فِقْهُ نَهْجُ البَلاغة عَلَی المَذاهِبِ السَّبعَةِ المجلد 10

هوية الکتاب

فقه نهج البلاغة على المذاهب السبعة الامامي - الزيدي - الحنفي - المالكي -الشافعي - الحنبلي - الأباضي وبيان القواعد الفقهية والمعارف الاخلاقية وشروح الاحاديث

9789933582470 رقم الإيداع في دارالكتب والوثائق العراقية ببغداد 3591 لسنة 2019 م مصدر الفهرسة: IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda رقم تصنيف BP193.1.A2 H3 2020 LC المؤلف الشخصي: الحسني، نبيل، 1384 للهجرة - مؤلف.

العنوان: فقه نهج البلاغة على المذاهب السبعة: الامامي - الزيدي - الحنفي - المالكي - الشافعي - الحنبلي - الأباضي وبيان القواعد الفقهية والمعارف الاخلاقية وشروح الاحاديث: دراسة بينية / بيان المسؤولية: تأليف السيد نبيل الحسني الكربلائي.

بيانات الطبع: الطبعة الاولى. بيانات النشر: كربلاء، العراق: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة 2020 / 1441 للهجرة. الوصف المادي: 12 مجلد؛ 24 سم. سلسلة النشر: (العتبة الحسينية المقدسة؛ 697).

سلسلة النشر: (مؤسسة علوم نهج البلاغة؛ 176) سلسلة النشر: (سلسلة الدراسات والبحوث العلمية، وحدة الدراسات الفقهية: 18).

تبصرة ببليوجرافية: يتضمن ارجاعات ببليوجرافية. تبصرة محتويات: الجزء 1: اثر المدرسة الامامية في نشوء الفقه وتطوره - الجزء 2: نشوء المذاهب الفقهية وتطورها - الجزء 3: مقدمة العبادات - الجزء 4: الطهارات - الجزء 5: الصلاة - الجزء 6: الزكاة - الجزء 7: الصيام والحج والامر بالمعروف والنهي عن المنكر - الجزء 8: الجهاد - الجزء 9: التجارة والشركة - الجزء 10: الوقف والقصاص - الجزء 11: القضاء والشهادات - الجزء 12: الفهارس.

موضوع شخصي: علي بن أبي طالب (عليه السلام) الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 - للهجرة - حديث.

موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359-406 للهجرة - نهج البلاغة. مصطلح موضوعي: الفقه الاسلامي - مذاهب.

مصطلح موضوعي: المذاهب الدينية - تاريخ. مصطلح موضوعي: العبادات (فقه اسلامي). مصطلح موضوعي: المعاملات (فقه اسلامي).

اسم شخص اضاف: شرح ل (عمل): الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة. اسم هيئة اضافي: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة. جهة مصدرة.

تمت الفهرسة قبل النشر في مكتبة العتبة الحسينية

ص: 1

اشارة

9789933582470 رقم الإيداع في دارالكتب والوثائق العراقية ببغداد 3591 لسنة 2019 م مصدر الفهرسة: IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda رقم تصنيف BP193.1.A2 H3 2020 LC المؤلف الشخصي: الحسني، نبيل، 1384 للهجرة - مؤلف.

العنوان: فقه نهج البلاغة على المذاهب السبعة: الامامي - الزيدي - الحنفي - المالكي - الشافعي - الحنبلي - الأباضي وبيان القواعد الفقهية والمعارف الاخلاقية وشروح الاحاديث: دراسة بينية / بيان المسؤولية: تأليف السيد نبيل الحسني الكربلائي.

بيانات الطبع: الطبعة الاولى. بيانات النشر: كربلاء، العراق: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة 2020 / 1441 للهجرة. الوصف المادي: 12 مجلد؛ 24 سم. سلسلة النشر: (العتبة الحسينية المقدسة؛ 697).

سلسلة النشر: (مؤسسة علوم نهج البلاغة؛ 176) سلسلة النشر: (سلسلة الدراسات والبحوث العلمية، وحدة الدراسات الفقهية: 18).

تبصرة ببليوجرافية: يتضمن ارجاعات ببليوجرافية. تبصرة محتويات: الجزء 1: اثر المدرسة الامامية في نشوء الفقه وتطوره - الجزء 2: نشوء المذاهب الفقهية وتطورها - الجزء 3: مقدمة العبادات - الجزء 4: الطهارات - الجزء 5: الصلاة - الجزء 6: الزكاة - الجزء 7: الصيام والحج والامر بالمعروف والنهي عن المنكر - الجزء 8: الجهاد - الجزء 9: التجارة والشركة - الجزء 10: الوقف والقصاص - الجزء 11: القضاء والشهادات - الجزء 12: الفهارس.

موضوع شخصي: علي بن أبي طالب (عليه السلام) الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 - للهجرة - حديث.

موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359-406 للهجرة - نهج البلاغة. مصطلح موضوعي: الفقه الاسلامي - مذاهب.

مصطلح موضوعي: المذاهب الدينية - تاريخ. مصطلح موضوعي: العبادات (فقه اسلامي). مصطلح موضوعي: المعاملات (فقه اسلامي).

اسم شخص اضاف: شرح ل (عمل): الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة. اسم هيئة اضافي: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة. جهة مصدرة.

تمت الفهرسة قبل النشر في مكتبة العتبة الحسينية

ص: 2

سلسلة الدراسات والبحوث العلمية (18) وحدة الدراسات الفقهية فقه نهج البلاغة على المذاهب السبعة الإمامي - الزيدي - الحنفي - المالكي الشافعي - الحنبلي - الإباضي وبيان القواعد الفقهية والمعارف الأخلاقية وشروح الأحادیث دراسة بينية الجزء العاشر الوقف والقصاص تأليف السيد نبيل الحسني الكربلائي إصدار مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة (176)

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة للعتبة الحسينية المقدسة الطبعة الأولى 1441 ه/ 2020 م العراق: كربلاء المقدسة - العتبة الحسينية المقدسة مؤسسة علوم نهج البلاغة www.inahj.org Email: inahj.org@gmail.com موبايل: 07815016633 - 07728243600

ص: 4

الباب الثامن «كتاب الوقف والقصاص»

ص: 5

ص: 6

يتضمن الباب

كتاب الوقف: الفصل الأول: معنى الوقف وماهيته وفضله وصياغته

• المبحث الأول: تعريف الوقف في اللغة والشرع.

* المسألة الأولى: الوقف لغة.

* المسألة الثانية: معنى الوقف في المذهب الإمامي.

* المسألة الثالثة: معنى الوقف في المذاهب الأخرى.

* المسألة الرابعة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة.

• المبحث الثاني: ماهية الوقف وفضله.

* المسألة الاولى: ماهية الوقف وفضله في المذهب الإمامية.

* المسألة الثانية: ماهية الوقف في المذاهب الاخرى.

* المسألة الثالثة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة.

• المبحث الثالث: في اشتراط الصيغة والقبول والقربة.

* المسألة الأولى: المذهب الإمامي.

* المسألة الثانية: أشتراط الصيغة والقبول والقربة في المذاهب الاخرى.

* المسألة الثالثة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة.

الفصل الثاني: شرائط الواقف، والموقوف، والموقوف عليه.

• المبحث الأول: شرائط الواقف.

* المسألة الأولى: شرائط الواقف في المذهب الامامي.

* المسألة الثانية: شرائط الواقف في المذاهب الاخرى.

* المسألة الثالثة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة.

• المبحث الثاني: شرائط الموقوف.

* المسألة الأولى: شرائط الموقوف في المذهب الإمامي.

* المسألة الثانية: شرائط الموقوف في المذاهب الاخرى.

* المسألة الثالثة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة.

ص: 7

• المبحث الثالث: شرائط الموقوف عليه.

* المسألة الأولى: شرائط الموقوف عليه في المذهب الإمامي.

* المسألة الثانية:شرائط الموقوف عليه في المذاهب الاخرى.

* المسألة الثالثة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة.

• المبحث الرابع: في الشروط التي يضعها الواقف.

* المسألة الأولى: ما أورده السيد اليزدي (قدس سره) في المسألة.

* المسألة الثانية: قاعدة: (الوقوف على حسب ما يوقفها).

* المسألة الثالثة: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة.

• المبحث الخامس: أهمية الوصية وسبب صدورها.

* المسألة الأولى: سبب صدور الوصية في أمواله عليه السلام.

* المسألة الثانية: زمان صدور الوصية ومكانها.

* المسألة الثالثة: صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج التي تضمنت الوصية.

کتاب القصاص

الفصل الأول: معنى القصاص وأصل تشريعه

• المبحث الأول: معنى القصاص في اللغة واصطلاح المتشرعة.

* المسألة الأولى: معنى القصاص لغة.

* المسألة الثانية: معنى القصاص في اصطلاح المتشرعة.

* المسألة الثالثة: معنى الجناية في اللغة واصطلاح المتشرعة.

• المبحث الثاني: في أصل تشريعه وبيان حرمة دم المسلم.

* المسألة الأولى: أصل تشريعه في المذهب الإمامي.

* المسألة الثانية: المذاهب الإسلامية الأخرى.

• المبحث الثالث: في أصل تشريعه وبيان حرمة دم المسلم.

* المسألة الأولى: المذهب الإمامي.

* المسألة الثانية: أقسام القتل وما يتحقق به القصاص في المذاهب الأخرى.

ص: 8

* المسألة الثالثة: خلاصة القول فيما أروده فقهاء المذاهب.

• المبحث الرابع: قوعد فقهية.

* المسألة الأولى: قاعدة: (ينقسم القتل بانقسام الأحكام الخمسة).

* المسألة الثانية: قاعدة: (ينقسم القتل باعتبار سببه إلى أقسام).

• المبحث الخامس: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة.

* المسألة الأولى: ابن ميثم البحراني (679 ه).

* المسألة الثانية: ابن أبي الحديد المعتزلي (ت: 656 ه).

* المسألة الثالثة: السيد حبيب الله الخوئي (ت: 1324 ه).

الفصل الثاني: استيفاء القصاص.

• المبحث الأول: الاقتصاص بغير السيف.

* المسألة الأولى: أقوال فقهاء المذهب الإمامي في حرمة الإستيفاء بغير السيف.

* المسألة الثانية: أقوال فقهاء المذاهب الأخرى في استيفاء القصاص.

* المسألة الثالثة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة.

* المسألة الرابعة: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة.

• المبحث الثاني: قواعد فقهية.

* المسألة الأولى قاعدة: (مانع السبب)

* المسألة الثانية: قاعدة: العلة لا بد فيها من المناسبة للححكم المرتب عليها.

* المسألة الثالثة: يعتبر في القصاص نفسا وطرفا المماثلة).

•المبحث الثالث: حرمة المثلة بالجاني.

* المسألة الأولى: بحث الشيخ الجواهري النجفي (عليه الرحمة والرضوان) (1266 ه).

* المسألة الثانية: بحث الشيخ الميرز اجواد التبريزي (عليه الرحمة والرضوان) (ت 1427 ه)

ص: 9

ص: 10

كتاب الوقف

اشارة

ص: 11

ص: 12

توطئة

يورد الشريف الرضي (عليه الرحمة والرضوان) وصية أمير المؤمنين الإمام علي (عليه الصلاة والسلام) بما يعمل في أمواله، فيقول، (عليه الصلاة والسلام):

«هَذَا مَا أَمَرَ بِهِ عَبْدُاللّهِ عَلِیُّ بْنُ أَبِی طَالِبٍ أَمِیرُ الْمُؤْمِنِینَ - فِی مَالِهِ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللّهِ - لِیُولِجَهُ بِهِ الْجَنَّهَ(1) وَیُعْطِیَهُ بِهِ الْأَمَنَةَ: مِنْهَا فَإِنَّهُ یَقُومُ بِذَلِكَ الْحَسَنُ ابْنُ عَلِیٍّ - یَأْکُلُ مِنْهُ بِالْمَعْرُوفِ - وَیُنْفِقُ مِنْهُ بِالْمَعْرُوفِ - فَإِنْ حَدَثَ بِحَسَنٍ حَدَثٌ(2) وَحُسَیْنٌ حَیٌّ - قَامَ بِالْأَمْرِ بَعْدَهُ وَأَصْدَرَهُ مَصْدَرَهُ - وَإِنَّ لِابْنَیْ فَاطِمَةَ مِنْ صَدَقَةِ عَلِیٍّ مِثْلَ الَّذِی لِبَنِی عَلِیٍّ - وَإِنِّی إِنَّمَا جَعَلْتُ الْقِیَامَ بِذَلِكَ - إِلَی ابْنَیْ فَاطِمَةَ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللّهِ - وَقُرْبَةً إِلَی رَسُولِ اللّهِ (صلی الله علیه و آله) - وَتَکْرِیماً لِحُرْمَتِهِ وَتَشْرِیفاً لِوُصْلَتِهِ(3) - وَیَشْتَرِطُ(4) عَلَی الَّذِی یَجْعَلُهُ إِلَیْهِ - أَنْ یَتْرُكَ الْمَالَ عَلَی أُصُولِهِ - وَیُنْفِقَ مِنْ ثَمَرِهِ حَیْثُ أُمِرَ بِهِ وَهُدِیَ لَهُ - وَأَلَّا یَبِیعَ مِنْ أَوْلَادِ نَخِیلِ هَذِهِ الْقُرَی وَدِیَّةً(5) حَتَّی تُشْکِلَ أَرْضُهَا غِرَاساً - وَمَنْ کَانَ مِنْ إِمَائِی اللاتِی أَطُوفُ عَلَیْهِنَّ - لَهَا وَلَدٌ أَوْ هِیَ حَامِلٌ - فَتُمْسَكُ عَلَی وَلَدِهَا وَهِیَ مِنْ حَظِّهِ - فَإِنْ مَاتَ وَلَدُهَا وَهِیَ حَیَّةٌ فَهِیَ عَتِیقَهٌ

ص: 13


1- يولجه: يدخله. والأمنة بالتحريك: الأمن
2- الحدث بالتحريك: الحادث أي الموت وأصدره أجراه کما كان يجري على يد الحسن
3- الوصلة بالضم: الصلة وهي هنا القرابة
4- ضمير الفعل إلى علي أو الحسن. والذي يجعله إليه هو من يتولى المال بعد علي أو الحسن بوصيته. وترك المال على أصوله أن لا يباع منه شئ ولا يقطع منه غرس
5- الودية كهدية: واحدة الودي أي صغار النخل وهو هنا الفسيل. والسر في النهي أن النخلة في صغرها لم يستحکم جذعها في الأرض فقلع فسیلها يضربها

- قَدْ أَفْرَجَ عَنْهَا الرِّقُّ وَحَرَّرَهَا الْعِتْقُ»(1).

وقد أشتمل النص الشريف على شرائط الوقف، والموقوف، والموقوف عليه، والشرائط التي يضعها الواقف، ولكن لا بد اولا من تعريف الوقف في اللغة وعند المتشرعة، وماهية الوقف، وفضله، وهل يشترط به الصيغة والقبول والقربة، هذا ما سنتناوله في الفصل الأول، وهو كالاتي:

ص: 14


1- نهج البلاغة بشرح محمد عبده: ج 3 ص 22 - 23

الفصل الأول : «معنى الوقف وماهيته وفضله وصياغته»

اشارة

ص: 15

ص: 16

المبحث الأول تعريف الوقف في اللغة والشرع

المسألة الأولى: الوقف لغة.

يستعرض أهل اللغة معنی مفردة (الوقف) فترشد کلماتهم إلى معنيين في مفهوم واحد، وهما: المسك والحبس؛ فذهب الفراهيدي (ت 175 ه) إلى أن (الوقف)، هو المسك، فقال:

(الوقف: مصدر قولك: وقفت الدابة ووقفت الكلمة وقفاً، وهذا مجاوز؛ فإذا كان لازماً قلت: وقفت وقوفاً. والوقف: المسك الذي يجعل للأيدي)(1).

وذهب ابن منظور (ت 711 ه): إلى أنها بمعنى: الحبس والمسك ايضاً.

وقال الجوهري (ت 393 ه):

(فكل شيء تُمسك عنه تقول: أوقفت)(2) قال الطرماح:

قَلَّ في شَطِّ نَهروان اغتِماضِي *** ودَعاني هَوى العُيونِ المِراضِ

جامِحاً في غَوايَتي، ثم أَوقَفتُ *** رِضاً بالثُّقَى، ووالبِرِّ راضي)(3).

وهنا (أوقفت) بمعنى: أمسكُ وأقلعتُ.

ص: 17


1- كتاب العين للفراهيدي: ج 5 ص 323
2- الصحاح للجوهري: ج 4 ص 1440 ه
3- لسان العرب لابن منظور: ج 9 ص 358

قال الليث: (الوقف: مصدر قولك: وقَفتُ الدابةَ ووقفت الكلمة وقفاً، وهذا مجاوز فإذا كان لازماً قلت: وقوفاً.

وإذا وقَّفت الرجلَ على كلمة قلت: وقَّفتُه تَوقيفاً.

ووقَف الأَرض على المساكين، وفي الصحاح للمساكين، وقفاً: حبسَها، ووقفتُ الدابةَ والأَرضَ وكلَّ شيء)(1).

المسألة الثانية: معنى الوقف في المذهب الإمامي.

ذهب فقهاء الإمامية (أعلى الله شأنهم) إلى تعريف الوقف ب:

(تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة) وقد نص عليه جمع من الفقهاء، منهم: الشيخ الطوسي(2)، وابن حمزة الطوسي(3)، وابن ادريس الحلي(4)، وقطب الدین البيهقي الكيدري(5)، والمحقق الحلي(6)، ويحيى بن سعيد الحلي(7)، والفاضل الأبي(8)، والعلامة الحلي(9)، وابن العلامة(10)، والشهيد الأول(11) وغيرهم من

ص: 18


1- لسان العرب: ج 9 ص 359
2- المبسوط، کتاب الوقوف والصدقات: ج 3 ص 286
3- الوسيلة، کتاب الوقوف والصدقات: ص 369
4- السرائر، کتاب الايقاعات ج 3 ص 152
5- أصباح الشيعة بمصباح الشريعة: ص 345
6- المختصر النافع، کتاب الوقوف والصدقات: ص 109؛ شرائع الإسلام: ج 2 ص 442
7- الجامع للشرایع: کتاب الوقف: ص 369
8- کشف الرموز: کتاب الوقوف والصدقات: ج 2 ص 44
9- تحرير الأحكام: کتاب الوقف، الفصل الأول: ج 3 ص 289
10- ایضاح الفوائد: ج 2 ص 377
11- الدروس الشرعية: ج 2 ص 263

الفقهاء (رضوان الله تعالى عليهم).

وقد بسط القول في تعريفه الشيخ محمد حسن الجواهري النجفي وذلك في بيان قول المحقق الحلي (عليهما الرحمة والرضوان) فقال:

(الوقف عقد ثمرته تحبيس الأصل وأطلاق المنفعة):

(كما في القواعد، والتنقيح، وإيضاح النافع، والكفاية، على ما حكي عن بعضها. بل: وفي النافع، واللمعة أيضا، لكن ترك ذكر العقد، كما هو المحكي عن المبسوط، وفقه القرآن للراوندي، والوسيلة، والسرائر والجامع، والمهذب البارع، ومجمع البرهان، إلا أنه تبدیل الاطلاق بالتسبیل کما في النبوي:(1)

«حبس الأصل وسبل المنفعة».

إلا أن المتأخرين أبدلوه بالإطلاق، لما قيل: من أنه أظهر في المراد من التسبيل الذي هو إباحتها للجهة الموقوف عليها بحيث يتصرف کیف شاء كغيره من الأملاك، لكن في الصحاح سبّل فلان ضيعته أي جعلها في سبيل الله تعالى، ومن هنا كان التعبير بالتسبيل أولى، بناء على إرادة ذلك من الاطلاق القابل للتحبيس كما هو مقتضى ابداله بذلك في المتن وغيره لأشعاره باعتبار القربة حينئذ وأنه من الصدقات، كما في النهاية ومحكي المراسم أن الوقف والصدقة شيء واحد، ولعله.

لذا: عرفه في الدروس بأنه الصدقة الجارية، بل في المسالك ومحكي التذكرة والمهذب البارع والتنقيح قال العلماء: المراد بالصدقة الجارية الوقف.

ص: 19


1- المستدرك: ج 2 ص 511 لكن فيه «وسبل الثمرة»

وعلى كل حال فقد ذكرنا غير مرة: أن المقصود من أمثال هذه التعاريف التمييز في الجملة، فلا ينبغي نقض تعريف المصنف بالسكنى وأختيها، والحبس، وتعريف الدروس بنذر الصدقة والوصية ولا الجواب عن الأول بإرادة الحبس على الدوام.

وكان الاختلاف في ذكر العقد وعدمه على نحو ما سمعته في البيع ونحوه من أنها اسم للعقود، أو للمعنى الحاصل منها، وإن لم نقل بمشروعية المعاطاة فيه، أو لما تسمعه من الخلاف باعتبار القبول فيه وعدمه، المقتضي للاختلاف في عقد أولا کما ستسمع)(1).

المسألة الثالثة: معنى الوقف في المذاهب الأخرى.

أولا: المذهب الزيدي.

عرّفه إمام الزيدية أحمد المرتضى (ت 840 ه) بقوله:

(حبس مخصوص على وجه مخصوص بنية القربة)(2).

ثانيا: المذهب الشافعي.

عرّفه الشربيني (ت 977 ه):

(حبس مال يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه بقطع التصرف في رقبته على مصرف مباح موجود)(3).

ص: 20


1- جواهر الكلام: ج 28 ص 2 - 3
2- شرح الازهار: ج 3 ص 458
3- الاقناع لابي شجاع الشربيني: ج 2 ص 26

ثالثا: المذهب المالكي.

عرّفه الحطاب الرعيني (ت 954 ه):

(حبس عين لمن يستوفي منافعها على التأبيد)(1).

رابعا: المذهب الحنفي.

عرّفه إمام الحنفية أبو حنيفة النعمان، بقوله:

(حبس العين على مالك الوقف، والتضييق بالمنفعة)(2).

خامسا: المذهب الحنبلي.

عرّفه الشافعي الصغير (ت 1004 ه):

(حبس مال يمكن الانتفاع به، مع بقاء عينه، بقطع التصرف في رقبته على مصرف مباح موجود)(3).

المسألة الرابعة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة.

1- لم يورد فقهاء المذاهب (الشافعي، والزيدي، والمالكي، والحنفي، والحنبلي) التعريف بلفظ (العقد).

وانفرد بذلك الإمامية فقد عرَّفوا الوقف: بكونه (عقد) يحتاج إلى القرية واللفظ والقبول ومن ثم فهو من حيث التقسيم يكون من العبادات لكونه

ص: 21


1- مواهب الجليل: ج 7 ص 626
2- البحر الرائق لابن نجم: ج 5 ص 313
3- نهاية المحتاج: ج 5 ص 358

من الصدقات، ومن المعاملات لكونه من العقود وليس الايقاعات.

2. حصر الوقف بحبس المال وهو ما ذهب إليه فقهاء المذهب (الشافعي والحنبلي).

3. وحصره فقهاء المذهب (المالكي والحنفي) بحبس العين.

4. وكان التعريف مبهماً عند فقهاء الزيدية فلم يتم تحديد الشيء الذي يجري فيه الحبس.

5. کما ذهب إليه المالكي، والشافعي، والحنفي، والحنبلي ب (العين أو المال).

6. وذهب الإمامية إلى قاعدة (تحبيس الأصل) سواء كان مالاً او غيره مما يصح فيه الحبس وتسبيل المنفعة، کما سیمر بیانه في شروط الوقف.

ص: 22

المبحث الثاني ماهية الوقف وفضله

قال أمير الؤمنين الإمام علي (عليه الصلاة والسلام):

«هَذَا مَا أَمَرَ بِهِ عَبْدُاللّهِ عَلِیُّ بْنُ أَبِی طَالِبٍ أَمِیرُ الْمُؤْمِنِینَ - فِی مَالِهِ، ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللّهِ - لِیُولِجَهُ بِهِ الْجَنَّةَ وَیُعْطِیَهُ بِهِ الْأَمَنَةَ: مِنْهَا»(1).

تباينت اقوال فقهاء المذاهب الإسلامية في ذكر ماهية الوقف وفضله واشتراط صيغة الوقف وقبوله في الموقوف عليه، وقصد القربة؛ فمنهم من تعرض لها، ومنهم من اعتمد الاقتصار على بعضها، وهي كالاتي:

المسألة الأولى: ماهية الوقف وفضله في المذهب الإمامي.

تناول السيد محمد کاظم اليزدي (عليه الرحمة والرضوان) ماهية الوقف، وصيغته، وقبوله، وقربته إلى الله تعالى، قبل شروعه في بيان شروطه، فقال في ماهية الوقف:

(الوقف الّذي هو قسم من الصدقات، إذ الصدقة قد تطلق و يراد به الوقف بل والغالب في الأخبار التعبير عن الوقف بالصدقة بل بلفظ الوقف قليل، وقد تطلق على الأعم منه ومن أخواته من التحبيس والسکنی

ص: 23


1- نهج البلاغة، تحقیق صبحي الصالح: ص 379، وصيته بأمواله

والعمرى والرقبي، وقد تطلق على الصدقة المصطلحة الّتي هي التمليك للغير تبرّعاً بقصد القربة، وقد تطلق على الزكاة بقسميها كما في قوله تعالى:

«إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ»(1) إلى آخره.

فالوقف: هو الصدقة الجارية - أي المستمرّة - في مقابل المذكورات، فهو عبارة عن تحبيس الأصل وإطلاق المنفعة، ففي النبويّ (صلى الله عليه وآله): «حبّس الأصل وسبّل الثمرة»(2).

وقد ورد في الأخبار الحث عليه، ففي النبويّ (صلى الله عليه وآله):

«إذا مات المؤمن انقطع عمله إلاّ من ثلاثة: ولد صالح يدعو له، وعلم ينتفع به بعد موته، وصدقة جارية»(3).

وفي خبر هشام بن سالم:

«ليس يتبع الرجل بعد موته من الأجر إلاّ ثلاث خصال: صدقة أجراها في حياته وهي تجري بعد موته، وسنّة هدى سنّها فهي يعمل بها بعد موته، وولد صالح يدعو له».(4)

وقريب منه جملة أُخرى، وفي خبر أبي كهمس:

«ستّة يلحق المؤمن بعد وفاته: ولد يستغفر له، ومصحف يخلفه، وغرس يغرسه، وقليب يحفره، وصدقة يجريها، وسنّة يؤخذ بها من بعده»(5).

ص: 24


1- التوبة: 60
2- عوالي اللآلئ 2: 260، ح 14
3- عوالي اللآلئ 2: 53، ح 139
4- الوسائل 13: 292، الباب 1 من أبواب الوقوف والصدقات، ح 1
5- العروة الوثقی: ج 6 ص 279 - 280

المسألة الثانية: ماهية الوقف في المذاهب الاخرى.

اولا: المذهب الزيدي.

في بيان ماهية الوقف، قال إمام الزيدية أحمد المرتضى (ت 840 ه):

(الأصل في السنّة والإجماع؛ أما السنّة فما روي أنه (صلى الله عليه وآله) قال لعمر حين قال له: إني أصبت مائة سهم وأنا أريد أن أتقرب بها إلى الله تعالى فقال (صلى الله عليه وآله):

«حبس الأصل وسبل الثمرة».

وروي أن أكابر الصحابة وقفوا؛ قال في الانتصار: وقف أمير المؤمنين علي (عليه الصلاة والسلام) و فاطمة (عليها السلام)، وابو بكر وعمر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وطلحة؛ والاجماع ظاهر إلا رواية أنه لا يصح يحكم به حاكم أو يضيفه إلى بعد الموت)(1).

ثانيا: المذهب الشافعي.

في بيان ماهية الوقف قال النووي (ت 676 ه):

(قربة مندون إليها لما روى عبد الله بن عمر أن عمر أتى النبي - (صلی الله عليه وآله) - وكان قد مالك مائة سهم من خيبر، فقال:

«حبس الأصل وسبل الثمرة».)(2)

ص: 25


1- شرح الأزهار: ج 3 ص 458
2- المجموع: ج 1 ص 320

(وهو ما أختص به المسلمون؛ قال الشافعي:

لم يحبس أهل الجاهلية فيما علمته داراً ولا أرضاً تبرراً بحبسها، وانما حبس أهل الإسلام)(1).

ثالثا: المذهب المالكي.

في بيان ماهية الوقف عند فقهاء المذهب المالكي تناول الخطاب الرعيني جملة من اقوال فقهاء المذهب، فقال:

(قال ابن عرفة: الوقف مصدراً إعطاء منفعة شيء مدة وجوده لازماً بقاؤه في ملك معطيه ولو تقديراً؛ فتخرج عطية الذوات والعارية والعمري والعبد المخدم حياته يموت قبل موت ربه لعدم لزوم بقائه في ملك معطيه الجواز بيعه برضاه مع معطاه.

وقول ابن عبد السلام إعطاء منافع على سبيل التأبيد يبطل طرده بالمخدم حياته. ولا يرد بأن جواز بيعه ممنوع اندراجه تحت التأبيد لان التأبيد إنما هو في الاعطاء وهو صادق على المخدم المذكور لا في لزوم بقائه في ملك معطيه. وهو اسما ما أعطيت منفعته مدة إلى آخره.

وصرح الباجي ببقاء ملك المحبس على محبسه وهو لازم تزكية حوائط الأحباس على ملك محبسها. وقول اللخمي آخر الشفعة الحبس يسقط ملك المحبس غلط انتهى. ويخرج من حد ابن عرفة الحبس غير المؤبد، وقد صرح بجوازه ابن الحاجب والمصنف ثم قال ابن عرفة: وهو مندوب إليه لأنه من

ص: 26


1- مواهب الجليل للحطاب الرعيني: ج 7 ص 627

الصدقة ويتعذر عروض وجوبه بخلاف الصدقة انتهى.

وقال في المقدمات: والأحباس سنة قائمة عمل بها رسول الله (صلى الله عليه وآله) والمسلمون من بعده انتهى. وقال في اللباب: حكمه الجواز خلافا لأبي حنيفة)(1).

رابعا: المذهب الحنفي.

في ماهية الوقف في المذهب الحنفي قال ابن نجم المصري (ت 970 ه):

(مناسبته للشركة باعتبار أن المقصود بكل منهما الانتفاع بما يزيد على أصل المال)(2).

خامسا: المذهب الحنبلي.

في بيان ماهية الوقف وأصل تشریعه عند فقهاء المذهب الحنبلي قال الشافعي الصغير (ت 1004 ه):

والأصل فيه قوله تعالى:

«لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ».

ولما سمعها أبو طالحة بادر إلى وقف أحب أمواله بيرحا حديقة مشهورة وقوله: «وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ».

وخبر مسلم «إذا مات المسلم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له».

ص: 27


1- مواهب الجليل: ج 7 ص 626
2- البحر الرائق: ج 5 ص 313

وحمل العلماء الصدقة الجارية على الوقف دون نحو الوصية بالمنافع المباحة لندرتها ووقف عمر أرضا أصابها بخيبر بأمره (صلى الله عليه وآله) وشرط فيها شروطا منها أنه لا يباع أصلها ولا يورث ولا يوهب وأن من وليها يأكل منها بالمعروف أو يطعم صديقا غير متمول فيه رواه الشيخان وهو أول وقف وقف في الإسلام وقيل بل وقفه (صلى الله عليه وآله) أموال مخیريق التي أوصى بها له في السنة الثالثة وجاء عن جابر ما بقي أحد من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) له مقدرة حتى وقف)(1).

المسألة الثالثة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة.

1- ذهب فقهاء الإمامية (اعلى الله شأنهم) إلى أن ماهية الوقف هو: (الصدقة) إذ الغالب في الأخبار الواردة عن أئمة العترة النبوية (عليهم الصلاة والسلام) التعبير عن الوقف بلفظ: (الصدقة).

فالوقف: هو الصدقة الجارية، اي المستمرة في مقابل المذكورات ومن التحبيس، والسكن والعمري، والرقبی، والتمليك للغير تبرعا بقصد القرية؛ وغيرها.

فالوقف: عبارة عن تجيس الأصل واطلاق المنفعة.

2- وذهب فقهاء المذاهب الإسلامية إلى أن ماهية الوقف: هو التحبيس واطلاق المنفعة، وقد اعتمدوا في ذلك على الحديث النبوي (صلى الله عليه وآله) لابن الخطاب: «حبس الأصل وسبل الثمرة».

ص: 28


1- نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج: ج 5 ص 358 - 359

المبحث الثالث في اشتراط الصيغة والقبول والقربة

في اشتراط الصيغة والقبول والقربة تفاوتت اقوال فقهاء المذاهب الإسلامية بين التعرض لها، وهو ما جاء في مصنفات: الإمامية، والزيدية، والشافعية، وبين الأعراض عنها، كما في المذهب المالكي، والحنفي، والحنبلي، فكانت اقوالهم في بيان الصيغة الشرعية للوقف فقط، دون ذكر شرط القبول، والقربة، وهي كالاتي:

المسألة الأولى: المذهب الإمامي.

أولا: في اشتراط الصيغة.

تناول مسألة أشتراط الصيغة السيد محمد کاظم اليزدي (عليه الرحمة والرضوان) في مقدمة كتاب الوقف، وقد بيّن أن اشتراط الصيغة في الوقف ظاهره الاجماع عند علماء الطائفة، وأن صحة الوقف متوقف عليها، وان لفظ (وقفت) تتحقق به الكفاية.

واما الالفاظ الأخرى، مثل: تَصدّقتُ، وحَبستُ، وسَبّلتُ، وأبدّتُ، فالأقوى كفايتها مع ضميمة القرائن، كما في سائر العقود، فقال (رحمه الله):

(ظاهر العلماء الإجماع على اشتراط الصيغة في الوقف، وأنّه بدونها غير صحيح، وأطالوا الكلام في كفاية ماعدا لفظ وقفت - مثل تصدّقت،

ص: 29

وحبّست، وسبّلت، وأبّدت، ونحوها - وعدم کفایتها.

والأقوى كفاية كلّ ما يدلّ على المعنى المذكور ولو بضميمة القرائن کما في سائر العقود، إذ لا دليل على اعتبار لفظ مخصوص في المقام. ولا يعتبر العربيّة ولا الماضويّة، بل يكفي الجملة الاسميّة كقوله: هذا وقف. كما يدلّ عليه قول أمير المؤمنين (عليه السلام) - لمّا جاءه البشير بخروج عين ينبع:

«هي صدقة بتّاً بتلا في حجيج بیت الله، وعابري سبيل الله، لا تباع ولا توهب ولا تورث».(1)

وفي الحدائق: الأحوط التعبير بوقفت، أو تصدّقت، لذكرهما في الأخبار دون غيرهما من الألفاظ(2) مع أن لفظ التحبيس أيضاً موجود في النبوي (صلى الله عليه وآله).

ومقتضى ما ذكروه من اشتراط الصيغة عدم كفاية المعاطاة مثل ما إذا بنی مسجداً وأذن في الصلاة فيه مثلا، فإنّه کما صرّح به بعضهم(3) لا يصير وقفاً ولا يخرج عن ملکه، وكذا في نحوه. نعم حكي عن ابن إدريس والشهيد في الذكرى(4) كفاية ذلك في المسجد ولو لم يجر الصيغة، لأنّ معظم المساجد في الإسلام على هذه الصورة، وهذا هو الأقوى.

بل: الأقوى ذلك في غير المسجد مثل بناء القناطر والحانات للمسافرين

ص: 30


1- الوسائل 13: 303، الباب 6 من أبواب الوقوف والصدقات، ح 2
2- الحدائق 22: 129 - 130
3- كالشيخ في المبسوط 3: 300، والعلّامة في القواعد 2: 388، والشهيد الثاني في المسالك 5: 374
4- السرائر 1: 280، الذكرى 3: 133

وغرس الأشجار لانتفاع الناس بثمرها أو بالاستظلال بها وجعل الأرض مقبرة ونحوها، بل ومثل البواري والحصير للمساجد. وكذا تعمير المساجد الخربة بالنسبة إلى الآلات المعمولة فيها، فإنّ السيرة على عدم إجراء صيغة الوقف فيها.

ودعوى: كونها من باب الإباحة، مدفوعة بأنّ اللازم حينئذ عدم جواز التصرّف بعد موته للانتقال إلى وارثه. وما قد يدّعى: من أنّ جعل الحصير للمسجد من باب تمليك المسجد وليس وقفاً.

وقد ذكر العلّامة في التذكرة: أنّه لو قال: جعلت هذا للمسجد، فهذا تمليك لا وقف وأنّه من باب الهبة ويحتاج إلى قبول الناظر وقبضه لا يجري في غير الحصر والبواري من المذكورات(1) مع أنّه غير تامّ في نفسه أيضاً من حيث إنّ السيرة على عدم القبول والقبض فيها من الناظر، وأيضاً لازمه جواز أن يملك المسجد ونحوه داراً أو عقاراً بنحو الهبة، وهو مشكل، فالأقوى أنّ الجميع من باب الوقف المعاطاتي)(2).

ثانيا: في اشتراط القبول.

وفي هذا المطلب بينَّ (قدس سره) أن علماء المذهب (عليهم الرحمة والرضوان) اختلفوا في اشتراط القبول في الوقف على أقوال ثلاثة، أقواها عدم الاشتراط، وأحوطها القبول مطلقاً.

فقال في المسألة الثانية من المقدمة:

ص: 31


1- التذكرة 2: 427 س 43
2- العروة الوثقى: ج 6 ص 280

(اختلفوا في اشتراط القبول في الوقف على أقوال، ثالثها التفصيل بين الاوقاف الخاصة والعامة مثل الوقف على الفقراء أو الفقهاء ونحوها، والأقوى عدم الاشتراط وإن كان الأحوط التفصيل، وأحوط منه القبول مطلقاً، وذلك للأصل بعد شمول العمومات.

ودعوى: معلومیّة عدم دخول عين أو منفعة في ملك الغير بسبب اختياري ابتداءً من غير قبول، کما تری، مصادرة، مع أنّه لا فرق بين الطبقة السابقة واللاحقة في ذلك، مع أنّه لا إشكال في عدم اعتبار قبول اللاحقة، وخلوّ الأخبار المشتملة على أوقاف الأئمّة (عليهم السلام) عن ذكر القبول، فإنّها دالّة على عدم اعتباره سواء جعلنا ما ذكر فيها صيغة للوقف أو بياناً لأحكامه، ثمّ على القول باعتبار القبول يكفي قبول الناظر أو الحاكم الشرعي في الأوقاف العامّة، وأما مثل الوقف على الأولاد فاللازم فيه قبولهم، وإن كانوا صغاراً فقبول وليّهم أو وكيله)(1).

ثالثا: في اشتراط القربة في صحة الوقف.

في اشتراط القربة ذهب علماء الإمامية (أعلى الله شأنهم) إلى قولين وهما (مشهور، واقوی)، فالأول: يشترط القربة، والآخر، أي الاقوى: عدم الاشتراط، وذلك للإطلاقات في الروايات، ولصحة الوقف من الكافر واطلاق الصدقة عليه.

قال السيد اليزدي (عليه الرحمة والرضوان) في المسألة الثالثة من مقدمة کتاب الوقف:

ص: 32


1- العروة الوثقی: ج 6 ص 281 - 282

(المشهور اشتراط القربة في صحّة الوقف، والأقوى وفاقاً لجماعة عدم اشتراطه، للإطلاقات، ولصحّته من الكافر، وإطلاق الصدقة عليه إنّما هو باعتبار الأفراد التي يقصد فيه القربة ولا يلزم أن يكون جميع أفراده كذلك.

نعم: ترتّب الثواب موقوف على قصد القرية، مع أنّه يمكن أن يقال بترتّبه على الأفعال الحسنة وإن لم يقصد بها وجه الله، فإنّ الفاعل لها يستحقّ المدح عند العقلاء وإن لم يقصد بفعله التقرّب إلى الله، فلا يبعد أن يستحقّ من الله تعالى التفضّل عليه بالثواب، ويؤيّده ما في الأخبار المرغّبة من انتفاع الميّت بولده الصالح، مع أنّه لم يقصد القربة في طلبه وإنّما قصد لذّة النفس بالمقاربة أو بتحصيل الأولاد)(1).

المسألة الثانية: أشتراط الصيغة والقبول والقربة في المذاهب الأخرى.

أولا: المذهب الزيدي.

1. صيغة الوقف.

في صيغة الوقف ولفظه ذهب فقهاء الزيدية إلى ثلاثة صيغ للوقف، وهي: (صريحاً، وكناية، ومختلف) ففي اللفظ الصريح: وقفتُ و حبَستُ، وسبّلت، وأبدتُ؛ وفي الكناية: تصدقتُ، وفي اللفظ المختلف: جَعلتُ وهو صريح في النذر وكناية في الوقف.

قال إمام الزيدية أحمد المرتضى (ت 840 ه):

(في ألفاظه على ثلاثة أضرب: صریح قولا واحدا وهي وقفت و حبست

ص: 33


1- العروة الوثقی: ج 6 ص 282

وسبّلت وأبّدت.

وكناية قولا واحدا وهي تصدقت.

ومختلف فيه وهي حرّمت: ففيه قولان أحدهما أنه صريح والآخر أنه ليس بصريح قال أبو (ط) يجب أن يكون مذهبنا مثل ما قاله (أصش) في الصريح منها والمحتمل وعند (م) بالله ان لفظت جعلت صريح في النذر وكناية في الوقف.

قال أبو مضر لكن هذا إذا لم يكن العرف قائما فاما في العرف الآن فقد صار صريحا في الوقف في ديارنا هذه قال ولكن يختلف ذلك باختلاف الإضافة فان أضاف جعلت إلى المساجد والمشاهد والفقراء ونحوها فإنه يراد به الوقف لأجل العرف وإن أضاف إلى رجل معين فقيرا كان أو غنيا فإنه يكون نذرا ويجوز بيعه لان العرف هاهنا للنذر أظهر من الوقف إلا أن يكون عرف البلد غير هذا ودلالة الحال فإنه يكون على ما عليه لعرف ودلالة الحال)(1).

2- في اشتراط القربة.

ذهب فقهاء الزيدية إلى اشتراط القربة في صحة الوقف ووجوب النطق بها نحو ان يقول: جعلت هذا الله ويلفظ مع الكناية، وأما مع الصريح فلا يحتاج إلى النطق بل القصد كاف.

قال أحمد المرتضى:

(وسواء كان اللفظ - في الوقف - صريحاً أم كناية فلا بد مع لفظ الوقف

ص: 34


1- شرح الأزهار: ج 3 ص 462 - 463

من قصد القربة فيما، وان لم يقصد القربة لم يصح الوقف وإذا كان لا بد قصد القربة وجب أن (ينطق بها نحو أن يقول جعلت هذا الله تعالى أو ينطق (بما يدل عليها نحو أن يقول جعلت هذا للمساجد أو للفقراء أو للعلماء أو صدقة محرمة أو نحو ذلك وإنما يجب أن ينطق بها أو بما يدل عليها (مع الكناية) وأما مع الصريح فلا يحتاج إلى النطق بل القصد كاف نحو أن يقول وقفت أرض كذا أو سبلت أرض كذا فإن ذلك كاف مع قصد القربة)(1).

ثانيا: المذهب الشافعي.

1. صيغة الوقف.

ذهب فقهاء الشافعية في صيفة الوقف إلى ثلاثة مراتب، الأولى: اللفظ الصريح: كوقفت أو حبست أو سبّلت.

والثاني: كناية، كقوله: حرّمت أو أبدت.

والثالثة: بحبس ما يقرن باللفظ، كقوله: صدقة لاتباع ولا توهب، فقد التحق بالفظ الصريح.

قال النووي، (ت 676 ه):

(وألفاظ الوقف على مراتب. إحداها: قوله: وقفت كذا، أو حبست، أو سبلت، أو أرضي موقوفة، أو محبسة، أو مسبلة، فكل لفظ من هذا صريح، هذا هو الصحيح الذي قطع به الجمهور. وفي وجه: كل هذا كناية، وفي وجه: الوقف صريح، والباقي كناية، وفي وجه: التسبیل کناية والباقي صريح.

ص: 35


1- شرح الأزهار: جص 463 - 464

الثانية: قوله: حرمت هذه البقعة للمساكين أو أبدتها، أو داري محرمة أو مؤبدة، كناية على المذهب، لأنها لا تستعمل إلا مؤكدة للأولى.

الثالثة: تصدقت بهذه البقعة، ليس بصريح، فان زاد معه شيئا، فالزيادة لفظ أو نية، فأما اللفظ، ففيه أوجه. أصحها: إن قرن به بعض الألفاظ السابقة، بأن قال: صدقة محرمة، أو محبسة، أو موقوفة، أو قرن به حکم الوقف فقال: صدقة ولا تباع ولا توهب، التحق بالصریح، لانصرافه بهذا عن التمليك المحض)(1).

2. في اشتراط القبول.

ذهب الشافعية إلى اشتراط القبول في الوقف على شخص أو جماعة معينين وهو المعتمد عند إمام المذهب الشافعي وآخرين، في حين ذهب البعض الآخر إلى عدم الاشتراط.

(إذا كان الوقف على جهة كالفقراء، وعلى المسجد إذا كان الوقف على جهة، كالفقراء، وعلى المسجد والرباط، لم يشترط القبول. ولو قال: جعلت هذا للمسجد، فهو تمليك لا وقف، فيشترط قبول القي و قبضه کما لو وهب شيئا لصبي. وإن كان الوقف على شخص أو جماعة معينين، فوجهان. أصحهما عند الامام وآخرين: اشتراط القبول.

فعلى هذا، فليكن متصلا بالإيجاب كما في البيع والهبة. والثاني: لا يشترط کالعتق، وبه قطع البغوي والروياني. قال الروياني: لا يحتاج لزوم الوقف إلى القبول، لكن لا يملك عليه إلا بالاختيار، ويكفي الاخذ دليلا على الاختيار.

ص: 36


1- روضة الطالبيين: ج 4 ص 388

وخص المتولي الوجهين بقولنا: ينتقل الملك في الموقوف إلى الموقوف عليه، وإلا، فلا يشترط قطعا)(1).

ثالثا: المذهب المالكي.

ذهب المالكية في صيغة الوقف إلى اللفظ الصريح ب (حبست ووقفت أو تصدقت إن قارنه قيد أو جهة لا تنقطع أو لمجهول وإن حصر) وأن لفظ (وقفت) يفيد التأبيد وهو أصرح الألفاظ، وقيل أن لفظ (حبست) لا يختلف من حيث الدلالة في التأبيد عن لفظ (وقفت).

وذهب اخرون إلى احتياجه إلى ضميمة؛ وأما لفظ (الصدقة) فلا يفيد التأبيد إلا إذا قرانه قيد كقوله: لا يباع ولا يوهب. أو جهة لا تنقطع كصدقة على الفقراء والمساكين.

قال الحطاب الرعيني (ت 954 ه) في بيان صيغة الوقف:

ب (حبست، ووقفت أو تصدقت إن قرانه قيد أو جهة لا تنقطع أو لمجهول وأن حصر) فقال في شرح العبارة:

(هذا هو الركن الرابع وهو الصيغة. قال ابن الحاجب: أو ما يقوم مقامها ثم بين ما يقوم مقامها بقوله: ولو أن في الصلاة مطلقا ولم يخص شخصا ولا زمانا فكالصريح انتهى. وقوله: فلو أذن في الصلاة مطلقا أي أذانا مطلقا أو في الصلاة مطلقا ولم يخص به فرضا ولا نفلا.

