أجوبة الشبهات الکلامية (التوحید) المجلد 1

هوية الکتاب

العَتَبَةُ العَبَاسِیَةُ المُقَدَسَةُ

مرکز الإسلامي للدراسات الاستراتیجیة

قسم الکلام و العقیده

أجوبة الشبهات الكلامية / 1

التوحید

تأليف: محمّدحسن قدردان قراملكي

ترجمة: أسعد مندي الكعبيّ

التوحید

ص: 1

اشارة

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 3

العتبة العباسية المقدسة

المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية

يعنى بالاستراتيجية الدينية والمعرفية

أجوبة الشبهات الكلامية / 1

التوحید

تأليف: محمّدحسن قدردان قراملكي

ترجمة: أسعد مندي الكعبيّ

الإخراج الفني : نصير شكر

المحرّر: محمدرضا دهقانزاد

المطبعة: دار الكفيل للطباعة والنشر والتوزيع

الكمية: 1000 نسخة

الطبعة : الأولى 1437 ه_ / 2016م

ص: 4

مقدمة المركز

باسمه تعالى

تعتبر العقيدة الصحيحة ملاك النجاة والسعادة الأخروية، ولأجلها تمّ تدوين علم مستقلّ في الثقافة الدينية سمّي بعلم الكلام أو الإلهيات، حيث يتكفّل تبيين معالم العقيدة الصحيحة والدفاع عنها أمام سائر المعتقدات والآراء الأُخرى، ولذا اهتمّ كل دين ومذهب بهذا العلم وقدّم تراثاً ضخماً في مجال اللاهوت على مدى حياة الأديان.

وقد تنوّعت السبل والمناهج التي اعتمدها هذا العلم بتنوّع الحاجات والشبهات، وكذلك تنوّع الخلفيات والمنطلقات المعرفية، وتبعه تنوّع التراث الكلامي بين عقلي أو نقلي أو عقلي نقلي، ناهيك عن اصطباغه بصبغة الفلسفة أو العرفان بين الحين والآخر.

وقد أخذ المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية - المهتم برسم الاستراتيجيات الدينية والمعرفية - على عاتقه الاهتمام بهذا الحقل المعرفي لما له من دور محوريٍّ في سعادة الإنسان الدنيوية والأُخروية، وما يأخذ على عاتقه من الدفاع عن الدين سيما في زمن (عولمة الشبهات) جرّاء الثورة المعلوماتية الضخمة التي أنتجتها الحضارة، وتطوّر العلوم والتقنيات المختلفة.

ص: 5

من هذا المنطلق تمّ اختيار مجموعة من الكتب والعناوين الكلامية، تفقدها الساحة العربية، وقد قمنا بترجمتها أو الاستكتاب حولها لسدّ الفراغ الموجود وتلبية حاجة المجتمع بهكذا بحوث جادّة، وكان من بينها سلسلة كتب ألّفها سماحة (الشيخ الدكتور محمد حسن قدردان قراملكي) بأسلوب شيّق وجديد في الإجابة على مجموعة شبهاتٍ متنوّعة طُرحت حول أصول الدين، حيث قام المؤلّف بمتابعة هذه الشبهات ورصدها من بطون الكتب القديمة والحديثة كما استعان بالانترنت وجمع ما يُطرح في المواقع الالكترونية والتواصل الاجتماعي مهما أمكن، ثم قام بالردّ على هذه الشبهات مستعيناً بالقرآن والسنّة والعقل بأسلوب سهل يخاطب طبقة الشباب والمثقفين.

ونحن إذ نقدّم الترجمة العربية لهذا الكتاب، نثمّن ما بذله المؤلّف من جهد مشكور في متابعة الشبهات والجواب عنها، ونتمنّى له دوام التوفيق ومتابعة الأمر والمثابرة في الدفاع عن العقيدة الصحيحة، ونعتقد انّه جهد بشري يعتريه ما يعترى البشر من السهو والخطأ والنسيان والعصمة الله وحده ولمن اصطفاه.

و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وآله الطاهرين.

***

ص: 6

مُقَدَّمَة

عزيزي القارئ..

يتضمّن الكتاب بين دفّتيه المبحث الأوّل من سلسلة البحوث الخمسة التي تتمحور مواضيعها حول تحليل الشبهات الكلامية ونقدها، إذ تمّ تسليط الضوء فيه على عددٍ من الشبهات العقائدية المطروحة حول علم اللاهوت منذ باكورة ظهور الأديان ورواج عقيدة الإيمان بالله تعالى إلى عصرنا الراهن، تناولها المؤلّف بالبحث والتحليل في نمطيها التقليدي والحديث.

لقد احتدمت ضراوة الشبهات حول الدين واللاهوت في يومنا هذا إثر التطوّر المشهود على صعيد وسائل الإعلام العامّة، ولا سيما الشبكة الإلكترونية العالمية التي أصبحت ذات أذرع عنكبوتيةٍ تبسط نفوذها في كلّ مكانٍ من دون توقّفٍ .

بعد أن تحرّى المؤلّف عن أهمّ الآثار الموروثة والحديثة التي اعتمد عليها الملحدون والمناهضون للأديان، بما فيها الكتب والمقالات والمواقع الإلكترونية ؛ صوّر للقارئ الكريم الشبهة بشكل إجماليٍّ يدلّ على مضمونها، وفي بعض الموارد ذكر من روّج لها وتبنّاها فكرياً، ومن ثمّ تناولها بالبحث والتحليل في إطار نقديٍّ علميٍّ على وفق القواعد والأُسس الكلامية والفلسفية والعرفانية،

ص: 7

وعند اقتضاء الضرورة دعم كلامه بالنصوص الدينية التي تفي بالغرض.

رغم أنِ نقد الشبهات المطروحة حول المعتقدات والتعاليم الإسلامية هو محور البحث في الكتاب، لكنِ المؤلّف عرض مباحث أخرى ذات ارتباطٍ وثيقٍ بهذا الموضوع من قبيل إثبات وجود الله سبحانه وعقيدة التوحيد، إذ من دون ذلك لا تتحقق الغاية من البحث؛ ومن هذا المنطلق ساق في بادئ الكلام البراهين المعتمدة في التوحيد وإثبات وجوده تبارك شأنه بشكل مجملٍّ ثمّ ذكر الشبهات التي طرحت حول هذين الموضوعين - لدى بيانه البراهين المذكورة - وقام بتحليلها ونقضها. إذن، بما أنّ محور البحث لا يتمركز على براهين التوحيد وإثبات وجود الله تعالى وتعريف صفاته، لم يتطرّق المؤلّف إلى شرحها وتفصيلها بإسهابٍ.

يتضمّن الكتاب مباحث استدلالية موجزة ومبسّطة حول براهين علم اللاهوت وعقيدة التوحيد وصفات الله تعالى كما يشتمل على دراساتٍ نقديةٍ للشبهات المطروحة حول هذه المواضيع، إذ قام المؤلّف بنقضها وبيان وهنها في ضمن إجابته عن تلك الاستفسارات التي طرحت في القرون الماضية على هذا الصعيد والتي سادت اليوم بشكلٍ أو بآخر في رحاب تقنية الاتصالات الحديثة.

ومن الحريّ بالذكر هنا أنّ مجمل الشبهات اللاهوتية التي تمّ تسليط الضوء عليها بلغت تسعين شبهة تقريباً.

كما ذكرنا في ديباجة الكتاب أنّ البحث الأوّل من سلسلة البحوث العقائدية يتمحور حول علم اللاهوت وقد تمّ تدوينه في إطار خمسة فصولٍ:

الفصل الأوّل: مباحث عامّة (أهميّة الموضوع، قدرة الإنسان على معرفة الله تعالى، براهين إثبات وجود الله تعالى).

ص: 8

الفصل الثاني: براهين إثبات وجود الله تعالى (براهين إثبات وجود الله تعالى والشبهات المطروحة حولها).

الفصل الثالث: شبهات الملحدين في بوتقة النقد والتحليل (شبهات عامّة حول علم اللاهوت ونقضها في ظلّ إثبات وجود الله تعالى).

الفصل الرابع: شبهاتٌ وردودٌ حول التوحيد (التوحيد وأقسامه وأدلّته والشبهات المطروحة حوله).

الفصل الخامس: شبهاتٌ وردودٌ حول صفات الله تعالى (صفات الله تعالى والشبهات المطروحة حولها).

ومن الجدير بالذكر هنا أنّ الكتب اللاحقة تتضمّن تحليل ونقد شبهات مطروحةٍ حول المواضيع الآتية:

1 ) الدين والأنبياء.

2 ) التشيّع والأئمّة.

3 ) المعاد.

4 ) الإسلام وتعاليمه.

5 ) دراسات قرآنية.

نسأل الله العلي ّالقدير أن يعيننا على إنجاز هذا المشروع ويوفّقنا لخدمة الحقّ والحقيقة.

وفي الختام نتقدّم بالثناء للأخ المهندس سعيد كيال الذي قدّم لنا يد العون في استخراج المصادر الإلكترونية، كما نشكر فرع الكلام والدراسات

ص: 9

الدينية التابع لمعهد الثقافة والفكر الإسلامي على اقتراحه موضوع البحث ونقدم خالص تقديرنا للدكتور عسكري سليماني الذي تولى مهمّة تنقيح الكتاب وأتحفنا بمعلومات في غاية الأهمية.

محمدحسن قدر دان قراملكي

***

ص: 10

الفَصْلُ الأَوَّلْ

مباحث عامة

ص: 11

ص: 12

أولاً: أهميّة علم اللاهوت :

أولاً: أهميّة علم اللاهوت :

قد يتبادر إلى أذهان بعض الناس سؤالٌ حول مدى أهميّة دراسة وتحليل موضوع وجود خالقٍ بارئٍ للكون، فيا ترى ما هو المسوّغ للاستفهام عن حقيقة وجود الله عز وجل رغم كونه مبحثاً شائكاً؟

لبيان ما طرح أعلاه، نقول:

1 ) الاستجابة لغريزة حبّ الاستطلاع:

إنّ غريزة الإنسان تحرّضه على استكشاف المجاهيل المحيطة به ومعرفة حقائقها وكلّ ما يكتنفها ومن هذا المنطلق تنتابه هواجس واستفساراتٌ حول كلّ أمرٍ يصادفه في حياته الدنيوية فيتحرىّ عن منشئه وعلّة خلقته، وهذه الحالة لا تقتصر على القضايا المعنوية، بل تشمل المادّية أيضاً؛ لذا تنامت العلوم التجريبية ومكّنت البشرية من تسخير القابليات الطبيعية بشكل متواصلٍ واستثمارها على نطاقٍ واسع.

هناك عددٌ من المسائل التي تراود الذهن البشري حول مختلف شؤون العلوم الإنسانية والماورائية وبما في ذلك خلقة الكون وقوانين النَّظم التي يتقوّم عليها، فهذه الهواجس لا تنفكّ عن مخيّلته كلّما اختلى مع نفسه وتأمّل في واقع حياته.

ص: 13

فيا ترى هل أنّ الكون أزليٍّ؟ ألا يوجد خالق ومدبّرٌ له؟ من هو خالقه؟ ما هي صفات هذا الخالق؟ من أين جئنا ولِمَ خُلقنا؟

هذه الأسئلة فضلاً عن أسئلةٌ أخرى كثيرة تراود أذهان بني آدم حول مختلف القضايا الميتافيزيقية وهي بطبيعة الحال تحفّز الإنسان على استكشاف الحقائق ومعرفة أجوبتها. إنّ حبّ استكشاف العلل الذي مكّن الإنسان من تحقيق إنجازاتٍ كبيرةٍ على صعيد العلوم التجريبية والرفاهية المادّية، أليس من شأنه أن يضمن له الرفاهية المعنوية والطمأنينة النفسية إن انصبّ في مجال استكشاف العلل الماورائية ؟!

إذن، غريزة الإنسان - فطرته - التي تدعوه لطلب العلم، هي التي تحفّزه على البحث عن إجاباتٍ لما ذكر من أسئلةٍ، وهذا الهدف لا يتحقّق بطبيعة الحال إلا عبر الخوض في غمار مباحث علم اللاهوت في ضمن علوم الكلام والفلسفة والعرفان.

2) وجوب شكر النِّعمة :

المتعارف بين العقلاء أنّ من يسدي خدمةً لغيره أو يكرمه بنعمةٍ، فهو يستحقّ الشكر والتقدير على قدر إحسانه وبواعثه التي حفّزته على ذلك، ومن ثمّ فالعقل يحكم بقبح تجاهل فضله ويذمّ عدم شكر نعمته.

إذن، ألا يجب على الإنسان شكر تلك النِّعم العظيمة التى أكرمه الله تعالى بها؟ فهذه النِّعم لا تعدّ ولا تحصى وبما فيها خلقته من العدم وإتحافه بفضائل العقل والصحّة ومختلف المواهب المادّية والمعنوية. إنّ العقل بكلّ تأكيدٍ يوجب على الإنسان إظهار الامتنان إلى الوهّاب وحمده على ما أفاض عليه

ص: 14

من عطايا لا حصر لها، وبطبيعة الحال قبل ذلك لا بدّ له من الإيمان به والاعتقاد بوجوده ،ومعرفته، وهذا الأمر مرهونٌ بمعرفة الإنسان للربّ العظيم الذي خلقه وخلق كلّ ما يحيط به، حيث يتسنّى له ذلك عن طريق إلمامه بمبادئ علم اللاهوت

3) ضرورة درء المخاطر المحتملة :

إنّ عقل الإنسان يحكم بضرورة درء كلّ خطر يهدّده والتفكير بحلول كفيلةٍ بالخلاص منه قبل وقوعه، فحينما يشاهد سلكاً كهربائياً على سبيل المثال يبادر إلى التفكير فيما إذا كان متّصلاً بتّيارٍ كهربائيٍّ أو لا، لذا يحفّزه عقله على عدم لمسه حينما يكون التّيار الكهربائى جارياً فيه.

وكذا هو الحال بالنسبة إلى موقف الإنسان تجاه الكون وخالقه، فلا يختلف اثنان - سواءٌ المتدينون أو المحلدون - في وجود صلحاء عرفتهم البشرية منذ باكورة خلقتها بصفتهم أنبياء ومرسلين، إذ بادروا إلى هداية بني آدم إلى سواء السبيل وإعلامهم بزوال هذه الحياة المادّية وانتقالهم إلى حياةٍ أزليةٍ يصنّفون فيها إلى صنفين أشقياء (كافرون) وسعداء (مؤمنون). وعلى هذا الأساس وحسب قاعدة الاحتمالات، فكلّ إنسانٍ - حتّى وإن لم يكن معتقداً بالآخرة - فهو يحتمل وجود خطر كامنٍ يهدّده بعد وفاته، في حين المعتقد على يقينٍ بأنّه إن لم يستجب لأوامر الشريعة ونواهيها سيواجه عذاباً أليماً من منطلق تصديقه بما جاء به الأنبياء والمرسلون من أخبار غيبية، ناهيك عن أنّ الفطرة السليمة ترسّخ في نفس الإنسان هذا الشعور الذي اكتنف الذهن البشري منذ اللحظة الأولى من الخلقة.

ص: 15

إذن، وفق أدنى الاحتمالات ألا يجدر بالإنسان التزام جانب الحيطة والحذر ومن ثمّ يسعى جاهداً لدفع أيّ خطرٍ يهدّده مستقبلاً؟! ومن هذا المنطلق فلا مناص له من التمحيص والتدقيق بما جاءت به رسالات السماء ومعرفة مدى صحّتها أو سقمها عن طريق البحث والتحليل كي يكون على علم بالإله العظيم الذي دعت الأديان السماوية إلى عبوديته وتقديسه، وبعد هذه الخطوة سوف يدرك حقيقة عالم الآخرة والحياة بعد الموت؛ وكما قلنا فهذا الأمر لا يتيسّر إلا فى ظلّ مباحث علم اللاهوت والآراء المطروحة فيه.

خلاصة الكلام أنّ الإنسان بطبعه يمتلك ثلاثة دوافع أساسية تحفّزه للخوض في غمار مباحث علم اللاهوت وهي الاستجابة لغريزة حبّ الاستطلاع ووجوب شكر النِّعمة وضرورة درء المخاطر المحتملة.

ثانياً : إمكانية معرفة الله تعالى:

إنّ معرفة الله عزّ وجلّ كانت وما زالت هاجساً يراود ذهن الإنسان، وبالطبع لا بدّ هنا من توفّر بعض المقدّمات، إذ ينبغي أوّلاً الإلمام بمعنى العلم ومتعلّقاته ومعرفة من يصدق عليه أنّه عالِمٌ كي يتمّ التوصّل إلى المقصود والتعرّف على مختلف خصائصه؛ ولكنّ الثابت بين العقلاء أنّ الذهن البشري محدودٌ وغير منزّةٍ من النقص وتكتنفه الحجب المادّية والنفسانية التي تحول دون تمكّنه من معرفة الله تعالى إلا من خلال اللجوء إلى مبادئ أخرى تعينه في ذلك، فالبارئ جلّ شأنه وجودٌ مجرّدٌ غير متناهٍ. ومن ناحيةٍ أخرى، فإنّ وجوده فريدٌ من نوعه ولا نظير له بحيث لا يمكن تشبيهه بأيّ كائنٍ من الكائنات في عالم الإمكان والمادةّ، فهو وجودٌ شاملٌ لجميع الكمالات المعروفة وغير المعروفة للإنسان.

ص: 16

وببيانِ آخر، إن أردنا تعريف شخصٍ بكيفية صناعة جهازٍ كهربائيٍّ أو آلةٍ ميكانيكيةٍ - كالطائرة على سبيل المثال - من المؤكّد أنّنا لا نلجأ إلى قواعد الفلسفة والمنطق كي نوضّح له مختلف زوايا الموضوع، بل نذكر له القواعد الفيزيائية والمعادلات الرياضية الخاصّة بهذه الصناعة المعقّدة نظراً لارتباطها بالموضوع. وكذا هو الحال بالنسبة إلى موضوع معرفة الله تعالى، فلا بدّ لنا من اللجوء إلى التجارب الدينية والحقائق التي جاء بها الوحي بغية بيان مختلف زوايا الموضوع

الإنسان غير العالمِ بطبيعة الحال عاجزٌ عن بلوغ كُنه الحقائق العلمية والغيبية بجميع تفاصيلها، وعلى هذا الأساس فهو قادرٌ على معرفتها بشكل إجماليٍّ اعتماداً على وحي السماء والتجارب الدينية لمن سبقه من علماء وصلحاء؛ لذا فإنّ معارفه المعنوية محدودةٌ نظراً لعدم اكتمال استنتاجاته العقلية.

يتّضح لنا ممّا ذكر مدى ضعف العقل البشري وعجزه عن امتلاك معرفةً تامّةً بالبارئ الكريم، فالمعرفة تتحقّق لكنّها محدودةٌ وتتناسب مع مستوى المدركات العقلية لكلّ إنسانٍ، وكما يقول علماء الفلسفة فالعلم المعلول لعلّته هو علمٌ ناقصٌ ومحدودٌ، ونتيجة ذلك أنّ الإنسان بصفته مخلوقاً من قبل الله تعالى ومعلولاً له فهو ذو علمٍ ناقصٍ ومحدودٍ.

يمكن القول إنّ معرفة الإنسان لحقيقة وكُنه الذات الإلهية المباركة تبلغ درجة الصفر (1)، إذ يقول العرفاء إنّ معرفة مكنون مقام الأحدية خارجٌ عن قدرة الممكنات حيث قال شاعرهم:

ص: 17


1- عبدالله جوادي الأملي، تفسير موضوعي - توحید در قرآن (باللغة الفارسية)، ج 2، ص 34؛ محمّدتقي مصباح اليزدي، آموزش فلسفه (باللغة الفارسية)، ج 2، ص 368

مفهومهُ من أعرف الأشياء *** وكُنههُ في غاية الخفاءِ(1)

أمّا بالنسبة إلى مقام الأسماء والصفات الإلهية وسائر المقامات التي هي أدنى مرتبةً من الذات المباركة، فإنّ معرفتها تتحقّق عن طريق الأفعال، وهي معرفةً إجماليةٌ يختلف كمّها وكيفها طبقاً لمدى علم كلّ إنسانٍ وقدرته الذهنية.

هناك طائفةٌ من الأحاديث حفّزت على معرفة الله تعالى عن طريق البحث والتفكّر (2)، في حين منعت أحاديث أخرى عن ذلك(3) ؛ لذا يمكن القول إنّ أفضل طريقٍ للجمع بين الطائفتين هو اعتبار العقل البشري عاجزاً عن معرفة كُنه الذات الإلهية المقدّسة لكنّه قادر على معرفة الأسماء والصفات والأفعال الإلهية بشكلٍ إجماليٍّ .

بناءً على ما ذكر فإن عدم قدرة الإنسان على معرفة كُنه الذات الإلهية سببه إلى أمرين أساسيين، أحدهما يرتبط بالإنسان نفسه ويتمثّل في يرجع عدم تكامل عقله، والآخر يرتبط بالذات المباركة التي هي وجودٌ محضٌ وذات

ص: 18


1- الملا هادي السبزواري، شرح المنظومة، ص 9، قسم الحكمة
2- روي عن المعصومين علیهم السّلام مجموعة من الأحاديث على هذا الصعيد، نذكر منها ما يأتي: «معرفة الله سبحانه أعلى المعارف»، عبد الواحد الآمدي، غرر الحِكَم ودرر الكلِم، رقم: 7999 و 9864. «العلم بالله أفضل العالمين»، المصدر السابق، رقم: 1674 . «أوّل الدين معرفته»، الشريف الرضي، نهج البلاغة الخطبة رقم: 1. «أوّل الديانة به معرفته»، محمّد بن يعقوب بن إسحاق الكليني، الكافي، ج 1، ص 140. «إنّ أفضل الفرائض وأوجبها على الإنسان معرفة الربّ»، ابن شهر آشوب، كفاية الأثر، ص 258
3- روي عن رسول الله صلّی الله علیه و آله أنّه قال: «تفكّروا في خلق الله ولا تفكّروا في الله فتهلكوا». محمّدي الرّيشهري، ميزان الحكمة، ج 3، ص 1892؛ محمّد بن يعقوب بن إسحاق الكليني، الكافي، ج 2، ص 92

صفاتٍ غير متناهيةٍ.

من البديهي أنّ الإنسان عاجزٌ عن النظر إلى الشمس المشرقة مباشرةً، إلا أنّ عجزه هذا لا يعني مطلقاً التشكيك في وجودها، بل إنّ عينه قاصرةٌ عن تأمّلها والتدقيق فيها؛ فهو هو قادرٌ على رؤية الأنوار الساطعة منها فحسب .

يا واهب العقل لك المحامد *** إلى جنابك انتهى (1) المقاصد

يا من هو اختفى لفرط نوره *** الظاهر الباطن في ظهوره (2)

إذن الإنسان قادرٌ على معرفة الأسماء وصفات الأفعال الإلهية بمستوى قابلياته الإدراكية ودرجة تقواه وورعه، ومن هنا يتّضح لنا السرّ الكامن وراء نهي بعض الأحاديث عن السعي للتفكّر فى ذات الله تعالى، فهذا النهي لا يعني تشجيع الإنسان على التقليد الأعمى للتعاليم الدينية كما زعم بعضهم، بل يراد منها عجز مدركاته العقلية ذلك.

الثمرة التي تترتّب على هذا النهي هي أنّ السبل والبراهين المعتمدة لإثبات وجود البارئ جلّ شأنه لا تمنحنا صورةً عن كُنه الذات الإلهية، وإنّما تثبت لنا أسماءه وصفات أفعاله (3) ، فالبراهين الآتية على سبيل المثال تقام لإثبات مفاهيم معيّنة وبيانها:

- برهان الصدّيقين (الإمكان والوجوب): مفهوم واجب الوجود.

ص: 19


1- هكذا في النصّ، ولكن يبدو أنّ كلمة ( تنتهي) أصح وأنسب للسياق
2- الملا هادي السبزواري، شرح المنظومة، ص 5، قسم الحكمة
3- للاطلاع أكثر ، راجع: عبد الله جوادي ،الآملي، تفسير موضوعي - توحید در قرآن (باللغة الفارسية)، ص 33 و 35 و 399

- برهان الحدوث: مفهوم الخالق.

- برهان النَّظم : مفهوم الناظم الذي ينظّم الكون ويدبّر شؤونه.

- برهان الحركة: مفهوم الحركة.

وبالرغم من أنّ إثبات انطباق بعض هذه المفاهيم على ذات البارئ سبحانه - كالمحرّك والمدبّر - بحاجةٍ إلى برهانٍ آخر، إلا أنّنا سنثبت في المباحث اللاحقة قدرة الذهن البشري على استكشاف بعض الصفات الإلهية عن طريق التحليل العقلى لعددٍ من المفاهيم الفلسفية من قبيل واجب الوجود.

بناءً على ما ذكر يثبت لنا عقم رأي من قال بإمكانية معرفة كُنه الذات الإلهية من قبل البشر، وهو قولٌ ذهب إليه علماء الكلام من الأشاعرة والمعتزلة، في حين أنّ حكماء الإمامية رفضوه (1)، إذ نقل عن الفخر الرازي أنّه قال: «ذهب جمهور المتكلّمين منّا ومن المعتزلة إلى أنّها [ذات الله تعالى] معلومةٌ لنا» (2). وقد استدلّوا على رأيهم هذا كما يأتي: لمّا كان لدينا علمٌ بأصل الوجود الذي هو حقيقة الذات الإلهية، فنحن إذن نمتلك معرفةً عن حقيقة هذه الذات المباركة.

هذا الاستدلال عقيمٌ ولا أساس له من الصحة، إذ يرد عليه أنّ الذات الإلهية عبارةٌ عن وجودٍ محضٍ غير متناهٍ، لذا فإنّ الذهن البشري المحدود والمقيّد بالظواهر المادّية لا يمتلك القدرة الكافية لإدراك كُنهها وغاية ما في

ص: 20


1- للاطّلاع أكثر ، راجع: ابن ميثم البحراني، قواعد المرام، ص 75
2- الخواجه نصير الدين الطوسي، نقد المحصل، ص 314؛ الفخر الرازي، المباحث المشرقية، ج 2، ص 521 - 522 . تجدر الإشارة هنا إلى أنّ الفخر الرازي أيد هذه العقيدة

الأمر أنّه يمتلك القابلية على إدراك معاني بعض الأسماء والصفات الإلهية في إطار معرفةٍ إجماليةٍ. نعم، يمكن القول بضرسٍ قاطعٍ إنّ هذه المعرفة الإجمالية بالأسماء والصفات والتى هى ذات مراتب مختلفة وتتحقّق لكلّ إنسان وفق قدراته الإدراكية، تجعله قادراً على معرفة مقام الإلوهية بشكل إجماليِّ.

ثالثاً: عدم الحاجة إلى إقامة البرهان لإثبات وجود الله تعالى :

سنتطرّق في المباحث اللاحقة إلى إثبات أنّ الاعتقاد بوجود الله عزّ وجلّ أمرٌ فطريٌّ ومدعومٌ بإجماعٍ عامٍّ، فكلّ إنسانٍ يتأمّل في قرارة نفسه يجد أنّه كائنٌ غير متكامل وينتابه شعورٌ بأنّه مفتقرٌ إلى وجودٍ مطلقٍ ومتكاملٍ؛ وهذا الشعور فى الحقيقة هو عين الاعتقاد بوجود الله تبارك وتعالى، أو أنّه على أقلّ تقديرٍ متلازمٌ معه.

هناك سؤالٌ يطرح على هذا الصعيد، وهو: هل أنّ الفطرة والبداهة والشهود تعدّ كافيةً على صعيد الاعتقاد بوجود الله تعالى، أو لابدّ من الاستدلال عليه بإقامة برهانٍ عقليٍّ فلسفيٍّ؟

يبدو أنّ علماء اللاهوت لا يؤكّدون على ضرورة إقامة البرهان العقليّ الفلسفيّ لإثبات وجود الله عزّ وجلّ، بل يكتفون بما يدركه الإنسان عن طريق الفطرة والبداهة والشهود؛ وبعبارةٍ أخرى: الاعتقاد بوجود الخالق البارئ لا يفتقر إلى الدليل والبرهان، لكنّ الضرورة تقتضي درء الشبهات وإقامة البراهين بغية إثباته للآخرين من جهة ومشكّكين وملحدين، ولاسيّما في عصرنا الراهن الذي يشهد هجماتٍ عنيفةٌ ضدّ التديّن وعقيدة التوحيد.

ص: 21

رابعاً: إمكانية إثبات وجود الله تعالى:

رابعاً: إمكانية إثبات وجود الله تعالى:

بعد أن تحدّثنا عن إمكانية معرفة الله عزّ وجلّ عبر معرفة صفاته وأسمائه الحسنى نذكر فيما يأتي أربعة آراءٍ على صعيد إمكانية إثبات وجوده على وفق البراهين العقلية :

1 ) وجوده ثابتٌ عقلاً:

تؤكّد هذه الرؤية على أنّ البراهين التي تقام لإثبات وجود الله عزّ وجلّ متقنةٌ ومتكاملةٌ من الناحية العقلية، فهو ثابتٌ عقلاً.

2 ) إمكانية إثباته :

يرى أتباع هذه الرؤية أنّ البراهين التي أقامها علماء اللاهوت لإثبات وجود الله تعالى لا تدلّ بالضرورة على المدّعى، وفي الحين ذاته يؤكّدون على عدم وجود ما يدعو لإنكاره؛ لذا من الممكن برأيهم إثبات وجود الذات الإلهية المقدّسة مستقبلاً عن طريق الاستدلال العقلى. لقد نحا هذا المنحى بعض الفلاسفة الغربيين والمثقّفنين المسلمين المتأثّرين بالتنوير الفكري(1)، حیث زعموا أنّ البشرية اليوم يجب أن تركّز أنظارها على ما هو معقولٍ وليس على التعقّل ذاته، كما ادّعوا أنّ الأصول والقواعد الفلسفية والعقائدية في علم اللاهوت لم تعد مؤثّرةً بعد أن فقدت مصداقيتها(2).

ص: 22


1- للاطّلاع أكثر، راجع: عبد الكريم سروش درسهايي در فلسفه علم اجتماع (باللغة الفارسية)، ص 408 - 409
2- محمّد المجتهد الشبستري، هرمنوتيك كتاب وسنّت (باللغة الفارسية)، ص 172

من البديهي أنّ التشكيك بأدلّة إثبات وجود الله سبحانه ليس مساوقاً لنفي وجوده، إذ من الطبيعي أن تكون هناك نظريةٌ مطابقةٌ للواقع لكنّ من طرحها عاجزٌ عن إثبات صحّتها للآخرين وإقناعهم بصوابها عبر استدلالٍ عقليٍّ متقنٍ لا غبار عليه ؛ وعلى هذا الأساس فمن يذكر مؤاخذاتٍ على هذه النظرية هو في الحقيقة يشكّك في صحّة البراهين التي تثبتها وليس في دلالتها.

إذن، لو تنزّلنا وافترضنا المحال - وبالطبع فإنّ فرض المحال ليس بمحال - وقلنا إنّ أدلّة إثبات وجود الله عزّ وجلّ غير تامّةٍ وتفتقر إلى الإتقان بحيث يمكن للملحدين والمعاندين المساس بها، فهذا لا يدلّ بتاتاً على عدم وجوده جلّ شأنه. إنّ غاية ما يُستشفّ من استدلال هؤلاء هو المساس بأدلّة إثبات الموضوع وليس الموضوع ذاته، لذا إن أرادوا إثبات مزاعمهم فلا مناص لهم من ذكر أدلّةٍ وبراهين لا يكتنفها أيّ نقص ولا خلل؛ وهو ما عجزوا عنه على مرّ العصور وإلى يومنا هذا؛ وسيبقون عاجزين عنه إلى الأبد.

3 ) عدم إمكانية إثباته:

أتباع هذه الرؤية يعتقدون بعدم نجاعة الأدلّة العقلية والفلسفية في إثبات وجود الله عزّ وجلّ ممّا دعاهم إلى تعطيل العقل والاستدلالات المنطقية، وهؤلاء ليسوا ،ملحدين بل يؤكّدون على أنّ إثباته ممكنٌ عن طريق القلب والضمير وليس للعقل دورٌ في هذا الصدد.

يقول الميرزا آغا تقي خان الكرماني (1270 ه_ - 1314ه_): «لا يمكن إثبات وجود ذات البارئ تعالى بالبرهان العقلى، والاعتقاد به منزّهٌ عن أيّ جدلٍ و نقاشٍ»(1).

ص: 23


1- فریدون آدمیت، اندیشه های میرزا آقا خان کرماني (باللغه الفارسية)، ص 101

كما تبنّى هذه الرؤية بعض الفلاسفة المادّيين الغربيين من أمثال إيمانوئيل كانط الذي تأثّر بسلفه ديفيد هيوم وجرّد البراهين الفلسفية في إثبات وجود الله تعالى عن مصداقيتها مؤكّداً على أنّ الضمير الأخلاقي هو السبيل الوحيد في هذا المضمار.

4 ) إثبات عدم وجوده

يتبنّى الملحدون هذه الرؤية المتطرّفة حول وجود الربّ تبارك شأنه، إذ زعموا أنّ إثباته غير ممكنٍ عقلاً وذهبوا إلى القول بأنّ الاعتقاد بوجوده يفضي إلى التناقض، لكنّ مساعيهم هذه لم تتمر شيئاً حتّى الآن، وهو ما اعترف به أبرز الفلاسفة الملحدين من أمثال برتراند راسل(1).

إذن، حسب الرؤية الأولى فإنّ العقل يبتّ بوجود الله تعالى، والرؤية الثانية تؤكّد على إمكانية إثباته بالبراهين العقلية، والثالثة ترى أنّه موجودٌ لكنّ أتباعها ينكرون قدرة الدليل العقلى على إثباته، ولكن بما أنّ هذه الرؤية لا تتقوّم على أُسس منطقية فلا يمكن ادّعاء أنّ وجود الله تعالى مخالفٌ لحكم العقل. أمّا الرؤية الرابعة والأخيرة فقد ذهب أصحابها إلى إنكار وجوده تعالى ورفضوا البراهين العقلية التي تساق في هذا المجال.

ص: 24


1- وجّه الفيلسوف وايت لنظيره برتراند راسل السؤال الآتي: «هل ثبت لك بالبرهان القاطع عدم وجود شيء اسمه الله ؟ أو أنك لا تمتلك برهاناً على ذلك؟»، فأجاب: «أنا لا أبتّ بالقول بعدم وجود شيءٍ اسمه الله، كلا؛ أعتقد أنّ هذا الأمر يشابه آلهة الإغريق والنرويج، فهذه الآلهة قد تكون موجودةً حقاًّ لأنّي لا أستطيع إثبات عدم وجودها». نقلاً عن: محمّد تقي الجعفري، توضيح وبررسي مصاحبه راسل - وايت (باللغة الفارسية)، ص 145

خامساً: لمحة عن براهين علم اللاهوت :

خامساً: لمحة عن براهين علم اللاهوت :

إنّ إثبات وجود الخالق العظيم للكون وما فيه من كائناتٍ حيّةٍ وغير حيّةٍ، ممكنٌ بطرق استدلالية عديدة، ونكتفي هنا بذكر جانبٍ منها فقط :

1 ) المعرفة (العلم الحضوري) :

علم الإنسان إمّا أن يكون حضورياً أو حصولياً، القسم الأوّل هو العلم الذي يحضر فيه عين الواقع المعلوم لدى العالِم - النفس أو أي مُدركٍ آخر - ولیست صورته الذهنية، ويظفر العالم بشخصية المعلوم، كعلم النفس بذاتها وحالاتها الذهنية والوجدانية، من قبيل علم الإنسان بأنّه حزينٌ أو مسرورٌ أو جائعٌ. والقسم الثاني يظفر الذهن - أوّلاً وبالذات وبلا واسطة - بالمفاهيم والصور الذهنية، ولكنّ هذه المفاهيم تمتاز بأنّها مرآةٌ للخارج بحيث يتخيّل الإنسان لأوّل وهلةٍ أنّه قد أدرك حقيقة العالم الخارجي دون واسطةٍ، ثمّ يقول في المرحلة الثانية إنّ هذه المفاهيم التي أتصوّرها عن الأرض والسماء لها وجودٌ في الخارج، وفي المرحلة الثالثة يقول إنّ منشأ ومبدأ ظهور التصوّرات الذهنية هو التأثيرات الخارجية.

وبالطبع فإنّ البراهين التي تقام لإثبات وجود الله عزّ وجلّ لا تخرج عن نطاق هذين القسمين، إذ يمكن للذهن البشرى استشعار وجود الله تعالى في ذاته على أساس فطرته وعلمه الحضوري فيؤمن به من دون الاعتماد على مفاهيم وتصوّرات ذهنية؛ وهذا النمط من العلم يطلق عليه في العرفان (العلم الشهودي) . المسألة الجديرة بالذكر هنا أنّ العلم الحضوري ليس على مستوى واحد بين جميع الناس، فالأنبياء والأئمّة يمتلكون علماً حضورياً يفوق سائر

ص: 25

الناس، كما أنّ الإنسان السالك العارف يمتلك علماً أوسع نطاقاً من علم عامّة الناس .

الصورة الثانية للعلم البشري بالله سبحانه وتعالى - العلم الحصولي - تتحقّق عن طريق المقارنة والاستدلال العقلي، حيث يمكن امتلاك هذا العلم استناداً إلى البراهين المتقوّمة على القواعد العقلية، كبراهين النَّظم والحركة والصدّيقين.

2 ) العلم السابق واللاحق :

الاستدلال على وجود الله تعالى بواسطة العلم الحصولي يتمّ على وجهين، هما:

الأوّل: استدلالٌ محضٌ تنتفي فيه الحاجة إلى مقدّمات حسيّة وتجريبية لإثبات المدّعى، مثل برهان الإمكان والوجوب (برهان الصدّيقين).

الثاني: الاستدلالات التي تحتاج إلى مقدمات حسّية وخارجية لإثبات المدّعى، مثل براهين الحدوث والحركة والنَّظم.

النمط الأوّل من الاستدلال الحصولي يطلق عليه (سابق) لكونه يتحقّق قبل الحسّ والتجربة، والنمط الثاني يسمّى (لاحق) لأنّه يحتاج في تحقّقه إلى قضايا حسّية وخارجية.

3 ) العلّة والمعلول (البرهانان اللمّي والإنّي):

السبيل الآخر لإثبات وجود الله تعالى هو البحث عن العلّة أو المعلول، فإثبات وجود المعلول تارةً يتحقّق عن طريق العلم بعلّته وإثبات وجودها، مثلاً حينما نعلم بوجود نارٍ في الموقد يتحقّق لدينا علمٌ بوجود حرارةٍ فيه،

ص: 26

وهذا الاستدلال يسمّى في علم المنطق (برهان لمّي)، وهذا البرهان في أحد دلالاته ينفي وجود علّةٍ لله عزّ وجلّ. وتارةً أخرى يتمّ إثبات وجود العلّة من خلال العلم بمعلولها وإثبات وجوده، كالتأكّد من وجود نارٍ عند رؤية دخانٍ وهو ما يطلق عليه في علم المنطلق (برهان إنّي).

يمكن إقامة هذين البرهانين لإثبات وجود الله عز وجل، فالاستدلال بالبرهان الإنّي يتمّ على أساس إثبات وجود الممكنات والحدوث والنَّظم والحركة، وهو يشمل غالبية البراهين الكلامية والفلسفية. وأمّا الاستدلال على أساس البرهان اللمّي فيتمّ عبر إثبات حقيقة الوجود، ولكن ليس عن طريق إثبات علّته الملازمة له (الله تعالى)، وهذا في الواقع لا يطلق عليه برهان لمّي، بل هو برهانٌ مشابهٌ له لأنّ الله سبحانه لا علّة له كي نثبت وجوده عن طريق إثبات علّته (1).

سوف نتطرّق فى الفصل اللاحق إلى الحديث عن مسألة عدم إمكانية إقامة البرهان اللمّي في علم اللاهوت، ونوضّح القيمة المعرفية للبرهان شبه اللمّي.

ص: 27


1- هناك عدد من التعاريف والآراء المطروحة حول البرهان اللمّي، فقد عرّفه بعضهم بأنّه العلّية العامّة للحدّ الأوسط فى البرهان، فحينما يكون الأوسط علّةً لثبوت الأكبر على الأصغر - سواء في العليّة الخارجية أو التحليلية والعقلية - فهو برهان لمّي. مثلاً لو قلنا : (بما أنّ العالم ممكن ، وكلّ ممكن يحتاج إلى واجب الوجود؛ فالعالم يحتاج إلى واجب الوجود) فإنّ (الممكن) هنا علّة للحاجة إلى (واجب الوجود)، وعلى هذا الأساس يكون الأوسط علّة لثبوت الأكبر على الأصغر؛ وهذا هو البرهان اللمّي. هذا الاستدلال يتكرّر في سائر البراهين. للاطّلاع أكثر ، راجع: ابن سينا، الإشارات بشرح المحقّق الطوسي والفخر الرازي، ج 1، ص 308؛ محمّد تقي مصباح اليزدي، تعليقة على نهاية الحكمة، العدد 8

4 ) المسلك والسالك والهدف:

في بعض البراهين يتّحد المسلك مع السالك والهدف، من قبيل برهان الصدّيقين الذي يثبت بأنّ الله تعالى هو الوجود كلّه وذلك عبر تبنّي نظرية وحدة الوجود؛ وإثر ذلك يتّحد المسلك (نفس الوجود) مع السالك (الإنسان الذي هو شأنٌ من شؤون الوجود الكامل) والهدف (الوجود الكامل).

وقد أشار الحكيم صدر الدين الشيرازي إلى هذه النظرية معتبراً برهان الصدّيقين أعلى شأناً من برهان النفس، حيث قال: «... طريقة الصّديقين، فيفضّل عليه وعلى غيرها بأنّ السالك والمسلك والمسلوك منه والمسلوك إليه كلّه واحدٌ، وهو البرهان على ذاته» (1).

بعض البراهين توحّد بين السالك والمسلك فقط، كبرهان النفس الذي يكون (السالك) فيه الإنسان، حيث يبدأ من (النفس) ليبلغ (الهدف) الذي هو إثبات وجود الله عزّ وجل،ّ فالإنسان هنا يجسّد (المسلك) أيضاً، وهو ما أكّد عليه هذا الحكيم المتألّه بقوله: «ففي هذه الطريقة يكون المسافر عين الطريق » (2).

وهناك براهين عدّت المبادئ الثلاثة متمايزةً عن بعضها كبرهان النَّظم الذي يرى أنّ الإنسان (السالك) يقيم الدليل على وجود الله تعالى (الهدف) عن طريق النَّظم الموجود في العالم (المسلك).

ص: 28


1- صدر المتألّهين، الشواهد الربوبية، المشهد الأوّل، الشاهد الثالث، الإشراف التاسع، ص 46
2- المصدر السابق

5 ) المسلك:

تقام البراهين هنا على أساس الطريق نفسه (المسلك)، وتصنّف إلى عقلية وشهودية وطبيعية وفطرية ،ونقلية، وقد وضّحناها فى المبحث الآنف.

6 ) التقسيم المتعارف في الفلسفة الغربية:

ذكرنا أهمّ البراهين المعتمدة لإثبات وجود الله تعالى وحدّدنا أقسامها الشائعة في علمي الكلام والفلسفة الإسلاميين، وفي الفلسفة الغربية تصنّف هذه البراهين في ثمانية أقسام:

أ - الوجودية (الأنطولوجيا).

ب - الإيديولوجية الشمولية.

ج - الأخلاق.

د - التجربة الدينية.

ه_ - الإجماع العام.

و - درجات الكمال.

ز - الرغبة الشعبية.

ح - الغائية.

سادساً: المدارس الفكرية التي تسعى لإثبات وجود الله تعالى:

سادساً: المدارس الفكرية التي تسعى لإثبات وجود الله تعالى:

ذكرنا في المباحث الآنفة براهين إثبات وجود البارئ تبارك شأنه،

ص: 29

ويمكن تصنيف هذه البراهين في نطاق ثلاث مدارس فكرية أساسية (1) وهي:

1) المدرسة العقلية:

إنّ منهج العقل والاستدلالات المبرهنة يعدّ أحد المناهج القديمة في علم اللاهوت، حيث يُعتمد على العقل لإثبات وجود الله عزّ وجلّ عن طريق مختلف البراهين التي غالباً ما تكون ذهنيةً ونظريةً يعجز عوامّ الناس عن بسطها وتحليلها لكونها تتقوّم على مبادئ ومفاهيم فلسفية معقّدة، لذا تتطلّب امتلاك معلوماتٍ تخصّصيةٍ في هذا المضمار وإلماماً بأصول الاستدلال الفلسفي.

هذا المنهج الفكري يضرب بجذوره في الفلسفة الإغريقية والرومانية، حيث برز آنذاك عددٌ من الفلاسفة الذين لمعت أسماؤهم على مرّ العصور من أمثال سقراط (2) وأفلاطون (3) وأرسطو (4). بذل هؤلاء ومن حذا حذوهم

ص: 30


1- يرى جماعة أنّ هذه المدارس الفكرية أربعة ، حيث أضافوا إليها المدرسة الأخلاقية التي ترتكز على النهج الفكري للفيلسوف إيمانوئيل كانط، لكنّنا نعتقد بأنّ مدرسة كانط تندرج في ضمن برهان الفطرة
2- للاطّلاع أكثر على سيرة سقراط، راجع: فريدريك كوبلستون، تاريخ فلسفه (باللغة الفارسية)، ج 1، ص 133؛ اميل بيريه تاريخ فلسفة (باللغة الفارسية)، ج 1، ص 119
3- للاطّلاع أكثر على سيرة أفلاطون، راجع : فريدريك كوبلستون، تاريخ فلسفه (باللغة الفارسية)، ج 1، ص 222 ؛ إتيان جيلسون، خدا وفلسفه (باللغة الفارسية)، ص38
4- للاطّلاع أكثر على سيرة أرسطو، راجع: أرسطو، متافيزيك (باللغة الفارسية)، ص 399؛ طبيعيات (باللغة الفارسية)، ص 273؛ أ. صغرى، تفسير ما بعد الطبيعة ابن رشد (باللغة الفارسية)، ص 3؛ رضا برنجکار، حکمت و اندیشه ديني (باللغة الفارسية)، ص 388؛ إتيان جيلسون، خدا و فلسفه (باللغة الفارسية)، ص 12-14

جهوداً حثيثةً لإثبات وجود الله سبحانه اعتماداً على مختلف الاستدلالات العقلية ووصفوه بعناوين عديدة منها واجب الوجود وعلّة العلل والمحرّك الأوّل.

وكما هو معلومٌ فهذه المدرسة الفكرية واجهت اعتراضاً من قبل سائر المدارس الفكرية، وسنتطرّق إلى بيان هذا الأمر لدى حديثنا عن المدرستين المادّية والعرفانية، كما سنشير إلى البراهين الاستدلالية التي ساقها أتباع المدرسة العقلية على صعيد إثبات وجود الله عزّ وجلّ في فصل مستقلٍّ.

2 ) المدرسة الظواهرية:

النزعة الظواهرية تضرب بجذورها فى المنتصف الثانى من القرن الأوّل الهجري حينما اكتفى أهل الحديث، ولا سيّما الحنابلة، بظواهر الآيات والروايات وحظروا كلّ استفسارٍ وبحثٍ علميٍّ في الجوانب العقلية للتعاليم الدينية وعدوّا ذلك بدعةً. على سبيل المثال، مالك بن أنس الذى يعدّ أحد فقهاء أهل السنّة المعروفين ومؤسّس الفقه المالكي، حينما سُئل عن معنى قوله تعالى: «الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى» (1)، ثارت حفيظته وتصبّب وجهه عرقاً، وقال: «الكيفية مجهولةٌ، والسؤال بدعةٌ»، ثمّ أمر بطرد السائل من المجلس! (2) في حين أنّه عالم دين وفقيهٌ مكلّفٌ بالإجابة عمّا يطرح عليه من أسئلةٍ دينيةٍ، وعندما يجهل الجواب كان المفترض به الاعتراف بذلك واجتناب الغضب غير

ص: 31


1- سورة طه ، الآية 5
2- للاطّلاع أكثر ، راجع: الشهرستاني، الملل والنحل، ج 1، ص 93؛ محمّد الشبلي النعماني، علم كلام جديد (باللغة الفارسية)، ص 11 - 12؛ مرتضى مطهّري، مجموعه آثار (باللغة الفارسية)، ج 6، ص 885

المسوّغ على السائل وطرده.

وأمّا ابن تيمية فقد نحا منحىً متطرّفاً على هذا الصعيد وتمسّك بالظواهر أيّما تسمّكٍ لدرجة أنّه اعتبر الفلاسفة «أجهل الخلق بربّ العالمين»(1)، وزعم أنّ الأسلوب الذي اتّبعه القرآن الكريم والأنبياء في إثبات وجود الله تعالى هو التذكير بالظواهر الطبيعية وليس البراهين العقلية والمنطقية (2)، حيث أکّد علی وجود بونٍ شاسع بين الأمرين (3).

3) المدرسة المادّية الطبيعية المعاصرة :

يعتقد بعض أتباع النزعة المادّية الطبيعية أنّ أصول علم اللاهوت الحقيقي لابدّ من أن تتقوّم على أساس البحث في الطبيعة ومختلف العلوم الحسّية التجريبية من منطلق اعتبارهم المبادئ العقلية والبراهين الفلسفية مجرّد مفاهيم ذهنية انتزاعية ليس من شأنها إعانة الإنسان على امتلاك معرفةٍ حقيقةٍ بالله سبحانه وتعالى.

يرى هؤلاء أنّ إيمان خبراء العلوم التجريبية بأسرار الكون ونظمه الدقيق أقوى من إيمان الفقهاء والفلاسفة وقد انعكس هذا التوجّه الفكري في عصرنا الراهن بين بعض العلماء المسلمين من أمثال سيّد قطب (4) ومحمّد فريد

ص: 32


1- ابن تيمية، الردّ على المنطقيين، ج 2، ص 885
2- المصدر السابق، ص 158 و 161
3- المصدر السابق، ص 160
4- للاطّلاع أكثر ، راجع: سيّد قطب إبراهيم حسين الشاربي، عدالت اجتماعي در اسلام (باللغة الفارسية)، ص 7-465؛ سيّد قطب إبراهيم حسين الشاربي، في ظلال القرآن، ج 2، ص 722 و 1097

وجدي (1) وطنطاوي (2)، وغيرهم ممّن تأثّر بالفكر المادّي المعاصر (3).

ومن جملة العلماء المسلمين المعاصرين الذين تبنّوا هذه النزعة الفكرية، إقبال اللاهوري الذي يعدُّ أحد مفكّري أهل السنّة المتأثّرين بالفلسفة المادّية الغربية، حيث قيّد مصادر المعرفة البشرية بثلاثة مبادئ أساسية هي التجربة الباطنية والتأريخ وعالم الطبيعة؛ وعلى هذا الأساس شدّد بضرسٍ قاطع على بطلان الفلسفة بنمطيها الإغريقي والإسلامي فعارضها بزعم أنّها ترتكز على مبادئ عقلية انتزاعية محضة وتجعل الإنسان في غفلة عن القضايا المحسوسة، حيث قال: «إنّ التجربة الباطنية هي المصدر الوحيد للمعرفة البشرية، وحسب المدلول القرآني هناك مصدران آخران لهذه المعرفة، هما التأريخ وعالم الطبيعة، ومن خلال البحث في هذين المصدرين تتّضح روح الإسلام بأفضل وجهٍ» (4).

ص: 33


1- للاطّلاع أكثر، راجع: محمّد فريد وجدي، على أطلال المذهب المادّي
2- للاطّلاع أكثر ، راجع: طنطاوي جوهري، تفسير الجواهر، ج 11، ص 71 - ج 25 ، ص 56 - ج 17 ، ص 16. بحسب رأي طنطاوي فإنّ امتزاج علم التوحيد مع الفلسفة يؤدّي إلى الابتعاد عن الله تعالى والتخلّف عن ركب التطوّر العلمي، وأنّ محبّته جلّ شأنه والتقرّب إليه لا يتحقّقان إلا في ظلّ العلم، كما أكّد على أنّ اليقين الكامل بالحياة الآخرة يتحقّق على أساس العلم من قبيل علم الأرواح. للاطّلاع أكثر على هذا الرأي، راجع نفس المصدر: ج 1 ، ص 84، ج 2، ص 86 و 89 - ج 25 ، ص 57
3- للاطّلاع أكثر على آراء المفكّرين المسلمين المعاصرين على هذا الصعيد، راجع: شادي نفيسي، عقل گرايي در تفاسیر قرن چهاردهم (باللغة الفارسية)، الفصل الرابع
4- محمّد إقبال اللاهوري احياي فكر ديني در اسلام (باللغه الفارسية)، ص146- 147. تجدر الإشارة هنا إلى أنّ إقبال اللاهوري تحدّث عن البرهان العقلي واعتبره من سنخ براهين العقل الاستقرائي ممّا يعني أنّه يتبنّى رؤيةً مادّيةً في إطارٍ عقليٍّ

وأكّد على عدم وجود تناسق بين الإسلام والفلسفة، ولا سيّما القرآن الذي عدّه متعارضاً مع الفلسفة بالكامل، فقال: «إنّ روح القرآن الكريم تتعارض مع التعاليم الإغريقية ... فهي تتمحور حول القضايا العينية، في حين أنّ الفلسفة الإغريقية تتطرّق إلى القضايا النظرية في عين تجاهلها للحقائق العينية» (1).

وعلى هذا الأساس نحا منحىٍ مادّياً تجريبياً في تفسير القرآن الكريم وعلم اللاهوت، ومن جملة أقواله : «يرى القرآن الكريم أنّ أنفس البشر وآفاق العالم هي مصادر العلم والمعرفة، كما أنّ الله سبحانه يجعل علامات وجوده تتجلّى في التجربة سواءٌ كانت باطنيةً أو خارجيةً، لذا فإنّ واجب الإنسان هو امتلاك معرفةٍ تمكّنه من تقييم جميع الجوانب التجريبية»(2). وقال أيضاً: «من وجهة نظر القرآن الكريم فإنّ الحقيقة يمكن أن تتجلّى عن طريق الإدراك الحسّي لجميع شؤون الطبيعة، وبما في ذلك الشمس والقمر والظلال وتوالي الليل والنهار وتنوّع الأجناس البشرية واختلاف اللغات وتداول أيام الخير والسوء» (3). وقد تطرّق إلى الحديث عن مسألة إثبات وجود الله عزّ وجلّ في إطار البراهين الفلسفية العقلية، وانتقدها نقداً لاذعاً وبالأخصّ تلك البراهين التي يعتمد عليها الفلاسفة في بيان واقع الإيديولوجية الشمولية والغائية والأنطولوجية (4)، وسنوضّح هذا الموضوع في محلّه.

ص: 34


1- محمّد إقبال اللاهوري، احياي فكر ديني در اسلام (باللغه الفارسية)، ص 148
2- المصدر السابق، ص 146
3- المصدر السابق، ص 147
4- المصدر السابق، ص 35

إنّ هذه الوجهة الفكرية شاعت إلى حدٍّ ما بين بعض محدّثي الإمامية ومفسّريهم في القرون الماضية لدرجة أنّ صدر المتألّهين الذي عاش في أوائل القرن الحادي عشر الهجري وصفهم بأنّهم (حنابلة أهل الحديث) لكونهم قيّدوا نطاق فكرهم في القضايا المادّية فتخلّفوا عن قافلة التعاليم الدينية السامية ومن ثمّ ابتعدوا عن الروح المعنوية (1).

بعد أن اطّلع العلماء المسلمون على مختلف العلوم التجريبية وتعرّفوا على مبادئ الفلسفة المادّية الغربية في العقود المنصرمة، تزايدت هذه النزعة لدى بعضهم واتّشحت بحلّةٍ جديدةٍ. المفكّر الإيراني مهدي بازركان هو أحد الشخصيات الإسلامية التي سارت في ركب إقبال اللاهوري، حيث اتّخذ موقفاً صارماً تجاه الفلسفة معتبراً أنّ المسلمين قد اهتمّوا بها أكثر ممّا تستحقّ، فقد عرف عنه قوله : «إنّ المسلمين ... قد منحوا نظريات الفلاسفة الروحانيين الإغريق منزلةً أكثر ممّا تستحقّ مقارنةً مع اهتمامهم بكتب الأنبياء وآيات الله تعالى، إذ اعتبروا معتقداتهم بديهيةً ومحكمةً، فقيّدوا أنفسهم بقيود التقليد والتعصّب العلمي طوال قرون مديدة» (2).

وقد أكّد على أنّ القرآن الكريم سلّط الضوء بشكل أساسيٍّ على الطبيعة في مجال علم اللاهوت وادّعى أنّ العلماء المسلمين قد غفلوا عن هذه الحقيقة، فقال: «لقد حذا علماء الفقه والمفسّرون حذو الفلاسفة الإغريق وتمسّكوا بالطبيعة أيّما تمسّكٍ، وهم في هذا الصدد خالفوا النهج المتعارف بين

ص: 35


1- صدر المتألّهين ، الأسفار الأربعة، ج 1، ص 5 - 6
2- للاطّلاع أكثر، راجع: مهدي بازركان، راه طي شده (باللغة الفارسية)، ص 9

أرباب علم الكلام والذي دام لأكثر من مئة عام» (1).كما يرى أنّ قدرة العلماء المادّيين على معرفة الله تعالى وصفاته الثبوتية تفوق قدرة معظم الفقهاء وأساتذة العلوم النظرية، إذ قال: «تطوّر العلوم الطبيعية لم يقتصر فقط على ترسيخ عقيدة التوحيد لدى عالم الطبيعيات، بل جعله يدرك حقيقة الصفات الثبوتية لله بشكل يفوق إدراك الفقهاء والأساتذة .... وذلك لأنّ علماء الطبيعة عرفوا حقيقة المصنوع بصورةٍ أدقّ وأكمل من معرفتنا، لذا من البديهي أنّ عبادتهم للصانع أفضل من عبادتنا وتقرّبهم له أكثر من تقرّبنا» (2).

4 ) مدرسة الشهود والعرفان:

أتباع المدارس الفكرية التي ذكرت يرومون معرفة الله تعالى عبر إدراكٍ خارجٍ عن نطاق النفس وعالم الشهود، لذلك اعتمد أصحاب النزعة العقلية على العقل والمفاهيم الذهنية، ولجأ المادّيون إلى العلوم الطبيعية. وأمّا الذين تبنّوا مبادئ مدرسة الشهود والعرفان فلا يميلون إلى الحسّ والعقل ويؤكّدون على عجز الإنسان عن امتلاك معرفةٍ حقيقيةٍ بالبارئ الكريم في ظلّ المفاهيم العقلية أو البحث في المسائل الطبيعية، ومن هذا المنطلق دعوا إلى اتّباع منهج السير والسلوك المعنوي في عالم الشهود من خلال تهذيب النفس، وهو ما يطلق عليه اليوم عنوان (التجربة الدينية).

ومن الجدير بالذكر أنّ هذه المشارب الفكرية لا تقتصر على المسلمين

ص: 36


1- للاطّلاع أكثر، راجع: مهدي بازركان، مجموعه آثار - باد و باران در قرآن (باللغة الفارسية)، ج 7، ص 404؛ مهدي بازرکان، راه طي شده (باللغة الفارسية)؛ محمّد حنیف نجاد، راه انبیاء و راه بشر (باللغة الفارسية) ، ص 2
2- المصدر السابق، ص 74 - 75

فحسب، بل هناك من يتبنّاها في العالم الغربي من أمثال بليس باسكال (1) وبريجسون (2) ووليام جيمز (3).

النقاش المحتدم بين العرفاء والفلاسفة دعا بعض أتباع المسلك العرفاني إلى احتقار العقل والتقليل من شأن استدلالاته، ودعوا إلى الإعراض عنه في القضايا الماورائية بعد أن قيّدوا حجّيته بنطاق الزمان والمكان وعالم الطبيعة؛ ونقل عن عين القضاة الهمداني قوله: «أنا لا أنكر بأنّ العقل قد خُلق لمعرفة المسائل الهامّة من غوامض الأمور، لكنّني لا أُحبّ أن تتجاوز مبادؤه فطرتي ومنزلتي الطبيعية»(4).

نقول في بيان هذه الوجهة العرفانية : غالبية العرفاء يعتقدون بأنّ مسلك الشهود وتهذيب النفس لا يعدّ السبيل الوحيد لمعرفة الله سبحانه وتعالى، بل يعتبرونه أفضل السُّبل وأنجعها؛ لذلك يعتبرون الاستدلال العقلي مقدّمةً ضرورية للشهود والعرفان. قال السيّد داوود قيصري في هذا الصدد: «معرفة الله سبحانه على قسمين، علميٌّ وعمليٌّ، القسم الثاني مشروطٌ بالأوّل ليكون العاملُ على بصيرةٍ في عملهِ» (5).

كما حذّر ابن الفارض العرفاء من الاكتفاء بالعلوم الروائية والإعراض

ص: 37


1- يقول الفيلسوف الفرنسي بليس باسكال في هذا الصدد: «القلب هو الذي يشهد على وجود الله تعالى وليس العقل». محمّد علي فروغي، سير حکمت در اروپا (باللغة الفارسية)، ج 2، ص 14
2- المصدر السابق، ج 3، ص 322
3- وليام جيمز دين وروان (باللغة الفارسية)، الفصل الرابع
4- عين القضاة الهمداني، زبدة الحقائق، ص 28 - 48
5- داوود قيصري، رسائل قيصري (باللغة الفارسية)، ص 35

عن العلوم العقلية (1)، والعارف الشهير ابن تركه أكّد على ضرورة الاعتماد على العلوم الفكرية والنظرية كعلم المنطق في مجال معرفة الحقائق على صعيد القضايا العلمية والعرفانية (2)، وأمّا الشاعر العارف جلال الدين مولوي حينما قلّل من شأن الاستدلال العقلي والقياس المنطقي، نوّه على أنّ هذا الأمر يطبّق في المرتبة الأولى من مراتب الشهود والعرفان، وكلامه هذا يعني وجوب الاستغناء عن العقل عندما يتمكن الإنسان من اللجوء إلى الشهود والعرفان في معرفة الحقيقة، ولكن في المراتب الأخرى التي يعجز فيها عن معرفة الحقيقة على أساس الشهود والعرفان فهو مضطرٌّ لأن يرجع إلى العقل كوسيلةٍ لذلك (3).

المسألة الجديرة بالذكر هنا أنّ مسلك الشهود والعرفان يوجّه خطابه إلى فئةٍ معيّنةٍ من أهل السير والسلوك لكون عامّة الناس غير قادرين على الغور في مفاهيمه العميقة، لذا على غير العرفاء اللجوء إلى سبُل أخرى في علم اللاهوت ومعرفة الله تعالى من قبيل التأمّل في حقائق الطبيعة والانتهال من العلوم النظرية والعقلية اعتماداً على الاستدلالات العقلية.

ولا يختلف اثنان في أنّ تعدّد السُّبل الكفيلة بمعرفة الله تعالى والإيمان به هو في الواقع لطفٌ منه على عباده، فكلّ إنسانٍ يتمكّن من ذلك بحسب قابلياته الفكرية وذوقه العلمي.

ص: 38


1- سعد الدين الفرغاني، مشارق الدراري الزُّهر في كشف حقائق نَظم الدُّر (شرح تائية ابن الفارض)، ص 574
2- ابن تركه تمهيد القواعد، ص 270
3- جلال الدين مولوي، مثنوي معنوي (باللغة الفارسية)، الباب الثالث البيت رقم 276

سابعاً: البراهين التي أقامها معارضو البراهين الفلسفية في علم اللاهوت :

سابعاً: البراهين التي أقامها معارضو البراهين الفلسفية في علم اللاهوت :

بعض العلماء والمفكّرين رفضوا الاعتماد على البراهين الفلسفية في مجال علم اللاهوت، حيث تمسّكوا بأدلّةٍ عقليةٍ وروائيةٍ لإثبات مدّعاهم، ونذكر أهمّها فيما يأتي:

1 ) إمكانية طروء الخطأ على المعرفة العقلية:

من المسائل التى تمسّك بها المعارضون لإنكار نجاعة البراهين الفلسفية على صعيد علم اللاهوت واعتبروها دليلاً يثبت مدّعاهم، هي عدم حصانة العلوم العقلية من الخطأ والخلل، ولا سيّما في مجال إثبات الأمور الماورائية، من قبيل وجود الله تبارك شأنه ومن هذا المنطلق انتقدوا البراهين العقلية وجردوها عن الصواب معتبرين الاعتماد عليها سبباً لحرمان الإنسان من اليقين بوجود البارئ سبحانه.

وضمن بيانه للبراهين الفلسفية المطروحة على صعيد الإيديولوجية الشمولية والغائية والأنطولوجية، قال إقبال اللاهوري: «إنّهم يجعلون الحركة الحقيقية للفكر تتمحور حول البحث عن المطلق المجسّم، ولكن بما أنّ [ براهينهم] يُنظر إليها من زاويةٍ منطقيةٍ، نجدهم يخشون من أن تصبح عرضةً لنقدٍ لاذع» (1).

تحليل الموضوع :

نتطرّق فيما يأتي إلى تحليل ما ذكر في الدليل الأوّل الذي اعتمد عليه

ص: 39


1- محمّد إقبال اللاهوري، احياي فکر ديني در اسلام (باللغه الفارسية)، ص 35

معارضو البراهين الفلسفية التي تقام في علم اللاهوت :

أ - أثبتنا آنفاً حجّية المعرفة العقلية وضرورتها، وهنا نقول إنّ الإنسان من خلال تمسّكه بقدرة التعقّل يتمكّن من معرفة الشؤون الماورائية في إطارٍ كلّيٍّ، ومن المؤكّد أنّ تعطيل العقل في مجال القضايا الماورائية الدينية يجعل من فهمها أمراً صعباً للغاية، بل مستحيلاً أحياناً.

لقد أكّد القرآن الكريم والأحاديث المباركة على ضرورة الرجوع إلى العقل في مجال فهم الحقائق الماورائية، وإلا سينجرف الإنسان وراء فكرٍ باطلٍ متقوّمٍ على أساس تعطيل العقل ممّا يحجبه عن فهم القرآن والحديث ويجعله حائراً أمام ذلك الكمّ الهائل من التعاليم والمبادئ الدينية. ومن جملة الآيات القرآنية التي أكّدت على ذلك، ما يأتي:

- «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ» (1).

- «ولله الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» (2).

- «وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا» (3).

- «وَاللَّهُ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الله إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ» (4).

- «قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ» (5).

ص: 40


1- سورة الشورى، الآية 11
2- سورة النحل، الآية 60
3- سورة الأعراف، الآية 180
4- سورة البقرة، الآية 115
5- سورة التوحيد، الآية 1

- «هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» (1).

يقول الشهيد مرتضى مطهري في هذا الصدد: «لا يمكن أن يتجلّى علم اللاهوت - والمسائل المرتبطة به - كعلم معتبر إلا في رحاب العقل والفلسفة، حاله حال بعض العلوم الأخرى مثل علم النفس وعلم النبات. من الخطأ بمكانٍ ادّعاء أنّ البحث عن شؤون الخلقة يغنينا عن الخوض في غمار المسالك الفلسفية الصعبة والمعقّدة» (2).

من البديهي أنّ عالم الدين لو استعان بالعرفان والشهود إلى جانب اعتماده على العقل والفلسفة، سوف تتنامى قدراته العلمية ويتمكّن من التعرّف على مكنون التعاليم الميتافيزيقية بشكل أوسع وأدقّ، لأنّ علمه الفلسفي في هذه الحالة يمسي حكمةً متعاليةً.

ب - صحيحٌ أنّ الخطأ يمكن أن يطرأ على المعارف العقلية في إطار القضية الموجبة الجزئية، لكن ليس من الحريّ اعتبار ذلك وازعاً لتجريدها بالكامل من قابليتها على إيجاد العلم والطمأنينة لدى الإنسان، إذ إنّ بعضها بديهيٌّ ومبرهنٌ عليه بشكلٍ لا يبقى معه أدنى مجالٍ للشكّ والترديد. على سبيل المثال، البراهين الفلسفية أثبتت وجود العالم المجرّد فيما وراء عالم الطبيعة والمادّة، وسنتطرّق إلى بيان ذلك في المباحث اللاحقة المرتبطة ببراهين علم اللاهوت.

ج - لا ريب في أنّ احتمال طروء الخطأ في المعارف الحسّية إن لم يكن أكثر ممّا هو عليه في العلوم العقلية، فهو بكلّ تأكيدٍ ليس بأقلّ منه. منه. العلوم

ص: 41


1- سورة الحديد، الآية 3
2- مرتضى مطهّري ، مجموعه آثار (باللغة الفارسية) ، ج 6، ص 958 و 961

التجريبية في أساسها مرتكزةً على احتمال الخطأ والبطلان، وهو ما أثبته الفيلسوف المادّي كارل ريموند بوبر في القرن العشرين (1)، وفي عصرنا الراهن يطلق على القوانين الطبيعية عنوان القوانين الإحصائية (2).

د - معارضو البراهين العقلية قد ناقضوا رأيهم بعد أن تشبّثوا بنفس هذه البراهين لنقضها، ومثال ذلك أنّ الشاعر العارف مولانا ذكر شعراً لإثبات المدّعى اعتماداً على قضيتين عقليتين صغرى وكبرى، لذا فإن كان الاستدلال العقليّ معتبراً لإثبات المدّعى فهو بكلّ تأكيدٍ معتبرٌ على صعيد إثبات كلّ قضيةٍ أخرى، ولكنّه إن سقط عن الاعتبار فهذا يعني بطلان استدلال كلّ من تمسّك به وبما في ذلك معارضو أسلوب البرهنة العقلية.

ه_ ) ما ذكره إقبال اللاهوري في نقد البراهين العقلية التي تقام على صعيد علم اللاهوت، سوف نتطرّق إلى بيانه في المباحث اللاحقة لدى حديثنا عن البراهين والردّ على الشبهات.

2 ) عدم نجاعة البرهان الفلسفي لإثبات وجود الإله الذي تعتقد به الأديان :

ذهب معارضو النزعة الفلسفية في علم اللاهوت إلى أنّ غاية ما تثبته البراهين الفلسفية هو وجودٌ تحت عنوان (العلّة الأولى) أو (واجب الوجود)، وهذا الأمر لا يتناغم مع صفات الإله الذي تعتقد به الأديان.

ص: 42


1- کارل ریموند بوبر، حدسها وابطالها (باللغة الفارسية)، ص 77؛ کارل ریموند بوبر، منطق اكتشاف علمي (باللغة الفارسية)، ص 44 و 426؛ إيان باربر، علم ودين (باللغة الفارسية)، ص 312
2- پوزیتیویسم منطقي باللغة الفارسية، ص 29؛ هانس رايشن باخ، پیدایش فلسفه علمي (باللغة الفارسية) ، ص 191 و 194 و 105

سوف نتطرّق إلى نقض هذه الشبهة بالتفصيل في الفصل الثاني ضمن الحديث عن الشبهة الثامنة في برهان الإمكان والوجوب، وسيتّضح حينئذٍ أنّه من الممكن معرفة إله الأديان بصفاته الخاصّة في رحاب معرفة واجب الوجود.

3 ) الدليل الروائي :

من الأدلّة الشائعة التى تشبّث بها علماء اللاهوت الماديّون، الاستشهاد بالدلالات الظاهرية للآيات القرآنية والأحاديث التي تدعو إلى التأمّل في الخلقة والطبيعة لمعرفة الله عزّ وجلّ (1) ، فهناك عددٌ من الآيات التي تتضمّن هذه الدلالة، ومنها الآيتان التاليتان: «الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ» (2). «أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ»(3).

يقول إقبال اللاهوري في هذا الصدد: «لقد أكّد القرآن الكريم على أنّ الحقيقة يمكن أن تتجلّى عن طريق الإدراك الحسّي لجميع شؤون الطبيعة، وبما في ذلك الشمس والقمر والظلال وتوالي الليل والنهار وتنوّع الأجناس البشرية واختلاف اللغات وتداول أيام الخير والسوء » (4).

و من الأحاديث التي تمسّك بها هؤلاء، الحديث المنسوب إلى رسول

ص: 43


1- مهدي بازركان، راه طي شده (باللغة الفارسية)، ص 91
2- سورة الملك، الآية 3
3- سورة الغاشية، الآيات 17 إلى 20
4- محمد إقبال اللاهوري، احياي فکر ديني در اسلام (باللغه الفارسية)، ص 147

الله صلّی الله علیه و آله: «عليكم بدين العجائز» (1) ، وذلك حينما شاهد عجوزاً تغزل الصوف وسألها عن خالق الكون، فبادرت إلى وقف غزلها وقالت: لو أنّ هذا المغزل بحاجةٍ إلى محرّكٍ يحرّكه، فالكون كذلك يحتاج إلى محرّكٍ. فنظر رسول الله صلّی الله علیه و آله إلى صحابته وحثّهم على ضرورة معرفة الله تعالى عن طريق البحث في النَّظم والطبيعة والحركة.

تحليل الموضوع:

نقول في تحليل ما ذكر:

1 ) هناك قاعدةٌ عقليةٌ تقول إنّ إثبات أمرٍ لا يعني نفي ما سواه، ونحن نقرّ بتأكيد القرآن الكريم والأحاديث المقدسة على ضرورة دراسة وتحليل القضايا الحسّية والطبيعية بغية معرفة الله سبحانه وتعالى، لكنّ هذا التأكيد لا یعني بتاتاً غضّ النظر عن الرجوع إلى المسائل العقلية وإقامة البراهين الفلسفية. وبتعبيرٍ آخر: لكلّ واحدةٍ من هاتين الوجهتين الفكريتين مخاطبوها الذين لهم تخصّصٌ فيها، فالشؤون المحسوسة تستقطب غالبية الناس ولا سيّما من لا يمتلك إلماماً بالمباحث العقلية والفلسفية.

2 ) كما ذكرنا في المبحث السابق، فإنّ إدراك مكنون المفاهيم الدقيقة لبعض النصوص الدينية لا يتسنّى إلا في ظلّ الاستدلال العقلي، لذا لو تخلّينا عن العقل والفلسفة في فهم الحقائق نكون قد خالفنا روح الدين وأهدافه.

هناك ملاحظاتٌ حريّةٌ بالذكر حول حديث : «عليكم بدين العجائز»، وهي:

ص: 44


1- لم يرو هذا الحديث بسندٍ صحيح عن النبيّ الأكرم صلّي الله علیه و آله وتناقله المحدّثون في مصادرهم، ومن جملة الكتب التي ذكر فيها بحار الأنوار، الجزء 66 ، الصفحة 135

1) يدلّ هذا الحديث على أهميّة الاستدلال العقلي، ولكن كلٌّ حسب فهمه وإدراكه، فالسيّدة العجوز قد استدلّت على وجود المحرّك للكون حسب برهان أرسطو وبأسلوب فطريٍّ .

2) الخطاب الموجّه في الحديث يشمل غالبية الناس الذين يعتقدون بدينهم على أساس أمورٍ حسّيةٍ، وقد أكّد رسول الله صلّی الله علیه و آله على ضرورة ترسيخ العقيدة والإيمان بالله تعالى طبق استدلال السيّدة العجوز التي أيقنت بوجوده جلّ شأنه بطريقتها الخاصّة، لذا على الآخرين السعي لبلوغ مراتب أعلى حسب استطاعتهم.

3) بكلّ تأكيدٍ ليس المراد من الحديث جمود الإنسان على مسائل سطحية عامّة فيما يخصّ التعاليم والمعتقدات الدينية، لأنّ هذا الادّعاء يتعارض مع روح القرآن الكريم والأحاديث المباركة، وقد وضّحنا الموضوع سابقاً.

4) اعترض البعض قائلاً بأنّ الحديث منسوبٌ إلى رسول الله صلّی الله علیه و آله ولا يمكن البتّ بأنّه قد صدر منه وهو ما ذهب إليه الميرزا القمّي (1) والشهيد مرتضى مطهّري (2)، وقد وضّحنا هذا الأمر في الهامش الخاصّ بالحديث.

ص: 45


1- للاطّلاع أكثر ، راجع : الميرزا القمّي، قوانين الأصول، ج 2، باب جواز وعدم جواز التقليد في أصول الدين
2- مرتضى مطهّري، مجموعه آثار (باللغة الفارسية)، ج 6 ، ص 888 - 889

ص: 46

الفصل الثاني

براهين علم اللاهوت ونقض شبهات المشكّكين

براهين علم اللاهوت ونقض شبهات المشكّكين

ص: 47

ص: 48

يتّبع الملحدون أسلوبين لإثبات مزاعمهم الواهية وإنكار حقيقة الحقائق، فتارةً نجدهم يفنّدون البراهين التي استدلّ بها علماء اللاهوت لإثبات وجود الله عزّ وجلّ زاعمين أنّها تفتقر إلى القيمة المعرفية، وتارةً أخرى يأتون ببراهين واهية يزعمون أنّها تدلّ على عدم وجود ربٍّ للكون. ومن هذا المنطلق سوف نسلّط الضوء على هذين الموضوعين، حيث نستهلّ البحث بذكر براهين إثبات وجود الله سبحانه وتعالى بشكلٍ موجزٍ ثمّ نتطرّق إلى الشبهات التي طرحها المشكّكون ونقيّمها بأسلوبٍ نقديٍ، وفي الفصل التالي سنتناول أطراف الحديث عمّا ذكره الملحدون في هذا الصدد.

• البرهان الأوّل: الإمكان والوجوب:

لا ريب في الإنسان لو ألقى نظرةً على بيئته المحيطة به وتأمّل فيها على أساس علمه بنوعيه الحصولي والحضوري، سوف يشعر بوجوده ووجود أشياء أخرى، كما سيلحظ وجود مذهبين فلسفيين حول واقع هذا الوجود، أحدهما الفكر الذي يؤمن بعالم الوجود ويطلق عليه (المذهب الواقعي)، والآخر الفكر الذي ينكر عالم الوجود ويطلق عليه (المذهب السوفسطائي).

ثمرة تأمّل الإنسان في الكون والبيئة المحيطة به هي إدراكه أنّ وجود الكائنات مقيّدٌ بصنفين لا ثالث لهما، فكلّ موجودٍ إمّا ممكن الوجود أو واجب

ص: 49

الوجود. كون الشيء ممكن الوجود يعني أنّ ذاته (طبيعته الوجودية) لا تقتضي بالضرورة أن يكون موجوداً، فهو في الوجود والعدم سواءٌ لأنّه ظهر من العدم بفعل علّةٍ خارجيةٍ (1). الممكن مثل كفّتى الميزان المتكافئتين، إذ إنّ نزول إحداهما وارتفاع الأخرى بحاجةٍ (بالضرورة) إلى مسبّبٍ (علّة)؛ وهذا ما يطلق عليه في علم الفلسفة ب_ (ممكن الوجود).

كما ذكرنا أعلاه، فإنّ ممكن الوجود ليس من شأنه الاتّصاف بالوجود من دون تأثيرٍ علّةٍ خارجيةٍ، وعلى هذا الأساس لا مناص من كون هذه العلّة غيبية ماورائية.

من الثابت بمكانٍ أنّنا حينما نتأمّل في كلّ وجودٍ من الممكنات وفي ماهيته، نجد صفاته وميزاته الفارقة تدلّ على أنّه اكتسب وجوده من غيره، ولو تأمّلنا في هذا الغير لاستنتجنا من طبيعته الإمكانية أنّه اكتسب وجود من غيره أيضاً؛ فليس هناك شيءٌ من الممكنات اكتسب وجوده من ذاته، وعلى هذا الأساس طرحت ثلاث فرضياتٍ حول أصل وجود الممكنات، وهي:

أوّلاً : الدَّور:

يعرّف الدَّور في المنطق بأنّه توقّف وجود الشيء على نفسه، مثلاً (أ) يكون علّةً لوجود (ب)، وهذا الأخير بدوره يكون علّةً لوجود الأوّل؛ وهو ما يطلق عليه عنوان (الدَّور الصريح). وقد يتزايد العدد ويسري إلى (ت) و(ث) (ح) حتّى يتوقّف عند العلّة (ي) التي تعدّ معلولاً إلى ما قبلها، أي إنّها

ص: 50


1- مرتضی مطهّري، مجموعه آثار (باللغة الفارسية)، ص 965؛ محمّد تقي مصباح اليزدي، آموزش عقايد (باللغة الفارسية)، ج 1، الدرس السابع؛ الفخر الرازي، المباحث المشرقية، ج 2، ص 467

معلولةٌ لنفسها لأنّها معلولةٌ لمعلولها، وهذا يعني تقدّم وجود المعلول على وجود علّته؛ وهو ما يطلق عليه (الدَّور المضمر) .

ثانياً: التسلسل:

يعرّف التسلسل في المنطق بأنّه ترتُّب العلل إلى ما لا نهاية، وعلى صعيد وجود الممكنات فهو يعني عدم توقّف علّتها في حدٍّ، أي أن يستند الممكن في وجوده الى علّةٍ مؤثّرةٍ فيه، وهذه العلّة تستند إلى علّةٍ أخرى مؤثّرة فيها؛ وهلّم جرّاً إلى غير نهاية. نتيجة هذا الكلام أنّ كلّ علّةٍ ممكنةٍ تتوقّف علی علّةٍ ممكنةٍ أخرى، ويتوالى الأمر على هذا المنوال في إطار علل ممكنةٍ لا حدّ لها ولا حصر (1).

ص: 51


1- نذكر فيما يأتي مثالاً للدَّور المنطقي: توقّف العلم بالمعرَّف على العلم بالمعرِّف وهكذا، كتعريف العلم بأنّه معرفة المعلوم، مع أنّ معرفة المعلوم تتوقف على العلم لاشتقاقها منه، فحينما نأتي بلفظٍ مشتقٍّ من مادّة المعرَّف حصل الدَّور، لأنّنا لا نتصوّر المعلوم، وبطبيعة الحال فإنّ التعريف لابدّ من أن يكون معلوماً عند المخاطَب لأنّه يسأل عن العلم؛ وهذا يعني أنّه يجهل بحقيقة العلم، فإذا جئنا في التعريف بلفظ المعلوم المشتقّ من العلم لابدّ لنا من تصوّر معنّى المعلوم حتّى نعرف التعريف، فإذا قلنا: (المعلوم، لابدّ من أن يعرَّف بأنّه متّصفٌ بالعلم، والعلم هو معرفة المعلوم) يتحقّق الدور هنا، أي إنّ التعريف باطلٌ قطعاً حيث يعني أنّ المعلول موجودٌ قبل علّته الموجدة له، وهو مستحيلٌ. أمّا بالنسبة إلى التسلسل المنطقي: فقد ذكر الفلاسفة شرطين لتحقّقه، أحدهما ضرورة وجود العلل المتسلسلة السابقة بالفعل، والآخر أن تتحقّق متزامنةً في آنٍ واحدٍ، وعلى هذا الأساس فالعلل التي كانت مؤثّرةً سابقاً ولم يعد لها وجودٌ حالياً أو أنّها موجود ولكنّ تأثيرها زال بعد أن كانت مؤثّرةً سابقاً، يكون تسلسلها غير محالٍ وذلك لعدم تزامن العلل مع بعضها فشرط التسلسل هو أن يكون لأجزاء السلسلة وجودٌ بالفعل وأن تكون مجتمعةً في الوجود وأن يكون بينها ترتّبٌ، والتسلسل في العلل هنا يعني ترتّب معلولٍ على علّةٍ، وترتّب علّته على علّةٍ أخرى، وترتّب علّة علّته على علةٍ غيرها؛ وهكذا إلى غير نهاية. التسلسل فى العلل محالٌ، والبرهان عليه أنّ وجود المعلول رابطٌ بالنسبة إلى علّته ولا يتقوّم إلا بها، والعلّة هي المستقلّ الذي تقوّمه، وإذا كانت علّته معلولة لثالثٍ فهي غير مستقلّةٍ بالنسبة إلى ما فوقها، فلو ذهبت السلسلة إلى ما لا نهاية ولم تنته إلى علّةٍ غير معلولةٍ بحيث تكون مستقلّةً غير رابطةٍ، سوف لا يتحقق شيء من أجزاء السلسلة لاستحالة وجود الرابط إلا مع وجود أمرٍ مستقلٍّ؛ ألا وهو واجب الوجود. وقال ابن سينا في كتاب (الشفاء): «إذا فرضنا معلولاً له علّةً، وفرضنا لعلّته علّةً أخرى، فلا يمكن أن يكون لكلّ علّة علةٌّ بغير نهايةٍ، لأنّ المعلول وعلّته وعلّة علّته إذا اعتبرت جملتها في القياس الحاصل لبعضها البعض كانت علّة العلّة علّةً أولى مطلقةً لغيرها، وكانت لغيرها نسبة المعلولية إليها. وإن اختلفا في أن أحدهما معلولٌ بالواسطة والآخر معلولٌ بلا واسطة، لم يكونا كذلك بالنسبة إلى الأخير والمتوسط، لأنّ المتوسّط الذي هو العلّة المماسّة للمعلول علّةٌ لشيءٍ واحدٍ فقط، والمعلول ليس علّةً لشيءٍ؛ ولكلّ واحدٍ من الثلاثة خاصّيةٌ، فخاصّية الطرف المعلول أنّه ليس علّةً لشيءٍ، وخاصّية الطرف الآخر أنّه علّةٌ لكلّ ما هو غيره، وخاصّية الأوسط أنّه علّةٌ لطرفٍ ومعلولٌ لطرفٍ آخر، سواء كان الأوسط واحداً أو أكثر، فإن كان أكثر فسواء ترتّب ترتيباً متناهياً أو غير متناه،ٍ فإنّه إن ترتّب بكثرةٍ متناهيةٍ معدودة ما بين الطرفين كواسطة واحدة تشترك في خاصية الوحدة بالقياس إلى الطرفين يكون لكلّ من الطرفين خاصيته وكذلك إن ترتب في كثرة غير متناهية فلم يحصل الطرف، كان جميع غير المتناهي في خاصية الواسطة، لأنّك أيّ جملةٍ أخذت كانت علّةً لوجود المعلول الأخير، وكانت معلولةً؛ إذ كلّ واحدٍ منها معلولٌ، والجملة متعلّقةٌ الوجود بها ومتعلّقة الوجود بالمعلول معلولٌ، إلا أنّ تلك الجملة شرطٌ في وجود المعلول الأخير». للاطّلاع أكثر، راجع: محمّد حسين الطباطبائي، نهاية الحكمة، الفصل الخامس، المرحلة الثامنة؛ صدر المتألّهين، الأسفار الأربعة، ج 2، ص 144 - 166؛ ابن سينا، الهيات الشفاء، ص 327

ثالثاً: واجب الوجود:

الفرضية الثالثة المطروحة على صعيد خلقة الكون تؤكّد على وجود

ص: 52

علّة أساسية لا علّة فوقها، ويطلق عليها الفلاسفة (واجب الوجود) أو (علّة العلل).

إنّ الكائنات الممكنة على أساس ماهيتها الإمكانية، متقوّمةٌ بغيرها ووجودها يقتضي بالضرورة وجود علّةٍ واجبةٍ لا تتّصف بالإمكان ولا تتقوّم بغيرها، بل لابدّ من أن تكون قائمةً بنفسها. ويمكن تقريب الموضوع بالمثال، فالطعم المالح لكلّ شيءٍ منشؤه الملح، أي إنّ الأطعمة المالحة تكتسب ملوحتها منه، في حين أنّ الملح بذاته يقتضي أن يكون مالح الطعم، وإلا لم يعد ملحاً والنتيجة أنّه علّةٌ لنفسه وليست هناك علّةٌ أخرى دخيلةٌ جعلته يكتسب هذا الطعم.

هذه الفرضيات الثلاثة مطروحةٌ على صعيد خلقة الكون وعالم الممكنات، وبكلّ تأكيدٍ فإنّ الفرضيتين الأولى والثانية باطلتان من الأساس حسب القواعد المنطقية والفلسفية، لذا تبقى الفرضية الثالثة وهي بطبيعة الحال لا تخالف العقل ولا المنطق، بل تنسجم مع قواعدهما غاية الإنسجام، ومن هذا المنطلق لا يوجد أيّ مسوّغ للتشكيك بصحّتها.

إذن، كلّ ممكنٍ لا بدّ له من علّةٍ خارجةٍ عن نطاق الإمكان كي تفيض عليه الوجود، وهذه العلّة هي واجب الوجود، وبحسب تعبير الشهيد مرتضى مطهّري فالممكنات تناظر الكتب المستندة إلى بعضها بشكلٍ مائلٍ في رفٌ، إذ إنّ بقاءها بهذا الشكل مرهونٌ بحافّة الرفّ التي يستند إليها أوّل كتابٍ، لذا لو أُزيحت هذه الحافّة لسقطت جميعاً.

يمكن تلخيص البرهان المذكور في النقاط الآتية:

ص: 53

1) الإذعان بحقيقة وجود الواقع الخارجي.

2) تقييد الوجود الحقيقي بممكنٍ وواجبٍ.

3) افتقار الممكن إلى علّةٍ في وجوده أمرٌ بديهيٌّ اقتضاءً لماهيّته وذاته.

4) استحالة حدوث الدَّور والتسلسل على صعيد العلّية.

5) فرضية (واجب الوجود) هي الفرضية الوحيدة التي نستطيع من خلالها تبرير وجود الممكنات بأسرها.

البرهان من زاويةٍ منطقيةٍ :

يمكننا طرح برهان الإمكان والوجوب في إطار مبادئ علم المنطق في ضمن أركانٍ خمسة (1)، كما يأتي:

الركن الأوّل: كلّ موجودٍ إمّا أن يكون مستقلاً (واجب) أو غير مستقلٍّ (ممكن).

هذا الركن في حقيقته يعدّ حصراً عقلياً للوجود، وهو متقوّمٌ على أساس قضيةٍ حقيقيةٍ منفصلةٍ تسمّى (مانعة الجمع والخلوّ).

الركن الثاني: الموجودات إماّ أن تكون برمّتها ممكناتٍ، أو يكون فيها واجب الوجود .

هذا الركن أيضاً حصرٌ عقلي يقيّد الموجودات بأنّها إمّا أن تكون ممكنةً أو أن يكون فيها واجب الوجود.

الركن الثالث: قضية أنّ (جميع الموجودات ممكنةٌ) كاذبةٌ.

ص: 54


1- للاطّلاع أكثر ، راجع : مصطفی ملکیان، مسایل جدید کلام (باللغة الفارسية)، باب براهين إثبات وجود الله تعالى

هذا الركن في الحقيقة ينفي الافتراض الأوّل من الركن الثاني، ويثبت الافتراض الثاني منه ألا وهو وجود (واجب الوجود)، إذ من المستحيل نفى كلا الأمرين ومن ثمّ لا بدّ من إثبات ما هو صادق منهما. وهذا الأمر بحسب التعبير المنطقي يعدّ قياساً استثنائياً تمّ على أساسه إثبات المقدّمة بعد رفع تالي الوضع.

الركن الرابع: واجب الوجود هو حقيقةٌ ثابتةٌ موجودةٌ على أرض الواقع وليس مجرّد فرضيةً.

الركن الخامس: خصوصيات واجب الوجود تنطبق بالكامل على خصوصیات الله تعالى.

من الجدير بالذكر هنا أنّنا سنتطرّق إلى تفنيد الشبهات المطروحة حول موضوع البحث لاحقاً لدى حديثنا عن واجب الوجود وإثبات تطابقه مع صفات الربّ العزيز الذي دعت الأديان السماوية إلى عبوديته.

- إثبات الركن الثالث (عدم صحّة افتراض كون جميع الموجودات من سنخ الممكنات):

أربعة أركانٍ من الأركان الخمسة تمّ بيان جانبٍ من تفاصيلها في المباحث الآنفة، وأمّا القضية الكاذبة في الركن الثالث والتي هي (جميع الموجودات ممكنةٌ)، فنظراً لأهمّيتها وكثرة الشبهات التي طرحت حولها، سنتطرق إلى تسليط الضوء عليها فيما يأتي ضمن مقدّمات ثمانية:

1) يترتّب على تقييد جميع الموجودات بخصوصية الإمكان، القول بكون عالم الوجود مركّباً من سلسلةٍ غير متناهيةٍ من الممكنات؛ ولو فرضنا

ص: 55

انتهاء هذه السلسلة فلا بدّ لنا من تقييد آخر وجودٍ ممكنٍ تنتهي إليه بعلةٍّ مقدّمةٍ عليه في الوجود، وفي غير هذه الحالة لا يمكن تبرير وجوده مطلقاً. مثلاً، لا يمكن تصوّر مجموعةٍ مؤلّفةٍ من خمسة أعضاء بحيث يكون الثاني علّةً للأوّل والثالث علّةً للثاني والرابع علّةً للثالث والخامس علةًّ للرابع، لذا حينما يُسأل عن علّة وجود الخامس فلا يوجد جوابٌ، في حين أنّ السلسلة حسب المفترض يجب أن تتواصل إلى السادس والسابع وإلى آخره حتّى ما لا نهاية؛ وهو محالٌ .

2) إن كان عالم الوجود عبارة عن سلسلةٍ غير متناهيةٍ من الممكنات، فنتيجة ذلك أنّه محتاجٌ إلى علّةٍ لكونه مؤلّفاً من موجوداتٍ ممكنةٍ مفتقرةٍ في وجودها إلى علّةٍ. مثلاً إن افترضنا وجود ألف فقير محتاجٍ، فنتيجة ذلك وجود مجموعةٍ محتاجةٍ مؤلّفةٍ من ألف شخص.

في هذا الاستدلال يُقدِّم تالي الاستدلال المذكور في الفقرة الأولى.

3) لو أنّ عالم الوجود محتاجٌ بذاته إلى علّةٍ، فهذه العلة إمّا أن تكون خارجةً عنه أو موجودةً في باطنه.

بما أنّ هذا الاستدلال يتضمّن حصراً عقلياً، فمن البديهي تقدّم تالي الاستدلال الثاني .

4) لا يمكن لعلّة عالم الوجود أن تكون خارجةً عنه، إذ إنّنا قيّدنا الوجود بعالم الإمكان الذي يكون كلّ ما خرج عنه عدماً، عنه عدماً، والعدم بطبيعة الحال لا يمكن أن يكون علّةً لوجود غيره.

5) لا يمكن لعلّة عالم الوجود أن تكون في باطنه، فهذا العالم حسب

ص: 56

الافتراض ممكنٌ وغير مستقلًّ.

نستشفّ من النقطتين الرابعة والخامسة نفي الاستدلال الثالث أي اعتبار العلّة خارجة عن ذات الأمر أو موجودة في باطنه فحسب.

6) عالم الوجود ليس بحاجةٍ إلى علّةٍ.

هذا المدّعى ينفي تالي الركن الثالث، حيث تحصّل النفي هنا من الاستدلالين الرابع والخامس لأنّ نفي التالي يستلزم نقي الأوّل الذي هو (عالم الوجود بحاجةٍ إلى علّةٍ).

7) عالم الوجود عبارةٌ عن سلسلةٍ غير متناهيةٍ من الممكنات غير المستقلّة.

هذا الاستدلال ناتجٌ من التلفيق بين الاستدلالين الثاني والسادس، إذ إنّ السادس يشير إلى أنّ عالم الوجود ليس بحاجةٍ إلى علّةٍ ممّا يعني نفي تالي الاستدلال الثاني ( عالم الوجود بحاجةٍ إلى علّةٍ)، ويترتّب على هذا النفي نفي الأوّل. بناءً على هذا، لا صحّة لقول: إنّ عالم الوجود عبارةٌ عن سلسلةٍ غير متناهيةٍ من الموجودات المستقلّة والممكنة، وهو ما سيثبت في الاستدلال الثامن .

8) لا صحّة لقول إنّ جميع الموجودات ممكنةٌ وغير مستقلّةٍ.

هذا الادّعاء يتحصّل من التلفيق بين الاستدلالين الأوّل والسابع، ويترتّب عليه وجود موجودٍ واجبٍ ومستقلٍّ، وهذه هي نتيجة الركن الثالث من برهان الإمكان والوجوب .

ص: 57

شبهات وردود:

شبهاتٌ وردودٌ:

طرح المشكّكون والملحدون عدداً من الشبهات حول وجود الله تعالى، وقد اختصّ بعضها بمباحث برهان الإمكان والوجوب، وعلى هذا الأساس سوف نتطرّق فيما يأتي إلى ذكر بعضها ومن ثمّ نقوم بنقضها وفق أُسس استدلاليةٍ علميةٍ:

*الشبهة الأولى : نفي وجود المجرّدات (النزعة المادّية) :

زعم أتباع النزعة المادّية أنّ الوجود مقتصرٌ على كلّ ما هو مادّي، ومن هذا المنطلق أنكروا الوجودات المجرّدة وكلّ أمرٍ ماورائيٍّ.

هذه الشبهة في الحقيقة ليست جديدةً، حيث طرحت في العصور السالفة من قبل الملحدين والزنادقة، وفي يومنا هذا يتمّ الترويج لها من قبل الشيوعيين والمادّيين.

تحليل الشبهة ونقضها :

قبل أن نتطرّق إلى نقض الشبهة بشكلٍ إجماليٍّ، نذكر تعريف كلٍّ من المادّي والمجرّد.

طرح الفلاسفة عدّة تعاريف للوجود المادّي، والمراد منه في بحثنا هو الجسم المحسوس، وفيما يأتي نكتفي بذكر تعريفه المشهور الذي يقول بأنّه كلّ ما يتّصف بثلاثة أبعادٍ، هى طول وعرض وعمق (وهذا هو حدّ

ص: 58

الجسم) (1).

تترتّب على هذا التعريف مجموعةٌ من الخصوصيات للاسم، أهمّها تحديد جهاتٍ له من قبيل تحديده بجهاتٍ مختلفة كاليمين واليسار، وإمكانية الإشارة إليه، وشغله حيّزاً مكانياً، وحركته، وتغييره.

الوجود المجرّد في الواقع يقابل الوجود المادّي، وطبيعته الوجودية تقتضي تجرّده عن خواصّ المادّة وآثارها.

الذين طرحوا الشبهة المذكورة قيّدوا مطلق الوجود بالمادّي فحسب، وزعموا أنّ المجرّدات ليست سوى محض أوهام من نسيج تصوّرات بعض الناس وحسب القواعد العقلية والفلسفية هناك استدلالاتٌ عديدةٌ لنقضها، لكنّنا نكتفي بما يأتي:

أوّلاً: ردٌّ فلسفيٌّ:

لنقض الشبهة المذكورة حسب الاستدلال الفلسفي، نقول:

ص: 59


1- للمادّة تعاريف عديدة في مختلف العلوم، وكمثالٍ على ذلك نذكر ما يأتي: علم المنطق: الكيفية الواقعية للنسبة بين موضوع القضية ومحمولها (ضرورة الإمكان والامتناع). كما تطلق على موادّ القياس بغضّ النظر عن شكلها وهيئتها التركيبية. علم الفيزياء: لها صفاتٌ خاصّةً تنفرد بها كالجرم والجذب والدفع والاحتكاك. وهي هنا تقابل الطاقة، وحينما يجتمعان مع بعضهما ينشأ الجسم. علم الفلسفة : ما كان ذا طبيعةٍ هيوليةٍ، كالتراب الذي له الاستعداد للتحوّل إلى نباتٍ، وهي في مقابل الصورة التي تمثّل الفعلية المحضة. وأحياناً يطلق على كليهما مادّةً في علم الفلسفة. للاطّلاع أكثر، راجع: محمّد تقي مصباح اليزدي، آموزش فلسفه (باللغة الفارسية)، ج 2، ص 125 ، الدرس 41

1) طبق أصول برهان الإمكان والوجوب، فالممكن لا يتّصف بالوجود في ذاته أي إنّه يكتسب وجوده من غيره، وهذا الغير يجب أن يكون واجب الوجود. إذن، بما أنّ وجود المادّي من سنخ الممكنات، فلا بدّ في بيان أصل وجوده من الرجوع إلى علّةٍ غير مادّيةٍ (مجرّدة). وبعبارةٍ أخرى: بما أنّ المادّي متلازمٌ بكلّ وجوده مع خصوصية الإمكان، فتحقّقه يقتضي وجود علّةٍ ماورائيةٍ فاعلةٍ، وفي غير هذه الحالة يحدث تسلسلٌ فى العلل المادّية، وهو محالٌ.

2) يمكن اللجوء إلى براهين أخرى عدا برهان الإمكان والوجوب بغية إثبات افتقار العالم المادّي إلى علّةٍ مجرّدةٍ ماورائيةٍ، من قبيل برهانا الحركة والحدوث، وهو ما سنتطرّق إلى الحديث عنه في المباحث اللاحقة.

ثانياً: ردُّ علميٌّ:

كثير من العلوم المعاصرة أكّدت على صحّة وجود المجرّدات، ونكتفي فيما يأتي بالإشارة إلى جانبٍ منها:

1) النفس والروح:

وجود الإنسان مركّبٌ من عنصرين، هما الروح والجسم، وكما هو معلومٌ فالجسم عبارةٌ عن وجودٍ مادّي له مزاياه التي يختصّ بها، من قبيل تغيّر جهته وشكله ووزنه، ولكنّ الروح (النفس) لا تتّصف بذلك، لذا ليس من الممكن بتاتاً وصفها بأوصاف مادّية من جهةٍ وشكلٍ ووزنٍ. مثلاً ليس هناك شيءٌ اسمه يمين الروح أو يسارها أو طولها أو وزنها، ولا يمكن القول إنّ أحد

ص: 60

أعضاء الروح قد استبدل بعضو آخر، في حين أنّ التجارب والحقائق العلمية أثبتت طروء تغييراتٍ على بدن الإنسان بمرّ الزمان، وخلال عدّة سنواتٍ - ثماني سنوات تقريباً - تتغيّر جميع خلاياه بحيث تحلّ محلّها خلايا جديدة؛ في حين أنّ روح الإنسان هي هي حتّى وإن بلغ من العمر مئة عامٍ. وعلى هذا الأساس، نجد أنّ المجرمين يحاكمون على جرائمهم التي ارتكبوها حتّى بعد مضيّ عشرات الأعوام، وهو ما تنصّ عليه القوانين الجزائية. وببيانٍ آخر: لكلّ إنسانٍ هويته النفسية الخاصّة به (شخصيته) التي لا تطرأ عليها تغييراتٍ وجوديةٍ، فقوله (أنا) في سنّ الطفولة لا يختلف عن (أنا) التي يقولها في سنّ الشباب أو الشيخوخة. وبالطبع فهذه الكلمة لا تنطبق على أيّ عضوٍ من أعضاء بدنه المادّي، بل هي مختصّةٌ بروحه؛ وحسب القواعد التي ذكرناها آنفاً، فلا يمكن اتّصاف (أنا) بالجهة والشكل والوزن لكونها أمراً مجرّداً غير متّصفٍ بأيٍّ من الأوصاف والآثار المادّية (1).

إذن، بناءً على ما ذكر فالروح ثابتةٌ، ووجود (أنا) أيضاً ثابتٌ في هوية الإنسان ولا ينسجم مع النظريات التي تطرحها الرؤى المادّية (2) .

الدليل العلمي الآخر الذي نثبت على أساسه أنّ الروح الإنسانية مجرّدةٍ، هو قدرتها على التدخّل في المعلومات وسائر المدركات الذهنية الأخرى سواءٌ كانت قديمةً أو فعليةً في حين أنّ الوجود المادّي العاري عن الروح

ص: 61


1- للاطّلاع أكثر ، راجع: هانس يورجن إيسنك، روح ودانش جديد (باللغه الفارسية)؛ رؤوف عبيد، انسان روح است نه جسد (باللغة الفارسية)؛ مرتضى مطهّري، مجموعة آثار (باللغة الفارسية)، ج 6، ص 141
2- للاطّلاع أكثر ، راجع: نقي آراني، پسیکولوژي (باللغة الفارسية)، ص 106

لا يعدو كونه قطعةً من الجلد واللحم والعظم، وحتّى إن دبّت فيه الروح فهو يناظر الآلة التي تخزّن المعلومات من دون أن تمتلك القدرة على التدخّل فيها أو تغييرها؛ لذا فهي على العكس تماماً من الروح.

- تحضير الأرواح (spiritism) :

بعد انطلاق عصر النهضة إلى يومنا هذا تمّ تأسيس الكثير من مراكز البحث العلمى حول الظواهر الميتافيزيقية والحياة الماورائية في البلدان الغربية، وبما فيها مراكز مختصّة بتحضير الأرواح، وقد شاعت هذه الظاهرة بين الغربيين لدرجة أنّ الناس باتوا على يقينٍ بالحياة الغيبية؛ وبطبيعة الحال لا يمكن وضع تبريراتٍ مادّيةٍ لها لحرفها عن مسارها الحقيقي.

وهذه الحقيقة الدامغة قد أقرّ بها أبرز العلماء الغربيين بمختلف تخصّصاتهم العلمية، ونشير فيما يأتي إلى سبعة منهم فقط :

- إيمانويل سويد نبيرغ (1688م - (1772م): فيلسوف ومتصوّف سويدي.

- السير وليام كروكس (1832م) - (1919م): فيزيائي وعالم كيمياء بريطاني، اكتشف عنصر الثاليوم وصنع جهاز الراديومتر وأنبوباً لدراسة أشعة الكاثود.

- السير أوليفر جوزيف لودج (1851م - 1940م): فيزيائي تولّى منصب رئاسة جامعة بيرمنغهام.

- شارل روبرت ريشيه (1850م) - (1935م): عالم فرنسي اكتشف الحساسية التي تحدثها المواد الغريبة وحاز على جائزة نوبل في علم الفسلجة.

ص: 62

- وليام جيمز (1842م - 1910م): فيلسوف وعالم نفس أمريكي ذائع الصيت.

- هنري برجسون (1859م - 1941م): فيلسوف فرنسي ذائع الصيت.

- کارل جوستاف يونج (1875م - 1961م): عالم نفس وطبيب سويسري ذائع الصيت (1).

2) العلم والصَّور الذهنية:

يتمتّع الإنسان بنعمة العلم والإدراك بفضل روحه التي هي وجودٌ مجرّدٌ من كلّ خصوصيةٍ مادّيةٍ، وقد تحدّث علماء الفيزياء والفلسفة بالتفصيل عن كيفية حصول الفهم والإدراك في الذهن البشري، ولا يسعنا المجال هنا لتسليط الضوء على هذا الموضوع الحسّاس، لكنّنا نكتفي بذكر النقاط الآتية (2):

أ - انطباع صور الأشياء في الذهن:

نذكر المثال الآتي لبيان هذه الحقيقة بشكلٍ أفضل : لنفترض وجود غابة ٍمترامية الأطراف خضراء تزخر بالأشجار والزهور والحيوانات بشتّى أنواعها، وعلى جانبها ساحلٌ يحاذي أحد البحار. نحاول الآن تصوّرها من مسافةٍ بعيدةٍ

ص: 63


1- نقلاً عن: بهاء الدين خرّمشاهي، مقالة تحت عنوان (كرامت وخوارق عادت) باللغة الفارسية مطبوعة في كتابيه: (جهان غيب وغيب جهان)، و (سير بي سلوك)، ص 213
2- للاطّلاع أكثر ، راجع: أصول فلسفه وروش رئاليسم (باللغه الفارسية)، المقالة الثالثة؛ صدر المتألّهين، الأسفار الأربعة، ج 3، ص 284؛ الفخر الرازي، المباحث المشرقية، ج 1 ، ص 319؛ حسن زاده الآملي، شرح العيون، ص 495

في السماء وننظر إليها كما ننظر إلى الخارطة بحيث نراها بأكملها، فيا ترى هل استطعنا استيعاب صورتها بجميع أبعادها في أذهاننا أو لا؟ طبعاً لو تأمّلنا قليلاً لوجدناها قد انطبعت في أذهاننا - مع ما يحيط بها من حدود بريّة وبحرية - بشكلها الخارجي الموجود على أرض الواقع. لذا، نتساءل قائلين: كيف يمكن لهذا الحجم العظيم أن يرتسم في مخٍّ صغيرٍ ؟ وبحسب تعبير المادّيين فإنّه قد استقرّ في الخلايا العصبية المكوّنة للمخّ، ولكن لو صوّرنا القضية في إطار الحسابات المادّية فهل يمكن أن يحدث هذا الأمر؟! فكيف يمكن لهذا الكمّ الهائل من المكوّنات المادّية أن تجتمع في عضوٍ بشريٍّ متناهٍ في الصغر؟! من المؤكّد أنّ الماديين ليس لديهم أيّ تفسير مقنع لهذه الأعجوبة المذهلة، لأنّها من المستحيلات بحسب المعايير المادّية حيث تعني انطباع ظرفٍ كبيرٍ في ظرفٍ صغيرٍ (1). لكنّ الذين يؤمنون بعالم الغيب والمجرّدات لديهم الإجابة الصحيحة والمقنعة عن ذلك، إذ يعتقدون بأنّ الصور الذهنية الأوّلية تنطبع في الخلايا العصبية الموجودة في مخّ الإنسان، ويؤكّدون على دورها الهامّ في ارتسام الصور المجرّدة وتجلّيها في الذهن البشري، وهذا الارتسام بطبيعة الحال يعدّ من سنخ الصور المجرّدة وليس مادّي الماهية؛ لذا فالإشكال الذي أعجز المادّيين عن طرح إجابةٍ مقنعةٍ في هذا المضمار، لا يرد هنا مطلقاً، فصورة الغابة العظيمة يستحيل عليها أن ترتسم في ذهن الإنسان على وفق حسابات وقواعد النظرية المادّية البحتة، لكنّها يمكن أن ترتسم طبق حسابات وقواعد نظرية التجريد (2).

ص: 64


1- للاطّلاع أكثر، راجع: صدر المتألّهين، الأسفار الأربعة، ج 1، ص 299 - ج 8، ص 178 و 230
2- للاطّلاع أكثر، راجع: هنري بريجسون، ماده وياد (باللغة الفارسية)

ب - تجرّد الصورة الإدراكية الذهنية عن الآثار المادّية:

الموجود المادّي له وزنٌ وجهاتٌ وأجزاءٌ وثلاثة أبعادٍ - طول وعرض وعمق - كما ذكرنا آنفاً، في حين أنّ الصورة الذهنية لا تتّصف بأيٍّ من هذه الخصوصيات المحسوسة (1).

ج - الصورة المجرّدة تبقى مرتسمةً في الذهن دون أن تتغيّر أو تزول (2):

نقرّب الموضوع بالمثال الآتي: حينما ترتسم صورة أحد المباني أو الأشخاص في ذهن صبيٍّ، فهي تبقى على حالها حتّى وإن تمادت المدّة واندرس ذلك المبنى وحلّ مبنى آخر محلّه وتوفّي ذلك الشخص وأصبحت عظامه رميماً، فهذا الصبي الذي تجاوز سنّ الصبى وأصبح معمّراً بإمكانه تذكّر مشاهداته كما لاحظها في مطلع عمره عن طريق إدراكه العقلي؛ وعلى هذا الأساس لو كان التصوّر مادّياً فمن المؤكّد أنّه يزول من الذهن مع زواله من أرض الواقع.

وكما هو ثابتٌ علمياً فإنّ خلايا بدن الإنسان لا تنفكّ عن الاضمحلال والتجدّد، ولكن مع زوال هذه الخلايا فإن الصور الذهنية المجرّدة تبقى على حالها من من دون أن تزول، وهو ما يثبت حقيقة وجود المجرّدات.

ص: 65


1- للاطّلاع أكثر ، راجع صدر المتألّهين، الأسفار الأربعة، ج 6، ص 119
2- للاطّلاع أكثر، راجع أصول فلسفه و روش رئاليسم (باللغه الفارسية)، ج 6، ص 126

3) الإدراكات الميتافيزيقية :

رغم التطوّر المذهل الذي شهدته العلوم التجريبية في عصرنا الراهن، إلا أنّ كثيراً من العلماء يبحثون عن حقائق عجز العلم المادّي عن تحصيلها واستكشاف كُنهها، وفيما يأتي نذكر بعضها على سبيل المثال لا الحصر:

أ - ارتباط الخواطر (التّخاطُر):

التّخاطُر يعني تبادل الأفكار والمشاعر، إذ يمكن للفرد أن يخبر عن أمرٍ على بعد مسافاتٍ شاسعةٍ، أو يصف شيئاً قريباً مستوراً من دون أيّ ارتباطٍ حسّي به، كأن يتعرّف على شخصٍ من دون استخدام أيٍّ من المدارك التقليدية المقبولة كالسمع أو البصر أو الشمّ أو التذوّق أو اللمس. ويسمى التّخاطُر أحيانًا (قراءة الأذهان) أو (قراءة الأفكار). ومن أمثلته أن يفكّر الإنسان بشيءٍ محدّدٍ، ثمّ يكتب شخص آخر هذا التفكير بشكلٍ صحيحٍ (1).

ب - الرؤيا الصادقة :

المتعارف لدى جميع الشعوب والأمم باختلاف مشاربها الدينية والفكرية أنّ بعض الناس يرون في عالم المنام أحياناً وقائع وحوداث تتحقّق بحذافيرها على أرض الواقع فيما بعد، بل حتّى إنّ الفترة الزمنية قد تكون معيّنة في هذه الرؤيا، ومن ثمّ تقع الحادثة في نفس هذا الوقت المعيّن.

ج - الإخبار عن الغيب :

هناك كثير من الأخبار المتداولة بين الناس على مرّ التاريخ تفيد بأنّ

ص: 66


1- بعض حفظة القرآن الكريم بإمكانهم تحديد رقم الصفحة المشتملة لإحدى الآيات ورقم الآية نفسها عن مسافةٍ بعيدةٍ

بعضهم لهم القدرة على الإنباء بأحداث المستقبل، ومنهم المنجّم الفرنسي الشهير نوستر آداموس (1503م - 1566م) الذي تنبّأ بعددٍ من الأحداث التي تحقّقت بالفعل لاحقاً، ومن جملة ذلك سقوط سجن الباستيل وانتصار الثورة الفرنسية وموت الملك بعد اقتلاع عينه. وتجدر الإشارة هنا إلى أنه قد عزا هذه القدرة الخارقة إلى لطف الله تعالى وفضله عليه(1).

د - التحريك الذِّهني:

لبعض الناس قدرةً على تحريك الأشياء عن مسافةٍ بعيدةٍ ولربّما يعجز عامّة الناس عن تحريكها بأيديهم، وهو ما يسمّى (التحريك الذهني) أو (التحريك العقلي)، وكلّنا اليوم نعرف الحاذق يوري جيلر (من مواليد 1946م) الذي يقوم بتحريك الوسائل المعدنية عن بُعد، من قبيل الملعقة والشوكة والمفتاح، حيث يركّز نظره على ما يريد تحريكه ثمّ يؤثّر عليه فيتحرّك من مكانه.

وكان فون براون أحد الأوائل الذين اختبروا آثار تجربة يوري جيلر عن كثب، وذلك حينما تمكّن جيلر من ثني خاتم زواج هذا الباحث العجوز من دون أيّ اتصال مادّي معه، وعند إخضاعه للفحوص المخبرية في معهد بحوث

ص: 67


1- للاطلّاع أكثر ، راجع: شرف الدين، تحليلي از پيشگويي هاي نوستر اداموس (باللغه الفارسية)، ص 17. يشار هنا إلى أنّ الأفكار الغيبية تعدّ اليوم فرعاً من فروع العلوم الميتافيزيقية، وقد حظيت بتأييد كمٍّ هائلٍ من العلماء، وللاطّلاع أكثر على واقع هذا العلم، راجع: كارل ألكسيس، انسان موجود ناشناخته (باللغة الفارسية) ، ص 140؛ هانس يورجن إيسنك، درست و نادرست در روانشناسی (باللغه الفارسية)، ص 92

ستانفورد، استطاع تحقيق مستويات عالية من المواهب التنبّؤية وتمكّن من تغيير قياسات الوزن باستخدام التحكّم عن طريق العقل فقط، وإثر ذلك وصف علماء الفيزياء في هذا المعهد قابلياته بأنّها خارجةٌ عن نطاق القواعد الفيزيائية المادّية ولا يمكن لعلم الفيزياء ذكر تبريرٍ لها (1).

إضافةً إلى ما ذكر فى النقاط أعلاه، هناك عددٌ من النشاطات الميتافيزيقية الخارجة عن نطاق العلوم التجريبية، بما فيها علاج المرضى المصابين بأمراض مستعصية في مراكز طبّية دينية وتحضير الأرواح، وهي في غايةٍ من الدقّة بحيث لا يمكن وضع أيّ تفسير مادّي لها ولا مناص من اللجوء إلى عالم الغيب والماورائيات لبيان تفاصيلها وحقائقها؛ وهنا لا يسعنا المجال لتسليط الضوء عليها بتفصيلٍ أكثر ونكتفى بذكر ما قاله المفكّر كاي ماندل في موسوعة الفلسفة: «هناك اتّفاقٌ عامٌّ على كون الإدراكات الخارجة عن نطاق الحسّ تتمخّض عنها استنتاجاتٌ ميتافيزيقية، وقد أيّد هذا الأمر إتش. إتش. برايس وأكّد على أنّ علم الفيزياء عاجزٌ عن وضع تفسير للإدراكات الميتافيزيقية، وعلى هذا الأساس عارض النزعة المادّية البحتة وذهب إلى القول بضرورة الأمرين معاً، المادّة والروح»(2).

* الشبهة الثانية: نفي العلّية :

مبدأ العلّية يعدّ البُنية الأساسية لبراهين علم اللاهوت، بما فيها برهان الإمكان والوجوب، وفحواه أنّ كلّ الممكنات بحاجةٍ إلى علّةٍ في حدوثها

ص: 68


1- نقلاً عن: يوك ريدرز دایجست، جهان عجایب (باللغة الفارسية) ، ص 110
2- هانس يورجن إيسنك، روح و دانش جديد باللغه الفارسية)، ص 258

وبقائها؛ لذا لو تمّ التشكيك بهذه الحقيقة سيتسنّى للملحدين طرح نظرياتهم الإلحادية وزعم أنّ العالم المادّي ليس مفتقراً إلى علّةٍ واجبة الوجود. وبالفعل، فقد استغلّ بعضهم هذه الشبهة وبعد إنكار وجود الخالق البارئ ذهب إلى أنّ الصدفة هي منشأ الخلقة.

لقد حاول المادّيون تفنيد براهين إثبات وجود الله عزّ وجلّ، ومن هذا المنطلق أثاروا الشكوك والشبهات حول مبدأ العلّية. هذه القضية روّجت على نطاقٍ واسعٍ بحيث تحوّلت إلى معضلةٍ مستفحلةٍ في شتّى المجتمعات ولا سيّما الغربية منها لكون الفلاسفة الغربيين الملحدين هم الذين حملوا راية التشكيك وعلى رأسهم ديفيد هيوم، وفي يومنا هذا يتمّ نشر هذه الأفكار المنحرفة في الأجواء الإلكترونية لاستقطاب أكبر عددٍ من الناس (1).

تحليل الشبهة ونقضها :

نذكر النقاط الآتية للردّ على من ينكر مبدأ العلّية أو يشكّك به:

1) العلّية أصلٌ فطريٌّ ثابتٌ:

المعلومات التي يمتلكها الإنسان ناشئةٌ من مصدرين أساسيين، فهي إمّا أن تكون بديهيةً (ثابتة) أو نظريةً (اكتسابية)، وقد قسّم الفلاسفة - بمن فيهم ابن سينا - الصنف الأوّل منها في ستّة أقسام كما يأتي: (أوّليات، مشاهَدات، مجرّبات، حدسیات، متواترات، فطریات) (2).

ص: 69


1- http//www.kaafar.netfirms.com/baad/alieat.htm
2- ابن سينا، الإشارات، بشرح المحقّق الطوسي والفخر الرازي، ج 1، ص 214 - 219

وبيان ذلك أنّ القضايا إمّا أن تكون تصوّرات كافية لثبوت حكم العقل أو لا تكون كذلك، إن كانت كافيةً فهي الأوّليات؛ و إن لم تكف فإمّا أن تحتاج إلى أمرٍ ينضمّ للعقل ويعينه على الحكم، أو تحتاج إلى أمرٍ ينضمّ للقضية ويثبت صحّته، أو تحتاج إلى كلا الأمرين معاً؛ فالأوّل يعني المشاهدات التي هي مفتقرةٌ إلى ما ينضمّ للعقل، وهو الإحساس، والثاني هو الأمر الذي يحتاج إلى ما ينضمّ للقضية ويكون له دخل في تحقّق الحكم، وهذا لا يخلو إمّا أن يكون لازماً لها أو غير لازمٍ، فإن كان لازماً يكون من سنخ القضايا التي قياساتها معها، وهي قضايا متى تمّ تصوّرها يحصل عند العقل قياسٌ مرتّبٌ منتجٌ لها، وإن كان غير لازمٍ فلا يخلو تحقّقه من صعوبةٍ أو بسهولةٍ، فإذا كان حصولها بسهولةٍ فهي الحدسيات التي تكون مبادؤها في العقل مترتّبة وينساق الذهن إليها بلا طلبٍ واكتسابٍ. وإن كان حصولها بعسرٍ، فهي النظريات. والثالث إمّا أن يكون حصوله بحاسّة السمع، فهي المتواترات، وإمّا أن لا يكون كذلك، وهي المجرّبات؛ وكلٌّ منهما يحتاج إلى العقل، وهو استماع الأخبار في المتواترات وتكرّر المشاهدة في المجرّبات وإمّا ما يحتاج إلى انضمام تلك القضايا، فهو القياس الخفيّ الذي لو لم يكن كذلك لما كان دائماً أو أكثرياً (1).

العلوم الفطرية تعدّ واحدةً من البديهيات الستّة في علم المنطق التي توصف بكون قياساتها معها، وهذا يعني أنّ النفس الإنسانية بمحض تصوّرها للموضوع والمحمول والحدّ الأوسط - الذي هو حاضرٌ في الذهن - تبادر إلى تصديق القضية. ومن المؤكّد أنّ مبدأ العلّية يندرج ضمن البديهيات الستّة، ولكن هل هو من الأوّليات أو الفطريات؟ هذا الموضوع في الحقيقة يتطّلب بحثاً

ص: 70


1- الملا هادي السبزواري، شرح المنظومة، ج 1، ص 328

معمّقاً، ولكن يمكن القول: إنّه من الفطريات وذلك لأنّ الإنسان حينما يرجع إلى نفسه ويقوم بتحليل طبيعة الوجود الممكن أو الحادث، فهو يحكم بضرورة وجود علّةٍ ولا يقبل أبداً أنّه قد ظهر إلى الوجود بمحض صدفةٍ. فالرسم الموجود على ورقةٍ بيضاء مثلاً يدلّ على وجود رسّامٍ رسمه، وكذا هو الحال بالنسبة إلى كلّ فعلٍ فهو لابدّ من أن يكون صادراً من فاعل.

2) العلّية أمرٌ ماورائيٌّ سابقٌ للفعل :

يتصوّر المشكّكون أنّ نظام العلّة والمعلول ناشئ من الأحداث والظواهر الطبيعية التي تكتنف الحياة، فتلازم النار مع الحرارة والماء مع إرواء العطش على سبيل المثال هو الذي يجعل العقل يستنتج معنى العليّة برأيهم. ولكنّ العقل في الواقع يحكم بحاجة كلّ فعلٍ قبل تحقّقه إلى فاعلٍ (علّة) ويعتبر ذلك من البديهيات التي لا غبار عليها، لذا يستند الإنسان في هذه الاستنتاجات إلى مدركاته العقلية قبل اللجوء إلى تجاربه الحسية (1).

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ مسألة تعيين المصاديق الخارجية للعلّية وتشخيص العلّة والمعلول لكلّ موضوعٍ، لا تندرج في ضمن موضوع بحثنا الحالي وبعضها من مختصّات العلوم التجريبية؛ وهذا الأمر أوقع المشكّكين في حرجٍ إذ عجزوا عن بيان العلاقة التكوينية (العلّية) بين أمرين طبيعيين ممّا اضطرّهم لإنكار مبدأ العلّية من أساسه، فى حين أنّ العقلاء هنا يحكمون بضرورة تقييد الأمر بمورده وعدم تسريته إلى غيره، أي يلزمهم بإنكار علّية ما

ص: 71


1- للاطّلاع أكثر ، راجع: فريدريك كوبلستون، تاريخ فلسفه (باللغة الفارسية)، ج 8، ص 86؛ جون هاسبرز ، فلسفه دين (باللغة الفارسية)، ص 35 و 141

عجزوا عن استكشاف منشئه لا إنكارها بالكامل. وقد وقع الفيلسوف المادّي الشهير ديفيد هيوم في هذا الخطأ بعد أن شكّك بمبدأ العلّية وسائر القضايا الغيبية، إذ قال كارل ريموند بوبر في هذا الصدد: «ينظر هيوم إلى هي الأحداث بما أحداث، مثلاً ينظر إلى A و B دون أن يدرك أيّ أثرٍ آخر ناشئ من الارتباط العلّي والتلازم الحاصل بينهما» (1). وعلى الرغم من غفلة هيوم وأمثاله عن الحقيقة الثابتة، فقد أذعن كثير من العلماء الغربيين بكون العلّية أمراً ماورائياً، وعلى رأسهم الفيلسوف البريطاني ألفريد نورث وايتهد (2) وريتشارد بوبکین (3) وجورنيه هيريان (4) ويونج كارل جوستاف (5).

3) النتائج الباطلة التي تترتّب على إنكار العلّية:

في بادئ الأمر يبدو كأنّ إنكار أحد الأشياء لا يترتّب عليه أيّ أثرٍ سلبيٍّ، ولكن لو قمنا بتحليله لألفينا جملةً من الآثار السلبية المترتّبة عليه أو واحداً منها على أقلّ تقديرٍ. مثلاً كيف يبرّر منكرو مبدأ العلّية منشأ الكون؟ فهل أنّ العالم المادّي أزليّ الوجود؟

لدى حديثنا عن برهان الإمكان والوجوب قلنا: إنّ المادّة لا يمكنها

ص: 72


1- للاطّلاع أكثر ، راجع: كارل ریموند بوبر، جامعه باز ودشمنانش (باللغة الفارسية)، ص 1261
2- جين ويهل، بحثي در ما بعد الطبيعة (باللغة الفارسية)، ص 325
3- ريتشارد بوبكين، كليات فلسفه (باللغة الفارسية)، ص 324
4- فيرنر هايزنبيرج، جزء وكل (باللغة الفارسية)، ص 119
5- يونج کارل جوستاف روانشناسي و دين (باللغة الفارسية)، ص 2. للاطّلاع أكثر، راجع: محمّد حسن قدردان قراملکي، اصل علّیت در فلسفه وکلام (باللغة الفارسية)، ص 178

الاكتفاء بنفسها والاستغناء عن غيرها بسبب طبيعتها الإمكانية، وسنثبت في برهان الحدوث أنّ الوجود المادّي مفتقرٌ إلى خالقٍ.

لم يجد بعض الماديّين بدّاً من القول بأنّ الصدفة القول بأن الصدفة هي منشأ الخلقة، وهذا يعني أنّ العالم ظهر عشوائياً من دون تأثير أيّ مؤثّرٍ؛ وهذه الفكرة بكلّ تأكيد تتعارض تعارضاً تامّاً مع حكم العقل ولا تعدو كونها من سفاهة القول، فيا ترى هل كلّ هذا النَّظم العجيب والترتيب المذهل للكون بكافّة مكوّناته صغيرةً وكبيرةً، قد نشأ لمحض صدفةٍ ؟! هذا فضلاً عن كثير من الاستنتاجات البسيطة والمعقّدة التي تفنّد ما ذهب إليه منكرو مبدأ العلّية، وهم بكلّ تأكيدٍ عاجزون عن ذكر أيّة إجابةٍ مقنعةٍ حولها.

*الشبهة الثالثة : اختصاص العلّية بعالم الطبيعة :

نقل عن الفيلسوف المادّي ديفيد هيوم كلامٌ تضمّن تشكيكاً بمبدأ العلّية، حيث جاء في جانب منه «إن كان المراد من الوجوب هو الوجوب المنطقي، فهذا یعني أنّه من القضايا المنطقية التى لا صلة لها بما هو موجود على أرض الواقع. وإن كان المراد منه الوجوب العلّي والمعلولي، نقول يجب علينا البحث عن علّية المعلولات الممكنة في نطاق دائرةٍ يكون فيها لمفهوم العلّة دورٌ ومعنى، وهذا الأمر مقتصرٌ على الطبيعة فحسب»(1).

تحليل الشبهة ونقضها :

كلّ عاقلٍ يحكم بأنّ الكائنات مفتقرةٌ إلى موجودٍ في غنىّ عن كلّ أمرٍ

ص: 73


1- مجموعة من المؤلّفين، خدا در فلسفه (باللغة الفارسية)، ص 68

آخر، وبتعبير آخر فهو يحتاج إلى علّةٍ؛ ولا فرق هنا بين أن تكون العلّة مستبطنةً في طبيعة الأمر بذاته أو خارجةً عنه؛ ولكن نظراً لاستحالة استبطان العلّة في ذات المعلول (طبيعته)، فلا بدّ من القول بوجودها في ماوراء الطبيعة . وبتعبيرٍ آخر، السبب في حاجة المعلول إلى علّته هو طبيعته الإمكانية، حيث يحكم العقل بضرورة وجود هذه العلّة، وهو حكمٌ مطلقٌ لا يقبل التخصيص بموارد معيّنة.

* الشبهة الرابعة جواز تفسير الإمكان بعللٍ مادّيةٍ:

الذين طرحوا الشبهة السابقة أرادوا نفي العلّية من أساسها - ولا سيّما التي تعد من سنخ الماورائيات - وإثبات أنّها ناشئةٌ من طبيعة الأشياء فحسب، إذ قصدوا من ذلك نفي حاجة الكائنات المطلقة إلى العلّة؛ وهذه الشبهة لا تنفي مبدأ العلّية من أساسه، بل قيّدته بالشؤون المادّية فقط في عين إنكارها لعالم الماورائيات وكلّ ما يرتبط به وبما في ذلك النّظام العلّى.

وبعبارةٍ أخرى: الذين طرحوا هذه الشبهة يقيّدون مبدأ العلّية بالمادّيات وينسبون النَّظم الموجود في هذا العالم إلى علل مادّيةٍ موجودةٍ فيه وناشئةٍ منه، وفي الحين ذاته ينفون حاجة الكائنات إلى علّةٍ ماورائيةٍ مجردةٍ، ومن ثمّ ينكرون وجود إلهٍ للكون (1).

وقد بالغ بعض المادّيين في هذه النظرية لدرجة أنّهم اعتبروا الاعتقاد بوجود عالم المجرّدات ونسبة الخلقة إلى قدرةٍ ماورائيةٍ، أمراً منافياً للعقل

ص: 74


1- ابن ورّاق، اسلام ومسلماني (باللغة الفارسية)، ص 256

والمنطق (1). ومن جملة ما ذكروه في نقد برهان الإمكان والوجوب بهدف إثبات صدق شبهتهم، ما يلي: «الوجود الذي تتّصف ذاته بالإمكان لا بالوجوب، ليس من اللازم له أن يكون محتاجاً إلى عامل خارجيٍّ، ومن ادّعى ذلك لم يقم أيّ برهان لإثبات كلامه. كمثال ٍعلى ذلك تلك الأنظمة التي يمكن البتّ بعدمها نظراً لصغر حجمها، فلو افترضنا أنّنا قذفنا بإلكترونٍ نحو ستارة النافذة، بكلّ تأكيدٍ لا يمكننا تحديد محلّ ارتطامه بها ونفوذه إلى الجانب الآخر، بل هناك الكثير من نقاط الارتطام المحتملة ولا يمكن ترجيح أيٍّ منها مطلقاً ... وحتّى لو افترضنا نقطةً معيّنةً للارتطام، فما الذي يحدث حينها؟ فقد حدث أمرٌ لا ضرورة له وليس هنا أيّ عاملٍ قد جعله أرجح من غيره ... إذن، تحوّل الإمكان إلى واقعٍ لا يقتضي بالضرورة وجود عامل خارجيٍّ، وعلى هذا الأساس يفنّد برهان [الإمكان والوجوب] ومن ثمّ لا يمكن استنتاج وجود واجب الوجود على أساسه» (2).

تحليل الشبهة ونقضها :

للردّ على الشبهة المذكورة، نقول :

1 ) مبدأ العلّية يعدّ من الأصول الثابتة فى الفلسفة الإسلامية، ولا سيّما الشيعية، وهذا يعني أنّ كلّ ظاهرةٍ طبيعيةٍ في الكون لا بدّ من أن تكون ناشئةً من علّةٍ طبيعيةٍ تتناسب مع شأنها. هذه القاعدة في الحقيقة عبارةٌ عن نظامٍ كونيٍّ أقرّه الله تعالى لإدارة شؤون الخلقة، لذلك فإنّ العلم التجريبي الحديث

ص: 75


1- مسعود الأنصاري (الدكتور روشنگر) ، الله اکبر (باللغة الفارسية)، ص 129- 130
2- www.kaafar.netfirms.com/baad/voiod - ve - mekan.htm

عاجزٌ عن استكشاف مكنون نظام العليّة وكيفية التحكّم به في عالم الطبيعة، وكذا هو الحال بالنسبة إلى الملحدين الذين ينكرون وجود بارئ عظيم، إذ إنّ إلحادهم يوصد الباب عليهم ويحول بينهم وبين معرفة الحقائق الكونية المذهلة. لقد أکّد القرآن الحكيم والأحاديث المباركة على وجود ارتباطٍ وطيدٍ (عِلّي) بين جميع الظواهر الطبيعية التي تكتنف الحياة البشرية، إذ هناك صلةٌ فيزيائيةٌ وغيبيةٌ بين حركة الرياح والسحب وهطول الأمطار وانتعاش الزراعة، والآيات الآتية تشير إلى جانب من هذا النظام المذهل:

- «الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا للَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ» (1).

- «اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ»(2).

- «وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدِ مَيْتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ»(3).

- «وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ»(4).

ص: 76


1- سورة البقرة، الآية 22
2- سورة إبراهيم، الآيتان 32 و 33
3- سورة الأعراف، الآية 57
4- سورة الروم، الآية 46

والأحادث المروية على هذا الصعيد كثيرةٌ، نذكر منها هذا الحديث المروي عن الإمام جعفر الصادق علیه السّلام: «أبى الله أن يجري الأشياء إلا بالأسباب، فجعل لكلّ شيء سبباً، وجعل لكلِّ شرحٍ مفتاحاً، وجعل لكلّ مفتاحٍ علماً، وجعل لكلّ علمٍ باباً ناطقاً؛ من عرفه عرف الله ومن أنكره أنكر الله ذلك رسول الله ونحن»(1).

2) سيادة مبدأ العلّية على الظواهر الكونية لا يعد ّوازعاً للاستغناء عن الربّ الخالق، وقد ذكرنا آنفاً أنّ عالم المادّة وجميع الممكنات بحاجةٍ إلى واجب الوجود حدوثاً وبقاءً، فالممكن متقوّمٌ على الواجب بحيث ينعدم بعدمه. إذن، العلّية تعدّ أمراً مطلقاً بصفتها أصلاً عقلياً، ومن هذا المنطلق فهي لا تختصّ بعالم الطبيعة وبالتأكيد حتّى وإن تسنّى لنا بيان حقائق بعض القضايا المادّية والتعرّف على علل تكوينها في ظاهر الحال، ففي نهاية المطاف لابدّ من أن نتوصّل إلى نتيجةٍ واحدةٍ لا غير وهي وجود علّةٍ أساسية ٍأنشأت كلّ تلك العلل البادية لنا، وهذه العلّة الغيبية هي البارئ العظيم تبارك وتعالى.

لقد تمكّن العلم من تحليل تلك القضايا التي تكتنف المادّة لدرجة أنّه اكتشف البروتونات والنيوترونات والإلكترونات المكوّنة للذرّة التي هي أصغر جزءٍ في العناصر المادّية، لكنّه عجز عن وضع تفسيرٍ مقنع لسبب حركة مكوّنات الذرّة حول ،نواتها، وهذا نظير عجزه عن ذكر تفسيرٍ علميٍّ متكامل ومقنعٍ لحركة المجرّات والأجرام السماوية المذهلة في نظمها وترتيبها، ويكتفي بتبرير ذلك باللجوء إلى قوانين الجاذبية وما شاكلها من قوانين فيزيائية لا تفى بالغرض ولا تروي التعطّش العلمي لبلوغ الحقائق الكونية. إنّ العلم المادّي

ص: 77


1- محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 2، ص 90

مهما بلغ من التطوّر في ظاهره فهو يبقى عاجزاً عن بيان حقائق الأشياء، مثلاً لو سئل أحد العلماء المادّيين المختصّين عن سبب ملوحة الملح، لا يمكنه إلا أن يقول بأنّ عناصره المكوّنة له تقتضى اتصافه بهذا الطعم! ولكن لماذا؟! إنّه لا يعلم الحقيقة، فما هي الخصوصية التي جعلت اليود يوجد هذا الطعم في فم الإنسان؟ وعلم الفلسفة بدوره يجيب عن ذلك بتبرير أنّ ذات العنصر قد عجنت مع هذه الخصوصية منذ خلقته مثلما خلق الحديد بخصوصياته التي ينفرد بها عن غيره والقاعدة تقول: (الذاتي لا يُعلّل)، لذا فحسب التعاليم الفلسفية هذه الصفات هي من مقتضيات الذات التي خلقها الله تعالى بهذا الشكل، وبما أنّ الذات لا تُعلّل فهي أيضاً لا يمكن أن تُعدّل.

