على الخير المحض من العوالم المتقدّمة، وخلقَ عالم المادّة الملازم للشرور، فإن الإجابة عن ذلك ستأتي ضمن الإجابة عن الشبهة الثالثة أيضاً.

الشبهة الثانية: أسباب وجود الشرور في العالم المادي:

ربما كان أول سؤال يطرح بشأن عالم المادة، وملازمته وابتلائه بأنواع الشرور والحزن والألم هو القول: لماذا لم يخلق اللّه العالم بحيث لا يتسلل إليه أيّ نوع من أنواع الشرّ؟ عالم لا تجتاحه الأمراض ولا تضربه الزلازل، ولا تجرفه السيول ولا تنتشر فيه الحرائق وما إلى ذلك من البلايا والكوارث ليعيش الإنسان فيه ناعم البال فى ظل حياة معمورة بالأمن والطمأنينة.

تحليل ودراسة (الوجود المادي ملازم للشرور والآفات):

إنّ أهمّ نقطة تستدعي الدقة منا، هی أن الوجود المادى حيث يتألّف

ص: 68

من القوّة والصورة(1)، وكونه ملازماً للحركة (2)والتغيّر، فإنه ممتزج بأنواع الشرور والمحدوديات ومعجون بها حتى لا يمكن الفصل بينهما، فوجود القوة

يعني وجود جسم فاقد للفعلية والصورة الخاصة ومن هذه الناحية يكون ناقصاً، غاية ما هنالك لديه قابلية الوصول إلى الكمال التالى (الصورة) من باب المثال : إن كمال النواة يكمن في التحول إلى شجرة مثمرة، وإن هذا الكمال سيتحقق عند توفر الظروف الملائمة (من قبيل: وجود التربة الصالحة، والماء، والضوء الكافي)، فإذا لم يكن هناك ماء أو لم يكن هناك شيء من نور الشمس وضيائها لن يكتب لتلك النواة أن تبلغ ،كمالها، وهذا من لوازم الحياة المادية.

وفيما يتعلق بالجمادات - من قبيل النار - يجب القول: إن حقيقة النار وذاتها هي الإحراق ولا يمكن سلب هذه الخاصية عنها. فإذا كانت حرارة النار ذات منافع كبيرة للبشرية، فإن الأضرار المترتبة عليها - من قبيل الإحراق - تعتبر جزءاً من آثارها التكوينية التى لا يمكن سلبها عنها. وبعبارة أخرى إننا إذا أردنا النار في حياتنا، وجب علينا أن نتقبل آثارها التكوينية

ص: 69


1- وفي المصطلح الفلسفي فإن الجسم يتألف من جزئين وهما (القوة والمادة أو الهيولى) و (الصورة)، وإن الجسم في ضوء الاستعداد المحض في الأشياء يتحول إلى صور مختلفة. على سبيل المثال : إن نواة الزهرة أو الشجرة تتحول بمرور الوقت من حالة النواة إلى صورة الزنبقة أو الشجرة. إن (الصورة) هي الفعلية والوجود الخاص والمتعين للجسم، وفي المثال تكون فعلية النواة هي الوجود الخاص (انظر: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي، نهاية الحكمة، المرحلة السادسة، من الفصل الرابع إلى السادس).
2- وبحسب المصطلح يسمى خروج الشيء من القوة إلى الفعلية (الصورة) بشكل تدريجي، حركة (انظر: المصدر أعلاه، المرحلة التاسعة من الفصل الأول إلى الفصل الثاني).

العامة، التى قد تتسبب بالأضرار أحياناً. وهكذا الأمر بالنسبة إلى الماء أيضاً، فهو مادة سائلة يمكن أن تترسب في التربة بسهولة، فنحصل على الآبار والينابيع، ويساعدنا ذلك في سقاية الأراضي الزراعية، وهذه نعمة كبرى، بيد أن ذات هذه الخاصية تؤدي أحياناً إلى حدوث السيول وتسبب أضراراً تطال الأموال والأرواح.

وهكذا الأمر بالنسبة إلى الشعور بالألم، أو ما يعبر عنه فلسفياً بالشرّ ،الإدراكي، فعلى الرغم من الألم والعذاب الذي يقاسيه الفرد. ولكن لو افترضنا عدم شعور الإنسان بالألم عند إصابته بجرح أو مرض في أحد أعضائه مثل: القلب والكلى والأسنان والرأس وما إلى ذلك. فإن هذا وإن اشتمل على منفعة مؤقتة، بسبب عدم استشعاره الألم، ولكن هذا قد يؤدي به على المدى الطويل إلى الموت والفناء؛ وذلك لأن الشعور بالألم في حدّ ذاته يعدُّ دقاً لناقوس الخطر الذي ينبّه الإنسان إلى وجود فساد، وإن هذا الفساد إذا لم يُسارع إلى القضاء عليه، ولم تتم معالجته في الوقت المناسب، فإن ذلك قد لا يتوقف عند فساد الأسنان كلها، بل قد تسري العفونة إلى سائر أعضاء الجسد، مثل القلب وما إلى ذلك.

لو لم يكن هناك شعور بالألم، فإن الإنسان قد يتعرض أثناء النوم والغفلة لقرص وعض من كافة أنواع الحشرات والقوارض والزواحف، من قبيل: النمل والفئران والأفاعي والعقارب إذ إنّه بحسب الفرض سوف لا يشعر بها، ولذلك عندما يطلع عليها بعد الاستيقاظ يكون قد فات الأوان، ولن يكون باستطاعته إنقاذ نفسه من الخطر. أو إذا أدخل شخص يده في النار، أو أدخل الطفل يده في مفرمة اللحم، ففي مثل هذه الموارد وغيرها إذا لم يشعر الإنسان بالألم، سيعرض صحته وحياته إلى الخطر.

ص: 70

كما تكمن فلسفة الألم في معاقبة المجرمين أيضاً، فإن المجرم إذا لم يكن يشعر بالألم، فإن معاقبته لن تكون مجدية. وعليه فإن شعور الإنسان بالألم ينطوي على الكثير من الفوائد، إذ إنّ الأضرار الموجودة فيه تعدّ لا شيء بالقياس إلى المصالح الجمّة المترتبة عليه.

بعبارة أخرى: إذا كان الفرض قائما على خلق العالم المادي والوجودات المادية، فإن منافع هذا النوع من الوجودات المادية وأضراره ستكون ممتزجة ببعضها، وإن سلب أيٍّ منهما سيعني سلباً للآخر بالضرورة، من

باب المثال لو لم تكن السكين حادّة، ولم تكن النار حارقة، ولم يكن الماء سائلا، فإن هذا يعني عدم امتلاكنا لسكين أو نار أو ماء أصلاً، (وسيأتي توضيح هذا الدليل بتفصيل أكثر في الصفحات القادمة إن شاء اللّه).

جوابان فلسفیان:

لقد قدّم الفلاسفة إجابات متعدّدة عن إشكال الشرّ في العالم المادي وهنا سنقتصر على بيان إجابتين من تلك الإجابات على نحو الإجمال:

1 - التضاد والشرور من لوازم استمرار الفيض:

تقوم الإجابة الأولى على القاعدة الفلسفية القائلة: «لو لا التضادّ لما صحّ دوام الفيض»، وفيما يأتي نشير إلى هذه القاعدة باختصار على النحو الآتي: لو لم تكن الحدود وأنواع التضاد قائمة في هذا العالم المادي للزم من ذلك أن يستفيد عدد خاص من الفيض الإلهي، ويحرم منه عدد آخر؛ لأن الحركة والتضاد في الأجسام الطبيعية وإن كانت تؤدي إلى محو الصورة الراهنة، ولكنها تؤدي في الوقت نفسها إلى ظهور صورة أخرى أيضاً. من باب المثال: إن أكل

ص: 71

البهائم للنباتات والأعلاف، وإن كان يؤدي إلى زوال صورها النباتية، إلا أنها بعد جذبها في بدن البهيمة تتحول إلى نوع أسمى وأشرف من صورتها السابقة. وهكذا الأمر بالنسبة إلى نحر الحيوان على يد الإنسان، واتخاذ لحمه طعاماً له، فإنه سيتحلل فى جسم الإنسان ويكتسب استعداد وقابلية النفس الإنسانية.

وهذا يُثبت أن الحركة والتضاد وزوال الصورة الراهنة ليست شرّاً حقيقياً، بل إنها تؤدى إلى التكامل أيضاً.

2 - الشرور من لوازم عالم المادة:

إن الشرور التي تنشأ من الوجودات المادية هي من لوازم التضاد، والتضاد من لوازم الحركة والحركة من لوازم العالم المادي. فإذا كنا نروم عدم وجود الشر - الذي هو معلول للتضاد والحركة - فعلينا أن نتخلى عن وجود الخير في العالم المادي أيضاً، وهذا يستلزم القول بترك الخير الكثير من أجل الخلاص من الشر القليل.

وقد عبّر صدر المتألهين عن هذه الحقيقة بقوله: «فإنه لولا التضادّ ما صحّ حدوث الحادثات التي بسبب الاستحالات الباعثة للاستعدادات، فما صحّ وجود نفوس غير متناهية وأشخاص كذلك والنفوس لا تحصل إلا عند حصول الأبدان واستعداد مادّتها؛ لتعلق النفس بها وذلك لا يحصل إلا بتفاعل الكيفيات المتضادّة. فالتضادّ الحاصل في هذا العالم سبب دوام الفيض»(1).

وسيأتي التوضيح التفصيلى لهذه الإجابة في الفصل الثالث إن شاء اللّه.

ص: 72


1- صدر المتألهين الحكمة المتعالية في الأسفار الأربعة، ج 7، الفصل الرابع، ص 51 - 52؛ وانظر أيضاً: مجموعة مصنفات شيخ الإشراق، ج 1، ص 467.

الشبهة الثالثة: فلسفة خلق عالم المادة ملازماً للشرور:

كما تقدّم أن أشرنا فإن عالم المادة والماديات، وبسبب مادّيته - حيث يلازم المحدودية وغيرها من اللوازم الذاتية التي لا يمكن أن تنفصل عن الطبيعة المادية - يواجه الشرور المتعدّدة.

وعليه تطرح هذه الشبهة نفسها إذا كان عالمنا ملازماً للشرور، ومن جهة أخرى فإن اللّه قد خلق العالم خيراً محضاً فلماذا خلق مثل هذا العالم أصلاً؟

مناقشة وتحليل:

1 - قلة الشرور وكثرة الخيرات :

في معرض الإجابة عن هذه الشبهة يجب القول: إن اشتمال العالم المادي على الشرور بمعنى الآلام وانعدام الراحة المطلقة، هو أمر لا يقبل الإنكار. بيد أننا إذا أمعنا النظر في العالم المادّي من حيث الكلّ والمجموع، سنجد أنه لا يساوى الشرّ، بل إن الخير فيه هو الغالب، وأما الشرور فلا تشغل غير حيّز ضيق من هذه الحياة المادية. وهذا ليس مجرّد ادعاء، فإن كل فردٍ منا عندما يتأمل في حياته ومن يلوذ به سيدرك أن أكثر الناس راضين وسعداء في حياتهم.

والشاهد على ذلك هو (أن المصابين بالأمراض والشرور والآلام والبائسين هم قلة قليلة)، وإن النسبة المئوية من حالات الانتحار في المجتمعات لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة ولو كانت الآلام والمحن هي الغالبة على الخيرات؛ لآثر كل الناس الانتحار للخلاص من هذه الدنيا، ولكن الأمر على

ص: 73

خلاف ذلك.

وطبعاً فإن هذا لا يعني تحقق الرضا والقناعة المطلقة في الأمور الدنيوية والمادية؛ لأن طموح الإنسان لا يقف عند حدّ، وإنه بمجرّد أن يحقق أمنية من أمنياته، تبرز له أمنية أخرى، وهكذا دواليك، ولذلك لا يمكن لنا ان ندّعي بأن الانسان المادي يستطيع الوصول إلى تحقيق آخر أمنياته ورغباته.

أما المسألة الأخرى التي تدعم غلبة الخير على الشرّ في عالم المادّة، فهي النظرة التي تتجاوز عالم المادّة، بمعنى أن لا نحصر الحياة وحقيقة الإنسان ببضعة أيام من السعادة أو الشقاء الذي يصيبه الإنسان في العالم المادّي. بل نعتقد بوجود العالم الآخر ويوم القيامة الذي يصل فيه أكثر الناس إلى السعادة والخلود. وفي الحقيقة فإن آلام الدنيا لا تعد شيئاً بالقياس إلى السعادة الأبدية في الآخرة، بل هى من مقدمات الكمال والتكامل وتحصيل الثواب يوم القيامة. وسيأتي في الصفحات القادمة تفصيل أن اللّه سيثيب الإنسان ويعوّضه في العالم الآخر عن كل ألم أو حزن أصابه بسبب تداعيات النظام المادي.

وعلاوة على ذلك وعلى الرغم من أن أكثر الناس يبتلون في هذه الدنيا بالشرور والمحن ولكن لمّا كانت حياتهم لا تنحصر في هذه الدنيا الفانية، وإن الحياة الأبدية ستكون أمامهم يوم البعث والنشور، فإنهم سينالون السعادة الخالدة يوم القيامة.

بعبارة أخرى: للحكم بشأن قلة أو كثرة الشرور والخيرات يجب النظر إلى كلا وجهي العملة وعدم الاقتصار على ملاحظة جانب وإغفال الجانب الآخر. من هنا يمكن لنا أن ندعي بضرس قاطع أنّ كفّة الخيرات في عالم الدنيا والآخرة غالبة على الشرور.

ص: 74

2 - ترجيح الجانب الكيفي من الخيرات على الجانب الكمّي:

وحتى لو افترضنا محالاً غلبة الشرور في العالم المادي على الخيرات من الناحية الكميّة ، أمكن لنا مع ذلك وصف خلق مثل هذا العالم بالحكمة؛ إذ إنّ الذي يحظى بالأهمية بين العقلاء هو ترجيح الكيفية على الكمية. ففي عملية خلق العالم المادي وإن كان الغالب على المستوى الكمّي - بحسب الفرض - هو الشرور على الخيرات إلا أن بعض البوابات فى هذا العالم من الكمال وسموّ المنزلة على المستوى الكيفي بحيث أن هذا التكامل الكيفي يكفي في تبرير هذا العدد الكبير من أنواع الشرور. فمثلاً إن النظام الدنيوي وإن كان مفعماً بالظالمين من أمثال الحجاج وجنكيز خان وموسوليني وصدام وأمثال هؤلاء، إلا أن هذا العالم المادي قد شهد في المقابل وجود الأنبياء والأئمة وسائر الصلحاء والأحرار في هذا العالم من الذين ترجح كفتهم الكيفية على كفة أولئك الأشرار رغم كثرتهم.

وعلى سبيل المثال: لو كانت لدينا مدرسة تضمّ ثلاثين طالباً كسولاً ومشاغباً ومزعجاً لا يرجى من تعليمهم خيراً، وكان هناك بين الطلاب خمسة في غاية الذكاء والعبقرية، وكان تعليمهم ضرورياً لخير المجتمع، فإنه في المجموع سيكون هذا الخير الكيفي راجحاً على ذلك الشرّ الكمّي. ويمكن أن تمثل أيضاً بمصنع يُنتج الكثير من المواد الضارّة، إلا أنه ينتج في الوقت نفسه منتوجات قليلة ولكنها حيوية ومصيرية بالنسبة إلى استمرار حياة الناس بحيث أن أهميتها تطغى على تلك الأضرار إن العقل والعقلاء في هذين المثالين يحكمان لا بحسن تأسيس مثل هذه المدرسة والمصنع فحسب، بل يحكمان بوجوب تأسيسهما أيضاً. وهكذا الأمر بالنسبة إلى واقع الحياة الدنيا في عالمنا، فعلى فرض التسليم بكثرة الشرور وغلبتها على الخيرات من الناحية الكمية، إلا أن

ص: 75

كفّة الخيرات الكيفية فيها ترجح على كفّة الشرور.

3- عدم خلق عالم المادّة يساوق التخلي عن الخير الكثير :

بالنظر إلى الفرضية المتقدمة (غلبة الخيرات - الأعم من الكميّة والكيفيّة - على الشرور)، فإن اللّه سبحانه وتعالى إذا تخلى عن خلق عالم المادة لمجرّد وجود القليل من الشرّ فيه لزم من ذلك ترك الخير الكثير من قبيل أن تتوقف مصانع السيارات والطائرات عن الإنتاج، بحجّة أنها تؤدي إلى وقوع الحوادث التي يذهب بسببها الكثير من الضحايا(1)، أو أن يترك الإنسان الاستفادة من النار والغاز؛ لأن النار تؤدي إلى الحرائق، والغاز يؤدي أحياناً إلى الاختناق أو ما يُسمى ب- (الموت الأبيض).

فكما أنّ عدم الاستفادة من هذه الوسائل والنعم بحجّة الذرائع المتقدمة لا يعدّ أمراً حكيماً، كذلك الحال بالنسبة إلى ترك خلق عالم المادّة للذريعة المتقدّمة، يعدُّ تركاً للخير الكثير، وعملاً لا يتصف بالحكمة، ولا ينسجم مع

الجود وإفاضة الخير من قبل الله سبحانه وتعالى.

الشبهة الرابعة: التفاوت في خلق الجماد والنبات والحيوان تنقسم الوجودات المادية إلى أربعة أقسام عامّة، وهي: (الجمادات من

ص: 76


1- عند كتابتي لهذه السطور أعلن رئيس المنظمة الطبية والقانونية في البلاد عن إحصائية تفيد بأن عدد ضحايا حوادث السير في عام 1388 للهجرة الشمسية الموافق لعام 2009 م]، قارب الثلاثة وعشرين ألف ضحية (22973)، وفي الأشهر الثلاثة الأولى من عام 1389 للهجرة الشمسية الموافق لعام 2010 م]، بلغ عدد القتلى 5826 قتيل، 2010م، وهي إحصائية مرعبة .. ومع ذلك لم يعترض أي عاقل على صنع هذه الوسائط النقلية الفتاكة!

قبيل الحجر والتراب والنباتات من قبيل الأشجار والأزهار والحيوانات من قبيل: الخيل والبغال والبشر، من قبيل: زيد وبكر وخالد).

ونقطة الشبه بين هذه الأقسام الأربعة هو اشتراكها في أصل الوجود المادي. أما الوجودات الثلاثة الأخيرة فتنماز بوجود خاص باسم النفس، وهو عنصر نمائها وملاك الكمال والسموّ فيها، وأما الجمادات فحيث تفتقر إلى النفس فإنها حرمت من هذا الكمال من الأساس كما أن النبات رغم امتلاكه للنفس إلا أن النفس التي يمتلكها هي نفس ،نباتية، لا ترقى في كمالها إلى النفس الحيوانية، وإنما هي دونها. وهكذا الأمر بالنسبة إلى النفس الحيوانية بالقياس إلى النفس الإنسانية، حيث لا يمكن المقارنة بينهما.

وفي هذه السلسة من حلقات الوجود المختلفة يمكن للجماد أن يعترض على الله ويقول: لم خلقتني أخس وأدنى من سائر المخلوقات الأخرى؟! كما يحق للنبات أن يعترض على تفضيل الحيوان والإنسان عليه، ويمكن للحيوان أن يعترض على تفضيل الإنسان عليه، ويقول: لو خلقتني مثل الإنسان لأمكن لي أن أطوي طريق السعادة والكمال. وباختصار فإن الإشكال يقول: هل مثل هذا التفاوت والمحاباة والتفضيل ينسجم مع الاعتقاد بعدالة اللّه سبحانه وتعالى؟

تحليل ومناقشة:

1 - توقف الوجود الأسمى على الوجود الأدنى:

كما تقدم في نصّ السؤال فإن المراتب الوجودية الأربعة المتقدّمة تبدأ النقصان وتأخذ طريقها إلى التكامل وذلك بأن تحظى بعض الوجودات الجامدة مثل التراب عند توفر الظروف بفرصة التحوّل إلى نبات ويمكن لهذا

ص: 77

التحوّل والتكامل أن يستمر ويتواصل عبر تحوّل النبات إلى طعام يغتذي عليه الحيوان، ثمّ يغدو الحيوان بدوره طعاماً للإنسان أو طبقاً لنظرية صدر المتألهين

حيث تتحول الذات الجامدة من قبيل الجنين البشري - في سياق الحركة الجوهرية - إلى النفس والوجود المجرّد (وبطبيعة الحال إلى حيوان يمتلك استعداد النفس الإنسانية).

بعبارة أخرى: إنّ وجود الأقسام الثلاثة الأخيرة رهن بالوجودات السابقة، وإن بعضها مرتبط في وجوده بالبعض الآخر. على سبيل المثال: إن وجود النبات متوقّف على وجود عدد من الجمادات (من قبيل: التراب والنور والماء). ولو أن اللّه استجاب لاعتراض الجماد وحوّله إلى نبات، لكان ذلك يعني تحول جميع الجمادات إلى نباتات ولازم ذلك زوال جميع الأشياء

وانعدامها؛ لأنه إذا لم يكن هناك تراب وماء، لما أمكن للنبات أن يوجد! وعليه فإن عدم خلق الجمادات لا يؤدي فقط إلى عدم تحول الجماد إلى نبات واتساع دائرة النباتات فحسب، بل يؤدي إلى عدم خلق عالم المادّة من رأس أيضاً؛ إذ مع انعدام الأجسام الجامدة من قبيل: الماء والتراب والنور، لاستحال النباتات من قبيل الأشجار والأزهار ولاستحالت حياة الحيوان وجود جسم والإنسان أيضاً.

مضافاً إلى ذلك فإن وجود الجمادات العظمى من قبيل: الجبال الرواسي، والنواة المركزية للأرض على اتساع حجمها المذهل يُعد أمراً ضرورياً لأصل وجود الأرض بوصفها كوكباً سياراً بين الكواكب السيارة والمجرّات

الكثيرة مع ما لها من سرعة وحركات مختلفة، وإذا لم تكن هذه الجمادات العظمى موجودة، لما كان هناك من وجود للنبات والحيوان والإنسان أيضاً.

ص: 78

2 - توقف الحياة على وجود النباتات والحيوانات:

من هنا يتضح أن اعتراض النباتات على أنها لم تخلق على شكل الحيوانات، لا يكون وارداً أيضاً؛ لأن الأرض إذا كانت خالية من النباتات، فكيف يتسنى للحيوان أن يعثر على طعامه وغذائه؟

وهكذا اعتراض الحيوان على أنه لم يُخلق مثل الإنسان لا يكون وارداً أيضاً؛ إذ لو لم يخلق اللّه النبات والحيوان لمجرّد اعتراضهما فإنّ الإنسان سوف لا يجد طعامه، وبذلك يستحيل عليه الاستمرار في الحياة، لأن جانباً من المواد الضرورية لجسم الإنسان من البروتينات والفيتامينات يحصل عليه من الثمار ولحم الحيوان.

3- عدم معقولية خلق الجماد والنبات والحيوان على صورة الإنسان:

في معرض الإجابة عن السؤال القائل: لماذا لم يخلق اللّه الجماد نباتاً، ولماذا لم يخلق النبات حيواناً، ومن ثَمَّ لماذا لم يخلق الحيوان على صورة الإنسان؟ يجب القول من الناحية العقلية لا يُمكن أن يخلق الشيء الموجود والمتحقق مثل الحصان على صورة وجود آخر مثل الإنسان؛ وذلك لأن ماهية الحصان هي الحيوانية والصاهلية المتحققة أمامنا وفي الحقيقة فإن اللّه لم يحدث تغييراً في خلق الحصان كي يخلقه على صورة الإنسان، وذلك لأن الحصان قبل خلقه لم يكن موجوداً أصلاً حتى يتمنى - في تلك المرحلة - على اللّه أن

يخلقه (حين يخلقه ) على صورة الإنسان وإن اللّه سيستجيب له ويحوّله إلى إنسان. بل إن اللّه فى هذا الفرض سيخلق إنساناً آخر بدلاً من خلق الحصان.

4 - اللوازم الباطلة المترتبة على خلق الحيوان على صورة الإنسان:

إن فرض السؤال المتقدّم (تحوّل خلق الحيوان إلى إنسان)، إنما يمكن

ص: 79

تصوّره فى صورة واحدة فقط، وذلك بأن يعمد اللّه سبحانه وتعالى بعد خلق الحيوان في رحم الأنثى إلى التدخل والتصرّف وتحويل الجنين الحيواني إلى

صورة إنسان.

إن هذا الفرض وإن كان يبدو معقولاً للوهلة الأولى، ولكن تترتب عليه إشكالات ولوازم باطلة نشير إليها على النحو الآتي:

أ - عدم الانسجام مع أصل العلية: إن هذا الفرض (تدخل الله المباشر) يستلزم خرق قانون العلية، كما تقدم أن ذكرنا في المقدمة فإن نظام عالم الدنيا يقوم على القانون المذكور وإن أعمال اللّه سبحانه وتعالى تأتي في إطار هذا القانون.

ب - الحياة البهيمية لو فرض أننا سلمنا بإمكان أن يولد الإنسان من الحيوان، إلا أن ذلك لن يجدي هذا الإنسان نفعاً، بل سيؤدي ذلك إلى لوازم فاسدة. فعلى سبيل المثال: هل الحيوان الذي أولد هذا الإنسان سيقبله، وهل سيرضعه ويغذّيه؟ وكيف سيكون مصير هذا الكائن الذي ينشأ في أحضان الحيوان ويترعرع في الأدغال والغابات؟ إن غاية ما سيكون عليه هذا الإنسان كما أثبتت الحالات المشابهة حيث تمّ العثور بعد سنوات على أفراد ضاعوا في الغابات صغاراً ونشأوا وكبروا مع الحيوانات - هو أن يعيش حياة مشابهة الحياة الحيوانات. فما الذي سيجنيه الحيوان من خلقه على صورة الإنسان في مثل هذه الحالة ؟

ج - الغموض في اختيار الحيوان الذي يخلق على شاكلة الإنسان: إن اختيار الناس من نسل الحيوانات لا يخلو من إحدى فرضيتين؛ فإما أن يتصرّف اللّه سبحانه وتعالى في المادة الأولية لخلق الحيوان في أجنة جميع

ص: 80

الحيوانات أو أنه سيقتصر في ذلك على بعضها فقط.

والفرضية الأولى يلزم منها انقطاع نسل جميع الحيوانات وانقراضها، ليظهر إلى الوجود بدلاً منها أولاد على شاكلة البشر ولكن على طباع الحيوانات، ولن يكون في ذلك أيّ نفع لمثل هذه الكائنات. وعلاوة على ذلك لو كان البناء على عدم إيجاد حيوان على الأرض واختص وجود الكائن الحى بالإنسان فقط، لما خلق الله حيواناً منذ البداية، وقام بدلاً من ذلك برفع عديد البشر.

وأمّا في الفرضية الثانية، فسوف يتكرر جانب من الإشكال السابق (ظهور الإنسان الحيواني) أيضاً. وعلاوة على ذلك لنا أن نتساءل ونقول: ما هو جنس أو نوع الحيوان الذي سيتم اختيار الإنسان منه؟ وهل هو من الطيور أو الزواحف أو من الحيوانات الداجنة أم غيرها؟

الإشكال الآخر الذي يرد على هذه الفرضية، هو أنه يحق للأنواع والأجناس الأخرى من سائر الحيوانات التي لا يُخلق الإنسان من نسلها، وتقول: لماذا لم يقع الاختيار في ذلك علينا؟ ولماذا حرمنا الله من هذه النعمة

واختص بها غيرنا؟

د - ضرورة فصل الإنسان بين الصنف الشريف والوضيع: لو صرفنا النظر عن الإشكالات السابقة، وقلنا بوجود إمكان أن يولد الإنسان العاقل والمفكر من نسل الحيوانات كما هو الحال في نظرية دارون)، وجب القول: إن هذه الفرضية ستنتهي إلى تفاقم العنصرية بين الناس؛ حيث سيظهر صنفان من الناس؛ صنف منحدر من الإنسان الأول وهو آدم، وصنف منحدر من مختلف الحيونات الأخرى وهذا الاختلاف سيفضي إلى الكثير من التبعات السلبية،

ص: 81

وإن أول تلك التبعات هو ظهور نظام الفصل العنصري حيث يدّعى الصنف المنحدر من آدم أفضليته على الصنف المنحدر من الحيوانات، وهذا لا ينسجم عدالة اللّه، هذا ويمكن أن تكون المزايا والكفاءات الذاتية للصنف الأول أكثر وأكمل من الصنف الثاني. وعلى كلا الحالتين سيعترض الصنف الثاني على

اللّه ويقول: لماذا خلقتنا من سلالة الحيوانات وجعلت كفاءتنا دون كفاءة الصنف الأول؟ وعندها لا يعود الجواب بأنكم في الأصل حيوانات، وإن اللّه حوّلكم إلى بشر - من باب الرحمة واللطف بكم، بعد أن تصرّف في خلقكم - جواباً مقنعاً.

5 - اللوازم الباطلة لخلق العديد من الناس بدلاً من خلق الحيوانات:

أشرنا إلى أن إحدى الفرضيات في مورد اعتراض النباتات وخاصة الحيوانات معقولة، وهي فرضية أن اللّه يخلق منذ البدء عدداً من الناس بدلاً من خلق الحيوانات. ويمكن طرح الشبهة على النحو الآتي: لماذا لم يخلق اللّه أناساً

أخرين بدلاً من خلق الحيوانات؟

في معرض الإجابة عن هذه الشبهة لا بد من الإشارة إلى الأمور الآتية :

ا: منافع الحيوانات الكثيرة للإنسان: إنّ خلق الإنسان خالصاً من دون تأمين مصادر غذائه من النباتات والحيوانات لن يكون ذا فائدة، بل لا ينسجم مع الحكمة والعقلانية. وعلاوة على المنافع الغذائية التي توفرها

الحيوانات ،للإنسان فإن بعضها كان منذ القدم ولا يزال في خدمة الإنسان في أمور أخرى غير الطعام من قبيل: الحمل والانتقال من مكان إلى آخر، كما هو الحال بالنسبة إلى الخيول والبغال والحمير والجمال والأبقار وما سواها.

ص: 82

كما تكمن الحكمة الأخرى من خلق الحيوانات في تنويع الطبيعة و اختلاف ألوانها. فإنك إذا دخلت حديقة غنّاء وفيها كثير من الأشجار الباسقة والأزهار والأقاحي، تجد أن الذي يكمل روعة هذا المشهد ويزيده بهجة هو وجود أنواع الطيور الملونة والصادحة المتنقلة عبر الأفنان، وتشنيفها المسامع بتغريداتها العذبة.

ب - إهمال النباتات وعدم الاستفادة منها: لو تمّ الإصرار على أن لا يخلق اللّه غير النباتات والبشر، ففي هذه الفرضية ستنتشر النباتات والأشجار على كامل الكرة الأرضية، مع بقائها مهملة من دون أن يُفيد منها أحد، وعندها سينبثق اعتراض من نوع آخر يقول: ما هي الحكمة من خلق كل هذه النباتات والأشجار عديمة الفائدة؟ وهل ينسجم ذلك مع الحكمة الإلهية؟

ج - الدور الهام الذي تلعبه الحيوانات في البيئة: إن للحيوانات أهمية بالغة وكبيرة في استمرار الحياة وتدوير الطاقة فيها كما هو الحال مثلاً بالنسبة إلى الخنازير البرية التي تلعب دوراً فاعلاً وهاماً في حراثة الأرض، وطمر

الحبوب في بطنها.

د. عدم الانسجام مع الحكمة والجود: إن هذا الإشكال (عدم خلق الحيوانات، وخلق العديد من الناس بدلاً من خلق الحيوانات) لا يرتّب أي إشكال على الصفات الكمالية من قبيل العدل الإلهي؛ وذلك لأننا من جهة نجد أن خلق الحيوانات يدخل في حيّز الخير والجود وإفاضة الوجود على العدم، وهو يلائم الصفات الإلهية تماماً، ومن جهة أخرى فيما يتعلق بعدم خلق المزيد من الناس بعد استبدال خلق الحيوانات بهم، يجب القول إن الذي يُعدّ من إفاضة الجود واللطف هو خلق الإنسان وإعداد الأرضية الصالحة له في تكامله

ص: 83

ونموّه على المستوى المادي والمعنوي في الفرض المذكور (أي: عدم خلق الحيوانات)، لا يتمّ إعداد الأرضية اللازمة لنمو الإنسان وسعادته في الدنيا، بل

إن عدم خلق الحيوانات يؤدي إلى حدوث خلل وانهيار في المنظومة الطبيعية ودورة الحياة. وعليه فإن خلق الناس الآخرين في ظلّ هذه الأجواء لا ينسجم اتصاف اللّه بالحكمة والجود.

ه_ - المحاباة في الخلق وإفاضة الفيض: إن عدم خلق اللّه الحيوانات قد يؤدّي بدوره إلى إشكال ،آخر وهو القول بأن اللّه في عملية خلقه وإفاضة لطفه لماذا كان انتقائياً، واقتصر فى إفاضة اللطف والفيض على الإنسان فقط، وحرم الحيوانات من نعمة الوجود؟!

الشبهة الخامسة : الشرور والكوارث الطبيعية:

تتسبّب الكوارث الطبيعية من قبيل الزلازل والسيول والبراكين والرعود والبروق والأعاصير والجفاف والصقيع والآفات النباتية أو الحيوانية، والانهيارات الجبلية والانهيالات الجليدية، بمقتل أو جرح المئات أو الآلاف من البشر. تصور مزرعة أو قطيعاً من الخراف يبيد في لحظة واحدة بسبب آفة سماوية أو موجة برد قاتلة، الأمر الذي تضرّ بمالك هذه المزرعة أو ذلك القطيع، وقد يتسبب الأمر من جراء ذلك بمجاعة تفتك بالناس أيضاً.

وهنا يُطرح هذا التساؤل: لماذا لم يخلق الله العالم بشكل لا يشهد مثل هذه الكوارث الطبيعية المدمرة والفتاكة ؟

والسؤال الآخر: بعد أن خلق اللّه الطبيعة مصحوبة بهذه الكوارث والشرور، فما هي المنزلة التى يمكن لها أن تجبر كسر الضحايا الذين تضررّوا

ص: 84

من جرّاء هذه الكوارث الطبيعية فتعرّضوا للجراحات والكسور والموت وهدم بيوتهم وإتلاف ممتلكاتهم؟

مناقشة وتحليل:

فيما يتعلق بنقد وتحليل الشبهة الآنفة نجد الأمور الآتية جديرة بالأهمية والتأمّل؛ فالمسألة الجديرة بالذكر هي أن بالإمكان إبداء جوابين بشكل عام على أصل هذه الشبهة وأحد الجوابين ناظر إلى العلة الفاعلية للشرور (الجوابان (الأوّلان) ومن خلال القول بعدمية الشر (الجواب الأول) يمكن لنا أن تُثبت أنه لا وجود في الأساس لشيء في عالم الواقع باسم الشر كي يكون متعارضاً مع أصل التوحيد وصفة العدل والحكمة. أو القول بأن الشرور في عالم المادة من لوازم المادة (الإجابة الثانية).

أما الإجابة الأخرى (سائر الإجابات)؛ فتأتي بعد القول بالشر - أي: القول بوجود الشر والآفات التي تصيب الإنسان - حيث نقول بأننا بعد تحليل فوائد ومصالح الشرور نصل إلى هذه الحقيقة، وهي أن الشرور بهذا المعنى تكون من ضروريات حياة الإنسان من أجل أن تتجه حياته وروحه نحو الكمال.

الإجابة الأولى: عدم اتصاف الكوارث الطبيعية بأنها شرور بالذات:

تقدّم أن ذكرنا في المقدمة عند تعريف الخير والشرّ، أن «الخير» هو الوجود المطلوب والملائم للإنسان. وأن «الشرّ» هو الأمر العدمي، أو الأمر الوجودي - بناءً على القول بوجود الشرّ الإدراكى - غير الملائم الذي ينفر

الإنسان منه. من هنا فإن البلايا والشرور الطبيعية التي تحدث في الطبيعة،

ص: 85

ولا يتضرّر الناس منها، لا يطلق عليها مصطلح «الشرّ» و«البلاء». وعليه يتضح أن نفس وقوع الكوارث الطبيعية لا تلازم الشر ولكن ما أن تصل هذه الأمور إلى دائرة الإنسان وتؤدي إلى الإضرار به على المستوى الروحي والجسدي أو المادي، حتى يبدأ الإنسان بإطلاق صفة الشرور عليها. إذن الشر لم يخلق في ذوات هذه الأمور، ولم يدخل في تركيبتها ومنظومتها الحقيقية، بل هو اتفاق

طارئ يعرض عليها، والملاك في ذلك هو تضرر الإنسان. ولذلك يمكن للإنسان أن يمارس السيطرة على هذه الحوادث الطبيعية، كأن يحصّن بناءه ويجعله مقاوماً للزلازل، أو تطوير معلوماته بحيث يتكهّن أو يتنبأ بوقت حدوثها فيعمل على الوقاية منها، أو التخفيف من حدّتها وأضرارها.

ولكن على الرغم من عدم اتصاف الكوارث الطبيعية من قبيل: الزلازل والبراكين بكونها شرور ذاتية ولكنها بالنتيجة قد تؤدّي إلى الإضرار بالإنسان في بعض الموارد؛ فيبقى السؤال ماثلاً : لماذا لم يخلق اللّه العالم خالياً من هذه الأمور التي تؤدي إلى الخراب في بعض نواحي الحياة؟

والجواب عن هذه الشبهة هو أن الكوارث الطبيعية - من قبيل: الزلازل والبراكين - جزء لا يتجزّأ من منظومة خلق الأرض، ومن لوازم الطبيعة التي لا يمكن أن تنفكّ عنها. ومن أراد المزيد من التوضيح في هذا الشأن، يجده في

العدد التالي من هذه السلسلة إن شاء الله تعالى.

الإجابة الثانية: الكوارث الطبيعية من لوازم عالم المادّة:

وهنا ندخل في بيان وتحليل أهم وأبرز مصاديق الشرور، كي يتضح أن العالم المادي ما هو إلى مزيج من هذه الشرور، وأن هذه الشرور ما هي إلا عنصر من عناصر تكوين عالمنا المادّي.

ص: 86

1 - تحليل الزلازل والبراكين:

هناك مجموعة من النظريات حول منشأ وجود العوالم والكائنات، ومن أشهرها نظرية «الإنفجار العظيم» (1)، التي تقول بأن الكائنات قد تكوّنت إثر انفجار ذرّي هائل كان يحتوي على مجموعة من المادة والطاقة. إلا أن المقطوع به حتى الآن هو أن الأرض قد انفصلت عن الشمس قبل ما يقرب من أربعة مليارات ونصف المليار من السنين، وقد كانت في بدايتها عبارة عن كتلة ملتهبة من النار والعناصر السائلة وعلى مرّ الأزمنة تحولت العناصر السائلة إلى عناصر ثقيلة ترسّبت داخل المركز لتكوّن النواة، وطفت على سطحها العناصر السائلة الأقل ثقلاً مشكلة بذلك القشرة الخارجية من الأرض) (2). ولا تزال حتى الآن في عمق مئات الكيلو مترات من باطن الأرض مواد سائلة وملتهبة وبفعل حرارتها الهائلة تذوب المواد الثقيلة المترسّبة في قعرها، وتبدأ بالارتفاع إلى الأعلى، وفي المقابل تنزل الأجسام الجامدة والباردة من الأعلى إلى الأسفل. وهذه الحركة المتبادلة تحدث أحياناً بعض الصدامات بفعل الحركة المتضادة، وهذا الاصطدام هو الذي يتم التعبير عنه بالزلزلة(3). وأحياناً تؤدي

ص: 87


1- Big bang.
2- انظر فيروز فطورتشي، مسئله آغاز
3- يعود أهم سبب لوقوع الزلزلة إلى حركة الطبقات الأرضية علينا أن نعلم بأن الزلزلة ظاهرة تحدث في الكرة الأرضية يومياً. فطبقاً للدراسات الحديثة يقع ما يقرب من ثلاثة ملايين زلزلة سنوياً، بمعدل ثمانية آلاف زلزلة يومياً، أو زلزلة واحدة في كل إحدى عشرة ثانية. إذ يحدث اصطدام نتيجة لحركة الطبقات في الاتجاهات المخالفة والابتعاد عن بعضها، فعندما تنفصل طبقتان عن بعضهما تنبثق من بينهما حمم من الحجارة السائلة (وتحدث هذه الظاهرة عادة في قعر المحيطات)، وعندما تبرد هذه الحمم تغدو صلدة وتتحول إلى قشرة أو طبقة جديدة تملأ الفراغ الحاصل بين الطبقتين المتباعدتين. وأما إذا كانت الطبقتان تتحركان في اتجاه بعضهما، فإن إحدى الطبقتين ستدخل في العادة تحت الطبقة الأخرى، وأما إذا حصل وكانت الطبقتان متوازيتين تماماً بحيث لا تنزلق أي منهما تحت الأخرى، فعدها سوف ينبعج الطرفان الملتقيان إلى الأعلى، وبذلك تتكوّن سلسلة جبلية. ويحصل أحياناً عندما تمرّ طبقتان بجانب بعضهما أن يحدث ضغط بينهما، فعلى سبيل المثال تخيل طبقة متجهة نحو الجنوب وأخرى نحو الشمال، إن هاتين الطبقتين سيضغطان على بعضهما في موضع الاصطدام، فيحدث إنكسار، وفي الحقيقة فإن الإنكسار عبارة عن تشققات في قشرة الأرض تشاهد على طرفي الطبقات العائمة في حركة متخالفة. وفي هذه المواضع يكثر احتمال وقوع الزلازل وإن للانكسارات أنواعاً مختلفة يتم تقسيمها على أساس موقع خط الانكسار وكيفية حركة الطبقتين. وفي جميع أنواع الانكسارات تضغط الطبقات على بعضها، ومن ثُمَّ يحدث اصطدام شديد، وأحياناً تؤدي شدّة الاصطدام إلى انكسار الصخور، وهناك تحدث الزلازل، وقد يؤدي ذلك بدوره إلى حدوث إنكسارات صخرية أخرى تنتج زلازل أو هزات أرضية ارتدادية، ولهذا قد تحدث زلازل كثيرة في منطقة صغيرة وفي فترات متقاربة.

المواد السائلة - بفعل الحركة والحرارة والاصطكاك - بالطبقات الداخلية من الأرض إلى تحويل الطاقة الكامنة إلى طاقة ثورية تخرج على شكل براكين تنطلق من أعماق المحيطات أو قمم الجبال.

وبذلك يتضح بطلان التصوّر القديم الذي كان سائداً بين العامة، حيث كان بعضهم يتخيّل أن الأرض في بدايتها كانت هادئة وساكنة، وأن اللّه هو الذي يثيرها بالزلازل أحياناً، فيوقع بذلك خسائر فادحة في الأرواح والأموال.

ومن هنا يتمّ التشكيك في العدل الإلهي .

2 - خلق الإنسان قبل انتهاء الكوارث الطبيعية أو في أثنائها؟

ذكرنا أن وجود الأرض قد اقترن بانفصالها عن الشمس، وكانت حينها كتلة ملتهبة من الحمم السائلة وفي هذه الحالة نكون أمام فرضيتين:

ص: 88

الفرضية الأولى: أن تستمر عناصر الأرض الملتهبة عند انفصالها عن الشمس وفي هذه الصورة لن تكون هناك إمكانية للحياة، ومن ثُمَّ لن تكون هناك شكوى من الزلازل وتفجّر البراكين.

الفرضية الثانية: أن تتحول العناصر النارية المذابة والسائلة في الكرة الأرضية بمرور الأزمنة المتطاولة إلى النواة، كيما تبرد قشرتها الخارجية، وتتوفّر إمكانية الحياة عليها. وعلى الرغم من برودة القشرة الخارجية، تحدث هناك بعض الزلازل نتيجة لوجود التفاعلات البركانية في نواة الأرض، وقد تقدم شرح ذلك. إن هذه الزلازل والاهتزازات وإن كانت نتيجة طبيعية بوصفها من اللوازم التي لا تنفك عن طبيعة الأرض، وهي لذلك تلحق الأضرار المادية والجسدية وتؤدي إلى خسائر بالممتلكات والأرواح.

وفيما يتعلق ببداية الخلق على هذه الفرضية هناك مشهدان يمكن تصوّرهما:

المشهد الأول: أن يتريّث اللّه ولا يخلق سكان الأرض، إلى حين أن تبرد نواة الأرض بشكل كامل، ولا يكون هناك من أثر للزلازل والبراكين وفي هذه الصورة لن يتوجّه أي ضرر إلى سكان الأرض؛ إذ ليس هناك من سكان فيها من الأساس لأن القضية - على حد تعبير المناطقة - ستكون سالبة بانتفاء الموضوع ولكن في المقابل سيكون هناك إرجاء لخلق الكائنات ومنها الإنسان لمدة تقدر بملايين السنين، وبعبارة أدق سيتم تعطيل الحياة طوال هذه الفترة. في الحقيقة منذ ملايين السنين حيث بدأت عملية الخلق إلى مرحلة خمود النواة - والتي سوف تستغرق ملايين السنين أيضاً - كان يتعين على الله أن لا يخلق سكان الأرض، ولا يخلق أسلافنا ولا يخلقنا ولا يخلق آلاف

ص: 89

الأنواع الأخرى كل ذلك تحت ذريعة أن بعض الكوارث الطبيعية قد تعرّض بعض الكائنات للأضرار!

وهذه الفرضية هي ذاتها المعبّر عنها بترك الخير الكثير بسبب وجود القليل من الشرور وهي تنافي اتصاف الله بالجود وحبّ الخير وبسط الفيض على الكون. وإن العقل والعقلاء لا يويّدون ذلك.

المشهد الثاني بعد توفّر الأرضية لخلق سكان الأرض بحيث يحصل أكثر السكان على الخير الكثير يباشر الله عملية خلق الكائنات والناس، رغم وجود الضرر الذي سينال بعضهم.

إذ إنّ المشهد الأول (مباشرة الخلق بعد أن تزول أسباب الكوارث الطبيعية ) لا يناسب الصفات الكمالية التي يتصف بها الله سبحانه وتعالى، يبدو المشهد الثاني (مباشرة الخلق عند توفر شروط الحياة لأكثر الكائنات) هو المطابق لاتصاف الله بحب الخير والفيض الإلهي؛ وعليه فإن خلق الكائنات على الرغم من وجود الكوارث الطبيعية ينطوي على خير كثير، وإن ترك هذا الخير مساوق لترك الخير الكثير، وهو لا ينسجم مع اتصاف الله بالصفات الكمالية.

3- إجابة عن إشكال (تصرّف اللّه التكويني في تبريد نواة الأرض):

في الإجابة عن الإشكال القائل: لماذا لم يتصرّف اللّه بعد انفصال الأرض عن الشمس في عناصرها الملتهبة السائلة والمذابة وأن يعمل على تبريد قشرتها الخارجية، وكذلك نواتها فى فترة قصيرة، بحيث تكون الظروف مؤاتية لحياة الإنسان عليها من دون أن يكون هناك من خطر أو ضرر يلحق به بسبب الكوارث الطبيعية؟ يجب القول:

ص: 90

كما أشرنا في مقدّمة الكتاب، فإن نظام الخلق يقوم على أساس نظام العلية، وإن التصرّف التكويني المباشر من قبل الله من خلال تبريد الأرض الملتهبة، هو من قبيل القول بأن الله يتعيّن عليه تبريد النار بمجرد أن تنشب

بأذيال الشخص، وأن يجرد النار من لوازمها.

4 - تحليل السيول:

ربما تأتي السيول في الدرجة الثانية من بين الكوارث الطبيعية التي تلحق الأضرار والخسائر الكبيرة بالأرواح والأموال. وفيما يأتي نستعرض تحليل هذه الظاهرة الطبيعية.

يمثل الماء عنصر حياة للإنسان، بل هو عنصر حياة لجميع النباتات والحيوانات، حيث ينزل من السماء إلى الأرض، وينبع من باطن الأرض أيضاً. لا شك ولا شبهة في الفوائد الكثيرة الموجودة في الماء رغم الأضرار التي يتسبب بها أحياناً حيث يؤدي إلى غرق كثيرين. والسيول ليست شيئاً آخر غير كميات كبيرة من هذا الماء الذى يتحول إلى قوّة جارفة ومدمّرة.

1 / 4 - السيول عبارة عن تيارات مائية طاغية وجبارة:

إذا قيل: لو لم يكن الماء جارياً، لما تحوّل إلى سيول جارفة، ولما أدى إلى الأضرار يجب القول: إن جمادات مثل الحجارة تكون ثابتة في أماكنها، بيد أن السوائل جارية والحركة من لوازمها الذاتية التي لا تنفك عنها فحيث كان الماء سائلاً، فإنه سيكون متحركاً بالضرورة. وإن القول بضرورة أن لا يكون الماء جارياً كى لا يتحول إلى سيول جارفة، يعود في حقيقته إلى إنكار حقيقة الماء وماهيته، كما لو قيل: يجب أن لا تكون النار حارّة.

هذا مضافاً إلى أن الفائدة الرئيسة التى نحصل عليها من الماء، إنما تأتي

ص: 91

من قابليته على الحركة والجريان فإن هذه الصفة هي التي تجعل الماء قادراً على الغور في بطن الأرض، أو جريان الماء من الثلوج المتراكمة في قممم الجبال ونزولها إلى السفوح ليستفيد منها الناس بكل سهولة من دون اضطرارهم إلى تسلق الجبال للحصول على الماء، وهذه الصفة هي التي التي تساعد المزارعين في جمع المياه خلف السدود، والأخذ منه بمقدار الحاجة، كما أن استمتاع الإنسان بشرب الماء العذب يعود إلى صفة السيولة الملازمة له، حتى أن الإنسان يستفيد منه في دفع الطعام الجامد إذا غصّ به.

2 - / 4 - السيول نتيجة زيادة منسوب الأمطار:

ربما قيل: إن السيول معلولة للأمطار الغزيرة، ولو أن الأمطار هطلت بشكل قليل وعلى فترات متباعدة لما حدث سيل!

في الجواب عن هذا الإشكال نشير إلى الأمور الآتية:

1 - حاجة الناس إلى المزيد من المطر: فعلى الرغم من الأمطار الكثيرة، نجد أكثر مناطق العالم تعاني من شحّ في المطر، ولذلك لا يجدر بنا المطالبة بخفض منسوب المطر، بل علينا بالأحرى أن نطالب بكميات أكبر من الموجودة حالياً. بعبارة أخرى إن دورة الحياة على الأرض، وحياة النباتات والحيوانات والإنسان متوقفة على الماء الذي نحصل عليه بشكل رئيس من الأمطار. وإذا انخفض منسوب هذه الأمطار فإن الحياة ستكون في معرض الزوال، وهذا المقدار من الماء يأتي من خلال ارتفاع منسوب المطر.

ولو قيل: من الممكن أن نحصل على كميات كافية من الماء من خلال هطول المطر على شكل رذاذ خفيف ولكن من دون انقطاع، فنشهد هطولاً متوصلاً للأمطار الخفيفة من دون أن تكون هناك سيول مدمّرة.

ص: 92

يجب القول في الإجابة عن هذا الكلام: إن هذه الحالة سيترتب عليها آفات ولوازم سلبية أخرى أيضاً؛ لأن استمرار المطر يعني أن تتلبد السماء بالغيوم والسحب بشكل متواصل، الأمر الذي سيحجب وصول أشعة الشمس والضياء إلى الأرض بالمقادير الكافية، وهذا بدوره سيعرّض النباتات إلى انتكاسة في النمو، أو عدم الإثمار أبداً، وبذلك لن يحصل الحيوان ولا الإنسان

على طعامه بالمقادير الكافية، وهكذا تتعطل الحياة على الأرض.

2 - إن هطول المطر تابع لقانون العلية: إن هطول المطر القليل أو الكثير ليس أمراً اعتبارياً أو هو تابع لإرادة أو رغبة ملك من الملائكة، لينزل بأمر منه دون رعاية للأسباب والقوانين الطبيعية، فمتى رغب ذلك الملك لا ينزل المطر، أو ينزل بمقادير كبيرة أو ضئيلة. بل إن هطول الأمطار تابع للمناخ والظروف الجوية من قبيل حركة السحب وبرودة الهواء وما إلى ذلك. وبعبارة أخرى إن المطر تابع لقانون العلية في العالم.

3 - قصور الإنسان: في بعض الموارد أو في أكثر الموارد التي يتعرّض الإنسان فيها إلى الضرر بسبب السيول، إنما يكون هو السبب في ذلك لقصوره أو تقصيره، وبذلك تقع أعباء المسؤولية وتبعاتها على عاتقه. فعلى سبيل المثال: أن لا يبني سدّاً كي يسيطر به على قوة التيار المائي الجاري، أو أن يبني بيته في موضع جريان الماء. إذن يجب أن لا نضع كل اللوم على اللّه وعدالته.

ه- تحليل الرعد والبرق:

إن من بين الكوارث والشرور الطبيعية وجود الرعود والبرق والصواعق التى تنزل من السماء؛ فتقتل الناس والحيوانات، وتحرق المخازن والبيادر والحقول والغابات أحياناً وبذلك يتضرر الإنسان كثيراً بسبب هذه

ص: 93

الآفات السماوية:

وفي معرض تحليل هذا الإشكال يجب التدبّر في الأمور الآتية:

1 / 5 - الرعد والبرق تابع لقانون العلية:

كان الناس في العصور الماضية يعتقدون بأن الصواعق هي من غضب الآلهة أو بسبب غضب السماء على الناس. أما اليوم فقد اتضح أن هذا الاعتقاد ليس سوى توهم باطل لا أساس له من الصحّة، حيث أثبت العلم الحديث أن الرعد والبرق ناتج عن التصادم بين شحنة كهربائية سالبة بشحنة

،موجبة، وإن الشحنة الموجبة هي التي تتكون بفعل التصادم بين تيار هوائي حار وتيار هوائي بارد والشحنة السالبة قد تصدر عن الإنسان أو النبات أو الأرض أو كل شيء يمكن أن تلاقيه. وإذا كان تولد الشحنتين السالبة والموجبة نتيجة لتصادم سحابتين سمي ذلك رعداً، أشد وهو من البرق الاعتيادي، وهو يحدث عند اتصال سلكين أحدهما يحمل الشحنة الموجبة والآخر يحمل الشحنة السالبة، وأما إذا اصطدمت بالأرض فتسمّى صاعقة، وهي أشدّ من الرعد.

وإن حقيقة الرعد هي تفريغ الشحنة الإلكترونية إثر تصادم سحابتين أو بين سحابة وبين الأرض وتصادم طبقة هواء باردة وطبقة هواء حارة، ويحدث من جراء ذلك صوت مدوّ وهدير يصك الأسماع.

2 / 5 - فوائد الرعد والبرق:

إن الإنسان ينظر إلى ظاهرة الرعد والبرق فى الوهلة الأولى باعتبارها شر مهلك، بيد أن العلماء والمختصين في مجال العلوم التجريبية قد ذكروا للرعد والبرق فوائد كثيرة نشير إلى بعضها فيما يأتي:

ص: 94

2/1/ 5 - تكوين المطر: إن الرعد والبرق يولدان عادة حرارة هائلة قد تصل حتى إلى خمسة عشر ألف درجة مئوية، وهذا المقدار من الحرارة يكفي لإحراق كميات كبيرة من الأوكسجين، الأمر الذي يؤدي إلى انخفاض مفاجئ في ضغط الجو، وفي الضغط المنخفض تمطر السحب، ولذلك غالباً ما نشهد هطول الأمطار بعد الرعد والبرق مباشرة.

2/ 2 / 5 - القضاء على المكروبات عندما يحدث الرعد والبرق بذلك المقدار من الحرارة المرتفعة تتركب قطرات المطر مع مقادير من الأوكسجين الإضافي، حيث يتكاثف الماء، أنه بمعنى ينتج ماء مؤكسجاً، ومن بين فوائد الماء المؤكسج قتل المكروبات، ولذلك نشهد زيادة في الآفات النباتية في السنوات التي ينخفض فيه الرعد والبرق.

3 / 2 / 5 - تسميد التربة: إن قطرات المطر - التي تكتسب بفعل - الحرارة الشديدة حالة مركبة من الأسيد الكربوني - عندما تهطل إلى الأرض وتمتزج بالتربة تشكل سماداً مؤثراً في نموّ النباتات.

6 - إمكان مواجهة بعض الكوارث الطبيعية:

أما الإجابة الأخرى بشأن الشرور والكوارث الطبيعية فهي ان باستطاعة الإنسان أن يوظف قدراته العقلية للحدّ من أضرار بعض الكوارث والآفات الطبيعية من قبيل: الزلازل والسيول كأن تُسلّح الأبنية والعمارات ويتمّ تدعيمها بمواد مقاومة للزلازل، وبذلك يستطيع الإنسان الحفاظ على نفسه وأمواله من التلف واليوم نشاهد أن أضرار الزلازل قد انخفضت بالقياس إلى الأزمنة الماضية التي لم يتمّ فيها تسليح الأبنية بما يجعلها مقاومة للزلازل. فمثلاً عند كتابتي لهذه السطور حدث زلزال في اليابان بلغت قوّته 9/8 درجة على

ص: 95

مقياس ريختر، ولم يتجاوز عدد الضحايا الخمسمائة نسمة، وكان هناك زلازل ارتدادية بلغت قوة بعضها 6/8 درجة. وقيل إن هذه الزلزلة لم يسبق لها مثيل

طوال مئة وأربعين سنة خلت ولو قدّر لهذه الزلزلة أن تحدث في المناطق الفاقدة للأبنية المقاومة للزلازل من قبيل: أكثر المدن الواقعة في البلدان الأفريقية وآسيا الغربية والوسطى لشهدنا آلاف الضحايا وربما الملايين(1).

أو يمكن للإنسان أن ينتهج مختلف السبل لمنع أضرار السيول، من قبيل: بناء السدود، أو بناء الوحدات السكنية في المناطق الآمنة مثلاً.

وعليه فيما يتعلق بالكوارث الطبيعية يجب على الإنسان أن يتحمل قسطاً من اللوم، وعدم الاقتصار في إلقاء اللوم على الطبيعة وعلى اللّه فقط.

الإجابة الثالثة: الشر وسيلة للسمو الروحي للإنسان:

(2)

على الرغم من أن الشرور والكوارث الطبيعية قد تتسبب أحياناً بالأضرار والخسائر بالأرواح والأموال، إلا أنها في المقابل تشتمل على منافع وفوائد للإنسان، ولكنه يجهلها. وفيما يأتي نشير إلى بعض هذه الفوائد.

ولكن قبل بيان هذه الحلول يجب من باب المقدمة تنقيح هذه المسألة :وهى هل كان اللّه سبحانه وتعالى هدف من وراء خلق الكائنات وخاصة

ص: 96


1- ومن الملفت أن نعلم أن زلزال مدينة بم في إيران والذي راح ضحيته عشرات الآلاف من الأشخاص بلغت قوته 8 / 6 درجة وهي نفسها الدرجة التي سجلت للزلازل الارتدادية في اليابان ولم تسجل أي إصابة.
2- Soul - Making.

الإنسان منها؟ أو أنه قد خلق هذه الأمور عبثاً، ومن دون غاية أو هدف؟ اتفقت كلمة المتألهين على ضرورة أن تكون هناك غاية وهدف من الخلق، وفي ذلك يقول الله سبحانه وتعالى: «أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ»(1).

ولكن هناك آراء ومشارب مختلفة فى بيان ماهية هذا الهدف والغاية وكيفية الوصول إليها. هناك من يرى أن الهدف والغاية من خلق أصل العالم ليست سوى ألغاز في تاريخ البشرية، وأما بعض المتألهين - وهم الأكثرية (2)- فيذهبون إلى الاعتقاد بأن السعادة الحقيقية الخالية من العناء والألم لا يمكن الحصول عليها في هذه الدنيا، بل إن هذه الدنيا قنطرة وسلم للتكامل، ووصول الإنسان إلى السعادة الأبدية في عالم آخر، وذلك من خلال امتثال التكاليف الإلهية والأعمال الحسنة والصالحة، حيث تتسامى النفس، وبذلك تمهد الأرضية

للتكامل والرقيّ(3).

ص: 97


1- المؤمنون: 115
2- إن القول بأن الدنيا خلقت لتكامل الإنسان يعود بجذوره إلى ما قبل الإسلام والمسيحية. وكان خريسيبوس - وهو على رأس الفلاسفة الرواقيين - هو أول من قال هذا الكلام. إذ كان يقول : (إن) الفئران والبراغيث قد خلقت لتكاملنا، لأن الفئران تعلمنا الذكاء والبراغيث تحثنا على عدم الاستغراق في النوم). نقلا عن: محمد حسن قدر دان قراملكي، خدا ومسأله شر، ص 40.
3- لقد تحدّث المتكلمون الإسلاميون بشأن اعتبار التكاليف والأحكام الإلهية بالتفصيل، :وقالوا: إن الحصول على الغاية من التكاليف - أي السعادة الأبدية والحصول على الجنة والرضوان الإلهي - لا يكون من دون وضع التكاليف وامتثالها في عالم الدنيا، والتي تكون مصحوبة بالمشقة والحرج أيضاً. (انظر: المصادر والكتب الكلامية، بحوث اللطف والتكليف).

وأما لو كان العالم الراهن عالماً يعيش فيه جميع الناس راحة وسعادة مطلقة من دون عناء وألم، ويكون اللّه قد خلق الناس على نحو خلق الملائكة فى طاعتهم المحضة اللّه وقيامهم بأفعال الخير والإحسان مكرهين لما كان هناك من فرصة للسموّ والتكامل؛ لأن الإنسان إذا لم يتعرّض للبلاء، لما تجلى فيه عنصر الصبر والرضا بقضاء الله. ولو لم ير الإنسان فقيراً ومحتاجاً، لما تجلّت فيه

صفة التعاطف مع الآخرين وحبّ إيصال الخير لهم والإيثار والتضحية من أجلهم.

إن ازدهار الملكات والسجايا والخصال الحسنة التي أودعها اللّه في جبلّة الإنسان وفطرته رهن بوجود المصائب والابتلاءات كيما تتفتح وتزدهر تلك

الجوهرة التي باهى الله بعد خلقها، وتفاخر بها على الملائكة، وقال في خلقها «فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ»(1).

الإجابة الرابعة: الشرور والكوارث مبدأ الخيرات:

إن النظرية السابقة كانت تدّعى أن الشرور والكوارث تلعب دوراً جوهرياً ومحورياً في تكامل النفس ورقيّها، وتؤدي إلى تحقق الخيرات الأفضل (السعادة الأبدية) في الآخرة. وهذه النظرية تدعي ذات التأثير أيضاً، مع فارق أن الشرور التي هي مبدأ الخيرات الأسمى، هي متحققة بالفعل في العالم الراهن وفي هذه الدنيا.

وإنّ أنصار هذه النظرية والحل يذهبون في تأييد مدعاهم إلى الاستشهاد بالنخب والعلماء والعباقرة الذين تمكنوا من بلوغ المراتب العالية من

ص: 98


1- المؤمنون: 14.

السمو والفضل والتكامل بعد اجتياز كثير من الصعاب والآلام والمحن.

إن الذين يتعرّضون للظلم والجور وذاقوا مرارة الفقر والفاقة يمكنهم إدراك أوجاع الفقراء والدفاع عنهم بشكل أفضل.

وقال الأستاذ الشهيد مرتضى المطهري تحت عنوان «المصائب أم السعادات»: «إن القبح مقدمة لوجود الجمال وهو الخالق والموجد له. وفي صلب المصائب والبلايا تكمن السعادة والرخاء؛ كما يمكن أن تشتمل السعادة أحياناً على البؤس، وهذه هي المعادلة القائمة في طبيعة العالم التكوينية، قال :تعالى: «يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْل»(1).

وقد تمّ التأكيد على هذه المعادلة في بعض النصوص الدينية وعلى سبيل المثال: قال تعالى بعد تذكير النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بضرورة تحمّل المصائب، وأن جميع الآلام ستنتهي يوماً ما «فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا»(2).

وقد نبه الإمام علي علیه السلام إلى هذا القانون الطبيعي من خلال المقارنة بين الأشجار البرية والنباتات التي تنمو برعاية المزارعين، فتجدها مفتقرة إلى الاستحكام والصلابة بخلاف تلك التى تتحمل قسوة الصحراء، فقال:

«أَلاَ وَإِنَّ الشَّجَرَةَ الْبَرِّيَّةَ أَصْلَبُ عُوداً، وَالْرَّوَائِعَ الْخَضِرَةَ أَرَقُ جُلُوداً،

ص: 99


1- الحديد: 6؛ الحج: 61؛ لقمان: 29؛ فاطر: 13. مرتضى المطهري، الأعمال الكاملة، ج 1، ص 174 العدل الإم الإلهي ص 154.
2- الشرح: 5 - 6 وقال الشهيد المطهري في تفسير هذه الآية: (إن الله لم يقل: إن بعد العسر يسراً، وإنما قال: فإن مع العسر يسراً، بمعنى أن اليسر موجود في أحشاء العسر. وكما يقول المولوي إن الضد يحمل ضدّه، مرتضى المطهري، الأعمال الكاملة ج 1، ص .175

وَالنَّابِتَاتِ العِذْيَةَ أَقْوَى وَقُوداً، وَأَبْطَأُ خُمُوداً»(1).

أسباب توقف السعادة الأخروية على الشرور الدنيوية:

ربما يُشكل بعضهم هنا ويقول: لم يكن من الضروري فرض تحمّل كل هذه الآلام والمصائب والمحن والشرور في الدنيا على الإنسان من أجل الحصول على الجنة والسعادة الأبدية؛ وذلك لأن اللّه قادر مطلق، وعليه كان بإمكانه منذ اليوم الأول من الخلق أن يقيم حياة الإنسان في جنة الخلد. وبعبارة أخرى: إن المكافأة الأخروية كانت ممكنة أيضاً حتى قبل وضع الأوامر والنواهي الإلهية.

وقد التفت المتكلمون إلى هذا الإشكال منذ قرون، وقالوا: لا شك ولاريب في أن اللّه كان باستطاعته القيام بذلك، بيد أنه على هذا الفرض يبطل تكامل النفس وتساميها واستحقاق الثواب والأهم من ذلك إحراز مقام

الخلافة الإلهية من خلال اجتياز عالم التكليف والابتلاء والمحن(2).

فلو أنّ الإنسان قد أسكن الجنة من اليوم الأول، وتمكن من الحصول على النعم الإلهية بالمجان لما استحق هذه المكانة والمنزلة أبداً، وإنما سيكون ذلك مجرد تفضّل وتكرم ولطف من اللّه عز وجل، ولن يتجلى خطابه سبحانه وتعالى على أرض الواقع إذ يقول: نيَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةٌ * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي»(3)؛ إذ سيقوم الفرض

ص: 100


1- نهج البلاغة الكتاب رقم 45
2- سوف نستعرض آراء المتكلمين حول هذه المقولة في محلها. ويجب التذكير هنا بأن بعض المتكلمين أنكر استحقاق الإنسان للثواب الأخروي.
3- الفجر: 27 - 30.

على عدم امتلاك الإنسان لنفس حتى تتمكن هذه النفس من الوصول إلى مرتبة «الطمأنينة». في حين إذا تمكن الإنسان من بلوغ مرتبة الخلافة الإلهية، أو تمكن في الحد الأدنى من استحقاق الثواب الأخروي بسبب قيامه بالأعمال الحسنة والأفعال الصالحة سيكون له الفخر والمباهاة من جهتين؛ لأنه من خلال تحمّل المصائب والمحن يجعل نفسه مستحقاً لنداء «فادخلي»، وإن اللّه بدوره سيباهي بفعله وخلقه لمثل هذا الإنسان، وسيعبّر عن بديع صنعه بحسن مطلع مثل قوله:« إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً» (1)وحسن ختام مثل قوله:«فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ» (2)؛ وأما إذا لم يقترن العالم الراهن بالشرور، لن يعود من موضع لحسن هذا المطلع، ولا لحسن ذلك الختام، وما كان هناك من موضع للركون إلى استحقاق الإنسان أبداً.

الإجابة الخامسة: الشرور والكوارث اختبار وامتحان إلهيان:

إن الدنيا ساحة اختبار وابتلاء وامتحان للإنسان، كيما يتمّ التعرّف على الإنسان الحقيقي في حضرة الله سبحانه وتعالى. وللاختبار طرق شتى، ومن بينها ابتلاء الإنسان بأنواع الآلام والبؤس وبكلمة واحدة:إن الشرور والكوارث واحدة منها. وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك بقوله:

- «وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةٌ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ»(3).

ص: 101


1- البقرة: 30
2- المؤمنون: 14
3- الأنبياء: 35.

-«وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الْأَمْوالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرُ الصَّابِرِينَ»(1).

-«وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ»(2).

في هذه الآيات يقدّم اللّه نفسه على أنه هو علة ظهور بعض أنواع الشرور من قبيل الجفاف وأنواع الأمراض والفقر الاقتصادي، والابتلاء بأنواع البلاء المادي والجسدي، وذكر أن الدافع إلى ذلك يكمن في اختبار الإنسان وامتحانه قال العلامة الطباطبائي في تفسير الامتحان بالشر: «أي: ونمتحنكم بما تكرهونه من مرض وفقر و غيره»(3).

وقد جاء في بعض الروايات أن في الابتلاء تأديباً للظالم، واختباراً وامتحاناً للمؤمن، وامتيازاً وعلوّ مرتبة للأنبياء: «البلاء للظالم أدب، وللمؤمن امتحان، وللأنبياء درجة»(4).

الإجابة السادسة: الشرور عقاب على الذنوب:

ذكر القرآن الكريم بعض الشرور والبلايا بوصفها عقاباً على سوء أعمال الناس وانتقاماً وغضباً إلهياً. وقد صبّ في التاريخ على أمم، من قبيل: قوم عاد، ولوط، وفرعون، وأصحاب الأيكة، والحجر، وثمود. وفيما يلي نشير

ص: 102


1- البقرة: 155
2- الأعراف: 30.
3- العلامة محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج ،14 ص 282
4- انظر: محمد محمدي ري شهري، ميزان الحكمة 1 مادة (بلاء)، ص ج 493

إلى بعض تلك الآيات:

-«فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ»(1).

تشير هذه الآية إلى قوم فرعون الذين أغرقوا في البحر، بسبب طغيانهم ونقضهم للعهود.

- «فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ»(2).

إنّ هذه الآية ناظرة إلى إحدى العقوبات المهولة التي حاقت ببعض الأمم السابقة، وهم قوم لوط، وذلك بسبب ابتلائهم بالشرور والمفاسد الأخلاقية. كما تمّت الإشارة بعد هذه الآية إلى قصة أصحاب الأيكة والحجر أيضاً.

ويكفي في اهتمام القرآن الكريم بمسألة معاقبة المجرمين والمذنبين أن اللّه سبحانه وتعالى قد وصف نفسه بالمنتقم «ذو انتقام»، وقد تكرر هذا الوصف في القرآن الكريم لأكثر من ثلاث عشرة مرّة.

الإجابة السابعة: الشرور جرس إنذار وتحذير للفطرة:

لو كان الإنسان بمأمن من جميع أنواع الألم والبلاء والحزن والعناء، قد يستولي عليه تصوّر أن هذه الحالة التي هو عليها ستكون دائمة ومستمرّة، فتمتلئ جوانحه لذلك بروح التكبّر والغرور وقد يواجه الله عز وجل بنفس هذا التصوّر والشعور، فيرى نفسه فوق عبادة اللّه، ويبتلى بآفة النسيان والغفلة

ص: 103


1- الأعراف: 136
2- هود 82

عن اللّه سبحانه وتعالى فى حين أن الابتلاء بالشرور يمثل جرس إنذار يعيد الإنسان إلى الواقع ويذكره بوجود إله وراء أسرار الوجود. وهناك آية تشير إلى وجود هذا التصوّر الخاطئ لدى الإنسان؛ إذ يقول تعالى:«وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ الله أَنْدَادًا»(1).

بيد أن هذا الإنسان عندما يستولي عليه الألم والمرض والشرور أو يحدث نقصان في ثروته وممتلكاته، ينتبه إلى أن أصل حياته ليست دائمة، بل هي عرضة لأنواع البلاء، وإن صحته عرضة للانتكاسة، وإن ثروته - التي يباهي بها، وبسببها يبتعد عن الله وعباد الله - آيلة للنقصان والضياع بسبب صاعقة أو زلزال أو طوفان أو إفلاس أو سرقة وما إلى ذلك. وعند تجربة هذه الحقيقة على المستوى الشخصي أو من خلال الوقوف على تجارب الآخرين، يستفيق المرء وينتبه إلى واقعه وحقيقته حيث يدرك عندها أنه كائن عاجز وضعيف وعليه لا يكون هناك من مبرر للتكبّر في حضرة اللّه وفي التعامل مع الآخرين. ولا يجدر بصحته المؤقته أو ثروته الزائلة أن تبعده عن الله، أو تدعوه إلى ظلم نظرائه في الإنسانية، بل عليه الاستعاذة بالله على الدوام. وبحسب التعبير القرآني يجب على الإنسان أن يتضرع إلى الله ويتذكره ويرجع إليه:

-«وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنْ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ»(2).

