فِقْهُ نَهْجُ البَلاغة عَلَی المَذاهِبِ السَّبعَةِ المجلد 9

هوية الکتاب

فِقْهُ نَهْجُ البَلاغة عَلَی المَذاهِبِ السَّبعَةِ الامامي - الزيدي - الحنفي - المالكي - الشافعي - الحنبلي - الأباضي وبيان القواعد الفقهية والمعارف الاخلاقية وشروح الاحاديث

ISBN 9789933582470 رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق العراقية ببغداد 3590 لسنة 2019 م مصدر الفهرسة:

IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda رقم تصنيف BP193.1.A2 H3 2020 :LC المؤلف الشخصي: الحسني، نبيل، 1384 للهجرة - مؤلف. العنوان: فقه نهج البلاغة على المذاهب السبعة: الامامي - الزيدي - الحنفي - المالكي - الشافعي - الحنبلي - الأباضي وبيان القواعد الفقهية والمعارف الاخلاقية وشروح الاحاديث: دراسة بينية / بيان المسؤولية: تأليف السيد نبيل الحسني الكربلائي. بيانات الطبع: الطبعة الأولى. بيانات النشر: كربلاء، العراق: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة 2020 / 1441 للهجرة.

الوصف المادي: 12 مجلد ؛ 24 سم. سلسلة النشر: (العتبة الحسينية المقدسة: 697). سلسلة النشر: مؤسسة علوم نهج البلاغة: 176) سلسلة النشر: (سلسلة الدراسات والبحوث العلمية، وحدة الدراسات الفقهية: 18). تبصرة ببليوجرافية: يتضمن ارجاعات ببليوجرافية. تبصرة محتويات الجزء 1:اثر المدرسة الامامية في نشوء الفقه وتطوره - الجزء 2: نشوء المذاهب الفقهية وتطورها - الجزء 3: مقدمة العبادات - الجزء 4: الطهارات - الجزء 5: الصلاة - الجزء 6: الزكاة - الجزء 7: الصيام والحج والامر بالمعروف والنهي عن المنكر - الجزء 8: الجهاد - الجزء 9: التجارة والشركة - الجزء 10: الوقف والقصاص - الجزء 11: القضاء والشهادات - الجزء 12: الفهارس. موضوع شخصي: علي بن أبي طالب (عليه السلام) الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 - للهجرة - حديث. موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة. مصطلح موضوعي: الفقه الاسلامي - مذاهب. مصطلح موضوعي: المذاهب الدينية - تاریخ. مصطلح موضوعي: العبادات (فقه اسلامي). مصطلح موضوعي: المعاملات (فقه اسلامي). اسم شخص اضافي: شرح ل (عمل): الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة. اسم هيئة اضافي: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة. جهة مصدرة.

تمت الفهرسة قبل النشر في مكتبة العتبة الحسينية

ص: 1

اشارة

ISBN 9789933582470 رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق العراقية ببغداد 3590 لسنة 2019 م مصدر الفهرسة:

IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda رقم تصنيف BP193.1.A2 H3 2020 :LC المؤلف الشخصي: الحسني، نبيل، 1384 للهجرة - مؤلف. العنوان: فقه نهج البلاغة على المذاهب السبعة: الامامي - الزيدي - الحنفي - المالكي - الشافعي - الحنبلي - الأباضي وبيان القواعد الفقهية والمعارف الاخلاقية وشروح الاحاديث: دراسة بينية / بيان المسؤولية: تأليف السيد نبيل الحسني الكربلائي. بيانات الطبع: الطبعة الأولى. بيانات النشر: كربلاء، العراق: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة 2020 / 1441 للهجرة.

الوصف المادي: 12 مجلد ؛ 24 سم. سلسلة النشر: (العتبة الحسينية المقدسة: 697). سلسلة النشر: مؤسسة علوم نهج البلاغة: 176) سلسلة النشر: (سلسلة الدراسات والبحوث العلمية، وحدة الدراسات الفقهية: 18). تبصرة ببليوجرافية: يتضمن ارجاعات ببليوجرافية. تبصرة محتويات الجزء 1:اثر المدرسة الامامية في نشوء الفقه وتطوره - الجزء 2: نشوء المذاهب الفقهية وتطورها - الجزء 3: مقدمة العبادات - الجزء 4: الطهارات - الجزء 5: الصلاة - الجزء 6: الزكاة - الجزء 7: الصيام والحج والامر بالمعروف والنهي عن المنكر - الجزء 8: الجهاد - الجزء 9: التجارة والشركة - الجزء 10: الوقف والقصاص - الجزء 11: القضاء والشهادات - الجزء 12: الفهارس. موضوع شخصي: علي بن أبي طالب (عليه السلام) الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 - للهجرة - حديث. موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة. مصطلح موضوعي: الفقه الاسلامي - مذاهب. مصطلح موضوعي: المذاهب الدينية - تاریخ. مصطلح موضوعي: العبادات (فقه اسلامي). مصطلح موضوعي: المعاملات (فقه اسلامي). اسم شخص اضافي: شرح ل (عمل): الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة. اسم هيئة اضافي: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة. جهة مصدرة.

تمت الفهرسة قبل النشر في مكتبة العتبة الحسينية

ص: 2

سلسلة الدراسات والبحوث العلمية (18) وحدة الدراسات الفقهية فقه نهج البلاغة على المذاهب السبعة: الامامي - الزيدي - الحنفي - المالكي - الشافعي - الحنبلي - الأباضي وبيان القواعد الفقهية والمعارف الاخلاقية وشروح الاحاديث دراسة بينية الجزء التاسع التجارة والشرکة تألیف السید نبیل الحسني الکربلائي اصدار مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة (176)

ص: 3

للعتبة الحسينية المقدسة الطبعة الأولى 1441 ه/ 2020 م العراق: کربلاء المقدسة - العتبة الحسينية المقدسة مؤسسة علوم نهج البلاغة www.inahj.org Email: inahj.org@gmail.com موبایل: 07815016633 - 07728243600

ص: 4

بسم الله الرحمن الرحيم الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7) صدق الله العلي العظيم

ص: 5

ص: 6

الباب السابع كتاب «التجارة والشركة»

ص: 7

ص: 8

يتضمن الباب: الفصل الأول: معنى التجارة واستحباب التفقه فيها

المبحث الأول: معنى التجارة في اللغة وعند المتشرعة.

المسألة الأولى: معنى التجارة لغة.

المسألة الثانية: معنى التجارة في الشرع.

المبحث الثاني: من آداب التجارة ومستحباتها التفقه في مسائل التجارات

المسألة الأولى: تفقه التاجر بين الاستحباب والوجوب العيني في المذهب الإمامي.

المسألة الثانية: تفقه التاجر في التجارات في المذاهب الاخرى.

المسألة الثالثة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة.

المسألة الرابعة: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة.

الفصل الثاني: الاحتكار والتسعير وبيع المضطر

المبحث الأول: الاحتكار.

المسألة الأولى: تعريف الاحتكار في اللغة والشرع.

المسألة الثانية: حكم الاحتكار في المذهب الإمامي.

المسألة الثالثة: الاحتكار في المذاهب الاخرى.

المسألة الرابعة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة.

المسألة الخامسة: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة.

ص: 9

المبحث الثاني: إجبار المحتكر على البيع أم التسعير؟

المسألة الأولى: التسعير أو السعر لغة.

المسألة الثانية: الإجبار والتسعير في المذهب الامامي.

المسالة الثالثة: أقوال فقهاء المذاهب الاخرى.

المسألة الرابعة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة.

المسألة الخامسة: جریان قاعدة التسلط أو (السلطنة).

المسألة الخامسة: مسؤولية الدولة في الإقتصاد الإسلامي وإحياء مبدأ ملئ الفراغ.

المسألة السابعة: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة.

المبحث الثالث: بيع المضطر.

المسألة الأولى: حكم بيع المضطر في المذهب الإمامي.

المسالة الثانية: بيع المضطر في المذاهب الاخرى.

المسألة الثالثة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة.

المسألة الرابعة: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة.

الفصل الثالث: استحباب طلب الرزق والإجمال في الطلب

المبحث الأول: استحباب التجارة والسعي لطلب الرزق والاستعانة به على الآخرة.

المسألة الأولى: استحباب التجارة في المذهب الإمامي والاستعانة بالمال على الأخرة.

المسالة الثانية: طلب الرزق في المذاهب الأخرى.

ص: 10

المسالة الثالثة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة.

المسألة الرابعة: ما ورد في الحدث من شروح نهج البلاغة.

المبحث الثاني: استحباب الإجمال في طلب الدنيا.

المسألة الأولى: استحباب الإجمال في طلب الرزق في المذاهب الإسلامية.

المسألة الثانية: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة.

المسألة الثالثة: قصدية النص في السعي والإجمال في طلب المال.

المسألة الرابعة: ما ورد في الأحاديث من شروح نهج البلاغة.

الفصل الرابع: الشركة

المبحث الأول: معنى الشركة في اللغة والشرع.

المسألة الأولى: معنى الشركة لغةً.

المسألة الثانية: معنى اللغة عند الفقهاء.

المبحث الثاني: مستحباتها وما ورد في الحديث من شروح.

المسألة الأولى: مستحبات الشركة عند الإمام علي (علیه السلام).

المسألة الثانية: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة.

ص: 11

ص: 12

توطئة:

بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير الخلق أجمعين محمد واله الطاهرين وسلم تسليم كثيراً.

لقد احتوی کتاب نهج البلاغة في موضوع التجارة على جملة من العناوين الفقهية وقد لاحظت أن كثيراً منها لم يرد في كتب فقهاء المذاهب الإسلامية الستة؛ ولذا سيقتصر البحث على بعض المطالب التي ورد ذكرها في المذاهب السبعة وذلك لما يفرضه منهج البحث في الكتاب.

فضلاً عن ذلك فقد اختلفت الألفاظ في موضوع التجارة عند الفقهاء، فمنهم من عنون له بالبيع، أو المكاسب، أو البيوع، مما استلزم بیان معنى التجارة حصر لورودها في النص الشريف، وهي كالاتي:

ص: 13

ص: 14

الفصل الأول : «معنى التجارة واستحباب التفقه فيها»

اشارة

ص: 15

ص: 16

المبحث الأول معنى التجارة في اللغة وعند المتشرعة

المسألة الأولى: معنى التجارة لغة:

ذهب اللغويون إلى أن معنى التجارة محصور في البيع والشراء، أي في المعاملة، وأن الأصل في الإتجار والتجارة عند العرب كان يطلق على بيع الخمور؛ فبائعها يقال له: التاجر.

قال ابن منظور (ت: 711 ه) وقد جمع أقوال من سبقة من اللغويين:

(تّجر: تَجَرَ يَتجُرُ تَجراً وتِجَارَةً؛ باع و شری، و كذلك اتَّجَرَ وهو افتَعَل، وقد غلب على الخَمَّار قال الأَعشى:

ولَقَد شَهِدتُ التَّاجِرَ آل *** أُمَّانَ، مَورُوداً شَرَابُه

وفي الحديث: مَن يَتَّجِرُ على هذا فيصلي معه.

قال ابن الأَثير: هكذا يرويه بعضهم وهو يفتعل من التجارة لأَنه يشتري بعمله الثواب ولا يكون من الأَجر على هذه الرواية لأَن الهمزة لا تدغم في التاء وإِنما يقال فيه يأتَجِرُ.

الجوهري: والعرب تسمي بائع الخمر تاجراً؛ قال الأَسود بن يَعفُرُ:

ولَقَد أَروحُ على التِّجَارِ مُرَجَّلا *** مَذِلاً بِمالي، لَيِّناً أَجيادي

ص: 17

أَي مائلاً عُنُقي من السُّکرِ.

ورجلٌ تاجِرٌ، والجمع تِجارٌ، بالكسر والتخفيف، وتُجَّارٌ وتَجرٌ مثل صاحب وصَحبٍ؛ فأَما قوله:

إِذ ذُقتَ فاها قلتَ: طَعمُ مُدامَةٍ *** مُعَتَّقَةٍ، مما يجيء به التُّجُر

فقد يكون جمع تِجَار، على أَن سيبويه لا يَطرُدُ جمع الجمع؛ ونظيره عند بعضهم قراءة من قرأَ: فَرُهُنٌ مقبوضة؛ قال: هو جمع رهانٍ الذي هو جَمعُ رَهنٍ وحمله أَبو عليُّ على أَنه جمع رَهن کَسَحل وسُحُلٍ، وإِنما ذلك لما ذهب إِليه سيبويه من التحجير على جمع الجمع إِلا فيما لا بدّ منه، وقد يجوز أَن يكون التُّجُرُ في البيت من باب:

أَنا ابنُ ماویَّةَ إِذ جَدَّ النَّقُر على نقل الحركة، وقد يجوز أَن يكون التُّجُرُ جمع تاجر کشارف وشُرُفٍ وبازل وبُزُلٍ، إِلا أَنه لم يسمع إِلا في هذا البيت.

وفي الحديث: أَن التُّجَّار يُبعثون يوم القيامة فُجَّاراً إِلا من اتقى الله وبَرَّ وصَدَقَ؛ قال ابن الأَثير: سماهم فجاراً لما في البيع والشراء من الأَيمان الكاذبة والغبن والتدليس والربا الذي لا يتحاشاه أَكثرهم أَو لا يفطنون له، ولهذا قال في تمامه: إِلَّا من اتقى الله وبرّ وصدق؛ وقيل: أَصل التاجر عندهم الخمَّار يخصونه به من بين التجار؛ ومنه حديث أَبي ذر: كنا نتحدث أَن التاجر فاجر؛ والتَّجرُ: اسمٌ للجمع، وقيل: هو جمع ؛ وقول الأَخطل:

كَأَنَّ فَأرَةَ مِسكٍ غارَ تاجِرُها *** حَتَّى اشتَراها بِأَغلَى بَيعِه التَّجِرُ

ص: 18

قال ابن سيده: أُراه على التشبيه کَطَهِرٍ في قول الآخر: خَرَجت مُبَرَّأً طَهِرَ الثِّيابِ)(1).

المسألة الثانية: معنى التجارة في الشرع.

لم أعثر على معناها عند فقهاء المذاهب الاسلامية - فيما توفر لدي من مصادر والتي مرت الاشارة اليها في مباحث المقدمة العلمية للكتاب - وربما يعود ذلك الى اختلاف عنونة هذا الباب عند فقهاء المذاهب بالمكاسب او البيوع وغيرها فلم يرد معنى التجارة في اغلب الكتب الفقهية، لهذا السبب.

ولكن تناول معنى التجارة في الشرع كلاً من الشهيد الثاني والشيخ الجواهري (عليه الرحمة والرضوان) وقد بيّن كلاً منهما معنى عبارة المحقق الحلي (عليه الرحمة والرضوان) في الشرائع، وتناولها من المالكية الحطاب الرعيني، وهي كالاتي:

1- الشهيد الثاني (رحمه الله) (زين الدين بن علي العاملي) (ت: 665 ه):

قال (عليه الرحمة والرضوان):

(قد سبق في كلام المصنف في زكاة التجارة - كغيره ما يدل على أن المراد بالتجارة عقد المعاوضة بقصد الاكتساب عند التملك فاعتبروا فيها قصد الاكتساب.

فإن أرادوا منها هنا هذا المعنى، ففي كثير من أفرادها المذكورة في هذا الكتاب استطراد، فإن هذه الأقسام المعدودة لها أعم من كونها بقصد

ص: 19


1- لسان العرب لابن منظور: ج 4، ص 89

الاكتساب والقوت، والادخار. وإن أرادوا بها هنا ما هو أعم مماسبق ليتطابق جميع الأفراد المذكورة، كانت التجارة في اصطلاحهم من الألفاظ المشتركة، وهو خلاف الظاهر، بل المعروف کون التجارة مأخوذا في مفهومها إرادة الاسترباح والتكسب کما سبق، فالاستطراد فيما خرج عن ذلك أولى.

وبقي في العبارة أمر آخر، وهو أن المصنف (رحمه الله) قد جعلها في صدر الكتاب شاملة للبيع والصلح والإجارة وغيرها من عقود المعاوضات، کما يعلم ذلك من تضاعيف الأقسام، ثم عقدها بعد ذلك للبيع خاصة إلى آخر الكتاب.

ولا يخفى ما فيه من التجوز، وكان الأنسب - کما فعل الشيخ والشهيد (رحمه الله) في الدروس - أن يعنون الفصل الأول من الكتاب بكتاب المكاسب، فإن الأقسام المذكورة كلها أفراد المكاسب أعم من البيع وغيره، ثم يذكر بعد ذلك كتاب البيع الذي هو بعض ما يحصل به على بعض الوجوه، وهو ما لو قصد به التكسب، فلو قصد به القنية أو القوت لم يكن داخلا في المكاسب بالمعنى المتقدم.

وحينئذ فبين البيع والمكاسب عموم و خصوص من وجه، يجتمعان في بيع الأعيان للتكسب بها، وينفرد البيع بقصد القنية ونحوها، وتنفرد المكاسب بتحصيلها بالمنافع والصلح ونحوه. قوله: فيما يكتسب به، وينقسم إلى محرم ومکروہ ومباح)(1).

ص: 20


1- مسالك الأفهام - للشهيد الثاني: ج 3، ص 117 - 118؛ وعنه صاحب الرياض (رحمه الله): ج 8، ص 39

2- الشيخ محمد حسن الجواهري (رحمه الله) (ت 1266 ه):

قال في بيان معنى التجارة في الشرع وما ذكره المحقق الحلي (رحمه الله):

(المراد بها ها هنا مطلق المعارضة، نحو قوله تعالى:

«إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ»(1).

کما عن مجمع البحرين قال: التجارة بالكسر هي: انتقال شي مملوك من شخص إلى آخر بعوض مقدر على جهة التراضي إلى آخره، لا أن المراد بها الصناعة المعروفة وإن قيل: إنها المتبادر منها.

بل: هو المستفاد من أهل اللغة، إلا أن ذلك لا ينافي إرادة غيره منه في خصوص المقام، لمعلومية عدم اعتبار ذلك في التجارة المبحوث عنها هنا، وإن انتقض بالمعاملات المقصود منها الاكتساب من غير ذي الصنعة، إلا أن يلتزم الاستطراد وهو بعيد، ولا ما سمعته في كتاب الزكاة من المعاوضة لقصد الربح، وإن كان قد يشعر به قوله الأول فيما يكتسب به، وإبدال غيره التجارة في العنوان بالمكاسب.

بل: جزم به في المسالك مدعيا أنه هو المعروف في أخذه في مفهومها، حتى التزم لذلك أن جميع ما في هذه الكتاب مما لا مدخلية له فيها بالمعنی المزبور وقد ذكر استطرادا، وفيه من الغرابة ما لا يخفی، ضرورة عدم المدخلية للمعنى المزبور في جميع مقاصد الكتاب، على أنه هو أيضا في باب الزكاة بعد أن ذكر تعريف المصنف لمال التجارة.

ص: 21


1- النساء، الآية: 29

قال: إن تعريفه بذلك من حيث تعلق الزكاة، وإلا فالتجارة مطلقا أعم من ذلك كما سيأتي فكلامه هنا مخالف لقواعده، والحق أن ما ذكره المصنف وغيره في كتاب الزكاة ليس تحديدا لمال التجارة کما فهمه الشارح.

بل: هو تخصيص له بالفرد الذي يصلح لتعلق الحكم الشرعي بحسب اقتضاء الأدلة، ولذا اختلفوا في بعض القيود، ورجح الشارح هناك عدم اعتبار قصد الاكتساب حال التملك، واكتفى بالأعداد للتكسب ولو بعد ذلك، والمقصود أن متعلق الزكاة هو بعض أفراد مال التجارة دون جميع الأفراد وهذا مثل ما يقال المراد بالأعيان النجسة في المكاسب المحرمة ما لا يقبل التطهير مع بقاء عينه، والمراد بالمسكر المائع بالأصالة، ومرجعه إلى اطلاق اللفظ وإرادة بعض أفراده، وليس ذلك من التعريف والتحديد في شيء.

ولعل من ذلك كله وغيره جزم بفساد کلامه شیخنا في شرحه وإن وافقه على اعتبار ذلك في مفهومها لغة وعرفا، حتى أنه صرفها في النذور ونحوها إلى ذلك، كالنصوص(1) الواردة في مدح التجارة والتجار، إلا أن ذلك غير مراد منها هنا، لعدم الخصوصية، ثم اختار كونها بمعنى البيع وتوابعه، حاکیا له عن الخلاف والمبسوط.

قال: فما ذكر في المقدمات أو بعض المقامات من غير ذلك فمن الملحقات، وهو وإن كان قد يشهد له إفراد غير البيع من أقسام المعاوضات، بكتب مستقلة، لكن يبعده معروفية كونها أعم من ذلك، وذكر كثير من أحكام التكسب وما يتكسب به ونحوها مما لا مدخلية له في البيع.

ص: 22


1- الوسائل الباب 1 من أبواب مقدمات التجارة الحديث 1 - 13

ولذلك قلنا: بكون المراد منها مطلق المعاوضة، وعدم افراد البيع بكتاب بخلاف غيره من إفرادها لشدة تعلقه بها وغلبته فيها هذا كله مع امكان منع اعتبار الاسترباح في مفهومها، وكأنه اشتباه من اعتباره في مفهوم الاتجار، بمعنى اتخاذ التجارة حرفة ومكتسبا، والنصوص في الزكاة وفي المقام في ذلك، لا في أن مطلق اسم تجارة مأخوذ في مفهومه ذلك، كما هو واضح بأدنی تأمل.

وبما ذكرناه يظهر لك الجواب عما في المسالك أيضا، من أنه كان ينبغي العنوان أو لا بالمكاسب، ثم يذكر بعد ذلك كتاب البيع الذي هو أحد أفرادها إذا قصد التكسب به کما فعله في الدروس، لا تخصیص کتاب التجارة فيه وذكر غيره بكتب مستقلة، مع أنها جميعا مع قصد التكسب بها من أفرادها، ضرورة أنك قد عرفت الوجه في ذلك، لا يقال: إن مقتضى ما ذكرت کون التجارة من الألفاظ المشتركة، لأنا نقول: مع أنه يمكن عدم الالتزام به، هو خير من ارتكاب الاستطراد في أكثر المسائل والأمر سهل)(1).

3- وعرّفها المالكية بوقلهم:

(لمقصود من التجارة إنما هو أخذ ما في يد غيرك بدفع عوض عن طيب نفس منکما فتكفي دلالة العرف في ذلك على طيب النفس والرضا بقول أو فعل وإن كان ذلك الفعل معاطاة)(2).

ص: 23


1- جواهر الكلام: ج 22، ص 4 - 6
2- مواهب الجليل للحطاب الرعيني: ج 6، ص 14

ص: 24

المبحث الثاني من آداب التجارة ومستحباتها التفقه في مسائل التجارات

لقد أورد الشريف الرضي (عليه الرحمة والرضوان) بعض النصوص الشريفة الخاصة بآداب التجارة و مستحباتها ومعانيها، ومنها استحباب التفقه في مسائل التجارات، ومنع الاحتكار، وإقالة النادم وغيرها؛ وسنخصص استحباب التفقه للتاجر في هذا المبحث، ثم نعرّج على بقية الآداب بحسب ما ورد من نصوص شريفة في نهج البلاغة، وهي كالاتي:

قال أمير المؤمنين الإمام علي (عليه الصلاة والسلام):

«مَنِ اتَّجَرَ بِغَيْرِ فِقْهٍ ارْتَطَمَ فِي الرِّبَا»(1).

المسألة الأولى: تفقه التاجر بين الاستحباب والوجوب العيني في المذهب الإمامي.

تناول فقهاء المذهب الإمامي (أعلى الله شأنهم) آداب التجارة في مصنفاتهم الفقهية، لا سيما الموسوعية منها، وذهب معظم فقهاء المذهب الى القول: بالاستحباب في تعلم الاحكام الشرعية في التجارة وقيل: بالوجوب العينيي، وهو قول نادر ذهب إليه المحقق البحراني (رحمه الله)، ولمزيد من البيان نورد

ص: 25


1- نهج البلاغة، الحدیث: 447،، ص 555

جملة من أقوالهم وهي كالاتي:

أولا - ابن إدريس الحلي (رحمه الله) (ت: 598 ه):

قال (عليه الرحمة والرضوان):

(ينبغي للإنسان إذا أراد التجارة أن يبتدئ أولاً فيتفقّه في دينه، ليعرف كيفية الاكتساب، ويميّز بين العقود الصحيحة والفاسدة لأنّ العقود الفاسدة لا ينتقل بها الملك، بل هو باقٍ على ملكيّة الأوّل، ويسلم من الربا الموبق، ولا يرتكب المأثم من حيث لا يعلم به(1)، فإنه روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال:

(من اتجر بغير علمه فقد ارتطم في الربا ثم ارتطم)(2).

قال محمد بن إدريس: معنی ارتطم، يقال: رطمته في الوحل رطماً فارتطم أي هو ارتبك فيه، وارتطم عليه أمره إذا لم يقدر على الخروج منه. وكان (عليه السلام) يقول:

(التاجر فاجر، والفاجر في النار إلا من أخذ الحق وأعطى الحق)(3).

وكان (عليه السلام) يقول:

(معاشر الناس الفقه ثم المتجر، الفقه ثم المتجر، والله للربا في هذه الأمة أخفي من دبيب النمل على الصّفا)(4).

ص: 26


1- قارن النهاية: 371
2- المصدر نفسه
3- المصدر نفسه
4- المصدر نفسه

وكان (عليه السلام) بالكوفة يعتدي كل يوم بكرة من القصر يطوف في أسواق الكوفة سوقاً سوقاً، ومعه الدَرة على عاتقه، فيقف على أهل كل سوق فينادي:

(يا معشر التجار اتقوا الله عز وجل).

فإذا سمعوا صوته ألقوا ما في أيديهم، وارعوا بقلوبهم، وتسمّعوا بآذانهم، فيقول:

قدّموا الاستخارة، وتبرّكوا بالسهولة، واقتربوا من المبتاعين، وتزيّنوا بالحلم، وجانبوا الكذب، وتجافوا عن الظلم، وأنصفوا المظلومين، ولا تقربوا الربا، وأوفوا الكيل والميزان، ولا تبخسوا الناس أشياءهم، ولا تعثوا في الأرض مفسدين، فيطوف جميع الأسواق ثم يرجع فيقعد للناس)(1).

قوله (عليه السلام): قدّموا الاستخارة، يعني الدّعاء والخيرة في الأمور.

وروي عن الصادق (عليه السلام) أنّه قال:

(من لم يتفقه في دينه ثم اتجر تورّط في الشبهات)(2).

قال محمد بن إدريس: الورطة الهلاك، قال أبو عبيد: أصل الورطة أرض مطمئنة لا طريق فيها وأورطه توريطاً، أي أوقعه في الورطة فتورّط هو فيها.

وينبغي أن يتجنّب الإنسان في تجارته خمسة أشياء: مدح البائع، وذم المشتري، وكتمان العيوب، واليمين على البيع، والربا(3).

ص: 27


1- قارن النهاية: 371
2- المصدر نفسه
3- المصدر نفسه

معنی مدح البائع أي مدحه لما يبيعه من الأمتعة، وذم المشتري معناه وذم المشتري لما يشتريه، وإن شئت جعلت البائع بمعنى المبيع، فكأنّه أراد مدح المبيع، لأنّه قد يأتي فاعل بمعنی مفعول، قال الله تعالى:

«لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ»(1)

أي لا معصوم، فإذا ذم المشتري إن شئت قلته بفتح الراء فيكون الشيء المشتري، وكلاهما حسن.

فأما كتمان العيوب مع العلم بها فحرام محظور بغیر خلاف، والربا فكذلك. ولا يجوز لأحد أن يغشّ أحداً من الناس فيما يبيعه أو يشتريه، ويجب عليه النصيحة فيما يفعله لكلّ واحد)(2).

ثانياً - المحقق البحراني (رحمه الله) (ت: 1186 ه).

ذهب المحقق البحراني (عليه الرحمة والرضوان) الى القول بالوجوب العيني في التفقه بالأحكام الشرعية المتوقف عليها صحة العمل الذي يشتغل به المكلف.

جاء ذلك ضمن المقدمة الأولى من كتاب التجارة، في الفائدة الرابعة، قائلاً:

(قد تقدم في الفايدة الأولى الإشارة إلى أن الواجب العيني بالنسبة إلى العلم بالأحكام الشرعية ما يتوقف عليه صحة العمل، الذي يشتغل به المكلف من حج أو زراعة أو تجارة فإنه لا بد من التفقه في ذلك العمل.

ص: 28


1- هود: 43
2- السرائر موسوعة ابن إدريس الحلي: ج 3، ص 325 - 327

ومعرفة أحكامه وما لا يجوز وما يصح به ويفسد، فينبغي لمريد التجارة أن يبدأ بالتفقه فيما يتولاه منها، ليتمكن بذلك من الاحتراز عما حرم الله تعالى عليه في ذلك، ويعرف ما أحله وحرمه، لا سيما الربا وبيع المجهول وشرائه، مما يشترط فيه الوزن والكيل، وبيع غير البالغ العاقل وشرائه ونحو ذلك مما سيأتي انشاء الله تعالى في محله مما يوجب صحة البيع وفساده، و آداب التجارة من مستحباتها ومكروهاتها، وإن كان أهل هذا الزمان والأيام لمزيد جهلهم بأحكام الملك العلام، لا يبالون بما وقعوا فيه من حلال وحرام وقد قال (صلى الله عليه وآله وسلم): التاجر فاجر، والفاجر في النار، إلا من أخذ الحق وأعطى الحق(1).

وروى الصدوق عن الأصبغ بن نباته، قال: سمعت عليا (عليه السلام) يقول على المنبر:

«يَا مَعشَرَ التُّجَّارِ، الفِقهَ ثُمَّ المَتجَرَ، الفِقهَ ثُمَّ المَتجَرَ، وَالله لَلرِّبَا فِي هَذِهِ الأُمَّةِ أَخفَى مِن دَبِيبِ النَّملِ عَلَى الصَّفَا، شُوبُوا إِيمَانَكُم بِالصِّدقِ، التَّاجِرُ فَاجِرٌ وَالفَاجِرُ فِي النَّارِ إِلَّا مَن أَخَذَ الحَقَّ وَأَعطَى الحَقَّ».

ورواه في الكافي عن الأصبغ بن نباته مثله(2). وعن طلحة بن زید عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

(قال أمير المؤمنين (عليه السلام): من اتجر بغير علم ارتطم في الربا ثم ارتطم)(3).

ص: 29


1- الوسائل: ج 12، ص 285 حدیث: 5
2- الكافي: ج 5، ص 150 رقم: 1
3- الوسائل: ج 12، ص 283 رقم: 2

قال: وكان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول:

«لاَ یَقْعُدَنَّ فِی اَلسُّوقِ إِلاَّ مَنْ یَعْقِلُ اَلشِّرَاءَ وَ اَلْبَیْعَ»(1).

وقال الصادق (عليه السلام) على ما رواه شيخنا المفيد في المقنعة:

«من أراد التجارة فليتفقه في دينه ليعلم بذلك ما يحل له مما يحرم عليه، ومن لم يتفقه في دينه ثم اتجر تورط في الشبهات»(2).

وروى في الكافي بسنده عن عمرو بن المقدام عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام قال:

(كان أمير المؤمنين (عليه السلام) عند كونه بالكوفة عندكم يغتدي كل يوم بكرة من القصر، فيطوف في أسواق الكوفة سوقا سوقا، معه الدرة على عاتقه، وكان لها طرفان، وكانت تسمى السبيبة فيقف على أهل كل سوق، فينادي: «يا معشر التجار اتقوا الله عز وجل»، فإذا سمعوا صوته ألقوا ما بأيديهم وارعوا إليه بقلوبهم، وسمعوا بآذانهم فيقول (عليه السلام):

«قَدِّمُوا الاسْتِخَارَةَ وَتَبَرَّكُوا بِالسُّهُولَةِ وَاقْتَرِبُوا مِنَ الْمُبْتَاعِينَ وَتَزَيَّنُوا بِالْحِلْمِ وَتَنَاهَوْا عَنِ الْكَذِبِ وَالْيَمِينِ وَتَجَافَوْا عَنِ الظُّلْمِ وَأَنْصِفُوا الْمَظْلُومِينَ وَلا تَقْرَبُوا الرِّبَا وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ. يَطُوفُ فِي جَمِيعِ أَسْوَاقِ الْكُوفَةِ، ثُمَّ يَرجِعُ فَيَقعُدُ لِلنَّاسِ»(3).

ورواه الصدوق في الفقيه مرسلا. وفي المحاسن مسندا في الصحيح عن

ص: 30


1- الوسائل: ج 12، ص 283 رقم: 4
2- الوسائل: ج 12، ص 283 رقم: 4
3- الكافي ج 5، ص 151 رقم: 3

محمد ابن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام) نحوه. وعن السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «مَنْ باعَ وَاشْتَری فَلْیَحْفَظْ خَمْسَ خِصالٍ وَ الاّ فَلا یَشْتَرِیَنَّ وَلایَبیعَنَّ: الرِّبا وَ الْحَلْفَ، وَ کِتْمانَ الْعَیْبِ، وَ الْحَمْدَ إذا باعَ وَ الذَّمَّ إذَا اشْتَری»(1).

وعن أحمد بن محمد بن عيسى رفع الحديث قال كان أبو أمامة صاحب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول:

«أربع من كن فيه طاب مكسبه: إذ اشترى لم يعب، وإذا باع لم يحمد، ولا يدلس، وفيها بين ذلك لا يحلف»(2).

وروى الصدوق مرسلا قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):

«يا معشر التجار ارفعوا رؤوسكم، فقد وضح لكم الطريق، تبعثون يوم القيامة فجارا إلا من صدق حديثه، قال: وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) التاجر فاجر، والفاجر في النار إلا من أخذ الحق وأعطى الحق».

قال: قال (عليه السلام):

«يا معشر التجار صونوا أموالكم بالصدقة تكفر عنكم ذنوبكم، وأيمانكم التي تحلفون فيها، وتطيب لكم تجارتكم»(3).

ص: 31


1- الكافي ج 5، ص 101 رقم: 3
2- الوسائل: ج 12، صرقم: 3
3- الوسائل: ج 12، ص 285 رقم: 4 و 5 و 6

وروى السيد رضي الدين بن طاووس في كتاب الاستخارات عن أحمد بن محمد ابن يحيى قال: أراد بعض أوليائنا الخروج للتجارة، فقال: لا اخراج حتى أتی جعفر بن محمد (عليه السلام) فأسلم عليه وأستشيره في أمري هذا وأسأله الدعاء لي. قال: فأتاه فقال له: يا ابن رسول الله، إني عزمت على الخروج إلى التجارة، وإني آليت على نفسي أن لا أخرج حتى ألقاك وأستشيرك وأسألك الدعاء لي. قال: فدعا له وقال (عليه السلام):

«عليك بصدق اللسان في حديثك، ولا تكتم عيبا یکون في تجارتك، ولا تغبن المسترسل(1) فإن غبنه لا يحل. ولا ترض للناس إلا ما ترضى لنفسك. واعط الحق وخذه ولا تخف ولا تخن. فإن التاجر الصدوق مع السفرة الكرام البررة يوم القيامة، واجتنب لحلف فإن اليمين الفاجرة تورث صاحبها النار، والتاجر فاجر إلا من أعطى الحق وأخذه.

وإذا عزمت على السفر أو حاجة مهمة فأكثر الدعاء والاستخارة، فإن أبي حدثني عن أبيه عن جده أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يعلم أصحابه الاستخارة كما يعلمهم السورة من القرآن»(2) الحديث.

أقول: قد تقدم في كتاب الصلاة في باب صلاة الاستخارة أن أحد معانيها: طلب الخير منه سبحانه، وهو المراد هنا أي طلب الخير في البيع والشراء. وما اشتمل عليه حديث عمرو بن أبي المقدام(3) من أنه (عليه

ص: 32


1- قال في مجمع البحرين: الاسترسال: الاستیناس والطمأنينة إلى الانسان والثقة به فيما يحدث. وأصله الكون والثبات. ومنه الحديث: أيما مسلم استرسل إلى مسلم فغبنه فهو كذا ومنه: غبن المسترسل سحت. ومنه: غبن المسترسل ربا. منه قدس سره
2- الوسائل: ج 12، ص 28 رقم: 7
3- الوسائل: ج 12، ص 284 رقم: 1. وتقدم في، ص 20

السلام) كان يطوف أسواق الكوفة والدرة على عاتقه. والدرة بكسر الدال: السوط، والجمع: درر، مثل سدرة وسدر.

وفي هذا الخبر: لها طرفان. وفي خبر آخر: لها سبابتان، وقال في كتاب مجمع البحرين: الدرة بالكسر التي كان يضرب بها. و هو يرجع إلى ما ذكرناه من السوط. فإنه الذي يضرب به في الحدود الشرعية.

وأما لفظ السبيبة فضبطه بعض المحدثين بالمهملة والمثناة التحتانية بين الموحدتين. وظاهر کلام بعض أصحابنا المحدثين من متأخري المتأخرين: أنه ربما كان الموجود من هذا اللفظ في الخبر إنما هو بمرکزين بعد السين أولهما باء موحدة، و الثانية تاء مثناة فوقانية.

قال: السبتية بكسر السين وسكون الموحدة قبل المثناة الفوقانية: جلود البقر تحذر منها النعال السبتية. فعلى هذه النسخة يمكن أن تكون درته (عليه السلام) مأخوذة منها والله العالم)(1).

ثالثاً - الشيخ مرتضى الأنصاري رحمه الله) (ت: 1281 ه).

جمع الشيخ مرتضى الأنصاري (عليه الرحمة والرضوان) أقوال فقهاء المذهب الإمامي (أعلى الله شأنهم) وناقشها مظهرة: أن المعروف بين فقهاء المذهب هو القول: باستحباب التفقه في مسائل التجارات.

فقال:

(لمعروف بين الأصحاب - تبعا لظاهر تعبير الشيخ بلفظ ((ينبغي))(2)

ص: 33


1- الحدائق الناضرة - للمحقق البحراني: ج 18، ص 19 - 22
2- النهاية للشيخ الطوسي: 371

استحباب التفقه في مسائل الحلال والحرام المتعلقة بالتجارات، ليعرف صحیح العقد من فاسده ويسلم من الربا. وعن إيضاح النافع: أنه قد يجب(1). وهو ظاهر عبارة الحدائق أيضا(2).

وكلام المفيد رحمه الله في المقنعة أيضا لا يأبى الوجوب ، لأنه - بعد ذکر قوله تعالى:

ولا تأكلوا أموالكه بيك بالباطل إلا أن تكون تجارة عن ) تراضی«لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ»(3)، وقوله تعالى:

«أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ»(4).

قال: فندب إلى الإنفاق من طيب الاكتساب، ونهی عن طلب الخبيث للمعيشة والإنفاق، فمن لم يعرف فرق ما بين الحلال من المكتسب والحرام لم يكن مجتنبا للخبيث من الأعمال، ولا كان على ثقة في تفقه من طيب الاكتساب، وقال تعالى أيضا: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا»(5).

فينبغي أن يعرف البيع المخالف للربا ليعلم بذلك ما أحل الله وحرم من المتاجر والاكتساب. وجاءت الرواية عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه كان میدیم يقول:

ص: 34


1- لا يوجد لدينا إيضاح النافع، نعم حكاه عنه السيد العاملي في مفتاح الكرامة 4: 132
2- راجع الحدائق 18: 19 و 23
3- النساء: 29
4- البقرة: 267
5- البقرة: 275

«مَنْ اتَّجَرَ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَقَدْ ارْتَطَمَ فِي الرِّبَا، ثُمَّ ارْتَطَمَ»(1).

ثم قال: قال الصادق (عليه السلام):

«من أراد التجارة فليتفقه في دينه، ليعلم بذلك ما يحل له مما يحرم عليه، ومن لم يتفقه في دينه ثم اتجر تورط في الشبهات»(2)، انتهى(3).

أقول: ظاهر كلامه رحمه الله الوجوب، إلا أن تعبيره بلفظ ((ينبغي)) ربما يدعی ظهوره في الاستحباب، إلا أن الإنصاف أن ظهوره ليس بحيث يعارض ظهور ما في كلامه في الوجوب من باب المقدمة، فإن معرفة الحلال والحرام واجبة على كل أحد بالنظر إلى ما يبتلى به من الأمور.

وليس معرفة جميعها مما يتعلق بالإنسان وجوبهافورا دفعة، بل عند الالتفات إلى احتمال الحرمة في فعل يريد أن يفعله، أو عند إرادة الإقدام على أفعال يعلم بوجود الحرام بينها، فإنه معاقب على ما يفعله من الحرام لو ترك التعلم وإن لم يلتفت عند فعله إلى احتمال تحریمه، فإن التفاته السابق وعلمه بعدم خلو ما یرید مزاولتها من الأفعال من الحرام کاف في حسن العقاب، وإلا لم يعاقب أكثر الجهال على أكثر المحرمات، لأنهم يفعلونها وهم غير ملتفتين إلى احتمال حرمتها عند الارتکاب.

ولذا: أجمعنا على أن الكفار يعاقبون على الفروع. وقد ورد ذم الغافل المقصر في معصيته، في غير واحد من الأخبار(4).

ص: 35


1- الوسائل 12: 283 ، الباب الأول من أبواب آداب التجارة، الحديث 2
2- الوسائل 12: 283، الباب الأول من أبواب آداب التجارة، الحديث 4
3- المقنعة: 590 - 591
4- راجع الكافي 1: 40، باب سؤال العالم، الحديث 1 و 2، والبحارا: 177 - 178، الحديث 58

ثم لو قلنا: بعدم العقاب على فعل المحرم الواقعي الذي يفعله من غير شعور کما هو ظاهر جماعة - تبعا للأردبيلي رحمه الله -: من عدم العقاب على الحرام المجهول حرمته عن تقصير، لقبح خطاب الغافل، فيقبح عقابه. لكن تحصيل العلم وإزالة الجهل واجب على هذا القول، کما اعترفوا به.

والحاصل: أن التزام عدم عقاب الجاهل المقصر لاعلى فعل الحرام، ولا على ترك التعلم إلا إذا كان حين الفعل ملتفتا إلى احتمال تحريمه لا يوجد له وجه، بعد ثبوت أدلة التحريم، ووجوب طلب العلم على كل مسلم، وعدم تقبيح عقاب من التفت إلى وجود الحرام في أفراد البيع التي يزاولها تدريجا على ارتكاب الحرام في هذا الأثناء وإن لم يلتفت حين إرادة ذلك الحرام.

ثم إن: المقام يزيد على غيره بأن الأصل في المعاملات الفساد، فالمكلف إذا أراد التجارة وبني على التصرف فيما يحصل في يده من أموال الناس على وجه العوضية يحرم عليه ظاهرا الإقدام على كل تصرف منها بمقتضى أصالة عدم انتقاله إليه إلا مع العلم بإمضاء الشارع لتلك المعاملة، ويمكن أن يكون في قوله (عليه السلام):

«التاجر فاجر، والفاجر في النار إلا من أخذ الحق وأعطى الحق»(1).