بناءً على ما ذكر، ليس هناك أيّ تعارضٍ بين بيان حقائق الكون بواسطة مختلف العلوم مادّيةً وعقليةً وبين الاعتقاد بوجود الله تعالى، ولحدّ الآن لم تتمكّن العلوم من بيان هذه الحقائق بالكامل ولم تدرك كُنهها، لذا لا بدّ من الإيمان بالغيب والعالم الماورائي.

3) الشبهة التي فحواها أنّ الكائن الذي تتصف ذاته بالإمكان لا يقتضي وجوده بالضرورة وجود عامل خارجيٍّ، هي باطلةٌ جملةً وتفصيلاً، ونقول في نقضها إنّ من طرحها أطلق العنان لأوهامه من دون أن يستند إلى أيّ دليل علميٍّ، ومن جملة ما يرد عليه التناقض الواضح في طرح الموضوع، ففي بادئ الأمر يقرّ بأنّ الممكن موجودٌ، ولكن حينما يُسأل عن تعريفه، يصفه بأنّه في الوجود والعدم سواءٌ ويؤكّد على أنّ ترجيح أحدهما على الآخر بحاجةٍ إلى دليلٍ. لو دقّقنا في تعريف الممكن وحلّلناه لوجدناه بحاجةٍ إلى علّةٍ خارجيةٍ، وإلا وجب علينا ذكر تعريفٍ آخر له فواجب الوجود على سبيل

ص: 78

المثال لا يمكن أن يكون من سنخ الماديات، ولكن كيف هو الحال بالنسبة إلى الممكن؟ إضافةً إلى ذلك فالتعريف المذكور يتضمّن تناقضاً آخر من حيث المزايا الوجودية للممكن، فهو على وفق هذا التعريف لا يحتاج بالضرورة إلى علّةٍ خارجيةٍ؛ وهذا الأمر بالطبع تناقضٌ صريحٌ، فالكرة وإن كانت مدوّرةً لكن هل يمكن لها أن تتدحرج على الأرض من دون تأثير مؤثّرٍ خارجيٍّ؟ مثلاً إن لم تحرّكها الريح أو لم يركلها إنسان، فهي لا يمكن أن تتدحرج.

إذن، الشبهة باطلةٌ وعاريةٌ عن الصحّة، فإنكار مبدأ العلّية كلامٌ واهٍ يستتبع التناقض أو الجمع بين الضدّين، وهما مستحيلان على وفق الحسابات العلمية والأصول العقلية الثابتة.

4) بالنسبة إلى المثال الذي ذكر في الشبهة حول نقطة إصابة الإلكترون، نقول: قذف الإلكترون وعدم معرفة نقطة إصابته، لا يعدّ دليلاً على نفي مبدأ العلّية، بل سبب عدم علمنا بتلك النقطة المفترضة ناجمٌ عن جهلنا بخصائص المدارات الإلكترونية وفعلها وانفعالها وإثر ذلك نفتقر إلى العلم بمحلّ الإصابة.

إنّ مبدأ العلية يتمحور فقط حول مسألة حاجة كلّ ظاهرةٍ إلى علةٍّ، في حين أنّ معرفة الإنسان لوقائع الأحداث ونتائجها لا تندرج تحته، فهي من نمطٍ آخر؛ لذا فإنّ عدم قدرة الإنسان على تحديد نقطة إصابة الإلكترون ناشئ من أسباب عديدة مكنونة على الإنسان بحيث لا يمكن زعم أنّها برهانٌ على إمكانية تحقّق أمرٍ ممكنٍ من دون الحاجة إلى علّةٍ توجده.

ص: 79

* الشبهة الخامسة : مغالطة نسبة الجزء إلى الكلّ :

لو تأمّلنا مرّةً أخرى في برهان الإمكان والوجوب الذي وضّحناه في مستهلّ الفصل وحلّلناه من زاويةٍ منطقيةٍ، سنجد ثماني مقدّماتٍ في ركنه الثالث الذي فحواه (إمّا أن يكون هناك موجودٌ واجباً للوجود، أو أنّ جميع الكائنات من سنخ الممكنات)، والمقدّمة الثانية قلنا فيها لو كان عالم الوجود عبارةً عن سلسلةٍ غير متناهيةٍ من الممكنات، فنتيجة ذلك أنّه محتاجٌ إلى علّةٍ لكونه مؤلّفاً من موجوداتٍ ممكنةٍ مفتقرةٍ في وجودها إلى علّةٍ.

ذكر بعض الفلاسفة الملحدين شبهةً حول هذه المقدمة (1)، وزعموا عدم صحّة تسرية حكم الجزء إلى الكلّ بالكامل، أي من الخطأ بمكانٍ اعتبار (حاجة الممكنات إلى العلّة) شاملةً للكون بأسره، لذا ليس من الصواب القول بحاجته إلى علّةٍ.

ولأجل إثبات مدّعاهم استشهدوا بمثال أشجار الغابة المجتمعة مع بعضها والتي تمتلك كلّ واحدةٍ منها جذوراً تحت الأرض، فقالوا إنّ هذا لا يعني تسرية الجذور للغابة بما هي غابة، أي: لا يمكن إضافة صفة الجزء إلى الكلّ (2). أرادوا من هذا المثال استنتاج أنّ الممكنات حتّى وإن احتاج كلّ واحدٍ منها إلى علّةٍ، لكن الكون ليس كذلك، فهو لا يحتاج إلى علّةٍ.

وقد تمّ تقرير الشبهة المذكورة بأسلوبٍ آخر من قبل الفخر الرازي و آخرين وسنشير إليها لاحقاً.

ص: 80


1- للاطّلاع أكثر ، راجع: برتراند راسل، چرا مسیحی نیستم؟ (باللغة الفارسية)؛ برتراند راسل، عرفان و منطق (باللغة الفارسية) ، ص 214؛ مصطفی ملکیان، مسایل جدید كلام (باللغة الفارسية)، براهين إثبات وجود الله تعالى، ص 44
2- المثال هو: (الغابة فيها أشجارٌ ، والأشجار لها جذورٌ ؛ إذن الغابة لها جدورٌ)

تحليل الشبهة ونقضها :

نقول في نقض الشبهة المذكورة :

1) أكّد المحقّق الطوسي على أنّنا لا نتلاعب بالألفاظ، حينما تطرّق إلى نقد شبهة الفخر الرازي (1)، وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ مرتكز الاستدلال في برهان الإمكان والوجوب هو : بما أنّ أجزاء الكون من سنخ الممكنات، فهي بحاجةٍ إلى علّةٍ، وهذه الحاجة لا تختصّ بزمانٍ معيّنٍ، إذ لا يختلف الأمر في الماضي والحاضر والمستقبل؛ لذا متى ما تلبّست بالوجود سيطرأ على ذاتها الإمكان والحدوث بالضرورة ممّا يعني افتقارها إلى علّةٍ، وهذه العلّة بكلّ تأكيدٍ لا بدّ وأن تكون خارجةً عن نطاق الممكنات.

بناءً على ما ذكر، سوف لا نركّز الموضوع هنا حول العنوان العامّ (الكون) لإثبات أنّه بحاجةٍ إلى علّةٍ كي لا يطرح إشكال عدم صحّة نسبة مقتضيات الجزء إلى الكلّ، لذا سنلجأ إلى تعبيرٍ آخر هو: (جميع أجزاء الكون الممكنة بحاجةٍ إلى علّةٍ ) (2). وبعبارةٍ أدقّ: سوف نسلّط الضوء على أصل

ص: 81


1- للاطّلاع أكثر ، راجع: ابن سينا، الإشارات بشرح المحقق الطوسي والفخر الرازي، ج 3، ص 22؛ نجم الدين كاتبي، حكمة العين، ص 180
2- قيل في نقد الشبهة المذكورة: يجب علينا في بادئ الأمر تحديد نوع الكلّ، إذ له قسمان، أحدهما (كلٌّ انضمامي) والآخر (كلٌّ انتزاعي). الأوّل يعني وجود من مجموعة العناصر (أجزاء الكلّ) مع بعضها وفي آنٍ واحدٍ، والثاني يعني وجودها في أزمنةٍ مختلفةٍ. إذن، حسب هذا التعريف لا يمكننا بالتأكيد تسرية حكم الجزء إلى الكلّ الانتزاعي، ولكن هناك وجهان بالنسبة إلى الكلّ الانضمامي، هما: أوّلاً: أن تكون النسبة المحمولة على الأجزاء صفةً لها بحيث لا يمكن أن تنفكّ عنها، وفي هذه الحالة يجوز لنا تسرية حكم الجزء إلى الكلّ. ومثال ذلك قولنا: (أشجار الغابة لها وزنٌ، فالوزن هو وصفٌ للأشجار (الأجزاء) مجتمعةً، أيّ إنّه لا يمكن أن ينفكّ عنها. ثانياً: أن لا تكون النسبة المحمولة على الأجزاء صفةً، بل جزءٌ مكوّنٌ لها، وفي هذه الحالة لا يجوز لنا تسرية حكم الجزء إلى الكلّ. ومثال ذلك قولنا: (أشجار الغابة لها جذورٌ)، وبطبيعة الحال فإنّ الجذر هو جزءٌ من الشجرة نفسها (الجزء) ولا يمكن تسريته إلى الغابة (الكلّ). استنتاداً إلى ما ذكر، ينبغي لنا بيان ما إن كانت أجزاء الكون موجودةً ومجتمعةً مع بعضها بالفعل أو لا. هناك رأيان مطروحان على هذا الصعيد، فقد ذهب جماعة إلى أنّ الزمان حقيقةٌ موجودةٌ على أرض الواقع ووصفوا الكون بأنّه انتزاعيٌّ بأسره، إذ عبر مرّ الأيام نتمكّن من معرفة العالم الماضي والمستقبل في زماننا المعاصر. وقال آخرون إنّ الزمان يعدّ من الأمور الذهنية الاعتبارية، وعلى هذا الأساس فهو كلٌّ انضمامي وحاجته إلى العلّة ليست ناشئةً من كونه جزءاً، بل من وصف أجزائه، وعلى أساس هذا الاعتبار فإنّ تسرية حكم الجزء إلى الكلّ (الكون) من حيث حاجته إلى العلّة يعدّ صحيحاً. للاطلاع أكثر ، راجع : مصطفی ملکیان، مسایل جديد كلام (باللغة الفارسية)، باب: براهين إثبات وجود الله تعالى، ص 51

الوجود والحقائق الخارجية، ونوضّح ما إن كان وجودها ناشئاً من ذاتها أو أنه مستفاضٌ من أمرٍ خارجٍ عن ذاتها.

2) مغالطة سوء الحمل - تسرية جذور الأشجار إلى الغابة - يمكن أن ترد على الغابة (الكلّ)، فتارةً يراد من الغابة الأشجار وتوابعها كالأرض والتراب والحيوانات، وتارةً أخرى قد يراد منها الأشجار فقط. إذا أردنا المعنى الأوّل (الأجزاء العامة) فلا يمكن تسرية حكم الجزء إلى الكلّ لأنّ المكوّنات العامّة هنا مختلفة عن بعضها ، وإذا أردنا المعنى الثاني (الأجزاء الخاصّة) فيمكن هنا تسرية حكم الجزء إلى الكلّ. إذن حينما نروم من الغابة معناها العام فلا

ص: 82

يمكننا القول إنّها ذات جذورٍ لأنّ هذا الوصف مختصّ بأحد أجزائها فقط (الأشجار) ولا يسرى إلى الكلِّ، لكن عندما نقصد من الغابة معناها الخاص (الأشجار) فقط، يمكننا القول حينئذٍ (الغابة لها جذور) قاصدين من ذلك الأشجار فقط.

بناءً على ما ذكر، فإنّ المثال الذي استندوا إليه مؤلّف من ثلاث قضايا، هي:

الأولى: الغابة فيها أشجارٌ.

الثانية: الأشجار لها جذورٌ.

الثالثة: إذن، الغابة لها جدورٌ.

يا ترى ما المقصود من (الغابة) في القضية الأولى ؟ إن أردنا المعنى العام، أي: الأشجار وتوابعها (الأرض والتراب والحيوانات)، يصبح محمول القضية الثانية (الجذور) مجرّد وصفٍ لجزءٍ من الغابة (الأشجار) التي هي موضوع القضية الصغرى.

وأمّا بالنسبة إلى برهان الإمكان والوجوب، فإنّ قضية (يمكن أن يحتاج الكون إلى علّةٍ لكونه من سنخ الممكنات) تكون أجزاؤها - الممكنات التي هي بحاجةٍ إلى علّةٍ - من حيث هي متساويةً ومتّسقةً مع بعضها في إطار علاقة اتّحادٍ وعينيةٍ وعلى هذا الأساس بإمكاننا تسرية نسبة الجزء (الحاجة إلى العلّة) إلى الكلّ (الكون)،

وبتوضيح آخر: المراد من الكلّ والكون في برهان الإمكان والوجوب تلك الأجزاء المكوّنة له، وهو ما ذهب إليه ابن سينا، حيث قال: «فإنّ تلك

ص: 83

[الآحاد] والجملة والكلّ، شيءٌ واحدٌ» (1).

بإمكاننا بيان الموضوع عن طريق نقض الشبهة على وفق قواعد علم المنطق، حيث نذكر مثال أصحاب الشبهة في إطار قضاياه الثلاث كما يأتي:

الأولى: الغابة فيها أشجارٌ .

الثانية: الأشجار لها جذورٌ.

الثالثة: إذن، الغابة لها جدورٌ.

المغالطة الموجودة في هذا القياس تناظر المغالطة الموجودة في المثال المعروف (في الجدار فأرةٌ، الفأرة لها أُذنان؛ إذن الجدار له أُذنان). القضية الأولى في المثال المذكور هى المقدّمة الصغرى، والقضية الثانية هي المقدّمة الكبرى، وهما صحيحتان من حيث الهيئة والمادّة؛ لكنّ الإشكال يكمن في عدم مراعاة شرط كون القياس ذا نتيجةٍ، أي: عدم تكرار الحدّ الأوسط الذي هو موضوع الأولى ومحمول الثانية، وذلك لأنّ محمول الصغرى المركّب من قيدين (فيها أشجار) لم يتكرّر بذاته في موضوع الكبرى، إذ جاء فيه وصف الأشجار فقط

ص: 84


1- ابن سينا، الإشارات بشرح المحقّق الطوسي، ج 3، ص 23. لدى بيانه لهذه العبارة، قسّم ابن سينا الجملة والكل في ثلاثة أقسامٍ: أ - عند اجتماع الأجزاء مع بعضها، لا يتحصّل لنا سوى الاجتماع، مثل العشرة. ب - عند تركيب الأجزاء مع بعضها، تتكوّن لدينا هيئةٌ ووضعٌ محدّدان، مثل البيت. ج - عند تركيب أجزاء الهيئة والوضع مع بعضها، تتحصّل لدينا أربع حالاتٍ، هي: البرودة والحرارة والجفاف والرطوبة. وقال إنّ تركيب الجملة والكلّ في سلسلة برهان الإمكان يكون من القسم الأول (أ) حيث إنّهما شيءٌ واحدٌ. للاطّلاع أكثر، راجع: نفس المصدر، ص 24

من دون أحد القيدين (فيها). لذا، إن أردنا تقرير الموضوع من حيث قواعد علم المنطق فلا بد من القول: (المكان الذي فيه أشجار له جذورٌ) وهذه الدلالة يتكرّر فيها الحد الأوسط؛ لكنّ الإشكال هنا يكمن في مادّة القضية نفسها. يعبّر عن هذه المغالطة في علم المنطق بأنّها (سوء اعتبار الحمل)، وذلك بمعنى حذف أو إضافة قيدٍ من مادّة المحمول.

3) نحن لا ننظر إلى الكلِّ والمجموع في هذا المجال، بل حينما نسلّط الضوء على أحد الوجودات الخاصّة نجده إمّا أن يكون واجباً أو ممكناً، والثاني بحاجةٍ إلى علّةٍ ماورائيةٍ فاعلةٍ وليست مادّيةً.

* الشبهة السادسة : المصادرة على المطلوب

انتقد كلٌّ من القاضي عضد الدين الإيجي والجرجاني برهان ابن سينا، حيث قال الأوّل: «المجموع يشعر بالتناهي، لأنّ ما لا يتناهى ليس له كلٌّ ولا مجموعٌ ولا جملةً، بل ذلك إنّما يتصوّر في المتناهي، وتناهي الممكنات يتوقّف على ثبوت الواجب، فإثباته به - أي إثبات الواجب بما يدلّ على تناهي الممكنات - مصادرةٌ على المطلوب والجواب أنّ المراد به - أي بالمجموع وما يرادفه في هذا المقام - هو الممكنات بأسرها بحيث لا يخرج عنها شيءٌ منها، وذلك متصوّرً في غير المتناهي؛ إذ يكفيه ملاحظةً واحدةً إجماليةً شاملةً لجميع آحاده، إنّما الممتنع أن يُتصوّر كلّ واحدٍ ممّا لا يتناهى مفصّلاً، ويطلق عليه المجموع بهذا الاعتبار» (1)، كما نلحظ في هذا النصّ، فقد أكّد الإيجي على أنّ

ص: 85


1- للاطّلاع أكثر، راجع: القاضي عضد الدين الإيجي، شرح المواقف، ج 8، ص 8-9

وصف الممكنات ب_ (الكلّ) أو (المجموع) يعدّ إذعاناً بمحدوديتها، ويترتّب عليه احتياجها لواجب الوجود، ورغم كون محدودية الممكن محلاً للخلاف ونحن هنا بصدد إثبات وجوده، فقد افترضناه موجوداً قبل ذلك؛ وهذا مصادرةٌ على المطلوب.

تحليل الشبهة ونقضها:

بطلان هذه الشبهة ثابتٌ في ظلّ ما ذكر ضمن المباحث الآنفة، ومع ذلك تقول في نقضها :

1) كلامنا لا يتمحور حول الكلّ أو المجموع، بل نقصد أنّ جميع الممكنات إمّا أن تكون بنفسها علّةً لوجودها أو أنّها مرتبطةٌ بغيرها . الحالة الأولى لا تنسجم مع مبدأ الإمكان، والثانية بكلّ تأكيدٍ تدلّ على حاجتها إلى واجب الوجود.

2) المراد من الكلّ أو المجموع جميع أفراد المجموعة - أي الممكنات - ومن هذا الحيث ليس هناك استدلالٌ على محدودية المجموع؛ لذا ينسجم هذا القول مع اعتبار عدم تناهي الممكنات(1)، ولكن يتمّ إثبات محدودية الممكنات وتناهيها في الاستدلال الآتي، أي القول بحاجتها إلى علّةٍ موجدةٍ وعدم معقولية كونها واجبةً بالذات (2).

ص: 86


1- للاطّلاع أكثر ، راجع: ابن سينا الإشارات، بشرح المحقّق الطوسي، ج 3، ص 22؛ نجم الدين كاتبي حكمة العين، ص 180
2- ذكر بعضهم إجابةً أخرى دفاعاً عن البرهان وهذه الإجابة تتلخّص بما يأتي: عنوان (الكلّ) أو (المجموع) من شأنه أن يكون ناظراً إلى غير المتناهي فيكون استعماله في هذا المجال صحيحاً، إذ يكفي تصوّر العنوان الجامع والإجمالي الناظر إلى الأفراد. أمّا الممتنع فهو التصوّر التفصيلي للمصاديق اللامتناهية. إلا أنّ الجواب الذي ذكرناه أعلاه يفي بالغرض ولا تبقى حاجةٌ إلى هذه الإجابة. للاطّلاع أكثر، راجع: ابن سينا، الإشارات بشرح المحقّق الطوسي، ج 3، ص 22؛ القاضي عضد الدين الإيجي، شرح المواقف، ج 8، ص 8-9
* الشبهة السابعة: افتقار الله تعالى إلى علّةٌ:

إحدى الشبهات الشائعة منذ العصور السالفة فحواها ما يأتي: لو أنّ كلّ شيءٍ احتاج بالضرورة إلى علّةٍ في وجوده، فما العلّة التي أوجدت الله عزّ وجلّ؟ وهذا السؤال قد ينتاب ذهن كلّ إنسانٍ، لكنّ الملحدين لجؤوا إليه لإثبات إلحادهم، وفي عصرنا الراهن يتمّ الترويج لها في المواقع الإلكترونية بغية المساس بمعتقدات الناس والتشكيك بدينهم وجيل الشباب يعتبر أهمّ هدفٍ لهم (1).

تحليل الشبهة ونقضها:

وهن هذه الشبهة واضحٌ على أساس ما ذكر في المباحث الآنقة، ولنقضها بالتفصيل نقول:

1) إذا أمعنّا النظر فى برهان الإمكان والوجوب نلمس أنّ صرف الوجود ليس هو المعيار الأساسي في الافتقار للعلّة، بل إنّ مزية الإمكان هي المعيار في ذلك حسب القواعد الفلسفية، أو أنّ المعيار هو ميزة الحدوث حسب

ص: 87


1- للاطّلاع أكثر، راجع: برتراند راسل، چرا مسیحی نیستم؟ (باللغة الفارسية)؛ برتراند راسل، جهان بيني علمي (باللغة الفارسية)، ص 115 : www.kaafar.netfirms.com/baad/alieat.htm

قواعد علم الكلام؛ ومن هذا المنطلق فلا صحة لادعاء أنّ (كلّ وجودٍ بحاجةٍ إلى علّةٍ) إذ ليس هناك برهانٍ يثبته. وأمّا قولنا (كلّ وجودٍ ممكنٍ بحاجةٍ إلى علَّةٍ) فهو قولٌ صحيحٌ.

الذين طرحوا الشبهة توهموا بأنّ مبدأ العلية يقتضي إثبات العلّة لكلّ وجودٍ، وهذا التوهّم لا أساس له من الصواب بتاتاً لكون مبدأ العلّية يدلّ على افتقار الممكنات إلى العلّة فحسب؛ وعلى هذا الأساس فإنّ وجود (واجب الوجود) الذي هو وجودٌ محضٌ ومطلقٌ، في الحقيقة خارجٌ عن العلّية تخصّصاً حسب تعبير علماء الأصول أي إنّه لا يندرج ضمن نظام العلّة من بادئ الأمر.

كما هو معلومٌ فالوجود على صنفين، ممكنٌ وواجبٌ، والأوّل هو الذي يتقوّم في وجوده على غيره (علّة خارجية ) ، لذا يكون معلولاً في وجوده لواجب الوجود الذي يتقوّم وجوده على ذاته لا على غيره. ومثال ذلك الغذاء ذو الطعم المالح، إذ إنّ كلّ طعامٍ مالحٍ يكتسب طعمه من الملح، في حين أنّ الملح يتّصف بهذا الطعم ذاتاً وليست هناك علّةٌ خارجيةٌ أضفت عليه هذه الخصوصية، وحسب التعبير الفلسفي فإنّ سلسلة علل (المالح) تتوقّف في ذات الملح. وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ علّة الوجود تتواصل في الممكنات، ولكنّها حينما تصل إلى الوجود المحض البسيط والكامل (واجب الوجود) تتوقّف، لأنّه تعالى قائمٌ بذاته وليس مفتقراً إلى علّةٍ في وجوده.

السبب في توقّف العلل عند حدٍّ، هو مقتضى ذات واجب الوجود، إذ إنّ العلّة لابدّ من أن تنتهى إلى وجودٍ كاملٍ لا وجود آخر وراءه، وحسب التعبير الفلسفي (ليس هناك وجودٌ في عرضه) بمعنى أنّ جميع الوجودات معلولةٌ

ص: 88

له ومُستفاضةً منه، ومن ثمّ فهي أدنى مرتبةً منه، ومن هذا المنطلق لا يمكن تصوّر وجود أعلى وأتم من واجب الوجود كي ندعي أنه علّةً له؛ فعندما نبلغ

أعلا جزء من لتسلّق نقطة أعلا منها، ومن ثم نتوقف عندها.

قمة الجبل الشاهق على سبيل المثال لا يمكننا حينئذ السعي

يترتب على برهان الإمكان والوجوب انقطاع سلسلة العلل وتوقفها في محور أساسي واحد، وحسب الافتراض فالممكن يستند في وجوده إلى علةٍ خارجة عن ذاته، وهذه العلّة بدورها معلولةٌ لعلّةٍ أخرى. هذا التسلسل العلّي في الواقع يمكن أن يبرر في إطار احتمالين كما يأتي:

الأول: أن ينتهي إلى وجودٍ كامل هو علة لسائر العلل (علة العلل)

بحيث يفيض الوجود على كل من سواه .(الممكنات).

الثاني: أن يكون غير متناه.

لا ريب في بطلان الاحتمال الثاني بوصفه مستحيلاً عقلاً، إذ حينما تتواصل سلسلة العلل الفاعلية من دون أن تصل إلى علّةٍ أصليةٍ (واجب الوجود) سيكون الوجود بأسره وبجميع أجزائه (علل ومعلولات) من سنخ الممكنات، وقد أثبتنا في برهان الإمكان والوجوب أنّ وجود الممكنات هو وجودٌ ناقصٌ وغير مستقلٍّ ممّا يوجب حاجتها إلى واجب الوجود.

إذن، بما أنّ فرضية تسلسل العلل الفاعلة محالٌ، فلا بدّ من انتهاء هذا التسلسل إلى محورٍ أساسيٍّ، وبكلّ تأكيدٍ ليس هناك محورٌ سوى واجب الوجود الذي هو الله عزّ وجلّ لا غير.

2) نستشفّ من هذه الشبهة أنّ الملحدين يعتقدون إلى حدٍّ ما بكون

ص: 89

عالم المادّة قديماً وأزلياً بحيث يستغني عن العلّة، لذلك زعموا أنّه غير مفتقرٍ إلى علّةٍ في خلقه، في حين أنّ المادّة عبارةٌ عن وجودٍ لا إدراك له ومحدودٍ ومتغيّرٍ وقد يطرأ عليه التفسّخ والانحلال. لكنّنا نراهم يطرحون على (واجب الوجود) شبهةً ترد على مذهبهم الفكري، وهي أنّهم يسارعون إلى السؤال عن العلّة الموجودة له، وحينما نجيبهم بأنّه ليس مفتقراً إلى علّةٍ وجوديةٍ يرفضون ذلك مبرّرين أن كلّ أمرٍ لا بدّ له من علّةٍ! فكيف يا ترى أنّ المادّة الجامدة (الممكنة) توجد نفسها من دون أن تحتاج إلى علّةٍ في حين أنّ واجب الوجود بحاجةٍ إلى ذلك؟!

* الشبهة الثامنة : عدم إمكانية مشاهدة الله تعالى (أين هو)؟

هذه الشبهة هي الأخرى من الشبهات القديمة التي طرحت على صعيد وجود الله سبحانه في إطار مباحث علم اللاهوت، حيث تشبّث بها الملحدون لتبرير عدم اعتقادهم بوجوده تعالى زاعمين أنّه لو كان موجوداً لرأيناه أو عرفنا أين هو.

يبدو أنّ هذه الشبهة ناشئةٌ إلى حدٍّ ما من حالاتٍ نفسيةٍ، فالإنسان الذي يعيش في الحياة الدنيا تحت ظلّ عالمٍ مادّيٍّ بحيث إنّ كلّ ما حوله محسوسٌ لديه، نجده يفسّر جميع الظواهر وفق ما يكتنفه من أحاسيس الأمر الذي يسفر عن توهّمه وتصوّره أنّ الله تعالى يمكن أن يدرك كما تدرك سائر الأمور المادّية، ومن ثمّ ترسخت هذه الحالة في نفسه لتتحول إلى وهمٍ فحواه أّنه جلّ شأنه من سنخ المادّيات المحسوسة ومن ثمّ نكون قادرين على معرفته بالحواسّ الخمسة؛ وحينما لم يجد ضعاف النفوس ما يبحثون عنه (الإله المادّي)

ص: 90

التزموا جانب الإنكار والإلحاد.

هذه الشبهة تضرب بجذورها في عهد الأنبياء والرُّسل، فإنّ بني إسرائيل على سبيل المثال طلبوا من النبيّ موسى علیه السّلام أن يريهم الله جهرةً كي يؤمنوا به، فقالوا له: «وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً» (1)، وإثر هذه النزعة المادية ضلّوا وخدعهم السامريُّ بمكره فعكفوا على عبادة العجل: «وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ» (2).

من المؤسف أنّنا نرى هذه الشبهة وما شاكلها من استدلالاتٍ مادّيةٍ بحتةٍ، قد انتشرت على نطاقٍ واسع في عصرنا الحاضر، مثلاً قال أحد روّاد الفضاء بأنّه لم ير الله في السماء وقال جرّاحٌ إنّه لم يجد الله ولا الروح في أحشاء مرضاه؛ وما إلى ذلك من مزاعم واهية لا تمتّ بأدنى صلةٍ لمسألة وجود الله تبارك وتعالى والتى تشبّث بها بعضهم للإعراب عن كفرهم الصريح.

تحليل الشبهة ونقضها:

نردّ على الشبهة المذكورة في النقاط الآتية:

1) لا شكّ في عدم وجود تلازمٍ بين العجز عن العثور على شيءٍ و عدمه، أي إنّنا إن لم نجد الشيء الذي نبحث عنه فهذا لا يعني أنّه معدومٌ من

ص: 91


1- سورة البقرة، الآية 55 . قال تعالى أيضاً: «وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلَّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ» . سورة البقرة، الآية 118. وقال كذلك: «وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوا كَبِيرًا» . سورة الفرقان، الآية 21
2- سورة البقرة، الآية 92

الوجود، بل هو مستترٌ عنّا فحسب.

وهناك حكايةٌ حول هذه الشبهة وهى أنّ معلّماً ملحداً أخبر تلامذته بعدم وجود الله تعالى واستدلّ على ذلك بأنّه لم يره، وفجأةً سأله أحد التلاميذ الأذكياء: هل عندك عقلٌ يا أستاذ؟ فأجاب فوراً: نعم، ثمّ طرح هذا التلميذ السؤال الآتي على زملائه: هل تشاهدون عقل معلّمنا؟! أجابوه: كلا! فبادر التلميذ إلى تكرار كلام معلّمه قائلاً: كلّ شيءٍ لا نشاهده فهو غير موجود، وبما أنّنا لا نشاهد عقل معلّمنا، نقول إنّه لا عقل له.

رغم أنّ الاستدلال في هذه الحكاية بسيطٌ، لكنّه واضحٌ غاية الوضوح في إثبات المطلوب، حيث يراد منها بطلان فرضية انعدام كلّ ما لا ندركه بحواسّنا الخمسة، فليس من الصواب بتاتاً الحكم على شيءٍ بالعدم لمجرّد عجزنا عن إدراكه بمدركاتنا الحسّية، وكما يقول الفلاسفة فإنّ (عدم الوجدان لا يدلّ على عدم الوجود)، إذ ليس هناك ارتباطٌ بين عدم مشاهدة الشيء وبين وجوده حقيقةً. وبعبارةٍ أخرى، ليست هناك علاقةٌ علّيةٌ بين الأمرين، فعدم إدراك الشيء بالحواسّ تارةً يتزامن مع عدم وجوده وأخرى مع وجوده؛ مثلاً لو أضاع شخصٌ مفتاح داره في داخلها، وبحث عنه طويلاً ولم يجده، ففي هذه الحالة لا يمكن لأحدٍ مطلقاً زعم أنّ المفتاح ليس في الدار بسبب عدم العثور عليه. وكذا هو الحال بالنسبة إلى الاستدلال على وجود الله تبارك وتعالى فالمادّيون الذين يدعون أنّهم لا يشاهدونه ولا يدركونه بحواسّهم المادّية لا يمكنهم إنكار وجوده من الأساس حتّى وإن زعموا أنّهم لا يدركونه في ضمائرهم، فعدم إداركه بالحواسّ الخمسة ليس برهاناً على عدم وجوده، إذ ليس هناك أيّ ارتباطٍ منطقيٍّ بين الأمرين.

ص: 92

2) ما أدّى إلى وقوع المادّيين في هذه المغالطة هو أنهم توهّموا بكون وجود الله تعالى مادّياً، إذ تصوّر رائد الفضاء أنّه متواجدٌ خارج الغلاف الجوّي (في السماء)، وتصوّر الطبيب الجرّاح أنّه صغير الحجم بحيث يمكننا مشاهدته بين أحشاء الإنسان؛ وعلى أساس هكذا تصوّرات أنكرا وجوده وألحدا به! في حين أنّ الحقيقة الثابتة هي تجرّده عزّ وجلّ عن المادّة، فهو وجودٌ ماورائيٌّ مجرّد لا تدركه الحواسّ الظاهرية؛ لذا من أراد معرفته فلا بدّ له من البحث عن أفعاله وآثاره. ويمكن تشبيه وجوده بالتّيار الكهربائي الذي يسري في الأسلاك على هيئة طاقةٍ من دون أن نتمكّن من رؤيته لكنّنا نرى آثاره حينما ننير المصباح أو نشغّل أيّ جهازٍ كهربائيٍّ، وهذه الآثار بطبيعة الحال تدلّ بضرسٍ قاطعٍ على كونه موجوداً حقّاً وحقيقةً.

في الفصل السابق قلنا إنّ عقولنا عاجزةٌ عن إدراك كُنه مقام الذات الإلهية لسببين، أحدهما ضيق نطاق مدركاتنا العقلية، والآخر عظمة هذا المقام اللامحدود؛ فهو كنور الشمس الذي نعجز عن التحديق فيه وهو ينبعث منها، لذا إن أردنا معرفة أنّ الشمس موجودةً فيكفي في ذلك ملاحظة نورها (آثارها)؛ وكذا هو الحال بالنسبة إلى الله عزّ وجلّ: وإن كان أثر الشمس الدالّ عليها هو النور فقط، فالربّ العظيم له آثارٌ وأفعالٌ لا حصر لها، ففي كلّ شيءٍ له آيةٌ تدلّ على وجوده.

3) إن زعم المادّيون أنّ مختلف الآثار التي تدلّ على وجود الأشياء ملموسةٌ بالنسبة لنا، فحتّى وإن لم نشاهد التيّار الكهربائي لكنّنا نلمس بحواسّنا المادّية، وعلى هذا الأساس يحكم عقلنا بوجوده؛ نقول: هذا الاستدلال في الحقيقة يساق ضدّهم ولا يؤيّد مزاعمهم الواهية من أساسها، فنحن نقول إنّ

ص: 93

ما قلتم ينطبق بالتمام والكمال بالنسبة إلى الله تعالى شأنه، فحتّى وإن لم نشاهده بحواسّنا المادّية، لكنّ عقلنا يحكم بوجوده من آثاره الملموسة لنا، فلا يمكن لعاقلٍ إنكار أن هذه الآثار العظيمة اللامحدودة برهانٌ ساطعٌ على وجود المؤثّر.

4) الشبهة من أساسها غير متقوّمةٍ على برهانٍ ولا تعدو كونها من سفاهة القول، إذ فضلاً عن أّن وجود الله تعالى ثابتٌ باستدلالات وبراهين عديدة وبما فيها برهان الإمكان والوجوب وبرهان الفطرة، فكلّ إنسانٍ يدرك واجب الوجود بفطرته، ولا سيّما عند الشدائد والحرج، حيث يوقن في باطنه بوجود قدرةٍ ماورائيةٍ عظيمةٍ تنقذه ممّا وقع فيه أو ما ابتلي به؛ لذا ليس من المعقول بمكانٍ أن ينكر وجود الخالق من كان ضميره حيّاً وفطرته سليمةً، فهذا الإنسان لا يلجأ إلى استدلالاتٍ واهيةٍ ولا يعاند الحقّ سعياً وراء رغباته المادّية البحتة.

* الشبهة التاسعة عجز الفلسفة عن إثبات إله الأديان:

إحدى الشبهات المطروحة على صعيد وجود الله عزّ وجلّ، هي أنّ غاية ما يمكن إثباته عن طريق العلوم العقلية والفلسفية بعض العناوين لا غير، من قبيل: (واجب الوجود)، (العلّة الأولى)، (المحرّك الأوّل)، وما سوى ذلك؛ وهذه الأمور لا تدلّ بالضرورة على الإله الذي تؤمن بها الأديان (الله) والذي تدّعي أنّه ذو صفاتٍ كماليةٍ فريدةٍ لا تتعدّى إلى غيره. إذن، يمكن القول بأنّ (إله الفلسفة) عبارةٌ عن وجودٍ كلّىٍّ وعامٍّ لا تنطبق صفاته على صفات إله الأديان.

ص: 94

هذه الشبهة وإن كانت مطروحةً في العصر الحديث (1)، لكنّها تضرب بجذورها في القرن الثامن الهجري حينما أنهك ابن تيمية نفسه وتكلّف كثيراً في نقد العلوم الفلسفية، فقد زعم هذا الرجل عدم إمكانية إثبات وجود الله تعالى بالبرهان! حيث قال إنّ البرهان ليس من شأنه سوى إثبات الكلّيات الذهنية وهو عاجزٌ عن إثبات ما كان خارجاً عنها، لذا لا يمكنه إثبات وجود الله! ومن جملة ما قال تحت عنوان (الأدلّة على بطلان دعواهم في البرهان) ما يلي: «والمقصود هنا الكلام على البرهان، فيقال هذا الكلام وإن ضلّ به طوائف، فهو كلام مزخرف وفيه من الباطل ما يطول وصفه، ولكن ننبّه هنا على بعض ما فيه، وذلك من وجوه

الوجه الأوّل: البرهان لا يفيد العلم بشيءٍ من الموجودات.

أن يقال إذا كان البرهان لا يفيد إلا العلم بالكلّيات والكلّيات إنّما تتحقّق في الأذهان لا في الأعيان وليس في الخارج إلا موجودٌ معينٌ لم يعلم بالبرهان شيءٌ من المعينات، فلا يعلم به موجودٌ أصلاً، بل إنّما يعلم به أمورٌ مقدرةً في الأذهان. ومعلومٌ أنّ النفس لو قدّر أنّ كمالها في العلم فقط - وإن كانت هذه قضية كاذبة كما بسط في موضعه - فليس هذا علماً تكمل به النفس، إذ لم تعلم شيئاً من الموجودات ولا صارت عالماً معقولاً موازياً للعالم الموجود بل صارت عالماً لأمور كلّية مقدّرة لا يعلم بها شيءٌ من العالم الموجود؛ وأيّ خير في هذا؟! فضلاً عن أن يكون كمالاً.

الوجه الثاني: لا يعلم بالبرهان واجب الوجود ولا العقول، إلخ :

ص: 95


1- www.kaafar.netfirms.com/baad/alieat.htm

أن يقال أشرف الموجودات هو واجب الوجود، ووجوده معيّن لا فإنّ الكلّي لا يمنع تصوّره من وقوع الشركة فيه، وواجب الوجود يمنع تصوّره من وقوع الشركة فيه وإن لم يعلم منه ما يمنع تصوّره من وقوع الشركة فيه، بل إنّما عُلم أمرٌ كلّي مشترك بينه وبين غيره لم يكن قد عُلم واجب الوجود» (1).

وقال في نفي فائدة البراهين الفلسفية على صعيد إثبات وجود الله تعالى: «وأمّا واجب الوجود - تبارك وتعالى - فالقياس الذي يدّعونه لا يدلّ على ما يختصّ به، وإنّما يدلّ على أمرٍ مشتركٍ كلّي بينه وبين غيره إذا كان مدلول القياس الشمولي عندهم ليس إلا أمور كلّية مشتركة، وتلك لا تختصّ بواجب الوجود ربّ العالمين - سبحانه وتعالى - فلم يعرفوا ببرهانهم شيئاً من الأمور التى يجب دوامها لا من الواجب ولا من الممكنات. وإذا كانت النفس، إنّما تكمل بالعلم الذي يبقى ببقاء معلومه، وهم لم يعلموا علماً يبقى ببقاء معلومه، لم يستفيدوا ببرهانهم ما تكمل به النفس من العلم فضلاً عن أن يقال إن ما تكمل به النفس من العلم لا يحصل إلا ببرهانهم»(2).

ومن الجدير بالذكر هنا أنّ بعضهم ذهب إلى القول بوجود اختلافٍ حقيقيٍّ بين إله الفلسفة والعرفان، إذ قالوا: إنّ إله العرفاء غير إله الفلاسفة ومنشأ هذه الغيرية هو الأسلوب اللاهوتي المتّبع في كلٍّ منهما، فالاستدلالات

ص: 96


1- ابن تيمية، الردّ على المنطقيين ، ج 1، ص 135. كما هو واضح من عبارات ابن تيمية، فهي ليست هزيلةً من حيث المعنى فحسب، بل في غاية الركاكة والضعف من ناحية القواعد الإنشائية في الأدب العربي؛ وهلمّ جّراً في سائر كلامه
2- المصدر السابق، ص 157

الفلسفية برأيهم ليست فقط عاجزةً عن إثبات إله العرفان، بل إنّها تنفيه من الأساس. وادّعى هؤلاء إنّ هاتين الوجهتين الفكريتين متضادّتان وليس بينهما اشتراكٌ في المتبنّيات الفكرية، وظاهر الاشتراك العقائدي بينهما لفظيٌّ فحسب (1). هذا الكلام في الواقع نظيرٌ لما هو مطروحٌ في الفلسفة الغربية، فبعد أن توفّي الفيلسوف الفرنسي بليس باسكال عُثر على ثوبٍ له وعليه كتابةً حول اختلاف إله الأديان عن إله الفلاسفة وهي: «إنّ الإله القديم، إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب، لا إله الفلاسفة والعلماء. اليقين اليقين، الوجدان الفرج، السلام. إله يسّوع المسيح ... لن يجده الإنسان إلا بالطرق التي يعلّمها الإنجيل. يا سمو النفس الإنسانية، أيّها الأب العادل، إنّ العالم لم يعرفك قطّ، ولكنّي عرفتك. إنّه الفرج الفرح دموع الفرح ...» (2).

تحليل الشبهة ونقضها:

انطباق عنوان واجب الوجود على الإله الذي تؤمن بها الأديان (الله تعالى)، واضحٌ بين علماء اللاهوت إلى حدٍّ ما، حيث تواتر كلامهم في هذا الصدد على مرّ العصور، لذا ليست هناك ضرورةٌ لإثبات هذا الانطباق باستدلالاتٍ مبرهنةٍ؛ لكن نذكر فيما يأتي أمرين للردّ على الشبهة المذكورة:

ص: 97


1- للاطّلاع أكثر ، راجع: أبو القاسم فنائي، مجلّة (نقد ونظر)، إله العرفان وإله الفلسفة (خداي عرفان و خداي فلسفه)، شتاء وربيع عامي 1378 و 1379 ش، العددان 21 و 22، ص 111 - 112
2- يقال إنّ الفيلسوف الفرنسي بليس باسكال رأى في المنام أمراً جعله يدوّن هذه الكتابة على رقٍّ خاطه منذ تلك اللحظة في بطانة سترته. للاطّلاع أكثر ، راجع: دون كوبيت، درياي إيمان (باللغة الفارسية)، ص 73

أوّلاً: إجابةٌ تحليليةٌ مقارنةٌ:

ينبغي لنا أوّلاً بيان ميزات إله الأديان عبر الرجوع إلى النصوص الدينية. بالنسبة إلى الإسلام فالإله يتّصف بالوحدة والسرمدية والقدرة والعلم والغنى والخلق والحياة، وهذه كلّها صفاتٌ تنطبق على إله الفلاسفة؛ ولو حلّلنا الموضوع على وفق القواعد العقلية يثبت لنا أن صفات واجب الوجود المطروحة في علم الفلسفة هي نفسها تماماً للإله الذي تؤمن به الأديان.

عنوان واجب الوجود المطروح من قبل الفلاسفة يعني أنّ من يتّصف به يتمتّع بوجودٍ كاملٍ ومستقلٍّ بذاته من دون أن يكتسبه من غيره، وهو وجودٌ مجرّدٌ بسيطٌ وأزليٌّ وقيّومُ وغنيٌّ وكاملٌ وواحدٌ لا نظير له ولا مثيل، وهذه الصفات هي عين صفات الإله الذي تؤمن به الأديان.

بما أنّ واجب الوجود يفيض الوجود على غيره وهو العلّة الحقيقية لجميع الكائنات، فلابدّ من أن يكون أفضل منها ومسيطراً عليها؛ وهو ما تطلق عليه الأديان بالإله القادر المطلق، ونظراً لكون وجوده متقوّماً بذاته ولم يكتسبه من غيره، فهو يجب أن يكون مجرّداً.

إنّه علّة العلل (العلّة الأولى9 لجميع الكائنات، لذا فهو ملمٌّ بجميع شؤونها من دون استثناءٍ، وهو ما تطلق عليه الأديان (عالِم الغيب).

هو المؤثّر الوحيد الذي يعتبر (العلّة الوجودية) لجميع الكائنات، لذا يوصف في الأديان بأنّه خالق الكون، وكلّ كائن بطبيعة الحال مفتقرٌ إلى خالقٍ ماورائيٍّ نظراً لماهيته الإمكانية.

المحقّق الطوسي الذي تخصّص في علمي الكلام والفلسفة، ذكر لواجب

ص: 98

الوجود عشر صفاتٍ ثبوتيةٍ هي: (السرمدية، الجود، الملك، التمام وفوق التمام، الحقيقة، الخيرية، الحكمة، الجبّارية، القهرية، القيّومية)، وذكر ستّ عشرة صفةً سلبيةً، هي: (الشريك، الزيادة، المثل، التركيب، الضدّ، المكان، الحلول، الاتّحاد، الجهة، محلّ الحوادث، الحاجة، الألم، اللّذة، المزاج، المعاني، الأحوال، الصفات الزائدة، الرؤية) (1).

إذن، نستنتج ممّا ذكر أنّه عبر إثبات واجب الوجود في علم الفلسفة بصفاته التي أشرنا إليها، ومن خلال مقارنة واقع الأمر مع صفات الإله الذي تؤمن به الأديان ولا سيّما تلك التي تضمّنتها التعاليم الإسلامية، ندرك أنّ إله الأديان قد أُثبت وجوده في علم الفلسفة تحت عنوان واجب الوجود؛ أي إنّه واحدٌ والاختلاف في التسمية فحسب.

تجدر الإشارة هنا إلى أنّ تفاصيل الصورة العامّة التي يطرحها الفلاسفة حول واجب الوجود، تختلف عن تلك الصورة التي يطرحها علماء الأديان، لكنّ هذا الاختلاف بكلّ تأكيدٍ لا يؤدّي إلى حدوث أيّ خللٍ على صعيد الاعتقاد بوجوده عزّ وجلّ ولا يعدّ وازعاً لزعم عدم انطباق الأمرين مع بعضهما.

ثانياً: تحليل إحدى صفات الله تعالى :

في المبحث الآنف تطرّقنا إلى إثبات صفات واجب الوجود في إطار علم الفلسفة، ثمّ قارنّاها مع الصفات التي طرحتها له الأديان وتوصّلنا إلى أنّها

ص: 99


1- للاطّلاع أكثر، راجع: أبو الحسن الشعراني، ترجمه وشرح فارسي كشف المراد (باللغة الفارسية)، ص 225 - 234

منطبقةٌ مع بعضها، وفي هذا المبحث سوف نسلّط الضوء على إحدى الصفات المذكورة في النصوص الدينية ثمّ نقوم بإثباتها اعتماداً على الأدلّة العقلية والفلسفية.

هناك عددٌ من الصفات التى تكرّرت مراراً في القرآن الكريم وهي مختصّة بالله عزّ وجلّ دون سواه، وبما فيها (الغني والخالق) على سبيل المثال، لذا فإن تصوّرنا أيّ وجودٍ في الكون غيره تعالى نجده لا يتّصف بالغنى الحقيقي وليس من شأنه الخلقة بتاتاً، فكلّ ما سواه ممكنٌ وتستبطن ذاته المحدودية والنقص .

بناءٌ على ما ذكر، أثبت علم الفلسفة أنّ اتصاف الممكنات بكونها مخلوقةً يستلزم القول بوجود خالقٍ لها، وهذا الوجود لابدّ من أن يكون كاملاً وقائماً بذاته وغنياً وغير مفتقر إلى أيّ شيءٍ آخر، وإلا لما أمكن ذكر تبريرٍ عقلاني للخلقة؛ وهذا الخالق بطبيعة الحال يجب أن يكون مطلقاً وواجب الوجود، وهو نفس إله الأديان الذي وصفه القرآن الكريم بهذه الصفات الخاصّة.

طرح علماء النصارى برهاناً شبيهاً بهذا الاستدلال، وهو البرهان الوجودي الذي ذكره القديس أنسلم (1). في بادئ الأمر أكّد على عدم وجود كائنٍ أعظم أو أفضل من إله المسيحية، ثمّ استدلّ عقلياً على ضرورة وجوده، إذ قال: «إنّ لدي تصوراً لكائنٍ كاملٍ مثاليٍّ قديرٍ عليمٍ ضروريٍّ خالدٍ، ولكن هذا الذي يوجد أقرب إلى الكمال من هذا الذي لم يوجد، وعلى ذلك فإنّ

ص: 100


1- القديس أنسلم (St. Anselm) أحد فلاسفة القرن الحادي عشر، تخصّص في اللاهوت المسيحي

الكائن الكامل المثالي يجب أن يكون الوجود من بين صفاته. ومن الذي كان يستطيع أن يبث فِيٍّ هذه الفكرة إلا الله سبحانه وتعالى؟! ومن المستحيل أن أحمل في نفسي فكرة الله إذا لم يكن الله موجوداً حقّاً».

البرهان الثاني: برهان الصِّدّيقين:

البرهان الثاني: برهان الصِّدّيقين:

كلمة الصدّيقين مشتقّةٌ من ( صِدِّيق) التي هي صيغة مبالغةٍ للصدق؛ لذا يراد منها الإنسان الذي يبلغ أعلى درجات الصدق. ولكن ما وجه تسمية البرهان بهذا الاسم؟

هناك وجهان لهذه التسمية، هما:

أوّلاً: أوّل وأهمّ سبيل المعرفة واجب الوجود هو الصدق، وأمّا سائر السُّبل فهي قد تتّصف بالضعف والكذب.

ثانياً: الصدّيقون هم العباد المخلصون، وقد اختاروا الاستدلال المذكور في البرهان بغية معرفة الله تبارك شأنه.

برهان الصدّيقين هو عنوانٌ يطلق على الاستدلال الذي يوصل العبد إلى ربّه من دون واسطةٍ، إذ يتمكّن على أساسه من إثبات وجود ذاته المقدّسة ولیس آثاره، فإثبات الآثار يعدّ من مختصّات برهان الحدوث الذي طرحه علماء الكلام لكون الحدوث أحد الآثار المترتّبة على المادّة؛ وكذا هو الحال بالنسبة إلى برهان الحركة الذي طرحه أرسطو وبرهان الإمكان والوجوب (1).

ص: 101


1- ذكرنا في بادئ الكتاب أنّ هذه البراهين تعدّ من سنخ البرهان اللمّي

محور برهان الصدّيقين هو الاستدلال من المطلق والوجود الصرف على وجود (واجب الوجود) المطلق، إذ قال صدر المتألّهين: «إنّ الربّانيين ينظرون إلى الوجود ويحقّقونه ويعلمون أنّه أصل كلّ شيءٍ، ثمّ يصلون - بالنظر إليه - إلى أنّه بحسب أصل حقيقته واجب الوجود» (1).

ذُكرت صور عديدة لهذا البرهان بحيث أحصى الحكيم الآشتياني تسعة عشر تقريراً منها في الحاشية التي دونها على شرح المنظومة(2)، وقد تناولها بالشرح والتحليل، ثمّ أضاف إليها ما ذكره العلامة محمّد حسين الطباطبائي ليصبح العدد عشرين تقريراً. نظراً لكثرة تفاصيل هذه التقريرات المختلفة للبرهان، لا يسعنا المجال لذكرها كلّها وبيان تفاصيلها، لذا سنكتفى بتسليط الضوء على أهمّها.

بما أنّ هذا البرهان يرتكز على البداهة والفطرة إلى حدٍّ ما، لذا لا يمكننا نسبته إلى شخص بالتحديد وادّعاء أنّه أوّل من طرحه، لكنّ المشهور بين الباحثين أنّه طرح في بادئ الأمر بوساطة أبي نصر الفارابي (المعلّم الثاني) وذلك في إطار استدلال مبرهن ومنطقيٍّ، ثمّ تلاه ابن سينا (الشيخ الرئيس) والإمام الفخر الرازي، وبعد ذلك ساقه ابن رشد في آثاره.

بعد ترجمة آثار ابن رشد إلى اللغة الإنجليزية، انتقل هذا البرهان إلى الفلسفة الغربية فأيّده عددٌ من الفلاسفة المعروفين من أمثال القدّيس توما الأكويني، وسنستعرض هذا الأمر لاحقاً.

وفيما يأتي نتطرّق إلى ذكر أهمّ صور البرهان وتقريراته:

ص: 102


1- صدر المتألّهين الأسفار الأربعة، ج 6، ص 14
2- للاطلاع أكثر، راجع الميرزا مهدي الآشتياني، تعليقة بر شرح منظومة (باللغه الفارسية)، ص 449

أوّلاً: تقرير ابن سينا :

تطرّق الشيخ الرئيس أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا في آثاره إلى هذا البرهان وكان أوّل من أطلق عليه عنوان (برهان الصدّيقين)، حيث قال: «كلّ موجودٍ من حيث ذاته إمّا واجب الوجود وإمّا ممكن الوجود بحسب ذاته، وما حقّه في نفسه الإمكان فليس يصير موجوداً من ذاته؛ فوجود كلّ ممكن الوجود هو من غيره»(1).

ذكر بعضهم مؤاخذةً على تقرير ابن سينا لهذا البرهان فحواها أنّه تضمّن مفهوم الإمكان، لذا لا يمكن أن يصبح برهاناً للصدّيقين.

للإجابة عن هذه المؤاخذة نقول: حسب بعض الشواهد والقرائن فإنّ الشيخ الرئيس لم يستعمل الإمكان هنا للدلالة على المفهوم الذهني فقط، فهو يقصد بشكل أساسيٍّ الوجود الخارجي لهذا المفهوم، أي: الوجود الناقص والمنسوب إلى العدم. ونوضح ذلك في النقطتين الآتيتين:

1 ) ليس مراد الشيخ الرئيس في البرهان مجرّد الإمكان الذهني والماهوي، بل يقصد الوجود الخارجي المحتاج إلى الغير الذي يتوقّف تحقّقه في الخارج عليه؛ ويؤيّد هذا الرأي كلام الشيخ نفسه، حيث قال: «كلّ موجودٍ بعدما فرضته موجوداً ... وجود كلّ ممكن الوجود من غيره».

إذن، مراده من الإمكان هو النقص الوجودي للممكن الذي هو في حقيقته ليس قائماً بذاته، ولا يقصد الإمكان الذهنى والماهوي.

ص: 103


1- ابن سينا الإشارات، بشرح المحقّق الطوسي، ج 3، ص 66؛ ابن سينا، النجاة، ص 566

حتّى لو تنزّلنا وافترضنا أنّ هذا النوع من الإمكان والنقص الوجودي مخلٌّ ببرهان الصدّيقين، فهذا الخلل يرد أيضاً على تقرير صدر المتألّهين للبرهان لأنّه ابتدأه بالحديث عن مشاهدة الوجود الناقص والضعيف، ثمّ تدرج وفق هذا الأسلوب إلى أنّ وصل إلى الاستدلال على الوجود الأتمّ والأكمل، حيث استعمل لفظ (الناقص) بدلاً عن (الإمكان)؛ في حين أنّ ابن سينا ذكر الوجود الممكن بدلاً عن الوجود الناقص.

بناءً على ما ذكر، يمكن القول إنّ فحوى برهاني ابن سينا وصدر المتألّهين واحدةٌ، لذا يُحلّ الإشكال الثاني لصدرالمتألّهين، إذ كما يتمكّن الإنسان من معرفة الوجود الكامل دون تسلسل لمجرّد تصوّره للوجود الناقص ، فهو عبر تصوّره للممكن (الناقص) سمتلك القدرة على معرفة الوجود المستقلّ (الكامل).

الشاهد الآخر على أنّ مراد الشيخ الرئيس هو الإمكان الخارجي ونقص الوجود لا صرف الماهية ، اعتقاده بأصالة الوجود. صحيحٌ أنّ مبحث أصالة الوجود أو الماهية لم يكن مطروحاً على طاولة البحث في عهد ابن سينا، لكنّنا نلمس هذا الأمر من بعض عباراته، ومنها قوله: «ذوات الماهية تفيض عليها الوجود منه تعالى» (1).

إضافةً إلى ما ذكر، فإنّ صدر المتألّهين بنفسه استنتج من كتاب ابن سينا (المباحثات والتعليقات) تمسّكه الشديد بمبدأ أصالة الوجود (2)، وعلى هذا الأساس لا يمكننا حمل لفظ (الموجود) في كلّ عباراته على الماهية بل استناداً

ص: 104


1- ابن سينا، الهيات الشفاء، ص 305
2- صدر المتألّهين، الأسفار الأربعة، ج 1، ص 46 - 49

إلى اعتقاده بأصالة الوجود لا بدّ لنا من حمله على الوجود نفسه.

2 ) قال بعض الباحثين: «ادّعى ابن سينا أنّ البرهان متوقّفٌ على قبول وجود الممكن وعدم طرحه كمقدّمةٍ للاستدلال، وإذا أُشير إلى ممكن الوجود أثناء الاستدلال فهو يدلّ على أحد طرقي القضية المنفصلة، كما يلي: لو كان الموجود المفترض ممكناً فلا بدّ وأن ينتهي بواجب الوجود. ومن جهةٍ أخرى، نحن نعلم أنّ صدق الجملة الشرطية ليس متوقّفاً على صدق مقدّمتها » (1).

نتيجة ما ذكر أنّ برهان الصديقين الذي طرحه ابن سينا قد أصبح متكاملاً بواسطة صدر المتألّهين.

ثانياً: تقرير صدر المتألّهين :

كما أشرنا فإنّ الحكيم المتألّه صدر الدين الشيرازي الذي ابتدع الحكمة المتعالية، هو الآخر قد استدلّ ببرهان الصدّيقين، إذ قال: «إنّ الوجود حقيقةً عينيةً واحدةً بسيطةٌ لا اختلاف بين أفرادها لذاتها إلا بالكمال والنقص والشدّة والضعف أو بأمور زائدةٍ، كما فى أفراد ماهية نوعيةٍ؛ وغاية كمالها ما لا أتمّ منه، وهو الذي لا يكون متعلّقاً بغيره ولا يتصوّر ما هو أتمّ منه... فإذن الوجود إمّا مستغن عن غيره وإمّا مفتقرٌ لذاته إلى غيره، والأوّل هو واجب الوجود، وهو صرف الوجود الذي لا أتمّ منه ولا يشوبه عدمٌ ولا نقص، والثاني هو ما سواه من أفعاله و آثاره» (2).

ص: 105


1- محسن جوادي، درآمدي بر خداشناسي فلسفي (باللغة الفارسية)، ص 108
2- صدر المتألّهين، الأسفار الأربعة، ج 1، ص 14؛ صدر المتألّهين، أسرار الآيات، ص57

تقرير صدر المتألهين للبرهان متقوّمٌ على خمسة أُسسٍ، كما يأتي:

1 ) أصالة الوجود.

2 ) بساطة الوجود.

3 ) تشكيك الوجود.

4 ) الوجود الكامل.

5 ) تقدّم الكامل على الناقص.

خلاصة البرهان هو أنّنا نأخذ الأمرين بعين الاعتبار، فكلّ موجودٍ إمّا أن يكون كاملاً أو ناقصاً، فإن كان من سنخ الأوّل يثبت المطلوب، وإن كان من سنخ الثاني فهو بطبيعة الحال بحاجةٍ إلى موجودٍ كاملٍ أعلى منه رتبةٌ وأسبق زماناً.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ فهم هذا التقرير يتطلّب إلماماً بالقواعد الفلسفية كقاعدة أصالة الوجود وبساطته وكونه مشكّكاً، وهذا الأمر بكلّ تأكيدٍ يقتضي طيّ مراحل لا يسعنا المجال لتسليط الضوء عليها هنا.

ثالثاً : تقرير الملا هادي السبزواري:

بعد أن أطال صدر المتألّهين الكلام في برهان الصدّيقين وأطنب في بيان التفاصيل، أقدم الحكيم المتألّه الملا هادي السبزواري على طرحه في إطار ثلاثة تقريراتٍ، كما يأتي:

1 ) طريق الخلف :

يقول الملا هادي السبزواري في شرح المنظومة: «(إذا الوجود كان

ص: 106

واجباً): (إذا) شرطية (الوجود) المراد به حقيقة الوجود الذي ثبت أصالته وأنّ به حقيقة كلّ ذي حقيقةٍ. (كان واجباً) فهو المراد، (ومع الإمكان) بمعنى الفقر والتعلّق بالغير لا بمعنى سلب ضرورة الوجود والعدم؛ لأنّ ثبوت الوجود لنفسه ضروريٌّ، ولا بمعنى تساوي نسبتي الوجود والعدم؛ لأنّ نسبة الشيء إلى نفسه ليست كنسبة نقيضه إليه، لأنّ الأولى مكيّفة بالوجوب والثانية بالامتناع. (قد استلزمه) على سبيل الخلف، لأنّ تلك الحقيقة لا ثاني لها حتّى تتعلّق به وتفتقر إليه، بل كلّ ما فرضته ثانياً لها، فهو هي لا غيرها، والعدم والماهية حالهما معلومةٌ ... » (1).

كما نلحظ في هذه العبارة فإنّ مطلق الوجود إن كان واجباً فهو المطلوب إثباته، وإن كان ممكناً فلابدّ من أن يكون متعلّقاً بغيره ومحتاجاً إليه؛ وفي كلتا الحالتين فالوجود واحدٌ وبسيطٌ والكثرة معلولةٌ لما يعرض عليه، إذ لا ثاني له كى يقال إنّه مفتقرٌ إليه. لو قلنا إنّ الوجود متعلّقٌ بغيره ومحتاجٌ إليه فهذا يعني القول بخلاف ما هو ثابت، وعلى هذا الأساس وللتخلّص من شبهة لزوم الخلف يجب الإذعان بكون الوجود متقوّماً بذاته وليس هناك أمرٌ خارجٌ عن هذه الذات بإمكانه منحها الوجوب في وجودها. وبالنسبة إلى الماهية والعدم فهما من الأعدام ولا يمكنهما إفاضة الوجود، لأنّ فاقد الشيء لا يعطيه.

استشكل بعض الباحثين على هذا التقرير(2) وعدوّه مصادرةً للمطلوب، إذ ليس من الممكن لنا مشاهدة الوجود المحض، فما نشاهده هو ذو الماهية والمنسوب إلى العدم ؛ لذا فإنّ تقرير الملا هادي السبزوراي متفرّعٌ على

ص: 107


1- الملا هادي السبزواري، شرح المنظومة، الفريدة الأولى، الغرر الأوّل، ص 146
2- محمّد تقي مصباح اليزدي، تعليقة على نهاية الحكمة، ص 411 ، رقم: 397

ثبوت الحقيقة الصرفة التي هي ليست بديهيةً ولا مبرهنةً.

نجيب عن هذا الإشكال بأنّ تقرير الحكيم السبزواري هو نفس تقرير الرئيس ابن سينا، حيث استدلّ بوجود الناقص (الممكن) على وجود الكامل (الواجب)، وعلى هذا الأساس فهو لا يعنى الوجود الكامل المطلق المحض الخالي من الأعدام كي نُشكل عليه، ناهيك عن أنّ الوجودات الناقصة الممكنة متساويةٌ في أصل وجودها مع ذلك الوجود الواجب الكامل، بل هي عينه إلا أنّها متلبّسةٌ بالنقص والمحدودية. ومن البديهي أن النقص والمحدودية في الموجود الممكن لا يعدّان مانعاً أمام اشتراك الوجود المحض مع ما يصدر عنه من وجودات.

2 ) طريق الاستقامة :

يواصل الملا هادي السبزواري كلامه قائلاً: «... أو على سبيل الاستقامة، بأن يكون المراد بالوجود مرتبةً من تلك الحقيقة، فإذا كان (1) هذه المرتبة مفتقرةً إلى الغير، استلزم الغنى بالذات دفعاً للدور والتسلسل؛ والأوّل أوثق وأشرف وأخصر، (وقس عليه) أي على الوجود، (كلّ ما) من الصفات، (ليس امتنع) أي ممكن بالإمكان العام و (بلا) لزوم (تجسّم على الكون) أي الوجود (وقع)» (2).

هذا التقرير في الحقيقة ينطبق بالكامل على برهان الشيخ الرئيس، وقد وضّحناه آنفاً.

ص: 108


1- هكذا في النصّ، لكنّ الأصحّ (كانت)
2- الملا هادي السبزواري، شرح المنظومة الفريدة الأولى، الغرر الأوّل، ص 146

3 ) الوجود حقيقةً مطلقةٌ ومرسلةٌ:

هذا التقرير الذي ساقه السبزواري مذكورٌ في هوامش (الأسفار الأربعة) لصدر المتألّهين، حيث قال: «وفى معناه ما قُرّر بالبناء على أصالة الوجود أنّ حقيقة الوجود التي هي عين الأعيان وحاقّ الواقع، حقيقةً مرسلةً يمتنع عليها العدم، إذ كلّ مقابل غير قابل لمقابله، والحقيقة المرسلة التي يمتنع عليها العدم واجبة الوجود بالذات، فحقيقة الوجود الكذائية واجبةٌ بالذات وهو المطلوب» (1).

هذا التقرير في الحقيقة يرتبط بالتقرير الأوّل (طريق الخلف)، لكن باختلافٍ بسيط وهو أنّه ذكر فى الأوّل عبارة (حقيقة كلّ ذي حقيقةٍ) وفي هذا التقرير قال (حقيقةً مرسلةٌ) (2).

رابعاً: تقرير العلامة الطباطبائي:

العلامة محمّد حسين الطباطبائي صاحب كتاب (الميزان في تفسير القرآن) هو من جملة العلماء الذين ذكروا برهان الصدّيقين، إذ قال: «ليس هناك شكٌّ في واقعية الوجود، فهو لا يقبل النفي ولا الزوال مطلقاً، وبعبارةٍ أخرى: واقعية الوجود هي واقعيةٌ للوجود دون أيّ قيدٍ ولا شرطٍ، وليس من شأنها أن تصبح (لا واقعية) بأيّ قيدٌ أو شرطٌ؛ ولكن بما أنّ العالم (الحياة الدنيا) ليس أزلياً وكلّ جزءٍ من أجزائةٍ قابلٌ للزوال، لذا فإنّ هذه الواقعية

ص: 109


1- صدر المتألّهين، الأسفار الأربعة، ج 6 ، هامش الصفحتين 16 – 17
2- للاطّلاع أكثر ، راجع : محمّد تقي مصباح اليزدي، تعليقة على نهاية الحكمة، ص 412، رقم: 398

بهذه الأوصاف يمكن أن تزول» (1).

يمكن القول إنّ هذا التقرير هو أفضل التقارير التي ذكرت حول برهان الصدّيقين وأكثرها دلالةً على المطلوب، حيث ابتدأ بالاستدلال من نفس الوجود لإثبات واجب الوجود دون واسطةٍ وعلى نحو اليقين، وهذا على خلاف ما ذكره صدر المتألّهين الذي جعل الاستدلال متوقّفاً على تحقّق مقدّماتٍ عديدة،ٍ كما أنّه بخلاف ما جاء في تقرير الملا هادي السبزواري الذي جعل استدلاله متوقّفاً على إثبات أصالة الوجود.

مزية هذا التقرير أنّه ينسجم مع رأي من قال بأصالة الماهية ومن قال بأصالة الوجود، لأنّ الواقعية هي موضوعه وليس الموجود، فضلاً عن اعتباره برهاناً للاحتجاج على من ينكر الواقعية، وذلك كما يأتي: السوفسطائي يعتبر جميع الأشياء مجرّد أوهامٍ أو يشكّك في حقيقتها، لذا فإنّ كلّ شيءٍ لديه إمّا أن يكون وهمياً أو مشكّكاً فيه؛ وهذا الاعتقاد في حقيقته يدلّ على واقعيةٍ، أي إنّ منكر الواقعية يقرّ بأنّ الواقع ثابتٌ دائماً، أي إنّه موجودٌ.

وقد تطرّق العلامة إلى هذا الأمر أيضاً في هامشه على (الأسفار الأربعة)، إذ قال: «الواقعية لا تقبل البطلان والرفع لذاتها حتّى إنّ فرض بطلانها مستلزمٌ لثبوتها ووضعها، فلو فرضنا بطلان كلّ واقعيةٍ في وقتٍ أو مطلقاً، كانت حينئذٍ كلّ واقعيةٍ باطلةً واقعاً (أي الواقعية ثابتةٌ)، وكذا السوفسطي أو رأي الأشياء موهومةً أو شكّ في واقعيتها، فعنده الأشياء

ص: 110


1- أصول فلسفه و روش رئاليسم (باللغه الفارسية ) ، ج 5، ص 116، بهامش الشهيد مرتضى مطهرّي

موهومة ،واقعاً، والواقعية مشكوكةً واقعاً أي ثابتةً من حيث مرفوعة، ولازمة الواقعية المطلقة ثابتةٌ. وإذا كانت أصل الواقعية لا تقبل العدم والبطلان لذاتها فهي واجبةٌ بالذات، فهناك واقعيةٌ واجبةً بالذات والأشياء التي لها واقعيةً مفتقرةٌ إليها في واقعيتها قائمة الوجود بها»(1).

لا ريب في أنّنا نشاهد في الخارج موجودات ونراها رأي العين وهي التي نعبّر عنها ب_ (الواقعية)، وهذه الواقعية كانت وستبقى موجودةً من دون أن يكتنفها أي عدمٍ، وحتى لو فرضنا بطلانها فإنّنا في الحقيقة نقرّ نوعاً ما بوجود واقعيةٍ أخرى. مثلاً إن قلنا : (ليست هناك أيّة واقعيةٍ في الكون) فإنّ هذا القول بذاته اعترافٌ بالواقع، فهو إمّا أن يكون صادقاً أو كاذباً. إن كان كاذباً فهو المطلوب، وإن تنزّلنا وافترضنا أنّه صادقٌ - كما هو مذهب السوفسطائيين - يرد عليه أنّه يناقض نفسه، لأنّ المدعي يخالف رأيه حينما يزعم أنّ رأيه (واقعي)، أي: إنّه يعترف ب_(الواقعية).

إلى هنا ذكرنا أربعة أوجهٍ لبرهان الصدّيقين على لسان عددٍ من الحكماء المسلمين، وننوّه هنا إلى أنّه طرح أيضاً على لسان بعض العلماء الغربيين، ومنهم القدّيس توما الأكويني الذي قال: «الأشياء التي تخضع لتجاربنا من شأنها أن تكون موجودةً أو غير موجودة (في عالم الإمكان)، ولو كان كلّ شيء في حيّز الوجود من هذا القبيل لما وجد شيءٌ منذ البداية؛ وبناءً على هذا لا بدّ وأن يكون هناك أمرٌ وجوده لازمٌ وضروريٌّ» (2).

ص: 111


1- صدر المتألّهين، الأسفار الأربعة، ج 6 ، هامش الصفحتين 16 و 17 . كذا ورد في نصّ الكتاب، لذا فإنّ عباراته العربية ليست قويمةً)
2- مجموعة من المؤلّفين، خدا در فلسفه (باللغة الفارسية)، ص 61

شبهاتٌ حول برهان الصدّيقين :

شبهاتٌ حول برهان الصدّيقين :

ذكرت بعض الشبهات حول برهان الصدّيقين تناظر إلى حدٍّ ما تلك التي طرحت حول برهان الإمكان والوجوب وقد تطرّقنا إلى نقضها في المباحث الآنفة، لذا نكتفي فيما يأتي بذكر شبهتين أكثر شهرةً من غيرهما:

*الشبهة الأولى : لا يمكن إقامة برهان الصدّيقين لإثبات وجود الله، إذ لا ماهية له تعالى :

طرح بعضهم شبهةً مضمونها أنّ الله سبحانه لا يتّصف بالماهية، فهو تبعاً لذلك فاقدٌ للأعراض الذاتية؛ وبما أنّ البرهان مكوّنٌ من جنسٍ وفصلٍ وعرضٍ، فلا يمكن إقامته لإثبات وجوده عزّ شأنه لأنّ ما يُحمل على الله، مثل (الوجود) ، لا يمكن أن يكون مشمولاً في نطاق البرهان .

نقل الشيخ الرئيس ابن سينا استدلالاً عن الفلاسفة القدماء جاء فيه: «ونقرّر من رأسٍ فنقول بالجملة: إنّ الفصول وما يجري مجراها لا يتحقّق بها حقيقة المعنى الجنسي من حيث معناه، بل إنّما كانت علّة لتقويم الحقيقة موجودة، فإنّ الناطق ليس شرطاً يتعلّق به الحيوان في أنّ له معنى الحيوان وحقيقته، بل في أن يكون موجوداً معيناً. وإذا كان المعنى العام هو نفس واجب الوجود، وكان الفصل يحتاج إليه في أن يكون واجب الوجود موجوداً، فقد دخل ما هو كالفصل في ماهية ما هو كالجنس، والحال فيما يقع به اختلاف ٌغير فصليٍّ في جميع هذا ظاهرٌ ، فبيّن أنّ وجوب الوجود ليس مشتركاً فيه؛ فالأوّل لا شريك له، وإذ هو بريءٌ عن كلّ مادّةٍ وعلائقها وعن الفساد، وكلاهما شرطٌ مع ما يقع تحت التضادّ، فالأوّل لا ضدّ له، فقد وضح أنّ الأوّل لا جنس

ص: 112

له، ولا ماهية له ولا كيفية له، ولا كمية ،له ولا أين له، ولا متى له ... تعالى وجلّ، وأنّه لا حدّ له، ولا برهان عليه، بل هو البرهان على كلّ شيءٍ، بل هو إنّما عليه الدلائل الواضحة، وأنّه إذا حقّقته فإنّما يوصف بعد الإنّية بسلب المشابهات عنه، وبإيجاب الإضافات كلّها إليه، فإنّ كلّ شيء منه وليس هو مشاركاً لما منه، وهو مبدأ كل شيءٍ وليس هو شيئاً من الأشياء بعده» (1).

وقرّر بعضهم الشبهة المذكورة كما يأتي: القضايا الحاصلة من القياس البرهاني تكون محمولةً لأعراض الموضوع الذاتية حسب القواعد المنطقية، وعلى هذا الأساس فإمكانية إقامة البرهان على القضايا الضرورية الأزلية مشروطةٌ بأن يكون المحمول فيها من سنخ العرض الذاتي للموضوع؛ ولكن بما أنّ الله عزّ وجلّ - برأي الحكماء المسلمين - وجودٌ محضٌ ووجوبٌ مطلقٌ، فلا ماهية له، لذا لا يمكن تصوّر الجنس والفصل والعرض الذاتي بشأنه (2).

تحليل الشبهة ونقضها :

نقول في نقد الشبهة المذكورة :

1) البرهان ينطبق مع القواعد المنطقية والفلسفية، ومنها القاعدة الآتية: «البرهان قياس مؤلّفٌ من يقينياتٍ ... ينتج ينتج يقينياً بالذات اضطراراً، والقياس صورته، واليقينيات مادّته، واليقين المستفاد غايته» (3)، فهو مؤلّفٌ من ستّ

ص: 113


1- ابن سينا، الهيات الشفاء، ص 348 و 354
2- السيّد عليّ علم الهدى و أحد فرامرز قراملكي، مجلّة (نامه حکمت)، قابلية المفاهيم الأزلية الضرورية للبرهنة (برهان پذيري گزاره هاي ضروري ازلي)، شتاء عام 1382 ش، العدد 2، ص 105
3- زین الدین عمر بن سهلان الساوي، البصائر النصيرية، ص 233

قضايا، هي الأوّليات والفطريات والمشاهدات والمجرّبات والحدسيات والمتواترات. عبارة (الله موجودٌ) هي من سنخ القضايا الأوّلية، أو على أقلّ تقديرٍ فهي من المشاهدات أو الفطريات، بمعنى أنّها قضايا قياساتها معها، حيث يتمكّن الإنسان على أساسها من تحصيل العلم بالله تعالى بمجرّد تصوّر حقيقة الوجود ووفق إحدى القرائن المرتكزة في الذهن والتي فحواها أنّه ينقسم إلى واجب وممكنٍ؛ كما أنّه قادرٌ على تحصيل هذا العلم من خلال ما يمليه عليه ضميره(1). إذن، نظراً لكون قضية (الله موجود) تندرج ضمن الأوّليات والفطريات والمشاهدات، فهي بذاتها تعدّ برهاناً ولا يمكن ادّعاء أنّها لا تقبل إقامة البرهان.

2) الذين طرحوا هذه الشبهة يعتقدون بأنّ القضايا الأزلية - من قبيل (الله موجودٌ) - محمولةٌ فقط على العرض الذاتي، في حين أنّ هذا النمط من القضايا في الحقيقة محمولٌ على المحمول الموجود وليس العرضي، بل إنّ ذات الموضوع (عين الموضوع) تكون مساوقةً للموضوع نفسه (الله تعالى). وقد وصف ابن سينا هذه المحمولات بالقول:

«وقد يكون من المحمولات ذاتيةً وعرضيةً لازمةً وعرضيةً مفارقةً... إعلم أنّ من المحمولات محمولاتٍ مقوّمةً لموضوعاتها، ولست أعني بالمقوّم المحمول الذي يفتقر الموضوع إليه في تحقيق وجوده ككون الإنسان مولوداً أو مخلوقاً أو محدثاً وكون السواد عرضاً، بل المحمول الذي يفتقر إليه الموضوع في تحقق ماهيته ويكون داخلاً في ماهيته جزءاً منها » (2).

ص: 114


1- سنوضّح هذا الموضوع بتفصيلٍ اكثير ضمن حديثنا عن برهان الفطرة في المباحث اللاحقة
2- ابن سينا، الإشارات، بشرح المحقّق الطوسي، ج 1، ص 38

وحسب التعبير المنطقي فالمحمول في القضية المذكورة ذاتيٌّ من حيث قواعد البرهنة، وكما يقول المحقّق الطوسي فإنّ إلحاقه بالموضوع يتمّ وفقاً لذات الموضوع (1).

وطبق التعبير الفلسفي الدقيق، فإنّ أصحاب الشبهة يدرجون بعض المفاهيم - من قبيل الممكن وواجب الوجود - ضمن المقولات الفلسفية الثانية. مزية هذه المقولات أنّها ذات ماهيةٍ، لذلك لا يمكن انطباقها على الله تعالى؛ لكنّ استدلالات الحكمة المتعالية أثبتت أنّ المحمول يندرج ضمن القضايا الأزلية وحين نسبته إلى الله سبحانه فهو عين وجود الموضوع؛ ومن ثمّ فهذا النمط من القضايا في علم الفلسفة يعدّ من القضايا الهلّية البسيطة.

ومن الجدير بالذكر هنا أنّ قضية (الله موجود) هي من سنخ القضايا التحليلية التي طرحها الفيلسوف إيمانوئيل كانط (2)، ومصطلح (القضية التحليلية) غير موجودٍ في تعاليم الفلسفة الإسلامية، لكن يستعمل بدلاً عنه

ص: 115


1- القياس في القضية الآتية: (العالَم ممكنٌ، وكلّ ممكنٍ يحتاج إلى العلّة؛ فالعالَم يحتاج إلى العلّة) لا يدلّ على كون الإمكان الذي هو حدٌّ وسطٌ إمكاناً ماهوياً، بل افتقاريٌّ وليس من سنخ الماهية والذات المستقلّة للوجود الممكن وإنّما هو عينه بالذات. للاطّلاع أكثر، راجع: عبد الله جوادي الأملي، رحيق مختوم (باللغة الفارسية)، القسم الرابع ، ج 1، ص 483
2- قسّم إيمانوئيل كانط هذه القضية إلى قسمين، أحدهما تحليلي والآخر تأليفي. القسم الأوّل هو المحمول الذي يتحصّل عبر شرح وتحليل مفهوم الموضوع، وأمّا القسم الثاني فهو محتاجٌ إلى قيدٍ خارجيٍّ. للاطّلاع أكثر، راجع: إيمانوئيل كانط، سنجش خرد ناب (باللغة الفارسية)، ص 661 والصفحات اللاحقة

تعبير (المحمول (بالصميمة) الذي يعدّ أدقّ وأشمل منه (1).

3) حسب قواعد علم الفلسفة فالقضايا الفلسفية التي يكون (الوجود) محمولاً لها، يطلق عليها (عكس الحمل ) (2). وبيان ذلك أنّه طبق القواعد المنطقية يتحوّل الموضوع إلى محمولٍ والمحمول إلى موضوعٍ، فعبارة (العلّة موجودةً) تتحوّل إلى (الموجود علّةً)، وكذا هو الحال بالنسبة إلى قولنا (الله موجود)، حيث تتحوّل القضية إلى (الموجود الله) ؛ وفي العبارة الأخيرة ليس هناك محمولٌ آخر نابعٌ من مقولةٍ عرضيةٍ كي تطرح شبهة عدم إمكانية البرهنة على وجود الله تعالى إثر هذه العرضية المدّعاة في قولنا (الله موجود)، بل المحمول (الله) يتمّ استنتاجه عن طريق تحليل الموضوع (موجود) حسب ما

ص: 116


1- أشار الشيخ عبد الله جوادي الأملي إلى تقسيم الفيلسوف كانط لهذه القضية، وقال: «الحكماء المسلمون طرحوا تقسيماً آخر لهذا النمط من القضايا يختلف عن التقسيم الذي ذكره إيمانوئيل كانط، لذا لا ينبغي الخلط بين هذين التقسيمين؛ فقد قاموا بتقسيم القضايا من حيث محمولاتها إلى عدّة أقسامٍ، وبما فيها القسمان التحليلي والانضمامي. المحمول في القضايا التحليلية أطلقوا عليه عنوان خارج المحمول أو المحمول من صميمه، ويراد من ذلك أنّه منتزعٌ من صميم الموضوع؛ وبهذا الانتزاع يصبح مختلفاً عن المحمول بالضميمة الذي ينتزع من الموضوع، وفي عملية الانتزاع هذه يكون بحاجةٍ إلى انضمام ماهيةٍ وواقعيةٍ خارجيةٍ إلى ماهية الموضوع وواقعيته. الناتج من المحمول في هذا المعنى ذو نطاقٍ أعمّ من العوارض التحليلية التي طرحها كانط، فإضافةً إلى أنّ الذات والذاتيات تشمل الموضوع، فهي تشمل أيضاً بعض المفاهيم المنتزعة من الموضوع عبر النظر إلى الماهية أو إلى الواقعية؛ وأهمّ ميزةٍ لهذا النمط من العوارض هي عدم امتلاكها مصداقاً منفصلاً عن مصداق موضوعها، كمفهوم الوحدة والتشخّص ووجود العلّية». عبد الله جوادي الآملي، تبيين براهين اثبات خدا (باللغة الفارسية)، ص 202 - 203
2- للاطّلاع أكثر، راجع: محمّد حسين الطباطبائي، نهاية الحكمة، مدخل الكتاب

ورد في برهان الصدّيقين الذي مرّ آنفاً. وعلى الرغم من كون القضية بسيطة وتحليلية في هذه الحالة، لكنّها لا تمنح المخاطب سوى معنى واحد، وهو أنّ الله تعالى موجودٌ.

*الشبهة الثانية: عدم إمكانية إقامة البرهان اللمّي لإثبات وجود الله تعالى :

هناك شبهةٌ مطروحةٌ حول مسألة إثبات وجود الله عزّ وجلّ محورها الفصل بين البرهانين (اللمّي) و (الإنّي) (1). برأي الفلاسفة فإنّ البراهين التي

ص: 117


1- قسّم علماء الفلسفة والمنطق البراهين إلى قسمين أحدهما لِمّي والآخر إنّي؛ لذلك حينما يمكن إثبات وجود الله تعالى البحث عن العلّة أو المعلول. إثبات وجود المعلول تارةً يتحقّق عن طريق العلم بعلّته وإثبات وجودها، مثلاً حينما نعلم بوجود نارٍ في الموقد يتحقّق لدينا علمٌ بوجود حرارةٍ فيه، وهذا الاستدلال يسمّى في علم المنطق (برهان لمّي)، ويعني أيضاً إثبات العلّة للمعلول. وتارةً أخرى يتمّ إثبات وجود العلّة من خلال العلم بمعلولها وإثبات وجوده، كالتأكّد من وجود نارٍ عند رؤية دخانٍ، وهو ما يطلق عليه في علم المنطلق (برهان إنّي). ونقل المحقِّق الطوسي عن الشيخ الرئيس ابن سينا قوله: «إذا كان القياس يعطي التصديق بأنّ كذا كذا ولا يعطي العلّة في وجود كذا كذا كما أعطى العلّة في التصديق، فهو برهان إنٍّ، وإذا كان يعطي العلّة في الأمرين جميعاً حتّى يكون الحد الأوسط فيه كما هو علّة للتصديق بوجود الأكبر للأصغر أو سلبه عنه في البيان، كذلك هو علّة لوجود الأكبر للأصغر أو سلبه في نفس الوجود، فهذا البرهان يسمّى برهان لِمٍّ . وبرهان الإن فقد يتّفق فيه أن يكون الحدّ الوسط في الوجود لا علّةً لوجود الأكبر في الأصغر ولا معلولاً له، بل أمراً مضايفاً له أو مساوياً له في النسبة إلى علّته، عارضاً معه أو غير ذلك ممّا هو معه في الطبع معاً. وقد يتّفق أن يكون في الوجود معلولاً بوجود الأكبر في الأصغر. فالأوّل يسمّى برهان الإنّ على الإطلاق، والثاني يسمى دليلاً». ابن سينا، الإشارات، بشرح المحقّق الطوسي، ج 1 ، ص 306؛ برهان الشفاء، ص 63

سيقت لإثبات وجود الله تعالى هي من سنخ البراهين الإنية لكون البراهين اللمّية لا تفي بالغرض هنا، فهو تبارك شأنه علّة العلل وليس له علّة؛ إذ لا فائدة من إثبات العلّة التي نحن على علم بوجودها، أي إنّ هذا الأمر عبتُ يتنافى مع سيرة العقلاء.

قال الشيخ الرئيس ابن سينا: «إنّ واجب الوجود لا برهان عليه ولا يُعرف إلا من ذاته ... لا برهان عليه لأنه لا علّة له، ولذلك لا لِمَّ له » (1). وقد أكد في موضع آخر على وجود أدلّةٍ واضحةٍ تثبت وجود الله عز وجل(2).

وقال الحكيم صدر الدين الشيرازي: «الحقّ أنّ الواجب لا برهان عليه بالذات» (3) .

وأمّا بالنسبة إلى إثبات وجود الله تعالى عن طريق البرهان الإنّى، فلا شائبة عليه والبراهين الفلسفية في الواقع من هذا النمط، إلا أنّها لا تفيد العلم (4).

تحليل الشبهة ونقضها:

نقول في نقد الشبهة المذكورة :

ص: 118


1- ابن سينا، التعليقات، ص 70
2- للاطّلاع أكثر، راجع: ابن سينا، الهيات الشفاء، ص 348؛ ابن سينا، المبدأ والمعاد، ص 33
3- صدر المتألّهين، المبدأ والمعاد، ص 354
4- بالنسبة إلى قيد عدم إفادة العلم من قبل البرهان الإنّي، فقد ذكره صدر المتألّهين دون بیان تفاصيله. للاطّلاع أكثر، راجع: صدر المتألّهين، الأسفار الأربعة، ج 6، ص 27

1 ) تنزيه الله عن أن يكون معلولاً :

نقول في بادئ الأمر بأن لو كان المقصود من البرهان اللمّي مجرّد العلم بالمعلول عن طريق علّته، فلا بدّ من القول بضرسٍ قاطعٍ إنّ هذا المعنى من العلّية لا يمكن أن يتحقّق بشأن الله عزّ وجلّ، إذ في هذه الحالة افترضنا تحقّق وجودين مستقّلين عن بعضهما، هما وجود العلّة ووجود المعلول؛ وفي هذه الصورة ولأجل معرفة وجود المعلول وإثباته يجب تحصيل العلم أوّلاً بوجودٍ آخر سابقٍ له وأكمل منه. من البديهي أنّ هذا الاحتمال لا يصدق بتاتاً بشأن الله عزّ وجلّ لكون حقيقة الوجود مقيّدةً بوجوده تعالى بحيث لا يوجد قبله شيءٌ نحسبه أكمل منه كي نقول إنّه علّةً له وحتّى ندّعي أنّنا من خلال العلم به نثبت وجود الله تعالى؛ حاشاه ذلك وتعالى علوّاً كبيراً.

ومن جملة ما قاله الفلاسفة: «لا برهان عليه لأنّه لا علّة له، ولذلك لا لِمَّ له »(1). كما ذهب بعض العلماء المعاصرين إلى هذا الرأي، وقالوا بما أنّه ليس هناك شيءٌ يمكن اعتباره علّةً ثبوتيةً لوجود الله تعالى أو لكمالاته الذاتية، لذا لا يمكننا إقامة البرهان اللمّى عليه (2).

2 ) إمكانية تحقّق اليقين من البرهان الإنّي (العلّة الانحصارية):

الشائع أنّ البرهان اللمّي فقط يفيد القطع واليقين، لكنّ البرهان الإنّي - الاستدلال بوجود المعلول لإثبات وجود العلّة - لا يفيد ذلك، وقد لاحظنا في كلام ابن سينا المنقول في هامش الشبهة المذكورة أنّ البرهان الإنّي يصنّف في

ص: 119


1- للاطّلاع أكثر، راجع: ابن سينا، الهيات الشفاء، ص 348؛ ابن سينا، التعليقات، ص 70
2- عبد الله جوادي الآملي، ده مقاله پیرامون مبدأ و معاد (باللغة الفارسية)، ص 130

قسمين (دليل) و (مطلق)؛ القسم الثاني يفيد القطع واليقين، في حين يرى بعض العلماء بأنّ القسم الأوّل أيضاً من شأنه إفادة ذلك لأنّنا حينما نقوم بالاستدلال على وجود العلّة لا بدّ لنا من التأمّل وعدم طرح الموضوع بشكلٍ كلّيٍّ، إذ يمكن تصوّر معلولٍ له عدّة عللٍ، كالحرارة التي قد تنتج عن النار أو الاحتكاك أو الحركة أو الشمس أو التّيار الكهربائي؛ ففي هذه الحالة حينما نتعرّف على المعلول (الحرارة) لا يمكننا تشخيص علّته. وفي حالاتٍ أخرى هناك معلولٌ مقيّدٌ بعلّةٍ واحدةٍ فقط، لذا من خلال التحليل الذهني نتمكّن من إثباته عقلاً ومن ثمّ إثبات علّته عبر نفس هذا التحليل فيتحقّق لدينا القطع واليقين.

فيما يأتي نتطرّق إلى الحديث عن البرهان الإنّي لإثبات وجود الله عزّ وجلّ طبقاً لما ذكر، فنقول: إنّ عدم قيام بعض الفلاسفة بالفصل بين قسمي هذا البرهان - الدليل والمطلق - كان له تأثيرٌ سلبيٌّ على صعيد مباحث علم اللاهوت وبراهين إثبات وجود البارئ تعالى الأمر الذي دعا بعضهم إلى طرح هذا البرهان جانباً بزعم افتقاره للقيمة المعرفية؛ لكنّ هذا الرأي مرفوضٌ، حيث ذكرنا في مستهلّ البحث بأنّ برهان الإن المطلق يفيد القطع واليقين. ولو تتبّعنا البراهين المطروحة في مجال علم اللاهوت لوجدنا فيها هذه المزية للدليل الإنّي، وسنتطرّق إلى بيان ذلك في المباحث اللاحقة، لكنّنا نكتفي هنا بذكر مثالٍ في نطاق برهان الإمكان والوجوب حسب القياس الأوّل:

- العالَم من الممكنات.

- كلّ ممكنٍ محتاجٌ إلى علّةٍ (واجب الوجود).

- إذن، العالَم محتاجٌ إلى علةٍّ (واجب الوجود).

القضية الكبرى في هذا القياس مبرهنةً على أساس أنّ الممكن موجودٌ

ص: 120

حقّاً، فعندما نشاهد الممكن - المعلول - ندرك أنّه لا يمتلك وجوداً مستقلاً نظراً لذاته الإمكانية، ومن ثمّ فهو مفتقرٌ في وجوده إلى غيره. إنّ هذا الإمكان في حقيقته ذاتيٌّ افتقاريٌّ، بمعنى أنّه بحاجةٍ إلى علّةٍ ماورائيةٍ غير ممكنةٍ ولا مفتقرةٍ، أي إنّه بحاجةٌ إلى واجب الوجود.

إذن إثبات واجب الوجود على ضوء برهان الإمكان والوجوب هو أمرٌ منطقيٌّ وعمليٌّ، ونظراً لأنّه من سنخ (الدليل الإنّي)، لذلك يمكن الاعتماد عليه في هذا الاستدلال بشكلٍ مباشرٍ، في حين أنّ سائر صفات الله تعالى يمكن إثباتها عن طريق ذات واجب الوجود، مثل الوحدة والبساطة، بل حتّى القدرة. وهناك صفاتٌ أخرى يمكننا إثباتها اعتماداً على براهين أخرى، من قبيل الرازقية والهداية.

بناءً على ما ذكر، ليس من الصحيح علمياً رفض الدليل الإنّي في مجال إثبات وجود الله عزّ وجلّ لمجرّد كونه إنّياً بزعم أنّه لا يفيد القطع واليقين، وليس من الصواب بمكانٍ تهميشه واعتباره من جملة البراهين المهملة في الاستدلالات الفلسفية (1).

وقد تنبّه بعض الفلاسفة إلى هذه المسألة فاعتبروا الدليل الإنّي نظيراً لسائر البراهين التي تفيد القطع واليقين، بل جعلوه إلى جانب البرهان اللمّي، كالعلامة الحلّي الذي وصفه بأنّه (استدلالٌ لِمّي) ضمن تقريره لبرهان الإمكان والوجوب الذي طرحه الفلاسفة، وهو في هذا المجال سار على خلاف

ص: 121


1- للاطّلاع أكثر، راجع: السيّد عليّ علم الهدى و أحد فرامرز قراملكي، مجلّة (نامه حكمت)، قابلية المفاهيم الأزلية الضرورية للبرهنة (برهان پذيري گزاره هاي ضروري ازلي)، شتاء عام 1382 ش، العدد ،2، ص 123

نهج علماء الكلام (1). وأمّا ابن سينا فقد أكّد على وجود أدلّةٍ واضحةٍ تثبت وجود الله تعالى(2)، ولجأ إلى برهان الإمكان والوجوب على هذا الصعيد معتبراً إيّاه نفس برهان الصدّيقين، إذ إنّ إثبات وجوده تعالى لا يحتاج إلى أمرٍ آخر سوى الوجود من قبيل الخلقة والأفعال الإلهية (3).

3 ) إمكانية تحقّق اليقين من البرهان شبه اللمّي (الاستدلال بالملازمة) :

أشرنا في المباحث الآنفة إلى أنّ الوجود الحقيقي مقتصرٌ على الذات الإلهية المباركة وليس هناك وجودٌ خارجٌ عنه مطلقاً، لذا من المستحيل بمكانِ افتراض وجود علّةٍ له لكونه وجوداً مطلقاً، وعلى هذا الأساس لا يمكن ادّعاء أنّنا عن طريق العلم بعلّة واجب الوجود نتمكّن من إثبات وجود الله تعالى بواسطة البرهان اللمّي؛ لكن يمكننا هنا إقامة برهانٍ شبه لمّي بأسلوبٍ آخر مختلفٍ عن نمط الاستدلال بالمعلول لإثبات وجود العلّة (دليل إنِّي)، وكذلك ليس من نوع الاستدلال بالعلّة على المعلول (برهان لِمّي)، بل هو نوعٌ ثالثٌ.

المعلول والعلّة في هذا البرهان غير متعلّقين بالعلم ولا بوجه الاستدلال، بل إنّهما حدٌّ وسطٌ؛ أي إنّهما في الواقع وجودٌ خاصٌّ متلازمٌ مع وجود الله سبحانه بحيث نتمكّن من تحصيل العلم بأحد المتلازمين عن طريق العلم بالمتلازم الآخر. مثلاً نحن نقطع بالوجودات الخارجية بحسب قواعد المدرسة الواقعية وهي إمّا أن تكون واجبة الوجود بذاتها أو ممكنةً؛ فى الحالة الأولى يكون وجود الحقّ تعالى ثابتٌ لدينا باليقين ولسنا بحاجةٍ إلى إقامة برهانٍ

ص: 122


1- الخواجه نصير الدين الطوسي، كشف المراد، ص 217
2- ابن سينا، الهيات الشفاء، ص 354
3- ابن سينا، الإشارات، بشرح المحقّق الطوسي، ج 3، ص 66

عليه، ولكن في الحالة الثانية فهي تعكس ماهيةً مفتقرةً للوجود تكون متلازمةً للحالة الأولى (واجب الوجود). وبعبارةٍ أخرى: وجود الممكنات متلازمٌ بالضرورة مع وجود واجب الوجود.

ولتقريب الموضوع بشكلٍ أوضح نقول : الوجود بذاته واحدٌ وبسيطٌ، وحقيقته العليا تتمثّل في واجب الوجود، كما أنّه من المقولات المشكّكة، أي إنّه يختلف من حيث الشدّة والضعف والكمال، فله مراتب عديدة، فهو كالنور الذي يختلف سطوعه في مختلف مصاديقه. وهذا النور مهما كانت درجة ضعفه وضموره ومن ثم فهو يرشدنا إلى وجود ممكنٍ مرتبطٍ بأصل الوجود وأعلى درجاته وأكملها.

إذن، واسطة الإثبات هى نفس الوجود الموصوف بالضعف، وهو ليس معلولاً لواجب الوجود أو لغيره، بل مرتبةٌ دنيا من الوجود الأعلا، ويمكن التعبير عنه ب_ (الملازمة).

4 ) إقامة البرهان اللمّى على وفق قراءةٍ خاصّةٍ (تعميم العلّية):

ذكرنا آنفاً أنّ البرهان اللمّي في أحد معانيه ينفي وجود علّةٍ لله عزّ وجلّ، إلا أنّه لا يقتصر على العلّية الخارجية، بل الحدّ الأوسط من شأنه أيضاً أن يكون علّةً خارجيةً ووجوديةً لثبوت الأكبر على الأصغر، وكذلك يمكن أن يكون علّةً تحليليةً وعقليةً لكلا صورتي البرهان اللمّي.

على سبيل المثال، قيل في برهان الإمكان والوجوب إنّ العالَم ممكنٌ، والممكن محتاجٌ إلى واجب الوجود؛ فالعالَم محتاجٌ إلى واجب الوجود. الحدّ الأوسط في هذا الاستدلال هو أنّ الإمكان علّة الحاجة إلى واجب الوجود،

ص: 123

أي: ثبوت الأكبر للأصغر، لذا يكون هنا لِميّاً، وهو ما أكّد عليه بعض الفلاسفة من أمثال المحقّق الطوسى (1).

وقد عرّف بعض المعاصرين البرهان اللمّي كما يأتي: هو برهانٌ يكون الحد الوسط فيه علّةً لاتّصاف موضوع النتيجة بالمحمول، ولا فرق فيما إن كانت علّةً للمحمول نفسه أو لم تكن كذلك، كما لا فرق في كونها خارجيةً وحقيقيةً أو تحليليةً وعقليةً.

طبق هذا التعريف إن كان الحدّ الأوسط للبرهان مفهوماً مشابهاً للإمكان والفقر الوجودي وما شاكلهما، يمكن اعتباره برهاناً لِمّياً، لأنّ الفلاسفة يقولون (سبب افتقار المعلول إلى العلّة هو الإمكان الماهوي أو الفقر الوجودي)، لذا حسب الأصول العقلية فقد تمّ إثبات واجب الوجود للممكنات نظراً لافتقارها له.

ثمرة هذا الكلام أنّ ذات واجب الوجود ليست معلولةً لأيّة علةٍ، واتّصاف الممكنات بالفقر إلى واجب الوجود معلولٌ لإمكانها الماهوي أو فقرها الوجودي (2). وقد عرّف المحقّق الطوسي البرهان اللمّي بأنّه علّية الحدّ الأوسط، أي العلّية التكوينية والعقلية (3). هذا التعريف في الحقيقة فريدٌ من

ص: 124


1- للاطّلاع أكثر ، راجع: ابن سينا، الإشارات، بشرح المحقّق الطوسي، ج 1، ص 308؛ محمّد تقي مصباح اليزدي، تعليقة على نهاية الحكمة، رقم: 8
2- محمّد تقي مصباح اليزدي، آموزش فلسفه (باللغة الفارسية)، ج 2، ص 332، الدرس: 61
3- فقال: «يجوز أن يكون الأوسط والأكبر لكلّ واحدٍ منهما ذاتٌ، ولكلّ واحدةٍ من الذاتين كونٌ في شيءٍ، فيكون الأكبر من حيث هو ذاته علّةً للأوسط من حيث هو ذاته، ويكون لكلّ واحدٍ منهما اعتبار كونه في شيء هو غير اعتبار ذاته، فإن ذات الأوسط لا تتحقّق موجودةٌ إلا أن تكون في ذلك الأصغر ، فلا شكّ في أنّ الأكبر علّةٌ لوجوده في الأصغر. وأمّا إن كان ذلك أمراً لا يلزمه، فيجوز أن يكون شيءٌ آخر علّةً لذلك، ويجوز أن يكون الأكبر علّةً لذلك. وكيف كان، فإنّ ذات الأكبر شيءٌ، ووجوده للأصغر شيءٌ. فيجوز ألا يكون وجود الأكبر للأصغر من الأمور اللازمة للأكبر؛ فيكون الأكبر هو علّةً للأوسط من حيث ذات الأوسط ؛ أو علّةً له من حيث وجوده للأصغر؛ ويكون ذلك من الأكبر من حيث ذاته ليس من حيث هو موجود للأصغر، ويكون المعلول كونه للأصغر؛ فلا تنقلب العلّة معلولاً ... فإذا كان الحد الأوسط علّةً لوجود الأكبر في الأصغر، فهذا برهان (لِمّ) ... وأمّا إذا كان الحدّ الأوسط معلولاً للأكبر في وجوده للأصغر حتّى يكون ذلك علّته فيه، فهو الذي يكون البرهان من مثله (إِن) . محمّد تقي مصباح اليزدي، شرح نهاية الحكمة، ج 1، ص 71

نوعه بحيث يعتبر البرهان اللمّي مفيداً للقطع واليقين، وقد وضحّنا هذا الأمر في المباحث السابقة. بعد التفاصيل التي ذكرت السؤال الآتي يطرح نفسه في هذا المضمار هل بإمكاننا تسمية البرهان المشار إليه بأنّه لِمّي رغم أنّ دلالته ترجع إلى برهان الإنّ المطلق؟

للإجابة نقول: ذكرنا آنفاً أنّ المهمّ في البرهان هو إفادته القطع واليقين وقبوله كبرهانٍ معتبرٍ، بغضّ النظر عن عنوانه وتسميته.

*الشبهة الثالثة: دلالة البرهان شبه اللمّي تعود في الأساس إلى دلالة البرهان الإنّي:

استشكل بعضهم على البرهان شبه اللمّي واعتبروا دلالته منبثقةً من دلالة البرهان الإنّي، لذلك قيل: «حسب القواعد المنطقية، إن حاولنا إثبات وجود الله تعالى على أساس برهان شبه لِمّي، فلا بدّ لنا من القول بوجود الله

ص: 125

وأمرٍ آخر؛ والإقرار بأنّهما معلولان لعلّةٍ ثالثةٍ.

في بادئ الأمر علينا إثبات وجود العلّة الثالثة بواسطة هذا الأمر الآخر (برهان إنّي)، ثمّ نثبت وجود المعلول الثاني (الله) استناداً إلى العلّة الثالثة، وهذا (برهانٌ لِمّي)» (1).

تحليل الشبهة ونقضها :

هذه الشبهة ناشئةٌ من عدم معرفة الوجه الصحيح للاستدلال في البرهان شبه اللمّي، فالحدّ الأوسط فيه كما ذكرنا آنفاً ليس معلولاً كي يدّعى إلحاقه بالبرهان الإنّي، وليس علّةً خارجيةً كي ترد عليه شبهة القول بوجود علّةٍ لله تعالى؛ بل هو نفس واجب الوجود ولكن في مرتبةٍ ضعيفةٍ (2)، لذلك أكّد صدر المتألّهين على أنّ الاستدلال في هذا البرهان يكون على نفس واجب الوجود (3)، ومن ثمّ فإنّ الطريق (الاستدلال) يكون ذات المقصود (البرهنة) (4).

ص: 126


1- السيّد عليّ علم الهدى و أحد فرامرز قراملكي، مجلّة (نامه حكمت)، قابلية المفاهيم الأزلية الضرورية للبرهنة (برهان پذيري گزاره هاي ضروري ازلي)، شتاء عام 1382 ش، العدد ،2، ص 123
2- تجدر الإشارة هنا إلى عدم وجود اختلافٍ في أصل وجود الممكن المادّي ووجود واجب الوجود، وهو ما يطلق عليه في علم الفلسفة (اشتراك معنوي) و (تشكيك في الوجود) أي ليس هناك اختلافٌ في حقيقة الوجود؛ إلا أنّ الاختلاف يكمن في الحدود والمحدوديات التي تكتنف وجود الممكن، وهي في الواقع أمور عدمية تؤدّي إلى تحويل مرتبة الوجود الواجب إلى وجودٍ ضعيفٍ أدنى منه
3- صدر المتألّهين أسرار الآيات، ص 57
4- صدر المتألّهين أسرار الآيات، ص 57

ونؤكّد هنا مرّةً أخرى أنّ الفلاسفة يطلقون على هذا البرهان عنوان (برهان الصديقين ولا يعتبرونه برهان (إن) بمعنى إثبات المدّعى عن طريق إثبات المعلول للعلّة، كما لا يرون أنّه من سنخ البراهين اللمّية ولكنّهم مع ذلك عدوّه مشابهاً لها من حيث إفادة اليقين، فأطلقوا عليه (شبه لِم).

لو تتّبعنا جذور الموضوع لوجدنا أنّ الشيخ الرئيس ابن سينا هو الذي ابتدع هذا التعبير حيث قال : « ... فالأوّل ليس عليه برهانٌ محضٌ لأنّه لا سبب له، بل كان قياساً شبيهاً بالبرهان لأنّه استدلالٌ من حال الوجوه أنّه يقتضي واجباً» (1). وقد رفض ابن سينا إثبات وجود الله تعالى عن طريق البرهان (اللمّي) المحض نظراً لعدم وجود علّةٍ له جلّ شأنه، وكما نلحظ في کلامه فهو يشبهه بالقياس البرهاني في الاستدلال على واجب الوجود، أي: عدّه شبيهاً بالبرهان. ومن الجدير بالذكر هنا أنّ عبارة (شبه اللمّي) قد وردت في كلام صدر المتألّهين أيضاً (2).

إذن، يتّضح ممّا ذكر أنّ البرهان شبه اللمّي يختلف عن البرهان اللمّي ذاته، كما لا ينطبق على البرهان الإنّي الذي هو من نوع (الدليل).

ص: 127


1- ابن سينا، المبدأ والمعاد، ص 33. ذكر المحقّق اللاهيجي هذا النمط من البرهان اللمّي وعبّر عنه أيضاً ب_ (شبه لِم)، حيث قال: «لمّا كان هذا البرهان لا يقام على صعيد الآثار، فهو مشابه البرهان اللمّي، ولكنّه لا يندرج ضمن البرهان اللمّي من حيث عدم استدلاله بالعلّة على المعلول». عبدالرزاق اللاهيجي، شوارق الإلهام، مستهلّ مبحث الإلهيات
2- للاطّلاع أكثر، راجع: صدر المتألهين، الأسفار الأربعة، ج 6، ص 28 - 29

- تبرير الفلاسفة لرأيهم في عدم إمكانية إقامة البرهان لإثبات وجود الله تعالى :

ذكرنا آنفاً كلاماً لبعض الفلاسفة ادّعوا فيه عدم إمكانية إقامة البرهان لإثبات وجود البارئ جلّ شأنه، إلا أنّهم عارضوا رأيهم هذا بعد أن أقدموا على هذا الأمر عن طريق البرهنة والقياس؛ وقد برّر بعضهم هذا التضادّ بأوجه عديدة نذكر منها ما يأتي: (1)

1 ) تفنيد دلالة البرهان اللمّي:

من المؤكّد أنّ البرهان اللمّى هو أحد البراهين التي يقصدها منكرو إمكانية إقامة البرهان في إثبات وجود الله تعالى، وهو كما قلنا يعني وجود علّةٍ خارجيةٍ، لذا فهو محال في شأن واجب الوجود نظراً لاستغنائه عن أيّ أمرٍ آخر؛ وحسب التعبير المنطقي فالقضية سالبةٌ بانتفاء الموضوع، وهو ما صرّح به العلامة محمّد حسين الطباطبائي (2).

2 ) عجز البرهان عن تحقيق المعرفة بالإله الواقعي :

ربّما يقصد معارضو إقامة البرهان على صعيد إثبات وجود الله عزّ وجلّ أنّه لا يوجد برهانٌ يعيننا على معرفة الإله الذي تؤمن به الأديان (الله تعالى) بذات الصفات الكمالية المختصّة به والمذكورة في النصوص الدينية، فغاية ما يتمخّض عن البراهين الفلسفية إثبات مفاهيم كلّية من قبيل واجب الوجود وعلّة العلل .

ص: 128


1- للاطّلاع أكثر، راجع: محمّد تقي مصباح اليزدي، آموزش فلسفه (باللغة الفارسية)، ج 2 ، الدرس: 61
2- للاطّلاع أكثر ، راجع: صدر المتألّهين، الأسفار الأربعة، ج 6 ، هامش الصفحة 29

هذا الادّعاء لا يرتكز على أُسسٍ علميةٍ، ناهيك عن أنّه مجرّد افتراضٍ بعيدٍ عن الواقع، إذ قال الفلاسفة - بمن فيهم الشيخ الرئيس ابن سينا (1) - إنّ البرهان يرشدنا إلى الإله والواحد البسيط ذي الكمالات الذاتية.

لكن إن ادّعى هؤلاء أنّ مرادهم هنا الإله ذو الصفات الكثيرة، من قبيل الألف صفةٍ التي ذكرت في دعاء الجوشن الكبير، فمن الممكن تبرير اعتراضهم على هذا الصعيد.

3 ) البرهان يثبت الحاجة إلى علّة العلل وليس الحاجة إلى الله تعالى بشكلٍ مباشرٍ:

البراهين الفلسفية التي هي من نغمط البرهان الإنّي المرتكز على الاستدلال بالمعلول لإثبات وجود العلّة، حينما تكون متقنةَ ومتقومةَ على عمليةٍ استدلاليةٍ صائبةٍ، تثبت حاجة عالم الإمكان إلى علّة العلل وواجب الوجود الذي هو الخالق والمحرّك الأوّل؛ وهذه العناوين الذاتية الأوّلية محمولةٌ للمخلوقات من حيثياتٍ مختلفةٍ، كالإمكان والمعلولية والحركة. المرحلة الثانية في عملية الاستدلال الفلسفي هذه، هي تطبيق العناوين المذكورة على ذات الله تعالى بقول إنّه هو علّة العلل وواجب الوجود والخالق.

إذن، إثبات وجود الله تعالى في البراهين الفلسفية لا يكون بالذات، بل بالعرض؛ وهذا ما يعنيه الحكيم صدر الدين الشيرازي في قوله: «واجب الوجود لا برهان عليه بالذات، بل بالعرض» (2).

ص: 129


1- ابن سينا، المبدأ والمعاد، ص 31
2- صدر المتألّهين، الأسفار الأربعة، ج 6، ص 28 - 29

البرهان الثالث برهان الحدوث :

البرهان الثالث برهان الحدوث :

برهان الحدوث هو أحد البراهين التي أقامها الفلاسفة لإثبات وجود الله سبحانه وتعالى، إذ أكّدوا على أنّ عالم الإمكان - ولا سيّما عالم المادّة والطبيعة – حادثٌ.

فحوى هذا البرهان أنّ العالم ليس له وجودٌ أزليٌّ نابع من ذاته، أي إنّه كان مسبوقاً بالعدم ومن ثمّ ارتدى حلّة الوجود ، لذا فهو مفتقرٌ بالضرورة إلى خالقٍ، وهذا الخالق بطبيعة الحال لا بدّ من أن يكون واجب الوجود.

وبعبارةٍ أخرى: بما أنّ العالم حادث، فلا بدّ له من محدِثٍ.

هذا البرهان غالباً ما يطرح من قبل علماء الكلام لدرجة أنّه عُرف ب_ (برهان المتكلّمين) (1).

قبل أن نتطرّق إلى بيان تفاصيل البرهان، نوضّح بعض المصطلحات المرتبطة به فيما يأتي:

- الحدوث والقدم والدهر والسرمدية:

عُرّف الحادث بأنّه الشيء الذي كان عدماً في المرحلة التي سبقت وجوده أي إنّه كان مسبوقاً بعدمٍ ثمّ ظهر إلى عرصة الوجود؛ وهو على

ص: 130


1- للاطّلاع أكثر، راجع: أبو الحسن الأشعري، اللّمع في الردّ على أهل الزيغ، ص 17؛ أبو منصور الماتريدي، التوحيد، ص 11 ؛ الجويني، الإرشاد، ص 39؛ الفخر الرازي، المطالب العالية ، ج 1، ص 200؛ القاضي عضد الدين الإيجي، شرح المواقف، ج 8، ؛ سعد الدين التفتازاني، شرح المقاصد، ج 3، ص 7؛ ابن نوبخت، الياقوت في علم الكلام، ص 38؛ الخواجه نصير الدين الطوسي، قواعد العقائد، ص 39؛ الخواجه نصير الدين الطوسي، كشف المراد، ص 217؛ الرازي الحمصي، المنقذ من التقليد، ج 1، ص 19

خلاف القديم الذي ليست له مرحلةٌ وجوديةٌ سابقةٌ كي يقال إنّه كان وجوداً أو عدماً، فهو وجودٌ سرمديٌّ.

- الحدوث الزماني:

يا ترى ما هي المرحلة السابقة التى لم يكن الحادث موجوداً فيها؟ أحياناً يعبّر عنها ب_ (الزمان)، أي كان هناك زمانٌ معيّنٌ لكنّه لم يكن ظرفاً للوجود الذي يتّصف بالحدوث، أي إنّ الحادث كان عدماً في ذلك الزمان. مثال ذلك أنّ الإنسان الذي يبلغ من العمر خمسين عاماً لم يكن بطبيعة الحال موجوداً قبل سبعين عاماً، لذا فهو من عاماً، لذا فهو من هذا المنظار يعدُّ حادثاً زمانياً.

إذن، هذا النوع من الحدوث يطلق عليه (الحدوث الزماني).

من الواضح أنّ هذا النوع من الحدوث مختص بالقضايا المادية والزمانية، لأن معنى الزمان لا يمكن أن يتحقق إلا في ظل الحركة والوجود المادي؛ لذا عندما يوصف أحد الأشياء بالحدوث الزماني لا بد من أن يكون أولاً ذا وجودٍ مادّي، وثانياً أن يكون عدماً في المرحلة التي سبقت ظهوره في عرصة الوجود.

قال العلامة محمّد حسين الطباطبائى في هذا الصدد: «الحدوث الزماني كون الشيء مسبوق الوجود بعدم زمانيٍّ، وهو حصول الشيء بعد أن لم يكن بعديةً لا تجامع القبلية؛ ولا يكون العدم زمانياً إلا إذا كان ما يقابله من الوجود زمانياً، وهو أن يكون وجود الشيء تدريجياً منطبقاً على قطعةٍ من الزمان مسبوقةٍ بقطعةٍ ينطبق عليها عدمه » (1).

ص: 131


1- محمّد حسين الطباطبائي، نهاية الحكمة، المرحلة العاشرة، الفصل الخامس. للاطّلاع أكثر، راجع: مرتضى مطهّري، مجموعه آثار (باللغة الفارسية)، ج 1، ص 331 والصفحات اللاحقة؛ صدر المتألّهين، الأسفار الأربعة، ج 3، ص 244

- الحدوث الذاتي:

النوع الثاني من الحدوث يطلق عليه (الحدوث الذاتي)، وقد عرّفه العلامة الطباطبائى كما يأتي: «الحدوث الذاتي كون وجود الشيء مسبو بالعدم المتقرّر في مرتبة ذاته» (1)، وتوضيحه : هو شيءٌ لا يقتضي الوجوب في وجوده بالضرورة، أي إنّ ذاته مسبوقةٌ بالعدم واللاوجود؛ فالإنسان على سبيل المثال هو حيوانٌ ناطقٌ لا تدلّ ماهيته على ضرورة وجوده، بل تدلّ فقط على مفهوم (الإنسان حيوانٌ ناطقٌ)؛ وهذه الذات إن أُريد لها التحقّق في الخارج فلا بدّ لها . علّةٍ واحدةٍ أو عدّة عللٍ. إذن، ماهية الإنسان في المرحلة السابقة تتّصف بالعدم أي إنّ العدم سابقٌ لها، وهو ما يعبّر عنه ب_ (الحدوث الذاتي) إذ يطرأ على كل وجودٍ مادّيٍّ ومجرّدٍ متّصفٍ ب_ (الإمكان)؛ لذا إن أمعنّا النظر في مكنون ذاته لوجدناها ذاتية الحدوث. المجرّدات التي تتّصف بهذه المزية مثالها عالم العقول والملائكة، فهي كائناتٌ خارجةٌ عن نطاق عالم المادّة وقيد الزمان، لذلك لا يصدق عليها الحدوث الزماني، فهي تتّصف بالحدوث الذاتى فقط.

- القديم الزماني (القديم الذاتي):

بالنسبة إلى الوجود الذي هو في غنىً عن غيره بحيث تقتضي ذاته أن يكون (واجب الوجود) أي: الله عزّ وجل، فهو ليس من سنخ (الحدوث الذاتي) ولا يمكن أن يصدق عليه هذا العنوان بل هو الوجود الأوحد القديم

ص: 132


1- محمّد حسين الطباطبائي، نهاية الحكمة، المرحلة العاشرة، الفصل السادس

الذي تقتضي ذاته الأزلّية في الوجود ويطلق عليه (القديم الذاتي).

إلى جانب القديم الذاتي هناك (قديم زماني)، ويراد منه ذلك الوجود الذي لا يصدق عليه العدم بتاتاً، وهو (كلّ عالم الطبيعة)؛ وقد عرّفه العلامة الطباطبائي كما يأتي: «القدم الزماني ... هو عدم كون الشيء مسبوق الوجود بعدمٍ زمانيٍّ، ولازمه أن يكون الشيء موجوداً في كلّ قطعةٍ مفروضةٍ قبل قطعةٍ من الزمان منطبقاً عليها » (1).

برأي بعض علماء الفلسفة فإنّ عالم الطبيعة بمختلف ظواهره كان موجوداً منذ الأزل، وهو عالمٌ غير متناهٍ. وباعتقاد علماء الكلام فإنّ الزمان قديمٌ ولا مبدأ له، إلا أنّ الأمور المادّية حادثةٌ وظهرت إلى الوجود في زمانِ محدّدٍ، لكنّ معظّمهم لا يذهبون إلى هذا الرأي ويرفضون القدم الزماني لعالم الممكنات في عين تأكيدهم على ضرورة تحديد نقطةٍ لبداية الخلقة كي يمكن تصوّر أصل الخلقة والحدوث (2).

أمّا المحقّق الميرداماد فقد استعمل مصطلح (الحدوث الدهري) للتعبير عن الوجودات المجرّدة وتقدّمها على الوجودات المادّية(3)، وذلك بمعنى تقدّم إحدى مراتب الوجود على عدمه المتقرّر في مرتبةٍ هي فوقها في السلسلة الطولية، وهو عدمٌ غير مجامعٍ، لكنّه غير زمانيٍّ، كمسبوقية عالم المادة بعدمه في عالم المثال. فعالم المادّة لم يكن موجوداً سابقاً في وعاء عالم المثال، كما أنّ هذا

ص: 133


1- المصدر السابق، الفصل الخامس
2- للاطّلاع أكثر، راجع: الخواجه نصير الدين الطوسي، قواعد العقائد، ص 39 - 46؛ محمّد حسين الطباطبائي، نهاية الحكمة، المرحلة الثالثة والعشرون، الفصل الثاني عشر
3- المحقّق الميرداماد، القبسات، ص 53 و 83 و 235

الأخير لم يكن موجوداً سابقاً في عالم المجرّدات. حسب هذا المثال، فإنّ تقدّم عالم المجرّدات على عالم المثال، وتقدّم هذا العالم على عالم المادّة، يطلق عليه (تقدّم دهري) كما يطلق على حدوث عالم المادّة بالنسبة إلى عالم المثال، وحدوث عالم المثال بالنسبة إلى عالم المجرّدات بأنّه (حدوث دهري). وقد عرّفه العلامة محمّد حسين الطباطبائي بالقول: «الحدوث الدهري كون الماهية الموجودة المعلولة مسبوقةً بعدمها المتقرّر في مرتبة علّتها » (1).

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ مصطلح (سرمدي) يعني تقدّم الوجود الإلهي على كلّ وجودٍ آخر وبما في ذلك المجرّدات.

- تقرير برهان الحدوث :

بعد أن ذكرنا مقدّمةً حول برهان الحدوث، نتطرّق فيما يأتي إلى بيان مختلف التقريرات التي طرحت حوله :

أوّلاً: عدم انفكاك الحدوث عن الأجسام :

في أوّل تقريرٍ طرحه علماء الكلام حول هذا البرهان اعتبروا أنّ (عدم خلوّ الأجسام من الحوادث) هو الحدّ الأوسط فيه، وقالوا بما أنّ الأجسام حادثةٌ فنتيجة ذلك أنّ عالم المادّة حادثٌ أيضاً. المراد من كون الأمر حادثاً هو طروء التغيير والتحوّل عليه، كالحركة، وتقرير ذلك كما يأتي:

- كلّ جسمٍ لا يخلو من الحوادث.

- كلّ ما لا يخلو من الحوادث فهو حادثٌ.

- إذن، كلّ جسمٍ حادثٌ.

ص: 134


1- محمّد حسين الطباطبائي، نهاية الحكمة، المرحلة العاشرة، الفصل الثامن

ثانياً: عدم أزلية الأجسام:

الحدّ الأوسط في هذا التقرير هو (عدم أزليّة الجسم)، فالجسم إمّا ساكنٌ أو متحرّكٌ، وكلتا الحالتين محالةً بالنسبة إلى ما هو أزلي. الحركة تتعارض مع الأزلية لأنّها تعني مسبوقية الجسم بالعدم، في حين أنّ الأزلية تعني انتفاء خصوصية العدم عن الأمر مطلقاً، وأمّا السكون فيعني تمركز الجسم في مكانٍ واحدٍ لفترتين زمنيتين أو أكثر، وبالطبع فإنّ الأزلية تنتفي حين تطرح قضية الزمان في طبيعة الأمر؛ ومن المؤكّد أنّ الأزلي ليس من شأنه السكون لعدم تقيّده بالزمان، وحسب القواعد فإنّ الزمان ملازمٌ للحركة، وكما ذكرنا فالحركة مسبوقةٌ بالعدم.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ السكون بمعنى استقرار الجسم في حيّزٍ بعد حلوله فيه، أي استمرار بقاء الجسم في مكانه. وبتعبيرٍ آخر: هو الحصول الثاني في المكان الأوّل، أي حصولٌ ثانٍ في مكانٍ واحدٍ؛ لذا فإنّ الحصول الأوّل ليس سكوناً، بل هو (كون). وعلى هذا الأساس لا يمكن للسكون أن يكون أزلياً (1).

ثالثاً: الحركة الجوهرية :

من المبادئ الثابتة في الحكمة المتعالية أنّ الحركة ليست من مزايا أعراض الأجسام فحسب، بل تطرأ على جواهرها وذواتها أيضاً، وتوضيح ذلك كما يأتي:

حركة الجسم ملازمةٌ له، وحسب التعريف الفلسفي المشهور فإنّ

ص: 135


1- ابن ميثم البحراني، قواعد المرام، ص 41؛ تلخيص المحصّل، ص 195

المتحرّك حادثٌ وليس من شأنه أن يكون قديماً لافتقاره إلى محركه؛ وهذا المحرّك لا بدّ من أن ينتهي إلى واجب الوجود.

ويمكن تلخيص القاعدة كالآتي:

- الجسم متحرّكٌ.

- كلّ متحرّكٍ له محرّكٌ أوّلٌ (محدِثٌ).

- إذن، لكلّ جسمٍ محرّكٌ أوّلٌ (محدِثٌ).

رابعاً: الملازمة بين الإمكان والحدوث :

اعتمد علماء الكلام على برهان الإمكان الفلسفي لإثبات مسألة حدوث الأجسام وحاجة العالَم للمحدِث، وذلك بمعنى أنّ كلّ ما سوى الله تعالى فهو ممكنٌ، وكلّ ممكنٍ حادثٌ، لذا فكلّ ما سوى الله حادثٌ.

وقد طرح المحقّق الطوسي القضية كما يأتي: (1)

- كلّ ما سوى الواجب ممكنٌ.

- كلّ ممكنٍ حادث.

- إذن، كلّ ما سوى الواجب حادثٌ.

إذا ألحقنا الحدّ الأوسط لبرهان الإمكان والوجوب ببرهان الحدوث، يثبت لدينا بشكلٍ مطلقٍ أنّ كلّ أمرٍ ممكن ٍيكون حادثاً، ولا فرق في ذلك بين المادّي والمجرّد؛ فجميع الممكنات حادثةٌ.

ص: 136


1- تلخيص المحصّل، ص 195

- تحليلٌ لتقريرات البرهان:

بعد أن ذكرنا التقريرات التي طرحت على صعيد برهان الحدوث، نتطرق فيما يأتي إلى بيان دلالاتها:

1 ) بالنسبة إلى التقريرات الثلاثة الأولى للبرهان، نقول: معظم علماء الكلام المتقدّمين كانوا يرفضون عالم المجرّدات، حيث نقل عن المحقّق الطوسي قوله: «والمتكلّمون ينكرون وجود جواهر غير جسمانيةٍ»(1)، لذا فإنّ أهمّ هاجسٍ لهم كان هو إثبات حدوث عالم الأجسام والمادّة، ومن هذا المنطلق فالأدلّة التي أقاموها بغية إثبات حدوث العالم كانت ناظرةً نوعاً ما إلى حدوث عالم الأجسام - وهو ما ذكرناه في التقريرات الثلاثة الأولى لبرهان الحدوث - وفي الحين ذاته التزمت الصمت تجاه مسألة حدوث عالم المجرّدات؛(2) لذلك نجد أنّ بعض علماء الكلام الذين كانوا على صلةٍ بعلم الفلسفة، لجؤوا إلى برهان الإمكان ليطرحوا التقرير الرابع المذكور أعلاه في إطار دليلٍ عامٍّ.

2 ) التقرير الأوّل الذي طرحه علماء الكلام والذي يتضمّن استدلالاً يتمحور حول عدم خلوّ الأجسام من الحوادث، لا يثبت المدّعى لأن مرتكز استدلالهم هو كون الحدوث ملازماً للأجسام (3)، إذ من الممكن أن تكون بعض

ص: 137


1- الخواجه نصير الدين الطوسي، قواعد العقائد، ص 39
2- عبد الله جوادي الآملي، تبيين براهين اثبات خدا (باللغة الفارسية)، ص 171
3- الحدوث لدى علماء الكلام مرتبطٌ بالعوارض وأوصاف الأجرام المادّية، لذا فإنّ برهان الحدوث يثبت الحاجة إلى المحدث على صعيد الأوصاف والعوارض. الحدوث في الحقيقة يدور في دائرة التحوّل والتغيير، وإذا كان التغيير مقتصراً على بعض عوارض الأجسام فهو بحاجةٍ إلى محدِثِ في نفس هذا النطاق. بناءً على ما ذكر، فإنّ جوهر عالم الطبيعة والأجسام يكون في غنى عن المحرّك والمحدِث إثر استغنائه عن الحركة والتغيير والحدوث. إذن، استناداً إلى النتيجة أعلاه فليس من الممكن لأصحاب برهان الحركة والحدوث نقض شبهة أزلية المادّة (الصورة الجسمية)، لأنّ الجسم بما هو مركّبٌ من الصورة والمادّة يعدّ متغيراً في خارج نطاق ذاته، أي في محور العرَض أو الصور النوعية التي تطرأ على الجسم، ومن ثمّ يصبح مفتقراً إلى المحدِث والمحرّك. عبد الله جوادي الآملي، تبيين براهين اثبات خدا (باللغة الفارسية)، ص 171 - 172. كما انتقد الشيخ جوادي الأملي استدلال علماء الكلام على صعيد ذهابهم إلى أنّ الأجسام لا تخلو من الحوادث، وقال: «إنّ الأمر الذي لا يخلو من الحوادث يعدّ حادثاً، فهو في الحقيقة يدور في دائرة نفس هذه الحوادث، والحدوث الدائر في دائرة الحوادث إن ارتكز على ذات الجسم، فهو من حيث الوصف يكون متعلقاً بحالٍ ومحقّقاً». عبدالله جوادي الآملي، رحيق مختوم (باللغة الفارسية)، القسم الثالث، ص 325

ذوات الأجسام قديمةً لكن قد تطرأ عليها حوادث عارضة.

3 ) هناك اعتراض ساقه الشيخ الرئيس ابن سينا على علماء الكلام، يتلخّص بما يأتي: لو افترضنا صحّة الاستدلال التالي : (ما لا يخلو من الحوادث فهو حادثٌ) فلا بدّ لنا من الإذعان بكون الله تعالى حادثاً - معاذ الله - لأنّ حدوث العالم برأي علماء الكلام يعني أنّ الله سبحانه كان ولكنّ العالم لم يكن، وبعد ذلك تعلّقت إرادته في خلقته ؛ وهذه الإرادة برأيهم صفةٌ لفعله عزّ وجلّ فتكون شبيهةً للعالم الحادث. (الإرادة) في هذه الحالة تعدّ أمراً حادثاً قائماً بالذات الإلهية وعارضاً عليها، وحسب الاستدلال المذكور أعلاه نضطرّ للقول بكون هذه الذات المباركة حادثةً(1).

4 ) يترتب على القول ببرهان الحدوث الإذعان بحاجة العالم المادي إلى

ص: 138


1- عبد الله جوادي الأملي، رحيق مختوم (باللغة الفارسية)، القسم الثالث، ص 173 (نقلاً عن ابن سينا)

محدثٍ، وذلك من خلال إضفاء مزية الحركة الجوهرية على الأجسام؛ ولكنّ غاية ما يثبته حاجة الحادث إلى المحدّث من دون أن يحدّد ما إن كان جوهراً ممكناً أو واجب الوجود. لذا، فإنّ انتهاء سلسلة المحدِثات إلى واجب الوجود منوطٌ باللجوء إلى برهان الإمكان.

5 ) لا بدّ لنا في تقرير برهان الحدوث من اللجوء إلى مصطلح (الإمكان) بدلاً عن الحدّ الأوسط (الحادث ) و (التغيير)، استناداً إلى ما ورد في التقرير الرابع؛ لكن في هذه الحالة يندرج برهان الحدوث ضمن طيات برهان الإمكان والوجوب

خلاصة الكلام أنّ الحاجة إلى الخالق والمحدث تثبت لنا عن طريق إثبات الحدوث للظواهر الإمكانية سواءً كانت مادّيةً أو مجرّدةً؛ ومن البديهى أنّ محدِث العالم لا بدّ من أن يكون واجب الوجود لا غير، إذ في سوى هذه الحالة يصبح من الممكنات، ومن ثمّ يكون بحاجةٍ إلى علّةٍ؛ وهو محالٌ.

شبهاتٌ وردودٌ:

*الشبهة الأولى: الفلاسفة ينكرون حدوث العالم :

يدّعي بعضهم أنّ نظرية حدوث العالم مختصّةٌ بعلماء الكلام فحسب بحيث إنّ الفلاسفة يرفضونها من منطلق اعتقادهم بقدمه، ومن ثمّ يشكّكون بأصل برهان الحدوث معتبرين أنّ القضية من الأساس ليس فيها حدوثٌ كى يمكن الاعتماد عليها لإثباته إلى المحدِث.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ علماء الكلام اعتبروا نظرية قدم العالم التي يطرحها الفلاسفة كفراً.

ص: 139

وأمّا بعض الملحدين المعاصرين فقد استندوا إلى نظرية قدم الفيض الإلهى التى طرحها الفلاسفة وقالوا بأنّ الضرورة تقتضى القول بأزلية الوجود المادّي (1).

تحليل الشبهة ونقضها :

نذكر النقاط الآتية للردّ على الشبهة أعلاه :

1 ) الفصل بين الحدوث الذاتي والزماني :

قيل في بيان الحدوث أنّه يدلّ على معنيين أساسيين، وهما ذاتي وزماني؛ والفلاسفة بأسرهم يعتقدون بكون العالم حادثاً، لكنّ رأيهم استقرّ على الحدوث الذاتي وليس الزماني، وتوضيح ذلك كما يأتي:

عالم المجرّدات كان موجوداً قبل عالم الطبيعة والمادّة، ومن جملة خصوصياته استحالة تصوّر الزمان بشأنه لكونه ناشئاً من الحركة والمادّة؛ وعلى هذا الأساس فإنّ حدوث عالم المجرّدات لا يمكن أن يتّصف بقيد الزمان، فهو حدوثٌ (دهري) خارجٌ عن نطاق الزمان.

إذن، عدم اتّصاف عالم المجرّدات بالحدوث الزماني لا يتسبّب بحدوث أيّ خللٍ في أصل حدوثها، أي: الحدوث الذاتي والحاجة إلى واجب الوجود. مع ذلك، لم يتقبّل بعض علماء الكلام الحدوث الذاتي الذي طرحه الفلاسفة، وعدوّه غير قابلٍ للتصوّر في عين تأكيدهم على أنّ الضرورة والتعاليم الدينية

ص: 140


1- للاطّلاع أكثر، راجع: حسام الآلوسي، دراسة نقدية لنظرية الفيض، مجلة (المورد)، ج7، العدد 2، ص 169-172؛ هنري وولفسين، فلسفه علم كلام (باللغة الفارسية)، الفصل الخامس

وإجماع المسلمين كلّها تدلّ على الحدوث الزماني للعالم (1).

هذا الرأي في الحقيقة مجرّد ادّعاءٍ محضٍ لا يتقوّم على أُسس علمية وثوابت منطقية، ولكن بما أنّ مقولة الحدوث الذاتي للعالم لا تورد خللاً على برهان الحدوث، لذلك سنغضّ النظر عن تسليط الضوء عليها وذكر تفاصيلها.

2 ) الإمكان مناطٌ للحاجة لا للحدوث :

أثبت علماء الفلسفة بالبرهان الصريح أنّ حاجة الشيء للغير علّةً لماهيته الإمكانية وليست لحدوثه.

من البديهي أنّ الممكن متقوّمٌ على واجب الوجود وبحاجةٍ دائمةٍ إليه، ومهما تزايدت فترة وجود هذا الممكن فإنّ حاجته تتزايد تناسباً مع هذه الفترة، وهذا يدلّ على أنّ الإمكان هو المعيار والمناط لحاجة الممكن إلى العلةّ، ولا فرق في ذلك بين الحدوث الذاتي والزماني .

استناداً إلى ما ذكر، فإنّ المقصود من حدوث عالم المجردات في التعاليم الدينية، الحدوث الذاتي الذي هو معيار حاجتها وعدم استغنائها عن الله تعالى؛ وهذا ما صرّح به بعض علماء الفلسفة من أمثال عبد الرزّاق اللاهيجي (2) والفيض الكاشاني (3) وأبي الحسن الشعراني (4) والشهيد مرتضى مطهّري (5).

ص: 141


1- أحمد صفائي، علم كلام (باللغة الفارسية)، ج 1، ص 28
2- عبد الرزاق اللاهيجي، گوهر مراد (باللغة الفارسية)، ص 164؛ عبد الرزاق اللاهيجي، شوارق الإلهام، المقصد الثاني، الفصل الثالث، المسألة السادسة
3- الملا محسن الفيض الكاشاني، حق اليقين، ص 407
4- أبو الحسن الشعراني، ترجمه و شرح فارسي كشف المراد (باللغة الفارسية)، ص221
5- مرتضى مطهّري، شرح مختصر منظومه (باللغة الفارسية)، ج 1، ص 269

إذن، أزلية أحد الممكنات لا تعني استغناءه عن واجب الوجود، وهذه الحاجة في الحقيقة معلولةٌ لماهيته الإمكانية. المسألة التي تجدر بالتأمّل هنا هي ما إن كانت الخلقة الإلهية - الشاملة لجميع المجرّدات التي صدرت تحت عنوان العقل الأوّل أو الصادر الأول أو الوجود المنبسط - منبثقةً من نقطة بدايةٍ أو لا؟ بيان هذه المسألة سيأتي لاحقاً.

3 ) قِدم الفيض الإلهي، والحدوث المستفيض:

هناك مسألةٌ في غاية الدقّة والأهمية على صعيد تصوّر خلقة العالم وحدوثه من حيث مبدئه، فهل أنّ فعل الله تعالى كان موجوداً من الأزل؟ أي هل أنّ الخلقة أزليةٌ بحيث لو افترضنا الفاعلية الإلهية التامّة لا يبقى مجالٌ لانفكاك فعل الخلقة عن الله تعالى؟ أو يا ترى هل للخلقة نقطة بدايةٍ بحيث لم يكن قبلها أيّ ممكنٍ في حيّز الوجود؟

على أساس فرضية أزلية الخلقة، فإنّ سلسلة الوجودات الإمكانية ليست لها نقطة بدايةٍ، ومن ثمّ تكون جميع الممكنات جاريةً في حيّز الوجود دون انقطاعٍ. كما يترتّب على هذه الفرضية القول بأزلية الفيض الإلهي، وبالتعبير الفلسفي (قِدم الفيض).