ص: 104


1- الزمر: 8.
2- الأعراف: 30.

-«وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ»(1).

-«وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ»(2).

-«وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ»(3).

- «ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ»(4).

- «وَلَنْذِيقَنَّهُمْ مِنْ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ»(5).

الأمر الذي يعكس الدور الذي تلعبه هذه الأسباب فيما يتعلق بمسألة الشرور.

وقد بيّن الإمام علي علیه السلام أن من بين أسباب ابتلاء الإنسان بأنواع البلاء هو إخراج بذرة التكبّر من قلبه، وغرس بذرة التواضع بدلاً منها؛ إذ يقول: «وَيَبْتَلِيهِمْ بِضُرُوبِ الْمَكَارِهِ، إِخْرَاجاً لِلتَّكَبُرِ مِنْ قُلُوبِهِمْ، وَإِسْكَانَا لِلتَّذَلُّلِ فِي نُفُوسِهِمْ»(6).

ص: 105


1- الأعراف: 94.
2- الأنعام 42
3- الأعراف: 168.
4- الروم: 41
5- السجدة: 21
6- نهج البلاغة الخطبة رقم: 192 ، المعروفة ب- (القاصعة).

التواضع والبعد عن التكبّر:

إن الإنسان يحمل في ذاته أرضية خصبة للتكبر والغرور، فإذا كان الوضع العام للإنسان من جميع الجهات المالية والصحيّة والاجتماعية والمهنية وما إلى ذلك جيدة وحسنة للغاية، أمكن القول بأن التوهّم قد يستولى على الإنسان فيتصوّر أنه أفضل من غيره، أو أنه أفضل من كثير فى الحد الأدنى، فيبتلى بداء التكبّر والغرور والعجب بالنفس. فإن الشخص الذي يمتلك ثروات طائلة، وقصوراً ،فارهة، وتكون لديه أسر وأولاد منعّمون ويحتل منصباً اجتماعياً مرموقاً ويشغل وظيفة كبيرة، ويستقل سيارة حديثة مثلاً، يكون احتمال ابتلائه بالتكبر والعُجب كبيراً. ويكون هذا الشخص أحوج من غيره إلى سماع جرس الإنذار الذي يوقظه من نوم الغفلة وإن ابتلاء هذا الشخص بالمرض أو أي نوع من أنواع الشرور يمكنه أن يعيده إلى حقيقته، ويذكره بأنه كائن ضعيف وعاجز، وأن كل ممتلكاته وحتى صحته، عرضة للضياع والتلف في كل لحظة؛ وعليه لا يبقى عنده للتكبر والغرور والإعجاب بالنفس من موضع للإعراب أبداً، بل يجب على المرء أن يلبس رداء التواضع، والظهور بمظهر العجز والافتقار أمام الله والإحسان إلى عباده، وأن يشكر اللّه على النعم التي منّ بها عليه.

وقد ذكر الإمام علي علیه السلام أن هذه الحقائق هي التي تمثل فلسفة وجود الشرور والكوارث فى عالم الطبيعة، إذ يقول:

نوَيَبْتَلِيهِمْ بِضُرُوبِ الْمَكَارِهِ، إِخْرَاجاً لِلتَّكَبُّرِ مِنْ قُلُوبِهِمْ، وَإِسْكَانَا لِلتَّذَلُّلِ فِي نُفُوسِهِمْ»(1).

ص: 106


1- محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 6، ص 115.

وقال أيضاً: «وَلَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَبْتَلِي خَلْقَهُ بِبَعْضٍ مَا يَجْهَلُونَ أَصْلَهُ، تَمِيراً بِالْإِخْتِبَارِ لَهُمْ، وَنَفْياً لِلْإِسْتِكَبَارِ عَنْهُمْ، وَإِبْعَاداً لِلْخَيَلاَءِ مِنْهُم»(1).

الإجابة الثامنة: الشر معلول للجهل:

إن الشر الحقيقي هو ذلك الأمر الذي يكون بمجموعه شراً وبلحاظ جميع أبعاده ،وجوانبه وليس ببعض جهاته وأجزائه، بحيث لا يكون فيه أي نوع من أنواع الخير لصاحبه، أو أن يكون نفعه لا شيء بالقياس إلى أضراره فمثلاً ليس هناك من شكّ في أن الدواء المرّ أو مبضع الجراح يتسبب بالكثير من الألم، ولكن حيث يترتب على هذا الألم منفعة للمريض، فإنه لا يعدّ شراً أبداً، بل هو عين الخير والحُسن أيضاً. من هنا فإن كل ما يبدو شرّاً وألماً وحزناً للوهلة الأولى، ويتسرّع المرء في وصفه بالشر، إنما هو ناشئ عن الجهل وعدم العلم بجميع أبعاده وجوانبه والأسرار التي تكتنفه وتحيط به. ولو كشفت جمیع حجُب الجهل وأغطية الغفلة، لظهرت الوقائع على حقيقتها، ولما تعجل الإنسان في إصدار الحكم عليها بالشر.

إن نظرة الإنسان إلى الوجود، وخاصة فيما يتعلق بمقولة الشر، تقوم على النظرة الجزئية(2)، التى لا يُبصر فيها المرء أبعد من أنفه، ويجعل من هذه النظرة الضيّقة ملاكاً لإصدار الأحكام وتعميمها وإطلاقها على نحو شامل.

خذ بنظر الاعتبار رجلا معصوب العينين يهدى إلى فندق من خمسة نجوم، ولكنه يوضع في غرفة مخصصة للنظافة في سرداب الفندق، وهناك تفتح

ص: 107


1- المصدر أعلاه، ج 14، ص 465.
2- particularist.

العصابة من عينيه ليشاهد غرفة مفعمة بالغبار والرطوبة والظلمة، وبعد أن يُجبر على الإقامة في هذه الغرفة ليلة واحدة، يسمح له بالخروج له بالخروج من الفندق من دون أن يقف على حقيقة الغرف والطبقات الأخرى في هذا الفندق الفخم. فإذا كان هذا الشخص سطحياً في تفكيره، فإنه سيحكم على جميع غرف الفندق بأنها لا تليق بكرامة الإنسان، وأما إذا كان واقعياً وأدرك أن الغرفة التي حبس فيها ولم يسمح له برؤية غيرها ليست سوى مخزن أو قبو صغير لحفظ معدات تنظيف الفندق، لكان له حكم آخر.

وهكذا الأمر بالنسبة إلى الإنسان الذي ينظر إلى هذا الكون الفسيح أيضاً، فإنه إذا نظر إلى العالم برؤية شمولية لأعاد النظر في أحكامه الصادرة عن نظرته الضيّقة؛ وذلك لأننا نحن البشر نقيم ملاكات الخير والشر على أساس من مصالحنا العابرة والملازمة لأنانيتنا، والنظر إلى العالم من زاويتنا المحدودة، حتى يقول قائلنا : (وإذا متّ ظمآناً فلا نزل القطر)، بحيث نفسّر الأمور على وفق منفعتنا الشخصية المحدودة، وإن كل ما يصيب مصالحنا بأدنى ضرر - وخاصة مصالحنا الآنية والظاهرية - نحكم عليه بأنه شر، ونسلبه حق الحياة، ومن هنا فإننا لا نتردد في قتل الكائنات وخاصة الحشرات التي تزعجنا، بل وقد يعترض بعضنا أحياناً على خلقها من الأساس، وكأن حق الحياة حكر علينا فقط، وأن ليس للكائنات مثل هذا الحق في الحياة.

وبعبارة أخرى لمّا كانت رؤيتنا إلى الله تبدأ من الأسفل إلى الأعلى وتفهم الأمور السفلى على أنها نقص وخطأ، يحول ذلك من دون رؤيتنا إلى اللّه وصفاته الكمالية وإن هذا النوع من النظر يشوبه الغموض ويفتقر إلى الواقعية، من قبيل النظر إلى الصورة المنعكسة على صفحة المرآة الصدئة أو المغبرة، فإنّنا

ص: 108

لا نرى إلا صورة غامضة. وقد تمّ تقرير هذا الحل بين فلاسفة الغرب بصيغة أخرى، وسوف نشير إلى هذا التقرير في الصفحات اللاحقة إن شاء اللّه .

وقد تعرّض القرآن الكريم في العديد من آياته إلى جهل الإنسان وعدم معرفته بحقائق الأمور، وإن هذا الجهل يكون هو منشأ أخطائه في حكمه على الأشياء بالخير والشر، ومن ذلك قوله تعالى:

- «وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ»(1).

-«فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا»(2).

كما أشار الإمام علي علیه السلام إلى وجود أنواع النعم والبلاء في الدنيا، فقال:

«وَاعْلَمْ .. أَنَّ الدُّنْيَا لَمْ تَكُنْ لِتَسْتَقِرَ إِلا عَلَى مَا جَعَلَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ النَّعْمَاءِ، وَالْإِبْتِلاَءِ، وَالْجَزَاءِ فِي الْمَعَادِ، أَوْ مَاشَاءَ مِمَّا لا تعْلَمُ، فَإِنْ أَشْكَلَ عَلَيْكَ شَيْءٌ مِنْ ذلِكَ فَاحْمِلْهُ عَلَى جَهَالَتِكَ»(3).

من هنا فإن على الإنسان أن لا يسارع في الحكم على كل أمر يصيبه من جهة الطبيعة ويصفه بالشر، بل عليه أن يعدّه حلقة في سلسلة طويلة من حلقات الظواهر الكونية. وأن لا يبادر إلى وصف شيء بالشر أو الخير إلا بعد النظر في الدور الذي يلعبه ذلك الشيء الجزئي في العالم والكون بوصفه كلاً

ص: 109


1- البقرة : 216
2- النساء: 19
3- نهج البلاغة قسم الرسائل والكتب، الكتاب رقم: 31.

شاملاً؟ وقد سبق أن شرحنا هذه المسألة، حيث قلنا: إن بعض الأمور،من قبیل حرارة النار، وسيولة الماء، من لوازم عالم المادّة، أو أن اللّه من خلال التعويض عن بعض الشرور في الآخرة يعمل على تحويلها إلى نوع من الخير وهو ما سوف نتعرّض له في العدد القادم من هذه السلسلة إن شاء اللّه.

الإجابة التاسعة: الموت، انقطاع اللطف الإلهي:

وعلى الرغم من عدم وجود الشرّ بالذات وعلى الرغم من أن الكوارث الطبيعية هي من لوازم العالم المادي، فإن هذه الأمور تبقى تصيب عدداً - قليلاً أو كثيراً - من الناس بالأذى والضرر، وتتسبب لهم بخسائر في الأموال والأرواح، وخاصة قد يفقد الإنسان حياته أو يصاب بعاهة أو نقص فى أعضائه ولا يمكن للحلين والإجابتين السابقتين أن تقنع هؤلاء. وفي الإجابة عن هذه الشبهة يمكن لنا أن نستعين بالتعاليم الدينية، والقول:

لو أدت كارثة طبيعية، من قبيل الزلزلة أو البركان أو الطوفان، إلى موت شخص أو عدد من الأشخاص علينا أن نتساءل: ما هو الاعتراض أو الإشكال الذي يوجّه إلى اللّه سبحانه وتعالى في مثل هذه الحالة؟

لو قيل: لماذا تسبب الله بموت عدد من الأشخاص؟ وجب علينا التذكير بأن اللّه حيث كان هو الخالق والمالك والواهب لوجود الإنسان فإن استمراره في إفاضته الوجود والحياة في كل لحظة إلى عبده المملوك له، يُعدّ لطفاً ومنّة وتفضلاً منه؛ لأن العبد مدين بجميع وجوده إلى اللّه تعالى، وعليه أن يشكر اللّه على كل لحظة لحظات ،وجوده، وإن الإنسان في هذه الحالة أشبه بالمدين الذي يتعيّن عليه تسديد الدين إلى صاحبه في كل لحظة.

ص: 110

وإذ عمد اللّه إلى قطع هذا الفيض واللطف، لا يكون هناك أي مجال لاعتراض العبد إذ الفرض أن لا حق للإنسان أصلاً في هذا الفيض ليطالب باستمراره، وبعبارة أخرى ليس له على اللّه حق، حتى يقال إن اللّه لم يقم بما هو عدل إذ تجاهل حق عبده عليه.

الإجابة العاشرة الموت، انتقال إلى حياة أخرى:

لو ألقينا نظرة على موت الأشخاص بسبب الزلازل أو السيول بهذه العين الظاهرية، لوجدنا أن هذا الموت يعني خسارة لحياة مريحة، بل ربّما قلنا بأن الموت يعني ضياع لحياة مرفّهة، وعندما نبصر الأجساد المحترقة والمهشّمة في مثل هذه الحالة سوف نغرق في الحزن والأسى على أصحابها. إن منشأ هذه الشبهة يأتي من أننا نقصر النظر على هذه الحياة الدنيا، بحيث أننا ننكر أو نتجاهل حقيقة الحياة في الآخرة.

وأما إذا غيّرنا نظرتنا، وأمعنا النظر ودرسنا حقيقة الإنسانية وظاهرة الموت سندرك بوضوح أن حقيقة الإنسان تتقوم بروحه، وما الجسد سوى وعاء، أو على حدّ تعبير العرفاء: إن الجسد قفص والروح في داخله بمنزلة الطائر الحبيس. من هنا فإن مطلق الموت، بما في ذلك الموت بسبب الكوارث الطبيعية لا يعتبر فناء، بل هو انتقال من حياة وعالم إلى حياة وعالم آخر. وإن الواقع بالموت في الحقيقة إنما هو سفر وانتقال من موضع لآخر. وإن ما نشاهده من الأجساد المتهالكة إنما هي مجرّد أقفاص محطمة تمكنت الطيور التي كانت في داخلها من التحرّر منها من دون أن يصيبها اي ضرر بتحطم هذه الأقفاص وهكذا الأمر بالنسبة إلى ظاهرة موت الإنسان أيضاً، فالعطب الذي يصيب الجسد، لا يصيب الروح بسوء أبداً.

ص: 111

وعلى هذا الأساس لا يكون هناك أيّ شرّ في موت شخص أو آلاف الأشخاص فى الكوارث الطبيعية، لأن الحاصل بفعل هذا الموت إنما هو سفر يجب على الجميع أن يذهبوا إليه في يوم ما غاية ما هنالك أن هناك من يشدّ الرحال ويخوض هذا السفر قبل غيره.

إجابة عن شبهتين :

هناك شبهتان مطروحتان بشأن ظاهرة ،الموت وهما كالآتي:

1 - الموت، عنصر تعجيل العذاب الأخروي:

قد يؤمن البعض بأن الموت عبارة عن سفر وانتقال من مكان إلى آخر ولکنه ذلك قد يشكل ويقول : لمّا كان الموت يؤدّي بالمذنبين والعصاة إلى العذاب، ويعجّل عليهم العقوبة، وعليه فإنه لا يمكن أن يكون إلا شرّاً في مثل هذه الحالة.

وفى الجواب عن هذه الشبهة يجب القول أولاً إن أصل الموت بسبب الزلزلة مثلاً ليس هو الشر، وإنما يعود الإشكال إلى الشرور في عالم الآخرة، وهو ما سنبحثه في نهاية الكتاب. وثانياً: إن عنصر العذاب ليس هو الموت، بل أعمال المذنبين وأفعالهم القبيحة وثالثاً: إن الموت بسبب الكوارث الطبيعية يوجب رفع العذاب الأخروي أو التخفيف من وطأته وشدّته ، وهذا ما سيأتي توضيحه وشرحه لاحقاً إن شاء اللّه تعالى.

2 - الموت، عنصر زوال تكامل الإنسان:

قد يتمّ طرح الإشكال بهذه الصيغة: إن الموت بفعل الكوارث الطبيعية، يقضي على أرضية التكامل والحصول على مراتب الرقي أو يقضي على فرصة الإنسان المذنب للتوبة.

ص: 112

وفي الإجابة عن هذه الشبهة، نسترعى انتباه القارئ إلى الأمور الآتية:

1 - الموت معلول للعلل الطبيعية : إن الموت بسبب الكوارث الطبيعية لا يستند إلى اللّه بشكل مباشر بل كما يبدو من تسميتها ب- «الكوارث الطبيعية»، إنما تعود إلى العوامل والأسباب الطبيعية ونظام العلية، وكما ذكرنا مراراً وتكراراً فإن نظام العلية من لوازم عالم الطبيعة.

2 - الموت انقطاع للفيض واللطف الإلهي: لو قيل إن استناد الموت إلى قانون العلية، لا يستوجب عدم استناده إلى الله؛ إذ لا شك في استناد الأسباب والكوارث الطبيعية في نهاية المطاف إلى القدرة الإلهية ونقول في الإجابة عن هذا الإشكال إن الحياة بل وجود الإنسان برمّته، إنما هو نعمة وتفضل من اللّه على الإنسان إن الإنسان في حياته يسير نحو التكامل من خلال فعل الخيرات، وهذا منوط بدوره بتوفيق الله واستمرار فيضه أيضاً. وفي الحقيقة فإن الموت هو سلب لهذا التوفيق وانقطاع لمزيد من تكامل الفرد، ولا يمكن عدّه ظلماً وجوراً منافياً للعدل الإلهى، فلا يكون هناك مورد لهذا الإشكال. (وسيأتي مزيد من التوضيح بهذا الشأن في الصفحات القادمة إن شاء اللّه تعالى).

3 - جواب نقضي: إن تقرير هذا الإشكال يلزم منه عدم وجود الموت في عالم الدنيا أصلاً؛ ذلك لأنّ الإنسان لا يخلو من إحدى حالتين، فهو إما أن يكون مذنباً أو لا، وفي الحالة الأولى هناك متسع للتوبة، وفي الحالة الثانية هناك متسع للكمال والمزيد من التكامل. وإن الموت في كل وقت وفي جميع الأحوال يقضى على إحدى هاتين الحالتين، ولذلك يجب من أجل الإعداد لأرضية التوبة أو التكامل أن لا يكون هناك موت أبداً. بيد أن هذا الافتراض (عدم

ص: 113

الموت والخلود في الحياة المادية) لا ينسجم مع فلسفة الخلق. بعبارة أخرى: إنّ هذا الإشكال على الكوارث الطبيعية التي تؤدي إلى الموت وسلب التكامل عن الإنسان، لا يقتصر على الكوارث الطبيعية وإنما يأتي على جميع أنواع الموت أيضاً.

الإجابة الحادية عشرة: جبران الشرور والأضرار:

إن الإجابتين الأخيرتين (الموت بوصفه قطعاً للطف الإلهي، والموت بوصفه عنصر انتقال من عالم إلىآخر) لا تأتيان في تبرير الموت بسبب الكوارث الطبيعية، وحصول الأضرار والخسائر في الأموال والأرواح وبتر الأعضاء فقط. ولكن هناك نظرية كلامية تعمل على تبرير مطلق الموت والخسائر المادية والإصابة بالعاهات أيضاً، وهذا ما سنوضحه على النحو الآتي:

إن مفهوم الموت على الرغم من كونه انقطاعا للفيض واللطف الإلهي لأنّ التوفي من الاستيفاء بمعنى استرجاع الوديعة والأمانة، إلا أن اللّه سبحانه وتعالى سيأخذ بنظر الاعتبار حال العبد عند موته بسبب الكوارث الطبيعية، كما في حال موت الأم أثناء الوضع والولادة أو موت الطفل في حادث غرق أو ما إلى ذلك، وإنه لذلك سيعوّضهم عن ذلك سعادة في الجنة بما يتناسب ومنزلتهم، أو أنه سيخفف عنهم العذاب في الحدّ الأدنى.

يجهد بعض المتألهين - ومن بينهم المتكلمون في العالم الإسلامي - بعد اعترافهم بوجود الآلام والمصائب وأنواع الأضرار المادية والجسدية والروحية المترتبة على الكوارث الطبيعية في عالم الدنيا مما يصدق عليه عنوان الشر اجمالاً، ويسعون من أجل التوفيق بين هذه الشرور وبين اتصاف اللّه بالعدل

ص: 114

والحكمة. حيث عمد المتكلمون الإسلاميون من أجل إثبات مدعاهم - من دون إنكار وجود الشر، كما كان أكثر الفلاسفة يعتبرونه حلا للشرور - من خلال بيان أصل «التعويض» و «الانتصاف» كي يحدثوا نقباً في جدار الشر، وهو ما سنقوم ببيانه وشرحه لاحقاً.

إن الذي يبدو من تضاعيف نظريات المتكلمين، تقسيم الآلام والشرور إلى الأقسام الثلاثة الآتية:

أ - الآلام والمكاره التي يكون الإنسان هو السبب في إيجادها. كأن يتعمد الفرد في إدخال يده في النار والتسبب بجرح نفسه أو إلحاق الضرر بجسده من خلال تناول أنواع الأمور الضارة رغم علمه بضررها، من قبيل الإدمان على التدخين أو أنواع الكحول مثلاً.

وفي هذا القسم ليس هناك - على ما يبدو - من يلقي باللائمة على الدين والتعاليم الدينية سواء من الموافقين أو المخالفين.

ب - الآلام والمعاناة التي يتسبب بها إنسان في حق إخوته في الإنسانية، كأن يقوم ظالم بضرب شخص ضعیف مظلوم أو يجرحه أو يسلبه أمواله وممتلكاته، أو أن يتسبب شخص مثل نيرون أو صدام أو الحجاج بقتل

آلاف الأبرياء.

وفي هذا القسم من الشرور يذهب المتكلمون إلى الاعتقاد بأن الإنسان وإن كان هو المسؤول عن هذه الآلام والمصائب بشكل مباشر، إلا أن هذه الجرائم حيث تصدر عنهم بتمكين اللّه لهم وإقدارهم على ذلك، فإن السؤال عن هذه الشرور سيتجه في نهاية المطاف - شئنا أو أبينا - إلى الله أيضاً. وعليه يجب الانتصاف للمظلوم من الظالم وأخذ الحق من الجائر وإعادة الأمور الی نصابها الطبيعي.

ص: 115

وإنّ اللّه تعالى إما أن ينتصف للمظلوم من الظالم، ويعيد كيد الظالم إلى نحره في هذه الحياة الدنيا، أو أنه سيؤجل ذلك إلى يوم البعث والنشور، وهذا الأمر هو الذي يعبّر عنه ب-«أصل الانتصاف». وأما في كيفية حصول ذلك، فهناك أقوال مختلفة. فمثلاً هناك من يرى أن اللّه سيجمع حسنات الظالم ويضعها في ميزان حسنات المظلوم أو أن يجمع سيئات المظلوم ويضعها في ميزان سيئات الظالم، أو أن اللّه يبادر إلى زيادة حسنات المظلوم ويجزيه من ،فضله، وعندها لن يتغاضى المظلوم عن الظلم الذي لحق به من الظالم، وإنما سيسعد بما يعطيه الله تعويضاً عما لحقه من ظلم، ويرضى بفضل اللّه.

ج - الآلام والمصائب التي تتسبب بها القوانين الطبيعية، وتستند إلى اللّه سبحانه وتعالى من قبيل أن يفقد الإنسان حياته بفعل هزة أرضية أو غرق في البحر أو سقوط من شاهق، أو أن يتعرّض لجروح عميقة أو يصاب بآفة أو مرض عضال يبتليه اللّه به مباشرة لأسباب وعلل كثيرة من قبيل الاختبار والامتحان مثلاً(1).

مسألة التعويض

في هذا النوع من الشرور والآلام التي لا تكون هناك واسطة بينها وبين الله ، قال المتكلمون الإسلاميون بوجود التعويض والجبران من باب أولى، حيث

ص: 116


1- كما أن هذا القسم ينقسم بدوره إلى الآلام الابتدائية والآلام الاستحقاقية. حيث يعبّر عن الآلام والمصائب التي ينزلها الله على العباد عقوبة لهم أو انتقاماً منهم ب-- ( الآلام الاستحقاقية)، ولا نقاش في حسن هذه الآلام من دون حاجة إلى تبرير أو تعويض، ولذلك أحجمنا عن بيانها في النص، خلافاً للالام الابتدائية التي يكون باب النقاش مفتوحاً أمامها.

يعتقدون أن على اللّه أن يكافئ الناس في هذه الدنيا أو في الآخرة تعويضاً عن جميع الآلام والأحزان التي أصابتهم. ويتمّ التعبير عن هذا الأصل في المصطلح الكلام ب- «التعويض» أو «الأعواض».

ولا تزال هناك بحوث دقيقة أخرى من قبيل: هل يستطيع اللّه سبحانه وتعالى أن يبتلي الإنسان بالألم والمصائب من باب «التعويض» ولو أضعافاً مضاعفة أم يجب بالإضافة إلى «التعويض» أن يكون هناك غاية أخرى من قبيل: «اللطف» مثلاً؟ يمكن العثور على تفصيل ذلك في الكتب الكلامية.

نفهم من خلال قراءتنا ودراستنا لآراء المتكلمين أنهم يسلمون بوجود بعض النواقص والشرور في عالم الطبيعة، ولكنهم يبررون ذلك بالقول: لمّا كانت نهاية هذه الشرور ستكون لصالح الناس فلا يمكن عدّها شروراً حقيقية في واقع الأمر، بل هى مجرّد أمور ضرورية للإنسان من أجل اختبار صبره على البلاء، كيما يرتقي على درجات سلّم الكمال، ويصل إلى بحبوحة السعادة والرخاء.

المعاصرون:

هناك إشارة من قبل بعض المفكرين المعاصرين إلى هذه الرؤية الكلامية. إذ ينقل أن الأستاذ الشهيد مرتضى مطهري قال في جوابه عن إشكال طرحه أحد تلاميذه عندما استعاد نظرية المتكلمين القائلة: (إذا لم تقرن مسألة المحاباة والفوارق الموجودة في هذه الدنيا بمسألة الآخرة، لن نستطيع تبرير هذه المظالم، وعليه يجب علينا إما الإقرار بوجود مقدار من الظلم والجور في عالم الطبيعة، وقد أراده صانع الطبيعة وخالقها، وإما أن نقول بأن هذه الأمور سيتم التعويض عنها يوم القيامة)؛ فقال سماحته في معرض الجواب عن ذلك وبيان سبب عدم إشارته إلى نظرية المتكلمين:

ص: 117

«إن سبب عدم ذكري لهذه المسألة يعود إلى أن المتكلمين يفكرون وكأن اللّه قد خلق القيامة كي يعوّض عن هذه النواقص في ذلك اليوم. كما لو قام بلد ببناء منظومة جزائية ومحكمة قضائية لتعديل هذه النواقص والثغرات... يمكن القول إن جميع هذه النواقص والثغرات يتمّ ضمانها في يوم القيامة دون أن نعتبر القيامة حالة طفيلية. والسبب الذي يدفعني إلى قول ذلك هو أنني لا أريد هنا أن أتبنى منطق المتكلمين»(1).

يبدو أن الأستاذ الشهيد مرتضى مطهري يسلم بنظرية المتكلمين القائمة على عدم تبرير بعض النواقص والظلم إذا لم يتم التعويض عنه في الآخرة، ولا يُشير إلى أي واحد من الحلول الأخرى.

أما الأستاذ العلامة محمد تقي جعفري، فيقول:

«فيما يتعلق بحل إشكال الشرور ، يمكن القول هناك خطأ في استعمال كلمة الشر فيما نحن فيه ولو أننا استبدلنا كلمة الشر بالألم وعدم الراحة لن نكون قد تفوّهنا بما يخالف الواقع والحقيقة بالنظر إلى مسار الظواهر والشؤون الإنسانية، بل نكون منسجمين مع الضرورة المنطقية أيضاً. فإن كلمة الشر تحمل في أحشائها نقيض الخير، وهو مفهوم مساوق للظلم والجور [تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ](2).

ما ورد في الروايات من التعويض عن أنواع الشرور والمنغصات :

تمّ التأكيد كثيراً فى الروايات المتواترة والمأثورة عن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم

ص: 118


1- مرتضى مطهري، (التوحيد)، ص 320 - 321.
2- محمد تقي جعفري، جبر واختيار ص 269 وانظر أيضاً علي رباني كلبايكاني، جزوه عدل وحكمت الهي، ص 37.

وأئمة الهدى علیهم السلام على مسألة الشرور وأصل «التعويض» و«الانتصاف». وفي هذا المجال تتمّ الإشارة إلى العناوين الهامة وجوهر مسألة الشر كما ينظر إليها

الناس:

1 - الموت والفناء الناشئ عن الكوارث الطبيعية

إن من بين المصاديق البارزة للشر هو موت الأبرياء بسبب الكوارث الطبيعية من قبيل: الهزات الأرضية، والبراكين وتفشى الأمراض والأوبة وما إلى ذلك. يقول أئمة الدين: صحيح أن الشرور والبلايا قد تطال بعض الأفراد، الذين ربما بلغوا المراتب الروحية العالية لو قدّر لهم البقاء على قيد الحياة، إلا أن الخالق المنّان سيعوّض في الآخرة عن هذا النقص والألم الناجم عن هذه الكوارث الطبيعية بشكل أفضل وأحسن ، بحيث أن الذين يبتلون بهذه المصائب لن تكون لهم أي شكوى من جراء ما أصابهم.

تمّت الإشارة في كثير من الروايات إلى الموت الناجم عن الأمراض المختلفة والكوارث الطبيعية، وقد عدّت هذه الروايات الذين يفقدون أرواحهم في هذه الحالات بحكم الشهداء». ففي بعض الروايات يسأل النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بعض أصحابه من هو الشهيد ؟ فقالوا: إن الشهيد هو الذي يقتل في سبيل اللّه على أرض المعركة؛ فقال النبي: إذن سيكون عدد الشهداء قليلاً. وقد تمّ التصريح في هذه الرواية الشريفة بأن الذي يموت بسبب الطاعون، أو البَطَن [نوع من الأمراض التي تصيب البطن] والغرق، والذي يسقط عليه سقف أو

جدار، فله أجر الشهيد.

وجاء في رواية أخرى: «الطاعون شهادة لكل مسلم»(1).

ص: 119


1- انظر : محمد محمدي ري شهري ميزان الحكمة، ج 5، ص 198.

ما تحدثنا عنه حتى الآن من أنواع الموت والوفيات يرتبط بالوفيات الناجمة عن الكوارث الطبيعية، أمّا فيما يتعلق بالموت الذي يتسبب به الظلمة والمجرمون في العالم فسيأتي الحديث عنه في الفصل الخامس (الشرور والظلم في العالم الإنساني). ومن بين الإجابات عنه، هو القول بنظرية التعويض وإعطاء الثواب. فطبقاً لكثير من الروايات إن الذي يقتل دفاعاً عن نفسه أو أهله أو ماله أو حقه كان له أجر الشهيد وإليك بعضاً من هذه الروايات:

- «من أريد ماله بغير حق؛ فقاتل فقتل، فهو شهيد».

- «من قتل دون أهله، فهو شهيد».

- «من قتل دون ماله، فهو شهيد».

- «من قتل دون مظلمته، فهو شهيد»(1).

2 - أنواع الأمراض:

إن من بين المنافذ التى يتسلل الشر من خلالها إلى الحياة البشرية هو ابتلاء الفرد بأنواع الأمراض المؤقتة أو الدائمة وأحياناً يعاني الإنسان بسبب هذه الأمراض آلاماً مبرّحة، أو ربما لا تطاق أبداً. وإن الاستدلال ب- «عدمية «الشر» أو القول بأن «الشرّ من لوازم إدراك الخير وما إلى ذلك قد لا يُقنع هؤلاء الأفراد؛ إذ يمكن لهم الاعتراض والقول: لماذا يتعيّن علينا نحن بالذات أن نتحمل هذه الآلام دون غيرنا ولماذا يتعيّن علينا نحن التضحية بأنفسنا لصالح الأكثرية، أو أن نكون وسيلة لإدراك الآخرين للخير الذي نحرم منه؟ إلا

ص: 120


1- انظر: المصدر أعلاه، ص 196.

أن الإجابة التي يقدّمها المتكلمون والتي تقوم على أن اللّه سيعوّض هؤلاء الأفراد عن جميع المصائب والآلام التي نزلت بهم ويثيبهم عليها أضعافاً مضاعفة تبدو معقولة. من هنا تمّ التصريح بهذه الحقيقة في الروايات المأثورة الأئمة المعصومين علیهم السلام، وهي أن اللّه سيضاعف الأجر والثواب لمن يتحمل الآلام الناجمة عن أمراض من قبيل: الصداع والحمّى والتخلف الذهني والإعاقة الجسدية، بل وحتى الحزن والكآبة وما سوى ذلك.

قال الإمام أبو عبد الله جعفر الصادق علیه السلام في تبرير العاهات الجسدية، من قبيل: العمى والصمم: إن اللّه سيعطي هؤلاء من الأجر والثواب يوم القيامة إذا صبروا وتحمّلوا، بحيث أنهم لو خيروا بين العود إلى الدنيا وتحمل العناء ذات الأمراض ثانية، أو البقاء في نعيم الجنة؛ لاختاروا العودة إلى الدنيا وتحمل الآلام لما يجدونه من مضاعفة الأجر على البلاء، وإليك نص الحديث:

«ثم إن للذين تنزل بهم هذه البلايا من الثواب بعد الموت إن شكروا وأنابوا ما يستصغرون معه ما ينالهم منها . حتى أنهم لو خُيّروا بعد الموت؛ لاختاروا أن يردّوا إلى البلايا، ليزدادوا من الثواب»(1).

وروي عن الإمام الرضا علیه السلام أنه قال في بيان الفلسفة الوجودية لأنواع الأمراض:

«المرض للمؤمن تطهير ورحمة ، وللكافر تعذيب ولعنة، وإن المرض لا يزال بالمؤمن حتى لا يكون عليه ذنب»(2).

ص: 121


1- محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 3، ص 71.
2- الشيخ الصدوق، ثواب الأعمال وعقاب الأعمال، ص 429.

ومما ورد في الروايات بشأن الحمّى:

«إن المؤمن إذا مُحمّمي واحدة تناثرت الذنوب منه كورق الشجر، فإن أنّ على فراشه فأنينه تسبيح، وصياحه تهليل وتقلبه على فراشه كمن يضرب بسيفه في سبيل اللّه»(1).

و مما ورد في الصداع، قوله علیه السلام:

«صداع ليلة يحطّ كلّ خطيئة، إلا الكبائر»(2).

وعلى هذا الأساس عندما ننظر إلى الآلام والشرور من الزاوية العرشية، نصل إلى هذه النتيجة وهي أن الشرور تتضمّن المعاني العميقة ،والمبررة، وإن نسبة عبثية الشرور إلى «الدين» تحكي عن عدم معرفة الدین(3).

3 - الفقر والفاقة

إن الفقر والفاقة من الآفات التي تصيب المجتع البشري. وإن وجود التفاوت الطبقي الواسع بين مختلف فئات المجتمع، يثير كثيراً من الشبهات والأسئلة بشأن اتصاف اللّه بالصفات الكمالية.

وهنا لسنا بصدد تحليل ومناقشة أسباب الفقر الاقتصادي وعلله

ص: 122


1- المصدر أعلاه، ص 427
2- المصدر أعلاه ص 430
3- انظر حسين بشرية، دولت عقل ص 194 . يُصادف المؤمنون في حياتهم اليومية حوادث تعد اعتباطية في الرؤية الدينية وفاقدة للتوضيح من قبيل: مسألة الشر والألم والحزن الذي يُصيب المؤمنين الحقيقيين).

والمسائل ذات الصلة بهذه الظاهرة، ولكننا نقول: ليس هناك من شك في أن هناك في العالم الراهن شروراً وآلاماً تطال الفقراء والمعوزين وتتركهم فريسة للعذابات الروحية والجسدية.

ولا يمكن الاستناد إلى الحلول الفلسفية المتقدّمة في حلّ هذه الشبهة، إذ تقدم بيان ضعف أدلتها، وإنما يبدو أن بالإمكان أيضاً حل عقدة هذا الإشكال من خلال التمسّك بالروايات التي فتحت باب قاعدة «التعويض»

و «الانتصاف».

فقد ورد الوعد في هذه الروايات للفقراء والمساكين الذين تقصر أيديهم عن بلوغ منافع الدنيا والاستمتاع بملذاتها، بأن يتمّ تعويضهم وجبران ما فاتهم يوم القيامة، وقد اشتملت هذه الروايات على ثناء ومديح للفقراء، وسنقدم تقريراً كاملاً بها في معرض الإجابة عن شبهة «المحاباة والتفريق في توزيع الفقر والثروة» في الفصل القادم إن شاء اللّه تعالى.

ص: 123

ص: 124

الفصل الثالث: الشرور والحكمة من خلق البهائم

الشرور والحكمة من خلق البهائم

ص: 125

ص: 126

الشبهة الأولى: افتراس البهائم القوية والكاسرة للبهائم الضعيفة:

يحكم عالم الحيوانات والبهائم قانون يُعرف بقانون «الصراع من أجل البقاء»، وطبقاً لهذا القانون يقوم الحيوان القويّ بافتراس الحيوان الضعيف وجعله طعاماً له. وقد شاهدنا في كثير من الأفلام الوثائقية مشاهد يقوم بها العقاب بافتراس أرنب أو الأسد بافتراس ظبي، ويقومان بنهش لحمهما وأكلهما !

وعليه ألا يحق للحيوان الضعيف أن يعترض ويقول: لماذا خلق العالم بشكل يجعل منى أنا الضعيف طعاماً لمن هو أقوى مني؟ وهل ينسجم هذا مع مفهوم العدل ؟

إن هذه الشبهة شائعة بين عامة الناس وقد سعى بعض الفلاسفة إلى الإجابة عنها(1).

ص: 127


1- لقد وصف صدر المتألهين هذه الشبهة قائلاً بأنها الشبهة التي تحيّرت فيها العقول. ثم استعرض إجابات بعض المذاهب والنحل من قبيل نسبة هذه الشرور إلى إله الشر [أهريمان] (في الديانات الثنوية)، أو نسبتها إلى النجوم والكواكب، أو معاقبة الحيوان الضعيف على ظلم صدر عنه بحق الحيوانات الأخرى جواب القائلين بتناسخ الأرواح)، وإقرار البعض بالعجز والجهل، ثم بادر إلى حلّ هذه الشبهة بنفسه من خلال تقديم إجابتين وهما: (1 - المنفعة والمصلحة العامة. 2 - حسن استفادة الموجود استفادة الموجود الأعلى من الموجود الأدنى)، وسوف نتعرض إلى ذلك في الصفحات القادمة إن شاء الله. (انظر: صدر المتألهين الشيرازي الحكمة المتعالية في الأسفار الأربعة، ج 7، ص 98 - 101).

تحليل ومناقشة :

على الرغم من أن غريزة أكل الحيوانات للحوم قد تبدو للوهلة الأولى قاسية بالنسبة إلى المشاهد إلا أن هذه الغريزة تشتمل على كثير من الفوائد للحيوان والإنسان والبيئة، وفيما يأتى نشير إلى هذه الفوائد على النحو الآتى:

1 - السيطرة على دورة حياة البهائم وفوائدها:

إن وجود الحيوانات بشكل متعادل نافع للطبيعة والإنسان وحتى الحيوان نفسه بل إنه ضروري وإن من بين عناصر إيجاد التوازن في دورة حياة الحيوان هو غريزة الافتراس لدى بعض الحيوانات وتوفير الغذاء لنفسها من خلال توظيف هذه الغريزة بمعنى أن تكاثر نوع واحد من أنواع الحيوانات بما يزيد عن الحد مضرّ بالطبيعة والحيوانات الأخرى والإنسان. على سبيل المثال: إن الفئران من خلال اصطيادها لحشرات من قبيل: الجراد، تعمل على

ضبط إيقاع تكاثرها، وبذلك يكون لها دور غير مباشر في الحيلولة من دون إضرار هذه الحشرات بالحقول والمحاصيل الزراعية ؛ وعليه فإن وجود الفئران في الحدود الطبيعية والكافية مهمّ للبيئة والطبيعة والإنسان، كأهمية السيطرة على دورة حياة الجراد والحشرات الأخرى. كما أن ارتفاع أعداد الفئران فوق

ص: 128

المستوى الطبيعي سيضرّ بدوره على مزارعنا، وسيؤدي أيضاً إلى انقراض أنواع ،الحيوانات مثل الجراد والحشرات الأخرى. ولذلك كان لا بدّ - لإعادة التوازن إلى الطبيعة وتنظيم دورة حياة الكائنات - من خلق حيوانات أقوى من الفئران، مثل: العقبان والأفاعي والقطط.

ويمكن إدراك المغزى المتقدم في الحيوانات البحرية بشكل أفضل، وذلك لأن الحياة النباتية فى البحار قليلة ونادرة جداً، ولا يمكن أن تقارن بأعداد الأسماك الموجودة في البحار، فإذا لم تكن أكثر الأسماك لاحمة، فإنها ستواجه أزمة غذائية، وسينقرض نسلها بعد فترة قصيرة وهو أمرٌ سينتهي إلى فناء الجزء الأعظم من الحيوانات البحرية، وتبعاً لذلك سيُحرم الإنسان من أهم مصادره الغذائية. وعليه فإن الإشكال المتقدم في الوقت الذي كان يسعى إلى الدفاع عن الحيوانات إلا أن اللازم من العمل على طبق الإشكال الذي يدعو إلى (عدم خلق الحيوانات اللاحمة)، سيؤدي إلى فناء الكثير من الحيوانات وانقراضها. وبعبارة أخرى: إن المستشكل من خلال إشكاله سيكون كالذي يحاول الهرب من المطر، فيلجأ إلى الميزاب وعليه لا بد من وجود غريزة أكل اللحوم عند بعض الحيوانات للمحافظة على التوازن والسيطرة على أعداد الحيوانات.

2 - السيطرة على دورة حياة النباتات والحياة البشرية:

لو أصبح النبات هو مصدر الغذاء الوحيد لجميع الحيوانات، فإن هجوم جميع الحيوانات على أكل النباتات قد يعرّض أصل وجودها في بعض المناطق إلى خطر الانقراض. فمثلاً عندما تكون النباتات والأشجار في بداية نموّها، إذا شرعت جميع الحيوانات بأكلها فإن ذلك سيعيق نموّها. وإن استمرار مثل هذه

ص: 129

الحالة سيؤدي إلى القضاء على النباتات، أو في الحد الأدنى عدم توفّرها في الحدّ الكافي، وهذا بدوره سيؤدّي إلى موت أعداد كبيرة من الحيوانات ولكن يجب التدقيق في أن كلتا الحالتين (ارتفاع عدد الحيوانات، وانخفاض النباتات أو وجودها القليل جداً، وعكس ذلك، الذي يعنى انقراض الحيوانات) لن يكون في مصلحة الإنسان؛ وذلك لأن الإنسان يحتاج في حياته الطبيعية إلى كلا الأمرين، وعليه فإن انخفاض عديد كل واحد منهما، سيخلق مشاكل جمّة وينقّص عليه حياته. وإن أفضل الطرق وأسلمها هو الحفاظ على التوازن

والاعتدال فيما بينهما.

وإن الخالق الحكيم لكي يقيم التوازن في دورة الحياة، جعل بعض الحيوانات لاحماً والبعض الآخر نباتياً، حتى إذا انخفض عدد الحيوانات اللاحمة، حلّ التوازن والتعادل فيما بينها وبطبيعة الحال فإن هذه العلاقة في بعض الموارد - كما هو الحال في المناطق الصحراوية أو في بعض فصول السنة كالصيف مثلاً - علاقة عكسية. بمعنى أنه مع ازدياد نسبة النباتات، سترتفع أعداد الحيوانات بالتدريج حتى تتجاوز الحدود بمرور الأيام، وهذه الوتيرة تؤدي - بطبيعة الحال - إلى انخفاض في نسبة النباتات، وإن هذا الانخفاض يؤدّي بدوره إلى موت كثير من الحيوانات وبعد مرور فترة تنعكس النسبة، بمعنى أنه بعد انخفاض عدد الحيوانات تبدأ النباتات بالازدياد، وهكذا دواليك حيث يمكن أن تستمر هذه الدورة بشكل متسلسل وهكذا يمكن تشبيه دورة الحياة على الأرض بين الحيوانات والنباتات بكفتي ميزان، فإن ارتفاع إحدى الكفتين يعني بالضرورة انخفاض الكفة الأخرى، وإن هاتين الكفتين في حالة تأرجح مستمر.

ص: 130

3 - الحيلولة دون تلوّث البيئة :

لو لم تغتذ الحيوانات على لحوم بعضها للزم من ذلك إهدار لحوم وأجساد الحيوانات التي تنفق بالموت الطبيعي والأهم من ذلك أن بقاءها على الأرض وعدم أكلها سيؤدي إلى تفسّخها وتلويث البيئة، وهذا يعرّض سلامة الحيوانات الأخرى والإنسان إلى الخطر.

وأمّا إذا كان هناك من الحيوانات ما يعيش على أكل لحوم الحيوانات الأخرى (حيّة أو ميتة)، فلن يبقى هناك من جسد على الأرض لحيوان نافق، إذ هناك من الحيوانات ما يفترس الحيوانات الحيّة الأخرى، وتأكل بعضها وتترك بقاياها للضباع والعقبان التي تعيش على أكل الجيَف؛ لتقوم بتنظيفها. إن نظام الطبيعة يعمل على وفق آلية دقيقة بحيث لا يبقى على الجثة شيء من اللحم، حيث تتولّى الديدان الصغيرة عملية تجريد العظام مما يعلق في ثناياها من اللحوم. وبعبارة أخرى: إن بعض الحيوانات تلعب دور الدفان أو عمال النظافة، بحيث أنكم لو دخلتم غابة مليئة بالحيوانات، لا تجدون منها جسداً مرمياً على الأرض سوى ما كان من بعض العظام(1).

4 - الموت الطبيعي هو البديل الأسوأ

في مناقشة الإشكال المتقدّم يجب القول: لو لم يحدث موت الحيوان بسبب افتراسه من قبل حيوان آخر، لن يجديه ذلك نفعاً، ولن يكون له مناص من الموت. وإنما يبقى أمام الحيوان خيار واحد فقط، وهو أن يقضي بعد بضعة أشهر أو سنوات بفعل المرض أو الشيخوخة وتفتت خلايا جسده ولكن يجب

ص: 131


1- انظر: صدر المتألهين الحكمة المتعالية في الأسفار الأربعة، ج 7، ص 101.

الالتفات إلى أن هذا النوع من الموت من حيث تحمّل الألم والعذاب أسوأ وأقسى بكثير من الموت افتراساً من قبل حيوان آخر؛ إذ إنّ عالم الحيوانات -خلافاً للعالم الإنساني - لا يرغب فيه الحيوان أو لا يستطيع أن يرعى أو يدارى الحيوان الآخر المريض والعاجز عن إعداد طعامه؛ وعليه فإن مثل هذا الحيوان سيبقى يصارع الجوع والعزلة والألم، وقد يبقى على هذه الحالة أياماً طويلة، وقد تمتدّ لأشهر وأما في عالم البشر ، فحيث تسود مشاعر المحبّة والقرابة من جهة، والقدرة على رعاية المريض من جهة أخرى، سيكون وضع الإنسان مختلفاً عن وضع الحيوان اختلافاً شاسعاً. وعلى هذا الأساس سيكون تحمل ألم الموت لدقائق معدودات فى لحظات الافتراس من قبل حيوان أقوى أهون بكثير من الموت الطبيعي(1).

وعلى هذا الأساس فإن مقتل الحيوان الضعيف وأكله من قبل الحيوان القوي إنما يؤدي إلى التعجيل في موته ومن هذه الناحية لا يكون هناك ما يقوّض العدالة؛ لأن واهب الوجود والحياة للحيوان هو اللّه، ومن حقه أن يمتنع عن إفاضة الحياة في كل لحظة، وإنما الشبهة كانت تركز على تحمّل الألم عند الافتراس، وقلنا: إن الأجل الطبيعي ينطوي على ألم ومعاناة أكبر وأشد من ألم الموت افتراساً.

5 - الموت قبل الأوان مقدمة للرقيّ والتحوّل:

إن الموت المفاجئ يكون بسبب العوامل غير الطبيعية، كما لو كان

ص: 132


1- في أثناء كتابتي لهذه السطور، كان أحد أولادي قد اشترى مجموعة من صغار الدجاج، وقد أصيب واحد منها بالمرض وقضى أيامه الأخيرة وحيداً ومقعداً وضعيفا، ويحتمل أن فترة احتضاره وموته قد اقترنت بكثير من المعاناة والألم.

متوسط عمر الحيوان يُقدّر بخمس سنوات؛ فيموت في عامه الثالث بسبب افتراسه من قبل حيوان أقوى منه؛ وعليه فإن الموت المفاجئ يكون في قبال الموت الطبيعي.

من خلال نظرة إلى الروح، أو النفس بحسب تعبير الفلاسفة - الأعم من النفس النباتية أو الحيوانية و الإنسانية - يتضح أن نظام الطبيعة يقوم على قتل النفس أو سلب غضارة الشباب من باب المثال : يتمّ قطف النباتات حالة إيناعها من قبل الحيوانات أو الإنسان باعتبار أن هذه المرحلة هي المرحلة المثالية لأكلها. فالمزارع يقوم بحصد المحاصيل الزراعية في ذروة اخضرارها وحياتها النباتية، ويقطف الأزهار في قمة تفتحها وجمالها، ويجني الثمار والفواكه من أغصان الأشجار وهي في ذروة إيناعها، ويقطع عليها مواصلة الطريق في حياتها ونفسها النباتية.

كما تقوم النباتات بدورها في بداية نموّها بالحصول على كثير من القرابين والأضاحي، من قبيل الأملاح ومختلف المواد المعدنية من التربة والمياه.

يبدو أن هذا القانون يُعدّ من كمالات النظام فى العالم المادى والطبيعي وإلا فإن النبات لو واصل المضي بنفسه النباتية وتقدم في عمره الطبيعي بشكل كامل، فإن مصيره سيكون هو الذبول من دون أن تنتفع منه سائر الكائنات والموجودات الأخرى من باب المثال : إن العلف إذا لم يؤكل من قبل الماشية، فإنه سيصفر ويجف ويذبل وهكذا الحال بالنسبة إلى الأزهار والفاكهة. والمسألة الدقيقة اللافتة للانتباه في هذا المسار هي أن التضحية بالوجود الضعيف لصالح القوي، ستعني أن الضعيف سيطوي مسيرته التكاملية من خلال الوجود القوي. فمثلاً إن الأملاح في التربة والماء ستخرج من الحالة الجمادية و ترتقي إلى الحالة النباتية وإن النباتات ستخرج من الحالة النباتية وترتقي

ص: 133

إلى الحيوانية والحيوانات ستخرج من الحالة الحيوانية وترتقى إلى الإنسانية(1).

كما أنّ الحيوانات عندما تموت بالموت الطبيعي، ستظلّ أجسادها مرمية على الأرض من دون فائدة، وتكون مثل الثمرة التي تنضج وتسقط على الأرض وتمتزج بالتراب؛ وعليه فإن من لوازم الحياة تطوّر عالم الطبيعة ونمائه من خلال التبدّل والتحوّل عبر المراحل، حيث يفقد الموجود الأدنى جزءاً من وجوده السابق ويحصل على وجود أكمل. وأما إذا صار البناء على توقف هذه العملية، ولم يعد القوي يغتذي على الضعيف فإن عالم الطبيعة بأسره سيتوقف. من باب المثال أن يمتنع الحيوان - بسبب امتلاكه للنفس الحيوانية - عن أكل النباتات بسبب امتلاكها للنفس النباتية، حتى يموت من الجوع، وكذلك يمتنع الإنسان - لذات الأسباب وهي امتلاك النباتات والحيوانات للنفس النباتية والحيوانية ) - من التغذية على النباتات والحيوانات، حتى يموت جوعاً(2).

واضح جداً أن الالتزام بهذه اللوازم يعني توقف نظام عالم الطبيعة برمّته، وانقراض جميع الكائنات الحية عليها، لانعدام ما تغتذي عليه.

ص: 134


1- لا يخفى أن هذا الكلام لا يخلو من مناقشة؛ لأننا لو سلمنا دورة التكامل عبر اجتذاب عناصر الضعيف من قبل القوي والانتقال من الجماد إلى النبات، ومن النبات إلى الحيوان، ومن الحيوان إلى الإنسان، نجد في المقابل حالات يكون فيها الإنسان طعاماً للحيوان، وهناك بعض النباتات التي تتغذى على الحشرات، وإن مآل جميع الأجساد إلى التراب لتتحول إلى أملاح في التربة وفي مثل هذه الحالة تتحول النفس الإنسانية إلى حيوانية والنفس الحيوانية إلى نباتية، ومن ثَمَّ تتحول النفس النباتية والحيوانية والإنسانية إلى جماد عندما تدفن في التراب وتتحول إلى أملاح ومعادن، وفي هذا انحطاط طبقاً لرأي المصنف وعليه فالصحيح أن التكامل لا يكون عبر هذه الأمور التي تخلو من عنصر الإرادة. المعرب.
2- انظر: صدر المتألهين، الحكمة المتعالية في الأسفار الأربعة، ج 7، ص 101.

6 - الإضرار بالمصالح الاقتصادية والحيوية للإنسان:

لو قام الافتراض على عدم خلق الحيوانات اللاحمة، فإن ذلك سيلزم منه ارتفاع عدد الحيوانات، بمعنى زيادة أعداد حيوانات من قبيل: الجراد والفئران والجعلان والضفادع والأرانب، وكذلك الحيوانات القاتلة والسامة، مثل: الذئاب والسباع والدببة والأفاعي والعقارب والعناكب، بحيث تزاحم الإنسان في الحصول على طعامها، وبذلك تتلف المزارع وتعرّض حياة الإنسان وعيشه على الأرض إلى مخاطر جمّة، وهذا لا ينسجم مع فلسفة خلق الإنسان واعتباره أشرف المخلوقات وعليه فإن الاعتراض على خلق الحيوانات المفترسة، وتغذية بعضها على لحوم بعضها (قانون الصراع من أجل البقاء)، إنما ينشأ من عدم إدراك التبعات والآثار السلبية المترتبة على هذه الفرضية.

7- كون الإنسان بنفسه لاحماً:

المسألة الأخرى التي تثير الإشكال لدى بعضهم هي أن الإنسان يقوم يومياً بإزهاق أرواح المئات بل الآلاف من الحيوانات الداجنة وغيرها، حيث تمثل بالنسبة له مصدر رئيس للطعام. فإذا كان القرار على الاعتراض، أمكن للحيوان أيضاً أن يشكو الإنسان عند اللّه.

وبعبارة أخرى: إذا قام الأصل على عدم وجود غريزة أكل اللحم ، فهل يقتصر ذلك على الحيوان فقط ؟ أم يشمل الإنسان أيضاً؟ في الحالة الأولى يأتي البحث عن المحاباة وشكاية الحيوانات وفي الحالة الثانية تأتي اللوازم المتقدمة بزخم أكبر؛ وذلك لأن الإنسان سوف يفقد أكثر مصادر تغذيته، وسيغزو التلوث البيئي المحيط الذي يعيش فيه الإنسان، فضلاً عن مئات المشاكل والأزمات الأخرى التى لا يمكن أخذها بالحسبان.

ص: 135

8- التعويض عن الحزن والألم:

أمّا المسألة الأخيرة فيما يتعلّق بالألم والعذاب الذي تتعرّض له الحيوانات فإن هناك من المفكرين المسلمين من يذهب إلى القول بأن كل ألم أو عذاب ينال الحيوان من قبل الطبيعة أو من قبل حيوان آخر أو من جانب

البشر في الدنيا، فإن اللّه سيعوّضه بعد نشره وإحيائه يوم القيامة، ويعطيه بدل ما تحمّله من العناء والألم نعمة تناسبه. وهناك من الآيات القرآنية الكريمة ما يصرّح بحشر البهائم والحيوانات من قبيل قوله تعالى:

-«وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ»(1).

-«وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ»(2).

وقد ورد التصريح في بعض الروايات بدخول بعض الحيوانات إلى الجنة أو النار، والذي سيدخل إلى الجنة من الحيوانات على سبيل المثال: كلب أصحاب الكهف، وناقة النبي صالح علیه السلام، أو الأنعام التي ترافق الحجيج إلى مكة لثلاث سنوات أو سبع، والحيوانات التي لحقها ظلم في الدنيا(3).

وإن اللّه سينتصر للحيوانات التي تتعرّض للظلم، من قبيل: الحيوانات الداجنة، والحيوانات التى لا تمتلك وسيلة دفاعية مثل القرون، وينتصف لها ممّن

ص: 136


1- التكوير: 5.
2- الأنعام .38
3- انظر : الشيخ الصدوق، ثواب الأعمال وعقاب الأعمال، باب نادر، ص 74؛ أحمد البرقي، محاسن البرقي، ج 2، ص 641، ح 157؛ وانظر أيضاً: العلامة محمد حسين الطباطبائي، انسان از آغاز تا انجام ص 211 و 355.

ظلمها سواء أكان الظالم حيواناً مفترساً أم كان من البشر(1).

وقد فسّر آخرون - من أمثال الشيخ الطوسي - الحشر بالإحياء والجمع في يوم القيامة، وأنه يشمل الإنسان في الدرجة الأولى ثمّ الحيوان، وذلك بهدف رفع الظلم الذي تعرّض له في الدنيا كتعويض له، حيث قال: «الحشر أيضاً لكلّ حيوان له على الألم الذي دخل عليه، فإنه تعالى لا بدّ أن يعوّضه»(2).

وقد عمّم العلامة الطباطبائي الحشر على جميع الموجودات، وأن حشر الحيوانات سيكون مثل حشر الناس؛ أي للانتصاف منها ولها، وأضاف أن الحشر يأتي في سياق إيصال النعيم إلى المستحق والانتقام من الظالم، وإن هذا الملاك موجود في أفعال الحيوانات وحشرها أيضاً، وفي ذلك يقول: «أما السؤال الثاني وهو أنه هل يُماثل حشره حشر الإنسان؛ فيُبعث وتحضر أعماله ويُحاسب عليها؛ فينعّم أو يُعذِّب بها؟ فجوابه : أن ذلك يُعطيه كلامه تعالى في حشر الناس، بمعنى: الجمع بين الأفراد وسوقهم إلى أمر بالإزعاج ... على أن الملاك الذي يُعطيه كلامه تعالى في حشر الناس هو القضاء الفصل بينهم فيما اختلفوا فيه من الحق، قال تعالى: «إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ»(3)، وقوله: «ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ»(4)، وغير ذلك من الآيات. ومرجع الجميع إلى إنعام المحسن

ص: 137


1- انظر المحدّث الكليني، الكافي، ج 2، ص 433 الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ج 2،ص 292، ح 2490.
2- الشيخ الطوسي، الرسائل العشر، ص 313.
3- السجدة: 25
4- آل عمران: 55

والانتقام من الظالم بظلمه... وهذان الوصفان أعني: الإحسان والظلم، موجودان في أعمال الحيوانات في الجملة»(1).

خلاصة القول : إن كل ألم أو عذاب يتعرّض له الحيوان بسبب اصطياده من قبل حيوان آخر، أو بالموت الطبيعي، أو أيّ نوع من أنواع الظلم الذي يطاله من جانب الإنسان فإن اللّه سيعوّضه عن جميع ذلك يوم القيامة، من خلال إعطاء الثواب وبذلك لا تبقى هناك شبهة بشأن العدل الإلهي.

ونترك بيان كيفية حشر الحيوانات وسائر الموجودات من وجهة نظر الفلاسفة، وشرح ذلك إلى فرصة أخرى إن شاء الله تعالى»(2).

الشبهة الثانية: فلسفة خلق الحيوانات الضارية والسامة :

على الرغم من اشتمال عالم الخلق الإلهي على جميع أسباب الراحة والعيش الرغيد، تحدث هناك أحياناً بعض الشرور للإنسان، من قبل مخلوقات الله، مثل الحيوانات السامّة من قبيل: الأفاعي والعقارب، والحيوانات المفترسة، مثل: الذئاب والضباع والسباع. وعندما يموت الإنسان بسبب لسعة من عقرب، أو بسبب افتراس أسد له يرتفع صراخ الإنسان بالتذمّر والشكوى والقول بأن

هذا لا ينسجم مع العدل الإلهي! فهل هذه الشبهة واردة على منظومة الخلق الإلهي حقاً؟

ص: 138


1- العلامة محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير الميزان، ج 7، ص 76.
2- انظر: محمد حسن قدردان قراملکي پاسخ به شبهات ،کلامي قسم المعاد، الفصل الرابع الشبهات المتعلقة بالقيامة والحشر.

مناقشة وتحليل:

فيما يتعلق بدفع الشبهة المتقدمة، يجدر الالتفات إلى ما يأتي:

1 - الضرورة العامة والرؤية الشاملة:

إن الإنسان هو سيد المخلوقات، بمعنى أن مسار المخلوقات يجب أن يكون في اتجاه خدمة الإنسان. فالعالم المادي - المؤلف من العناصر والأجزاء

المترابطة التي لا تعدّ ولا تحصى - هي بمجملها في خدمة الإنسان، وقد خلقت لضمان رفاهيته وسعادته. وهذا ما صرّح به اللّه سبحانه وتعالى في قوله:

- «هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا»(1).

- «سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ»(2).

إنّ مضمون كلتا هاتين الآيتين يشير إلى محورية الإنسان في منظومة الخلق الرباني. ولكن يجب الالتفات إلى هذه الحقيقة الدقيقة، وهي أن الدور والتأثير الذي تلعبه عناصر العالم - الأعم من الجماد والنبات والحيوان - في خدمة الإنسان، تارة يكون مباشراً، من قبيل: أن يأكل الإنسان من لحم الضأن أو يشرب من الماء، فيكون قد أفاد من الطبيعة ومنظومة الخلق مباشرة. وتارة يتمّ ذلك عبر وسائط من قبيل ما تقوم به التربة بوصفها مهداً لنمو النباتات التي تعمل على تنقية الهواء من خلال جذب المواد والغازات السامة من قبيل: ثاني أوكسيد الكاربون وإطلاق الأوكسجين)، وبذلك تساعد على تحسين

حياة الإنسان وسعادته المادية.

ص: 139


1- البقرة : 29
2- لقمان: 20؛ الجاثية: 13

وبعبارة أخرى : إن الذي يُفهم من النصوص الدينية هو أن انتفاع جميع الناس من كافة الموجودات السماوية والأرضية - الأعم من الاستفادة المباشرة وغير المباشرة - بحيث يكون هذا الانتفاع ليس شاملاً لجميع الناس فرداً فرداً، وإنما ليتنعّم بها أكثرهم، وبذلك قد تؤدي هذه النعم إلى الإضرار ببعض الأفراد أحياناً من قبيل الماء والنار اللذين لا يشك أحد في ضرورتهما، ولكنهما مع ذلك قد يتسببان أحياناً بموت بعض الناس وتدمير ممتلكاتهم، وذلك فيما لو حدث سيل جارف أو شبّ حريق هائل.

فبالالتفات إلى هذه الحقيقة فيما يتعلق بخلق الضواري وغيرها من الموارد الأخرى، يجب أن ننظر إليها لا بوصفها وجوداً مستقلاً وفردياً ومنفصلاً عن سائر الوجودات، بل يجب النظر إليها بوصفها جزءاً من كل وأنها تمارس دورها وتأثيرها الإيجابي في إطار الوجود الكلي للكون. وبعبارة أخرى: يجب أن تكون لدينا نظرة عامة وشمولية، لا نظرة جزئية وضيّقة.

2 - تنوع الحيوات عنصر تعديل دورة الطبيعة:

المسالة الأخرى هي أن عالم الطبيعة - الأعم من النباتات والحيوانات - عبارة عن دورة وحركة مترابطة، بحيث يكون وجود الكل وبقاؤه رهن بوجود الأجزاء الأخرى من باب المثال: إن بقاء كائن مثل الأرنب، يتوقف على

وجود نباتات مثل: الجزر واللفت والكرفس ولحاء بعض الأشجار اليافعة والجوز والبندق، ومن هنا فإنه يتلف جانباً مما تتوقف عليه حياة الإنسان. ومن جهة أخرى فإن بقاء كائنات أخرى مثل الأفاعي يتوقف على وجود الأرانب والقوارض الأخرى. وإن بعض الطيور مثل العقبان تتوقف حياتها على أكل الأفاعي والأرانب وهكذا تستمرّ هذه الدورة بين جميع الحيوانات والنباتات.

ص: 140

إن وجود الحيوانات بشكل طبيعي هو عنصر تعديل أعدادها والسيطرة عليها. من باب المثال: على الرغم من أن الأرانب تضرّ بمزارعنا، ولكن لمّا كانت أعدادها قليلة فإن الأضرار التي تتسبب بها لا تكون كبيرة. بيد أن أعداء الأرانب - من الأفاعي والطيور الجارحة والذئاب - إذا لم تكن موجودة، أو كانت موجودة بأعداد قليلة، فإن عدد الأرانب والكائنات الأخرى مثل الجراد سيرتفع، وستشكل خطراً على حياة الإنسان غير أن الطبيعة - وبعبارة أدق «الخالق الحكيم» - يعمل على تدبير دورة الطبيعة بحيث يتمّ الحفاظ على تعادلها والسيطرة على الأنواع فيها. إن وجود الأرانب يشكل مصدراً غذائياً للأفاعي والطيور الجارحة مثل العقبان، وكذلك الضواري مثل الذئاب والثعالب وهذه الحيوانات بدورها توفر الطعام الحيوانات أخرى أكبر وأقوى منها.

3 - فوائد الحيوانات المباشرة للإنسان:

إن الحيوانات الضارية ،والسامّة وإن كانت تشكل في بعض الأحيان ضرراً على الناس، وتكبّدهم خسائر في الأموال والأرواح، ولكن كما تقدّمت الإشارة إلى أن وجودها ضروري في عالم الطبيعة من أجل الحفاظ على دورة الحياة فيها، ويعود نفع ذلك على الإنسان بشكل غير مباشر. ولكن مع تقدّم العلوم يستطيع الإنسان أن يعمل على توظيف هذه العناصر السلبية وتحويلها إلى عناصر إيجابية، بمعنى أنه يتمكن من تحويل سمومها القاتلة إلى عقاقير وأدوية ومضادات حيوية. ولحسن الحظ فإن العلم قد تمكن إلى حدّ ما - وإن كان في حدود قليلة - من تحقيق نجاحات في هذا المجال. فحالياً يتوقف علاج بعض الأمراض المستعصية من قبيل: الأمراض القلبية وبعض السرطانات على

ص: 141

هذه السموم أو أجزاء أخرى من جسد وأنسجة بعض الحيوانات. وفيما يأتي نكتفى بخلاصة لكلام رئيس قسم الحيوانات السامّة وإعداد المضادات من سمومها وهو الدكتور عباس زارع ميرك آبادي في مؤسسة الرازي المختص بمعرفة السموم.

لقد تمكن المحققون في مؤسسة تصنيع اللقاحات والمضادات الحيوية والأمصال المغذية في مؤسسة الرازي من استخراج مادة من سموم الأفاعي والعقارب باسم «ICD5» وتستطيع هذه المادة الحيلولة دون نمو الخلايا السرطانية بمقدار 20٪ وأدت إلى موت هذه الخلايا موتاً طبيعياً. إن هذه المادة قد تمكنت في واقع الأمر من تحويل الأورام الخبيثة إلى أورام حميدة.

وبالإضافة إلى ذلك فقد بدأنا منذ العام المنصرم إجراء تحقيقات واسعة بشأن إمكان علاج بعض الأمراض المستعصية مثل السرطان بواسطة الذرّات والجزيئات البروتينية المتوفّرة في سموم الأفاعي والعقارب، وتمّ التوصّل إلى نتائج فذّة، ونجحنا في تصنيع مضاد من سموم حيوان تحت عنوان «ICD58»، وقد تمكنا في التجارب المختبرية من القضاء على الخلايا السرطانية وتحجيم نموّها بنسبة 20٪، حيث أدى ذلك إلى موت هذه الخلايا بشكل طبيعي. وقال الدكتور زارع في شرح الخطط والمشاريع المستقبلية: نحن بصدد إيجاد نماذج حيوانية لمرض MS والتعرّف على تأثير سموم الأفاعي والعقارب على هذا المرض(1).

وقال الدكتور أمير جلالي - الأستاذ المساعد في قسم علم العقاقير(2)

ص: 142


1- نقلاً عن موقع مؤسسة تحقيقات واكسن وسرم سازي رازي.
2- pharmacology.

ومعرفة السموم في جامعة جنديشابور في محافظة خوزستان - في حوار أجرته معه صحيفة (خراسان): «لقد تمكّن المتخصصون في جامعة جنديشابور في الأهواز في تحقيقاتهم العلمية على سمّ العقارب الجرارة(1)، من فصل جزء بايولوجي فعّال باسم (OD1) من سم العقرب، ونوعان من أنواع التكسين والسموم باسم (ODK1) و (ODK2) من هذا النوع من أنواع العقارب. وفي هذا التحقيق الذي أجراه المحققون الإيرانيون تبيّن أن (ODK2) يترك تأثيراً على قناة البوتاسيوم(2) «KV1/03». ولهذه القناة دور ثابت في ظهور مرض ال_ .(MS) وبالالتفات إلى المعطيات التي توصّل إليها المحققون الإيرانيون من أن ل_ (ODK2) دوراً في التحكم بهذه القناة. يمكن التحكم بشكل مؤثر على هذا المرض. وإن هذه المسألة يمكن لها أن تشكل قاعدة لإجراء اختبارات على مرض ال_ (MS) وتأثير هذا السم في علاجه. وإن هذا السم في الواقع هو أول سم خاص بقنوات البوتاسيوم الثلاثي الفُلطية. واستطرد قائلاً: لقد نشرت حتى الآن ثلاث مقالات بشأن العقارب الجرّارة في المجلات العلمية العالمية المعتبرة(3).

وآخر معلومة في هذا المجال وردتني عند الانتهاء من تأليف هذا الكتاب، وقد تحدّثت عن دور الضفادع في علاج أمراض الإنسان، ننقلها من مصادرها الافتراضية في مواقع الشبكة العنكبوتية.

ص: 143


1- عقرب أصفر اللون كبير الحجم، يجرّ ذنبه على الأرض جراً [ ويبد أنه قد أخذ اسمه من هذه الصفة، وهو يمتلك سماً قاتلاً، يكثر وجوده في مدينة الأهواز. المعرّب.
2- potassium channel.
3- نقلاً عن أطباء بلا حدود.

توصل العلماء في جامعة كوئين في بلفاست إلى أن بالإمكان الاستفادة من البروتين الموجود في جلد الضفدع لعلاج السرطان والنوبات القلبية ومرض السكري والمرضى الذين تتم لهم عمليات ربط أنسجة وأطراف وأعضاء حيوية لكبح نمو الأوردة الدموية. إن هذه النتيجة التي تمّ التوصّل إليها من قبل فريق من المحققين برئاسة الأستاذ في كلية الصيدلة (كريس شو)، تثبت وجود نوعين من البروتين المؤثر في جلد الضفادع ، يمكن الاستفادة منهما في عملية السيطرة الهادفة للعروق والحيلولة من دون نموّ الأوعية الدموية. طبقاً لتقرير (الديلي ساينس) (1)يمكن لهذين البروتينين أن يعالجا ما يربو على سبعين نوعاً من الأمراض التي يعاني منها أكثر من مليار نسمة على الكرة الأرضية. وإن هذين البروتينين يتواجدان في إفرازات تظهر على جلد نوع خاص من الضفادع الكبيرة الحجم. إن أحد هذين البروتينين يحول دون تضخّم ونموّ الأوعية الدموية وتحوّلها إلى أورام سرطانية. ومن خلال الحيلولة دون نموّ الأوعية الدموية تمنع من وصول الأوكسجين والدماء الكافية إلى الأورام السرطانية، وبذلك تزول وتذوب الأورام الخبيثة بالتدريج. أما البروتين الآخر الذي يستخرج من الوزغ، فإنه يساعد على زيادة ضخّ الدم إلى المناطق المتضرّرة في موضع ربط الأطراف، وعلاج جروح المصابين بداء السكري، ومعالجة المرضى بعد إصابتهم بالجلطة الدماغية أو القلبية، وترميم العروق الدموية(2).

ويحتمل أن يتوصل العلم يوماً إلى درجةٍ من التقدم بحيث يتمكن من معالجة جميع الأمراض أو أكثرها بسموم الحيوانات أو أعضائها الأخرى،

ص: 144


1- Daily science.
2- نقلاً عن موقع الأخبار الطبية wwws.shabfa.com).