وقال في المسائل الملقوطة: ولو بنى مسجدا وأذن في الصلاة فيه فذلك

ص: 37


1- روضة الطالبيين: ج 4 ص 389

كالصريح لأنه وقف وإن لم يخص زمانا ولا شخصا ولا قيد الصلاة فيه بفرض ولا نفل فلا يحتاج إلى شيء من ذلك ويحكم بوقفيته انتهی.

وذكره والده في الباب السبعين من تبصرته ثم ذكر اللفظ ثم قال: ولفظ وقفت يفيد التأبيد. وقال ابن عبد السلام: يعني أنها أصرح ألفاظ الفصل ولأنها دالة على التأبيد بغير ضميمة. وعزاه في التوضيح لعبد الوهاب وغيره من العراقيين قال: وقال صاحب المقدمات وان زرقون: لفظ الوقف والحبس سواء ويدخل في لفظ وقفت من الخلاف ما يدخل في حبست انتهى.

وهذا الثاني هو الذي مشى عليه المصنف خلافا لابن الحاجب لأنه قدم لفظ الحبس على لفظ الوقف، ولا بد أن يكون الشرط راجعا إلى الألفاظ الثلاثة. ثم قال ابن الحاجب: وحبست وتصدقت إن اقترن به ما يدل على التأبيد من قيد أو جهة لا تنقطع تأبد وإلا فروايتان.

قال ابن عبد السلام: يعني أن لفظتي حبست وتصدقت لا يدلان على التأبيد بمجردهما بل لا بد مع ذلك من ضميمة قيد في كلام كقوله حبس لا يباع ولا يوهب وشبه ذلك من الألفاظ، أو الجمع بين اللفظتين معا كما وقع في بعض الروايات إذا قال حبسا صدقة أو ذكر لفظ التأبيد أو ضميمة جهة في الحبس لا تنقطع.

ومراده عدم انحصار من يصرف إليه الحبس بأشخاص معينين كقوله: حبس على المساكين أو على المجاهدين أو طلبة العلم فإن انعدمت هذه القيود والجهات وشبهها ففي التأبيد حينئذ روایتان، وظاهر كلام المؤلف أنه لا يختلف في التأبيد إذا وجدت هذه القيود أو الجهات وذلك قريب مما قال في

ص: 38

المدونة إذا قال حبس صدقة أو حبس لا يباع ولا يوهب.

أن قول مالك لم يختلف في هذا أنه صدقة محرمة ترجع بمراجع الأحباس ولا ترجع إلى المحبس ملكا. ومع ذلك فابن عبد الحكم حكي عن مالك أنها ترجع إليه ملكا بعد موت المحبس عليه وإن قال حبس صدقة. وكذا قال ابن وهب إنها ترجع ملكا إذا حبس على معينين، ولو قال لا يباع ولا يوهب. نعم يعز وجود الخلاف بل ينتفي إذا اقترن به شيء من الجهات غير المحصورة، والمرجع في ذلك كله إلى مدلول العرف انتهى.

والذي يتحصل من كلامه في التوضيح أن الراجح من المذهب إن وقفت وحبست يفيدان التأبيد سواء أطلقا أو قيدا بجهة لا تنحصر أو على معينين أو غير ذلك إلا في الصورة الآتية وهي ما إذا قال وقف أو حبس على فلان المعين حياته أو على جماعة معينين حياتهم وقيد ذلك بقوله: حياتهم فإنه يرجع بعد موتهم ملكا للواقف إن كان حيا أو لورثته إن كان ميتا.

وكذلك إذا ضرب لذلك أجلا فقال حبس عشر سنين أو خمسا أو نحو ذلك كما نص عليه اللخمي والمتيطي قالا: ولا خلاف في هذين الوجهين أي إذا ضرب للوقف أجلا أو قيده بحياة شخص. وأما لفظ الصدقة فلا يفيد التأبيد إلا إذا قارنه قيد كقوله: لا يباع ولا يوهب أو جهة لا تنقطع كصدقة على الفقراء والمساكين وطلبة العلم والمجاهدين يسكنونها أو يستغلونها أو على مجهول ولو كان محصورا کعلى فلان وعقبه، وغير المحصور کعلى أهل المدرسة الفلانية أو الرباط الفلاني، فإن تجرد عن ذلك فلا يفيد الوقف، فإن كان على معين كقوله صدقة على فلان فهي له ملك، وإن كان الغير معين كالفقراء

ص: 39

فالناظر يصرف ثمنها باجتهاده على المساكين يوم الحكم ولا يلزم التعميم.

قال في المقدمات: وللتحبيس ثلاثة ألفاظ: حبس ووقف وصدقة. ثم قال: وأما الصدقة فإن تصدق بذلك على معينين ولا محصورين مثل أن يقول هذه الدار صدقة على فلان فهذا لا اختلاف فيه أنها لفلان ملك يبيعها ويهبها وتورث عنه.

وإن تصدق بها على غير معينين ولا محصورين مثل أن يقول هذه الدار صدقة على المساكين أو في السبيل أو على بني زهرة أو بني تميم، فإنها تباع ويتصدق على المساكين على قدر الاجتهاد إلا أن يقول صدقة على المساكين يسكنونها أو يستغلونها فتكون حبسا على المساكين للسكنى والاغتلال ولا تباع، وإن تصدق بذلك على غير معينين إلا أنهم محصورون مثل أن يقول داري صدقة على فلان وعقبه، هل ترجع بعد انقراض العقب مرجع الأحباس على أقرب الناس بالمحبس أو تكون لآخر العقب ملكا مطلقا على قولين.

روى أشهب عن مالك أنها تكون لآخر العقب ملكا مطلقا، وحكى ابن عبدوس أنها ترجع مرجع الأحباس وهو قول مالك وبعض رجاله في المدونة. وقد قيل في المسألة قول ثالث: إن ذلك إعمار وترجع بعد انقراض العقب إلى المصدق ملكا)(1).

رابعا: المذهب الحنفي.

أختلف فقهاء المذهب الحنفي في أصل جواز الوقف فسرى ذلك إلى

ص: 40


1- مواهب الجليل: ج 7 ص 640 - 642

الصيغة، فقد قال إمام المذهب: بعدم الجواز وتبعه في ذلك أبو يوسف إلى وقت دخوله المدينة ومكة حاجة فرأى أوقاف الصحابة فعاد وعدل عن رأي ابي حنيفة(1).

واختلفوا: في دلالة الحبس ومقتضى بقاء المحبوس في ملك الحابس أو خروجه عن ملکه.

فقال السرخسي (ت 483 ه):

(ليس من ضرورة الحبس عن الدخول في ملك الغير أمتناع خروجه عن ملکه)(2).

وانكروا الصيغ الاتية في الوقف، وهي:

(تصدقت بارضي هذه على الفقراء والمساكين، أو وقفت أرضي هذه أو حبستها، أو حرمتها أو هي موقوفة أو محبوسة أو محرمة) فهذا باطل عندهم وقد اتفقوا عليه.

وقالوا: ببطلان لفظ القائل لإنسان آخر: (وقفتها لك أو حبستها لك أو قال هي لك وقف أو حبس) وخالفهم في ذلك أبو يوسف، فانه يقول: يكون تملكيا منه يتم بالتسليم إليه بقوله: لك ولا يصح عندهم الا من قال: (داري أو أرضي هي صدقة موقوفة على الفقراء والمساكين؛ أخرجها من يده إلى يد قيم يقوم بها وينفق عليها في حرمتها واصلاح مجاريها يزرعها ويرفع من غلتها ما يحتاج إليه لنوائبها ويقسم الباقي بعد ذلك في كل سنة على

ص: 41


1- المبسوط للسرخسي: ج 12 ص 28
2- المبسوط: ج 12 ص 29

الفقراء والمساكين فهذه صدقة جائزة وليس له أن يرجع فيها لإستجماع شرائط الوقف على قول من يقول بلزوم الوقف من القسمة والتسليم واخراج الأصل عن ملكة والتأبيد في جهة صرف الغلة ما بقيت الدنيا)(1).

وذهب ابن عابدين إلى اشتراط القربة في وقف المسلم دون الذمي(2).

قال السرخسي (ت 483 ه):

(ثم لا خلاف أنه لو قال تصدقت بأرضى هذه على الفقراء والمساكين انه لا يكون وقفا بل یکون ذلك نذرا بالصدقة إذا قصد به الالزام فان عين إنسانا فهو تصدق عليه بطريق التمليك ولا يتم الا بالتسليم ولو قال وقفت أرضى هذه أو حبستها أو حرمتها أو هي موقوفة أو محبوسة أو محرمة فهذا باطل بالاتفاق.

لان كلامه يحتمل فعل مراده و قفتها على ملكي لتكون مصروفة في حاجتي أو على قضاء ديوني فان قال لإنسان بعينه وقفتها لك أو حبستها لك أو قال هي لك وقف أو حبس فهو باطل أيضا الا على قول أبي يوسف فإنه يقول یکون تملیکا منه يتم بالتسليم إليه بقوله لك.

وقول وقف أو حبس باطل. ووجه ظاهر الرواية أن قوله وقف أو حبس تفسير لقوله لك فيمنع ذلك تمليك الغير منه والكلام المبهم إذا اقترن به تفسیر كان الحكم لذلك التفسير كقوله داري لك سکنی تکون عارية فان قال هي صدقة موقوفة على الفقراء والمساكين أخرجها من يده إلى يد

ص: 42


1- المبسوط للسرخسي: ج 12 ص 32
2- حشاية رد المختار: ج 4 ص 536

قيم يقوم بها وينفق عليها في مرمتها واصلاح مجاريها ويزرعها ويرفع من غلتها ما يحتاج إليه لنوائبها ويقسم الباقي بعد ذلك في كل سنة على الفقراء والمساكين فهذه صدقة جائزة.

وليس له أن يرجع فيها لاستجماع شرائط الوقف على قول من يقول بلزوم الوقف من القسمة والتسليم واخراج الأصل عن ملكه والتأييد في جهة صرف الغلة ما بقيت الدنيا وإنما يبدأ من غلتها بمرمتها واصلاح مجاريها لأنها لا تبقى منتفعا بها الا بعد ذلك ومقصود الواقف أن تكون الصدقة جارية له إلى يوم القيامة كما قال عليه الصلاة والسلام كل عمل ابن آدم ينقطع بموته الا ثلاثة علم علمه الناس فهم يعملون به بعد موته وولد صالح يدعو له وصدقة جارية له إلى يوم القيامة.

وفي بعض الروايات قال: الا سبعا وذكر من جملة ذلك نهرا أكراه و خانا بناه ومصحفا سبله وإنا يرفع من غلتها ما يحتاج إليه لنوائبها لأنه لا يتمكن من الزراعة الا بذلك ولان الغلة لا تطيب من الأراضي الخراجية الا بأداء الخراج وإنما قصد الواقف أن يكون التصدق عنه بأطيب المال وذلك عند أداء النوائب.

فلهذا يرفع الوالي من غلتها ما يحتاج إليه لنوائبها ويقسم الباقي بعد ذلك في كل سنة وليس هذا بتوقيت لازم ولكن يقسم عند حصول الغلة ومن الأراضي ما يغل في السنة مرتين ومنها ما يغل في السنة مرة فكما حصلت الغلة ينبغي له أن يقسم ما يحصل من النوائب في الفقراء والمساكين ولا يؤخر لما في التأخير من الآفات وفي التعجيل من القرية تحصيل مقصود الواقف)(1)

ص: 43


1- المبسوط للسرخسي: ج 12 ص 32

خامسا: المذهب الحنبلي.

ذهب فقهاء المذهب الحنبلي إلى أن ألفاظ الوقف تنقسم إلى قسمين: صريحة وكناية. وفي كل قسم وردت ثلاثة الفاظ، فالصريح: (وقفت، وحبست، وسبّلت).

وأما الكناية فهي: (تصدقت، وحرمت، وأبدت) وذلك ان لفظ الصدقة والتحريم مشتركة، والتأبيد يحتمل التحريم والوقف؛ ولذا تحتاج إلى ضميمة، أو قرينة دالة عليه.

قال ابن قدامة المقدسي (ت 620 ه):

(وألفاظ الوقف ستة ثلاثة صريحة وثلاثة كناية: فالصريحة وقفت وحبست وسبلت متی أتی بواحدة من هذه الثلاث صار وقفا من غير انضمام أمر زائد لأن هذه الألفاظ ثبت لها عرف الاستعمال بين الناس وانضم إلى ذلك عرف الشرع بقول النبي (صلى الله عليه وآله) لعمر

«إن شئت حبست أصلها وسبلت ثمرتها». فصارت هذه الألفاظ في الوقف كلفظ التطليق في الطلاق.

وأما الكناية فهي: تصدقت و حرمت وأبدت فليست صريحة لأن لفظة الصدقة والتحريم مشتركة فإن الصدقة تستعمل في الزكاة والهبات، والتحريم يستعمل في الظهار والایمان ویکون تحريما على نفسه وعلى غيره والتأييد يحتمل تأييد التحريم وتأييد الوقف ولم يثبت هذه الألفاظ عرف الاستعمال فلا يحصل الوقف بمجردها ککنایات الطلاق فيه فإن انضم إليها أحد ثلاثة أشياء حصل الوقف بها أحدها أن ينضم إليها لفظة أخرى تخلصها من

ص: 44

الألفاظ الخمسة فيقول صدقة موقوفة أو محبسة أو مسبلة أو محرمة أو مؤبدة أو يقول هذه محرمة موقوفة أو محبسة أو مسبلة أو مؤبدة.

(الثاني): أن يصفها بصفات الوقف فيقول صدقة لاتباع ولا توهب ولا تورث لأن هذه القرينة تزيل الاشتراك.

(الثالث): أن ينوي الوقف فيكون على ما نوى الا أن النية تجعله وقفا في الباطن دون الظاهر لعدم الاطلاع على ما في الضمائر فإن اعترف بما نواه لزم في الحكم لظهوره وان قال ما أردت الوقف فالقول قوله لأنه أعلم بما نوی.

(فصل): وظاهر مذهب أحمد ان الوقف يحصل بالفعل مع القرائن الدالة عليه مثل أن يبني مسجدا ويأذن للناس في الصلاة فيه أو مقبرة ويأذن في الدفن فيها أو سقاية ويأذن في دخولها)(1).

المسألة الثالثة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة.

أولا: في صيغة الوقف.

1- أنفرد الإمامية باشتراط الصيغة في الوقف، وأنه بدونها غير صحيح.

2- قال الإمامية بتحقق الكفاية بلفظ: (وقَفتُ)؛ وان لفظ (حَبَستُ وسبّلتُ وَتَصدّقتُ وأَبَدتُ) فالأقوى: كفايتها بوجود الضميمة.

3- ذهب الزيدية والشافعية إلى القول: بأن صيغة الوقف على ثلاثة مراتب (صريحة، وكناية، وبين الاثنين، وهو ما يحتاج إلى قرينة).

فاللفظ الصريح عند الزيدية: (وقَفتُ، و حَبَستُ، وسَبّلتُ، وأَبَدتُ)،

ص: 45


1- المغني: ج 6 ص 190 - 191

وفي الكناية: (تَصَدَقتُ) وفي المختلف: (جَعَلتُ).

4- واللفظ الصريح عند الشافعية: (وقفت، و حَبَستُ، وسبّلتُ) والكناية: حرّمتُ، وأبَدتُ) والثالثة: بحسب ما يقرن باللفظ.

5. وقال الحنابلة: بانقسام الصيغة إلى صريحة، وكناية، وتفرع كل منها إلى ثلاثة صيغ.

6. ويرى المالكية: أن لفظ (وَقَفتُ) يفيد التأبيد وهو أصرح الالفاظ، واختلفوا في لفظ (حَبَستُ) هل يفيد التأبيد بدون ضميمة، فقال بعضهم:

انه لا يختلف من حيث الدلالة في التأبيد عن لفظ (وَقَفتُ)، وقال آخرون: باحتياجه للضميمة.

أما لفظ (الصدقة) فلا يفيد التأبيد إلا إذا قارنه قيد كقوله (لا يباع ولا یوهب) أو جهة لا تنقطع كصدقة على الفقراء والمساكين.

7- انفرد الحنفية عن بقية المذاهب، واختلفوا فيما بينهم في أصل جواز الوقف فسرى ذلك إلى الصيغة، فقد قال إمام المذهب: بعدم الجواز، وتبعه في ذلك أبو يوسف، ثم عدَل عن ذلك وقال: بالجواز بعد أن رأى أوقاف الصحابة في المدينة.

ولم يثبت عنده من الألفاظ في صحة الوقف إلا: (داري أو أرضي: هي صدقة موقوفة على الفقراء والمساكين).

أما لفظ: (تَصَدَقتُ، وأَوقَفتُ) أو (أَوقَفتُ أرضي هذه أو حَبَستُها، أو حَرّمتُها، أو هي موقوفة، أو محبوسة، أو محرمة) فهي ألفاظ غير صحيحة و باطلة، وقد أتفقوا على ذلك.

ص: 46

ثانيا: في اشتراط القبول.

1- أنفرد المذهب الإمامي، والشافعي، بمدخيلة القبول في صحة الوقف عن بقية المذاهب الاخرى.

2. أختلف الامامية في اشتراط القبول إلى ثلاثة أقوال، وهي (الاشتراط، وعدم الاشتراط، والتفصيل بين الاوقاف الخاصة والعامة: مثل الوقف على الفقراء أو الفقهاء ونحوها).

وخلصوا الى: أن الاقوى عدم الاشتراط، والأحوط التفصيل، وأحوط من التفصيل: القبول مطلقاً.

3- وذهب إمام الشافعية، وتبعه آخرون الى: اشتراط الوقف على شخص أو جماعة معينين؛ وقال غيرهم من فقهاء المذهب: بعدم الاشتراط.

ثالثا: في اشتراط القربة.

1- قال الإمامية والزيدية، والحنفية: بمدخلية القربة في صحة الوقف.

2- ذهب الإمامية الى: أن القول المشهور بين فقهاء المذهب اشتراط القربة في صحة الوقف، والاقوى وفقاً لجماعة من الفقهاء: عدم الاشتراط.

3- یری فقهاء الزيدية: اشتراط القربة في صحة الوقف، ووجوب النطق بها نحو أن يقول: جعلت هذا لله؛ ويلفظ مع الكناية، وأما مع الصريح فلا يحتاج إلى النطق، بل القصد كاف.

4- ويرى بعض فقهاء الحنفية: اشتراط قصد القربة في وقف المسلم فقط؛ دون الذمي.

ص: 47

ص: 48

الفصل الثاني : شراط الواقف، والموقوف والموقوف عليه

اشارة

ص: 49

ص: 50

المبحث الأول شرئط الواقف

قال أمير المؤمنين الإمام علي (عليه الصلاة والسلام):

«هَذَا مَا أَمَرَ بِهِ عَبْدُاللّهِ عَلِیُّ بْنُ أَبِی طَالِبٍ أَمِیرُ الْمُؤْمِنِینَ - فِی مَالِهِ».

ترشد هذه الفقرة من وصيته (عليه الصلاة والسلام) إلى تحديد الواقف لهذا المال، وهو نفسه(عليه السلام).

ولقد تناول فقهاء المذاهب الإسلامية هذه المسألة، أي: شرائط الواقف في مصنفاتهم الفقهية، وإن كان أغلب الفقهاء يبتدئون بشرائط الوقف، إلا اننا قدمنا شرائط الواقف تبعا لما ورد في هذه الوصية الشريفة، والتي ابتدأت بالواقف (عليه السلام)؛ وهي كالاتي:

المسألة الأولى: شرائط الواقف في المذهب الامامي.

تناول فقهاء الإمامية (اعلى الله شأنهم) شرائط الواقف في مصنفاتهم الفقهية، فكانت على النحو الاتي:

البلوغ، والعقل، والاختيار، والحرية، وعدم كونه محجوراً عليه لفلس أو سفه، وأن يتجاوز عمره عشر سنوات، فلا يصح من صبي اقل من عشر؛ وقالوا: بصحة الوقف من الكافر.

ص: 51

وقد تناول السيد اليزدي (عليه الرحمة والرضوان) (ت 1337 ه) بيان شرائط الواقف في موسوعته الفقهية المباركة، جامعا لاقوال فقهاء الامامية (رضوان الله تعالى عليهم) ومناقشا لها، فقال:

(يشترط فيه: البلوغ، والعقل، والاختيار، والحرية، وعدم كونه محجوراً لفلس أو سفه.

نعم: اختلفوا في صحّة وقف من بلغ عشر سنين، فالمشهور على عدم صحته لعموم ما دلّ على عدم صحّة تصرّفات غير البالغ، وعن المفيد: صحّة وقف من بلغ عشراً(1) ولعلّه للأخبار الواردة في جواز صدقته بناءً على أنّ المراد منها ما يشمل الوقف أيضاً، ففي خبر زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام):

«إذا أتى على الغلام عشر سنين فإنّه يجوز في ماله ما أعتق أو تصدّق أو أوصى على حدّ معروف وحقّ فهو جائز»(2).

وفي موثّقة جميل بن درّاج عن أحدهما (عليهما السلام):

«يجوز طلاق الغلام إذا كان قد عقل وصدقته ووصيّته وإن لم يحتلم»(3).

وفي موثّقة الحلبي ومحمّد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام):

سئل عن صدقة الغلام ما لم يحتلم، قال (عليه السلام):

ص: 52


1- المقنعة: 668
2- الوسائل 13: 321، الباب 15 من أبواب الوقوف والصدقات، ح 1
3- الوسائل 13: 321، الباب 15 من أبواب الوقوف والصدقات، ح 2

«نعم إذا وضعها في موضع الصدقة».(1)

لكن يمكن أن يقال: إنّ المراد من الصدقة في هذه الأخبار الصدقات الجزئيّة الصادرة منه لا مثل الوقف لا أقلّ من الشكّ، فالأقوى عدم الصحّة.

نعم: حيث إنّ الأقوى صحّة وصيّة من بلغ عشراً للأخبار(2) المعمول بها، فإذا أوصى بالوقف صحّ عنه وقف الوصيّ.

(مسألة 1): لا يشترط في الواقف أن يكون مسلماً، فيصح وقف الكافر فيما يصحّ من المسلم، كما إذا وقف على أولاده أو على الفقراء خصوصاً إذا وقف على فقراء المسلمين بالإجماع. نعم ربّما يستشكل فيه بناءً على اعتبار قصد القربة في الوقف لكنّك عرفت عدم اعتباره، وعلى فرض اعتباره يمكن حصوله ممّن يعترف بالله تعالى ولا يلزم حصول القرب بل يكفي قصده.

بل: ظاهر هم الإجماع على صحّة وقفه على ما لا يصحّ في مذهبنا - مثل الوقف على بيوت النيران وعلى قرابين الشمس والكواكب وكذا وقف الخنزير ونحوه - لكنّ الصحّة هنا ليست واقعيّة.

بل: من باب إقرارهم على دينهم، بخلاف الجامع للشرائط عندنا فإنّ الصحّة فيه واقعيّة، بعد كونهم مكلّفين بالفروع وعدم كون الوقف من العبادات، وإن اعتبرنا فيه قصد القربة فلا نسلّم بطلان كلّ ما يعتبر فيه قصد القربة من الكافر)(3).

ص: 53


1- الوسائل 13: 321، الباب 15 من أبواب الوقوف والصدقات، ح 3
2- الوسائل 13: 321، الباب 15 من أبواب الوقوف والصدقات، وص 428، الباب 44 من أبواب الوصايا
3- العروة الوثقی: ج 6 ص 312 - 314

المسالة الثانية: شرائط الواقف في المذاهب الاخرى.

أولا: المذهب الزيدي.

حدد فقهاء المذهب الزيدي شروط الواقف بخمسة شروط، فقال احمد المرتضى (ت 840ه):

(وهي التكليف، والإسلام، والاختيار، والملك، وإطلاق التصرف؛ فلا يصح من الصبي ولا من الكافر ولا من المكرة ولا من غير المالك)(1).

ثانيا: المذهب الشافعي.

ذهب فقهاء الشافعية في شروط الواقف إلى شرط واحد: وهو أهلية التبرع، وحددوا لهذه الاهلية ضوابط.

قال البكري الدمياطي (ت 1310 ه):

(وشرط الواقف اهلية التبرع، فلا يصح وقف المجنون، والصبي، والمكره، والمحجور عليه، والمكاتب)(2).

ثالثا: المذهب المالكي.

حدد فقهاء المالكية شروط الواقف بأمرين، وهما: (لا مكرها أو مولى عليه)(3).

ص: 54


1- شرح الأزهار: ج 3 ص 459
2- اعانة الطالبيين: ج 3 ص 186
3- الشرح الكبير لابي البركات: ج 4 ص 77

رابعا: المذهب الحنفي.

ويرى فقهاء المذهب الحنفي: أن الذي يرجع إلى الواقف فأنواع، و هي:

(العقل، والبلوغ، والحرية، وان يخرجه من يده، وان يجعله بجهة لا تنقطع أبداً).

قال ابو بكر الكاشاني (ت 587 ه):

(أما الذي يرجع إلى الواقف فأنواع: منها العقل، ومنها البلوغ فلا يصح الوقف من الصبي والمجنون، لان الوقف من التصرفات الضارة لكونه إزالة الملك بغير عوض، والصبي والمجنون ليسا من أهل التصرفات الضارة، ولهذا لا تصح منهما الهبة، والصدقة، والاعتاق، ونحو ذلك.

ومنها، الحرية فلا يملكه العبد، لأنه إزالة الملك، والعبد ليس من أهل الملك وسو وسواء كان مأذونا أو محجورا، لان هذا ليس من باب التجارة، ولا من ضرورات التجارة، فلا يملكه المأذون كما لا يملك الصدقة والهبة والاعتاق ومنها، أن يخرجه الوقف من يده، ويجعل له قيما ويسلمه إليه عند أبي حنيفة ومحمد وعند أبي يوسف هذا ليس بشرط.

واحتج بما روى أن عمر وقف وكان يتولى أمر وفقه بنفسه وكان في يده وروى عن الإمام علي (عليه السلام) انه كان يفعل كذلك ولان هذا إزالة الملك لا إلى حد فلا يشترط فيه التسليم كالاعتاق واهما أن الوقف اخراج المال عن الملك على وجه الصدقة فلا يصح بدون التسليم كسائر التصرفات.

وأما وقف عمر والإمام علي (عليه السلام) فاحتمل انها أخرجاه عن أيديها وسلاه إلى المتولي بعد ذلك صح كمن وهب من آخر شيئا أو تصدق

ص: 55

أولم يسلم إليه وقت الصدقة والهبة ثم سلم صح التسليم كذا هذا ثم التسليم في الوقف عندهما أن يجعل له قيما ويسلمه إليه وفي المسجد أن يصلى فيه جماعة بأذان وإقامة باذنه كذا ذكر القاضي في شرح الطحاوي وذكر القدوري في شرحه إذا أذن للناس بالصلاة فيه فصلى واحد كان تسليما ويزول ملكه عند أبي حنيفة ومحمد.

وهل يشترط أن لا يشرط الواقف لنفسه من منافع الوقف شيئا عند أبي يوسف ليس بشرط وعند محمد شرط وجه قول محمد أن هذا اخراج المال إلى الله تعالى وجعله خالصا له وشرط الانتفاع لنفسه يمنع الاخلاص فيمنع جواز الوقف كما إذا جعل أرضه أو داره مسجدا وشرط من منافع ذلك لنفسه شيئا وكما لو أعتق عبده وشرط خدمته لنفسه ولأبي يوسف ما روى عن عمر انه وقف وشرط في وقفه لا جناح على من وليه أن يأكل منه بالمعروف وكان يلي أمر وقفه بنفسه.

وعن أبي يوسف أن الواقف إذا شرط لنفسه بيع الوقف وصرف ثمنه إلى ما هو أفضل منه يجوز لان شرط البيع شرط لا ينافيه الوقف ألا ترى انه يباع باب المسجد إذا خلق وشجر الوقف إذا يبس ومنها أن يجعل آخره بجهة لا تنقطع أبدا عند أبي حنيفة ومحمد فإن لم يذكر ذلك لم يصح عندهما وعند أبي يوسف ذكر هذا ليس بشرط.

بل: يصح وان سمى جهة تنقطع ويكون بعدها للفقراء وان لم يسمهم وجه قول أبي يوسف انه ثبت الوقف عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعن الصحابة ولم يثبت عنهم هذا الشرط ذكر أو تسمية ولان قصد الواقف

ص: 56

أن يكون آخره للفقراء وان لم يسمهم هو الظاهر من حاله فكان تسمية هذا الشرط ثابتا دلالة والثابت دلالة كالثابت نصا ولهما ان التأبد شرط جواز الوقف لما ذكر وتسمية جهة تنقطع توقيت له معنى فيمنع الجواز)(1).

خامسا: المذهب الحنبلي.

وحدد فقهاء المذهب الحنبلي شروط الواقف بصحة عبارته ولو كان كافراً، وان لا يكون صبياً او مجنونا، واهلية التبرع في الحياة فلا يصح من حجور وكره ومكاتب، ومفلس، وولي.

قال الشافعي الصغير (1004 ه):

(شرط الواقف صحة عبارته ولو كافرا لما لا يعتقده قربة كمسجد فخرج الصبي والمجنون وأهلية التبرع في الحياة كما هو المتبادر وهذا أخص مما قبله فجمعه بينهما للإيضاح فلا يصح من محجور عليه بسفه وصحة نحو وصيته ولو بوقف داره لارتفاع الحجر عنه بموته ومكره فلا يرد عليه لأنه في حالة الإكراه ليس صحيح العبارة ولا أهلا للتبرع ولا لغيره إذ ما يقوله أو يفعله لأجل الإكراه لغو منه ومكاتب ومفلس وولي ويصح من مبعض وممن لم ير ولا خيار له إذا رأى ومن الأعمى قياسا على ما قبله كما هو مقتضى كلامهم وإن لم أر التصريح به)(2).

ص: 57


1- بدائع الصنائع: ج 6 ص 219 - 220
2- نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج: ج 5 ص 359

المسألة الثالثة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة.

تباينت أقوال فقهاء المذاهب الإسلامية في شرائط الواقف فكانت على النحو الاتي:

أولا: في عدد الشرائط.

قال الإمامية: ستة؛ والزيدية: خمسة؛ والشافعية: واحد؛ والمالكية: اثنان؛ والحنفية: خمسة؛ والحنابلة: ستة؛ وهي على النحو الآتي:

1- ذهب فقهاء الإمامية: إلى ان الشرائط اللازم توفرها في الواقف ستة، وهي: (البلوغ، والعقل، والحرية، والاختيار وغير محجور عليه، وان يتجاوز عمره عشر سنوات).

2- وقال الزيدية: بانها خمسة ولكن تختلف في نوعها عن الإمامية، وكذا بقية المذاهب، وهي: التكليف، والإسلام، والاختيار، والملك، وأطلاق التصرف.

3- وقال الشافعية: بانها شرط واحد، وهو: أهليته للتبرع.

4- وقال المالكية: بانها شرطان، وهما: عدم الاكراه، أو مولاً عليه.

5- وقال الحنفية: بانها خمسة شروط، وهي: العقل، والبلوغ، والحرية، وأن يخرجه من يده، وأن يجعله بجهة لا تنقطع.

6- وقال الحنابلة: بانها ستة شروط، وهي: صحة عبارته، وغير صبي، ولا مجنون، وأهل للتبرع في الحياة، وغير محجور عليه، وغير مكره.

ص: 58

ثانيا: في اشتراط البلوغ.

وبه قال: الإمامية، والحنفية، والزيدية، والحنابلة.

ثالثا: في اشتراط الحرية.

وبه قال: الإمامية، والمالكية، والحنفية، والشافعية، فلا يصح عندهم المكاتب.

رابعا: في اشتراط العقل.

وبه قال: الإمامية، والحنفية، والحنابلة.

خامسا: ألا يكون محجوراً عليه.

وبه قال: الإمامية، والحنابلة.

سادسا: في وقف الكافر.

1- قال الإمامية: يصح، وبه قال الحنابلة ولكن قيدوه بصحة عبارته

2- وقال الزيدية: لا يصح وقف الكافر.

سابعا: في وقف الصبي.

1 - قال الإمامية: يصح إذا تجاوز العشر سنوات.

2- وقال الزيدية: لا يصح منه. وبه قال: الشافعية، والحنابلة.

ثامنا: الاختيار

وبه قال: الإمامية والزيدية.

ص: 59

تاسعاً: التكليف والاسلام والملك.

وبه انفرد الزيدية.

عاشراً: أهليته للتبرع.

وبه قال الشافعية والحنابلة.

حادي عشر: عدم الإكراه.

وبه قال المالكية والحنابلة.

ثاني عشر: صحة عبارته.

وبه انفرد الحنابلة.

ثالث عشر: اطلاق التصرف.

وبه انفرد الزيدية.

رابع عشر: ان يخرجه من يده ويجعله في جهة لا تنقطع.

وبه انفرد الحنفية.

ص: 60

المبحث الثاني شرقط الموقوف

ومما جاء في وصيته (عليه الصلاة والسلام):

«هَذَا مَا أَمَرَ بِهِ عَبْدُاللّهِ عَلِیُّ بْنُ أَبِی طَالِبٍ أَمِیرُ الْمُؤْمِنِینَ - فِی مَالِهِ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللّهِ - لِیُولِجَهُ بِهِ الْجَنَّةَ وَیُعْطِیَهُ بِهِ الْأَمَنَةَ مِنْهَا...».

يرشد هذا الجزء من الوصية إلى تحديد الموقوف، اي: ماله (عليه الصلاة والسلام). والقصد في الوقف وهو الدخول إلى الجنة والأمن يوم القيامة. أما شرائط الموقوف فقد تناولها فقهاء المذاهب الإسلامية وهي كالاتي:

المسألة الأولى: شرائط الموقوف في المذهب الامامي.

ذهب فقهاء الإمامية (أعلى الله شأنهم) إلى القول: بان عدد شرائط الموقوف سبعة، وهي كالاتي:

1- أن يكون عيناً، فلا يصح وقف المنافع.

2- أن يكون مملوكاً، فلا يصح وقف ما لا يملكه المسلم كالخنزير.

3- أن يمكن الإنتفاع به مع بقائه، فلا يصح وقف الأطعمة والفواكه ونحوهما.

4- أن يكون مما يمكن اقباضه، فلا يصح وقف الطير في الهواء.

ص: 61

5- أن يكون مما يبقى مدة معتداً بها، فيشكل وقف ورد وريحان للشم.

6- أن تكون المنفعة المقصودة من الوقف محللة، فلا يصح وقف الدابة لحمل الخمر.

7- أن لا يكون متعلقاً لحق الغير المانع من التصرف، فلا يصح وقف العين المرهونة قبل فكها على الاقوى.

وقد تناول السيد محمد كاظم اليزيدي (عليه رحمة الله ورضوانه) هذه الشرائط وناقش اقوال فقهاء المذهب (رضوان الله تعالى عليهم)، فقال:

(في شرائط الموقوف، وهي أمور:

أحدها: أن يكون عيناً، فلا يصحّ وقف المنافع مثلا إذا استأجر داراً مدّة عشرين سنة، وأراد أن يجعل منفعتها وهي السكنى فيها وقفاً، مع بقاء العين الا على ملك مالكها طلقاً لم يصحّ، لأنّ الانتفاع بها إنّما هو بإتلافها فلا يتصوّر فيها تحبيس الأصل إذ الأصل حينئذ هي المنفعة، وكذا لا يصحّ وقف الدين كما إذا كان له على الغير عشر شياه مثلا لا يصحّ أن يجعلها وقفاً قبل قبضها من ذلك الغير.

وكذا لا يصحّ أن يكون كلّياً في ذمّة الواقف كأن يوقف عشر شياه في ذمّته. وذلك للإجماع على الظاهر وانصراف الأدلّة وعدم معهوديّته، والعمدة الإجماع إن تمّ، وإلاّ فيشكل الفرق بين الوقف وبين البيع والصلح والهبة والإجارة حيث يصحّ أن يكون متعلّقها الدين والكلّي في الذمّة. وما ذكره في الجواهر من وجه المنع في الوقف وبيان الفرق بينه وبين المذكورات(1) مع

ص: 62


1- الجواهر 28: 14 - 16

عدم تماميّته لا يخرج عن المصادرة كما لا يخفى على من راجع.

(مسألة 1): لا يبعد جواز وقف أحد العبدين ثمّ التعيين بالقرعة كما تصحّ الوصيّة به ولا يضرّه الإبهام، بل لو لم يكن إجماع على المنع في البيع جاز فيه أيضاً، وكذا لا يبعد جواز وقف الكلّي الخارجي كوقف مائة ذراع مثلا من القطعة المعيّنة من أرض كما يصحّ بيعه، والظاهر عدم شمول الإجماع على المنع من وقف الكلّي على فرض تحقّقه لذلك، بل القدر المتيقّن هو الكلّي في الذمّة لا في المعيّن.

(مسألة 2): يصحّ وقف المشاع بالإجماع والأخبار الدالّة(1) على جواز التصدّق بالمشاع الشامل للوقف.

(مسألة 3): لا يصحّ وقف المبهم الصرف، كما إذا قال: وقفت بعض أملاكي أو شيئاً من مالي.

الشرط الثاني: أن يكون مملوكاً، فلا يصحّ وقف ما لا يملكه المسلم كالخنزير سواء وقفه على مسلم أو كافر، نعم يصحّ للكافر وقفه على الكافر، وكذا لا يصحّ وقف كلب الهراش، وكذا لا يصحّ وقف الحرّ وإن كان برضاه وكان مالكاً لمنافعه أبداً، وكذا لا يصحّ وقف مال الغير، ومع إجازته فيه قولان.

(مسألة 4): في صحّة وقف ما لا يملكه لكن كان له حقّ الاختصاص به وجهان، أقواهما الجواز فيكفي ملكيّة التصرّف وإن لم يكن مالكاً للعين، فعلى هذا يجوز وقف كلب الحائط والزرع والماشية إذا قلنا بعدم كونه مملوكة، وأمّا كلب الصيد فلا إشكال فيه لأنّه مملوك، وكذا يصحّ وقف الأرض الّتي

ص: 63


1- الوسائل 13: 309، الباب 9 من أبواب الوقوف والصدقات

حجّرها إذا قلنا بعدم كفاية التحجير في التملّك.

الشرط الثالث: أن يمكن الانتفاع به مع بقائه، فلا يصحّ وقف الأطعمة والفواكه ونحوهما ممّا يكون الانتفاع به إتلافه.

الشرط الرابع: أن يكون ممّا يمكن إقباضه، فلا يصحّ وقف الطير في الهواء ولا السمك في الماء وإن كان مالكاً لهما، وكذا لا يصحّ وقف العبد الآبق ولو مع الضميمة مع اليأس عن العثور عليه - نعم لو كان الموقوف عليه قادراً على قبضه صحّ - وكذا العين المغصوبة الّتي لا يتمكن من ردّها إذا لم يتمكّن الموقوف عليه أيضاً.

الشرط الخامس: أن يكون ممّا يبقى مدّة معتدّاً بها، فيشكل وقف ورد أو ريحان للشمّ ممّا لا يبقى إلى ساعة أو أزيد. الشرط السادس: أن تكون المنفعة المقصودة من الوقف محلّلة، فلا يصحّ وقف الدابّة لحمل الخمر والخنزير.

(مسألة 5): الأقوى جواز وقف الدراهم والدنانير لإمكان الانتفاع بها مع بقاء عينها بمثل التزيين وحفظ الاعتبار كما يجوز عاريتها كما يظهر من بعض الأخبار، فالقول بعدم الجواز ضعيف.

(مسألة 6): لا إشكال في صحّة وقف الثياب والأوانى والأثاث والعقارات والكتب والسلاح ونحوها، ممّا يصحّ الانتفاع به مع بقائه منفعة محلّلة وإن كان بقاؤه في مدّة قليلة، ولا ينافي ذلك اعتبار التأبيد في الوقف على القول به لأنّ المراد منه مدة عمر الشئ كما هو واضح.

(مسألة 7): لا يشترط في العين الموقوفة أن تكون محلّا للانتفاع فعلا، فيصحّ وقف ما لا منفعة له إلاّ بعد مدّة كالعبد الصغير والدابّة الصغيرة

ص: 64

والأُصول المغروسة الّتي لا تثمر إلاّ بعد خمس سنين أو أزيد.

الشرط السابع: أن لا يكون متعلّقاً لحقّ الغير المانع من التصرّف، فلا يصحّ وقف العين المرهونة قبل فكّها على الأقوى، وكذا لا يجوز وقف أُمّ الولد قبل موت ولدها، وقد يقال بجوازه فتبقى وقفاً إلى موت سيدها، إذا لم نقل بأنّ الوقف تمليك للموقوف عليه وإلا فلا يجوز لعدم جواز نقلها إلى الغير وإن كانت مملوكة، وكذا لا يجوز وقف المكاتب بقسميه إلاّ في المشروط بعد عجزه عن أداء مال الكتابة، ولا مانع من وقف العبد المدبّر فيبطل تدبيره.

(مسألة 8): الأقوى جواز وقف المملوك على من ينعتق عليه، أمّا على المختار من أنّ الوقف ليس تمليكاً فواضح، وأمّا على القول بكونه تمليكاً فلأنّ الموجب للانعتاق الملكيّة التامّة لا مثل الوقف فلا مانع ويبقى وقفاً، وأمّا احتمال صحّته وانعتاقه فبعيد غايته، مع أنّه يلزم من وجوده عدمه)(1).

المسألة الثانية: شرائط الموقوف في المذاهب الاخرى.

أولاً: المذهب الزيدي.

في شرائط الموقوف يرى فقهاء المذهب الزيدي انها تكمن في خمسة شرائط وهي كالاتي:

1- صحة الانتفاع به.

2- بقاء العين، فلا يصح وقف الدراهم والدنانير والطعام.

3- اختلفوا في صحة وقف المشاع فقيل: يصح، وقيل بخلاف ذلك.

ص: 65


1- العروة الوثقی: ج 6 ص 306 - 312

4- ان يعيين الوقف، فلا يصح تعليق تعينيه في الذمة، وقيل: يصح.

5- أن لا تلحقة الاجازة،، فلو وقف فضولي مال غيره واجاز ذلك الغير لم يصح ذلك الوقف.

وقد تناول بيان هذه الشرائط إمام الزيدية أحمد المرتضى (ت 840 ه) فقال:

(صحة الانتفاع به مع بقاء عينه فلو لم يمكن إلا باستهلاكه لم يصح وقفه كالدراهم والدنانير والطعام ونحو ذلك (ولو) كان (مشاعا و) كان (ينقسم أو لا فإنه يصح وقفه عندنا وهو قول (ك) و (ش) و (ف) وأحد قولي (م) وقال محمد بن الحسن واختاره في الانتصار أنه لا يصح وقف المشاع مطلقا سواء احتمل القسمة أم لا.

وقال (م) بالله في الظاهر من قوليه أنه يصح إن كان لا يحتمل القسمة أو كان الشياع مقارنا نحو أن يقف نصف أرضه أو طارئا نحو أن يقف جميع ماله في المرض ولا يجيز الورثة أو كان الشياع متقدما وأجاز شريكه أو رضي وقال أبو (ط) يصح إذا كانت الأرض مستوية الاجزاء وإن كانت مختلفة لم يصح.

(تنبيه) اعلم أنه إذا ثبت صحة الوقف مع الشياع فحكى الفقيه (ح) عن الفقيه (ي) أن للورثة (8) أن يميزوا الوقف كما يميزون الزكاة لان الجميع حق لله تعالى وكذا عن (م) بالله لأنه ذكر فيمن وقف في مرضه كتبا لا يملك غيرها فإنه يصح ثلثها وللورثة أن يميزوا الثلث وينتفعوا بالباقي وحكى في شرح أبي مضر عن المؤید بالله أن من وقف أرضا على جماعة للاستغلال لا للسكنى لم يكن له أن يقسمها ولا لهم ذلك.

قال: أبو مضر وعند يحيى يجوز ذلك كما في وقف المشاع قال وكذلك

ص: 66

يجوز على أصل (م) بالله لأنه إنما منع من وقف المشاع لأنه يؤدي إلى أن يصير الملك وقفا وعكسه وهذا ليس بحاصل ها هنا (أو) قال الواقف وقفت (جميع مالي وفيه ما يصح) وقفه ( وما لا) يصح وقفه لم يمنع ذلك من صحة وقف ما يصح وقفه فالذي لا يصح وقفه كأم الولد فإنه لا يصح وقفها و كذلك (ما منافعه) مستحقة للغير أي لغير مالك الرقبة بوصية مؤبدة أو نحوها و كذلك ما في ذمة الغير من حيوان أو غيره من مهر أو نذر أو نحوهما فإنه لا يصح وقفه.

(و) من أحكام الموقوف أنه (لا يصح تعليق تعيينه في الذمة فلو قال وقفت أحد هذين الشيئين ولم ينو أحدهما بعينه لم يصح الوقف ذكره الأستاذ ومثله عن الشافعي والامام (ى) وذكر (م) بالله أنه يصح تعليق الوقف في الذمة و من أحكامه أيضا أنه (لا تلحقه الإجازة فلو وقف فضولي مال غيره وأجاز ذلك الغير لم يصح ذلك الوقف.

كالطلاق فإنه لو طلق فضولي امرأة غيره وأجاز لم تطلق وإذا عين العين الموقوفة ثم التبس ما قد عين في النية بغيره فبلا تفريط صارا للمصالح وبه قيمة أحدهما فقط فلو وقف واحدا من شيئين وعينه في نفسه ثم التبس ما قد عين فإنه ينظر هل وقع منه تفريط في ترك التعيين حتى التبس أم لا فإن لم يقع منه تفريط بطل الوقف وصار الشيئان جميعا للمصالح وإن فرط حتى التبس عليه أو مات ولم يعرف الورثة ولا شهادة بطل اوقف أيضا وصار ملكا له أو لهم ولزمه للمصالح قيمة الأقل منهما)(1).

ص: 67


1- شرح الازهار لأحمد المرتضى: ج 3 ص 459 - 462

ثانياً: المذهب الشافعي.

يرى فقهاء المذهب الشافعي أن شرائط الموقوف تتحدد في ثمانية، وهي كالاتي:

1- أن يكون عيناً.

2- أن يكون مملوكاً.

3- أن يكون معيناً، فلا يصح وقف المبهم.

4- أن يكون يقبل النقل.

5- أن يفيد بفائدة ومنفعة.

6- أن يكون حالاً ومالاً، كثمرة بستانه، ومالاً كعبد وجحش صغيرين.

7- أن يكون مما يستأجر له، فلا يصح استأجرا آلة اللهو، والطعام والرياحين المحصورة، وقيل بصحة المزروعة.

8- أن يكون باقياً؛ فلا يصح وقف الطعام.

وقد تناول هذه الشرائط البكري الدمياطي (ت 1310 ه)، فقال:

(شروع في بيان شروط الموقوف. فقوله عين، احترز به عن المنفعة، وقوله معينة، احترز به عما في الذمة عن المبهم، كواحد من عبديه. وقوله مملوكة، احترز به عن الذي لا يملك، كمكتري، وموصى بمنفعته له، وحر، وكلب.

وقوله: يقبل النقل أي من ملك شخص إلى ملك شخص آخر، واحترز به عن أم ولد ومكاتب لأنهما لا يقبلان النقل، لأنهما قد حلهما حرمة العتق، فالتحقا بالحر، وقوله: تفيد فائدة أي يحصل منها فائدة، واحترز به: عما لا

ص: 68

يفيد، كزمن لا يرجى زوال زمانته، وقوله: حالا أي كثمرة بستانه الحاصلة، وقوله: أو مآلا أي كعبد وجحش صغيرين، فيصح وقفهما، وإن لم تكن الفائدة موجودة في الحال.

