فِقْهُ نَهْجُ البَلاغة عَلَی المَذاهِبِ السَّبعَةِ المجلد 11

هوية الکتاب

فقه نهج البلاغة على المذاهب السبعة الامامي - الزيدي - الحنفي - المالكي - الشافعي - الحنبلي - الأباضي وبيان القواعد الفقهية والمعارف الاخلاقية وشروح الاحاديث

رقم الإيداع في دارالكتب والوثائق العراقية ببغداد 3592 لسنة 2019 م مصدر الفهرسة: IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda رقم تصنيف BP193.1.A2 H3 2020 : LC المؤلف الشخصي: الحسني، نبيل، 1384 للهجرة - مؤلف.

عنوان: فقه نهج البلاغة على المذاهب السبعة: الامامي - الزيدي - الحنفي - المالكي - الشافعي - الحنبلي - الأباضي وبيان القواعد الفقهية والمعارف الاخلاقية وشروح الاحاديث: دراسة بينية / بيان المسؤولية: تأليف السيد نبيل الحسني الكربلائي.

بيانات الطبع: الطبعة الاولى. بيانات النشر: كربلاء، العراق: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة 2020 / 1441 للهجرة. الوصف المادي: 12 مجلد؛ 24 سم. سلسلة النشر: (العتبة الحسينية المقدسة؛ 697).

سلسلة النشر: (مؤسسة علوم نهج البلاغة؛ 176) سلسلة النشر: (سلسلة الدراسات والبحوث العلمية، وحدة الدراسات الفقهية: 18).

تبصرة ببليوجرافية: يتضمن ارجاعات ببليوجرافية. تبصرة محتويات: الجزء 1: اثر المدرسة الامامية في نشوء الفقه وتطوره - الجزء 2: نشوء المذاهب الفقهية وتطورها - الجزء 3: مقدمة العبادات - الجزء 4: الطهارات - الجزء 5: الصلاة - الجزء 6: الزكاة - الجزء 7: الصيام والحج والامر بالمعروف والنهي عن المنكر - الجزء 8: الجهاد - الجزء 9: التجارة والشركة - الجزء 10: الوقف والقصاص - الجزء 11: القضاء والشهادات - الجزء 12: الفهارس.

موضوع شخصي: علي بن أبي طالب (عليه السلام) الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 - للهجرة - حديث.

موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359-406 للهجرة - نهج البلاغة. مصطلح موضوعي: الفقه الاسلامي - مذاهب.

مصطلح موضوعي: المذاهب الدينية - تاريخ. مصطلح موضوعي: العبادات (فقه اسلامي). مصطلح موضوعي: المعاملات (فقه اسلامي).

اسم شخص اضاف: شرح ل (عمل): الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359-406 للهجرة - نهج البلاغة. اسم هيئة اضاف: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة. جهة مصدرة.

تمت الفهرسة قبل النشر في مكتبة العتبة الحسينية

ص: 1

اشارة

رقم الإيداع في دارالكتب والوثائق العراقية ببغداد 3592 لسنة 2019 م مصدر الفهرسة: IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda رقم تصنيف BP193.1.A2 H3 2020 : LC المؤلف الشخصي: الحسني، نبيل، 1384 للهجرة - مؤلف.

عنوان: فقه نهج البلاغة على المذاهب السبعة: الامامي - الزيدي - الحنفي - المالكي - الشافعي - الحنبلي - الأباضي وبيان القواعد الفقهية والمعارف الاخلاقية وشروح الاحاديث: دراسة بينية / بيان المسؤولية: تأليف السيد نبيل الحسني الكربلائي.

بيانات الطبع: الطبعة الاولى. بيانات النشر: كربلاء، العراق: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة 2020 / 1441 للهجرة. الوصف المادي: 12 مجلد؛ 24 سم. سلسلة النشر: (العتبة الحسينية المقدسة؛ 697).

سلسلة النشر: (مؤسسة علوم نهج البلاغة؛ 176) سلسلة النشر: (سلسلة الدراسات والبحوث العلمية، وحدة الدراسات الفقهية: 18).

تبصرة ببليوجرافية: يتضمن ارجاعات ببليوجرافية. تبصرة محتويات: الجزء 1: اثر المدرسة الامامية في نشوء الفقه وتطوره - الجزء 2: نشوء المذاهب الفقهية وتطورها - الجزء 3: مقدمة العبادات - الجزء 4: الطهارات - الجزء 5: الصلاة - الجزء 6: الزكاة - الجزء 7: الصيام والحج والامر بالمعروف والنهي عن المنكر - الجزء 8: الجهاد - الجزء 9: التجارة والشركة - الجزء 10: الوقف والقصاص - الجزء 11: القضاء والشهادات - الجزء 12: الفهارس.

موضوع شخصي: علي بن أبي طالب (عليه السلام) الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 - للهجرة - حديث.

موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359-406 للهجرة - نهج البلاغة. مصطلح موضوعي: الفقه الاسلامي - مذاهب.

مصطلح موضوعي: المذاهب الدينية - تاريخ. مصطلح موضوعي: العبادات (فقه اسلامي). مصطلح موضوعي: المعاملات (فقه اسلامي).

اسم شخص اضاف: شرح ل (عمل): الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359-406 للهجرة - نهج البلاغة. اسم هيئة اضاف: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة. جهة مصدرة.

تمت الفهرسة قبل النشر في مكتبة العتبة الحسينية

ص: 2

سلسلة الدراسات والبحوث العلمية (18) وحدة الدراسات الفقهية

فقه نهج البلاغة على المذاهب السبعة الامامي - الزيدي - الحنفي - المالكي - الشافعي - الحنبلي - الأباضي وبيان القواعد الفقهية والمعارف الاخلاقية وشروح الاحاديث دراسة بينية الجزء الحادي عشر القضاء والشهادات تأليف السيد نبيل الحسني الكربلائي إصدار مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة (176)

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة للعتبة الحسينية المقدسة علي الحسين وعلى الطبعة الأولى 1441 ه / 2020 م العراق: كربلاء المقدسة - العتبة الحسينية المقدسة مؤسسة علوم نهج البلاغة www.inahj.org Email: inahj.org@gmail.com موبايل: 07815016633 - 07728243600

ص: 4

الباب التاسع «كتاب القضاء والشهادات»

اشارة

ص: 5

ص: 6

* يتضمن الباب كتاب القضاء

الفصل الأول: معنى القضاء وآداب القاضي

• المبحث الأول: معنى القضاء في اللغة واصطلاح المتشرعة.

* المسألة الأولى: القضاء لغة.

* المسألة الثانية: معنى القضاء في اصطلاح المتشرعة.

• المبحث الثاني: آداب القاضي وصفاته في المذاهب الإسلامية.

* المسألة الأولى: أقوال فقهاء المذهب الامامي.

* المسألة الثانية: آداب القاضي في المذاهب الاخرى.

المسألة الثالثة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة.

* المسألة الرابعة: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة.

الفصل الثاني: بذل الهدية إلى القاضي والمفتي والوالي.

• المبحث الأول: حكم بذل الهدية للقاضي والمفتي وقبولها في المذاهب الإسلامية السبعة.

* المسألة الأولى: بذل الهدية إلى القضاة في المذهب الامامي.

* المسألة الثانية: بذل الهدية للقضاة في المذاهب الاخرى.

* المسألة الثالثة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة.

• المبحث الثاني: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة.

* المسألة الأولى: أبن ميثم البحراني (رحمه الله) (ت 679 ه).

* المسألة الثانية: ابن أبي الحديد المعتزلي (ت 656 ه).

كتاب الشهادات الفصل الأول: تغليظ اليمين

• المبحث الأول: أقوال فقهاء المذاهب السبعة في تغليظ اليمين.

* المسألة الاولى: تغليظ اليمين في المذهب الإمامي.

* المسألة الثانية: تغليظ اليمين في المذاهب الأخرى.

ص: 7

* المسألة الثالثة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة.

• المبحث الثاني:ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة.

* المسألة الاولى: ما أورده ابن ميثم البحراني.

* المسألة الثانية: ما اورده ابن ابي الحديد.

• المبحث الثالث: قواعد فقهية.

* المسألة الأولى: قاعدة معاني اليمين وفوائدها.

* المسألة الثانية: (لا يحكم بالنكول على الاقوى إلا في عشرة مواضع).

* المسألة الثالثة: قاعدة: (اليمين إما على النفي، وأما على الاثبات).

الفصل الثاني:شهادة النساء

• المبحث الأول: حكم شهادة النساء في المذاهب الإسلامية.

* المسألة الاولى: حكم شهادة النساء في المذهب الإمامي.

* المسألة الثانية: حكم شهادة النساء في المذاهب الأخرى.

• المبحث الثاني: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة.

* المسألة الاولى: تقسيم الشهادات إلى حق الله وحق الآدمي ومواضع شهادة النساء من ذلك.

* المسألة الثانية: حكم شهادة النساء في حق الله وهو الحدود.

* المسألة الثالثة: في جواز شهادة النساء منظمات إلى الرجال.

* المسألة الرابعة: في جواز شهادة النساء منفردات عن الرجال.

* المسألة الخامسة: مواضع ثبوت شهادة المرأة في الحقوق الآدمية.

* المسألة السادسة: في ثبوت شهادة المرأة الواحدة.

• المبحث الثالث: قواعد فقهية.

* المسألة الأولى: قاعدة حجية البينة.

* المسألة الثانية: قاعدة: (الوصية حق على كل مسلم) والبحث في: (ثبوت الوصية بالمال بشهادة العدل الواحد مع اليمين).

ص: 8

توطئة

اشتمل الباب التاسع على كتابين، الأول: القضاء، ويتفرع إلى فصلين.

والكتاب الثاني: الشهادات ويتفرع إلى فصلين أيضا.

وسنتناول إن شاء الله تعالى في كتاب القضاء في الفصل الاول (معنى القضاء وآداب القاضي) ويتفرع إلى مبحثين، وهي: (معنى القضاء في اللغة واصطلاح المتشرعة) والمبحث الثاني: (آداب القاضي وصفاته في المذاهب الإسلامية) والفصل الثاني: (بذل الهدية إلى القاضي والمفتي والوالي) المبحث الأول: (حكم بذل الهدية للقاضي والمفتي وقبولها في المذاهب الإسلامية السبعة) المبحث الثاني: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة.

أما بقية المسائل المرتبطة بهذا الفصل كحكم القاضي بعمله، والرأي، والقياس، وتقليد غير المعصوم (عليه السلام)، وغيرها، فلم يتفق ورودها في المذاهب السبعة.

ومن ثم: فقد تم تركها رعاية لمنهج البحث الذي أعتمد في الكتاب، وهو دراسة المسألة الواحدة في المذاهب السبعة وذلك لورد بعضها في المذهب الإمامي فقط، وبعضها في مذهبين.

وعليه:

فقد تم ايراد هذه المباحث الثلاثة فقط؛ ولكن قبل الخوض في بيان آداب القاضي وصفاته، نورد أولا معنى القضاء في اللغة والاصطلاح وعند المتشرعة، أهو واجب كفائي أم عيني.

ص: 9

ص: 10

الفصل الأول : معنى القضاء وآداب القاضي

اشارة

ص: 11

ص: 12

المبحث الأول معنى القضاء في اللغة واصطلاح المتشرعة

المسألة الأولى: القضاء لغة.

يُرجع علماء اللغة معنى القضاء إلى (الحُكم، وأَصله قَضايٌ لأَنه من قَضَيت، إِلا أَنَّ الياء لما جاءت بعد الأَلف همزت؛ قال ابن بري: صوابه بعد الأَلف الزائدة طرفاً همزت، والجمع الأَقضِيةُ، والقَضِيَّةُ مثله، والجمع القَضايا على فَعالَي وأَصله فَعائل.

وقَضَى عليه يَقضي قَضاء وقَضِيَّةً، الأَخيرة مصدر کالأُولى، والاسم القَضِيَّة فقط؛ قال أَبو بكر: قال أَهل الحجاز القاضي معناه في اللغة القاطع للأُمور المُحِكم لها.

واستُقضِي فلان أَي جُعِل قاضِياً يحكم بين الناس.

وقَضَّى الأَميرُ قاضِياً: كما تقول أَمرَ أَميراً.

وتقول: قَضى بينهم قَضِيَّة وقَضايا.

والقَضايا: الأَحكام، واحدتها قَضِيَّةٌ.

وفي صلح الحُدَيبِيةِ: هذا ما قاضى عليه محمد، هو فاعَلَ من القَضاء الفَضلِ والحُكم لأَنه كان بينه وبين أَهل مكة، وقد تكرر في الحديث ذکر القَضاء، وأَصله القَطع والفصل.

ص: 13

يقال: قَضَى يَقضِي قَضاء فهو قاضٍ إِذا حَکَم وفَصَلَ.

وقَضاء الشيء: إِحكامُه وإِمضاؤُه والفراغ منه فيكون بمعنى الخَلق.

وقال الزهري: القضاء في اللغة على وجوه مرجعها إِلى انقطاع الشيء وتمامه.

وكلُّ ما أُحکِم عمله أَو أُتِمَّ أَو خُتِمَ أَو أُدِّيَ أَداء أَو أُوجِبَ أَو أُعلِمَ أَو أُنفِذَ أَو أُمضِىَ فقد قُضِىَ)(1).

المسألة الثانية: معنى القضاء في اصطلاح للمتشرعة.

مثلما ارتکز مفهوم القضاء ومعناه في اللغة على (الحكم) كذلك هو في اصطلاح المتشرعة فمرکوز معنى الكلمة ومفهومها هو الحكم، وإن اختلف في مجالاته عن فتوى الفقيه - کما سیمر - وهذا الحكم يدار مداره في الخصومة بين أثنين أو اكثر.

وعليه فقد عرفه الفقهاء بما يلي:

1- المذهب الامامي.

قال السيد الخوئي (عليه الرحمة والرضوان) (ت 1413 ه) في تعريف القضاء:

(هو فصل الخصومة بين المتخاصمين، والحكم بثبوت دعوى المدّعي أو بعدم حق له على المدّعى عليه.

والفرق بينه وبين الفتوى: أنَّ الفتوى عبارة عن بيان الأحكام الكلية من دون نظر إلى تطبيقها على مواردها، وهي - أي الفتوى - لا تكون حجة إلاّ على

ص: 14


1- لسان العرب لابن منظور: ج 15 ص 186

من يجب عليه تقليد المفتي بها، والعبرة في التطبيق إنّما هي بنظره دون نظر المفتي.

وأما القضاء: فهو الحكم بالقضايا الشخصيّة التي هي مورد الترافع والتشاجر، فيحكم القاضي بان المال الفلاني لزيد، أو أن المرأة الفلانية زوجة فلان، وما شاكل ذلك، وهو نافذ على كل أحد حتى إذا كان أحد المتخاصمين أو كلاهما مجتهداً.

نعم، قد يكون منشأ الترافع الاختلاف في الفتوى، كما إذا تنازع الورثة في الأرض، فادعت الزوجة ذات الولد الإرث منها، وادّعى الباقي حرمانها فتحاكما لدى القاضي، فإن حكمه یکون نافذاً عليهما وإن كان مخالفاً لفتوى من يرجع إليه المحكوم عليه)(1).

2- المذهب الشافعي:

عرفه الشرواني ب (فصل الخصومة بين خصمين فاكثر بحكم الله تعالى، قال ابن عبد السلام: الحكم الذين يستفيده القاضي بالولاية هو إظهار حکم الشرع في الواقعة فيمن يجب عليه إمضاؤه فيه بخلاف المفتي فإنه لا يجب عليه إمضاؤه)(2).

3- المذهب المالكي.

عرفه ابن رشد وتبعه ابن فرحون: ب (حقيقة القضاء الاخبار عن حكم شرعي على سبيل الإلزام؛ وقال ابن عرفة: صفة حكمية توجب لموصوفها

ص: 15


1- القضاء والشهادات؛ تقریر بحث السيد الخوئي للشيخ الجواهري: ج 1 ص 11 - 14
2- حواشي الشرواني والعبادي: ج 1 ص 101

نفوذ حكمه الشرعي ولو بتعديل أو تجريح لا في عموم مصالح المسلمين، فينحرج التحكيم وولاية الشرطة واخواتها والإمامة)(1).

4- وعرّفه فقهاء المذهب الحنفي:

ب (الالزام وهو ما جاء في فتح الغدير؛ وفي المحيط بفصل الخصومات وقطع المنازعات، وفي البدائع حكم بين الناس بالحق وهو الثابت عند الله تعالى من حكم الحادثة أما قطعاً بان كان عليه دلیل قطعي وهو النصر المفسر من الكتاب أو السنة المتواترة أو المشهورة أو الاجماع؛ واما ظاهر بان اقام عليه دليلا يوجب علم غالب الرأي واكثر الظن وهو ظاهر الكتاب والسنة ولو خبر واحد والقياس، وذلك في المسائل الاجتهادية التي اختلف فيها الفقهاء أو التي لا رواية فيها عن السلف)(2).

5- وعرّفه فقهاء الإباضية:

ب (بانه صفة حكمية توجب لموصوفها، هو القاضي، نفوذ حكمه الشرعي ولو بتعديل أو تجريح، لا في عموم مصالح المسلمين، زاده بعض ولا حاجة إليه، لأنه يغني عنه لفظ الشرعي مثل بناء السور في موضع كذا)(3).

أما ما يتعلق بآداب القاضى وصفاته فهو ما سنتناوله في المسألة القادمة.

ص: 16


1- مواهب الجليل للحطاب الرعيني: ج 8 ص 64
2- البحر الرائق لابن نجم المصري: ج 6 ص 427 - 428
3- شرح كتاب النيل وشفاء العليل لأطفيش: ج 13 ص 12

المبحث الثاني آداب القاضي وصفاته في المذاهب الإسلامية

قال أمير المؤمنين الإمام علي (عليه الصلاة والسلام) في عهد المالك الاشتر (رضوان الله تعالى عليه):

«ثُمَّ اخْتَرْ لِلْحُکْمِ بَيْنَ النَّاسِ أَفْضَلَ رَعِيَّتِكَ فِي نَفْسِكَ - مِمَّنْ لاَ تَضِيقُ بِهِ الاْمُورُ وَلاَ تُمَحِّکُهُ الْخُصُومُ - وَلاَ يَتَمَادَى فِي الزَّلَّةِ - وَلاَ يَحْصَرُ مِنَ الْفَيْءِ إِلَى الْحَقِّ إِذَا عَرَفَهُ وَلاَ تُشْرِفُ نَفْسُهُ عَلَى طَمَع - وَلاَ يَکْتَفِي بِأَدْنَى فَهْم دُونَ أَقْصَاهُ - وَأَوْقَفَهُمْ فِي الشُّبُهَاتِ وَآخَذَهُمْ بِالْحُجَجِ - وَأَقَلَّهُمْ تَبَرُّماً بِمُرَاجَعَةِ الْخَصْمِ وَأَصْبَرَهُمْ عَلَى تَکَشُّفِ الاْمُورِ - وَأَصْرَمَهُمْ عِنْدَ اتِّضَاحِ الْحُکْمِ - مِمَّنْ لاَ يَزْدَهِيهِ إِطْرَاءٌ وَلاَ يَسْتَمِيلُهُ إِغْرَاءٌ - وَأُولَئِكَ قَلِيلٌ - ثُمَّ أَکْثِرْ تَعَاهُدَ قَضَائِهِ - وَافْسَحْ لَهُ فِي الْبَذْلِ مَا يُزِيلُ عِلَّتَهُ - وَتَقِلُّ مَعَهُ حَاجَتُهُ إِلَى النَّاسِ - وَأَعْطِهِ مِنَ الْمَنْزِلَةِ لَدَيْكَ مَا لاَ يَطْمَعُ فِيهِ غَيْرُهُ مِنْ خَاصَّتِكَ - لِيَأْمَنَ بِذَلِكَ اغْتِيَالَ الرِّجَالِ لَهُ عِنْدَكَ - فَانْظُرْ فِي ذَلِكَ نَظَراً بَلِيغاً - فَإِنَّ هَذَا الدِّينَ قَدْ کَانَ أَسِيراً فِي أَيْدِي الاْشْرَارِ - يُعْمَلُ فِيهِ بِالْهَوَى وَتُطْلَبُ بِهِ الدُّنْيَا»(1).

ص: 17


1- نهج البلاغة، عهده لمالك الأشتر: ص 434 بتحقيق صبحي الصالح

المسألة الأولى: أقوال فقهاء للذهب الامامي.

تباينت أقوال فقهاء المذاهب الإسلامية في آداب القاضي منفصلة عن آداب القضاء أو ممزوجة مع بعضها البعض، فضلاً عن حديثهم في بيان صفات القاضي وشرائطه ضمن تعرضهم للآداب.

أما فقهاء المذهب الإمامي (أعلى الله شأنهم) فقد تناولوا جملة من آداب القاضي، وذلك ابتداءً من الشيخ المفيد (عليه الرحمة والرضوان)(1)، وابو الصلاح(2)، وسلاَّر(3)، وابن حمزة(4)، وابن إدریس(5)، والشيخ الطوسي(6) وغيرهم؛ أما شرائط القاضي فقد تناولها السيد كاظم اليزدي (عليه الرحمة والرضوان) وهي كالآتي.

أولا: الآداب والصفات.

اعتمدنا في بيان هذه الآداب المكروهة منها والمستحبة على ما بحثه العلامة الحلي (عليه الرحمة والرضوان) وقد جعلها أحد عشر بحثا، فقال:

(الاول: يستحب للقاضي إذا ورد إلى بلد ولايته ولا يعرف احداً فيه أن يبحث عمن يثق به في ذلك البلد ليسأله عن أحوال ذلك البلد، ويتعرّف منه ما يحتاج إلى معرفته، ويسأل عن العلماء فيه وأهل الفضل والعدالة

ص: 18


1- المقنعة: كتاب القضاء، باب: آداب القاضي ص 722
2- الكافي في الفقه: کتاب القضاء، والفصل الثالث من تنفيذ الأحكام: ص 444
3- المراسم: احکام القضاء: ص 230
4- الوسيلة: كتاب القضايا والأحكام في بيان صفة القاضي: ص 209
5- السرائر: کتاب القضايا والاحكام: ج 2 ص 156
6- النهاية ونكتها، باب، آداب القضاء، ج 2 ص 69

والصلاح وسائر ما يحتاج إلى معرفته، ثمّ يقصد الجامع فيصلّي فيه ركعتين ويسأل الله تعالى التوفيق والعصمة والإعانة له، ويبعث منادياً ينادي أنّ فلاناً قدم علیکم قاضياً فاجتمعوا لقراءة عهده في وقت كذا، وينصرف إلى منزله الّذي أُعدّ له، ويستحبّ أن يكون وسط البلد، ليتساوی ورود أهله إليه، فإذا اجتمعوا قرأ العهد عليهم، ثمّ يواعدهم ليوم يجلس فيه للقضاء.

الثاني: يستحبّ أن يجلس للقضاء في موضع بارز کر حبة أو فضاء، ليسهل الوصول إليه، وان حکم في المسجد صلّى فيه ركعتين عند دخوله تحيّةً، ويجلس مستدبر القبلة، ليكون وجه الخصوم إليها، وقيل(1): يستقبل القبلة القوله (عليه السلام):

«خير المجالس ما استقبل به القبلة».(2)

ولا يكره الحكم نادراً في المسجد، وهل يكره دائماً؟ قيل: لا، لقضاء عليّ (عليه السلام) بجامع الكوفة(3). ويكره اتّخاذ حاجب وقت الحكم.

الثالث: إذا جلس للحكم يستحبّ له أن يكون على أكمل حال وأعدلها، ولا يجلس على التراب ولا على بارية المسجد، ويكون عليه سكينة ووقار، ولا يستعمل الانقباض المانع عن النطق بالحجّة، ولا اللين المخوف معه جرأة الخصوم، وله أن ينتهر الخصم إذا التوي، ويصيح عليه، ويعزّره إن استحقّ التعزير، وان حصلت منه إساءة أدب كقوله: حکمت عليّ بغير الحقّ أو

ص: 19


1- القائل هو الشيخ في المبسوط: 8/ 90، والقاضي في المهذب 2: 595
2- الوسائل: 8/ 475، الباب 76 من أبواب أحكام العشرة الحديث 3، ونقله الشيخ في المبسوط 8/ 90، والشهيد في المسالك: 13 / 367
3- ذهب إليه الشيخ في الخلاف: 6/ 210، المسألة 3 من کتاب آداب القضاء

ارتشیت، فله التأديب والعفو.

الرابع: يستحبّ أن يجلس وهو خال من الغضب، والجوع الشديد، والعطش، والفرح الشديد، والحزن الكثير، والهمّ العظيم، والوجع المولم، ومدافعة أحد الأخبثين، والنُّعاس، والغّم، ليكون أجمع لقلبه، واحضر لذهنه، وأبلغ في تفطّنه، وأكثر لتيقّظه. ولو قضى والحال هذه، نفذ حكمه إن كان حقاً.

الخامس: يستحبّ إذا ورد البلد أن يبدأ أوّلاً يأخذ ما في يد الحاكم المعزول من الحجج والقضايا المودعة عنده، ويأخذ الودائع التي أودعت لأجل الحكم، ثمّ يسأل عن أهل السّجن ويبعث ثقةً يكتب اسم كلّ محبوس وسبب حبسه، واسم غريمه، ثمّ ينادي ثلاثة أيّام بأنّ القاضي ينظر في أمر المحبوسين يوم كذا، فإذا كان يوم المواعدة ترك الرقاع بين يديه.

ثمّ أخذ رقعة ونظر إلى اسم المحبوس، وطلب خصمه، فإذا حضر أخرج المحبوس من السجن، ونظر بينه وبين غريمه، ولا يسأل الغريم عن سبب الحبس، لأنّ الظاهر أنّ الحاكم إنّما حبسه بحقٍّ، ثمّ يسأل المحبوس عن ذلك، فإن قال: حبسني بحقٌّ [له] حال أنا مليء به، قال له الحاكم: أخرج إليه منه، وإلاّ رددتك إلى السجن.

وإن قال: أنا معسر به، سأل خصمه، فإن صدّقه أطلقه، وإن كذّبه وكان الحقّ مالاً، طلب من المحبوس البيّنة بالإعسار، وكذا لو عُرِفَ له مالٌ وادّعى تلفه، وإن لم يُعرف له أصلُ مال، ولا كانت الدعوى مالاً، طلب البيّنة من الغريم، فإن فقدها أحلف المحبوس على الإعسار وأُطلق.

ص: 20

وإن أقام الغريم بيّنةً بأنّ له مالاً افتقر إلى تعيينه، فإن صدّقها طولب بالحقّ، وإن قال: إنّ هذا المال في يدي لغيري، سئل عن التعيين، فإن كذّبه المقرّ له، طولب بالحقّ، فإن صدّقه احتمل القبولُ، لأنّ البيّنة شهدت بالملك لمن لا يدّعيه، وعدمُ القبول، فيقضى الدّين من المال، لأنّ البيّنة شهدت لصاحب اليد بالملك، فتضمّنت شهادتها وجوبَ القضاء منه، ولا يلزم من سقوط الشهادة في حقّ نفسه لإنكاره سقوطُها فيما تضمّنته، ولأنّه متّهم في إقراره لغيره. ولو لم يظهر للمحبوس غريم، وقال: حبسني الحاكم ظلماً، أشاع أمرَهُ، فإن لم يظهر له خصم أطلقه، قال الشيخ: بعد إحلافه(1).

وفي مدّة الإشاعة لا يحبس ولا يطلق بل يراقبه، والأقربُ أنّه لا يطالب بكفيل ببدنه. ولو ظهر خصم وادّعى أنّ الحاكم حبسه لأجله، وصدّقه، فالحكم كما تقدّم، وإن أنكر المحبوس، فإن أقام المدّعي بيّنةً أنّه خصمه وأنّه حبسه، حكم عليه، وإن لم تكن معه بيّنة أطلقه بعد الإحلاف، لأنّه لا خصم له.

ثمّ يسأل عن الأوصياء على الأيتام والمجانين، والمساكين، ويعتمد معهم ما يجب من تضمين أو إنفاذ أو إسقاطِ ولاية، لبلوغ اليتيم ورشد المجنون، أو ظهور خيانة أو ضمّ مشارك إن عجز الوصيّ، فإنّ الصّغير والمجنون لا قول لهما، والمساكين لا يتعيّن الأخذ منهم. فإذا حضر الوصيّ عنده، فإن كان الحاكم قبله أنفذ وصيّته لم يعزله، لأنّ الحاكم لم يعزله وما أنفذ وصيّته إلاّ بعد معرفته بالصّلاحيّة في الظاهر، ولكن يراعيه، فإن تغيّرت حاله بفسق، عزله، وإن كان يعجز أضاف إليه آخر.

ص: 21


1- المبسوط: 8 / 95

وإن كان الأوّل لم يُنفذ وصيّته، نظر فيه، فإن كان أميناً قويّاً أقرّه، وإن كان ضعيفاً ضمّ إليه غيره، وإن كان فاسقاً عزله، واستبدل به غيره. فإن كان الوصيّ قد تصرّف، وفرّق الثلث حال فسقه، فإن كان أهل الثلث بالغين عاقلين معيّنين، وقعت التفرقة موقعها، لأنّهم قبضوا حقوقهم، وإن كانوا غير معيّنين كالفقراء والمساكين.

قال الشيخ (رحمه الله): عليه الضمان، لأنّه ليس له التصرّف(1) ويحتمل عدم الضّمان، لأنّه أوصله إلى أهله، وكذا إن فرّق الوصيّة غير الموصى إليه بتفريقها، والأقربُ ما قاله الشيخ (رحمه الله).

أمّا لو تصرّف في مال الوقف على المساجد والمشاهد والمصالح مَن ليس له أهليّة الحكم، فإنّه يكون ضامناً، وإن كان قد صرفه في وجهه إذا لم يكن الواقف ولا الحاكم جعلا له النظر فيه.

السّادس: ينظر في أُمناء الحكم، وهو من ردّ الحاكم إليه النظرَ في أمر الأطفال وحفظ أموالهم، وأموال المجانين، وتفرقة الوصايا الّتي لم يعيّن لها وصيّ، والحافظون لأموال الناس من وديعة أو مال محجور عليه، فإن كانوا صالحين لذلك أقرّهم، وإلا استبدل بهم إن فسقوا وضمّ إليه غيرهم إن عجزوا.

ثمّ ينظر في اللقطة والضّوالّ الّتي تحت نظر الحاكم، فيبيع ما يخشى تلفه، وما تقتضيه المصلحة، كالمحتاج إلى نفقة تستوعب قيمته، ويحفظ ثمنها لأربابها، ويحفظ مثلَ الأثمان والجواهر على أربابها، ليدفع إليهم إن ظهروا.

السّابع: ينبغي للحاكم أن يحاضر أهل العلم، وأن يشهد حكمه من

ص: 22


1- المبسوط: 8 / 95 - 96

يثق بفطنته منهم، بحيث إن أخطأ بيّن له الصواب، ويخاوضهم(1) في الأُمور المشتبهة ليظهر له الصواب بالمباحثة، ولا يجوز له التقليد، بل الفائدة في محاضرة العلماء استخراج الأدلّة والتعرّف للحقّ بالاجتهاد.

ولا يجوزُ له أن يحكم بقول غيره، سواء ظهر الحقّ في خلافه أو لا، وسواء ضاق الوقت أو لا، وكذلك ليس للمفتي أن يفتي بالتقليد. ولو أخطأ الحاكم فأتلف لم يضمن، وكان على بيت المال.

الثّامن: وينبغي أن يحضر مجلسه شهود لیستوفي بهم الحقوق ويثبت بهم الحج، بحيث إن أقرّ غریمٌ شهدوا عليه، وكذا إن حكم أشهدهم بحكمه. ولو تعدّی أحد الغريمين الصّواب عرّفه الحقّ برفق، فإن عاد زجره، وإن احتاج إلى التأديب أدبه، وإذا اتّضح له الحكم حكم.

ويستحبّ أن يرغبهما في الصلح، فإن اشتبه صبر حتّى يظهر الحق له، ولا يحكم بدونه، ولو صالحهما ورضيا جاز وإن لم يظهر له الحق، وإذا اجتهد فظهر له الصواب وجب أن يحكم بما أدّاه اجتهادُهُ، فإن تغيّر اجتهاده قبل الحكم، حَکَمَ بما تغيّر اجتهادُهُ إليه، ولا يجوزُ له أن يحكم بالاجتهاد الأوّل، لأنّه يعتقد بطلانه.

التاسع: حكم الحاكم لا يزيل الشيء عن صفته، فلو حكم بعقد أو فسخ أو طلاق نفذ حكمه ظاهراً لا باطناً، فلو تعمّد رجلان، وشهدا على آخر بطلاق زوجته، ففرّق الحاكم بينهما، لم يجز لأحد الشاهدين نکاحُها. ولو ادّعى رجل نکاحَ امرأة، وأقام شاهدي زور، فحكم الحاكم، لم تحلّ له ولم تصر زوجته.

ص: 23


1- في مجمع البحرین: يقال: خاض الناس في الحديث و تخاوضوا: أي تفاوضوا فيه

ولو استأجرت امرأةٌ شاهدي زور، فشهدا لها بطلاق زوجها، وهما يعلمان كذبهما وتزويرهما، فحكم الحاكم بالطّلاق لم يحلّ لها أن تتزوّج، ولم لا يحلّ لأحد الشاهدين نكاحها.

ی وإذا قام شاهدي زور بنكاح امرأة وهو يعلم كذبهما لم تحلّ له، ولزمها في الظاهر، وعليها أن تمتنع ما أمكنها، فإن أكرهها فالإثم عليه دونها، فان وطئها الرجل فعليه الحدّ إن لم يعتقد الإباحة. وهل يحلّ لها أن تتزوّج بغيره؟ الوجهُ ذلك غير أنّه لا يجوز الجمع بينهما في الوطء، بل يحرم على المحقّ ما دام الآخر حاضراً عندها، فإذا غاب الزوج الظاهر جاز للآخر الوطء.

العاشر: يكره للحاكم أن يشتري أو يبيع لنفسه، بل ينبغي له أن يولّي غيره ذلك، ولا ينبغي أن يكون الوكيل معروفاً، لأنّه يستحي منه أو يخاف فيحابي، فيكون مرتشياً بقدر المسامحة، ولو احتاج إلى المباشرة ولم يجد من يكفيه جاز من غير كراهة. وكذا يكره أن يرتّب قوماً بأعيانهم للشهادة دون غيرهم، وقيل: يحرمُ لما في ذلك من المشقّة ولاستواء العدول في القبول، فلا تخصيص(1).

الحادي عشر: ينبغي للحاكم أن يتّخذ كاتباً، ويجب أن يكون عاقلاً، بالغاً، مسلماً، عدلاً، بصيراً، ويكفى الواحد. وأن يتّخذ مترجمين، ولا يكفي الواحد، ويشترط عدالتهما، ويكفي الاثنان وإن ترجما عن الزنا، ويعتبر في الترجمة لفظ الشهادة.

ولو كان القاضي أصمّ، وجب أن يتّخذ مسمعاً وفي اشتراط العدد نظرٌ ينشأ من مساواته للمترجم، فإنّه ينتقل عين اللفظ، كما أنّ المترجم ينقل معناه، ومن

ص: 24


1- ذهب إليه الشيخ في المبسوط: 8 / 111

وقوع الفرق بينهما، فان المسمع لو غيّر اللفظ لعرف الخصمان والحاضرون، بخلاف المترجم، نعم لو كان الخصان أصمّين وجب العدد، لجواز غفلة الحاضرين فإن اشترطنا العدد فالأقربُ عدمُ اشتراط لفظ الشهادة، وإن لم يشترط فلا يراعى لفظ الشهادة، لأنّه يسلك بها مسلك الرواية.

لا وإذا شرطنا العدد في المسمع، فلا بدّ من رجلين وإن كانت الخصومة في مال، وكذا في الشهادة على الوكالة بالمال، لأنّ المشهود عليه ليس بمال في نفسه، والأقربُ أنّ أُجرة المسمع على بيت المال لا على الخصمين)(1).

ثانيا: شرائط القاضي.

تناول السيد اليزدي (عليه الرحمة والرضوان) شرائط القاضي في كتاب القضاء، وعدها عشرة شرائط، فقال:

(وشروطه أُمور: الأول والثاني:

البلوغ والعقل - فلا ينفذ قضاء الصبيّ وإن كان مراهقاً، بل ومجتهداً جامعاً للشرائط، بل وإن كان أعلم من غيره، ولا المجنون ولو كان أدواريّاً في دور جنونه، وإن كان عالماً عارفاً بالأحكام وكان جنونه في غير هذا، فإنّ الجنون فنون - للإجماع كما عن جماعة(2).

وانصراف الأخبار مضافاً إلى التقييد بالرجل في خبري أبي خديجة(3)

ص: 25


1- تحرير الأحكام: ج 5 ص 120 - 128
2- منهم الأردبيلي في مجمع الفائدة 12: 5، والمحقّق القُمّي في جامع الشتات 2: 680 س 15 والعاملي في مفتاح الكرامة 10: 9 س 10
3- الوسائل 18: 4، الباب 1 من أبواب صفات القاضي، ح 5، وص 100، الباب 11 من نفس الأبواب، ح 6

مع كون نفوذ الحكم وترتّب الآثار من عدم جواز نقضه وردّه على خلاف الأصل، والقدر المتيقّن من الخارج منه هو البالغ العاقل.

وأمّا التعليل بسلب أفعالهما وأقوالهما وكونهما مولّى عليهما، ففيه: منع سلب أفعال وأقوال الصبيّ مطلقاً، وعدم المنافاة بين كونهما مولّى عليهما وبين صحّة القضاء منهما بعد إذن الوليّ، والعمدة الإجماع والأصل.

الثالث والرابع: الإسلام والإيمان، للإجماع، وقوله (عليه السلام): «انظروا إلى رجل منکم... الخ»(1) وقوله تعالى: «وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا»(2) والأخبار(3) المتواترة المانعة من الرجوع إلى غير المؤمن في رفع التنازع.

الخامس: العدالة، للإجماع، والمنع من الركون إلى الظالم إذ هو ظالم لنفسه، ولقصوره عن مرتبة الولاية على الصبيّ والمجنون فكيف بهذه المرتبة الجليلة.

السادس: طهارة المولد، لفحوى ما دلّ على عدم قبول شهادته وعدم صحّة إمامته.

السابع: الذكورة، فلا يصحّ قضاء المرأة ولو للنساء، للإجماع، والنبويّ (صلى الله عليه وآله):

«لا يفلح قوم ولتهم امرأة»(4).

ص: 26


1- الوسائل 18: 4، الباب 1 من أبواب صفات القاضي، ح 5
2- النساء: 141
3- الوسائل 18: 2، الباب 1 من أبواب صفات القاضي
4- سنن البيهقي 10: 118

وقوله (عليه السلام):

«ليس على النساء جمعة ولا جماعة؛ إلى أن قال: ولا تولّي القضاء»(1).

وفي خبر آخر: «لا تولّي المرأة القضاء ولا تولّي الإمارة»(2).

مضافاً إلى التقييد بالرجل في الخبرين والانصراف في سائر أخبار الإذن.

الثامن: العلم بأحكام القضاء.

التاسع: الحرّيّة عند جماعة(3) بل نسب إلى الأكثر(4)، ولا دليل على اعتبارها، إلاّ دعوى كون المملوك مولّى عليه، وقصوره عن هذا المنصب، وكون أوقاته مستغرقة في خدمة المولى، وهي كما ترى فالأظهر عدم اشتراطها إذا أذن المولى.

العاشر: الاجتهاد، فلا ينفذ قضاء غير المجتهد وإن بلغ من العلم والفضل ما بلغ، للإجماع كما عن جماعة،(5) ولأنّ نفوذ الحكم وترتيب آثاره على خلاف الأصل والقدر المتيقّن هو حكم المجتهد.

وأيضاً يظهر من الآيات والأخبار أنّ منصب القضاء مختصّ بالنبيّ (صلى

ص: 27


1- الوسائل 18: 6، الباب 2 من أبواب صفات القاضي، ح 1، وتمام الحديث في الفقيه 4: 364، ح 5762
2- البحار 103: 254، ح 1
3- منهم الشيخ في المبسوط 8: 101، والقاضي في المهذّب 2: 599، والشهيد في الدروس 2: 65، والإصبهاني في كشف اللثام 2: 143 س 9
4- راجع المسالك 13: 330
5- منهم الإصبهاني في كشف اللثام 2: 142، والشهيد في المسالك 13: 328، والأردبيلي في مجمع الفائدة 12: 6، والسبزواري في الكفاية: 262

الله عليه وآله) والأئمّة (عليهم السلام) كقوله تعالى:

«فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ...»(1).