وعندها بدلاً من الاعتراض على أصل خلقها، سيكون الاعتراض على ندرتها في عالم الطبيعة، ولربما قام الإنسان بالمحافظة عليها واتخاذ الإجراءات الضرورية لتكثيرها(1).

4 - القضاء على بعض الحيوانات يؤدي إلى اختلال أو تعطيل دورة الحياة:

لو اعترض كائن منتفع مثل الإنسان، وطالب بالقضاء على الحيوانات المضرة له، من قبيل: الأرانب والأفاعي والقوارض، وإزالتها من دورة حياة الحيوان فإن نتيجة الاستجابة لهذا الطلب ستؤدّي إلى الإخلال الكبير بدورة حياة الحيوانات والنباتات وحتى الإنسان نفسه. فلو تمّ إزالة حلقة واحدة أو عدد من الحلقات في هذه السلسلة، كما لو تمّ القضاء - في المثال الأول - على جميع الأرانب وسائر القوارض مثل الفئران بسبب إضرارها المباشر بحقولنا ومزارعنا، فإن ذلك سوف يخلق أزمة في طعام حيوانات أخرى مثل الأفاعي وإذا انقرضت الأفاعي، سيؤدي ذلك إلى تعرّض الحيوانات التي تعيش على اصطياد الأفاعي من قبيل العقبان إلى خطر الانقراض، وهكذا تنتقل المشكلة من حيوان إلى آخر حتى نصل إلى الحلقة الأخيرة من السلسلة. وتكون النتيجة الحاصلة من ذلك هو أن يتخلى الله عن خلق جميع الحيوانات ابتداء؛ إذ إنّ أكثر الحيوانات في دورة الحياة تتغذى على بعضها، وهو أمرٌ سيؤدي إلى صدور الاعتراض عن الحيوانات الضعيفة والمأكولة.

ص: 145


1- وربما كان من المفيد للقارئ أن يحصل على هذه المعلومة في صيف عام 2011 للميلاد، تناقلت مواقع الأنترنت خبراً مفاده أن سكان منطقة في الفيتنام قادوا حملة واسعة لاصطياد الأفاعي وقتلها من أجل لحومها أو استخراج الدواء منها. وحدث نتيجة لذلك ارتفاع في أعداد القوارض، وأدى ذلك إلى إبادة ثلاثة أرباع محاصيلهم الزراعية.

5 - عدم خلق الحيوانات الضارّة يساوق تعطيل الفيض:

لو كان الملاك في استئصال الحيوانات من عملية الخلق هو الأضرار التي تلحقها هذه الحيوانات وجب القول: لمّا كان كثير من الحيوانات تتسبب حياناً - وليس دائماً - بالضرر على الإنسان جسدياً أو روحياً، ومن بين هذه الحيوانات الخيل والبغال والبقر والفيلة، حيث تبادر هذه الحيوانات أحياناً إلى التسبب بجرح الإنسان وحتى قتله عندما تحرن وهكذا الأمر بالنسبة إلى النحل والذباب والأفاعي والعقارب، إذ قد تضرّ بالإنسان أيضاً؛ فإن ذلك سيؤدّي إلى أن يعمد اللّه سبحانه وتعالى إلى تعطيل عملية الخلق بسبب هذه الأضرار الجزئية أو أن يمتنع من خلق أكثر الحيوانات. وهنا يطرح هذا التساؤل نفسه: ألا يتعارض منع إفاضة الوجود والخير على عدد من المستحقين للوجود بسبب الضرر القليل مع وصف الجود والخير الإلهي؟ ألن تعترض الحيوانات - التى تقدم ذكرها - وتقول: لماذا حُرمنا من الخلق بسبب الضرر القليل الذي يتسبب به عدد قليل من بعض أفرادنا ؟!

لو كان الجواب هو: إن اللّه يحول بذلك دون خلق بعض الأنواع المضرّة، يرد السؤال الآتي: أي نوع من أنواع الحيوانات يحول اللّه دون خلقه؟ فلو حال دون خلق بعض الأنواع، حق لهذا البعض أن يعترض ويقول: لماذا يُحرم هذا البعض من نعمة الوجود والفيض؟ ألا يلزم من ذلك الترجيح بلا مرجّح؟

لو أن اللّه قد امتنع عن خلق بعض الكائنات، من قبيل: الأفاعي والعقارب بسبب الأضرار الجزئية التي تلحقها بالإنسان، للزم من ذلك - بالإضافة إلى المنع من الجود والإفاضة - حرمان البشر، وخاصة العلماء من منافع هذه الحيوانات.

ص: 146

ومع تطوّر العلوم تمكن الإنسان في العصر الراهن من الانتفاع بسموم الأفاعي والعقارب لاستخراج أنواع العقاقير واللقاحات التي تعمل على تعدليل ضغط الدم والسيطرة على تخثر الدم داخل أوعية القلب والمخ. ولربما سيتمكن الإنسان في المستقبل القريب من اكتشاف مزيد من المنافع والفوائد في خلق أنواع الحيوانات، وإن الإنسان سوف يشكر الله على خلق هذه الموجودات.

وقد تعاد هذه الشبهة هنا، فيقال: لماذا لم يخلق اللّه

جميع الحيوانات نباتية، حتى لا يكون بقاء الحيوانات مترابط الحلقات مثل السلسلة؟

يجب القول في الجواب: إن هذه الفرضية (كون جميع الحيوانات نباتية ) بذاتها يترتب عليها أضرار حياتية، وقد تقدم الكلام عنها في معرض الإجابة عن الشبهة الأولى. ومن بين الأضرار المترتبة على هذه الفرضية هو ارتفاع أعداد الحيوانات بما فيها الحيوانات التى تضرّ بالإنسان من مثل: الفئران والأرانب والجراد والضفادع والذئاب والدببة والسباع، وتتعرّض مصالح الإنسان الاقتصادية - مثل المزارع والبساتين وحتى الإنسان نفسه - إلى الخطر. في حين أن كون الحيوانات لاحمة يعمل على السيطرة وتعديل أعداد الحيوانات بشكل تلقائي.

6 - السم وسيلة دفاعية للحيوان:

تشكّل النباتات مصدر غذاء لبعض الحيوانات التي لم يودع اللّه فيها غريزة الافتراس ولم يزوّدها بمادة قاتلة مثل السمّ. من قبيل: الحيوانات الداجنة والأليفة وبعض الحيوانات الأخرى مثل الفيل والزرافة، ويطلق على هذا النوع من الحيوانات اسم الحيوانات النباتية إلا أن مصدر غذاء النوع الآخر من الحيوانات هو اللحم، والذي تحصل عليه عادة من طريق افتراس

ص: 147

الحيوانات الأضعف منها، ويطلق على هذا النوع من الحيوانات اسم الحيوانات اللاحمة. من قبيل الأسد فإنه عندما يشعر بالجوع يفترس حيواناً ضعيفاً ويجعله طعاماً لنفسه ولأشباله كي ينجوا من الموت المحتّم، وما يفضل من فريسته يكون طعاماً لحيوانات أخرى مثل الضباع والعقبان. أو الأفعى التي تلدغ حيواناً آخر ثمّ تبتلعه.

وفي بعض الأحيان تكون غريزة الافتراس أو امتلاك السم، وسيلة دفاعية لمواجهة الأعداء، كما هو الحال بالنسبة إلى النحل والعقارب حيث يشكل السم أهم وسيلة دفاعية لها للدفاع عن نفسها في مواجهة الأعداء.

من هنا يتضح أن طبيعة الافتراس لدى بعض الحيوانات أو امتلاكها للسمّ إنما هو في الأصل للحفاظ على بقائها وعدم انقراضها. بمعنى أن هذه الحيوانات لو جرّدت من صفة الافتراس وأضحت وديعة في تعاملها مع الحيوانات الأخرى، لأدى ذلك بها إلى الموت والفناء جوعاً. وبعبارة أخرى: إن صفة الافتراس ملازمة للحيوانات اللاحمة وعليه فإن تجريدها من هذهالصفة مستحيل كاستحالة تجريد النار من الحرارة.

وربما طرح هنا السؤال الآتي: صحيح أن صفة الافتراس ملازمة لكون الحيوان لاحماً بید أن الاعتراض يقول: لماذا خلق اللّه الحيوانات اللاحمة أساساً؟ أفلم يكن بالإمكان خلق جميع الحيوانات نباتية؟ والإجابة عن هذا

الإشكال مذكورة في الصفحات السابقة، فراجع.

7 - الأنانية لدى الإنسان:

إن ما يقوم به الإنسان من الاعتراض بمجرد أن يرى ذبابة أو بعوضة أو ذئباً أو أفعى أو عقرب ويشكو من خلقها، بل ويسعى إلى القضاء عليها،

ص: 148

يبدو ناشئاً أنانيته. فالإنسان يتصور أن الدنيا ومنافعها من جملة أملاكه الشخصية الطلقة، وعليه لا يحق لأحد أن يحدّ من مصالحه، وأن لا يعرّضها لأدنى خطر، حتى وإن كان هذا التعريض لمصالح الإنسان للخطر ناجماً عن دفاع الحيوان عن نفسه؛ في حين أن الدنيا ومصالحها ملك صرف اللّه الخالق الحكيم المحبّ للخير الذي أراد لجميع الكائنات بما في ذلك الحيوانات أن تنتفع

من مائدته التى بسطها لمخلوقاته. وعليه لا يكون للاعتراض على خلق الحيوانات من أساس عقلي.

وعلاوة على ذلك - كما تقدمت الإشارة إليه مراراً - فإن وجود الحيوانات - حتى الضارّة منها - قد تكون في بعض الأحيان مفيدة وضرورية لحياة الإنسان وسعادته كما هو الحال بالنسبة إلى الذباب ودوره في عالم الطبيعة.

إن الذباب من عوامل تأبير النباتات في الطبيعة، ويعدّ من أهم العناصر في الدورة الغذائية في الحياة. كما تقوم هذه الحشرات بالتسريع من عملية تحلل جيف الحيوانات النافقة، وكذلك فضلات الحيوانات والنباتات الأخرى، وبالإضافة إلى تتغّذى على الكثير من الحشرات الأخرى، حيث تتغذى على ما يقرب من خمسة آلاف نوع من الحشرات الأخرى، حتى تذكر أحياناً بوصفها عنصراً في تعديل البيئة. هذا وأن الذباب يشكل مصدراً غذائياً حيوياً لكثير من الحيوانات من قبيل: الضفادع والوزغ والطيور.

والمسألة الثالثة أن أكثر الحيوانات الضارية والسامة إنما تعيش في بيئتها الخاصة وأن الإنسان هو الذي يزعجها ويهدد أصل وجودها من خلال الزحف على بيئتها الخاصة، وهو أمرٌ يضطرّها إلى الدفاع عن نفسها وموطنها، فتضرّ بالإنسان لدفع شرّه عنها. وهذا ما نراه في الأفلام الوثائقية، وقد بادرت

ص: 149

أكثر الحكومات في العالم إلى تأسيس منظمات تعمل على توفير الحماية للحيوانات والدفاع عنها.

8 - قلة الضحايا:

الحقيقة الأخرى هي أن أعداد ضحايا الحيوانات الضارة والسامة قليل جداً، ولا يمكن أن يعتد بها بالمقارنة إلى منافعها في دورة الطبيعة. وأقرب دليل على ذلك ما يلاحظه القارئ عندما يلقي نظرة على البيئة التي يعيش فيها فهل يرى مشاهد يقتل فيها إنسان من قبل حيوان؟ إذا كان يعيش في المدينة فالجواب ربما كان بالنفي المطلق، وأما إذا كان يعيش في القرية أو قريباً من غابة، فربما يسمع عن رجل لدغته أفعى أو لسعته العقرب، وحتى في هذه الحالات تكون عملية الإسعاف وإنقاذ الضحايا أكثر من أولئك الذين يموتون بفعل تعرّضهم لمثل هذه الحالات. وعليه يكون الموت لا بسبب السم، وإنما بسبب التأخير فى إسعاف المريض وإيصاله إلى المستشفى.

وفي المقابل يمكن لكم أن تلقوا نظرة على إحصائية بضحايا حوادث السير والاختناق بالغاز(1). فإننا كثيراً ما نشاهد بأعيننا أو نسمع - سواء في

ص: 150


1- تقدم أن ذكرنا في نقد هذه الشبهات ما يلي: أعلن رئيس المنظمة الطبية والقانونية في البلاد عن إحصائية تفيد بأن عدد ضحايا حوادث السير في عام 1388 للهجرة الشمسية [الموافق لعام 2009] قارب الثلاثة وعشرين ألف ضحية (22973)، وفي (22973)، الأشهر الثلاثة الأولى من عام 1389 للهجرة الشمسية [الموافق لعام 2010 م]، بلغ عدد القتلى 5826 قتيل، وهي إحصائية مرعبة .. ومع ذلك لم يعترض أي عاقل على صنع هذه الوسائط النقلية الفتاكة في حين أن الإحصائية العالمية للموت بسبب لدغة الأفاعي طبقاً لتقرير المنظمة العالمية للصحة مئة ألف شخص (نقلاً عن وكالة أنباء ايسكا نيوز). ولو قارنا عدد هؤلاء الضحايا بنسبته إلى إيران ستكون حصة إيران (877)، وهو عدد لا يمكن مقارنته بعدد الضحايا الذي تتسبب به حوادث السير أبداً.

المدن أو القرى - عن حالات يروح ضحيتها شخص واحد أو عدّة أشخاص بسبب هذه الكوارث التي لا يمكن مقارنتها بضحايا الافتراس من قبل الحيوانات أو التعرض لسمومها القاتلة. ومع ذلك لم يخرج علينا شخص ليقول بأن صناعة السيارات عملية منافية للأخلاق أو أن يطالب بإلغائها. وعليه فإن اللّه إذا امتنع عن خلق أصل هذه الحيوانات لمجرد الشرور القليلة الصادرة عنها - والتي لا يمكن أن تقارن بشرور حوادث السيارات - وغض الطرف عن دورها في الحياة الطبيعية لكان ذلك يعني ترك الخير الكثير بسبب الشر القليل وهو أمر لا ينسجم مع صفة الجود والخير والفيض المطلق الله سبحانه وتعالى.

ص: 151

ص: 152

الفصل الرابع: الشر والحكمة من خلق الشيطان

اشارة

ص: 153

ص: 154

الشبهة الأولى: فلسفة خلق الشيطان

إن من بين الشبهات المطروحة بشأن علل الشر وانعدام العدل في عالم الطبيعة والخليقة الإلهية، هو وجود الشيطان ودوره في ضلال الإنسان وانحرافه. أفهل من العدل أن يخلق اللّه كائناً مضلاً وعدوّاً للإنسان كي يضله ويوسوس له ويزيّن له الطريق الذي يؤدي به إلى الشقاء، ثمّ يعاقبه على اتباع الشيطان؟

تحليل ومناقشة:

1 - تكامل النفس رهن بمقاومة الشيطان:

تقدم أن ذكرنا أن الغاية من خلق الإنسان هي وصوله إلى السعادة الأبدية ومقام القرب الإلهي، وهو أمر لا يمكن تحقيقه إلا من خلال تهذيب النفس وسموها. وهذا المقام هو من أرقى وأسمى المقامات التي لم تتمكن الملائكة من بلوغها بمن فيهم جبرائيل علیه السلام؛ وذلك لأن المقام الممنوح للملائكة إنما هو بالعطاء دون الاستحقاق، فى حين أن الإنسان يطوى مراتب الكمال من خلال التغلب على العقبات التي يزرعها الشيطان في طريقه. وعلى هذا الأساس إذا كان الإنسان طالباً لمقام القرب الإلهي، فعليه أن يسلك طريق تكامل النفس، وإن تكامل النفس بدوره يأتي من خلال تهذيبها والتغلب على

ص: 155

الموانع والوساوس النفسية والشيطانية؛ وإلا إذا كان مسير الإنسان معبّداً ولم يكن هناك أي وجود للموانع، وبعبارة أخرى: إذا كان الماثل أمام الإنسان طريقاً واحداً هو الصراط المستقيم، فإن الإنسان سيطوي هذا الطريق من دون مشقة أو عناء، وبعبارة أدق سيبلغ الغاية بشكل قسري وجبري، وليس في ذلك ما يمكن أن ندعوه تكاملاً أو تسامياً للنفس، بل هو ما عليه واقع الملائكة، وقد تقدم أنه مقام إعطائي وليس استحقاقياً، فهو تفضّل بحت. وعليه فإن اختيار الصراط المستقيم إنما يكون مزيّة وامتيازاً يستحق الإنسان أن يبلغ درجة الكمال ،والسمو، إذا كانت هناك سبل منحرفة إلى جانبه(1).

قال الأستاذ الشهيد مرتضى المطهري قدس سره في هذا الشأن:

«الو لم تكن في وجود الإنسان نفس أمارة، ولو لم يكن خارج وجود الإنسان شيطان يلهم النفس الأمارة، وإذا لم تكن هناك من دعوة إلى الشرّ والفساد، ولو لم يكن هناك من إمكان لجنوح الإنسان إلى الشرّ والفساد، لما كان هناك حُسن أيضاً؛ لأن الحُسن إنما يكون حُسناً، إذا كان الإنسان قادراً على فعل الحسن وقادراً في الوقت نفسه على فعل القبيح، وإنه يختار من بينهما فعل الحسن. وأما إذا كان الطريق إلى فعل القبيح أمام الإنسان مغلقاً، وكان بدلاً من قانون «فَأَهُمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا»(2)مجرّد (فألهمها تقواها) فقط، وكان لدى الإنسان ميل إلى التقوى مجرداً عن الميل إلى الفجور، لن تكون

التقوى تقوى حقيقية؛ لأن التقوى إنما تكون تقوىً عندما تكون لدى الإنسان

ص: 156


1- المزيد من الاطلاع انظر: السيد محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 8، ص41 فما بعد؛ ناصر مكارم الشيرازي، تفسير نمونه (الأمثل)، ج 1، ص 194.
2- الشمس: 8

رغبة وميل إلى ممارسة الفجور، ومع ذلك يؤثر التقوى والعدالة. فمتى تتحقق الطاعة ؟ إن الطاعة إنما تتحقق إذا كان الإنسان قادراً على الطاعة وعلى ضدها، وأما إذا كان الإنسان مكرهاً على فعل الطاعة، فعندها لن يكون ما يقوم به من الطاعة في شيء، وإذا لم يكن من الطاعة، فلن يكون هناك ولا ذم، وإذا لم يكن هناك مدح ولا ذم، لن يكون هناك من ثواب ولا عقاب، ولن يكون هناك تكليف ولا قانون ولا مجتمع ولا إنسان، ولن يكون هناك

شيء أبداً .. وعليه إذا لم يكن هناك شيطان، ولم تكن هناك دعوة إلى القبح والسوء، لن يكون هناك عمل صالح. فإن الصلاح إنما يكتسب الصلاح إذا كان هناك نفس أمارة، وكان هناك شيطان، وأمكن سلوك كلا الطريقين على السواء «وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ» (1)، ولكن الإنسان بحسن اختياره يسلك الصراط المستقيم(2).

2 - قدرة الشيطان في حدود الوسوسة دون الإكراه:

الأمر الآخر هو أنه ينبغي التدقيق في أن وساوس عدوّ تكامل الإنسان وتهذيبه الذي هو الشيطان والنفس الأمّارة ليست مُلزمة، بمعنى أن الشيطان إنما يغوي الإنسان ويدعوه كما يدعو الخدين خدينه إلى المعصية، دون أن يجبره على فعلها تكويناً، وعليه فإن القرار الأخير إنما يكون بيد الإنسان نفسه، فهو الذي يختار سلوك أحد الطريقين دون الآخر، وهذا ما أكد عليه القرآن الكريم من خلال تقريره لإجابة الشيطان عن سؤال العصاة الذين أطاعوه؛ إذ قال مدافعاً عن نفسه:

ص: 157


1- البلد: 10.
2- مرتضى المطهري، مجموعه آثار (الأعمال الكاملة)، ج 4، ص 276 - 279.

«وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ»(1).

إنّ هذه الآية تقسّم الناس إلى طائفتين: الذين يخرجون على ولاية الشيطان وسلطته والذين يرتضون ولايته عليهم، وهو ما قد بينه اللّه سبحانه وتعالى في مواضع أخرى بعبارة (يتولّونه). وهو أمرٌ يُثبت أن الطائفة الثانية هي المسؤولة عن اختيارها وأنّ الدافع وراء اختيارها هذا هو الانصياع لوساوس الشيطان والاستسلام لدعوته.

وقد أشار الأستاذ الشهيد مرتضى المطهري إلى هذه الآية قائلاً:

«إن مساحة نشاط الإنسان تقتصر على التشريع) دون (التكوين)، بمعنى أن دائرة الشيطان تنحصر في حدود النشاطات التشريعية والتكليفية للإنسان. فالشيطان إنما يستطيع التسلل إلى دائرة وجود الإنسان فقط، ولا يستطيع التأثير على غير البشر. كما أن دائرة تأثير الشيطان في البشر إنما تنحصر في تفكيره دون جسده وإن تأثير الشيطان في تفكير البشر ينحصر أيضاً على حدود الوسوسة وتمويه الباطل له. وقد بيّن القرآن هذه المعاني بتعابير من قبيل: (التزيين) و (التسويل) و (الوسوسة) وما إلى ذلك. وأما أن يخلق شيئاً في نظام الكون أو أن يسيطر على البشر تكويناً، بمعنى أن يسيطر على الإنسان بوصفه سلطة قاهرة، فيلزمه بفعل القبيح، فهو أمر خارج عن قدرة الشيطان

ص: 158


1- إبراهيم: 22.

وإمكاناته. وإنما تقتصر سلطة الشيطان على الإنسان بأن يمكنه الإنسان من نفسه ويتنازل له عن إرادته» (1). والدليل على هذا المدعى وجود الأتقياء والصالحين والأبرار في كل مجتمع حيث نزعوا طاعة الشيطان، ودخلوا في طاعة الرحمن. وهذان الجوابان كافيان في تبرير العقاب الأخروي، كي لا يتصف العقاب في الآخرة مع وجود الشيطان بعدم العدل.

الشبهة الثانية: الحكمة من خلق الشيطان:

إن الإجابة عن هذا السؤال القائل - بغض النظر عن بحث العدل - ما هي الحكمة من وراء خلق الشيطان في نظام الوجود الإلهي؟ خارجة عن موضوع التحقيق بحث (العدل)، إلا أننا نكتفي هنا بمجرد الإشارة إليها.

دراسة وتحليل:

1 - عدم خلق الشيطان للإضلال:

بالالتفات إلى قواعد بحث العدل والحكمة القائل بأن الوجود مساوق للخير ، وأنّ الشرّ أمر عدمي، فإن وجود الشيطان يكون مشمولاً لهذه القاعدة أيضاً. فمن خلال النظر في آيات القرآن الكريم ندرك أن اللّه سبحانه وتعالى إنما خلق طائفة الجن وطائفة الإنس لأجل عبادة اللّه ؛ وذلك إذ يقول تعالى:«وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ» (2). ولمّا كان الشيطان ينتمي إلى طائفة الجن فإنه مشمول لهذا الحكم أيضاً، بل إن الشيطان قد ترقى أكثر من أي فرد آخر من أفراد الجن بسبب كثرة عبادته ونال بذلك أعلى المراتب حتى أضحى

ص: 159


1- مرتضى المطهري، مجموعه آثار (الأعمال الكاملة)، ج 4، ص 276 – 279.
2- الذاريات: 56

مجالساً للملائكة، ولكنه طرد من نعمة اللّه وتمّ تجريده من منزلته بسبب تمرّده على أمر اللّه المتمثل بالسجود لآدم، وأخذ على نفسه لذلك قراراً بأن يكيد لبنى آدم ويحرفهم عن صراطه المستقيم. وفي ذلك يقول اللّه سبحانه وتعالى: «وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لأَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ» (1)

2 - توظيف الشيطان لاختياراته:

بعد التدقيق والتأمّل في خلق الشيطان يتضح لنا أن الشيطان (إبليس)، إنما أصبح شيطاناً فيما بعد بسوء اختياره لا أن اللّه هو الذي خلق إبليس شيطاناً منذ البداية من قبيل بعض الأخيار من الناس الذي يضلون في منتصف الطريق فيختارون الانحراف بسوء اختيارهم.

3 - الشيطان عنصر متمّم لتكامل الإنسان

تقدم أن قلنا: إن تكامل الإنسان وتعاليه رهن بوسوسة الشيطان ،وإغوائه من قبيل: المحترف الرياضي الذي يسعى إلى الحصول على الأوسمة من خلال اجتيازه للموانع وقلنا أيضاً: إذا لم تكن وسوسة الشيطان موجودة، ولم يلمس الإنسان من نفسه ميلاً ورغبة إلى ارتكاب المعاصي، للزم من ذلك تجرّد النفس تجرّداً كاملاً، وعندها لن يكون مجرد نفس، بل هو روح وعقل محض وهذا في الحقيقة هو ما عليه ماهية الملائكة، ولن يكون أمام الإنسان حينئذ فرصة للتكامل في حين أن فلسفة خلق الإنسان قائمة على أن يسعى إلى تهذيب نفسه من خلال التغلب على الموانع والوساوس الشيطانية؛ ليصل بذلك إلى ما هو أسمى من مراتب الملائكة.

ص: 160


1- البقرة : 34 . وانظر أيضاً سورة ص 71 - 83

الشبهة الثالثة: حكمة إمهال الله للشيطان:

ربما أشكل بعضهم وقال: ما دام اللّه يعلم بمستقبل الشيطان ودوره في إضلال الإنسان مسبقاً، فلماذا أمهله حتى يوسوس لبني آدم؟ على ما هو مقرر فى القرآن من قبيل قوله تعالى:

-«قَالَ إِنَّكَ مِنْ الْمُنظَرِينَ»(1).

- «قَالَ فَإِنَّكَ مِنْ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ»(2).

مناقشة وتحليل:

في الإجابة عن هذه الشبهة يمكن الإشارة إلى عدة أمور على النحو الآتي:

أ - ربما أمكن هنا تكرار الإجابة التي تقدمت في نقد شبهة علة خلق أمثال صدام ،والحجاج، والقول بأن خلق الشيطان من قبيل خلق صدام والحجاج في كونه جزءاً من نظام العلية، وإن التدخل في عدم خلق الشيطان مساوق للتدخل والتصرف فى قانون العلية(3).

ب - لقد عمد اللّه في قبال إمهال الشيطان إلى اتخاذ مختلف الإجراءات الوقائية السابقة واللاحقة من قبيل : العقل، والفطرة التوحيدية، وإرسال الأنبياء، واختيار الأئمة واللطف والعناية لهداية عباده وإرشادهم. كما قام في المرحلة التالية بإعفاء آثار التبعية للشيطان والتكفير عن المعاصي والآثام

ص: 161


1- الأعراف: 15
2- الحجر: 37 - 38
3- انظر: مرتضى مطهري مجموعة آثار (الأعمال الكاملة)، ج 1، ص 95؛ وج 2، ص 144؛ وج 4 ص 334

من خلال قبول التوبة والشفاعة.

واضح أن هذا الإرشاد وهذه الهداية تقف عند حدود الهداية التشريعية وبيان الصالح من الطالح، ولا تصل إلى حدود الدعوة إلى سلوك طريق الحق على المستوى التكويني، وإلا فإن مفهوم التكامل والحصول على مقام القرب الإلهي سيفقد مضمونه ومعناه كما تقدم أن ذكرنا.

ج - ويمكن لنا في هذا المقام أن نكرر الإجابتين السابقتين اللتين أوردناهما في بيان فلسفة خلق الشيطان، وهما القول بأن (وجود الشيطان من لوازم تحقق تكامل النفس، وكذلك عدم إجبار الشيطان). وعليه نقول: إن خلق الشيطان أمر ضروري من أجل تكامل الإنسان، من طريق زيادة الموانع الماثلة في طريق رقيّه وتكامله (ولكن بطبيعة الحال دون أن يبلغ ذلك حدّ الإكراه والإجبار). وفي الحقيقة يمكن الإشارة في هذا الشأن إلى تحديد البطل الفائز في رياضة رفع الأثقال أو الجري أو الفروسية مثلاً، فإنه كلما تجاوز الرياضي مرحلة من مراحل السباق سيجد أمامه في المضمار التالي موانع أكثر وأشد وأوزاناً أثقل من موانع وأوزان المرحلة السابقة. وهكذا الأمر بالنسبة إلى معرفة أشرف الكائنات حيث يقوم الله سبحانه وتعالى باختبار عبده في هذا الشأن، فيضع في طريقه عقبتين متمثلتين في (النفس الأمارة والشيطان)(1).

ص: 162


1- لمزيد من الاطلاع بشأن الحكمة من خلق الشيطان وإمهاله، انظر: المصادر التي تقدم ذكرها.

الفَضْلُ الخَامِس: الشرور وانعدام العدل في العالم الإنساني

اشارة

ص: 163

ص: 164

المبحث الأول: الشرور الأخلاقية :

يمكن تقسيم الشبهات المطروحة في هذا الفصل إلى ثلاثة أقسام وهي: القسم الأول الشبهات التى تنظر إلى أصل خلق اللّه، وتقول: لماذا يقوم الله بوصفه الخالق الحكيم والمحبّ للخير بخلق الأفراد الذين يميلون إلى الشرّ بطبيعتهم؟ ويتم التعبير عن هذه الشبهة فى الغرب بالشرور الأخلاقية وفى هامش هذا القسم سوف نتناول خلق الإنسان الشرِّير، وفلسفة خلق أمثال نیرون وصدام والحجاج وإمكان خلق الإنسان المختار الذي لا ينزع إلى الشر، وأسباب عدم السيطرة على إرادة الأشرار، ونقوم بتقييمها. وإن منشأ الشر فى هذا القسم هو اتصاف الإنسان بعنصر الاختيار.

القسم الثاني: الشبهات المطروحة بشأن أنواع الشرور الطبيعية التي تصيب الإنسان من قبيل: المكروبات ،والأمراض والآلام والمحن والمواليد الذين يعانون من التشوّهات الخلقية والشيخوخة والموت وما إلى ذلك من الأمور ذات المناشئ الطبيعية والاختلال والفساد فيها.

القسم الثالث: الشرور التي تصيب الإنسان بسبب الاختلاف العرقي والطبقي والاجتماعي من قبيل الاختلاف بين الذكر والأنثى، والاختلاف في

ص: 165

القبح والجمال والفقر والغنى والاختلاف في مستوى الذكاء والقدرات الجسدية، ومكان الولادة والتربية والسعادة والشقاء.

الشبهة الأولى : فلسفة خلق الأشرار الذين ينزعون إلى المعاصي والظلم غريزياً:

يتمتع الإنسان ببعدين مختلفين: البعد الأول هو ميله إلى الخير والحُسن والعدل والفضيلة، والبعد الآخر هو نزوعه إلى الشر والسوء والقبح والظلم. أما البعد الأول فيستوجب صدور الأعمال الأخلاقية من قبيل: حبّ الناس والسعي إلى مساعدتهم وتقديم العون لهم. والبعد الآخر يستوجب نزوع الإنسان إلى اقتراف الأفعال غير الأخلاقية، مثل النفور من الآخرين وارتكاب الظلم والجور والخداع والكذب. وقد تقدم أن أوضحنا في تعريف الشرّ وأقسامه أن هذا القسم الثاني يُصطلح عليه بالشرور الأخلاقية.

فأن يوجد أناس يمارسون الظلم في حق الآخرين، بل والأسوأ والأنكى ذلك أن يُقتل شخصاً لا بل أشخاصاً، ولربما بلغ عدد ضحاياه آلاف الأبرياء، كما سجل التاريخ ذلك لأمثال الحجاج ونيرون وموسوليني وصدام، ممّن شوهّوا صفحات التاريخ البشري والإنساني تثير الشبهات لدى بعضهم بشأن العدل الإلهي.

ويتمّ طرح الشبهة على النحو الآتي: لماذا لم يخلق اللّه الإنسان على صورة تقتصر على القوى الإنسانية والعقلانية، وتبعاً لذلك لا يصدر عن الإنسانَ سوى الأفعال الأخلاقية الحسنة والمعقولة؟ وبعبارة أخرى: لماذا خلق الله الإنسان متصفاً بغرائز وميول تجنح به نحو الظلم والجور وما إلى ذلك من الأعمال غير الأخلاقية، فيُبتلى المجتمع الإنساني نتيجة لذلك بأنواع الأعمال

ص: 166

القبيحة والشرّيرة؟ وتبعاً لذلك يأتي بحث العقاب الدنيوي والأخروي.

مناقشة وتحليل:

1 - الاختيار مقدمة لتكامل الإنسان:

إن أصل الحرية والاختيار الذى هو نعمة إلهية كبيرة على الإنسان تمهّد الطريق أمامه للوصول إلى التكامل والسعادة الأبدية. وهذا هو مكمن لیست سوی

الاختلاف بين الإنسان والملائكة. فالملك هو عقل محض، وما يقوم به افعال من امتثالاً للتكاليف الإلهية، في حين أن الإنسان مزيج من العقل والشهوة ولذلك يمكن له باختياره وحريته أن يكون مصدراً للخيرات كما يمكن له أن يكون مصدراً .للشرور وحيث أن قيام الإنسان بالتكاليف الإلهية منبثق عن حريته وإرادته واختياره فإنه لذلك يستحق المديح والثناء، ولا يمكن مقارنة ما يقوم به اختياراً بما يصدر عن الملائكة اضطراراً.

وفي الوقت الذي تعدّ هذه الحرية لدى الإنسان مزية فذّة، فإنّها تؤدي في بعض الأحيان إلى تبعات سيئة وكوارث لا يمكن اجتنابها وإن ارتكاب الشرور الأخلاقية من المصاديق البارزة على ذلك. ولكن لمّا كانت المنافع والخيرات الصادرة عن أصل الحرية والاختيار لدى الإنسان أكثر من الأضرار بحيث لا يمكن المقارنة بين كثرة الخيرات وقلة الشرور في هذه الناحية، عمد اللبه سبحانه وتعالى إلى خلق الإنسان مجبولاً على صفة الاختيار؛ لتكون هي الملاك فى حصوله على الفضائل والكمالات.

وبعبارة أخرى: إن اللّه سبحانه وتعالى عند خلق الإنسان، لم يكن أمامه أكثر من طريقين:

ص: 167

أ - أن يخلق الإنسان فاقداً لعنصر الاختيار حتى لا يصدر عنه أدنى ذنب أو معصية.

ب - أن يخلق الإنسان حرّاً ومختاراً، كي يتمكن من طيّ مراحل الكمال والسعادة الأبدية من خلال توظيفه لأصل الحرية.

الحالة الأولى تستلزم الافتقار إلى الخير الأسمى، كما تقدم بيان ذلك، وهذا لا ينسجم مع إفاضة الفيض والجود الإلهيين وعليه فإن الصورة الثانية هي

المتعيّنة، وهي المسانحة لصفات الله الكمالية.

وإن هذا الحل في حقيقته يقوم على الدفاع عن «الخير الأسمى»، ويمكن أن يكون متمّماً له ولكنه يطرح بشكل مستقل للأهمية التي يحظى بها من قبل الفلاسفة .

2 - عودة الشرور الأخلاقية إلى العدم

يذهب الفلاسفة المسلمون إلى القول بأن جميع الشرور من الأمور العدمية، وإن الوجودات خير محض، فقد عمدوا إلى توجيه الشرور الأخلاقية من هذه الناحية بمعنى أن الشرور الأخلاقية التي هي الأفعال القبيحة من قبيل : الزنا والقتل والظلم أو التي تُعدّ مبادئ لتلك الشرور، وملكات للرذيلة والأخلاق الإنسانية القبيحة هى المنشأ لتلك الأفعال. وإن الشر في كلا القسمين ينشأ من أمر عدمي من باب المثال لمّا كان الزنا يؤدّي إلى عدم وزوال الكمال الديني (المتمثل بحفظ العفة)، أو العقلي، من قبيل: قطع النسل و تنشئة الأولاد، إنما يتصف بكونه شرّاً من هذه الناحية.

فإنّ نفس فعل ذلك من طريق النكاح، يُعدُّ مشروعاً، ومن هنا يتصف بالكمال أيضاً.

ص: 168

وهكذا الأمر بالنسبة إلى مبادئ الشرور؛ لأن اتصاف هذه الأمور بالشر يأتي من صدور هذه الملكات عن نفس فقدت بعض كمالاتها. وقد تحدث ابن سينا عن رجوع الشرور الأخلاقية إلى الأمور العدمية؛ فقال:

«والشرّ الذي في الأفعال هو أيضاً إنما هو بالقياس إلى من يفقد كماله بوصول ذلك إليه مثل الظلم، أو بالقياس إلى ما يفقد من كمال يجب في السياسة الدينية كالزنا. وكذلك الأخلاق إنما هي شرور بسبب صدور هذه عنهما، وهي مقارنة لأعدام النفس كمالات يجب أن تكون لها» (1).

كما أرجع الخواجة نصير الدين الطوسي الشرور الأخلاقية في شرحه على الإشارات إلى الأمور العدمية أيضاً(2).

وقال صدر المتألهين:

«وأما الخيرات والشرور المنسوبة إلى النفوس الإنسانية من جهة دخولها تحت الأوامر والنواهى الدينية والأحكام والأفعال الناموسية فجميعها سواء عُدّ من الخيرات .. أو عُدّ من الشرور .. أمور وجودية لا ينفك عن خيرية ما فكل منها كمال وخير للإنسان ...»(3).

الرواقيون: تعود جذور إرجاع الشرور الأخلاقية إلى الأعدام إلى الرواقيين. فإن الرواقيين يذهبون - مثل الفلاسفة المسلمين - إلى عدم اعتبار

ص: 169


1- ابن سينا، إلهيات الشفاء، المقالة التاسعة، الفصل السادس ص 419 وانظر أيضاً ابن سينا الإشارات النمط السادس.
2- انظر : شرح الإشارات النمط السادس، ج 2، ص 2، ص 79.
3- صدر المتألهين الأسفار الأربعة في الحكمة المتعالية، ج 7، ص 104.

أي فعل شرّاً يستوجب العقوبة والتوبيخ وإن الفعل الذي يصدر عن الإنسان يكون بوصفه فعلاً مصوناً من اتصافه بالخير والشر (الحسن والقبح). إن الذي يجعل من الفعل شرّاً هو القصد والنية، أي الوضع الأخلاقي للفاعل. إن الشرّ الأخلاقي في الأساس عبارة عن فقدان النظم الصحيح في إرادة الإنسان القائمة في الفعل القبيح للإنسان الذي لا ينسجم مع العقل السليم.

ويذهب زينون إلى الاعتقاد قائلاً:

«إنّ أكل لحوم البشر والزنا بالمحارم أو الشذوذ الجنسي ليس خطأ أو مجانب للصواب فى نفسه»(1).

إلا أن الاختلاف والتمايز بين هذين المسلكين يكمن في أن أحدهما يقع في ذات الأفعال والوجودات التي هي في رؤية الفلسفة الإسلامية وجود مساوق للخير. أما الرواقيون فإنهم لا ينسبون أفعال الإنسان إلى الخير أو

الشر بمعزل عن نيّة الفاعل.

الفارق الثاني في ملاك الشر يكمن في الأفعال. كان الفلاسفة المسلمون يرجعونه إلى الأمر العدمي. أما الرواقيون فيصفونه بالنية. وهنا إذا عددنا النية أمراً ،وجودياً، فإنّ ما كان يعدّ عند الرواقيين شرّاً، سيعدّ من وجهة نظر الفلاسفة المسلمين خيراً، ولكن لا ينبغي الخلط هنا بين الخير والشر، وبين الحُسن والقبح. يذهب الفلاسفة المسلمون إلى اعتبار «النيّة الحسنة» - بوصفها فعلاً اختيارياً للإنسان - مصداقاً للخير والحُسن و«النية السيئة» على هذا الملاك مصداقاً ل- «القبح» فقط(2).

ص: 170


1- انظر: فريدريك كابلسون، تاريخ الفلسفة، ج 1، ص 448 و 455.
2- انظر: محمد حسن قدردان قراملكي، أصل عليت در فلسفة وكلام، فصل العلية والاختيار ص 155

الشبهة الثانية: فلسفة خلق أمثال نيرون وصدام:

إن الإجابة المتقدمة قد تكفلت ببيان الفلسفة من خلق الناس الذين ينزعون إلى ارتكاب المعاصي. بيد أن هناك شبهة أخرى تتعلق بخصوص خلق أشخاص بعينهم من أمثال: الحجاج ونيرون وصدام ممن ارتكبوا ما لا يحصى من الظلم والجور والجرائم التي لا تعد ولا تحصى. فلو لم يخلق اللّه مثل هؤلاء الأشخاص على طول التاريخ لأمكن الوقوف بوجه مزيد من الغارات وإراقة

الدماء، ولما تشوهت صفحات كتاب البشرية على هذه الشاكلة وهنا يطرح هذا التساؤل نفسه: لماذا خلق الله مثل هؤلاء الأشخاص؟

مناقشة وتحليل:

1 - خلق الإنسان المختار دون الجاني:

ينشأ أصل هذا الإشكال من أن المستشكل يتصوّر أن الخالق - والعياذ بالله - قد أفرد فى منظومة خلقه ملفاً لخلق الجناة ؛ ليؤاخذهم بعد ذلك؛ في حين أن هذا مجرّد توهّم؛ لأن اللّه لم يخلق غير الإنسان المختار الذي أودع فيه النفس الأمارة التي تنزع إلى المعصية والظلم، وهذا ينطبق على جميع أفراد الإنسانية بمن فيهم الأنبياء والأئمة وأمثالهم. بيد أن بعض الناس يقومون بتهذيب أنفسهم، بينما يعمد بعضهم بإسلاس القياد لها فيرتكبون شتى أنواع الظلم والمعاصي، وبتكرار المعاصي تتحول نفوسهم إلى نفوس حيوانية، وينتج عن ذلك ظهور الجناة. وعليه فإن الذي يصدر عن الخلق الإلهي هو الأشخاص الذين يتمتعون بنعمة الاختيار وإن الارتقاء إلى الكمال ومستوى الملائكة أو الانحدار نحو مستوى الحيوانية والبهيمية يعود إلى اختيار الإنسان نفسه.

ص: 171

وعليه فإن حصيلة الإجابة عن الإشكال القائل: «لماذا خلق اللّه الجناة؟» هي أن اللّه إنما يخلق الإنسان المختار وليس الجاني. ولو صار القرار بأن يقف اللّه بوجه نزعة الإنسان إلى الظلم والمعصية تكويناً، لكان ذلك منافياً الأصل الاختيار وإن الإصرار على ذلك يعني عدم القبول بخلق الإنسان المختار.

2 - خلق الجناة تابع لنظام العلية :

تقدّم في الصفحات السابقة أن أحداث العالم ومن بينها كيفية خلق الناس تقوم على نظام العلية، بمعنى أن ثمرة التزاوج بين الذكر والأنثى في بيئة ومجتمع خاص مثلاً هي ولادة أولاد محددين يتصفون بصفاة أخلاقية خاصة، في حين أن ثمرة الزواج في بيئة أخرى ومجتمع آخر هي ولادة أولاد من نوع آخر من باب المثال إن ولادة نيرون أو صدام من زواج بين شخصين قد سلكت مسارها الطبيعي والتكويني والعلّي وعليه فإن خلق أمثال صدام على هذه الشاكلة لا يُنسب إلى الله، بل إلى نظام العلية.

بعبارة أخرى: إن اللّه لا يضع في منظومة خلقه قناة أو دائرة أو شعبة خاصة لتخريج الجناة والمجرمين، بل إن القناة التي يخرج منها جميع الناس - الأعم من الأنبياء والأئمة والناس العاديين أو الجناة - هي قناة واحدة تقوم على نظام العلية، وهذا النظام تابع بشكل مشترك لعلله وأسبابه الخاصة. وأما إذا كان القرار بأن يتدخل الله في خلق الجناة تكويناً، لكان لازم ذلك التصرّف والتدخل في نظام العلية وإبطاله من الأساس.

3 - اللوازم الباطلة لتدخل الله في خلق الناس:

لو أصرّ شخص على أن يفعل الله شيئاً للحيلولة دون خلق أمثال

ص: 172

نیرون، كأن يحول دون انعقاد نطفته من البداية أو أن يسقطه جنيناً، أو أن يقبض روحه طفلاً، لكي ينجو المجتمع من شرّه في المستقبل.

يجب القول في تحليل ذلك علاوة على ما في هذا الكلام من مخالفة لأصل العلية التي قامت عليها مشيئة اللّه وسنته في إدارة المجتمع، فإن مثل هذا التدخّل يخلق في حدّ ذاته مساحات أخرى ويفتح الباب على مختلف

الاعتراضات، ونشير هنا إلى بعضها على النحو الآتى:

1 / 3 - إن أول اعتراض هنا يمكن أن يصدر عن هذا الشخص المذكور نفسه إذ يقول: كان من المحتمل أن أتغير بتأثير من الكتب السماوية أو استجابة لنداء الفطرة؛ فأختار طريقاً آخر؛ فلماذا حرمتني من نعمة الفيض

والجود والعبودية؟! وإن التمسّك بعلم اللّه بالغيب وما يصير عليه واقع الجاني في المستقبل، لا يكون تاماً بالنسبة إلى الجاني. هذا وقد ذكر الله سبحانه وتعالى أن علة إرسال الأنبياء إلى الكفار الذين لن يؤمنوا أبداً، إنما هو لإتمام الحجّة عليهم وقطع عذرهم واحتجاجهم على اللّه سبحانه وتعالى في يوم القيامة(1).

2 / 3 - إن ارتكاب الظلم واقتراف الجنايات لدوافع مادية ودنيوية لا يقتصر على مشاهير الجناة على طول التاريخ فحسب ، بل إنّ هذه النزعة كما تقدمت الإشارة إليه - موجودة عند كثير من الأفراد، غاية ما هنالك أن

الفرصة لم تسنح لهم لإظهار نزعتهم الإجرامية؛ لعدم وصولهم إلى السلطة. فلو أن الله كان يحول دون خلق أمثال نيرون وصدام والحجّاج؛ لحلّ محلهم جناة آخرون ولساروا على الوتيرة ذاتها؛ لأنّ أرضية المعصية والجناية موجودة لدى

ص: 173


1- انظر: النساء : 165 الملك : 8 طه : 134

الإنسان المختار وعليه فإن هذا المسلسل سوف يستمر، إلا أن يقال بأن على الله أن يحول دون القتل والعنف بتجريد الإنسان من حريته واختياره بيد أن هذا يستوجب ترك الخير الكثير، وإغلاق باب الفيض الإلهي، وقد تقدم

توضیح ذلك في الصفحات المتقدّمة.

3 / 3 - الإشكال الآخر يكمن في قطع الفيض والجود والعبودية على نسل أمثال نيرون، بمعنى أن التاريخ قد أثبت ولادة الأخيار من نسل الأشرار، وقد كان لهؤلاء الأخيار نعم وأيادٍ بيضاء على الحضارة الإنسانية، فلو تمّ

القضاء على اسلافهم الاشرار لحرمت البشرية من فضائل هؤلاء الأخيار وهذا لا ينسجم مع الفيض الإلهي.

4 - التعويض عن حق المقتولين والمظلومين:

لقد أشرنا مراراً وتكراراً في مختلف مواضع هذا الكتاب إلى أن كل أو ظلم أو جور يتعرّض له الفرد من دون إرادته، وكانت أسبابه تعود إلى الكوارث والشرور الطبيعية من قبيل : الزلازل أو الشرور الإنسانية، مثل: الجناية والظلم الفردي، فإن الله سيعوضه للمظلوم والمصاب في يوم القيامة بشكل أسمى وأفضل. كأن يخفف عقوبة المذنبين إذا تعرّضوا لنكبة بسبب الحروب أو الخلافات، أو أنه سيزيد من حسناتهم.

وعليه فإن وقوع الجور والظلم في الدنيا لا ينافي العدل الإلهي أبداً وذلك أولاً: لأن القتل والجريمة إنما ارتكبها الإنسان المختار وليس اللّه سبحانه، وثانياً: إن اللّه سيعوض في يوم القيامة كل ظلم تعرّض له الفرد بما هو أفضل وأكمل.

ص: 174

الشبهة الثالثة: إمكان خلق الإنسان المختار دون الشر الأخلاقي:

في الإجابة عن الشبهة السابقة تمّ الادعاء بأن هناك ملازمة بين الاختيار والشرور الأخلاقية، بحيث لا يمكن تصور فرد مختار لا يرتكب الشرّ الأخلاقي. بيد أن البعض طرح شبهة في قبال ذلك، وقال: لا توجد أيّ ملازمة بين الاختيار وارتكاب الشر، وإنه يمكن من الناحية العقلية أن نتصور شخصاً مختاراً لا يرتكب أي شرّ أخلاقي، ومن هنا فإن المؤمنين ينظرون إلى الأنبياء

بوصفهم معصومين من الخطأ.

وهنا يطرح هذا التساؤل نفسه : عندما يمكن للإنسان المختار أن يكون معصوماً، فلماذا لم يقم اللّه القادر بخلق جميع الناس على شاكلة خلق الأنبياء، بحيث أنهم على الرغم من اختيارهم لا يرتكبون أي شرِّ أخلاقي؟

قال بلانتينغا في هذا الشأن:

«لماذا لم يعمد الله - بدلاً من أن يخلق الإنسان بحيث يختار ضمن خياراته الخير حيناً والشرّ حيناً آخر - إلى خلقه بشكل يكون اختياره واقعاً على الخير دائماً(1)؟

وقال في بيان إمكان عصمة جميع الناس:

«إذا لم تكن هناك استحالة منطقية في اختيار الفرد للخير مرّة أو عدّة مرّات لا تكون هناك استحالة منطقية في أن يختار الإنسان الخير دائماً»(2).

ص: 175


1- ألفين بلانتينغا، كلام فلسفي انتقاء وترجمة: إبراهيم سلطاني وأحمد نراقي، ص 262.
2- المصدر أعلاه، ص 262

وقال جون هاسبرز:

لماذا يستحيل على اللّه منطقياً أن يخلق الإنسان حرّاً،

ومع ذلك لا يكون حرّاً في قتل الآخرين؟ فالإنسان ليس حرّاً في الكثير من الأمور، ومع ذلك فإن هذا لا يمنع من أن نصف الإنسان بأنه كائن مختار(1).

إن الذين يطرحون هذه الشبهة يذكرون الأمور الآتية:

أ - لا ينبغي الخلط بين إمكان «الشر الأخلاقي» وبين فعليته وضرورته. إن الذي يجب حمله على الفاعل المختار بوصفه محمولاً لازماً وضرورياً، عبارة عن إمكان ارتكاب الشرِّ ،وتركه بمعنى أنه لا يمكن أن نستنتج من إمكان الشيء وجوبه وفعليته. وعلى الذين يوافقون على هذه الدعوى (ارتكاب الشر ملازم للاختيار) أن يقدّموا برهانهم.

ومن ناحية أخرى فإن عصمة جميع الناس من بعض الشرور، والأكثر من ذلك عصمة الأنبياء من جميع الشرور الأخلاقية، لهو خير دليل على نفي وجود الملازمة المتقدمة.

ب - لو كان الفرض قائماً على أن يكون الإنسان فاعلاً لأفعاله عن اختيار، وأن يكون اختياره وإرادته بوصفها العلة (الجزء الأخير من العلة التامة)، وأن يلعب دوراً فى خلق الخير والشر، فإن هذا لا ينافي أن يكون الإنسان المختار فاعلاً للخير فقط، وأن يتجنب جميع أنواع الشرور. أجل، إذا قام الفرض على أن لا تقوم بين الإنسان وأفعاله علاقة العلية والمعلولية وإنما هو مجرد الاتفاق» و«الصدفة، ففى مثل هذه الحالة لا يكون صدور الشرور

ص: 176


1- جون هاسبرز فلسفة الدين، ص 210.

الأخلاقية عن الفاعل المختار - على ما تقدّم بيانه - أمراً مستبعداً(1).

بعبارة أخرى عندما يتمّ طرح إشكال لزوم الجبر بالالتفات إلى علم اللّه المسبق والقضاء والقدر الإلهى المحتوم، يجيب المتألهون قائلين: حيث أن متعلق العلم الإلهى هو فعل الإنسان بقيد الاختيار، ومن ناحية أخرى حيث أن مناط الفعل الاختياري لحق الإنسان في الاختيار هو إرادته، لا يرد إشكال الجبر أبداً. ولكن يبقى هناك متسع للإشكال والقول: ما هو المحذور في أن يخلق اللّه الإنسان - وهو القادر المطلق والمحبّ المحض للخير - بحيث لا يرتكب الشرور الأخلاقية بإرادته، أو أن تجبل طبيعته في الحد الأدنى على عدم ارتكاب الجرائم المهولة.

يبدو أن اللّه لم يخلق مثل هذا الإنسان بل إنه قد جبل الإنسان على أنواع مبادئ الشرور الأخلاقية من قبيل: البخل، والأثرة، والنزوع إلى الشر، وأنواع الرذائل ونقاط الضعف وعدم السيطرة على الهوى، والتعجل، وعدم التريث، ليلعب بذلك دوره في صدور الشرور الأخلاقية بوصفه «جزء العلة». وهذا ما تشهد له كثير من الآيات الكريمة والروايات الشريفة، نذكر منها على سبيل المثال:

- «إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا»(2).

- «وَأُحْضِرَتْ الأَنفُسُ الشُّحَّ»(3).

ص: 177


1- انظر: ألفين بلانتينغا، كلام فلسفي "الشر والقدرة المطلقة، انتقاء وترجمة: إبراهيم سلطاني وأحمد نراقي، ص 163 - 164.
2- المعارج: 19
3- النساء: 128

- «خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ»(1).

- «وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا»(2).

- «وروي عن الإمام علي علیه السلام أنه قال: «أكره نفسك على الفضائل، فإن الرذائل أنت مطبوع عليها»(3).

مناقشة وتحليل (التأكيد على ماهية الاختيار):

قبل الإجابة عن الإشكال الذي صاغه بلانتينغا يجب الوقوف عند تعريف الإنسان المختار لنرى هل المراد من الإنسان المختار هو الذي يفعل الأشياء أو يتركها انطلاقاً من الأسباب والمرجّحات أو هو الذي يقوم بها من دون ملاحظة تلك الأسباب والمرجّحات؟ بعبارة أخرى: إن المختار هو الذي يتأثر بادئ الأمر بالمؤثرات الداخلية والخارجية ثم يبادر إلى فعل شيء بكامل وعيه وإرادته بحيث أن هذين القيدين (التأثير والتأثر والعلم والمعرفة) هي التي تصوغ ماهية «الإرادة»، وعند انتفاء أحدهما تنعدم حقيقة الإرادة أيضاً.

هناك اختلاف بين أرباب الفن في تعريف حقيقة الإنسان المختار، وقد ارتضينا في محله النظرية الثانية وقمنا بإثباتها(4). بيد أن كلامنا هنا بيد أن كلامنا هنا مع بلانتينغا الذي يبدو أنه يريد فرض رأيه ومدعاه (إمكان خلق الإنسان المختار بقيد العصمة) من خلال التذرّع بأصل العلية واستحالة الترجيح من دون مرجّح.

ص: 178


1- الأنبياء: 37
2- النساء: 28
3- الآمدي، غرر الحكم ودرر الكلم، ج 1، ص 13.
4- انظر: محمد حسن قدردان قراملکي نگاه سوم به جبر و اختیار (الرؤية الثالثة إلى الجبر والاختيار، ص 94

فنقول : يمكن لنا أن نسأله: ما هو مرادك من خلق الإنسان المعصوم المختار؟ هل المراد أن يودع اللّه في جبلة الإنسان تجاه كل فعل يتوقف تحققه على مجموعة من العلل (العلة التامة) مجموعة من هذه العلل، بحيث تنغلق بوجهه جميع المنافذ المؤدية إلى المعاصي والشرور الأخلاقية، ويعمد الإنسان إلى ممارسة أعمال الخير من تلقائه على نحو ،آلي، من دون تأثّر بالعوامل والأسباب الخارجية؟

إذا كان هذا هو ،مراده، فعندها لا يمكن اعتبار مثل هذا الفاعل مختاراً؛ وذلك لأننا قد ألغينا هنا ركن «التأثير» و«التأثر» عند الإنسان بالأسباب والمؤثرات الداخلية والخارجية.

وأما إذا كان مراده - وهو احتمال بعيد - هو أن اللّه لا يودع في فطرة الإنسان جميع علل القيام بالفعل الإرادي، وإنما يودع في جبلته وفطرته الجزء الرئيس من تلك العلل ؛ ليكون إطلاق صفة المختار على مثل هذا الفاعل على سبيل الحقيقة، أما العلل المتبقية فقد تركت لعهدة الفاعل وكيفية ومقدار تأثره بالعوامل والأسباب الخارجية. وفي هذه الفرضية بحسب أصل العلية واستحالة الترجيح بلا مرجّح - الذي يتبناه بلانتينغا لإثبات مدعاه ونحن نوافقه على ذلك - يجب أن يستند اختيار الفاعل المختار وترجيحه لأحد الفعلين (الخير

والشر) إلى المرجّحات والدوافع التي تستحثّ الفاعل نحو الفعل أو الترك. وإن أحد هذه الدوافع يمكن أن يتمثل في عالم المادة من قبيل: المال والجاه والخليل والشهرة وحبّ الإنسان لبني جنسه وما سوى ذلك. وإنّ تأثير هذه الدوافع يكون سلبياً ويكون إيجابياً أحياناً، إذ إنّها تحفز الإنسان تارة إلى ارتكاب الرذائل والشرور الأخلاقية، وتارة أخرى تحفزه إلى فعل الخيرات. وبذلك فإن

ص: 179

أرضية أفعال الخير والجمال وكذلك الشرور والقبائح الأخلاقية موجودة في ذات الإنسان.

وعلى هذا الأساس ما دام الإنسان يتحلى بعنصر الاختيار، وما دام هو على صلة وثيقة بعالم المادة، فإنه لن يستطيع أن يتجرّد من هذه الأرضية المشتركة، وعليه فإن شخصا مثل بلانتينغا - الذي يعتقد بمبدأ العلية - يجب أن لا يعترض على تأثير العوامل والأسباب السلبية الخارجية، بينما يلتزم الصمت تجاه تأثير الأسباب والعلل الإيجابية.

الشبهة الرابعة: انسجام الاختيار مع العصمة :

ربما يتبرع بعضهم بالنيابة عن بلانتينغا ويشير إلى وجود الأنبياء في الأديان والأئمة الأطهار في التشيّع ويقول: إن ذلك يعني أنهم أفراد يتمتعون بكامل الحرية والاختيار، ومع ذلك هم معصومون من الخطأ. وفي الحقيقة فإن وجود بعض الأفراد المعصومين باسم الأنبياء والأئمة يشهد على إمكان خلق الإنسان المختار الذي لا يرتكب الذنب.

مناقشة وتحليل:

يجب القول في الإجابة عن هذه الشبهة: إن عصمة المعصومين لا تعني أنه لا توجد لديهم أيّ أرضية لصدور الذنب ؛ وإلا لم يكن لهم أدنى فضل أو مباهاة في عصمتهم. وإن العصمة تعني أنهم أشخاص قاموا بتهذيب أنفسهم وعملوا على تعزيز إرادتهم، حتى تمكنوا بفضل الله من بلوغ هذه المرتبة الرفيعة من العصمة.

إلا أن ما ذكره بلانتينغا من القول: «لا يستحيل منطقياً أن يقوم الناس

ص: 180

بفعل الخير على الدوام باختيارهم كلام» متين ،وصائب، إلا أنه لا يستطيع من خلاله أن يثبت مدعاه القائم على (عصمة الإنسان)؛ إذ في «القضية الممكنة»

يصح احتمال وقوع كلا الطرفين (الموافق والمخالف)، ولا يمكن لنا أن نستنتج ضرورة أحد الأطراف من خلال التمسك بإمكانيته. وهكذا الأمر بالنسبة إلى مسألة الاختيار، فإن تصور وجود إنسان مختار معصوم فرضية ممكنة، بمعنى أن الفرد المختار يمكنه أن يوجد أرضية العصمة في وجوده إذا أراد ذلك حقيقة، إلا أن هذا لا يعني أن كل إنسان مختار لا بد وأن يكون معصوماً بالضرورة.

بعبارة أخرى: إن النسبة المنطقية بين الاختيار والمعصية هي نسبة العموم والخصوص من وجه بمعنى أن الاختيار قد يجتمع مع عدم المعصية أحياناً، وقد يجتمع مع المعصية أحياناً، لا أنه كلما كان هناك اختيار، كان هناك عصمة أو ارتكاب للذنب حتماً. إذن يمكن القول: كما «لا يستحيل منطقياً أن يختار الناس فعل الخير دائماً»، كذلك يصحّ القول: «لا يستحيل منطقياً أن يختار الإنسان فعل الشر دائماً أو في بعض الأحيان».

بعبارة أخرى: إن اللّه لم يخلق أشخاصاً معصومين على المستوى الذاتي، وإنما خلق أشخاصاً مختارين، وإن هؤلاء هم الذين يسلكون الطريق الذي يبعدهم عن ارتكاب الذنب بإرادتهم واختيارهم وبطبيعة الحال لا يمكن لنا أن تنكر شمول العناية الإلهية لمثل هؤلاء الأشخاص.

الشبهة الخامسة : علة عدم ضبط الله لإرادة الشر والمعصية

أدرك المنتقدون ضعف نظريتهم القائمة على إمكان خلق الإنسان المختار والمعصوم في الوقت نفسه، واعترفوا بأن خلق الإنسان المختار الذي

ص: 181

يستحيل أن يصدر عنه الخطأ والشر الأخلاقي هو في حدّ ذاته محال عمدوا إلى عرض شبهة أخرى على النحو الآتي: لماذا لا يقوم الله - وهو الخالق القادر المطلق والمحبّ المحض للخير - بالحيلولة دون الإرادة الشريرة للمذنبين والظالمين؟ قال بلانتينغا بهذا الشأن:

«لماذا يتعيّن على اللّه أن يمتنع من ضبط إرادة الأشرار؟ لماذا لا يبقي على حريّتهم ما داموا يسلكون طريق الصواب، حتى إذا همّوا بسلوك طريق الخطأ حال دونهم ودون حريّتهم؟»(1).

وقال جون هاسبرز:

«لماذا يستحيل على اللّه منطقياً أن يخلق الإنسان حرّاً،

ومع ذلك لا يكون حرّاً في قتل الآخرين؟ فالإنسان ليس حرّاً في الكثير من الأمور، ومع ذلك فان هذا لا يمنع من أن نصف الإنسان بأنه كائن مختار»(2).

مناقشة وتحليل:

مما تقدم تتضح إجابة المتألهين عن هذه الشبهة. فإن السيطرة على إرادة الأشرار وضبطها يعني سلب حريتهم ، واختيارهم، وهذا يساوق فقدان القيم والخيرات الأسمى التي يحصل عليها الإنسان من طريق «الاختيار». توضيح ذلك أن المحدودية وسلب حرية الإنسان يمكن تصورها وتحقيقها في المرحلتين الآتيتين:

ص: 182


1- ألفين بلانتينغا، كلام فلسفي الشر والقدرة المطلقة انتقاء وترجمة: إبراهيم سلطاني وأحمد نراقي، ص 164
2- جون هاسبرز فلسفة الدين، ص 120

1 - التصرف في النية والحافز يؤدي إلى الجبر:

وذلك بأن يقوم اللّه سبحانه منذ البداية دون تحقق النيّة لدى الفرد بارتكاب المعصية، كأن لا يكون لدى أيّ شخص دافع أو ميل طبيعي أو ذاتي إلى اقتراف الذنوب، وإنما تقتصر ميوله ودوافعه على تحفيزه نحو فعل الخيل ،والجمال غاية ما هنالك أن هذه الدوافع فيما يتعلق بالمستحبات - دون الواجبات - ذات مراتب تشكيكية، فهي قد تزيد عند بعض وتنقص عند بعض آخر.

يجب القول في تحليل هذه الفرضية؛ أولاً: إن خلق مثل هذا الكائن [الفاقد للقدرة على مخالفة أمر اللّه ] قد سبق أن كتب له التحقق في أشخاص الملائكة، وهناك مراتب ومقامات متفاوتة تميّز بينهم. واضح أن قيمة وامتياز أفعال الخير الصادرة عن مثل هذا الكائن لا يمكن أن تعدّ شيئاً - مهما بلغت - بالمقارنة إلى أفعال الخير الصادرة عن شخص قادر على فعل الشرور واقتراف ومع ذلك يترفّع عن فعلها. والفرق بينهما كالفرق بين الإنسان الآلي المبرمج على فعل الخير؛ بحيث لا يمكنه أن يقوم بغير ذلك، وبين إنسان طبيعي تدفعه الغرائز والشهوات إلى ارتكاب المعاصي، ومع ذلك يتغلب على جميع شياطينه بقوة إرادته، ويصرّ على كبح جماح الهوى، ويبادر إلى فعل الخير بإرادته.

وثانياً: هل يمكن في الأساس خلق مثل هذا الإنسان تكويناً؟ يبدو أن الدافع والحافز إلى بعض أعمال الخير والشرّ في الإنسان واحدة ومشتركة، بحيث يُشكّل وجود أحدهما أرضية لوجود الآخر. فعلى سبيل المثال: غريزة الشهوة وحبّ الجمال تشكل أرضية للزواج وإقامة العلاقات الجنسية - الأعم

ص: 183

من الحلال أو الحرام - فإذا امتنع اللّه من خلق هذه الغريزة والعنصر التكويني في الإنسان تحت ذريعة أنها تؤدي إلى ارتكاب الحرام، كان لازم ذلك عدم رغبة الإنسان بإقامة علاقة جنسية حتى على مستوى الزواج المباح شرعاً، وهذا سيؤدي بدوره إلى عدم التناسل وانقراض الإنسان. وأما في حالة الخلق التكويني لهذه الغريزة في الإنسان فيمكن للعلاقة الشرعية أن تحول إلى حدّ ما باختيار الإنسان وإرادته من العلاقة غير الشرعية أيضاً.

المثال الآخر: إن من بين الأسباب الرئيسة إلى الظلم والجور هو حبّ الدنيا ومنصب الرئاسة ومنافعها، إلا أن هذين الحافزين إذا لم يودعا في جبلّة الإنسان، لأدى ذلك إلى أضرار كبيرة مثل عدم عمارة الدنيا وعدم التقدّم، ومن جهة أخرى فإن وجود هذه الغريزة يؤدي إلى ارتكاب الظلم، إلا أن تعديل هذه الغريزة والسيطرة عليها يمكنه أن يؤدي بنا إلى طريق ثالث.

حصيلة الكلام أن الدوافع والحوافز إلى مبادئ بعض أفعال الخير والشرّ واحدة ،ومشتركة حتى لا يمكن التفكيك والفصل بينهما. فإن حبّ الجمال أو الدنيا إما يجب أن يكون أو لا يكون. وعليه يستحيل أن يخلق اللّه

في الإنسان غريزة فعل الخير مجرّدة عن غريزة فعل الشر على المستوى العملى والتكويني. وأمّا أن يقوم اللّه بالتدخل في الحيلولة من دون اقتراف الإنسان للمعصية بعد مرحلة انعقاد النية لديه، فإنه سيتضح من خلال تحليل ومناقشة المسألة الآتية.

2 - التصرف في الفعل يؤدي إلى الجبر:

إنّ هذه الفرضية تقول: إنّ اللّه يستطيع أن يخلق الدوافع والمبادئ

ص: 184

المشتركة التي تدفع إلى الشرّ والخير لدى الإنسان على السواء. بيد أنه في مقام العمل - حيث يبادر الإنسان إلى التوجه نحو اقتراف الذنب - يعمل على الحيلولة دون ذلك وفي تحليل هذه الفرضية نصل إلى الأمور الآتية:

ا- عدم انسجام هذه الفرضية مع قانون العلية: إن عالم التكوين - ومن جملته أفعال الإنسان - يُدار في ضوء قانون عام هو قانون العلية. فلو قام اللّه بالتدخل والتصرّف في كل فعل يؤدي إلى المعصية، كأن يُشلّ حركة الفرد عندما يهمّ ّبارتكاب الذنب، أو يُخرس لسانه عندما يروم اغتياب أخيه، أو يُصمّ آذانه عند استماع الغيبة فإن نظام العلية سوف ينهار.

ب - عدم الكمال: ربما قيل: إن السلوك على خلاف قانون العلية حيث يكون لصالح الإنسان يمكن أن يكون مبرّراً للخالق والقادر المطلق. ولكن علينا أن ندقق في أنّ هذا الفعل ليس فيه مصلحة للإنسان، بل هو مخالف لكماله أيضاً؛ وذلك لأن ردع الإنسان عن فعل المعصية بالإكراه والتكوين لا ينطوي على أي كمال بالنسبة له فهو من قبيل ابتعاد الملائكة عن المعاصي، أو المقيدين في الأغلال عن ارتكاب الجرائم، فلا يكون في ذلك ما يدعو إلى الثناء والاستحسان. بل الذي يعدّ من الكمال الحقيقي ويكون مدعاة إلى الفخر والمباهاة، وتفضيل الإنسان على غيره هو كفّ النفس وصيانتها وردعها عمّا

يدنسها من خلال الإرادة والاختيار.

المبحث الثاني: الأمراض الجسدية والنفسية:

القسم الثاني من الشرور التي تصيب الإنسان هي الشرور التي تنشأ عن الطبيعة والعالم المادي.

ص: 185

الشبهة السادسة : فلسفة وجود أنواع الأمراض والمكروبات:

ليس هناك إنسان إلا ويصاب مرّة واحدة في الحدّ الأدنى طوال عمره بمرض أو ألم في جسده، ومن أكثر هذه الأمراض شيوعاً هو الزكام أو الصداع أو وجع الأسنان. والسؤال هنا: لماذا لم يخلق اللّه الإنسان بحيث لا يبتلى في الدنيا بأي مرض أو ألم؟

وبعبارة أخرى: لماذا خلق اللّه في الطبيعة مختلف أنواع المكروبات والفايروسات التي تصيب الإنسان فيبتلي بأنواع الأمراض، من قبيل: الأمراض القلبية والرئوية والكلوية إلى الوباء والسرطان والإيدز وما إلى ذلك، فيعاني نتيجة لذلك من آلام مبرّحة وقد تؤدي في بعض الحالات إلى فقدان حياته وموته؟

مناقشة وتحليل:

1 - المكروبات هي اللازمة المفيدة للعالم المادي والإنساني:

إن الإنسان بطبعه يرتعب من المكروبات(1)، ولكن علينا أن ندرك أن

ص: 186


1- المكروبات هي كائنات مجهرية لا يمكن مشاهدتها بغير العين المسلحة بأنواع المجاهير القوية. وهي تعيش بالملايين في أجسادنا أو في الفضاء المحيط بنا. ومنها ما لا يكون له أدنى تأثير في التفاعلات البايولوجية لأجسامنها ووظائفها الفيزيائية والكيميائية. وتنقسم المكروبات إلى ثلاثة أقسام، وهي: البكتريات والفايروسات والفطريات. أ - البكتريا وهي التي تعمل على تخيّر بعض الأطعمة وتعفنها مثل اللبن وغيره، وهنا تساعد بعض البكتريات في تصنيع اللبن الزبادي من الحليب، وتحويل الفضلات الحيوانية إلى الأسمدة العضوية والحيوية التي تساعد في إغناء التربة. كما تساعد بعض البكتريات في أجسامنا على تسهيل عملية هضم الطعام. ومنها ما يتسبب بإصابتنا بأوجاع في الأذن أو السعال وذات الرئة، أو ظهور بعض أنواع الدم على أجسادنا. والذي يجعل من البكتريات عامل تهديد لحياتنا هو تكاثرها السريع، وإن البكتريات تحتاج في نموها وتكاثرها إلى الطعام، فعلى الرغم من أن البكتريا الواحدة لا تمتلك فماً ولا معدة، إلا أنها تتغذى على الأطعمة المتحللة في السوائل، ولكي تهاجمنا البكتريات فإنها تعمل أول الأمر على إفراز نوع من السم؛ فتقضي على ذلك الجزء الذي تعيش فيه من أجسامنا، ثم تفرز مادة كيميائية أخرى تعمل على تجزيء وتقطيع ذلك الجزء من جسمنا إلى ذرات صغيرة ثم تهضمها، وفي نهاية المطاف تعمل البكتريات على امتصاص تلك الذرات الصغيرة إلى داخلها بواسطة الثقوب الموجودة على جدارها الخارجي. ب - الفيروسات إن الفيروسات ليست عبارة عن خلايا، كما يذهب بعض علماء الأحياء إلى القول بأنها ليست كائنات حية. وهي أصغر حجماً من البكتريات بألف ألف مرة وهي لا تستطيع الحركة أو تناول الطعام أو الانتقال من مكان إلى آخر، بخلاف البكتريات التي تستطيع الحركة وتناول الأطعمة إن الفيروسات تعشش في أجزاء خاصة من أجسادنا وتنتقل عبر مجرى الدم، وتنتقل إلى خارج أجسادنا من طريق ترشحات الأنف والسعال والعطاس ج - الفطريات وهي مجموعة من أنواع الطفح التي يؤدي بعضها إلى ابتلاء الناس بالأمراض. وهناك كائنات حية أخرى تتسبب بإصابتنا بالأمراض الأخرى، وهي الديدان التي منها ما يتألف خلية واحدة، ويتسبب بعضها بإصابة بعض الأفراد بالإسهالات الدموية. كما أن الملاريا تنتج بتأثير بعض الديدان التي تنمو في كريات الدم الحمراء وتتكاثر فيها ثم تقضي عليها.

