فِقْهُ نَهْجُ البَلاغة عَلَی المَذاهِبِ السَّبعَةِ المجلد 8

هوية الکتاب

فقه نهج البلاغة على المذاهب السبعة الإمامي - الزيدي - الحنفي -المالكي الشافعي - الحنبلي - الإباضي وبيان القواعد الفقهية والمعارف الأخلاقية وشروخ الأحاديث

رقم الإيداع في دارالكتب والوثائق العراقية ببغداد 3589 لسنة 2019 م مصدر الفهرسة: IO-KaPLI ara IQ-KaPLI rda رقم تصنيف LC:

BP193.1.A2 H3 2020 المؤلف الشخصي: الحسني، نبيل، 1384 للهجرة - مؤلف.

العنوان: فقه نهج البلاغة على المذاهب السبعة: الامامي -الزيدي - الحنفي - المالكي -الشافعي -الحنبلي - الأباضي وبيان القواعد الفقهية والمعارف الاخلاقية وشروح الاحاديث: دراسة بينية / بيان المسؤولية: تأليف السيد نبيل الحسني الكربلائي.

بيانات الطبع: الطبعة الاولى. بيانات النشر: كربلاء، العراق: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة 2020 / 1441 للهجرة. الوصف المادي: 12 مجلد؛ 24 سم. سلسلة النشر: (العتبة الحسينية المقدسة؛ 697).

سلسلة النشر: (مؤسسة علوم نهج البلاغة؛ 176) سلسلة النشر: (سلسلة الدراسات والبحوث العلمية، وحدة الدراسات الفقهية: 18).

تبصرة ببليوجرافية: يتضمن ارجاعات ببليوجرافية.

تبصرة محتويات: الجزء 1: اثر المدرسة الامامية في نشوء الفقه وتطوره - الجزء 2: نشوء المذاهب الفقهية وتطورها - الجزء 3: مقدمة العبادات - الجزء 4: الطهارات - الجزء 5: الصلاة - الجزء 6: الزكاة - الجزء 7: الصيام والحج والامر بالمعروف والنهي عن المنكر - الجزء 8: الجهاد - الجزء 9: التجارة والشركة - الجزء 10: الوقف والقصاص - الجزء 11: القضاء والشهادات - الجزء 12: الفهارس.

موضوع شخصي: علي بن أبي طالب (عليه السلام) الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 - للهجرة - حديث.

موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة.

مصطلح موضوعي: الفقه الاسلامي - مذاهب.

مصطلح موضوعي: المذاهب الدينية - تاريخ.

مصطلح موضوعي: العبادات (فقه اسلامي).

مصطلح موضوعي: المعاملات (فقه اسلامي).

اسم شخص اضاف: شرح ل(عمل): الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة.

اسم هيئة اضاف: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة. جهة مصدرة.

تمت الفهرسة قبل النشر في مكتبة العتبة الحسينية

ص: 1

اشارة

رقم الإيداع في دارالكتب والوثائق العراقية ببغداد 3589 لسنة 2019 م مصدر الفهرسة: IO-KaPLI ara IQ-KaPLI rda رقم تصنيف LC:

BP193.1.A2 H3 2020 المؤلف الشخصي: الحسني، نبيل، 1384 للهجرة - مؤلف.

العنوان: فقه نهج البلاغة على المذاهب السبعة: الامامي -الزيدي - الحنفي - المالكي -الشافعي -الحنبلي - الأباضي وبيان القواعد الفقهية والمعارف الاخلاقية وشروح الاحاديث: دراسة بينية / بيان المسؤولية: تأليف السيد نبيل الحسني الكربلائي.

بيانات الطبع: الطبعة الاولى. بيانات النشر: كربلاء، العراق: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة 2020 / 1441 للهجرة. الوصف المادي: 12 مجلد؛ 24 سم. سلسلة النشر: (العتبة الحسينية المقدسة؛ 697).

سلسلة النشر: (مؤسسة علوم نهج البلاغة؛ 176) سلسلة النشر: (سلسلة الدراسات والبحوث العلمية، وحدة الدراسات الفقهية: 18).

تبصرة ببليوجرافية: يتضمن ارجاعات ببليوجرافية.

تبصرة محتويات: الجزء 1: اثر المدرسة الامامية في نشوء الفقه وتطوره - الجزء 2: نشوء المذاهب الفقهية وتطورها - الجزء 3: مقدمة العبادات - الجزء 4: الطهارات - الجزء 5: الصلاة - الجزء 6: الزكاة - الجزء 7: الصيام والحج والامر بالمعروف والنهي عن المنكر - الجزء 8: الجهاد - الجزء 9: التجارة والشركة - الجزء 10: الوقف والقصاص - الجزء 11: القضاء والشهادات - الجزء 12: الفهارس.

موضوع شخصي: علي بن أبي طالب (عليه السلام) الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 - للهجرة - حديث.

موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة.

مصطلح موضوعي: الفقه الاسلامي - مذاهب.

مصطلح موضوعي: المذاهب الدينية - تاريخ.

مصطلح موضوعي: العبادات (فقه اسلامي).

مصطلح موضوعي: المعاملات (فقه اسلامي).

اسم شخص اضاف: شرح ل(عمل): الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة.

اسم هيئة اضاف: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة. جهة مصدرة.