ولكن طبق فرضية عدم أزلية الخلقة، لا بدّ لسلسلة الممكنات من مبدأ تنطلق منه، لكون هذه السلسلة محدودةً، ومن ثمّ يجب القول بأنّ الفيض الإلهى حادثٌ، وهذا يعني عدميّته قبل تلك البداية.

ذهب معظم الفلاسفة إلى القول بالفرضية الأولى، في حين تبنّى علماء الكلام الفرضية الثانية؛ وقد أقام كلا الفريقين أدلّةً لإثبات المدّعى، لكن لا يسعنا المجال هنا لتسليط الضوء عليها. أمّا المسألة التي يتّفقان عليها فهى

ص: 142

الحدوث الذاتي لعالم الإمكان، حيث ذهبوا إلى التفكيك بينه وبين أجزائه المكوّنة له، وقالوا بأنّ السلسلة اللامتناهية تتعلّق بأجزاء العالم الممكن، وذلك يعني أنّ هذه الأجزاء المعيّنة لها نقطة بدايةٍ لكنّها لا تنتهي مهما تقدّمنا إلى الأمام بحيث تتواصل إلى ما لانهاية. فكلّ جزءٍ من الممكنات مسبوقٌ بجزءٍ ممكنٍ آخر، وبما أنّ وجود الله عزّ وجلّ قديمٌ أزليٌّ فهذه السلسلة لا تنقطع ولا تتوقّف عند حدٍّ.

الفيض الإلهي حسب التعبير الفلسفي قديمٌ، إلا أنّ المتسفيضات (الوجودات التي تنال فيض وجودها من الله تعالى) حادثةٌ لكنّها غير متناهيةٍ.

وقال الشاعر الحكيم على هذا الصعيد :

فالفيضُ منه دائمٌ متّصلٌ *** والمستفيضُ دائرٌ وزائلٌ (1)

ص: 143


1- الملا هادي السبزواري، شرح المنظومة، ج 5، ص 212 قال الحكيم صدر الدين الشيرازي: «إنّ جميع الهويات الجسمانية التي في هذا العالم ... مسبوقةٌ بالعدم الزماني، فلها بحسب كلّ وجودِ معيّنٍ مسبوقيةٌ بعدم زمانيٍّ غير منقطعٍ في الأزل ... فالفيض من عند الله باقٍ دائمٌ، والعالم متبدّلٌ زائلٌ في كلَّ حينٍ، وإنّما بقاؤه بتوارد الأمثال». صدر المتألّهين، الأسفار الأربعة، ج 7، ص 285 و 328 و 267- ج 2، ص 214 وقال العلامة الطباطبائي: «إنّ قدرته تعالى هي مبدئيته للإيجاد وعلّيته لما سواه، وهي عين الذات المتعالية؛ ولازم ذلك دوام الفيض واستمرار الرحمة وعدم انقطاع العطية... ولا يلزم من ذلك دوام عالم الطبيعة، لأنّ المجموع ليس شيئاً وراء الأجزاء، وكلّ جزءٍ حادثٌ مسبوقٌ بالعدم». محمّد حسين الطباطبائي، نهاية الحكمة، المرحلة الثانية عشرة، الفصل الأخير. للاطّلاع أكثر، راجع: الملا هادي السبزواري، أسرار الحِكم، ص 13؛ أبو الحسن الشعراني، ترجمه و شرح فارسي كشف المراد (باللغة الفارسية)، ص 221؛ محمّد تقي الآملي، درر الفوائد، ج 1، ص 261؛ عبد الله جوادي الآملي، رحيق مختوم (باللغة الفارسية)، القسم الأوّل، ص 203؛ عبد الله جوادي الآملي، تبيين براهین اثبات خدا (باللغة الفارسية)، ص 175 ؛ سعيد رحیمیان، فیض وفاعليت وجودي از افلوطين تا صدر المتألهين (باللغة الفارسية)، ص 222

بناءً على ما ذكر، عندما نتأمّل الممكنات بأجزائها نجدها حادثةً ولها نقطة بدايةٍ، لكن لو تأمّلناها بما هي كلّاً واحداً فلا يمكن لنا افتراض نقطة بدايةٍ لها، إذ في هذه الحالة (الكلّية) ندرك أنّها اكتسبت الفيض الإلهي منذ الأزل بهيئة (عالم ما سوى الله) في إطار وجودها الكلّي مع كونها حادثةً؛ لذلك لا يمكننا هنا افتراض نقطة بدايةٍ لها بحيث لم يكن قبلها (عالم ما سوى الله)، بل نظراً لقدم الفيض الإلهي يكون الكلِّ (العالم) أزلياً.

وتجدر الإشارة إلى أنّ (الكلّ المجموع) هنا هو كلٌّ اعتباريٌّ وليس حقيقياً، لكون مجموعة أفراده (أجزائه) ليسوا مجتمعين في آنٍ واحدٍ، لذا يكون الاعتبار الكلّى حسب الكلّ بما هو كلٍّ ومن ثمّ يسري على الأجزاء. إذن، الكلّ عبارةٌ عن وصفٍ ينطبق مع وصف الأجزاء، وقد أثبتنا أنّ الممكنات حادثةٌ ولكلّ جزءٍ منها نقطة بدايةٍ. إذن، لو كان عالم الإمكان (الطبيعة) أزلياً، فإنّ أجزاءه تتّصف بالحدوث الزماني وذلك لكون الطبيعة ممتزجة بالحركة والزمان.

يقول الشهيد مرتضى مطهّري في هذا الصدد: «لمّا كان الله تعالى موجوداً منذ الأزل، وعالماً منذ الأزل، وقادراً منذ الأزل، وفيّاضاً منذ الأزل؛ فإنّ الفيض والجود والخلق هي أمورٌ لا تنفكّ عنه مطلقاً ... إنّ عنايته موجودةً على الدوام، لذا لا يمكن للعالم أن ينفكّ عنه، فالعالم يعنى فيض الوجود. وبشكلٍ عامٍّ فإنّ العالم لا ينفك عن ذات واجب الوجود، وإثر ذلك لا يمكن

ص: 144

تصوّر أنّ الله تعالى موجودٌ منذ الأزل والعالم غير موجودٍ» ... «لم يكن مع الله شيءٌ مطلقاً، لكنّه تعالى كان منذ الأزل وسيكون إلى الأزل» ... «نحن لا نقول بوجود نقطة بدايةٍ للزمان فسلسلة الحوادث غير متناهيةٍ» (1).

نستنتج ممّا ذكر أنّنا لو قلنا بأزلية سلسلة الممكنات وعدم تناهيها، ومن ثمّ اعتبرنا عالم الطبيعة والممكنات أزلياً وقديماً؛ فهذا الاعتقاد لا يتعارض بتاتاً مع كون العالم حادثاً، إذ قيل إنّ العالم حتّى وإن كان أزلياً وقديماً فهو بحاجةٍ إلى محدِثٍ وواجب الوجود نظراً لطبيعته الإمكانية واتّصافه بالحدوث الذاتي؛ وبما أنّ الوجود أزليٌّ فإنّ حاجته إلى واجب الوجود أزليةٌ أيضاً وسابقةٌ له. وبتعبيرٍ آخر: مهما اتّسع نطاق عالم الإمكان وتزايدت سلسلة الممكنات، فالحاجة إلى واجب الوجود تتزايد وتتواصل من دون انقطاعٍ.

إذن، برهان الحدوث الذي طرحه علماء الكلام يعدّ متقناً على صعيد إثبات حاجة العالم إلى الخالق ومحصّناً أمام الشبهات التي تساق حوله، وذلك بشرط أن يتمّ تفسير الحدوث الذاتي طبقاً لما تبنّاه الفلاسفة.

هناك خلافاتٌ بين الفلاسفة وعلماء الكلام حول مسألة حدوث العالم، لكنّنا لا نخوض في تفاصيلها نظراً لاختصاص بحثنا بعلم اللاهوت وبرهان الحدوث، وهناك عدد من الكتب الكلامية والفلسفية التي تطرّقت إلى بسطها بالشرح والتحليل. ونحيط القارئ الكريم علماً بأنّنا لسنا بصدد إثبات إحدى النظريات وبيان صحّة أو أدلّة الطرفين المطروحة حولها، بل هدفنا هو إثبات عدم تعارض النظرية التي طرحها علماء الفلسفة على صعيد تأييد صحّة الحدوث الذاتي مع برهان الحدوث.

ص: 145


1- مرتضى مطهّري، مجموعه آثار (باللغة الفارسية ) ، ج 10، ص 346 و 403 و 404
*الشبهة الثانية: قِدم عالم المادّة طبق القانون الذي وضعه الكيميائي أنطوان لافوازيه:

أشرنا في برهاني (الإمكان والوجوب) و (الحدوث) إلى أنّ عالم الإمكان - بما في ذلك العالم المادّي - بحاجةٍ إلى علّةٍ ماورائيةٍ بسبب ماهيته الإمكانية واتّصافه بالحدوث والحركة، لكنّ بعض العلماء المادّيين حاولوا نقض هذه الحاجة بزعم أنّ المادّة بذاتها تتّصف بوجودٍ قديمٍ أزليٍّ لكونها موجودةً منذ الأزل، لذا فهي ليست مفتقرةً إلى علّةٍ فاعلةٍ ومن ثمّ تكون غير محتاجةٍ إلى واجب الوجود (الله تعالى).

ولتبرير مدّعاهم هذا استندوا إلى القانون الذي وضعه عالم الكيمياء الفرنسي أنطوان لوران دو لافوازيه (1743م - 1794م)، وفحواه: (المادّة لا تَفنى ولا تُستحدث، بل تتغير من شكل إلى آخر) ، أي إنّ مقدار المادّة ثابتٌ في كلّ ما هو مادّيٍّ، وهذا المقدار لا ينعدم ولا يضاف إليه شيءٌ، فالتغيير الذي يطرأ عليها إنّما فى الشكل فقط (1).

هذه المسألة فى عصرنا الراهن مطروحةً أيضاً على صعيد العلوم التجريبية، ومن جملة ذلك علم الكونيات الحديث (modern cosmology) الذى يعدّ تخصّصاً علمياً جديداً متفرّعاً من علمي الفيزياء والفلك، حيث يدرس الكون ككلٍّ واحدٍ. أحد الأسئلة الأساسية المطروحة في هذا العلم، هو : هل للكون نقطة بدايةٍ أو أنّه كان موجوداً منذ الأزل؟

ص: 146


1- تقي آراني، زندگی وروح (باللغة الفارسية)، ص 2؛ نقلاً عن: علم الكلام، ص 132؛ ماركس و ماركسيسم (باللغة الفارسية)، ص 421

طرح بعض علماء الفيزياء نظرية الحالة المستقرّة (الثابتة) (Steady State theory) التي تعني قدم الكون، لذا يمكن تصنيفها ضمن الأدلّة التي تمسّك بها أصحاب النزعة المادّية.

لقد تأثّر أصحاب الفكر التنويري بهذه النظرية لدرجة أنّ بعضهم عدّ الكائنات (عالم المادّة) العلّة الأولى، كالمفكّر آخوندزاده الذي سنفنّد رأيه في ضمن طيّات البحث.

تحليل الشبهة ونقضها :

نردّ على الشبهة المطروحة أعلاه بالنقاط الآتية:

1 ) عدم قطعية القوانين المطروحة لبيان علل الأشياء:

نحن لا ندّعي بأنّنا متخصّصون في علم الفيزياء ولا نزعم أنّنا نمتلك إلماماً كاملاً بتفاصيل قوانينه كي نبدي رأينا حول صحّة النظريات المطروحة فيه أو سقمها، من قبيل نظرية الحالة المستقرّة أو نظرية الانفجار العظيم ( big bang (، ولكنّنا لو ألقينا نظرة إجمالية على مدوّنات علماء الفيزياء ودقّقنا في آرائهم، لاستنتجنا أنّهم لا يبتّون بقطعية أيٍّ من النظريات المطروحة ولا يقولون بأنّها مبرهنةٌ بالدليل الحاسم، بل إنّ نظرياتهم قد تكون ظنّيةً وقابلة للتفنيد حسب القانون التجريبي الذي طرحه فيلسوف القرن العشرين كارل بوبر (1).

ص: 147


1- للاطّلاع أكثر، راجع: كارل ریموند بوبر، حدس ها و ابطال ها (باللغة الفارسية)؛ شناخت علمي - برداشتي تكاملي (باللغة الفارسية)، ص 41

إذن لا يمكننا نفى نظريةٍ ماورائيةٍ - كنظرية وجود الله تعالى - اعتماداً على قانونِ علميٍّ بحتٍ، نظير القانون الذي وضعه عالم الكيمياء الفرنسي أنطوان لافوازيه.

سنتطرّق في الأبحاث القادمة إلى بيان أنّ وجود الله تبارك وتعالى ينسجم مع القول بالقدم الزماني لعالم المادّيات في ظلّ الحدوث الذاتي، ومن هذا المنطلق ليس هناك أيّ تعارضٍ بين افتراض قدم العالم المادّي وبين وجوده سبحانه، بل حسب الرأي الفلسفى فإنّ وجود البارئ القادر المطلق والفياض ينسجم مع قدم عالم الإمكان.

بعض الفلاسفة الملحدين المعاصرين من أمثال برتراند راسل، يرجّحون حدوث العالم على قدمه ، لكنّهم ينسبون هذا الحدوث إلى الصدفة بدل أن ينسبوه إلى واجب الوجود (1).

2 ) تلازم الحركة والتغيير الحاجة :

إحدى الأُسس التي يتبنّاها أتباع الفكر الديالكتيكي الماركسي، اتّصاف المادّة بالحركة والتغيير (2)، ويترتّب على هذا الكلام أنّ كلّ كائنٍ مادّيٍّ مهما تمادى في الوجود وتجاوز المليارات من السنين ، فهو لا ينفكّ عن خصوصية الحركة والتغيير ؛ لذا فهو دائماً بحاجةٍ إلى فاعلٍ في هذا المجال.

ص: 148


1- برتراند راسل، جهان بيني علمي (باللغة الفارسية)، ص 114
2- Dialectical materialism المادّية الجدلية، ويطلق عليها أيضاً (المادّية الديالكتية) : تمثّل الشطر الفلسفي في النظرية المادّية التي أوجدها كارل ماركس، وقد عرّفها على أنّها: «علم قوانين حركة المادّة» مشيراً إلى أنّ هذا الكون في حركةٍ دائبةٍ ومستمرةٍ

وعلى هذا الأساس، كلّ وجودٍ مادّيٍّ قديمٍ (أزليٍّ) يفترضه الماركسيون لا مناص له من خصوصيته المادّية فهو وجودٌ خاصٌّ مادّيٌّ)، وهذه الخصوصية هي الحركة والتغيير المتلازمان مع الفقر والحاجة، ومن ثمّ ليس هناك أيّ وجودٍ من هذا النمط في غنىَ عن العلّة الخارجية؛ لذلك اتّفق علماء الكلام المسلمون على القول بحدوث الأجسام(1).

3 ) الإمكان معيارٌ للحاجة :

الإمكان الذاتي للكائنات المجرّدة والمادّية على حدٍّ سواء، دليلٌ صريحٌ على فقرها وحاجتها، لذلك استدلّ علماء الكلام على وجود الله تعالى من منطلق حدوث عالم الإمكان، في حين أنّ الفلاسفة اعتبروا الوجود معياراً لحاجة الماهية الإمكانية فى المرحلة الأولى، ومن ثمّ قالوا بأنّ هذا الإمكان يقتضي تدخّل علّةٍ خارجيةٍ، أي إنّ الإيجاد يوجب حدوث الماهية المادية.

مبادئ الفلسفة الإسلامية تتبنّى قدم العالم المادّي وليس الوجود الخاصّ المادّي، وذلك لأنّ هذا النمط من الوجود ممتزجٌ مع الحركة والتغيير والإمكان الذاتى وليس من شأنه أن يكون قديماً ذاتياً، فالحركة تطغى على ذات الجسم وجوهره ليتّصف ب_ (الحركة الجوهرية)، وهي لا تختصّ بحركة الأعراض كالمكان والوضع والكمّ والكيف. يشار هنا إلى أنّ كلّ وجودِ خاصٍّ مادّيٍّ، مستندٌ إلى وجودٍ مادّيٍّ آخر سابقٍ له، ومن هذا الحيث فهو حادثٌ زمانىٌّ، لكن من الممكن أن تتواصل العلل السابقة المادّية للعالم المادّي من دون

ص: 149


1- للاطّلاع أكثر، راجع: الخواجه نصير الدين الطوسي، كشف المراد، ص 170؛ الخواجه نصير الدين الطوسي، قواعد العقائد، ص 442 صدر المتألّهين، الأسفار الأربعة، ج 7، ص 311

انقطاعٍ لأنّها تناظر العلل المُعدّة، وهذا التسلسل لا ضير فيه؛ وبما أنّ وجود الله تعالى قديمٌ فأفعاله أيضاً تتّصف بالقدم نوعاً ما، لذا لا يمكن البتّ بكون عالم الإمكان حادثاً زمانياً (1).

استناداً إلى التفاصيل التي ذكرت نقول بما أنّ الماهية الإمكانية لا تنفكّ عن الوجود المادّي وتجعله متّسماً بالإمكان - حتّى وإن قلنا بأنّه قديمٌ زمانيٌّ - فهو في جميع الأحوال مفتقرٌ إلى علّةٍ خارجيةٍ لكي تنتهي سلسلته العلّية إلى واجب الوجود (علّة العلل).

وعلى أساس قاعدة الإمكان الذاتي، يتّضح وهن القول بكون الوجود المادّي دائمياً وليس الفناء من شأنه، لأنّه من خلال احتفاظه بماهيته الإمكانية يبقى مفتقراً إلى العلّة الفاعلة (المبقية) ما دام موجوداً؛ وكما قيل في الحكمة المتعالية فإنّ الوجود الإمكاني المادّي هو وجودٌ افتقاريٌّ يفنى بمجرّد انقطاعه عن علّته المؤثّرة فى بقائه ومن ثمّ إن كان ارتباطه بهذه العلّة متواصلاً فهو لا يفنى ولا ينعدم من الوجود.

طبقاً لهذا التفسير يتّضح لنا مدى ضعف رأي المفكّر آخوندزاده الذي أشرنا إليه في مستهلّ البحث والذي عدّ الوجود المادّي واجب الوجود، وهو يعدّ أوّل من نحا هذا المنحى؛ لذا يمكن اعتبار رأيه عبثاً لكونه ينمّ عن جهله بالمبادئ والأصول الفلسفية المتعارفة بين العلماء، إذ إنّ وجود المادّة محدودٌ ومركّبٌ، ممّا يعني أنّه ذو ماهيةٍ إمكانيةٍ، ومن البديهي أنّ الإمكان يتعارض مع

ص: 150


1- للاطّلاع أكثر ، راجع: ابن سينا، الهيات الشفاء، ص 265 - 266 ، المقالة السادسة، الفصل الثاني؛ صدر المتألّهين، الأسفار الأربعة، ج 7، ص 7 و 205 و 300 - ج 2، ص 138

مفهوم (واجب الوجود).

الإمكان هو عدم استقلال الممكن بذاته ويدلّ على محض حاجةٍ وافتقارٍ إلى الوجود الواجب المستقلّ بذاته والغنيّ عن كلّ شيءٍ.

ربّما اختلطت الأمور على هذا الرجل ولم يميّز بين واجب الوجود بالذات وواجب الوجود بالغير، فالمادّة وجميع الممكنات تصبح بعد خلقتها واجبة الوجود بالغير، أي إنّ وجودها بلغ درجة الوجوب بتأثيرٍ من العلّة الفاعلة، لكنّ هذا لا استقلاله يعني عن الغير.

إذن، المادّة واجبة الوجود، لكن ليس بذاتها، بل بغيرها وهذا الأمر بنفسه دليلٌ جلىٌّ على حاجتها إلى علّةٍ فاعلةٍ ماورائيةٍ.

وأمّا واجب الوجود بالذات فهو وجودٌ بسيطٌ وغير متناهٍ، لذا فهو فاقدٌ للماهية. الماهية تعرّف بأنّها (ما يقال في جواب ما هو) أى إنّها حلول الشيء في وعاء الجنس والفصل، ولكن بما أنّ وجود الله عزّ وجلّ بسيطٌ وغير متناهٍ فليس له حدٌّ، ومن هذا المنطلق يستحيل تعريفه ماهوياً.

* الشبهة الثالثة : المادّة واجبة الوجود :

يدّعي بعض المادّيين أنّ وجود المادّة ثابتٌ ومستغنٍ عن أيّة علّةٍ كانت، لكنّه يحتاج إلى العلّة في حركة المادّة المتلبّسة فيه وانتقالها من مكان إلى آخر، والمفكّر آخوندزاده هو أحد المؤيّدين لهذا الرأي لأنّه متأثّر بالفكر الماركسي، لذا اعتبر الماهية المادّية بأنّها واجبة الوجود كما ذكرنا آنفاً، واستدلّ على رأيه بلزوم التسلسل المنطقي فيما لو قلنا بحاجة وجود المادّة إلى العلل، ومن ثمّ إن

ص: 151

قلنا باستغنائها عن العلّة لا یرد هذا الإشكال (1) . وذهب بعضهم إلى القول بضرورة وجود ما هو مادّي، ومن ثمّ اعتبروه قديماً (2).

هذه الشبهة تضرب بجذورها في القرون السالفة حيث طرحت من قبل الدهريين الذين قالوا بقدم العالم، وقد جادلوا الأئمّة المعصومين علیهم السلام وطلبوا منهم براهين على حدوث العالم، ومن أبرز رؤوسهم ابن أبي العوجاء الذي جادل الإمام الصادق علیه السّلام(3).

تحليل الشبهة ونقضها :

لنقض الشبهة المطروحة أعلاه، نقول:

1 ) إن أراد أصحاب هذه الشبهة إثبات كون المادّة واجبة الوجود عن طريق ادّعاء قدمها وأزليتها، فوهنها قد اتّضح في نقد الشبهة الثانية، إذ قلنا إنّ أزلية الوجود الخاصّ المادّي تختلف عن أزلية العالم المادّي، لأنّ الوجود المادّي بذاته ليس من شأنه أن يتّصف بالقدم نظراً لطروء الحركة والتغيير والحدوث والإمكان عليه.

ص: 152


1- من جملة ما قاله المفكّر آخوندزاده: «الأشياء في تنوّعها وانتقالها من نوع إلى آخر ومن حالةٌ إلى أخرى، مفتقرةٌ إلى سببٍ، لكنّ ماهيتها ليست مفتقرةً ... لذا فإنّ ماهية الأشياء واجبةٌ، والكائنات التي هي جملة الأشياء لا يمكن اعتبارها ممكنة الوجود من حيث الماهية وليست محتاجةً إلى وجودٍ واحدٍ يتّصف بالوجوب؛ فالعدم لم يسبقها وسوف لا يطرأ عليها، وليس لماهيتها أوٌّل ولا آخرٌ». فتح علي آخوند زاده، مقالات فلسفي (باللغة الفارسية)، ج 2، ص 46
2- حسام الآلوسي، دراسة نقدية لنظرية الفيض، مجلّة (المورد)، ج 7، العدد الثاني، ص 169-171
3- للاطّلاع أكثر ، راجع: محمّد بن يعقوب بن إسحاق الكليني، الكافي، ج 1، ص 77

2 ) إن أراد أصحاب هذه الشبهة إثبات كون المادّة واجبة الوجود عن طريق نفس الوجود المادّي، يُرد عليهم أن لا دليل يثبت صحّة هذا الادّعاء، ناهيك عن أنّ (الوجود) بما هو وجود ينسجم مع الممكن والواجب، وأمّا ماهية الممكن فهى تظهر في حيّز الوجود بعد توفّر الشروط والعلل اللازمة لذلك.

تجدر الإشارة هنا إلى أنّ الوجود الواجب الذي هو أعلى مراتب الوجود، يكون واجب الوجود بالذات بالمعنى الحقيقي للكلمة، أي: إنّ وجوده نابعٌ من ذاته ولم يكتسبه من غيره؛ في حين أنّ الوجود المادّي يكتسب وجوده من علّةٌ خارجيةٌ، وإن قيل إنّه واجب الوجود فهذا الوجوب ليس ذاتياً، بل مكتسبٌ من الغير. مع أنّ المبادئ الفلسفية تؤكّد على أنّ الممكن يتّصف بالوجوب نظراً لإيجاب علّته، إلا أنّ وجوب الوجود المادّي هو في الواقع واجبٌ بالغير كما ذكرنا، حاله حال الطعام الدسم الذي اكتسب دسمه من الزيت.

وفي الختام نقول: إنّ الخلط بين مفهومي واجب الوجوب بالذات وبالغير، هو الذي أوهم بعضهم وجعلهم يطرحون الشبهة أعلاه.

*الشبهة الرابعة : عدم إمكانية خلقة الشيء من العدم :

إحدى الشبهات القديمة المطروحة حول الخلقة هي كيفية خلقة العالم (1)، وقد طرحت ثلاث فرضياتٍ حول هذا الأمر:

ص: 153


1- محمّد الغزالي، تهافت الفلاسفة، المسألة الثالثة، ص 85

الفرضية الأولى : خلقة العالم من العدم :

هذه الفرضية تقول بأنّ الله عزّ وجلّ أوجد العالم من العدم، وهي تنسجم مع ما ورد في النصوص الدينية وآراء علماء الكلام الذين يفسّرون الخلقة والإبداع والإحداث والفعل بالإيجاد من العدم، ويقولون بضرورة سبق كلّ فعلٍ بعدمٍ.

المؤاخذة التي تطرح على هذه الفرضية هي أنّ العقل حكم بعدم انفكاك ذاتية الشيء عنه ولا يراها من سنخ الأعدام، لأنّ العدم ليس من شأنه الظهور إلى ساحة الوجود وإلا تحقّق التناقض؛ كما أنّ العكس صحيحٌ، فالموجود لا يمكن أن يتحوّل إلى عدمٍ. وعلى هذا الأساس، يقال إنّ: العقل لا يمكنه تصوّر إيجاد شيءٍ من العدم (1).

يُشار هنا إلى أنّ بعض الملحدين برّروا نزعتهم الإلحادية بذريعة عدم قدرة الإنسان على طرح صورةٍ واضحةٍ للخلقة (2)، لذا نجد الفيلسوف برتراند راسل عدَّ خلقة العالم من العدم بواسطة الله عزّ وجلّ أمراً غير ممكن وخارجاً عن القوانين العلية والتجريبية (3).

ص: 154


1- www.kaafar.netfirms.com/baad/hasti.htm
2- للاطّلاع أكثر، راجع: حسام الآلوسي، دراسة نقدية لنظرية الفيض، مجلّة (المورد)، ج 7، العدد الثاني، ص 165 - 170
3- قال برتراند راسل: «هل بإمكاننا الاستناد إلى حدوث العالم وتناهيه لاستنتاج أنّه قد خلق بيد خالقٍ ؟ إذا راجعنا القواعد الخاصّة بالاستنتاج العلمي الصحيح، نجد أنّ الإجابة كلا... استنتاج وجود الخالق يناظر استنتاج إحدى العلل، والاستنتاجات العلّية في المجال العلمي ليست مسوّغةً إلا إذا كانت ناشئةً من قوانين علّية، والخلقة من العدم قد ثبت امتناعها بالتجربة». برتراند راسل، جهان بيني علمي (باللغة الفارسية)، ص 114

الفرضية الثانية: الصدفة :

تقول هذه الفرضية: إنّ العالم خلق من العدم عن طريق الصدفة وليس بواسطة الله سبحانه وتعالى أى: إنّه أوجد نفسه بنفسه؛ وكما رفض برتراند راسل الفرضية الأولى فقد رفض هذه الفرضية أيضاً وعدّها ممتنعةً وتتعارض مع الأصول المنطقية، ولكن بما أنّه يعتبر نظرية الحدوث أقرب للعقل من نظرية القدم، نجده يرجّح حدوث العالم على ضوء فرضية الصدفة (1).

الفرضية الثالثة: قِدم العالم :

فحوى هذه الفرضية أنّ العالم قديمٌ وأزليٌّ وليس محتاجاً إلى خالقٍ، أي: ليس من الضرورة تصوّر محدِثٍ وخالقٍ له.

استناداً إلى ما ذكر ، فالشبهة المطروحة هنا تتمحور حول أنّ الفرضية الأولى التي تنطبق مع برهان الحدوث ورأي علماء اللاهوت، لا تنسجم مع حكم العقل السليم والتصوّر الصائب؛ لذا يمكن تفنيد برهان الحدوث والمحدِث (واجب الوجود).

تحليل الشبهة ونقضها:

الخلقة لا تقتصر على الفرضيات الثلاثة التي ذكرت، بل هناك فرضيةً رابعةٌ تحت عنوان (تجلّي وتنزّل الوجود) وهي من النظريات التي ابتدعها العرفاء، في حين أنّ أصحاب الشبهة لم يذكروها، حيث سنتطرّق إلى بيانها بعد إثبات نظرية الخلقة من العدم فيما يأتي:

ص: 155


1- برتراند راسل، جهان بيني علمي (باللغة الفارسية)، ص 114

أوّلاً: نظرية الخلقة من العدم :

المؤاخذة التي ذكرت حول فرضية الخلقة من العدم هي تعارضها مع حكم العقل والأصول المنطقية، لكنّنا نستنتج من ضعف قدرة الذهن البشري وعجز النفس الإنسانية عن إدراك الحقائق بطلان هذه المؤاخذة، حيث نقول:

الذهن الإنساني له القابلية على القيام بنوعين من النشاطات الفكرية، النوع الأوّل والأهمّ على هذا الصعيد هو تصوّر الأشياء الخارجية ورسمها في قوّة الإدراك والذاكرة بحيث يمكن استعادتها وتحليلها عند الضرورة. في هذا النشاط الذهني لا يتحقّق أيّ نمطٍ من الفعل أو الخلق.

وأمّا النوع الثاني فهو صياغة صور ذهنية مختلفة لم تكن قبل ذلك موجودةً في الخارج، فعلى سبيل المثال يمكن للذهن تصوّر جبل من ذهبٍ وحصانٍ مجنّحٍ، وما سوى ذلك من أمورٍ ممتنعةٍ لم يشاهدها أحدٌ في ساحة الوجود.

قد يقال: إنّ تصوّر الحصان المجنّح لا يعدّ خلقاً من العدم، بل مجرّد تركيبٍ بين حصانٍ وجناحين، لأنّ كلا الأمرين موجودان في الواقع؛ لكنّنا نردّ على هذا الكلام بأنّ الذهن في هذه الحالة أثبت قدرته على خلق صورٍ جديدةٍ لأشياء لم تكن موجودةً، فصورتا جبل الذهب والحصان المجنّح لم تكون موجودتين فيما سبق؛ وإثر ذلك لا يمكن لهذه الشبهة أن ترد على تصوّر الأمور الكلّية والممتنعات. إضافةً إلى ما ذكر فإنّ النفس الإنسانية بإمكانها تصوّر الصور المجرّدة التي لا تنتزع من الخارج، أي لها القابلية على أن توجدها في الذهن ؛ وفي هذه الحالة لا تطرح شبهة تركيب الصورة.

ص: 156

هناك سؤالان يطرحان على هذا الصعيد وهما: كيف خلقت الصور التي يصوغها الذهن؟ ألا يعدّ هذا النشاط الذهني خلقةٌ للشيء من العدم؟

قدرة العقل على إبداع صور ذهنية - وإن كانت محدودةً ولا تعكس إلا غيضٍ من عظمة الفيض الإلهى - من شأنها إلى حدٍّ كبيرٍ الأخذ بأيدينا لمعرفة تلك الجوانب الخفية علينا في مجال الخلقة، وقد روي عن المعصوم قوله: «مَن عرف نفسَه فقد عرف ربَّه» (1).

فضلاً عمّا ذكر، فالفلاسفة والعرفاء أشاروا إلى مسائل في غاية الدقّة على صعيد وصف قدرة النفس، ومن جملة ذلك قدرتها الفائقة على التهذيب والتكامل وقابليتها على خلق صورتها الذهنية في أرض الواقع(2)، إذ قال المتألّه الحكيم صدر الدين الشيرازي: «إنّ الله قد خلق النفس الإنسانية بحيث يكون لها اقتدارٌ على إيجاد صور الأشياء المجرّدة والمادّية .... وخلق النفس مثالاً لذاته وصفاته وأفعاله، فإنّه تعالى منزّهٌ عن المثل لا عن المثال ... بعض المتجرّدين عن جلباب البشرية من أصحاب المعارج - فإنّهم لشدّة اتّصالهم بعالم القدس ومحلّ الكرامة وكمال قولهم - يقدرون على إيجاد أمورٍ موجودةٍ

ص: 157


1- محمّد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 2، ص 32؛ عبد الواحد الآمدي، غرر الحكم ودرر الكلم، ج 4 ، ص 102
2- قال أحد العرفاء: «والعارف يخلق بالهمّة ما يكون له وجودٌ من خارج محلّ الهمة، ولكن لا تزال الهمّة تحفظه». ابن العربي، فصوص الحِكم (مع تعليقات أبي العلاء العفيفي)، الفصّ الإسحاقي، ص 88؛ ابن سينا؛ النفس من كتاب الشفاء، ص 5 و 272؛ صدر المتألّهين، الأسفار الأربعة، ج 1، ص 264؛ داوود قيصري، شرح فصوص الحكم (باللغة الفارسية)، ص 197؛ ابن العربي، الفتوحات المكّية، ج 1، ص 160؛ حسن زاده الآملي، سرح العيون في شرح العيون، ص 731 و 761

في الخارج مترتبة عليها الآثار » (1).

كما يعتقد العرفاء بمسألة (طيّ الأرض)، بل إنّ بعضهم تمكّن من ذلك فقطعوا مسافاتٍ شاسعةً في زمانٍ قصيرٍ؛ والواقع أنّ كيفية تحقّق هذا الأمر مجهولٌ بالنسبة إلى الآخرين، لكن هناك نظريةٌ تقول بأنّ العارف فى هذه الحالة يجعل الصورة الجسمية لبدنه في نقطة مبدأ الأعدام ثمّ يوجدها في نقطة ٍ أخرى(2) . إذن، استناداً إلى ما ذكر فإنّ النفس الإنسانية لها القابلية على خلق الصور الذهنية وسائر المراتب التي هي أعلى منها وهذا الأمر بذاته شاهدٌ جليٌّ على صحّة نظرية (إمكان خلقة الشيء من العدم) ومن المؤكّد أنّ الله تعالى العلى القدير بإمكانه القيام بذلك نظراً لقدرته المطلقة التي تفوق التصوّر؛ وعلى هذا الأساس تنتفي الفرضية الواهية التي تزعم امتناع الخلقة من العدم عقلا.

ثانياً: الخلقة تعني تنزّل الوجود وتجلّيه :

لا ريب في أنّ التأمّل بواقع الخلقة على وفق المفاهيم العرفانية يعدّ أحد

ص: 158


1- صدر المتألّهين، الأسفار الأربعة، ج 1، ص 6 و 264 - ج 2، ص 275
2- المرحوم ميرزا علي آغا القاضي قدّس سرّه هو أحد أبرز العرفاء المعاصرين وقد تتلمذ على يده في العرفان العلامة محمّد حسين الطباطبائي صاحب تفسير الميزان. نقل العلامة أنّ أستاذه قد تمكّن من طيّ الأرض، فكان يسافر من النجف إلى كربلاء ومن ثمّ إلى مدينة مشهد. للاطّلاع أكثر، راجع: محمّد الحسيني الطهراني، مهر تابان (باللغة الفارسية)، ص 371. وقد سئل العلامة الطباطبائي: هل أنّ طيّ الأرض يعني إعدام الجسم في المكان الأوّل وإيجاده في المكان الآخر ؟ فأجاب: «نعم، حقّاً هكذا». المصدر السابق، ص 377. راجع أيضاً : ابن العربي، الفتوحات المكّية، ج 1، ص 160؛ حسن زاده الآملي، سرح العيون في شرح العيون، ص 761

السُبل الكفيلة في تفسير كيفيتها علماء الكلام وسائر الناس يعتبرون الخلقة إيجاد الشيء من العدم، بمعنى أنّ العدم شرطٌ أساسيٌّ فيها.

طرح بعضهم فرضيةً رابعةً حول كيفية الخلقة باعتبار أنّها شكلٌ من التجلّي والتنزّل للوجود الإلهي، ومن هذا المنطلق لم يكترث بعض العرفاء والفلاسفة بقيد (العدم) وأعرضوا عنه في نظريتهم(1)، إذ قالوا بأنّ الله تعالى أبدع الكون إبداعاً، وأكّدوا على أنّ فهم كُنه هذا الإبداع يقتضي إلماماً بالمبادئ والتعاليم العرفانية عبر السير والسلوك النفساني وبلوغ درجاتٍ رفيعةٍ من مقامات الكشف والشه ود .على الرغم من قصورنا عن بلوغ هذه الدرجة الرفيعة من المعرفة، لكنّنا نحاول فيما يأتي بيان هذا الأمر في كلامٍ مقتضبٍ علّنا نفي بالغرض:

1 ) الوجود الحقيقي الكامل والبحت (الخالص) مقتصرٌ على واجب الوجود (الله تعالى) فحسب ولا يسري إلى غيره بتاتاً، وعلى أساس مبدأ (وحدة الوجود) الذي يطرحه العرفاء فإنّ الممكنات لا تتمتّع بوجودٍ حقيقيٍّ كاملٍ وبحتٍ، بل تكتسب وجودها في رحاب تجلّي الإله العظيم.

إذن، أساس الوجود الإمكاني كائنٌ في علم الله تعالى بنحوٍ كاملٍ وبحتٍ(2).

ص: 159


1- للاطّلاع أكثر ، راجع: الأسفار الأربعة، ج 3، ص 18
2- أساس وعين كلّ وجودٍ ممكنٍ - برأي العرفاء - متحقّقٌ بنحوٍ بسيطٍ في العلم الإلهي، وكلّ واحدٍ من هذه الأعيان يقتضي وجوداً خاصّاً به، وهو ما يصطلح عليه ب_(الأعيان الثابتة). للاطّلاع أكثر، راجع: داوود قيصري، شرح فصوص الحكم (باللغة الفارسية)، الفصّ الإبراهيمي

استناداً إلى مبدأ (التشكيك فى الوجود) اعتبر الفلاسفة وجود الممكنات حقيقياً، لكنّهم ذهبوا إلى القول بكونه ذا مرتبةٍ ضعيفةٍ للغاية في مراتب واجب الوجود، لذا كلّما ابتعدت سلسلة الوجود عنه تعالى فالموجود ينتابه ضعفٌ وجوديٌّ أكثر ممّا يزيد من محدوديته ويقرّبه من درجة العدم؛ ولكنّ أساس وجود جميع الممكنات متحقّقٌ ابتداءً في وجوده تعالى على نحو وجودٍ بسيطٍ، ثمّ تنزّل هذا الوجود إلى درجاتٍ أدنى بعد أن اكتسب الفيض الإلهي ليتجلّى في هيئة موجودٍ ممكنٍ، وهكذا سار سيراً نزولياً في مراتب وجودية (1). قال تعالى في كتابه الكريم: «وَإنْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَر مَعْلُومٍ» (2) .

2) ضرب العلماء المسلمون الشمس مثلا لتقريب المعنى المشار إليه أعلاه، أي الوجود الإمكاني بالنحو البسيط في الذات الإلهية؛ فنورها الذي يسطع في الأرض منبثقٌ من ذاتها، وهذا النور مختلفٌ في الشدّة والضعف من مكانٍ إلى آخر.

وهناك مثالٌ آخر يمكن الاستشهاد به في هذا المضمار، وهو قلم الرصاص، فالرسام الماهر بإمكانه رسم أشكالٍ رائعةٍ ومذهلةٍ بهذا القلم الذي يؤثّر على الورق باللون الأسود الداكن؛ وبالطبع مهما تعدّدت وتنوّعت رسومه لكنّ مصدرها يبقى واحداً، وهو هذا القلم الذي نقشها. وحسب مبادئ علم الفلسفة فهذه الرسوم المنوّعة التي يصطلح عليها (وجود تفصيلي) لم تكن

ص: 160


1- للاطّلاع أكثر، راجع: عبد الله جوادي الأملي، رحیق مختوم (باللغة الفارسية)، ج 3، ص 535
2- سورة الحجر، الآية 21

موجودةً في رأس القلم، وإنّما هي حادثةٌ وجديدةٌ؛ وكذا هو الحال بالنسبة إلى الممكنات، فهي لم تكن موجودةً في الذات الإلهية، بل أوجدتها القدرة الإلهية.

الصور المنقوشة بقلم الرصاص هي في الحقيقة آثارٌ سوداء تجلّت من خلال حركة رأسه على الورق واكتسب سوادها (وجودها) من هذه العملية، وهذا السواد في الأساس مكنون في ذات القلم، وهو ما يصطلح عليه الفلاسفة (الوجود المجمل) أو (البسيط).

الرسّام الماهر يعتمد على إبداعه وحذقه فيحرّك القلم بيده ويخلق صوراً وأشكالاً جذّابةً تثير دهشة الناظر وبديهي أنّ حركة اليد أثناء الرسم تعدّ عدماً بالنسبة إلى هذه الرسوم. وهكذا بالنسبة إلى أصل وجود الممكنات، كانت كامنة ًفي الذات الإلهية ومن ثمّ أبدعها الإله العظيم بقدرته وحكمته، أي: إنّه أوجد صوراً متنوّعةً على هيئة كائناتٍ ممكنة الوجود.

3 ) بما أنّ الله تعالى ذو وجودٍ حقيقيٍّ كامل وصاحب قدرةٍ تفوق الوصف، فهو يفيض كمالاته اللامتناهية على الكائنات ويظهرها بإرادته، أي: إنّها في الأساس موجودةٌ في ذاته؛ وقد ورد في الحديث القدسي: «كنتُ كنزاً مخفياً، فأحببتٌ أن أُعرف، فخلقتُ الخلقَ لكي أُعرف» (1).

خالق الكون ومصوّره العظيم نزّل كمالاته العليا إلى عالم الممكنات، وهذا التنزّل بالتأكيد ليس من العدم بل هو ظهورٌ من وجودٍ مكنونٍ ومكتومٍ بالنسبة إلى الممكنات؛ وبرأي العرفاء فإنّ الوجود هو تجلّي لمظاهر الكمال الإلهى، وهذا الرأي منبثقٌ من كلام أمير المؤمنين وسيّد الموحّدين علیه السّلام، حيث

ص: 161


1- للاطّلاع أكثر، راجع: السيّد حيدر الآملي، المقدّمات من كتاب نصّ النصوص، ص 38؛ محمّد باقر المجلسى، بحار الأنوار، ج 84 ، ص 198 و 344

قال: «الحمدُ للهِ المتجلّي لخلقهِ بخلقهِ» (1) . وهذا التجلّي فُسّر في إطار كيفية خلقة الكائنات.

بناءً على ما ذكر فإنّ خلقة الكون ليست نابعةً من العدم كي يعترض بعضهم ويستشكل على كيفية إيجاد ما ليس من شأنه الوجود (العدم)، بل هو تنزّل الوجود الإلهي إلى مرتبةٍ أضعف وتجلّي الذات المباركة على شكل وجودٍ يتّصف بالإمكان.

لقد ساق العرفاء تعابير ومصطلحات عديدة لبيان كيفية إفاضة الوجود الإلهي على الكائنات، من قبيل (مقام الأحدية) و (مقام الواحدية) و (مقام الصفات) و (الأعيان الثابتة) و (الفيض الأقدس) و (الفيض المقدّس). الحديث عن هذه التعابير وبيان تفاصيلها بحاجةٍ إلى تأليفٍ مستقلٍّ(2)، لذلك لا يسعنا المقام هنا ونكتفي بما قاله الشيخ عبد الله جوادي الأملي في هذا الصدد: «الإيجاد لا يعني أنّ ما يتمّ إيجاده كان عدماً محضاً ثمّ ظهر إلى ساحة الوجود، كما أنّ الإعدام لا يعني كون الشيء موجوداً وبعد ذلك يصبح عدماً محضاً؛ بل إنّ حقيقة الأمرين هي (الإظهار ) و (الإخفاء). في الإيجاد يفيض الله تعالى

ص: 162


1- السيّد الرضي، نهج البلاغة الخطبة رقم: 108
2- قال العارف السيّد حيدر الآملي: «فمجعولية الحقائق والمظاهر إلى الخارج تكون بظهور الفاعل (المطلق) بصورتها أي بجعلها موجودةً في الخارج، كقوله تعالى: (كُنْ فَيَكُون) لأنّ الضمير فيه عائدٌ إلى الشيء الموجود في العلم المعدوم في العين». السيّد حيدر الآملي، جامع الأسرار ومنبع الأنوار ، ص 410 و 681؛ السيّد حيدر الآملي، المقدّمات من كتاب نصّ النصوص، ص 438 - 470 ؛ السيّد جلال الدين الآشتياني، شرح مقدّمة قيصري (باللغة الفارسية)، ص 155 . راجع أيضاً الشروح التي دوّنت حول فصوص الحكم لمحيي الدين ابن العربي

الوجود على ما كان مكنوناً في عالم الغيب ومخزونه، فيظهره من نطاق الغيب ببركة الفيض المنبسط والأمر الواحد (وَما أَمْرُنَا إِلَّا واحِدَةُ) (1) ، وبعد إظهار الكون يختفي ذلك الوجود الأصيل لتحيا الكائنات محجوبةً عنه، أي: إنّ الخلق في هذه الحالة عبارةٌ عن إسدال ستارٍ على أنظار المخلوقات لتبقى مخازن الغيب بين يديه تعالى مصونةً من التغيير والتحوّل »(2).

إذن، خلقة عالم الممكنات استناداً إلى ما ذكر هي خلقةٌ إمكانيةٌ بالكامل وليست ممتنعة عقلا .

ثالثاً: عدم التلازم بين الجهل والامتناع :

أشرنا آنفاً إلى صورةٍ عقلانيةٍ حول خلقة العالم، ولكن إن اعترض أحدٌ على ذلك فغاية ما يمكننا قوله إنّنا لا نعلم ما إن كانت هذه الخلقة من العدم أو غيره؛ ولكنّ جهلنا هذا لا يعدّ وازعاً للقول بامتناع الخلقة من العدم.

رغم التطوّر الكبير الذي شهدته العلوم التجريبية، إلا أنّ العلماء ما زالوا جاهلين بأسرار الطبيعة وحقائقها، فهم لا يمتلكون حتّى الآن معلومات كافية عن ماهية نواة الذرّة وحقيقتها، وهذا الأمر بكلّ تأكيدٍ ناشئٌ من جهلهم وعجزهم العلمي رغم تطوّر التقنية المادّية الحديثة. وكذا هو الحال بالنسبة إلى خلقة العالم، فالبراهين العقلية - كبرهان الحدوث وبرهان الإمكان والوجوب - تثبت بضرسٍ قاطعٍ حاجة عالم الممكنات إلى واجب الوجود، ومن البديهي أنّ جهل الإنسان بكيفية الخلقة لا يعني سقم هذه البراهين وبطلانها.

ص: 163


1- سورة القمر، الآية 50
2- عبد الله جوادي الآملي، رحيق مختوم (باللغة الفارسية)، ج 3، ص 535

البرهان الرابع: برهان الحركة:

البرهان الرابع: برهان الحركة:

قبل أن نتطرّق إلى بيان معنى برهان الحركة، نسلّط الضوء على بعض المواضيع المرتبطة به :

1 ) ماهية الحركة:

1 ) ماهية الحركة (1):

التعريف الشائع للحركة هو الانتقال من مكانٍ إلى آخر، وهو تعريفٌ صحيحٌ لكنّه ناقصٌ لكونه يشمل الحركة المكانية فقط، وهي التي تعني التي تعنى الأينية. إضافةً إلى ذلك، هناك صورٌ عديدةٌ للحركة، فتغيّر لون التفّاح من الأخضر إلى الأحمر أو الأصفر مثلاً هو نوعٌ من الحركة، وهذه الحركة يطلق عليها (حركة في الكيف)؛ كما أنّ نموّ الكائنات الحيّة من بشر وحيواناتٍ ونباتاتٍ نوعٌ من الحركة، وهي التي يقال لها (حركة في الكم)؛ وأيضاً دوران الكرة الأرضية حول نفسها هو نوعٌ آخر من الحركة، وهو ما يسمّى ب_ (الحركة الوضعية).

إذن، هناك أربع صورٍ للحركة وبالمصطلح الفلسفي (للحركة أربع مقولاتٍ)، هي الأين والكيف والكمّ والوضع؛ وهي تطرأ على الأجسام، أي: إنّها عَرَضُ عليها. ومن الجدير بالذكر هنا أنّ الفلاسفة القدماء قيّدوا حركة الأجسام بهذه المقولات الأربعة ولم يؤيّدوا مبدأ الحركة الجوهرية (2).

العلوم التجريبية في عصرنا الراهن شهدت تطوّراً واسعاً على مختلف الأصعدة، فعلم الفيزياء الحديث اكتشف حركة الذرّة والإلكترون والنيوترون

ص: 164


1- للتعرّف أكثر على ماهية الحركة، راجع: صدر المتألّهين، الأسفار الأربعة، ج 3، ص 75
2- للاطّلاع أكثر، راجع: ابن سينا، طبيعيات الشفاء، الفنّ الأوّل للطبيعيات، المقالة الثانية، الفصل الثالث

حول النواة، وهذه الحركة من نوع الأين والوضع ؛ وقد أثبت العلماء أنّ سرعة إلكترون ذرّة الهيدروجين تضاهئ 3000 كم في الثانية، وسرعة حركة إلكترون ذرّة اليورانيوم تبلغ 2000 إلى 160000 كم في الثانية (1).

إذن، طبقاً لما ذكر قد لا تبقى ضرورةً لتعريف الحركة لأنّ الإنسان يشعر بها دائماً ، و مع ذلك فقد عرّفها الفلاسفة بأنّها (التغيير التدريجى) (2) و (الخروج التدريجي للشيء من القوّة إلى الفعل) و (الكمال الأوّل الموجود بالقوّة من حيث كونه بالقوّة) (3). اللون الأحمر للتفاحة على سبيل المثال، هو كمالٌ موجودٌ فى التفاحة الخضراء الأولى (بالقوّة)، وحينما يصل إلى درجة الفعلية يصبح كمالاً (عندما تصبح التفاحة حمراء)؛ وهذا التغيير تدريجىٌّ

ص: 165


1- للاطّلاع أكثر، راجع: بییر روسو، از اتم تا ستاره (باللغة الفارسية)؛ آزمايش هاي اتمي (باللغة الفارسية)؛ منوتشهر بهرون، ماده انرژي وجهان هستي (باللغة الفارسية)، ص 72-90 ؛ أحمد صفائي، علم كلام (باللغة الفارسية)، ج 1، ص 134
2- التغيير الحاصل في عالم المادة على قسمين، القسم الأوّل تدريجيٌّ، وهو الذي يعبّر عنه بالحركة؛ وأمّا القسم الثاني فهو يحدث دفعةً واحدةً (تغيّر دفعي) كتحوّل الماء إلى بخار عند الغليان، حيث يحدث ذلك دفعةً واحدةً ويطلق عليه (الكون والفساد). في القسم الأوّل من الحركة ليست هناك فاصلةٌ من قبيل السكون، ولكن في القسم الثاني هناك سكونٌ. ومثال ذلك مؤشّر الثواني في الساعة، فحينما يدور هذا المؤشّر من دون توقّفٍ، فهذه حركةٌ، ولكنّه إن توقّف ثمّ دار إلى مسافةٍ أخرى فهذه العملية ليست حركة بسبب حدوث سكون بين الأمرين
3- للاطّلاع أكثر، راجع: صدر المتألّهين، الأسفار الأربعة، ج 3، ص 21 - 30؛ ابن سينا، النجاة، ص 105 ؛ الفخر الرازي، المباحث المشرقية، ج1، ص 547؛ محمّد تقي مصباح اليزدي، آموزش فلسفه (باللغة الفارسية)، ج 2، الدرس الخامس والخمسون

(متوالٍ) تتحوّل فيه القوّة إلى الفعل.

وقد ذكر الحكيم صدر الدين الشيرازي نمطاً آخر للحركة في الحكمة المتعالية إضافةً إلى حركة الأعراض التى أشار إليها سلفه من الفلاسفة والحركة المادّية التي ذهب إليها علماء العلوم الطبيعية والتجريبية؛ وهي (الحركة الجوهرية). طبق هذه النظرية فإنّ جواهر الأشياء متحرّكةً أيضاً، فجوهر الشجرة مثلاً يتحرّك إضافةً إلى حركة نواتها العرضية المكانية والكميّة والكيفية، وذلك بمعنى تغيّر جوهر النواة في كلّ لحظةٍ بشكلٍ تدريجيٍّ، وثمرة هذه الحركة تغيّر النواة إلى نباتٍ ثمّ شجرة؛ وذلك بمعنى أنّ الصورة النوعية والجوهرية للأجسام لا تنفكّ عن التغيير والتحوّل، نظير تحوّل الحيمن البشري إلى جنين ثمّ إنسان.

استدلّ الحكيم الشيرازي على نظريته هذه بأدلّةٍ متقنةٍ ليثبت أنّ الحركة لا تكتنف الأعراض فحسب، بل تشمل الجواهر أيضاً، وتفاصيلها مذكورةً في الكتب الفلسفية المتخصّصة، لذا لا نتطرّق إليها تجنّباً للإطناب (1).

ص: 166


1- للاطّلاع أكثر ، راجع: صدر المتألّهين، الأسفار الأربعة، ج 3، ص 4 و 61 و 101؛ محمّد حسين الطباطبائي، نهاية الحكمة، المرحلة التاسعة، الفصل الثامن؛ مرتضى مطهّري، حرکت وزمان در فلسفه اسلامي (باللغة الفارسية)، ج 2، ص88؛ عبدالله جوادي الآملي، ده مقاله پيرامون مبدأ و معاد (باللغة الفارسية)، ص 194؛ محمّد تقي مصباح اليزدي، آموزش فلسفه (باللغة الفارسية)، ج 2، الدرس التاسع والخمسون. أُشير في هذه المصادر إلى أهمّ الأدلّة الفلسفية التي طرحت حول الحركة الجوهرية، وهي: أ ) الحركة موجودةٌ في الأعراض، والأعراض بذاتها معلولةٌ لطبيعة الجسم وجوهره، وبما أنّ هذه العلّة متغيّرةٌ فلا بدّ للأجسام من أن تكون متغيّرةً؛ لذا يصبح الجوهر متغيّراً أيضاً. ب ) الأعراض هي من مراتب وجود الجوهر، وما يطرأ عليها يطرأ على مواضيعها أيضاً؛ لذا فإنّ التغيير الذي يكتنفها لا بدّ من أن يشمل مواضيعها. ج ) كلّ موجودٍ مادّيٍّ له أبعادٌ وامتدادٌ وأجزاءٌ كثيرةٌ جاريةٌ في نطاق الزمان، ويترتّب على هذا الأمر تحقّق أجزائه الكامنة غير المتحقّقة بالفعل (المتحقّقة بالقوّة) ومن ثمّ لا تنعدم ولا يضاف إليها جزءٌ آخر لم يكن موجوداً بالقوّة قبل ذلك. وهذا بمعنى الحركة الجوهرية

إذن، حسب نظرية الفلاسفة القدماء وعلماء العلوم الطبيعية والتجريبية القدماء والمعاصرين، هناك حركةٌ في عالم الطبيعة؛ وهو أمرٌ لا ينكره ذو عقلٍ، بل نشهده جلياً بالعيان. وطبق مبادئ الحكمة المتعالية فالحركة لا تقتصر على أعراض الأجسام، بل هي موجودةٌ كذلك في طبيعة الجوهر وذاته.

2 ) الحركة تفتقر إلى محرّكٍ :

لمّا كانت الحركة تعني الخروج التدريجي للجسم من مرحلةٍ إلى أخرى أو تحوّل القوّة الكامنة إلى مرحلة التحقّق والفعلية، ونظراً لحاجة هذا الأمر إلى علّةٍ حسب قانون العلّية؛ فهو مفتقرٌ إلى محرّكٍ يقوّمه.

يرى الفلاسفة أنّ الحركة من مقولات الانفعال والاستعداد (القابلية)، لذا فإنّ المتحرّك مستعدٌّ (قابلٌ)؛ وبالطبع فإنّ القابل ليس فاعلاً، بل يعدٌّ متلقّياً مفتقراً إلى فاعلٍ ( يلقي إليه) أي: إنّه قاصرٌ عن أن يكون محرّكاً، ومن ثمّ لابدّ له من محرّكٍ (1).

ص: 167


1- للاطّلاع أكثر، راجع: أرسطو، الطبيعيات، ص 299؛ متافيزيك (باللغة الفارسية)، ص 397؛ ابن سينا المبدأ والمعاد، ص 34؛ صدر المتألّهين، الأسفار الأربعة، ج 3، ص 38 مرتضی مطهّري، حرکت و زمان در فلسفه اسلامي (باللغة الفارسية)، ج 1، ص 107 و 114

إذن، الحركة (التغيير) أمرٌ ثابتٌ لجميع الكائنات من جماداتٍ وغيرها، فالإلكترونات والنيوترونات تتحرّك بشكلٍ يفوق التصوّر بحيث تدور حول نواة الذرّة آلاف الكيلومترات في كلّ ثانيةٍ، وهى لا تقتصر على بيئتنا المحيطة بنا، بل تشمل سائر النجوم والكواكب في المنظومة الشمسية وجميع المجرّات السماوية الأخرى طوال ملايين السنين؛ وهذه كلّها صورٌ للتغيير والتحوّل والانتقال، لذا هل من المعقول أنّها تجري دونما محرّكٍ؟! ألا يذعن العقل البشري بوجود محرّكٍ لكلّ حركةٍ أو لا؟! الإجابة قد اتّضحت في المبحث الآنف.

3 ) التزامن بين العلّة والمعلول :

حينما يدور البحث في علم الفلسفة حول علّة الحركة يُشار إلى ما طرح في العلوم التجريبية من عللٍ صوريةٍ ومادّيةٍ، مثلاً ورقة الشجر المتحرّكة، يوعز المادّيون انتقالها من مكانٍ إلى آخر للرياح؛ لكنّ هذا التعليل ليس صائباً للسببين الآتيين :

أ - الرياح علّةٌ صوريةٌ لحركة الورقة وليست فاعلةً.

ب - حركة الرياح تتحقّق قبل حركة الورقة، حتّى وإن كان هذا التحقّق بواحدٍ من الألف من الثانية، ومن ثمّ فهو حدث قبل انتقال الورقة؛ وهذا ينمّ عن أنّها ليست علّةً فاعلةً لحركة الورقة، إذ حسب قواعد العلّية لا بدّ التزامن بين العلّة والمعلول، لذا لا يمكن لزمان العلّة أن يتقدّم على زمان المعلول، وإلا ورد إشكال انفكاك المعلول عن علّته (1).

ص: 168


1- للاطّلاع أكثر ، راجع: صدر المتألّهين، الأسفار الأربعة، ج 3، ص 68 و 270 - ج 1، ص 211

إذن، علّة حركة الأشياء المناظرة لحركة الورقة التي تتناقلها الرياح من مكانٍ إلى آخر هي في الواقع ليست علّةً صوريةً وماديةً، وإنّما موجودةٌ في طبيعتها، أي: إنّ هذه الحركة تعود إلى علّةٍ ماورائيةٍ مثل العقل الفعّال ؛ وسنوضّح هذا الأمر لاحقاً لدى نقضنا لبعض الشبهات.

4 ) افتقار الحركة إلى فاعل واستحالة التسلسل :

كلّ حركةٍ مفتقرةٌ إلى فاعلٍ يوجدها لكونها في الخارج تعدّ حقيقةً مختلفةً عن الوجود المادّي بذاته، فهي من حيث الهيئة ليس لها وجودٌ عرضيٌّ ولا جوهريٌّ، والسبب في حاجتها إلى فاعلٍ (محرّك) هو ارتباط وجودها بالعرض أو الجوهر.

استناداً إلى ما ذكر نستنتج ما يأتي: بما أن الوجود المادي - سواء كان جوهراً أو عرضاً - مفتقر إلى علّةٍ فاعلة (موجدة)، لذا يترتب عليه تزامن حركته مع فعل فاعل (محرك) (1).

ولتقريب الاستدلال نقول: تصوّر العلّة الفاعلة للجوهر أو العرض يكفى في تصوّر حركتهما ، ذلك لأنّ الحركة هى كيفية وجود الجوهر والعرض، أي: الوجود التدريجي والخروج من القوّة إلى الفعل، وكلّ حركةٍ على هذا الأساس تفتقر إلى فاعلٍ (محرّك)، وبما أنّ العلل المادّية مجرّد عللٍ صوريةٍ وليست فاعلةً، لذا لا مناص من أن يكون فاعل الحركة ماورائياً، أي: إنّ المحرّك علّةٌ ماورائيةٌ.

ص: 169


1- للاطّلاع أكثر، راجع: المصدر السابق، ص 38؛ مرتضى مطهّري، حرکت وزمان در فلسفه اسلامي (باللغة الفارسية)، ج 1، ص 94

أمّا بالنسبة إلى تصوّر سلسلة العلل بصفتها محرّكاً غير متوقّفٍ، فنقول: التسلسل العلّي يرد على العلل الصورية، إذ إنّ العلّة الفاعلة ليس من شأنها الانفكاك عن المعلول أو التقدّم عليه كي يقال بإمكانية تصوّر سلسلةٍ من العلل المتقدّمة عليها ومن ثمّ يرد التسلسل اللامتناهي عليها. إذن، لا يمكن تصوّر التسلسل العلّي في مجال العلل الفاعلة التي تتزامن مع معلولاتها، إلا أنّه ممكنٌ على صعيد العلل المادّية؛ ولكنّ هذا الأمر خارجٌ عن نطاق بحثنا الذي يتمحور حول افتقار الحركة إلى محرّكٍ وفاعلٍ خارجيٍّ. الحركة العرضية باعتقاد الفلاسفة ترجع في الأساس إلى الحركة الجوهرية، أي: إنّها انعكاسٌ لحركة جوهر الجسم المتحرّك وطبيعته؛ وقيل: إنّ الحركة الجوهرية تعدّ من ذاتيات الجسم، ومن ثمّ فهي مفتقرةٌ إلى فاعلٍ (خالقٍ) حالها حال الجسم، حيث يجعلها الخالق حركةً أثناء خلقة الجسم.

بناء على ما ذكر، لا يرد هنا إشكال تسلسل العلل، فالحركات في الأساس على قسمين لا أكثر، عرضية وجوهرية؛ والعرضية بدورها تابعةٌ للجوهرية وانعكاسٌ لها، ومن ثمّ فهي مفتقرةً إلى فاعلٍ (محرّك) ماورائيٍّ نظراً لكيفية وجودها الذي يتمثّل في التغيير التدريجي.

- ملاحظتان حول برهان الحركة :

أوّلاً: برهان الحركة المطروح من قبل المتقدّمين القائلين بالحركة في الأعراض، إنّما يثبت حاجة حركة الأعراض إلى محرّكٍ؛ وبما أنّهم لا يقولون بالحركة الجوهرية ويعتبرون الجواهر ثابتةً، فجوهر الأجسام المستقرّ برأيهم هو الباعث للحركة في عالم الطبيعة (عالم الأعراض). وعلى هذا الأساس فإنّ

ص: 170

برهان الحركة برأي المتقدّمين ليس من شأنه إثبات وجود محرّكٍ مجرّدٍ(1)، ناهيك عن أنّه ينسجم مع الرؤية الإلحادية القائلة بأزلية المادّة واستغنائها عن الفاعل؛ لذا لا يمكن الاعتماد على النظرية القائلة باقتصار الحركة على الأعراض لإثبات وجود المحرّك المجرّد. لكن حسب تعاليم الحكمة المتعالية التي تسرّي الحركة إلى جواهر الأجسام لا يمكن اعتبار المادّة فاعلةً للحركة في عين كونها ثابتةً، بل لا بدّ من استناد الحركة إلى غير المتحرّك، وهذا لا ينطبق إلا على الوجود المجرّد. وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ الوجود المجرّد لا يضفي إلى الجسم حركته، وإنّما يجعله مستعدّاً للحركة أثناء خلقته، أي: إنّ قابليته على الحركة متزامنةٌ مع وجوده.

ثانياً: استناداً إلى مبدأ الحركة الجوهرية، فبرهان الحركة وإن كان يثبت وجود فاعلٍ مجرّدٍ، إلا أنّه لا يثبت أو ينفي ما إن كان وجود هذا الفاعل کوجود سائر المجردات من قبيل العقل العاشر (الفعّال) أو واجب الوجود. لذا، نجد أنّ الاستدلال في المراحل التالية من البرهان يتقوّم على براهين أخرى من قبيل برهان الإمكان والوجوب، ومن ثمّ يتمّ إثبات أنّ المحرّك المجرّد إذا كان

ص: 171


1- للاطّلاع أكثر، راجع: عبد الله جوادي الآملي، تبيين براهين اثبات خدا (باللغة الفارسية)، ص 6 و 171. يذكر أنّ المتقدّمين افترضوا عدم قابلية الجسم المادّي على إضفاء الحركة لجميع الأعراض الموجودة في الحياة الدنيا، ويحتمل أن يكون استدلالهم على ذلك كما يأتي: بما أنّ العرض والجسمية يعتبران أمراً واحداً، لذا لا يمكن للجسم أن يكون متحرّكاً ومحرّكاً في آنٍ واحدٍ، أي: ليس من شأنه أن يكون فاعلاً للحركة. إذن، حركة الجسم تفتقر إلى محرّكٍ غير مجسّمٍ؛ ولكن مع ذلك فشبهة أزلية المادّة واستغنائها عن العلّة تبقى على حالها

من الممكنات، فلا بدّ له من الانتهاء إلى واجب الوجود حسبما أثبت الفلاسفة في برهان الإمكان والوجوب.

شبهاتٌ وردودٌ:

شبهاتٌ وردودٌ:

نسوق البحث فيما يأتي إلى بعض الشبهات التي طرحت حول برهان الحركة في إطار بحثٍ نقديٍّ:

*الشبهة الأولى : إنكار الحركة من أساسها :

قيل إنّ بعض الفلاسفة الإغريق أنكروا الحركة من رأسٍ، وهم الذين ينتمون إلى المدرسة الإيليائية من أمثال الفيلسوفين بارمنيدس وزينون (1). لم ينكر هؤلاء أصل التغيير والتحوّل في العالم لأنّهم كانوا يشاهدون بالعيان انتقالهم من مكان إلى آخر، إلا أنّ نقاشهم تمحور حول تعريف ماهية الحركة وتطبيقها على الواقع الخارجي.

منكرو الحركة يعتقدون بأنّ ما يبدو وكأنّه حركةٌ في الخارج، ليس تغييراً مترابطاً ومتواصلاً كى يقال إنّه مثالٌ للحركة، بل هي ظاهرةٌ متواليةٌ ومتناوبةٌ لكنّها غير مرتبطةٍ مع بعضها؛ وهو ما عبّروا عنه بالسكون المتوالي (سلسلة سكونات متتالية)، أى انتقال سكون إلى سكونٍ آخر.

تحليل الشبهة ونقضها :

بما أنّ أصل حركة الجسم ثابتٌ في العلوم التجريبية، ولا سيّما الفيزياء

ص: 172


1- للاطّلاع أكثر، راجع: فريدريك كوبلستون، تاريخ فلسفه (باللغة الفارسية)، ج 1، ص 61 و 68

والكيمياء، وكذلك في العلوم العقلية كالفلسفة؛ لذا لا نرى حاجةً إلى الحديث عن الموضوع في إطار بحثٍ مستقلٍّ تجنّباً للإطناب.

*الشبهة الثانية: عدم افتقار الحركة إلى محرّكٍ :

يطرح بعضهم شبهةً فحواها أنّ الحركة تعدّ من ذاتيات الأجسام المادّية، لذا فهى في غنىً عن العلة الخارجية (المحرّك).

الذين طرحوا هذه الشبهة حاولوا إضفاء صبغةً علميةً على مدّعاهم (1)، فتمسّكوا بما تمخّض عن العلوم التجريبية من إنجازاتٍ من قبيل قانون نيوتن الأوّل (قانون القصور الذاتي)، إذ يؤكّد هذا القانون وما شاكله من قوانين فيزيائية على عدم حاجة الجسم إلى محرّكٍ (2).

ص: 173


1- www.kaafar.netfirms.com/baad/harkat.htm
2- هذه النظرية تكاملت في القرون الماضية ولا سيّما بعد النتائج التي توصّل إليها إسحاق نيوتن وغاليليه، فالقانون الأول الذي وضعه نيوتن وأيّده الثاني هو: (كلّ جسم يبقى على حالته من حيث السكون أو الحركة ويسير بسرعةٍ منتظمةٍ في خطٍ مستقيمٍ ما لم تؤثِّر عليه قوّةٌ تُغير من حالته). وهذا يعني أن الجسم الساكن سوف يظل ساكناً ما لم تؤثر عليه قوة تحرّكه. ويُطلق على قانون نيوتن الأول (مبدأ القصور الذاتي)، وهو خاصية المادّة التي تعبّر عن استمرارية الحركة إذا كان الجسم متحركاً، أو استمرارية السكون إن كان ساكناً. والقوى التي تُغيِّر حركة الجسم يجب عليها أن تتغلّب أولاً على القصور الذاتي له، وكلّما كانت كتلة الجسم كبيرةً، كان من الصعوبة بمكانٍ تحريكه أو تغيير سرعته. وعلى هذا الأساس فإنّ حركة الجسم على امتداد سطحٍ أفقيٍّ تكون أبديةً حينما تكون على نسقٍ واحدٍ ولم تنقص أو تزيد، لذا فهي لا تنعدم. للاطّلاع أكثر ، راجع: ألبرت أنيشتاين وليوبولدا ،أينفيلد، تكامل علم فيزيك (باللغة الفارسية)، ص 25

هذه الشبهة تضرب بجذورها في العهود السالفة، حيث طرحت من قبل حكماء مدينة أبدرا الإغريقية (1)، وعلى رأسهم السوفسطائي الشهير بروتو غوراس في القرن الخامس قبل الميلاد، إذ أعلن بصراحةٍ أنّ الحركة في غنىً عن المحرّك (2).

تحليل الشبهة ونقضها :

لنقض الشبهة المطروحة أعلاه، نقول:

1 ) العقل يحكم بحاجة الحركة إلى محرّكٍ :

حسب القواعد والأصول العقلية والفلسفية، ليست هناك حركةً بلا محرّكٍ؛ ومن البديهي أنّ عجز العلوم التجريبية عن استكشاف المحرّك لا يعدّ برهاناً على نفى وجوده من الأساس.

إذن، حتّى لو طرح بعض العلماء التجريبيين هذه الفرضية فإنّهم غير قادرين على إثباتها على وفق الأُسس العلمية الصائبة، وهذا الأمر بالتأكيد مخالفٌ للقواعد العقلية ممّا يعني طرحه جانباً، وقد ذكرنا ما فيه الكفاية على هذا الصعيد في ضمن حديثنا عن برهان الحركة.

2 ) الفصل بين المحرّك الأوّل والمحرّك المانح للحركة استمراريتها :

عند الحديث عن الحركة فلا بدّ من معرفة معنى افتقار المتحرّك إلى

ص: 174


1- للاطّلاع أكثر، راجع: عبد الحسين مشكاة الديني، نظري به فلسفه صدر المتألّهين (باللغة الفارسية)، ص 57؛ عبد الحسين مشكاة الديني، تأثير ومبادي آن (باللغة الفارسية)، ص 18
2- للاطّلاع أكثر، راجع: برتراند راسل، تاریخ فلسفه غرب (باللغة الفارسية)، ص 142

محرّكٍ خارجيٍّ في المرحلة التي سبقت حركته أو التي تزامنت معها أو لحقتها.

لو افترضنا وجود جسم ساكن، فمن المؤكّد أنّه بحاجةٍ إلى مؤثّرٍ خارجيٍّ (محرّك) لإخراجه من حالة السكون، وذلك لكون الحركة تعني تحوّل القوّة إلى الفعل أي: إنّها على وفق قوانين العلّية عبارةٌ عن فعلٍ جديدٍ لا يمكن أن يصدر من دون علّةٍ؛ ولكن هل يبقى بحاجةٍ إلى علّةٍ خارجيةٍ (محرّك) بعد طروء الحركة عليه؟

الأصول العقلية والفلسفية لا تقول بضرورة وجود علّةٍ محركةٍ خارجيةٍ للجسم المتحرّك ما دام متحرّكاً بل تؤكّد على أنّه بحاجةٍ إليها حين سكونه، فالكرة على سبيل المثال تبدأ بالحركة بعد أن تُركل بواسطة القدم، وهذه الركلة تعدّ العلّة الأولى، ولكن رغم انفصال الكرة عن القدم بعد الركل فهي تستمرّ بالحركة؛ ونستشفّ من ذلك أنّ الركلة ليست هي العلّة التي أدّت إلى استمرار تدحرج، لذا فهي بحاجةٍ إلى علّةٍ في بقائها متحرّكةً لكونها لا تنفكّ في هذه الأثناء عن الخروج من القوّة إلى الفعل. فيا ترى ما هي هذه العلّة التي تجعل الحركة مستمرّةً؟ لقد ذُكرت مجموعة من الفرضيات حول هذا الأمر منذ عهد أرسطو طاليس (1)، حيث نذكرها فيما يأتي ضمن الاستنتاجات المتحصّلة من الأمثلة التي ذكرت :

أ - يرى بعض الفلاسفة أنّ الكرة فور ركلها، تُحدث موجةٌ في الفضاء الممتدّ في الاتّجاه المكافي لحركة الركلة، فيتحقّق اتّحادٌ بين الكرة والفضاء المحيط

ص: 175


1- للاطّلاع أكثر، راجع: مرتضى مطهّري، حرکت وزمان در فلسفه اسلامي (باللغة الفارسية) ، ج 4، ص 270 إلى 303

بها وكأنّهما جسمٌ واحدٌ متّصلٌ، ومن ثمّ فإنّ الهواء يجذب الكرة نحوه إلى الأمام(1).

ب - معظم الفلاسفة يعتقدون بأنّ العلّة القريبة من حركة الجسم (الكرة) كامنةٌ في طبيعته (ماهيته)، وهو ما يصطلح عليه بالطبيعة والصورة النوعية والقوّة (2). فهناك طاقةٌ كامنةٌ فهناك طاقة كامنة في باطن الجسم، ومن خلال تعرّضه لضربةٍ من قبل مصدرٍ خارجيٍّ، تتحرّك علّته الطبيعية فترغمه على الحركة.

إذن، نظراً لكون علّة حركة الجسم المتحرّك هي طبيعته المتّحدةٌ معه، فإنّ أصحاب هذه النظرية يعتبرون توقّف الجسم (الكرة) عن الحركة ناجماً عن مانعٍ خارجيٍّ، من قبيل الجاذبية الأرضية أو الاحتكاك بالهواء أو بأيّ شيءٍ آخر؛ لذا حينما تزول هذه العقبات كأنّما تحقّق فراغٌ غير متناهٍ في نطاق حركة الجسم، فيبقى متحرّكاً من دون انقطاعٍ(3).

ج - علم الفيزياء الحديث طرح نظريةً حول هذا الموضوع، وذلك على صعيد دوران الإلكترونات والنيوترونات في المدارات المحيطة بنواة الذرّة، وكذلك حركة الأجرام السماوية والمجرّات والمنظومات الشمسية؛ إذ كانت

ص: 176


1- للاطّلاع أكثر، راجع: علم الطبيعة، ص 362 - 363 ، نقلاً عن: عبد الحسين مشكاة الديني، تأثير ومبادي آن (باللغة الفارسية)، ص 157؛ ريتشارد ويستفال، تكوين علم جديد (باللغة الفارسية)، ص 30 و 42
2- للاطّلاع أكثر، راجع: صدر المتألهين الأسفار الأربعة، ج 3، ص 48 و 62 و 64؛ مرتضى مطهّري، حرکت و زمان در فلسفه اسلامي (باللغة الفارسية)، ج 1، ص 91 و 175 و 291
3- ابن سينا، النجاة، ص 241؛ ابن سينا، طبيعيات الشفاء، مبحث الفراغ؛ صدر المتألّهين الأسفار الأربعة، ج 3، ص 217

النتيجة واحدة؛ فقد أكّد العلماء التجريبيون على أنّ حركة الإلكترونات والنيوترونات في مدار الذرّة بشكلٍ متواصلٍ ومستقرٍّ سببه قوّة الطرد المركزي الحاصلة من الجاذبية التى تمتلكها النواة، وكذا هو الحال بالنسبة إلى حركة الأجرام والمنظومات السماوية، فقوّة الجذب والنفير الموجودة فيما بينها سببٌ لتحرّكها.

قال إسحاق نيوتن في هذا المضمار: «الطبيعة بسيطةٌ، وفي كلّ مكانٍ تجري على نسقٍ واحدٍ، وتقوم بتحريك الأجسام السماوية العظيمة بفضل الجاذبية الموجودة فيما بينها، وتمنح الحركة لجميع الأجرام الصغيرة وذرّاتها إثر قوّة التجاذب والتنافر الموجودة فيما بينها»(1).

طبق هذه النظرية فالحركة تعود إلى طبيعة الأجسام، بمعنى أنّ المسبّب لها هو عاملٌ كامنٌ في باطنها ؛ (2) ولكنّ هذه الطاقة الكامنة تؤثّر على كلّ جسمٍ حسب قابليته ونوعه ومكانه. العناصر الموجودة في المغناطيس مثلاً لها القابلية على استقطاب القطع الحديدية، ممّا يعني أنّها تسفر عن حركتها نحو قطبي المغناطيس.

العلم الحديث من شأنه بيان ماهية الحركة إلى هذه المرحلة فحسب، لذا حينما يواجه العلماء المادّيون سؤالاً عن سبب امتلاك المغناطيس طبيعةً جاذبيةً تستقطب الحديد، نجدهم يتنصّلون عن الإجابة نظراً لعجزهم عن بيان العلّة الحقيقية التي جعلت هذا العنصر يتّصف بهذه الخصوصية التي أسفرت عن

ص: 177


1- للاطّلاع أكثر، راجع: إدوين آرثر باري، مبادي ما بعد الطبيعة علوم نوين (باللغة الفارسية)، ص 265
2- للاطّلاع أكثر ، راجع : علم شناسي فلسفي (باللغة الفارسية)، ص 150

حدوث قدرة الطرد المركزي (1).

ومع ذلك فإنّ أشهر العلماء، أكّدوا على حاجة الحركة إلى محرّكٍ في كلّ لحظةٍ، وكما قال إسحاق نيوتن: «كلّ جسم يبقى على حالته من حيث السكون أو الحركة ويسير بسرعة منتظمة في خطٍ مستقيمٍ ما لم تؤثِّر عليه قوّةٌ تُغير من حالته». وهذا يعني أن الجسم الساكن سوف يظل ساكناً ما لم تؤثر عليه قوة تحرِّكه. ويُطلق على قانون نيوتن الأول مبدأ القصور الذاتي، وهو خاصّية المادّة

ص: 178


1- العلوم التجريبية قاصرةً عن بيان أسرار القوانين الطبيعية، فعلى سبيل المثال ليست هناك إجاباتٌ عن الأسئلة الآتية: أ - الديناميكية الذاتية للطاقة التي هي المادّة الخام للذرّات، لو كانت تقتضي بذاتها أن تتحقّق على هيئة إلكترون سلبيٍّ، فما هي الطاقة التي توجدها حينما تكون على هيئة بروتون أو نيوترون؟ ب - لو كان القصور الذاتي لديناميكية الإلكترونات يقتضي اجتماع إلكترونٍ سلبيٍّ مع بروتون لإنتاج ذرّة الهيدروجين، فما هي الطاقة اللازمة لجمع البروتونات من واحد إلى ستٍّ وتسعين في سائر العناصر ؟ ج - إن كانت الديناميكية الذاتية للبروتونات والنيوترونات متساويةً حينما تجتمع مع بعضها، فما هي الطاقة التي جعلت عناصرها مختلفةً مع بعضها ؟ د - حسب القوانين الفيزيائية، فإنّ البروتونات التي تمتلك طاقةً كهربائيةً موجبةً، فلابدّ من أن تتنافر مع بعضها؛ لذا إن أُريد الربط بين قطبين موجبين فلا بدّ من توفّر طاقةٍ هائلةٍ. إذن ما السبب الذي جعلها تتقارب مع بعضها من دون أن تتنافر ؟ ه_ - ما هي الطاقة الخارقة للعادة التي أجبرت البروتونات على التلاحم مع بعضها وأداء مهامّها الفيزيائية في ضمن أعداد محدّدة؟ وكما هو ثابتٌ في علم الفيزياء، ليس هناك عاملٌ لإنتاج الطاقة في نواة الذرّة! و - الطاقة الخارقة للعادة التي يطلق عليها الطاقة المترابطة للنواة، هي التي يُعتمد عليها لإنتاج الأسلحة النووية. ولكن من أين جاءت كلّ هذه القدرة العظيمة في هذا الجرم الصغير ؟! للاطّلاع أكثر ، راجع: علم الكلام، ص ج 1، ص 8 - 136

التي تعبّر عن استمرارية الحركة إذا كان الجسم متحركاً، أو بقاء السكون إن كان ساكناً. والقوى التي تُغيّر حركة الجسم يجب عليها أن تتغلّب أولاً على القصور الذاتي له، وكلّما كانت كتلة الجسم كبيرةً، كان من الصعوبة بمكانٍ تحريكه أو تغيير سرعته (1).

نستنتج ممّا ذكر أنّ العلم التجريبي حتّى وإن عجز عن ذكر العلل النهائية، لكنّه لا يعارض البرهان العقلي القائل بحاجة كلّ حركةٍ إلى محرّكٍ، وإنّما يؤيّده .

ما ذكر أعلاه حول الحركة الاستمرارية لا يتعارض مع برهان الحركة، لأنّ العالم - وما فيه من أجسامٍ متحرّكةٍ - لا بدّ له من محرّكٍ أوّلىٍّ في أوّل حركةٍ له؛ وهذا المحرّك بطبيعة الحال يجب أن يكون غير وخارجاً عن عالم المادّة والمحسوسات، وهو ما يروم إثباته برهان الحركة.

3 ) قانون القصور الذاتي غير ناظرٍ إلى المحرّك الأوّل :

اتّضح لنا في المباحث الآنفة أنّ الحركة مفتقرةٌ إلى علّةٍ في كلّ آنٍ لكونها تعكس فعلاً جديداً، لكنّ بعض العلماء اتّخذوا قانون القصور الذاتي الذي وضعه إسحاق نيوتن ذريعةً لنفي هذه الحاجة التي تعدّ واحداً من الأصول الفلسفية.

أثبتنا أنّ نظريات العلم الحديث توعز أصل المحرّك والحركة إلى ذوات الأجسام وطبيعتها، لكنّها عاجزةٌ عن بيان حقيقة الأمر على وفق الأصول

ص: 179


1- نقلاً عن: إدوين آرثر باري، مبادي ما بعد الطبيعة علوم نوين (باللغة الفارسية)، ص 265

العقلية المعتبرة، ناهيك عن كون قانون القصور الذاتي الذي يؤكّد على عدم حاجة الجسم إلى محرّكٍ خارجيٍّ، ناظرٌ فقط إلى بيان الحركة المتواصلة للجسم المتحرّك بعد حدوثها، إلا أنّه ليس بصدد بيان أسبابها؛ لذا لا يوضّح كيف انطلّقت أوّل مرحلةٍ في الحركة، حيث قال عالم الفيزياء ريتشارد ويستفال في هذا الصدد: «الحركة على أساس مبدأ القصور الذاتي لها القابلية في الحفاظ على السرعة فقط وليس من شأنها مطلقاً إيجادها» (1).

4 ) قانون القصور الذاتي هو بيانٌ للفعل والانفعال :

لو أمعنّا النظر فى النظريات التي طرحها علماء الفيزياء، نجدهم يعتبرون قانون نيوتن الأوّل (القصور الذاتي) يتمحور حول بيان ماهية العامل المؤثّر في الحركة الاستمرارية للجسم المتحرّك، وذلك بمعنى أنّه بيانٌ لردّة فعلٍ على أحد الأفعال، فهذا الجسم يتحرّك إثر الطاقة الخارجية الواردة عليه ؛ وهو ما يسمّى بقانون ردّة الفعل، وهو قانون نيوتن الثالث الذي ينصّ على ما يأتي: «لكلّ فعلٍ ردّة فعل مساويةٌ له في المقدار ومعاكسةً في الاتّجاه» (2).

ص: 180


1- ريتشارد ويستفال، تكوين علم جديد (باللغة الفارسية)، ص 30
2- هناك ملاحظاتٌ هامّةٌ حول هذا القانون، وهي: أ - يلزم لتطبيق قانون نيوتن الثالث عند وجود جسمين على أقلّ تقديرٍ، أحدهما مصدر قوّة الفعل والآخر مصدر قوّة ردّة الفعل. ب - القانون الثالث لنيوتن قانون قوّةٍ وليس قانون حركةٍ، فهو يحدّد القوّة المؤثّرة على جسمٍ ولا يحدّد حالته الحركية. ج - الفعل وردّة الفعل قوّتان تؤثّران على جسمين مختلفين، لذلك لا يتمّ احتساب محصّلتهما، لأنّ عملية حساب محصّلة قوتين أو أكثر يتطلب تأثير هذه القوى على جسمٍ واحدٍ. للاطّلاع أكثر، راجع: إدوين آرثر باري، مبادي ما بعد الطبيعة علوم نوين (باللغة الفارسية)، ص 265

إذن، يمكن القول بأنّ قانون القصور الذاتي مؤيّدٌ لكون الجسم المتحرّك بحاجةٍ إلى محرّكٍ، وليس كما ادّعي من كونه ينفي هذا الأمر.

5 ) القوانين التجريبية ليست توقيفيةً، بل قابلةٌ للتفنيد :

هناك اختلافٌ أساسيٌّ بين القوانين العقلية والتجريبية، وهي أنّ النمط الثاني ليس ثابتاً ومن الممكن تفنيده حسب الأصول العلمية، لذا كثيراً ما نلاحظ بعض القوانين العلمية التي يتمّ العمل بها طوال فترةٍ من الزمن لكنّها بعد ذلك تلغى وتفنّد بواسطة قوانين جديدة مباينة لها من بعض النواحي أو جميعها. وقد اعتبر الفيلسوف کارل ریموند بوبر هذا الأمر بأنّه من خصوصيات القوانين العلمية التي وصفها بالظنّية، أي: إنّ إمكانية الخطأ أساس كون النظرية علميةً.

إذن، طبق هذه الرؤية للعلوم التجريبية لا يمكننا اعتبار القوانين العلمية حصيلةٍ قطعيةٍ ونهائيةٍ للمواضيع التي تتمحور حولها، وعلى هذا الأساس ليس من شأنها بتاتاً أن تكون وازعاً لغضّ النظر عن البراهين العقلية والفلسفية؛ لذا فإنّنا على صعيد موضوع حاجة الجسم المتحرّك إلى محرّكٍ نقول: مقتضى الدليل العقلي والفلسفي هو افتقار الجسم الساكن إلى ما يحرّكه، وهذه قاعدةٌ ثابتةٌ ومعتبرةً عقلياً لدرجة أنّ أيّ علمٍ لم يتمكّن من تفنيدها بشكلٍ علميٍّ، ناهيك عن عدم وجود نظريةٍ معتبرةٍ على خلافها؛ وقد أثبتنا أنّ القوانين والنظريات التجريبية التي طرحت على هذا الصعيد من قبيل قانون نيوتن الأوّل (القصور الذاتي)، لا تتعارض مع قانون الحركة الفلسفي.

بما أنّ فرض المحال ليس بمحالٍ، لذا لو تنزّلنا وافترضنا وجود تعارضٍ

ص: 181

فيما بين القوانين التجريبية المطروحة على صعيد الحركة وبين الأصول والقواعد العقلية والفلسفية، وقلنا إنّ القوانين التجريبية صائبةٌ على هذا الصعيد؛ فهذا لا یعني مطلقاً نقض القوانين العقلية، لأنّ القوانين التجريبية بذاتها عرضةٌ للإبطال والتفنيد وليس هناك من يقول بتوقيفيّتها. فضلاً عن ذلك فإنّ النتائج التي يتمّ التوصّل إليها على أساس القوانين التجريبية في مجال الحركة، يشوبها الشكّ والترديد لكونها مطروحةً في نطاق الحسّ والتأثير المتقابل للأجسام.

قال أستاذ علم الرياضيات لويس وليام هنري هول: «القوانين الميكانيكية التي نتحدث عنها تعكس أراءً لو تأملنا فيها لوجدناها متقوّمةً على التجربة فحسب، ومع ذلك لا يمكننا إثبات صحّتها بواسطة التجربة المباشرة. قانون الحركة الأوّل قد جعلنا في مواجهة تحدٍّ لا مفرّ منه، وعلى هذا الأساس إن أردنا اختبار مدى صحّته فلا بدّ من تطبيقه على جسم غير متأثّرٍ بأيّة قوّةٍ كانت أي إنّه جسمٌ منفكٌّ عن تأثير سائر الأجسام»، وبالنسبة إلى مدى صحّة الأصول التجريبية للحركة، قال: «ليس من الحرىّ اعتبار هذه الأصول صحيحةً مطلقاً» (1).

6 ) الحركة الجوهرية ملازمةٌ للمحرك العقلي:

المباحث التي طرحت آنفاً تتمحور بشكلٍ أساسيٍّ حول حاجة الحركة العرضية إلى محرّكٍ ثابتٍ وهي تشمل الحركة المكانية (الأين) من قبيل حركة الذرّات والمجرّات الكونية، حيث اتّضح لنا أنّ هذا النمط عائدٌ إلى طبيعة الأجسام.

ص: 182


1- لويس وليام هنري هول، تاريخ وفلسفه علم (باللغة الفارسية)، ص 200

ذكرنا في برهان الحركة أنّنا ما لم نذهب إلى القول بالحركة الجوهرية، يُشكل علينا أنّ نتيجة هذا الرأي هي القول بكون حركة الأجسام معلولةً لجوهر الجسم الثابت، أي: إنّه مفتقرٌ إلى علّةٍ مادّيةٍ كي يتحرّك ومن ثمّ فهو في غنىً عن المحرّك المجرّد. وبعبارةٍ أخرى فإنّ هذا البرهان لا يثبت حاجة الجسم إلى العلّة الماورائية في حركته. فضلاً عن ذلك، فالحركة المكانية للأجسام يتمّ تفسيرها في مبادئ العلم الحديث على ضوء الطاقة الذاتية لطبيعتها في التجاذب والتنافر، ومن هذا المنطلق اعتبر العلماء المادّيون الأجسام غير مفتقرةٍ في حركتها إلى محرّكٍ مجرّدٍ.

تجدر الإشارة هنا إلى أنّ الحركة الجوهرية هي مرتكز برهان الحركة والمحور الأساسي له، وليست الحركة العرضية ؛ وقد وضّحنا النمط الأوّل وفق نظرية الحكيم صدر الدين الشيرازي الذي برهن على أنّ كلّ جسمٍ له حركةٌ جوهريةٌ؛ لذا لمّا كانت الحركة جاريةً في جواهو الأجسام، فلا تصل النوبة إلى بيان ماهية الحركة العرضية ومن هو محرّكها في نطاق العلوم التجريبية، إذ إنّ هذه الحركة إنّما تحدث فى ظلّ الحركة الجوهرية؛ لذا فما يحظى بأهميّةٍ بالغةٍ فى هذا المضمار هو بيان حقيقة الحركة الجوهرية وإثبات افتقار المتحرّك إلى محرّكٍ.

كما هو معلومٌ فالعلوم التجريبية لا تثبت سوى الحركة العرضية للأجسام، في حين أنّ نظرية الحركة الجوهرية تعتبر من الإنجازات العظيمة للحكمة المتعالية.

لقد أقدم صدر المتألّهين على تسرية الحركة من أعراض الأجسام إلى جواهرها، وعلى هذا الأساس طرح نظريته لبيان العلّة القريبة المؤثّرة على

ص: 183

حركة الأجسام عرضياً وجوهرياً، وعبّر عنها ب_ (الصورة النوعية) و (القوّة)، وهي تفي بدور العلل الخارجية من قبيل ركل الكرة، والعلل المعدّة للحركة الأولى، وكذلك العلل القريبة لحركة الجسم المتحرّك.

أثبتنا أنّ الجسم متحرّك بطبيعته، ولكن ما العلّة الفاعلة لهذه الحركة ؟ ذهب صدر المتألهين في هذا المجال إلى وجود علّةٍ ماورائيةٍ مجرّدةٍ، وقال بما أنّ الجسم وحركته الجوهرية أمرٌ واحدٌ وليسا أمرين متباينين، ونظراً لكون الحركة شكلٌ من أشكال التحقّق المادّي في الخارج؛ لذا فإنّ العلّة المجرّدة من خلال جعلٍ بسيطٍ عبر خلق الجسم بفعلٍ واحدٍ، تقوم بأمرين في آنٍ واحدٍ، هما خلق الجسم وجعله متحرّكاً، (1) وهذا بمعنى أنّ خلقة الجسم هي نفس وجوده المتحرّك، وهذا من قبيل الزوجية الملازمة للعدد أربعة .

خلاصة القول إنّ الحركة الجوهرية مفتقرةٌ إلى علّةٍ موجدة.ٍ

وفي ختام هذا البحث ننوّه على أنّ الحركة كامنةٌ في جواهر الأجسام وأعراضها، والحركة العرضية بدورها منبثقةٌ من الحركة الجوهرية، فعلى سبيل المثال، إضافةً إلى الحركة المكانية للإلكترونات والنيوترونات هناك حركةً أخرى كامنةٌ في جواهرها؛ وهاتان الحركتان بكلّ تأكيدٍ مفتقرتان إلى محرّكٍ، ونظراً لكون جواهر الأجسام متحرّكةً، فلا يمكنها أن تكون بذاتها مفيضةً للحركة وعلّةً لها؛ لذلك يمكن القول إنّ الحركة الجوهرية للأجسام مفتقرةً إلى علّةٍ ماورائيةٍ خارجةٍ عن ذات الجسم، وهذه العلّة هي الفاعل والمحرّك المجرّد

ص: 184


1- صدر المتألّهين الأسفار الأربعة، ج 3، ص 39 و 68 ؛ محمّد حسين الطباطبائي، نهاية الحكمة، المرحلة التاسعة، الفصل العاشر ؛ عبد الله جوادي الآملي، ده مقاله پیرامون مبدأ ومعاد (باللغة الفارسية)، ص 201

الذي يطلق عليه في علم الفلسفة اصطلاح (العقل الفعّال)، إذ تزامناً مع خلق الجسم تُخلق معه حركته، فيصير جسماً متحرّكاً منذ لحظة خلقته.

لو أخذنا العقل والمحرّك المجرّد للحركة الجوهرية في نظر الاعتبار، فحتّى وإن استطعنا توضيح حقيقة الحركة العرضية استناداً إلى طبيعة الأجسام وجواهرها، لكنّنا نبقى عاجزين عن بيان حقيقة الحركة الجوهرية، وحتّى لو اعتمدنا على مقولة تسلسل العلل المادّية فسوف لا نتوصّل إلى نتيجةٍ مقنعةٍ على هذا الصعيد؛ لأنّ جميع أجزاء هذه السلسلة مادّيةٌ ولها حركةٌ جوهريةً، ومن ثمّ فهي مفتقرةً إلى محرّكٍ وعلّةٍ غير مادّيةٍ في عين استحالة تسلسل العلل الذي سنذكر أسبابه في المباحث اللاحقة.

* الشبهة الثالثة: عدم استحالة تسلسل العلل المحرّكة :

إحدى الشبهات المطروحة حول برهان الحركة هي افتراض وجود عللٍ محرّكةٍ إلى جانب بعضها بشكلٍ متسلسلٍ على النحو المذكور في المثال الآتي: الرياح تعدّ علّةً لحركة أوراق الأشجار، والعلة الموجودة للرياح هي التقاء تيّاراتٍ من الهواء الحارّ والبارد، والشمس هي علّة حرارة الهواء وبرودته، حيث مع وجودها يصبح حارّاً ومع عدمها يكون بارداً؛ وهلمّ جرّاً من العلل والمسبّبات اللامتناهية. لذا، بإمكاننا افتراض وجود علّةٍ مستقلّةٍ لكلّ واحدةٍ من الحركات التي تطرأ على الجسم، ممّا يعني أنّنا في غنىً عن وجود محرّكٍ مجرّدٍ.

ص: 185

تحليل الشبهة ونقضها :

نقول في نقض الشبهة المطروحة أعلاه :

1) تسلسل العلل لا يمكن افتراضه إلا على صعيد الحركات العرضية للأجسام، في حين أنّ الحركة الجوهرية ترتبط فقط بطبيعة الجسم المتحرّك بما هو متحرّك ولا يمكن افتراض علّةٍ أخرى خارجةٍ عن طبيعة هذا الجسم، فما هو خارجٌ عن ذات الجسم يعدّ عرضاً بالنسبة إليه، وقد أثبتنا كون الحركة العرضية إنّما تتحقّق في رحاب الحركة الجوهرية وقلنا: إنّها معلولةٌ لها، ومن ثمّ فالمعلول لا قابلية له على التأثير فى علّته.

إن أردنا بيان حقيقة الحركة الجوهرية للأجسام فلا مناص لنا من اللجوء إلى محرّكٍ ماورائيٍّ يكون علةً مجرّدةً لها القابلية على خلق جوهر الشيء وصورته الجسمية المتحركة من خلال جعلٍ بسيطٍ.

2) نظراً لكون جوهر الجسم لا ينفكّ عن الحركة في كلّ آنٍ، فهو في كلّ لحظةٍ مفتقرٌ إلى محرّكٍ؛ وهذا الأمر يعبّر عنه في علم الفلسفة بمعيّة العلّة والمعلول واستحالة انفكاك المعلول عن علّته، والعكس صحيح. وتوضيح ذلك أنّ محرّك الحركة الجوهرية للجسم موجودٌ في ذات الجسم أثناء الحركة نفسها بحيث لا يسبقها ولا يتخلّف عنها، وهو في الواقع طبيعة الجسم وصورته النوعية؛ وهو بدوره معلولٌ لعلّةٍ ماورائيةٍ، أي: إنّ الحركة الجوهرية معلولةٌ لعلّةٍ مجرّدة.ٍ

ما يُذكر من إشكالٍ حول تسلسل العلل في الحركة يُطرح في الحقيقة حول العلل المعدّة لها، إذ يمكن افتراض هذه العلل قبل تحقّق الحركة؛ إلا أنّ

ص: 186

علّة نفس الحركة يجب أن تتواكب معها في آنٍ واحدٍ(1)، وقيل إنّ علّة الحركة الجوهرية هو العقل الفعّال والجوهر المفارق.

بناءً على ما ذكر، لو أمعنّا النظر في ماهية الحركة على ضوء الحركة الجوهرية وأخذنا بنظر الاعتبار افتقارها إلى محرّكٍ، سنتوصّل إلى نتيجةٍ قطعيةٍ تؤكّد على افتقارها من الأساس إلى محرّكٍ مجرّدٍ، بل ونقول بضرسٍ قاطعٍ إنّ الحركة الجوهرية في كلّ آنٍ مفتقرةٌ إلى محرّكٍ فيماوراء المادّة (مجرّد).

3) ادّعاء وجود عللٍ معدّةٍ متسلسلةٍ باطلٌ من أساسه، لأنّ الأجسام المتحرّكة حتّى وإن اجتمعت في مجموعةٍ لا تُحصى، لكنّها بحاجةٍ إلى نقطة بدايةٍ هي الجسم الأوّل الذي لم يكن قبله أيّ جسم آخر؛ لذا حسب نظرية العلل المعدّة، كيف يتمّ تفسير حركة الجسم الأوّل ؟! لا مناص لنا هنا من افتراض وجود محرّكٍ مجرّدٍ انبثقت منه حركة الجسم الأوّل.

إذا قيل إنّ الأجسام المتحرّكة ليست لها نقطة بدايةٍ في حركتها وتسير بشكلٍ متسلسلٍ كسلسلة الممكنات والحوادث التي تتواصل بشكلٍ غير متوقّفٍ عن الحركة بحيث تجعلنا عاجزين عن افتراض وجود نقطة بدايةٍ لحدوث العالم، ففي هذه الحالة يجب القول بأنّ هذا التسلسل لا يرتبط إلا بالحركة العرضية للأجسام؛ ومن ثمّ تبقى الحركة الجوهرية مسكوتاً عنها ما لم نذعن بوجود محرّكٍ مجرّدٍ.

ص: 187


1- للاطّلاع أكثر، راجع: حرکت و زمان در فلسفه اسلامي (باللغة الفارسية)، ج 1، ص 94
* الشبهة الرابعة : كيفية صدور الحركة من المحرّك المجرّد:

أشرنا في برهان الحدوث والشبهات التي طرحت حوله إلى أنّ (علّة المتغيّر متغيّرة)، أي: إنّ علّة التغيير والحركة يجب أن تكون متغيّرةً ومتحرّكةً هي الأخرى كي تتمكّن من إضفاء الحركة على الجسم.

استناداً إلى هذا الكلام طرح بعضهم شبهةٌ فحواها: برهان الحركة إنّما صيغ بغية إثبات وجود المحرّك الأوّل الذي هو مجرّدٌ وغير متحرّكٍ، فحركة العالم بشتى أنماطها مخلوقةٌ من قبل العقل العاشر (الفعّال) الذي هو الله عزّ وجلّ، وهو مجرّدٌ ولا يكتنفه التغيير ولا يتّصف بالحركة؛ لذا فإنّ برهان الحركة فيه خللٌ من أساسه، لأنّه في صدد إثبات المحرّك المجرّد، ناهيك عن أنّه يؤكّد على ضرورة كون علّة الحركة متحرّكةً أيضاً (1).

وبيان الشبهة كما يأتي: إن جوّزنا صدور الحركة من المحرّك المستقرّ، فما السبب الذي دعا أصحاب البرهان لأن يدّعوا عدم إمكانية صدور الحركة ممّا هو مستقرّ لدى إثباتهم وجود المحرّك الأوّل؟ إذ قالوا إنّ فاقد الشيء لا يعطية. إذن، على أساس افتراض صدور الحركة من الثابت، يمكننا نسبة صدورها إلى جواهر الأشياء - حسب نظرية الفلاسفة الذين سبقوا صدر المتألّهين - ومن ثمّ لا يلزم القول بضرورة وجود محرّكٍ مجرّدٍ. ولكنّنا إن لم نجوّز صدور الحركة من المحرّك المجرّد الثابت فكيف نبرّر صدور الحركة الأولى للعلّة المجرّدة ؟

ص: 188


1- www.kaafar.netfirms.com/baad/harakat.htm

تحليل الشبهة ونقضها :

وهن هذه الشبهة قد اتضح لدى ردّنا على الشبهات التي أُشير إليها آنفاً، ومع ذلك سنتطرّق فيما يأتي إلى نقضها:

القاعدة الفلسفية تقول إنّ علّة المتغيّر متغيّرةٌ، وهذا أصلٌ ثابتٌ ولا غبار عليه، لكن ينبغى الالتفات إلى أنّها تشمل الحركة العرضية وليس الذاتية. مثلاً إن أردنا تحريك حجرٍ ثقيلٍ بواسطة عتلةٍ، فلا بدّ من طروء الحركة على الحجر والعتلة معاً، في حين أنّ الحركة الذاتية (الحركة الجوهرية) تحتاج فقط إلى علّةٍ موجدةٍ كمحرّكٍ لها، ولا يشترط في هذه العلّة أن تتّصف بالحركة، كالحرارة التي هي ملازمةٌ للنار والزوجية الملازمة للعدد أربعة، فما هو ضروريٌّ هنا وجود النار والعدد أربعة لتحقّق الحرارة والزوجية.

المحرّك الأوّل يقوم فقط بخلق النار والعدد أربعة، وتبعاً لذلك تتحقّق الحرارة والزوجية. حلاوة العسل مثالٌ آخر على ذلك، فيا ترى هل أنّ النحلة تقوم أوّلاً بإنتاج العسل ثمّ تضفي إليه الطعم الحلو؟ الجواب طبعاً (كلا)، فالعسل يُنتج حلواً في جعلٍ واحدٍ، وهو ما يصطلح عليه في علم الفلسفة ب_ (الجعل البسيط) وهو يقابل (الجعل المركّب) الذي مثاله خلقة الإنسان، حيث يُخلق أولاً ثمّ تُخلق سائر أعضائه البدنية، وهنا يوجد خلقان (جعلان).

وأمّا بالنسبة إلى الحركة الذاتية والتي تشمل الحركة الأولى للجسم، فنقول : لمّا كان الجسم لا ينفكّ عن الحركة والتغيير، فالخالق إنّما يخلقه بمجرّد جعلٍ بسيطٍ ومن ثمّ تُخلق الحركة فيه من تلقاء نفسها، كمثال النار والحرارة، والأربعة والزوجية. بعد هذا الخلق تتّخذ الحركات العرضية طابعاً خارجياً، ولابدّ من نسبتها إلى محرّكٍ متغيّرٍ ؛ في حين أنّ الحركات الأولى مفتقرةٌ فقط إلى

ص: 189

علّةٍ فاعلةٍ وهي في غنىً عن المحرك نظراً لكونها خلقت في لحظة خلقة الجسم .

بما أنّ الحركة الجوهرية في واقعها عبارةٌ عن نحوٍ واحدٍ من الوجود الذي هو وجودٌ تدريجيٌّ يتمّ من خلاله تحوّل الأمر من القوّة إلى الفعل؛ فهي مفتقرةً إلى جاعلٍ بسيطٍ - علّة فاعلة مجرّدة - وهذه العلّة ملازمةٌ للجسم في كلِّ آنٍ بحيث تمنحه الحركة الجوهرية. إذن صدور الحركة من الجوهر المجرّد الثابت عن طريق الجعل البسيط هو أمرٌ معقولٌ وممكنٌ، وفي هذه الحالة فالحركات العرضية تنسب إلى طبيعة الأشياء وجواهرها المتغيّرة، وهذه الجواهر تقوم بخلقٍ بسيطٍ استمداداً من الجوهر المجرّد. هذا الموضوع يطرح بين الفلاسفة تحت عنوان ربط المتغيّر بالثابت، ونحن بدورنا نكتفي بما ذكر مراعاةً لمقتضى البحث (1).

* الشبهة الخامسة عدم الحاجة إلى البحث عن محرّكِ مجرّدٍ:

بعض الذين طرحوا هذه الشبهة أدركوا مدة هشاشتها فبادروا إلى طرح شبهةٍ أخرى فحواها أنّ الحركة في هذا العالم إن لم تطرأ على المتحرّك من متحرّكٍ آخر وانتقلت إليه من محرّكٍ ثابتٍ، سوف لا تعتبر حينئذٍ أمراً غريباً كي نسعى إلى البحث عن علّتها في عالم المجرّدات (2).

تحليل الشبهة ونقضها:

طبقاً لدلالة الحركة الجوهرية فإنّ جميع أجزاء العالم المادّي ومكوّناته

ص: 190


1- للاطّلاع أكثر، راجع: صدر المتألّهين، الأسفار الأربعة، ج 3، ص 39 و 61 و 68؛ مرتضى مطهّري، حرکت و زمان در فلسفه اسلامي (باللغة الفارسية)، ج 1، ص312
2- www.kaafar.netfirms.com/baad/harakat.htm

لا تنفكّ عن الحركة والتغيير، وليس هناك أيّ جسم ساكنٍ بتاتاً، لذا لا مناص لنا من البحث عن محرّكٍ مجرّدٍ عن المادّة بغية بيان حقيقة الحركة وإثبات حاجتها إلى علّةٍ محرّكةٍ؛ وبالطبع علينا البحث في عالم الماورائيات.

فضلاً عن ذلك، هناك من انتقد برهان الحركة باستدلالاتٍ هشّةٍ ظنّاً منه أنّه طرح لإثبات كون الله عزّ وجلّ هو المحرّك الأوّل، لكنّ هذا البرهان في الحقيقة وضع في مقام بيان أنّ المحرّك الأوّل مجرّدٌ وليس من سنخ المادّيات، أي: إنّه علّةٌ ماورائيةٌ، وبعد إثبات هذه العلّة يُستعان ببرهان الإمكان والوجوب لإثبات وجود الله سبحانه.

البرهان الخامس: برهان النَّظم:

البرهان الخامس: برهان النَّظم:

هذا البرهان في واقع الحال يحظى بإقبال مختلف الطبقات الفكرية والاجتماعية نظراً لبساطته، لذلك كان واحداً من البراهين الشائعة بين الأنبياء والمرسلين، وحسب الوثائق التأريخية فهو يضرب بجذوره في العصر الإغريقي ولا سيّما في آراء الفيلسوفين أفلاطون وأرسطو (1).

وقبل أن نتطرّق إلى ذكر الاستدلال المطروح لإثبات وجود الله عزّ وجلّ على أساس برهان النَّظم، نشير أوّلاً إلى تعريفه.

- تعريف النَّظم:

النَّظم هو الانسجام بين الأجزاء المكوّنة لإحدى المجاميع لأجل تحقيق

ص: 191


1- للاطّلاع أكثر، راجع: أفلاطون، دوره آثار (باللغة الفارسية)، ج 3، كتاب تيمايورس؛ فريدريك كوبلستون، تاريخ فلسفه (باللغة الفارسية)، ج 1، ص 281

هدفٍ مشتركٍ، وحسب المدلول الفلسفي فهو قسمٌ من المعقولات الثانية واشتهر تعريفه بين الفلاسفة بأنّه عروضٌ ذهنيٌّ واتّصافٌ به في الخارج. القدر المتيقّن من التعريف الأخير أنّ النَّظم لا يعدّ أمراً ذهنياً صرفاً ولا اعتبارياً محضاً، بل له منشأ خارجيٌّ، حيث ينتزعه الذهن البشري عبر تصوّر مجموعةٍ من الأجزاء المنسجمة.

هناك خلافٌ بين علماء الفلسفة بالنسبة إلى كيفية تحقّق النَّظم وسائر المعقولات الفلسفية الثانية في الخارج، لكنّ هذا الموضوع خارجٌ عن نطاق بحثنا (1).

ص: 192


1- موضوع بحثنا يتمحور حول وجود المحمول في الخارج، في حين أنّ المحمول في المعقولات الفلسفية الثانية مثالها العلّة والإمكان والوجوب والنَّظم. يُشار هنا إلى أنّ المشّائين يؤيّدون الوجود المستقلّ، بينما الرواقيون وبمن فيهم شيخ الإشراق يتبنّون نظرية المحمول. للاطّلاع أكثر ، راجع : شيخ الإشراق، المطارحات، ص 25 و 346؛ صدر المتألّهين، الأسفار الأربعة، ج 1، ص 179 و 273. وللجمع بين القولين، انخرط صدر المتألّهين إلى طرح نظرية الرابط، بمعنى أنّ المعقولات الثانية ليست مجرّد اعتبارٍ ووجودٍ ذهنيٍّ بحيث تنعدم آثارها في الخارج، بل لها منشأ انتزاعي، أي: إنّ وجودها في الخارج رابطٌ وليس مستقلاً. إذن، مراد المعارضين هو إنكار وجود المستقلّ، ومقصود المؤيّدين هو الاعتقاد بوجود رابطٍ. للاطّلاع أكثر ، راجع: صدر المتألّهين، الأسفار الأربعة، ج 1، ص 332. وقد طرح العلامة محمّد حسين الطباطبائي تعريفاً جديداً، هو: «الإمكان موجودٌ بوجود موضوعه في الأعيان، وليس اعتباراً عقلياً محضاً لا صورة له في الأعيان كما قال بعضهم، ولا أنّه موجودٌ في الخارج بوجود مستقلٍّ منحازٍ كما قال به آخرون». محمّد حسين الطباطبائي، نهاية الحكمة، المرحلة الرابعة الفصل الأوّل، الأمر الثالث. لدى شرحه لتعريف العلامة الطباطبائي، قال الشيخ عبد الله جوادي الآملي: «لو كان وعاء اتّصاف المعقولات هي الربط بشكلٍ عينيٍّ، فإنّ وعاء العروض أيضاً سيكون عينياً أيضاً وليس ذهنياً». وقد عرف المعقول الفلسفي الثاني كما يأتي: «هو ليس الأمر الذي يكون الذهن ظرفاً لعروضه، وليس ذلك الذي يكون الخارج ظرفاً لاتّصافه». عبد الله جوادي الآملي، تبيين براهين اثبات خدا (باللغة الفارسية)، ص 28 وما بعدها؛ شناخت شناسی در قرآن (باللغة الفارسية)، ص 14؛ عبد الله جوادي الآملي، تفسير موضوعي - توحید در قرآن (باللغة الفارسية)، ج 13، ص 80 وما بعدها. وفي موضعٍ آخر، تطرّق إلى الحديث عن كيفية وجود المعقولات الثانية، حيث قال: «إنّ هذه المفاهيم لابدّ من أن تكون موجودةً في الخارج على نحوٍ من الأنحاء، ولكن ليس وفق النمط الوجودي السائد والمقتصر على الجوهر والعرض فقط، بل هي موجودةٌ على نحو الوجود الانتزاعي، وعين الوجود هو منشأ الاتنزاع». عبد الله جوادي الأملي، تفسير موضوعي - توحید در قرآن (باللغة الفارسية)، ج 13 ، ص 84

النَّظم مرتكزٌ على مقوّمين أساسيين، هما الانسجام بين أجزاء المجموعة الواحدة والغاية المشتركة بينها؛ ومن هذا المنطلق اعتمد علماء اللاهوت على النَّظم المذهل في الكون وعالم الخلقة لإثبات وجود الله سبحانه وتعالى، ونكتفي هنا بذكر ثلاثة أوجهٍ ذكروها في هذا الصدد : (1)

1 ) النَّظم الهادف:

في هذا النمط من النَّظم تترتّب جميع أجزاء المجموعة في مواضعها المناسبة لتسهم في تحقيق الهدف الأساسي للمجموعة كلّها، وأبرز مثالٍ على ذلك الأجزاء والعناصر المكوّنة لأحد النباتات أو الحيوانات حيث تتنامى وتترعرع في رحاب العلاقة العضوية الموجودة فيما بينها؛ ونتيجة ذلك بقاء

ص: 193


1- لدى بياننا لأوجه دليل النَّظم، اقتبسنا بعض المباحاث من كتاب: براهین اثبات خدا (باللغة الفارسية للأستاذ مصطفى ملكيان والذي لم يُنشر بعد

النبات والحيوان على قيد الحياة.

وهذا التقرير للبرهان بذاته يتفرّع إلى فرعين سنشير إليهما لاحقاً.

2 ) النَّظم الاستحساني والجمالي :

حينما يشاهد الإنسان مجموعةً منتظمةً في غاية الروعة والجمال، يشعر بالدهشة والإعجاب ممّا يدعوه لتذكّر عظمة الصانع الذي خلق هذا الجمال المذهل. ومن البديهي أنّنا عندما نشاهد لوحةً جميلةً نفكّر في براعة الرسّام الذي أفاضت أنامله هذا الجمال ولا يمكن لأيٍّ كان تصوّر عدم وجود رسّامٍ رسمها وكذا هو الحال بالنسبة إلى النَّظم الموجود فى الكون ولا سيّما النجوم المتناثرة في السماء وكأنها مصابيح برّاقة، فيا ترى هل يعقل أنّها اتّصفت بهذه الهيئة الفريدة من دون تأثير مؤثّرٍ؟!

3) النَّظم العلّي والمعلولي :

العقل البشري من خلال مشاهدته لبعض الأجزاء والمعلولات لإحدى المجموعات المنتظمة، كالمجموعة الشمسية المفتقرة إلى من يقوم بنظّمها وتقويمها (غير)، يحكم بضرسٍ قاطعٍ أنّ هذا الغير هو الناظم والعلّة الموجدة لهذه المجموعة ولجميع أجزائها المنتظمة.

هذه هي أهمّ أوجهٍ ذكرت حول برهان النَّظم، والوجه الأوّل هو الأكثر شهرةٌ بين العلماء والمفكّرين، فلو أمعنّا النظر فيه يتّضح لنا أنّه يشمل نظم الجمال (الاستحساني) أيضاً لأنّ النَّظم المذهل والترابط الحاصل بين أجزاء المجموعة وعناصرها سببٌ لإعجاب كلّ من يشاهده؛ وحين انعدام الانسجام

ص: 194

وطروء التشتّت تطرح استفهاماتٍ حول النَّظم وتحقّق المطلوب.

وأمّا القسم الثالث، فهو أكثر شبهاً ببرهان الإمكان والوجوب الفلسفي من برهان النَّظم، ونظراً لكونه مطروحاً ضمن مختلف مباحث علم الفلسفة، سوف نغضّ الطرف عن بيانه بشكل مستقلٍّ هنا كما سنتغاضى عن بيان الوجه الثاني لأنّه مندرج في ضمن مباحث الوجه الأوّل.

- أقسام النَّظم الهادف :

لا ريب في أنّنا من خلال التأمّل بعالم الطبيعة المحيط بنا نلمس وجود نظمٍ دقيقٍ ومذهل لدرجة أنّ جميع الظواهر المادّية بشتّى أجزائها تنمّ عن وجود صانعٍ نظمها في هذه الهيئة الفريدة التي لا يقبل العقل السليم بتاتاً بأنّها نشأت من تلقاء نفسها. وكما ذكرنا فالنَّظم الهادف يتفرّع إلى فرعين أساسيين، كما يأتي:

أوّلاً: النَّظم الهادف في إطارٍ محدودٍ :

من صور النَّظم التى يشاهدها الإنسان فى حياته، تجلّيه في إطار إحدى الظواهر المحدودة في الطبيعة ممّا يجعله يتحرّى عنها ويقيّمها كي يتوصّل على إثرها إلى الناظم الذي أوجدها فحينما يشاهد السمكة أو الحشرة أو الطير، أو أيّ كائنٍ آخر يتمعّن في خلقتها ويتساءل مع نفسه عمّن صوّرها بهذه الصورة الفريدة. أُنثى أحد الدبابير الطفيلية على سبيل المثال حينما تريد أن تبيض فهي تقوم بتخدير حشرةً تنقضّ عليها وتجعل بيوضها في بدنها ثمّ تموم مباشرةً، لذا عندما تفقس هذه البيوض تقوم المواليد الجديدة بالتغذي من بدن

ص: 195

الحشرة المضيفة، حيث تجد طعامها طازجاً؛ لذلك لو أنّ الحشرة الأمّ كانت قد قتلت تلك الحشرة ولم تخدّرها، لفسد جسمها ولما حصل الصغار على طعامٍ طازجٍ، بل فاسدٍ يهلكها فور ولادتها. والمذهل أيضاً في هذه الدورة الحياتية أنّ المواليد الجديدة تكرّر نفس العملية حينما تصل إلى سنّ البلوغ من دون أن تشاهد الأمّ وهي تفعل ذلك. فما تبرير هذه الظاهرة العجيبة ؟!

ومثالُ آخر على هذا النمط من النَّظم، نوعٌ من من سمك الجرّيث (الجلكي)، حيث يقطع آلاف الكيلومترات في أعماق المحيطات متّجهاً نحو جزر رمودا لأجل وضع بيوضه، وبعد ذلك يموت مباشرةً. وأمّا الصغار التي تخرج من البيوض فهي تعود إلى وطنها الأصلي لتعود مرّةً أخرى بعد أن تصل إلى سنّ البلوغ من دون أن تضلّ طريقها أو تضع بيوضها في مكانٍ آخر؛ ومن المؤكّد أنّه لا يوجد مرشدٌ يرشدها إلى الطريق أو يعلّما ما عليها القيام به، لذلك لا بدّ من وجود قدرةٍ غيبيةٍ وراء هذه الظاهرة المذهلة والنَّظم الذي يبهر العقول.

إذن، هل يمكن لعاقلٍ تصديق أنّ كلّ هذا النَّظم العظيم والهادف قد نشأ من جرّاء نفسه من دون تأثير أيّ مؤثّرٍ قديرٍ وتنظيم ناظمٍ حكيمٍ؟! أليس من السفاهة بمكانٍ زعم أنّ الصدفة العمياء هي التي أوجدت كلّ الأنماط اللامتناهية من النَّظم في شتّى أرجاء الكون؟! فيا ترى هل يمكن لأحدٍ تصوّر أنّ شخصاً أُمّياً يعبث بمفاتيح الحاسوب ويضغط عليها كيفما يشاء سخريةً، ثمّ صدفةً ينتج عن فعله هذا إنجازٌ أدبيٌّ أو علميٌّ في إطار شعرٍ منظومٍ أو نثرٍ متكامل الأطراف أو كتابٍ في علم الفيزياء أو الكيمياء، ثمّ نقول إنّ ما حدث محض صدفةٍ؟! أو هل من المعقول أنّ شخصاً لا يعيش في بلدنا ولا يعرف ترتيب

ص: 196

أرقام الجوّال الأولى، ومع ذلك نطلب منه تدوين رقم هاتفنا الجوّال بعد أن نمنحه أحد عشر رقماً عشوائياً ليقوم بترتبيها دفعةً واحدةً بغية استكشاف الرقم الصحيح؟! إنّ هذا الاحتمال يكاد يصل إلى درجة الصفر، وقال بعضهم إنّ نسبته تصل إلى واحد في العشرة مليارات (1).

إذن بناءً على ما ذكر، فإنّ مشاهدة النَّظم اللامتناهي في الكون تجعل العقل يوقن بوجود ناظمٍ عالمٍ قادرٍ حكيمٍ، وإذا ما شكّك بوجوده أحدٌ فلا بدٌ من استطلاع مدى قدراته الإدراكية والعقلية، فهو بكلّ تأكيدٍ يعاني من ضعفٍ حادٍّ في عقله. كمثالٍ على ذلك، نشير إلى ما قاله أحد علماء الكيمياء المعروفين: «اكتشف العلماء وجود علاقاتٍ معقّدةٍ في الكيمياء الآلية على صعيد ظهور الكائنات الحيّة وتأريخ تطوّر النباتات والحيوانات، وهي تنمّ عن وجود صانعٍ ومصمّمٍ قام بها، لذا لا يمكن القول بحدوثها عن طريق الصدفة، بل لا بدّ وأن تكون هناك جهةٌ معيّنةٌ سارت على أساسها، وهذه الجهة هي التي تبيّن حقيقة النَّظم الحاصل فيها» (2).

ثانياً: النَّظم الهادف في إطارٍ كلّيٍّ :

بعد أن وضّحنا معنى النَّظم الهادف في المصاديق الجزئية، نتطرّق فيما يأتي إلى الحديث عن هذا الأمر في إطار الظواهر والمجاميع العامّة والكلّية في مجالين أساسيين:

1 ) تلازم نَظم الكون والكائنات مع الغاية من الخلقة :

لا ريب في أنّ النَّظم المتّسق الحاصل في مجموعةٍ ما يدلّ على وجود

ص: 197


1- كيرسي موریس، راز آفرینش (باللغة الفارسية)، ص 9 - 10
2- ريتشارد بوبكين، كليات فلسفه (باللغة الفارسية)، ص 210

ناظمٍ وصانعٍ ابتدعه، فلو تأملنا في المجرّات الكونية والكواكب السيّارة في المجموعة الشمسية وأمعنّا النظر فى الكرة الأرضية التى سبكت بشكلٍ يتناسب مع حياة مختلف الكائنات الحيّة من نباتات وحيوانات وبشر، نستشفّ أنّ الناظم العظيم الذي نسّقها في هذا الإطار المذهل له هدفٌ معيّنٌ وغايةٌ ساميةٌ.

مثلاً لو وجدنا أحد المباني الراقية التي تتوفّر فيها جميع الخدمات الرفاهية في إحدى الجزر النائية، فلا شكّ في أنّنا ندرك باليقين وجود من شيّده، ومن ثمّ ندرك أنّه فعل ذلك عن قصدٍ وغايةٍ، وليس لأحدٍ زعم أنّه بُني من تلقاء نفسه أو عن طريق الصدفة عبثاً دونما أيّ هدفٍ! لذا، من البديهي أنّ هذا العالم العظيم بكلّ ما فيه من وسائل عيشٍ ورفاهيةٍ يناظر ذلك المبنى، حيث لم يصنعه الصانع القادر الحكيم دون هدفٍ، فهو يروم هداية البشرية البلوغ درجة الكمال من خلال توفير كلّ مستلزمات الحياة الضرورية.

2 ) التأثير المتبادل بين مختلف أجزاء العالم :

من المؤكّد أنّ الأجزاء المكوّنة للعالم مرتبطةٌ ببعضها ولها تأثيرٌ متبادلٌ فيما بينها الأمر الذي أسفر عن ظهور الحياة وبقائها. فالأجهزة الإلكترونية والميكانيكية على سبيل المثال إنّما تعمل على وفق المرام على أساس ارتباط أجزائها وتأثير كلّ واحدٍ منها على الآخر، أي: إنّها تعمل بانتظامٍ بصفتها مجموعةً واحدةً غير منفكّةٍ عن بعضها، وإلا حدث خللٌ فيها؛ وهذا الاتّساق بطبيعة الحال ذو غايةٍ معلومةٍ مشتركةٍ بين جميع الأجزاء. وكذا هو الحال بالنسبة إلى الكون برمّته وحياتنا الأرضية بشكلٍ خاصٍّ، فهي تظهر وتتكامل في مواطن متناسبة مع بعضها وتهيّئ مستلزمات المعيشة لكلّ كائنٍ حيٍّ ولا سيّما الإنسان، حيث نظمها صانعٌ قادرٌ حكيمٌ لأجل تحقيق غاية ٍساميةٍ.

ص: 198

- الانسجام السداسي بين الإنسان والكون :

طُرحت مجموعة من الآراء حول ماهية الانسجام والتناسب الموجود بين الإنسان والبيئة المحيطة به، لكنّنا نكتفي هنا بذكر ستّة أوجهٍ منها طُرحت من قبل المفكّر الغربي تينانت : (1).

1) انسجام النَّظم الكوني مع تطور الفكر البشري:

لقد صُمِّم الكون وما فيه بشكلٍ ينسجم مع القابليات الفكرية للإنسان، إذ يمتلك الاستعداد الكامل على معرفة ما يدور حوله وبلوغ ما يشاء من رغباتٍ لدرجة أنّه قادرٌ على التصرّف في بعض شؤون بيئته المحيطة، بل إنّ الظواهر المختلفة التي تكتنف حياته ترغّبه بالبحث والتحرّي بغية معرفة الحقائق والتحكّم بالطبيعة.

2 و 3) انسجام النَّظم الكوني مع نشأة الكائنات وبقائها :

خُلق الكون وما فيه من ظواهر مختلفة وعلى رأسها الطبيعة الحياتية المنسجمة في الكرة الأرضية، بصورةٍ تتناسب مع حياة الكائنات، أي: إنّ هذه الخلقة قد مهّدت الأرضية الملائمة والظروف المناسبة لظهور الحياة الإنسانية والحيوانية والنباتية وما يتفرّع عليها، ناهيك عن أنّها صاغتها بشكلٍ يجعل الكائنات تسير في رحاب منهجٍ تكامليٍّ في ظلّ قواعد متّسقة. فجميع الأشياء على سبيل المثال تنقبض في البرودة، لكنّ الماء مستثنى من هذه القاعدة، والحكمة من ذلك هي الحفاظ على بقاء الحيوانات المائية في فصل الشتاء وعدم هلاكها، فلو انقبض الماء عند الانجماد لهلكت معظم الكائنات البحرية. كما أنّ

ص: 199


1- مجموعة من المؤلّفين، خدا در فلسفه (باللغة الفارسية)، ص 88

غاز ثاني أوكسيد الكربون الذي يعدّ ساماً ومضرّاً للإنسان، تجذبه الأشجار لتستخلص منه الكربون وتطرح الأوكسجين اللازم لحياة البشر وسائر الحيوانات.

4) انسجام النَّظم الكونى مع النزعة الإنسانية في محبّة الجمال

الإنسان محبٌّ للجمال بفطرته، والعالم المحيط به مليءٌ بأروع صور الجمال في مختلف الأصعدة ممّا يعني أنّه يلبّي رغبات بني آدم ويشبع تعطّشهم للمشاهد الرائعة التى تسحر النفوس. فكلّنا يدرك جمال السماء الزرقاء الصافية في يومٍ مشمسٍ، ونُبهر بروعتها مساءً حينما تتّشح بنجوم برّاقة تتلألأ وكأنّها مصابيح عائمة، ودائماً ما نمتّع أنظارنا بالمشاهد الجملية للسهول والجبال والبحار التي تمنحنا رؤيتها الراحة والطمأنينة النفسية.

5) انسجام النَّظم الكوني مع المعايير الأخلاقية والخصال الحميدة

السنّة الكونية جاريةٌ بشكلٍ بحيث تجعل كلّ من يحتذي بالخلق الحسن ويتحلّى بالخصال الحميدة، موضعاً لتقدير بني جلدته ومحبّتهم واحترامهم؛ فيذيع صيته في المجتمع ويُذكر بفضلٍ وخيرٍ. هذه الظاهرة أسفرت عن ترسيخ مبدأ الالتزام بالأسس الأخلاقية ودوامه على مرّ العصور، ومن هذا المنطلق فمن لا يتقيّد بها ويرتكب القبائح من الأعمال أو يتّصف بالسيّئ من الأخلاق، كالسرقة والخيانة والكذب يصبح مذموماً في المجتمع ومبغوضاً بين الناس.

إضافةً إلى الحُسن والقُبح على الصعيد الأخلاقي، هناك ارتباطٌ تكوينيٌّ بين الأعمال الحسنة والسيّئة التي تبدر من الإنسان، مثلاً هناك آثارٌ وخيمةٌ تترتّب على من يشرب الخمر أو ينحرف جنسياً، حيث يتعرّض البدن

ص: 200

لأضرار ملحوظة وأمراض مستعصية قد تقعد الإنسان أو تودي بحياته، كالسرطان والإيدز.

6) انسجام النَّظم الكوني مع الرقيّ الصناعي

الطبيعة تزخر بمختلف أنواع المعادن والخيرات التي تمدّ الإنسان بما يحتاج إليه من متطلّبات الحياة، لذلك استغلّها لصالحه اعتماداً على قوّته الإدراكية وقدرته على التفكير والاستنتاج، ومن ثمّ بدأ يرتقي بنفسه ومجتمعه شيئاً فشيئاً إلى عصرنا الراهن الذي يشهد أرقى مظاهر التطوّر والرقيّ.

إذن نستنتج من هذه الأوجه الستّة أنّ هذا الانسجام الدقيق الناجم عن النَّظم الكوني الموجود في العالم على شتّى المستويات، يدلّ على وجود ناظمٍ حكيمٍ له القدرة على إيجاد تناسقٍ بين كافّة أجزاء البيئة المحيطة بنا وتسخيرها لصالحنا. كلّ واحدٍ من هذه الأوجه بذاته يدلّ على ضرورة وجود الخالق، ناهيك عن أنّها حين تجتمع مع بعضها تدلّ على هذه الحقيقة بشكل أجلى؛ فهي ذات فحوى واحدة تتمثّل في إثبات عظمة الكون من قبل صانعٍ مقتدرٍ؛ لذا فالشبهات التي طرحت عليها ليس من شأنها التشكيك في مصداقيتها بتاتاً، وهو ما أذعن به المفكّر تينانت نفسه، حيث قال: «كلّ واحدٍ من أوجه الانطباق هذه لا يعدّ دليلاً كافياً لإثبات نظرية التوحيد، لكنّنا إن جمعناها مع بعضها سوف تكون بأجمعها دليلاً نستشفّ منه أنّ أنسب الأقوال وأكثرها انطباقاً مع الأصول العقلية والتفاسير المنطقية الصحيحة هو القول بالتوحيد»(1).

ص: 201


1- مجموعة من المؤلّفين، خدا در فلسفه (باللغة الفارسية)، ص 89

بعد هذه المقدّمة حول النَّظم ، نشير فيما يأتي إلى اثنتين من المؤاخذات التي طرحت حول الأوجه الستّة المذكورة وما شاكلها للتشكيك بوجود ناظمٍ حكيمٍ أوجد كلّ هذا الإنسجام بين أجزاء الكون:

- إشكال إدواردز :

شكّك المفكّر الغربي بول إدواردز (1) ببعض مصاديق الانسجام الموجود في الكون، فقال هناك أمور لا تندرج في ضمن مبادئ الخير والشرّ، وهناك ظواهر يعجز العقل البشري عن إدراك كُنهها من قبيل انقراض بعض الكائنات الحيّة، ممّا يعني عدم نجاعة برهان النَّظم لإثبات وجود الناظم، إذ يحتمل أن يتمكّن الإنسان على مرّ الزمان من استكشاف خيرية بعض الأمور التي كانت مجهولة الدلالة بالنسبة إليه ، أو عبر تطوّر العلوم التجريبية قد يعرف السبب الكامن وراء انقراض ما انقرض من الكائنات الحيّة. فهذه الظواهر قد تكون ناجمةً عن عللٍ طبيعيةٍ أو إنسانيةٍ، ولو ثبت ذلك فلا يثبت مدّعى وجود الناظم الذي وضع أصولاً وقواعد على هذا الأساس.

وأكّد هذا المفكر على أنّنا لو أخذنا بعين الاعتبار بعض الحالات التي ينعدم فيها الانسجام، فلا يبقى مجالٌ لاعتبار الانسجام الحاصل في حالاتٍ أخرى دليلاً على وجود الناظم.

- إشكال باربر :

طرح المفكّر الغربي إيان باربر ثلاث مؤاخذاتٍ على الأوجه المذكورة،

ص: 202


1- مجموعة من المؤلّفين، خدا در فلسفه (باللغة الفارسية)، ص 91

وهي كما يأتي:

1 ) أوجه الانسجام المذكورة لا تثبت وجود الإله الذي تؤمن به الأديان.

2 ) يترتّب على الانسجام القول بإيكال الأمور إلى الطبيعة وتجريد الإله من أيّ تأثيرٍ فاعل على الكون.

3 ) إن أوكلنا الأمور إلى الطبيعة فلا مناص لنا من القول بالجبر والعليّة (1).

الظاهر من كلام إيان باربر في النقطتين الأخيرتين هو تأييد دلالة الأوجه الستّة على وجود الناظم الحكيم، إلا أنّه يستشكل على أمورٍ أخرى لا تمتّ بصلةٍ إلى إثبات وجوده أو عدم إثباته، ولمّا كان المراد من برهان النَّظم هو إثبات وجود الناظم الحكيم الذي حبك أجزاء الكون وليس إثبات وجود الإله الذي تؤمن به الأديان بالصفات الخاصّة التي ذكرت له، نقول إنّ باربر خلط بين الأمور وتصوّر أنّ جريان العلّية في الطبيعة لا ينسجم مع قدرة الله تعالى وينافي تأثيره عليها ممّا جعله يعدّ الانسجام الكوني جبراً؛ وقد أٌثبت بطلان هذه الرؤية في موضعه (2).

- القيمة المعرفية لبرهان النظم :

هناك ثلاث وجهات نظرٍ أساسيةٍ ترتبط ببرهان النَّظم ومدى فائدة

ص: 203


1- إيان باربر، علم ودين (باللغة الفارسية)، ص 425
2- للاطّلاع أكثر، راجع: محمّد حسن قدردان قراملکي، اصل علّیت در فلسفه وکلام (باللغة الفارسية)، ص 99 و 151

الاعتماد على مسألة النَّظم في إثبات وجود الله عزّ وجلّ، وهي:

1 ) الأُسس المنطقية لبرهان النَّظم:

يرى بعض علماء اللاهوت أنّ برهان النظم واحدٌ من البراهين العقلية المتكاملة بحيث يمكن الاعتماد عليه لإثبات وجود البارئ الحكيم سبحانه، أي: إنّه كسائر البراهين التي سيقت في مباحث علم اللاهوت. وهذه الرؤية حظيت بتأييدٍ واسعٍ بين الفلاسفة الغربيين وعلماء الكلام المسيحيين، ولا سيّما في القرون الوسطى والعصر الحديث، فضلاً عن تبنّيها من قبل أفلاطون وأرسطو؛ (1) وأيّدها أيضاً القدّيس توما الأكويني وإسحاق نيوتن وجون راي ووليام بيلسي (2).

وفي عصرنا الراهن طرحت قراءاتٌ جديدةٌ لهذا البرهان من قبل علماء الكلام الليبراليين البروتستانت وكذلك في المؤلّفات الفلسفية التي دوّنها الباحثون الكاثوليك (3)، كما أنّ بعض العلماء المسلمين المعاصرين تطرّقوا إلى بيانه فى إطار أوجهٍ وصورٍ عديدةٍ(4) .