المكروبات تشكل جزءاً لا يتجزّأ من الكون والوجود، وهي ضرورية لاستمرار حياة النباتات والحيوانات والإنسان وبعبارة أخرى إنها ضرورية لاستمرار دورة الحياة. وقد أصبح دور المكروبات في تغيير مختلف المواد وتحوّلها إلى مواد ضرورية واضحاً لمختلف الفروع العلمية من قبيل: المكروبايولوجيا التربة والنبات والبايولوجيا العامة.

ص: 187

إن استمرار حياة النباتات من قبيل: الخضروات والفواكه وكذلك الحيوانات - التي تشكل مصدراً غذائياً لنا - يتوقف على المواد العضوية والغذائية الموجودة في التراب، وهي تتكوّن بدورها من بقايا الحيوانات

والنباتات، وإن المكروبات والبكتريات هى التى تتولى عملية تحليلها وتجزيئها.

ربما كان أهم دور تلعبه مكروبات التربة يكمن في إسهامها في الدورة البيوجيوكيميائية التي تساعد على تدوير بعض العناصر الكيميائية في الطبيعة فتجعلها قابلة للاستهلاك، من قبيل الكاربون والأوزوت والكبريت والفسفور.بحيث لو لم تقم المكروبات بهذا النشاط لتدوير العناصر في الطبيعة، لتم استهلاك الموجود منها، ولتوقفت الحياة بعد استهلاكها من باب المثال هناك مكروب يدعى لاكتوباسيلوس يساعد على اكتساب بعض الأطعمة طعماً حامضاً خاصاً، وهناك مكروب يدعى أسيلوس تورنجينسيس (bt) وهو من بكتريات التربة الشائعة التي تعمل بوصفها مبيداً طبيعياً في الحدائق والمزارع.

ومن بين أشهر أنواع المكروبات فطر يدعى (ساکاروميسيس سرويزيه) ويعرف بوصفه مخمراً للعجين، ويلعب دوراً رئيساً في طبخ الخبز.

وهناك بكتيريا باسم (استوباكتر) تعمل على تغيير سكر الكلوكوز لتنتج مادة ثانوية باسم فيتامين C ويستفاد حالياً من البكتريات بوصفها وسيلة لتنظيف البقع النفطية إن هذه البكتريات البحرية تتغذى على البقع النفطية وتحولها إلى دى أوكسيد الكاربون والمشتقات الثانوية الأخرى غير الضارّة.

كما أنها تلعب دوراً في إيجاد أنواع الالتهابات من قبيل: التهابات الأجهزة الإدرارية من هنا فإن هذه الكائنات غير المرئية رغم تناهيها في

ص: 188

الصغر تضطلع بأهم المسؤوليات الكبرى في دورة الحياة على هذا الكوكب (1).

هناك في قبال كل خلية من خلايا أجسادنا توجد عشر خلايا مكروبية يعيش معظمها في الأمعاء. من باب المثال تعمل بكتريا (اشريشيا كلي) على إنتاج مادة تدعى (بوتيت) لتوفر وقوداً حيوياً لخلايا جدران الأمعاء كيما تساعدنا على هضم الأشياء التي لا نستطيع هضمها. في حين أن هذه المكروبات نفسها عندما تدخل في ماء الشرب أو المواد العذائية الأخرى تؤدي

إلى التسمّم.

2 - التقدم العلمي مهد شيوع الأمراض

على الرغم من تطوّر العلوم التجريبية والعثور على علاج للأمراض القديمة، إلا أن هذه العلوم نفسها - للأسف الشديد - تؤدي في بعض الأحيان إلى شيوع أنواع جديدة من الأمراض. فعلى سبيل المثال: رغم توصّل العلم الحديث إلى القضاء على الآفات الزراعية بمختلف السموم مثل ال_ (D.D.T) بيد أن هذه السموم بعد أن تقضي على الآفات تترسّب في النباتات، لتدخل هذه السموم والمكروبات إلى أجساد الناس بشكل مباشر (عن طريق تناولهم لتلك النباتات)، أو بشكل غير مباشر (عن طريق أكلهم لحوم المواشي التي تتغذّى على هذه النباتات)، وتتسبب لهم بالابتلاء بمختلف الأمراض، من قبيل: السرطان مثلاً. وهنا لا يعود السبب إلى اللّه سبحانه وتعالى، بل إلى الإنسان الذي لا يراعى القواعد الصحية في مثل هذه الموارد.

ص: 189


1- لمزيد من التوضيح انظر كيتي امتيازي ميكروبيولوجي خاك؛ فريدون ملك زاده و منوجهر ،شهامت میکروبیولوجي عمومي؛ ترزا کربناوي جرخه كياه، ترجمه إلى الفارسية: مجيد عميق ومحمد باي يوردي؛ فيزيك خاك.

3 - الطرق التكوينية لمواجهة المكروبات:

ربما توهم شخص للوهلة الأولى بأن الله لم يتخذ أيّ إجراء من أجل ضمان سلامة الإنسان ومكافحة المكروبات. بيد أننا إذا أمعنا النظر في مقام

التكوين والتشريع سندرك ان الله سبحانه وتعالى قد اتخذ إجراءين لتحصين الإنسان من مخاطر المكروبات، وأحد الإجراءين هو الإجراء التكويني الذي يشكل عنصراً في خلق الإنسان، والإجراء الثاني هو الإجراء التشريعي، من خلال وضع القوانين والأحكام الناظرة إلى المسائل الصحية. وسوف نشير بداية إلى المقام الأول.

لقد خلق اللّه تعالى جسم الإنسان بحيث يمكنه من مواجهة المكروبات الضارّة فى حدود الإمكان، وهذا هو ما توصل إليه المتخصصون في حقل علم الأحياء والطب مؤخراً، وفيما يأتي نكتفي بالإشارة إلى عناوينها.

1 / 3 - الجلد يقوم الجلد بوظيفة الحفاظ على الجسم. ولمّا كانت الكائنات التي تسبب الأمراض لا تستطيع النفوذ من خلال الجلد السليم. فإن السطح الخارجي للجسد يشتمل على نظام يحول بشكل طبيعي من دون دخول الأجسام الغريبة إلى داخل الجسد ويعمل على دفعها إلى الخارج. والجلد يشكل مانعاً طبيعياً أمام دخول المكروبات. كما أن الغدد الموجودة في الجلد تعمل على إفراز مواد تحتوي على أمصال مبيدة للمكروبات. وعلى سبيل المثال يمكن لنا أن نذكر الدموع التي تخرج من العين، إذ إنها تعمل على تطهير العين من الذرات الخارجية العالقة على سطحها، وفي الوقت نفسه تحتوي على إنزيمات قادرة على قتل المكروبات.

2/ 3 - :المخاط: إن الجلد ليس هو المدخل الوحيد الذي يمكن

ص: 190

للمكروبات أن تنفذ من خلاله إلى داخل جسم الإنسان، وإنما يمكن لها أيضاً أن تدخل من خلال منافذ أخرى مثل: الفم والأنف أيضاً. إن الفضاء الداخلي للفم والأنف يحتوي على مادة رطبة ولزجة نسبياً (شبيهة باللعاب)، وهي المادة التى يُطلق عليها المخاط. ويعمل المخاط على اجتذاب المكروبات، ولاحتوائه على مادة قاتلة للمكروبات، فإنه يقضي على كثير منها. وبطبيعة

الحال هناك من المكروبات ما يدخل إلى المعدة مع الماء والطعام، وهناك تفرز المعدة مادة تقتل أكثر البكتريات.

3 / 3 - مواجهة المكروبات المهاجمة تعمل المكروبات والبكتريات أحياناً على غزو الجسم من مختلف الطرق كالأطعمة أو الجروح التي تحدث على سطح الجسم. حيث يسقط الخط الدفاعي الأول للجسم المتمثل بالجلد، وبعد ذلك يمكن للبكتريات أن تتكاثر داخل جسم الإنسان، وتنتشر عبر الدم في جميع أنحاء الجسم، ويُصاب الإنسان بالمرض. وهنا يبدأ الجسم باتخاذ العدّة لمواجهة المكروبات المهاجمة حيث تتولى كريات الدم البيضاء مهمّة مواجهة المكروبات. وتعمل بعض هذه الكريات على إفراز مادة شبيهة بالمضادات الحيوية، ويمكن لهذه المادة أن تقضي على بعض البكتريات الخاصة. وعليه فإن كل نوع من أنواع البكتريات المختلفة يحتاج إلى مضاد خاص به، ولا يمكن لنوع واحد من المضادات أن يقضي على جميع البكتريات. وإن الخلايا الأولى التي يصدر عنها ردود فعل هي تلك التي يطلق عليها اسم آكلة الدخلاء أو ال_ (نوتروفيل والمكروفاج) والتي تبتلع المكروبات بواسطة الأنزيمات الموجودة فيها فتقضي عليها، فإذا لم تتمكن هذه الأنزيمات من دحر هجوم المكروبات فإن هذه المكروبات سوف تتسلل إلى الغدد اللمفاوية، لتدخل الطحال من

ص: 191

خلال العروق الدموية، وهناك ستعمل الغدد اللمفاوية من نوع T و B على مواجهة المكروبات بشكل خاص وتستثار خلاياها ضدّ المكروبات. وعلاوة على ذلك هناك مادة بروتينية باسم كمبلان تتواجد في الدم بشكل طبيعي، ويمكنها أن تتصل بالمكروبات المعقدة، لتبتلعها أكلات الدخلاء بسهولة وسرعة فائقة.

وهكذا فإن افرازات المعدة تقضي أيضاً على أعداد كبيرة من المكروبات التي تدخل إليها من طرق الفم وعبر الأطعمة، وهناك مكروبات غير وبائية تتواجد في الأمعاء بشكل طبيعي وتلعب دوراً هامّاً في الدفاع عن جسم الإنسان في مواجهة المكروبات الغريبة.

وفي الجهاز البولي، تقوم عملية الإدرار أو الجهاز التناسلي عند النساء يشكل حامض اللاكتيك والليزوزيوم مانعاً أمام دخول المكروبات إلى الجسم(1).

4 - الطرق التشريعية لمواجهة الأمراض وضمان السلامة

أما المساحة الثانية التى يعمل الله سبحانه وتعالى فيها لضمان سلامة الإنسان على المستوى الصحي ومواجهة تسلل المكروبات إلى الجسم، فهو وضع الأحكام التشريعية الخاصّة في مجال الصحة وكما يمكن للفرد أن يحدّ من أضرار الكوارث الطبيعية من قبيل السيول والحرائق والزلازل، يمكنه كذلك أن يحدّ من مخاطر المكروبات وأضرارها والابتلاء بأنواع الأمراض من خلال

ص: 192


1- نقلاً عن موقع سلامت (salamat) ، وكتاب العلوم التجريبية للمرحلة الخامسة الصادر عن وزارة التربية والتعليم.

رعاية بعض الطرق والقواعد الصحيّة. وقد قدّم اللّه سبحانه وتعالى هذا السبيل العلاجي للبشرية من خلال مصدرين: الدين ،والعقل، كيما يجتنب الإنسان الوقوع في المرض إلى حدّ ما من خلال رعاية القواعد الصحية العامة. وفيما يأتي نشير إلى بعض النصوص الدينية الواردة في هذا المجال كي يتضح مدى اهتمام اللّه عزّ وجل بضمان السلامة للإنسان.

1 / 4 - الصحة الشخصية : لقد أولى الأنبياء وعلى رأسهم النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم مسألة النظافة في مختلف أبعاد الحياة أهمية قصوى، حتى عدّوها من جملة التعاليم الدينية، بل هي من أصول هذه التعاليم، وقد ورد في بعض النصوص الدينية: من أخلاق الأنبياء التنظيف والتطيّب وحلق الشعر»(1).

كما ورد في الحديث المعروف: «النظافة من الإيمان»(2).

وإن تشريع كثير من الأغسال في مختلف الأزمنة والأوقات ،والمناسبات من قبيل: غسل العيدين والجمعة والجنابة، والدورة الشهرية للنساء، وغسل مسّ الميّت (3)، وكذلك التأكيد على الوضوء، وغسل اليدين قبل تناول الطعام وبعده، يعكس مدى اهتمام الإسلام عملياً بمسألة النظافة والطهارة.

كما أن التأكيد على طهارة ماء الغسل أو الوضوء، وعدم ملاقاته للنجاسة إذا كان قليلاً، وكذلك النهي عن تنجيس الماء الراكد(4)، يعكس

ص: 193


1- محمد بن يعقوب الكليني، ج 5، ص 567؛ محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 11، ص 66.
2- محمدي ري ،شهري ميزان الحكمة ، ج 10، ص 94.
3- انظر: المصدر أعلاه، ج 3، ص 2253 هامش مفردة (غسل).
4- انظر: محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 80 ص 188

اهتمام الإسلام بمسألة الطهارة والنظافة. ويمكن لنا أن نستفيد اهتمام الإسلام

بمسألة الطهارة والنظافة وسلامة الإنسان - بوصفها واحدة من الغايات لا كل الغايات - من الغسل في قول الله سبحانه وتعالى:«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنتُمْ جُنَّبًا فَاطَّهَّرُوا »(1).

2 / 4 - الصحة الغذائية: إن الطعام من الحاجات الطبيعية للجسم والتي لا غنى للإنسان عنها للحصول على الصحّة والقيام بمختلف النشاطات الجسدية والفكرية وقد تركت التعاليم الإسلامية من خلال آيات القرآن الكريم والأحاديث المأثورة عن الأئمة المعصومين علیهم السلام- التي تقسم الأطعمة والأغذية إلى الطيبات والخبائث - أثراً إيجابياً على سلامة الإنسان.

فالأطعمة الطيبة هى الأطعمة الطاهرة والنظيفة التي يتقبلها الطبع السليم، ويجد لذة في أكلها (2)

وقد قال تعالى في محكم كتابه الكريم خطاباً للمؤمنين: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا الهَ إِنْ كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ»(3).

وقد عرّف اللّه سبحانه وتعالى الدين في القرآن الكريم بأنه يتناسب مع الفطرة الإنسانية، وذلك إذ يقول:«فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا»(4)وعلى هذا الأساس يأمر الناس بأكل الأطعمة الطيبة

ص: 194


1- المائدة: 6
2- :أنظر الراغب الإصفهاني، مفردات القرآن، مادة (طيب).
3- البقرة : 172، وبهذا المضمون أيضاً: المائدة: 4 البقرة: 75؛ الأعراف: 157المؤمنون: 51؛ النحل : 114 - 115؛ طه: 81؛ المؤمنون: 51
4- الروم: 30.

والطاهرة التي توافق طبيعته وفطرته). وقد صرّح القرآن بتحريم الخبائث التي ينفر الإنسان منها بشكل تلقائي وطبيعي إذا كان يمتلك طبعاً سليماً. قال تعالى: «وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ»(1).

وقد تعرّضت التعاليم الدينية لهذا الشأن بتفصيل أكبر، وبادرت إلى تعريف الخبائث، وأشارت إلى فلسفة المنع ،وحكمته، وقد صرّح القرآن الكريم بتحريم بعض الأطعمة وحظر تناولها على المؤمنين، ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ»(2).

وبشكل عام فإن الطبع السليم ينفر من أكل الميتة، ويرى ذلك أمراً يتنافى والكرامة الإنسانية.

وقد كان للأنبياء وعلى رأسهم النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم إشارات دقيقة في آداب تناول الطعام ومن بينها النهي عن الأكل على شبع، أو الإفراط في تناول الطعام(3).

إنّ الخمر وغيره من المشروبات الكحولية تعرض اليوم أرواح وصحّة آلاف من أبناء البشر. وقد خطى العالم الغربي خطوات كبيرة في حظره وفرض القيود عليه من قبيل منع شربه أثناء قيادة السيارة. أما الأنبياء فقد حرموه بشكل مطلق، وحددوا عقوبة لمن يشرب الخمر، قال تعالى: «يَسْأَلُونَكَ عَنْ

ص: 195


1- الأعراف: 157
2- المائدة: 3.
3- انظر: محمدي ري شهري ميزان الحكمة، ج 1، ص 90 ، هامش مفردة (أكل)

الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا»(1)، وقال أيضاً:«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ»(2).

كما حرّم الإسلام تناول أي مادة تؤكل أو تشرب إذا كانت تضرّ بسلامة الجسم.

3 / 4 - صحّة الجسم: تشير الأحكام الدينية إلى ضرورة التخلص من بعض أنواع الشعر من قبيل : الشارب، والشعر الذي ينبت تحت الإبطين، وشعر العانة وما سوى ذلك، مما لا يعدّ زينة، ويكون مرتعاً مناسباً لأنواع الجراثيم والفطريات(3). وأما بشأن شعر الرأس فقد تمّ التأكيد على نظافته فقط(4).

وكان النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم يوصى بتقليم الأظفار للرجال في أوقات محدّدة وكان يطالبهم بجمع قلامة الأظفار ودفنها تحت التراب عند الإمكان(5).

وروي عن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم أنه قال:«مازال جبرئيل يوصيني بالسواك حتى ظننت أنه سيجعله فريضة»(6).

ص: 196


1- البقرة : 219
2- المائدة: 90 وانظر أيضاً محمدي ري شهري، ميزان الحكمة ج 2، ص ، ص 812 هامش مفردة (خمس)
3- انظر : محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 76، ص 123؛ محمدي ري شهري، ميزان الحكمة، ج ،4 ص ،2774 ، هامش مفردة (اللحية).
4- انظر: محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 76، ص 83.
5- انظر: المصدر أعلاه، ج 76 ، ص 123؛ محمدي ري شهري، ميزان الحكمة، مفردة ج2 هامش مفردة (ظفر)
6- محمدي ري شهري ميزان الحكمة، ج 2، ص 1394 ، هامش مفردة (السواك).

كما يتضح من عموم التعاليم الدينية أن مضغ الأشياء المعطّرة التي تساعد على نظافة الفم، أمر مطلوب ولا إشكال فيه(1).

3 / 4 - الأمر بتناول الدواء عند الإصابة بالمرض: إن سبل الأنبياء والأديان السماوية لضمان الصحة والسلامة لا تقتصر على الوسائل الوقائية فقط، وإنما تذهب إلى ما وراء ذلك أيضاً، ولا يتمّ الاكتفاء بمجرد الأدعية والأحراز - كما يتوهّم بعضهم - وإنما تقول بوجود علاقة العلية والمعلولية بين الداء والدواء، وتنصح المريض بتناول الدواء من أجل الحصول على الشفاء. وقد أشار النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم إلى وجود وصفة لكل داء إلا الموت، إذ روي عنه أنه قال:«إن اللّه تعالى لم ينزل داء إلا أنزل له دواء علمه من علمه وجهله من جهله إلا السام وهو الموت»(2). وهو أمر يلوح منه أن بإمكان الإنسان أن يتوصّل إلى اكتشاف الأدوية لجميع الأمرض باستثناء الموت. الأمر الآخر أن الروايات منعت من التسرّع في تناول الأدوية من دون أن تكون هناك حاجة إليها(3).

4/5 - تحريم العلاقات الجنسية غير الشرعية: إن من بين الأمور التي تعرض صحّة الإنسان للخطر هى العلاقات الجنسية المنفلتة وهي المعضلة التي يعاني منها الغرب، حتى أنها تكلفه آلاف بل ملايين الضحايا، ومن بين أبرز الأمثلة على ذلك مرض نقص المناعة، المعروف ب_ (الأيدز).

وسبيل علاج هذه الظاهرة يكون عبر إقامة العلاقات الجنسية الصحيحة والسليمة. وقد عمل الأنبياء في عصورهم على تنظيم العلاقات الجنسية،

ص: 197


1- انظر: محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 80، ص 346
2- محمدي ري ،شهري ميزان الحكمة، ج 2، ص 940، هامش مفردة (التداوي
3- انظر: المصدر أعلاه

وحرّموا ما كان منها يتنافى وطبيعة الإنسان وفطرته، من قبيل: الزنا (1)واللواط (2)، وحدّدوا عقوبات عليها.

4/6 - النظافة فيما يتعلق بالأدوات الشخصية والاستهلاكية المورد الآخر فيما يتعلق بضمان الصحّة الجسدية هو رعاية النظافة في الوسائل الاستهلاكية، من قبيل: أواني الطبخ وتناول الطعام، إذ أكّدت الروايات على ضرورة غسلها وتنظيفها(3).

كما يجب عدم الاشتراك في استعمال الأدوات الشخصية من قبيل: المنديل والمشط والسواك.

7 / 4 - نظافة الثياب: إن نظافة الثياب وكيفيتها وحتى لونها من الموارد التي حظيت باهتمام التعاليم الدينية، وقد تّمت الإشارة في بعضها إلى موارد خاصة. وقد نصح النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم في بعض الموارد إلى نظافة الثياب، ولبس الأبيض منها(4).

كما أن شرطية الطهارة ونظافة الثياب في الصلاة الواجبة والمستحبة، تلزم المؤمنين بالاهتمام كل يوم بطهارة ونظافة الجسم والثياب خمس مرّات في الحدّ الأدنى، والتأكد من عدم إصابتها بالأدران والنجاسات من قبيل: الدم والبول وما إلى ذلك من الفضلات مما يشكل عنصراً رئيساً في اجتذاب مختلف المكروبات والحشرات الضارّة(5).

ص: 198


1- انظر: الإسراء: 23
2- انظر: الشعراء: 166؛ وانظر أيضاً: محمدي ري شهري ميزان الحكمة، ج 4، ص 2805.
3- انظر: المصدر أعلاه، ج 10، ص 93
4- انظر: محمدي ري شهري ميزان الحكمة، ج 4، ص 2762، هامش مفردة (لباس).
5- انظر: باك نجاد أولين دانشكاه و آخرین بیامبر، ج 18

8 / 4 - نظافة البيئة : إن لرعاية النظافة في البيئة التي نعيش فيها، الأعم من البيت والزقاق والشارع والأماكن العامة، من قبيل: المساجد والمدارس وما سوى ذلك تأثيرات كبيرة على سلامة الإنسان وصحّته. ونجد التعاليم الدينية تدقق في هذا الشأن حتى في طريقة اختيار موضع النوم والأكل والجيران (1). من : قبيل كراهة الاحتفاظ بكلب في البيت أو النوم على انفراد،

أو النوم تحت الأشجار في الليل.

وللمحافظة على السلامة والصحة العامة في البيئة، وعدم التسبب بأزمة بيئية، نهت الروايات عن قضاء الحاجة في الأنهار وتحت الأشجار المثمرة(2).

وقد أمر النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بنظافة البيت وكنسه من الأوساخ(3).

وكذلك أكدت الروايات على عدم إلقاء الأنقاض خلف المنازل(4)، ومنه يتضح أمر القمامة بالأولوية.

إن لتأسيس البيئة والفضاء الأخضر من خلال زراعة الأشجار وبناء الحدائق والرياض دوراً رئيساً في الحد من التلوث البيئي. وقد اهتم النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بهذه المسألة، حيث روى عنه التأكيد على زراعة الأشجار وعدم قطعها(5).

ص: 199


1- انظر: المصدر أعلاه، ج 2.
2- انظر: محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 80، ص 173 ، وج 10، ص 126 - 128؛ الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 1، ص 240.
3- انظر محمدي ري ،شهري ميزان الحكمة، ج 10، ص 94.
4- انظر: المصدر أعلاه ص 93
5- انظر المصدر أعلاه، ج 2، ص 9 - 14؛ ولمزيد من التوضيح انظر: السيد علي الحسيني طبیعت و کشاورزي از ديدگاه اسلام الطبيعة والزراعة من وجهة نظر الإسلام)

واضح أن للماء دوراً حيوياً في التأسيس للبيئة الصحية، من هنا فقد ورد النهي عن التبذير والإسراف في الماء، مهما كانت الذريعة، حتى عند القيام بالعبادات من قبيل: الوضوء والغسل وقد كان لتأكيد الإسلام على حفظ البيئة وأمره بزراعة الأشجار وغير ذلك من العلوم، أثره في تطوير هذه العلوم في القرون الأولى التي أعقبت ظهور الإسلام، والتاريخ خير شاهد على ذلك. وقد

اعترف المستشرق واطسون بازدهار الزراعة في صدر الإسلام بفضل تعاليم النبي الأكرم والدين الإسلامي الحنيف(1).

9 / 4 - التشجيع على الرياضة : إن من بين الطرق التي تساعد على الحفاظ على سلامة الجسم ممارسة الرياضة والحركات الرياضية. وقد تمّ الاهتمام بهذه المسألة منذ القرون الأولى من ظهور الإسلام، وقد حثّ النبي على ممارسة مختلف أنواع الرياضات.

وإننا عندما نطالع سيرة الأنبياء نجد أنهم كانوا يمارسون رياضة تسلق الجبال كما أكد النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم على الفروسية والرماية والسباحة

والمشي(2).

5- التعويض عن الأمراض:

ربما تساءل أحد وقال: إن كل فرد يصاب في هذه الدنيا - التي هي مخلوق إلهي - أو يصاب أحد أبنائه أو أقاربه بأمراض قابلة للعلاج أو غير

ص: 200


1- انظر: اندرو أم واطسون نو آوري هاي کشاورزی در قرون أوليه اسلام الابداعات الزراعية في القرون الأولى من الإسلام)، ص 174 فما بعد.
2- انظر : محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 103، ص 191؛ الحر العاملي، وسائل الشيعة، 13، ص 349 ج

قابلة للعلاج، وبذلك يتعرّض لأنواع الألم والأوجاع، وهو أمر لا ينسجم مع العدل الإلهي.

في الجواب عن هذا الإشكال يجب القول: إن الإجابة هنا شبيهة بما تقدم في معرض الإجابة عن الشرور الطبيعية، وهى أن اللّه يعمل على التعويض عن العبد المبتلى بمختلف الطرق، من قبيل: إعطاء الثواب المناسب، أو رفع العقاب أو تخفيفه (وسيأتي المزيد من التوضيح في هذا الشأن عند التعرض إلى نقد الشبهات).

حصيلة الكلام أن عالم المادة - كما تقدمت الإشارة إليه في فصل أسباب الشرور الطبيعية - بسبب ماهيته المادية وكونه عرضة للتغيير والكون والفساد، يكون على الدوام في معرض التأثير والتأثر بسبب العناصر والمحركات والعوامل الخارجية. وأنّ علاقة الإنسان بأنواع المكروبات ليست استثناء من هذه القاعدة. فلو قيل: يجب أن لا يكون هناك في العالم شيء من المكروبات أصلاً للزم من ذلك تعطيل دورة الحياة على ما تقدم توضيحه. وهكذا فإن وجود المكروبات على مثال وجود النار ، فعلى الرغم من الفوائد التي لا تحصى، والتي لا يمكن الاستغناء عنها بالنسبة إلى النار، توجد بعض الأضرار أيضاً. ولا مناص من ذلك في عالم المادة.

الشبهة السابعة : أسباب الآلام الجسدية (الشر الإدراكي):

من خلال الإجابة عن الإشكال السابق وإثبات ضرورة وجود المكروبات في عالم المادة، وتبعاً لذلك إصابة الإنسان بأنواع الأمراض، يتقبل الإنسان وجود هذه الأمراض ويتعايش معها، ويرفع في مواجهتها راية الاستسلام ولكن يطرح هنا سؤال آخر، وهو: لماذا يجب أن تقترن الأمراض

ص: 201

بالأوجاع والآلام والعذاب؟ وهو ما يُصطلح عليه عند الفلاسفة بالشرّ الأخلاقي؟ وبعبارة أخرى: ألم يكن باستطاعة اللّه - وهو القادر المطلق - أن يخلق جسد الإنسان بحيث لا يشعر بالألم عند إصابته بالأمراض أياً كان مصدرها؟

مناقشة وتحليل:

1 - الإحساس بالسعادة والألم من لوازم الروح:

إنّ الفرق بين الجماد مثل الحجر والجسم الذي يتمتع بالإحساس والشعور والروح مثل الإنسان يكمن في أن الجماد لا يعلم بما يصيبه من الضربات القوية، ولا يدرك تحلل أجزائه، ولا يشعر بأي ألم من جرّاء ذلك، أما

الكائن الحساس فهو يدرك ما يصيبه، ويشعر لذلك بالألم.

إنّ وجود الروح والنفس في الإنسان يستوجب إدراك الإنسان بذاته وما يحيط به، وهذا هو الذي يؤدي إلى قيام علقة بين النفس والجسد والعالم المادي. وبفعل هذا الشعور يستمتع الإنسان برؤية المناظر الطبيعية الخلابة ويتألم عند رؤية المشاهد القبيحة والبغيضة. وإثر هذه العلاقة تتسامى النفس من خلال العبادة نحو الكمال، أو تسير نحو الانحطاط بارتكاب المعاصي

والذنوب؛ وعليه فإن طريق الإنسان إلى التكامل يكمن في وجود النفس المدركة التي تتأثر بعالم الطبيعة وهذه الصفة تعد من لوازمه الذاتية.

وبناء على ذلك لا يمكن القول: عندما تنظر النفس إلى لوحة جميلة، يجب أن تنشرح وتفرح. ولكنها عندما تنظر إلى لوحة قبيحة، ينبغي أن لا تشعر بالسوء والامتعاض؛ وذلك لأن الانشراح والامتعاض هما من مقولة واحدة يجمع فيما بينهما الانفعال والتأثر ، فإما أن يكونا معاً، أو لا يكونا أبداً،

ص: 202

والفصل بينهما محال.

وعليه فإن الإشكال المتقدم يعود إلى السؤال القائل: لماذا خلق اللّه الإنسان مدركاً وشاعراً، ولم يخلقه فاقداً للأحساس والمشاعر؟ وإن المستشكل من خلال هذا الإشكال إنما يتمنى في حقيقة الأمر لو أن اللّه قد خلق بدل الإنسان الحساس والمدرك إنساناً جامداً ومتبلد الإحساس وأن يكون في حقيقته مثل الحجر، كي لا يشعر بأي شرّ أو ألم. ولا شك في أن المستشكل عندما يتدبّر في تبعات إشكاله سيكون هو أول من يتراجع عنه، حيث يذعن أن الإنسان الشاعر والحساس رغم شعوره وإحساسه بالألم خير من الجماد الذي لا يدرك شيئاً ابداً. وعليه فإن إدراك الألم والسعادة هما مزيج في وجود الإنسان المادى.

2 - الألم عامل مساعد على مكافحة المرض (جرس إنذار: 1):

لو غضضنا الطرف عن الجواب السابق، وقبلنا بإمكان أن يحصل المرض من دون أن يكون مصحوباً بالألم. إلا أن هذا الأمر لن يكون في مصلحة الإنسان بل سيكون بضرره؛ ذلك لأن الألم الذي يشعر به الفرد في موضع المرض، كما لو أصيب ضرس من أضراسه بالتسوّس، فإن الوجع الذي يشعر به من جرّاء ذلك سيكون بمنزلة جرس الإنذار الذي يعلن لصاحب الألم بأن هذا الموضع من الجسد يواجه مشكلة باسم المرض، وأنه في الحقيقة يواجه هجمة هائلة وشرسة من شتى أنواع المكروبات وإنه إذا لم يُسارع إلى معالجة الموقف، فإن المرض سيسري وينتشر إلى المواضع الأخرى من الجسد، ولربما تعرّضت حياته إلى الخطر. فالإنسان عندما يشعر بالألم في أي موضع من جسده، سيضطر إلى مراجعة الطبيب لتدارك ما هو أسوأ. وأما إذا لم يشعر

ص: 203

بالألم فلن يكون هناك ما يدعوه إلى مراجعة الطبيب وتناول العلاج ومع مرور الوقت سيدرك أن أعضاءه قد تلفت ولن يكون بالإمكان استرجاع عافيته.

3 - الألم عامل مساعد على دفع المرض والضرر (جرس إنذار: 2):

إن وجود الألم والشعور به يُعدّ عاملاً مساعداً آخر للوقاية من ابتلاء الإنسان بالمرض أو أي نوع من أنواع الآفات خذ مثلاً لو أنك كنت نائماً بالقرب من المدفأة وامتدت النار إلى يدك من دون شعور منك، وكان الفرض قائماً على أن لا يشعر الإنسان بالألم واضح أن يدك في مثل هذه الحالة ستكون طعاماً سائغاً للنار، وسوف تحترق بالكامل من دون أن تشعر بذلك، و عندما تستيقظ لن يكون أمامك من خيار سوى القبول بالنتيجة المرّة التي صرت عليها بفضل نعمة عدم الإحساس بالألم. ومع تكرار الحالات المشابهة لن يمضى طويل وقت حتى لن تسلم على أيّ عضو من أعضاء بدنك، وسوف تتعرّض حياتك لخطر محدق وسينتهي بك الأمر إلى الموت لا محالة. وعليه فإن الشعور بالألم يلعب دوراً حيوياً في الحيلولة من دون تعرّض أي عضو من أعضاء الجسد للعطب.

4- عدم الشعور بالألم يستلزم عدم تأثير العقوبة التأديبية على المعاصي:

هناك فى الدنيا من يرتكب الظلم فى حق الآخرين، أو يرتكب الجرائم أو الأعمال المنافية للأخلاق والمروءة. وإن من بين الطرق لمواجهة هؤلاء المجرمين هو وضع القوانين الجزائية لمعاقبتهم. ومن الواضح أن العقوبة الجسدية إنما يكون لها معنى إذا كان المجرم يشعر بألم العقوبة. فإذا كان الفرض على عدم إحساس الإنسان بالألم، وجب علينا إلغاء جميع العقوبات الجزائية، وفي هذه

ص: 204

الحالة سيجد المجرمون الباب مفتوحاً أمامهم على مصراعية لاقتراف شتى أنواع الجرائم والمعاصي والموبقات.

الشبهة الثامنة : فلسفة خلق ذوي العاهات

إن من بين الشبهات المعروفة بين أوساط الناس عامّة، هي مشكلة ولادة الأطفال المشوهين من أمثال أولئك الذين يعانون من نقص في بعض أعضائهم أو الذين يمتلكون أعضاء زائدة، أو يعانون من بعض الإعاقات والعاهات من قبيل الشلل أو العمى والصمم والخرس أو التوائم المتلاصقين. وإن مثل هؤلاء يعانون العنت والعذاب طوال حياتهم. وفي هذه الشبهة يتمّ التأكيد على أن هذا النوع من الخلق يتعارض مع اتصاف الله بالقدرة والعدالة. أفلم يكن في مقدور الله أن لا يخلق هؤلاء الناس ابتداء، أو أن يخلقهم سالمين من هذه التشوّهات؟ والآن حيث نشاهد أن الله قد خلق الكثير من الأفراد الذين يعانون من العاهات فكيف يمكن تبرير خلق طفل يعاني الألم من العاهة منذ ولادته على

أساس العدل الإلهي؟

مناقشة وتحليل:

1 - التحليل الفلسفي (التشوّه الخلقي من لوازم المادة:

إنّ أول مسألة جديرة بالذكر فيما يتعلق بالإجابة عن هذه الشبهة هي أنه طبقاً للأدلة العقلية والنقلية - القائمة على أن اللّه كامل وخير محض - لا يقبل بأيّ نقص في خلق مخلوقاته بمن فيها الإنسان. وقد تمّ التأكيد على هذه الدعوى في النصوص الدينية أيضاً. فقد قال الله سبحانه وتعالى بشأن خلق الإنسان:«لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيم»(1)، وقال تعالى في موضع

ص: 205


1- التين: 4.

آخر من كتابه العزيز:«الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ»(1).

كما أن اللّه يعيد الشقاء والقبح إلى الإنسان نفسه إذ يقول:«مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّه وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ»(2).

وبحسب التعبير الفلسفي: إن إعطاء الوجود والكمال من قبل اللّه الفيّاض أو من قبل العلل المجرّدة، كامل لا نقص فيه، ولكن عندما يتعلق الأمر بإعطاء الفيض لعالم المادة يكون هناك بالإضافة إلى المعطي وفاعل الفيض تأثير للقابل في الحصول على الفيض أيضاً قال الأستاذ الشهيد مرتضى المطهري في شرح كتاب النجاة للشيخ ابن سينا في هذا الشأن:

«إن المادة تعيش حالة لا تسمح لها بتقبل صورة كاملة. فليس الأمر كما يتمّ تصويره بأن المادة يمكن لها أن تحصل على صورة كاملة في حدّها الأعلى، بحيث لا نشاهد فيها أيّ نقص أبداً، ولكن مع ذلك فإن الطبيعة حيث لا غاية لها، فقد أوجدت خلقاً مشوهاً في مادة كاملة الصلاحية. بأن يكون الأب والأم - على سبيل المثال - سالمين ولم يكن رحم الأم يعاني من مشكلة وكان حيمن الأب سالماً، وكانت بويضة الأم صحيحة، وكانت الأطعمة التي تناولاها سالمة ومغذية ولم تكن هناك من مشكلة وراثية يعاني منها الأبوان إلا أن الطبيعة لم تعمل بشكل صحيح، فولد الجنين مشوّهاً. كلا، ليس الأمر على هذه الشاكلة أبداً، فالطبيعة تقوم بدورها على أكمل وجه، إلا أن النقص يأتي من جهة المادة، فيولد الجنين مشوّهاً(3).

ص: 206


1- السجدة
2- النساء: 79
3- مرتضى المطهري، مجموعة آثار (الأعمال الكاملة)، ج 7، ص 449 - 488.

وبعبارة أخرى: إن الوجود خير محض وهو لذلك يستند إلى اللّه، إلا أن الشرور والنقص في عالم الخلق ينشأ عن القيود والتأثير المتبادل بين الأجسام، وإيجاد الموانع أمام نموّ ،بعضها والسبب الرئيس في ذلك يعود إلى مادية الوجود الجسماني.

وبتقرير آخر: إن لازم عالم الطبيعة - وخاصّة اللازم لأصل الفعل والانفعال - هو انفعال وتأثر الجسمين في بعضهما بفعل الرابطة التكوينية. فعلى

سبيل المثال يعمل الماء والمطر على تحليل التربة والجبل والحجر، وتقوم النار بالقضاء على وجود الكثير من الأشياء وتحيلها إلى رماد، وفي المقابل فإن الماء

يتوفر بكميات كبيرة، وهناك اليوم الكثير من المواد التي تعمل على إخماد النار. ولكن حيث تحصل هذه العلاقة بين الجمادات، لا يكون هناك مجال لاعتراضها أو أننا في الحد الأدنى لا ندرك ذلك، بل لأن ذلك يكون غالباً في مصلحتنا فإننا لا نطرح ذلك بوصفه شبهة. ولكن عندما يجري هذا المسار والقانون في دائرة حياة الإنسان فإنه يثير اعتراض الناس من هنا يجب علينا إما أن نقبل القانون أو لا نقبله. ولمّا كان النظام الذي يحكم العالم هو نظام العلية والمعلولية، وتقوم مصلحة البشر على قبول هذا القانون، يجب الالتزام أيضاً بلوازمه الأعم من الجميلة والقبيحة أما القانون الذي يجري على الشق الجميل فقط، فلا يمكن أن يكون قانوناً تكوينياً، بل هو مجرد تمنيات. ولو صار البناء على أن يسير نظام العلية على وفق الرغبات والتمنيات فإنه لن يعود نظاماً

بل سيكون هناك اختلال في نظام الوجود بأسره.

وفي ضوء وجود قانون العلية تؤدي العوامل المادية إلى حصول التغيير في الخلقة العادية للجنين وإن الفلاسفة في هذا الشأن ومن خلال التأكيد على

ص: 207

أصل العلية والتغيير الاستثنائي في خلق الجنين - كأن يولد بإصبع زائد-يعدون ذلك مطابقاً لأصل العلية(1)، على الرغم من أنّ هذا السرّ لم يتمّ اكتشافه في القرون الماضية، حتى تطوّرت العلوم التجريبية لتؤيد ما كان يدّعيه الفلاسفة، على ما سيأتي بيانه في الكتاب القادم من هذه السلسلة.

2 - تحليل علمي (كشف العلل الجينيّة :

إنّ هذا الأصل الفلسفي والتوجّه الديني الآنف (المتمثل بإسناد الخيرات إلى اللّه والشرور إلى المادة وموانعها) قد تمّ تأييده - لحسن الحظ - من قبل العلوم التجريبية والطبيّة، وخاصة علم الجينات الوراثية وعلم الأجنّة، حيث توصل تطوّر هذه العلوم إلى اكتشاف أسباب ولادة الأطفال المشوّهين وأسرارها والذين يعانون من إعاقات جسدية أو ذهنية، ويجب الوقوف على

تفصيل ذلك من الجهات المختصّة في هذا المجال. والقدر المتيقن هنا هو تدخل وتأثير مختلف العوامل في إصابة الجنين وابتلائه بأنواع الأمراض، وفيما يلي نستعرض أهمها:

أ - سوء التغذية : إذا لم تحصل الأم على تغذية كافية أثناء الحمل، فإن ذلك سيؤثر في إنعقاد النطفة سلباً ويعرّض نموّ الجنين إلى الكثير من المشاكل، وسيؤدي ذلك إلى حدوث خلل في تكوين الطفل.

ب - العوامل الوراثية والزيجات الخاصة : لا شك عندنا في أن الصفات الوراثية تنتقل إلى الأبناء من الوالدين عن طريق الجينات الوراثية الموجودة في

ص: 208


1- انظر: الفخر الرازي، المباحث المشرقية، ج 1، ص 527 صدر المتألهين، الحكمة المتعالية في الأسفار الأربعة، 2، ص 255 ج 7ص 255 صدر المتألهين، الحاشية على إلهيات الشفاء، ص255.

الكروموزومات(1). فإذا كان أحد الوالدين يعاني من بعض الأمراض الخاصة، مثل: الصمم أو الخرس، سيكون هناك احتمال كبير فى انتقال تلك العاهة إلى .الولد. أو إذا كان هناك بين الوالدين قرابة تجعل جيناتهما متشابهة إلى حدّ كبير - وهو ما يتمّ تحديده حالياً فى عملية مختبرية بسيطة للغاية - يكثر احتمال حصول تشوّه في خلقة الجنين أو إسقاطه، وقد يكون ذلك أمراً محتوماً في بعض الأحيان.

ج - تعاطي المواد الكحولية والمخدرة: إذا كان أحد الأبوين يعاني من مشكلة الإدمان على المسكرات أو تعاطي المواد المخدرة، خاصة في فترة التلاقح والحمل، فإن ذلك سيترك تأثيراته التكوينية السلبية على الجنين.

د - التلوّث البيئي: إذا كان المناخ والبيئة التي تعيش فيها الأم وتستنشق هواءها ملوّثة - كأن يكون هواؤها أو ماؤها ملوثاً - فإن الأثر السيئ لذلك سينتقل إلى الجنين من طريق التنفس واستنشاق الهواء ويؤدي به إلى الابتلاء بالأمراض والعاهات وإن من أبرز الأمثلة على ذلك ما عانته اليابان بسبب إلقاء الولايات المتحدة الأمريكية بقنابلها الذرية على مدينتي هيروشيما وناكازاكي، حيث أدى ذلك إلى إصابة أجيال من المصابين بأنواع التشوّهات الخلقية منذ الولادة ولا زالت تلك الآثار باقية إلى هذه اللحظة. والمثال الآخر ما قام به الطاغية صدام في ضربه مدينة حلبجة بالسلاح الكيميائي، حتى عمدت أكثر النساء إلى اتخاذ الاحتياطات المانعة من الحمل خوفاً من إصابة أولادهن بالتشوّهات الخلقية بتأثير تلك الجريمة النكراء.

ص: 209


1- انظر: بيير روسو، تاريخ العلوم، ص 707؛ آلبرت جوزا، جه مي دانيم، بنياد أنواع (ماذا نعلم أصل الأنواع)، ص 69 ماذا تعلم السرطان، ص 42.

وهكذا الأمر بالنسبة إلى ما تقوم به إسرائيل في حربها على المقاومة الإسلامية في فلسطين ولبنان وما قامت به الولايات المتحدة الأمريكية في العراق حيث ألقت بقنابلها الحاملة للفسفور الأبيض، حتى شكل ذلك ذريعة لخروج المظاهرات والمسيرات الاحتجاجية من قبل المجموعات المدافعة عن حرية الإنسان وحقوقه.

/1 / 2 - براءة الطفل من التقصير :

بعد التسليم بالإجابة السابقة والقائلة بأن السبب في إعاقة الطفل يعود إلى العلل المؤثرة في الطبيعة وتكوين الجنين. يُعيد هذا الإشكال نفسه وهو: ما هو ذنب الطفل حتى يؤخذ بجريرة والديه وتقصيرهما أو العوامل الأخرى؛ فيولد مشوّهاً، ويتحمل عناء هذا التشوّة طيلة حياته؟

يجب القول في الجواب عن هذه الشبهة: كما تقدم أن أشرنا فإن الأفعال والانفعالات والتعاطي بين الأشياء يؤدي إلى تأثير الأشياء على بعضها في عالم الطبيعة. وفي هذا النوع من الارتباطات لا يتمّ التساؤل عن سبب تفوّق شيء والتضحية بشيء آخر وهكذا الأمر بالنسبة إلى ولادة الأطفال المشوّهين أيضاً وقد أشرنا إلى أن العلة أو العلل الرئيسة في ذلك تعود إلى مختلف العوامل والعناصر الموجودة في الطبيعة أو إلى تقصير الوالدين. فإن رجعت تلك العلل إلى العوامل الطبيعية من قبيل: تلوث الماء أو الهواء أو الأشعة والإشعاعات النووية والكيميائية، فإن تلك العلل تكون في واقع الأمر قد عملت وفقاً لمقتضياتها الذاتية، ولا يرد عليها أي إشكال من هذه الناحية. ولكن يبدو أن العلل الحقيقية في ذلك تعود إلى التدخل والتصرف الخاطئين للبشر في أمور الطبيعة. فعلى سبيل المثال: إن الذي يخترع القنبلة الذرية أو

ص: 210

ذلك الذي يستعملها، أو الأم التي تتناول المواد التي تؤثر سلباً على الجنين، يعتبرون مقصرين من هذه الناحية، ولا يكون هناك أي تقصير من قبل الجنين، بل هو مثل سائر الأحداث الطبيعية مجرد ضحية الجريمة يرتكبها عامل أقوى منه، ليلتحق بآلاف المظلومين من أمثاله الذين يفقدون أرواحهم في أحداث السير التي يذهب ضحيتها الآف من القتلى والجرحى شهرياً أو سنوياً. كما أن هذه الأحداث تطال أحياناً حتى الأطفال الصغار والرضّع أيضاً، ولا أحد يلقي بتبعة ذلك على اللّه، وإنما يعود سبب ذلك إلى أخطاء بشرية أو طبيعية من قبيل عدم أخذ جانب الحذر وعدم مراعات القوانين المرورية، أو إنزلاق الطرق أو انقطاع سلك الكابح وما إلى ذلك. وهكذا الأمر بالنسبة إلى ولادة الأطفال المشوّهين، فيجب البحث عن العلل الإنسانية والمادية المقصرة في هذا الشأن.

وعليه مع وجود هذه العلل والعوامل المادية والإنسانية المؤثرة في خلق المعاقين، لا يتمّ إسناد هذا النوع من العاهات إلى اللّه، حتى يُدعى بأن ذلك يتعارض مع العدالة والحكمة الإلهية. وعلى الرغم من ذلك يمكن بيان الشبهة على النحو الآتي: على الرغم من أنّ العاهة الخلقية لا تسند إلى اللّه مباشرة وإنما المقصر في ذلك هما الوالدان أو الأسباب الأخرى، إلا أن ذلك لا يغير من حقيقة أن المعاق سوف يعاني طيلة حياته من جرّاء إصابته بتلك الإعاقة، وعليه أن يكابد الأمرّين من دون أن يكون له ذنب، فكيف يمكن تفسير ذلك في إطار العدل الإلهي ؟

إن هذا الأشكال يبدو وارداً إلى حدٍّ ما، بيد أن الله تعالى سيقوم بالتعويض عن جميع هذه الآلام يوم القيامة بشكل تام وكامل، بل سيعطي المتألمين زيادة على معاناتهم من الثواب والجزاء أو التخفيف من العذاب، حتى

ص: 211

يتمنى أحدهم لو أنه قد عانى أضعاف ما عاناه حتى ينال ما ناله من اللطف والكرم الإلهي وقد تقدم أن ذكرنا بعض الروايات في هذا الشأن في الفصل السابق تحت عنوان نظرية التعويض.

2 / 2 - براءة الوالدين من التقصير :

قد لا يعود سبب ولادة الطفل المشوّه إلى الوالدين، بل إلى العوامل الطبيعية، من قبيل التلوّث البيئي أو مخلفات الحروب. ففي هذه الفرضية يكون الوالدان ضحية من ضحايا عالم الطبيعة والمادة أيضاً، حيث بدلاً حيث بدلاً من الحصول على طفل سالم، يجبران على رعاية طفل معاق، وبذلك يتحملان آلاماً روحية ونفسية تستمرّ معهما طوال عمرهما. وعليه فإن الوالدين يتحملان الألم

والعذاب من قبل النظام الإلهي، دون معرفة السبب. والإجابة عن هذا الإشكال تتضح أيضاً من البحوث السابقة، إذ أنّ اللّه سيعوّض هذا الشعور بالألم والعذاب الذي يصيب الوالدين بسبب ولادة طفلهما المشوه ورعايته والقيام بشؤونه يوم القيامة أضعافاً كثيرة.

2-3 - مكافأة رعاية المرضى:

إنّ رعاية المرضى والعمل على ضمان احتياجاتهم الجسدية والنفسية تعدّ من الأصول والقواعد الأخلاقية الهامة التي حظيت باهتمام المعصومين علیهم السلام

وفيما يأتي نشير إلى بعض التعاليم الواردة عنهم في هذا الشأن:

روي عن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم أنه قال:

-«من أطعم مريضاً شهوته، أطعمه الله من ثمار الجنة»(1).

ص: 212


1- محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار ، ج ،78، ص 224 والمراد هنا بطبيعة الحال هو إطعام المريض بشكل يساعد على إبرائه من المرض وعليه لا ينبغي التذرّع بهذه الرواية لإطعام المريض بعض المأكولات التي تضرّ بصحته ولا تناسبه حتى إذا كان يشتهيها.

-«من سعى المريض في حاجة - قضاها أو لم يقضها - خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه»(1).

-«ومن قام على مريض يوماً وليلة بعثه الله مع إبراهيم الخليل علیه السلام ؛ فجاز على الصراط كالبرق اللامع»(2).

وروي عن الإمام علي علیه السام أنه قال:

-«من سعى لمريض في حاجة - قضاها أو لم يقضها - خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، فقال رجل من الأنصار بأبي أنت وأمي يا رسول اللّه، فإن كان المريض من أهل بيته، أو ليس ذاك أعظم أجراً إذا سعى في حاجة أهل بيته ؟ قال : نعم»(3).

وفي الكافي: «عَنْ مُرَازِمِ بْنِ حَكِيمٍ قَالَ: زَامَلْتُ مُحَمَّدَ بْنَ مُصَادِفٍ، فَلَمَّا دَخَلْنَا الْمَدِينَةَ اعْتَلَلْتُ فَكَانَ يَمْضِي إِلَى الْمَسْجِدِ وَيَدَعْنِي وَحْدِي؛ فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إِلَى مُصَادِفٍ، فَأَخْبَرَ بِهِ أَبَا عَبْدِ الله علیه السلام؛ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ : قُعُودُكَ عِنْدَهُ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِكَ فِي الْمَسْجِدِ»(4).

وروي عن الإمام الصادق علیه السلام في تفسير «الإحسان» في قوله تعالى: «نَبَتْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ» (5)أنه قال: «كان [يوسف علیه السلام ] يقوم على المريض»(6).

ص: 213


1- محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج78، ص 217.
2- المصدر أعلاه، ص 225، الحديث: 35
3- المصدر أعلاه،ص217، الحدیث: 9؛ محمد محمدي ري شهري، دانشنامه احادیث پزشکی، ج 1، ص 180
4- المحدث محمد بن يعقوب الكليني أصول الكافي، ج 4، ص 545، الحديث: 27
5- يوسف: 36.
6- محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 12، ص 230، الحديث: 5؛ محمد محمدي ري شهري، دانشنامه أحادیث پزشکي، ج 1، ص 182.

الشبهة التاسعة : فلسفة الشيخوخة

إن الإنسان في بداية شبابه وكهولته يكون مفعماً بالحيوية والطاقة والنشاط. ولكنه عندما يبلغ سنوات الشيخوخة يبدأ نشاطه بالانحسار تدريجياً، حتى يصل مرحلة لا يستطيع معها القيام بشؤونه الشخصية أيضاً. وهنا يرد السؤال الآتي: لماذا لم يخلق اللّه - وهو القادر المطلق - الإنسان بحيث لا تتحلل قواه وخلايا جسده ويصل إلى مرحلة الشيخوخة كي يُفيد الإنسان من جميع لحظات عمره غاية الاستفادة؟

الجواب:

1 - الشيخوخة من لوازم تحلل الخلايا:

يبدو أن هذا الإشكال قد نشأ من كونه مجرّد أمنية، بالإضافة إلى عدم التفات قائله إلى عالم المادة ولوازمه (من التغيير والفعل والانفعال وتحلل الخلايا). وقد سبق أن ذكرنا مراراً في الصفحات السابقة إلى أن القبول بخلق الإنسان المادي يعني القبول بلوازمه أيضاً. فإذا كانت الفرضية قائمة على أن يكون في منظومة الخلق الإلهي كائنات مادية - الأعم من الإنسان وغيره - فإن لازم ذلك تبعية هذه الكائنات لهذا النظام القائم على العلية، ومن بينها التأثير والانفعال والتأثر المتبادل بين الأشياء المادية (الفعل والانفعال).

عندما يلقي الإنسان نظرة إلى الطبيعة سيدرك أن جميع الأشياء - الأعم من الجمادات من قبيل الحديد والنباتات مثل: أكبر الأشجار المعمّرة، والحيوانات - تسلك مساراً تنازلياً حيث تأخذ طريقها نحو الذبول والتحلل والتهرّو الذي يمكن أن نطلق عليه عنوان الشيخوخة والهرم أيضاً، وهذا الأمر

ص: 214

ينشأ عن الفعل والانفعال في عالم المادة. والإنسان لا يُستثنى من هذه القاعدة؛ لأنه عضو في هذه المجموعة المادية، وحكم الكل فيها يسري إلى الأجزاء أيضاً. فلو كان هناك في هذه المجموعة مورد واحد فريد حاز على عمر سرمدي مصحوب بالحيوية والنشاط والشباب الدائم(1)، كان من حقه أن يعترض ويقول: لماذا لم يخلقني اللّه مثل هذا المورد الفذ؟ ولكن - لسوء الحظ أو لحسن الحظ - لا يوجد مثل هذا المورد.

كما يمكن لنا بيان وشرح أسباب الشيخوخة من خلال الاتجاه الطبي على النحو الآتي: يمكن متابعة مراحل حياة الإنسان وآلية الجسم من خلال مسارين وهما الأنابوليسم (الحيوية والنشاط) والكاتابوليسم (التحلل والاحتراق أو الركود)، مما يعنى أن جسم الإنسان يشهد على الدوام أو طوال الحياة وحتى يومياً حالة موت وولادة ملايين الخلايا والأنسجة العضوية، من

قبيل خلايا الجلد والشعر وخلايا الدم وما سوى ذلك.

وتبدأ مرحلة الأنابوليسم عند الإنسان منذ مرحلة الجنينية وحتى بلوغ سن الثلاثين لتبدأ بعد ذلك مرحلة الكاتوبوليسم، وفى كل عشر سنوات تبدأ مرحلة جديدة من مراحل الكاتابوليسم، حيث تتفاقم عملية تحلل الخلايا وانهيارها.

وبالالتفات إلى التحلل والانهيار التى تصيب الخلايا (الكاتوبوليسم) يمكن لنا اعتبار العوامل الآتية من بين أسباب الشيخوخة:

ص: 215


1- يدور بحثنا حول مسألة الشيخوخة والهرم الذي يطال جميع الناس. ولذلك فإن القول بأن الحقب التاريخية القديمة شهدت أعماراً طويلة للناس وربما زاد عمر البعض على الألف سنة، خارج عن محل بحثنا؛ لأن زيادة العمر تابعة للظروف والشرائط الزمانية والمكانية، والبيئية، ثم مهما طال عمر الإنسان، فإنه سيبلغ الشيخوخة في نهاية المطاف

1 - الدور والنشاط الضعيف للغدد في انتاج الهرمونات (التيروئيد والأنسولين والملائين والتستوسترون و هرمون النمو وما إلى ذلك).

2 - عدم الانسجام أو الاختلال في نشاط الهرمونات والغدد الداخلية.

3 - سوء التغذية عدم الاستفادة الصحيحة من الهرم الغذائي).

4 - الاضطراب والقلق.

5 - الخلايا المنفلتة والهائمة التي فقدت وظائفها، حتى أضحت من أهم العوامل في تسريع الشيخوخة.

6 - الكورتيزول : الذي يقضي على عدة جهات الخلايا الصديقة والخبيثة، فهي مثل الأنسولين ذات حدين، فهي تارة تستجيب لحاجة البدن، وأخرى تقضي على سلامته، حيث تفضي زيادة ترشحها إلى إثارة الخوف والتعب المفرط.

2 - عدم الشيخوخة مصحوباً بالموت أو من دونه؟

لو أمكن عدم تحقق الشيخوخة للإنسان، فعندها سوف يصل بنا الكلام إلى مسألة الموت وأسبابه. فإن الفرد الذي يبلغ الثمانين سنة أو المئة سنة، أو حتى الألف سنة من دون أن يفقد شيئاً من نضارة الشباب وحيويته حيث لا تتحلّل خلاياه ولا يطالها الانهيار، كيف سيكون موته، وكيف يمكن تبريره على المستوى الطبي؟

نعلم أن موت جميع الناس يعود إلى أسباب مادية، من قبيل: المشاكل الصحية والجسدية المتمثلة بانسداد العروق القلبية، وضغط الدم والخلل في وصول الدم والأوكسجين إلى المخ، أو تحلل خلايا الجسم وأنسجته فيما يتعلق بالأمراض الجرثومية وما سوى ذلك. فإذا قام الفرض على أن الإنسان إذا بلغ

ص: 216

مئة عام من عمره يحتفظ بجميع أعضائه، من قبيل الكليتين والكبد والقلب ،والمخ، سالمة وكان ضغط الدم وكل شيء عنده يعمل بشكل مثالي، فكيف يمكن

تبرير موت مثل هذا الشخص؟

يوجد هنا احتمالان؛ الأول: أن تستمر حياة هذا الشخص - طبقاً للقواعد العلمية - إلى ما لا نهاية؛ ولمّا كان المستشكل يصرّ على عدم الشيخوخة، فإن لازم ذلك الخلود في هذه الحياة، إلا في بعض أنواع الموت الخاصة من قبيل: الموت في حوادث السير أو القتل والاحتمال الثاني: أن يتدخل اللّه مباشرة فيقبض روح الإنسان عند بلوغه مرحلة معيّنة، فيقبضه بموت الفجأة مثلاً.

أما الفرضية الأولى فهي غير ممكنة؛ لمنافاتها مع فلسفة الحياة وخلق الإنسان (السعادة الأخروية). علاوة على أن الحياة الأبدية والخلود في هذه الدنيا يستلزم توالي فاسدة من قبيل جرأة المجرمين والظلمة، وانتشار الظلم والمفاسد الأخلاقية، وبحث ذلك خارج عن نطاق هذا الكتاب.

وأما الفرضية الثانية، فهي أولاً: مخالفة لنظام السببية والعلية، في حين أن المشيئة الإلهية قد تعلقت بإدارة هذا العالم من خلال هذه القاعدة، وثانياً: إن مرحلة الشيخوخة وظهور آثارها للإنسان - الذي لا يهدف إلى الخلود في هذه الدنيا، وإنما يريد بلوغ النعيم في الآخرة - فوائد وبركات. فعلى سبيل المثال: عندما تبدأ مرحلة الشيخوخة سوف يكثر الإنسان من ذكر الله والآخرة، ويسعى إلى جبران أعماله السابقة، من خلال التوبة وبلوغ مقام القرب من اللّه.

وفي الحقيقة فإن مرحلة الشيخوخة بالنسبة إلى بعض الأفراد أو أكثرهم تمثل مرحلة حجر وتصفية وتهذيب للنفس وفوائد هذه المرحلة بلحاظ

ص: 217

منافعها الأخروية أكثر من مشقاتها وأضرارها وتتضح حقيقة هذا المدعى من خلال الإجابة عن السؤال الآتى:

هل الإنسان الذي يبلغ سن الثمانين وهو يتمتع بنشاط جسدي كامل وغرائز جسدية كتلك التي يتمتع بها ابن الأربعين أكثر استحضاراً لذكر اللّه والموت أم ذلك الذي تبدو عليه آثار الشيخوخة وعلاماتها ويشعر بالاقتراب من توديع هذه الدنيا؟ واضح أنّ الجواب على هذا السؤال عند نوع الناس - وليس جميعهم - هو الشق الثاني والشاهد على ذلك ما نلحظه في دور العبادة والمساجد (والكنائس عند المسيحيين) حيث يشكل كبار السن أكثر روادها.

من هنا فإنه علاوة على اعتبار الشيخوخة من لوازم البدن المادي، فإن اللّه قد لحظ في وضعها حكمة لمصلحة الإنسان وآخرته أيضاً.

3- عدم المنافاة مع العدل الإلهي :

لمّا كانت الشيخوخة من اللوازم الطبيعية لعالم المادة والطبيعة، فإنها لا تنا في القدرة الإلهية المطلقة، كما أنها حيث تشتمل على الحكمة والفوائد التي تقدم ذكرها، فإنها لا تنافي صفة الحكمة ونريد هنا أن نرى ما إذا كانت ظاهرة الشيخوخة تنافي العدل الإلهي أم لا؟

والجواب هو بالنفي أيضاً؛ إذ لا يكون هناك أي ظلم من قبل اللّه على العبد عندما يبلغ مرحلة الشيخوخة غاية ما هنالك أنه يحصل انخفاض في قواه وطاقاته، ويقل نصيبه وحظه من المنافع الدنيوية، وفي المقابل يرتفع مستوى اهتمامه بالمعنويات والآخرة. ولمّا كان اللّه هو الذي قد أفاض الوجود على الإنسان ومنحه الطاقة والنشاط ابتداءً، فلا يكون في استرجاع هذه الطاقة أو

ص: 218

التقليل منها أيّ نوع من أنواع الظلم في حق الإنسان من قبل الله تعالى.

وأمّا فيما يتعلق بمسألة الألم والعناء الذي يقاسيه الإنسان بسبب الشيخوخة، فيمكن القول: إن الآلام والمعاناة تحدث للإنسان في مرحلة الشباب كما تحدث في مرحلة الشيخوخة سواء بسواء، ومردها إلى مختلف أنواع الأمراض وغيرها مما هو من مقتضيات عالم المادة ولوازمه، وقد تقدم بيان أسباب ذلك وعلله في معرض تحليل الشبهتين السابقتين (فلسفة الأمراض والمكروبات، وفلسفة الآلام).

وأما الأمراض وتحمّل الآلام التي تؤدي إلى الموت، فإنها تحتاج إلى تفسير آخر مستقل، ويمكن بيان هذا التفسير في إطار قاعدة التعويض التي ذكرها المتكلمون وعليه فإن اللّه سبحانه وتعالى سوف يعوّض العبد عن كل ألم أو عناء عناء يصيب الإنسان من دون استحقاق بشكل يفوق حجم وإن اللّه من خلال مضاعفة الثواب للعبد أو رفع العذاب عنه أو تخفيفه، سيعوّضه عمّا كابده وهكذا فإن الألم الذي يصيب الإنسان من جهة الطبيعة، وإن لم یکكن من قبل اللّه إلا أنه حيث يكون من مستلزمات منظومة الخلق الإلهي لعالم المادة، فإن اللّه سيقوم بعملية التعويض على نحو ما تقدّم، وبذلك لن تكون هناك شائبة تخالف العدل الإلهي في هذا الشأن.

الشبهة التاسعة فلسفة الموت

هناك من ينظر إلى الموت بوصفه ظاهرة تساوق الفناء والزوال، وانتهاء لجميع الآمال والتطلعات ومن هنا فإنه يستشكل ويقول: هل ينسجم مع العدل الإلهي أن يخلق اللّه الإنسان، ثم يحكم عليه بالفناء؟!

ص: 219

مناقشة وتحليل:

1 - التناغم مع العدالة الإلهية :

قبل الدخول في تفاصيل الجواب الرئيس عن هذه الشبهة لا بد من التذكير بهذه الحقيقة، وهي أنه حتى إذا افترضنا جدلاً أن الموت هو فناء ،وزوال، وأن لا حياة بعده، فإنه مع ذلك لا يتنافى مع العدل الإلهي، كما تقدم بیان ذلك في معرض تحليل مفهوم الخير في المقدمة. ذلك لأن العدالة تعنى إعطاء ذي الحق حقه والإنسان قبل خلقه وبعد خلقه لم يكن له أي حق على اللّه ، حتى يقال : إن اللّه إذا أمات عبده يكون قد سلك طريقاً يتنافى وعدله؛ وذلك لأن اللّه هو الخالق والمالك والمفيض للوجود ، وإن مواصل إفاضة الحياة

والوجود على الإنسان من قبل اللّه إنما يكون من باب اللطف والمنّة. ولمّا كان العبد مدين بكل وجوده إلى الخالق تعالى فيجب عليه أن يكون شاكراً له على كل لحظة من لحظات حياته، كالذي يقوم بإطعام إنسان أو يقضي عنه ديناً، من باب اللطف والتبرع.

وعند انقطاع هذا الفيض واللطف لا يكون هناك من موضع لای اعتراض؛ إذ الفرض يقوم على أن العبد ليس له حق في المطالبة باستمرار الفيض. وبعبارة أخرى ليس لدى العبد حق على اللّه حتى يُدعى أن اللّه من خلال تجاهله لهذا الحق، يكون مخالفاً للعدالة الإلهية.

2 - الموت قنطرة لحياة جديدة:

إن النظرة التشاؤمية إلى الموت هى نظرة سطحية وظاهرية والحادية، وهذه النظرة هي التي أدت إلى هذه الشبهة. وأما حقيقة الموت كما ورد في

ص: 220

التعاليم والأديان السماوية، فهي بداية حياة جديدة ترتبط السعادة والشقاء فيها بما قام به الإنسان من الأعمال في هذه الدنيا. (وقد تقدم توضيح ذلك في فصل الشرور الطبيعية تحت عنوان: الموت انتقال إلى عالم آخر).

بالالتفات إلى ماهية الموت (بداية حياة جديدة) والآثار والتبعات السيئة المترتبة على الحياة الخالدة في الدنيا - من قبيل: تمادي الظلمة واتساع رقعة الظلم والأعمال المنافية للأخلاق، وتحلل الطاقات الجسدية، وتفاقم المشاكل الاقتصادية الناجمة عن زيادة النفوس - يتضح أن خيار الموت على ما مرّ تعريفه هو الخيار الأفضل لمصلحة البشرية، وبذلك لا يكون الموت مخالفاً للعدالة الإلهية، بل هو عين اتصاف الله بالعدل والحكمة. بل إن خلود الإنسان في هذه الدنيا المفعمة بالظلم يجب أن يكون هو مثار الشبهة والإشكال على اللّه والقول بمنافاته للعدل والحكمة الإلهية.

ومن الممكن إثارة شبهتين أخريين فيما يتعلق بالموت، وهما:

أولاً: إن الموت يؤدي إلى تعجيل العذاب في الآخرة.

وثانياً: إن الموت يعمل على تضييع الفرصة المتاحة للإنسان في التكامل. وقد مرّ بيان الجواب عن كلتا الشبهتين في فصل الشرور الطبيعية، فعلى القارئ الكريم أن يعود إلى ذلك الفصل.

المبحث الثالث: الشرور والآلام الناشئة عن المحاباة والتفريق

أما القسم الثالث من الشرور والمشاكل - التى يعاني منها الإنسان - فهو العنصرية والتفاوت في خلق البشر على ما نقوم بتوضيحه تباعاً على النحو الآتي:

ص: 221

الشبهة الحادية عشرة: الاعتراض على خلق الأنثى

أحياناً تعترض بعض النساء - بسبب بعض المشاكل - على خلقهن ويقلن: لماذا خلقنا الله ،نساء، ولم يساو بيننا وبين الرجال، وعلاوة على ذلك هناك اختلاف فى القدرات والطاقات العقلية، الأمر الذي يضطر المرأة إلى تحمل تبعات الأسرة أو المجتمع وأعبائهما، بل وتخضع أحياناً لسطوة الرجل، في حين لو كان اللّه قد خلق المرأة رجلاً لانقلبت الآية. إن الذين يطرحون هذا الاعتراض يرومون القول بأن اللّه من خلال تفريقه في الخلق بين ذكر وأنثى قد ارتكب ما يخالف العدل، وذلك لعدم التساوي بين كفة المرأة وكفة الرجل، وإن اللائي كتب عليهن أن يخلقن نساءً سيعانين بشكل من الأشكال بالتفريق والمحاباة وتفضيل الرجال عليهنّ من دون أن يكون لهن خيار في ذلك، وهذا لا ينسجم مع العدالة الإلهية.

وقال أصحاب هذه الشبهة في الجواب عن أن التفريق في خلق الناس بين ذكر وأنثى ضروري لتكميل كل من الرجل والمرأة لبعضهما، قائلين: لماذا لم تنعكس الآية؛ فتخلق الأنثى ذكراً، والذكر أنثى؟!

الجواب:

في معرض الإجابة عن هذه الشبهة لابد من الالتفات إلى المسائل الآتية:

1 - تحديد جنس الإنسان معلول للتركيبة الجينية الخاصة:

إن منشأ الإشكال يكمن في التصور القائل إن اللّه يتدخل مباشرة في تحديد جنس الجنين وبعبارة أدق إنه يتدخل في تركيبة الجينات الوراثية

ص: 222

للذكر (xy)، والجينات الوراثية للأنثى (X) ويتصرف فيها؛ ليكون الجنين ذكراً أو أنثى. في حين ثبت على المستوى الديني والفلسفي أن تدبير أمور العالم يقوم على نظام العلية، ولحسن الحظ فإن علم الأجنة والأحياء قد اكتشف وبيّن كيفية تحديد جنس الجنين في رحم الأم في ضوء قانون العلية والسنخية.

لقد أصبح اليوم بالإمكان - من خلال توظيف الأساليب الحديثة - التوصل إلى تحديد جنس الجنين حتى قبل أن تتمّ عملية التلاقح بين الحيمن والبويضة، حيث تتدخل فى ذلك عوامل من قبيل:

1 - أسلوب التغذية.

2 - أسلوب التحديد الزمني للمقاربة بين الزوج والزوجة (من خلال تحديد فترة نزول البويضة).

3 - أسلوب التطهير المهبلي.

4 - أسلوب تحديد فترة المقاربة من الشهر.

5- أسلوب تحديد مقادير الحيامن.

6 - أسلوب التعليم الليزري للغامات.

7- أسلوب PGD-IVF.

وفيما يلي نكتفي بالإشارة إلى توضيح عملية اللقاح باختصار:

يقوم الذكر بوظيفة انتاج الحيمن، وتقوم الأنثى بوظيفة انتاج البويضة، وبعد نزول حيامن الرجل في رحم المرأة تستقرّ هناك، وينجح بعضها في الدخول إلى القناة الصحيحة التى تحتوي على البويضة. إن رحم المرأة الذي يكون على شكل إجاصة يتجه طرفها المستدق نحو الأسفل. بعد أن يدخل الحيمن في رحم المرأة يتحرك فيه طولياً ويتجه إلى الأعلى، فإن صادف

ص: 223

البويضة في فضاء الرحم، قام بتلقيحها، لتبدأ بعد ذلك مراحل تكوين الجنين؛ فإن علق الجنين في جدار الرحم بدأت عملية الحمل، وإلا فإنه سيندفع إلى خارج الرحم.