إشارة إلى هذا المعنى، بناء على أن الخارج من العموم ليس إلا من علم بإعطاء الحق وأخذ الحق. فوجوب معرفة المعاملة الصحيحة في هذا المقام(2) شرعي، لنهي الشارع عن التصرف في مال لم يعلم انتقاله إليه، بناء على أصالة

ص: 36


1- الوسائل 12: 282، الباب الأول من أبواب آداب التجارة، الحديث الأول، والصفحة 285، الباب 2 من الأبواب، الحديث 5
2- أي: مقام إرادة التصرف في مال كان سابقا للغير

المبحث الثاني: من آداب التجارة ومستحباتها التفقه في مسائل التجارات عدم انتقاله إليه. وفي غير هذا المقام عقلي مقدمي لئلا يقع في الحرام . وكيف كان، فالحكم باستحباب التفقه للتاجر محل نظر.

بل: الأولى وجوبه عليه عقلا و شرعا، وإن كان وجوب معرفة باقي المحرمات من باب العقل فقط. ويمكن توجیه کلامهم بإرادة التفقه الكامل ليطلع على مسائل الربا الدقيقة والمعاملات الفاسدة كذلك، ويطلع على موارد الشبهة والمعاملات الغير الواضحة الصحة فيجتنب عنها في العمل، فإن القدر الواجب هو معرفة المسائل العامة البلوى، لا الفروع الفقهية المذكورة في المعاملات.

ويشهد للغاية الأولى قوله (عليه السلام) في مقام تعلیل وجوب التفقه:

«إن الربا أخفى من دبيب النملة على الصفا»(1).

وللغاية الثانية قول الصادق (عليه السلام) في الرواية المتقدمة:

«من لم يتفقه ثم اتجر تورط في الشبهات»(2).

لكن ظاهر صدره الوجوب، فلاحظ. وقد حكي توجيه كلامهم بما ذكرنا عن غير واحد(3). ولا يخلو عن وجه في مقام التوجيه.

ثم إن: التفقه في مسائل التجارة لما كان مطلوبا للتخلص عن المعاملات الفاسدة التي أهمها الربا - الجامعة بين أكل المال بالباطل وارتكاب الموبقة

ص: 37


1- الوسائل 12: 282، الباب الأول من أبواب آداب التجارة، الحديث الأول
2- تقدمت في الصفحة 338
3- لم نعثر على حكاية هذا التوجيه بعينه في كلام الفقهاء، نعم يظهر ما قاله المحقق الأردبيلي في مجمع الفائدة 8: 116 وصاحب الجواهر في الجواهر 22: 451، وراجع مفتاح الكرامة 4: 132، وفيه: بل قد يجب کما في إيضاح النافع

الكذائية - لم يعتبر فيه كونه عن اجتهاد، بل يكفي فيه التقليد الصحيح، فلا تعارض بين أدلة التفقه هنا، وأدلة تحصيل المعاش.

نعم، ربما أورد(1) في هذا المقام - وإن كان خارجا عنه - التعارض بين أدلة طلب مطلق العلم، الشامل لمعرفة مسائل العبادات وأنواع المعاملات المتوقف على الاجتهاد، وبين أدلة طلب الاكتساب والاشتغال في تحصيل المال لأجل الإنفاق على من ينبغي أن ينفق عليه، وترك إلقاء كله على الناس الموجب لاستحقاق اللعن، فإن الأخبار من الطرفين كثيرة.

يكفي في طلب الاكتساب ما ورد:

(من أنه «أوحى الله تعالى إلى داود على نبينا وآله وعليه السلام: يا داود إنك نعم العبد لولا أنك تأكل من بيت المال ولا تعمل بيدك شيئا. فبکی عليه السلام أربعين صباحا ثم ألان الله تعالى له الحديد، وكان يعمل كل يوم درعا ويبيعه بألف درهم، فعمل ثلاثمائة وستين درعا فباعها واستغني عن بیت المال... الحديث»(2). وما أرسله في الفقيه عن الصادق (عليه السلام):

«ليس منا من ترك دنياه لآخرته، أو آخرته لدنياه»(3)، وأن «العبادة سبعون جزءا أفضلها طلب الحلال»(4).

وأما الأخبار في طلب العلم وفضله فهي أكثر من أن تذكر، وأوضح من أن تحتاج إلى الذكر.

ص: 38


1- أورده صاحب الحدائق في الحدائق 18: 9 و 15 وغيره
2- الوسائل 12: 22، الباب 9 من أبواب مقدمات التجارة ، الحديث 3
3- الفقيه 3: 156، الحديث 3568، والوسائل 12: 49، الباب 28 من أبواب مقدمات التجارة، الحديث الأول
4- الوسائل 12: 11، الباب 4 من أبواب مقدمات التجارة، الحديث 6

وذكر في الحدائق: أن الجمع بينهما بأحد وجهين: أحدهما - وهو الأظهر بين علمائنا -: تخصيص أخبار وجوب طلب الرزق بأخبار وجوب طلب العلم، ويقال بوجوب ذلك على غير طالب العلم المشتغل بتحصيله واستفادته وتعليمه وإفادته.

قال: وبهذا الوجه صرح الشهيد الثاني رحمه الله في رسالته المسماة ب ((منية المريد في آداب المفيد والمستفيد)) حيث قال في جملة شرائط العلم: وأن يتوكل على الله ويفوض أمره إليه، ولا يعتمد على الأسباب فيوكل إليها وتكون وبالا عليه، ولا على أحد من خلق الله تعالى، بل يلقي مقاليد أمره إلى الله تعالى، يظهر له من نفحات قدسه و لحظات أنسه ما به يحصل مطلوبه ويصلح به مراده.

وقد ورد في الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله) أن الله تعالى قد تكفل الطالب العلم برزقه عما ضمنه لغيره بمعنى: أن غيره يحتاج إلى السعي على الرزق حتى يحصل له، وطالب العلم لا يكلف بذلك بل بالطلب، وكفاه مؤونة الرزق إن أحسن النية، وأخلص القربة. وعندي في ذلك من الوقائع مالو جمعته [بلغ] ما لا يعلمه إلا الله من حسن صنع الله تعالى [وجميل معونته منذ] ما اشتغلت بالعلم، وهو مبادئ عشر الثلاثين وتسعمائة إلى يومنا هذا، وهو منتصف شهر رمضان سنة ثلاث وخمسين وتسعمائة.

وبالجملة، ليس الخبر کالعيان. وروى شيخنا المقدم محمد بن يعقوب الكليني قدس سره بإسناده إلى الحسين بن علوان، قال: كنا في مجلس نطلب فيه العلم، وقد نفدت نفقتي في بعض الأسفار، فقال لي بعض أصحابي: من تؤمل لما قد نزل بك؟ فقلت: فلانا، فقال:

ص: 39

إذا والله لا تسعف بحاجتك ولا تبلغ أملك ولا تنجح طلبتك! قلت: وما علمك رحمك الله؟ قال: إن أبا عبد الله (عليه السلام) حدثني: أنه قرأ في بعض كتبه: إن الله تبارك وتعالى يقول:

(وعزتي وجلالي ومجدي وارتفاعي على عرشي لأقطعن أمل كل مؤمل غيري باليأس، ولأكسونه ثوب المذلة عند الناس، ولأنحينه من قربي، ولأبعدنه من وصلي، أيؤمل غيري في الشدائد والشدائد بيدي؟! ويرجو غيري ويقرع باب غيري وبيدي مفاتيح الأبواب وهي مغلقة، وبابي مفتوح لمن دعاني، فمن ذا الذي أملني لنوائبه فقطعته دونها؟ ومن ذا الذي رجاني لعظيمة فقطعت رجاءه مني؟ جعلت آمال عبادي عندي محفوظة، فلم برضوا بحفظي، وملأت سماواتي ممن لا يمل من تسبيحي، وأمرتهم أن لا يغلقوا الأبواب بيني وبين عبادي، فلم يثقوا بقولي. ألم يعلم من طرقته نائبة من نوائبي أنه لا يملك كشفها أحد غيري إلا من بعد إذني، فما لي أراه لاهيا عني؟ أعطيته بجودي ما لم يسألني، ثم انتزعته عنه فلم يسألني رده وسأل غيري، أفتراني أبدأ بالعطایا قبل المسألة ثم أسأل فلا أجيب سائلي؟ أبخيل أنا فيبخلني عبدي؟ أو ليس الجود والكرم لي؟ أو ليس العفو والرحمة بيدي؟ أو ليس أنا محل الآمال، فمن يقطعها دوني؟ أفلا يخشى المؤملون أن يؤملوا غيري؟ فلو أن أهل سماواتي وأهل أرضي أملوا جميعا ثم أعطيت كل واحد منهم مثل ما أمل الجميع ما انتقص من ملكي مثل عضو ذرة، و كيف ينقص ملك أنا قيمه؟ فيا بؤسا للقانطين من رحمتي! ويا بؤسا لمن عصاني ولم يراقبني)! انتهى الحديث الشريف، وانتهى كلام شيخنا الشهيد رحمه الله(1).

ص: 40


1- منية المريد: 62 - 63، وراجع الكافي 2: 66، الحديث 7

قال في الحدائق: ويدل على ذلك بأصرح دلالة ما رواه في الكافي بإسناده إلى أبي إسحاق السبيعي عمن حدثه، قال: سمعت أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول:

«أَیُّهَا اَلنَّاسُ، اِعْلَمُوا أَنَّ کَمَالَ اَلدِّینِ طَلَبُ اَلْعِلْمِ وَ اَلْعَمَلُ بِهِ، أَلاَ وَ إِنَّ طَلَبَ اَلْعِلْمِ أَوْجَبُ عَلَیْکُمْ مِنْ طَلَبِ اَلْمَالِ، إِنَّ اَلْمَالَ مَقْسُومٌ مَضْمُونٌ لَکُمْ قَدْ قَسَمَهُ عَادِلٌ بَیْنَکُمْ وَ قَدْ ضَمِنَهُ وَ سَیَفِی لَکُمْ، وَ اَلْعِلْمُ مَخْزُونٌ عِنْدَ أَهْلِهِ، وَ قَدْ أُمِرْتُمْ بِطَلَبِهِ مِنْ أَهْلِهِ] فَاطْلُبُوه»... الخبر(1).

قال: ويؤكده ما رواه في الكافي بسنده عن أبي جعفر (عليه السلام) قال:

«قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يقول الله عز وجل: وعزتي وجلالي وكبريائي ونوري، وعظمتي وعلوي وارتفاع مكاني(2) لا يؤثر عبد هواي على هواه إلا استحفظته ملائکتي، وكفلت السماوات والأرضين رزقه، وكنت له من وراء تجارة كل تاجر، فتأتيه الدنيا وهي راغمة(3)»(4). انتهى كلامه(5).

ص: 41


1- الكافي 1: 30، الحديث 4
2- في الحدائق والكافي بعد القسم: لا يؤثر عبد هواه على هواي إلا شتت عليه أمره، ولبست عليه دنياه وشغلت قلبه بها، ولم أوته منها إلا ما قدرت له، وعزتي وجلالي وعظمتي ونوري وعلوي وارتفاع مكاني ... الخ
3- هكذا في المصدر، ولكن في النسخ: «زاعمة»، وقال المامقاني - بعد أن أثبتها بالزاي والعين المهملة -: في نسخة من الحدائق وفي الوسائل المصححة على خط المؤلف «راغمة» بالراء المهملة والعين المعجمة، ومعنى الكلمة حينئذ: «ذليلة منقادة» (غاية الآمال: 478)
4- في النسخ زیادة: «الحديث»، والظاهر أنه لا وجه لها، لأن الحديث مذکور بتهامه، راجع الكافي 2: 335، الحديث 2
5- الحدائق 18: 9 - 12

وأنت خبير بأن ما ذكره من كلام الشهيد رحمه الله، وما ذكره من الحديث القدسي لا ارتباط له بما ذکر من دفع التنافي بين أدلة الطرفين، لأن ما ذكر من التوكل على الله، وعدم ربط القلب بغيره لا ينافي الاشتغال بالاكتساب.

ولذا: كان أمير المؤمنين - صلوات الله عليه وعلى أخيه وزوجته وولديه وذريته - جامعا بين أعلى مراتب التوكل، وأشد مشاق الاكتساب، وهو الاستقاء الحائط اليهودي(1)، وليس الشهيد أيضا في مقام أن طلب العلم أفضل من التكسب، وإن كان أفضل.

بل: في مقام أن طالب العلم إذا اشتغل بتحصيل العلم فليکن منقطعا عن الأسباب الظاهرة الموجودة غالبا لطلاب العلوم من الوظائف المستمرة من السلاطين، والحاصلة من الموقوفات للمدارس وأهل العلم، والموجودة الحاصلة غالبا للعلماء، والمشتغلين من معاشرة السلطان وأتباعه، والمراودة مع التجار، والأغنياء، والعلماء الذين لا ينتفع منهم إلا بما في أيديهم، من وجوه الزكوات ورد المظالم والأخماس وشبه ذلك، كما كان ذلك متعارفا في ذلك الزمان.

بل: في كل زمان، فربما جعل الاشتغال بالعلم بنفسه سببا للمعيشة من الجهات التي ذكرناها.

وبالجملة: فلا شهادة فيما ذكر من كلام الشهيد رحمه الله - من أوله إلى آخره - وما أضاف إليه من الروايات في الجمع المذكور، أعني: تخصيص أدلة طلب الحلال بغير طالب العلم.

ص: 42


1- کما نقله ابن أبي الحديد في مقدمة شرحه لنهج البلاغة 1: 22، وعنه البحار 41: 144

ثم إنه: لا إشكال في أن كلا من طلب العلم وطلب الرزق ينقسم إلى الأحكام الأربعة أو الخمسة. ولا ريب أن المستحب من أحدهما لا يزاحم الواجب، ولا الواجب الكفائي الواجب العيني. ولا إشكال أيضا في أن الأهم من الواجبين العينيين مقدم على غيره، وكذا الحكم في الواجبين الكفائيين مع ظن قيام الغير به. وقد يكون كسب الكاسب مقدمة لاشتغال غيره بالعلم، فيجب أو يستحب مقدمة.

بقي الكلام في المستحب من الأمرين عند فرض عدم إمكان الجمع بينهما، ولا ريب في تفاوت الحكم بالترجيح باختلاف الفوائد المرتبة على الأمرين. فرب من لا يحصل له باشتغاله بالعلم إلا شيئ قليل لا يترتب عليه كثير فائدة، ويترتب على اشتغاله بالتجارة فوائد كثيرة.

منها: تكفل أحوال المشتغلين من ماله أو مال أقرانه من التجار المخالطين معه على وجه الصلة أو الصدقة الواجبة والمستحبة، فيحصل بذلك ثواب الصدقة وثواب الإعانة الواجبة أو المستحبة على تحصيل العلم.

ورب من يحصل بالاشتغال مرتبة عالية من العلم يحيي بها فنون علم الدين، فلا يحصل له من كسبه إلا قليل من الرزق، فإنه لا إشكال في أن اشتغاله بالعلم والأكل من وجوه الصدقات أرجح.

وما ذكر من حديث داود على نبينا وآله و (عليه السلام) فإنما هو لعدم مزاحمة اشتغاله بالكسب لشئ من وظائف النبوة والرئاسة العلمية.

وبالجملة، فطلب كل من العلم والرزق إذا لوحظ المستحب منهما من حيث النفع العائد إلى نفس الطالب كان طلب العلم أرجح، وإذا لوحظ من جهة النفع الواصل إلى الغير كان اللازم ملاحظة مقدار النفع الواصل.

ص: 43

فثبت من ذلك كله: أن تزاحم هذين المستحبین کتزاحم سائر المستحبات المتنافية، كالاشتغال بالاكتساب أو طلب العلم الغير الواجبين مع المسير إلى الحج أو إلى مشاهد الأئمة (عليهم السلام)، أو مع السعي في قضاء حوائج الإخوان الذي لا يجامع طلب العلم أو المال الحلال، إلى غير ذلك، مما لا يحصى)(1).

المسألة الثانية: تفقه التاجر في التجارات في المذاهب الاخرى.

أولاً - المذهب الزيدي:

ذهب فقهاء المذهب الزيدي الى القول باستحباب التفقه في مسائل التجارة ونظر في الحلا والحرام من كتاب الله بغية أن يأمن على نفسه من الزلل والخطأ.

قال يحيى بن الحسين (ت: 298 ه):

(ينبغي لمن أراد التجارة أن يتفقه في الدين، وينظر في الحلال والحرام من كتاب الله [رب العالمين] حتى يأمن على نفسه الزلل والخطأ في المضاربة والبيع والشراء وفي ذلك ما بلغنا عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام): أن رجلا أتاه فقال: يا أمير المؤمنين إني أريد التجارة فادع الله لي فقال له أمير المؤمنين:

(أوفقهت في دين الله)؟

قال أو يكون بعض ذلك؟ فقال:

(ويحك الفقه ثم المتجر، إن من باع واشتري ثم لم يسأل عن حلال ولا حرام ارتطم في الربا ثم ارتطم، ثم ارتطم).

ص: 44


1- کتاب المكاسب - للشيخ الأنصاري: ج 4، ص 337 - 348

قال: وبلغنا عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال:

(قال رسول الله (صلى الله عليه آله وسلم): (إن الله سبحانه يحب العبد يكون سهل البيع سهل الشراء سهل القضاسهل الاقتضاء).

وبلغنا عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال:

«قال رسول الله (صلى الله عليه آله وسلم): (إني لعنت الإمام يتجر في رعيته)»(1).

ثانياً - المذهب الشافعي.

قال فقهاء المذهب الشافعي في الاستيعاب للتاجر في تعلم مسائل الحلال والحرام والتفقه فيما يرتبط بهذه الصنعة؛ قال الحافظ النووي (ت 676 ه):

(إنّ من أراد التجارة لزمه أن يتعلم أحكامها فيتعلم شروطها وصحيح العقود من فاسدها وسائر أحكامها وبالله التوفيق)(2).

ثالثاً - المذهب المالكي.

ذهب المالكية الى القول بوجوب تعلم الاحكام الشرعية في البيع والشراء الاحتياج الإنسان إليها إذ لا يمكن له العيش بدونهما.

قال الخطاب الرعيني (ت 954 ه):

(والبيع مما يتعين الاهتمام بمعرفة أحكامه لعموم الحاجة إليه إذ لا يخلو مکلف غالباً من بيع أو شراء، فيجب أن يعلم حكم الله في ذلك قبل التلبس به)(3).

ص: 45


1- الاحكام ليحیی بن الحسين: ج 2، ص 34
2- المجموع للنووي: ج 9، ص 154
3- مواهب الجليل: ج 6، ص 3

رابعاً - المذهب الحنفي.

لم يصرّح فقهاء المذهب الحنفي في عنوان آداب التجارة الى استحباب التفقه في الأحكام الشرعية للتجارة لكنهم أشاروا الى اهمية هذا الأمر، فقالوا، والقائل: ابن نجم المصري (ت 970 ه):

(واما محاسنه، أي: البيع، فمنها التوصل الى الاغراض، واخلاء العالم عن الفساد، وفي آخر بيوع البزازية، قيل للإمام محمد: ألا تصنف في الزهد؟ قال: حسبكم كتاب البيوع.

وكان التجار في القديم إذا سافروا استصحبوا معهم فقيها يرجعون إليه؛ وعن أئمة خوارزم: أنه لا بد للتاجر من فقيه صدیق)(1).

خامساً - المذهب الحنبلي.

يظهر من كلام ابن قدامة المقدسي (ت 682 ه) أن التجار بحاجة الى تعلم أحكام الحلا والحرام وذلك لما يرتطموا به من شبهات تجر صاحبها الى النار؛ ولذا: نجه قد أستشهد بحديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) في مقدمة كتاب البيوع، فقال:

(وروی رفاعة أنه خرج مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المصلى فرأى الناس يتبايعون فقال:

(يا معشر التجار)!

فاستجابوا لرسول الله صلى الله عليه وآله ورفعوا أعناقهم وأبصارهم

ص: 46


1- البحر الرائق لابن نجم المصري: ج 5، ص 438

إليه، فقال:

(إن التجار يبعثون يوم القيامة فجاراً إلا من بر وصدق)؛ قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح في أحاديث كثيرة سوى هذه).

سادساً - المذهب الاباضي.

لم اعثر - فيما توفر لدي من مصنفات الفقه الإباضي - على عبارات ترشد الى استحباب أو وجوب تعلم المسائل الشرعية المرتبطة بالتجارات أو البيوع، لا سيما وأن الموسوعة الفقهية الموسومة بكتاب النيل وشفاء العليل لم يرد فيها ذلك مع افراد كتاب البيع وتناول مسائله فيها.

المسألة الثالثة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء للذاهب في المسألة.

1- أجمع معظم فقهاء الإمامية على استحباب تعلم المسائل الشرعية المرتبطة بالتجارات، وقال بعضهم بالوجوب العيني، ومنهم المحقق البحراني.

2- ذهب الزيدية والشافعية الى القول باستحباب التفقه، وتعلم مسائل الحلال والحرام المتعلقة بالتجارة.

3- وقال المالكية بالوجوب.

4- ولم يصرّح الحنفية بذلك، ولكن يفهم من عباراتهم الاستحباب.

5- واستشهد الحنابلة بحديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حال التجار يوم القيامة لبيان خطورة العمل في التجارات بدون التفقه في مسائلها.

ص: 47

المسألة الرابعة: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة.

قال (عليه الصلاة والسلام):

«مَنِ اِتَّجَرَ بِغَیْرِ فِقْهٍ فَقَدِ اِرْتَطَمَ فِی اَلرِّبَا».

نورد في شرح هذا الحديث ما أورده ابن أبي الحديد المعتزلي فقط وذلك لعدم وجود إضافات أخرى عند بقية الشراح فقد أخذوا عنه ما أورده في شرحه.

فقال:

(تجر فلان وأتجر فهو تاجر، والجمع تجر، مثل صاحب وصحب، والتجارة والتجر بمعنى واحد، إذا أخذتهما مصدرين ل (تجر) وأرض متجرة، يتجر فيها.

وارتطم فلان في الوحل والامر إذا ارتبك فيه ولم يقدر على الخروج منه، وإنما قال عليه السلام ذلك لان مسائل الربا مشتبهة بمسائل البيع، ولا يفرق بينهما إلا الفقيه، حتى إن العظماء من الفقهاء قد اشتبه عليهم الامر فيها فاختلفوا فيها أشد اختلاف، كبيع لحم البقر بالغنم متفاضلا، هل يجوز أم لا؟

وكذلك لبن البقر بلبن الغنم، وجلود البقر بجلود الغنم، فقال أبو حنيفة: اللحوم والألبان والجلود أجناس مختلفة، فيجوز بيع بعضها ببعض متفاضلا، نظرا إلى إن أصولها أجناس مختلفة، والشافعي لا يجيز ذلك ويقول هو ربا.

وكذلك القول في مدى عجوة و درهم بمد عجوة. وكذلك بيع الرطب بالتمر متساویا کیلا، كل ذلك يقول الشافعي إنه ربا، وأبو حنيفة يخرجه عن کونه ربا، ومسائل هذا الباب كثيرة)(1).

ص: 48


1- شرح نهج البلاغة: ج 20، ص 97

الفصل الثاني : «الإحتكار والتسعير وبيع المضطر»

اشارة

ص: 49

ص: 50

المبحث الأول الإحتكار

قال أمير المؤمنين الإمام علي (عليه الصلاة والسلام) في عهده لمال لمالك الأشتر (عليه رحمة الله ورضوان):

«ثُمَّ اسْتَوْصِ بِالتُّجَّارِ وَ ذَوِی الصِّنَاعَاتِ وَ أَوْصِ بِهِمْ خَیْراً، الْمُقِیمِ مِنْهُمْ وَ الْمُضْطَرِبِ بِمَالِهِ وَ الْمُتَرَفِّقِ بِبَدَنِهِ فَإِنَّهُمْ مَوَادُّ الْمَنَافِعِ وَ أَسْبَابُ الْمَرَافِقِ وَ جُلاَّبُهَا مِنَ الْمَبَاعِدِ وَ الْمَطَارِحِ فِی بَرِّكَ وَ بَحْرِكَ وَ سَهْلِكَ وَ جَبَلِكَ وَ حَیْثُ لاَ یَلْتَئِمُ النَّاسُ لِمَوَاضِعِهَا، وَ لاَ یَجْتَرِءُونَ عَلَیْهَا فَإِنَّهُمْ سِلْمٌ لاَ تُخَافُ بَائِقَتُهُ، وَ صُلْحٌ لاَ تُخْشَی غَائِلَتُهُ، وَ تَفَقَّدْ أُمُورَهُمْ بِحَضْرَتِكَ وَ فِی حَوَاشِی بِلاَدِكَ، وَ اعْلَمْ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ فِی کَثِیرٍ مِنْهُمْ ضِیقاً فَاحِشاً، وَ شُحّاً قَبِیحاً، وَ احْتِکَاراً لِلْمَنَافِعِ وَ تَحَکُّماً فِی الْبِیَاعَاتِ، وَ ذَلِكَ بَابُ مَضَرَّةٍ لِلْعَامَّةِ، وَ عَیْبٌ عَلَی الْوُلاَةِ فَامْنَعْ مِنَ الاِحْتِکَارِ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلی الله علیه و آله) مَنَعَ مِنْهُ»(1).

يعالج النص الشريف جملة من الأمور المتعلقة بصلاح شؤون العامة، وتنظيم أمور السوق عبر أهم موردين أساسيين لحركته ونموه، وهما طبقة التجار، وذوي الصناعات.

فيضع للوالي قانون مكافحة الاحتكار، لما له من أثار سلبية على الناس عامة، وذلك في عنصرين، الأول: احتكار المنافع، والثاني: التحكم في المبيعات.

ص: 51


1- نهج البلاغة، البلاغة، عهده لمالك الأشتر: ج 3، ص 100

ومن ثم: فهو باب مضرة للعامة، وعيب على الولاة، اي الدولة، أو السلطة الحاكمة التي يلزم أن تهتم بالعامة، واصلاح شؤونهم، وتوفير الغذاء لهم لا سيما الحاجات الأساسية، كالقمح والشعير والتمر والزبيب والسمن، وقيل: الملح وهذه الحاجات الغذائية الأساسية، هي موضوع الاحتكار عند الفقهاء، وهي كالاتي:

المسألة الأولى: تعريف الإحتكار في اللغة والشرع.

أولاً - الإحتكار لغة.

يستفاد من كلمات أهل اللغة أن معنى الإحتكار مدار الحبس والتخزين والتربص بقصد الحصول على سعر مرتفع، ومحله محصور في الطعام وفي السلع الأساسية للإنسان.

1- قال ابن منظور (ت 711 ه):

(الحَكرُ: ادِّخارُ الطعام للتَّرَبُّضِ، وصاحبُه مُحتَكِرٌ)(1).

2- وقال ابن سيده (ت 300 ه) نقلاً عن الفراهيدي (ت 175 ه):

(إن الاحتکار، هو: جمع الطعام ونحوه مما يؤكل واحتباسه وانتظار وقت الغلاء به)(2).

3- وقال ابن فارس (ت 395 ه):

(الحاء والكاف والراء أصل واحد، وهو الحبس؛ والحكرة حبس الطعام

ص: 52


1- لسان العرب: ج 4، ص 208؛ مادة حكر
2- المخصص: ج 3، ص 3 (السفر الثاني عشر)،، ص 271؛ كتاب العين للفراهيدي: ج 3 ص 62

منتظراً لغلائه، وهو الحكر.

وأصله في كلام العرب: الحكر، وهو الماء المجتمع كأنه أحتكر لقلته)(1).

ثانياً - معنى الإحتكار في الشرع.

ذهب الفقهاء الى تحديد معنى الاحتكار بالحبس لما يحتاجه الإنسان والاضرار به؛ وتباينت اقوالهم في نوع الاحتياج بين مطلق الطعام او بعض انواعه او مطلق ما يحتاج إليه من لوازم معيشته وهي كالاتي:

1. المذهب الإمامي.

فقد ذهب فقهاء الإمامية إلى تحديد معناه: (بحبس انواع محده من الغذاء الأساسي الذي يحتاجه الإنسان لرفع سعره في السوق).

فقد عرفه ابن المطهر الحلي (عليه الرحمة والرضوان) (ت 726 ه) في التذكرة:

(هو: حبس الحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب، والسمن، والملح بشرطين أساسيين: الاستبقاء للزيادة، وتعذر غيره، فلو استبقاها لحاجته أو غيره، لم يمنع.

ولم يورد هذين الشرطين في المنتهى(2)؛ وحصر الحبس في الحنطة والشعير والتمر والزبيب والسمن، وعلى قول: الملح فاما ما عدا ذلك فلا يتحقق فيه الاحتكار.

ص: 53


1- معجم مقاييس اللغة: ج 2، ص 92
2- منتهى المطلب (ط . ق): ج 2، ص 7 ص 1007

2. المذهب الزيدي.

فقد عرّفه يحيى بن الحسين (ت: 297 ه) بعد أن حصره في الطعام، فقال:

(أن يكون في حبسه شيء من الضرر)(1) سواء كان هذا الطعام يخص الإنسان أو البهيمة وهو ما ذهب إليه أحمد المرتضى (ت: 840 ه)(2).

3. المذهب الشافعي.

وعرّفه الشربيني (ت 977 ه) بقوله:

(إمساك ما اشتراه وقت الغلاء ليبيعه بأكثر مما اشتراه عند اشتداد الحاجة؛ بخلاف إمساك ما اشتراه وقت الرخص لا يحرم مطلقا، ولا إمساك غلة ضيعته ولا إمساك ما اشتراه في وقت الغلاء لنفسه وعياله أو ليبيعه بمثل ما اشتراه)(3).

4. المذهب المالكي.

وقال الحطاب الرعيني (ت: 954 ه) نقلاً عن إمام المالكية:

(والحكرة في كل شيء من طعام أو إدام أو كتان أو صوف أو عصفر أو غيره، فما كان احتكاره يضر بالناس منع محتكره من الحكرة، وإن لم يضر ذلك بالناس ولا بالأسواق فلا بأس به)(4).

ص: 54


1- الأحكام: ج 2، ص 392
2- شرح الازهار: ج 3، ص 80
3- مغني المحتاج: ج 2، ص 38
4- مواهب الجليل: ج 6، ص 12

5. المذهب الحنفي.

جاء تعريف الاحتكار في المذهب الحنفي بلفظ:

(اشتراء طعام ونحوه وحبسه الى الغلاء أربعين يوماً)(1).

وقيل: (كل ما أضر العامة حبسه فهو احتكار)(2).

وقيل: (الاحتكار في الثياب)(3).

6. المذهب الحنبلي.

ذهب فقهاء الحنابلة الى تعريف الاحتكار ب:

(حبس القوت، يشتريه للتجارة ليقل ويغلو)(4).

7. المذهب الإباضي.

عرّفه (أطفيش) ب:

(شراء المقيم طعاماً للتجارة وقت رخصه في بلده، بقصد ادخار لغلاء فيه)(5).

أما حكمه في المذاهب الإسلامية فقد تباينت اقوالهم بين الحرمة والكراهة، ونوع المادة المحبوسة، واحتياج الإنسان والبهيمة، وشروط تحققه، ومدة

ص: 55


1- حاشية رد المختار لابن عابدین: ج 6، ص 717
2- المصدر نفسه: ج 6 ص 718
3- المصدر نفسه
4- کشاف القناع للبهوتي: ج 3، ص 216
5- القاموس الفقهي للدكتور سعدي ابو حبيب:، ص 95، کتاب النيل وشفاء العليل الأطفيش: ج 8، ص 175 - 176

حبسه، ومحل وجوده في البلاد، ففي تحديد البلد تتوقف الحرمة.

وهذا ما سنتناوله في المسألة القادمة.

المسألة الثانية: حكم الاحتكار في المذهب الإمامي.

تناول الشيخ مرتضى الانصاري (عليه الرحمة والرضوان) موضوع الاحتكار وحكمه عند فقهاء المذهب الإمامي (أعلى الله شأنهم) مبيناً أنه: موضع خلاف بين العلماء، فمنهم من ذهب الى حرمته، ومنهم من قال بالكراهة، معضداً هذه الاقوال بالنصوص الشريفة، ومناقشاً لما جمعه أسلافه من فقهاء الامامية (رضوان الله تعالى عليهم)؛ فقال:

(وقد اختلف في حرمته:

فعن المبسوط(1)، والمقنعة(2)، والحلبي - في كتاب المكاسب(3)-، والشرائع(4)، والمختلف(5): الكراهة.

وعن كتب الصدوق(6)، والاستبصار(7)، والسرائر(8) والقاضي، والتذكرة(9)،

ص: 56


1- المبسوط: ج 2، ص 195
2- المقنعة: 616
3- الكافي في الفقه: 283
4- الشرائع 2: 21
5- المختلف 5: 38
6- حكى ذلك عنها السيد العاملي في مفتاح الكرامة 4: 107، راجع المقنع: 372، والفقيه 3: 265
7- الإستبصار 3: 115، ذيل الحديث 408
8- السرائر 2: 218
9- التذكرة 1: 585

والتحرير(1)، والإيضاح(2)، والدروس(3)، وجامع المقاصد(4)، والروضة(5): التحريم.

وعن التنقيح(6)، والميسية(7): تقويته.

وهو الأقوى: بشرط عدم باذل الكفاية، لصحيحة سالم الحناط ، قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام):

(ما عملك)؟

قلت: حناط، وربما قدمت على نفاق، وربما قدمت على كساد فحبست.

قال:

(فما يقول من قبلك فيه)؟

قلت: يقولون: محتكر. قال:

(يبيعه أحد غيرك)؟

قلت: ما أبيع أنا من ألف جزء جزءا(8). قال:

(لا بأس، إنما كان ذلك رجل من قريش يقال له: حكيم بن حزام، وكان إذا دخل الطعام المدينة اشتراه كله، فمر عليه النبي (صلى الله عليه وآله) فقال

ص: 57


1- التحرير 1: 160
2- إيضاح الفوائد 1: 409
3- الدروس 3: 180
4- جامع المقاصد 4: 40
5- الروضة البهية 3: 218 و 298
6- التنقيح الرائع 2: 42
7- لا يوجد لدينا، ونقله عنه السيد العاملي في مفتاح الكرامة 4: 107
8- كذا في المصادر الحديثية، وفي النسخ: جزء

له: يا حكيم بن حزام إياك أن تحتكر)(1)

فإن الظاهر منه أن علة عدم البأس وجود الباذل، فلولاه حرم.

وصحيحة الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام):

«أنه سئل عن الحكرة، فقال: إنما الحكرة أن تشتري طعاما وليس في المصر غيره فتحتكره، فإن كان في المصر طعام غيره فلا بأس أن تلتمس بسلعتك الفضل»(2).

وزاد في الصحيحة المحكية عن الكافي والتهذيب: قال:

«وسألته عن الزيت، قال: إن كان عند غيرك فلا بأس بإمساكه»(3).

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة في كتابه إلى مالك الأشتر: «فامنع من الاحتکار، فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) منع منه. ولیکن البيع بيعا سمحا في موازين عدل(4) لا يجحف بالفريقين: البائع والمبتاع؛ فمن قارف حكرة بعد نهيك إياه فنكل به وعاقب في غير إسراف»(5).

(وصحيحة الحلبي، قال: سألته (عليه السلام) عمن يحتكر الطعام ويتربص به، هل يصلح ذلك؟ قال:

ص: 58


1- الوسائل 12: 316، الباب 28 من أبواب آداب التجارة، الحديث 3
2- الوسائل 12: 315، الباب 28 من أبواب آداب التجارة، الحديث الأول
3- الكافي 5: 165، الحديث 3، والتهذيب 7: 160، الحديث 706، وعنهما في الوسائل 12: 315، الباب 28 من أبواب آداب التجارة، الحديث 2 وذيله
4- في نهج البلاغة زيادة: «وأسعار»، وفي الوسائل: واسعا
5- نهج البلاغة: 438، الكتاب 53، وعنه في الوسائل 12: 315، الباب 27 من أبواب آداب التجارة، الحديث 13

«إن كان الطعام كثيرا يسع الناس فلا بأس به، وإن كان الطعام قليلا لا يسع الناس فإنه يكره أن يحتكر ويترك الناس ليس لهم طعام»)(1).

فإن الكراهة في كلامهم عليهم السلام وإن كان يستعمل في المكروه والحرام، إلا أن في تقييدها بصورة عدم باذل غيره مع ما دل على كراهة الاحتكار مطلقا، قرينة على إرادة التحريم . وحمله على تأكد الكراهة أيضا مخالف لظاهر يكره كما لا يخفى. وإن شئت قلت: إن المراد ب ((البأس)) في الشرطية الأولى التحريم، لأن الكراهة ثابتة في هذه الصورة أيضا، فالشرطية الثانية كالمفهوم لها.

ويؤيد التحريم: ما عن المجالس بسنده عن أبي مريم الأنصاري عن أبي جعفر (عليه السلام):

«قال: قال رسول الله (صلى الله علیه وآله): أيما رجل اشترى طعاما فحبسه أربعين صباحا يريد به الغلاء للمسلمين، ثم باعه وتصدق بثمنه لم يكن كفارة لما صنع»(2). وفي السند بعض بني فضال، والظاهر أن الرواية مأخوذة من كتبهم التي قال العسكري (عليه السلام) عند سؤاله عنها:

«خذوا بما رووا وذروا ما رأوا»(3)

ففيه دليل على اعتبار ما في كتبهم، فيستغنى بذلك عن ملاحظة من قبلهم في السند، وقد ذكرنا: أن هذا الحديث أولى بالدلالة على عدم وجوب الفحص عما قبل هؤلاء من الإجماع الذي ادعاه الكشي على تصحيح ما

ص: 59


1- الوسائل 12: 313، الباب 27 من أبواب آداب التجارة ، الحديث 2
2- الأمالي للطوسي: 676، الحديث 1427 - 6، وعنه في الوسائل 12: 314، الباب 27 من أبواب آداب التجارة، الحديث 6
3- الوسائل 18: 103، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 13

یصح عن جماعة(1). ويؤيده أيضا: ما عن الشيخ الجليل الشيخ ورام: من أنه أرسل عن النبي صلى الله عليه وآله عن جبرئيل (عليه السلام)، قال:

«اطلعت على النار فرأيت في جهنم واديا فقلت: يا مالك لن هذا؟ قال: لثلاثة: المحتكرين، والمدمنين للخمر، والقوادين»(2).

ومما يؤيد التحريم: ما دل على وجوب البيع عليه، فإن إلزامه بذلك ظاهر في كون الحبس محرما ، إذ الإلزام على ترك المكروه خلاف الظاهر وخلاف قاعدة ((سلطنة الناس على أموالهم)).

ثم إن كشف الإبهام عن أطراف المسألة يتم ببيان أمور:

الأول: في مورد الاحتكار، فإن ظاهر التفسير المتقدم عن أهل اللغة وبعض الأخبار المتقدمة: اختصاصه بالطعام.

وفي رواية غياث بن إبراهيم:

((ليس الحكرة إلا في الحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب))(3).

وعن الفقيه: زيادة: الزيت(4)، وقد تقدم في بعض الأخبار المتقدمة دخول الزيت أيضا(5). وفي المحكي عن قرب الإسناد - برواية أبي البختري - عن علي (عليه السلام): قال:

ص: 60


1- ادعاه الكشي في موارد عديدة من رجاله، انظر اختيار معرفة الرجال 673: 2، الرقم 705، والصفحة 830، الرقم 1050
2- الوسائل 12: 314، الباب 27 من أبواب آداب التجارة، الحديث 11
3- الوسائل 12: 313، الباب 27 من أبواب آداب التجارة، الحديث 4
4- الفقيه 3: 265، الحديث 3954، وعنه في الوسائل 12: 313، الباب 27 من أبواب آداب التجارة، ذيل الحديث 4
5- راجع الصفحة 365، الصحيحة المحكية عن الكافي والتهذيب

«لَیْسَ اَلْحُکْرَةُ إِلاَّ فِی اَلْحِنْطَةِ وَ اَلشَّعِیرِ وَ اَلزَّبِیبِ وَ اَلزَّیْتِ وَ اَلتَّمْرِ»(1).

وعن الخصال في رواية السكوني عن جعفر عن أبيه عن آبائه (عليهم السلام): قال:

(قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): الحكرة في ستة أقسام(2) الحنطة، والشعير، والتمر، والزيت، والزبيب، والسمن)(3). ثم إن ثبوته في الغلات الأربع بزيادة «السمن» لا خلاف فيه ظاهرا، وعن كشف الرموز(4) وظاهر السرائر(5): دعوى الاتفاق عليه، وعن مجمع الفائدة: نفي الخلاف فيه(6). وأما الزيت: فقد تقدم في غير واحد من الأخبار.

ولذا: اختاره الصدوق(7) و العلامة في التحرير - حيث ذكر أن به رواية حسنة(8) - والشهیدان(9) والمحقق الثاني(10)، وعن إيضاح النافع: أن عليه الفتوى(11).

ص: 61


1- قرب الإسناد: 135، الحدیث 472، الوسائل 12: 314، الباب 27 من أبواب آداب التجارة، الحديث 7
2- كذا في النسخ، وفي المصدر: ستة أشياء
3- الخصال: 329، الحديث 23، والوسائل 12: 314، الباب 27 من أبواب آداب التجارة، الحديث 10
4- راجع کشف الرموز 1: 455
5- السرائر 2: 238
6- مجمع الفائدة 8: 26
7- راجع المقنع: 372، والفقيه 3: 265، الحديث 3954
8- التحریر 1: 160
9- الدروس 3: 180، والروضة البهية 3: 299، والمسالك 3: 192
10- جامع المقاصد 4: 40
11- إيضاح النافع (مخطوط) ولا يوجد لدينا، نعم حكاه عنه السيد العاملي في مفتاح الكرامة 4: 107

وأما الملح: فقد ألحقه بها في المبسوط(1) والوسيلة(2) والتذكرة(3) و نهاية الإحكام(4) والدروس(5) والمسالك(6)، ولعله لفحوى التعليل الوارد في بعض الأخبار: من حاجة الناس(7).

الثاني: روى السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام):

«إن الحكرة في الخصب أربعون يوما، وفي الغلاء والشدة ثلاثة أيام، فما زاد على الأربعين يوما في الخصب، فصاحبه ملعون، وما زاد في العسرة على ثلاثة أيام فصاحبه ملعون»(8).

ويؤيدها ظاهر رواية المجالس - المتقدمة(9) - وحكي عن الشيخ(10) ومحكي القاضي(11) والوسيلة(12) العمل بها، وعن الدروس: أن الأظهر تحريمه مع حاجة الناس. ومظنتها الزيادة على ثلاثة أيام في الغلاء وأربعين

ص: 62


1- المبسوط 2: 195
2- الوسيلة: 260
3- التذكرة 1: 585
4- نهاية الإحكام 2: 514
5- الدروس 3: 180
6- المسالك 3: 192
7- ورد التعليل في صحيحة الحلبي المتقدمة في الصفحة 365
8- الوسائل 12: 312، الباب 27 من أبواب آداب التجارة، الحديث الأول
9- تقدمت في الصفحة 366
10- راجع النهاية: 374 و 375
11- لم نعثر عليه في كتب القاضي، نعم حكاه عنه العلامة في المختلف 5: 40، والسيد العاملي في مفتاح الكرامة 4: 109
12- راجع الوسيلة: 260

في الرخص، للرواية(1)، انتهى.