ص: 204


1- للاطّلاع أكثر، راجع: جين ويهل، بحثي در ما بعد الطبيعة (باللغة الفارسية)، ص 872
2- للاطّلاع أكثر ، راجع: إيان باربر، علم ودين (باللغة الفارسية)، ص 417 و 104
3- المصدر السابق، ص 417
4- للاطّلاع أكثر، راجع: مرتضی مطهّری، علل گرایش به مادّيگري (باللغة الفارسية)، ص184؛ محسن غرویان، سیري در ادله اثبات وجود خدا (باللغة الفارسية)، ص 96؛ جعفر السبحاني، الإلهيات؛ ناصر مکارم الشيرازي، آفریدگار جهان (باللغة الفارسية)؛ حسين نوري الهمداني، جهان آفرینش (باللغة الفارسية)؛ أحمد الديلمي، طبیعت و حكمت (باللغة الفارسية)، الفصل الخامس

الدليل العقلي على برهان النَّظم:

عدّ أحد المفكّرين المعاصرين برهان النَّظم بأنّه يندرج ضمن البراهين شبه اللمّية، وذلك لما يأتي: لا نستدلّ في برهان النَّظم على وجود العلّة اعتماداً على المعلول كي يعترض بعضهم عليه ويجرّده من قيمته المعرفية، بل الاستدلال فيه إنّما يكون من أحد المتلازمين على الآخر - النَّظم والناظم - فهاك تلازمٌ عقليٌّ بينهما لأنّ النَّظم ممتزجٌ بالعلم والدراية، وهذا التلازم ليس من سنخ ارتباط المعلول بعلّته كي يدّعى إلحاقه بالبرهان الإنّي.

وقيل على هذا الصعيد :

استناداً إلى مبدأ العلّية، ليس هناك احتمالٌ بكون خلقة الذرّات المتناثرة على نطاق واسع في الكون محض صدفةٍ، كما لايحتمل ارتطامها مع بعضها بشكلٍ يجعله منتظماً بهذا الشكل؛ فالنَّظم التكويني لا بدّ وأن يتواكب مع وجودٍ عينيٍّ خاصٍّ، وبالتأكيد لا يمكن للوجود العيني أن ينشأ دون مبدأ فاعلٍ.

وتقريب الاستدلال هو وجود تلازمٍ عقليٍّ بين النَّظم والناظم، وأحد المتلازمين في كبرى برهان النَّظم يثبت للملازم الآخر ويُدرك المعلول استناداً إلى العلّة ...

نتيجة ما ذكر أنّ إثبات وجود الناظم عن طريق المنظوم ليس من المقولات الكلّية، كما أنّه ليس مجرّد استدلال على وجود العلّة لكون النَّظم معلولاً سواءٌ كانت تلك العلّة واعيةً أم غير واعيةٍ؛ بل نُدرك وجود المعلول عن طريق علّته فيكون البرهان من سنخ البراهين اللمّية، لأنّ النَّظم يترافق مع

ص: 205

مبادئ علمية، وعلى هذا الأساس لا مناص من كون الناظم عالماً» (1).

إضافةً إلى ما ذكر، نستلهم من كلام الحكيم صدر الدين الشيرازي أنّ الدليل العقلي الآخر لإثبات صحّة برهان النَّظم يتمثّل في فطرة الإنسان الذي يدرك بالوجدان حاجة كلّ نظمٍ إلى ناظمٍ مدركٍ؛ فبعد أن تحدّث هذا الحكيم عن النَّظم المذهل في بدن الإنسان وسائر الكائنات الحيّة، قال في نقض ادّعاء من ادّعى عدم الحاجة إلى خالق مدركٍ عليمٍ: «... والأوّل محالٌ، شهادة كلّ فطرةٍ سليمةٍ على أنّ فاعل هذا الترتيب العجيب والنَّظم المحكم، يستحيل أن تكون قوّةً عديمة الشعور » (2).

2 ) برهان النَّظم دليلٌ ومرشدٌ إلى الحقّ :

برهان النَّظم لا يعدّ دليلاً مستقلاً يُعتمد عليه في إثبات وجود الله عزّ وجلّ، بل غاية ما يتحصّل منه إثبات وجود قدرةٍ مدركةٍ غالبةٍ بإمكانها تدبير شؤون الكون وإيجاد النَّظم والترتيب فيه. وبعبارةٍ أخرى فإنّ ذروة دلالة النَّظم الموجود في الكون هي تأييده للبراهين التي يطرحها علماء اللاهوت على صعيد إثبات وجود الله تعالى وتذكيره الإنسان بهذه الحقيقة الثابتة؛ لكن لا يمكن الاعتماد عليه للقول بأنّ الله تعالى هو المدبّر والحكيم الذي خلق الكون وأنّه واحدٌ لا شريك له، أي: إنّ النَّظم يدلّ على وجود ناظم فحسب بغضّ النظر عن سائر المعتقدات.

ضمن بسطهم لبراهين إثبات وجود الله تعالى لم يذكر الفلاسفة برهان

ص: 206


1- عبد الله جوادي الأملي تبيين براهين اثبات خدا (باللغة الفارسية)، ص 39 – 40
2- صدر المتألّهين، الأسفار الأربعة، ج 8، ص 118

النَّظم ضمنها، أي: إنّهم لم يعتبروه برهاناً مستقلاً حاله حال سائر البراهين العقلية؛ فالحكيم المتألّه هادي السبزواري عدّ النَّظم الكائن في السماوات والأرض شاهداً على وجود الناظم وليس برهاناً على ذلك، إذ قال: «إتقانهما وانتظامهما شواهد معرفته وربوبيته تعالى» (1). وقد أيّد هذا الرأى بعض المفكّرين الغربيين من أمثال وليام جيمز (2) وإيان باربر(3)، وقال بول إدواردز: «ليس من شأن برهان النَّظم إثبات الإله الذي يؤمن به الموحّدون، وأقصى ما يُستشفّ منه كحصيلةٍ ثابتةٍ هو أنّ كلّ شكلٍ من أشكال النشأة والتدبير في الكون ناشئٌ من فعل فاعلٍ وتدبير مدبّرٍ واعٍ» (4) .

كما أنّ معظم المفكرين المسلمين يؤيّدون ذلك، وبمن فيهم عبد الله جوادي الآملي (5) ومحمّد تقي مصباح اليزدي(6) وجعفر السبحاني (7) وإقبال

ص: 207


1- التعليقات على الأسفار الأربعة، ج 1، ص 15
2- وليام جيمز، دين وروان (باللغة الفارسية)، ص 130
3- إيان باربر، علم ودين (باللغة الفارسية)، ص 130
4- للاطّلاع أكثر ، راجع: مجموعة من المؤلّفين، خدا در فلسفه (باللغة الفارسية)، ص 85؛ جين ويهل، بحثي در ما بعد الطبيعة (باللغة الفارسية)، ص 774
5- قال الشيخ عبد الله جوادي الآملي: «على الرغم من إقامة براهين عديدة لإثبات واجب الوجود، لكنّ بعضها لا يفي بالغرض ولا تدلّ على المطلوب من قبيل برهان النَّظم». شرح أسفار (باللغة الفارسية)، ج 6، ص 9 و 187
6- قال الشيخ محمّد تقي مصباح اليزدي: «الأدلّة التي أقيمت لإثبات وجود الله تعالى عن طريق مشاهدة الآثار والآيات الكونية كدليل النَّظم واللّطف، هي في الحقيقة تفي بدورٍ على صعيد إيقاظ الفطرة الإنسانية ومنح المعرفة الفطرية». محمّد تقي مصباح اليزدي، آموزش فلسفه (باللغة الفارسية)، ج 2، ص 338
7- للاطّلاع أكثر ، راجع: جعفر السبحاني، مدخل مسايل جديد در علم کلام (باللغة الفارسية)، ص 79 و 82

اللاهوري (1) والشهيد مرتضى مطهّري الذي قال: «النَّظم يُثبت أيضاً أنّ العالم يتمّ تدبيره من قبل مدبّرٍ قادرٍ مريدٍ، ولكن ما حقيقة هذه القدرة؟ هل هي نفس واجب الوجود القائم بذاته أو أنّها مخلوقةٌ ومخوّلةٌ بنظم الكون؟ فهل يا ترُى هي قدرةً واحدةً أو متعدّدةٌ؟ وهل هي أزليّةً أو لا؟ ... هذه الاستفهامات وما شاكلها لا يمكن الإجابة عنها عن طريق المطالعة والتحرّي في الكائنات و آثارها» (2).

3 ) عدم دلالة النَّظم بالضرورة على وجود الناظم (نظرية الصدفة) :

وجهتا النظر اللتان ذكرتا آنفاً تؤيّدان دلالة النَّظم على وجود الناظم الحكيم، ولكن وجهة النظر الثالثة تنكر هذه الدلالة وتؤكّد على أنّ الصدفة هي التي أوجدت النَّظم في الكون، إذ ذهب بعض العلماء الغربيين إلى ذلك، بمن فيهم ديفيد هيوم وإيمانوئیل كانط و تشارلز داروین (3)، وسنسلّط الضوء على هذا الموضوع في المباحث اللاحقة بتفصيلٍ أكثر.

بعض معارضي برهان النَّظم أنكروا وجود النَّظم في الكون من أساسه معتبرينه وهماً صاغته الأوهام الذهنية للإنسان، أي إنّه عارٍ عن الحقيقة (4)، وقد حظي هذا الرأي بتأييدٍ عددٍ من العلماء المسلمين كإقبال

ص: 208


1- للاطّلاع أكثر، راجع: محمّد إقبال اللاهوري، احياي فكر ديني در اسلام (باللغه الفارسية)، ص 36
2- هامش كتاب: أصول فلسفه و روش رئاليسم (باللغه الفارسية)، ص 96 – 97
3- للاطّلاع أكثر، راجع: إيان باربر، علم ودين (باللغة الفارسية)، ص 47
4- للاطّلاع أكثر ، راجع: وليام جيمز، دين وروان (باللغة الفارسية)، ص 126 و 130

اللاهوري (1)، وسنذكر رأيه في المباحث القادمة.

وفيما يأتي نعرض وجهات النظر الثلاثة بالنقد والتحليل:

استناداً إلى ما ذكرناه آنفاً من مباحث حول برهان النَّظم، فلا ريب في بطلان وجهة النظر الثالثة (نظرية الصدفة) لأنّ أقلّ ما نستشفّه من النَّظم الموجود في الكون هو دلالته على وجود ناظمٍ حكيمٍ، وهو أمرٌ ينسجم مع المبادئ العقلية الصائبة وسيرة العقلاء، في حين أنّ زعم كون الصدفة هي السبب في ذلك يرفضه العقل جملةً وتفصيلاً، وهو ما سنثبته لاحقاً.

إذا أمعنّا النظر في النَّظم سنجده يدلّ بكلّ ما فيه على وجود ناظمٍ حكيمٍ يروم تحقيق غايةٍ ممّا فعل، ولكنّ النَّظم بذاته لا يحدّد لنا من هو هذا الفاعل ولا يبيّن ما إن كان ممكناً أو واجب الوجود ، ولا يثبت كونه واحداً أو متعدّداً؛ لأنّ جميع الفرضيات المطروحة تنسجم مع وجود نظم يقبله العقل بكلّ حذافيره. إذن، لا يمكن اعتبار النّظم دليلاً منطقياً على صعيد إثبات وجود د الله عزّ وجلّ بصفاته الخاصّة وأسمائه الحسنى وغاية ما يفيدنا هو وجود ناظمٍ حكيمٍ ومدبّرٍ قديرٍ، لكنّنا من خلال ضمّ هذه النتيجة سائر الاستدلالات العقلية، بما فيها مبدأ العلّية، نتمكّن من إثبات وجود الله تعالى.

شبهاتٌ وردودٌ:

شبهاتٌ وردودٌ:

ذُكرت مجموعة من الشبهات حول برهان النّظم، ونشير فيما يأتي إلى تقريرها ومن ثمّ نقوم بنقدها:

ص: 209


1- للاطّلاع أكثر، راجع: محمّد إقبال اللاهوري، احياي فکر ديني در اسلام (باللغه الفارسية)، ص 37
* الشبهة الأولى : الغموض في تعريف النَّظم وعدم اتّضاح الغاية منه :

هناك تعريفان مطروحان حول النّظم، أحدهما لا تُلحظ فيه الغاية، والآخر تُلحظ فيه. وبطبيعة الحال فإنّ تعريفه بغضّ النظر عن الغاية منه يعدّ ناقصاً ومخالفاً للأصول العقلية، بل إنّ تجريده عن الغاية يوجب الشكّ والترديد فيه من الأساس؛ ومن ثمّ فهذا الأمر يتباين مع افتراض وجود ناظمٍ حكيمٍ، كما أنّ تعريفه مع لحاظ الغاية هو الآخر لا يخلو من مؤاخذاتٍ، فما هي الغاية التي يروم الناظم تحقيقها؟ وهل أنّ حدوث خللٍ فيها يتسبّب في التشكيك به أو إنكاره من الأساس؟

يقول المعترضون بأنّنا قادرون على تعيين غاياتٍ وأهدافٍ لكلّ أمرٍ سواءٌ كان مركّباً أو بسيطاً، ومن ثمّ بإمكاننا درجها في ضمن تعريفه؛ ولكنّ هذا الأمر لا يدلّ على كون الأمر منتظماً. وقد استشهدوا بالعين كمثالٍ على رأيهم، إذ قالوا: إنّ هدفها الرؤية، وحين عجزها عن ذلك بإمكاننا وصفها بكونها مجموعةً منتظمةً لأنّها باقيةٌ في حدقتها ومحافظةٌ على مكوّناتها وما يرتبط بها من خلايا عصبية وشرايين.

إذن، التعريف الأوّل - تجريد النَّظم من الغاية - يثير الشكوك حول أصل النَّظم والناظم الحكيم، في حين أنّ التعريف الثاني الذي يتضمّن الغاية يذهب إلى أبعد من الحدّ المعقول ويدرج كلّ أمرٍ غير منتظم ضمن النَّظم، إذ بإمكاننا افتراض فوائد وأهداف قريبة أو بعيدة الأمد لكلّ شيءٍ(1).

ص: 210


1- www.kaafar.netfirms.com/baad/nazm.htm

تحليل الشبهة ونقضها :

إن أردنا نقض الشبهة المذكورة فلا بدّ لنا من لحاظ الأمرين الآتيين في تعريفه :

1) حقيقته.

2) دلالته على وجود ناظمٍ حكيمٍ.

وعلى هذا الأساس يدفع إشكال تعميم النَّظم على ما هو غير منتظمٍ، ذلك لأنّ نظم كلّ أمرٍ وغايته لابدّ من أن يتناسبان مع شأنه؛ فعلى سبيل المثال لو لاحظنا تلاميذ مدرسةٍ ابتدائيةٍ مصطفّين بشكلٍ غير مرتّبٍ في ساحة المدرسة، فهذا لا يعني إنكار وجود معلّمٍ أو مديرٍ يشرف عليهم، بل يمكن أن يكون موجوداً لكنّه تغاضى عن عدم انتظامهم بالشكل المطلوب نظراً لصغر سنّهم؛ ولكنّ الأمر يختلف بالنسبة إلى أعضاء حرس الشرف الذين يستقبلون الشخصيات السياسية والوفود الرفيعة في المطار، إذ لا بدّ لهم من الانتظام بأنسب شكلٍ ممكنٍ. إذن في كلا المثالين الناظم موجودٌ، وبطبيعة الحال فإنّ الهدف من خلقة العين هو رؤية الأشياء، لكنّها إن عجزت عن ذلك فلا معنى للتشكيك في تعريف النَّظم. ومن هذا المنطلق لو ألقينا نظرةً على جميع أجزاء الكون، سنجدها برمّتها سلسلةً منتظمةً تندرج في ضمن شتّى المجاميع المتكاملة في الصياغة والوجود، وسنلفي أنّ كلّ مجموعةٍ تحظى بهدفٍ معيّنٍ ونظامٍ خاصٍّ، وقد وضّحنا هذه الحقيقة في مستهلّ البحث. نعم، قد يحدث خللٌ في نظم بعض هذه المجموعات لأسباب مختلفة، كضعف عين الإنسان إثر مشاكل وراثية أو بسبب عدم تغذيتها بالفيتامينات اللازمة.

من الممكن أن تفسد ثمار إحدى الأشجار لأيّ داعٍ كان، وهذا الخلل

ص: 211

بطبيعة الحال له علله الخاصّة التي تنضوي تحت نظمٍ معيّنٍ. فإذا فقد الإنسان قدرته على البصر سوف تختلّ الغاية منه، ولكنّ الحالة الأخرى للعين - وهي ارتباطها بخلاياها العصبية وشرايينها المغذية لها - يعدّ نظماً آخر تتحقّق فيه الغاية المرجوّة، إذ تبقى العين عيناً في حدقتها وتصان مكوّناتها من التلف الكامل الذي إن طرأ عليها قد يؤدّي إلى إفساد سائر الأعضاء المحيطة بها.

استناداً إلى ما ذكر، حتّى وإن لاحظنا بعض الحالات التي يختلّ فيها النَّظم في ضمن البيئة المحيطة بنا فهذا لا يعني المساس بمصداقيته أبداً، فإن أمعنّا النظر على وفق المبادئ الفلسفية نلحظ أنّ البديل عن هذا الخلل هو نظمٌ آخر وليس انعدامه. وبعبارةٍ أخرى، نطرح السؤال الآتي على منتقدي برهان النَّظم: هل بإمكانكم أن ترشدونا إلى مجموعةٍ غير منتظمةٍ في الطبيعة تدرج في ضمن تعريف النَّظم ؟

بالنسبة إلى الكوارث الطبيعية من قبيل الزلازل والبراكين التى تتقوّم على عللٍ طبيعيةٍ، سوف نتطرّق إلى الحديث عنها لاحقاً لدى نقضنا للشبهة السادسة عشرة.

*الشبهة الثانية: النَّظم أمرٌ نسبيٌّ وذهنيٌّ :

المواقع الإلكترونية تزخر اليوم بشتّى أنواع الانحرافات، بما فيها التشكيك بالمعتقدات الدينية وتحريف حقيقة النَّظم الموجود في الكون، ومن جملة الشبهات التي طرحت حوله ادّعاء زعم كونه من الأمور النسبية والذهنية، أي: لا اعتبار له لأنّه يتحقّق في ظلّ قضايا أخرى؛ فهو مثيل المواطن الصالح أو السيّئ اللذين لا يمكن تصوّرهما إلا في نطاق أحد المجتمعات.

ص: 212

ومن جملة ما قاله هؤلاء : النَّظم يعدّ أمراً ذهنياً وليس خارجياً، حيث يحكي عن وجود تطابقٍ بين الأجزاء والمسائل الكلّية؛ لذلك نتصوّر قضايا عديدة في أذهاننا ومن ثمّ نضمّها إلى بعضها لأجل غايةٍ معيّنةٍ» (1). كما يحاولون إنكار القوانين التكوينية الموجودة بين مختلف مكوّنات العالم، حيث قالوا: «القوانين ليس من شأنها أن تمنحنا الوجود، وإنّما هى عبارةٌ عن قضايا ننتزعها من وجود الأشياء » (2).

ومن المؤاخذات الأخرى التي يطرحونها، هي اعتبار النَّظم أمراً نسبياً ؛ بمعنی أنّنا حينما نتأمّل في النَّظم لابدّ أن نأخذ أموراً أخرى بعين الاعتبار؛ وعلى هذا الأساس فهو لا يمكن أن يصدق إلا على أمورٍ محدودةٍ وفي الحين ذاته لا يصدق على العالم ككلٍّ وذلك لعدم وجود معيارٍ خارجٍ عن نطاقه يمكن الاعتماد عليه لتقييمه. مثلاً بإمكاننا تعريف معنى النَّظم الحسن أو السيّئ بالنسبة إلى بني آدم، لكنّنا غير قادرين على تعريف معنى حُسن النَّظم الاجتماعي أو سوئه نظراً لفقدان الملاك الخارجي المعتمد في هذا التعريف. وكذا هو الحال بالنسبة إلى النَّظم الكوني، حيث ليس لدينا معيارٌ نستند إليه في هذا المضمار، ومن هذا المنطلق لا يمكن تسرية النَّظم إليه ومن ثم لا يتسنّى لنا إثبات وجود ناظمٍ حكيمٍ هو الله عزّ وجلّ. بالنسبة إلى العالم، يمكننا عدّه بذاته معياراً كلّياً، ومن ثمّ ننظر إليه بصفته أمراً منظوماً ومرتّباً، لكنّ المشكلة هي أنّ نظمه هذا سيكون مجرّد مسألةٍ اعتباريةٍ وضعناها بأنفسنا، أي إنّنا افترضناه منظّماً وزعمنا عدم نشوء هذا النَّظم من جانب الله سبحانه وتعالى(3).

ص: 213


1- Ibid. p. 2
2- Ibid
3- Ibid. p. 3

تحليل الشبهة ونقضها :

بإمكاننا إثبات وهن هذه الشبهة في النقاط الآتية:

1 ) قيل في تعريف النَّظم إنّه ليس مفهوماً ذهنياً، بل هو أمرٌ مُنتزعٌ من أجزاء وعناصر منسجمة ومرتبطة مع بعضها وتهدف إلى تحقيق غايةٍ ما، أي إنَّه غير منتزعٍ من أمرٍ خارجيٍّ. مثلاً لو تأمّلنا في القابلية الكامنة لبذرة أحد النباتات كالرمّان سنجد مدى عظمة النَّظم الذي تسير على وفقه، إذ نجد أنّها قد غُرست ونبتت ثمّ تنامت وترعرعت في ظروفٍ مناسبةٍ لتتحوّل إلى شجرةٍ، وهذه الشجرة بعد أن بلغت أثمرت براعم تحوّلت إلى ثمارٍ خضراء ثمّ يانعة مليئة ببذور الرمان الحمراء المشابهة للبذرة الأولى التي غرُست في التربة؛ وهذه البذور بدورها لها القابلية على الغرس لنموّ أشجارٍ جديدةٍ. إذن، النَّظم في الحقيقة هو انعكاسٌ لحقيقةٌ خارجيةٍ نستشفّ منها مفهوماً نجسّده في ذهننا. وبعبارةٍ أخرى فهو من المعقولات الفلسفية الثانية التي تحكي عن الواقع الخارجي.

2 ) اتّضح لنا في النقطة الأولى وهن القول بأنّ القوانين مجرّد استنتاجاتٍ نتوصّل إليها عن طريق مشاهداتنا الخارجية، لأنّ ما يؤدّي إلى تحقّق النَّظم في الكون - كتحوّل بذرة الرمّان إلى شجرةٍ - هو وجود ارتباطٍ تكوينيٍّ على نحو العلّية والمعلولية في عالم الخلقة، وهذا الارتباط له القابلية على تمهيد الأرضية اللازمة لتحقّق صورٍ شاملةٍ من النَّظم كالمجموعة الشمسية، وتحقّق صورٍ جزئيةٍ كشجرة الرمّان.

إذن، القوانين هي في الواقع تناظر النَّظم لكونها تحكي عن حقائق

ص: 214

خارجية، والذهن بدوره يتأمّل في الطبيعة ويقوم بتحليلها على وفق أصول عقلية فيستكشف منها قوانين يضفي عليها صبغةً علميةً.

3 ) بالنسبة إلى نظم الكون كلّه، نقول: بما أنّه مجموعةً واحدةً (كلّ)، فهو بذاته يعني جميع عناصره وأجزائه المكوّنة له؛ ولمّا ثبت لنا أنّ هذه الأجزاء بذاتها منتظمةٌ؛ بإمكاننا استنتاج أنّ الكون بأسره منظّمٌ. فحُسن بني آدم وسوئه على سبيل المثال يمكننا اعتباره معياراً لمعرفة مدى تكامل المجتمع وما إن كان حسناً أو سيّئاً. إذن المجتمع والعالم بأسره ليسا بحاجةٍ إلى معيارٍ آخر غير أجزائهما المكوّنة لهما، ومن ثمّ فإنّه لا يمكن زعم أنّ النَّظم الكوني أمرٌ اعتباريٌّ اتّفق البشر عليه، بل هو أمرٌ واقعيٌّ يحكي عن تحقّقه أيضاً بين جميع أجزاء الكون وعناصره، وهذا التنظيم المتناسق بكلّ تأكيدٍ مفتقرٌ إلى ناظمٍ حكيمٍ، لكن غاية ما في الأمر أنّ انتظام بعض الأجزاء والعناصر يتمّ بوساطة مسبّباتٍ واضحةٍ للعيان في حين أنّ انتظامها بصفتها كلّاً واحداً في ضمن مجموعتها مفتقرٍ إلى ذلك الناظم المدرك الحكيم الذي تفوق قدرته كلّ قدرةٍ في الكون. لا يختلف اثنان في أنّ كلّ بقعةٍ من بقاع بستانٍ كبيرٍ تحتاج إلى فلاح ٍيهتمّ بها، ومن ثمّ لو اجتمع الفلاحون في هذا البستان فلا بدّ لهم من شخص يشرف عليهم وينظّم شؤونهم؛ فكيف بالكون العظيم المترامي الأطراف؟!

4 ) النقطة الثالثة ترتكز على أساس افتراض الكون بصفته مجموعةً شاملةً (كلّ اعتباري)، ولكن إذا اعتبرناه مركّباً حقيقياً، ففي هذه الحالة مع أنّنا نلاحظ أجزاءه المكوّنة له وهي مرتّبة في إطارٍ منظومٍ، لكنّ العلم بالغاية من هذا النَّظم في عالم الوجود يعدّ محالاً بالنسبة لنا، ورغم ذلك فهذا الجهل لا يعتبر وازعاً لحدوث خلل أو تشكيكٍ في وجود النَّظم ولا يمكن التشبّث به

ص: 215

للتشكيك بوجود الناظم المدرك الحكيم؛ لأنّنا ندرك غاية الإدراك ذلك النَّظم الحاصل في العناصر والأجزاء. وهذا الأمر يناظر إحدى الصالات المزيّنة المعدّة لإقامة احتفالٍ بإحدى المناسبات، إذ لا يمكن لأيٍّ كائنٍ كان إنكار أنّها قد أُعدّت هذا الإعداد الجميل بوساطة شخصٍ خبيرٍ أو عدّة أشخاصٍ يعملون تحت إمرته، فهؤلاء رتّبوا الزينة وكلّ ما هو موجود في الصالة حسب أوامر ذلك الخبير ، كما نفهم من ملاحظتنا لزينة الصالة وسائر مكوّناتها ما إن كانت قد أُعدّت لحفل بهجةٍ وسرورٍ أو المجلس عزاءٍ وتأبينٍ.

وعلى هذا الأساس، فالنَّظم المذهل في الكون والموجود في مختلف مجالات الطبيعة والحياة، يسحر العقول ويبهر النفوس، ويدلّ بالبداهة على وجود ناظمٍ ماورائيٍّ، وبطبيعة الحال أنّنا حتّى لو جهلنا غاية الناظم من وراء ما فعل، فهذا لا يمسّ بالنَّظم نفسه ولا بدلالته على وجود ناظمٍ حكيمٍ، لأنّ الجهل بشيءٍ ليس دليلاً على عدم وجوده.

*الشبهة الثالثة : حساب الاحتمالات :

يسعى معارضو برهان النَّظم إلى إثبات أنّ احتمال تحقّق النَّظم في الكون من دون ناظمٍ، هو أحد الاحتمالات المطروحة ولا فرق بين كونه ضعيفاً أو قوّياً، أى إنّه فرضيةٌ غير مستحيلةٍ.

ومن جملة الأمثلة التي استشهدوا بها على هذا الصعيد ما يأتي: إذا وضعنا مليار بطاقةٍ مرقّمةٍ في صندوقٍ وخلطناها مع بعضها ثمٍ طلبنا من شخصٍ أن يغمض عينيه ويستخرج منها البطاقة المرقّمة (999)، فإنّ احتمال تحقّق هذا الأمر يبلغ واحد بالمليار، وهو بطبيعة الحال احتمالٌ بعيدٌ لكنّه غير

ص: 216

مستحيلٍ، بل لابدّ من أن يتحقّق عند التكرار. لذا، فإنّ الاحتمال الضعيف لتحقّق أمرٍ ما، لا استحالته يعني ومن ثمّ لا يدلّ بالضرورة على أنّه منتسبٌ إلى قدرةٍ ماورائيةٍ. وكذا هو الحال بالنسبة إلى خلقة الكون والنَّظم الموجود فيه، إذ يمكن أن يتحقّق من دون تأثير ناظمٍ حتّى وإن كان هذا الاحتمال ضعيفاً، أي إنّه ليس مستحيلاً.

تحليل الشبهة ونقضها

نتطرّق فيما يأتي إلى نقض الشبهة المذكورة ضمن ثلاث نقاطٍ:

1 ) كما أشرنا في تقرير برهان النَّظم، هناك فرضيتان مطروحتان على صعيد تبرير وجود النَّظم وسبب الخلقة، وهما فرضيتا الصدفة والعلّية.

العقل لا يمكنه الإذعان بفرضية الصدفة في هذا المجال، إذ يستحيل عقلاً تحقّق النَّظم من دون تأثير ناظمٍ (علّة)؛ لذا بعد بطلان الفرضية الأولى لا تبقى سوى الفرضية الثانية التي تنسجم مع المبادئ العقلائية الصائبة، وهي فرضية العلّية بواسطة الناظم الحكيم.

2 ) على أساس ما ذكر في المثال الذي ساقه أصحاب الشبهة (سحب البطاقة رقم 999 من بين مليار بطاقةٍ)، فإنّنا لا نعلم بجميع الملابسات التي تكتنف عملية تحريك اليد للسحب عبر ملامسة الأنامل للبطاقة المطلوبة ولا تعلم بمكانها بين سائر البطاقات، لذا فإنّ انتقائها مجرّد احتمالٍ ليس أكثر ؛ ولكن لو تصوّرنا وجود جهازٍ خاصٍّ بإمكانه تشخيص البطاقة المطلوبة واستخراجها من بين مليار، بل مليارات البطاقات، ففي هذه الحالة لا يطرح أيّ احتمالٍ قبل سحب البطاقة المطلوبة لكوننا متأكّدين من استخراجها. وعلى الرغم من

ص: 217

عدم وجود جهازٍ بهذه المواصفات الدقيقة في زماننا هذا، لكنّنا إن أخذنا مبدأ العلّية بنظر الاعتبار وتأكّدنا من كون إستخراج البطاقة ليس معلولاً للصدفة والاحتمال، وإنّما معلولٌ لحركةٍ دقيقةٍ من قبل ذلك الجهاز المفترض، فحينئذٍ يثبت المطلوب ويبطل الاحتمال .

بناءً على ما ذكر فإنّ استخراج البطاقة المطلوبة يتطّلب تحقّق مقدّماتِ وطيّ مراحل دقيقة ومحدّدة، وهذا بكلّ تأكيدٍ ليس محض صدفةٍ ولا يعني إنكار وجود الناظم الحكيم، بل هو عين الإقرار بمبدأ العلّية وحاجة كلّ حدثٍ إلى مسبّبٍ وافتقار كلّ نظمٍ إلى ناظمٍ.

3 ) استمرار النَّظم في الظواهر الطبيعية وعدم انفكاكه عنها يعدّ دليلاً على بطلان دعوى الصدفة وحساب الاحتمالات حسب القاعدة القائلة بأنّ فرض المحال ليس بمحالٍ، لو احتملنا أنّ النَّظم الموجود في الكون قد حدث في بادئ الأمر عن طريق الصدفة من دون تأثير ناظمٍ، فلا ريب من ضعف هذا الرأي على وفق حساب الاحتمالات؛ إذ كيف يمكن تصوّر بقاء هذا النظم منذ باكورة الخلقة وإلى يومنا هذا في مدّةٍ تقدّر بملايين السنين من دون تدخّل قدرةٍ ماورائيةٍ تعمل على استمراره؟

وطبق مثال اختيار البطاقة المذكور آنفاً، فإنّ النجاح في الحركة الأولى لانتقاء البطاقة المقصودة محتملٌ بنسبة واحد من المليار ولكن كيف ستكون هذه النسبة لو طلبنا من شخص انتقاء البطاقات رقم 1 إلى 999 بالترتيب واحدةً تلو الأخرى؟! فهل يعقل تحقّق هذا الأمر بسهولةٍ؟! وهل هناك عاقلٌ يتوقّع حدوث هكذا أمرٍ ؟! لذا، هل يعقل تطبيق الصدفة على كلّ هذه المنظومات المذهلة في الكون والتى يفوق نظمها مثال البطاقات بشكلٍ لا يمكن تصوّره؟!

ص: 218

إذن، نظراً لعظمة النَّظم اللامتناهي الموجود في الكون، وبما أنّه لا ينفكّ عن الاستمرار والتنامي في صورٍ مذهلةٍ يعجز العقل عن بيان كُنهها؛ فالعقل السليم يحكم بضرورة وجود ناظمٍ مدركٍ حكيمٍ وقديرٍ أوجده.

- تقرير الشبهة في إطارٍ معاصرٍ :

دافع بعض المفكّرين المعاصرين عن شبهة حساب الاحتمالات بزعم أنّ احتمال استخراج البطاقة الصحيحة طبق المثال المذكور، هو أحد الاحتمالات الضعيفة، لكنّه غير مستحيلٍ؛ ومن هذا المنطلق لا يمكن تبرير النَّظم على وفق القواعد العقلية، كما أنّ ترجيح أحد الاحتمالات دون غيره على أساس الاعتقاد بوجود ناظمٍ للكون يؤدّي إلى تجاهل القيمة العلمية لحساب الاحتمالات وعدم الأخذ بعين الاعتبار ذلك الاحتمال الضعيف، ومن ثمّ ينجم عنه طرح جميع الفرضيات جانباً والقول بعدم تحقّق أيٍّ منها.

وقال أحدهم مدافعاً عن نظرية الصدفة ومنتقداً لبرهان النَّظم: «هذا البرهان فيه ضعفُ كبيرٌ ولو قبلنا بمضمونه فلا بدّ لنا من القول باستحالة تكوين أيّة جزيئةٍ بروتينيةٍ بأيّ شكلٍ كان واستحالة إخراج البطاقات من الصندوق بأيّ ترتيبٍ كان؛ وهذا الأمر يتعارض مع أصول العلم الإجمالي الذي يؤكّد على ضرورة نشأة جزيئاتٍ بروتينيةٍ معيّنةٍ واستخراج بطاقاتٍ مهما كان الرقم المدوّن فيها»(1). إلى أن قال بتكافؤ احتمال استخراج جميع الأرقام من دون ترجيح أحدها على الآخر: «كلّ عضوٍ محتملٌ كالعضو الآخر، لذا لا يمكن ترجيحه على غيره بزعم عدم احتمال تحقّق الآخر أو استحالة

ص: 219


1- عبد الكريم سروش ، تفرّج صنع (باللغة الفارسية)، ص 450 - 451

تحقّقه، لأنّ هذه الاستحالة تسري إلى جميع أجزاء العلم الإجمالي وتجتثّه من أصله. ما ذكر هو مغالطةٌ تحدث في الاستنتاجات الإحصائية، حيث يتصوّر البعض إنّه بضعف احتمال وقوع أحد الأحداث ترجّح كفّة تحقّق الاحتمال الآخر» (1).

تحليل الشبهة ونقضها :

نقول في نقض الشبهة المذكورة :

1 ) احتمال استخراج إحدى البطاقات التي يبلغ عددها مليار بطاقةٍ، ينطبق عليها جميعاً من دون استثناءٍ ولا يمكن تسريته على واحدةٍ أو مجموعةٍ منها بالتحديد؛ وهذا الأمر خارجٌ عن نطاق الحديث عن دلالة برهان النَّظم وحجّيته، إذ إنّ انتقاء أوّل بطاقةٍ ليس فيه أيّ نظمٍ أو غايةٍ، لذا لا ينطبق عليه تعريف النَّظم .

2 ) موضوع النَّظم في المثال المذكور مطروحٌ حول الهيئة الكلّية للبطاقات بأسرها، وحتّى لو تنزّلنا وافترضنا أنّ الصدقة شاءت وتمكّن شخصٌ من استخراج البطاقات من 1 إلى 999 بالترتيب واحدةً تلو الأخرى؛ ألا يحكم العقل أنّ نفس وجود النَّظم بين هذه الأرقام دليلٌ على وجود صانعٍ حكيمٍ أضفى عليها هذه الميزة العددية ؟! ولكن لو أذعنّا بالصدفة المحضة و حساب الاحتمالات، بإمكاننا التشكيك في علم الحساب والرياضيات من أساسه والقول بأنّ الصدفة هي التي أضفت الميزة العددية على الأرقام وليس لعلماء الرياضيات هنا دورٌ في تعيينها.

ص: 220


1- عبد الكريم سروش، تفرّج صنع (باللغة الفارسية)، ص 451

3 ) مؤيّدو برهان النَّظم لا يقولون باستحالة استخراج أيٍّ من الأرقام في البطاقات التي يتمّ اختيارها حتّى إنّهم لا يضعّفون هذا الاحتمال؛ إذ

يعتقدون بأنّ كلّ من يستخرج بطاقة يدرج فعله ضمن حساب الاحتمالات ومن ثمّ فإنّ نتيجته الأكثر احتمالاً هي عدم استخراج الرقم 999 في أوّل سحبةٍ، ويمكن القول إنّه من المستحيل سحب الأرقام من 1 إلى 999 بالترتيب واحدةً تلو الأخرى في أوّل محاولةٍ. إذن الترتيب الذي يتحصّل من استخراج البطاقات مهما كانت ماهيته فهو تركيبٌ تكوينيٌّ ولكنّه لا يعرّف بأنّه نظمٌ نظراً لانعدام الغاية ممّا ينتج عنه.

إذن، أصحاب برهان النَّظم لا يقولون باستحالة استخراج أيّ رقمٍ من المليار، بل يقولون بتساوي احتمال استخراج أيّ واحدٍ منها؛ لذا فمن ادّعى غير ذلك هو في الحقيقة يوجّه تهمةً غير صائبةٍ لهم، بل ما يعتقدون باستحالته هو استخراج البطاقات من الرقم 1 إلى 999 بالترتيب واحدةً تلو الأخرى في أول محاولةٍ، كما يقولون ببطلان تصوّر دلالة الأرقام على معانيها لمجرّد الصدفة ومن دون وجود صانعٍ أضفى لها هذه المعاني.

لقد وقع منتقدو برهان النَّظم في مغالطةٍ صريحةٍ وحرّفوا نظرية النَّظم التي يطرحها من وضع هذا البرهان عن طريق الأمثلة التي ضربوها والاستشهادات التي استدلّوا منها على مسائل لا تمّت بأدنى صلةٍ للموضوع.

4 ) رغم أنّ تحقّق كلّ واحدٍ من الاحتمالات - في المثال المذكور - متكافئ في جميع الأرقام، ولكن بعد عملية استخراج الأرقام يمكن تصوّر الأمرين الآتيين:

ص: 221

أ - ظهور هيئةٍ مشوشةٍ لا معنى لها بحيث تفتقد لكلّ شكلٍ من أشكال النَّظم والترتيب بين أجزائها وعناصرها. هذا الافتراض يثبت لنا أنّ تحقّق تلك الأجزاء والعناصر في الخارج ينمّ عن وجود فاعل لا يقصد إيجاد أيّ نظمٍ وليست له أية غايةٍ تذكر.

ب - ظهور هيئةٍ مرتّبةٍ ومنتظمةٍ، كظهور أرقامٍ مرتبةٍ من 1 إلى 999 بشكلٍ مرتّبٍ واحداً تلو الآخر وبدفعةٍ واحدةٍ. هذا الافتراض يثبت لنا أنّ تحقّق الأجزاء والعناصر في الخارج ينمّ عن وجود فاعلٍ هادفٍ يروم إيجاد نظمٍ على وفق غايةٍ معيّنةٍ.

5 ) ما ذكره أصحاب نظرية الصدفة من آراء واستدلالاتٍ لا يعدّ أمراً صائباً يحمل محمل الجدّ، إذ إنّهم يناقضون كلامهم؛ فحسب رأيهم هناك احتمالٌ بوجود ناظمٍ حكيمٍ أبدعها لتكون على هذه الهيئة المنتظمة، وهذه هي فحوى قاعدة حساب الاحتمالات. إذن، لو أنكر أصحاب نظرية الصدفة ما قيل هنا، سوف يثبت لنا أنّهم ينكرون مبدأ الصدفة الذي طرحوه بأنفسهم، وإذا قالوا بأنّ كلّ ما حدث يعدّ من الأمور اللاشعورية فنحن بدورنا نؤكّد على عدم استناد هذا الكلام إلى أيّ أساسٍ علميٍّ معتبرٍ، ومن ثمّ نعتبره مفنّداً جملةً وتفصيلاً.

*الشبهة الرابعة العقل لا يحكم بضرورة افتقار النَّظم إلى ناظمٍ:

هناك عدد من المواقع الإلكترونية (1) والمقالات (2) تطرح شبهةً حول

ص: 222


1- www.kaafar.netfirms.com/baad/nazm.html
2- نقلاً عن: صحيفة (برهان ) الثقافية (باللغة الفارسية)، العدد 17، ص 29

البرهان المذكور فحواها أنّ العقل يحكم بعدم حاجة النَّظم إلى ناظمٍ، حيث زعموا بداهة هذا الأمر ورفضوا كون رأيهم متناقضاً.

إذن، برهان النَّظم باعتقادهم لا يعدّ قاعدةً عقليةً، إذ لو كان كذلك لعدّه العقل بديهياً لا نقاش فيه، وما يثبت عدم بداهته أنّ كثيراً من العلماء ينكرونه.

تحليل الشبهة ونقضها:

إن أردنا نقض الشبهة المذكورة فلا بدّ أولاً من الإشارة إلى مفهوم البداهة الذي هو أحد المصطلحات المشكّكة في علم الفلسفة، أي: إنّ معانيه متعدّدة يفهم كلّ واحدٍ منها حسب السياق والقرائن التي تحفّ الكلام، كذلك ينبغي لنا بيان معنى التناقض الخفي والصريح فيها. لا ريب في أنّ إنكار البديهي الصريح يعدّ تناقضاً واضحاً، وهذا متّفقٌ عليه من قبل قبل جميع العقلاء.

بالنسبة إلى البرهان الذي هو محور البحث والذي يؤكّد على حاجة النَّظم في الكون إلى ناظمٍ، فهو لا يعدّ من البديهيات التي يحكم بها العقل بشكلٍ صريحٍ، إذ يتّصف بهذه المزية بعد عملية الاستدلال وقد تمّ ذلك في مستهلّ البحث. إذن، لأجل بيان حقيقة النَّظم الموجود في الكون هناك نظريتان لا أكثر، وهما:

النظرية الأولى : وجود ناظمٍ مدركٍ حكيمٍ.

النظرية الثانية: تحقّقه عن طريق الصدفة.

العقل بكلّ تأكيدٍ يرفض نظرية الصدفة على هذا الصعيد ويحكم بضرسٍ قاطعٍ بضرورة وجود ناظمٍ مدركٍ حكيمٍ؛ وعلى هذا الأساس فإنكار

ص: 223

وجود الناظم المدرك بعد هذا الاستدلال هو من سنخ إنكار وجود العلّة للمعلول، وهذا الإنكار يتضمّن تناقضاً صريحاً.

نظراً لوجود الواسطة والاستدلال في برهان النَّظم، فمن الممكن أن يُذعن أصحاب الشبهة بكون إنكار وجود النَّظم أمراً غير بديهيٍّ ولكنّه في الحين ذاته لا يسفر عن حدوث تناقضٍ. لكن للبديهي أقسامٌ حسب القواعد المنطقية، وبرهان النّظم بدوره يعدّ من البديهيات الثانوية، بمعنى أنّ العلم بوجود الناظم يستدعى الاعتماد على واسطةٍ استدلاليةٍ وحكم العقل، وذلك إن قلنا بدلالة النَّظم على وجود ناظمٍ مدركٍ.

- ديفيد هيوم ومن نحا نحوه :

الفيلسوف البريطاني الشهير ديفيد هيوم هو أحد الملاحدة الذين سخّروا جلّ طاقاتهم لإنكار وجود الله سبحانه وتعالى، إذ أمضى 25 سنةً من حياته في هذا المضمار؛ ومن جملة نظرياته طرح ثماني إشكالاتٍ على برهان النَّظم، حيث انتشرت على صعيدٍ واسعٍ لدرجة أنّها في العقود الماضية أصبحت مادّةٌ دسمةٍ وملاذاً لبعض المفكّرين من مسلمين وغير مسلمين لإنكار وجو البارئ تبارك شأنه. ومن جملة العلماء المسلمين الذين انضووا تحت الفكر الإلحادي لهذا الفيلسوف، فتح علي آخوندزاده الذي ادعى أنّ الإشكالات الثمانية بقيت من دون ردٍّ شافٍ (1).

ص: 224


1- قال المفكّر فتح علي آخوند زاده في هذا الصدد: «هذا الحكيم البريطاني طرح أسئلةً على العلماء المسلمين وعلماء مدينة بومباي في الهند، ولكن لحدّ الآن لم يجيبوا عنها بشكلٍ شافٍ ووافِ، وبالطبع فإنّ السكوت دليلٌ على صحّة الادعاء». نقلاً عن: فريدون آدمیت اندیشه های میرزا آقا خان كرماني (باللغه الفارسية)، ص 74

عدد من المواقع الإلكترونية اليوم تروّج لأفكار ديفيد هيوم في إطار شبهاتٍ تجسّدت في أطروحاتٍ جديدةٍ، ونظراً لأهمية الموضوع سنسلّط الضوء فيما يأتي على عددٍ منها ثمّ نتناولها بالنقد والتحليل:

* الشبهة الخامسة : مقارنة النَّظم الكوني مع النظم الذي يندرج في ضمن قابليات الإنسان:

يعتقد الفيلسوف ديفيد هيوم بأنّ الذين يؤيّدون برهان النَّظم يثبتون رأيهم عن طريق مقارنة النَّظم الموجود في الكون مع النَّظم الذي يتمكّن الإنسان من صياغته، أي: إنّهم شبّهوا النّظم الكوني مع النَّظم البشري. وضمن نقده لاستدلال أصحاب هذا البرهان قال: إنّ الأشياء التي تُصنع من قبل الإنسان يحكم الآخرون بأنّها منظومةٌ من قبل ناظمٍ، لذا يقرّون بأنّ كلّ ما هو مصنوع في الشؤون المعيشية لم يكن عبثاً، بل هناك صانعٌ صنعه؛ لكن من الخطأ بمكانٍ تسرية هذه القاعدة إلى الطبيعة بأسرها وادّعاء أنّها بحاجةٍ إلى صانعٍ (ناظم).

إذن من الضروري القول بوجود صانعٍ في المصنوعات البشرية، لكن من الخطأ الحكم بضرورة وجود صانعٍ صنع الطبيعة، إذ لا ضرورة لهذا الاعتقاد؛ فالطبيعة ذاتها قامت بذلك على مرّ الزمان وعبر تكرار الحوادث، أي: إنّها هي التي أوجدت النَّظم الموجود فيها ممّا يعنى أنّها ليست مفتقرةٌ إلى مؤثّرٍ خارجيٍّ.

ولتبرير هذا المدّعى، استند هيوم إلى فرضية إبيقور، وقال: «العالم مركّبٌ من عددٍ لا يُحصى من الذرّات الصغيرة التي تتحرّك عن طريق

ص: 225

الصدفة، وفي زمانٍ غير محدودٍ أوجدت هذه الذرّات تركيباتٍ عديدةً تحوّلت فيما بعد إلى إشكالٍ ممكنةٍ ومتنوّعةٍ، وحينما تنضوي هذه التركيبات في إطار نظمٍ محدّدٍ - سواءٌ كان مؤقّتاً أو دائماً - فهي على مرّ الزمان تؤدّي إلى دوامه واستقراره؛ ومن الممكن بمكانٍ أنّ الكون الذي نعيش في رحابه قد نشأ من هذه التركيبات»(1).

كما أنّ المفكّر المسلم إقبال اللاهوري تأثّر أيضاً بنظرية ديفيد هيوم، حيث قال: «الحقيقة هي أنّ التشبيه الذي يرتكز عليه البرهان - برهان النَّظم - لا قيمة له، إذ ليس هناك أيّ تشابهٍ بين الظواهر الطبيعية وما يصنعه البشر بأيديهم»(2).

تحليل الشبهة ونقضها :

حاجة النَّظم إلى ناظمٍ تعدّ من المرتكزات التي يقرّ بها العقل، فحينما يشاهد أيّ نوعٍ من النظم يحكم بضرورة وجود ناظمٍ نظمه وصاغه على هذه الهيئة المرتّبة دونما أيّ تشبيهٍ أو مقارنةٍ. فلو افترضنا وجود إنسانٍ لم يشاهد أيّ شيءٍ مما صنعه البشر، من المؤكّد أنّه سيشعر بالعجب والذهول من عظمة الطبيعة ونظمها، ومن ثمّ يقرّ بوجود من فعل ذلك (الناظم).

أمّا بالنسبة إلى تشبيه النَّظم الكوني بالنَّظم البشري ومقارنته معه، فهو

ص: 226


1- نقلاً عن: جون هَروود هيك، فلسفه دین (باللغة الفارسية) ، ص 62 . للاطّلاع أكثر حول إشكالات ديفيد هيوم، راجع: مصطفی ملکیان، براهین اثبات خدا (باللغة الفارسية)
2- محمّد إقبال اللاهوري، احياي فكر ديني در اسلام (باللغه الفارسية)، ص 37

أمرٌ يعده أصحاب برهان النَّظم شاهداً ومؤيّداً لاستدلالهم، أي إنّه ليس استدلالاً مستقلاً بذاته.

* الشبهة السادسة: النَّظم معلولٌ للطبيعة:

الإشكال الثاني الذي طرحه ديفيد هيوم على برهان النَّظم يتمحور حول ما يأتي: لو كان النَّظم مفتقراً إلى وجود ناظمٍ، فلا ينبغي أن يكون هذا الناظم أمراً خارجياً، وعلى هذا الأساس فالنَّظم الموجود في الطبيعة يجب أن يكون ناشئاً منها.

الأجزاء المركّبة التي تجتمع مع بعضها توجد نظماً خاصّاً، وهو بطبيعة الحال أمرٌ ثالثٌ بالنسبة إليها؛ مثلاً عندما يتّحد الهيدروجين مع الأوكسجين ينتج لدينا أمرٌ ثالثٌ هو الماء الذي يتّصف بمزية تختلف عمّا ينماز به كلّ جزءٍ من مكوناته على حدة، إذ ليس من شأن الهيدروجين وحده ولا الأوكسجين إزالة عطش الإنسان، لكنّ الماء المركّب منهما هو الذي يتولّى هذه المهمّة؛ وهذا هو النَّظم الخاصّ من اجتماع الأجزاء. وكذا هو الحال بالنسبة إلى عالم الطبيعة والكون، فعلى مرّ الزمان وإثر انفصال الكرة الأرضية عن الشمس، توفّرت الظروف المناسبة فيها للحياة بشتّى أنواعها، فظهرت فيها أنماط مختلفة من الكائنات الحيّة من نباتاتٍ وحيواناتٍ وبشرٍ.

هناك بعض المقالات التي تروّج لهذه الشبهة في عصرنا الراهن بزعم عدم حاجة الطبيعة إلى ناظمٍ خارجيٍّ(1)، كما أنّ بعض المواقع الإلكترونية

ص: 227


1- نقلاً عن: صحيفة (برهان) الثقافية (باللغة الفارسية)، العدد 17 ، ص 18

طرحت هذه الفكرة وحاولت ترسيخها عن طريق الاستشهاد بشتّى أنواع النَّظم الموجود في الطبيعة(1).

تحليل الشبهة ونقضها :

المسألة الجديرة بالذكر على صعيد الشبهة المطروحة أعلاه هي أنّ الطبيعة التي يدّعى قدرتها على إضفاء نظم إلى الكون، هل هى مدركةً وواعيةٌ أو لا؟

إن أجبنا ب_ (نعم)، يتحقّق المطلوب من برهان النَّظم، وهو افتقار كلّ نظم إلى ناظمٍ مدركٍ بغضّ النظر عن حقيقته؛ وعلى هذا الأساس يطرح سؤالٌ حول العلّة الفاعلة للنَّظم الموجود في الطبيعة، فهذه العلّة المدركة التي تضفي النَّظم إلى الكون، من أين اكتسبت إدراكها وقدرتها الخارقة؟! لذا لابدّ من أن تنتهي إلى علّةٍ مجرّدةٍ أعلى منها مرتبةً، ومن ثمّ تختم بالإله الحكيم القدير.

وإذا كان الجواب (كلا) وادّعي أنّ موجد النَّظم فاقدٌ للإدراك، ففي هذه الحالة يفسح المجال لطرح الشبهة من منطلق أنّ الوجود الذي يعجز عن الإدراك كيف يمكنه خلق نظمٍ مذهلٍ تحتار في وصفه العقول المدركة وتعجز عن معرفة كُنهه؟! وكما يقول الفلاسفة فالمادّة المفتقرة للشعور لا يمكنها منح الشعور لغيرها، لأنّ فاقد الشيء لا يعطيه.

وبالنسبة إلى القول بكون النَّظم في الإدراك معلولاً للتركيب الناتج من الأجزاء الصغيرة، فهو باطلٌ من أساسه لأنّ الأثر الذي يترتّب على العناصر

ص: 228


1- www.kaafar.netfirms.com/baad/nazm.html

المركّبة من عدّة أجزاءٍ هو في الواقع نفس أثر كلّ جزءٍ مكوّنٍ لها، فما يتحصّل من نتائج على صعيد العناصر عائدٌ إلى الأجزاء، إذ لولا هذه الأجزاء لما أثّر العنصر ؛ وعلى هذا الأساس ليس للعناصر تأثيرٌ مستقلٌّ عن مكوّناتها.

إذن الإدراك ينشأ من التركيب بين أجزاء عديدة كوّنت المدرك، وفي هذه الحالة تطرح شبهة العلّة الفاعلة المدركة لتلك الأجزاء (نسبة الإدراك إلى أجزاء غير مدركةٍ) مرّةً أخرى، ويجاب عنها أيضاً بأنّ فاقد الشيء لا يعطيه.

قد يستند بعضهم إلى الغريزة لتبرير النَّظم المذهل الموجود في مجال الكائنات الحيّة، بما فيها الإنسان بدعوى أنّها تنتقل من جيلٍ ألى آخر عن طريق الوراثة، ومن ثمّ يُدّعى أنّ الطبيعة هي التي صنعت النَّظم الموجود في مكوّناتها.

لتفنيد هذا الكلام نقول : بغضّ النظر عن انتقال النَّظم المذهل من السلف إلى الخلف عن طريق الوراثة - وهو ما يتناوله العلماء بالبحث والتحليل في علم الوراثة - سوف نسوق البحث بشكلٍ أساسيٍّ نحو أوّل كائنٍ حيٍّ شهدته الطبيعة، وهو بالتأكيد ليس مولوداً من تزاوج ذكرٍ وأُنثى، كما أنّه لم يرث شيئاً من غيره، فنسأل: ما هو تبريركم للنَّظم الموجود في هذا الكائن الحيّ (الأوّل) الذي انشعب منه سائر بني جنسه؟! من المؤكّد لا يمكن زعم أنّه اكتسبه بواسطة الجينات الوراثية، إذ لا سلف له كي يرث منه شيئاً، ومن ثمّ لا مناص لكم من الإذعان بوجود ناظم حكيمٍ خارجٍ عن نطاق الطبيعة المادّية المحيطة بنا.

ولتفنيد استدلال من استدلّ بتعدّد أشكال النَّظم الموجود في الطبيعة لأجل إنكار وجود الناظم، نقول: هذا التعدّد في الشكل والبُنية التركيبية هو في الحقيقة معلولٌ لسلسلةٍ من العلل الطبيعية التي ظهرت طوال فترةٍ متماديةٍ من

ص: 229

الزمن، إذ تكوّنت النجوم والكواكب السيّارة، ونشأت في الأرض جبالٌ وبحارٌ ورياحٌ؛ وبديهياً فإنّ ظهور هذه الأشكال العديدة من النَّظم لا يمكن أن يكون من دون علّةٍ؛ وهذه العلّة يجب أن تمتلك قدرةً تفوق ما لدى المنظوم من قابلياتٍ.

ومن جملة الشبهات التي ذكروها هنا أنّ الأشياء المنظومة رغم عظمتها وسموّ خلقتها، لكنّ تعريف النَّظم لا ينطبق عليها ، لأنّه عبارةٌ عن تركيب أجزاءٍ عديدةٍ لتكوين مجموعةٍ منظومةٍ وتحقيق غايةٍ. لكنّنا نردّ عليهم قائلين بأنّ الحقيقة هي عدم وجود ارتباطٍ بين تركيب الأجزاء وبين الغاية من النَّظم، فهذه الأشكال المنتظمة لها عللٌ تكوينيةٌ مختلفةٌ، وإثر هذا التعدّد العلّي نلاحظ وجود أشكالٍ منسجمةٍ مختلفةٍ وليس شيئاً واحداً منسجماً، أى إنّ تعدّد أشكال الجزيئات الصغيرة التى تتكوّن منها سائر العناصر ناشئٌ بتأثيرٍ مباشرٍ من عللٍ تكوينيةٍ، وليس له ناظمٌ مدركٌ يمكن اعتباره علّةً مباشرةً.

*الشبهة السابعة: النَّظم معلولٌ للصدفة :

يرى بعض علماء الأحياء والفلك أنّ النظم الموجود في السماء والأرض معلولٌ للتكرار والاستمرار لمجريات الطبيعة، وليست هناك حاجةٌ إلى وجود ناظمٍ حكيمٍ لأنّ الصدفة العلّة في خلقتهما، فتوالي الأحداث هو السبب في حبكهما ونظمهما. ولتبرير النَّظم المذهل في كيان الإنسان والحيوان في رحاب عالم الطبيعة طرحت النظريات الآتية:

أوّلاً : نظرية المركيز دو لابلاس:

عالم الفلك والرياضيات الفرنسي بيير سيمون لابلاس طوّر نظرية

ص: 230

التناوب التي طرحها إيمانوئيل كانط، إذ أكّد على أنّ الكواكب في باكورة خلقتها كانت ترتطم مع بعضها باستمرارٍ ممّا أسفر عن نشأة المجموعة الشمسية، والأرض بدورها كانت جزءاً من الشمس لكنّها انفصلت عنها وأصبحت كوكباً مستقلاً إثر ارتطام أحد الكواكب بها، ومن ثمّ فقدت حراراتها على مرّ الزمان. كما أكّد في كتابه الشهير ميكانيكا الأجرام السماوية على عدم حاجة الكون إلى إلهٍ يدبّر شؤونه (1).

ثانياً: نظرية ظهور الحياة من الخلايا الأّحادية (2):

بعد أن تكوّنت الكرة الأرضية وتهيّأت فيها الخلفية المناسبة للحياة، ظهرت الكائنات الحيّة من نباتاتٍ وحيواناتٍ إثر استمرار ارتطام العناصر مع بعضها بشكلٍ متوالٍ على مرّ الزمان، إذ كانت في باكورة ظهورها على هيئة خلايا بدائية، ثمّ بدأت تتكامل لتظهر منها أنماط مختلفة بصورةٍ كائناتٍ أحادية الخلايا، وبعد ذلك ظهرت كائنات حيّة بميزاتٍ عديدةٍ.

ثالثاً: نظرية التطوّر لداروين (النشوء والارتقاء):

بعض علماء الأحياء بمن فيهم العالم البريطاني الشهير تشارلز داروين ذهبوا إلى أنّ الإنسان بلغ ما هو عليه اليوم من تكاملٍ بشكلٍ تدريجيٍّ على مرّ

ص: 231


1- للاطّلاع أكثر، راجع: إيان باربر، علم ودين (باللغة الفارسية)، ص 111 و 397 والصفحات اللاحقة؛ تشارلز دارون منشأ أنواع (باللغة الفارسية)
2- هناك كائنٌ مجهريٌّ شفّافُ يطلق عليه (بروتوبلازم) وهو من الرخويات التي تمتلك القدرة على الحركة وتكتسب طاقتها من أشعّة الشمس وتكتسب الموادّ الغذائية اللازمة عبر امتصاص حامض الكربون من الهواء وهضمه في جسمها، كما تقوم بامتصاص الهيدروجين من الماء وبعد ذلك تفرز الهيدروكربون. للاطّلاع أكثر ، راجع: کریسی موریسون، راز آفرينش (باللغة الفارسية)، ص 65

الزمان، إذ كان أسلافه قردةً. وأّكد هؤلاء على أنّ بقاء النسل البشري وسائر الأجناس الحيوانية مرهونٌ بالجدال الدائم بين الكائنات الحيّة والطبيعة التي تحيا في كنفها، وهو ما أطلقوا عليه (بذل الجهد من أجل الحياة) أو (الصراع من أجل البقاء)؛ وعلى هذا الأساس فالكائنات في غنىً عن إلهٍ ناظمٍ للكون (1).

تحليل الشبهة ونقضها:

نتطرّق فيما يأتى إلى نقض النظريات الثلاثة المذكورة أعلاه:

أوّلاً: نقد نظرية المركيز دو لابلاس:

1 ) هذه النظرية هى مجرّد فرضيةٍ ظنّية ٍولم تصل إلى درجة الإثبات العلمي أو العقلي، وهو ما قاله المفكّر كريسي موريسون: «يعتقد بعض علماء الفلك أن نسبة تجاذب كوكبين واقترابهما من بعضهما ومن ثمّ ارتطامهما و تناثرهما أو تلاشيهما بالكامل، ضئيلةً جدّاً وقد تصل إلى واحدٍ من عدّة ملايين، بل إنّ هذا الاحتمال غايةٌ في الضعف لدرجة أنّنا عاجزون عن طرحه على صعيد الحسابات العلمية والرياضية»(2).

2 ) بغضّ النظر عن صحّة نظرية لابلاس أو سقمها، فهي لا تتعارض مع وجود ناظمٍ للكونٍ، إذ حتّى وإن اعتبرنا كون الأرض جزءاً من الشمس ثمّ انفصلت عنها، نقول إنّ هذا الأمر بذاته إنّما حدث بفعل تخطيط ناظمٍ مدبّرٍ حكيمٍ شاءت أرادته ذلك.

ص: 232


1- للاطّلاع أكثر، راجع: إيان باربر، علم ودين (باللغة الفارسية)، ص 72 - 73
2- للاطلّاع أكثر ، راجع: کریسی موریسون، راز آفرینش (باللغة الفارسية)، ص 11

ثانياً: نقد نظرية ظهور الحياة من الخلايا الأحادية :

1 ) قيل في نقد نظرية نشأة النّظم من الطبيعة إنّ نسبة النَّظم والحياة إلى منشأ مادّي غير مدركٍ هو أمرٌ غير مبرهنٍ عليه ولا يقبله العلم ولا العقل، ناهيك عن أنّ علم الفلسفة أثبت بالبرهان الصريح تجرّد الحياة - ولا سيّما البشرية - أي إنّها روحٌ مجرّدةٌ عن التعلّقات المادّية، وأكّد الفلاسفة على استحالة نشأة المجرّدات من عللٍ مادّيةٍ محضةٍ من دون تدخّل قدرةٍ مجرّدةٍ.

2 ) حتّى وإن افترضنا صحّة هذه النظرية، فهي لا تتعارض مع مبدأ النَّظم، لأنّ ظهور الحياة من كائناتٍ أحادية الخلايا منوطٌ بتوفّر ظروفٍ خاصّةٍ، وهذا الأمر بذاته دليلٌ واضحٌ على وجود ناظمٍ وصانعٍ وضع أساس هذه السلسلة التطوّرية بحكمةٍ وإتقانٍ؛ وفي الحين ذاته فإنّ احتمال الصدفة على هذا الصعيد هو أمرٌ ضعيف للغاية لدرجة أنّ العقلاء يرفضونه جملةً وتفصيلاً (1).

3 ) قال المفكّر الغربي دينو: «احتمال نشأة إحدى الجزيئات – مهما كانت بسيطة التركيب - على نحو الصدفة هو واحد بالعشرة ... فمن غير الممكن زعم أنّ جميع القضايا والظواهر التي تحتاج إليها الحياة قد نشأت عن طريق الصدفة» (2).

ثالثاً: نقد نظرية التطوّر لداروين (النشوء والارتقاء) :

1 ) هذه النظرية في الحقيقة هي مجرّد افتراض ٍذهنيٍّ لا غير، إذ لم

ص: 233


1- للاطّلاع أكثر، راجع: المصدر السابق، ص 6 و 16. ذكر كريسي موريسون في كتابه هذا الأدلة التي تثبت بطلان نظرية الصدفة
2- إيان باربر، علم ودين باللغة الفارسية)، ص 418

تُبرهن بالدليل القاطع حتّى الآن، لذا فهي تفتقر إلى القيمة المعرفية، ومن هذا المنطلق عارضها كثير من العلماء بشتّى التخصّصات وأكّدوا على وجود حلقةٍ مفقودةٍ في سلسلة التكامل التي طرحها داروين، وهو أمرٌ لا يمكن تبريره بوجهٍ.

2 ) النظرية من أساسها لا تتعارض مع برهان النَّظم لأنّها تؤكّد على أنّ خلقة الإنسان شهدت تكاملاً تدريجياً، وهذا الأمر بطبيعة الحال لا يمكن أن يتمّ من دون علّةٍ؛ فلو تنزّلنا وافترضنا أنّ الإنسان الأوّل كان قرداً - وفرض المحال ليس بمحالٍ - ومن ثمّ فهو قد طوى مراحل تطوّرية مختلفة بتأثير مؤثّرٍ، أي إنّ الناظم هو الذي صاغ هذا التطوّر ونظمه.

3 ) نظرية داروين تتعارض مع ظواهر الكتب السماوية كالتوراة والإنجيل والقرآن الكريم فهذه النصوص الدينية توعز نشأة البشرية إلى الأب الأوّل آدم علیه السّلام الذي خُلق بدوره من ترابٍ؛ ولكن لا يسعنا المجال لبسط هذا الموضوع بالتفصيل هنا.

- تأييد نظرية داروين باعتبار تحقّق التكامل على وفق قواعد خاصة :

في بادئ الأمر اعتبر علماء الأحياء أنّ التكامل المطروح في النظرية الداروينية ناشئٌ من تركيب الجزيئات الكيمياوية بطريق الصدفة، ولكن على مرّ الأيام أدركوا سخف القول بمبدأ الصدفة وعدم استناده إلى أيّ أساسٍ علميٍّ أو عقليٍّ، وبما أنّ نظرية التطوّر متقوّمةٌ عليها فهي تعدّ باطلةً أيضاً؛ ومن هذا المنطلق بادروا إلى القول بارتكاز التطوّر على قواعد خاصّة، إذ قال إيان

ص: 234

باربر: «نظرية التطوّر لا ترتكز على الصدفة فقط، بل هي ناظرةٌ إلى الصدفة والقانون معاً؛ إذ حينما توجد قوانين خاصّة تسير الأمور على أساسها بحيث تعمل على استقرار التركيبات الكيمياوية وتعزّز قدرتها على استقطاب سائر الذرّات، فهي في هذه الحالة موافقةً لحساب الاحتمالات والقول بتكافئ جميع الاحتمالات لكلّ تركيبٍ» (1).

وأشار باربر في كلامه إلى مثالٍ لتأييد رأيه، إذ قال من الممكن أن يقوم قردٍ بطباعة نصٍّ عن طريق الصدفة شريطة وجود آليةٍ أو قانونٍ حاكم يعمل على وضع الحرف المناسب في المكان المناسب وحذف الحروف المهملة من النصّ.

هذا الكلام في الحقيقة عارٍ عن الصحّة وليس من شأنه تبرير نظرية داروين لكونه متناقضاً، فمن جهةٍ يؤكّد باربر على صحّة مبدأ الصدفة رغم عدم انسجامه مع القوانين العلمية والعلّية ومن جهةٍ أخرى يؤيّد القوانين العلّية.

علماء الأحياء الذين أضفوا على نظرية التطوّر قيد حدوث الصدفة على وفق قواعد وآليات خاصّة، قد أقرّوا بشكلٍ لا إراديٍّ بوجود ناظمٍ في عالم الذرّات والعناصر المكوّنة للأشياء بحيث يتولّى مهمّة ترتيبها وتحديد عددها ويوفّر الظروف الطبيعية المناسبة لها كي تتكامل؛ أي إنّهم عبر تبريرهم للنظرية الداروينية أقرّوا بوجود ناظمٍ مدرٍك أرسى دعائم تطوّر الكائنات، وعلى هذا الأساس يمكن القول إنّ نظرية داوين تثبت وجود ناظمٍ مدركٍ للكون.

ص: 235


1- إيان باربر، علم ودين (باللغة الفارسية)، ص 419
* الشبهة الثامنة : النَّظم معلولٌ للمصالح البشرية :

ادّعى الفيلسوف ديفيد هيوم عدم وجود أيّ نظمٍ حقيقيٍّ على أرض الواقع، لكنّ الإنسان عدّ بعض الأمور نظماً تلبيةً لمصالحه الخاصّة؛ وهذا يعنى أنّه متوقّفٌ على التوجّهات البشرية، وبما أنّ الإنسان يرى نفسه أشرف المخلوقات فهو يروم تسخير منافع جميع المصادر الطبيعية من كائناتٍ حيّةٍ وجماداتٍ لصالحه. وقد طرح داروين نظرية الصراع من أجل البقاء بمقتضى قانون الانتخاب الطبيعى تأييداً لنظرية هيوم، وهى تنصّ على أنّ السبب في بقاء الجنس البشري لا يعود لكون الإنسان أشرف المخلوقات، بل يعود إلى بقائه حيّاً ونجاحه في الصراع المحتدم مع الطبيعة لأجل البقاء، لذلك فاق الطبيعة المادّية والحيوانية.

تحليل الشبهة ونقضها :

هذه الشبهة ناشئةٌ من تصوّر حدوث أمور لا مسوّغ لها على أساس برهان النَّظم ، فما يتمخّض عن هذا البرهان هو إثبات وجود ناظمٍ للكون فقط ولا يتطرّق إلى مسائل أخرى كأفضلية الإنسان على غيره أو أسباب صموده أمام التحدّيات الطبيعية؛ فهذه الأمور يجب البحث عنها في مجالاتٍ أخرى خارجةٍ عن نطاق هذا البرهان.

إذا كان السرّ في بقاء الإنسان هو أفضليته على غيره، فهذا يدلّ على وجود ناظمٍ وضع له مسيراً معيّناً يسلكه لبلوغ هذه الدرجة؛ وإذا كان السرّ في ذلك صموده أمام التحدّيات الطبيعية، فهذا الأمر يرجع في الواقع إلى الخلايا المكوّنة لبدنه، وهذا الأمر أيضاً يدلّ على وجود ناظمٍ مدركٍ.

ص: 236

وهن الشبهة التي طرحها ديفيد هيوم واضحٌ لارتكازها على إنكار مبدأ النَّظم في أرض الواقع وتقييده بمصلحة الإنسان، لذا ليست هناك حاجةٌ لتقرير بطلانها في إطارٍ تفصيليٍّ، ومع ذلك نقول إنّ النَّظم المذهل في السماء والأرض وفي جميع الكائنات، يعد ّموضوعاً مستقلاً لا صلة له بمصلحة البشرية لكونه متحقّقاً ولا خلل فيه سواءٌ كان الإنسان موجوداً أو غير موجودٍ، وسواءٌ أستطاع أن ينتفع منه أو لم يستطع. لذا، ليس من شأن برهان النَّظم بيان ما إن كان بنو آدم أشرف المخلوقات أو لا.

*الشبهة التاسعة : نسبة النَّظم إلى ناظمٍ ذي جوهرٍ مجرّدٍ :

اعتبر سعد الدين التفتازاني أنّ دلالة النَّظم على وجود ناظمٍ هي دلالةٌ إقناعيةٌ من سنخ القضايا المشهورة (1)، وطرح إشكالاً فحواه إمكانية تفسير النَّظم الموجود في الكون عن طريق نسبته إلى جوهرٍ مجرّدٍ من دون الحاجة إلى القول بوجود إلهٍ؛ في ضمن نقده لهذا الإشكال قال إنّ العلم المستند إلى الظنّ والتخمين يوجب أن يكون خالق الكون بهذا السبك من النَّظم المذهل غنياً مطلقاً وليس أقلّ شأناً من ذلك (2).

تحليل الشبهة ونقضها:

برهان النَّظم يؤكّد على ضرورة وجود ناظمٍ مدركٍ له القدرة على إيجاد كلّ هذا النَّظم المذهل في شتّى المجالات، لكنّه لا يتطرّق إلى حقيقة الناظم المدرك، لأنّ هذا الأمر منوط إلى سائر البراهين الفلسفية، فقد يكون هذا

ص: 237


1- للاطّلاع أكثر ، راجع: سعد الدين التفتازاني، شرح المقاصد، ج 3، ص 12
2- للاطّلاع أكثر ، راجع: المصدر السابق، ص 13

الناظم الله تعالى مباشرةً أو شيئاً ممّا خلق من قبيل الجوهر المجرّد أو العقل العاشر كما هو مصطلحٌ في مبادئ الفلسفة المشائية.

لو افترضنا أنّه جوهرٌ مجرّدٌ، يطرح حينئذٍ السؤال الآتي: من هو خالق هذا الجوهر المجرّد المدرك الذي تمكّن من إضفاء نظمٍ عظيمٍ على عالم المادّة؟ وتتوالى الأسئلة عن كلّ ناظمٍ حتّى ننتهي إلى واجب الوجود.

* الشبهة العاشرة: إمكانية تحقّق النَّظم حتّى مع تعدّد الناظم:

من الإشكالات الأخرى التي طرحها الفيلسوف ديفيد هيوم، عدم أمكانية إثبات الإله الذي تؤمن به الأديان على وفق مبدأ النَّظم الذي يدلّ على وجود ناظمٍ مدركٍ، فهذا المبدأ ليس من شأنه إثبات وجود الإله الواحد ذي الصفات الكمالية كالقدرة والحكمة والعدل والرأفة؛ فمن الممكن أن يتحقّق النَّظم في الكون بواسطة أكثر من ناظمٍ، أي قد يتّفق أكثر من فاعلٍ مدركٍ وقادرٍ على تنظيم شؤون الكون بغضّ النظر عن امتلاكهم الصفات الكمالية، إذ حتّى وإن لم يتّصف بالكمال فهم قادرون على إيجاد النَّظم بكلّ أشكاله.

تحليل الشبهة ونقضها:

الإجابة عن هذه الشبهة قد اتّضحت في المباحث الآنفة، إذ قلنا إنّ إثبات وحدة الله سبحانه وتعالى وصفاته الكمالية لا يمكن أن يتحقّق عن طريق برهان النَّظم، بل يتمّ بالاعتماد على سائر البراهين العقلية والفلسفية، لذا فإنّ شبهة هيوم ليست مطروحةً حوله، وسيأتي الحديث عنها بالتفصيل في موضوع توحيد الله تعالى وبيان صفاته.

ص: 238

الشبهة الحادية عشرة: حاجة إله الأديان إلى ناظمٍ :

يطرح بعض الملحدين شبهةً حول مسألة النّظم الموجود في الكون، بهذا التقرير: بما أنّ كلّ نظمٍ مفتقرٌ إلى ناظمٍ، فالإله المدرك الذي تؤمن به الأديان بحاجةٍ إلى ناظمٍ أيضاً بوصفه نموذجاً للنَّظم، وذلك بمعنى افتقاره إلى مبدعٍ أعلى رتبةً منه ؛ وهذا الأمر بطبيعة الحال يتباين مع ما ذهب إليه أتباع برهان النَّظم من المتدينين.

تحليل الشبهة ونقضها:

هذه الشبهة في الحقيقة تعدّ من سخف القول، إذ إنّ السبب في حاجة النَّظم إلى ناظمٍ هو تعدّد أجزائه ودقّة تركيبها وارتباطها مع بعضها بهدف تحقيق غايةٍ معيّنةٍ، فضلاً عن أنّ النّظم الكوني بأسره مفتقرٌ إلى علّةٍ مدركةٍ نظراً لكونه ممكناً وحادثاً. هذه الخصوصيات في الواقع ليست موجودةً في الله تعالى، فهو غنيٌّ مطلقٌ وواحدٌ واجب الوجود وذاته بسيطةٌ.

*الشبهة الثانية عشرة : عدم انسجام بساطة الله تعالى مع الفعل الشعوري :

بعد أن أدرك مخالفو برهان النّظم سقم إشكالهم الذي سيق على مسألة النَّظم، بادروا إلى طرح شبهةٍ حول القول بكون الله عزّ وجلّ بسيطاً، فقالوا:

أوّلاً: ما معنى كون الله بسيطاً؟

ثانياً: كيف يمكن لشيءٍ أن يكون بسيطاً ومع ذلك يمتلك شعوراً ويتمكّن من القيام بفعلٍ؟

ص: 239

تحليل الشبهة ونقضها :

نحن لا ننسب معنى البساطة إلى الله عزّ وجلّ، بل إنّ البراهين العقلية والفلسفية تثبت أنّ واجب الوجود لابدّ من أن يكون بسيطاً، إذ لو كان مركّباً من أجزاء وعناصر سيصبح محدوداً ومحتاجاً إلى هذه الأجزاء عند قيامه بأيّ فعلٍ، وهذا الأمر بطبيعة الحال لا ينسجم مع واجب الوجود.

قلنا في بادئ الكتاب إنّ ذات الله عزّ وجلّ مكنونةٌ علينا وغاية ما يمكننا تصوّره من بساطتها هو كونها وجوداً واحداً محضاً غير مركّبٍ من أجزاء. وببيانٍ فلسفيٍّ: بما أنّ تعدّد الأجزاء والعناصر - الاختلاف في الوجود - ناشئ من محدودية المادّة، لذا يمكن تصوّره فى الكائنات المادّية فحسب؛ ولكن نظراً لكون وجود الله تعالى مجرّداً صرفاً فلا يمكن تصوّر أجزاء له. إذن، بساطة الذات الإلهية هي أمرٌ معقولٌ وتركيبها يرفضه العقل جملةً وتفصيلاً.

أمّا بالنسبة إلى قدرة البسيط على القيام بفعلٍ كخلقة الأشياء، فقد قال علماء الفلسفة إنّ الله جلّ شأنه قادرٌ على فعل ما شاء مباشرةً لكونه بسيطاً، وهو ما يعبّر عنه بقاعدة الواحد، أي إنّ الصادر الأوّل يستمدّ قدرته وفاعليته منه تعالى ومن ثمّ يقوم بأفعال أخرى، وسلسلة العلل هذه تتوالى حتّى تنتهي إلى عالم المادّة والطبيعة الذي هو بحاجةٍ دائمةٍ إلى واجب الوجود إثر افتقار ذاته الإمكانية، ومن ثم ّفإن أفعاله وانفعالاته تنتهي إلى الله تعالى عن طريق عللٍ متعدّدةٍ.

نكتفي بهذا المقدار من البيان ولا نتطرّق إلى الغور في التفاصيل المعقّدة للموضوع لكون هذا الأمر يتطّلب تدوين بحثٍ مستقلٍّ.

ص: 240

*الشبهة الثالثة عشرة : المادّة وجودٌ بسيطٌ، وهي التي نظمت الكون:

إحدى الشبهات الهشّة التي طرحت من قبل معارضي برهان النَّظم هي وصف الكائنات المادّية بالبساطة (1)، وذلك بمعنى اعتبار الوجود المادّي كوجود الله تعالى من حيث البساطة، ومن ثمّ منحه مقام النَّظم.

تحليل الشبهة ونقضها :

الذين طرحوا هذه الشبهة أقرّوا بهشاشتها وبطلان كون الوجود المادّي بسيطاً، و مع ذلك فقد زعموا ذلك من دون أيّ دليلٍ، حيث قال أحدهم: «المعتقدون بالله بإمكانهم إثبات أنّ المادّة ليس من شأنها أن تكون بسيطةً، في حين أنّ ما ليس بمادّيٍّ من شأنه أن يكون كذلك؛ ومع ذلك فأنا أقول إنّ المادّة لها القابلية على أن تكون بسيطةً وما ليس بمادّيٍّ ليست له هذه القابلية» (2). نلحظ في هذا الكلام أنّ المتكلّم ضرب الأصول العلمية عرض الجدار، فالمادّة مكوّنةٌ من آلاف الأجزاء وكلّ جزءٍ مكوّنٌ من أعداد هائلة من الذرّات والإلكترونات والنيوترونات، بمعنى تشكيل المادّة من طاقةٍ؛ ومن ناحيةٍ أخرى أثبتت البراهين الفلسفية والعقلية بالدليل الساطع أنّ واجب الوجود هو البسيط.

ص: 241


1- www.kaafar.netfirms.com/baad/nazm.html. p. 3
2- Ibid. p. 3
* الشبهة الرابعة عشرة: عدم انسجام النَّظم مع الشرّ الموجود في الحياة:

طرحت شبهةٌ فحواها أنّ النَّظم إن تحقّق في الكون فهو يقتضي انعدام الشرّ والأذى، ولكنّنا نشهد باستمرارٍ حدوث وقائع مدمّرة كالزلازل والبراكين والسيول، أي: إنّ الشرِّ أمرٌ واقعٌ في عالم الطبيعة؛ وهذا الأمر لا ينسجم مع فرضية وجود ناظمٍ يريد الخير للكائنات.

إذن، لو قلنا بوجود ناظم لهذا الكون، فهو باقتضاء طبيعة النَّظم لا يسمح بحدوث هذه الوقائع الضارّة التي هي مثالٌ لانعدام النَّظم، ناهيك عن أنّها تودي بحياة أعدادٍ هائلةٍ من الكائنات الحيّة ولا سيّما بنو آدم.

تحليل الشبهة ونقضها :

برهان النَّظم يؤكّد على اتّصاف عالم المادّة بانسجامٍ خاصٍّ يوحي بوجود غايةٍ مرجوّةٍ، لذا لو أمعنّا النظر في هذا الكون سنلفى أنّ كلّ ظاهرةٍ طبيعيةٍ مرتكزةً على سلسلةٍ من العلل والأسباب، وكلّ علةٍّ من هذه العلل توجب تحقّق معلولٍ معيّنٍ. فعلى سبيل المثال النظام الأمثل في الطبيعة متقوّم ٌعلى عملية تبخير المياه من المحيطات وسائر المسطّحات المائية بفضل حرارة أشعّة الشمس، ومن ثمّ تتكاثف وتجتمع في المناطق الباردة لتعود إلى الأرض من جديدٍ على هيئة أمطارٍ وثلوجٍ تلبّي متطلّبات الكائنات الحيّة القاطنة في المناطق الجافّة؛ وهذه العملية بأسرها مثالٌ للنَّظم في الحياة.

والمثال الآخر على هذا الصعيد، هو خلقة الكرة الأرضية، إذ يقول العلماء إنّها كانت جزءاً من الشمس ثمّ انفصلت عنها ومن ثمّ فقدت حرارتها

ص: 242

على مرّ الزمان وأضحت ممهّدةً لاستيطان الكائنات الحيّة؛ ولكن مع ذلك بقيت بعض الحمم الملتهبة كامنةً في قعرها تؤدّي بين الفينة والأخرى إلى وقوع بعض الحوادث في قشرتها، وهي قبل ذلك كانت سبباً في ظهور الجبال والأودية والبحار والمحيطات التي تعدّ ملاذاً لشتّى أنماط الحياة بنباتها وحيوانها وإنسانها. حينما تحدث ثغرةٌ في القشرة الأرضية تخرج بعض الحمم على شكل براكين ملتهبة أو أنّها تبقى محصورةً في أعماق الأرض فتسفر عن حدوث زلازل.

إذن ، استناداً إلى المثالين المذكورين، تقول:

1 ) كلّ فعل ٍوانفعالٍ طبيعيٍّ في الكرة الأرضية يجري على وفق نظامٍ دقيقٍ، ومن ثمّ فهو يحكى عن وجود نظام العلّة والمعلول فى عالم الطبيعة (1).

إذن، دعوى أنّ العالم فاقدٌ للنَّظم ، هي في الحقيقة زعمٌ بلا دليل.

2 ) بالنسبة إلى تضرّر الإنسان من بعض الظواهر الطبيعية، فهو أمرٌ واقعٌ لا ينكره أحدٌ، ولكنّ هذا الضرر لا يعني جواز نفي كلّ ذلك النَّظم الموجود في الحياة، وحسب التعريف المطروح حول النَّظم فهو أمرٌ متحقّقٌ بين الأجزاء لأجل غايةٍ معيّنةٍ؛ إلا أن يقال إنّ النَّظم لا يتحقّق إلا في رحاب الظواهر الطبيعية التي يحقّق الإنسان منها نفعاً وخيراً، ولكن هذا الأمر بداهة لا يمت بصلةٍ للنَّظم ولا يندرج في ضمن تعريفه، فهو يتحقّق بغضّ النظر عن بعض العواقب الحسنة أو الوخيمة التي تتمخّض عنه، ناهيك عن أنّه ليس من الصحيح تقييم معيار النَّظم على وفق مصالح الإنسان فحسب، فهذا القول لا يستند إلى أيّ برهانٍ عقليٍّ.

ص: 243


1- للاطّلاع أكثر، راجع: محمّد حسن قدردان قراملکی، اصل علّیت در فلسفه وکلام (باللغة الفارسية)

* الشبهة الخامسة عشرة: الشرّ الموجود في الكون لا ينسجم مع وجود إلهٍ رؤوفٍ يريد الخير للبشرية :

قد يدّعى معارضو برهان النَّظم بأنّ الحوادث السيّئة في الطبيعة تتعارض مع حقيقة النَّظم لكونها تسفر عن هلاك الإنسان الذي هو أشرف المخلوقات، ومن ثمّ فهي لا تنسجم مع وجود إلهٍ رؤوفٍ رحيمٍ ومقتدرٍ يريد الخير لبني آدم. فكيف نبرّر وقوع كلّ تلك الأحداث المدمّرة على مرّ العصور والتي تتسبّب بأضرار فادحة لا تحمد عقباها؟!

تحليل الشبهة ونقضها :

نقول في نقض الشبهة المذكورة إنّ برهان النَّظم يهدف فقط إلى إثبات وجود النَّظم في العالم، لذا لا صلة له بمسألة تعارض الكوارث الطبيعية والشرّ الموجود في الكون مع رأفة الله تعالى وحكمته وإرادته الخير للبشرية؛ فهذه المسألة لا تندرج في ضمن مباحث هذا البرهان بل يجب البحث عن تفسيرٍ لها في الأصول والمباني الأخرى، وهذا الأمر بطبيعة الحال يتطّلب بسط بحثٍ مترامي الأطراف لا يسع المجال لسوقه هنا (1).

• البرهان السادس: برهان الفطرة:

• البرهان السادس: برهان الفطرة:

-المعنى اللغوي للفطرة:

الفطرة لغةً مشتقّةٌ من كلمة (فطر) التى لها معانٍ عدة في اللغة العربية،

ص: 244


1- للاطّلاع أكثر، راجع: محمّد حسن قدردان قراملكي، خدا ومسأله شر (باللغة الفارسية)

ومنها الابتداء والإبداع والفتق والخلقة ؛ (1) و ( الفطرة) مصدر نوعي في العربية تعني (الخلقة)، وهي صفةٌ يتّصف بها المخلوق أوّل خلقه، أي إنّها صفة الإنسان الطبيعية. حينما تطلق على الإنسان بالذات، فهي تدلّ على نوعٍ خاصٍّ من الخلقة؛ ولكن ما هو ؟ علم اللغة لا يجيب عن هذا السؤال، بل لا بدّ من البحث عن الإجابة في مصادر العلوم العقلية والروائية.

- المعنى الاصطلاحي للفطرة :

يستعمل مصطلح (فطرة) للدلالة على معانٍ خاصّة في مختلف العلوم، ونشير فيما يأتي إلى جانبٍ منها:

1 ) الفطرة في المنطق الفطرة هي واحدةٌ من البديهيات الستّة في المنطق والتي يعبّر عنها بأنّها (قضايا قياساتها معها) بمعنى أنّ واسطاتها أو براهينها متلازمةٌ معها، إذ يتمّ التصديق بها لمجرّد تصوّرها من دون الحاجة إلى واسطةٍ خارجيةٍ، كتصوّر أنّ الاثنين نصف الأربعة (2).

2 ) الفطرة الأفلاطونية: باعتقاد أفلاطون فإنّ جمع المعلومات التي يمتلكها الإنسان مصدرها عقله، وهي موجودةٌ لديه منذ عالم المثال الذي تتعلّق فيه الروح بالبدن؛ لكنّ الإنسان نسیها (3).

3 ) المدركات الكامنة: الفطرة هي عبارةٌ عن معلوماتٍ ومدركاتٍ

ص: 245


1- فطَر الشَّيءَ: اخترعه، أوجده، أنشأه، ابتدأه. ويقال: «فطر الله الخلق» أي: خلقهم. للاطّلاع أكثر، راجع : معجم اللغة العربية المعاصرة
2- للاطّلاع أكثر، راجع: ابن سينا الإشارات بشرح المحقّق الطوسي، ج 1، ص 219
3- للاطّلاع أكثر، راجع أفلاطون، دوره آثار (باللغة الفارسية)، تدوين محمّد حسن لطفي، ج 1، ص 366 و 389 و 395 - ج 3، ص 1316 و 1836 إلى 1844؛ فريدريك كوبلستون تاريخ فلسفه (باللغة الفارسية)، ج 1، ص 193

كامنةٍ في ذهن الإنسان، أي: إنّها موجودةٌ فيه بالقوّة ومن ثمّ فهي على مرّ الزمان تنزل إلى حيّز الفعلية (1).

4 ) البديهي القريب : القضايا الفطرية هي عبارةٌ عن مسائل يتمكّن كل إنسان من إدراكها بعد القيام باستدلالٍ بسيطٍ (2).

5 ) فطرة ديكارت: يرى الفيلسوف ديكارت أنّ بعض المعلومات تنبثق من العقل مباشرةً، أى: إنّه يمتلكها بحسب طبعه من دون حاجة إلى حواسٍّ أخرى، مثل الأشكال الظاهرية للأشياء والحركات واليقين والزمان والفترة الزمنية (3).

6 ) فطرة كانط: باعتقاد الفيلسوف إيمانوئيل كانط فالقضايا الرياضية هى مجرّد مسائل يصوغها الذهن البشري (4).

7 ) الفطرة في العرفان: يصف العرفاء الفطرةَ بأنّها عالم الجبروت الذي هو متقدّمٌ على عالم المادّة.

- الفطرة في البحوث الدينية :

للفطرة أهمّيةٌ بالغةٌ في مباحث علم الكلام وسائر الدراسات والبحوث الدينية، إذ عرضها باحثو العلوم الدينية من مختلف زواياها، ونتطرّق فيما يأتي إلى ذكر أهمّ ثلاثة مباحث طرحت حولها :

ص: 246


1- مرتضى مطهّري، مجموعه آثار (باللغة الفارسية)، ج 6 ، ص 262
2- محمّد تقي مصباح اليزدي، آموزش عقايد (باللغة الفارسية)، الدرس السادس
3- رينيه ديكارت تأملات در فلسفه اوّلى (باللغة الفارسية)، ص 41 - 57؛ رينيه دیکارت، اصول فلسفه (باللغة الفارسية)، ص 44
4- يوستوس هورنتاك، نظریه معرفت در فلسفه كانت (باللغة الفارسية)، ص 10 و 93

أوّلاً: الفطرة والإنسان :

حينما يدور الحديث عن فطرة الإنسان يراد منه جبلّته وغريزته المكوّنة لذاته والمستودعة فيه من قبل البارئ تبارك شأنه، فهي رغبةٌ جامحةٌ واستعدادٌ تامٌّ لأداء كلّ عملٍ يتّصف بالحُسن ويراد منه الخير، بحيث لو تُرك الإنسان وشأنه فهو يبادر إلى القيام بهذا العمل بمحض إرادته ورغبته ما لم تُغبَّش مدركاته بعوامل خارجية.

ومن الجدير بالذكر هنا أنّ أتباع الفكر الماركسي(1) والمذهب الوجودي (2) أنكروا الجبلّة الأولى للإنسان وزعموا أنّ ماهيّته تتأثّر ببيئته ومجتمعه.

ثانياً: الفطرة والدين :

أحد المعاني للفطرة هو تطابقها مع التعاليم الدينية، ولا سيّما الأديان السماوية؛ فعندما يذكر الدين والإنسان معاً يُراد من ذلك أنّ الدين قد شُرّع بحسب الحاجة النفسية للإنسان وانسجاماً مع مقتضيات ذاته، ومن ثمّ فإنّ جميع تعاليمه من أوامر ونواهي لا بدّ من أن تكون منبثقةً على أساس هذه القاعدة (3).

ص: 247


1- للاطّلاع أكثر، راجع: ريموند آرون، مراحل اساسی اندیشه در جامعه شناسي (باللغة الفارسية)، ص 163؛ موريس دو فوجريه، روشهاي علوم اجتماعي (باللغة الفارسية)، ص 19
2- للاطّلاع أكثر ، راجع: سارتر، اصول فلسفه اگزیستانسياليسم (باللغة الفارسية)، ص71؛ مرتضى مطهّري، مسأله شناخت (باللغة الفارسية)، ص 242؛ مرتضى مطهّري، فلسفه اخلاق (باللغة الفارسية)، ص 187
3- للاطّلاع أكثر، راجع: محمّد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 16، ص 288

ثالثاً: الفطرة وعلم اللاهوت :

العلاقة بين الفطرة وعلم اللاهوت هى إحدى المباحث الهامّة على صعيد الدراسات والبحوث الدينية، والسؤال الأساسي المطروح حولها، هو: هل إنّ معرفة الله تعالى التي هي في المرحلة الأولى، وعبوديته التي تأتي في المرحلة الثانية، ممتزجتان مع الفطرة الإنسانية أو لا؟

- المعرفة الفطرية بالله تعالى :

ذكر علماء اللاهوت العديد من الآراء حول معنى المعرفة الفطرية بالله عزّ وجلّ، ونشير إليها فيما يأتي:

1 ) النظرية الأفلاطونية :

قيل إنّ الحكيم أفلاطون كان يعتقد بامتلاك روح الإنسان لجميع العلوم والمعارف قبل أن تحلّ في وعاء البدن المادّي، ولكنّها بعد ذلك نسيتها؛ وعلى هذا الأساس فالعلوم والمعارف التي يمتلكها في الحياة الدنيا هي في الواقع تذكارٌ للمعلومات السابقة (1) . وهذا الأمر برأيه ينطبق أيضاً على معرفة الله عزّ وجلّ، أي: إنّ أرواح بني آدم قبل أن يبصروا النور في الحياة الدنيا، كانت لديها معرفةٌ به تعالى لذا عليهم إحياء هذه المعرفة في حياتهم المادّية. قيل إنّ عالم المثال هو عالم الكائنات المفارقة الأزلية وإنّ الإله الخالق صاغ الكون على وفق أنموذج المثال الأزلي الأفلاطوني، وهذا الرأي اللاهوتي يمكن انطباقه مع الفطرة (2).

ص: 248


1- للاطّلاع أكثر ، راجع: فريدريك كوبلستون تاريخ فلسفه (باللغة الفارسية)، ج 1، ص 179
2- للاطّلاع أكثر، راجع أفلاطون دوره آثار (باللغة الفارسية)، تدوين محمّد حسن لطفي، ج 3، ص 1836 - 1844

الفلاسفة الذي تلوا أفلاطون لم يعيروا أهمّيةً لهذا الرأي، وحتّى أرسطو الذي كان تلميذه لم يوافق على كون الروح خلقت قبل البدن ورفض كلّ ما يترتّب على ذلك.

2 ) الفطرة استعدادٌ محضٌ

التعريف الآخر للمعرفة الفطرية بالله سبحانه وتعالى هو أنّها استعدادٌ كامنٌ في النفس الإنسانية، بمعنى أنّ الإنسان خُلق وأودعت في نفسه قابلية معرفة البارئ جلّ شأنه.

قال الشهيد مرتضى مطهّري في هذا الصدد: «المعرفة الفطرية عبارةٌ عن مدركاتٍ كامنةٍ في ذهن كلّ كائنٍ رغم عدم فعليّتها في أذهان البعض أو وجود ما يعارضها في أذهانهم، فهي من قبيل المعلومات التي تعرفها النفس عن طريق العلم الحضوري ولم تندرج حتّى الآن في نطاق علمها الحصولي. وهذه هي المعرفة الفطرية بالذات الإلهية المباركة باعتقاد صدر المتألّهين» (1).

ليس من الصواب بمكانٍ اعتبار الفطرة مجرّد استعدادٍ وإدراكٍ كامنٍ في

ص: 249


1- أصول فلسفه و روش رئاليسم (باللغه الفارسية)، المقالة الخامسة، ج 1 و 2 و 3 ، ص 183. وقال الشهيد مرتضى مطهّري في كتاب (الفطرة): «الأمور الفطرية التي يشير إليها القرآن الكريم هي ليست من سنخ تلك الأمور الفطرية التي ذهب إليها أفلاطون الذي يعتقد بأنّ الطفل قبل ولادته كان على علمٍ بها ويبصر النور وهو مسلّحٌ بها، بل هي عبارةٌ عن استعدادٍ موجودٍ في نفس كلّ إنسانٍ بحيث إنّه حينما يصل إلى مرحلةٍ يتمكّن فيها من تصوّرها بعد سنّ الطفولة، تصبح فطريةً لديه لكونها تتحوّل إلى تصديقٍ». مرتضى مطهّري، مجموعه آثار (باللغة الفارسية)، ج 3، ص 479

النفس الإنسانية، فهي إضافةً إلى ذلك تمثّل طبيعة خلقة الروح الإنسانية بشكلٍ خاصٍّ ممتزجٍ مع معرفة الله تبارك وتعالى.

إذن المعرفة الفطرية بالله عزّ وجلّ تفوق نطاق الاستعداد والإدراك الكامن في النفس الإنسانية وتصل إلى درجةٍ لا تغيير لها ولا تبديل؛ فقد قال تعالى في كتابه الحكيم : «فِطْرَتَ الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله» (1) . ذهب بعض الباحثين إلى أنّ القابلية التي يمتلكها الإنسان لمعرفة الله تعالى - الاستعداد والإدراك الكامن - لا تقتصر على هذا المجال المعرفي فحسب، بل قد تسوقه إلى الإلحاد والكفر أيضاً، وعلى هذا الأساس تصبح الفطرة مرتبةً أعلى من كونها مجرّد استعدادٍ كامنٍ.

قال الشيخ عبد الله جوادي الآملي: «فطرة الإنسان هي عين معرفة الله سبحانه، ولكن هذا لا يعني أنّه حينما يصل سنّ البلوغ ويفكّر ببارئه يكون قد امتلك علماً حصولياً، ولا يعني كذلك امتلاكه استعداداً لمعرفته تعالى؛ لأنّ مجرّد الفهم الحاصل من التفكير أو صرف الاستعداد للمعرفة لا يطلق عليهما (فِطْرَتَ اللَّهِ)، فالفهم والاستعداد يسفران أحياناً عن الشرك أو إنكار وجود الله عزّ وجلّ؛ لذا لا يمكن ادّعاء أنّ الإنسان خلق على الفطرة لمجرّد امتلاكه هذين الأمرين، فهي خلق الله الذي لا تبديل له » (2).

3 ) علمٌ حصوليٌّ بديهيٌّ (الفطرة في المنطق) :

كما ذكرنا آنفاً فإنّ الفطرة تعدّ واحدةً من البديهيات الستّة في المنطق

ص: 250


1- سورة الروم، الآية 30
2- عبد الله جوادي الآملي، ده مقاله پیرامون مبدأ و معاد (باللغة الفارسية)، ص 94

بحيث يتمّ التصديق بها لمجرّد تصوّرها من دون الحاجة إلى واسطةٍ خارجيةٍ نظراً لكونها مكنونةً في الذهن، أي: إنّ الواسطة تتبادر إلى الذهن بمحض تصوّر المطلوب، فهي من سنخ الأمور التي تكون قياساتها معها، كما أنّها من الوسائط الموجودة في الذهن كتصوّر أنّ الاثنين نصف الأربعة (1).

فسّر بعض الحكماء المسلمين المعرفة الفطرية بالله تعالى كما يأتي: هي المعرفة التي تتحقّق بالله سبحانه عن طريق العلم الحصولي البديهي الذي يتطلّب تحصيله إحدى الوسائط كتصوّر إمكان أو حدوث العالم. وهذا الرأي ذهب إليه كلٌّ من الفارابي (2) والفخر الرازي (3) وصدر الدين الشيرازي (4).

4 ) علمٌ حصوليٌّ يتحصّل باستدلالٍ بسيطٍ :

أكّد بعض العلماء على أنّ المعرفة الفطرية بالله عزّ وجلّ عبارةٌ عن علمٍ وجزمٍ متحّصلٍ باستدلالٍ بسيطٍ عارٍ من كلّ تعقيدٍ وهو ممكنٌ لكلّ إنسانٌ لأنّه يختلف عن البراهين العقلية والفلسفية المعقّدة التي لا تتسنّى إلا لفئةٍ معيّنةٍ من الناس.

ص: 251


1- «وأمّا القضايا التي قياساتها معها، فهي قضايا إنّما يصدق فيها لأجل وسطٍ، لكنّ ذلك الوسط ليس ممّا يعزب عن الذهن فيحوج فيه الذهن إلى طلبٍ، بل كلّما أخطر حدّ المطلوب بالبال، خطر الوسط بالبال؛ مثل قضائنا بأنّ الاثنين نصف الأربعة». ابن سينا، الإشارات بشرح المحقّق الطوسي، ج 1، ص 219
2- للاطّلاع أكثر، راجع: السياسة المدنية، ص 77 و 82. من الجدير بالذكر هنا أنّ الفارابي يذهب إلى أنّ هذا النمط من معرفة الله تعالى لا يعمّ جميع الناس
3- للاطّلاع أكثر ، راجع: الفخر الرازي، المباحث المشرقية، ج 2، ص 471
4- للاطّلاع أكثر ، راجع صدر المتألّهين، المبدأ والمعاد، ص 16

وهذا التعريف ذهب إليه أيضاً الشهيد بهشتي، حيث قال: «المعنى الآخر للمعرفة الفطرية بالله تعالى هو أنها لا تحتاج إلى استدلالاتٍ شائكةٍ ومعقّدةٍ، ومن هذا المنطلق نجد القرآن الكريم حينما يستدلّ لا يذهب إلى الغور في البيان لأجل أن يحفّز الإنسان على الالتفات إلى أبسط وأوضح مرتكزاته المعرفية الفطرية» (1).

وأمّا الشيخ محمّد تقي مصباح اليزدي فلم يذهب إلى بداهة المعرفة بالله تعالى، وأكّد على أنّ غاية ما يمكن قوله إنّها قريبةٌ إلى البداهة بحيث يكون إدراكها ممكناً للعقل بالاعتماد على البراهين غير المعقّدة؛ فقال: «كلّ إنسانٍ قادرٌ على إدراكها بواسطة عقله الذي أكرمه الله به دون الحاجة إلى براهين تخصّصية معقدة» (2). كما اعتبر أنّ الفطرة بهذا المعنى تدلّ على تحصيل المعرفة بالله سبحانه من قبل كلّ إنسانٍ عن طريق استدلال بسيطٍ(3)، ونوّه على أنّ عامّة الناس سواءٌ في هذه القاعدة لكون الفطرة لا تعني إمكانية المعرفة بالله والنزعة الباطنية إليه إثر امتلاك قدرةٍ علميةٍ(4).

تجدر الإشارة هنا إلى أنّ المعرفة الفطرية بالله عزّ وجلّ على أساس العلم الحصولي البديهي والعلم الحصولي الناشئ من استدلالٍ بسيطٍ، مع كون تصوّرها يسيراً وممكناً لكلّ إنسانٍ، لكنّها لا تقتصر على هذين المعنيين فقط، بل هي أمرٌ موجودٌ في عمق النفس وباطنها ومرتبطٌ بالعلم الحضوري وخلقة

ص: 252


1- السيّد محمّد حسين بهشتي، خدا از دیدگاه قرآن (باللغة الفارسية)، ص 60
2- محمّد تقي مصباح اليزدي آموزش عقاید (باللغة الفارسية)، ج 2، ص 330
3- المصدر السابق، ص 334
4- المصدر السابق، ص 63

الإنسان، إذ يطلق عليها هنا بالفطرة الباطنية والقلب (النفس)، وسنوضّح هذا الأمر لاحقاً.

5 ) معرفةٌ شهوديةٌ مسبقةٌ :

الآراء المذكورة فى الفقرات السابقة - باستثناء الفقرة الأولى – نزّلت الفطرة منزلة العلم الحصولي وعرّفتها في نطاق المعارف والعلوم الذهنية التي يمتلكها الإنسان. وهناك رأيان آخران على هذا الصعيد، حيث ينظران إليها من زاوية الباطن والعلم الحضوري، وهما كما يأتي:

الرأي الأوّل: معرفةٌ منبثفةٌ من عالم المجرّدات:

استند أصحاب هذا الرأي إلى بعض الآيات والروايات لإثبات أنّ النفس الإنسانية قبل تعلّقها بالبدن المادّى فى الحياة الدنيا كانت موجودةً سابقاً في عالم المجرّدات، وقد كانت لها معرفةً حضوريةً بالله العزيز القدير، ولكن نظراً لتعلّقها بالمادّة في هذه الحياة نسيت تفاصيل تلك المعرفة، ورغم ذلك فإنّ هذا العلم المسبق يعدّ بذاته أرضيةً مناسبةً للمعرفة التالية بالبارئ سبحانه، وهو أمرٌ محفوظٌ في فطرة الإنسان وآثاره باقيةٌ حتّى في حياته الدنيوية. هذا العلم برأيهم يجعل الإنسان متّصفاً بالنزعة إلى الله لكونه خلفيةً للمعرفة الفطرية به تعالى.

بناءً على ما تتبنّاه هذه النظرية فإنّ الفعل الإلهي موجودٌ في فطرة الإنسان، وهو مختلفٌ عن العلم الحصولي ومدركات الإنسان سواءٌ كانت بديهيةً غير بديهيةً. وقد قيل: «عرّف الله نفسه لقلوب بني آدم قبل أن يبصروا النور في الحياة الدنيا، وقد بقيت منه آثارٌ معرفيةٌ في قلب الإنسان وروحه.

المعرفة الفطرية ليست من فروع العلوم البشرية، لأنّ الفطرة هي فعل

ص: 253

الله، وعلى هذا الأساس ليس من الصواب إطلاقها على العلم الحصولي والبديهيات الأوّلية والثانوية والنظريات القريبة من البديهيات والعلم الحضوري بالمعنى الاصطلاحي»(1).

هذه النظرية لا تتفاعل مع المعرفة الذهنية والمفهومية والبرهانية على صعيد معرفة الله تعالى، إذ تعدّ ذلك تفسيراً للمعرفة الفطرية القرآنية على وفق آراء المعرفة الفطرية التي طرحها الفيلسوفان ديكارت وجوتفريد لايبنز، وهذه الآراء في الحقيقة منبثقةٌ من المعتقدات العقلانية الحديثة التي ظهرت في مقابل النزعة التجريبية (2).

إضافةً إلى ما ذكر فإنّ هذه النظرية تختلف عن نظرية العلم الحضوري لأنّها تعتبر هذا العلم أمراً مجرّداً سابقاً على الحياة الدنيوية بحيث كان الإنسان يمتلكه في العوالم المتقدّمة، وليس ذلك العلم الاصطلاحي المتعارف (3).

الرأي الثاني: معرفةٌ حضوريةً (فطرة القلب) :

باعتقاد أتباع هذا الرأي فإنّ الفطرة قد أودعت في ذات الإنسان بشكلٍ يجعله يدرك وجود الخالق عزّ وجلّ بمجرّد أن يتأمّل بنفسه وذاته، فهو يعرف ربّه من دون الحاجة إلى انتزاع مفاهيم ذهنية وعقلية.

ومن الجدير بالذكر أنّنا لا نقصد من المعرفة الفطرية بالله تعالى اعتبار

ص: 254


1- رضا برنجکار، مباني خداشناسي (باللغة الفارسية)، ص 113 و 141 و 139 و 236
2- المصدر السابق، ص 139
3- محمّد تقي مصباح اليزدي، آموزش عقايد (باللغة الفارسية)، ج 1، ص 63 - ج 2، ص 61

الاعتقاد بالمبدأ والمعاد استعداداً وإدراكاً، بل نعنى أنّه جزءٌ من الحقيقة وعاملٌ مقوّمٌ خُلقت ذات الإنسان على أساسه. وقد أكّد الحكيم صدر الدين الشيرازي على أنّ النزعة إلى الله تعالى تعتبر أمراً جبلّياً وغريزياً لدى الإنسان ولا سيّما عند مواجهة المخاطر(1)، والشهيد مرتضى مطهّري وضّح الموضوع كما يأتي: «غريزة البحث عن الله والإيمان به هي شكلٌ من أشكال الرغبات المعنوية الكائنة بين وعاء القلب والمشاعر الإنسانية من جهةٍ وبين وعاء الوجود - المبدأ الأعلا والكمال المطلق - من جهةٍ أخرى؛ وهي تناظر التجاذب بين الأجرام والأجسام، فالإنسان يخضع لتأثير هذه القدرة الغيبية من حيث لايشعر وكأنه يمتلك (أنا) أخرى كامنة في ذاته غير (أنا) التي يعرفها، ومن ثمّ يترنّم بها مع نفسه» (2).

إذن، يمكن للإنسان الشعور بوجود خالقه الكريم والإذعان بالعبودية له إذا ما تأمّل بواقع نفسه بعض الشيء واستند إلى علمه الحضوري المكنون في ذاته، وكلّما تعمّق تأمّله وتقلّصت العقبات الخارجية فهذا الشعور يتزايد أكثر وأكثر؛ وحينئذٍ يشعر بالحاجة إلى المبدأ اللامتناهي عندما يفقد الأمل بالأسباب الدنيوية، والأمثلة على هذه الحقيقة كثيرة لا حصر لها. على سبيل المثال حينما يواجه الإنسان خطر الغرق في عباب البحار المتلاطمة أو يكون في طائرةٍ على وشك السقوط والتلاشي، نجده يبادر إلى التوسّل بتلك القوّة الخارقة التي تؤمن بها نفسه، وهي بطبيعة الحال ليست سوى البارئ الجليل سبحانه.

ص: 255


1- للاطّلاع أكثر، راجع صدر المتألّهين المبدأ والمعاد، ص 121 و 253
2- مرتضى مطهّري، مجموعه آثار (باللغة الفارسية)، ج 6، ص 935

هذا المعنى للمعرفة الفطرية بالله عزّ وجلّ يختلف عن المعنى المطروح في الرأي السابق الذي يعتبرها معرفةً منبثقةً من العالم الذي سبق الحياة الدنيا، فحسب الرأي السابق لا بدّ أوّلاً وقبل كلّ شيءٍ من الإذعان بوجود عوالم سابقة بقيت آثار علومها في باطن الإنسان إلا أنّ هذا الرأي لا يشترط ذلك، حيث يؤكّد فقط على خلقته الخاّصة في الحياة الدنيا، والتي تمكّن الإنسان من الاعتقاد بالله تعالى لمجرّد الرجوع إلى نفسه والتأمّل في باطنه.

قال الشيخ عبد الله جوادي الآملي على هذا الصعيد: «الفطرة تعدّ من سنخ الوجود وليست من سنخ الماهية وعلى هذا الأساس فهي ذات مفهوم وتدرج ضمن المعقولات الفلسفية الثانية ومن ثمّ لا يمكن تحليلها وتعريفها ماهوياً ولا يتسنّى وضع حدٍّ لها ولا طرح تعريفٍ رسميٍّ لها، إنّما تعريفها يجب وأن يكون من سنخ شرح الاسم» (1). وقال في موضعٍ آخر: «الفطرة هي رؤيةً شهوديةٌ وانجذابٌ وعبوديةٌ نابعةٌ من جبلّة الإنسان الخاصّة، وليست صفةً من صفاته كي يقال إنّها حتّى وإن زالت فموصوفها يبقى موجوداً. إنّها شهودٌ ونزعةٌ وجوديةٌ خاصّةً خلقت مع خلقة الإنسان» (2).

- هل فطرة القلب إدراكٌ معرفيٌّ أو لا؟

نستشفّ ممّا ذكر فى المبحث الآنف أنّ المعرفة الفطرية بالله سبحانه وتعالى مكنونةٌ في البُنية الماهوية للإنسان، وعلى هذا الأساس يطرح السؤال

ص: 256


1- عبد الله جوادي الآملي، تفسير موضوعي - توحید در قرآن (باللغة الفارسية)، ج 12، ص 26
2- عبد الله جوادي الآملي، ده مقاله پیرامون مبدأ و معاد (باللغة الفارسية)، ص 69

الآتي: هل إنّ الإنسان بما هو إنسان عالمٌ بهذه الميزة الذاتية المكنونة في باطنه أو أنّه جاهلٌ بها؟ وبعبارةٍ أخرى: هل إنّ الفطرة كافيةٌ في معرفة الله تعالى أو إنّ الإنسان يحتاج لعلم آخر إلى جانبها كي يعرف ربّه؟

للإجابة نقول:

1 ) الذين يعتبرون المعرفة الفطرية بالله تعالى علماً شهودياً، يذهبون إلى عدم علم الإنسان بها، ويفسّرونها بأنّها ذات الإنسان المكنونة، لذلك فهى خارجةً عن نطاق إدراكه وعلمه، وإن أُريد إيقاظها يجب عليه اللجوء إلى بعض الاستدلالات البسيطة أو الرجوع إلى علمه البديهي.

قال العلامة مصباح اليزدي في هذا الصدد: «المعرفة الفطرية للإنسان حالها حال فطرة العبودية لله تعالى لكونها ليست نزعةً معرفيةً تنمّ عن وجود وعي وإدراك؛ لذا فإنّ عامّة الناس في غنىً عن بذل جهدٍ فكريٍّ - عقلي - لمعرفة البارئ جلّ وعلا » (1). وأكّد على أنّ كلّ إنسانٍ يتمتّع بمرتبةٍ ضعيفةٍ من الفطرة القلبية - المعرفة الحضورية - ولكنّ هذا المقدار لا يكفي لمعرفة الله تعالى، إذ قال: «كلّ إنسانٍ يمتلك مرتبةً ضعيفةً من المعرفة الفطرية الحضورية، لكنّ هذا لا يعني أنّه بواسطة قليلٍ من التأمّل والاستدلال الباطني على وجود الله تعالى يكون قادراً على تقوية معرفته الشهودية اللاشعورية ورفعها إلى مراتب الوعي»(2).

2 ) الذين يعتبرون المعرفة الفطرية بالله تعالى أمراً باطنياً وعلماً

ص: 257


1- محمدّ تقي مصباح اليزدي، آموزش عقايد (باللغة الفارسية)، ج 1 ، ص 63
2- المصدر السابق، ص 61 و 63

حضورياً، يعتقدون بأنّ العلم الحضوري به سبحانه ناشئٌ من وعي ولكنّه ليس كافياً في معرفته بل هو مجرّد علمٍ مفيدٍ وموصلٍ لمعرفته؛ كما أنّهم يطرحون العلم الحصولي - الإدراكي - على هذا الصعيد كاحتمالٍ لا أكثر (1).

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ الدين حتّى وإن عدَّ علماً شهودياً يناله الإنسان في فطرته الباطنية، لكنّه بطبيعة الحال ليس بمستوى واحدٍ لدى جميع البشر، وإنّما له مراتب مختلفة وما يحظى بأهميةٍ هنا أنّ كلّ مرتبةٍ فيه تجعل الإنسان مضطرّاً للالتفات إليه حين انقطاع الأسباب المادّية بحيث يكون قادراً على معرفة بارئه لمجرّد الرجوع إلى نفسه من دون أن يحتاج إلى علمٍ حصوليٍّ.

قال الشيخ عبد الله جوادي الأملي على هذا الصعيد: «الفطرة التي هي نفس الرؤية الشهودية للإنسان بالنسبة إلى الوجود المحض وعين النزعة الواعية والانجذاب الشهودي والعبودية الخاضعة لله تبارك شأنه، هي أيضاً نحوٍ خاصٍّ من الخلقة التي فُطرت حقيقة الإنسان وفقاً لها وخلقت روحه في رحابها»(2).

إذن، نستنتج ممّا ذكر في النقطتين أعلاه أنّه لو كان المقصود من عدم الإدراك هو وصف فطرة القلب وصفاً مطلقاً، يترتّب عليه نفي الفطرة من

ص: 258


1- قال الشيخ عبد الله جوادي الآملي: «العلم الحصولي [بالله] والذي يستنتج عن طريق المفاهيم، حاله حال سائر العلوم الحصولية والذهنية، إذ من الممكن بعد تحقّق المعرفة منه لا يصل الإنسان إلى درجة الاعتراف بالمبدأ والمعاد». عبد الله جوادي الآملي، تفسير موضوعي - توحید در قرآن (باللغة الفارسية)، ج 12، ص 86
2- عبد الله جوادي الأملي، ، ده مقاله پیرامون مبدأ و معاد (باللغة الفارسية)، ص 69؛ عبدالله جوادي الآملي، تفسير موضوعي - توحید در قرآن (باللغة الفارسية)، ج 12، ص 25 و 233

الأساس، ناهيك عن أنّه يتعارض مع ما ورد في النصوص الدينية ويخالف المبادئ الوجدانية؛ إذ كلّ إنسانٍ حينما يراجع نفسه - ولا سيّما في مواطن الضرورة - سيمتلك التجربة لمعرفة الله تعالى والنزعة إليه من دون أن يحتاج إلى معونة المفاهيم الذهنية والعلم الحصولي.

لكن إن كان المقصود منه أمراً نسبياً وجزئياً، فيترتب عليه تقييد القول بكون الفطرة ناشئةً من وعي وإدراك باشتراط الرجوع إلى الباطن عند زوال الموانع فقط، وفي هذه الحالة فإنّ الحاجة إلى العلم البديهي والجهد الذهني لإيقاظ الفطرة لا يوجب حدوث خلل في المدّعى.

- ما هو الأصل في معرفة الله تعالى، العلم الحضوري أو الحصولي؟

ذكرنا في المباحث الآنفة عدة تعاريف للمعرفة الفطرية بالله عزّ وجلّ، وما يهمّنا منها بيان ما إن كانت الفطرة علماً حضورياً أو حصولياً.

ذهب بعض العلماء إلى القول بكون الفطرة علماً حضورياً، في حين ذهب آخرون إلى اعتبارها علماً حصولياً، ولكن أيّ واحدٍ من هذين العلمين مقدّمٌ على الآخر بحيث يمكن عدّه أساساً ومرتكزاً له ؟ فهل يجب أوّلاً امتلاك علم حضوري بالله كى يتمّ في ظلّه تحقّق العلم الحصولي به تعالى ومن ثمّ يتمكّن الإنسان من طيّ مسيرة السعادة الأبدية؟ أو أنّ الأمر على العكس من ذلك؟ الإجابة عمّا ذكر اتّضحت إلى حدٍّ ما في المباحث السابقة، فالذين اعتبروا الفطرة إدراكاً ووعياً، ذهبوا إلى أنّها الأساس من داعي أنّ العلم الحضوري لا يشوبه الخطأ بمكانٍ، إذ قال الشيخ جوادي الآملي في هذا المجال:

ص: 259

«الفطرية تعني الرؤية الشهودية لعلم حضوريٍّ مختلفٍ بذاته عن العلم الحصولي، أي أنّهما ليسا نمطاً علمياً واحداً » (1). وقال في موضع آخر: «القرآن الكريم بصفته كتاب حكمةٍ من أوّله إلى آخره، يهدف إلى بيان الفطرة الإنسانية وإحياء القلوب، لأنّ طريق القلب هو الطريق الموجود في جميع الأحوال ويشمل مختلف الشؤون » (2) . وأضاف قائلاً: «الذين حُرموا من سلوك طريق القلب والمحبّة، لم يتمسّكوا بتأمّلاتهم الذهنية كما ينبغي لدرجة أنّهم أحياناً لا ينعمون بأيّة ثمرةٍ من الصور الذهنية»(3).

بعض المفكّرين وعلماء النفس الغربيين ذهبوا إلى أصالة الفطرة مقابل التعقّل، ومنهم عالم النفس الشهير وليام جيمز الذي قال: «البُنية الأساسية للمفاهيم الذهنية منبثقة ٌمن الاعتقادات القلبية، وفي المرحلة التالية قامت الفلسفة والاستدلالات العقلية بنظمها وترتيبها وفق أنماط معيّنة؛ لذا فإنّ الفطرة والقلب يسيران نحو الأمام ثمّ يتبعهما العقل » (4). كما أنّ الذين يقولون يكون الفطرة تعنى العلم بالعوالم السالفة، يذهبون إلى كونها البُنية الأساسية في التفكّر (5).

ص: 260


1- عبد الله جوادي الآملي، ده مقاله پیرامون مبدأ و معاد (باللغة الفارسية)، ص 110
2- عبد الله جوادي الأملي، تفسير موضوعي - توحید در قرآن (باللغة الفارسية)، ج 12، ص 233
3- المصدر السابق، ص 237
4- وليام جيمز، دين وروان (باللغة الفارسية)، ص 57
5- قيل إنّ المعرفة الفطرية مجرّد معرفةٍ حقيقيةٍ وهي البُنية الأساسية للإيمان والتديّن، وإنّ أصول المعرفة الحقيقية بالنسبة إلى أحد الأمور تعدّ معرفةً شخصيةً به، في حين أنّ سائر المعارف العقلية التي تتجلّى في إطار تصوّراتٍ كلّيةٍ لا تعدّ معارف حقيقيةً. رضا برنجکار، معرفت فطري خدا (باللغة الفارسية)، ص 57

وذهب آخرون إلى أنّ الفطرة عبارةٌ عن علمٍ حضوريٍّ متأخّرٍ عن العلم البديهي أو قريب منه، ومن هذا المنطلق لا بدّ أوّلاً من تحقّق علمٍ بديهيٍّ لمعرفة الله تعالى ليتجلّى من خلاله العلم الحضوري. وبعبارةٍ أخرى، فإنّ العلم الحضوري بمعناه الحقيقى لا يتحصّل إلا بعد طيّ منازل ومراحل من السير والسلوك، وهذا الأمر يرتبط بشكلٍ وثيقٍ مع البراهين الفلسفية التي تساق في مجال معرفة الله تبارك شأنه؛ ولكن بما أنّ العلم الحضوري لغالبية الناس سطحيٌّ وغير منبقٍ من وعي وإدراك، لذلك هم بحاجةٍ إلى علمٍ حصوليٍّ بغية تحصيل هذه المعرفة. قال الشيخ مصباح اليزدي في هذا الصدد: «كلّ إنسان بإمكانه امتلاك علمٍ حضوريٍّ وشهوديٍّ بعد تهذيب نفسه وطيّ مراحل السير والسلوك العرفاني، وهذا العلم إنّما يتحقّق في مرتبةٍ ضعيفةٍ لكونه غير مصحوبٍ بإدراكٍ ووعي، لذا لا يعدّ كافياً لامتلاك إيديولوجيةٍ واعيةٍ ... العلم الحصولي هو الذي يتحصل مباشرةً من البحوث العقلية والبراهين الفلسفية، وإثر ذلك يسعى الإنسان لامتلاك معرفةٍ حضوريةٍ ناشئةٍ من وعي وإدراك » (1). كما أكّد على أنّ العلم الحضوري لدى عامّة الناس يتحصّل من خلال قليلٍ من الفكر والاستدلال، وقد أشرنا إلى ذلك آنفاً (2).

نقول في بيان هذا الرأي إنّه لا يمكن اعتبار أحد العلمين الحضوري أو الحصولى أصلاً مطلقاً، فبعض الناس يتسنّى لهم امتلاك معرفةٍ بالله تعالى على أساس فطرتهم وبقليل من التأمّل والتفكّر في أنفسهم، في حين أنّ هذا الأمر غير ممكنٍ لدى آخرين، أي: إنّ فطرتهم لا تستيقظ بقليلٍ من التأمّل والتفكّر،

ص: 261


1- محمّد تقي مصباح اليزدي، آموزش عقايد (باللغة الفارسية)، ج 1، ص 61
2- المصدر السابق، ص 63

لذلك هم بحاجةٍ إلى علم حصوليٍّ في هذا المضمار حالهم حال من واجه شبهةً حول وجود الله تعالى فهو يؤمن به بعد البحث والتحرّي.

إذن، بإمكاننا الجميع بين الأمرين - العلمين الحضوري والحصولي - وليس من الصواب نفي أصالة أحدهما على أساس الشكّ والاحتمال.

- الرأي المختار :

النتيجة الحاصلة من الرأي الأخير والتعاريف الستّة المطروحة على صعيد بيان حقيقة المعرفة الفطرية بالله عزّ وجلّ، هي عدم صواب التعريف الأوّل على أساس المباني والأصول الفلسفية، وقد قام الفلاسفة ببيان هذا الأمر في مختلف مباحثهم. وأمّا التعاريف الخمسة الأخرى فهي بذاتها لا تتعارض مع مبدأ الفطرة، لكنّ بعضها لا يكتمل إلا مع إضافة سائر التعاريف إليه.

تعريف الفطرة بأنّها استعدادٌ وقابليةٌ كامنةٌ هو في الواقع بيانٌ الجانبٍ منها فحسب ولا يوضّحها بالكامل، وبالنسبة إلى تعريفها بكونها علماً حصولياً بديهياً أو استدلالياً بسيطاً فهو بيانٌ عامٌّ لها وليس هناك ما يخصّصه، وإذا كان المراد من المعرفة الفطرية بالله تعالى الاكتفاء بالإدراك الذهني والاعتماد على استدلالاتٍ غير معقّدةٍ، فهذا لا يتعارض مع البُعد الآخر للفطرة، أي: العلم الحضوري.

وتعريفها بكونها علماً مسبقاً كان موجوداً لدى الإنسان في عالم المجرّدات المتقدّمة على الحياة الدنيا، فيرد عليه بما يأتي:

أوّلاً: ليس جميع العلماء يتبنّون فكرة وجود عوالم مجرّدة للحياة البشرية

ص: 262

سبقت حياتهم الدنيوية، ومن ثمّ لا صحّة لقول إنّ فطرتهم ناشئةٌ من تلك العوالم.

ثانياً: لا يمكن تقييد المعرفة الفطرية بالله تعالى بهذا التعريف ونفي سائر التعاريف من داعي أنّها لا تنسجم مع القرآن والحديث ولا يسعنا المجال هنا التسليط الضوء على هذه المباحث ذات التفاصيل المتشعّبة والخارجة إلى حدٍّ ما عن نطاق الموضوع.

وأمّا تعريفها بالعلم الحضوري فهو ليس تعريفاً جامعاً مانعاً، وإنّما مصداقٌ بارزٌ للمعرفة الفطرية بالله عزّ وجلّ بحيث يثبت أنّ المصاديق الأخرى للفطرة كالعلمين البديهي والحصولي والاستدلال البسيط، من شأنها أن تندرج في ضمن التعريف التامّ لها.

الرأي المختار من حصيلة ما قيل حول التعريف، هو قدرة الإنسان على الاعتقاد بوجود الله تعالى اعتماداً على مدركاته الفطرية من دون الحاجة إلى تعليمٍ وتربيةٍ، وهذا الاعتقاد يتحقّق تارةً عن طريق العلم الحضوري وتارةً أخرى بواسطة العلوم البديهية والحصولية.

- معايير المعرفة الفطرية بالله تعالى :

هناك معايير وأُسس محدّدة لفطرية أحد الأمور وذاتيته، وهى تميّزه عمّا هو غير ذاتيٍّ، فالمحبّة التي تكتنف باطن الإنسان على سبيل المثال تعدّ وصفاً فطرياً ذاتياً ولها ميزاتها الخاصّة بها.

أهمّ الخصائص التي تميّز الأمر الذاتي عن غيره عبارةٌ عمّا يأتي:

ص: 263

1 ) عدم الحاجة إلى جعلٍ مستقلٍّ :

ظهور الذاتيٌّ ولوازمه إلى الوجود يتحقّق عبر جعله بنفسه من دون الحاجة إلى جاعلٍ أو علّةٍ أخرى كالزوجية بالنسبة إلى العدد أربعة والإمكان بالنسبة للماهية، وفي المنطق والفلسفة يعبّر عنها ب_ (المحمولات بالضميمة) التي هي في الواقع غير مفتقرةٍ إلى علّةٍ خارجيةٍ. ويقابلها كلّ ما يتمّ تحصيله بالضميمة والذي هو محمولٌ مختصٌّ بموضوعٍ محدّدٍ، كصفة (معلّم) فهي لا تنطبق على كلّ إنسانٍ، بل مختصّةٌ بمن يتّصف بصفة التعليم التي تحتاج في تحقّقها إلى علّةٍ خارجيةٍ. إنّ الوصف الذاتي (العرض اللازم بالعلّة) لا يفتقر إلى عامل خارجيٍّ، فهو ليس متقوّماً على التربية والتعليم، ومن الممكن أن يتحقّق بذاته عند توفّر الأرضية المناسبة، من قبيل الغريزة الجنسية الموجودة في ذات الإنسان.

2 ) الثبوت والاستقرار :

الصفة الذاتية (العرض اللازم) لا ينفكّ عن ذاته وملزومه كالزوجية الملازمة للعدد أربعة .

3 ) الكلّية والعمومية :

الصفة الذاتية تجري في جميع الذوات ومصاديقها على نحو العموم.

4 ) الإدراك والمعرفة :

حينما تكون الذات عائدةً لفاعلٍ مدركٍ ذي شعورٍ، فهي تمتلك معرفةً بالصفات والأعراض الذاتية الملازمة لها الإنسان على سبيل المثال على علمٍ بصفة محبّة الجمال والحفاظ على نفسه ، وعلمه هذا نظير علمه بالجوع والعطش عند طروئهما عليه.

ص: 264

5 ) القدسية :

يرى بعضهم أنّ الفطرة تتّصف بميزةٍ حسنةٍ ومقّدسةٍ إلى حدٍّ ما (1).

- الأدلّة التي تثبت المعرفة الفطرية بالله تعالى :

- الأدلّة التي تثبت المعرفة الفطرية بالله تعالى :

بعد أن وضّحنا الآراء والتعاريف المطروحة حول المعرفة الفطرية بالله عزّ وجلّ، سوف نتطرّق فيما يأتي إلى ذكر الأدلّة التي تثبت وجودها استناداً إلى التعريف المختار لها والذي يعتبر المصداق الأبرز لها العلم الحضوري وفطرة القلب مع الحفاظ على مكانة العلم الحصولي فيها.

*الدليل الأوّل: الفطرة أمرٌ وجدانيٌّ وشاملٌ :

أوّل دليلٍ يُساق لإثبات وجود المعرفة الفطرية بالله عزّ وجلّ هو اعتبار الفطرة أمراً وجدانياً يتّصف بالشمول والعمومية ومتحقّقاً لدى جميع البشر على مرّ التأريخ، فلو تتبّعنا الآراء التي طرحت في شتّى العصور والمعتقدات التي سادت في مختلف المجتمعات نستشفّ أنّ الإيمان بوجود الله تعالى أمرٌ غريزيٌّ مرتبطٌ بفطرة الإنسان بحيث لم يتمّ اكتسابه عن طريق تلقينٍ ولا بتأثيرٍ من عاملٍ خارجيٍّ، وكلّ من يرجع إلى ضميره فهو يستشعر هذا الأمر.

عندما يرجع الإنسان إلى باطنه، ولا سيّما في مواطن الضرورة والشعور بالخطر بعد انقطاع جميع الأسباب، فهو يشعر في أعماقه بوجود قدرةٍ ماورائيةٍ عظيمةٍ غير متناهيةٍ، ومن ثمّ يدرك أنّها موجودةً حقاً ؛ فيبادر إلى التوسّل بها بكلٍ إرادةٍ ومحبّةٍ ورجاءٍ. ومن المؤكّد أنّ هذه القدرة الغيبية هي البارئ العظيم

ص: 265


1- مرتضى مطهّري، ده گفتار (باللغة الفارسية)، ص 32 و 69

الذي خلقه وأودع في باطنه جبلّته التي أرشدته إلى الصواب.

قال الحكيم صدر الدين الشيرازي في هذا الصدد: «وجود الواجب تعالى - كما قيل - أمرٌ فطريٌّ، فإنّ العبد عند الوقوع في الأهوال وصعاب الأحوال، يتوكّل بحسب الجبلّة على الله تعالى ويتوجّه غريزياً إلى مسبب الأسباب ومسهّل الأمور الصعاب وان لم يتفطّن لذلك» (1).

المسألة الهامّة في هذا الشعور هي أنّ المعرفة الوجدانية بمقام القدس الإلهي متقدّمةٌ في الواقع على طلب العون منه وسابقةٌ على محبّته، إذ عند انعدام هذه المعرفة بالبارئ الكريم لا يأتي الدور للاستعانة به ولا يترسّخ حبّه في النفس ولا ينتاب الذهن رجاءً لا محدوداً به فالمفترض أنّ كلّ أنماط القدرة والمحبّة عبارةٌ عن أمورٍ ذهنيةٍ ومحدودةٍ معرّضةٍ للزوال، والرجاء إنّما يكون فقط بما هو غير متناهٍ.

وتجدر الإشارة إلى أنّ هذا الاستدلال متقوّمٌ على العلم الحضوري - الوجداني - ومصونٌ من الخطأ والزلل، فقد قال الشيخ عبد الله جوادي الآملي على هذا الصعيد: «ما يتّضح للإنسان عند مواجهته لمخاطر انقطاع الأسباب والعلل الظاهرية، هو الحقّ المحض الذي يدركه باطن الإنسان برؤيته الشهودية، وهذا الشهود الحضوري لا يشوبه خطأ، لأنّه يرى الحقّ تعالى ويعرفه فيطلب العون منه ويعرب له عن محبّته، فالمعرفة سابقةٌ على طلب العون والمحبّة؛ أي أنّ هذه المعرفة الباطنية لم تتحقّق للإنسان ببارئه الكريم بعد محبّته وطلب العون منه بل هو يعرفه قبل ذلك ويطلب منه ما يريد لأنّه

ص: 266


1- صدر المتألّهين، المظاهر الإلهية، ص 22 و 23

يؤمن بوجوده؛ فهذا المحبوب لا بدّ وأن يكون موجوداً بالفعل » (1).

كما تجدر الإشارة إلى أنّ هذا الاستدلال في ظاهر الحال يبدو كأنّه من نمط الاستدلالات الشخصية الوجدانية، لكن نظراً لأنّ الطبيعة الإنسانية متكافئةٌ لدى جميع بني آدم على حدٍّ سواء وبما أنّ تجاربهم الدينية مشتركةٌ، فلا ترد مؤاخذةٌ على البُعد المعرفي له وبيان هذا الأمر سيأتي في المباحث اللاحقة.

شبهاتٌ وردودٌ:
شبهاتٌ وردودٌ:

هناك شبهاتٍ عدّة طرحت حول الدليل الأوّل، نذكر منها ما يأتي:

*الشبهة الأولى : عدم وجود معيارٍ محدّدٍ لفطرية ذات الإنسان:

الشبهة الأولى المطروحة حول الدليل الأوّل هي إنكار اتّصاف ذات الإنسان بالنزعة الفطرية، ويترتّب على هذا الأمر بطلان الاعتقاد بوجود معرفةٍ فطريةٍ بالله تعالى، حيث يؤكّد جماعة على عدم امتلاك الإنسان أيّة دوافع فطرية، لأنّ وجود كلّ شيءٍ منوطٌ بمعيارٍ خاصٍّ، في حين أنّنا لا نستطيع تعيين معيارٍ أو معايير للمعرفة الفطرية وتمييزها عن غيرها سواءٌ في الإنسان أو الحيوان.

وقال أحد أتباع هذا الرأي: «ليس لدينا معيارٌ نميّز على أساسه

ص: 267


1- عبد الله جوادي ،الآملی ده مقاله پیرامون مبدأ ومعاد (باللغة الفارسية)، ص 81 – 86؛ عبد الله جوادي الأملي، تفسير موضوعي - توحید در قرآن (باللغة الفارسية)، ج12، 291 . راجع أيضاً : جعفر السبحاني، مدخل مسایل جدید در علم کلام (باللغة الفارسية)، ج 1، ص 182 و 189

الأحكام الفطرية، والواقع أنّ كلّ شيءٍ من شأنه أن يكون فطرياً أو غير فطريٍّ بنحوٍ ما»(1).

تحليل الشبهة ونقضها:

على خلاف ما ادّعاه أصحاب الشبهة، فهناك معايير خاصّة نتمكّن على أساسها من تمييز الأمور الفطرية عن غيرها، وهي:

1 ) عدم الحاجة إلى جعلٍ مستقلٍّ (عدم الحاجة إلى عامل ٍخارجيٍّ).

2 ) الثبوت والاستمرار .

3 ) الكلّية والعمومية.

4 ) الإدراك.

5 ) القدسية.

عند مراجعة الضمير والاطّلاع على سيرة السلف من بني آدم، نجد أنّ معرفة الله تعالى متقوّمةً على هذه المعايير الخمسة، وهي في الواقع معرفةً مكنونةٌ في الأنفس دونما تعليمٍ وتلقينٍ، كما أنّها تتّصف بالاستقرار والشمولية، ناهيك عن أنّ الإنسان يقدسها لمجرّد الشعور بها وهي تختلج في نفسه.

* الشبهة الثانية: جواز ادّعاء خلاف ما ذكر في الدليل

نقاط القوّة والضعف في القضايا العقلية والاستدلالية مفهومةٌ وممكنةٌ للجميع، لذا بعد أن يتمّ إثبات إحدى القضايا بالدليل العقلي فلا يجوز لأحدٍ

ص: 268


1- عبد الكريم سروش، دانش و ارزش (باللغة الفارسية)، ص 270. راجع أيضاً: عبدالکریم سروش، تفرّج صنع (باللغة الفارسية)، ص 260 و 264

إنكارها؛ ولكن نظراً لكون القضايا الوجدانية والفطرية محدودةً في وجدان الإنسان وعلمه الحضورى ولا تسرى من باطنه إلى الآخرين كي يجرّبوها ويقيّموها استدلالياً، فهي غير خاضعةٍ للرفض أو التأييد من جانبهم. بناءً على هذا فكلّ إنسانٍ بإمكانه ادّعاء أىّ نمطٍ من التجارب الذاتية الفطرية بغضّ النظر عن رأي الآخرين وتجربتهم الفطرية.