وقوله تعالى:

«فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ...»(2).

وقوله تعالى:

«إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ...»(3).

وقوله (عليه السلام):

«اتّقوا الحكومة فإنّ الحكومة إنّما هي للإمام العالم بالقضاء العادل في المسلمين لنبيٍّ أو وصيّ نبي»(4).

وقول أمير المؤمنين (عليه السلام) لشريح:

«یا شريح قد جلست مجلساً لا يجلسه إلاّ نبيّ أو وصيّ نبيّ أو شقيّ»(5).

فيتوقّف جوازه من غيرهم على الإذن منهم والأخبار الدالّة على الإذن مختصّة بالعلماء ورواة الأخبار الظاهرة في القادر على استنباط الحكم منها كمقبولة عمر بن حنظلة:

«انظروا إلى من كان منكم قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف

ص: 28


1- النساء: 65
2- النساء: 59
3- النساء: 105
4- الوسائل 18: 7، الباب 3 من أبواب صفات القاضي، ح 3
5- الوسائل 18: 6، الباب 3 من أبواب صفات القاضي، ح 2

أحكامنا فارضوا به حکماً ... إلى آخره»(1).

والتوقيع الرفيع:

«وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله عليهم»(2).

وخبر تحف العقول:

«مجاري الأُمور والأحكام على أيدي العلماء بالله الأُمناء على حلالهم وحرامه»(3).

وخبر أبي خديجة:

«انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا فاجعلوه بينكم فإنّي قد جعلته قاضياً فتحاكموا إليه»(4).

وخبره الآخر:

«واجعلوا بینکم رجلا ممّن عرف حلالنا وحرامنا فإنّي قد جعلته قاضیاً»(5).

والمرسل: «اللّهمّ ارحم خلفائي»

قيل: یا رسول الله (صلى الله عليه وآله) من خلفاؤك؟ قال:

ص: 29


1- الوسائل 18: 98، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، ح 1
2- الوسائل 18: 101، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، ح 9
3- تحف العقول: 238
4- الوسائل 18: 4، الباب 1 من أبواب صفات القاضي، ح 5
5- الوسائل 18: 100، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، ح 6

«الّذين يأتون بعدي يروون حديثي وسنّتي»(1).

والمرويّ في الفقه الرضوي (عليه السلام):

«منزلة الفقيه في هذا الوقت كمنزلة الأنبياء في بني إسرائيل»(2).

إلى غير ذلك إذ من المعلوم أنّ العامّي لا يصدق عليه اسم العالم ولا الراوي، ولا يصلح أن يكون خليفة لرسول الله (صلى الله عليه وآله) ولا أن يكون بيده مجاري الأُمور، ولا أن يكون بمنزلة الأنبياء.

فمقتضى هذه الأخبار عدم جواز تصدّي غير المجتهد للحكم والمرافعة، من غير فرق بين أن يكون من أهل العلم مع عدم بلوغه حدّ الاجتهاد ويحكم بمقتضى ظاهر الأخبار وكلمات الفقهاء، أو كان مقلّداً لمجتهد جامع للشرائط ويحكم بمقتضى فتوى ذلك المجتهد بعد اطّلاعه على جميع ما يتعلّق بتلك الواقعة بالتقليد.

ولا وجه لما قد يقال: من أنّ المستفاد من أن المستفاد من الكتاب والسنّة صحّة الحكم بالحقّ وبالعدل والقسط من كلّ مؤمن كقوله تعالى:

«إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ...»(3).

وقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ»(4).

ص: 30


1- الوسائل 18: 66، الباب 8 من أبواب صفات القاضي، ح 53
2- الفقه الرضوي (عليه السلام): 338
3- النساء: 58
4- النساء: 135

ومفهوم قوله تعالى: «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ...»(1) کما في آية، «فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ»(2) کما في أُخرى، وقوله (عليه السلام):

«القضاة أربعة؛ إلى أن قال:

«ورجل قضى بالحقّ وهو يعلم فهو في الجنّة»(3).

وغير ذلك وإذا علم بالتقليد أنّ الحق كذا فله أن يحكم بمقتضاه ويصدق أنّه حكم بالقسط والعدل والحقّ ويكون حكمه حكم مجتهد هو حكم مجتهده حكم الأئمّة (عليهم السلام) و حكمهم حكم الله.

إذ فيه: أنّ الأخبار المتقدّمة مقيّدة لهذه الآيات والأخبار، مع أنّ الظاهر من هذه إرادة الأمر بالمعروف ومقام جواب السؤال عن الحكم في المسألة، وعلى فرض شمولها لمقام الحكم لا دلالة فيها على وجوب ترتيب جميع آثار الحكم من وجوب قبوله وعدم جواز نقضه حتّى من مجتهد آخر، وجواز إحلافه ونحو ذلك، مع أنّ التفات المقلّد إلى جميع المزايا والدقائق والخصوصيّات المتعلّقة بالوقائع وما فيها من الأحكام في غاية البعد، بل قريب من المحال.

ثمّ ظهر ممّا ذكرنا أنّ المقلّد لا أهليّة له للتصدّي للمرافعة وإن أذن له مجتهد أو نصبه قاضياً، فإنّ نصبه له لا ينفعه في أهليّته. فما قد يقال: من أنّ مقتضی عموم ولاية المجتهد جواز نصب القاضي كما كان للأئمة (عليهم

ص: 31


1- المائدة: 47
2- المائدة: 44
3- الوسائل 18: 11، الباب 4 من أبواب صفات القاضي، ح 6

السلام) لاوجه له، لأنّ المفروض أنّ إذن الإمام (عليه السلام) شرط وهو مختصّ بمن يقدر على الاستنباط وكونه مجتهداً.

وكذا لا وجه لما قاله بعضهم(1) من أنّه لا يبعد جواز إرجاع المجتهد بعد ترافع الخصمين إليه الأمر إلى مقلّده العادل العالم بجميع أحكام الواقعة الخاصّة فعلا أو بعد السؤال في تلك الواقعة وأمره بأن يفتّش عن حقيقة الواقعة ويحكم، لصدق كون الترافع عند المجتهد. والحاصل أنّه لا فرق في عدم جواز قضاء غير المجتهد بين أن يكون من أهل العلم ولم يكن بالتقليد من مجتهد أو يكون بفتوى مقلّده، وبين أن ينصبه المجتهد للقضاء أو لا، وبين أن يكون المترافعان رفعا أمرهما إلى المجتهد في خصوص واقعة وأرجعهما إلى مقلّده العادل العالم بفتاواه وغيره.

وأمّا المتجزّئ بناءً على إمكانه فالأحوط عدم نفوذ قضائه خصوصاً مع وجود غيره وإن كان لا يبعد جوازه إذا كان مجتهداً في أحكام القضاء لخبري أبي خديجة.

وقد يذكر شروط أُخر كالضبط وعدم كونه كثير الاشتباه أو النسيان والكتابة والنطق والبصر والسمع، ولا دليل على اعتبارها بالخصوص إلاّ لا دعوى انصراف أدلّة الإذن كما لا يبعد في الضبط ونحوه أو الشكّ في الشمول حيث إنّ الأصل عدم الإذن. ويستحبّ كونه متّصفاً بالكالات النفسانيّة من الورع والتقوى والزهد والعفّة والحلم ونحو ذلك)(2).

ص: 32


1- انظر المستند 17: 100 - 101، الجواهر 40: 102
2- العروة الوثقی: ج 6 ص 416 - 422

المسألة الثانية: آداب القاضي في المذاهب الأخرى.

أولا: المذهب الزيدي.

تناول إمام الزيدية يحیی بن الحسين (ت 298 ه) صفات القاضي وما ينبغي فيه من الحلال الحسنة فيقول:

(يحتاج القاضي أن يكون عالماً بما يقتضي، فهماً بما ورد عليه، ورعا في دينه، عفيفاً من أموال المسلمين، حليماً إذا أستجهل، وثيق العقل جيد التمييز، صليباً في أمر الله، فإن نقص من هذه الخصال شيء كان ناقصاً).

ويجب على القاضي أن يتعاهد من يقدم عليه من أهل البلاد يتقاضون إليه فإنه إذا طال حبسهم تركوا حوائجهم وانصرفوا إلى أهليهم فیکون الذي أبطل حقوقهم القاضي الذي لم يتعاهدهم ولم يرفع بهم رأسا، وينبغي اللقاضي أن يحرص على الصلح بين الناس ما لم يبن له الحق، فأما إذا بأن له الحق فلا صلح.

قال: وبلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال:

«القضاة ثلاثة اثنان في النار وواحد في الجنة، فأما الذي في الجنة فقاض علم الحق فقضى به فهو في الجنة، وأما القاضيان اللذان في النار فقاض علم الحق فجار متعمدا، وقاض قضى بغير علم فاستحيا أن يقول لا أعلم فهما في النار».

قال: وينبغي للقاضي أن يساوي بين الخصمين في الاقبال عليهما والمكالمة لهما)(1).

ص: 33


1- الاحکام: ج 2 ص 453

ثانياً: المذهب الشافعي.

تناول النووي آداب القاضي والقضاء في باب واحد، وجمعها مع بعضهما البعض، جاعلاً اياها عشرة أقسام، ولذا: سنورد منها ما تعلق بآداب القاضي فقط، وهي:

(إذا أراد الخروج إلى بلد قضائه، سأل عن حال من فيه العدول والعلماء، فإن لم يتيسر، سأل في الطريق حتى يدخل على علم بحال البلد، فإن لم يتيسر، سأل حين يدخل، ويستحب أن يدخل يوم الاثنين. قلت: قال الأصحاب: فإن تعسر يوم الاثنين فالخميس، وإلا فالسبت. والله أعلم.

وأن يكون عليه عمامة سوداء، فقد صح أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دخل مكة يوم الفتح وعليه عمامة سوداء، وأن ينزل في وسط البلد أو الناحية، لئلا يطول الطريق على بعضهم، وإذا دخل، فإن رأى أن يشتغل في الحال بقراءة العهد، فعل، وإن رأى أن ينزل منزله، ويأمر مناديا ينادي يوما فأكثر أو أقل على حسب صغر البلد أو كبره أن فلانا جاء قاضيا، وأنه يخرج يوم كذا لقراءة العهد، فمن أحب، فليحضر.

فإذا اجتمعوا، قرأ عليهم العهد، وإن كان معه شهود، شهدوا ثم ينصرف إلى منزله، ويستحضر الناس، ويسألهم عن الشهود والمزكين سرا وعلانية)(1).

ثالثا: المذهب المالكي.

اعتمد فقهاء المذهب الملكي على ست خصال يلزم توفرها في القاضي،

ص: 34


1- روضة الطالبين: ج 8 ص 116

وبها تصح ولاية القاضي، وهي:

(أن يكون حراً، مسلماً، عاقلاً، بالغاً، ذكرا، واحداً) أما العلم والفطنة فمن الصفات المستحبة، واختلفوا في إضافة العدالة إلى الخصال اللازمة في صحة الولاية.

قال الحطاب الرعيني (ت 954 ه):

(واعلم أن صفات القاضي المطلوبة فيه على ثلاثة أقسام:

الأول: شرط في صحة التولية وعدمه يوجب الفسخ.

والثاني: ما يقتضى عدمه الفسخ وإن لم يكن شرطا في صحة التولية.

الثالث: مستحب وليس بشرط. فأشار المؤلف إلى الأول بقوله أهل القضاء عدل إلى قوله وإلا فأمثل مقلد، وإلى الثاني بقوله ونفذ حكم أعمى إلى قوله ووجب عزله، وإلى الثالث بقوله كورع إلى آخره والله أعلم.

وشمل قوله عدل الحر المسلم العاقل البالغ بلا فسق كما سيذكره في باب الشهادة. قال القرطبي في شرح مسلم في كتاب الامارة: (وقد نص أصحاب مالك على أن القاضي لا بد أن يكون حرا وأمير الجيش والحرب في معناه فإنها مناصب دينية يتعلق بها تنفيذ أحكام شرعية فلا يصلح لها العبد لأنه ناقص بالرق محجور عليه لا يستقل بنفسه ومسلوب أهلية الشهادة والتنفيذ، ولا يصلح للقضاء ولا للأمارة، وأظن جمهور علماء المسلمين على ذلك) انتهى.

والظاهر من كلام المؤلف جواز ولاية المعتق. قال ابن عرفة: وهو المعروف، وعزاه ابن عبد السلام للجمهور قالا: ومنعه سحنون خوفا من استحقاقه فيجب رده إلى الرق ويفضي ذلك إلى رد أحكامه والله أعلم.

ص: 35

وظاهر كلامه أيضا أن ولاية الفاسق لا تصح ولا ينفذ حكمه، وافق الحق أم لم يوافقه، وهو المشهور کما صرح به في توضيحه، وقاله في التنبيهات، ونقله ابن فرحون وغيره. وقال أصبغ: الفسق موجب للعزل ولا يجوز أن يولى الفاسق ويمضي من أحكامه ما وافق الحق.

انتهى من التوضيح بالمعنى. وقال في العمدة: وهل ينعزل بفسقه أم يجب عزله قولان انتهی.

الأصل: (ذكر) الشرح: قال في التوضيح: وروى ابن أبي مريم عن ابن القاسم جواز ولاية المرأة. قال ابن عرفة: قال ابن زرقون: أظنه فيما تجوز فيه شهادتها. قال ابن عبد السلام: لا حاجة لهذا التأويل لاحتمال أن يكون ابن القاسم قال كقول الحسن والطبري بإجازة ولايتها القضاء مطلقا.

قلت: الأظهر قول ابن زرقون لان ابن عبد السلام قال في الرد على من شذ من المتكلمين وقال الفسق لا ينافي القضاء ما نصه: وهذا ضعيف جدا لان العدالة شرط في قبول الشهادة والقضاء أعظم حرمة منها.

قلت: فجعل ما هو مناف للشهادة مناف للقضاء فكما أن النكاح والطلاق والعتق والحدود لا تقبل فيها شهادتها فكذلك لا يصح فيها قضاؤها انتهى.

ص: (فطن) ش: قال ابن عبد السلام: والمراد من الفطانة بحيث لا يستزل في رأيه ولا تتمشى عليه حيل الشهود وأكثر الخصوم انتهى. قال في التوضيح: وهذا الشرط لم يقع في كل نسخ ابن الحاجب، وكلام الطرطوشي يدل على اشتراطه انتهى.

وجعل ابن رشد في المقدمات الفطنة من الصفات المستحبة فقال: وأن

ص: 36

يكون فطنا غير مخدوع لعقله انتهى. وكذا جعله ابن فرحون من الصفات المستحبة. وقال ابن عرفة: وعد ابن الحاجب كونه فطنا من القسم الأول وهو ظاهر کلام الطرطوشي لا يكتفي بالعقل التكليفي بل لا بد أن يكون بين الفطنة بعيدا من الغفلة.

وعده ابن رشد وابن شاس من الصفات المستحبة غير الواجبة. والحق أن مطلق الفطنة المانع من كثرة التغفل من القسم الأول، والفطنة الموجبة للشهرة بها غير النادرة ينبغي كونها من الصفات المستحبة، فعلى هذا طريقة ابن رشد أنسب لان فطنا من أبنية المبلغة كحذر والمبالغة فيها مستحبة انتهى.

فلو قال المؤلف ذا فطنة لكان أحسن والله أعلم. لطيفة: قال المشذالي في حاشية المدونة: روي أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عامله بالبصرة عدي بن أرطأة أن أجمع بين إياس بن معاوية والقاسم بن ربيعة فول القضاء أنفذهما.

فجمع عدي بينهما وقال لهما ما عهد به عمر إليه. فقال له إياس: سل عني وعن القاسم فقيهي البصرة الحسن وابن سیرین. وكان القاسم يأتي الحسن وابن سيرين و إياس لا يأتيهما، فعلم القاسم أنه إن سألهما أشارا به فقال له القاسم: لا تسأل عني ولا عنه، فوالله الذي لا إله إلا هو أن إياسا أفقه مني وأعلم بالقضاء، فإن كنت كاذبا فما عليك أن توليني وأنا كاذب، وإن كنت صادقا فينبغي لك أن تقبل قولي.

فقال له إياس: إنك جئت برجل وأوقفته على شفا جهنم فنجی نفسه منها بيمين كاذبة فيستغفر الله منها وينجو مما يخاف. فقال له عدي: أما إنك إذا فهمتها فأنت لها فاستقضاه انتهی.

ص: 37

ص: (مجتهد إن وجد وإلا فأمثل مقلد) ش: يشير إلى أن القاضي يشترط فيه أن يكون عالما. وجعل ابن رشد العلم من الصفات المستحبة.

وقال ابن عبد السلام: والمشهور أنه من القسم الأول انتهى. وكذا عده صاحب الجواهر والقرافي من القسم الأول وعليه عامة أهل المذهب. وعليه فلا تصح تولية الجاهل ويجب عزله، وأحكامه مردودة ما وافق الحق منها وما لم يوافقه، وسيصرح المؤلف بأنها مردودة ما لم يشاور والله أعلم. ثم إنه إذا وجد مجتهد وجب توليته ولا يجوز لغيره أن يتولى. قال في الذخيرة عن ابن العربي ونقله ابن فرحون: فإن تقلد مع وجود المجتهد فهو متعد جائر انتهى.

فظاهر كلام ابن العربي أن الاجتهاد إذا وجد ليس بشرط لا كما تعطيه عبارة المؤلف من أنه شرط يقتضي عدم صحة التولية بل الشرط العلم، وأما الاجتهاد. إذا وجد فلا يجوز العدول عن صاحبه فقط فتأمله.

وقال ابن عرفة: وجعل ابن مرزوق كونه عالما من القسم المستحب، وكذا ابن رشد إلا أنه عبر عنه بأن يكون عالما يسوغ له الاجتهاد. وقال عياض وابن العربي والمازري: يشترط كونه عالما مجتهد أو مقلدا إن فقد المجتهد كشرط كونه مسلما حرا. ثم قال ابن العربي: قبول المقلد الولاية مع وجود المجتهد جور وتعد ومع عد - المجتهد جائز. ثم قال: ففي صحة تولية المقلد مع وجود المجتهد قولان لابن زرقون مع ابن رشد وعياض مع ابن العربي والمازري قائلا: هو محكي أئمتنا عن المذهب ومع فقده جائز ومع وجود المجتهد أولا اتفاقا فيهما انتهى.

وانظر كيف عزا لابن العربي عدم صحة ولاية المقلد مع وجود المجتهد

ص: 38

مع أنه نقل قبل هذا قوله قبول المقلد الولاية مع وجود المجتهد جور وتعد إلا أن يكون فهم من قوله جور وتعد أنها لا تصح فيصح كلامه إلا أن الذي يتبادر للفهم من قوله جور وتعد أنها تصح إلا أنه متعد فقط.

وعلى ما فهمه ابن عرفة فيسقط الاعتراض السابق على المؤلف، ولعل المؤلف فهمه على ذلك، فعلم من هذا أن كلام المؤلف ماش على ما عزاه ابن عرفة لعياض والمازري وابن العربي والله أعلم. وقول المؤلف أمثل مقلد يشير به إلى قول ابن عبد السلام في قول ابن الحاجب فإن لم يوجد مجتهد فمقلد، إلا أنه ينبغي أن يختار أعلم المقلدين ممن له فقه نفيس وقدرة على الترجيح بين أقاويل أهل مذهبه، ويعلم منه ما هو أجرى على أصل أمامه مما ليس كذلك. وأما إن لم يكن بهذه المرتبة فيظهر من كلام الشيوخ اختلاف بينهم، هل يجوز توليته القضاء أو لا.

وهذه المسألة مفرعة على جواز تقليد الميت انتهى. قال ابن عرفة إثر نقله کلام ابن عبد السلام هذا قلت: قوله اختلاف في جواز توليته إن أراد مع وجود ذي الرتبة الأولى فصحيح، وإن أراد مع فقده فظاهر أقوالهم صحة تولیته خوف تعطيل الحكم بين الناس دون خلاف في ذلك انتهى. وقال ابن عبد السلام على جواز تقليد الميت: نقل ابن عرفة عن أهل الأصول انعقاد الاجماع على جواز تقليد الميت وسيأتي بعد هذا.

وكلام القرافي في أول الباب الثاني من كتاب القضاء يؤذن بصحة ولاية هذا الذي قال ابن عبد السلام إن فيه اختلافا فراجعه والله أعلم.

تنبيهات: الأول: قول المؤلف مجتهدان وجد قال البساطي: يقتضي أنه

ص: 39

ممكن، فإن عنى به أنه مجتهد في مذهب مالك فقد يدعي أنه ممكن، وإن أراد المجتهد في الأدلة فهذا غير ممكن. وقول بعض الناس إن المازري وصل إلى رتبة الاجتهاد كلام غير محقق لان الاجتهاد مبدؤه صحة الحديث عنده وهو غير ممكن ولا بد فيه من التقليد. وقول الشيخ محي الدين النووي إنه ممکن کالكلام المتقدم. انتهى.

وتأمل كلامه هذا فإنه يقتضي أن الاجتهاد غير ممكن، والخلاف بين علياء الأصول إنما هو هل يمكن خلو الزمان عن مجتهد أم لا؟ وكلام ابن عبد السلام يشهد لا مكانه لقوله: وما أظنه انقطع بجهة المشرق فقد كان منهم من ينسب إلى ذلك ممن هو في حياة أشياخنا وأشياخ أشياخنا، ومواد الاجتهاد في زماننا أيسر منها في زمان المتقدمين لو أراد الله بنا الهداية، ولكن لا بد من قبض العلم بقبض العلماء كما أخبر به الصادق صلوات الله عليه. انتهی.

ونحوه في التوضیح وزاد: لان الأحاديث والتفاسير قد دونت وكان الرجل يرحل في سماع الحديث الواحد. فإن قيل يحتاج المجتهد إلى أن يكون عالما بمواضع الاجماع والخلاف وهو متعذر في زماننا لكثرة المذاهب وتشعبها. قيل: يكفيه أن يعلم أن المسألة ليست مجمعا عليها لان المقصود أن يحترز من مخالفة الاجماع وذلك ممكن. انتهى.

وقول البساطي لا بد في صحة الحديث من التقليد لا يلزم منه عدم إمكان المجتهد لان التقليد في صحة الحديث لا يقدح في الاجتهاد فتأمله والله أعلم. وقال ابن عرفة: وما أشار إليه ابن عبد السلام من يسر الاجتهاد

ص: 40

هو ما سمعته يحكيه عن بعض الأشياخ أن قراءة مثل هذه الجزولية والمعالم الفقهية والاطلاع على أحاديث الاحكام الكبرى لعبد الحق ونحو ذلك يكفي في تحصيل أدلة الاجتهاد، يريد مع يسر الاطلاع على فهم مشكل اللغة بمختصر العين والصحاح للجوهري ونحو ذلك من غريب الحديث ولا سيما مع نظر ابن القطان وتحقيقه أحاديث الاحكام وبلوغ درجة الإمامة أو ما قاربها في العلوم المذكورة غير مشترط الاجتهاد إجماعا.

وقال الفخر في المحصول وتبعه السراج في تحصيله والتاج في حاصله في كتاب الاجماع ما نصه: ولو بقي من المجتهدين والعياذ بالله واحد كان قوله حجة، فاستعاذتهم تدل على بقاء الاجتهاد في عصر هما والفخر توفي سنة ست وستمائة ولكن قالوا في كتاب الاستغناء انعقد الاجماع في زماننا على تقليد الميت إذ لا مجتهد فيه. انتهى.

الثاني: بقي على المؤلف شرط آخر وهو أن يكون القاضي واحدا، نص عليه في المقدمات ونصه: فأما الخصال المشترطة في صحة الولاية فهي أن يكون حرا مسلما عاقلا بالغا ذكرا واحدا.

فهذه الست الخصال لا يصلح أن يولى القضاء على مذنبنا إلا من اجتمعت فيه، فإن ولي من لم تجتمع فيه لم تنعقد له الولاية، وإن انخرم شيء منها بعد انعقاد الولاية سقطت الولاية انتهى. ثم ذكر العدالة وقال: إنه من هذا القسم على المشهور. وإنما أخرها لان فيه خلافا. وأما العلم والفطنة فعدهما من الصفات المستحبة)(1).

ص: 41


1- مواهب الجليل: ج 8 ص 65 - 69

رابعا: المذهب الحنبلي.

أشار البهوتي (ت 1051) إلى آداب القاضي في الفقه الحنبلي شارحاً لها، وهي:

أن يكون قوياً من غير عنف، لينا من غير ضعف، حليماً، متأنياً، ذا فطنة وتيقظ، بصير بأحكام الحكم قبله، يخاف الله تعالى ويراقبه، ولا يؤتي من غفلة، ولا يخدع لعزة، صحيح البصر والسمع، عالماً بلغات أهل ولايته، عفيفاً، ورعاً نزها بعيداً عن الطمع صدوق اللهجة لا يهزل ولا يمجن ذا رأي ومشورة، لكلامه لين ذا قرب وهيبة إذا اوعد ووفاء إذا وعد، ولا يكون جباراً وعسوفا.

وغيرها ما يتعلق (المقصود من هذا الباب بيان ما يجب على القاضي، أو يسن له أن يأخذ به نفسه وأعوانه من الآداب والقوانين التي تنضبط بها أمور القضاء وتحفظهم من المل والزيغ والخلق بضم اللام (صورته الباطنة) وهي نفسه وأوصافها ومعانيها، والثواب والعقاب يتعلقان بأوصاف الصورة الباطنة أكثر مما يتعلقان بأوصاف الصورة الظاهرة.

قال الحاظ ابن حجر: حسن الخلق اختيار الفضائل وترك الرذائل ينبغي أي يسن أن يون القاضي (قويا من غير عنف)، لئلا يطمع فيه الظالم والعنف ضد الرفق (لينا من غير ضعف) لئلا يهابه صاحب الحق، وظاهر الفصول يجب ذلك (حليما) لئلا يغضب من كلام الخصم فيمنعه ذلك من الحكم بينها (متأنيا) لئلا تؤدي عجلته إلى ما لا ينبغي (ذا فطنة وتيقظ) لئلا يخدع من بعض الخصوم على غرة (بصيراً بأحكام الحكام قبله يخاف الله تعالى

ص: 42

ويراقبه لا يؤتى من غفلة ولا يخدع لغرة).

لقول علي: لا ينبغي للقاضي أن يكون قاضيا حتى يكون فيه خمس خصال: عفيف حليم عالم بما كان قبله يستشير ذوي الألباب لا يخاف في الله لومة لائم.

(صحيح البصر والسمع عالما بلغات أهل ولايته) لأن ذلك أمكن في العدل بينهم لان المترجم قد يخفى شيئا من كلام أحدهما (عفيفا) لما تقدم عن علي (ورعا نزها بعيدا عن الطمع صدوق اللهجة لا يهزل ولا يمجن) أي يمزح لأن ذلك يخل بهيئته.

(ذا رأي ومشورة) لما تقدم عن علي (لكلامه لين ذا قرب وهيبة إذا أوعد ووفاء إذا وعد) يقال وعد في الخير وأوعد في ضده. هذا هو الأصل وقد يستعمل كل منهما بمعنى الآخر (ولا يكون) القاضي (جبارا ولا عسوفا) لأنه لا يحصل المقصود بتوليته من وصول الحق لمستحقه (وله أن ينتهر الخصم إذا التوى) لأن الحاجة داعية إلى ذلك لإقامة العدل وأن يصيح عليه أي على الخصم عند التوائه وإن استحق التعزيز عزره بما يرى من أدب لا يزيد على عشرة أسواط.

(أو حبس وإن افتات) الخصم عليه أي على القاضي (بأن يقول) الخصم: (حكمت علي بغير الحق، أو ارتشيت، فله تأديبه) لأنه يشق عليه رفعه إلى غيره، فجاز له تأديبه بنفسه مع أنه حق له وله أي القاضي (أن يعفو) عمن افتات عليه لأنه حق له، وإن بدأ المتنكر باليمين قطعها القاضي (عليه، وقال البينة: على خصمك) المدعي فإن عاد المنكر إلى اليمين (نهره) عن ذلك (فإن

ص: 43

عاد) إليه (عزره إن رأى) ذلك (وأمثال ذلك مما فيه إساءة الأدب وإذا ولي) القاضي (في غير بلده فأراد المسير إليه استحب أن يبحث عن قوم من أهل ذلك البلد إن وجد ليسألهم عنه).

أي عن البلد (وعن علمائه وعدو له وفضلائه) ليعرف حالهم حتى يشاور من هو أهل للمشاورة، ويقبل شهادة من هو أهل للعدالة ويتعرف منهم أي من وجد من أهل ذلك البلد (ما يحتاج إلى معرفته، فإن لم يجد من يسأل في البلد الذي هو فيه (ولا في طريقه سأل إذا دخل) ليتعرف حالهم لم تقدم، (وإذا قرب) القاضي منه أي من البلد الذي ولي فيه (بعث من يعلم بقدومه ليتلقوه من غير أن يأمرهم بتلقيه) لأن في تلقيه تعظيما له.

وذلك طريق لقبول قوله ونفوذ أمره (ويدخل في البلد يوم الاثنين أو) يوم (الخميس أو) يوم السبت لقوله (صلى الله عليه وآله): بورك لأمتي في سبتها وخميسها. وروي أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان إذا قدم من سفر قدم يوم الخميس.

(ضحوة) الاستقبال الشهر تفاؤلا لابسا أجمل ثيابه أي أحسنهما لأن الله جميل يحب الجمال وقال تعالى:

«خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ»(1).

لأنها مجامع الناس وهذا موضع يجتمع فیه ما لا يجتمع في المسجد فكان أولى بالزينة وفي التبصرة وكذا أصحابه أي يلبسون أحسن ثيابهم وجزم به في المنتهى لأن ذلك يكون أعظم له ولهم في النفوس، وأن يكون جميعها أي

ص: 44


1- الأعراف: 31

الثياب سود وإلا فالعمامة لأنّه (صلى الله عليه وآله دخل مكة عليه عمامة حرقانية أي سوداء.

قاله في الفروع والمبدع (وظاهر كلامهم غير السواد أولى) للاخبار أي في البياض ولا يتطير أي يتشاءم (بشئ، وإن تفاءل فحسن) لأنه (صلى الله عليه وآله) كان يحب الفأل الحسن ونهي عن الطيرة فيأتي القاضي (الجامع يصلي فيه ركعتين) لأن النبي (صلى الله عليه وآله) كان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين فيستحب ذلك لكل قادم ويجلس مستقبل القبلة لأن خير المجالس ما استقبل به القبلة.

(فإذا اجتمع الناس أمر بعهده) أي بالذي كتبه له موليه عما ولاه إياه (فقرئ عليهم) أي الحاضرين ليعلموا توليته ويعلموا احتياط الامام على اتباع أحكام الشرع، والنهي عن مخالفته وقدر المولى عنده ويعلموا حدود ولايته وما فوض إليه الحكم فيه (وليقل) القاضي (من كلامه إلا لحاجة).

للخبر (ويأمر من ينادي بيوم جلوسه للحكم) ليعلم من له حاجة فيقصد الحضور لفصل حاجته ثم ينصرف القاضي إلى منزله الذي أعد له ليستريح من نصب سفره ويبعد أمره وليرتب نوابه ليكون خروجه على أعدل أحواله)(1).

خامسا: المذهب الإباضي.

ذهب فقهاء المذهب الإباضي إلى بيان آداب القاضي بما يلي:

ص: 45


1- کشاف القناع: ج 6 ص 392 - 394

(أن يكون منزل القضاء في وسط البلد، ويستحسن ان يكون مستقبل القبلة، متربعاً أو محتبياً ولا بأس أن يقضي متكئاً، ويحلق بذلك قعود الخصمين عنده، والذي ينبغي له ان يجلسهما بين يديه كانا قويين أو ضعيفين، أو أحدهما قوياً، والآخر ضعيفاً، والمشهور التسوية بين المسلم والذمي في التقريب، وإذا تخاصم إليه مشركان فله أن لا يحكم، لقوله «أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ».

ويقعد من طلوع الشمس للزوال، ولا بأس بأكثر ولو نهاره كله أو أقل، لكن لا يقصر، ويحترز عن حال الملل فيستريح ليقوى على الأمر.

ويستحب أن يكون عبوساً من غير غضب، ويلزم التواضع من غير وهن، ولا ترك شيء من الحق ويجتنب كل ما فيه خلل بالرتبة، وإن كان مباحاً في أصله.

ومن آدابه ان يجتنب مخالطة الناس ومشيه معهم إلا لحاجة لا بد منها، وله عيادة المرضى، وشهود الجنازة والتسليم على الناس، ويرد إذا بدأوا)(1).

سادساً: المذهب الحنفي.

تناول فقهاء المذهب الحنفي آداب القاضي وقد أسهبوا كثيراً في إيراد الشواهد التاريخية والحديثية حتى تجاوز العرض لهذه الآداب صفحات عديدة، لا سيما فيما أورده السرخسي (ت 473 ه)(2).

أما ما أورده أبو بكر الكاشاني (ت 587 ه) فقد أرتكز على رسالة عمر بن الخطاب إلى ابي موسى الأشعري، أما السمر قندي (ت 539 ه) فقد

ص: 46


1- شرح كتاب النيل وشفاء العليل: ج 13 ص 15 - 16
2- المبسوط: ج 16 ص 59 - 94

جمع هذه الآداب دون الاستشهاد بالمرويات التاريخية والحديثة فيقول:

(فللقاضي أن يجلس مع نفسه قوما من الفقهاء ليشاور معهم إذا احتاج إليه. فإن اتفقوا عليه، والحادثة معروفة في السلف، يقضي به.

وإن اختلفوا فعلى ما ذكرنا. فإن بدا له أن يرجع فيما اعتمد على قول بعضهم، ورأي الصواب في قول الآخر فله ذلك، لان له أن يقضي في المجتهد فيه، بما لاح له من دليل الاجتهاد إن كان مجتهدا. فأما بعد الحكم فليس له أن يبطل ذلك القضاء، لان صار بالقضاء كالمتفق عليه، ولكن يعمل في المستقبل بخلافه إذا رأى ذلك صوابا.

وينبغي أن يعدل بين الخصمين في مجلسهما منه: لا يقرب أحدهما دون الآخر، وإن كان له شرف العلم والنسب. وإن كان يريد تعظيم ذلك في المجلس، ينبغي أن يجلس خصمه معه، أينما أجلس الأول.

وكذلك يعدل بينهما النظر والمنطق ولا يشير إلى أحد الخصمين دون الآخر. وكذلك لا يخلو بأحدهما، دفعا للتهمة، ولا يرفع صوته على أحدهما ما لم يرفع على الآخر، عند الشغب والمنازعة. فأما إذا وجد من أحدهما، فإنه يرفع صوته عليه تأديبا له.

ولا ينبغي أن يلقن أحد الخصمين حجته. ولا بأس بأن يلقن الشاهد، إذا كان يستحي ويهاب مجلس القاضي بشيء هو حق. وإذا تكلم أحدهما أسكت الآخر، حتى يسمع كلامه ويفهم ثم يستنطق الآخر حتى يكون أقرب إلى الفهم.

ولا ينبغي أن يجلس للقضاء وبه ما يشغله عنه، نحو الهم، والغصب،

ص: 47

والنعاس، وغيرها، على ما قال (عليه السلام): لا يقضي القاضي وهو غضبان. وينبغي أن يقدم الرجال على حدة، والنساء على حدة، الأول فالأول. ولا يخلط النساء بالرجال لأنه سبب للفتنة.

وينبغي أن يتخذ كاتبا من أهل العفاف والصلاح، وهو فقيه عالم بصنعة الكتابة، ثم يقعده حيث يرى ما يكتب وما يصنع. وفي عادة السلف أن القاضي هو الذي يكتب خصومة كلا الخصمين، على كاغذ السؤال والجواب، ثم يكتب شهادة الشهود على حسب ما شهدوا بعد كتابة جواب الخصم، ثم يطوي الكتاب، ثم يختمه، ثم يكتب على ظهره خصومة فلان وفلان، في شهر كذا، في سنة كذا ويضعه في قمطرة على حدة.

وفي زماننا: العادة أن الكاتب هو الذي يكتب كتاب الدعوى، ويترك موضع التاريخ، ولا يكتب جواب الخصم ويكتب أسماء الشهود بعد ذلك ويترك فيما بين الخطين فرجة فإذا رفع الدعوى عند القاضي، فيكتب التاريخ بنفسه، ويكتب جواب الخصم على الوجه الذي تقرر.

وإذا شهد الشهود في المجلس على ما يدعه المدعي يكتب شهادة كل واحد تحت اسمه على الوجه الذي تقرر ويختم الكتاب، ثم يكتب بنفسه في ذلك اليوم أسماء الشهود، أو يأمر الكاتب حتى يكتبه بين يديه، ويختم، ويبعث بذلك على يد رجل من أهل الثقة، في السر، إلى أهل الثقة والسلاح عنده حتى يعدلوا الشهود.

فإذا اتفق اثنان أو أكثر على تزكية رجل قبل قوله وعمل به. وإن اجتمع جماعة على أنه ثقة، واثنان على جرحه يأخذ بالجرح. والعدد شرط عندهما

ص: 48

في المزكين. وأما عند أبي حنيفة: فالواحد كاف. وكذا الخلاف في الذي يبعث المستورة: يشترط فيه العدد عند هما خلافا له

. ثم يسأل عن التزكية علانية بعدما يسأل في السر حتى لا يقع فيه ريبة على القاضي، فيتهم بذلك. ولا ينبغي للقاضي أن يقبل الهدية إلا من ذي رحم محرم منه أو من صديق، قديم الصحبة، قد كان بينهما التهادي قبل زمان القضاء، فأما من غير هذين: فلا يقبل الهدية، ويكون ذلك في معنى الرشوة. وأما الدعوة فإن كان دعوة عامة، مثل دعوة العرس، والختان: فلا بأس بذلك.

فأما الدعوة الخاصة: فإن كانت من ذي الرحم المحرم، أو الصديق القديم الذي كان يضيفه قبل القضاء فلا بأس بالإجابة. وفي غيرهما: لا ينبغي أن يحضر، لان ذلك يوجب تهمة فيه. ولا بأس للقاضي أن يبعث الخصمين إلى المصالحة إن طمع منهما المصالحة. وإن لم يطمع ولم يرضيا بذلك فلا يردهما إلى الصلح ويتركهما على الخصومة، وينفذ القضاء في حق من قامت الحجة له والله تعالى أعلم)(1).

المسألة الثالثة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة.

أولا: ذهب فقهاء الإمامية من حيث التصنيف في الآداب إلى كونها مستحبة ومكروهة في حين ذهب بقية المذاهب إلى ايرادها مع آداب القضاء مجتمعة.

ثانيا: أقتصر المذهب المالكية على ست صفات، جعلها اساسية، وأوجب

ص: 49


1- تحفة الفقهاء: ج 3 ص 373 - 374

توفرها في القاضي وهي (أن يكون حراً، مسلماً، عاقلاً، بالغاً، ذكرا، واحداً) وجعل العلم والفطنة من الصفات المستحبة.

وهو بهذا التصنيف ينفرد عن بقية المذاهب الستة.

ثالثا: أتفق الإمامية، والزيدية، والشافعية، والحنابلة، والإباضية، على جملة من الآداب اللازم توفرها في القاضي. وبتفاوت في الالفاظ والدلالات، فكان منها:

1. أن يسكن وسط البلد.

2. وان يستعلم حال أهلها.

3. وان ينادي بقدومه ليعلم الناس بوصوله.

4. وان يجلس للقضاء بموضع بارز.

5. ويسأل عن العلماء وأهل الفضل والعدالة والصلاح.

6. وإذا حكم في المسجد فيلكن جلوسه مستدبراً للقبلة ووجه الخصوم إليها، وقيل يكون جلوسه مستقبلاً القبلة؛ ولا يجلس على التراب ولا على بارية المسجد، ويكون عيله سكينة ووقار.

7. ويستحب له ان يجلس وهو خال من الغضب، والحزن والجوع والعطش، والهم والنعاس وغيرها، كي لا يؤثر ذلك على فطنته ويقظته.

8. ويستحب ان ينظر بما حكم به الحاكم من قبله من الحجج والقضايا المودعة عنده، ويستعمل حال أهل السجن ويأخذ بمراجعة أحوالهم وحال خصومهم وينظر في المعسور منهم.

ص: 50

9. ثم يسأل عن الاوصياء وعن الايتام ويعمل معهم ما يجب من تضمين أو نفاد أو إسقاط ولاية.

10. ثم ينظر في أمناء الحاكم الحافظين لأموال الايتام الذين يليهم الحاكم، ولأحوال الناس من وديعة ومال محجور عليه.