تمت الفهرسة قبل النشر في مكتبة العتبة الحسينية

ص: 2

سلسلة الدراسات والبحوث العلمية (18) وحدة الدراسات الفقهية فقه نهج البلاغة على المذاهب السبعة الإمامي - الزيديي - الحنفي - المالكي الشافعي - الحنبلي - الإباضي وبيان القواعد الفقهية والمعارف الأخلاقية وشروح الأحادیث دراسة بينية الجزء الثامن الجهاد تاليف السيد نبيل الحسني الكربلائي إصدار موسسة علوم البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة (176)

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة للعتبة الحسينية المقدسة الطبعة الأولى 1441 ه / 2020 م العراق: كربلاء المقدسة - العتبة الحسينية المقدسة مؤسسة علوم نهج البلاغة www.inahj.org Email: inahj.org@gmail.com موبايل: 07815016633 - 07728243600

ص: 4

الباب السادس «كتاب الجهاد»

ص: 5

ص: 6

يتضمن الباب الفصل الأول: معنى الجهاد وفضله ووجوبه • المبحث الأول: معنى الجهاد في اللغة وعند الفقهاء.

* المسألة الأولى: معنى الجهاد في اللغة.

* المسألة الثانية: معنى الجهاد عند فقهاء الإمامية.

* المسألة الثالثة: معنى الجهاد عند فقهاء المذاهب الاخرى.

• المبحث الثاني: فضل الجهاد.

* المسألة الاولى: فضل الجهاد في المذهب الإمامي.

* المسألة الثانية: فضل الجهاد في المذاهب الاخرى.

• المبحث الثالث: وجوب الجهاد.

* المسألة الأولىً: وجوب الجهاد في المذهب الإمامي.

* المسألة الثانية: وجوب الجهاد في المذاهب الاخرى.

* المسألة الثالثة: خلاصة القول فيها أورده فقهاء المذاهب في المسألة.

* المسألة الرابعة: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة.

* المسألة الخامسة: اختصاص فريضة الجهاد ببعض القواعد الفقهية وفوائدها.

الفصل الثاني: في حكم الفرار من العدو والغدر بالكفار وطلب المبارزة.

• المبحث الأول: عدم جواز الفرار إذا كان العدو على الضعف أو أقل.

* المسألة الأولى: أقوال فقهاء المذهب الإمامي.

* المسألة الثانية: أقوال فقهاء المذاهب الاخرى.

* المسألة الثالثة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة.

* المسألة الرابعة: ما ورد حول الحديث من شروح نهج البلاغة.

ص: 7

• المبحث الثاني: عدم جواز الغدر بالكفار.

* المسألة الأولى: عدم جواز الغدر بالكفار في المذهب الإمامي.

* المسألة الثانية: في حكم الغدر بالكفار في المذاهب الاخرى.

* المسألة الثالثة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة.

* المسألة الرابعة: قاعدة فقهية: لا ينبغي للمسلمين أن يغدروا ولا يأمروا بالغدر ولا يقاتلوا مع الذين غدروا.

* المسألة الخامسة: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة وعلماء الاخلاق.

* المسألة السادسة: الغدر والوفاء في مضامين علماء الاخلاق.

• المبحث الثالث: حكم طلب المبارزة في الخروج والامتناع.

* المسألة الأولى: المبارزة لغة.

* المسألة الثانية: حكم طلب المبارزة في المذهب الإمامي.

* المسألة الثالثة: حكم طلب المبارزة في المذاهب الاخرى.

* المسألة الرابعة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة.

* المسألة الخامسة: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة.

الفصل الثالث: في قتال أهل البغي • المبحث الأول: البغاة في اللغة والشرع.

* المسألة الأولى: البغاة لغة.

* المسألة الثانية: معنى البغاة في الشرع.

• المبحث الثاني: حكم قتال البغاة في المذاهب السبعة.

* المسألة الاولى: المذهب الإمامي.

* المسألة الثانية: قتال البغاة في المذاهب الاخرى.

* المسألة الثالثة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة.

* المسألة الرابعة: حقيقة الرفض والرافضة.

* المسألة الخامسة: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة.

ص: 8

الفصل الأول : «معنى الجهاد وفضله ووجوبه»

اشارة

ص: 9

ص: 10

قال أمير المؤمنين الإمام علي (عليه الصلاة والسلام)، وهو يخاطب أصحابه في ساحة الحرب:

«وأَيُّ امْرِئٍ مِنْكُمْ أَحَسَّ مِنْ نَفْسِه رَبَاطَةَ جَأْشٍ عِنْدَ اللِّقَاءِ ورَأَى مِنْ أَحَدٍ مِنْ إِخْوَانِه فَشَلًا - فَلْيَذُبَّ عَنْ أَخِيه بِفَضْلِ نَجْدَتِه الَّتِي فُضِّلَ بِهَا عَلَيْه كَمَا يَذُبُّ عَنْ نَفْسِه، فَلَوْ شَاءَ الله لَجَعَلَه مِثْلَه، إِنَّ الْمَوْتَ طَالِبٌ حَثِيثٌ لَ يَفُوتُه الْمُقِيمُ ولَا يُعْجِزُه الْهَارِبُ إِنَّ أَكْرَمَ الْمَوْتِ الْقَتْلُ، والَّذِي نَفْسُ ابْنِ أَبِي طَالِبٍ بِيَدِه، لأَلْفُ ضَرْبَةٍ بِالسَّيْفِ أَهْوَنُ عَلَيَّ، مِنْ مِيتَةٍ عَىَ الْفِرَاشِ فِي غَیْرِ طَاعَةِ الله وكَأَنِّ أَنْظُرُ إِلَيْكُمْ، تَكِشُّونَ كَشِيشَ الضِّبَابِ، لَا تَأْخُذُونَ حَقّاً ولَا تَمْنَعُونَ ضَيْماً، قَدْ خُلِّيتُمْ والطَّرِيقَ، فَالنَّجَاةُ لِلْمُقْتَحِمِ والْهَلَكَةُ لِلْمُتَلَوِّمِ»(1).