من وقوله: أو منفعة) بالنصب، عطف على فائدة، من عطف الخاص على العام إن أريد بالفائدة ما يشمل الحسية والمعنوية. وإن خصت بالحسية، كان عطف المغاير. وقوله: يستأجر لها الجار والمجرور نائب فاعل، والتقدير أو منفعة يستأجر الشخص العين لأجلها. واحترز به عن ذي منفعة لا يستأجر لها، كآلة لهو، وطعام، وقوله: غالبا قال في شرح الروض احترز به عن الرياحين ونحوها فإنه لا يصح وقفها، كما سيأتي مع أنها تستأجر، لان استئجارها نادر، لا غالب.

وقوله الرياحين: أي المحصودة، لا المزروعة، كما سيأتي - واحترز به أيضا عن فحل الضراب، فإنه يصح وقفه له، وإن لم تجز إجارته له، إذ يغتفر في القربة ما لا يغتفر في المعاوضة. وقوله: وهي باقية أي تفيد ما ذكر، والحال أنها باقية، واحترز به عما يفيد، لكن باستهلاكه، كالمطعومات، فجميع هذه المحترزات لا يصح وقفها قوله: لأنه أي الوقف، وهو علة لاشتراط كون العين تفيد فائدة وهي باقية، أي وإنما اشترط ذلك لكون الوقف إنما شرع ليكون صدقة جارية، ولا يكون كذلك إلا إن حصل الانتفاع بالعين مع بقائها.

قوله: وذلك اسم الإشارة يحتمل عوده على وقف في قوله صح وقف، أي وذلك الوقف الصحيح بسبب استكمال القيود كائن كوقف شحر الخ،

ص: 69

ويحتمل عوده على العين المستكملة لما ذكر وتذكير اسم الإشارة على تأويلها بالمذكور، أي وذلك المذكور من العين التي يصح وقفها كائن كوقف الخ.

لكن لا بد عليه من تأويل وقف بموقوف، وتكون الإضافة من إضافة الصفة للموصوف، أي كشجر وقف لريعه الخ. فتنبه قوله: لريعه أي نمائه متعلق بوقف، أي وقفه لأجل تحصيل ريعه قوله: وحلي للبس أي وكوقف حلي للبسه قوله: ونحو مسك معطوف على شجر: أي وكوقف نحو مسك كعنبر لأجل شمه، وقوله لشم، خرج به ما إذا كان للاكل، فلا يصح وقفه. قال في شرح الروض، قال الخوارزمي وابن الصلاح يصح وقف المشموم الدائم نفعه، كالعنبر والمسك.

(قوله: وريحان مزروع) معطوف على نحو مسك، من عطف الخاص على العام، أي وكوقف ريحان مزروع لأجل شمه، فيصح، لأنه يبقى مدة. وفيه أيضا نفع آخر، وهو التنزه، ولا بد أن يكون للشم، لا للاكل، وإلا فلا يصح أيضا. واحترز بالمزروع، عن المحصود، فلا يصح وقفه، لسرعة فساده (قوله: بخلاف عود البخور) أي فلا يصح وقفه.

(وقوله: لأنه الخ) علة لمقدر، أي وإنما لم يصح وقفه، لأنه لا ينتفع به إلا باستهلاكه، أي بزوال عينه قوله: والمطعوم أي وبخلاف المطعوم، فهو معطوف على عود البخور. وقوله: لان نفعه الخ علة لمقدر أيضا، أي فلا يصح وقف المطعوم، لان النفع به إنما يكون في إهلاكه. وهذه العلة عين العلة المارة، فلو حذف تلك، وجعل هذه علة للمعطوف والمعطوف عليه، لكان أخصر (قوله: وزعم ابن الصلاح الخ) مبتدأ.

ص: 70

وقوله اختيار له، أي لابن الصلاح، خبره: أي وإذا كان مجرد اختيار له فقط، فلا يعترض به على عدم صحة وقف المطعوم قوله: ويصح وقف المغصوب أي ويصح للمالك أن يوقف العين التي غصبت عليه، لأنها ليس فيها إلا العجز عن صرف منفعتها إلى جهة الوقف في الحال، وذلك لا يمنع الصحة.

قوله: وإن عجز أي الواقف، وقوله: عن تخليصه أي المغصوب من الغاصب قوله: ووقف العلو أي ويصح وقف العلو فقط من دار أو نحوها، دون سفلها، وقوله: مسجدا عبارة الفتح: ولو مسجدا. وهي أولى، لإفادتها التعميم قوله: والأوجه صحة وقف المشاع أي كجزء من دار أو من أرض. ويصح وقفه، وإن جهل قدر حصته أو صفتها، لان وقف عمر السابق، كان مشاعا، ولا يسري للباقي، ولو كان الواقف موسرا، بخلاف العتق.

وقوله: وإن قل أي المشاع الموقوف مسجدا، والغاية للرد، کما تفيده عبارة النهاية، ونصها، ولا فرق فيما مر بين أن يكون الموقوف مسجدا هو الأقل أو الأكثر، خلافا للزرکشي ومن تبعه اه.

ولو أخرها عن قوله ويحرم المكث الخ، لكان أولى، لان مراد النهاية بقوله فيما مر، حرمة المكث، وقوله: مسجدا مفعول وقف، والأولى أن يأخذه غاية، بأن يقول: ولو مسجدا، كما يفيده إطلاق المنهاج، وعبارته: ويصح وقف عقار ومنقول ومشاع.

قال في النهاية: وشمل كلامه ما لو وقف المشاع مسجدا. قوله: ويحرم المكث فيه أي في المشاع الموقوف مسجدا، وفي شرح الروض، وأفتى البارزي بجواز المكث فيه، ما لم يقسم. اه.

ص: 71

وفي النهاية: وتجب قسمته لتعينها طريقا، وما نوزع به مردود، و تجویز الزركشي المهايأة هنا بعيد، إذ لا نظير لكونه مسجدا في يوم وغير مسجد في آخر. وفي البجيرمي: وتصح فيه التحية دون الاعتکاف، لان الاعتکاف، لا يصح إلا في المسجد الخالص، ولا يجوز فيه التباعد عن الامام أكثر من ثلاثمائة ذراع بين المصلين.

وقوله: تغليبا للمنع أي منع المكث الذي هو مقتضى الوقف به على جواز المكث الذي هو مقتضى الملك. ولو قال تغليبا للوقف على الملك، أي للجزء الموقوف على الجزء المملوك، لكان أولى.

قال في المغني: فإن قيل ينبغي عدم حرمة المكث فيما إذا كان الموقوف مسجدا أقل، كما أنه لا يحرم حمل التفسير إذا كان القرآن أقل على المحدث.

أجيب بأن المسجدية هنا شائعة في جميع أجزاء الأرض، غير متميزة في شيء منها، فلم يمكن تبعية الأقل للأكثر، إذ لا تبعية إلا مع التمييز، بخلاف القرآن، فإنه متميز عن التفسير، فاعتبر الأكثر، ليكون الباقي تابعا.

(قوله: ويمتنع اعتكاف الخ) عبارة التحفة، ومر في مبحث خيار الإجارة أنه يتصور لنا مسجد تملك منفعته، ويمتنع نحو اعتکاف وصلاة فيه من غير إذن مالك المنفعة اه. (وقوله: ومر الخ) عبارته هناك، ومما يتخير به أيضا ما لو استأجر محلا لدوابه فوقفه المؤجر مسجدا، فيمتنع عليه تنجيسه وكل مقذر له من حينئذ، ويتخير، فإن اختار البقاء، انتفع به إلى مضي المدة، وامتنع على الواقف وغيره الصلاة ونحوها فيه بغير إذن المستأجر، وحينئذ، يقال لنا مسجد منفعته مملوكة)(1).

ص: 72


1- إعاثة الطالبيين: ج 3 ص 188 - 189

ثالثاً: المذهب المالكي.

يرى أبو البركات المالكي أن شرائط الموقوف تنحصر في أمر واحد وهو :

أن لا يتعلق به حق الغير.

قال أبو البرکات: (أركان الوقف أربعة، ركنين الأول بطريق اللزوم وهو الواقف، وشرطه أهلية التبرع لا مكرها أو عليه و الثاني تصريحاً وهو الموقوف بقوله: مملوك وشرطه أن لا يتعلق به حق الغير فلا يصح وقف مرهون ومؤجر وعبد جان حال تعلق حق الغير به)(1).

رابعاً: المذهب الحنفي.

حدد فقهاء المذهب الحنفي شرائط الموقوف بأمرين، وهما (أن يكون مما لا ينقل ولا يحول كالعقار ونحوه).

والثاني (أن يكون الموقوف مقسوماً) وقد اختلفوا فيه فذهب محمد بعدم جواز وقف المشاع وقال أبو يوسف هذا ليس بشرط فيجوز مقسوماً كان أو مشاعاً.

قال أبو بكر الكاشاني (ت 587 ه) في بيان شرائط الموقوف:

(أن يكون مما لا ينقل ولا يحول کالعقار ونحوه فلا يجوز وقف المنقول مقصودا لما ذكرنا أن التأبيد شرط جوازه ووقف المنقول لا يتأبد لكونه على شرف الهلاك فلا يجوز وقفه مقصودا الا إذا كان تبعا للعقار بأن وقف ضيعة ببقرها وأكرتها وهم عبيدة فيجوز.

ص: 73


1- الشرح الكبير: ج 4 ص 77

كذا قاله أبو يوسف وجوازه تبعا لغيره لا يدل على جوازه مقصودا كبيع الشرب و مسيل الماء والطريق انه لا يجوز مقصود أو يجوز تبعا للأرض الدار وإن كان شيئا جرت العادة بوقفه کوقف المر والقدوم لحفر القبور ووقف المرجل لتسخين الماء ووقف الجنازة وثيابها.

ولو وقف أشجارا قائمة فالقياس أن لا يجوز لأنه وقف المنقول وفي الاستحسان يجوز لتعامل الناس ذلك وما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن ولا يجوز وقف الكراع والسلاح في سبيل الله تعالى عند أبي حنيفة لأنه منقول وما جرت العادة به وعند أبي يوسف ومحمد يجوز ويجوز عندهما بيع ما هرم منهما أوصار بحال لا ينتفع به فيباع ويرد ثمنه في مثله كأنهما ترکا القياس في الكراع والسلاح بالنص وهو ما روي عن النبي (عليه الصلاة والسلام) أنه قال:

أما خالد فقد احتبس أكراعا وأفراسا في سبيل الله تعالى».

ولا حجة لهما في الحديث لأنه ليس فيه انه وقف ذلك فاحتمل قوله حبسه أي أمسكه للجهاد لا للتجارة وأما وقف الكتب فلا يجوز على أصل أبي حنيفة وأما على قولهما فقد اختلف المشايخ فيه وحكي عن نصر بن يحيی أنه وقف كتبه على الفقهاء من أصحاب أبي حنيفة.

ومنها أن يكون الموقوف مقسوما عند محمد فلا يجوز وقف المشاع وعند أبي يوسف هذا ليس بشرط ويجوز مقسوما کان أو مشاعا لان التسليم شرط الجواز عند محمد والشيوع يخل بالقبض والتسليم وعند أبي يوسف التسليم ليس بشرط أصلا فلا يكون الخلل فيه مانعا وقد روي عن عمر انه ملك

ص: 74

مائة سهم بخيبر فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله):

«احبس أصلها».

فدل على أن الشيوع لا يمنع صحة الوقف وجواب محمد يحتمل انه وقف مائة سهم قبل القسمة ويحتمل انه بعدها فلا يكون حجة مع الشك والاحتمال على أنه ان ثبت أن الوقف كان قبل القسمة فيحمل انه وفقها شائعا ثم قسم وسلم وقد روى أنه فعل كذلك وذلك جائز کما لو وهب مشاعا ثم قسم وسلم)(1).

خامساً: المذهب الحنبلي.

يرى فقهاء المذهب الحنبلي ان شرائط الموقوف أربعة، وهي:

1- کونه عيناً.

2- معينة.

3- مملوكاً يقبل النقل.

4- ذو فائدة ومنفعة مع بقائه.

وقد تناول هذه الشرائط الشافعي الصغير، فقال:

(و شرط الموقوف کونه عینا معينة مملوكة ملكا يقبل النقل يحصل منها مع بقاء عينها فائدة أو منفعة تصح إجارتها كما يشير لذلك كلامه الآتي بذكره بعض محترزات ما ذكر كالمنفعة وإن ملكها مؤبدا بالوصية والملتزم في الذمة وأحد عبديه وما لا يملك ككلب.

ص: 75


1- بدائع الصنائع: ج 6 ص 220

نعم يصح وقف الإمام نحو أراضي بيت المال على جهة ومعين على المنقول المعمول به بشرط ظهور المصلحة في ذلك إذ تصرفه فيه منوط بها کولي اليتيم ومن ثم لو رأي تمليك ذلك لهم جاز وأم ولد و مکاتب وحمل منفرد وذي منفعة لا يستأجر لها كآلة لهو وطعام أما لو وقف حاملا صح فيه تبعا لأمه کما صرح به الشيخ.

نعم يصح وقف فحل للضراب وإن لم تجز إجارته لأنه يغتفر في القربة ما لا يغتفر في المعاوضة و دوام الانتفاع المذكور به المقصود بأن تحصل منه فائدة مع بقائه مدة کما عبر عنه بذلك جماعة وضابط المنفعة المقصودة ما يصح استئجاره على شرط ثبوت حق الملك في الرقبة وعلم بذلك أن ما أفاده كلام القاضي أبي الطيب من أنه لا يكفي بقاؤه نحو ثلاثة أيام محمول على ما لا تقصد إجارته في تلك المدة وشمل كلام المصنف وقف الموصى بعينه مدة والمأجور وإن طالت مدتهما ونحو الجحش الصغير والدراهم لتصاغ حليا فإنه يصح وإن لم تكن له منفعة حالا کالمغصوب ولو من عاجز عن انتزاعه وكذا وقف المدبر والمعلق عتقه بصفة فإنهما وإن عتقا بالموت ووجود الصفة وبطل الوقف لكن فيهما دوام نسبي أخذا مما مر

ومن ثم صح وقف بناء وغراس في أرض مستأجرة لهما وإن استحقا القلع بعد انقضاء مدة الإجارة وفارق صحة بيعهما وعدم عتقهما مطلقا بأنه هنا استحق عليه حقان متجإنسان فقدمنا أقواهما مع سبق مقتضية وبه فارق ما لو أولد الواقف الموقوفة حيث لم تصر أم ولد وخرج ما لا يقصد كنقد للتزين به أو الاتجار فيه وصرف ربحه للفقراء وكذا الوصية به کما یأتي وما لا يفيد نفعا كزمن غير مرجو برؤه لا مطعوم بالرفع أي وقفه إذ نفعه بإهلاکه

ص: 76

وريحان محصود لسرعة فساده.

أما مزروع فيصح وقفه للشم لبقائه مدة كما قاله المصنف وغيره وفيه نفع آخر وهو التنزه ولهذا قال الخوارزمي وابن الصلاح يصح وقف المشموم الدائم النفع کالعنبر والمسك بخلاف عود البخور لأنه لا ينتفع به إلا باستهلاکه فإلحاق جمع العود بالعنبر محمول على عود ينتفع به بدوام شمه.

ويصح وقف عقار بالإجماع ومنقول للخبر الصحيح فيه ومشاع وإن جهل قدر حصته أو صفتها لأن وقف عمر السابق كان مشاعا ولا يسري للباقي وشمل كلامه ما لو وقف المشاع مسجدا وهو كذلك كما صرح به ابن الصلاح قال ويحرم على الجنب المكث فيه وتجب قسمته لتعينها طريقا وما نوزع به مردود و تجويز الزركشي المهايأة هنا بعيد إذ لا نظير لكونه مسجدا في يوم وغير مسجد في آخر ولا فرق فيها مر بين أن يكون الموقوف مسجدا هو الأقل أو الأكثر خلافا للزرکشي ومن تبعه.

ويفرق بينه وبين حمل تفسير فيه قرآن بأن المسجدية هنا شائعة في جميع أجزاء الأرض غير متميزة في شيء منها فلم يمكن تبعية الأقل للأكثر إذ لا تبعية إلا مع التمييز بخلاف القرآن فإنه متميز عن التفسير فاعتبر الأكثر ليكون الباقي تابعا له أما جعل المنقول مسجدا کفرش وثياب فموضع توقف لأنه لم ينقل عن السلف مثله وكتب الأصحاب ساكتة عن تنصيص بجواز أو منع وإن فهم من إطلاقهم الجواز فالأحوط المنع کما جرى عليه بعض شراح الحاوي وما نسب للشيخ من إفتائه بالجواز فلم يثبت عنه لا وقف عبد وثوب في الذمة لأن حقيقته إزالة ملك عن عين نعم يجوز التزامه

ص: 77

فيها بالنذر ولا وقف حر نفسه لأن رقبته غير مملوكة له وكذا مستولدة لعدم قبولها للنقل کالحر ومثلها المكاتب أي كتابة صحيحة على الأوجه بخلاف ذي الكتابة الفاسدة.

إذ المغلب فيه التعليق ومر في المعلق صحة وقفه وكلب معلم أو غير معلم لأنه لا يملك وتقييده بالمعلم لأجل الخلاف وأحد عبديه في الأصح کالبيع ومقابل الأصح فيه يقيس الوقف على العتق و فيما قبله يقيس وقفه على إجارته أي على وجه ضعيف فيها وفارق العتق بأنه أقوى وأنفذ لسرايته وقبوله التعليق ولو وقف بناء أو غراسا في أرض مستأجرة إجارة صحيحة أو فاسدة أو مستعارة مثلا لهما ثناه مع أن العطف بأو لأنها بين ضدين فلا اعتراض عليه فالأصح جوازه لأنه مملوك ينتفع به في الجملة مع بقاء عينه.

والثاني المنع إذ لمالك الأرض قلعهما فلا يدوم الانتفاع بهما قلنا يكفي دوامه إلى القلع بعد مدة الإجارة فلو قلع ذلك وبقي منتفعا به فهو وقف کما کان وإن لم يبق فهو يصير ملكا للموقوف عليه أو يرجع للواقف وجهان أصحهما أولهما وقول الجمال الأسنوي إن الصحيح غيرهما وهو شراء عقار أو جزء من عقار وهو قياس النظائر في آخر الباب ونقل نحوه الأذرعي فقال ويقرب أن يقال يباع ويشترى بثمنه من جنسه ما يوقف مكانه محمول على إمكان الشراء المذكور.

وكلام الشيخين الأول محمول على عدمه ويلزمه بالقلع أرش نقصه يصرف على الحكم المذكور وخرج بنحو المستأجرة المغصوبة فلا يصح وقف ما فيها لعدم دوامه مع بقاء عينه وهذا مستحق الإزالة كما أفتى بذلك الوالد رحمه

ص: 78

الله تعالى لا يقال غاية أمره أن يكون مقلوعا وهو يصح وقفه لأنا نقول وقفه في أرض مغصوبة ملاحظ فيه کونه غراسا قائما بخلاف المقلوع فغير ملاحظ فيه ذلك وإنما هو وقف منقول.

ويصح شرط الواقف صرف أجرة الأرض المستأجرة لهما من ريعهما إن لم تلزم ذمته الأجرة بخلاف مالزم ذلك بعقد إجارة أو بدونه فلا يصح شرط صرفه منه لأنه دين عليه وعلى هاتين الحالتين يحمل الكلامان المختلفان فإن وقف على جهة فسيأتي أو على معين واحد أو جمع هو بمعنی قول أصله جماعة وحصول الجماعة باثنين کما مر في بابها اصطلاح يخص ذلك الباب الصحة الخبر به و حکم الاثنين يعلم من مقابلة الجمع بالواحد الصادق مجازا بقرينة المقابلة بالاثنين اشترط عدم المعصية وتعيينه كما أفاده قوله معين و إمكان تملیکه من الواقف في الخارج بأن يوجد خارجا متأهلا للملك لأن الوقف تمليك المنفعة فلا يصح الوقف على معدوم.

کعلی مسجد سيبني أو على ولده ولا ولد له أو على فقراء أولاده وليس فيهم فقير أو على القراءة على رأس قبره أو قبر أبيه الحي فإن كان له ولد وفيهم فقير صح وصرف للحادث وجوده في الأولى أو فقره في الثانية لصحته على المعدوم تبعا كوقفته على ولدي ثم على ولد ولدي ولا ولد ولد له كعلی مسجد کذا وکل مسجد سيبني في تلك المحلة وسيذكر في نحو الحربي ما يعلم منه أن الشرط بقاؤه فلا يرد عليه هنا إيهامه الصحة عليه لإمكان تمليکه ولا على أحد هذين ولا على عمارة المسجد إذا لم يبينه بخلاف داري على من أراد سكناها من المسلمين ولا على ميت ولا على جنين.

ص: 79

لأن الوقف تسليط في الحال بخلاف الوصية ولا يدخل أيضا في الوقف على أولاده إذ لا يسمى ولدا وإن كان تابعا لغيره نعم إن انفصل استحق معهم قطعا إلا أن يكون الواقف قد سمى الموجودين أو ذكر عددهم فلا يدخل کما أشار إليه الأذرعي وهو ظاهر ويدخل الحمل الحادث علوقه بعد الوقف فإذا انفصل استحق من غلة ما بعد انفصاله کما مر.

وأما إطلاق السبكي بحثا أنه لا يدخل فيصرف لغيره حتى ينفصل فمعترض بأن المتبادر أن الواقع من الريع يوقف لانفصاله وبنو زيد لا يشمل بناته بخلاف بني تميم لأنه اسم للقبيلة ولا على العبد ولو مدبرا أو أم ولد لنفسه لأنه غير أهل للملك نعم إن وقف على جهة قربة كخدمة مسجد أو رباط صح الوقف عليه لأن القصد تلك الجهة أما المبعض.

فالظاهر کما أفاده الشيخ أنه إن كانت مهيأة وصدر الوقف عليه یوم نوبته فكالحر أو يوم نوبة سيده فكالعبد وإن لم تكن مهيأة وزع على الرق والحرية وعلى هذا يحمل إطلاق ابن خيران صحة الوقف عليه قال الزركشي فلو أراد مالك البعض أن يقف نصفه الرقيق على نصفه الحر فالظاهر الصحة كما لو أوصى به لنصفه الحر ويؤخذ من العلة أن الأوجه صحته على مكاتب غيره كتابة صحيحة لأنه يملك كما نقله في الروضة عن المتولي وإن نقل خلافه عن الشيخ أبي حامد ثم لم يقيد بالكتابة صرف له بعد العتق أيضا.

وإلا فهو منقطع الآخر فيبطل استحقاقه وينتقل الوقف إلى من بعده هذا إن لم يعجز وإلا بان بطلانه لكونه منقطع الأول فيرجع عليه بما أخذه

ص: 80

من غلته أما مكاتب نفسه فلا يصح وقفه عليه كما لو وقف على نفسه كما جزم به الماوردي وغيره وهو نظير ما سيأتي في إعطاء الزكاة له فإن أطلق الوقف عليه فهو وقف على سيده کما لو وهب منه أو أوصى له ويقبل هو إن شرطناه وهو الأصح الآتي وإن نهاه سيده عنه دون السيد إن امتنع كما يأتي نظيره في الوصية.

ولو أطلق الوقف على بهيمة مملوكة لغا لاستحالة ملكها وقيل هو وقف على مالكها كالعبد والفرق أن العب ابل لأن يملك بخلافها وخرج بأطلق الوقف على علفها أو عليها بقصد مالكها وبالمملوكة المسبلة في ثغر أو نحوه فيصح بخلاف غير المسبلة.

ومن ثم نقلا عن المتبولي عدم صحته على الوحوش والطيور المباحة وما نوزعا به مستدلين بما يأتي أن الشرط في الجهة عدم المعصية يرد بأن هذه الجهة لا يقصد الوقف عليها عرفا ومن ثم لما قصد حمام مكة بالوقف عليه عرفا كان المعتمد كما قاله الغزالي صحته عليه أما المباحة المعينة فلا يصح عليه جزما على نزاع فيه)(1).

المسألة الثالثة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة.

تباينت أقوال فقهاء المذاهب الإسلامية في عدد شرائط الموقوف وما تعلق بها فكانت كالاتي:

أولاً - في عدد الشرائط.

ص: 81


1- نهاية المحتاج: ج 5 ص 360 - 366

1- قال الإمامية بانها: سبعة شرائط.

2- وقال الشافعية بانها: ثمانية.

3- قال الزيدية بانها: خمسة.

4- وقال المالكية بشرط واحد.

5- وقال الحنفية بانها شرطان.

6- وقال الحنابلة بانها: اربعة شرائط.

ثانياً: أما ما تعلق بالشرائط والقول بها واعتمادها عند المذاهب فهو كالاتي:

1- أن يكون عيناً فلا يصح وقف المنافع.

وبه قالت: الإمامية، والزيدية، والشافعية، والحنابلة.

2- أن يكون مملوكاً، فلا يصح وقف مالا يملكه المسلم.

وبه قالت: الإمامية، والشافعية، والحنابلة.

3- يمكن الانتفاع به مع بقائه فلا يصح وقف الاطعمة وغيرها.

وبه قالت: الزيدية، والشافعية، والحنابلة.

4- أن يكون مما يمكن أقابضه، فلا يصح وقف الطير في الهواء.

وبه قالت الإمامية.

5- أن يكون مما يبقى مدة مقيداً بها، فيشكل وقف ورد وريحان للشم.

وبه قالت: الإمامية، والحنابلة وقالت الشافعية بصحة المزروعة منها.

6- أن يكون حالاً ومالاً، كثمرة بستانه، وكعبد وجحش صغيرين.

ص: 82

وبه قالت الشافعية.

7- أن يكون مما يستأجر له فلا يصح أستأجار آلة اللهو.

وبه قالت: الشافعية.

8- أن تكون المنفعة المقصودة من الوقف محللة فلا يصح وقف الدابة لحمل الخمر.

وبه قالت: الإمامية.

9. أن لا يكون متعلقاً لحق الغير المانع من التصرف، فلا يصح وقف العين المرهونة.

وبه قالت: الإمامية، والمالكية.

10- أن لا تحلقه الاجازة فلا يصح وقف الفضولي.

وبه قالت الزيدية.

11- في كونه مشاعاً.

أ- اختلف فقهاء الزيدية، فقيل: يجوز وقف المشاع، وقيل: لا يجوز.

ب- اختلف فقهاء المذهب الحنفي، فقال محمد بعدم جواز وقف المشاع، وقال ابو يوسف: يجوز وقف المشاع سواء كان مقسوماً أو غير مقسوم.

ص: 83

ص: 84

المبحث الثالث شرئط الموقوف عليه

تناول فقهاء المذاهب الإسلامية شرائط الموقوف عليه، فمنهم من أقرها ومنهم من لم يقر بها واعرض عنها، فضلاً عن الاختلاف في العدد والنوع، وهي كالاتي:

المسألة الأولى: شرائط الموقوف عليه في المذهب الإمامي.

ذهب فقهاء الإمامية (أعلى الله شأنهم) إلى أن شرائط الموقوف عليه، خمسة شرائط، وهي:

1- أن يكون موجوداً.

2- التعيين.

3- اهلية التمليك.

4- ان لا يكون الوقف عليه اعانة له على المعصية.

5- أن لا يصرف في المعصية.

جاء ذلك البيان في مبحث السيد اليزدي (علیه الرحمة والرضوان) في شرائط الموقوف عليه، فقال:

(في شرائط الموقوف، وهي أمور:

أحدها: أن يكون موجوداً، فلا يصحّ الوقف على المعدوم الّذي لا يمكن

ص: 85

وجوده بعد ذلك أيضاً كما لو وقف داراً على زيد لسكناه بتخيّل أنّه موجود فتبيّن موته قبل ذلك.

وأمّا إذا وقف على من سيوجد من أولاده فظاهر هم الإجماع على عدم جوازه أيضاً، بل ظاهرهم الإجماع على عدم جواز الوقف على الحمل، قالوا: لأنّ الوقف تمليك ولا يعقل تمليك المعدوم، فإنّ الملكيّة صفة وجوديّة تستدعى محلاً موجوداً، ولهذا لا تصحّ الوصيّة للمعدوم.

وهذا من الوهن بمكان إذ أوّلا: لا يتمّ في الحمل فإنّه موجود ودعوى: عدم قابليّته للملكية ولذا لا تصحّ الوصيّة له، كما ترى، إذ لا فرق بين الحمل والرضيع خصوصاً مع فصل قليل كما إذا كان قبل الوضع بربع ساعة، واشتراط إرثه بتولّده حيّاً، ليس لعدم قابليّته للملكيّة.

بل: للدليل الخاصّ، فلا يصحّ القياس عليه، ولذا استشكلنا على حكمهم في الوصيّة له باشتراط تولّده حيّا.

وثانياً: يرد عليهم النقض بما إذا كان تبعاً لموجود فإنّهم يجوّزونه - کما إذا وقف على أولاده الموجودين ومن سيوجد منهم وكما في سائر البطون اللاحقة - فإنّ تمليك المعدوم لو كان غير معقول لم يكن فرق

بين الاستقلال والتبعيّة، وما في الجواهر: من أنّ معنى تبعيّة البطن الثاني للأوّل أنّ الشارع جعل عقد الوقف سبباً لملك المعدوم بعد وجوده، فالوجود حينئذ كالقبض أحد أجزاء العلّة التامّة في ثبوت الملك له لا أنّه مالك حال عدمه(1). فيه: إنّا نقول بمثله في المعدوم أوّلا أيضاً.

ص: 86


1- الجواهر 28: 363

وثالثاً: لا فرق في المعقولية وعدمها بين كون المالك معدوماً أو المملوك، مع أنّهم يجوّزون تمليك الكلّي في الذمّة، مع أنّه ليس شيئاً موجوداً في الخارج، وأيضا يجوّزون بيع الثمار قبل بروزها عامين أو مع الضميمة، ويجوّزون تمليك المنافع وليست موجودة بل يستوفى شيئاً فشيئاً، ويجوّزون الوصيّة بما تحمله الجارية أو الدابّة ونحو ذلك، ولو كانت الملكيّة تحتاج إلى محلّ موجود لم يتفاوت الحال بين كون المالك معدوماً أو المملوك.

ولا وجه ولا طائل فيما ذكره صاحب الجواهر في دفع إشكال تمليك المعدوم حيث قال: - في مثل بيع الثمار - يمكن منع تحقّق الملك حقيقة، بل أقصاه التأهّل للملك والاستعداد له على حسب ملك النماء لمالك الأصل وملك المنفعة لمالك العين، فهو من قبيل ملك أن يملك لا أنّه ملك حقيقة بل بالأسباب المقرّرة استحقّ أن يملك المعدوم بعد وجوده لا أنّه مالك للمعدوم حقيقة(1). انتهى. مع أنّه كيف يتحقّق البيع حينئذ مع كونه تمليكاً حقيقة.

ورابعاً: أنّ التحقيق أنّ الملكيّة من الأُمور الاعتباريّة، فوجودها عين الاعتبار العقلائي، وليست كالسواد والبياض المحتاجين إلى محلّ خارجي، بل يكفيها المحلّ الاعتباري.

بل، أقول: إنّ جميع الأحكام الشرعيّة من الوجوب والحرمة ونحوهما، وكذا سائر الوضعيّات وأحكام الموالي بالنسبة إلى العبيد والسلاطين بالنسبة إلى الرعايا، اعتبارات عقلائيّة حقيقتها عين الاعتبار ولا وجود لها في الخارج

ص: 87


1- انظر الجواهر 28: 364

غير الاعتبار فيكفيها المحلّ الموجود في اعتبار العقلاء.

كيف وإلاّ لزم عدم تعلّق الوجوب بالصلاة ولا الحرمة بالزنا إلاّ بعد وجودهما في الخارج. نعم مبانيها من الحب والبغض والإرادة والكراهة أعراض خارجيّة، ويتفرّع على ما ذكرنا من التحقيق مطالب كثيرة.

وخامساً: أن الوقف ليس تمليكاً كما مرّ مراراً، ثمّ الظاهر عدم الإشكال في جواز الوقف على الحجّاج والزوّار مع عدم وجود زائر أو حاجّ حين الوقف، وكذا الوقف على طلّاب مدرسة معيّنة مع عدم وجودهم فيها حاله.

وكذا الوقف على إمام مسجد مع عدم إمام له فعلا، والوقف على فقراء قرية مع عدم وجود فقير فيها فعلا وهكذا، واللازم على قولهم بطلان الوقف في المذكورات، فالإنصاف أنّه إن تمّ الإجماع على عدم صحّة الوقف على المعدوم الّذي سيوجد، وإلاّ فالأقوى صحّته، وتحقّق الإجماع الكاشف عن رأي المعصوم (عليه السلام) دونه خرط القتاد، لأنّهم يعلّلون بهذا التعليل العليل.

ودعوى: أنّ الوجه في عدم الصّحة اشتراط القبض في صحّة الوقف ومع كون الموقوف عليه معدوماً لا يمكن تحقّقه، مدفوعة أوّلا، بعدم اشتراط الفوريّة في القبض، وثانياً، بإمكان قبض الحاكم أو المتولّي.

(مسألة 1): لو وقف على معدوم وموجود على القول بعدم جواز الوقف على المعدوم مطلقاً أو في خصوص الّذي قلنا بعدم جواز الوقف عليه، صحّ بالنسبة إلى الموجود في مقدار حصّته وبطل بالنسبة إلى حصّة المعدوم.

وكذا لو وقف على موجود وبعده على معدوم. وأمّا لو بدأ بالمعدوم ثمّ

ص: 88

الموجود فلا إشكال في بطلانه بالنسبة إلى المعدوم، وأمّا بالنسبة إلى الموجود فالمشهور بطلانه أيضاً، وعن الشيخ في خلافه ومبسوطه صحّته بالنسبة إليه(1)

وتبعه في ذلك بعض(2) وكذا الحال لو بدأ بمن لا يصحّ الوقف عليه من جهة أُخرى، مثل الوقف على نفسه أو على المملوك أو على المجهول، فإنّ المشهور على بطلانه بالنسبة إلى من يصحّ الوقف عليه أيضاً.

وعن الشيخ صحّته في حقّه(3) والأقوى الصحّة والتبعيض، فإنّ الظاهر أنّه لا فرق في التبعيض بين كونهما في العرض أو في الطول، كما فيما نحن فيه، فإنّ المرتبة المتأخّرة أيضاً تتلّقى من الواقف.

وما قد يقال: من أنّ مراد الواقف في السلسلة الطوليّة المرتّب بقيد الترتيب فلا يمكن الحكم بالصحّة في البعض دون البعض، محلّ منع، إذ لا فرق بين الترتيب والجمع بينهما في التقييد بالمجموع وعدمه، إذ في الجمع أيضاً يمكن أن يقال: إنّ مراده المجموع فلا يمكن الحكم بصحّة البعض دون البعض.

نعم: إذا علم إرادة التقييد فاللازم الحكم بالبطلان سواء في الطولي والعرضي، هذا. واستدلّ للمشهور القائلين بالبطلان بأنّ اللازم من الحك بالصحّة أحد المحاذير الثلاثة، إمّا الوقف بلا موقوف عليه، أو الوقف المشروط أي المعلّق، أو كون الوقف على خلاف ما قصده الواقف.

ص: 89


1- الخلاف 3: 544، المسألة 10، المبسوط 3: 293، 294
2- منهم ابن سعيد في الجامع: 370
3- انظر المبسوط 3: 293، 294

إذ لو قلنا بصحّته من حين وقوعه مع عدم الموقوف عليه لزم الأوّل، وإن قلنا بكون الموقوف عليه هو الموجود أو من يصحّ الوقف عليه بعد انقضاء مدّة المعدوم أو من لا يصحّ الوقف عليه لزم الثاني، وإن قلنا: إنّ الموقوف عليه هو الموجود أو من يصحّ من حين وقوع الوقف لزم الثالث؟.

والجواب: إنّا نختار الوجه الثاني ولا محذور فيه، إذ التعليق وتأخّر أثر السبب إنّما يضرّ إذا كان الإنشاء كذلك، وأمّا إذا لزم ذلك من جهة بطلان الوقف بالنسبة إلى البعض فلا مانع منه، نظر ما يقولون: إنّ الجهل بمقدار الثمن أو المثمن إنّما يضرّ في البيع إذا كان حين الإنشاء، وأمّا إذا لزم ذلك من قبل تبعّض الصفقة فلا ضرر فيه.

وممّا بيّنّا: ظهر أنّ منافع الوقف قبل انقضاء مدّة المعدوم أو غيره ممّن لا يصحّ الوقف عليه باقية على ملك الواقف، وأنّه لا وجه لما قد يقال: من كونها للفقراء أو كونها لمن بعده.

نعم: يشكل الحال إذا لم يكن للمعدوم مدّة معلومة، كما إذا كان الوقف على مجهول أو نحوه، إلاّ أن يقال: إنّها في هذه الصورة لمن بعده، وهو أيضاً مشكل.

نعم: لو علم من حال الواقف أنّ غرضه الصرف على المذكورين وليس غرضه الصرف على المعدوم ونحوه أوّلا لا محالة، بل يعلم من حاله أنّ مراده أنّه إذا لم يصحّ الوقف عليه أن يصرف فيمن بعده، تمّ ما ذكر.

مثلا إذا وقف على أولاد زيد وقدّم واحداً بملاحظة جهة وتبيّن عدم صحة الوقف عليه وأنّه لو كان عالماً بذلك جعل الوقف على من عداه من

ص: 90

أولاد زيد، فحينئذ يصرف فيهم من غير انتظار انقضاء عمر ذلك الواحد، ولا يبعد استكشاف ذلك في غالب الأوقاف المرتّبة، ومعه لا فرق بين من له مدة معلومة ومن لم يكن له في الصرف على من بعده من حين الوقف.

وظهر ممّا ذكرنا أيضاً حال الوقف المنقطع الوسط، فإنّ حكم ما بعده حکم ما بعد الأوّل في المنقطع الأوّل.

(مسألة 2): إذا وقف على أولاده الموجودين ومن سيوجد وكونه بعد وجوده مقدّماً على الموجودين، فالظاهر صحّته وليس داخلا في مسألة اشتراط نقله إلى من سيوجد كما لا يخفی.

الشرط الثاني: أن يكون له أهليّة التملّك، فلا يجوز الوقف على المملوك بناء على عدم تملّكه كما هو المشهور، وكذا لا يجوز الوقف على الحربي على ما قد يقال بعدم تملّكه لما في يده حيث إنّ ماله فيء للمسلمين، ولا على المرتدّ الفطري حيث إنّ أمواله لورثته وأنّه لا يملك مالا.

لكن كلّ هذا مشكل، أمّا المملوك فالأقوى أنّه يملك على ما بيّن في محلّه خصوصاً المكاتب، وأمّا المرتدّ الفطري فنمنع عدم تملّكه للمال الجديد، إذ غاية ما دلّ الدليل عليه هو أنّ أمواله الموجودة حين الارتداد تنتقل إلى ورثته.

وأمّا المتجدّد فلا دليل عليه، ولا يمكن أن يقال: إذا احتطب أو احتشّ لا يملك بل يبقى على الإباحة، ولا دليل على انتقاله إلى ورثته بمجردّ تملّكه، وعلى فرضه إنّما ينتقل ما كان قابلا للانتقال لا مثل الوقف الّذي ليس كذلك، فلا وجه للتعليل بعدم جواز الوقف على المذكورين بما ذکر.

هذا، مع أنّ المكاتب له الاكتساب، والوقف عليه نوع منه، وأيضاً کون

ص: 91

الوقف تملیکاً ممنوع کما مرّ مراراً، وعلى فرضه فليس منحصراً فيه، بل يمكن أن يجعل المملوك مصرفاً للوقف بأن وقف على أن يصرف منافعه على العبيد الّذين لا يقدر مواليهم على نفقتهم أو يمتنع من ذلك أو للسعة عليهم.

فالأقوى جواز الوقف عليهم نعم المشهور بل قد يدّعي الإجماع عليه: عدم جواز الوصيّة المملوك الغير حتّى في المكاتب - الّذي - ورد في عدم جواز الوصيّة له خبر محمّد بن قيس(1) لكن لا يجوز قياس الوقف عليها.

الشرط الثالث: التعيّن، فلو وقف على أحد الشخصين أو أحد المسجدين أو أحد الطائفتين لم يصحّ بلا خلاف، بل ربّما يدّعي عليه الإجماع، فإن تمّ وإلّا فلا دليل عليه، إلاّ دعوی انصراف أدلّة الوقف وعدم المعهوديّة، ولكنّ الانصراف ممنوع والعمومات شاملة.

وقد يعلّل بعدم معقوليّة تمليك أحد الشخصين على سبيل الإبهام والترديد، لأنّ الملكيّة تحتاج إلى محلّ معيّن كالسواد و البياض. نعم لو كان الموقوف علیه مفهوم أحدهما الصادق على كلّ منهما صحّ لكونه کسائر المفاهيم الكلّية المالكة والمملوكة.

وفيه: أنّه لا مانع من تعلّق الملكيّة بأحد المالكين كما أنّها تتعلّق بأحد الشيئين المملوكين كغيرها من الأحكام الشرعيّة - من الوجوب والاستحباب - کما في جئني برجل، وقد صرّحوا بجواز الوصيّة بأحد الشيئين وليست الملكيّة كالسواد والبياض ونحوهما من الأعراض الخارجيّة.

وأمّا تعلّقها بمفهوم أحدهما فلا وجه له، إذ هو ليس كسائر المفاهيم

ص: 92


1- الوسائل 13: 466، الباب 78 من أبواب الوصایا، ح 1

الكلّية، لأنّه أمر انتزاعي لا يتعلّق به الأغراض، فإذا قال: افعل هذا أو هذا، الواجب أحد المصداقين، لأنّ المصلحة إنّما هي فيهما لا مفهوم الأحد، وهذا بخلاف مفهوم الرجل الصادق علی زید وعمرو، فإنّه من المفاهيم المتأصّلة الّتي فيها المصلحة والفائدة. فالأقوى عدم الاشتراط إن لم يتحقّق الإجماع الكاشف، بل الظاهر عدم الإشكال في صحّة الوقف لصرف منافعه على أحد الشخصين أو أحد المسجدين ويكون المتولّي مخيرّاً بينهما حينئذ.

الشرط الرابع: أن لا يكون الوقف عليه للصرف في المعصية - كمعونة الزناة والشاربين للخمر وشراء الكتب المحرّفة من التوراة والإنجيل وسائر كتب الضلال و نسخها وتدريسها وشراء آلات الملاهي ونحوها - والظاهر فساده مضافاً إلى حرمته.

الشرط الخامس: أن لا يكون الوقف عليه إعانة له على المعصية، كالوقف على من يعلم أنّه يصرف منافع الموقوفة في الزنا وشرب الخمر، ومنه الوقف على البيع والكنائس لكونه إعانة لهم على ما هو محرّم عليهم من التعبّد فيها. وفي فساده وعدمه وجهان: من النهي وانصراف الأدلّة، ومن كون النهي متعلّقاً بأمر خارج)(1).

المسألة الثانية: شرائط الوقوف عليه في المذاهب الاخرى.

ص: 93


1- العروة الوثقی: ج 6 ص 314 - 320

أولاً: المذهب الزيدي.

حدد فقهاء المذهب الزيدي شرائط الموقوف عليه بأمرين، الأول: القربة والآخر: التعيين، جاء ذلك في مبحث إمام الزيدية أحمد المرتضى، فقال:

(أما الذي يشترط في المصرف فذلك كونه قربة تحقيقا أو تقديرا فالتحقيق نحو أن يقفه على فقراء المسلمين أو على مسجد أو منهل أو نحو ذلك والمقدرة نحو أن يقفه على غني معين أو ذمي معين لأنه يقدر حصولها بموته و انتقال الوقف إلى المصالح وسواء كان الموقوف عليه موجودا كأن يقف على زيد أو معدوما كأن يقف على أولاده قبل أن يوجدوا)(1).

ثانياً: المذهب الشافعي.

حدد فقهاء المذهب الشافعي شروط الموقوف عليه بثلاثة، وهي:

1- أن يكون موجوداً، فلا يصح المعدم.

2- التمليك.

3- التعيين.

4- عدم المعصية.

جاء ذلك في بيان البكري الدمياطي (ت 1310 ه) في مبحث الوقف، فقال:

(وإمكان تمليك معطوف على تأبيد، أي وشرط له إمكان تمليك الواقف للموقوف عليه العين الموقوفة، ففاعل المصدر محذوف، والعين مفعوله.

ص: 94


1- شرح الأزهار: ج 3 ص 462

والأولى: وإمكان تملکه - کما عبر به في المنهج - وشرط في الموقوف علیه عدم المعصية، فلو قال وقفت على زيد ليقتل من يحرم قتله أو على مرتد أو حربي، لم يصح قوله: إن وقف على معين قيد في هذا الشرط، وخرج به، ما إذا وقف على جهة فيصح الوقف بدون هذا الشرط، أعني إمكان تملیکه، نعم، يشترط فيها عدم المعصية.

وعبارة المنهج مع شرحه، وشرط في الموقوف عليه إن لم يتعين، بأن كان جهة عدم كونه معصية فيصح الوقف على فقراء وعلى أغنياء، وإن لم تظهر فيهم قربة، نظرا إلى أن الوقف تمليك، کالوصية، لا على معصية، كعمارة کنیسة للتعبد.

وشرط فيه، إن تعين مع ما مر، إمكان تملكه للموقوف عليه من الواقف، لان الوقف تمليك للمنفعة. قوله: واحد أو جمع بدل من معين أو صفة له قوله: بأن يوجد الخ) تصویر لامكان التمليك.

أي أنه مصور بوجود الموقوف عليه حال الوقف خارجا متأهلا للملك قوله: فلا يصح الوقف على معدم أي لعدم وجوده خارجا حال الوقف، فهو لا يمكن تملیکه قوله: كعلی مسجد سيبني أي كأن يقول: وقفت هذا على مسجد، وهو معدوم قوله: أو على ولده ولا ولد له أي أو قال وقفت هذا على أولادي، والحال أنه لا أولاد له، فلا يصح)(1).

ثالثاً: المذهب المالكي.

ص: 95


1- اعانة الطالبيين: ج 3 ص 192 - 19

حدد فقهاء المذهب المالكي شرائط الموقوف عليه بثلاثة شرائط، وهي:

1- التمليك.

2- التعيين.

3- القبول، وقد اختلفوا في، فقيل يشترط، وقيل: لا يشترط.

جاء ذلك في بيان الخطاب الرعيني (ت 954 هم) المبحث الوقف، فقال:

(على أهل للتملك هذا الضابط ليس بشامل لخروج نحو المسجد والقنطرة منه، والصواب ما قاله ابن عرفة المحبس عليه ما جاز صرفه منفعة الحبس له أو فيه وإن كان معينا يصح رده اعتبر قبوله ابن شاس: لا يشترط في صحة الموقوف عليه قبوله إلا أن يكون معينا أهلا للرد والقبول، وفي كون قبوله شرطا في اختصاصه به أو في أصل الوقف خلاف انتهی.

کمن سيولد له تصوره واضح. ولا معارضة بينه وبين قوله بعد هذا: على ولدي ولا ولد له في كونه جعل له بيعه لأنه هنا تكلم على صحة الوقف وهناك على لزومه وهما متغایران.

قال ابن عرفة المتيطي: المشهور المعمول عليه صحته على الحمل. ابن الهندي: زعم بعضهم أنه لا يجوز على الحمل والروايات واضحة بصحته على ما سيولد له وبها احتج الجمهور على الحمل.