11. ثم ينظر في الضوال واللقط ويحضر من أهل العلم من يشهد حكمه.

رابعا: اعتمد بعض الفقهاء في المذهب الحنفي في ایراد آداب القاضي على الكتاب المنسوب إلى عمر بن الخطاب الذي أرسله إلى أبي موسى الاشعري لما ولاه القضاء في الكوفة.

والمتأمل في هذه الرسالة يجد أن بعض مطالبها مقتبسة من عهد أمير المؤمنين الإمام علي بن ابي طالب (صلوات الله وسلامة عليه) لمحمد بن أبي بكر لما ولاه مصر وغيره من عماله على المدن لاسيما يما يتعلق بالقضاة والولاة والحكام وتعاملهم مع الناس.

ومن الشواهد على هذا الأمر؛ قوله (عليه الصلاة والسلام):

«و آس بينهم في اللحظة والنظرة حتى لا يطمع العظماء في حيفك لهم ولا ییاس الضعفاء من عدلك بهم»(1).

وهذه العبارة جاءت في الكتاب المنسوب إلى ابن الخطاب، أنه قال:

«آس بين الناس في وجهك ومجلسك وعدلك حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك»(2).

ص: 51


1- نهج البلاغة، عهده لمحمد بن أبي بكر الكتاب: 27
2- المبسوط للسرخسي: ج 16 ص 61؛ بدائع الصنائع لابن بكر الكاشاني: ج 7 ص 9

ولقد حاول الالباني دفع الشكوك ورفع الوهن عن سند الرواية وايجاد تخريج سندي معتبر لها، فلم يفلح في ذلك لا سيما وان المقارنة بين متن الرسالة والعهد الشريف للإمام علي يكشف عن أرث أمير المؤمنين (عليه السلام) المنهوب والمنسوب إلى غيره، وهو أمر تسالم على حقيقته وصحته الكثير من المحققين والباحثين.

المسألة الرابعة: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة.

قال عليه الصلاة والسلام:

«ثُمَّ اخْتَرْ لِلْحُکْمِ بَيْنَ النَّاسِ أَفْضَلَ رَعِيَّتِكَ فِي نَفْسِكَ - مِمَّنْ لاَ تَضِيقُ بِهِ الاْمُورُ، وَلاَ تُمَحِّکُهُ الْخُصُومُ - وَلاَ يَتَمَادَى فِي الزَّلَّةِ - وَلاَ يَحْصَرُ مِنَ الْفَيْءِ إِلَى الْحَقِّ إِذَا عَرَفَهُ - وَلاَ تُشْرِفُ نَفْسُهُ عَلَى طَمَع - وَلاَ يَکْتَفِي بِأَدْنَى فَهْم دُونَ أَقْصَاهُ - وَأَوْقَفَهُمْ فِي الشُّبُهَاتِ وَآخَذَهُمْ بِالْحُجَجِ - وَأَقَلَّهُمْ تَبَرُّماً بِمُرَاجَعَةِ الْخَصْمِ - وَأَصْبَرَهُمْ عَلَى تَکَشُّفِ الاْمُورِ - وَأَصْرَمَهُمْ عِنْدَ اتِّضَاحِ الْحُکْمِ - مِمَّنْ لاَ يَزْدَهِيهِ إِطْرَاءٌ وَلاَ يَسْتَمِيلُهُ إِغْرَاءٌ - وَأُولَئِكَ قَلِيلٌ - ثُمَّ أَکْثِرْ تَعَاهُدَ قَضَائِهِ - وَافْسَحْ لَهُ فِي الْبَذْلِ مَا يُزِيلُ عِلَّتَهُ - وَتَقِلُّ مَعَهُ حَاجَتُهُ إِلَى النَّاسِ - وَأَعْطِهِ مِنَ الْمَنْزِلَةِ لَدَيْكَ مَا لاَ يَطْمَعُ فِيهِ غَيْرُهُ مِنْ خَاصَّتِكَ - لِيَأْمَنَ بِذَلِكَ اغْتِيَالَ الرِّجَالِ لَهُ عِنْدَكَ - فَانْظُرْ فِي ذَلِكَ نَظَراً بَلِيغاً - فَإِنَّ هَذَا الدِّينَ قَدْ کَانَ أَسِيراً فِي أَيْدِي الاْشْرَارِ - يُعْمَلُ فِيهِ بِالْهَوَى وَتُطْلَبُ بِهِ الدُّنْيَا»(1).

ونورد في ذلك قول البحراني، وابن أبي الحديد المعتزلي، وهما كالاتي:

ص: 52


1- ارواء الغليل: ج 8 ص 241 - 242

أولاً: ابن میثم البحراني (رحمه الله) (ت 679 ه):

قال في شرحه لمطالب العهد الشريف:

(الصنف الثاني: قضاة العدل وعيّنهم له بأوصاف و أمره فيهم بأوامر:

(أمّا التعين فأوجب أن يكون أفضل رعيّته في نفسه، ومنیّز ذلك الأفضل بصفات: أحدها: أن يكون ممّن لا يضيق به الأمور فيحار فيها حين تورد عليه.

الثاني: وممّن لا يمحكه الخصوم: أي يغلبه على الحقّ باللجاج. وقيل: ذلك كناية عن كونه ممّن يرتضيه الخصوم فلا تلاجّه ويقبل بأوّل قوله.

الثالث: أن لا يتمادى في زلَّته إذا زلّ فإنّ الرجوع إلى الحقّ خير من التمادي في الضلال.

الرابع: أن لا يحصر من الرجوع إلى الحقّ إذا عرفه كما يفعله قضاة السوء حفظا للجاه وخوفا من شناعة الغلط.

الخامس: أن لا يشرف نفسه على طمع فإنّ الطمع في الناس داعية الحاجة إليهم والميل عن الحقّ.

السادس: أن لا يكتفي بأدنی فهم دون أقصاه لأنّ ذلك مظنّة الغلط.

السابع: أن يكون أوقف الناس عند الشبهات لأنّها مظنّة الوقوع في المأثم.

الثامن: وآخذهم بالحجج. التاسع: وأقلَّهم تبرّما بمراجعة الخصم لما يستلزمه التبرّم من تضييع الحقوق.

العاشر: وكذلك وأصبرهم على تكشّف الأمور.

ص: 53

الحادي عشر: وأصر مهم عند اتّضاح الحقّ فإنّ في التأخير آفات.

الثاني عشر: وممّن لا يحدث له كثرة المدح کبرا.

الثالث عشر: وممّن لا يستميله إلى غير الحقّ إغراء به ثمّ حكم بقلَّة من يجتمع فيه هذه الصفات تنبيها على أنّ فيها ما هو أولى دون أن يكون شرطا في القضاء. وأمّا الأوامر:

فأحدها: أن يختار من كان بالصفات المذكورة.

الثاني: أن يكثر تعاهد قضائه ليقطع طمعه في الانحراف عن الحقّ لو خطر بباله.

الثالث: أن يفسح له في البذل ما يزيل علَّته، وهو كناية عمّا يكفيه ويقلّ معه حاجته إلى الناس فلا يميل إليهم، و - ما - يحتمل أن يكون بدلا من البذل، وأن يكون مفعولا لفعل محذوف دلّ عليه البذل كأنّه قال: فيبذل له ما يزيل علَّته، وأن يكون مفعولا ليفسح: أي يوسّع له ما يكفيه من المال، ويحتمل أن يكون في معنى مصدر يفسح: أي يفسح له فسحا يزيل علَّته.

الرابع: أن يعطيه من المنزلة عنده ما لا يطمع فيه معهاغيره من خاصّته ليأمن بذلك اغتيال الأعداء. وتقدير كبرى هذا الضمير: وكلّ ما كان كذلك فواجب بذله للقاضي.

الخامس: أن ينظر في اختيار من كان بهذه الصفات وفيما أمره به نظرا بالغا ليعمل بأقصاه. وعلَّل ذلك بقوله: فإنّ هذا الدين. إلى قوله: الدنيا. واستعار لفظ الأسير باعتبار تصريفهم له کالأسير. والكلام صغری ضمير تقدیر کبراہ: وكلَّما كان كذلك فيجب النظر في اختيار من يعمل بالحقّ

ص: 54

ويخرجه من أسر الأشرار)(1).

ثانياً: ابن أبي الحديد المعتزلي (ت 656 ه):

(تمحکه الخصوم: تجعله ما حکا، أي لجوجا، محك الرجل، أي لج، وماحك زید عمرا، أي لاجه.

قوله: «ولا يتمادى في الزلة»، أي إن زل رجع وأناب والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل.

قوله: «ولا يحصر من الفي» هو المعنى الأول بعينه، والفئ الرجوع، إلا أن هاهنا زیادة، وهو أنه لا يحصر، أي لا يعيا في المنطق، لان من الناس من إذا زل حصر عن أن يرجع وأصابه کالفهاهة والعي خجلا.

قوله: «ولا تشرف نفسه»، أي لا تشفق. والاشراف الاشفاق والخوف، وأنشد الليث:

ومن مضر الحمراء إسراف أنفس *** علينا وحياها علينا تمضرا

وقال عروة بن أذينة:

لقد علمت وما الأشراف من خلقي *** أن الذي هو رزقی سوف ياتيني

والمعنى: ولا تشفق نفسه وتخاف من فوت المنافع والمرافق.

ثم قال ولا يكتفي بأدنى فهم أي لا يكون قانعا بما يخطر له بادئ الرأي من أمر الخصوم، بل يستقصى ويبحث أشد البحث.

ص: 55


1- شرح نهج البلاغة: ج 5 ص 162 - 164

قوله: «وأقلهم تبرما بمراجعة الخصم»، أي تضجرا، وهذه الخصلة من محاسن ما شرطه عليه السلام فان القلق والضجر والتبرم قبيح وأقبح ما يكون من القاضي. قوله: وأصرمهم، أي أقطعهم وأمضاهم. وازدهاه كذا، أي استخفه. والإطراء: المدح. والإغراء: التحريض. ثم أمره أن يتطلع على أحكامه وأقضيته، وأن يفرض له عطاء واسعا يملأ عينه، ويتعفف به عن المرافق والرشوات، وأن يكون قريب المكان منه، كثير الاختصاص به ليمنع قربه من سعاية الرجال به وتقبيحهم ذكره عنده.

ثم قال: «إن هذا الدين قد كان أسيرا»، هذه إشارة إلى قضاة عثمان وحكامه، وأنهم لم يكونوا يقضون بالحق عنده بل بالهوى لطلب الدنيا)(1).

ص: 56


1- شرح نهج البلاغة: ج 17 ص 59 - 60

الفصل الثاني : بذل الهدية إلى القاضي والمفتي والوالي

اشارة

ص: 57

ص: 58

المحبث الأول حكم بذل الهدية للقاضي والمفتي وقبولها في المذاهب الإسلامية السبعة

قال علية الصلاة والسلام:

«وَأَعْجَبُ مِنْ ذلِكَ طَارِقٌ طَرَقَنَا بِمَلْفَوفَةٍ فِي وِعَائِهَا - وَمَعْجُونَةٍ شَنِئْتُهَا - كَأَنَّمَا عُجِنَتْ بِرِيقِ حَيَّةٍ أَوْ قَيْئِهَا - فَقُلْتُ: أَصِلَةٌ أَمْ زَكَاةٌ أَمْ صَدَقَةٌ - فَذلِكَ مُحَرَّمٌ عَلَيْنَا أَهْلَ الْبَيْتِ - فَقَالَ: لاَ ذَا وَلاَ ذَاكَ، وَلكِنَّهَا هَدِيَّةٌ - فَقُلْتُ هَبِلَتْكَ الْهَبُولُ أَعَنْ دِينِ اللهِ أَتَيْتَنِي لِتَخْدَعَنِي - أَمُخْتَبِطٌ أَنْتَ أَمْ ذُوجِنَّة، أَمْ تَهْجُرُ - وَاللهِ لَوْ أُعْطِيتُ الْأَقَالِيمَ السَّبْعَةَ بِمَا تَحْتَ أَفْلاَكِهَا - عَلَى أَنْ أَعْصِيَ اللهَ فِي نَمْلَةٍ أَسْلُبُهَا جِلْبَ شَعِيرَةٍ مَا فَعَلْتُهُ - وَإِنَّ دُنْيَاكُمْ عِنْدِي لَأَهْوَنُ مِنْ وَرَقَةٍ فِي فَمِ جَرَادَةٍ تَقْضَمُهَا - مَا لِعَلِيّ وَلِنَعِيمٍ يَفْنَى وَلَذَّةٍ لاَ تَبْقَى - نَعُوذُ بِاللهِ مِنْ سُبَاتِ الْعَقْلِ وَقُبْحِ الزَّلَلِ وَبِهِ نَسْتَعِينُ»(1).

ص: 59


1- نهج البلاغة، الخطبة 224، ج 2 ص 18 بشرح محمد عبده

المسألة الأولى: بذل الهدية إلى القضاة في المذهب الامامي.

تناول الفقهاء في المذاهب الإسلامية عنوان الهدية في كتاب الهبة، وسمی بعضهم الكتاب بالهبات، لاشتماله على الهدية، والجائزة، النحلة، والصدقة، والوقف، وهو ما ذهب إليه الشيخ الطوسي(1) والمحقق الحلي(2)، والعلامة الحلي(3)، والنووي الشافعي(4)، وإمام المذهب المالكي(5) مع تفاوت في و الاقتصار على بعض هذه العناوين أو جمعها ضمن الهبة، کما ور في شرائع المحقق الحلي (عليه الرحمة الرضوان).

إلا أن مدار حکم الهدية في هذه المسألة مرتبط بالقضاء وقد تناولها الفقهاء ضمن موردين الأول في الآداب، والاخر في الرشوة.

وقد أشار الشيخ مرتضى الانصاري (رضوان الله تعالى عليه) (ت: 1281 ه) إلى الفرق بين الهدية والرشوة، فقال:

(أن الرشوة تبذل لأجل الحكم، والهدية تبذل لإيراث الحب المحرك له على الحكم على وفق مطلبه)).

وعليه: فيكون حكمها ببعض القيود: الحرمة، وهو ما ذهب إليه بعض فقهاء المذاهب الإسلامية وبعضهم بالجواز، وهي كالاتي:

ص: 60


1- الشيخ الطوسي في المبسوط: ج 3 ص 303
2- المحقق الحلي (رحمه الله) أيضاً في شرائع الإسلام: ح 2 ص 679
3- العلامة الحلي التبصرة: ص 161 وفي تحرير الأحكام: ج 3 ص 373
4- المجموع: ج 15 ص 367
5- المرونة الكبری: ج 6 ص 78. (6) کتاب المكاسب: ج 1 ص 246

ذهب فقهاء الإمامية: إلى القول بحرمة بذل الهدية إلى القاضي إذا كان الغرض من البذل التوصل إلى الحكم، حقاً كان أو باطلاً، فهي ليست هدية في واقعها، وإنما هي غلول، ونهب لأموال الناس حقيقة.

وقد تناول الشيخ آقا ضياء العراقي (عليه الرحمة والرضوان) (ت 1361 ه) المسألة مستجمعا لأقوال فقهاء الطائفة، مبتدأ بطرح السؤال الاتي، فيقول:

(هل الرشوة عنوان خاص كسائر عناوين العقود والايقاعات نظير الربا والغصب، أم هي عنوان عام صالح للانطباق على سائر المعاملات المعاوضية والاذنية وغيرها، كالهبة، والمحاباة والاجارة، والجعالة، ونحو ذلك، نظير عنوان ((الاعانة على الأثم)) الذي ينطبق على غيره من المعاملات أيضاً، فتحرم تلك بحرمتها؟

يبدو من صاحب الجواهر - قدس سره - ان الرشوة عنوان عام صالح للانطباق مع سائر العناوين فتوجب حرمتها، ترجيحا لأدلة فسادها على ما يقتضي صحتها من أدلة تلك العقود.

قال - عند الكلام عن وجوب إعادة الرشوة إلى صاحبها -: لبقائها على ملكه، حتى لو وقعت في ضمن عقد هبة أو بيع محاباة أو وقف. فإنه بناء على ان نحو ذلك من افراد الرشا، لا ريب في فساد العقود المزبورة، نحو ما كان منها إعانة على الإثم، ترجيحا لأدلة فسادها على ما يقتضي صحتها.

بل النهى فيها عن نفس المعاملة. بل لعل ذلك هو مبنى فساد الرشوة التي هي غالبا تكون بعنوان الهبة رشوة.

ص: 61

وقال - أخيرا -: فالتحقيق حينئذ ما عرفت من حرمة الهدية رشوة کالهبة رشوة. وحينئذ يكون الرشا أعم من كل هذه العقود من وجه، نحو الإعانة على الإثم.

فتأمل جيدا كي تعرف ما في المسالك وغيرها، من حرمة الهدية للقاضي والعامل ممن لم يكن عادته الهدية له قبل ذلك(1).

واستجوده العلامة الكني - قدس سره - قائلا: وحيث عرفت انه لا يعتبر في موضوعها المحرم أن لا يصدق علیه موضوع آخر مما يجوز دفعه وأخذه في نفسه من هدية أو بيع أو هبة، ظهر ان الهدية إلى الحاكم إذا كانت تندرج في موضوع الرشوة كانت حراما، وان كانت النسبة بينها بطريق التباين الجزئي المستلزم لكون التعارض في أدلتهما كذلك، الا ان الترجيح لجانب التحريم، على ما يظهر من الفقهاء.

حتى ان بعضهم منع من الإهداء إلى الحاكم مطلقا حتى ما لم يقصد به التوصل إلى حكمه. قال في المسالك: ((أما الهدية فالأولى ان يسد بابها ولا يقبلها، لأنها أبعد عن التهمة)).

فوجه الترجيح هو العمل، مضافا إلى استلزام عکسه تخصيص الأكثر أو تقييده في أدلة الرشوة، لأن أكثرهابل جميعها عدا قليل منها بطريق الإهداء(2) واستشكل عليه المحقق العراقي - قدس سره - بأنه يستدعي توجه الإيراد عليه بان النهي المتعلق بالمعاملة بعنوان ثانوي، مثل الإعانة على الإثم، لا

ص: 62


1- جواهر الكلام ج 40 ص 131 - 133
2- کتاب القضاء ص 10 - 11

يقتضي الفساد.

هذا إذا فرض أن الرشوة المنهي عنها هي نفس العمل، اما إذا كانت عنوانا للمال المعطى، فالنهي يقتضي الفساد لا محالة.

وقد التزم هو - قدس سره - بأن الرشوة هو المال المعطى بقصد إحداث الداعي به على الحكم. ومن ثمَّ قطع بفساد المعاملة التي انطبق عليها هذا العنوان، قائلا: ومن هنا ظهر ان الرشوة المبطلة لا بد أن تكون في ضمن أحد هذه العناوين المقتضية للصحة، وعليه فيكفي في رفع اليد عما يقتضي صحتها، ما ورد:

«ان من أكل السحت الرشوة في الحكم» حيث ان النهى عن نفس المال ملازم عرفا مع الفساد، من دون احتياج إلى التمسك بنواهى نفس الرشوة، كي يورد عليه بان النهي المتعلق بالمعاملة بعنوان ثانوي لا يقتضي الفساد(1)

قلت: الرشوة كما تكون اسما للمال المعطى رشوة، كذلك هي اسم مصدر لتعاطى ذلك. قال ابن الأثير: الرشوة - بكسر الراء وضمها - الوصلة إلى الحاجة بالمصانعة. وقال ابن منظور: الرشوة معروفة: الجعل.

وعليه فكما أن الرشوة بمعنى المال المأخوذ رشوة سحت، كذلك نفس تعاطى هذا العمل محرم ومنهي عنه بالذات، ومن ثمَّ كان الرشا في الحكم كفرا(2) أي نفس العمل كبيرة موبقة. فهو نظير الربا، اسم للمال المأخوذ ربا، ويطلق على تعاطى الربا أيضا. فهو بالمعنى الأول سحت:

ص: 63


1- في كتاب القضاء ص 42 - 43 ط 1 وص 65 - 66 من هذه الطبعة
2- في صحيحة ساعة. الوسائل ج 18 ص 162 رقم 3 باب 8 آداب القاضي

«الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ»(1). وبالمعنى الثاني أيضا حرام:

«وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا»(2).

فكما ان إطلاق السحت على المال المأخوذ رشوة، يستدعي فساد المعاملة بالاستلزام العرفي. كذلك حرمة نفس العمل تقتضي فساده ويترتب عليه حرمة أكل المال المأخوذ بسببه.

فالكلام من هذه الجهة الأخيرة يقع في ان المحرم ذو عنوان خاص نظير الغصب والسرقة، أم هو عنوان عام صالح للانطباق على سائر العناوين أيضا؟

والصحيح: انه عنوان خاص، نظير الربا والغصب والسرقة والزنا وأمثال ذلك، عنوان محرم برأسه، مستقل في مقوماته وحدوده ومشخصاته ذهنا وخارجا.

وان كان قد يتعنون بعنوان ظاهري آخر، لكن الحقيقة غير خفية بعد رضوح المقصود، والعقود تابعة للقصود نظير الربا المحرم المتعنون أحيانا بعناوين ظاهرية، تغطية للعمل المرتكب الشنيع. فكما ان الربا لا يتغير حكمه بتغيير الاسم والشكل الظاهري، ما دامت الحقيقة محفوظة بعينها مقصودة بذاتها، كذلك التغيير الشكلى في الرشا لا يوجب تغييرا في حكمه وفي آثاره المشؤومة الخبيثة.

فبعد ان كان الرشا، هو التعامل - صراحة أو قصدا - مع القاضي ليحكم

ص: 64


1- البقرة: 275
2- البقرة: 275

وفق مراد الراشي، حقا أو باطلا، بإزاء ما يدفعه اليه من المال. بعد ان كان الرشا هو ذلك، فلا يهم حينذاك أن يقدم اليه العوض بصورة هدية أو صدقة أو غيرهما، إذا كانت واقعية «الرشا في الحكم» محفوظة ومقصودة بالذات.

فمن السخف في القول ان يقال: إنها هدية بقصد الرشوة، لا، انها رشوة حقيقة، وليست من الهدية في شيء. كما ظهر ضعف قول بعضهم: «انها تكون غالبا بعنوان الهبة رشوة».

وهكذا تبين صحة نظر صاحب المسالك - قدس سره - وغيره، من حرمة الهدية للقاضي والعامل ممن لم تكن عادته الهدية له قبل ذلك. لأنه يرى أنها رشوة بعينها وليست هدية أساسا.

قال - في الفرق بين الهدية الصحيحة والرشوة الباطلة:

«ان دفع المال للقاضي ونحوه من العمال ان كان الغرض منه التودد أو التوسل لحاجة من العلم ونحوه، فهو هدية. وان كان التوسل إلى القضاء والعمل، فهو رشوة».

إذن فهو - قدس سره - یبنی صدق الهدية وعدم صدقها على الغرض من الدفع المذكور. فإذا كان الغرض هو التوصل إلى الحكم - حقا أو باطلا - فهو رشوة بلا کلام.

وقد أطلق - في النبوي المعروف - على الهدايا المقدمة إلى الأمراء عنوان الغول والاختلاس من بيت المال: ((هدية الأمراء غلول))(1). أي ليست هدية في واقعها. وانما هي غلول ونهب الأموال الناس حقيقة.

ص: 65


1- الوسائل ج 18 ص 163 رقم 6

وعليه فلا موجب لحمل هكذا تعابير على إرادة إثبات حكم المشبه به، توسعة في موضوع الحكم من باب الحكومة - كما ذكره الشيخ - في مثل:

((الطواف بالبيت صلاة)). بل الظاهر هو إرادة الحقيقة وبيان الواقع لا المجاز في التشبيه)(1).

المسألة الثانية: بذل الهدية للقضاة في المذاهب الاخرى.

أولا: المذهب الزيدي.

ذهب فقهاء الزيدية إلى حرمة بذل الهدية للقاضي واخذها إذا كانت قبال الواجب أو محضور مشروط أو مضمر، وقيل: تحرم إذا لم يكن من عادة أهل البلد المجازات وإلا فهي حلال.

قال إمام الزيدية أحمد المرتضى (ت 840 ه):

(وتحرم الهدية حيث وقعت مقابلة الواجب أو محظور مشروط أو مضمر. أي: ما يعطي أهل الولايات من الارقاد في ولائمهم فإن كانت عادتهم المجازاة عليه حلت لهم ولا فهو رشوة)(2).

ثانيا: المذهب الشافعي.

ذهب فقهاء الشافعية إلى التفريق في حكم الهدية بين بذلها للمفتي أو الحاكم، فإذا بذلت للحاكم قيدت بعدم أقرانها بالفتيا، فاذا بذلت لهذا الغرض أصبحت رشوة.

ص: 66


1- شرح تبصرة المتعلمين (كتاب القضاء): ص 419 - 423
2- شرح الازهار لأحمد المرتضى: ج 3 ص 450

ولذا: فمن الأولى أن يسد بابها ولا يقبلها.

وإذا بذلت للمفتي فيجوز له أخذها، لكونه غير حاكم، وقيل: لا يجوز للمفتي قبولها إن كانت بقيد ان يفتيه بما يريد لكونها بحكم الرشوة.

قال النووي (ت 676 ه):

(قال الصيمري والخطيب وغيرهما: لو أجتمع أهل البلد على أن جعلوا له رزقاً من أموالهم ليتفرغ لفتاويهم جاز؛ وأما الهدية، فقال ابو المظفر السمعاني من اصحابنا: ويجوز له قبولها بخلاف الحاكم، لأنه يلزمه حكمه؛ قال الشيخ ابو عمرو: ويبغي أن يحرم قبولها أن كانت رشوة على أن يفتيه بما یریدن كما في الحاكم وسائر ما لا يقابل بالأعواض)(1).

ثالثا: المذهب المالكي.

لم يختلف المذهب المالكي عن الشافعي في حكم الهدية للقاضي والمفتي، فكلاهما أي فقهاء المذهب الشافعي والمالكي يرى حرمة بذلت الهدية للقاضي واخذها من المهدي لميل النفس إلى القاضي؛ ويجوز قبول الهدية للمفتي والفقيه من لا يرجو بها ان يميل نفس المفتي والفقيه على الخصم، أو من شخص قريب كأبيه واختلفوا في جاز الهدية وعدم الجواز لمن اعتاد قبولها قبل التوليه.

قال أبو البركات (ت 1302 ه)

(وقبول هدية، أي: يحرم قبولها ولو كافأ عليها بأكثر منها لميل النفوس

ص: 67


1- روضة الطالبيين: ج 8 ص 96

للمهدي.

ويجوز للفقيه والمفتي قبولها ممن لا يرجو منه جاها ولا عونا على خصم إلا من شخص قريب لا يحكم له كأبيه وعمه وأمه وخاله فيجوز قبول الهدية.

وكذا ما قبلها بالاولى وفي جواز قبول هدية من أعتادها قبل الولاية للقضاء وعدم جوازها، أي: الكراهة قولان)(1).

رابعا: المذهب الحنفي.

تناول فقهاء المذهب الحنفي الهدية التي تقدم للقاضي في الآداب، وقد حكموا بأنها رشوة وسحت، خصوصاً لمن لم يعتاد أخذ الهدية فهو بهذا يكون من جملة الأكل بالقضاء، ومما يدخل به عليه التهمة، ويطمع فيه؛ ولكن يمكن له أن يقبل الهدية من ذي رحم لاسيما إذا كان التهادي فيما بينهم قبل القضاء عادة ويدخل في صلة الرحم.

قال السرخسي (ت 483 ه):

(ولا يقبل - القاضي - الهدية وقبول الهدية في الشرع مندوب إليه قال صلى الله عليه وآله):

«نعم الشيء الهدية إذا دخلت الباب ضحكت الأسكفة».

وقال (صلى الله عليه وآله):

«الهدية تذهب وجر الصدر».

ص: 68


1- الشرح الكبير: ج 4 ص 140

أو (وعر الصدر)، وقال صلى الله عليه وسلم:

«تهادوا تحابوا».

ولكن هذا في حق لم يتعين لعمل من أعمال المسلمين فأما من تعين لذلك كالقضاة والولاة فعليه التحرز عن قبول الهدية خصوصا ممن كأن لا يهدى إليه قبل ذلك لأنه من جوالب القضاء وهو نوع من الرشوة والسحت والأصل فيه ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل ابن الثينة على الصدقات فجاء بمال فقال هذا لكم وهذا ما أهدى إلي، فقال (صلى الله عليه وآله)، في خطبته:

«ما بال قوم نستعملهم فيقدموا بمال ويقولون هذا لكم وهذا مما أهدى إلى فهلا جلس أحدكم عند حمش أمه فينظر أبيهدى إليه أم لا».

واستعمل عمر أبا هريرة فقدم بمال فقال من أين لك هذا؟ قال تناتجت الخيول وتلاحقت الهداية قال أي عدو الله هلا قعدت في بيتك فنظر أيهدي إليك أم لا فأخذ ذلك منه وجعله في بيت المال.

فعرفنا أن قبول الهدية من الرشوة إذا كان بهذه الصفة ومن جملة الأكل بالقضاء ومما يدخل به عليه التهمة ويطمع فيه الناس فليتحرز من ذلك الا من ذي رحمه محرم منه فقد كان التهادي بينهم قبل ذلك عادة ولأنه من جوالب القرابة وهو مندوب إلى صلة الرحم وفي الرد معنى قطيعة الرحم وقطيعة الرحم من الملاعن فأما في حق الأجانب قبول القاضي الهدية من جملة ما يقال إذا دخلت الهدية من الباب خرجت الأمانة من الكوة)(1).

ص: 69


1- المبسوط للسرخسي: ج 16 ص 82

خامسا: المذهب الحنبلي.

ذهب الحنابلة إلى حرمت أخذ المفتي للهدية، إذا أراد المهدي أن يفتي له بما يريده، مما لا يفتي به غيره، وفي غير هذا الشرط جاز للفتي أخذ الهدية.

قال البهوتي (ت 1051 ه):

(وله، أي: للمفتي قبول هدية، والمراد لا ليفتيه بما يريده مما لا يفتي به غيره، أي: غير المهدي وإلا، أي: أن أخذها ليفتيه بما يريده مما لا يفتي به غيره حرمت عليه الهدية)(1).

سادسا: المذهب الإباضي.

ذهب فقهاء الإباضية إلى حرمة أخذ الهدية في الحكم فهي رشوة، والرشوة في الحكم كفر، ولا يجوز لأحد أن يأخذ شيئاً ما على بطلان حق ما.

أما إذا قدمت للحاكم بدون أن يكون لها تأثير في الحق فهي جائز.

وكذا قيل: بجواز أخذها من قريب أو جار أو صديق معتاد في الاهداء، أو مما يستوي فيه الفقراء والاغنياء، وربما زاد الصديق أو القريب أو الجار زيادة يريبها فيتحرج حتى تطمئن نفسه(2).

ص: 70


1- کشف القناع: ج 6 ص 382
2- شرح كتاب النيل وشفاء الغليل لمحمد اطفيش: ج 13 ص 75 - 76

المسألة الثالثة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة

أولا- أجمع فقهاء المذاهب الإسلامية على حرمت أخذ القاضي للهدية إذا كانت بقصد أن يحكم للخصم بما يريد.

ثانيا- وتباينت أقوالهم في الاطلاق والتقيد بين القضاء والإفتاء، وهي كالاتي:

1- ذهب فقهاء الإمامية (أعلى الله شأنهم) إلى القول: بالاطلاق، إذ يحرم تقديم الهدية إلى القاضي أو المفتي إذا كان الغرض من التقديم التوصل للحكم حقاً كان أو باطلاً، فهي ليست هدية في واقعها وانما هي غلول ونهب لأموال الناس حقيقة وهم بذاك ينفردون عن بقية المذاهب الإسلامية الستة.

2- وقال فقهاء الزيدية: بالتقييد بما عليه أهل البلد؛ إذ يحرم تقديم الهدية واخذها إذا لم يكن من عادة أهل البلد المجازات، وإلا فهي حلال.

3- وقال فقهاء الشافعية: بالتفريق بين تقديمها للمفتي أو الحاكم، فهي:

أ- إذا قدمت إلى الحاكم قيدت بعدم إقرانها بالفتيا فإذا قدمت لغرض الحصول على الحكم اصبحت رشوة.

ب- وإذا قدمت للمفتي فيجوز له أخذها لانه غير حاكم، وقيل: لا يجوز للمفتي قبولها إذا كانت يقيد أن يفتي المهدي بما يريد، فهي بحكم الرشوة ايضاً.

4- وقال المالكية: بالتقييد، وهي:

أ- إذا لم تقدم الهدية بغرض ميل النفس لأخذ الحكم من الحاكم أو المفتي هي جائز.

ص: 71

ب- يجوز اخذ الهدية من الاب والابن والعم والاخ والأم.

ج- كما يجوز للحاكم اخذها إذا اعتاد ذلك قبل التولية.

5- وقال فقهاء الحنفية: بالتقيد؛ فيجوز للحاكم أو المفتي أخذ الهدية من ذي رحم لكونها من صلة الرحم لا سيما إذا كان التهادي بينهم عادة وقبل توليه القضاء وبخلاف ذلك فهي رشوة.

6- وقال فقهاء الحنابلة: بالتقييد؛ فإذا لم تكن الهدية بقصد ميل نفس القاضي او المفتي للحكم فهي جائز.

7- وقال الإباضية: بحرمة اخذ الهدية في الحكم، ولا يجوز لاحد أن ياخذ شيئا ما على بطلان حق ما. أما اذا قدمت للحاكم بدون ان يكون لها تاثير في الحق فهي جائز، وكذا قيل: يجوز اخذها من قريب أوجار أ، صديق معتاد في الاهداء، او مما يستوي فيه الفقراء والاغنياء.

ص: 72

المحبث الثاني ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة

تناول شراح نهج البلاغة هذا الحديث الشريف وبينوا ما اكتنزه من معان ودلالات كثيرة في تهذيب النفس وترويضها، واثر ذلك على الحياة الاجتماعية، لا سيما طبقة القضاة والحكام، وما يلزم توفره فيهم من آداب ونزاهة.

المسألة الأولى: أبن ميثم البحراني (رحمه الله) (ت 679 ه)

وقوله (عليه السلام): «وأعجب من ذلك».

وقوله: «وأعجب من ذلك». إلى قوله: «أم تهجر». أي وأعجب من عقيل وحاله طارق طرقنا. والطارق: الآتي ليلا، وكنّى «بالملفوفة» في وعائها عن الهديّة. وقيل: كان شيئا من الحلواء كالفالوذج أو الحنبص ونحوه، ونبّه بقوله: «شنئتها».

لا على بعضه للأمور اللذيذة الدنيويّة ونفرته عنها زها فيها، ووجه تشبيهها بما عجن «بريق الحيّة أوقيئها» هو ما في تصوّره في قبولها من الفساد وما قصد بها مهديها في طلب الميل إليه المستلزم للظلم والجور عن سبيل الله فإنّ القصد الَّذي اشتمل عليه كالسمّ المهلك، وأمّا كون وجه كون المهدى أعجب من عقيل فلأنّ عقيلا جاء بثلاث وسايل كلّ منها يستلزم العاطفة عليه: وهى

ص: 73

الأخوّة والفاقة وكونه ذا حقّ في بيت المال، وهذا المهدى إنّما أدّلى بهديّته.

فأمّا قوله في جوابه: فقلت له. إلى قوله: أهل البيت. فإنّه أراد به حصر وجوب البرّ في العرف لأنّ التقرّب إلى الله ببذل المال لعباده إمّا صلة رحم أولا، والثاني فإمّا على وجه الصدقة أو الزكاة الواجبة ولم يذكر الهديّة لأنّه لم يكن في وهم عاقل قبول عليّ عليه السّلام لها خصوصا زمان خلافته.

وذلك أنّ مطلوب العاقل منه بالهديّة إمّا حقّ أو باطل، والحقّ لا يحتاج فيه إلى الهديّة والباطل لا يفعله بوجه، ولذلك لمّا قال له الطارق: إنّها هديّة. دعا عليه ونسبه إلى الجنون والهذيان، ولمّا قسّم عليه وجوب البرّ أبطل قسمين منها بقوله: «فذلك محرّم علينا أهل البيت». وأراد الصدقة والزكاة.

وأمّا صلة الرحم فلم يحتجّ إلى إبطالها لأنّ الطارق لم يكن ذا رحم له وقول الطارق: لا هذا ولا ذاك. يجرى في مجرى إبطال الحصر بإبراز قسم رابع هو الهديّة.

وقوله: «هبلتك الهبول». إلى قوله: تهجر.

جواب لقوله: ولكنّها هديّة. قرّر عليه فيه ما فهمه من غرضه بالهديّة، وهو خداعه عن دينه. إذا لهديّه لغرض حرام صورة استغرار وخداع، وذكر الخداع عن الدين تنفيرا لصاحب الهدية عن فعله ذلك، ولمّا كان ذلك الأمر لو تمّ الغرض به استلزم نقصان الدين كالخداع عن الدين فأطلق عليه لفظة الخداع استعارة.

وقوله: «أمختبط أم ذو جنّة أم تهجر». استفهام على سبيل الإنكار والتوبيخ على ذلك الخداع بعد تقريره عليه.

ص: 74

إذ كان المخادع لمثله (عليه السّلام) عن دينه لا يكون إلا على أحد الوجوه المذكورة غالبا ولا يتصوّر أن يصدر منه ذلك الخداع عن رويّة صحيحة، وقد ذكر وجوه الخروج عن الصواب ممّا يتعلَّق بالعقل.

وقوله: والله. إلى قوله: ما فعلت. يحتمل أن يكون ردّا لوهم الطارق فيه أنّه يفعل مطلوبه الحرام بتلك الهديّة، وإبطال لذلك الوهم عنه. والأقاليم السبعة: أقسام الأرض، وهو دليل منه على غاية العدل.

وقوله: وإنّ دنياكم. إلى قوله: تقضمها. دليل على غاية الزهد منه في الدنيا كقوله في الشقشقيّة: ولألفيتم دنياكم هذه أهون عندي من عفطة عنز.

وقوله: «ما لعليّ ولنعيم يفنى ولذّة لا تبقى».

استفهام إنكار لملامته نعيم الدنيا ولذّاتها الفانية، والمعنى أنّ حال عليّ ينافي ذلك النعيم، واختياره يضادّ تلك اللذّة. ثمّ تعوّذ باللهّ من سبات العقل وهي اختياراته لتلك اللذّات ولذلك النعيم وميله في مطاوعة النفس الأمّارة بالسوء، ومن قبح الزلل وهو الانحراف عن سبيل الله الموقع في مهاوي الهلاك، واستعان به على دفع ما تعوّذ به منه. وبالله التوفيق والعصمة)(1).

المسألة الثانية: ابن أبي الحديد المعتزلي (ت 656 ه):

تناول الشارح المعتزلي الحديث وذكر إن الإمام علي (عليه السلام) قد رد هدية الاشعث بن قيس، لكونه كان يريد ان يستميل قلب الإمام (عليه السلام) لغرض دنيوي كان في نفس الاشعث، ثم بيَّن انه (عليه السلام) كان

ص: 75


1- شرح نهج البلاغة: ج 4 ص 86 - 87

قد فطن لذلك فرد هديته وإلا لكان قبلها وذلك انه (عليه الصلاة والسلام) قد قبل من أصحابه هدايا قدموها له (عليه السلام).

وأقول: لم يختلف أئمة أهل البيت النبوي (عليهم السلام) في الحكم الشرعي فحلال محمد (صلى الله عليه وآله) حلال إلى يوم القيامة وحرامة حرام إلى يوم القيامة.

فإن كان قبل أمير المؤمنين (عليه السلام) هدية إحدٍ فلم يكن ما أهدي مرتبط بفترة حكمه (عليه السلام) أو انه مرتبط بحكم شرعي سواء كان الحكم حقاً أو باطلاً.

وإلا لم يكن ليقبل هدية من أمرءٍ دون هذين القيديين.

قال الشارح المعتزلي:

(قوله - عليه الصلاة والسلام: «بملفوفة في وعائها»):

كان أهدى له الأشعث بن قيس نوعا من الحلواء تأنق فيه وكان عليه السلام يبغض الأشعث لان الأشعث كان يبغضه وظن الأشعث انه يستميله بالمهاداة لغرض دنيوي كان في نفس الأشعث وكان أمير المؤمنين (عليه السلام) يفطن لذلك ويعلمه ولذلك رد هدية الأشعث.

ولولا ذلك لقبلها لان النبي صلى الله عليه وآله قبل الهدية وقد قبل علي عليه السلام هدايا جماعة من أصحابه ودعاه بعض من كان يأنس إليه إلى حلواء عملها يوم نوروز فاكل وقال لم عملت هذا فقال لأنه يوم نوروز فضحك وقال نورزوا لنا في كل يوم إن استطعتم.