أما تحديده ب ((حاجة الناس)) فهو حسن، کما عن المقنعة(2) وغيرها(3)، ويظهر من الأخبار المتقدمة. وأما ما ذكره من حمل رواية السكوني على بيان مظنة الحاجة، فهو جيد. ومنه يظهر عدم دلالتها على التحديد بالعددين تعبدا.

الثالث: مقتضى ظاهر صحيحة الحلبي المتقدمة(4) في بادئ النظر حصر الاحتكار في شراء الطعام [لكن الأقوى التعميم] بقرينة تفريع قوله: «فإن كان في المصر طعام». ويؤيد ذلك: ما تقدم من تفسير الاحتكار في كلام أهل اللغة بمطلق جمع الطعام وحبسه، سواء كان بالاشتراء أو بالزرع والحصاد والإحراز، إلا أن يراد جمعه في ملكه. ويؤيد التعميم تعليل الحكم في بعض الأخبار ب أن يترك الناس ليس لهم طعام(5)، وعليه فلا فرق بين أن يكون ذلك من زرعه أو من میراث أو يكون موهوبا له، أو كان قد اشتراه لحاجة فانقضت الحاجة وبقي الطعام لا يحتاج إليه المالك، فحبسه متربصا للغلاء.

الرابع: أقسام حبس الطعام كثيرة، لأن الشخص إما أن يكون قد حصل الطعام لحبسه أو لغرض آخر، أو حصل له من دون تحصيل له. و ((الحبس))، إما أن يراد منه نفس تقليل الطعام إضرارا بالناس في أنفسهم، أو يريد به الغلاء وهو إضرارهم من حيث المال، أو یرید به عدم الخسارة

ص: 63


1- الدروس 3: 180
2- المقنعة: 616، وحكاه السيد العاملي عنها وعن غيرها في مفتاح الكرامة 4: 109
3- راجع المهذب 1: 346، ومجمع الفائدة 8: 25
4- تقدمت في الصفحة 365
5- كما تقدم في صحيحة الحلبي المتقدمة في الصفحة 365

من رأس ماله وإن حصل ذلك لغلاء عارضي لا يتضرر به أهل البلد، کما قد يتفق ورود عسكر أو زوار في البلاد وتوقفهم يومين أو ثلاثة، فيحدث للطعام عزة لا يضر بأكثر أهل البلد، وقد يريد ب ((الحبس)) لغرض آخر المستلزم للغلاء غرضا آخر.

هذا كله مع حصول الغلاء بحبسه، وقد يحبس انتظارا لأيام الغلاء من دون حصول الغلاء بحبسه، بل لقلة الطعام آخر السنة، أو لورود عسكر أو زوار ينفد الطعام. ثم حبسه لانتظار أيام الغلاء، قد يكون للبيع بأزيد من قيمة الحال، وقد يكون لحب إعانة المضطرين ولو بالبيع عليهم والإرفاق بهم. ثم حاجة الناس قد يكون لأكلهم، وقد يكون للبذر أو علف الدواب، أو الاسترباح بالثمن. وعليك باستخراج أحكام هذه الأقسام وتمييز المباح والمكروه والمستحب من الحرام)(1).

المسألة الثالثة: الاحتكار في المذاهب الاخرى.

أولاً - المذهب الزيدي.

ذهب فقهاء المذهب الزيدي الى أن الاحتكار يشمل طعام الآدمي والبهيمة، وحدود أربعة شروط للحرمة، بذهاب احدها أو كلها تذهب الحرمة، وهذه الشروط هي:

(أن يكون قوتاً لآدمي؛ الفاضل عن كفايته ومن يمون الى الغلة الحاجة إليه اي الى القوت؛ وجوده مع شخص آخر).

ص: 64


1- کتاب المكاسب: ج 4، ص 363 - 373

قال أحمد المرتضى (ت 840 ه):

(احتکار قوت الآدمي والبهيمة فإنه يحرم بشروط الأول أن یکون قوتا لآدمي أو بهيمة فلو كان غير ذلك جاز ولا فرق عندنا في جميع الأقوات وعن زید بن علي لا احتكار إلا في الحنطة والشعير.

الثاني: أن يحتكر (الفاضل عن كفايته) وكفاية (من يمون إلى الغلة) إن كان له غلة فإن لم يكن له غلة فالسنة قال في الزهور وأن یکون متربصابه الغلاء.

الثالث: ان يحتكره (مع الحاجة) إليه.

(و) الرابع: أن يحتكر ذلك مع (عدمه) بحيث لا يوجد (إلا مع) محتكر (مثله) فيحرم الاحتکار بهذه الشروط ولا فرق بين أن يكون من زرعه أو شراه من المصر أو من السواد وقال أبوح إنما يكون محتكرا إذا شراه من المصر لا من السواد ولا من زرعه نعم ومعنى الاحتكار أن يمتنع من بيعه مع حصول هذه القيود)(1).

ثانيا - المذهب الشافعي.

ذهب فقهاء المذهب الشافعي الى القول بحرمة الاحتكار وهو الصحيح عندهم، وقيل بالكراهية، وبينوا بان العلة في حرمة الاحتكار هي التضييق على الناس وقيدت الحرمة في الشراء وقت الغلاء؛ ويختص الترحيم بالأقوات، ومنها الذرة، والأرز، والتمر، والزبيب.

ص: 65


1- شرح الأزهار: ج 3، ص 80 - 81

قال محمد بن أحمد الشربيني (ت 977 ه):

(ويحرم الاحتكار للتضييق على الناس، وهو إمساك ما اشتراه وقت الغلاء ليبيعه بأكثر مما اشتراه عند اشتداد الحاجة، بخلاف إمساك ما اشتراه وقت الرخص لا يحرم مطلقا، ولا إمساك غلة ضيعته ولا إمساك ما اشتراه في وقت الغلاء لنفسه وعياله أو ليبيعه بمثل ما اشتراه. وفي كراهة إمساك ما فضل عن كفایته وكفاية عياله سنة وجهان أوجهها عدم الكراهة، لكن الأولى بیعه کما صرح به في أصل الروضة. ويختص تحريم الاحتكار بالأقوات، ومنها الذرة والأرز والتمر والزبيب فلا يعم جميع الأطعمة)(1).

ثالثاً - المذهب المالكي.

ذهب فقهاء المذهب المالكي الى القول: بعموم الحرمة في احتکار کل شيء يحتاجه الناس، ويضر حكرته بهم، من طعام أو إدام أو كتان أو صوف أو عصفر أو غيره؛ وقيدت هذه الأشياء بوجودها في السوق، أما إذا جلبت من خارج السوق فلا بأس بها؛ واختلفوا في الادخار لمؤنة السنة فإذا كان الادخار يضر بالناس حرم، وإذا كان لا يضر جاز أن يدخر الإنسان قوت سنته.

قال الخطاب الرعيني (ت 954 ه):

(قال مالك: والحكرة في كل شيء من طعام أو إدام أو كتان أو صوف أو عصفر أو غيره، فما كان احتكاره يضر بالناس منع محتكره من الحكرة، وإن لم يضر ذلك بالناس ولا بالأسواق فلا بأس به.

ص: 66


1- مغني المحتاج: ج 2، ص 38

قال القرطبي في شرح مسلم: لا يحتكر إلا خاطئ هذا الحديث بحکم إطلاقه أو عمومه يدل على الاحتكار في كل شيء غير أن هذا الاطلاق قد يقيد والعموم قد يخصص بما فعله النبي (صلى الله عليه وآله) فإنه قد ادخر لأهله قوت سنتهم، ولا خلاف في أن ما يدخره الانسان لنفسه وعياله من قوت وما يحتاجون إليه جائز ولا بأس به، فإذا مقصود هذا منع التجار من الادخار.

ثم هل يمنعون من ادخار كل شيء وذكر ما تقدم؟ وذكر الخلاف ثم قال: وكل هذا فيمن اشترى في الأسواق فأما من جلب طعاما فإن شاء باع وإن شاء احتكر إلا إن نزلت حاجة فادحة أو أمر ضروري بالمسلمين فيجب على من كان عنده ذلك أن يبيعه بسعر وقته، فإن لم يفعل أجبر على ذلك إحياء للمهج وإبقاء للرمق. وأما إن كان اشتراه من الأسواق واحتكر وأضر بالناس فيشترك فيه الناس بالسعر الذي اشتراه به انتهى.

وقال أيضا في قوله في الحديث: كان ينفق على أهله نفقة سنة: فيه ما يدل على جواز ادخار قوت العيال سنة، ولا خلاف فيه إذا كان من غلة المدخر. وأما إذا اشتري من السوق فأجازه قوم ومنعه آخرون إذا أضر بالناس. وهذا مذهب مالك في الادخار مطلقا، انتهى.

ونقله النووي عن القاضي عياض في الاشتراء من السوق، وإنه إن كان في وقت ضيق الطعام فلا يجوز بل يشتري ما لا يضيق على المسلمين كقوت أيام أو أشهر وإن كان في وقت سعة اشتری قوت سنة. كذا نقل القاضي هذا التفصيل عن أكثر العلماء وعن قوم إباحته مطلقا. قال النووي: والحكمة في تحريم الاحتكار رفع الضرر عن عامة الناس)(1).

ص: 67


1- مواهب الجليل: ج 6، ص 12

رابعاً - المذهب الحنفي.

أختلف فقهاء المذهب الحنفي في تحديد مادة الاحتكار، فذهب بعضهم الى سريان الاحتكار في كل ما يضر بالعامة(1)؛ وقال البعض الآخر: باختصاصه بقوت الناس وعلف الدواب من الحنطة والشعير(2)؛ وقال أخرون: يكون الاحتكار في الثياب(3)، وقيل: الاحتكار في التين، والعنب، واللوز، ومما يقوم به بدنهم من الرزق ولو دخناً، واستثني من ذلك العسل والسمن(4).

قال ابن عابدين (ت 1252 ه):

(والتقييد بقوت البشر قول أبي حنيفة ومحمد وعليه الفتوى، كذا في الكافي. وعن أبي يوسف: كل ما أضر بالعامة حبسه فهو احتكار. وعن محمد: الاحتكار في الثياب. ابن کمال. قوله: (كتين وعنب ولوز) أي مما يقوم به بدنهم من الرزق ولو دخنا لا عسلا وسمنا. در منتقی.

قوله: (وقت) بالقاف والتاء المثناة من فوق الفصفصة بكسر الفاءين وهي الرطبة من علف الدواب اهح. وفي المغرب: ألقت اليابس من الاسفست اه. ومثله في القاموس.

وقال في الفصفصة بالكسر: هو نبات فارسيته إسفست. تأمل. قوله: (في بلد) أو ما في حكمه کالرستاق والقرية. قهستاني. قوله: (يضر بأهله) بأن كان البلد صغيرا. هداية.

ص: 68


1- بدائع الضائع لابي بكر الكاشاني ج 5، ص 129
2- المصدر نفسه
3- حاشية رد المختار لابن عابدین: ج 6، ص 718
4- المصدر السابق

قوله: (والمحتكر ملعون) أي مبعد عن درجة الأبرار، ولا يراد المعنی الثاني للعن وهو الابعاد عن رحمة الله تعالى، لأنه لا يكون إلا في حق الكفار، إذ العبد لا يخرج عن الايمان بارتكاب الكبيرة كما في الكرماني)(1).

خامسا - المذهب الحنبلي.

ذهب فقهاء المذهب الحنبلي الى تقييد حرمة الاحتكار بشروط ثلاثة، وهي: (الشراء، والقوت، والتضييق على الناس)؛ فإما الشراء فليس منه جلب الحاجة أو ادخار القوت؛ فانه غير داخل في الحلواء والعسل والزيت، وأعلاف البهائم، والنوى والخبط والبزر، والثياب.

واما التضييق فمقيد بمكة والمدينة والثغور، وأن يكون أهل البلد في ضيق.

قال النووي (ت: 630 ه):

(والاحتكار المحرم ما اجتمع فيه ثلاثة شروط:

(أحدهما): أن يشتري فلو جلب شيئا أو ادخل من غلته شيئا فادخره لم يكن محتكرا روي عن الحسن ومالك وقال الأوزاعي الجالب ليس بمحتكر القوله «الجالب مرزوق والمحتكر ملعون»).

ولان الجالب لا يضيق على أحد ولا يضربه بل ينفع فإن الناس إذا علموا عنده طعاما معدا للبيع كان ذلك أطيب لقلوبهم من عدمه.

(الثاني): أن يكون المشترى قوتا فأما الآدام والحلواء والعسل والزيت واعلاف البهائم فليس فيها احتکار محرم. قال الأثرم سمعت أبا عبد الله يسأل عن أي شيء الاحتکار؟

ص: 69


1- حاشية رد المختار: ج 6، ص 718

قال: إذا كان من قوت الناس فهو الذي يکره وهذا قول عبد الله بن عمرو، وكان سعيد بن المسيب وهو راوي حديث الاحتكار يحتكر الزيت قال أبو داود كان يحتكر النوى والخبط والبزر ولأن هذه الأشياء مما لا تعم الحاجة إليها فأشبهت الثياب والحيوانات.

(الثالث): أن يضيق على الناس بشرائه ولا يحصل ذلك إلا بأمرين (أحدهما) أن يكون في بلد يضيق بأهله الاحتكار كالحرمين والثغور قال أحمد الاحتكار في مثل مكة والمدينة والثغور، فظاهر هذا أن البلاد الواسعة الكثيرة المرافق والحلب کبغداد والبصرة ومصر لايحرم فيها الاحتكار لأن ذلك لا يؤثر فيها غالبا (الثاني) أن يكون في حال الضيق بان يدخل البلد قافلة فيتبادر ذوو الأموال فيشترونها ويضيقون على الناس، فأما إن اشتراها في حال الاتساع والرخص على وجه لا يضيق على أحد فليس بمحرم)(1).

سادسا - المذهب الإباضي.

ذهب فقهاء المذهب الإباضي في حرمة الاحتكار الى دين أهل البلد، فان كان أهل البلد موحدون ومشركون أو موحدون وأهل الذمة، أو أهل الذمة وحدهم، حرم الاحتكار.

وجاز الاحتكار في بلد فيه مشركون أو کتابیون محاربون وحدهم، أو معهم موحدون أغنياء عما يحتكر فيه، ولم يتم تحديد مادة بعينها فان كان في البر او الشعير أو التمر جل قوت أهل البلد منع فيه الاحتكار لاما في غيره من الطعام؛ واما المدة التي يدخل فيها الاحتكار فغير محددة، فلو اشتراه

ص: 70


1- المغني: ج 4، ص 283

لينتظر به الغلاء يوماً أو نصف يوم أو ثلثه، او أقل، او اكثر لكان محتکرا، وقيل: يحد باربعين يوماً فيجوز ادخاره لما دونها(1).

المسألة الرابعة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء للذاهب في المسألة.

أولا - أختلفت أقوال فقهاء المذاهب السبعة في حكم الاحتكار بين الحرمة والكراهية:

1- فقال فقهاء الإمامية: بالحرمة، والكراهة، والحرمة هي الأقوى، وقيدت بشرط عدم وجود الباذل.

2- وكذا فقهاء الشافعية قالوا: بالحرمة والكراهة، والاصح الحرمة

3- وقال الزيدية: بالحرمة وقيدوا الحرمة بشروط أربعة؛ وهي: أن يكون قوتاً، الفاضل عن كفايته، والحاجة إليه، عدم وجوده مع شخص أخر.

4- وقال: المالكية بالحرمة.

5- وقال الحنفية: بالحرمة.

6- قال الحنابلة: بالحرمة وقيدت الحرمة بشروط ثلاثة وهي: الشراء، والقوت، والتضييق على الناس.

7- وقال الأباضية: بالحرمة، وقيدت بدين أهل البلد فإن كان أهل البلد موحدون ومشركون، أو موحدون وأهل الذمة، أو أهل الذمة وحدهم فيحرم في هذا البلد الاحتكار.

ص: 71


1- کتاب النيل وشفاء العليل، لمحمد أطفيش: ج 8، ص 178

ثانياً - أختلف فقهاء المذاهب السبعة في مادة الاحتكار وجنسها اختلافاً كبيراً.

1- فقد حصر فقهاء المذهب الإمامي مادة الاحتکار ب: (الحنطة والشعير، والتمر، والزبيب) وهي الغلاة الاربعة وعند بعض الفقهاء أضيف إليها الملح.

2- وعند فقهاء المذهب الزيدي: جميع الطعام الذي يحتاج إليه الإنسان والحيوان.

3- وعند فقهاء المذهب الشافعي: حددت الحرمة بالأقوات، ومنها الذرة، والأرز، والتمر، والزبيب.

4- وعند فقهاء المالكية: يكون الاحتکار بكل شيء يحتاج إليه الناس، من طعام، أو إدام، أو كتان، أو صوف، أو عصفر، أو غيرها.

5- واختلف فقهاء المذهب الحنفي: في اختصاص المادة بحرمة الاحتكار فقال بعضهم: بقوت الناس وعلف الدواب؛ وقال أخرون: يكون بالثياب، وقال أخرون: يون الاحتكار في التين، واللوز، والعنب وغيرها مما يقوّم به بدن الإنسان، ولو كان دخناً، واستثنى من ذلك العسل، والسمن.

6- وعند فقهاء المذهب الحنبلي: يكون الاحتكار في القوت الذي يحتاج إليه الإنسان، واخرج منه الحلواء والعسل، والزيت، واعلاف البهائم، والنوى، والخبط، والبزر، والثياب.

7- وعند المذهب الإباضي: فيما يعد جل قوت أهل البلد، فإن كان جل قوتهم الشعير دخل فيه الاحتکار دون غيره، وان كان قوتهم الحنطة دخلت في الاحتكار، وهكذا.

ص: 72

ثالثا - اختلف فقهاء المذاهب السبعة في مدة الحبس.

1- انفرد الإمامية: بتحديد ثلاثة ايام في حال الشدة، وبأربعين يوماً في حال الخصب وتوفر المواد.

2- وذهب الزيدية: الى حبس الفاضل من الغلة.

3- وقال الشافعية: بالشراء وقت الغلاء وحبس المادة.

4- وحدد المالكية: الحبس بوجودها في السوق، وأما إذا جلبت منه خارج السوق فلا يضر.

وقالوا: بحرمة حبس مؤنة السنة إذا كانت تضر بالناس.

5- وقيد فقهاء المذهب الحنفي: الحبس بالضرر دون تحديد المدة أو الجلب من خارج السوق.

6- وقيد فقهاء المذهب الحنبلي: الحبس بالضيق، وقيدوا الضيق بالحرمين مكة والمدينة والثغور.

7- وقيد فقهاء المذهب الإباضي: مدة الحبس بتحقق الغلاء ولو كانت المادة المحتكرة قد بلغت أقل من ساعة، وقيل: أربعين يوما.

رابعا - أنفرد فقهاء المذهب الإمامي بوضع أقسام متعددة للحبس.

وهي من جهتين:

الأولى: مرتبطة بالحابس، وهو المحتكر.

والجهة الاخرى: بالمحبوس عنه، وهو الناس وفيما بينهما تدور أحكام المباح، والحرام، والمستحب، والمكروه.

ص: 73

المسألة الخامسة: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة.

قال أمير المؤمنين الإمام علي (عليه الصلاة والسلام):

«ثُمَّ اسْتَوْصِ بِالتُّجَّارِ وَ ذَوِی الصِّنَاعَاتِ وَ أَوْصِ بِهِمْ خَیْرا، الْمُقِیمِ مِنْهُمْ وَ الْمُضْطَرِبِ بِمَالِهِ وَ الْمُتَرَفِّقِ بِبَدَنِهِ، فَإِنَّهُمْ مَوَادُّ الْمَنَافِعِ وَ أَسْبَابُ الْمَرَافِقِ وَ جُلاَّبُهَا مِنَ الْمَبَاعِدِ وَ الْمَطَارِحِ فِی بَرِّكَ وَ بَحْرِكَ وَ سَهْلِكَ وَ جَبَلِكَ، وَ حَیْثُ لاَ یَلْتَئِمُ النَّاسُ لِمَوَاضِعِهَا، وَ لاَ یَجْتَرِءُونَ عَلَیْهَا فَإِنَّهُمْ سِلْمٌ لاَ تُخَافُ بَائِقَتُهُ، وَ صُلْحٌ لاَ تُخْشَی غَائِلَتُهُ، وَ تَفَقَّدْ أُمُورَهُمْ بِحَضْرَتِكَ وَ فِی حَوَاشِی بِلاَدِكَ، وَ اعْلَمْ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ فِی کَثِیرٍ مِنْهُمْ ضِیقاً فَاحِشاً، وَ شُحّاً قَبِیحاً، وَ احْتِکَاراً لِلْمَنَافِعِ وَ تَحَکُّماً فِی الْبِیَاعَاتِ، وَ ذَلِكَ بَابُ مَضَرَّةٍ لِلْعَامَّةِ، وَ عَیْبٌ عَلَی الْوُلاَةِ، فَامْنَعْ مِنَ الاِحْتِکَارِ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلی الله علیه و آله) مَنَعَ مِنْهُ»(1).

تناول شراح نهج البلاغة هذا النص الشريف، وبينوا بعض المعاني والدلالات التي اكتنزها، فكانت اقوالهم كالاتي:

أولاً - ابن میثم البحراني:

قال في بيان معنى هذه الالفاظ بعد أن قسم الحديث الى مطالب عده، منها:

(الرابع: التجّار وذوي الصناعات وادّعى أنّه لا قوام للأصناف السابقة إلَّا بهم ونبّه على ذلك بقوله: فيما يجتمعون عليه من مرافقهم فإنّ كلّ ما

ص: 74


1- نهج البلاغة بشرح محمد عبده: ج 3، ص 100، من عهده لمالك الأشتر (عليه الرحمة والرضوان)

يفعله التجّار من جلب الأمتعة وبيعها وشرائها ويقيمونه من الأسواق بذلك وما يفعله الصنّاع من المنفعة بأيديهم ممّا لا يحصل من غيرهم الانتفاع به فهي مرافق ومنافع للرعيّة في مقام حاجتهم وضرورتهم وهو في قوّة صغری ضمیر کبراه ما سبق)(1).

ثانياً - السيد حبيب الله الخوئي.

قال في بيان معنی کلامه (عليه السلام) فيما يخص التجار وذوي الصناعات وصفاتهم وضرر الاحتكار.

(وأمر عليه السّلام بتفقّد أحوال التجار والنظارة عليهم تکميلا لتوصيته لهم بالخير والحماية لرؤوس أموالهم عن التّلف والسّرقة بأيدي اللَّصوص، وهذه توصية بإقرار الأمن في البلاد وفي طرق التّجارة بحرا وبرّا، وقد التفت الأمم الرّاقية إلى ذلك فاهتمّوا باستقرار الأمن في البلاد والطَّرق، وفي حفظ رؤوس الأموال التّجاريّة عن المكائد والدسائس المذهبة لها، فقال (عليه السّلام): (تفقّد أمورهم بحضرتك) أي في البلد، (وفي حواشي بلادك) أي في الطَّرق والأماكن البعيدة.

ثمّ نبّه (عليه السّلام) إلى خطر في أمر التجارة يتوجّه إلى عامّة النّاس المحتاجين في معاشهم إلى شراء الأمتعة من الأسواق، وهو خلق الشح وطلب الادّخار والاستكثار من المال الكامن في طبع الكثير من التّجار، فانّه يؤول إلى الاستعمار والتسلَّط على أجور الزراع والعمّال إلى حيث يؤخذون عبيدا وأسرى لأصحاب رؤوس الأموال فوصفهم بقوله (عليه السلام): (أن في كثير منهم):

ص: 75


1- شرح نهج البلاغة: ج 5، ص 16

1- (ضيقا فاحشا): أي حبّا بالغا في جلب المنافع وازدياد رقم الأموال المختصّة به ربما يبلغ إلى الجنون ولا يقف بالملايين والمليارات.

2- (وشحّا قبيحا): يمنع من السّماح على سائر الأفراد بما يزيد على حاجته بل بما لا يقدر على حفظه وحصره.

3- (واحتكارا للمنافع): بلا حدّ ولا حساب حتّى ينقلب إلى جهنّم كلما قيل لها: هل امتلئت يجيب: هل من مزید

4- (وتحکَّما في البياعات): أي يؤول ذلك الحرص الجهنّمي إلى تشكيل الشركات والانحصارات الجبّارة فيجمعون حوائج النّاس بمكائدهم وقوّة رؤس أموالهم ويبيعونها بأىّ سعر أرادوا وبأيّ شروط خبيثة تحفظ مزید منافعهم وتقهر النّاس وتشدّد سلاسل مطامعهم ومظالمهم على أكتافهم واستنتج عليه السّلام من ذلك مفسدتين مهلكتين:

الف - (باب مضرّة للعامّة): وأىّ مضرّة أعظم من الأسر الاقتصادي في أيدي ثعابين رؤوس الأموال.

باء - (وعيب على الولاة): وأيّ عيب أشنأ من تسليم الأمّة إلى هذا الأسر المهلك. فشرّع (عليه السّلام) لسدّ هذه المفاسد، المنع من الاحتكار للمنافع)(1).

ثالثاً - ابن أبي الحديد المعتزلي:

قال في بيان دلالة النص الشريف وشرحه:

(خرج (عليه السلام) الان إلى ذكر التجار وذوي الصناعات، وأمره بأن

ص: 76


1- منهاج البراعة: ج 20، ص 268 - 270

يعمل معهم الخير، وأن يوصى غيره من أمرائه وعماله أن يعملوا معهم الخير، واستوص بمعنى ((أوص)).

نحو قر في المكان واستقر، وعلا قرنه و استعلاه.

وقوله: ((استوص بالتجار خيرا))، أي أوص نفسك بذلك، ومنه قول النبي (صلى الله عليه وآله): استوصوا بالنساء خيرا، ومفعولا استوص وأوص هاهنا محذوفان للعلم بهما، ويجوز أن يكون ((استوص)) أي اقبل الوصية منی بهم، وأوص بهم أنت غيرك. ثم قسم عليه السلام الموصى بهم ثلاثة أقسام: اثنان منها للتجار، وهما المقيم، والمضطرب، یعنی المسافر، والضرب: السير في الأرض، قال تعالى:

«وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ»(1)، وواحد لأرباب الصناعات، وهو قوله: والمترفق ببدنه، وروی بیدیه، تثنية يد. والمطارح: الأماكن البعيدة. وحيث لا يلتئم الناس: لا يجتمعون، وروى حيث لا يلتئم بحذف الواو. ثم قال: ((فإنهم أولو سلم))، یعنى التجار والصناع، استعطفه عليهم، واستماله إليهم. وقال: ليسوا كمال الخراج وأمراء الأجناد، فجانبهم ينبغي أن يراعی، وحالهم يجب أن يحاط ويحمى، إذ لا يتخوف منهم بائقة لا في مال يخونون فيه، ولا في دولة يفسدونها. وحواشي البلاد: أطرافها.

ثم قال له: قد يكون في كثير منهم نوع من الشح والبخل فيدعوهم ذلك إلى الاحتكار في الأقوات، والحيف في البياعات، والاحتکار: ابتياع الغلات في أيام. رخصها، وادخارها في المخازن إلى أيام الغلاء والقحط. والحيف:

ص: 77


1- النساء: 101

تطفيف في الوزن والكيل، وزيادة في السعر، وهو الذي عبر عنه بالتحكم، وقد نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن الاحتكار)(1).

ص: 78


1- شرح نهج البلاغة للمعتزلي: ج 17، ص 83 - 85

المبحث الثاني إجبار المحتكر على البيع أم التسعير؟

قال أمير المؤمنين الإمام علي (عليه الصلاة والسلام) في عهده لمالك الاشتر (رضوان الله تعالى):

«وَلْیَکُنِ الْبَیْعُ بَیْعاً سَمْحاً بِمَوَازِینِ عَدْلٍ وَأَسْعَارٍ لَا تُجْحِفُ بِالْفَرِیقَیْنِ مِنَ الْبَائِعِ وَالْمُبْتَاعِ فَمَنْ قَارَفَ حُکْرَةً بَعْدَ نَهْیِكَ إِیَّاهُ فَنَکِّلْ بِهِ وَعَاقِبْهُ فِی غَیْرِ إِسْرَافٍ»(1).

تناول فقهاء المذاهب الإسلامية السبعة موضوع التسعير و اجبار الحاكم أو من ينوب مقامه أو القاضي؛ المحتكر على البيع، واختلفوا في الحكم؛ ولكن قبل البحث في أقوال الفقهاء نتناول معنى التسعير في اللغة.

المسألة الأولى: التسعير أو السعر لغة.

يستفاد من اقوال أهل اللغة، أن معنى التسعير، هو: وضع الثمن بإزاء المادة؛ فقد قال ابن منظور (ت: 711 ه):

سعر: السِّعرُ: الذي يَقُومُ عليه الثَّمَنُ، وجمعه أَسعَارٌ وقد أَسعَرُوا وسَعَّرُوا بمعنى واحد: اتفقوا على سِعرٍ.

وفي الحديث: أَنه قيل للنبي، (صلى الله عليه وآله): سَعِّر لنا، فقال:

ص: 79


1- نهج البلاغة بشرح محمد عبده؛ ج 3، ص 100، من عهده لمالك الاشتر (رضوان الله عليه)

«إِن الله هو المُسَعِّرُ».

أَي: أَنه هو الذي يُرخِصُ الأَشياءَ ويُغلِيها فلا اعتراض لأَحد عليه، ولذلك لا يجوز التسعير. والتَّسعِيرُ: تقدير السِّعرِر)(1).

أي: يصح ثمنه على نحو من الارتفاع كأنه يحرق يد المبتاع الذي لا يقدر ان يمسكه أو يتناوله؛ ومن ثم فإن ضرره متعدد وسيري في الجانب النفسي والجسدي والمالي.

وعليه:

نجد أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) يأمر واليه على مصر بالتدخل لمنع الاحتكار، لكن المدار يدور بين الفقهاء على أجبار المحتكر، على البيع، أم على التسعير بالقيمة والثمن، الذي يحدده الحاكم أو القاضي أو المجتهد، وهذا ما سنتناوله في المسألة القادمة.

المسألة الثانية: الإجبار والتسعير في المذهب الامامي.

ذهب فقهاء الإمامية (أعلى الله شأنهم) الى عدم الخلاف في أجبار المحتكر على البيع، واجمعوا على عدم التسعير عليه؛ وقيل: يتم أمر المحتكر بتنزيل السعر دون تحديده؛ وأن خالف يصح البيع، لكنه يؤثم.

أولا - الشيخ محمد حسن الجواهري النجفي (رحمه الله) (ت 1266 ه):

قال (عليه رحمة الله ورضوانه):

ص: 80


1- لسان العرب، مادة: سعر، ج 4، ص 365

(لا يسعر عليه: في المشهور للأصل، وخبر ابن حمزة السابق(1) ومرسل الفقيه(2) (إنه قيل للنبي (صلى الله عليه وآله):

لو أسعرت لنا سعرا، فإن الأسعار تزيد وتنقص؟

فقال: «ما کنت لا لقي الله تعالى ببدعة لم يحدث إلي فيها شيء، فدعوا عباد الله تعالى، يأكل بعضهم من بعض، فإذا استنصحتم فانصحوا».

مؤيدا بما ورد في جملة من النصوص من:

(أن الله عز وجل وكل بالأسعار ملكا يدبرها) وفي بعضها: (فلن تغلو من قلة ولم ترخص من كثرة).

وفي آخر: (علامة رضي الله عز وجل في خلقه عدل سلطانهم ورخص أسعارهم، وعلامة غضب الله تبارك وتعالى على خلقه جور سلطانهم وغلاء أسعارهم).

نعم: لا يبعد رده مع الاجحاف کما عن ابن حمزة والفاضل في المختلف، وثاني الشهيدين وغيرهم لنفي الضرر والضرار(3) ولأنه لولا ذلك لا نتفت فائدة الاجبار، إذا يجوز أن يطلب في ماله ما لا يقدر على بذله، ويضر بحال الناس والغرض رفع الضرر، وليس ذلك من التسعير، ولذا تركه الأكثر فما عن بعضهم من عدم جواز ذلك، أيضا للاطلاق وصحيح ابن سنان(4) (عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: في تجار قدموا أرضا اشتركوا على أن

ص: 81


1- الوسائل الباب: 30 أبواب آداب التجارة؛ والحديث 1 و 2
2- الوسائل الباب 30 من أبواب آداب التجارة الحديث 1 و 2
3- الوسائل الباب 17 من أبواب الخيار الحديث 3 و 4
4- الوسائل الباب 26 من أبواب آداب التجارة الحديث

لا يبيعوا بيعهم إلا بما أحبوا، قال:

(لا بأس).

وقوله في خبر حذيفة(1): (فبعه كيف شئت).

واضح الضعف ضرورة تقييد الاطلاق بما عرفت، مما هو أقوى منه وخروج الصحيح عما نحن فيه، والإذن بالبيع كيف يشاء محمول على ما هو الغالب من عدم اقتراح المجحف، كما أن ما عن المفيد من أن السلطان أن يسعرها على ما يراه من المصلحة ولا يسعرها بما يخسر أربابها فيها، وهو الذي أشار إليه المصنف بقوله: (وقيل يسعر) واضح الضعف أيضا، بعد الإحاطة بما ذكرنا.

(و) منه يعلم أن (الأول أظهر) مع التقييد الذي قدمناه اللهم إلا أن يريد مع الامتناع عن التسعير، فإن المتجه حينئذ قيام الحاكم مثلا مقامه في ذلك، إن لم يمكن جبره عليه أو مطلقا وكذا لو طلب حبسا من الثمن لا وجود له امتحانا، وكذا لو قال لا أبيعه إلا لموسر يشتريه مني جملة، ويدفع الثمن إلى قبل أن يبيع ولم يوجد شخص هكذا إلى غير ذلك مما ينافي حكمة الجبر وفائدته، وينبغي تقديم شديد الحاجة على غيره في البيع.

بل: قد يجب مع الاضطرار، وإن صح البيع مع المخالفة، ولو كان المحتكر مجتهد أجبره المجتهد الأخر (وإن كان مفضولاً فان لم يكن فعدول مقلديه فضلا عن مقلدي غيره، والله هو العالم بحقيقة أحكامه)(2).

ص: 82


1- الوسائل الباب 29 من أبواب آداب التجارة الحديث 1
2- جواهر الكلام: ج 22، ص 485 - 487

ثانياً - الشيخ مرتضى الأنصاري رحمه الله) (ت: 1281 ه).

قال (عليه رحمة الله ورضوانه) مختصراً للحكم وجامعاً لأقوال الفقهاء:

(الظاهر عدم الخلاف -كما قيل(1) في إجبار المحتكر على البيع، حتى على القول بالكراهة، بل عن المهذب البارع: الإجماع(2)، وعن التنقيح(3) کما عن الحدائق(4): عدم الخلاف فيه، وهو الدليل المخرج عن قاعدة عدم الاجبار لغير الواجب، ولذا ذكرنا: أن ظاهر أدلة الإجبار تدل على التحریم(5)، لأن إلزام غير اللازم خلاف القاعدة.

نعم: لا يسعر عليه إجماعا، کما عن السرائر، وزاد وجود الأخبار المتواترة(6)، وعن المبسوط: عدم الخلاف فيه(7). لكن عن المقنعة: أنه يسعر عليه بما يراه الحاكم(8). وعن جماعة(9) - منهم العلامة(10) وولده(11) والشهيد(12)-: أنه يسعر عليه إن أجحف بالثمن، لنفي الضرر، وعن

ص: 83


1- راجع التنقيح الرائع: ج 2، ص 42؛ ومفتاح الكرامة: ج 4، ص 109
2- المهذب البارع 2: 370
3- التنقيح الرائع 2: 42
4- الحدائق 18: 64
5- ذكره في الصفحة 367
6- السرائر 2: 239
7- المبسوط 2: 195
8- المقنعة: 616
9- حكاه عنهم السيد العاملي في مفتاح الكرامة 4: 109
10- راجع المختلف 5: 42
11- إيضاح الفوائد 1: 409
12- الدروس 3: 180

الميسي(1) والشهيد الثاني(2): أنه يؤمر بالنزول من دون تسعير، جمعا بين النهي عن التسعير، والجبر بنفي الإضرار)(3).

المسالة الثالثة: أقوال فقهاء المذاهب الاخرى.

اولاً - المذهب الزيدي.

ذهب فقهاء المذهب الزيدي الى القول: بتكليف المحتكر البيع، لا التسعير، إذا امتنع المحتكر البيع، فللإمام أو الحاكم أن يبيعا عن المحتكر، ولكن ليس في جميع المواد وانما في القوتين، واما بقية المبيعات فالتسعير فيها جائز، وقيل بجواز التسعير في القوتين ايضاً.

قال أحمد المرتضى (ت 840 ه):

يكلف المحتكر (البيع لا التسعير، أي: لا يكلف أن يجعل سعره كذا بل يسعره کیف شاء؛ فإن أمتنع من البيع فالأقرب أن للإمام والحاكم أن يبيعا عنه، هذا إنما هو في القوتين فقط فأما سائر المبيعات فالتسعير فيها جائر، وقد أستصلح الأئمة المتأخرون تقدير سعر ما عدا القوتين في بعض الاحوال كاللحم والسمن رعاية لمصلحة الناس ودفع الضرر عنهم، وقيل: أنه يجوز تعسير القوتين ايضاً)(4).

ص: 84


1- الميسية، لا توجد لدينا، ولكن نقله عنه وعن الشهيد الثاني، السيد العاملي في مفتاح الكرامة 4: 109
2- الروضة البهية 3: 299
3- كتاب المكاسب: ج 4، ص 373 - 374
4- شرح الأزهار: ج 3، ص 81

ثانيا - المذهب الشافعي.

ذهب فقهاء الشافعية الى القول: بجواز اجبار المحتكر على البيع إذا كان عنده طعام احتاج اليه الناس ولم يجدوا عند غيره دفعا للضرر(1)، وقالوا بحرمة التسعير في كل وقت، وقيل بالجواز، لكن الاصح عندهم الحرمة؛ ومن قال بالجواز فقد قيده بوقت الغلاء دون الرخص؛ وقيل: إن كان الطعام مجلوباً من خارج البلد فيحرم التسعير، وان كان يزرع في البلد وعند القناة فيجوز التسعير، ويشتمل التسعير الاطعمة وعلف الدواب، وأما في حال قام الامام بالتسعير، وخالف المحتكر: يتم تعزیره، وفي صحة البيع وجهان، الاصح: صحة البيع.

قال النووي (ت 676 ه):

(لتسعير، وهو حرام في كل وقت على الصحيح. والثاني: يجوز في وقت الغلاء دون الرخص. وقيل: إن كان الطعام مجلوبا، حرم التسعير. وإن كان يزرع في البلد ويكون عند القناة، جاز. وحيث جوزنا التسعير، فذلك في الأطعمة، ويلحق بها علف الدواب على الأصح. وإذا سعر الامام عليه، فخالف، استحق التعزير. وفي صحة البيع، وجهان مذکوران في التتمة. قلت: الأصح: صحة البيع. والله أعلم)(2).

ثالثا - المذهب المالكي.

ذهب المالكية الى القول بوجوب بيع المحتكر الطعام الذي جلبه بسعر وقته إذا نزلت حاجة فادحة أو أمر ضروري بالمسلمين، فإن لم يفعل أجبر على البيع.

ص: 85


1- المجموع للنووي: ج 13، ص 48
2- روضة الطالبيين: ج 3، ص 79؛ مغني المحتاج للشربيني: ج 2، ص 38

قال الخطاب الرعيني (ت: 954 ه):

(فأما من جلب طعاما فإن شاء باع، وإن شاء احتكر، إلا إن نزلت حاجة فادحة أو أمر ضروري بالمسلمين فيجب على من كان عنده ذلك أن يبيعه بسعر وقته؛ فإن لم يفعل، أجبر على ذلك إحياء للمهج وإبقاء للرمق؛ وأما إن كان اشتراه من الأسواق واحتكر وأضر بالناس، فيشترك فيه الناس بالسعر الذي اشتراه به)(1).

رابعاً - المذهب الحنفي.

ذهب فقهاء المذهب الحنفي الى القول بعدم اجبار المحتكر على البيع، ولكن يؤمر بذلك ويرفع أمره الى الإمام إذا امتنع من البيع في المرة الأولى، وكان مصراً على الاحتكار فيعظه الإمام في المرة الثانية ويهدده، فان لم يفعل فيرفع أمره الى الإمام في المرة الثالثة ليعزره ويحبسه، وفي جميع الاحوال لا يجبر على البيع ولا يسعر، ويجوز للإمام أن يأخذ الطعام من المحتكرين إذا خاف الهلاك على الناس ويفرقه عليهم، فإذا وجدوا الطعام رد إليهم وهو ضامن.

قال أبو بكر الكاشاني (ت: 587 ه):

(يؤمر المحتكر بالبيع إزالة للظلم لكن إنما يؤمر ببيع ما فضل عن قوته وقوت أهله فإن لم يفعل وأصر على الاحتکار ورفع إلى الامام مرة أخرى وهو مصر عليه فان الامام يعظه ويهدده فإن لم يفعل ورفع إليه مرة ثالثة يحبسه ويعزره زجراله عن سوء صنعه ولا يجبر على البيع.

ص: 86


1- مواهب الجليل: ج 6، ص 12

وقال محمد يجبر عليه وهذا يرجع إلى مسألة الحجر على الحر لان الجبر على البيع في معنى الحجر وكذا لا يسعر لقوله عز وجل يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بینکم بالباطل الا أن تكون تجارة عن تراض منکم وقوله عليه (الصلاة والسلام):

(لا يحل مال امرئ مسلم الا بطيب من نفسه).

وروى أن السعر غلا في المدينة وطلبوا التسعير من رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلم يسعر وقال:

(إن الله تبارك وتعالى هو المسعر القابض الباسط).

(ومنها): أنه إذا خاف الامام الهلاك على أهل المصر أخذ الطعام من المحتكرين و فرقه عليهم فإذا وجدوا ردوا عليهم مثله لأنهم اضطروا إليه ومن اضطر إلى مال الغير في مخمصة كان له أن يتناوله بالضمان لقوله تعالى:

«فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ»(1))(2).

خامسا - المذهب الحنبلي.

ذهب فقهاء المذهب الحنبلي الى القول بإجبار المحتكر على البيع كما يبيع الناس، فإن رفض أن يبيع فعلى الإمام أن يأخذه منه ويفرقه، ويرد إليه إذا انتفت الحاجة؛ ولكن يحرم التسعير.

ص: 87


1- المائدة: 3
2- بدائع الصانع: ج 5، ص 129

قال البهوتي (ت 1051 ه):

(ويجبر المحتكر على بيعه، كما يبيع الناس دفعاً للضرر؛ فان أبی أن يبيع ما أحتكره من الطعام وخيف التلف بحبسه عن الناس: فرقه الإمام على المحتاجين إليه ويردون مثله عند زوال الحاجة)(1).

(ويحرم التسعير على الناس؛ بل يبيعون أموالهم على ما يختارون)(2).

سادساً - المذهب الإباضي.

ذهب فقهاء الأباضية الى القول بإجبار المحتكر على البيع بمثل ما أشتری به، ولا يجبر على البيع بأرخص مما اشتری؛ وإذا باع بأرخص مما أشتری فلا يجبر.