وبالنسبة إلى موضوع البحث فقد طرحت شبهة أنّ العلم الحضوري بذاته ليست فيه أيّة دلالةٍ معرفيةٍ على الله تعالى، بل ربّما نتمكّن من نفي هذه المعرفة على أساسه.

كتب أحد الذين طرحوا هذه الشبهة قائلاً: «القول بالإدراك الوجداني يخرج نظرية الفطرة عن نطاق البحث ويجرّدها عن المبادئ العقلية والمنطقية. هذا الأمر وإن كان وازعاً لصيانة النظرية من بعض الانتقادات، لكنّه يجعلها عرضةً للتفنيد، إذ يمكن لمعارضها أيضاً اعتبار نظريته متقوّمةً على الإدراك الوجداني والعلم الحضوري فيصونها في هذا المضمار من كلّ نقدٍ لاذع.

إنّ هذا الاعتقاد يجعل من الاستدلالات العقلية والبحوث المنطقية التي تكتنف جميع النظريات أمراً مستحيلاً ومن ثمّ لا بدّ لطرفي النزاع من اللجوء إلى مبادئ غير معرفية لإثبات آرائهما » (1).

تحليل الشبهة ونقضها:

ذكرنا في المباحث السابقة أنّ الأمور الوجدانية والفطرية ليست من

ص: 269


1- أحمد نراقي، مجلّة (كيهان)، مطهّري ونظرية الفطرة (مطهّري ونظريه فطرت)، العدد 1، ص 33

سنخ القضايا الذوقية، بل لها معايير خاصّة. الأمر الوجداني يمكن اعتباره مثالاً للوجدان الشخصي لصاحب التجربة، في حين الفطري هو أمرٌ وجدانيٌّ ذو معايير خاصّةٍ ذكرناها في المباحث الآنفة. وعلى هذا الأساس فالقول بكون معرفة الله تعالى أمراً وجدانياً أو غير وجدانيٍّ يمكن بيان صوابه عبر مقارنته مع المعايير الفطرية للأصول النظرية الصائبة.

ومن المؤكّد أنّ أبرز دليلٍ على مصداقية المعرفة الفطرية بالله عزّ وجلّ هو ذلك الاعتقاد الشامل والثابت على مرّ التأريخ بين مختلف الشعوب والأمم مقارنةً مع الاعتقاد الإلحادي المعاكس المتزعزع الذي لا يضاهى عدد أتباعه الكمّ الهائل من المعتقدين في كلّ عصرٍ من العصور؛(1) ومن هذا المنطلق لا يمكن للمخالف إطلاق العنان واعتبار جميع شؤونه الوجدانية فطريّةً من دون أيّ معيارٍ خاصٍّ.

* الشبهة الثالثة: الفطرة شأنٌ شخصيٌّ وليست لها قيمةٌ معرفيةٌ:

صاحب هذه الشبهة غضّ النظر عن الشبهتين السابقتين ومن ثمّ أذعن بأنّ معرفة الله موجودةٌ في فطرة الإنسان ولا يمكن إنكارها من أساسها، لكنّه بادر إلى طرح شبهةٍ أخرى فحواها أنّ العلم الحضوري الوجداني بالبارئ تعالى أمرٌ شخصيٌّ مرتبطٌ بكلّ إنسانٍ على حدة، أي: إنّ الإنسان عاجزٌ عن معرفة ما يجول فى وجدان غيره؛ لذا فإنّ برهان فطرية معرفة الله تعالى يفتقد إلى القيمة المعرفية.

ص: 270


1- جعفر السبحاني، مدخل مسایل جدید در علم كلام (باللغة الفارسية)، ج 1، ص 182

إذن، المعلوم بذاته حاضرٌ لدى صاحب التجربة فقط، وإن رام إعلام الآخرين بعلمه الوجداني فلا مناص له من الرجوع إلى المفاهيم الذهنية وعلمه الحصولي وسائر القضايا المرتبطة بالموضوع احتمال الخطأ والكذب في نقل الوقائع واردٌ حسب القواعد المنطقية، فقد قال أحد القائلين بهذه الشبهة: «المعلوم بذاته في مقام العلم الحضوري والإدراك الوجداني يكون حاضراً لدى صاحب العلم، ولكن حينما يعزم هذا الفاعل على الإخبار عنه في إطار مفاهيم - كما هو الحال في عملية التنظير - فلا بدّ من تحوّل علمه الحضوري إلى علم حصوليٍّ . لذا لو كان العلم الحضوري أو الإدراك الوجداني بديهياً لدى صاحب العلم بحيث يجعله في غنىً عن البحث والتحرّي، فإنّ علمه الحصولي يمكن أن يتّصف بالصدق والكذب ويمكن القدح بصحّته وفق ضوابط النقد المنطقي»(1).

تحليل الشبهة ونقضها :

للردّ على الشبهة المذكورة أعلاه، نقول:

1 ) نحن لا ننكر أنّ العلم الحضوري والوجداني بالله تعالى متوقّفٌ على التجربة الشخصية ويندرج في ضمن العلوم الشخصية، لكنّنا عبر الاعتماد على تجارب قاطبة الناس أو غالبيتهم في هذا المجال، سوف نتوصّل إلى نتائج مشتركة. فجميع الناس على سبيل المثال ينتابهم هاجسٌ بوجود قدرةٍ غيبيةٍ عظيمةٍ حينما يواجهون المخاطر وتنقطع بهم الأسباب الطبيعية، فيرجون أن

ص: 271


1- أحمد نراقي، مجلّة (كيهان)، مطهّري ونظرية الفطرة (مطّهري ونظريه فطرت)، العدد 12، ص 33

تعينهم على الخلاص من خلال تعلّقهم الشديد بها.

المعرفة الفطرية بالله تعالى هي عبارةٌ عن تجربةٍ دينيةٍ ذاتيةٍ، وبطبيعة الحال فإنّ تجارب جميع بني آدم تتمحور حول ذاتٍ مشتركةٍ ومحورٍ واحدٍ، وهو ما أيّده بعض الفلاسفة الغربيين المعاصرين من أمثال شلاير ماشر وكارل أوتو آبل ووليام جيمز وولتر ستيس (1).

المحور المشترك للتجارب الدينية على وفق هذه الرؤية هو الاعتقاد بقدرةٍ ماورائيةٍ تطلق عليها الأديان اصطلاح (الله)، وهو بكلّ تأكيدٍ ليس أمراً شخصياً وباطنياً، وإنّما شاملاً ومشتركاً بين جميع بني آدم وملموساً لديهم وكأنّهم على علمٍ بتجارب الآخرين. فالشعور بالجوع والعطش على سبيل المثال هو أمرٌ شخصيٌّ، لكنّه ملموسٌ لدى الناس قاطبةً بشكل متكافئ ومشترك، فإذا ما حرم إنسان ٌمن الماء أو الطعام لفترةٍ طويلةٍ نُدرك مدى معاناته ونتصوّر ما يكابده من حاجةٍ ماسّةٍ، لأنّ طبيعتنا الحياتية واحدةٌ؛ وكذا هو الحال لكثيرٍ من الأحاسيس المشتركة من قبيل الشعور بالخوف والرغبة والتعجّب والسرور، فمن يواجه الغرق وسط الأمواج المتلاطمة تدفعه فطرته القلبية إلى التوسّل بالله تعالى ممّا يعني أنّه على معرفةٍ بوجوده.

2 ) بالنسبة إلى احتمال اتّصاف نقل الأمر الوجداني إلى الآخرين

ص: 272


1- للاطّلاع أكثر، راجع: مايكل بيترسون وآخرون، عقل واعتقاد ديني (باللغة الفارسية)، ص 41؛ فين براود فوت، تجربه ديني (باللغة الفارسية)، ص 17؛ وليام هوردن، راهنمای الهیات پروتستان (باللغة الفارسية) ، ص 40 ؛ ولیام جیمز دین وروان (باللغة الفارسية)، ص 115؛ دبليو. تي. ستيس، عرفان وفلسفة (باللغه الفارسية)، ص 131

بالصدق أو الكذب، فنقول في نقده إنّ المفاهيم والقضايا التصديقية تقسّم في المنطق إلى بديهية ونظرية، والأمور الوجدانية والفطرية بدورها تندرج في ضمن الأقسام الستّة للبديهيات المنطقية كما أشرنا سابقاً ولمّا كان الأمر البديهي ينضوي تحت مقولة العلم البديهي فهو بطبيعة الحال يحكي عن الواقع.

وأمّا فيما يخصّ احتمال تعمّد المتكلّم للكذب، فهو ممكنٌ حسب القواعد المنطقية، ولكن بما أنّ المحور المشترك للتجارب والمعرفة الفطرية بالله تعالى واحداً لدى الناس قاطبةً؛ يتّضح كذب هذا المتكلّم فور تقريره لكلامه غير الصائب.

فضلاً عن ذلك حين إثباتنا وجود الله سبحانه وتعالى عن طريق برهان الفطرة، يثبت لنا تبعاً لذلك وجود المعرفة الفطرية به في سرائر الناس جميعاً، وهذه المعرفة هي التي توصلنا إلى الإجابة ب_ (نعم، إنّ الله موجود)؛ ولكنّ بيان صفاته وسائر ميزاته المباركة لا تندرج في ضمن هذا البرهان، بل يجب الرجوع إلى البراهين الأخرى لاستكشافها وإثباتها.

*الشبهة الرابعة: المعرفة الفطرية بالله تعالى ليست أمراً شاملاً للجميع:

اعترض جماعة على كون المعرفة الفطرية بالله عزّ وجلّ كانت وما زالت موجودةً بين جميع بني آدم واستدلّوا على ذلك بظهور كثير من المشكّكين والملحدين على مرّ التاريخ.

من جملة المفكّرين الغربيين الذين دافعوا عن هذه الشبهة، جون لوك الذي استشهد بالبحّارة الذين جابوا البحار واستكشفوا كثيراً من البقاع التي

ص: 273

تقطنها شعوبٌ نائيةٌ عن التحضّر ، وقال إنّ هؤلاء لا يكتنفهم أيّ تصوّرٍ بوجود الله (1).

قال بول إدواردز في الموسوعة الفلسفية التي ألّفها: «علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا في القرن التاسع عشر من أمثال جون لوباك وداروين أثبتوا في دراساتهم أنّ بعض الناس الأوائل لم يكونوا معتقدين بالله»(2).

تحليل الشبهة ونقضها :

نقول في نقض هذه الشبهة:

1 ) الاعتقاد العامّ لدى جميع الناس لا يعدّ بذاته معياراً أساسياً للمعرفة الفطرية بالله تعالى، بل المعيار هو الاعتقاد الحقيقي لغالبية الناس في الظروف الطبيعية والاعتقاد العامّ في الأوضاع الاضطرارية حينما تنقطع جميع الأسباب وينقطع الرجاء منها.

أثبتنا في المباحث السابقة أنّ معرفة الله تعالى عن طريق العلم الحضوري يحكي عن حقيقةٍ معرفيةٍ لأنه يتّصف بالمعايير اللازم توفّرها في الأمر الفطري، لذا فإنّ إنكار من ينكر وجود الله تعالى وتشكيكه فيه ليس معياراً معتبراً للقدح بالاستدلال لأنّه لا يمتّ بصلةٍ إلى فطرية أو عدم فطرية معرفة الله سبحانه.

2 ) يجب على من طرح هذه الشبهة معرفة حقيقة الفطرة ودلالتها المفهومية، وفي مستهلّ البحث ذكرنا خمسة أوجهٍ لها، وهي: أ - استعدادٌ محضٌ.

ص: 274


1- مجموعة من المؤلّفين، خدا در فلسفه (باللغة الفارسية)، ص 136
2- المصدر السابق، ص 149

ب- علمٌ حصوليٌّ بديهيٌّ. ج - علمٌ حصوليٌّ يتحصّل باستدلالٍ بسيطٍ.

د - معرفةٌ شهوديةٌ مسبقة. ه_ - علمٌ حضوريٌ.

لم يذكر في أيٍّ من هذه الأوجه أنّ المراد من الفطرة هو الاعتقاد العامّ المشترك بالبارئ تعالى من قبل جميع الناس كي يتمّ نقضها لمجرّد وجود بعض الملاحدة والمشكّكين؛ والأوجه المذكورة تدلّ على ما يأتي:

- نظرية الاستعداد المحض تؤكّد على القابلية الكامنة في ذات الإنسان لا فعليتها، ومن الواضح أنّ فعلية الاستعداد تتطلّب تحقّق شروطٍ ومقدّماتٍ، مثل ظهور الثمار في الشجر، فهذا الأمر يقتضي أوّلاً توفّر الماء والتربة الخصبة والنور المناسب مع انعدام العوائق الحائلة.

- نظرية العلم الحصولي البديهي (النظرية الفطرية المنطقية تقتضي وجود واسطةٍ حتّى وإن كانت داخليةً من قبيل تصوّر العالم الممكن أو الحادث، وذلك كي يتحقّق الإيمان بالخالق تعالى على أساسها.

- نظرية العلم الحصولي الناشئ من استدلالٍ بسيطٍ تؤكّد على أنّ أىّ استدلالٍ - حتّى وإن كان بسيطاً - يعدّ كافياً في تحقّق المعرفة الفطرية.

- نظرية المعرفة الشهودية المسبقة تثبت أنّ الحُجب الموجودة في عالم المادّة، ليست سبباً في حجب الفطرة الإنسانية عن اكتشاف الحقيقة.

- نظرية العلم الحضوري وإن طرحت شروطاً أقلّ على صعيد المعرفة الفطرية مقارنةً سائر النظريات، إلا أنّ أتباعها يذهبون إلى أن فعلية العلم مع الحضوري لا تتحقّق في ظلّ الحجب المادّية، لذا ينبغي توفّر بعض المقدّمات الضرورية على هذا الصعيد؛ وأبرز مثالٍ على ذلك الظروف العصيبة التي

ص: 275

يواجهها الإنسان والتي ترغمه على الرجوع إلى مرتكزاته الفطرية.

استناداً إلى ما ذكر فإنّ مؤيّدى المعرفة الفطرية بالله تعالى - ولا سيّما في التعاليم الإسلامية - لم يعتبروا الأمور الفطرية كونها معرفةً فعليةً في غنىً عن أيّة مقدمةٍ أو شرطٍ كى يعترض البعض على نظريتهم ويفنّدوها لمجرّد وجود بعض الملحدين والشكوكيين.

3 ) بعض الفلاسفة الغربيين من أمثال بول يوهانس تيليش فسّروا المعرفة الفطرية بالله تعالى كونها أمراً يتحقّق بالفعل، لذلك عمّموا معنى الإلحاد واللادينية بغية الردّ على الإشكال؛ فقد عرّف تيليش الملحد بأنّه يعتقد بكون الحياة سطحيةً، وقال إنّ الكافر بالدين هو من لا يعتقد بغايةٍ قصوى (1). ضعف هذا الاستدلال يبدو جليّاً في التعريف الجديد المطروح حول الكفر واللادينية، فلو كان المقصود من الحياة السطحية والكفر بالدين والغاية القصوى هو تقييد عالم الوجود بالمادّيات ونفى العوالم القدسية المجرّدة، يجب القول حينئذٍ بأنّ هذا التعريف يشمل مجاميع أكثر. وإن كان المقصود توسيع نطاق الحياة السطحية والغاية القصوى بشكلٍ ينسجم مع إنكار الله تعالى وعالم الماورائيات، ينبغي القول: إنّ هذا لا يعدّ ردّاً على الإشكال، بل هو تأييدٌ له وإنكارٌ لله تعالى ومن ثمّ يراد منه عدم الاعتقاد بالمعرفة الفطرية.

* الشبهة الخامسة : الغموض في طبيعة الاستعداد الفطري :

في الإجابة عن الشبهة السابقة نُسبت معرفة الله تعالى إلى الاستعداد

ص: 276


1- مجموعة من المؤلّفين، خدا در فلسفه (باللغة الفارسية)، ص 150

والقابلية وتمّ تجريدها عن الفعلية، لذا طرح بعضهم شبهةً فحواها أنّه من الممكن على هذا الأساس تبرير معتقدات كثير من الملحدين والشكوكيين إلى حدٍّ ما، حيث أُنيطت المعرفة الفطرية بالبارئ سبحانه بتحقّق بعض الشروط والمقدّمات. هذه الشبهة موجّهةٌ بالتحديد إلى الشروط والمقدّمات المشار إليها، وتطالب القائلين بالفطرة أن يوضّحوا مدّعاهم بشكلٍ محدّدٍ ودقيقٍ عن طريق بيان كيفية تحقّق الفطرة على أرض الواقع، إذ ليس من الحريّ بمكانٍ استخدام ألفاظ مجملة وتعابير غامضة في التعريف.

قال أصحاب الشبهة إنّ القائلين بالفطرة يتهّمون منكريها باتّصافهم بما يأتي:

أوّلاً: لم يواجهوا الأحداث العصيبة بشكلٍ جاد.ٍّ

ثانياً: فطرتهم ملوّثةٌ.

ثالثاً: فطرتهم ضعيفةٌ.

كلّ هذه الصفات مجملةٌ كمّاً ونوعاً، فيا ترى ما هي الشروط والحقائق المناسبة؟ وكم يجب أن تبلغ من مستوى كي يتسنّى لها إيقاظ فطرة الإنسان؟ كيف يتمّ تعيين ما إن كانت الفطرة ملوّثةً أو لا ؟ وما هو المعيار في تحديد قوّة الفطرة أو ضعفها؟ (1)

تحليل الشبهة ونقضها:

للردّ على هذه الشبهة، نقول:

ص: 277


1- المصدر السابق، ص137- 138؛ مصطفی ملکیان مسايل جديد كلام (باللغة الفارسية)، ص 52؛ الدرس السابع عشر

1 ) إثبات وجود الفطرة السليمة لدى جميع الناس ليس هو المرتكز الأساسي لبرهان الفطرة، وإنّما يرتكز على إثبات وجودها بالإجمال لدى غالبية الناس، وهذا الإثبات الإجمالي لا يتمّ عن طريق الاستقراء، بل بالاعتماد على العلم الوجداني الحضوري وتسريته إلى الآخرين من خلال توحيد المناط والتجربة. لقد وضّحنا هذا الأمر في المباحث السابقة وأشرنا إلى قرائن أخرى مرتبطة بالموضوع.

2 ) التعريف المنطقي الصحيح يقتضي استخدام كلمات وتعابير واضحة وصريحة ولكن عند الحديث عن بعض القضايا التكوينية والذاتية يلجأ الباحثون إلى استخدام بعض الألفاظ والعبارات المجملة والتخصّصية التي قد لا تكون مفهومةً لدى عامّة الناس، ذلك بهدف بيان الموضوع بأفضل وجهٍ ووفق الأصول العلمية. أحد الأمثلة على هذا الأمر، فعلية الغرائز الباطنية للإنسان أو الحيوان وبلوغها درجة التحقّق، وتوضيح ذلك كما يأتي:

الإنسان بذاته مفكّرٌ، ضاحكٌ، متعجّبٌ، فنّانٌ في مختلف المجالات الفنّية، شاعرٌ، وإلخ. بطبيعة الحال لا يمكن لأحدٍ هنا إنكار أصل الموضوع، لكنّ بعض هذه الغرائز لا تتجلّى لدى جميع الناس، بل تظهر إلى الفعلية لدى بعضهم بحيث لا يمكن استكشافها إلا عند الاحتكاك بهم على أرض الواقع؛ مثلاً قد يصبح الإنسان شاعراً عندما يصادف أحد الشعراء ويتأثّر بشخصيته، أي: إنّه يفعّل استعداده المكنون عن طريق إنشاد الشعر. وبطبيعة الحال فإنّ نوعية ومقدار هذا الاستعداد يختلف بحسب اختلاف رغبات الناس وقابلياتهم والبيئة الاجتماعية المحيطة بهم الغريزة الجنسية على سبيل المثال هي من طبيعة الإنسان، ولكن لا يمكن تحديد الزمان المناسب والظروف الملائمة التي تؤدّي

ص: 278

إلى فعليتها، وهناك بعض الناس من يقهقه لمجرّد سماع عبارةٍ لطيفةٍ، في حين أنّ بعضهم الآخر لا يضحك، بل ولا يبتسم حتّى وإن سمع ألطف اللطائف.

إذن، السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل إنّ هذه المسائل وما شاكلها تعدّ من الغرائز المكنونة فى فطرة الإنسان أو لا؟ إذا كان الجواب ب_ (نعم) - وهو حقّاً كذلك - فهل حقاً كذلك - فهل من الممكن تعيين معايير وشروط ومقدّمات خاصّة بشكلٍ واضحٍ وصريحٍ من حيث الكمّ والنوع لكي ترقى هذه الغرائز لدرجة الفعلية؟ يتّضح من هذا الجواب أنّ تحديد مقدّمات وشروط كمّية ونوعية لأجل أن تبلغ غرائز الإنسان درجة الفعلية - بما فيها المعرفة الفطرية بالله تعالى - لا يعدّ أمراً واضحاً بشكلٍ دقيقٍ وصريحٍ؛ وهذا الأمر لا يتسبّب بحدوث أيّ خللٍ في أصل الغريزة.

إذن، المعرفة الفطرية بالله عزّ وجلّ لدى بعض الناس من الممكن أن تتحقّق بسرعةٍ، وقد تحدث متأخّرةً لدى آخرين، ولربّما لا تصل إلى درجة الفعلية لدى بعضهم مطلقاً، وهذا التحقّق بطبيعة الحال له شروطٌ ومقدّماتٌ خاصّةً تختلف باختلاف الناس وبيئتهم الاجتماعية.

3 ) الإنسان حينما يبلغ مرحلة الاضطرار وينقطع رجاؤه من جميع الأسباب والوسائل المادّية، فهو على أقلّ تقديرٍ يؤمن في باطنه بوجود قدرةٍ غيبيةٍ ماورائيةٍ. وهذا هو القدر المتيقّن من الشرط اللازم لفعلية المعرفة الفطرية بالله سبحانه وتعالى، ولكنّ سائر مراتبها لها شروطها ومقدّماتها الخاصّة، وقد تحدّثنا عنها سابقاً.

ص: 279

* الشبهة السادسة : الفطرة تنشأ من التصديق العامّ :

بعض الفلاسفة الغربيين من أمثال جون لوك طرحوا شبهةً فحواها أنّ الإيمان الجماعي بالله من قبل مختلف الشعوب والأمم ليس دليلاً على المعرفة الفردية الفطرية به تعالى.

استدلّ هذا الفيلسوف على مدعاه بالشمس والحرارة، فالحرارة يعدّ أمراً عاّماً يظهر أينما تشرق الشمس ، ولكنّ معرفتها ليست أمراً فطرياً (1) .

تحليل الشبهة ونقضها:

سقم هذه الشبهة اتّضح في المباحث الآنفة، فقد ذكرنا أنّ محور معرفة الله تعالى هو الوجدان والعلم الحضوري، وبعد ذلك يتمّ إعمامه على الآخرين عن طريق رؤيةٍ شموليةٍ للتجارب البشرية على صعيد هذا النمط المعرفي.

أمّا بالنسبة إلى المثال الذي ساقه الفيلسوف جون لوك، فإنّ العلم بالشمس والحرارة لا يتحقّق عن طريق الوجدان والشعور الباطني، وإنّما يمتلكه الإنسان بواسطة الحواسّ الخمسة؛ ويقول علماء المنطق إنّهما - الشمس والحرارة - من سنخ المشاهدات التي تندرج في ضمن البديهيات وهو ما ذهب إليه الرئيس ابن سينا (2). إذن ، القياس الذي استند إليه لوك ليس علمياً وهو ما يطلق عليه العلماء (قياسٌ مع الفارق).

ص: 280


1- مجموعة من المؤلّفين، خدا در فلسفه (باللغة الفارسية)، ص 138 – 139
2- ابن سينا الإشارات بشرح المحقّق الطوسي، ج 1، ص 215
*الشبهة السابعة : عدم ضرورة تلازم الفطرة مع الصدق

أنكر بعضهم دلالة المعرفة الفطرية بالله تعالى على صدق وجوده حقّاً، إذ قالوا: حتّى وإن تجاهلنا المؤاخذات التي طرحت سابقاً وأقررنا بكون جميع الناس يؤمنون بالإله في فطرتهم وضميرهم لكنّ هذا الاعتقاد لا يدلّ بالضرورة على وجوده؛ أي ليست هناك ملازمةٌ بين هذه المعرفة الفطرية وبين وجود الإله على أرض الواقع، فكيف يمكن ادّعاء أنّ الله موجودٌ بالاستناد إلى الاعتقاد الفطري العامّ؟

تحليل الشبهة ونقضها:

للردّ على الشبهة المذكورة أعلاه نقول:

1 ) الذين طرحوا هذه الشبهة ميّزوا بين الفطرة - العلم الحضوري بالله تعالى - وبين الواقع الخارجي، إذ عدوّها إحدى القضايا المستوحاة من العلم الحصولي.

مثلاً حينما يقال: رأيت عليا هناك اختلافٌ بين الصورة الذهنية لرؤية عليّ (العلم) وبين مشاهدته في الخارج (المعلوم)، لذا من الممكن أن يكون هذا المفهوم صادقاً أو كاذباً. ولكن حينما يخبر الإنسان عن قضايا لم يحصل له العلم بها في الخارج، بل علم بها بوجدانه وذاته كقوله: (أنا عطشان، أنا جائع، أنا محبٌّ للفنّ) ففي هذه الحالة يتّحد العلم مع المعلوم الخارجي بحيث لا يمكن تصوّر عالمٍ ووعاءٍ خارجيٍّ لهما غير الباطن؛ لذلك لا يحين الدور للحديث عن انطباقها أو عدم انطباقها مع العالم الخارجي. وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ نظرية المعرفة الفطرية بالله تعالى في صدد إثبات أنّ الإنسان عند

ص: 281

الاضطرار أو الشعور بالمخاطر، يدرك في باطنه عن طريق علمه الحضوري وجود إلهٍ عظيمٍ له القدرة على إعانته في أحلك الساعات، لذا يلجأ إليه ويرجوه أن ينقذه ممّا حلّ به ؛ وبعد هذه التجربة يخبر الآخرين بوجوده.

2 ) بالنسبة إلى حجّية العلم الحضوري وعدم طروء الخطأ فيه، قال علماء المنطق : لمّا كان المعلوم كامناً في ذات العالم، فلا يمكن تصوّر الخطأ فيه؛ ولا يخالف هذه القاعدة إلا الذين يشكّكون بكلّ حقيقةٍ تكتنف ذواتهم، إذ يثيرون شكوكاً حول وجودهم وعلمهم وعطشهم وجوعهم، وهم في هذه الحالة يخرجون من المدرسة الواقعية ويخوضون في غمرات المدرسة المثالية.

ننوّه على أنّنا سنتطرّق إلى إثبات صدق الاعتقاد بوجود الله تعالى في عالم الواقع الخارجي ضمن المباحث اللاحقة.

*الدليل الثاني: ضرورة وجود متعلّقٍ خارجيٍّ للرغبات الباطنية (المحبّة والرجاء) :

*الدليل الثاني: ضرورة وجود متعلّقٍ خارجيٍّ للرغبات الباطنية (المحبّة والرجاء) :

هناك مجموعة من الرغبات والنزعات الكامنة في باطن كلّ إنسانٍ، ومن شأنها أن تسوقه بشكل غريزيٍّ إلى تلبيتها، فالجائع مثلاً يبحث عن الطعام والعطشان يلهث وراء الماء، والإنسان البالغ بطبيعة الحال يسعى إلى إشباع رغباته الجنسية.

لو ألقينا نظرةً على الطبيعة ندرك أنّ المتعلّق الذي من شأنه تلبية تلك الرغبات والنزعات موجودٌ في الواقع الخارجي، فالإنسان العطشان أو الجائع يلبّي حاجته عن طريق الماء والطعام الموجودين في الخارج، والبالغ جنسياً يشبع غريزته بالاعتماد على عاملٍ خارجيٍّ موجود في أرض الواقع.

المسألة الجديرة بالذكر على هذا الصعيد هي إنّ الإنسان يشعر

ص: 282

بالاكتفاء عبر إشباع رغباته ونزعاته، ومن ثمّ يقنع وينال مراده؛ ولكن هناك رغباتٌ من نمطٍ آخر موجودةٌ في باطن الإنسان وعندما يريد تلبيتها يلفي أنّ ما يحقّق ذلك ليس من سنخ المادّيات، بل أمرُ كامنٌ في عالم الماورائيات؛ من قبيل الرغبة بنيل الكمال. الشعور بالمحبّة مثلاً لا يقتصر على ما هو مادّي، إذ كلّ إنسانٍ يبحث عن محبوبٍ مجرّدٍ مطلق الوجود، وهو المتعلّق الحقيقي للشعور بالنزعة إلى الكمال، كما أنّ القضايا الموجودة على أرض الواقع لا تلبّي إلا جانباً من رغبات الإنسان ونزعاته، في حين أنّ الجانب الآخر منها موكولٌ إلى القضايا الغيبية الماورائية؛ إذ ليس من الصواب بمكانٍ التمييز بين الرغبات المادّية والنفسية عبر نفي إحداهما بل هما مزیتان موجودتان حقّاً في باطن الإنسان لكن غاية ما في الأمر أنّ متعلّق بعضها مادّيٌّ ومتعلّق بعضها الآخر ماورائيٌّ. ذهب بعض المفكّرين الغربيين إلى هذا الرأي على صعيد معرفة الله تعالى، ومنهم المفكّران تشاد والش(1)، وهودج الذي قال: «جميع القابليات البدنية التي نمتلكها والأحاسيس الذهنية التي تنتابنا، توجب بالضرورة وجود هذه القوى ومتعلّقاتها، وعلى هذا الأساس فإنّ العين بمقتضى بُنيتها المكوّنة لها توجب وجود نورٍ كيّ تتمكّن من الرؤية، والأذن لا تُعرف حقيقتها بدون وجود الأصوات الخارجية؛ وكذا هو الحال بالنسبة إلى الأحاسيس والرغبات الدينية، حيث توجب وجود الله »(2).

وحسب الاصطلاح المنطقي، هناك تضايفٌ (3) بين المحبّ والمحبوب

ص: 283


1- مجموعة من المؤلّفين، خدا در فلسفه (باللغة الفارسية)، ص 140 - 141
2- بول إدواردز، براهین اثبات وجود خدا در فلسفه غرب (باللغه الفارسية)، ص 113
3- التضايف هو: أن يكون الأمران بحيث يكون تعقّل كلٍّ منهما بالقياس إلى تعقّل الآخر، وهذا يكون في اللزوم بين الطرفين، يعني: لا يُتعقّل الأوّل إلا بتعقّل الآخر، كالأب بتعقّل الابن، والابن بتعقّل الأب

والنسبة بينهما كالنسبة بين الأخوين أو بين الفوقية والتحتية، إذ إنّ وجود إحدى هذه القضايا يستدعي بالضرورة وجود الأخرى المنسوبة لها؛ فحينما يقال (أخ) لا بدّ من وجود (أخ) آخر كي تصحّ النسبة وإلا لأصبح الكلام عبثاً، وكذا هو الحال بالنسبة إلى الفوقية أو التحتية، إذ لا تتحقّق إحداهما من دون الأخرى بتاتاً. إذن، بما أنّ الإنسان ينتابه حبٌّ متحقّقٌ في ذاته لمحبوبه الكامل، فلا مناص من وجود متعلّق هذا الحبّ على أرض الواقع وليس في الذهن. وقد أيّد هذا الرأي عددٌ من العلماء المعاصرين (1)، ومنهم الشيخ جوادي الآملي الذي قال: هناك تضايفٌ بين الحبيب والمحبّ نظير التضايف الموجود بين العالِم والمعلوم، ومن ثمّ فالتلازم متحقّقٌ بينهما؛ فكلّما انتزعنا مفهوم (محبّ) من مصداقٍ حقيقيٍّ يصدق حينئذٍ وجود (محبوب) بالفعل. إذن، عندما يحبّ الإنسان الكمال المحض المطلق واللامحدود فهذا يدلّ على وجود المحبوب بالصفات المذكورة، حيث هناك علاقة تضايفٍ بين المحبّ بالفعل والمحبوب بالفعل - وهو الكمال المحض هنا - وإثر ذلك لا بدّ من وجود تلازمٍ بينهما، ومن ثمّ لا يمكن لأحدٍ زعم أنّ المحبّ موجودٌ بالفعل لكنّ المحبوب غير موجودٍ أو أنّه موجودٌ بالقوّة» (2).

إذن، علاقة التضايف موجودةٌ بين الراغب والمرغوب فيه، أي: إنّها موجودةً أيضاً بين الرجاء والقدرة الماورائية التي يدركها الإنسان في وجدانه

ص: 284


1- نقلاً عن: روح الله الموسوي الخميني چهل حدیث (باللغة الفارسية)، ص 156
2- عبد الله جوادي الآملي ، ده مقاله پیرامون مبدأ و معاد باللغة الفارسية)، ص 111؛ عبد الله جوادي ،الآملي، تفسير موضوعي - توحید در قرآن (باللغة الفارسية)، ج 12، ص 299 و 312؛ عبد الله جوادي ،الآملي، تبيين براهين اثبات خدا (باللغة الفارسية)، ص 287

حين الشعور بالخطر وانقطاع الأسباب الطبيعية، إذ يدرك الإنسان بكلّ وجوده في هذه الظروف القاهرة وجود قدرةٍ غيبيةٍ تعينه على الخلاص مّما هو فيه من بلاءٍ، والأمثلة على هذا الأمر كثيرةٌ ولا حصر لها كالتعرّض للغرق في وسط بحرٍ متلاطم الأمواج. ومن هذا المنطلق، لمّا كان الإنسان يدرك بوجدانه وجود قدرةٍ ماورائيةٍ متحقّقةٍ بالفعل، فلا بدّ عندئذٍ من تحقّق الطرف الآخر من علاقة التضايف الحاصلة هنا أي وجود هذه القدرة على أرض الواقع كي يصدق التضايف بمعناه المنطقي(1).

الأمر الحريّ بالذكر هنا أنّ العلم الحديث أيّد تحقّق بعض الأحاسيس والأميال النفسية على أرض الواقع، وهو ما سنشير إليه في المباحث اللاحقة.

شبهاتٌ وردودٌ:
شبهاتٌ وردودٌ:

ذكرت بعض الشبهات حول القول بضرورة وجود متعلّقٍ خارجيٍّ للرغبات الباطنية، وفيما يأتي نذكرها ونحلّلها في إطارٍ نقديٍّ:

* الشبهة الأولى : اللجوء إلى القياس والتمثيل لإثبات المدّعى :

ادّعى بعض المعترضين إنّ القائلين بإمكانية المعرفة الفطرية بالله عزّ وجلّ لجؤوا إلى القياس والتمثيل بغية إثبات ،آرائهم، فمن خلال اعتمادهم

ص: 285


1- للاطّلاع أكثر، راجع محمّد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 12 ص 289؛ عبد الله جوادي الآملي، تبيين براهين اثبات خدا (باللغة الفارسية)، ص 284؛ عبد الله جوادي الأملي ده مقاله پیرامون مبدأ ومعاد (باللغة الفارسية)، ص 85

على وجود متعلّقٍ خارجيٍّ لبعض الرغبات الباطنية التي تقتصر على موارد محدودة، طرحوا نتيجةً كلّيةً فحواها وجود متعلّقٍ لجميع هذه الرغبات، أو على أقلّ تقديرٍ توصّلوا إلى نتيجةٍ جزئيةٍ تثبت وجود متعلّقٍ للمعرفة الفطرية بالله تعالى؛ وكلا الأمرين يصطلح عليهما في الفقه (قياس) وفي المنطق (تمثيل). وعلى هذا الأساس إذا كان المتعلّق الخارجي للرغبة الجنسية أو الجوع والعطش موجوٌد على أرض الواقع، فلا بدّ من وجود المتعلّق الخارجي للمعرفة الفطرية بالله على أرض الواقع أيضاً؛ وهذا الأمر مجرّد قياسٌ وتمثيلٌ ثابت البطلان حسب القواعد المنطقية (1).

تحليل الشبهة ونقضها :

نقول في نقض الشبهة المذكورة :

1 ) توهّم أصحاب الشبهة بأنّ مثال الشعور بالجوع والعطش والرغبة الجنسية عدّ دليلاً على إثبات المعرفة الفطرية بالله تعالى، أي: تصوّروا أنّه سيق لأجل إثبات وجود المتعلّق الخارجي للمعرفة الفطرية به سبحانه؛ وهذا الكلام بكلّ تاكيدٍ باطلٌ لأنّ المثال ذكر لأجل تقريب ذهن المخاطب وبيان حقيقة المدّعى بشكلٍ أفضل، إذ ذكرنا في دليل الفطرة أنّ التجربة الدينية والعلم الحضوري بالخالق البارئ في الحالات الطارئة - لجميع الناس - يعدّان من متعلّقات الشعور الباطني بوجوده جلّ شأنه؛ وهذا المتعلّق حتى وإن كان متعدّداً لكنّه في الواقع يتمحور حول محورٍ واحدٍ، والقدر المتيقّن فيه هو وجود

ص: 286


1- للاطّلاع أكثر، راجع: مصطفى ملكيان مسایل جديد كلام (باللغة الفارسية)، ص 55

تلك القدرة الغيبية العظيمة التي لا يمكن تفسيرها إلا بالربّ الخالق سبحانه.

2 ) المشاعر الغريزية لبني آدم تقيّم على أساس حكم واحدٍ لكونها تتعلّق بالغرائز والوجدان وتُدرك في ظلّ العلم الحضوري؛ لذا عند تشخيص إحدى الميزات بصفتها أمراً غريزياً يُحكم عليها حكماً واقعياً ثابتاً عبر إلغاء الخصوصية وتنقيح المناط.

مثلاً إذا شخّصنا أنّ مزية معرفة الله تعالى تناظر الشعور بالجوع والعطش، فهي أمرٌ فطريٌّ غريزيٌّ لكون المناط في صدق الجوع والعطش أمراً وجدانيّاً وعلماً حضورياً؛ فهذا المناط بذاته ينطبق على شعور الإنسان في فطرته بوجود الله سبحانه.

إذن، قمنا هنا بتنقيح المناط وليس هناك أيّ قياسٍ أو تمثيلٍ محضٍ حول ضرورة وجود متعلِّق الشعور بمعرفة الله عزّ وجل في عالم الواقع.

ولتوضيح مسألة تنقیح المناط بشكلٍ أفضل، نذكر المثال الآتي: عندما أحد الأطباء مريضاً من تناول الرمّان، وفيما بعد يعرف هذا المريض أنّ یمنع السبب في ذلك هو حموضة هذه الفاكهة؛ فمن الحكمة بمكانٍ هنا اجتناب تناول جميع الفواكه الحامضة من دون أن يقتصر الأمر على الرمّان فقط، لأنّه مجرّد مثالٍ استشهد به الطبيب لتنبيه المريض. كذا هو الحال بالنسبة إلى موضوع بحثنا، فالسبب في صدق قضيتي الجوع والعطش هو كونهما أمرين وجدانيين، وهذا الأمر يسري إلى معرفة الله سبحانه، ومن ثمّ يصبح الحكم واحداً مع اختلاف المصاديق.

ص: 287

* الشبهة الثانية: التشكيك في عمومية الشعور بمحبّة الله تعالى ورجائه :

طرح البعض شبهةً فحواها أنّ ما قيل حول شعور الإنسان بمحبّة الله تعالى وطلب العون منه عند وقوع الإنسان في المكاره، مشوٌب بالشكّ والترديد، أو على أقلّ تقديرٍ فهو ليس أمراً شمولياً .

تحليل الشبهة ونقضها:

نردّ على الشبهة المذكورة كما يأتي:

1 ) نحن لم نستدلّ على وجود العلم الحضوري بالله تعالى لدى جميع الناس، وإنّما وجه الاستدلال هو الغالبية العظمى من الناس، وهذا الأمر لا يشوبه الشكّ والترديد.

2 ) رجاء الإنسان بتلك القدرة الغيبية العظمى - الله عزّ وجلّ - عند مواجهة المكاره، هو في الواقع أمرٌ شموليٌّ.

3 ) الشعور بمحبّة الله سبحانه وتعالى بصفته كمالاً مطلقاً، هو أحد المزايا المنبثقة من غريزة محبّة الجمال والنزعة إلى الكمال، وهذه الميزة شموليةٌ أيضاً، ولكن غاية ما في الأمر أنّها ضئيلةً لدى بعض الناس لأنّها استبدلت بمتعلّقٍ مادّيٍّ محدودٍ.

4 ) نظرية المعرفة الفطرية بالله سبحانه تؤكّد على وجود صفة الرجاء والمحبّة به تعالى في قرارة الإنسان وفطرته، وتؤكّد على أنّ نزولها في حيّز الفعلية منوطٌ بتحقّق بعض الشروط وتوفّر ظروف خاصّة؛ لذا إن تضاءلت هذه

ص: 288

الميزة لدى بعض الناس فلا يمكن توجيه أصابع الاتّهام إلى الاستدلال من أساسه .

* الشبهة الثالثة: تصوّر المحبوب الغيبي أمرٌ ذهنيٌّ بحتٌ

من جملة الشبهات التي طرحت حول قضية المعرفة الفطرية بالله عزّ وجلّ، اعتبار أنّ شعور الإنسان بالمحبّة والرجاء لتلك القوّة الغيبية الماورائية أمراً ذهنياً وليس هناك ما يقتضي تنزيله إلى أرض الواقع؛ أي: إنّ أصحاب الشبهة أذعنوا بوجود المحبّة لهذا المحبوب الماورائي في قرارة الإنسان لكنّهم عدوّها هاجساً يراود الذهن ومن شأنه أحياناً تحفيزه على الخضوع والعبودية للمحبوب، لذا فإنّ مجرّد طروء هذا الشعور في الذهن لا يعدّ وازعاً للإقرار بوجود الله أو سبباً يوجب عبادته.

تحليل الشبهة ونقضها :

نقول في الردّ على هذه الشبهة:

1 ) كما ذكرنا آنفاً فالإنسان أوّلاً يستشعر في وجدانه وبعلمه الشهودي بوجود قدرةٍ غيبيةٍ خارقةٍ للعادة تتّصف بالكمال المطلق - الله تعالى - وفى المرحلة التالية يبادر إلى الخضوع والعبودية له ويعقد الرجاء عليه؛ وهذا الشعور بطبيعة الحال لا يعني أنّ الإنسان يصوغ في مخيّلته رغباته النفسية ونزعاته الذاتية - وبما فيها طلب الكمال والعون - ثمّ يبحث لها عن متعلّق يشبعها، بل الأمر الموجود فى ذهنه هو عين الحقيقة الباحثة عن الكمال، وهذه الحقيقة بكلّ تأكيدٍ ليست مفهوماً ذهنياً عارضاً.

ص: 289

2 ) كلّ إنسان يدرك في قرارة نفسه وجود اختلاف بين الصور الذهنية والدوافع الغريزية، فالنمط الأوّل موجودٌ في الذهن والعقل، والنمط الثاني كامنٌ في أعماق القلب والوجود. الشعور الذي يكتنف الإنسان على صعيد محبّة الكمال المطلق ورجائه عند الشدائد هو في الواقع إحساسٌ باطنيٌّ شهوديٌّ وليس مجرّد مفهومٍ ذهنيٍّ كما زعم بعضهم.

3 ) في حالات الشدائد والضرورة يقطع الإنسان رجاءه من كلّ محبوبٍ وقدرةٍ طبيعيةٍ وذهنيةٍ، ويشعر بحاجةٍ حقيقيةٍ - وليست ذهنيةً - إلى قدرةٍ ماورائيةٍ تتّصف بالكمال المطلق فيبادر إلى طلب العون منها.

*الشبهة الرابعة: النزعات الباطنية ليست من سنخ القضايا الفطرية

ادّعى بعضهم أنّ الرغبات النفسية والنزعات الباطنية - وعلى رأسها عبادة الله تعالى ومحبّته ورجاؤه - قد تكتنف ذهن الإنسان عن طريق التربية والتعليم منذ سنّ الطفولة، لذا لا يمكن عدّها طبائع غريزية كامنة في باطنه؛ أي: إنّها ليست فطرةً أودعها الله سبحانه في مكنون نفسه.

تحليل الشبهة ونقضها :

للردّ على الشبهة المطروحة أعلاه، نقول:

1 ) القضايا الفطرية لها معايير خاصّة نتمكّن على أساسها من التمييز بين الفطري وغيره، وقد أشرنا إليها فى المباحث السابقة، فقد قلنا إنّها تتّصف بالقدسية والثبوت والشمولية، في حين أنّ القضايا التي هي ليست من سنخها ناشئةٌ من مؤثّراتٍ خارجيةٍ، لذا فهي غير ثابتةٍ ولها صور وصيغ متنوّعة في كلّ

ص: 290

منطقةٍ وإقليمٍ.

حينما نراجع منظومتنا النفسية ونتأمّل بالرغبات التي سادت في المجتمعات البشرية على مرّ العصور، نستلهم أنّ النزعة إلى الكمال المطلق ورجاءه أمرٌ موحّدٌ ومتكافئٌ في جميع تلك المجتمعات مهما اختلفت مشاربها وميزاتها الاجتماعية؛ لذا لو ادّعي أن هذه النزعة منبثقةٌ من التلقين والتعليم أو متأثّرةٌ بالظروف البيئية والاجتماعية، لتغيّرت مع تغيّر الأجيال والمكان والزمان، ولتنوّعت مع التنوّع البيئي والثقافي على مرّ العصور من دون أن تنصبّ في مجرى واحد حالها حال الموضات والمظاهر الخارجية للحياة، كموضة الثياب ونمط البناء؛ لكنّنا نجد الحقيقة على خلاف هذا المدّعى.

2 ) هناك حقائق ثابتة تدلّ على خلاف ما ادُّعي في الشبهة المطروحة أعلاه، فالكافر على سبيل المثال خاضعٌ طوال حياته لمنهجه المنحرف ويسير على وفق استدلالاته الإلحادية، لذا لم يفسح المجال لقابلياته الفطرية السليمة بالظهور في سلوكياته وأفكاره؛ لكنّه حينما يواجه الشدائد والمخاطر التي تهدّد حياته، كمواجهة خطر الغرق في أمواج بحرٍ متلاطمٍ، نجده يرجع إلى هذه الفطرة المكنونة في ذاته ويتوجّه نحو الكمال المطلق راجيا عونه وفضله وهذا الشعور بكلّ تأكيدٍ ليس مكتسباً بالتعليم والتربية ويعدّ دليلاً دامغاً على وجود الفطرة لدى جميع الناس ويثبت مدى تأثيرها على النزعات الباطنية.

الدليل الثالث: شمولية الاعتقاد بالله تعالى وانحسار نطاق الشكّ به:

الدليلان الأوّل والثاني أكّدا على كون المعرفة بالله عزّ وجلّ أمراً فطرياً،

ص: 291

وهذا الدليل يثبت أنّها معرفةٌ شموليةٌ ثابتةٌ على أساس متبنّيات العقل الشمولي، وذلك كما يأتي : القول بكون معرفة الله تعالى أمراً فطرياً يدل على أنّ الاعتقاد به أمرٌ عامٌّ وشاملٌ، ولكنّ الفطرة ليست هي السبب في هذه الشمولية، بل العقل الشمولي هو الذي يحكم بذلك، والمقصود منه هو النمط الفكري العامّ المرتكز في أذهان الناس جميعاً.

ذكرت تفاصيل هذا البرهان بشكل دقيق ومنسجم من قبل بعض العلماء الغربيين، ومنهم جي. إتش. جويس الذي تطرّق إليه في أحد مؤلّفاته (1)، وفيما يأتي نذكر جانباً من تفاصيله:

1 ) شمولية الاعتقاد بالله تعالى .

2 ) الإنسان ينزع بفطرته إلى الحرّية ويترفّع عن الخضوع لقدرةٍ أعلى رتبة منه، لأنّها قد تجرّده من حرّيته المطلقة ورغباته النفسية، أو على أقلّ تقديرٍ قد تضيّق من نطاقها؛ ولكنّه مع ذلك ينزع إلى الخضوع للقدرة الغيبية التي يدركها بغريزته.

3 ) لو افترضنا أنّ الناس قاطبةً يعتقدون بوجود الله عزّ وجلّ، فهذا لا يدلّ على كون المشاعر الباطنية هي السبب في ذلك، بل العقل هو الوازع الذي حفّزهم على هذا الاعتقاد.

4 ) إن اعترض أحدٌ على شمولية الاعتقاد بالله تعالى طبق معايير العقل العامّ الشامل، يجب القول حينئذٍ بأنّهم جميعا وقعوا في فخّ الخطأ على صعيد العقل الشمولي.

ص: 292


1- ترجم كتاب جويس إلى اللغة الفارسية تحت عنوان: (اصول الهيات طبيعي)

وبديهي عندما يفسح المجال لتخطئة أحكام العقل الشمولي ، فمن طريقٍ أولى يتمّ إبطال أحكام العقل الفردي وتجريدها من حجّيتها.

5 ) نفي حكم العقل ينجم عنه التشكيك بكلّ شيءٍ.

6 ) بما أنّ الاحكام العقلية قطعيةً وثابتة الحجّية، لذا ليس هناك مجالٌ للتشكيك فيها، وإن حدث هذا الأمر فليس هناك أيّ تبريرٍ منطقيٍّ له؛ وعلى هذا الأساس فالتشكيك ليس من شأنه بيان حقيقة الاعتقاد الشامل بالله تعالى، إذ إنّ السبيل الوحيد الكفيل بذلك هو حكم العقل المطابق للواقع.

وحسب رأي المفكّر بول إدواردز فإنّ جويس طرح أدقّ وأنضج صورةٍ لهذا البرهان حيث تطرّق إلى بيان تفاصيله في ضمن مراحل ثلاثة كالآتي:

1 ) يتّفق الناس تقريباً على أنّه يمكن اعتبار الناس قاطبةً وعلى مرّ العصور معتقدين بالله تعالى، ومن ناحيةٍ أخرى فإنّهم يميلون إلى التحرّر في أعمالهم ولا يرغبون بوجود قدرةٍ أعلا منهم، إذ عندما ينتاب أيّ إنسانٍ شعورٌ مؤكّدٌ بوجود مرجعٍ ومرشدٍ يمكن الاعتماد عليه، فذلك يعني أنّه استجاب لنداء العقل ودعوته الواضحة.

2 ) إن افترضنا أنّ الناس كافّةً على خطأ في شعورهم هذا، فلا بدّ لنا من القول بأنّ العقل البشري يعاني من نقصٍ ومن ثمّ يصبح البحث عن الحقيقة مجرّد أمرٍ عبثيٍّ وفي هذه الحالة لا يبقى مجالٌ إلا للتشكيك غير المبرّر بكلّ شيءٍ.

3 ) حتّى وإن تجرّدنا عن الأصول الثابتة واتّبعنا أحكاماً عبثية،ً سوف

ص: 293

ندرك أيضاً أنّ العقل حجّةٌ معترةً رغم وقوعه في الخطأ أو انحرافه عن سبيل الصواب في بعض القضايا الفرعية لسببٍ أو لآخر؛ ولكنّه بشكلٍ عامٍّ وسيلةً منزّهةٌ من الخلل.

إذن، لمّا كان العقل حجّةً معتبرةً، فالشكّ الدائم والمبالغ فيه ليس من شأنه بتاتاً أن يكون بديلاً عنه على صعيد العقيدة الشمولية بوجود الله تعالی»(1).

- دراسةٌ تحليلةٌ حول الدليل الثالث :

الدليل الثالث في الحقيقة خرج عن نطاق مباني المعرفة الفطرية بالله سبحانه وتعالى، في حين أنّ الضمير الإنساني والنصوص الدينية تثبت هذا النمط المعرفي. حتّى إن لم يتمسّك أصحاب الدليل المذكور بفطرية معرفة الله عزّ وجلّ، مع ذلك يمكن قبول مقدّماته وإثبات صحّتها.

يمكن عدّ هذا الدليل بأنّه مستقلٌّ وأوسع نطاقاً من دليل الفطرة، حيث يروم إثبات وجود الله تعالى عن طريق العقل الشمولي وكأنّه يعتمد على مبدأ نفي النقيض لإثبات المدّعى، أي إنّه ينفي الشكّ والإلحاد لإثبات الاعتقاد الشمولي؛ ولكن مع ذلك طرحت عليه بعض الشبهات، وقد اتّضح الردّ عليها في المباحث السابقة. من جملة الشبهات التي سيقت للتشكيك بدلالته هي أنّه ينفي الاعتقاد الشمولي بمعرفة الله تعالى في مقدّمته الأولى، فهذه المقدّمة تقدح بدلالته؛ لكنّنا نردّ عليها كما يأتي:

ص: 294


1- بول إدواردز، براهين اثبات وجود خدا در فلسفه غرب (باللغه الفارسية)، ص 143

1 ) عند تحقّق المعرفة بالله تعالى لدى الغالبية العظمى من الناس، لا يبقى شيئاً يقدح بالدليل المذكور، إذ يثبت لنا على أساس هذه العقيدة الشمولية أنّ الأحاسيس الباطنية لا تعدّ العامل الأساسي لظهور هذه المعرفة، بل العقل هو الأصل والأساس فيها.

لو أنّ غالبية الناس أخطؤوا فى الحكم على أحد الأمور، فمن الأولى أن يقع العقل الفردي في أخطاء فادحة ممّا يعني التشكيك بحجّية الأحكام العقلية.

2 ) الأقلّية التي يدّعى أنّها لا تؤمن بالله عزّ وجلّ، فهي خلال الأوضاع الطارئة وانقطاع جميع الأسباب الطبيعية، تنزع نحوه جلّ شأنه وتطلب العون منه.

*الدليل الرابع: تفنيد نظرية الخصم :

ليس هنا ترديدٌ فى أنّ الغالبية العظمى من الناس منذ باكورة الخلقة وإلى يومنا هذا يعتقدون بوجود الله عزّ وجلّ، ولكنّ محلّ النقاش هو أنّ القائلين بفطرية هذا الاعتقاد يؤكّدون على كون الفطرة هي الدافع له، في حين يذهب معارضوهم إلى القول بوجود عوامل خارجية أدّت إليه، من قبيل تقليد الآخرين والتأثّر بالطباع الاجتماعية السائدة؛ ومن ثمّ لا يمكن عدّه دليلاً معتبراً لإثبات وجوده تبارك شأنه.

إذن، يجب أن تكون إحدى النظريتين صحيحةً والأخرى باطلةً، فحتّى إن بادر أحد الطرفين باللجوء إلى أدلّةٍ واهيةٍ لإثبات صحّة نظريته فهذا لا يعدّ دليلاً على صوابها، إذ حسب القاعدة المنطقية لا يمكن للنقيضين أن يجتمعا ولا

ص: 295

أن يرتفعا، وعلى هذا الأساس فإنّ ثبوت بطلان إحدى النظريتين يعني صحّة الأخرى.

لقد أكّدنا على أنّ الاعتقاد بالله تعالى أمرٌ شموليٌّ للبشرية قاطبةً شتّى الأزمنة والعصور وفي مختلف البقاع الجغرافية، فهو مبدأ رافق البشرية منذ لحظة ولادتها ولم يغيّره مرّ الأيام ولا تنوّع الرؤى والثقافات من أقصى الكرة الأرضية إلى أقصاها فرغم كلّ ما طرأ على المجتمعات البشرية من تحوّلاتٍ جذريةٍ لكنّ هذه العقيدة بقيت راسخةً تتناقلها الأمم جيلاً بعد جيلٍ من دون أن يتمّ الاتّفاق أو التواطؤ على السير في نهجها؛ وحاله حال سائر النزعات الثابتة التي يسعى بنو آدم إلى تحقيقها كإرادة بلوغ الكمال ومحبّة الجمال والسعي الحثيث للبقاء. وتجدر الإشارة هنا إلى وجود بعض الطبائع والعادات السلوكية تختلف باختلاف الأزمنة والمجتمعات.

نستشّف ممّا ذكر أنّ الثبوت في الطبائع البشرية رغم اختلاف الأزمنة والأمكنة، ناجمٌ عن النزعات الفطرية التي لا تبديل لها، في حين أنّ اختلافها ناشئٌ من عوامل خارجية، أي: إنّ التغيير يحدث حينما تتغيّر الظروف المحيطة. إذن، بما أنّ الاعتقاد بالله تعالى أمرٌ ثابتٌ على مرّ العصور، فهو يندرج ضمن النمط الأوّل - النزعات الفطرية - إلا أنّ مصدر الكفر أو الجهل بوجود الله سبحانه يعدّ من النوع الثاني - العوامل الخارجية - لذا فهو أمرٌ غير فطريٌّ.

الشيخ جعفر السبحاني هو أحد العلماء المسلمين الذين بادروا إلى بيان تفاصيل هذا الدليل، إذ حاول إثبات النزعات الفطرية مثل حبّ الاستطلاع والبحث عن الحقيقة ومحبّة الجمال والخير ومعرفة الله تعالى؛ فقال: «عندما نلاحظ إحدى النزعات الشائعة بين جميع الناس على مرّ العصور وفي شتّى

ص: 296

البقاع ... بطبيعة الحال نسعى إلى البحث عن السبب في ظهورها، لأنّ العقل يحكم بعدم وجود أيّ فعلٍ دون فاعلٍ. إذن، لا بدّ لنا من البحث عن العلّة والمبدأ لهذه النزعة الجماعية، سواءٌ في عالم الخارج أو عالم الباطن، وبالتأكيد فإنّ الفرض الأوّل باطلٌ، إذ ليس هناك أيّ عاملٍ خارجيٍّ قادر على خلق هكذا توجّه شمولي ومشترك بين الناس قاطبةً في شتّى البقاع الجغرافية وعلى مرّ العصور؛ ولا سيّما لو تمعّنا في الظروف التي تكتنف الحياة البشرية في الأزمنة السالفة، حيث كان الناس يقطنون في أماكن نائية دون أن تربطهم أيّة علاقاتٍ تواصليةٍ لدرجة أنّ بعض الشعوب لم تكن على علم بوجود شعوبٍ أخرى في بقعةٍ أخرى.

بناءً على هذا، يتعيّن لنا القول بالمبدأ الباطني، حيث لا يوجد افتراضٌ ثالثٌ؛ وهذا المبدأ بكلّ تأكيدٍ ليس إلا ذات الإنسان وجبلّته» (1).

*الدليل الخامس : النتائج التي توصّل إليها علم النفس :

هناك كثير من علماء النفس أذعنوا بوجود المعرفة الفطرية بالله عزّوجلّ وأكّدوا على وجود نزعةٍ تحفّر الإنسان على الاعتقاد به(2) وقد صنّفوا النزعات الغريزية على هذا الصعيد إلى ثلاثة أقسام، كالآتي:

1 ) شخصية.

2 ) اجتماعية.

3 ) عالية.

ص: 297


1- جعفر السبحاني، مدخل مسائل جدید در علم کلام باللغة الفارسية)، ج 1، صص 179 - 180
2- يونج کارل جوستاف، روانشناسي ودين (باللغة الفارسية)، الفصل الثاني

القسم الثالث بدوره ذو مصادیق عديدة، منها: الميل إلى قول الصدق وإرادة الخير ومحبّة الجمال والنزعة إلى الدين.

المسألة التى اختلف حولها علماء النفس في هذا المضمار تكمن في السؤال الآتي: هل إنّ الشعور الباطني (أنا) النابع من الوجدان اللاشعوري له وجودٌ أصيلُ أو أنّه ناشئٌ من شعورٍ ظاهريٍّ؟

هناك رأيان مطروحان للإجابة عن هذا السؤال، وعلى أساس الرؤية القائلة بأصالة اللاشعور الباطني فإنّ مسألة الاعتقاد بالله تعالى والنزعة إليه تعدّ أمراً كامناً في باطن الإنسان ولا تظهر إلى أرض الواقع إلا عند توفّر الظروف الملائمة. هذا الرأي ينطبق مع نظرية المعرفة الفطرية بالله تعالى، وهو يثبتها أو على أقلّ تقديرٍ يؤيّدها (1).

بعض المفكّرين المعاصرين ذهبوا إلى هذا الرأي في مجال إثبات فطرية معرفة الله سبحانه، ومنهم الشهيد مرتضى مطهّرى الذى اعتبر أنّ إثباتها ممكنٍ على أساس آراء علم النفس واستناداً إلى التجربة الفردية؛ حيث قال: «علماء النفس والباحثون في مجال النفس الإنسانية توصّلوا في القرن الماضي إلى حقيقةٍ مضمونها أنّ الإنسان يمتلك شعوراً باطنياً كامناً وراء شعوره الظاهري و وكأنّ (أنا) تكشف عن (أنا) مكنونةٍ وراء حُجب النفس ... وفي عصرنا الراهن هناك الكثير من العلماء يعقتدون بوجود هذا الشعور المكنون الذي يعبّر عن رغبةٍ ومحبّةٍ ونزعةٍ تسوقه نحو البارئ الباقي وتربطه به»(2) . بعد ذلك ذكر

ص: 298


1- للاطّلاع أكثر، راجع: المصدر السابق، الفصل الأوّل؛ أمير حسين آریان بور، فرودیسم (باللغه الفارسية ) ، ص 29 و 95
2- مرتضى مطهّري، مجموعه آثار (باللغة الفارسية)، ج 6، ص 157

آراء بعض علماء النفس على هذا الصعيد ونكتفي هنا بالإشارة إلى ثلاثةٍ منها:

- بول إدواردز :

قال إدواردز حول هذا الموضوع: «هناك فلاسفة وعلماء نفس بارزون ... يؤيّدون النظرية القائلة بأنّ الإنسان دينيٌّ بطبعه »(1)).

وردّ على آراء علماء النفس الملحدين الذين أنكروا وجود الله تعالى بالقول: «إنّهم يؤكّدون على أنّ أبرز ميزةٍ للعالم هي كثرة غير المعتقدين بوجود بالله، لكنّهم يذعنون إلى أنّ كمّاً هائلاً منهم تنتابهم حاجةً نفسيةٌ جامحةٌ لعبادة معبودٍ أو شيءٍ ما؛ لذلك يبادرون إلى صناعة آلهةٍ بديلةٍ وبأشكالٍ منوّعةٍ » (2).

- جوستاف يونج :

يعتقد يونج بوجود نزعة نفسية تسوق الإنسان نحو الله تعالى(3)، ويفسّر المعتقدات الإلحادية الظاهرية التي تبدر من بعض منكري وجود الله تعالى كما يأتي: «الآلهة والشياطين لم تفنَ بين الناس مطلقاً، لكن غاية ما في الأمر أنّ مسمّياتها تغيّرت» (4).

ص: 299


1- بول إدواردز، براهین اثبات وجود خدا در فلسفه غرب (باللغه الفارسية)، ص 157
2- المصدر السابق، ص 158
3- للاطّلاع أكثر، راجع يونج: کارل جوستاف روانشناسي ودين (باللغة الفارسية)، الفصل الثاني
4- بول إدواردز، براهين اثبات وجود خدا در فلسفه غرب (باللغه الفارسية)، ص 158

- شیلر :

قال شيلر واصفاً النفس الإنسانية : «اللاأدرية الدينية ليست حقيقةً من حقائق النفس الإنسانية، إنّها شكلٌ من أشكال خداع النفس ... القاعدة الثابتة تؤكّد على أنّ كلّ روحٍ متناهيةٍ إمّا أن تعتقد بالله أو بصنمٍ، والأصنام كثيرةً ومتنوّعةً؛ وتتجسّد لدى غير المعتقدين بالله في أُطرٍ مختلفةٍ، إذ قد تكون حكومةً أو امرأةً أو فنّاً أو علماً أو مجموعةً من أشياء أخرى يتعاملون معها وكأنّها الله.

الاعتقاد بالله هو اعتقادٌ أصيلٍ وطبيعيٌّ، لذا ما يلزمنا توضيحه هنا هو حقيقة الاعتقاد أو عدم الاعتقاد بالأصنام» (1).

- تقريرٌ آخر حول الأحاسيس المكنونة في الباطن:

علماء النفس المعاصرون لدى تحرّيهم عمّا يكتنف النفس الإنسانية، اكتشفوا وجود بعض الأحاسيس والخصائص الباطنية التي تمهّد الأرضية المناسبة للاعتقاد بالله تعالى، ونذكر أهمّها فيما يأتي:

1 ) الشعور بالوحدة :

كلّ إنسانٍ عندما يتأمّل مع نفسه فهو يشعر بالوحدة ويتصوّر أنّ كلّ إنسانٍ يقترب منه يروم تحقيق نفعٍ مادّيٍّ أو معنويٍّ، أو أنّه على أقلّ تقديرٍ يحاول في وحدته تخليص نفسه منها أو يبحث عن أمرٍ يسعده أو يسعى لدفع الضرر المحدق به ؛ وعلى هذا الأساس فهو يدرك أنّ المسائل المادّية والدنيوية

ص: 300


1- بول إدواردز، براهین اثبات وجود خدا در فلسفه غرب (باللغه الفارسية)، ص 158

لا يمكنها أن تؤنسه في وحدته، لذا تكتنفه حاجةً إلى مؤنسٍ مطلقٍ معنويٍّ ويعلم أنّ هذا المؤنس لا يروم تحقيق أيّ نفعٍ منه، بل الأمر بالعكس فهو يأخذ بيديه نحو الدرجات العلا والسعادة المنشودة؛ وبكلّ تأكيد فهو ليس سوى الله تبارك شأنه.

2 ) الشعور بالعجز :

حينما يواجه الإنسان مشاكل الحياة ومصاعبها فهو يشعر بعدم قدرته على الخوض في غمارها لوحده وينتابه هاجسٌ بضرورة وجود قادرٍ أزليٍّ متعالٍ يأخذ بيده إلى الغاية المنشودة.

3 ) الرغبة بالخلود :

ينتاب الإنسان شعورٌ بالخشية من الفناء ويرغب بالبقاء مخلّداً، وهذا الشعور بطبيعة الحال لا يزول إلا في رحاب الإيمان بالله تعالى والاعتقاد بوجود حياةٍ أخرويةٍ.

4 ) إرادة العدل :

الحياة المادّية تزخر بالظلم والجور، فهناك كثير من المضطهدين على شتّى الأصعدة، وقلّما نجد إنساناً لم يتعرّض للظلم أو سلب الحقوق، بل قد لا يوجد أحدٌ كذلك، فكلٌّ منّا عانى من انعدام العدل والإنصاف ولو لمرّةٍ واحدةٍ في حياته على أقلّ تقديرٍ ؛ والمؤسف في الأمر أنّ الظلمة غالباً ما يكونون أحراراً في تصرّفاتهم ولا ينالون جزاءهم العادل في الحياة الدنيا كالطيّار الأمريكي الذي قتل عشرات الآلاف بقنبلةٍ نوويةٍ أو الذي قتل المئات بقذيفةٍ كيمياويةٍ. لذلك عندما يشاهد الناس كلّ هذا الظلم تختلج في أنفسهم هواجس

ص: 301

حول إقامة العدل فينتابهم شعورٌ بوجود ربٍّ عظيم يقهر الطغاة والظلمة ويقتصّ لهم منهم؛ وهذا التصوّر بكلّ تأكيدٍ لا ثمرة له إلا في ظلّ الاعتقاد بالله تعالى والمعاد في يوم القيامة.

- حصيلة الكلام حول برهان الفطرة :

نستخلص النتائج الآتية من المباحث الشاملة التي طرحت حول البرهان السادس (برهان الفطرة):

1 ) المقصود من المعرفة الفطرية بالله سبحانه وتعالى هو العلم الحضوري (فطرة القلب)، ولها أربعة معانٍ أخرى، هي:

أ - الاستعداد.

ب - علمٌ حصوليٌّ بديهيٌّ (الفطرة في المنطق).

ج - علمٌ حصوليٌّ متقوّمٌ على استدلالٍ بسيطٍ.

د - معرفةٌ شهوديةٌ مسبقةٌ.

2 ) لا يمكن الجزم بضرس قاطع بأنّ العلم الحضوري هو الأصيل على صعيد المعرفة الفطرية بالله تعالى أو العلم الحصولي، لأنّ طبائع الناس ليست سواءً.

هناك خمسة أدلّةٍ أثبتنا على أساسها وجود المعرفة الفطرية بالله تعالى لدى الإنسان:

3 ) الدليل الأوّل تمّ التأكيد فيه على أنّ هذه المعرفة أمرٌ وجدانيٌّ وشاملٌ بحيث يدرك الإنسان في ضميره وجود الربّ العظيم سبحانه عن طريق علمه الحضوري، وبعد تنقيح المناط والاستشهاد بالتجارب الدينية المشتركة أثبتنا أنّ هذه العقيدة الفطرية متكافئةٌ لدى جميع الناس على حدٍّ سواء.

ص: 302

4 ) الدليل الثاني أثبتنا فيه ضرورة وجود متعلّقٍ خارجيٍّ للرغبات الباطنية (المحبّة والرجاء)، وقلنا إنّ رغبات الإنسان ونزعاته الغريزية كالشعور بالجوع والعطش، تدعوه لأن يؤمن بوجود إلهٍ يلبّيها ويعينه على إشباعها.

5 ) الدليل الثالث تمحور حول شمولية الاعتقاد بالله تعالى وضيق نطاق الشكّ به، فالغالبية العظمى من بني آدم يعتقدون بوجوده تبارك شأنه رغم كون هذه العقيدة لا تتناسب مع رغبتهم في التحرّر من كلّ شيءٍ، فهذه الرغبة لم تمنع تلك الأعداد الهائلة من الإيمان به، و هو أمرٌ يدلّ على ترجيح حكم العقل على الأحاسيس الشخصية، وقلنا: إنّ العمل على خلاف الفطرة يعني مخالفة الوجدان والأصول الدينية.

6 ) الدليل الرابع ارتكز على تفنيد نظرية الخصم الذي نفى وجود الفطرة.

7 ) الدليل الخامس اشتمل على آراء و نظريات علماء النفس التي تؤيّد حقّانية المعرفة الفطرية بالله عزّ وجلّ.

من المؤكّد أنّ الأدلّة الخمسة كافيةٌ لإثبات فطرة الإنسان السليمة وحقّانية معرفته الفطرية بالبارئ جلّ شأنه، وهي أدلّةٌ متقنةٌ يمكن الاعتماد عليها لنقض الشبهات التي تطرح في هذا المضمار.

• البرهان السابع: حكم العقل بضرورة دفع الخطر المحتمل :

• البرهان السابع: حكم العقل بضرورة دفع الخطر المحتمل :

البرهان السابع الذي اعتمد عليه العلماء لإثبات وجود الله عزّ وجلّ يتمحور حول أنّ العقل يحكم بضرورة دفع الخطر المحتمل، وهو ما يعرف في

ص: 303

العالم الغربي ب_ (شرط باسکال) وخلاصته أنّنا لو افترضنا تنزّلاً عدم حجّية براهين إثبات الله من الناحية المنطقية، يكون أمامنا خياران لا غير حول مسألة الاعتقاد به جلّ شأنه، وهما:

الأوّل: عدم الاكتراث بالأخبار والروايات التي نقلت عن آلافٍ مؤلّفةٍ من الصادقين والنزهاء على مرّ التأريخ، وعلى رأسهم الأنبياء الذين أكّدوا بأجمعهم على وجود الله تعالى وعالم الحشر والمعاد؛ فهذا الإنكار يتسبّب بضررٍ فادحٍ، إذ حتّى وإن تجاهلنا كلّ ما جاء به هؤلاء الصلحاء فهناك احتمالٌ قويٌّ أيضاً بوجود الله تعالى وعالم الآخرة، والنتيجة أنّ الملحدين سيطالهم عذابٌ أليمٌ وخسرانٌ عظيمٌ إثر إنكارهم لهذه الحقائق.

الثاني: التصديق بالأخبار التي تؤكّد على وجود الله تعالى وعالم الآخرة، وفي هذه الحالة لا يواجه الإنسان أيّ ضررٍ، وإنّما سينعم بسعادةٍ أزليةٍ في رحاب حياةٍ كريمةٍ عند مليكٍ مقتدرٍ.

استناداً إلى ما ذكر في الخيارين أعلاه نتساءل قائلين: ما هو الخيار الذي يرجّحه صاحب العقل السليم ؟ فهل من الصواب بمكان أن يتجاهل الإنسان نداء الفطرة والوجدان عبر الإعراض عن الدين وإنكار وجود الله تعالى؟ أو لا بدّ له من السير على نهج عقله وفطرته ووجدانه الحيّ عبر اتّباع ما جاء به الصادقون من أخبارٍ مؤكّدةٍ لا يكتنفها الشكّ والترديد؟ بكلّ تأكيدٍ فإنّ العقل السليم يختار الطريق الصحيح والخيار الصواب عبر إذعانه لنداء الفطرة وتصديقه بما جاء به الأنبياء.

ص: 304

شبهاتٌ وردودٌ:

شبهاتٌ وردودٌ:

الاستنتاج الذي ذكر هو في الحقيقة استدلالٌ تامٌّ ومنطقيٌّ لدرجة أنّ الملحدين أنفسهم قد أذعنوا به ووصفوه بأنّه (عقلٌ محضٌ) و(قاعدةٌ متكاملةٌ) (1) ، لكنّهم مع ذلك أثاروا بعض الشبهات حوله نتناولها فيما يأتي بالنقد والتحليل:

*الشبهة الأولى : عدم وجود علمٍ قطعيٍّ بما سيجري في عالم الآخرة:

يؤكّد البرهان على سعادة المؤمنين وشقاء الكافرين في الحياة الآخرة، إلا أنّ الشبهة التي تطرح على هذا الصعيد هي عدم وجود علم قطعيٍّ بهذا الأمر، فنحن لا نعلم بمصير البشرية في عالمٍ لم نرده حتّى الآن؛ إذ ليس من المستبعد أن تكون الحقيقة على خلاف ذلك، فينعم الكافرون بالسعادة ويطال المؤمنين عذابٌ أليمٌ!

تحليل الشبهة ونقضها :

هذه الشبهة في واقع الحال ليست سوى مغالطةٍ صريحةٍ، فالبرهان لا يشير إلى قطعية مصير المؤمنين والكفرة، بل يشير إلى ذلك في نطاق الترجح والاحتمال لكوّنه متقوماً على المباني الاحتمالية.

احتمال تنعّم المؤمنين وشقاء الكافرين متحصّلٌ من أخبارٍ جاء بها

ص: 305


1- www.kaafar.netfirms.com/baad/dafe-khatar .htm. p. 2

آلاف الأنبياء الذين هم مثالٌ تامٌّ للصدق والأمانة ولا أحد يجرؤ على التشكيك في نزاهتهم وخصالهم الحميدة ممّا يقوّي من دلالة البرهان وصدق احتماله، ناهيك عن أنّ العقل بذاته يحكم بوجود عالمٍ آخر يقتصّ فيه المظلومون ممّن ظلمهم وسلب حقوقهم وطبقاً لحساب الاحتمالات فإنّ درجة صدقه تبلغ خمسين بالمئة أو أكثر من ذلك، فالعاقل يذعن بأنّ السعادة ستكون من نصيب المؤمن في عالم الآخرة وأنّ الشقاء سيطال الكافرين، وعلى هذا الأساس سيعير أهميةً للحياة بعد الممات.

أمّا القول بجهل الإنسان حول ما سيجري في تلك الحياة، فهو كلامٌ عارٍ عن الصحّة، إذ إنّ الاحتمال عند تحقّقه ينفي الجهل، فالأخبار التي جاء بها الأنبياء حتّى وإن كانت محتملةٌ فهي في النتيجة تزيح الجهل وتقدح في الذهن حقيقةً محتملةً على أقلّ تقديٍر، فالبرهان ضمن تأكيده على سعادة المؤمن وشقاء الكافر لا يبقي مجالاً لزعم أنّ الناس جاهلون بما سيجري في الحياة الآخرة.

بالنسبة إلى قلب مدّعى البرهان والقول باحتمال انعكاس الأمر في يوم القيامة بعد أن ينعم الكافر بحياةٍ سعيدةٍ ويعاني المؤمن من حياةٍ مريرةٍ، تقول إنّ البرهان لا يدلّ على هذا الافتراض بتاتاً لكونه خارجاً من حساب الاحتمالات الموجودة فيه؛ ومن ثمّ لا مناص من القول بسعادة المؤمن وشقاء الكافر.

طُرحت هذه الشبهة في إطار احتمالٍ محضٍ، ومن ساقها أذعن بسقمها وعدم صدق مضمونها ، لذلك همّشها ولم يرتّب عليها أثراً (1).

ص: 306


1- Ibid

إذن الاعتراض على مسألة السعادة والشقاء من داعى جهل الإنسان بما سيجري في الحياة الآخرة وعدم قدرته على تحصيل علم قطعيٍّ حول هذا الأمر، هو في الحقيقة خارجٌ عن نطاق البرهان المذكور، فهو يتمحور حول طرح احتمالٍ يؤيّده حكم العقل.

*الشبهة الثانية: دفع الخطر المحتمل بخطرٍ قطعيٍّ :

يؤكّد البرهان على وجود أخطارٍ محتملةٍ تهدّد الإنسان في يوم القيامة، لكنّ بعضهم طرحوا شبهةً فحواها أنّ التديّن على أساس حكم العقل يؤدّي إلى وقوع الإنسان في مخاطر ومشاكل جمّة في الحياة الدنيا، فالمتديّن يحرم نفسه من مختلف ملذّات الحياة الدنيوية عبر اضطراره لإطاعة رموز دينه كالأنبياء والأئمّة؛ وهذا يعني تجريده من حرّيته.

مثلاً لو حُبس إنسانٌ في غرفةٍ ثمّ أخبر بأنّ هذه الغرفة ستٌحاصر قريباً من قبل بعض المجرمين القتلة الذين لا يقتلون ضحيتهم إلا بعد تعذيبها عذاباً شديداً تطول مدّته، ألا يبادر فوراً إلى البحث عن مهرب ويقفز من النافذة؟! هذا الإنسان في الحقيقة يعرّض نفسه لخطٍر قطعيٍّ جرّاء احتمال مواجهة خطرٍ آخر (1).

تحليل الشبهة ونقضها

التديّن لا يحرم الإنسان من السعادة والطمأنينة، وإنّما هو سببٌ لتحقّقهما لأنّه يلبّى متطلّباته المادّية والمعنوية ويمنحه تجربةً ناجحةً، إذ إنّ

ص: 307


1- Ibid. p. 3

المتديّن حتّى وإن عانى من الفقر وكابد الآلام في الحياة الدنيا، فهو من منطلق إيمانه بالله تعالى والحياة الأخروية المنعمّة، يشعر بالسعادة والطمأنينة النفسية؛ وإذا سُلب حقّه يواسي نفسه بعقيدته الأخروية وإيمانه بأنّه هذا الحقّ المغصوب سيعود إليه في يوم الحساب بعزّةٍ وكرامةٍ وسيقتصّ ممّن ظلمه .

للدين فوائد لا تحصى فى مختلف مجالات الحياة فهو الرائد على صعيد العلم والمعرفة والمرشد إلى السبيل القويم في الحياة الدنيا والداعي إلى إحقاق الحقّ وإقامة العدل، وهو العماد للحياة الاجتماعية المثلى والأساس للسعادة في الدارين (1).

لا ريب في أنّ اتّباع أشراف الناس وأحرارهم الذين يتّخذون الصدق شعاراً لهم، وعلى رأسهم الأنبياء والأئمّة، يوفّق الإنسان لنيل الحرّية والسعادة في الدنيا والآخرة؛ فالتعاليم الدينية - ولا سيّما الإسلامية منها - هي عبارةٌ عن أصول وقواعد راقية وعقلانية، ورغم كون جانبٍ منها يقيّد نطاق حرّية الإنسان ويتعارض مع الذوق الشخصي لبعض الناس، من قبيل حظر شرب الخمر ولعب القمار والمعاملات الربوية والعلاقات الجنسية غير المشروعة؛ إلا أنّها في الواقع تسدي خدمةً للمصحلة الشخصية والاجتماعية على حدٍّ سواء، فإذا حلّلنا نتائجها ومعطياتها نجدها ذات فوائد عظيمة، وهي في الحقيقة لا تقيّد إلا جانباً محدوداً من الحرّية، ناهيك عن أنّ العقل السليم يؤيّد تماماً ما تحظره من أمور تورث الضرر والندامة والأهمّ من كلّ ذلك أنّ العمل بها يضمن السعادة الأخروية والراحة الأبدية.

ص: 308


1- للاطّلاع أكثر ، راجع دين خاتم (باللغة الفارسية)، فصلٌ حول مهامّ الأنبياء

إذن، اعتناق دينٍ حقٍّ كالإسلام لا يترتّب عليه أي ّضرر أو خسران في الحياة الدنيا، بل يضمن للإنسان السعادة والهناء في الدارين، والعقل بدوره يحكم بضرورة السير في ركب هكذا دين بغية تحصيل المبتغى والمرام.

*الشبهة الثالثة: تكافؤ الكفّار والمتديّنين في مواجهة مخاطر الحياة الأخروية :

هناك شبهةٌ هشّةٌ للغاية طرحت حول التديّن في مجال حساب ،الاحتمالات ومضمونها أنّ احتمال مواجهة الكفّار للعذاب في يوم القيامة ليس مرجّحاً على احتمال تنعّمهم، لذا يتكافاً الاحتمالان ومن ثمّ يتهافتان من دون ترجيح أحدهما على الآخر ولا يجوز لأحدٍ زعم أنّ عذابهم قطعيٌّ؛ والنتيجة أنّ حالهم حال المتديّنين، إذ من الممكن أن تكون عاقبة الكافر والمتديّن واحدةً دون وجود أيّ ترجيح لمن اتّخذ الدين سبيلاً على من أنكره (1).

تحليل الشبهة ونقضها :

لا يخفى على حاذق مدى هشاشة هذه الشبهة وسقمها لدرجة أنّها لا تستحقّ النقد والتحليل بتفصيلٍ وإسهابٍ، فالاحتمال الذي يستحقّ الاهتمام من الناحية العلمية هو ما وافق العقل السليم، ولكن مع ذلك نقول إنّ الخطر الذي يواجهه الكفّار في يوم الحساب ناشئٌ من إنكارهم حقيقة الحقائق وإعراضهم عن الدين القويم وعدم إيمانهم بالإله العظيم فضلاً عن ارتكابهم

ص: 309


1- Ibid. p. 3

الأفعال الذميمة في الحياة الدنيا وبالنسبة إلى احتمال تنعّمهم في الحياة الآخرة كما يتنعّم المؤمنون، فليس له أيّ مسوّغٍ عقليٍّ أو منطقيٍّ، إذ كيف يُعقل أن يقدم الربّ العظيم - الذي جعل القيامة ميزاناً لحساب الأعمال - على المساواة بين من اتّبع دينه وبين من أنكره وألحد به وارتكب المعاصى بشتّى أنواعها؟!

إضافةً إلى ما ذكر، قلنا آنفاً إنّ احتمال نيل المتديّنين السعادة الأخروية ومواجهة الكفّار الشقاء والعذاب الأليم، يتناسب مع المتبنّيات الفكرية لأكارم الناس والصادقين منهم والذين ينعمون بفطرةٍ سليمةٍ ووجدانٍ حيٍّ، وهذا الاحتمال راجحٌ لصالح الفئة المتديّنة.

نختم الفصل بهذه الشبهة ونغضّ النظر عن بعض الشبهات الأخرى التي طرحت على هذا الصعيد بسبب وهنها وضعف دلالتها.

ص: 310

الفصل الثالث

شبهات الملحدين في بوتقة النقد والتحليل

شبهات الملحدين في بوتقة النقد والتحليل

ص: 311

ص: 312

تطرّقنا في الفصل السابق إلى الحديث بإجمالٍ عن أدلّة إثبات وجود الله تعالى وتناولنا بعض الشبهات التي طرحت حولها من قبل الملحدين والمشكّكين بالنقد والتحليل، ومن ثمّ أثبتنا أنّ الاعتقاد بوجوده جلّ شأنه ينسجم انسجاماً تامّاً مع حكم العقل والفطرة الإنسانية بحيث يمكن إثباته بالبراهين الفلسفية والفطرية التي لها قابلية على نقض كلّ شبهةٍ يطرحها أهل التشكيك والإلحاد، فالشبهات الواهية التي تشبّث بها هؤلاء لا تصمد أمام تلك البراهين الدامغة وليس من شأنها إيجاد أيّ خللٍ في دلالاتها.

ومن الجدير بالذكر أنّ مناهضي الأديان لا يكتفون بإثارة شكوكٍ حول براهين إثبات وجود البارئ الكريم، بل يسوقون بعض الأدلّة الواهية التي يزعمون أنّها تنفي وجوده من الأساس، وسنذكر في هذا الفصل بعض هذه الأدلّة ثمّ نقوم بتحليلها ونقضها:

*الشبهة الأولى : اقتصار الوجود على المادّيات فقط :

من الأدلّة التي طرحها المادّيون حول نفى وجود الله تعالى، تقييد الوجود بما هو مادّيٍّ وملموسٍ للمدركات البشرية المتعارفة فقط، وهي الحواس الخمسة، إذ زعموا أن الوجود الحقيقي هو ما تدركه هذه الحواسّ، وعلى هذا الأساس استنتجوا أنّ الوجود المجرّد - بما في ذلك وجود الله تعالى -

ص: 313

يعدّ أمراً غير محسوسٍ لدى الإنسان، لذا لا يمكن الإذعان بوجوده والإيمان به(1).

بما أنّ هذا الاستدلال يتمحور بشكلٍ مباشرٍ حول الوجود، لذلك يمكن إدراجه في ضمن النظريات التي تطرح على صعيد علم الوجود، في حين سائر الأدلّة التي ستذكر لاحقاً تعدّ من سنخ النظريات المعرفية.

تحليل الشبهة ونقضها:

لقد أثبتنا سقم هذا الادّعاء الواهي في المباحث السابقة في ضمن حديثنا عن الشبهات التي طرحها منكرو برهان الإمكان والوجوب، لذا لا نكرّر الاستدلال والنقد هنا تجنّباً للإطناب .

الشبهة الثانية: إثبات الوجود وتحقّق المعرفة اعتماداً على الحسّ المحض :

من الأُسس التي اعتمد عليها المادّيون في نظرياتهم هي دعوى اقتصار معرفة كلّ شيءٍ على الحسّ والتجربة فحسب، لذا إن أردنا إثبات وجود أيّ أمرٍ كان فلا بدّ من اللجوء إليهما. استناداً إلى هذه القاعدة المادّية أنكروا وجود الله تعالى، إذ ليس من الممكن إثبات وجوده بالحسّ والتجربة.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ أوغست كونت وديفيد هيوم لهما الريادة في طرح هذه النظرية ولم يتورّعا عن إنكار وجود البارئ جلّ شأنه، ولكن لو

ص: 314


1- مسعود الأنصاري (الدكتور روشنگر) ، الله اکبر (باللغة الفارسية)، ص 46

تتبّعنا تأريخها لوجدناها تضرب بجذورها في قرونٍ سبقت عهد هذين الفيلسوفين، فالفرقة (السمنية) التي ظهرت في الهند قد أنكرت فائدة كلّ تأمّلٍ باطنيٍّ مهما كان نوعه وزعم أتباعها أنّ الحسّ هو المبدأ الوحيد للمعرفة والعقيدة.

بطبيعة الحال فإنّ منكري المعرفة العقلية ينخرطون في طوائف عدّة وبمشارب شتّى، فبعضهم أنكروا العلم من أساسه ومنهم من أنكر العلم بالقضايا الماورائية الدينية فقط ؛ وقد تطرّق العلماء المسلمون الأوائل إلى بيان المتبنّيات الفكرية لهذه المذاهب ضمن مختلف نظرياتهم العقائدية ومؤلّفاتهم التي تمحورت حول المباحث العلمية والمعرفية ومثال ذلك ما ذكره الفخر الرازي، إذ قال: «واحتجّ المنكرون للنظر في الإلهيات بوجهين أحدهما إنّ إمكان طلب التصديق موقوفٌ على تصوّر الموضوع والمحمول، والحقائق الإلهية غير متصوّرةٍ لنا لما سبق أنّا لا نتصوّر إلا ما نجده بحواسّنا أو نفوسنا أو عقولنا» (1).

تحليل الشبهة ونقضها :

نقول في نقض الشبهة المذكورة :

1 ) عدم اقتصار المعرفة على الحسّ :

أثبتنا فى المباحث الآنفة أنّ زعم اقتصار معرفة الإنسان على الحسّ والمعرفة باطلٌ من الأساس ولا يستند إلى أيّ دليلٍ معتبرٍ، كما ذكرنا أدلّةً

ص: 315


1- الخواجة نصير الدين الطوسي، تلخيص المحصّل، ص 50؛ السيّد المرتضى، الذخيرة في علم الكلام، ص 344؛ القاضي عضد الدين الإيجي، شرح المواقف، ج 1، ص 188؛ ابن حزم الفصل في الملل والأهواء والنحل، ج 1، ص 18 و 20 و 22

وبراهين تثبت تحقّقها عن طريق العقل والشهود والعلم الحضوري؛ وعلى هذا الأساس فإنّ عدم معرفة الله تعالى عن طريق الحسّ والتجربة المادّية لا يعني بتاتاً عدم وجوده، بل هو واجب الوجود الثابت بالبراهين العقلية والفلسفية كما ذكرنا سابقاً.

2 ) أتباع المذهب المادّي اعتمدوا على الدليل العقلي لإثبات مزاعمهم:

على الرغم من أنّ أتباع المعرفة المادّية يقيّدون علم الإنسان بما هو محسوس فقط، لكنّهم في الواقع يتشبّثون بالدليل العقلي لإثبات مدّعاهم هذا، إذ يطرح عليهم السؤال الآتي: ادّعاء أنّ (المعارف البشرية متقوّمةً على الحسّ والتجربة) هل هو ثابتٌ بالدليل الحسّي أو العقلي؟ من المؤكّد أنّ الحسّ والتجربة ليس من شأنهما بتاتاً إثبات هذا الادّعاء أو وضع أيّة قاعدةٍ علميةٍ أخرى؛ لذا لا يبقى سوى العقل، وهذا يعني أنّ هؤلاء يقولون بالمعرفة الماورائية بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشرٍ، ومن ثمّ يثبت بطلان نظرياتهم من أساسها.

3 ) الإدراكات الحسّية لا تزيد من الثروة المعرفية للبشرية :

إنّ الأمور الحسّية تعين الإنسان على إدراك ما هو موجود بظاهره المادّي فحسب، ومن ثمّ لا تمنحه المعرفة واليقين بوجوده، فالجزم بوجود ما ندركه بالحسّ يتطلّب تحقّق مقدماتٍ مسبقةٍ تستند إلى الاستدلال العقلي. عندما يشعر الإنسان بوجود أمرٍ مادّيٍّ، كما لو أحسّ بوجود شجرةٍ في الظلام الدامس لا يمكننا القول حينها إنّ مجرّد هذا الشعور يثبت وجود الشجرة على أرض الواقع ومن ثمّ نجزم على أساسه بوجودها، إذ من المحتمل أن تكون غير موجودةٍ والشعور الذي اكتنف هذا الإنسان مجرّد وهمٍ لأنّه لم يرها رأي العين

ص: 316

ولم يلمسها بيده؛ فما العمل هنا ؟! هل بإمكاننا قول إنّ الشجرة موجودةٌ لأنّه شعر بها وفي الحين ذاته غير موجودةٍ لأنّه لم يرها ولم يلمسها؟! بالطبع لا، فاليقين بوجود شجرةٍ أو عدمها متقوّمٌ على قاعدة امتناع اجتماع النقيضين التي تؤكّد على عدم إمكانية كون الشيء موجوداً ومعدوماً في آنٍ واحدٍ، وكما هو معلومٌ فهي قاعدةٌ عقليةٌ وليست حسّيةً؛ وعلى هذا الأساس لا يمكننا الاعتماد على القواعد المادّية هنا للحكم على وجود الشجرة أو عدم وجودها، بل لابدّ من الرجوع إلى القواعد العقلية.

أمّا الدليل الآخر على عدم فائدة المدركات الحسّية في إثراء الجانب المعرفي لدى الإنسان فهو حضور صورة الشيء في الذهن؛ فتصوّر شجرةٍ لا يعني انتقالها بذاتها في الذهن وإنّما هيئة صورتها هي التي تنطبع فيه فتجعله يصل إلى مرحلة التصديق، وهذا الأمر بكلّ تأكيدٍ يتحقّق على وفق عمليةٍ نفسيةٍ عقليةٍ ولا دخل للحسّ المادّي (1).

إذن، الإدراك الحسّي ليست له قيمةٌ معرفيةٌ ما لم يرتكز على الإدراك العقلي، ومن هذا المنطلق فإنّ أصحاب النزعة المادّية لم يجدوا بدّاً من الإذعان للدليل العقلي والإقرار بالمعارف العقلية.

4 ) معرفة الله تعالى عن طريق الآثار:

يدّعي أتباع الحسّ والتجربة أنّ وجود الله تعالى لا يمكن إثباته

ص: 317


1- للاطّلاع أكثر، راجع: عبد الله جوادي الأملي، تفسير موضوعي - توحید در قرآن (باللغة الفارسية)، ج 12 ، ص 256 - 257؛ مرتضى مطهّري، مجموعه آثار (باللغة الفارسية)، ج 6، ص 913

بوساطة المعارف البشرية لأنّه وجودٌ ماورائيٌّ.

هذه المزاعم باطلةٌ ولا أساس لها من الصحّة، إذ يمكننا الاعتماد على العقل والحسّ معاً لإثبات وجوده والمعرفة صفاته المباركة، وسوف نثبت في المباحث اللاحقة ضمن حديثنا عن الصفات الإلهية أّن عنوان (واجب الوجود) يعني ضرورة وجود صفاتٍ ثبوتيةٍ عديدةٍ لله عزّ وجلّ من قبيل الأزلية والوحدة والبساطة والكمال والغنى. فضلاً ذلك فالتأمّل فى الكون والطبيعة والنظام المذهل الذي تتقوّمان عليه، يغرس في أنفسنا الطمأنينة واليقين بوجود مدبّرٍ حكيم يدير شؤونهما بعلمه الواسع وقدرته اللامتناهية.

* الشبهة الثالثة : المفاهيم غير المحسوسة ليست ذات قيمةٍ معرفيةٍ وفق أصول النزعة التجريبية الوضعية:

لقد نحا بعض الماديين منحى متطرفاً للغاية لدرجة أنهم لم يكتفوا بإنكار كلّ وجودٍ ماورائيٍّ، بل ذهبوا إلى أنّ دلالة كلّ مفهومٍ مرهونةٌ بكونه قابلاً لأن يتحقّق في إطار لحسّ والتجربة، أي: إنّهم ينكرون كلّ أمرٍ غيبيٍّ بأيّ نمطٍ كان ويقومون بتحليل كلّ قضيةٍ أو تفكيكها إلى عناصرها الأوّلية بغية فهمها وإدراكها؛ وفي غير هذه الحالة يعدّونها كاذبةً ويعرضون عنها لكونها مهملةً بزعمهم. وعلى أساس هذا الاعتقاد اعتبروا المفاهيم الدالّة على العالم المجرّد - وبما في ذلك الله تعالى - عاريةً عن أيّ معنى ومن ثمّ لا يصل الدور إلى الحديث عن وجودها أو عدم وجودها.

وقد دافع أتباع النزعة التجريبية الوضعية (الفلسفة الوضعية) عن هذه الرؤية المتطرّفة، حيث أنكروا جميع الوجودات الماورائية بذريعة عدم تحقّقها

ص: 318

على أرض الواقع في العالم المادي وعدم إمكانية تحليلها وتفكيكها إلى عناصرها الأوّلية الأمر الذي دفعهم لإنكار وجود الله عزّ وجلّ أيضاً.

تحليل الشبهة ونقدها :

لا شكّ في أنّ تسليط الضوء على المتبنّيات الفكرية لأتباع الفكر التجريبي الوضعي وبيان جميع جوانبه، يتطلّب إجراء بحثٍ واسعٍ ومستقلٍّ في إطار عناوين فرعية عديدة، ولكن بما أنّه في العصر الراهن أصبح هشّاً وهزيلاً مقابل النظريات المعارضة له، سنكتفى فيما يأتي بذكر بعض النقاط في نقضه :

1 ) حدوث الدَّور المنطقي الممتنع (1)

إثبات وجود أمرٍ عن طريق الاستدلال بنفس وجوده يعدّ باطلاً من حيث القواعد العقلية والمنطقية لأنّه يستلزم حدوث الدَّور، فليس من الصحيح بمكانِ إثبات أنّ القضية صادقةٌ نظراً لكونها ذات معنى ومن ثمّ إثبات أنّها ذات معنى لكونها صادقةً؛ فقد عُدّ وجود المعنى دليلاً على الصدق، وهذا الأخير بدوره عُدَّ دليلاً على وجود المعنى؛ أى قد توقّف وجود الشيء على نفسه، وهو دورٌ باطلٌ.

إذن، ما ذكره أتباع النزعة التجريبية الوضعية يستلزم تحقّق الدَّور، ممّا يعنى بطلان مذهبهم.

ص: 319


1- الدَّور المنطقي يعني توقّف وجود الشيء على نفسه، وحين تحقّقه في أيٍّ من البراهين والاستدلالات فهو يعني بطلان موضوعها. وبعبارةٍ أخرى فإنّ معناه حاجة الأوّل إلى الثاني والثاني إلى الأوّل، إمّا بواسطةٍ أو بغير واسطةٍ

2 ) استحالة تحقّق المدّعى :

أتباع التجريبية الوضعية يؤكّدون على إمكانية تحليل القضايا، أي: إنّهم يقولون بأنّ القضية الصادقة التي يمكن فهمها وإدراكها هي تلك التي يمكن تحليلها أو تفكيكها إلى عناصرها الأوّلية عن طريق التجربة المادّية؛ ومن هذا المنطلق نطرح عليهم السؤال الآتي:

حسب ادّعائكم فإنّ معنى القضية لابدّ من أن يتّصف بالقابلية على التحقّق في الخارج، وهذا المدّعى بذاته هل يندرج تحت القضايا التي يمكن تحليلها أو التي يمكن تفكيكها إلى عناصرها الأوّلية؟

من المؤكّد أنّ هذا المدّعى لا يندرج تحت القضايا التحليلية لكون المحمول لا يتحقّق إلا عن طريق تحليل الموضوع، وحتّى لو فرضنا أنّه يندرج تحت هذا النمط من القضايا فلا يتحقّق منه حينئذٍ أيّ معنىً جديدٍ أو مفهومٍ ذي دلالةٍ جديدةٍ، في حين أنّه مطروحٌ في الأساس لإثبات معنىً جديدٍ وهو الاستدلال على ضرورة قابلية تحقّق الشيءٍ في الخارج.

وإذا افترضنا أنّه يندرج تحت القضايا التركيبية القابلة للتفكيك، فيا ترى هل أثبتت التجربة أنّ تحقّق المعنى لجميع القضايا مرهونٌ بقابليتها على التحقّق في الخارج بجميع أجزائها؟ بالطبع لم يقل أحدٌ بذلك.

إذن ، التجريبية الوضعية تناقض نفسها ، وما ادّعاه أتباعها لم يتحقّق في الخارج ، لذا لا يمكن زعم أنّ القضايا الحقيقية مشروطةٌ بالتحقّق العيني (1).

ص: 320


1- للاطّلاع أكثر، راجع: پوزیتیویسم منطقی (باللغة الفارسية)، ص 14

3 ) بطلان مدّعى عمومية القاعدة:

حتى لو افترضنا أنّه يمكن إثبات ما ذكر عن طريق الحسّ والتجربة، لكن مع ذلك لا يمكن ادّعاء عمومية هذه القاعدة وتطبيقها على جميع القضايا الحسّية والماورائية، إذ يقرّ العلماء التجريبيون بإمكانية تفنيد القوانين العلمية والطبيعية قاطبةً، لذا ليس هناك أيّ قانونٍ طبيعيٍّ ثابتٍ ودائمٍ إلى الأبد؛(1) وعلى هذا الأساس فغاية ما يمكن أن يدّعيه أصحاب المذهب الوضعي هو أنّ دلالة القضايا على معاني قابلة للفهم والإدراك في نطاق الحسّ والتجربة يمكن أن تتحقّق بشكل كلّيٍّ، أي: إنّ تحقّقها ممكنٌ في إطار بعض القضايا المحدودة فحسب، لذا لا يمكن عدّ هذه الدلالة شرطاً لكلّ القضايا مطلقاً.

من البديهي أنّ هذا الأمر المتزعزع من أساسه ليس من شأنه أن يكون برهاناً على نقض القضايا المرتبطة بالعالم المجرّد (الماورائي).

4 ) عدم إمكانية تفنيد القضايا الماورائية :

أتباع التجريبية الوضعية بذلوا ما بوسعهم بغية تفنيد كلّ قضيةٍ تمتّ بصلةٍ إلى الله عزّ وجلّ وعالم الغيب، لكنّهم في الحقيقة لا يمتلكون صلاحية القيام بذلك، فغاية ما في الأمر هو اقتصار مبادئهم وبراهينهم المادّية على نطاق عالم المحسوسات، وحسب التعبير المنطقي فحدود استنتاجاتهم منحسرةٌ في إطار القضية الموجبة الجزئية؛ لذا ليست لديهم الصلاحية ولا القابلية العلمية على نقض كلّ قضيةٍ لا تخضع للحسّ والتجربة، ولو أنّهم خالفوا هذه القاعدة وذهبوا إلى أبعد من استحقاقهم فهذا يعني أنّهم خرجوا عن حدود البحث

ص: 321


1- للاطّلاع أكثر ، راجع: المصدر السابق، ص 16

العلمي وأعرضوا عن الدليل الذي هو الحجّة والبرهان لإثبات كلّ قضيةٍ محسوسةٍ أو غير محسوسةٍ.

استناداً إلى ما ذكر ، يمكن للتجريبيين فقط ادّعاء أنّ القضايا المحسوسة قابلة للإثبات ومن ثمّ يمكن فهم معانيها، لكنّهم غير مخوّلين بالحكم على القضايا الماورائية وزعم أنّها غير قابلةٍ للإثبات، لذا لا يحقّ لهم تجريدها عن المعنى.

الفيلسوف الألماني مارتين بوبر الذي يدرج اسمه ضمن زمرة المتعصّبين للنزعة التجريبية والذي كان مدافعاً عنها بكلّ وجوده في فترةٍ من حياته، وصف تفنيد القضايا الماورائية وتجريدها عن الدلالة بالقول: «من السخرية بمكانٍ أن يقوم الإنسان بتفنيد كلّ ما لا يمكن إثباته عن طريق التجربة، ولقد حاول الفلاسفة في حلقة فيينا إثبات هذا الأمر فأقدموا على تدوين قائمةٍ أدرجوا فيها القضايا التي اعتبروها مستحيلةً ... إنّك [أيها الإنسان] مخوّلٌ بطرح رأيك حول القضايا العلمية في إطار ما تمتلكه من علمٍ، وما خلا ذلك من كلامٍ فهو لا يتعدّى كونه هراءً» (1).

5 ) النسبوية :

النزعة النسبية (النسبوية) تعدّ واحدةً من التحدّيات التي يواجهها أتباع النزعة التجريبية الوضعية على الصعيد المعرفي، فالحسّ الذي هو باعتراف العلماء التجريبيين متغيّرٌ ومتحوّلٌ، حينما يصبح مصدراً أساسياً ومعياراً وحيداً للعلم والمعرفة وإضفاء المصداقية على جميع القضايا فليس من الممكن حينئذٍ البتّ بوجود أيّة قضيةٍ أو الجزم بصحة أيّ مفهومٍ علميٍّ، إذ إنّ احتمال عدم

ص: 322


1- كارل ريموند بوبر، مجلّة (ذهن)، العلم والفرضية (علم وفرضيه)، العدد 1، ص 102

مطابقته للواقع يعدّ أمراً ثابتاً ولا مناص منه في جميع الأطروحات والاستنتاجات إثر عدم استقرار القواعد العلمية وتغيّرها باستمرار.

6 ) بطلان الفرضية من أساسها وعدم انسجام تفاصيلها:

لقد واجهت المدرسة التجريبية الوضعية نقداً لاذعاً منذ باكورة ظهورها الأمر الذي دعا مؤسّسوها للتراجع عن متبنّياتهم الفكرية بين الفينة والأخرى، ومن ثمّ افتقدت أطروحاتهم الفكرية للرصانة العلمية ولم تشهد انسجاماً منطقياً في كافّة تفاصيلها ناهيك عن عدم اتّزانها فلسفياً. أتباع النزعة الوضعية ذهبوا في بادئ الأمر إلى القول بمبدأ التحقّق والبرهان فى إثبات مصداقية القضايا

(Verifiability principle) لكنّهم بعد ذلك تخلّوا عن هذه الأطروحة وتبنّوا فكرة الثبوت (Confirmability) التي تؤكّد على أنّ المعيار الأساسي لمصداقية كلّ قضيةٍ هو إثباتها عن طريق المشاهدة فقط، ومن ثمّ ليست هناك ضرورةٌ لإثباتها بالكامل. فيما بعد طرح التجريبيون المنطقيون نظرية قابلية الاختبار (testability) ومن ثمّ استبدلوها بنظرية قابلية التفنيد (التجربة والخطأ) (falsability).

ورغم كلّ الجهود التي بذلها أصحاب هذه النزعة وتعدّد النظريات التي طرحوها لإثبات مزاعمهم، إلا أنّهم لم يتمكّنوا من تحقيق أهدافهم، والأمثلة على ذلك كثيرة لكنّ المجال لا يسعنا لتسليط الضوء عليها هنا، لكن نكتفى بذكر كلامٍ لأحد روّادها وهو الفيلسوف الإنجليزي المعاصر آير، فحينما سُئل عن أهمّ خللٍ فى كتابه (لغة الحقيقة والمنطق) الذى ألّفه بهدف إثبات صحّة النزعة التجريبية الوضعية، أجاب قائلاً: «أعتقد أنّ أهمّ خللٍ في هذا الكتاب

ص: 323

هو اشتماله على مواضيع عاريةٍ عن الصحّة»(1). ووصف البُنية المنطقية المتزعزعة للمدرسة الوضعية بالقول: «إنّ البحث العلمي [في هذه المدرسة الفكرية ] لم تُرسَ دعائمه على أساسٍ قويمٍ منذ بادئ الأمر، وقد حاولت مراراً رأب هذا الصدع لكنّني في كلّ مرّةٍ إمّا اضطررت لأن أُحمّل الموضوع أكثر من طاقته أو عجزت عن إثرائه بالمبادئ الفكرية كما ينبغي؛ وإلى يومنا هذا ما زالت هذه المدرسة الفكرية تفتقر إلى الأُسس المنطقية المعتبرة»(2).

*الشبهة الرابعة : عدم اكتمال المعرفة البشرية:

من الذرائع التي تشبّث بها الملحدون لإثبات نزعاتهم المادّية، هي القول بعدم اكتمال المعرفة البشرية، حيث زعموا أنّ الذهن البشري عاجزٌ عن إدراك الحقائق بشكلٍ تامٍّ وكاملٍ، وكلّ قضيةٍ معرفيةٍ عرضةٌ للخطأ والبطلان؛ وعلى هذا الأساس لا يمكن ادّعاء أّن أحداً يمتلك معرفةً كاملةً بإحدى الحقائق.

ولأجل إثبات مدّعاهم وقعوا في أخطاء وهفوات عديدة بعد أن تمسكّوا بالمدركات العلمية المادّية، ومن ثمّ أدرجوا المعرفة البشرية بالله عزّ وجلّ ضمن هذه القاعدة بحيث لم يستثنوا أيّ أمرٍ غيبيٍّ.

هذه الرؤية التي شاعت في القرون الماضية قد انبثقت في بادئ الأمر من أفكار الفيلسوف إيمانوئيل كانط الذي قال بوجود غيريةٍ بين الذوات «النِمونات» (Noumen) وبين الأعراض والظواهر الخارجية «الفنومونات»

ص: 324


1- برایان ماجي، مردان اندیشه - گفتگوی مگی با آیر (باللغة الفارسية)، ص 202
2- المصدر السابق

(Phenomen) (1)، ومن هذا المنطلق أكّد على استحالة مطابقة الصورة الذهنية للواقع.

توضيح الشبهة بتفصيلٍ أكثر:

أوّلاً : ادّعى بعض علماء اللاهوت أنّ النقص الموجود في المعرفة البشرية واحتمال حدوث الخطأ فيها محدودٌ بنطاق البراهين اللاهوتية العقلية ،والفلسفية، وذهبوا إلى أنّ اتّصاف هذه البراهين بالخطأ يضطرّنا للتخلّي عنها وطرحها جانباً والاكتفاء بالبراهين المادّية وتسليط الضوء على الآثار الطبيعية فحسب.

ثانياً: باعتقاد بعض العلماء فإنّ العلوم البشرية عُرضةً للتغيير باستمرارٍ، وكذا هو الحال بالنسبة إلى عقيدة الإنسان بالله تعالى :أي: إنّها دائماً في مهبّ رياح التغيير. في العقود الخمسة المنصرمة انخرط بعض المفكّرين المسلمين تحت مظلّة الفكر الماركسي وأطلق عليهم عنوان (المسلمون الاشتراكيون)، وقد دافعوا عن فكرة التغيير هذه (2).

ص: 325


1- الطبيعيات: تؤكّد على أنّ ذهن الإنسان قادر في الأمور الطبيعية فقط على إدراك الأعراض والظواهر «الفنومونات» (Phenomen) التي تأتي عن طريق الحسّ والعقل، لكنّه عاجزٌ عن إدراك الذوات «النِمونات» (Noumen) التي هي موضوع الأعراض والظواه.ر وفي مورد الظواهر أيضاً فإن العقل الإنساني - بتركيبه الخاص - يضفي أشكالاً وصوراً خاصة على الأشياء، ولا يمكن الاطمئنان إلى أنّ الواقع ونفس الأمر هو بهذا الشكل وهذه الصورة الظاهرة لعقولنا
2- رسول جعفریان، جریانها و سازمانهاي مذهبي سياسي ايران (باللغة الفارسية)، ص 92

تحليل الشبهة ونقضها :

نذكر النقاط الآتية في نقض الشبهة المطروحة:

1 ) إن كان المقصود من هذا البرهان هو إنكار العلم البشريّ من أساسه، فهذا ضربٌ من السفسطة التي تنتهي إلى النزعة الشكوكية، ومن المؤكّد أنّه لا يمكن الاستناد إلى الأفكار السوفسطائية في الاستدلال والبرهنة، ناهيك عن ثبوت بطلانها حسب القواعد الإبستمولوجية.

إضافةً إلى ما ذكر، فالذين أنكروا وجود الله تعالى حسب الفرضية المذكورة لم يأتوا بأيّ دليلٍ معتبرٍ لإثبات مدّعاهم وذلك لكون إقامة الدليل مقدّمةً أساسيةً لتحقّق العلم وإثبات المدّعى.

2 ) إن لم يكن المقصود من البرهان المذكور إنكار مطلق العلم، وأُريد منه إنكار أحد جوانبه فحسب، فهذا يعني أنّ موضوعه ليس من نمط القضية الموجبة الكلّية، ومن ثمّ ليس من الصواب زعم أنّ جميع المعارف الإنسانية صادقةٌ ومطابقةٌ للواقع. وفي هذه الحالة يمكن القول إنّ أصل المدّعى مقبولٌ وذلك لكون المتدّين أيضاً لا يعتقدون بمطابقة جميع العلوم والمعارف البشرية للواقع ويقرّون باحتمال طروء خطأ عليها.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ هذه العلوم تصنّف في قسمين أساسيين، هما:

أ - علوم بديهية.

ب - علوم نظرية .

وتصنف في تقسيمٍ آخر إلى:

أ - علوم حضورية.

ب - علوم حصولية.

ص: 326

وبطبيعة الحال فإنّ العلوم النظرية وكذلك الحصولية عرضةً لطروء الخلل والخطأ وعدم مطابقة الواقع، ومن هذا المنطلق لجأ المتديّنون إلى العلوم البديهية والحضورية، من قبيل برهان الفطرة، لإثبات وجود الله تعالى. كما أنّ علماء اللاهوت استندوا إلى البراهين العقلية والفلسفية - التي أُشير إليها في المباحث الآنفة - لإثبات وجوده تبارك شأنه وذلك نظراً لضعف احتمال طروء الخطأ عليها في عين قوّة احتمال حدوثه في العلوم النظرية والحصولية.

إذن، يتّضح لنا من هذا الكلام عقم ما ذهب إليه المادّيون من ضرورة التخلّي عن البراهين العقلية والفلسفية والاكتفاء بالبراهين المادّية، لذا لا يمكن التذرّع بنقصان المعرفة البشرية لتفنيد البراهين الدامغة التي ذكرها علماء اللاهوت على صعيد إثبات البارئ عزّ وجلّ. وحسب أصول البحث العلمي، من الممكن طرح هذه البراهين في بوتقة النقد والتحليل العلمي ومن ثمّ الحكم عليها بإنصافٍ ومن دون أيّ انحيازٍ؛ ومن هذا المنطلق نجد الفيلسوف إيمانوئيل كانط الذي ادّعى عدم تطابق التصوّرات الذهنية مع الواقع، قد اعتمد على البرهان الأخلاقي بغية إثبات الله تعالى.

3 ) لا شكّ في أنّ الذهن البشري عاجزٌ عن إدراك حقيقة الذات الإلهية وكُنهها، لكنّ هذا الأمر ليس وازعاً لزعم عجزه عن إثبات وجود الله تعالى .

4 ) بالنسبة إلى القول بكون علم الإنسان غير مستقرٍّ، نقول: التغيير في العلوم الحسّية يعدّ أمراً طبيعياً ويحدث باستمرارٍ، والسبب في ذلك يرجع إلى أنّ المحسوسات عرضةً للتغيير وغير مصونةٍ من الخطأ، إلا أنّ العلوم العقلية ثابتةٌ ولا يطرأ التغيير عليها كما لا يحتمل حدوث الخطأ فيها عند إتقانها؛

ص: 327

فقواعد الرياضيات والمنطق على سبيل المثال مستقرّةٌ ولا يمكن تغييرها بتاتا، لذلك لن يأتي اليوم الذي تتغير فيه نتيجة المعادلة الرياضية (1 + 1 = 2) كما أنّ النقيضين لا يمكن أن يجتمعا في أيّ آنٍ كان.

وبما أنّ ذات البارئ عزّ وجلّ هي وجودٌ ثابتٌ بسيطٌ ومحضٌ لدرجةٍ يستحيل معها طروء أىّ تغييرٍ على العلم المرتبط بها، فالبراهين العقلية والفلسفية الدالّة على ضرورة وجود واجب الوجود هي أصولٌ عقليةً لم يطرأ عليها أيّ تغييرٍ على مرّ العصور، حيث كانت مطروحة منذ باكورة ظهور علم الفلسفة، لذا نجدها في الفلسفة الإغريقية وفي الفلسفة المعاصرة على حدٍّ سواء. ولكن نظراً لضيق نطاق علمنا بالذات والصفات الإلهية، من المحتمل حدوث اختلافٍ في الآراء المطروحة على هذا الصعيد، إلا أنّ هذا الأمر ليس موضوع بحثنا الحالي، بل محور الكلام هو إثبات وجود الله تعالى الذي أصبح هدفاً لسهام الملحدين.

إذن، بناءً على ما ذكر فإنّ عدم اكتمال المعرفة البشرية لا يعدّ دليلاً يمكن الاستناد إليه في نفي وجود الربّ العظيم.

*الشبهة الخامسة : عدم وجود محمولٍ في قضية (الله موجودٌ):

براهين إثبات وجود الله عزّ وجلّ تهدف إلى التأكيد على صدق القضية الآتية: (الله موجودٌ)، لذلك ادّعى بعضهم أنّ كلمة (موجود) التي هي محمولٌ(1) برأي المتدينين، لا تعدّ محمولاً في واقع الحال ممّا يعني عدم صواب

ص: 328


1- حسب قواعد علم المنطق فكلّ قضيةٍ لها محمولٌ وموضوعٌ، وحينما نقول (الله موجودٌ) فإنّ لفظ الجلالة هو الموضوع وكلمة (موجود) محمولٌ

رأى المتدينين.

ومن هذا المنطلق زعم هؤلاء أنّ القضية المذكورة تدلّ فقط على وجود نسبةٍ بين أمرين، ومن ثمّ ذهبوا إلى عدم إمكانية الاعتماد على البراهين العقلية لإثبات وجود الله تعالى.

هذه الشبهة غالباً ما تطرح من قبل الفلاسفة الغربيين، ولدى نقده لبرهان الوجود الذي طرحه القديس أنسلم ادّعى الفيلسوف إيمانوئيل كانط عدم وجود محمولٍ حقيقيٍّ في القضايا البسيطة كقولنا: (هذه الوردة موجودةٌ). والسبب في ذلك هو أنّ المحمول في مثل هذه القضايا لا يضفي شيئاً على الموضوع ولا يمنحنا معنىً جديداً، لذا فإنّ كلمة (موجودة) في الجملة المذكورة لا فائدة منها لكوننا على علمٍ مسبقٍ بوجود الوردة (الموضوع)، وواقع الحال أنّ القضية التي تصوّرها هذه الجملة هي: (هذه الوردة الموجودة، موجودةٌ). بناءً على هذا الرأي، فقضية (الله موجودٌ) عاريةً عن المحمول، ومن ثمّ لا يمكن اعتبارها من جملة القضايا التأليفية التى يشترط فى تحقّقها افادة علمٍ جديدٍ ينتقل إلى ذهن المخاطب.

إذن، قضية (الله موجودٌ) لا تتضمّن أيّ محمولٍ حقيقيٍّ، ومن ثمّ فهي عاريةٌ عن المعنى(1).

إضافةً إلى ما ذكر، فإنّ قضية (الله موجودٌ) ليست من سنخ القضايا التحليلية لكون المحمول لا يتمّ استنتاجه من تحليل الموضوع، ويشترط في كون

ص: 329


1- إيمانوئيل كانط، سنجش خرد ناب (باللغة الفارسية)، ص - 661؛ مصطفى ملکیان، مسایل جدید کلام (باللغة الفارسية)، ص 20

القضية تحليليةً أنّ إنكارها يؤدّي إلى حدوث تناقضٍ، كقولنا : (كلّ أبٍ رجلٌ)؛ لكنّ إنكار وجود الله تعالى لا يسفر عن حدوث تناقضٍ؛ وعلى هذا الأساس، لا يمكن إدراج قضية (الله موجودٌ) ضمن القضايا التأليفية ولا التحليلية؛ ومن ثمّ فهي ليست قضيةً من الأساس.

تحليل الشبهة ونقضها:

نقول في نقض الشبهة المطروحة أعلاه:

1 ) ليس من الصواب بمكانٍ اشتراط دلالة القضية على الحقيقة بضرورة إفادتها لمعنىً جديدٍ في ذهن المخاطب، إذ إن القضايا على نوعين، فهي إمّا أن تكون ذهنيةً أو لفظيةً، الذهنية بدورها تتمحور فقط في ذهن المتكلّم من دون أن تلقى إلى المخاطب، لذا لا يمكن إدراجها ضمن القضايا التي تفيد معنىً جديداً؛ ومن هنا يتّضح لنا أنّ القضية لا تتقوّم على إفادة معنىً جديدٍ ولا يشترط هذا الأمر في تحقّقها(1).

2 ) حسب أصول الفلسفة الإسلامية وعلم المنطق فالمحمولات في القضايا التي تدور حول مباحث وجود الله تعالى وصفاته، لا تعدّ من سنخ الأعراض الذاتية، بل هي ذات الموضوع وعينه حيث يعبّر عنها بالقضايا الأزلية أو الهلّية البسيطة ؛(2) وهذا الأمر أيّده الرئيس ابن سينا لدى حديثه عن المقدّمات البرهانية، حيث قال: «وإذا كانت المقدّمات البرهانية؛ يجب أن تكون

ص: 330


1- للاطّلاع أكثر، راجع : مصطفی ملکیان، مسایل جدید کلام (باللغة الفارسية)، مبحث (إثبات وجود الله)، الدرس 32
2- للاطّلاع أكثر، راجع صدر المتألّهين، الأسفار الأربعة، ج 1، ص 93

ذاتية المحمولات للموضوعات الذاتية التي تشترط في البرهان»(1).

استناداً إلى ذلك يتّضح لنا أنّ قضية (الله موجودٌ) هي من سنخ القضايا التحليلية التي أشار إليها الفيلسوف كانط، لذا فإنّ محمولها يُستنتج من تحليل مفهوم الموضوع بهدف إثبات الوجود الإلهي وسنوضّح هذا الأمر بتفصيل أكثر في المبحث اللاحق .

نستشفّ ممّا ذكر أنّ اعتراض الفيلسوف كانط لا يرد مطلقاً على البراهين التي تساق لإثبات وجود الله تعالى ولا على استدلالات الفلاسفة في هذا المقام لكونها ليست من سنخ المحمول بالضميمة، وإنّما تطرح لإثبات وجوده جلّ شأنه بصفتها عين الموضوع وتندرج في القضايا الهلّية البسيطة المطروحة في المنطق، ومن هذه الناحية يصبح الوجود محمولاً حقيقياً في القضايا الأزلية.

3 ) رغم أنّ قضية (الله موجودٌ) تدرج ضمن القضايا التحليلية، لكن يمكن تصوّر معنىً جديدٍ لها، وهو إفادة تأكيد وجود الذات الإلهية للمتديّنين، كما أنّها تخبر عن وجوده لمن لا يؤمن به سواءٌ كان جاهلاً أو شاكّاً أو منكراً؛ حيث يمكن لمن لا يؤمن بالله تحليل القضية في ذهنه والتأمّل فيها ومن ثمّ سيتمكّن من الوصول إلى درجة إدراكها فيعتبرها مساوقةً للوجود الحقيقي .

ص: 331


1- ابن سينا النفس من كتاب الشفاء الفصل الثاني ص 141 ؛ ابن سينا، الإشارات (بشرح المحقق الطوسي والفخر الرازي)، ج 1، ص 38؛ عبد الله جوادي الآملي، تبيين براهين اثبات خدا (باللغة الفارسية)، ص 220؛ عبد الله جوادي الآملي، رحيق مختوم (باللغة الفارسية)، القسم الرابع، الجزء الأوّل؛ صدر المتألّهين، الأسفار الأربعة، ص 483

4 ) لدى حديثنا عن برهان الصدّيقين وضمن الشبهة الأولى التي تمحورت حول الوجود المحمولي والقضايا الأزلية، قلنا إنّ الفلاسفة المعاصرين من أمثال العلامة محمّد حسين الطباطبائي قد ذهبوا إلى أنّ القضايا التي يكون الوجود محمولاً لها هي قضايا من سنخ عكس الحمل، بمعنى أنّ محمولها هو الموضوع في الواقع وموضوعها هو المحمول، فحقيقة قضية (الله موجودٌ) هي (الموجود الله)، وفي هذه الحالة فهى تفيد معنىً جديداً لأنّها على أقلّ تقديرٍ تشير إلى أنّ الله تعالى هو أحد مصاديق الموجود.

ومن جانبٍ آخر يمكن اعتبار هذه القضية من سنخ القضايا التحليلية التي طرحها كانط لكون محمولها هو (الله) الذي يتمّ استنتاجه من خلال تحليل الموضوع (موجود)؛ وهو ما أشرنا إلى تفاصيله في برهان الصدّيقين.

*الشبهة السادسة: الله ليس موجوداً بالضرورة (ضرورة وصف القضية وليس الحقيقة):

يصف علماء اللاهوت الله تعالى بأنّه واجب الوجود، وهذا العنوان - كما هو واضحٌ من دلالته - يعني ضرورة وجوده، فمفهوم (ضرورة) هو الجهة في قضية (الله موجودٌ بالضرورة).

الشبهة التي طرحها الملحدون تتلخص في أنّ الضرورة التي توصف فيها القضية ذات المحمول والموضوع تعدّ من سنخ القضايا الذهنية البحتة بحيث إنّها لا تتحقّق على أرض الواقع وهي شبهةً طُرحت في غالب الحال بين الفلاسفة الغربيين من أمثال ديفيد هيوم وإيمانوئيل كانط وفندلي

ص: 332

وبارنز(1). يقول الفيلسوف برتراند راسل في هذا الصدد: «كلمة (واجب) باعتقادي لا تتحصّل منها الفائدة ولا تدلّ على المعنى الكامن فيها إلا حينما تطلق على القضايا التحليلية، أي القضايا التي يؤدّي إنكارها إلى حدوث تناقضٍ... إنّني لا أعتبر الأمر واجباً ما لم يسفر إنكاره عن وقوعنا في تناقضٍ»(2).

نتيجة ما ذكر أنّ بعض المعترضين يعتقدون بكون الضرورة تتعلّق بالقضايا فقط، واعتبروها ضرورةً منطقيةً لا تتحقّق إلا ضمن نطاق القضايا التحليلية بحيث يسفر إنكارها إلى حدوث تناقضٍ، لكنّهم في الحين ذاته جرّدوا الضرورة العينية والفلسفية عن أيّة دلالةٍ (3). ومن جانبٍ آخر، بما أنّ هؤلاء لا يعتقدون بكون قضية (الله موجودٌ) من سنخ القضايا التحليلية، لذا يجرّدونها من الضرورة والوجوب.

تحليل الشبهة ونقضها :

رغم أنّ قضية (الله موجودٌ بالضرورة) لم ترد بهذا اللّفظ في النصوص

ص: 333


1- للاطّلاع أكثر، راجع: ديفيد هيوم، تاريخ طبيعي دين (باللغة الفارسية)، القسم التاسع (الله في الفلسفة)، ص 65 - 66 ، أميري عسكري سليماني، نقد برهان ناپذيري وجود خدا (باللغة الفارسية)، ص 214 - 215
2- برتراند راسل، عرفان و منطق (باللغة الفارسية)، ص 202 و 204
3- الضرورة العينية أو الفلسفية هي ضرورةٌ ذات وجودٍ خارجيٍّ لأنّها من ناحية الفلسفة الوجودية ما لم تصل إلى مرحلة الوجوب فهي لا تبلغ درجة التحقّق، حيث قال الفلاسفة: «الشيء ما لم يجب لم يوجد»، وهذا الوجوب قابلٌ للتحقّق في وجود كلِّ من الواجب والممكن

الدينية، لكنّها مستوحاة منها، إذ هناك عباراتٌ أخرى ترادفها في المعنى، وبما فيها ما يأتي:

- «كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ» (1).

- «وَيَبقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكرَامِ» (2).

- «وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ» (3).

وروي في بحار الأنوار عن أمير المؤمنين علیه السّلام أنّه قال: «الحمد الله الذي أعدم الأوهام أن تنال إلى وجوده» (4)، وروي عنه أيضاً في نهج البلاغة: «ما وَحَّدَهُ مَنْ كَيَّفَهُ، وَلا حَقِيقَتَهُ أَصابَ مَنْ مَثَلَهُ، وَلَا إِيَّاهُ عَلَى مَنْ شَبَّهَهُ، وَلَا صَمَدَهُ مَنْ أَشَارَ إِلَيْهِ وَتَوَهَّمَهُ، كُلُّ مَعْرُوفٍ بِنَفْسِهِ مَصْنُوعٌ، وَكُلُّ قَائِمٍ فِي سِواهُ مَعْلُولٌ، فاعِلٌ لا بِاضْطِراب آلَةٍ ، مُقَدِّرُ لا بِجَوْلِ فِكْرَةٍ، غَنِيٌّ لَا بِاسْتِفَادَةٍ، تَصْحَبُهُ الْأَوْقاتُ، وَلا تَرْفِدُهُ الْأَدَواتُ» (5)، وقال أيضاً: « كائِنُ لا عَنْ حَدَثٍ، مَوْجُودٌ لا عَنْ عَدَمٍ ، مَعَ كُلِّ شَيْءٍ لَا بِمُقَارَنَةٍ، وَغَيْرُ كُلِّ شَيءٍ لَا بِمُزَايَلَةٍ، فَاعِلٌ لا بِمَعْنَى الحَرَكَاتِ وَالأَلِةِ، بَصِيرٌ إِذْ لَا مَنْظُورَ إِلَيْهِ مِنْ خَلْقِهِ»(6)، وقال كذلك: «سُبحانَ الواحد الذي ليس غيره، سبحان الدائم الذي لا نفاد له، سبحان القديم الذي لا ابتداء له، سبحان الغنيّ عن كلّ شيءٍ ولا شيء من الأشياء يُغني

ص: 334


1- سورة القصص، الآية 88
2- سورة الرحمن، الآية 27
3- سورة محمّد، الآية 38
4- محمّد باقر المجلسي، بحار الأنوار ، ج 4 ، ص 221
5- المصدر السابق، ج 77، ص 310؛ الشريف الرضي، نهج البلاغة، شرح ابن أبي الحديد المعتزلي، الخطبة رقم 186
6- الشريف الرضي، نهج البلاغة، شرح ابن أبي الحديد المعتزلي، الخطبة رقم 1

عنه » (1). وجاء في دعاء الإمام الحسين علیه السّلام المعروف بدعاء عرفة: «إلهي أنت الغنيّ بذاتك أن يصل إليك النفع منك، فكيف لا تكون غنيّاً عنّي؟!» (2).

كما هو واضحٌ من هذه النصوص فإنّ الله تعالى وجودٌ أزليٌّ سرمديٌّ، وغنيٌّ مطلقٌ قائمٌ بنفسه وهو علّة العلل، في حين أنّ كلّ وجودٍ غيره فانٍ ومفتقرٌ ومعلولٌ له ؛ وهذا بطبيعة الحال يعني أنّه واجب الوجود.

وللردّ على الشبهة المطروحة نقول:

1 ) لا بدّ من التمييز بين معنى الضرورة في علمي المنطق والفلسفة وعدم الخلط بينهما، ففي المنطق تستعمل للدلالة على قسمي القضية، أي مادّتها وجهتها. مادّة القضية تعني نسبة المحمول إلى القضية في نفس الأمر، وجهتها ليس بمعنى نسبة المحمول الواقعية إلى الموضوع في نفس الأمر، بل المقصود منها ما يتمّ إدراكه من هذه النسبة وفق دلالة العبارة وظاهر القضية، لذا نجد في بعض الحالات أنّ الجهة تنطبق مع المادّة وفي حالاتٍ أخرى تتعارض معها، فالوجوب هو مادّة القضية وجهتها فى عبارة (واجبٌ أن يكون الإنسان ناطقاً)، ولكنّ المادّة في عبارة (واجبٌ أن يكون الإنسان حجراً) هي الامتناع لأنّ نسبة المحمول (حجر) إلى الموضوع (إنسان) ممتنعةٌ في نفس الأمر، والجهة هى الوجوب حسب دلالة لفظ (واجب) (3).

وأمّا بالنسبة إلى القضية المطروحة للبحث هنا، وهي (الله موجودٌ)، أو

ص: 335


1- المصدر السابق، ج 20، ص 348
2- للاطّلاع أكثر ، راجع: مفاتيح الجنان وسائر كتب الأدعية
3- زين الدين عمر بن سهلان الساوي البصائر النصيرية ، ص 109؛ محمّد رضا المظفّر، المنطق، ص 148 - 151

في محمولها المعكوس (الموجود الله)؛ فالمادّة والجهة واحدةٌ، وهى الوجوب من النوع الأزلي الذي يترتّب وجوده على مادّة القضية في نفس الأمر. إذن، ادّعاء أنّ الضرورة المنطقية لا يمكن أن تتحقّق في الخارج ليس سوى زعمٍ عارٍ من الصواب. وبيان ذلك أنّ الجانب الإثباتي للمدّعى، أي الوجود الذهني وتعلّق الوجوب المنطقي بالقضايا، هو قولٌ صحيحٌ، ولكن حسب القاعدة العقلية التي تقول بأنّ إثبات الشيء لا ينفي غيره، لا يستنتج منه نفي الوجوب المنطقي وتعريته عن المعنى في نفس الأمر، فتحقّقه في الخارج متوقّفٌ على ماهية القضية ونوع موضوعها ومحمولها؛ فقضيتا (الإنسان نوعٌ) و (الإنسان كلّيٌّ) تدلان على الوجوب المنطقي، ولكن نظراً لكون الأمور الكلّية لا تتحقّق في الخارج في هيئةٍ كلّيةٍ، فإنّ موضوعها ووجوبها أيضاً لا يتحقّقان في الخارج ضمن هذا الإطار الكلّي. لكنّ قضية (هذه الشجرة خضراء) يتحقّق وجوبها في الخارج تبعاً لتحقّق موضوعها. أمّا بالنسبة إلى قضية (الله موجودٌ بالضرورة) فلو افترضنا أنّ الضرورة أمرٌ منطقيٌّ، سوف تتحقّق في الخارج تبعاً لوجود الموضوع على أرض الواقع. وبتعبيرٍ أكثر دقّة: نظراً لكون وجود الله وجوداً محضاً وأنّه مفيض الوجود على كلّ موجودٍ، فهي متحقّقةٌ في الخارج (1).

إذن، يثبت لنا ممّا ذكر أنّ كلمتي (واجب) و (ضرورة) تفيدان معنىً ثابتاً حتّى وإن تمّ إطلاقهما على القضايا الواقعية، ولدى حديثنا عن براهين

ص: 336


1- في المباحث المتعلّقة بمادّة القضية وجهتها، أشار علماء المنطق إلى وجود بعض الحالات التي يكون الوجوب فيها واحدٌ لكليهما، وبعض الحالات الأخرى التي يختصّ بأحدهما، ففي القضية الأزلية (الله موجود) المادّة والجهة كلاهما ضروريتان، أي: إنّ الوجوب متّحدٌ فيها

إثبات وجود الله عزّ وجلّ وبما فيها برهان الإمكان والوجوب، وضّحنا بالتفصيل بأنّ الله تبارك شأنه من منطلق كونه واجب الوجود ومنعم الوجود على جميع حقائق الكون، فلا يمكن بتاتاً إنكار وجوده، وإن أنكره أحدٌ فهو بكلّ تأكيد يكون قد وقع في فخّ التناقض، وذلك بمعنى أنّه ينكر حينئذٍ جميع الوجودات وبما فيها نفسه.

2 ) المقصود من الوجوب هو تلك الضرورة العينية والفلسفية، فالوجود محتاجٌ في تحقّقه إلى الوجوب؛ وإذا كان من سنخ الوجودات الممكنة فهو بطبيعة الحال مفتقرٌ إلى علّةٍ تفيض عليه الوجود وتجعله ممكناً، وفي هذه الحالة يصبح وجوده ضرورياً وعينياً على أساس العلّة التامّة للوجوب، ولكنّ واجب الوجود الذي هو واجبٌ باقتضاء ذاته يكون وجوبه مؤكّداً.

بناءً على ما ذكر، حينما ننسب الضرورة إلى واجب الوجود (الله) فهي في هذه الحالة تكون مؤكّدةً بذاتها وغير مكتسبةٍ من الغير، أي: إنّها ملازمةً لذاته المباركة ومنتزعةٌ منها، وهو ما يعبّر عنه في الفلسفة الإسلامية ب_ (الضرورة الأزلية ) (1). إذن، الضرورة المنسوبة إلى الله تعالى تختلف عن الضرورة المنطقية التي طرحها بعض الفلاسفة من أمثال ديفيد هيوم وإيمانوئيل كانط، في حين أنّ بعض المتخصّصين في فلسفة الدين الغربيين التفتوا إلى هذا الاختلاف، كالفيلسوف جون هيك الذي قال: «النقد المطروح حول الوجوب المنسوب إلى الله ووصفه بأنّه غير مفهومٍ ولا معقولٍ عبر الاعتراض على برهان الأنطولوجيا، ناجمٌ عن فهمٍ خاطئ، لأنّ البرهان المذكور لا يرتكز على تصوّرٍ لوجودٍ ضروريٍّ بحكم العقل، فمفهوم (واجب الوجود) المتداول في

ص: 337


1- للاطّلاع أكثر ، راجع: صدر المتألّهين، الأسفار الأربعة، ج 1، ص 93

المعتقدات المسيحية ليس له ارتباطٌ بالضرورة العقلية، بل هو مرتبطٌ بشكلٍ أساسيٌّ بنمطٍ من الضرورات الحقيقية التي تساوق وجود الله وتعني أنّه قائمٌ بالذات؛ وعلى هذا الأساس فإنّ تصوّر كون الله واجباً لا ينبغي أن قضيةً عقليةً حقيقيةً وضروريةً مساوقةً لقضية (الله موجودٌ)» (1).

*الشبهة السابعة : عدم الانسجام بين صفات الله تعالى :

من الأدلّة التي تشبّث بها الملحدون لإنكار وجود الله تعالى، زعم وجود تضادٍّ بين صفاته، حيث عدّوا الصفات التي ذكرها المتألّهون في وصفه متعارضةً مع بعضها ومستحيلة التحقّق في مقام الثبوت، فاستنتجوا من ذلك أنّه غير موجودٍ واتّخذوا الإلحاد سبيلاً.