ص: 76

وكان (عليه السلام من لطافة الأخلاق وسجاحة الشيم على قاعدة عجيبة جميلة ولكنه كان ينفر عن قوم كان يعلم من حالهم الشنان له وعمن يحاول إن يصانعه بذلك عن مال المسلمين وهيهات حتى يلين لضرس الماضغ الحجر. وقال بملفوفة في وعائها لأنه كان طبق مغطى.

ثم قال: «ومعجونة شنئتها» أي: أبغضتها ونفرت عنها كأنها عجنت بريق الحية أو بقيئها وذلك أعظم الأسباب للنفرة من المأكول.

وقال الراوندي: وصفها باللطافة فقال كأنها عجنت بريق الحية وهذا تفسير أبعد من الصحيح.

قوله «أصلة أم زكاة أم صدقة فذلك محرم علينا أهل البيت»: الصلة العطية لا يراد بها الاجر بل يراد وصلة التقرب إلى الموصول وأكثر ما تفعل للذكر والصيت والزكاة هي ما تجب في النصاب من المال.

والصدقة هاهنا هي صدقة التطوع وقد تسمى الزكاة الواجبة صدقة الا انها هنا هي النافلة.

فان قلت: كيف قال: «فذلك محرم علينا أهل البيت» وإنما يحرم عليهم الزكاة الواجبة خاصة ولا يحرم عليهم صدقة التطوع ولا قبول الصلات؟

قلت: أراد بقوله (أهل البيت) الاشخاص الخمسة محمدا وعليا وفاطمة وحسنا وحسينا عليهم السلام فهؤلاء خاصه دون غيرهم من بني هاشم محرم عليهم الصلة وقبول الصدقة واما غيرهم من بني هاشم فلا يحرم عليهم الا الزكاة الواجبة خاصة.

فان قلت: كيف قلت إن هؤلاء الخمسة يحرم عليهم قبول الصلات وقد

ص: 77

كان حسن وحسين (عليه السلام) يقبلان صلة معاوية؟.

قلت: كلا لم يقبلا صلته ومعاذ الله أن يقبلاها وإنما قبلا منه ما كان يدفعه إليهما من جملة حقها من بيت المال فان سهم ذوي القربى منصوص عليه في الكتاب العزيز ولهما غير سهم ذوي القربى سهم آخر للإسلام من الغنائم.

قوله: «هبلتك الهبول» أي: ثكلتك أمك والهبول التي لها عادة بشكل الولد. فان قلت ما الفرق بين مختبط وذي جنة يهجر .قلت المختبط المصروع من غلبة الأخلاط السوداوية أو غيرها عليه وذو الجنة من به مس من الشيطان والذي يهجر هو الذي يهذي في مرض ليس بصرع كالمحموم والمبرسم ونحوهما.

وجلب الشعيرة بضم الجيم قشرها والجلب والجلبة أيضا جليدة تعلو الجرح عند البرء يقال منه جلب الجرح يجلب ويجلب واجلب الجرح أيضا ويقال للجليدة التي تجعل على القتب جلبة أيضا. وتقضمها بفتح الضاد والماضي قضم بالكسر)(1).

ص: 78


1- شرح نهج البلاغة: ج 11 ص 86 - 87

كتاب الشهادات

اشارة

ص: 79

ص: 80

الفصل الاول : تغليظ اليمين

اشارة

ص: 81

ص: 82

قال أمير المؤمنين الإمام علي (عليه الصلاة والسلام):

«أَحْلِفُوا اَلظَّالِمَ إِذَا أَرَدْتُمْ یَمِینَهُ بِأَنَّهُ بَرِیءٌ مِنْ حَوْلِ اَللَّهِ وَ قُوَّتِهِ فَإِنَّهُ إِذَا حَلَفَ کَاذِباً عُوجِلَ وَ إِذَا حَلَفَ بِاللَّهِ اَلَّذِی لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَمْ یُعَاجَلْ لِأَنَّهُ قَدْ وَحَّدَ اَللَّهَ تَعَالَی»(1).

تناول فقهاء المذاهب الإسلامية السبعة مسألة تغليظ اليمين، مستعرضين في المسألة: صيغة الحلف، والزمان، والمكان، وأقل ما يغلظ فيه اليمين، ومدخليته في صحة الأيمان، فهل يعد شرطاً، أم لا.

وعليه: فقد تباينت أقوالهم في الاتفاق والخلاف، وهي كالاتي:

ص: 83


1- نهج البلاغة بشرح محمد عبده: ج 4 ص 56، قصار الحكم برقم (253)

ص: 84

المبحث الأول أقوال فقهاء المذاهب السبعة في تغليظ اليمين

نستعرض في المسألة أقوال الفقهاء التي تتضمن ما مرّ ذكره آنفاً، ونبتدأ بعرض المذهب الإمامي، ثم الزيدي، والشافعي، والمالكي، والحنفي، والحنبلي، والإباضي، وهي كالاتي:

المسألة الاولى: تغليظ اليمين في المذهب الإمامي.

ذهب فقهاء الإمامية (أعلى الله شأنهم) إلى القول باستحباب تغليظ اليمين: قولاً، وزماً، ومكاناً؛ إذ يستحب للحاكم التغليظ عليه قولاً بمثل ما في خبر إحلاف الأخرس من قوله:

«والله الذي لا أله إلا هو....» أو نحوه كما مرَّ في مقدم المبحث:

«بأنه يبرئ من حول الله وقوته».

وزماناً: كيوم الجمعة، والعيد، وبعد الزوال، وبعد صلاة العصر، كما في قوله تعالى:

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا

ص: 85

لَمِنَ الْآثِمِينَ»(1).

ومكاناً كالكعبة، والمقام، والمسجد الحرام، والشاهد المعظمة، والمساجد الجامعة، أو مطلق المساجد، والمحراب منها، وأحظار المصحف كما في خبر إحلاف الاخرس.

ولكن لا يجب على الحالف إجابة الحاكم إلى التغليظ، ولا يجبر على ذلك، وانه لا يتحقق النكول بامتناعه منه.

وقالوا: بشهرة استحباب التغلّيظ، وثبوت ذلك في جميع الحقوق وإن قلّت، عدا المال، فانه لا يغلّظ فيه بما دون نصاب القطع، وقيل: بالأجماع على ذلك.

وأما اليهود والنصارى فيحلفون بمقدساتهم لفظاً وزماناً ومكاناً، وأما الكفار والمجوس فيدعون للحلف بما يرونه عندهم مقدساً.

قال الشيخ الجواهري (ت 1266 ه) في استحباب تغليظ اليمين وبيان قول المحقق الحلي (عليها الرحمة والرضوان):

(قد يغلّظ اليمين بالقول والزمان والمكان، لكن ذلك غير لازم ولو ألتمسه المدعي، بل هو مستحب):

لخصوص الحاكم استظهارا في الحكم خلافا لأبي حنيفة، فلا يرى بالمكان تغليظا، وللشافعي فيراه شرطا، ولا يغلظ على المخدرة بحضور الجامع ونحوه، وفاقا لمحكي النهاية والتحرير، خلافا لما عن المبسوط من أنها كالبرزة، ثم

ص: 86


1- المائدة: 106

البرزة إن كانت طاهرة حضرت المسجد وإلا فعلى بابه.

وكيف كان فلا ينافي ذلك ما ستسمع من عدم وجوب ذلك على المدعى عليه، بل ربما قيل برجحان اختياره لليمين المخففة، وما عن بعض العامة من استحبابه للحالف واضح الضعف، كوضوح ما عن آخر منهم من وجوب التغليظ إذا التمسه المدعي.

نعم: قد يقال: إنه لا فائدة في رجحانه للحاكم بعد فرض عدم وجوب التزام الحالف به، ويدفعه أن ذلك لا ينافي استحبابه له، على أنه قد يعتبر به، بل ربما كان له طريق إلى إلزامه ببعض أفراد التغليظ، كما ستعرفه.

وكيف كان فالتغليظ بالقول مثل أن يقول:

والله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الطالب الغالب الضار النافع المدرك المهلك الذي يعلم من السر ما يعلمه من العلانية ما لهذا المدعي علي شيء مما ادعاه.

ويجوز التغليظ بغير هذه الألفاظ مما يراه الحاكم بحسب الأشخاص، وستسمع ما كتبه أمير المؤمنين (عليه السلام) في يمين الأخرس(1) وعنه (عليه السلام)(2):

«أحلفوا الظالم إذا أردتم يمينه بأنه برى من حول الله وقوته، فإنه إذا حلف فيها كاذبا عوجل، وإذا حلف بالله الذي لا إله إلا هو لم يعاجل، لأنه غو وحد الله سبحانه وتعالى».

ص: 87


1- الوسائل - الباب - 33 - من أبواب كيفية الحكم - الحديث 1
2- الوسائل - الباب - 33 - من كتاب الأيمان - الحديث 2

«وبالمكان كالمسجد والحرم وما شاكله من الأماكن المعظمة»:

والحضرات المشرفة وغيرها، وخصوصا منبر النبي (صلى الله عليه وآله) فعنه (صلى الله عليه وآله)(1):

«من حلف على منبري هذا يمينا كاذبة تبوأ مقعده من النار».

وفي آخر(2) (لا يحلف أحد عند منبري هذا على يمين آثمة ولو على سواك أخضر إلا تبوأ مقعده من النار).

أو: «وجبت له النار».

وعنه (صلى الله عليه وآله) أيضا:(3)

«من حلف على منبري هذا يمينا كاذبة استحل بها مال امرئ مسلم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين».

«وبالزمان كيوم الجمعة والعيد»: وشهر رمضان (وغيرها من الأوقات المكرمة) المشار إليها بقوله تعالى:

«تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ»(4). المفسر بما بعد صلاة العصر، وعنه (صلى الله عليه وآله)(5).

«ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: رجل

ص: 88


1- سنن البيهقي ج 10 ص 176
2- سنن البيهقي ج 10 ص 176
3- مجمع الزوائد: ج 3 ص 307
4- المائدة: 106
5- سنن البيهقي ج 10 ص 177 مع اختلاف يسير

تابع إمامه فإن أعطاه وفي له به، وإن لم يعطه خانه، ورجل حلف بعد العصر يمينا فاجرة ليقطع بها مال امرئ مسلم...».

(ويغلط على الكفار بالأماكن التي يعتقد شرفها والأزمان التي يرى حرمتها):

كالبيع والكنائس، لما تسمعه من خبر الحسين بن علوان(1) المؤيد بالاعتبار المشتمل على بيوت النار التي ربما احتمل عدم التغليظ فيها لعدم حرمتها عند الله، بخلاف البيع والكنائس، ولكن فيه أن العبرة، ارتداع الحالف بما يعتقده معظما.

نعم: ربما قيل: إنهم إنما يعظمون النار لا بيوتها، إلا أن الظاهر خلافه، ولعل من ذلك بيوت الأصنام للوثني، لكن قيل: إنهم لم يعتبروها. وكذا يغلظ عليه بالأقوال التي يرى حرمتها كالكلمات العشر، وقد روي(2) أنه (صلى الله عليه وآله) حلف يهوديا بقوله:

«والله الذي أنزل التوراة على موسى».

وفي آخر(3) (أنه (صلى الله عليه وآله) قال لابن صوريا:

«أنشدك الله الذي لا إله إلا هو الذي فلق البحر لموسى ورفع فوقكم الطور وأنجاكم وأغرق آل فرعون وأنزل عليكم كتابه وحلاله وحرامه هل في التوراة الرجم على من أحصن»؟

ص: 89


1- الوسائل - الباب - 29 - من أبواب كيفية الحكم - الحديث 2
2- سنن أبي داود - ج 2 ص 281 - ط عام 1371
3- مجمع البيان ذيل الآية 41 من سورة المائدة

وفي آخر(1) «أنشد كم بالله الذي نجاكم من آل فرعون وأقطعكم البحر وظلل عليكم الغمام وأنزل عليكم المن والسلوى أتجدون في كتابكم الرجم»؟

فقال ابن صوريا: ذكرتني بعظيم لا يسعني أن أكذبك) إلى غير ذلك من أحوال التغليظ التي يراها الحاكم.

(ويستحب) للحاكم (التغليظ في الحقوق كلها وإن قلت) استظهارا (عدا المال فإنه لا يغلظ فيه با دون نصاب القطع) على المشهور، كما في المسالك، بل في الرياض نفي الخلاف فيه، بل في كشف اللثام نسبته إلى قطع الأصحاب، وأن في الخلاف الاجماع عليه، وفي المبسوط أنه الذي رواه أصحابنا، لكن في الأول (ذكروا أنه مروي وما وقفت على مستنده، وللعامة اختلاف في تحديده بذلك أو بنصاب الزكاة وهو عشرون دينارا أو مأنا درهم، وليس للجميع مرجع واضح).

قلت: لعله - مضافا إلى ما سمعت - المرسل أو الصحيح عن زرارة ومحمد بن مسلم(2) عنهما (عليهما السلام) جميعا:

«لا يحلف أحد عند قبر النبي (صلى الله عليه وآله) على أقل مما يجب فيه القطع».

بناء على قراءته بالتشديد وإرادة مطلق التغليظ من الحلف عند قبر النبي (صلى الله عليه وآله نعم لم نقف على عموم يقتضي استحبابه كذلك

ص: 90


1- سنن أبي داود - ج 2 ص 281 - ط عام 1371
2- الوسائل - الباب - 29 - من أبواب كيفية الحكم - الحديث 1 - 2

على كل أحد، وإنما الذي وقفنا عليه التغليظ في واقعة الأخرس(1) وفي يمين الاستظهار(2) وخبر الحسين بن علوان(3) المروي عن قرب الإسناد عن جعفر عن أبيه (عليهما السلام):

«أن عليا (عليه السلام) كان يستحلف اليهود والنصارى في بيعهم وكنائسهم والمجوس في بيوت نيرانهم، ويقول: شددوا عليهم احتياطا للمسلمين».

وما عساه يظهر من فحوى المرسل أو الصحيح المزبور.

فرعان:

الأول:

لو امتنع عن الإجابة إلى التغليظ لم يجبر، ولم يتحقق بامتناعه النكول بلا خلاف أجده فيه إلا عند من ستعرف، للأصل بعد إطلاق ما دل على كون الواجب الحلف بالله من قوله (عليه السلام)(4):

«من حلف بالله فليصدق، ومن حلف له بالله فليرض، ومن لم يرض فليس من الله» وغيره.

خلافا للمحكي عن بعض العامة من وجوب الإجابة عليه) و تحقق النكول بالامتناع لو طلبه الحاكم منه، ولعل وجهه أنه لا فائدة في استحبابه للحاكم مع فرض عدم وجوبه على المدعى عليه، مضافا إلى استمرار السيرة

ص: 91


1- الوسائل - الباب - 33 - من أبواب كيفية الحكم - الحديث 1
2- الوسائل - الباب - 4 - من أبواب كيفية الحكم - الحديث 1
3- الوسائل - الباب - 29 - من أبواب كيفية الحكم - الحديث 1 - 2
4- الوسائل - الباب - 6 - من كتاب الأيمان - الحديث 3

على توجيه اليمين مغلظة على المنكر مثلا مع عدم إخباره بعدم وجوبه عليه وإجراء حكم النكول عليه مع احتمال كونه لتغليظه لا لأصله، إلا أن ذلك كله كما ترى.

وعن آخر منهم تخصيصه بالتغليظ الزماني والمكاني دون القولي الذي هو من جنس المأتي به، فلم یکن ترکه مخالفا للحاكم بخلاف الآخرين، وفيه أن يمكن أن يكون الأمر بالعكس، ضرورة تعدد أفراد اليمين، فمتى وجه الحاكم أحدها جرى حكم النكول وغيره عليها، ولذا حكم على الأخرس بالامتناع من شربها وقد كانت مغلظة.

وقد تقدم الخبر(1) المتضمن اليمين الاستظهار مغلظة وأنه إن لم يحلف كذلك لا حق له، بخلاف اقتراح الزمان والمكان، اللهم إلا أن يكون من جهة جواز تأخير المدعي دعواه مثلا إلى الزمان المراد به، وكذا المكان المزبور لو فرض اتفاق وجود المدعى عليه فيه، أو استعدى الحاكم فيه وهو غير ما نحن فيه، كما هو واضح. لكن في كشف اللثام الموافقة على ذلك، فلم يجوز الجبر في التغليظ القولي. قال:

(أما بالزمان والمكان فيجبر عليهما، فإن اليمين حق للمدعي لا يحلف إلا إذا حلفه، والمستحلف إنما هو الحاكم، فأينما يحلفه وجب عليه الحلف).

قال في المبسوط: (ولا يجلب إلى مكة أو المدينة ليستحلف، بل يستحلفه الحاكم في الموضع الشريف في مكانه، فإن امتنع بجند أو بعز استحضره الإمام لیستحلفه في المكان الأشرف، اللهم إلا أن يكون بالقرب من موضعه - وقيل:

ص: 92


1- الوسائل - الباب - 4 - من أبواب كيفية الحكم الحديث 1

بلد الإمام - قاض يقدر عليه فيستحضره ذلك القاضي، ويستحلفه في المكان الشريف).

قلت: ولكن لا يخفى عليك أن هذا ونحوه لیس جبرا على التغليظ المفروض عدم وجوبه عليه من حيث كونه كذلك، إلا أن الأمر سهل بعد وضوح المراد.

ولو ادعى العبد - وقيمة أقل من نصاب القطع - العتق فأنكر مولاه لم يغلظ، ولو رد فحلف العبد غلظ عليه، لأن العتق ليس بمال، ولا المقصود منه المال.

الفرع (الثاني):

(لو حلف) أن (لا يجيب إلى التغليظ فالتمسه خصمه لم تنحل يمينه):

لأنه مرجوح من طرفه وإن استحب للحاکم، ضرورة عدم التلازم بينهما، فينعقد حينئذ على تركه، ولا دليل على جواز حله منه أو من الحاكم، وحق المستحلف متأخر عن لزوم اليمين، وما ورد(1) من أن طرو أولوية المحلوف على ترکه تبيح الحل لا تجدي، إذ لا أولوية للحالف وإن التمسه الخصم أي طلبه منه.

هذا ولكن في الدروس (ولو حلف على عدمه ففي انعقاد يمينه نظر، من اشتمالها على ترك المستحب، ومن توهم اختصاص الاستحباب بالحاكم).

وفيه أنه لا خلاف أجده في اختصاص الاستحباب به، بل في الرياض نسبته إلى ظاهر النص والفتوى بخلاف من عليه الحلف، فإن الأرجح له

ص: 93


1- الوسائل - الباب - 18 - من كتاب الأیمان

تركت التغليظ، بل الأرجح له ترك الحلف بالله، كما في الخبر(1) قال:

(حدثني أبو جعفر (عليه السلام) أن أباه كانت عنده امرأة من الخوارج - إلى أن قال -: قضى لأبي أنه طلقها فادعت عليه صداقها فجاءت به إلى أمير المدينة تدعيه، فقال أمير المدينة: يا علي إما أن تحلف وإما أن تعطيها، فقال:

«يا بني أعطها أربعمائة دينار، فقلت له: يا أبت جعلت فداك ألست محقا؟ قال: بلى ولكني أجلت الله أن أحلف يمين صبر».

وخصوصا إذا كان المدعى به ثلاثين درهما، للخبر (3) أيضا (إذا ادعی عليك مال ولم يكن له عليك بينه فأراد أن يحلف فإن بلغ مقدار ثلاثين درهما فأعطه ولا تحلف، وإن كان أكثر من ذلك فاحلف وتعطه).

ومن هنا قال في كشف اللثام معرضا بما سمعته من الدروس:

(واحتمال عدم انعقاد اليمين باستحباب التغليظ في غاية الضعف) نعم لا تنعقد يمينه مع فرض وجوب الإجابة إليه فيما ذكرناه من الصورة السابقة وهي ما لو أخر المدعي دعواه إلى الزمان أو المكان الشريفين فطلبه وطلبه الحاكم.

وفي كشف اللثام هنا (أما التغليظ القولي فقد عرفت أنه لا يجبر عليه بلا يمين فمعها أولى، وأما الزماني والمكاني فالظاهر أنه ليس للحالف ولا الحاكم التأخر لهما إذا طالب المدعي، إذ ربما يضيع الحق) ولعله يريد ما ذكرنا وإلا فقد عرفت فيما مضى خروجه عن مفروض المسألة فتأمل.

هذا ولكن الانصاف عدم خلو المسألة بعد من إشكال، ضرورة إمكان

ص: 94


1- الوسائل - الباب - 2 - من كتاب الأيمان الحديث 1

منع الكراهة في اليمين بالله بعد وجوبها عليه للمدعي، وخصوصا في نحو دعوی قصاص الأطراف، بل وكذا المغلظة منها بعد أمر الحاكم بها كذلك للاستظهار المأمور به استحبابا الذي يحصل بوقوعه من الحالف أو عدمه، بل لا يخفى استبعاد رجحان التغليظ للحاكم على وجه يأمر به من عليه اليمين مع استحباب عدمه من الحالف وإن كان مخالفا للحاكم الذي لا ينبغي أن يأمره بما هو مكروه في حقه، کاهو مقتضى القول المزبور)(1).

المسألة الثانية: تغليظ اليمين في المذاهب الأخرى.

أولاً: المذهب الزيدي.

ذهب فقهاء الزيدية إلى أن للحاكم أن يطلب التغليظ أن راه صلاحاً وعلى الخصم ان يمتثل لذلك وهم ملزم له.

وان صيغة التغليط في الحلف هو أن يقول: (والله الذي لا إله إلا هو) فإن قال: (والله) فقط كان مجزءاً.

ويحلف أهل الكتاب بمقدساتهم، والمجوس بالنار، والصائبة بالذي خلق النور؛ والزنديق والمنافق فيحلفون بالله الذي خلقهم.

وقالوا: بجواز تكرار التغليظ، فإن لم يرض فالواجب مرة؛ وقيل بجواز التكرار إلى ثلاث.

وقالوا: بعدم مدخلية الزمان والمكان بالتغليظ

قال إمام الزيدية أحمد المرتضى (ت 840 ه) في تغليظ اليمين وبیان اقوال

ص: 95


1- جواهر الكلام: ج 4 ص 230 - 237

فقهاء المذهب:

(ان للحاكم التغليظ بذلك ان رآه صلاحا فإذا كان مذهب الحاكم ذلك لزم الخصم امتثال ما ألزمه الحاكم ويؤكد التحليف بالله بوصف صحیح يتميز به عند الحالف نحو أن يقول والله الذي لا إله إلا هو فان قال والله فقط أجزأ عندنا فقوله بوصف صحیح احترازا من الوصف الباطل ولو اعتقده الحالف فإنه لا يجوز التحليف به نحو أن يقول في تحليف المجبرة والله خالق الافعال.

مثال الوصف الصحيح ما ذكره م بالله حيث قال يحلف النصراني بالله الذي أنزل الإنجيل على عيسى واليهودي بالله الذي أنزل التوراة على موسی والمجوسي بالله الذي خلق النار والصابئ بالله الذي خلق النور وقال أبو مضر أما الصابي والملحد والزنديق والمنافق وغيرهم فيحلفون بالله الذي خلقهم لان كل أحد يقر بذلك في الظاهر ولهذا قال تعالى:

«وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ»(1).

وقوله يتميز به عند الحالف احترازا من أن يحلف اليهودي أو النصراني بالله منزل القرآن على محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فإنه لا يتميز بهذا الوصف عند اليهودي ولا يحلف به.

(ولا) ينبغي تكرار اليمين على الحالف الا لطلب تغليظ عليه قال في الانتصار يجوز التغليظ بالتكرار کما يجوز في القسامة واللعان ولم يحده بحد وفي الروضة عن الفقيه ل يجوز التكرار على الحالف بالتراضي فإن لم يرض

ص: 96


1- الزخرف: 87

فالواجب مرة وقيل س يجوز التكرار إلى ثلاث قال مولانا عليه السلام والأقرب عندي أن تقدير التكرار بحسب نظر الحاكم في تلك الحال ولا تغليظ عندنا بالزمان ولا بالمكان)(1).

ثانيا: المذهب الشافعي.

يرى فقهاء الشافعية أن التغليظ قد يكون بالزمان وقد يكون بالمكان، وقد يكون باللفظ. فإما التغليظ بالمكان ففيه قولان الاول: مستحب، والثاني: انه واجب.

واما التغليظ بالزمان فهو كالتغليظ بالمكان وفيه قولان: مستحب وواجب أيضاً، واما التغليظ باللفظ فهو مستحب، وهو ان يقول:

(والله الذي لا اله الا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم الذي يعلم من السر ما یعلم من العلانية).

وأن أقتصر على قوله (والله) أجزءه أو على صفة من صفات الذات كقوله (عزت الله) أجزاءه.

وأن حلف بالمصحف وما فيه من القرآن فقد أجزءه.

واما اليهود فيحلفون بالتوراة، والنصارى بالإنجيل؛ وان كان مجوسياً أو وثنياً احلفه الله الذي خلقه وصوره.

قال النووي (ت 676 ه) في بيان احكام التغليظ باليمين:

والتغليظ قد يكون بالزمان وبالمكان وفي اللفظ، فأما التغليظ بالمكان ففيه

ص: 97


1- شرح الأزهار: ج 4 ص 150 - 151

قولان أحدهما أنه يستحب والثاني أنه واجب، وأما التغليظ بالزمان فقد ذكر الشيخ أبو حامد الأسفرایني أنه يستحب، وقد بينا ذلك في اللعان. وقال أكثر أصحابنا: إن التغليظ بالزمان كالتغليظ بالمكان. وفيه قولان.

وأما التغليظ باللفظ فهو مستحب، وهو أن يقول والله الذي لا إله هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم، الذي يعلم من السر ما یعلم من العلانية، لما روى أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) احلف رجلا فقال قل والله الذي لا إله إلا هو، ولان القصد باليمين الزجر عن الكذب، وهذه الألفاظ أبلغ في الزجر وأمنه من الاقدام على الكذب. وان اقتصر على قوله (والله) أجزأه، لأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) اقتصر في احلاف ركانة على قوله والله.

وان اقتصر على صفة من صفات الذات كقوله وعزة الله أجزأه لأنها بمنزلة قوله والله في الحنث في اليمين وايجاب الكفارة. وأن حلف بالمصحف وما فيه من القرآن فقد حكى الشافعي رحمه الله عن مطرف أن ابن الزبير كان يحلف على المصحف. قال ورأيت مطرفا بصنعاء يحلف على المصحف، قال الشافعي وهو حسن، ولان القرآن من صفات الذات، ولهذا يجب بالحنث فيه الكفارة.

وإن كان الحالف يهوديا أحلفه بالله الذي أنزل التوراة على موسی ونجاه من الغرق، وإن كان نصرانيا أحلفه بالله الذي أنزل الإنجيل على عيسى، وإن كان مجوسيا أو وثنيا أحلفه بالله الذي خلقه وصوره)(1).

ص: 98


1- المجموع: ج 20 ص 217

ثالثا: المذهب المالكي.

يرى المالكية: أن اللفظ الذي يجزئ بالتغليظ، هو (بالله الذي لا إله إلا هو) وإذا قال بالتاء، أي (تالله) فهو مجزئ أيضاً.

وقالوا: بكراهة التغليظ باليمين وبجوازه للحاكم؛ وان أقل ما يغلظ من الحقوق المالية ربع دينار وفي الجامع.

وأما التحليف بالمصحف فيرى بعض فقهائهم كابن عربي أنه بدعة

وأما التغليظ بالزمان فانه مقيد باللعان والقسامة، وذهب بعضهم کابن سحنون إلى انه مخصوص في المال العظيم والدماء واللعان مقروناً ذلك بحضور الناس في المساجد ويجتمعون للصلاة وما سوى ذلك من مال و حق ففي كل حين.

وقيل: لا يحلف حين الصلاة إلا في الدماء واللعان، واما في الحقوق ففي اي وقت حضر الإمام أستحلفه.

قال الخطاب الرعيني (ت 954 ه) في بيان حكم التغليظ عند فقهاء المذهب:

(واليمين في كل حق بالله الذي لا إله إلا هو ش: قد يتبادر أنه لا بد أن يكون في اليمين حرف القسم فيه بالباء، لان غالب من وقفت على كلامه من أهل المذهب يقول لما يتكلم على صفة اليمين واليمين بالله الذي لا إله إلا هو، أو يقول وصفة اليمين أن يقول بالله الذي لا إله إلا هو ونحو ذلك.

إلا أن الظاهر أنه لا فرق بين الباء وغيرها من حروف القسم، لكنني لم أقف على نص في التاء الفوقية، وأما الواو فغالب من رأيت كلامه من أهل

ص: 99

المذهب كاللخمي وابن فرحون وابن عرفة والجزيري والشيخ زروق في شرح الارشاد وغيرهم يقولون بعد كلامه المتقدم: واختلف إذا قال: والله ولم يزد أو قال: والله الذي لا إله إلا هو. وقال الشيخ أبو الحسن: قال أشهب: وإن حلف فقال: والله الذي لا إله إلا هو.

لم يقبل منه. وكذا إذا قال: والله فقط فلا يجزئه حتى يقول: والله الذي لا إله إلا هو. اللخمي: والذي يقتضيه قول مالك إنها أيمان انتهى. ورأيت في الجزولي الكبير في قول الرسالة: واليمين بالله الذي لا إله إلا هو انظر إذا قال: والله بالواو فهل يجزئه؟ قاله أشهب.

أو لا يجزئه قاله ابن القاسم. وانظر أيضا إذا اقتصر على قوله: والله أو بالله ولم يقل: الذي لا إله إلا هو هل يجزئه أو لا؟ قولان. وانظر إذا قال: بالذي لا إله إلا هو ولم يقل: بالله فهل يجزئه أم لا؟ فعلى قول ابن القاسم لا يجزئه، وعلى قول أشهب يجزئه انتهى. وهذا الذي ذكره غریب مخالف لجميع ما رأيته لان المنقول عن أشهب أنه لا يجزئه کیا نقله اللخمي وغيره ممن تقدم ذكرهم وغيرهم.

ومما يدل على أن الذي ذكره الجزولي أعني الخلاف في الواو لا يعرف ما ذكره في الجواهر فإنه صدر الكلام بالواو فقال: أما الحلف فهو: والله الذي لا إله إلا هو، ولا يزاد على ذلك في شيء من الحقوق، ثم نقله بالباء بعد ذلك. وذكر القرافي في ذخيرته لفظ الجواهر المتقدم ثم قال بعده: وقاله في الكتاب يعني المدونة: والذي فيها إنما هو بالباء فدل أنه لا فرق بين الباء والواو .

وقال الفاكهاني في شرح الرسالة: والصحيح من المذهب إلا جزاء بقول:

ص: 100

والله الذي لا إله إلا هو انتهى. وفي المنتقى للباجي: واتفق أصحابنا على أن الذي يجزئ من التغليظ باليمين بالله الذي لا إله إلا هو فإن قال: والله الذي لا إله إلا هو أو قال: والله فقط فقال أشهب: لا يجزئه حتی یقول: والله الذي لا إله إلا هو، والظاهر أن التاء كذلك والله أعلم. تنبيه: قال ابن العربي في العارضة في حديث ضمام: فيه دليل على تغليظه اليمين بالألفاظ وذلك جائز للحاکم، وكرهه علماؤنا ورواه الشافعي وما أحسنه وقال: فيه دليل على تحليف الشاهد ويمينه لا تبطل شهادته وهذا نص. انتهى.

مسألة: من وجب عليه يمين فحلف بالطلاق أو باللازمة. انظر الكلام على ذلك في أول الظهار من المشذالي ص: (و غلظت في ربع دينار بجامع) ش: تصوره ظاهر.

فرع: قال في المسائل الملقوطة: ومن التبصرة: وأما التغليظ بالتحليف على المصحف فقال ابن العربي: هو بدعة لم يرد عن أحد من الصحابة. وقد أجازه الشافعية. انظر الاحکام في سورة المائدة انتهى.

فرع: قال القرافي في كتاب الدعاوى عن بعض القرويين: إذا ادعى أحد المتفاوضين على شخص بثلاثة دراهم، فليس عليه أن يحلفه في الجامع لان كل واحد إنما يجب له درهم ونصف. ولو ادعى عليهما بثلاثة دراهم حلفهما في الجامع لان كل واحد عليه درهم ونصفه وهو كفيل بالثاني، فالثلاثة على كل واحد منهما. انتهى بعضه باللفظ وبعضه بالمعنى.

فرع: لا يحلف العليل في بيته إلا أن تشهد بينة أن به علة لا يستطيع الخروج معها، لا راجلا ولا راكبا. والمسألة مطولة في البرزلي نقلها المتيطي

ص: 101

قبل الكلام على حريم البئر. وقال في المسائل الملقوطة ومن التبصرة: كان ابن لبابة يفتي في المريضة تجب عليها اليمين في مقطع الحق أنها تحلف في بيتها على الحق. انتهى.

فرع: وأما التغليظ بالزمان فانظر كلامه في التوضيح فإنه يدل على أنه يتفق على تغليظ اليمين بالزمان في اللعان والقسامة، وجعل التغليظ بالزمان في مختصره في باب اللعان مستحبا فتأمله. وانظر ابن فرحون في تبصرته.

وقال ابن عرفة الباجي: وهل تغلظ بالزمان؟ روی ابن كنانة في كتاب ابن سحنون يتحرى بأيمانهم في المال العظيم والدماء واللعان وقتا يحضر الناس فيه المساجد ويجتمعون للصلاة وما سوى ذلك من مال وحق ففي كل حين. ولابن حبيب عن الأخوين: لا يحلف حين الصلاة إلا في الدماء واللعان، وأما في الحقوق ففي أي وقت حضر الامام استحلفه)(1).

رابعا: المذهب الحنفي.

يرى فقهاء الحنفية أنّ تغليظ اليمين یکون باختيار القاضي، فإن شاء حلف باليمين وان شاء غلظ وبذكر الصفات، ولا يستقبل به القبلة ولا يدخله المسجد، ولا يحلف في مكة او المدينة بين الروضة والمنبر وفي بيت المقدس عند الصخرة والجوامع في سائر البلاد.

أما النصراني فيحلف بالله الذي أنزل الانجيل على عيسى (عليه السلام)، واليهود بالله الذي انزل التوارة على موسى (عليه السلام) ويستحلف

ص: 102


1- مواهب الجليل: ج 8 ص 267 - 269

المجوس بالله الذي خلق النار لانهم يعظمون النار.

قال السرخسي (ت 483 ه):

المقصود في المظالم والخصومات هو النكول وأحوال الناس تختلف فمنهم من يمتنع إذا غلظ عليه اليمين ويتجاسر إذا حلف بالله فقط وإذا كان كذلك فالرأي في ذلك إلى القاضي ان شاء اكتفي باليمين بالله وان شاء غلظ بذكر الصفات.

والأصل فيه حديث أبي هريرة أن الذي حلف بين يدي رسول الله (صلى الله عليه - واله - وسلم) فقال: (والله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الذي أنزل عليك الكتاب) وقد بينا ذلك في آداب القاضي ولم ينكر عليه رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم) فعرفنا أن تغليظ اليمين بذكر الصفات حسن بعد أن لا يحلفه أكثر من يمين واحدة.

ولهذا لم يذكر حرف العطف عند ذكر الصفات ولا يحلفه بغير الله تعالى لان ذلك منهي عنه قال صلى الله عليه - واله - وسلم من كان حالفا فليحلف بالله أو ليذر وقال (صلى الله عليه - واله - وسلم):

«من حلف بغير الله فقد أشرك».

ولا يستقبل به القبلة ولا يدخله المسجد وحيثما يحلفه فهو مستقیم لان المقصود تعظيم المقسم به وذلك حاصل سواء حلفه في المسجد أو في غير المسجد استقبل به القبلة أو لم يستقبل والشافعي يقول في المال العظيم يستحلف بمكة عند البيت وبالمدينة بين الروضة والمنبر وفي بيت المقدس عند الصخرة وفي سائر البلاد في الجوامع لحديث عبد الرحمن بن عوف.

ص: 103

فإنه رأى قوما يستحلفون عند البيت قال أعلى دم أم أمر عظيم من المال لقد خفت أن يتهيأ الناس لهذا البيت وهذا نوع مبالغة للاحتياط فقد يمتنع الإنسان من اليمين في هذا الموضع مالا يمتنع منها في سائر المواضع ولسنا نأخذ بهذا لما فيه من الزيادة على النصوص الظاهرة وهي تعدل النسخ عندنا.

وقد ظهر عمل الناس بخلافه من لدن رسول الله صلى الله عليه - واله - وسلم إلى يومنا هذا وفيه أيضا بعض الحرج على القاضي فان حلف المدعى عليه فلقد انقطعت المنازعة لأنه لا حجة للمدعي فحجته البينة أو اقرار الخصم أو نكوله وقد انعدم ذلك كله وليس له أن يخاصم بغير حجة يقول فان أبرأه القاضي أي منعه من أن يخاصمه بغير حجة لا أن يسقط حق الطالب عنه بقضائه.

ثم إن أقام الطالب البينة عليه بالحق فإنه يأخذه منه وبعض القضاة من السلف رحمهم الله كأن لا يسمعون البينة بعد يمين الخصم وكانوا يقولون کما يترجح جانب الصدق في جانب المدعي بالبينة ويتعين ذلك حتى لا ينظر إلى يمين المنكر بعده فكذلك يتعين الصدق في جانب المدعى عليه إذا حلف فلا يلتفت إلى بينة المدعى بعد ذلك ولسنا نأخذ بذلك و إنما نأخذ فيه بقول عمر فقد جوز قبول البينة من المدعي بعد يمين المدعى عليه ويقول عمر حيث قال اليمين الفاجرة أحق أن يرد من البينة العادلة ولسنا نقول بيمين المدعى عليه يتعين معنى الصدق في انكاره.

ولكن المدعي لا يخاصمه بعد ذلك لأنه لا حجة له فإذا وجد الحجة

ص: 104

كان له أن يثبت حقه بها ولا يحلف الشاهد الا بأمرنا لاكرام الشهود وليس من اکرامه استحلافه ثم الاستحلاف ينبني على الخصومة ولا خصم للشاهد وكما يستحلف المسلم في الخصومات تستحلف أهل الذمة لان المقصود النكول وهم يمتنعون عن اليمين الكاذبة ويعتقدون حرمة ذلك كالمسلمين.

قال ويحلف النصراني بالله الذي أنزل الإنجيل على عیسى (عليه السلام) واليهود بالله الذي أنزل التوراة على موسى (عليه السلام) والأصل فيه حديث رسول الله (صلى الله عليه - وآله - وسلم) في قصة الرجم حيث قال لابن صوريا الأعور:

«أنشدك الله الذي أنزل التوراة على موسى ان حكم الزنا في كتابكم هذا».

وهذا لأنه قد يمتنع من اليمين عند التغلیظ بهذه الصفة مالا يمتنع بدونه وذكر عن محمد انه يستحلف المجوسي بالله الذي خلق النار لأنهم يعظمون النار وليس عن أبي حنيفة وأبي يوسف خلاف ذلك في الظاهر.

إلا أنه روي عن أبي حنيفة في النوادر قال لا يستحلف أحد الا بالله خالصا فلهذا قال بعض مشايخنا لا ينبغي أن يذكر النار عند اليمين لان المقصود تعظيم المقسم به والنار كغيرها من المخلوقات فكما لا يستحلف المسلم بالله الذي خلق الشمس فكذلك لا يستحلف المجوسي بالله الذي خلق النار وكأنه وقع عند محمد انهم يعظمون النار تعظيم العبادة فالمقصود النكول.

قال بذكر ذلك في اليمين فأما المسلمون لا يعظمون شيئا من المخلوقات تعظيم العبادة فلهذا لا يذكر شيء من ذلك في استحلاف المسلم وغير هؤلاء من أهل الشرك يحلفون بالله فإنهم يعظمون الله تعالی کما قال عز وجل

ص: 105

ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله وإنما يعبدون الأصنام تقربا إلى الله تعالى بزعمهم قال الله تعالى:

«مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى»(1).

فيمتنعون من الحلف بالله كاذبا ويحصل به المقصود وهو النكول ولا يستحلف المجوسي في بيت النار لان الاستحلاف عند القاضي والقاضي ممنوع من أن يدخل ذلك الموضع)(2).

خامساً: المذهب الحنبلي.

يرى فقهاء المذهب الحنبلي أن تغليظ اليمين يرجع للحاكم فإن رأى أن يغلظ اليمين بلفظ أو زمان او مكان فاضلين جاز، ولكن لا يستحب.