يحمل الرجل بشكل عام نوعين من الجينات وهما: (x) و(y)، ويختلف هذان النوعان عن الجينات في الكروموزوم رقم 23 . وأما المرأة فلا تحمل سوی شارة جينية واحدة وهي الكروموزوم رقم (23) ). فإن كان حيمن الرجل الذي يلقح بويضة المرأة يحمل شارة (x) كان الجنين أنثى. أمّا إذا كان الحيمن يحمل شارة (y) كان الجنين ذكراً؛ وعليه فإن تحديد جنس الجنين يعود

إلى الرجل، فهو الذي يحدد جنس الجنين من خلال إحدى الشارتين اللتين يحملهما. وفي الظروف الاعتيادية يكون حظ تحديد جنس الجنين بين كل من الذكر والأنثى متساوياً، ويتوقف ذلك على نوعية الحيمن الذي يقوم بعملية تلقيح البويضة، وما إذا كان يحمل شارة الذكورة أم الأنوثة.

كما يمكن للعوامل البيئية، ونوعية طعام الأم، وسلامتها الجسدية والروحية وفترة المقاربة ومقدار ال- hp فى المهبل أثناء المقاربة، والأسباب الاجتماعية وما إلى ذلك أن تؤثر في أن ترزق الأم بجنين ذكر أو أنثى(1).

ص: 224


1- مقتبس من صحيفة (شهرزاد) الشهرية، نقلا عن موقع علمي دانشجویان ایران: www.daneshju.ir. وانظر أيضاً موقع الدكتور ملك منصور أقصىک www.ninisite.com/discussion/thread.asp?threadID. جدير ذكره أنه طبقاً لدراسة نشرت نتائجها في النشرة الأكاديمية الوطنية للعلوم في الولايات المتحدة الأمريكية، يمكن للنساء الحوامل اللائي يعانين من اضطرابات شديدة أن يناز عن لا شعورياً في تحديد نوع الجنين؛ ففي الحالات الطبيعية يولد 104 مولود ذكراً بإزاء كل مئة مولود أنثى ، إلا أن هذه النسبة تشهد تغيراً عند وقوع الأزمات، من قبيل: المجاعات مثلاً، حيث تتأثر هذه النسبة لغير صالح الذكور. كما قال الدكتور والاستشاري في التغذية والصحة العامة مدحت الشامي طوال التاريخ نشهد زيادة في ولادات الإناث في بعض الفترات التاريخية، أو زيادة في ولادات الذكور في بعض الفترات التاريخية الأخرى، وهذا يعود إلى مختلف المسائل البيئية. وأضاف قائلاً: إن جسد الإنسان يتأثر بالعوامل والمتغيرات الفسيولوجية والمزاجية إلى حد كبير، ولهذا السبب ترتفع أعداد المواليد الذكور في فترات السلم وما بعد الحرب. ويذهب الدكتور مهر اكتايي متخصص الحمل والولادة في إيران إلى الاعتقاد بأن العرق الأسود، والحمل بعد سن الثلاثين، والاختلاف السني الكبير بين الرجل والمرأة، وكذلك المناخ والبيئة، والقلق والاضطرابات العصبية والكآبة عند المرأة، وملوثات البيئة، والتدخين يرفع من احتمال أن يكون الجنين أنثى. وفي الحقيقة فإن الظروف البيئية غير المؤاتية تؤدي دائماً إلى صيرورة الجنين أنثى، وربما كان في ذلك حكمة ترتبط بتكامل الإنسان. يعتقد العلماء حيث كانت الأنثى هي عنصر ولادة الأجيال في المجتمع، يرتفع عددهن في الأزمات؛ إذ عندما يكون لدينا هناك خمس إناث، فإن ذلك يعني أن تلد كل واحدة منهن خمس أطفال مما يرفع عدد الولادات إلى خمس وعشرين ولادة، في حين لو كان المولود بدلهن ذكوراً، لا نخفض مستوى الولادات إلى حد كبير. وأما في الظروف الطبيعية فيولد مئة وأربعة من الأولاد الذكور بإزاء كل مئة أنثى، الأمر الذي يعكس التوازن والاعتدال فى دورة الطبيعة .

والمسألة الهامة أن الروايات والنصوص الدينية المختلفة قد أكدت قبل أربعة عشر قرناً على دور تركيب الجينات عند الوالدين وتأثيره في تحديد جنس الجنين وقالت: إذا كانت الغلبة لجينات الرجل على جينات المرأة، كان المولود ذكراً، وإذا كانت الغلبة لجينات المرأة على جينات الرجل كان المولود أنثى بإذن اللّه. وفي ذلك روي عن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم أنه قال: «إذا علا ماء الرجل ماء ،المرأة، كان الولد ذكراً بإذن اللّه عز وجل، ومن قبل ذلك يكون

ص: 225

الشبه. وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل كان الولد أنثى بإذن اللّه عز وجل»(1).

خلاصة الكلام أن تحديد جنس الجنين رهن بمختلف العوامل الطبيعية الأعم من وضع الجينات الخاص في رحم الأم، أو العوامل والظروف البيئية والنفسية، التى تمهّد بأجمعها الطريق أمام تحديد مسار جنس الجنين. وعليه لا يمكن للنساء أن يعترضن على خلقهن من صنف الإناث.

2 - إن الذكر والأنثى يكملان بعضهما من أجل بناء الإنسانية والمجتمع:

إن الحياة الطبيعية والمادية للإنسان رهن بوجود نوعين أو صنفين مختلفين باسم الذكر والأنثى. وإن طبيعة خلق كل واحد منهما بحيث يكون وجود كل واحد منهما دون الآخر، وجوداً ناقصاً وغير كامل وإن التناسل وبقاء الأجيال الإنسانية رهن بقانون الزواج. هناك اختلاف بين الرجل والمرأة فى السلوك والخُلُق والنفسيات والتعلقات وإن هذا الاختلاف يؤدى إلى تكامل الأسرة والمجتمع والبلاد فإن الرجل والمرأة يتعاونان على تكميل بعضهما في رفع المشاعر الروحية والنفسية والجسدية، لتحقيق السكن والهدوء والطمأنينة.

فحيث تكون المرأة بطبيعتها مفعمة بالعواطف والصبر وتحمل الصعاب والآلام، يؤدي ذلك ! تكامل الأسرة وتربية الأولاد تربية سالمة وصالحة في محيط الأسرة الدافئ، وهذا ما لا قدرة للرجل على القيام به. إن رغبة النساء

ص: 226


1- انظر : محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 9، ص 292، ج 40، ص 169؛ الطبرسي، الاحتجاج، ج 1، ص 50

في ممارسة النشاطات الفنية من قبيل: الحياكة والتطريز والخياطة ورغبة الرجل في القيام بالأعمال الشاقة من قبيل: بناء الطرق والجسور والأنفاق والعمارات الشاهقة يعدّ أرضية صالحة لإدارة شؤون المجتمعات والحضارات.

إن الاختلاف القائم بين الرجل والمرأة هو من لوازم الخلقة الإنسانية والمجتمع السليم من باب المثال: لو كانت المرأة تتحلى من جميع الجهات بجميع

خصائص الرجل عندها لن يستقيم تقسيم المهام بينها وبين الرجل في إدارة الأسرة، والقيام بدورهما في تولي المسؤوليات في المجتمع.

والمسألة الظريفة والدقيقة التي تدعو إلى التأمل في هذا الاختلاف وتقسيم المسؤوليات، يثبت تقوّم خلق الإنسان والمجتمع بوجود الذكر والأنثى. ولذلك فإن السؤال القائل: لماذا لم يخلق اللّه الناس على شاكلة واحدة؛ فيكون جميع الناس ذكوراً، أو يكون جميع الناس إناثاً؟ سؤال غير منطقي، ومجانب للصواب.

الاختلاف التكويني بين الرجل والمرأة مهدٌ لتقسيم القدرات وتنوع الفضيلة:

لمّا كانت الصفات السايكولوجية والفسيولوجية للرجل تختلف عن السايكولوجية والفسيولوجية عند المرأة، فقد فرض اللّه عليه مسؤوليات وتكاليف أكثر ، فعلى سبيل المثال: أوجب اللّه الجهاد على الرجال، وهو عمل

شاق، يتنصل عنه بعض الرجال لمختلف الذرائع ولذلك كان من الطبيعي لهذا الاستعداد الخاص أن يكون للرجال مزية خاصة، يطلق عليها في المصطلح القرآني ب- «الدرجة». وفي المقابل تتمتع المرأة بخصائص تنفرد بها، من قبيل: الأمومة، كما أثنت الروايات على مقام الأم، حتى جعلت الجنة تحت أقدام

ص: 227

الأمهات(1).

وكذلك حيث تتغلب العواطف عند النساء على قوّة العقل، يكون مضمار الفكر والتعقل عند الرجال، مثل: علم المنطق والفلسفة والرياضيات، والمضامير العملية من قبيل: السياسة وتدبير المجتمع والدولة أكثر من النساء. وإن الاختلاف في مستوى القابليات يوجب تقسيم المسؤوليات والوظائف وتبعاً لذلك ستكون للرجل أفضلية نسبية على المرأة.

3 - المساواة بين الرجل والمرأة في الإسلام:

أما الجواب الثالث الذي يمكن الردّ به على هذه الشبهة، فهو رفضها من الأساس؛ فإن القول باعتبار الأنثى كائناً وضيعاً ودون مستوى الرجل، مجرّد ادعاء لا ينسجم مع التعاليم الدينية أبداً. وهنا لأجل تقرير هذه الدعوى لا بد من تعريف الإنسان أولاً، وبيان أسس ومقومات إنسانية الإنسان، كي يتضح أصل المدعى في ضوء ذلك.

وقد تمّ تعريف الإنسان منذ القدم بتعريفات مختلفة؛ حيث عمد كل مذهب فكري إلى تعريف الإنسان من خلال متبنياته الفكرية. بيد أننا سنكتفي هنا بتعريف الإنسان من الزاوية الدينية، التي يمثل الإسلام مصداقها الأبرز.

فمن خلال التمعّن في آيات القرآن الكريم، ندرك أن الإنسان من الزاوية الدينية يختلف عن الإنسان من وجهة النظر المادية اختلافاً جوهرياً، وإن هذا الاختلاف يشكل - في حقيقة الأمر - مقوّمات وأسس إنسانية الإنسان والتي هي عبارة عن:

ص: 228


1- انظر حسين النوري، مستدرك وسائل الشيعة، ج 15، ص 180 - 180 181.

1 - النفس القدسية.

2 - مقام الخلافة الإلهية.

3- امتلاك العلم الخاص.

4 - فطرة العبودية لله .

5 - حمل الأمانة الإلهية.

6 - الكرامة الذاتية.

7 - التميّز من سائر المخلوقات فهو أشرفها.

8 - التكامل والحركة نحو الله.

9 - الاختيار.

10 - التكليف.

11 - الغريزة.

وقد ذهب أكثر المفكرين المسلمين إلى القول بالاشتراك الماهوي بين الرجل والمرأة في اكتساب المقوّمات الإنسانية، وإن الفوارق بين الرجل والمرأة

لا تعود إلى الجانب الإنساني، وإنما تكمن في الخصوصيات العارضة، على ما سنبينه لاحقاً.

ومن خلال قراءتنا لآيات القرآن الكريم أو الروايات الشريفة، ندرك أن العناصر المتقدمة تتعلق بمطلق الإنسان بغض النظر عما إذا كان ذكراً أم أنثى، ولازم ذلك هو أن كل إنسان - سواء أكان ذكراً أم أنثى - لو توفرت فيه الخصائص المتقدمة، أو نجح في استيفائها، فإنه سيتصف بماهية الإنسانية الكاملة بمقدار واحد من دون أن تكون هناك أفضلية للرجل على المرأة من هذه الناحية، وأساساً لا يكون للعنصر المادي للجسد أي دور في هذا الشأن.

ص: 229

التعاطي مع الرجل والمرأة من زاوية واحدة:

فضلاً عن الأسس المشتركة بين الرجل والمرأة في أصل الإنسانية على ما تقدم، فإن هناك من الآيات ما يدل على التسوية بينهما في منظومة الخلق الإلهية والتعاطي معهما على أساس اتصافهما بأصل الإنسانية وقيمها، وفيما يأتي نشير إلى بعض هذه الآيات الشريفة:

1 - خلق الرجل والمرأة من جنس واحد بعد أن يُقسم اللّه بالليل والنهار، ينتقل إلى القسم بخلق الذكر والأنثى قائلاً: «وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى ... »(1).

فحيث يجمع اللّه بين خلق الرجل وخلق المرأة في يمين وقسم واحد، يثبت أن خلقهما من سنخ واحد؛ وذلك لأن كلمة «ما» مصدرية، بمعنى أن اللّه سبحانه وتعالى يُقسم بأصل خلقه للإنسان الشامل للذكر والأنثى على

السواء(2).

وهناك من الآيات ما يؤكد على نحو خاص بأن منشأ خلق الرجل والمرأة ،واحد وبعبارة أخرى إن جنس الرجل والمرأة هو شيء واحد، وذلك إذ يقول:

- «اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا»(3).

- «وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا»(4).

ص: 230


1- الليل: 1 - 3.
2- انظر: عبد الله جوادي آملي زن در آیینه جلال و جمال،ص112
3- النساء: 1.
4- الروم: 21

فالآية الأولى تتحدث - في بيان عام - عن أن منشأ خلق المخاطبين هي «نفس واحدة». وفي البيان الثاني يعمد من أجل التأكيد على الوحدة النوعية بين الرجل والمرأة إلى التصريح بشكل خاص بأنه قد خلق المرأة من تلك النفس الواحدة - التى خلق منها الرجل - أيضاً. أمّا الآية الثانية فهى ناظرة إلى مسألة الزواج وتكوين الأسرة، فتخاطب الرجال وتذكرهم بأن النساء لسن من جنس مختلف عن الرجال، وإنما هن منّ جنسكم.

إن هاتين الآيتين تدلان بوضوح وتؤكدان على اشتراك الرجل والمرأة في أصل الإنسانية المتمثل بالنفس والروح. وهناك آية أخرى تؤكد أيضاً على الاشتراك بين الرجل والمرأة في المنشأ الأول للخلق المادي (المني والعلقة) أيضاً، إذ يقول :

«أَلَمْ يَكُ نُطْفَةٌ مِنْ مَنِيٌّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى»(1).

2 - الاشتراك في الخطاب والتكليف عندما نلقي نظرة على آیات القرآن الكريم نجد أن هذا الكتاب السماوى يتوجه إلى كل من الرجل والمرأة بخطاب ،واحد، وطالبهما بتكاليف مشتركة، وذلك ضمن خطابات من قبيل :قوله: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ» ، و «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» ، و «يَا عِبَادِي » وما إلى ذلك.

وكما سبق أن أشرنا فإنه على الرغم من اشتراك كل من الرجل والمرأة في النوع الإنساني، إلا أنهما يختلفان عن بعضهما في الخصائص الفسيولوجية

ص: 231


1- القيامة : 37 - 39

والسايكولوجية، وإنّ هذا الاختلاف يستدعي التفريق بينهما في وضع التكاليف والأحكام الشرعية من قبيل: وجوب خوض الجهاد الابتدائي على الرجل فقط، وهكذا إعفاء المرأة من الصيام والصلاة أثناء الدورة الشهرية والنفاس وهذا لا بسبب إنسانيتها، وإنما لأسباب تركيبتها الفسيولوجية الخاصة.

3- التقوى ملاك التفاضل بين الناس: إن ملاك التفاضل بين الناس عند اللّه في التعاليم الإسلامية لا يكون في اختلاف ،الجنس، وإنما يكمن في استحقاق الجدارة من خلال العمل الصالح والتقوى. فكل من سعى في هذه السبيل - سواء أكان ذكراً أم أنثى - يكون أقرب إلى اللّه بمقدار سعيه. من هنا نجد أن اللّه سبحانه وتعالى يقول في محكم كتابه الكريم:

- «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ»(1).

- «أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى»(2).

كما روي عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أنه قال: «إنما النساء شقائق الرجال»(3).بمعنى أن النساء مماثلات للرجال ومتساويات معهم بشكل مطلق، بحيث يشمل الاشتراك فى مقومات الإنسانية جميعها، وتحصيل السعادة الدنيوية والأخروية.

4 - النساء نموذج الإنسان الكامل في القرآن: لقد تحدّث القرآن الكريم عن نساء مثاليات ومتكاملات قطعن مراحل التكامل والإنسانية، حتى بلغن

ص: 232


1- الحجرات: 13
2- آل عمران: 195
3- أحمد بن حنبل، مسند أحمد بن حنبل، ج 6، ص 256 أبو داود، سنن أبي داود، ج 1، كتاب الطهارة ب 94، ح 236

مقام القرب من الغيب ونزول الملائكة عليهن، وحصولهن على الإلهام، من قبيل: السيدة مريم العذراء أم المسيح عيسى علیه السلام(1)، وكذلك أم النبي موسى علیه السلام(2).

واضح أن المرأة لو كانت أدنى من مستوى الرجل وأقل شأناً منه، لما أمكنهن بلوغ مرحلة أن يُلهمن، أو يحصلن على شرف ملاقاة الملائكة.

حصيلة الكلام لو أن المرأة والرجل قد خلقا متساويين من جميع الجهات، ومع ذلك تكون القوّة الفكرية للرجل غالبة على القوّة الفكرية للمرأة، لكان ذلك نقصاً للمرأة، وأدعى إلى إثارة الإشكال والشبهة. وبعبارة منطقية: إن الذي يقع طرفاً في نسبة النقص والكمال يجب أن تكون له في الأساس قابلية الحصول على الكمال ،وملكته في حين أن التركيبة الفسيولوجية والسيكولوجية للمرأة لا تتقبل ذلك المقدار من التعقل والاستعداد إلى المشاركة في أعمال قاسية مثل الجهاد والنفير العام؛ ولذلك لا يمكن اتهام المرأة بعدم الكمال بسبب عدم امتلاكها لمزيد من التعقل؛ ذلك لأن المرأة لا تمتلك ملكة الحصول على هذه القدرة أساساً كما لا يمكن وصف الجدار بالعمى، والقول بأن الجدار ناقص لأنه لا يمتلك القدرة على الإبصار وعليه فإن نفس عنوان النقص والنقصان لا يشتمل على مفهوم أو قيمة من هذه الناحية. وبحسب تعبير الأستاذ الشهيد مرتضى المطهري: إن التفاوت بين الرجل والمرأة لا يكون من ناحية النقص والكمال، وإنما من حيث التناسب، وتوزيع الوظائف

والمسؤوليات لبناء الحياة المشتركة(3).

ص: 233


1- انظر: آل عمران: 42
2- انظر: القصص: 7؛ طه : 38
3- انظر: مرتضى المطهري، نظام حقوق زن در اسلام ص .159

الإجابة عن شبهتين:

الشبهة الثانية عشرة : التفاوت التكويني والبايولوجي:

لقد تمسّك القائلون بأفضلية الرجل على المرأة، لإثبات مدعاهم بمجموعة من الاختلافات التكوينية بين الرجل والمرأة فإنهم بالاستناد إلى مختلف التقريرات الصادرة عن العلوم التجريبية من قبيل: الأحياء والبايولوجيا،

قالوا بوجود اختلاف بين الرجل والمرأة على المستوى النوعي والجنسي، وصاروا بصدد استقراء مختلف حالات الاختلاف بينهما، من قبيل: اختلاف الجهاز التناسلي للرجل عن الجهاز التناسلي للمرأة وهو اختلاف لا يقتصر على الجانب الفسيولوجي فقط، وإنما يشمل الاختلاف في نوع إفرازات الغدد الجنسية بين البيضتين لدى الرجل والمبيضين لدى المرأة، الأمر الذي يؤدي إلى ظهور تغيّرات جينية، تؤثر على الخُلُق والسلوك والذهن والذوق والمشاعر والعواطف إن الغدد الجنسية بعد أن تقومّ بإفرازتها يتم امتصاصها عبر الدم والذهن والأنسجة العضوية لتعمل على تكوين شخصية الرجل أو المرأة وبناء سلوكيتهما(1).

ص: 234


1- انظر نورمان ،من اصول روانشناسي (أصول علم النفس، ترجمه إلى الفارسية: محمود ساعتجي، ج 1، ص 423 ؛ البروفيسور ريك، مجلة زن روز (المرأة المعاصرة)، العدد: 90 ، ص 176، نقلاً عن نظام حقوق زن در اسلام نظام) حقوق المرأة في الإسلام)، ص 170؛ أوتوكلاين بيرغ روانشناسي اجتماعي علم النفس الاجتماعي)، ج 1، ص 313؛ ألكسيس ،کارل انسان موجود ناشناخته الإنسان ذلك المجهول)، ترجمه إلى الفارسية برويز دبيري ص 100 و 152 ؛ هنري ،بيرن روانشناسي اختلافي، ص 197 و 202؛ محمد حسين أمير تيموري، زمينة شناختي روان شناسي، ص 322؛ مرتضی المطهري، نظام حقوق زن در اسلام نظام حقوق المرأة في الإسلام)، القسم السابع.

كما يوجد اختلاف بين مخ وجمجمة الرجل والمرأة أيضاً، إذ يزيد وزن مخ الرجل على وزن مخ المرأة بحوالي 150 غراماً( من 10 إلى 20٪)، ويزيد حجم ومخ الرجل على حجم مخ المرأة بمقدار 150سم.

كما يُجمع علماء النفس بوجود اختلافات بين المرأة والرجل في السلوكيات والأخلاقيات النفسية والروحية من قبيل: ميل المرأة إلى الأعمال المنزلية، وعدم النزعة إلى الابداع، ورغبتها في الأمور الذوقية، وغلبة العواطف

عندها، وضعف حواسّها.

الاختلافات الجنسية التكوينية شاهد على نقصان وزيادة الصفات فقط:

إن التأمل في الفوارق القائمة بين الرجل والمرأة، إنما يُثبت هذه الفوارق على مستوى الزيادة والنقصان في صفات خاصة على أبعد حدّ، بمعنى أن الرجل بمقدار زيادة حجم مخه يكون أكثر من المرأة في إجراء العمليات الاستدلالية. وهذا إنما يُثبت مجرّد النقصان والزيادة بينهما وليس فيه ما يثبت أنهما من جنسين مختلفين ومتباينين. كما أن إفرازات مختلف الغدد الجنسية لدى الرجل والمرأة ومن ثَمَّ الاختلاف السلوكي بينهما إنما يدل على اختلافهما في الصنف دون الجنس والماهية.

وإن هذه الرؤية القائلة بالاختلاف بين الرجل والمرأة في الصنف والكمال والنقصان تحظى بتأييد علماء النفس أيضاً، كما أنهم يؤكدون على الوحدة النوعية بين الرجل والمرأة، وإنما يتحدثون عن مجرد ضعف بعض القوى

لدى المرأة من قبيل: قلة ذاكرتها ،وتعقلها، ولكنهم أضافوا في الوقت نفسه ضعف الرجل في بعض الصفات من قبيل العاطفة والأحاسيس والصبر وما سوى ذلك. ومن خلال مجموع مواطن الضعف والنقصان والكمال لدى كلا

ص: 235

الصنفين، يتضح أن مجموع الرجل والمرأة هو الذي يكون الإنسان الكامل»(1).

الشبهة الثالثة عشرة: نقصان عقل المرأة

اتضح من خلال ما تقدم في الجملة أنه على الرغم من الاختلاف الفسيولوجي والسايكولوجي بين الرجل والمرأة إلا أنهما يكملان بعضهما في الوقت ذاته، وهذا من لوازم أصل الإنسانية. وهنا يطرح هذا التساؤل نفسه: في أي جهة ومرتبة عقلية يكمن التفاوت بين الرجل والمرأة في العنصر النفسي الذي يمثل العقل جزءاً من أجزائه، وشأناً من شؤونه؟

أقسام العقل:

قبل الإجابة عن هذا السؤال، نشير في البداية إلى تعريف العقل وأقسامه.

يُطلق العقل اصطلاحاً على القوّة المفكرة(2)، التي تنقسم في مقام التفكير إلى الأقسام الآتية:

أ - العقل النظري: عندما يقوم الفرد بتوظيف قوّته المفكرة وعقله في الأمور النظرية من قبيل: إدراك الكليات والبديهيات، وترتيب مقدمات الاستدلال على وجود اللّه والكون والمعاد وغير ذلك من العلوم الاستدلالية الأخرى مثل الرياضيات والمنطق والفلسفة يكون ذلك داخلاً في دائرة العقل النظري.

ص: 236


1- انظر: السيد مجتبى ركاوندي، مقدمه اي بر روانشناسي زن، ص 82
2- انظر: عبد الله جوادي آملي کرامت در قرآن، ص 19

ب - العقل العملي: عندما لا يكون متعلق الإدراك والمعرفة لدى الفرد أصل الوجود، وإنما اقترانه بقيد من قبيل الحسن والقبح والإيمان والجهد والنزعة مما يعود إلى الفعل والعمل بنحو من الأنحاء، فإنه يدخل في دائرة العقل العملي.

ج - العقل الآلي: عندما يقوم الفرد - علاوة على المعرفة واستيعاب الأمور - بالاشتغال في الأعمال الخارجية والدنيوية والتنفيذية، ويفكر في العمل والتخطيط وتدبير الأمور من أجل تحقيق غاياته وأهدافه، ورفع الموانع بعقله وتفكيره، يكون داخلا في دائرة العقل الآلي.

د - عقل المعاد: بغض النظر عن العقول الثلاثة المتقدّمة، فإن في جبلة وفطرة كل إنسان - سواء أكان رجلاً أم امرأة - فيما يتعلق بمعرفة الخالق تعالى و عبادته أرضية للظهور والنمو، وهو ما يُعبّر عنه اصطلاحاً ب- «فطرة البحث عن اللّه». وعلاوة على ذلك، فإن بمقدور الإنسان من خلال تفكيره وتعقله وعمله الوصول إلى قمّة المعرفة وعبادة اللّه. وقد تمّ التأكيد في الأحاديث الشريفة على هذا العقل. فقد سُئل أبو عبد الله علیه السلام : ما العقل؟ فقال: «مَا عُيد بِهِ الرَّحْمَنُ وَاكْتُسبَ بِهِ الْجِنَانُ»(1).

وإن غاية مطمح هذا العقل هو ضمان السعادة الأخروية، ولذلك يطلق على هذا العقل من هذه الناحية «عقل المعاد» أيضاً.

وبعد الإشارة إلى هذه الأقسام الأربعة من العقل، نذكر بهذه الحقيقة، وهي: إنه لا شك ولا شبهة في أن التعاليم الإسلامية ترى امتلاك الإنسان -

ص: 237


1- الشيخ الكليني، أصول الكافي، ج 1، ص 11.

الأعم من الرجل والمرأة - لهذه الأقسام الأربعة من العقل. وأنّ الأدلة المتقدمة بشأن إثبات اشتراك كل من المرأة والرجل في الإنسانية تثبت هذا المدعى أيضاً. كما ورد التصريح في الروايات الشريفة على وجود العقل لدى جميع الناس من دون فرق بين الذكور والإناث منهم من قبيل الروايات القائلة:

-«إن اللّه ركّب في ابن آدم كلتيهما [العقل والشهوة]»(1)

-«الإنسان عقل وصورة»(2).

- «العقل عقلان: عقل بالطبع، وعقل بالتجربة، وكلاهما يؤدي إلى المنفعة»(3).

مناقشة وتحليل:

ليس البحث في أصل امتلاك الأقسام الأربعة من العقول، وإنما في زيادتها ونقصانها. وقد اتفقت كلمة المفكرين المسلمين على تساوي الرجل والمرأة في القسم الرابع من العقل (المعاد).

وقد أشار العلامة الطباطبائي إلى زيادة عقل الرجل على المرأة، وزيادة عاطفة المرأة على عقل الرجل، حيث قال:«ينبغي أن يكون زيادة روح التعقل بحسب الطبع في الرجل ومزيته على المرأة في هذا الشأن هو المراد بالفضل الذي ذكره اللّه سبحانه في قوله عز من قائل: «الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بَمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ»(4)، من دون الزيادة في البأس والشدة والصلابة

ص: 238


1- الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 15، ص 209، ح 20298
2- محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 75، ص 7.
3- المصدر أعلاه، ص 6.
4- النساء: 34

فإن الغلظة والخشونة في قبيل الرجال وإن كانت مزية وجودية يمتاز بها الرجل من المرأة وتترتب عليها في المجتمع الإنساني آثار عظيمة في أبواب الدفاع والحفظ والأعمال الشاقة وتحمل الشدائد والمحن والثبات والسكينة في الهزاهز والأهوال، وهذه شؤون ضرورية في الحياة لا يقوم لها قبيل النساء بالطبع.

لكن النساء أيضا مجهزات بما يقابلها من الإحساسات اللطيفة والعواطف الرقيقة التي لا غنى للمجتمع عنها في حياته، ولها آثار هامة في أبواب الأنس والمحبة والسكن والرحمة والرأفة وتحمل أثقال التناسل والحمل والوضع

والحضانة والتربية والتمريض وخدمة البيوت ولا يصلح شأن الإنسان بالخشونة والغلظة لولا اللينة والرقة ولا بالغضب لولا الشهوة، ولا أمر الدنيا بالدفع لولا الجذب.

وبالجملة هذان تجهيزان متعادلان في الرجل والمرأة يتعادل بهما كفتا الحياة في المجتمع المختلط المركب من القبيلين»(1).

وهنا نكتفي بهذه الحقيقة وهي أن الرجل والمرأة - طبقاً لصريح الكثير من الآيات القرآنية الكريمة - قد خلقا من نفس واحدة، وأن لا فرق بينهما من الناحية الذاتية والتكوينية في تحصيل المعارف اللازمة لمعرفة اللّه وعبادته. وهذا الأصل هو المقوّم للإنسانية. وأما العقل بمعنى التصور وتصديق المجاهيل النظرية في مختلف العلوم أو تدبير أمور المجتمع، فلا دخل له في مفهوم الإنسانية واقتراب العبد من اللّه . ولذلك فإن الزيادة والنقصان فيه لا يضر بأصل إنسانية ،المرأة، وقدرتها على نيل المقامات والمراتب السامية، سواء أكان ذلك النقص أو

ص: 239


1- العلامة محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 4، ص 221، 224 و 279.

ذلك الكمال حاصلاً في العقل النظري أو العملي أو الآلي(1).

إن القدر المتيقن والمستفاد من النصوص الدينية وكذلك العلوم التجريبية هو اختلاف المرأة عن الرجل في قوّة التعقّل والأحاسيس والعواطف بوصف ذلك أصلاً عاماً وعليه يمكن على المستوى العملي أن لا يتمكن الرجال أو أكثرهم من الاستفادة من استعدادهم وقابليتهم، بينما تتمكن بعض النساء النموذجيات من الارتقاء إلى مستوى الرجال - أو أكثر - في مختلف العلوم بجهودهن الخاصة والمثال البارز على ذلك النساء النموذجيات اللائي ورد ذكرهن في القرآن الكريم والروايات الإسلامية، على ما مر بحثه في الصفحات السابقة.

حصيلة الكلام: لمّا كان تحديد جنس المولود لا يعود إلى تدخل مباشر من اللّه، بل هو معلول لمسار منظومة تكوينية خاصة تقوم على قانون العلية والمعلولية التي تؤثر فيها مختلف العوامل؛ وعليه لا يمكن القول بنسبة ذلك إلى اللّه بغض النظر عن العوامل المادية، ومن هنا لا يبقى لجميع الاعتراضات التي يوردها المعترضون على تحديد جنس المولود أيّ محل من الإعراب ولكن حيث تنتهي جميع الأسباب والعلل إلى الله، فإنه إذا تعرض شخص إلى ظلم

ص: 240


1- فيما يتعلق بكيفية أن تكون نفس المرأة والرجل - طبقاً للتفسير القائل بالمساواة - مصدراً للآثار والأفعال المختلفة، والذي يؤدي خاصة إلى مختلف أنواع النقص في - التعقل، يتم التساؤل عن مدى انسجام هذا الاختلاف مع مع القول بوحدة وبساطة نفس المرأة والرجل؟ وهناك رأيان في هذا الصدد؛ فالقائلون بالاختلاف الذاتي يتمسكون بمسألة التشكيك في الوجود، وأما المخالفون لهم فيتمسكون بوحدة النفس المجردة وبساطتها، وينكرون الاختلاف الذاتي وتوضيح هذه الرؤية فلسفياً لا يتسع له نطاق هذا الكتاب

من ناحية العلل المادية فإن اللّه سيعوّضه بما يرضيه في هذه الدنيا أو في الآخرة، إلا أن هذه مجرّد دعوى لم ترق إلى درجة الإثبات.

تقدّم أن افتقار المرأة لبعض الخصائص والكمالات هو من لوازم الحياة البشرية. هذا وإن عدم إعطاء الكمال والنعمة لكائن - خاصة إذا كان هذا الكائن غير مستحق، بل كانت المصلحة في عدم إعطائه ذلك الكمال - لا يعد من الظلم، بل هو عين الحكمة؛ لأن إعطاء الكمال لمن يفتقر إلى الظرفية الكافية، يؤدي إلى تحطيمه وإلحاق الضرر به.

الشبهة الرابعة عشرة: التفريق في خلق القبح والجمال :

يمكن تقسيم أشكال الناس من حيث الجمال والقبح إلى ثلاثة أقسام: جميل وقبيح ومتوسط الجمال والذين يتمتعون بالجمال يملؤهم الزهو والخيلاء بجمالهم، وفي المقابل يجأر الدميمون بالشكوى من قبح أشكالهم، وأما أولئك الذين ينعمون بجمال متوسط - وهم الأكثرية - فهم قانعون إلى حدّ ما.

والذي يطرح هذه الشبهة يستدل عليها قائلاً: حيث لم يحسن المصوّر صورة الإنسان ،الدميم فإن هذا سيؤذي صاحب الوجه القبيح، ويحق له رفع دعوى وشكوى على من صوّره على هذه الصورة، ويطالب بتطبيق العدالة في حقه. في حين لو كان الجميع على درجة واحدة من الجمال؛ لما كان هناك مجال لمثل هذا الاعتراض ولكن الاعتراض يأتي من حيث التفريق وعدم رعاية المساواة بخلق البعض جميلاً أو متوسط الجمال والبعض الآخر قبيحاً.

وإن هذا النوع من الشكوى والاعتراض يظهر بين الفتيات، وربما حتى الفتيان في مرحلة الزواج بشكل أكثر . والسؤال هو : لماذا سمح اللّه وهو الخالق

ص: 241

القادر المطلق والمريد للخير بحصول مثل هذا التفريق في صنعه؟

مناقشة وتحليل:

1- القبح والجمال معلول لمختلف العوامل والأسباب:

إن جمال الولد وقبحه - شأنه شأن تحديد جنسه - رهن بمختلف العوامل والأسباب من قبيل: الأسباب الوراثية والجينية والبيئية وحتى التغذية وقد تمّ التأكيد على ذلك في النصوص الدينية، ومن ذلك الحديث المروي عن أبي عبد الله علیه السلام، قال: «إذا سبق ماء الرجل ماء المرأة فالولد يشبه أباه وعمه، وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل يشبه الولد أمه وخاله»(1).

كما تحدّثت روايات أخرى عن تأثير الحالات النفسية والروحية للرجل أثناء المقاربة في تحديد شبه الولد بأسرة الزوج أو الزوجة. فقد قال الإمام على علیه السلام في جواب من سأله عن ذلك: «وأما ما ذكرت من أمر الرجل يشبه أعمامه وأخواله؛ فإن الرجل إذا أتى أهله بقلب ساكن وعروق هادئة وبدن غير مضطرب، استكنت تلك النطفة في [تلك] الرحم؛ فخرج الولد يشبه أباه وأمه. وإن أتاها بقلب غير ساكن وعروق غير هادئة وبدن مضطرب

اضطربت تلك النطفة في جوف تلك الرحم فوقعت على عرق من العروق، فإن وقعت على عرق من عروق الاعمام أشبه الولد أعمامه، وإن وقعت على عرق من عروق الأخوال أشبه أخواله»(2).

وقد توصل علماء التغذية والأحياء والمختصون في علم الأجنة إلی

ص: 242


1- محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 57، ص 339، وج ص 66 و 286 .
2- المصدر أعلاه، ج 57، ص 405.

هذه الحقيقة وقاموا بشرحها وبيانها. بمعنى أن خصائص وصفات الوالدين - ومن بينها: الصفات الظاهرية من قبيل: لون الجلد والشكل الظاهري - تنتقل إلى الجنين عن طريق الجينات، ولذلك نشاهد أن الأولاد غالباً ما يُشبهون آباءهم وأمهاتهم.

ولمّا كان عالمنا هو عالم مادي وتابع للعلل التكوينية، فإن بإمكان العوامل المختلفة أن تؤثر في بعضها - من باب مقولة الفعل والانفعال - وإذا تغلبت بعض الأسباب على الأسباب الأخرى، تمكنت من نقل صفاتها إليها. وعلى هذا الأساس فإن العوامل المؤثرة الموجودة في جينات الوالدين، وكذلك العوامل الخارجية من قبيل نوعية الطعام والبيئة والحالات الروحية للأم تعمل بمجموعها - وفقاً لنوع تركيبها وقوتها وضعفها - على تحديد شكل المولود.

وقد عبّر الأستاذ الشهيد مرتضى المطهري عن الاختلاف القائم في عالم الطبيعة من قبيل: القبح والجمال والفقر والغنى والصحة والسقم ب- «التفاوت» دون «التبعيض» والمحاباة وسبب ذلك يعود إلى الاختلاف في الظرفيات والطاقات التي هي من لوازم العالم المادي لا أن يكون الله هو علتها المباشرة:

«إن السؤال الذي يفرض نفسه غالباً على بعض الأذهان بشأن العدل الإلهى، وخاصة في عصرنا الراهن يتعلق ببعض الفوارق الاجتماعية حيث يقال: كيف يكون بعض الأفراد قباح الوجوه وبعضهم يتمتعون بالجمال وبعضهم يتمتعون بالصحة والعافية، بينما يعاني الآخرون من المرض والسقم ويرفل بعض الناس بالرخاء والغنى ويتخبط البعض الآخر فى حمأة الفقر والمسكنة؟ أفلا تكون هذه الفوارق مخالفة لأصل العدل الإلهي؟ ألا ينبغي بالعدل الإلهي أن يساوي بين الجميع من حيث الغنى وطول العمر والأولاد

ص: 243

والمراتب الاجتماعية والشهرة والمحبوبية ولا يكون هناك أي فرق بين أفراد الإنسانية؟ ألا يكون المسؤول عن هذه الفوارق هو القضاء والقدر الإلهي دون غيره؟ ويعود جذر هذا التساؤل والغموض إلى أمرين، وهما:

أولاً: عدم الالتفات إلى كيفية سياق القضاء والقدر الإلهي. فإن المستشكل قد تصوّر أن القضاء والقدر الإلهى يعمل بشكل مباشر من قبل اللّه كأن تنزل الثروة مباشرة من خزائن الغيب الإلهي على العبد، ويتم حملها إلى بيوت الناس من دون توسط أي سبب أو عامل من العوامل وهكذا الأمر بالنسبة إلى الصحة والجمال والقوة والشهرة والأولاد وسائر النعم والمواهب الأخرى.

فلم يتمّ الالتفات إلى أنه لا يوجد أيّ نوع من أنواع الرزق - سواء في ذلك المادي أو المعنوي - صادر عن خزائن الغيب مباشرة، بل إن منظومة القضاء الإلهي قامت على بناء نظام يكون هو منشأ سلسلة من السنن والقوانين وعلى كل شخص أن يلتمس هذه السنن والقوانين ويطلب منها كل ما يريد الحصول عليه.

وثانياً: الالتفات إلى منزلة الإنسان بوصفه كائناً مسؤولاً ساعياً بقدراته من أجل تحسين ظروف حياته من خلال مصارعة الأسباب الطبيعية من جهة ومواجهة العوامل الاجتماعية السيئة وممارسة الأفراد للظلم من جهة أخرى. فإذا كان هناك في المجتمع اجحاف وكان بعضهم يتنعمون بسفن من النعم لا تحرقها النار، ويصارع البعض الآخر فقراً مدقعاً، لا يعود سبب ذلك إلى القضاء والقدر الإلهى، وإنما المسؤول عن ذلك أولاً وآخراً هو الإنسان المختار الذي يتسبب بهذه الفوارق الطبقية الفاحشة»(1).

ص: 244


1- مرتضى المطهري، مجموعه آثار (الأعمال الكاملة)، 2، ص 150

2 - التعويض :

لو تعرّض الفرد بسبب قبح وجهه ودمامته إلى مشاكل روحية ونفسية وحرمان من بعض المزايا الدنيوية، فإن اللّه سبحانه وتعالى - على ما تكرر بيانه في الصفحات السابقة - على الرغم من عدم مسؤوليته المباشرة عن ذلك، ولكن حيث يقع هذا الأمر في منظومة خلقه، فإنه سيعوض هذا الفرد يوم القيامة بمضاعفة الأجر له أو تخفيف العذاب عنه أو إنقاذه من العذاب نهائياً.

الشبهة الخامسة عشرة : التفريق في الثروة والفقر

نشاهد بعض الأفراد في هذه الدنيا يعيشون في بحبوحة من العيش الرغيد والثراء الفاحش والإمكانات المادية، بينما يتخبط البعض الآخر في مستنقع الفقر وانعدام مقومات الحياة حتى لا يجدون لقمة العيش فهل ينسجم

هذا الاختلاف الفاحش بين الفقر والغنى عدالة اللّه ؟

مناقشة وتحليل:

إن الإجابة عن هذه الشبهة تتضح من خلال ما تقدم في نقد الشبهات السابقة، ولذلك سنكتفي بالاختصار في الجواب عن هذه الشبهة:

1 - توزيع الثروة والفقر على أساس نظام العلية :

إن هذه الشبهة - شأنها شأن الشبهات السابقة - تنشأ من تجاهل قانون العلية الذي يحكم عالم الطبيعة وإسناد جميع الأمور إلى اللّه بشكل .مباشر وكما تقدم أن ذكرنا فإن الأمور في هذا العالم - ومن بينها الفقر والغنى -

يعود إلى عوامل مختلفة من قبيل السلوك الفكري والعملي لذات الإنسان

ص: 245

وسلوك الآخرين من قبيل: تقديم العون أو ممارسة الظلم والجور، وكذلك الوضع البيئي من كثرة الأمطار أو الجفاف وخصوبة الأرض أو عدم خصوبتها، ومقادير التصدير والاستيراد وقلة العيال أو كثرتهم، والمواريث التي تحصل عليها الأجيال اللاحقة من الأجيال السابقة، فلكل هذه العوامل وغيرها دور في ثراء الأفراد وفقرهم. فإن الفرد الذي يؤثر الكسل والبطالة، أو لا يعمل إلا بمقدار رفع حاجته وعلته الآنية، لينفق سائر وقته بالتسكع والطيش والعبث، أو ينفق ما اكتسبه في اللهو واللعب من دون أن يفكر في مستقبله ومستقبل أبنائه، من الطبيعي أن تكون النتيجة التكوينية المترتبة على ذلك هي الفقر. وفي المقابل هناك من الناس من يستثمرون طاقاتهم الخلاقة، ويحصلون على ثقة الآخرين من خلال إخلاصهم وإتقانهم لمهاراتهم وأعمالهم، فيحصلون على مواقع اجتماعية، ويكسبون رزقهم بجدّهم وتفانيهم.

وعلى هذا الأساس فإن توزيع الثروة أو الفقر لا يكون مسبباً عن اللّه مباشرة فلا يكون هناك محلٌّ من الإعراب للاعتراض على الله والشكوى منه والقول بأنه قد أعطانا القليل وأعطى غيرنا الكثير !

هذا وإنّ بعضهم يعمل على تحصيل الثروة بالطرق غير المشروعة من قبيل ممارسة الظلم والجور والسرقة، وهو أمرٌ قد يؤدي إلى إفقار بعض الناس، ولكن الله لا يتدخل لمنع هذه الأمور مباشرة، كأن يصيب يد السارق بالشلل أثناء السرقة؛ لأن هذه الدنيا هى دار السببية والاختبار، وإنما يتدخل اللّه للفصل في مثل هذه الأمور في يوم القيامة - الذي من أسمائه يوم الحساب أيضاً - حيث تتمّ محاسبة الناس على أعمالهم ومن بينها الثروات التي اكتسبوها وطرق اكتسابها.

ص: 246

2 - الاختبار الإلهي:

من الناحية الدينية يمكن عدّ بعض حالات الفقر والفاقة التي تعرض على الإنسان بعد غناه وتمكنه المادي، من قبيل: ضياع جميع الثروات والأموال أو بعضها، اختباراً إلهياً. وقد تمّ التصريح في القرآن الكريم ببعض الحالات بوصفها اختباراً وبلاء وامتحاناً إلهياً من قبيل: الخوف، والجوع، والنقص في الأموال والأرواح والثمار؛ إذ يقول اللّه تعالى:«وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرُ الصَّابِرِينَ»(1).

وعليه فإن الفقر وسائر البلايا التى يتحملها الإنسان في الدنيا، علاوة على وجود علة وبيان عليّ وتكويني عليها يمكن اعتبار بعضها اختباراً إلهياً، كي يتمكن الإنسان من خلالها أن يصقل إيمانه الحقيقي(2). وقد تقدم مزيد من الإيضاح بشأن الاختبار والابتلاء الإلهي في الفصل السابق تحت عنوان «فوائد الشرور الطبيعية».

3 - التعويض عن الفقر والفاقة:

إن مما لا شك فيه وجود بعض الفقراء في المجتمع، الذين أصابهم الفقر لمختلف الأسباب سواء تلك التي تعود إلى سوء إدارة الفقير نفسه، أو تلك التي تكون أكبر من إرادته كالإفلاس والجفاف وما سوى ذلك، إلا أن اللّه سبحانه وتعالى سوف يعمل على تعويض الفقير من خلال المعاملة الخاصة التي سيوليها

ص: 247


1- البقرة : 155
2- انظر: مرتضى المطهري، مجموعه آثار (الأعمال الكاملة)، ج 1، ص 177 و 257؛ ج 4، ص 272 و 274.

إياه بإدخاله إلى الجنة أو إخراجه من النار تعويضاً له على مرارة حياة الفقر وألمها التي عانى منها في الحياة الدنيا. وقد ورد بيان هذا الشيء في الروايات الشريفة بالتفصيل، وفيما يأتي نشير إلى بعضها:

-«روي عن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم أنه قال: «الفقر فخري وبه أفتخر»(1).

-«كان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يدعو اللّه ويسأله أن يحيبه ويميته ويحشره مثل المساكين، فكان يقول: «اللهم أحيني مسكيناً، وأمتني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين»(2).

-«وفي رواية عن المعصوم علیهم السلام أعطي الفقر حكم الشهادة: «والفقر عند الله مثل الشهادة»(3).

وتمّت الإشارة في عدد من الروايات إلى دخول الفقراء إلى الجنة قبل الأغنياء من دون حساب، فقد روي عن الإمام الصادق علیه السلام أنه قال: «إن فقراء المسلمين يتقلبون في رياض الجنة، قبل أغنيائهم بأربعين خريفاً»(4).

ومن بين الأنبياء سيكون النبي سليمان بن داود علیه السلام آخر الأنبياء دخولاً إلى الجنة، بسبب تمكنه من الملك وغناه في الحياة الدنيا، فقد ورد في الحديث: «إن آخر الأنبياء دخولاً إلى الجنة سليمان علیه السلام ؛ وذلك لما أعطى من الدنيا»(5).

ص: 248


1- محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 69، ص 30.
2- المصدر أعلاه
3- المصدر أعلاه، ص 50
4- محمد بن يعقوب الكليني أصول الكافي، ج 3، ص 359
5- محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 14، ص 75.

كما يمكن لنا أن نجد جذور هذه الرؤية في كلام السيد المسيح علىه السلام ما روي عنه في الإنجيل، أنه قال: «الْحَقِّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ يَعْسُرُ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَأَقُولُ لَكُمْ أَيْضًا إِنَّ مُرُورَ جَمَل مِنْ نَقْبٍ إِبْرَةٍ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ !الله ! فَلَمَّا سَمِعَ تَلاَمِيذُهُ بهِتُوا جِدًّا قَائِلِينَ: «إِذًا مَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَخْلُصَ ؟ »(1).

وقد عبّرت رواية عن الفقراء بوصفهم أحباء الله، فقد روي عن النبي موسی علیه السلام، أنه قال: «يا ربّ من أحباؤك من خلقك حتى أحبهم لأجلك فقال: كل فقير فقير»(2).

وفي رواية أخرى عن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم أنه أخبر فيها بأن أكثر أهل الجنة من الفقراء، وإن أكثر أهل النار من الأغنياء، وذلك حيث قال: «اطلعت

في الجنة فوجدت أكثر أهلها الفقراء والمساكين»(3).

وبالتالي فإن الفقراء الذين يُحرمون من النعم واللذات في الحياة الدنيا يعلنون عن هذا الحرمان في يوم القيامة، فقد روي عن أبي عبد الله علیه السلامأنه قال: «إِنَّ اللهَ - عَزَّ وَجَلَّ - يَلْتَفِتُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلى فُقَرَاءِ الْمُؤْمِنِينَ شَبِيهَا بِالْمُعْتَذِرِ إِلَيْهِمْ، فَيَقُولُ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي، مَا أَفْقَرْتُكُمْ فِي الدُّنْيَا مِنْ هَوَانٍ بِكُمْ عَلَيَّ، وَلَتَرَوْنَ مَا أَصْنَعُ بِكُمُ الْيَوْمَ، فَمَنْ زَوَّدَ أَحَداً مِنْكُمْ فِي دَارِ الدُّنْيَا مَعْرُوفاً، فَخُذُوا بِيَدِهِ، فَأَدْخِلُوهُ

ص: 249


1- العهد الجديد إنجيل مرقس الإصحاح: 10 ، الفقرة: 10؛ إنجيل لوقا، الإصحاح: 18 الفقرة: 24
2- أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين، ج 4، ص 196
3- ابن فهد الحلي، عدّة الداعي، ص 124؛ أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين ج 4 ، ص196

الْجَنَّةَ». قَالَ: «فَيَقُولُ رَجُلٌ مِنْهُمْ: يَا رَبِّ، إِنَّ أَهْلَ الدُّنْيَا تَنَافَسُوا فِي دُنْيَاهُمْ، فَنَكَحُوا النِّسَاءَ، وَلَبِسُوا الثَّيَابَ اللَّيْنَةَ، وَأَكَلُوا الطَّعَامَ، وَسَكَنُوا الدُّورَ، وَرَكِبُوا المُشْهُورَ مِنَ الدَّوَابِّ، فَأَعْطِنِي مِثْلَ مَا أَعْطَيْتَهُمْ»(1).

فَيَقُولُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: «لَكَ وَلِكُلِّ عَبْدِ مِنْكُمْ مِثْلُ مَا أَعْطَيْتُ أَهْلَ الدُّنْيَا مُنْذُ كَانَتِ الدُّنْيَا إِلى أَنِ انْقَضَتِ الدُّنْيَا سَبْعُونَ ضِعْفاً»(2).

وروي عن الإمام الصادق علیه السلام أنه قال لأحد أصحابه: «أَمَا تَدْخُلُ السُّوقَ أَمَا تَرَى الْفَاكِهَةَ تُبَاعُ وَالشَّي ءَ لِمَا تَشْتَهِيهِ؟ فَقُلْتُ: بَلَى . فَقَالَ : أَمَا إِنَّ لَكَ بِكُلِّ

مَا تَرَاهُ فَلَا تَقْدِرُ عَلَى شِرَائِهِ حَسَنَةٌ»(3).

والأهم من كل ذلك اعتذار اللّه المنان من الفقراء في يوم القيامة، والذي هو طبقاً لمضمون الرواية أشبه باعتذار الأخ من أخيه: «إِنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَيَعْتَذِرُ إِلَى عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ الْمُحْوِج فِي الدُّنْيَا كَمَا يَعْتَذِرُ الْأَخْ إِلَى أَخِيهِ، فَيَقُولُ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي مَا أَحْوَجْتُكَ فِي الدُّنْيَا مِنْ هَوَانٍ كَانَ بِكَ عَلَيَّ، فَارْفَعْ هَذَا السَّجْفَ فَانْظُرْ إِلَى مَا عَوَّضْتُكَ مِنَ الدُّنْيَا، قَالَ: فَيَرْفَعُ فَيَقُولُ: مَا ضَرْنِي مَا مَنَعْتَنِي مَعَ مَا عَوَّضْتَنِي»(4).

1 / 3 - تذكير :

لا ينبغي للقارئ عندما ينظر في هذه الروايات الواردة في فضيلة الفقر والفقراء أن يستنتج منها أنها في مقام الحثّ والتشجيع على الفقر وحياة البؤس.

ص: 250


1- أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين، ج 4 ص 195.
2- محمد بن يعقوب الكليني أصول الكافي، ج 2، ص 261؛ محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 7، ص 124
3- محمد بن يعقوب الكليني أصول الكافي، ج 2، ص 264؛ محمدباقر المجلسي، بحار الأنوار، ج69، ص 42.
4- محمد بن يعقوب الكليني، أصول الكافي، ج 2، ص 264.

وإنما الروايات ناظرة إلى أنه إذا كان هناك من فقر، فعلى الفقير أن لا يتأثر ويفقد توازنه الروحى والنفسى ولا يعدّ نفسه عند اللّه أدنى من الأغنياء. وأساساً فإن الإسلام يدعو إلى الحياة الوسط التى تضمن للإنسان عدم الحاجة إلى الآخرين في جميع شؤونه، ومن هنا فإن التعاليم الإسلامية تمدح وتثني على أولئك الذين يحققون نجاحاً في بناء حياة مستقلة تغنيهم عن الآخرين، وتقول: طوبى لمن أسلم، وكان عيشه كفافاً»(1).

2 / 3 - بعض الاعتراضات الصادرة عن أولاد الفقراء :

2/1/ 3 - عدم تقصير الأولاد:

ربما صدر عن أولاد الفقراء اعتراض مفاده: إذا كان آباؤنا مقصرين في تخبّطهم في حمأة الفقر، فما ذنبنا نحن حتى ندفع ضريبة تقصيرهم، فنواجه البؤس والهوان عند رؤيتنا لأولاد الأغنياء من أقراننا وهم يرفلون في بحبوحة العيش الرغيد، في حين أننا لا نستطيع أن نوفر لأنفسنا أبسط مقومات الحياة؟

إلا أن الإجابة عن ذلك تتضح من خلال ما تقدّم، إذ يقال:

1 - كما ورد في نص الاعتراض فإنّ المقصر هنا أو أحد المقصرين هما الوالدان من دون أن يكون لذلك صلة بعدالة اللّه .

2 - أشرنا مراراً وتكراراً إلى أننا نعيش في عالم تحكمه قوانين العلية، وفي ضوء هذا العالم يتعرض كثيرون إلى الأضرار من قبيل أولئك الذين يفقدون أرواحهم في حوادث الحريق أو السيول الجارفة أو الزلازل أو يفقدون

ص: 251


1- الخواجة نصير الدين الطوسي، كشف المراد قسم الإلهيات، الفصل الثاني ص- 225 233 (بتصرف).

أموالهم ،وممتلكاتهم من دون أن يكون لهم أي ذنب في ذلك، ولكنه من لوازم أصل العلية وهكذا الأمر بالنسبة إلى ظاهرة الفقر حيث يتضرر بها بعض الناس، وتكون أسبابها - الأعم من تقصير الوالدين أو العوامل أخرى - خارج دائرة التأثير الإلهي المباشر.

3 - كما تقدم أن أشرنا فإن سنة اللّه قد تعلقت بتعويض كل فرد يتعرض للألم أو الضرر في هذه الدنيا، وإنّ اللّه سوف يعوضه في يوم القيامة، على ما تقدم توضيحه.

/2/12/ 3 - عدم الرضا بالفقر:

يمكن لأولاد الفقراء أن يعترضوا ويقولوا: إننا لسنا راضين بمثل هذه الحياة، ويا ليتنا لم نخلق أساساً، فلماذا خلقنا اللّه لنعيش مثل هذا الضنك والعناء؟

وفي الجواب يتكرر أصل العلية، بمعنى أن ولادة الإنسان والطفل - الأعم من الفقير والغني - تابعة لسلسلة من العلل التكوينية، من قبيل: الزواج والمقاربة وعدم استعمال موانع الحمل وما إلى ذلك. فإذا تحققت هذه الشروط، تحققت الولادة بالضرورة، وإن هذه العلل التكوينية لا شأن لها بالوضع المادي للوالدين أبداً.

3/ 2 / 3 - فلسفة عدم المنع من ولادة الفقراء:

ربما يرد الاعتراض هنا على الوالدين؛ إذ يقال لهما حيث كنتما تعلمان بعدم استطاعتكما توفير المستقل المادي لأولادكما، فلماذا لم تتخذا الإجراءات الوقائية التي تحول دون انعقاد النطفة أو تخصيب البويضة؟

ص: 252

بيد أن هذا الاعتراض قابل للردّ أيضاً؛ إذ أولاً: قد يعترض الولد يوم القيامة على أبويه، ويقول : لماذا حرمتماني من نعمة الخلق والوجود تحت ذريعة الفقر، وحلتما بيني وبين فرصتي في ممارسة التكامل والحصول على السعادة الأخروية ؟ فلو سمحتما لي بالمجيء إلى عالم الدنيا لتحمّلت الفقر، حتى أصل إلى غايتي ومناي والهدف الرئيس من الخلق ألا وهو التقرب من اللّه. وثانياً: هناك الكثير من الأسر التي نجحت في تحويل حياتها من الفقر إلى الغنى، أو تمكن الأولاد الذين ولدوا في أسر فقيرة من الحصول على ثروات بجدهم ومثابرتهم في طلب الرزق الحلال؛ فحققوا الرخاء لأنفسهم ولأهلهم، ولو أنه حيل دونهم ودون المجيء إلى الحياة لما تمكنوا من تحقيق هذا النجاح والازدهار.

الشبهة السادسة عشرة: التفريق بين الناس في الطاقات الذهنية والعقلية

هناك اختلاف كبير بين الناس في الطاقات العقلية والنبوغ وما يصطلح عليه بمعدل الذكاء IQ.(1)

ص: 253


1- إن معدل الذكاء IQ عبارة عن نسبة يتم الحصول عليها من تقسيم السن العقلي على السن التقويمي مضروباً في مائة. فإذا كان السن العقلي مساوياً للسن التقويمي كان معدل الذكاء مئة. بيد أن السن العقلي لدى بعض الأفراد يفوق السن التقويمي أحياناً، فيتمتع هؤلاء الأفراد بتفوق عقلي على الآخرين وللحصول على السن العقلي هناك كثير من الطرق، ويقوم الخبراء والمتخصصون في هذا المجال عادة بإجراء اختبارات خاصة تقيم مختلف الجوانب، من قبيل: تحديد النماذج والأمثلة، وقوة الذاكرة القصيرة الأجل، الألفاظ والمفردات وسرعة إجراء العمليات الحسابية، وإدراك العلاقات من والجبر والمعلومات العامة والحسابات الرياضية، واستيعاب الأجواء والمنطق والظروف والاستفادة والحالات.

وفي الوهلة الأولى يمكن تقسيم أفراد المجتمع إلى ثلاثة أقسام، وهي:

1 - الأغبياء الذين يتمتعون بمعدل ذكاء يبلغ 70 وأدنى.

2 - متوسطو الذكاء (وهم الأغلبية ) : الذين يتراوح معدل ذكائهم بين 70 و 130.

3 -- النوابغ والعباقرة: الذين يتجاوز معدل ذكائهم 130 وقد يصل حتى إلى 250.

وهنا تطرح هذا الشبهة : لماذا خلق اللّه الناس ولم يعدل بينهم في توزيع القدرات العقلية ؟ فهل ينسجم مع العدل الإلهي أن يتمتع بعض الناس بمستويات عالية من العقل والذكاء مما يتيح لهم بلوغ أعلى درجات ومراتب التكامل المعنوي والمادي، بينما يتمّ حرمان آخرين من هذا الذكاء؟

مناقشة وتحليل:

1 - معدل الذكاء معلول للعوامل الوراثية والبيئية:

من خلال الالتفات إلى ما ورد في الصفحات السابقة من هذا الكتاب ومن بينها: سيادة نظام العلية على الحوادث والظواهر التي تقع في هذا العالم تتضح الإجابة عن هذه الشبهة إلى حد ما ؛ إذ أن كل أمر - من قبيل: الاستفادة من معدل الذكاء والطاقات الذهنية - معلول لسلسلة من العلل التي يعمد العلماء والمفكرون حالياً إلى تقسيمها بشكل عام إلى قسمين، وهما: الوراثة والبيئة(1).

ص: 254


1- أعلن العلماء في جامعة نيومكسيكو بعد تحقيقات متعددة أن الأطفال يستهلكون تسعين بالمائة من سعراتهم الحرارية من أجل تنشيط المخ. وإن الإصابة بأنواع الأمراض والالتهابات ستؤثر على هذه العملية سلباً. فقد أثبت هؤلاء العلماء من خلال تحقيقاتهم أن الناس الذين يقطنون في المناطق المكسيكية التي شهدت حملة مكافحة المالاريا يتمتعون بزيادة في النسب المئوية من ذكائهم. ومن جهة أخرى فقد صرح العلماء في جامعة إيدنبرغ بأن الأفراد يحصلون على ما يقرب من الخمسين بالمائة من الذكاء بالوراثة (نقلاً عن موقع: همشهري آنلاين).

وإن المراد من العوامل الوراثية هى الخصائص التكوينية لنسبة ذكاء الوالدين والتي تنتقل إلى أولادهما عبر الجينات الوراثية، وكذلك نوع طعام الوالدين والحالات الروحية والنفسية السابقة للحمل وأثنائه، حيث يكون لذلك تأثير تكوينى، وقد تمّ التأكيد على هذه المسألة وبيانها في التعاليم الدينية وفى علوم التغذية والأحياء.

والمراد من العوامل والأسباب البيئية هي الأسباب التكوينية والنفسية التي تؤثر في نمو الرضيع بعد ولادته من قبيل نوع التغذية والطعام الذي يقدم للطفل، والبيئة التعليمية في الأسرة والمدرسة وأنواع الأصدقاء من حيث نسبة ذكائهم ومستوياتهم الدراسية.

وقال أحد المتخصصين في علوم الطب في هذا الشأن:

«بغض النظر عن العوامل الجينية والوراثية، هناك كثير من الأسباب البيئية التي تؤثر على معدّل الذكاء. ومن ذلك نوعية الطعام وخاصة في مرحلة الرضاعة والطفولة وكذلك القلق والضغط النفسي، والفقر العاطفي، وكمية وكيفية المستوى التعليمي والمعرفي والثقافي من باب المثال: إن الأطفال الذين يحرمون من رضاع لبن أمهاتهم ويعيشون على الحليب المجفف هم أقل ذكاء من الذين حصلوا على رضاع طبيعي كامل وإن نسبة ذكاء الأطفال الذين

ص: 255

يعانون من فقر الدم تبلغ 5 إلى 10 درجات أقل من غيرهم. والذين يعانون من نقص في مادة اليود ينخفض مستوى الاستيعاب عندهم بمقدار 5 إلى 13 درجة (وقد تبلغ أحياناً حتى إلى 30 درجة) وعلى هذا المنوال يمكن القول بأن الفقر ومعدل الذكاء المنخفض يُفاقمان من بعضهما، ليؤديا إلى دورة غير سليمة. وهذا هو الذي يُفسر لنا مستوى الذكاء الموجود في البلدان الأفريقية والجنوب آسيوية»(1).

وعليه فإن الأشخاص الأذكياء إنما يتمتعون بالخصائص والعوامل التكوينية للنجاح، والتي زوّدهم اللّه وخالق الكون طبقاً لظرفياتهم وطاقاتهم الاستيعابية. وبعبارة أخرى حيث أن القابليات تعطى للأفراد بالالتفات إلى

الظروف التكوينية (العوامل الوراثية والبيئية)، فإنها لا تدخل في دائرة التفريق والمحاباة. ولمّا كانت الطاقات العقلية تنشأ بحسب العوامل الذاتية التكوينية فهي عين العدل (بمعنى إعطاء الحق إلى مستحقه).

2 - تنوّع الذكاء واختلاف الطاقات العقلية :

المسألة الأخرى هي أن الذكاء والمقدرة العقلية متنوّعة وكثيرة. فهناك من يمتلك قابلية كبيرة في الدراسة وطلب العلم، ويجد رغبة ومتعة كبيرة في

القراءة والتحقيق ويحقق من وراء ذلك نتائج باهرة. وهناك في المقابل من لا يمتلك أي موهبة أو قابلية أو رغبة إلى طلب العلم، ولكنه يمتلك ذكاءً خارقاً في المجالات الأخرى من قبيل الميكانيك أو الشعر أو الرسم أو غير ذلك من

ص: 256


1- الدكتور شهرام يزداني الأستاذ المساعد في جامعة العلوم الطبية في جامعة الشهيد بهشتي (نقلاً، عن موقع مهر وهمشري آنلاين).

المواهب أو الحرف والصناعات الأخرى التي لو ركز اهتمامها عليها سيحقق نجاحات باهرة فيها، وسوف تجعل منه مفخرة لنفسه وأسرته وبلاده.

ولكن يوجد هنا أمران جديران ،بالتأمل وهما أولاً: أن يعمد كل إنسان فى الوهلة الأولى إلى اكتشاف موهبته وذكائه حتى لا يستهلك طاقته في حقل لا رغبة له فيه. وثانياً: على الفرد بعد اكتشاف موهبته أن يجدّ في تطويرها والمثابرة عليها كي يبلغ بها إلى مرحلة النضح والفعلية. إلا أن بعض الناس إما يخفقون في العثور على مواهبهم، أو أنهم لا يعملون على استثمارها

بعد اكتشافها والعثور عليها من قبيل الشخص الذي يترك الدراسة بسبب المشاكل الاقتصادية طلباً لجمع الأموال أو بالعكس هناك من يتمتع بموهبة فنية أو صناعية أو تجارية ولكنه يعطل طاقته بسبب إصراره على مواصلة الدراسة، وعندها يشكو هذا وذاك من أزمة الفرَص.

إذن يمكن القول بكل جرأة إن جميع الناس يتمتعون بالطاقات العقلية (1)التي وزعها اللّه بينهم على أشكال مختلفة - وبطبيعة الحال بالالتفات إلى نظام العلية يجب القول بأن الله قد ترك هذه الطاقات وديعة عندهم - كي تمضي دورة الحياة بالشكل الأحسن والأفضل.

أسباب تنوّع الذكاء والقابليات العقلية:

وقد يطرح هنا السؤال الآتي: لماذا كان استعداد هذا الشخص في صنعة

ص: 257


1- وبطبيعة الحال يجب الالتفات إلى أن هذه القاعدة امتلاك جميع الناس للذكاء والقابلية العقلية الكبيرة) إنما تجري في حق الناس الطبيعيين والاعتياديين، من دون أولئك الذين يعانون من التخلف والإعقات الذهنية، والتي لا تعود بدورها إلى الله، وإنما إلى علل تكوينية هي التي حالت دون تمكن هذا الشخص من التمتع بالذكاء.

هامة ومرموقة مثل: علم الطب أو الهندسة أو الفلسفة أو التجارة، بينما كان استعداد هذا الآخر في مشاغل بدائية من قبيل النجارة والبناء والخياطة ولم يحدث العكس؟

وفي معرض الجواب عن هذا السؤال ينبغي تحليل الشبهة نفسها وتشريحها، حيث يكون السؤال عن ماهيتها وهي تنقسم إلى السؤالين الآتيين:

أ - بيان العلة الفاعلية: في معرض بيان ذلك من حيث العلة الفاعلية يمكن لنا أن نشير إلى العامل الوراثي والبيئي، بمعنى أن جزءاً من علة الاستعداد والميل الشخصي إلى الفن أو الصنعة الخاصة، من قبيل: الرسم والشعر، تكمن في العامل الوراثي. من باب المثال إن القابلية على قول الشعر تنتقل من جيل إلى جيل عبر الجينات الوراثية.

أما العامل الثاني فهو العامل البيئي بمعنى أن الجو الغالب الذي ينشأ فيه الطفل تسوده مهنة أو صناعة خاصة كأن تكون المهنة التي يزاولها أكثر أفراد الأسرة أو أهالي القرية هي الزراعة أو رعي الأغنام أو قيادة السيارات، أو ان يعمد الوالدان إلى حث ولدهما وتشجيعه على ممارسة حرفة أو فن أو دراسة حقل خاص؛ فتكون نتيجة ذلك اختيار الولد تلك الصنعة أو ذلك الحقل الدراسي، ويقوم ذلك الفرد بصرف قدراته وطاقاته من أجل النجاح في ذلك الحقل.

وبطبيعة الحال هناك بعض الطاقات التي سيتمّ التضحية بها في البين. فمثلاً إن الولد الذي لا يجد أي رغبة أو ميل للمهنة التي يزاولها أبوه، والتي تفرض عليه بالإكراه، وهو أمرٌ يؤدي إلى تشتيت طاقته والتفريط بها في أمر لا رغبة له فيه من دون أن يحقق أيّ نجاح فيها، أو أن عليه لكي ينجح فيها

ص: 258

أن يبذل جهداً يفوق طاقته.

ب - بيان العلة الغائية: وأما بقطع النظر عن العلة الفاعلية، هناك من يتساءل: لماذا يجب أن يكون هناك تنوّع في الكفاءات والرغبات لدى الأشخاص والمجتمع؟ من باب المثال : أن يكون لدى أحد الأفراد موهبة في البناء، ولدى الثاني موهبة في الطب، ولدى الثالث موهبة في حقل التعليم، ولدى الرابع موهبة في الزراعة أو رعي المواشي وبعبارة أخرى لماذا أقرّ اللّه في ضوء قانون العلية مثل هذا التنوع في طبيعة الناس؟

يبدو أنّ الإجابة عن هذا السؤال واضحة؛ لأنّ الإنسان كائن اجتماعي فإنه يحصل على تلبية رغباته واحتياجاته من خلال إقامة العلاقات والتعاون مع سائر إخوته في الإنسانية، إذ يحتاج الإنسان إلى الطعام والسكن والثياب والوسائط النقلية ولا يمكنه توفير جميع هذه الأمور بمفرده. فلو صار البناء على أن يعمل الجميع في مهنة الزراعة، فإن أعمالاً أخرى من قبيل: رعي المواشي والخياطة والبناء والطب ستكون كاسدة، وبذلك يصاب المجتمع بأضرار كبيرة من هنا فإن وجود هذا التنوع في القابليات والرغبات المختلفة بين أفراد المجتمع أمر ضروري لاستمرار عجلة الحياة في الدوران.

وبعبارة أخرى: لو فرضنا أن الاعتماد على صنعة واحدة كان أمراً ممكناً، كما كان عليه الوضع في المجتمعات البدائية من الاعتماد على مهنة واحدة كالزراعة مثلاً لا غير، إلا أن هذا يحول دون رقى المجتمعات؛ فإن تطوّر

الحضارات وتقدّمها رهن بتنوّع الاختصاصات وكثرة المهن والمهارات والصناعات كي يمارس كل شخص اختصاصه الذي يحسّن به وضعه الاقتصادي، ويرفع حاجة الآخرين ويقوم في الوقت نفسه بتطوير وازدهار

ص: 259

تلك الصنعة. وإن هذه الحاجة والضرورة إلى تنوّع المهن والصناعات في المجتمعات الصناعية والمتقدّمة من البداهة بحيث تغنينا عن الشرح والتوضيح ولذلك لا نجد أنفسنا بحاجة إلى مزيد من الاسهاب في شرح وبيان هذه

الحقيقة.

حصيلة القول: إن سبب تكثر المشاغل والحقول والطاقات من الزاوية الفاعلية يعود إلى نظام العلية (الوراثة والبيئة)، وإن اللّه لم يودع في الشخص الموهبة فى علم الهندسة أو الطب مباشرة، وعليه لا يمكن الإشكال على اللّه في اختیار مختلف الأعمال والمهن والصناعات المتنوّعة إلا أن هذا التنوّع في المهن ضروري من حيث الأهداف والغايات لضمان حاجة الإنسان وتطور المجتمع. وإن اللّه من خلال تنوّع المهارات والحرَف قد ضمن للإنسان هذه الغايات من

خلال خلقه كائناً اجتماعياً.