قال محمد بن يوسف أطفيش (ت 1334 ه):

(ولا يترك المحتكر يبيع بأكثر مما أشتری بل يجبر على البيع کما اشتری، أي يبيع بمثل ما اشتری به أو قيمته لا على البيع بأرخص منه ويحتمل أنه يريد ان يجبر أن يبيع کما قصد الشراء وفعله سواء ربح أم لا، إلا أن كان يبيع بأرخص فلا يجبر وهو المتبادر لأنه المذكور في الحاشية المتنظر فيها لكون الشيخ لم يذكر أنه يريد الزائد کما ذكره الناجش، ولأنه لو أراد أنه لا يبيع بأكثر بل بمثل ما اشتراه، ولأن الاستثناء أظهر على هذا من الاستثناء على معنی بمثل ما اشتری به)(3).

ص: 88


1- کشاف القناع للهبوتي: ج 3، ص 216
2- المصدر نفسه
3- كتاب النيل وشفاء العليل: ج 8، ص 179

المسألة الرابعة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة.

أولاً - في إجبار المحتكر على البيع:

1- ذهب فقهاء المذهب الإمامي: الى عدم الخلاف في أجبار المحتكر على البيع، ولو على الكراهة.

2- وقال الزيدية: يكلف المحتكر بالبيع، وإذا أمتنع المحتكر، فلإمام أو الحاكم أن يبيعا عنه في القوتين.

3- وقال الشافعية: بجواز اجبار المحتكر على البيع إذا كان عنده طعام احتاج إليه الناس دفعة للضرر.

4- وقال المالكية: بوجوب بيع المحتكر للطعام بسعر وقته، إذا نزلت حاجة فادحة أو أمر ضروري بالمسلمين، فان لم يفعل، ابجر على البيع وقيد الاحتكار بالجلب فإذا كان المحتكر قد اشترى الطعام من السوق فلا يجبر.

5- وقال الحنفية: بعدم اجبار المحتكر بالبيع ولكن يؤمر بذلك ويرفع امره الى الإمام إذا أمتنع ثلاث مرات فإن أصر على عدم البيع يغرم ويحبس وللإمام أن يأخذ الطعام منه ويفرقه دفعاً للضرر. يعاد إليه إذا انتفت الحاجة.

6- وقال الحنابلة: بإجبار المحتكر على البيع كما يبيع الناس فان رخص فعلى الإمام أن يأخذه منه ويفرقه على المحتاجين؛ ويرد إليه إذا انتفت الحاجة.

7- وقال الاباضية: بإجبار المحتكر على البيع بمثل ما اشتری، ولا يجبر على البيع بأرخص مما اشتری.

ص: 89

ثانيا - في التسعير على المحتكر:

1- قال الإمامية بعدم التسعير على المحتكر واجمعوا على ذلك، وأنه يؤمر بالنزول من دون التسعير، جمعا بين النهي عن التسعير، والجبر بنفي الإضرار.

2- قال الزيدية: بجواز التسعير في جميع المواد، ويمنع في القوتين؛ وقيل بجوازه في القوتين أيضاً.

3- وقال الشافعية: بحرمة التسعير، وقيل بالجواز، والاصح: الحرمة، ومن قال بالجواز فقد قيده بقوت الغلاء دون الرخص، وكذا إذا كان الطعام مزروعاً في البلد وقرب القناة؛ أما إذا كان مجلوباً فيحرم التسعير.

4- وقال المالكية: باشتراك الناس في السعر إذا كان المحتكر اشترى الطعام من السوق واضر بالناس.

5- وقال الحنفية: بعدم الجواز بالتسعير.

6- وقال الحنابلة: بحرمة التسعير.

المسألة الخامسة: جريان قاعدة التسلط أو (السلطنة).

وهي من القواعد التي نالت حيزاً كبيراً من الشهرة عند الفقهاء، ودخلت في الكثير من المعاملات، فأستندوا إليها في إحكامهم وفتاويهم، (وقد استدلوا عليها بالأدلة الأربعة، أي: القرآن والسنة، والاجماع، والعقل)(1).

أما موارد الاستدلال بها في ابواب الفقه، فهي كثيرة، ولذا نورد ما تعلق بالاحتكار، وهي:

ص: 90


1- القواعد الفقهية للشيخ ناصر مکارم الشيرازي: ج 2، ص 19

أولا - المحقق الكركي (رحمه الله) (ت: 940 ه).

قال المحقق الكركي (عليه رحمه الله ورضوانه) في جامع المقاصد في أبواب الاحتكار، في شرح قول العلامة ابن المطهر الحلي (عليه الرحمة والرضوان):

(ویبجر على البيع لا التسعير على رأي)، فقال: (هذا أصح؛ لأن الناس مسلطون على أموالهم، إلا أن يجحف في طلب الثمن أو يمتنع من تعيين)(1).

ثانيا - السيد محمد جواد العاملي (رحمه الله) (ت 1226 ه).

قال السيد محمد جواد الحسيني العاملي (عليه الرحمة والرضوان) في مفتاح الكرامة في باب الاحتكار عند نفي العلامة ابن المطهر الحلي (عليه الرحمة والرضوان) للتسعير، فعلق بقوله:

(إجماعاً واخباراً متواترة كما في السرائر(2)، وبلا خلاف كما في المبسوط(3)، وعندنا كما في التذكرة(4)، مع أن في السرائر(5)، والتذكرة(6) نقل الخلاف، والتأويل ممكن للأصل، وعموم السلطنة، وخصوص خبر الحسين بن عبد الله بن ضمرة(7) الصريح بذلك...)(8).

ص: 91


1- جامع المقاصد، حرمة الاحتكار: ج 4، ص 42
2- السرائر لابن ادریس آداب التجارة: ج 2، ص 239
3- المبسوط للشيخ الطوسي في حكم التسعير: ج 2، ص 159
4- تذكرة الفقهاء للعلامة الحلي، في المكاسب المحرمة: ج 1، ص 585
5- السرائر: ج 2، ص 239
6- تذكرة الفقهاء: ج 1، ص 585
7- وسائل الشيعة للعاملي: ج 12، ص 317 و جاء بلفظ: الحسين بن عبيد الله بن ضمرة
8- مفتاح الكرامة بشرح قواعد العلامة: ج 12، ص 361

ثالثاً - الشيخ الجواهري النجفي (رحمه الله).

واستدل بهذه القاعدة الشيخ محمد حسن الجواهري (عليه الرحمة والرضوان) في آداب التجارة، في مسألة الاحتكار ومناقشة من ذهب من علماء الطائفة الى القول ب (الكراهة) ومن قال منهم ب (الحرمة)، فقال مستدلاً على القول بالكراهة:

(الأول: أشبهه بأصول المذهب و قواعده التي منها الاصول، وقاعدة تسلط الناس على أموالها...)(1).

المسألة السادسة: مسؤلية الدولة في الإقتصاد الإسلامي وأحياء مبدأملئ الفراغ.

قال أمير المؤمنين الإمام علي (عليه الصلاة والسلام):

«وليكن البيع بيعاً سمحاً بموازین عدل واسعارٍ لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع فمن قارف حكرة بعد نهيك إياه فنكل به وعاقبه في غير إسراف».

والحديث الشريف يرشد الى مهام الحاكم الإسلامي في حفظ حقوق الناس، والحرص على الأمن الاقتصادي، وضرورة تدخل الحكومة الإسلامية في خلق حالة التوازن في السوق، وسهولة المعاملة، وانعكاسات ذلك على معائش الناس، مع ضرورة حفظ الحقوق الشرعية للبائع والمشتري، لا سيما وانه (عليه الصلاة والسلام) قد نبه الى اهمية طبقة التجار، وخطورة عملهم سلبا وايجاباً، وانعكاسات ذلك على اقتصاد الدولة.

ص: 92


1- جواهر الكلام: ج 22، ص 477

ولذا:

قال (عليه الصلاة والسلام) في منع الاحتكار، ودفع أضراره، واثاره، السلبية على الناس والاقتصاد:

«فمن قارف حكرة بعد نهيك إياه فنكل به وعاقبه في غير إسراف».

وهو إمر يكشف عن أثر تدخل الحاكم الإسلامي في سد الفراغات التي تتواجد بفعل اثار الزمان والمكان، وتنوع الحياة المعيشية والذهنية، وتطور الاساليب الحياتية في مختلف المجالات، کالاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية.

وهو ما التفت إليه بعض العلماء، ونبهوا الى اهميته واثاره، أي: تدخل الدولة في ضمان الحياة الكريمة للإنسان.

فقد تناول الشهيد السيد محمد باقر الصدر (عليه الرحمة والرضوان) مسؤولية الدولة في الاقتصاد الإسلامي في عنصرين اساسين، الأول: الضمان الاجتماعي، والأخر: التوازن الاجتماعي و ايجاد الأسس التي يقوم عليها هذا التوازن وهي:

1- فرض ضرائب ثابته.

2- إيجاد قطاعات عامة.

3- مبدأ تدخل الدولة.

وهذا المبدأ، والأساس الثالث، أي: ايجاد التوازن الاجتماعي، هو محل البحث في بيان أهمية تدخل الدولة، والحاكم الإسلامي في حفظ الامن الاقتصادي؛ وذلك أن (تدخّل الدولة في الحياة الاقتصادية، يعتبر من المبادئ المهمة في الإقتصاد الإسلامي، التي تمنحه القوة والقدرة على الاستيعاب والشمول.

ص: 93

ولا يقتصر تدخل الدولة على مجرد تطبيق الاحكام الثابتة في الشريعة، بل يمتد إلى ملء منطقة الفراغ من التشريع. فهي تحرص من ناحية على تطبق العناصر الثابتة من التشريع، وتضع من ناحية أخرى العناصر المتحركة وفقاً للظروف.

ففي مجال التطبيق: تتدخل الدولة في الحياة الاقتصادية، لضمان تطبق أحكام الإسلام، التي تتصل بحياة الأفراد الاقتصادية. فتحول مثلا دون تعامل الناس بالربا، أو السيطرة على الأرض بدون احياء، كما تمارس الدولة نفسها تطبيق الاحكام التي ترتبط بها مباشرة، فتحقق مثلاً الضمان الاجتماعي والتوازن العام في الحياة الاقتصادية بالطريقة التي سمح الإسلام باتباعها، لتحقيق تلك المبادئ.

وفي المجال التشريعي تملاً الدولة منطقة الفراغ التي تركها التشريع الإسلامي للدولة، لكي تملأها في ضوء الظروف المتطورة، بالشكل الذي يضمن الأهداف العامة للاقتصاد الإسلامي، ويحقق الصورة الإسلامية للعدالة الاجتماعية.

وقد أشرنا في مستهل هذه البحوث إلى منطقة الفراغ هذه، وعرفنا أن من الضروري دراستها خلال علمية الاكتشاف لأن الموقف الإيجابي للدولة من هذه المنطقة، بدخل ضمن الصورة التي تحاول اكتشافها، بوصفه العنصر المتحرك في الصورة الذي يمنحها القدرة على أداء رسالتها، ومواصلة حياتها على الصعيدين النظري والواقعي في مختلف العصور.

لماذا وضعت منطقة فراغ؟

والفكرة الأساسية لمنطقة الفراغ هذه، تقوم على أساس:

ص: 94

أن الإسلام لا يقدم مبادئه التشريعية للحياة الاقتصادية بوصفها علاجاً موقوتاً، أو تنظیماً مرحلياً، يجتازه التاريخ بعد فترة من الزمن إلى شكل آخر من اشكال التنظيم. وإنما يقدمها باعتبارها الصورة النظرية الصالحة لجميع العصور. فكان لابد لإعطاء الصورة هذا العموم والاستيعاب ، أن ينعكس تطور العصور فيها، ضمن عنصر متحرك، يمد الصورة بالقدرة على التكيف وفقاً لظروف مختلفة.

ولكي نستوعب تفصیلات هذه الفكرة يجب أن نحدد الجانب المتطور من حياة الانسان الاقتصادية، ومدى تأثيره على الصورة التشريعية التي تنظم تلك الحياة.

فهناك في الحياة الاقتصادية علاقات الانسان بالطبيعة، أو الثروة التي تتمثل في أساليب إنتاجه لها، وسيطرته عليها وعلاقات الانسان بأخيه الانسان، التي تنعكس في الحقوق والامتيازات التي يحصل عليها هذا أو ذاك.

والفارق بين هذين النوعين من العلاقات: أن الانسان يمارس النوع الأول من العلاقات، سواء كان يعيش ضمن جماعة أم كلا منفصلا عنها، فهو يشتبك على أي حال مع الطبيعة في علاقات معينة، يحددها مستوى خبرته ومعرفته، فيصطاد الطير، ويزرع الأرض، ويستخرج الفحم، ويغزل الصوف بالأساليب التي يجيدها. فهذه العلاقات بطبيعتها لا يتوقف قيامها بين الطبيعة والانسان على وجوده ضمن جماعة، وإنما أثر الجماعة على هذه العلاقات، أنها تؤدي إلى تجميع خبرات وتجارب متعددة، وتنمية الرصيد البشري لمعرفة الطبيعة، وتوسعة حاجات الانسان ورغباته تبعاً لذلك.

ص: 95

وأما علاقات الانسان بالإنسان، التي تحددها الحقوق، والامتيازات والواجبات، فهي بطبيعتها تتوقف على وجود الانسان ضمن الجماعة. فما لم يكن الانسان كذلك، لا يقدم على جعل حقوق له وواجبات عليه. فحق الانسان في الأرض التي أحياها، وحرمانه من الكسب بدون عمل عن طريق الربا، والزامه بإشباع حاجاته .. كل هذه العلاقات لا معنى لها إلا في ظل جماعة.

والإسلام - کما نتصوره - يميز بين هذين النوعين من العلاقات. فهو يرى أن علاقات الانسان بالطبيعة أو الثروة، تتطور عبر الزمن - تبعاً للمشاكل المتجددة التي يواجهها الانسان باستمرار وتتابع، خلال ممارسته للطبيعة، والحلول المتنوعة التي يتغلب بها على تلك المشاكل. وكلما تطورت علاقاته بالطبيعة ازداد سيطرة عليها، وقوة في وسائله وأساليبه.

وأما علاقات الانسان بأخيه، فهي ليست متطورة بطبيعتها، لأنها تعالج مشاكل ثابتة جوهرياً، مهما اختلف إطارها و مظهرها. فكل جماعة تسيطر خلال علاقاتها بالطبيعة على ثروة، تواجه مشكلة توزيعها، وتحديد حقوق الأفراد والجماعة فيها، سواء كان الإنتاج لدى الجماعة على مستوى البخار والكهرباء، أم على مستوى الطاحونة اليدوية.

ولأجل ذلك يرى الإسلام: أن الصورة التشريعية التي ينظم بها تلك العلاقات، وفقاً لتصوراته للعدالة .. قابلة للبقاء والثبات من الناحية النظرية لأنها تعالج مشاكل ثابتة. فالمبدأ التشريعي القائل - مثلاً - : إن الحق الخاص في المصادر الطبيعية يقوم على أساس العمل. يعالج مشكلة عامة يستوي فيها عصر المحراث البسيط وعصر الآلة المعقدة، لأن طريقة توزيع المصادر

ص: 96

الطبيعية على الأفراد، مسألة قائمة في كلا العصرين.

والإسلام في هذا يخالف الماركسية، التي تعتقد أن علاقات الانسان بأخيه، تتطور تبعاً لتطور علاقاته بالطبيعة، وتربط شكل التوزيع بطريقة الإنتاج، وترفض امکان بحث مشاكل الجماعة، إلا في إطار علاقتها بالطبيعة، کما مر بنا عرضه ونقده في بحوث الكتاب الأول من اقتصادنا.

ومن الطبيعي - على هذا الأساس - أن يقدم الإسلام مبادئه النظرية والتشريعية، بوصفها قادرة على تنظيم علاقات الانسان في عصور مختلفة.

ولكن هذا لا يعني جاز إهمال الجانب المتطور، وهو علاقات الانسان بالطبيعة وإخراج تأثير هذا الجانب من الحساب فان تطور قدرة الانسان على الطبيعة، ونمو سيطرته على ثرواتها، يطور وينمي باستمرار خطر الانسان على الجماعة، ويضع في خدمته باستمرار امکانات جديدة للتوسع، ولتهدید الصورة المتبناة للعدالة الاجتماعية.

فالمبدأ التشريعي القائل مثلا: ان من عمل في أرض، وأنفق عليها جهداً حتى أحياها، فهو أحق بها من غيره .. يعتبر في نظر الإسلام عادلاً، لأن من الظلم أن يساوي بين العامل الذي أنفق على الأرض جهده، وغيره ممن لم يعمل فيها شيئاً. ولكن هذا المبدأ بتطور قدرة الانسان على الطبيعة ونموها، يصبح من الممكن استغلاله. ففي عصر كان يقوم احیاء الأرض فيه على الأساليب القديمة، لم يكن يتاح للفرد أن يباشر عمليات الاحياء إلا في مساحات صغيرة. وأما بعد أن تنمو قدرة الإنسان، وتتوفر لديه وسائل السيطرة على الطبيعة، فيصبح بإمكان أفراد قلائل ممن تواتيهم ويسيطروا

ص: 97

عليها، الأمر الذي يزعزع العدالة الاجتماعية ومصالح الجماعة.

فكان لا بد للصورة التشريعية من منطقة فراغ، يمكن ملؤها حسب الظروف. فيسمح بالاحياء سماحاً عاماً في العصر الأول ويمنع الأفراد في العصر الثاني - منعاً تكليفياً - عن ممارسة الاحياء، إلا في حدود تتناسب مع أهداف الاقتصاد الإسلامي وتصوراته عن العدالة.

وعلى هذا الأساس وضع الإسلام منطقة الفراغ في الصورة التشريعية التي نظم بها الحياة الاقتصادية، لتعكس العنصر المتحرك وتواكب تطور العلاقات بين الانسان والطبيعة، وتدرأ الأخطار التي قد تنجم عن هذا التطور المتنامي على مر الزمن.

منطقة الفراغ لیست نقصاً:

ولا تدل منطقة الفراغ على نقص في الصورة التشريعية، أو إهمال من الشريعة لبعض الوقائع والأحداث. بل تعبر عن استيعاب الصورة. وقدرة الشريعة على مواكبة العصور المختلفة، لأن الشريعة لم تترك منطقة الفراغ بالشكل الذي يعين نقصاً أو اهمالاً، وإنما حددت للمنطقة أحكامها يمنح كل حادثة صفتها التشريعية الأصيلة، مع اعطاء ولي الأمر صلاحية منحها صفة تشريعية ثانوية، حسب الظروف. فاحياء الفرد للأرض مثلا عملية مباحة تشريعياً بطبيعتها، ولولي الأمر حق المنع عن ممارستها، وفقاً لمقتضيات الظروف.

الدليل التشريعي:

والدليل على إعطاء ولي الأمر صلاحيات كهذه، لملء منطقة الفراغ، هو النص القرآني الكريم:

ص: 98

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ»(1).

وحدد منطقة الفراغ التي لها صلاحيات أولي الأمر، تضم في ضوء هذا النص الكريم كل فعل مباح تشريعاً بطبيعته فأي نشاط وعمل لم يرد نص تشريعي يدل على حرمته أو وجوبه .. يسمح لولي الأمر باعطائه صفة ثانوية، بالمنع عنه أو الأمر به. فإذا منع الإمام عن فعل مباح بطبيعته، أصبح حراماً، وإذا أمر به، أصبح واجباً. وأما الأفعال التي ثبت تشريعياً تحريمها بشكل عام، كالربا مثلاً، فليس من حق ولي الأمر، الأمر بها.

كما أن الفعل الذي حكمت الشريعة بوجوبه، كانفاق الزوج على زوجته، لا يمكن لولي الأمر المنع عنه، لأن طاعة أولي الأمر مفروضة في الحدود التي لا تتعارض مع طاعة الله وأحكامه العامة. فألوان النشاط المباحة بطبيعتها في الحياة الاقتصادية هي التي تشكل منطقة الفراغ.

نماذج:

وفي النصوص المأثورة نماذج عديدة، لاستعمال ولي الأمر صلاحياته في حدود منطقة الفراغ. وهذه النماذج تلقي ضوءاً على طبيعة المنطقة، وأهمية دورها الايجابي في تنظيم الحياة الاقتصادية. ولهذا نستعرض فيما يلي قيماً من تلك النماذج، مدعماً بالنصوص:

أ- جاء في النصوص: أن النبي نهی عن منع فضل الماء والكلا. فعن الإمام الصادق أنه قال:

«قضى رسول الله بين أهل المدينة في مشارب النخل أنه لا يمنع فضل ماء وکلاء».

ص: 99


1- النساء: 59

وهذا النهي نهي تحریم کما يقتضيه لفظ النهي عرفاً. وإذا جمعنا إلى ذلك رأي جمهور الفقهاء القائل: بأن منع الانسان غيره من فضل ما يملكه من ماء وكلاء، ليس من المحرمات الأصيلة في الشريعة، كمنع الزوجة نفقتها وشرب الخمر .. أمكننا أن نستنتج: أن النهي من النبي صد عنه، بوصفه ولي الأمر.

فهو ممارسة لصلاحياته في ملء منطقة الفراغ حسب مقتضيات الظروف لأن مجتمع المدينة كان بحاجة شديدة إلى إنماء الثروة الزراعية والحيوانية، فألزمت الدولة الأفراد ببذل ما يفضل من مائهم وكلاهم للآخرين، تشجيعاً للثروات الزراعية والحيوانية.

وهكذا نرى أن بذل فضل الماء والكلاء فعل مباح بطبيعته وقد ألزمت به الدولة إلزاماً تکليفياً، تحقيقاً لمصلحة واجبة.

ب- ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله) النهي عن بيع الثمرة قبل نضجها. ففي الحديث عن الصادق (عليه السلام): أنه سئل عن الرجل يشتري الثمرة المساة من أرض، فتهلك ثمرة تلك الأرض كلها؟ فقال:

(قد اختصموا في ذلك إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فكانوا يذكرون ذلك فلما رآهم لا يدعون الخصومة، نهاهم عن ذلك البيع حتى تبلغ الثمرة، ولم يحرمه، ولكنه فعل ذلك من أجل خصومتهم).

وفي حديث آخر: أن رسول الله أحل ذلك فاختلفوا. فقال:

(لا تباع الثمرة حتى يبدو صلاحها).

فبيع الثمرة قبل بدو صلاحها عملية مباحة بطبيعتها وقد أباحتها

ص: 100

الشريعة الإسلامية بصورة عامة. ولكن النبي نهی عن هذا البيع بوصفه ولي الأمر، دفعاً لما يسفر عنه من مفاسد وتناقضات.

ج- ونقل الترمذي عن رافع بن خديج أنه قال: نهانا رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن أمر كان لنا نافعاً، إذا كانت لأحدنا أرض أن يعطيها ببعض خراجها أو بدراهم، وقال:

(إذا كانت لاحدکم ارض فلیمنحها أخاه أو فليزرعها).

ونحن حين نجمع بين قصة هذا النهي، واتفاق الفقهاء على عدم حرمة كراء الأرض في الشريعة بصورة عامة، ونضيف إلى ذلك نصوصاً كثيرة واردة عن الصحابة، تدل على جواز إجارة الأرض .. نخرج بتفسير معين النص الوارد في خبر رافع بن خديج وهو أن النهي کان صادراً من النبي بوصفه ولي الأمر وليس حكماً شرعياً عاماً.

فإجارة الأرض بوصفها عملاً من الأعمال المباحة بطبيعتها، يمكن للنبي المنع عنها باعتباره ولي الأمر منعاً تكليفياً، وفقاً لمقتضيات الموقف.

د- جاءت في عهد الإمام عليه السلام إلى مالك الأشتر أوامر مؤكدة بتحديد الأسعار، وفقاً لمقتضيات العدالة. قد تحدث الإمام إلى واليه عن التجار، وأوصاه بهم، ثم عقب ذلك قائلاً:

«واعمل - مع ذلك - أن في كثير منهم ضيقاً فاحشاً، وشحاً قبيحاً، واحتكاراً للمنافع، وتحكماً في البياعات. وذلك باب مضرة للعامة، وعيب على الولاة. فامنع من الاحتكار فان رسول الله (صلى الله عليه وآله) منع منه. وليكن البيع بيعاً سمحاً بموازین عدل، وأسعار لا تجحف بالفريقين في البائع والمبتاع».

ص: 101

ومن الواضح فقهياً: أن البائع يباح له البيع بأي سعر أحب، ولا تمنع الشريعة منعاً عاماً عن بيع المالك للسلعة بسعر مجحف. فأمر الإمام بتحديد السعر، ومنع الاتجار عن البيع بثمن أكبر .. صادر منه بوصفه ولي الأمر. فهو استعمال لصلاحياته في ملء منطقة الفراغ، وفقاً لمقتضيات العدالة الاجتماعية التي يتبناها الإسلام)(1).

المسألة السابعة: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة.

أولاً - قطب الدين الراوندي (رحمه الله) (ت 573 ه).

قال (عليه الرحمة والرضوان):

(قوله عليه السلام: «وليكن البيع بأسعار لا تجحف بالفريقين البائع والمشتري» ولا تناقض بين هذا وبين قولهم عليهم السلام: ولا يجوز للسلطان أن يجبر من احتكر على سعر بعينه بل يبيعه مما يرزقه الله ولا يمكنه من جنسه أكثر من المدة المعلومة، لان هذا النوع مکروه على الاطلاق، ولو أراد صاحب الطعام أن يبيع عشرة أمنان بألف دينار وقيمتها دينار في ذلك الوقت في ذلك المكان الذي احتكره فيه فله أن يأمره بسعر لا يجحف.

وأجحف به: ذهب به وأهلكه.

وقد احترز (عليه السلام) عن ذلك بقوله «لا تجحف بالفريقين» أي بمالهما. ثم فسر الفريقين. وقارف فلان الخطيئة: أي خالطها، وهو يقرف بكذا أي تبهم به، والاقتراف: الاكتساب. ونكل به جعله نكالا وعبرة لغيره)(2).

ص: 102


1- اقتصادنا للسيد محمد باقر الصدر:، ص 685 - 692
2- منهاج البراعة: ج 3، ص 194 - 195

ثانياً - السيد حبيب الله الخوئي (رحمه الله) (1324 ه).

قال (عليه الرحمة والرضوان):

(تلفت نظر القراء الكرام الى أن الاحتكار على وجهين:

أ- احتكار الأجناس وهو موضوع بحث الفقهاء في باب البيع حيث حكموا بحرمة الاحتكار أو كراهته على خلاف بين الفقهاء، فقد عدّه المحقق في المختصر النافع في المكروهات فقال بعد عدّ جملة منها: والاحتكار، وقال صاحب الرّياض في شرحه: وهو حبس الطَّعام، كما عن الجوهري أو مطلق الأقوات يتربّص به الغلاء للنّهى عنه في المستفيضة.

منها الصّحيح ، إيّاك أن تحتكر، المعتبر بوجود فضالة المجمع على تصحيح رواياته في سنده فلا يضرّ اشتراك راويه بين الثقة والضّعيف، وعلى تقدير تعيّنه فقد ادّعى الطَّوسى الإجماع على قبول روايته، ولذا عدّ موثقا وربّما قيل بوثاقته، وفيه: لا يحتكر الطعّام إلَّا خاطئ، ولذا قيل: يحرم، کما عن المقنع والمرتضى والحلَّي وأحد قولي الحلبيّ والمنتهى وبه قال في المسالك والرّوضة، ولا يخلو عن قوّة - إلى أن قال:

وإنّما يكون الاحتكار الممنوع منه في خمسة: الحنطة، والشّعير، والتّمر، والزبيب، والسّمن، على الأشهر - إلى أن قال: وقيل: كما عن المبسوط وابن حمزة أنّه يكون في الملح أيضا، وقوّاه في القواعد والمسالك وأفتى به صريحا في الرّوضة تبعا للمعته، ولعله لفحوى الأخبار المتقدّمة لأنّ احتياج الن-ّاس إليه أشدّ مع توقف أغلب الماكل عليه - إلى أن قال: وإنّما يتحقّق الكراهة إذا اشتراه واستبقاه لزيادة الثمن مع فقده في البلد واحتياج النّاس إليه ولا يوجد بايع ولا باذل مطلقا غيره، فلو لم يشتره.

ص: 103

بل: كان غلَّته لم يكره کما عن النهاية للصّحيح: الحكرة أن يشتري طعاما ليس في المصر غيره، ونحوه الخبر المتقدّم عن المجالس لكنّه ضعيف السند، ومع ذلك الشرط فيه كالأوّل يحتمل وروده مورد الغالب فالتعميم أجود، وفاقا للمسالك عملا بالإطلاق والتفات إلى مفهوم التّعليل في الصّحيح المتقدّم: يكره أن يحتكر والنّاس ليس لهم طعام - إلى أن قال: ويشترط زيادة على ما مرّ أن يستبقيه في زمان الرّخص أربعين يوما وفي الغلاء ثلاثة أيّام، فلا حكرة قبل الزمانين في الموضعين لرواية ضعيفة عن المقاومة لما مرّ وتقييده قاصرة، ويجبر الحاكم المحتكر على البيع مع الحاجة إجماعا، کما في ب وقیح و کلام جماعة وهو الحجّة مضافا إلى الخبرين في أحدهما أنّه مرّ بالمحتكرين فأمر بحكرتهم إلى أن يخرج في بطون الأسواق وحيث ينطلق الناس إليها.

وهل يسعّر الحاكم السّعر عليه حينئذ الأصح الأشهر لا، مطلقا وفاقا للطَّوسي والرّضي والحلَّي والشّهيد الثاني للأصل وعموم السلطنة في المال، وخصوص الخبر: لو قوّمت عليهم، فغضب (صلَّى الله عليه وآله) حتّی عرف الغضب من وجهه فقال: أنا أقوّم عليهم إنّما الشعر إلى الله تعالى يرفعه إذا شاء ويضعه إذا شاء.

خلافا للمفيد والدّيلمي فيسعّر عليه بما يراه الحاكم من المصلحة لانتفاء فائدة الإجبار لا معه لجواز الاجحاف في القيمة، وفيه منع انحصار الفائدة فيما ذكره مع اندفاع الاجحاف بما يأتي.

ولا بن حمزة والفاضل واللَّمعة فالتفصيل بين اجحاف المالك فالثاني، وعدمه فالأوّل، تحصیلا لفائدة الإجبار ودفعا لضرر الاجحاف، وفيهما نظر

ص: 104

فقد يحصلان بالأمر بالنزول عن المجحف وهو وإن كان في معنى التّسعر إلَّا أنه لا ينحصر على قدر خاصّ.

هذا خلاصة ما ذكره الفقهاء في باب الاحتکار نقلناه عن الرّياض مزدوجا شرحه مع متن المختصر النافع للمحقق رحمه الله.

ب- احتكار المنافع، کما عبرّ في كلامه (عليه السّلام) والظاهر أنّ احتکار المنافع الَّتي عنونه عليه السّلام غير الاحتكار المعنون في الفقه، والمقصود منه الحرص على أخذ الأرياح والمنافع من التجارات زائدا عن المقدار المشروع على الوجه المشروع بحيث يؤدي هذا الحرص والولع إلى تشكيل الشّركات وضرب الانحصارات الَّتي شاع في هذه العصور ومال إليه أرباب رؤس الأموال الهامّة في الشركات النفطية والانحصارات المعدنية ويدلّ على ذلك أمور:

1- أنّه (عليه السّلام) جعل ثمرة الضّيق الفاحش والشحّ القبيح احتکار المنافع، والاحتكار المعنون في الفقه هو احتكار الأجناس والحبوبات المعيّنة، والفرق بينهما ظاهر.

2- أنّه (عليه السّلام) عطف على قوله «احتکارا للمنافع «قوله» وتحکَّما في البياعات» والبياعات جمع معرّف بالألف واللَّام يفيد العموم، والاحتكار الفقهي لا ينتج هذا المعنى بل التحكَّم في البياعات والتسلَّط على الأسواق معنی آخر ناش عن الانحصارات التجاريّة الَّتي توجدها أرباب رؤوس الأموال.

3- ما رواه في الوسائل بسنده عن محمّد بن یعقوب، عن أبي عليّ الأشعري، عن محمّد بن عبد الجبّار، عن أحمد بن النّضر، عن أبي جعفر الفزاري قال: دعا أبو عبد الله (عليه السّلام) مولى يقال له مصادف فأعطاه

ص: 105

ألف دينار وقال له: تجهّز حتّى تخرج إلى مصر فإنّ عيالي قد كثروا، قال: فتجهّز بمتاع وخرج مع التجّار إلى مصر، فلمّا دنوا من مصر استقبلتهم قافلة خارجة من مصر فسألوهم عن المتاع الَّذي معهم ما حاله في المدينة وكان متاع العامّة فأخبروهم أنّه ليس بمصر منه شيء فتحالفوا وتعاقدوا على أن لا ينقصوا متاعهم من ربح الدينار دينارا، فلمّا قبضوا أموالهم انصرفوا إلى المدينة فدخل مصادف على أبي عبد الله (عليه السّلام) ومعه كيسان كلّ واحد ألف دينار فقال: جعلت فداك هذا رأس المال وهذا الاخر ربح، فقال:

«إنّ هذا الرّبح كثير ولكن ما صنعتم في المتاع»؟

فحدّثه كيف صنعوا وتحالفوا، فقال:

«سبحان الله تحلفون على قوم مسلمين أن لا تبيعوهم إلَّا بربح الدينار دينارا».

ثمّ أخذ أحد الكيسين وقال: هذا رأس مالي ولا حاجة لنا في هذا الرّبح، ثمّ قال:

«یا مصادف مجالدة السّيوف أهون من طلب الحلال».

وقد رواه بسندين آخرين مع اختلاف يسير.

أقول: يستفاد من هذا الحديث أنّ التّجار أو جدوا في معاملتهم مع أهل مصر انحصارا وهم محتاجون على المتاع فأخذوا منهم مائة في المائة من الرّبح فلمّا اطلع الإمام على عملهم لم يتصرّف في هذا الرّبح لأنّه مأخوذ من أرباب الحاجة إلى المتاع بالتّحالف وإيجاد الانحصار الموضعي، وهذا هو عين ما يستعمله أصحاب الشركات والانحصارات في هذا العصر وهو ما عبرّ عنه عليّ عليه السّلام «باحتكار المنافع والتحكَّم في البياعات» فيستفاد من ذلك

ص: 106

كله أنّ كبرى احتكار المنافع کبری مستقلَّة، ومغايرة مع كبرى الاحتکار المعنون في الفقه، وأنّه تشریع علويّ كما أنّ المنع عن الاحتكار في الطَّعام تشريع نبويّ.

فاحتكار المنافع في مورد تحالف الشركات والانحصارات على أسعار معينة في الأمتعة فيخرج وضع السّوق عن طبعه المبنيّ على مجرّد العرضة والتقاضا من دون مداخلة أمر آخر في ذلك، وحينئذ لا بدّ أن يداخل الحكومة وينظر في أمر الأسعار ويعين للأجناس سعرا عادلا يوافق مقدرة الناس المحتاجين إلى هذه الأمتعة ويمنع التجار الانحصارييّن عن الاجحاف بالناس في أسعارهم النّاشئة عن أهوائهم وولعهم بجمع الأموال والإغارة على العمّال والزّراع في مصّ دمائهم وأخذ أجورهم.

وأمّا الاحتكار الفقهي المبني على مجرّد الامتناع عن بيع الأطعمة المدّخرة انتظارا لارتفاع سعره فهو في مورد لا مداخلة لأرباب رؤوس الأموال في السّوق وكان السّوق على طبعه العادي والسعر حينئذ ينطبق على مقتضى تقاضا المبتاعين ومقدار عرضة البايعين وهو السّعر الَّذي يلهمه الله في قلوب أهل السّوق فيتوافقون عليه كما في حديث الوسائل في أبواب الاحتكار بسنده عن عليّ بن أبي طالب عليه السّلام أنه قال:

(رفع الحديث إلى رسول الله صلَّى الله عليه وآله، أنّه مرّ بالمحتكرين فأمر بحكرتهم أن تخرج إلى بطون الأسواق وحيث تنظر الأبصار إليها فقيل لرسول الله (صلَّى الله عليه وآله): لو قومّت عليهم، فغضب رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) حتّى عرف الغضب في وجهه فقال: أنّا أقوّم عليهم إنّما السّعر إلى الله

ص: 107

يرفعه إذا شاء ويخفضه إذا شاء).

فقوله عليه السّلام «فامنع من الاحتكار» يرجع إلى المنع عن احتکار المنافع وإيجاد الشركات الانحصاريّة وتعليله بأنّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) منع الاحتكار يحتمل وجهين:

1- أنه أخذ عن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) المنع عن الاحتکار المطلق بحيث يشمل احتكار المنافع واحتكار الأطعمة، فنقله عنه دليلا على ما أمر به من المنع عن احتكار المنافع.

2- أنه ذكر منع رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) عن احتكار الأطعمة تنظيرا وبيانا لحكمة التشريع مع أنه لا يحكم ولا يقول إلَّا ما علَّمه رسول الله (صلَّى الله عليه وآله).

وقد تبيّن ممّا ذكرنا أنّ الحقّ في مسئلة حق تسعير الحاكم وعدمه، هو التفصيل بين ما إذا كان وضع السّوق طبيعيّا عاديّا منزّها عن مداخلة أرباب رؤوس الأموال وأطماعهم فلا يجوز للحاكم تسعير الطعام أو المتاع الَّذي أجبر مالكه على عرضه للبيع ويرجع في السّعر إلى طبع السّوق الملهم من طبع العرضة والتقاضا.

وأمّا إذا كان السّوق تحت نفوذ أرباب رؤس المال ومطامعهم وحملوا عليه الانحصارات الرأسماليّة أو ما بحكمها فلا بدّ للحاكم من تعيين السعر العادل، کما قال عليه السّلام ولیکن البيع بيعا سمحا بموازین عدل وأسعار لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع)(1).

ص: 108


1- منهاج البراعة: ج 20، ص 270 - 274

المبحث الثالث بيع المضطر

قال أمير المؤمنين الإمام علي (عليه الصلاة والسلام):

«یَأْتِی عَلَی اَلنَّاسِ زَمَانٌ عَضُوضٌ یَعَضُّ اَلْمُوسِرُ فِیهِ عَلَی مَا فِی یَدَیْهِ، وَ لَمْ یُؤْمَرْ بِذَلِكَ قَالَ اَللَّهُ سُبْحَانَهُ:

«وَ لا تَنْسَوُا اَلْفَضْلَ بَیْنَکُمْ».

تَنْهَدُ فِیهِ اَلْأَشْرَارُ وَ تُسْتَذَلُّ اَلْأَخْیَارُ، وَ یُبَایَعُ اَلْمُضْطَرُّونَ، وَ قَدْ نَهَی رَسُولُ اَللَّهِ (صَلَّی اَللَّهُ عَلَیْهِ وَ آلِهِ) عَنْ بَیْعِ اَلْمُضْطَرِّینَ»(1).

تباينت اقوال فقهاء المذاهب الإسلامية في حكم بيع المضطربين الجواز وعدمه وبين تخصيص عنوان مستقل له كتب الفقه وبين ایراده ضمن بيع الاكراه؛ وهو كالاتي:

المسألة الأولى: حكم بيع المضطر في المذهب الإمامي.

تناول فقهاء المذهب الإمامي (أعلى الله شأنهم) بيع المضطر ضمن شروط المتعاقدين، في مبحث اشتراط الرضا وطيب النفس، وعده شرطاً في صحة عقد البيع، إذ يبطل عقد البيع إذا كان عن اكراه الغير، وهو على عكس بيع المضطر، فقد حكم الفقهاء بصحته.

ص: 109


1- نهج البلاغة، الحديث 468، ص 558

وأن الفرق بين بيع المكره وبيع المضطر بعد اشتراكهما في فقدان الرضا وطيب النفس، أن بيع المكره فاقد لما يشترط في صحته، وبيع المضطر فاقد لما لا يشترط في صحته، فلا يقدح فقدانه فيها.

وقد جعلوا جهات ثلاثة للفرق بين بيع المكره وبيع المضطر، وهي:

1- کون المكره فاقداً للاستقلال دون المضطر.

2- تعلّق القصد في بيع المضطر بالمسبب دون بيع المكره.

3- ضعف الارادة في بيع المكره دون بيع المضطر.

وقد تناول هذه المباحث السيد الكوهكمري (رحمه الله) (ت: 1374 ه) وقررها الشيخ ابو طالب التجليل التبريزي، ضمن كتاب البيع، وهي كالاتي:

المبحث الرابع: في اشتراط الرضا وطيب النفس.

ويشترط في العقد صدوره عن الرضا وطيب النفس ويقابله صدور العقد عن اكراه من الغير. ومعنى الاشتراط به بطلان العقد من أجل فقدانه له بعد استجاعه لغيره من الشروط الدخيلة في استتمامه.

ثمّ انّ الاشتراط به انّما هو بعد تحقق العقد وتقومه في نفسه، كما يظهر ذلك من كلمات الأصحاب ومن الأدلة الدالة على اعتباره، كقوله تعالى:

«تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ».

فاعتباره انّما هو في المرتبة التالية لمرتبة تحقق العقد، وتقومه بحصول جميع ما له دخل فيهما من الشروط، وقد عرفت سابقا أنّ قصد الإنشاء وارادة حصول البيع ممّا يعتبر في تحقق العقد.

فيبدو الإشكال حينئذ من حيث إنّه كيف يجتمع الإكراه وفقد الرضا

ص: 110

مع الإرادة الَّتي هي المرتبة الأكيدة من الشوق؟ نعم ربما يشتمل الفعل على مضرة تقتضي الكراهة، إلَّا أنّ رجحان ما فيه من المنفعة عليها، يكون موجبا لحصول الشوق به، وانقداح الإرادة له في نفس الفاعل.

وهذا هو الحال في كثير من الافعال، بل الغالب فيها عدم كونها متعلقة للشوق بذاتها ومحبوبة في نفسها، بل يتعلق الشوق بها بالعرض وباعتبار ترتب جهة محبوبة عليها ومن جملتها ما يكون مكروها في نفسه، إلَّا أنّ ترتب جهة محبوبة عليه، يوجب تحرك الشوق نحوه، وانقداح ارادة حصوله في النفس.

والحاصل: انّه لا ينافي وجود جهة الكراهة في الفعل تعلق الشوق والإرادة به فأمكن أن يقال: إنّ الإكراه على البيع لا ينافي حصول طيب النفس والرضا به وترك الشوق اليه، كالدواء المرغير الملائم للذائقة، فإنّه بذاته مكروه للإنسان، الَّا انّه يتعلق الشوق به ثانيا وبالعرض، باعتبار حصول الشفاء به.

وبالجملة: لا فرق بين بيع المضطر وبيع المكره في عدم كون كل منهما محبوبا لذاته بل مكروها و مبغوضا للبائع، وكونهما محبوبين في رتبة ترتب المصلحة عليهما. فلو كان المراد من اعتبار طيب النفس اعتباره في مرتبة ذات البيع يلزمه الحكم ببطلان بيع المضطر وبيع المكره کليهما، ولو كان اعتباره في المرتبة الثانية يلزمه الحكم بصحة کليهما.