وفي لزومه بعقده على من يولد قبل ولادته قولا ابن القاسم ومالك لنقل الشيخ: روی محمد بن الجواز وابن عبدوس لمن حبس على ولده ولا ولد له بيع ما حبسه ما لم يولد له، ومنعه ابن القاسم قائلا: لو جاز لجاز بعد وجود الولد وموته. قلت: يرد بأنه لمالزم بوجوده استمر ثبوته لوجود

ص: 96

متعلقه وقبله لا وجود لمتعلقه حكما.

والأولى احتجاج غیره بأنه حبس قد صار على مجهول من يأتي فصار موقوفا أبدا ومرجعه لأولى الناس بالمحبس وهم فيه متكلم انتهى. وهو قريب من قول ابن الماجشون. قال ابن الحاجب: ولو قال: على أولادي ولا ولد له ففي جواز بيعه قبل إياسه قولان.

ابن الماجشون: يحكم بحبسه ويخرج إلى يد ثقة ليصح الحوز وتوقف ثمرته، فإن ولد له فلهم وإلا فلاقرب الناس إليه. قال في التوضيح: قول ابن الماجشون ثالث يرى أن الحبس قد تم وإن لم يولد له رجع إلى أقرب الناس بالمحبس.

وقوله: فإن ولد له فلهم أي الحبس والثمرة وإذا بقي وقفا عليهم رد إليه لأنه يصح حوزه لولده. قاله الباجي انتهى. ومن التوضيح عن ابن القاسم قال: وإن مات قبل أن يولد له صار میراثا انتهى.

مسألة: سئلت عنها وهي رجل قال في كتاب وقفه أوقف كاتبه الدار الفلانية على ولده فلان ثم بعده على أولاده الثلاثة فلان وفلان وفلان وعلى من يحدثه الله له من الأولاد، هل الضمير في قوله: له يرجع إلى الواقف أو إلى الولد؟

فأجبت: إن الظاهر عوده على الولد لأنه الأقرب وهو الذي يدل عليه السياق. فقال السائل: إن الواقف قال في وصيته إني أوقفت الدار على ولدي فلان وعلى من يحدثه الله لي من الأولاد فبين مرجع الضمير. فأجبت بأنه يقبل قوله فإن ابن رشد قال في أجوبته: يجب أن يتبع قول المحبس في وجوه تحبيسه،

ص: 97

فما كان من نص جلي لو كان حيا فقال إنه أراد ما يخالفه لم يلتفت إلى قوله ووجب أن يحكم به ولا يخالف حده فيه إلا أن يمنع منه مانع من جهة الشرع.

وما كان من کلام محتمل لوجهين فأكثر حمل على أظهر محتملاته إلا أن يعارض أظهرهما أصل فيحمل على الأظهر من باقيها إذا كان المحبس قد مات ففات أن يسأل عما أراد بقوله من محتملاته، فيصدق فيه إذ هو أعرف بما أرادوا حق ببيانه من غيره انتهى.

فعلم منه إذا كان حيا وفسر اللفظ بأحد احتمالاته قبل تفسيره ولو كان خلاف الظاهر ولا يقبل قوله في الصريح إذا ادعى أنه أراد خلاف معناه والله أعلم. ثم رأيت في مسائل الحبس من البرزلي: إذا قال حبس على فلان وكل ولد يحدثه الله له فقط، فالضمير عائد على الابن المحبس عليه لدلالة اللفظ عليه لان الضمير يعود على الأقرب انتهى.

فرع: قريب من هذا المعنى: قال القرافي في الذخيرة في باب الحبس من کتاب الدعوى: فرع: وقع فيه النزاع بين فقهاء العصر وهو بعيد ينبغي الوقوف عليه وهو: إذا قال الواقف فمن مات منهم فنصيبه لأهل طبقته وقد تقدم قبل هذا الشرط ذكر الواقف فبقي الضمير دائرا بين طبقة الواقف والموقوف عليه، فينبغي تعيين المقصود في الكتابة.

وإذا نص على طبقة الموقوف عليه فيميز بين الأخ وابن العم مع ابن عمه الجميع أولاد عم وهو مع أخيه الكل إخوة فكلا الجهتين طبقة واحدة، فينبغي أن يبين ذلك فيقول من إخوته أو يقول الأقرب فالأقرب فيتعين الأخ، فإنه وإن كان في الطبقة وابن العم كذلك إلا أن الأخ أقرب.

ص: 98

فإن قال الأقرب فالأقرب فأفتوا بالتسوية في الشقيق والأخ للأب، فإن حجب الشقيق له ليس بالقرب بل بالقرعة، فإن قال طبقته وسكت فأفتی بعضهم بالأخ دون ابن العم قال: لأنه حمل اللفظ على أتم مراده.

وبعض الفقهاء يتوهم أنه إذا قيل في طبقته فلا احتمال فيه وليس کما قال لما بينت لك انتهى. وقوله: فلا احتمال فيه أنه إذا قيل في طبقته فإنما يدخل الإخوة فقط دون بني عم العم من غير احتمال. فحاصله أنه إذا قيل رجع نصيبه لمن في طبقته ولم يزد على ذلك إنما يتنزل منزلته إخوته فقط دون بني عم، إما أصالة كما قال بعضهم، أو يحمل اللفظ على أتم مراده کما قاله القرافي والله أعلم)(1).

رابعاً: المذهب الحنفي.

لم يضع فقهاء المذهب الحنفي شرائط في الموقوف عليه؛ بل قد صرحوا بعدم اشتراط القبول والتعيين، وهم بذلك يخالفون جميع المذاهب.

جاء ذلك في بيان الحصفكي (ت 1088 ه) لمبحث الوقف، فقال:

(صح الوقف قبل وجود الموقوف عليه، فلو وقف على أولاد زيد، ولا ولد له، أو على هيأه لبناء مسجد أو مدرسة صح في (الأصح) وتصرف الغلة للفقراء إلى أن يولد لزيد أو يبني المسجد)(2).

خامساً: المذهب الحنبلي.

ص: 99


1- مواهب الجليل: ج 7 ص 631 - 634
2- الدر المختار: ج 4 ص 632

حدد فقهاء المذهب الحنبلي شرائط الموقوف علیه بشرط واحد وهو: القبول، وقد اختلفوا فيه، فمنهم من عده شرطاً ومنهم من لم يعده.

جاء ذلك في بيان ابن قدامة المقدسي (ت 620 ه) لمبحث الوقف، فقال:

(لا يفتقر إلى القبول من الموقوف عليه ذكره القاضي، وقال أبو الخطاب إن كان الوقف على غير معين كالمساكين أو من لا يتصور منه القبول كالمساجد والقناطر لم يفتقر إلى قبول، وإن كان على آدمي معين ففي اشتراط القبول وجهان أحدهما اشتراطه لأنه تبرع لآدمي معين فكان من شرطة القبول کالهبة والوصية يحققه أن الوصية إذا كانت لأدمي معين وقفت على قوله وإذا كانت لغير معين أو المسجد أو نحوه لم تفتقر إلى قبول كذا ههنا)(1).

المسألة الثالثة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة.

تباينت اقوال فقهاء المذاهب الإسلامية في عدد شرائط الموقوف عليه وفي نوعها، وهي كالاتي:

أولاً: في عدد شرائط الموقوف عليه.

1- ذهب الإمامية إلى أنها خمسة شرائط.

2- وقال الزيدية: بانها أمرين.

3- وقال الشافعية: أربعة شرائط.

4- وقال المالكية: ثلاثة شرائط.

5- وقال الحنابلة: بشرط واحد.

ص: 100


1- المغني: ج 6 ص 188 - 189

ثانياً: في نوع الشروط.

1- ان يكون الموقوف عليه موجوداً.

وبه قالت الإمامية، والشافعية.

2- التعيين.

وبه قالت: الإمامية والزيدية، والشافعية، والمالكية.

3- أهلية التمليك.

وبه قالت الإمامية، والشافعية، والمالكية.

4- أن لا يكون الموقف اعانة الموقوف عليه على المعصية.

وبه قالت: الإمامية والشافعية.

5- إن لا يصرفه في المعصية.

وبه قالت: الإمامية فقط.

6- القبول.

وبه قالت: الحنابلة وقد اختلفوا فيه؛ وقالت الحنفية لا يشترط.

7- القربة.

وبه قالت: الزيدية فقط.

ص: 101

ص: 102

المبحث الرابع في الشروط التي يضعها الواقف

قال أمير المؤمنين الإمام علي (عليه الصلاة والسلام):

«وَيَشْترَطُ عَلىَ الَّذِي يَجعَلُهُ إِلَيْهِ، أَنْ يَترْكَ الَمالَ عَلىَ أُصُولِهِ، ويُنْقفِقَ مِنْ ثَمَرِهِ حَيْثُ أُمِرَ بِهِ وَهُدِيَ لَهُ، أَلاَّ يَبِيعَ مِنْ أَوْلاَدِ نَخِيلَ هذِهِ الْقُرَى وَدِيَّةً، حَتَّى تُشْكِلَ أَرْضُهَا غِرَاساً»(1).

يحدد النص الشريف كيفية التعامل مع الوقف وقد بيّن (عليه السلام) ثلاثة أمور؛ وهي: الشروط التي يحددها الواقف، وهو نفسه (عليه السلام) فكانت كالاتي:

1- أن يترك المال على أصوله.

2- ينفق من ثمره حيث أمر به.

3- ألا يبيع فصيل هذه القرى ودية حتى تشكل أرضها غراساً.

وفي هذا المبحث نكتفي بما ورد عن المذهب الإمامي فقط، وذلك لعدم تعرض بقية فقهاء المذاهب الاخرى للمسالة؛ ثم نورد ما أرتبط بالفصل من قواعد فقهية منزلة بحسب عنوانات المباحث، ونتبعها بما ورد في شروح نهج البلاغة في هذه الوصية المباركة.

ص: 103


1- نهج البلاغة، الوصية 24 بتحقيق الشيخ قيس العطار، ص 575، طبع العتبة العلوية المقدسة

وعليه: سيكون المبحث مقسم إلى بعض المسائل، وهي كالاتي:

المسألة الأولى: ما أورده السيد اليزدي (قدس سره) في المسألة:

(المسألة 32): يستحقّ الموقوف عليه مع إطلاق الوقف جميع المنافع المتجدّدة بعده للعين الموقوفة ولو كانت نادرة، فيدخل في منافع العبد جميع ما يكتسبه حتّى بالالتقاط والاصطياد الغير المعتاد له، وفي منافع الجارية جميع ما تكتسبه حتّى المهر وكذا الحمل المتجدّد إذا كان مملوكاً، وكذا في الدابّة بناءً على ما هو الأقوى من عدم تبعيته لها في الوقفيّة.

ويدخل في منافع الشجر والنخل فروخهما والسعف والأغصان والأوراق اليابسات وغيرها إذا قطعت للتهذيب أو انقطعت.

(مسألة 33): الثمر الموجود حال الوقف على النخل والشجر لا يكون للموقوف عليه، بل هو للواقف ولو كان قبل بدوّ صلاحه، بل يكفي في كونه مجرّد ظهوره، من غير فرق بين ما قبل التأبير وما بعده. نعم ذكر جماعة(1) أنّ الصوف على الشاة واللبن في ضرعها الموجودين حال الوقف للموقوف عليه، وهو مشكل، إذ لا فرق بينهما وبين ثمر النخل والشجر، هذا وفي الحاصل بعد إجراء الصيغة وقبل الإقباض إشكال.

(مسألة 34): إذا انقلعت نخلة من الوقف، فإن كان وقفها للانتفاع بثمرها جاز بيعها لخروجها عن الانتفاع بذلك، وإن كان للانتفاع بها بأيّ وجه كان، فإن أمكن الانتفاع بها بالتسقيف ونحوه مع بقائها تعيّن، وإلاّ

ص: 104


1- منهم العلّامة في القواعد 2: 394، والشهيد في الدروس 2: 277، والكركي في جامع المقاصد 9: 67

بيعت وصرف ثمنها في شراء نخلة أُخرى أو في مصالح البستان الموقوفة الّتي هي فيها.

(مسألة 35): إذا آجر المتولّي للوقف لمصلحة البطون مدّة تزيد على عمر الموجودين نفذت، ولم يكن للبطون اللاحقة فسخها.

وأمّا إذا آجر البطن المتقدّم إلى مدّة ومات في أثنائها لم تنفذ في بقيّة المدّة لكون ملكيّته موقّتة إلى حين موته، فما ينقل عن بعض: من نفوذها كما في إجارة غير الوقف إذا مات المالك في أثناء المدّة لا وجه له، إذ المالك للعين طلقاً مالك لجميع منافعها إلى الأبد، فله التصرّف فيها بالإجارة ونحوها، بخلاف الوقف، فإنّه لا يملك منافع ما بعد موته.

ثمّ هل تصحّ بالإجازة من البطن اللاحق أو لا، بل تبطل مطلقاً؟ قولان، صريح جماعة: الأوّل، لأدلّة الفضولي(1). وعن جماعة: الثاني، لأنّ الإجازة لا تصحّ إلاّ إذا كان هناك مجيز في حال إجراء الصيغة(2) إلّا أن يقال: يكفي وجود المتولّي أو الحاكم، وأيضاً لعدم كون البطن اللاحق مالكاً حينه بل قد لا يكون موجوداً أيضاً وإنّما يملك العين أو منافعها حين موت السابقين، فلا يمكن كون الإجازة كاشفة عن صحّتها حين وقوعها فهي من قبيل مسألة «من باع شيئاً ثمّ ملك».

ثمّ على تقدير البطلان أو عدم الإجازة إن سلّم المستأجر اُجرة تمام المدّة يرجع على تركة المؤجر بمقدار ما يقابل بقية المدّة، وحيث إنّه قد تكون

ص: 105


1- انظر الحدائق 22: 256، 257، الجواهر 28: 113، 114
2- انظر الحدائق 22: 256، 257، الجواهر 28: 113، 114

اُجرة المثل للمدّة الباقية أزيد، وقد تكون بالعكس بحسب السنين فطريق الرجوع كما في المسالك أن تنسب اُجرة المثل لما بقي إلى اُجرة المثل لمجموع المدّة وتؤخذ بتلك النسبة.

فإذا أجر سنة بمائة ومات بعد انقضاء نصفها وكانت اُجرة المثل للنصف الباقي ستّين وللنصف الماضي ثلاثين يستحقّ ثلثي المائة وبالعكس بالعكس(1) والمراد ملاحظة اُجرة مثله في ضمن المجموع لا منفرداً إذ قد تختلف اُجرة مثله منفرداً مع اُجرة مثله منضمّاً بالزيادة والنقصان، والمفروض أنّ المعاملة وقعت على المجموع فاللازم ملاحظته منضمّاً.

لكنه مشكل، من حيث إنّه إذا وقعت الإجارة إلى مدّة كعشر سنين بمائة مثلا، وكانت اُجرة المثل بالنسبة إلى السنوات مختلفة بالزيادة والنقصان، لا يلاحظ توزيع مال الإجارة عليها بالنسبة، بل يلاحظ المجموع ويوزّع على السنين بالتساوي، ففي عشر سنين بمائة يلاحظ لكلّ سنة عشرة.

فإذا بطلت الإجارة في أثناء المدّة كان اللازم استرجاع ما بقي بهذه الملاحظة فمع مضيّ النصف يسترجع نصف مال الإجارة لما بقي، وليس الحال مثل ما إذا باع ماله ومال غيره صفقة واحدة بثمن واحد مع اختلاف قيمتها، حيث إنّه يوزّع عليهما بالنسبة. نعم لو لوحظ المقام أيضاً بالنسبة كان الأمر كما ذكره صاحب المسالك).

(مسألة 36): لا إشكال في عدم جواز بيع الوقف وعليه الإجماع، بل عدم جواز البيع وسائر النواقل وما في معرض النقل كالرهن داخل في حقيقته، إذ

ص: 106


1- المسالك 5: 401

هو تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة.

ويستدلّ عليه أيضاً بجملة من الأخبار(1) لكن لا تزيد على ما هو داخل في حقيقتها بل لا يستفاد منها إلاّ عدم جوازه في الجملة فلا تنفع في مقامات الشكّ.

ومنها: قوله (عليه السلام):

«الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها»(2)

(والاستدلال به مبنيّ على أن يكون المراد الوقوف يجب إبقاؤها، وليس كذلك، إذ من المحتمل بل الظاهر أن يكون المراد أنّ الوقف يجب العمل بها على الكيفيّة الّتي قرّرها الواقف من القيود والشروط في الموقوف عليه والعين الموقوفة وصرف المنافع، بل هو يكون دليلا على الجواز فيما لو شرط ما يوجب ذلك.

و منها: قوله (عليه السلام):

«لا يجوز شراء الوقف و لا تدخل الغلّة في ملكك»(3).

و هذا ظاهر في عدم جواز الشراء على نحو الملك المطلق وهو من الضروريات في الوقف.

ومنها: قوله (عليه السلام) - في جملة من الأخبار -:

ص: 107


1- الوسائل 13: 303، الباب 6 من أبواب الوقوف والصدقات
2- الوسائل 13: 295، الباب 2 من أبواب الوقوف والصدقات، ح 1 و 2
3- الوسائل 13: 303، الباب 6 من أبواب الوقوف والصدقات، ح 1

«صدقة لا تباع ولا توهب ولا نورث».(1)

بدعوى: أنّ الظاهر منها أنّ عدم جواز البيع داخل في حقيقته فإنّه وصف للنوع لا للشخص، وفيه: أنّ المراد من عدم البيع هو بيعه على نحو سائر الأملاك فلا تدلّ على المنع كلّيّة وفي مقامات الشكّ وفي البيع بإرادة شراء لا ملك آخر بدله.

وقد يستدلّ بأنّ البيع ونحوه مناف لحقّ البطون ومن هنا قد يقال: إنّ المانع من بيع الوقف أُمور ثلاثة: حقّ الواقف، وحقّ البطون، والتعبّد الشرعي. لكن هذا أيضاً لا تفيد الكليّة.

فالعمدة هو ما ذكرنا من كونه داخلا في حقيقته بل الإجماع من حيث إنّه يظهر من حال المجمعين أنّ الأصل والقاعدة عدم جوازه وأنّ جوازه يحتاج إلى دليل، وكيف كان فاللازم التكلّم فيما استثني وخرج عن القاعدة)(2).

المسألة الثانية: قاعدة (الوقوف على حسب ما يوقفها).

هذه القاعدة أوردها السيد البجنوردي (رحمه الله) (ت 1395 ه) في قواعده، وتعرض فيها لجهات عدة كمدرك القاعدة، وبيان المراد منها، في تطبيقها على مواردها، وقد أسهب (رحمه الله) في الجهة الثانية فأورد ما تناوله المحقق الحلي (عليه الرحمة والرضوان) في كتاب الوقف ومطالبه.

وعليه: نكتفي بإيراد مدرك القاعدة، والمراد منها دون الخوض في مطالب الوقف، وذلك لإيرادها فیما سبق من مباحث هذا الفصل.

ص: 108


1- الوسائل 13: 303، الباب 6 من أبواب الوقوف والصدقات، ح 2
2- العروة الوثقی: ج 6 ص 373 - 377

أولاً: مبنى القاعدة ومدركها.

قال (عليه رحمه الله ورضوانه) في بيان مبنى القاعدة ومدركها:

(روى الصدوق عن الصفاره أنه كتب إلى ابي محمد الحسن بن علي (عليه السلام) في الوقف، وما روى فيه عن أبائه (عليهم السلام):

«الوقوف تكون على حسب ما يوقفها أهلها، إن شاء الله»(1).

وروى الكليني قدس سره عن محمد بن يحيى قال:

كتب بعض أصحابنا إلى أبي محمد عليه السلام في الوقوف وما روى فيها فوقع (عليه السلام):

«الوقوف على حسب ما يقفها أهلها إن شاء الله»(2).

والظاهر أنها رواية واحدة، ومراد الكليني قدس سره من بعض أصحابنا هو محمد بن الحسن الصفار أيضا، إلا أن في الأولى بزيادة لفظة تكون قبل كلمة على حسب.

وكلمة يوقفها بصيغة باب الافعال، وفي الثانية يقفها بصيغة الثلاثي، ولعل الثانية أصح، لما ذكره في نهاية ابن أثير: من أنه يقال وقفت الشئ اقفه

ص: 109


1- من لا يحضره الفقيه: ج 4 ص 237، حدیث 5567 باب الوقف والصدقة والنحل؛ وسائل الشيعة: ج 13 ص 295 في احكام الوقوف والصدقات، باب: 2 حدیث: 1
2- الكافي: ج 7 ص 37 باب ما يجوز من الوقف والصدقة والنحل...، ح 34، (وسائل الشيعة) ج 13 ص 295 في أحكام الوقوف والصدقات باب 2 ح 2

وقفا، ولا يقال: أوقفت إلا على لغة رديئة(1)، وإن كان بصورة باب الافعال في الروايات كثيرة. ولا حجية لما في النهاية.

وروى الشيخ بإسناده عن محمد بن الحسن الصفار قال: كتبت إلى أبي محمد (عليه السلام) أسأله عن الوقف الذي يصح كيف هو؟ فقد روى أن الوقف إذا كان غير موقت فهو باطل مردود على الورثة، وإذا كان موقتا فهو صحيح ممضى، قال قوم: إن الموقت الذي يذكر فيه أنه وقف على فلان وعقبه، فإذا انقرضوا فهو للفقراء والمساكين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، والذي هو غير موقت أن يقول: هذا وقف ولم يذكر أحدا، فما الذي يصح من ذلك، وما الذي يبطل؟ فوقع عليه السلام:

«الوقوف بحسب ما يوقفها أهلها إن شاء الله»(2)

ثانياً: المراد من القاعدة.

قال (رحمه الله) في بيان المراد من القاعدة:

(بعد ثبوتها بهذه الروايات المعتبرة التي يثق الإنسان بصدورها، وإن كانت مكاتيب، لما ذكره المشايخ الثلاث في جوامعهم وصحة سندها واعتماد جل الأصحاب في فتاواهم عليها واستنادهم إليها.

فنقول: الظاهر أنه عليه السلام بعد السؤال عن الوقوف وأحكامه وكيفيته وما روي عنهم (عليهم السلام) فيه يجيب بصورة كبرى كلية لهذه الأسئلة، فيكون مفادها أن كل وقف - لعموم جمع المعروف بالألف واللام

ص: 110


1- (النهاية) ج 5 ص 216 مادة (وقف)
2- القواعد الفقهية: ج 4 ص 229 - 230

- يجب أن يعامل معه بحسب ما وقفه الواقف، من الشروط والخصوصيات والكيفيات، وما عينه من التصرفات فيه، ومن عينه لان يكون ناظرا عليه.

ومعلم أن مراده (عليهم السلام) عن لزوم العمل مع الوقف على طبق جعل الواقف - مما ذكرناه - فيما إذا كان أصل الوقف وجميع خصوصياته وكيفيته وشرائطه المجهولة مشروعة ولم تكن ممامنع عنه الشارع، مثلا: الشرط الذي شرطه الواقف في ضمن عقد الوقف یکون واجدالشرائط صحة الشروط. وهكذا تدل هذه الجملة على أنه لا يجوز أن يعامل مع الوقف ما ينافي حقيقته وإن لم يشترط فيه شرط أصلا)(1).

المسألة الثالثة: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة.

تناول شراح النهج هذه الوصية المباركة وبيان معانيها، ودلالاتها، ونكتها، وقد أورد ابن میثم البحراني (رحمه الله) الوصية بتمامها، دون الاشارة إلى مصادرها، ثم شرع ببيان مطالبها، وهي كالاتي:

أولاً: ما أورده ابن میثم البحراني (رحمه الله).

قال (رحمه الله) في بيان معان الوصية:

(قال الرضي: قوله (عليه السلام) في هذه الوصية «وأَلَّا يَبِيعَ مِن أَولَادِ نَخِيلِ هَذِه القُرَى وَدِيَّةً»: الودية: الفسيلة، وجمعها ودي، وقوله (عليه السلام) «حَتَّى تُشكِلَ أَرضُهَا غِرَاساً».

هو من أفصح الكلام، والمراد به أن الأرض يكثر فيها غراس النخل

ص: 111


1- المصدر السابق

حتى يراها الناظر على غير تلك الصفة التي عرفها بها فيشكل عليه أمرها ويحسبها غيرها.

أقول:

رويت هذه الوصيّة بروایات مختلفة بالزيادة والنقصان وقد حذف السيّد منها فصولا ولنوردها برواية يغلب على الظنّ صدقها:

عن عبد الرحمن بن الحجّاج قال: بعث إليّ بهذه الوصيّة أبو إبراهيم عليه السّلام. هذا ما أوصى به وقضى في ماله عبد الله عليّ ابتغاء وجه الله ليولجني به الجنّة ويصرفني به عن النار يوم تبيّض وجوه وتسوّد وجوه. إنّ ما كان لي بينبع من مال يعرف لي فيها وما حولها صدقة، ورقيقهاغير أبي رباح وأبي يبر و عتقاء ليس لأحد عليهم سبيل.

فهم موالي يعملون في المال خمس حجج وفيه نفقتهم ورزقهم ورزق أهاليهم. ومع ذلك ما كان بوادي القرى كلَّه مال بني فاطمة رقيقها صدقة وما كان لي لبني وأهلها صدقة غير أنّ رقيقها لهم مثل ما كتبت لأصحابهم، وما كان لي بادنية وأهلها صدقة، والقصد کما قد علمتم صدقة في سبيل الله وإنّ الَّذي كتبت ومن أموالي هذه صدقة واجبة ببكَّة حيّا أنا كنت أو ميّتا ينفق في كلّ نفقة أبتغي بها وجه الله في سبيل الله وجهة ذوى الرحم من بني هاشم وبني المطَّلب والقريب والبعيد. وإنّه يقوم بذلك الحسن بن عليّ يأكل منه بالمعروف وينفقه حيث يريد الله في كلّ محلَّل لا حرج عليه فيه، وإن أراد أن يبيع نصيبا من المال فيقضي به الدين فليفعل إن شاء لا حرج عليه فيه، وإن شاء جعله من الملك، وإنّ ولد عليّ أموالهم إلى الحسن بن عليّ وإن كانت دار

ص: 112

الحسن غير دار الصدقة فبدا له أن يبيعها فليبعها إن شاء لا حرج عليه فيه.

فإن باع فإنّه يقسمها ثلاثة أثلاث:

فيجعل ثلثا في سبيل الله،

ويجعل ثلثا في بني هاشم وبنى المطَّلب،

ويجعل الثلث في آل أبي طالب وأنّه يضعهم حيث يريد الله.

ثمّ يتّصل بقوله: وإن حدث بحسن حدث وحسين حيّ فإنّه إلى حسين بن عليّ وإنّ حسينا يفعل فيه مثل الَّذي أمرت به حسنا، له مثل الَّذي كتبت للحسن وعليه مثل الَّذي على الحسن.

ثمّ يتّصل بقوله: وإنّ الَّذي لبني فاطمة. إلى قوله: وتشريفا لوصلته.

ثمّ يقول:

وإن حدث بحسن وحسین حدث فإنّ للآخر منهما أن ينظر في بني عليّ فإن وجد فيهم من يرضى بهديه وإسلامه وأمانته منهم فإنّه يجعله إليه إن شاء وإن لم ير فيهم بعض الَّذي يريد فإنّه يجعله في بني ابني فاطمة ويجعله إلى من يرضى بهديه وإسلامه وأمانته منهم.

وإنّه شرط على الَّذي جعله إليه أن يترك المال على أصوله وينفق من ثمره حيث أمره الله من سبيل الله ووجوهه وذوي الرحم من بني هاشم وبني المطَّلب والقريب والبعيد، وأن لا يبيع من أولاد نخيل هذه القرى إلى آخره.

ثمّ يقول:

ليس لأحد عليها سبيل هذا ما قضى على أمواله هذه يوم قدم مسکن

ص: 113

ابتغاء وجه الله والدار الآخرة لا يباع منه شيء ولا يوهب ولا يورث والله المستعان على كلّ حال، ولا يحلّ لامرئ مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يغيّر شيئا ممّا أوصيت به في مال ولا يخالف فيه أمري من قريب ولا بعيد.

وشهد هذا أبو سمر بن أبرهة وصعصعة بن صوحان وسعيد بن قيس وهيّاج بن أبي الهيّاج، وكتب عليّ بن أبي طالب بده لعشر خلون من جمادی الأولى سنة سبع وثلاثين.

يولجني: يدخلني. والأمنة: الأمن. وحرّرها: جعلها حرّة.

وأكثر هذه الوصيّة واضح عن الشرح غير أنّ فيها نکتا:

الأولى: جواز الوصيّة والوقف على هذا الوجه، وتعليم الناس كيفيّة ذلك.

الثانية: قوله: يأكل منه بالمعروف: أي على وجه الاقتصاد الَّذي يحلّ له من غير إسراف و تبذير ولا بخل وتقتير.

وينفق منه في المعروف: أي في وجوه البرّ المتعارفة غير المنكرة في الدين.

الثالثة: قوله: فإن حدث بحسن حدث. كناية عن الموت. والأمر يحتمل أن يريد به أمره بما أمره به وقيامه به تنفيذه وإجراؤه في موارده، ويحتمل أن پرید به جنس الأمور الَّتي أُمر بالتصرّف فيها وبها.

الرابعة: الضمير في قوله: بعده. للحسن. وفي أصدره. للأمر الَّذي يقوم به. وأمّا الضمير الَّذي في مصدره فيحتمل وجهين:

أحدهما: عوده إلى الحسن، وتقديره وأصدر الحسين الأمر كإصدار الحسن له وقضى في المال كقضائه. والمصدر بمعنى الإصدار كقوله «وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ

ص: 114

مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا»(1) أي إنباتا، ويحتمل أن يكون المصدر محلّ الإصدار: أي وأصدره في محلّ إصداره.

الثاني: ويحتمل أن يعود إلى الأمر الَّذي وصىّ به عليه السّلام ويكون المعنى ووضع كلّ شيء موضعه.

الخامسة: قوله: أن يترك المال على أصوله. كناية عن عدم إخراجه ببيع أو هبة أو بوجه من وجوه التملیکات.

السادسة: قوله: وأن لا يبيع من أولاد نخيل هذه القرى وديّة حتّى يشكل أرضها غراسا. والحكمة في ذلك و جهان:

أحدهما: أنّ الأرض قبل أن تشكل غراسا ربّما يموت فيها ما يحتاج إلى أخلاف فينبغي أن لا يباع من فسیلها شيء حتّى تكمل غراسا وثبت بحيث لا يحتاج إلى شيء.

الثاني: أنّ النخلة قبل أن يشكل أرضها تكون بعد غیر مستحكمة الجذع ولا مشتدّة فلو قلع فسیلها من تحتها ضعف جدّا حتّى لا تكاد نتجت فأمّا إذا قویت واشتدّت لم يكن عليها بقلع فسیلها كثير مضرّة وذلك حين يشكل أرضها ويتکامل غراسها وتلتبس على الناظر حسب ما فسرّه السيّد - رحمه الله -.

السابعة: كنّي بالطواف على إمائه عن نكاحهنّ وكنّ يومئذ سبع عشرة منهنّ أُمّهات الأولاد أحياء معهنّ أولادهنّ، ومنهنّ حبالى، ومنهنّ من لا ولد لها.

ص: 115


1- نوح: 17

فقضى فيهنّ إن حدث به حادث الموت أنّ من كانت منهنّ ليس لها ولد ولا حبلى فهي عتیق لوجه الله لا سبيل لأحد عليها، ومن كان منهنّ لها ولدا وهي حبلى فتمسّك على ولدها وهي من حظَّه: أي تلزمه.

ويحسب ثمنها من حصّته وتنعتق عليه فإن مات ولدها وهي حيّة فهي عتيق لا سبيل لأحد عليها، وقضاؤه عليه السلام بكون أُمّ الولد الحيّ محسوبة من حظَّ ولدها وتعتق من مات ولدها من إمائه بعد موته بناء على مذهبه عليه السّلام في بقاء أُمّ الولد على الرقّ بعد موت سيّدها المستولد ويصحّ بيعها. وهو مذهب الإماميّة، وقول قديم للشافعي، وفي الجديد أنّها تنعتق بموت سيّدها المستولد ولا يجوز بيعها، وعليه اتّفاق فقهاء الجمهور حتّی لو بيعت وقضى قاض بصحّة بيعها فالمختار من مذهب الشافعي أنّه ينقض قضاؤه. وبالله التوفيق)(1).

ثانيا: ما أورده ابن أبي الحديد المعتزلي.

قال الشارح المعتزلي في بيانه لهذه الوصية المباركة:

(جعل للحسن ابنه (عليه السلام) ولاية صدقات أمواله، وأذن له أن يأكل منه، بالمعروف، أي لا يسرف، وإنما يتناول منه مقدار الحاجة، وما جرت بمثله عادة من يتولى الصدقات كما قال الله تعالى:

«وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا»(2).

ثم قال: فإن مات الحسن والحسين بعده حي فالولاية للحسين، والهاء

ص: 116


1- شرح نهج البلاغة لابن میثم: ج 4 ص 405 - 409
2- التوبة 60

في مصدره ترجع إلى الأمر أي يصرفه في مصارفه التي كان الحسن يصرفه فيها. ثم ذكر أن هذين الولدين حصة من صدقاته أسوة بسائر البنين، وإنما قال ذلك لأنه قد يتوهم متوهم أنهما لكونهما قد فوض إليهما النظر في هذه الصدقات، قد منعا أن يسهما فيها بشيء، وإن الصدقات إنما يتناولها غيرهما من بني علي عليه السلام ممن لا ولاية له مع وجودهما، ثم بين لماذا خصهما بالولاية؟

فقال: إنما فعلت ذلك لشرفهما برسول الله (صلى الله عليه وآله)، فتقربت إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأن جعلت لسبطيه هذه الرياسة، وفي هذا رمز وإزراء بمن صرف الأمر عن أهل بیت رسول الله (صلى الله عليه وآله)، مع وجود من يصلح للامر، أي كان الأليق بالمسلمين والأولى أن يجعلوا الرياسة بعده لأهله قربة إلى رسول الله (صلى الله علیه و آله)، وتكریما لحرمته، وطاعة له، وأنفة لقدره، (صلى الله عليه وآله) أن تكون ورثته سوقة، يليهم الأجانب، ومن ليس من شجرته وأصله.

ألا ترى أن هيبة الرسالة والنبوة في صدور الناس أعظم إذا كان السلطان والحاكم في الخلق من بيت النبوة، وليس يوجد مثل هذه الهيبة والجلال في نفوس الناس للنبوة إذا كان السلطان الأعظم بعيد النسب من صاحب الدعوة (عليه السلام)! ثم اشترط على من يلي هذه الأموال أيتركها على أصولها، وينفق من ثمرتها، أي لا يقطع النخل والثمر ويبيعه خشبا و عیدانا، فيفضي الأمر إلى خراب الضياع وعطلة العقار.

قوله: وألا يبيع من أولاد نخيل هذه القرى أي من الفسلان الصغار،

ص: 117

سماها، أولادا، وفي بعض النسخ ليست أولاد مذكورة، والودية: الفسيلة. تشكل أرضها: تمتلي بالغراس حتى لا يبقى فيه طريقة واضحة.

قوله: أطوف عليهن، کناية لطيفة عن غشيان النساء، أي من السراري، وكان عليه السلام يذهب إلى حل بيع أمهات الأولاد، فقال:

من كان من إمائي لها ولد منی، أو هي حامل منی و قسمتم تركتي فلتكن أم ذلك الولد مبيعة على ذلك الولد، ويحاسب بالثمن من حصته من التركة، فإذا بيعت عليه عتقت عليه، لان الولد إذا اشترى الوالد عتق الوالد عنه، وهذا معنی، قوله فتمسك على ولدها، أي تقوم عليه بقيمة الوقت الحاضر، وهي من حظه أي من نصيبه و قسطه من التركة.

قال: فإن مات ولدها وهي حية بعد أن تقوم عليه فلا يجوز بيعها لأنها خرجت عن الرق بانتقالها إلى ولدها، فلا يجوز بيعها. فإن قلت: فلماذا قال: فإن مات ولدها وهي حية؟ وهلا قال: فإذا قومت عليه عتقت؟ قلت: لان موضع الاشتباه هو موت الولد وهي حية، لأنه قد يظن ظان أنه إنما حرم بيعها لمكان وجود ولدها، فأراد علیه السلام أن يبين أنها قد صارت حرة مطلقا سواء كان ولدها حيا أو ميتا)(1).

ص: 118


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 5 ص 148 - 150

المبحث الخامس أهمية الوصية وسبب صدورها

هذه الوصية المباركة التي اشتملت على الكثير من المفاهيم والمعارف والأحكام في الأموال والوقف، والصدقات والتولية والزراعة وتهذیب النفس والحقوق وغيرها.

فضلاً عن سبب صدورها وأثر الزمان والمكان في قصدية منتج النص (عليه الصلاة والسلام).

ولقد كنت بفضل الله تعالى وسابق لطفه وفضله وفضل رسوله (صلى الله عليه واله وسلم) قد وفقت لدراسة هذا النص الشريف دراسة لسانية في فقه اللغة وفلسفتها فكان من المهم ایراد ما تعلق بتمام الوصية التي أوردها بعض العلماء فاختزلها الشريف الرضي (عليه رحمة الله ورضوانه) وبيان بعض مطالبها ضمن سببية الصدور وزمانه ومكانة.

اما ما تعلق بمباحث القصدية والمقبولية فمن احب الاطلاع عليها فليرجع إلى الكتاب(1).

ص: 119


1- فاطمة في نهج البلاغة للمؤلف: ج 4 ص 227 - 301 وج 5 ص 5 - 138

المسألة الأولى: سبب صدور الوصية في أمواله (عليه السلام).

أهتم الإسلام أهتماماً كبيراً بالإنفاق بالمال وحض عليه ورغب فيه أشد الترغيب وذلك لما يحدثه من آثار اجتماعية ونفسية وتنمية للإنسان والمجتمع .

ولذا: لم يغب عن أمير المؤمنين (عليه السلام) هذه الآثار للإنفاق بل كان (عليه السلام) نعم الدليل والمرشد والإمام العامل في تذويب الطبقية الإجتماعية وتحقيق العدالة الإجتماعية.

من هنا:

كان إهتمام العلماء كذلك في أمر الإنفاق وبیان آثاره العديدة في الدنيا والآخرة؛ وفي ذلك يقول العلّامة الطبطبائي:

(الإنفاق من أعظم ما يهتم بأمره الإسلام في أحد ركنية وهو حقوق الناس، وقد توسل إليه بأنحاء التوسل ايجابا وندبا من طريق الزكاة والخمس والكفارات المالية وأقسام الفدية والإنفاقات الواجبة والصدقات المندوبة، ومن طريق الوقف والسكنى والعمري والوصايا والهبة وغير ذلك.

وانما يريد بذلك ارتفاع سطح معيشة الطبقة السافلة التي لا تستطيع رفع حوائج الحياة من غير إمداد مالي من غيرهم، ليقرب أفقهم من أفق أهل النعمة والثروة، ومن جانب آخر قد منع من تظاهر أهل الطبقة العالية بالجمال والزينة في مظاهر الحياة بما لا يقرب من المعروف ولا تناله أيدي النمط الأوسط من الناس، بالنهي عن الاسراف والتبذير ونحو ذلك.

وكان الغرض من ذلك كله ايجاد حياة نوعية متوسطة متقاربة الاجزاء متشابهة الابعاض، تحيي ناموس الوحدة والمعاضدة، وتميت الإرادات المتضادة

ص: 120

وأضغان القلوب ومنابت الأحقاد، فإن القرآن يرى أن شأن الدين الحق هو تنظيم الحياة بشؤونها، وترتيبها ترتيبا يتضمن سعادة الإنسان في العاجل والأجل، ويعيش به الإنسان في معارف حقة، واخلاق فاضلة، وعيشة طيبة يتنعم فيها بما أنعم الله عليه من النعم في الدنيا، ويدفع بها عن نفسه المكاره والنوائب ونواقص المادة.

ولا يتم ذلك إلا بالحياة الطيبة النوعية المتشابهة في طيبها وصفائها، ولا يكون ذلك إلا بإصلاح حال النوع برفع حوائجها في الحياة، ولا يكمل ذلك إلا بالجهات المالية والثروة والقنية، والطريق إلى ذلك انفاق الافراد مما اقتنوه بكد اليمين وعرق الجبين، فإنما المؤمنون إخوة، والأرض لله، والمال ماله.

وهذه حقيقة أثبتت السيرة النبوية على سائرها أفضل التحية صحتها واستقامتها في القرار والنماء والنتيجة في برهة من الزمان وهي زمان حياته عليه السلام ونفوذ امره.

التي يتأسف عليها ويشكو انحراف مجريها أمير المؤمنين علي عليه السلام إذ يقول:

وقد أصبحتم في زمن لا يزداد الخير فيه إلا إدبارا، والشر فيه إلا اقبالا، والشيطان في هلاك الناس إلا طمعا، فهذا أو ان قويت عدته وعمت مكيدته - وأمكنت فريسته، اضرب بطرفك حيث شئت هل تبصر إلا فقيرا يكابد فقرا؟ أو غنيا بدل نعمة الله كفرا؟ أو بخيلا اتخذ البخل بحق الله وفرا أو متمردا كأن بإذنه عن سمع المواعظ وقرا؟ (نهج البلاغة).

وقد كشف توالي الأيام عن صدق القرآن في نظريته هذه - وهي تقريب

ص: 121

الطبقات بإمداد الدانية بالإنفاق ومنع العالية عن الاتراف والتظاهر بالجمال - حيث إن الناس بعد ظهور المدنية الغربية استرسلوا في الاخلاد إلى الأرض، والافراط في استقصاء المشتهيات الحيوانية واستيفاء الهوسات النفسانية، وأعدوا له ما استطاعوا من قوة، فأوجب ذلك عكوف الثروة وصفوة لذائذ الحياة على أبواب اولي القوة والثروة، ولم يبق بأيدي النمط الأسفل الا الحرمان، ولم يزل النمط الاعلى يأكل بعضه بعضا حتى تفرد بسعادة الحياة المادية نزر قليل من الناس وسلب حق الحياة من الأكثرين وهم سواد الناس، وأثار ذلك جميع الرذائل الخلقية من الطرفين، كل يعمل على شاكلته لا يبقي ولا يذر، فأنتج ذلك التقابل بين الطائفتين، واشتباك النزاع والنزال بين الفريقين، والتفاني بين الغني والفقير والمنعم والمحروم والواجد والفاقد، ونشبت الحرب العالمية الكبرى، وظهرت الشيوعية، وهجرت الحقيقة والفضيلة وارتحلت السكن والطمأنينة وطيب الحياة من بين النوع وهذا ما نشاهده اليوم من فساد العالم الإنساني، وما يهدد النوع بما يستقبله أعظم وأفظع.

ومن أعظم العوامل في هذا الفساد انسداد باب الانفاق وانفتاح أبواب الرباء الذي سيشرح الله تعالى أمره الفظيع في سبع آيات تالية لهذه الآيات أعني آيات الانفاق ويذكر ان في رواجه فساد الدنيا وهو من ملاحم القرآن الكريم، وقد كان جنينا أيام نزول القرآن فوضعته حامل الدنيا في هذه الأيام.

وإن شئت تصديق ما ذكرناه فتدبر فيما ذكره سبحانه في سورة الروم إذ قال:

«فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ

ص: 122

اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32) وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ» إلى أن قال: «فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ» - إلى أن قال -: «ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ»(1).

وللآيات نظائر في سور هود ويونس والاسراء والأنبياء وغيرها تنبئ عن هذا الشأن، سيأتي بيانها إنشاء الله.

وبالجملة هذا هو السبب فيما يترائي من هذه الآيات أعنى آيات الانفاق من الحث الشديد والتأكيد البالغ في أمره.

قوله تعالى: «مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ» «الخ»، المراد بسبيل الله كل أمر ينتهي إلى مرضاته سبحانه لغرض ديني فعل الفعل لأجله، فإن الكلمة في الآية مطلقة، وان كانت الآية مسبوقة بآيات

ص: 123


1- الروم: 30 - 43

ذكر فيها القتال في سبيل الله، وكانت كلمة، في سبيل الله، مقارنة للجهاد في غير واحد من الآيات، فإن ذلك لا يوجب التخصيص وهو ظاهر.

وقد ذكروا أن قوله تعالى: «كَمَثَلِ حَبَّةٍ» الخ، على تقدير قولنا كمثل من زرع حبة أنبتت «الخ» فإن الحبة المنبتة لسبع سنابل مثل المال الذي أنفق في سبيل الله لا مثل من أنفق وهو ظاهر.

وهذا الكلام وإن كان وجيها في نفسه لكن التدبر يعطي خلاف ذلك فإن جل الأمثال المضروبة في القرآن حالها هذا الحال فهو صناعة شائعة في القرآن كقوله تعالى:

«وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً»(1)، فإنه مثل من يدعو الكفار لا مثل الكفار، وقوله تعالى: «إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ»(2)، وقوله تعالى: «مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ»(3)، وقوله تعالى في الآيات التالية لهذه الآية: «فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ» الآية: وقوله تعالى: «وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ» إلى غير ذلك من الموارد الكثيرة.

وهذه الأمثال المضروبة في الآيات تشترك جميعا في أنها اقتصر فيها على مادة التمثيل الذي يتقوم بها المثل مع الاعراض عن باقي أجزاء الكلام للإيجاز.

ص: 124


1- البقرة: 171
2- يونس: 24
3- النور: 35

توضيحه: أن المثل في الحقيقة قصة محققة أو مفروضة مشابهة لأخرى في جهاتها يؤتي بها لينتقل ذهن المخاطب من تصورها إلى كمال تصور الممثل كقولهم: لا ناقة لي ولا جمل، وقولهم: في الصيف ضيعت اللبن من الأمثال التي لها قصص محققة يقصد بالتمثيل تذكر السامع لها وتطبيقها لمورد الكلام للاستيضاح، ولذا قيل: إن الأمثال لا تتغير، وكقولنا مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل من زرع حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، وهي قصة مفروضة خيالية.

والمعنى الذي يشتمل عليه المثل ويكون هو الميزان الذي يوزن به حال الممثل ربما كان تمام القصة التي هي المثل كما في قوله تعالى: «وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ»(1)، وقوله تعالى: «مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا»(2)، وربما كان بعض القصة مما يتقوم به غرض التمثيل وهو الذي نسميه مادة التمثيل، وإنما جيء بالبعض الآخر لتتميم القصة كما في المثال الأخير (مثال الانفاق والحبة) فإن مادة التمثيل إنما هي الحبة المنبتة لسبعمائة حبة وإنما ضممنا إليها الذي زرع لتتميم القصة.

وما كان من أمثال القرآن مادة التمثيل فيه تمام المثل فإنه وضع على ما هو عليه، وما كان منها مادة التمثيل فيه بعض القصة فإنه اقتصر على مادة التمثيل فوضعت موضع تمام القصة لان الغرض من التمثيل حاصل بذلك، على ما فيه من تنشيط ذهن السامع بفقده أمرا ووجد انه أمرا آخر مقامه

ص: 125


1- إبراهيم: 26
2- الجمعة: 5

يفي بالغرض منه، فهو هو بوجه وليس به بوجه، فهذا من الايجاز بالقلب على وجه لطيف يستعمله القرآن.

قوله تعالى: أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، السنبل معروف وهو على فنعل، قيل الأصل في معنى مادته الستر سمي به لأنه يستر الحبات التي تشتمل عليها في الأغلفة.

ومن اسخف الاشكال ما أورد على الآية أنه تمثيل بما لا تحقق له في الخارج وهو اشتمال السنبلة على مائة حبة، وفيه أن المثل كما عرفت لا يشترط فيه تحقق مضمونة في الخارج فالأمثال التخيلية أكثر من أن تعد وتحصى، على أن اشتمال السنبلة على مائة حبة وإنبات الحبة الواحدة سبعمائة حبة ليس بعزيز الوجود.