وقال (علیه الصلاة والسلام):

«واسْتَعْمِلُوا أَقْدَامَكُمْ وأَنْفِقُوا أَمْوَالَكُمْ، وخُذُوا مِنْ أَجْسَادِكُمْ فَجُودُوا بِهَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ ولَ تَبْخَلُوا بِهَا عَنْهَا فَقَدْ قَالَ الله سُبْحَانَه:

«إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ»(2).

والنصوص الشريفة كاشفة عن فضل الجهاد وأثاره الكبيرة في الدنيا والأخرة، وسنتناول ما ورد في الجهاد في كتب الفقهاء بما يتناسب مع عناوین الأحكام الواردة في كلامه (عليه الصلاة والسلام) في نهج البلاغة، وهي کالاتي:

ص: 11


1- نهج البلاغة بتحقيق صبحي الصالح، الخطبة: 123؛ ص 180
2- نهج البلاغة بتحقيق صبحي الصالح، الخطبة: 183، ص 267

ص: 12

المبحث الأول معنى الجهاد في اللغة وعند الفقهاء

المسألة الأولى: معنى الجهاد في اللغة

تناول علماء اللغة المفردة وبينوا معناها بأمرين، وهما (المشقة، والطاقة)، فقالوا:

(الجَهْدُ والجُهْدُ: الطاقة، تقول: الجْهَد جَهْدَك؛ وقيل: الجَهْد المشقة والجُهْد الطاقة.

لغة بهذا المعنى، وقال ابن الأثير في بيان معنی حدیث ام معبد: (شاة خلفها الجَهْد عن الغنم).

إن لفظ (الجَهْدُ والجُهْدُ) أي بالضم والفتح، وهو بالضم: الوسع والطاقة؛ وهو بالفتح: المشقة، وقيل المبالغة والغاية.

وقيل: هما لغتان في الوسع والطاقة، أي حينما يكون بالضم، فأما في المشقة والغاية فالفتح لا غير)(1).

المسألة الثانية: معنى الجهاد عند فقهاء الإمامية.

أولا - قال الشهيد الثاني (رحمة الله) (ت 965 ه) في معنى الجهاد شرعاً: (بذل النفس وما يتوقف عليه من المال في محاربة المشركين، أو الباغين في

ص: 13


1- لسان العرب لابن منظور، مادة: جهد، ج 3 ص 133

سبيل اعلاء كلمة الإسلام على وجه مخصوص)(1).

ثانيا - قال الشيخ الجواهري (رحمة الله) (ت 1266 ه):

معنى الجهاد شرعاً: (بذل النفس وما يتوقف عليه من المال في محاربة المشركين أو الباغين على وجه مخصوص، أو بذل النفس والمال والوسع في إعلاء كلمة الإسلام وإقامة شعائر الإيمان، وهو وإن كان شاملاً للكافرين والباغين لكن فيه أنه غير مانع، لأن إعزاز الدين أعم من كونه بالجهاد المخصوص)(2).

المسألة الثالثة: معنى الجهاد عند فقهاء للذاهب الاخرى.

1 - قال ابن عرفة في معنى الجهاد في الشرع:

(قتال مسلم کافرا، غير ذي عهد لإعلاء كلمة الله أو حضوره له أو دخول أرضه؛ فيخرج قتال الذمي المحارب على المشهور أنه غير نقض)(3).

2 - قال ابن هارون:

(هو قتال العدو لإعلاء كلمة الإسلام غير منعکس بالأخيرين وهما جهاد اتفاقاً)(4).

3 - قال ابن عبد السلام:

(هو إتعاب النفس في مقاتلة العدو كذلك وغير مطرد بقتاله لا لإعلاء كلمة الله)(5).

ص: 14


1- الروضة البهية للشهيد الثاني: ج 2 ص 379
2- جواهر الكلام، کتاب الجهاد، ج 21 ص 3
3- مواهب الجليل للحطاب الرعيني: ج 4 ص 536
4- مواهب الجليل للحطاب الرعيني: ج 4 ص 536
5- مواهب الجليل للحطاب الرعيني: ج 4 ص 536

المبحث الثاني: فضل الجهاد

قال أمير المؤمنين الإمام علي (عليه الصلاة والسلام) في فضل الجهاد:

«أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ الْجِهَادَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، فَتَحَه الله لِخَاصَّةِ أَوْلِيَائِه وهُوَ لِبَاسُ التَّقْوَى، ودِرْعُ الله الْحَصِينَةُ وجُنَّتُه الْوَثِيقَةُ، فَمَنْ تَرَكَه رَغْبَةً عَنْه أَلْبَسَه الله ثَوْبَ الذُّلِّ وشَمِلَه الْبَاَءُ، ودُيِّثَ بِالصَّغَارِ والْقَمَاءَةِ وضُرِبَ عَلَى قَلْبِه بِالإِسْهَابِ وأُدِيلَ الْحَقُّ مِنْه بِتَضْيِيعِ الْجِهَادِ وسِيمَ الْخَسْفَ ومُنِعَ النَّصَف»(1).