وفيما يأتي نذكر استنتاجاتهم مع تفنيدها:

1 ) الله تعالى غير متناهٍ:

من الصفات التي تنسب إلى الله عزّ وجلّ هي كونه غير متناهٍ، وبطبيعة الحال فهذه الصفة سببٌ لعدم القدرة على إثبات وجود من يتّصف بها؛ وتوضيح ذلك كما يأتي: لأجل معرفةٍ أحد الأمور ووصفه وتعريفه للآخرين، لا بدّ من أن يكون متناهياً وذا حدودٍ تحدّه؛ إذ لو كان غير متناهٍ وليس محدوداً بحدودٍ معيّنةٍ فلا يمكن وصفه وتعريفه، ومن ثمّ لا يمكن إثبات وجوده. على سبيل المثال قولنا (هذه دائرة) نعني به تمييز هذا الشكل الهندسي عمّا سواه من أشكال أخرى كالمربع والمستطيل والمثلث، وكذا هو الحال بالنسبة إلى سائر

ص: 338


1- جون هاسبرز، فلسفه دین (باللغة الفارسية) ، ص 58

الأشكال الهندسية فحينما نذكر اسمها أو شكلها نروم من ذلك تمييزها عن غيرها؛ ولكنّ الأمر غير المتناهي ليس له شكلٌ معيّنٌ ومن ثمّ لا يمكن وصفه وتعريفه كي يتمايز عمّا سواه. وهكذا إن قلنا (هذه وردة) حيث نقصد من ذلك تمييز هذا الشيء المحدود (المتناهي) الذي هو ليس شجرةً ولا غصناً ولا جذعاً ولا أيّ شيءٍ آخر غير الوردة.

وقد دافع الفيلسوف وليام هدسون عن هذه الشبهة مؤكّداً على أنّ إضفاء صفة (لا متناهى) إلى الذات الإلهية، كقولنا هو قديرٌ ورؤوفٌ بلا نهايةٍ، يعدّ ضرباً من التناقض، لذلك استبدل هذا التعبير بكلمة (أكثر)، أي: إنّه اعتبره تعالى أكثر قدرةً ورأفةً(1).

تحليل الشبهة ونقضها :

الشبهة المذكورة ترتكز في الحقيقة على افتراضين أساسيين، هما:

أوّلاً: كون الأمر غير متناهٍ يدلّ على عدم إمكانية وصفه.

ثانياً: عدم إمكانية وصف الأمر سببٌ لنفي وجوده.

وفيما يأتي نتطرّق إلى نفي هذين الافتراضين ونقضهما:

الافتراض الأوّل: إنّ كون الأمر متّصفاً باللانهاية وخارجاً عن نطاق الحدود التي تقيّد كل أمرٍ آخر، لا يعدّ سبباً لعدم القدرة على وصفه، ومنشأ هذا التصوّر هو الذهن البشريّ ذو النطاق المحدود، حيث يواجه أموراً متناهيةً ذات نطاقٍ معيّنٍ فيلجأ إلى وصفها بأمورٍ متضادّةٍ معها كما أشرنا في الأمثلة

ص: 339


1- ولیم هدسون، لودویگ ویتگنشتاین (باللغة الفارسية)، ص 6 - 72

السابقة، وعلى هذا الأساس ذهب المعترضون إلى ادّعاء أنّ عدم التناهي متلازمٌ مع عدم الوصف دون أن يقيموا أيّ دليلٍ عقليٍّ يمكن الاحتجاج به. مثلاً لو افترضنا عدم وجود أيّ لونٍ في الكون سوى الأبيض بحيث لا نرى الأشياء إلا بيضاء - وهذا يعني عدم تناهي اللون الأبيض - كما هو الحال بالنسبة إلى بعض الحيوانات التي لا تبصر سوى لونٍ واحدٍ؛ فهل بإمكاننا ادّعاء أنّ عدم التناهي هذا لا بدّ من أن يدلّ على انعدام اللون الأبيض ومن ثمّ تجريده من صفة البياض؟! أي هل يمكن زعم عدم وجود شيءٍ يتّصف بالبياض بسبب عدم تناهي اللون الأبيض؟!

إذن، مجرّد كون الأمر غير متناهٍ لا يعني عدم إمكانية وصفه ومن ثمّ نفي وجوده، وتجدر الإشارة هنا إلى أنّه حسب قواعد الإبستمولوجيا إذا لم نكن نعرف سوى لونٍ واحدٍ - كالأبيض - بحيث كنّا جاهلين بسائر الألوان التي لا نراها فجهلنا هذا في واقع الحال إنّما يكون في مقام وضع الأسماء للألوان كالأبيض والأحمر والأخضر والأزرق والأسود، ولا يعد جهلاً بذواتها، إذ إننا نفتقر إلى العلم التفصيلي بمختلف أنواع الألوان وليس بإمكاننا زعم عدم وجودها من الأساس لكوننا لا نراها أو لا نعلم بها. وهذا الأمر يندرج تحت القاعدة الفلسفية المعروفة : (تعرف الأشياء بأضدادها).

الافتراض الثاني: لا شكّ في أنّ عدم إمكانية وصف الأمر ليس سبباً لنفيه، وقد أثبتنا في المباحث الآنفة بطلان هذا الزعم، إذ إنّ عدم الوصف مؤشّرٌ فقط على عدم إمكانية تعريف الشيء وبيانه بالتفصيل (من الناحية المعرفية)، ومن البديهي أنّ عدم إمكانية بيان تفاصيل أحد الأشياء ليس وازعاً للقول بعدم وجوده (من الناحية الوجودية). وبطبيعة الحال فإنّ فقدان التصوّر

ص: 340

الواضح حول أحد الأمور اللامتناهية هو في الواقع مرآةٌ تعكس مدى ضيق نطاق ذهننا؛ وعلى هذا الأساس يثبت لنا أنّ أصحاب هذه الشبهة قد خرجوا عن قواعد البحث العلمي والاستدلال الصحيح بعد أن مزجوا بين المبادئ المعرفية والوجودية ولم يميّزوا بينها.

بناءً على ما ذكر، نستنتج أنّ وجود الله اللامتناهي ليس وازعاً لادّعاء عدم إمكانية اتّصافه بوصفٍ مطلقهٍ، بل تبعاً لهذه الميزة الفريدة فهو يوصف بوصفٍ لامتناهي، ألا وهو واجب الوجود الذي لا تحدّه حدودٌ. ولأجل معرفة هذا الوجود الذي لا نظير له بإمكاننا الاعتماد على أوصاف عدمية كما فعل علماء اللاهوت القدماء، حيث نقول إنّه ليس جسماً ولا فانياً ولا جاهلاً ولا عاجزاً، وما إلى ذلك؛ فالعقل البشري من خلال سلب هذه الأوصاف عن الذات الإلهية المباركة يتوصّل إلى صفاتها الثبوتية .

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ وجود الله تعالى غير متناهٍ وتصوّره يفوق قابليات العقل البشري، لذا لا يمكن لإنسانٍ إدراك كُنه الذات الأحدية المباركة ولو إجمالاً، ولكن بما أنّ الطاقات الإدراكية والقابليات النفسية للبشر ذات مراتب متباينة، بإمكانهم إدراك وجودها إجمالاً كلٌّ حسب مرتبته العقلية والنفسية؛ على هذا الأساس تصبح أوصافها قابلة للإدراك بشكل إجماليٍّ أيضاً وبنفس ذلك المستوى؛ ومن ثمّ نتمكّن من إثبات وجوده شهوداً وعقلاً.

2 ) عدم تناهي بعض الصفات (الخير والقدرة والعلم) :

يرى بعض الناقدين أنّ وصف الله تعالى بصفاتٍ مطلقةٍ وغير متناهيةٍ يسفر عن حدوث محذور نتيجته التناقض مثلاً اعتباره مصدراً لخيٍر مطلقٍ يرد عليه إشكال وجود الشرّ في الكون، فالبشرية منذ باكورة خلقتها وعلى مرّ

ص: 341

العصور تعاني من مآسي ومصائب لا انقطاع لها، ولا سيّما الطبقة الاجتماعية المحرومة والأبرياء الذين يواجهون أحياناً أعتى أشكال الظلم والجور رغم معاناتهم على المستوى المعيشي؛ ومن هذا المنطلق كيف نعتبر خالقهم ذا خير مطلق وهم في هذه الحالة المزرية؟! (1).

وأمّا قدرته المطلقة، فمنذ سالف الأيام كانت عرضةً لاستفسارات عديدةٍ تراود الذهن البشري، فعلى سبيل المثال هل بإمكانه أن يخلق شريكاً له؟ هل له القدرة على خلقة حجر يعجز عن حمله؟ (2). ومن ناحية علمه اللامحدود، فقد قيل إنّه لو كان عالماً بكلّ ما يكتنف حياة بني آدم وملمّاً بجميع حركاتهم وسكناتهم قبل أن يخلقهم، فنتيجة ذلك أنّ كلّ ما يجري في الحياة الدنيا مكتوبٌ في علمه المسبق، وفي غير هذه الحالة يلزم القول بجهله؛ ويترتّب على هذا العلم القول بعقيدة الجبر وسلب الاختيار من الإنسان.

تحليل الشبهة ونقضها :

سوف نتطرّق إلى بيان تفاصيل ما ذكر في الفصل الخامس من الكتاب ضمن الشبهة الخامسة المطروحة حول صفات الله تعالى، لذا نكتفى هنا بنقضها في إطارٍ موجزٍ.

بالنسبة إلى قدرة الله تعالى، فليس المقصود من القول بكون صفات البارئ لا متناهية أنّها مطلقةً إلى ما لانهاية من دون أيّ حدٍّ عقليٍّ ومنطقيٍّ، بل

ص: 342


1- www.farhangshahr.com, p. 58
2- للاطّلاع أكثر، راجع مايكل بيترسون وآخرون، عقل واعتقاد ديني (باللغة الفارسية)، ص 112

هي لا متناهية في نطاق العقل والمنطق ؛ وعلى هذا الاساس فليس من المعقول أن يخلق (دائرةً مربّعةً) لأنّ ذلك يؤدّي إلى التناقض، والقدرة الإلهية بطبيعة الحال لا يصدر عنها تناقضٌ في القواعد الثابتة.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ عدم خلقة هكذا شكل مفترضٍ ليس مؤشّراً على ضيق نطاق القدرة الإلهية وإنّما هو شاهدٌ على استحالة تحقّق ذات الشيء وهو ما لا يتعلّق بالقدرة المطلقة. وكذا هو الحال بالنسبة إلى شريك البارئ أو الحجر العظيم الذي يعجز عن حمله، فهذه الأمور كلّها من نمط القضايا التي تتّصف ذاتاً بالاستحالة وعدم التحقّق .

وبالنسبة إلى علم الله تعالى بجميع حركات وسكنات خلقه قبل أن يوجدهم من العدم، نقول: إنّ أصل الموضوع يعدّ أمراً بديهياً لدى علماء اللاهوت، لكنّهم يقيّدونه باختيار الإنسان في أفعاله، أي: إنّ البارئ عزّ وجلّ منذ الأزل على علمٍ بأنّ الطاغية يزيد بن معاوية سيأمر بارتكاب مجزرة كربلاء في العاشر من شهر محرّم الحرام بمحض إرادته واختياره وبما أنّ هذا العمل متعلّقٌ بالعلم الإلهي الأزلي بقيد الاختيار، فلا مجال لزعم وجود جبرٍ فيه، فهو لا بدّ وأن يتحقّق بمحض اختيار فاعله وفي غير هذه الحالة يلزم القول بجهل البارئ بأفعال عباده، وبالطبع فإنّ العلم ليس من سنخ العمل كي يقال إنّه سببٌ لحدوثه. وأمّا بالنسبة إلى كون الله تعالى خيراً مطلقاً، فقد ذكرنا تفاصيل هذا الأمر بإسهابٍ، ونكتفي هنا بالقول:

أوّلاً: الشرّ يعدّ أمراً ملازماً لعالم الطبيعة الزاخر بالخير الكثير، فالإنسان يجني منافع جمّة من النار ولكنّه أيضاً يتعرّض لأضرار منها؛ وبطبيعة الحال فهذا الشرّ القليل ليس بشيءٍ مقابل ذلك الخير العظيم الذي لا يمكن الاستغناء

ص: 343

عنه بتاتاً.

ثانياً: الأذى الذي يصيب الإنسان لا يمرّ دون تعويضٍ، فالله تعالى يجازيه في عالم الآخرة عمّا أصابه من شرٍّ؛ وسوف نسلّط الضوء على هذا الأمر بالتفصيل في الفصل الخامس ضمن موضوع قدرة الله المطلقة والشرّ في الحياة الدنيا.

*الشبهة الثامنة: وجود الله تعالى وهمٌ أساسه دوافع فردية واجتماعية :

طرح بعض الملحدين شبهةً فحواها أنّ وجود الله تعالى لا يتعدّى كونه وهماً من صياغة الذهن البشري، ومن هذا المنطلق أنكروه وعدوّه مجرّد انعكاسٍ نفسيٍّ لتصوّرات الإنسان، وفيما يأتي نذكر أهمّ شبهاتهم الواهية على هذا الصعيد، ومن ثمّ ندحضها بالبرهان القاطع:

أوّلاً: وجود الله تعالى ناشئ ٌمن الشعور بالخوف (شبهةٌ أولى في إطار مبادئ علم النفس):

بعض المفكّرين الملحدين (1) طرحوا الشبهة في رحاب تعاليم علم

ص: 344


1- برتراند راسل چرا مسیحی نیستم؟ (باللغة الفارسية)، ص 25؛ محمّد تقي الجعفري، توضیح و بررسي مصاحبه راسل - وايت (باللغة الفارسية)، ص 175 . راجع أيضاً: ابن ورّاق، اسلام و مسلماني (باللغة الفارسية)، ص 320؛ تولدي ديگر (باللغة الفارسية)، المؤلّف غير معروف فصل (رحلةٌ في تأريخ الدين)، ص 2؛ مسعود الأنصاري (الدكتور روشنگر)، الله اكبر (باللغة الفارسية)، ص 23؛ سياوش اوستا (حسن عباسي)، دينداري و خردگرايي (باللغة الفارسية)، مقتبس من موقع الكتروني، ص 8

النفس بغية إثبات أنّ الأمم السالفة كانت تعتقد بالله عزّ وجلّ بسبب خشيتها من الكوارث الطبيعية كالزلازل والصواعق وما ناظرها من أمور مرعبة؛ لذا حينما كان الخوف يستولي عليهم لم يجدوا بدّاً من اللجوء إلى ملاذٍ آمنٍ يصونهم ويهدّئ من روعهم وبالطبع فإنّ أفضل خيارٍ لهم هو تصوّر وجود قدرةٍ مطلقةٍ فوق كلّ تلك الكوارث العظيمة؛ وعلى هذا الأساس ابتدعوا إلهاً له القدرة على إنقاذهم ممّا يطرأ عليهم من بلايا تؤرّقهم.

تحليل الشبهة ونقضها :

للردّ على هذه الشبهة نقول:

لو افترضنا أنّ الشعور بالرعب من الحوادث الطبيعية هو السبب في ظهور عقيدة الإيمان بوجود الله تعالى، فلا بدّ من بيان المسألة فى إطار النقاط الثلاثة التالية:

1 ) لا ينبغي لنا إطلاق العنان لهذا الافتراض من دون بيان تفاصيل القضية، ولأجل بيان سقمه نطرح السؤال الآتي في بادئ الأمر: ما السبب الذي يحفّز الإنسان على اللجوء إلى الأمور الماورائية في حياته المادّية ولا يعتمد على نفسه أو على قدرات مادّيةٍ نظراً لكون الحوادث الطبيعية مادية وليست غيبية؟! فيا ترى ألا يدلّ هذا الأمر على طبيعة الإنسان الفطرية ورسوخ وجود الله تعالى في تصوّراته الذهنية؟!

إذن، المخاوف التي كانت تكتنف أذهان الأمم السالفة هي مؤشّرٌ جليٌّ على امتلاكهم فطرةً سليمةً ترتكز على الإيمان بوجود الله تعالى، وحتّى لو تنزّلنا ولم نقبل بهذا الأمر، ففي هذه الحالة أيضاً لا يكون الخوف برهاناً يثبت

ص: 345

صحّة ما ذهب إليه الملحدون. إضافةً إلى ذلك فقد أثبتنا في الفصل السابق لدى حديثنا عن موضوع الفطرة البشرية أنّ الإنسان يؤمن بالله عزّ وجلّ من داعي فطرته الكامنة في ذاته.

2 ) حسب القواعد العقلية والفلسفية حينما تنعدم العلّة فلا بدّ من انعدام المعلول، ويترتّب على ذلك أنّ الإنسان لا يمكن أن يشعر بالخشية من الحوادث الطبيعية في عصرنا الحديث الذي تطوّر العلم فيه وتمّ استكشاف أسباب وعلل كلّ كارثةٍ عظيمةٍ تشهدها البشرية، وإثر ذلك لا بدّ من إنكار وجود الله تعالى واتخاذ جانب الإلحاد من قبل جميع الناس؛ لكنّنا نلاحظ أنّ الأمر على العكس من ذلك، إذ إنّ إيمان الناس واعتقادهم بالله تعالى يتنامى ويترسّخ أكثر يوماً بعد يوم في جميع مشاربهم وتوجّهاتهم.

3 ) هل هذا الافتراض يعدّ وازعاً لإنكار وجود الله عزّ وجلّ؟ فهل يستند هذا الإنكار إلى قاعدةٍ عقليةٍ؟ صحيحٌ أنّ بعض الأمم السالفة ولوهلةٍ من الزمن لم تكن تعتقد بوجود الله عزّ وجلّ نظراً لعدم توفّر الظروف المناسبة والشروط اللازمة؛ إلا أنّها بعد ذلك آمنت به إثر ما شهدته من حوادث مرعبة ؛ ولكنّ هذا الإيمان لم يقتصر على الشعور بالخشية، بل ترسّخ بينها وعلى مرّ الأيام اكتشفت براهين قاطعةً تدلّ على وجوده تعالى وتؤكّد سلامة عقيدتها، فأصبح إيمانهم بالربّ العظيم متقوّمٌ على أسسٍ عقائديةٍ سليمةٍ لا يمكن المساس بها.

إذن، مجرّد انحراف بعض الأمم عن الصراط القويم لا يعدّ سبباً لاتّخاذ جانب الإلحاد وإنكار وجود الخالق بزعم أنّ الاعتقاد به ناشئٌ من دواعي نفسية.

ص: 346

ثانياً: الجهل سببٌ للاعتقاد بوجود الله تعالى (شبهةٌ ثانيةٌ في إطار مبادئ علم النفس) :

ادّعى بعض الملحدين أنّ جهل بني آدم في العهود السالفة بالسرّ الكامن وراء طروء الحوادث الطبيعية يعدّ سبباً لاعتقادهم بوجود إلهٍ خالقٍ للكون، فقد كانوا عاجزين عن تفسير ما يشاهدون من بلايا وكوارث عظيمة الأمر الذي جعلهم يعتقدون بإلهِ أو آلهة بأوصاف عديدة بحيث تُنسب إليهم كلّ تلك الحوادث الطبيعية.

ومن جملة الذين طرحوا هذه الفكرة الفيلسوف أوغست كونت، حيث قسّم المسيرة التأريخية للبشرية في ثلاث مراحل(1)، كما يأتي:

المرحلة الأولى مرحلة ربّانية مرتكزة على أوهام اكتنفت الإنسان بالنسبة إلى العلل الكامنة وراء وقوع الحوادث الطبيعية، حيث نُسبت إلى قوى ماورائية وغيبية من قبيل الأرواح الشيطانية؛ وفي هذه المرحلة ظهرت عقيدة الإيمان بالآلهة.

المرحلة الثانية: مرحلة فلسفية أو عقلية، ولم تُنسب فيها علل الحوادث إلى مناشئ متعدّدة كالأرواح والآلهة، بل لجأ الإنسان فيها إلى العقل واعتقد بوجود إلهٍ واحدٍ مسؤولٍ عنها.

المرحلة الثالثة : مرحلة ظهور البحوث والعلوم التجريبية ورقّيها، حيث اعتمد الإنسان على قابلياته العلمية ووجد نفسه قادراً على وضع تفاسير

ص: 347


1- ریموند آرون، مراحل اساسی اندیشه در جامعه شناسي (باللغة الفارسية)، ص 129 - 131

وتبريرات للحوادث الطبيعية من دون الحاجة إلى إلهٍ أو أيّ قدرةٍ ماورائيةٍ (1).

وقد نحا هذا المنحى بعض المفكّرين والفلاسفة الغربيين من أمثال ديفيد هيوم(2) وإريك فروم (3)، كما دوّنت مجموعة من المقالات في بعض المواقع الإلكترونية تأييداً لهذا الرأي (4).

تحليل الشبهة ونقضها :

بطلان هذه الشبهة قد اتّضح في نقض الشبهة السابقة، لذا نكتفي هنا بالردّ عليها في إطارٍ موجز ٍضمن النقاط الآتية:

1 ) لو تنزّلنا وافترضنا أنّ الأمم السالفة اعتقدت بوجود الله تعالى إثر عجزها عن معرفة مناشئ الكوارث التي تزعزع أمنها، فالأسئلة التالية تطرح نفسها هنا: لماذا لم تبحث هذه الأمم عن علل هذه الحوادث الطبيعية في الطبيعة نفسها؟ فيا ترى لِمَ لم تصوّرها في نطاق ظواهر مادّية؟ ما السبب الذي دعاها لأن تذهب إلى الاعتقاد بوجود قدرةٍ غيبيةٍ ماورائيةٍ تفوق قدرة هذه الحوادث الأمر الذي جعلها تؤمن بوجود إلهٍ عظيمٍ يدبّر شؤون الكون؟ فيا ترى ألا يدلّ ذلك على امتلاك الإنسان فطرةً إلهيةً ترشده إلى بارئه وبارئ الخلائق أجمعين؟

ص: 348


1- ریموند آرون، مراحل اساسی اندیشه در جامعه شناسي (باللغة الفارسية)، ص 275
2- ديفيد هيوم، تاريخ طبيعي دين (باللغة الفارسية)، ص 9 – 10
3- إريك فروم، روانكاوي ودين (باللغة الفارسية)، ص 124
4- سیاوش اوستا (حسن عباسي)، دينداري و خردگرايي (باللّغة الفارسية)، مقتبس من موقع إلكتروني، ص 8؛ مسعود الأنصاري (الدكتور روشنگر)، الله اکبر (باللغة الفارسية)، ص 23 و 43 و 56

2 ) يترتّب على ما ادّعاه الملحدون أنّه تزامناً مع تطوّر البشرية على صعيد العلوم التجريبية ومعرفة مناشئ الحوادث الطبيعية، فهي بنفس ذلك المستوى من التطوّر سوف تتراجع عن الاعتقاد بالله تعالى وتعرض عن المعتقدات الدينية؛ ومن هذا المنطلق نستنتج أنّ المفكّرين والعلماء في شتّى العلوم في هذه الحالة يجب وان يلحدون بالله تعالى غاية الإلحاد لدرجة أنّهم يصلون إلى مرتبة الكفر المطلق! لكنّنا نلمس أنّ الواقع على خلاف ذلك تماماً، إذ إنّ أبرز العلماء والمخترعين والخبراء في العلوم التجريبية يؤمنون بالله تعالى ويتّخذون الدين منهجاً في حياتهم بحيث إنّ بعضهم يجمع بين الأمرين ويصنّف إلى جانب سائر العلماء المعنيين بالشأن الديني، ويشار هنا إلى إسحاق نيوتن وأديسون وديكارت وماكس بلانك وداروين وبريجسون وأنيشتاين، فلا أحد ينكر أنّ هؤلاء أبرز العلماء التجريبيين في العصر الحديث.

3 ) حينما يتمكّن العلماء من طرح تفاسير واضحة لمختلف الظواهر العلمية والحوادث الطبيعية، فإنّ مدى اعتبار النتائج التي توّصلوا إليها والنظريات التى ذكروها محدودٌ في نطاق تجاربهم وتخصّصاتهم العلمية الماّدية ولا يمكن تسريته إلى المعتقدات الدينية والحقائق الماورائية، لذا لا يمكن الاعتماد على تجاربهم المادّية لإنكار وجود الله عزّ وجلّ.

فيا ترى من الذي خلق هذا العالم المادّي؟ من الذي أوجد عناصره الأوّلية ومنحه كلّ هذه الخواصّ والميزات الذاتية؟ بما أنّه عالمٌ من سنخ الممكنات وبحاجةٍ دائمةٍ إلى أمرٍ غيبيٍّ يتقوّم عليه، فما هي تلك العلّة الماورائية التي يرتكز عليها؟ هذا إضافةً إلى العديد من الأسئلة التي تطرح في هذا المضمار وليس للعلوم التجريبية المادّية قابليةٌ على ذكر أجوبةٍ شافيةٍ لها،

ص: 349

وبالطبع فإنّنا نجد أجوبةً لها في رحاب المباحث الفلسفية والعلوم العقلية، فالمادّيون لهم القدرة على طرح تفاسير علمية للحوادث التي تطرأ في الحياة الدنيا فحسب، وقد حفّزت التعاليم الدينية على هذا الأمر وشجّعت على طلب العلم بغية استكشاف واقع العلاقة العلّية بين الحوادث الطبيعية وبين علّتها الأساسية، لذا لا يمكن بتاتاً زعم أنّ عدم معرفة علّة هذه الحوادث دليلٌ على إنكار وجود الله تعالى، وقد أثبتنا في حديثنا عن برهان الصدّيقين أنّ العالم المادّي بحاجةٍ دائمةٍ إلى واجب الوجود لكونه عالماً ممكناً ومفتقراً في ذاته.

فضلاً عمّا ذكر فالاكتشافات العلمية الحديثة التي شهدتها البشرية من قبل مختلف العلماء، ولا سيّما في مجال المجرّات الكونية والمنظومات الشمسية، قد جعلت هؤلاء العلماء يذهلون من عظمة الكون ويؤمنون بوجود قدرةٍ فائقةٍ تسيطر عليه، فأذعنوا بأنّ الله تعالى فقط له القدرة على ذلك. ويمكن للقارئ الكريم الاطّلاع على بعض أقوال العلماء والمفّكرين الذين تخصّصوا في العلوم المادّية والفلكية وبالأخصّ ما يتمحور منها حول الاعتقاد بوجود الله تعالى وإثبات أنّ هذا العالم المادي ليس سوى قطرةٍ من بحرٍ عظيمٍ تنعكس في مرآة حقائق ماورائية (1).

ثالثاً: الاعتقاد بوجود الله تعالى ناشئٌ من أفكار خرافية وتقاليد اجتماعية (شبهةٌ في إطار علم الاجتماع):

لجأ بعض الملحدين إلى مبادئ علم الاجتماع للتشكيك في عقيدة

ص: 350


1- للاطّلاع أكثر، راجع: اثبات وجود خدا به قلم چهل تن از دانشمندان (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية أحمد آرام

الإيمان بالله تعالى، إذ نسبوها إلى أفكار خرافية سادت في المجتمعات السالفة . وقال هؤلاء إنّ القرائن التأريخية تشير إلى رواج ثقافات وتقاليد خاصّة في التجمّعات البشرية الأولى أدّت فيما بعد إلى الاعتقاد بوجود خالقٍ للكون، وقد أيّد عالم الاجتماع الفرنسي إيميل دوركايم هذه الرؤية مؤكّداً على أنّ الأمم السالفة كانت متأثّرةً بقضايا عاطفية خارجة عن نطاق القواعد العقلية بحيث أخذتها النشوة في ظلّ أحاسيس موهومة فظهر في كنفها مفهوم (مانا) الذي يدلّ على القوى الطبيعية العظمى، وبمرور الزمان تحوّل هذا المفهوم إلى (الله). كما أنّ بعض علماء الاجتماع أيّدوا هذه الفكرة فدوّنوا مقالاتٍ (1) في مختلف المواقع الإلكترونية (2) دفاعاً عنها.

تحليل الشبهة ونقضها:

نقول في نقض الشبهة المطروحة أعلاه:

1 ) نحن لسنا بصدد نقد وتحليل ما إن كانت فرضية الاعتقاد بالله تعالى ناشئةً من الأعراف والتقاليد الاجتماعية للأمم السالفة أو لا، فهذا الأمر تأريخيٌّ - اجتماعيٌّ وهو موكولٌ إلى مباحث علمي التأريخ والاجتماع، ولكن ننوّه إلى أنّ العلماء المختصين بهذين الفرعين قد أكّدوا على عدم إمكانية تقييد الدين بالتقاليد الاجتماعية، لذلك عدوّه ذا منشأ فردي أيضاً، حيث توصّلوا في

ص: 351


1- للاطّلاع أكثر، راجع: صاموئيل كينغ، جامعه شناسي (باللغة الفارسية)، ص 134؛ فيليسين شالیه، تاریخ مختصر ادیان بزرگ (باللغة الفارسية، ص 477 ؛ دانييل بالس، هفت نظریه در باب دین (باللغة الفارسية)، الفصل الثالث؛ ابن ورّاق، اسلام ومسلماني (باللغة الفارسية)، ص 17 و 120
2- www.farhangshahr.com

بحوثهم إلى أنّ التجارب الشخصية كان لها الأثر البالغ على هذا الصعيد.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ الأديان السماوية تؤمن بكون سيّدنا آدم علیه السّلام هو الإنسان الأوّل الذي تكاثرت البشرية من نسله وقد كان مؤمناً بالله عزّ وجلّ، بل إنّه نبيٌّ من الأنبياء؛ لذا لا صحّة لمزاعم من ادّعى من علماء التأريخ بأنّ الإنسان الأوّل لم يكن يعتقد بوجود الله تعالى أو أنّه كان يعبد الأوثان أو الظواهر الطبيعية، وذلك لما يأتي:

- ليس هناك أيّ دليل معتبرٍ يثبت صحّة عدم إيمان الإنسان الأوّل، بل كلّ ما ذكر مجرّد فرضياتٍ لا تستند إلى أيّ أساسٍ علميٍّ، ومن ثمّ لا يمكن الاعتماد عليها لإثبات المدّعى بتاتاً.

- ربّما تكون هناك أسبابٌ خفيّةً علينا أدّت إلى تحريف أو زوال المعتقدات الدينية للبشرية بعد فترةٍ من استيطانها الكرة الأرضية، لذا إن افترضنا صحّة ما ذكره بعض المؤرّخين من كون الأمم السالفة ذهبت إلى عبادة الأوثان أو الظواهر الطبيعية، فهذا الأمر في الواقع يحكي عن حال حال بني آدم في المراحل التالية من العهد الأوّل؛ إذ ليس هناك أيّ برهان على رواج هذه المعتقدات الزائفة في باكورة ظهور البشرية كي يتّخذه الملحدون اليوم ذريعةً لإنكار وجود الله عزّ وجلّ.

2 ) لو تنزّلنا وافترضنا أنّ الأمم السالفة لم تكن تعتقد بوجود الله تعالى ولم تعتنق أيّ دينٍ وأنّها على مرّ العصور وبعد نشأة مجتمعات بشرية عديدة وفى ظلّ قوانين ومقرّرات ثابتة إلى حدٍّ ما، بدأت تتبنّى فكرة وجود خالقٍ للكون؛ نتساءل ونقول: هل يحقّ لنا التشكيك بوجود الله عزّ وجلّ لمجّرد افتراض أنّ الأمم السالفة قد اعتقدت به إثر أعرافها وتقاليدها الاجتماعية؟

ص: 352

هل يمكن للعقل أن يحكم بإنكار وجود الله تعالى لمجرّد كون بعض الأمم آمنت به متأثّرةً بتقاليدها وقوانينها الاجتماعية؟ هذا إضافةً إلى مجموعة من الاستفسارات التي تحتاج إلى إجاباتٍ شافيةٍ، وقد قلنا آنفاً أنّه لا يمكن اتّخاذ الأحداث التأريخية ذريعةً لإنكار وجود الله عزّ وجلّ، لذا ينبغي لمن طرح الشبهة أن يأتي ببراهين تثبت صحّة مدّعاه.

3 ) يا ترى ما السبب الذي دعا بعضهم لأن يسوق مسيرة التغييرات التي طرأت على القوانين والأعراف الاجتماعية والنشاطات التجريبية والمعتقدات الغيبية للأمم السالفة نحو وجهةٍ منحرفةٍ وزعم أنّ تلك الأمم لم تكن تؤمن بالله تعالى لكنّها على مرّ الزمان آمنت بقدرةٍ ماورائيةٍ تحت عنوان (مانا)؟ من المؤكّد أنّ الذي ذهب إلى هذا الرأي ليس لديه أيّ برهانٍ يثبت مدّعاه، لكن حسب الوقائع التأريخية الثابتة وكذلك بإقرار الملحدين أنفسهم فإنّ الأمم السالفة كانت تؤمن بقدرةٍ ميتافيزيقيةٍ عظيمةٍ، لذا ألا يمكن القول إنّ هذه العقيدة تنمّ عن امتلاك الإنسان لفطرةٍ سليمةٍ تسوقه نحو البارئ الحقيقيّ للكون وأنّ الأعراف الاجتماعية قد تأثّرت بهذه الفطرة فروّجت لهذه العقيدة الحقّة؟

إذن، النزعة الفردية والاجتماعية إلى الاعتقاد بوجود قدرةٍ ميتافيزيقيةٍ عظيمةٍ كانت على مرّ العصور سائدةً بين مختلف الأمم والمجتمعات، وهذا ما لا يمكن لأحدٍ إنكاره؛ فيا ترى ألا يدلّ على وجود فطرةٍ إلهيةٍ لدى الإنسان تسوقه نحو الإيمان بالله الواحد الأحد الذي أودع في باطنه هذه الفطرة السليمة ؟!

ص: 353

رابعاً: الاعتقاد بالله تعالى مبتدعٌ من قبل الطبقة البرجوازية (شبهةٌ في إطار الفكر الماركسي):

كما هو معلومٌ فإنّ أصحاب النزعة المادّية وعلى راسهم الماركسيون، يفسّرون جميع الظواهر الكونية والاجتماعية من زاويةٍ مادّيةٍ بحيث حلّلوها وفق أداء الآلات والمعدّات الإنتاجية، ومن هذا المنطلق فهم يعتقدون بكون الدين والله مفهومين من صناعة الطبقة البرجوازية التي قصدت من ذلك إخضاع الطبقة المحرومة (البروليتاريا ) واستثمار طاقاتها الإنتاجية.

يقول منظّر الشيوعية فلاديمير لينين: «الدين هو أحد أشكال الضغط النفسي على الطبقة الكادحة التي تبذل جهودها خدمةً للآخرين وتعاني من الحرمان » (1).

ويقول موريس كونفورس: «إنّ الدين يعد أمراً مرفوضاً لكونه مجرّد منظومةٍ متقومةٍ على أوهامٍ روّجها أعوان الطقبات الحاكمة بهدف خداع عامّة الناس»(2).

كما يقول كارل ماركس إنّ الإنسان هو من يصنع الدين(3)، وإنّ الاعتقاد بإلهٍ واحدٍ أو عدّة آلهةٍ هو نتيجةٌ مشؤومةٌ للصراع الطبقي ؛ لذا فهو أمرٌ

ص: 354


1- فلاديمير إليتش لينين ماترياليسم تاريخي (باللغة الفارسية) ، ص 61 . للاطلاع أكثر ، راجع: السيّد رضا الصدر، سخنان سران کمونیزم درباره خدا (باللغة الفارسية)
2- موريس كونفورس، دانش رهايي وارزشهاي انساني (باللغة الفارسية ) ، ص 28
3- أندريه بيتر، دانش رهائي وارزشهاي انساني (باللغة الفارسية)، ص 28

منبوذٌ، بل لا بدّ من أن يترك ويحتقر (1).

تحليل الشبهة ونقضها :

نردّ على الشبهة المذكورة بالقول:

1 ) ليس هناك أيّ برهانٍ يثبت صحّة القول بكون الدين والإيمان بالله تعالى من صياغة إحدى الطبقات الاجتماعية كالطبقة البرجوازية، ومن ثمّ إبطاله من أساسه، ناهيك عن أنّ البرهان القاطع على خلاف ذلك؛ فقد ذكرنا في المباحث الآنفة أنّ الاعتقاد بالله تعالى يضرب بجذوره في باطن الإنسان وضميره لكونه منبثقاً من فطرته السليمة التي أودعت في نفسه تزامناً مع خلقته وخلقة أبيه آدم علیه السّلام، وبالطبع فهي ستدوم حتّى آخر لحظةٍ من حياة البشرية (2).

لا ريب في أنّ العهود السالفة شهدت ظهور مجتمعاتٍ ذات مشارب وتوجّهات متنوّعة وفي الحين ذاته شهد كلّ مجتمع ظهور عدّة طبقاتٍ من الناحية الماديّة كالأثرياء والمعدومين الكادحين الذين غالبيتهم من العمّال والفلاحين، لذا فإنّ رواج عقيدة الإيمان بالله تعالى على مرّ العصور وبين شتّى الفئات الاجتماعية لا شأن لها بالأوضاع الاجتماعية للبشرية، بل هي حقيقةً

ص: 355


1- دانييل بالس، هفت نظریه در باب دین (باللغة الفارسية)، ص 209 - 210؛ مسعود الأنصاري (الدكتور روشنگر) ، الله اکبر (باللغة الفارسية)، ص 24
2- للاطّلاع أكثر، راجع: فيليسن شالیه، تاریخ مختصر ادیان بزرگ (باللغة الفارسية)، ص 12؛ جون بي. ناس، تاریخ جامع ادیان (باللغة الفارسية)، ص 23؛ جون بيرنال، علم در تاریخ (باللغة الفارسية)، ج 1، ص 75؛ صاموئيل كينغ، جامعه شناسي (باللغة الفارسية)، ص 126

ثابتةٌ سادت بين الغنيّ والفقير على حدٍّ سواء دون أن يبتدعها أحدٌ، والتأريخ يشهد في جميع مراحله على وجود أثرياء مؤمنين وآخرين ملحدين إضافةً إلى وجود فقراء أيضاً من هذا القبيل.

لا بدّ لأتباع النزعة المادّية - ولا سيّما الماركسيون - من الالتفات إلى أنّ موريس كونفورس لم يقل إنّ الدين قد أُسس بواسطة أتباع الطبقة الحاكمة، بل قال إنّ هذه الطبقة قد عملت على ترويجه؛ كما قال أيضاً: «وعلى أيّ حالٍ، فالدين لم يظهر بصفته وسيلة ضغطٍ تُفرض على عامّة الناس، بل نشأ في كنف هذه الطبقة» (1).

2 ) حسب القاعدة الشائعة بين العقلاء فإنّ فرض المحال ليس بمحالٍ، لذا لو افترضنا تنزّلاً بكون الاعتقاد بالله تعالى قد نشأ فى بادئ الأمر بين فئةٍ اجتماعيةٍ معيّنةٍ، فكلّ عاقلٍ تتبادر في ذهنه الأسئلة الآتية: هل أنّ نسبة عقيدةٍ خاصّةٍ إلى فئةٍ معينةٍ تعدّ برهاناً على بطلانها؟ يا ترى ألا يقتضي العقل دراسة وتحليل ماهية الاعتقاد بوجود الله تعالى بغضّ النظر عن منشئه والدوافع التي دعت الناس إليه ؟ فهل من الصواب بمكانٍ الحكم على بطلان هذه العقيدة من دون الخوض في تفاصيلها ومعرفة دواعيها الحقيقية؟

إذن، ادّعاء أتباع النظرية الماركسية بكون الطبقة البرجوازية هي التي أوجدت الدين، لا يعدّ برهاناً على تفنيد حقيقة وجود الله تعالى حتّى وإن افترضنا صحّته؛ وقد ذكرنا الأدلّة التي تثبت حقّانية الدين في الفصل السابق.

3 ) حتّى إذا قمنا بتحليل الرؤية الماركسية بانحياز إلى أطروحاتها

ص: 356


1- موريس كونفورس، دانش رهايي و ارزش هاي انساني (باللغة الفارسية)، ص 28

المادّية، فلا مناص من القول بأنّ الأمر الذي دعا كارل ماركس إلى اعتبار الدين واقعاً اجتماعياً تمّ فرضه من قبل الطبقتين البرجوازية والحاكمة هو تلك الضغوطات النفسية والاجتماعية التى كان متأثّراً بها، لذا رام من أطروحته هذه استقطاب دعم الطبقة المتديّنة وأرباب رجال الكنيسة من غير الموالين للحكّام والأثرياء وعامّة الناس بغية تعزيز موقفه ونشر أفكاره، وذلك لأنّه ولد في كنف أسرة يهودية إلا أنّ والده اعتنق المسيحية فيما بعد؛ ناهيك عن معاناته المادّية الشديدة والفقر المدقع الذي كانت أسرته تعاني منه(1)، كما أنّه عاش في رحاب مجتمعٍ شهد فساداً ملحوظاً للشخصيات الدينية التي كانت مواليةً للطبقة الحاكمة وتقتات على فتات مائدتها التى تجنى إليها أموال الطبقة الفقيرة المغلوبة على أمرها ؛ (2) والكلام الآتي يثبت بوضوحٍ كيف أنّه كان ساخطاً من الديانة المسيحية المحرّفة، وهذا السخط بطبيعة الحال كان سبباً لتبنّي نظرياته المادّية، حيث قال: «المقرّرات الاجتماعية التي تطرحها المسيحية تسوّغ العبودية الموروثة من السلف، حيث مجدّت الأرستقراطية التي سادت في القرون الوسطى وساندتها رغم علمها بأنّ الأرستقراطيين الفاسدين كانوا يدنّسون حقوق الطبقة الفقيرة ويتسبّبون في معاناتها ومآسيها، فهي مقرّراتٌ تبرّر وجود طبقة حاكمة مستبدّة وطبقة محكومة محرومة... إنّ المقرّرات الاجتماعية المسيحية توكل تعويض كلّ ما يعانيه الفقراء إلى عالم الآخرة، لذا تبرّر ما يتعرضون له في الدنيا بأنّه جزاءٌ للخطيئة الأولى ... أو تبرّره بأنه

ص: 357


1- للاطّلاع أكثر، راجع دانييل بالس، هفت نظریه در باب دین (باللغة الفارسية)، ص 195
2- ماركس وماركسيسم (باللغة الفارسية)، ص 240 نقلاً عن :کتاب خدا در اندیشه بشر (باللغة الفارسية)، ص 79

ابتلاءٌ إلهيٌّ مفروض عليهم».

إنّ انحراف رموز الديانتين المسيحية واليهودية قد أثّر سلباً على توجّهات ماركس، إذ إنّهم لم يكترثوا بشؤون الناس وتنصّلوا عن واجباتهم الملقاة على عاتقهم بصفتهم رجال دين لذا كانت تصرّفاتهم الهوجاء سبباً لتنامى النزعات المادّية وظهور الأفكار العلمانية والتقليل من شأن الدين، بل وإنكاره من الأساس الأساس(1).

ومن الحرّي بالذكر هنا أنّ ماركس وأتباعه قد ارتكبوا خطأ فادحاً بحقّ الأديان السماوية وتعاليمها حينما نسبوا أفعال رجال الدين اليهود والنصارى إليها حيث بادروا إلى إنكار وجود الله تعالى ونفي الدين من أساسه متذرّعين بانحراف أرباب هاتين الديانتين؛ فضلاً عن ذلك فإنّهم لم يوجّهوا أنظارهم إلى التعاليم الإسلامية السمحاء التي تدعم الطبقة الاجتماعية المحرومة وتدعو إلى الحرية وإقامة العدل في المجتمع.

لا ريب في أنّ الإسلام الذي غفلوا عنه يعدّ ديناً متكاملاً من جميع النواحي المادّية والمعنوية، فالعمل بأوامره وترك نواهييه يسوق البشرية نحو العيش في رحاب مدينةٍ فاضلةٍ في الحياة الدنيا والتمتّع بسعادةٍ دائمة فٍي الحياة الآخرة، وعلى هذا الأساس فقد تمكّن في القرون الأولى من إرساء دعائم حضارةٍ عظيمةٍ لا نظير لها لدرجة أنّ الحضارة الغربية اليوم مدينةٌ لها بكلّ ما لديها من إنجازت علميةٍ وإنسانيةٍ منذ باكورة ظهورها. ولا ننسى أنّ

ص: 358


1- محمّد حسن قدردان قراملكي، سکولاریزم در مسیحیت و اسلام (باللغة الفارسية)، القسم الأوّل من الكتاب

البروتستانتية المسيحية قد تمخّض عنها حدوث تغييراتٍ مشهودةٍ في العالم الغربي ولا أحد ينكر ذلك (1).

إذن، طبقاً لما ذكر فهل يمكن زعم أنّ الدين (أفيون الشعوب) أو أنّه الدعامة الأساسية التي استندت إليها الطبقة البرجوازية؟! بالطبع لا.

*الشبهة التاسعة: عدم الحاجة إلى الله تعالى في معرفة حقائق الكون (العلم الحديث يتحدّى الدين)

ذكرنا آنفاً أنّ بعض الملحدين عدوّا جهل الناس وعجزهم عن تفسير الظواهر والحوادث الكونية سبباً لظهور الدين والاعتقاد بوجود الله تعالى، وقد نقضنا هذه الشبهة في محلّها ؛ ولكنّها طرحت مجدّداً في تقريرٍ آخر، حيث زعم الماديون أنّه بتطوّر العلم الحديث وتنامي العلوم التجريبية أمسى العلماء قادرين على معرفة حقائق الكون ووضع تفاسير علمية صحيحة لمختلف الظواهر والأحداث الكونية من دون الحاجة إلى الدين أو الله تعالى، كما ادّعوا أنّ الإنسان بات قادراً على تسخير جميع القابليات المادّية لصالحه ومعرفة حقائقها، لذا فهو فى غنىً عن الاعتقاد بالعلل والتفاسير الماورائية.

ويذكر مؤرّخو العصر الحديث أنّ الفيزيائي الفرنسي الشهير بيير لابلاس عندما بعث كتابه (ميكانيكا الأجرام السماوية) إلى نابليون بونابرت الذي لم يلمس فيه أيّ كلامٍ حول تأثير الله تعالى وقدرته في الكون، سأل

ص: 359


1- للاطّلاع أكثر، راجع: ماكس فیبر اخلاق پرتستان و روح سرمايه داري (باللغة الفارسية)

لابلاس عن ذلك، فأجابه بالقول: «لست بحاجة إلى هذه الفرضية»(1). وقد أيّد هذه الرؤية دعاة الإلحاد والعلمانية من منطلق تصوّرهم بأنّ البشرية في غنىً الدين والاعتقاد بوجود خالقٍ له فقد ظنّ هؤلاء أنّ تطوّر العلوم التجريبية وتنامي قدرات العقل البشري بلغت درجة الكمال وكلّ ما سوى ذلك من أمور غيبية لا فائدة منه.

في الآونة الأخيرة تمّ تدوين مقالاتٍ تدافع عن الأفكار المادّية العلمانية (2) وظهرت الكثير من المواقع الإلكترونية التي تروّج لها (3)

تحليل الشبهة ونقضها :

مع أنّ الشبهة واضحة البطلان لكن نذكر النقاط الآتية في دحضها:

1 ) تستند الشبهة المذكورة إلى افتراض أنّ الاعتقاد بوجود خالقٍ عظيمٍ يترتب عليه تهميش سائر العلوم والعلاقات العلّية الحاكمة على أمور الكون لدرجة أنّ معتنقي الأديان ينسبون كلّ حدثٍ إلى الله تعالى مباشرةً ؛ وتؤكّد على أنّ هذه العقيدة تشابه ما ذهب إليه الإنسان القديم بكون الأحداث المخيفة مثل الزلازل والبراكين والأعاصير والكسوف والخسوف تقع إثر سخط الله من الأفعال القبيحة التي يرتكبها الناس .

هذه الفرضية في الواقع تهمةٌ واهيةً للأديان السماوية، ولا سيّما الإسلام

ص: 360


1- إيان باربر، علم ودين (باللغة الفارسية)، ص 52 – 72
2- مسعود الأنصاري (الدكتور روشنگر)، الله اكبر (باللغة الفارسية)، ص 43؛ ابن ورّاق، اسلام و مسلماني (باللغة الفارسية)، ص 255
3- www.farhangshahr.com, p. 58

الحنيف، فهي زعمٌ باطلٌ لا يستند إلى أيّ برهانٍ منطقيٍّ يقبله العقل؛ فالقرآن الكريم الذي نزل قبل أكثر من أربعة عشر قرناً قد تضمّن حقائق علمية لا نظير لها، ومن جملتها أنه أشار إلى وجود علاقات علّية بين بعض الأحداث السماوية والأرضية (1) ، فهناك آياتٌ توضّح كيفية تكوّن السحب ونزول الأمطار ونموّ النباتات (2)، وآياتٌ تصف حركة الرياح والسحب بشكلٍ علمىٍّ (3)، وأخرى تتحدّث عن طبيعة الجبال وسكون الأرض (4).

فضلا عن ذلك فالأحاديث والروايات بدورها أكّدت على مواكبة التعاليم الإسلامية للمعارف والعلوم بشتّى أنواعها وبما فيها الحديث الآتي المروي عن الإمام الصادق علیه السّلام: « أبى الله أن يجري الأشياء إلا بالأسباب، فجعل لكلّ سببٍ شرحاً، وجعل لكلّ شرحٍ علماً، وجعل لكلّ علمٍ باباً ناطقاً، عرفه من عرفه وجهله من جهله»(5).

2 ) يا ترى هل يمكن ادّعاء وجود تعارض بين استكشاف العلاقات العلّية للقضايا الطبيعية وبين الاعتقاد بوجود الله عزّ وجلّ؟

الإجابة عن هذا السؤال اتّضحت بشكلٍ مجملٍ فى المباحث الآنفة، وقلنا إن رأي من أجاب ب_ (نعم) مدحوضٌ بالبرهان القاطع، فالتعاليم الإسلامية

ص: 361


1- للاطّلاع أكثر، راجع: محمّد حسن قدردان قراملکی، اصل علّیت در فلسفه وکلام (باللغة الفارسية
2- سورة البقرة، الآية 22؛ سورة الحج ، الآية 5؛ سورة السجدة، الآية 27
3- سورة الروم، الآية 48
4- سورة لقمان، الآية 10
5- محمّد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج 2، ص 90

قبل أكثر من أربعة عشر قرناً قد حفّزت المسلمين على طلب العلم في المجالين النظري والتجريبي، كما أنّ المؤمنين بالله تعالى قد أكّدوا على وجود عللٍ تكوينيةٍ كامنةٍ في مختلف الأحداث وأثبتوا عدم وجود أيّ تباينٍ بين استكشافها والبحث عن مناشئها وبين وجود الله عزّ وجلّ.

لا ريب في أنّ المعتقدين بالدين لا يرفضون قانون العلّية ولا ينسبون كلّ أمرٍ صغيرٍ وكبير في الكون مباشرةً إلى الله تعالى، إلا أنّهم يعتقدون بأنّه علّة العلل ومسببها، ولكن إثر تطوّر العلوم واتّساع نطاقها اتّضح وجود عللٍ طبيعيةٍ كامنةٍ وراء الأحداث التي يشهدها الكون، وهذا الأمر بطبيعة الحال يؤيّد عقيدة المتديّنين ويدحض ما ذهب إليه العلمانيون الذين أنكروا كلّ دورٍ لله تعالى في كلّ مجريات الحياة.

3 ) اتّضح لنا من المباحث الآنفة أنّ مجريات الأحداث في الكون تسير على وفق نظام العلّية، فإمّا أن يكون الله تعالى هو العلّة المباشرة لها أو أنّه جعل عللاً أخرى تتسبّب في وقوعها؛ وإلى جانب نظام العلّية وضع نظاماً كونياً متناسقاً لا يشوبه أيّ نقصٍ ولا خللٍ، وبالطبع فاستكشاف كُنه هذا النظام البديع يميط اللثام عن حقائق مذهلة يعجز الذهن البشري عن تصوّرها، لذلك نجد كثيراً من العلماء والمكتشفين غير المتدينين يؤمنون بالبارئ جلّ وعلا فور اطّلاعهم على هذه الحقائق. في علم الفيزياء على سبيل المثال، فإنّ أصغر مكونات المادّة، أي الذرّة ومكوّناتها، تحظى بنظمٍ وتركيبٍ خارقٍ للعادة بحيث إنّ الإلكترونات تدور في مدارات ٍثابتةٍ وبسرعةٍ فائقة ٍحول نواة الذرّة من دون حدوث أيّ خللٍ فيها رغم تناهيها في الصغر وسرعتها المذهلة. فيا ترى كم هي القدرة التي تتمتّع بها ذرّة عنصر اليورانيوم المتناهية في الصغر ؟!

ص: 362

إذن، تطوّر مختلف العلوم المادّية في واقع الحال قد قوّى عقيدة الإنسان بالدين ورسّخ إيمانه بوجود الله تعالى فيوماً بعد يومٍ يدرك الإنسان عظمة الخالق الجليل الذي نظم الكون في إطارٍ منسجمٍ وجعل لكلّ حدثٍ - صغيراً كان أو كبيراً - علةٌ تتسبّب في وقوعه؛ وهو ما اعترف بها العلماء المادّيون أنفسهم مراراً وتكراراً لدرجة أنّ بعضهم قال يمكننا تلخيص هذه الحقيقة في کتابٍ نسمّيه (إثبات الله ) على أساس النظريات المادّية.

4 ) لا ريب فى أنّ استكشاف العلاقات العلّية بين مختلف القضايا لا يعدّ دليلاً على إنكار وجود الله عزّ وجلّ، فحتّى وإن تمكن العلم التجريبي الحديث من بيان الأسباب الفيزيائية لبعض الأحداث والوقائع التي يشهدها الكون، لكنّ هذا الأمر ليس برهاناً يثبت عدم وجود خالقٍ للكون، وبطبيعة الحال فإنّ غاية ما يثبته هو وجود نظام العلّية الذي أكّدت عليه التعاليم الإسلامية.

ومن البديهي أنّ العلماء المادّيين لا يسعهم الخوض في نطاقٍ خارج عن تخصّصاتهم العلمية، وهذا الأمر ثابتٌ بينهم أيضاً، وعلى هذا الأساس فليس من صلاحيتهم طرح نظرياتٍ حول المسائل الميتافيزيقية ومن ثمّ نفي وجود الله تعالى من دواعي مادّية بحتة لا تمتّ إلى عالم الماورائيات بأدنى صلةٍ. إنّ غاية ما يمكنهم البتّ فيه هو بيان العلاقات العلّية بين بعض الحوادث ومسبّباتها المادّية على وفق قواعد فيزيائية ثابتة؛ لكنّهم بكلّ تأكيدٍ لا يمكنهم تقييدها بعلل توقيفيةٍ ونفى كلّ ما سواها، إذ حسب القواعد العلمية التجريبية نفسها قد تكون هناك علّة مادّية أخرى كامنة وراء تلك العلة التي تمّ استكشافها، وبطبيعة الحال هناك علل ماورائية يعجز العلماء المادّيون عن استكشافها

ص: 363

حسب قواعدهم الفيزيائية المحدودة.

5 ) إذا ما حاول بعض المادّيين إنكار وجود الله تعالى ونفي الدين إثر انبهارهم بعلومهم المادّية المحدودة واستكشافاتهم التى يعتبرونها مذهلةً، فمن المؤكّد أن تشمل القائمة هنا أسماء أبرز هذا الصنف من العلماء والمخترعين، لكنّنا نجد العكس من ذلك تماماً إذ نادراً ما نجد عالماً كبيراً برع في العلوم والمخترعات الحديثة قد نحا منحى الحادياً، بل إنّ معظمهم متديّنون ويعتقدون بوجود الله عزّ وجلّ، ومن جملة هؤلاء إسحاق نيوتن وأنيشتاين؛ وقد تحدّثنا عن هذا الموضوع في المباحث الآنفة.

- دور الله تعالى في الكون على ضوء نظام العلّية :

يطرح البعض سؤالاً حول الصلة بين الله تعالى والحوادث الطبيعية التي يشهدها الكون وفحواه كيف يمكننا تصوّر دور الله تعالى مع وجود نظام العلّية الحاكم على الكون؟ فحسب هذا النظام لا بدّ من أن ينبثق كلّ حدثٍ في الكون من علّةٍ طبيعيةٍ.

هناك العديد من الأجوبة التى ذكرت في الإجابة عن السؤال المذكور، لكنّنا نكتفي هنا بذكر أهمّ إجابتين فيما يأتي:

أوّلاً: يمكن تشبيه الله تعالى بصانع الساعات الذي يصنع ساعةً ثمّ يتركها تعمل لوحدها وفق نظامٍ خاصٍّ، حيث خلق الكون وأوكل تدبير شؤونه إلى نظام العلّية.

هذه الإجابة لا تتعارض مع عقيدة الإيمان بوجود الله عزّ وجلّ، لكنّها

ص: 364

تنفي دوره المباشر بعد خلقة الكون، أي إنّها بعد خلقة الكون، أي: إنّها لا تندرج في ضمن عقيدة التوحيد فى الأفعال. تبنّى هذه الرؤية بعض المعتزلة والعلماء المادّيين، وهي بلا شكٍّ لا تعدّ دليلاً على نفي وجود الله جلّ شأنه (1).

ثانياً: حسب رأي الشيعة وبعض الفلاسفة، فمن يؤمن بنظام العلّية الطبيعي هو بالتالي يؤمن بعلّية الله سبحانه، وهذان النظامان العلّيان غير متعارضين مع بعضهما، بل متناسقان فيما بينهما غاية التناسق.

أثبتنا في برهان الإمكان والوجوب أنّ كلّ موجودٍ من سنخ الممكنات في نظامى العلّية المادّي والمجرّد، مفتقرٌ إلى واجب الوجود حدوثاً وبقاءً، إذ إنّ وجوده الإمكاني يعدّ عين الحاجة والافتقار إلى الله تعالى الذي هو واجب الوجود، بل إنّ جميع العلل المادّية الممكنة تستمدّ وجودها وقوامها منه جلّ شأنه مع كون أفعالها وآثارها منسوبة إليها بفيضٍ منه سبحانه.

إذن، حينما نجمع بين العلّية الإلهية ونظام العلل المتفرّع عليها، نستنتج أنّ تأثير الله تعالى يبقى ثابتاً، وعلى هذا الأساس يثبت بطلان برهان صانع الساعات، لأنّ البارئ سبحانه وتعالى لم يترك الكون وشأنه بعد أن خلقه، بل إنّ فيضه لا ينفكّ عن كلّ حركةٍ وسكنةٍ في الكون برمّته بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشرٍ.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ اعتقاد الفلاسفة بكون نظام العلّية المادي يسير باتّساقٍ مع نظام العلّية الإلهي، يجب أن لا يكون وازعاً لتوهّم بعض المسائل غير الصائبة حول الفعل والتأثير، ولا سيّما فيما يأتي:

ص: 365


1- عبد الحسين مشكاة الديني، نظري به فلسفه صدر المتألّهين (باللغة الفارسية)، ص 60

أوّلاً: الخلقة من العدم:

الخلقة هي من من مختّصات الله عزّ وجلّ ولا يمكن لأيّة علّة ٍأخرى التدخّل فيها (1)، وقد سقنا في المباحث الآنفة بعض المواضيع حول كيفية خلقة الشيء من العدم.

ثانياً: تأثير الأشياء على بعضها:

ذهب الفلاسفة إلى القول بمبدأ العلّية المتناسقة لدى تفسيرهم مسألة تأثير الأشياء على بعضها ومختلف أفعال البشر والحيوانات، فعلى سبيل المثال عدّوا أفعال الإنسان مستندة ًإلى علّتين فاعلتين، هما الإنسان نفسه والله تعالى، ومن جملة ذلك ما قاله الحكيم صدر الدين الشيرازي: «لكونها [قدرة العبد] من جملة أسباب الفعل وعلله، والوجوب بالاختيار لا ينافي الاختيار، بل يحقّقه؛ فكما أنّ ذاته تعالى علّةٌ فاعلةٌ لوجود كلّ موجودٍ ووجوبه، وذلك لا يبطل توسيط العلل والشرائط وربط الأسباب بالمسبّبات» (2) .

كما أكّد العلامة محمّد حسين الطباطبائي على استناد فعل الإنسان إلى نفسه وإلى الله تبارك وتعالى، حيث قال: «فما ذهب إليه المجبّرة من الأشاعرة من أنّ تعلّق الإرادة الإلهية بالأفعال الإرادية يوجب بطلان تأثير الإرادة والاختيار، فاسدٌ جدّاً؛ فالحق الحقيق بالتصديق أنّ الأفعال الإنسانية لها نسبةً إلى الفاعل ونسبةً إلى الواجب، وإحدى النسبتين لا توجب بطلان الأخرى

ص: 366


1- للاطّلاع أكثر، راجع: ابن سينا، الإشارات (بشرح المحقّق الطوسي والفخر الرازي)، ج 2، ص 42 ؛ بهمنيار التحصيل، ص 521؛ صدر المتألّهين، الأسفار الأربعة، ج 3، ص 42
2- صدر المتألّهين، الاسفار الأربعة، ج 7، ص 308

لكونهما طوليّتين لا عرضيّتين»(1).

المسألة الأخيرة التى يشار إليها على صعيد الشبهة المذكورة هي اعتقاد العرفاء بنظرية التشوّن والتجلّي بدلاً عن نظام العلّية(2)، وجاء في شرح المنظومة: «فإنّ الفعل عند أهل الحقّ هو التشؤّن والتجلّي، وأحقّ الفواعل باسم الفاعل هو الفاعل بالتجلّي؛ والعقل البسيط باعتبار إبداعه المعقولات البسيطة المجرّدة وإنشائه الخياليّات وتكوينه المحسوسات، آيةٌ كبرى لمن «لَهُ الْأَمْرُ ووَالْخَلْقُ»؛ وكونها جليّةً واضحةً وكثيرٌ منها غير مدوّنةٍ، لا ينافي كونها علوماً، إذ العلم مقسم كلّ البديهيات والنظريات» (3). كما أنّ صدر الدين الشيرازي(4) نحا هذا المنحى، لكنّ المجال لا يسعنا هنا لتسليط الضوء على تفاصيل الموضوع، لذلك اكتفينا بذكر ما يرتبط ببحثنا حسب مقتضى الحاجة (5).

ص: 367


1- محمّد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 1، ص 111. كذلك راجع الصفحات 76 و 107 و 398
2- للاطّلاع أكثر ، راجع: محي الدين بن عربي، الفتوحات المكّية، ج 1 ، الباب رقم 63؛ ابن العربي، فصوص الحٍكم (مع تعليقات أبي العلاء العفيفي)، الفصّ الشيئي
3- الملا هادي السبزواري، شرح المنظومة ، ج 5، ص 133
4- للاطّلاع أكثر ، راجع: صدر المتألّهين، الاسفار الأربعة، ج 2، ص 299 - 300؛ المشاعر (باللغة الفارسية)، بشرح علي أكبر حكمي يزدي، ص 179؛ مرتضی مطهّري، مقالات فلسفي (باللغة الفارسية ) ، ج 3، ص 97 و 129؛ مرتضی مطهّري، مجموعة آثار (باللغة الفارسية)، ج 13، ص 213 و 265؛ عبد الله جوادي الآملي، تفسير موضوعي - توحید در قرآن (باللغة الفارسية)، ص 454
5- للاطّلاع أكثر ، راجع: محمّد حسن قدردان قراملکي، اصطياد معارف عقلی از نصوص ديني - خدا در حکمت و شریعت (باللغة الفارسية) مبحث التوحيد في الخالقية ونظام العلّية

*الشبهة العاشرة: عدم توفّر براهين كافية تثبت مصداقية علم اللاهوت :

اتّبع بعض الملحدين أسلوب نفي الدليل لإثبات زعمهم في إنكار وجود الله سبحانه وتعالى، إذ ادّعوا أنّ أدلّة إثبات وجود الله تعالى لا تنهض في تحقيق المدّعى في عين كونها غير معتبرةٍ وهو أمرٌ يترتّب عليه إنكار وجود بارئ خالقٍ للكون.

تحليل الشبهة ونقضها :

للردّ على الشبهة المطروحة أعلاه نقول:

1 ) تطرّقنا في الفصل الثاني من الكتاب إلى البراهين التي تثبت وجود الله تعالى ودحضنا شبهات المشكّكين بأسلوبٍ علميٍّ استلدلاليٍّ بحيث أثبتنا أنّ مساعي الملحدين للتقليل من شأن هذه البراهين لا تتقوّم على أيّ أساسٍ علميٍّ معتبرٍ، بل هي مجرّد اتّهامات ومزاعم واهية.

2 ) بطبيعة الحال فإنّ فرض المحال ليس بمحالٍ، لذا لو تنزّلنا وافترضنا أنّ براهين إثبات وجود الله عزّ شأنه لا تنهض في إثبات المدّعى، فالسؤال التالي يطرح نفسه: هل أنّ عدم اطّلاع الإنسان على دليلٍ ظاهرٍ يثبت وجود أمرٍ ما، يمكن اعتباره دليلاً على انعدامه حقّاً أو بطلانه؟!

بطبيعة الحال هناك كثير من الحالات التى تكون القضية المطروحة فيها

ص: 368

صحيحةً لكنّنا نعجز عن البرهنة عليها في نطاق ألفاظٍ واستدلالاتٍ منطقيةٍ وذلك لأسباب عديدة، لذا حسب معايير حكم العقل والمنطق لا يحقّ لأحدٍ أن يشكّك في صحّة وجودها أو ينكرها من أساسها لمجرّد العجز عن إقامة دليلٍ مقنعٍ.

من النظريات التي طرحها بعض علماء اللاهوت هي عدم تناهي وجود الله تعالى لكونه غير محدودٍ في إطار ماهيةٍ تقيّده، ومن ثمّ نظراً لضيق نطاق المعرفة البشرية واقتصارها على العقل المحدود، فلا يمكن للإنسان (المحدود) إدراك ذلك الوجود (اللامحدود)، ومن هذا المنطلق فهو عاجزٌ عن إثبات هذا الوجود الذي لا يمكن أن يتقيّد بالألفاظ والاستدلالات العقلية؛ لذا فالسبيل الوحيد لمعرفته هو الكشف والشهود اعتماداً على النفس النزيهة والفطرة السليمة. وضّحنا بعض تفاصيل هذه النظرية في الفصل الأوّل من الكتاب، وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ العرفاء قد تبنّوها ودافعوا عنها أكثر من أيّة فئةٍ أخرى.

3 ) من المؤاخذات الجادّة التي ترد على الملحدين لدى طرحهم الشبهة المذكورة، هي أنّهم لم يتمكّوا حتّى الآن من إثبات مزاعمهم الإلحادية بالدليل والبرهان القاطع، إذ اكتفوا بطرح بعض الشبهات الواهية، وهذا الأسلوب غير المنطقي يمكن اتّباعه في جميع العلوم والمجالات لإنكار كلّ أمر ٍمهما كانت طبيعته ؛ وقد اعترف بعضهم بهذا الأسلوب الركيك من أمثال الفيلسوف برتراند راسل، حيث سأله الفيلسوف وايت قائلاً: «هل ثبت لك بالبرهان القاطع عدم وجود شيءٍ اسمه الله ؟ أو أنّ هذا الأمر لم يثبت لديك بالبرهان؟»، فأجاب راسل «أنا لا أبتّ بالقول بعدم وجود شيءٍ اسمه الله، كلا؛ أعتقد أنّ هذا الأمر

ص: 369

يشابه آلهة الإغريق والنرويج، فهذه الآلهة قد تكون موجودةً حقّاً لأنّي لا أستطبع إثبات عدم وجودها » (1) . ومن الجدير بالذكر أنّ هذا الفيلسوف الذي زعم أنّ وجود الله سبحانه وتعالى لم يثبت بالبرهان، قد أكّد بنفسه على أنّ الإيمان به يضفى الطمأنينة إلى النفس (2).

ص: 370


1- محمّد تقي الجعفري توضيح وبررسي مصاحبه راسل - وايت (باللغة الفارسية)، ص 60؛ برتراند راسل، چرا مسيحي نیستم؟ (باللغة الفارسية)، ص 248
2- للاطّلاع أكثر، راجع: فريدريك كوبلستون، تاريخ فلسفه (باللغة الفارسية)، ج 8، ص 512

الفصل الرابع

شبهات وردود حول التوحيد

ص: 371

ص: 372

المبحث الأوّل : التوحيد وأقسامه

المبحث الأوّل : التوحيد وأقسامه

إنّ جميع الأديان ترتكز في الأساس على عقيدة الإيمان بالله سبحانه وتعالى، ولكن هناك أديانٌ تؤمن بالهةٍ ذات مسمّياتٍ عديدةٍ بدلاً من الله الواحد القهّار، ومنها: الأمر المتعالي، الأمر المقدّس، نيرفانا، مايا. هذه الآلهة في الواقع تختلف عن الإله العزيز القهّار من جوانب عديدة.

وأمّا الأديان الإبراهيمية فقد ارتكزت على مبدأ الأحدية أى: إنّ الله تعالى شأنه واحدٌ أحدٌ، كما أكّدت على أنّه لا يمكن أن يدير شؤون الكون أكثر من إلهٍ واحدٍ، وهذا الإله بكلّ تأكيدٍ هو الله عزّ وجلّ، وهذا المبدأ عرف ب_ (التوحيد)، وقد تمّ تصنيفه في عدّة أقسامٍ كالآتي:

1 ) التوحيد في الذات :

ضمن حديثنا عن برهاني الإمكان والوجوب اتّضح أنّ الله سبحانه وتعالى واجب الوجود المجرّد عن جميع أشكال الإمكان (1)، لذا لو تسرّى الإمكان إلى ذاته الكريمة فسوف لا يصدق عليه أنّه واجب الوجود، ومن ثمّ

ص: 373


1- للاطّلاع أكثر ، راجع: صدر المتألّهين الأسفار الأربعة، ج 1، ص 122

يصبح مجرّد موجودٍ كسائر الكائنات الممكنة ولو تصوّرنا وجود إلهين سوف ينتفي أيضاً مفهوم واجب الوجود، حيث سنثبت سقم هذا التصوّر لاحقاً؛ لذا حاشاه ذلك وتعالى علوّاً كبيراً.

إنّ توحيد الله تعالى ليس مجرّد نفي لتعدّد الآلهة في أرض الواقع، بل هو صفةٌ ملازمةٌ للذات الأحدية؛ وهذا يعني أنّ هذه الذات المقدّسة عبارةٌ عن وجودٍ بسيطٍ غير مركّبٍ.

إذن، الذات الإلهية ليست أمراً مركّباً من عدّة أجزاء خارجية أو عقلية، وإنّما هي وجودٌ محضٌ، فوحدته تعالى شأنه هي وحدةٌ حقّةً ووجودٌ مجرّدٌ، لذا لا يمكن تصوّر ملازماً ثانياً لها؛ ومن هذا المنطلق قيل إنّها وحدة حقيقية ولیست عددية، أي: إنّنا لا نقصد من قولنا (الله واحد) إرادة العدد واحد. فعندما نقول: (الشمس واحدةٌ) نقصد الوحدة العددية، إذ من الممكن تصوّر وجود شمسٍ أخرى أو عدّة شموسٍ، لكنّ الوحدة الإلهية هي وحدة حقيقية محضة.

2 ) التوحيد في الصفات :

ذكرنا آنفاً أنّ وجود الله عزّ وجلّ هو وجود ٌبسيطٌ وواحدٌ، وقد نسبت له صفاتٌ عديدةٌ في مختلف النصوص الدينية، وبما فيها العلم والقدرة والفاعلية؛ وعلى هذا الأساس طرحت عدّة استفساراتٍ نذكر أهمّها فيما يأتي:

أوّلاً : هل إنّ هذه الصفات موجودةٌ في ذاته على شكل وجودِ بسيطٍ ومتّحدٍ معها؟ أي: هل إنّها عين الذات الإلهية بحيث تكوّن معها وجوداً واحداً؟

ثانياً: هل هناك اختلاف بين هذه الصفات والذات الإلهية؟ أي: هل إنّ

ص: 374

الصفات من خلال حفاظها على ماهيتها الوصفية يمكن أن تُحمل على ذات الله تعالى وتنسب إليها؟

هناك نظريتان مطروحتان حول السؤالين المذكورين، إحداهما تبنّت مضمون السؤال الثاني باعتبار أنّ الصفات تُحمل على الذات الإلهية، والأشاعرة من جملة الذين ذهبوا إلى القول بهذا الرأي، حيث قالوا إنّ الصفات زائدةٌ على الذات الإلهية، لذا فهي تُحمل عليها. هذا الرأي بطبيعة الحال يستلزم القول بغيرية الموضوع والمحمول، أي التباين بين الذات الإلهية والصفات؛ لذا وصفوا الله تعالى بثماني صفاتٍ، هي: (القدرة، العلم، الحياة، السمع، البصر، الكلام البقاء، الحكمة) وبما أنّ الصفات مغايرةٌ للذات فقد ذهبوا إلى الاعتقاد ب_ (القدماء الثمانية)، أي إنّهم يعقتدون بتعدّد واجب الوجود.

وأمّا الإمامية فقد ذهبوا إلى ما تبنّاه الفلاسفة الذين اعتقدوا بصحّة ما طُرح في السؤال الأوّل، حيث أكّدوا على عدم وجود أيّ تغايرٍ بين الصفات والذات الإلهية؛ أي أنّ الذات البسيطة المجرّدة تشمل الصفات وتتّحد معها في إطار وحدةٍ حقيقيةٍ، وهو ما يطلق عليه (التوحيد في الصفات).

3 ) التوحيد في الأفعال :

بعد أن اتّضحت لنا عقيدة توحيد الصفات والذات الإلهية، يأتي الدور للحديث عن مرحلة الفعل التي يمكن تسليط الضوء عليها في رحاب ثلاثة مقاماتٍ كالآتي:

أ- خلقة الكون .

ص: 375

ب - تدبير شؤون الكون.

ج - صدور آثارٍ من الأشياء وأفعالٍ من الإنسان.

توحيد الأفعال للفاعل الحقيقي يتحقّق في النقاط الثلاثة المذكورة أعلاه، وفيما يأتي نوضّح كلّ واحدةٍ منها على حدة:

أوّلاً: التوحيد في الخالقية:

حسب اعتقاد علماء اللاهوت فإنّ الله الواحد الأحد هو خالق الكون، وليس هناك خالقٌ آخر يناظره في الخالقية لا في عالم التجرّد ولا في عالم المادّة.

تحدّثنا في مستهلّ الكتاب عن العقل الأوّل وذكرنا دوره في خلقة سائر الكائنات التي هي أدنى رتبةً منه، كما تطرّقنا إلى نظام العلّية في الكون؛ وفي هذا المضمار يطرح سؤال حول وجود أو عدم وجود اختلافٍ بين الخلقة ونظام العلّية من جهةٍ والتوحيد في الخالقية من جهةٍ أخرى.

لبيان ذلك نقول: المقصود من تقييد الخالقية بالله عزّ وجلّ هو نفي وجود أيّ خالقٍ آخر إلى جانبه بأيّ نحوٍ كان، أي لا يمكن لأحدٍ زعم وجود خالقٍ شريك له ولو في خلقة جزءٍ يسيرٍ من الكون؛ ولكنّه بمشيئته وحكمته منح بعض الخلق قدرةً خارقةً للعادة، وهو ما يطلق عليه في علم الفلسفة (العقل الأوّل) أو (النور الأوّل ) أو (الحقيقة المحمّدية)، وهذا المخلوق الفريد من نوعه بإمكانه إيجاد مخلوقاتٍ في عالم الإمكان بإذن الله عزّ وجلّ؛ وهذه الفرضية بكلّ تأكيدٍ لا تتقاطع مع التوحيد في الخالقية لأنّ قدرة الفاعل وفعله هنا منسوبان إلى العلّة الأولى، ألا وهي الله تعالى. ومن ناحيةٍ أخرى، فالفاعل التالي في الحقيقة علّةٌ ناقصةٌ متفرّعةٌ على العلّة التامّة، وبما أنّ العلّة الناقصة

ص: 376

ومعلولاتها ممكنة الوجود ومتقوّمةٌ بواجب الوجود ومفتقرةٌ إليه من دون انقطاعٍ، لذا فإنّ أفعالها وأفعال معلولاتها ترجع في الأساس إلى فعل الله تعالى الذي هو منشأ وجودها.

إذن، على هذا الأساس بإمكاننا أن ننسب أفعال العلل والمعلولات إلى العلّة الأصيلة المتمثّلة بالله جلّ شأنه، وهو ما يطلق عليه في علم الفلسفة (العلّية الطولية).

ثانياً: التوحيد في الربوبية:

المرحلة التي تلي الخلقة هي مرحلة تدبير شؤون الكون بإرادة الربّ العظيم، والتوحيد في الربوبية يعني الإيمان بأنّ الله تعالى الخالق الحقيقيّ لعالم الإمكان وعلى هذا الأساس فهو الذي يتولّى تدبير شؤونه ولم يوكل ذلك إلى غيره، حيث لا يمكن تصوّر شريكٍ له أو وكيلٍ عنه في هذا الصدد.

المشركون في عصر صدر الإسلام كانوا يعتقدون بالتوحيد في الخالقية فقد قال تعالى في كتابه الكريم: «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ» (1)، لكنّهم لم يؤمنوا بالتوحيد في الربوبية لدرجة أنّهم نسبوا شؤون الكون إلى آلهةٍ أخرى.

ثالثاً: التوحيد في تأثير الأسباب والفواعل :

إنّ دور الله تعالى الفاعل في عالم الإمكان لا يقتصر على تدبير الشؤون

ص: 377


1- سورة الزخرف، الآية 87. راجع أيضاً سورة العنكبوت، الآية 61؛ سورة لقمان، الآية 25؛ سورة الزمر، الآية 38

العامّة للكون فحسب، بل يسري إلى جميع شؤونه قاطبةً سواء كانت عامّةً أو جزئيةً؛ لذا فالمؤثّر في كلّ حركةٍ وفعلٍ في هذا الكون هو الله تعالى، إذ إنّ النار التي تحرق والغيمة التي تزخّ المطر وقدرة الإنسان على الحركة، كلّها أفعالٌ تكتسب تأثيرها وحركتها من الله عزّ وجلّ. وبعبارةٍ أخرى فإنّ التأثير والتأثّر للفاعل والعلّة لكلّ فعلٍ وانفعاليٍ، هو البارئ تعالى.

4 ) التوحيد في العبادة :

عندما تحدّثنا عن موضوع الفطرة قلنا إنّ الإنسان عابدٌ وحامدٌ فطرياً لكونه كائناً غير كاملٍ ولدى معرفته بمن هو أكمل منه يبادر إلى حمده والثناء عليه، ولو كان هذا الحمد والثناء مجرّد إجلالٍ وتقديرٍ لمن هو أكمل منه، فلا بأس به؛ لكنّه إن بلغ مرحلة العبودية بحيث يقوم الإنسان بتمجيد كائنٍ آخر وعبادته معتبراً إيّاه إلها، فهو مخطئٌ وعمله هذا مرفوضٌ جملةً وتفصيلاً، إذ لا يجوز لكائنٍ كان عبادة غير الله الواحد الأحد، فهو أهل العبودية والتقديس حقّاً، وعلى هذا الأساس لا يجوز لابن آدم عبادة غيره مهما كانت ماهيته.

- سائر أقسام التوحيد :

- سائر أقسام التوحيد :

تناول علماء الكلام مفهوم التوحيد في إطار شروح موسّعةٍ وتقسيماتٍ عديدةٍ نكتفي هنا بذكر جابٍ منها: (1)

ص: 378


1- للاطّلاع أكثر ، راجع: جعفر السبحاني، الإلهيات، ج 2، ص 73 - 108؛ عبد الله جوادي الأملي، تفسير موضوعي - توحید در قرآن (باللغة الفارسية)، ج 2، القسم الثاني؛ ناصر مكارم الشيرازي پيام قرآن (باللغة الفارسية)، ج 3، ص 345 والصفحات التالية
1 ) التوحيد في الحاكمية :

ذكرنا آنفاً أنّ الله عزّ وجلّ هو المتكفّل بتدبير شؤون الكون، ونؤكّد هنا على أنّه الحاكم المطلق على كلّ شيءٍ وهو الذي يعيّن من يحكم المجتمعات البشرية في الحياة الدنيا دينياً وسياسياً لكي تتمكّن من بلوغ درجة الكمال والسعادة المنشودة، ومن هذا المنطلق أوكل هذا الجانب من حكومته إلى الأنبياء والصالحين من عباده وبمن فيهم الأئمّة المعصومين علیهم السّلام.

إذن، انتخاب غير المتديّن كحاكمٍ للأمّة وكذلك الخضوع لحكومة الطاغوت، هي أمورٌ لا تنسجم مع التوحيد في الحاكمية.

2 ) التوحيد في التشريع

لا شكّ في أنّ المجتمعات البشرية بحاجةٍ ماسّةٍ إلى قوانين ومقرّرات تنظّم شؤونها، وبطبيعة الحال فمن الضروري أن تكون ذات منشأ دينيٍّ، ومن هذا المنطلق بعث الله تعالى أنبياءه ورسله وحمّلهم شرائع دينيةً تتضمّن أصولاً وقوانين عامّةً وخاصّةً تلبّي حاجة الفرد والمجتمع على حدٍّ سواء، وقد جعل هذه القوانين مرنةً بحيث يمكن الاعتماد عليها لاستنباط قوانين ومقرّرات فرعية في مختلف جوانب الحياة.

ومن الجدير بالذكر هنا أنّ القوانين التي يتمّ إقرارها وفق مختلف التوجّهات العلمانية أو الإنسانية أو العقلية البحتة تتعارض مع التوحيد في الربوبية.

3 ) التوحيد في الطاعة :

لقد خلق الله تعالى الناس سواسيةً كأسنان المشط، لذا لا يمكن لأحدٍ

ص: 379

منهم إرغام الآخرين على الخضوع لسلطته واتّباع أوامره إلا في بعض الأحيان النادرة وعلى وفق شروطٍ معيّنةٍ وفي ظل القوانين والمقرّرات الشرعية. ولكن بطبيعة الحال فإنّهم أمام الله تعالى ليسوا كذلك، فمن يعبده حقّ عبادته ويؤدّي واجباته ويعرض عن محرّماته ليس كمن ينكره ويغرق في المعاصي والآثام.

حينما خلق الله عزّ وجلّ بني آدم أفاض عليهم نعماً ظاهراً وباطنةً مقاماً رفيعاً بين سائر الكائنات ومهّد الطريق القويم لهم كي يسلكوه ولا يجيدوا عنه ووفّر لهم كلّ ظروف الطاعة حتّى لا تبقى ذريعةٌ لمن يضلّ عن السبيل، لكن مع ذلك نجد منهم من يؤمن بربّه ويطيعه في حين أنّ الكثير منهم يكفرون ويعصون؛ لذلك هم ليسوا سواء أمام الخالق البارئ.

ومن المؤكّد أنّ الطاعة المطلقة لا تجوز إلا لله تعالى لأنّ طاعة أيّ كائنٍ طاعةً محضةً خارج نطاق العبودية لله تعالى تتعارض مع مبدأ التوحيد في الطاعة، وأمّا إطاعة الناس للأنبياء والأئمّة علیهم السّلام فهي في الحقيقة ليست طاعةً مطلقةً لهم، وإنّما طاعةٌ مطلقةً لله تعالى لكون أقوالهم وأفعالهم كلّها من الرب العزيز ومن ثمّ فمن يتّبعهم فقد اتّبعه.

4 ) التوحيد في الشفاعة والمغفرة :

كما أنّ الله عزّ وجلّ هو الحاكم المطلق في الحياة الدنيا، فهو كذلك في الحياة الآخرة، إذ بيده الشفاعة وغفران الذنوب، وأمّا شفاعة عباد الله الصالحين من أنبياء وأئمّة ومقرّبين فهي لا تكون إلا بإذنه وإرادته، أي: إنّ شفاعتهم في موازاة شفاة الله تعالى وليست في عرضها.

ص: 380

المبحث الثاني : لمحة عن أدلّة التوحيد

المبحث الثاني : لمحة عن أدلّة التوحيد

أدلّة توحيد الربّ جلّ وعلا مطروحةٌ بشكلٍ تفصيليٍّ في مباحث علمي الفلسفة والكلام(1)، وهنا سنكتفي بإلقاء نظرةٍ عابرةٍ على بعضها مراعين الإيجاز :

1) صِرف الوجود

في برهان الإمكان والوجوب تمّ إثبات أنّ الله سبحانه وتعالى هو عين الوجود، وبتعبيرٍ أدقّ (صِرف الوجود) بحيث لا يكتنفه أيّ حدٍّ ولا عدمٍ، ومن البديهي أنّ هذا الوجود يكون خالصاً وصرفاً وواحداً بحيث لا يمكن تصوّر ثانٍ له ولا أيّ وجودِ مغايرٍ آخر، لأنّ التغاير متفرّعٌ على الإثنينية أو الكثرة ويترتّب على ذلك ظهور عوارض وصفات متعدّدة لذوات متعدّدة؛ وهذا محالٌ في شأنه جلّ وعلا. وكما يقول الفلاسفة: «صرف الشيء لا يتثنّى ولا يتكرّر» (2).

وبالتأكيد فإنّ افتراض وجود غيريةٍ في الصفات الذاتية أو العرضية لا ينسجم مع كون واجب الوجود صِرف الوجود.

ص: 381


1- للاطّلاع أكثر، راجع: ابن سينا التعليقات، ص 61؛ شيخ الإشراق، التلويحات، ص 36؛ الميرداماد، القبسات، ص 76؛ صدر المتألّهين، الأسفار الأربعة، ج 1، ص 129 - ج 6 ، ص 57 و 92 ؛ المبدأ والمعاد، ص 150 ؛ نهاية الحكمة وتعليقة على النهاية، الرقم 417
2- صدر المتألّهين، الأسفار الأربعة، ج 6، ص 100

2 ) تعدّد الشيء وعلّة محدوديته وحاجته :

فى برهان الإمكان والوجوب أثبتنا أنّ الله سبحانه وتعالى واجب الوجود وقلنا إنّ وجوده غير متناهٍ، إذ لو كان هناك حدٌّ لوجوده فليس من الممكن حينئذٍ اتّصافه بالوجوب (1).

بما أنّ وجود واجب الوجود ثابتٌ بالبرهان القطعي، فمن ثمّ هو غير محدودٍ، لذا فإنّ هذا الوجود اللامحدود واللامتناهي لا ينسجم مع التعدّد الخارجي.

لتوضيح ما ذكر نقول: افتراض وجود إلهين أو عدّة آلهةٍ مع بعضهم يترتّب عليه وجود صفاتٍ مشتركةٍ بينهم وفي الحين ذاته وجود صفاتٍ مختصّةٍ لكلِّ واحدٍ منهم تميّزه عن الآخر ممّا يوجب حدوث تغاير في ذواتهم، وكما هو ثابتٌ عقلاً فإنّ اتّصاف شيءٍ بصفةٍ غير موجودةٍ في غيره واتّصاف هذا الغير بصفةٍ غير موجودةٍ في الأوّل، دليلٌ على وجود نقصٍ وحدٍّ في كلٍّ منهما نظراً لعدم اتّصافهما بالكمال المطلق، وهذا بمعنى افتقارهما إلى بعضهما أو إلى غيرهما؛ ومن ثمّ فإنّ إلهاً كهذا لا يمكن بتاتاً أن يكون واجب الوجود.

إذن التعدّد يؤدّي إلى التغاير والتغاير يؤدّي إلى الاختلاف، والاختلاف يؤدّي إلى التضاد؛ ونتيجة كلّ ذلك محدودية الشيء وحاجته وصيرورته ممكناً في وجوده.

كذلك لو ادّعي أنّ ذات الله تعالى مركّبةً من أجزاء داخلية، فهذا يعني حاجته إلى هذه الأجزاء المفترضة ممّا يتعارض مع شأن واجب الوجود الذي

ص: 382


1- الخواجه نصير الدين الطوسي، كشف المراد، ص 225

لا يحتاج إلى أيّ أمرٍ غير ذاته المجرّدة البسيطة. إذن، هذا الدليل يثبت التوحيد في الذات والصفات.

3) الفطرة :

قيل في برهان الفطرة الذي سيق لإثبات وجود الله تعالى إنّ فطرة كلّ إنسانٍ تميل إلى الإيمان بوجود الخالق، فلو رجعنا إلى ضميرنا الحيّ وفطرتنا السليمة لأدركنا أنّ مدبّر الكون وبارئ الخلائق أجمعين واحدٌ أحدٌ، ومن ثمّ لأيقنا أنّ كلّ ما يجري من نظمٍ وقوانين طبيعية لا يكون إلا بأمره وإرادته.

أبرز شاهدٍ على ما ذكر يتمثّل في ردّة فعل الضمير الإنساني في الأوضاع الطارئة، حيث لا يجد مأوى يلوذ به سوى الله تعالى الواحد الأحد، لذا يبادر إلى طلب العون منه. فالغريق على سبيل المثال حينما تنقطع به الأسباب الطبيعية يدرك في فطرته وجود منقذٍ قادرٍ على انتشاله من تلاطم الأمواج العاتية الأمر الذي يحفّزه على أن يتوسّل به وحده ويطلب العون منه، وليس من المحتمل بتاتاً أنّه يتوسّل بالهين أو أكثر، لأنّ فطرته لا تستوعب ذلك.

من الشبهات التي تطرح على هذا البرهان إنكار وجود الفطرة من الأساس أو نفي قيمتها المعرفية، لكنّنا لا نتطرّق إلى تقريرها ونقضها هنا، حيث تحدّثنا عن الموضوع بتفصيلٍ في مباحث براهين إثبات وجود الله تعالى.

4 ) النَّظم :

4 ) النَّظم :

إنّ الكون الذي نعيش في كنفه يتقوّم على منظومةٍ منسجمةٍ ومتناسقةٍ

ص: 383

من القوانين الثابتة، وقد تطرّقنا إلى بيان هذا الأمر آنفاً في برهان النَّظم.

ومن البديهي أنّ النَّظم لا يدلّ على وجود الناظم فحسب، بل يدلّ على أنّه واحدٌ لا شريك له، لأنّ المدبّر لشؤون الكون ما لم يكن واحداً لانفرد كلّ إلهٍ بقانونه الخاصّ وسعى لإدارة المنظومة الكونية حسب مشيئته، وإثر ذلك تتزعزع القوانين لتداخلها وتعارضها فيما بينها ومن ثمّ لاختلّ النَّظم وزال الانسجام؛ ومن المؤكّد أنّ الحقيقة على خلاف ذلك، فالنَّظم متحقّقٌ والانسجام تامٌّ نظراً لكون الناظم واحدٌ أحدٌ لا يشاركه في تدبيره شريكٌ.

- تقرير آخر لبرهان النَّظم: برهان التمانع :

يمكن تقرير برهان النَّظم في رحاب برهان التمانع، وخلاصته كما يأتي: لا أحد ينكر النَّظم والانسجام والتناسق في مختلف الأحداث والحركات الكونية، وهذا الأمر بكلّ تأكيدٍ لا يمكن أن يتحقّق فيما لو تعدّد الإله كما ذكرنا آنفاً؛ فالتعدّد يقتضي حدوث اختلافٍ في الأفعال وتباينٍ في الآثار المترتّبة عليها، ومن ثمّ يسفر عن حدوث خللٍ عظيمٍ في النَّظم والاتّساق، وقد عبّر القرآن الكريم عن ذلك بالفساد في الآية الآتية: «لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَنَا فَسُبْحَانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ» (1).

فضلاً عن ذلك، بما أنّ النّظم الحاكم على الكون منزّهٌ من كلّ خللٍ ونقصٍ، يثبت لنا أنّ الربّ واحدٌ لا شريك له (2) ، وطبق تقرير علماء الكلام لو

ص: 384


1- سورة الأنبياء، الآية 22
2- عبد الله جوادي الأملي، تفسير موضوعي - توحید در قرآن (باللغة الفارسية)، ج 2، ص 75

افترضنا وجود إلهين قادرين ومطلقين يحكمان الكون، فحينما يشاء أحدهما فعل شيءٍ ولا يشاء الآخر فعله، ستكون هناك ثلاثة احتمالاتٍ، كالآتي:

الأوّل : تحقّق مرادهما معاً.

الثاني: تحقّق مراد أحدهما فقط.

الثالث : عدم تحقّق مراد أيٍّ منهما.

من البديهي أنّ الاحتمال الأوّل محالٌ لكونه يستلزم اجتماع الضدّين أو النقيضين، في حين أنّ القواعد القطعية تثبت عدم اجتماع أيٍّ منهما، فعلى سبيل المثال لا يمكن تصوّر جسم ٍمتحرّكٍ وساكنٍ ولا تصور وجود شيءٍ وعدمه من حيثٍ واحدٍ وفي آنٍ واحدٍ.

الاحتمال الثاني هو الآخر غير ممكنٍ، إذ تحقّق مراد أحد الإلهين ورفض مراد شريكه يعدّ ترجيحاً بلا مرجّحٍ، إذ من المفترض أن يكون الإلهان متساويين ومتكافئين من جميع الجهات بلا تفضيلٍ لأحدهما على الآخر؛ لذا إن كان أحدهما أضعف من الآخر أو أقلّ شأناً منه فهذا يعني أنّه ليس واجب الوجود، وانتفاء هذه الخصيصة يعني انتفاء الألوهية.

وأمّا الاحتمال الثالث فهو يدلّ على انتفاء قدرتهما المطلقة وعجزهما عن العمل بمشيئتهما، وهو بطبيعة الحال باطلٌ أيضاً، حيث ثبت عجز كلٍّ منهما في فرض إرادته على الآخر ومن ثمّ لم يتمكّن أيٌّ منهما إثبات ألوهيته التي تعني التحكّم بالكون؛ ومن ثمّ تنتفي صلاحيتهما لإدارة شؤون الكون ويزول استحقاقهما في العبودية (1).

ص: 385


1- الفخر الرازي، المطالب العالية، ج 2، ص 135؛ الرازي الحمصي، المنقذ من التقليد، ج 1، ص 135

وجود النَّظم والانسجام في برهان التمانع يمكن تقريره في صورتين، كما يأتي:

الأولى: تحقّق النَّظم والانسجام في بادئ الخلقة (مرحلة الإحداث).

الثانية: استمرار النَّظم والانسجام الكونى بعد مرحلة الخلقة.

باعتقاد بعض علماء الكلام فإنّ النَّظم والتمانع يدلان في المرحلة الأولى على التوحيد، ذلك لأنّ وجود النَّظم في إدارة شؤون الكائنات لا يمكن أن ينسجم مع تعدّد الناظم والخالق، وهو ما سنسلّط عليه الضوء في المباحث اللاحقة التي تتمحور حول الشبهات المطروحة حول معتقداتنا الدينية (1).

المبحث الثالث : نقد شبهات منكري التوحيد

المبحث الثالث : نقد شبهات منكري التوحيد

اتّضح لنا آنفاً أنّ التوحيد له أقسام ومراتب عديدة، وقد طرح بعضها على أساس أدلّةٍ عقليةٍ، ولكن هناك من ينكر هذا الأمر ويثير شبهاتٍ عليه، وفيما يأتي نذكر بعضها في إطار دراسةٍ نقديةٍ:

*الشبهة الأولى : عدم دلالة محدودية الشيء على افتقاره:

ممّا جاء في البرهان الثاني (2) أنّ تعدّد الآلهة يستلزم أن تكون محتاجةً

ص: 386


1- للاطّلاع أكثر، راجع: القاضي عضد الدين الإيجي، شرح المواقف، ج 8، ص 48؛ سعد الدين التفتازاني، شرح المقاصد، ج 4، ص 37
2- مضمون هذا البرهان: (التعدّد يدلّ على المحدودية والحاجة)

ومحدودةً، ومن المؤكّد أنّ الإله المحدود والمحتاج ليس من شأنه أن يكون واجب الوجود. لكن هناك من عارض مضمون هذا البرهان عبر تأييده لمقدّمته الصغرى وإنكاره لنتيجته، إذ عدّ محدودية الإله وفقدانه إحدى الصفات الخاصّة لا يعنيان أنّه مفتقرٌ. وبعبارة ٍأخرى: ليس بالضرورة أن يدلّ كلّ فقدانٍ على الحاجة، فعدم اتّصاف الإنسان بالخوف أو الحسد أو البخل لا يعدّ نقصاً ولا يدل على حاجة الإنسان.

إذن، بناءً على ما ذكر من الممكن تصوّر وجود إلهين واجبي الوجود بحيث يفتقد كلّ واحدٍ منهما بعض الصفات المعيّنة، وهذا الفقدان لا يعدّ سبباً لنقصهما رغم تعدّدهما (1).

تحليل الشبهة ونقضها :

يمكن تفنيد الشبهة المطروحة أعلاه في النقاط الآتية:

1 ) محور البحث في هذه الشبهة هو وجود إلهين مجرّدين وجامعين للصفات الكمالية، وعلى هذا الأساس يطرح السؤال التالي: هل أنّ هذين الإلهين يتّصفان بجميع الصفات الكمالية بشكلٍ متساوٍ دون وجود تمايزٍ بينهما على هذا الصعيد؟

إذا كان الجواب عن هذا السؤال (نعم)، ترد على المدّعى المؤاخذة الآتية: ما هي نقطة الاختلاف بينهما؟ لذا إن قال بعدم وجود نقطة اختلافٍ، فهذا محالٌ ناهيك عن أنّه يعني عدم تحقّق التعدّد في الآلهة.

ص: 387


1- للاطّلاع أكثر، راجع: مصطفى ملكيان كلام جديد (باللغة الفارسية)، مبحث إثبات وجود الله، ص 99

وإن كان الجواب (لا) وزعم المدّعي أنّ أحدهما فاقدٌ لإحدى صفات الكمال، ففي هذه الحالة تطرح عليه المؤاخذة الآتية: ألا يدل فقدان إحدى صفات الكمال على وجود نقصٍ في الذات؟ وبالطبع فالإجابة عن هذا السؤال واضحةٌ، إذ إنّ الإله الفاقد لإحدى صفات الكمال تكون ذاته ناقصةً، ومن ثمّ لا يمكن ادّعاء أنّه ذلك الإله الذي هو واجب الوجود.

2 ) حتّى وإن كان أحد الإلهين غير فاقدٍ لإحدى صفات الكمال وراجحاً على الإله الآخر الفاقد لإحداها أو بعضها، لكن بما أنّه يفتقد لإحدى الصفات الخاصّة بالألوهية، فالمؤاخذة السابقة تطرح عليه أيضاً، ومن ثمّ نستنتج أنّ كلا هذين الإلهين يفتقدان للكمال المطلق ولا يكون أيٌّ منهما واجب الوجود.

3 ) قد يقال إنّ كلا الإلهين يتّصفان بالصفات الكمالية، ولكن لا بدّ من أن يكون أحدهما أكثر كمالاً من الآخر وأتمّ منه، وهذا يعني بطبيعة الحال أنّ الإله الثانى أدنى رتبةً منه؛ ونتيجة ذلك أن يكون علمه على سبيل المثال أقلّ من علم الأوّل الأمر الذي يعني وجود محدودية فقط في صفاته مقارنةً مع الإله الأوّل.

هذا التبرير بالتأكيد لا ينفي المؤاخذة، فالإله الذي لا يتّصف بالكمال التامّ ولا يمكن وصفه بالكامل المطلق بطبيعة الحال سوف يسرى النقصان والافتقار إلى ذاته، وهو ما لا يتناسب وشأن واجب الوجود بتاتاً.

4 ) هناك من يبرّر الشبهة بالقول إن الاختلاف بين الإلهين لا يعني فقدان صفات الكمال، بل إنّ أحدهما يفتقر إلى صفةٍ هو ليس بحاجةٍ إليها من الأساس، في حين أنّ الإله الآخر يتمتّع بها لأنّه بحاجةٍ إليها. إذن، فقدان الإله

ص: 388

لتلك الصفة الخاصّة لا يعدّ نقصاً في ذاته.

هذا الكلام مرفوضٌ جملةً وتفصيلاً، لذا نقول:

أوّلاً : إنّ إحدى الصفات الكمالية التي تدلّ على الكمال حقّاً، هي في جميع الأحيان كمالٌ ولا يمكن الاستغناء عنها مطلقاً؛ وعلى هذا الأساس فإنّ زعم إمكانية اتّصاف أحد الإلهين بإحدى الصفات الكمالية لا يوجب اتّصاف الآخر بها لكونه في غنىً عنها، هو زعمٌ باطلٌ من أساسه، إذ كيف يمكن وصف أمرٍ بالكمال فى عين القول بجواز تجرّد من يجب أن يتّصف به، فنصف أحد الإلهين به ونجرّد الآخر منه؟! من المؤكّد أنّه ليس هناك أيّ مسوّغ لهذا القول. لذا، يجب على من يبرّر هذه الشبهة أن يفصّل كلامه ويوضّح حقيقة هذه الصفة الكمالية التي يمكن للإله أن يستغني عنها كي يتّضح الموضوع بشكلٍ جليًّ.

ثانياً: لو كانت الصفة التي يمكن لأحد الإلهين أن يستغني عنها ليست من الصفات الوجودية والكمالية، أي: إنّها عدمية، فكيف يمكن اعتبار أمرً عدمىًّ كميزةٍ تدلّ اختلافً بين إلهين مجرّدين؟!

5 ) الصفات التي زعم أصحاب الشبهة المذكورة أنّ الإله في غنىً عنها، كالخوف والحسد والبخل، بحيث عدوّها أمراً وجودياً لا يوجب حدوث خللٍ في ذاته إن لم يتّصف بها؛ هي في الحقيقة صفاتٌ مادّيةٌ وإنسانيةٌ، إذ إنّها لا تتقوّم إلا في ظلّ النفس البشرية وميزاتها الإمكانية والمادّية المختصّة بها.

الإنسان بطبيعته يشعر بالخوف لدى مواجهة أمرٍ مرعبٍ، وينتابه الحسد عند مشاهدة أحد أقرانه يحصل على شيءٍ صعب المنال، ويطغى عليه البخل حينما تصبح نفسه خسيسةً ومتشبّثةً بالمادّيات؛ فهذه الحالات تكتنف النفس

ص: 389

الإنسانية بسبب ماهيتها الإمكانية، وبطبيعة الحال فهي نفسٌ تتّصف بميزاتٍ منفردةٍ إثر نقصها ومحدوديتها؛ وهذا أمرٌ يقرّ به العقلاء ولا غرابة فيه، ولكن تصوّر وجودها في الذات الإلهية المجرّدة البسيطة التي لا نقص فيها ولا حدّ لها والتي لا تتّصف بطبعٍ خاصٍّ كالطبع البشري بسبب كمالها اللامتناهي، غير ممكن بتاتاً لاستحالة تحقّق ذلك ممّا يعني أنّ العقل لا يقبله مطلقاً، فالإله يجب وأن يكون كاملاً مطلقاً ولا يمكن أن يتصف بالنقص، وكما يقول علماء الكلام فهو لا يوصف بالصفات السلبية إلا لإثبات ضدّها من الكمال.

ومن الواضح بمكانٍ أنّ الإله المجرّد المحض والفاقد للنفس والطبع لا يمكن أن يعرض له الخوف أو الحسد أو البخل، فهو القادر الغنى المطلق والمبدأ لكلّ صفات الكمال؛ لذا كيف يمكن تصوّر أنّه يخشى من شيء ٍأو يجسد شخصاً أو يبخل على أحدٍ وهو الذي بيده الأمر والنهي وهو مالك الملك والمقتدر المطلق ؟!

إذن، من المستحيل تصوّر هذه الصفات السلبية فيه، فهي بحسب العرف ناشئةٌ من الطبع والمزاج، وهذا أمرٌ غير معقولٍ في ذات واجب الوجود ممّا یعنی أنّ تجريده منها يدلّ على عدم إمكانية اتّصافه بها لكونها نقصاً، وإلا أمكن القول بوجود حدًّ لذاته إثر طروء النقص على ذاته المباركة وخلوّه من بعض صفات الكمال ؛ ومن ثمّ يفتح الباب لادّعاء إمكانية تعدّد الآلهة.

المسألة الأخرى الجديرة بالذكر هنا هى ادّعاء البعض أنّ انعدام بعض الصفات عن الذات الإلهية - كالصفات الثلاثة المذكورة أعلاه - لا يُوجد خللاً فيها، ونجيب عنها أنّ حكم العقل يثبت بالدليل القطعي كون هذه الصفات عدميةً وسلبيةً، إذ لا وجود لها على أرض الواقع، ومن الثابت أنّه لا يمكن

ص: 390

وصف الإله الكامل المطلق بأمرٍ عدميٍّ. وبتعبيرٍ فلسفيٍّ، هذه الصفات تناظر (عدم الملكة) وتطلق على من له قابلية الاتّصاف بما يتعارض معها، فالعالم والقادر هو في الواقع من ليس بجاهل ولا عاجز، أي: إنّ امتلاك صفتي العلم والقدرة تطلقان على الإنسان والإله اللذين لا يتّصفان بصفتي الجهل والعجز. إذن، انعدام الجهل والعجز ليس نقصاً، بل هو نوعٌ من الكمال لأنّه يقتضي تحقّق صفتي العلم والقدرة اللتين تعتبران من الأمور الوجودية، وإذا ما فقد الإنسان أو الإله هاتين الصفتين وما شاكلهما فهو يصبح مفتقراً في ذاته، ومن المؤكّد أنّ الإله المفتقر لا يمكن اعتباره واجب الوجود.

إذن، مجرّد عدم تحقّق الصفات العدمية في الذات لا يعدّ سبباً لقوّتها، بل إنّ الاتّصاف بملكة عدم وجودها هو الدليل على قوّتها.

* الشبهة الثانية : لا منافاة بين الافتقار وواجب الوجود :

آخر قضيةٍ مطروحةٍ في البرهان الثاني(1) هي الاستدلال على أنّ افتقار الإله يدلّ على كونه ممكن الوجود وليس واجب الوجود، إذ طرح بعضهم شبهةً مضمونها أنّ افتقاره لا يتنافى مع كونه واجب الوجود، أي من الممكن أن تتّصف ذاته بالفقر والحاجة إلى إلهٍ آخر من إحدى الجهات وبوصفٍ خاصٍّ.

تحليل الشبهة ونقضها :

من البديهي أنّ نقض هذه الشبهة لا يتطّلب تمحيصاً وغربلةً لتفاصيل

ص: 391


1- هو برهان (التعدّد يدلّ على المحدودية والحاجة)

دقيقة، فوهنها جليٌّ من نفس المدّعى - أي افتقار الإله إلى الغير - فالإله الذي يحتاج إلى غيره من إحدى الجهات أو الصفات تعاني ذاته من نقصٍ في أحد أبعادها الوجودية وهذا بمعنى وجود نقصٍ في صفاته الذاتية؛ لذا كيف يمكن اعتبار أنّه (واجب الوجود) وهو متقوّمٌ بغيره ؟!

عنوان (واجب الوجود) يدلّ على أنّ الذات يجب أن تكون متكاملةً من جميع صفاتها وأنّ هذه الصفات لابد ّمن أن تكون ناشئةض من نفس هذه الذات، ومن ثمّ فهي في غنىً عن كلّ ما سواها وكلّ شيءٍ محتاجٌ ومفتقرٌ إليها؛ لكنّ من طرح الشبهة المذكورة زعم أنّ الإله قد تنقصه إحدى الصفات وهو بحاجةٍ إلى غيره، أي: إنّ هذا الغير هو الذي يمنح الإله ما يحتاج إليه ويسدّ النقص الحاصل فى صفاته! إذن، حسب هذا الزعم الواهي لا يمكن تعيين من هو واجب الوجود، فالأوّل محتاجٌ، والثاني إن لم يستكمل جميع الصفات الكمالية والذاتية فهو محتاجٌ أيضاً، ومن ثمّ علينا أن نبحث عمّن هو غنيٍّ وواجب الوجود في غيرهما! (1)

*الشبهة الثالثة : لا منافاة بين تعدّد الآلهة وتحقّق النَّظم:

إحدى الشبهات القديمة التي طرحت حول برهاني النَّظم والتمانع، ادّعاء عدم استحالة وجود إلهين ناظمين يدبّران شؤون الخلق والكون (2)، أي من الممكن أن يتعايش إلهان مع بعضهما بانسجام على أساس علمهما وحكمتهما

392

ص: 392


1- ملكيان كلام جديد (باللغة الفارسية)، مبحث إثبات وجود الله، ص 99
2- القاضي عبد الجبّار، شرح الأصول الخمسة، ص185 ؛ الحمصي الرازي المنقذ من التقليد، ج 1، ص 131؛ ابن نوبخت الياقوت في علم الكلام، ص 42

فيخلقان الكون ويدبّران شؤونه ويجعلان له نظاماً خاصّاً من دون حدوث أيّ خللٍ فيه.

هذا الكلام يعني أنّ النظم لو كان ممكناً من إلهٍ واحدٍ، فهو ممكنٌ أيضاً من إلهين اثنين، فيصبح الكون معلولاً لهما معاً ويكون تدبير شؤونه منوطاً بهما على السواء؛ ونتيجة ذلك أنّ النَّظم والانسجام في الكون ليس من شأنه أن يعدّ برهاناً على التوحيد في الأفعال ولا على التوحيد الربوبي لكونه ينسجم مع تعدّد الآلهة.

بعض علماء الكلام المتقدّمين عبّروا عن الاعتماد على برهان النَّظم لإثبات التوحيد ب_ (الحجّة الإقناعية ) (1) ، وبعض الفلاسفة الغربيين من أمثال ديفيد هيوم، ذكروا تبريراتٍ للشبهة المذكورة (2).

ومن الجدير بالذكر أنّ هذه الشبهة لا تتعارض مع التوحيد في الذات، بل تتعارض مع التوحيد في الأفعال، وبالأخصّ الخالقية؛ حيث يزعم من يطرحها إمكاية وجود خالقين للكون.

تحليل الشبهة ونقضها :

نذكر النقاط التالية لإثبات هشاشة الشبهة المذكورة ونقضها كما تقتضيه أصول البحث العلمي :

ص: 393


1- للاطّلاع أكثر ، راجع: الفاضل المقداد، إرشاد الطالبين، ص 251؛ المحقّق الكاشاني، الوافي في شرح أصول الكافي، ج 1، ص 230؛ ربّاني الكلبايكاني، الإلهيات في مدرسة أهل البيت، ص 109
2- ابن ورّاق، اسلام ومسلماني (باللغة الفارسية)، ص 251

1 ) الاختلاف في الذات يقتضي الاختلاف في الأفعال :

منشأ الشبهة المذكورة مقارنة ناظم الكون الذي هو الإله الواحد الأحد مع القابليات البشرية فى النَّظم والصناعة.

في عالم المادّة يمكن مشاهدة عدة أمورٍ منظومةٍ أو مجموعةٍ منتظمةٍ نتيجة جهود عدّة ناظمين، فعلى سبيل المثال من الممكن أن يجتمع عددٌ من المهندسين ويستشير بعضهم بعضاً فيسخّرون علمهم وحكمتهم لرسم خارطة أحد المباني الشاهقة، وبعد ذلك ينسّقون جهودهم ويقسّمون مسؤولياتهم لبنائه بشكلٍ بنظمٍ معيّنٍ.

كما نلحظ من هذا المثال أنّ الذين طرحوا الشبهة قد تأثّروا بالنَّظم البشري المحدود وقارنوه مع النَّظم الكوني العظيم، فأقحموا المادّيات في عالم المجرّدات، لذلك أثاروا شبهة إمكانية تعدّد الآلهة وعدم اختلافهم في نظم الكون و تدبير شؤونه مجتمعين على أساس علمهم وحكمتهم؛ إذ من الممكن أن يستشير بعضهم بعضاً وينسّقون فيما بينهم على صعيد خلقة الكون وإدارته وتدبير شؤونه، وفي هذه الحالة لا يوجد أي ّتمانعٍ ولا تنازع .

لا شكّ في أنّ هذه الشبهة منبثقةٌ من أوهام وتصوّرات لا تمتّ بأدنى صلةٍ للحقيقة، فالذين زعموها قد أطلقوا العنان لأوهامهم بعد أن قاموا بإجراء مقارنةٍ باطلةٍ من أساسها، لكنّهم لو أمعنوا النظر قليلاً لأدركوا وهنها واستحالة وجود أكثر من ناظمٍ واحدٍ للكون، إذ إنّنا على أقلّ تقديرٍ إذا افترضنا وجود إلهين وقلنا إنّ كلّ واحدٍ منهما واجب الوجود، فالضرورة حينئذٍ تقتضي امتلاك كلّ واحدٍ منهما ذاتاً وصفاتٍ خاصّةً تختلف عمّا يمتلكه الآخر، وفي غير هذه الحالة لا يمكن تصوّر التعدّد، إذ إنّ الانطباق التامّ والكامل دليلٌ على الوحدة، والاختلاف هو منشأ التعدّدية؛ وقد وضّنا هذا الأمر آنفاً.

ص: 394

إذن، افتراض وجود إلهين مختلفين من حيث الذات والصفات يقتضي بالضرورة اختلافهما بالإرادة والأفعال، ذلك لأنّ كيفية الأفعال ونوع الإرادة يرتبطان بالذات والصفات الذاتية؛ ولمّا كانت ذات كلٍّ من هذين الإلهين المفترضين وصفاتهما مختلفةً عن بعضها، سوف يحدث اختلافٌ في أفعالهما لا محالة، ومن ثمّ لا مناص من حدوث تعارضٍ فيها؛ ونتيجة هذا الأمر بكلّ تأكيدٍ طروء خللٍ في الخلقة والنَّظم، بل وحتّى في تدبير شؤون الكون.

وكما يقول علماء الفلسفة، فإنّ عالم الإمكان في الأصل موجودٌ بصورةٍ مجردةٍ وبسيطةٍ في ذات البارئ جلّ وعلا، وهذا العالم هو في الحقيقة وجودٌ تفصيليٌّ ومحدودٌ له.

وبرأي علماء الكلام فإنّ نظام القضاء والقدر يصنّف في قسمين، أحدهما عينيٌّ (الصورة الخارجية للشيء) والآخر علميٌّ (صورة الشيء العلمية في المقام الإلهي قبل أن يخلق)؛ والقسم الأوّل تابعٌ للثاني، أي: إنّ العيني تابعٌ للعلمي. لذا لو افترضنا وجود إلهين، فاختلاف ذاتيهما هي الصورة المجرّدة والبسيطة لعالم الإمكان، كما أنّ القضاء والقدر لهذه الصورة في ذاتي هذين الإلهين تكون مختلفةً بطبيعة الحال؛ وبما أنّ كلّ صورةٍ يجب أن تصدر من کلّ واحدٍ منهما على وفق مقتضيات ذاته الخاصّة، فلا مفرّ من الاختلاف والتمانع في مرحلتى الخلقة والتدبير.

إذن، نستنتج ممّا ذكر أنّ نطاق برهان التمانع والنَّظم يشمل كلا المرحلتين على حدٍّ سواء، أي الخلقة والتدبير.

يقول الشيخ عبد الله جوادي الآملي في هذا الصدد: «الغاية الأساسية في هذا البرهان هي إثبات التوحيد في ربوبية الله تعالى والإيمان بأنّه مدبّر

ص: 395

شؤون الكون ولا يراد منه إثبات وحدانية ذاته الواجبة كما لا يقصد منه إثبات التوحيد في الخالقية» (1).

ويقول في نقد شبهة عدم استحالة انسجام إلهين أو أكثر في نظم شؤون الكون: «لو فُرض أنّ ذات الإله متعدّدة، فنتيجة ذلك أنّ صفاته الذاتية كالعلم والإرادة، تصبح متعدّدةً أيضاً ومختلفةً فيما بينها، ومن ثمّ يحدث اختلافٌ في المخلوقات والأنظمة العينية لكلّ جنسٍ منها - تبعاً لذلك النظام العلمي ولمقام التدبير المفترضين لكلّ إلهٍ - وإثر التباين الحاصل بين هذه الآلهة واختلاف ذواتها، يصبح من المستحيل لها امتلاك إداركٍ متشابهٍ وأهدافٍ موحّدةٍ وأسلوبٍ متّسقٍ» (2).

2 ) استحالة انسجام إلهين مع بعضهما:

الدليل الثاني على نظم الكون ووجود الله الواحد الأحد هو استحالة افتراض تحقّق انسجام بين الهين في خلقة الكون وتدبير شؤونه (3).

ص: 396


1- عبد الله جوادي الآملي، تفسير موضوعي - توحید در قرآن (باللغة الفارسية)، ج 2، ص 74
2- المصدر السابق، ص 77 - 78؛ راجع أيضاً: صدر المتألّهين، الأسفار الأربعة، ج 6، ص 9
3- أكّد الفيلسوف الغربي توما الأكويني على استحالة انسجام إلهين فيما بينهما على صعيد تدبير شؤون الكون ونظمه، ونحن بدورنا قد سلّطنا الضوء في النصّ على مسأله حدوث العالم، لذا فإنّ بعض المؤاخذات التي يطرحها المفكّرون المعاصرون لا ترد على ما نقول. للاطّلاع أكثر، راجع: مصطفى ملكيان، مسائل جديد كلامي (باللغة الفارسية)، جامعة الإمام الصادق علیه السّلام ، طهران، ص 60 والصفحات اللاحقة

لأجل توضيح هذا الدليل نتطرّق أوّلاً إلى بيان كيفية تحقّق التوافق والانسجام بين الذين يشتركون في النَّظم والتدبير كمقدَمةٍ للموضوع.

على سبيل المثال عندما يتّفق مهندسان على طرح برنامج عملٍ مشتركٍ ويوحّدان آراءهما ، فهذا يعني أنّ كلّ واحدٍ منهما قد تخلّى عن التشبّث برأيه الخاصّ وأذعن للرأي الآخر. لو حلّلنا هذه الحالة بالتفصيل نستشفّ منها أنّ تخلّى صاحب الرأي عن رأيه ناشئ من قوّة الرأي الآخر وسداده فالمهندس الذي يرى أنّ الصواب في برنامج زميله هو بطبيعة الحال يكون قد تيقّن بوجود خللٍ في برنامجه، أو أنّه ربّما يذعن إلى رأي نظيره من منطلق الحفاظ على الاتّحاد والانسجام، إذ حتّى وإن تيقّن أنّ زميله على خطأ فهو يقبل برأيه مراعاةً للمصلحة، وهذا الأمر بكلّ تأكيدٍ ينمّ عن عجزه وفشله في تدبير الأمور، ومن ثمّ هو دليلٍ جليٍّ على عدم بلوغه درجة الكمال المطلق.

إذن، هذا الانسجام الذي لا يمكن تبريره في جميع الظروف والأحوال، لا يمكن عدّه ضرورياً ولازماً بشكلٍ مطلقٍ، بل فيه محاذير كثيرة لتعارضه مع مبادئ الكمال والعلم والحكمة اللامتناهية.

- الاستدلال على استحالة المدّعى:

إنّ مجرّد ادّعاء وجود إلهين يتولّيان نظم الكون وتدبير شؤونه بشكلٍ مشتركٍ بعد أن خلقاه، يدلّ على وجود اختلافٍ بينهما، إذ حسب الفرضية المطروحة يجب على أقلّ تقديرٍ وجود الحدّ الأدنى من الاختلاف بينهما ولو في إحدى الصفات الوجودية، وكما هو ثابتٌ فالاختلاف التكويني يسفر عن حدوث اختلافٍ في منظومة العلم والأفعال وحتى في الآثار المترتّبة عليها.

ص: 397

لا ريب في أنّ زعم وجود إلهين يخلقان ويدبّران شؤون الكون بانسجامٍ على أساس علمهما وحكمتهما، يدلّ دلالةً قاطعةً على وجود خللٍ في كمالهما، فإمّا أنّهما يفتقران إلى العلم التامّ بالأمور أو تنقصهما القدرة المطلقة للقيام بما يشاءان أو ليست لديهما الإرادة القويّة لفرض أوامرهما؛ وهذا الأمر ينمّ عن عجزهما وضعفهما وسريان النقص إلى ذاتيهما وهو أمر يعني استحالة اعتبار أحدهما أو كليهما واجب الوجود.

ومن الجدير بالذكر هنا أنّ هذه المؤاخذة ترد على الافتراض المذكور حتّى قبل تصوّر تحقّق الانسجام بين الإلهين المزعومين، أي: إنّه مرفوضٌ جملةً وتفصيلاً.

إن أردنا الخوض في جزئيات الافتراض المذكور وتفاصيله، نقول: لو أنّ أحد الآلهة تخلّى عن إرادته باختياره وبالاتّفاق مع الإله الآخر، فلا يخلو الأمر هنا من احتمالين، وهما:

الأوّل: إقراره بضعف إرادته ونقص صفاته الكمالية التي تؤهّله لاتّخاذ القرار الصائب الحاسم في عين قوّة إرادة الإله الآخر وعدم وجود نقصٍ في صفاته الكمالية، وفي هذه الحال من المؤكّد أنّ الأوّل يعدّ ناقصاً وجاهلاً في حين أنّ الثاني يكون كاملاً، ونتيجة ذلك بطلان إلوهية الأوّل.

الثاني: مع علمه بقدرته المطلقة واكتمال صفاته الكمالية التي تؤهّله لاتّخاذ القرار الصائب الحاسم العاري عن أيّ خللٍ ونقصٍ، لكنّه رغم ذلك يتنازل عن رأيه ويتّفق مع الإله الآخر فيرتضي بما تقتضيه إرادة هذا الإله رغم تعارضها مع ما يتبنّاه من آراء صائبة؛ وفي هذه الحال يمكن القول: إنّ الإله الأوّل مقهورٌ للإله الثاني وكأنّما أُجبر على مخالفة الحقّ، ناهيك عن أنّه ترك

ص: 398

الأصلح وأقرّ الأسوأ على الرغم من علمه بذلك، وهذا الأمر بكلّ تأكيدٍ يتنافى بالتمام والكمال مع الحكمة الإلهية ولا ينسجم مع إرادة الخير.

ولا يختلف اثنان في أنّ الربِّ الكامل لا يمكن أن يصدر منه أيّ فعلٍ ناقصٍ ومخالفٍ للخير والمصلحة، وفي غير هذه الصورة فهو ليس بواجب الوجود.

المؤاخذات التي طرحت في أعلاه تنطبق على كلا الإلهين المزعومين، فالسيادة المطلقة تعنى اتّخاذ الرأي بإرادةٍ فرديةٍ محضةٍ من دون تصوّر أيّ شريكٍ، ولكن حينما يتّفق إلهان اثنان على رأي فهذا يعني أن لا أحد منهما يتّصف بالكمال ولا يعدّ واجب الوجود لكون فعله إمّا أن يكون ناشئاً من الجهل والنقص أو أنّه ناقصٌ ولا يلبّي الغرض المنشود.

*الشبهة الرابعة : إله الخير والشرّ، إزدواجيةٌ أسفرت عن ظهور العقيدة الثنوية

من البديهيّ أنّ الشرِّ بجميع أشكاله غير محبّذٍ لدى بني آدم، لذا فكلّ نقصٍ في المنظومة الطبيعة يؤرّقهم ويثير هواجس الحكماء والفلاسفة منهم للبحث عن الحكمة من وراء حدوثه

ولكن هل إنّ منشأ كلّ ما يشهده الكون من شرٍّ وأذى ومعاناة يعود إلى الإله الواحد الذي يريد الخير لعباده؟ كيف يمكن لهذا الإله الذي هو خيٌر مطلقٌ أن يسمح لمنظومته العظيمة بالخضوع لمختلف الشرور والبلايا؟

مسألة الشرِّ الذي يبغضه الناس قد طرحت منذ سالف العصور في مختلف المدارس الفكرية والفلسفية، فالذين لم يتمكّنوا من طرح تبريرٍ مناسبٍ

ص: 399

ممّن يعتقدون بأنّ الإله هو خيرٌ محضٌ ولا يمكن أن يصدر شرٌّ منه قد واجهوا صعوباتٍ ووقعوا في مآزق فكرية وعقائدية على هذا الصعيد؛ لذلك اتّخذوا منحىً آخر يتمثّل في طرح إلٍه آخر خالقٍ للشرّ! وقد بادر الثنوية من المشركين إلى الاعتقاد بهذا الإله المزعوم ، لذلك جعلوا إلهاً للخير وآخر للشرّ.

ومن أبرز الفرق والأديان التي تبنّت عقيدة الثنوية في الأزمنة السالفة، هي: الزرادشتية، المرقيونية، الديصانية، المانوية، المزدكية، الكينونية، الصيامية.

أمّا اليوم فهذه العقيد تتجلّى في أنماط شتّى وتطرح أفكارها اعتماداً على التقنية الحديثة فهناك مجموعة من المقالات (1) والمواقع الإلكترونية (2)التي تروّج لها.

هذه الشبهة في الحقيقة لا تتعارض مع التوحيد في الذات، بل تتعارض التوحيد في الأفعال على صعيد الخالقية، إذ إنّها جعلت البعض يعتقد بوجود خالقين، كالزرادشتية الذين يؤمنون بوجود إلهين خالقين هما إله الخير (يزدان) وإله الشرّ (أهريمن).

تحليل الشبهة ونقضها:

نذكر النقاط الآتية في نقض الشبهة المذكورة:

1 ) عدم تعارض الشرّ الموجود في الكون مع الصفات الكمالية الله تعالى:

ص: 400


1- مسعود الأنصاري (الدكتور روشنگر) ، الله اکبر (باللغة الفارسية)، ص 45
2- www.farhangshahr.com, p. 58

أثبتنا آنفاً بمختلف الأدلّة والبراهين (1) أنّ مسألة الشرّ الموجود في الكون والآلام التي يعاني منها بعض الناس، لا تتعارض مع صفات الله تعالى من قبيل العلم والقدرة والخير المطلق، وذلك للأسباب الآتية:

أ - الشرّ أمرٌ عدميٌّ: إنّ الشرّ لا يعدّ من الأمور الوجودية كي يحتاج إلى فاعلٍ مستقلٍّ يصدر منه بل هو عدمٌ صرفٌ، وبعبارة ٍأخرى هو (عدم الملكة) وانعدام الكمالات؛ لذا فهو لا يحتاج إلى إلهٍ يفعله. وقد تطرّقنا سابقاً إلى الحديث عن هذه الحقيقة وقلنا إنّ الشرِّ عبارةٌ عن إدراك النفس الإنسانية للأذى والمعاناة (2).

ب - الشرّ يستتبع خيراً كثيراً: لا شكّ في أنّ الخير وسائر الأمور المفيدة والمحبّذة في الحياة الدنيا ذات نطاقٍ أوسع من الشرّ والمعاناة، فعالم المادّة بطبيعة الحال لا ينفكّ عن الشرّ قليلاً كان أو كثيراً، لذا فتصوّر عالمٍ مادّي ٍّعارٍ عن الشرّ يضاهي تصوّر عدم وجوده من الأساس، وبديهي فإنّ زوال العالم يعني زوال خيرٍ كثيرٍ؛ ومن ثمّ فإنّ ترك الخير الكثير في عالمّ المادّيات إثر الشرّ القليل يتعارض مع إرادة الله تعالى الخير لعباده ولا يتناغم مع بركاته الفيّاضة.

طبقاً لما ذكر ليس هناك تعارضٌ بين وجود الشرّ في الحياة المادّية وبين اللطف الإلهى.

ج - الشرّ يسمو بروح الإنسان إلى الدرجات العُلا من البديهي أنّ الآلام والمعاناة التي تكتنف الروح الإنسانية تجعلها أكثر صلابةً وتزيد من بأسها

ص: 401


1- راجع الفصل الثاني من هذا الكتاب
2- نوقش هذا الموضوع في الفصل الثاني من الكتاب أيضاً

ورباطة جأشها، فتحفّزها على السعي لبلوغ أرفع الدرجات.

د - الشرّ مبدأ للخير: آلام الإنسان ومعاناته إثر مختلف الحوادث المريرة التي يواجهها في مسيرته الدنيوية تشذّب شخصيّته وترتقي بها لنيل خيرٍ عظيمٍ.

ه_ - الثواب يستتبع الشرّ: الآلام والمعاناة التي تعدّ شرّاً يؤّرق الإنسان بحيث تطرأ عليه دونما تقصيرٍ منه لأنّها ناشئةٌ لأنها ناشئة من طبيعة عالم المادّة، لا تمرّ من دون مقابلٍ، فالله عزّ وجلّ يعوّض العبد في الحياة الآخرة عمّا تعرّض له بسببها ويهبه نعماً لا تعد، ولا تحصى، ومن ثمّ فهى مصدرٌ لثوابٍ عظيمٍ وبركاتٍ لا حصر لها. لذلك فإنّ الشرّ لا يتعارض بتاتاً مع الصفات الكمالية لله تعالى ولا يتنافى مع التوحيد، ممّا يعني عدم إمكانية اعتبار عقيدة الثنوية حلاً له.

2 ) عدم وجود دليلٍ يثبت صحّة العقيدة الثنوية:

لم يقم أصحاب العقيدة النثوية أيّ برهانٍ على صحّة عقيدتهم هذه واكتفوا بطرح مسألة البلاء زاعمين وجود إلهٍ للخير وآخر للشرّ، وهذه المزاعم بكلّ تأكيدٍ باطلةً من أساسها، وقد أثبتنا ذلك في مباحث أدلّة التوحيد ناهيك عن أنّنا أبطلنا بالبرهان القاطع زعم كون الشرّ دليلاً على وجود أكثر من إلهٍ.

* الشبهة الخامسة : قاعدة الواحد لا تنسجم مع التوحيد في الأفعال

هناك قاعدةٌ فى الفلسفة يطلق عليها (قاعدة الواحد) وفحواها أنّ الواحد الحقيقي البسيط لا يمكن أن يصدر منه بشكلٍ مباشرٍ أكثر من فعلٍ

ص: 402

واحدٍ، ومن ثمّ لا يترتّب على فعله سوى معلول واحدٍ، حيث تقول: (الواحد لا يصدر عنه إلا واحد)؛ (1) وعلى هذا الأساس طرحت شبهةٌ مضموها أنّ سائر الأفعال والمعلولات ترجع إلى فواعل وعلل وسيطة أخرى.

يترتّب على هذا الكلام حصر خالقية الله تعالى بالمعلول الأوّل فقط لأنّ سائر الأفعال تُنسب إليه بشكلٍ غير مباشرٍ لصدورها مباشرةً من جانب علل وسيطة أخرى، ويعبّر عنها في تعاليم الفلسفة المشّائية ب_ (العقول العشرة)، والعقل العاشر منها يطلق عليه (العقل الفعّال) وهو الذي يتولّى تدبير شؤون العالم المادّي.

ومن الجدير بالذكر هنا أنّ هذه الشبهة غالباً ما تطرح من قبل علماء الكلام اعتراضاً على المتبنّيات الفكرية للفلاسفة (2).

تحليل الشبهة ونقضها:

نردّ على الشبهة المذكورة بالنقاط الآتية :

ص: 403


1- للاطّلاع أكثر، راجع: المحقّق ميرداماد، القبسات، ص 351؛ ابن سينا، الإشارات (بشرح المحقّق الطوسي والفخر الرازي)، نهاية النمط الخامس؛ صدر المتألّهين، الأسفار الأربعة، ج 2، ص 24 - ج 7، ص 192؛ الخواجه نصير الدين الطوسي، نقد المحصل، ص 531 ؛ شيخ الإشراق المطارحات، ص 385؛ ابن سينا، التعليقات، ص 27؛ الملا هادي السبزواري، شرح المنظومة، ص 127؛ محمّد تقي مصباح اليزدي، تعليقة على نهاية الحكمة، الرقم 243
2- للاطّلاع أكثر ، راجع: الفخر الرازي، تلخيص المحصّل، ص 237؛ الفخر الرازي، المباحث المشرقية، ج 1 ، ص 460 ؛ محمّد الغزالي، تهافت الفلاسفة، المسألة الثالثة، ص 89

1 ) ذكرنا في مبحث (التوحيد في الأفعال) أنّ التوحيد في الخالقية والأفعال لا يراد منه انحصار الخلق والفعل بالله تعالى ولا يعني إنكار دور سائر الأسباب والفواعل بل المقصود منه أنّ الله عزّ وجلّ يجري تأثيره على الكون عن طريق بعض الوسائط بعد أن خلق العلّة الأولى وسائر العلل بحيث يكون هو الفاعل والسبب المباشر في التأثير والقيام بالأفعال باعتبار وجود علّتين في موازاة بعضهما، أي: إنّ العلّة الثانوية تكتسب تأثيرها من العلّة الأولى وتتحرك إلى جانبها.

إذن، استناداً إلى ما ذكر فقاعدة (الواحد لا يصدر عنه إلا واحد) لا تتعارض مع التوحيد في الأفعال، والعلّية الوسيطة التي هي في موازاة العلّية الأولى قد تمّ التأكيد عليها في القرآن الكريم، فبعض الآيات نسبت إنزال المطر إلى الله تعالى مباشرة،ً منها قوله تعالى :«وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِمَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ » (1) ، وأخرى نسبته إلى السحاب، كقوله تعالى: «اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ»(2).

2 ) يمكن اعتبار افتقار الممكنات في وجودها إلى الله تعالى بأنّه عين ارتباطها بواجب الوجود بحيث يكون وجودها متقوّماً به ومستمدّاً فيضه منه في كلّ آنٍ من دون انقطاعريال، ومن هذا المنطلق يمكن الجمع بين العلّية وقاعدة الواحد وبين مبدأ التوحيد في الأفعال. وبعبارةٍ أخرى نقول: (لا مؤثّر في

ص: 404


1- سورة الشورى، الآية 28
2- سورة الروم، الآية 48

الوجود إلا الله ) (1)، حسب هذه القاعدة فإنّ المؤثّر الحقيقيّ المستقلّ في عالم الوجود هو الله تعالى، ومن ثمّ فإنّ سائر العلل المؤثّرة لا تعدّ حقيقيّة ومستقلّةً بذاتها، بل إنّما تكتسب تأثيرها بفيضٍ من العلّة الحقيقية والمؤثّر الأوّل.

3 ) لم يدّع الفلاسفة أنّ سائر العلل لها تأثيرٌ على صعيد الخلقة والتكوين، بل قالوا إنّ تأثيرها يعدّ مجرى لانتقال الفيض الإلهي إلى غيرها حسب استعدادها وبشرط توفّر بعض الظروف الخاصّة، حيث قال الحكيم صدر الدين الشيرازي: «هذه الوسائط كالاعتبارات والشروط التي لابدّ منهما في أن تصدر الكثرة عنه تعالى، فلا دخل لها في الإيجاد، بل في الإعداد» (2).

ومن الجدير بالذكر هنا أنّ قاعدة الواحد هي من جملة القواعد التي تحظى باهتمامٍ بالغٍ في البحوث الفلسفية، ولا يسعنا المجال هنا لتسليط الضوء على تفاصيلها بإسهابٍ حيث اكتفينا بذكر بعض ما يرتبط بموضوع البحث في إطار مقتضبٍ (3).

*الشبهة السادسة : نظام العلّية يتعارض مع عقيدة التوحيد في الأفعال :

بناءً على عقيدة التوحيد في الأفعال فإنّ جميع الحركات والآثار متعلّقةً بالله عزّ وجلّ، فهو العلّة الحقيقية لكلّ فعلٍ وانفعالٍ، أمّا سائر الأمور التي تبدو

ص: 405


1- صدر المتألّهين، الأسفار الأربعة، ج 2، ص 216
2- المصدر السابق، ص 216 - 219
3- للاطّلاع أكثر، راجع الميرزا مهدي الآشتياني، أساس التوحيد. كذلك راجع سائر الكتب الفلسفية التي تناولت هذا الموضوع بالشرح والتحليل

وكأنّها عللٌ فهي في الواقع ذات تأثيرٍ ظاهريٍّ وليس حقيقياً، ولكن لو ذهبنا إلى القول بنظام العلّية وأذعنا بأنّ العلّة الحقيقية لكلّ فعلٍ هي تلك العلّة المباشرة التي أوجدته - من قبيل النار التي هي علّة مباشرة لصدور الحرارة - ستُطرح شبهةً على عقيدة التوحيد في الأفعال، فهذا الكلام يعني إنكار تأثير الله تعالى لكونه ينسب الأفعال إلى غيره، وهذا بدوره يعدّ نمطاً من الشرك.

الأشاعرة طرحوا نظرية (العادة) وأنكروا مبدأ العلّية، ومن خلال نسبتهم أفعال الإنسان وآثارها إلى الطبائع عدوّها أمراً لا ينسجم مع التوحيد في الأفعال (1).

والعرفاء بدورهم قاموا بتقييد الوجود الحقيقيّ بالله تعالى، ثمّ أنكروا سائر الوجودات الأمر الذي يعني إنكار نظام العلّية؛ لذلك عدوّا الكون انعكاساً للوجود الإلهي.

أمّا بعض المفكّرين المعاصرين من الشيعة فقد أيّدوا المذهب العرفاني وانتقدوا نظام العلّية (2).

ص: 406


1- للاطّلاع أكثر ، راجع: شرح المواقف، ج 8، ص 241؛ الفخر الرازي، المباحث المشرقية، ج1، ص 622؛ محمّد الغزالي، تهافت الفلاسفة، ص 66؛ سعد الدين التفتازاني، شرح المقاصد، ج 1، ص 357 ؛ الشهرستاني الملل والنحل، ج 1، ص 90. لمعرفة رأي الأشاعرة حول هذا الموضوع وأدلّته بشكلٍ تفصيليٍّ، راجع: محمّد حسن قدردان قراملكي، اصل علّیت در فلسفه وکلام (باللغة الفارسية)، ص 33 والصفحات اللاحقة
2- للاطّلاع أكثر، راجع: محمّد تقي الجعفري، شرح نهج البلاغة (باللغة الفارسية)، ج 10، ص 90

تحليل الشبهة ونقضها:

نقول في نقض الشبهة المذكورة:

1 ) علم الفلسفة أثبت مبدأ العلّية - نظام السببية في الكون - على وفق براهين خاصّة، ومن ثمّ جعله الفلاسفة أساساً للمعارف العقلية لدرجة أنّهم عدوّا إنكاره أو التشكيك فيه بمثابة إنكار الدين أو الشكّ في مصداقيته، وقالوا أيضاً إنّ إنكاره بمنزلة إنكار البراهين التي تثبت وجود الله تعالى.

2 ) ذكرنا في المباحث الآنفة أنّ القرآن والحديث أكّدا على العلّية وحاكميتها في نظام الطبيعة، لذا لا يمكن إنكارها بذريعة عدم انسجامها في ظاهر الحال مع عقيدة التوحيد في الأفعال، لأنّ ذلك يستلزم القول بمسائل باطلة تتنافى مع الإيمان بالله تعالى.