قوله تعالى: «وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ»، أي يزيد على سبعمائة لمن يشاء فهو الواسع لا مانع من جوده ولا محدد لفضله كما قال تعالى: «مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً»(1)، فأطلق الكثرة ولم يقيدها بعدد معين.

وقيل: إن معناه أن الله يضاعف هذه المضاعفة لمن يشاء فالمضاعفة إلى سبعمائة ضعف غاية ما تدل عليه الآية، وفيه ان الجملة على هذا يقع موقع التعليل، وحق الكلام فيه حينئذ ان يصدر بان كقوله تعالى: «اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ»(2)،

ص: 126


1- البقرة: 245
2- المؤمن: 61

وأمثال ذلك.

ولم يقيد ما ضربه الله من المثل بالآخرة بل الكلام مطلق يشمل الدنيا كالآخرة وهو كذلك والاعتبار يساعده، فالمنفق بشيء من ماله وإن كان يخطر بباله ابتداءً أن المال قد فات عنه ولم يخلف بدلا، لكنه لو تأمل قليلا وجد أن المجتمع الإنساني بمنزلة شخص واحد ذو أعضاء مختلفة الأسماء والاشكال لكنها جميعا متحدة في غرض الحياة، مرتبطة من حيث الأثر والفائدة، فإذا فقد واحد منها نعمة الصحة والاستقامة، وعى في فعله أوجب ذلك كلال الجميع في فعلها، وخسرانها في أغراضها فالعين واليد وإن كانا عضوين اثنين من حيث الاسم والفعل ظاهرا، لكن الخلقة إنما جهز الإنسان بالبصر ليميز به الأشياء ضوءً ولونا وقربا وبعدا فتتناول اليد ما يجب أن يجلبه الإنسان لنفسه، وتدفع ما يجب أن يدفعه عن نفسه، فإذا سقطت اليد عن التأثير وجب أن يتدارك الإنسان ما يفوته من عامة فوائدها بسائر أعضائه فيقاسي أولا كدا وتعبا لا يتحمل عادة، وينقص من أفعال سائر الأعضاء بمقدار ما يستعملها في موضع العضو الساقط عن التأثير، وأما لو أصلح حال يده الفاسدة بفضل ما ادَّخره لبعض الأعضاء الاخر كان في ذلك إصلاح حال الجميع، وعاد إليه من الفائدة الحقيقية أضعاف ما فاته من الفضل المفيد أضعافا ربما زاد على المآت والألوف بما يورث من إصلاح حال الغير، ودفع الرذائل التي يمكنها الفقر والحاجة في نفسه، وإيجاد المحبة في قلبه، وحسن الذكر في لسانه، والنشاط في عمله، والمجتمع يربط جميع ذلك ويرجعه إلى المنفق لا محالة، ولا سيما إذا كان الانفاق لدفع

ص: 127

الحوائج النوعية كالتعليم والتربية ونحو ذلك، فهذا حال الانفاق)(1).

وعليه: يتضح لدى القارئ الاهمية البالغة التي تترتب على مسألة الانفاق وآثاره الكبيرة في المجتمع فضلاً عن كاشفيتها عن شخصية المنفق وايمانه في إستثمار المال لغرض عوائده الاخروية وهذا من بين أهم الأمور التي يمكن فهمها ومعرفتها من خلال وصية منتج النص (عليه أفضل الصلاة والسلام) في أمواله، وفي أبني فاطمة (عليهم السلام)

المسألة الثانية: زمان صدور الوصية ومكانها.

اولا: مکان صدور الوصية.

ترشد المصادر التي اخرجت الوصية إلى أن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) كان قد كتبها بعد منصرفه من صفين، وعنون لها الشريف الرضي (رحمه الله) في النهج(2).

وقد أخرج الكليني والشيخ الطوسي (رحمة الله عليهما) الوصية وقد جاء فيها قول الإمام علي (عليه السلام):

«هذا ما قضى به علي في ماله، الغد من يوم قدم مسكِن»(3).

ومسكِن، بكسر الكاف موضع بالكوفة على شاطئ الفرات، وهو يرشد ايضاً كما عنون الشريف الرضي (رحمه الله) إلى صدور النص بعد رجوعه من

ص: 128


1- تفسير الميزان، ج 2 ص 383 - 388
2- نهج البلاغة بتحقيق صبحي الصالح: ص 379
3- تهذيب الاحكام: ج 9 ص 148؛ الكافي: ج 7 ص 50

صفين لاسيما وأن الوصية قد حملت تاريخ كتابتها بخط يده (عليه السلام)؛ كما سيمر في ثانياً.

ثانيا: زمان صدور الوصية.

لقد أشارت المصادر التي أخرجت النص الشريف إلى أن الإمام علي (عليه السلام) قد كتب الوصية في اليوم العاشر من جمادي الاولى سنة سبع وثلاثين، كما جاء بقوله (عليه السلام):

«وكتب علي بن أبي طالب بيده لعشر خلون من جمادي الاولى سنة وثلاثين»(1).

في حين كان النص الذي أخرجه الحر العاملي (رحمه الله) في الوسائل يرشد إلى عام تسع وثلاثين مع عدم الاختلاف في اليوم والشهر(2).

والظاهر أن التاريخ الذي ورد في الكافي والتهذيب وغيرهما هو الأقرب إلى صحة التاريخ الذي كتب فيه الإمام وصيته (عليه السلام) وذلك لوقوع معركة صفين في عام سبع وثلاثين للهجرة(3)، ووقوع معركة النهروان في نفس السنة.

أما ما يرشد إليه هذا التوقيت في كتابته (عليه السلام) للوصية فهو يرجع إلى بعض الأمور، منها:

1- يقينه بما أخبره رسول الله (صلى الله عليه وآله) من خروج الناكثين

ص: 129


1- المصدر السابق
2- وسائل الشيعة: ج 19 ص 201
3- تاريخ الطبري: ج 4 ص 52

اوالقاسطين والمارقين وقد وقعت هذه الحروب الثلاثة ومن ثم فهو (عليه السلام) ينتظر ما وعده الله به، أي الشهادة في سبيله على يد أحد شرار خلقه، وكما أخبره بذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله).

ولذا: لطالما كان يقول (عليه السلام):

«حتى يبعث أشقاها فيغضب هذه من هذه» وكان يشير بيده إلى رأسه ولحيته المقدسة.

2- ظروف المرحلة التي يمر بها مع وجود كل هذه المتغيرات في الثوابت العقدية والايمانية وهو الموقن أيضا بما كشف له حبيبه رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن حال الأمة وما يجري فيها من بعده؛ لاسيما تكالب المنافقين عليه وعلى اهل بيته (عليهم السلام).

وإن هذه المتغيرات في الرؤى والمعطيات الثقافية والفكرية ستسري إلى النخبة الذين كان يقاتل بهم عدو الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) وعدوهم، ولعل موقف بعض هؤلاء النخبة من تأثره عليه السلام واظهار حزنه الشديد على مقتل محمد بن ابي بكر يرشد إلى أنهم تأثروا بهذه الاحداث والمتغيرات الفكرية(1).

ولذا:

نلاحظ - كما سيمر في النص - تشديده على اختيار من يخلف الامام الحسين (عليه السلام) في التولية على الوقف؛ كقوله (عليه الصلاة والسلام):

«وأن حدث بحسن وحسين حدث فإن الآخر منهما ينظر في بني علي فإن

ص: 130


1- لمزيد من الاطلاع ينظر كتاب الأمن الفكري في نهج البلاغة للمؤلف

وجد فيهم من يرضى بهداه وأسلامه وأمانته فإنه يجعله إليه إن شاء الله، وأن لم ير فيهم بعض الذي يريده فإنه يجعله في رجل من آل أبي طالب يرضى به، فإن وجد آل أبي طالب قد ذهب كبراؤهم وذوو آرائهم فأنه يجعله إلى رجل يرضاه من بني هاشم، وأنه يشترط على الذي يجعله إليه أن يترك المال على اصوله....»(1).

3- إنّ المعركة منذ أن قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله) تدور رحاها حول الحفاظ على عترة المصطفى (صلى الله عليه وآله)، وذلك أن حفظهم هو حفظ للقرآن والأمة والإسلام؛ فإن ضيعهم الناس فقد ضيعوا القرآن وتفرقوا في دينهم وكانوا شيعاً وفرقاً يكفّر بعضهم بعض حتى يقبلوا على الله عز وجل ليوردهم النار وبئس الورد المورد.

وعليه:

مثلما عمل رسول الله (صلى الله عليه وآله) على تبليغ رسالة ربه وصدع بما أمر به بالنذارة والبشارة فأوصى بالتمسك بالثقلين كتاب الله وعترته أهل بيته (عليهم السلام) كذلك كان عمل الإمام علي (عليه السلام) ومنهجه حتى لاقي ربه شهيداً مخضباً بدمائه.

ولذا:

كتب هذه الوصية بيده واستشهد عليها الشهود في هذا الوقت كما أراد رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يكتب لهم كتاباً في أيام مرضه فواجهه عمر بن الخطاب بتهمة الهجر.

ص: 131


1- الكافي: ج 7 ص 50

ضرورات المرحلة أستلزمت أن يكتب هذه الوصية بيده، وسيشهد عليها بعض الشهود وأن الأصل فيها أمران:

الاول - إستخدام المال لإستحصال رضا الله عز وجل.

الثاني - إستحفاظ حرمة فاطمة وحرمة رسول الله (صلى الله عليه و آله) في حفظ حرمة ولديها الإمام الحسن والحسين (عليهما السلام)، وتعظيم شأنهما أبتغاء وجه الله تعالى، وصوناً لشرع الله في حرمة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وحرمة فاطمة (عليها السلام)؛ کما سیمر خلال مباحث الفصل إن شاء الله تعالى.

المسألة الثالثة: صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج التي تضمنت الوصية.

ورد النص الشريف المتضمن لوصية الامام علي (عليه السلام) في أمواله في الكتب الحديثة لمدرسة العترة النبوية (عليهم السلام)، في:

ص: 132

1- الكافي للشيخ الكليني (رحمه الله) (ت 329 ه).

2- دعائم الإسلام للقاضي النعمان المغربي (رحمه الله) (ت 363 ه).

3- التذهيب للشيخ الطوسي (رحمه الله) (ت 460 ه).

4- نهج البلاغة جمعه الشريف الرضي (رحمه الله) (ت 436 ه).

5- وسائل الشيعة للحر العاملي (رحمه الله) (ت 1140 ه).

وورد النص أيضاً في الكتب التاريخية، ومنها:

تاريخ المدينة لأبن شبة النميري (ت 262 ه).

والذي يهمنا في النص الشريف ما تعلق بأولاد فاطمة (عليهم السلام) ولكن لابد من ذكر النص كاملا ومن مصدرين من حيث القدم وهما كالاتي:

أولا: مارواه الشيخ الكليني (عليه رحمة الله ورضوانه) (ت 329 ه).

أخرج الشيخ الكليني (رحمه الله) عن صفوان بن يحيى، عم عبد الرحمن بن الحجاج، قال:

بعث لي أبو الحسن موسی (علیه السلام) بوصية أمير المؤمنين (عليه السلام) وهي:

«بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به وقضى به في ماله عبد الله علي ابتغاء وجه الله، ليولجني به الجنة، ويصرفني به عن النار، ويصرف النار عني يوم تبيض وجوه وتسود وجوه؛ أن ما كان لي من مال بينبع يعرف لي فيها، وما حولها صدقة ورقيقها غير أن رباحا وأبا نيزر وجبيرا عتقاء ليس لأحد عليهم سبيل، فهم موالي يعملون في المال خمس حجج وفيه نفقتهم ورزقهم

ص: 133

وأرزاق أهاليهم، ومع ذلك ما كان لي بوادي القرى كله من مال لبني فاطمة ورقيقها صدقة، وما كان لي بديمة وأهلها صدقة غير أن زريقا له مثل ما كتبت لأصحابه(1)، وما كان لي بأذينة وأهلها صدقة والفقيرين کما قد علمتم صدقة في سبيل الله، وان الذي كتبت من أموالي هذه صدقة واجبة بتلة(2) حيا أنا أو ميتا، ينفق في كل نفقة يبتغي بها وجه الله وفي سبيل الله ووجهه، وذوي الرحم من بني هاشم وبني المطلب والقريب والبعيد، فإنه يقوم على ذلك الحسن بن علي يأكل منه بالمعروف وينفقه حيث يراه الله عز وجل في حل محلل لا حرج عليه فيه، فان أراد أن يبيع نصيبا من المال فيقضى به الدين فليفعل إن شاء ولا حرج عليه فيه، وإن شاء جعله سرى الملك(3) وإن ولد علي ومواليهم وأموالهم إلى الحسن بن علي، وإن كانت دار الحسن بن علي غير دار الصدقة فبدا له أن يبيعها فليبع إن شاء لا حرج عليه فيه، وإن باع فإنه يقسم ثمنها ثلاثة أثلاث فيجعل ثلثا في سبيل الله، وثلثا في بني هاشم وبني المطلب، ويجعل الثلث في آل أبي طالب، وإنه يضعه فيهم حيث يراه الله، وإن حدث بحسن حدث وحسين حي فإنه إلى الحسين بن علي، وإن حسينا يفعل فيه مثل الذي أمرت به حسنا له مثل الذي كتبت للحسن، وعليه مثل الذي على الحسن، وإن لبنی [ابني] فاطمة من صدقة علي مثل الذي لبنى علي، وأني إنما جعلت الذي جعلت لابني فاطمة ابتغاء وجه الله عز وجل وتکریم حرمة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتعظيمها وتشريفهما ورضاهما.

ص: 134


1- في التهذيب (غير أن رقيقها لهم مثل ما كتبت لأصحابهم)
2- صدقة بتلة أي منقطعة عن صاحبها
3- السرى: الشريف والنفيس. وفي الوافي (شراء الملك)

وإن حدث بحسن و حسین حدث فإن الآخر منهما ينظر في بني علي، فان وجد فيهم من يرضى بهداه وإسلامه وأمانته، فإنه يجعله إليه إن شاء، وإن لم ير فيهم بعض الذي يريده فإنه يجعله إلى رجل من آل أبي طالب يرضى به، فان وجد آل أبي طالب قد ذهب كبراؤهم وذووا آرائهم فإنه يجعله إلى رجل يرضاه من بني هاشم وأنه يشترط على الذي يجعله إليه أن يترك المال على أصوله وينفق ثمره حيث أمرته به من سبيل الله ووجهه وذوي الرحم من بني هاشم وبني المطلب والقريب والبعيد لا يباع منه شيء ولا يوهب ولا يورث وإن مال محمد بن علي على ناحيته وهو إلى ابني فاطمة وأن رقيقي الذين في صحيفة صغيرة التي كتبت لي عتقاء(1).

هذا ما قضى به علي بن أبي طالب في أمواله هذه الغد من يوم قدم مسکن(2) أبتغاء وجه الله والدار الآخرة، والله المستعان على كل حال، ولا يحل لامرئ مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقول في شيء قضيته من مالي، ولا يخالف فيه أمري من قريب أو بعيد.

أما بعد فان ولائدي اللائي أطوف عليهن السبعة عشر منهن أمهات أولاد معهن أولادهن ومنهن حبالى ومنهن من لا ولد له فقضاي فيهن إن حدث بي حدث أنه من كان منهن ليس لها ولد وليست بحبلى فهي عتيق لوجه الله عز وجل ليس لأحد عليهن سبيل ومن كان منهن لها ولد أو حبلى فتمسك على ولدها وهي من حظه(3) فان مات ولدها وهي حية فهي عتيق

ص: 135


1- (بلي) ليست في التهذيب
2- مسکن - بكسر الكاف -: موضع بالكوفة على شاطئ الفرات
3- في بعض النسخ (في حصته)

ليس لأحد عليها سبيل، هذا ما قضى به علي في ماله الغد من يوم قدم مسکن شهد أبو سمر بن برهة وصعصعة بن صوحان ویزید بن قیس وهياج بن أبي هياج وكتب علي بن أبي طالب بيده لعشر خلون من جمادی الأولى سنة سبع وثلاثين)(1).

ثانيا: ما رواه ابن شبة النميري (ت 262 ه).

وروى الوصية ابن شبة النميري بدون سند، فقال:

(قال أبو غسان:

وهذه نسخة كتاب صدقة علي بن ابي طالب - (عليه الصلاة والسلام) - حرفاً بحرف نسختها على نقصان هجائها، وصورة کتابها، أخذتها من أبي، أخذها من حسن بن زید.

بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أمر به وقضى به في ماله عبد الله علي أمير المؤمنين، ابتغاء وجه الله ليولجني الله به الجنة، ويصرفني عن النار ويصرف النار عني يوم تبيض وجوه وتسود وجوه؛ أن ما كان لي بينبع من ماء يعرف لي فيها وما حوله صدقة ورقيقها غير أن رباحا وأبا نیزر و جبير أعتقناهم(2)، ليس لأحد عليم سبيل، وهم موالي يعملون في الماء خمس حجج، وفيه نفقتهم ورزقهم ورزق أهليهم؛ ومع ذلك ما كان بوادي القرى، ثلثه مال ابني قطيعة(3)،

ص: 136


1- الكافي: ج 7 ص 49 - 51
2- في الأصل «أن رباحا وأبانزير وجبيرا عتقاء» وما أثبتناه عن وفاء الوفا 2: 349 ط
3- قطيعة: أي إقطاع وهبة. على سبيل الوقف أو غيره

ورقيقها صدقة، وما كان لي (بواد)(1) ترعة(2) وأهلها صدقة، غير أي زريقال ه مثل ما كتبت لأصحابه، وما كان لي بإذنية وأهلها صدقة، والفقير لي کما قد علمتم صدقة في سبيل الله، وأن الذي كتبت من أموالي هذه صدقة وجب فعله حيا أنا أو ميتا ينفق في كل نفقة ابتغي به وجه الله من سبيل (الله)(3) ووجهه وذوي الرحم من بني هاشم، وبني المطلب والقريب والبعيد، وأنه يقوم على ذلك حسن بن علي، يأكل منه بالمعروف وينفق حيث يريه الله في حل محلل لا حرج عليه فيه، وإن أراد أن يندمل(4) من الصدقة مكان ما فاته يفعل إن شاء الله لا حرج عليه فيه، وإن أراد أن يبيع من الماء فيقضي به الدين فليفعل إن شاء لا حرج عليه فيه، وإن شاء جعله يسير إلى ملك، وإن ولد علي وما لهم إلى حسن بن علي، وإن كان دار حسن غير دار الصدقة فبدا له أن يبيعها، فإنه يبيع إن شاء لا حرج عليه فيه، فإن يبع فإنه يقسم منها ثلاثة أثلاث، فيجعل ثلثه في سبيل الله، ويجعل ثلثه في بني هاشم وبني المطلب، ويجعل ثلثه في آل أبي طالب، وأنه يضعه منهم حيث يريه الله، وإن حدث بحسن حدث وحسين حي، فإنه إلى حسين بن علي، وأن حسين بن علي يفعل فيه مثل الذي أمرت به حسنا، له منها مثل الذي كتبت لحسن منها، وعليه فيها مثل الذي على حسن، وإن لبني فاطمة من صدقة علي مثل

ص: 137


1- اللفظ محرف في الأصل، والتصويب عن وفاء الوفا 2: 349
2- ترعة: واد يلقي أضم من القبلة، وفي ترعة يقول بشر السلمي: أرى إبلي أمست تحن لقاحها * بترعة ترجو أن أحل بها إيلا والإضافة للتوضيح (وفاء الوفا 2: 270)
3- إضافة على الأصل
4- يندمل: أي يصلح من الصدقة (أقرب الموارد)

الذي لبني علي، وإني إنما جعلت الذي جعلت إلى ابني فاطمة ابتغاء وجه الله وتکریم حرمة محمد وتعظيما وتشريفا ورجاء بهما، فإن حدث لحسن أو حسين حدث، فإن الآخر منهما ينظر في بني علي، فإن وجد فيهم من يرضى هدیه وإسلامه وأمانته فإنه يجعله إن شاء، وإن لم ير فيهم بعض الذي يريد، فإنه يجعله إلى رجل من ولد أبي طالب يرضاه، فإن وجد آل أبي طالب يومئذ قد ذهب كبيرهم وذوو رأيهم وذوو أمرهم، فإنه يجعله إلى رجل يرضاه من بني هاشم، وإنه يشترط على الذي يجعله إليه أن ينزل الماء على أصوله، ينفق تمره حيث أمر به من سبيل الله ووجهه، وذوي الرحم من بني هاشم، وبني المطلب، والقريب والبعيد لا يبع منه شيء ولا يوهب ولا يورث، وإن مال محمد على ناحية، ومال ابني فاطمة ومال فاطمة إلى ابني فاطمة.

وإن رقيقي الذين في صحيفة حمزة الذي كتب لي عتقاء: فهذا ما قضى عبد الله علي أمير المؤمنين في أمواله هذه الغد من يوم قدم مكر(1) ابتغي وجه الله والدار الآخرة، والله المستعان على كل حال، ولا يحل لامرئ مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقول في شئ قبضته في مال، ولا يخالف فيه عن أمري الذي أمرت به عن قريب ولا بعيد؛ أما بعدي (فإن)(2) ولائدي اللاتي أطوف عليهن السبع عشرة منهن أمهات أولاد أحياء معهن ومنهن من لا ولد لها، فقضائي فيهن إن حدث لي حدث: أن من كان منهن ليس لها ولد، وليست بحبلى، فهي عتيقة لوجه الله، ليس لأحد عليها سبيل، ومن كان منهن ليس لها ولد وهي حبلى فتمسك على ولدها وهي من حظه، وأن من مات ولدها

ص: 138


1- مکر: بمعنی اختضب، ولعله من يوم قدم مختضب الدماء. (تاج العروس)
2- إضافة يقتضيها السياق

وهي حية فهي عتيقة، ليس لأحد عليها سبيل، فهذا ما قضى به عبد الله علي أمير المؤمنين من مال الغد من يوم مکر.

شهد أبو شمر بن أبرهة، وصعصعة بن صوحان، ويزيد بن قيس، وهياج بن أبي هياج، وكتب عبد الله علي أمير المؤمنين بيده لعشرة خلون من جمادى الأولى سنة تسع وثلاثين ه)(1).

أما النص المخصوص المشتمل على جعل التولية للحسن والحسين (عليهما السلام) وأنما الموقوف عليهما فقد أورده الشريف الرضي (رحمه الله) في نهج البلاغة بلفظ تفاوت مع بعض المصادر الأخرى في بعض الدلالات الكاشفة عن شأنيتهما عند الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله) وأمهما فاطمة (صلوات الله عليها) وما لهذه الشأنية والحرمة والصلة والشرافة مجتمعة من آثار معرفية وعقدية حرکت وجدان شراح نهج البلاغة كابن أبي الحديد المعتزلي، فكان اللفظ الذي أورده الشريف الرضي:

«وإنَّ لإبنَي فاطمة من صدقة علي مثل الذي لبني علي، وإني أنما جعلت القيام بذلك إلى ابنَي فاطمة أبتغاء وجه الله، وقربة إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وتکریما لحرمته، وتشریفاً لوصلته»(2).

وعند الرجوع إلى المصادر التي تقدمت على كتاب نهج البلاغة نجد هذا النص الشريف ورد بالصيغ الأتية:

1- أخرجه الشيخ الكليني (رحمه الله) بلفظ:

ص: 139


1- تاريخ المدينة: ج 1 ص 225 - 228
2- نهج البلاغة بتحقيق صبحي الصالح: ص 379

«وإنّ [ابني] فاطمة من صدقة علي مثل الذي لبني علي وإني أنما جعلت الذي بني فاطمة أبتغاء وجه الله عز وجل، و تکریم حرمة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتعظيمهما وتشريفهما ورضاهما»(1).

2- رواه القاضي النعمان المغربي (ت 363 ه) بلفظ:

«وإن الذي لبني فاطمة من صدقة علي (عليه السلام) مثل الذي لبني علي، واني انما جعلت الذي جعلت إلى بني فاطمة ابتغاء وجه الله، ثم تكريم حرمة محمد (صلى الله عليه وآله)، وتعظيما وتشريفاً ورضا بها»(2).

3- وأورده الشيخ الطوسي (رحمه الله) بلفظ:

«وإن الذي لبني فاطمة من صدقة علي مثل الذي جعل لبني علي، واني انما جعلت لأبني فاطمة من ابتغاء وجه الله و تکریم حرمة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وتعظيمهما وتشريفهما، ورضاها بهما»(3).

4- وأورده الحر العاملي (رحمه الله) (ت 1140 ه) بلفظ:

«وإنَّ الذي لبني، ابني، فاطمة من صدقة علي مثل الذي لبني علي، واني انما جعلت الذي جعلت لأبني ابتغاء وجه الله و تکریم حرمة رسول الله (صلى الله عليه وآله)؛ وتعظيمها وتشريفها، ورضاها بهما».

فهذه مجموعة من المصادر التي اخرجت هذه الوصية وبهذه الالفاظ التي يمكن توليفها ضمن النص الآتي:

ص: 140


1- الكافي: ج 1 ص 50
2- دعائم الإسلام لقاضي النعمان المغربي: ج 2 ص 342
3- تهذیب الاحکام: ج 9 ص 147

«وإنَّ لبني [ابني] فاطمة من صدقة علي مثل الذي لبني علي وإني أنما جعلت [القيام] الذي جعلت لابني [الى بني] فاطمة بذاك إلى ابني فاطمة] أبتغاء وجه الله عز وجل؛ (وتكريم حرمة رسول الله) محمد (صلى الله عليه وآله)، (وقربة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله)، (وتكريماً لحرمته)، (وتعظيمهما وتشريفهما ورضاهما)، (ورضاهما بهما)، (وتشريفاً ورجاءً بهما)، (وتعظيمها وتشريفها ورضاها بهما)».

ونلاحظ هنا: إنّ الإختلاف وقع في شأن الحسن والحسين وشأن فاطمة واتصالهم برسول الله (صلى الله عليه وآله)(1).

تم الكتاب بحمد الله تعالى، وسابق لطفه، وفضله وفضل رسوله (صلى الله عليه واله وسلم).

ص: 141


1- فاطمة في نهج البلاغة للمؤلف ج 4 227 - 234

ص: 142

كتاب القصاص

اشارة

ص: 143

ص: 144

1- قال أمير المؤمنين الإمام علي (عليه الصلاة والسلام):

«وَ اَلْقِصَاصَ حَقْناً لِلدِّمَاءِ، وَ إِقَامَةَ اَلْحُدُودِ إِعْظَاماً لِلْمَحَارِمِ»(1).

2- وقال (عليه الصلاة والسلام)، في عهده لمالك الاشتر (رضوان الله عليه):

«"إِيَّاكَ وَالدِّمَاءَ وَسَفْکَهَا بِغَيْرِ حِلِّهَا، فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ أَدْنَى لِنِقْمَة وَلاَ أَعْظَمَ لِتَبِعَة، وَلاَ أَحْرَى بِزَوَالِ نِعْمَة وَانْقِطَاعِ مُدَّة، مِنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ بِغَيْرِ حَقِّهَا، وَاللهُ سُبْحَانَهُ مُبْتَدِئٌ بِالْحُکْمِ بَيْنَ الْعِبَادِ، فِيمَا تَسَافَکُوا مِنَ الدِّمَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَلاَ تُقَوِّيَنَّ سُلْطَانَكَ بِسَفْكِ دَم حَرَام، فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُضْعِفُهُ وَ يُوهِنُهُ، بَلْ يُزِيلُهُ وَ يَنْقُلُهُ، وَلاَ عُذْرَ لَكَ عِنْدَ اللهِ وَلاَ عِنْدِي فِي قَتْلِ الْعَمْدِ، لاَنَّ فِيهِ قَوَدَ الْبَدَنِ»(2).

اشتمل النص الشريف على بيان حرمة سفك الدماء بغير ما أحله الله تعالى، وحذّر (عليه الصلاة والسلام) واليه على مصر بنحو خاص لما يتوافر لديه من سلطنة من الوقوع في القتل العمد تحذيراً شديداً، لان فيه قود البدن.

أي: أستيفاء القصاص من الجاني.

ولقد تباينت أقوال الفقهاء في المذاهب الإسلامية بين الاختلاف والائتلاف في الاحكام، بل: لم يتفقوا حتى في عنوان الموضوع، فمنهم من أسماه بكتاب القصاص كبعض فقهاء الإمامية، ومنهم من أسماه بالجنايات كالحنفي والمالكي والشافعي والزيدي وذهب إليه ابن حمزة الطوسي، والعلامة الحلي وغيرهم من فقهاء الإمامية، ومنهم من أسماه بكتاب: الجراح كفقهاء الحنابلة؛ وللوقوف على معرفة أقوالهم في القصاص بما اكتنزه النص الشريف مورد الدراسة، فلا بد من البحث في المقدمات أولاً.

ص: 145


1- نهج البلاغة، خطب الإمام علي (عليه السلام) ص 513 تحقيق صبحي الصالح
2- نهج البلاغة، بشرح محمد عبده، ج 3 ص 108 (عهده لمالك الاشتر رحمه الله)

ص: 146

الفصل الأول : معنى القصص وأصل تشريعه وأقسام القتل

اشارة

ص: 147

ص: 148

المبحث الأول معنى القصص في اللغة واصطلاح المتشرعة

المسألة الأولى: معنى القصاص لغة.

تناول اللغويون مفردة القصاص، وبينوا أن معناها: الفعل بالمثل، وهو شيء بشيء وأصله: قصص؛ وأصل القص: القطع.

(قص الشعر والصوف والظفر يقصه قصاً، وقصصه، وقصاه على التحويل: قطعه.

وقال أبو منصور: القصاص في الجراح مأخوذ من هذا، إذا أقتص إذا أقتص له منه يجرحه مثل جرحه اياه أو قتله به.

وقال الليث: القِصاصُ والتَّقاصُّ في الجراحات شيءٌ بشيء، وقد اقتَصَّ من فلان، وقد أَقصَصت فلاناً من فلان أَقِصّه إِقصاصاً، وأَمثَلت منه إِمثالًا فاقتَصَّ منه وامتَثَل.

يقال: أقصه الحاكم يقصّه، إذا مكنّه من اخذ القصاص، وهو أن يفعل به مثل فعله من قتل أو قطع أو ضرب أو جرح، والقصاص: الاسم)(1).

ص: 149


1- لسان العرب لابن منظور: ج 7 ص 73

المسألة الثانية: معنى القصاص في اصطلاح المتشرعة

عرفه فقهاء الإمامية (أعلى الله شأنهم) في مصنفاتهم الفقهية، منها ما أورده الشيخ محمد حسن الجواهري النجفي (رضوان الله تعالى عليه) فقال:

(استيفاء أثر الجناية من قتل أو قطع أو ضرب أو جرح فكان المقتص يتبع أثر الجاني فيفعل مثل فعله، ويقال: أقتص الأمر فلاناً من فلان إذا أقتص له منه)(1).

وقد أنفرد بعض فقهاء الإمامية في عنونّة الكتاب ب (القصاص) مستندين في ذلك إلى ما ورد في الكتاب العزيز في آيات كثيرة كما سيمر بيانه في أصل وجوبه.

وذهب إلى بيانه من فقهاء المالكية، الحطاب الرعيني (ت 954 ه) في باب الدماء، وهو أحد معنييه، فقال: (المعنى الثاني: قوله تعالى: «وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ».

قيل: الخطاب للورثة، لانهم إذا اقتصوا فقد سلموا، وحيوا بدفع شر هذا القاتل عنهم الذي صار عدوهم.

وقال بعضهم: الخطاب للقاتلين لانه إذا أقتص فقد محى أثمه فيحي حياة معنوية، وعلى القولين فلا إضمار؛ وقيل الخطاب للناس والتقدير: ولكم في مشروعية القصاص حياة، لان الشخص إذا علم أنه يقتص منه يكف عن القتل، ويحتمل أن لا يكون في الآية تقدير أيضاً، ويكون القصاص نفسه فيه

ص: 150


1- جواهر الكلام: ج 42 ص 7

الحياة، أما لغير الجاني فلانكفافه، واما للجاني فلسلامته من الاثم(1).

أما بقية المذاهب الزيدي، والمالكي، والشافعي، والحنفي، فقد عنون الفقهاء الكتاب ب (الجنايات). وهو ما سنتناوله في المسألة القادمة:

المسألة الثالثة: معنى الجناية في اللغة واصطلاح المتشرعة.

أولا: المذهب الشافعي

تناول الحافظ النووي (ت 676 ه) معنى الجناية في اللغة والاصطلاح والاستعمال، فقال:

(الجنايات جمع جناية. وفي القاموس: جنى الذنب عليه يجنيه جناية جره طلبه إليه، والثمرة اجتناها كتجناها وهو جان والجمع جناة وجنتاه وأجناء نادر اه. وفي اللسان قال أبو حية النميري:

وان دما لو تعلمين جنيته *** على الحي جاني مثله غیر سالم

فأما قولهم في المثل (أبناؤها أجناؤها) فزعم أبو عبيد أن أبناء جمع بان وأجناء جمع جان كشاهد وأشهاد وصاحب وأصحاب. قال ابن سيده في المخصص و أراهم لم یکسروا بانيا على أبناء ولا جانيا على أجناء الا في هذا المثل، المعنى أن الذي جني وهدم الدار هده هو الذي بناها. قال الجوهري وأنا أظن أن المثل جنانها بناتها، لان فاعل لا تجمع على أفعال، ثم أستطرد خطأ فقال:

إن اشهادا وأصحابا جمع شهد، وصحب، وهو خطأ فإن فعل لا تجمع على أفعال الا إذا كانت عينها واو أو ياء، كقول وشیخ، تجمع على أقوال

ص: 151


1- مواهب الجليل: ج 8 ص 292

وأشياخ الا جمعا شاذا، وقد رأيتهم في كتب الفقه والحديث والتفسير واللغة يجمعون بحث على أبحاث فإذا جاز فهو شاذ وصوابه بحوث. وهذا المثل يضرب لمن عمل شيئا بغير روية فأخطأ فيه ثم استدرکه فنقبض ما عمله.

وأصله أن بعض ملوك اليمن غزا واستخلف ابنته فبنت بمشورة قوم بنیانا کرهة أبوها، فلما قدم أمر المشيرين ببنائه أن يهدموه، والمعنى أن الذين جنوا عليه هذه الدار بالهدم هم الذين بنوها، والمدينة التي هدمت اسمها براقش، ومن ثم قيل: على نفسها جنت براقش وفي الحديث لا يجنی جان الا على نفسه، والجناية الذنب والجرم، وما يفعله الإنسان مما يوجب عليه العقاب أو القصاص في الدنيا والآخرة.

والمعنى: أنه لا يطالب بجناية غيره من أقاربه وأباعده، فإذا جنى أحدهم جناية لا يطالب بها الاخر لقوله تعالى: «وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى»(1).

وجنی فلان على نفسه إذا جر جريرة يجئ جناية على قومه، وتجنى فلان على فلان ذنبا إذا تقوله عليه وهو برئ، و تجني عليه وجانی ادعى جناية. قال شمر: حنيت لك وعليك ومنه قوله:

جانیك من يجني عليك وقد *** تعدى الصحاح - فتجرب - الجرب

وجنيت الثمرة أجنيها جنی، واجتنيتها بمعنی. قال ابن سيده: جنی الثمرة ونحوها

وتجناها كل ذلك تناولها من شجرتها. قال الشاعر

إذا دعيت بما في البيت قالت *** تجن من الجدال وما جنيت

ص: 152


1- الأنعام: 164

قال أبو حنيفة: هذا شاعر نزل بقوم فقرؤه صمغا ولم يأتوه به ولكن دلوه على موضعه وقالوا اذهب فاجنه، فقال هذا البيت يذم به أم مثواه واستعاره أبو ذؤيب للشرف فقال:

وكلاهما قد عاش عيشة ماجد *** وجنى العلاء لو أن شيئا ينفع

وفي الحديث إن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) دخل بيت المال فقال:

«يا حمراء ويا بيضاء احمري وابيضي وغري غيري:

هذا جناي وخياره فيه *** إذ كل جان يده إلى فيه».

وأراد على أن يتمثل بهذا البيت الذي قاله في الجاهلية عمر و بن عدي اللحمي ابن أخت جذيمة. أي أنه لم يتلطخ بشئ من في المسلمين بل وضعه مواضعه. والجنى الثمر المجتنى ما دام طريا، وفي التنزيل العزيز:

«تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا».

وقال القائل: إنك لا تجنى من الشوك العنب وفي حديث أبي بكر أنه رأى أبا ذر رضي الله عنه فدعاه فجنى عليه فساره. جنى عليه أكب عليه والأصل فيه من جنا يجنا إذا مال عليه وعطف)(1).

ثانياً: المذهب الحنفي.

تناول السرخسي (ت 483 ه)، معنى الجناية، فقال:

(الجناية: اسم لفعل محرم شرعاً سواء حل بمال أو نفس، لكن في لسان

ص: 153


1- المجموع للنووي: ج 18 ص 343 - 344

الفقهاء يراد بأطلاق أسم الجناية الفعل في النفوس والأطراف فانهم خصوا الفعل في المال باسم وهو الغصب، والعرف غيره في سائر الأسامي)(1).

ثالثاً: المذهب الحنبلي.

ذهب ابن قدامة المقدسي (ت 620 ه) إلى عنونّة كتاب القصاص، أو الجنايات إلى (الجراح)، فقال: (وانما عبرّ عنها بالجراح لغلبة وقوعها به).

إلا أنه استدرك ذلك فعرف الجناية موضحاً أن في الجراح هو الجنايات، فعرف الجناية قائلاً: (كل فعل عدوان على نفس أو مال لكنها في العرف مخصوصة بما يحصل فيه التعدي على الأبدان، وسموا الجنايات على الأموال غصبا ونهبا وسرقة وخيانة وإتلافا)(2).

أما ما يتعلق بأصل التشريع وبيان حرمة الدماء، فهو ماسنتناوله في المبحث القادم.

ص: 154


1- المبسوط: ج 27 ص 84
2- المغني: ج 9 ص 318

المبحث الثاني في أصل تشريعه وبيان حرمة دم المسلم

المسألة الأولى: أصل تشريعه ي المذهب الإمامي.

في بيان أصل تشريع القصاص في الإسلام قال الشيخ محمد حسن الجواهري النجفي (عليه رحمة الله ورضوانه):

(والأصل فيه قبل الاجماع والسنة المتواترة، قوله تعالى:

«وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ»(1).

وقوله عز وجل: «مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا»(2).

«كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ»(3).

ص: 155


1- البقرة: 179
2- المائدة: 32
3- البقرة: 178

«وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ»(1).

«وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا»(2).

«وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ»(3).

إلى غير ذلك من الآيات الدالة على المطلوب ولو بالعموم، نحو قوله تعالى: ولمن «انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ»(4).

«وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ»(5).

«وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ»(6).

«وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ»(7).

وعلى كل حال فالقتل للمؤمن ظلما من أعظم الكبائر، قال الله تعالى:

«وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا»(8).

ص: 156


1- الأنعام: 151
2- الإسراء: 33
3- المائدة: 45
4- الشورى: 41
5- الشورى: 40
6- النحل: 126
7- البقرة: 194
8- النساء: 93

وفي خبر جابر بن یزید(1) عن أبي جعفر (عليه السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله):

«أول ما يحكم الله عز وجل فيه يوم القيامة الدماء، فيوقف ابني آدم فيفصل بينها ثم الذين يلونهما من أصحاب الدماء حتى لا يبقى أحد من الناس بعد ذلك حتى يأتي المقتول بقاتله يشخب دمه في وجهه، فيقول: أنت قتلته فلا يستطيع أن يكتم الله حديثا».

ومر النبي (صلى الله عليه وآله)(2) بقتيل فقال:

«من هذا؟ فلم يذكر له أحد»؟ فغضب ثم قال:

«والذي نفسي بيده لو اشترك فيه أهل السماء والأرض لأكبهم الله في النار».

وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضا:

«لو اجتمعت ربيعة ومضر على قتل امرئ مسلم قيدوا به»(3).

وعن الصادق (عليه السلام):

«أنه وجد في ذؤابة سيف رسول الله (صلى الله عليه وآله) صحيفة، فإذا فيها مکتوب بسم الله الرحمن الرحيم إن أعتى الناس على الله يوم القيامة من قتل غير قاتله وضرب غير ضاربه»(4).

وعنه (عليه السلام) أيضا:

ص: 157


1- الوسائل الباب 1 من أبواب القصاص في النفس الحديث 6
2- المستدرك الباب 2 من أبواب القصاص في النفس الحديث 5 - 3
3- المستدرك الباب 2 من أبواب القصاص في النفس الحديث 5 - 3
4- الوسائل الباب 8 من أبواب القصاص في النفس الحديث 4

«في رجل قتل رجلا مؤمنا قال: يقال له: من أي ميتة شئت: إن شئت يهوديا وإن شئت نصرانيا وإن شئت مجوسيا»(1).

وعنه (عليه السلام) أيضا:

«لا يدخل الجنة سافك دم ولا شارب خمر ولا مشاء بنميم»(2).

و «لا يزال المؤمن في فسحة من ذنبه ما لم يصب دما حراما، قال: ولا يوفق قاتل المؤمن عمدا للتوبة»(3).

وعن ابن مسلم ((سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: «مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ» الآية فقال: «له مقعد لو قتل الناس جميعالم يرد إلا ذلك المقعد»(4)

وفي آخر عنه (عليه السلام) أيضا قلت له:

کیف: «فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا» وإنما قتل واحدا؟ فقال:

«يوضع في موضع من جهنم إليه ينتهي شدة عذاب أهلها، لو قتل الناس جميعا لكان إنما يدخل ذلك المكان»، قلت: فإنه قتل آخر، قال: «يضاعف عليه»(5).

و نحوه خبر حنان بن سدير عن الصادق (عليه السلام) في تفسيرها

ص: 158


1- الوسائل الباب 3 من أبواب القصاص في النفس الحديث 1
2- الوسائل الباب 1 من أبواب القصاص في النفس الحديث 9 - 8 وفي الثاني في فسحة من دينه
3- الوسائل الباب 1 من أبواب القصاص في النفس الحديث 9 - 8 وفي الثاني في فسحة من دينه
4- الوسائل الباب 10 من أبواب القصاص في النفس الحديث 1 - 2 - 10
5- الوسائل الباب 10 من أبواب القصاص في النفس الحديث 1 - 2 - 10

أيضا قال: «هو واد في جهنم لو قتل الناس جميعا كان فيه، ولو قتل نفسا واحدة كان فيه»(1).

إلى غير ذلك من النصوص المشتملة على المبالغة في أمر القتل، بل وعلى تفسير الآية المزبورة بما عرفت، ولعله أوجه من جميع ما قيل فيها من الوجوه في التشبيه المعلوم عدم إرادة حقيقته، ضرورة منافاته الحس والعقل والعدل، وحاصله المبالغة في شأن القتل والاحياء، ولا ينافي ذلك زيادة العقاب والثواب على من فعل المتعدد منها كما أشار (عليه السلام) إليه بقوله: «يضاعف عليه» وإن اتحدوا جميعا في واد واحد وفي مقعد كذلك)(2).

المسألة الثانية: أصل تشريعه المذاهب الأخرى:

أولاً: المذهب الزيدي.

قال إمام الزيدية أحمد المرتضى(ت 840 ه).

(الاصل في أحكامها قوله تعالى: «وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ».

وقول تعالى: «وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ».

وقوله عز و جل: «وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ»(3).

ثانيا: المذهب الشافعي.

قال الحافظ النووي في بيان أصل أحكامه وتشريعه:

ص: 159


1- الوسائل الباب 10 من أبواب القصاص في النفس الحديث 1 - 2 - 10
2- جواهر الکلام: ج 42، ص 7 - 10
3- شرح الأزهار: ج 4 ص 384

(القتل يغير حق حرام وهو من الكبائر العظام، والدليل عليه قوله عزّ وجل: «وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا»(1).

وروى أبو هريرة: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:

«لتقل مؤمن اعظم عند الله من زوال الدنيا».

وروى ابن عباس: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال:

«لو أن أهل السماوات والأرض اشتركوا في قتل مؤمن لعذبهم الله عز وجل الا أن يشاء ذلك».

(الشرح) قوله تعالى:

«وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا»

الآية. في صحيح البخاري عن ابن جبير قال، اختلف فيها أهل الكوفة فرحلت إلى ابن عباس فسألته عنها فقال نزلت هذه الآية:

«وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ».

هي آخر مانزل وما نسخها شيء، وكذا رواه مسلم والنسائي من طرق عن شبعة به ورواه أبو داود عن أحمد بن حنبل بسنده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في الآية فقال ما نسخها شيء وقال ابن جرير بإسناده عن يحيى الجابري عن سالم بن أبي الجعد قال: (كنا عند ابن عباس بعد ما كف بصره فأتاه رجل فناداه يا عبد الله ما ترى في رجل قتل مؤمنا متعمدا؟ فقال:

ص: 160


1- النساء،: 93

«فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا» الخ آخر الآية، قال: أفرأيت إن تاب وعمل صالحا ثم اهتدى؟ قال ابن عباس ثكلته أمه، وأنى له التوبة والهدى؟

والذي نفسي بيده لقد سمعت نبيكم (صلى الله عليه - واله - وسلم) يقول:

«ثكلته أمه قاتل مؤمن متعمدا جاء يوم القيامة أخذه بيمينه أو بشماله، تشخب أوداجه من قبل عرش الرحمن، يلزم قاتله بشماله، وبيده الأخرى رأسه، يقول: يا رب سل هذا فيم قتلني»؟

وأيم الذي نفس عبد الله بيده، لقد أنزلت هذه الآية فما نسخها من آية حتى قبض نبيكم (صلى الله عليه - وآله - وسلم) وما نزل بعدها من برهان.

وقد رواه أحمد في مسنده. أما حديث:

«لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم».

فإني لم أعثر عليه من حديث أبي هريرة، ولا اتهم المصنف بالخطأ في عزوه إليه فلست أهلا لذاك، وإنما وجدت الحديث في سنن النسائي من حديث بريدة رضي الله عنه.

وعنده أيضا من حديث ابن عمر ولفظه:

«لقتل مؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا».

وكذلك الترمذي وعند ابن ماجة من حديث البراء. أما حديث ابن عباس فقد أخرجه الترمذي من حديث أبي سعيد وأبي هريرة بلفظ

«لو أن أهل السماء والأرض اشتركوا في دم مؤمن لكبهم الله في النار».

في الديات.

ص: 161

أما الأحكام فإن القتل بغير حق حرام، والأصل فيه الكتاب والسنة والاجماع أما الكتاب فقوله تعالى: «وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ» وقوله تعالى:

«وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً» فأخبر أنه ليس للمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ، ولم يرد بقوله (الا خطأ) أن قتله خطأ يجوز، وإنما أراد لكن إذا قتله خطأ فعليه الدية والكفارة.

وقوله «وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ» الآية، أما السنة فعلى ما مضى من الأحاديث، وما سيأتي بما يجاوز الحصر. وأما الاجماع فإنه لا خلاف بين الأمة في تحريم القتل بغير حق.

إذا ثبت هذا فمن قتل مؤمنا متعمدا بغير حق فسق واستوجب النار، الا أن يتوب.

وحكى عن ابن عباس قوله (لا تقبل توبة القاتل). ودليلنا قوله تعالى:

«وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ - إلی قوله تعالی - إِلَّا مَن تَابَ» الآية ولقوله (صلى الله عليه وآله):

«التوبة تحت ما قبلها ولان التوبة إذا صحت من الكفر فلان تصح من القتل أولى»(1).

ثالثا: المذهب الحنفي.