تناول فقهاء المذاهب الإسلامية فضل الجهاد في مصنفاتهم الفقهية لاسيما الموسوعية، منها ما خلا المذهب الإباضي فقد استعاضوا عنه بمفردة الدفاع، کما سیر بیانه في المبحث القادم، أي: في وجوب الجهاد.

أما ما يخص فضل الحج فقد كانت أقوال فقهاء المذاهب كالاتي:

المسألة الأولى: فضل الجهاد في المذهب الإمامي.

قال الشيخ الجواهري (عليه الرحمة والرضوان) في فضل الجهاد:

(ذروة سنام الإسلام،(2) ورابع أركان الایمان،(3) وباب من أبواب الجنة،(4)

ص: 15


1- نهج البلاغة بتحقيق صحبي الصالح، الخطبة: 27
2- الوسائل - الباب 1 من أبواب مقدمة العبادات الحديث 3
3- الوسائل - الباب - 4 من أبواب جهاد النفس الحديث 11
4- الوسائل - الباب 1 من أبواب جهاد العدو الحديث 13 - 19 - 22

وأفضل الأشياء بعد الفرائض،(1) وسياحة أمة محمد (صلى الله عليه وآله)،(2) التي جعل الله عزها بسنابك خيلها و مراکز رماحها،(3) وفوق كل بر، بر فإذا قتل في سبيل الله فليس فوقه بر،(4) والخير كله في السيف وتحت ظل السيف، ولا يقيم الناس إلا السيف، والسيوف مقاليد الجنة والنار،(5) وللجنة باب يقال له باب المجاهدين يمضون إليه، فإذا هو مفتوح وهم متقلدون سيوفهم،(6) ومن غزاغزوة في سبيل الله فما أصابه قطرة من السماء أو صداع إلا كانت له شهادة يوم القيامة،(7) وإن الملائكة تصلي على المتقلد بسيفه في سبيل الله حتى يضعه،(8) ومن صدع رأسه في سبيل الله غفر الله له ما كان قبل ذلك من ذنب،(9) إلى غير ذلك مما ورد فيه، مضافا إلى قوله تعالى:

«إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ - إلى قوله تعالى - فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ»(10) إلى آخره، وقوله تعالى: «لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ»(11) إلى آخره، وغير ذلك)(12).

ص: 16


1- الوسائل - الباب 1 من أبواب جهاد العدو الحديث 13 - 9 - 22
2- الوسائل - الباب 1 من أبواب جهاد العدو الحديث 13 - 9 - 22
3- الوسائل - الباب 1 من أبواب جهاد العدو الحديث 2 - 21 - 1 - 2 - 10
4- الوسائل - الباب 1 من أبواب جهاد العدو الحديث 2 - 21 - 1 - 2
5- الوسائل - الباب 1 من أبواب جهاد العدو الحديث 2 - 21 - 1 - 2 - 10
6- الوسائل - الباب 1 من أبواب جهاد العدو الحديث 2 - 21 - 1 - 2 - 10
7- الوسائل - الباب 1 من أبواب جهاد العدو الحديث 2 - 21 - 1 - 2 - 10
8- کنز العمال ج 2 ص 265 الرقم 5651 و 5653
9- کنز العمال ج 2 ص 252 الرقم 5359
10- التوبة، 111
11- النساء، 97
12- جواهر الكلام: ج 21، ص 3، 4

المسألة الثانية: فضل الجهاد في المذاهب الأخرى.

أولا: المذهب الزيدي:

ذكر إمام الزيدية أحمد المرتضى (ت 840 ه) فضل الجهاد مختصراً في كتاب الوصية في ذكر ما تصح به الوصية، ولم يورده في كتاب الجهاد، فقال:

(وإذا أوصى بشيء من ماله يصرف في أفضل أنواع البر، وجب أن يصرف في الجهاد لأنه أفضلها بدليل قوله:

«وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا» وقوله (صلى الله عليه وآله):

«الجهاد سنام الدين»(1).

ثانيا: المذهب الشافعي.

جاء بيان فضل الجهاد في المذهب الشافعي من خلال ما أورده الحافظ النووي (ت 676 ه)، فقال:

(ويستحب الإكثار منه لما روى أبو هريرة، قال: سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله): أي الأعمال أفضل؟ قال:

«الإيمان ورسوله، وجهاد في سبيل الله».

وروى أبو سعيد الخدري، أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال:

ص: 17


1- شرح الازهار - للإمام أحمد المرتضى: ج 4 ص 486

«يا أبا سعيد من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد (صلى الله عليه وآله) نبيا وجبت له الجنة» فقا أعدها یا رسول الله؟ ففعل، ثم قال:

«واخرى يرفع الله بها للعبد مائة درجة في الجنة ما بين كل درجتني كما في السماء والارض»؛ قلت: وما هي يا رسول الله؟ قال: «الجهاد في سبيل الله، الجهاد في سبيل الله»(1).

ثالثاً: المذهب المالكي.