3- نجاح الأشخاص المثابرين :

إن عوامل نجاح الإنسان طوال حياته مختلفة، ويمكن لنا هنا أن نشير من بين تلك العوامل إلى: الأسرة والبيئة ونشاط الفرد نفسه، كما أن معدل الذكاء يعد واحداً واحداً من تلك العوامل، بيد أن هذه الموارد ليست هي وحدها مفتاح السر في نجاح الفرد، وإنما هناك عوامل أخرى أيضاً، ومن بينها مثابرته ونشاطه المستمر والمتواصل من أجل بلوغ النجاح في مختلف المجالات. ومن هنا فإن الله قد وضع أمام متوسطي الذكاء طرقاً متنوعة ومختلفة لبلوغ مدراج الرقى والتقدّم. وعليه يحظى كل فرد من أفراد الإنسانية بخصائص وعوامل مختلفة من أجل النجاح وإن الله قد حبى كل شخص بهذه الخصائص بحسب ظرفيته واستعداده. وفي الحقيقة هناك بين الناس سلسلة من الفوارق التي

ص: 260

لا ترقى إلى التفريق ،والمحاباة وإن هذه الفوارق ضرورية ونافعة للفرد وللمجتمع على السواء. وبعبارة أخرى إذ إنّ القابليات إنما تعطى للفرد من خلال العوامل التكوينية (العوامل الوراثية والبيئية، لا تعد من المحاباة. بل هي - كما تقدم أن ذكرنا - عين العدل.

وربما طرحت هنا هذه الشبهة القائلة بأن الذين يتمتعون بذكاء أكبر يحصلون على فرص أكبر للنجاح.

وفي الجواب عن هذه الشبهة يجب القول: أولاً على فرض التسليم بذلك، لا يلزم منه ما يخالف العدل؛ إذ - كما تقدم أن أشرنا - فإن الذكاء والكفاءات العقلية، إنما هي معلولة لمختلف العلل التكوينية (الوراثية والبيئية)، وهي ليست من أفعال اللّه المباشرة. وثانياً: إن الحقائق الخارجية وتحليل الإحصائيات بشأن الناجحين في مختلف المجالات يثبت أن ذكاء أكثر هؤلاء الأفراد كان اعتيادياً أو متوسطاً، ولم يكن بينهم من النوابغ إلا النزر القليل.

الشبهة السابعة عشرة : دور مسقط رأس المولود وبيئته: في تحديد وضعه الاقتصادي والديني:

إن مسقط رأس الفرد ونشأته يلعب دوراً هاماً في حياته ومصيره من الناحية المادية والمعنوية. إن البيئة التي يولد فيها الإنسان ويترعرع فيها هي التي ترسم معالم ما سيكون عليه من الناحية الاقتصادية والثقافية والمذهبية. فإذا كانت المنطقة التي يعيش فيها الفرد تتمتع بازدهار وتقدم على المستوى الاقتصادي، فإن هذا الفرد سيعيش تبعاً لذلك حالة من الرخاء المادي، كما هو الحال بالنسبة إلى أكثر البلدان الأوروبية، وأما إذا كانت المنطقة تعانى الفقر

ص: 261

والمجاعات كما هو حال بعض البلدان الأفريقية فإن الأفراد الذين يعيشون فيها سيعانون من الفقر والحاجة.

ومن بين التأثيرات الهامة للبيئة، هو تأثيرها على الثقافة والأخلاق والدين. فإن لكل مجتمع ثقافته ودينه الخاص الذي تعتنقه الأكثرية الكبيرة من المواطنين.

فعلى سبيل المثال: إن المواطنين في المجتمع المسيحي هم من المسيحيين، وإن المواطنين في المجتمع اليهودي هم من اليهود، والمواطنون في المجتمع الإلحادي والشيوعي هم من الملحدين، ومن ثَمَّ فإنّ المواطن في المجتمع الإسلامي ينشأ على التعاليم الإسلامية. وإن علماء الاجتماع يؤكدون على تأثير المجتمع في أعضائه والمواطنين فيه.

فيمكن للمواطنين في المجتمعات الفقيرة أن يعترضوا قائلين: لماذا تمّ تقسيم المجتمعات إلى مجتمعات غنية ومجتمعات فقيرة، وتمّ تصنيفنا لسوء حظنا على المجتمعات الفقيرة؟ ولماذا لم يحصل العكس؟

كما يمكن للمواطن الذي يعيش في المجتمع غير المسلم أن يعترض يوم القيامة على اللّه ويقول: إلهي لو أنك خلقتني في مجتمع مسلم ونشأت وترعرعت هناك، لكنت كسائر المسلمين معتنقاً للدين الإسلامي الحنيف. كما يمكن للمسلم السني أن يحتج على اللّه بمثل ذلك. وعليه يمكن القول بعدم رعاية العدالة في توزيع الثروة والفقر، وفي التقسيم المذهبي والديني على المناطق والمجتمعات، وبذلك يكون حق المحرومين من العنصرين المادي والمعنوي في الاعتراض محفوظاً.

ص: 262

مناقشة وتحليل:

1 - اختيار محل الولادة والنشأة تابع لنظام العلية:

إن اختيار الموطن لأول إنسان على وجه الأرض وهو سيدنا آدم علیه السلام كان بإرادة مباشرة من اللّه ، ولكن كان بإمكانه أن يهجر ذلك المكان لو لم يجده

مناسباً له.

وعليه يمكن القول بوجوب التفريق بين أمرين، بين محل الولادة واختيار موطن النشأة؛ فالأول ،جبري، أما الثاني فهو واقع تحت إرادة الفرد واختياره. إذ يمكن للمرء بعد أن يبلغ سن الرشد والبلوغ أن يغير وطنه وبيئته، كما حصل ذلك على أرض الواقع حيث انتشر الناس بعد ذلك في مختلف أصقاع الأرض. بيد أن الهام هو توخي الدقة في اختيار البيئة التي يريد الإنسان أن يعيش فيها، حيث يتعيّن عليه أن يأخذ الكثير من الملاكات بنظر الاعتبار، من قبيل: الماء والهواء والأرض الخصبة وما إلى ذلك. وعلى هذا الأساس انتشر الناس في الأرض، فكان منهم من حصل على موطن مناسب بحسن اختياره، وانتقلت منافع هذا الاختيار للأجيال اللاحقة من نسله وذريته أيضاً. وأما أولئك الذين اختاروا أماكن غير صالحة، فإنهم وأجيالهم القادمة قد تضرروا نتيجة لسوء هذا الاختيار، أو أنهم سيحرمون من بعض المزايا بفعل

هذا الاختيار.

إذن ليس الأمر من قبيل أن يعمد الله بنشر الناس على الأرض كما ينشر الفلاح البذور في أرضه عشوائياً، ليكون نزول كل إنسان على موطنه تابعاً للحظ والصدفة فيكون نصيب بعضهم موطناً ملائماً، ونصيب البعض الآخر موطناً غير ملائم، حتى يتم الإشكال على اللّه في عدم رعاية العدل في

ص: 263

هذا التوزيع بل كما تقدم أن أشرنا فإن الإنسان حرّ في اختيار محل سكناه وموطنه.

إلا أنّ الأجيال اللاحقة رغم أنها لم تكن مختارة في تحديد مكان حياتها، فهي تحصل عليه بما يشبه الوراثة نتيجة لاختيار الأسلاف ولكنها تبقى قادرة على تغيير محل إقامتها والانتقال إلى مواطن أخرى، كما نشاهد ذلك في الكثير من المجتمعات، حيث ينتقل أهل القرى للسكن في المدن وأهل المدن والمحافظات ينتقلون للعيش في العواصم أو ينتقل البعض من بلد إلى بلد آخر. وعليه فإذا تعرّض شخص للظلم أو الضرر أو الخسارة بسبب الموطن الذي يعيش فيه، فإن مسؤولية ذلك تعود إليه، فعليه أن يلوم نفسه دون غيره.

ولحسن الحظ فقد ألقت النصوص الدينية ضوءاً كبيراً ورؤية واسعة علة تعريف الوطن ومفهومه. وقد نصح القرآن الكريم بالهجرة بأشكال متعددة ولأسباب مختلفة، ومن بينها الهروب من ظلم الحكومات والمجتمعات حفاظاً على الإيمان، من قبيل قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتْهَا جِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً»(1).

وفي كلام لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قاله العلي علیه السلام يبيّن فيه أن الوطن ليس مصدراً للخير إلا إذا توفر على الأمان والطمأنينة :«لا خير ... في الوطن إلا مع الأمن والسرور»(2).

ص: 264


1- النساء: 97 و 100؛ النحل: 41.
2- الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ص 368 محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 74 ، ص 58، وج 66، ص 40.

ومفهوم الحديث يبيّن أن الوطن إذا انعدم فيه الأمان، فلا ينبغي البقاء فيه.

2 - أسباب الفقر والغنى في المجتمع :

افترضت الشبهة أن وجود المجتمع الفقير والمجتمع الغني إنما هو بأمر وإرادة من اللّه بنحو من الأنحاء، وعليه يكون هناك متسع للشبهة والاعتراض

على عدله. ولكن كما تقدم في تحليل شبهة «المحاباة بالفقر والثروة» فإن الثروات والنعم الإلهية قد خلقت للجميع، إلا أن بعض الناس يحصلون عليها بجدّهم واجتهادهم وتوظيف عقولهم، في حين يُحرم منها البعض الآخر لمختلف الأسباب من قبيل: عدم توظيف فكرهم أو إيثارهم للكسل والتقاعس. وعليه فإن ثراء المجتمع أو افتقاره ليس منبثقاً عن إرادة أو فعل مباشر من اللّه، وإنما هو معلول لمختلف الأسباب والعلل الأعم من الطبيعية والإنسانية. وقد ذكر لذلك علماء الاجتماع وخبراء الاقتصاد عللاً مختلفة(1)، ويمكن الإشارة من بين تلك العلل هنا إلى الماء والهواء وخصوبة الأرض، وتوظيف أفراد المجتمع لطاقاتهم الفكرية والعضلية والروحية، بالإضافة إلى عنصر التعاون والتنسيق واحترام العمل والنخب وهكذا يدخل عنصر الحكومات والحكام في هذا

ص: 265


1- ذهب منتسكيو (1748م) إلى اعتبار الماء والهواء وآدم سميث (1776م) إلى عدّ المهارات الإنسانية والتخصص، وقيام سوق حرّة، وديفد لاندز وصموئيل هانتينغتون إلى عد العوامل الثقافية المثابرة والنظم والطموحات والآمال الكبيرة والانسجام الاجتماعي واحترام العمل وتقييم الدراسة وطلب العلم)، وريتشارد لين (2002م) إلى اعتبار الذكاء والقابليات الذاتية من أهم عوامل النجاح في إثراء الأمم والشعوب (نقلاً عن: موقع الدكتور شهرام يزداني، الأستاذ المساعد في جامعة الشهيد بهشتي للعلوم الطبية).

الشأن أيضاً، مما يؤثر وجوده في إثراء المجتمع، وعدمه في إفقاره.

3- حرية اختيار الدين :

القسم الثاني من الشبهة كان يُشير إلى تأثير البيئة والثقافة السائدة فيها على انتماء الإنسان وتمسكه بدين آبائه وأجداده، والدين السائد في ثقافة المجتمع. تقول هذه الشبهة: لو كانت جميع الأديان القائمة بين مختلف الأمم والشعوب على حق (التعددية الدينية) لما أمكن إيراد هذه الشبهة على العدل الإلهي، بيد أن الدين الحق من بين جميع هذه الأديان هو الدين الإسلامي الحنيف، بل إن المنهج الإسلامي الصحيح هو المنهج المتمثل ب_«التشيّع» فقط، وإن نصيب سائر أتباع الأديان والمذاهب الأخرى هو الضلال والخسران، ونتيجة ذلك هو العذاب في الجحيم يوم القيامة والذي سيطال أكثر الناس. وعليه ألا يكون ذلك نقضاً للعدل الإلهي؛ لأن اعتناق الدين الباطل من قبل الناس في المجتمع الذي يسوده ذلك الدين هي مسألة تفرضها طبيعة الأمور.

وقد تقدّم نقد هذه الشبهة في فصل الشرور في يوم القيامة بالتفصيل. وهنا نكتفي ببيان هذه النقطة، وهي أنه كما يمكن للإنسان أن يغيّر موطنه لأسباب اقتصادية أو سياسية أو دينية، يمكن له أن يعتنق الدين الحق من خلال دراسة مختلف الأديان، بل إن هذا هو المتعيّن. وبعبارة أخرى: إن اعتناق الدين في بداية حياة الفرد لا يقوم على أسس منطقية أو براهين مقنعة بل يقوم على أساس تقليد الوالدين ومحاكاة المجتمع فهو بذلك أمر جبري إلى حدّ ما، إلا أن هذا الفرد بعد أن يتقدم في العمر وتتسع مدركاته وتكون له استقلالية فكرية وعلمية يتمكن - من خلال نبوغه الفكري وتوسيع دائرة قراءاته - من التمييز بين الغث والسمين واعتناق الدين الحق وعليه فإن الذي يؤدي

ص: 266

بالإنسان إلى الضلال ويدخل بسببه إلى النار ليس هو اختياره الأول، وإنما هو استمراره وإصراره على البقاء على هذا الاختيار الأول إذا تبيّن له بطلانه.

الفرق بين الجاهل القاصر والمقصّر والمعاند:

لو ألقيت الشبهة بصيغة ثانية، وقيل: ما هو الفرق بين اعتناق الدين ابتداءً وبين الإصرار على الانتخاب الأول للدين ؟ وجب الإجابة عنها بالقول: إن الإنسان في اختياره الأول للدين يقع تحت تأثير مختلف العوامل والأسباب، ومن بينها التقليد والمحاكاة والجهل ، وبذلك يطلق على مثل هذا الشخص مصطلح «الجاهل القاصر».

وأما في المراحل اللاحقة، فيكون هناك متسع لمزيد من القراءة والتحقيق والبحث والتنقيب عن الدين الحق فإن تقاعس الشخص عن القيام بذلك تمكنه انتقل من حالة الجاهل القاصر إلى «الجاهل المقصّر». وأما إذا مع بادر إلى القراءة والمطالعة وتبين له أن الحق مع الدين الآخر، ورغم ذلك يصرّ على اعتناقه دين آبائه وأجداده لمختلف الأسباب، من قبيل: اتباع الهوى والعصبية، كان معاندا، وبذلك يكون مستحقاً للعذاب.

وأما إذا ثبت أن أتباع الديانات الأخرى إنما تعرّضت للتمويه بسبب البيئة الثقافية والاجتماعية الحاكمة بحيث ظلت على جهلها عن قصور، فإنهم لن يتعرضوا للعذاب من هذه الناحية، ولربما استحقوا الثواب إذا كانوا من الصلحاء والمحسنين على المستوى الأخلاقي والإنساني، وهذا ما سوف نتحدث عنه بالتفصيل في مبحث القيامة.

ص: 267

الشبهة الثامنة عشرة: العلم الإلهي المسبق بسعادة الناس وشقائهم

يبدو من ظاهر بعض النصوص الدينية دلالتها على أن مصائر الناس ثابتة في علم الله في «اللوح المحفوظ»(1)

حتى قبل خلقهم، وإن هذا اللوح لا يتغيّر ولا يتبدّل.

وعليه فإن مصير جميع الناس - بمن فيهم الكفار والمذنبين - محدّد ومعلوم مسبقاً. وعليه لا مندوحة أمام الناس من تغيير هذا المصير، فهم يسيرون على وفق خطة معدة سلفاً. وبعبارة أخرى إن مصائر الناس قد تمّت كتابتها في ،قرطاس، وليس أمام الناس في الدنيا من خيار سوى قراءة النص المكتوب لهم دون تقديم أو تأخير ولا تغيير ولا تبديل. وبحسب التعبير السائد: إن مصير كل شخص مكتوب على جبينه وعليه هل يكون معاقبة الإنسان المذنب الذي يؤدي الدور المرسوم له منسجماً مع العدل الإلهي؟

مناقشة وتحليل:

إن مسألة اختيار الإنسان وحريته من التعاليم القرآنية والروائية التي

ص: 268


1- إن أعمال الناس مثبتتة في لوحين عند الله، وهما؛ اللوح الأول: اللوح المحفوظ، وهو كما يبدو من اسمه يشتمل على جميع جزئيات العالم على نحو القطع واليقين بحيث لا يقبل التغيير والتبديل، وقد ورد في الروايات أن علم ما في هذا اللوح مقصور على الله وحده فلا يعلم به غيره واما اللوح الثاني فهو لوح المحو والإثبات والذي يمكن فيه التبديل والتغيير وفقاً للأسباب والظروف المختلفة من قبيل الدعاء وأعمال البر، أو ارتكاب المآثم واقتراف الذنوب. ويمكن لغير الله من الأنبياء والأئمة أن يحيطوا علماً بما فى هذا اللوح أيضاً.

شرحها العلماء من الشيعة والمعتزلة وأثبتوها بالأدلة القطعية. كما كان لكاتب السطور معالجة لمسألة الاختيار في موضع آخر، حيث أثبتنا أن حرية الإنسان لا تسلب بوجود اللوح المحفوظ والعلم الإلهي الأزلي(1). وفيما يأتي نكتفي بذكر بعض الأمور:

1 - التعارض مع أصل الاختيار:

إن مصير الإنسان يتحدد من خلال ما يقوم به من الأعمال التي تصدر عنه باختياره وحريته وإرادته. وإن الإنسان بفعل أعمال الخير والبر يدخل في عداد المحسنين ،والصالحين وبارتكاب المعاصي والذنوب يدخل في عداد المجرمين والأشرار وهذا أصل ثابت في مذهب العدلية (المعتزلة والإمامية)، وإن الأسس والقواعد النقلية والعقلية على ذلك ثابتة بالأدلة والبراهين في موضعها. وإن القول بأن مصير الإنسان وسعادته أو شقاءه مكتوب قبل الخلق فى عالم الذرّ أو العلم الإلهى محدد، بحيث لا يكون أمام الإنسان سوى تمثيل ما جاء في علم الله ،بالإجبار هي من القول بالجبر الذي يخالف أصل الحرية والاختيار.

وعليه فإن القول بأن مصير الإنسان - سعادته وشقاءه - مكتوبة في اللوح المحفوظ وعلم الله بحيث لا يستطيع الإنسان أن يفعل حيال ذلك شيئاً، مجرد ادعاء باطل لا ينسجم مع التعاليم الدينية وخاصة ما ورد منها في نصوص الإمامية. وأما علم الله الأزلي بمصير الإنسان فهو مسألة أخرى لا تنافى اختيار الإنسان وحريته على ما سيأتى فى العنوان الآتى.

ص: 269


1- انظر: محمد حسن قدردان قراملکي نگاه سوم به جبر واختيار، الفصل الرابع.

2 - العلم الإلهي السابق منسجم مع مصير الإنسان وحريته:

يمكن القول في معرض الإجابة عن السؤال القائل: هل يعلم الله بسعادة الإنسان وشقائه حتى قبل ولادته وقبل خلق الدنيا والعالم؟ وإذا كان الجواب عن ذلك بالإيجاب ألا يؤدي ذلك إلى القول بالجبر؟

نقول: إن مجرد العلم السابق لا يستوجب التأثير التكويني والجبري في أفعال الآخر؛ وذلك لأن طبيعة العلم عبارة عن الكشف المرآتي لما يتحقق في الخارج، بمعنى أن العلم يحكي عن معلومه ومتعلقه كما هو كما تنعكس الصور في المرآة من دون أن يكون للمرآة أي تأثير على المعلوم بإجباره أو إكراهه.

وبعبارة أخرى: إن العلم تابع لمعلومه والتابع لا يمكنه التأثير في متبوعه. وعليه فإن علم اللّه الأزلي بأفعال الإنسان هو من قبيل علم المنجم الذي يتمتع بخاصية الرواية والحكاية من دون أن تكون روايته سبباً في تحول الفعل من الاختيار إلى الجبر. وإن لهذه الرؤية الكثير من المؤيدين والأنصار طوال القرون المتمادية بين المتكلمين المسلمين واللاهوتيين المسيحيين ونشير إلى كلمات بعضهم في هذا الصدد.

قال لويس دمولينا : «ليس من الصحيح القول بأن اللّه حيث يعلم بالأمور المستندة إلى إرادة المخلوق بالعلم السابق، فلابدّ من أن تصدر تلك الأمور على وفق ذلك العلم، بل إن الأمر على العكس من ذلك تماماً؛ لأن تلك الأمور إنما يعلمها اللّه بسبب تحققها من خلال الحرية والإرادة والاختيار ولو كان الفرض يقوم على تحقق ما يخالفها فإن العلم الإلهي السابق سيتعلق بخلافها أيضاً»(1).

ص: 270


1- نقلاً عن سعيدي ،مهر علم پیشین الهی و اختیار انسان ص 52.

كما ذهب شلاير ماخر - من خلال طرح نظرية تشبيه علم الله السابق بالعلم البشري السابق والتي تعود بشكل من الأشكال إلى نظرية تبعية العلم للمعلوم - إلى الاستدلال والقول : «كما أن علمنا السابق بحالات وسجايا الآخرين من أمثال أصدقائنا والمقربين منا لا يجعلهم مجبرين على تلك السجايا، كذلك يكون الأمر بالنسبة إلى علم الله أيضاً»(1).

وقد أجاب نصير الدين الطوسي عن هذه الشبهة والإشكال بالقول: «والعلم تابع»(2).

وقال الطوسي في موضع آخر : «والجواب الحق أن العلم بالشيء ربما لا يكون سبباً فإن من علم أن الشمس تطلع غداً لا يكون علمه سبباً لطلوعها، وإذن لم يكن للعلم أثر في الفعل بالجبر أو الإيجاب والله أعلم»(3).

كما ذهب العلامة الشعراني إلى القول بأن العلم الإلهي الأزلي المتعلق بأفعال الناس الاختيارية ليس من العلم الفعلى الذي يؤدي إلى الجبر، وقال في توضيح ذلك:

«إن علم اللّه هنا ليس من قبيل العلم الفعلي والقضاء والقدر، حتى يكون سبب وقوع الأشياء في الخارج، وإنما كل ما هنالك أن اللّه يعلم باختيار الناس والدواعى إلى اختيارهم وأخلاقهم وسجاياهم(4)... فقد تعلق علم اللّه

بأن فلانا سيقوم بهذا الفعل بإرادته دون إكراه ولا إجبار. فحيث تعلق علم اللّه

ص: 271


1- انظر: المصدر أعلاه ص 57
2- نصير الدين الطوسي، كشف المراد ص 239
3- نصير الدين الطوسي، رسالة أفعال العباد، ملحق تلخيص المحصل، ص 478
4- أبو الحسن الشعراني، الترجمة والشرح الفارسي لكشف المراد، ص 428.

بوقوعه عن اختيار فلا بد أن يتحقق عن اختيار وهذا يعني أن علم الله ليس هو السبب في وقوعه»(1).

وقد أعاد بعض الأشاعرة المعاصرين - من الذين يؤمنون بأصل الاختيار - هذه النظرية في معرض الإجابة عن هذا الإشكال(2).

3 - تعلق العلم السابق بنظام العلية والاختيار :

إن أهم إجابة عن هذه الملازمة المزعومة بين العلم الإلهى الأزلي وأفعال الناس تكمن في الالتفات إلى المعلوم ومتعلق العلم الأزلي، بمعنى ان إرادة اللّه ومشيئته في إدارة عالم الممكنات ومن بينها أفعال الإنسان قد تعلقت بقانون العلية. فإن جميع الظواهر الطبيعية وغير الطبيعية تقوم على هذا القانون، وإن دور اللّه وتأثيره في هذه السلسلة من العلل يقع في مرتبة العلة الأولى المفيضة للوجود على جميع الممكنات (في الحدوث والبقاء).

وإن من بين الأسس والقواعد الجارية والسارية في نظام الكون هو أصل اختيار الإنسان وحريته في تصرفاته وسلوكياته. إن نظام العلية في عالم الطبيعة يقوم على الجبرية التامة، إلا أن هذا النظام نفسه جعل من إرادة الإنسان واختياره واحداً من العلل الجارية في تحقق أفعاله.

إن مثل هذا النظام كان مطروحاً منذ الأزل وفي اللوح المحفوظ والعلم لإلهي وأضحى متعلقاً لعلم اللّه الأزلي، وإذا كان الفرض قائماً على تطابق العلم السابق وضرورة تحقق العلم السابق - بعبارة أخرى - مع الخارج المتحقق - وهو متحقق - فإن لازم هذا التحقق الكامل لمتعلق العلم الأزلي. وإن أحد

ص: 272


1- أبو الحسن الشعراني الترجمة والشرح الفارسي لكشف المراد، ص 399
2- انظر: العلامة محمد سعيد رمضان البوطي، الإنسان مسيّر أم مخير، ص 38

متعلقاته صدور أفعال الإنسان عن إرادة واختيار وإذا اختل هذا الأصل (الحرية) فإن ذلك سيعني في الواقع - والعياذ باللّه - عدم مطابقة العلم الإلهي السابق مع الواقع ولازم ذلك تبدل العلم إلى الجهل. وبعبارة أخرى صحيح أن اللّه عالم منذ الأزل بجميع الأشياء بما في ذلك أفعال الإنسان، إلا أنه في الوقت نفسه عالم باختيارية أفعال الإنسان أيضاً، وعليه فإن نفس وجود العلم الأزلي لا يؤدي إلى جبرية فعل الإنسان.

إن هذا الرأي مطروح منذ القرون المتمادية، وقد عمد المتكلمون والفلاسفة إلى تقريره بمختلف الأشكال(1).

قال الشهيد مرتضى المطهري:«إن العلم الأزلي المتعلق بأفعال الإنسان وأعماله، يعني أنه يعلم منذ الأزل من الذي سيطيعه باختياره وحريته، ومن الذي سيعصيه كذلك. إن الذي يوجبه ذلك العلم ويقتضيه هو أن الذي يطيعه إنما يطيعه بإرادته واختياره، وأن الذى يعصيه إنما يعصيه بإرادته واختياره»(2).

كما ذهب سائر الحكماء فى الحكمة المتعالية إلى القول بأن هذا الرأي هو أتقن الآراء في الإجابة عن الإشكال ، ويمكن أن نذكر من بين هؤلاء الحكماء : الملا هادي السبزواري(3)، والإمام الخميني(4)، والعلامة

ص: 273


1- انظر: سعد الدين التفتازاني شرح المقاصد، ج ،4 ، ص 231؛ المیرداماد، القبسات، 472؛ صدر المتألهين الحكمة المتعالية في الأسفار الأربعة، ج 6، ص 385 و ص631.
2- مرتضى المطهري، مجموعه آثار (الأعمال الكاملة، ج 1، ص 435؛ إنسان وسرنوشت (الإنسان والمصير)، ص 131.
3- انظر : الملا هادي السبزواري، شرح المنظومة، ص 178
4- انظر: السيد روح الله الموسوي الخميني رسالة طلب وإرادة، ترجمة وشرح: أحمد الفهري، ص 125

الطباطبائي(1)، ومحمد تقي الجعفري(2)، ومحمد تقي مصباح اليزدي(3)، وجعفر سبحاني(4).

بل كان هذا الرأى والجواب سائداً ومطروحاً حتى بين المسيحيين في القرون البعيدة من باب توارد الفكرين».

فقبل ما يقرب من ستة عشر قرناً، قال القديس أوغسطين (350 - 430م) - وهو من المتكلمين البارزين في الكلام المسيحي - في الجواب عن إشكال الجبر والعلم الإلهي السابق الذي طرحه شخص يدعى أوديوس: عندما يتعلق علم اللّه السابق بإرادتنا، فإن الإرادة التي يتعلق بها علمه، سوف تتحقق؛ من هنا فإن إرادتنا حيث يعلم بها اللّه سابقاً سوف تتحقق؛ بيد أن تلك الإرادة إذا لم تكن تحت اختيارنا لن تكون إرادة وعليه فإن اللّه يعلم أيضاً بأن الإرادة المذكورة واقعة تحت اختياري؛ إذن طبقاً لعلمه السابق لن تسلب قدرتي على الإرادة وإنما بلحاظ علمه سوف تشتد قدرتي على الإرادة؛ لأن اللّه - الذي لا يمكن لعلمه أن يخالف الواقع - يعلم مسبقاً أن لديّ القدرة على الإرادة]»(5).

ص: 274


1- انظر: السيد محمد حسين الطباطبائي نهاية الحكمة المرحلة الثانية عشرة، الفصل الرابع عشر؛ ظهور شيعة، ص 98؛ صدر المتألهين، الحكمة المتعالية في الأسفار الأربعة، ج 6، ص 318 الهامش
2- انظر: محمد تقي الجعفري، جبر واختيار، ص 229.
3- انظر : محمد تقي مصباح اليزدي، تعليقة على نهاية الحكمة، ص 238.
4- انظر: جعفر سبحاني الإلهيات، ج 1، ص 631
5- on free choice of the will, Augustine, from philosophy of Religion, p. 215.

4 - الجواب النقضي (لزوم الجبرية في أفعال الله):

إنّ الأشاعرة هم من بين الذين يقولون بشبهة الجبر في أفعال الإنسان استناداً إلى تعلق علم اللّه الأزلي بها. إذ إنّهم تمسّكوا بصرف وجود العلم الأزلي بعدّه دليلاً على الجبر. أما القائلون بالاختيار فعلاوة على الأجوبة الحلية، لديهم كذلك إجابات نقضية أيضاً، وذلك بالقول: لو أن نفس العلم السابق كان سبباً إلى الجبر ؛ لشمل ذلك أفعال اللّه نفسه أيضاً؛ لأن اللّه كان يعلم بجمیع الأفعال والأمور التي ستصدر عنه قبل الخلق وصدور الأفعال والمعاليل الأخرى عنه منذ الأزل. فمن باب المثال كان يعلم بأن زمن (أ) سيخلق (ب)، ولمّا كان الفرض يقوم على أن ذات العلم السابق يؤدي إلى الجبر، سيكون تحقق فعل اللّه - والعياذ به - جبرياً، وإذا لم يفعل اللّه ذلك الفعل سيلزم من محذور آخر وهو تخلف العلم الإلهي السابق. وعليه فإذا كان العلم الأزلي يؤدي إلى الجبر، فهو يؤدى إلى الجبر فى أفعال الإنسان وأفعال الله على السواء ومن دون فرق، وإذا لم يكن مؤدياً إلى الجبر، فإن أفعال الإنسان لن تكون جبرية أيضاً وأما الذهاب إلى التفصيل بين أفعال الله وأفعال الإنسان، فلا يقوم على أساس علمي.

إنّ هذا الإشكال كان مطروحاً بين المتألهين منذ القرون المتمادية. وقد عمد أوغسطين ( 350 - 430 ) في نقد نظرية أوديوس الجبرية إلى سؤاله هل كان اللّه أيضاً يعلم بأفعاله (من قبيل: مكافأة المحسنين ومعاقبة المفسدين مثلاً)؟ فقال: نعم. فأجابه أوغسطين قائلاً:(1)

ص: 275


1- نقلا عن سعيدي ،مهر، علم بيشين إلهى واختیار ،انسان ص 50).

«إذا كان تعلق علم اللّه بأمر يجعله ضرورياً، وجب أن تكون أفعال اللّه ضرورية في المستقبل أيضاً، ويكون الله تعالى فاعلاً بالإجبار»(1).

وقد تم تكرار هذه الإجابة فيما بعد في نقد المعتزلة والإمامية للأشاعرة ومما قاله المحقق الطوسي في هذا الشأن:

«إن اللّه تعالى كان في الأزل عالماً بأفعاله فيما لا يزال، فإن لزم من ذلك الجبر والإيجاب في العبد، فهو لازم في حق الله، وما أجبتم به هناك، فهو الجواب ههنا»(2).

إنّ مسألة عدم انسجام الاختيار مع العلم الإلهي الأزلي تحظى في الكلام الجديد وفلسفة الدين المعاصرة بمختلف أصناف المؤيدين والمخالفين، وإن الخوض في تحليل هذه الأقوال ودراستها يحتاج إلى مؤلف مستقل(3).

إجابة بعض الشبهات حول تأثير مختلف الأسباب في مصير الفرد وأفعاله :

عندما نلقى نظرة فيما حولنا ندرك أن مصير الإنسان وسلوكه لا يتحدد بمجرّد اختياره و انتخابه فقط، بل إن مختلف الأسباب والعوامل تدخل في تحقق فعله واختياره الطريق الصحيح أو الخاطئ. وبعد إثبات تأثير هذه الأسباب ودورها فإن مصير الإنسان ومعاقبة المجرم سيواجه إشكال عدم الانسجام مع العدالة وفيما يأتي نشير إلى أهم العوامل المؤثرة في صياغة وبناء شخصية

الإنسان:

ص: 276


1- نقلا عن سعيدي ،مهر، علم بيشين إلهي واختيار انسان، ص 50.
2- نصير الدين الطوسي، رسالة أفعال العباد ملحق تلخيص المحصل، ص 478
3- انظر: سعيدي ،مهر علم پیشین الهی و اختیار انسان، الفصل الثالث.

الدور الجيني والتكويني للوالدين:

لقد توصل علم النفس المعاصر إلى إثبات انتقال الحالات والخصائص الروحية والخلقية والجسدية من الوالدين إلى الأولاد من طريق الجينات الوراثية. وإن انتقال الخصائص والحالات الروحية من الوالدين إلى الولد هي التي تصوغ شخصية الطفل في المستقبل. وإن الغالب في الأولاد الذين يعيشون ضمن الأسر المتدينة ينشأون على الاستقامة والصلاح والتقيد والالتزام بالأحكام الشرعية والأخلاقية، وأما أولئك الذين يترعرعون في كنف الأسر المتهتكة فينشأون على الاستهتار بالقيم والموازين الأخلاقية والأحكام الدينية.

وبالإضافة إلى انتقال الحالات الروحية والخلقية للوالدين، فإن بعض أعمالهم من قبيل: تناول الطعام الحلال والطاهر أو ما يخالفه قبل انعقاد النطفة وفي أثناء الحمل وفي مرحلة الطفولة وتربية الولد ورعاية آداب النكاح والرضاعة، من قبيل: الوضوء وما إلى ذلك مما يلعب دوراً مؤثراً في تربية الولد.

وفي تأييد هذا الدور المؤثر يمكن لنا الإشارة إلى النصوص الدينية التي تنصح وتؤكد على رعاية بعض الأحكام الخاصة فيما يتعلق بالأمور الأنف ذكرها(1).

وعلى هذا الأساس فإن شخصية الولد من حيث القيام بأعمال الخير أو الشر، تعود إلى العوامل الوراثية ونوعية التغذية ورعاية السنن والأخلاق أو عدم رعايتها، ولذلك بعد الشك في اختيارية أعمال الإنسان فإن أصل عقوبته

سيواجه إشكال الانسجام مع العدل الإلهي.

ص: 277


1- انظر: محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 100 ، الباب السادس والثامن، ص 263 فما بعد.

مناقشة وتحليل:

إنّ أصل تأثير العوامل ودورها والأسباب المتقدمة أمرٌ لا غبار عليه في إطار قانون العليّة، بل هو يجري في ضمن مقتضياته، ولذلك اشتملت التعاليم والأحكام الدينية على سلسلة من الأساليب التربوية الصحيحة لبناء شخصية الطفل. بيد أن المسألة الدقيقة في البين هي أن هذا التأثير لا يبلغ حدّ الإجبار والإكراه، وإنما هو في حدود الاقتضاءات والدواعى، بحيث أنه على الرغم من توفر جميع هذه الأسباب يمكن للإنسان بمجرد وصوله إلى مرحلة البلوغ والنضج أن يختار الطريق الذي يرتأيه بمحض إرادته أو يُعرض عنه.

وخير دليل وشاهد على ذلك وجود كثير من الأولاد في الأسر الذين سلكوا طريقاً مغايراً لما عليه منهج الأسرة العام، واختاروا طريقاً خاصّاً بهم. وعلى سبيل المثال يمكن لنا الإشارة إلى ابن نوح علیه السلام أو بعض أبناء الائمة علیهم السلام أمثال: جعفر الكذاب نجل الإمام الحسن الهادي وشقيق الإمام العسكري علیه السلام حيث سلك كل منهما مساراً مغايراً لمسار الأنبياء والأئمة رغم أنهما قد عاشا في كنف أسرة العصمة والطهارة والنقاء. وفي المقابل قد تجد كثيراً من الأمثلة والنماذج الإنسانية الصالحة في الأسر غير الصالحة، ويمكن لكلّ واحد منا أن يشاهد كثيراً من هذه النماذج في المجتمع الذي يعيش فيه.

2 - الدليل الآخر على أن تأثير العوامل والأسباب المتقدمة لا يرقى إلى حدّ الجبر والإكراه، هو تجريم وانتقاد ما يقوم به المجرمون الذين ينحدرون من الأسر غير الصالحة، وهكذا تصدر الأحكام التأديبية والرادعة بحق هؤلاء الأشخاص في جميع محاكم العالم من دون أن يعترض أحد على ذلك أو يطالب بإصدار أحكام خاصة بهم.

ص: 278

التأثير الاقتضائي لدور الوالدين في سلوك الأولاد:

رغم الإقرار بعدم لزوم الجبر من ناحية العوامل والأسباب الوراثية المنتقلة من الآباء إلى الأولاد، إلا أن الدور والتأثير الاقتضائي للأسر الفاسدة في دفع الأولاد إلى الرذائل لا يمكن أن ينكر. وبعبارة أخرى: إنّ فرص التربية الصحيحية والأخلاقية للأولاد في ظل هذه الأسر، وبتبع ذلك اختيار طريق السعادة قليلة جداً. وعليه يطرح هذا السؤال نفسه: لماذا كان مثل هذا الاختلاف قائماً بين الأسر أساساً؟

في الجواب عن ذلك يجب القول: إن هذا الاختلاف القائم هو من لوازم حاكمية قانون السببية والعلية في العالم المادي. وقد ذكرنا بمختلف الصور أن عالم الطبيعة يدور على أساس قانون العلية الذي يعمل الإنسان في ضوئه على تزكية نفسه وتهذيبها لبلوغ مقام القرب من الله سبحانه وتعالى.

وإن أصل القابلية على التأثر يشكل قاعدة لتربية الإنسان وتزكيته لنفسه. وفي ظلّ هذا الأصل يمكن لمختلف العوامل والأسباب، من قبيل: الآباء والمعلمين أن تؤثر سلباً أو إيجاباً على الأبناء وهنا لا يمكن تجاهل التأثير التكويني الإيجابي للوالدين أو المعلمين الأتقياء والأحرار، بيد أنه عندما تصل النوبة إلى التأثير السلبي للوالدين والمعلمين يجب الالتزام بالآثار المترتبة على ذلك؛ لأن هذا الأمر يلزم منه الإخلال في قانون العلية، كما هو مخالف لأصل تربية الإنسان وحريته.

إن الأسباب المؤثرة في أفعال الإنسان وسلوكه المطروحة من قبل القائلين بالجبر بوصفها أدلة على وجود الجبر لا تنحصر بما تقدم إذ أنهم أكدوا على الأسباب والعوامل الآتية أيضاً:

ص: 279

أ - الجبر النفسي.

ب - الجبر التاريخي.

ج - الجبر الاقتصادي.

د - الجبر البيئي والجغرافي.

ولمّا كانت هذه الشبهة تعود بشكل كبير إلى مسألة الجبر والاختيار، وقد أجبت عن ذلك في موضع مستقل، لذلك فإني أحيل القارئ الكريم إليه حذراً من آفة التكرار(1).

وحصيلة الجواب تعود إلى القول بأصل الاقتضاء دون الجبر والإكراه. فإن الأسباب المتقدمة لا ترقى إلى مستوى الإلزام والجبر، وإنما تبقى على حدود الاقتضاء والتأثير بحيث يكون لدى الإنسان متسع من المناورة في

ممارسة حقه في الحرية وحسن الاختيار.

ص: 280


1- انظر: محمد حسن قدردان قراملکي نگاه سوم جبر و اختيار، ص 271 فما بعد.

الفصل السادِس: الشرور وانعدام العدل في عالم القيامة

اشارة

ص: 281

ص: 282

الشبهة الأولى عدم التناسب بين الذنب والعقوبة:

إن من بين الشبهات التي يُصرّح بها الناقدون وفلاسفة الدين الغربيون بشأن صفة العدل والحكمة الإلهية، هي عدم منطقية ولاعقلانية العقوبات في عالم الآخرة ووجود الجحيم، التى هى من الأمور الثابتة في الأديان السماوية ومن بينها الإسلام والمسيحية. بمعنى أولاً: هل أصل العقاب والعذاب في عالم الآخرة مسألة عادلة ومنطقية ؟ وثانياً: بعد إثبات أصل العقاب الأخروي، هل يتناسب نوع العقوبات الأخروية مع طبيعة وحجم وحجم المعاصي والذنوب التي يقترفها الإنسان في الدنيا أم لا ؟ هناك من الناقدين الغربيين من يعدّ الجحيم والعقاب الأخروي مخالفاً ومغايراً للحكمة والعدالة والرحمة الإلهية، وهناك منهم من أشكل على مقداره وتناسبه مع نوع المعصية، وتبعاً لذلك أخذوا ينظرون إلى صحّة إسناد العقوبات الأخروية إلى الأنبياء بعين الشكّ والريبة.

قال ديفد هيوم بهذا الشأن:

«إن الذي نفهمه هو أن العقوبة يجب أن تتناسب أن العقوبة يجب أن تتناسب مع حجم المعصية. وفي

هذه الصورة لماذا يتمّ تخليد الكائن الضعيف - مثل الإنسان - في العذاب الأبدي بسبب اقترافه لمعصية مؤقتة وآنية؟ هل يمكن لشخص أن يُبرر غضب

ص: 283

الإسكندر المقدوني وعزمه على إبادة شعب بأكمله لمجرّد أن هذا الشعب قد سرق جواده (بوسفالوس الأثير على قلبه»(1).

وقال الفيلسوف البلجيكي الشهير (موريس ميترلينغ) في خصوص عدم عقلانية العقاب الأخروي:

«أرى أن الإساءة التي تعرّض لها المقام الربوبي إلى هذه اللحظة، تكمن في القول: إن اللّه قد خلق الجحيم. إن الإنسان البدائي الذي يعود إليه التصوّر الأول عن جهنم، كان يرى أن جميع رذائله وأحقاده ووحشيته وقسوته وسيئاته ناشئة عن الجحيم. وحيث أن أفضل وأكبر أديان العالم لم يستطع الخلاص من مخالب تصوّر الجحيم، فقد انقاد إلى هذه المسألة بشكل أعمى»(2).

وقال برتراند راسل (أشهر فلاسفة الغرب المعاصرين في النصف الثاني من القرن العشرين) بهذا الصدد أيضاً:

«أرى أن الاعتقاد بأن نار جهنم نوع من العقاب للمذنبين هو اعتقاد جائر؛ فإن هذه العقيدة قد تسببت بتوسيع رقعة الظلم في الدنيا، وجعلت التعذيب وانعدام العدل من نصيب الأجيال والأعراق. وإذا استطعتم أن تثبتوا أن المسيح المذكور في الإنجيل هو المبدع لمثل هذا النوع من الأفكار أمكن لكم إلقاء المسؤولية في ذلك على عاتقه»(3).

ص: 284


1- ديفد هيوم شکاکیت در مورد جاودانگی روح شكوك حول خلود الروح)، ص 55.
2- موریس ،میترلینغ، دروازه بزرگ البوابة الكبرى، ترجمه إلى الفارسية: ذبيح الله منصوري، وفرامرز ،برزگر ص 551 و 651
3- برتراند راسل چرا مسیحی نیستم (لماذا لست مسيحياً ؟) ، ترجمه إلى الفارسية : س.أ.طاهري، ص 33.

مناقشة وتحليل:

قبل الدخول في تفاصيل الإجابة عن هذه الشبهة، لابدّ من توضيح ماهية العقاب وبيان أنواعه.

أنواع العقاب:

إن العقاب والجزاء الذي يتحمله الفرد المذنب والمجرم ينقسم بشكل عام إلى قسمين:

1 - العقاب التكويني:

إن بعض العقوبات الدنيوية ناجمة ومعلولة للعلل التكوينية والأسباب الخاصة، فعلى سبيل المثال: إن الذي يلقي بنفسه من أعلى الجبل إلى السفح يكون جزاؤه الموت أو الإصابة بالجراحات البليغة أو المريض المبتلى بداء السكري إذا لم يمارس الحمية سيواجه كثيراً من المشاكل الصحية التي لا يمكن إلقاء اللوم بسببها على الطبيب أو أي شخص آخر، وإنما هي تبعات ضرورية تقوم على قانون العلية والمعلولية.

هناك من المفكرين والعلماء من يذهب إلى الاعتقاد بأن العقوبات الأخروية بدورها من التبعات والآثار التكوينية المعلولة لأعمال الإنسان وأفعاله، وذلك على النحوين الآتيين:

أ - العذاب تجسّم وصورة للفعل واللوازم النفسانية: بمعنى أن الإنسان في الدنيا بارتكابه لأيّ فعل - سواء أكان حسناً أم قبيحاً - يترك تأثيراً في صقع نفسه التي هي جوهر مجرد وفعال. وإن هذا التأثير والهيئة القائمة في النفس يكون في بدايته على شكل حالة مؤقتة وقابلة للزوال، ولكن بعد

ص: 285

التكرار والمداومة يتحول هذا التأثير في النفس الإنسانية إلى ملكة وكيفية ثابتة وراسخة ودائمة وأحياناً يتحول من الملكة إلى جوهر ثانوي لا يقبل الزوال. إن هذه الصورة والهيئة الرذيلة للنفس تنقسم - بالالتفات إلى نوعيتها - إلى أنواع من العقاب والعذاب. وفي عالم الآخرة تقوم النفس بعد مشاهدة وإدراك واستذكار تلك الرذائل بإنشاء صور العذاب والعقاب وفي الحقيقة فإن فعل النفس هو الذي سيتحول إلى عذاب وألم.

ب - العذاب الصورة الملكوتية والباطنية للأعمال الدنيوية: بمعنى أن هناك صورتين لكل عمل دنيوى يقوم به الإنسان الصورة الأولى: الصورة الظاهرية للعمل من قبيل الغيبة، أكل مال اليتيم أو الصلاة والصيام. والصورة الأخرى الصورة الواقعية والملكوتية للأعمال المحجوبة عن أنظارنا في اللحظة الراهنة. فعلى سبيل المثال: إن الصورة الحقيقية للغيبة هي أكل لحم الميت والصورة الحقيقية لأكل مال اليتيم هي أكل النار والصورة الحقيقية للصيام عبارة عن درع حصينة في مواجهة نار جهنّم. وعندما يخرج الإنسان من هذه الدنيا، تتجلى له الصور الباطنية لأعماله، وبذلك سيعيش حالة من العذاب والشقاء أو الرخاء والسعادة. ويتمّ التعبير عن هذه النظرية ب- (تجسّم الأعمال)، وسيأتي المزيد من الشرح والأمثلة القرآنية عليها في الصفحات القادمة إن شاء اللّه تعالى.

وهناك من الأبرار من يستطيع في ضوء تهذيب نفسه أن يشاهد الصور الواقعية والملكوتية لأعماله، وقد وردت أحاديث وروايات كثيرة بهذا الشأن.

2 - العقاب الاعتباري:

إن العقوبات الاعتبارية - كما يلوح من تسميتها - عقوبات لا يوجد

ص: 286

أي صلة أو ارتباط حقيقي وعلي ومعلولي بينها وبين المعاصي والذنوب، وإنما هي مجرد اعتبارات يتمّ التواضع عليها من قبل البعض من قبيل أكثر العقوبات التي تعتبرها وتفرضها المحاكم القضائية في حق المذنبين والمجرمين من قبيل: الطرد من الخدمة والنفى والسجن من الأعمال الشاقة. وحيث لا وجود في

هذه الموارد للعلاقة التكوينية بين الجريمة والعقاب يمكن للعقوبة أن تتخلف عن ،الجريمة، ويمكن لنا رصد ثلاث فرضيات في مثل هذه الحالة:

1 - تطبيق العقوبة من دون تخفيف.

2 - تطبيق العقوبة مع ملاحظة التخفيف.

3- عدم تطبيق العقوبة.

وأما العقوبات التكوينية فليست من هذا القبيل، بل المتصور بشأنها هو الفرض الأول فقط من باب المثال : إذا وضع شخص يده في النار، فإن النار بوصفها عقوبة تكوينية ستترك أثرها المتمثل ب- (إحراق اليد) تلقائياً، والعلاقة بين هذين الأمرين هي علاقة حقيقية تقوم على قانون العلية والمعلولية. فليس هناك تواضع واعتبار في البين كي يحصل تخلف أو تذبذب يتأرجح بين الوجود

والعدم.

وبذلك نصل إلى الأمور الآتية:

1 - العقاب التكوينى لا يقبل التخلف أو الاستثناء.

2 - العقاب التكويني ثابت على حالة واحدة.

هناك من المفكرين والعلماء من فسّر العقوبات الأخروية تفسيراً اعتبارياً، إلا أنّ الفلاسفة وبعضاً من المتكلمين رفضوا ذلك وأصروا على تكوينية العقاب الأخروي، وهو ما سنذكره في الصفحات الآتية إن شاء الله تعالى.

ص: 287

1 / 2 - فلسفة العقوبات الدنيوية :

بعد بيان العقوبات وأقسامها إجمالاً نشير فيما يأتي إلى الأهداف والغايات التي يمكن تصورها بالنسبة إلى العقوبات:

1 - التشفّي والانتقام: العقوبة التي من شأنها جعل المظلوم يشعر بانتقامه من الذي ظلمه وشعوره بالتشفي منه لذلك.

2 - التربية والتأديب: في هذا النوع من العقوبات يكون الهدف هو إصلاح المجرم ،وتأديبه من قبيل: تأديب الطالب الكسول أو المشاغب من قبل المعلم أو الأب.

3 - الإصلاح الاجتماعي: بأن يكون الهدف هنا من تطبيق العقوبة هو إصلاح المجتمع واعتبار أفراده بمعاقبة غيرهم من المجرمين والمنتهكين للقوانين، من قبيل تطبيق عقوبة الإعدام لردع الآخرين واعتبارهم.

4 - إحقاق الحقوق: إن هذه الغاية بالمعنى العام تشمل إحقاق حق المظلوم سواء على يده أو على يد غيره من قبيل: دفاع شخص ثالث عن حقّ مظلوم لا يستطيع أن يأخذ حقه بنفسه.

5 - الوقائية والردع لو ترك المجرم وشأنه حرّاً طليقاً من دون عقاب، فإنه سيتجرّأ على ارتكاب مزيد من الجرائم والفظائع؛ من هنا يمكن للحاكم أن يعاقبه من أجل ردعه عن تكرار الجريمة.

إن الوجه المشترك للدوافع والعقوبات المذكورة يكمن في اعتباريتها، ولذلك يمكن للطرف المقابل أن يتنازل عن حقه في معاقبة الظالم، ويعدل عن ذلك، أو يطالب بتخفيف عقوبة المجرم والرفق به.

ص: 288

2/ 2 - عدم تحقق الأهداف الدنيوية في العقاب الأخروي:

بعد بيان مختلف الغايات المنشودة من وراء تطبيق أنواع العقوبات، ندخل في بيان الغايات وتحليلها والأهداف المنشودة من وراء العقوبات الأخروية التي يمكن تصورها في حق الله سبحانه وتعالى. ليس هناك من بحث أو شبهة بشأن عقلانية الغايات المتعلقة بالعقوبات الدنيوية المطروحة في العلاقات الاجتماعية وحياة الإنسان في هذه الدنيا وإنما أصل الإشكال يرد على العقوبات الأخروية التي يقوم بها اللّه عزّ وجل. طبقاً لاعتقاد المتألهين إن المجرمين والعصاة يقاسون في جهنم أسوأ أنواع العذاب الذي لا يمكن أن يخطر على ذهن أحد، وذلك لآماد طويلة قد تصل إلى حدّ الخلود. ولو تدبّرنا وتأملنا فيما يتعلق بهذا النوع من العقوبات في مسألتين أساسيتين، أي: الشخص الذي يتولى عملية التعذيب والمعاقبة وهو اللّه الذي يتصف بالرحيم والجواد والكريم والشخص المعذَّب أي المجرم الذي هو عبد الله ومخلوقه، وتأملنا كذلك فى خصوصية العقاب، فسوف نصل إلى هذه النتيجة وهي: إن الغايات والأهداف المذكورة آنفاً لا يمكن تطبيقها على العقاب والعذاب الأخروي والإلهي أبداً.

فإن الغاية الأولى (التشفي والانتقام) تبدو مستحيلة بشأن ذات الباري تعالى؛ وذلك لأن اللّه لا يمتلك عواطف كتلك التي يمتلكها الإنسان بحيث يتألم من شدة الظلم، ويبادر لذلك إلى الانتقام والقصاص بدافع التشفي، وأما تشفي المظلوم فلا معنى له في يوم القيامة أيضاً؛ لأن الأحقاد والضغائن تفقد معناها في ذلك اليوم.

قال الأستاذ الشهيد مرتضى المطهري بهذا الشأن:

ص: 289

«إن من بين غايات العقوبات الدنيوية هي إشفاء الغليل. بيد أن العالم الآخر لا يحتوي على هذه المفاهيم، فبعد مليارات السنين، ينحصر اهتمام كل شخص بنفسه، حيث يسعى كل فرد إلى العثور على ذرّة من السعادة وعليه فمن ذا الذي يفكر في الاقتصاص من ذلك الذي تعرّض له بظلم في الحياة الدنيا، كي يشفي غليله منه ؟!»(1).

وأيضاً لا مكان للغاية الثانية والثالثة والخامسة في الآخرة أيضاً؛ وذلك لأن عالم الآخرة هو عالم الحساب وجزاء الأعمال، وليس عالم التكليف، كي يرتدع الآخرون بعقوبة المجرمين، فقد ورد في المأثور:

-«اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل»(2).

-«ألا وإنكم في يوم عمل ويوشك أن تكونوا في يوم حساب ليس فيه عمل»(3).

وقال أحد المعاصرين في بيان عدم وجود الغاية المذكورة يوم القيامة:

«إنّ الانتقام من العصاة في ذلك اليوم، إذ يقول اللّه تعالى:«إِنَّا مِنْ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ»(4)، لا يهدف إلى التشفي وإشفاء الغليل (كما يحصل بالنسبة إلى حالات الانتقام الفردي في الدنيا) كما أنه لا يشبه الانتقام الحاصل في المحاكم القضائية تجاه المجرمين؛ لأن الهدف الهام المنشود من وراء

ص: 290


1- مرتضى المطهري، المعاد، ص 28 و 38.
2- نهج البلاغة الخطبة: 14.
3- محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 77، ص 881.
4- السجدة: 22

ذلك هو ضمان النظم والأمن الاجتماعي ولا مجال لمثل هذه الأهداف يوم القيامة»(1).

أما الغاية التي ترمي إلى إحقاق حقّ المظلوم، فتعني أن اللّه يقتصّ من الجناة من أمثال الطاغية صدام وشمر بن ذي الجوشن على ما اقترفته أيديهما من الجرائم. بيد أننا إذا دققنا النظر في هذه الغاية، سيتضح أنها تعود إلى غايات أخرى، وإنها لوحدها لا تستطيع أن تشكل غاية مستقلة للعقوبة. بمعنى أن الشخص الذي تعرّض للظلم إذا أراد أن يُلحق بالذي ظلمه أشدّ العقوبات فإن ذلك لن يجديه نفعاً أبداً، كي يصحّ التعبير عنه بإحقاق الحق.

إن إحقاق الحق إنما يُتصوّر بأن يقوم اللّه سبحانه بنقل حقوق وحسنات الظالم إلى المظلوم بدلاً من معاقبته، إلا أن هذا لا يمكن تصوّره في أن یوم القيامة؛لأن هذا یعنی يعمد اللّه - بدلاً من معاقبة المجرم - بنقل حقوقه وحسناته إلى المظلوم. وهذا الكلام ليس مستبعداً على المستوى العقلي، ولكنه مخالف لمذهب أصحاب فرضية العقاب الإلهى، لأنهم يصرّون على معاقبة وتعذيب الظالم في يوم القيامة (فيما يتعلق بالكفار والملحدين في الحد الأدنى). وعلاوة على ذلك إذا أراد الله أن يعوّض المظلوم بدلاً من معاقبة الظالم فإن بالإمكان هنا أن نتساءل لماذا لا يبادر اللّه سبحانه وتعالى - وهو مصدر النعم التي لا تعدّ ولا تحصى - بإعطاء المظلوم حقه من نعمه الكثيرة. وبعبارة أخرى: ما هي الغاية التي يحققها اللّه من إنقاص حقوق المجرم وحسناته؟(2).

ص: 291


1- عبد الله جوادي آملي المبدأ والمعاد، ص 123
2- على فرضية تكوينية العذاب وحتى تبادل الحسنات ،والسيئات يمكن تبرير إنقاص الثواب، وهذا ما سيأتي توضيحه في مبحث الإحباط والتكفير في الصفحات القادمة إن شاء الله تعالى.

بالالتفات إلى انتفاء الغايات المذكورة آنفاً ربما قيل هنا بما أن المجرم هو السبب في الإضرار بالمظلوم وهضم حقه، فهو أولى بتعويضه عن الظلم

الذي ألحقه به يبدو أن هذا الاستدلال مفتقر إلى الإتقان؛ لأن الذي يحكم به العقل هو جبران حق المظلوم مهما اتفق من دون أن يكون هناك إلزام بأن

يكون الذي يقوم بذلك هو شخص المجرم ذاته؛ إذ لا خصوصية في ذلك، ويؤيد هذا الحكم بالعقل والسيرة وطريقة العقلاء في العالم، إذ يتحمّل الأغنياء والصالحون - في بعض الموارد - الغرامة عن الآخرين.

المسألة الأخرى هي أن جميع ما تقدم كان يخص العقوبات التي يكون فيها شخص مظلوم يشتكي المجرم والظالم، وأما الجرائم التي لا يوجد فيها شاك أو مدع، كما هو الحال في حق الله فلا يكون هناك موضع للأدلة المتقدمة.

قال الأستاذ الشهيد مرتضى المطهري قدس سره بشأن بطلان النظرية القائلة باعتبارية العقوبات الأخروية:

«إذا أردنا تبرير العقوبات الأخروية على هذا الأساس الذي يقوله «المتكلمون»، أي الأساس الدنيوي للحياة الاجتماعية، فعندها لن تكون شدّة العذاب ومدته هي وحدها التي لا تقبل التبرير فحسب، بل سنعجز حتى عن تبرير أصل العقاب»(1).

3/ 2 - الأثر التكويني لفلسفة العقوبات الأخروية:

وعليه لا يمكن أن تكون غاية اللّه من تعذيب عباده ومخلوقاته في الآخرة واحدة من الغايات المتقدّم ذكرها ولكن ما هي الغاية التي ينشدها اللّه

ص: 292


1- مرتضى المطهري، المعاد، ص 38

من وراء معاقبة الخاطئين؟ لقد أبدى العلماء المسلمون إجابات مختلفة بهذا الشأن(1)، وفيما يلى نستعرض النظرية المختارة (تكوينية العذاب في الآخرة).

إن الاتجاه الفلسفي والعرفاني في تبرير جهنم والعذاب في الآخرة يكمن في القول بتكوينية أصل العذاب ويتمّ الاستناد في ذلك إلى النصوص الدينية أيضاً. وطبقاً لهذا المبنى فإن العذاب الأخروي ليس عذاباً معدّاً مسبقاً، كما لو كانت عبارة عن حفرة كبيرة ملتهبة بالنيران ومعدة للمذنبين من الناس في يوم القيامة، وإنما العذاب ينبثق من باطن الإنسان نفسه، بمعنى أنه ينشأ من أفعاله القبيحة، وبعبارة ثانية: إن العذاب معلول تكويني للمعاصي. وبعبارة أدق: إن

صورة الفعل القبيح شعاع يتجلى على شكل تكويني وبصورة تلقائية وينعكس في يوم القيامة على هيئة كتلة من النار تلتهم العصاة والمذنبين.

إنّ لزوم العذاب للذنب شبيه بلزوم الزوجية للأربعة والملوحة للملح والحلاوة للعسل، فكما لا يُسأل عن سبب زوجية الأربعة، كذلك لا يتمّ التساؤل عن سبب ملازمة العذاب لفاعل المعصية؛ لأن العذاب هو اللازم

للذنب وصورته الباطنية والذاتية، وهو مقترن به وملازم له من حين صدوره.

ص: 293


1- وقد ذكرت لذلك أحد عشر جواباً للعلماء في الفصل الأول من كتابنا (جهنم چرا؟)، وكذلك انظر : سلسلة الأجوبة عن الشبهات الكلامية قسم المعاد، الفصل السادس فعلى القارئ الكريم الرجوع إلى تلك الموارد وهنا نكتفي بذكر العناوين: 1 - العذاب مقتضى العدل الإلهي. 2 - عدالة الحساب الإلهي. 3 - العقوبة غاية التكليف. 4 - العقاب ضمانة تطبيق التكليف . 5 - العقاب مقتضى الوعيد الإلهي. 6 - العقاب لطف الله. 7 - العقاب مقتضى المعصية. 8 - العقاب مقتضى العبودية والمولوية. 9 - العقاب من مظهر الأسماء الإلهية. 10 - العقاب مصدر نقاء النفس وتهذيبها. 11 - العقاب شفاء صدر المظلوم.

فالنار وعمل الإنسان وفعله ليس عارضاً عليه حتى يصحّ السؤال عن سبب وعلة عروضه ووقوعه، ويتبع ذلك السؤال عن تناسبه أو عدم تناسبه مع

المعصية. وعلى حدّ تعبير الفلاسفة: «الذاتي لا يُعلل».

إن وضع قطرات من السم في مئات اللترات من الماء

يسمم الماء بأجمعه، وقد يؤدي إلى قتل آلاف الناس. وبإطلاق النار من المدفع الرشاش أو إلقاء قنبلة أو قذيفة يموت أو يُجرح عشرات من الأبرياء.

في هذا النوع من الأمثلة وإن كان العمل الإجرامي يستغرق ثواني قليلة، إلا أن تأثيره والعذاب الناتج عنه يستمر إلى مدى الحياة والسرّ في ذلك يعود إلى تكوينية الآثار المترتبة على الجريمة من دون اعتباريتها. إن آثار الجريمة في مثل هذه الموارد لا ربط لها باعتبار شخص أو منصب حتى تكون هناك إمكانية لتخفيف العقوبة أو الصفح عنها ، بل إن آثار الجريمة تحدث بشكل تكويني وتلقائي، وعلى حدّ تعبير الفلاسفة: إن هذه الآثار توجد على هيئة

العلية والمعلولية. وعليه لا يمكن القول والحال هذه ليس هناك تناسب بين إلقاء القذيفة وبين موت آلاف الأبرياء.

وعلى هذا الأساس إذا كان العذاب في الآخرة من سنخ الأمور الاعتبارية من قبيل: الحكم على المجرم بالحبس في السجن سنة واحدة على جريمته الدنيوية أمكن أن يكون هناك عفو عن هذه العقوبة أو تخفيفها، ليحل التناسب بين الجريمة والعقاب ولكن لمّا كانت العقوبات الأخروية هي من نوع الأمور التكوينية، فإن عقوبتها وعذابها سيكون تكوينياً أيضاً وعلى شكل ترتب المعلول على العلة، وترتب الظل على ذى الظل.

بعبارة أخرى: إن جميع أعمال الإنسان وأفعاله الدنيوية تتجلى في

ص: 294

الآخرة على شكل عمل تكويني (العذاب على الذنوب، والنعم على أعمال البر)، وهذا هو الذي يعبّر عنه ب- «تجسّم الأعمال». وقد أشار القرآن الكريم في الكثير من آياته إلى حضور نفس أعمال الإنسان يوم القيامة، بل ويصرّح بذلك أحياناً، وينسب العذاب والعقاب في ذلك العالم إلى نفس الأعمال. وفيما يأتي نشير إلى جانب من هذه الآيات:

أ -«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ»(1).

ب- «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه»(2).

ج - «فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ»(3).

د - «إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً»(4).

وعشرات الآيات الأخرى التي لا يتسع المجال لذكرها في هذه العجالة. ومن بين الروايات الكثيرة الواردة في هذا الشأن، نكتفي بذكر روايتين: -روي عن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم أنه قال: عندما يوضع الميّت في القبر، يتمثل له ،شخص فيقول له من أنت ؟ فيجيبه : «كنت عملك، فبقيت معك»(5).

- روي عن الإمام زين العابدين علیه السلام أنه قال: «وصارت الأعمال قلائد في الأعناق».(6).

ص: 295


1- التحريم: 7.
2- الزلزلة: 7 - 8
3- یس:54.
4- النساء: 10.
5- المحدّث الكليني، فروع الكافي، ج 3، ص 240.
6- الصحيفة السجادية، الدعاء: 42

قال الأستاذ الشهيد مرتضى المطهري:

«إن هناك بين العقوبات في العالم الآخر والمعاصي علقة تكوينية أقوى ،وأشد فالعلاقة بين العمل والجزاء في الآخرة ليست اعتبارية من قبيل النوع الأول، وليست علّية ومعلولية من قبيل النوع الثاني، بل هي أعلى منها بدرجة أيضاً. فالعلاقة القائمة هنا من نوع العينية والاتحاد»(1).

وقد قال سماحته في إشارة منه إلى شبهة برتراند راسل في عدم التناسب بين العقوبات الأخروية والذنوب:

«تتلخص الإجابة عن إشكال (تناسب العقاب والمعصية» بأن رعاية التناسب تأتي في مورد العقوبات الاجتماعية والاعتبارية، ومن الطبيعي في هذا النوع من العقوبات أن يأخذ المشرّع التناسب بين الجريمة والعقاب بنظر الاعتبار. وأما فيما يتعلق بالعقوبات التي تقوم بينها وبين المعاصي علقة تكوينية، بأن تكون معلولة وأثراً حقيقياً للمعاصي، هناك عينية واتحاد بين الجريمة والعقاب، بمعنى أن العقوبة هي المعصية، وعليه لا يكون هناك مجال لطرح بحث التناسب وعدم التناسب .. وما يقوله برتراند راسل مستغرباً كيف

يقوم الله بمعاقبتنا على ذنوبنا الصغيرة بعقوبات شديدة وقاسية! إنما هو ناشئ من عدم إدراكه وفهمه أن العلاقة بين الدنيا والآخرة ليست من قبيل العلاقات الاعتبارية والاجتماعية(2).

وقال سماحة الإمام الخميني قدِّس سرُّه.

ص: 296


1- مرتضى المطهري، العدل الإلهي ص 219
2- مرتضى المطهري، مجموعة آثار (الأعمال الكاملة)، ج 1، ص 227 و 237؛ ج 4، ص 548.

«وكذلك هناك موضع آخر يشتمل على أنواع من العذاب لا يمكن لفهمنا القاصر أن يدرك كنهها وهي ناشئة عن أعمالنا، وليس الأمر كما هو الحال في هذه النشأة حيث يأتي الجلاد من خارج أنفسنا ويتولى عملية التعذيب»(1).

وأمّا بيان تفاصيل نظرية تجسّم الأعمال وجزئياتها وكيفية تحقق العذاب وعلاقته بالأعمال فقد تعرّضنا له في كتاب المعاد من هذه السلسلة، ولذلك نكتفي هنا بإحالة القارئ الكريم إلى ذلك الكتاب(2).

خلاصة الكلام لمّا كانت العقوبات الأخروية هي من سنخ الأمور التكوينية، ولم يعمل شخص أو مقام على وضعها وتشريعها كي يتمّ التساؤل عن تناسبها مع نوعية المعاصي والذنوب؛ لأن العقاب الأخروي يتجلى على هيئة تكوينية بحسب نوع المعصية وشدّتها، وتنبع من ذات المعصية، وبذلك فإن

العلاقة بين الجريمة والعقاب علاقة تلقائية تقوم على نحو العلية والمعلولية. و بعبارة أدق: إن العلاقة بينهما علاقة عينية، بمعنى أن العقاب هو الصورة الباطنية للمعصية، وعندما ينكشف الغطاء وتسقط الحجب المادية سيجد المجرم نفسه مرتهناً بعمله.

ص: 297


1- انظر: السيد روح الله الموسوي الخميني صحيفة النور ، ج ،6 ، ص 279؛ ج 15، ص 18؛ 17، ص 128 وانظر أيضاً چهل حديث (الأربعون حديثاً)، ص 360، الحديث ج الثاني والعشرون
2- محمد حسن قدردان قراملکی پاسخ به شبهات کلامي (أجوبة الشبهات الكلامية)، كتاب المعاد، الفصل السادس الجنة والنار ؛ وكذلك لنا جهنم چرا؟ الغاية من الجحيم، الفصل الثاني.

المسألة الأخرى أن ترتب العقاب في يوم القيامة يتوقف على تحقق أو عدم تحقق بعض الأمور، فعلى سبيل المثال: أن لا يبادر المذنب إلى التوبة، أو لا يحظى بالشفاعة أو لا تقارن الذنوب بأعمال البرّ ، إذ إنّ الأصول في هذا الشأن من قبيل الإحباط والتكفير والموازنة بين الأعمال من الكثرة بحيث أن كاتب السطور قد رصدها في المصدر السابق(1)، وسوف نشير في الصفحات القادمة إلى بعض المسائل التي تلقي ضوءاً على عدم منافاة هذه الأمور مع العدالة الإلهية.

وربما طرحت هذه الشبهة نفسها هنا، وهي أنه يمكن القبول بتناسب المعصية مع العقاب الطويل الأمد بالنظر إلى ما تقدم، إلا أن الشبهة تبقى قائمة بشأن العذاب الأبدي والخلود في العذاب بالنسبة إلى بعض الذنوب، من قبيل: الكفر والإلحاد.

وفي الإجابة عن هذه الشبهة يجب القول : اتفقت كلمة جميع العلماء على أن العقوبات على جميع المعاصي ستكون محددة ومؤقتة(2)، باستثناء عقوبة الكافر حيث هناك اختلاف بين العلماء في هذا الشأن، ونوكل تفصيل ذلك إلى الصفحات القادمة إن شاء اللّه .

ص: 298


1- انظر: محمد حسن قدردان قراملكي المعاد الفصل الرابع، شبهات القيامة والحشر.
2- وبطبيعة الحال ذكرت بعض النصوص الدينية الخلود في العذاب بالنسبة إلى بعض الذنوب من قبيل العداوة مع النبي الأكرم، وأكل الربا، وقتل العمد، بيد أن العلماء خصوا بذلك الكافر الأعم من المنافق والمرتد والملحد (انظر: جعفر سبحاني، تفسير منشور جاوید، ج 9، ص 376).

الشبهة الثانية: عدم تناسب الشفاعة مع العدالة :

تمّ التأكيد في التعاليم الدينية على أن مسألة الشفاعة تعدّ واحدة من سُبل نجاة العبد المذنب من العقاب في الآخرة، بمعنى أن يكون الفرد بحسب أعماله مستحقاً للعذاب والعقاب ولكن يتمّ التكفير عن ذنوبه بوساطة من شخص ثالث، وينجو من العذاب بهذه الوساطة. وقد ذكرت النصوص الدينية من بين من تكون لهم الوساطة والشفاعة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم والأئمة علیهم السلام ، والشهداء والصالحون وأمثالهم. كما تمّ التأكيد في النصوص الدينية على أن الشفاعة لا تشمل كل شخص، وإنما تقتصر على أناس بعينهم مثل: المسلمين أو الشيعة الذين تتوفر فيهم بعض المواصفات.

وقد ذهب التصوّر ببعض من الناس أن من الصعب الحصول على مرضاة اللّه وعفوه عن العصاة والمذنبين ومن هنا يتعيّن البحث عن وسطاء وشفعاء. وقد أدّت هذه القراءة للشفاعة بالملحدين إلى إثارة الشبهة حول عدالة اللّه بسبب اختصاص الشفاعة ببعض الجماعات. وقد وجد المخالفون للتشيّع أن الشفاعة - بسبب توظيفها للوسائط وإلغائها لدور اللّه - متعارضة مع التوحيد العبادي والربوبي.

وعليه يطرح هذا التساؤل نفسه: ألا تعتبر الشفاعة نوعاً من التمييز العنصري والأبرتايد الديني في يوم القيامة؟

مناقشة وتحليل

إن الإجابة عن هذه الشبهة مذكورة بالتفصيل فى كتاب المعاد من هذه ،السلسلة، وفيما يأتى نشير إلى هذه الإجابة باختصار.

ص: 299

1 - الإجابة عن الشبهة على أساس اعتبارية العقوبات الأخروية:

إن مثل هذا الإشكال ينشأ من عدم الفهم الصحيح لمعنى الشفاعة. وفيما يأتي نشير إلى المعنى الصحيح لهذا المفهوم.