تناول السرخسي (ت 483 ه) أصل أحكام القصاص وتشريعه، فقال:

ص: 162


1- المجموع: ج 18 ص 345

أن (الجناية على النفوس نهايتها ما يكون عمدا محضا فإنها من أعظم المحرمات بعد الاشراك بالله تعالى قال الله تعالى من أجل ذلك كتبتا على بني إسرائيل انه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا فقد جعل قل؟ نفس واحدة كتخريب العالم ان لو كان ذلك في وسع البشر وإنما جعله كذلك لان الواحدة يقوم مقام الجماعة في الدعاء إلى الدين وفي الإعانة لكل من ستعان به فان التعاون بين الناس ظاهر فالذي يقتل الواحد يكون قاطعا لهذه المنفعة وأيد هذا قول النبي - (صلى الله عليه واله):

«لزوال الدنيا أهون على الله تعالى من قتل امرئ مسلم».

وقال: (صلى الله عليه واله وسلم):

«سيات المؤمن فسق وقتاله كفر».

وهذا وإن كان تأويله قتاله لایمانه فظاهره يدل على عظم الجناية في قتل المسلم ولهذا كان ابن عباس لا يرى التوبة القاتل العمد ولم يؤخذ بقوله حتى روى أن رجلا سأله فقال: ما تقول في من يقتل مؤمنا متعمدا؟ فقال:

«جزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما».

فقال: «الا من تاب وعمل صالحا ثم اهتدى»؟

فقال: وأنى يكون له الهدى، سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول:

«يؤتى بقاتل العمد يوم القيامة عند عرش الرحمن والمقتول متعلق به ويقول يا رب سل هذا فيم قتلني وفي ذلك نزل قوله تعالى ومن يقتل مؤمنا متعمدا وما نسخها شيء بعد نبيكم».

ص: 163

ولعظم الجناية في قتل العمد لم ير علماؤنا الكفارة على قاتل العمد لان الوعيد المنصوص عليه لا يرتفع بالكفارة والذنب فيه أعظم من أن ترفعه الكفارة ويستوي فيه أن كان عمدا يجب فيه القصاص أولا يجب كالأب إذا قتل ابنه عمدا والرجل إذا قتل من أسلم في دار الحرب ولم يهاجر الينا عمدا)(1).

رابعا: المذهب المالكي.

تناول الحطاب الرعيني (ت 954 ه) بيان أصل أحكام القصاص، وحرمة قتل المؤمن، إلا أنه أظهر من خلال حديثه أن فقهاء المذهب المالكي لم يهتموا بهذا الباب اهتماماً يستحقه مع عظم موضوعه، وخطورة مسائله، لارتباطه بحفظ النفس المحترمة، واثار دفع الجنايات بالقصاص، فيقول:

(باب: في بيان الدماء والقصاص ما يتعلق بذلك.

هذا باب يذكر فيه المصنف أحكام الدماء، وأحكام القصاص، قال البساطي:

وهو باب متسع متروك ينبغي الالتفات إليه، ولا شك أن حفظ النفوس مجمع عليه بل هو من الخمس المجمع عليها في كل ملة.

قال ابن عرفة: ونقل الأصوليون إجماع الملل على حفظ الأديان والنفوس والعقول والاعراض والأموال. وذكر بعضهم الأنساب عوض الأموال، ونقله في التوضيح ولا شك أن قتل المسلم عمدا عدوانا كبيرة ليس بعد الشرك أعظم منها، وفي قبول توبته وإنفاذ الوعيد فيه خلاف بين الصحابة ومن بعدهم. وأخذ لمالك القولان، فأخذ من قوله لا تجوز إمامته

ص: 164


1- المبسوط: ج 27 ص 84

عدم القبول، وأخذ من قوله ليكثر من العمل الصالح والصدقة والجهاد والحج القبول. واختلف في تخليده، الصحيح عدم تخليده.

ورد ابن عرفة الاخذ الأول بأن التوبة أمر باطني، وموجب نصب الإمامة أمر ظاهري، فلا یلزم من منع الإمامة عدم قبول التوبة. ونص كلامه: قال ابن رشد: قتل المسلم عمدا عدوانا كبيرة ليس بعد الشرك أعظم منه، وفي قبول التوبة منه وإنفاذ وعيده مذهبا الصحابة وإلى إنفاذ وعيده ذهب مالك لقوله لا تجوز إمامته.

قلت: لا يلزم منه عدم قبول توبته لعدم رفع سابق حرمته، وقبول التوبة أمر باطني وموجب نصب الإمامة أمر ظاهر. وقال في سماع عيسى: قول مالك ليكثر العمل الصالح والصدقة والحج والجهاد ويلزم الثغور من تعذر منه القود دليل على الرجاء عنده في قبول توبته خلاف قوله لا تجوز إمامته قال: والقول بتخليده خلاف السنة، ومن توبته عرض نفسه على ولي المقتول قودا ودية.

وقال في الذخيرة عن ابن رشد أيضا في التعليل لعدم قبول توبته: لان من شروط التوبة رد التبعات ورد الحياة على المقتول متعذر إلا أن يحلله المقتول قبل موته بطيب نفسه. وقال فيها أيضا: وقال ابن شهاب: إذا سئل عن توبته سأل هل قتل أم لا ويطاوله في ذلك، فإن تبين له أنه لم يقتل قال لا توبة وإلا قال له التوبة وهو حسن في الفتوى انتهى. وانظر الكلام على حديث أسامة والمقداد في أوائل كتاب الايمان من شرح مسلم للآبي وعياض والقرطبي.

فرع: قال في الذخيرة: فإن قتل القاتل قصاصا قيل ذلك كفارة له لقوله

ص: 165

(عليه الصلاة والسلام) الحدود كفارات لأهلها. وقيل: ليس بكفارات لان المقتول لا منفعة له في القصاص بل منفعته للاحياء زجرا أو تشفيا، والمراد بالحديث حقوق الله تعالى المحضة.

فائدتان: الأولى: قوله تعالى «مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ» الآية.

فيها سؤال وهو وجه تشبيه قتل النفس الواحدة بقتل جميع الناس وإحيائها بإحياء جميع الناس. والتشبيه في لسان العرب إنما يكون بين المتقاربين جدا، وقتل جميع الناس بعيد من قتل النفس الواحدة بعدا شديدا وكذلك إحياؤها.

قال القرافي في الجواب: قال بعض العلماء: إن المراد بالنفس إمام مقسط أو حاكم عدل أو ولي ترتجى بركته العامة، فلعموم منفعته كأنه قتل من كان ينتفع به وهم المراد بالناس وإلا فالتشبيه مشكل. وقال مجاهد: لما كان قتل جميع الناس لا يزيد في العقوبة على عقوبة قاتل النفس الواحدة شبهه به.

قال: وهو مشكل لان قاعدة الشرع تفاوت العقوبات بتفاوت الجنايات، ولذا توعد الله قاتل الواحد بعذاب عظيم وعيده اعتقدنا مضاعفته في حق الاثنين فكيف بجميع الناس)(1).

خامساً: المذهب الحنبلي.

قال ابن قدامة المقدسي (ت 620 ه) في بيانه لأصل أحكام القصاص

ص: 166


1- مواهب الجليل: ج 8 ص 289 - 291

وحرمة الدماء:

(وأجمع المسلمون على تحريم القتل بغير حق والأصل فيه الكتاب والسنة والاجماع، أما الكتاب فقول الله تعالى: ««وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا».

وقال تعالى: «وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً»، وقال «وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ» الآية.

وأما السنة فروى عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):

«لا يحل دم امرئ مسلم يشهد ان لا إله إلا الله واني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب، الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة».

متفق عليه، وروى عثمان وعائشة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مثله في آي وأخبار سوى هذه كثيرة، ولا خلاف بين الأمة في تحريمه فإن فعله إنسان متعمدا فسق وأمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له وتوبته مقبولة في قول أكثر أهل العلم وقال ابن عباس ان توبته لا تقبل للآية التي ذكرناها وهي من آخر ما نزل.

قال ابن عباس: ولم ينسخها شيء ولان لفظ الآية لفظ الخبر والاخبار لا يدخلها نسخ ولا تغيير لأن خبر الله تعالى لا يكون إلا صدقا ولنا قول الله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ»(1) فجعله داخلا في المشيئة. وقال تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا».

ص: 167


1- النساء: 48

وفي الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم):

«ان رجلا قتل مائة رجل ظلما ثم سأل هل له من توبة؟ فدل على عالم فسأله فقال ومن يحول بينك وبين التوبة ولكن اخرج من قرية السوء إلى القرية الصالحة فاعبد الله فيها فخرج تائبا فأدركه الموت في الطريق فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب فبعث الله إليهم فقال قيسوا ما بين القريتين فإلى ايهما كان اقرب فاجعلوه من اهلها فوجدوه اقرب إلى القرية الصالحة فجعلوه من اهلها».

ولان التوبة تصح من الكفر فمن القتل أولى، والآية محمولة على من لم يتب أو على أن هذا جزاؤه إن جازاه وله العفو إذا شاء. وقوله لا يدخلها النسخ قلنا لكن يدخلها التخصيص والتأويل)(1).

سادسا: المذهب الإباضي.

لم يتعرض محمد أطفيش (1332 ه) لأصل القصاص إلا في بيان حرمة دم المسلم فقال:

(دليل حرمة دم المسلم، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):

«لا يحلّ دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلاّ الله وإنّي رسول الله إلاّ بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة»(2).

ص: 168


1- المغني: ج 9 ص 318 - 320
2- شرح كتاب النيل وشفاء العليل: ج 14 ص 265

المبحث الثالث ما يتحقق به العمد وأقسام القتل

قال أمير المؤمنين الامام علي (عليه الصلاة والسلام):

«وإن ابتليت بخطأ، وأفرط عليك سوطك أو يدك بالعقوبة، فإن في الوكزة فما فوقها مقتلة، فلا تطمحن بك نخوة سلطانك عن أن تؤدى إلى أولياء المقتول حقهم»(1).

تناول فقهاء المذاهب الإسلامية ما يتحقق به القتل العمد وكيفية التفريق بينه وبين القتل الخطأ أو شبيه العمد وبايهم يثبت القود؟ لا سيما وان النص الشريف يحدد هذه الأقسام الثلاثة، فكيف كان الحكم لدى فقهاء المذاهب؟، وهو كالاتي:

المسألة الأولى: ما يتحقق به قتل العمد والخطأ وشبه العمد للذهب الإمامي

تناول فقهاء الإمامية (أعلى الله شأنهم) منذ القرن الرابع الهجري بسط البحث والتحقيق في المسألة لا سيما في موسوعاتهم الفقهية: ما يتحقق به قتل العمد واقسام القتل الثلاثة، كما ورد في المقنعة للشيخ المفيد (رضوان الله تعالى عليه)، فقال:

(والقتل على ثلاثة أضرب: فضرب منه العمد المحض، وهو: الذي فيه

ص: 169


1- نهج البلاغة، عهد إلى مالك الأشتر: ج 3 ص 108 بشرح محمد عبده

القود والضرب الثاني: الخطأ المحض؛ وفيه الدية، وليس فيه قود؛ قال الله عز وجل:

«وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا».

والضرب الثالث: خطأ شبيه العمد، وفيه دية مغلظة، وليس فيه قود أيضاً)(1).

وتعرض لبيانه أبو الصلاح الحلبي(2)، والشيخ حمزة الديلمي(3)، والشيخ الطوسي في الخلاف(4)، والمبسوط(5)، والى صاحب الجواهر (رضوان الله تعالى عليهم اجمعين) إذ يطول ذكرهم.

أولاً: الشيخ الجواهري النجفي.

فكان مما حققه الجواهري في بيان قتل العمد، وتفسيره، وتقسيم انواع القتل، أن قال:

(فلا أشكال ولا خلاف في أنه (يتحقق قتل العمد بقصد البالغ العاقل إلى القتل) ظلماً ربما يقتل غالباً.

بل: وبقصده الضرب بما يقتل غالبا عالما به وإن لم يقصد القتل، لأن

ص: 170


1- المقنعة: ص 735
2- الكافي في الفقه: ص 382 - 388
3- المراسم العلوية في الأحكام النبوية: ص 236 - 342
4- الخلاف: ج 5 ص 217- 226
5- المبسوط: ج 7 ص 16 - 20

القصد إلى الفعل المزبور كالقصد إلى القتل، قيل يفهم من الغنية الاجماع عليه، ولعله كذلك، بل: يعضده المعتبرة المستفيضة.

كالصحيح(1) عن أبي عبد الله (عليه السلام) سألناه عن رجل ضرب رجلا بعصا فلم يرفع عنه الضرب حتى مات أيدفع إلى أولياء المقتول؟ قال:

«نعم، ولكن لا يترك يعبث به، ولكن يجهز عليه بالسيف».

ونحوه خبر سليان بن خالد(2) وخبر موسى بن بكير(3) وغيرهما من النصوص الشاملة باطلاقها لمن قصد القتل بالمفروض الذي هو مما يقتل مثله غالبا وعدمه ولكن قصد الفعل.

بل يكفي قصد ما سببيته معلومة عادة وإن ادعى الفاعل الجهل به، إذ لو سمعت دعواه بطلت أكثر الدماء، كما هو واضح.

بل: الظاهر عدم تحقق العمد الذي هو عنوان القصاص إلا مع جمع القيود المزبورة عدا الأخير، ضرورة كون عمد الصبي والمجنون خطأ شرعا وكذا لو قتله بعنوان أنه حيوان أو جماد أو نحو ذلك.

نعم: (لو قصد القتل بما يقتل نادرا فاتفق القتل) به (ف) - إن فيه على ما قيل قولين، ولكن (الأشبه) بأصول المذهب وقواعده التي منها صدق إطلاق الأدلة أن عليه (القصاص) بل الأشهر، بل لعل عليه عامة المتأخرين كما اعترف به في الرياض، بل لم أجد فيه خلافا وإن أرسل، بل في كشف

ص: 171


1- الوسائل الباب 11 من أبواب القصاص في النفس الحديث 2 - 12 - 10
2- الوسائل الباب 11 من أبواب القصاص في النفس الحديث 2 - 12 - 10
3- الوسائل الباب 11 من أبواب القصاص في النفس الحديث 2 - 12 - 10

اللثام نسبته إلى ظاهر الأكثر، ولكن لم نتحققه.

نعم: يظهر من اللمعة نوع تردد فيه، ولعله مما عرفت وقول الصادق (عليه السلام) في صحيح الحلبي:(1)

«العمد كل ما اعتمد شيئا فأصابه بحديدة أو بحجر أو بعصا أو بوكزة فهذا كله عمد، والخطأ من اعتمد شيئا فأصاب غيره».

وصحيح عبد الرحمان بن الحجاج، قال لي أبو عبد الله (عليه السلام):

«يخالف يحيى بن سعيد قضاتكم»؟

قلت: نعم، قال: «هات شيئا مما اختلفوا فيه».

قلت: أقتتل غلامان في الرحبة فعض أحدهما صاحبه، فعمد المعضوض إلى حجر فضرب به رأس الذي عضه فشجه فكبر فمات، فرفع ذلك إلى يحيى بن سعيد فأقاده، فعظم ذلك على ابن أبي ليلى، وابن شبرمة، وكثر فيه الكلام، وقالوا: إنما هذا الخطأ فوداه عيسى بن علي من ماله، قال: فقال:

«إن من عندنا ليقيدون بالوكزة، وإنما الخطأ أن يريد الشيء فيصيب غیره»(2).

وفي صحيحه الآخر(3) عنه (عليه السلام) أيضا:

«إنما الخطأ أن تريد شيئا فتصيب غيره، فأما كل شيء قصدت إليه فأصبته

ص: 172


1- الوسائل الباب 11 من أبواب القصاص في النفس الحديث 3 - 1
2- الوسائل الباب 11 من أبواب القصاص في النفس الحديث 3 - 1
3- الوسائل الباب 11 من أبواب القصاص في النفس الحديث 3 - 1

فهو العمد». وفي خبره المروي عن تفسير العياشي(1) عن أبي عبد الله (عليه السلام):

«إنما الخطأ أن تريد شيئا فتصيب غيره، فأما كل شيء قصدت إليه فأصبته فهو العمد».

وقول أحدهما (عليهما السلام) في المرسل(2) كالصحيح:

«قتل العمد كل ما عمد به الضرب فعليه القود، وإنما الخطأ أن تريد الشيء فتصيب غيره». وقول الصادق (عليه السلام) في خبر أبي بصير(3): «لو أن رجلا ضرب رجلا بخزفة أو بأجرة أو بعود فمات كان عمدا».

مؤيدا ذلك كله بعدم مدخلية الآلة لغة وعرفا في الصدق.

ومن قول الصادق (عليه السلام) في خبر أبي العباس:

(قلت له: أرمي الرجل بالشئ الذي لا يقتل مثله؟ قال: «هذا خطأ».

ثم أخذ حصاة صغيرة فرمى بها، قلت: أرمي الشاة فأصيب رجلا، قال:

«هذا الخطأ الذي لا شك فيه، والعمد الذي يضرب بالشيء يقتل بمثله».

والمرسل عن ابن سنان:(4) (سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول:

«قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في الخطأ شبه العمد: أن يقتله بالسوط أو بالعصا أو بالحجارة: إن دية ذلك تغلظ، وهي ماءة من الإبل».

ص: 173


1- الوسائل الباب 11 من أبواب القصاص في النفس الحديث - 18 - 6 - 8 - 7 - 11 - 13
2- الوسائل الباب 11 من أبواب القصاص في النفس الحديث - 18 - 6 - 8 - 7 - 11 - 13
3- الوسائل الباب 11 من أبواب القصاص في النفس الحديث - 18 - 6 - 8 - 7 - 11 - 13
4- الوسائل الباب 11 من أبواب القصاص في النفس الحديث - 18 - 6 - 8 - 7 - 11 - 13

وخبر زرارة وأبي العباس(1) عنه (عليه السلام) أيضا قال:

«إن العمد أن يتعمده فيقتله بما يقتل مثله، والخطأ أن يتعمده ولا يريد أن يقتله فقتله بما لا يقتل مثله، والخطأ الذي لا شك فيه أن يتعمد شيئا آخر فيصيبه».

ومرسل ابن أبي عمير(2) المروي عن تفسير العياشي عن أحدهما (عليهما السلام):

«مهما أريد تعين القود، وإنما الخطأ أن تريد الشئ فتصيب غيره».

فإن الحصر المزبور ظاهر في المطلوب، بل قوله (عليه السلام): «مهما» إلى آخره كذلك أيضا بناء على أن المراد ما يراد به القتل عادة منه فتأمل.

وخبر زرارة(3) المروي فيه أيضا عن أبي عبد الله (عليه السلام):

«الخطأ أن تعمده وتريد قتله بما لا يقتل مثله، والخطأ ليس فيه شك أن تعمد شيئا آخر فتصيبه».

وخبره الآخر(4) عنه (عليه السلام) أيضا:

«العمد أن تعمده فقتله بما مثله يقتل».

ص: 174


1- الوسائل الباب 11 من أبواب القصاص في النفس الحديث - 18 - 6 - 8 - 7 - 11 - 13
2- الوسائل الباب 11 من أبواب القصاص في النفس الحديث 16 وفيه «كلما أريد به ففيه القود... «كما في البحار ج 104 ص 95 وتفسير العياشي ج 1 ص 264
3- الوسائل الباب 11 من أبواب القصاص في النفس الحديث 17 وفيه «إن الخطأ أن يعمده ولا يريد قتله... «كما في المستدرك الباب 11 من تلك الأبواب الحديث 5 والبحار ج 104 ص 395 وتفسير العياشي ج 1 ص 264
4- الوسائل الباب 11 من أبواب القصاص في النفس الحديث 20 - 5

ومرسل يونس(1) عن أبي عبد الله (عليه السلام):

«إن ضرب رجل رجلا بعصا أو بحجر فمات من ضربة واحدة قبل أن يتكلم فهو شبيه العمد، فالدية على القاتل، وإن علاه وألح عليه بالعصا أو بالحجارة حتى يقتله فهو عمد يقتل به، وإن ضربه ضربة واحدة فتكلم ثم مكث يوما أو أكثر من يوم فهو شبيه العمد».

مؤيدا ذلك كله بالاحتياط، وبأن الآلة لما كانت ما لا تقتل عادة فمجامعة القصد معها كعدمه، بل هو كالقصد بلا ضرب، وبامكان حمل العمد في النصوص المتقدمة على شبيه العمد، لمقابلته بالخطأ المحض.

لكي لا يخفى عليك أن الاحتياط لا يجب مراعاته بعد ظهور الأدلة، وربما كان معارضا الحق الغير، والتعليل المزبور لا حاصل له، وأن الجمع المزبور مناف لما تضمنه بعضها من التصريح بالقود في العمد، وأنه ليس بأولى من حمل هذه النصوص على صورة عدم القصد إلى القتل، ما هو الغالب في الضرب بما لا يقتل إلا نادرا وإن كان في بعضها يريد قتله بل هذا أولى من وجوه لا تخفى عليك بعد الإحاطة بما ذكرناه، وبعد ضعف جملة منها ولا جابر، ومعتبر السند منها غير مقاوم لتلك من وجوه أيضا.

وقد بان لك من ذلك كله أن العمد يتحقق به كسابقه. وهل يتحقق أيضا مع القصد إلى الفعل الذي يحصل به الموت وإن لم يكن قاتلا في الغالب إذا لم يقصد به القتل أو قصد العدم كا لو ضربه بحصاة أو عود خفيف؟ فيه

ص: 175


1- الوسائل الباب 11 من أبواب القصاص في النفس الحديث 20 - 5

روايتان(1) أشهرهما عملا كما في النافع والمسالك:

«أنه ليس بعمد يوجب القود».

بل: لا أجد فيه خلافا بين المتأخرين، بل: عن الغنية الاجماع عليه، للنصوص السابقة(2) المنجبرة والمعتضدة هنا بما سمعت مضافا إلى ظهورها في ما نحن فيه ولو من الغلبة التي ذكرناها، فتترجح حينئذ بذلك كله على إطلاق النصوص الأولة المقابلة لها أو عمومها، فتقيد أو تخصص بها.

خلافا للمحكي عن المبسوط من أنه عمد أيضا كالسابق، إما مطلقا کما حكاه عنه بعض، لأطلاق النصوص السابقة المعارض لأطلاق الأخرى المرجح عليه هنا بالاعتضاد بالشهرة والاجماع المحكي، وإما في الأشياء المحددة خاصة، كما هو مقتضى عبارته المحكية عن مبسوطه في كشف اللثام على طولها، فإن محصلها كما اعترف هو به الفرق بين المحدد وغيره، فلا يعتبر في عمد الأول القصد بخلاف الثاني.

وهو شيء غريب إن أراد به من حيث العرف، وإن أراد من حيث الشرع فلم نجد ما يشهد له سوى خبر عبد الله بن زرارة(3) عن الصادق (عليه السلام):

«إذا ضرب الرجل بحديدة فذلك العمد».

الذي لا يصلح به نفسه الخروج عما عرفت من وجوه مع احتماله القصد

ص: 176


1- الوسائل الباب 11 من أبواب القصاص في النفس
2- الوسائل الباب 11 من أبواب القصاص في النفس
3- الوسائل الباب 11 من أبواب القصاص في النفس الحديث 9 وهو خبر الفضل ابن عبد الملك بسند الصدوق (قده) كما في الفقيه ج 4 ص 77 الرقم 239

إلى القتل بذلك أيضا، وأما بعض النصوص السابقة المطلقة فلا إشارة في شيء منها إلى التفصيل المزبور. ومن ذلك يعلم الاتفاق على عدم العمل به، فلا بد من تقييده بذلك أو بما عليه الأصحاب من الحمل على صورة القصد إلى القتل، ولعل الثاني أولى لما عرفته من الوجوه السابقة.

ولكن الانصاف مع ذلك كله عدم خلو الفرق بين الصورتين بالقصد وعدمه من الاشكال بعدم مدخلية القصد في صدق القتل عرفا. اللهم إلا أن يقال هو كذلك في صدق القتل بخلاف العمد إلى القتل، فإنه مع عدم القصد إليه ولا إلى فعل ما يحصل به القتل غالبا لا يصدق العمد إليه، بل لا يقال قتله متعمدا أي إلى قتله.

أو يقال: إنه لا فرق بينهما في الصدق العرفي، ولكن الأدلة الشرعية تكفي في الفرق بينهما في الأحكام، فأجرت على الأخير حكم الخطأ شبه العمد بخلاف الأول. والعمدة في تنزيل إطلاق النصوص المزبورة على ذلك الشهرة المحققة والمحكية والاجماع المحكي، ولولا ذلك لكان المتجه فيه القصاص، لصدق القتل عمدا على معنى حصوله على جهة القصد إلى الفعل عدوانا الذي حصل به القتل وإن كان مما يقتل نادرا، إذ ليس في شئ من الأدلة العمد إلى القتل.

بل: ولا العرف يساعد عليه، فإنه لا ريب في صدق القتل عمدا على من ضرب رجلا عاديا غير قاصد للقتل أو قاصدا عدمه فاتفق ترتب القتل على ضربه العادي منه المتعمد له. وربما يشهد لذلك ما تسمعه منهم من إجراء حكم العمد على الضرب بالآلة التي لا يقتل مثلها ولكن اتفق سرايتها حتى

ص: 177

قتلت، وليس ذلك إلا للصدق المزبور وليس في الأدلة ما يخرجه كما ستسمع تحريره.

وقد تحصل من ذلك أن الأقسام ثلاثة:

عمد محض: وهو قصد الفعل الذي يقتل مثله، سواء قصد القتل مع ذلك أو لا، وقصد القتل بما يقتل نادرا.

وشبه العمد: قصد الفعل الذي لا يقتل مثله مجردا عن قصد القتل.

والخطأ: أن لا يقصد الفعل ولا القتل أو يقصده بشيء فيصيب غيره)(1).

ثانياً: السيد الخوئي (عليه الرحمة والرضوان) (ت 1413 ه).

تناول السيد الخوئي (عليه الرحمة والرضوان) في كتاب القصاص: ما يثبت به القصاص وبما يتحقق القتل العمدي فقال:

(يثبت القصاص بقتل النفس المحترمة المكافئة عمدا وعدوانا ويتحقق العمد بقصد البالغ العاقل القتل، ولو بما لا يكون قاتلا غالبا فيما إذا ترتب القتل عليه بل الأظهر تحقق العمد بقصد ما يكون قاتلا عادة، وإن لم يكن قاصدا القتل ابتداءا وأما إذا لم يكن قاصدا القتل ولم يكن الفعل قاتلا عادة كما إذا ضربه بعود خفيف أو رماه بحصاة فاتقق موته لم يتحقق به موجب القصاص.

كما يتحقق القتل العمدي فيما إذا كان فعل المكلف علة تامة للقتل أو جزءا أخيرا للعلة بحيث لا ينفك الموت عن فعل الفاعل زمانا، كذلك

ص: 178


1- جواهر الکلام: ج 42 ص 12 - 18

يتحقق فيما إذا ترتب القتل عليه من دون أن يتوسطه فعل اختياري من شخص آخر، كما إذا رمى سهما نحو من أراد قتله فأصابه فمات بذلك بعد مدة من الزمن ومن هذا القبيل ما إذا خنقه بحبل ولم يرخه عنه حتى مات أو حبسه في مكان ومنع عنه الطعام والشراب حتى مات أو نحو ذلك، فهذه الموارد وأشباهها داخلة في القتل العمدي.)(1).

المسألة الثانية: أقسام القتل وما يتحقق به القصاص في المذاهب الاخرى.

أولاً: المذهب الزيدي

ذهب فقهاء الزيدية إلى تحديد وجوب القصاص في مواضع وفيما عداها لا يجب، وهي:

1- أن يكون في جناية مكلف.

2- أن تقع الجناية من عامد.

3- ان تكون تلك الجناية على نفس أوذي مفصل أو موضحة. واضيف لها شرط رابع: معلوم القدر مأمون التعدي جاء ذلك في بيان أحمد المرتضى (ت 840 ه) فيما يوجب القصاص من كتاب الجنايات، فقال:

(أنما يجب القصاص بشروط:

الأول: أن يكون في جناية مكلف فلا قصاص فيما جناه الصبي والمجنون والمغمى عليه والنائم وكذا السكران عند أبي ع وأبي ط وعن الناصر وم بالله انه يقتص منه الشرط الثاني: ان تقع الجناية من عامد فلا قصاص في جناية

ص: 179


1- تكملة منهاج الصالحين: ص 59

الخطأ الشرط الثالث: أن تكون تلك الجناية على نفس أو ذي مفصل أو موضحة قدرت طولا وعرضا فالنفس واضح والمفصل كمفاصل الأصابع ومفصل الكف ومفصل المرفق وكذلك في الرجل.

واما الموضحة فهي التي توضح العظم فإذا علم قدرها طولا وعرضا لزم القصاص فيها أو لم تكن الجناية على ذي مفصل ولا موضحة لكنها على شيء معلوم القدر مأمون التعدي في الغالب من الأحوال كالأنف إذا قطعت من المارن وهو الغضروف المتصل بعظم قصبتها فإذا قطعت من المارن فهو معلوم القدر مأمون التعدي في الغالب فيجب القصاص حينئذ وكذلك يؤخذ المنخر بالمنخر والروثة بالروثة وهو ما يجمع المنخرين من طرف الغضروف ومن قطع المارن والقصبة قطع مارنه وسلم أرش القصبة ومن قطع بعض مارن غيره قدر وقطع بقدره من نصف أو ثلث أو ربع ولا يقدر بالمساحة ولا عبرة بالطول والعرض و كذلك الاذن هي وان لم تكن ذات مفصل فهي معلومة القدر مأمونة التعدي في الغالب فيؤخذ الاذن بالأذن وان اختلفا صغرا وكبرا وصحة وصمما إذا كان السمع لا ينقص بالقطع والمثقوبة بالصحيحة والعكس فان اخذ بعضها اخذ مثله مقدرا كما مر في الانف قيل واللسان والذكر من الأصل حكمهما حكم الانف والاذن في وجوب القصاص ذكره الفقيه س في تذكرته والامام ى للمذهب.

قال الامام ى وكذا يقتص ببعض اللسان والذكر ومذهب ش أيضا ثبوت القصاص في الذكر وفي بعضه ذكره في المهذب وكذا اللسان وقال أبوح وك لا قصاص في اللسان إذ لا يمكن قطعه الا مع قطع غيره قال مولانا (عليه السلام) وهو الأقرب للمذهب لانتشاره تارة وتقبضه أخرى فتتعذر

ص: 180

معرفة القدر قال وفي اخذ الذكر بالذكر نظر إذ لا يؤمن على النفس إذا قطع من أصله بخلاف اليد ونحوها ولهذا أشرنا إلى ضعف جعل اللسان والذكر کالأذن بقولنا قيل ولا يجب القصاص فيما عدا ذلك أي فيما عدا النفس والموضحة ومعلوم القدر مأمون التعدي الا اللطمة والضربة بالسوط ونحوه كالعود والدرة عند يحيى عليه السلام وقال زيد بن علي والناصر والامام ي والفريقان لا قصاص في ذلك إذ لا يمكن الوقوف على قدرها وهو شرط في القصاص اجماعا)(1).

وفي انواع القتل فقد قال: (أن جناية الخطأ هي ما وقع على أحد وجوه أربعة الأول ما وقع بسبب ولو تعمد فعل السبب وسيأتي تفسير ما هو سبب في الفصل الثالث إن شاء الله تعالى الوجه الثاني قوله أو تقع الجناية من آدمي غير مكلف وسواء كان عامدا أم خاطئا مباشرا أم مسببا الوجه الثالث قوله أو يقع من غير قاصد للمقتول ونحوه.

بل قصد غيره فأصابه من غير قصد وسواء وقعت من مکلف أم من غيره مباشرة أو تسبيبا وأراد علیلم بنحو المقتول كل جناية توجب القصاص الوجه الرابع قوله أو تقع الجناية من شخص غير قاصد للقتل بل قصد إيلامه فقط وكانت الجناية بما مثله لا يقتل في العادة نحو ان يضربه بنعله أو طرف ثوبه أو نحو ذلك فيموت من ذلك فقتله على هذا الوجه خطأ)(2).

ص: 181


1- شرح الازهار: ج 4 ص 385 - 387
2- شرح الأزهار: ج 4 ص 411

ثانياً: المذهب الشافعي.

قسم المذهب الشافعي القتل إلى ثلاثة أقسام (قتل العمد، وقتل الخطأ، وقتل عمد خطأ).

وأن المناط بقتل العمد قصد الفعل.

قال الشربيني (ت 977 ه) في شرح كتاب الإقناع:

(قوله: (القتل على ثلاثة أضرب عمد محض وخطأ محض وعمد خطأ) وجه الخصر في ذلك أن الجاني إن لم يقصد عين المجني عليه فهو الخطأ.

وإن قصدها فإن كان بما يقتل غالبا فهو العمد وإلا فشبه عمد کما تؤخذ هذه الثلاثة من قوله: فالعمد المحض أي الخالص هو أن يعمد بكسر الميم أي يقصد إلى ضربه أي الشخص المقصود بالجناية.

بما يقتل غالبا کجارح ومثقل وسحر. ويقصد بفعله قتله بذلك عدوانا من حيث كونه مزهقا للروح کما في الروضة فخرج بقید قصد الفعل ما لو تزلقت رجله فوقع على غيره فمات فهو خطأ وبقيد الشخص المقصود ما لو رمی زیدا فأصاب عمرا فهو خطأ. وبقيد الغالب النادر کما لوغرز إبرة في غير مقتل ولم يعقبها ورم ومات، فلا قصاص فيه.

وإن كان عدوانا وبقيد العدوان القتل الجائز وبقید حیثية الازهاق للروح ما إذا استحق حز رقبته قصاصا فقده نصفين فلا قصاص فيه وإن كان عدوانا قال في الروضة لأنه ليس عدوانا من حيث كونه مزهقا وإنما هو عدو ان من

ص: 182

حيث إنه عدل عن الطريق)(1)

وفيما يجب به القصاص من الجنايات فيتحقق به القود، قال النووي (ت 676 ه):

(إذا جرحه بما يقطع الجلد واللحم كالسيف والسكين والسنان، أو بما حدد من الخشب والحجر والزجاج وغيرها أو بيا له مور وبعد غور کالمسلة والنشاب وما حدد من الخشب والقصب ومات منه وجب عليه القود، لأنه قتله بما يقتل غالبا، وإن غرز فيه إبرة - فإن كان في مقتل كالصدر والخاصرة والعين وأصول الاذن فمات منه - وجب عليه القود، لان الإصابة بها في المقتل، كالإصابة بالسكين والمسلة في الخوف عليه، وإن كان في غير مقتل کالألية والفخذ نظرت - فإن بقي منه ضمنا إلى أن مات - وجب عليه القود.

لأن الظاهر أنه مات منه وان مات في الحال ففيه وجهان أحدهما وهو قول أبي إسحاق أنه يجب عليه القود لان له غورا وسراية في البدن. وفي البدن مقاتل خفية والثاني وهو قول أبي العباس وأبي سعيد الإصطخري أنه لا يجب لأنه لا يقتل في الغالب فلا يجب به القود، کما لو ضربه بمثقل صغير، ولان في المثقل فرقا بين الصغير والكبير، فكذلك في المحدد الشرح اللغات: المور الموج والاضطراب والجريان، ومار الدم يمور مورا جری، وأماره أسأله، ومار السنان في المطعون إذا قطعه ودخل فيه.

قال الشاعر:

وأنتم أناس تغمضون من القنا *** و إذا مار في أكتافكم وتأطرا

ص: 183


1- الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع: ج 2 ص 152

ويقولون: فلان لا يدري ما سائر من مائر، فالمائر السيف القاطع الذي يمور في الضربية مورا، والسائر بيت الشعر المروى المشهور. أما الغور فهو قعر كل شيء وقوله «ضمنا «هو الذي به الزمانة في جسده من بلاء أو كسر أو غيره.

أما الأحكام فإنه إذا جرح رجل رجلا بها يجرح بحده كالسيف والسكين أو بما حده من الرصاص والقصب والذهب والخشب أو بالليطة وهي القصبة المشقوقة أو بما له مور في البدن كالسنان والسهم والمغراز الذي يثقب به الإسكافي النعل والمسلة - وهي المخيط - فمات منها - وجب على الجارح القود، سواء كان الجراح صغيرا أو كبيرا أو سواء مات في الحال أو بقي متألما إلى أن مات، وسواء كان في مقتل أو في غير مقتل، لان جميع ذلك يشق اللحم ويبضعه ويقتل غالبا وأما إذا غرز فيه إبرة فمات نظرت - فإن غرزها في مقتل مثل أصول الاذنين والعين والقلب والأنثيين وجب عليه القود لأنها تقتل غالبا إذا غرزت في هذه المواضع، وان غرزت في غير مقتل کالألية والفخذ.

قال ابن الصباغ: فإن بالغ في ادخالها فيها وجب عليه القود، وان لم يبالغ في ادخالها بل غرزها فاختلف أصحابنا فيه فقال الشيخان أبو حامد الإسفراييني وأبو إسحاق المروزي: ان بقي من ذلك متألما إلى أن مات فعليه القود، لأن الظاهر أنه مات منه وان مات في الحال ففيه وجهان. قال أبو إسحاق يجب عليه القود لان الشافعي قال سواء صغر الجرح أو كبر فمات المجروح فإن القود يجب فيه.

ولأنه جرحه بحديدة امورة في البدن فوجب فيها القود کالمسلة وقال

ص: 184

أبو العباس بن سريج وأبو سعيد الإصطخري: لا يجب به القود لان الغالب أن الإنسان لا يموت من غرز أبرة، فإذا مات علمنا أن موته وافق غرزها فهو کما لو رماه ببعرة أو ثوب فمات، كالذي يموت بالسكتة القلبية في اللحظة التي يضربه آخر بعصا لا يموت من مثلها، وقد دخل علم الطب الشرعي والتشريح الدارس لأسباب الجناية في مثل الحالات فحدد أسباب الوفاة بطريق قطعية أو شبيهة بالقطعية هي أقرب الوسائل للوصول إلى ما هو الحق، إذا تولى ذلك اثنان من الأطباء الشرعيين الثقات العدول.

لأنا نقول فيهما ما سبق أن قلناه في القافة في اتفاقهما واختلافهما وتطابقهما وتناقضهما واعترض ابن الصباغ على هذا فقال: لا وجه لهذا التفصيل عندي، لأنه إذا كانت العلة لا تقتل غالبا فلا وصل بين أن يبقى ضمنا منه أو يموت في الحال، فإن قيل لأنه إذا لم يزل ضمنا منه فقد مات منه، وإذا مات في الحال فلا يعلم أنه مات منه.

قال: فكان ينبغي أن يكون الوجهان في وجوب الضمان دون القود فيراعي في الفعل أن يكون بحيث يقتل في الغالب، ألا ترى أن الناس يحتجمون ويقتصدون؟ أفترى ذلك يقتل في الغالب وهم يقدمون عليه؟ وقال المسعودي: هل يجب عليه القود؟ فيه وجهان من غير تفصيل)(1).

وقال في بيان العمدية من الخطأ:

(وتمييز العمد من الخطأ وشبه العمد، فإذا صدر منه فعل قتل غيره، نظر، إن لم يقصد أصل الفعل بأن زلق، فسقط على غيره، فمات به، أو تولد

ص: 185


1- المجموع للنووي: ج 18، ص 373 - 375

الهلاك من اضطراب يد المرتعش، أو لم يقصد الشخص وإن قصد الفعل، بأن رمی صیدا، فأصاب رجلا، أو قصد رجلا، فأصاب غيره، فهذا خطأ محض لا يتعلق به قصاص، وإن قصد الفعل والشخص معا، فهذا قد يكون عمدا محضا، وقد يكون شبه عمد، وفي التمييز بينهما عبارات للأصحاب يجمعها أربعة أوجه.

أحدها: أنه إذا وجد القصدان وعلمنا حصول الموت بفعله، فهو عمد محض، سواء قصد الاهلاك، أم لا، وسواء كان الفعل مهلکا غالبا، أم نادرا، كقطع الأنملة، وإن شككنا في حصول الموت به، فهو شبه عمد.

والثاني: إن ضربه بجارح، فالحكم على ما ذكرنا، وإن ضربه بمثقل، اعتبر مع ذلك في كونه عمدا أن يكون مهلکا غالبا، فإن لم يكن مهلكا غالبا، فهو شبه عمد، واعترض الغزالي على الأول، بأنه لو ضرب کوعه بعصا، فتورم الموضع، ودام الألم حتى مات، فقد علمنا حصول الموت به ولا قصاص فيه، بل تجب الدية، وعلى الثاني بأن العمدية أمر حسي لا يختلف بالجارح والمثقل، وكما يؤثر الجارح في الظاهر بالشق يؤثر المثقل في الباطن بالترضيض، وفي كلام الامام نحو هذا.

والوجه الثالث واختاره الغزالي: أن لافضاء الفعل إلى الهلاك ثلاث مراتب: غالب وكثير ونادر، والكثير: هو المتوسط بين الغالب والنادر، ومثاله، الصحة والمرض والجذام، فالصحة هي الغالبة في الناس، والمرض كثير ليس بغالب، والجذام نادر، فإن ضربه بما يقتل غالبا، جارحا كان أو مثقلا، فعمد، وإن كان يقتل كثيرا فهو عمد إن كان جارحا کالسكين الصغير،

ص: 186

وإن كان مثقلا، كالسوط والعصا، فشبه عمد، وإن كان يقتل نادرا، فلا قصاص، مثقلا كان أو جارحا، كغرز إبرة لا يعقبه ألم ولا ورم، والفرق بين الجارح والمثقل على هذا الوجه أن الجراحة لها أثر في الباطن قد يخفی، ولان الجرح وهو طريق الاهلاك غالبا بخلاف المثقل، والوجه الرابع وهو الذي اقتصر عليه الجمهور، أنه إن ضربه بما يقتل غالبا، فعمد محض، وإن لم يقتل غالبا، فشبه عمد، فهذه عبارات الأصحاب في التمييز، والقصاص مختص بالعمد المحض دون الخطأ وشبه العمد)(1).

ثالثاً: المذهب المالكي.

غایر فقهاء المذهب المالكي في اقسام القتل کما غایروا في اللفظ، فإما اقسام القتل فهي أثنان: قتل العمد، وقتل الخطأ، وأما اللفظ فقد اطلقوا على قتل العمد بقتل الغيلة والحقوا به الغيلة في الاطراف.

قال الخطاب الرعيني (ت 954 ه) في باب الدماء؛ إذ يعد هذا العنوان من أقل العناوين کتابة بين المذاهب، وكما أشرنا إلى انه من الابواب المهملة عند المالكية، وقد صرّحوا بذلك.

وعليه:

ف (القصاص بالنفس وله ثلاثة أركان: القاتل، والمقتول، والقتل، فبدأ المصنف بالكلام على القاتل، فقال: إن اتلف مكلف الخ، وانما قال أتلف ولم يقل قتل لان الاتلاف يشمل المباشرة والتسبب، والقتل إنما يتبادر للمباشرة،

ص: 187


1- روضه الطالبيين: ج 7 ص 5 - 6

وذكر أنه يشترط في وجوب القصاص على القاتل ثلاثة شروط.

الأول أن يكون مكلفا وهو العاقل البالغ فلا قصاص على صبي ولا مجنون وعمدهما كالخطأ لقوله - (صلى الله عليه واله وسلم):

«رفع القلم عن ثلاث، عن النائم حتى يستيقظ، وعن الغلام حتی يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق».

رواه أبو داود وغيره بروایات متعددة ذكرتها في حاشية الأحاديث المشتهرة.

تنبيه: المرفوع في الحديث إنما هو الاثم وهو من باب خطاب التكليف، وأما الضمان فهو من باب خطاب الوضع. وخطاب التكليف هي الأحكام الخمسة الوجوب وشرط فيه علم المكلف وقدرته، وخطاب الوضع هو الخطاب بكثير الأسباب والشروط والموانع ولا يشترط فيها علم المكلف ولا قدرته ولا كونه من کسبه، فيضمن النائم ما أتلفه في حال نومه من الأموال في ماله، وكذلك ما أتلفه من الدماء غير أنه إن كان دون ثلث الدية فعليه الدية، وإن بلغ ثلث الدية فأكثر فهو على عاقلته، وليس هذا بمعارض للحديث المذكور لما قدمناه من كونه من باب خطاب الوضع الذي معناه أن الله تبارك وتعالى قال: إذا وقع هذا في الوجود فاعلموا أني حکمت بكذا والله أعلم.

فرع: فإن قتل المجنون في حال إفاقته اقتص منه. قاله في المدونة وغيرها. قال في التوضيح: ويقتص منه في حال إفاقته ابن المواز: فإن أيس من إفاقته كانت الدية عليه في ماله، وقال المغيرة: يسلم إلى أولياء المقتول يقتلونه إن شاؤوا.

ص: 188

قال: ولو ارتد ثم جن لم أقتله حتی یصح لأني أدرأ الحدود بالشبهات ولا أقول هذا في حقوق الناس. ورد اللخمي أن يكون الخيار لأولياء المقتول فإن شاؤوا قتلوا هذا المجنون وإن شاؤوا أخذوا الدية إن كان له مال وإلا اتبعوه بها انتهى.

وقال في الشامل: فإن أيس من إفاقته، فهل يسلم للقتل أو تؤخذ الدية من ماله؟ قولان: وقال اللخمي: يخير الولي في أيهما شاء انتهى. فساووا بين القولين مع أن الثاني لابن المواز. فرع: فلو أشكل على البينة أقتل في حال عقله أو جنونه قال ابن ناجي في شرح الرسالة: فقال بعض من لقيناه من القرويين: لا يلزمه شئ وهو الصواب.

وقاله شيخنا أبو مهدي معللا بأنه شك في المقضى عليه لان القاضي لا يحكم عليه إلا بعد أن تشهد عنده البينة أنه قتل في حال كونه في عقله انتهى. ودخل في كلامه السكران وهو كذلك والرقيق وهذا بالغ به فقال وإن رق. ثم أشار إلى الشرط الثاني بقوله غير حربي يعني أن الحربي لا يقتص منه إذا قتل في حال حرابته.

ثم أشار إلى الشرط الثالث بقوله ولا زائد حرية أو إسلام يعني فلا يقتل الحر بالعبد إلا أن يكون الحركافرا والعبد مسلما، فيقتل الحر الكافر بالعبد المسلم على المشهور خلافا لسحنون وهو أحد قولي ابن القاسم. وقوله أو إسلام أي فلا يقتل المسلم بالكافر ولو كان المسلم عبدا والكافر حرا. قال في البيان: اتفاقا.

وقوله حين القتل يعني أن المعتبر في التكافؤ حين القتل، فلو أسلم الكافر

ص: 189

بعد أن قتل كافرا قتل به، وكذلك لو عتق العبد بعد قتله عبدا فإنه يقتل به.

فرع: قال في المجموعة في نصراني قتل نصرانیا عمدا ولا ولي له إلا المسلمون ثم أسلم قال: العفو عنه أحب إلي إذا صار الامر للامام لان حرمته الآن أعظم من المقتول، ولو كان للمقتول ولد كان القود لهم. وقوله إلا لغيلة قال في التوضيح في باب الحرابة: الغيلة أن يخدع غيره ليدخله موضعا ويأخذ ماله انتهی.

وقال ابن عرفة: الباجي عن ابن القاسم: قتل الغيلة حرابة وهو قتل الرجل خفية لاخذ ماله انتهى. وقال الفاكهاني في شرح الرسالة: قال أهل اللغة: قتل الغيلة هو أن يخدعه فيذهب به إلى موضع خفية فإذا صار فيه قتله، فهذا يقتل به ولا عفو فيه. قال: ونقل عن أصحابنا وأظنه البوني أنه اشترط في ذلك أن يكون القتل على مال. قال: وأما النائرة بينهما وهي العداوة فيجوز العفو عنه.