تناول الخطاب الرعيني (ت 954 ه) فضل الجهاد، فقال:

(قال القرطبي: قد حض الشرع على تمني الشهادة ورغب فيه، فقال: من سأل الله الشهادة صادقا من قلبه بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه؛ ولو مع وال جائر، وقد مال أكثر العلماء أنه لا يقاتل مع الأمير الغادر بخلاف الجائر والفاسق)(2).

رابعاً: المذهب الحنفي.

تناول السرخسي (ت: 483 ه) بیان فضل الجهاد، فقال:

(كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) تارة يخرج وتارة يبعث غيره حتی قال:

«وددت أن لا تخرج سرية أو جيش الا وأنا معهم ولكن لا أجد ما أحملهم ولا تطيب أنفسهم بالتخلف عنی ولوددت أن أقاتل في سبيل الله تعالى حتى

ص: 18


1- المجموع للنووي: ج 19 ص 266
2- مواهب الجليل: ج 4 ص 539 / 540

أقتل ثم أحيى ثم اقتل».

ففي هذا دليل على أن الجهاد وصفة الشهادة في الفضيلة بأعلى النهاية حتى تمنى ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله) مع درجة الرسالة وفي حديث أبي هريرة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال:

«المجاهد في سبيل الله كالصائم القائم الراكع الساجد الشاهد».

وفي حديث الحسن (عليه السلام) أن النبي (صلى الله عليه وآله)، قال:

«غدوة أو روحة في سبيل الله تعالى خير من الدنيا وما فيها».

والآثار في فضيلة الجهاد كثيرة وقد سماه رسول الله (صلى الله عليه وآله) سنام الدين)(1).

خامساً: المذهب الحنبلي.

تناول ابن قدامة المقدسي (ت 620 ه) فضل الجهاد، من خلال ایراده لبعض الاحاديث النبوية، مبتدءً ذلك بحديث لابي هريرة، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):

«أنتدب الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي وایمان بي وتصديق برسولي فهو علي ضامن أن أدخله الجنة أو ارجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة».

وقال (صلى الله عليه وآله):

«مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم».

ص: 19


1- المبسوط للسرخسي: ج 10 ص 3

وعن أنس، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):

«لغدوة في سبيل الله، أو روحة خير من الدنيا وما فيها»(1).

سادسا: خلاصة القول فيما اورده فقهاء المذاهب الإسلامية في المسألة.

اجمع فقهاء المذاهب الإسلامية على فضل الجهاد وقد استدلوا بجملة من النصوص الشريفة على فضيلته واثره في الإسلام.

ص: 20


1- المغني لابن قادمة : ج 1 ص 364

المبحث الثالث: وجوب الجهاد

أجمع فقهاء المذاهب الإسلامية على وجوب الجهاد، وهو فرض على الكفاية، وخرج من تعلق وجوبه، كلاً من الطفل، والمرأة، والشيخ الهرم، والمملوك، والمجنون، وكانت أقوالهم فيما يلي

المسألة الأولىً: وجوب الجهاد في المذهب الإمامي.

إن فقهاء الإمامية (أعلى الله شأنهم) قد أجمعوا بلا خلاف بينهم على وجوب فريضة الجهاد على كل مكلف، حر، ذكر، وعدم وجوبه على الصبي، والمجنون، والمرأة، والمملوك، والشيخ الهرم.

واجمع الإمامية ايضاً على كون الجهاد فرض على الكفاية، وهو واجب على الجميع، وأن كان يسقط بفعل من يقوم به منهم.

ولذا: يعاقب الجميع بتركه، وقيد الوجوب على الوجه المزبور بشرط وجود الإمام (عليه السلام)، وبسط يده، أو من نصبه الإمام للجهاد، ولو بتعميم ولايته له، ولغيره في قطر من الإقطار.

بل: أصل مشروعيته مشروط بذلك، فضلاً عن وجوبه.

حسن وقد جاء ذلك في مباحث الجهاد التي تناولها الشيخ محمد الجواهري النجفي (عليه الرحمة والرضوان)، (ت 1266 ه)، وهي كما يلي: قال (رحمة الله): (وهو فرض على كل مكلف حر ذكر غيرهم): ولا

ص: 21

معذور (فلا يجب على الصبي ولا على المجنون): ونحوهما من هو غير مكلف بلا خلاف أجده فيه، كما عن الغنية الاعتراف به فيه.

بل: وباقي الشرائط، بل: الاجماع بقسميه عليه، مضافا إلى خبر رفع القلم وغيره مما دل على اعتبار البلوغ والعقل في التكليف.

(ولا على المملوك): بلا خلاف أجده فيه، بل: في المنتهى الحرية شرط فلا يجب على العبد إجماعا، لأن النبي صلى الله عليه وآله كان يبايع الحر على الإسلام والجهاد، والعبد على الإسلام دون الجهاد، ولأنه عبادة يتعلق بها قطع مسافة، فلا تجب على العبد، وزاد في محكي المختلف قوله تعالى(1):

«لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ».