ويكون التغليظ باللفظ هو: (والله الذي لا اله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم، الطالب الغالب الضار النافع الذي يعلم خائنة الاعين).

ويكون التغليظ زماناً بعد صلاة العصر، أو بين الأذان والإقامة.

وأما أهل الذمة يحلفون بالمواضع التي يعظمونها، وباللفظ، فقال لليهود أن يحلف: والله الذي أول التوارة على موسى وفلق له البحر وانجاه من فرعون وملأه.

ويقول النصراني: والله الذي انزل الانجيل على عيسى وجعله يحيی الموتی ویبرئ الاكمة والأبرص.

ص: 106


1- الزمر: 3
2- المبسوط: ج 16 ص 118 - 120

ويقول المجوسي: والله الذي خلقني وصورني ورزقني؛ وللصائبي والوثني ومن يعبد غير الله، يحلف بالله وحده.

ولا تغلظ اليمين الا فيما له خطر كجناية لا توجب قوداً.

أما إذا ابی من وجبت عليه اليمين التغليظ لم يصر ناکلا من اليمين؛ وقيل مرده للحاکم آن رآه صالح فيكون حينئذ واجباً.

قال البهوتي (ت 1051 ه) في بيان حكم التغليظ:

(فإن رأى الحاكم تغليظها بلفظ أو زمان أو مكان فاضلين جاز، ولم يستحب لأنه أردع للمنکر ف - التغليظ في اللفظ أن (يقول: والله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم، الطالب الغالب الضار النافع، الذي يعلم خائنة الأعين، أي ما يضمر في النفس ويكف عنه اللسان ويومي إليه بالعين وما تخفي الصدور) أي تضمره.

والتغليظ في الزمان أن يحلف بعد العصر لقوله تعالى:

«تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ»(1).

قيل: المراد صلاة العصر لأنه وقت تعظمه أهل الأديان كما تقدم أو بين الأذان والإقامة لأنه وقت يرجى فيه إجابة الدعاء فترجى فيه معالجة الكاذب والمكان بمكة بين الركن والمقام لأنه مکان شریف زائد على غيره في الفضيلة (و بیت المقدس عند الصخرة) لأنه ورد في سنن ابن ماجة أن النبي (صلى الله عليه - وآله - وسلم) قال:

«هي الجنة».

ص: 107


1- المائدة: 106

وب (سائر البلاد) كمدينته (صلى الله عليه - وآله - وسلم) وغيرها عند منبر الجامع لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) من حلف على منبري هذا يمينا آثمة فليتبوأ مقعده من النار. رواه أبو داود والباقي القياس عليه.

وتقف الحائض عند باب المسجد لأنه يحرم عليها اللبث فيه، ويحلف أهل الذمة في المواضع التي يعظمونها لأن اليمين تغلظ في حقهم زمانا فكذا مکانا، واللفظ الذي يغلظ به على أهل الذمة أن يقول اليهودي: والله الذي أنزل التوراة على موسى وفلق له البحر وأنجاه من فرعون وملأه لحديث أبي هريرة: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لليهود: نشدتكم بالله الذي أنزل التوراة علی موسی ما تجدون في التوراة على من زنی رواه أبو داود.

ويقول النصراني: والله الذي أنزل الإنجيل على عيسى وجعله يحيي الموتی ویبرئ الأكمه والأبرص، لأنه لفظ تتأكد به يمينه أشبه اليهودي، ويقول المجوسي والله الذي خلقني وصورني ورزقني، لأنه يعظم خالقه ورازقه أشبه كلمة التوحيد عند المسلم، والوثني والصابئ ومن يعبد غير الله يحلف بالله وحده لأنه لا يجوز الحلف بغير الله لما تقدم، ولأنه إن لم يعتقد هذه يمينا ازداد إثما وربما عجلت عقوبته فيسقط بذلك ويرتد به، ولا تغلظ اليمين إلا فيما له خطر كجناية لا توجب قودا أو ک (- عتق ونصاب زكاة) لأن التغليظ للتأكيد وما لا خطر فيه لا يحتاج إلى تأكيد، ولو أبی من وجبت عليه اليمين التغليظ لم يصر ناکلا عن اليمين لأنه قد بذل الواجب عليه فيجب الاكتفاء به ويحرم التعرض له قاله في النكت قال وفيه نظر ولجواز أن يقال: يجب التغليظ إذا رآه الحاكم وطلبه وإلا لما كان فيه فائدة زجر قط)(1).

ص: 108


1- كشاف القناع: ج 6 ص 569 - 570

سادساً: المذهب الإباضي.

اختلف فقهاء المذهب الإباضي في الحلف بالقرآن والمصحف فذهب محمد اطفيش إلى القول بالنهي عن الحلف بالمصحف وبالقرآن لاشتمال ذلك على غير أسم الله وان الحلف انما یکون باسم الله واسمائه وصفاته؛ وقيل: يحلف بالقرآن وان اقل ما يحلف به ربع دينار(1).

المسألة الثالثة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة.

أولا: في حكم التغليظ باليمين.

1. ذهب الإمامية: إلى القول بشهرة استحباب التغليظ باليمين وثبوت ذلك في جميع الحقوق وان قلت عدا المال، فانه لا يغلظ فيه بما دون نصاب القطع، وقيل: بالإجماع على ذلك.

2. وقال الزيدية: بوجوب التغليظ إذا طلبه الحاكم.

3. وقال الشافعية: أن الاستحباب والوجوب متعلق بالزمان والمكان.

واما التغليظ باللفظ فهو مستحب.

4. وقال المالكية: بكراهة التغليظ باليمين، وبجوازه للحاكم.

5. وسکت عن بيانه: فقهاء الحنفية والحنابلة والإباضية، وتعرضوا إلى بيان حكم التغليظ بالزمان والمكان واللفظ.

ص: 109


1- شرح كتاب النيل وشفاء الغليل: ج 13 ص 353 وص 392

ثانيا: التغليظ باللفظ.

1. قال الإمامية: باستحباب التغليظ قولا كما في الخبر المعروف ب (احلاف الأخرس) المروي عن أمير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام) وهو:

«والله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم الطالب الغالب الضار النافع المهلك المدرك، الذي يعلم السر والعلانية»(1).

أو بمثل ما مرّ في عنوان المبحث، اي: قوله (عليه الصلاة والسلام):

«احلفوا الظالم إذا أردتم يمينه بانه بريء من حول الله وقوته؛ فإنه إذا حلف بها كاذباً عوجل العقوبة، وإذا حلف بالله الذي لا إله إلا هو لم يعاجل لأنه قد وحد الله تعالى».

2. وقال الزيدية: أن صيغة التغليظ هو أن يقول:

(والله الذي لا إله إلا هو)؛ فإن قال: (والله) فقط كان مجزءاً.

3. وقال الشافعية: بان صيغة التغليظ، وهو ان يقول:

(والله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم، الذي يعلم من السر ما یعلم من العلانية).

4. وقال المالكية: أن صيغة التغليظ، هو:

(بالله الذي لا اله إلا هو) وإذا بالتاء، اي (تالله) فهو مجزئ.

5. وقال الحنفية: ان صيغة التغليظ تكون:

ص: 110


1- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق: ج 3 ص 113؛ تهذیب الاحکام: ج 6 ص 316؛ وسائل الشيعة: ج 27 ص 302

(والله الذي لا آله الا هو الرحمن الرحيم الذي انزل عليك الكتاب).

6- وقال الحنابلة: يكون التغليظ بصيغة:

(والله الذي لا أله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم، الطالب الغالب الضار النافع، الذي يعلم خائنة الاعين).

7- وقال الإباضية: إنما يكون الحلف باسم الله، واسمائه، وصفاته.

ثالثا: تغليظ اليمين زماناً.

1- قال الإمامية: إن تغليظ اليمين يستحب ان يكون زماناً في يوم الجمعة ويوم العيد، وبعد الزوال، وبعد صلاة العصر، لقوله تعالى في سورة المائدة:

«فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ...»(1).

2- وقال الزيدية: بعدم مدخلية الزمان بتغليظ اليمين.

3- وقال الشافعية: باستحباب التغليظ زماناً دون الاشارة إلى وقته.

4- قال المالكية: إن الزمان له مدخلية باللعان والقسامة، وقال بعضهم انه مخصوص بالمال العظيم والدماء ويكون عند حصور الناس في المساجد ويجتمعون للصلاة؛ واما في الحقوق فيكون في اي وقت حضر الإمام للمسجد.

5- وقال الحنفية: بعدم مدخلية الزمان بتغليظ اليمين.

6- وقال الحنابلة: باختيار أي زمان فيه فضل، وبالأخص بعد صلاة العصر، أو بين الاذان والإقامة.

7- وسكت عنه الإباضية.

ص: 111


1- المائدة،: 106

رابعاً: تغليظ اليمين مكاناً.

1- قال الإمامية: إن التغليظ يكون مستحباً باختيار الامكنة التي لها حرمة وافضلية كالكعبة، والمقام، والمسجد الحرام، والمشاهد المعظمة، والمساجد الجامعة، أو مطلق المساجد، والمحراب منها.

2- وقال الزيدية: بعدم مدخلية المكان بتغليظ اليمين وتبعهم بذلك الإباضية.

3- ويرى الحنفية: لزوم تجنب المكان في التغليظ، فلا يستقبل به القبلة ولا يدخله المسجد ولا يحلف في مكة أو المدينة بين الروضة والمنبر، ولا في بيت المقدس، ولا الجوامع في سائر البلاد.

وقد خالفوا بذلك النهي الإمامية والشافعية والحنابلة والمالكية.

4- وقال المالكية: بحضور المساجد.

5- وذهب الشافعية: إلى ان التغليظ بالمكان، إلى قولين، الأول بالاستحباب والاخر بالوجوب.

6- وقال الحنابلة: إن التغليظ بالمكان يكون بمكة بين الركن والمقام، وبيت المقدس عند الصخرة، وفي المدينة المنورة عند المنبر النبوي (صلى الله عليه وآله وسلم).

7- وسكت عنه الإباضية.

خامسا: التغليظ بالمصحف.

1- قال الإمامية: بلزوم إحضار المصحف كما في خبر إحلاف الاخرس.

ص: 112

2- وقال المالكية: لا يحلف بالمصحف، وذهب ابن عربي إلى القول بانه: بدعة.

3- وقال الإباضية: بالحلف بالمصحف، وقيل لا يحلف به.

4- وقال الشافعية: وان حلف بالمصحف وما فيه من القرآن فقد أجزئه.

سادسا: أجابه الحالف إلى التغليظ.

1- قال الإمامية بعدم الوجوب في أجابه الحالف إذا دعاه الحاكم للتغليظ، ولا يجبر على ذلك، وأنه لا يتحقق النكول بامتناعه منه.

2- وقال الزيدية: أنه ملزم للخصم.

3- وقال الحنابلة: إذا أبي من وجبت عليه اليمين لم يصر ناكلاً؛ وقيل: مرده للحاكم إن راه صالحاً فيكون حينئذ واجباً.

سابعاً: صيغة تغليظ اليمين لليهود والنصارى والمجوس والكفار.

1- قال الإمامية: يحلفون بمقدساتهم ويكون التغليظ لفظاً وزماناً ومكاناً فيغلط على اليهود، والنصارى، والكفار، بالأماكن التي يعتقدون شرفها، والازمان التي يرون حرمتها، وبالأقوال التي يرون حرمتها، فقد روي عنه (صلى الله عليه وآله) انه حلف يهودياً بقوله: (والله الذي انزل التوراة على موسى).

2 وقال الزيدية: ويحلّف أهل الكتاب بمقدساتهم، والمجوس بالنار، والصائبة بالذي خلق النور، والزنديق والمنافق بالذي خلقهم وهو الله عز وجل.

ص: 113

3- وقال الشافعية: يحلف اليهود بالتوراة، والنصارى بالإنجيل، والمجوس والوثني فيحلف بالله الذي خلقه وصوره.

4- وقال الحنفية: يحلّف النصراني بالله الذي انزل الانجيل على عيسى، واليهود بالله الذي انزل التوراة على موسى؛ ويستحلف المجوسي بالله الذي خلق النار، لأنهم يعظمون النار.

5 وقال الحنابلة: يحلّف أهل الذمة بالمواضع التي يعظمونها؛ وباللفظ، فيقال لليهودي ان يحلف: (والله الذي انزل التوراة على موسى و وفلق له البحر وانجاه من فرعون وملائه).

ويقال للنصراني: (والله الذي انزل الانجيل على عيسى وجعله يحيي الموتى ويبرئ الاكمة والابرص).

ص: 114

المبحث الثاني ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة

المسألة الاولى: ما أورده ابن ميثم البحراني

تناول ابن ميثم البحراني (عليه الرحمة والرضوان) الحديث وبيّن دلالته فقال:

(قد يرى المجتهد تأكيد اليمين بمثل ما ذكر عليه السّلام لغاية نكول الكاذب عنها وأداء الحقّ، وذلك أنّ نفس الكاذب ينفعل عن مثل هذا اللفظ لعلمه بظلمه وتوهّمه تصديق الله تعالى ومطابقته لقوله بفعل المدعوّ به بخلاف اليمين المعتادة فيستعدّ بذلك لمعاجلته بالعقوبة. وروى أنّ واشيا سعى بالصادق (عليه السّلام) إلى المنصور فاستحضره وقال: إنّ فلانا ذكر عنك كذا وكذا. فقال (عليه السّلام):

«لم يكن ذلك منى».

وأبى الساعي إلَّا كونه منه. فحلَّفه الصادق بالبراءة من حول الله وقوّته إن كان كاذبا. فحلف.

فما انقطع كلامه حتّى أصيب بالفالج فصار كقطعة الحم فجرّ برجله. ونجا الصادق منه)(1).

ص: 115


1- شرح نهج البلاغة لابن ميثم: ج 5 ص 368

المسألة الثانية: ما اورده ابن ابي الحديد.

تناول الشارح المعتزلي الحديث الشريف مستدلا بما رواه أبو الفرج الاصفهاني في اثر تغليظ اليمين الذي اعتمده يحي بن عبد الله بن الحسن بن علي بن ابي طالب (صلوات الله وسلامه عليه)

مستندا في ذلك ومتمسكا بما ورثه من باب مدينة علم رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) حيث قال:

(أحلفوا الظالم إذا أردتم يمنيه بأنه برئ من حول الله وقوته، فانه أذا حلف بها كاذا عوجل العقوبة،...) وهو ما حدث حينما حلّف عبد الله بن مصعب الزبيري وهو ظلم ليحي بن عبد الله فظهر فيه أمر الله عزّ وجل في الحال.

قال أبو الفرج الأصفهاني:

(إن يحيى بن عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام لما أمنه الرشيد بعد خروجه بالديلم وصار إليه بالغ في إكرامه وبره، فسعى به بعد مدة عبد الله بن مصعب الزبيري إلى الرشيد - وكان يبغضه - وقال له: إنه قد عاد يدعو إلى نفسه سرا، وحسن له نقض أمانه، فأحضره وجمع بينه وبين عبد الله بن مصعب ليناظره فيما قذفه به ورفعه عليه فجبهه ابن مصعب بحضرة الرشيد، وادعى عليه الحركة في الخروج وشق العصا، فقال يحيى: يا أمير المؤمنين، أتصدق هذا على وتستنصحه، وهو ابن عبد الله بن الزبير، الذي أدخل أباك عبد الله وولده الشعب، وأضرم عليهم النار حتى خلصه أبو عبد الله الجدلي، صاحب علي بن أبي طالب عليه السلام منه عنوة، وهو الذي ترك الصلاة على رسول الله (صلى الله عليه وآله) أربعين جمعة في

ص: 116

خطبته، فلما التاث عليه الناس قال:

إن له أهيل سوء إذا صليت عليه أو ذكرته أتلعوا أعناقهم واشر أبوا لذكره، فأكره أن أسرهم أو أقر أعينهم، وهو الذي كان يشتم أباك ويلصق به العيوب حتى ورم كبده، ولقد ذبحت بقرة يوما لأبيك فوجدت كبدها سوداء قد نقبت، فقال على ابنه: أما ترى كبد هذه البقرة يا أبت! فقال: يا بني هكذا ترك ابن الزبير كبد أبيك، ثم نفاه إلى الطائف، فلما حضرته الوفاة قال لابنه على: يا بني إذا مت فالحق بقومك من بني عبد مناف بالشام، ولا تقم في بلد لابن الزبير فيه أمره، فاختار له صحبة يزيد بن معاوية على صحبة عبد الله بن الزبير، ووالله إن عداوة هذا يا أمير المؤمنين لنا جميعا بمنزله سواء، ولكنه قوى على بك، وضعف عنك، فتقرب بي إليك ليظفر منك بي بما يريد، إذا لم يقدر على مثله منك، وما ينبغي لك أن تسوغه ذلك في، فإن معاوية بن أبي سفيان وهو أبعد نسبا منك إلينا ذكر الحسن بن علي يوما فسبه، فساعده عبد الله بن الزبير على ذلك، فزجره وانتهره، فقال: إنما ساعدتك يا أمير المؤمنين، فقال: إن الحسن لحمي آكله ولا أوكله. ومع هذا فهو الخارج مع أخي محمد على أبيك المنصور أبي جعفر، والقائل لأخي في قصيدة طويلة أولها:

إن الحمامة يوم الشعب من وثن *** هاجت فؤاد محب دائم الحزن

يحرض أخي فيها على الوثوب والنهوض إلى الخلافة، ويمدحه ويقول له:

لا عز ركنا نزار عند سطوتها *** إن أسلمتك ولا ركنا ذوي يمن

ألست أكرمهم عودا إذا انتسبوا *** يوما وأطهرهم ثوبا من الدرن!

ص: 117

وأعظم الناس عند الناس منزلة *** وأبعد الناس من عيب ومن وهن!

قوموا ببيعتكم ننهض بطاعتها *** أن الخلافة فيكم يا بني حسن

إنا لنأمل أن ترتد الفتنا *** بعد التدابر والبغضاء والإحن

حتى يثاب على الاحسان محسننا *** ويأمن الخائف المأخوذ بالدمن

وتنقضي دولة أحكام قادتها *** فينا كأحكام قوم عابدي وثن

فطالما قد بروا بالجور أعظمنا *** بري الصناع قداح النبع بالسفن

فتغير وجه الرشيد عند سماع هذا الشعر، وتغيظ على ابن مصعب، فابتدأ ابن مصعب يحلف بالله الذي لا إله إلا هو وبأيمان البيعة إن هذا الشعر ليس له، وإنه لسديف، فقال يحيى: والله يا أمير المؤمنين ما قاله غيره، وما حلفت كاذبا ولا صادقا بالله قبل هذا، وإن الله عز وجل إذا مجده العبد في يمينه فقال: والله الطالب الغالب الرحمن الرحيم استحيا أن يعاقبه، فدعني أن أحلفه بيمين ما حلف بها أحد قط كاذبا إلا عوجل قال، فحلفه، قال: قل: برئت من حول الله وقوته، واعتصمت بحولي وقوتي، وتقلدت الحول والقوة من دون الله، استكبارا على الله واستعلاء عليه، واستغناء عنه إن كنت قلت هذا الشعر! فامتنع عبد الله من الحلف بذلك فغضب الرشيد، وقال للفضل بن الربيع يا عباسي ما له لا يحلف إن كان صادقا! هذا طيلساني على، وهذه ثيابي لو حلفني بهذه اليمين إنها لي لحلفت. فوكز الفضل عبد الله برجله و كان له فيه هوى - وقال له احلف ويحك! فجعل يحلف بهذه اليمين، ووجهه متغير، وهو يرعد، فضرب يحيى بين كتفيه، وقال: يا بن

ص: 118

مصعب، قطعت عمرك، لا تفلح بعدها أبدا!

قالوا فما برح من موضعه حتى عرض له أعراض الجذام، استدارت عيناه، وتفقأ وجهه، وقام إلى بيته فتقطع وتشقق لحمه وانتثر شعره، ومات بعد ثلاثة أيام، وحضر الفضل بن الربيع جنازته، فلما جعل في القبر انخسف اللحد به حتى خرجت منه غرة شديدة، وجعل الفضل يقول التراب التراب! فطرح التراب وهو يهوى، فلم يستطيعوا سده حتى سقف بخشب، وطم عليه، فكان الرشيد يقول بعد ذلك للفضل أرأيت يا عباسي ما أسرع، ما أديل ليحيى من ابن مصعب!)(1).

ص: 119


1- شرح نهج البلاغة للمعتزلي:ج 19 ص 91 - 94؛ مقاتل الطالبيين: ص 315 - 318

ص: 120

المبحث الثالث قواعد فقهية

تعلق بعنوان اليمين، والنكول، والحلف، بعض القواعد الفقهية التي تناولها الشهيد السعيد محمد بن مكي العاملي (عليه رحمة الله ورضوانه) والمشهور بالشهيد الأول (ت 786 ه) وهي كالاتي:

المسألة الأولى: قاعدة (معاني اليمين وفوائدها).

قال الشهيد الأول (رحمه الله):

(اليمين لغة: يطلق على ثلاثة معان: الجارحة، والقوة، والقدرة، ومنه:

«وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ»(1)

(يحتمل الأوجه الثلاثة. وأما عرفا: فلها معنيان: أشهرهما: الحلف بالله وبأسمائه، لتحقيق ما يمكن فيه المحالفة، أو لانتفاء ما توجهت الدعوى به أو إثباته. وإنما تخصصت بالله شرعا، لان الحلف يقتضي تعظيم المقسم به، والعظمة المطلقة لله. ولقوله (عليه السلام):

«من كان حالفا فليحلف بالله أو ليذر»(2).

ص: 121


1- الزمر: 67
2- انظر: المتقي الهندي / کنز العمال: 8/ 336، حدیث: 5644. وورد فيه بلفظ: (وإلا فليصمت)

ومن ثم كره الحلف بغير الله، وحرم بالأصنام وشبهها، فعنه (عليه السلام):

«لا تحلفوا بآبائكم ولا بالطواغیت»(1).

المعنى الثاني: تعليق الجزاء على الشرط على وجه البعث على الشرط، أو المنع منه، أو لترتبه عليه مطلقا، وهو المستعمل في الطلاق والعتاق عند العامة، وهو مجرد اصطلاح، إذ لم ينقل عن أهل اللغة مثله. قاله بعضهم(2).

بخلاف المعنى المشهور، فإنه يشتمل على المعاني الثلاثة اللغوية: أما الحلف، فظاهر. وأما القوة، فلان فيه تقوية الكلام وتوثيقه. وأما الجارحة، فلأنهم كانوا إذا تحالفوا أخذ بعضهم بأيدي بعض، واستمر ذلك في أيمان البيعة. قاعدة اليمين أقسام:

الأول: منعقدة، وهي الحلف على المستقبل، فعلا أو ترکا، مع القصد إليه.

الثاني: لاغية، وهي الحلف لا مع القصد على ماض أو آت.

الثالث: يمين الغموس، وهي الحف على الماضي أو الحال مع تعمد الكذب. وسميت غموسا، لأنها تغمس الحالف في الاثم، أو في النار. وفي رواية هي من الكبائر(3)، وفي أخرى: (اليمين الغموس تدع الديار بلاقع)(4).

ص: 122


1- انظر: المتقي الهندي / کنز العمال، 8/ 338، حدیث: 5647
2- انظر: القرافي / الفروق: 1/ 177
3- انظر: الحر العاملي / وسائل الشيعة: 11/ 253، 262، باب 46 من أبواب جهاد النفس، حدیث: 2/ 36، والمتقي الهندي / کنز العمال: 2/ 110، حدیث: 2668، 2679،: 2680
4- انظر: المتقي الهندي / کنز العمال: 8/ 338، حدیث: 5694

ولا كفارة فيها(1)، لقوله تعالى: «بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ»(2)، والعقد لا يتصور إلا مع إمكان الحل، ولا حل في الماضي. ولعدم ذكر الكفارة في الحديث.

الرابع: ما عدا ذلك، كالحلف مع الصدق على الماضي أو الحال.

قاعدة إنما يجوز الحلف بالله أو بأسمائه الخاصة. فالأول، مثل: (والواجب وجوده).. والأول: الذي ليس قبله شيء.. وفالق الحبة.. وبارئ النسمة.

والثاني، مثل قولنا: والله، وهو اسم للذات، لجريان النعوت عليه. وقيل(3): هو اسم للذات مع جملة الصفات الإلهية، فإذا قلنا (الله) فمعناه: الذات الموصوفة بالصفات الخاصة، وهي صفات الكمال ونعوت الجلال. وهذا المفهوم هو الذي يعبد، ويوحد، وینزه عن الشريك والنظير، والضد والند والمثل.

وأما سائر الأسماء فإن آحادها لا يدل إلا على آحاد المعاني من علم وقدرة. أو فعل منسوب إلى الذات، مثل قولنا: (الرحمن): فإنه اسم للذات مع اعتبار الرحمة. وكذا (الرحيم)، و (العليم) و (الخالق) اسم للذات مع اعتبار وصف وجودي خارجي.

و (القدوس) اسم للذات مع (وصف سلبي). أعني: القدس، الذي

ص: 123


1- وهو رأي المالكية أيضا، خلافا للشافعي. انظر: ابن جزي / القوانين الفقهية: 139 (طبعة لبنان)
2- المائدة: 89
3- انظر: القرافي / الفروق: 3/ 56 (نقله عن بعض العلماء)

هو التطهير عن النقائص. و (بالباقي) اسم للذات مع نسبة وإضافة، أعني: البقاء، وهو نسبة بين الوجود والأزمنة، إذ هو استمرار الوجود في الأزمنة. و (الأبدي) هو المستمر مع جميع الأزمنة المستقبلة، فالباقي أعم منه.

و (الأزلي) هو الذي قارن وجوده جميع الأزمنة الماضية، المحققة والمقدرة. فهذه الاعتبارات تکاد تأتي على الأسماء الحسنى بحسب الضبط، ولنشر إليها إشارة خفيفة: (فالله): قد سبق. و (الرحمن والرحيم): إسران للمبالغة من رحم، كغضبان من غضب، وعليم من علم. والرحمة لغة: رقة القلب، وانعطاف يقتضي التفضل والاحسان، ومنه: الرحم، لانعطافها على ما فيها. وأسماء الله تعالى إنما تؤخذ باعتبار الغايات، التي هي أفعال، دون المبادئ، التي هي انفعال.

و (الملك): المتصرف بالأمر والنهي في المأمورين: أو: الذي يستغني في ذاته وصفاته عن كل موجود، ويحتاج إليه كل موجود في ذاته وصفاته. و (القدوس): ذكر. و (السلام): ذو السلامة في ذاته عن العيب، وفي صفاته عن كل نقص وآفة. مصدر وصف به للمبالغة. و (المؤمن): الذي أمن أولياؤه عذابه، أو: المصدق عباده المؤمنين يوم القيامة، أو: الذي لا يخاف ظلمه، أو: الذي لا يتصور أمن ولا أمان إلا من جهته. و (المهيمن): القائم على خلقه بأعمالهم وأرزاقهم وآجالهم.

و (العزيز): الغالب القاهر: أو: ما يمتنع الوصول إليه و (الجبار): القهار والمتسلط، أو المغني من الفقر، من جبره: أي أصلح کسره، أو: الذي تنفذ مشيئته على سبيل الاجبار في كل أحد، ولا تنفذ فيه مشيئة أحد.

ص: 124

و (المتكبر): ذو الكبرياء، وهي الملك، أو: ما يرى الملك حقيرا بالنسبة إلى عظمته. و (البارئ) هو الذي خلق الخلق بريئا من الاضطراب. و (الخالق): هو المقدر. و (المصور): أي من قد صور المخترعات. وتحقيق هذه الثلاثة: أن كل ما يخرج من العدم إلى الوجود يفتقر إلى اختراع أولا، ثم إلى الايجاد على وفق التقدير ثانيا، ثم إلى التصوير بعد الايجاد ثالثا. و (الغفار): هو الذي أظهر الجميل وستر القبيح: و (الوهاب): المعطي كل ما يحتاج إليه لكل من يحتاج إليه.

و (الرازق): خالق الأرزاق والمرتزقة وموصلها إليهم. و (الخافض الرافع): هو الذي يخفض الكفار بالاشقاء، ويرفع المؤمنين بالاسعاد. و (المعز المذل): هو الذي يؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء. و (السمیع): الذي لا يعزب (عنه إدراك) مسموع، خفي أو ظاهر. و (البصير): الذي لا يعزب عنه ما تحت الثرى. ومرجعهما إلى العلم، لتعاليه سبحانه عن الحاسة والمعاني القديمة.

و (الحليم): الذي يشاهد معصية العصاة، ويرى مخالفة الامر ثم لا يسارع إلى الانتقام مع غاية قدرته. و (العظيم): الذي لا تحيط بكنهه العقول. و (العلي): الذي لا رتبة فوق رتبته. و (الكبير)، ذو الكبرياء في كمال الذات والصفات. و (الحفيظ): الحافظ لدوام الموجودات، والمزيل تضاد العنصريات، يحفظها عن الفساد.

و (الجليل): الموصوف بصفات الجلال من: الغنى، والملك، والقدرة، والعلم، والتقديس عن النقائص. و (الرقيب): هو العليم الحفيظ. و (المجيب): الذي يقابل مسألة السائل بإسعافه، والداعي بإجابته، والمضطر بکفایته.

ص: 125

و (الحكيم): العالم بتفاصيل الأشياء بأفضل العلوم.

و (المجيد): الشريف ذاته، الجميل أفعاله. و (الباعث): محي الخلق في النشأة الأخرى. و (الحمید): هو المحمود المثني عليه بأوصاف الكمال. أو: المثني على عباده بطاعتهم له. و (المبدئ المعيد): الموجد بلا سبق مادة ولا مدة، والمعيد لما فنی من مخلوقاته بالحشر في يوم القيامة. و (المحيي المميت): الخالق للموت والحياة.

و (الحي): الدراك الفعال. و (القيوم): القائم بذاته، وبه قيام كل موجود في إيجاده وتدبيره وحفظه. و (الماجد): مبالغة في المجد. و (التواب): میسر أسباب التوبة لعباده، وقابلها منهم مرة بعد أخرى. و (المنتقم): القاصم ظهور العصاة، والشديد العقاب للطغاة. و (العفو): الذي يمحو السيئات، ويتجاوز عن المعاصي.

و (الرؤوف): ذو الرأفة، وهي شدة الرحمة. و (الوالي): الذي دبر أمور الخلق ووليها ملبا بولايتها، أو: المالك للأشياء المستولي عليها. و (الغني): في ذاته وصفاته، والمغني لجميع خلقه. و (الفتاح):

الحاكم: أو: الذي بعنايته يفتح كل مغلق. و (القابض الباسط): هو الذي يوسع الرزق على عباده، ويقتره بحسب الحكمة. ويحسن القران بن هذين الاسمين ونظائرهما، کالخافض والرافع، والمعز والمذل، والضار والنافع، فإنه أنبأ عن القدرة، وأدل على الحكمة. فالأولى لمن وفق بحسن الأدب بين يدي الله تعالى أن لا يفرد كل اسم عن مقابله، لما فيه من الاعراب عن وجه الحكمة .

و (الحكم): الحاكم، لمنعه الناس عن الظلم. و (العدل): ذو العدل، وهو

ص: 126

مصدر أقيم مقام الاسم. و (اللطيف): العالم بغوامض الأشياء ثم يوصلها إلى المستصلح بالرفق دون العنف: أو: البر بعباده الذي يوصل إليهم ما ينتفعون به في الدارين، ويهيئ لهم أسباب مصالحهم من حيث لا يحتسبون.

و (الخبير): العالم بكنه الشئ المطلع على حقيقته. و (الغفور والشكور): مبنيان للبالغة، أي تكثر مغفرته، ویشکر يسير الطاعات. و (المقيت): المقتدر، أو: خالق القوت و موصله إلى البدن. و (الحسیب): المحاسب، أو: المكافي، فعيل بمعنی مفعل، كأليم بمعنی مؤلم، من قولهم: أحسبني، أي: أعطاني ما كفاني.

و (الواسع): الغني الذي وسع غناه سائر عباده، ووسع رزقه جميع خلقه. وقيس: هو المحيط بكل شئ. و (الودود): المحب لعباده. ويجوز أن يكون بمعنى مفعول، أي: مودته في قلوب أوليائه، بما ساق إليهم من المعارف، وأظهر لهم من الألطاف. و (الشهيد): الذي لا يغيب عنه شئ. و (الحق): المتحقق وجوده، أو: الموجد للشئ (على ما تقتضيه) الحكمة.

و (الوكيل): هو الكافي، أو: الموكول إليه جميع الأمور. وقيل: الكفيل بأرزاق العباد و (القوي): الذي لا يستولي عليه الضعف والعجز في حال من الأحوال. و (المتين): هو الشديد القوة الذي لا يعتريه وهن، ولا يمسه لغوب. و (الولي): (القائم بنصر) عباده المؤمنين، أو: المتولي للأمر به. و (المحصي): الذي أحصى كل شئ بعلمه، فلا يعزب عنه مثقال ذرة ولا أصغر.

و (الواجد): أي الغني، من الجدة، أو: الذي لا يعوزه شيء، أو: الذي لا يحول بينه وبين مراده حائل، من الوجود. و (الواحد الأحد): يدلان على

ص: 127

معنى الوحدانية وعدم التجزؤ. وقيل: الفرق بينهما: أن الواحد: هو المنفرد بالذات لا يشابهه أحد، والأحد: المتفرد بصفاته الذاتية بحيث لا يشاركه فيها أحد. و (الصمد): السيد الفائق في السؤدد الذي تصمد إليه الحوائج، أي: يصمد إليه الناس في حوائجهم.

و (القادر): الموجد للشئ، اختیارا، و (المتقدر): أبلغ، لاقتضائه الاطلاق، ولا يوصف بالقدرة المطلقة غير الله تعالى. و (المقدم والمؤخر): المنزل للأشياء في منازلها، وترتيبها في التكوين والتصوير، والأزمنة والأمكنة، على ما تقتضيه الحكمة.

و (الأول والآخر): أي لا شئ قبله ولا معه ولا بعده. و (الظاهر): أي بآياته الظاهرة الباهرة الدالة على ربوبيته ووحدانيته، أو: العالي الغالب، من الظهور.

بمعنى العلو والغلبة، ومنه قوله عليه السلام: (أنت الظاهر فليس فوقك شئ). و (الباطن): الذي لا يستولي عليه توهم الكيفية، أو: المحتجب عن أبصارنا، ويكون معنى الظاهر: المتجلي لبصائرنا.

وقيل: هو العالم بما ظهر من الأمور، والمطلع على ما بطن من الغيوب. وينبغي أن يقرن بين هذين الاسمين أيضا. و (البر): هو العطوف على العباد الذي عم بره جميع خلقه، ببر المحسن بتضعيف الثواب، والمسيئ بالعفو عن العقاب، وبقبول التوبة.

و (ذو الجلال والاكرام): أي العظمة: أو: الغناء المطلق والفضل العام. و (المقسط): العادل الذي لا يجوز.

ص: 128

و (الجامع): الذي يجمع الخلائق ليوم القيامة، أو: الجامع للمتباينات والمؤلف بين المتضادات، أو: الجامع لأوصاف الحمد والثناء.

و (المانع): أي يمنع أولياءه و يحفظهم ويحوطهم وينصرهم، من المنعة، أو يمنع من يستحق المنع، والحكمة في منعه. واشتقاقه من المنع، أي الحرمان، لان منعه سبحانه حكمة، وعطاءه جود ورحمة. أو: الذي يمنع أسباب الهلاك والنقصان بما يخلقه في الأبدان الأديان من الأسباب المعدة للحفظ.

و (الضار النافع): أي خالق مايضر وينفع و (النور): المنور مخلوقاته بالوجود والكواكب والشمس والقمر واقتباس النار، أو: نور الوجود بالملائكة والأنبياء، أو: دبر الخلائق بتدبيره. و (البديع): هو الذي فطر الخلق مبتدعا لا على مثال سبق. و (الوارث): هو الباقي بعد فناء الخلق، وترجع إليه الأملاك بعد فناء الملاك.

و (الرشید): الذي أرشد الخلق إلى مصالحهم، أو: ذو الرشد، وهو الحكمة. و (الصبور): (هو الذي لا تحمله العجلة على المسارعة إلى الفعل قبل أوانه، أو) الذي لا يعاجل بعقوبته العصاة، لاستغنائه عن التسرع، إذ لا يخاف الفوت.

و (الهادي) لعباده إلى معرفته بغير واسطة، أو بواسطة ما خلقه من الأدلة على معرفته هدى كل مخلوق إلى ما لا بد له منه في معاشه ومعاده. و (الباقي): هو الموجود الواجب وجوده لذاته، أزلا وأبدا.

وقد ورد في الكتاب العزيز في الأسماء الحسنى (الرب): وهو في الأصل بمعنى التربية، وهي تبليغ الشئ إلى کماله شيئا فشيئا، ثم وصف به للمبالغة،

ص: 129

كالصوم والعدل. وقيل: هو نعت من: ربه بربه فهو رب، ثم سمي به المالك، لأنه يحفظ ما يملكه ويربيه. ولا يطلق على غير الله إلا مقيدا كقولنا: رب الضيعة.

ومنه قوله تعالى: «ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ»(1). و (المولى): هو الناصر، والأولى بمخلوقاته، والمتولي لأمورهم. و (النصير): مبالغة في الناصر. و (المحیط): أي الشامل علمه. و (الفاطر): أي المبتدع، من الفطرة، وهو الشق، كأنه شق العدم باخراجها منه.

و (العلام): مبالغة في العالم. و (الكافي): أي يكفي عباده جميع مهامهم، ويدفع عنهم مؤذياتهم. و (ذو الطول): أي الفضل، بترك العقاب المستحق، عاجلا وآجلا، لغير الكافر.

و (ذو المعارج): ذو الدرجات، التي هي مصاعد الكلم الطيب والعمل الصالح، أو التي يترقى فيها المؤمنون، أو في الجنة.

فائدة: مرجع هذه الأسماء والصفات، عندنا وعند المعتزلة، إلى الذات، وذلك لان مرجع هذه الأسماء إلى: الذات، والحياة. والقدرة، والعلم، والإرادة، والسمع، والبصر، والكلام.

والأربعة الأخيرة ترجع إلى: العلم، والقدرة: والعلم والقدرة كافيان في الحياة، والعلم والقدرة نفس الذات، فرجعت جميعها إلى الذات، إما مستقلة، أو إليها مع السلب أو الإضافة، أو هما، أو إليها مع واحدة من الصفات الاعتبارية المذكورة، أو إلى صفة مع إضافة، أو إلى صفة مع زيادة إضافة

ص: 130


1- يوسف: 50

أو إلى صفة مع فعل وإضافة، (أو إلى صفة فعل) (4)، أو إلى صفة فعل مع إضافة زائدة.

والثاني: مثل: القدوس، والسلام، والغني، والأحد.

والثالث: كالعلي، والعظيم، والأول، والآخر.

والرابع: كالملك، والعزيز.

والخامس: كالعليم، والقدير.

والسادس: كالحليم، والخبير، والشهيد، والمحصي.

والسابع: كالقوي، والمتين.

والثامن: كالرحمن، والرحيم، والرؤوف، والودود.

والتاسع: كالخالق، والبارئ، والمصور.

والعاشر: كالمجيد، واللطيف، والكريم(1).

فائدة: هذه كلها ورد بها السمع، ولا شيء منها يوهم نقصا، فلذلك جاز إطلاقها على الله تعالى إجماعا. أما ما عداها فينقسم أقساما ثلاثة:

الأول: ما لم يرد به السمع ويوهم نقصا، فيمتنع إطلاقه إجماعا، نحو العارف والعاقل، والفطن، والذكي، لان المعرفة، قد تشعر بسبق فكرة، والعقل، هو المنع عما لا يليق، والفطنة والذكاء، يشعران بسرعة الادراك لما غاب عن المدرك. وكذا المتواضع، لأنه يوهم الذلة.

والعلامة، فإنه يوهم التأنيث .. والداري، لأنه يوهم تقدم الشك. وما

ص: 131


1- انظر هذه الفائدة أيضا في / الفروق: 3 / 56 - 57

جاء في الدعاء من قولهم: (لا يعلم ولا يدري ما هو إلا هو)(1) بوهم جواز هذا، فيكون مرادفا للعلم.

الثاني: ما ورد به السمع ولكن إطلاقه في غير مورده يوهم النقص، کما في قوله تعالى: (ومكروا ومكر الله) وقوله: (الله يستهزئ بهم) فلا يجوز أن يقال: يا مستهزئ، أو يا ماكر، أو يحلف به.

وكذا منع بعضهم من أن يقال: اللهم امكر بفلان. وقد ورد هذا في دعوات المصباح. أما: الکهم استهزئ به، أو لا تستهزئ به، ففيه الكلام.