نعم: غاية ما يوجد من الفرق بينهما، انّ المصلحة في بيع المكره وهو التخلص عن الظالم يترتب على نفس البيع، والمصلحة في بيع المضطر أمر يترتب على ما يحصل بالبيع، أعني التسلط على الثمن أو الثمن. وهو لا يوجب فرقا فيما هو المطلوب في المقام من الحكم بالصّحة أو البطلان.

ص: 111

وتوضيحه: أنّ الإرادة، سواء كانت تكوينية أو تشريعية، إذ تعلقت بأمر، تسري إلى مقدّماته وتتعلَّق بها بتبع تعلقها به سواء كانت واحدة أو متعددة، وسواء كانت عرضية، بأن يكون تأثيرها في حصول ذي المقدمة في مرتبة واحدة، أو طولية، بأن يكون تأثير بعضها مترتبا على تأثير بعض آخر، بوقوعها في سلسلة العلل والمعلولات، حتى تنتهي الى مقدمة لا يتوقف حصولها على مقدمة أخرى. فإذا تعلقت الإرادة بما هو محبوب بذاته، كحفظ النفس مثلا يصير كلّ واحدة واحدة من مقدماته متعلقة للإرادة، من دون فرق بين القريبة منها الى حصول ذي المقدمة والبعيدة منها.

فعلم ممّا ذكرنا: أن كون البيع مقدمة قريبة لحصول الغرض الأقصى وما هو المحبوب والمراد بالذات في بيع المكره، ومقدمة بعيدة له في بيع المضطر، لا يوجب فرقا في تعلق الشوق والإرادة بهما بل يقع كل منهما متعلقا للإرادة لمكان توقف المراد بالذات عليهما.

ثمّ انّه ربّما يتبادر الى بعض الأذهان، انّ الذي أوجب بطلان بيع المكره كون الكراهة فيه من ناحية الغير الذي أكرهه عليه. وهو أيضا غير مرضي عندنا فإنّ الكراهة في بيع المضطر أيضا ربّما تكون من ناحية الغير، کما لو أكرهه غيره على تحصيل الثمن ودفعه اليه.

هل كان الإكراه مانعا مستقلا عن صحة البيع أو کان مرجعه الى اشتراط الرضا يظهر من جميع ما ذكرنا. انّ التمسك بقوله تعالى: «تِجارَة عَن تَراضٍ» أو ما دلّ من الروايات على اعتبار طيب النفس والرضا في البيع غير مقرون بالصحة.

ص: 112

لاشتماله على التراضي وطيب النفس من حيث ترتب عنوان تعلق به الرضا وطيب النفس عليه وان كان فاقدا له في ذاته بيع المضطرّ طابق النعل بالنعل. فلم يبق إلا ان تكون للإكراه موضوعية في نفي الصحة عن البيع بنحو المانعية، من دون ان يكون مرجعها الى اشتراط الرضا ویکون الدليل في إثباتها هو الاخبار الواردة في باب الطلاق، وعموم حديث الرفع بناء على تعميمه على رفع جميع الآثار.

وانّما يختصّ حديث الرفع لإثبات خصوص بيع المكره، دون المضطر، مع انّ من جملة المرفوعات به هو ما اضطروا إليه، لأنّ الحديث مسوق لأجل الامتناع والتوسيع على العباد. فلا يشمل لا محالة على بيع المضطر لعدم وجود الامتنان في رفع أثره، بل الامتنان في إمضائه بخلاف بيع المكره فانّ من الواضح کون رفع أثره موافقا للامتنان. هذا كله تقریب ما ذكره السيد في المقام.

ويرد عليه، مضافا الى منع ما بني عليه التقريب، من کون بيع المكره وبيع المضطر مكروهين لبايعهما في مرتبة ذاتهما، ومحبوبين لهما، في مرتبة ترتب المصلحة عليه. ومحصل المنع: أنّ مقتضى التحقيق في باب اجتماع الأمر والنهي، انّ اختلاف العنوان لا يكفي في إمكان تعلق الإرادة والكراهة فعلا على معنون واحد، فضلا عن ان يكون الاختلاف في الرتبة مع وحدة العنوان، فالصحيح ان يقال: انّ البيع قبل طروّ الإكراه أو الاضطرار الموجبين لترتب المصلحة عليه كان مكروها، فإذا بدا ترتّب المصلحة عليه زالت الكراهة عنه وتبدلت بالشوق والإرادة.

ص: 113

«أولا» إنّ الظاهر من كلمات الأصحاب - حيث ذكروا بعد القول ببطلان بيع المكره انّه لو رضي به بعد تحققه صح - أنّ بطلان بيع المكره ليس إلا لأجل عدم اقترانه بالرضا وطيب النفس، لا لأجل أنّ الإكراه أوجب بطلان البيع مع كونه مشتملا على طيب النفس والرضا. وهو المستفاد من الروايات الواردة في بطلان بيع المكره.

فمنها رواية منصور بن يونس(1) قال: سألت العبد الصالح وهو بالعريض، فقلت له: جعلت فداك إنّي تزوجت امرأة وكانت تحبني فتزوجت عليها ابنة خالي، وقد كان لي من المرأة ولد، فرجعت الى بغداد فطلقتها واحدة، ثم راجعتها ثم طلقتها الثانية، ثم خرجت من عندها أريد سفري هذا حتی کنت بالكوفة أردت النظر الى ابنة خالي، فقالت أختي وخالتي: لا تنظر إليها والله ابدا حتى تطلق فلانة. فقلت: ويحكم والله مالي إلى طلاقها من سبيل.

فقال لي: (ما هو شأنك ليس لك إلى طلاقها من سبيل)؟

فقلت: انّه كانت لي منها ابنة وكانت ببغداد وكانت هذه بالكوفة، وخرجت من عندها قبل ذلك بأربع، فأبوا علي إلا تطليقها ثلاثا، ولا والله، جعلت فداك ما أردت الله، ولا أردت إلا أن أداريهم عن نفسي. وقد امتلأ قلبي من ذلك. فمكث قليلا مطرقا ثمّ رفع رأسه وهو متبسم ، فقال:

(أمّا بينك وبين الله فليس بشيء، ولكن إن قدموك الى السلطان أبانها منك). انتهی.

ص: 114


1- الوسائل، کتاب الطلاق، أبواب مقدماته باب 38، وسنده صحيح

فقوله: ما أردت الله، وانّما أردت أنّ أداريهم في نفسي صريح في فقدان عقده عند الإكراه لطيب النفس والرضا فأفتى الإمام (عليه السلام) ببطلان العقد على فرض مسألة الراوي.

ومنها قوله عليه السلام في رواية يحيى بن عبد الله بن حسن:(1)

«لا يجوز طلاق في استكراه» إلى أن قال:

(وانّما الطلاق ما أريد منه الطلاق من غير استكراه). «الحديث».

«وثانيا» انّه لا دليل على موضوعية الإكراه في المنع عن صحة المعاملة.

«امّا الروايات»: فقد عرفت انّ دلالتها على بطلان عقد المكره مقرونة بالدلالة على عدم وجود الرضا وفقد ارادة تحقق مضمون العقد «واما حديث الرفع» فلأنّه لا يقتضي رفع أثر المكره بالمعنى الذي تقدم في رواية منصور بن يونس، اعني الإقدام على البيع لأجل المداراة مع الأخت والخالة. فإنّ من المعلوم عدم إمكان التمسك به على رفع حرمة شرب الخمر لأجل المداراة مع الناس.

وممّا ذكرنا يعلم الإشكال في تمسّك الشيخ «قده» أيضا على بطلان بيع المكره بحديث الرفع. مضافا الى انّ المنع يتطرق اليه بناء على ما تسلمه من کون بطلان عقد المكره لأجل فقدانه للرضا، فانّ حديث الرفع على ما حققه في الفرائد لا يصلح لرفع الآثار المترتبة على احد العناوين الثانوية المذكورة فيه.

ص: 115


1- الوسائل، کتاب الطلاق، أبواب مقدماته باب 37، وعبد الله هذا لم يتعرّض لتوثيقه ولكنّه كان شيخ بنی هاشم في زمانه وباقي رجال السند ثقات

بل: إنّما يصلح لرفع الآثار المترتبة على ذات الموضوعات من غير تقيد بتلك العناوين أو عدمها. فلا يجوز التمسك بها على رفع الأثر المترتب على البيع المتقيد بالرضا، وهو عدم الكره، أو بالعكس على ما ذكره.

«وثالثا» عدم صدق الرضا على البيع مع الإكراه عرفا.

وممّا يدلّ على فقدان بيع المكره للرضا وطيب النفس مع كونه مقرونا بالإرادة والقصد، عدم التنافي بينها، قوله تعالى:

«مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ» «إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ»(1)

فإنّها تدلّ على انّهم كفروا لا عن طيب نفس منهم بل كانت قلوبهم مطمئنة بالايمان مع انّهم انّما كفروا عن قصد، والا لم يصدق عليهم أنّهم كفروا رأسا هذا.

ثمّ انّه ذكر بعضهم في تقريب الفرق بين بيع المضطر وبيع المكره في صحة الأوّل دون الثاني: عكس ما ذكره السيد، وهو كون کليهما واجدين للرضا وطيب النفس. فالتزم بكون كلیهما فاقدين للرضا وطيب النفس. ثمّ بنی عليه أن بيع المكره تفرد عن بيع المضطر باشتراط الرضا فيه دونه فأوجب فقدانها بطلان الأول دون الثاني.

وذكر في وجهه: انّ الأدلَّة الدالَّة على اعتبار الرضا وطيب النفس كانت في مقام التوسيع والامتنان، فلا تشمل بيع المضطر لكون اعتبار هما فيه منافيا للامتنان. فالفرق بين بيع المكره وبيع المضطر بعد اشتراكهما في فقدان الرضا وطيب النفس، انّ بيع المكره فاقد لما يشترط في صحته، وبيع المضطر فاقد لما

ص: 116


1- النحل: 106

لا يشترط في صحته فلا يقدح فقدانه فيها.

المبحث الخامس في جهات الفرق بين بيع المكره والمضطر.

الجهة الأولى: كون المكره فاقدا للاستقلال دون المضطر.

التحقيق: كما ذكره الشيخ في المكاسب وهو الظاهر من المشهور، ان الفرق بين بيع المكره وبيع المضطر فقدان بيع المكره للرضا وطيب النفس دون بيع المضطر. ومن هنا صح التمسك على بطلان بيع المكره بقوله تعالى:

«تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ»(1) وقوله (عليه السلام): «لا يحلّ مال امرء مسلم الا عن طيب نفسه»(2).

وقد انهى الشيخ في تحقيق ذلك في ضمن کلام قصير وبيان يسير حيث قال ((والحاصل، انّ الفاعل قد يفعل لدفع الضرر، لكنّه مستقل و محلى طبعه فيه، بحيث تطيب نفسه بفعله، وان كان من باب علاج الضرر. وقد يفعل لدفع ضرر إيعاد الغير على تركه، وهذا ما لا تطيب النفس به)).

وتوضيحه حيث ترتفع السترة عن كلامه، وينكشف عن غطاء الخفية مرامه. أن سراية الإرادة إلى المقدمة، تكوينية كانت أو تشريعية، تتبع كيفية توقف المراد وترتبه عليها، لا على إطلاقها بل مقيدة بحصول قيد كانت سراية الإرادة إليها أيضا عند تقيدها بالقيد المذكور. ومن هنا يحصل الفرق بين وجوب الطهارة عن الحدث وبين وجوبها عن الخبث في كون الواجب في مورد الطهارة عن الحدث متقيدا بقصد القربة بحيث لو لم يحصل قصد

ص: 117


1- النساء: 29
2- البحار ج 73، ص 350 نقلا عن تحف العقول في خطبة النبي صلى الله عليه وآله في حجة الوداع: قال «ص» ولا يحلّ لمؤمن مال أخيه الا من طيب نفسه

القربة عند الغسل لم يتحقق به الطهارة ولم يحصل الواجب. وفي مورد الطهارة عن الخبث غير متقید به.

ومن هذا القبيل، الفرق بين بيع المضطر والمكره، فانّ الواجب بالذات وما تعلقت الإرادة به أولا، وهو حفظ النفس مثلا، يتوقف تارة على إيجاد البيع مطلقا من غير تقيد بحصول طيب النفس، کما في مورد بيع المكره. فانّ حفظ النفس عند اکراه الغير له وإيعاده بالقتل إنّما يتوقف على إيجاد البيع مطلقا، من دون اعتبار تقييده بالاقتران بطيب النفس والرضا، لكونهما من الأمور القلبية الخفية على الغير.

وتارة على إيقاعه متقيدا بحصول طيب النفس، کما في مورد بیع المضطر، فانّ حفظ النفس عند المجاعة وبدوّ الاضطرار يتوقف في حق من يتعبد بالشرع على بيع داره بالرضا وطيب النفس، لعدم حلّ ما يأخذه من الثمن الا ببيعها عن طيب النفس والرضا، فتتعلَّق الإرادة لا محالة بتحصيلهما. بخلاف بيع المكره فلا تتعلق ارادة المكره بتحصيلهما، لعدم توقف حصول الغاية عليه، وهي مجرد دفع شر الغير.

نعم: ربّما يتعلق ارادة المكره بتحصيل الرضا في نفسه عند البيع المكره عليه، لأجل عروض جهات اخرى تتوقف عليه. کما إذا أراد المكره عند إكراهه على طلاق امرأته عدم تزوجها من غيره لا على الوجه الشرعي الموجب للزنا، أو أراد المكره عند إكراهه على بيع ماله حلية ما يأخذه من الثمن عن المشتري، أو غيرهما من الأغراض والجهات الطارية، صح الطلاق والبيع وغيرهما. إلا أنّ ذلك خارج عن مورد البحث. والمبحوث عنه في المقام مجرد فرض ارادة المكره عن البيع دفع مضرة الغير.

ص: 118

فالمكره عليه من البيع نظیر مورد الطهارة عن الخبث في عدم توقف المراد الا على ذات المقدمة، ويقابله بيع المضطر في كون مورده ممّا يتوقف تحقق المراد على المقدمة متقيدا بقيد، وهو قصد القربة في الطهارة، وطيب النفس في بيع المضطر، فكما كان المصلي يتعب نفسه في تحصيل الطهارة عن الحدث من أيّ شيء حصل وعلى أيّ شيء توقف، لأجل الوصول الى نعيم الجنّة، والاحتراز عن حميم النار، فكذلك المضطر يتعب نفسه في تحصيل الرضا وطيب النفس من أيّ شيء حصل وعلى أي شيء توقف [1] فانّ الغرض الأقصى له وهو صيرورة الثمن ملکا مباحاله يتوقف على البيع عن الرضا وطيب النفس.

لقوله تعالى:

«لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ» وقوله (صلى الله عليه وآله):

«لا يحل مال امرء مسلم الا عن طيب نفسه».

نعم: ربما يتعلق غرضه بمجرد السلطنة على الثمن دون صيرورته ملکا مباحا له، وهو لا يتوقف على الرضا بالبيع، بل يحصل الغرض المذكور مع فساد البيع. الَّا أنّ هذه الصورة خارجة عن مورد البحث في بيع المضطر، لعدم كونه حينئذ مضطرا على البيع بل على مجرد السلطنة على الثمن بأيّ نحو حصل، سواء صار ملكا له مباحا شرعا أم لا. وهي لا تتوقف الا على صورة البيع، دون البيع المستجمع لشرائط الصحة التي منها حصول الرضا وطيب النفس. إلا انّ هذه الصورة خارجة عن فرض البحث وهو الاضطرار بالبيع.

ص: 119

لا يقال فعلى ما ذكرت يخرج بيع المكره عن كونه بيعا أصلا، لعدم توقف حفظ النفس ودفع شر الغير الا على التكلم بلفظ بعت، ولو عن تورية فإنّه يقال: انّ المكره على البيع ربّما لا يلتفت الى التورية، فيقصد معنی البيع لا محالة بالإكراه.

الجهة الثانية: تعلَّق القصد في بيع المضطرّ بالمسبب دون بيع المكره اعلم أنّ سريان الإرادة وترشحها انّما يكون في الأمور المترتبة، من المرتبة المتأخرة إلى المتقدمة عنها في المرتبة. ولذا تتعلق الإرادة أولا بالغرض الأقصى، ثمّ تترشح منه الى ما توقف عليه ذلك، ثمّ يتعلق ثالثا على ما يتوقف عليه حصول المرتبة الاولى، وهكذا. كما لو غلب عليه العطش، واشتاق الى شرب الماء، فتتعلَّق ارادته أوّلا: بشرب الماء، ويتعلق ثانيا: بتحصيل الماء، وثالثا: بأمر العبد بإحضاره، وهكذا. وكما إذا أراد إتيان الصلاة، تتعلق إرادته أولا بإتيان الصلاة، ثم تتعلق ثانيا بالتوضي، وتتعلق ثالثا: بتحصیل مايتوضی به من الماء، وهكذا.

وبالجملة: انّ تعلق الإرادة بالمسبب، هو الموجب لتعلقها بالسبب دون العكس. وامّا إذا تعلقت الإرادة أوّلا بالسّبب، فان كان علَّة تامة لحصول المسبب بحيث يترتب عليه المسبّب من غير توقف على حصول شرط أو ارتفاع مانع، سواء تعلقت بذاته أو من أجل غيره وعلم بكونه كذلك، يكون ارادة السبب ارادة له بالتبع. وان كان علَّة غير تامّة، وتوقف ترتب حصول المسبب عليه على وجود شرط أو ارتفاع مانع، أو كان علَّة تامّة له في زعمه، ولم يكن كذلك في الواقع، لا يقع المسبب تحت الإرادة بتبع ارادة السبب.

ومنه يظهر الفرق بين بيع المضطر، وبيع المكره، فإنّ الإرادة تتعلَّق في بيع

ص: 120

المضطر أوّلا بالمسبب اعني حقيقة البيع فتترشح منه الى سببه، وهو العقد. فيصح البيع لعدم قصور فيه لوقوع كل من السبب والمسبب تحت الإرادة. وامّا في بيع المكره فتتعلّق الإرادة أولا بالسبب، اعني العقد مع جميع ما يعتبر فيه من الإرادة الاستعمالية والجدية أعني جعل اللَّفظ مرآتا لتحقق البيع لوقوع الإكراه عليه. ولو لم يتعلق الإكراه إلا على مجرد التلفظ بلفظ الإيجاب أو القبول خرج عن محل الكلام، فانّ المفروض في بحث بيع المكره تعلق الإكراه بالعقد. فلا تترشح الإرادة منه الى المسبب، وهو حصول حقيقة البيع في الخارج. لعدم كون العقد علَّة تامة لها، بل يتوقف حصولها معه على حصول طيب النفس والرضا، سواء علم بذلك المكره أو لم يعلم، وزعم أنّ تحقق البيع في الخارج يترتب على مجرد العقد. لما عرفت من انّ تعلق الإرادة بالمسبّب بتبع تعلَّقها بالسبب، ينحصر فيما إذا كان السبب علَّة تامّة له مع علم المريد به.

الجهة الثالثة: ضعف الإرادة في بيع المكره دون بيع المضطر اعلم انّ العلماء ذكروا في الأبواب المتفرقة من الغصب والقصاص، والديات: انّ السببيّة من جملة موجبات الضمان في الأموال والنفوس. وموردها كلما كان استناد العمل الى السبب أو الى المباشر مع كون السبب أقوى في التأثير منه واقسامه أربعة.

«الأول» ان تكون الواسطة بين الفعل والسبب شيئا فاقدا للشعور، كتوسط السكين بينه وبين القطع والقتل.

«والثاني» ان تكون شخصا واجدا للشعور، لكنّه كان في وساطته فاقدا للإرادة، كما لو أدخل في طعامه سما ولم يعلمه، فأكله كان المباشر للقتل هو نفسه، إلَّا أنّه أقدم به لا عن ارادة.

ص: 121

«الثالث» ان تكون شخصا واجدا للشعور والإرادة كليهما، ولكن كانت ارادته من نفسه بمنزلة العدم كما لو كان طفلا غير مميز.

«والرابع» ان تكون شخصا واجدا للشعور والإرادة الكاملة لكنّه كان فاقدا للاستقلال في إرادته وكان ضعيفا فيها، كالقاضي في حكمه، فإنّ الحكم يصدر منه عن ارادة إلا أنّه غير مستقل فيها، بل تتبع الشهود في شهادتهم. فلو شهدوا على ارتكاب شخص بالسرقة فحكم القاضي بقطع يده، كانت ديتها على الشهود، وان كان المباشر هو القاضي. وكالمتلف لمال الغير عن اغترار، كما لو دفع اليه المال فأتلفه ثمّ انكشف كونه للغير، فانّ الضمان يستقرّ على ذمة من اغرّه وان كان المغرور قد أقدم عليه عن إرادة الا انّه غير مستقل فيها.

ومن جملة موارد هذا القسم هو المكره. فان المكره غير مستقل في عمله، وان كان مريدا له، لكون ارادته مغلوبة لإرادة المكره بالكسر. فلا يترتّب على عمله - بما انّه عمل له - أثر لا في الأموال ولا في النفوس. الا القتل، فإنهم صرحوا بعدم جوازه ولو عن أكراه «والسر فيه» انّ الإكراه انّما يحصل إذا قطع أو ظنّ بأنّه لو ترك الاقدام لتوجه اليه الضرر من ناحية المكره، ولا ضرر أعظم من القتل يقطع أو يظنّ بتوجهه اليه عند تركه لقتل الغير.

ونفوس المؤمنين متساوية في الحرمة، فلا يجوز له الاقدام بقتل الغير دفعا ليا لمضرة عن نفسه، وان كان الضرر المتوجه إليه أيضا قتلا والحاصل انّ البيع وان كان مستندا الى المكره بالفتح، إلا انّه لم يكن مستقلا في إرادته. وهذا هو الفارق بين بيع المكره. وبيع الفضولي، حيث حكموا بكفاية لحوق الرضاء في

ص: 122

صحة الأوّل وعدمها فی الثانی، وتوقف صحته على إنشاء الوكالة قبل البيع أو الإجازة بعده. فانّ المانع عن صحة بيع المكره انّما هو عدم استقلال المكره في بيعه مع كونه مستندا اليه، ويرتفع المانع عنها ويتحقق الاستقلال بلحوق الرضا عليه. والمانع عن صحة بيع الفضولي هو فقد استناده الى المالك رأسا، فلابدّ من إيجاد الرابط بينه وبين المالك، واستناده إليه بالوكالة أو الإجازة.

تحقيق القول في الفرق بين بيع المضطر والمكره.

إذا عرفت هذه المقدمات، تقدر على جواب مسألة الفرق بين بيع المكره وبيع المضطر. وحاصل الجواب من وجوه.

«الأول» اشتمال بيع المضطر على ارادة تحقق البيع في الخارج، بخلاف بيع المكره. فإنّه وان اشتمل على الإرادة الاستعمالية والإرادة الجدية أعني جعل اللفظ مرآتا لحقيقة البيع، الا انه فاقد لإرادة تحقق البيع في الخارج.

«والثاني» حصول الرضا وطيب النفس في بيع المضطر، دون بيع المكره.

لما عرفت من انّ الإكراه لا يكاد يتعلق بالرضا وطيب النفس، لكونهما من الأمور القلبية الخفية على الغير. نعم لو كان المكره معصوما يطلع على القلوب يمكنه ان يكره البائع على تحصيل الرضا وطيب النفس، فيصحّ بيع من أكرهه عليه.

فانّ المراد من المكره في محل الكلام ليس هو المكره المصطلح عليه في الأصول، بل المراد: هو الفاقد العادم للرضا وطيب النفس، وان لم يتوجه إليه الإكراه المصطلح. كما لو كان ملزما على البيع لأجل مداراة أهله كما هو المذكور بعينه في الرواية المتقدمة مع انه لا يصدق عليه المكره بحسب

ص: 123

الاصطلاح. كيف ولو شرب الخمر مداراتا لأهله أو غيرهم، لم ترتفع عنه الحرمة والمؤاخذة.

وبالجملة: الاعتبار في المكره المصطلح عليه في باب البيع، على عدم حصول الرضا وطيب النفس، ولذا ذكر العلامة انه لو نوى البيع صحّ.

«والثالث» استقلال المضطر في بيعه، بخلاف المكره فإنّه غير مستقل في إرادة البيع ومغلوب فيها لإرادة المكره بالكسر.

ومنه يعلم انّه لا حاجة في إثبات بطلان بيع المكره إلى الأدلَّة الدالَّة على اعتبار الرضا وطيب النفس، فضلا عن الأدلَّة المدعاة دلالتها على مانعية الإكراه، لعدم شمول إطلاقات البيع كقوله تعالى «أُوفُوا بِالعُقُودِ» عليه، لكون الاستناد مأخوذا فيه، وقد عرفت في المقدمة الثالثة ضعف استناد البيع الى المكره بالفتح. والضعف في الاستناد كما أوجب نفى توجه الضمان الى المباشر عند ضعف ارادته، لأجل عدم شمول إطلاق من أتلف مال الغير فهو له ضامن عليه، كذلك يوجب نفي صحة البيع، لأجل عدم شمول أدلتها عليه.

نعم ما كان من الأدلَّة ممّا تعلق الحكم فيه بذات البيع، من دون أخذ الاستناد فيه كقوله تعالى «أَحَلَّ الله البَيعَ» يشمل بيع المكره أيضا على نسق شموله على غيره، ويحتاج تخصيصه بغير المكره إلى الأدلَّة الدالة على اعتبار الرضا في البيع.

وامّا ما ادعى دلالته على كون الإكراه مانعا عن صحة البيع اعني حديث الرفع فالإشكال فيه من وجوه.

«امّا أولا»، فلانّ المرفوع به كما تقدمت إليه الإشارة، هو الآثار المترتبة

ص: 124

على ذوات الأشياء، غير مقيدة بواحد من العناوين الثانوية المذكورة فيه، من الجهل والنسيان والإكراه وغيرها. فلا يرتفع بحديث الرفع وجوب سجدتي السهو لتقيد موضوعه بالسهو والنسيان، ولا ضمان دية قتل العمد لتقيد موضوعه بالعمد، وكذلك لا يرتفع بفقرة رفع ما استكرهوا عليه من الحديث اثر بيع المكره، فإنّه إنّما يترتب الأثر على البيع المتقيد بالرضا وطيب النفس في قبال الكراهة.

«وامّا ثانيا» فلإمكان منع إرادة جميع الآثار حتى الآثار الوضعية. نعم انّ مقتضى التحقيق عموم الرفع لجميع الآثار، لوجود الشاهد عليه في مورد الرواية.

«وأمّا ثالثا»، فلانّ مورد الحديث محمول على التقية، فيوجب ذلك وهنا في التمسك بها.

لكنّ التحقيق أنّ المسؤول عنه في الرواية، ليس هو خصوص الاستكراه على الحلف بالطلاق والعتاق. ليكون الجواب وما ذكر دليلا عليه في كلام الامام عليه السلام محمولا على التقية، لكون الحلف بالطلاق والعتاق مخالفا لمذهب الإمامية.

بل: المسؤول عنه هو الكبرى الكلية أعني الاستكراه على اليمين، ثمّ فرع عليها الصغرى اعني الحلف على العتاق والطلاق، فيكون الج-اب أيضا متوجها الى الحكم الكلى، من دون نظر إلى بطلان الصغرى في نفسها أصلا، کما يظهر ذلك بأدنى تأمل، ويشهد له وقوع السؤال عن الكبرى في جملة من الروايات.

ص: 125

ثمّ إنّه على تقدير كون السؤال عن الحلف بالطلاق والعتاق، نمنع عن كون الحكم المذكور في الجواب عن تقية. بل الحكم في الرواية ينطبق على ما هو عليه في الواقع كما هو الشأن في جميع الروايات الواردة في مورد التقية.

ولم نجد فيها ما يكون مخالفا للحكم الواقعي، بل كانت كيفيّة وقوع التقية فيها ذكر الحكم على نحو يتوهم السامع خلافه. كما في قوله (عليه السلام) في مجلس المنصور:

«ذلك للإمام إن أفطرت أفطرنا»، فإنّ الإمام (عليه السلام) لم يذكر فيها ما يخالف الواقع، وانّما اتقى عنه بإلحاق قوله «إن أفطرت أفطرنا» على قوله «ذلك للإمام» فزعم المنصور إنّه يريد من الامام إيّاه.

وكذا حديث الاستكراه فإنّه لم يقع فيها ما يخالف الواقع، وقد حصل التقية فيها بذكر قوله عليه السلام رفع إلخ، بعد نفيه لصحة الحلف بالطلاق والعتاق. وأوهم ذلك أن الحكم ببطلان الحلف بالطلاق كان لأجل عروض الاستكراه عليه، فلم ينسبق إلى أذهانهم أنّه لأجل كونه باطلا في نفسه.

وبالجملة: انّ حديث الرفع كلام مستقلّ أنشأه الإمام (عليه السلام) عقیب نفي صحة الحلف بالطلاق والعتاق. بل وفي رواية الراوندي قال: لا، ثم قال: رفع إلخ. وفيه دلالة على وقوع التراخي بين الكلامين، وهو يؤيد كون رفع إلخ كلاما مستأنفا منقطعا عمّا قبله، فيرتفع الوهن عنه بجعل الكلام المتقدم عليه بيانا لمورده)(1).

ص: 126


1- کتاب البیع - تقرير بحث السيد الكوهكمري للتبريزي:، ص 233 - 246

المسالة الثانية: بيع المضطر في المذاهب الاخرى.

أولاً - المذهب الزيدي.

ذهب فقهاء الزيدية الى القول بصحة بيع المضطر وإن كان مغبوناً، وقيدت الصحة بعدم كون الاضطرار للجوع، او العطش، بحيث يخشى الهلاك فانه لا يصح بيعه حينئذ ولا شراؤه؛ وجعلوا الفرق بين المكره والمضطر هو: إن المكره: من يجبر على نفس البيع؛ والمضطر: لا يؤمر بالبيع ولا يجبر عليه، بل الجئ إليه لإمر آخر.

قال إمام الزيدية أحمد المرتضى (ت 840 ه):

(یصح البيع والشراء من مضطر ولو غبن غبنا فاحشا إلا أن يكون الاضطرار للجوع أو لعطش بحيث يخشي الهلاك فإنه لا يصح بيعه حينئذ ولا شراؤه ان عين غبنا فاحشا قال السيدح والفقيه ح هذا إذا لم يجد من يشتريه بقيمته لا إذا وجد من يشتريه بالقيمة صح بيعه بالغبن نعم والغبن الفاحش هو ما لا يتغابن الناس بمثله وسيأتي الخلاف في تحقيقه فإن باعه بقيمته أو بأقل قدر ما يتغابن الناس بمثله صح ذلك.

فأما المضطر لغير الجوع والعطش فيصح بيعه ولو غبن غبنا فاحشا كمن باع شيئا بغبن فاحش لأجل قضاء دينه أو لأجل أن يشتري شيئا آخر أو طرد من بلده فباعه لعدم التمكن منه و يصح البيع والشراء من المصادر ولو باع بتافه والتافه الشئ الحقير الذي لا قيمة له على انفراده والمصادر هو من أكره على تسليم مال ظلما فإذا أراد بيع ماله لتخليص ذلك المال صح بيعه.

ص: 127

هذا قول القاسمية والفقهاء وظاهر هذا سواء غبن أم لا وسواء باعه من الظالم وأعوانه أو من غيرهم وقال الأمير ح أما إذا باعه من الظالم أو أعوانه بغبن لم يصح وقال الناصر ان بيع المصادر لا يصح وظاهر إطلاقه انه لا فرق بين أن يبيعه بغبن أم لا وبقاه أبو ثابت على ظاهره وحمل أبو جعفر كلام الناصر انه إنا يفسد إذا غبن لا إذا لم يغبن)(1).

ثانياً - المذهب الشافعي.

تناول فقهاء الشافعية بيع المضطر ضمن بيع المكره، وصنفوا المضطر: بانه من يبيع على اكراره بحق، وهو بيع صحيح؛ وهو بعكس من يبيع على اكراه بغير حق، وهو (بيع المكره).

قال النووي (ت 676 ه):

(إن المكره بغير حق لا يصح بيعه؛ هذا مذهبنا وبه قال مالك وأحمد والجمهور؛ وقال ابو حنيفة: يصح ويقف على اجازة المالك في حال اختياره؛ واحتج اصحابنا بما ذكره المصنف، وحديث ابن عباس؛ أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال:

«إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه»

حديث حسن رواه ابن ماجة والبيهقي وغيرهما باسناد حسن فهذا مع ما ذكره المصنف هو المعتمد في دليل المسألة؛ وقد احتج بعض أصحابنا بأشياء لا يحتج بها (منها) ما رواه أبو داود باسناده عن شيخ من بني تميم قال خطبنا علي (عليه السلام) عنه قال:

ص: 128


1- شرح الأزهار: ج 3، ص 10 - 11

«نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن بيع المضطر، وبيع الغرر، وبيع الثمرة قبل أن تدرك».

ورواه البيهقي عن شيخ من بنى تميم عن علي - عليه السلام - قال:

«سيأتي على الناس زمان عضوض يعض الموسر على ما في يديه ولم يؤمر بذلك». قال الله جل ثناؤه:

«ولا تنسوا الفضل بينكم».

وشهد الإسرار ويستذل الأخيار وما يمنع المضطرون وقد نهي رسول الله (صلى الله عليه - واله - وسلم) عن بيع المضطر وعن بيع الغرر وعن بيع الثمرة قبل أن تطعم) وهذا الاسناد ضعيف لان هذا الشيخ مجهول.

قال البيهقي: وقد روى من أوجه عن علي وابن عمر وكلها غير قوية (ومنها) ما رواه البيهقي باسناد ضعيف عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):

«لا يركبن رجلا بحرا الا غازيا أو معتمرا أو حاجا فان تحت البحر نارا وتحت النار بحرا وتحت البحر نارا ولا يشترى مال امرئ مسلم في ضغطه».

قال البخاري لا يصح هذا الحديث والله تعالى أعلم (فرع) ذكر الخطابي في تفسير حديث علي (عليه السلام) أن بيع المضطر يكون على وجهين (أحدهما) أن يضطر إلى العقد من طريق الاكراه عليه فلا ينعقد العقد (والثاني) أن يضطر إلى البيع لدين أو مؤنة ترهقه فيبيع ما في يده فالوكس من أجل الضرورة فسبيله من حيث المروءة أن لا يترك حتى يبيع ماله ولكن

ص: 129

يعان ويقرض ويستمهل له إلى الميسرة حتى يكون له فيه بلاغ فان عقد البيع على هذا الوجه صح ولم يفسخ ولكن كرهه عامة أهل العلم)(1).

ثالثاً - المذهب المالكي.

ذهب فقهاء المالكية الى القول: بصحة بيع المضطر، وعدم صحة بيع المكره.

قال الحطاب الرعيني (ت 954 ه) نقلاً عن إمام المالكية وقد سئل: (عمن يتعدى عليه الاعراب فيسجنونه فيبيع هو أو من يحتسب له ربعاً لفدائه، هل يجوز شراؤه أم لا؟.

وكذا ما أخذه المضطر من الدين هل يلزم ألا؟ فأجاب:

بيع المضطر لفدائه جائز ماض، باع هو أو وكيله يأمره، وكذا أخذه معاملة أو سلفاً؛ ومن فعل ذلك معه أجر على قدر نيته في الدنيا والآخرة)(2).

المسألة الثالثة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة.

أولاً - صحة بيع المضطر لدفع الضرر.

1- وبه قال: فقهاء الإمامية، والزيدية، والشافعية، والمالكية.

2- لم يرد في مصنفات فقهاء المذهب الحنبلي، والحنفي، والاباضي، مبحث خاص ببيع المضطر، بل تناول الفقهاء موضوع الاكراه، وبيع المكره.

ص: 130


1- المجموع للنووي: د 9، ص 161 - 162
2- مواهب الجليل: ج 6، ص 42

ثانياً - إن الفرق بين المكره والمضطر منوط بالرضا وطيب النفس والعقد والإدارة والاستقلال.

1- ذهب الإمامية الى القول: بان الفرق بين المكره والمضطر وان اشتركا بالرضا وطيب النفس لكن الفرق بينهما هو: أن المضطر قاصد في البيع ولديه أرادة، و مستقل في قراره.

2- وقال الزيدية: بان المضطر لا يجبر على البيع ولا يؤمر به، ولكن الجئه إليه أمر ليدفع به الضرر.

3- وقال الشافعية: بان المضطر من باع لدفع الجوع والعطش، وهو أمر حق أو للخروج من السجن أو للعلاج وغيرها، والمكره من كان بيعه على غیر حق وبه قال المالكية.

المسألة الرابعة: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة.

قال (عليه الصلاة والسلام):

«یَأْتِی عَلَی اَلنَّاسِ زَمَانٌ عَضُوضٌ یَعَضُّ اَلْمُوسِرُ فِیهِ عَلَی مَا فِی یَدَیْهِ، وَ لَمْ یُؤْمَرْ بِذَلِكَ قَالَ اَللَّهُ سُبْحَانَهُ:

«وَ لا تَنْسَوُا اَلْفَضْلَ بَیْنَکُمْ».

تَنْهَدُ فِیهِ اَلْأَشْرَارُ وَ تُسْتَذَلُّ اَلْأَخْیَارُ، وَ یُبَایَعُ اَلْمُضْطَرُّونَ، وَ قَدْ نَهَی رَسُولُ اَللَّهِ (صَلَّی اَللَّهُ عَلَیْهِ وَ آلِهِ) عَنْ بَیْعِ اَلْمُضْطَرِّینَ»(1).

لم يتناول الكثير من شراح نهج البلاغة هذه الحكمة بالبيان والايضاح ولذا:

ص: 131


1- نهج البلاغة شرح محمد عبده، ج 4، ص 1108 برقم 468

سنورد بيان السيد حبيب الله الخوئي، وابن أبي الحديد المعتزلي، وهما كالاتي:

أولاً - السيد حبيب الله الخوئي الهاشمي.

قال (عليه الرحمة والرضوان):

(هذه الحكمة من ملاحمه عليه السّلام وتنبأته عن المستقبل، وهي غير قليلة في خطبه وحكمه يخبر فيها عن زمان يقرب من زمانه إلى هذه العصور ويعلمه بخمس علامات:

1- زمان الضيق والشدّة على أهله من جهة ضيق المعاش وتنوّع الملاذّ وكثرة القوانين والحدود الموضوعة من الظلمة والجبّارين على الضّعفاء والمساكين وغير ذلك.

2- إمساك الأثرياء على أموالهم ومنع الحقوق الواجبة والانفاق على ذوي الحاجة.

3- نهوض الأشرار إلى تصدّي الولايات والرئاسات وتسلَّطهم على الأمور وارتفاع أقدارهم في الدّنيا.

4- استدلال أهل الإيمان والأبرار وعدم الاعتناء بهم في الأمور ومظانّ الاقتدار.

5- الاضطرار على المعاملة من وجوه شتّی يبيع الناس نفوسهم للبيعة والانتخاب ويضطرّون إلى بيع أموالهم من ذوي النفوذ والسلطة والاقتدار)(1).

ص: 132


1- منهاج البراعة: ج 21، ص 533

ثانياً - ابن أبي الحديد المعتزلي.

قال الشارح المعتزلي في بيان معنى هذا الحديث الشريف:

(زمان عضوض، أي كلب على الناس، كأنه يعضهم، وفعول للمبالغة، کالنفور العقوق، ويجوز أن يكون من قولهم بئر عضوض، أي بعيدة القعر ضيقه، وما كانت البئر عضوضا، فأعضت كقولهم: ما كانت جرورا فأجرت، وهي كالعضوض. وعض فلان على ما في يده أي بخل وأمسك.

وينهد فيه الأشرار، ينهضون إلى الولايات والرياسات، وترتفع أقدارهم في الدنيا، ويستذل فيه أهل الخير والدين. ويكون فيه بيع على وجه الاضطرار والإلجاء، كمن بیعت ضيعته، وهو ذلیل ضعيف، من رب ضيعة مجاورة لها ذي ثروة وعز وجاه فيلجئه بمنعه الماء واستذلاله الأكرة والوكيل إلى أن يبيعها عليه، وذلك منهي عنه، لأنه حرام محض)(1).

ص: 133


1- شرح نهج البلاغة للمعتزلي: ج 20، ص 219

ص: 134

الفصل الثالث : «استحباب طلب الرزق والإجمال في الطلب»

اشارة

ص: 135

ص: 136

المبحث الأول استحباب التجارة والسعي لطلب الرزق والاستعانة به على الآخرة

إنّ الاحاديث الشريفة التي اختصت باستحباب التجارة والسعي لطلب الرزق الواردة في كتاب نهج البلاغة لترشد الباحث الى أهمية التجارة واثرها في بناء الإنسان والمجتمع لا سيما إذا كان القصد في اتيناها الاستعانة على نيل الآخرة وبلوغ درجاتها.

في المقابل كانت الأحاديث التي تربي الإنسان على الاجمال في الطلب وعدم تملك الدنيا قلب المؤمن وان تكون اكبر همه لكثيرة هي الأخرة - والتي سنعرض لبيانها في المحب القادم - مما يتطلب ایجاد حالة من التوازن القيمي بين الطلب للغنى والمال وبين الاجمال في طلب الدنيا.

الحديث الأول:

قال أمير المؤمنين الإمام علي (عليه الصلاة والسلام) وقد دخل على العلاء بن زیاد الجاثي(1)، وهو من اصحابه، يعوده، فلما رأى سعة داره، قال:

ص: 137


1- العلاء بن زياد الحارثي، ترجم له السيد عبد اللطيف الكوهكري في هامش منهاج البراعة القطب الدين الروندي ج 2 ص 322. فقال: لعله، أي: (العلاء بن زیاد) هو الذي ذكره الحافظ الرازي في ((الجرح والتعدیل: ج 6، ص 255)) وقال: العلاء بن يزاد العدوي ا لبصري، وهو ابن زیاد بن مطر، كان قدم شام، روى عن أبيه وروى عنه جویر بن حازم

«مَا کُنْتَ تَصْنَعُ بِسِعَةِ هَذِهِ اَلدَّارِ فِی اَلدُّنْیَا وَ أَنْتَ إِلَیْهَا فِی اَلْآخِرَةِ کُنْتَ أَحْوَجَ وَ بَلَی إِنْ شِئْتَ بَلَغْتَ بِهَا اَلْآخِرَةَ تَقْرِی فِیهَا اَلضَّیْفَ وَ تَصِلُ فِیهَا اَلرَّحِمَ وَ تُطْلِعُ مِنْهَا اَلْحُقُوقَ مَطَالِعَهَا فَإِذاً أَنْتَ قَدْ بَلَغْتَ بِهَا اَلْآخِرَةَ فَقَالَ لَهُ اَلْعَلاَءُ یَا أَمِیرَ اَلْمُؤْمِنِینَ أَشْکُو إِلَیْكَ أَخِی عَاصِمَ بْنَ زِیَادٍ قَالَ وَ مَا لَهُ قَالَ لَبِسَ اَلْعَبَاءَةَ وَ تَخَلَّی عَنِ اَلدُّنْیَا قَالَ عَلَیَّ بِهِ فَلَمَّا جَاءَ قَالَ یَا عُدَیَّ نَفْسِهِ لَقَدِ اِسْتَهَامَ بِكَ اَلْخَبِیثُ أَمَا رَحِمْتَ أَهْلَكَ وَ وَلَدَكَ. أَتَرَی اَللَّهَ أَحَلَّ لَكَ اَلطَّیِّبَاتِ

ص: 138

وَ هُوَ یَکْرَهُ أَنْ تَأْخُذَهَا؟ أَنْتَ أَهْوَنُ عَلَی اَللَّهِ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: یَا أَمِیرَ اَلْمُؤْمِنِینَ هَذَا أَنْتَ فِی خُشُونَةِ مَلْبَسِكَ وَ جُشُوبَةِ مَأْکَلِكَ. قَالَ: وَیْحَكَ إِنِّی لَسْتُ کَأَنْتَ، إِنَّ اَللَّهَ تَعَالَی فَرَضَ عَلَی أَئِمَّةِ اَلْعَدْلِ أَنْ یُقَدِّرُوا أَنْفُسَهُمْ بِضَعَفَةِ اَلنَّاسِ کَیْلاَ یَتَبَیَّغَ بِالْفَقِیرِ فَقْرُهُ»(1).