لأن العبد لا يملك، وإن نوقش بأن عدم الملكية لا يستلزم عدم الوجدان، فقد يجد بالبذل له وإن لم يكن مالكا، فلا يدخل في الآية، بل: يبقى على عموم الأدلة، ولذا جعل الأصحاب الحرية شرطا غير اشتراط السلامة من الفقر، ولو صح ما ذكره من التلازم لا غنى اشتراط السلامة من الفقر عن اشتراط الحرية، مع أنه مبني على عدم ملكية العبد، وأما على القول بها كما هو رأي جماعة في الجملة أو مطلقا فلا تلازم، مع أنهم اشترطوا الحرية أيضا، وإن كان قد يجاب بأن اتفاق حصول البذل لا ينافي اشتراط الوجوب المطلق بالوجدان، کما لا ينافيه بالنسبة إلى اشتراط السلامة من الفقر مع إمكان اتفاق البذل، والقول بالملكية مع الاتفاق على حجر التصرف عليه غير مجد،

ص: 22


1- التوبة - 92

واحتمال الإذن من المولى كاحتمال البذل لا يحقق الوجوب المطلق.

ومن ذلك ينقدح إمكان الاستدلال بالآية بوجه آخر عليه وعلى نحوه من فاقدي الشرائط لصدق الضعف ولو بسبب عدم القدرة على شئ وإن أمكن حصول الأقدار من المولى، وبذلك وما سمعته من الاجماع يخص العموم المقتضي لاندراج العبد فيه، وإن حكي عن الإسكافي عدم اشتراط الحرية مشعرا بوجوبه على العبد للعموم الذي قد عرفت حاله مع أنه معارض با دل على عدم قدرته ووجوب الطاعة وعدم إمكان التصرف منه بنفسه، وللمرسل(1) إن رجلا جاء إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) ليبايعه فقال: يا أمير المؤمنين أبسط يدك أبايعك على أن ادعوا لك بلساني، وأنصحك بقلبي، وأجاهد معك بيدي، فقال (عليه السلام):

«أحر أنت أم عبد»؟ فقال: عبد، فصفق يده فبايعه، الذي هو غير حجة في نفسه، ومحتمل للجهاد معه على تقدير الحرية أو إذن المولى، أو عموم الحاجة وغير ذلك.

فالتحقيق حينئذ عدم وجوبه على العبد بجميع أقسامه إلا المبعض منه إذا كان قد تهايا مع مولاه، فإن العمومات حينئذ شاملة له في نوبته، والاجماع المحكي إنما هو على عدم وجوبه على العبد، لا على أن الحرية شرط وإن توهم نحو ما تسمعه في الذكورة، وفرق واضح بينهما، ضرورة اقتضاء اشتراطها عدم وجوبه على فاقدها ولو جزءا يسيرا، بل وإن ارتفع عنه سائر الموانع من حيث الرقية بأن كان مأذونا من المولى في الجهاد وفي بذل المال، إذ ليس لازم

ص: 23


1- الوسائل - الباب 4 من أبواب العدو الحديث 3

الرقية مانعا عن الوجوب كي يتجه الوجوب مع ارتفاعه.

بل: لأن الحرية من حيث هي كذلك شرط، والفرض عدمها، إلا أنك قد عرفت عدم دليل عليها لا من الآية ولا من الاجماع ولا من غير ذلك، فيبقى العموم حينئذ سالما، اللهم إلا أن يمنع من حيث التغرير بجزء الرق مؤيدا ذلك بظاهر اشتراط الأصحاب الحرية، وإن فرعوا عليه عدم الوجوب على العبد، فإن ذلك لا يقتضي إرادة خصوص المملوك بتامه منها، فتأمل جيدا.

(ولا على المرأة): بلا خلاف أيضا، بل الاجماع بقسميه عليه مضافا إلى ضعفها عن ذلك، وقول أمير المؤمنين (عليه السلام) في خبر الأصبغ(1):

«كتب الله الجهاد على الرجال والنساء، فجهاد الرجل أن يبذل ما له ونفسه حتى يقتل في سبيل الله، وجهاد المرأة أن تصبر على ما ترى من أذى زوجها».

ولو باعتبار أن التفصيل في معنى الجهاد بينهما قاطع للشركة، بل في المنتهى الخنثى المشكل لا يجب عليها الجهاد وهو كذلك إن تم الاجماع على اشتراط الذكورة، أو غيره من الأدلة ولو الخبر المزبور، ضرورة اقتضاء الشك في الشرط الشك في المشروط وإلا كان محلا للنظر، لأن الاجماع على عدم وجوبه على المرأة لا يقتضي نفيه عنها بعد فرض عدم العلم بكونها امرأة، مع عموم قوله تعالى:

«كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ»

ص: 24


1- الوسائل - الباب 4 من أبواب جهاد العدو الحديث 1

اللهم إلا أن يقال بعدم اندراجها في ضمير خطاب المذكرين، فتبقى حينئذ على أصالة عدم الوجوب كما هو الظاهر لعدم عموم يشملها، ولعل ذلك العمدة، وإلا فلا إجماع صريح في المنتهى على اعتبار الذكورة، وإن حكي.

قال: الذكورة شرط في وجوب الجهاد فلا يجب على المرأة اجماعا ومن المحتمل بل: الظاهر إرادته على عدم وجوبه على المرأة، ثم قال: الخنثى المشكل لا يجب عليه الجهاد، لأن الذكورة شرط الوجوب، ومع الشك في الشرط يحصل الشك في المشروط، مع أن الأصل العدم.

نعم، عن الغنية نفي الخلاف فيه وفي غيره من الشرائط مؤيدا بظاهر الاشتراط في عبارات الأصحاب على وجه لا يقدح فيه تفريع الخاص الذي هوغير مقتض لإرادة خصوص الخاص منه.