الثالث: ما خلا عن الابهام إلا أنه لم يرد به السمع، مثل: السخي، والنجي، والأريحي. ومنه: السيد، عند بعضهم، وقد جاء في الدعاء كثيرا، وورد أيضا في بعض الأحاديث: قال السيد الكريم، فلاولى التوقف عما لم تثبت التسمية به، وإن جاز أن يطلق معناه عليه، إذا لم يكن فيه إبهام. وضابط الحلف بالأسماء: الاختصاص أو الاشتراك، مع أغلبية الاطلاق على الله تعالى.

فائدة: لو قال: واسم الله، فالأقرب عدم الانعقاد، لان الاسم مغاير للمسمى على الصحيح. ومن قال: لان الاسم هو المسمى، يلزمه الانعقاد، فكأنه حلف بالله.

قيل: وموضع الخلاف هو في المركب من (ا، س، م) لا في مثل قولنا: حجر، ونار، وذهب، وفضة، وغيرها من الأسماء، إذ لا يقال: لفظ الحجر هو عين الحجر حتى يؤذي من تلفظ به، أو لفظ النار عين النار حتى يحترق

ص: 132


1- ورد في المصباح، للكفعمي: 338، قولا قريبا منه للإمام الكاظم (عليه السلام)، فقد ورد فيه بلفظ : «يا من لا يعلم ولا يدري كيف هو إلا هو

من تكلم به. وفي التحقيق: لفظ (اسم) موضوع للقدر المشترك بين الأسماء، وأن مسماه لفظ لا معنى.

والظاهر أن الخلاف ليس مقصورا على لفظ (اسم بل مطرد، ولكنه يرجع إلى الخلاف في العبارة، وذلك لان الاسم إن أريد به اللفظ، فغير المسمى قطعا، لأنه يتألف من أصوات مقطعة سيالة، ويختلف باختلاف الأمم والأعصار، ويتعد تارة، ويتحد أخرى، والمسمى ليس كذلك. وإن أريد بالاسم الذات، فهو المسمى، لكنه لم يشتهر في هذا المعنى، إلا أن يكون من ذلك قوله تعالى:

«تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ»(1) وهو غير متعين، لجواز إطلاق التنزيه على الألفاظ و الدالة على الذات المقدسة، كما تنزه الذات. وإن أريد بالاسم الصة، ينقسم إلى ما هو المسمى والى غيره. فائدة: الألف واللام في قولنا: القدير، والعليم، والرحمن، والرحيم، يمكن أن تكون للعهد، لان كل مخاطب يعهد هذا المدلول، ويمكن أن تكون للكمال، مثل قولهم: زيد الرجل: أي الكامل في الرجولية. قاله سيبويه(2). فعلى هذا، الرحمن: الكامل في الرحمة، والعليم: الكامل في العلم. ولابد في الايمان كلها من القصد عندنا، وإن كانت بلفظ صريح)(3).

ص: 133


1- الرحمن: 78
2- هو أبو الحسن أو أبو بشر، عمر و بن عثمان بن قنبر، الفارسي، البيضاوي، العراقي، البصري، النحوي المشهور، قيل في حقه: إن المتقدمين والمتأخرين في النحو عيال عليه. أخذ عن الخليل ابن أحمد والأخفش وغيرهما. قيل: توفي حدود سنة 18 ه وقبره في شيراز. وقيل: توفي سنة 194 ه وعمره اثنان وثلاثون سنة بمدينة ساوة. (القمي / الكنى والألقاب: 2 / 301)
3- القواعد والفوائد: ج 2 ص 163 - 180

المسألة الثانية: قاعدة: (لا يحكم بالنكول على الاقوى إلا في عشرة مواضع).

تناول الشهيد الأول هذه القاعدة انشاءاً وبياناً، فقال:

لا يحكم بالنكول على الأقوى إلا في عشرة مواضع:

الأول: دعوى المالك إبدال النصاب أو الاخراج (أو عدم) الحول، الأصح أنه مسموع بغير يمين. ولو قلنا باليمين، فنكل أخذ منه الحق، فهو إما قضاء بالنكول، وإما قضاء عند النكول، لان قضية ملك النصاب أداء الزكاة، فإذا لم يأت بحجة أخذت منه(1). وقال بعضهم: إذا كان المستحقون محصورين، وقلنا بتحريم النقل، حلفوا وأخذت منه. وهو بعيد. وقيل(2): عند نكوله يحبس حتى يقر أو يحلف. وقيل: بل يخلى.

وقيل: إن كان بصورة المدعي كقوله: أخرجت، أو بادلت، أخذت منه عند النكول، وإن كان بصورة المنكر كقوله: لم يحل الحول، أو ما في يدي لمكاتبي، ترك.

الثاني: إذا وجد القاضي في تذكرة ميت لا وارث له: لي على فلان كذا، فادعى به، فأنكر ونكل عن اليمين، ففيه: الحكم، والحبس، والاعراض. وربما ضعف الاعراض هنا، لان اليمين هنا واجبة قطعا. ورجح بعضهم: للقضاء بالنكول، أو عنده في الأولى دون هذه، لان هناك وجوبا محققا ولم يظهر

ص: 134


1- نقل الشيخ الطوسي هذا الرأي عن بعض الفقهاء. انظر: المبسوط: 8 / 212 - 213
2- وجه للشافعية. وانظر: الغزالي / الوجيز: 2 / 160، والسيوطي / الأشباه والنظائر: 553

مسقط. ومثل هذا: لو ادعى الوصي أن الميت أوصى للفقراء، فأنكر الوارث ونكل(1).

الثالث: الذمي إذا ادعى الإسلام قبل الحول واتهمه العامل، أو قال: أسلمت بعد الحول، على القول بأن الجزية لا تسقط هنا، فإنه يحلف، فلو نكل، فالأوجه(2).

الرابع: إذا ادعى الأسير استعجال الشعر بالدواء، وقلنا: الانبات إمارة على البلوغ لا عينه، قيل(3): يحلف، فلو نكل لم يقتل، بل إما ان يحبس أو يطلق. الحلف هنا مشكل، لعدم ثبوت بلوغه، وهو الذي ذكره الأصحاب(4).

الخامس: لو ادعى ناظر الوقف أو المسجد، ونكل المدعى عليه، فيه الأوجه(5). وقيل(6): ترد اليمين عليه. وليس بشيء، إذ لا يحلف لاثبات مال غيره وقيل: إن كان ذلك بسبب باشره بنفسه، ردت، وإن كان باتلاف المدعى عليه لم ترد. وهما ضعيفان.

السادس: إذا ادعي ولد المرتزق الاحتلام، وطلب الرزق، فالأقرب تصديقه من غير يمين، وإلا دار. ولأنه إن كان كاذبا فكيف يحلف وهو

ص: 135


1- انظر: الشيخ الطوسي / المبسوط: 8 / 214 (نسبه إلى قوم من الفقهاء)
2- أي الأوجه الثلاثة وهي: الحكم بالنكول، أو الحبس إلى أن يقر أو يحلف، أو الاعراض عنه وتخليته. وقد ذكرها الغزالي في / الوجيز: 2 / 160
3- انظر: الغزالي / الوجيز: 2 / 160، والسيوطي / الأشباه والنظائر: 533
4- انظر: الشيخ الطوسي / المبسوط: 8 / 213
5- أي: الأوجه الثلاثة المتقدمة وهي: الحكم بالنكول، أو الحبس إلى أن يقر أو يحلف، أو الاعراض عنه وتخليته
6- قول لبعض الشافعية. انظر: السيوطي / الأشباه والنظائر: 533

صبي؟؟ وقيل(1): يحلف عند التهمة، فان نكل لم يثبت في المرتزقة. وهذا الموضع ليس من القضاء بالنكول، وإنما هو ترك الحكم لعدم قيام حجة.

السابع: إذا نكل الزوج عن يمين الإصابة بعد العنة، ففي حلف المرأة وجه، لإمكان علمها بالقرائن. فإن لم نقل به، قضي بالنكول.

الثامن: لو قتل من لا وراث له، وهناك لوث(2) أو لبس، أحلف المنكر، فان نكل، فيه ما تقدم.

التاسع: لو ادعت تقدم الطلاق على الوضع، وقال: لا أدري، لم يقنع منه بذلك بل إما أن يحلف يمينا جازمة، أو ينكل فتحلف هي، فان نكلت فعليها العدة. وليس قضاء بالنكول عند بعضهم، بل لان الأصل بقاء النكاح وآثاره فيعمل به حتى يثبت رافع.

العاشر: لو نكل المقذوف عن اليمين على عدم الزنا، قيل: يقضى علي - بالنكول. وقيل: بل ترد اليمين. وهو وجه إن سمعنا الدعوى في الأصل، إذ النص: (أن لا يمين في حد)(3).

الحادي عشر: إذا ادعى الولي مالا للمولى عليه، فأنكر المدعى عليه ونكل عن اليمين، احتمل القضاء بالنكول، وانتظار أهلية المدعى له)(4).

ص: 136


1- انظر: الغزالي / الوجيز: 2 / 160
2- اللوث: إمارة يظن بها صدق المدعي فيما ادعاه من القتل، كوجود ذي سلاح ملطخ بالدم عند قتيل في دار. انظر: الطريحي / مجمع البحرين: 2 / 263، مادة (لوث)
3- انظر: النوري / مستدرك الوسائل: 3/ 257، باب 30 من أبواب كيفية الحكم، حديث: 6
4- القواعد والفوائد: ج 1 ص 412 - 416

المسألة الثالثة: قاعدة: (اليمين إما على النفي، وأما على الاثبات).

هذه القاعدة انشئها الشهيد الأول وبينها، فقال:

اليمين إما على النفي، وهي وظيفة المنكر المشار إليها في الحديث، وإما على الاثبات، وهي: في اللعان، إن جعلناه يمينا، والقسامة من المدعي، ومع الشاهد الواحد في موضعه، واليمين المردودة على المدعي بالرد أو بالنكول، ويمين الاستظهار، ولها موارد: الميت والصبي، والمجنون، والغائب مع البينة.

ومن صور الغيبة: ان يدعي المشتري: أن غائبا معينا باعه هذا وأقبضه الثمن، ثم ظهر به عيب وأنه فسخ البيع، ويقيم البينة على ذلك. ومن منع الحكم على الغائب، ينصب الحاكم له وكيلا ثم يحلفه بعد قيام البينة. والمعسر يحلف مع بينته، احتياطا للمال الخفي عن البينة. والأقرب توقفها على استدعاء الخصم، كغيرها من الايمان. ولو ادعى العنين الوطئ قبلا، فأقامت بينة على البكارة،

فقال: لم أبالغ فعادت البكارة، حلفت على أنها بالبكارة الأصلية.

أو على عدم الإصابة وفسخت، فان نكلت حلف، وإن نكل قيل:

لها الفسخ، ويكون نكوله كحلفها. ويحتمل عدم الفسخ، لأنه يضرب نكولها بنكوله، والأصل بقاء العصمة. ويمين دعوى المواطاة على القبالة.

وقيل: لو ادعى الجاني شلل العضو، وأقام الآخر البينة على سلامته، حلف معها أيضا إذا كان باطنا، دفعا لاحتمال خفي.

قاعدة ليس بين شرعية الاحلاف وبين قبول الاقرار تلازم، وإن كان غالبا: إذ يقبل إقرار الصبي بالبلوغ ولا يقبل يمينه، لأنه يؤدي إلى نفيه.

ص: 137

ويقبل يمين المستحر في نفي العبودية، ولا يقبل إقراره بها بعد دعواه الحرية.

فان قلت: طلب الاحلاف لتوقع الاقرار، فإذا انتفى، انتفى الاحلاف، لعدم فائدته.

قلت: الغاية في الاحلاف أعم من ذلك، لأنه قد ينكل فيحلف المدعى على رقيت، فيغرم القيمة إن قلنا اليمين المردودة كالإقرار، وإن قلنا كالبينة ثبت رقه.

والأصل فيه: أن من فوت مالا أو غيره على آخر ثم رجع، فإن كان مما لا يستدرك، كالعتق والقتل والطلاق، غرم، وإن كان مما يستدرك، كالإقرار بالعين والشهادة بالملك، فالأقرب الغرم أيضا، للحيلولة)(1).

ص: 138


1- القواعد والفوائد: ج 1 ص 474 - 476

الفصل الثاني : شهادة النساء

اشارة

ص: 139

ص: 140

قال أمير المؤمنين الإمام علي (عليه الصلاة والسلام):

«مَعَاشِرَ اَلنَّاسِ إِنَّ اَلنِّسَاءَ نَوَاقِصُ اَلْإِیمَانِ، نَوَاقِصُ اَلْعُقُولِ نَوَاقِصُ اَلْعُقُولِ؛ فَأَمَّا نَقْصَانُ إِیمَانِهِنَّ، فَقُعُودُهُنَّ عَنِ الصَّلَاةِ والصِّیَامِ فِی أَیَّامِ حَیْضِهِنَّ؛ وَ أَمَّا نُقْصَانُ حُظُوظِهِنَّ فَمِیرَاثُهُنَّ عَلَی الأنْصَافِ مَوَارِیثِ اَلرِّجَالِ؛ وَ أَمَّا نُقْصَانُ عُقُولِهِنَّ فَشَهَادَهُ اِمْرَأَتَیْنِ کَشَهَادَهِ الرَّجُلٍ الوَاحِدِ»(1).

إنّ الاستشهاد بهذه الخطبة قد مرَّ سابقاً في كتاب الطهارات حيث تم دراسة قوله (عليه الصلاة والسلام):

«فَأَمَّا نَقْصَانُ إِیمَانِهِنَّ، فَقُعُودُهُنَّ عَنِ الصَّلَاةِ والصِّیَامِ فِی أَیَّامِ حَیْضِهِنَّ».

وفي هذا الفصل سنتناول قوله (عليه الصلاة والسلام):

«وَ أَمَّا نُقْصَانُ عُقُولِهِنَّ فَشَهَادَهُ اِمْرَأَتَیْنِ کَشَهَادَهِ الرَّجُلٍ الوَاحِدِ».

ونبحث حکم شهادة النساء في موارد الحقوق، وهل يلزم دائما شهادة امرأتين أم يكفي أمراه واحدة؟ هذا ما سنتناوله في هذا الفصل.

ص: 141


1- نهج البلاغة، الخطبة 79 ص 177 بتحقيق الشيخ قيس العطار، ط العتبة العلوية؛ وبتحقيق صبحي الصالح: الخطبة (80) ص 106 ط لسنة 1967 ه

ص: 142

المبحث الاول حكم شهادة النساء في المذاهب الإسلامية

تباينت أقوال فقهاء المذاهب الإسلامية في حكم شهادة النساء في الحقوق الالهية والآدمية فكانت على النحو الآتي والذي سنبدئه بالمذهب الإمامي.

المسألة الأولى: حكم شهادة النساء في المذهب الإمامي:

ذهب فقهاء الإمامية (أعلى الله شأنهم) إلى تقسيم الشهادات بقسمين:

القسم الأول: ما تعلق في حق الله عز وجل، وفيه مرتبتان.

الأولى: وهي، الزنا، واللواط، والسحق(1)، ويثبت كل واحد منهم بشهادة أربعة رجال، ويثبت الزنا خاصة بشهادة ثلاثة رجال وامرأتين ايضاً، وكذلك يثبت برجلين واربع نساء.

والثانية: ما عدا الزنا مما فيه حد، وهي: السرقة، وشرب الخمر، والردة، والقذف، وكذا ما ليس بحد: کالزكاة والخمس، والكفارات، والنذور، والإسلام.

وأما القسم الثاني: وهو حق الآدمي، وفيه ثلاثة مراتب:

الأولى: ما لا يثبت إلا بشاهدین ذکرین عدلين.

والثانية: ما يثبت بشاهدين، وشاهد وامرأتين، وشاهد ويمين.

ص: 143


1- قواعد الأحكام للعلامة الحلي: ج 3 ص 499

والثالثة: ما يثبت بالرجال والنساء منفردات ومنظمات(1). فأما القسم الأول، وهو حق الله فلا يثبت شيء من حقوق الله تعالى بشاهد وامرأتين، ولا بشاهد ويمين، ولا بشهادة النساء منفردات ولو كثره(2).

وفيما يتعلق بحقوق الآدمي وما ارتبط بأحكام شهادة النساء فيها فقد تناوله الشيخ محمد حسن الجواهري (عليه الرحمة والرضوان) (ت 1266 ه) مستعرضاً لأقوال فقهاء المذهب وذلك في شرحه لقول المحقق الحلي (عليه الرحمة والرضوان)، فقال:

(وأما حقوق الآدمي فثلاثة:

الأول: منها ما لا يثبت إلا بشاهدین ذکرین فلا يجزئ فيه النساء منضمة فضلاً من الانفراد ولا اليمين مع الشاهد، وفي الدروس ضبط الأصحاب ذلك بكل ما كان من حقوق ليس مالاً ولا لمقصود منه المال، وفي کشف اللثام: وهو ما يطلع عليه الرجال غالباً وما لا يكون مالاً ولا المقصود منه المال ولكن لم أقف في النصوص على ما يفيده، بل فيها ما ينافيه.

وكيف كان فالذي عده المصنف من ذلك كغيره هو الطلاق بل عن الغنية الاجماع عليه، لكن عن المبسوط أنه قوى ثبوته بشهادة النساء منضمات، بل في المسالك نسبته إلى جماعة أيضا وإن كنا لم نتحقق منهم إلا ما يحكي عن أبي علي أنه قال: لا بأس بشهادتهن مع الرجال في الحدود والأنساب والطلاق.

وعلى كل حال لا ريب في ضعفه، للأصل والنصوص الكثيرة كصحيح

ص: 144


1- المصدر السابق
2- شرائع الإسلام للمحقق الحلي: ج 4 ص 922

الحلبي(1) عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه سئل عن شهادة النساء في النكاح فقال:

«يجوز إذا كان معهن رجل».

وكان علي (عليه السلام) يقول:

«لا أجيزها في الطلاق الحديث».

وخبر إبراهيم الحارثي(2) سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول:

«تجوز شهادة النساء في ما لا يستطيع الرجال أن ينظروا إليه ويشهدوا عليه، وتجوز شهادتهن في النكاح، ولا تجوز في الطلاق ولا في الدم». الحديث.

وخبر محمد بن الفضيل(3) سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) قلت له: تجوز شهادة النساء في نكاح أو طلاق أو رجم؟ قال:

«تجوز شهادة النساء في ما لا يستطيع الرجال أن ينظروا إليه وليس معهن رجل، وتجوز شهادتهن في النكاح إذا كان معهن رجل، وتجوز شهادتهن في حد الزنا إذا كان ثلاثة رجال وامرأتان، ولا تجوز شهادة رجلين وأربع نسوة في الزنا والرجم ولا تجوز شهادتهن في الطلاق ولا الدم».

إلى غير ذلك من النصوص التي يمكن دعوى كونه مقطوعا به منها إن لم يمكن دعوى تواترها، ومع ذلك سالمة عن المعارض بالخصوص. نعم في کشف اللثام احتمال كون المراد شهادتهن حين الطلاق، وهو مع بعده فيها

ص: 145


1- الوسائل - الباب - 24 - من كتاب الشهادات - الحديث 2 - 5 - 7 - 50
2- الوسائل - الباب - 24 - من كتاب الشهادات - الحديث 2 - 5 - 7 - 50
3- الوسائل - الباب - 24 - من كتاب الشهادات - الحديث 2 - 5 - 7 - 50

ما لا يقبله، كالمروي عن العلل والعيون بأسانيده إلى محمد بن سنان(1) عن الرضا (عليه السلام) في ما كتب إليه من العلل وعلة ترك شهادة النساء في الطلاق والهلال لضعفهن عن الرؤية و محاباتهن النساء في الطلاق، فلذلك لا تجوز شهادتهن إلا في موضع ضرورة، مثل شهادة القابلة، وما لا يجوز للرجال أن ينظروا إليه وغيره.

وفي خبر داود بن الحصين(2) عن أبي عبد الله (عليه السلام) سألته عن شهادة النساء في النكاح بلا رجل معهن - إلى أن قال -:

«وكان أمير المؤمنين (عليه السلام) يجيز شهادة المرأتين في النكاح عند الانکار، ولا يجيز في الطلاق إلا شاهدين عدلين».

فقلت: أتی ذكر الله تعالى: «فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ»(3) فقال:

«ذلك في الدين إذا لم يكن رجلان فرجل وامرأتان ورجل واحد ويمين المدعي إذا لم يكن امرأتان، قضى بذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) بعده عندكم وغيرهما».

ومن الأخير يستفاد عدم الاجتزاء فيه أيضا بالشاهد واليمين، وقد تقدم الكلام فيه في كتاب القضاء.

وأما الخلع فظاهر المصنف والأكثر على ما في كشف اللثام بل المشهور في المسالك أنه كالطلاق في اعتبار الشاهدين فيه وإن كان المدعى به الزوج، لأنه حينئذ وإن تضمن مالا إلا أنه طلاق، وفي المسالك متضمن أيضا

ص: 146


1- الوسائل - الباب - 24 - من كتاب الشهادات - الحديث 2 - 5 - 7 - 50
2- الوسائل - الباب - 24 - من كتاب الشهادات - الحديث 35
3- البقرة: 282

البينونة، والحجة لا تتبعض، والمقصود منه بالذات البينونة والمال تابع کما في كشف اللثام.

نعم قال فيه: لا بد من النزاع في البينونة أو الطلاق، فلو اتفقا على الطلاق واختلفا في أنه بالخلع أولا فلا شبهة في أنه نزاع في المال إلا أن تكون المرأة هي المدعية له لتبطل رجعته قلت: قد عرفت تحقيق ذلك في كتاب القضاء في بحث الشاهد واليمين بل عن بعض ثبوته إن ادعاه الزوج بشاهد وامرأتين، لثبوت المال بهم، والمال هنا ليس إلا عوضا للطلاق، فيتبعه في الثبوت.

و أما الوكالة والوصية إليه والنسب ورؤية الأهلة وإن استلزم الأخيران الإرث و حلول آجال الديون فالمشهور فيها أيضا ذلك، بل عن الغنية الاجماع عليه في الأهلة، كما أن النصوص في الأهلة مستفيضة، منها قول الصادق (عليه السلام) في خبر حماد بن عثمان(1):

«لا تقبل شهادة النساء في رؤية الهلال، ولا يقبل في الهلال إلا رجلان عدلان».

وقول أحدهما (عليهما السلام) في صحيح العلاء(2):

«لا تجوز شهادة النساء في الهلال».

نعم قال الصادق (عليه السلام) في خبر داود بن الحصين(3):

«لا تجوز شهادة النساء في الفطر إلا شهادة رجلين عدلين، ولا بأس في الصوم بشهادة النساء ولو امرأة واحدة».

ص: 147


1- الوسائل - الباب - 24 - من كتاب الشهادات - الحديث 17 - 18 - 36
2- الوسائل - الباب - 24 - من كتاب الشهادات - الحديث 17 - 18 - 36
3- الوسائل - الباب - 24 - من كتاب الشهادات - الحديث 17 - 18 - 36

ولا دلالة فيه على ثبوت الهلال بذلك، بل أقصاه جواز الصوم استظهارا. هذا ولكن عن المبسوط أنه قوى قبول الشاهد والامرأتين في جميع ذلك، وقد سمعت كلام أبي علي السابق، كما أنك قد سمعت ما تقدم لنا في كتاب القضاء في بحث الشاهد واليمين فلاحظ وتدبر.

بل منه يعلم الحال في العتق والقصاص والنكاح وإن قال المصنف هنا فيها تردد، أظهره كما في القواعد أيضا (ثبوته بالشاهد والمرأتين) وفاقا للمحكي عن المبسوط في الأول والثاني وللمحكي عن المقنع والاستبصار في الثاني، ويلزمه القول أيضا بالثبوت بالشاهد واليمين، لاتحاد ما يثبت بها، أما العتق فلأنه مالي أو من حقوق الآدميين التي هي موضوع الشاهد واليمين في النصوص.(1)

ويندرج فيها حينئذ النكاح والقصاص، مضافا إلى ما فيها من النصوص بالخصوص المتقدمة سابقا في النكاح. مضافا إلى خبر زرارة(2) سأل الباقر (عليه السلام) عن شهادة النساء تجوز في النكاح، قال:

«نعم ولا تجوز في الطلاق»

- إلى أن قال -: قلت: تجوز شهادة النساء مع الرجال في الدم؟ قال:

«لا».

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) في خبر الكناني(3):

ص: 148


1- الوسائل - الباب - 14 - من أبواب كيفية الحكم من كتاب القضاء
2- الوسائل - الباب - 24 - من كتاب الشهادات الحديث 11 - 25 - 1 - 32 - 4 - 42
3- الوسائل - الباب - 24 - من كتاب الشهادات الحديث 11 - 25 - 1 - 32 - 4 - 42

«شهادة النساء تجوز في النكاح»

- وقال فيه أيضا -:

«تجوز شهادتهن في الدم مع الرجال».

وفي صحيح جميل وابن حمران(1) سألا الصادق (عليه السلام) أتجوز شهادة النساء في الحدود؟ قال:

«في القتل وحده، إن عليا (عليه السلام) كان يقول: لا يبطل دم امرئ مسلم».

وفي مضمر زيد الشحام(2) قلت: أفتجوز شهادة النساء مع الرجال في الدم؟ قال:

«نعم».

وفي خبر أبي بصير(3) المضمر سألته عن شهادة النساء، فقال:

«تجوز شهادة النساء وحدهن على ما لا يستطيع الرجال النظر إليه، وتجوز شهادة النساء في النكاح إذا كان معهن رجل».

إلى غير ذلك من النصوص. بل لا أجد لها معارضا في النكاح إلا خبر السكوني عن جعفر عن أبيه عن علي (عليهم السلام) أنه كان يقول:

«شهادة النساء لا تجوز في نكاح ولا طلاق ولا في حدود إلا في الديون وما لا يستطيع الرجال النظر إليه».

وهو - مع قصوره عن معارضة الأخبار السابقة من وجوه - محتمل

ص: 149


1- الوسائل - الباب - 24 - من كتاب الشهادات الحديث 11 - 25 - 1 - 32 - 4 - 42
2- الوسائل - الباب - 24 - من كتاب الشهادات الحديث 11 - 25 - 1 - 32 - 4 - 42
3- الوسائل - الباب - 24 - من كتاب الشهادات الحديث 11 - 25 - 1 - 32 - 4 - 42

لإرادة شهادتهن منفردات، کما في خبر إسماعيل بن عیسی(1) سألت الرضا (عليه السلام) هل تجوز شهادة النساء في التزويج من غير أن يكون معهن رجل؟ قال: (لا). هذا لا يستقیم. نعم:

هي متعارضة في الدم کما سمعته في النصوص السابقة، مضافا إلى ما في خبر محمد بن قیس(2) عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قضى أمير المؤمنين (عليه السلام) في غلام شهدت عليه امرأة أنه دفع غلاما في بئر فقتله، فأجاز شهادة المرأة بحساب شهادة المرأة.

وعن الصدوق روايته باسقاط قوله: بحساب وفي خبر عبد الله بن الحكم(3) سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن امرأة شهدت على رجل أنه دفع صبيا في بئر فمات، فقال:

«على الرجل ربع دية الصبي بشهادة المرأة».

وما في خبر محمد بن مسلم(4) عن أبي عبد الله (عليه السلام):

«لا تجوز شهادة النساء في القتل».

وما في خبر غياث عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليهما السلام):

«لا تجوز شهادة النساء في الحدود ولا في القود».

ص: 150


1- الوسائل - الباب - 24 - من كتاب الشهادات الحديث 39 - 26 - 33 - 28 - 29 - 30
2- الوسائل - الباب - 24 - من كتاب الشهادات الحديث 39 - 26 - 33 - 28 - 29 - 30
3- الوسائل - الباب - 24 - من كتاب الشهادات الحديث 39 - 26 - 33 - 28 - 29 - 30
4- الوسائل - الباب - 24 - من كتاب الشهادات الحديث 39 - 26 - 33 - 28 - 29 - 30

وما في خبر موسى بن إسماعيل بن جعفر(1) عن أبيه عن آبائه عن علي (عليهم السلام):

«ولا تجوز شهادة النساء في الحدود ولا في القود».

وعن الشيخ الجمع بينها بعدم قبول شهادتهن ولو مع الرجال في القصاص، أما الدية فتثبت بشهادتهن، ونسبه المصنف في كتاب القصاص إلى الندرة، لكن في المسالك نسبته إلى جمع كثير وإن كنا لم نتحققه مع شدة مخالفته للقواعد، ضرورة كون المفروض شهادتهن بما يقتضي القصاص، نعم لا بأس بقبول شهادتهن بالقتل المقتضي للدية، وإذا أمكن الجمع بين النصوص بذلك كان أولى، وإلا كان الترجيح للنصوص النافية قبول شهادتهن فيه، وأما الجمع بينها بحمل النافية على شهادتهن منفردات والمثبتة على صورة الانضمام مع رجل فلا يقبله ظاهر بعضها أو أكثرها.

هذا وفي المسالك واعلم أن محل الاشكال شهادتهن منضمات إلى الرجال، أما على الانفراد فلا تقبل شهادتهن قطعا، وشذ قول أبي الصلاح بقبول شهادة امرأتين في نصف دية النفس والعضو والجراح والمرأة الواحدة في الربع قلت: وهو كذلك إذا كان المراد بالانفراد حتى عن اليمين أما معه فالظاهر قبول المرأتين في ما يوجب الدية كالرجل مع اليمين، لما عرفته سابقا وتعرفه عن قريب إن شاء الله.

ثم إنه لا يخفى عليك أنا قد ذكرنا في كتاب القضاء أن المستفاد من النصوص ثبوت كل حق من حقوق الآدميين بالشاهد واليمين إلا ما خرج

ص: 151


1- الوسائل - الباب - 24 - من كتاب الشهادات الحديث 39 - 26 - 33 - 28 - 29 - 30

بأدلة مخصوصة من إجماع أو غيره، ومن ذلك ينفتح لك باب عظيم في جميع محال الخلاف، والظاهر قيام المرأتين مع اليمين مقامه في ذلك كقيام المرأتين الشاهد مقامه في موضوعه، كما تسمع تحرير ذلك إن شاء الله.

والثاني منها أي حقوق الآدمي (ما يثبت بشاهدين وبشاهد وامرأتين وبشاهد ويمين، وهو الديون والأموال، كالقرض والقراض والغصب، وعقود المعاوضات، كالبيع والصرف والسلم والصلح والإجارة والمساقاة والرهن والوصية له والجناية التي توجب الدية) كالخطأ وشبه العمد وقتل الحر العبد والأب الولد والمسلم الذمي والصبي والمجنون وغيرهما، والمأمومة والجائفة وكسر العظام وغير ذلك مما كان متعلق الدعوى فيه مالا أو مقصودا منه المال، فإن ذلك هو الضابط عندهم لهذا القسم.

قال الله تعالى:

«وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ»(1).

وفي صحيح الحلبي(2) بي عن عن الصادق (عليه السلام) تجوز شهادة النساء مع الرجل في الدين، قال: نعم وفي خبر محمد بن خالد الصيرفي(3) كتبت إلى الكاظم (عليه السلام) في رجل مات وله أم ولد وقد جعل لها سيدها شيئا في حياته ثم مات؟

ص: 152


1- البقرة: 282
2- الوسائل - الباب - 24 - من كتاب الشهادات - الحديث 2 - 35
3- الوسائل - الباب - 24 - من كتاب الشهادات - الحديث 47 عن يحيى بن خالد الصيرفي وفي الفقيه ج 3 ص 32 الحسين بن خالد الصيرفي

فكتب: «لها ما أتاها سيدها في حياته معروف ذلك لها، يقبل على ذلك شهادة الرجل والمرأة والخدم غير المتهمين».

وقال الباقر (عليه السلام) في خبر محمد بن مسلم(1):

«لو كان الأمر إلينا أخذنا بشهادة الرجل الواحد إذا علم منه خبر يمين الخصم في حقوق الناس».

وقال الصادق (عليه السلام) في خبره أيضا:

«كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يجيز في الدين شهادة رجل واحد ويمين صاحب الدين»

وفي خبر أبي بصير(2): كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقضي بشاهد واحد ويمين وقد سمعت ما في خبر داود بن الحصين عن الصادق (عليه السلام)(3) إلى غير ذلك من الأدلة المعتضدة بفتوى الأصحاب قديما وحديثا.

نعم عن الخلاف وموضع من المبسوط منع قبول امرأتين ورجل في الوديعة، وحمله الفاضل - على ما قيل - على دعوى الودعي لا المالك، وفيه أن الودعي ينفي عنه الضمان وهو مال، وعن النهاية أنه لم يذكر إلا الدين، وعن المقنع إلا قبول شهادتهن في الدين، وعن المراسم والغنية والاصباح ضم اليمين إلى الشاهد في الدين خاصة وامرأتين في الديون والأموال، لكن عن المختلف أنه لا منافاة بين ما في النهاية وما في غيرها، لأن مقصوده من الدين

ص: 153


1- الوسائل - الباب - 14 - من أبواب كيفية الحكم - الحديث 12 - 1 - 5 من كتاب القضاء
2- الوسائل - الباب - 14 - من أبواب كيفية الحكم - الحديث 12 - 1 - 5 من كتاب القضاء
3- الوسائل - الباب - 24 - من كتاب الشهادات - الحديث 2 - 35

المال، وهذا جار في غيرها أيضا.

نعم: عن الاصباح منها ويقضي بشهادة الواحد مع يمين المدعي في الديون خاصة، وقيل: كل ما كان مالا أو المقصود منه المال، ولا ريب في ضعفه، بل قد عرفت سابقا ظهور النصوص في إثبات جميع حقوق الآدميين به. نعم قد يناقش في ثبوت غير الدين بالشاهد والمرأتين، لاختصاص الأدلة المزبورة حتى الآية(1) بذلك، خصوصا بعد ما سمعته من خبر داود بن الحصين(2) الوارد في تفسيرها، وخبر محمد بن خالد(3) الوارد في الوصية ظاهر في إرادة ثبوتها بشهادة جنس الرجل وجنس الامرأة، لأنها وصية.

لكن قد يدفع بظهور ما في ذيل الآية(4) من الاشهاد على البيع في إرادة الاشهاد السابق الذي كان منه الرجل والمرأتان متمما بعدم القول بالفصل، وبظهور خبر محمد بن خالد المزبور في أن الشاهد واليمين قائم مقام الشاهد والمرأتين، وحينئذ فهما أولى من اليمين مع الرجل، وبما ورد(5) من إثبات الحق بالامرأتين مع اليمين.

بل الظاهر ثبوت ذلك كله بهما مع اليمين وفاقا للمشهور شهرة عظيمة، بل عن الشيخ في الخلاف الاجماع عليه، لصحيح منصور بن حازم(6) قال:

ص: 154


1- البقرة: 2 - 282
2- الوسائل - الباب - 24 - من كتاب الشهادات - الحديث 35
3- المتقدم في ص 166
4- البقرة: 2 - 282
5- الوسائل - الباب - 15 - من أبواب كيفية الحكم من كتاب القضاء
6- الوسائل - الباب - 15 - من أبواب كيفية الحكم - الحديث 4 - 1 - 3 - من كتاب القضاء

حدثني الثقة أبي الحسن (عليه السلام) قال:

«إذا شهد لصاحب الحق امرأتان ويمينه فهو جائز».

ونحوه صحيحه الآخر(1) من دون إرسال، ويمكن أن يكون قد سمعه مشافهة تارة وبواسطة الثقة أخرى، والمناقشة في صحتهما بعد التسليم لا تقدح، للانجبار بما سمعت مؤيدا في الجملة بما في صحيح الحلبی(2) عن الصادق (عليه السلام) أن رسول الله (صلى الله عليه وآله):

«أجاز شهادة النساء في الدين وليس معهن رجل».

بعد الاجماع إلا النادر على عدم قبولهن بدون اليمين في الدين كما ستعرف، وحسنه عنه (عليه السلام) أيضا(3) أن رسول الله (صلى الله عليه وآله):

«أجاز شهادة النساء مع يمين الطالب في الدين».

أن حقه لحق وبغير ذلك مما يدل باطلاقه على قيام الامرأتين مقام الرجل. فما في النافع كما هو صريح المحكي عن السرائر والتنقيح وقضاء التحرير وإن رجع عنه في الشهادات وظاهر سلار والغنية من العدم لا يخلو من منع وإن كان الحلي منهم معذورا على أصله، ولذا قال: جعلهما بمنزلة رجل يحتاج إلى دليل وليس، وحملهما على الرجل قياس، والاجماع غير منعقد، والأخبار غير متواترة، فإن وجدت فهى نوادر شواذ، والأصل براءة الذمة، فمن أثبت بشهادتهما حكما شرعيا فإنه يحتاج إلى أدلة قاهرة، إما إجماع أو

ص: 155


1- الوسائل - الباب - 15 - من أبواب كيفية الحكم - الحديث 4 - 1 - 3 - من كتاب القضاء
2- الوسائل - الباب - 24 - من كتاب الشهادات - الحديث 20
3- الوسائل - الباب - 15 - من أبواب كيفية الحكم - الحديث 4 - 1 - 3 - من كتاب القضاء

تواتر أخبار أو قرآن وجميع ذلك خال منه أما على أصولنا فلا يأتي ذلك، لما عرفت، ولأن الشارع قد أقام في الديون كلا من المرأتين واليمين مقام الرجل، فيقوم المجموع مقام رجلين، لاشتماله على كلا البدلين، وهذا إن لم يكن قاطعا لاحتمال استناد القبول في الموضعين إلى وجود أقوى شطري الحجة.

لكن لا يخلو من التأييد في الجملة. ومن الغريب ما سمعته من ابن إدريس وتبعه المقداد من دعوى ندرة النصوص المزبورة وشذوذها مع أنه لم نر لها رادا قبله ولا من تأخر عنه إلا النادر، لاختلاف فتوى المصنف، والفاضل في التحرير قد رجع عن ذلك فيه فضلا عن قطعه بالحكم في باقي كتبه، ومن هنا يمكن دعوى تحصيل الاجماع على ذلك، بل قد يستفاد من الأدلة المزبورة أن موضوعها موضوع الشاهد واليمين، وهو كل حق، لاطلاق الخبر المزبور.

وتنقح من جميع ما ذكرنا اتحاد موضوع الثلاثة أي الشاهد واليمين والشاهد والمرأتين والمرأتين مع اليمين، وهو کل حق آدمي أو المالي من خاصة على البحث الذي قدمناه في الشاهد واليمين، نعم لا تقبل شهادة النساء منفردات في شيء من ذلك وإن كثرن بلا خلاف محقق أجده وإن أرسله في محكي السرائر لصحيح الحلبي(1) السابق الذي لا دلالة فيه على الانفراد عن اليمين، وعن الحسن قد روي عنهم (عليهم السلام):

«أن شهادة النساء إذا كن أربع نسوة في الدين جائز».

ثم ذكر أنه لم يقف على حقيقته، وأنه لم يصح عنده من طريق المؤمنين.

ص: 156


1- الوسائل - الباب - 24 - من كتاب الشهادات - الحديث 20

وكيف كان فقد بان لك مما ذكرناه الوجه في قول المصنف: وفي الوقف تردد، أظهره وفاقا للمحكي عن المبسوط وابن إدريس والبراج أنه يثبت بشاهد وامرأتين وبشاهد ويمين إن كان على محصور، ولكونه من حقوق الناس قطعا، بل تجري عليه جميع أحكام الملك عدا الامتناع عن نقله، وذلك لا يخرجه عن الملكية كأم الولد، على أنه قد يجوز بيعه في بعض الأحوال، خلافا للمحكي عن الخلاف بناء على عدم الانتقال سواء قلنا بالانتقال إليه تعالى أو البقاء على ملك الواقف، واحتمل القبول عليه أيضا، خصوصا على البقاء على ملك الواقف بناء على أن المقصود من الوقف المنفعة، وهي مال. ولا يخفى عليك ما فيه بعد الإحاطة بما قلنله هنا وبما أسلفناه في كتاب الوقف من انتقال الموقوف إلى الموقوف عليه إن عاما فعام وإن خاصا فخاص.

وكذا الكلام في حقوق الأموال كالأجل والخيار اشتراطا وانقضاء والشفعة وفسخ العقد المتعلق بالأموال وقبض نجوم الكتابة أو غيرها من الأموال، لأن جميعها حق آدمي، بل المقصود منها أجمع ثبوت مال أو زواله، بل وكذا النجم الأخير من الكتابة وإن توقف فيه الفاضل في القواعد، لكنه في غير محله، خصوصا بناء على ما ذكرناه.