لقد تمّ تعريف الشفاعة اصطلاحاً بالعفو عن الذنوب، وفي بعض الموارد بإعطاء الثواب والمنزلة، إلا أن ذلك لا يتمّ بشكل مطلق ودون قيد وشرط. إذ يؤكد القائلون بالشفاعة على مسألة الاستحقاق وأرضية الحصول على الشفاعة بالنسبة إلى الشخص الذي يُشفع له (المشفوع له)، بمعنى أن شمول الشفاعة لا يعمّ الجميع، وإنما يخصّ بعضاً من المنتجبين وفقاً لبعض الملاكات والشروط، ومنها الأهلية والاستحقاق قال السيد المرتضى: «حقيقة الشفاعة وفائدتها: طلب إسقاط العقاب عن مستحقه»(1). من باب المثال: إن الطالب الذي يرتكب خطأ صغيراً للمرّة الأولى، أو الذي تكون درجته على الحافة - بحسب المصطلح الشائع - ويحتاج إلى درجة أو درجتين لينتقل إلى المرحلة العليا، يتوسّل إلى أستاذه من خلال توسيط شخص كي يتسامح معه، أو الشخص الذي يرتكب جريمة في لحظة غضب وبعبارة أخرى: لا يكون مجرماً محترفاً، ويكون نادماً على ما بدر منه حقيقة؛ فيطلب من المظلوم والشاكي أو القاضي أن يصفح عنه، أو يسأله تخفيف العقوبة عنه.

إن هذين المثالين ناظران إلى وجود الأهلية والاستحقاق بالنسبة إلى مرتكب الخطأ نفسه. وهناك موارد أخرى يتمّ فيها الصفح والعفو عن الخاطئ بسبب انتسابه إلى شخصية بارزة أو مكان مرموق ومحترم، كأن يكون ابن

ص: 300


1- السيد المرتضى الشافي، رسائل الشريف المرتضى، ج 2، ص 273.

الأستاذ أو المعلم، أو يكون محسناً أو بطلاً وطنياً، ويرتكب خطأ للمرّة الأولى في حياته، فيمكن للمظلوم أو الشاكي أن يتنازل عن حقه الخاص.

في هذا النوع من الأمثلة يُعدّ صفح الأستاذ أو منحه الطالب المستحق درجة أو درجتين، والعفو أو التخفيف في عقوبة الخاطئ من قبل الشاكي أو المحكمة أمراً عقلائياً ومقبولاً. والشاهد على ذلك هو قيام السيرة وحكم العقلاء في العالم، ووجود قانون العفو العام أو تخفيف العقوبات في جميع المحاكم في العالم أو أغلبها.

إن جميع أنواع الشفاعة في يوم القيامة ستكون على أساس وجود الأهليات والاستحقاقات من باب المثال : إن المذنبين سيتمّ تصنيفهم يوم القيامة بحسب حجم معاصيهم، وإن الصفح أو تخفيف العقوبات أو زيادة الثواب سيتم على أساس مقادير الذنوب وأعمال البر أو اقتراف المعاصي. فأصحاب الذنوب القليلة سيتمّ الصفح عنهم بشكل أسرع من ذوي المعاصي الكثيرة. وفيما يتعلق بأتباع الأنبياء والأئمة والمقربين منهم ستكون أرضية العفو والصفح ممهدة لهم بشكل أفضل من غيرهم، وهكذا بالنسبة إلى الكفار الذين يقومون بالكثير من أعمال البرّ في الدنيا، فإنهم يتمتعون بفرصة أكبر ليشملهم التخفيف أو رفع العذاب عنهم. وبعبارة أخرى: إن إعطاء الثواب أو العفو من قبل الله بوصفه شافعاً وعلة فاعلية ومفيضاً على الجميع بشكل متوازن و مشترك يفيض الخير على الجميع على قدم المساواة، ولكن فيما يتعلق بتحقق الفعل علاوة على العلة الفاعلية يُشترط تحقق العلة القابلة ومقدماتها أيضاً. إن الحصول على شفاعة اللّه وغيره من الشفعاء تتطلب علة قابلة واستحقاقاً وأهلية في شخص المشفوع له وإن نعمة الشفاعة الإلهية ستنزل على العبد

ص: 301

بمقدار استحقاقه وأما الفاقد لهذا الاستحقاق فإنه سيُحرم من هذا الفيض الإلهي كما هو الحال بالنسبة إلى المطر الذي يهطل على التربة الخصبة والسبخة والصخرية، فإنه ينزل على جميع هذه الأنواع من الأرض بالسوية، ولكن التربة الخصبة وحدها هي التي ستمرع بالخضرة والثمار اليانعة دون الأرض السبخة والصخرية. وفي الحقيقة يمكن القول فيما يتعلق بالشفاعة وحصول الأفراد عليها: لا يوجد تمييز بين الناس، بل كل ما هنالك تفاوت بحسب الاستحقاق لا أكثر.

وقد أشارت الروايات إلى الشروط الضرورية التي يجب توفرها في الشخص المشمول للشفاعة، فقد روي عن الإمام الصادق علیه السلم أنه قال:

«فمن سره أن تنفعه شفاعة الشافعين عند اللّه؛ فليطلب إلى اللّه أن يرضى عنه .. واعلموا أن أحداً واعلموا أن أحداً من خلق الله لم يُصب رضى اللّه إلا بطاعته

وطاعة رسوله وطاعة ولاة أمره من آل محمد عليهم السلام»(1).

وإن أهمية العمل بالأحكام والواجبات الدينية فيما يتعلق باستحقاق الشفاعة تبلغ حدّاً بحيث أن الاستخفاف بها يؤدى إلى الحرمان من الشفاعة؛

فقد روي عن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم

أنه قال: «لا ينال شفاعتي من استخفّ بصلاتة»(2).

2 - الإجابة عن الشبهة على أساس تكوينية العقوبات الأخروية

يذهب أكثر الفلاسفة والعرفاء إلى القول بأن العذاب والثواب في الآخرة ليس اعتبارياً، وإنما هو تكويني. وإن مسألة الشفاعة من هذا القبيل أيضاً.

ص: 302


1- محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 75، ص 220.
2- المصدر أعلاه، ج 81، ص 241.

فقد تقدمّ أنهم يعتقدون بأن الثواب والعذاب في الآخرة لا يأتي من خارج وجود الإنسان، وإنما ينشآن داخله ومن صميم ذاته وكيانه. وقد سبق أن ذكرنا بأن النفس الإنسانية من خلال اكتساب الأعمال - الأعم من الصالحة أو الطالحة - وانعكاسها وانطباعها واستقرارها في صقع النفس تتحول بالممارسة والتكرار إلى ملكات وإن هذه الملكات هي التي سيتبلور منها العذاب أو النعيم في الآخرة. وبعبارة أدق إن هذه الملكات تتجسّد على شكل عذاب أو نعيم. فإن الأعمال الحسنة من قبيل الصلاة والإحسان والبرّ بالآخرين وعلى رأسهم الأنبياء والأئمة، سوف تتمثّل على صور جميلة، وستعمل على فكاك رقبة العبد من النار بما يتناسب ومقدار عمله.

وبحصول الشفاعة في ذات المشفوع له تتحوّل الملكات الحسنة وتأخذ طريقها إلى التكامل وفي المقابل تأخذ الصور الضعيفة إلى الزوال والاضمحلال. وبسبب تغيير الموضوع سابقاً، بيد أن الحكم متوقف؛ بخلاف القول باعتبارية العذاب والشفاعة حيث لا يحدث تغيير أو تحوّل في ذات الشفيع.

وقد فسّر العلامة الطباطبائي حقيقة الشفاعة بتصرّف نفوس الكاملين من البشر - كالأنبياء مثلاً - في النفوس الضعيفة التي هي بحاجة إلى الشفاعة، وبذلك تزول الصور والهيئات الرذيلة والقبيحة(1). وقد أوضح ذلك من خلال التمثيل بالمريض الذي تغزو جسده المكروبات فتارة تكون مناعة الجسد قوية بحيث يتمكن من التغلب على المكروبات والامتثال للشفاء من تلقائه، وتارة تكون المناعة من الضعف بحيث يحتاج الإنسان إلى العلاج وتناول الدواء، وهنا

ص: 303


1- انظر: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 1، ص 183 .184

يلعب الدواء دور الشفاعة. وينبغي الالتفات هنا إلى أن الدواء يعمل على تعزيز مناعة الجسد، وبذلك يبرز دور طبيعة الجسد في مواجهة المكروبات(1).

وفي موضع آخر فسّر سماحته الشفاعة بتبديل ذنوب المشفوع له إلى حسنات، وتبعاً لذلك يتغيّر موضوع «الإنسان المذنب» إلى «إنسان غير مذنب»، وبذلك يرتفع العقاب أيضاً، وذلك إذ يقول:

«إن فائدة الشفاعة تكمن في تبديل الذنوب التي توجب الفسق إلى حسنات .. إن حالة الشفاعة تتلخص في التحاق المشفوع له بالشافع أولاً، ومن ثمّ یتمّ تبديل أعماله السيئة إلى أعمال حسنة. وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة بقوله تعالى:«يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ»(2)؛ إذ لو لم يكن هناك أصل محفوظ بين المبدل والمبدل منه سيكون التبدل في الواقع من خلال إعدام المبدل وإيجاد المبدل منه، لا تبديل شيء بآخر»(3).

وقد عمد العلامة إلى توضيح ذلك من خلال الإشارة إلى صحّة وسلامة الجسد، إذ إنّ الطبيعة قد زوّدت الجسد بوسائل دفاعية لمواجهة المكروبات، ولكن أحياناً لا تكفي هذه الوسائل الذاتية في الدفاع عن الجسد، ويكون الإنسان بحاجة إلى مراجعة الطبيب وتناول الأدوية لرفع مستوى مناعة الجسد وقدرته الدفاعية، وفى كلا الحالين تكون المقاومة للمكروبات من ذات الجسد(4).

ص: 304


1- انظر: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي انسان از آغاز تا انجام (الإنسان من المبدأ إلى المعاد ص 175.
2- الفرقان: 70.
3- انظر: المصدر أعلاه، ص 174 - 176.
4- انظر: المصدر أعلاه ص 175.

وقد عمد الأستاذ الشهيد مرتضى المطهري في كتابه القيّم «العدل الإلهي» إلى بيان مسألة الشفاعة بأسلوبه الشيق والبسيط؛ ليكون مفهوماً للقارئ الكريم، ولكنه لم يُشر إلى الآراء الفلسفية التي طرحها الفلاسفة الكبار بمن فيهم صدر المتألهين. ولم يكن سبب ذلك يعود إلى رفضه لتلك الآراء، وإنما لصعوبة فهمها(1).

حصيلة الكلام أن شفاعة الله وغيره من الشفعاء ستقوم على أساس وجود العلة المقتضية والقابلة للشفاعة في المشفوع له بمعنى إذا كانت حسنات الإنسان أكثر من سيئاته، فإن أرضية الشفاعة ستكون أكثر خصباً، وإذا كان لدى الإنسان في الدنيا تعلق خاص بإنسان كامل مثل رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم والإمام على علیه السلام أو الإمام الحسين علیه السلام مثلاً؛ بحيث يلهج بذكره والتدبّر في أخلاقه ونصائحه، أو كان مثلاً ممّن يشارك في مراسم العزاء على الإمام الحسين علیه السلام، فإنّ هذه الأعمال ستؤثر في صقع النفس وتتحوّل إلى ملكات حسنة، وسوف تتمثل له يوم القيامة على هيئات وصور جميلة تقضي على الصور والملكات العقابية أو تقلل منها، حيث يقال إن الإمام الحسين علیه السلاميشفعل لمثل هؤلاء الأشخاص.

ص: 305


1- إن لصدر المتألهين في تفسيره لسورة الحديد بياناً دقيقاً وعلمياً. فإنه من خلال تعميم البحث قام بطرح مسألة العلل الذاتية والعلل الاتفاقية، ومسألة الغايات الذاتية والغايات العرضية ثم يدخل في تفاصيل البحث ليبين كيف يكون للعلل الاتفاقية في هذا العالم - الذي لا يقتصر على المجتمعات البشرية - أن تحدد مصير شيء، أو تحول دون وصوله إلى غايته الذاتية، فيقنع ببلوغ غايته العرضية، بيد أن عالم الآخرة بعيد عن تأثيرات العلل الاتفاقية والعرضية. ولمّا كان المستوى العلمي لهذا البحث عال جداً، فإننا نؤثر الإحجام عن الدخول في تفاصيله ونكتفي بإحالة أهل الفضل إلى كلمات صدر المتألهين في تفسيره القيم.

الصورة الأخرى للشفاعة تتمثل باهتمام الشافع بالمشفوع له يوم القيامة، ولكن بشرط أن تتوفر لدى المشفوع له ملكات تتناسب مع مفهوم الشفاعة، فعلى سبيل المثال : إن حبّ الإمام علي علیه السلام أو الإمام الحسين علیه السلام يؤدي إلى خلق تكويني للملكات والصور الجميلة والنورانية في النفس، وبتبع ذلك سوف يتجلى هذا الفرد في يوم القيامة وهو يتمتع بأرضية أكثر من غيره خصباً للاستفادة من اهتمام هذين الإمامين الهمامين وشفاعتهما.

وفي الحقيقة فإن الملكات والأنوار النفسية تكون لها مثل جاذبية المغناطيس، وكلما كانت هذه الجاذبية أقوى، أمكن لها أن تستقطب كمية أكبر من الحديد. وهكذا الأمر بالنسبة إلى النفس فكلما كانت أقرب من اللّه وغيره من الشفعاء، أمكن لها أن تجتذب الفيض الإلهي وعناية الأولياء الكاملين واهتمامهم بصورة تكوينية.

المسألة الدقيقة الأخرى هى أن إفاضة الفيض والمغفرة من اللّه ومن غيره من الشفعاء تعمّ جميع الأفراد بالسوية ودونما استثناء، إلا أن بعض الناس لا يتمتعون بقابلية وقدرة اجتذاب الرحمة والشفاعة أو أنهم يمتلكونها بشكل ضعیف، مثل المطر الذي ينزل على الأرض وتأخذ منه كل نبتة بمقدار ظرفيتها وقدرتها الاستيعابية، في حين لا تحصل الأرض الجرداء من نعمة المطر على شيء أبداً.

الشبهة الثالثة: الإحباط

لقد ورد الكلام في الآيات القرآنية الكريمة وبتبعها في الروايات والأحاديث الشريفة بشأن بطلان الأعمال الصالحة والثواب واضمحلالهما

ص: 306

بمجرّد صدور بعض المعاصي والذنوب من قبيل الكفر والشرك والردّة ورفع الصوت فوق صوت النبي، وهو ما يُعبّر عنه في المصطلح الكلامي ب-«الإحباط»(1).وقد عبّرت النصوص الدينية عن أسباب بطلان أعمال الخير والبر بتعبيرات مختلفة مثل: الإحباط والبطلان وفيما يأتى نشير إلى بعضها:

أ - الكفر فالكفر يوجب بطلان ما يقوم به الكافر من أعمال البرّ، إذ قال تعالى:

«إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّه وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٌّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنْ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ»(2).

ب - الشرك فلو أشرك المسلم بعد إسلامه، ستبطل أعماله الصالحة التي قام بها قبل أن يشرك ، قال تعالى مخاطباً رسوله الكريم صلی الله علیه و آله و سلم.

«وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ»(3).

ص: 307


1- انظر القاضي عبدالجبار المعتزلي شرح الأصول الخمسة، ص 422؛ سعدالدين التفتزاني، شرح المقاصد، ج 5، ص 141؛ القاضي عضدالدين الإيجي، شرح المواقف، ج8، ص309؛ أبو إسحاق إبراهيم بن نوبخت الياقوت في علم الكلام، ص 63 سدید الدین محمود 2 ص 42 الخواجة نصير الدين الطوسي؛ نقد الحمصي الرازي، المنقذ من التقليد، ج 2، ص المحصل، ص 505 ؛ الخواجة نصير الدين الطوسي، كشف المراد، ص327؛ الفاضل المقداد، اللوامع الإلهية، ص 436
2- آل عمران: 21 - 22
3- الزمر: 65

ج - الارتداد: فإن الارتداد يوجب بطلان الأعمال الحسنة أيضاً، إذ يقول تعالى:

«وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ».(1)

د - رفع الصوت فوق صوت النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم :

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ» (2).

ه_- المنّ والأذى وفي ذلك قال اللّه تعالى:

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنَّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ»(3).

وقد تمّت صياغة الشبهة هنا على النحو الآتي: كيف يمكن أن ينسجم القول ببطلان جميع أعمال الإنسان الصالحة بمجرّد قيامه بمعصية - سواء أكانت معصية كبيرة من قبيل: الشرك، أو معصية عادية من قبيل: رفع الصوت في حضرة النبي - والقول بخلود الكافر مضافاً إلى ذلك في نار جهنم، مع العدالة والرحمة الإلهية؟!

مناقشة وتحليل

لقد تقدّم تفصيل الإجابة عن هذه الشبهة في كتاب المعاد من هذه السلسلة ولكننا نكتفي هنا بذكر المسألة الآتية:

ص: 308


1- البقره:217.
2- الحجرات 2 .
3- البقره 264.

1 - الإحباط يستوجب الظلم

لقد استعمل الإحباط لغة في معاني مختلفة مثل: الفساد والبطلان

والإهدار .(1)وقد قصد بعض علماء الإسلام - ومنهم المعتزلة - المعنى اللغوي للإحباط ومترادفاته من الآيات التي نسبت فيها كلمة (حبط ) إلى الأعمال وبموجب ذلك تبطل وتضمحل أعمال الفرد الصالحة بمجرد ارتكاب ذنب خاص على ما تقدّم ذكره. ويُطلق على هذا التعريف الإحباط المطلق» الذي بموجبه تبطل جميع أعمال الخير السابقة بمجرد ارتكاب المعصية.

وقد وصف نصير الدين الطوسي والعلامة الحلي الإحباط المطلق (التعريف الأول) الذي يستوجب الظلم في حق فاعل أعمال الخير أو الشر في إطار الصور الثلاث الآتية:

أ - غلبة الذنوب على الثواب (الإحباط): إثر إحباط جميع الخير ،وبطلانها، يلزم من ذلك أن يكون هذا الفرد مثل الذي لم يصدر عنه فعل صالح أبداً.

ب - غلبة أفعال الخير على الذنوب (التكفير): إذا كانت أعمال الخير لدى الفرد أكثر، وبفعل التكفير تمحى جميع ذنوبه، ويغدو كمن لم يرتكب ذنباً أو معصية أبداً.

ج - تساوي أعمال الخير والشر وفي هذه الصورة يحصل التعارض بين الأعمال الموجبة للإحباط والأعمال الموجبة للتكفير ، ولازم ذلك هو التساقط،

ص: 309


1- انظر: أبو العباس الفيومي، المصباح المنير؛ أبو نصرالجوهري، الصحاح؛ أبو طالب الفيروز آبادي ، القاموس المحيط، مادة(حبط).

فيغدو هذا الفرد كأنه لم يقم بأي أعمال خير ولا أعمال شر، وإنه لم يرتكب ما يوجب الثواب ولا ما يوجب العقاب.

إن العقلاء فيما يتعلق بهذه الفرضيات الثلاث يحكمون بخلاف لوازمها إذ لا يمكنهم تصور أن الفرد في الفرضية (أ) لم يقم بأي عمل صالح، وإنما يؤكدون على قيامه بالعمل الصالح، ويرون عدم مكافأته ظلماً، وهكذا الأمر بالنسبة إلى الفرضية (ج).

وفيما يتعلق بالفرضية (ب) فإن الفرد قد ارتكب معصية، وإن عدم

معاقبته على معصيته - مهما كانت صغيرة - يعدّ ظلماً في حق المظلوم، إذا كانت المعصية داخلة في حقوق الناس.

قال نصير الدين الطوسي بهذا الشأن:

«والإحباط باطل لاستلزامه الظلم ولقوله تعالى: ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه ﴾ » (1) (2)

وقال العلامة الحلي في شرح ذلك مشيراً إلى الفرضيات الثلاث

المتقدمة :

«ويدل على بطلان الإحباط أنه يستلزم الظلم؛ لأن من أساء وأطاع وكانت إساءته أكثر يكون بمنزلة من لم يحسن وإن كان إحسانه أكثر يكون بمنزلة من لم يسئ، وإن تساويا يكون مساوياً لمن لم يصدر عنه أحدهما، وليس كذلك عند العقلاء» (3)

ص: 310


1- الزلزلة: 7.
2- كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد المقصد السادس، المسألة السابعة، (3) ص 327
3- المصدر اعلاه .

وقال العلامة جوادي آملي في هذا الشأن:

«لقد ذهب المحققون من الإمامية في علم الكلام والتفسير بشكل عام إلى نفي (الإحباط) في غير محور الكفر والارتداد والنفاق، وقالوا: (إن أعمال الخير والشر لا تؤثر في بعضها بنحو الإحباط الكلي أو الجزئي أبداً) [كشف المراد الميزان]، بمعنى أنه لا الأعمال الصالحة تستوجب القضاء على الأعمال الطالحة ولا العكس. بل يبقى كل عمل صالح أو طالح في مكانه حتى يحين يوم القيامة ليتم وضع كل منهما في كفة ميزان وتتم المقارنة بينهما، وفي الختام يكافأ من ترجح كفة حسناته، ويعاقب من ترجح كفة سيئاته. وأما إحباط الأعمال بسبب الكفر والارتداد والنفاق فهو أمر متفق عليه، وقد ورد التصريح به في القرآن الكريم، وهو خارج عن محل بحثنا الراهن».

وعليه فإن نظرية المحققين من الشيعة - من بين مختلف الآراء بشأن الإحباط والتكفير فيما يتعلق بالأعمال الصالحة والطالحة - هي الصحيحة وخلاصتها:

1 - نفي إحباط الأعمال بالمطلق أي بطلان الحسنات بالسيئات أو

السيئات بالحسنات.

2 - الإثبات الإجمالي لتكفير السيئات بالحسنات.

3 - النفي الكلى لتكفير الحسنات بالسيئات .(1)

2 - عدم انسجام الإحباط مع مختلف الآيات:

بالالتفات إلى المعنى اللغوي والاصطلاحي لمفهوم الإحباط في تفسير

ص: 311


1- عبد الله جوادي آملي تفسير تسنیم، ج 10، ص 602 - 606.

الآيات الموهمة لإرادة المعنى اللغوي للإحباط لا يمكن عدّه أصلاً قرآنياً لمجرد دلالة بعض الآيات على ذلك؛ إذ العقل يحكم بضرورة عدم نسبة حكم للقرآن آیات الكتاب وتجاهل سائر الآيات الأخرى من خلال انتقاء آية أو بضع من التي تثبت الخلاف، خاصّة إذا كان ذلك الكتاب مشتملاً على عام وخاص ومطلق ومقيّد، ومحكم ومتشابه، وهو أمرٌ يجعل تفسيره مفتقراً إلى الإحاطة والإشراف على جميع موارده. إن القرآن الكريم كتاب سماوي نزل منجماً على مدى ثلاثة وعشرين سنة على المواصفات المتقدّمة. قال تعالى: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ»(1). من هنا فقد اشتهر بين المفسرين أن القرآن يُفسّر بعضه بعضاً )(2).

وعلى هذا الأساس لو عثرنا في القرآن الكريم على آيات تخالف مفهوم الإحباط والتكفير سوف تتزلزل دلالة الآيات الدالة على المفهوم اللغوي للإحباط، وتبعاً لذلك يسقط أصل الشبهة أيضاً. وبالنظر إلى الآيات الأخرى نجد أن القرآن يشير ويؤكّد في الكثير من الموارد على أصل عقلى يُثبت أن كل إنسان سينال جزاء عمله، وإن الله لا يُضيع ولا يبطل عمل أيّ إنسان، وإنه لا يظلم أحداً يوم القيامة، من قبيل قول الله تعالى: «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه»(3).

إن هذه الآيات تؤكد على جزاء كل عمل سواء أكان ثواباً أم إثماً،

ص: 312


1- آل عمران: 7
2- انظر: الفخر الرازي، التفسير الكبير، ج 17، ص 77؛ العلامة محمد حسين الطباطبائي، ج 3، ص 36 و 57.
3- الزلزلة : 7 - 8

وعدم تضييع أيّ عمل، ولازم ذلك ردّ الإحباط الذي يعني تجاهل أعمال البرّ والخير التي صدرت عن العبد ؛ إذ الذي يبطل بها ليس مجرد عمل واحد، بل جميع أعمال البر لمجرد معصية واحدة، وهذا يتنافى مع ظاهر وروح الآيات المتقدّمة. إذن الآيات القرآنية تدل على العدل وعدم تضييع أعمال الإنسان، خلافاً لمفهوم الإحباط اللغوي الذي يبدو من ظاهر بعض الآيات. من هنا يجب القول من خلال الجمع بين آيات الإحباط والآيات المخالفة لها: إن المراد من آيات الإحباط بحق المسلم ليس هو تضييع جميع ما قام به من أعمال الخير والبرّ (المعنى اللغوي)، بل بطلان بعضها فقط.

أما الإحباط الحقيقي واللغوي - الظاهر من بعض الآيات - فيخص الكافر بمعناه العام (الذي يشمل الملحد والمشرك والمنافق)، وهذا ما سيأتي بيانه لاحقاً إن شاء الله تعالى.

3- البيان التكويني للإحباط :

إن التعريف المتقدّم للإحباط يقوم على اعتبارية الثواب والعقاب ولكن يمكن القول بوجود تفسير تكويني لآيات الإحباط، بمعنى أنه طبقاً النظرية تجسّم الأعمال والقول بتكوينية العقاب والجزاء، فإن كل فعل يصدر عن الإنسان يترك أثراً تكوينياً في نفس الإنسان فإن كان الفعل حسناً وصالحاً ترك كمالاً ونوراً في النفس، وإن كان سيئاً وقبيحاً ترك سواداً وظلمة في النفس وبترك المعاصي والقيام بأعمال الخير والصلاح تكتسب النفس نورانية، ويبدأ الإنسان برفع خطواته في مسير التكامل، وإن هذه المنعطفات النفسية تستمر إلى حين الوفاة (خروج الروح من الجسد ) حيث تتوقف مسيرة الإنسان في هذه الحياة.

ص: 313

وفي الحقيقة فإن الإحباط والتكفير ما هو غير تأثير أفعال الإنسان في النفس والارتباط المتبادل بين أفعال الخير والشر، بمعنى أن ارتكاب المعاصي يؤدي إلى ظلمة النفس (الإحباط)، والقيام بأعمال الخير والبرّ يؤدي إلى إشراق النفس وانقشاع الظلمات النفسية (التكفير). وإن هذا التأثير المتبادل والصعود والهبوط في مسار النفس يستمر حتى انقضاء الأجل، وبالموت تصل هذه الرحلة إلى محطتها الأخيرة، بمعنى أن أعمال البرّ والخير في لحظة الموت إذا كانت هى الغالبة على الرذائل النفسية، أدى ذلك بالإنسان إلى السعادة في عالم البرزخ ويوم القيامة، وإن كانت أفعال الشرّ هي الغالبة، كان مصير الإنسان هو البؤس والشقاء.

وبعد الموت ينقطع تأثير الأعمال الاختيارية التي يقوم بها الإنسان، أما الشفاعة والمغفرة وتحمّل العذاب، فيمكنه أن يكون مؤثراً. وقد ورد التصريح في الروايات بالتأثير التكويني الذي يتركه الذنب أو الثواب في نفس الإنسان أيضاً. فقد روي عن الإمام الصادق علیه السلام، أنه قال: «ما من عبد إلا وفي قلبه نكتة بيضاء، فإذا أذنب ذنباً خرج في النكتة نكتة سوداء، فإن تاب ذهب ذلك السواد، وإن تمادى في الذنوب زاد ذلك السواد حتى يغطي البياض، فإذا غطى البياض لم يرجع صاحبه إلى خير أبداً»(1).

وقد تعرّض صدر المتألهين (2)، والعلامة الطباطبائي(3) من المعاصرين

ص: 314


1- انظر: محمد بن يعقوب الكليني أصول الكافي، ج 2، ص 273؛ محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج ،70، ص 332 و 361.
2- انظر صدر الدين الشيرازي الشواهد الربوبية، ص 774.
3- انظر: العلامة محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 2، ص 171.

إلى تحليل نظرية الإحباط والتكفير من طبقاً لهذا المبنى.

وإن هذا الاتجاه فيما يتعلق بالإحباط والتكفير حيث يقوم على التفسير التكوينى والاستناد إلى أفعال الإنسان نفسه يحظى بقبول من العقل والعقلاء.

4 - اختصاص الإحباط بالكافر

إن لبعض الذنوب من قبيل: الكفر والشرك والارتداد دوراً محورياً في مصير الإنسان وفطرته التوحيدية، بمعنى أن الإنسان بشكل عام ينقسم إلى المؤمن والكافر (المنكر لأصل وجود اللّه أو التوحيد). وفيما يتعلق بالقسم الأول يشعر الإنسان بوجود نوع من العلقة والارتباط بينه وبين اللّه، ويكون مسار حركته باتجاه القرب الإلهي، وعليه فإن كل ذنب يصدر عنه مهما كان كبيراً وأدى إلى ظلمة النفس، إلا أنه حيث يكون مؤمناً باللّه بحسب الفرض، فإن معصيته ستكون محدودة، وتكون أدنى من النور الإلهي الجاري في ضمير الإنسان وفطرته ولذلك فإن التأثير السلبي للمعاصي لا يستطيع محو نور التوحيد الإلهي من فطرة هذا الإنسان؛ لأن تأثير كل ذنب سيكون بمقدار حجمه .

وعلى هذا الأساس فإن الفرد المؤمن لما يتمتع به من الثواب الخالد (الاعتقاد التوحيدي)، سيتغلب على ذنوبه ويدخل في دائرة المفلحين.

وأما الكافر بمعناه العام (أي الملحد والمشرك والمرتد)؛ فلبعده عن المسار الإلهي، فهو يختص من وجهة نظر أكثر علماء الدين ببطلان الأعمال وإحباط العمل.

ص: 315

وقد خصّ العلامة المجلسي(1) والعلامة الطباطبائي الإحباط - بمعنى بطلان الثواب وجميع أعمال الخير - بذنوب من قبيل: الكفر والارتداد مما يقطع قيود العبودية وأواصر المولوية بين الإنسان ،وخالقه، وفى ذلك قال العلامة الطباطبائي:

«إنه تعالى جرى في مسألة تأثير الأعمال على ما جرى عليه العقلاء في الاجتماع الإنساني من طريق المجازاة، و هو الجزاء على الحسنة على حدة وعلى السيئة على حدة، إلا في بعض السيئات من المعاصي التي تقطع رابطة المولوية والعبودية من أصلها فهو مورد الإحباط»(2).

ومع تخصيص بطلان جميع أعمال الخير والثواب (الإحباط) بالكافر، ترتفع الشبهة في مورد أعمال البرّ الصادرة عن المؤمن، ولكن الشبهة فيما يتعلق بالكافر تبقى على حالها. وفيما يأتي سنخوض في بيانها.

حکم عبادات الكافر :

يمكن تقسيم أعمال الإنسان الكافر إلى قسمين: عبادات وأفعال حسنة صادرة عن فطرته ويمكن بيان كل واحد منهما من خلال مبنيين في تبرير العذاب الأخروي (الاعتباري والتكويني).

وفي البداية سنخوض في بيان عبادات الكافر على مبنى اعتبارية العذاب:

يمكن إطلاق وبحث عنوان الكافر على الأقسام الثلاثة الآتية :

ص: 316


1- انظر: محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 5، ص 4 - 332.
2- العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 2، ص 170 - 172.

1 - الكافر المنكر لأصل وجود اللّه (الملحد)، فلا يكون لديه أي عمل عبادي حتى يتمّ البحث في بطلانه.

2 - المشرك وهو الذي يؤمن بأصل وجود اللّه، ولكنه يرى له شركاء فى الخلق وفى العبودية، فإن عبادته اللّه لا تكون حقيقية وإنما المقصود بها غيره ومن هنا لا تقوم عبادته على أسس صحيحة حتى يحكم ببطلانها، والبحث في المرحلة اللاحقة عن إبطالها وإحباطها. وعلى المشركين في مثل هذه الحالة أن يطالبوا بالحصول على الثواب من أولئك الذين عبدوهم من دون اللّه.

3 - المرتد: والبحث بشأن المرتد يختلف عن قسيميه السابقين؛ إذ إنّه قام ببعض العبادات من قبيل الصلاة والصوم والحج قربة إلى اللّه تعالى، ثم ندم على ذلك وخرج عن الإسلام متخذاً طريق الكفر والإلحاد. وعليه فإن أعماله السابقة تكون مشمولة لقانون الإحباط والبطلان ؛ وذلك لأن المرتد يرى أن ما قام به من العبادات عندما كان مسلماً لا يعدو أن يكون مجرد أمور جوفاء

خالية من أي مضمون أو معنى ويعيش حالة من الندم على قيامه بها، ويحكم على بطلانها بنفسه، وبذلك يكون هو من يحكم بإحباطها وليس اللّه.

كما يمكن بيان الإحباط على مبنى التأثير التكوينى للعمل في نفس الإنسان، فيما يتعلق بالحالات المتقدمة (الكفر والشرك والارتداد) أيضاً.

ففي فرضية الكفر والشرك حيث لم تقع العبادة على وجهها الصحيح والحقيقي، لن يكون هناك تأثير إيجابي ونوراني في صقع النفس. وأما في فرضية الارتداد، فإن الأعمال العبادية التي جاء بها المرتد مدّة إسلامه تترك تأثيرها الإيجابي والنوراني في صقع نفسه، إلا أن نفس الارتداد يترك بدوره تأثيراً جذرياً في خلق الظلمات في هذه النفس، الأمر الذي يقضي على تلك

ص: 317

النورانية السابقة للنفس، بحيث يحبط كل عمل برّ جاء به قبل الردّة؛ لأن المرتدّ نفسه يصرّح برفضه لعباداته السابقة، ويراها جوفاء وفارغة وفاقدة للقيمة! ومثل هذه النظرة إلى الأعمال ستترك تأثيراً تكوينياً يتمثل ببطلانها، وهذا هو المعنى الدقيق للإحباط.

الشبهة الرابعة: التكفير:

إن المفهوم المقابل للإحباط هو التكفير ، بمعنى أن العبد من خلال قيامه بفعل بعض الخيرات وأعمال البرّ، مثل التوبة، فإن اللّه سيغفر ذنوبه المتقدّمة ويزيل آثارها وتبعاتها من قبيل : العذاب والعقوبة(1). وقد تمّ التأكيد في القرآن الكريم على التكفير والعفو عن الذنوب بعد قيام العبد ببعض أعمال البرّ، من

قبیل قوله تعالى:

-«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا الله يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ»(2).

-«وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا»(3).

والسؤال المطروح هنا: هل ينسجم هذا الغفران والصفح مع العدل الإلهى؟ خاصة إذا كانت الذنوب والمعاصى التي يقترفها الشخص داخلة في دائرة حقوق الناس فكيف ينجو شخص قد ظلم الآخرين من أبناء جلدته؟!

ص: 318


1- الخواجة نصير الدين الطوسي، كشف المراد ص 413 الفاضل المقداد السيوري، إرشاد الطالبين، ص 421؛ محمد باقر المجلسي، ج 68، ص 197.
2- الأنفال 29
3- الطلاق .. وانظر أيضاً التحريم : البقرة: 171؛ الفتح: 5؛ التغابن: 9.

مناقشة وتحليل:

1 - التكفير تفضّل إلهي يفوق العدل:

المسألة الأولى هي التكفير والصفح عن ذنوب المجرم هو من الكرم الذي يفوق العدل. وقد تقدم في الفصل الأول عند تعريف العدل تفصيل أن العفو عن الأخطاء والصفح عن المجرمين أحلى عند الناس من تطبيق العدالة فيما يتعلق بالعقوبة من قبيل قصاص النفس الذي هو من الحقوق الثابتة لأولياء الدم، إلا أن العفو أجمل من القصاص وعليه فإن الصفح عن ذنوب العصاة في يوم القيامة بالنسبة إلى الله يفوق العدل، وهو غاية التفضّل والكرم

الإلهي.

2 - عدم العفو عن حقوق الناس:

لا يخفى على القارئ الكريم أن الذنوب تنقسم إلى قسمين حق اللّه وحق الناس والقسم الأول عبارة عن ذنوب من قبيل: ترك الصلاة والصوم وشرب الخمر مما يعود الظلم فيه على شخص المذنب فقط بسبب عدم التزامه بالتكاليف الإلهية وأما القسم الثاني فهي ذنوب من قبيل: السرقة والغيبة والافتراء والتهمة وما سوى ذلك من الأمور التي يكون فيها ظلم على شخص ثالث بالإضافة إلى ما فيها من التمرد على الأوامر الإلهية. وقد كان موضع الإشكال يركز بشكل رئيس على القسم الثاني، حيث تفترض الشبهة أن اللّه يقبل التوبة من جميع الناس بمجرّد حصول التوبة من دون قيد أو شرط! في حين أن الروايات في تفسيرها للتوبة تفرق بين قسمين منها، بمعنى أن الصفح عن الذنوب التي تشتمل على حقوق الناس منوط بجبران ظلم المظلوم. وبعبارة

أخرى إعادة حقوق المظلوم ( ردّ المظالم) من الظالم. فقد ورد في الحديث عن

ص: 319

المعصوم علیهم السلام أنه قال:«وأما الذنب الذي لا يُغفر، فمظالم العباد ....»(1).

وقد تعرّض علم الفقه إلى بيان شرائط وجزئيات الصفح عن الذنوب المتضمنة لحقوق الناس، ومن بينها دفع الحقوق إلى المظلوم إذا كان على قيد الحياة، أو ذويه إذا كان ميتاً وكذلك السعى إلى الحصول على براءة الذمّة منه(2).

3- إعطاء حق المظلوم من قبل الله (أصل الانتصاف)

يذهب المتكلمون إلى الاعتقاد بأصل يطلقون عليه عنوان «الانتصاف»، ويرون بموجبه وجوب استعادة حق المظلوم من الظالم في الدنيا أو الآخرة. وقد عمد المتكلمون إلى إثبات هذا الأصل بالأدلة العقلية والنقلية(3)؛ وذلك لأن عدم استرجاع حق المظلوم هو نوع من الظلم وتضييع الحقوق، وصورة من

ص: 320


1- انظر: محمد بن يعقوب الكليني أصول الكافي، ج 2، ص 443؛ نهج البلاغة الخطبة رقم: 176؛ محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 6، ص 29.
2- انظر: محمد بن يعقوب الكليني، أصول الكافي، ج 2، ص 430؛ محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 6، الباب العشرون (باب التوبة وشرائطها)؛ السبزواري، مهذب الأحكام، ج 1، ص 77.
3- (والانتصاف) أي انتصاف المظلوم من الظالم واجب عليه ) أي على الله تعالى (عقلاً)؛ لأنه لو لم ينتصف لأدّى إلى إضاعة حق المظلوم؛ لأنه تعالى مكن الظالم وخلى بينه وبين الظلم، مع أنه تعالى يقدر على منعه وما مكن المظلوم من مكافأته، فلو لم ينتصف منه لضاع حق المظلوم والتالي باطل؛ لأن تضييع حق المظلوم قبيح عقلاً (و) واجب (سمعاً) أيضاً؛ لما ورد في القرآن من أن الله تعالى يقضي بين عباده بالحق، (انظر: غافر: 20) (فلا يجوز تمكين الظالم من الظلم دون عوض في الحال يوازي ظلمه)، (انظر: محمد جعفر الأستر ،آبادي البراهين القاطعة، ج 2، ص 264 ؛ الباب الحادي عشر مع شرحيه، ص 167).

صور انعدام العدل ثبت قبحه بالعقل والنقل ومن ذلك الآية الآتية التي تثبت إحقاق اللّه سبحانه وتعالى للحقوق بين عباده في يوم القيامة، إذ يقول اللّه تعالى في محكم كتابه الكريم: «وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ»(1).

ولازم القضاء الحق والعادل هو القصاص وأخذ حق المظلوم من الظالم، وعليه فإن استعادة حق المظلوم من الظالم الانتصاف) واجبة على اللّه، ويتحقق ذلك يوم القيامة من خلال إعطاء حسنات الظالم إلى المظلوم، ومن الواضح أن إعطاء حسنات الظالم إلى المظلوم إنما يتحقق في يوم القيامة إذا كان لدى الظالم ما يكفي من الحسنات وعليه كيف يكون الشأن إذا لم يكن لدى الظالم هذا المقدار من الحسنات؟

وهناك رؤية تقول إن الله لا يُقدر مثل هذا الظالم على الظلم فيؤدي ذلك إلى حصول الإشكال في يوم القيامة(2).

وعليه يتمّ حل المشكلة؛ لأن الظالم يكون متمكناً من حيث الثواب والعمل.

والرؤية الأخرى تقول بأن الظالم إذا لم يكن لديه شيء من أعمال

الخير، فإن اللّه هو الذي سيقوم بجبران حق المظلوم وتعويضه من عنده؛ وذلك لأن الظلم الذي تعرّض له المظلوم إنما هو نتيجة بسبب تمكين اللّه للظالم في

ص: 321


1- غافر: 20.
2- انظر: العلامة الحلي، أنوار الملكوت ص 130؛ القاضي عبد الجبار المعتزلي، شرح الأصول الخمسة ، ص 341 القاضي عبد الجبار المعتزلي المغني، ج 13، ص528؛ الخواجة نصير الدين الطوسي، كشف المراد المسألة الرابعة عشرة ؛ السيد المرتضى، الذخيرة، ص 244؛ سديد الدين محمود الحمصي الرازي، المنقذ التقليد، ج 1، ص 330.

سلسلة العلل وعلى اللّه أن يتدارك هذا الظلم الحاصل في مملكته بنحو من الأنحاء(1).

وبعبارة أخرى هناك من يرى أن الانتصاف يتحقق بإعطاء الثواب من قبل الظالم، بيد أنّ آخرين يرون أنّ الانتصاف عبارة عن التعويض عن المظلوم وإحقاق حقه كيفما اتفق - سواء من قبل الظالم أو اللّه - ولذلك فإن اللّه يوم القيامة يعطي للمظلوم من الثواب حتى يرضى ويكون على استعداد للصفح عن المذنب. وفي هذه الصورة تغدو التوبة نافعة ولا يكون العفو عن المذنبين مخالفاً للعدل؛ لأن الفرض أنه جاء بعد رضا المظلوم، بل ويؤدي إلى ما فيه صلاح الظالم والمظلوم على السواء، وعليه يعدّ نوعاً من الجود والتفضّل والكرم.

4 - البيان التكويني لأثر التكفير :

تقدم في معرض البحث عن الأثر التكويني للإحباط أن ارتكاب

المعصية يعرّض النفس الإنسانية إلى الابتلاء بألوان العذاب بشكل تكويني.

ص: 322


1- فإن لم يكن له عوض تفضّل الله عليه بالعوض المستحق عليه، ودفعه إلى المظلوم (فإن كان المظلوم من أهل الجنة فرق الله أعواضه على الأوقات) على وجه لا يتبين له انقطاعها، فلا يتألم به أو تفضّل الله عليه) أي على المظلوم (بمثلها) أي بمثل الأعواض عقيب انقطاعها؛ لئلا يتألم بانقطاعها. وإن كان المظلوم ( من أهل العقاب، أسقط الله بها أي بتلك الأعواض (جزءاً من عقابه يوازي تلك الأعواض (بحيث لا يظهر له التخفيف بأن يُفرّق الناقص على الأوقات ولا يحصل له السرور بحصول التخفيف. (انظر: محمد جعفر الأستر آبادي البراهين القاطعة، ج 2، ص 464؛ وانظر أيضاً: الفاضل المقداد السيوري، إرشاد الطالبين إلى نهاية المسترشدين، ص 284؛ العلامة الحلي، الباب الحادي عشر مع شرحيه، ص 167؛ الفاضل المقداد، اللوامع الإلهية، ص 235.

وإن هذه الصور التكوينية من العذاب تقضي على صور النعم والسعادة.والعكس صحيح أيضاً،بمعنى أن أعمال البرّ والصلاح ومنها التوبة، بمعنى أن القيام بأعمال البرّ والمبادرة إلى التوبة يخلق في نفس المذنب أثراً تكوينياً بحسب كمية وكيفية الذنوب ونوع التوبة، ويمكن لهذه الآثار التكوينية أن تمحو جزءاً من هذه الذنوب (الظلمات النفسية)، أو جميعها(1).

وفيما يتعلق بحق الناس يمكن القول: إن الصفح عن الذنوب في حال عدم رضا المظلوم يتمّ من خلال نقل حسنات الظالم إلى المظلوم، أو نقل سيئات المظلوم إلى الظالم(2). وقد ورد التصريح بتبديل الحسنات بالسيئات، والسيئات بالحسنات في جملة تعاليم القرآن والسنة، كما قال هابيل لقاتله قابيل على ما يحكيه القرآن الكريم في قوله تعالى:«إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ»(3).

وقال الأستاذ العلامة جوادي آملي في تفسير هذه الآية:

ص: 323


1- انظر: العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 2، ص 397 وج 4، ص 250.
2- في بيان كيفية تأثير التوبة في رفع العذاب والعفو عن الذنوب الداخلة في دائرة حق الناس يمكن القول على سبيل الاحتمال : إذا كانت نفس الفرد المحسن والتائب تتمتع بقوة وكمال يمكن لها أن تتصرف في ذنوب الفرد الصور القاتمة والمكدّرة المظلوم بشكل تكويني، وتزيل بعضها بحسب الظلم والديون التي عليه، أو أن يزيد من حسنات النفس من خلال التصرف فيها، بحيث يرضى صاحب النفس بالصفح عن الظالم. (انظر: شبهة التدخل والتصرف التكويني للشافع في نفس المشفوع له التي تقدم البحث التفصيلي بشأنها في قسم المعاد على هامش عنوان الشفاعة، وما ذكرناه إجمالاً في الصفحات السابقة من هذا الكتاب).
3- المائدة: 29

«إن هذا الكلام إنما هو حكاية عن هابيل ولكن حيث أن القرآن لم يُبطله يمكن اعتباره نوعاً من الإمضاء والتقرير من قبل اللّه سبحانه وتعالى»(1).

وقد ورد في الروايات المأثورة عن الأئمة المعصومين علیهم السلام بشأن الغيبة والتهمة وما إليهما، التصريح بأن حسنات المغتاب تنتقل إلى من تمّ اغتيابه، وإذا لم تكن لدى المغتاب من حسنات، انتقلت سيئات من تم اغتيابه إليه(2).

وقال العلامة الطباطبائي في هذا الشأن «فالظالم يتبع ظلمه ظلمة في قلبه وقسوة توجب انحاء أثر النور الذي كان في قلبه من الطاعات التي كان عملها والمظلوم يتألم فينكسر شهوته ويمحو عن قلبه أثر السيئات التي أورثت ظلمة في قلبه؛ فيتنور قلبه نوع تنوّر، فقد دار ما في قلب الظالم من النور إلى قلب المظلوم، وما في قلب المظلوم من الظلمة إلى قلب الظالم، وهذا معنى نقل الحسنات والسيئات»(3).

وعليه فإن تأثير التكفير ليس اعتبارياً حتى يتمّ السؤال عن سببه واختلافه في بعض الأفراد، وإنما التكفير فعل وأثر تكويني يمكنه التأثير تبعاً لكمال النفس وضعفها على ما مرّ بيانه في بحث الإحباط.

الشبهة الخامسة: ما يقوم به الكفار من أعمال البرّ:

لقد أشارت النصوص الدينية الكثيرة إلى أن مصير الكافر - الأعم من

ص: 324


1- عبد الله جوادي آملي، تفسير تسنيم، ج 10، ص 617.
2- انظر: محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 72، ص 259
3- العلامة محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 2، ص 180.

المنكر لوجود اللّه ، والمنافق، وكذلك المنكر لنبوّة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم - هو الخلود في جهنم، ولن يدخل الجنة أبداً. وهنا ترد الشبهة القائلة: إنّ بعض الكفار قاموا بكثير من أعمال البرّ والخير فى الدنيا، بل إن بعضهم قدّموا كثيراً من الاختراعات التي أسهمت في خلق السعادة للملايين من البشر، وإن الحضارات الراهنة والتقدّم الحاصل في العلوم التجريبية مدين لاختراعات العلماء الملحدين واكتشافاتهم من أمثال : توماس أديسون (مخترع الكهرباء)، وباستور (مكتشف المكروب)، فإذا كان الفرض يقوم على دخول هؤلاء إلى جهنم رغم الإنجازات التي قدموها للبشرية، فإن ذلك سيعني عدم مكافأتهم على جهودهم، وهذا لا ينسجم مع العدل الإلهي!

مناقشة وتحليل:

1 - توقف قبول الأعمال على الحسن الفاعلي:

إن كل فعل يقبل الاتصاف بالحسن والجمال من زاويتين ورؤيتين؛ أحدهما نفس الفعل من قبيل: الحنو على اليتيم ومساعدته والإحسان إليه، أو بناء ميتم أو مدرسة أو جسر والأخرى: أن تكون نية الفاعل خالصة وحسنة أيضاً، من باب المثال: أن يكون قصد الفاعل في قيامه بالأمور المتقدّمة هو خدمة الناس من دون طلب الشهرة أو الرياء وما إلى ذلك من النوايا السيئة. ويصطلح على الأمور في الحالة الأولى ب- «الحُسن الفعلي»، وعلى أمور في الحالة الثانية ب- «الحُسن الفاعلي».

يكفي في الإطار التكويني (اتصاف الفعل الخارجي بالحُسن) تحقق الحُسن الفعلي، أمّا فيما يتعلق باتصاف الفاعل بالحُسن، وبتبع ذلك مدحه والثناء عليه ومكافأته، فإنه فضلاً عن ذلك يحتاج إلى شرط ثان، وهو النيّة

ص: 325

الصالحة. فعلى سبيل المثال إذا كانت نيّة الشخص من بناء مدرسة هو استغلال الطلاب، فإن الناس في مثل هذه الحال لن يكتفوا بعدم مدحه فحسب، وإنما سيوبخونه ويعملون على ذمّه ويشجبون فعله.

وهذا المبنى جار في تحليل أعمال الكافر أيضاً والمسألة الهامّة والجوهرية في البين لا تكمن في الحُسن الفعلي، وإنما في تحقق الحسن الفاعلي فيما يقوم به الكافر من الأعمال. فإن تمكن الكافر المنكر لوجود اللّه في فعله للخير - علاوة على حُسن الفعل - من إخلاص النيّة؛ كأن تكون خالصة لخدمة الناس والمحرومين ،والمحتاجين فإن مثل هذا العمل حيث يستوعب الحُسن الفعلي والفاعلي، سيعدّ من الخير الذي يستحق فاعله المدح والثناء والمكافأة؛ ذلك لشمول إطلاقات وعود الله القائمة على مجازاة كل عمل يصدر عن الإنسان من خير أو شر؛ إذ يقول تعالى:«فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه»(1)، وقوله تعالى:«إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ»(2).

وبعد أن أشار الأستاذ الشهيد مرتضى المطهري إلى هذه الآيات عمد - من خلال التساؤل القائل: هل يكفى فعل الخير بنية خالصة من دون الإيمان باللّه والمعاد فيما يتعلق بالحسن الفاعلى أم لا؟ - إلى التذكير بالفرق بين هذين الأمرين، قائلاً:

«في الوقت نفسه نعتقد بجد أنه كلما صدر عمل لغاية الإحسان وخدمة الناس، لن يكون في مرتبة العمل الصادر بدافع الأنا فقط؛ إذ إنّ اللّه - بطبيعة

ص: 326


1- الزلزلة: 7 - 8
2- التوبة: 120

الحال - سوف لا يضيع أجر مثل هؤلاء الأشخاص .. فقد ورد في كثير من الروايات الموجودة في مصادرنا أن بعض المشركين من أمثال (حاتم الطائي) لن ينالهم العذاب رغم شركهم، وذلك بسبب ما قاموا به من أعمال الخير في الحياة الدنيا، أو أنه سيخفف عنهم العذاب»(1).

وبعد أن استعرض سماحته طائفة من الروايات في إثبات فرضيته، أشار إلى مسألة في غاية الدقّة، وهى أن نور المعرفة الإلهية موجود في ضمائر هؤلاء الأشخاص.

«يجب القول إن عمق ضمائر هؤلاء الأشخاص يحتوي على نور من معرفة اللّه، وإذا فرض منهم الإنكار فهو مجرّد لقلقة لسان، وأما عمق ضميرهم فينطق بالإقرار إن إنكارهم يتعلق في واقع الأمر بأمر موهوم يتصورونه هو اللّه، أو إنكار موهوم آخر تصوروه بديلاً عن العودة إلى اللّه والقيامة، وليس إنكاراً حقيقياً للمبدأ والمعاد .. إن التعلق بالخير والعدل والإحسان بما هو خير وعدل ،وإحسان من دون أيّ شائبة أخرى لدليل على التعلق والمحبّة لذات الجميل على الإطلاق. ومن هنا يبعد أن يحشر هؤلاء في زمرة أهل الكفر على المستوى الحقيقي والعملي، وإن تمّ اعتبارهم من المنكرين على المستوى القولي، والله أعلم»(2).

وعليه فإن أعمال الخير التي تصدر عن الكافر لا تضيع عند اللّه، وإنما هي محفوظة عنده، بيد أن المسألة الدقيقة تكمن فى إمكانية تحقق الحسن

ص: 327


1- مرتضى المطهري، مجموعه آثار الأعمال الكاملة)، ج 1، ص 307.
2- المصدر أعلاه، ص 309

الفاعلى خاصة من الكافر المنكر لوجود اللّه والملحد بمعنى المعاند الذي يؤدي بنا إلى البحث الصغروي، إلا أن إمكان تحققه من الكافر المنكر لنبوة النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم رغم اعتقاده بوجود اللّه كما هو الشأن بالنسبة إلى أتباع الديانات

الأخرى، يكون أكثر. قال الأستاذ الشهيد مرتضى المطهري في هذا الشأن:

«إنّ أعمال الخير الصادرة عن الأفراد الذين لا يؤمنون باللّه والقيامة، والذين يقولون بوجود شريك اللّه أحياناً، تستوجب تخفيف العذاب عنهم، وربما رفع العذاب أحياناً ... وأما الذين يؤمنون باللّه والآخرة، وتصدر عنهم الأعمال بقصد التقرّب إلى اللّه، مع إخلاص النيّة، فإن أعمالهم ستكون مقبولة عند اللّه، ويستحقون عليها المكافأة والجنة سواء أكانوا من المسلمين أم من غيرهم»(1).

وسيأتي مزيد من التوضيح حول تعريف الكافر وآراء مختلف العلماء والمفكرين في هذا الشأن في الصفحات القادمة إن شاء اللّه.

2 - الموازنة بين أعمال الخير والشرّ

لو قام الكافر - الأعم من الملحد والمشرك والمرتد - ببعض أعمال البر وأفعال الخير من قبيل بناء مدرسة أو مشفى أو قدّم معونة للمحتاجين، أو هبّ للدفاع عن المظلومين ووقف في وجه الظالمين عن فطرة ونزعة وجدانية صادقة، كان ذلك صنيعاً حسناً منه، واستحق عليه تبعاً لذلك المدح والمكافأة. ولو ذهبنا إلى القول باعتبارية الجزاء، فإن العقل والعقلاء يمتدحون فاعل هذه الأمور، ويرونه مستحقاً للمكافأة والتكريم وعلى هذا الأساس لا يمكن لأيّ ذنب - حتى لو كان مثل الكفر والارتداد - أن يزيل استحقاق المدح والمكافأة

ص: 328


1- مرتضى المطهري، مجموعه آثار (الأعمال الكاملة)، 1، ص 343

على فعل الخير؛ وذلك لأن هذا الحكم (استحقاق المدح والثواب) دائر مدار تحققه الابتدائي، فلو ترتّب عنوان استحقاق الثواب والمكافأة على فعل، لم يعد بالإمكان سلبه وإزالته.

بید أنّ المسألة الدقيقة تقول : لمّا كان الكافر المقصّر إنما يرتكب بتمرّده على الأوامر الإلهية أكبر أنواع الذنوب، فإن أعمال الخير التي يقوم بها في الوقت نفسه، مهما كانت تبدو كثيرة على المستوى الكمّي، إلا أنها بالمقارنة إلى ذلك الذنب العظيم تنحدر إلى مستوى الصفر واللاشيء. من هنا فإن أعمال البرّ التي يقوم بها لا تستطيع أن تنجيه من العذاب. ولكنه على الرغم من ذلك حيث صدرت عنه بعض أفعال الخير وأعمال البرّ فإن العرف والعقلاء يرونه مستحقاً للمدح والثواب في حدود ما قام به من البرّ، مضافاً إلى أن اللّه سبحانه وتعالى قد تعهّد بأنه لن يظلم أحداً وأنه لا يضيع أجر المحسنين، وعليه فإن الملاحظ في الحكم على ما يقوم به المرء من أعمال الخير وما يقترفه من الذنوب هو المقارنة والموازنة بين مجموع هذه الأعمال الصالحة والطالحة ووضع كل منهما في كفة ،ميزان كيما يُذمّ أو يُمدح على أساس من رجحان إحدى الكفتين.

3- نجاة الكافر القاصر :

إن المعادلة والمقارنة بين الأعمال إنما تخصّ الكافر المقصّر أو المنكر ،المعاند وأما حكم أعمال الكافر القاصر فيختلف؛ إذ حيث لا يوجد تقصير ولا عناد بالنسبة إلى الكافر القاصر، تكون هناك أرضية خصبة للفطرة والوجدان الطاهر ، ولذلك تكون بذرة أعمال الخير فيه أكثر، ومن جهة أخرى حيث لا وجود لأسس جوهرية لتلويث النفس بالذنوب - أي العناد والتمرّد

ص: 329

على اللّه - فإن عملية المقارنة والترجيح بين صالح الأعمال وطالحها ستميل لصالح أعمال البرّ، وبذلك سوف ينجو الكافر، بل ويكون مستحقاً للمدح والثواب.

وترتبط هذه المسألة بمبحث التعددية الدينية، فحتى على القول بانحصار الحق في دين ،واحد ورفض القول بالتعددية الدينية، لا ينحصر طريق نجاة الكافر القاصر ودخوله إلى الجنة باعتناق الإسلام فقط، بل إذا كان جاهلاً بأحقية الإسلام، فإن أعمال البرّ من قبل هذا الشخص وابتعاده عن الموبقات، تجعله مؤهلاً لدخول الجنة. وسيأتي المزيد من التوضيح من خلال تقرير بعض

الآراء في الصفحات القادمة إن شاء اللّه.

4 - البيان التكويني لأعمال الكافر :

لو اعتقدنا بتكوينية العذاب، مع ذلك لا يمكن إنكار تأثير ما ذكر من أعمال البر؛ إذ بعد التسليم بالخيرية الفعلية، فإن التأثير الإيجابي للقيام بها في نفس الفاعل سيكون تكوينياً وتلقائياً. ولكن في هذه النظرية يطرح هذا السؤال هل ارتكاب الذنوب الكبيرة من قبيل الكفر أو الارتداد من العظمة والتأثير بحيث يمكنه أن يقضي على جميع الآثار النورانية لأعمال الخير التي يقوم بها الكافر والكامنة في صقع نفسه، فيجري أصل الإحباط أيضاً؟

يبدو أن حقيقة هذا الجواب لا تنسجم مع العقل، بيد أن العقل يرى أن الإجابة عنه لا تخرج من إحدى حالتين:

أ - غلبة معصية الكفر على جميع آثار وبركات أعمال الخير: وفي هذه الصورة لا ترد شبهة على العدل والحكمة الإلهية؛ لأن هذا النوع من البطلان والإحباط قد حصل من قبل الكافر نفسه على نحو تكوينى.

ص: 330

ب - عدم الغلبة وفي هذه الصورة مع وجود الكفر الذي يبطل أكثر أعمال البرّ والخير، إلا أن بعض أعمال الخير تبقى محفوظة.

إن لفرضية بقاء بعض أعمال الخير الصادرة عن الكافر نتيجة تكوينية، وإن تقابل وتعارض المقدار الباقي منها مع الذنوب يؤدي إلى زوال مقدار من الذنوب بحسب مقادير أعمال البر ، وبذلك يتمّ التخفيف من عذاب الكافر.

وفي هذه الفرضية تكون النتائج تابعة للعلاقة التكوينية بين المعصية والعذاب الأمر الذي يؤدي إلى تخفيف العذاب لمصلحة الكافر، ولا ترد أيّ شبهة على اللّه سبحانه وتعالى.

حاصل القول إن آثار أعمال البرّ والخير الصادرة عن الكافر إذا كانت تتصف بالحُسن ،الفاعلي، لا تزول وستظهر نتائجها في إطار رفع العذاب أو تخفيفه أو إعطاء الثواب للفاعل، وفي هذا عين العدالة الإلهية.

الشبهة السادسة: عبادات الكافر:

إن ذات الشبهة المطروحة بشأن أعمال البرّ والخير الصادرة عن الكافر، تطرح نفسها بشأن عبادات الكافر أيضاً، بمعنى أن بعض الكفار قد عبدوا اللّه لسنوات طويلة من أعمارهم، فكيف يكون حكمهم وثوابهم؟

مناقشة وتحليل:

یمکن تقسیم أعمال من ينكر وجود اللّه إلى قسمين، وهما: العبادات وأعمال البرّ التي تصدر عنه بحكم فطرته، ويمكن بيان كلّ منهما طبقاً لمبنيين في تبرير العذاب الأخروي (أي المبنى الاعتباري والتكويني). وفي البداية سنتناول

ص: 331

بيان العبادات طبقاً لاعتبارية العذاب:

يمكن إطلاق وبحث عنوان الكافر على الأقسام الثلاثة الآتية:

1 - الكافر: المنكر لأصل وجود اللّه (الملحد)، والكافر لا يصدر عنه أيّ عمل عبادي، فلا تصل النوبة إلى الحكم ببطلانه.

2 - المشرك: الذي يعتقد بأصل وجود اللّه، ولكنه يرى وجوده في أكثر من إله واحد ولمّا كان المشركون يعتقدون بأن إدارة الكون تتمّ من قبل العديد من الآلهة فإنهم يعبدون آلهة كثيرة ويطلبون حاجاتهم منهم، وعلى هذا الأساس فإن عباداتهم لا تنشأ من أصول صحيحة وصائبة كي يتمّ إبطالها والبحث في مرحلة لاحقة عن بطلانها .وإحباطها وعلى المشركين أن يأخذوا أجرهم ممّن يعبدون.

3 - المرتد: والبحث بشأن المرتد يختلف عن قسيميه السابقين؛ إذ أنه قام ببعض العبادات من قبيل: الصلاة والصوم والحج قربة إلى اللّه تعالى، ثم ندم على ذلك وخرج عن الإسلام متخذاً طريق الكفر والإلحاد. وعليه فإن أعماله السابقة تكون مشمولة لقانون الإحباط والبطلان؛ وذلك لأن المرتد يرى أن ما قام به من العبادات عندما كان مسلماً لا يعدو أن يكون مجرد أمور جوفاء خالية من أي مضمون أو معنى ويعيش حالة من الندم على قيامه بها، ويحكم على بطلانها بنفسه، وبذلك يكون هو من يحكم بإحباطها وليس اللّه.

4 - أهل الكتاب: إذا التزم أتباع الأديان السماوية بتعاليم كتبهم وما جاء فيها من الأحكام والعبادات، وكانوا جاهلين بأحقية الإسلام، أمكن لهم أن يقصدوا بأعمالهم التقرّب من اللّه، وبهذه النية يمكن لعبادتهم أن تتصف بالعبادة الحقيقية لله، ويستحقون عليها الجنة والثواب.

ص: 332

إنّ الذين يؤمنون باللّه والآخرة، ويقومون بالأعمال بقصد التقرّب من اللّه بنية خالصة، فإن أعمالهم ستكون مقبولة عند اللّه ، ويستحقون عليها الجنة والثواب، سواء أكانوا مسلمين أو غير مسلمين...(1) ولبيان هذه الحقيقة وهي إمكان العثور على أفراد يحملون روح التسليم - وإن لم يكونوا مسلمين في الهوية - يمكن لنا التمثيل بشخصية الفيلسوف الفرنسي ديكارت فإن من كان على شاكلة ديكارت - طبقاً لكلماته وآرائه - لا يمكن إطلاق مفهوم الكافر عليهم؛ لأنهم غير معاندين ولا يتظاهرون بالكفر، ولا يسعون إلى طمس الحقائق. إن ماهية الكفر ليست شيئاً غير العناد والميل إلى إخفاء الحقيقة؛ ويمكن القول: إنّ هؤلاء «مسلمون بالفطرة»(2).

5 - البيان التكويني لبطلان عبادات الكفار: كما يمكن بيان الإحباط فيما يتعلّق بالصور الثلاث المتقدمة (الكفر والشرك والارتداد) طبقاً لمبنى التأثير التكويني للعمل في نفس الإنسان أيضاً.

ففي فرضية الكفر والشرك حيث لم تقع العبادة على وجهها الصحيح والحقيقي، لن يكون هناك تأثير إيجابي ونوراني في صقع النفس.

وأما في فرضية الارتداد، فإن الأعمال العبادية التي جاء بها المرتد مدّة إسلامه تترك تأثيرها الإيجابي والنوراني في صقع نفسه، إلا أن نفس الارتداد يترك بدوره تأثيراً جذرياً في خلق الظلمات في هذه النفس، الأمر الذي يقضي على تلك النورانية السابقة للنفس، بحيث يحبط كل عمل برّ جاء به قبل الردّة؛

ص: 333


1- مرتضى المطهري، مجموعه آثار الأعمال الكاملة)، ج 1، ص 341.
2- انظر: المصدر أعلاه، ص 294

لأن المرتد نفسه يصرّح برفضه لعباداته السابقة، ويراها جوفاء وفارغة وفاقدة للقيمة ومثل هذه النظرة إلى الأعمال ستترك تأثيراً تكوينياً يتمثل ببطلانها، وهذا هو المعنى الدقيق للإحباط.

إلا أن الدليل على صحّة عبادات أهل الكتاب، يعود إلى وجود الفطرة الطاهرة والمؤمنة بوجود اللّه بين أهل الكتاب حيث تحصل النفس على نورها من خلال انعقاد النية الخالصة للتقرب من اللّه.

الشبهة السابعة: عذاب الكافر الجاهل :

ورد الوعيد في النصوص الدينية للكفار بالعذاب وقد استخدمت مفردة «الكفر» و«الكافر» في هذه النصوص بشكل مطلق وعام، بحيث يشمل جميع أقسام الكفر. وعلاوة على ذلك فقد نسب موضوع «العقاب الأخروي» في بعض الآيات إلى مطلق عنوان «الكافر» من دون أخذ قيد «العناد»؛ وعلى هذا الأساس يُستنتج من إطلاقات وعمومات الآيات والروايات شمول «العذاب» لجميع أقسام الكافر(1).

مناقشة وتحليل:

فيما يتعلق بدلالة الروايات على المدعى يمكن الإشارة إلى الشبهات الآتية مع بيان نقدها وتحليلها:

ص: 334


1- انظر: الخواجة نصير الدين الطوسي، نقد المحصل، ص 401 القاضي عضد الدين الإيجي شرح المواقف، ج 8، ص 307؛ سعد الدين التفتازاني شرح المقاصد، ج 5، ص131 سديد الدين محمود الحمصي الرازي، المنقذ من التقلید ج 2، ص 161.

1 - تقييد الكافر بالمتمكن

يجب القول في الجواب: إن الروايات العامة والمطلقة، يتمّ تقييدها

بالروايات الخاصّة والمقيّدة، وذلك بأن يكون المراد من الروايات - التي أطلقت لفظ الكافر على الشاك والجاهل والغافل - هو الكافر القادر على انتخاب الطريق الموصل إلى الإيمان إلا أنه يتقاعس عن العمل بالتكليف وإخراج حالة الشك والغفلة أو الجهل. وبعد أن قال الأستاذ السبحاني بعدم

دخول الجاهل القاصر وغير القادر والمتمكن ضمن عنوان الكافر في المصطلح القرآني، قال بشأن الروايات الدالة على كفر الشاك والجاهل القاصر :

«إن هذه الروايات ناظرة إلى المتمكن فإن الشك والجحد إذا استمرا يكون آية التسامح في التحقيق والتقصير في طلب الحقيقة»(1).

المسألة الثانية هي تفسير الإمام الخميني، حيث فرّق بين الكفر الواقعي والحكم بالكفر، (التكفير) بمعنى أنه يذهب إلى القول بأن الروايات المطلقة في مقام البيان الحقيقي لكفر الكفار - الأعم من الشاك والجاهل والجاحد - أما - الروايات التي تمّ فيها تقييد الكفر بالجحود، فإنها ترتبط بمسألة تكفيرهم في مقام الإثبات ،والظاهر وإن الكافر الجاهل أو الشاك ما دام لم يبلغ حدّ الإنكار ،والجحود، فهو وإن كان كافراً عند اللّه ، إلا أن تكفيره منوط بجحوده، وإليك نصّ عبارته:

«ما في بعض الروايات مما يوهم خلاف ذلك لا بد من توجيهه، ولعل المراد أنه لا يحكم بكفره إلا مع الجحود ومن الممكن أن يكون (يكفر) من

ص: 335


1- جعفر سبحاني، كتاب الإيمان والكفر، ص 98.

التفعيل مبنياً على المفعول، بل هو مقتضى الجمع بين صدرها وذيلها، ومقتضى الجمع بينها وبين غيرها مما حكم فيه بكفر الشاك»(1).

المسألة الثالثة في تفسير الروايات المطلقة هی أن الشخص الشاك

والجاهل من حيث الأحكام الفقهية من قبيل: الطهارة والإرث وحلية الذبيحة هو حكم الكافر، أمّا من حيث العذاب الإلهي، بمعنى الكفر الحقيقي فإن الروايات ليست ناظرة إلى هذه النقطة، وللحصول على حكم ذلك لا بدّ من الرجوع إلى أدلة أخرى، وفي الصفحات القادمة سوف نشير إلى الدليل العقلي على ذلك بالتفصيل إن شاء اللّه تعالى.

2 - تقييد موضوع العذاب بالكافر المقصّر والمعاند

إن الإجابة عن هذا الإشكال القائل بأن موضوع العذاب هو مطلق الكافر يتضح من الإجابة السابقة؛ إذ يمكن القول إن هذه الآيات والروايات ،مطلقة ويمكن تقييدها وتخصيصها بالكافر المعاند والمقصر على ما ورد في الآيات الأخرى من قبيل قوله تعالى:«وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ»(2).

وبشكل عام فإن الآيات السابقة يتم تقييدها بهذه الآيات؛ ذلك لأن قيد (وكذبوا ) إما هو قيد تأكيدي ل_ (كفروا)، أو قيد حقيقي وتأسيسي، وعلى كلتا الحالتين يتوقف العذاب في جهنم للكافر بشرط التكذيب والعناد.

ص: 336


1- السيد روح الله الموسوي الخميني كتاب الطهارة، ج 3، ص 314
2- البقرة : 39. وانظر أيضاً التغابن: 10؛ المائدة: 86؛ الحديد: 19

عدم عذاب الكافر القاصر :

ذهب الكثير من العلماء من أمثال المحقق الطوسي(1)، والعلامة المجلسي(2)، وصدر المتألهين(3)، والفيض الكاشاني(4)، والأستاذ السبحاني(5) ،وآية الله الخوئي (6)والعلامة الشعرانى(7)، إلى القول بنجاة وعدم عذاب الكافر الجاهل القاصر.

قال العلامة محمد حسين الطباطبائي قدِّس سرُّه من بعد التمسّك بقوله تعالى «و لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا»(8):

«فالأمر المغفول عنه ليس في وسع الإنسان... وإذا كان جهله غير مستند إلى تقصيره فيه أو في شيء من مقدماته بل إلى عوامل خارجة عن اختياره أو جبت له الجهل أو الغفلة أو ترك العمل لم يستند الترك إلى اختياره ولم يعد فاعلاً للمعصية متعمداً في المخالفة، مستكبراً عن الحق جاحداً له، فله ما كسب و عليه ما اكتسب و إذا لم يكسب فلا له و لا عليه»(9).