(ولا على الشيخ الهرم): العاجز عنه للأصل وظاهر الآية المعتضد بعدم الخلاف المحكي والمحصل، مضافا إلى قاعدة نفي الحرج المقتضية كالآية للحوق المريض ونحوه به، كما صرح به غير واحد إلا أن يكون مريضا مرضا لا يمنعه منه، نعم لو فرض قوة الهم عليه وجب عليه وإن كبر سنه كما وقع من عمار بن ياسر في صفين ومسلم بن عوسجة في كربلاء (و) كیف كان فلا خلاف بين المسلمين في وجوبه في الجملة.

بل: هو كالضروري، خصوصا بعد الأمر به في الكتاب العزيز في آيات كثيرة، كقوله تعالى(1):

«يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ».

ص: 25


1- التوبة - 74 - 29

وقوله تعالى:(1) «قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ».

وقوله تعالى:(2) «فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ».

وقوله تعالى:(3) «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ».

وقوله تعالى(4) «فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ».

وقوله تعالى:(5) «فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا».

وقوله تعالى:(6) «حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ». إلى غير ذلك.

نعم: (فرضه على الكفاية) بلا خلاف أجده فيه بيننا، بل: ولا بين غيرنا، بل: كاد يكون من الضروري فضلا عن كونه مجمعا عليه، مضافا إلى المعلوم من سيرة النبي صلى الله عليه وآله وأصحابه، وقوله تعالى:(7) «لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى».

وقاعدة الحرج، إلا ما يحكى عن سعيد بن المسيب فأوجبه على الأعيان

ص: 26


1- التوبة - 74 - 29
2- محمد: 4
3- النساء - 71
4- النساء - 74
5- التوبة - 5 - 41 - 39
6- الأنفال - 66
7- النساء 96

لظاهر قوله تعالى:(1) «انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ثم قال(2): «إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا».

والنبوي:(3) «من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق».

وفيه ما قيل من أن الآية منسوخة بظاهر قوله تعالى:(4) «وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ». إلى آخره، أو أنها في خصوص غزاة تبوك التي استنفرهم النبي (صلى الله عليه وآله) فيها، فتخلف فيها كعب بن مالك وأصحابه فهجرهم النبي صلى الله عليه وآله حتى تاب الله عليهم، أو أن المراد من الآية الوجوب ابتداء، فإن الواجب الكفائي عندنا واجب على الجميع وإن كان يسقط بفعل من يقوم به منهم، ولذا يعاقب الجميع بتركه، قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في المروي(5) عنه في دعائم الإسلام:

«والجهاد فرض على جميع المسلمين لقول الله عز وجل: «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ»»، فإن قامت بالجهاد طائفة من المسلمين وسع سائرهم التخلف عنه ما لم يحتج الذين يلون الجهاد إلى المدد، فإن احتاجوا لزم الجميع أن يمدوهم حتى يكتفوا، قال الله عز وجل: «وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً».

ص: 27


1- التوبة - 5 - 41 - 39
2- التوبة - 5 - 41 - 39
3- سنن البيهقي - ج 9 ص 48 وكنز العمال - ج 2 ص 255 الرقم 5423
4- التوبة 123
5- المستدرك - الباب 1 من أبواب جهاد العدو الحديث 23

وإن دهم أمر يحتاج فيه إلى جماعتهم نفروا كلهم، قال الله عز وجل:

«انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ». وأما النبوي فهو مع أن رواية (أبو هريرة) المعلوم كذبه محتمل ضربا من الندب أو وجوب العزم الذي هو من أحكام الايمان أو غير ذلك، وما يحكى عن بعض العامة من أنه كان واجبا على الصحابة ثم نسخ مما هو معلوم البطلان، بل يمكن دعوى الضرورة على خلافه.

ثم إن الكفاية بحسب الحاجة بكثرة المشركين وقلتهم وضعفهم وقوتهم، وعن الشيخ، والفاضل، والشهيدين، والكركي، أن أقل ما يفعل الجهاد في السنة مرة، بل عن الأخير دعوى الاجماع عليه، وهو الحجة إن تم، لا ما قيل من قوله تعالى:

«فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ». الآية، باعتبار تعليق وجوبه على الانسلاخ، فيجب كلما وجد الشرط، ولا يتكرر بعد ذلك بقية العام، لعدم إفادة الأمر المطلق التكرار، إذ هو كما ترى فيه نظر من وجوه.

وعلى كل حال فلا خلاف بيننا. بل: الاجماع بقسميه عليه، في أنه إنما يجب على الوجه المزبور (بشرط وجود الإمام عليه السلام) وبسط يده (أو من نصبه للجهاد) ولو بتعميم ولايته له ولغيره في قطر من الأقطار.

بل: أصل مشروعيته مشروط بذلك فضلا عن وجوبه، ففي خبر بشير (1) سنن البيهقي ج 9 ص 48 وكنز العمال - ج 2 ص 255. الرقم 5423. (2) التوبة - 5.

ص: 28

الدهان(1) عن أبي عبد الله (عليه السلام): قال: قلت له إني رأيت في المنام إني قلت لك أن القتال مع غير الإمام المفروض طاعته حرام مثل الميتة والدم ولحم الخنزير، فقلت لي: هو كذلك؟ فقال أبو عبد الله (عليه السلام): «هو كذلك، هو كذلك».