الحديث الثاني:

قال (عليه الصلاة والسلام):

«أَلَا وإِنَّ مِنَ النِّعَمِ سَعَةَ المَالِ»(2).

لم يتعرض اکثر فقهاء المذاهب الإسلامية لهذه المسألة في مصنفاتهم الفقيه؛ ولذا سنورد ما جاء في المذهب الإمامي، والزيدي، والحنفي؛ فضلاً عن الاشارات في الفقه الشافعي، والمالكي.

المسألة الأولى: استحباب التجارة في المذهب الإمامي والاستعانة بلال على الأخرة.

أجمع فقهاء الإمامية على استحباب طلب الرزق لما فيه من الثواب العظيم لا سيما بطريق التجارة ولقد كان الكثر من اصحاب أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ليعملون بالتجارة.

بل: قالوا بوجوب طلب الرزق للمحتاج الذي لم يكن له وجه التحصل إلا من المعيشية؛ وهو افضل من التخلي للعبادة وذلك لتقديمه الواجب في الإنفاق على نفسه وعلى من تجب عليه نفقته.

ص: 139


1- نهج البلاغة: ج 2، ص 187 - 188 الخطبة (209)
2- نهج البلاغة: ج 4، ص 93 برقم (388)

ويكون التكسب مندوباً إليه إذا قصد به التوسعة على العيال وغيرها، ويكون مباحاً مع طلب الغناء والزيادة في المال.

قال العلامة بن المطهر الحلي (عليه الرحمة والرضوان) (ت 726 ه):

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):

«ملعون مَن ألقي كلّه على الناس»(1).

وهو أفضل من التخلي للعبادة.

روى عليّ بن عبد العزيز عن الصادق (عليه السلام) قال: ما فعل عمر بن مسلم؟ قال: جعلت فداك أقبل على العبادة وترك التجارة، فقال: ويحه أما علم أنّ تارك الطلب لا يستجاب له، إنّ قوماً من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) لمّا نزلت:

«وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ»(2)

أغلقوا الأبواب وأقبلوا على العبادة، وقالوا: قد كفينا، فبلغ ذلك النبيّ (صلى الله عليه وآله)، فأرسل إليهم فقال: (ما حملكم على ما صنعتم)؟

فقالوا: يا رسول الله تكفّل لنا بأرزاقنا فأقبلنا على العبادة، فقال:

«إنّه مَن فَعَل ذلك لم يستجب له، عليكم بالطلب»(3).

وسأل عمر بن زید الصادقَ (عليه السلام): رجل قال: لأقعدنّ في بيتي ولأُصلّينّ ولأصومنّ ولأعبدنّ ربّي عزّ وجلّ، فأمّا رزقي فسيأتيني، فقال أبو

ص: 140


1- الكافي للكليني: ج 5، ص 72
2- الطلاق، الآية: 3 و 2
3- الكافي 5: 84/ 5، الفقيه 3: 119 - 120 / 509، التهذيب: 6: 323/ 885

عبد الله (عليه السلام):

«هذا أحد الثلاثة الذين لا يستجاب لهم»(1).

وسأل العلاء بن كامل الصادقَ ( عليه السلام ) أن يدعو له الله تعالى أن يرزقه في دعة، فقال:

«لا أدعو لك، اطلب کما أمرك الله»(2).

وسأل الصادقُ (عليه السلام) عن رجل، فقيل: أصابته حاجة، قال:

«فما يصنع اليوم؟»

قيل: في البيت يعبد ربّه عزّ وجلّ، قال: «فمن أين قوته»؟

قيل: من عند بعض إخوانه، فقال الصادق (عليه السلام):

«والله الذي يقوته أشدّ عبادةً منه»(3).

وقال الباقر (عليه السلام): «مَن طلب الدنيا استعفافاً عن الناس وسعياً على أهله وتعطّفاً على جاره لقي الله عزّ وجلّ يوم القيامة ووجهه مثل القمر ليلة البدر»(4).

مسألة 635: وفي طلب الرزق ثواب عظيم. قال الله تعالى: «فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ»(5).

ص: 141


1- الكافي 5: 77/ 1، التهذيب 6: 323/ 887
2- الكافي 5: 78/ 3، التهذيب: 324/ 888
3- الكافي 5: 78/ 4، التهذيب: 324/ 889
4- الكافي 5: 78/ 5، التهذيب: 324/ 890
5- الملك: 15

وقال الباقر (عليه السلام):

«قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): العبادة سبعون جزءاً أفضلها طلب الحلال»(1).

وقال الصادق (عليه السلام):

«یا هشام إن رأيت الصفّين قد التقيا فلا تدع طلب الرزق في ذلك اليوم»(2).

وقال الصادق (عليه السلام):

«إنّ محمّد بن المنكدر كان يقول: ما كنت أرى أنّ علي بن الحسين (عليهما السلام) يدع خلفاً أفضل من عليّ بن الحسين حتى رأيت ابنه محمّد بن عليّ (عليهما السلام) فأردت أن أعظه فوعظني، فقال له أصحابه: بأيّ شيء وعظك؟ قال: خرجت إلى بعض نواحي المدينة في ساعة حارّة، فلقيني أبو جعفر محمّد بن علي (عليهما السلام) و كان رجلاً بادناً ثقيلاً وهو متكئ على غلامين أسودين أو موليين، فقلت في نفسي: سبحان الله شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا، أما لأعظنّه، فدنوت منه فسلّمت عليه، فردّ عليّ بنهر وهو يتصابّ عرقاً، فقلت: أصلحك الله شیخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا، أرأيت لو جاء أجلك وأنت على هذه الحال ما کنت تصنع؟

فقال (عليه السلام): لو جاءني الموت وأنا على هذه الحال جاءني وأنا في طاعة من طاعات الله عزّ وجلّ، أكف بها نفسي وعيالي عنك وعن الناس،

ص: 142


1- الكافي 5: 78/ 6، التهذيب: 324/ 891
2- الكافي 5: 87/ 7، التهذيب: 324/ 892

وإنّما كنت أخاف أن لو جاءني الموت وأنا على معصية من معاصي الله عزّ وجلّ، فقلت: صدقت يرحمك الله، أردت أن أعظك فوعظتني(1). وأعتق أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ألف مملوك من کدّ یده»(2).

وقال الصادق (عليه السلام):

«أوحى الله عزّ وجلّ إلى داوُد (عليه السلام) (أنّك نِعم العبد لولا أنّك تأكل من بيت المال ولا تعمل بيدك شيئاً)، قال: (فبکی داوُد (عليه السلام) أربعين صباحاً، فأوحى الله عزّ وجلّ إلى الحديد أن لِن لعبدي داوُد، فألانَ الله تعالى له الحديدَ، فكان يعمل كلّ يوم درعاً فيبيعها بألف درهم، فعمل ثلاثمائة وستّين درعاً، فباعها بثلاثمائة وستّين ألفاً، واستغني عن بيت المال)»(3).

وقال محمّد بن عذافر عن أبيه، قال: أعطى أبو عبد الله (عليه السلام) أبي ألفاً وسبعمائة دينار، فقال له:

«اتّجر لي بها« ثمّ قال: «أما إنّه ليس لي رغبة في ربحها وإن كان الربح مرغوباً فيه، ولكن أحببت أن يراني الله عزّ وجلّ متعرّضاً لفوائده».

قال: فربحت فيها مائة دينار، ثمّ لقيته فقلت: قد ربحت لك فيها مائة دینار، قال: ففرح أبو عبد الله (عليه السلام) بذلك فرحاً شديداً، ثمّ قال: «أثبتها لي في رأس مالي»(4).

وقال الصادق (عليه السلام) في تفسير قوله تعالى:

ص: 143


1- الكافي 5: 73 - 74/ 1، التهذيب 6: 325/ 894
2- الكافي 5: 74/ 4، التهذيب: 325 - 326/ 895
3- التهذيب 5: 326/ 896
4- الكافي 5: 76/ 12، التهذيب: 326 - 327/ 898

«رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً»(1): «رضوان الله والجنّة في الآخرة، والمعاش، وحسن الخلق في الدنيا»(2).

وقال رجل للصادق (عليه السلام):

(والله إنّا لنطلب الدنيا ونحبّ أن نؤتى بها)، فقال: تحبّ أن تصنع بها ماذا)؟

قال: أعود بها على نفسي وعيالي و أصل منها وأتصدّق وأحجّ وأعتمر، فقال الصادق (عليه السلام): (ليس هذا طلب الدنيا، هذا طلب الآخرة)(3).

وقال معاذ بن كثير - صاحب الأكسية - للصادق (عليه السلام): قد هممت أن أدع السوق وفي يدي شيء، قال: (إذَن يسقط رأيك، ولا يستعان بك على شيء)(4).

وقال أيضاً: (فقد ثبت من هذا أنّ التكسّب واجب إذا احتاج إليه الإنسان لقوت نفسه وقوت من تجب نفقته عليه، ولا وجه له سواه، وأمّا إذا قصد التوسعة على العيال ونفع المحاويج وإعانة مَن لا تجب عليه نفقته مع حصول قدر الحاجة بغيره، فإنّه مندوب إليه؛ لما تقدّم من الأحاديث.

وأمّا ما يقصد به الزيادة في المال لا غير مع الغناء عنه، فإنّه مباح. وقد يكون مكروهاً إذا اشتمل على وجه نهي الشارع عنه نهي تنزيه، كالصرف، فإنّه لا يسلم من الربا، وبيعِ الأكفان، فإنّه يتمنّى موت الأحياء، والرقيقِ واتّخاذِ الذبح والنحر صنعةً؛ لما في ذلك من سلب الرحمة من القلب)(5).

ص: 144


1- البقرة: 201
2- الكافي 5: 71/ 2، التهذيب 6: 327/ 900
3- الكافي 5: 72/ 10 بتفاوت يسير فيه، 6: 327 - 328/ 903
4- تذكرة الفقهاء: 12، ص 125 - 129
5- تذكرة الفقهاء: ج 12، ص 12 - 13

المسالة الثانية: طلب الرزق في المذاهب الأخرى.

أولا - المذهب الزيدي.

لم اعثر على أقوال الفقهاء الزيدية - فيما توفر لدي من مصادر - يظهر حكم السعي في طلب الرزق.

ولكن ذهب زید بن علي الى القول باستحباب طلب الرزق لما فيه من صون الإنسان لنفسه وعياله وصلة رحمه وهو ما ورد في مسنده فقال: (باب الكسب من اليد يعني الصانع: حدثني زيد بن علي عن أبيه عن جده عن علي قال: جاء رجل إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال يا رسول الله أي الكسب أفضل؟ فقال (صلى الله عليه وآله):

«عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور فان الله يحب المؤمن المحترف ومن کد على عياله كان كالمجاهد في سبيل الله عز وجل».

حدثني زيد بن علي عن أبيه عن جده، عن علي، قال:

«من طلب الدنيا حلالا تعطفا على والد أو ولد أو زوجة بعثه الله تعالى ووجهه على صورة القمر ليلة البدر»(1).

ثانيا - المذهب الشافعي.

تعرض فقهاء الشافعية الى استحباب السعي في طلب الرزق من خلال بيان المفاضلة بين التجارة والزراعة والصنعة فكان الأشبه بمذهب الشافعي ان التجارة أطيب و محصله فان السعي في تحصل المعيشة من عمل اليد هو

ص: 145


1- مسند زيد بن علي، ص 256

استحباب مؤکد کما دّلت عليه النصوص الشريفة.

قال النووي (ت: 676 ه):

(قال الماوردي: أصول المكاسب الزارعة والتجارة والصنعة وأيها أطيب فيه ثلاثة مذاهب للناس أشبهها بمذهب الشافعي ان التجارة أطيب قال والأشبه عندي أن الزراعة أطيب لأنها أقرب إلى التوكل وذكر الشاشي وصاحب البيان وآخرون نحوما ذكره الماوردي وأخذوه عنه قلت في صحيح البخاري عن المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه عن النبي (صلى الله عليه - وآله - وسلم) قال:

«ما أكل أحد طعاما قط خيرا من أن يأكل من عمل يده وأن نبي الله داود (صلى الله عليه - وآله - وسلم) كان يأكل من عمل يده».

فالصواب ما نص عليه رسول الله (صلى الله عليه - وآله - وسلم) وهو عمل اليد فإن كان زراعا فهو أطيب المكاسب وأفضلها لأنه عمل يده ولان فيه توكلا کما ذکره الماوردي وقال فيه نفعا عاما للمسلمين والدواب ولأنه لابد في العادة أن يؤكل منه بغير عوض فيحصل له أجره وان لم يكن ممن يعمل بيده بل يعمل له غلمانه واجراؤه فاکتسابه بالزراعة أفضل لما ذكرناه وقد ثبت عن جابر رضي الله عنه قال، قال رسول الله (صلى الله عليه - وآله - وسلم):

«ما من مسلم يغرس غرسا إلا كان ما أكل منه له صدقة وما سرق منه اله صدقة ولا يرزؤه أحد إلا كان له صدقة» رواه مسلم في صحيحه ومعني يرزؤه ينقصه.

ص: 146

وفي رواية لمسلم أيضا:

«فلا يغرس المسلم غرسا فيأكل منه إنسان ولا دابة ولا طير إلا كان له صدقة إلى يوم القيامة» وفي رواية لمسلم أيضا «لا يغرس مسلم غرسا ولا يزرع زرعا فيأكل منه انسان ولا دابة ولا شئ إلا كانت له صدقة». رواه البخاري ومسلم جميعا من رواية أنس والله أعلم)(1).

ثالثا - المذهب الحنبلي.

تناول البهوتي (ت 1051 ه) مسألة السعي في طلب الرزق ولحفظ جاه الإنسان والتوسعة على العيال وغيرها في مصالح الحياة لا سيما الانفاق في أوجه البر من خلال التكسب والتجارة فذهب الى القول بالاستحباب في الازدزادة؛ بل: يجب التكسب على من لا قوت له، ولمن تلزمه مؤنته لحفظ نفسه، وكذا على من علیه دین واجب لأدائه.

وقدم التكسب على العيال على النفل، ولذا يكره ترك التكسب والانكال على الناس، وقد جاء هذا البيان مفصلاً وهو كالاتي:

(قال في الرعاية الكبرى:

أفضل المعاش التجارة؛ انتهى؛ ويؤيده ما سبق من حديث أحمد. وإن جعلت الكلام على معنى من أفضل فلا تعارض أو أنه يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال. وأفضلها أي التجارة في (بز، وعطر، وزرع، وغرس، وماشية) لبعدها من الشبهة والكذب وأبغضها أي التجارة (في رقيق وصرف) للشبهة (ويسن التكسب، ومعرفة أحكامه حتى مع الكفاية التامة، قاله في

ص: 147


1- المجموع للنووي: ج 9، ص 59

الرعاية لقوله تعالى:

«فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ».

ويرشد إليه قوله (صلى الله عليه وآله):

«كالطير تغدو خماصا وتعود بطانا».

والاخذ في الأسباب من التوكل فلا يعتقد أن الرزق من الكسب بل من الله بواسطة. وقال صاحب الرعاية (أيضا فيها: يباح کسب الحلال لزيادة المال والجاه، والترفيه والتنعم والتوسعة على العيال، مع سلامة الدين والعرض والمروءة وبراءة الذمة) لأنه لا مفسدة فيه إذن ويجب التكسب (على من لا قوت له ولا لمن تلزمه مؤنته) لحفظ نفسه.

قلت: وكذا على من علیه دین واجب لأدائه (ويقدم الكسب لعياله على كل نفل) لأن الواجب مقدم على التطوع (ویكره ترکه) أي التكسب (والاتكال على الناس، قال أحمد: لم أر مثل الغني عن الناس، وقال في قوم لا يعملون ويقولون: نحن متوکلون هؤلاء مبتدعة) لتعطيلهم الأسباب.

وقال القاضي: الكسب الذي لا يقصد به التكاثر وإنما يقصد به التوسل إلى طاعة الله من صلة الاخوان، أو التعفف عن وجوه الناس فهو أفضل لما فيه من منفعة غيره ومنفعة نفسه، وهو أفضل من التفرغ إلى طلب العبادة من الصلاة والصوم والحج وتعلم لعلم لما فيه من منافع الناس وخير الناس أنفعهم للناس)(1).

ص: 148


1- کشاف القناع ج 6، ص 271

رابعاً - المذهب الحنفي.

ذهب فقهاء المذهب الحنفي الى القول بان الكسب على مراتب، منها ما لا بد لكل أحد منه يعني مايقوم به صلبه وهو بمرتبة الفرض، وإذا كان عليه دين فرض عليه الاكتساب بقدر ما يقضي به دينه، ومنه في مرتبة الندب وهو ما يصل به رحمه، وعلى البر بوالديه.

قال السرخسي (ت 483 ه):

(الكسب على مراتب فمقدار مالا بد لكل أحد منه يعني ما يقيم به صلبه يفترض على كل أحد اکتسابه غنيا أو فقيرا لأنه لا يتوصل إلى إقامة الفرائض الا به وما يتوصل به إلى إقامة الفرائض يكون فرضا فإن لم يكتسب زيادة على ذلك فهو في سعة من ذلك لقوله (عليه السلام) من أصبح آمنا في سربه معافي في بدنه وعنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها وقال: (عليه السلام) لابن خنيس فيما يعظه:

«لقمة تسد بها جوعتك وخرقة تواری بهاسوأتك فإن كان لك كن يكنك فحسن وإن كان لك دابة تركبها بخ بخ».

وهذا إذا لم يكن عليه دين فإن كان عليه دين فالاكتساب بقدر ما يقضى به دینه فرض عليه لان قضاء الدين مستحق عليه إن كان غنيا قال عليه السلام:

«الدين مقضى وبالاكتساب يتوصل إليه».

وكذا إن كان له عيال من زوجة وأولاد صغار فإنه يفترض عليه الكسب بقدر کفایتهم غنيا لان الانفاق على زوجته مستحق عليه قال الله تعالى أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم معناه فأنفقوا عليهن من وجدكم

ص: 149

وهكذا في قراءة ابن مسعود وقال جل وعلا وعلي المولود له رزقهن وكسوتهن الآية وقال عز وجل ومن قدر عليه رزقه فلينفق الآية وإنما يتوصل إلى ايفاء هذا المستحق بالكسب وقال (صلى الله عليه وآله):

«كفى بالمرء اثما ان يضيع من يمون فالتحرز عن ارتكاب المآثم فرض».

وقال (عليه السلام):

«ان لنفسك عليك حقا وأن لأهلك عليك حقا فأعط كل ذي حق حقه».

ولكن هذا في الفرضية دون الأول لقوله (عليه السلام) ثم من تعول فان اكتسب زيادة على ذلك ما يدخره لنفسه وعياله فهو في سعة من ذلك لما روي أن النبي (صلى الله عليه وآله) ادخر قوت عياله لسنة بعد ما كان منها عن ذلك على ما روي أنه (صلى الله عليه وآله) قال لبلال:

«أنفق بلالا ولا تخش من ذي العرش اقلا».

والمتأخر يكون ناسخا للمتقدم فإن كان له أبوان كبيران معسران فإنه يفترض عليه الكسب بقدر کفایتهما لان نفقتهما مستحقة عليه بعد عسرته إذا كان متمكنا من الكسب قال: (عليه السلام) للرجل الذي اتاه وقال أريد الجهاد معك: «ألك أبوان»؟

قال: نعم، قال: (عليه السلام): «ارجع ففيهما فجاهد».

یعنی اکتسب وأنفق عليهما وقال تعالى وصاحبهما في الدنيا معروفا وليس من المصاحبة بالمعروف ترکهما یموتان جوعا مع قدرته على الكسب ولكن هذا دون ما سبق في الفرضية لما روى أن رجلا قال لرسول الله (صلى الله عليه وآله) معي دينار؟ فقال: (عليه السلام): «أنفقه على نفسك».

ص: 150

فقال معي آخر؟ فقال عليه السلام: «أنفقه على عيالك».

قال معي آخر؟ قال: (عليه السلام): «أنفقه على والديك».

الحديث فاماغير الوالدين من ذوي الرحم المحرم فلا يفترض على المرء الكسب للانفاق عليهم لأنه لا تستحق نفقتهم عليه الا باعتبار صفة اليسار ولكنه يندب إلى الكسب والانفاق عليهم لما فيه من صلة الرحم وهو مندوب إليه في الشرع قال عليه السلام لا خير فيمن لا يحب المال فيصل به رحمه ويكرم به ضيفه ویبر به صديقه وقال: (عليه السلام) لعمرو بن العاص: «وأرغب لك رغبة من المال».

الحديث إلى أن قال نعم المال الصالح للرجل الصالح يصل به رحمه وقطيعة الرحم حرام لقوله (عليه السلام) «ثلاث معلقات بالعرش النعمة والأمانة والرحم تقول: النعمة كفرت ولم أشكر وتقول: الأمانة ضيعت ولم أؤد وتقول الرحم: قطعت ولم أوصل».

وقال (عليه الصلاة والسلام):

«صلة الرحم تزيد في العمر وقطيعة الرحم ترفع البركة من العمر».

قال: (عليه السلام) فيما يأثر عن ربه عز وجل:

«أنا الرحمن وهي الرحم شققت لها اسما من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته».

وفي ترك الانفاق عليهم ما يؤدي إلى قطيعة الرحم فيندب إلى الاكتساب للانفاق عليهم وبعد ذلك الامر موسع عليه فإن شاء اكتسب وجمع المال وان شاء أبي لان السلف رحمهم الله منهم من جمع المال ومنهم من لم يفعل

ص: 151

فعرفنا أن كلا الفريقين مباح أما الجمع فلما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله):

«من طلب الدنيا حلالا متعففا لقي الله تعالى ووجهه كالقمر ليلة البدر ومن طلبها مفاخرا مکاثرا لقي الله تعالى وهو عليه غضبان».

فدل ان جمع المال على طريق التعفف مباح وكان (عليه السلام) يقول في دعائه:

«اللهم اجعل أوسع رزقي عند كبر سنی وانقضاء عمري».

وكان كذا فقد اجتمع له أربعون شاة حلوبة وفدك و سهم بخيبر في آخر عمره وأما الامتناع من جمع المال فطريق مباح أيضا لحديث عائشة عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال:

«لو كأن لابن آدم وادیان من ذهب لتمني إليهما ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم الا التراب ويتوب الله على من تاب».

وقيل هذا كان مما يتلى في القرآن في سورة يونس من الركوع الثاني أو الثالث ثم انتسخت تلاوته وبقيت روايته وقال: (عليه السلام) تبا للمال وفي رواية لصاحب الذهب والفضة وقال: (صلى الله عليه وآله):

«هلك المكثرون الا من قال باله هكذا وهكذا».

يعني يتصدق من كل جانب وقال (عليه السلام):

«يقول الشيطان لن ينجو مني صاحب المال من احدى ثلاث أما أن أزينه في عينه فيجمعه من غير حله واما ان أحقره في عينه فيعطى في غير حله واما أن أحببه إليه فيمنع حق الله تعالى منه».

ص: 152

ففي هذا بيان ان الامتناع من الجمع أسلم ولا عيب على من اختار طريق السلامة ثم بين محمد رحمه الله ان الكسب فيه معنى المعاونة على القرب والطاعات أي كسب كان حتى قال إن کسب فتال الحبال ومتخذ الكيزان والجرار وكسب الحركة فيه معاونة على الطاعات والقرب فإنه لا يتمكن من أداء الصلاة الا بالطهارة ويحتاج ذلك إلى كوز يستقي به الماء والى دلو ورشاء ينزح به الماء ويحتاج إلى ستر العورة لأداء الصلاة وإنما يتمكن من ذلك بعمل الحركة فعرفنا ان ذلك كله من أسباب التعاون على إقامة الطاعة واليه أشار علي (عليه السلام) في قوله:

«لا تسبوا الدنيا فنعم مطية المؤمن الدنيا إلى الآخرة».

وقال أبو ذر رضي الله عنه حين سأله رجل عن أفضل الأعمال بعد الایمان فقال الصلاة وأكل الخبز فنظر إليه الرجل المتعجب فقال لولا الخبز ما عبد الله تعالى يعنى بأكل الخبز يقيم صلبه فيتمكن من إقامة الطاعة ثم المذهب عند جمهور الفقهاء رحمهم الله ان المكاسب كلها في الإباحة سواء وقال بعض المتقشفة ما يرجع إلى الدناءة من المكاسب في عرف الناس لا يسع الاقدام عليه إلا عند الضرورة لقوله (عليه السلام):

«ليس للمؤمن أن يذل نفسه».

وقال: (عليه السلام):

«ان الله تعالى يحب معالي الأمور ويبغض سفسانها».

والسفساف ما يدنى المرء ويبخسه وحجتنا في ذلك قوله: (عليه السلام):

«ان من الذنوب ذنوبا لا يكفرها الصوم ولا الصلاة».

ص: 153

قيل: فيا يكفرها یا رسول الله؟ قال:

«الهموم في طلب المعيشة».

وقال عليه السلام:

«طلب الحلال كمقارعة الابطال ومن بات وانیا من طلب الحلال مات مغفورا».

وقال (عليه السلام):

«أفضل الأعمال الاكتساب للانفاق على العيال».

من غير تفصيل بين أنواع الكسب ولو لم يكن فيه سوى التعفف والاستغناء عن السؤال لكان مندوبا إليه فان النبي (صلى الله عليه وآله) قال:

«السؤال آخر کسب العبد أي يبقى في ذله إلى يوم القيامة».

وقال: (عليه السلام) لحكيم بن حزام أو لغيره:

«مکسبة فيها نقص المرتبة خير لك من أن تسأل الناس أعطوك أو منعوك».

ثم المذمة في عرف الناس ليست للكسب بل للخيانة وخلف الوعد واليمين الكاذبة)(1).

المسالة الثالثة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة.

يتضح من خلال ما سبق أن طلب الرزق والتكسب تجري عليه احکام الوجوب والندب والاباحة والكراهة، وهي كالاتي:

ص: 154


1- المبسوط: ج 30، ص 256 - 258

أولاً - في وجوب طلب الرزق.

1- قال فقهاء الإمامية: إن التكسب واجب إذا احتاج إليه الإنسان لقوت نفسه، وقوت من تجب نفقته عليه، ولا وجه له سواه.

2- وقال الحنابلة: يجب التكسب على من لا قولت له؛ وعلى من تلزمه مؤنته، وعلى من عليه دين.

3- وقال الحنفية: الكسب بمرتبة الفرض على كل أحدٍ فلا بد له ما يقوّم به صلبه؛ وعلى من عليه دين بقدر مايقضي به دينه.

ثانياً - في استحباب طلب الرزق.

1- قال فقهاء الإمامية: يكون التكسب مندوباً إذا قصد به التوسعة على العيال، ونفع المحاويج، وإعانة من لا تجب عليه نفقته مع حصول قدر الحاجة بغيره.

2- قال الشافعية: اصول المكاسب الزراعة والتجارة والصنعة، واطيبها عند الشافعي التجارة وان السعي في طلب الرزق والتكسب من عمل اليد، هو استحباب مؤكد.

3- قال الحنابلة: ويستحب الازدازادة من طلب المال والتكسب.

4- وقال الحنفية: ويستحب التكسب لصلة الرحم وبر الوالدين.

ثالثاً - في كراهة التكسب.

لم يتعرض فقهاء المذاهب الى كراهة التكسب من حيث الاصل بل قالوا - لمن تعرض للمسألة - بالوجوب کما مرّ بیانه؛ اما ما تعلق بالكراهة فقد

ص: 155

ذهب فقهاء الإمامية (أعلى الله شأنهم) الى بيان ما تضمنته الاحاديث الشريفة الواردة عن العترة النبوية (عليهم السلام) في تحديد بعض المكاسب التي تقلقه بها الكراهة وبيان علة الكراهة فيها، وتحديد اتحاد الأجرة على بعض المكاسب الاخرى، وهي ك الاتي:

ألف - في كراهت بعض المكاسب، وهي:

1. الصرف، فإنه لا يسلم من الربا.

2. بيع الاكفان، فانه يتمنى موت الاحياء، وحصول الأوبئة.

3. والقصابة (الجزار)، لما فيه من سلب الرحمة من القلب.

4. بيع الطعام، فإنه لا يسلم من الاحتكار.

5. النخاسة، لأنه يبيع الناس.

6. الحياكة والنساجة، لما فيها من الصنعة والرذالة.

7. کسب الصبيان ومن لا يجتنب المحارم، لعدم تحفظهم من المحارم وعدم الوثوق باحد ما حصلوه.

8. الصياغة، وقد ورد في الحديث النبوي (صلى الله عليه وآله):

((یعاجل زين أمُتي)).

باء - في كراهة اتخاذ الاجرة على بعض المكاسب، هي:

1- تعليم القرآن.

2- الحجامة، وتتأكد الكراهة في المشارطة فيكره له الكسب مع الشرط.

3- القابلة: كسبها مكروه مع الشرط.

ص: 156

4- النائحة بالحق: کسبها مكروه مع الشرط؛ ويحرم بالباطل، اي النياحة بالباطل.

5- الضراب: لأنه في معنی بیع عسیب الفحل.

رابعاً - في إباحة الاستزادة في المال.

وبه قالت الإمامية، أي ما يقصد به الزيادة في المال لا غير مع الغناء عنه؛ ولم يتعرض لذلك بقية فقهاء المذاهب الإسلامية - توفر لدي من مصادر -.

المسألة الرابعة: ما ورد في الحدث من شروح نهج البلاغة.

الحديث الأول:

قال (عليه الصلاة والسلام) وقد دخل على العلاء بن زياد الحارثي يعوده، وكان من أصحابه فلما رأى سعة داره قال له:

«مَا کُنْتَ تَصْنَعُ بِسِعَةِ هَذِهِ اَلدَّارِ فِی اَلدُّنْیَا وَ أَنْتَ إِلَیْهَا فِی اَلْآخِرَةِ کُنْتَ أَحْوَجَ وَ بَلَی إِنْ شِئْتَ بَلَغْتَ بِهَا اَلْآخِرَةَ تَقْرِی فِیهَا اَلضَّیْفَ وَ تَصِلُ فِیهَا اَلرَّحِمَ وَ تُطْلِعُ مِنْهَا اَلْحُقُوقَ مَطَالِعَهَا فَإِذاً أَنْتَ قَدْ بَلَغْتَ بِهَا اَلْآخِرَةَ فَقَالَ لَهُ اَلْعَلاَءُ یَا أَمِیرَ اَلْمُؤْمِنِینَ أَشْکُو إِلَیْكَ أَخِی عَاصِمَ بْنَ زِیَادٍ قَالَ وَ مَا لَهُ قَالَ لَبِسَ اَلْعَبَاءَةَ وَ تَخَلَّی عَنِ اَلدُّنْیَا قَالَ عَلَیَّ بِهِ فَلَمَّا جَاءَ قَالَ یَا عُدَیَّ نَفْسِهِ لَقَدِ اِسْتَهَامَ بِكَ اَلْخَبِیثُ أَمَا رَحِمْتَ أَهْلَكَ وَ وَلَدَكَ. أَتَرَی اَللَّهَ أَحَلَّ لَكَ اَلطَّیِّبَاتِ وَ هُوَ یَکْرَهُ أَنْ تَأْخُذَهَا؟ أَنْتَ أَهْوَنُ عَلَی اَللَّهِ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ یَا أَمِیرَ اَلْمُؤْمِنِینَ هَذَا أَنْتَ فِی خُشُونَةِ مَلْبَسِكَ وَ جُشُوبَةِ مَأْکَلِكَ. قَالَ: وَیْحَكَ إِنِّی لَسْتُ کَأَنْتَ، إِنَّ اَللَّهَ تَعَالَی فَرَضَ عَلَی أَئِمَّةِ اَلْعَدْلِ أَنْ یُقَدِّرُوا أَنْفُسَهُمْ بِضَعَفَةِ اَلنَّاسِ کَیْلاَ یَتَبَیَّغَ بِالْفَقِیرِ فَقْرُهُ»(1).

ص: 157


1- نهج البلاغة: بشرح الشيخ محمد عبده، ج 2، ص 188

والحديث أخرجه الشيخ الكليني (عليه الرحمة والرضوان) بلفظ فيه بعض الإضافة(1).

وتناوله الراوندي (ت 573 ه) في شرحه لنهج البلاغة وكذا ابن أبي الحديد المعتزلي (ت 656 ه) وهو كالاتي:

1- قطب الدين الراوندي.

تداخل بيانه (رحمه الله) للحديث وشرح مفرداته و اظهار دلالته في معرض حدیثه وشرحه لكلام أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) و اصحابه عند اضطرابهم في أمر الحكمين، فقال مبتدءاً من قوله (وهو يعوده):

(والعيادة: زيارة المريض؛ وروي: «ما أنت إليها في الآخرة كنت أحوج».

وتقري الضيف: أي تطعمهم. والضيف [مصدر] يستوي فيه الواحد والجمع، وقد يجمع. والرحم: القرابة. والعباء: الكساء. وقيل: العباية والعباءة ضرب من الأكسية، ويقال «علي بزيد» أي اصعد به علي. هذا أصله، ثم يقال علي به وان جيء به في انحدار(2).

وانما صغر فقال: «يا عدي نفسه» لأنه كان يؤذي نفسه في دار الدنيا على وجه كان تركه أولى، والضار لنفسه هو عدوها. واستهام بك الخبيث: أي جعلك الشيطان هائما. والباء للتعدية(3)، أي هيمك. والهيام كالجنون من العشق وغيره.

ص: 158


1- الكافي: ج 1، ص 411
2- قال ابن أبي الحديد في الشرح 11 - 33 ما لفظه: وتقول علي بفلان أي أحضره، والأصل أعجل به، فحذف فعل الأمر ودل الباقي عليه
3- قال ابن أبي الحديد: والباء زائدة

«أترى الله» أي تظن الله کارها لأخذك الطيبات وهي المحللات وقد أحلها الله لك.

وطعام جشب: أي غليظ خشن، وقيل: هو الذي لا أدم معه. والجشوبة مصدر. و «ويحك» يقال للترحم.

وتبيغ الدم بصاحبه وتبوغ به: أي هاج به فقتله، وفي الحديث:

«عليكم بالحجامة لا يتبيغ الدم بأحدكم فيقتله» أي لا يتهيج، إذا قدره الإمام نفسه بأضعف الناس لباسا وطعما لا يهلك الفقير فقره. وقيل: أصل تبيغ تبغي فقلب)(1).

2- ابن أبي الحديد المعتزلي.

أما الشارح المعتزلي فقد اتبدأ من لفظ: (كنت)، فقال:

(کنت، ها هنا زائدة، مثل قوله تعالى:

«كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا»(2).

وقوله (عليه السلام):

«وبَلَی إِن شِئتَ بَلَغتَ بِهَا الآخِرَةَ»: لفظ فصیح كأنه استدرك وقال وبلي على انك قد تحتاج إليها في الدنيا لتجعلها وصلة إلى نيل الآخرة بان تقري فيها الضيف والضيف لفظ يقع على الواحد والجمع وقد يجمع فيقال ضيوف وأضياف والرحم القرابة. وتطلع منها الحقوق مطالعها توقعها في مظان استحقاقها.

ص: 159


1- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: ج 2، ص 329 - 320
2- مریم: 29

والعباء جمع عباءة وهي الكساء وقد تلين كما قالوا عظاءة وعظاية وصلاءة وصلاية. وتقول على بفلان أي أحضره والأصل أعجل به على فحذف فعل الامر ودل الباقي عليه.

ويا عدي نفسه: تصغير (عدو) وقد يمكن أن يراد به التحقير المحض هاهنا. ويمكن أن يراد به الاستعظام لعداوته لها ويمكن أن يخرج مخرج التحنن والشفقة كقولك يا بني. واستهام بك الخبيث يعني الشيطان أي جعلك هائما ضالا والباء زائدة. فان قيل ما معنى قوله (عليه السلام): (أنت أهون على الله من ذلك)؟

قلت لان في المشاهد قد يحل الواحد منا لصاحبه فعلا مخصوصا محاباة ومراقبة له وهو يكره أن يفعله والبشر أهون على الله تعالى من أن يحل لهم أمرا مجاملة واستصلاحا للحال معهم وهو يكره منهم فعله.

وقوله: (هذا أنت!): أي فما بالنا نراك خشن الملبس والتقدير (فها أنت تفعل كذا فكيف تنهی عنه!). وطعام جشب أي غليظ وكذلك مجشوب وقيل إنه الذي لا ادم معه.

قوله (عليه السلام): (أن يقدروا أنفسهم بضعفه الناس): أي يشتبهوا ويمثلوا. وتبيغ الدم بصاحبه وتبوغ به أي هاج به وفي الحديث (علیکم بالحجامة لا يتبيغ بأحدكم الدم فيقتله) وقيل أصل (يتبيغ) يتبغي فقلب جذب وجبذ أي يجب على الإمام العادل أن يشبه نفسه في لباسه وطعامه بضعفة الناس - جمع ضعيف - لكيلا يهلك الفقراء من الناس فإنهم إذا رأوا امامهم بتلك الهيئة وبذلك المطعم كان ادعى لهم إلى سلوان لذات الدنيا

ص: 160

والصبر عن شهوات النفوس)(1).

الحديث الثاني:

قال (عليه الصلاة والسلام):

«أَلَا وإِنَّ مِنَ النِّعَمِ سَعَةَ المَالِ»(2).

والحديث الشريف مجتزأ من قوله عليه الصلاة والسلام:

«أَلاَ وإِنَّ مِنَ الْبَلاَءِ الْفَاقَةَ، وَأَشَدُّ مِنَ الْفَاقَةِ مَرَضُ الْبَدَنِ وَأشدُّ مِنْ مَرَضِ الْبَدَنِ مَرَضُ الْقَلْبِ، أَلاَ وإِنَّ مِنْ صِحَّةِ الْبَدَنِ تَقْوَى الْقَلْبِ»(3).

والحديث الشريف لم يتعرض لبيانه وشرحه أغلب شراح نهج البلاغة ولذا سنورد ما جاء عن الشارح المعتزلي، فيقول:

(قد تقدم الكلام في الفاقة والغنى؛ فأما المرض والعافية ففي الحديث المرفوع:

«اليك انتهت الأماني يا صاحب العافية»:

فأما مرض القلب وصحته فالمراد به التقوى وضدها، وقد سبق القول في ذلك.

وقال احمد بن يوسف الكاتب:

ص: 161


1- شرح نهج البلاغة للمعتزلي: ج 11 ص 33 - 34
2- نهج البلاغة بشرح محمد عبده: ج 4، ص 93 برقم (388)
3- المصدر نفسه

المال للمرء في معيشته *** خير من الوالدين والولد

وان تدم نعمة عليك تجد *** خيراً من المال صحة الجسد

وما بمن نال فضل عافية *** وقوت يوم فقر الى أحد(1)

ص: 162


1- شرح نهج البلاغة للمعتزلي: ج 19، ص 337

المبحث الثاني استحباب الإجمال في طلب الدنيا

تشتمل هذه المسألة على الكثير من الأحاديث الشريفة الواردة عنه (عليه الصلاة والسلام) في نهج البلاغة وهذا يكشف عن مسؤوليته اتجاه الأمة في إمامته وولايته للإمر بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتهذيب النفس على الاعتدال في معاشها وضبط التوازن فيما تحتاجه النفس وتحتاجه الآخرة.

الحديث الأول:

قال عليه الصلاة والسلام:

«أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اَلْأَمْرَ یَنْزِلُ مِنَ اَلسَّمَاءِ إِلَی اَلْأَرْضِ کَقَطَرَاتِ اَلْمَطَرِ إِلَی کُلِّ نَفْسٍ بِمَا قُسِمَ لَهَا مِنْ زِیَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ - فَإِنْ رَأَی أَحَدُکُمْ لِأَخِیهِ غَفِیرَةً فِی أَهْلٍ أَوْ مَالٍ أَوْ نَفْسٍ فَلاَ تَکُونَنَّ لَهُ فِتْنَةً فَإِنَّ اَلْمَرْءَ اَلْمُسْلِمَ مَا لَمْ یَغْشَ دَنَاءَةً تَظْهَرُ فَیَخْشَعُ لَهَا إِذَا ذُکِرَتْ وَ یُغْرَی بِهَا لِئَامُ اَلنَّاسِ کَانَ کَالْفَالِجِ اَلْیَاسِرِ اَلَّذِی یَنْتَظِرُ أَوَّلَ فَوْزَةٍ مِنْ قِدَاحِهِ تُوجِبُ لَهُ اَلْمَغْنَمَ وَ یُرْفَعُ بِهَا عَنْهُ اَلْمَغْرَمُ وَ کَذَلِكَ اَلْمَرْءُ اَلْمُسْلِمُ اَلْبَرِیءُ مِنَ اَلْخِیَانَةِ یَنْتَظِرُ مِنَ اَللَّهِ إِحْدَی اَلْحُسْنَیَیْنِ إِمَّا دَاعِیَ اَللَّهِ فَمَا عِنْدَ اَللَّهِ خَیْرٌ لَهُ وَ إِمَّا رِزْقَ اَللَّهِ فَإِذَا هُوَ ذُو أَهْلٍ وَ مَالٍ وَ مَعَهُ دِینُهُ وَ حَسَبُهُ وَ إِنَّ اَلْمَالَ وَ اَلْبَنِینَ حَرْثُ اَلدُّنْیَا وَ اَلْعَمَلَ اَلصَّالِحَ حَرْثُ اَلْآخِرَةِ وَ قَدْ یَجْمَعُهُمَا اَللَّهُ تَعَالَی لِأَقْوَامٍ فَاحْذَرُوا مِنَ اَللَّهِ مَا حَذَّرَکُمْ مِنْ نَفْسِهِ وَ اِخْشَوْهُ خَشْیَةً لَیْسَتْ بِتَعْذِیرٍ وَ اِعْمَلُوا فِی غَیْرِ رِیَاءٍ وَ لاَ سُمْعَهٍ فَإِنَّهُ مَنْ یَعْمَلْ لِغَیْرِ

ص: 163

اَللَّهِ یَکِلْهُ اَللَّهُ لِمَنْ عَمِلَ لَهُ نَسْأَلُ اَللَّهَ مَنَازِلَ اَلشُّهَدَاءِ وَ مُعَایَشَةَ اَلسُّعَدَاءِ وَ مُرَافَقَةَ اَلْأَنْبِیَاءِ»(1).