و الثالث من حقوق الآدمي: (ما يثبت بالرجال والنساء منفردات ومنضات، وهو الولادة والاستهلال وعيوب النساء الباطنة).

كالقرن ونحوه لا الظاهرة كالعرج ونحوه، وضابطه ما يعسر اطلاع الرجال عليه غالبا بلا خلاف أجده في ثبوت ذلك بشهادتهن منفردات کما اعترف به في كشف اللثام، لمسيس الحاجة وللمعتبرة المستفيضة. كصحيح

ص: 157

العلاء(1) عن أحدهما (عليهما السلام) سألته هل تجوز شهادتهن وحدهن؟ قال:

«نعم في العذرة والنفساء».

وخبر داود بن سرحان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

«أجيز شهادة النساء في الغلام صاح أو لم يصح، وفي كل شيء لا ينظر إليه الرجال تجوز شهادة النساء فيه».

وقال الصادق (عليه السلام) في صحيح ابن سنان(2):

«تجوز شهادة النساء وحدهن في كل ما لا يجوز للرجال النظر إليه، وتجوز شهادة القابلة وحدها في المنفوس».

وقال (عليه السلام) أيضا في خبر السكوني(3):

«أتي أمير المؤمنين (عليه السلام) بامرأة بكر زعموا أنها زنت فأمر النساء فنظرن إليها فقلن هي عذراء، فقال: ما كنت لأضرب من عليها خاتم من الله تعالى، وكان يجيز شهادة النساء في مثل هذا».

وقال (عليه السلام) أيضا في خبره الآخر(4) في امرأة ادعت أنه قد حاضت ثلاث حيض في شهر واحد:

«كلفوا نسوة من بطانتها أن حيضها كان في ما مضى على ما ادعت، فإن

ص: 158


1- الوسائل - الباب - 24 - من كتاب الشهادات - الحدیث 18 - 12 - 10
2- الوسائل - الباب - 24 - من كتاب الشهادات - الحدیث 18 - 12 - 10
3- الوسائل - الباب - 24 - من كتاب الشهادات الحديث 13 - 37 - 21 - 9 - 44
4- الوسائل - الباب - 24 - من كتاب الشهادات الحديث 13 - 37 - 21 - 9 - 44

شهدن صدقت، وإلا فهي كاذبة».

وفي مضمر عبد الرحمان بن أبي عبد الله(1) سألته عن المرأة يحضرها وليس عندها إلا امرأة أتجوز شهادتها أم لا تجوز؟ فقال:

«تجوز شهادة النساء في المنفوس والعذرة».

وفي صحيح الحلبي وحسنه(2):

«تجوز شهادة النساء في المنفوس والعذرة».

وفي خبر ابن بكير:

«تجوز شهادة النساء في النفاس والعذرة».

وفي خبره الآخر:

«تجوز شهادة النساء في العذرة وكل عيب لا يراه الرجال».

وفي خبر زرارة عن أحدهما (عليهما السلام) في أربعة شهدوا على امرأة بالزنا، فقالت: أنا بكر، فنظرن إليها النساء فوجدنها بكرا، فقال:

«تقبل شهادة النساء».

إلى غير ذلك من النصوص التي مر جملة منها، ويمكن دعوى القطع بها بالنسبة إلى ذلك أو تواترها.

وأما الثبوت بهن منضمات أو بالرجال فهو المشهور كما في كشف اللثام، للعمومات ومعلومية كون الرجال هم الأصل في الشهادة، بل لم أتحقق فيه

ص: 159


1- الوسائل - الباب - 24 - من كتاب الشهادات الحديث 13 - 37 - 21 - 9 - 44
2- الوسائل - الباب - 24 - من كتاب الشهادات - الحديث 2 و 46

خلافا وإن حكي عن القاضي أنه قال: لا يجوز أن يكون معهن أحد من الرجال، لكن يمكن أن يريد الحرمة بدون الضرورة على الأجانب فإن تعمدوا ذلك خرجوا عن العدالة، لا أنه لا يجوز لهم الاطلاع مع الضرورة أو لا تقبل شهادتهم وإن اتفق اطلاعهم عليه لحلية أو من غير عمد أو قبل عدالتهم، وعلى تقديره فلا ريب في ضعفه، ضرورة ظهور النصوص المزبورة في جواز شهادتهن بذلك المشعر بجواز غيره كما هو واضح.

وكيف كان ف - في قبول شهادة النساء منفردات في الرضاع خلاف أقربه الجواز أيضا كما في القواعد وغيرها، بل هو المحكي عن المفيد وسلار وابن حمزة أيضا، لاندراج ه في النصوص السابقة، ضرورة كونه من الأمور التي لا يطلع عليها إلا النساء غالبا وما لا يجوز للرجال النظر إليه، مؤيدا باطلاق قول الباقر (عليه السلام) في خبر ابن أبي يعفور(1):

«تقبل شهادة المرأة والنسوة إذا كن مستورات».

وبالمفهوم في مرسل ابن بكير(2) عن الصادق (عليه السلام) في امرأة أرضعت غلاما وجارية قال:

(يعلم ذلك غيرها)؟ قلت: لا، قال: (لا تصدق إن لم يكن غيرها).

فما عن الأكثر من العدم بل ظاهر المبسوط وصريح الخلاف الاجماع عليه للأصل وإمكان إطلاعهم عليه، بل عن الأول منهما عن أصحابنا أنهم رووا لا يقبل شهادة النساء في الرضاع لا يخلو من نظر، ضرورة انقطاع الأصل بما

ص: 160


1- الوسائل - الباب - 41 - من كتاب الشهادات - الحديث 20
2- الوسائل - الباب 12 - من أبواب ما يحرم بالرضاع - الحديث 3 من كتاب النكاح

عرفت، ومنع الاجماع المزبور.

بل: مظنة في العكس كما هو ظاهر المحكي عن ناصريات السيد، بل الشيخ نفسه رجع عن القول بالمنع إلى القول بالقبول في المحكي من شهادات المبسوط الذي هو كما قيل متأخر عن الخلاف والشهادات فيه متأخرة عن الرضاع، وأما الرواية فمع إرسالها غير موجودة في الأصول ولا مقبولة عند الشيخ في الموضع الذي نقلها، فإنه حكاها في شهادات المبسوط، وقد عرفت أنه أفتى فيها بالقبول.

بل: لعل مبنى الرواية المزبورة بل والاجماع على خروج الرضاع عما يعسر اطلاع الرجال عليه، إذ لا ريب في أن ظاهر الأصحاب والأخبار عدم قبول شهادة النساء حتى في ما هو كذلك بمعنى أن ذلك هو الأصل فيه، والعمدة تحقق الموضوع وبيان أن الرضاع مما يعسر اطلاع الرجال عليه أو لا يعسر، ولكن قد عرفت سابقا شهادة الوجدان على تعسر اطلاع الرجال عليه خصوصا بعد تحريم نظر الرجال إلى مثل ذلك من النساء، فلا ريب في أن الأقوى القبول، والله العالم.

هذا وفي ما حضرني من نسخ الشرائع متصلا بذلك.

(ويقبل شهادة امرأتين مع رجل في الديون والأموال وشهادة امرأتين مع اليمين، ولا تقبل فيه شهادة النساء منفردات ولو كثرن) إلا أنه لا يخفى عليك عدم مناسبته للعنوان، ولعله لذا لم يشرحها في ما حضرني من نسخة المسالك، لسقوط ذلك من نسخته، وعلى فرض صحتها فقد تقدم الكلام في ذلك مفصلا.

ص: 161

وتقبل شهادة المرأة الواحدة بلا يمين (في ربع ميراث المستهل وفي ربع الوصية) والاثنين في النصف والثلاثة في الثلاثة أرباع والأربعة في تمام المال بلا خلاف أجده فيه، بل عن الخلاف والسرائر الاجماع عليه، وقد تقدم في الوصية النصوص الدالة على ذلك فيها. وفي صحيح عمر بن يزيد(1) سألته عن رجل مات وترك امرأته وهي حامل فوضعت بعد موته غلاما ثم مات الغلام بعد ما وقع إلى الأرض فشهدت المرأة التي قبلتها أنه استهل وصاح حين وقع إلى الأرض ثم مات، قال:

(على الإمام أن يجيز شهادتها في ربع ميراث الغلام).

وفي رواية ابن سنان(2) عنه (عليه السلام) قال:

«وإن كانتا امرأتين قال: تجوز شهادتهما في النصف من الميراث».

وعن الفقيه بعد ما حكى صحيح عمر بن يزيد قال وفي رواية أخرى(3):

(إن كانت (كانتاخ ل) امرأتين تجوز شهادتهما في نصف الميراث، وإن كن ثلاثة نسوة جازت شهادتهن في ثلاثة أرباع الميراث، وإن كن أربعا جازت شهادتهن في الميراث كله).

وعليه يحمل ما سمعته في النصوص(4) من قبول شهادة القابلة وحدها في المنفوس. لكن عن ابن إدريس وابن حمزة اشتراط عدم الرجال، وإطلاق

ص: 162


1- الوسائل - الباب - 24 - من كتاب الشهادات - الحديث 6
2- الوسائل - الباب - 24 - من كتاب الشهادات - الحديث 45 - 48
3- الوسائل - الباب - 24 - من كتاب الشهادات - الحديث 45 - 48
4- الوسائل الباب - 24 - من كتاب الشهادات - الحديث 2 و 10 و 45 و 46

النص حجة عليهما. ولا تقبل عندنا شهادة الواحدة في غير ذلك.

نعم عن الكافي والغنية والاصباح ثبوت ربع الدية بشهادتها أيضا لخبري(1) ابني قيس والحكم المتقدمين سابقا اللذين لم يجمعا شرائط الحجية، فالأصل حينئذ وغيره بحاله، كما هو واضح.

وقد تقدم الكلام في كتاب الوصية في قيام الرجل مقام المرأة أو الاثنتين أو لا يثبت بشهادته شي، وأن أضعف الوجوه الأخير على ما هو الظاهر من بعضهم، بل في القواعد لم يذكره احتمالا، والثاني لا يخلو من قوة كما اعترف به العلامة الطباطبائي في مصابيحه وإن لم نجد به قائلا، ولكن الانصاف أن الأخير أقواها بعد حرمة القياس والاستحسان وعدم إحاطة العقل بمصالح الأحكام، كما ذكرناه في الوصية. وهل للمرأة مثلا تضعيف المشهود به؟ وجهان، أقواهما العدم، وربما يؤيده أنه سئل الصادق (عليه السلام) في مرسل يونس(2) عن الرجل يكون له على الرجل حق فيجحد حقه ويحلف عليه إذ ليس عليه شيء وليس لصاحب الحق على حقه بينة يجوز له إحياء حقه بشهادة الزور إذا خشي ذهاب حقه، قال: لا يجوز ذلك لعلة التدليس.

لكن في كشف اللثام الأقوى الحل وإن حرم التزوير لكونه إقرارا بالقبيح، وفي مرسل عثمان بن عيسى(3) قيل للصادق (عليه السلام): يكون للرجل من إخواني عندي شهادة وليس كلها يجيزها القضاة عندنا؟، قال:

ص: 163


1- الوسائل - الباب - 24 - من كتاب الشهادات - الحديث 26 و 33
2- الوسائل - الباب - 18 - من كتاب الشهادات - الحديث 1
3- الوسائل - الباب - 4 - من كتاب الشهادات - الحديث 3 - 1

«إذا علمت أنها حق فصححها بكل وجه حتى يصح له حقه «- ثم قال -: ولعله إشارة إلى ما ذكرنا من التورية».

وفيه أنه لا دلالة له على ذلك، بل أقصاه أنه كخبر داود بن الحصين(1) أنه سمعه يقول:

«إذا شهدت على شهادة فأردت أن تقيمها فغيرها كيف شئت ورتبها وصححها ما استطعت حتى يصح الشيء لصاحب الحق بعد أن لا تكون تشهد إلا بحق، فلا تزيد في نفس الحق ما ليس بحق، فإنما الشاهد يبطل الحق ويحق الحق، وبالشاهد يوجب الحق، وبالشاهد يعطى، وإن للشاهد في إقامة الشهادة بتصحيحها بكل ما يجد إليه السبيل من زيادة الألفاظ والمعاني والتغيير في الشهادة مما به يثبت الحق أو يصححه ولا يؤخذ به زيادة على الحق مثل أجر الصائم القائم المجاهد بسيفه في سبيل الله تعالى».

نعم: لا بأس بدفع الباطل عنه بباطل آخر، لخبر الحكم أخي أبي عقيلة(2) قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إن لي خصما تتكثر علي بالشهود الزور، وقد كرهت مكافأته مع أني لا أدري أيصلح لي ذلك أم لا؟ قال: فقال:

«أما بلغك ما قال أمير المؤمنين (عليه السلام)؟ أنه كان يقول: لا توروا أنفسكم وأموالكم بشهادات الزور؟ فما على امرى من وكف في دينه ولا مأثم من ربه أن يدفع ذلك عنه، كما أنه لو دفع بشهادته عن فرج حرام أو سفك دم حرام كان ذلك خيرا له، وكذلك مال المرء المسلم».

ص: 164


1- الوسائل - الباب - 4 - من كتاب الشهادات - الحديث 3 - 1
2- الوسائل - الباب - 18 - من كتاب الشهادات الحديث 2

ولو شهدت الخنثى المشكل في الوصية والاستهلال ثبت الربع بناء على ثبوته بالرجل، وإلا لم يثبت بشهادتها شيء. وإذا اجتمع في الشيء حقان كان لكل حكمه، فلو شهد على السرقة مثلا رجل وامرأتان ثبت المال دون القطع، بل في القواعد ولو علق العتق بالنذر على الولادة فشهد أربع نساء بها ثبت الولادة ولم يقع النذر بل في محكي التحرير ولو شهد رجل وامرأتان بالنكاح فإن قبلنا فيه شهادة الواحد والمرأتين فلا بحث، وإلا ثبت المهر دون النكاح وهو كما ترى لا يخلو من بعد.

و كيف كان فقد يستفاد مما عرفت من توقف ثبوت تمام الحق بلا يمين في الوصية وميراث المستهل على أربع أن (كل موضع يقبل فيه شهادة النساء لا يثبت بأقل من أربع) كما هو المشهور للأصل، بل يمكن دعوى القطع به من الكتاب(1) والسنة(2) أن المرأتين يقومان مقام الرجل في الشهادة، وهو ظاهر قوله تعالى:

«أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى»(3).

فما عن المفيد - من أنه تقبل شهادة امرأتين مسلمتين مستورتين في ما لا تراه الرجال كالعذرة وعيوب النساء والنفاس والحيض والولادة والاستهلال والرضاع وإذا لم يوجد على ذلك إلا شهادة امرأة واحدة مأمونة قبلت شهادتها فيه، ونحوه في محكي المراسم، بل عن متاجر التحرير لو اشترى جارية على أنها بكر فقال المشتري: إنها ثيب أمر النساء بالنظر إليها ويقبل قول امرأة في

ص: 165


1- البقرة: 2 - 282
2- الوسائل - الباب - 24 - من كتاب الشهادات
3- البقرة: 2 - 282

ذلك - واضح الضعف وإن كان قد يشهد له ظاهر قول الباقر (عليه السلام) في خبر أبي بصير(1).

«تجوز شهادة امرأتين في الاستهلال».

وصحيح الحلبي(2) سأل الصادق (عليه السلام) عن شهادة القابلة وحدها في الولادة؟ قال:

«تجوز شهادة الواحدة».

وفي صحيح عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام):

«وتجوز شهادة القابلة وحدها في المنفوس».

إلا أنها لقصورها عن معارضة غيرها من وجوه يتجه حينئذ حملها على إرادة القبول في الجملة، لما عرفت من ثبوت بعض الحق بنسبة الشهادة في الاستهلال والوصية.

وعن السيد في الناصرية «يجيز أصحابنا أن تقبل في الرضاع شهادة المرأة الواحدة تنزيها للنكاح عن الشبهة واحتياطا فيه» واحتج على ذلك بالاجماع والحديث النبوي:(3)

«دعها، کیف وقد شهدت بالرضاع».

وعليه: يرتفع الخلاف بل الواحدة وإن بعد التنزيل.

وعن أبي الصلاح ويحكم بشهادتهما منفردتين في ما لا يعاينه الرجال من

ص: 166


1- الوسائل - الباب - 24 - من كتاب الشهادات - الحديث 41 - 2 - 10
2- الوسائل - الباب - 24 - من كتاب الشهادات - الحديث 41 - 2 - 10
3- سنن البيهقي ج 7 ص 463 وسنن الدارقطني ج 4 ص 177 مع اختلاف في اللفظ

أحوالهن، ويلزمه الحكم بهما في الرضاع أيضا لدخوله فيه نعم ظاهره عدم الاكتفاء بالواحدة، وربما يشهد له ظاهر قوله (عليه السلام):

«لا يصدق إن لم يكن في مرسل ابن بكي».(1)

المتقدم، لكن قد عرفت قصور ذلك ونحوه عن مقاومة ما سمعته من الأدلة، فلا بد من تنزيل ذلك ونحوه عليها أو على ما لا ينافيها، والله العالم)(2).

المسألة الثانية: حكم شهادة النساء في المذاهب الاخرى.

اولا: المذهب الزيدي

ذهب فقهاء الزيدية إلى القول ب:

1- عدم جواز شهادة النساء في شيء من الحدود التي أوجبها الله تعالى على العبيد سواء كثرنّ أو قللّن.

2- وتجوز شهادتهنَّ فيما سوى ذلك وحدّهن في حال ما لا يمكن أن يشهد عليه إلا النساء؛ كشهادة القابلة على استهلال الصبي، ويشترط ان تكون ثقة ومأمونه.

3- وكذا: شهدتهن على الحرة والأمة على ما لا يشهد عليه غير النساء كالعيوب التي تكون خلف الثياب مثل القرن، والفلك، والرتق وغير ذلك.

4- وتجوز شهادتهن منظمات إلى الرجال في الوصايا، والهبات، والشراء، والبيع، والصدقات، وغير ذلك مما كان سوى الحدود.

ص: 167


1- الوسائل - الباب - 12 - من أبواب ما يحرم بالرضاع - الحديث 3 من كتاب النكاح
2- جواهر الکلام: ج 41 ص 159 - 178

جاء بيان ذلك في بحث إمام الزيدية يحيى بن الحسين (ت 298 ه) للمسألة، فقال:

(لا تجوز شهادة النساء في شيء من الحدود التي أوجبها الله على العبيد كثرن أو قللن، وتجوز شهادتهن فيما سوى ذلك وحدهن في حال ما لا يمكن أن يشهد على ما شهدن عليه الرجال، وفي حال تجوز شهادتهن إذا كان معهن رجل، فأما الحال الذي تجوز شهادتهن فيها وحدهن فهو مثل شهادة القابلة على استهلال الصبي إذا كانت ثقة مأمونة.

ومثل شهادتهن على الحرة والأمة على ما لا يشهد عليه غير النساء مثل العلة تكون في فروجهن ما ترد به الإماء على بيعهن مثل القرن والرتق والفلك وغير ذلك من أدوائهن، فإذا شهد على ذلك من النساء ذوات العدالة والعفاف والصدق والطهارة والأمانة قضي بشهادتهن لأنه شيء لا يناله غيرهن واما الحالة التي تجوز شهادتهن فيها إذا كان معهن رجل فهو فيما يتعامل به الناس ويشهدون عليه وفيه من الوصايا والهبات، والشراء والبيع والصدقات.

وغير ذلك مما كان سوى الحدود في الحالات. حدثني أبي عن أبيه: أنه سئل عن شهادة النساء، فقال: لا تجوز شهادة النساء في حد من حدود الله، وتجوز شهادة المرأة الواحدة فيما لا يشهد فيه الا النساء من الأمور مثل القابلة إذا كانت صدوقة عدلة)(1).

ص: 168


1- الأحكام: ج 2 ص 245

ذهب فقهاء الشافعية إلى القول ب:

1- لا تجوز شهادة النساء في الحدود.

2- لا تجوز شهادتهن في النكاح والطلاق، والوكالة، والولاية، والسلطنة.

3- اختلفوا في جواز شهادتهن في الشركة والقراض.

4- وجواز شهادتهن في الرجال في دعوى المرأة النكاح لأثبات المهر أو شطره أو الارث فيثبت برجل وامرأتين.

5- وتثبت شهادتهن بما لا يراه الرجال كالبكارة والولاة والحيض والرضاع وقيده بعض فقهائهم بالرضاع من الثدي وعيب المرأة تحت ثوبها، ويثبت ايضاً برجلين، أو رجل وامرأتين، وأربع نساء.

جاء ذلك في بيان زكريا الانصاري الشافعي (ت 936 ه) للمسألة، فقال:

(وروى مالك عن الزهري مضت السنة بأنه لا تجوز شهادة النساء في الحدود، ولا في النكاح والطلاق وقيس بالمذكورات غيرها مما يشاركها في المعنى المذكور والوكالة والثلاثة بعدها، وإن كانت في مال القصد منها الولاية والسلطنة، لكن لما ذكر ابن الرفعة اختلافهم في الشركة والقراض.

قال: وينبغي أن يقال إن رام مدعيهما إثبات التصرف، فهو كالوكيل أو إثبات حصته من الربح فيثبتان برجل وامرأتين إذ المقصود المال ويقرب منه دعوى المرأة النكاح لاثبات المهر أي أو شطره أو الإرث فيثبت برجل وامرأتين، وإن لم يثبت النكاح بهما في غير هذه (وما لا يرونه غالبا كبكارة وولادة وحيض ورضاع وعيب امرأة تحت ثوبها يثبت بمن مر)، أي برجلين ورجل وامرأتين، (وبأربع) من النساء.

ص: 169

روى ابن أبي شيبة عن الزهري: مضت السنة بأنه يجوز شهادة النساء فيما لا يطلع عليه غيرهن من ولادة النساء وعيوبهن، وقيس بذلك غيره مما يشاركه في المعنى المذكور، وإذا قبلت شهادتهن في ذلك منفردات فقبول الرجلين، والرجل والمرأتين أولى.

وما تقرر في مسألة الرضاع قيده القفال وغيره، بما إذا كان الراع من الثدي، فإن كان من إناء حلب فيه اللبن لم تقبل شهادة النساء به، لكن تقبل شهادتهن بأن هذا اللبن من هذه المرأة، لان الرجال لا يطلعون عليه غالبا)(1).

ثالثا: المذهب المالكي.

وحدد فقهاء المذهب المالكي جواز شهادة النساء في مواضع، وهي:

1- لا تجوز شهادة النساء فيما هو شأن الرجال إلا في الاموال وما يتعلق بها كالاجارة.

2- تجوز شهادتهن فيما لا يطلع عليه الرجال في الولادة والاستهلال منظمة إلى رجل.

3- تجوز شهادتهن بدون الرجال في عيوب البدن وما شابه فيما يستر.

جاء ذلك في بيان الآبي الازهري لمبحث الشهادات، فقال:

(ولا تجوز شهادة النساء فيما هو شأن الرجال إلا في الأموال وما يتعلق بها كالإجارة ومائة امرأة كامرأتين وذلك كرجل واحد يقضي بذلك مع رجل أو مع اليمين فيما يجوز فيه شاهد ويمين وشهادة امرأتين فقط فيما لا

ص: 170


1- فتح الوهاب: ح 2 ص 388 - 389

يطلع عليه الرجال من الولادة والاستهلال وهو النطق بأن يشهدن أنه نزل مستهلا، وفائدة ذلك الإرث له أو منه.

وشبهه مثل عيوب الفرج أو البدن (جائزة ) ولا يعارض هذا الحصر في قوله: ولا تجوز شهادة النساء إلا في الأموال لان ذلك مخصوص بما قيدنا به کلامه من قولنا فيما هو من شأن الرجال)(1).

رابعاً: المذهب الحنفي.

حدد فقهاء المذهب الحنفي موارد جواز شهادت النساء فيما يلي:

1- لا تجوز شهادة النساء في الحدود؛ وكذا لا تجوز شهادتهن في الرضاع لانه يجوز أن يطلع عليه محارم المرأة، وكذلك استهلال المولود وفيه خلاف فقال ابو حنيفة: لا يجوز(2).

2- وتجوز في الشبهات، والنكاح، والطلاق، والعتق والاموال برجل وامرأتين.

3- وتجوز شهادتهن وحدهن فيما لا ينظر إليه الرجال كالولادة، والعيب يكون في موضع لا ينظر إليه إلا النساء.

جاء ذلك في بيان السرخسي (ت 483 ه) في مبحثه للشهادات، فقال:

(ولا تجوز شهادة النساء وحدهن الا فيما ينظر إليه الرجال الولادة والعيب يكون في موضع لا ينظر إليه الا النساء لان الأصل أن لا شهادة له

ص: 171


1- الثمر داني: ص 608
2- المغني لابن قدامة: ج 12 ص 15

للنساء فإنهن ناقصات العقل والدين كما وصفهن رسول الله (صلى الله عليه - وآله - وسلم) وبالنقصان يثبت شبهة العدم ثم الضلال والنسيان غلب عليهن وسرعة الانخداع والميل إلى الهوى ظاهر فيهن وذلك يمكن تهمة في الشهادة وهي تهمة يمكن التحرز عنها بجنس الشهود فلا تكون شهادتهن على الانفراد حجة تامة لذلك ولكنا تركنا القياس فيما لا يطلع عليه الرجال بالأثر وهو حديث مجاهد وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح وطاوس قالوا: قال يا رسول الله (صلى الله عليه - وآله - وسلم) شهادة النساء جائزة فيما لا يستطيع الرجال النظر إليه.

ولان الضرورة تتحقق في هذا الموضع فإنه يتعلق به أحكام يحتاج إلى بيانه في مجلس القاضي ويتعذر اثباته بشهادة الرجال لأنهم لا يطلعون عليه فلا بد من قبول شهادة النساء فيه لان الحجة لاثبات الحقوق مشروعة بحسب الامكان ثم يثبت ذلك بشهادة امرأة واحدة إذا كانت حرة مسلمة عدلا عندنا والمثنى والثلاث أحوط.

وعند الشافعي لا تثبت الا بشهادة أربع نسوة وعند ابن أبي ليلى شهادة امرأتين فالشافعي يقول كل امرأتين يقومان مقام رجل واحد في الشهادة كما في المذكورات فشهادة أربع نسوة بمنزلة شهادة رجلين فيما يطلع عليه الرجال.

توضيحه أن حال الرجال في الشهادة أقوى من حال النساء وإذا كأن لا يحوز اثبات شيء مما يطلع عليه الرجال بشهادة رجل واحد لمعنى الالزام فلأن لا يجوز اثباته بشهادة امرأة واحدة أولى ولا معنى لقول من يقول أن

ص: 172

هذا خبر وليس بشهادة فان الحرية فيه شرط بالاتفاق قال في الكتاب لو شهدت أمة أو كافرة لا تقبل وكذلك لفظ الشهادة لا بد منه فعرفنا أنه بمنزلة الشهادة في الحقوق.

وبهذا يستدل ابن أبي ليلى أيضا إلا أنه يقول المعتبر في الشهادات شيئان العدد والذكورة وقد تعذر اعتبار أحدهما وهو الذكورة هنا ولو لم يتعذر اعتبار العدد فيبقى معتبرا كما في سائر الشهادات ولا معنى لقول من يقول إن نظر الواحدة أحق من نظر المثنى لأنه بالاتفاق المثنى والثلاث أحوط فلو كان هذا معتبرا لما جاز النظر الا لامرأة واحدة.

وحجتنا في ذلك حديث حذيفة رضي الله عنه أن رسول الله (صلى الله عليه - وآله - وسلم) أجاز شهادة القابلة على الولادة وقال شهادة النساء جائزة فيما لا يطلع عليه الرجال والنساء اسم جنس فيدخل فيه أدنى ما يتناوله الاسم والمعنى فيه أن هذه خبر لا يشترط في قبوله الذكورة ولا يشترط فيه العدد كرواية الاخبار.

وحقيقة المعنى فيه أن نظر الرجال إلى هذا الموضع غير متعذر ولا ممتنع ولكن نظر الجنس إلى الجنس أحق فإذا أمكن تحصيل المقصود بشهادة النساء سقط اعتبار صفة الذكورية لهذا المعنى وهذا موجود في العدد فان نظر الواحدة أحق من نظر الجماعة فسقط اعتبار العدد بالمعنى الذي يسقط اعتبار الذكورة ولهذا لا يسقط اعتبار الحرية فيه لان نظر المملوكة ليس بأخف من نظر الحرة ولهذا لا يسقط اعتبار الإسلام فيه لان نظر الكافرة ليس بأخف من نظر المسلمة فينعدم من الشرائط ما يمكن اعتباره ولا يعتبر مالا يمكن اعتباره.

ص: 173

فعلى هذا الحرف نسلم أنه شهادة ولكن يدعي أن سقط اعتبار العدد فيه بالمعنى الذي يسقط اعتبار الذكورة وفى الحاصل هذا أحد شبهها من الأصلين من الشهادة لمعنى الالزام ومعنى الاخبار لان صفة الذكورة فيه لا تشترط فوفرنا خطه على الشبهين وقلنا لشبهه بالاخبار يسقط اعتبار العدد فيه شرطا ويبقى معتبرا احتياطا كما في رواية الاخبار الواحد يكفي والمثنى والثلاث أحوط لزيادة طمأنينة القلب ولاعتباره بالشهادات فيه شرطنا الحرية والإسلام ولفظ الشهادة وهذا لأنه مختص بمجلس القاضي.

فلهذا يشترط فيه لفظ الشهادة ولم يذكر في الكتاب أنه لو شهد ذلك رجل بأن قال فاجأتها فاتفق نظري إليها والجواب أنه لا يمنع قبول الشهادة إذا كان عدلا في هذا الموضع ثم الصحيح أنه لا يشترط العدد لان شهادة الرجل أقوى من شهادة المرأة فإذا كان ثبت المشهود به هنا بشهادة امرأة واحدة فشهادة رجل واحد أولى.

وقد قال بعض مشايخنا أنه قال وان قال تعمدت النظر تقبل شهادته في ذلك كما في الزنا واستدلوا عليه بقول أبي حنيفة أن النسب لا يثبت الا بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين على الولادة إن لم يكن هناك حبل ظاهر ولا فراش قائم ولا اقرار الزوج بالحبل وقد بينا هذا في كتاب الطلاق.

فاما الاستهلاك فاني لا أقبل فيه شهادة النساء عليه الا في الصلاة عليه فأما في الميراث فلا أقبل في ذلك أقل من رجلين أو رجل وامرأتين في قول أبي حنيفة رحمه الله وقال أبو يوسف ومحمد تقبل في ذلك شهادة امرأة واحدة حرة مسلمة عدل لحديث علي (عليه السلام) عنه:

ص: 174

«انه أجاز شهادة القابلة في الاستهلال».

والمعنى فيه أن استهلال الصبي يكون عند الولادة وتلك حالة لا يطلع عليها الرجال وفي صوته عند ذلك من الضعف مالا يسمعه الا من شهد تلك الحالة وشهادة النساء فيما لا يطلع عليه الرجل كشهادة الرجال فيما يطلعون عليه ولهذا يصلى عليه بشهادة النساء فكذلك يرث وأبو حنيفة يقول الاستهلال صوت مسموع وفي الساع من رجال يشار كون النساء.

فإذا كان المشهود به ما يطلع عليه الرجال لا تكون شهادة النساء فيه حجة تامة وان وقع ذلك في حالة لا يحضرها الرجال كالشهادات على جراحات النساء في الحمامات بخلاف الولادة فهو انفصال الولد من الأم والرجال لا يشاركون النساء في الاطلاع عليه وحديث علي (عليه السلام) عنه محمول على قبول شهادة النساء في الصلاة وإنما قبلنا ذلك في حق الصلاة عليه لان ذلك من أمر الدين وخبر المرأة الواحدة حجة تامة في ذلك كشهادتهما على رؤية هلال رمضان بخلاف الميراث فإنه من حقوق العباد فلا يثبت بشهادة النساء في موضع يكون المشهود به مما يطلع عليه الرجال والله أعلم)(1).

خامساً: المذهب الحنبلي.

حدد فقهاء الحنابلة شهادة المرآة فيما يلي:

1- تجوز شهادتهن فيما لا يطلع عليه الرجال كالعيوب التي تحت الثياب، والولادة، واستهلال المولود، والرضاع.

ص: 175


1- المبسوط: ج 16 ص 142 - 144

2- ولا تقبل في الأموال الا برجل وامرأتين.

3- ولا تقبل شهادتها في القصاص ولا في الحدود كالزنا.

4- اختلفوا في قبول شهادة المرأة الواحدة فقال أحمد بن حنبل: يجوز، وخالفه بعض فقهاء المذهب فقالوا: بل امرأتين، وقيل: أربع نساء.

5- ولا تثبت شهادتهن فيما ليس بعقوبة كالنكاح والرجعة والطلاق وغيرها.

جاء ذلك في بيان ابن قدامة المقدسي (ت 620 ه)، لمبحث شهادة النساء فقال:

(نص أحمد في رواية الجماعة على أنه لا تجوز شهادة النساء في النكاح والطلاق وقد نقل عن أحمد في الوكالة ان كانت بمطالبة دين يعني تقبل فيه شهادة رجل وامرأتين فاما غير ذلك فلا.

ووجه ذلك أن الوكالة في اقتضاء الدين يقصد منها المال فيقبل فيها شهادة رجل وامرأتين كالحوالة، قال القاضي فيخرج من هذا ان النكاح وحقوقه من الرجعة وشبهها لا تقبل فيها شهادة النساء رواية واحدة وما عداه يخرج على روايتين، وقال أبو الخطاب يخرج في النكاح والعتاق أيضا روايتان (إحداهما) لا تقبل فيه إلا شهادة رجلين وهو قول النخعي والزهري ومالك وأهل المدينة والشافعي وهو قول سعيد بن المسيب والحسن وربيعة في الطلاق.

(والثانية) تقبل فيه شهادة رجلين وامرأتين روي ذلك عن جابر بن زيد وإياس بن معاوية والشعبي والثوري وإسحاق وأصحاب الرأي وروي ذلك

ص: 176

في النكاح عن عطاء واحتجوا بأنه لا يسقط بالشبهة فيثبت برجل وامرأتين كالمال ولنا أنه ليس بمال ولا المقصود منه المال ويطلع عليه الرجال فلم يكن للنساء في شهادته مدخل كالحدود والقصاص وما ذكروه لا يصح فإن الشبهة لا مدخل لها في النكاح وان تصور بان تكون المرأة مرتابة بالحمل لم يصح النكاح.

(فصل) وقد نقل عن أحمد في الاعسار ما يدل على أنه لا يثبت الا بثلاثة لحديث قبيصة بن المخارق (حتى يشهد ثلاثة من ذوي الحجا من قومه لقد أصابت فلانا فاقة) قال أحمد هكذا جاء الحديث فظاهر هذا أنه أخذ به، وروي عنه أنه لا يقبل قوله إنه وصى حتى يشهد له رجلان أو رجل عدل فظاهر هذا أنه يقبل في الوصية شهادة رجل واحد وقال في الرجل يوصي ولا يحضره الا النساء قال أجيز شهادة النساء فظاهر هذا أنه أثبت الوصية بشهادة النساء على الانفراد إذا لم يحضره الرجال. قال القاضي: والمذهب أن هذا كله لا يثبت إلا بشاهدين وحديث قبيصة في حل المسألة لا في الاعسار.

(فصل) ولا يثبت شيء من هذين النوعين بشاهد ويمين المدعي لأنه إذا لم يثبت بشهادة رجل وامرأتين فلان لا يثبت بشهادة واحد ويمين أولى قال أحمد ومالك في الشاهد واليمين: إنما يكون ذلك في الأموال خاصة لا يقع في حد ولا نكاح ولا طلاق ولا عتاقة ولا سرقة ولا قتل وقد قال الخرقي إذا ادعى العبد أن سيده أعتقه وأتى بشاهد حلف مع شاهده وصار حرا.

ونص عليه أحمد وقال في شريكين في عبد ادعى كل واحد منهما أن شريكه أعتق حقه منه وكانا معسرين عدلين فللعبد أن يحلف مع كل واحد

ص: 177

منهما ويصير حرا أو يحلف مع أحدهما ويصير نصفه حرا فيخرج مثل هذا في الكتابة والولاء والوصية والوديعة والوكالة فيكون في الجميع روايتان ما خلا العقوبات البدنية والنكاح وحقوقه فإنها لا تثبت بشاهد ويمين قولا واحدا، قال القاضي المعمول عليه في جميع ما ذكرناه أنه لا يثبت الا بشاهدين وهو قول الشافعي.

وروى الدارقطني باسناده عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن النبي (صلى الله عليه - وآله - وسلم) قال:

(استشرت جبريل في القضاء باليمين مع الشاهد فأشار علي في الأموال لا تعد ذلك). وقال عمر وبن دينار، عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه - وآله - وسلم) انه قضى بالشاهد واليمين قال نعم في الأموال، وتفسير الراوي أولى من تفسير غيره رواه الإمام أحمد وغيره باسنادهم.

(مسألة) قال (ولا يقبل في الأموال أقل من رجل وامرأتي ورجل عدل مع يمين الطالب) وجملة ذلك أن المال كالقرض والغصب والديون كلها وما يقص به المال كالبيع والوقف والإجارة والهبة والصلح والمساقاة والمضاربة والشركة والوصية له والجناية الموجبة للمال كجناية الخطأ وعمد الخطأ والعمد الموجب للمال دون القصاص كالجائفة وما دون الموضحة من الشجاج تثبت بشهادة رجل وامرأتين.

وقال أبو بكر لا تثبت الجناية في البدن بشهادة رجل وامرأتين لأنها جناية فأشبهت ما يوجب القصاص والأول أصح لأن موجبها المال فأشبهت البيع وفارق ما يوجب القصاص لأن القصاص لا تقبل فيه شهادة النساء

ص: 178

وكذلك ما يوجبه والمال يثبت بشهادة النساء وكذلك ما يوجبه ولا خلاف في أن المال يثبت بشهادة السناء مع الرجال وقد نص الله تعالى على ذلك في كتابه بقوله سبحانه:

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ» - إلى قوله - «وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى»(1).

وأجمع أهل العلم على القول به وقد ذكرنا خبر أبي هريرة وابن عباس فيه.

(فصل) وأكثر أهل العلم يرون ثبوت المال لمدعيه بشاهد ويمين روي ذلك عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم وهو قول الفقهاء السبعة وعمر بن عبد العزيز والحسن وشريح وإياس وعبد الله بن عتبة وأبي سلمة بن عبد الرحمن ويحيى بن يعمر وربيعة ومالك وابن أبي ليلى وأبي الزناد والشافعي وقال الشعبي والنخعي وأصحاب الرأي والأوزاعي لا يقضى بشاهد ويمين وقال محمد بن الحسن من قضى بالشاهد واليمين نقضت حكمه لأن الله تعالى قال:

«وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ».

فمن زاد في ذلك فقد زاد في النص والزيادة في النص نسخ ولان النبي (صلى الله عليه - وآله - وسلم) قال:

«البينة على المدعي واليمين على من أنكر».

ص: 179


1- البقرة: 282

فحصر اليمين في جانب المدعى عليه كما حصر البينة في جانب المدعي ولنا ما روى سهيل عن أبيه عن أبي هريرة قال: قضى رسول الله (صلى الله عليه - وآله - وسلم) باليمين مع الشاهد الواحد رواه سعيد بن منصور في سننه والأئمة من أهل السنن والمسانيد قال الترمذي هذا حديث حسن غريب وفي الباب عن علي وابن عباس وجابر ومسروق.

وقال النسائي اسناد حديث ابن عباس في اليمين مع الشاهد اسناد جيد، ولان اليمين تشرع في حق من ظهر صدقه وقوي جانبه ولذلك شرعت في حق صاحب اليد لقوة جنبته بها وفي حق المنكر لقوة جنبته فإن الأصل براءة ذمته والمدعي ههنا قد ظهر صدقه فوجب أن تشرع اليمين في حقه ولا حجة لهم في الآية لأنها دلت على مشروعية الشاهدين والشاهدين والمرأتين ولا نزاع في هذا.

وقولهم إن الزيادة في النص نسخ غير صحيح لأن النسخ الرفع والإزالة والزيادة في الشئ تقرير له لا رفع والحكم بالشاهد واليمين لا يمنع الحكم بالشاهدين ولا يرفعه ولان الزيادة لو كانت متصلة بالمزيد عليه لم ترفعه ولم تكن سخا وكذلك إذا انفصلت عنه ولان الآية واردة في التحمل دون الأداء ولهذا قال (أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى).