قال ابن ناجي: ما ظنه عن البوني مثله نقل الباجي عن العتبية والموازية وذكر لفظه المتقدم. قال ابن ناجي: قال الباجي: ومن أصحابنا من يقول: هو القتل على وجه القصد الذي لا يجوز عليه الخطأ. وقبله ابن زرقون انتهى.

وقال عياض: يعني اغتاله لاخذ ماله ولو كان لنائرة ففيه القصاص والعفو فيه جائز. قاله ابن أبي زمنين وهو صحيح جار على الأصول لان هذا غير محارب، وإنما يكون له حكم المحارب إذا أخذ المال أو فعل ذلك لأجل المال اه. ونقله أبو الحسن الصغير. وكذلك قال ابن رشد في رسم مرض وله أم ولد من سماع ابن القاسم من کتاب المحاربين أن قتل الغيلة

ص: 190

هو القتل على مال انتهى.

فرع: والغيلة في الأطراف كالغيلة في النفس. قال في أثناء كتاب الديات من المدونة: ومن قطع يد رجل أو فقأ عينه على وجه الغيلة فلا قصاص له والحكم للإمام إلا أن يتوب قبل أن يقدر عليه فيكون فيه القصاص)(1).

رابعاً: المذهب الحنفي.

ذهب فقهاء الحنفي إلى أن القتل على أربعة:

1- عمد محض.

2- شبه العمد.

3- خطأ محض.

4- شبه الخطأ.

قال أبو بكر الكاشاني:

(القتل أربعة أنواع قتل هو عمد محض ليس فيه شبهة العدم وقتل عمد فيه شبهة العدم وهو المسمى بشبه العمد وقتل هو خطأ محض ليس فيه شبهة العدم وقتل هو في معنى القتل الخطأ اما الذي هو عمد محض فهو ان يقصد القتل بحديد له حدا وطعن كالسيف والسكين والرمح والاشفاء والإبرة وما أشبه ذلك.

أو ما يعمل عمل هذه الأشياء في الجرح والطعن كالنار والزجاج وليطة القصب والمروة والرمح الذي لاسنان له ونحو ذلك الا آلة المتخذة من

ص: 191


1- مواهب الجليل: ج 8 ص 292 - 293

النحاس وكذلك القتل بحديد لاحد له کالعمود وصنجة الميزان وظهر الفأس والمرو ونحو ذلك عمد في ظاهر الرواية وروى الطحاوي عن أبي حنيفة انه ليس بعمد فعلى ظاهر الرواية العبرة للحديد نفسه سواء جرح أو لا وعلى رواية الطحاوي العبرة للجرح نفسه حديدا كان أو غيره وكذلك إذا كان في معنى الحديد کالصفر والنحاس والآنك والرصاص والذهب والفضة فحكمه حكم الحديد.

وأما شبه العمد، فثلاثة أنواع: بعضها متفق على كونه شبه عمد وبعضها مختلف فيه أما المتفق عليه فهو ان يقصد القتل بعصا صغيرة أو بحجر صغير أو لطمة ونحو ذلك مما لا يكون الغالب فيه الهلاك كالسوط ونحو إذا ضرب ضربة أو ضربتين ولم يوال في الضربات وأما المختلف فيه فهو ان يضرب بالسوط الصغير ويوالي في الضربات إلى أن يموت وهذا شبه عمد بلا خلاف بين أصحابنا.

وعند الشافعي: هو عمد وان قصد قتله بما يغلب فيه الهلاك مما ليس بجارح ولا طاعن کمدقة القصارين والحجر الكبير والعصا الكبيرة ونحوها فهو شبه عمد عند أبي حنيفة عند وعندهما والشافعي هو عمد ولا يكون فيما دون النفس شبه عمد فما كان شبه عمد في النفس فهو عمد فيما دون النفس لان ما دون النفس لا يقصد اتلافه بآلة دون آلة عادة فاستوت الآلات كلها في الدلالة على القصد فكان الفعل عمدا محضا فينظر ان أمكن ايجاب القصاص يجب القصاص وان لم يمكن يجب الأرش.

وأما القتل الخطأ فالخطأ قد يكون في نفس الفعل وقد يكون في ظن

ص: 192

الفاعل أما الأول فنحو ان يقصد صيرا فيصيب آدمیا وان يقصد رجلا فيصيب غيره فان قصد عضوا من رجل فأصاب عضوا آخر منه فهذا عمد وليس بخطأ وأما الثاني فنحو ان يرمي إلى إنسان على ظن أنه حربي أو مرتد فإذا هو مسلم)(1).

خامساً: المذهب الحنبلي.

ذهب فقهاء المذهب الحنبلي إلى أن القتل على ثلاثة أوجه (عمد، وشبه العمد، وخطأ)، قال ابن قدامة المقدسي:

(والقتل على ثلاثة أوجه عمد وشبه العمد وخطأ أكثر أهل العلم يرون القتل منقسما إلى هذه الأقسام الثلاثة روي ذلك عن عمر وعلي وبه قال الشعبي والنخعي وقتادة وحماد وأهل العراق والثوري والشافعي وأصحاب الرأي وأنكر مالك شبه العمد وقال ليس في كتاب الله الا العمد والخطأ فأما شبه العمد فلا يعمل به عندنا وجعله من قسم العمد وحكي عنه مثل قول الجماعة وهو الصواب لما روى عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله (صلى الله عليه - وآله - وسلم) قال:

«ألا إن دية الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل منها أربعون في بطونها أولادها».

رواه أبو داود وفي لفظ «قتيل خطأ العمد «وهذا نص يقدم على ما ذكره و قسمه أبو الخطاب أربعة أقسام فزاد قسما رابعا ما أجري مجرى الخطأ

ص: 193


1- بدائع الصنائع لابي بكر الكاشاني: ج 7 ص 233 - 234

نحو أن ينقلب نائم على شخص فيقتله أو يقع عليه من علو والقتل بالسبب كحفر البئر ونصل السكين وقتل غير المكلف أجري الخطأ وإن كان عمدا وهذه الصورة التي ذكرها عند الأكثرين من قسم الخطأ فإن صاحبها لم يعمد الفعل أو عمده وليس هو من أهل القصد الصحيح فسموه خطأ فاعطوه حكمه وقد صرح الخرقي بذلك فقال في الصبي والمجنون عمدهما خطأ.

مسألة: قال (فالعمد ما ضربه بحديدة أو خشبة كبيرة فوق عمود الفسطاط أو حجر كبير الغالب أن يقتل مثله أو أعاد الضرب بخشبة صغيرة أو فل به فعلا الغالب من ذلك الفعل أنه يتلف وجملة ذلك أن العمد نوعان: أحدهما أن يضربه بمحدد وهو ما يقطع ويدخل في البدن كالسيف والسكين والسنان وما في معناه مما يحدد فيجرح من الحديد والنحاس والرصاص والذهب والفضة والزجاج والحجر والقصب والخشب فهذا كله إذا جرح به جرحا كبيرا فمات فهو قتل عمد لا خلاف فيه بين العلماء فيما علمناه.

فاما ان جرحه جرحا صغيرا کشرطة الحجام أو غرزة بإبرة أو شوكة نظرت، فإن كان في مقتل كالعين والفؤاد والخاصرة والصدغ وأصل الاذن فمات فهو عمد أيضا لأن الإصابة بذلك في المقتل کالجرح بالسكين في غير المقتل وإن كان في غير مقتل نظرت فإن كان قد بالغ في إدخالها في البدن فهو کالجرح الكبير لأن هذا يشتد ألمه ويفضي إلى القتل كالكبير، وإن كان الغور يسيرا أو جرحه بالكبير جرحا لطيفا کشرطة الحجام فما دونها.

فقال أصحابنا: ان بقي من ذلك ضمنا حتى مات ففيه القود لأن الظاهر أنه مات منه وان مات في الحال ففيه وجهان (أحدهما) لا قصاص

ص: 194

فيه قاله ابن حامد لأن الظاهر أنه لم يمت منه ولأنه لا يقتل غالبا فأشبه العصا والسوط، والتعليل الأول أجود لأنه لما احتمل حصول الموت بغيره ظاهرا كان ذلك شبهة في درء القصاص ولو كانت العلة كونه لا يحصل به القتل غالبا لم يفترق الحال بين موته في الحال وموته متراخيا عنه كسائر مالا يجب به القصاص.

والثاني: فيه القصاص لأن المحدد لا يعتبر فيه غلبة الظن في حصول القتل به بدليل ما لو قطع شحمة أذنه، أو قطع أنملته، ولأنه لما لم يمكن إدارة الحكم وضبطه بغلبة الظن وجب ربطه بكونه محددا ولا يعتبر ظهور الحكم في آحاد صور المظنة بل يكفي احتمال الحكمة ولذلك ثبت الحكم به فيما إذا بقي ضمنا مع أن العمد لا يختلف مع اتحاد الآلة والفعل بسرعة الافضاء وابطائه.

ولان في البدن مقاتل خفية وهذا له سراية مور فأشبه الجرح الكبير وهذا ظاهر کلام الخرقي فإنه لم يفرق بين الصغير والكبير وهو مذهب أبي حنيفة وللشافعي من التفصيل مما ذكرنا النوع الثاني القتل بغير المحدد مما يغلب على الظن حصول الزهوق به عند استعماله فهذا عمد موجب للقصاص أيضا، وبه قال النخعي والزهري وابن سيرين وحماد وعمرو بن دينار وابن أبي ليلى ومالك والشافعي وإسحاق وأبو يوسف و محمد وقال الحسن لا قود في ذلك.

وروي ذلك عن الشعبي وقال ابن المسيب وعطاء وطاوس العمد ما كان بالسلاح وقال أبو حنيفة لا قود في ذلك الا أن يكون قتله بالنار وعنه في

ص: 195

مثقل الحديد روايتان، واحتج بقول النبي (صلى الله عليه - وآله - وسلم):

«الا إن في قتیل عمد الخطأ قتيل السوط والعصا والحجر مائة من الإبل».

فسماه عمد الخطأ وأوجب فيه الدية دون القصاص ولان العمد لا يمكن اعتباره بنفسه فيجب ضبطه بمظنته ولا يمكن ضبطه بما يقتل غالبا لحصول العمد بدونه في الجرح الصغير فوجب ضبطه بالجرح ولنا قول الله تعالى:

«وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا»

وهذا مقتول ظلما، وقال الله تعالى:

«كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى».

وروى أنس ان يهوديا قتل جارية على أوضاح لها بحجر فقتله رسول الله (صلى الله عليه - واله -)وسلم بين حجرين. متفق عليه وروى أبو هريرة قال قام رسول الله صلى الله عليه - واله - وسلم فقال:

«ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين اما يودی واما أن يقاد».

متفق عليه، ولأنه يقتل غالبا فأشبه المحدد، وأما الحديث فمحمول على المثقل الصغير لأنه ذكر العصا والسوط وقرن به الحجر فدل على أنه أراد ما يشبههما، وقولهم لا يمكن ضبطه ممنوع فإننا نوجب القصاص بما نتيقن حصول الغلبة به فإذا شككنا لم نوجبه مع الشك وصغير الجرح قد سبق القول فيه ولأنه لا يصح ضبطه بالجرح بدليل مالو قتله بالنار أو بمثقل الحديد)(1)

ص: 196


1- المغني لابن قدامة: ج 9 ص 320 - 323

المسألة الثالثة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب.

أولاً: أنواع القتل.

1- أجمع فقهاء الإمامية (أعلى الله شأنهم) على أن أنواع القتل هي ثلاثة:

أ- عمد محض.

ب- خطأ محض.

ج- وشبه العمد.

2- وقال الزيدية: هما أثنان، ولم يصح عندهم غير ذلك.

أ- قتل العمد.

ب- قتل الخطأ.

3- وقال الشافعية: بانهما ثلاثة أنواع:

أ- عمد محض.

ب- خطأ محض.

ج- عمد خطأ.

4- وقال الحنفية: أن أنواع القتل أربعة:

أ- عمد محض.

ب- شبه العمد.

ج- خطأ محض.

د- شبه الخطأ.

ص: 197

5- وقال الحنابلة: إن انواع القتل ثلاثة:

أ- قتل العمد.

ب- قتل الخطأ.

ج- شبه العمد.

ثانيا: ما يثبت به قتل العمد وتحقق المحضية.

1- قال الإمامية:

1- يتحقق العمد بقصد البالغ العاقل إلى القتل بما يقتل غالباً، اي قصد الفعل الذي يقتل مثله، سواء قصد القتل بما يقتل نادراً.

2- أن يكون بقصد العاقل المكلف.

وقد حددوا أربعة أوجه لقتل الخطأ، سيمر بيانها لاحقاً، قالوا: يكون العمد بخلافها.

3- قال الشافعية:

إذا صدر منه فعل قتل غيره فقصد الفعل والشخص معاً فهذا يكون عمد محض.

4- قال المالكية:

وهو ما جاء من إمام المذهب: قتل العمد عندنا أن يعمد الرجل إلى الرجل فيضربه حتی تفيض نفسه.

5- قال الحنفية:

(أما الذي هو عمد محض، فهو أن يقصد القتل بحديد له حداً، والطعن

ص: 198

بالسيف، والسكين والرمح، والإشفاء، والإبرة، وما شباه ذلك).

6- قال الحنابلة:

(فالعمد ما ضربه بحديدة أو خشبة كبيرة فوق عمود الفسطاط، أو حجر كبير الغالب أن يقتل مثله أو أعاد الضرب بخشبه أو قلَّ به فعلا الغالب من ذلك الفعل أنه يتلف).

ثالثاً: حقيقة قتل الخطأ المحض.

1- قال الإمامية: قال الإمام الصادق (عليه السلام):

«إنما الخطأ: ان تريد شيئاً فتصيب غيره».

وبه قال: قتادة، والنخعي، والزهري، وابن شبرمة، والثوري، ومالك، والشافعي، وأصحاب الرأي.

وعليه ارتکز فقهاء الإمامية، فقالوا:

(الخطأ أن لا يقصد الفعل، ولا القتل أو يقصده بشيء فيصيب غيره).

2- قال الزيدية

يقع قتل الخطأ على أحد وجوه أربعة:

أ- ما وقع بسبب.

ب- ما وقع من آدمي غير مكلف.

ج- ما وقع من غير قصد للمقتول بل قصد غيره فأصابه.

د- ما وقع من غير قصد للقتل بل قصد ایلامه فقط.

ص: 199

وبخلاف هذه الأوجه يكون قتل العمد.

3- قال الشافعية:

إن يصدر منه ما لم يقصد أصل الفعل بأن زلق فسقط على غيره فمات به أو تولد الهلاك من اضطراب يد المرتعش وغير ذلك، فهذا خطأ.

4- قال المالكية:

إذا لم يعهد للقتل ولا للضرب، مثل أن يرمي الشيء فيصيب به إنسان فيقتله، أو يقتل المسلم في حرب العدو وهو يرى أنه كافر، وما أشبه ذلك، فهذا هو قتل الخطأ بأجماع لا يجب فيه القصاص.

5- قال الحنفية:

قتل الخطأ قد يكون في نفس الفعل نحو أن يقصد صيراً فيصيب آدمياً، وقد يكون في ظن الفاعل نحو أن يرمي إلى إنسان على ظن أنه حربي أو مرتد فإذا هو مسلم.

6- قال الحنابلة:

إن الخطأ أن يفعل فعلا لا يريد به أصابه المقتول فيصيبه ويقتله مثل أن يرمي صيداً أو هدفاً فيصيب إنساناً فيقتله.

رابعاً: حقيقة: شبه العمد.

1- قال الإمامية:

(وشبه العمد: قصد الفعل الذي لا يقتل مثله مجرداً عن قصد القتل).

2- قال الزيدية:

ص: 200

ليس بين الخطأ والعمد منزل، وإنما القتل كله خطأ أو عمد؛ وفي ذلك ما جعل الله في من قود أو دية، وقد قال غيرنا ان شبه العمد منزلة ليست بالعمد ولا الخطأ، الدية فهي مغلظة، وذكر عن علي (عليه السلام)، أنه قال:

«شبه العمد ما كان بالعصا، والقذفة بالحجر العظيم».

وليس ذلك يصح عندنا.

3- قال الشافعية:

إن قصد الفعل والشخص معاً، فهذا قد يكون عمداً محضاً، وقد يكون شبه عمد.

4- قال المالكية:

قال مالك: شبه العمد باطل، وإنما هو عمد او خطأ ولا أعرف شبه العمد، وجعل الدية والمغلظة في قتل الوالد ولده.

وقال الخطاب الرعيني:

تكون الدية المغلظة في شبه العمد، وهو: ضرب الزوج، والمؤدب، والأب في ولده، والأم، والاجداد، وفعل الطبيب، والخاتن، وهو كل من جاز فعله شرعاً، وقيل: اللطمة، والوكزة، والرمية بالحجر، والضرب بعصاة متعمداً، فهذا شبه العمد لا يقتص منه وتكون فيه مغلظة.

5- قال الحنفية:

وأما شبه العمد فثلاثة أنواع بعضها متفق على كونه شبه عمد وبعضها مختلف فيه:

فأما المتفق عليه فهو أن يقصد القتل بعصا صغيرة أو بحجر صغير ونحو

ص: 201

ذلك مما لا يكون فيه الهلاك كالسوط ونحوه.

وأما المختلف فيه فهو: أن يضرب بالسوط الصغير ويوالي في الضربات إلى أن يموت وهذا شبه عمد بلا خلاف.

6- قال الحنابلة.

شبه العمد، هو أحد أقسام القتل، وهو أن يقصد ضربه بما لا يقتل غالباً إما لقصد العدوان عليه أو تقصد التأديب له فيسرف فيه؛ كالضرب بالسوط، والعصا، والحجر الصغير، والوكز، واليد، وسائر ما لا يقتل غالباً؛ إذ قتل فهو شبه عمد، لأنه قصد الضرب دون القتل وخطأ العمد: لاجتماع العمد والخطأ فيه، فإنه عمد الفعل وأخطأ في القتل فهذا لا قود فيه، والدية على العاقلة في قول أكثر أهل العلم.

ص: 202

المبحث الرابع قواعد فقهية

المسألة الأولى. قاعدة: ينقسم القتل بانقسام الأحكام الخمسة.

تناول الشهيد الأول أبي عبد الله محمد بن مكي العاملي (عليه رحمة الله ورضوانه) (المتوفي سنة 786 ه) القواعد المتعلقة بكتاب الجنايات وهي تسع، نأخذ منها الأولى والثانية لإلتحاقها بمطالب النص الشريف - مورد البحث والدراسة -، فقال في القاعدة الأولى:

(ينقسم القتل بانقسام الأحكام الخمسة:

فالواجب: قتل الحربي إذا لم يسلم، والذمي إذا لم يلتزم ولم يسلم، والمرتد عن فطرة مطلقا، وعن غيرها إذا أصر، والحارب إذا لم يتب قبل القدرة عليه - وفي اشتراط قتله الغير خلاف(1) - والزاني المحصن، والزاني بالاكراه، وبالمحارم، واللائط، وأصحاب الكبائر بعد التعزيرات، والترس إذا لم يمكن الفتح إلا بقتله، وإن كانوا غير مستحقين لولاه.

ص: 203


1- لم أعثر على من يقول بوجوب قتل المحارب إن لم يقتل، وإنما هناك من يذهب إلى أن الامام محير فيه بين القتل والصلب والقطع والنفي. انظر: الشيخ الطوسي / الخلاف ! 2/ 188، والعلامة لحلي / مختلف الشيعة: 5/ 226 - 227، وقواعد الأحکام: 251، وابن جزي / قوانين الأحكام الشرعية ! 392

والحرام: قتل المسلم بغير حق، والذمي، والمعاهد، والمستأمن، ونساء أهل الحرب وصبيانهم إلا مع الضرورة، وقتل الأسير المأخوذ بعد انقضاء الحرب.

والمكروه: قتل الغازي أباه.

والمستحب: قتل الصائل إذا كان الدفع أولى من الاستسلام عندهم(1). والأقرب وجوبه عندنا. ولو كان الدفاع عن بضع محرم، أو عن قتل مؤمن ظلما، فهو واجب.

والمباح: القتل قصاصا. ولو خيف من استبقائه أذى أمكن جعله مستحبا. ومن المباح: من مات بالحد أو بالقصاص في الطرف(2).

أما قتل الخطأ، فلا يوصف بشيء من الأحكام، لأنه ليس بمقصود).

وأما شبه العمد، فقد يوصف بالحرمة فيما إذا ضربه عدوانا، لا بقصد القتل ولا بما يقتل غالبا، وقد لا يوصف، كالضرب للتأديب. على أن الضارب عدوانا الوصف في الحقيقة لضربه لا للقتل المتولد عنه)(3).

المسألة الثانية: قاعدة: ينقسم القتل باعتبار سببه إلى أقسام.

وفي القاعدة الثانية قسم الشهيد الأول (عليه رحمة الله ورضوانه) القتل باعتبار سببه إلى ستة أقسام، فقال:

الأول: ما لا يوجب قصاصا ولا دية ولا كفارة ولا إثما، وهو القتل

ص: 204


1- أي عند العامة. انظر: السيوطي / الأشباه والنظائر: 446
2- انظر في هذه الاقسام: السيوطي / الأشباه والنظائر: 446 - 447
3- القواعد والفوائد: ج 2 ص 7 - 8

الواجب والمباح، إلا قتل المسلم حين الترس، فإنه يجب به الكفارة.

الثاني: ما لا يوجب الثلاثة الأول ولكنه يأثم، وهو قتل الأسير إذا عجز عن المشي، وقتل الزاني المحصن وشبهه بغير إذا الأمام.

الثالث: ما يوجب القصاص والكفارة، وهو قتل المكافئ من المسلمين عمدا عدوانا:

الرابع: ما یوجب الدية والكفارة، وهو شبه العمد، والخطأ، وقتل الوالد ولده.

الخامس: ما يوجب الدية ولا يوجب الكفارة، وهو قتل الذمي.

السادس: ما يوجب الكفارة لا الدية، وهو قتل عبد نفسه إذا كان مسلما، وقتل الإنسان نفسه. أما قتل الذمي المرتد، فالأقرب أنه يوجب القصاص وحده، لأنه معصوم الدم بالنسبة إليه)(1).

ص: 205


1- القواعد والفوائد: ج 2 ص 7 - 8

ص: 206

المبحث الخامس ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة

نتناول في هذا المبحث ثلاثة شورح وهي لابن میثم، وابن أبي الحديد، والسيد حبيب الله الخوئي وذلك لأهمية الموضوع لا سيما فيما يرتبط بمهام الحاكم ومسؤولياته.

فقد أوضح النص الشريف وحدد هذه المهمام والمسؤوليات، وما يتعلق بها من تبعات واثار دنیوية وأخروية موضحاً ومحذراً الحكم من خطورة التجرء على انتهاك حرمة الله في سفك الدماء بغير حق، إلى الحد الذي حذّر فيه من الوكزة، وهو أمرٍ ينفرد فيه إمام الشريعة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).

بل: لم اعثر فيما توفر لدي من مصادر في فقه المذاهب والتي مرّ ذكرها في المقدمة العلمية أن فقيهاً من الفقهاء قد أصلّ لهذه المهام المنوطة بمسؤوليات الحاكم.

ولعل مرد ذلك إلى أصول العقيدة التي دأبت عليها الأمة في منح الحاكم صفة ولي الأمر والمشرّع للناس.

بل: كانت وظيفة كثير من الفقهاء صناعة الحكم الشرعي على مقاسات الحاكم من أهواء، ورغبات، وميولات، واستحسانات، واستقباحات.

ص: 207

ولذا:

لم تزل الأمة في تفكك وتراجع منذ أن تركت التمسك بكتاب الله وعترة نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) فكيف ستهتدي الطريق، وبماذا سترد الحوض على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟!!.

المسألة الأولى: ابن میثم البحراني (ت 679 ه).

قال (عليه رحمة الله ورضوانه) في بيان دلالات العهد الشريف وبيان مطالبه و معارفه وقد قسمه إلى مقاطع، فقال:

(نهاه أن يقوّى سلطانه ودولته بسفك الدم الحرام، ونفرّ عنه بقوله: فإنّ ذلك. إلى قوله: وينقله. وهي صغری ضمیر بیانها ما سبق فإنّ سفك الدم الحرام لمّا استلزم الأمور الثلاثة المذكورة كان ذلك مضعفا للسلطان ومزيلا له، وتقدير الكبری: وكلَّما كان كذلك وجب اجتنابه.

ونهاه عن قتل العمد حراما، ونفّر عنه بأمرين: أحدهما: أنّه لا عذر فيه عند الله ولا عنده. الثاني: أنّ فيه قود البدن. وهما صغریا ضمير تقدير الكبرى فيهما: وكلّ ما كان كذلك وجب اجتنابه.

ونهاه أن يرتكب رذيلة الكبر عند أن يبتلى بقتل خطاء أو إفراط سوطه أو يده عليه في عقوبة فيأخذه عزّة الملك والكبر على أولياء المقتول فلا يؤدّی إليهم حقّهم، ونبه بقوله: فإن. إلى قوله: مقتلة. على أنّ الضرب باليد المسمّى وكزا قد يكون فيه القتل وهو مظنّة له)(1)

ص: 208


1- شرح نهج البلاغة: ج 5 ص 183 - 184

المسألة الثانية: ابن ابي الحديد المعتزلي (ت 656 ه).

يبتدأ الشارح المعتزلي قوله بذكر الاشارة إلى وصية قيس بن زهير التي استعرضها آنفا في شرحه للنهج، والتي ترتكز على النهي عن الاسراف في الدماء في شريعة الجاهلية مع حميتها وانتهاكها على القتل والقتال، أما وصية أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام)، فهي:

(مبنية على الشريعة الإسلامية، والنهي عن القتل والعدوان الذي لا يسيغه الدين، وقد ورد في الخبر المرفوع:

«إن أول ما يقضى الله به يوم القيامة بين العباد أمر الدماء».

قال: إنه ليس شئ أدعى إلى حلول النقم، وزوال النعم، وانتقال الدول، من سفك الدم الحرام، وإنك إن ظننت أنك تقوی سلطانك بذلك، فليس الامر کما ظننت، بل تضعفه، بل تعدمه بالكلية.

ثم عرفه أن قتل العمد يوجب القود وقال له:

«قود البدن» أي يجب عليك هدم صورتك كما هدمت صورة المقتول، والمراد إرهابه بهذه اللفظة أنها أبلغ من أن يقول له: «فإن فيه القود».)(1).

المسألة الثالثة: السيد حبيب الله الخوئي (ت 1324 ه).

يبدأ السيد حبيب الله من بيان المعنى اللغوي للمفردات الواردة في العهد الشريف، فيقول: (القود) بالتحريك: القصاص، يقال: أقدت القاتل بالقتيل: قتلته به وبابه.

ص: 209


1- شرح نهج البلاغة - المعتزلي: ج 17 ص 111 - 113

قال (الوكزة):

وكزه: ضربه ودفعه، ويقال: وكزه أي ضربه بجمع يده على ذقنه، وأصابه بوکزة أي بطعنة وضربة، (نخوة): في الحديث إنّ الله أذهب بالإسلام نخوة الجاهليّة بالفتح فالسّكون أي افتخارها وتعظَّمها.

(الفرصة): النوبة، والممكن من الأمر، (يمحق) يقال: محقه محقا من في باب نفعه: نقصه وأذهب منه البركة، وقيل: المحق ذهاب الشيء كلَّه حتّى لا يرى له أثر.

(التزيّد): تفعّل من الزيادة أي احتساب العمل أزيد مما یکون، (المقت): البغض، (لجّ) في الأمر لجاجة إذا لازم الشيء وواظبه من باب ضرب.

(الأسوة): المساواة، (التغابي): التغافل، (سورة الرّجل: سطوته وحدّة بأسه.

(غرب) اللسان: حدّته، (البادرة): سرعة السّطوة والعقوبة.

الاعراب:

إيّاك منصوب على التحذير، والدّماء منصوب على التحذير والتقدير اتّق نفسك واحذر الدّماء وسفكها، ممّا يضعفه: من للتبعيض، لا عذر لنفی الجنس والخبر محذوف، في نفسه جار ومجرور متعلق بقوله: أوثق، مقتا: منصوب على التميز، بما الناس، ما موصولة أو موصوفة، والجملة بعدها صفة أو صلة، وفيه متعلَّق بقوله أسوة، بكفّ البادرة مصدر مضاف إلى المفعول من المبنى للمفعول.

المعنى: قد تعرّض عليه السّلام في هذا الفصل للتّوصيات الأخلاقيّة

ص: 210

بالنّسبة إلى الوالي نفسه ليكون أسوة لعمّاله أوّلا ولكافّة الرّعيّة نتيجتا، فتوجّه إلى التّعليم الأخلاقي كطبيب روحاني ما أشدّه في حذقه ومهارته فانّه عليه السّلام وضع إصبعه على أصعب الأمراض الأخلاقيّة والجنائية الَّتي ابتلت بها الامّة العربيّة في الجاهليّة العمياء الَّتي ظلَّت عليها قرونا وسعت في معالجتها والتحذير عنها وبيان مضارّها كدواء ناجع ناجح في معالجتها فشرع في ذلك الفصل بقوله عليه السّلام.

(إيّاك والدّماء وسفكها) كانت العرب في الجاهليّة غريقة في الحروب والمشاحنات، وعريقة في سفك الدّماء البريئات، فكانت تحمل سلاحها وتخرج من كمينها للصّيد فيهدف أيّ دابّة تلقاها وحشيّة كانت أم أهليّة بهيمة كانت أم نسمة، تعيش بالصّيد وتشبع منها وتسدّ جوعتها، وإذا كان صيدها إنسانا يزيده شعفا وسرورا، لأنه ينال بسلبه ومتاعه فانقلبت إلى امّة سفّاكة تلذّ من قتل النّفوس ويزيدها نشاطا إذا كان المقتول رجلا شريفا وبطلا فارسا فتفتخر بسفك دمه وتنظم عليه الأشعار الرّائقة المهيّجة وترنّمها وتغنّي بها في حفلاتها.

وجاء الإسلام مبشّرا بشعار الإيمان والأمن ولكن ما لبث أن ابتلى بالهجومات الحادّة الَّتي ألجأه إلى تشريع الجهاد، فاشتغل العرب المسلمون بقتل النفوس في ميادين الجهاد حقّا في الجهاد المشروع وباطلا في شتّى المناضلات الَّتي أثارها المنافقون فيما بينهم بعض مع بعض أو مع الفئة الحقّة حتّى ظهر في الإسلام حروب دمويّة هائلة تعدّ القتلى فيها بعشرات الألوف كحرب لا جمل وصفّين.

ص: 211

فزاد المسلمون العرب السّادة في الجزيرة وما فتحوه من البلاد الواسعة الألفة بمص الدّماء وسفكها حتّى سقط حرمة الإنسان في نظرهم وسهل عليهم أمر سفك الدّماء لا يفرّقون بين ذبح شاة وبين ذبح إنسان.

وهذا الدّاء العضال مهمّة للتعليمات الإسلاميّة من الوجهة الأخلاقيّة منذ بعثة النبيّ صلَّى الله عليه وآله.

فنزلت في القرآن الشريف آيات محكمة صارمة في تحريم سفك الدّماء فبيّن الاعتراض عليه من لسان الملائكة العظام حين إعلام خلق آدم فقال عزّ من قائل:

«وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ»(1).

وتلاها بنقل قصّة ابني آدم الَّذي قتل أحدهما الاخر فأبلغ في تشنيع ارتكاب القتل إلى حدّ الاعجاز، ثمّ صرّح بالمنع في قوله تعالى:

«وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً»

وفرض في ارتكاب قتل الخطاء كفّارة عظيمة، فقال تعالى:

«وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ» ثم قرّر عقوبة لا تتحمّل في قتل المؤمن عمدا فقال تعالى:

«وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا»(2)

ص: 212


1- البقرة: 30
2- النساء، 94

وأكَّد النبيّ في المنع عن قتل الخطا باشتراك العاقلة في هذا الجريمة المعفوّة عن العقوبة الأخروية لكونها غير اختيارية من حيث النيّة فحمّلهم الدية وأعلن أنّ حرمة المؤمن كحرمة الكعبة باعتبار أنّ حرمة الكعبة راسخة في قلوب العرب وعقيدتهم إلى النهاية.

وقد نبّه (عليه السّلام) إلى تبعات سفك الدم بما يلي:

1- (فانّه ليس شيء أدعى لنقمة) في نظر أولياء المقتول وعامّة الناس وعند الله.

2- (ولا أعظم لتبعة) في الدنيا بالانتقام من ذوي أرحام المقتول وأحبّائه وبالقصاص المقرّر في الإسلام.

3 - (ولا أحرى بزوال نعمة) وأهمّها زوال الطمأنينة عن وجدان القاتل وابتلائه بالاضطراب الفكري وعذاب الوجدان.

4- (وانقطاع مدّة) سواء كان مدّة الشباب فيسرع المشيب إلى القاتل أو الرتبة الاجتماعيّة والمدنية فتسقط عند الناس وعند الامراء، أو العمر فيقصر عمر القاتل.

5- أنّه أوّل ما يقضي الله به يوم القيامة، فتحلّ أوّل عقوبة الآخرة بالقاتل.

6- انتاجه عكس ما يروم القاتل من ارتكابه، فيضعف سلطنته ويوهنها إن قصد به تقوية سلطانه بل يزيلها وينقلها.

7- إنّه لا يقبل الاعتذار والخلاص من عقوبته إن كان عمدا.

8- ادّائه إلى القود المفني للبدن والمزيل للحياة.

ثمّ بيّن عليه السّلام أنّه إن كان خطأ فلا بدّ من الانقياد لأولياء المقتول

ص: 213

بأداء الدية من دون مسامحة واعتزاز بمقام الولاية، ونبّه إلى الاحتياط في الضرب والايلام وإلى كظم الغيظ عند المكاره فانّه ربما يصير الوكزة باليد سببا للقتل)(1).

ص: 214


1- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: ج 20 ص 308 - 312

الفصل الثاني : استيفاء القصص

اشارة

ص: 215

ص: 216

المبحث الأول الاقتصاص بغير السيف

قال أمير المؤمنين الإمام علي (عليه الصلاة والسلام) في وصيته للحسن والحسين (عليهم السلام) بعد أن ضربه أشقى الأشقياء عدوا الرحمن ابن ملجم:

«يَا بنَيِ عَبدِ المُطّلِبِ لَا أُلفِيَنّكُم تَخُوضُونَ دِمَاءَ المُسلِمِينَ خَوضاً تَقُولُونَ قُتِلَ أَمِيرُ المُؤمِنِينَ، أَلَا لَا تَقتُلُنّ بيِ إِلّا قاَتلِيِ، انظُرُوا إِذَا أَنَا مِتّ مِن ضَربَتِهِ هَذِهِ، فَاضرِبُوهُ ضَربَةً بِضَربَةٍ، وَ لَا تُمَثّلُوا بِالرّجُلِ، فإَنِيّ سَمِعتُ رَسُولَ اللّهِ (صلی الله علیه و آله وسلم) يَقُولُ إِيّاكُم وَ المُثلَةَ وَ لَو بِالكَلبِ العَقُورِ»(1).

تناول فقهاء المذهب الإمامي والشافعي والحنبلي والإباضي والحنفي مسألة كيفية استيفاء القصاص من الجاني.

أما المذهب الزيدي فلم يتعرضوا للمسألة - فيما تورف لدي من مصادر - فكانت أقوال فقهاء المذاهب كالاتي:

المسألة الأولى: المذهب الإمامي.

ذهب فقهاء الإمامية (أعلى الله شأنهم) إلى حرمة الإستيفاء بالآلة الكالة تجنباً للتعذيب والى ع-دم ج-واز الإقتصاص بغير السيف.

ص: 217


1- نهج البلاغة بشرح محمد عبده: ج 3 ص 78

أولاً: الشيخ الجواهري النجفي (رحمه الله) (ت 1266 ه).

وقد بحث الشيخ الجواهري النجفي (عليه الرحمة والرضوان) المسألة مستعرضاً لأقوال الفقهاء الذين سبقوه (رضوان الله تعالى عليهم) ومبانيهم في الحكم، فقال في بيان قول المحقق الحلي (عليه رحمة الله ورضوانه):

(ويمنع من الاستيفاء بالآلة الكالة تجنباً للتعذيب)، فأعقبه الجواهري (رحمة الله)، بقوله:

بلا خلاف أجده للنبوي(1) إذا قتلتم فأحسنوا القتلة وللأمر باراحة الذبيحة وتحديد الشفرة للذبح(2) ففي الآدميين أولى و لكن لو فعل أساء وعزر ولا شيء عليه من دية ونحوها، وظاهر الأصحاب أو صريحهم عدم الفرق في ذلك بين من قد قتل بالكال أو لا، ولكن في المسالك بعد اعترافه بأن الأصحاب على ما سمعت احتمل جواز قتله بالكال حينئذ، لعموم الأمر بالعقوبة المماثلة التي ستعرف الحال في نظائرها. ولا يقتص إلا بالسيف)(3).

ثانياً: السيد عبد الأعلى السبزواري (رحمه الله) (ت 1414 ه).

تناول السيد عبد الأعلى السبزواري (عليه رحمة الله ورضوانه) حكم الاقتصاص بغير السيف، فقال:

(لا يقتص إلا بالسيف وإن كانت الجناية بغيره كالحرق والغرق والرضخ

ص: 218


1- سنن البيهقي ج 8 ص 60
2- سنن البيهقي ج 8 ص 60
3- جواهر الكلام: ج 42 ص 296

بالحجارة، وقوله تعالى: «وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ»(1).

ومن السنة إطلاق قول نبينا الأعظم (صلَّى الله عليه وآله وسلم):

«إذا قتلتم فأحسنوا القتلة»(2)، الشامل للمقام بالأولى.

ومن الإجماع: إجماع المسلمين.

ومن العقل: حكمه البتي بقبح ذلك، لأنه ظلم يستقل العقل بقبحه.

لأصالة الاحترام في الدماء والنفوس، إلا ما خرج بدليل مخصوص، مضافا إلى ظهور الإجماع.

أما الإثم، فلمخالفة التكليف، ومنه يعلم وجه التعزير، وأما انه لا شيء عليها، فللأصل بعد عدم دليل عليه. لظهور الإجماع، ومعتبرة ابن بكير عن العبد الصالح (عليه السّلام): (في رجل ضرب رجلا بعصا فلم يرفع العصا مات، قال (عليه السّلام): يدفع إلى أولياء المقتول، ولكن لا يترك يتلذّذ به، ولكن يجاز عليه بالسيف)(3)، وفي صحيح الكناني عن الصادق (عليه السّلام): عن رجل ضرب رجلا بعصا فلم يقلع عنه الضرب)(4)، حتى مات أيدفع إلى ولي المقتول فيقتله؟ قال: نعم، لكن لا يترك يعبث به،

ص: 219


1- النحل،: 126
2- السنن الكبرى للبيهقي ج: 8 صفحة: 60
3- الوسائل: باب 62 من أبواب القصاص في النفس الحديث: 3
4- مهذب الأحكام: ج 28 ص 288 - 289

ولكن يجيز عليه السيف)(1).

المسألة الثانية: أقوال فقهاء المذاهب الأخرى في استيفاء القصاص.

أولاً: المذهب الحنفي.

ذهب فقهاء الحنفية إلى أن الاستيفاء يكون بالسيف ولا يجوز بغيره، جاء ذلك في بيان أبي بكر الكاشاني (ت 587 ه) فقد قال:

(وأما بيان ما يستوفي به القصاص، وكيفية الاستيفاء، فالقصاص لا يستوفي إلا بالسيف عندنا وان أراد الولي أن يقتل بغير السيف لا يمكن ولو فعل يعذر، لكن لا ضمان عليه، ويصير مستوفياً باي طريق قتله بالعصى او بالحجر أو القاء من السطح أو القاء في البئر أو ساق عليه دابة حتى مات، ونحو ذلك لان القتل حقه، فإذا قتله فقد استوفى حقه باي طريق كان الا انه يأثم بالاستيفاء لا بطريق مشروع لمجاوزته حد الشرع)(2).

ثانياً: المذهب الشافعي.

1- يرى إمام المذهب الشافعي: إن الاستيفاء في القصاص من الجاني يكون بنفس الوسيلة التي قتل بها المجني عليه.

أي: (يفعل به مثل ما فعل، فإن مات والا تحز رقبته حتى لو قطع يد رجل عمداً فمات من ذلك، فإن الولي يقتله فتقطع يده فإن مات في المدة

ص: 220


1- الوسائل: باب 62 من ابواب القصاص في النفس، الحديث 3 و 1
2- بدائع الصنائع: ج 7 ص 245

التي مات الأول فيها، وإلا تحز رقبته)(1).

2- وقال النووي (ت 676 ه) في كيفية الماثلة في استيفاء القصاص:

وهي مشترطة في استيفاء القصاص، فإذا قتله قتلا موحيا بمحدد، کسيف وغيره، أو بمثقل، أو خنقه، أو غرقه في ماء، أو ألقاه في نار، أو جوعه حتى مات، أو رماه من شاهق، فللولي أن يقتله بمثل ما قتل به، ويستثنی عن هذه القاعدة ثلاث صور، إحداها: إذا قتله بسحر، اقتص منه بالسيف، لأن عمل السحر حرام ولا ينضبط، الثانية: إذا قتله باللواط، وهو مما يقتل غالبا، بأن لاط بصغير، فالصحيح أنه يقتل بالسيف کمسألة السحر.

والثاني: تدس في دبره خشبة قريبة من آلته ويقتل بها، قاله أبو إسحاق والاصطخري، قال المتولي: هذا إن توقع موته بالخشبة، وإلا فالسيف.

والثالث: لا يجب به القصاص، لأنه لا يقصد به الاهلاك، فيكون القتل به خطأ، أو شبه عمد، وهو غريب ضعيف، الثالثة: إذا أو جره خمرا حتی مات، فثلاثة أوجه، الصحيح: أنه يقتل بالسيف، والثاني: يوجر مائعا، كخل أو ماء أو شيء مر، والثالث: لا قصاص، لأنه لا يقصد به القتل وهو غريب ضعيف.

ولو سقاه بولا، فكالخمر، وقيل: يسقى بولا، لأنه يباح عند الضرورة بخلاف الخمر، ولو أو جره ماء نجسا، أو جرماء طاهرا. فرع کما ترعی المماثلة في طريق القتل، ترعى في الكيفية والمقدار، ففي التجويع يحبس مثل تلك المدة ويمنع الطعام، وفي الالقاء في الماء والنار يلقى في ماء ونار مثلهما،

ص: 221


1- بدائع الصنائع لابي بكر الكاشاني: ج 7 ص 245

ويترك تلك المدة، وتشد قوائمه عند الالقاء في الماء إن كان يحسن السباحة.

وفي التخنيق يخنق بمثل ما خنق مثل تلك المدة، وفي الالقاء من الشاهق يلقي من مثله وتراعی صلابة الموضع، وفي الضرب بالمثقل يراعي الحجم وعدد الضربات، وإذا تعذر الوقوف على قدر الحجر، أو قدر النار، أو عدد الضربات فعن القفال أنه يقتل بالسيف، وعن بعضهم يؤخذ باليقين.

قلت: هذا الثاني أصح. والله أعلم. فرع متی عدل المستحق من غير السيف إلى السيف، مکن منه، لأنه أوحى وأسهل، قال البغوي: وهو الأولى، وأشار الامام إلى وجه أنه لا يعدل من الخنق إلى السيف، والمذهب: الأول.

فرع إذا جوع الجاني مدة تجويعه، أو ألقي في النار مثل مدته، أو ضرب بالسوط والحجر كضربه، فلم يمت، فقولان، أحدهما: يزاد في ذلك الجنس حتى يموت، والثاني: يقتل بالسيف، وفرق جماعة فقالوا: يفعل الأهون منهما، وهذا أقرب، والأول: أظهر عند البغوي، وقيل: يعدل في السوط والحجر إلى السيف، قال الامام: ولو قتل نحيفا بضربات تقتل مثله غالبا، وعلمنا أو ظننا طنا مؤكدا أن الجاني لا يموت بتلك الضربات لقوة جثته، فالوجه القطع بأنه لا يضرب، ثم قال: وفيه احتمال.

فرع هذا الذي ذكرناه في الاقتصاص بالقتل الموحي، فأما غير الموحي من القتل، کالجروح وقطع الأطراف إذا سرت إلى النفس، فله حالان، أحدهما: أن تكون الجراحة بحيث يقتص فيها لو وقفت، کالموضحة وقطع الكف، فللمستحق أن يحز رقبته، وله أن يوضحه أو يقطع كفه، ثم إن شاء حز رقبته في الحال.

ص: 222

وليس للجاني أن يقول: أمهلوني مدة بقاء المجني عليه بعد جنایتي، لأن القصاص ثابت في الحال، وعن ابن القطان أن له ذلك، والصحيح الأول، وإن شاء أمهله إلى السراية کما سبق، وليس للجاني أن يقول: أريحوني بالقتل أو العفو، بل الخيرة للمستحق، وإذا اقتص في موضحة الجناية، أو قطع العضو المقطوع مثله، لم يكن له أن يوضح موضعا آخر، ولا أن يقطع عضوا آخر بلا خلاف، بل ليس له إلا حز الرقبة.

الحال الثاني: أن تكون الجراحة بحيث لا يقتص فيها لو وقفت، کالجائفة وقطع اليد من نصف الساعد، فهل يجوز استيفاء القصاص بهذا الطريق تحقيقا للمماثلة، أم يجب العدول إلى حز الرقبة؟ قولان، أظهرهما عند الأكثرين: الأول، فعلى هذا لو أجافه کجائفته، فلم يمت، فهل يزاد في الجوائف، وجهان، أصحهما: لا.

قال البغوي: وإذا قلنا: يجوز الاقتصاص بطريق الجائفة، فقال: أجيفه، ثم أعفو قال: ولو أجافه ثم عفا عنه، عزر على ما فعل، ولم يجبر على قتله، فإن مات، بان بطلان العفو، والقولان في أنه هل يستوفي القصاص بالجائفة ونحوها؟ يجريان فيما قطع یدا شلاء، ويد القاطع صحيحة، أو ساعدا ممن لا کف له، والقاطع سليم، هل يستوفي القصاص بقطع اليد والساعد؟

فرع المماثلة مرعية في قصاص الطرف، کما هي مرعية في قصاص النفس بشرط إمكان رعايتها، فلو أبان طرفا من أطرافه بمثقل، لم يقتص إلا بالسيف، ولو أوضح رأسه بالسيف، لم يوضح بالسيف، بل يوضح بحديدة خفيفة، فإن كان الطريق موثوقا به مضبوطا، قوبل بمثله، كفقء العين بالإصبع.

ص: 223

فرع قطعه رجل من الكوع، ثم قطع آخر ساعده من المرفق قبل اندمال القطع الأول، فمات بالسراية، فالقصاص عليهما، وطريق استيفائه من الأول أن تقطع يده من الكوع، فإن لم يمت، حزت رقبته، وأما الثاني، فإن كان له ساعد بلا كف، اقتص منه بقطع مرفقه، ثم يقتل، وإن كانت يده سليمة، فهل تقطع من المرفق ثم تحز رقبته، أم يقتصر على الحز؟

قولان، ويقال: وجهان، أظهرهما: الأول، وهو نصه في المختصر لترد الحديدة على موردها في الجناية، ولا عبرة بزيادة الكف الهالكة بهلاك النفس، ولو أراد الولي العفو عن الأول بعد أن أقطعه من الكوع، قال الأصحاب: لا يجوز أن يعفو على مال، لأن الواجب عليه نصف الدية، فإنه أحد القاتلين، وقد استوفي النصف باليد التي قطعها، وإن أراد أن يعفو عن الثاني على مال، فله نصف الدية إلا قدر أرش الساعد، فإنه لم يستوف منه إلا الساعد.