3 ) على أساس مبدأ العلّية الطولية التي تقول بأنّ العلل الثانوية تكتسب تأثيرها من العلّة الأولى، لا يمكن الجمع بين عقيدة التوحيد في الأفعال ونظام العلّية، ومن ثمّ لا يمكن عدّهما أنّهما يجريان في مسير واحدٍ.

إنّ الله تعالى هو علّة العلل وهو الذي خلقها بميزاتٍ ذاتيةٍ معينةٍ، ونظراً لطبيعتها الإمكانية وافتقارها فهي مرتبطة بواجب الوجود في كلّ آنِ وفي جميع الأحوال، لذا فإنّ حرارة النار وقدرتها على الإحراق كلاهما ينسبان في الواقع إلى الله تعالى شأنه (1).

ص: 407


1- للاطّلاع أكثر ، راجع : محمّد حسن قدردان قراملکی، اصل علّیت در فلسفه وکلام (باللغة الفارسية)، ص 83 والصفحات اللاحقة في الفصلين الرابع والخامس

* الشبهة السابعة: القول بكون الإنسان مخيّراً يتعارض مع عقيدة التوحيد في الأفعال

إحدى الشبهات التي تطرح على صعيد التوحيد في الأفعال تتمحور حول أنّ القول بكون الإنسان مخيّراً في أفعاله لا ينسجم مع هذه العقيدة التوحيدية، إذ قال من طرحها إنّ ابن آدم لو كان يملك الخيار التامّ فيما يفعل بحيث يصبح الفاعل الحقيقي والمؤثّر، ففي هذه الحال يحدث تعارض بين اختياره وبين عقيدة التوحيد في الأفعال رغم ضرورة كونه مخيّراً حسب التعاليم الدينية؛ فما الحلّ إدن؟!

إن كان الكلام عن هذا الاختيار يدور في فلك التوحيد في الأفعال، فنتيجة ذلك التشكيك في فاعلية الإنسان، ممّا يعنى القول بعقيدة الجبر.

دافع أتباع عقيدة التفويض عن مبدأ اختيار الإنسان مؤكّدين على أنّ أفعاله قد فوّضت إليه ، وهذا الرأي يتعارض بالكامل مع عقيدة الأشاعرة الذين اضطرّوا للقول بالجبر تحت مظلّة الدفاع عن مبدأ التوحيد في الأفعال، ولكن نظراً لعدم إذعانهم للعقيدة الجبرية بصريح القول حاولوا تبرير نظريّتهم عن طريق طرح فرضية (الكسب) التي تؤكّد على أنّ الله عزّ وجلّ هو الفاعل الحقيقي لأفعال البشر، إذ إنّ الإنسان يكتسب أفعاله منه. والطريف أنّ الأشاعرة قد طرحوا آراء عديدة بغية إثبات صحّة نظرّيتهم هذه، ولكن لا يسعنا تسليط الضوء عليها هنا (1) .

ص: 408


1- للاطّلاع أكثر ، راجع : محمّد حسن قدردان قراملکي، نگاه سوم به جبر و اختیار (باللغة الفارسية)، ص 240 والصفحات اللاحقة

تحليل الشبهة ونقضها:

لو أمعنّا النظر في الأبحاث التي طرحت آنفاً، لا تّضح لنا مدى هشاشة هذه الشبهة وهزالتها، لذا نكتفي هنا بذكر بعض نقاط النقض بإيجازٍ:

1 ) حسب قواعد نظام العلّية، لا يمكن إنكار دور الإنسان - علّيته - في أفعاله، ولكن هذا الأمر لا يتعارض مع دور الله تعالى - علّيته - لأنّ العلل في موازاة - على طول - بعضها البعض كما قلنا فالخالق البارئ هو العلّة الأولى وعلّة العلل .

2 ) الإنسان في ذاته وأفعاله مفتقرٌ لواجب الوجود ومتقوّمٌ عليه في كلّ آنٍ من دار من دون انقطاعٍ، لذا لم يوكله الله تعالى إلى نفسه بحيث يكون مستقلاً عنه.

3 ) على أساس ما ذكر في النقطتين أعلاه، فعقيدتا الجبر والتفويض باطلتان برأي الإمامية ولم تؤيّدها الأحاديث المروية عن المعصومين علیهم السّلام التي استنتجوا منها رأياً مستقلاً وهو (أمرٌ بين الأمرين)، وذلك بمعنى أنّ الإنسان لا يحظى بالاستقلال التامّ في أفعاله دون الحاجة إلى الله سبحانه، كما أنّه ليس مجبراً عليها بل من خلال اعتماده على قدرة الربّ جلّ وعلا يقدم على أفعاله، أي: إنّ العبد والمعبود لهما دورٌ في صدور الفعل.

إذن، حسب هذه النظرية هناك تأثيرٌ مشتركٌ على أفعال الإنسان، فهي تبدر منه باختياره ولكن بالقدرة التى منحها الله تعالى إيّاه.

*الشبهة الثامنة : التوسّل والشفاعة يتعارضان مع التوحيد في الربوبية والعبادة :

التوحيد في الربوبية هو أحد مراتب التوحيد، إذ يعني أنّ الله العليّ

ص: 409

القدير هو الذي يتولّى تدبير شؤون الدنيا والآخرة؛ والتوحيد في العبادة يعني اقتصار العبودية عليه تبارك شأنه دون سواه لكونه أهلاً لها، لذا فإنّ عبادة كلّ من سواه شركٌ وتعارض ٌمع مبدأ التوحيد.

خلال العقود الماضية تشبّث أتباع الفكر الوهابي ومن تأثّر بآرائهم المتطرّفة (1)، بالتوسّل والشفاعة كذريعةٍ للقدح بحقّانية التشيّع فطرحوا شبهةً على معتقدات الإمامية، إذ عدوّا التوسل بالنبيّ الأكرم صلّی الله علیه و آله والأئمة المعصومين علیهم السّلام وطلب الشفاعة منهم شركاً، بمعنى تعارضهما مع التوحيد في الربوبية والعبادة.

كما هو معلومٌ فإنّ الشيعة الإمامية يتوسّلون بالنبيّ صلّی الله علیه و آله والأئمّة المعصومين علیهم السّلام ويطلبون منهم العون والشفاعة لذلك طرحت شبهةٌ عليهم تؤكّد على تعارض فعلهم هذا مع التوحيد في الربوبية لأنّ المؤثّر الوحيد في الكون هو الله تعالى، لأنّه المدبّر لشؤون خلقه.

يشار أيضاً إلى طرح شبهةٍ أخرى فحواها أنّهم يعدّون مقام الأئمّة المعصومين علیهم السّلام يضاهي مقام الأنبياء والرسل السلام علیهم السّلام وهذا الأمر بطبيعة الحال يؤثّر على عقيدتهم في العبادة.

تحليل الشبهة ونقضها :

لبيان سقم الشبهة المذكورة أعلاه، نقول :

ص: 410


1- للاطّلاع أكثر، راجع: علي أكبر حكمي زاده، اسرار هزار ساله (باللغة الفارسية)، ص 12 و 39؛ محمّد حسن (غلام رضا) شریعت سنكلخي، توحيد عبادت یکتاپرستي (باللغة الفارسية)؛ حيدر علي قلمداران ، راه نجات از شرّ غلات

1 ) الشيعة لا يجعلون لأئمّتهم مقاماً مستقلاً عن المقام الذي أكرمهم به الله تعالى بتاتاً، بل يعدّونهم شخصيات مثلى بلغت الدرجات العلا بفضل إخلاصهم التامّ في عبادة الله سبحانه وتعالى، ومن ثمّ فمن يخلص دينه الله تعالى سوف يوفّقه للعبوية الحقّة ويكرمه بعنايته وألطافه ويقرّبه منه؛ وهو ما ناله الأئمّة المعصومون علیهم السّلام بعد أن ظهرت أنفسهم ونزهت أعمالهم من كلّ شائبةٍ.

حسب اعتقاد الشيعة فإنّ جميع الناس غير متكافئين في الدرجات والمراتب المعنوية نظراً لعدم تكافؤ أعمالهم، وكلّ من رام منهم الرقيّ بنفسه والتقرّب أكثر إلى بارئه فهو بحاجةٍ إلى وسيلةٍ تعينه على ذلك إثر المعاصي والآثام التي حجبته عمّا يأخذ بيديه إلى سواء السبيل؛ لذا ليست هناك وسيلةً وواسطةٌ أفضل من المعصومين علیهم السّلام لأّنهم أنزه بني آدم وأتقاهم على الإطلاق، ومن هذا المنطلق يكون لهم دور الرابط بين مدبّر الكون وعباده، وهذا الأمر بكلّ تأكيدٍ لا يتعارض مع التوحيد في الربوبية ولا في الأفعال مطلقاً، كما أنّه لا يستتبع الشرك بتاتاً.

2 ) تعرّف العبادة بأنّها الخضوع والتعظيم الله سبحانه على أساس الإيمان بأنّه الربِّ الواحد الأحد مع عين الاعتقاد بعدم استحقاق غيره لها مهما كانت منزلته، وهذا ما يعتقد به الشيعة ويؤكّدون عليه غاية التأكيد، إذ يؤمنون بأنّه تعالى فقط يستحقّ العبادة لا غير.

أمّا بالنسبة إلى إجلال الشيعة لأئمّتهم، فهو ناشئٌ من تقواهم التي لا نظير له ومقامهم المعنوي الرفيع الذي أكرمهم به البارئ عزّ وجلّ. ولا يختلف اثنان في أنّ أتباع أهل البيت علیهم السّلام يعتقدون بأنّ الأئمّة بشرٌ كسائر الناس، لكنّهم عبدوا الله حقّ عبادته وأخلصوا دينهم فنالوا مقاماً معنوياً رفيعاً.

ص: 411

إذن، هذه العقيدة التوحيدية الخالصة تبطل مزاعم الوهابية ومن لفّ لفّهم ضدّ الشيعة لأنّها لا تتعارض مع التوحيد في جميع صوره.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ الشيعة يعتقدون بعدم صواب الخضوع للأئمّة المعصومين علیهم السّلام بقصد التأليه أو العبودية، أو حتّى منحهم مقاماً يفوق المقام الذي أكرمهم الله تعالى به ؛ فهذا الأمر برأيهم يتعارض مع التوحيد في الربوبية وفى العبادة.

3 ) بإمكاننا نقض الشبهة المطروحة حول عقيدة الشفاعة بالاستدلال نفسه المطروح في أعلاه، فقد أذن الله العليّ القدير لعباده المكرمين بالشفاعة لسائر خلقه في يوم القيامة، وبمن فيهم الأنبياء والأئمّة والشهداء والصالحون الذين طابت سريرتهم. حسب اعتقاد الشيعة فالأئمةّ المعصومون علیهم السّلام سيشفعون لشيعتهم، وهو أمرٌ لا يتعارض مطلقاً مع التوحيد في الربوبية ولا مع التوحيد في العبادة.

*الشبهة التاسعة: السجود لآدم يتعارض مع التوحيد في العبادة

طرح بعض المناهضين للأديان التوحيدية (1) شبهةً مضمونها أنّ طلب الله تعالى من ملائكته بالسجود لآدم علیهم السّلام بعد أن خلقه (2)، يتعارض مع السلام عقيدة التوحيد في العبادة.

ص: 412


1- ابن ورّاق، اسلام ومسلماني (باللغة الفارسية) ، ص 255
2- قال تعالى: «وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا» . سورة البقرة، الآية 34

تحليل الشبهة ونقضها:

هذه الشبهة واضحة ،البطلان إذ الملائكة أُمروا بالسجود لآدم علیه السّلام من قبل الله عزّ وجلّ ربِّ كلّ شيءٍ وبارئه، أي: إنّهم لم يفعلوا ذلك بمحض إرادتهم، بل استجابوا لأمره تعالى، ناهيك عن أن هذه السجدة ليست سجدة عبادة كتلك التي يؤدّيها العبد لربّه، وإنما هي تعظيمٌ له من منطلق أنّ الله تعالى جعله خليفةً له في أرضه.

فضلاً عمّا ذكر، فالملائكة كائناتٌ مجرّدةٌ وتعيش في عالمٍ مجرّدٍ عارٍ من المادّة وتبعاتها، لذا لا يمكن القول بأنّ سجدتهم تناظر سجدة البشر في العالم المادّي والتي تؤدّى عن طريق وضع الجبهة على الأرض كي يقال إنّها تتعارض مع التوحيد في العبادة، بل كانت سجدتهم طاعةً محضةً لله تعالى وتنفيذاً لأوامره بكلِّ إرادةٍ وإخلاص.

* الشبهة العاشرة: عقيدة التوحيد سببٌ للخلافات والنزاعات، وفسح المجال لسائر المعتقدات غير التوحيدية وازعٌ لتحقّق الاستقرار

يسعى بعض المعاندين إلى إثارة شبهةٍ تمسّ بعقيدة التوحيد من الأساس، حيث يزعمون أنّ وجود إلهٍ واحدٍ دون غيره وازعٌ لحدوث خلافاتٍ ونزاعاتٍ محتدمةٍ في المجتمع، كما يدعون أن الموحدين من منطلق إيمانهم بإلهِ واحدٍ يرفضون آلهة مَن سواهم ويعتبرون من يقدّسها ضالاً ومنحرفاً ممّا يؤجّج الصراعات التي لا تنتهي إلا بزوال أحد الفريقين. واستنتجوا من كلامهم هذا أنّ الاعتقاد بتعدد الآلهة يصون البشرية من الخلافات والنزاعات التي قد تكون داميةً أحياناً!

ص: 413

وممّن تشبّث بهذا الرأي الواهي في البلدان الغربية، ديفيد هيوم وشوبنهاور (1)، وفي عصرنا الراهن فهي رائجةٌ على نطاقٍ واسع في بعض المواقع الإلكترونية (2).

تحليل الشبهة ونقضها :

نردّ على الشبهة المذكورة في أعلاه بالقول:

1 ) أوّل مؤاخذةٍ ترد على الشبهة المطروحة هي أنّ الذين طرحوها جعلوا مآربهم الخاصّة هدفاً أساسياً بدل أن يتّبعوا حكم العقل، فكلّ مفكّرٍ ينبغي له قبل كلّ شيءٍ العمل على أساس حقيقة الأمر وحكم العقل؛ وبالنسبة إلى مسألة تعدّد الآلهة فالعقل يحكم بضرورة بسط أدلّة الموحّدين والثنوية على طاولة البحث ومن ثمّ تقييمها في إطار دراسةٍ مقارنةٍ كي تتّضح الصورة بشكلٍ جليٍّ، وفي المرحلة الأخيرة يتمّ إصدار الحكم بصحّة العقيدة التوحيدية وسقم الثنوية؛ إذ إنّ هذه العقيدة لا تعدّ من المسائل الشخصية أو العاطفية بحيث يمكن التساهل معها أو التغاضي عن بعض جوانبها لعدم ارتباطها بالحياة العامّة بل هي مسألةٌ شموليةٌ ولا بدّ من استنادها إلى حكمٍ عقليٍّ وبرهانٍ منطقيٍّ لا شائبة فيه.

استعرضنا آنفاً أدلّة التوحيد التي تثبت بضرسٍ قاطع أنّ الربّ واحدٌ

ص: 414


1- ابن ورّاق، اسلام و مسلماني (باللغة الفارسية)، ص 258
2- للاطّلاع أكثر، راجع: المصدر السابق، ص 16 و 256؛ تولدي ديگر (باللغة الفارسية)، المؤلّف غير معروف، الفصل المدوّن تحت عنوان: (رحلةٌ في تأريخ المذاهب) ، ص 5

أحدٌ لا شريك له ولا نظير، وفي الحين ذاته أثبتنا أنّ عقيدة تعدّد الآلهة ليس لها أيّ أساسٍ عقليٍّ أو فلسفيٍّ بحيث اكتفى من يذهب إليها بدعوى التعدّد من دون الاعتماد على أيّ برهانٍ معتبر.

إذن، التوحيد بذاته لا يعدّ وازعاً لأيّ نزاعٍ أو اختلافٍ كما زعم بعضهم.

2 ) لا ريب فى أنّ الخلافات والنزاعات والحروب سائدةٌ في المجتمعات البشرية بجميع مشاربها، فحتّى المجتمعات الملحدة والمشركة قد شهدت ذلك على مرّ العصور.

بطبيعة الحال فأتباع كلّ دينٍ يعتقدون بحقّانية دينهم ويرونه الأصحّ والأنسب والأكمل من غيره، ويعتبرون إلههم بأنّه الحقّ ولا يضاهيه إيّ إلهٍ آخر؛ ومن هذه المنطلق نجدهم ينظرون إلى سائر الأديان والآلهة نظرة استنقاصٍ وتحقيرٍ ممّا يعمّق من هوّة الخلافات وقد يؤجّج النزعات المسلّحة في بعض الأحيان، والتأريخ خير شاهدٍ على ذلك حيث اندلعت حروبٌ على مرّ العصور بين أتباع مختلف الأديان دفاعاً عن معتقداتهم وآلهتهم.

وعلى هذا الأساس لا يمكن زعم أنّ التوحيد سببٌ للخلافات والنزاعات، فمهما اختلفت الأديان وتعدّدت الآلهة لا تخلو الأرض من النزاعات المحتدمة لسببٍ أو لآخر، فى حين أنّ التوحيد بذاته من شأنه أن يكون وازعاً لتقليص تلك الخلافات.

3 ) إذا ما أذعنت البشرية يوماً للحقيقة الدامغة وآمنت بالإله الواحد الأحد ولم تشرك به شيئاً ولم تنكره فلا شكّ في تحقّق الوحدة بين جميع

ص: 415

المجتمعات بمختلف مشاربها وشتّى أجناسها، ومن ثمّ سيزول ما بينها من غلٍّ وتتخلّص من الخلافات والنزاعات بشتّى أنماطها، حيث سيشعر الناس حينئذٍ بأنّهم يعيشون في رحاب رحمة إلهٍ رؤوفٍ واحدٍ فيطلبون منه العون والتوفيق. إنّ هذه العقيدة بكلّ تأكيدٍ تجعل الإنسان يشعر بالمساواة والانسجام، وهو أمرٌ يصعب تحقّقه في العقائد الأخرى كالثنوية وما شاكلها.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ خاتمية الشرائع السالفة ونسخها لهما أسبابٌ عديدةٌ، ومن جملتها توحيد الشعوب والأمم تحت راية دينٍ إلهيٍّ واحدٍ يتجسّد في الإسلام الحنيف بحيث يمكن وصفه بالمصطلح المعاصر (عالمية الدين) (1) .

4 ) المسائل التي ذكرها أصحاب هذه الشبهة تصوّر نظرية التوحيد وكأنّها تطرح إلهاً بخيلاً وحسوداً وحقوداً - حاشاه ذلك وتعالى علوّاً كبيراً - وبديهي أنّ هذه المزاعم الواهية لا تجدر بالنقاش والتحليل لأنّ المعاندين شبّهوا الربّ العزيز القدير بعامّة الناس، بل بمرضى النفوس؛ وسنثبت لاحقاً في المباحث المتعلّقة بأسماء الله الحسنى وصفاته أنّ الصفات الثلاثة المذكورة أعلاه وما شاكلها تندرج في ضمن الصفات التي تعلو ذاته الكريمة عن الاتّصاف بها.

5 ) لا ريب في بطلان ادّعاء كون التوحيد وازعاً للعنف والاستبداد، وليس هناك أيّ دليلٍ يثبته. بطبيعة الحال لا أحد ينكر حدوث خلافاتٍ ونزاعاتٍ بين مختلف الأديان، ولكن من العبث بمكانٍ توجيه أصابع الاتّهام إلى

ص: 416


1- للاطّلاع أكثر، راجع: محمّد حسن قدردان قراملکي آيين خاتم (باللغة الفارسية)، مبحث: (الحكمة من خاتمية الدين)

عقيدة التوحيد النزيهة، ولو كان الأمر كما يدّعون لأصبح الإسلام أوّل الأدبان الداعية إلى الصراعات والحروب لأنّه على رأس جميع الأديان التوحيدية ومتقوّمٌ في الأساس على عقيدة التوحيد الحقّة، إلا أنّنا نشاهد العكس من ذلك تماماً، فالتعاليم الدينية في القرآن الكريم والسنّة النبويّة تؤكّد على ضرورة عدم إكراه الناس في اعتناقه(1) كما تحفّز المسلمين إلى التسامح مع أتباع سائر الديانات (2) وفي الحين ذاته تدعو أهل الكتاب إلى التعاون والعمل على أساس المعتقدات المشتركة ؛ (3) وهذه الأمور وما شاكلها تبطل الشبهة المطروحة.

روي عن رسول الله صلّی الله علیه و آله أنّه قال: «الخلق عيال الله، فأحبّ الخلق إلى الله من نفع عيال الله وأدخل على أهل بيتٍ سروراً» (4)، كما نهى صلوات الله عليه عن المساس بحقوق أيّ إنسانٍ حتّى وإن لم يكن مسلماً(5)، ناهيك عن أنه في عهد حكومته أصدر أوّل وثيقةٍ في العالم تبيح حرّية المعتقد، وحسب رأي المفكّر هوستون سمث فقد تمّ توقيع هذه الوثيقة مع يهود المدينة (6).

المستشرقون والمفّكرون الغربيون المنصفون قد أكّدوا في مدوّناتهم مراراً

ص: 417


1- راجع الآيات التالية: سورة البقرة، الآية 276؛ سورة البلد، الآية 10؛ سورة الكافرون، الآية 4؛ سورة الكهف، الآية 28
2- راجع: سورة الممتحنة، الآية 8
3- راجع: سورة آل عمران الآية 44
4- محمّد بن يعقوب بن إسحاق الكليني، الكافي، ج 2، ص 164
5- للاطّلاع أكثر، راجع: جعفر السبحاني، مباني حكومت اسلامي (باللغة الفارسية)، ص 9 إلى 528
6- نقلاً عن: هوستون سمث، اسلام از نظرگاه دانشمندان غرب (باللغه الفارسية)، ص 78

وتكراراً على أنّ الإسلام يفوق سائر الأديان في تسامحه وتساهله مع أتباع سائر الديانات، ومن بينهم: فیل دورانت (1)، جوستاف لوبون (2) ، روبرتسون (3)، ميشو (4)، آدم متز (5).

إذن، لو أمعنّا النظر فى نظرية علم اللاهوت (theology) من زاويةٍ وظائفيةٍ، نلمس بالبرهان القاطع أنّ الإيمان بالله الواحد الأحد لا يسفر عن حدوث أيّ خلافٍ أو انقسامٍ، بل إنّه أساسٌ لإرساء دعائم أُمّةٍ واحدةٍ تحت مظلّة (عالمية الدين) فيجتمع إثر ذلك مختلف الشعوب والأُمم بشتّى أجناسهم ومشاربهم في رحاب دينٍ موحّدٍ متقوّمٍ على عبادة إلهٍ واحدٍ ممّا يرسّخ في المجتمع المساواة والسلام والمودّة.

*الشبهة الحادية عشرة: عدم وجود أدلّةٍ تثبت صحّة عقيدة التوحيد

لقد زعم الملحدون والمعاندون أنّ عقيدة التوحيد تفتقر للدليل الذي يمكن الارتكاز عليه لإثباتها.

ص: 418


1- فیل دورانت، تاريخ تمدّن (باللغة الفارسية)، ج 4، ص 239 و 432
2- جوستاف لوبون، تمدن اسلام وعرب (باللغة الفارسية)، ج 1، ص 6 إلى 141
3- المصدر السابق
4- المصدر السابق
5- حسن الصفّار، چند گونگي و آزادي در اسلام (باللغة الفارسية)، ص 68. للاطّلاع أكثر ، راجع : محمّد حسن قدردان قراملكي، كندو كاوي در سويه هاي پلورالیزم (باللغة الفارسية)، الفصل الرابع

تحليل الشبهة ونقضها:

لقد تطرّقنا في بادئ الفصل إلى ذكر بعض الأدلّة التي تثبت وحدة الإله الخالق للكون، ومن ثمّ أشرنا إلى الشبهات التي طرحها المعارضون وقمنا بنقدها بأسلوبٍ علميٍّ؛ لذا لا نكرّر الكلام هنا لنقض هذه الشبهة الواهية لأنّها قد نقضت آنفاً في مباحث شتّى.

ص: 419

ص: 420

الفصل الخامس

شبهاتٌ وردودٌ حول صفات الله تعالى

شبهاتٌ وردودٌ حول صفات الله تعالى

ص: 421

ص: 422

- الإسم والصفة:

الاسم لغةً مشتقٌّ من (وسَم - يسِم) أي وضع علامةٌ للمسمّى يُعرف بها فتوضّح ذاته بغضّ النظر عن صفاته وخصائصه (1). تُصنّف الأسماء إلى صنفين، أحدهما اعتباريٌّ والآخر تكوينيٌّ، أمّا الاعتبارية فهي تلك الأسماء التي توضع للأماكن والأجسام والحيوانات والناس في عالم الاعتبار، وتتحقّق من خلالها القدرة على معرفة ماهية المسمّى؛ وأمّا التكوينية فهي لا تنصبّ في إطار اللّفظ والاعتبار، بل هي علاماتٌ واقعيةٌ للمسمّى. وبعبارةٍ أخرى فهي تدلّ على علاقةٍ تكوينيةٍ بين الاسم والمسمّى، فاللوحات الفنّية والخطوط الجميلة وما شاكلها من فنون جذّابة على سبيل المثال، تعدّ علاماتٍ - أسماء - تدلّ على وجود فنّانٍ حاذقٍ أو خطّاطٍ ماهر ابتدعها، كما أنّ كلّ كتابٍ مطبوعٍ يشير إلى كاتبٍ دوّنه.

الصفة لا تدلّ على ذات المسمّى، بل تعكس مزيةً خاصّةً موجودةً فيه، فالاسم (عليٌّ) يعكس ذات مسمّاه فحسب من دون أن يشير إلى أيّة صفةٍ من صفاته الشخصية، ولكن إن كان هذا الشخص يتّصف بمزيةٍ خاصّةٍ كقيامه بنظم

ص: 423


1- برأي الكوفيين فإنّ الاسم مشتقٌّ من كلمة (وسم)، ويرى البصريون أنّه مشتقٌّ من كلمة (سمو). للاطّلااع أكثر، راجع معنى مادّتي (وسم) و (سمو) في معاجم اللغة

الشعر أو امتلاكه مهاراتٍ علميةً في مجالات معيّنةٍ فهو يوصف بالشاعر أو العالم، وهاتان في الحقيقة صفتان توصف بهما شخصيته.

بعض الأسماء تدلّ دلالةً خاصّةً على الفعل الذي يقوم به المسمّى، من قبيل الخالق والرازق والمزارع والسائق، ويطلق عليها اصطلاحاً (أسماء الأفعال). بالنسبة إلى أسماء الله تعالى فإن دلّت على ذاته المباركة كلفظ الجلالة (الله) والغنيّ والأول والآخر فهي اسمٌ في الحقيقة، وإنّ كانت تشير إلى ميزةٍ وخصوصيةٍ لذاته المقدّسة، كالرحمن والعليم، فهي صفةٌ، وإن كانت ناظرةً إلى فعله جلّ شأنه كالخالق والرازق فهي اسمٌ للفعل (1).

- اسم الله الحقيقيّ:

ذكرنا آنفاً أنّ الأسماء التي تطلق على الممكنات، ولا سيّما المادّية منها، إمّا أن تكون اعتباريةً أو تكوينيةً؛ فكلّ كائنٍ سواء كان ممكناً أو مادّيّاً له اسمٌ ذو دلالةٍ اعتباريةٍ أو تكوينيةٍ، لكنّ هذا الأمر يختلف نوعاً ما بالنسبة إلى الله سبحانه وتعالى، لأنّ مقام الأحدية والذات الإلهية لا يبلغ كُنههما أيّ إنسانٍ حتّى الأنبياء وليس لهذا المقام اسمٌ وطبعٌ، وحسب تعبير العرفاء فإنّ عنقاء المغرب هي مقام غيب الغيوب وسرّ الأسرار.

إضافةً إلى مقام الأحدية، فالبارئ عزّ وجلّ له مقامٌ آخر تتجلّى فيه ذاته المقدّسة مع صفاته الحسنى المباركة، حيث تُلحظ فيه الذات المقدّسة بما هي ذات له؛ فهو مقام الذات وعلم الحقّ بأسمائه وصفاته، ويُطلق عليه في علم

ص: 424


1- للاطّلاع أكثر، راجع: حسن زادة الأملي، الكلمة العليا في توفيقية الأسماء الحسنى، ص 25؛ غلام حسين دينائي، اسماء وصفات حق (باللغة الفارسية)، ص 256

العرفان مقام الواحدية والتجلّي الأوّل والحضرة الثانية والفيض الأقدس. الصفات الإلهية الذاتية في هذا المقام تُطرح بشكلٍ تكوينيٍّ يحكي عن مقام الأحدية باعتبار أنّ أوّل اسمٍ إلهيٍّ يعكس بنفسه مقام الواحدية، وبالطبع فالمقصود هنا الاسم التكويني لا الاعتباري؛ ولفظ الجلالة (الله) ناظرٌ إلى هذا المقام ودالٌّ عليه وهو جامعٌ لقاطبة الصفات الكمالية.

المقام الآخر، وبتعبيرٍ آخر (الاسم التكويني) الذي يحكي عن المسمّى إلهي المقدّس، هو التجلّي الإلهي في رحاب انعكاس الصفات الذاتية وعينيتهما في الخارج، وهذا الأمر في الواقع آيةٌ من آيات الحقّ تعالى وعلامةٌ دالّةٌ عليه. الصادر الأوّل من الحقّ تعالى بسبب كونه صدوراً أوّلاً ونظراً لقربه الخاصّ من التصوير الكامل، يشير إلى الوجودات العقلية والمجرّدة المقرّبة، وهي بلحاظ مرتبتها الوجودية والكمالية تعدّ مرايا تعكس صفات الحقّ تعالى وعلاماتٌ دالّةً عليه إلى أن تنتهي هذه العلامات والأسماء الإلهية التكوينية إلى وجوداتٍ مادّيةٍ؛ ونظراً لحجابها المادّي من حيث كونها مرايا وعلامات، فقد اتّصفت بالضبابية وطرحت تصويراً إجمالياً لله تعالى شأنه. وبكلامٍ آخر، إنّ الكائنات المادّية تعدّ آخر رتبةٍ فى مظهر الأسماء الإلهية. وقد وصف أحد العرفاء هذه الحقيقة قائلاً إنّ العالم بأسره مرايا، وكلّ واحدةٍ منها تعكس جانباً يسيراً من ملكوتٍ عظيم.

الأسماء الاعتبارية واللّفظية التي تطلق على الله العزيز الجليل تحتلّ المرتبة الأولى وتعبّر عن الشؤون والتجلّيات الإلهية، وعلى أساس العلم بها يتحصّل العلم به تعالى وبمقام الواحدية والمقامات الأخرى الأدنى رتبةً منها؛ لذا فإنّ الأسماء الحسنى (اللّفظية) من قبيل الله والرحمان والرحيم، هي لیست

ص: 425

أسماءه الحقيقية، بل هي اسم الاسم (1).

المسألة الجديرة بالذكر هنا هي ضرورة عدم المزج بين الاسم الحقيقيّ واسم الاسم، ففي علم العرفان (2) ومعظم الروايات فإنّ المعنى الحقيقي للاسم هو (التكوينيّ) وليس المجازي (الاعتباري واسم الاسم)، فبعض الروايات على سبيل المثال قد أشارت إلى أنّ الله تعالى شأنه له مئة اسم وبعضها أكّد على أنّ عدد أمسائه مئة ألفٍ (3)، ولو أنّ إنساناً علم بالاسم الإلهي الخاصّ (الأعظم) أو أنّه أحصى أسماء الله الخاصّة، فهو يدخل الجنّة وينال مقاماً سامياً ويحظى بعنايةٍ ربّانيةٍ خاصّةٍ؛ وليس المقصود هنا الاسم اللّفظي بكلّ تأكيدٍ.

- الصفات الثبوتية والسلبية:

المقصود من الصفات الثبوتية تلك الصفات التي تدلّ على كمال الوجود، وهي ثابتةٌ لله تعالى بالضرورة وموجودةٌ في ذاته الكريمة، وأهمّها:

ص: 426


1- للاطّلاع أكثر، راجع صدر المتألّهين، الأسفار الأربعة، ج 6، ص 280
2- للاطلاع أكثر، راجع: أبو نصر السرّاج، اللّمع في التصوّف، ص 350؛ محمّد المجتهد الشبستري، كنز الحقائق، ص 15؛ تاج الدين الخوارزمي، شرح فصوص الحكم، ص 22؛ محمّد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 16، ص 250
3- ليس هناك عددٌ محدّدٌ لأسماء الله تعالى في القرآن الكريم، والروايات ذكرت أعداداً مختلفةً وبما فيها تسع وتسعون اسماً وألف اسمٍ وأربعة آلاف اسمٍ. وبعض العرفاء عدوّها غير متناهيةٍ. للاطّلاع أكثر، راجع : محمّد بن يعقوب بن إسحاق الكليني، الكافي، ج 1، ص 87 و 114؛ حسن زاده الآملي، الكلمة العليا، ص 53 ، الباب الخامس؛ غلام حسين دينائي، اسماء وصفات خدا (باللغة الفارسية) ، ص 54

1) العلم . 2) القدرة. 3) الحياة.

4) السمع. 5) البصر. 6) الإرادة.

7) الغنى. 8) الكلام.

الدليل على وجود هذه الصفات في البارئ تبارك وتعالى هو كونه واجب الوجود لأنّ فقدانها يعني ثبوت العدم والنقصان في ذاته؛ حاشاه ذلك وتعالى علوّاً كبيراً.

وفى مقابل الصفات الثبوتية هناك صفاتٌ تدلّ على النقص والحاجة، كالجهل والتجسّم المادّي الموجب لكون المجسّم مشهوداً عينياً من قبل الآخرين ، وهذه الصفات تتعارض مع ذات الله تعالى ولا تتناسب مع كونه واجب الوجود؛ فهو منزّهٌ من كلّ صفةٍ تدلّ على النقص، وهي التي يعبّر عنها بالصفات السلبية؛(1) وأشهرها ما يلي:

1 ) الجسم.

2 ) الجوهر (2).

3 ) العرض (3).

ص: 427


1- للاطّلاع أكثر ، راجع: صدر المتألّهين، الأسفار الأربعة، ج 6، ص 118
2- حينما يكون جوهر الماهية موجوداً في الخارج فهو بطبيعة الحال لا يفتقر إلى موضوعٍ، والعرض على خلاف ذلك، أي حينما يكون موجوداً فهو يفتقر إلى موضوعٍ ومعروضٍ لأنّه كالبياض الذي يحتاج وجوده إلى معروضٍ وجوهرٍ من قبيل الجبس والورق. إذن، بما أنّ الله سبحانه وتعالى ليس محتاجاً إلى ماهيةٍ وغير مفتقرٍ إلى شيءٍ، فهو ليس جوهراً ولا عرضاً
3- المصدر السابق

4 ) كون الشيء مرئياً بالعين المحسوسة .

5 ) استقراره في مكانٍ محدّدٍ.

6 ) إمكانية حلوله في شيءٍ آخر .

7 ) تركيب ذاته.

الصفات السلبية في الحقيقة تدلّ على سلب الأعدام والنقائص، مثلاً سلب الجهل عنه عزّ وجلّ لأنّه أمرٌ عدميٌّ، وهذا السلب يعني إثبات العلم له تعالى لكونه أمراً وجودياً (1).

- الصفات الذاتية والفعلية :

صفات الله الثبوتية بلحاظ ذاته المقدسة وفعله الحكيم تصنّف في قسمين، أحدهما ذاتيٌّ والآخر فعلىٌّ؛ فالصفات المتعلّقة بالذات المقدّسة ووجودها تعدّ كافيةً لاتّصاف الذات بها من دون لحاظ أيّ قيدٍ أو جهةٍ أخرى ويطلق عليها (الصفات الذاتية) من قبيل صفتي الحياة والقدرة اللتين لا يقتضي تحقّقهما في الذات الإلهية توفّر أيّ قيدٍ أو شرطٍ (2). ولكن هناك صفاتٌ مرتبطةٌ بالذات وبجهةٍ أخرى مفتقرةٍ إليها، مثل الخالقية والرازقية والغافرية، إذ إنّ وجودها يقتضي وجود مخلوقٍ ومرزوقٍ ومذنبٍ يُغفر له؛ ويُطلق عليها عنوان (الصفات الفعلية) لأنّها ناشئةٌ من فعل الله سبحانه وتعالى.

ص: 428


1- للاطّلاع أكثر ، راجع: صدر الدين الشيرازي، الأسفار الأربعة، ج 6، ص 114
2- للاطّلاع أكثر، راجع: عبد الله الجوادي الآملي، تفسير موضوعي – توحید در قرآن (باللغة الفارسية)، ص 290

وقد ذكر علماء الكلام والعرفاء أقساماً عديدة لصفات الله عزّ وجلّ لا يسعنا المجال لذكرها هنا (1).

آراء العلماء حول إمكانية معرفة صفات الله تعالى :

ذكرنا في مستهلّ الكتاب أنّ بني آدم عاجزون عن معرفة حقيقة وكُنه الذات الإلهية - مقام الأحدية - ولكنّ الإنسان الكامل قادرٌ على معرفة الأسماء والصفات. هناك آراءٌ متباينةٌ حول هذه المسألة وشبهاتٌ طرحت من قبل البعض، نذكر منها ما يلى:

1 ) التشبيه:

حسب هذه الرؤية فالإنسان له القابلية على امتلاك العلم التامّ بأسماء الله تعالى وصفاته، كما أنّه قادرٌ على فهم معانى الصفات الكمالية فهماً كاملاً. على سبيل المثال فإنّ معنى علم الله سبحانه وقدرته وإرادته هو عينه بالنسبة إلى ما يتّصف به الإنسان، لذا ليس هناك اختلافٌ بين معنى الله العالم. على هذا الأساس يطلق على أتباع هذه الرؤية بأنّهم (مشبّهة) حيث يشبّهون صفات الإنسان بصفات البارئ جلّ وعلا.

المتعصّبون لهذه الرؤية قد حملوا الأسماء والصفات المنسوبة إلى الله تعالى على معانيها الظاهرية التي يمكن أن يتصف بها الإنسان، فالرؤية مثلاً فسّروها على وفق مقتضيات الأعضاء والجوارح الجسمانية، كاليد والرجل وحاسّتي

ص: 429


1- محمّد بن إسحاق القونوي، الفكوك في مستندات حكم الفصوص، ص 59؛ روح الله الخميني، چهل حديث (باللغة الفارسية)، الحديث رقم 36 ، ص 56

السمع والبصر، وما إلى ذلك من قضايا محسوسةٍ، إذ فسّروا هذه الأوصاف التي ذكرت في القرآن الكريم وفي سائر النصوص الدينية حسب تصوّراتٍ مادّيةٍ؛ لذلك أُطلق عليهم (مجسّمة).

ومن الجدير بالذكر هنا أنّ المشبّهة لا ينحدرون من دينٍ واحدٍ، إذ هناك مشبّهة بين اليهود والنصارى والمسلمين، وقد ذكر القرآن الكريم وجاء في بعض آيات الكتاب المقدّس أنّ أهل الكتاب - اليهود والنصارى - طلبوا من أنبيائهم رؤية الله تعالى جهرةً (1).

2 ) التعطيل (التنزيه) :

المعطّلة يتبنّون فكراً متعارضاً مع ما يتبنّاه المشبّهة في واقع الحال، وكما هو واضحٌ من اسمهم فقد عطّلوا العقل والتفكّر في صفات الله سبحانه وتعالى من منطلق اعتقادهم بغموض معاني هذه الصفات المباركة بالنسبة إلى بني آدم لأنّ الربّ العظيم ليس كمثله شيءٌ(2) ؛ لذلك نحن عاجزون عن معرفة معاني صفاته وأسمائه الحسنى.

قال سفيان بن عيينة حول صفات الله تبارك شأنه: «كلّ شيءٌ وصف الله به نفسه في القرآن فقراءته ،تفسيره، لا كيف ولا مثيل»(3).

وقد دافع المعتزلة عن هذه الرؤية لكنّهم اضطرّوا إلى تفسير معاني بعض الصفات البديهية والواضحة الله تعالى كالعالم والقادر، إذ أكّدوا على أنّ

ص: 430


1- سورة النساء، الآية 153؛ سورة البقرة، الآية 55. العهد القديم سفر الظهور، الفقرات 2 و 3 و 6
2- قال تعالى في كتابه المجيد: «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيء». سورة الشورى، الآية 11
3- الشهرستاني، الملل والنحل ، ج 1، ص 85؛ جعفر السبحاني، الإلهيات، ج 1، ص 87

مبدأ العلم ومعناه الظاهران لنا ليسا موجودين فى ذات الله تعالى لأنّ هذه الذات المقدّسة تتصّف بآثار وميزات الأسماء والصفات التي تطلق عليها. مثال ذلك أنّ قولنا الله عالمٌ وقادرٌ يعني أنّ فعله يتصف بالعلم والقدرة وهذا الفعل منزّهٌ من الجهل والعجز.

3 ) الإثبات بغير تشبيه (المعرفة الإجمالية) (1):

هذه الرؤية في الواقع معتدلةٌ ومنزّهةٌ من الإفراط والتفريط، فأتباعها لا يذهبون مذهب المشبّهة والمجسّمة الذين زعموا قدرة الإنسان على امتلاك معرفةٍ تامّةٍ بصفات الله جلّ شأنه، ولا يؤيّدون ما اعتقد به المعطّلة من تعطيل العقل والتفكّر؛ حيث يعتقدون بأنّ عقل الإنسان الذي وصفته الروايات بكونه النبيّ الباطن ليس له القابلية على إدراك كُنه الصفات الإلهية وماهيتها الحقيقية بشكلٍ تامٍّ، بل هو قادرٌ على إدراكها في إطارٌ محدودٌ، وبالطبع فالأمر يرتبط هنا بشخصية صاحب العقل ونضوجه الفكري. ومن هذا المنطلق فالروايات التي أكّدت على عدم إمكانية وصف الله تعالى تُحمل على عدم إمكانية وصف الذات الإلهية أو معرفتها معرفةً تامّةً وكاملةً.

شبهاتٌ وردودٌ:

شبهاتٌ وردودٌ:

طرح بعض المخالفين والناقدين المتقدّمين والمعاصرين شبهاتٍ حول صفات الله عزّ وجلّ، وسنذكر فيما يأتي أهمّها ثمّ نقوم بتحليلها ونقضها:

ص: 431


1- هذا العنوان مقتبسٌ من حديثٍ مرويٍّ عن الإمام الرضا علیه السّلام، حيث قال: «الناس في التوحيد ثلاثة مذاهب: نفيٌ وتشبيةٌ وإثباتٌ بغير تشبيهٍ». محمّد عليّ بن بابويه القمّي (الصدوق)، التوحيد، الباب السابع، الحديث رقم 8
*الشبهة الأولى : صفات الله تعالى هي من الأوهام التي تكتنف ذهن الإنسان الضعيف:

كما هو معلومٌ فإنّ الله سبحانه وتعالى له صفاتٌ كماليةٌ، كالعلم والقدرة، وقد طرح البعض شبهةً حول هذا الأمر مضمونها أنّ الصفات الكمالية للأمر الواقعي والحقيقي غير موجودةٍ في ذات الله جلّ شأنه، بل إنّ الجهلة وضعفاء الإدراك من البشر يرغبون بأنّ يتصف ربّهم بصفاتٍ وميزاتٍ فاضلةٍ وكاملةٍ.

تحليل الشبهة ونقضها:

ذكرنا في المباحث الآنفة بتفصيلٍ أنّ وجود الممكنات متقوّمٌ على واجب الوجود، وواجب الوجود بدوره لا بدّ له من امتلاك صفاتٍ كماليةٍ كالبساطة والغنى والعلم والقدرة كي يصبح وجوده واجباً حقيقةً؛ ولو أنّه افتقد لإحدى الصفات الكمالية الخاصّة أو أنّه اتّصف بها في إطارٍ محدودٍ وناقصٍ فنتيجة ذلك أنّه مفتقرٌ إليها ومن ثمّ ستتّصف ذاته بالقصور والنقص، لذا فهو في هذه الحال لا يمكن أن يكون إلهاً واجب الوجود.

إضافةً إلى ما ذُكر، من الممكن أيضاً أن يتوهّم الإنسان وجود صفاتِ أخرى إلى جانب الصفات المذكورة في أعلاه فينسبها إلى ربّه عزّ وجلّ، لكنّ هذه الصفات الموهومة لا تنصبّ في موضوع بحثنا وبكلّ تأكيدٍ لا يمكن لأحدٍ أن ينسبها إلى الدين والعلوم الدينية.

*الشبهة الثانية : صفات الله تعالى الانفعالية والعرضية :

يصف علماء اللاهوت الله عزّ وجلّ بأنّه وجودٌ كاملٌ وبسيطٌ لا يمكن

ص: 432

أن يطرأ على ذاته المباركة أيّ تحوّلٍ أو تغييرٍ، والسبب في تبنّي هذا الرأي يرجع إلى أّن الفعل والانفعال والانتقال من حالٍ إلى حالٍ هي قضايا تلازم الكائنات المادّية فحسب، في حين أنّ الوجود المجرّد، ولا سيّما الله تعالى الذي هو أكمل وأتمّ وجودٍ مجرّدٍ، منزّهٌ عن أيّة حالةٍ عارضةٍ أو صفةٍ دالّةٍ على التغيير والتحوّل ؛ لكن مع ذلك فقد وصف القرآن الكريم البارئ جلّ وعلا بصفاتٍ تدلّ على الفعل والانفعال وظهور حالاتِ جديدةٍ، كما وصفه بصفاتٍ تدلّ على معانٍ غير لائقةٍ من قبيل: الانتقال، الكيد، المقت، الحسد، الغرور، الغضب (1).

تحليل الشبهة ونقضها :

نردّ على الشبهة المذكورة في أعلاه في النقاط الآتية:

1 ) الخطاب القرآني والديني

المسألة الجديرة بالتأمّل للردّ على هذه الشبهة تكمن في معرفة واقع الخطاب القرآني والدينى، فكتاب الله المجيد ليس من نمط الكتب التخصصيّة أو العلمية بحيث يتناول المصطلحات على وفق تعريفها الاصطلاحي الخاصّ بها في كلّ فرعٍ من فروع العلم، بل هو كتاب هدىً ودليلٌ للبشرية قاطبةً بكلّ أجناسها ومشاربها الفكرية ومستوياتها العلمية، ومن المؤكّد أنّ معظم الناس ينحدرون من الطبقة العامة ومن ثمّ فالأعراف والتقاليد تنشأ على وفق

ص: 433


1- علي دشتي، بیست و سه سال (باللغة الفارسية)، ص 143؛ ابن ورّاق، اسلام و مسلماني (باللغة الفارسية)، ص 270؛ مسعود الأنصاري (الدكتور روشنكر)، الله أكبر (باللغة الفارسية)، ص 158 و 140

توجّهاتهم، ومن هذا المنطلق نجده يخاطب بني آدم بلغةٍ عرفيةٍ نوعاً ما لدرجة أنّ الغالبية العظمى منهم يفهمون مضامينه ودلالاته (1).

وعلى الرغم من كون هذا الأسلوب الخطابي - أي نزول القرآن الكريم في إطارٍ مفهومٍ للعرف العامّ - موجّهاً إلى قاطبة الناس كي يفهموا معاني الآيات الكريمة وتترسّخ معانيها في أنفسهم، لكنّه في الحين ذاته يتضمّن مسائل ماورائية لا يدركها كثير منهم ممّا يضيّق نطاق إلمامهم بمعانيه ومفاهيمه السامية؛ وبما في ذلك وصف الله تعالى والعوالم الأخرى كعالمي البرزخ والمعاد.

إنّ الله عزّ وجلّ أرسل الوحي على نبيّه الكريم محمّد صلّی الله علیه و آله في إطار آياتِ مفهومةٍ لبني آدم في عين اشتمالها على مضامين سامية، وهذا يعني أنّ القرآن الكريم راعى هذين الجانبين خير مراعاةٍ. الآيات التي تتحدّث عن عالم المجرّدات قد أوكل بيانها إلى النبيّ صلّی الله علیه و آله وأهل الذكر - أهل البيت علیهم السّلام - إضافةً إلى العقل السليم الذي هو النبيّ الباطن؛ فقد قال عزّ وجلّ: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ»(2). لذا، لا يمكن تفسير بعض الآيات حسب ظاهرها اللفظيّ، كقوله تعالى: «وَجاءَ رَبُّكَ»(3) ، وقوله: «يَدُ اللَّه فَوْقَ أَيْدِيهِمْ» (4)، إذ

ص: 434


1- للاطّلاع أكثر، راجع: محمّد حسن قدردان قراملكي، كلام فلسفي (باللغة الفارسية)، الفصل العاشر (لغة القرآن)
2- سورة النحل، الآيتان 43 و 44
3- سورة الفجر، الآية 22
4- سورة الفتح، الآية 10

من المؤكّد لا يمكن حمل معنى هاتين الآيتين على ظاهرهما وتصوّر أنّ لله عزّ وجلّ رجلين يمشي بهما ويدين يمسك بهما - حاشاه ذلك وتعالى علوّاً كبيراً - وهذا المعنى يتعارض مع العقل والبرهان تعارضاً تامّاً، والعرف بدوره يدرك أنّ المقصود من هذه التعابير وما شاكلها أمر الله تعالى الذي هو فوق كلّ أمرٍ وقدرته العظيمة التي لا تضاهيها قدرةٌ.

إذن بناءً على ما ذكر فإنّ لغة القرآن الكريم في عين كونها تتناغم مع لغة العرف السائد، تتضمّن أيضاً مفاهيم ماورائية نحتاج في تفسيرها وبيان معانيها إلى مسائل خارجة عن نطاق العرف أهمّها امتلاك قدرةٍ فكريةٍ تمكّن الفرد من إدراك أصول ودلالات الكتاب الحكيم؛ والإنسان الذي لا يمتلك هذه القدرة ويكون عاجزاً عن الإلمام بأصول ومبادئ بعض العلوم كالاقتصاد والفيزياء، هو بطبيعة الحال غير قادرٍ على تفسير أيّة آيةٍ أو عبارةٍ من هذا القبيل. من المؤكّد أنّ تفسير الكتاب الحكيم يتطلّب الاعتماد على أسلوبٍ خاصٍّ وعلمٍ يؤهّل الإنسان لبيان مواضيعه، وذلك لأسباب عديدة وبما فيها بوصفه كتاباً سماوياً نزل على قلب النبيّ الأكرم صلّی الله علیه و آله بالتدريج ولأنّه يتضمّن آياتٍ خارجةً عن نطاق الفهم العرفيّ العامّ.

إذن، كلّ آيةٍ يسهل فهمها للعرف العامّ أو أنّها تنسجم مع العقل وسائر الآيات هي جزءٌ من (الآيات المحكمة) ومن ثمّ فإنّ فهم العرف لها ولظاهرها يعدّ حجّةً؛ ولكن الآية التي يعجز العرف عن إدراك كُنهها أو أنّ ظاهرها لا ينسجم مع سائر الأصول الثابتة والآيات القرآنية هي جزءٌ من (الآيات المتشابهة) ومن ثمّ فإنّ تفسيرها يقتضي الاعتماد على منهجٍ معيّنٍ ولا بدّ في ذلك من مراعاة مختلف العلوم التخصّصية، وبطبيعة الحال فلا مناص من

ص: 435

الرجوع إلى مصدر الوحي الأصيل في هذا المضمار ، أي النبيّ الخاتم صلّی الله علیه و آله وأهل بيته الكرام علیهم السّلام الذين هم القرآن الناطق فضلاً عن الاعتماد على العقل السليم.

2 ) الله تعالى وجودٌ مجرّدٌ :

المسألة الأخرى الحرية بالذكر فى مجال تحليل الشبهة المذكورة ونقضها ، هي أنّ الله عزّ وجلّ وجودٌ مجرّدٌ كاملٌ وبسيطٌ لا يمكن أن يطرأ على ذاته الكريمة أيّ تغييرٍ أو تحوّلٍ ومن المستحيل أن يكتنفها أي نقص أو خلل، بل هو العلّة لكلّ تغيير وتحول، وعلى هذا الأساس فالصفات المنسوبة إليه والتي تدلّ على التغيير والتحوّل من قبيل مجيئه، والصفات التي تشير إلى بعض الخصائص النفسية مثل الغضب والانتقام؛ لا بدّ من تأويلها وتفسيرها وفق دلالاتٍ خاصّةٍ بعيدةٍ عن الظاهر اللفظيّ.

- خصائص بعض الصفات وشبهاتٌ حولها :

استناداً إلى ما ذكر في المبحث السابق يتّضح للقارئ الكريم مدى سقم الشبهة المذكورة، ومع ذلك نقوم فيما يأتي بشرح وتحليل بعض صفات الله تعالى التي أثيرت شبهاتٌ حولها:

1 ) الانتقام :

من الصفات النفسية التي تعرض على شخصية الإنسان هي شعوره بالسخط إثر تضرّره ماّدياً أو بدنياً أو روحياً، ومن ثمّ فهو يحاول إطفاء غليله وتتأجّج في نفسه النزعة للانتقام بشتّى الوسائل وبما فيها التعامل مع الطرف

ص: 436

المقابل بالمثل. أمّا بالنسبة إلى الله تعالى فلا يمكن تصوّر هذا الأمر بشأنه بتاتاً، لأنّه وجودٌ كاملٌ محضٌ ومجرّدٌ بسيطٌ لا ينتابه أيّ خللٍ أو نقصٍ أو ضررٍ من قبل مخلوقاته التي هي ليست بشيءٍ أمام عظمته اللامحدودة وذاته المباركة، لذلك فهو لا يشعر مطلقاً بالحاجة إلى الانتقام وتعويض الضرر، فهذا الأمر لا معنى له من الأساس. إذن، المعنى الظاهري للانتقام بالنسبة إليه عزّ وجلّ ينتفي بمجرّد تصوّر عظمة ذاته المباركة وإدارك أنه واجب الوجود والغنيّ عن كلّ أمرٍ.

ولكن قد يتساءل البعض ويقول : ما الفائدة من وصفه بهذه الصفة إذن؟ وعلى هذا الأساس طرح البعض شبهةً شكّك فيها بحقيقة الأمر.

تحليل الشبهة ونقضها:

للردّ على الشبهة المذكورة تقول إنّ وصفه تعالى في القرآن الكريم بهذه الصفة وما شاكلها من صفاتٍ، يدلّ على انسجام لغة آياته مع العرف البشري، فهو يهدف إلى إقناع بني آدم بأنّ الله سبحانه وتعالى سوف يتعامل مع الكفّار والمعاندين والظلمة كما يتعامل المنتقمون من اغتصب حقّهم، وهذا بمعنى أنّه سيحاسبهم ويعاقبهم كما يقوم صاحب الحقّ بمحاسبة ومعاقبة من سلب حقّه(1) . وبعبارةٍ أخرى فإنّ المفهوم الأساسي الذي يستوحى من الانتقام هو تنفيذ العقاب بحقّ العاصي، وحينما يتمّ إطلاق هذه الصفة على البارئ تبارك شأنه فليس المقصود منها تعويض الضرر أو مقابلة الطرف المقابل بالمثل، بل المراد منها تنفيذ العقاب بحقّ الخاطئ بالتناسب مع نوع خطيئته.

ص: 437


1- للاطّلاع أكثر ، راجع: محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 3، ص11

إذن، نستنتج ممّا ذكر أنّ وصف الله تعالى بهذه الصفة لا يدلّ على أيّ تغيير أو انفعالٍ في ذاته المباركة.

2 ) الرضا والغضب :

صفتا الرضا والغضب لهما دلالةٌ خاصّةٌ بالنسبة إلى بني آدم، حيث تشيران إلى القبول والسخط الباطنيين تجاه حدثِ أو شيءٍ أو إنسانٍ، ونتيجة ذلك أنّ الإنسان الذي يحظى برضا غيره ينال تقديراً واحتراماً، في حين أنّ من يصبح موضعاً لغضب غيره يتعرّض للنقد والتأنيب، بل أحياناً العقاب. هذا المعنى ينطبق أيضاً على رضا الله تعالى وسخطه ، لذلك طرحت شبهةٌ حول هذا الأمر.

تحليل الشبهة ونقضها:

بما أنّ الله سبحانه وتعالى وجودٌ مجرّدٌ كاملٌ وبسيطٌ فهو لا يشعر بالرضا أو الغضب لغرضٍ شخصيٍّ ولا يتصرّف كما يتصرّف الإنسان الذي تنتابه هاتان الحالتان، بل إنّ رضاه وغضبه يتمثّلان في منح الصالحين الثواب وحسن العاقبة والتعامل مع المنحرفين بعدلٍ وإنصافٍ عن طريق تأنيبهم ومعاقبتهم (1).

قال الراغب في كتابه (المفردات في غريب القرآن): «رضا العبد عن الله أن لا يكره ما يجري به قضاؤه ورضا الله عن العبد هو أن يراه مؤتمراً لأمره ومنهياً عن نهيه» (2). ومن ناحيةٍ أخرى لمّا كان الناس ليسوا على حدٍّ سواء في مجال طاعة الله تعالى وعصيانه، لذا يتعامل عزّ شأنه معهم حسب حسب أعمالهم،

ص: 438


1- للاطّلاع أكثر، راجع: المصدر السابق، ج 17 ، ص 241
2- الراغب الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن، ص 197

فيمنح من رضي عنه خير جزاء الآخرة ويكرمه برحمته الواسعة إثر طاعته وامتثاله للتعاليم الدينية السمحاء ويغضب على من عصاه ويعاقبه جزاءً على أعماله المنحرفة الضالّة. وبكلامٍ آخر فإنّ الحديث عن رضاه تعالى وغضبه لا يندرج تحت موضوع الصفات الذاتية، وإنّما يطرح في نطاق الصفات الفاعلية التى يمكن أن يطرأ عليها التحوّل والتغيير على أساس ارتباطها بعمل الإنسان و تصرّفاته (1) .

ومن الجدير بالذكر أنّ هذه الشبهة ليست جديدةً، فقد طرحت في عهد الأئمّة المعصومين علیهم السّلام أيضاً، حيث روى هشام بن الحكم عن الإمام الصادق علیه السّلام ما يأتي: إنّ رجلاً سأل أبا عبد الله علیه السّلام عن الله تبارك وتعالى له رضا وسخط ؟ فقال: «نعم، وليس ذلك على ما يوجد من المخلوقين، وذلك أنّ الرضا والغضب دخالٌ يدخل عليه فينقله من حالٍ إلى حالٍ، معتملٌ، مركّبٌ، للأشياء فيه مدخلٌ وخالقنا لا مدخل للأشياء فيه؛ واحدٌ أحديٌّ الذات وأحديٌّ المعنى؛ فرضاه ثوابه وسخطه عقابه من غير شيءٍ يتداخله فيهيّجه وينقله من حالٍ إلى حالٍ، فإنّ ذلك صفة المخلوقين العاجزين المحتاجين، وهو تبارك وتعالى القويّ العزيز الذي لا حاجة به إلى شيء ممّا خلق، وخلقه جميعاً محتاجون إليه، إنّما خلق الأشياء من غير حاجةٍ ولا سبب اختراعاً وابتداعاً » (2).

إذن المراد من الغضب الإلهي هو إرادة الله تعالى التي تتعلّق في معاقبة المجرمين بعد توفّر الأسباب الداعية إلى ذلك.

ص: 439


1- للاطّلاع أكثر، راجع: محمّد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 9، ص389
2- محمّد عليّ بن بابويه القمّي (الصدوق)، التوحيد، ص 169؛ معاني الأخبار، ص 20

3 ) النسيان

هناك آياتٌ تنسب صفة النسيان إلى الله عزّ وجلّ في بعض الأمور، كما في الآيات التالية: «نَسُوا الله فَنَسِيَهُمْ» (1). «فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا»(2) . «وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا»(3). وعلى هذا الأساس طرح بعضهم شبهةً فحواها أنّ الله العليم كيف يمكن أن ینسی؟

تحليل الشبهة ونقضها:

النسيان بالمعنى الحقيقي يرجع إلى نشاطات الخلايا العصبية في عقل الإنسان، إذ ينسى بعض الأمور على مرّ الأيام ومن ثمّ يسترجعها عن طريق استذاكره لها أو تذكيره بها، ومن ثمّ فإنّ نتيجة هذا النسيان هي غفلته عمّا ذهب عن باله وعدم اكتراثه به وكأنّه ليس موجوداً بالنسبة إليه بحيث لا تزول هذه الحالة إلا عبر التفاته لأيّ سبب كان.

أمّا بالنسبة إلى الله تعالى فالنسيان بالمعنى المذكور غير متصوّرٍ بشأنه مطلقاً، لأنّه جلّ جلاله وجودٌ مجرّدٌ محضٌ وبسيطٌ ويمتلك علماً مطلقاً لا يكتنفه أيّ نقصٍ ولا خللٍ، ناهيك عن أنّ جميع شؤون الكون وحوادثه متقوّمةٌ به في كلّ آنٍ ومكانٍ. فالنسيان التي أشارت إليه الآيات المباركة لا ينطبق بوجهٍ على النسيان الذي يكتنف النفس الإنسانية، بل المراد منه ما يترتّب عليه؛ أي: إنّ

ص: 440


1- سورة التورية ، الآية 67
2- سورة الأعراف الآية 51
3- سورة الجاثية، الآية 34

الله تعالى حينما يقول إنّه ينسى شخصاً فهو يقصد إهماله وحرمانه من عنايته ولطفه وكرمه، فهو يتركه ويعتبره كالعدم الذي لا فائدة منه.

إذن، نسيان الله تعالى لبعض بني آدم يشمل الكفّار والمنافقين والعصاة الغارقين في الخطايا والآثام، حيث يهملهم يوم القيامة ويحرمهم من لطفه العظيم فيتركهم هم وأعمالهم الدنيئة لينالوا جزاءهم العادل لأنّهم نسوا الحقّ وسلكوا طريق الشيطان. وبكلّ تأكيدٍ فالدليل على هذا المعنى يمكن استنباطه الآيات المذكورة نفسها، إذ إنّها أكّدت في بادئ الأمر على إعراض هؤلاء عن الله العزيز القدير في الحياة الدنيا وتجاهلهم أوامره وعدم اكتراثهم بيوم الحساب ومن ثمّ فهو تعالى يحرمهم من كرمه ورحمته.

الأحاديث أيضاً أكّدت على هذا المعنى، فقد قال عبد العزيز بن مسلم: سألت الرضا، عليّ بن موسى (عليهما السلام) عن قول الله عزّ وجلّ: «نَسُوا الله فَنَسِيَهُمْ»، فقال: «إنّ الله تبارك وتعالى لا ينسى ولا يسهو، وإنّما ينسى ويسهو المخلوق المحدث ألا تسمعه عزّ وجلّ يقول: (وَمَا كانَ رَبُّكَ نَسيَّاً)، وإنّما يجازي من نسيه ونسي لقاء يومه بأن يُنسيهم أنفسهم، كما قال عزّ وجلّ: «وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلِئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ»، وقوله عزّ وجلّ: (فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هَذا)، أي نتركهم كما تركوا الاستعداد للقاء يومهم هذا»(1).

إضافةً إلى ما ذكر فإنّ هذا المعنى هو المتبادر من العرف مثلاً لو أنّ أحد أصحاب المناصب الرسمية المرموقة لم يكترث بشخص كان يعرفه قبل أن

ص: 441


1- محمّد عليّ بن بابويه القمّي (الصدوق)، التوحيد، ص 160

ينال هذا المنصب فبطبيعة الحال ينتاب هذا الشخص شعورٌ بأنّ صاحب المنصب قد نسيه وحينما يلتقي به فهو يخبره بهذا الأمر قائلاً: «لقد نسيتني»، وبالتأكيد هو لا يقصد هنا النسيان الذهني وعدم التذكّر، بل يريد أنّه تجاهله ولم يعد يكترث به. هذا المعنى ينطبق على النسيان الذى نسبه الله تعالى إلى ذاته المباركة، حيث ينسى العصاة عن طريق تجاهلهم وعدم الاكتراث بهم، لذا فإنّ إضافة هذه الصفة إليه ليست من باب إضافة العرض إلى ذاته المباركة.

4) الحسد :

الحسد لغةً يعني تمنّي زوال نعمة الغير وهو مذمومٌ جملةً وتفصيلاً لأنّه يدلّ على وجود ضغينةٍ لا مسوّغ لها في باطن صاحبه. هذه الكلمة لم يوصف بها الله عزّ وجلّ فى القرآن الكريم بتاتاً، وقد وردت فيه خمس مرّاتٍ فقط حيث أُشير فيها إلى أنّه أمرٌ مذموٌم ولا ينبغي للمسلم أن يتّصف به لأنّه من خصال أتباع الشيطان. لكن مع ذلك طرح بعضهم شبهةً مضمونها أنّ الله تعالى كيف يجرّد البعض من النعمة؟ هل هو يحسدهم عليها؟

تحليل الشبهة ونقضها:

نفي هذه الصفة الذميمة عن الله سبحانه بسيطٌ وليس بحاجةٍ إلى شرحٍ واستدلالٍ، ولكن مع ذلك نقول : بما أنّه جلّ شأنه غنىٍّ مطلقٍ وكاملٍ لا نقص في ذاته الكريمة، ونظراً لأنّه صاحب جميع النعم والبركات ظاهرةً وباطنةً وهو الذي يهبها لخلقه قاطبةً من دون استثناء، لذا فليس من المبرّر بوجهٍ تصوّر أنّه يرجو زوال نعمة الغير بعد أن وهبها له! حاشاه ذلك وتعالى علوّاً كبيراً.

ص: 442

والأمر الذي تجدر الإشارة إليه في هذا الصدد لارتباطه بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشرٍ بموضوع البحث، هو أنّ البارئ تبارك شأنه وهّابٌ وهو صاحب النعم الجزيلة ولا نظير له في ذلك على الإطلاق، لكنّه لا يهب كلّ النعم عبثاً من دون شروطٍ واستحقاقٍ. نعم، هو يهب بعض النعم المشتركة لجميع خلقه مؤمنهم وكافرهم، لكن هناك نِعماً خاصّة يكرم بها بعض خلقه حسب استحقاقهم وقابلياتهم إثر أعمالهم الحسنة وتقواهم؛ وهذا يعني حرمان بعض الناس من بعض النعم لأسباب عديدة إلا أنّه لا يعني بتاتاً اتّصاف الربّ الوهّاب العزيز بالحسد.

أضف إلى ذلك أنّ الحياة الدنيا هي دار ابتلاءٍ واختبارٍ، وعلى هذا الأساس يختبر الله تعالى فيها عباده عبر ابتلائهم بشتّى المحن من قبيل النقص في الأموال والأنفس بغية صقل شخصياتهم وتهذيب أنفسهم كي يميز الخبيث من الطيّب ويُعرف المؤمن حقّاً ممّن يدّعى الإيمان ومن يعرض عنه.

*الشبهة الثالثة : نسبة بعض الصفات السلبية إلى الله تعالى :

يزعم جماعة أنّ القرآن الكريم فضلاً عن وصفه الله عزّ وجلّ بصفاتِ انفعاليةٍ وعرضيةٍ، فقد وصفه أيضاً بصفاتٍ سلبيةٍ غير محمودةٍ لا تنسجم مع مقام اللطف والرحمة الربوبيّ ولا تتناغم مع قدسية الخالق العظيم الذي تؤمن به الأديان السماوية وتؤكّد على أنّه منزّه من كل قبحٍ وسوءٍ (1).

نذكر فيما يأتي بعض هذه الصفات:

ص: 443


1- للاطّلاع أكثر ، راجع: علي الدشتي، بيست و سه سال (باللغة الفارسية)، ص 143 و 148؛ ابن ورّاق، اسلام و مسلماني (باللغة الفارسية)، ص 269 - 270

1 ) الكيد والمكر :

يؤكّد القرآن المجيد على أنّ الكفّار والمشركين لا ينفكّون عن المكر وحياكة المكائد لله ورسوله بشتّى السُّبل المتاحة لهم، لذا ردّ عليهم ربّ العزّة والجلال بأنّه ذو مكرٍ وكيدٍ أيضاً بحيث لا يتغاضى عمّا يفعلون، لذلك فهو يكيد كيداً ويمكر مكراً كما يفعلون. ومن جملة الآيات التي تؤيّد هذا القول، ما يأتي: «إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا»(1). «وَأَمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينَ»(2). «أَفَأَمِنُوا مَكْرَ الله فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ»(3). «وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ الله أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمَكُرُونَ»(4). وعلى هذا الأساس ذكرت شبهةٌ فحواها أنّ المكر أمرٌ غير محبّذٍ فكيف يمكن أن يتّصف به الله تعالى؟

تحليل الشبهة ونقضها:

من الواضح أنّ لجوء الإنسان إلى المكائد يرجع في الأساس إلى ضعفه وعجزه عن التشبّث بوسائل أخرى تضمن له تحقيق أهدافه وتلبية متطلّباته، لذا يحاول جاهداً إزالة العقبات عن طريقه من خلال اتّباع أسلوب الحيلة المتقوّم على الكيد والمكر. ولاريب في أنّ الكيد بهذا المعنى لا يمكن أن يصدق على ذات البارئ تبارك شأنه لأنه ذو قدرةٍ مطلقةٍ وعالمٌ بكلّ شيءٍ، ومن ثمّ فإنّ

ص: 444


1- سورة الطارق، الآيتان 15 و 16
2- سورة الأعراف، 183
3- سورة الأعراف الآية 99
4- سورة يونس، الآية 21

إرادته لو تعلّقت بأمرٍ ما فهي تتحقّق دون أيّ مانعٍ أو عقبةٍ، وإذا شاء إيجاد شيءٍ من العدم أو محو أمرٍ من الوجود، فلا يمكن أن يردعه عن ذلك شيءٌ وهو هيّنٌ عليه لأنّ الدنيا وما فيها أصغر من جناح بعوضةٍ بالنسبة إليه (1).

إذن، المراد من نسبة الكيد والمكر إلى الله عزّ وجلّ هو الردّ على كيد الكائدين ومكر الماكرين وتفنيد مخطّطاتهم الشيطانية وردعهم بالعقاب الشديد والعذاب الذي سيطالهم إثر هذه الأعمال السيّئة. وبعبارةٍ أخرى: إنّ الله تعالى بإمكانه أن يتعامل معهم بأسلوبهم نفسه فيبطل مؤامراتهم لعلمه بما يكيدون ويمكرون؛ وهذا الأمر بكلّ تأكيدٍ ليس معناه أنّه جلّ شأنه مضطرٌّ للّجوء إلى هذا الأسلوب الذي اضطرّ إليه العصاة بسبب ضعف أنفسهم وغرقهم في المعاصي. وهناك معنى آخر لمكر الله تعالى وكيده، ألا آخر لمكر الله تعالى وكيده، ألا وهو مجازاة الماكرين أو منحهم مهلةً أحياناً كي ينالوا جزاءهم العادل في يوم الحساب (2).

خلاصة الكلام أنّ استعمال كلمتي الكيد والمكر في شأن الله عزّ وجلّ لا يدلّ على وجود أىّ شكلٍ من الانفعال أو طروء حالةٍ عارضةٍ على ذاته المقدّسة، ومن ثمّ لا يبقى مجالٌ لطرح الشبهة المذكورة التي تتنافى مع حقيقة ذاته المجرّدة البسيطة. وبالطبع فإنّ هذه الشبهة ناشئةٌ من عدم فهم معنى الكيد والمكر بالنسبة إلى الله عزّ وجل.

- تطرّقنا إلى الحديث عن هذا الموضوع بالتفصيل وذكرنا أدلّته في مبحث إثبات وجود الله تعالى، وقلنا إنّ الممكنات تحتاج في وجودها وفي كلّ شؤونها إلى واجب الوجود حدوثاً وبقاءً

ص: 445


1-
2- للاطّلاع أكثر ، راجع: الراغب الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن، مادّتا (كيد) و(مكر)

2 ) التكبّر :

وصف القرآن الكريم الله تعالى بالمتكبّر في آياتٍ عديدةٍ، ومنها الآية المباركة: «الْجَبَّارُ الْمُتَكَبَرُ»(1) ، وهذا المفهوم حينما يطلق على الإنسان فهو يشير إلى معنيين، أحدهما الكبرياء والعظمة، والآخر احتقار الآخرين وعدم الاكتراث بهم. المعنى الثاني مذمومٌ جملةً وتفصيلاً ولا يستسيغه الدين ولا العقل ولا العرف، لذلك طرح البعض شبهةً حول كيفية اتّصاف ذات البارئ الكريم بهذه الصفة غير الحميدة.

تحليل الشبهة ونقضها:

بالنسبة إلى الله عزّ وجلّ، فهو ذو الكبرياء والعظمة اللامتناهية، ولكنّه لا يحقّر الآخرين كما يفعل الإنسان المتكبّر، لذا فإنّ مقام الكبرياء الإلهي لا يمكن مطلقاً أن يقارن مع مقام أيّ كائنٍ آخر، وكلّما ذكرت هذه الصفة ونظيراتها بشأنه جلّ شأنه، فهي تدلّ على مقامه الرفيع الذي لا يبلغه أيّ كائنٍ كان؛ ولكنّ هذا لا يعني أنّه تعالى يستكبر على خلقه احتقاراً لهم وإهانةً، فهو الذي خلقهم وأسبغ عليهم نعمه ظاهرةً وباطنةً، ومن ثمّ فإنّ تحقيرهم دون مبرّرٍ يرجع عليه، في حين أنّه الرؤوف الحكيم.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّه تبارك وتعالى صاحب الجلال والعظمة، قد حذّر أعداءه من كفرةٍ ومشركين وعصاةٍ بأن يتوبوا توبةً نصوحاً ويعبدوه ويشكروا نعمه التى أكرمهم بها بعد أن يذعنوا لعظمته وكبريائه ويقرّوا بمقامه الرفيع الذي لا يضاهيه مقامٌ، ومن هذا المنطلق يجب عليهم التواضع والخضوع

ص: 446


1- سورة الحشر، الآية 23

لأوامره والامتثال لنواهيه من دون أيّ استكبارٍ. فهو وحده صاحب أعظم مقامٍ وله الكبرياء والعظمة، لذا لا يجوز ذلك لغيره بتاتاً، فكلّ شيءٍ سواه ممكنٌ و محتاجٌ في وجوده إليه وليس له مقامٌ كهذا المقام الرفيع.

إذن، نسبة الكبرياء إلى الله تعالى في القرآن الكريم تدلّ على مقامه العظيم ومنزلته الرفيعة وقدرته التي لا تحدّها حدودٌ، وهذا الأمر في الواقع يستبطن تحذيراً للطغاة والعصاة من بني آدم كي يرجعوا إلى أنفسهم ويطيعوا من خلقهم وأفاض الوجود عليهم.

3 ) الجبروت :

قال تعالى في كتابه الكريم: «الْعَزيزُ الْجَبَّارُ»(1)، ویری بعض المشكّكين أنّ المراد من الجبروت هو التجبّر والطغيان ممّا يؤدّي إلى ابتعاد جميع الخلق عنه خشيةً من بطشه (2).

تحليل الشبهة ونقضها:

إنّ هذه الشبهة في واقع الحال لا تختلف عن الشبهات التي ذكرت آنفاً، فهى ناشئةٌ من عدم فهم معاني صفات الله عزّ وجلّ. وبعبارةٍ أخرى إنّ سببها قصور عقول بعضهم عن إدراك خطاب الدين والقرآن الكريم، فلو تأمّلنا قليلاً في الصفات الإلهية الكمالية سيتّضح لنا وهنها، وكما ذكرنا آنفاً فإنّ الله تعالى وجودٌ مجرّدٌ وغنيٌّ مطلقٌ لا يحتاج إلى أيّ أمرٍ آخر كالطغيان على الآخرين،

ص: 447


1- سورة الحشر، الآية 23
2- مسعود الأنصاري (الدكتور روشنكر)، الله اكبر (باللغة الفارسية)، ص 139 – 140

لأنّ هذه الخصلة يلجأ إليها الضعفاء من البشر حينما يحصلون على مناصب رسمية أو عندما يمتلكون ثرواتٍ ماليةً، حيث يحاولون فرض سلطتهم بالجبر والطغيان إثر ضعفهم في بسطها على أساس قواعد عقلية ومنطقية؛ وهذا الأمر فى الحقيقة يمكن أن يعزى إلى وجود شعورٍ بالنقص وفقدان الكمال. لكنّ ذات الله تعالى المباركة منزّهةً من كلّ أنماط النقص والحاجة، لذا فالجبروت الذي ينسب إليه يختلف تماماً عن الجبروت الذي يكتنف بني آدم هذه إجابةٌ عقليةٌ عن الشبهة المذكورة.

المعنى اللغوي لكلمة ( جبّار ) يثبت لنا أيضاً هشاشة هذه الشبهة الواهية منأساسها، فهي مشتقّةٌ من مادّة (جبر) التي أحد معانيها الغلبة والسلطان، ومعناها الآخر التعويض والترميم من قبيل ترميم العظم الكسير. لو نسبنا المعنى الأوّل إلى الله تعالى فقد أصبنا الهدف، فهو صاحب الغلبة والسلطان دون سواه و جمیع الكائنات خاضعةٌ ومطيعةٌ له، وبطبيعة الحال فهو إلى جانب ذلك حكيمٌ وعادلٌ ورحمانٌ رحيمٌ، لذا فجبروته ليس كجبروت خلقه لكونه يتعامل مع عباده برأفةٍ ورحمةٍ إلا الطغاة والعصاة منهم فإنّه يتعامل معهم بأسلوبٍ آخر إثر أعمالهم الدنيئة، وهذا الأمر أيضاً من منطلق دفاعه عن المظلومين ورأفته بالمحرومين الذين يتعرّضون لجبروت الجائرين وطغيانهم. فهذه الصفة التي توصف بها ذاته المباركة تعكس عظمته وقدرته وكيفية تعامله مع من يستحقّ العقاب والعذاب، فقد منحهم حرّية التصرّف وفق إرادتهم لكنّه في بعض الحالات يأخذهم بجبروته حين تفاقم طغيانهم؛ ومن الطبيعي أنّ هذه العقوبة التي تهدف إلى نصرة المظلوم، ليس لها أيّ رادعٍ عقليٍّ أو عرفيٍّ، بل هي حميدةٌ وتنسجم مع الروح الإنسانية والإيمانية.

ص: 448

أمّا المعنى الآخر للكلمة، أي: التعويض والترميم، وعلى هذا الأساس فإنّ وصفه جلّ شأنه بالجبروت على أساس هذا المعنى يدلّ على إصلاح حال الضعفاء والمحرومين، ومن ثمّ لا يمكن تصوّر أيّ أمرٍ سلبيٍّ فيه.

المسألة الأخرى الجديرة بالذكر على هذا الصعيد أنّ الذين هي يطرحون هذه الشبهة والشبهات المشار إليها سابقاً، قد قصروها على الصفات الإلهية فحسب، في حين أنّ الباحث لو أراد دراسة وتحليل صفات إنسانٍ أو أيّ أمرٍ آخر، بل حتّى صفات الله عزّ وجلّ، فليس من الحريّ به أن يركّز بحثه على مسألة الوصف في إطارٍ محدودٍ، بل لا بدّ له من الأخذ بعين الاعتبار جملة الأوصاف فيحلّل دلالاتها ويقارن فيما بينها ومن ثمّ يطرح رأيه حولها على وفق النتائج التي توصّل إليها. لذا، فالذين يطرحون الشبهة حول جبروت الله تعالى قد سلّطوا الضوء على المعنى الذى يتضمّنه هذا اللفظ وذكروا دلالته على أوصاف لا يرتضيها العقل والعرف، لكنّهم غضّوا الطرف عن الأوصاف الكمالية الأخرى التى تخصّص معناه وتبيّن غايته؛ ناهيك عن أنّه ذو معنيين، لذا لا يمكن تجاهل معناه الآخر لدى تفسير معناه الأوّل، وهذه الطريقة تنسجم مع منهجية تفسير النصوص السائدة في العلوم اللغوية.

4 ) القهر :

عدّ بعضهم أنّ صفة القهّار تعدّ من الصفات السلبية لله تعالى شأنه (1). القهر في اللغة يعنى الغلبة والسيطرة، وعلى هذا الأساس فالقاهر هو الغالب والمسيطر ؛ وهذا بمعنى أنّ الله يمتلك قدرةً وسلطةً تفوق كلّ ما لدى الممكنات

ص: 449


1- للاطّلاع أكثر ، راجع: المصدر السابق، ص 136

لذا فهو يسيطر عليها ويقهرها؛ ووجه وصفه بهذه الصفة ينطبق مع ما ذكر حول الصفات الأخرى التي ذكرت آنفاً، والشبهة التي طرحت هنا تناظر ما طرح على ما ذكرنا من صفاتٍ.

تحليل الشبهة ونقضها :

كلمة (قهّار ) صيغة مبالغة من (قاهر)، وهي تدلّ على شدّة القهر والغلبة، وقد ورد هذا الوصف بشأن الله عزّ وجلّ في القرآن الكريم ستّ مرّاتٍ، منها قوله تعالى: «يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهِ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ»(1)، وهو يعني أنّ الغلبة لله الواحد الأحد دون سواه، أي إنّه صاحب السلطة العادلة العظمى التى لا تضاهيها سلطةٌ ولا يمكن لأيّ متجبّرٍ وطاغوتٍ أن يقهره، حاشاه ذلك وتعالى علوّاً كبيراً. هذا الكلام يعني أنّ القدرة الحقيقية تقتصر على الله عزّ شأنه بحيث إنّ جميع الكائنات خاضعةً ومطيعةٌ له دون سواه. الآيات الستّة التى ذكرت فيها صفة القهر لله تعالى قد تضمّنت أيضاً التنويه على مقام الأحدية فهو الواحد القهّار. هذا الأمر يشير إلى أنّ الله عزّ وجلّ هو الواحد الحقيقيّ وصفاته الكمالية متّحدةً مع علمه اللامحدود، ومن ثمّ فإنّ كلّ وجودٍ آخر سواه ليس مستقلاً بذاته، بل متقوّمٌ به ومظهرٌ لوجوده الأصيل؛ وهذا المقام القدسي هو مقام الواحد القهّار الحقيقيّ(2).

ص: 450


1- سورة يوسف، الآية 39 راجع أيضاً: سورة الرعد، الآية 19؛ سورة إبراهيم، الآية 48 ؛ سورة ص، الآية 65؛ سورة الزمر، الآية 4 ؛ سورة غافر، الآية 16
2- للاطلّاع أكثر، راجع: محمّد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 11، ص 179 - 180

5 ) الوراثة :

الوراثة معناها واضحٌ لكلّ إنسانٍ، فهي تشير إلى انتقال مال أو حقٍّ من ميّتٍ إلى حيٍّ، ويطلق على من ينتقل إليه الإرث بأنّه (وارث). هذا المعنى حينما يستعمل بالنسبة إلى بنى آدم فهو مفهومٌ ومعقولٌ، إلا أنّ بعضهم شكّكوا فيه حينما ينسب إلى الله عزّ وجلّ، إذ تدلّ بعض الآيات على أنّه يرث السماوات والأرض، في حين أنّ آياتٍ أخرى أكّدت على كونه المالك المطلق والوهّاب الذي يفيض الرزق على الكائنات جميعاً ؛(1) لذا كيف يمكن أن يتّصف ب_ (الوارث)؟ فهل هو محتاجٌ لما عند غيره؟ وهل أنّ ملك غيره خارجٌ عن نطاق ملکه ؟

تحليل الشبهة ونقضها :

هذه الشبهة هي الأخرى هشّةٌ ولا مسوّغ لها، وهي ناشئةٌ من التصوّر الخاطئ بتسرية المعنى اللغوي للوارث إلى الله تعالى؛ ولكن لا يقصد منه في القرآن الكريم انتقال أموال الخلائق وحقوقهم إليه ووراثتها بعد هلاكهم، بل كما أنّ الإرث يصل من الميّت إلى الحيٍّ الذي له الحقّ في تملّك الأموال والحقوق لكونه حيّاً، فإنّ الله تعالى أيضاً من هذه الناحية هو الوارث الذي يبقى ويفنى كلّ من سواه؛ إذ جميع الكائنات هي من الممكنات الفانية الهالكة، في حين أنّه تبارك شأنه غنيٌّ حيٌّ وصاحب جميع الكمالات من دون استثناءٍ، لذا فهو مالك كلّ شيءٍ وواهبه وجميع الخلق تحت إمرته فهو وحده الوارث الحقيقيّ المطلق،

ص: 451


1- للاطّلاع أكثر، راجع : مسعود الأنصاري (الدكتور روشنكر)، الله اكبر (باللغة الفارسية)، ص 154

لكنّه لا يرث الأموال والحقوق كما يرثها الإنسان المحتاج، بل هو الباقي بعد فناء كلّ شيءٍ، فقد قال في كتابه العزيز: «وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ»(1). هذه الآية الكريمة ذكرت أنّ الله تعالى هو الوارث بعد أن أشارت إلى أنّ حياة كلّ الكائنات مؤقّتةٌ ومصيرها الموت لا محالة، لذا لا يمكن لأيّ كائنٍ سواه أن يبقى حيّاً فيرث الأمور ويشرف عليها، فالوارث الحقيقيّ هو من لا يزول ولا يفنى ؛ والله عزّ شأنه هو الحيّ الذي لا يموت ناهيك عن أنّه هو الذي يهب الحياة لكلّ كائنٍ آخر، حيث قال في كتابه الكريم: «إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ»(2) . هذه الآية تدلّ بوضوحٍ على أنّ كلّ من هو على الأرض يفنى ولا يبقى سوى الله تعالى الذي هو الوارث الحقيقيّ(3)، وهو الذي يحيي كلّ شيءٍ بعد موته ويبعث الخلق في كل شيء بعد موته ويبعث الخلق في يوم الحساب فيخضعون لسلطته لينالوا جزاءهم العادل.

إذن، كلّ شيءٍ خاضعٌ الله تعالى وتابعٌ لإرادته وكلّ ما لدينا فانٍ وما عند الله يبقى؛ وهذا الأمر هو المعنى الأتمّ للوراثة. ويؤيّد ذلك قوله عزّ وجلّ: «وَللهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ»(4). تشير الآية إلى يوم القيامة، فكلّ ما في السماوات والأرضين خاضعٌ لله تعالى وتحت إمرته كالإرث الذي يبقى للحيّ فقط، فهو الحيّ الوارث الذي له الأمر من قبلٌ و من بعدُ؛ وهذا المعنى بالطبع لا يتنافى مع سائر صفاته وأسمائه الحسنى، بل يدلّ على

ص: 452


1- سورة الحجر، الآية 23
2- سورة مريم، الآية 40
3- محمّد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 14 ، ص 50
4- سورة آل عمران، الآية 180

معنىً لصفةٍ كمالية تثبت أنّه أزليٌّ سرمديٌّ الوجود وله الحكم المطلق على كلّ من سواه.

6 ) الاستهزاء والسخرية :

لا شكّ فى أنّ الاستهزاء بالآخرين يعدّ من رذائل الصفات الخلقية، ولا يجدر بأيّ إنسانٍ فعل ذلك. استند بعضهم إلى آياتٍ من القرآن الكريم زاعمين أنّ الله تبارك وتعالى قد استهزء بخلقه وسخر بهم، وهو أمرٌ غير محبّذٍ.

تحليل الشبهة ونقضها :

إنّ الاستهزاء مذمومٌ من قبل التعاليم الإسلامية والمضامين الأخلاقية الإنسانية السامية، لذلك نهى الله عزّ وجلّ عباده المؤمنين عن ارتكابه، ومن ذلك قوله: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءُ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا»(1). لكن هنا آياتٌ استهزأ فيها الله ببعض الناس، ولأجل تفسيرها وتحليلها لا بدّ من بيان مسألتين، وهما:

أولاً: سخرية الله تعالى لا تعمّ جميع الناس، بل هي موجّهةٌ إلى ذوي السريرة السيّئة والألسن البذيئة الذين سخروا بالمؤمنين وتهكّموا بهم. لو تأمّلنا قليلاً في الآيات التي سخر الله فيها من هؤلاء المنحرفين سيتّضح لنا أنّه تعالى لم يبادرهم بذلك، بل ردّ عليهم كي يكفّوا عن مواقفهم الدنيئة ولا يتعرّضوا لعباده المؤمنين بكلامٍ بذيءٍ، فهؤلاء كانوا من معارضي النبوّة وأعداء الإسلام وعلى رأسهم الكفّار والمنافقون.

ص: 453


1- سورة الحجرات، الآية 11

في باكورة البعثة النبوية كان الكفّار والمنافقون يشكلون الغالبية العظمى من المجتمع، وقد كانوا يمتلكون ثروات مادّيةً طائلةً ونفوذاً اجتماعياً واسعاً، في حين أنّ معظم أتباع النبيّ الكريم صلّی الله علیه و آله كانوا من المستضعفين الذين ينحدرون من الطبقة المحرومة، لذلك أصبحوا عرضةً للتهكّم والسخرية؛ وعلى هذا الأساس فإنّ الآيات المباركة التي استهزأ الله تعالى بها من أعدائه هي في الواقع ناظرةٌ إلى هذه الحالة (1).

ثانياً: ليس المقصود من السخرية في الآيات المباركة أنّ الله تعالى استهزأ بالكفّار والمنافقين لفظياً وسلوكياً كما يفعل البشر، بل المراد منه الاستهزاء بهم عن طريق معاقبتهم دنيوياً أو أخروياً إثر معاصيهم اللفظية والسلوكية؛ وهذا المعنى تدعمه الآيات نفسها. مثلاً خاطب الله عزّ وجلّ الكفّار الذين سخروا من النبيّ نوح علیه السّلام حينما كان يصنع الا حينما كان يصنع السفينة قائلاً: «وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَةٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ»(2). وبعد ذلك ذكر حادثة الطوفان وكيف أنّه أغرقهم فرجع استهزاؤهم عليهم وأصبحوا هم الخاسرين، وهذا الهلاك في الواقع هو بمثابة استهزاء بهم ردّاً على استهزائهم، أي إهلاكهم إثر استهزائهم، وكأنّما الاستهزاء سببٌ لفنائهم الذي هو في الحقيقة تحقيرٌ لقدراتهم وإهانةٌ لهم.

وقال تعالى شأنه أيضاً: «الَّذِينَ يَلْمِرُونَ الْمُطَّوعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي

ص: 454


1- للاطلّاع أكثر، راجع: محمّد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 9، ص 362 إلى 365
2- سورة هود، الآيتان 38 و 39

الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ»(1) ، أشارت هذه الآية الكريمة إلى المنافقين الذين يعلنون الإسلام ويكتمون الكفر، حيث سخروا بالمؤمنين لضعفهم اجتماعياً وعدم تمكّنهم مالياً، لذلك ردّ الله سبحانه وتعالى عليهم دفاعاً عن عباده المؤمنين ومواساةً لهم لأنّهم تعرّضوا لظلمٍ وإهانةٍ بأسلوبٍ غير إنسانيٍّ، إذ وعد أعدائهم بالعذاب الأليم مستهزءاً بهم وبقدراتهم الواهية عن طريق منحهم جزاءهم العادل، وهذا المعنى قد أكّدت عليه الروايات أيضاً، فقد روي عن الإمام عليّ بن موسى الرضا علیه السّلام أنّه قال: «إنّ الله تبارك وتعالى لا يسخر ولا يستهزئ ولا يمكر ولا يخادع، ولكنّه عزّ وجلّ يجازيهم جزاء السخرية وجزاء الاستهزاء وجزاء المكر والخديعة تعالى الله عمّا يقول الظالمون علوّاً كبيراً » (2).

إذن، نستنتج ممّا ذكر أنّ الله تبارك شأنه لم يبادر أعداءه من كفّار ومنافقين ومشركين بالاستهزاء والسخرية، لكنّه ردّ عليهم وأثبت ضعفهم ووهنهم خلافاً لمدّعاهم، فهؤلاء كانوا يسخرون بالأنبياء وأتباعهم على مرّ التاريخ لأسباب عديدة؛ لذا فإنّ عذابهم هو في الحقيقة شكلٌ من أشكال الاستهزاء بهم بوصفه تحقيراً لهم ولقدراتهم الهشّة بعد أن طغوا وتجبّروا في الأرض. ولو زعم أحدٌ أنّ الله يجب أن يتركهم وحالهم بأن يسخروا بالمؤمنين ويتهكّموا بهم ويؤذوهم كيفما شاؤوا، نقول له إنّ سكوت الربّ العظيم عن ذلك وعدم نصرته لعبادة المؤمنين يتنافى مع عدله وحكمته وما وعد به أنبياءه من النصرة والتأييد.

ص: 455


1- سورة التوبة، الآية 79
2- محمّد عليّ بن بابويه القمّي (الصدوق)، التوحيد، ص 163
* الشبهة الرابعة : الصفات الثبوتية الجسمانية

ذكرنا في المباحث الآنفة مراراً أنّ وجود الله عزّ وجلّ هو وجودٌ مجرّدٌ منزّهٌ عن أيّ وصفٍ مادي،ٍّ ذلك لأنّ الوجود المادّي يتّصف بالنقص وبالإمكان ومن ثمّ يمستحيل له أن يكون واجب الوجود؛ لكن مع ذلك هناك آياتٌ وأخبارٌ نسبت بعض الصفات المادّية إليه تعالى وهي في ظاهرها تدلّ على اتّصافه بصفاتٍ جسمانيةٍ، لذا أُثيرت شبهةً حول هذا الأمر. ومن جملة ذلك وصفه بصفات السمع والبصر والتكلّم والمجيء والاستواء على العرش وامتلاك يدٍ ووجهٍ، ويطلق عليها في علم الكلام (الصفات الخبرية) ويسمّى الذين لا يؤوّلونها ب_ (الصفاتية) (1).

ذكرت في بعض الكتب أدعيةٌ للتوسّل بصفات الله الخبرية باعتبار أنّه يمتلك جسماً مادّياً وحواسّاً ملموسةً، إذ ادّعى أصحابها أنّ رسول الله صلّی الله علیه و آله هو من ذكرها في القرآن الكريم بشكل غير إراديٍّ لأجل بيان عظمة الله وجبروته (2).

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ هذه الشبهة ليست جديدةً، بل طُرحت ممّن يدّعون الإسلام من الذين جعلوا لله جلّ شأنه جسماً مادّياً، ويطلق عليهم في علم الكلام (المجسّمة) (3) أو (المشبّهة ) (4) وذلك لأنّهم شبّهوا الله تعالى

ص: 456


1- للاطّلاع أكثر ، راجع: الشهرستاني، الملل والنحل، ج 1، ص 92؛ أبو الحسن الأشعري، الإبانة، ص 77
2- للاطّلاع أكثر، راجع: مسعود الأنصاري (الدكتور روشنكر)، الله اكبر (باللغة الفارسية) ، ص 75 و 166 - 167
3- للاطّلاع أكثر، راجع: الشهرستاني الملل والنحل، ج 1، ص 108
4- الشهرستاني، الملل والنحل، ج 1، ص 108

بالكائنات المادّية وفسّروا الصفات الخبرية المنسوبة إليه بشكل ينطبق مع ما يتّصف به البشر.

وفيما يأتي نذكر بعض الشبهات التي طرحت حول الصفات المشار إليها ومن ثمّ نتطرّق إلى تحليلها ونقضها:

1 ) السَّمع والرُّؤية :

هناك مجموعة من الآيات التي وصفت الله عزّ وجلّ بالسميع والبصير، حيث وردت هاتان الصفتان 47 مرّةً في القرآن الكريم، لذا زعم بعضهم أنّه يمتلك حواس السمع والبصر كتلك التي يمتلكها البشر.

تحليل الشبهة ونقضها:

الأمر الحريّ بالاهتمام لدى بيان الصفات الخبرية هو تسليط الضوء على المعنى الخاصّ لكلّ واحدةٍ منها ضمن إطارٍ معيّنٍ، والعرف بدوره يقرّ بوجود اختلافٍ بين المعاني اللغوية والاصطلاحية للكلمات من دون أن يمزج بينها أو يجعلها مقتصرةً على دلالةٍ واحدةٍ فحسب. على سبيل المثال، الشائع بين الناس أنّهم حينما يتخاطبون عن طريق الهاتف يستخدمون كلمة (أُنظر) رغم أنّ المخاطب لا يرى المتكلّم، أو أنّ الأعمى حينما يعيّن موعداً مع صديقٍ له يقول: (أراك في يوم كذا) مع أنّه لا يمتلك حاسّة الرؤية المادّية. لذا، من المؤكّد بمكانٍ أنّ المعنى اللغوي غير مرادٍ هنا قطعاً، بل المقصود في كلّ موردٍ يختلف عن الآخر، فالمتكلم فى الهاتف حينما يقول لمخاطبه (أُنظر) فهو يريده

ص: 457

أن يدقّق في كلامه والأعمى حينما يقول لصديقه: (أراك في يوم كذا) فهو بطبيعة الحال يريد أن يلتقي به ويتحدّث معه في ذلك اليوم.

كذا هو الحال بالنسبة إلى اتصاف البارئ تبارك شأنه بالسمع والبصر، أي ليس من الحريّ تفسيرهما بمعناهما اللغوي المادّي بزعم أنّه يمتلك أُذنين يسمع بهما وعينين يرى بهما! حاشاه ذلك وتعالى علوّاً كبيراً. إنّ المقصود من ذلك بكلّ تأكيدٍ هو علمه التامّ وإحاطته بكلّ شيءٍ وإدراكه لكلّ حركةٍ وسكنةٍ تصدر من خلقه سواءٌ كانت أفعالهم مرئيةً أو مسموعةً.

ومن الناحية الفلسفية، نقول في بيان هاتين الصفتين بما أنّ الممكنات معلولةً في وجودها لله تعالى، فهذه المعلولات لا يمكن أن تتحقّق ولا توجد إلا بفعل علّتها التامّة، كما أنّ علم العلّة بالمعلول هو علمٌ تامٌّ وحضوريٌّ لا يتطلّب وجود حواسّ مادّية لتحقّقه ؛ ونظراً لأنّ العرف العامّ لا يمكنه إدراك هذا الأمر بواسطة فهمه الساذج ؛ لذلك وصف الله تبارك وتعالى ذاته المقدّسة بصفتي السمع والبصر لتقريب المعنى إليهم وإفهامهم بأنّه على إلمامٍ تام ٍّبكلٍّ ما يقولون ويفعلون. هذا التفسير قد أكّدت عليه الروايات أيضاً، إذ روي عن الإمام علىّ بن موسى الرضا علیه السّلام في حديثٍ طويلٍ أنّه قال : « ... لا يتغيّر الله بانغيار المخلوق، كما لايتحدّد بتحديد المحدود؛ أحدٌ لا بتأويلٍ عددٍ، ظاهرٌ لا بتأويل المباشرة، متجلٌّ لا باستهلال رؤية، باطنٌ لا بمزايلةٍ، مبائنٌ لا بمسافةٍ، قريبٌ لا بمداناة، لطيفٌ لا بتجسمٍ، موجودٌ لا بعد عدمٍ، فاعلٌ لا باضطرارٍ، مقدرٌ لا بحول فكرةٍ، مدبّر لا بحركةٍ، مريدٌ لا بهمامةٍ، شاء لا بهمّةٍ، مدركٌ لا بمجسّةٍ، سميعُ لا بآلةٍ، بصيرُ لا بأداةٍ» (1).

ص: 458


1- محمّد عليّ بن بابويه القمّي (الصدوق)، التوحيد، ص 37 و 139

إذن من البديهيّ أنّ المراد الحقيقيّ من الصفات الخبرية ليس ذلك المعنى الظاهري الذي يحمل على المزايا الجسمانية، ومن ثمّ فالشبهة المطروحة تنتفي من أساسها، وهو ما اعترف به بعض من طرحها من أمثال عليّ الدشتي (1).

2 ) قدرة الخلق على رؤية الله تعالى بالعين المحسوسة:

هناك آياتٌ تدلّ فى ظاهرها على قدرة بعض المؤمنين على رؤية الله تبارك وتعالى في يوم القيامة، ومنها ما يأتي:

- «الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ»(2).

- «وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ»(3).

- «مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ الله فَإِنَّ أَجَلَ الله لَآتِ»(4).

- «إِهُكُمْ إِلَهُ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحاً»(5).

- «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ»(6).

ص: 459


1- علي الدشتي، بيست و سه سال (باللغة الفارسية)، ص 151 - 152
2- سورة البقرة، الآية 46
3- سورة هود، الآية 29
4- سورة العنكبوت، الآية 5
5- سورة الكهف، الآية 110
6- سورة القيامة، الآيتان 22 و 23

تشبّث المجسّمة والأشاعرة بهذه الآيات وزعموا قدرة بني آدم على رؤية الله تعالى يوم القيامة بالعين المادّية، فقد زعم المجسّمة ذلك مطلقاً في حين أنّ الأشاعرة ذكروا تبريراتٍ لبيان نوع تلك الرؤية، فالتفتازاني على سبيل المثال ادّعى أنّ هذه الرؤية ممكنةٌ لكن من دون تحديد جهة خاصّةٍ أو مقابلٍ معيّنٍ (1)، في حين أنّ ابن حزم قال إنّها لا تكون بالقوّة البصرية للعين، بل بقوّةٍ إلهيةٍ خاصّةٍ (2).

تحليل الشبهة ونقضها:

للردّ على هذا الالتباس الجليّ، نقول:

1 ) نقض هذه الشبهة قد تكرّر فى المباحث الآنفة، إذ قلنا إنّ الله تعالى وجودٌ مجرّدٌ محضٌ، وإنّ الرؤية المادّية تقتصر على الكائنات المادّية التي لها جرمٌ ملموسٌ؛ ومن هذا المنطلق لا يمكن رؤية الله جلّ شأنه مطلقاً لأنّ الرؤية تعني تحديده بمكانٍ خاصٍّ وتقيّده بجهةٍ معينةٍ وإطارٍ ضيّقٍ، فهذه الأوصاف تنطبق على ما هو محدودٍ ومادّيٍّ ولا تنسجم مع الوجود المجرّد اللامتناهي.

2 ) كما ذكرنا في مقدّمة مبحث الصفات، فلدى تفسير كلام الله المجيد لا بدّ لنا من الأخذ بعين الاعتبار جميع الأصول العقلية ودلالات سائر الآيات،

ص: 460


1- شرح المقاصد، ج 3، ص 133
2- للاطّلاع أكثر، راجع: ابن حزم، الفصل في الملل والأهواء والنحل، ج 2، ص 34؛ ابو الحسن الأشعري، اللّمع، ص 32؛ أبو الحسن الأشعري، الإبانة عن أصول الديانة، 13؛ الجويني، الإرشاد، ص 164 . إضافةً إلى سائر الكتب العقائدية التي ألّفها الأشاعرة والتي تضمّنت مبحث رؤية الله تعالى

لذا يجب أن ننظر إلى الآيات المذكورة أعلاه على وفق هذه القاعدة، فهي وإن دلّت على إمكانية الرؤية في ظاهرها اللّفظي لكن هناك آياتٌ أخرى تقيّدها من خلال نفيها هذا الأمر جملة وتفصيلاً، ومنها الآيتان الآتيتان:

- «لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» (1).

- «وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكَّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ»(2).

إذن، لا بد من تقييد الآيات التي يتصوّر بعضهم أنّها تدلّ على الرؤية المادّية بهاتين الآيتين وما شاكلهما.

3 ) صحيحٌ أنّ المتعارف في معنى الرؤية هو الإبصار بالعين المحسوسة، لكنّ ذلك لا يعني اختصاصها بهذا المعنى فحسب، إذ للكلمة معانٍ ودلالات عديدة. على سبيل المثال، عادةً ما يقال في العرف: (هل رأيت كيف نجح فلانٌ في الامتحان الصعب ؟!) هذا الاستعمال وما ناظره يدلّ على علم الإنسان بنجاح شخصٍ في امتحانٍ صعبٍ، والنجاح الذي تحقّق بكلّ تأكيدٍ لا يمكن أن يرى بالعين المحسوسة، بل يستشعره الإنسان بمدركاته العقلية فينتج لديه العلم به .

الاستعمال الآخر للرؤية في العرف هو العلم الحضوري الذي يختصّ به

ص: 461


1- سورة الأنعام، الآية 103
2- سورة الأعراف الآية 143

الإنسان (1)، كقولنا: (أراك رجلاً نزيها). من المؤكّد أنّ الرؤية هنا لا تعني البصر بالعين المادّية، بل المراد منها الإدراك والعلم الحضوري التامّ الذي ليس فيه حجابٌ أو واسطةٌ بين العلم والمعلوم (2).

إذن، بما أنّ الرؤية لا تختصّ بالعين المحسوسة، فلا بدّ من تفسير الآيات التي وردت فيها على أساس هذا المعنى. إنّ سيادة الله تعالى في الحياة ليست مباشرةً أو مجرّدةً عن الحجب بل يفرضها على العالم المادّي عن طريق نظام العلّية، ويتمخّض عن هذا الأمر حدوث بون بين الإنسان وربّه، فالأسباب والعلل هي نوعٌ من الحجب التي تمنع بعض الناس من إدراك المسبّب ومن ثمّ تقيّدهم بالعلّية وحدها. ومن الجدير بالذكر هنا أنّ عدم خشية الإنسان من ربّه وعدم التوكّل عليه ناشئان من هذه الحالة.

عندما تحلّ ساعة الحساب في يوم القيامة سوف ينقطع نظام العلل والأسباب فتزول الحجُب التي كانت حائلةً بين الإنسان وربّه في الحياة الدنيا، فيكون في محضر ربّه مباشرةً من دون أيّة واسطةٍ ليخضع إلى حسابه العادل؛ لذا يمكن القول إنّه يراه بإدراكه ووجدانه. ومن الجدير بالذكر هنا أنّ رؤية المؤمن ربّه تختلف عن رؤية الكافر والمنافق، فهو تعالى يتجلّى في أرواح عباده المؤمنين، وأدنى مرتبة من هذا الكشف تتمّ لبعض الخلّص في الحياة الدنيا، فقد روي عن الإمام عليّ علیه السّلام وصفاً بليغاً ورائعاً مخاطباً ذعلب اليماني:

«ويلك يا ذعلب، لم أكن بالذي أعبد ربّاً لم أره.

ص: 462


1- محمّد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 8، ص 239
2- المصدر السابق، ج 16، ص 102

فقال فكيف رأيته ؟ صفه لنا !

قال: ويلك، لم تره العيون بمشاهدة الأبصار، و لكن رأته القلوب بحقائق الإيمان.

ويلك يا ذعلب، إنّ ربّي لا يوصف بالبعد ولا بالحركة ولا بالسكون ولا بالقيام قيام انتصابٍ، و لا بمجيءٍ ولا بذهابٍ؛ لطيف اللطافة لا يوصف باللطيف، عظيم العظمة لا يوصف بالعظم ، كبير الكبر لا يوصف بالكبر، جليل الجلالة لا يوصف بالغلظ، رؤوف الرحمة لا يوصف بالرقّة. مؤمنٌ لا بعبادةٍ، مدركٌ لا بمجسّةٍ، قائلٌ لا باللّفظ.

هو في الأشياء على غير ممازجةٍ، خارجٌ منها على غير مباينةٍ، فوق كلّ شيءٍ، فلا يق ل شيءٌ فوقه، و أمام كلّ شيءٍ ولا يقال له أمام، داخلٌ في الأشياء لا كشيءٍ في شيءٍ داخلٌ، و و خارجٌ منها لا كشيءٍ من شيءٍ خارجٌ ... » (1).

أمّا رؤية الكفّار له فهي تعني أنّهم يجدون أنفسهم حاضرين في محكمة عدل، لذا يكتنفهم شعورٌ بمعرفة المالك الحقيقيّ الذي حادوا عن سبيله في الحياة الدنيا فيدركون حينها أنّه القادر والحاكم المطلق، وهو أمرٌ لم تدركه حواسّهم في الحياة الدنيا .

خلاصة الكلام أنّه ليس من الصواب الاتّكاء على بعض الآيات التي تدلّ فى ظاهرها على إمكانية رؤية الله تعالى لإثبات الرؤية العينية ومن ثمّ تشبيهه جلّ شأنه بالكائنات المادّية مع غضّ النظر عن سائر الآيات التي تقيّدها، بل لا بد ّأيضاً من الرجوع إلى العقل والنقل والاعتماد على المنهج

ص: 463


1- نهج البلاغة، الخطبة 177

التفسيري الصحيح في بيان معانيها. وكما قلنا فإنّ رؤية الله تعالى في يوم القيامة بمعنى العلم الحضوري الناشئ من أحد أنماط الكشف إضافةً إلى إدراك سيادته المطلقة بشكل يفوق ذلك الشعور الذي كان يكتنف الإنسان في الحياة الدنيا، ويدعم هذا المعنى سائر الآيات والعقل والنقل والفهم العرفي.

3 ) كلام الله تعالى :

ورد في القرآن الكريم أن الله عزّ وجلّ تكلّم مع بعض عباده، كما جاء في الآيتين الكريمتين: «مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ»(1)، «وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمَا تَكْلِيمًا»(2). لذا توهّم بعضهم وطرحوا شبهة أنّ الله تعالى يتكلّم مع عباده بلسانٍ مادّيٍّ.

تحليل الشبهة ونقضها:

لو تأّملنا في حقيقة الكلام مع الأخذ بعين الاعتبار كون البارئ جلّ وعلا وجوداً مجرّداً، سيتضح لنا وهن هذه الشبهة، فالكلام وإن كان بالمعنى العرفي يدلّ على القول اللّفظي عن طريق اللسان، لكنّه في الحقيقة ليس مقيدّاً بهذا الأمر فقط، فهذا الأمر هو الشائع والمتعارف بين الناس. الكلام يعني إظهار المتكلّم أمراً باطنياً وذهنياً للمخاطب بهدف نقله إليه، وهذا النقل لا بدّ من أن يكون عن طريق وسيلةٍ معيّنةٍ كاللسان أو النصوص المدوّنة أو اللوحات الفنّية حيث يقول المؤلّف في كتابه والرسّام في لوحته ما يختلج في نفسيهما عن طريق

ص: 464


1- سورة البقرة، الآية 253
2- سورة النساء، الآية 164

الكتابة والرسم؛ وكما هو معلومٌ فهذا الكلام لا يندرج في إطار الألفاظ اللسانية، وإنّما طرح في إطارٍ آخر. مثلاً لو كتب أبكمٌ عبارة: (أنا قلت لفلان بأن يفعل كذا) فهذا بطبيعة الحال لا يعنى أنّه خاطبه بلسانه لأنّه عاجزٌ عن النطق، بل يقصد أنّه أبلغه بما يختلج في نفسه إيماءً أو كتابةً.

إذن، الكلام بمعناه العرفي يمكن أن يتحقّق في عدّة صورٍ ولا يقتصر على اللّفظ، ومن جملة ذلك الكتابة والرسم والإيماء، لكنّه في عالم المجرّدات له خصوصياته التي يمتاز بها، فكلام الملائكة والعقول يعني نقل موضوعٍ أو حقيقةٍ إلى الغير بالاعتماد على وسائل خاصّة تتناسب مع عالم المجرّدات. وعلى هذا الأساس فإنّ كلام الله عزّ وجلّ مع الملائكة يتناسب مع خصائص عالم المجرّدات، وكلامه مع عباده الصالحين في الحياة الدنيا ينسجم مع الظروف الدنيوية، فقد يكون عبر إلقاء أمرٍ في نفس النبيّ أو إخباره به في عالم الرؤيا أو من الممكن أن يكون عن طريق تأطيره بألفاظٍ تنعكس في نطاق الصوت المسموع .

4 ) يد الله تعالى :

أشار القرآن الكريم إلى أنّ الله عزّ وجلّ يداً، كما في الآيات المباركة التالية:

- «إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهُ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ»(1).

- «وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهُ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ

ص: 465


1- سورة الفتح، الآية 10

مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ»(1).

- «يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ»(2).

استند بعضهم إلى هذه الآيات زاعماً أنّ الله جلّ شأنه يداً، و من ثمّ ذهب مذهب التجسيم (3).

تحليل الشبهة ونقضها:

هذه الشبهة حالها حال سائر الشبهات التي ذكرت آنفاً، فهي واهيةً وهشّةٌ لا تصمد أمام أبسط استدلالٍ، ففي العرف مثلاً يطلق على من له سيادة وسلطة بأنّه صاحب يدٍ، أو صاحب اليد الطولى، كذلك يقال لمن يقول كلاماً يعجبنا أو يفعل أمراً يشفي غليلنا: (لا شلّت يداك) رغم أنّه لم يقل ما قال ولم يفعل ما فعل بيديه بتاتاً؛ فهذه الكنايات معروفةٌ لا يجهلها حتّى السذّج من الناس. والأمثلة اللّفظية على هذه المسألة كثيرةٌ لا يسعنا المجال لذكرها هنا.

هذه الصيغ اللّفظية برمّتها تدلّ على استعمال اليد كنايةً عن عدّة أمورٍ، بما فيها الاقتدار والإعجاب والكرم، وغير ذلك. وما ورد في الآيات الكريمة ينطبق مع هذا الاستعمال فهي تدلّ على قدرة الله تعالى وكرمه. وبالنسبة إلى الآية التى تقول بأنّه سبحانه خلق آدم علیه السّلام بیده، فيمكن اعتبارها تشبيهاً بما يفعله الإنسان كي يفهم البشر أنّهم خلقوا من قبل بارئ قديرٍ، فعادةً ما يقوم

ص: 466


1- سورة المائدة، الآية 64
2- سورة ص ، الآية 75
3- للاطّلاع أكثر، راجع: مسعود الأنصاري (الدكتور روشنكر)، الله اكبر (باللغة الفارسية)، ص 75

الإنسان بأعماله اعتماداً على نفسه نفسه ومن ثمّ يقول إنّه صنع شيئاً بيديه، ويقصد من كلامه هذا أنّه أنجز ما أنجز من دون الاعتماد على غيره. مثلاً يقال: (هذا المشروع العظيم قد أُنجز بأيدي كوادر ماهرة)، وبطبيعة الحال فاليد هنا رمزٌ للجهود الحثيثة التي بذلها هؤلاء وكنايةٌ عن فضلهم في إنجاز المشروع، وهذا استعمالٌ عرفيٌّ شائعٌ يفهمه كلّ إنسانٍ.

إذن، استناداً إلى ما ذكر نستنتج أنّ الله عزّ وجلّ قد نسب بعض أفعاله إلى اليد مراعاةً للاستعمال العرفي الذي ينسب القيام بالأعمال الهامّة إليها، لذلك قال إنّه خلق آدم بيديه، ناهيك عن أنّ تأكيده تعالى على هذا الأمر فيه إكرامٌ لمقام أبي البشر آدم علیه السّلام الذي هو أوّل الخليقة (1).

5 ) وجه الله تعالى:

من الشبهات الأخرى التي طرحها الملحدون والمشبّهة والمجسّمة، هي تصویر الله عزّ وجلّ وكأنّ له وجهٌ مستندين في ذلك إلى بعض الآيات، ومنها الآيتان الآتيتان :

- «لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلٌّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ»(2).

- «وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجُلَالِ وَالْإِكْرَامِ»(3).

كما هناك آياتٌ أكّدت على أن عمل الإنسان يجب أن يكون خالصاً

ص: 467


1- للاطّلاع أكثر، راجع: الفاضل المقداد، اللّوامع الإلهية، ص 174
2- سورة القصص، الآية 88
3- سورة الرحمن، الآية 27

لوجه الله تعالى، ومنها قوله تعالى: «وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ الله فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ»(1) .

على أساس ما ذكر في هذه الآيات الكريمة، يتساءل بعضهم هل أنّ الله العلىّ القدير له وجهٌ كالذي يمتلكه الإنسان؟

تحليل الشبهة ونقضها:

للإجابة عن السؤال المطروح أعلاه، نقول: الوجه حاله حال سائر الأعضاء المحسوسة، فهو يختصّ بالكائنات المادّية ذات الوجود المركّب من عدّة أعضاء، مثل الإنسان؛ لكنّ الوجود المحض المجرّد صاحب الذات البسيطة لا يمكن أن يتّصف بذلك عقلاً، إذ لا معنى لتصوّر أنّه يمتلك وجهاً يعكس صورةً تنطبع في الذهن البشري! حاشاه ذلك.

إنّ ما ذكر فى الآيات الكريمة على هذا الصعيد يشير إلى ذات الله تعالى وكُنهه (2)، فهو الباقي بعد فناء كلّ شيءٍ، في حين أنّ جميع الممكات زائلةٌ وفانيةٌ. ولكن ما السبب في التعبير عن أزلية الذات الأحدية بالوجه؟

للإجابة نقول: إنّ الوجه في الاصطلاح العرفي يشير إلى إحدى الجهات أو ظاهر الشيء من الأمام، حيث يطلق على صورة الإنسان والحيوان وسائر

ص: 468


1- سورة الروم، الآية 39
2- عبارة ( وجه الله) تشير إلى الصفات الكمالية له سبحانه والتي هي كالمرآة التي ينعكس فيها وجهه الكريم، أي إنّها تحكي عن وجوده الفيّاض وذاته المقدّسة. للاطّلاع أكثر، راجع: محمّد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 13، ص 298؛ ج 16 ، ص 92

الواجهات حيث يقال : (واجهة المبنى ) (وجه الإنسان) (وجه الحيوان)، وهذه الأوصاف واضحةٌ للجميع. فواجهة الشيء - الظاهرة في مقدّمته - هي التي تستقطب أنظار الآخرين، وبالنسبة إلى الإنسان والحيوان فالوجه إضافةً إلى اتّصافه بهذه الخصوصية فهو أيضاً يعدّ مركزاً أساسياً وحسّاساً في المحاورات المباشرة. لو قارنّا الجماد البحت والجماد النامي مع الإنسان والحيوان نجد أنّ الجماد بنوعيه، كالتراب والنار والشجر، ليس لديه وجهٌ بالمعنى الاصطلاحي المتعارف وأنّ أبعاده متناسقة جميع مع بعضها، في حين أنّ الإنسان والحيوان يتّصفان بخصوصية الوجه (1).

ومن ناحية أخرى فإنّ بقاء الشيء أو فناءه يطلقان عرفاً على الوجه، مثلاً عند وصف فتاةٍ حسنة الوجه يقال: (هل سيبقى هذا الوجه الحسن؟!) أو يقال: (من المؤسف أنّ هذا الوجه الجميل سيأكله التراب!) كما نلحظ في هذين المثالين أنّ الفناء والبقاء لم يطلقا على نفس الشخص، بل على وجهه والمراد هو الشخص نفسه لكن استعمل وجهه كناية عنه (2) . الله عزّ وجلّ أراد من الوجه فى القرآن الكريم هذا المعنى العرفىّ الدقيق ليؤكّد على أنّه هو السرمدي

ص: 469


1- ذكر الفاضل المقداد وجه شبهٍ آخر حول الموضوع. للاطّلاع أكثر، راجع: اللّوامع الإلهية، ص 171
2- من المؤكّد أنّ عبارة (وجه الله) في قوله تعالى: «وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ» (سورة الرحمن، الآية 27) لا يقصد منها المعنى الظاهري، وهناك آياتٌ تثبت هذا المعنى، ومنها قوله تعالى: «وَلله الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الله إِنَّ اللهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ» (سورة البقرة الآية (115). فالمراد من هذه الآية المباركة أن الله عزّ وجلّ موجودٌ في كلّ مكانٍ ولا يمكن الفرار من عظمته، فكلّ مكانٍ هو دليلٌ على وجوده وهو بالتالي وجهٌ له

والباقي بعد فناء كلّ شيء، أي إنّ كلّ شيءٍ هالكٌ إلا وجهه الكريم الذي هو وجوده الفيّاض، لذا لا يجدر بالناس نسيان أنّهم هالكون لا محالة.

قال تبارك شأنه :

-«وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ الله»(1).

- «فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ»(2).

الوجه في هاتين الآيتين وسائر الآيات التي تؤكّد على أنّ الإنفاق والعبادة يجب أن يراد بهما وجه الله تعالى، يقصد منها الذات الإلهية الكريمة، إذ لا بدّ للعبادة بشتّى أنواعها - من إنفاقٍ وغيره - أن تكون تقرّباً له عزّ شأنه كى ينال العبد الثواب وحسن العاقبة في يوم الحساب؛ لذا يقال إنّ الإنفاق والعبودية الخالصة يراد بهما التقرّب إلى وجه الله تعالى.

المسألة الأخرى الجديرة بالذكر هنا هى أنّ الإنسان عندما يسدي خدمةً لمن يحبّه من داعي محبّته له، عادةً ما يقول له: (فعلت ذلك لوجهك الكريم)؛ وهذا الأمر بطبيعة الحال يعكس الشعور بالمودّة والرغبة في إسداء خدمات للمحبوب، وهو ما ينطبق أيضاً على فعل الإنسان العبادي الذي يريد به وجه الله تعالى من منطلق محبته وطاعته.

إذن، الأصول العقلية والأخبار المروية إضافةٌ إلى الاستعمال

ص: 470


1- سورة البقرة، الآية 272
2- سورة الروم، الآية 38

الاصطلاحي والعرفي، كلّها تدلّ على أنّ نسبة الوجه إلى الله عزّ وجلّ لا تعني مطلقاً امتلاكه عضواً مادّياً يناظر ما هو موجودٌ لدى مخلوقاته، بل تدلّ على ذاته المقدّسة الأزلية التي تبقى ويفنى كلّ ما سواها، وكذا هو معنى الخلوص لوجهه الكريم، أى الخلوص لذاته الكريمة.

6 ) مجيء الله تعالى :

من المسائل الأخرى التى تشبّث بها المجسّمة ومن لفّ لفّهم في وصف الله سبحانه وتعالى بأوصافٍ بشريةٍ، قضية مجيئه في الحياة الدنيا أو في يوم القيامة كما ورد في بعض الآيات، لذلك طرحت شبهةٌ حول هذا الأمر مضمونها أنّه كيف يمكن لله تعالى أن يأتي وهو ليس بجسمٍ مادّيٍّ متحرّكٍ؟

ومن جملة تلك الآيات ما يأتي:

- «وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا» (1).

- «هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى الله تُرْجَعُ الْأُمُورُ»(2).

- وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُوتُهُمْ مِنَ الله فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ »(3).

- «قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ»(4).

ص: 471


1- سورة الفجر، الآية 22
2- سورة البقرة، الآية 210
3- سورة الحشر، الآية 2
4- سورة النحل، الآية 26

تحليل الشبهة ونقضها:

المسألة الشاملة والمشتركة في مختلف معاني المجيء هي تقارب أمرين عن طريق إتيان أحدهما إلى الآخر (1) ، وهذا التقارب إمّا أن يكون بالأرواح أو بالأبدان حسب نوع المجيء. أمّا بالنسبة إلى الله تبارك وتعالى، فمن المؤكّد أنّ الانتقال المكاني لا يصدق بشأنه الكريم بتاتاً، لذا يراد من مجيئه تجلّي ذلك المقام القدسي الذي غفل المخاطبون عنه وعجزوا عن إدراكه (2). في بعض الأزمنة، كيوم القيامة، فإنّ الله عزّ وجلّ يتجلّى بشكلٍ خاصٍّ لعباده - تجلّياً غير مادّيٍّ - فيدركون وجوده ويشعرون بأنّه قريبٌ منهم رغم أنّه لم يكن بعيداً عنهم ولا عن غيرهم حتّى لحظةً واحدةً من حياتهم، لكنّ مدركاتهم أصبحت تعي وجوده المبارك بعد أن شاءت إرادته ذلك. وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ هذا التجلّي المعنوي يُكرم به العباد المخلصون الذين سينعمون ببركاتٍ وألطافٍ عظيمةٍ إثر طاعتهم وخلوصهم في عباداتهم؛ إلا أنّ مجيئه بالنسبة إلى الكفّار والعصاة يتجلّى في إطار عذابٍ أليمٍ وسخطٍ يزعزع كيانهم ويؤرّق حالهم جرّاء عنادهم ومعاصيهم التي أطبقت عليهم في الحياة الدنيا . وهذا المعنى بطبيعة الحال يتحقّق في الحياة الدنيا، ولربّما يحدث في موارد خاصّة ونادرة، لذا فإنّ تقرّب الإنسان إلى ربّه يتحقّق في رحاب العبودية الخالصة، أي: إنّ الإنسان هو الذي يقرّب نفسه من ربّه في هذه الحياة، في حين أنّ تقرّبه تعالى يتمّ في

ص: 472


1- للاطّلاع أكثر، راجع: محمّد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 2، ص 106 ؛ حسن مصطفوي، التحقيق في كلمات القرآن الكريم، ج 2، ص 148 ( مادّة جيء)
2- للاطّلاع أكثر، راجع: الفاضل المقداد، اللّوامع الإلهية، ص 179

يوم القيامة عن طريق مجيئه بالتفسير الذي ذكر أعلاه.

الآيات الأربعة التي ذكرت في مستهلّ البحث والتي تطرّقت إلى مجيء الله سبحانه، مختصّةٌ بيوم القيامة وتشير إلى مجيئة للكافرين والعصاة والذي يتجسّد في إطار نزول العذاب الأليم وتحقّق الوعد الإلهي.

إذن، مجيء الله تعالى إلى من نالهم سخطه وغضبه يتحقّق عن طريق نزول عذابٍ شديدٍ حيث تتحقّق إثر ذلك سيادته، وكلّ ذلك يجري في نطاقٍ معنويٍّ بعيداً عن أيّة صفةٍ مادّيةٍ أو انتقالٍ مكانيٍّ، ولإثبات هذا الكلام نقول:

1 ) حسب الأدلّة والبراهين العقلية فإنّ وجود الله عبارةٌ عن وجودٍ بسيطٍ ومجرّدٍ، لذا لا يمكن افتراض الحركة والانتقال في شأنه بتاتاً، بل إنّ هذا الفرض محالٌ ولا يمكن أن يتحقّق مطلقاً لكون الحركة تعني قطع مسافةٍ، وقطع المسافة يدلّ على انتقال المتحرّك من نقطةٍ إلى أخرى لم يكن موجوداً فيها قبل حركته، وهو ما يتمّ بين الكائنات المادّية في الحياة الدنيا؛ لذا لا يمكن تصوّره بالنسبة إلى البارئ الكريم الذي لا تحدّه حدود ولا تقيّده المسافات.

2 ) فضلاً عن دلالة المجيء في المصطلح العرفي على قطع المسافة الفاصلة بين نقطتين، يدلّ أيضاً على معاني أخرى من قبيل وصول الشيء أو حدوثه، مثلاً يقال: (جاءتني رسالةٌ قصيرةٌ)، ويقال: (جاء الجفاف وعلينا الاستعداد له). كما نلحظ فإنّ هذين المثالين لا يشيران إلى التحرّك والانتقال من مكانٍ إلى آخر بل يراد منهما ظهور الرسالة على شاشة الهاتف الجوّال بعد وصولها وحدوث الجفاف إثر قلّة الأمطار.

كذلك من الممكن أن يكون إسناد المجيء إلى ما يتّصف به مجازاً، كما نقول: (جاء النهر بقوّةٍ) ونقصد أنّ ماءه جرى بشدّةٍ، أو نقول: (جاءت أمريكا

ص: 473

إلى العراق لاحتلاله) ونريد أنّ القوات العسكرية دخلت العراق. لو دقّقنا في هاتين العبارتين وما شاكلهما نجدهما تتضمّنان معاني مقدّرة، وما ذكر فيهما إنَّما هو كنايةٌ عن تلك المعاني.

إذن، استناداً إلى ما ذكر فلا يصحّ اعتبار المجيء بالنسبة إلى العليّ القدير بأنّه من سنخ الانتقال المكاني، وإنّما علينا حمله على وفق المعايير والأصول العقلية التي تعتبره أمراً معنوياً من منطلق حقيقة الذات الإلهية البسيطة المجرّدة التي لا يحدّها زمانٌ ولا مكانٌ، فهي لا تنتقل من حالٍ إلى حالٍ أو من نقطةٍ إلى أخرى، وبالطبع فإنّ القرآن الكريم يؤيّد هذا المعنى ويدعمه.

7 ) استواء الله تعالى على العرش :

هناك شبهةٌ ترجع في أساسها إلى آيةٍ قرآنيةٍ، ألا وهي استواء الله جلٍ شأنه على العرش، إذ تذرّع بها المجسّمة لإثبات عقيدتهم التجسيمية المنحرفة. فقد قال تعالى: «هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ»(1). هذه الآية وسائر الآيات التي تتضمّن عبارة (استوى على العرش)، تدلّ في ظاهرها اللّفظي على جلوس الله تعالى على كرسيّ العرش بعد أن أتمّ الخلقة.

تحليل الشبهة ونقضها :

ذكرنا مراراً أنّ الخطاب القرآني ينطبق مع لغة العرف، والمتعارف بين

ص: 474


1- سورة الحديد، الآية .4 ذكر الاستواء على العرش أيضاً في الآيات التالية: الأعراف الآية 54 ؛ يونس الآية 3؛ الرعد الآية ،2 ،الفرقان الآية 59؛ السجدة، الآية 4

مختلف الأمم على مرّ العصور أنّ الملوك والحكّام بعد أن يتولّوا زمام الأمور فإنّهم يجلسون على كرسيّ الحكم كي يصدروا الأوامر والنواهي لمن هم تحت إمرتهم بغية طرحها في المجتمع وتنفيذها بشكل رسميٍّ؛ وبديهي أنّ هذا الجلوس وإن كان في سالف الأزمان يبدأ بجلوس القائد على مكانٍ مخصّصٍ له في إطار طقوسٍ خاصّةٍ، لكنّه بعد ذلك ولا سيّما في عصرنا الراهن يعني التصدّي لشؤون القيادة بغضّ النظر عن الجلوس البدني. لذا، فالمقصود من جلوس الملك أو الحاكم على كرسيّ الحكم هو تولّيه مقاليد الأمور وإدارة شؤون الشعب بصفته الآمر الناهي، والقرآن الكريم قد راعى العرف على هذا الصعيد ووصف القدرة المطلقة لله تعالى على الأمر والنهى بالجلوس على العرش، ولا ريب في أنّ المراد من ذلك أمرٌ معنويٌّ وليست له أيّة دلالةٍ مادّيةٍ بتاتاً، فهو يدلّ على أنّ حكم الخالق القهّار وسلطته الأزلية على مخلوقاته تبدأ منذ اللحظة الأولى لخلقتهم نافياً سلطة كلّ من سواه. ويؤيّد هذا المعنى ما ورد في صدر الآية، إذ أكّدت على أنّ خلقة السماوات والأرض دامت - بإرادته ومشيئته - ستّة أيام (مراحل) وبطبيعة الحال فالمرحلة الأخيرة هي التي يصل فيها الدور إلى الإدارة والتنظيم لكلّ ما تمخّض عن الخلقة. أضف إلى ذلك أنّ القسم الآتي من الآية المباركة يؤكّد على علم الله تعالى بشؤون خلقه وإحاطته بكلّ شيء: «يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ»(1).

إذن، وصف البارئ سبحانه سلطته على كلّ شيء وإحاطته بالكائنات منذ اللحظة الأولى لخلقتها بالاستواء على العرش من منطلق أنّهم يدركون في

ص: 475


1- سورة الحديد، الآية 4

حياتهم العملية كيف يتولّى القائد شؤون القيادة بشكلٍ رسميٍّ عبر جلوسه على كرسيّ الحكم، وهذا المعنى بالتأكيد يقدح في أذهانهم معنى السلطة والحكومة بعيداً عن كلّ وصفٍ مادّيٍّ.

والمسألة الأخرى الجديرة بالذكر هنا تكمن في السؤال الآتي: هل أنّ الاستواء على العرش مجرد كنايةٍ عن أمرٍ معنويٍّ، أو هناك وجودٌ حقيقيٌّ لعرش الله تعالى كما قال بعض المفسّرين الذين أوّلوه بالعلم؟ وبديهي ليس العرش المادّي هو المقصود هنا (1).

نترك الإجابة عن هذا السؤال احترازاً من الإطناب، فقد ذكرنا إجابةً شافيةً للشبهة .

8 ) الله أكبر ( هل هذه العبارة تفيد التفاضل في الحجم)؟

عبارة (الله أكبر) تعدّ من العبارات الشائعة على نطاقٍ واسعٍ في النصوص الدينية، وحسب قواعد الصرف فى اللغة العربية فإنّ كلمة (أكبر) هي اسم تفضيل مشتقٌّ من (كبُر - يكبُر - كِبراً) فهو كبير،ٌ أي أنّه (أكثر عظمةً) أو (أكبر حجماً). هناك من طرح شبهةً حول دلالة هذه الكلمة وتساءل عن معنى الكبر بالنسبة إلى الله تعالى وقال: ما الشيء الذي يكون الله تعالى أكبر منه؟

زعم بعضهم أنّ عرب الجاهلة كان لهم إلهٌ اسمه (الله أكبر) ولديه ثلاث بناتٍ، لذا فالمقصود من هذه العبارة أنّ هذا الصنم أكبر حجماً من بناته الثلاثة؛

ص: 476


1- للاطّلاع أكثر، راجع: محمّد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 8، ص 162 و 155

لذا فإنّ الله تعالى أكبر من سائر المخلوقات حجماً! (1)

تحليل الشبهة ونقضها:

لبيان منشأ الشبهة المطروحة أعلاه ونقضها نقول

1 ) لا نريد الخوض في الخلفية التأريخية لعبارة (الله أكبر) كي نوضح

مقصود عرب الجاهلية منها وبيان ما إن كانوا يطلقونها على الإله الواحد الأحد أو على أحد أصنامهم لكون هذا الموضوع لا يضيف شيئاً إلى بحثنا، بل سوف نتطرق إلى الحديث عنها في رحاب كتاب الله الحكيم.

يتّفق جميع الباحثين والمختصّين بالشأن القرآني على أنّ كلمة (الله) مختصّةٌ بذات البارئ جلّ وعلا من دون سواه، فهو لفظ الجلالة الذي لا يطلق على سواه، كما أنّ القرآن المجيد رفض الوثنية من أساسها جملةً وتفصيلاً. فضلاً عن أنّ كلمة (أكبر) التي جاءت بعدها هى فى الحقيقة ليست صفةٌ لذاته المقدّسة أو اسماً من أسمائه الحسنى، بل تعني صاحب الكبرياء والعظمة، أي إنّها مشتقّةٌ من كلمة (الكبير) التي تعني العظيم الذي لا يمكن وصف عظمته أو مقارنتها مع أمر آخر.

2 ) أفعل التفضيل بالنسبة إلى الإنسان وسائر المخلوقات يعني المفاضلة والرجحان، مثلاً عندما نقول : (أحمد أعلم من زيد وأعدل وأقوى وأشجع) نعني من ذلك تفوّقه عليه من حيث العلم والعدل والقوّة والشجاعة،

ص: 477


1- للاطّلاع أكثر، راجع: مسعود الأنصاري (الدكتور روشنكر)، الله اكبر (باللغة الفارسية)، ص 217 و 219

وهذا يعني أنّ زيداً هو الآخر يتّصف بهذه الصفات لكنّه لا يضاهئ نظيره أحمد فيها، وهذا الاختلاف بطبيعة الحال نسبيٌّ، فتارةً يكون كبيراً وأخرى ضئيلاً.

أمّا بالنسبة إلى الصفات الكمالية لله عزّ وجل فصيغة التفضيل فيها لا تدلّ على هذا المعنى المختصّ بمخلوقاته، فحينما نقول: (الله أعلم العالِمين) و (أحكم الحاكمين) لا نقصد المفاضلة والمقارنة بينه وبين خلقه، لأنّ ذلك يعني اشتراكهم معه في هذه الصفات، وغاية ما في الأمر أنّهم أدنى درجةً منه؛ سبحانه وتعالى عن هذا الوصف. إنّ الصفات الكمالية التي تتّصف بها المخلوقات هي في الواقع معلولةٌ لصفات الله الكمالية وتابعةٌ لها، لذا ليس من الممكن بمكانٍ مقارنتها معها، إذ كيف يمكن مقارنة الفرع الزائل مع الأصل الثابت ؟!

المراد من نسبة الصفات التفضيلية إلى الذات المقدّسة هو إثبات دلالاتها المطلقة وتخصيصها بالله تعالى دون سواه، فالله أعلم وأحكم بمعنى أنّ مطلق العلم والحكم مختصٌّ به لأنّه العالم والحاكم المطلق الذي لا نظير له ولا شريك، أي: إن أصل العلم والحكم له هو فحسب وما كان لخلقه فهو أمرٌ اعتباريٌّ وبتفويضٍ منه تعالى شأنه. وبعبارةٍ أخرى فإنّ الله عزّ وجلّ هو المنشئ الأوّل والأساسيّ لهذه الصفات وما شابهها، وعندما تتّصف مخلوقاته بها فهي قد استفاضتها من ذاته المقدّسة.

3 ) وردت عبارة (الله أكبر) في القرآن الكريم، وقد تمّ تفسيرها في الأحاديث بعظمة الله تعالى اللامحدودة ونفت دلالاتها على التفضيل والمقارنة بينه وبين غيره كائناً من كان.

ص: 478

ومن الجدير بالذكر هنا أنّ الذهن حينما يطرقه معنى العظمة والكبر فهو ينصرف إلى الخالق القهار الذي تواضع لعظمته كلّ شيءٍ من دون تصوّر أيّة دلالةٍ مادّيةٍ كالحجم والكثافة (1) ، ومن ثمّ فإنّ اتّصاف الكائنات الحيّة بعظمة الحجم مقارنةً مع بعضها هو في الحقيقة مقتبسٌ من تلك العظمة الحقيقية لله تعالى والتي لا يمكن تصوّرها في الأحجام.