الحديث الثاني:

قال عليه الصلاة والسلام:

«لا كنز أغنى من القناعة، ولا مال أذهب للفاقة من الرضى بالقوت ومن أتقصر على بلغة الكفاف فقد أنتظم الراحة وتبوأ خفض الدعة»(2).

الحديث الثالث:

قال عليه الصلاة والسلام:

«وَاعْلَمُوا أَنَّ مَا نَقَصَ مِنَ الدُّنْيَا وَزَادَ في الاْخِرَةِ خَيْرٌ مِمَّا نَقَصَ مِنَ الاْخِرَةِ وَزَادَ فِي الدُّنْيَا فَكَمْ مِنْ مَنْقُوصٍ رَابحٍ وَمَزِيدٍ خَاسِرٍ! إٍنَّ الَّذي أُمِرْتُمْ بِهِ أَوْسَعُ مِنَ الَّذِي نُهِيتُمْ عَنْهُ وَمَا أُحِلَّ لَكُمْ أَكْثَرُ مِمَّا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ فَذَرُوا مَا قَلَّ لِمَا كَثُرَ وَمَا ضَاقَ لِمَا اتَّسَعَ قَدْ تُكُفِّلَ لِكُمْ بِالرِّزْقِ وَأُمِرْتُمْ بَالْعَمَلِ فَلاَ يَكُونَنَّ الْمَضْمُونُ لَكُمْ طَلَبُهُ أَوْلَى بِكُمْ مِنَ الْمَفْرُوضِ عَلَيْكُمْ عَمَلُهُ مَعَ أَنَّهُ واللهِ لَقَدِ اعْتَرَضَ الشَّكُّ وَدَخِلَ الْيَقِينُ حَتَّى كَأَنَّ الَّذِي ضُمِنَ لَكُمْ قَدْ فُرِضَ عَلَيْكُمْ وَكَأَنَّ الَّذِي قَدْ فُرِضَ عَلَيْكُمْ قَدْ وُضِعِ عَنْكُمْ فَبَادِرُوا الْعَمَلَ وَخَافُوا بَغْتَةَ الاْجَلِ فَإِنَّهُ لاَ يُرْجَى مِنْ رَجْعَةِ الْعُمُرِ مَا يُرْجَى مِنْ رَجْعَةِ الرِّزْقِ مَا فَاتَ الْيَوْمَ مِنَ الرِّزْقِ رُجِيَ غَداً زِيَادَتُهُ وَمَا فَاتَ أَمْسِ مِنَ الْعُمُرِ لَمْ يُرْجَ الْيَوُمَ رَجْعَتُهُ الرَّجَاءُ مَعَ الْجَائِي وَالْيَأْسُ مَعَ الْمَاضِي فاتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ

ص: 164


1- نهج البلاغة: ج 1، ص 60، الخطبة (23)
2- نهج البلاغة: ج 4، ص 87، (371)

مُسْلِمُونَ»(1).

الحديث الرابع:

قال عليه الصلاة والسلام:

«خُذْ مِنَ اَلدُّنْیَا مَا أَتَاكَ، وَ تَوَلَّ عَمَّا تَوَلَّی مِنْهَا عَلَیْكَ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَأَجْمِلْ فِی اَلطَّلَبِ»(2).

الحديث الخامس:

قال عليه الصلاة والسلام:

«وَالرّزقُ رِزْقان: رِزْقٌ تَطْلُبُه وَرِزْقٌ یَطْلبُكَ فَإنْ لَمْ تَأتِهِ أتَاكَ فَلاَ تَحْمِلْ هَمَّ سَنَتِكَ عَلَى هَمِّ يَوْمِكَ، كَفَاكَ كُلُّ يَوْمٍ مَا فيِهِ، فَإِنْ تَكُنِ السَّنَةُ مِنْ عُمُرِكَ فَإنَّ اللهَ تَعَالَى سَيُؤْتِيكَ فِي كُلِّ غَدِ جَدِيدٍ مَاقَسَمَ لَكَ، وَإِنْ لَمْ تَكُنِ السَّنَةُ مِنْ عُمُرِكَ فَمَا تَصْنَعُ بِالْهَمِّ لِمَا لَيْسَ لَكَ؟ وَلَنْ يَسْبِقَكَ إِلَى رِزْقِكَ طَالِبٌ، وَلَنْ يَغْلِبَكَ عَلَيْهِ غَالِبٌ، وَلَنْ يُبْطِىءَ عَنْكَ مَا قَدْ قُدِّرَ لَكَ»(3).

وغيرها من الأحاديث التي وردت في نهج البلاغة إلا اننا نكتفي بهذا القدر وذلك كي يأخذ موضوع الرجوع الى شروح نهج البلاغة لبيان معاني الأحاديث جانباً كبيراً من البحث.

أما ما تعلق بجانب الفقه وعنوان المبحث فهو كالاتي:

ص: 165


1- نهج البلاغة: ج 1، ص 225 - 226، الخطبة (114)
2- نهج البلاغ: ج 4، ص 93 برقم 393
3- نهج البلاغة؛ ج 4، ص 91 برقم (379)

المسألة الأولى: استحباب الاجمال في طلب الرزق في المذاهب الإسلامية.

لم يتعرض كثير من فقهاء المذاهب الإسلامية الى هذه المسألة؛ ولذا: سنورد ما عثرنا عليه لدى بعض المذاهب، وهي الإمامي، والشافعي، وهو كالاتي:

أولاً - المذهب الإمامي.

تناول كثير من فقهاء الإمامية مسألة استحباب الاجمال ف يطل بالدنيا كالعلامة الحلي (رحمه الله) (ت 726 ه)؛ والمحقق الاردبيلي (رحمه الله) (ت 993 ه) والشيخ حسين آل عصفور (رحمه الله)، (ت 1216 ه)، والمحقق النراقي (رحمه الله) (ت 1244 ه)، ومنهم الشيخ محمد حسن الجواهري (رحمه الله) (ت 1266 ه) فقد جاء في المسألة، قوله:

(ومنها - اي من آداب التجارة - أن يقتصد في طلبه ويجمل فيه وذلك بالاقتصار على أدنى المعيشة وترك الاجتهاد البليغ ففي الخبر:

(ليكن طلبك المعيشة فوق كسب المضيع، ودون كسب الحريص الراضي بدنياه المطمئن إليها، ولكن أنزل نفسك من ذلك بمنزلة المنصف المتعفف ترفع نفسك عن منزلة الواهن الضعيف وتكسب ما لا بد للمؤمن منه)(1).

ثانياً - المذهب الشافعي.

تناول الحافظ النووي مسألة الاجمال في طل بالدنيا في بيانه لمسائل البيع فأورد حديثين في هذا الخصوص، فقال:

ص: 166


1- جواهر الكلام: ج 22، ص 450

(فصل: عن ابي حميد الساعدي، إن رسول الله (صلى الله عليه - وآله - وسلم) قال:

«أجملوا في طلب الدنيا فان كلا ميسر لما كتب له منها:.

رواه البيهقي بأسناد صحيح، ورواه ابن ماجه بأسناد ضعيف.

وعن جابر رضي الله عنه، قال قال رسول الله (صلى الله عليه - وآله - وسلم):

«لا تستبطئوا الرزق فإنه لم يكن عبد يموت حتى يبلغه بآخر رزق هو له فاتقوا الله وأجملوا في الطلب من الحلال وترك الحرام».

رواه ابن ماجه والبيهقي)(1).

المسألة الثانية: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة.

ذهب فقهاء المذهب الإمامي والشافعي الى القول: باستحباب الاجمال في طلب الدنيا.

المسألة الثالثة: قصدية النص في السعي والإجمال في طلب المال.

لعل المرء يقف محتاراً بين طائفتين في الاحاديث تحث على طلب المال وتقلل من، ترغب في المال وتحذر منه، فما هي قصدية كل فئة من هذه الاحاديث؟

ترشد الأحاديث الشريف في نهج البلاغة المتعلقة بالحث على السعي لطلب المال وطرق ابواب الرزق وسلك سبله والأخرى المعاكسة لها في

ص: 167


1- (1) المجموع: ج 9، ص 150 - 151

الاجمال بطلب الدنيا الى ايجاد حالة من التوازن القيمي بين السعي والاجمال.

ففي الطائفة الأولى المتضمنة احاديثه عليه السلام في الحث على السعي لطلب الرزق والمال.

يجب الباحث أهمية ان يكون الإنسان في دائرة مجموعة من القيم، وهي:

1- قيمة العزة، أي عزيزاً في نفسه واهله وقومه بحفظ وجه عن الانكال على الناس وان كانوا من اقربهم إليه كوالدية واخوانه وابنائه.

2- في أداء ما فرض الله في اليسر والاستطاعة؛ ففي جهة اليسر في أداء الصلاة ومقدماتها ومستحباتها فالإنسان عند فقره وهو في فصل الشتاء يتململ في الوضوء بالماء البارد الذي يحتاج تسخينه الى المال ويسرع بأداء الصلاة في المكان البارد وقد اسقطت اسنانه فضلاً عن تعرضه للزكام والحال يجري مجراه في بيان أثر المال في الصيف واحتياج الإنسان الى الوسائل التي تعينه على أداء الفرائض بيسر وسهولة.

واما في الاستطاعة لإداء فريضة الحج والكفارات، والنذور، ورد المظالم، يكون المال خير وسيلة لإبراء الذمة ونيل رضا الله تعالى، ومن ثم فبين أن يستعين الإنسان في ابراء ذمته في بعض موارد الكفارات بالصوم كما في كفارة شهر رمضان وكفارة اليمين وبين أن يبرء ذمته من خلال المال في اطعام المساكين كلا ضمن حدوده الشرعية لفرق شاسع في العسر واليسر وهما طريقان لإبراء الذمة ونيل رضا الله تعالى.

3- في التوسعة على العيال، وادخال السرور عليهم وتحسين أحوالهم وتوفير احتياجاتهم والاحسان إليهم في جودة تعليمهم وتحصيلهم لشهادات

ص: 168

علمية تمكنه من مزاولة دورهم في الحياة وبناءها.

4- في صلة الرحم، وسد بعض احتياجاتهم ومعونتهم على أداء مستلزماتهم المعيشية.

5- في قضاء حوائج المؤمنين وادخال السرور عليهم وتيسير أمورهم.

6- في الاسهام في اوجه البر الكثيرة في البناء والاعمار، والتعليم والتثقيف، ورعاية الايتام، ومعونة المحاويج والمحرومين، والشردين، فضلاً عن بناء المساجد والمؤسسات الخيرية والتربوية، وغيرها من اوجه الخير؛ فهذا قله كله يحتاج الى المال، ليكون المسلم والاسرة والمجتمع مصداقاً لقوله تعالى:

«كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ».

وهو ضمن الدائرة القيمية التي تجعل من الإنسان وعيشه بكرامة هدفها الأول، واثر المال في تحقيق هذا الهدف.

وفي المقابل: تنظم لنا الاحاديث الشريفة الواردة عن أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) في الطائفة الثانية من الاحاديث على تهذيب النفس وترويضها وانقيادا للحق والخير وتحصينها من الوقوع في فخ الجشع والطمع فتكون اسيرة للباطل ومصدراً للشرور في الحرص والشح، والاحتكار، والمكر، والخديعة، والخيانة، ونقض العهود، وارتكاب الموبقات والمحرمات بغية الحصول على المال، فيصبح كل شيء مباح امام تحقيق هذا الهدف، وهو ما عانت منه العباد والبلاد في وقوع الحروب والترويج لها بغية تصريف السلاح والعتاد؛ ونشر الاوبئة بغية صناعة الادوية لها وتصريفها؛ وتسارع الصناعات وتغري النفس بها في الملبس والمأكل والمشرب، والمخدع،

ص: 169

فأينما تدير طرفك تجد أمامك ما يستهوك حتى تختار بما يرضيك، ليكشف الإنسان في نهاية المطاف أنه هو السلعة وان أصحاب الأموال الذين لا يراعون لله حرمة قد اتخذوه سلعة تدر عليهم المال في مريه وكسوته، وتختمه وجوعه، وان لزم الأمر اتجروا بأعضائه حياً وميتاً.

وعليه:

نجد أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) يحذر من المال اكثر مما يرغب فيه وذلك لما يرتبط به من أثار عظيمة على النفس والاسرة والمجتمع، وعلى البشر والحجر فكان من أعظم المهلكات للإنسان، ولا ينجو منه إلا ذو حظ عظيم؛ ومن ثم احتاج الأمر الى إيجاد حالة من التوازن القيمي في الحث على طلب المال والسعي من اجله، وفي التحذير منة والاجمال في طلبه وذلك لاختلاف قيم الخير والشر المتربطة بالمال والمتعلقة به.

قال (عليه الصلاة والسلام):

«إِنَّ أَعْظَمَ اَلْحَسَرَاتِ یَوْمَ اَلْقِیَامَةِ، حَسْرةُ رَجُلٍ کَسَبَ مَالاً فِی غَیْرِ طَاعَةِ اَللَّهِ، فَوَرَّثَهُ رَجُلاً فَأَنْفَقَهُ فِی طَاعَةِ اَللَّهِ سُبْحَانَهُ، فَدَخَلَ بِهِ اَلْجَنَّةَ وَ دَخَلَ بِهِ اَلْأَوَّلُ اَلنَّارَ»(1).

المسألة الرابعة: ما ورد في الأحاديث من شروح نهج البلاغة.

تناول شراح نهج البلاغة الأحاديث المخصوصة بالإجمال في طلب الدنيا في مصنفاتهم وأظهروا ما تضمنته من دلالات ومعان كثيرة، وهي كالاتي:

ص: 170


1- نهج البلاغة حديث: 429 ص 552؛ الكافي للكليني

الحديث الأول:

«أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اَلْأَمْرَ یَنْزِلُ مِنَ اَلسَّمَاءِ إِلَی اَلْأَرْضِ کَقَطَرَاتِ اَلْمَطَرِ إِلَی کُلِّ نَفْسٍ بِمَا قُسِمَ لَهَا، مِنْ زِیَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ فَإِنْ رَأَی أَحَدُکُمْ لِأَخِیهِ غَفِیرَةً فِی أَهْلٍ أَوْ مَالٍ أَوْ نَفْسٍ، فَلاَ تَکُونَنَّ لَهُ فِتْنَةً فَإِنَّ اَلْمَرْءَ اَلْمُسْلِمَ مَا لَمْ یَغْشَ دَنَاءَهً تَظْهَرُ فَیَخْشَعُ لَهَا إِذَا ذُکِرَتْ وَ یُغْرَی بِهَا لِئَامُ اَلنَّاسِ کَانَ کَالْفَالِجِ اَلْیَاسِرِ اَلَّذِی یَنْتَظِرُ أَوَّلَ فَوْزَةٍ مِنْ قِدَاحِهِ تُوجِبُ لَهُ اَلْمَغْنَمَ وَ یُرْفَعُ بِهَا عَنْهُ اَلْمَغْرَمُ، وَ کَذَلِكَ اَلْمَرْءُ اَلْمُسْلِمُ اَلْبَرِیءُ مِنَ اَلْخِیَانَةِ یَنْتَظِرُ مِنَ اَللَّهِ إِحْدَی اَلْحُسْنَیَیْنِ، إِمَّا دَاعِیَ اَللَّهِ فَمَا عِنْدَ اَللَّهِ خَیْرٌ لَهُ، وَ إِمَّا رِزْقَ اَللَّهِ فَإِذَا هُوَ ذُو أَهْلٍ وَ مَالٍ وَ مَعَهُ دِینُهُ وَ حَسَبُهُ، وَ إِنَّ اَلْمَالَ وَ اَلْبَنِینَ حَرْثُ اَلدُّنْیَا، وَ اَلْعَمَلَ اَلصَّالِحَ حَرْثُ اَلْآخِرَةِ، وَ قَدْ یَجْمَعُهُمَا اَللَّهُ تَعَالَی لِأَقْوَامٍ، فَاحْذَرُوا مِنَ اَللَّهِ مَا حَذَّرَکُمْ مِنْ نَفْسِهِ وَ اِخْشَوْهُ خَشْیَةً لَیْسَتْ بِتَعْذِیرٍ، وَ اِعْمَلُوا فِی غَیْرِ رِیَاءٍ وَ لاَ سُمْعَةٍ فَإِنَّهُ مَنْ یَعْمَلْ لِغَیْرِ اَللَّهِ یَکِلْهُ اَللَّهُ لِمَنْ عَمِلَ لَهُ، نَسْأَلُ اَللَّهَ مَنَازِلَ اَلشُّهَدَاءِ وَ مُعَایَشَةَ اَلسُّعَدَاءِ وَ مُرَافَقَةَ اَلْأَنْبِیَاءِ»(1).

هذا الحديث متجزأ من خطبة له (عليه السلام) تشتمل على جملة من المعارف الاخلاقية الموجهة للفرد، والأسرة، والعشيرة، والمجتمع، لا سيما فيما يرتبط و مطالب البحث، وهو الاجمال في طلب الدنيا.

ولذا:

نقتصر في بيان دلالاتها المعرفية على ما ورد في شرح ابن میثم البحراني (رحمه الله) (ت 679 ه).

قال (رحمه الله):

ص: 171


1- نهج البلاغة؛ الخطبة (388)؛ الكافي للكليني: ج 5، ص 57

(الغفيرة: الكثرة والزيادة. وروی عفوة بكسر العين، وعفوة كلّ شيء صفوته. وغري يغري بالأمر إذا ولع به، وأغريته به: إذا حثثت له الدخول فيه. والفالج: الفائز. والياسر: اللاعب بالميسر. وسنذکر کیفیّته. والقداح: سهام الميسر الَّتي يلعب بها، والتعذیر اظهار العذر ممّن لا عذر له في الحقيقة، وعشيرة الرجل: قبيلته والمعاشرون له، والحيطة بالكسر: الحفظ والرعاية واللمّ: الجمع. والشعث: تفرّق الأمر وانتشاره.

واعلم أنّ مدار هذا الفصل على تأديب الفقراء بترك الحسد و نحوه أوّلا، وعلى تأديب الأغنياء بالشفقة على الفقراء ومواساتهم بالفضل من المال وتزهيدهم جمعه ثانيا.

فقوله: أمّا بعد فإنّ الأمر ينزل إلى قوله: أو نقصان.

صدر الخطبة. أورده ليبنى عليه غرضه، وحاصله الإشارة إلى أنّ كلّ ما يحدث من زيادة أو نقصان ويتجدّد فيما یکون به صلاح حال الخلق في معاشهم ومعادهم من صحّة أو مال أو علم أو جاه أو أهل فإنّه صادر عن القسمة الرّبانيّة المكتوبة بقلم القضاء الإلهيّ في اللوح المحفوظ الَّذي هو خزانة كلّ شيء. والمراد بالأمر حكم القدرة الإلهيّة على الممكنات بالوجود وهو المعبّر عنه بقوله تعالى: کُن: في قوله:

«إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ» وبنزوله نسبة حصوله إلى كلّ نفس بما قسمّ لها وهي النسبة المسمّاة بالقدر في قوله تعالى «وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ»(1).

ص: 172


1- الحجر: 21

والمراد بالسماء سماء الجود الإلهيّ وبالأرض عالم الكون والفساد على سبيل استعارة هذين اللفظين للمعنيين المعقولين من المحسوسين، ووجه الاستعارة في الموضعين مشاركة المعنيين المذكورين للسماء والأرض في معنيي العلوّ والاستفال كلّ بالنسبة إلى الآخر، وإنّما لم تكن الحقيقة مرادة لأنّ الأمر النازل ليس له جهة هي مبدء نزوله وإلَّا لكان الأمر في جهته - تعالى الله عن ذلك - ويحتمل أن يراد حقيقة السماء والأرض على معنى أنّ الحركات الفلكيّة لمّا كانت شرائط معدّة يصدر بواسطتها ما يحدث في الأرض كانت السماء مبادئ على بعض الوجوه لنزول الأمر. فأمّا تشبيهه بقطر المطر فوجه التشبيه أنّ حصول الرزق والأهل ونحوهما لكلّ نفس وقسمها منها مختلف بالزيادة والنقصان کما أنّ قطر المطر بالقياس إلى كلّ واحدة من البقاع كذلك.

وهو تشبيه للمعقول بالمحسوس.

وقوله: فإذا رأى أحدكم لأخيه المسلم غفيرة في أهل أو مال أو نفس فلا تكوننّ له فتنة. شروع في تأديب من حصل في حقّه النقصان في أحد الأمور المذكورة بالنهي لهم عن الافتتان بحال من حصلت له الزيادة والنفاسة في أحدها: من المال أو الأهل أو النفس. قال بعض الشارحين: إنّه أراد بالنهى عن الفتنة هاهنا النهي عن الحسد. والتحقيق أن يقال: إنّ الفتنة هي الضلال عن الحقّ بمحبّة أمر ما من الأمور الباطلة، والاشتغال به عمّا هو الواجب من سلوك سبيل الله. ولمّا كان حال الفقراء من أحد الأمور المذكورة بالنسبة إلى من عرضت له الزيادة في أحدها، فمنهم من يؤهّل نفسه لتلك الزيادة فيرى أنّه أحقّ بها ممّن عرضت له فيعرض له أن يحسده، أو يرى أنّه يستحقّ مثلها فيعرض له أن يغبطه، ومنهم من يقصّر نفسه عن ذلك لكن يميل

ص: 173

بطبعه إلى خدمة من له تلك الزيادة، وينجذب بكلَّيته إلى موالاتهم ككثير من الفقراء الَّذين يميلون بطباعهم إلى خدمة الأغنياء، ويخلصون السعي لهم ليس لأمر سوى ما حصلوا عليه من مال أو جاه أو نحو ذلك. ولعلّ تلك الغاية يشوبها توهّم الانتفاع بهم ممّا حصلوا عليه. ولمّا كانت هذه الأمور ونحوها أعلى الحسد والغبطة، والميل إليهم لأجل ما حصلوا عليه من الزيادة في أحد الأمور المذكورة رذائل اخلاق مشغلة عن التوجّه إلى الله تعالى ومقبلة عن سواء السبيل كان المنهيّ عنه في الحقيقة هو الضلال بأحد الرذائل المذكورة وهو المراد بلفظ الفتنة هاهنا.

وقوله: فإنّ المرء المسلم. إلى قوله: ومعه دينه وحسبه.

أقول: إعراب هذا الفصل أنّ ما هاهنا بمعنى المدّة. وكالفالج خبر أنّو تظهر صفة لدناءة وقوله فيخشع إن حملنا الخشوع على المعنى اللغوي وهو غض الطرف مثلا والتطأمن.

كان عطفا على يظهر، وإن حملناه على المعنى العرفيّ وهو الخضوع لله والخشية منه فالفاء للابتداء. والياسر صفة للفالج. وإذا للمفاجأة. إذا عرفت ذلك.

فاعلم أنّه (عليه السّلام) لمّا نهی عن الفتنة بأحد الأمور المذكورة والشغل بها أراد أن ينبّه على فضيلة الانتهاء عنه فنبّه على كونها دنایا بقوله: مالم يغش دناءة، ثمّ عقّب بالتنفير عن الدناءة والترغيب في التنزّه عنها بما ذكره. ومعناه أنّ المسلم مهما لم يرتكب أمرا خسيسا يظهر عنه فيكسب نفسه خلقا رديئا، ويلزمه بارتكابه الخجل من ذكره بين الخلق إذا ذكر والحياء من التعيير به، ويغری به لئام الناس وعوامّهم في فعل مثله. وقيل: في هتك

ص: 174

ستره. فإنّه يشبه الفالج الياسر. هذا إن حملنا الخشوع على معناه اللغويّ، وإن حملناه على المعنى العرفي الشرعيّ كان المراد أنّه ما لم يغش دناءة فيخشع لها: أي بل يخشع لله ويخضع له عند ذكرها ويتضرّع إليه هربا من الوقوع في مثلها وخوفا من وعيده على المعاصي فيكون كالفالج الياسر.

فلنشرت أوّلا إلى كيفيّة اللعب المسمّى میسرا ليّتضح به وجه التشبيه. فنقول: إنّ الخشبات المسميّات قداحا وهي الَّتي كانت لايسار الجزور سبعة: أوّلها: الفذّ بالذال المعجمة وفيه فرض واحد. وثانيها: التوأم. وفيه فرضان. وثالثها: الضريب بالضاد المعجمة وفيه ثلاثة فروض. ورابعها: الحلس بکسر الحاء، ونقل أحمد بن فارس في المجمل: الحلس بفتح الحاء وكسر اللام. وفيه أربعة فروض. وخامسها: النافس وفيه خمسة فروض. وسادسها: المسيل. وهي ستّة فروض. وسابعها: المعلَّى وله سبعة فروض.

وليس بعده قدح فيه شيء من الفروض، إلَّا أنّهم يدخلون مع هذه السبعة أربعة أخرى تسمّى أوغادا. لافروض فيها. وإنّما تثقل به القداح. وأسماءها: المصدر، ثمّ المضعف، ثمّ المنبح، ثمّ الصفيح. فإذا اجتمع أيسار الحيّ أخذ كلّ منهم قدحا: وكتب عليه اسمه أو علَّم بعلامة، ثمّ أتوا بجزور فينحرها صاحبها ويقسّمها عشرة أجزاء: على الوركين، والفخذين، والعجز، والكاهل، والزور، والملحاء، والكتفين. ثمّ يعمد إلى الطفاطف وحرز الرقبة فيقسّمها على تلك الأجزاء بالسويّة. فإذا استوت وبقي منها عظم أو بضعة لحم انتظر به الجازر من أراده ممّن بفوز قدحه فإن أخذه عیّر به وإلَّا فهو للجازر.

ص: 175

ثمّ يؤتى برجل معروف أنّه لم يأكل لحما قطَّ بثمن إلَّا أن يصيبه عند غيره ويسمّى الحرضة. فيجعل على يديه ثوب، وتعصّب رؤس أصابعه بعصابة کیلا يجد مسّ الفروض، ثمّ يدفع إليه القداح، ويقوم خلفه رجل يقال له الرقيب. فيدفع إليه قدحا قدحا منها من غير أن ينظر إليها.

فمن خرج قدحه أخذ من أجزاء الجزور بعدد الفروض الَّتي في قدحه، ومن لم يخرج قدحه حتّى استوفيت أجزاء الجزور غرم بعدد فروض قدحه كأجزاء تلك الجزور من جزور أخرى لصاحب الجزور الَّذي نحرها. فإن اتّفق أن خرج المعلَّى أوّلا فأخذ صاحبه سبعة أجزاء من الجزور، ثمّ خرج المسيل فلم يجد صاحبه إلَّا ثلاثة أجزاء أخذها، وغرم له من لم يفز قدحه ثلاثة أجزاء من جزور أخرى. وأمّا القداح الأربعة الأوغاد فليس في خروج أحدها غنم، ولا في عدم خروجه غرم. والمنقول عن الأيسار أنّهم كانوا يحرّمون ذلك اللحم على أنفسهم، ويعدّونه للضيافة. إذا عرفت ذلك.

فاعلم أنّ وجه الشبه هو ما ذكره (عليه السّلام) وذلك أنّ الفائز الياسر الَّذي ينتظر قبل فوزه أوّل فوزة من قداحه أوجب له فوزه المغنم ونفى عنه المغرم فكذلك المسلم البريء من الخيانة الضابط لنفسه عن ارتكاب منا هي الله لمّا كان لا بدّ له في انتظاره لرحمة الله وصبره عن معصيته أن يفوز بإحدى الحسنيين: وهي إمّا أن يدعوه الله إليه بالقبض عن الشقاء في هذه الدار. فما عند الله ممّا أعدّه لأوليائه الأبرار خير له. فيفوز إذن بالنعيم المقيم. ولمّا كان فوزه مستلزما لعدم خسرانه ظهر حسن تشبيهه بالياسر الفالج في فوزه المستلزم لعدم غرمه. ويحتمل أن یرید بداعي الله لا الموت، بل الجوانب الإلهيّة، والخواطر الربّانيّة الَّتي تسنح له فتجذبه إلى طرف الزهد الحقيقيّ والالتفات

ص: 176

عن خسائس هذه الدار إلى ما وعد به المتقوّن، وإمّا أن يفتح الله عليه أبواب رزقه فيصبح وقد جمع الله له بين المال والبنين مع حفظ الحسب والدين. فيفوز الفوز العظيم ويأمن العقاب الأليم. فالتشبيه أيضا هاهنا واقع موقعه، وكلا الوصفين أفضل عند العاقل من الفتنة بالغير، والالتفات عن الله تعالى، وتدنيس لوح النفس برذائل الأخلاق من الحسد ونحوه. وكما أنّ الفصل مستلزم للنهي عن الحسد ونحوه من الفتن المضلَّة كذلك هو مستلزم للأمر بالصبر على بلاء الله و انتظار رحمته.

قوله: إنّ المال والبنين حرث الدنيا. إلى قوله: لأقوام.

أقول: لمّا بيّن فيما سبق من التشبيه وغيره أنّ تارك الرذائل المذكورة ونحوها المنتظر للحسنى من الله فائز. أردف ذلك بالتنبيه على تحقير المغشيات الَّتي ينشأ منها التنافس، ومنها الرذائل المذكورة. فذكر أعظمها وأهمّها عند الناس وهو المال والبنون. فإنّهما أعظم الأسباب الموجبة لصلاح الحال في الحياة الدنيا وأشرف القينات الحاضرة.

كما قال الله تعالى:

«الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا».

ونبّه على تحقير هما بالنسبة إلى العمل بكونهما من حرث الدنيا والعمل الصالح حرث الآخرة. والمقدّمة الأولى من هذا الاحتجاج صغری کبراه ضمير تقديرها وحرث الدنيا حقير عند حرث الآخرة. فينتج أنّ المال والبنين حقيران بالنسبة إلى حرث الآخرة. وقد ثبت في المقدّمة الثانية أنّ حرث الآخرة هو العمل الصالح. فإذن المال والبنون حقيران بالنسبة إلى العمل الصالح.

ص: 177

أمّا المقدّمة الأولى فظاهرة إذ لا حصول للمال والبنين في غير الدنيا.

وأمّا بیان الثانية فمن وجهين: أحدهما: قوله تعالى:

«فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ».

وظاهر أنّه لا يريد قلَّة الكميّة، بل المراد حقارته بالنسبة إلى متاع الآخرة ولذّتها.

الثاني: أنّ حرث الدنيا من الأمور الفانية، وحرث الآخرة من الأمور الباقية الموجبة للسعادة الأبديّة، والفانيات الصالحات ظاهرة الحقارة بالنسبة إلى الباقيات الصالحات کما قال تعالى:

«وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا».

ثمّ نبّه السامعين بقوله: وقد يجمعهما الله لأقوام. على وجوب الالتفات إلى الله تعالى والتوكَّل عليه. وذلك أنّ الجمع بين حرث الدنيا والآخرة لمّا كان في طباع كلّ عاقل طلب تحصيله، وكان حصوله إنّما هو من الله دون غيره لمن يشاء من عباده. ذكر عليه السّلام ذلك ليفرغ الطالبون للسعادة إلى جهة تحصيلها وهو التقرّب إلى الله بوجوه الوسائل، والإعراض عمّا لا يجدي طائلا من الحسد ونحوه، ثمّ أكَّد ذلك الجذب بالتحذير ممّا حذّره الله من نفسه، والأمر بالخشية الصادقة البريئة من التعذير المستلزمة لترك محارمه، ولزوم حدوده الجاذبة إلى الزهد الحقيقي، ثمّ أردف ذلك بالأمر بالعمل لله البريء من الرياء والسمعة وهو إشارة إلى العبادة الخالصة لله، والمستلزم لتطويع النفس الأمّارة بالسوء للنفس المطمئنّة، وقد ثبت في علم السلوك إلى الله تعالى أنّ الزهد والعبادة كيف يوصلان إلى السعادة التامّة الأبديّة.

ص: 178

وقوله: فإنّه من يعمل لغير الله يكله الله لمن عمل له.

تعليل لوجوب ترك الرياء والسمعة في العمل. فإنّ العامل للرياء والسمعة قاصد أن يراه الناس ويسمعوا بحاله ليعود إليه منهم ما يتوّقعه من مال أو جاه و نحوه من الأغراض الباطلة والأعراض الزائلة. وقد علمت أنّ التفات النفس إلى شيء من ذلك شاغل لها عن تلقّي رحمة الله والاستعداد لها، محجوبة به عن قبول فضله. ولمّا كان هو مسبب الأسباب ومنتهى سلسلة الممكنات لاجرم كانت المطالب منه لا من غيره فجرى منه التحديد بالوكول إلى من سواه ممّن عمل له العاملون لاستلزامه الخيبة والحرمان.

وخسر العاملون إلَّا له، وخاب المتوكَّلون إلَّا عليه. وقد سبق منّا بیان معنی کون العامل لغير الله موکولا إلى نفسه وإلى من عمل له في الفصل الَّذي ذمّ فيه عليه السّلام من يتصدّى للحكم بين الأمّة وليس من أهله.

قوله: نسأل الله منازل الشهداء ومعايشة السعداء ومرافقة الأنبياء.

لمّا كانت همّته عليه السّلام مقصورة على طلب السعادة الأخرويّة طلب هذه المراتب الثلاث. وفي ذلك جذب للسامعين إلى الاقتداء به في طلبها والعمل بها. وبدء (عليه السّلام) بطلب أسهل المراتب الثلاث للإنسان، وختم بأعظمها. فإنّ من حكم له بالشهادة غايته أن يكون سعيدا، والسعيد غايته أن يكون في زمرة الأنبياء رفيقا لهم. وهذا هو الترتيب اللايق من المؤدّب الحاذق. فإنّ المرتبة العالية لا تنال دفعة دون نیل ما هو أدون منها)(1).

ص: 179


1- شرح نهج البلاغة لابن میثم: ج 2، ص 4 - 9

الحديث الثاني:

قال عليه الصلاة والسلام في وصيته لولده محمد بن الحنفية:

«وَلاَ كَنْزَ أَغْنَى مِنَ الْقَنَاعَةِ، وَلاَ مَالَ أَذْهَبُ لِلْفَاقَةِ مَنَ الرِّضَى بِالْقُوتِ، وَمَنِ اقْتَصَرَ عَلَى بُلْغَةِ الْكَفَافِ فَقَدِ انْتَظَمَ الرَّاحَةَ وَتَبَوَّأَ خَفْضَ الدَّعَةِ»(1).

والحديث اقتصر البيان فيه على بيان أثر القناعة والرضا والاجمال في الطلب بالاكتفاء بالكفاف فقد أدرك الراحة والاستقرار النفسي، فضلاً عن ) أثر ذلك بتهذيب النفس.

وهي كالاتي:

1- ابن أبي الحديد المعتزلي (ت 656 ه):

كل هذه المعاني قد سبق القول فيها مرارا شتی، نأتي كل مرة بما لم نأت به فيما تقدم، وإنما يكررها أمير المؤمنين (عليه السلام) لإقامة الحجة على المكلفين، کما يكرر الله سبحانه في القرآن المواعظ والزواجر، لذلك كان أبو ذر - رضي الله عنه - جالسا بين الناس فأتته امرأته فقالت: أنت جالس بين هؤلاء، ولا والله ما عندنا في البيت هفة ولا سفه، فقال: يا هذه، إن بين أيدينا عقبة كؤودا، لا ينجو منها إلا كل مخف، فرجعت وهي راضية. وقيل لبعض الحكماء: ما مالك؟ قال: التجمل في الظاهر، والقصد في الباطن، والغني عما في أيدي الناس.

وقال أبو سليمان الداراني: تنفس فقير دون شهوة لا يقدر عليها أفضل من عبادة غنى ألف عام. وقال رجل لبشر بن الحارث: ادع لي فقد أضر الفقر بي وبعيالي فقال: إذا قال: لك عيالك: ليس عندنا دقيق ولا خبز فادع البشر

ص: 180


1- نهج البلاغة الخطبة: 371؛ من لا يحضره الفقيه للصدوق: ج 4، ص 385

بن الحارث في ذلك الوقت، فان دعاءك أفضل من دعائه. ومن دعاء بعض الصالحين: اللهم إني أسألك ذل نفسي، والزهد فيما جاوز الكفاف)(1).

2- ابن ميثم البحراني:

(الخامسة: «وَلاَ كَنْزَ أَغْنَى مِنَ الْقَنَاعَةِ، وَلاَ مَالَ أَذْهَبُ لِلْفَاقَةِ مَنَ الرِّضَى بِالْقُوتِ، وَمَنِ اقْتَصَرَ عَلَى بُلْغَةِ الْكَفَافِ فَقَدِ انْتَظَمَ الرَّاحَةَ وَتَبَوَّأَ خَفْضَ الدَّعَةِ، وَالرَّغْبَةُ مِفْتَاحُ النَّصَبِ وَمَطِيَّةُ التَّعَبِ، وَالْحِرْصُ وَالْكِبْرُ وَالْحَسَدُ دَوَاعٍ إِلَى التَّقَحُّمِ فِي الذُّنُوبِ، وَالشَّرُّ جَامِعُ مَسَاوِىءِ الْعُيُوبِ».

إحداها لأشرف أعلى من الإسلام).

لاستلزامه شرف الدنيا والآخرة.

الثانية: ولا عزّ أعزّ من التقوى لأنّ التقوى تستلزم جميع مكارم الأخلاق الجامعة لعزّ الدنيا والآخرة فكان عزّها أكبر عزّا من غيرها.

الثالثة: ولا معقل أحصن من الورع. واستعار له لفظ المعقل باعتبار تحصّن الإنسان به من عذاب الله، ولمّا كان عبارة عن لزوم الأعمال الجميلة فلا معقل أحصن منه.

الرابعة: ولا شفيع أنجح من التوبة. وذلك لاستلزامها العفو عن جريمة التائب قطعا دون سائر الشفعاء بشفاعتهم. ولفظ الشفيع مستعار لها.

الخامسة: ولا كنز أعني من القناعة. وذلك لكونها فضيلة مستلزمة لسكون نفس الإنسان، ورضاه بما قسّم له، وغناه عمّا وراءه. ولا شيء من سائر الكنوز لأبناء الدنيا كذلك. ولفظ الكنز مستعار لها.

ص: 181


1- شرح نهج البلاغة للمعتزلي: ج 19، ص 301 - 302

السادسة: ولا مال أذهب للفاقة من الرضا بالقوت. وهو قريب ممّا قبله.

السابعة: ومن اقتصر على بلغة الكفاف فقد انتظم الراحة أي في سلك الراحة من الهمّ بطلب الدنيا ومجاذبة أهلها وتبوّأ خفض الدعة: أي اتّخذ لين السكون مباءة ومرجعا.

الثامنة: والرغبة مفتاح النصب ومطيّة التعب. استعار للرغبة في الدنيا لفظ المفتاح باعتبار فتحه لباب التعب على الراغب، وكذلك لفظ المطيّة باعتبار استلزامها له كالمطيّة المتعب ركوبها)(1).

الحديث الثالث:

قال عليه الصلاة والسلام في خطبة يحث فيها على التقوى، جاء فيها:

«وَ اعلَمُوا أَنّ مَا نَقَصَ مِنَ الدّنيَا وَ زَادَ فِي الآخِرَةِ خَيرٌ مِمّا نَقَصَ مِنَ الآخِرَةِ وَ زَادَ فِي الدّنيَا، فَكَم مِن مَنقُوصٍ رَابِحٍ وَ مَزِيدٍ خَاسِرٍ، إِنّ ألّذِي أُمِرتُم بِهِ أَوسَعُ مِنَ ألّذِي نُهِيتُم عَنهُ، وَ مَا أُحِلّ لَكُم أَكثَرُ مِمّا حُرّمَ عَلَيكُم، فَذَرُوا مَا قَلّ لِمَا كَثُرَ وَ مَا ضَاقَ لِمَا اتّسَعَ، قَد تَكَفّلَ لَكُم بِالرّزقِ، وَ أُمِرتُم بِالعَمَلِ فَلَا يَكُونَنّ المَضمُونُ لَكُم طَلَبُهُ، أَولَي بِكُم مِنَ المَفرُوضِ عَلَيكُم عَمَلُهُ مَعَ أَنّهُ وَ اللّهِ لَقَدِ اعتَرَضَ الشّكّ، وَ دَخِلَ اليَقِينُ حَتّي كَأَنّ ألّذِي ضُمِنَ لَكُم قَد فُرِضَ عَلَيكُم، وَ كَأَنّ ألّذِي قَد فُرِضَ عَلَيكُم قَد وُضِعَ عَنكُم، فَبَادِرُوا العَمَلَ وَ خَافُوا بَغتَةَ الأَجَلِ فَإِنّهُ لَا يُرجَي مِن رَجعَةِ العُمُرِ مَا يُرجَي مِن رَجعَةِ الرّزقِ مَا فَاتَ اليَومَ مِنَ الرّزقِ رجُيِ غَداً زِيَادَتُهُ، وَ مَا فَاتَ أَمسِ مِنَ العُمُرِ لَم يُرجَ اليَومَ رَجعَتُهُ الرّجَاءُ مَعَ الجاَئيِ وَ اليَأسُ مَعَ الماَضيِ، فَ «اتّقُوا اللّهَ حَقّ تُقاتِهِ وَ لا

ص: 182


1- شرح نهج البلاغة لابن میثم: ج 5، ص 425 - 426

تَمُوتُنّ إِلّا وَ أَنتُم مُسلِمُونَ»(1).

أقول: نقتصر في بيان معان الحديث ودلالاته على ما ورد في منهاج البراعة للسيد حبيب الله الخوئي الهاشمي (رحمه الله) (ت 1324 ه)، فيقول في بيان الجزء من الخطبة الشريفة:

«وَ اعلَمُوا أَنّ مَا نَقَصَ مِنَ الدّنيَا وَ زَادَ فِي الآخِرَةِ خَيرٌ مِمّا نَقَصَ مِنَ الآخِرَةِ وَ زَادَ فِي الدّنيَا»:

لأن ما يزاد للآخرة فهو باق دائم وما يزاد للدّنيا فهو فان زائل وأيضا في زيادة الدّنيا طول الحساب والعقاب، وفي زيادة العقبي مزيد الفوز والثواب (فكم من منقوص رابح) کما قال سبحانه:

«إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ».

وقال:

«مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ».

وكم من (مزيد خاسر) لقوله سبحانه:

«وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ».

ص: 183


1- شرح نهج البلاغة؛ الخطبة (114)

وقوله تعالى:

«وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» الآية.

ثمّ قال: (إنّ الَّذي أمرتم به أوسع ممّا نهيتم عنه وما احلّ لكم أكثر مما حرّم عليكم):

الأظهر أنّ الجملة الثانية توكيد للأولى فيكون المراد بالمأمور به في الأولى مطلق ما رخّص في ارتكابه فيعمّ الواجب والمندوب والمكروه والمباح بالمتساوى الطَّرفين وبالنّهى عنه فيها ما نهى عنه نهى تحريم، وأوسعيّة الثاني بالنسبة إلى الأوّل على ذلك واضحة لأنّ المنهيّ عنه قسم واحد والمأمور به أقسام أربعة لا يقال: الأمر حقيقة في الوجوب على ما حقّق في الأصول فكيف يعمّ الأقسام لأنّا نقول: سلَّمنا إلَّا أنّه إذا قامت قرينة على المجاز لا يكون بأس بحمل اللفظ عليه والقرينة في المقام موجودة وهي الأوسعيّة والعلاقة هي اشتراك ساير الأقسام مع الواجب في أنّ كلا منها مأذون فيها مرخّص في فعلها وتناولها، ويدلّ على كثرة الحلال بالنسبة إلى الحرام صريحا قوله سبحانه: «خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا».