فرع إذا اقتص من قاطع اليد، ثم مات المجني عليه بالسراية، فللولي أن يحز رقبته، وله أن يعفو ويأخذ نصف الدية، واليد المستوفاة مقابلة بالنصف، فإن مات الجاني، أو قتل ظلما، أو في قصاص آخر، تعين أخذ نصف الدية من تركته، ولو قطع يدي رجل، فقطعت يداه قصاصا، ثم مات المجني عليه بالسراية.

فللولي حز رقبة الجاني، فلو عفا، فلا مال له، لأنه استوفي ما يقابل الدية، وهذه صورة يستحق فيها القصاص ولا تستحق الدية بالعفو عليها، ولو اقتص من قاطع اليد، فمات بالسراية، فلا شئ على المقتص، ولو ماتا جميعا بالسراية بعد الاقتصاص في اليد، نظر، إن مات المجني عليه أولا، أو ماتا

ص: 224

معا، فوجهان، الصحيح الذي عليه الجمهور: أنه لا شئ على الجاني، والثاني: أن في تركته نصف الدية، نقله ابن کج عن عامة الأصحاب، وإن مات الجاني أولا، فهل يجب في تركته نصف الدية، أم لا شيء؟ وجهان، أصحهما: الأول، فلو كان ذلك في الموضحة، وجب تسعة أعشار الدية ونصف عشرها، وقد أخذ بقصاص الموضحة نصف العشر.

فرع قطعه، فحز المقطوع رقبة الجاني، فإن مات المقطوع بالسراية، صار قصاصا، وإن اندمل، قتل قصاصا، وفي تركة الجاني نصف الدية لقطعه اليد، هكذا ذكره البغوي.

فرع قطع يد رجل وقتل آخر ثم مات المقطوع بالسراية فقد قتل شخصين، نقل صاحب الشامل عن الأصحاب أنه يقتل بالمقتول دون المقطوع، لأن قصاص المقطوع وجب بالسراية وهي متأخرة عن وجوبه للمقتول، لكن لولي المقطوع أن يقطع يده، فإذا قتله الآخر، أخذ نصف الدية من تركته، وتوقف في تخصيص الاقتصاص في النفس بالمقتول، ولو أنه بعد ما قطع واحدا، وقتل آخر قطعت يده قصاصا، ومات بالسراية، فلولي المقتول الدية في تركته، وإن قطع قصاصا ثم قتل قصاصا، ثم مات المقطوع الأول، فلوليه نصف الدية في تركة الجاني.

فصل سبق أنه لا تقطع يمين بیسار ولا عكسه، ولو وجب القصاص في يمين واتفقا على قطع يسار بدلها، لم يكن بدلا، کما لو قتل غير القاتل برضاه بدلا، لا يقع بدلا، ولكن لا قصاص في اليسار لشبهة البذل وتجب دیتها، ومن علم منهما فساد هذه المصالحة، أثم بقطع اليسار، وهل يسقط

ص: 225

قصاص اليمين بما جرى؟ و جهان، أصحهما: نعم، ولو قال مستحق قصاص اليمين للجاني: أخرج يمينك، فأخرج يساره، فقطعها المستحق، فللمخرج أحوال، أحدهما: أن يعلم أن اليسار لا تجزئ عن اليمين، وأنه يخرج اليسار ويقصد بإخراجها الإباحة للمقتص، فلا قصاص في اليسار ولا دية، نص عليه الشافعي، واتفق عليه الأصحاب، وقالوا: قد بذلها صاحبها مجانا، وإن لم يتلفظ بإباحة قالوا: والفعل بعد السؤال کالاذن في المسؤول، حتى لو قال لأجنبي: أخرج يدك لأقطعها، أو قال: ملكني قطعها، فأخرجها، كان ذلك إباحة، ولو قال: ناولني متاعك لألقيه في البحر، فناوله كان كما لو نطق بالاذن فيه، فلا يجب ضمانه إذا ألقاه في البحر، ولو قدم طعاما إلى من استدعاه، كان كما لو قال له: كل، وحكى ابن القطان وجها أنه يجب ضمان اليسار إذا لم يتلفظ المخرج بالاذن في القطع.

وحمل نص الشافعي على ما إذا أذن لفظا، والصحيح الأول، وبه قطع الأصحاب، وسواء علم القاطع أنها اليسار، وأنها لا تجزئ أم لا، لكن إذا علم، عزر، وعن ابن سلمة احتمال في وجوب القصاص إذا كان عالما، ولو قصد شخص قطع يد رجل ظلما، فلم يدفعه المقصود وسكت حتی قطع، فهل يكون سكوته إهدارا؟

وجهان، الصحيح: لا، لأنه لم يوجد منه لفظ ولا فعل، فصار کسکوته عن إتلاف ماله، والثاني: نعم، لأنه سکوت محرم، فدل على الرضى، ولو سری قطع اليسار إلى نفس المخرج، ففي وجوب الدية الخلاف السابق فيما إذا قال: اقتلني، فقتله، وبني وجوب الكفارة على المقطوع يساره على الخلاف في أن قاتل نفسه هل تلزمه الكفارة؟

ص: 226

هذا حكم قطع اليسار في هذه الحالة، وأما قصاص اليمين، فیبقی کما كان، لكن إذا سرى قطع اليسار إلى النفس، فات القصاص، فيعدل إلى دية اليد، فلو قال القاطع: قطعت اليسار على ظن أنها تجزئ عن اليمين فوجهان، أحدهما: لا يسقط قصاصه في اليمين، لأنه لم يسقطه ولا اعتاض عنه.

وأصحهما وبه قطع البغوي واختاره الشيخ أبو حامد والقاضي حسين: يسقط، لأنه رضي بسقوطه اکتفاء باليسار، فعلى هذا يعدل إلى دية اليمين، لأن اليسار وقعت هدرا، وطرد الوجهان فيما لو جاء الجاني بالدية وطلب من مستحق القطع متضرعا إليه أن يأخذها ويترك القصاص، فأخذها، فهل يجعل الاخذ عفوا، ولو قال القاطع: علمت أن اليسار لا تجزئ عن اليمين شرعا، لكن جعلتها عوضا عنها، اطرد الخلاف، وجعل الامام هذه الصورة أولى بالسقوط.

الحال الثاني: أن يقول: قصدت بإخراج اليسار إيقاعها عن اليمين لظني أنها تقوم مقامها، فنسأل المقتص لم قطع؟ وله في جوابه ألفاظ أحدها أن يقول: ظننت أنه أباحها بالاخراج، فلا قصاص عليه في اليسار، وفيه احتمال للامام، ويبقى قصاص اليمين کما کان قطعا، الثاني: أن يقول: علمت أنها اليسار، وأنها لا تجزئ ولا تجعل بدلا، ففي وجوب القصاص و جهان، أصحهما: لا يجب، لكن تجب الدية، وعلى الوجهين يبقى قصاص اليمين، الثالث: أن يقول: قطعتها عوضا عن اليمين، وظننتها تجزئ کما ظنه المخرج، فالصحيح أنه لا قصاص في اليسار، وأنه يسقط قصاص اليمين، ولكل واحد منها دية ما قطعه الآخر.

ص: 227

الرابع: أن يقول: ظننت المخرجة اليمين، فلا قصاص في اليسار على المذهب، وفي التهذيب فيه وجهان، کما لو قتل رجلا وقال: ظننته قاتل أبي فلم يكن، فإن لم نوجب القصاص، وجبت الدية علي الأصح، لأنه لم يبذلها مجانا ويبقى قصاص اليمين على المذهب، ويجئ فيه الخلاف السابق.

الحال الثالث: أن يقول المخرج: دهشت فأخرجت اليسار، وظني أني أخرج اليمين، فيسأل المقتص عن قصده في قطعه اليسار، وله في جوابه صيغ، إحداها: أن يقول: ظننت أن المخرج قصد الإباحة، فقياس مثله في الحال الثاني أن لا يجب القصاص في اليسار، والذي ذكره البغوي أنه يجب القصاص من قتل رجلا وقال: ظننت أنه أذن لي في القتل، وهذا يوافق الاحتيال المذكور هناك وهو المتوجه في الموضعين.

الثانية: أن يقول: علمت أنها اليسار وأنها لا تجزئ، قال الأصحاب: لا قصاص فيه، وفيه احتمال للامام. الرابعة: أن يقول: ظننتها اليمين، فلا قصاص على المذهب، وفي جميع هذه الصيغ يبقى قصاص اليمين إلا إذا قال: ظننت أن اليسار تجزئ، فإن الأصح سقوطه، وإذا سقط القصاص من الطرفين، فلكل واحد منهما الدية على الآخر، ولو قال القاطع: دهشت فلم أدر ما قطعت، قال الامام: لا يقبل منه ويلزمه القصاص في اليسار، لأن الدهشة لا تليق بحال القاطع، وفي كتب الأصحاب لا سيما العراقيين، أن المخرج لو قال: لم أسمع من المقتص: أخرج يمينك، وإنما وقع في سمعي: أخرج يسارك، فأخرجتها.

فالحكم فيه كقوله: دهشت، فأخرجت وأنا أظنها اليمين. فرع جميع

ص: 228

ما ذكرناه في القصاص، فأما إذا وجب قطع يمينه في السرقة، فقال الجلاد للسارق: أخرج يمينك، فأخرج يساره، فقطعها، فقولان، أحدهما ويقال: إنه قدیم، ويقال: مخرج: إن الحكم کما ذكرنا في القصاص.

والثاني وهو المشهور: أنه يقع قطع اليسار عن الحد، فيسقط قطع اليمين، لأن المقصود التنكيل وقد حصل، ولان الحد مبني على التخفيف، واستدرك القاضي حسين، فحمل ما أطلقه الأصحاب على الحالين الأخيرين من الأحوال الثلاثة، وقال في الحال الأول وهو الاخراج بقصد الإباحة: ينبغي أن لا يسقط قطع اليمين، کما لو قطع السارق يسار نفسه، أو قطعها غيره بعد وجوب قطع اليمين.

فرع لو كان المقتص منه مجنونا، فهو کما لو أخرج اليسار مدهوشا، ولا يتحقق منه البدل، ولو كان المقتص منه عاقلا، والمستحق مجنونا، فقطع يمين المقتص منه مکرهاله، فهل يكون مستوفيا لحقه؟

فيه خلاف سبق، فإن قلنا: لا يصير مستوفيا وهو الصحيح، انتقل حقه إلى الدية، ويجب للجاني دية يده، فإن جعلنا عمده عمدا، فالدية في ماله، والصورة من صور التقاص، وإن جعلناه خطأ، فدية اليسار على عاقلته ولا تقاص، ولو قال لمن عليه القصاص: أخرج يمينك، فأخرجها، فقطعها المجنون، قال الأصحاب: لا يصح استيفاؤه، وينتقل حقه إلى الدية، ولا ضمان عليه، لأنه أتلفها ببذله وتسليطه، وإن أخرج يساره، فقطعها، فهي مهدرة ويبقى حقه في قصاص اليمين.

فرع حيث أوجبنادية اليسار في الصور السابقة، فهي في ماله، لأنه قطع

ص: 229

متعمدا، وعن نصه في الأم أنها تجب على العاقلة.

فرع حيث قلنا: يبقى القصاص في اليمين، لا يستوفي حتى يندمل قطع اليسار لما في توالي القطعين من خطر الهلاك، نص عليه، ولو قطع طرفي رجل معا، اقتص فيهما معا، ولا يلزمه التفريق، نص عليه، فقيل: فيهما قولان، والمذهب تقرير النصين، والفرق أن خطر الموالاة في الصورة الأولى يحصل من قطع مستحق وغير مستحق.

فرع قال المخرج: قصدت بالاخراج إيقاعها عن اليمين، وقال القاطع: أخرجتها بقصد الإباحة، فالمصدق المخرج لأنه أعرف بقصده.

فرع ثبت له القصاص في أنملة، فقطع من الجاني أنملتين، سئل، فإن اعترف بالتعمد، قطعت منه الأنملة الثانية، وإن قال: أخطأت وتوهمت أني أقطع أنملة واحدة، صدق بيمينه، ووجب أرش الأنملة الزائدة، وهل هي في ماله أم على عاقلته؟ قولان، أو وجهان، أصحها: في ماله)(1).

ثالثاً: المذهب الحنبلي.

ذهب إمام المذهب الحنبلي إلى القول في استيفاء القصاص بالمثل؛ أما السيف فيكون فيما لو قتل المجني عليه بالسيف.

قال ابن قدامة المقدسي (ت 620 ه) في بيان قوليّ احمد بن حنبل: في رجل جني على آخر ف (قطع يديه ورجليه ثم عاد فضرب عنقه قبل أن تندمل جراحه) فقصاصه على رأي إمام المذهب: (قتل ولم تقطع يده ولا

ص: 230


1- روضه الطالبين: ج 7 ص 96 - 103

رجلاه) والرأي الآخر: (أنه للأهل أن يفعل به کما فعل فإن عفا عنه الولي فعليه دية واحدة).

وقد رجّح النووي القول الثاني، فقال:

(وجملة ذلك أن الرجل إذا جرح رجلا ثم ضرب عنقه قبل اندمال الجرح فالكلام في المسألة في حالين (أحدهما) أن يختار الولي القصاص فاختلف الرواية عن أحمد في كيفية الاستيفاء فروي عنه لا يستوفي الا بالسيف في العنق وبه قال عطاء والثوري وأبو يوسف و محمد لما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال:

«لا قود الا بالسيف».

رواه ابن ماجة ولان القصاص أحد بدلي النفس فدخل الطرف في حكم الجملة كالدية فإنه لو صار الامر إلى الدية لم تجب الا دية النفس ولان القصد من القصاص في النفس تعطيل الكل واتلاف الجملة وقد أمكن هذا بضرب العنق فلا يجوز تعديته باتلاف أطرافه کما لو قتله بسيف کال فإنه لا يقتل بمثله.

والرواية الثانية عن أحمد قال إنه لا هل أن يفعل به کما فعل یعني أن للمستوفي أن يقطع أطرافه ثم يقتله وهذا مذهب عمر بن عبد العزيز ومالك والشافعي وأبي حنيفة وأبي ثور لقول الله تعالى:

«وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ» وقوله سبحانه «فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ» ولان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رض رأس يهودي لرضه رأس جارية من الأنصار بين حجرين،

ص: 231

ولان الله تعالى قال:

(والعين بالعين). وهذا قد قلع عينه فيجب أن تقلع عينه للآية وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:

«من حرق حرقناه ومن غرق غرقناه» ولان القصاص موضوع على المماثلة ولفظه مشعر به فوجب أن يستوفي منه مثل ما فعل کما لو ضرب العنق آخر غيره، فأما حديث: «لا قود الا بالسيف» فقال أحمد ليس اسناده بجيد)(1).

رابعاً: المذهب المالكي.

لم يختلف إمام المالكي في كيفية استيفاء القصاص إلى القول: بان يفعل به بالمثل(2).

خامساً: المذهب الإباضي.

ذهب الإباضية إلى اباحة ما يستوفي به الولي من الجاني من قتله برمح أو سهم وخشبة فيها حديد، ولكن يأثم ان عذبه في القتل، والأولى أن يقتله بالسيف الحاد أو السكين الحادة وعلى الجاني أن يمنع نفسه ان اراد ولي القتيل قتله بغير سلاح كألقائه في البئر.

قال محمد أطفيش (ت 1332 ه) في شرحه لكتاب النيل:

(ولا يأثم قاتل جان) بقتل وليه إن قتله سلاح کرمح وسهم وخشبة

ص: 232


1- المغني: ج 9 ص 386 - 387
2- المغني: ج 9 ص 386

فيها حديد، ويأثم بتعذيب إن عذّبه في القتل لقوله (صلى الله عليه - وآله - وسلم):

«إذا قتلتم فأحسنوا القتلة».

لا يضرب بسيف أو ذبح بسكين أو شفرة ولا سيما إن قتله بحاد أو سيف أو سكين أو شفرة فإنه لا يأثم بالأول، فإن الأولى القتل بالسيف الحاد أو السكين الحادة أو الشفرة الحادة (ويمنعه الإمام أو القاضي أو الجماعة) أو السلطان أو من له كلام من قتل الجاني بغير السلاح بلا قتال له على ذلك؛ وقيل: به، لتعديه)(1).

المسألة الثالثة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء للذاهب في المسألة.

أولاً: الاستيفاء بالسيف حصراً، وعدم الجواز بغيره.

1- قال الإمامية:

أ- بحرمة الاستيفاء بالآلة الكالة تجنباً للتعذيب

ب- بعدم جواز الاقتصاص بغير السيف وان كانت الجنائية بغيره کالحرق، والغرق، والرضخ بالحجارة، وغير ذلك.

2- قال الحنفية.

لا يجوز الاستيفاء بغير السيف، وإذا فعل الولي بغيره يعزر، ولكن لا ضمان عليه، ويصير مستوفياً باي طريق قتله سواء قتله بالعصى أو بالحجر أو ألقاه من السطح أو ألقاء في البئر وغير ذلك

ص: 233


1- شرح كتاب النيل وشفاء العليل: ج 14 ص 752 - 753

3- وخالف المذهب الشافعي والمالكي والإباضي المذهب الإمامي والحنفي في حصر الاستيفاء بالسيف.

ثانياً: الاستيفاء بالمثل.

وهو أن يقوم الولي بقتل الجاني بمثل ما قتل به المجني عليه، وبه قال:

1- المذهب المالكي:

فقد ذهب إلى أن الاستيفاء يكون بالمثل.

2- قال الشافعية: إن الاستيفاء يكون بالمثل، وهي مشترطة في استيفاء القصاص.

3- وقال الحنابلة:

إن للأهل أن يفعل به كما فعل الجاني.

ثالثاً: الجمع بين الاستيفاء بالسيف أو غيره.

وبه قالت الإباضية:

أ- لا يأثم قاتل جان برمح أو سهم أو خشبة فيها حديد.

ب- الأول أن يكون القتل بالسيف الحاد أو السكين الحادة أو الشفرة الحادة.

ج- ويمنع الولي من قتل الجاني بغير سلاح.

المسألة الرابعة: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة.

تناول شراح نهج البلاغة هذه الوصية وتدارسوا ما ورد فيها من نظام

ص: 234

للحياة لا سيما وان الوصية مقسمة إلى ما يخص الحسن والحسين واخوتهم، والثانية ما يخص عامة المسلمين، والثالثة ما يخص بني عبد المطلب لوقوع جناية قتله بیدعدوا الرحمن (عليه لعائن الله) ومن ثم ما يحلق استیفاء القصاص.

وقد ركز (عليه الصلاة والسلام) على عدم اعتماد الثأر العقدي في قتل ابن ملجم (لعنه الله) ومن يشایعه ويتابعه فتقع الفتنة في الأمه.

فنبّه وحذّر في أن الفاعل واحد، والجاني ابن ملجم (لعنه الله) فيستوفي منه قصاصاً، وهو أمر في غاية الأهمية في حفظ الشريعة المحمدية التي حرص عليها أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) منذ أن بعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والى هذه اللحظات التي يتجهز فيها للقاء ربه، ويجاور أخيه وابن عمه (صلى الله عليه وآله وسلم).

وعليه:

فقد تناولها الشرّاح وبينوا أقسامها، فكان منهم ما يلي:

أولاً: ابن میثم البحراني (679 ه).

قال (عليه رحمة الله ورضوانه) في بيان هذا الجزء من الوصية، اي قوله (عليه الصلاة والسلام):

«يَا بنَيِ عَبدِ المُطّلِبِ لَا أُلفِيَنّكُم تَخُوضُونَ دِمَاءَ المُسلِمِينَ خَوضاً تَقُولُونَ قُتِلَ أَمِيرُ المُؤمِنِينَ، أَلَا لَا تَقتُلُنّ بيِ إِلّا قاَتلِيِ، انظُرُوا إِذَا أَنَا مِتّ مِن ضَربَتِهِ هَذِهِ، فَاضرِبُوهُ ضَربَةً بِضَربَةٍ...».

(أحدها: نهاهم عن كثرة الفتنة بسبب قتله، فقال:

ص: 235

«لا أجدكم تخوضون دماء المسلمين خوضاً». وتنی: عن كثرة القتل.

وقوله: تقولون: قتل أمير المؤمنين. حكاية ما جرت به العادة أن يقوله طالب الثارحين هياجه إظهارا لعذره والسبب الحامل له على إثارة الفتنة.

الثاني: نهاهم أن يقتلوا إلَّا قاتله. إذ ذلك هو مقتضى العدل.

الثالث: نبّههم بقوله: انظروا إلى قوله: هذه. على أنّه لا يجوز قتله بمجرّد ضربته إن لو حصل الموت بسبب غيرها إلَّا أن يعلم أنّ موته كان بسبها.

الرابع: أمرهم أن يضربوه ضربة بضربة، وذلك مقتضى عدله (عليه السّلام) أيضا.

الخام: نهی عن المثلة به معلَّلا بما رواه سماعا عن رسول الله صلَّى الله عليه وآله وذلك لما في المثلة من تعدّي الواجب وقسوة القلب وشفاء الغيظ وكلّ ذلك رذائل يجب الانتهاء عنها، وهو في قوّة صغرى ضمير تقدیر کبراہ: وكلّ ما نهى رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلم) عنه فوجب أن لا يفعل. وبالله التوفيق)(1).

ثانياً: الشيخ محمد جواد مغنية (ت 1400 ه).

تناول الشيخ القاضي محمد جواد مغنية (عليه الرحمة والرضوان) هذا الجزء من وصيته (عليه الصلاة والسلام) فأورد أقوال بعض الكتاب، والباحثين، و المفكرين في قوله (عليه السلام):

ص: 236


1- شرح نهج البلاغة: ج 5 ص 123 - 124

«لا تقتلن بي إلا قاتلي» وهو الحاكم والخليفة، فقال:

1- (قال عبد الكريم الخطيب في آخر كتابه ((علي بن أبي طالب)):

((سئل الإمام في أمر ابن ملجم فقال: ان اعش فالأمر إلي، وان أصب فالأمر لكم، فإن آثرتم أن تقتصوا فضربة بضربة، وان تعفوا أقرب للتقوى... أطيبوا طعامه، وألينوا فراشه».

2- وقال جورج جرداق: «لما قال له طبيبه اعهد يا أمير المؤمنين فإن الضربة قد بلغت أم الرأس - لم يتأفف ولم يتشكك، بل أسلم أمره إلى الله، ثم أملى على الحسنين: لا تثار فتنة بسبب قتلي، ولا يهرق دم، وان تعفوا أقرب للتقوى».

ومات في الأرض عظيم، وقام في الناس من تعاظموا. فإذا هنا إنسان يموت فيعلو، وإذا هناك أناس يعيشون فيصغرون.

3- أما العقاد فقال في كتاب «عبقرية الإمام»: «ولد في الكعبة، وضرب في المسجد، فأية بداية ونهاية أشبه بالحياة بينهما من تلك البداية، وتلك النهاية» يريد آن حياة الإمام منذ النفس الأول حتى النفس الأخير هي لله وفي الله وحده)(1).

ص: 237


1- في ظلال نهج البلاغة: ج 4 ص 29

ص: 238

المبحث الثاني قواعد فقهية

المسألة الأولى: قاعدة: مانع السبب.

أولاً: إنشاء الشهيد الأول (رحمه الله) للقاعدة.

وقد أوردها الشهيد الأول محمد مكي العاملي (عليه رحمة الله ورضوانه) في قواعده فقال:

قاعدة (مانع السبب: كل وصف وجودي ظاهر منضبط يخل وجوده بحكمة السبب، کالأبوة العامة من القصاص في موضعه لان الحكمة التي اشتملت الأبوة عليها هي كون الوالد سببا لوجود الولد، وذلك يقتضي عدم القصاص لئلا يصير الولد سبباً لعدمه)(1).

ثانياً: استدراك المقداد السيوري للقاعدة.

وقد أستدركها المقداد السيوّري (رحمه الله) (ت 826 ه) فقال ضمن المبحث الرابع في تعريف المانع وتقسيمة:

(المانع: وهو ما يلزم من وجوده العدم، ولا يلزم من عدمه الوجود، ولا العدم لذاته.

فبالأول خرج السبب، وبالثاني خرج الشرط، وبالثالث احتراز من

ص: 239


1- القواعد والفوائد: ج 1 ص 66

مقارنة عدمه لعدم الشرط فيلزم العدم أو وجود السبب فيلزم الوجود، بل بالنظر إلى ذاته لا يلزم شيء من ذلك. فظهر أن المعتبر من المانع وجوده ومن الشرط عدمه ومن السبب وجوده وعدمه. وقد اجتمعت الثلاثة في الصلاة، فان الدلوك سبب في الوجوب، والبلوغ شرط، والحيض مانع. وفي الزكاة النصاب سبب، والحول شرط، والمنع من التصرف مانع.

تقسیم:

المانع اما للسبب أو للحكم، فالأول كل وصف وجودي ظاهر منضبط مستلزم لحكمة مقتضاها يقتضي حكمة السبب مع بقاء حكمة السبب، کالأبوة المانعة من القصاص في موضعه. والحكمة التي اشتملت الأبوة عليها هي كون الوالد سببا لوجود الولد، وذلك يقتضي عدم القصاص لئلا يصير الولد سببا لعدمه. والثاني فهو كل وصف وجودي يحل وجوده بحكمة السبب، کالدين بالنسبة إلى خمس المكاسب، فإنه مانع من وجوبه فيها)(1).

المسألة الثانية: قاعدة: (العلة لا بد فيها من المناسبة للحكم الرتب عليها).

وقد تناولها المقداد السيوّري (عليه الرحمة والرضوان) في تقسيم السبب معنوي ووقتي، فخرج بقاعدة:

العلة لابد فيها من المناسبة للحكم المرتب عليها، سواء جعلناها باعثة أو معرفة للحكم. والسبب أعم من ذلك، إذ من الأسباب ما لا يظهر فيه المناسبة. فالعلة أقسام:

ص: 240


1- نضد القواعد الفقهية: ص 54 - 55

الأول - النجاسة في وجوب الغسل، فإنها مستقذرة طبعا، فناسب ذلك وجوب الإزالة بالغسل وشبهه.

الثاني - الزنا في وجوب الحد، لأنه مؤد إلى اختلاط الأنساب، فيقع التقاطع والتدابر، فناسب وجوب الحد الرادع عنه.

الثالث - القتل عمدا للمكاني في وجوب القصاص، فإنه سبب في زهاق الأنفس المطلوب بقاؤها للقيام بعبادة الله، فجعل الرادع عنه القتل ليكون سببا في بقاء الحياة، كما أشار إليه سبحانه بقوله:

«وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ»)(1).

المسألة الثالثة: قاعدة: (يعتبر في القصاص نفسا وطرفا للماثلة).

وهذه القاعدة: انشئها الشهيد الأول (عليه رحمة الله ورضوانه) فقال في القواعد التسعة من كتاب القصاص:

نفسا وطرفا المماثلة، لا من كل وجه، بل في: الإسلام، والحرية، والكفر، والرقية، وفي العقل، واعتبار الحرمة ويمنع منه الأبوة(2).

ولا يعتبر التساوي في الأوصاف العرضية، كالعلم، والجهل، والقوة، والضعف، والسمن، والهزال، ونحوها، وإلا لا نسد باب القصاص، ومن ثم قتل الجماعة بالواحد، واقتص من أطرافهم مع الرد، عندنا، حسما لتواطئ الجماعة على قتل واحد أو قطع یعتبر في القصاص طرفه)(3).

ص: 241


1- نضد القواعد: ص 29 - 30
2- انظر شروط القصاص في / قواعد الأحكام، للعلامة الحلي: 255
3- القواعد والفوائد: ج 2 ص 9

ص: 242

المبحث الثالث حرمة المثلة في الجاني

قال أمير المؤمنين الإمام علي (عليه الصلاة والسلام):

«وَ لَا تُمَثّلُوا بِالرّجُلِ، فإَنِيّ سَمِعتُ رَسُولَ اللّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) يَقُولُ:

«إِيّاكُم وَ المُثلَةَ وَ لَو بِالكَلبِ العَقُورِ»(1).

ينفرد فقهاء المذهب الإمامي عن المذاهب الاخرى في العمل بهذا العنوان الذي سنّه إمام الشريعة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فعنهما أخذوه وعليه ساروا، وفيه كتبوا (رضوان الله تعالى عليهم) منذ الشيخ الطوسي(2) وابن إدریس(3) (عليهم الرحمة والرضوان) والمحقق(4)، والشهيد الأول(5)، والشهيد الثاني(6) والى شيخ الفقهاء الجواهري النجفي ثم الشيخ الميرزا جواد التبريزي (عليهما رحمة الله ورضوانه).

ص: 243


1- نهج البلاغة، بشرح محمد عبدة: ج 3 ص 77
2- المبسوط: ج 7 ص 22
3- السرائر: ج 3 ص 326
4- شرائع الإسلام: ج 4 ص 1002
5- اللمعة الدمشقية: ص 255
6- الروضة البهية: ج 10 ص 92

أما المذاهب الاخرى فلم يتعرضوا لحرمة المثلة إلا في كتاب الجهاد في موردین:

الأول: في قتال البغاة.

الثاني: التعامل مع الاسير.

ينظر في ذلك:

1. المذهب الزيدي: الأحكام ليحیی بن الحسين، کتاب السير.(1)

2. المذهب الشافعي: المجموع للنووي، باب: إذا أظهر قوم راي الخوارج.(2)

3. المذهب المالكي: الموطأ، باب: ما جاء في الوفاء بالأمان.(3)

4. المذهب الحنفي: المبسوط للسرخسي، کتاب السير.(4)

5 المذهب الحنبلي: كشاف القناع للبهوتي: باب قتل آهل البغيه(5).

وقد أستدل بقول أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) «وان مت فأقتلوه ولا تمثلوا» على حرمة التمثيل باهل البغي والخوارج.

وعليه:

سنورد ما جاء عن المذهب الإمامي في حرمة المثلة في استيفاء القصاص

ص: 244


1- ج 2 ص 495
2- ج 19 ص 216
3- ج 2 ص 448
4- ج 10 ص 5
5- ج 6 ص 212

والتي اشبعها شيخ الفقهاء الجواهري بحثاً ونقاشاً ثم نعرّج على ما أورده الشيخ الميرزا جواد التبريزي (رحمهما الله) و هما كالاتي:

المسألة الأولى: بحث الشيخ الجواهري النجفي (1266 ه). قال في بيان قول المصنف (المحقق الحلي) (عليهما رحمة الله ورضوانه):

(ولا يجوز التمثيل به) بل:

(يقتصر على ضرب عنقه، ولو كانت جنایته بالتغريق أو بالتحريق أو بالمثقل أو بالرضخ) وفاقا للأكثر كما في المسالك، بل المشهور کما في غيرها، بل عن المبسوط (عندنا تارة (ومذهبا) أخرى، بل عن الغنية (لا يستقاد إلا بضرب العنق، ولا يجوز القتل بغير الحديد وإن فعل ذلك بلا خلاف) بل في التنقيح والروضة الاجماع عليه، بل في محكي الخلاف إجماع الفرقة وأخبارهم على أنه إذا قتل غيره بما فيه القود من السيف والحرق والغرق والخنق أو منع من الطعام والشراب أو غير ذلك فإنه لا يستفاد منه إلا بحديدة، ولا يقتل مثل ما قتله. وهو الحجة بعد النهي في أخبار كثيرة عن المثلة به(1) وأنها لا تجوز في الكلب العقور(2) وأنها من الاسراف في القتل المنهي عنه(3).

وخبر موسی بن بكير(4) عن الكاظم (عليه السلام): (في رجل ضرب رجلا بعصا فلم يرفع العصا حتى مات، قال:

(يدفع إلى أولياء المقتول، لكن لا يترك يتلذذ به، ولكن يجاز عليه بالسيف).

ص: 245


1- وهو وجه قریب
2- الوسائل - الباب - 62 من أبواب القصاص في النفس والمستدرك الباب 51 منها
3- الوسائل الباب 62 من أبواب القصاص في النفس
4- الوسائل - الباب 11 من أبواب القصاص في النفس الحديث 10 - 12

ونحوه حسن الحلبي(1) وصحيح الكناني(2) (سأل الصادق (عليه السلام) عن رجل ضرب رجلا بعصا فلم يقلع عنه حتى مات أيدفع إلى ولي المقتول فيقتله؟ قال:

«نعم، ولا يترك يعبث به، ولكن يجيز عليه».

ومثله من دون تفاوت صحیح سليمان بن خالد(3) إلى غير ذلك من النصوص.

ولم نجد خلافا في ذلك إلا ما يحكي عن أبي علي من جواز قتله بمثل ما قتل مطلقا في رواية، وإن وثق بأنه لا يتعدى في أخرى، وربما حكي عن ابن أبي عقيل أيضا، وعن الجامع أنه يقتص بالعصا ممن ضرب بها، كل ذلك للآية والنبوي(4):

(من حرق حرقناه ومن غرق غرقناه) وفي آخر(5) (أن يهوديا رضخ رأس جارية بالحجارة فأمر (صلى الله عليه وآله) فرضخ رأسه بالحجارة).

نعم في المختلف بعد الاستدلال له بالآية (وهو وجه قریب) وفي المسالك (لا بأس به) وفي مجمع البرهان (الظاهر الجواز إن لم يكن إجماع، والظاهر عدمه كما يفهم من شرح الشرائع) مع أنه قال في الروضة: (هو متجه لولا الاتفاق على خلافه) قلت:

بل: ومع عدمه ضرورة عدم الجابر للنبوي الأول(6) المعارض بغيره من

ص: 246


1- الوسائل الباب 11 - من أبواب القصاص في النفس الحديث 2
2- الوسائل الباب 11 - من أبواب القصاص في النفس الحديث 2
3- الوسائل - الباب 11 من أبواب القصاص في النفس الحديث 10 - 12
4- سنن البيهقي ج 8 ص 43
5- سنن البيهقي ج 8 ص 42
6- سنن البيهقي ج 8 ص 43

النصوص(1) التي فيها النبوي وغيره، والآخر(2) قضية في واقعة في اليهودي، والآية بعد خروج كثير من أفراد الاعتداء منها وما سمعته من النصوص وغيرها يجب حملها على إرادة الماثلة في أصل الاعتداء في القتل، فلا ريب في ضعف القول المزبور، وإن جنح إليه من عرفت.

بل: الظاهر الاقتصار في الكيفية المزبورة على ضرب الرقبة، كما هو الموجود في عبارات الأصحاب من المقنعة إلى الرياض، فإن ضرب بالسيف لا عليها فإن كان عن عمد عزر، ولكن لا يمنع بعد من الاستيفاء إن أحسنه، وإن ادعى الخطأ صدق بیمینه إن كان قد وقع في ما يخطئ بمثله، كما إذا وقع على الكتف ونحوه، وإن كان بموضع لا يقع الخطأ بمثله كأن وقع بوسطه أو رجله لم يسمع وعزر، ولكن على كل حال لا يمنع من الاستيفاء إن أحسنه، خلافا لما عن بعض العامة فمنعه، ولا ريب في ضعفه.

وعلى كل حال فالأولى مراعاة الرقبة، بل الأولى كونه بالسیف کما في أكثر العبارات وإن زيد في النافع ومحكي المبسوط (وما جرى مجراه) وعبر في محكي النهاية والخلاف والغنية بالحديد، بل ظاهر الأصحاب اعتبار الضرب دون النحر والذبح، نعم في الروضة تقييده بما إذا كان الجاني أبانه، وإلا ففي جوازه نظر من صدق استيفاء «النَّفْسَ بِالنَّفْسِ»(3) ومن بقاء حرمة الآدمي، قلت: لعل الأقوى الأول، هذا وليعلم أنه لو خالف لم يترتب عليه غير التعزير في جميع ذلك)(4).

ص: 247


1- الوسائل الباب 62 من أبواب القصاص في النفس وسنن البيهقي ج 8 ص 63
2- سنن البيهقي ج 8 ص 42
3- المائدة: 45
4- جواهر الكلام: ج 42 ص 296 - 299

المسألة الثانية: بحث الشيخ الميرز اجواد التبريزي (ت 1427 ه)

قال (عليه رحمة الله ورضوانه): ولا يقتصّ إلاّ بالسيف ولا يجوز التمثيل به بل يقتصر على ضرب عنقه، ولو كانت الجناية بالتغريق أو بالتحريق أو بالمثقل أو بالرضخ.

حيث إن المثلة حرام وقد ورد النهي عنه حتّى بالإضافة إلى البغاة على الإمام (عليه السلام)، ويدلّ عليه أيضاً جملة من الروايات:

منها صحيحة الحلبي ورواية أبي الصباح الكناني، جميعاً عن أبي عبد الله (عليه السلام) قالا: «سألناه عن رجل ضرب رجلاً بعصا فلم يقلع عنه الضرب حتّى مات، أيدفع إلى وليّ المقتول فيقتله؟ قال: نعم، ولكن لا يترك يعبث به ولكن يجيز عليه بالسيف»(1).

ورواية إسحاق بن عمّار قال: «قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إنّ الله يقول في كتابه (ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليّه سلطاناً فلا يسرف في القتل) ما هذا الإسراف الذي نهی عنه؟ قال: نهى أن يقتل غير قاتله أو يمثّل بالقاتل»(2).

ولا يخفى إن مقتضاهما عدم جواز القصاص بالآلة أيضاً. فإن القصاص به نوع عبث بالجاني وإسراف في قتله)(3).

تم بحمد الله تعالى وسابق لطفه، وفضله، وفضل رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم).

ص: 248


1- الوسائل: ج 19، الباب 62 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 1: 95
2- الوسائل: ج 19، الباب 62 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 1: 95
3- تنقیح مباني الأحكام (القصاص): ص 240

المحتويات

الباب الثامن كتاب الوقف والقصص

كتاب الوقف

توطئة

الفصل الأول معنى الوقف وماهيته وفضله وصياغته

المبحث الأول: تعريف الوقف في اللغة والشرع...17

المسألة الأولى: الوقف لغة...17

المسألة الثانية: معنى الوقف في المذهب الإمامي...18

المسألة الثالثة: معنى الوقف في المذاهب الاخرى...20

أولا: المذهب الزيدي...20

ثانيا: المذهب الشافعي...20

ثالثا: المذهب المالكي...21

رابعا: المذهب الحنفي...21

خامسا: المذهب الحنبلي...21

المسألة الرابعة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة...21

المبحث الثاني: ماهية الوقف وفضله...23

ص: 249

المسألة الأولى: ماهية الوقف وفضله في المذهب الإمامي...23

المسألة الثانية: ماهية الوقف في المذاهب الأخرى...25

اولا: المذهب الزيدي...25

ثانيا: المذهب الشافعي...25

ثالثا: المذهب المالكي...26

رابعا: المذهب الحنفي...27

خامسا: المذهب الحنبلي...27

المسألة الثالثة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة...28

المبحث الثالث: في اشتراط الصيغة والقبول والقربة...29

المسألة الأولى: المذهب الإمامي...29

أولا: في اشتراط الصيغة...29

ثانيا: في اشتراط القبول...31

ثالثا: في اشتراط القربة في صحة الوقف...32

المسألة الثانية: أشتراط الصيغة والقبول والقربة في المذاهب الاخرى...33

أولا: المذهب الزيدي...33

ثانيا: المذهب الشافعي...35

ثالثا: المذهب المالكي...37

رابعا: المذهب الحنفي...40

خامسا: المذهب الحنبلي...44

المسألة الثالثة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة...45

أولا: في صيغة الوقف...45

ثانيا: في اشتراط القبول...47

ثالثا: في اشتراط القربة...47

ص: 250

الفصل الثاني شراط الواقف، والموقوف والموقوف عليه

المبحث الأول: شرائط الواقف...51

المسألة الأولى: شرائط الواقف في المذهب الامامي...51

المسالة الثانية: شرائط الواقف في المذاهب الاخرى...54

أولا: المذهب الزيدي...54

ثانيا: المذهب الشافعي...54

ثالثا: المذهب المالكي...54

رابعا: المذهب الحنفي...55

خامسا: المذهب الحنبلي...57

المسألة الثالثة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة...58

أولا: في عدد الشرائط...58

ثانيا: في اشتراط البلوغ...59

ثالثا: في اشتراط الحرية...59

رابعا: في اشتراط العقل...59

خامسا: ألا يكون محجوراً عليه...59

سادسا: في وقف الكافر...59

سابعا: في وقف الصبي...59

ثامنا: الاختيار...59

تاسعاً: التكليف والاسلام والملك...60

عاشراً: أهليته للتبرع...60

حادي عشر: عدم الإكراه...60

ثاني عشر: صحة عبارته...60

ص: 251

ثالث عشر: اطلاق التصرف...60

رابع عشر: ان يخرجه من يده ويجعله في جهة لا تنق...60

المبحث الثاني: شرائط الموقوف...61

المسألة الأولى: شرائط الموقوف في المذهب الامامي...61

المسألة الثانية: شرائط الموقوف في المذاهب الاخرى...65

أولاً: المذهب الزيدي...65

ثانياً: المذهب الشافعي...68

ثالثاً: المذهب المالكي...73

رابعاً: المذهب الحنفي...73

خامساً: المذهب الحنبلي...75

المسألة الثالثة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة...81

أولاً - في عدد الشرائط...81

ثانياً: أما ما تعلق بالشرائط والقول بها واعتمادها عند المذاهب فهو كالاتي:...82

المبحث الثالث: شرائط الموقوف عليه...85

المسألة الأولى: شرائط الموقوف عليه في المذهب الإمامي...85

المسألة الثانية: شرائط الموقوف عليه في المذاهب الاخرى...93

أولاً: المذهب الزیدي...94

ثانياً: المذهب الشافعي...94

ثالثاً: المذهب المالكي...95

رابعاً: المذهب الحنفي...99

خامساً: المذهب الحنبلي...99

المسألة الثالثة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة...100

أولاً: في عدد شرائط الموقوف عليه...100

ص: 252

ثانياً: في نوع الشروط...101

المبحث الرابع: في الشروط التي يضعها الواقف...103

المسألة الأولى: ما أورده السيد اليزدي (قدس سره) في المسألة:...104

المسألة الثانية: قاعدة (الوقوف على حسب ما يوقفها)...108

أولاً: مبنى القاعدة ومدركها...109

ثانياً: المراد من القاعدة...110

المسألة الثالثة : ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة...11

أولاً: ما أورده ابن میثم البحراني (رحمه الله)...11

ثانيا: ما أورده ابن أبي الحديد المعتزلي...116

المبحث الخامس: أهمية الوصية وسبب صدورها...119

المسألة الأولى: سبب صدور الوصية في أمواله (عليه السلام)...120

المسألة الثانية: زمان صدور الوصية و مكانها...128

اولا: مکان صدور الوصية...128

ثانيا: زمان صدور الوصية...129

المسألة الثالثة: صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج التي تضمنت الوصية...132

أولا: ما رواه الشيخ الكليني (عليه رحمة الله ورضوانه) (ت 329 ه)...133

ثانيا: ما رواه ابن شبة النميري (ت 262 ه)...136

كتاب القصص

الفصل الأول معنى القصص وأصل تشريعه وأقسام القتل

المبحث الأول: معنى القصاص في اللغة واصطلاح المتشرعة...149

ص: 253

المسألة الأولى: معنى القصاص لغة...149

المسألة الثانية: معنى القصاص في اصطلاح المتشرعة...150

المسألة الثالثة: معنى الجناية في اللغة واصطلاح المتشرعة...151

أولا: المذهب الشافعي...151

ثانياً: المذهب الحنفي...153

ثالثاً: المذهب الحنبلي...154

المبحث الثاني: في أصل تشریعه و بیان حرمة دم المسلم...155

المسألة الأولى: أصل تشریعه ي المذهب الإمامي...155

المسألة الثانية: أصل تشريعه المذاهب الأخرى:...159

أولاً: المذهب الزيدي...159

ثانياً: المذهب الشافعي...159

ثالثا: المذهب الحنفي...162

رابعا: المذهب المالكي...164

خامساً: المذهب الحنبلي...166

سادسا: المذهب الإباضي...168

المبحث الثالث: ما يتحقق به العمد وأقسام القتل...169

المسألة الأولى: ما يتحقق به قتل العمد والخطأ وشبه العمد المذهب الإمامي...169

أولاً: الشيخ الجواهري النجفي...171

ثانياً: السيد الخوئي (عليه الرحمة و الرضوان) (ت 1413 ه)...178

المسألة الثانية: أقسام القتل وما يتحقق به القصاص في المذاهب الاخرى...179

أولاً: المذهب الزيدي...179

ثانياً: المذهب الشافعي...182

ثالثاً: المذهب المالكي...187

ص: 254

رابعاً: المذهب الحنفي...191

خامساً: المذهب الحنبلي...193

المسألة الثالثة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب...197

أولاً: أنواع القتل...197

ثانيا: ما يثبت به قتل العمد وتحقق المحضية...198

ثالثاً: حقيقة قتل الخطأ المحض...198

رابعاً: حقيقة: شبه العمد...20

المبحث الرابع: قواعد فقهية...203

المسألة الأولى: قاعدة: ينقسم القتل بانقسام الأحكام الخمسة...203

المسألة الثانية: قاعدة: ينقسم القتل باعتبار سببه إلى أقسام...204

المبحث الخامس: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة...207

المسألة الأولى: ابن ميثم البحراني (ت 679 ه)...208

المسألة الثانية: ابن ابي الحديد المعتزلي (ت 656 ه)...209

المسألة الثالثة: السيد حبيب الله الخوئي (ت 1324 ه)...209

الفصل الثاني استيفاء القصص

المبحث الأول: الاقتصاص بغير السيف...207

المسألة الأولى: المذهب الإمامي...217

أولاً: الشيخ الجواهري النجفي (رحمه الله) (ت 1266 ه)...218

ثانياً: السيد عبد الأعلى السبزواري (رحمه الله) (ت 1414 ه)...218

المسألة الثانية: أقوال فقهاء المذاهب الأخرى في استيفاء القصاص...220

أولاً: المذهب الحنفي...220

ثانياً: المذهب الشافعي...220

ص: 255

ثالثاً: المذهب الحنبلي...230

رابعاً: المذهب المالكي...232

خامساً: المذهب الإباضي...232

المسألة الثالثة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة...233

أولاً: الاستيفاء بالسيف حصراً، وعدم الجواز بغيره...233

ثانياً: الاستيفاء بالمثل...234

ثالثاً: الجمع بين الاستيفاء بالسيف أو غيره...234

المسألة الرابعة: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة...234

أولا: ابن میثم البحراني (679 ه)...235

ثانيا: الشيخ محمد جواد مغنية (ت 1400 ه)...236

المبحث الثاني: قواعد فقهية...239

المسألة الأولى: قاعدة: مانع السبب...239

أولاً: إنشاء الشهيد الأول (رحمه الله) للقاعدة...239

ثانياً: استدراك المقداد السيّوري للقاعدة...239

المسألة الثانية: قاعدة: (العلة لا بد فيها من المناسبة للحكم المرتب عليها)...240

المسألة الثالثة: قاعدة: (يعتبر في القصاص نفساً وطرفاً المماثلة)...241

المبحث الثالث: حرمة المثلة في الجاني...243

المسألة الأولى: بحث الشيخ الجواهري النجفي (1266 ه)...245

المسألة الثانية: بحث الشيخ الميرز اجواد التبريزي (ت 1427 ه)...248

ص: 256

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.