والنزاع في الأداء وحديثهم ضعيف وليس هو للحصر بدليل أن اليمين تشرع في حق المودع إذا ادعى الوديعة وتلفها وفي حق الامناء لظهور جنايتهم وفي حق الملاعن وفي القسامة وتشرع في حق البائع والمشتري إذا اختلفا في الثمن والسلعة قائمة وقول محمد في نقض قضاء من قضى بالشاهد واليمين

ص: 180

يتضمن القول بنقض قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الذين قضوا به وقد قال الله تعالى:

«فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا»(1).

والقضاء بما قضى به محمد بن عبد الله (صلى الله عليه - وآله - وسلم) أولى من قضاء محمد بن الحسن المخالف له (فصل) قال القاضي يجوز ان يحلف على مالا تسوغ الشهادة عليه مثل ان يجد بخطه دينا له على إنسان وهو يعرف أنه لا يكتب الا حقا ولم يذكره أو يجد في رزمانج أبيه بخطه دينا له على إنسان ويعرف من أبيه الأمانة وانه لا يكتب الا حقا فله ان يحلف عليه ولا يجوز ان يشهد به ولو أخبره بحق أبيه ثقة فسكن إليه جاز أن يحلف عليه ولم يجز له أن يشهد به وبهذا قال الشافعي والفرق بين اليمين والشهادة من وجهين:

(أحدهما) ان الشهادة لغيره فيحتمل أن من له الشهادة قد زور على خطه ولا يحتمل هذا فيما يحلف عليه لأن الحق إنما هو للحالف فلا يزور أحد عليه (الثاني) ان ما يكتبه الإنسان من حقوقه يكثر فينسى بعضه بخلاف الشهادة.

(فصل) وكل موضع قبل فيه الشاهد واليمين فلا فرق بين كون المدعي مسلما أو كافرا عدلا أو فاسقا رجلا أو امرأة نص عليه أحمد لأن من شرعت في حقه اليمين لا يختلف حكمه باختلاف هذه الأوصاف كالمنكر إذا لم تكن بينة.

(فصل) قال أحمد مضت السنة أن يقضى باليمين مع الشاهد الواحد فإن

ص: 181


1- النساء: 65

أبي أن يحلف استحلف المطلوب، وهذا قول مالك والشافعي، ويروى عن أحمد فإن أبى المطلوب ان يحلف ثبت الحق عليه.

(فصل) ولا تقبل شهادة امرأتين ويمين المدعي، وبه قال الشافعي وقال مالك يقبل ذلك في الأموال لأنهما في الأموال أقيمتا مقام الرجل فحلف معهما كما يحلف مع الرجل ولنا ان البينة على المال إذا خلت من رجل لم تقبل كما لو شهد أربع نسوة وما ذكروه يبطل بهذه الصورة فإنهما لو أقيمتا مقام رجل من كل وجه لكفى أربع نسوة مقام رجلين ولقبل في غير الأموال شهادة رجل وامرأتين ولان شهادة المرأتين ضعيفة تقوت بالرجل واليمين ضعيفه فيضم ضعيف إلى ضعيف فلا يقبل.

(فصل) إذا ادعى رجل على رجل أنه سرق نصابا من حرزه وأقام بذلك شاهدا وحلف معه أو شهد له بذلك رجل وامرأتان وجب له المال المشهود به إن كان باقيا أو قيمته إن كان تالفا ولا يجب القطع لأن هذه حجة في المال دون القطع، وان ادعى على رجل أنه قتل وليه عمدا فأقام شاهدا وامرأتين أو حلف مع شاهده لم يثبت قصاص ولادية، والفرق بين المسئلتين ان السرقة توجب القطع والغرم معا فإذا لم يثبت أحدهما ثبت الآخر.

والقتل العمد موجبه القصاص عينا في إحدى الروايتين والدية بدل عنه ولا يجب البدل ما لم يوجد المبدل وفي الرواية الأخرى الواجب أحدهما لا بعينه فلا يجوز ان يتعين أحدهما الا بالاختيار أو التعذر ولم يوجد واحد منهما وقال ابن أبي موسى لا يجب المال في السرقة أيضا إلا بشاهدين لأنها شهادة على فعل يوجب الحد والمال فإذا بطلت في إحداهما بطلت في الأخرى

ص: 182

والأول أولى لما ذكرناه.

وإن ادعى رجل على رجل أنه ضرب أخاه بسهم عمدا فقتله ونفذ إلى أخيه الآخر فقتله خطأ وأقام بذلك شاهدا وامرأتين أو شاهدا وحلف معه ثبت قتل الثاني لأنه خطأ موجبه المال ولم يثبت قتل الأول لأنه عمد موجبه القصاص فهما كالجنايتين المفترقتين، وعلى قول أبي بر لا يثبت شئ منهما لأن الجناية عنده لا تثبت الا بشاهدين سواء كان موجبها المال أو غيره.

ولو ادعى رجل على آخر أنه سرق منه وغصبه مالا فحلف بالطلاق والعتاق ما سرق منه ولا غصبه فأقام المدعي شاهدا وامرأتين شهدا بالسرقة والغصب أو أقام شاهدا وحلف معه استحق المسروق والمغصوب لأنه أتى ببينة يثبت ذلك بمثلها ولم يثبت طلاق ولا عتاق لأن هذه البينة حجة في المال دون الطلاق والعتاق وظاهر مذهب الشافعي في في هذا الفصل كمذهبنا الا فيما ذكرناه من الخلاف عن أصحابنا فصل).

ولو ادعى جارية في يد رجل أنها أم ولده وان ابنها ابنه منها ولد في ملكه وأقام بذلك شاهدا وامرأتين أو حلف مع شاهده حكم له بالجارية لأن أم الولد مملوكة له ولهذا يملك وطأها واجارتها وتزويجها ويثبت لها حكم الاستيلاد باقراره لأن اقراره ينفذ في ملكه والملك يثبت بالشاهد والمرأتين والشاهد واليمين ولا يحكم له بالولد لأنه يدعي نسبه والنسب لا يثبت بذلك يدعي حريته أيضا فعلى هذا يقر الولد في يد المنكر مملوكا له وهذا أحد قولي الشافعي.

وقال في الاخر يأخذها وولدها ويكن ابنه لأن من ثبتت له العين ثبت

ص: 183

له نماؤها والولد نماؤها، وذكر أبو الخطاب فيها عن أحمد روايتين كقولي الشافعي ولنا أنه لم يدع الولد ملكا وإنما يدعي حريته ونسبه وهذان لا يثبتان بهذه البينة فيبقيان على ما كانا عليه.

(فصل) وإن ادعى رجل أنه خالع امرأته فأنكرت ثبت ذلك بشاهد وامرأتين أو يمين المدعي لأنه يدعي المال الذي خالعت به وان ادعت ذلك المرأة لم يثبت الا بشهادة رجلين لأنها لا تقصد منه الا الفسخ وخلاصها من الزوج ولا يثبت ذلك الا بهذه البينة.

(مسألة) قال (ويقبل فيما لا يطلع عليه الرجال مثل الرضاع والولادة والحيض والعدة وما أشبهها شهادة امرأة عدل) لا نعلم بين أهل العلم خلافا في قبول شهادة النساء المنفردات في الجملة قال القاضي والذي تقبل فيه شهادتهن منفردات خمسة أشياء الولادة والاستهلال والرضاع والعيوب تحت الثياب كالرتق والقرن والبكارة والثيابة والبرص وانقضاء العدة.

وعن أبي حنيفة لا تقبل شهادتهن منفردات على الرضاع لأنه يجوز ان يطلع عليه محارم المرأة من الرجال فلم يثبت بالنساء منفردات كالنكاح ولنا ما روى عقبة بن الحارث قال: تزوجت أم يحيى بنت أبي اهاب فاتت أمة سوداء فقالت قد أرضعتكا فاتيت النبي (صلى الله عليه - وآله - وسلم) فذكرت ذلك له فاعرض عني ثم أتيته فقلت يا رسول الله انها كاذبه قال:

«کیف وقد زعمت ذلك».

متفق عليه ولأنها شهادة على عورة للنساء فيها مدخل فقبل فيها شهادة النساء كالولادة وتخالف العقد فإنه ليس بعورة وحكي عن أبي حنيفة أيضا

ص: 184

أن شهادة النساء المنفردات لا تقبل في الاستهلال لأنه يكون بعد الولادة وخالفه صاحباه وأكثر أهل العلم لأنه يكون حال الولادة فيتعذر حضور الرجال فأشبه الولادة نفسها.

وقد روي عن علي - (صلوات الله وسلامه عليه) -:

«أجاز شهادة القابلة وحدها في الاستهلال».

رواه الإمام أحمد وسعيد بن منصور إلا أنه من حديث جابر الجعفي وأجازه شريح والحسن والحارث العكلي وحماد.

(فصل) إذا ثبت هذا فكل موضع قلنا تقبل فيه شهادة النساء المنفردات فإنه تقبل فيه شهادة المرأة الواحدة وقال طاوس تجوز شهادة المرأة في الرضاع وإن كانت سوداء، وعن أحمد رواية أخرى لا يقبل فيه الا امرأتان وهو قول الحكم وابن أبي ليلى وابن شبرمة واليه ذهب مالك والثوري لأن كل جنس يثبت به الحق كفي فيه اثنان كالرجال ولان الرجال أكمل منهن عقلا ولا يقبل منهم الا اثنان.

وقال عثمان البتي يكفي ثلاث لأن كل موضع قبل فيه النساء كان العدد ثلاثة كما لو كان معهن رجل وقال أبو حنيفة تقبل شهادة المرأة الواحدة في ولادة الزوجات دون ولادة المطلقة، وقال عطاء والشعبي وقتادة والشافعي وأبو ثور لا يقبل فيه إلا أربع لأنها شهادة من شرطها الحرية فلم يقبل فيها الواحدة كسائر الشهادات ولان النبي (صلى الله عليه - وآله - وسلم) قال:

«شهادة امرأتين بشهادة رجل».

ولنا ما روى عقبة بن الحارث أنه قال تزوجت أم يحيى بنت أبي اهاب

ص: 185

فجاءت أمة سوداء فقالت قد أرضعتكما فجئت إلى النبي (صلى الله عليه - وآله - وسلم) فذكرت له ذلك فاعرض عني ثم ذكرت له ذلك فقال:

«وكيف وقد زعمت ذلك؟» متفق عليه،

وروى حذيفة ان النبي صلى الله عليه - واله - وسلم):

«أجاز شهادة القابلة».

ذكره الفقهاء في كتبهم، وروى أبو الخطاب عن ابن عمران النبي صلى الله عليه وسلم قال (يجزئ في الرضاع شهادة امرأة واحدة) ولأنه معنى يثبت بقول النساء المنفردات فلا يشترط فيه العدد كالرواية وأخبار الديانات وما ذكره الشافعي من اشتراط الحرية غير مسلم وقول النبي (صلى الله عليه - واله):

«وسلم شهادة امرأتين بشهادة رجل في الموضع الذي تشهد فيه مع الرجل».

(فصل) فإن شهد الرجل بذلك فقال أبو الخطاب تقبل شهادته وحده لأنه أكمل من المرأة فإذا اكتفي بها وحدها فلان يكتفى به أولى ولان ما قبل فيه قول المرأة الواحدة قبل فيه قول الرجل كالرواية)(1).

سادساً: المذهب الإباضي.

حدد فقهاء المذهب الإباضي شهادة النساء فيما يلي:

1- لا تجوز شهادة النساء في الحدود مطلقاً سواء كانت مقرونة إلى الرجال أو وحدهن.

2- تقبل شهادة النساء فيما لا يباشره الرجال.

ص: 186


1- المغني: ج 12 ص 7 - 18

3- تقبل في القصاص إذا كانت هي المجني عليها وارادة أن تقتص من الجاني.

جاء ذلك البيان فيما تناوله محمد أطفيش (ت 1332 ه) في مبحث الشهادات، فقال:

(وترد - الشهادة - من نساء في الحدود مطلقاً؛ الرجم، والجلد، والتعزيز، والنكال، والحد، والأدب، وما شمل الادب، وقطع السارق، فلا يقبل مع الرجال کما تقبل وحدهن.

وتقبل منهن فيما لا يباشره الرجال، كرتق وعقل، وبكارة، وقصاص إذا ارادت المرأة المجني عليها أن تقتص من جنى عليها ما فيه القصاص في الظهور، وقيل بجواز القصاص ايضاً في الكتمان إذا كانت القدرة عليه، فإن النساء يكفين في بيان ما فيها من الجناية إذا كان فيما لا ينظره الرجال، وكذا في قياس الجرح للأرض، ويحتمل ادخاله في قوله: قصاص، اي موجب قصاص، سواء تنظره لتقص أو لتأخذ الأرش أو يدخل فيه، لأن القصاص المماثلة؛ فإن للمجني عليها المماثلة بالارض لانه عوض عن نحو الجرح أو القصاص، وينظر الرجال وجه المرأة وكفها، وقيل: وقدمها للقصاص والارش ونحوهما)(1).

ص: 187


1- شرح كتاب النيل وشفاء الغليل: ج 13 ص 119

ص: 188

المبحث الثاني خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة

لقد اشتمل موضوع شهادة النساء على تفريعات كثيرة، لذا خصصنا لبيان خلاصة ما اورده فقهاء المذاهب مبحثا من فردا وهو على خلاف ما اتبعناه في الكتاب وذلك لسعة الموضوع، وهو كالاتي:

المسألة الاولى: تقسيم الشهادات إلى حق الله وحق الآدمي ومواضع شهادة النساء من ذلك.

وهذا التقسيم والترتيب الدقيق أنفرد به فقهاء المذهب الإمامي (رضوان الله تعالى عليهم) منذ المحقق الحلي (عليه الرحمة والرضوان) (ت 676 ه) والى يومنا هذا لا سيما الموسوعات الفقهية.

أما أول من أفرد باباً لشهادة النساء في الفقه، فهو الشيخ المفيد (رضوان الله تعالى عليه) في كتابه الموسوم ب ( احكام النساء)(1)؛ وفي كتابه الموسوم ب (المقنعة)(2).

أما تقسيم الشهادات فيعود للمحقق الحلي (رضوان الله تعالى عليه):

فكان الأول: ما تعلق في الله عز وجل، وفيه مرتبتان:

ص: 189


1- احكام السناء: ص 51
2- المقنعة ص 727

المرتبة الأولى: وهي الزنا، واللواط، والسحق، ويثبت كل واحد منهم بشهادة أربعة رجال؛ ويثبت الزنا خاصة بشهادة ثلاثة رجال وامرأتين ايضا، وكذلك يثبت برجلين واربع نساء.

والثانية: ما عدا الزنا مما فيه حد، وهي: السرقة، وشرب الخمر، والردة، والقذف، وكذا ما ليس بحد: كالزكاة، والخمس، والكفارات، والنذور، والإسلام.

وأما القسم الثاني: وهو حق الآدمي، وفيه ثلاثة مراتب:

الأولى: ما لا يثبت إلا بشاهدين وذكرين عدلين.

والثانية: ما يثبت بشاهدين، وشاهد وامرأتين، وشاهد ويمين.

والثالثة: ما يثبت بالرجال والنساء منفردات، ومنضمات.

المسألة الثانية: حكم شهادة النساء في حق الله وهو الحدود.

أولا. قال الإمامية: لا يثبت شيء من حقوق الله تعالى بشاهد وامرأتين، ولا بشاهد ويمين، ولا بشهادة النساء منفردات، ولو کثرت الشهادات.

ثانيا. وقال الزيدية: لا يجوز شهادة النساء في شيء من الحدود التي أوجبها الله تعالى على العبيد، سواء كثرن أو قللنّ.

ثالثا. قال الشافعية: لا تجوز شهادة النساء في الحدود.

رابعا. قال الحنفية: لا تجوز شهادتهن في الحدود.

خامسا. قال الحنابلة: لا تقبل شهادتهن في القصاص، ولا في الحدود كالزنا.

سادسا. قال الإباضية: لا تجوز شهادة النساء في الحدود مطلقا، سواء

ص: 190

كانت مقرونة إلى الرجال أو وحدهن.

سابعا. قال المالكية: لا يجوز شهادة النساء فيما هو شأن الرجال، دون التصريح بلفظ الحدود.

المسألة الثالثة: في جواز شهادة النساء منظمات إلى الرجال.

أولا- قال الإمامية:

1- يثبت الزنا خاصة بثلاثة رجال وامرأتين، وبرجلين وأربع نساء، غير أن الاخير لا يثبت به الرجم، ويثبت به الجلد، ولا يثبت بغير ذلك.

2- ما يثبت بشاهدين وبشاهد وامرأتين وشاهد ويمين وهو:

الديون، والأموال كالقرض، والقراض، والغصب، وعقود المفاوضات؛ كالبيع، والصرف، والسلم، والصلح، والاجازات؛ والمساقات، والرهن، والوصية، والجناية التي توجب الدية وفي الوقف تردد اظهره انه يثبت؛ وفي الولادة، والاستهلال، والرضاع على خلاف أقربه الجواز.

3 -وتقبل شهادتين مع اليمين في الأموال والديون، وقيل: عدم الثبوت أقرب.

ثانيا. وقال الزيدية: وتجوز شهادتهن منظمات إلى الرجال في الوصايا، والهبات، والشراء، والبيع، والصدقات، وغير ذلك مما كان سوى الحدود.

ثالثا. قال الشافعية: تجوز شهادتهن مع الرجال في وعد المرأة النكاح لاثبات المهر أو شطره أو الارث فيثبت برجل وامرأتين.

رابعا. قال المالكية: تجوز شهادتهن في الأموال وما يتعلق بها كالاجارة.

ص: 191

خامسا. قال الحنفية: تجوز شهادة رجل وامرأتين في الشبهات، والنكاح، والطلاق، والعتق، والأموال.

سادسا. قال الحنابلة: تجوز شهادة رجل وامرأتين في الأموال.

سابعا. قال الإباضية: تقبل شهادة المرأة في القصاص إذا كانت هي المجني عليها، وارادة أن تقتص من الجاني.

المسألة الرابعة: في جواز شهادة النساء منفردات عن الرجال.

أولا. قال الإمامية:

1- تثبت شهادة المرأة في العذرة، اي البكارة، وعيوب النساء الباطنة، وكل ما لا يجوز للرجال النظر إليه، والرضاع بأربع نسوة منفردات.

2- تصدق المرأة في دعواها أنها خلية، وأن عدتها قد أنقضت ولكنها إذا أدعت ذلك وكانت دعواها مخالفة للعادة الجارية بين النساء، كما إذا ادعت انها حاضت في شهر واحد ثلاثة مرات، فانها لا تصدق، ولكن إذا شهدت النساء من بطانتها بان عادها كذلك قبلت.

ثانيا. قال الزيدية: تجوز شهادتهن في حال ما لا يمكن أن يشهد عليه إلا النساء، كشهادة القابلة على استهلال الصبي، ويشترط أن تكون ثقة مأمونة؛ وكالعيوب التي تكون خلف الثياب، مثل القرن، والفلك، والرتق، وغير ذلك.

ثالثا. قال الشافعية: تثبت شهادتهن بما لا يراه الرجال، كالبكارة، والولادة، والحيض، والرضاع وقيده بعض فقهائهم بالرضاع من الثدي، وعيب المرأة تحت ثوبها.

ص: 192

رابعا. قال المالكية: تجوز شهادة النساء فيما لا يطلع عليه الرجال من الولادة واستهلال المولود، وعيوب البدن فيما يستر.

خامسا. قال الحنفية: تجوز شهادتهن وحدهن فيما لا ينظر إليه الرجال كالولاة، والعيب يكون في موضع لا ينظر إليه الا النساء.

سادسا. قال الإباضية: تقبل شهادة النساء فيما لا يباشره الرجل.

سابعا. قال الحنابلة: تقبل شهادتهن فيما لا يطلع عليه الرجال، كالعيوب التي تحت الثياب، والولادة، واستهلال المولد، والرضاع.

المسألة الخامسة: مواضع ثبوت شهادة المرأة في الحقوق الآدمية.

أولا. قال الإمامية: لا يثبت الطلاق والخلع، والوصية إليه، والنسب، ورؤية الأهلية، والوكالة الا بشاهدين عدلين، ولا يثبت بشهادة النساء لا منضمات ولا منفردات، ولا بشاهدين.

ثانيا. قال الحنابلة: لا تثبت شهادة النساء فيما ليس بعقوبة، كالنكاح، والرجعة، والطلاق وغيرها.

ثالثا. قال الحنفية: لا تجوز شهادتهن في الرضاع، لانه يجوز أن يطلع عليه محارم المرأة، واختلفوا في استهلال المولود، فقال ابو حنيفية: لا يجوز، وخالفة فقهاء المذهب، فقالوا بالجواز.

رابعا. قال الشافعية: لا تجوز شهادتهن في النكاح، والطلاق، والوكالة، والولاية، والسلطنة، واختلفوا في جواز شهادتهن في الشركة، والقراض.

ص: 193

المسألة السادسة: في ثبوت شهادة المرأة الواحدة

أولا: قال الإمامية: يثبت بشهادة المرأة الواحدة ربع الموصى به للموصى له، كما يثبت ربع الميراث للولد بشهادة القابلة باستهلاله، بل بشهادة مطلق المرأة وإن لم تكن قابلة. وإذا شهدت اثنتان ثبت النصف، وإذا شهدت ثلاث نسوة ثبت ثلاثة أرباعه، وإذا شهدت أربع نسوة ثبت الجميع، وفي ثبوت ربع الدية بشهادة المرأة الواحدة في القتل، ونصفها بشهادة امرأتين، وثلاثة أرباعها بشهادة ثلاث، إشكال وإن كان الأقرب الثبوت.

ثانيا. اختلف الحنابلة، فقال أحمد بن حنبل: تثبت شهادة المرأة الواحدة، وخالفه فقهاء المذهب فقالوا: بامرأتين، وقيل: بأربع.

تم بحمد الله وسابق لطفه وفضله وفضل رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ويليه كتاب الحدود إن شاء الله تعالى، وبه نستعين، وعليه نتوكل، فهو حسبي، وهو نعم المولى، ونعم النصير.

و (الحمد لله رب العالمين).

ص: 194

المبحث الثالث قواعد فقهية

تناول العلماء في القواعد الفقهية ما ارتبط بشهادة المرآة ومواردها كالاتي:

المسألة الأولى: قاعدة: (حجية البينة):

أولاً: اعتبار الرجولية في مفهوم البينة وعدمه.

قال الشيخ فاضل اللنكراني (رحمه الله) (ت 1428 ه):

(وهي من القواعد الفقهية المعروفة والمبتلى بها في كثير من ابواب الفقه، والكلام فيها يقع في مقامات، منها: في أعتبار الرجولية في مفهوم البينه وعدمه، فلا يطلق على شهادة النساء اصلاً؛ وعليه فيحتاج إثبات حجية شهادة النساء إلى أدلة أخرى غير ما ذكرنا، أو لا يعتبر فيه الرجولية بل شهادة أربع نساء بينة يشملها ما يدل على اعتبار البينة؟ فالثمرة تظهر فيما إذا لم يكن هناك دليل خاص على أحد الطرفين من الاعتبار وعدمه.

وبعبارة أخرى: لا شبهة في اعتبار شهادة النساء منفردات في بعض الموارد ومنضمات إلى الرجال في بعض موارد أخرى، وقد وقع التعرض في كتاب الشهادات للموردين، كما أنه لا شبهة في عدم اعتبارها في بعض الموارد لا منفردات ولا منضمّات، كثبوت الهلال والطلاق وغيرهما من الموارد، إنما الإشكال في موارد الخلو من الدليل الخاص، فان قلنا بعموم لفظ البيّنة،

ص: 195

فمقتضى أدلة حجيّتها حجيّتها ايضاً، وإن قلنا بالعدم، فلا دليل على اعتبارها مطلقاً.

والظاهر أنه لا سبيل إلى استكشاف أحد الطرفين، وإن كان ربما يدعى ان المتبادر من لفظ البينة في عرف المتشرعة هي الشهادة المقرونة بالتعدّد، من دون فرق بين الرجل والمرأة، كما أنه ربما يدعى الانصراف إلى خصوص الرّجل، ويؤيد الأوّل عطف الرجل والمرأتين على الرجلين، وإطلاق اسم الشاهد عليهما في مثل قوله تعالى في آية الدين المفصّلة: «وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ»(1).

الَّا انه مع ذلك لا سبيل إلى تعيين أحد الاحتمالين، ومع الترديد لا دليل على اعتبار البيّنة مع عدم الرّجولية، نعم ربما يستشهد لعموم حجية شهادة النساء الَّا ما خرج بالدليل برواية(2) عبد الكريم بن أبي يعفور عن الباقر (عليه السلام) قال:

(تقبل شهادة المرأة والنسوة إذا كنّ مستورات من أهل البيوتات، معروفات بالستر والعفاف، مطيعات للأزواج، تاركات للبذاء والتبرج إلى الرجال في أنديتهم(3)).

ولكن الظاهر أن الرواية في مقام بيان شروط قبول شهادة المرأة لا في مقام

ص: 196


1- البقرة: 282
2- الوسائل 18: 294 ب 41 من أبواب الشهادات ح 20
3- الوسائل كتاب الشهادات، أبواب ما يعتبر في الشهاد من العدالة، باب 41

بیان انّه في أيّ مورد تقبل شهادتهن حتى يؤخذ بإطلاقها، وبعبارة أخرى: هي ناظرة إلى العدالة المعتبرة في الشاهد بالنسبة إلى المرأة لا إلى الخصوصيات الأخرى كما لا يخفى)(1).

ثانياً: هل شهادة المرأة خارجة عن البينة موضوعاً؟

وهذه الفرضية في السؤال تناولها السيد البجنوردي (رحمه الله) (1395 ه) فقال:

(الأمر الثاني: في أن البينة هل هي عبارة عن شهادة رجلين؟ وشهادة المرأة خارجة عن البينة موضوعا أم هي أيضا بينة ولن اعتبر شرعا فيها بدل كل واحد من الرجلين امرأتان، فتكون البينة - فيما إذا كن شاهدات - عبارة شهادة أربع امرأة؟.

ثم على تقدير كون البينة صادقة على شهادتهن عرفا - غاية الأمر مقيدة بكون عددهن أربع اجماعا - فهل يكون مقتضى عموم حجية البينة حجية شهادتهن في جميع الموضوعات الا ما خرج بالدليل - كثبوت الهلال والطلاق وغيرهما مما لا تجوز شهادتهن فيها لا منفردات ولا منضمات إلى الرجال لنصوص وردت في عدم جواز شهادتهن فيها - أم لا بل قبول شهادتهن في اي موضوع يحتاج إلى ورود دليل على القبول في ذلك الموضوع؟ وإلا فمقتضى الأصل عدم القبول لا منفردات ولا منضمات ولا في باب الدعاوي ومقام المخاصمة ولا في غيرها؟. ربما يستشهد لعموم حجيته شهادتهن الا ما خرج بالدليل برواية عبد الكريم بن أبي يعفور عن الباقر (عليه السلام) قال

ص: 197


1- القواعد الفقهية: ج 1 ص 474 - 476

عليه السلام):

«تقبل شهادة المرأة والنسوة إذا كن مستورات من أهل البيوتات معروفات بالستر والعفاف مطيات للأزواج تاركات للبذاء و التبرج إلى الرجال في أنديتهم»(1).

وفيه ان ظاهر هذه الرواية انه (عليه السلام) في مقام بيان شروط قبول شهادة المرأة وان أي امرأة تقبل شهادتها لا في مقام بيان انه في أي موضوع تقبل كي يؤخذ باطلاقها. والتحقيق في المقام أما في الأول - أي: في شمول مفهوم البينة حسب المتفاهم العرفي لشهادة النساء وعدم خروجها عن مفهوم البينة موضوعا - فالظاهر أنها ليست بخارجة عنها موضوعا.

بل: البينة عبارة: عن شهادة اثنين سواء أكانا رجلين أو امرأتين اللهم الا ان يدعى انصرافها إلى الرجلين. وعلى كل تقدير لا شك في ورود الدليل على قبول شهادتهن منفردات في بعض الموارد ومنضمات إلى الرجال في موارد أخر.

والفرق بين الصورتين انه بناء على عدم شمول مفهوم البينة لشهادتهن وضعا أو انصرافا ففيما إذا لم يوجد دليل خاص على القبول في مورد فمقتضى الأصل عدم القبول، وأما بناء على الشمول فلو كان عموم أو اطلاق بالنسبة إلى حجية البينة في كل موضوع - کما ادعينا وجوده فمقتضى ذلك العموم أو

ص: 198


1- تهذيب الأحكام «ج 6، ص 242، ح 597، باب البينات، ح 1، «الاستبصار «ج 3، ص 13، ح 34، باب العدالة المعتبرة في الشهادة، ح 2، «وسائل الشيعة «ج 18، ص 294، أبواب كتاب الشهادات، باب 41، ح 20

ذلك الاطلاق هو قبول شهادتهن الا ان يأتي دليل في ذلك المورد على عدم القبول.

وقد تعرض الفقهاء في كتاب الشهادات لموارد القبول وعدمه منفردات و منضمات إلى الرجال، والروايات الواردة في باب شهادة النساء مختلفة جدا، فمفاد بعضها جواز شهادتهن فيما لا يستطيع الرجال ان ينظروا إليه ويشهدوا عليه.(1)

وظاهر هذا القسم من الروايات انحصار القبول فيما ذكر وعدم قبولها فيما يستطيع الرجال ان ينظروا إليه، ومفاد بعضها جواز شهادتهن في النكاح منضمات إلى الرجال وعدم قبولها في الطلاق(2).

ومفاد بعضها عدم قبولها في الطلاق والهلال، معللا بضعف رؤيتهن ومحاباتهن إلى غير ذلك من الاختلافات بينها. وتفصيل هذه المسألة في كتاب الشهادات وليس هاهنا مقام بحثها، والغرض هاهنا بيان حكم مورد الشك وعدم وجود دليل لا على القبول ولا على عدم القبول)(3).

المسألة الثانية: قاعدة: (الوصية حق على كل مسلم) والبحث في: (ثبوت الوصية بلال بشهادة العدل الواحد مع اليمين).

هذه القاعدة تناولها السيد البجنوردي (رحمه الله) في قواعده، وقد تناولها من جهات عدة، ابتدأها: في مدرك القاعدة وغيرها من الجهات حتى يصل

ص: 199


1- وسائل الشيعة «ج 18، ص 258، أبواب كتاب الشهادات، باب 24، ح 4، 5، 7، و 9
2- وسائل الشيعة «ج 18، ص 258، أبواب كتاب الشهادات، باب 24، ح 5، 7، و 11
3- القواعد الفقهية: ج 3 ص 25

إلى البحث في أحكام الوصية، فكان منها، قوله:

(لا إشكال في ثبوت الوصية بالمال بشهادة العدل الواحد مع اليمين إجماعا، وكذلك لا خلاف في ثبوتها بشهادة عدل واحد مع شهادة امرأتين ثقتين، لإطلاق الأدلة في أبواب الحقوق المالية وعدم اختصاصها بمورد دون مورد، کما هو مذكور مشروحا في كتاب القضاء والشهادات.

وكذلك تقبل شهادة امرأة واحدة في ربع ما شهدت به، وتقبل شهادة اثنين في نصفه، وشهادة ثلاث في ثلاثة أرباع مما شهدن به، وشهادة أربع في الجميع، كل ذلك إذا كانت شهادتين في الماليات. والمدرك في هذا الحكم رواية الربعي عن أبي عبد الله عليه السلام في شهادة امرأة حضرت رجلا يوصى ليس معها رجل، فقال عليه السلام:

«يجاز ربع ما أوصى بحساب شهادتها»(1).

ورواية أبان عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال:

«في وصية لم يشهدها إلا امرأة»، فأجاز شهادتها في الربع من الوصية بحساب شهادتها ورواية محمد بن قيس قال: قال أبو جعفر (عليه السلام) «قضى أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصية لم يشهدها إلا امرأة أن تج-وز شهادة المرأة في ربع الوصية إذا كانت مسلمة غير مريبة في دينها»(2).

ص: 200


1- الكافي ج 7، ص 4، باب الاشهاد على الوصية، ح 4، الفقيه ج 4، ص 192، باب الاشهاد على الوصية، ح 5435، تهذيب الأحكام ج 9، ص 180، ح 719 باب الاشهاد على الوصية، ح 2، وسائل الشيعة ج 13، ص 395، أبواب أحكام الوصايا، باب 22، ح 1
2- تهذيب الأحكام ج 9، ص 180، ح 723، باب الاشهاد على الوصية، ح 9، وسائل الشيعة ج 13، ص 396، أبواب أحكام الوصايا، باب 22، ح 3

ودلالة هذه الروايات على ما ذكرنا في أول الفرع من أن بشهادة الواحدة الربع، وبالاثنتان النصف، وبالثلاث ثلاثة أرباع، وبالأربع الجميع واضحة لا يحتاج إلى البيان. وأما ما توهم أنه لا تثبت بشهادة المرأة إلا الربع سواء كانت واحدة أم كن متعددات، فخلاف ما يفهم من ظاهر الكلام. وليس من باب القياس كما كان كذلك في دية قطع أصابع المرأة، لوجود الدليل هناك وهو قوله (صلى الله عليه وآله وسلم):

«المرأة تعاقل الرجل إلى ثلث الدية، فإذا زاد یکون دیتها نصف دية الرجل».

بل: الظهور العرفي يقتضي أن يكون لشهادة كل امرأة ربع ما شهد بها غير الربع الذي يثبت بشهادة الأخرى إلى أن يستوفي بشهاداتهن تمام ما شهدن به، فلا يبقى محل وموضوع الشهادة الخامسة. هذا، مضافا إلى أن الأصل عدم التداخل.

ثم إن هاهنا روايات أخر ظاهرها عدم قبول شهادة المرأة في الوصية مطلقا، کرواية عبد الرحمن(1)، ورواية عبد الله بن سنان(2)، ومكاتبة أحمد بن هلال(3)، ولكن لا بد من تأويلها كما في الوسائل، أو طرحها لإعراض

ص: 201


1- تهذیب الأحکام «ج 9، ص 180، ح 722، باب الاشهاد على الوصية، ح 8، «وسائل الشيعة «ج 13، ص 396، أبواب أحكام الوصایا، باب 22، ح 6
2- تهذیب الأحکام «ج 6، ص 270، ح 728، باب البينات، ح 133، «الاستبصار «ج 3، ص 30، ح 100، باب فيما يجوز فيه شهادة النساء، ح 32، «وسائل الشيعة «ج 13، ص 397، أبواب أحكام الوصایا، باب 22، ح 7
3- تهذیب الأحکام «ج 6، ص 268، ح 219، باب البينات، ح 124، «الاستبصار «ج 3، ص 28، ح 90، باب فيما يجوز فيه شهادة النساء، ح 22، «وسائل الشيعة ج 13، ص 397، أبواب أحكام الوصایا، باب 22، ح 8

المشهور عنها بل الإجماع على خلافها)(1).

تم بحمد الله وسابق لطفه وفضله وفضل رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ويليه كتاب الحدود إنشاء الله تعالى، وبه نستعين، وعليه نتوكل، فهو حسبي، وهو نعم المولى، ونعم النصیر.

و (الحمد لله رب العالمين).

ص: 202


1- القواعد الفقهية: ج 6 ص 316 - 318

المحتويات

الباب التاسع كتاب القضاء والشهادات

توطئة...9

الفصل الأول معنى القضاء وآداب القاضي

المبحث الأول: معنى القضاء في اللغة واصطلاح المتشرعة...13

المسألة الأولى: القضاء لغة...13

المسألة الثانية: معنى القضاء في اصطلاح المتشرعة...14

1. المذهب الامامي...14

2. المذهب الشافعي...15

3. المذهب المالکی...15

4. وعرفه فقهاء المذهب الحنفي:...16

5. وعرفه فقهاء الإباضية:...16

ص: 203

المبحث الثاني: آداب القاضي وصفاته في المذاهب الإسلامية...17

المسألة الأولى: أقوال فقهاء المذهب الامامي...18

أولا: الآداب والصفات...18

ثانیا: شرائط القاضي...25

المسألة الثانية : آداب القاضي في المذاهب الأخرى...33

أولا: المذهب الزيدي...33

ثانيا: المذهب الشافعي...34

ثالثاً: المذهب المالكي...34

رابعا: المذهب الحنبلي...42

خامساً: المذهب الإباضي...45

سادساً: المذهب الحنفی...46

المسألة الثالثة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة...49

المسألة الرابعة: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة...52

أولاً: ابن میثم البحراني (رحمه الله) (ت 679 ه):...53

ثانياً: ابن أبي الحديد المعتزلي (ت 656 ه):...55

الفصل الثاني بذل الهدية إلى القاضي والمفتي والوالي

المحبث الأول: حكم بذل الهدية للقاضي والمفتي وقبولها في المذاهب الإسلامية السبعة...59

المسألة الأولى: بذل الهدية إلى القضاة في المذهب الامامي...60

المسألة الثانية: بذل الهدية للقضاة في المذاهب الاخرى...66

أولا: المذهب الزيدي...66

ص: 204

ثانيا: المذهب الشافعي...66

ثالثا: المذهب المالكي...67

رابعا: المذهب الحنفي...68

خامسا: المذهب الحنبلي...70

سادسا: المذهب الإباضي...70

المسألة الثالثة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة...71

المحبث الثاني: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة...73

المسألة الأولى: أبن میثم البحراني (رحمه الله) (ت 679 ه)...73

المسألة الثانية: ابن أبي الحديد المعتزلي (ت 656 ه):...75

كتاب الشهادات

الفصل الاول تغليظ اليمين

المبحث الأول: أقوال فقهاء المذاهب السبعة في تغليظ اليمين...85

المسألة الأولى: تغليظ اليمين في المذهب الإمامي...85

المسألة الثانية: تغليظ اليمين في المذاهب الأخرى...95

أولاً: المذهب الزيدي...95

ثانيا: المذهب الشافعي...97

ثالثا: المذهب المالكي...99

رابعا: المذهب الحنفي...102

ص: 205

خامساً: المذهب الحنبلي...106

سادساً: المذهب الإباضي...109

المسألة الثالثة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة...109

أولا: في حكم التغليظ باليمين...109

ثانيا: التغليظ باللفظ...110

ثالثا: تغليظ اليمين زماناً...111

رابعا: تغليظ اليمين مكاناً...112

خامسا: التغليظ بالمصحف...112

سادسا: أجابه الحالف إلى التغليظ...113

سابعاً: صيغة تغليظ اليمين لليهود والنصارى والمجوس والكفار...113

المبحث الثاني: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة...115

المسألة الأولى: ما أورده ابن میثم البحراني...115

المسألة الثانية: ما أورده ابن أبي الحديد...116

المبحث الثالث: قواعد فقهية...121

المسألة الأولى: قاعدة (معاني اليمين وفوائدها)...121

المسألة الثانية: قاعدة: (لا يحكم بالنكول على الأقوى إلا في عشرة مواضع)...134

المسألة الثالثة : قاعدة: (اليمين إما على النفي، وأما على الاثبات)...137

الفصل الثاني شهادة النساء

المبحث الأول: حكم شهادة النساء في المذاهب الإسلامية...143

المسألة الأولى: حکم شهادة النساء في المذهب الإمامي:...143

ص: 206

المسألة الثانية: حکم شهادة النساء في المذاهب الاخرى...167

اولا: المذهب الزيدي...167

ثانياً: المذهب الشافعي...168

ثالثاً: المذهب المالكي...170

رابعاً: المذهب الحنفي...171

خامساً: المذهب الحنبلي...175

سادساً: المذهب الإباضي...186

المبحث الثاني: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة...189

المسألة الأولى: تقسيم الشهادات إلى حق الله وحق الآدمي و مواضع شهادة النساء من ذلك...189

المسألة الثانية: حکم شهادة النساء في حق الله وهو الحدود...190

المسألة الثالثة: في جواز شهادة النساء منظمات إلى الرجال...191

المسألة الرابعة: في جواز شهادة النساء منفردات عن الرجال...192

المسألة الخامسة: مواضع ثبوت شهادة المرأة في الحقوق الآدمية...193

المسألة السادسة: في ثبوت شهادة المرأة الواحدة...194

المبحث الثالث: قواعد فقهية...195

المسألة الأولى: قاعدة: (حجية البينة):...195

أولاً: اعتبار الرجولية في مفهوم البيئة وعدمهُ...195

ثانياً: هل شهادة المرأة خارجة عن البينة موضوعاً؟...197

المسألة الثانية: قاعدة: (الوصية حق على كل مسلم والبحث في: (ثبوت الوصية بالمال بشهادة العدل الواحد مع اليمين)...199

ص: 207

ص: 208

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.