فانّ كلمة ما مفيدة للعموم ولفظ الجميع تأكيد لها، واللَّام للانتفاع فيدلّ على جواز الانتفاع بجميع ما في الأرض.

فان قلت: إنّ الآية لا تفيد العموم لأنّ شرط حمل المطلقات على العموم أن لا يكون المقام مقام الاجمال بل يكون مقام البيان، وههنا ليس كذلك إذا المقصود بيان أنّ في خلق الأشياء منفعة لكم للإيمان «للايماء ظ» أنّ جميع الأشياء مما ينتفع بها.

ص: 184

قلت: فيه بعد ما عرفت أنّ الموصول مفيد للعموم لا سيّما مع التوكيد بلفظ الجميع إنّ الآية واردة في مقام الامتنان المقتضى للتعميم كما لا يخفى، فيدلّ على إباحة الانتفاع وحله بجميع ما في الأرض فيكون الأصل الأوّلى في الجميع هو الحلّ والإباحة إلى أن يقوم دليل على الحظر والحرمة، فيحتاج إلى تخصيص ما ثبتت حرمته من عموم الآية، ويدلّ عليه أيضا قوله سبحانه:

«قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ».

فانّ تخصيص المحرّمات بما بعد إلَّا دليل على أنّ غير المستثنى ليس حراما، وعدم وجدان النّبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) دليل على عدم وجود الحرمة واقعا، ويدلّ عليه أيضا قوله سبحانه:

«أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ»

فانّ الطيّب هو ضدّ الخبيث الذي يتنفّر عنه الطَّبع فيكون، المراد بالطَّيبات ما تستلذّها الطباع فيدلّ على حلَّية جميع المستلذّات ويخصّص بما دل على حرمة بعضها بالخصوص، وهذه الآيات تدلّ على إباحة جميع ما لم يقم دليل على حرمته، ولذا استدلّ بها الاصوليّون في مسألة الحظر والإباحة على أنّ الأصل الأوّلى في الأشياء هو الإباحة.

ومثلها في الدّلالة عليها قوله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهى»، إلَّا أنّ ذلك يدلّ على الإباحة الظاهريّة فيما شكّ في إباحته وحرمته، وهذه على الإباحة الواقعية، فمعناه أنّ كلّ شيء مرخّص فيه من قبل الشارع حتّى يرد فيه نهي، فالناس في سعة مما لم يعلم بورود نهى فيه.

ص: 185

ثمّ انّ اصالة الإباحة كما تجرى في الأعيان مثل التفاح ونحوه بقوله: خلق لكم ما في الأرض جميعا، فيباح الأفعال المتعلَّقة بها كذلك تجرى في الأفعال كالغنا مثلا ان فرض عدم قيام دليل على حرمته لقوله: احلّ لكم الطيبات، فالأصل المذكور يجرى في القسمين المذكورين من دون تأمّل.

وربّما يقال: باختصاص اصالة الإباحة بالأعيان وأنّ الأصل الدّال على حلَّية الأفعال يسمّى باصالة الحلّ فهما أصلان ناظران إلى موردين ونحن نقول إنّ ذلك لا بأس به إذ لا مشاحة في الاصطلاح لكن لا يختصّ أحدهما بالحجّية دون الآخر ضرورة أنّ الأدلة وافية بحجّيتهما معا وان كانا مختلفي المورد.

وعلى ذلك فيمكن أن لا يجعل العطف في كلامه عليه السّلام تفسيريّا بأن يكون المراد بما أمرتم به وما نهيتم عنه الأعيان المباحة والمنهيّة، وبما حلّ وما حرّم الأفعال المحلَّلة والمحرّمة.

وكيف كان فلمّا أفصح عن كون المباح أوسع من المنهيّ والحلال أكثر ب من الحرام أمر بترك المحرّمات والمنهيّات فقال (فذروا) أي اتركوا (ما قلّ لما كثر وما ضاق لما اتّسع) يعني أنّه بعد ما كان الحرام قليلا والحلال كثيرا فلا حرج عليكم في ترك الأوّل وأخذ الثاني، ولا عسر في ذلك وكذلك المباح والمحظور نعم لو كان الأمر بالعكس لكان التكليف أصعب، ولكنّه سبحانه منّ على عباده بما بين السّماء والأرض، وجعل الملَّة سمحة سهلة، وما جعل في الدّين من حرج علما منه بضعف النفوس عن القيام بمراسم عبوديّته بمقتضى الجبلَّة البشريّة، فسبحان الله ما أعظم منته وأسبغ نعمه وأوسع كرمه.

ص: 186

ثمّ نهى عن تقديم طلب الرّزق على الاشتغال بالعبادة وترجيحه عليه فقال (قد تكفّل لكم بالرّزق وأمرتم بالعمل) أما الأمر بالعمل فواضح، وأمّا التكفّل بالرّزق فقد تقدّم الكلام فيه وفي معنى الرّزق بما لا يزيد عليه في شرح الفصل الأوّل من فصول الخطبة التسعين (فلا يكون المضمون لكم طلبه أولى بكم من المفروض عليكم عمله) وهذا يدلّ صريحا على المنع من ترجيح الطَّلب على العمل حسب ما أشرنا إليه، ولا دلالة فيه على ترك الطَّلب بالكليّة، بل المستفاد من الرّوايات الكثيرة كراهة ذلك مثل الأول.

منها ما رواه في الكافي باسناده عن عمر بن يزيد قال: قلت لأبي عبد الله عليه السّلام رجل قال لأقعدنّ في بيتي ولاصلَّينّ ولأصومنّ ولأعبدنّ ربّي فأما رزقي فسيأتيني فقال أبو عبد الله عليه السّلام: هذا أحد الثلاثة الَّذين لا يستجاب لهم.

وفيه عن معلَّى بن خنيس قال سأل أبو عبد الله (عليه السّلام) عن رجل وأنا عنده فقيل أصابته الحاجة، فقال: (ما يصنع اليوم)؟

قيل: في البيت يعبد ربّه، قال: (فمن أين قوته)؟

قال: من عند بعض اخوانه، فقال أبو عبد الله (عليه السّلام):

(والله للَّذي يقوته أشدّ عبادة منه).

ثمّ وبّخهم بقوله: (مع أنّه والله لقد اعترض الشّك ودخل اليقين):

أي اعترض الشّك في المضمون والمفروض وتزلزل اليقين بضمان المضمون وبفرض المفروض (حتّى كأنّ الَّذي ضمن لكم قد فرض عليكم) فبالغتم في تحصيله وطلبه والجدّ له (وكأنّ الَّذي فرض عليكم قد وضع عنكم) فتوانيتم

ص: 187

فيه ولم تبالوا ب (فبادروا العمل) المأمور به قبل حلول الموت (وخافوا بغتة الأجل) وفجأة الفوت ( فإنه لا يرجى من رجعة العمر) وعوده (ما يرجى من رجعة الرّزق) هذا في مقام التعليل للمبادرة إلى العمل وترجيحه على طلب الرزق بيانه: أنّ العمر ظرف للعمل وما فات ومضى منه فلا يعود ولا يرجى عوده ويفوت العمل كساير الزّمانيّات المتعلَّقة به بفواته لا محالة ولا يمكن استدراكه بعينه فإذا وجب المبادرة إليه والاتيان به وإليه أشير في قوله (عليه السّلام):

و ما فات مضى وما سيأتيك فأين *** قم فاغتنم الفرصة بين العدمين

وقال آخر :

إنّما هذه الحياة متاع *** والسّفيه الغوىّ من يصطفيها

ما مضى فات والمؤمّل غيب *** ذلك السّاعة الَّتي أنت فيها

وأمّا الرزق فهو مقسوم وما نقص منه في الماضي أمكن جبرانه في الغابر، وإليه أشار بقوله:

(ما فات اليوم من الرزق رجى غدا زيادته وما فات أمس من العمر لم يرج اليوم رجعته)

لأنّ العمر عبارة عن زمان الحياة ومدّته والزّمان كمّ متّصل غير قارّ الذات، والجزء الثّاني منه عادم للجزء الأوّل، والجزء الثّالث عادم للجزء الثاني وهكذا فلا يمكن رجوع الجزء الأوّل بعد مضيّه أبدا، وهذا بخلاف

ص: 188

الرّزق كالمأكل والمشارب والأموال، فانّ الانسان إذا فاته شيء منها قدر على ارتجاعه بعينه إن كان عينه باقية، وما لا يبقى عينه يقدر على اكتساب مثله، نعم يشكل ذلك لو عممنا الرزق بالنّسبة إلى التّنفس في الهواء، فإنه كالعمل أيضا من الزّمانيات لا يمكن استدراكه، اللهم إلَّا أن يقال إنّه فرد نادر، ونظر لا الامام عليه السّلام في كلامه إلى الأفراد الشائعة والأعمّ الأغلب، فانّ ساير أفراد الرّزق عموما قابل للاستدراك.

وقوله (عليه السّلام) «الرّجاء مع الجائي واليأس مع الماضي» مؤكَّد لما سبق وأراد بالجائي الرّزق وبالماضى العمر.

ولما أمرهم بالمبادرة إلى العمل مخافة بغتة الأجل أكَّد ذلك بالأمر بملازمة التقوى فقال:

«فاتّقوا الله حقّ تقاته» أي حقّ تقواه وما يجب منها وهو استفراغ الوسع في القيام بالواجبات والاجتناب عن المحرّمات «ولا تموتنّ إلَّا وأنتم مسلمون» وهو اقتباس من الآية في سورة آل عمران قال تعالى:

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ» الآية.

قال في مجمع البيان معناه واتّقوا عذاب الله أي احترسوا وامتنعوا بالطاعة عذاب الله كما يحقّ، فكما يجب أن يتّقى ينبغي أن يحترس منه، وذكر في قوله حقّ تقاته وجوه أحدها أن يطاع فلا يعصى ويشكر فلا يكفر ويذكر فلا ينسى، وهو المرويّ عن أبي عبد الله عليه السّلام وثانيها أنه اتّقاء جميع معاصيه وثالثها أنّه المجاهدة في الله وأن لا تأخذه فيه لومة لائم وأن يقام له بالقسط في الخوف والأمن وقوله:

ص: 189

«وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ».

معناه لا تتركوا الاسلام وكونوا عليه حتّى إذا ورد عليكم الموت صادفكم عليه، وانما قال بلفظة النّهى عن الموت من حيث إنّ الموت لا بدّ منه وإنما النّهي في الحقيقة عن ترك الاسلام لأن لا يهلكوا بالانقطاع عن التّمكَّن منه بالموت إلَّا أنه وضع كلام موضع كلام على جهة التّصرّف والابدال بحسن الاستعارة وزوال اللَّبس وروى عن أبي عبد الله (عليه السّلام): وأنتم مسلَّمون، بالتشديد ومعناه مستسلمون لما أتى به النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) منقادون له، والله الموفّق)(1).

الحديث الرابع:

قال (عليه الصلاة والسلام):

«خُذْ مِنَ الدُّنْيَا مَا أَتَاكَ، وَ تَوَلَّ عَمَّا تَوَلَّى عَنْكَ، فَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَفْعَلْ فَأَجْمِلْ فِي الطَّلَبِ»(2).

قال الشارح المعتزلي في بيان معنى النص الشريف:

(كان يقال أجعل الدنيا كغريم السوء، حصل منه ما يرضخ لك به، ولا تأس على ما دفعك عنه.

ثم قال (عليه السلام):

«فَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَفْعَلْ فَأَجْمِلْ فِي الطَّلَبِ».

وهي من الألفاظ النبوية:

ص: 190


1- منهاج البراعة: ج 8، ص 63 - 69
2- نهج البلاغة، الخطبة رقم (393)

«لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فأجملوا في الطلب».

قيل لبعض الكماء: ما الغني؟ فقال:

قلة تمنيك، ورضاك بما يكفيك)(1).

الحديث الخامس:

قال (عليه الصلاة والسلام):

«اَلرِّزْقُ رِزْقَانِ رِزْقٌ تَطْلُبُهُ، وَ رِزْقٌ یَطْلُبُكَ فَإِنْ لَمْ تَأْتِهِ أَتَاكَ، فَلاَ تَحْمِلْ هَمَّ سَنَتِكَ عَلَی هَمِّ یَوْمِكَ، کَفَاكَ کُلُّ یَوْمٍ عَلَی مَا فِیهِ، فَإِنْ تَکُنِ اَلسَّنَةُ مِنْ عُمُرِكَ، فَإِنَّ اَللَّهَ تَعَالَی سَیُؤْتِیكَ فِی کُلِّ غَدٍ جَدِیدٍ مَا قَسَمَ لَكَ، وَ إِنْ لَمْ تَکُنِ اَلسَّنَةُ مِنْ عُمُرِكَ فَمَا تَصْنَعُ بِالْهَمِّ فِیمَا لَیْسَ لَكَ، وَ لَنْ یَسْبِقَكَ إِلَی رِزْقِكَ طَالِبٌ، وَ لَنْ یَغْلِبَكَ عَلَیْهِ غَالِبٌ، وَ لَنْ یُبْطِئَ عَنْكَ مَا قَدْ قُدِّرَ لَكَ»(2).

لم يرد عن شراح نهج البلاغة الكثير في شرحهم لهذا النص الشريف وبيان دلالته وذلك لمروره في وصيته (عليه الصلاة والسلام) لولده الإمام الحسن (عليه السلام).

ولذا:

يقول ابن أبي الحديد:

(قد تقدم القول في معاني هذا الفصل؛ وروي أن جماعة دخلوا على الجنيد(3)، فاستأذنوه في طلب الرزق، فقال:

ص: 191


1- شرح نهج البلاغة للمعتزلي: ج 19، ص 358
2- نهج البلاغة، الخطبة (379؛ من لا يحضره الفقيه للصدوق: ج 4، ص 386
3- الجند

إن علمتم في أي موضوع هو فاطلبوه؛ قالوا: فنسأل الله تعالى ذلك؟ قال: إن علمتم أنه نساكم فذكروه؛ قالوا: فندخل البيت ونتوكل وننتظر ما يكون؛ التوكل على التجربة شك؛ قالوا: فما الحيلة؟ قال: ترك الحيلة)(1).

أقول: وهذا الكلام من السفسطة، فقد قال الله عز وجل:

«هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ»(2).

ص: 192


1- شرح نهج البلاغة للمعتزلي: ج 19، ص 319
2- الملك: 15

الفصل الرابع : «الشركة»

اشارة

ص: 193

ص: 194

المبحث الأول معنى الشركة في اللغة والشرع

لم يرد في نهج البلاغة الكثير من الأحاديث في عنوان الشركة - بما تمكنت من القراءة في نصوص وفهمته منها - وفوق كل ذي علم عليم، مقدار توفيقي ورزقي.

وعليه:

سنتناول في هذا الفصل، التعريف ب (الشركة) ومستحباتها التي ينفرد في بيانها الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) مما فرض علينا أن نورد في المطلب المكروهات كي يستقيم ويتضح المطلب خدمة للعلم وطلابه. والله الموفق لكل والمسدد للصواب.

المسألة الأولى: معنى الشركة لغة.

يُرجع أهل اللغة معنى (الشركة) إلى المخالطة.

قال الفراهيدي، وابن سيدة، وابن منظور، واللغظ له:

(شرك: الشّركَةُ والشَّرِكة، اي: بالكسر والفتح، سواء: مخالطة الشريكين.

يقال: اشترَكنا بمعنى تَشارَكنا، وقد اشترك الرجلان وتَشارَكا وشارَك أَحدُهما الآخر؛ فأَما قوله:

عَلى كُلِّ نَهدِ العَصرَيَينِ مُقَلِّصٌ *** وجَرداءَ يَأبى رَبُّها أَن يُشارَكا

ص: 195

فمعناه أَنه يغزو على فرسه ولا يدفعه إلى غيره، ويُشارَك يعني يشاركه في الغنيمة.

والشَّريكُ: المُشارِك.

والشِّركُ: كالشَّريك؛ قال المُسَيِّب أَو غيره:

شِركاً بماء الذَّوبِ يَجمَعه *** في طَود أَيمَنَ، في قُرى قَسرِ

والجمع أَشراك وشُرَكاء؛ قال لبيد:

تَطيرُ عَدائدُ الأَشراكِ شَفعاً *** ووِتراً، والزَّعامَةُ للغُلامِ

قال الأَزهري: يقال شَريك وأَشراك كما يقال يتيم وأَيتام ونصير وأَنصار، وهو مثل شريف وأَشراف وشُرفاء)(1).

المسألة الثانية: معنى الشركة عند الفقهاء.

1- تعريفها في المذهب الإمامي.

تناول فقهاء الإمامية (أعلى الله شأنهم) تعريف الشركة في مصنفاتهم الفقهية بين الايجاز والسعة، ويمكن لنا أن نستخلص معنى الشركة من إفاداتهم ب: ((اجتماع حقوق الملاك)) وهو ما جاء في شرائع المحقق الحلي(2)؛

ص: 196


1- لسان العرب: ج 10 ص 448
2- شرائع الإسلام: ج 2 ص 374

وتذكرة العلامة(1)؛ وقواعده(2)؛ وإيضاح ابن العلامة(3) ومهذب ابن فهد الحلي(4)؛ وجامع المحقق الكركي(5) ومسالك الشهيد الثاني(6)؛ ومجمع المحقق الأردبيلي(7)؛ وكفاية المحقق السبزواري(8)؛ ومسالك الكاظمي(9)؛ وحدائق البحراني(10)؛ وجواهر الجواهري(11)؛ ومستمسك الحيكم(12).

وقد ناقش الشيخ الجواهري التعريف بعد استقصائه لأقوال فقهاء الطائفة (عليهم الرحمة والرضوان)، وكذا فعل السيد محسن الحكيم (عليهما الرحمة والرضوان) في تعليقه على العروة الوثقى للسيد كاظم اليزدي (قدس سره)، فقال في تعريف الشركة:

(وهي عبارة عن كون شيء واحد لاثنين أو أزيد ملكا أو حقا(13). وهي

ص: 197


1- تذكرة الفقهاء للعلامة الحلي: ج 2 ص 219
2- قواعد الأحكام للعلامة الحلي: ج 2 ص 325
3- إيضاح الفوائد لابن العلامة: ج 2 ص 374
4- المهذب البارع لابن فهد الحلي: ج 2 ص 543
5- جامع المقاصد للمحقق الكركي: ج 8 ص 7
6- مسالك الافهام للشهيد الثاني: ج 4 ص 301
7- مجمع الفائدة للمحقق الأردبيلي: ج 10 ص 198
8- كفاية الأحكام: ج 1 ص 618
9- مسالك الافهام لجواد الكاظمي: ج 3 ص 93
10- الحدائق الناظرة: ج 21 ص 147
11- جواهر الكلام للشيخ الجواهري: ج 2 ص 284
12- مستمسك العروة الوثقى للسيد محسن الحكيم: ج 13 ص 3
13- قال في الشرايع: «الشركة اجتماع حقوق الملاك في الشئ الواحد على سبيل الشياع «ونحوه في القواعد وغيرها، بل هو المشهور. وفي جامع المقاصد». في التعريف نظر، لانتقاضه بالشركة في القصاص، وحد القذف، والخيار، والرهن، والشفعة، ونحو ذلك، فإنه ليس هناك ملك حقيقي، فلا مالك حقيقة. وقد صرحوا بأن هذا أحد أقسام الشركة الثلاثة. وفيه: أن المراد من الملاك ما يشمل ذوي الحقوق التي منها ما ذكره، إذ الحقوق نوع من الأملاك، والحق نوع من الملك والاختلاف بينهما بحسب المورد لا غير، كما أوضحناه في بعض مباحث هذا الكتاب. البيت لشخص وسائر آلاته لآخر وأرضه لثالث، لصدق كون الشئ الواحد لأكثر من واحد، مع أنه لا شركة هنا، كما صرحوا بذلك. وحمل الواحد على البسيط الذي لا يتجزأ كما ترى. وكأن عذره أن الشركة التي يقصد تعريفها غير الشركة بالمعنى الشرعي، كما سيأتي في كلامه قريبا

(إما واقعية قهرية) كما في المال أو الحق الموروث (وإما واقعية اختيارية) من غير استناد إلى عقد كما إذا أحيي شخصان أرضا مواتا بالاشتراك، أو حفرا بئرا، أو اغترفا ماء، أو اقتلعا شجرا (وإما ظاهرية قهرية)(1) كما إذا امتزج مالهما من دون اختيارهما - ولو بفعل أجنبي - بحيث لا يتميز أحدهما من الآخر، سواء کانا من جنس واحد، كمزج حنطة بحنطة، أو جنسين كمزج دقيق الحنطة بدقيق الشعير(2)، أو دهن اللوز بدهن الجوز، أو الخل بالدبس (وإما ظاهرية اختيارية) كما إذا مزجا باختيارهما لا بقصد الشركة فإن مال كل منهما في الواقع ممتاز عن الآخر، ولذا لو فرض تمييزهما اختص كل منهما

ص: 198


1- قال في الشرائع: وكل مالين مزج أحدهما بالآخر بحيث لا يتميزان تحققت فيهما الشركة، اختيارا كان المزج أو اتفاقا وألحقه في الجواهر بقوله: مقصودا به الشركة أولا، بلا خلاف أجده فيه، بل الاجماع بقسميه عليه وفي القواعد: وتحصل الشركة بالمزج، سواء كان اختيارا أو اتفاقا ونحوهما عبارات غيرهما. والظاهر منها كون الشركة واقعية تتبدل ملكية كل منهما للجزء المعين في نفس الأمر بالجزء المشاع
2- قال في الشرائع بعد العبارة المحكية سابقا: ويثبت ذلك في المالين المتماثلين في الجنس والصفة. وظاهره اختصاص الشركة بذلك فيكون امتزاج الجنسين أو الفردين من جنس واحد مع اختلاف الصفة خارجا عن مورد الشرك- الحقيقية وإن كان داخلا في مورد الشركة الحكمية

بماله(1). وأما الاختلاط مع التميز فلا يوجب الشركة ولو ظاهرا(2)، إذا مع الاشتباه(3) مرجعه الصلح القهري(4) أو القرعة (وإما واقعية) مستندة إلى عقد غير عقد الشركة، كما إذا ملكا شيئا واحدا بالشراء أو الصلح أو الهبة أو نحوها(5) (وأما واقعية) منشأه بتشريك أحدهما الآخر في ماله كما إذا اشترى شيئا فطلب منه شخص أن يشركه فيه. ويسمى عندهم بالتشريك. وهو صحيح لجملة من لجملة من الأخبار (وإما واقعية) منشأه بتشريك كل منهما الآخر في

ص: 199


1- هذا لا يدل على انتفاء الشركة قبل التميز الحادث من باب الاتفاق، لامكان انفساخ الشركة بهذا التميز. نظير ما إذا وقع مقدار من البول في كر من ماء، فإنه لما صار مستهلكا بالامتزاج صار طاهرا، فإذا أخذ كف منه فذلك المقدار طاهر يجوز شربه والوضوء به، فإذا اتفق عروض بعض الطوارئ الموجب لتميز البول صار البول نجسا بعد أن خرج عن حال الاستهلاك إلى حال الوجود العرفي
2- إذا كان الاختلاط بالمزج مثل اختلاط الحنطة البيضاء بالصفراء فقد عرفت أنه مع تعذر التخليص والعزل فهو أيضا يوجب الشركة الحكمية ولو فرض إمكان العزل والتخليص بقي كل مال لمالكه من دون تبدل الأحكام. وإذا كان الاختلاط بدون مزج - كما إذا وضع ثوبا في ثياب زيد، أو قوسا في أقواس عمرو ونحو ذلك ما لا مزج فيه - فإن كان تمیز فلا إشكال في أن كلا من العينين لمالكه كا قبل الاختلاط، وإذا لم يكن تميز فهذا من اشتباه المال بالمال، فكل من المالين مردد بين المالكين، فيرجع إلى القرعة في تعيين مالكه. نعم لو فرض تعذر العمل بالقرعة لكثرة الثياب - كما إذا خلط مائة ألف ثوب لزيد في مائة ألف ثوب لعمرو ولم يكن تميز بين الثياب - يرجع إلى الشركة الحكمية. ومن ذلك تعرف أن باب اشتباه أحد المالين بالآخر أجنبي عن باب المزج بلا تميز
3- كأنه يريد أنه مع عدم الاشتباه يبقى كل مال لمالكه من دون تبدل في الأحكام، ولوضوح ذلك لم يتعرض لحكمه، وقد عرفت أنه مع عدم الاشتباه تكون الشركة حكمية إذا كان من قبيل مزج الحنطة الصفراء بالبيضاء
4- الظاهر أن المراد من الصلح القهري الشركة الحكمية، فالصلح يكون في مقام تمييز الحقوق والقسمة، لا قبل ذلك، وإلا كان هو الشركة الحقيقية
5- هذا من الواضحات ومصرح به في كلامهم

ماله. ويسمى هذا بالشركة العقدية ومعدود من العقود(1). ثم إن الشركة قد تكون في عين وقد تكون في منفعة وقد تكون في حق، وبحسب الكيفية إما بنحو الإشاعة وإما بنحو الكلي في المعين(2)، وقد تكون على وجه يكون كل من الشريكين أو الشركاء مستقلا في التصرف، كما في شركة الفقراء في الزكاة(3)

ص: 200


1- قال في المسالك: وهي يعني: الشركة تطلق على معنيين أحدهما: ما ذكره المصنف في تعريفه من اجتماع الحقوق على الوجه المذكور وهذا هو المتبادر من معنى الشركة لغة وعرفا... (إلى أن قال): وثانيهما: عقد ثمرته جواز تصرف الملاك للشئ الواجد على سبيل الشياع. وهذا هو المعنى الذي به تندرج الشركة في جملة العقود، ويلحقها الحكم بالصحة و البطلان. وإليه يشير المصنف (ره) فيما بعد بقوله: قيل: تبطل الشركة. أعني: الشرط والتصرف. وقيل: تصح. ولقد كان على المصنف أن يقدم تعريفها على ما ذكره، لأنها المقصود بالذات هنا، أو ينبه عليهما معا على وجه يزيل الالتباس عن حقيقتها وأحكامها ولكنه اقتصر على تعريفها بالمعنى الأول
2- في الجواهر: «لا إشكال في صدق الشركة معه ولا إشاعة. اللهم إلا أن يراد منها عدم التعيين، لا خصوص الثلث والربع ونحوهما « وما ذكره غير ظاهر، فإن معنى الشركة في المملوك كون الملك على نحو الجزء المشاع، كما ذكره الأصحاب، وحمل الإشاعة على معنى عدم التعيين خلاف المقطوع به من كلامهم، فحملها على ذلك لا مقتضي له. وعليه فلا شركة في المقام، ولا وجه لنفي الاشكال في صدقها. إلا أن يراد بها الاشتراك في عنوان من العناوين والمماثلة فيه، كما في البيت الواحد الذي يملك حجارته شخص و خشبه آخر وطينه ثالث، فإن هؤلاء اشتركوا في وصف من الأوصاف، وهو تملك شيء من هذا البيت، والشركة في ملك الصاع من الصبرة من هذا القبيل، لاشتراك المالكين في صفة المالكية في الصبرة وإن اختلف المملوك، وهذا خلاف معنى الشركة في المملوك التي هي محل الكلام
3- عن الشهيد في بعض حواشيه: أن ملك الفقراء للزكاة على البدل لا الجميع في عرض واحد، فلا اشتراك. وفي الجواهر: أن المالك للزكاة الجنس لا الفرد، وذكر أنه لا ريب في ملك الفقراء للزكاة في الجملة. وفيه: أن الملكية إن كانت مستفادة من اللام في قوله تعالى: (إنما الصدقات للفقراء...) فاللام فيه ليست للملك، وإنما هي للمصرف بقرينة بقية الأصناف، مثل في الرقاب وفي سبيل الله تعالى الذي لا يظن من أحد الالتزام بالملك فيه، والتفكيك بين الأصناف بعيد جدا. وإن كانت مستفادة من غيره فغير ظاهر. وأما ما ذكره المصنف من كون كل من الفقراء مستقلا بالتصرف بالزكاة فغريب، فإنه لا يجوز للفقير التصرف في الزكاة بدون إذن الولي، وهو المالك أو الحاكم الشرعي فضلا عن أن یکون مستقلا بالتصرف

والسادة في الخمس(1) والموقوف عليهم في الأوقاف العامة(2) ونحوها)(3).

2- تعريفها في المذهب الزيدي.

عرّفها إمام الزيدية أحمد المرتضى (ت: 840 ه)، فقال:

(الشركة بكسر الشين، أسم للاشتراك للشيء المشترك، يقال له فيه شركة اي نصيب)(4).

ص: 201


1- ظاهر الآية الشريفة: (واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن الله خمسه ...« (*2) وهو الملكية، ولا مانع من ثبوت هذه الملكية بالنسبة إليه تعالى، كثبوتها في النذر مثل: لله علي أن أتصدق، فإن الصدقة تكون مملوكة له تعالى، على نحو ملكية زيد للدينار في قول المقر لزيد علي دينار. نعم لا يمكن حملها على ملكية الأفراد «وإلا لزم البسط، ولا يقول المشهور به، وللزم انتقال المال إلى وارثه ولو لم يكن هاشميا. فالمتعين أن يكون المالك الجنس العاري عن الخصوصيات الفردية، وبتعيين المالك يصير الفرد مالکا، وحينئذ لا معنى للاشتراك بين الأفراد على نحو الاستقلال في التصرف
2- الأوقاف العامة إنما كان الوقف فيها على نحو البذل من دون ملك للموقوف عليهم ولا رائحة الملك، فإن كتب العلم موقوفة على أن تبذل الطلبة، والمدارس موقوفة على أن تبذل للطلبة، ومنازل المسافرين موقوفة على أن تبذل للمسافرين من دون ملك ولا مالك. ولذلك إذا غصبت فسرق الكتاب غير الطلبة لا يضمن منافعه بالاستيفاء، وكذلك المدرسة إذا اغتصبها غير الطلبة فسكنوها لا يكون ضمانا لمنافعها عليهم، بل ليس إلا الغصب وفعل الحرام. ولو فرض إن كان للساكن من غير الطلبة عذر شرعي من غفلة أو ضرورة أو نحو ذلك فلا أثم ولا ضمان عليه
3- مستمسك العروة:: ج 13 ص 3 - 15
4- شرح الأزهار: ج 3 ص 354

3- تعريفها في المذهب الشافعي.

وفي المذهب الشافعي عرّفه الزكاة بانها: (ثبوت الحق في شيء لاثنين فاكثر على جهة الشيوع، وهذا والأولى أن يقال: هي عقد يقتضي ثبوت ذلك)(1).

4- تعرفيها في المذهب المالكي.

عرّفها الخطاب الرعيني (ت 954 ه) فقال:

(ما يحدث بالاختيار بين أثنين فصاعداً من الاختلاط لتحصيل الربح وقد يحصل بغير قصد كالإرث)(2).

5- تعرفها من المذهب الحنبلي.

عرّفها ابن قدامة المقدسي (ت 620 ه)، فقال:

(هي الاجتماع في استحقاق أو تصرف)(3).

6- أما المذهب الحنفي:

فقد أقرن تعريفها في اللغة بتعريفها في الشرع قال ابن نجم المصري (ت: 970 ه):

(والشركة لغةَّ: خلط النصيبين بحيث لا يتميز أحدهما، وما قيل إنه اختلاط النصيبين تساهل فإن الشركة اسم المصدر والمصدر الشرك مصدر شرکت الرجل أشركه شرکا فظهر أنها فعل الانسان وفعله الخلط، وأما الاختلاط فصفة للمال تثبت عن فعلها ليس لها اسم من المادة ولا يظن أن اسمه الاشتراك لأن

ص: 202


1- فتح الوهاب لزكريا الأنصاري: ج 1 ص 369
2- مواهب الجليل: ج 7 ص 64
3- المغني: ج 5 ص 109

الاشتراك فعلهما أيضا مصدر اشترك الرجلان افتعال من الشركة، كذا في فتح القدير. وذكر أنها بإسكان الراء في المعروف وسكت عن الأول. وفي القاموس: الشرك والشركة بكسرهما وضم الثاني بمعنى. وقد اشتركا وشارك أحدهما الآخر. والشرك بالكسر وكأمير المشارك والجمع أشراك وشركاء اه.

وفي التبيين: إطلاق الشركة على العقد مجاز لكونه سببا له. وفي فتح القدير: وركنها في شركة العين اختلاطهما، وفي شركة العقد اللفظ المفيد له ويقال الشركة على العقد نفسه، فإذا قيل شركة العقب الإضافة فهي إضافة بيانية)(1).

7- في حين عرّفها فقهاء المذهب الأباظي بحسب أقسامها، كشركة: العنان، وشركة المفاوضة، وشركة الأبدان، والشركة بلا عقد؛ وفي حكمها، قالوا: جاز اجماعاً شركة متعددة كأثنين وثلاثة وأربعة فصاعداً في مال خاص متساو في العدد أو الكمية والجنس، من جنس واحد كدنانير ودرهم)(2).

ولا يمكن الخروج بتعريف جامع مانع لهذه التعاريف، وكذ يتعذر التعليق ومناقشة هذه التعاريف لمخالفته منهج الكتاب، ولذا: ترك الأمر لطلابه.

ص: 203


1- البحر الرائق: ج 5 ص 279
2- شرح كتاب النيل وشفاء الغليل لمحمد أطفيش: ج 10 ص 388 - 434

ص: 204

المبحث الثاني مستحباتها وما ورد في الحديث من شروح

المسألة الأولى: مستحبات الشركة عند الإمام علي (علیه السلام).

قال (عليه الصلاة والسلام):

«شَارِكُوا الَّذِى قَدْ أَقْبَلَ عَلَيْهِ الرِّزْقُ، فَإِنَّهُ أَخْلَقُ لِلْغِنى وَ أَجْدَرُ بِإِقْبَالِ الْحَظِّ عَلَيْهِ»(1).

لم يتعرف فقهاء المذهب السبعة - بما توفر لدي من مصادر فقهية - المستحبات الشراكة، ولذا: يُعدُ هذا الحديث الشريف المؤسس الأول لهذا العنوان: (مستحبات الشراكة).

ويظهر الحديث الشريف العلة في حثه (عليه السلام) على مشاركة هذا الصنف من الناس وبيان المنفعة من هذه المشاركة، وهي:

1- أخلق، أي أولى في حصول الغني وذلك لإدرار الرزق عليه فيناله ما نال صاحبه.

2- أجدر، أي: أضمن في شمول الحظ وتبدل الاحوال الى الدعة والرفاهية.

وقد أورد بعض فقهاء الإمامية ومحدثيهم هذا الحديث ضمن الاستدلال

ص: 205


1- نهج البلاغة، الحكمة: (230) بتحقيق صبحي الصالح

به على مكروهات البيع وآداب التجارة؛(1) في حين اورد الحر العاملي (رحمه الله) في مستحبات التجارة، وهو ينفرد بذاك(2).

المسألة الثانية: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة.

لم يتناول الشارح المعتزلي والراوندي وكثير من الشراح هذا الحديث في شروحهم على نهج البلاغة؛ ولذا سنورد ما جاء عن ابن ميثم البحراني فقط.

قال (عليه الرحمة والرضوان):

(أخلق واجدر: أي أولى.

(ولمّا كان إقبال الرزق بتوافق أسبابه في حقّ من أقبل عليه كانت مشاركته مظنّة إقبال حظَّ الشريك وإقبال الرزق عليه بمشاركته. ورغَّب فيها بضمير صغراه قوله: فإنّه. إلى آخره والضمير في قوله: فإنّه. يعود إلى ما دلّ عليه شاركوا من المصدر. وتقدير كبراه: وكلَّما كان كذلك ففعله مصلحة)(3).

تم الفصل بحمد الله وسابق لطفه وسابغ نعمه وفضله وفضل رسوله المعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) ويليه فصل الوقف.

ص: 206


1- الحدائق الناظرة للبحراني: ج 18 ص 40؛ سداد العباد للشيح حسين أل عصفور؛ النجعة في شرح اللمعة للتستري ج 7 ص 130
2- وسائل الشيعة: ج 19 ص 13 برقم (24047)؛ هداية الأمة الى أحكام الأئمة للحر العاملي: ج 6 ص 118
3- شرح نهج البلاغة: ح 5 ص 358

المحتويات

الباب السابع كتاب التجارة والشركة

توطئة:...13

الفصل الأول معنى التجارة واستحباب التفقه فيها

المبحث الأول: معنى التجارة في اللغة وعند المتشرعة...17

المسألة الأولى: معنى التجارة لغة:...17

المسألة الثانية: معنى التجارة في الشرع...19

المبحث الثاني: من آداب التجارة و مستحباتها التفقه...2

في مسائل التجارات...25

المسألة الأولى: تفقه التاجر بين الاستحباب والوجوب العيني في المذهب الإمامي...25

ص: 207

أولا - ابن إدريس الحلي (رحمه الله) (ت: 598 ه):...26

ثانياً - المحقق البحراني (رحمه الله) (ت: 1186 ه)...28

ثالثاً - الشيخ مرتضى الأنصاري (رحمه الله) (ت: 1281 ه)...33

المسألة الثانية: تفقه التاجر في التجارات في المذاهب الاخرى...44

أولاً - المذهب الزيدي:...44

ثانياً - المذهب الشافعي:...45

ثالثاً - المذهب المالكي:...45

رابعاً - المذهب الحنفي:...46

خامساً - المذهب الحنبلي:...46

المسألة الثالثة: خلاصة القول فيها أورده فقهاء المذاهب في المسألة...47

المسألة الرابعة: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة...48

الفصل الثاني الإحتكار والتسعير وبيع المضطر

المبحث الأول: الإحتكار...51

المسألة الأولى: تعريف الإحتكار في اللغة والشرع...52

أولاً - الإحتكار لغة...52

ثانياً - معنى الإحتكار في الشرع...53

1. المذهب الإمامي...53

2. المذهب الزيدي...54

ص: 208

3. المذهب الشافعي...54

4. المذهب المالكي...54

5. المذهب الحنفي...55

6. المذهب الحنبلي...55

7. المذهب الإباضي...55

المسألة الثانية: حكم الاحتكار في المذهب الإمامي...56

المسألة الثالثة: الاحتكار في المذاهب الاخرى...64

أولاً - المذهب الزيدي...64

ثانيا - المذهب الشافعي...65

ثالثاً - المذهب المالكي...66

رابعاً - المذهب الحنفي...68

خامسا - المذهب الحنبلي...68

سادسا - المذهب الإباضي...70

المسألة الرابعة: خلاصة القول فيها أورده فقهاء المذاهب في المسألة...71

المسألة الخامسة: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة...74

أولاً - ابن ميثم البحراني:...74

ثانياً - السيد حبيب الله الخوئي...75

ثالثاً - ابن أبي الحديد المعتزلي:...76

المبحث الثاني: إجبار المحتكر على البيع أم التسعير؟...79

المسألة الأولى: التسعير أو السعر لغة...79

المسألة الثانية: الإجبار والتسعير في المذهب الامامي...80

ص: 209

أولا - الشيخ محمد حسن الجواهري النجفي (رحمه الله) (ت 1266 ه):...80

ثانياً - الشيخ مرتضى الأنصاري (رحمه الله) (ت: 1281 ه)...83

المسالة الثالثة: أقوال فقهاء المذاهب الاخرى...84

اولاً - المذهب الزيدي...84

ثانيا - المذهب الشافعي...85

ثالثا - المذهب المالكي...85

رابعا - المذهب الحنفي...86

خامسا - المذهب الحنبلي...87

سادساً - المذهب الإباضي...88

المسألة الرابعة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة...89

أولاً - في إجبار المحتكر على البيع:...89

ثانيا - في التسعير على المحتكر:...90

المسألة الخامسة: جریان قاعدة التسلط أو (السلطنة)...90

أولا - المحقق الكركي (رحمه الله) (ت: 940 ه)...91

ثانيا - السيد محمد جواد العاملي (رحمه الله) (ت 1226 ه)...91

ثالثاً - الشيخ الجواهري النجفي (رحمه الله)...92

المسألة السادسة: مسؤلية الدولة في الإقتصاد الإسلامي وأحياء مبدأ ملئ الفراغ...92

المسألة السابعة: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة...102

أولاً - قطب الدين الراوندي (رحمه الله) (ت 573 ه)...102

ثانياً - السيد حبيب الله الخوئي (رحمه الله) (1324 ه)...103

المبحث الثالث: بيع المضطر...109

ص: 210

المسألة الأولى: حكم بيع المضطر في المذهب الإمامي...109

المسالة الثانية: بيع المضطر في المذاهب الاخرى...127

أولاً - المذهب الزيدي...127

ثانياً - المذهب الشافعي...128

ثالثاً - المذهب المالكي...130

المسألة الثالثة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة...130

أولاً - صحة بيع المضطر لدفع الضرر...130

ثانياً - إن الفرق بين المكره والمضطر منوط بالرضا وطيب النفس والعقد والإدارة والاستقلال...131

المسألة الرابعة: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة...131

أولاً - السيد حبيب الله الخوئي الهاشمي...132

ثانياً - ابن أبي الحديد المعتزلي...133

الفصل الثالث استحباب طلب الرزق والإجمال في الطلب

المبحث الأول: استحباب التجارة والسعي لطلب الرزق...137

والاستعانة به على الآخرة...137

المسألة الأولى: استحباب التجارة في المذهب الإمامي والاستعانة بالمال على الأخرة...139

المسالة الثانية: طلب الرزق في المذاهب الأخرى...145

أولا - المذهب الزيدي...145

ص: 211

ثانيا - المذهب الشافعي...145

ثالثا - المذهب الحنبلي...147

رابعاً - المذهب الحنفي...149

المسالة الثالثة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة...154

أولاً - في وجوب طلب الرزق...155

ثانياً - في استحباب طلب الرزق...155

ثالثاً - في كراهة التكسب...155

ألف - في كراهة بعض المكاسب، وهي:...156

باء - في كراهة اتخاذ الاجرة على بعض المكاسب، هي:...156

رابعاً - في إباحة الاستزادة في المال...157

المسألة الرابعة: ما ورد في الحدث من شروح نهج البلاغة...157

المبحث الثاني: استحباب الإجمال في طلب الدنيا...163

المسألة الأولى: استحباب الاجمال في طلب الرزق في المذاهب الإسلامية...166

أولاً - المذهب الإمامي...166

ثانياً - المذهب الشافعي...166

المسألة الثانية: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة...167

المسألة الثالثة: قصدية النص في السعي والإجمال في طلب المال...167

المسألة الرابعة: ما ورد في الأحاديث من شروح نهج البلاغة...170

ص: 212

الفصل الرابع الشركة

المبحث الأول: معنى الشركة في اللغة والشرع...195

المسألة الأولى: معنى الشركة لغةً...195

المسألة الثانية: معنى الشركة عند الفقهاء...196

المبحث الثاني: مستحباتها وما ورد في الحديث من شروح...205

المسألة الأولى: مستحبات الشركة عند الإمام علي (علیه السلام)...205

المسألة الثانية: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة...206

ص: 213

ص: 214

ص: 215

ص: 216

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.