أما الشهيد الأستاذ مرتضى المطهري، فقد تعرّض في مختلف كتبه إلى

ص: 337


1- انظر: الخواجة نصير الدين الطوسي، نقد المحصل، ص 401.
2- انظر : يوسف البحراني، مقدّمة الحدائق الناضرة، ص 86
3- انظر : صدر المتألهين تفسير القرآن الكريم، تصحيح محمد خواجوي، ج 3، ص 74.
4- انظر : الفيض الكاشاني، الوافي في شرح أصول الكافي، ج 4، ص 99.
5- انظر: جعفر سبحاني، كتاب الإيمان والكفر، ص 99.
6- انظر: السيد أبو القاسم الخوئي، التنقيح كتاب الطهارة)، ج 2، ص 58.
7- انظر أبو الحسن الشعراني شرح كشف المراد، ص 581.
8- البقرة: 286.
9- السيد محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 5، ص 52؛ وج 3، ص 120.

موضوع الكفر، وفرّق بين الكفر الحقيقي والكفر الظاهري (الفقهي)، مؤكّداً على الفرق بين «الكافر الجاهل القاصر» وبين «الكافر المعاند» قائلاً:

«إن الذي يحظى بالقيمة الواقعية هو الإسلام الحقيقي، وذلك بأن يكون الفرد مستسلماً أمام الحقيقة من صميم قلبه، وأن يفتح قلبه للحقيقة. بأن يلتزم بالحق ويعمل به حيثما وجده. فإذا كان الفرد متصفاً بالتسليم، ولم يتمكن من إدراك حقيقة الإسلام لأيّ سبب كان، ولم يكن القصور في ذلك منه، فإن اللّه لن يعذبه أبداً، وسيكون من الناجين من نار جهنم»(1).

يذهب المفكر الشهيد مرتضى المطهري في تعريف «الكفر» إلى القول بالعناد والتعمّد في إخفاء الحقيقة، ومن هنا فإنه يذهب إلى الاعتقاد بأن أمثال ديكارت من مشاهير العلماء من المسيحيين ليسوا كفاراً، بل هم من «المسلمين بالفطرة» أيضاً:

«لا يمكن إطلاق مفهوم الكافر على هذا الصنف من الأشخاص؛ لأنهم غير معاندين، ولا يتظاهرون بالكفر ، ولا يسعون إلى طمس الحقائق. إن ماهية الكفر ليست شيئاً غير العناد والميل إلى إخفاء الحقيقة، ويمكن القول إن هؤلاء «مسلمون بالفطرة»، وعلى الرغم من عدم إمكان إطلاق مصطلح المسلم على هؤلاء، ولا يمكن إطلاق مصطلح الكافر عليهم أيضاً؛ لأن التقابل بين المسلم والكافر، ليس من قبيل تقابل الإيجاب والسلب أو العدم والملكة بل هو من قبيل تقابل الضدين»(2).

ص: 338


1- مرتضى المطهري، مجموعه آثار الأعمال الكاملة)، ج 1، ص 293
2- المصدر أعلاه، ص 294

وفيما يتعلّق بالمسيحيين يعتقد سماحته أن كثيراً منهم مؤمنين ومن أهل التقوى، ولأنّه لا تقصير من قبلهم، فإنهم يعدّون من أهل الجنة :

«لو ألقيتم نظرة على هذه المسيحية المحرّفة، وذهبتم إلى القرى والمدن، هل سيمكن لكم اتهام كل قسّ بالسوء والفساد؟ كلا أبداً، بل أستطيع التأكيد بأنّ 80٪ من هؤلاء القساوسة هم من المؤمنين المخلصين ، وقد عملوا على هداية الكثير من الناس - باسم السيد المسيح والسيدة مريم العذراء - وأخذوا بأيديهم إلى انتهاج سبيل الصدق والطهر والتقوى، وليس لديهم أيّ قصور ، وعليه فإن هؤلاء يدخلون الجنة ، وإن قساوستهم يدخلون الجنة أيضاً »(1).

وقال سماحته في موضع آخر:

«إن الفطرة الإنسانية ثابتة في كل مكان حتى في الاتحاد السوفيتي [الذي يجاهر بالإلحاد]؛ فإنك إذا تجاوزت العشرة ملايين من أعضاء الحزب الشيوعي الذي يمكن اعتبار 50٪ منهم من المغفلين يبقى هناك مئة وتسعون مليون نسمة من الشعب السوفيتي مولودون على الفطرة، بمعنى أنهم من المسلمين بالفطرة(2).

وقال الأستاذ محمد تقى جعفري:

«ينقسم الذين لا يعتنقون أيّ دين إلى قسمين، فمنهم من يُذعن بأحقية الدين وهو على يقين من ذلك، ولكنه مع ذلك يتمرد على أوامره وأحكامه،

ص: 339


1- المصدر أعلاه، ج 3، ص 439.
2- المصدر أعلاه، ص 427

وعليه يكون لا محالة آثماً، ومنهم من لم يذعن بذلك، وعدم الإذعان هذا لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون مصحوباً بتجاهل مشاعره من دون تحقيق؛ فيكون آثماً، وإما أن يهتم بدراسة الدين ويجدّ في ذلك من دون أن يتوصل إلى الحقيقة، فلن يكون آثماً؛ لأن اللّه سبحانه وتعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها (1).وقال بشأن المعتنقين للدين المسيحي: «لا شك في أن عامة المسيحيين يدركون مفهوم اللّه سبحانه ويمارسون بعض الأعمال التي يريدون بها التقرّب إلى اللّه، ويحصلون على قناعة روحية بذلك، فلا يصح رميهم بالشرك»(2).

وقال سماحته بشأن توحيدية الأفكار والآراء التي يطرحها المفكرون الغربيون: «لقد اطلعنا على آراء المفكرين في حقل المسائل الفلسفية والدينية - وخاصة في الفترة التي أعقبت عصر النهضة - فوجدنا الأغلبية الساحقة منهم ينتهجون «التوحيد»، وأما التثليث فهم بين منكر له أو ساكت عنه أو قائل بأنه يتجاوز حدود الاستيعاب والإدراك»(3).

3 - أدلة القول بعدم عذاب الكافر الجاهل:

ما تقدم كان نقداً لأدلة القائلين بعذاب مطلق الكافر، وفيما يلي نستعرّض باختصار أدلة الرأي المختار (عدم عذاب الكافر الجاهل)، ونحيل تفصيله إلى موضع آخر(4).

ص: 340


1- محمد تقي جعفري برگزيده افکار راسل، ص 92.
2- محمد تقي جعفري، شرح نهج البلاغة، ج 2، ص 52
3- المصدر أعلاه.
4- انظر: محمد حسن قدردان قراملكي كلام فلسفي فصل الكافر المسلم والمسلم الكافر؛ فصلنامه كتاب نقد، العدد 3 مقال الكافر المسلم والمسلم الكافر

1 / 3 - القرآن الكريم :

إن الآيات القرآنية الكثيرة التي تبيّن شرائط العقاب وكل عذاب

أخروي، تؤكد على شرطين بشكل أكثر من الشرائط الأخرى، وهما: «العقاب بعد البيان» و«العقاب على ترك التكاليف المقدورة، وفيما يأتي نستعرّض جانباً من هذه الآيات:

3/1/1 - قبح العقاب بلا بيان

- «وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً»(1).

إذ يُصرّح اللّه سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة بأن العذاب منوط بإرسال الرسل والأنبياء وإقامة الحجج ويؤكد على أن كل عقوبة لا تكون إلا بعد استكمال شروط البيان وإن هذه الآية في الحقيقة إنما تشير إلى أصل عقلي مركوز في ذهن جميع الناس والذي تعبّر عنه القاعدة المعروفة ب-: «قبح العقاب بلا بیان»

1/2 / 3 - قبح عقاب العاجز :

- «لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا» (2 ) .

وتقرير الاستدلال بهذه الآية واضح؛ إذ إنّ العلم والمعرفة بالتكليف الإلهي هو الشرط الأول في تحقق «الوسع»، وحيث أن «الكافر الجاهل القاصر والغافل» لا علم له بالتكليف ومن هنا لا يكون مشمولاً للعذاب. ومن بين العلماء المعاصرين فقد استدل العلامة الطباطبائي بهذه الآية:

(1) الإسراء: 15 . وانظر أيضاً غافر : 34 الملك: 8.

(2) البقرة: 286

ص: 341

«إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُستَضعَفِينَ في الأَرْضِ قَالُوا أَ لَمْ تَكُنْ أَرْض الله وَاسِعَةٌ فَتَهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَ سَاءَتْ مَصِيراً * إِلا الْمُسْتَضعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَ الْوِلْدَانِ لا يَستَطِيعُونَ حِيلَةً وَ لا يَهْتَدُونَ سبيلاً»(1).

لقد استثنت هذه الآية بصريح عبارتها المستضعفين من الناس الذين لم يؤمنوا بدين من عذاب جهنم، ولكن من هو «المستضعف»؟ لحسن الحظ فإن الآية قد بيّنت المراد من المستضعفين وهم عامة الناس الذين يصارعون مختلف أنواع المشاكل ولم يتمكنوا من بلوغ الحقيقة التي تخولهم اختيار الصراط المستقيم. وهناك مزيد من التوضيح بشأن مفهوم «المستضعف» في الروايات التي نشير لها على النحو الآتى:

2 / 3 - الروايات الشريفة:

فيما يتعلق بموقف الروايات من الكافر وعذابه نلاحظ الأمرين الآتيين:

1 / 2 / 3 - تفسير الكفر بالجحود : المسألة الأولى، ماهية حقيقة الكفر والكافر . فقد ورد في بعض الروايات المأثورة عن الأئمة الأطهار علیهم السلام فى مقام تفسير الكفر وتحليله، بدلاً من تفسيره بمطلق الكفر والجهل بالمقام الربوبي، قيّدته ب_ «الجحود» «والإنكار عن معرفة وعناد»، وعليه يمكن لهذا الأمر أن يشكل دليلاً على الرأي المتقدم ؛ لأن هذا القيد غير متحقق في الكافر الجاهل القاصر، ومع عدم تحققه يكون عذاب مثل هذا الفرد بحاجة إلى دليل أقوى. وفيما يأتي نشير إلى بعض هذه الروايات:

ص: 342


1- النساء: 97 - 98

- روي عن الإمام الباقر علیه السلام أنه قال: «كل شيء يجره الإنكار والجحود فهو الكافر»(1).

- سُئل الإمام الكاظم علیه السلام حول تقدم الكفر والشرك، فقال: «الكفر أقدم وهو الجحود»(2).

ففي هذه الرواية تمّ تفسير الكفر بالجحود أيضاً، ومن هنا لمّا كانت بعض الروايات قد تمّ تفسير الكفر فيها لا بصرف الجهل باللّه، وإنما تمّ تفسيره بالتكذيب والعناد وجحود المقام الربوبي، فسيكون حكم عذاب الجاهل القاصر موضع تأمل.

2/2 / 3 - المستضعفون حلقة ثالثة بين الإيمان والكفر : بغض النظر عن الإشكال المتقدّم، لو سلمنا جدلاً بصدق عنوان الكافر على الجاهل القاصر أيضاً ، يجب القول رغم ذلك: إنّ ملاك العذاب وموضوعه ليس هو مجرّد الكفر، ذلك لأن بعض الروايات رغم تقسيمها الناس في النظرة الابتدائية إلى قسمين: مؤمن وكافر، إلا أن الأئمة الأطهار علیهم السلام - الذين هم منارات المعرفة - لديهم رؤية دقيقة أخرى في هذا الشأن إن أوصياء رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يستلهمون العلم من مشكاة ،القرآن وعليه فإنهم لم يحصروا أصناف الناس في دائرة «الإيمان والكفر» فقط، بل قالوا بوجود قسم ثالث تحت عنوان «المستضعفين» و«أهل الضلال». فإن هذا الصنف من وجهة نظر الروايات وإن كان لا يرقى إلى مستوى السالكين الحقيقيين في طريق الإيمان، إلا أنهم في الوقت نفسه

ص: 343


1- المحدث الكليني أصول الكافي، ترجمة وشرح السيد هاشم رسولي كتاب الإيمان والكفر، ج 4، ح 15، ص 100
2- المصدر أعلاه، ج 2، ص 385؛ محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 69، ص 97.

لا يكونون على قدم المساواة مع الكفار في نار جهنم. بل إن مرتبتهم ما دون المؤمنين، وقد عبر عنها في بعض الروايات ب- «الأعراف». وفيما يأتي نشير إلى بعض هذه الروايات:

- روي عن الإمام الصادق علیه السلام أنه بعد تقسيم الناس إلى مختلف الأقسام قال: «الناس على ستّ فرق يؤولون كلهم إلى ثلاث فرق: (الإيمان) و (الكفر) و (الضلال )»(1).

- وروي عن الإمام الباقر علیه السلام أنه قال في تفسير مفهوم «المستضعف»: «لا يستطيعون حيلة، فيدخلوا في الكفر، ولا يهتدون فيدخلوا في الإيمان، فليس هم من الكفر والإيمان في شيء»(2).

- وفي رواية عن سماعة - وهو من تلاميذ الإمام الصادق علیه السلام- أنه قال في تفسير المستضعف: «هم ليسوا بالمؤمنين ولا الكفار»(3).

الشبهة الثامنة: العذاب الأبدي للكافر:

إن البحث بشأن خلود الكفار فى العذاب كان مثار جدل على طول تاريخ الأديان السماوية بين مؤيد ومخالف. وهنا يمكن الإشارة إلى مفكرين بارزين في العالم المسيحي، وهما: القديس إيرناؤوس(4) (125 - 212م) بوصفه مخالفاً، والقديس أوغسطين(5)(354) - (430م ) بوصفه مؤيداً.

ص: 344


1- المحدث الكليني أصول الكافي، ج 2، ص 381.
2- محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 69، ص 162.
3- المصدر أعلاه، ص 163
4- انظر: جون هيك ، فلسفة الدين، ترجمه إلى الفارسية: بهرام راد ص 105.
5- انظر: المصدر أعلاه، ص 95

لقد تعرّض بحث الخلود في العذاب لهجوم عنيف من قبل الفلاسفة الغربيين من أمثال: ديفد هيوم وبرتراند راسل وجان جاك روسو، وهابز، و موریس ،میترلينغ وشلایر ماخر وجون هيك، وفيما يأتي نشير إلى بعض هذه الانتقادات.

ديفد هيوم

«إن الذي نفهمه هو أن العقوبة يجب أن تتناسب مع حجم المعصية. وفي هذه الصورة لماذا يتمّ تخليد الكائن الضعيف - مثل الإنسان - في العذاب الأبدي بسبب اقترافه لمعصية مؤقتة وآنية ؟ هل يمكن لشخص أن يُبرر غضب الإسكندر المقدوني وعزمه على إبادة شعب بأكمله لمجرّد أن هذا الشعب قد سرق جواده (بوسفالوس) الأثير على قلبه ؟ ... إن تخليد إنسان في العذاب أسوأ بكثير من سقوط ملايين الإمبراطوريات»(1).

شلایر ماخر

لقد قرر جون هيك الانتقاد الذي وجهه شلاير ماخر على نظرية

وغسطين في العدل الإلهي، على النحو الآتي:

«الانتقاد الثالث لمفهوم الخلود في عذاب جهنم، إذ يقال إن المصير جزء من نوع البشر؛ لأن هذا العذاب الذي لا ينتهي أبداً، لا يمكن أن يفضي إلى غاية بناءة»(2).

ص: 345


1- ديفد هیوم شکاکیت در مورد جاودانگی روح شكوك حول خلود الروح)، ص 55
2- جون هيك، فلسفة الدين، ترجمه إلى الفارسية بهرام راد ص 97

وقال جان جاك روسو

«لا تسألوني عما إذا كان الأشرار يخلدون في العذاب أم لا؛ إذ لا علم لي بهذا الشأن، ولست معنياً كثيراً بالبحث في أمر لا ينطوي على فائدة؛ ولا شأن لي بمعرفة مصير الأشرار، ولا رغبة لدي بمعرفة ذلك، ولكنى على كل حال أجد صعوبة في تقبل الحكم عليهم بالعذاب الأبدي»(1).

أما برتراند راسل فقد تعرض إلى نقد نظرية الخلود في العذاب عادّاً إياها نظرية غير مقبولة، ورأى أن الاعتقاد بها لا ينسجم مع الأخلاق ،البشرية وقال في نقد السيد المسيح والكتاب المقدس:

«يجول في خاطري نقص كبير في الشخصية الأخلاقية للسيد المسيح، وهذا النقص يكمن في اعتقاده بجهنم. فأنا على المستوى الشخصى لا أحمل مثل هذا الشعور ولا أستوعب أن يخلد في العذاب أناس يتحلون بالصفات الأخلاقية»(2).

جون هيك

«لو فسّر الجحيم بوصفه عذاباً خالداً، فإن الداعي والمحرّك الكامن وراء هذا التصور، سوف يتعارض بشكل مباشر مع الدافع إلى البحث عن العدل الإلهي. بيد أن هذا لا يثبت وجود أساس لنظرية العقاب والعذاب الأبدي في العهد الجديد(3).

ص: 346


1- جان جاك روسو کتاب ،امیل ترجمه إلى الفارسية: غلام حسين زيرك زاده ص 893.
2- برتراند راسل چرا مسیحی نیستم (لماذا لست مسيحياً؟)، ترجمه إلى الفارسية: س. أ . طاهري، ص 13
3- جون هيك فلسفة ،الدين، ترجمه إلى الفارسية بهرام راد ص 952

وقد تمّ التأكيد في التعاليم الإسلامية على مفهوم خلود الكفار في العذاب، ذلك من خلال صريح الآيات والروايات. فقد ورد التصريح في القرآن حول أبدية العذاب بعبارات من قبيل: (خالدين فيها)، و(يخلد فيه)، و(دار الخلد) و (عذاب الخلد)، و(لا يخفف عنهم العذاب)، و(ما هم بخارجين من النار) وعشرات العبارات الأخرى في هذا الصدد. وسوف نكتفي بذكر نزر يسير من هذه الآيات الكثيرة، ونحيل الآيات الأخرى إلى القارئ الكريم :

- «وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا

خَالِدُونَ»(1).

- «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ»(2).

- «يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ»(3).

إلى ذلك من الآيات التي تحدث فيها اللّه سبحانه وتعالى عن الخلود في العذاب، وعدم الخروج من نار جهنم، وعدم تخفيف العذاب.

إنّ شبهة العذاب الخالد في العالم الإسلامي، تمّ طرحها من قبل العرفاء أكثر من غيرهم(4). ذلك إذ يقال إن تخليد الكافر في العذاب لا ينسجم مع

ص: 347


1- البقرة : 39
2- البقرة : 161 - 162
3- المائدة: 37
4- انظر: محيى الدين ابن عربي، الفتوحات المكية، ج 2، ص 178، وج 4، ص 202؛ صدر المتألهين الحكمة المتعالية في الأسفار الأربعة، ج 9، ص 348.

العدل الإلهي ولا يمكن تبريره عقلاً؛ إذ يجب أن يكون هناك تناسب بين الجريمة والعقاب حتى يتناسب ذلك العدالة. وإن جريمة الكافر مهما كانت عظيمة مع إلا أنها تبقى محدودة ومؤقتة، في حين أن العقوبة المرصودة له أبدية وغير محدّدة.

مناقشة وتحليل:

فيما يتعلق بهذه الشبهة سنكتفى ببيان مسألتين:

1 - تأثير خلود الكفر على النفس:

يذهب القائلون باعتبارية عذاب الآخرة إلى الاعتقاد بأن التناسب بين العمل والجرم يقوم على أساس نوع المعصية ، وحجمها، وليس على أساس المدّة الزمنية، فمثلاً: إن العقوبة على القتل والسرقة والزنا - مما يقترفه المجرم في لحظات قليلة - وإن كانت مؤقتة، إلا أن القصاص أو السجن يكون طويلاً أو مؤبداً، وحتى القوانين الغربية قد أقرّت عقوبة السجن مدى الحياة في جملة

قوانينها الجزائية.

وعلى هذا الأساس لمّا كانت جريمة مثل الكفر - خاصة إذا كان عن علم وعمد وعناد وتمرّد على اللّه سبحانه وتعالى - تعتبر من الجرائم الكبيرة بحيث تمتزج بطبيعة الإنسان الكافر والمعاند فإنها ستجعل منه كائناً خبيثاً بامتياز، وعليه فإن مقرّ مثل هذا الإنسان الخبيث لن يكون سوى الخلود في عذاب الجحيم.

ثم استطرد سماحته قائلاً: لأنّ المعصية تلوّث النفس الإنسانية المجرّدة، وأنّ للنفس وجوداً أبدياً، فإن عذابها سيكون خالداً أيضاً(1).

ص: 348


1- انظر: عبد الله جوادي آملي تفسير موضوعي، ج 5، ص 496 - 498.

ويمكن بيان الخلود في العذاب الأخروي من خلال الرؤية التكوينية للعذاب بشكل أفضل، وذلك على النحو الآتي:

إنّ ارتكاب أىّ ذنب يترك أثراً تكوينياً وظلمة ونكتة سوداء في نفس الإنسان، إلا أن هذه الحالة مؤقتة وعابرة، فإذا قام الفرد بعد ذلك بفعل حسن أمكن لهذا الفعل الحسن أن يزيل أثر تلك الظلمة وفعل المعصية، أمّا إذا تكررت الذنوب وتراكمت فوق بعضها، فإن الأثر التكويني والنفسي للذنب سوف يخرج عن الحالة المؤقتة والعابرة؛ ليغدو حالة ثابتة وراسخة يُعبّر عنها اصطلاحاً ب- «الملكة».

فلو ترسّخت «ملكة الكفر» في نفس الإنسان وتجذّرت، واستمرّ

الإنسان في كفره، ولم يسلك طريق التوبة، فإن الظلمة ستحيط بفطرته التوحيدية، وسيؤدي ذلك إلى حدوث حالة جديدة تتمثل بالصورة «الحيوانية».

ولمّا كانت نفس الإنسان مجرّدة، والكفر قد عجن فيها بوصفه ملكة وليس مجرّد حالة عرضية سيتحدان في صورة جديدة حيوانية، تؤلف النفس مادتها، والكفر صورتها، فإنّ النفس بوصفها «مادة سوف تقترن بملكة الكفر بوصفها «صورة» إلى الأبد، وتتحد بالأثر التكويني المترتب على ذلك، وهو الخلود في العذاب الأبدي(1).

2 - تفسير وتأويل العذاب الأبدي

عمد بعض العرفاء والمعاصرين إلى القول باعتبار الخلود في العذاب

ص: 349


1- لمزيد من التوضيح انظر عبدالله جوادي آملي تفسير تسنیم، ج8، ص397؛ مرتضی مطهري، مجموعه آثار الأعمال الكاملة، ج 1، ص 230.

منافياً لبعض الأسس والقواعد من قبيل الفطرة التوحيدية، والعقل، وسعة رحمة اللّه، من هنا فقد بادروا إلى تبرير ذلك، ونرى على رأس هؤلاء بعض العرفاء.

وقد عمد المخالفون للخلود في العذاب إلى تقرير إنقطاع العذاب من خلال الحالات الآتية:

1 - الخروج من جهنم.

2 - فناء جهنم وأهلها.

3 - منح المعذبين قوة وصبراً يساعدهم على نسيان العذاب.

4 - مزج العذاب بالسعادة.

5 - تبديل العذاب إلى عذوبة وهناء.

6 - الخلود النوعي.

وإن بيان هذه التقريرات يحتاج إلى دراسة مستقلة، وقد قمنا بمعالجتها في موضع آخر(1). وعليه لو التزم شخص بهذا المبنى وهذه الرؤية، لن تبقى هناك من شبهة أخرى.

وقد ذكرنا تفصيل أدلة المنكرين للخلود في العذاب وآراء العرفاء في هذا الشأن، في كتاب آخر(2).

الشبهة التاسعة عقوبة أولاد الكفار

ورد في بعض الروايات أن النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم والأئمة الأطهار علیهم السلام

ص: 350


1- انظر: محمد حسن قدردان قراملكي، لماذا جهنم؟ فصل: الجحيم الأبدي.
2- انظر المصدر أعلاه، الفصل الثالث

عندما كانوا يُسألون عن مصير أولاد الكفار والمشركين في يوم القيامة، كانوا يجيبون بالقول: «وأولاد المشركين يُلحقون بآبائهم»(1).

واستناداً إلى هذه الروايات ذهبت بعض المذاهب والطوائف السنية إلى القول بتعذيب أولاد الكفار في يوم القيامة(2). وهنا تأتي هذه الشبهة القائلة: تعذيب الأطفال الأبرياء في جهنم يتنافى مع العدالة الإلهية.

مناقشة وتحليل:

1 - مخالفة إطلاق آيات وروايات العدالة النافية للظلم :

تقدّم أن ذكرنا في الصفحات السابقة أننا إذا أردنا أن ننسب معلومة إلى الدين، وجب علينا أن نعرضها على مصدرين هامين من المصادر الدينية، وهما: جميع النصوص الدينية فضلاً عن العقل. وعندما نستعرض آيات القرآن الكريم نجدها صريحة وواضحة في بيان أن سبب معاقبة كل فرد وعلّته تعود إلى أعماله وما كسبت يداه دون غيره من قبيل الآيات الآتية:

- «وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى»(3).

- «هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ»(4).

ص: 351


1- انظر: الشيخ الصدوق، توحيد الصدوق، ص 391؛ الشيخ الكليني، أصول الكافي، ج3، ص 248؛ من لا يحضره الفقيه، ج 3، ص 49 محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 5، ص 292 فما بعد.
2- انظر: السيد الشريف الجرجاني، التعريفات ص 105 ؛ القاضي عضد الدين الإيجي، شرح المواقف، ج8، ص 393 - 395؛ محمدباقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 5، ص 295 فما بعد.
3- الأنعام 164
4- النمل: 90

- «إِنَّ اللهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا»(1).

- «إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ»(2).

فدلالة الآية الأولى صريحة في أن اللّه لا يعاقب شخصاً بجريرة غيره. والآية الثانية بقرينة أداة الحصر تقصر ملاك العقوبة على من يقترف المعاصي. والآيتان الأخيرتان تنفيان ظلم الله الناس بشكل واضح ومطلق(3).

واضح أن القول بعقوبة أطفال الكفار لمجرد كونهم مولودين من قبلهم يتعارض مع صريح الآيات التي تقدم ذكرها.

وبالإضافة إلى ما تقدم من الآيات هناك كثير من الروايات التي ورد التصريح فيها بعدم عذاب أطفال الكفار من قبيل الروايات الآتية:

- «ونهى رسول اللّه صلی الله علیه و آله و سلم عن قتل الذرية في بعض الغزوات، فقال: (لا تقتلوا الذرّية). فقال بعضهم أوليسوا أولاد المشركين؟! فقال: أوَليس خياركم أولاد المشركين؟ كل نسمة تولد على الفطرة حتى يعرب عنها لسانها إما شاكراً وإما كفوراً»(4).

- وروي عن أنس مالک عن النبي صلی الله علیه و آله و سلم وقد سُئل عن أطفال المشركين فقال: «هم خدم أهل الجنة»(5).

ص: 352


1- يونس: 44.
2- النساء: 40
3- انظر: سديد الدين الحمصي الرازي المنقذ من التقليد، ج 1، ص 200.
4- مسلم، صحیح مسلم، ج 4 ص 2048؛ أحمد بن حنبل، مسند أحمد . ، ج 3، ص 435
5- محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 8، ص 108.

إن القول بتعذيب أطفال الكفار لا ينسجم مع صريح الآيات والروايات الدالة على وجود الفطرة التوحيدية في جبلة جميع الناس، من قبيل قوله تعالى:

- «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ»(1).

- «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ خَلْقِ الله ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ»(2).

وقد ورد التصريح في بعض الروايات بأن الفطرة التوحيدية والعهد الإلهى موجود لدى أولاد الكفار أيضاً، بيد أنه وبمرور الوقت يخضعون لوساوس الشياطين أو سوء تربية آبائهم لهم، فينتهجون طريق الكفر، من قبيل قول النبي الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم.

-«كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه يهودانه وينصرانه»(3).

-«لما بدل أكثر خلقه عهد الله إليهم فجهلوا حقه واتخذوا الأنداد معه واجتالتهم الشياطين عن معرفته»(4).

2 - مخالفة العقل

بمجرد تصور عذاب يطال الأطفال البالغين يوماً واحداً إلى البالغين سن

ص: 353


1- الأعراف: 172
2- الروم: 30.
3- محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 3، ص 281.
4- المصدر أعلاه، ج 11، ص 60.

التكليف، يصدر العقل وجميع العقلاء حكمهم بقبحه، ولأنّ العدلية (المعتزلة والإمامية) يذهبون إلى الاعتقاد بقاعدة الحُسن والقبح العقلي، وأن اللّه لا يقوم بما ينقض هذه القاعدة، فلا يمكن لدعوى تعذيب أطفال الكفار أن تكون صحيحة بحال من الأحوال.

3- إجماع العدلية على عدم العذاب

جاء في نص الشبهة دعوى أن عذاب أطفال الكفار من التعاليم الدينية المتفق عليها من قبل جميع العلماء أو أكثرهم ولكننا إذا ألقينا نظرة عابرة على مؤلفات هؤلاء العلماء سندرك كذب هذه الدعوى. فإن العدلية - الأعم من المعتزلة والإمامية - إذ يعتقدون بأصل الحُسن والقبح العقليين، يجمعون على تنزيه اللّه سبحانه وتعالى من هذه النسبة لقبحها(1). أما الأشاعرة الذين يذهبون إلى إنكار أصل الحسن والقبح العقلي، فقد قالوا بإمكان صدور جميع الأعمال (الحسنة والقبيحة) عن اللّه ومن بينها عقاب الأطفال(2)، إلا أن أكثرهم يذهب إلى الاعتقاد بأن المشيئة الإلهية لم تتعلق بعقاب الأطفال، وعلى سبيل المثال فإن ابن حزم - من أشهر علماء السنة - قام بإثبات عدم عذاب

ص: 354


1- انظر: السيد المرتضى الشافي (رسائل الشريف المرتضى)، ج 2، ص 192 و 906؛ الخواجة نصير الدين الطوسي، تلخيص المحصل، ص 468 سديد الدين محمود الحمصي الرازي، المنقذ من التقليد، ج 1، ص 199؛ إرشاد الطالبين إلى نهج المسترشدین، ص 411؛ محمد باقر المجلسي، حق اليقين، ص 419 و 510؛ محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج5، ص 296؛ محمد باقر المجلسي، مرآة العقول، ج 11، ص 207؛ القاضي عبدالجبار المعتزلي، شرح الأصول الخمسة، الخمسة، ص 78 و 321
2- لمزيد من التوضيح انظر: جعفر سبحانی کاوشهايي در حسن وقبح عقلي (بحوث في الحسن والقبح العقلي).

أطفال الكفار بالأدلة النقلية والعقلية(1).

نعم هناك قلة قليلة من أهل السنة، مثل: الحشوية والأزارقة والحمزية والخوارج والخلفية والعجاردة، قالوا بعذاب أولاد الكفار (2)، ولكنهم أولاً: غير مطروحين على الساحة العلمية حالياً، وثانياً: نحن في هذا المقال بصدد الدفاع عن العدل الإلهي دون العقائد الباطلة لبعض الفرق التي تدعي الانتماء إلى الإسلام، وهناك شك في أصل صحة هذا الانتماء.

مصير أطفال الكفار :

لمّا كان العقاب في يوم القيامة يقوم على أساس أعمال الناس الأعم من الصالحين والطالحين - ولمّا كان الصغار لا عمل صالح أو طالح لهم، فهنا ينتفي موضوع عقابهم طبقاً للمتبنيات السابق ذكرها، ولكن يبقى السؤال عن مصيرهم قائماً، وفي الجواب عن ذلك هناك اتفاق من قبل العلماء بشأن دخول أطفال المؤمنين إلى الجنة إلا أن الخلاف بينهم بشأن مصير أولاد الكفار، وفيما يأتي نستعرض آراءهم بهذا الصدد:

أ - العذاب الابتدائي: بأن يقوم الله بمعاقبة أولاد المشركين والكفار وتعذيبهم بمجرد ولادتهم من أبوين كافرين، وقد تقدم بطلان هذا الرأي.

ب - دائرة التكليف والابتلاء يدلّ ظاهر بعض الروايات على أن اللّه

ص: 355


1- انظر: ابن حزم الأندلسي، الفصل، ج 2، ص 152 و 380؛ الزمخشري، تفسير الكشاف، ج 4، ص 708
2- انظر: السيد الشريف الجرجاني، التعريفات، ص 45 و 63 و 105؛ أبو الحسن الأشعري، مقالات الإسلاميين، ص 89؛ محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ص 297.

سبحانه وتعالى يختار في يوم القيامة نبيا من بين أطفال الكفار، فيقوم هذا النبي بإيقاد نار لهم ثم يقول: «أنا نبيكم فمن آمن بي فليدخل النار»، فكل من دخلها صارت عليه برداً وسلاماً ودخل الجنة، وكل من امتنع، عُدَّ كافراً متمرداً على أوامر النبي واستحق العذاب وهذا هو القول الذي اختاره المحدثون(1) والعرفاء(2).

ج - الإقامة في الأعراف: ورد في بعض الروايات أن هناك بين الجنة والنار عالم اسمه الأعراف، لا يشتمل على عذاب وجحيم، ولا على نعيم وجنة. وقد تحدثت بعض الروايات عن أن أطفال الكفار سوف يقيمون في عالم الأعراف(3).

د - الدرجات السفلى من الجنة: لمّا كان أولاد الكفار قد ولدوا على الفطرة ،التوحيدية ولم يتمكن آباؤهم من إطفاء هذا النور الإلهي بموتهم، فإنهم سيدخلون الجنة، ولكن لمّا كانوا يفتقرون إلى العمل الصالح، فإنهم سيمكثون في الدرجات الدنيا من الجنة(4).

ص: 356


1- انظر: محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 5، ص 296؛ محمد باقر المجلسي، مرآة العقول، ج 11، ص 207؛ السيد المرتضى الشافي، ص .906 جدير ذكره أنه قال بمجرد عودة أولاد الكفار مؤقتاً، وإنهم بعد عودتهم يعدمون (انظر: السيد المرتضى، رسائل الشريف المرتضى، ج 4، ص 34).
2- انظر ابن عربي فصوص الحكم نهاية الفص العُزيري، ص 137؛ شرح فصوص القيصري، ص 1134؛ الخوارزمي، شرح الفصوص، ج 2، ص 488؛ حسن حسن زاده آملي، محمد الهمم، ص .345
3- نسب العلامة المجلسي هذا القول إلى بعض المتكلمين من الإمامية (انظر: محمد باقر المجلسي، مرآة العقول، ج 11، ص 207.
4- انظر: المصدر أعلاه

ه_- خدم أهل الجنة: تمّ التصريح في بعض الروايات بأن أولاد الكفار سوف يدخلون إلى الجنة بوصفهم خدماً لأهل الجنة. والجدير بالذكر هنا هو أن هذه المنزلة لا تعتبر دون شأنهم؛ وذلك لأن مكانة أهل الجنة من السمو والرفعة بحيث تعد خدمتهم شرفاً للخادم وسبباً لمباهاته بذلك، كما يفتخر خدام الساسة والعلماء في هذه الدنيا على خدمتهم لهذه الشخصيات السياسية والعلمية(1).

والشاهد على هذه الدعوى يتمثل في خدمة الملائكة المقربين لأهل الجنة ومباهاتهم بذلك وعليه يمكن القول: إنّ اللّه سبحانه وتعالى من خلال إعطاء أولاد الكفار هذه المهمة فى الجنة، يكون قد ساوى بينهم وبين الملائكة.

و - التوقف وتفويض أمرهم إلى الله : ورد فى بعض الروايات تحديد مصير أولاد الكفار في يوم القيامة إلى ما يقرّره اللّه بشأنهم:

فقد روي أنه سُئل رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم عن أطفال المشركين؛ فقال: «اللّه أعلم بما كانوا عاملين»(2).

من هنا عمد بعض العلماء بإزاء هذا الاختلاف في الأقوال والآراء إلى عدم اختيار أحدها، وتركوا تحديد مصير أولاد الكفار في يوم القيامة إلى رحمة اللّه (3)، وهناك منهم من صرّح بالتوقف(4).

ص: 357


1- انظر الشريف اللاهيجي، التفسير، ج 4، ص 279.
2- محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 296.
3- انظر: المصدر أعلاه.
4- انظر : القاضي عضد الدين الإيجي، شرح المواقف، ج 8، ص 394؛ سيف الدين الآمدي، أبكار الأفكار، ج 5، ص 78

حصيلة الكلام أن عذاب أولاد الكفار حيث يتعارض مع الأسس العقلية والنقلية فإنه لا يمكن الالتزام به إلا أن تحديد ما سيؤول إليه مصيرهم بدقة يحتاج في حدّ ذاته إلى بحث مستقل ولكن يمكن القول بأن القدر المتيقن من ذلك هو شمول النعم الإلهية لهم.

وعلى القول بتكوينية العذاب والنعيم الأخروي، يمكن القول:

حيث لا وجود للذنوب والأعمال الطالحة بالنسبة إلى الأطفال، فإن أنفسهم لم تتلوّث بأنواع الآثام ،والمعاصي وعليه لن يكون هناك ما يبرّر تعريضهم للعذاب، إلا أن كيفية حصولهم على النعم تعود إلى وجود النفس وقوّتها وكمالها ويمكن لهذه الأرضية التكوينية أن تؤتي أكلها إلى حدِّ ما من خلال شفاعة الشافعين.

ص: 358

المصادر

1 - آشتياني، مهدي (آقا) ميرزا)، أساس التوحيد، تصحيح: السيد جلال الدين الآشتياني، طهران، أمير كبير، 1377 ه- ش .

2 - آشتياني، مهدي (آقا) ميرزا) تعليقة على شرح المنظومة، دانشگاه طهران، 1367 ه- ش .

3 - ابرهيمي ديناني غلام حسين ، قواعد كلي فلسفي، طهران، انجمن حكمت و فلسفة، 1381 ه- ش .

4 - ابن حزم، الفصل بين أهل الأهواء والنحل، بيروت، دار المعرفة 1359ش.

-5 ابن رشد محمد بن أحمد، تفسير ما بعد الطبيعة، طهران، انتشارات حکمت.

6 - ابن رشد، محمد بن أحمد، تهافت التهافت مصر، الطبعة الحجرية، وأيضاً: دار المعارف.

7 - ابن عربي محيي الدين الفتوحات المكية أربع مجلدات، وكذلك طبعة مصر (أربعة عشر مجلداً)، 1405 ه-.

8 - ابن عربي فصوص الحكم تعليقات العفيفي، طهران، انتشارات الزهراء، 1370 ه- ش .

ص: 359

9- اتوکلاین ،بیرغ روان شناسي ،اجتماعي طهران، انتشارات علمي و فرهنگي، 1386 ه- ش .

10- الأحسائي، ابن أبي ،جمهور عوالي ،اللآلئ ،قم، انتشارات سيد الشهداء، 1405 ه- .

11- أرسطو، أخلاق نيكو ماخوس الأخلاق) إلى نيقو ماخوس)، ترجمه إلى الفارسية أبوالقاسم پورحسینی، طهران، دانشگاه طهران 1356 ه-.ش.

12- أرسطو، ميتافيزيك ، ترجمه إلى الفارسية : شرف الدين خراساني ، طهران، حکمت ، 1379 ه- ش .

13- الأسترآبادي، محمد جعفر، البراهين القاطعة، قم، دفتر تبليغات اسلامي.

14 - الأشعري أبو الحسن مقالات الإسلاميين، قیبادین، دار نشر فرانز ،شتاينر 1980م.

15 - افلاطون ، الأعمال الكاملة، الجمهورية، ترجمه إلى الفارسية: محمد حسن لطفي، ج 2 - 4 ، طهران، خوارزمي، 1380 ه- ش .

16 - إفلوطين عند العرب تحقيق وتقديم: عبد الرحمن بدوي، انتشارات بیدار قم.

17 - أمير تيموري، محمد حسن، زمینه زيست شناختي روان شناسي، طهران، دانشگاه علامه طباطبايي، 1376 ه- ش .

18 - الإيجي، القاضي، شرح المواقف، شرح السيد الشريف الجرجاني، قم، انتشارات الشريف الرضي، 1415ه-.

19 - البحراني ،يوسف مقدمة الحدائق الناضرة، قم، انتشارات اسلامی 1363 ه- ش .

ص: 360

20 - البرقي، أحمد بن محمد المحاسن ،قم، دار الكتب الإسلامية، 1371 ه-.ش.

21- ،بشريه حسین دولت ،عقل ،طهران مؤسسه نشر علوم نوین

1376 ه- ش .

22 - البلخي جلال الدين مثنوي معنوي طهران، تصحیح نیکلسون، أمير كبير 1376 ه- ش .

23- بوزا، آلبیر، چه مي دانم؟ ترجمه إلى الفارسية: حسين صفاري، طهران، مؤسسه مطبوعاتي علمي، 1343

24 - البوطي، محمد سعيد، الإنسان مسير أم مخير، بيروت، دار الفكر المعاصر، 1997م.

25 - أبو علي بن سينا ، الإشارات شرح المحق طوسي، قم، نشر البلاغة، 1375 ه- ش .

26- أبو علي بن سينا، التعليقات، قم، دفتر تبليغات اسلامي، 1405ق.

27 - أبو علي بن سينا النجاة، طهران، المكتبة المرتضوية، 1364 ه- ش .

28 - أبو علي بن سينا، الإلهيات من الشفاء، تقديم وتعليق: إبراهيم مدكور بيروت.

29- بهمنیار، مرزبان ،التحصیل دانشگاه طهران، 1375 ه- ش . 30- پاك نژاد اولین دانشگاه و آخرین پیامبر، ج18، طهران، انتشارات انجمن اولیاء و مربیان

31- بلانتينغا، الوين وآخرون كلام ،فلسفي اختاره وترجمه إلى الفارسية: ابراهيم سلطاني وأحمد نراقي طهران مؤسسه فرهنگی صراط،

ص: 361

1374 ه- ش .

32- التفتازاني سعد الدين شرح المقاصد، قم، انتشارات شریف رضی 1409 ق.

33 - التميمي ،الآمدي عبد الواحد غرر الحكم ودرر الكلم، قم، دفتر تبلیغات اسلامي، 1366 ه- ش .

34- الجامي، عبدالرحمن، الدرة الفاخرة، طهران، مؤسسه مطالعات اسلامي دانشگاه طهران و دانشگاه مك كيل، 1382 ه- ش .

35 جعفري محمد تقي بررسي ونقد برگزیده افكار راسل؛ ترجمه إلى الفارسية: عبد الرحیم ،گواهی، طهران، دفتر نشر فرهنگ اسلامي، 1378 ه- ش .

36- جعفري، محمد تقي جبر واختيار قم دار التبليغ الإسلامي،

1352 ه-.ش.

37 - جعفري ، محمد تقي ، شرح نهج البلاغة ، دفتر نشر فرهنگ اسلامي، 1357 ه- ش .

38 - جوادي آملي عبد الله، تفسیر تسنیم، ج 8، قم، نشر إسراء. 39 - جوادي آملي عبدالله تفسير موضوعي، قم: مركز نشر

اسراء، 1383 ه- ش .

40 - جوداي آملي عبد الله ، ده مقاله پیرامون مبدأ و معاد، طهران، انتشارات الزهراء، 1372 ه- ش .

41 - جوادي آملي، عبدالله زن در آیینه جلال و جمال، قم، اسراء، 1375 ه- ش .

42 - جوادي آملي عبد الله علي بن موسى الرضا، قم، انتشارات اسراء.

ص: 362

43 - جوادي آملي، عبد الله کرامت در قرآن ، طهران ، نشر فرهنگي رجا، 1372 ه- ش .

44 - الحر العاملي، الجواهر السنية في الأحاديث القدسية، بيروت، مؤسسة الأعلمي، 1387.

45 - الحر العاملي، وسایل ،الشيعة ،قم، چاپ آل البيت، 1408 ه-.

46 - حسن زاده آملي حسن، رساله وحدت از دیدگاه عارف حکیم، قم، نشر تشیع، 1379 ه-.ش.

47 - حسن زاده آملی، حسن محمد الهمم طهران وزارات ارشاد، 1378 ه- ش .

48 - الحسيني، السيد علي طبيعت و کشاورزي از ديدگاه اسلام، طهران، مؤسسه شقایق روستا، 1382 ه- ش .

49 - الحلي (العلامة ) ، معارج الفهم في شرح النظم، قم، انتشارات دليل ما .

50 - الحلي، ابن فهد، عدة الداعي، طهران، دار الكتاب الإسلامي، 1407 ه-.

51 - الحلي، العلامة الفاضل المقداد السيوري، وأبو الفتوح الحسيني)، الباب الحادي عشر مع شرحيه، طهران، مؤسسه مطالعات اسلامي.

52 - الحمصي الرازي سديد الدين محمود المنقذ من التقليد، قم، انتشارات اسلامي، 1412ه-.

53 - الخميني، السيد روح الله ، چهل حديث (الأربعون حديثاً)، طهران، مؤسسه تنظیم و نشر آثار امام 1371 ه-.ش.

54 -الخميني، السيد روح الله،رساله طلب ،و اراده، ترجمه إلى العربية وشرحه أحمد الفهري طهران مركز انتشارات علمي و فرهنگي 1362 ه- ش .

ص: 363

55 - الخميني، السيد روح الله ، صحيفة نور طهران، وزارت ارشاد، 1365 ه-.ش.

56 - الخميني، السيد روح الله ، العدل الإلهي ، طهران، مؤسسه نشر و تنظيم - آثار إمام، 1378 ه- ش .

57 - الخميني، السيد روح الله ، كتاب الطهارة، قم، نشر إسماعيليان.

58 - الخميني، السيد روح الله مصباح الهداية، تقديم: السيد جلال الدين الآشتياني، طهران، مؤسسه تنظیم و نشر آثار امام .

59 - الخوئي، السيد أبو القاسم التنقيح كتاب الطهارة، ج 2، ج3، قم، دار الهادي.

60 - دويس موريس وهنري بيرن روان شناسي اختلافي زن ومرد، ترجمه إلى الفارسية: محمد حسين سروري، طهران، انتشارات مترجم 1362 ه- ش .

61 - الرازي الفخر، المباحث المشرفية، قم، انتشارات بیدار، 1411 ه-،

62 - الرازي الفخر ، التفسير الكبير، بيروت، إحياء التراث العربي، 1420ه-.

63 - راسل برتراند؛ چرا مسیحی نسیم؛ ترجمه إلى الفارسية: س. أ. طاهري طهران انتشارات دريا، 1354 ه- ش .

64 - رباني، گلپايگاني، علي، جزوه عدل وحكمت الهي، قم، مؤسسه الإمام الصادق علیه السلام.

65 - رحيميان، سعيد، تجلي وظهور در عرفان نظري، قم، دفتر تبليغات اسلامي، 1376 ه- ش .

66 - ركاوندي، سيد مجتبی، مقدمه اي بر روان شناسي، قم، انتشارات اسلامي، 1379 ه- ش .

ص: 364

67 - روسو، بيير، تاریخ ،علوم ترجمه إلى الفارسية حسن صفاري طهران امير كبير.

68 - روسو جان جاك اميل أو آموزش و پرورش ترجمه إلى الفارسية غلام حسين زيرك ،زاده طهران شرکت سهامي، 1380 ه- ش .

69 - الزمخشري محمود الكشاف عن حقايق التنزيل، بيروت، دار الكتاب العربي، 1361 ه- ش .

70 - الزنوزي الملا عبد الله لمعات ،الهية ،طهران مؤسسه مطالعات وتحقيقات فرهنگي، 1361 ه- ش .

71 - سبحاني، جعفر، الإلهيات على هدى الكتاب والسنة ،والعقل، قم، دفتر تبلیغات اسلامي، 1413 ه-.

72 - سبحاني، جعفر، تفسير منشور جاوید ،قم، انتشارات توحید، 1375 ه- ش .

73 - سبحاني، جعفر، كتاب الإيمان والكفر، قم، مؤسسه الإمام الصادق علیه السلام، 1374 ه- ش .

74 - السبزواري، هادي (الملا) ، أسرار الحكم تقديم وحاشية: أبو الحسن الشعراني طهران کتابفروشي اسلاميه، 1362 ه- ش . 75 - السبزواري، هادي (الملا) ، شرح الأسماء، قم، دفتر تبليغات اسلامي، 1372 ه- ش .

76 - السبزواري، هادي الملا)، شرح المنظومة، قم، نشر مصطفوي، 1413ه-.

77 - السبزواري، هادي (الملا) مجموعة رسائل، طهران، انجمن اسلامي حکمت و فلسفه ایران 1360 ه- ش .

78 - سعيدي ،مهر، علم پيشين إلهي و اختیار انسان طهران، سازمان

ص: 365

انتشارات پژوهشگاه فرهنگ اندیشه اسلامي.

79 - السهروردي كتاب ،المطارحات، طهران، انجمن فلسفه ایران.

80 - السهروردي ، الأعمال الكاملة، طهران، مؤسسه مطالعات وتحقيقات ،فرهنگي، 1372 ه-.ش.

81 - السيوري حلي، المقداد بن عبد الله (الفاضل)، إرشاد الطالبين، قم، مكتبة آيت الله المرعشي النجفي.

82 - علم الهدى السيد مرتضى رسائل الشريف المرتضى، قم، دار القرآن الكريم، 1405 ه-.

3 - علم الهدى السيد مرتضى الشافي في الإمامة، طهران، مؤسسة الإمام الصادق علیه السلام للطباعة والنشر، 1410ه-

84 - شير السيد عبد الله ؛ حق اليقين في معرفة أصول الدين نشر انوار الهدى.

85 - الشعراني، أبو الحسن، شرح كشف المراد، طهران، كتابفروشي اسلامية، 1363 ه- ش .

86 - الشيرازي، قطب الدين شرح حكمة الإشراق، طهران، مؤسسه مطالعات و تحقیقات فرهنگي، 1372 ه-.ش.

87 - صدر المتألهين، محمد، الأسفار الأربعة في الحكمة المتعالية، بيروت، دار إحياء التراث العربي، 1419ه-.

88 - صدر المتألهين محمد، تفسير القرآن الكريم، بيروت، دار التعارف 1419ه-.

89 - صدر المتألهين محمد الحاشية على الإلهيات الشفاء، قم، انتشارات

ص: 366

بیدار.

90 - صدر المتألهين محمد الشواهد الربوبية، طهران، المركز الجامعي للنشر.

91 - صدر المتألهين محمد شرح أصول الكافي، تصحيح محمد خواجوي : مؤسسه مطالعات وتحقيقات فرهنگي، 1367 ه- ش .

92 - الصدوق التوحيد، قم، انتشارات اسلامي، 1423 ه-.

93 - الصدوق، ثواب الأعمال وعقاب الأعمال؛ ترجمه إلى الفارسية: على أكبر الغفاري، طبع مكتبة الصدوق.

94 - الصدوق، من لا يحضره الفقيه، قم، مؤسسه النشر الإسلامي، ، 1413 ه-.

95 - الطالقاني ملا نعيمها، أصل الأصول، ضمن كتاب مختارات من كتاب آثار حكماي الهي ايران، ج.3.

96 - الطباطبايي، السيد محمد حسين أصول فلسفة وروش رئاليسم، حاشية الشهيد مطهري، ج، 5

97 - الطباطبايي، سيد محمد حسین اعجاز از نظر عقل وقرآن، قم، نشر فاخته.

98 - الطباطبايي، السيد محمد حسين الميزان في تفسير القرآن، قم، مؤسسه النشر الإسلامي، 1417ه-.

99 - الطباطبايي، السيد محمد حسین انسان از آغار تا انجام، مع تعلیقات صادق لاريجاني، طهران، انتشارات الزهراء، 1381 ه- ش .

100 - الطباطبايي، السيد محمد حسين ظهور شيعة، طهران، نشر شريعت. 101 - الطباطبايي، السيد محمد حسين نهاية الحكمة، قم، انتشارات اسلامي، 1362 ه- ش .

ص: 367

102 - الطوسي، الاقتصاد فيما يتعلق بالاعتقاد، بيروت، دار الأضواء.

103 - الطوسي، الرسائل العشر قم، مؤسسه النشر الإسلامي.

104 - طوسي، نصير الدين (الخواجه)، تلخيص المحصل، بيروت، دار لاضواء، 1405 ه-.

105 - الطوسي، نصير الدين (الخواجه)، رسالة أفعال العباد، مع ملحق تلخيص المحصل.

106 - الطوسي، نصير الدين (الخواجه)، كشف المراد، مع شرح العلامة الحلي، قم، نشر مصطفوي.

107 - عبد الجبار المعتزلي، القاضي، شرح الأصول الخمسة، مصر، انتشارات وهبة ، 1384ه-

108 - الغزالي، أبو حامد، إحياء علوم الدين، بيروت، دار الكتاب العربي.

109 - الغزالي، أبو حامد الاقتصاد في الاعتقاد، طهران، دار الكتب العلمية.

110 - الفارابي، أبو نصر، آراء أهل المدينة الفاضلة، مكتبة الهلال، 1996م.

111 - الفارابي أبو نصر، رسالة الدعاوي القلبية، ضمن مجموعة رسائل الفارابي چاپ حیدر آباد في الهند.

112 - الفارابي، أبو نصر، رسالة زنون ضمن مجموعة رسائل الفارابي، چاپ حيدر آباد في الهند.

113 - فطورچي، فيروز مسئله ،آغاز طهران سازمان انتشارات پژوهشگاه فرهنگ و اندیشه اسلامي، 1377 ه- ش .

114 - الفناري، محمد بن حمزه، مصباح الأنس، طهران، انتشارات مولى، 1372 هش.

ص: 368

115 - الفيض الكاشاني الملا ،محسن الوافي في شرح أصول الكافي، إصفهان، مكتبة أمير المؤمنين، 1406 ه-.

116 - الفيض الكاشاني، الملا ،محسن تفسير الصافي ، طهران، مكتبة الصدر.

117 - قدردان قراملكي، محمد حسن، أصل عليت در فلسفة وكلام، قم، دفتر تبلیغات اسلامي، 1375 ه- ش .

118 - قدردان قراملکي محمد حسن خدا و مسئله شر، قم، دفتر تبلیغات اسلامي، 1379 ه-.ش.

119 - قدردان قراملکي، محمد حسن كلام فلسفي، قم، انتشارات وثوق 1383ه- ش .

120 - قدردان قراملكي محمد حسن معجزه در قلمرو عقل ودين قم دفتر تبلیغات اسلامی 1381 ه-.ش.

121 - قدردان قراملكي، محمد حسن نگاه سوم به جبر و اختيار طهران سازمان انتشارات پژوهشگاه فرهنگ و اندیشة اسلامي 1385 هش.

122 - القمي، عباس، سفينة النجاة، طهران، دار الأسوة للطباعة والنشر، 1416ه-.

123 - القيصري، داود، شرح فصوص الحكم (مجلدان)، قم، انتشارات أنوار الهدى، 1416ه-.

124 - كابلستون، فردريك تاريخ ،فلسفة ترجمه إلى الفارسية: غلامرضا ،أعواني ، ج 4 ، طهران، سروش، 1380 ه- ش .

125 - كابلستون، فردريك تاريخ فلسفة ، السيد جلال الدين المجتبوي، ج 1، طهران، سروش، 1375 ه- ش .

ص: 369

126 - كابلستون، فردريك تاريخ فلسفة، السيد جلال الدين المجتبوي، ج 2، طهران، سروش، 1375 ه- ش .

127 - کاتوزیان، ناصر، فلسفة حقوق، طهران، شركت سهامي انتشار، 1377 ه-.ش.

128 - کارل الکسیس انسان موجود ناشناخته (الإنسان ذلك المجهول) ترجمه إلى الفارسیة پرویز ،دبیري اصفهان، کتابفروشي تأييد 1348 ه- ش .

129 - الكراجكي أبو الفتح كنز الفوائد، قم، دار الذخائر، 1410 ه-.

130 - الكليني، المحدث محمد بن يعقوب أصول الكافي شرحه وترجمه إلى ، الفارسية : السيد هاشم رسولي دفتر نشر فرهنگأهل البيت.

131 - الكليني، المحدث محمد بن يعقوب، الكافي، طهران، دار الكتب الإسلامية، 1365 ه- ش .

132 - الكفعمي ، إبراهيم المصباح، قم، انتشارات رضی، 1405 ه-

133 - الكندي، يعقوب بن إسحاق رسالة في وحدانية الله وتناهي جرم العالم المضمنة في ،قمير يوحنا فلاسفة العرب، بيروت، دار المشرق، 1993م.

134 - غوينو، اميل، بنیاد ،انواع عن سلسلة چه مي دانم؟ ترجمه إلى الفارسية حسيني ،نژاد طهران امير كبير، 1328 ه- ش .

135 - اللاهيجي، عبد الرزاق شوارق الإلهام ،اصفهان، انتشارات مهدوي.

136 - اللاهيجي، عبد الرزاق گوهر ،مراد طهران وزارت ارشاد

1372 ه- ش .

ص: 370

137 - المازندراني، المولى محمد صالح، شرح أصول الكافي، مع تعليقات: أبو الحسن الأشعري ، طهران، المكتبة الاسلامية

138 - ،مان ،نرمان اصول) روان شناسي اقتبسه وترجمه إلى الفارسية: محمود صناعي نشر اندیشه و فرانکلین، 1370 ه- ش .

139 - مترلينك، موريس دروازه بزرگ ترجمه إلى الفارسية: ذبيح الله منصوري و فرامرز برزگر 1337 ه-.ش.

140 - المجلسي ، محمدباقر، بحار الأنوار، بيروت، مؤسسة الوفاء 1404ه-.

141 - المجلسي ، محمد باقر، حق اليقين طهران، انتشارات اسلامية.

142 - المجلسي، محمدباقر مرآة العقول، طهران، الكتب الإسلامية 1363 ه- ش .

143 - ،محمدي ري ،شهري محمد دانشنامه احادیث پزشكي، ترجمه إلى الفارسية حسين صابري، قم، مؤسسه دار الحديث، 1384 ه- ش .

144 - محمدي، ري شهري محمد ميزان الحكمة، قم، مكتب الإعلام الإسلامي، 1404 ه-.

145 - مدرس رضوي، محمد تقي احوال و آثار خواجه نصير الدين طوسي، دانشگاه طهران، 1383 ه- ش .

146 - مصباح يزدي، محمد تقي آموزش فلسفة طهران، سازمان تبلیغات اسلامي، 1366 ه- ش .

147 - مصباح يزدي، محمد تقي تعليقة على نهاية الحكمة، مؤسسه در راه حق، 1405 ه-.

148 - مطهري، مرتضى ، الأعمال الكاملة، طهران، انتشارات صدرا.

ص: 371

149 - مطهري، مرتضى، نظام حقوق زن در اسلام، طهران، انتشارات صدرا، 1384 ه- ش .

150 - المظفر، محمد حسين، دلائل الصدق، قم، مؤسسة آل البيت.

151 - المقداد الفاضل إرشاد الطالبين إلى نهج المسترشدين، قم، انتشارات کتابخانه آية الله المرعشي.

152 - المقداد الفاضل اللوامع الآلهيه، قم، دفتر تبليغات اسلامي،

1380 ه- ش .

153 - مكارم الشيرازي، ناصر، تفسير نمونه (الأمثل)، طهران، دار الكتب الاسلامية، 1364 ه- ش .

154 - الميرداماد ،القبسات دانشگاه طهران، 1374 ه- ش .

155 - ميري سيد ،محسن (مروري بر قاعده ،(الواحد)، ماهنامه کتاب ماه ویژه دین، العدد 19 - 20 ، اردبیهشت 1378 ه- ش .

156 - نوبخت، أبو إسحاق إبراهيم الياقوت في علم الكلام، قم، مكتبة آية الله المرعشي النجفي، 1413ه-.

157 - النوري، حسين، مستدرك الوسائل، قم مؤسسة آل البيت، 1408ه-.

158 - واتسون اندرو، م، نو آوريهاي کشاورزي در قرون اولیه اسلام ترجمه إلى الفارسية : فرشته ناصري وعوض کوچکي.

159 - هاسبرز، جان، فلسفة دين، قم، ترجمة ونشر مركز مطالعات

و تحقیقات اسلامي دفتر تبليغات اسلامي.

160 - هيك، جان، فلسفة دين، ترجمه إلى الفارسية بهرام راد، طهران انتشارات بين المللي الهدى، 1372 ه- ش.

ص: 372

161 - هيوم، ديفيد، شکاکیت در مورد جاودانگي پايان نامه کارشناسي ارشد سید محسن رضا زاده ،سال مرکز عالي تربيت مدرس حوزه علمية قم.

***

ص: 373

ص: 374

المحتويات

المقدمة...5

أهمية التحقيق وضرورته ...5

الجذور التاريخية للتحقيق ...6

سؤال التحقيق وفرضيته ...7

أسلوب التحقيق ...7

مزايا وإبداعات التحقيق...8

هيكلية التحقيق...10

الفصل الأول

المدخل

أولاً تعريف العدل...15

1- التوازن والاستقامة ...16

2- التساوي ونفي المحاباة...17

ص: 375

3- رعاية وإعطاء حق المستحق ...17

4 - الإفاضة بحسب الاستعداد والقابلية ...26

ثانياً تعريف الخير والشر ...26

1 - التعريف الماهوي للخير والشر ...36

الفصل بين الخير والشر الواقعي والخير والشر الظاهري ...38

2 - التعريف المصداقي للشر ...40

التقييم ...42

ثالثاً تدبير وإدارة العالم على أساس نظام العلية ...44

معطيات حاكمية أصل العليّة...48

1 - انحصار العلل المؤثرة في الطبيعة بالعلل المادية ...48

2- عدم تخلف القوانين الطبيعية ...51

فرضية المنافي لخلاف الواقع . ...52

رابعاً إثبات العدل الإلهي من طريق البرهان اللمّي ...54

1 - إثبات القدرة المطلقة ...55

2 - إثبات الغنى وعدم الافتقار ...56

3 - إثبات العلم المطلق ...57

التقرير الأول انعدام الدوافع القبيحة في الفعل الإلهي ...58

استحالة صدور الفعل الظالم عن اللّه ...60

التقرير الثاني لزوم السنخية بين الفعل والفاعل...61

التقرير الثالث النظام الأحسن عند الفلاسفة...61

ص: 376

الفصل الثاني

الشرور والحكمة في خلق عالم المادة والكوارث الطبيعية

▪ الشبهة الأولى علة عدم خلق العالم خالياً من الشرور والحزن والألم ...67

تحليل ودراسة ( عالم المجرّدات عالم الخير المحض) ...67

▪ الشبهة الثانية أسباب وجود الشرور في العالم المادي....68

تحليل ودراسة (الوجود المادي ملازم للشرور والآفات) ...68

جوابان فلسفیان ...71

1 - التضاد والشرور من لوازم استمرار الفيض ...71

2 - الشرور من لوازم عالم المادة ...72

▪ الشبهة الثالثة فلسفة خلق عالم المادة ملازماً للشرور ...73

مناقشة وتحليل ...73

1 - قلّة الشرور وكثرة الخيرات ...73

2 - ترجيح الجانب الكيفي من الخيرات على الجانب الكمّي...75

3 - عدم خلق عالم المادّة يساوق التخلي عن الخير الكثير ...76

▪ الشبهة الرابعة التفاوت في خلق الجماد والنبات والحيوان...76

تحليل ومناقشة ...77

1 - توقف الوجود الأسمى على الوجود الأدنى...77

2 - توقف الحياة على وجود النباتات والحيوانات ...79

3- عدم معقولية خلق الجماد والنبات والحيوان على صورة الإنسان ...79

4 - اللوازم الباطلة المترتبة على خلق الحيوان على صورة الإنسان...79

5- اللوازم الباطلة لخلق العديد من الناس بدلاً من خلق الحيوانات ...82

ص: 377

▪ الشبهة الخامسة الشرور والكوارث الطبيعية...84

مناقشة وتحليل ...85

الإجابة الأولى عدم اتصاف الكوارث الطبيعية بأنها شرور بالذات...85

الإجابة الثانية الكوارث الطبيعية من لوازم عالم المادّة ... 86

1 - تحليل الزلازل والبراكين ...87

2 - خلق الإنسان قبل انتهاء الكوارث الطبيعية أو في أثنائها؟...88

3- إجابة عن إشكال (تصرف الله التكويني في تبريد نواة (الأرض ...90

4 - تحليل السيول ...91

5- تحليل الرعد والبرق...93

6 - إمكان مواجهة بعض الكوارث الطبيعية ...95

الإجابة الثالثة الشر وسيلة للسمو الروحي للإنسان ...96

الإجابة الرابعة الشرور والكوارث مبدأ الخيرات...98

الإجابة الخامسة الشرور والكوارث اختبار وامتحان إلهي ...101

الإجابة السادسة الشرور عقاب على الذنوب...102

الإجابة السابعة الشرور جرس إنذار وتحذير للفطرة...103

الإجابة الثامنة الشر معلول للجهل ...107

الإجابة التاسعة الموت، انقطاع اللطف الإلهي ...110

الإجابة العاشرة الموت، انتقال إلى حياة أخرى ...111

إجابة عن شبهتين ...112

1 - الموت عنصر تعجيل العذاب الأخر ...112

2 - الموت، عنصر زوال تكامل الإنسان...112

ص: 378

الإجابة الحادية عشرة جبران الشرور والأضرار ...114

مسألة التعويض ...116

المعاصرون ...117

ما ورد في الروايات من التعويض عن أنواع الشرور والمنغصات...118

1 - الموت والفناء الناشئ عن الكوارث الطبيعية ...119

2 - أنواع الأمراض ...120

3 - الفقر والفاقة ...122

الفضيل الثالث

الشرور والحكمة من خلق البهائم

الشبهة الأولى افتراس البهائم القوية والكاسرة للبهائم الضعيفة ... 127

تحليل ومناقشة ...128

1 - السيطرة على دورة حياة البهائم وفوائدها ...128

2 - السيطرة على دورة حياة النباتات والحياة البشرية ...129

3 - الحيلولة دون تلوّث البيئة ...131

4 - الموت الطبيعي هو البديل الأسوأ ...131

5 - الموت قبل الأوان مقدمة للرقي والتحوّل ...132

6 - الإضرار بالمصالح الاقتصادية والحيوية للإنسان...135

7- كون الإنسان بنفسه لاحماً ...135

8- التعويض عن الحزن والألم ...136

الشبهة الثانية فلسفة خلق الحيوانات الضارية والسامة ...138

ص: 379

مناقشة وتحليل ....139

1 - الضرورة العامة والرؤية الشاملة ...139

2 - تنوع الحيوات عنصر تعديل دورة الطبيعة ...140

3- فوائد الحيوانات المباشرة للإنسان ...141

4 - القضاء على بعض الحيوانات يؤدي إلى اختلال دورة الحياة...145

5- عدم خلق الحيوانات الضارة يساوق تعطيل الفيض...146

6- السم وسيلة دفاعية للحيوان ...147

7 - الأنانية لدى الإنسان ...148

8 - قلة الضحايا...150

الفصل الرابع

الشر والحكمة من خلق الشيطان

الشبهة الأولى فلسفة خلق الشيطان...155

تحليل ومناقشة ...155

1 - تكامل النفس رهن بمقاومة الشيطان ...155

2 - قدرة الشيطان في حدود الوسوسة دون الإكراه ...157

الشبهة الثانية الحكمة من خلق الشيطان ...159

دراسة وتحليل ...159

1 - عدم خلق الشيطان للإضلال ...159

2 - توظيف الشيطان لاختياراته ...160

3 - الشيطان عنصر متمم لتكامل الإنسان ...160

ص: 380

الشبهة الثالثة حكمة إمهال الله للشيطان ...161

مناقشة وتحليل ...161

الفصل الخامين

الشرور وانعدام العدل في العالم الإنساني

▪ المبحث الأول الشرور الأخلاقية ...165

الشبهة الأولى فلسفة خلق الأشرار الذين ينزعون إلى المعاصي والظلم غريزياً ... 166

الشبهة الثانية فلسفة خلق أمثال نيرون وصدام...171

الشبهة الثالثة إمكان خلق الإنسان المختار دون الشر الأخلاقي...175

الشبهة الرابعة انسجام الاختيار مع العصمة...180

الشبهة الخامسة علّة عدم ضبط الله لإرادة الشرّ والمعصية...181

▪ المبحث الثاني الأمراض الجسدية والنفسية...185

الشبهة السادسة فلسفة وجود أنواع الأمراض والمكروبات...186

الشبهة السابعة أسباب الآلام الجسدية (الشر (الإدراكي)...201

الشبهة الثامنة فلسفة خلق ذوي العاهات...205

الشبهة التاسعة فلسفة الشيخوخة...214

الشبهة التاسعة فلسفة الموت...219

▪ المبحث الثالث الشرور والآلام الناشئة عن المحاباة والتفريق... 221

الشبهة الحادية عشرة الاعتراض على خلق الأنثى...222

الشبهة الثالثة عشرة نقصان عقل المرأة ...236

الشبهة الرابعة عشرة التفريق في خلق القبح والجمال...241

ص: 381

الشبهة الخامسة عشرة التفريق في الثروة والفقر... 245

الشبهة السادسة عشرة التفريق بين الناس في الطاقات الذهنية والعقلية ...253

الشبهة السابعة عشرة دور مسقط رأس المولود وبيئته ....261

الشبهة الثامنة عشرة العلم الإلهي المسبق بسعادة الناس وشقائهم ...268

الفصل السادين

الشرور وانعدام العدل في عالم القيامة

الشبهة الأولى عدم التناسب بين الذنب والعقوبة...283

مناقشة وتحليل ...285

أنواع العقاب ...285

1 - العقاب التكويني ...285

2 - العقاب الاعتباري ...286

الشبهة الثانية عدم تناسب الشفاعة مع العدالة...299

مناقشة وتحليل...299

1 - الإجابة عن الشبهة على أساس اعتبارية العقوبات الأخروية...300

2 - الإجابة عن الشبهة على أساس تكوينية العقوبات الأخروية...302

الشبهة الثالثة الإحباط ...306

مناقشة وتحليل ...308

1 - الإحباط يستوجب الظلم ...309

2 - عدم انسجام الإحباط مع مختلف الآيات...311

3 - البيان التكويني للإحباط...313

ص: 382

4 - اختصاص الإحباط بالكافر...315

الشبهة الرابعة التكفير ...318

مناقشة وتحليل ...319

1 - التكفير تفضّل إلهي يفوق العدل ...319

2 - عدم العفو عن حقوق الناس ...319

3 - إعطاء حق المظلوم من قبل الله (أصل الانتصاف) ...320

4 - البيان التكويني لأثر التكفير ...322

الشبهة الخامسة ما يقوم به الكفار من أعمال البر ...324

مناقشة وتحليل ...325

1 - توقف قبول الأعمال على الحسن الفاعلي ...325

2 - الموازنة بين أعمال الخير والشر ...328

3 - نجاة الكافر القاصر ... 329

4 - البيان التكوينى لأعمال الكافر ...330

الشبهة السادسة عبادات الكافر...331

مناقشة وتحليل ...331

الشبهة السابعة عذاب الكافر الجاهل ...334

مناقشة وتحليل ...334

1 - تقييد الكافر بالمتمكن ... 335

2 - تقييد موضوع العذاب بالكافر المقصّر والمعاند ...336

3 - أدلة القول بعدم عذاب الكافر الجاهل...340

الشبهة الثامنة العذاب الأبدي للكافر ...344

ص: 383

ديفد هيوم...345

شلایر ماخر ...345

وقال جان جاك روسو...346

جون هيك ...236

مناقشة وتحليل ...348

1 - تأثير خلود الكفر على النفس ...348

2 - تفسير وتأويل العذاب الأبدي ...349

الشبهة التاسعة عقوبة أولاد الكفار ...350

مناقشة وتحليل ...351

1 - مخالفة إطلاق آيات وروايات العدالة النافية للظلم ...351

2 - مخالفة العقل...353

3 - إجماع العدلية على عدم العذاب...354

مصير أطفال الكفار ...355

المصادر ...359

المحتويات ...375

ص: 384

تمثل العدالة مفردة إنسانية مثالية، يطمح كل إنسان

إلى تحقيقها وتجسيدها في المجتمع. ومن ناحية أخرى ثبت

الفلسفة وعلم الكلام أن الله سبحانه وتعالى يتصف

بجميع الصفات الكمالية المطلقة، ولازم ذلك أن يتصف الله

بصفة العدل أيضاً.

وبالفعل فقد وصفه المؤمنون بهذه الصفة، وعبدوا اللّه

العادل وأحبوه. وقد اعتبر جميع المفكرين والعلماء المسلمين

«العدل الإلهي» جزءاً لا يتجزأ من تعاليمهم الدينية...

www.iicss.iq islamic.css@gmail.com

رقم الإصدار (17)

ص: 385

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.