الرواية الآتية التي ذكرت في كتاب (الكافي) توّضح ما ذكرنا: روي أنّ رجلاً قال عند أبي عبد الله علیه السّلام: «الله أكبر»، فقال: «الله أكبر من أيّ شيءٍ؟» فقال: «من كلّ شيءٍ»، فقال أبو عبد الله علیه السّلام : «حدّدته»، فقال الرجل: «كيف أقول؟» قال: «قُل: الله أكبر من أن يوصف» (2). حدّدته بالتشديد من (التحديد) أي: جعلت له حدّاً محدوداً، ذلك لأنّه جعله في مقابل الأشياء ووضعه في حدٍّ... مع أنّه محيطٌ بكلّ شيءٍ لا يخرج عن معيّته و قيّوميته شيءٌ كما أشار إليه بقوله علیه السّلام في الحديث الآتي: «وكان ثَمّ شيءٌ؟!»(3)، يعني مع ملاحظة ذاته الواسعة وإحاطته بكلّ شيءٍ ومعيّته للكلّ، لم يبق شيءٌ تنسبه إليه بالأكبرية، بل كلّ شيء هالكٌ عند وجهه الكريم، وكلّ وجودٍ مضمحلٌّ في مرتبة ذاته ووجوده القديم (4).

ص: 479


1- للاطّلاع أكثر، راجع: محمّد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 13، ص 242 و 307
2- محمّد بن يعقوب بن إسحاق الكليني، الكافي، ج 1، ص 118
3- المقصود هو الحديث الآتي: روي عن جميع ابن عمير ما يلي: قال أبو عبد الله علیه السّلام : «أيّ شيءٍ الله أكبر ؟» فقلت: «الله أكبر من كلّ شيءٍ»، فقال: «وكان ثَمّ شيءٌ فيكون أكبر منه ؟ !» فقلت : «وما هو ؟» قال: «الله أكبر من أن يوصف»
4- المصدر السابق

4 ) لو أصرّ أصحاب الشبهة على أنّ كلمة (أكبر) هي أفعل تفضيل وتعني ما هو أكبر من غيره حجماً، فلا بدّ من تحديد الطرف الثاني في هذه المفاضلة، أي: بيان ماهية الأمر الذي هو أقلّ كبراً من الله عزّ وجلّ، نردّ عليهم بأنّ الله تعالى أكبر من كلّ شيءٍ ليس وصفاً، بل هو أكبر من أن يوصف ومن ثمّ لا تصل الدرجة إلى المقارنة والتفضيل لكون عظمته خارجةً عن نطاق الوصف والتحديد. هذا المعنى يؤيّده أيضاً علماء اللغة، لكنّ الذين اعترضوا عليه في الحقيقة قاصرون عن فهم معاني اللغة العربية وآدابها، لأنّ أفعل التفضيل دائماً ما يحتاج إلى متعلّقٍ مسبوقٍ ب_ (من)، وكلمة (أكبر) المنسوبة إلى الذات المباركة ليست من هذا النمط . ولكن إن أردنا معرفة حقيقة هذا الكبر والعظمة فلا بد لنا من مراجعة النصوص والشواهد كي نستنتج معنىً مناسباً لهما، وبما أنّ الله تعالى ذو قدرةٍ تفوق الوصف وصاحب كمالٍ لا حدّ له، فالعقل البشري عاجزٌ عن إدراك كُنهه، لذا فهو أكبر من جميع الأوصاف والتقديرات بحيث لا تدركه الأوهام التي تراود العقل البشري القاصر.

*الشبهة الخامسة : التناقض بين بعض الصفات الإلهية:
*الشبهة الخامسة : التناقض بين بعض الصفات الإلهية:

ذُكرت مجموعة من الشبهات حول تباين بعض الصفات الإلهية مع بعضها، وفيما يأتي نذكرها ثمّ نردّ عليها:

أوّلاً: عدم التناسق بين صفتي الرحمة والعذاب :

يصف المتديّنون اللهَ تعالى بأنّه الإله الرؤوف الرحيم والعفوّ الكريم، وفي الحين ذاته يصفونه بصفاتٍ تتناقض مع ما ذكر فيقولون إنّه المنتقم القهّار والمقيت الضارّ. على هذا الأساس ذكر البعض شبهةً مضمونها أنّ الله عزّ وجلّ

ص: 480

إن كان رؤوفاً رحيماً وفي نفس الوقت منتقماً ضارِاً، فهذا يعني اتِصافه بصفاتٍ متضادّةٍ. كما شبّهوه بالإنسان وقالوا إنّ الإنسان لا يمكن أن يكون طيّب القلب وساخطاً في آنٍ واحدٍ، كما لا يمكن أن يكون سخياً وبخيلاً، فكيف بالربّ أن يكون كذلك؟!

تحليل الشبهة ونقضها:

للردّ على الشبهة المذكورة في أعلاه وإثبات بطلانها، نقول:

1 ) غالباً ما تطرح هذه الشبهة الهزيلة وما شاكلها من قبل الملحدين، ذلك لجهلهم بحقيقة التناقض كما يعرّفه علماء المنطق الذين ذكروا له شروطاً معيّّنة ومن جملتها وحدة الموضوع والمحمول.

وبيان ذلك أنّ نسبة صفة الرحمة وما شاكلها إلى الله عزّ وجلّ تتحقّق من جهتين، إحداهما الرحمة المطلقة التي تعمّ جميع بني آدم في الحياة الدنيا، والأخرى الرحمة الخاصّة التي تشمل العباد المؤمنين الذين يستحقّونها على وفق شروطٍ خاصّةٍ فى الحياتين الدنيا والآخرة. كما أنّه سبحانه وتعالى يعاقب الآثمين والملحدين إثر ارتكابهم القبائح من الأعمال ويجازيهم على ذلك في الحياتين، ففي الحياة الدنيا قد يكون العقاب هيّناً وغير متناسبٍ مع مدى الإثم والجرم في حين أنّ العذاب الحقيقيّ الذي ينالونه بكلّ استحقاقٍ سيكون في يوم القيامة؛ وقد ذكرنا آنفاً أنّ إطلاق صفات الانتقام والقهر على الله تعالى يراد منه بيان كيفية تسليط عذابه على الطغاة والآثمين في يوم الحساب.

إذن، انطلاقاً ممّا ذكر نستنتج أنّ رحمة الله واسعةً وتشمل كلّ إنسانٍ، لكن هناك رحمةٌ خاصّةٌ لا ينالها إلا المؤمنون والمطيعون، في حين أنّ غضبه

ص: 481

يطال الملحدين والمعاندين؛ وليس هناك أيّ تضادٍّ بين هذين الأمرين، إذ إنّه الرؤوف الرحيم مع من هو أهل لذلك وهو المنتقم القهّار مع من يستحقّ ذلك. فالمعلّم على سبيل المثال يشجّع التلميذ المهتمّ بدروسه ويمنحه درجةً عاليةً في حين أنّه يؤنّب المهمل لدروسه ويمنحه درجةً دانيةً أو حتّى صفراً، وذلك من منطلق ،استحقاقهما، لذا لا نجد أحداً يعترض على ذلك. وكذا هو الحال بالنسبة إلى تعامل الربِّ الواحد الأحد مع عباده من مطيعين وعصاة، ومن ثمّ لا يحقّ لأحدٍ أن يعترض على تعامله هذا لا من منطلق العقل ولا العرف ولا الشرع، بل الاعتراض يرد فيما لو تعامل مع المطيعين والعصاة بنمطٍ واحدٍ بغضّ النظر عن أعمالهم. فالشبهة تطرح إن أدخل الله جميع عباده الجنّة أو بالعكس، أي: إنّه زجّهم جميعاً في جهنّم ؛ لذلك يقال: لماذا لم يتعامل الله بعدلٍ مع عباده؟ فهل يمكن أن يكون جزاء المحسنين نفس جزاء المسيئين؟!

إذن، إن أقررنا بأنّ الله سبحانه عادلٌ ورحيمٌ، فهذا لا يعني وجود تناقضٍ مع وصفه بالمنتقم القهّار لكون متعلّق الأمرين مختلفٌ، ناهيك عن عدم تحقّق شروط التناقض حسب القواعد المنطقية.

ثانياً: الهَدي والإضلال:

من الصفات الإلهية الأخرى التي ادّعي التناقض فيها، الهدَي والإضلال، فهناك آياتٌ تؤكّد على أنّ الله عزّ وجلّ هو الهادي والمضلّ لعباده، ومنها ما يأتي:

-«فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ»(1).

ص: 482


1- سورة فاطر، الآية 8

- «مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ»(1) . طرحت شبهةٌ حول هاتين الآيتين وسائر الآيات المناظرة لهما في إطار اعتراضين:

الأوّل: كيف يمكن أن ينسب الله الحكيم لنفسه صفتين متناقضتين في آنٍ واحدٍ، هما الهَدى والإضلال؟!

الثاني: لو كان الضلال من قبل الله تعالى، فما المسوّغ لأن يعاقب الضالّين؟!

تحليل الشبهة ونقضها:

لنقض الشبهة المذكورة نقول:

1 ) لقد أكّد الله سبحانه وتعالى على أنّ الهدف من خلقة الإنسان هي هدايته إلى السبيل القويم بغية نيل السعادة الأخروية، لذا وضع له الأُسس والقواعد الناجعة التي تنير طريقه، وبما في ذلك بعثة الأنبياء والرسل ونعمة العقل والتفكّر، وبديهي أنّ العقل هو نبيّ الباطن؛ وفي هذا الصدد لم يتعامل سبحانه مع عباده بانتقائيةٍ وتمييزٍ، بل فسح لهم المجال جميعاً كي يسلكوا الصراط القويم، ولكن مع الأسف لم يذعن أغلب الناس والتزموا جانب العناد والمعصية، لذا لم يؤمن إلا أصحاب القلب السليم بعد أن هداهم إلى الحقّ وحذّرهم من الباطل، ويؤيّد هذا الكلام قوله تعالى: «إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُّطْفَةٍ أَمْشَ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا»(2).

ص: 483


1- سورة الأعراف، الآية 178
2- سورة الإنسان، الآيتان 2 و 3

وتطرح هنا مسألة التسديد الإلهي، فالذين خلصت قلوبهم ورغبوا حقّاً بالسير في طريق الحقّ، يكرمهم الله تعالى بالهدى والسداد وهو ما يطلق عليه (الهَدي الخاصّ)، إذ قال عزّ من قال في الكتاب الحكيم: «وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ»(1). وأمّا العصاة والذين خبثت سريرتهم فإنّهم بدل أن يتّبعوا الحقّ نراهم يسلكون سبيل الشيطان في جميع العصور، وقد كذّب أسلافُهم الأنبياءَ وافتروا عليهم واتّهموهم تهماً واهيةً كالجنون والكذب ناهيك عن أنّ بعضهم تجرّؤوا وذهبوا إلى أبعد من ذلك فقتلوا أنبياءهم؛ لذلك فإنّ أعمالهم القبيحة التي لا مسوّغ لها كانت سبباً في حرمانهم من ألطاف الله تعالى وهداه الخاصّ، لكنّه مع ذلك تركهم وشأنهم لربّما يتوبوا ويرجعوا إلى صوابهم، إلا أنّ الذين استحوذ الشيطان على قلوبهم لم ولن يسلكوا سبيل الرشاد لذلك يغرقون في غياهب الضلال؛ وهذا هو هو معنى الإضلال، أي: إنّ الله تبارك شأنه لا يجبر العبد على اتّخاذ الضلال سبيلاً له - حاشاه ذلك وتعالى علوّاً كبيراً - لكنّ الذي لا يتورّع عن المعاصي يحرم نفسه من عناية خالقه وألطافه فيضلّ عن الحقّ.

هناك عدد من الآيات المباركة تثبت ما ذكرنا أعلاه، أي: إنّ إضلال العصاة والملحدين إنّما يتحقّق إثر ظلمهم وطغيانهم، وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ أهل العلم والمعرفة يعتبرون الوصف مشعراً بالعلّية (2)، أي إنّ وصفي الفسق والطغيان سببان لتجريد صاحبهما من التسديد الإلهي، فمعظم هذه الآيات

ص: 484


1- سورة العنكبوت الآية 69
2- للاطّلاع أكثر، راجع: محمّد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 2، ص 359

تؤكّد على أنّه جلّ شأنه يضلّ الطغاة والفاسقين، ومن جملتها ما يلي:

- «يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ»(1).

- «وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ»(2).

- «كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ»(3).

- «إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ»(4).

- «إِنَّ اللهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ»(5).

ولو أردنا تقرير ما ذكر في إطارٍ آخر، نقول : منشأ هداية الإنسان نحو السبيل القويم هو التوفيق الإلهي في حين أنّ سبب ضلاله يرجع إلى أعماله التي يقوم بها بمحض إرادته واختياره، أي إنّه هو السبب في انحرافه، فبعد أن يتمادى في الفسق والطغيان ولا يكفّ نفسه عن ارتكاب الأعمال الدنيئة سوف يحرم نفسه من الفيض المعنوي ويجرّدها من لطف البارئ الرحيم فيغرق في غياهب الضلال لأنّ العدول عن الحقّ حينئذٍ يكون قد تحوّل إلى ملكةٍ نفسانيةٍ ملازمةٍ له، وهذا الأمر وصف في الكتاب الحكيم ب_ (الضلال) وعدم الهَدي من الله تعالى.

ص: 485


1- سورة إبراهيم، الآية 27
2- سورة البقرة، الآية 258
3- سورة آل عمران، الآية 86
4- سورة المائدة، الآية 67
5- سورة غافر، الآية 28

لو دقّقنا في الآيات التي ذكرت في أعلاه وسائر الآيات التي تناظرها ، لألفينا أنّ الإضلال - عدم الهَدي - إنّما يكون من نصيب المعاندين والكفّار الذين رجّحوا الضلال على الهدى (1).

إذن، نستنتج ممّا ذكر أنّ هَدي الله في بادئ الأمر يشمل جميع عباده من دون استثناءٍ، لكنّ إضلاله لا يطال إلا من تمحّض في الفسق والطغيان. وتجدر الإشارة هنا إلى أنّه سبحانه لا يبدأ بالإضلال كما بدأ بالهَدي، بل الإضلال هو مرحلةً أخرى تأتي بعد تمادي العبد وإعراضه عن سبيل الهدى والرشاد، لذا فهو لا يطال إلا الكفّار والمنافقين والقاسية قلوبهم، ومن ثمّ فالحقيقة التي لا يمكن لأحدٍ إنكارها هي أنّ إضلال الله تعالى للعبد لا يعني إرغامه على الوقوع في المعاصي، بل هو نتيجةً لأعمال العبد وإصراره على عصيان الأوامر الإلهية .

إنّ الله الرؤوف الرحيم هو مثال العدل والحكمة، لذلك لا يمكن تصوّر أنّه يظلم أحداً بتاتاً، إذ من المستحيل على ذاته المقدّسة الاتّصاف بهذه الخصلة الذميمة، ومن ثمّ فإنّ معنى إضلاله للبعض يعني حرمانهم من ألطافه وكرمه إثر أعمالهم التي ارتكبوها، وبالطبع فإنّ عدم الهَدي يعد أمراً عدمياً، لذلك فإنّ إسناده إلى الله تعالى ليس حقيقياً (2).

بما أنّ ضلال الإنسان وحياده عن المسير الصحيح يتمّ باختياره وينتج أفعاله الدنيئة التى ارتكبها عامداً، لذا فإنّ معاقبته تنسجم مع معايير العدل والإنصاف ولا تتناقض بتاتاً مع هَدي الله تعالى وألطافه.

ص: 486


1- محمّد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 12، ص 52
2- عبد الله جوادي الأملي، تفسير موضوعي - توحید در قرآن (باللغة الفارسية)، ج 2، ص 269
ثالثاً: علم الله المطلق واختيار الإنسان:

علم الله الأزلي المطلق يعدّ من صفاته الذاتية الكمالية، وهو ما اتّفقت عليه جميع الأديان السماوية، والقرآن الكريم بدوره أكّد عليه مراراً وتكراراً، ومن جملة ذلك قوله تعالى: «وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ»(1)، وقوله: «وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ»(2).

الشبهة المطروحة هنا تتمحور حول أنّ هذه الصفة تتعارض مع أربعة أصولٍ متّفقٍ عليها، وهي كون الإنسان مخيّراً ونسخ بعض الآيات وعقيدة البداء ومسألة الابتلاء .

تحليل الشبهة ونقضها:

كثير من آيات الكتاب الحكيم تؤكّد على علم الله عزّ وجلّ بكلّ شؤون الخلقة وتفاصيلها قبل أن يوجد الكون وما فيه، وبما في ذلك علمه بأعمال بني آدم قبل أن يخلقهم، لذا فإنّ ما يفعلونه لا يعدّ أمراً طارئاً عليه تعالى، بل هو علام الغيوب الذي يشرف على أعمال كلّ كائنٍ قبل أن يرى النور، ويمكننا تشبيه ذلك بمن يدوّن سيناريو أحد الأفلام، فهو يعلم بأحداث الفلم قبل أن يشاهده الجمهور ولكن بفارق بسيطٍ، وهو أنّ الله تعالى يعلم

ص: 487


1- سورة يونس، الآية 61
2- سورة الأنعام، الآية 59

بأعمال عباده الذين سيفعلونها بمحض إرادتهم من دون أيّ جبرٍ، في حين أنّ مدوّن السيناريو هو الذي يكتب القصّة ويسرد تفاصيلها ومن ثمّ يقوم الممثّلون بتمثيلها.

كما أكّد القرآن الكريم في مواطن شتّى على كون الإنسان مخيّراً ويفعل ما يريد برغبته وإرادته، وهذا الأمر بكلّ تأكيدٍ لا يتعارض مع علم الله المسبق بأفعاله.

ومن الجدير بالذكر أنّ مسألة الجبر والاختيار تعدّ من المباحث الهامّة المطروحة على طاولة البحث في علم الكلام، وهي موضوعٌ تخصصيٌّ في غاية التعقيد لا يسعنا المجال للخوض فيه هنا اجتناباً للإطناب والإطالة (1) ، ولكن نكتفي في الردّ على الشبهة بالإشارة إلى مسألةٍ في غاية الظرافة، ألا وهي علم الله تعالى بأعمال جميع العباد قبل أن يخلقهم، أي: إنّ الإنسان وأعماله متعلّقان بعلم الله المسبق؛ إلا أنّ هذا لا يعني القول بالجبر في الأفعال مطلقاً، إذ إنّه جلّ شأنه كان يعلم بما سيقوم به عباده باختيارهم قبل أن يوجدهم من العدم، فهذا علمٌ أزليٌّ لا صلة له بالجبر ، بل هو مجرّد علمٍ بما سيكون.

لا يختلف اثنان في أنّ الإنسان هو الذي يختار طريقه في الحياة، فإمّا أن يسلك باختياره سبيل الهدى والرشاد أو ينحطّ في قعر الهاوية ويسير في طريق الانحراف والضلال من دون أن يرغمه أحدٌ على ذلك. وبعبارةٍ أخرى فإنّ المتعلّق بعلم الله المسبق هو الفعل المشروط بالاختيار والعكس غير صحيحٍ.

ص: 488


1- للاطّلاع أكثر، راجع: محمّد حسين قدردان قراملکي، نگاه سوّم به جبر واختيار (باللغة الفارسية)، مركز دراسات الثقافة والفكر الإسلاميين

إذن، بناءً على ما ذكر فإنّ علم الله المسبق يتحقّق على أرض الواقع مع جميع متعلّقاته، وبما في ذلك أفعال الإنسان التي يؤدّيها بمحض اختياره وإرادته، ومن هنا فهذا العلم الأزليّ ينطبق مع الواقع، ولو جرّدنا الإنسان عن اختياره فلا يبقى مجالٌ لتحقّق ذلك العلم الأزليّ، ويمكننا تشبيه هذا الأمر بالمعلم وتلامذته، فهو على علم بتلامذته الذين سينالون درجاتٍ عاليةٌ الامتحان والذين ينالون درجاتٍ ضعيفةً، وعلمه هذا بكلّ تأكيدٍ ليس له دخلٌ في نجاح بعضهم أو فشلهم في الامتحان، بل مجرّد اطّلاعٍ على أفعالٍ سيقوم بها أصحابها بمحض اختيارهم وإرادتهم.

رابعاً: علم الله المطلق وابتلاء العباد:

هناك آياتٌ تدلّ على أنّ الله تعالى ابتلى الناس ببعض المواقف والأحداث العصيبة، من قبيل الحروب لكي يميز الخبيث من الطيّب. ففي قضية تغيير القبلة على سبيل المثال، نجد أنّ الآية الكريمة تتحدّث عن قلق النبيّ صلّی الله علیه و آله إثر تمرّد العصاة على أوامره، لذلك طلب منه البارئ جل وعلا أن يجعل الكعبة المشرقة قبلةٌ له، حيث قال: «قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلَّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ»(1) ، والهدف من هذا التغيير هو معرفة معادن الناس من مسلمين وغير مسلمين وتشخيص من يتّبع النبيّ الخاتم صلّی الله علیه و آله ومن ومن يتخلّف عنه ويعانده.

وقد أشار القرآن الكريم إلى أنّ السبب الكامن وراء ابتلاء بني آدم

ص: 489


1- سورة البقرة، الآية 144

بمختلف أنماط الحوادث هو معرفة من آمن حقّاً وتمييزه عمّن تظاهر بالإيمان، إذ قال تعالى شأنه: «إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ»(1)، وقال أيضاً: «وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجُمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ»(2). وفي آيةٍ أخرى تمّ التأكيد على أنّ الهدف من الابتلاء هو معرفة من يخشى الله تعالى، حيث قال: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ»(3).

أمّا الغاية من فسح المجال للشيطان كي يوسوس للإنسان فقد تمّ تبريرها في الكتاب الكريم بتمييز من يؤمن بالآخرة حقّاً، فقد قال جلّ شأنه: «وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ»(4).

هناك آيةٌ أخرى تؤكّد على أنّ الله تعالى ضرب على آذان أهل الكهف تحدّياً للكفّار ولإثبات أنّهم لا يعلمون كم لبث الفتية في كهفهم إبطالاً لمزاعمهم الواهية ونصرةً لعباده المؤمنين، حيث قال: «إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا * فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي

ص: 490


1- سورة آل عمران، الآية 140
2- سورة آل عمران، الآية 166
3- سورة المائدة، الآية 94
4- سورة سبأ، الآيتان 20 و 21

الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا * ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا»(1).

هناك شبهاتٌ طرحت حول ما ذكر في هذه الآيات، وهي في الحقيقة ناشئةٌ من الجهل بعلم الله تعالى والغفلة عن تقسيم العلم إلى ذاتيٍّ وفعليٍّ، وبيان ذلك كما يأتي:

يمكن أن يتحقّق العلم بأحد الأمور قبل حدوثه أو بعده، فالمهندس على سبيل المثال بإمكانه تصوّر خارطة بيتٍ في ذهنه بجميع أو معظم تفاصيلها قبل أن ينقشها على الورق، وهذا يعني أنّ المرحلة الأولى هنا تصوّر الخارطة والمرحلة الثانية نقشها على الورق كي تتحقّق على أرض الواقع في المرحلة الثالثة. إذن، قام المهندس هنا بتدوين ما خالج ذهنه على ورقةٍ خاصّة ممّا يعني تحقّق علمين، أحدهما أوّليٌّ (مسبقٌ) والآخر فعليٌّ (محقّقٌ على أرض الواقع)، ومن ثمّ قد يتحوّل العلم الثاني إلى علم مسبقٍ أيضاً حينما يتمّ تنفيذ الخارطة بشكلٍ عمليٍّ وتجسيدها على هيئة مبنى؛ وذلك بمعنى أنّ المرحلة الثانية أصبحت صورةً ذهنيةً للمرحلة الثالثة.

بعد إنجاز المشروع وتجسيده على أرض الواقع يلقي المهندس نظرةً على ما أنتجته يداه فيلحظ تصوّراته الذهنية وهي متحقّقة على أرض الواقع، وحينما يُسأل عن سبب نظره لما قام به، فهو يجيب بأنّه يريد معرفة كيف تحوّلت تصوّراته الذهنية المسبقة إلى أمرٍ عينيٍّ.

ومن البديهيّ أنّ خارطته لو نُفّذت بدقّةٍ متناهيةٍ أو أنّه أنجزها بنفسه،

فنظرته الأخرى على المصداق الخارجي لعلمه المسبق لا تزيد ولا تنقص من

ص: 491


1- سورة الكهف، الآيات 10 إلى 12

علمه، إذ إنّ مراده من العلم بما أنجزه هو تحقّقه على أرض الواقع والتأمّل فيه، لذا فقد يفتخر بما فعل أمام الآخرين ويواجه إثر ذلك إطراءً أو نقداً، ومن ثمّ يقوم بنقض الشبهات التي تطرح على إنجازه، حيث يقول إنّني قمت بهذا الإنجاز ونفّذته على أرض الواقع كي يرى الناس عظمته وجماله، وهذا بمعنى أنّه يريد إثبات علمه للآخرين والردّ على ناقديه.

ويمكن تصوّر هذا الأمر في مجال العقوبة والتحذير، فحتّى المعلّم الملمّ بمستوى تلامذته والعارف بكسولهم من مجدّهم، لا يعطي الدرجات عبثاً من دون ضابطةٍ، بل لا بدّ من أن يختبرهم في إطار امتحانٍ رسميٍّ في المدرسة، وبطبيعة الحال فالمجدّ سينال درجةً أعلى من الكسول؛ لذا فالامتحان لا يقصد منه معرفة مدى علم المعلّم بمستوى تلامذته، وإنّما يراد منه إثبات أنّ المجدّ منهم سينجح والمهمل سيفشل.

بإمكاننا طرح هذا الموضوع بالنسبة إلى علم الله تعالى كما يأتي:

ذكرنا آنفاً أنّ الله جلّ شأنه بصفته واجب الوجود وذاته المباركة بسيطةً ومجرّدةٌ ومصداقٌ للكمال الحقيقيّ، لذا لا بدّ من أن يمتلك علماً حضورياً بالنسبة إلى ذاته المباركة؛ ونظراً لأنّ جميع الممكنات قد اكتسبت وجودها منه بوسائط مختلفة، فالضرورة تقتضى علمه بها وبأفعالها قبل أن يخلقها في عالم الإمكان، وعلمه هذا مجرّدٌ وبسيطٍ يطلق عليه العلم المسبق أو الذاتي. هذه هي المرحلة الأولى من علمه .

أمّا المرحلة الثانية فهي العلم الفعليّ، بمعنى لحظة تحقّق العلم الذاتي على أرض الواقع وظهوره للعيان في الخارج، وهنا أيضاً يكون الله تبارك وتعالى مشرفاً على جميع الحركات والسكنات لعباده. وكما نلحظ فإنّ هذه المرحلة

ص: 492

تختلف عن المرحلة الأولى لأنّها تتزامن مع الخلقة وليست قبلها، وإلا لعُدَّ علماً ذاتياً ومسبقاً أيضاً.

ومن أمثلة العلم الإلهى المسبق انتصار المسلمين في حرب بدرٍ وهزيمتهم في أُحد، إذ أخبرهم بما يختلج في نفوس بعضهم وما يحوكه بعض المنافقين لهم مؤكّداً على أنّ علمه هذا ليس وليد اللحظة، بل هو ذاتيٌّ ومسبقٌ وأنّ جميع الأحداث موجودةٌ في خزائن علمه العظيمة قبل أن يخلق الكائنات، لكنّه نزل إلى حيّز التنفيذ في هذا الزمن عن طريق تجسّد الأحداث بشكلٍ عمليٍّ، أي إنّه ظهر بصورته الفعلية. ومن المؤكّد أنّ كلّ حدثٍ لا يبرز للعيان ولا يتحقّق بالفعل إلا بعد ظهوره في أرض الواقع، لذا لا يتحقّق علمنا به إلا بعد حدوثه وفعليته فمشاعر المسلمين وكيد المنافقين إبّان حروب النبيّ الأكرم صلّی الله علیه و آله لم تطفُ إلى السطح إلا بعد اندلاع الحرب لأنّها متعلّقةٌ بها ومترتّبةً عليها؛ وهذه الابتلاءات كما قلنا يراد منها صقل أنفس الناس وغربلتهم كي يميز الخبيث من الطيّب ويُعرف المؤمن من المعاند.

هناك ملاحظةٌ ظريفةٌ حول العلم الفعلي الله تعالى وهي ترتبط بالغاية، حيث كان الله تعالى يعلم بتفاصيل كلّ موضوع بالكامل قبل حدوثه وليست هناك أيّة فائدة ولا غاية يروم تحقيقها من علمه الفعلي، بل الأمر الوحيد الذي يجسّده هذا العلم لنا هو تحقّق علم الله الذاتي فعلياً على أرض الحقيقة والواقع. فالحروب التي حدثت في عصر صدر الإسلام كانت تهدف إلى إعلام المؤمنين بمستوى قابلياتهم القتالية كي يستعدّوا لمواجهة الكفّار والمنافقين الذين جسّدوا قابلياتهم بأفعالهم الشنيعة، وهذا يعني أنّ جميع الأحداث التي تتمخّض على ما ذكر هي في الحقيقة ظهورٌ فعليٌّ لعلم الله الذاتيّ المسبق، وليس ظهورها إلا

ص: 493

انكشافٌ لذلك العلم اللدنّي الذي يمتلكه مالك الملك وبارئ الخلائق أجمعين، والعالم بكلّ ما كان وما سيكون. ونذكّر هنا بمثال المعلم الذي يعلم بمستويات تلامذته لكنّه يختبرهم في الامتحان النهائي كي تتجلّى قابلياتهم في إطار أوراق امتحانية معلومة النتائج لديه مسبقاً، أي إنّه يحوّل العلم المسبق إلى فعليٍّ ملموسٍ من دون أن يتدخّل في شؤونهم؛ وعلى هذا الأساس فليس من الحريّ بنا اعتبار أنّ الامتحان سببٌ لإزالة جهل المعلّم بمستوى تلامذته، فهو يعرف الناجح من الفاشل ولكن لا يمكن تحديد هذه الحقيقة إلا عبر الامتحان الرسمي الذي يجعل علمه فعلياً.

الآيات التي أشارت إلى الهدف من حدوث بعض الوقائع في الحياة هو معرفة الله تعالى المؤمنين وتميزهم عن المعاندين، لا تعني بكلّ تأكيدٍ جهله حوالهم، بل حينما يقول القرآن الكريم (لِيَعْلَمَ الله) أو (لِنَعْلَمَ) فهو يريد تحقّق العلم الحضوريّ الذاتيّ على أرض الواقع بهيئة علم فعليٍّ، لأنّه تعالى شأنه واجب الوجود وعلّة العلل لذلك لديه علمٌ حضوريٌّ وذاتيٌّ بالمعلولات التي أوجدها من العدم.

إذن، المقصود من علم الله تعالى بما سيقوم بها الناس في الحياة الدنيا هو تحقّق ما كان سيقع من أفعالٍ لا محالة، ولكن بإرادتهم واختيارهم، إذ أينما وجدت كائناتٌ حيّةً فلا بدّ من أن تصدر منها أفعالٌ، لذا فإنّ الله عزّ وجلّ يعلم بزمان ومكان صدورها وماهيتها. ويمكن القول إنّ هذا يعني إرادته تعالى في تحقّقها عن طريق ظهور ما كان مكنوناً على خلقه (1).

ص: 494


1- للاطّلاع أكثر، راجع: محمّد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 4، ص 29 -30

الثمرة الأخرى التي تترتّب على علم الله المسبق وانكشاف الحقائق فيما بعد، هي معرفة معدن كلّ إنسانٍ، فالمؤمن لا يتّبع أهواء نفسه، بل يطيع بارئه الذي خلقه وخلق كلّ شيءٍ سواه ومن ثمّ يوكل شؤونه إليه ويتوكّل عليه راجياً منه السداد والتوفيق لأنّه يعلم أنّ البارئ العزيز واجب الطاعة؛ وإثر ذلك يدرك في قرارة نفسه أنّه مؤمنٌ وكذلك سيعرفه الآخرون بهذه المزية؛ في حين أنّ الذين قست قلوبهم من كفّار ومشركين ومنافقين يخوضون في طغيانهم ويعرضون عن الحقّ، فيدركون بالعيان أنّهم حادوا عن السبيل الإلهي، ومن ثمّ سوف يعرف الناس حالهم فيصفونهم بالعصاة والمردة. وعلى هذا الأساس، حينما يجمع الله عباده في يوم الحساب ليوفّيهم جزاء ما عملوا، لا يبقى مجالٌ للاعتراض على حكمه العادل، إذ يكرم المؤمنين بجنّة المأوى وحسن العاقبة ويعذّب المعاندين بنار جهنّم وسوء المصير بحيث لا تبقى لديهم أيّة ذريعة للقول: (لماذا تعذّبنا وتغفر لعبادك المؤمنين؟) لكونهم يعرفون حقّ المعرفة أنّ هذا هو جزاؤهم العادل وأنّ كلّ إنسانٍ لا ينال إلا ما كسبت يداه في الحياة الدنيا؛ وهذا الأمر بكلّ تأكيدٍ لا يتنافى مع علمه المسبق قبل خلقة الخلائق، فالربّ لم يجازِ أحداً على أساس هذا العلم، بل ترك الناس يفعلون ما يشاؤون في الحياة الدنيا باختيارهم مع علمه بما سيفعلون؛ لذلك سيكرم من يكرم ويعاقب من يعاقب استناداً إلى علمه الفعليّ، لأنّه لو عاقبهم منذ البداية على أساس علمه الذاتي لاعترضوا عليه بأنّهم لم يفعلوا ما يستحقّون العقاب عليه زاعمين أنّهم لو خلقوا في الحياة الدنيا لربّما كانوا مؤمنين؛ لكن هيهات وبعدُ ذلك كلّ البعد، فقد لجّوا وتمرّدوا بمحض إرادتهم ورغم علم الله تعالى بخبث سريرتهم لكنّه منحهم الفرصة الكافية لسلوك السبيل القويم. إنّ هؤلاء

ص: 495

اتّبعوا خطوات الشيطان فاستحوذ على قلوبهم وأرودهم بئس الورد المورود، وهذا الأمر يشبه حكاية التلميذ الكسول الذي يهمل دروسه ولا يؤدّي واجباته الملقاة على عاتقه، ومع ذلك لو أنّ معلّمه أعطاه درجةً دانيةً من دون اختبارٍ سيعترض عليه أشدّ اعتراض، لذلك يُفسح له المجال في الاختبار علّه يعود إلى رشده ويحصل على درجةٍ عاليةٍ ينقذ بها نفسه من الفشل والرسوب؛ وعلى هذا الأساس لا يبقى له أيّ مجالٍ للاعتراض.

خامساً: علم الله المطلق ونسخ بعض الآيات القرآنية:

لا شكّ في أنّ نسخ أحد المقرّرات واستبداله بقانونٍ جديدٍ، يعدّ من الأمور المتعارفة في القوانين البشرية التي تدوّن على أساس العلوم الإنسانية، حيث يلتفت الناس إلى عقم بعض هذه القوانين أو هشاشتها على مرّ الزمان ومن خلال تطبيقها على أرض الواقع، لذا يلجؤون إلى سنّ قوانين أخرى معرضين عمّا سبقها؛ وبديهي أنّ هذا الأمر ناشئٌ من ضعف العقل الإنساني وعدم اكتماله بالشكل الذي يجعله يقرّر أموراً لا محيد عنها، فهو عاجزٌ عن إدراك المصالح والمفاسد بحذافيرها وبجميع تفاصيلها.

وقد صرّح الكتاب الحكيم بوجود نسخ في بعض أحكامه، فبعض الآيات تضمّنت أحكاماً ومقرّراتٍ في شتّى المجالات العبادية والاجتماعية ومختلف القوانين المدنية، لكنّها نسخت فيما بعد بآياتٍ أخرى، ومن جملة ذلك ما يأتي:

-تغيير قبلة المسلمين من بيت المقدس إلى الكعبة المشرّفة: «وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا

ص: 496

وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ * قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلَّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ» (1).

- تغيير حكم المرأة الزانية من الحبس الأبدي في الدار إلى مئة جلدة: «وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمُوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لهُنَّ سَبِيلًا» (2). نسخت هذه الآية بقوله تعالى: «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَها طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ»(3).

استناداً إلى هذه الآيات وما ناظرها طرح البعض شبهةً فحواها أنّ النسخ يتعارض مع علم الله الأزليّ الذي لا تحدّه حدودٌ، إذ لو كان الله يمتلك علماً مطلقاً فلا بدّ له من إقرار الأحكام الضرورية في بادئ الأمر من دون الحاجة إلى تغييرها مستقبلاً؛ وهذا يعني أنّه لم يحط بكلّ شيءٍ علماً ولا يدرك

ص: 497


1- سورة البقرة، الآيتان 143 و 144
2- سورة النساء، الآية 15
3- سورة النور، الآية 2. للاطّلاع على تفاصيل أكثر حول الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم، راجع: محمّد هادي معرفت، التمهيد في علوم القرآن، ج 2، الصفحة 300 وما بعدها

مصالح العباد ومفاسدهم في بادئ الأمر، بل لا بدّ له من تجربة بعض الأحكام ليعرف غثّها من سمينها، وعلى هذا الأساس فهو لا يمتلك علماً واقعياً (1).

تحليل الشبهة ونقضها:

النسخ في اللغة والاصطلاح العرفي يعني إبطال الحكم السابق ونقض حقّانيته واعتبار أنّه باطلٌ منذ بداية تشريعه، إلا أنّه في الاصطلاح الدينيّ ذو معنى خاص،ّ وهو بيان انقضاء زمان حقاّنية تطبيق أحد الأحكام واقتضاء المصلحة وضع حكم بديلٍ له (2) ، إذ هناك مصالح واقعية تترتّب على كلٍّ من الناسخ والمنسوخ في إطار الجعل والتقنين، إلا أنّ الحكمة والمصلحة تقتضيان أن يقرّ الله عزّ وجلّ أحد الأحكام أوّلاً بشكلٍ مؤقّتٍ (المنسوخ) ومن ثمّ على مرّ الزمان وطبقاً لمقتضيات مصالح العباد يتمّ إلغاؤه واستبداله بحكمٍ آخر (الناسخ). على سبيل المثال، هناك آياتٌ أُمر فيها النبيّ محمّد صلّى الله علیه و آله بعدم التعرّض للكفّار والمشركين في بادئ البعثة وطلبت منه التعامل معهم بليونةٍ وعفوٍ، لكن بعد أن قويت شوكة الإسلام نزلت آياتٌ بنبرةٍ شديدةٍ، حيث حرّضته ودعت المسلمين إلى الجهاد دفاعاً عن دينهم وسعياً لنشر التعاليم

ص: 498


1- للاطّلاع أكثر على هذه الشبهة الواهية، راجع مسعود الأنصاري (الدكتور روشنكر)، الله اكبر (باللغة الفارسية)، ص 164 علي الدشتي بيست وسه ساله (باللغة الفارسية)، ص 150
2- للاطّلاع أكثر، راجع: محمّد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ج 1، ص 250 - ج 19، ص 252؛ التعريفات ص 106؛ محمّد هادي معرفت التمهيد في علوم القرآن، ج 2، ص 275؛ الخواجه نصير الدين الطوسي، نقد المحصّل، ص 34 و 457 ؛ عبد الرزاق اللاهيجي، گوهر مراد (باللغة الفارسية)، ص 287؛ المغني لأبواب التوحيد والعدل، ج 16 ، ص 92

السماوية السمحاء؛ وهي بطبيعة الحال تتعارض مع النمط الأوّل من حيث الدلالة.

لو تأمّلنا فى أسباب نزول الآيات الأولى، لوجدنا أنّها جاءت في فترةٍ شهدت سيادة الطغاة والمشركين وضعف المسلمين وقلّة عددهم، لذا لم تكن لديهم حيلةٌ سوى التعامل التعامل مع الأعداء وفق المصلحة وعدم الاحتكاك عسكرياً، وحتّى قبول بعض شروطهم غير المنصفة، ومثال ذلك تحمّلهم الحصار الجائر في شعب أبي طالب وعدم ردّهم على المشركين؛ ولكن بعد تأسيس الحكومة الإسلامية في المدينة المنوّرة أصبح الإسلام قوّياً فدعا المسلمون المشركين لاعتناقه وأعلن رسول الله صلّی الله علیه و آله الجهاد على وفق شروطٍ معيّنةٍ، وذلك بعد أن نزلت آياتٌ جديدةٌ نسخت ما قبلها.

إذن، الآيات الناسخة والمنسوخة قد نزلت على أساس مصالح معيّنة وفي ظروف زمانية خاصّة، فالمنسوخ ذو مصلحةٍ مؤقّتةٍ تزول على مرّ الزمان في حين أنّ الناسخ يهدف إلى تحقيق مصلحةٍ دائمةٍ لا تزول، ومن هنا تتّضح هشاشة رأي من يقول بأنّ النسخ يعني تخطئة المشرّع في وضع الحكم الأوّل ونفي فائدته منذ لحظة وضعه (1).

المسألة الأخرى الجديرة بالذكر في مجال الناسخ والمنسوخ هي أنّ الله سبحانه يبتلي بهما عباده، إذ يأمرهم بالقيام ببعض الأعمال امتحاناً لهم كي يثبتوا امتثالهم وطاعتهم الخالصة له، لذا يلغى أحد الأحكام عبر إقرار حكمٍ

ص: 499


1- بهاء الدين خرّمشاهي ، القرآن واللاهوت العالمي (قرآن والهيات جهاني)، مقالة نشرت في مجلّة (بيّنات)، العدد 17، ص 174

آخر؛ وهذا الأمر قد أكّد عليه الكتاب الحكيم كما ذكرنا. ففي قضية القبلة، كان التشريع هو أن يتوجّه المسلمون نحو بيت المقدس في صلواتهم، لكنّ هذا الحكم نسخ فيما بعد لتصبح الكعبة المشرفّة القبلة الجديدة، ومن الأسباب التي دعت إلى هذا التشريع ابتلاء المسلمين واختبار مدى وفائهم لدينهم ونبيّهم واتّباعهم لأوامر الشريعة مهما كانت طبيعتها؛ فقد قال عزّ من قال: «وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتى كُنت عَلَيْهَا إِلا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَن يَنقَلِب عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَت لَكَبِيرَةً إِلا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَنكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤوفٌ رَّحِيمٌ»(1).

سادساً : قدرة الله المطلقة وطلب العون من العباد:

لا شكّ في أنّ القادر المطلق بإمكانه فعل ما يشاء من دون الحاجة إلى معونة أحدٍ، لذا فهو لا يطلب من أيّ كائنٍ كان بأن ينصره ويعينه على أيّ أمرٍ صغيراً كان أو عظيماً؛ لكنّنا نجد في عدّة آياتٍ أنّ الله تعالى قد طالب العون من المسلمين لنصرة دينه ونبيّه صلّی الله علیه و آله، وهذا الطلب يتعارض مع قدرته المطلقة وعظمته اللامحدودة (2) . فهناك آياتٌ اشترطت نصرة الله للمسلمين بنصرتهم له، كما توجد آياتٌ أخرى دلّت على معاني مشابهة بحيث طلبت منهم أن يقوموا بأعمالٍ تتنافى مع غنى واجب الوجود كالبيع والشراء والإقراض. ونذكر بعضها فيما يأتي:

ص: 500


1- سورة البقرة، الآية 143
2- ابن ورّاق، اسلام و مسلمين (باللغة الفارسية)، ص 270

- «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ»(1).

- «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ الله كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ»(2).

- إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَاهُمْ بِأَنَّ هُمُ الْجُنَّةَ يُقَاتِلُونَ في سَبِيلِ الله فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ الله فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ»(3).

- «مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ»(4).

لذا طرح بعضهم شبهةً مضمونها أنّ الله محتاجٌ لعباده لأنه يطلب العون والنصرة منهم، بل وحتّى يتعامل معهم بيعاً وشراء واستقراضاً.

تحليل الشبهة ونقضها:

هذه الشبهة في الحقيقة لا تختلف عمّا سبقها فهي في غاية الهشاشة وواضحة البطلان، وكلّ عاقلٍ يدرك هزالتها بأدنى تأمّلٍ لأنّه يعلم بأنّ الله سبحانه وتعالى واجب الوجود وذو قدرةٍ مطلقةٍ لا تضاهؤها قدرةٌ وهو في غنىً عن كلّ شيءٍ ولا يحتاج إلى أحدٍ من عباده بتاتاً.

ص: 501


1- سورة محمّد، الآية 7
2- سورة الصف، الآية 14
3- سورة التوبة، الآية 111
4- سورة الحديد، الآية 11

إنّ الله العلي القدير هو المدبّر لكلّ شؤون الكون سواءٌ بشكل مباشرٍ أو غير مباشرٍ، فإدارته غير المباشرة تتمثّل في نظام العلّية والنظام الجبري الذاتي الذي أقرّه للكائنات فالنار على سبيل المثال محرقةٌ بذاتها وهذه الصفة الجبرية لا يمكن أن تنفكّ عنها والنباتات تكتسب حياتها من الماء والتراب ونور الشمس، وهذه أيضاً صفةٌ ذاتيةٌ جبريةٌ لا تفارقها حيث أودعت فيها من الله العزيز الحكيم.

ليست هناك آيةٌ واحدةٌ تدلّ على أنّ الله سبحانه طلب العون من أيّ کائنٍ كان في عالم التكوين، لذا لا يمكن طرح الشبهة المذكورة في عالم التكوين بتاتاً، كما لا يمكن حتّى تصوّر مضمونها في ذلك العالم لأنّه تعالى العلّة المؤثّرة الأولى التي لا تحتاج إلى علّةٍ أخرى بأيّ نحوٍ كان.

وأمّا في عالم التشريع والحياة البشرية، فإنّ الفعل والانفعال ليسا كالتكوين الجبري، بل هناك دخلٌ لإرادة الناس في تغيير بعض القضايا، وهذا الأمر هو الآخر يعود إلى مشيئة الله تعالى لأنّه هو الذي منحهم قدرةً محدودةً في عالمٍ مادّيٍّ محدودٍ. بما أنّ الإنسان مخيّرٌ في أفعاله، فقد تعلّقت مشيئة الله عزّ وجلّ بتهذيبه وتكامله من منطلق الاختيار الذي منحه إيّاه، وبناءً على هذا أرسل له الأنبياء والرسل بغية هدايته إلى سواء السبيل، فهو من خلال اتّباع الشرائع السماوية يستجيب لأمر خالقه العظيم فيخطو خطواتٍ مباركةً في طريق مسيرته التكاملية بغية نيل السعادة الأبدية، ولكن هناك من تزلّ قدماه في هذا المضمار ويخالف أوامر الربّ الكريم، بل قد يتمادى بعضهم ولا يكتفي بالحياد عن سواء السبيل عبر دعوته الآخرين للتمرّد على الأحكام الشرعية ومن ثمّ يصبح عائقاً في طريق نجاة البشرية؛ ففي الأزمان السالفة تصدّى

ص: 502

العصاة للأنبياء والرسل وعارضوهم بكلّ ما أوتوا من قوّةٍ فحاربوهم مادّياً ونفسياً، إذ شرّدوهم من ديارهم وقتلوهم بعد أن استحوذ الشيطان على قلوبهم.

الله تعالى الذي جعل الغاية من خلقة بني آدم بلوغ السعادة الأخروية بعد هدايتهم في الحياة الدنيا، قد أناط تحقّق هذه الغاية إلى أعمالهم الاختيارية، لذلك أمرهم بالتقوى والصلاح واتّباع أنبيائه ورسله وإعانتهم قدر ما استطاعوا وفي شتّى المجالات المادّية والمعنوية، فقد وعدهم بالنصر والغلبة ومضاعفة الأجر فيما لو فعلوا ذلك. ونحن نعلم أنّ نصرة الأنبياء والرسل تعني طاعة الله ونصرة دينه الحقّ، لذا وعد المؤمنين بحسن العاقبة إن امتثلوا لأوامره وعبّر عن ذلك في كتابه العزيز بتعابير مختلفة، كالنصرة والبيع والشراء والإقراض؛ أي إنّ هذا الطلب في الحقيقة ينصبّ في مصلحتهم وينالون منه منافع كثيرة، في حين أنّ البارئ العظيم لا ينال منه نفعاً لأنّه الغنيّ المطلق، فنصرة دين الله تعني هدايتهم ونجاتهم من العذاب الأليم.

ولكن قد يتساءل بعضهم قائلاً: الله تعالى غنيٌّ مطلقٌ وله القدرة على نصرة دينه بعزّته ومدده الغيبي، لكن لماذا طلب النصرة من عباده ولم يفعل ذلك بنفسه ؟!

للإجابة نقول:

1 ) النظام الحاكم في الحياة الدنيا يرتكز على نظام العلّية، ومشيئة الله تعالى في إدارة شؤون الحياة وتدبير أمورها مستندةٌ إلى هذا النظام.

2 ) لو تدخّل الله تعالى فى شؤون الناس وتفاصيل حياتهم بشكلٍ

ص: 503

مباشر - كما لو قضى على الكفّار والمفسدين والمناهضين لعباده المؤمنين بقدرته الغيبية - سوف لا يميز الخبيث من الطيّب ولا يعرف المسلمون صديقهم من عدوّهم الحقيقيّ ولا تتجلّى معادن الناس، فيمتزج الصلحاء مع المنحرفين ؛ وهذا الأمر بطبيعة الحال يتعارض مع مبدأ الاختيار.

إذن، جهاد المؤمنين بأموالهم وأنفسهم ونصرتهم لدين الله تعالى ببذل الغالي والنفيس في رحاب المدد الإلهي الغيبي، هو من يضمن لهم الفلاح في الدارين، وبكلّ تأكيد فإنّ العليّ القدير في غنىٍ عن معونة أحدٍ، لكنّه يريد ابتلاء عباده وتهذيب أنفسهم كي ينالوا عقبى الدار.

سابعاً: قدرة الله المطلقة واستحالة بعض الأمور :

من كان ذا قدرةٍ مطلقة فهو قادرٌ على فعل كلّ شيءٍ ولا يمكن أن يعجزه أيّ أمرٍ بحيث لا يمكن تصوّر عقبةٍ تحول دون قيامه بما يشاء، فالمستحيل غير متصوّرٍ بشأنه.

منذ عهد البعثة النبوية وعصر الأئمّة المعصومين علیهم السّلام طرحت شبهاتٌ حول قدرة الله المطلقة، والأمثلة على ذلك كثيرةٌ حيث تذكر بعضها في إطار الأسئلة الآتية:

- هل يمكن لله تعالى أن يضع السماوات والأرض في بيضةٍ ؟ (1)

- هل أنّ الله تعالى قادرٌ على أن يخلق شريكاً له؟

- هل بإمكان الله تعالى أن يخلق حجراً يعجز عن حمله؟

ص: 504


1- محمّد عليّ بن بابويه القمّي (الصدوق)، التوحيد، ص 122

- هل يستطيع الله تعالى أن يخلق مربعاً دائرياً؟

بناءً على هذا طرح البعض شبهةً فحواها أنّ الله عزّ وجلّ لا يمتلك قدرةً مطلقةً لكونه عاجزاً عن القيام ببعض الأمور ، أي إنّ المستحيل يصدق في شأنه حاله حال سائر الكائنات التي يستحيل عليها فعل بعض الأمور.

تحليل الشبهة ونقضها:

لنقض الشبهة المذكورة، نقول:

لا بدّ أوّلاً من التمييز بين المحال العقلي وغير العقلي - الممتنع الذاتي وغير الذاتي - فهناك أمورٌ ليست مستحيلةً بذاتها ومن شأنها أن تتحقّق لكنّ الإنسان عاجزٌ عن القيام بها نظراً لقابلياته المحدودة، فهو على سبيل المثال غير قادرٍ على الانتقال من مشرق الأرض إلى مغربها في أقلّ من دقيقةٍ، كما أنّه عاجزٌ عن البقاء حيّاً لمدة منتى عامٍ أو أكثر. إنّ هكذا أمورٌ ممكنةٌ ذاتاً وعقلاً، لكنّ بني آدم عاجزون عن تحقيقها في الظروف الطبيعية.

ومثالٌ آخر على هذا الأمر أنّ الرياضي الذي يمتلك بُنيةً بدنيةً قوّيةً بإمكانه رمي حجرٍ ثقيلٍ يزن عشرة كيلوغراماتٍ المسافة خمسة أمتارٍ أو أكثر، لكنّه غير قادرٍ على رمي ريشةٍ صغيرةٍ إلى هذه المسافة! ومن المؤكّد أنّ عجزه عن القيام بذلك لا صلة له بقدرته البدنية، بل يرجع إلى الريشة نفسها.

وهناك أمورٌ مستحيلةٌ ذاتاً وعقلاً، لذا فإنّ عدم تحقّقها عائدٌ إلى ذاتها وماهيتها، أي إنّ صفتها التي تميّزها هي عدم إمكان تحقّقها، مثلاً لا يوجد أيّ خبيرٍ في الفيزياء أو الرياضيات يمكنه رسم مربّعٍ دائريٍّ، وبالطبع فإنّ عدم

ص: 505

القدرة على هذا الأمر ليس ناشئاً من ضعف قابليات الخبير، بل سببه اتّصاف هذا الأمر المتصوّر بالعدمية لاقتضاء طبيعته ذلك؛ وهذا يعني أنّ الممتنع ذاتاً لا يمكن أن تتعلّق به أيّة قدرةٍ.

كذا هو الحال بالنسبة إلى قدرة الله عزّ وجلّ، أي: إنّ عدم إمكانية تحقّق بعض الأمور عائدٌ إلى ذاتها الممتنعة وليس عائداً إلى وجود ضعف في قدرته تعالى - حاشاه ذلك وتعالى علوّاً كبيراً - فهو ذو قدرةٍ مطلقةٍ وغير متناهيةٍ، إذ لا يوجد أمرٌ مستحيلٌ بالنسبة إليه وهو القادر على فعل كلّ أمرٍ يعجز عنه غيره، ناهيك عن أنّه بإرادته ومشيئته جعل المستحيل مستحيلاً ذاتياً أو غير ذاتيٍّ، ومن المؤكّد أنّ المستحيل غير الذاتي هيّنٌ بالنسبة إليه إلا أنّ الذي جعله ذا ماهيةٍ ممتنعةٍ - مستحيلاً ذاتياً - فلا تتعلّق به إرادته لأنّه هو الذي جعله يتّصف بهذه الميزة الخاصّة، لذا فكلّ ممتنعٍ لا يمتّ بصلةٍ إلى قدرة البارئ عزّ وجلّ نظراً لامتناعه.

خلاصة الكلام أنّ عدم تحقّق الممتنع تحقق الممتنع عقلاً لا يعني عجز الله تعالى عن القيام به، بل السبب في ذلك يعود إلى استحالة حدوثه لكون الامتناع ميزةً ملازمةً لذاته، أي: إنّ ذاته ممتنعةٌ عن التحقّق .

والرواية الآتية توضّح الموضوع بشكلٍ أفضل: روي عن أبي عبد الله علیه السّلام أنّه قال: قيل لأمير المؤمنين علیه السّلام : هل يقدر ربّك أن يدخل الدنيا في بيضةٌ من غير أن يصّغر الدنيا أو يكبّر البيضة ؟ قال : إنّ الله تبارك وتعالى لا ينسب إلى العجز والذي سألتني لا يكون » (1).

ص: 506


1- محمّد عليّ بن بابويه القمّي (الصدوق)، التوحيد، ص 130
ثامناً: قدرة الله المطلقة ورواج الكوارث والشرّ في العالم:

لقد أكّد القرآن الكريم في مواطن عديدة على قدرة الله المطلقة التي لا تحدّها حدودٌ، لكن هناك شبهةٌ شائعةٌ تطرح حول السبب في عدم تسخير هذه القدرة اللامتناهية لدفع المكاره والأذى عن البشرية. برأي أصحاب هذه الشبهة فإنّ الله تعالى لو كان قادراً على فعل كلّ شيءٍ وإن صحٍ القول بأنّه إذا أراد شيئاً إنّما يقول له كُن فيكون، لماذا لا يحفظ خلقه من مختلف البلايا والكوارث الطبيعية والمخاطر التي تهدّد حياتهم من قبيل الزلازل والسيول والبراكين، وما شاكلها من حوادث مدمّرة؟ (1)

تحليل الشبهة ونقضها:

كي يتّصح الردّ على هذه الشبهة بشكلٍ أفضل، نذكر النقاط الآتية تاركين سائر التفاصيل التي لا يسع المجال لتسليط الضوء عليها هنا: (2)

1 ) الشرّ أمرٌ عدميٌّ :

يرى بعض العلماء القدماء من مسلمين وغير مسلمين الشرّ أمراً عدمياً، أنّه ليس وجودياً، لذا ليس من المعقول بمكانٍ طرح شبهةٍ حول وقوعه والحكمة منه؛ لذا ينتفي موضوع الشبهة المذكورة.

العدمية تعني انعدام وجودٍ أمرٍ ما أو فقدان كمالٍ خاصٍّ، والأسباب

ص: 507


1- ابن ورّاق، اسلام و مسلماني (باللغة الفارسية)، ص 264
2- للاطّلاع أكثر، راجع: محمّد حسين قدردان قراملكي، خدا ومسأله شر (باللغة الفارسية)، الفصل الثاني

التي تسفر عن ذلك كثيرةٌ، فحدوث جرح في يد الإنسان بسّكين يؤدّي إلى حدوث نقصٍ فيها - أي فقدان جانبٍ من كماله - والسبب في ذلك يرجع إلى أمرين، أحدهما حدّة السكّين والآخر رقّة جلد اليد؛ ولكن بعد مدّةٍ يستعيد الجلد حالته الطبيعية فيلتئم وتتماسك خلاياه مرّةً أخرى، وهذا يعني استعادة كماله السابق الذي افتقده إثر الجرح. إذن هذا الأمر يعدّ نقصاً مؤقّتاً للكمال، في حين أنّ قطع اليد بالسكين وانفصالها عن الجسد يعدّ شرّاً محضاً وفقداناً للكمال لأنّ الإنسان في هذه الحالة يفقد إحدى خصوصياته الكمالية، أي إنّ الشرّ الذي تحقّق هنا هو فقدانٌ وانعدامٌ.

وعلى هذا الأساس فإنّ شيوع الشرّ في عالم المادّيات يعود لأمرٍ عدميٍّ، لذلك لا يمكن إيراد شبهةٍ عليه، فالشبهة إنّما ترد على ما هو موجود في الواقع، وعلى هذا الأساس لا يمكن الاعتراض بالقول: لماذا خلق الله الشر؟!

2 ) الشرّ قد يترتّب عليه خيرٌ كثيرٌ :

أصحاب هذه الرؤية يقبلون إلى حدٍّ ما بضرورة وجود الشرّ في العالم المادّي، إذ يعتقدون بأنّه من الأمور اللازمة التي لا تنفكّ عن هذه الحياة، ومن ثمّ قد يترتّب عليه خيرٌ كثيرٌ، فالناس على سبيل المثال يتمتّعون بمنافع جمّة من الماء والنار على حدٍّ سواء، ولكنّهم في بعض الأحيان يتعرّضون للضرر منهما ؛ ومن المؤكّد لو أنّ الله تعالى لم يخلقهما لخسر الناس كثيراً من الخيرات التي تترتّب عليهما.

من المؤكّد أنّ عالم المادّة ملىءٌ بالأذى والشرور لكونه مادّياً ومحدوداً، وكأنّ هذه الأمور ممتزجةٌ بذاته ولا تنفكّ عنها، لذا إن زالت عنه سوف يتجرّد

ص: 508

عن خصوصيته المادّية ممّا يعني زواله من الأساس، ومن ثمّ يتمخّض عن ذلك ضياع خيرٍ كثيرٍ؛ وهذا الفرض بكلّ تأكيدٍ يتنافى مع الحكمة الإلهية.

3 ) الشرّ هو مبدأ للخير :

لو ألقينا نظرةً على الشرّور وكلّ ما فيها من أذى للإنسان، لوجدناها برمّتها أو بعضها على أقلّ تقديرٍ، مقدّمةً لحصول الإنسان على خيرٍ كثيرٍ رغم اعتبارها سوءاً محضاً.

أبرز العلماء والمفكّرين في المجتمعات البشرية على مرّ العصور قد ولدوا من رحم المعاناة ولم تكن حياة غالبيتهم منعّمةً ومرفّهةً، بل واجهوا مصاعب جمّة وعانوا الأمرّين في مسيرتهم الدنيوية لكنّهم رغم كلّ ذلك قاموا بإنجازاتٍ غيرت مسار التأريخ؛ وكما قال القدماء فإنّ المعاناة هي التي تصقل معادن الرجال.

إذن بعض البلايا التي تواجهها البشرية هي في الحقيقة تحذيرٌ من خطرٍ محدقٍ يهدّد كيان الإنسان، لذا يمكن اعتبارها مقدّمةً للخير والصلاح، فوجع الأسنان على سبيل المثال يجعل الإنسان في مشقّةٍ وأذى ولربّما يسلب النوم من عينيه لشدّته ممّا يجعله يتصوّر بأنّه أسوأ الشرور التي أصابته في حياته، لكنّه في الحقيقة غافلٌ عن أنّ هذا الوجع عبارةٌ عن تحذيرٍ شديد اللهجة له حيث ينبّهه إلى وجود آفةٍ تهدّد أسنانه وتفسدها بالكامل، بل وقد تفسد فمه أيضاً، لذا عليه المبادرة فوراً لمعالجة هذا الخلل الجزئي قبل أن يستفحل ويتسبّب في ضررٍ كبيرٍ ونتائج وخيمة لا تحمد عقباها؛ وهذا الشرّ - وجع الأسنان - بكلّ تأكيدٍ يعدّ مقدّمةً لخيرٍ كثيرٍ يتجسّد في الحفاظ على سلامة الأسنان والفم.

ص: 509

4 ) الشرّ يصقل النفس الإنسانية ويرفع من شأنها:

كما هو معلومٌ فالملائكة يعيشون في رحاب عالمٍ لا يكتنفه أيّ شرٍّ ولا ضررٍ بوصفهم كائنات مجرّدة بقيت على كمالها الأوّلي الذي حباها به الله تعالى منذ بادئ خلقتها، ومن ثمّ فهي لا تمتلك القابليات التي تؤهّلها للرقيّ المعنوي والتعالي إلى درجاتٍ أكثر ممّا بلغته؛ وهذا الأمر لا ينطبق على بني آدم، فالهدف من خلقتهم في الحياة الدنيا هو تمكينهم من السعي لنيل أعلى درجات الكمال المعنوي في عالم الآخرة بعد صقل أنفسهم وتهذيبها، وهذا لا يتحقّق بكلّ تأكيدٍ إلا في ظلّ مواجهتهم لابتلاءات ومصاعب ترسّخ روح التوحيد الحقيقيّ وسائر الملكات الدينية والأخلاقية في أنفسهم.

إذن، الشرّ في الحياة الدنيا فيه ما يأخذ بيد الإنسان نحو الرقيّ نفسياً وسلوك السبيل الصائب الذي ينبغي له سلوكه، لأنّه يصقل نفسه ويهذّبها، ومن ثمّ فهو يرفع من درجاته المعنوية.

5 ) الشرّ يستتبع جزاءً في يوم القيامة :

هناك بعض المصائب والشرور التي تكتنف حياة الإنسان في الدنيا من دون أن يحصل على فائدةٍ ملموسةٍ منها من قبيل ظلم الظالمين والزلازل وسائر الحوادث الطبيعية المدمّرة التي تفني ثروته وأسرته وقد تتسبّب بحدوث عاهاتٍ في بدنه، ومن ثمّ ينتابه الضرر في الحياة الدنيا من دون أن يحصل على فائدةٍ مباشرةٍ أو غير مباشرةٍ؛ إلا أنّه يحصل على نفعٍ كبيرٍ في الحياة الآخرة لأنّ الله العليّ القدير يعوّضه ويجازيه خير الجزاء جرّاء ما تعرّض له من ضررٍ فيضاعف له ما خسره أضعافاً مضاعفةً، وهذا يعني أنّه يحصل على ما يسعده

ص: 510

في الحياة الآخرة إثر معاناته من مصائب وشرور الحياة الدنيا.

إذن، الشرّ في الحياة الدنيا مقدّمةٌ لخيرٍ كثيرٍ في الحياة الآخرة وسببٌ لنيل الإنسان السعادة الأبدية التي هي مراد كلّ عاقلٍ وحكيمٍ، إذ إنّ هذا الشرّ الذي لم تتحقّق منه فائدة ملموسة في الحياة الدنيا قد أصبح وازعاً للنجاة من مواجهة مصاعب وآلامٍ جمّة في الحياة الآخرة.

خلاصة الكلام أنّنا لو ألقينا نظرةً على الشرّ من الزوايا الخمسة التي تطرّقنا إليها، لأدركنا سقم الشبهة المذكورة ولثبت لنا أنّ البارئ الحكيم ذو القدرة المطلقة قد جعل الدنيا دار ابتلاءٍ لتزكية أنفس عباده وتمحيصها، ومن المؤكّد أنّ كلّ ابتلاء يجب أن يتجلّى في مكاره ومصاعب بشتّى الأنواع، ومهما كانت طبيعته فهو لا يتعارض بتاتاً مع قدرة الله تعالى وحكمته.

*الشبهة السادسة: تباين صفات الله تعالى في تعاليم مختلف الأديان:

طرح بعض الملحدين والمستشرقين شبهةً حول الاختلاف في صفات الله عزّ وجلّ ضمن التعاليم التي تتبنّاها مختلف الأديان، ومن جملة ذلك ادّعاء أنّ إله المسيحية تطغى عليه صفات الرأفة والرحمة والمحبّة، في حين أنّ أبرز صفات إله الإسلام هى القهر والجبروت والانتقام بحيث يروم التسلّط على كلّ شيءٍ وتسييره بأمره فحسب وكذا الحال بالنسبة إلى إله اليهود.

تحليل الشبهة ونقضها:

نقول في ردّ هذه الشبهة ما يأتي:

ص: 511

1 ) أثبتنا في الفصل الثاني أنّ الله تعالى واجب الوجود، وقلنا بأنّ العقل يحكم بامتلاكه صفاتٍ كماليةً عديدةً من قبيل العلم والغنى والقدرة، ومن ثمّ أكّدنا بالدليل على أنّ هذه الصفات الكمالية تعدُّ حقائق دامغة لا يمكن نفيها عن ذاته المباركة بتاتاً؛ لكن في الحين ذاته لا يمكن تطبيق دلالات هذه الصفات في جميع الأديان على حدٍّ سواء، فاتّصافه بالغنى المطلق يقتضي عدم افتقاره إلى خلقه في جميع الأحيان وعلى هذا الأساس فهو يريد الخير لهم ويتلطَّف عليهم بإرادته.

الفيض الإلهى الناشئ من صفات الرحمة واللطف والرأفة، هو انعكاسٌ للصفات الكمالية، وليست هناك أيّة عقباتٍ تحول دون حصول العباد عليه، لكنّهم أحياناً يقومون بأعمالٍ تقع حائلا بينهم وبينه فيحرمون منه إثر ما اكتسبته أيديهم؛ فجذور الشجر على سبيل المثال غائرةٌ تحت التربة الخصبة لأجل امتصاص الماء والأملاح المغذية منها، وهذا الأمر بطبيعة الحال منوطٌ بالجذع قبل الجذور، فلو كان الجذع غضّاً طرياً سوف تتمّ عملية الامتصاص بشكلٍ طبيعيٍّ وتنمو الشجرة وتزهر أغصانها، لكن حينما يجفّ هذا الجذع ويفتقد نضارته فالجذور هي الأخرى تفقد قابليتها ويصيبها الضمور ولا تعُد آنذاك قادرةً على امتصاص شيءٍ أو أنّها لا تمتصّ إلا الشيء اليسير. وكذا هو الحال بالنسبة للإنسان إذ يحظى بالفيض الإلهي بحسب استعداده وقابلياته، وكما ذكرنا آنفاً فإنّ لطف الله تعالى المتجسّد في جميع صفاته الرحمانية يعمّ جميع الناس من دون استثناءٍ لكنّ البعض يقومون بأعمال تحرمهم من هذا اللطف العامّ. وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ الذين يهذّبون أنفسهم ويتعالون بشخصياتهم في رحاب خلوصهم وعبادتهم وتركهم الآثام والمعاصي، ينالون فيضاً خاصّاً

ص: 512

ويكرمون بلطفٍ عميمٍ إضافةً إلى اللطف والفيض العامّ الذي يشمل حال جميع الخلق.

2 ) للمقارنة بين صفات الله تعالى في الديانات السماوية الثلاث، أي الإسلام والمسيحية واليهودية نقول:

أ - الكتابان المقدّسان الأصيلان لليهود والنصارى ليسا في متناول اليد، لذا لا يمكننا تقييم ما ورد فيهما بشكلٍ علميٍّ؛ فما هو موجودٌ اليوم مجرّد بعض النصوص المقتضبة والمحرّفة من التوراة والإنجيل ناهيك عن كلّ تلك الإضافات التي لم ينزل الله بها من سلطان.

إذن، الادّعاء المذكور غير ثابت من الناحية التأريخية، ومن ثمّ ليس من الصواب زعم أنّ النبيّ عيسى علیه السّلام جاء برسالة صلحٍ وسلامٍ للبشرية من دون أيّ تهديدٍ أو وعيدٍ للعصاة، كذلك ليس من الصحيح ادّعاء أنّ النبيّ موسى علیه السّلام حمل رسالةً ملؤها التهديد والوعيد.

ب - الآيات القرآنية تتضمّن صفات الرحمة والقهر ، لكن عند تمحيصها نجد أنّ صفات الرحمة أكثر بكثير من صفات القهر كمّا ونوعاً، ناهيك عن التأكيد في العديد منها على كون رحمة الله أوسع من قهره وعذابه، فرحمته تعالى باعتقاد المسلمين تشمل كلّ شيءٍ ولا حدود لها.

من جملة آيات الرحمة ما يأتي:

- «فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ»(1).

ص: 513


1- سورة الأنعام، الآية 147

- «وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ»(1).

- «رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ»(2).

والآية الآتية تؤكد على أنّ الهدف من بعثة خاتم الأنبياء صلّی الله علیه و آله هو شمول الناس برحمة الله الواسعة التى لا تحدّها حدودٌ، ويمكن القول إنّها تدلّ على كون الرحمة هي السبب في دخول الجنّة: «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ»(3).

لقد أكّد الكتاب الحكيم على أنّ الله عزّ وجلّ يتعامل مع خلقه بلطفٍ ورحمةٍ بحيث ألزم نفسه بذلك، وحسب التعبير العرفاني فإنّ صفة الرحمة لها الريادة والأولوية على سائر الصفات الإلهية؛ ومعنى ذلك أنّ إله المسلمين رؤوفٌ رحيمٌ بكلّ ما للرأفة والرحمة من معنى حيث قال: «كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ»(4).

فضلاً عن كتاب الله المجيد، فالأحاديث المروية عن المعصومين علیهم السّلام تؤكّد على هذه الحقيقة أيضاً، فقد روي عن رسول الله صلّی الله علیه و آله قوله : «سبقت رحمتُه غضبَه»(5).

الصفات الجلالية من قبيل الغضب والقهر قد وردت في القرآن الكريم، لكنّها بالمقارنة مع

صفات اللطف والرحمة قليلةٌ كمّاً ونوعاً، فالأسماء الحسنى

ص: 514


1- سورة الأعراف، الآية 156
2- سورة غافر، الآية 7
3- سورة الأنبياء، الآية 107
4- سورة الأنعام، الآية 12
5- الفيض الكاشاني، علم اليقين، ج 1، ص 57

المقتبسة من القرآن الكريم والروايات والتي يبلغ عددها مئة اسم، لا تتضمّن سوى سبع صفاتٍ تدلّ على القهر والجبروت، في حين هناك 23 صفةً تدلّ باللفظ الصريح على الرأفة والرحمة (1) .

ج - لدى تسليط الضوء على العهد الجديد نجد أنّ إله المسيحية لا يتّصف بالرأفة والرحمة والمحبّة فقط، وهذا خلافٌ لما يدّعيه البعض، فقد وصف بالقهر والجبروت أيضاً، حيث أكّدت النصوص الدينية النصرانية على أنّه عادلٌ ومهيبٌ.

تضمّنت الفقرة الثانية والثلاثين من الإصحاح التاسع في سفر نحميا الكلام التالي: «وَلكِنْ لأَجْلِ مَرَاحِمِكَ الْكَثِيرَةِ لَمْ تُفْنِهِمْ وَلَمْ تَتْرُكْهُمْ، لأَنَّكَ إِلهُ حَنَّانُ وَرَحِيمُ»(2)، وجاء في رسالة بولس اليسوعية إلى العبرانيين ما يلي: «فَإِنَّهُ إِنْ أَخْطَانَا بِاخْتِيَارِنَا بَعْدَمَا أَخَذْنَا مَعْرِفَةَ الْحَقِّ، لَا تَبْقَى بَعْدُ ذَبِيحَةٌ عَنِ الخَطَايَا ، * بَلْ قُبُولُ دَيْنُونَةٍ مُحِيفٌ، وَغَيْرَةُ نَارٍ عَتِيدَةٍ أَنْ تَاكُلَ المُضَادِّينَ. * مَنْ خَالَفَ نَامُوسَ مُوسَى فَعَلَى شَاهِدَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةِ شُهُودٍ يَمُوتُ بِدُونِ رَافَةٍ.* فَكَمْ عِقَابًا أَشَرَّ تَظُنُّونَ أَنَّهُ يُحْسَبُ مُسْتَحِقًا مَنْ دَاسَ ابْنَ اللَّهِ، وَحَسِبَ دَمَ الْعَهْدِ الَّذِي قُدَّسَ بِهِ دَنِسًا، وَازْدَرَى بِرُوحِ النِّعْمَةِ؟ * فَإِنَّنَا نَعْرِفُ الَّذِي قَالَ: «لِيَ

ص: 515


1- الصفات السبعة هي عبارةٌ عن: (الجبّار، القهّار، القابض، المقيت، المذلّ، المنتقم، الضارّ). تدلّ هذه الصفات في ظاهرها على عدم الرحمة. أمّا الصفات الثلاثة والعشرون فهي عبارةٌ عن: (الرحمن، الرحيم، السلام، الغفّار، الوهّاب، الرزّاق، الباسط، المعزّ، العادل، الحليم، الغفور، الشكور، الكريم، الواسع، الودود، التوّاب، العفوّ، الرؤوف، المنصف، النافع النور، الهادي الصبور)
2- سفر نحميا، الإصحاح التاسع، الفقرة 32

الانْتِقَامُ، أَنَا أُجَازِي، يَقُولُ الرَّبُّ». وَأَيْضًا: «الرَّبُّ يَدِينُ شَعْبَهُ». * مُحِيفٌ هُوَ الْوُقُوعُ فِي يَدَيِ اللهِ الحَيِّ!» (1).

وقد أكّدت الرسائل والأسفار اليسوعية على أنّ الربّ مستقلٌّ عن مخلوقاته وله حكومةٌ مطلقةٌ عليهم كما جاء في رسالة بولس إلى أهل أفسس: «الَّذِي فِيهِ أَيْضًا نِلْنَا نَصِيبًا، مُعَيَّنِينَ سَابِقَا حَسَبَ قَصْدِ الَّذِي يَعْمَلُ كُلَّ شَيْءٍ حَسَبَ رَايِ مَشِيئَتِهِ» (2).

نستشفّ من النصوص الدينية أنّ الغضب صفةٌ من الصفات الواقعية لله عزّ وجلّ، وعلى أساس العقيدة التوحيدية فهو لا يتضادّ مع صفات الرأفة والرحمة؛ لذا حتّى وإن تجلّت مودّة البارئ الرؤوف في شخصية النبيّ عیسی علیه السّلام لكنّ هذا لا يعني انتفاء صفة الغضب عن ذاته المباركة، إذ لا سبيل للتعامل مع المردة والعصاة إلا بحزم وصلابةٍ كى يسلكوا السبيل القويم أو ينالوا جزاءهم الحقّ(3).

كما نستشفّ من هذه النصوص أنّ النبيّ عيسى علیه السّلام كان يتّصف بصفاتٍ ملؤها اللطف والرأفة إلى جانب صفاتٍ أخرى تتّسم بالشدّة والصلابة، إذ كان يتعامل مع الضعفاء والمحرومين بكلّ مودّةٍ ورحمةٍ خلافاً لتعامله مع الطغاة والعصاة؛ فعلى سبيل المثال حينما وجد التجّار والصرّافين في المعبد سخط عليهم وطردهم منه، حيث روي في إنجيل مرقس: «وَجَاؤوا إِلَى

ص: 516


1- رسالة بولس اليسوع إلى العبرانيين، الإصحاح العاشر الفقرات: 26 إلى 31
2- رسالة بولس إلى أهل أفسس، الإصحاح الأوّل، الفقرة 12
3- راجع: إنجيل لوقا، الإصحاح الأوّل، الفقرات 5 إلى 31؛ إنجيل يوحنّا، الإصحاح التاسع، الفقرة 3

أُورُشَلِيمَ. وَلَا دَخَلَ يَسُوعُ الهَيْكَلَ ابْتَدَأَ يُخْرِجُ الَّذِينَ كَانُوا يَبِيعُونَ وَيَشْتَرُونَ فِي الْهَيْكَلِ، وَقَلَّبَ مَوَائِدَ الصَّيَارِفَةِ وَكَرَاسِيَّ بَاعَةِ الْحَمَامِ. * وَلَمْ يَدَعْ أَحَدًا يَجْتَازُ الهُيْكَلَ بِمَتَاعِ. * وَكَانَ يُعَلِّمُ قَائِلاً هُمْ: «أَلَيْسَ مَكْتُوبًا: بَيْنِي بَيْتَ صَلَاةٍ يُدْعَى جمِيعِ الأُمَمِ؟ وَأَنْتُمْ جَعَلْتُمُوهُ مَغَارَةَ لصوص»(1). وجاء في إنجيل لوقا ما يلي: «وَأَمَّا ذلِكَ الْعَبْدُ الَّذِي يَعْلَمُ إِرَادَةَ سَيّدِهِ وَلَا يَسْتَعِدُّ وَلَا يَفْعَلُ بِحَسَبِ إِرَادَتِهِ، فَيُضْرَبُ كَثِيرًا . *وَلكِنَّ الَّذِي لاَ يَعْلَمُ، وَيَفْعَلُ مَا يَسْتَحِقُ ضَرَبَاتٍ، يُضْرَبُ قَلِيلاً. فَكُلُّ مَنْ أُعْطِيَ كَثِيرًا يُطْلَبُ مِنْهُ كَثِيرٌ، وَمَنْ يُودِعُونَهُ كَثِيرًا يُطَالِبُونَهُ بِأَكْثَرَ. * «جِئْتُ لأُلْقِيَ نَارًا عَلَى الأَرْضِ، فَمَاذَا أُرِيدُ لَوِ اضْطَرَمَتْ؟ * ولى صِبْغَةٌ أَصْطَبِغْهَا، وَكَيْفَ أَنْحَصِرُ حَتَّى تُكْمَلَ؟ * أَتَظُنُّونَ أَنِّي جِئْتُ لأَعْطِيَ سَلاَمًا عَلَى الأَرْضِ كَلاً، أَقُولُ لَكُمْ: بَلِ انْقِسَامًا * لأَنَّهُ يَكُونُ مِنَ الآنَ خَمْسَةٌ فِي بَيْتِ وَاحِدٍ مُنْقَسِمِينَ : ثَلَاثَةٌ عَلَى اثْنَيْنِ، وَاثْنَانِ عَلَى ثَلَاثَةِ» (2).

إذن، التعاليم المسيحية أكّدت بشكلٍ صريح على ضرورة معاقبة الآثمين والمجرمين بعذاب أليم في يوم القيامة، إذ وصفت جهنّم بأنّها ذات أنهارٍ وبحارٍ من نارٍ تلتهم العصاة والطغاة (3) ، ومن جملة ذلك ما جاء في إنجيل متّي: «ثُمَّ يَقُولُ أَيْضًا لِلَّذِينَ عَنِ الْيَسَارِ: اذْهَبُوا عَنِّي يَا مَلَاعِينُ إِلَى النَّارِ الأَبَدِيَّةِ الْمُعَدَّةِ لإِبْلِيسَ وَمَلَائِكَتِهِ، * لأَنِّي جُعْتُ فَلَمْ تُطْعِمُونِي. عَطِشْتُ فَلَمْ تَسْقُونِي * كُنْتُ غَرِيبًا فَلَمْ تَاوُونِي. عُرْيَانًا فَلَمْ تَكْسُونِي. مَرِيضًا وَتَحْبُوسًا فَلَمْ تَزُورُونِي. *

ص: 517


1- إنجيل مرقس، الإصحاح الحادي عشر، الفقرات 15 إلى 17 . كذلك راجع: إنجيل يوحنّا، الإصحاح الثاني، الفقرة 15
2- إنجيل لوقا، الإصحاح الثاني عشر، الفقرات 47 إلى 52
3- إنجيل مرقس، الإصحاح التاسع، الفقرة 44

حِينَئِذٍ يُجيبُونَهُ هُمْ أَيْضًا قَائِلِينَ: يَارَبُّ، مَتَى رَأَيْنَاكَ جَائِعًا أَوْ عَطْشَانًا أَوْ غَرِيبًا أَوْ عُرْيَانًا أَوْ مَرِيضًا أَوْ تَحْبُوسًا وَلَمْ نَخْدِمْكَ؟ * فَيُجِيبُهُمْ قِائِلاً: الحَقِّ أَقُولُ لَكُمْ: بِمَا أَنَّكُمْ لَمْ تَفْعَلُوهُ بِأَحَدِ هَؤُلَاءِ الأَصَاغِرِ، فَبِي لَمْ تَفْعَلُوا. * فَيَمْضِي هؤُلاَءِ إِلَى عَذَابٍ أَبَدِي وَالأَبْرَارُ إِلَى حَيَاةِ أَبَدِيَّةِ » (1).

على الرغم من أنّ بعض النصارى اعترضوا على عذاب جهنّم، إلا أنّ الكنيسة تبنّت ذلك وعدته من الأمور الملازمة للألوهية (2)، فاليسوع عيسى علیه السّلام كان يحرض الناس على محاربة أعداء الله لدرجة أنّه طلب من أتباعه بيع كلّ ما لديهم لشراء عدّة الحرب كي يقارعوا الطغاة في الزمان والمكان المناسبين؛ إلا أنّهم مع الأسف الشديد لم ينفّذوا أمره (3).

المسألة الأخرى الجديرة بالذكر على صعيد صفات القهر والجبروت هي أنّ الإسلام دينٌ يؤكّد على خلود العباد في الحياة الآخرة، وبما أنّه الدين الخاتم لجميع رسالات السماء والناسخ لجميع الشرائع الأخرى، فقد واجه معارضةً شديدةً من قبل الأعداء منذ أيامه الأولى بهدف إطفاء نوره وتهميش تعاليمه السمحاء؛ لذلك نزلت آياتٌ عديدةً أكّدت على وجود مؤامراتٍ ومكائد تحاك ضد المسلمين ونبيّهم الكريم صلّی الله علیه و آله فأسفرت عن فضح الكفّار والمنافقين، إذ هدّدتهم وتوعدّتهم بعذابٍ أليمٍ؛ لذلك نلمس في القرآن الكريم أنّ

ص: 518


1- إنجيل متّي، الإصحاح الخامس والعشرون، الفقرات 41 إلى 46
2- للاطّلاع أكثر ، راجع: جلال الدین آشتياني، تحقيقي در دين مسيح (باللغة الفارسية)، ص 5 إلى 354
3- للاطّلاع أكثر ، راجع: إنجيل لوقا، الإصحاح الثاني، الفقرة 36؛ محمّد حسن قدردان قراملکی، سکولاریزم در مسیحیت و اسلام (باللغة الفارسية)، ص 41 - 42

ذات الله تعالى جامعةٌ لصفات الرحمة والعذاب.

إذن، لولا تلك الصفات القهرية والجبروتية لتجرّاً أعداء الله أكثر وتطاولوا على الدين الحنيف بكلّ ما أوتوا من قوّةٍ سعياً للقضاء عليه، ولربّما كانوا سينجحون في مساعيهم الشيطانية هذه.

ص: 519

ص: 520

مصادر الكتاب

القرآن الكريم.

1 ) فتح علي آخوند زاده مقالات فلسفي (باللغة الفارسية)، منشورات (نگاه)، طهران، 1355ش.

2 ) فریدون آدمیت، اندیشه های میرزا آقا خان كرماني (باللغه الفارسية)، منشورات (پیام)، طهران 1357ش.

3 ) ریموند آرون، مراحل اساسی اندیشه در جامعه شناسي (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية باقر برهام، منشورات (آموزش وانقلاب اسلامي)، طهران، 1366ش.

4 ) أمير حسين آريان بور، فرودیسم (باللغه الفارسية)، منشورات (الشركة المساهمة للكتب الجيبية)، طهران، 1357ش.

5 ) السيّد جلال الدين الآشتياني، تحقيقي در دين مسيح (باللغه الفارسية)، منشورات (نگارش)، طهران 1368ش.

6 ) السيّد جلال الدين الآشتيانی، خداپرستان سوسیالیست (باللغه الفارسية).

7 ) الميرزا مهدي الآشتياني، اساس ،التوحيد تصحيح السيّد جلال الدين الآشتياني، منشورات (أمير كبير)، طهران، 1377ش.

8 ) الميرزا مهدي الآشتياني، تعليقة بر شرح منظومة (باللغه الفارسية)، منشورات جامعة طهران، 1367ش.

9 ) حسام الآلوسي دراسة نقدية لنظرية الفيض، مجلّة (المورد)، بغداد،

ص: 521

1978م.

10 ) السيّد حيدر الآملي، المقدّمات من كتاب نصّ النصوص، منشورات (توس)، طهران، 1367ش.

11 ) السيّد حيدر الآملي، جامع الأسرار ومنبع الأنوار، منشورات (علمية ثقافية)، طهران، 1368ش.

12 ) محمّد تقي الآملي، درر الفوائد، منشورات (إسماعيليان)، قم، تأريخ النشر غير محدّد.

13 ) هانس يورجن إيسنك، درست و نادرست در روانشناسي (باللغه الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية إيرج آيين، منشورات (الشركة المساهمة للكتب الجيبية)، طهران، 1350ش.

14 ) هانس يورجن إيسنك، ودانش جديد باللغه الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية وأعدّه محمّد رضا غفّاري، منشورات (الثقافة الإسلامية)، طهران، 1376ش.

15 ) ابن ترکه، تمهيد القواعد، منشورات (اتحاد الفلسفه في إيران)، طهران، 1360ش.

16 ) ابن تيمية، الردّ على المنطقيين، منشورات (دار الفكر اللبناني)، بيروت 1993م.

17 ) ابن حزم، الفصل في الملل والأهواء والنحل منشورات (الدار العلمية الإسلامية)، بيروت، 1420ه_.

18 ) ابن العربي، فصوص الحِكم (مع تعليقات أبي العلاء العفيفي)، منشورات (الزهراء)، طهران، 1370ش.

19 ) ابن نوبخت، الياقوت في علم الكلام، منشورات (مكتبة آية الله المرعشي النجفي)، قم، 1413ه_.

20 ) ابن ورّاق، اسلام ومسلماني (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية مسعود الأنصاري، دار النشر غير محدّد، أمريكا الشمالية، 1378ش.

ص: 522

21 ) بول إدواردز، براهين اثبات وجود خدا در فلسفه غرب (باللغه الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية علي رضا عالي نسب ومحمّد محمّد رضائي، منشورات (مكتب الإعلام الإسلامي)، قم، 1371ش.

22 ) مير شمس الدين أديب سلطاني، رساله وين (باللغة الفارسية)، منشورات (المركز الإيراني لدراسة الثقافات)، طهران، 1359ش.

23 ) نقي آراني، پسیکولوژي (باللغة الفارسية)، منشورات (آبان)، طهران، 1357ش.

24 ) دبليو. تي. ستيس، عرفان وفلسفة (باللغه الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية بهاء الدين خرّمشاهی، منشورات (سروش) طهران، 1367ش.

25 ) هوستون سمث، اسلام از نظرگاه دانشمندان غرب (باللغه الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية علي أصغر حكمت، منشورات (أمير كبير)، طهران، 1357ش.

26 ) أبو الحسن الأشعري، الإبانة عن أصول الديانة، منشورات (دار الكتاب العربي)، 1990م.

27 ) أبو الحسن الأشعري، اللّمع في الردّ على أهل الزيغ، منشورات (الشركة المساهمة)، مصر، 1955م.

28 ) أبو الحسن الأشعرى، مقالات الإسلاميين، دار ومكان النشر غير محدّدين، 1400ه_.

29 ) أصول فلسفه و روش رئاليسم (باللغه الفارسية)، منشورات (اسلامی) ، قم، تأريخ النشر غير محدّدٍ.

30 ) شرف الدين، تحليلي از پیشگويي هاي نوستر اداموس (باللغه الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية عباس علي براتي، منشورات (سعيد بن جبير)، قم، 1372ش.

31 ) أفلاطون، دوره آثار (باللغة الفارسية)، تدوين محمّد حسن لطفي، منشورات (خوارزمی)، طهران، 1380ش.

ص: 523

32 ) محمّد إقبال اللاهوري، احياي فکر ديني در اسلام (باللغه الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية أحمد آرام، منشورات (رسالت قلم)، طهران، تاریخ النشر غير محدّد.

33 ) حسن الصفّار، چندگونگي و آزادي در اسلام (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية حميد رضا آژیر، منشورات (بقيع)، قم، تأريخ النشر غير محدّد .

34 ) محمّد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، منشورات (مؤسّسة الوفاء)، بيروت، تأريخ النشر غير محدّد.

35 ) مسعود الأنصاري (الدكتور روشنگر)، الله اكبر (باللغة الفارسية)، منشورات (مؤسسة پارس للنشر)، أمريكا، 1375ش.

36 ) مسعود الأنصاري (الدكتور روشنگر)، بازشناسي قرآن (باللغة الفارسية)، منشورات ( نيما) ، الطبعة السادسة، أمريكا، 1378ش.

37 ) القاضي عضد الدين الإيجي، شرح المواقف، منشورات (رضي)، قم، 1370ش.

38 ) سیاوش اوستا (حسن عباسی)، دینداری و خردگرایی (باللغة الفارسية)، مقتبس من موقع إلكتروني.

39 ) إيان باربر، علم ودين (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية بهاء الدين خرّمشاهي، منشورات (مركز النشر الجامعي)، طهران، 1362ش.

40 ) مهدي بازركان، راه طي شده (باللغة الفارسية)، منشورات (شركة النشر المساهمة) طهران، الطبعة الثانية، تأريخ النشر غير محدّد.

41 ) مهدي بازركان مجموعه آثار (باللغة الفارسية)، منشورات (شركة النشر المساهمة)، طهران، 1379ش.

42 ) لينكولن بوزینت، جهان و انيشتين (باللغة الفارسية) ترجمه إلى الفارسية أحمد بيرشك، منشورات (الشركة المساهمة للكتب الجيبية)، طهران، 1342ش.

ص: 524

43 ) ابن ميثم البحراني، قواعد المرام، منشورات (مكتبة آية الله المرعشي النجفي)، قم، 1406ه_.

44 ) إدوين آرثر باري، مبادي ما بعد الطبيعة علوم نوين (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية عبد الكريم سروش، منشورات (علمية ثقافية)، طهران، 1374ش.

45 ) هنري بريجسون، ماده وياد (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية علي قلی بیانی، منشورات الثقافة الإسلامية)، طهران، 1375ش.

46 ) جون بیرنال، علم در تاريخ (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية حسين أسد بور، منشورات (أمير كبير)، طهران، 1354ش.

47 ) رضا برنجکار، مباني خداشناسي در فلسفه يونان وأديان إلهي (باللغة الفارسية)، منشورات (مؤسّسة نبأ)، طهران، 1375ش.

48 ) رضا برنجکار، معرفت فطري خدا (باللغة الفارسية)، منشورات (مؤسّسة نبأ)، طهران، 1374ش.

49 ) ابن سينا، التعليقات، منشورات (مكتب الإعلام الإسلامي)، قم، 1404ه_.

50 ) ابن سينا، المبدأ والمعاد، منشورات (مؤسّسة مطالعات اسلامي دانشگاه مك گیل)، طهران، 1363ش.

51 ) ابن سينا، النجاة، منشورات (مرتضوي)، طهران، 1364ش.

52 ) ابن سينا، النفس من كتاب الشفاء، تحقيق حسن حسن زاده الآملي، منشورات (مكتب الإعلام الإسلامي)، قم، 1375ش.

53 ) ابن سينا، الهيات الشفاء، مع مقدّمة إبراهيم مدكور، بيروت، تأريخ الطباعة غير محدّد.

54 ) ابن سينا، الإشارات (بشرح المحقّق الطوسي والفخر الرازي)، منشورات مكتبة آية الله المرعشي النجفي)، قم، 1403ه_.

55 ) ابن سينا، الإشارات (بشرح المحقّق الطوسي)، منشورات (البلاغة)، قم،

ص: 525

1375ش.

56 ) منوتشهر بهرون، ماده انرژي و جهان هستي (باللغة الفارسية)، منشورات (فروزان) طهران، 1375ش.

57 ) محمّد حسين بهشتي، خدا از دیدگاه قرآن (باللغة الفارسية)، منشورات (مكتب النشر والثقافة الإسلامي)، طهران، 1374ش.

58 ) جون بي. ناس، تاریخ جامع اديان (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية علي أصغر حکمت، منشورات (پرواز)، طهران، 1369ش.

59 ) ريتشارد بوبكين، كليات فلسفه (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية جلال الدین مجتبوي منشورات (حکمت)، طهران، 1373ش.

60 ) جون باسمار، اثبات گرایی منطقی چیست؟ (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية بهاء الدين خرّمشاهي.

61 ) دانييل بالس، هفت نظریه در باب دین (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية محمّد عزيز بختياري، منشورات (مؤسّسة الإمام الخميني)، قم، 1382ش.

62 ) مايكل بيترسون وآخرون، عقل واعتقاد ديني (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية أحمد نراقي وإبراهيم سلطاني منشورات (طرح نو)، طهران، 1376ش.

63 ) كارل ریموند بوبر، جامعه باز و دشمنانش (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية على أصغر مهاجر، منشورات (شركة النشر المساهمة)، طهران، 1369ش.

64 ) كارل ریموند بوبر، حدسها وابطال ها (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية أحمد آرام، منشورات (شركة النشر المساهمة)، طهران، 1357ش.

65 ) کارل ریموند بوبر، منطق اكتشاف علمي (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية أحمد آرام، منشورات (سروش)، طهران، 1370ش.

ص: 526

66 ) پوزیتیویسم منطقي (باللغة الفارسية)، ترجمة وإشراف بهاء الدين خرّمشاهی، منشورات (علمية ثقافية)، طهران، 1361ش.

67 ) سعد الدين التفتازاني، شرح عقائد النسفي، بيروت.

68 ) سعد الدين التفتازاني، شرح المقاصد ، منشورات (رضي)، قم، 1370ش.

69 ) تولدي دیگر (باللغة الفارسية)، المؤلّف غير معروف، تأريخ ومحلّ النشر غير محدّدين، (مقتبس من موقع إلكتروني).

70 ) محمّد تقي الجعفري، توضیح و بررسي مصاحبه راسل - وايت (باللغة الفارسية)، منشورات (مكتب النشر والثقافة الإسلامي)، طهران، 1376ش.

71 ) محمّد تقي الجعفري، شرح نهج البلاغة (باللغة الفارسية)، منشورات (مكتب النشر والثقافة الإسلامي)، طهران، 1376ش.

72 ) رسول جعفریان، جریانها و سازمان هاي مذهبي سياسي ايران (باللغة الفارسية)، منشورات (مركز دراسات الثقافة والفكر الإسلامي)، الطبعة الثالثة، طهران، 1381ش.

73 ) محسن جوادي درآمدي بر خداشناسي فلسفي (باللغة الفارسية)، منشورات (معارف)، قم، 1375ش.

74 ) عبد الله جوادي الآملي، تبيين براهین اثبات خدا (باللغة الفارسية)، منشورات (اسراء)، قم، الطبعة الأولى، تأريخ النشر غير محدّد.

75 ) عبد الله جوادي الآملي، تفسير موضوعي - توحید در قرآن (باللغة الفارسية)، الطبعة الثانية منشورات (اسراء)، قم.

76 ) عبد الله جوادي الآملي، تفسير موضوعي - توحيد در قرآن (باللغة الفارسية)، الطبعة الثانية عشرة منشورات (اسراء)، قم، 1379ش.

77 ) عبد الله جوادي الأملي ده مقاله پیرامون مبدأ ومعاد (باللغة الفارسية)، منشورات (الزهراء)، طهران، 1372ش.

78 ) عبد الله جوادي الآملي، رحيق مختوم باللغة الفارسية)، القسم الرابع من

ص: 527

المجلّد الأوّل، منشورات (اسراء)، قم، 1375ش.

79 ) ولیام جیمز دین و روان (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية مهدي قائني، منشورات (دار الفكر)، قم، 1367ش.

80 ) حسن حسن زاده الآملي، الكلمة العليا في توقيفية الأسماء الحسنى، منشورات (مؤسّسة المعارف الإسلامية)، قم، 1416ه_.

81 ) محمّد الحسيني الطهراني، مهر تابان (باللغة الفارسية)، منشورات (العلامة الطباطبائی)، مشهد، 1380ش.

82 ) علي أكبر حكمي زاده، اسرار هزار ساله (باللغة الفارسية)، الدفتر الخامس، منشورات (پیمان)، طهران 1322 ش. (مقتبس من موقع إلكتروني)

83 ) الرازي الحمصي، المنقذ من التقليد، منشورات (اسلامي)، قم، 1412ه_.

84 ) محمّد حنيف نجاد، راه انبیاء وراه بشر (باللغة الفارسية)، منشورات (سازمان مجاهدین انقلاب اسلامی)، طهران.

85 ) مجموعة من المؤلّفين، خدا در فلسفه (باللغة الفارسية)، ترجمة وإشراف بهاء الدین خرّمشاهی، منشورات (مؤسّسة الدراسات والبحوث الثقافية) ، طهران، 1370ش.

86 ) تاج الدين الخوارزمي، شرح فصوص الحكم، منشورات (مولی)، طهران، 1362ش.

87 ) تشارلز دارون، منشأ أنواع (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية نورالدین فرهیخته، منشورات (زرین)، طهران، 1380ش.

88 ) علي الدشتي، بيست وسه ساله (باللغة الفارسية)، بإشراف وتنقيح بهرام تشوبينه، محل النشر غير محدّد، 1381ش.

89 ) رينيه ديكارت، اصول فلسفه (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية منوتشهر صانعي، منشورات (الهدی)، طهران، 1371ش.

90 ) رینیه دیکارت، تأمّلات در فلسفه اوّلى (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى

ص: 528

الفارسية أحمد أحمدي، منشورات (مركز النشر الجامعي)، طهران، 1361ش.

91 ) فیل دورانت، تاريخ تمدّن (باللغة الفارسية)، أشرف على ترجمه إلى الفارسية مجموعة من المترجمين منشورات (دار النشر والتعليم للثورة الإسلامية)، طهران، 1370ش.

92 ) موریس دو فوجریه، روشهاي علوم اجتماعي (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية خسرو أسدي، منشورات (أمير كبير)، طهران، 1362ش.

93 ) أحمد الديلمي، طبيعت وحكمت (باللغة الفارسية)، منشورات (معارف)، قم، 1376ش.

94 ) غلام حسين دينائي، اسماء وصفات حق (باللغة الفارسية)، منشورات (وزارة الإرشاد)، طهران، 1381ش.

95 ) برتراند راسل، تاریخ فلسفه غرب (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية نجف دریابندري، منشورات (پرواز)، طهران، 1363ش.

96 ) برتراند راسل، جهان بيني علمي (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية حسن منصور، منشورات (جامعة طهران)، 1351ش.

97 ) برتراند راسل، چرا مسيحي نيستم؟ (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية س. أ. س. طاهري، منشورات (دریا)، طهران 1349ش.

98 ) برتراند راسل، عرفان و منطق (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية نجف دریابندري، منشورات (الشركة المساهمة للكتب الجيبية)، طهران، 1362ش.

99 ) هانس رایشن باخ، پیدایش فلسفه علمی (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية موسى أكرمى، منشورات (علمية ثقافية)، طهران، 1371ش.

100 ) على ربّاني كلبايكاني، الاهيات في مدرسة أهل البيت (باللغة

ص: 529

الفارسية)، منشورات (اللّوح المحفوظ)، قم، 1420ه_.

101 ) علي ربّاني كلبايكاني، فطرت ودين (باللغة الفارسية)، منشورات (المؤسّسة الثقافية للعلم والفكر المعاصر)، طهران، 1380ش.

102 ) سعید رحیمیان، فیض وفاعليت وجودي از افلوطین تا صدر المتألّهین (باللغة الفارسية)، منشورات (بوستان کتاب) قم، 1381ش.

103 ) محمّدي الريشهري، ميزان الحكمة منشورات (مكتب النشر الإسلامي)، قم، 1404ه_.

104 ) زين الدين عمر بن سهلان الساوي، البصائر النصيرية، منشورات (دار الفكر اللبناني)، بيروت، 1993م.

105 ) جعفر السبحاني، الإلهيات، منشورات (المركز العالمي للدراسات الإسلامية)، قم، 1412ه_.

106 ) جعفر السبحاني، مباني حكومت اسلامي (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية داوود إلهامي، منشورات (توحید)، قم، 1370ش.

107 ) جعفر السبحاني، مدخل مسایل جدید در علم كلام (باللغة الفارسية)، منشورات (مؤسّسة الإمام الصادق علیه السّلام)، قم، 1375ش.

108 ) الملا هادي السبزواري، أسرار الحِكم، منشورات (اسلامية)، طهران، 1382ش.

109 ) الملا هادي السبزواري، شرح المنظومة، منشورات (مصطفوي)، قم، تأريخ النشر غير محدّد.

110 ) أبو نصر السراج، اللّمع في التصوّف، منشورات (أساطير)، طهران، 1382ش.

111 ) عبد الكريم سروش، تفرّج صنع (باللغة الفارسية)، منشورات (مؤسّسه صراط الثقافية)، طهران، 1372ش.

112 ) عبد الكريم سروش دانش وارزش (باللغة الفارسية)، منشورات (یاران) طهران، 1358ش.

ص: 530

113 ) عبد الكريم سروش، درس هايي در فلسفه علم اجتماع (باللغة الفارسية)، منشورات (ني)، طهران، 1374ش.

114 ) سيّد قطب إبراهيم حسين الشاربي، عدالت اجتماعی در اسلام (باللغة الفارسية) ترجمه إلى الفارسية السيّد هادي خسروشاهي ومحمّد على كرامي، منشورات (شركة النشر المساهمة)، طهران، 1352ش.

115 ) سيّد قطب إبراهيم حسين الشاربي، عدالت اجتماعي در اسلام (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية السيّد هادي خسروشاهي ومحمّد علي كرامي، منشورات (كلبه) مشرق)، محلّ النشر غير محدّد، 1379ش.

116 ) السيّد المرتضى، الذخيرة في علم الكلام، منشورات (اسلامي)، قم، 1411ه_.

117 ) محمّد الشبلي النعماني، علم كلام جديد (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية السيّد محمّد تقي فخر داعي الجيلاني، منشورات (سینا)، طهران، 1329ش.

118 ) (غلام رضا) محمّد حسن شریعت سنكلجي، توحيد عبادت يكتا پرستي (باللغة الفارسية).

119 ) أبو الحسن الشعراني، ترجمه وشرح فارسي كشف المراد (باللغة الفارسية) منشورات (اسلاميه)، طهران، 1398ه_.

120 ) مرضية شكنايي، بررسي تطبيقي اسماي الهي (باللغة الفارسية)، منشورات (سروش) طهران، 1381ش.

121 ) شيخ الإشراق، المطارحات، منشورات اتحاد الفلسفه في إيران)، طهران.

122 ) محمّد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمّي (الصدوق)، التوحيد منشورات اسلامي)، قم، 1398ه_.

123 ) السيّد رضا الصدر، سخنان سران کمونیزم درباره خدا (باللغة الفارسية)، منشورات (22 بهمن)، قم، 1401ه_.

ص: 531

124 ) صدر المتألّهين (الملا صدرا) اسرار ،الآيات، منشورات (حبيب)، قم، 1378ش.

125 ) صدر المتألّهين (الملا صدرا)، الأسفار الأربعة، منشورات (دار إحياء التراث العربي)، بيروت، 1419ه_.

126 ) صدر المتألّهين (الملا صدرا)، المبدأ والمعاد، منشورات (مكتب الإعلام الإسلامي)، قم، 1380ش.

127 ) أحمد صفائي، علم كلام (باللغة الفارسية)، منشورات (جامعة طهران)، طهران، 1374ش.

128 ) الخواجه نصير الدين الطوسى، كشف المراد، منشورات (مكتبة المصطفوي)، قم، تاريخ النشر غير محدّد.

129 ) الخواجه نصير الدين الطوسی، قواعد العقائد، منشورات (الإدارة العامّة للحوزة العلمية)، قم، 1416ه_.

130 ) الخواجه نصير الدين الطوسي، نقد المحصل، منشورات (جامعة طهران) و (ماك جيل)، طهران، 1352ش.

131 ) رؤوف عبيد، انسان روح است نه جسد (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية زين العابدين كاظمي خلخالي، منشورات (دنياي كتاب) طهران، 1362ش.

132 ) أميري عسكري سليماني، نقد برهان ناپذيري وجود خدا (باللغة الفارسية)، منشورات (مركز الدراسات والبحوث الإسلامية في مكتب الإعلام الإسلامي)، قم، 1380ش.

133 ) علم شناسي فلسفي (باللغة الفارسية)، ترجمة وإشراف عبد الكريم سروش، منشورات (مؤسّسة الدراسات والبحوث)، طهران، 1372ش.

134 ) علي بخش میرزا قاجار، میزان العمل، تصحيح السيّد جلال الدين محدّث، طهران، 1324ش.

135) عين القضاة الهمداني، زبدة الحقائق.

ص: 532

136 ) محسن غرویان، سیری در ادله اثبات وجود خدا (باللغة الفارسية)، منشورات (مكتب الإعلام الإسلامي)، قم، 1377ش.

137 ) محمّد الغزالي، تهافت الفلاسفة، منشورات (دار ومكتبة الهلال)، بيروت، 2002م.

138 ) الفاضل المقداد، إرشاد الطالبين، منشورات (مكتبة آية الله المرعشي النجفي)، قم، 1405ه_.

139 ) الفاضل المقداد، اللّوامع الإلهية، منشورات (مكتب الإعلام الإسلامي)، قم، 1380ش.

140 ) الفخر الرازي، المباحث المشرقية، منشورات (بیدار)، قم، 1411ه_.

141 ) الفخر الرازي، المطالب العالية، منشورات (رضي)، قم، 1407ه_.

142 ) سعد الدين الفرغاني، مشارق الدراري الزُّهر في كشف حقائق نَظم الدُّر (شرح تائية ابن الفارض)، منشورات (مكتب الإعلام الإسلامي)، قم، 1379ش.

143 ) محمّد علي فروغي، سیر حکمت در اروپا (باللغة الفارسية)، منشورات (زوار)، طهران، 1360ش.

144 ) إريك فروم، روانكاوي ودين باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية آرسن نظریان، منشورات (پویش)، طهران، 1363ش.

145 ) بيروز فطورتشي، مسأله آغاز از دیدگاه کیهان شناسي نوين (باللغة الفارسية)، منشورات (مركز الثقافة والفكر الإسلامي)، طهران، 1377ش.

146 ) فين براود فوت، تجربه ديني (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية عباس يزداني، منشورات (مؤسّسة طه)، قم، 1377ش.

147 ) بول فولكيه، فلسفه عمومي (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية يحيى مهدوي، منشورات (جامعة طهران)، طهران، 1370ش.

148 ) محمّد بن المرتضى بن محمود المعروف ب_ (الملا محسن الفيض الكاشاني)،

ص: 533

حقّ اليقين، منشورات (بیدار)، قم.

149 ) محمّد بن المرتضى بن محمود المعروف ب_ (الملا محسن الفيض الكاشاني)، الوافي في شرح أصول الكافي، منشورات (مكتبة الإمام أمير المؤمنين)، أصفهان، 1406ه_.

150 ) محمّد بن المرتضى بن محمود المعروف ب_ (الملا محسن الفيض الكاشاني)، علم اليقين، منشورات (بیدار)، قم، 1377ه_.

151 ) محمّد حسن قدردان قراملکی، اصل علّیت در فلسفه وکلام (باللغة الفارسية)، منشورات (مكتب الإعلام الإسلامی)، قم، 1375ش.

152 ) محمّد حسن قدردان قراملکی، خدا و مسأله شر (باللغة الفارسية)، منشورات (بوستان کتاب)، قم، 1380ش.

153 ) محمّد حسن قدردان قراملکی، سکولاریزم در مسیحیت و اسلام (باللغة الفارسية)، منشورات (مكتب الإعلام الإسلامي)، قم، 1378ش.

154 ) محمّد حسن قدردان قراملكي، كلام فلسفي (باللغة الفارسية)، منشورات (وثوق)، قم، 1383ش.

155 ) حیدر علی قلمداران، حكومت در اسلام (باللغة الفارسية)، منشورات (إسماعيليان)، طهران، 1385ش.

156 ) حیدر علی قلمداران، راه نجات از شر غلات (باللغة الفارسية). (كرّاسة دراسية)

157 ) داوود قیصري، رسائل قيصري (باللغة الفارسية)، منشورات (جمعية الحكمة والفلسفة)، طهران، 1357ش.

158 ) داوود قيصري، شرح فصوص الحكم باللغة الفارسية)، منشورات (أنوار الهدى)، طهران، 1416ه_.

159 ) فريدريك كوبلستون، تاريخ فلسفه (باللغة الفارسية)، الجزء الأوّل، ترجمه إلى الفارسية السيّد جلال الدين مجتبوي، منشورات (علمية ثقافية) و (سروش) طهران، 1375ش.

ص: 534

160 ) فريدريك كوبلستون، تاريخ فلسفه (باللغة الفارسية)، الجزء الخامس، ترجمه إلى الفارسية أمير جلال الدين أعلم، منشورات (علمية ثقافية) و (سروش)، طهران، 1370ش.

161 ) نجم الدين كاتبي، حكمة العين، منشوارت (جامعة فردوسي)، مشهد، 1353ش.

162 ) نجم الدين كاتبي، حكمة العين، (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية عباس صدري، منشورات (جامعة العلامة الطباطبائي)، طهران، 1375ش.

163 ) كارل ألكسيس، انسان موجود ناشناخته (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية برويز دبيري، منشورات (مكتبة تأييد)، أصفهان، 1348ه_.

164 ) إيمانوئيل كانط، سنجش خرد ناب (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية شمس الدين أديب سلطاني، منشورات (أمير كبير)، طهران، 1362ش.

165 ) الكتاب المقدّس، باهتمام الجماعة المعروفة ب_ (بريتش وفوران)، منشورات (الدار الوطنية)، لندن، 1932م.

166 ) محمّد بن يعقوب بن إسحاق الكليني، الكافي، منشورات (دار الكتب الإسلامية)، طهران، 1365ش.

167 ) موریس کونفورس، دانش رهایی و ارزش هاي انساني (باللغة الفارسية).

168 ) صاموئیل كينغ، جامعه شناسي (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية مشفق الهمداني منشورات (سیمرغ) طهران.

169 ) دون كوبيت درياي إيمان (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية حسن کامشاد، منشورات (طرح نو)، طهران، 1376ش.

170 ) الشيخ محمّد اللاهيجي، شرح گلشن راز (باللغة الفارسية)، منشورات (سعدي)، طهران، 1374ش.

ص: 535

171 ) عبد الرزاق اللاهيجي، شوارق الإلهام، طبعة قديمة، منشورات (مهدوي)، أصفان، تأريخ النشر غير محدّد.

172 ) عبد الرزاق اللاهيجي، گوهر مراد (باللغة الفارسية)، منشورات (وزارة الإرشاد)، طهران، 1372ش.

173 ) فلاديمير إليتش لينين، ماترياليسم تاريخي (باللغة الفارسية)، محلّ الطباعة وتأريخ النشر غير محدّدين.

174 ) جوستاف لوبون، تمدن اسلام وعرب (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية هاشم الحسيني، منشورات (اسلامية)، طهران.

175 ) محمّد المجتهد الشبسترى، هرمنوتيك كتاب وسنّت (باللغة الفارسية)، منشورات (طرح نو)، طهران، 1375ش.

176 ) محمّد باقر المجلسي، بحار الأنوار ، منشورات (دار الكتب الإسلامية)، طهران، تأريخ النشر غير محدّد.

177 ) عبد الحسين مشكاة الديني، تأثير ومبادي آن (باللغة الفارسية)، منشورات (جامعة مشهد)، 1347ش.

178 ) عبد الحسين مشكاة الديني، نظري به فلسفه صدر المتألّهين (باللغة الفارسية)، منشورات (آگاه) طهران 1361ش.

179 ) محمّد تقي مصباح اليزدي، آموزش عقايد (باللغة الفارسية)، منشورات (مركز الإعلام الإسلامي)، طهران، 1379ش.

180 ) محمّد تقي مصباح اليزدي، آموزش فلسفه (باللغة الفارسية)، منشورات (مركز الإعلام الإسلامي)، طهران، 1366ش.

181 ) محمّد تقي مصباح اليزدي، تعليقة على نهاية الحكمة، منشورات (مؤسّسة در راه حق)، 1405ه_.

182 ) محمّد تقي مصباح اليزدي، شرح نهاية الحكمة، الطبعتان الأولى والثانية، منشورات (مؤسّسة الإمام الخميني)، قم، 1376ش.

183 ) حسن المصطفوي، التحقيق في كلمات القرآن الكريم، منشورات (وزارة

ص: 536

الإرشاد)، طهران، 1416ه_.

184 ) مرتضى مطهّري، توحید (باللغة الفارسية)، منشورات (صدرا)، طهران، 1374ش.

185 ) مرتضی مطهّري، حرکت و زمان در فلسفه اسلامي (باللغة الفارسية)، منشورات (حکمت)، طهران، 1366ش.

186 ) مرتضى مطهّري، ده گفتار (باللغة الفارسية)، منشورات (صدرا)، طهران، 1361ش.

187 ) مرتضی مطهّري، علل گرایش به مادّیگري (باللغة الفارسية)، منشورات (صدرا)، طهران، 1378ش.

188 ) مرتضى مطهّري، فطرت (باللغة الفارسية)، منشورات (صدرا)، طهران، 1369ش.

189 ) مرتضى مطهّري، فلسفه اخلاق (باللغة الفارسية)، منشورات (صدرا)، طهران، 1366ش.

190 ) مرتضى مطهّري، مجموعه آثار (باللغة الفارسية)، الجزء السادس، منشورات (صدرا)، طهران، 1375ش.

191 ) مرتضى مطهّري، مجموعة آثار (باللغة الفارسية)، الجزء العاشر، منشورات (صدرا)، طهران، 1375ش.

192 ) مرتضى مطهّري، مسأله شناخت (باللغة الفارسية)، منشورات (صدرا)، طهران، 1377ش.

193 ) محمّد هادي معرفت، التمهيد في علوم القرآن، منشورات (الإدارة العامة للحوزة العلمية)، قم، 1368ش.

194 ) هوشنگ معین زاده، آن سوي شراب (باللغة الفارسية)، منشورات (آذرخش)، ألمانيا، 1377ش.

195 ) ناصر مكارم الشيرازي، آفریدگار جهان (باللغة الفارسية)، منشورات

ص: 537

(مدرسة الإمام عليّ علیه السّلام)، قم، 1379ش.

196 ) ناصر مكارم الشيرازي، پیام قرآن (باللغة الفارسية)، منشورات (مدرسة الإمام عليّ علیه السّلام)، قم، 1375ش.

197 ) برایان ماجي، مردان اندیشه - گفتگوي مگي با آير (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية عزّت الله فولادوند، منشورات (طرح نو)، طهران، 1374ش.

198 ) مصطفى ملکیان، براهين اثبات خدا (باللغة الفارسية)، منشورات (مؤسسة الإمام الصادق علیه السّلام)، (غير مطبوع)، طهران.

199 ) مصطفی ملکیان، مسایل جديد كلام (باللغة الفارسية)، منشورات (مؤسسة الإمام الصادق علیه السّلام)، (غير مطبوع)، قم.

200 ) كريسي موريسون، راز آفرینش (باللغة الفارسية)، منشورات (دار النشر والتعليم للثورة الإسلامية)، طهران، 1365ش.

201 ) روح الله الموسوي الخميني، چهل حدیث (باللغة الفارسية)، منشورات (مؤسسة تنظيم و نشر آثار الإمام الخميني)، طهران، 1371ش.

202 ) روح الله الموسوي الخميني، صحيفه نور (باللغة الفارسية)، منشورات (وزارة الإرشاد)، طهران، 1365ش.

203 ) جلال الدين مولوي، مثنوي معنوي (باللغة الفارسية)، منشورات (أمير كبير) 1362ش.

204 ) المحقّق الميرداماد، القبسات، منشورات (جامعة طهران)، 1374ش.

205 ) حسين نوري الهمدانيف جهان آفرینش (باللغة الفارسية)، منشورات (برهان).

206 ) جين ويهل، بحثي در ما بعد الطبيعة (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية يحيى مهدوي، منشورات (خوارزمي)، طهران، 1370ش.

207 ) ماکس فیبر، اخلاق پرتستان و روح سرمایه داري (باللغة الفارسية)،

ص: 538

ترجمه إلى الفارسية عبد المعبود الأنصاري، منشورات (سمت)، طهران، 1371ش.

208 ) ريتشارد ويستفال، تكوين علم جديد (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية عبد الحسين آذرنك ورضا رضائي، منشورات (طرح نو)، طهران، 1379ش.

209 ) هنري وولفسين، فلسفه علم كلام باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية أحمد آرام، منشورات (الهدى)، طهران، 1368ش.

210 ) لودفيج فيتجنشتاین، رساله منطقي - فلسفي (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية مير شمس الدين أديب سلطان، منشورات (أمير كبير)، طهران، 1371ش.

211 ) ولیم هدسون، لودویگ ویتگنشتاین (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية مصطفى ملکیان، منشورات (گدّوس)، طهران، 1378ش.

212 ) جون هَروود هيك، فلسفه دين (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية (مركز الدراسات الإسلامية التابع لمركز الإعلام الإسلامي)، قم.

213 ) لويس وليم هنري هول، تاریخ و فلسفه علم (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية عبد الحسين ،آذرنك منشورات (سروش)، طهران، 1369ش.

214 ) فيرنر هايزنبيرج، جزء وكل باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية حسين معصومي الهمداني، منشورات (دار النشر الجامعي)، طهران، 1368ش.

215 ) فيرنر هايزنبيرج، فيزيك وفلسفه (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية محمود خاتمي، منشورات (علمي)، طهران، 1370ش.

216 ) وليام هوردن، راهنماي الهيات پروتستان باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية طه. وس. ميکائیلیان، منشورات (علمية ثقافية)، طهران،

ص: 539

1368ش.

217 ) ديفيد هيوم، تاريخ طبيعي دين (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية حمید عنایت، منشورات (خوارزمي)، طهران، 1360ش.

218 ) يوستوس هورنتاك، نظریه معرفت در فلسفه کانت (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية غلام علي حدّاد عادل، منشورات فکر روز، طهران، 1378ش.

219 ) يوك ریدرز دایجست، جهان عجایب (باللغة الفارسية)، ترجمته إلى الفارسية أرغوان و آخرون، منشورات (جويا)، طهران، 1374ش.

220 ) يونج کارل جوستاف، روانشناسي ودين (باللغة الفارسية)، ترجمه إلى الفارسية فؤاد روحاني، منشورات (الشركة المساهمة للكتب الجيبية)، طهران، 1354ش.

المقالات:

1 ) كارل ريموند بوبر، مجلّة (ذهن)، العلم والفرضية (علم) وفرضيه)، ربيع عام 1379ش، العدد الأوّل.

2 ) بهاء الدين خرّمشاهي، مجلّة (بينات)، القرآن واللاهوت العالمي (قرآن والهيات جهاني)، خريف عام 1376ش، العدد 17

3 ) هادي صادقي، مجلّة (معرفت)، الفلسفة الوضعية المنطقية (اثبات گرايي منطقي)، شتاء عام 1375ش، العدد 19.

4 ) السيّد عليّ علم الهدى و أحد فرامرز قراملكي، مجلّة (نامه حكمت)، قابلية المفاهيم الأزلية الضرورية للبرهنة (برهان پذيري گزاره هاي ضروري ازلي)، شتاء عام 1382ش، العدد 2 .

5 ) أبو القاسم فنائي، مجلّة (نقد ونظر)، إله العرفان وإله الفلسفة (خداي عرفان وخداي فلسفه)، شتاء وربيع عامي 1378 و 1379ش، العددان 21 و 22.

ص: 540

6 ) محمّد حسن قدردان قراملكي، مجلّة (قبسات)، فائدة الدين العملية للفرد والمجتمع (کارکرد دین در جامعه و فرد)، صيف عام 1382ش، العدد 28.

7 ) أحمد نراقيۀ مجلّة (كيان)، مطهّري ونظرية الفطرة (مطهّري ونظريه فطرت)، العدد 12.

***

ص: 541

ص: 542

فهرس الكتاب

مقدمة المركز ... 5

مقدمة ... 7

الفَصْل الأوَّل

مباحث عامة

أوّلاً : أهمّية علم اللاهوت ... 13

1 ) الاستجابة لغريزة حبّ الاستطلاع ... 13

2 ) وجوب شكر النِّعمة ... 14

3 ) ضرورة درء المخاطر المحتملة ... 15

ثانياً : إمكانية معرفة الله تعالى ... 16

ثالثاً: عدم الحاجة إلى إقامة البرهان لإثبات وجود الله تعالى ... 21

رابعاً: إمكانية إثبات وجود الله تعالى ... 22

1) وجوده ثابتٌ عقلاً ... 22

2 ) إمكانية إثباته ... 22

3 ) عدم إمكانية إثباته ... 23

4 ) إثبات عدم وجوده ... 24

ص: 543

خامساً : لمحة عن براهين علم اللاهوت ... 25

1 ) المعرفة (العلم الحضوري) ... 25

2 ) العلم السابق واللاحق ... 26

3) العلّة والمعلول (البرهانان اللمّي والإنّي) ... 26

4 ) المسلك والسالك والهدف ... 28

5 ) المسلك ... 29

6 ) التقسيم المتعارف في الفلسفة الغربية ...29

سادساً : المدارس الفكرية التي تسعى لإثبات وجود الله تعالى ... 29

1 ) المدرسة العقلية ... 30

2 ) المدرسة الظواهرية ... 31

3 ) المدرسة المادّية الطبيعية المعاصرة ... 32

4 ) مدرسة الشهود والعرفان ... 36

سابعاً : البراهين التي أقامها معارضو البراهين الفلسفية في علم اللاهوت ... 39

1 ) إمكانية طروء الخطأ على المعرفة العقلية ... 39

2 ) عدم نجاعة البرهان الفلسفي لإثبات وجود الإله ... 42

3 ) الدليل الروائي ... 43

تحليل الموضوع ... 44

الفَصْلُ الثَّاني

براهين علم اللاهوت ونقض شبهات المشكّكين

• البرهان الأوّل: الإمكان والوجوب ... 49

ص: 544

أولاً : الدَّور ... 50

ثانياً : التسلسل ... 51

ثالثاً: واجب الوجود ... 52

شبهاتٌ وردودٌ ... 58

* الشبهة الأولى : نفي وجود المجرّدات (النزعة المادّية) ... 58

* الشبهة الثانية: نفى العلّية ... 68

* الشبهة الثالثة: اختصاص العلّية بعالم الطبيعة ... 73

* الشبهة الرابعة: جواز تفسير الإمكان بعللٍ مادّيةٍ ... 74

* الشبهة الخامسة: مغالطة نسبة الجزء إلى الكلّ ... 80

* الشبهة السادسة : المصادرة على المطلوب ... 85

* الشبهة السابعة : افتقار الله تعالى إلى علّةٍ ... 87

* الشبهة الثامنة : عدم إمكانية مشاهدة الله تعالى (أين هو)؟ ... 90

* الشبهة التاسعة : عجز الفلسفة عن إثبات إله الأديان ... 94

• البرهان الثاني : برهان الصِّدّيقين ... 101

أوّلاً: تقرير ابن سينا ... 103

ثانياً: تقرير صدر المتألهين ... 106

ثالثاً : تقرير الملا هادي السبزواري ... 106

رابعاً: تقرير العلامة الطباطبائي ... 109

شبهاتٌ حول برهان الصدّيقين : ... 112

* الشبهة الأولى : لا يمكن إقامة برهان الصدّيقين لإثبات وجود الله ... 112

* الشبهة الثانية : عدم إمكانية إقامة البرهان اللمّي لإثبات وجود الله تعالى ... 117

* الشبهة الثالثة: دلالة البرهان شبه اللمّي تعود إلى دلالة البرهان الإنّي ... 125

•البرهان الثالث : برهان الحدوث ... 130

ص: 545

- الحدوث والقدم والدهر والسرمدية ... 130

- الحدوث الزماني ... 131

- الحدوث الذاتي ... 132

- القديم الزماني (القديم الذاتي ) ... 132

- تقرير برهان الحدوث ... 134

شبهاتٌ وردودٌ ... 139

* الشبهة الأولى: الفلاسفة ينكرون حدوث العالم ... 139

* الشبهة الثانية : قِدم عالم المادّة طبق قانون الكيميائي أنطوان لافوازيه ... 146

* الشبهة الثالثة: المادّة واجبة الوجود ... 151

* الشبهة الرابعة : عدم إمكانية خلقة الشيء من العدم ...153

• البرهان الرابع: برهان الحركة ... 164

1 ) ماهية الحركة ... 164

2 ) الحركة تفتقر إلى محرّكٍ ... 167

3 ) التزامن بين العلّة والمعلول ... 168

4 ) افتقار الحركة إلى فاعلٍ واستحالة التسلسل ... 169

شبهاتٌ وردودٌ ... 172

* الشبهة الأولى : إنكار الحركة من أساسها ... 172

* الشبهة الثانية : عدم افتقار الحركة إلى محرّكٍ ... 173

* الشبهة الثالثة : عدم استحالة تسلسل العلل المحرّكة ... 185

الشبهة الرابعة : كيفية صدور الحركة من المحرّك المجرّد ... 188

الشبهة الخامسة : عدم الحاجة إلى البحث عن محرّكٍ مجرّدٍ ... 190

•البرهان الخامس: برهان النَّظم ... 191

1 ) النَّظم الهادف ... 193

ص: 546

2 ) النَّظم الاستحساني والجمالي ... 194

3 ) النَّظم العلّي والمعلولي ... 194

- أقسام النَّظم الهادف ... 195

- الانسجام السداسي بين الإنسان والكون ... 199

- القيمة المعرفية لبرهان النَّظم ... 203

شبهاتٌ وردودٌ

* الشبهة الأولى : الغموض في تعريف النَّظم وعدم اتّضاح الغاية منه ... 210

* الشبهة الثانية: النَّظم أمرٌ نسبيٌّ وذهنيٌّ ... 212

* الشبهة الثالثة: حساب الاحتمالات ... 216

* الشبهة الرابعة: العقل لا يحكم بضرورة افتقار النَّظم إلى ناظمٍ ... 222

* الشبهة الخامسة: مقارنة النَّظم الكوني مع النَّظم الذي... ... 225

* الشبهة السادسة: النَّظم معلولٌ للطبيعة ... 227

* الشبهة السابعة: النَّظم معلولٌ للصدفة ... 230

* الشبهة الثامنة: النَّظم معلولٌ للمصالح البشرية ... 236

* الشبهة التاسعة: نسبة النَّظم إلى ناظمٍ ذي جوهرٍ مجرّدٍ ... 237

* الشبهة العاشرة: إمكانية تحقّق النَّظم حتّى مع تعدّد الناظم ... 238

* الشبهة الحادية عشرة: حاجة إله الأديان إلى ناظمٍ ... 239

* الشبهة الثانية عشرة: عدم انسجام بساطة الله تعالى مع الفعل الشعوري ... 239

* الشبهة الثالثة عشرة: المادّة وجودٌ بسيطٌ، وهي التي نظمت الكون ... 241

* الشبهة الرابعة عشرة: عدم انسجام النظم مع الشر الموجود في الحياة . 242

الشبهة الخامسة عشرة : الشرّ الموجود في الكون ... 244

•البرهان السادس: برهان الفطرة ... 244

- الفطرة في البحوث الدينية ... 246

ص: 547

- المعرفة الفطرية بالله تعالى ... 248

- هل فطرة القلب إدراكٌ معرفيٌّ أو لا؟ ... 256

- ما هو الأصل في معرفة الله تعالى، العلم الحضوري أو الحصولي؟ ... 259

- معايير المعرفة الفطرية بالله تعالى ... 263

- الأدلّة التي تثبت المعرفة الفطرية بالله تعالى ... 265

* الدليل الأوّل: الفطرة أمرٌ وجدانيٌّ وشاملٌ ... 265

شبهاتٌ وردودٌ

* الشبهة الأولى : عدم وجود معيارٍ محدّدٍ لفطرية ذات الإنسان ... 267

* الشبهة الثانية : جواز ادّعاء خلاف ما ذكر في الدليل ... 268

* الشبهة الثالثة: الفطرة شأنٌ شخصيٌّ وليست لها قيمةٌ معرفيةٌ ... 270

* الشبهة الرابعة: المعرفة الفطرية بالله تعالى ليست أمراً شاملاً للجميع ... 273

* الشبهة الخامسة: الغموض في طبيعة الاستعداد الفطري ... 276

* الشبهة السادسة: الفطرة تنشأ من التصديق العامّ ... 280

* الشبهة السابعة : عدم ضرورة تلازم الفطرة مع الصدق ... 281

* الدليل الثاني: ضرورة وجود متعلّقٍ خارجيٍّ للرغبات الباطنية ... 282

شبهاتٌ وردودٌ:

* الشبهة الأولى : اللجوء إلى القياس والتمثيل لإثبات المدّعى ... 285

* الشبهة الثانية: التشكيك في عمومية الشعور بمحبّة الله تعالى ورجائه ... 288

* الشبهة الثالثة: تصوّر المحبوب الغيبي أمرٌ ذهنيٌّ بحتٌ ... 289

* الشبهة الرابعة : النزعات الباطنية ليست من سنخ القضايا الفطرية ... 290

* الدليل الثالث : شمولية الاعتقاد بالله تعالى وانحسار نطاق الشكّ به ... 291

- دراسةٌ تحليلةٌ حول الدليل الثالث ... 294

* الدليل الرابع : تفنيد نظرية الخصم ... 295

ص: 548

الدليل الخامس : النتائج التي توصّل إليها علم النفس ... 297

- حصيلة الكلام حول برهان الفطرة ... 302

• البرهان السابع: حكم العقل بضرورة دفع الخطر المحتمل ... 303

شبهاتٌ وردودٌ ... 305

* الشبهة الأولى : عدم وجود علمٍ قطعيٍّ بما سيجري في عالم الآخر ... 305

* الشبهة الثانية: دفع الخطر المحتمل بخطرٍ قطعيٍّ ... 307

* الشبهة الثالثة تكافؤ الكفّار والمتديّنين فى مواجهة مخاطر الحياة الأخروية ... 309

الفَصْلُ الثَّالِث

شبهات الملحدين في بوتقة النقد والتحليل

* الشبهة الأولى : اقتصار الوجود على المادّيات فقط ... 313

* الشبهة الثانية : إثبات الوجود وتحقّق المعرفة اعتماداً على الحسّ ... 314

* الشبهة الثالثة : المفاهيم غير المحسوسة ليست ذات قيمةٍ معرفيةٍ ... 318

* الشبهة الرابعة : عدم اكتمال المعرفة البشرية ... 324

* الشبهة الخامسة : عدم وجود محمولٍ في قضية (الله موجودٌ) ... 328

* الشبهة السادسة : الله ليس موجوداً بالضرورة ... 332

* الشبهة السابعة : عدم الانسجام بين صفات الله تعالى ... 338

* الشبهة الثامنة : وجود الله تعالى وهمٌ أساسه دوافع فردية واجتماعية ... 344

* الشبهة التاسعة : عدم الحاجة إلى الله تعالى في معرفة حقائق الكون ... 359

* الشبهة العاشرة : عدم توفّر براهين كافية تثبت مصداقية علم اللاهوت ... 368

ص: 549

الفَصْلُ الرَّابِع

شبهاتٌ وردودٌ حول التوحيد

المبحث الأوّل

التوحيد وأقسامه

1 ) التوحيد في الذات ... 373

2 ) التوحيد في الصفات ... 374

3 ) التوحيد في الأفعال ... 375

4 ) التوحيد في العبادة ... 378

- سائر أقسام التوحيد ... 378

1 ) التوحيد في الحاكمية ... 379

2 ) التوحيد في التشريع ... 379

3 ) التوحيد في الطاعة ... 379

4 ) التوحيد في الشفاعة والمغفرة ... 380

المبحث الثاني

لمحة عن أدلة التوحيد

1 ) صُرف الوجود ... 381

2 ) تعدّد الشيء وعلّة محدوديته وحاجته ... 382

3 ) الفطرة ... 383

4 ) النَّظم ... 383

- تقريرٌ آخر لبرهان النَّظم: برهان التمانع ... 384

ص: 550

المبحث الثالث

نقد شبهات منكري التوحيد

* الشبهة الأولى : عدم دلالة محدودية الشيء على افتقاره ... 386

* الشبهة الثانية : لا منافاة بين الافتقار وواجب الوجود ... 391

* الشبهة الثالثة : لا منافاة بين تعدّد الآلهة وتحقق النَّظم ... 392

* الشبهة الرابعة : إله الخير والشرّ ... 399

* الشبهة الخامسة : قاعدة الواحد لا تنسجم مع التوحيد في الأفعال ... 402

* الشبهة السادسة: نظام العلّية يتعارض مع عقيدة التوحيد ... 405

* الشبهة السابعة: القول بكون الإنسان مخيّراً يتعارض مع عقيدة التوحيد ... 408

* الشبهة الثامنة : التوسّل والشفاعة يتعارضان مع التوحيد ... 409

* الشبهة التاسعة: السجود لآدم يتعارض مع التوحيد في العبادة ... 412

* الشبهة العاشرة: عقيدة التوحيد سببٌ للخلافات والنزاعات ... 413

الشبهة الحادية عشرة: عدم وجود أدلّةٍ تثبت صحّة عقيدة التوحيد ... 418

الفَصْلُ الخَامِس

شبهاتٌ وردودٌ حول صفات الله تعالى

- الإسم والصفة ... 423

- اسم الله الحقيقيّ ... 424

- الصفات الثبوتية والسلبية ... 426

- الصفات الذاتية والفعلية ... 428

آراء العلماء حول إمكانية معرفة صفات الله تعالى ... 429

ص: 551

شبهاتٌ وردودٌ ... 431

* الشبهة الأولى : صفات الله تعالى أوهام التي تكتنف ذهن الإنسان الضعيف ... 432

* الشبهة الثانية : صفات الله تعالى الانفعالية والعرضية ... 432

* الشبهة الثالثة : نسبة بعض الصفات السلبية إلى الله تعالى ... 443

* الشبهة الرابعة : الصفات الثبوتية الجسمانية ... 456

* الشبهة الخامسة : التناقض بين بعض الصفات الإلهية ... 480

أوّلاً: عدم التناسق بين صفتي الرحمة والعذاب ... 480

ثانياً: الهَدي والإضلال ... 482

ثالثاً: علم الله المطلق واختيار الإنسان ... 487

رابعاً: علم الله المطلق وابتلاء العباد ... 489

خامساً: علم الله المطلق ونسخ بعض الآيات القرآنية ... 496

سادساً : قدرة الله المطلقة وطلب العون من العباد ... 500

سابعاً: قدرة الله المطلقة واستحالة بعض الأمور ... 504

ثامناً: قدرة الله المطلقة ورواج الكوارث والشرّ في العالم ... 507

* الشبهة السادسة: تباين صفات الله تعالى في تعاليم مختلف الأديان ... 511

مصادر الكتاب ... 521

فهرس الكتاب ... 543

***

ص: 552

يتضمن الكتاب بين دفّتيه المبحث الأوّل من سلسلة البحوث الخمسة التي تتمحور مواضيعها حول تحليل الشبهات الكلامية ونقدها ، إذ تمّ تسليط الضوء فيه على عددٍ من الشبهات العقائدية المطروحة حول علم اللاهوت منذ باكورة ظهور الأديان ورواج عقيدة الإيمان بالله تعالى إلى عصرنا الراهن تناولها المؤلّف بالبحث والتحليل في نمطيها التقليدي والحديث.

لقد احتدمت ضراوة الشبهات حول الدين واللاهوت في يومنا هذا إثر التطوّر المشهود على صعيد وسائل الإعلام العامة، ولا سيما الشبكة الإلكترونية العالمية التي أصبحت ذات أذرعٍ عنكبوتيةٍ تبسط نفوذها في كلّ مكانٍ من دون توقّفٍ...

www.iicss.iq

islamic.css@gmail.com

رقم الإصدار (16)

ص: 553

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.