وفي خبر عبد الله ابن المغيرة(2) قال محمد بن عبد الله، للرضا (عليه السلام)، وأنا أسمع: حدثني أبي، عن أهل بيته، عن آبائه (عليهم السلام)، أنه قال له بعضهم: إن في بلادنا موضع رباط يقال له: قزوين، وعدوا يقال له: الديلم، فهل من جهاد، أو هل من رباط؟ فقال: «عليكم بهذا البيت فحجوه».

فأعاد عليه الحديث؟ فقال:

«عليكم بهذا البيت فحجوه، أما يرضى أحدكم أن يكون في بيته ينفق على عياله من طولهن ينتظر أمرنا، فإن أدرکه كان كمن شهد مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) بدرا، وإن مات منتظرا لأمرنا، كان كمن كان مع قائمنا (صلوات الله عليه) هكذا في فسطاطه، وجمع بين السبابتين، ولا أقول هكذا، وجمع بين السبابة والوسطى، فإن هذه أطول من هذه».

فقال أبو الحسن عليه السلام: «صدق).

وفي موثق سماعة(3) عنه (عليه السلام) أيضا، قال: لقي عباد البصري،

ص: 29


1- الوسائل - الباب 12 من أبواب جهاد العدو الحديث 1 - 5
2- الوسائل - الباب 12 من أبواب جهاد العدو الحديث 1 - 5
3- الوسائل - الباب 12 من أبواب جهاد العدو الحديث 3

علي بن الحسين (عليه السلام) في طريق مكة، فقال له:

يا علي بن الحسين (عليه السلام) تركت الجهاد وصعوبته، وأقبلت على الحج ولينته، إن الله عز وجل يقول(1) «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ»؟ فقال له علي بن الحسين (صلوات الله عليها): «أتم الآية»؟ فقال: «التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ».

فقال له علي بن الحسين (صلوات الله عليهما):

«إذا رأينا هؤلاء الذين هذه صفتهم فالجهاد معهم أفضل من الحج».

وفي خبر أبي بصير(2) عن أبي عبد الله عن آبائه (عليهم السلام) المروي عن العلل والخصال قال:

(قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «لا يخرج المسلم في الجهاد مع من لا يؤمن في الحكم ولا ينفذ في الفئ أمر الله عز وجل، فإنه إن مات في ذلك المكان كان معينا لعدونا في حبس حقنا، والاشاطة بدمائنا وميتته ميتة جاهلية».

ص: 30


1- التوبة - 112
2- الوسائل - الباب 12 من أبواب جهاد العدو الحديث 8 - 10

وخبر الحسن بن علي بن شعبة المروي(1) عن تحف العقول عن الرضا (عليه السلام) في كتابه إلى المأمون: «والجهاد واجب مع إمام عادل، ومن قاتل فقتل دون ماله ورحله ونفسه فهو شهيد، ولا يحل قتل أحد من الكفار في دار التقية إلا قاتل أو باغ، وذلك إذا لم تحذر على نفسك، ولا أكل أموال الناس من المخالفين وغيرهم والتقية في دار التقية واجبة، ولا حنث على من حلف تقية يدفع بها ظلما عن نفسه».

وخبر محمد بن عبد الله السمندري(2) قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إني أكون بالباب، يعني باب من الأبواب فينادون السلاح فأخرج معهم، فقال:

«أرأيتك إن خرجت فأسرت رجلا فأعطيته الأمان وجعلت له من العهد ما جعله رسول الله (صلى الله عليه وآله) للمشركين أكان يفون لك به»؟ قال: لا والله جعلت فداك، ما كان يفون لي.

قال: «فلا تخرج».

ثم قال لي:

«أما أن هناك السيف».

وخبر الحسن بن العباس ابن الجوشي(3) عن أبي جعفر الثاني (علیه السلام) في حديث طويل في بيان (إنا أنزلناه)؟ قال: «ولا أعلم في هذا الزمان

ص: 31


1- الوسائل - الباب 12 من أبواب جهاد العدو الحديث 8 - 10
2- الوسائل - الباب 12 من أبواب جهاد العدو الحديث 7 - 4 - 2
3- الوسائل - الباب 12 من أبواب جهاد العدو الحديث 7 - 4 - 2

جهادا، إلا الحج، والعمرة، والجوار».

وخبر عبد الملك بن عمر(1) قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): «يا عبد الملك، مالي لا أراك تخرج إلى هذه المواضع التي يخرج إليها أهل بلادك»؟ قال: قلت وأين؟ قال: «جدة، وعبادان، والمصيصة، وقزوين»؟ فقلت: انتظارا لأمركم والاقتداء بكم، فقال:

«أي والله، لو كان خيرا ما سبقونا إليه».

قال: قلت له: كان يقولون ليس بيننا وبين جعفر خلاف، إلا أنه لا يرى الجهاد؟ فقال:

«أنا لا أراه، بلى والله إني لأراه ولكن أكره أن أدع علمي إلى جهلهم».

إلى غير ذلك من النصوص التي مقتضاها كصريح الفتاوى عدم مشروعية الجهاد مع الجائر وغيره، بل: في المسالك وغيرها عدم الاكتفاء بنائب الغيبة، فلا يجوز له توليه بل في الرياض نفي علم الخلاف فيه حاكيا له عن ظاهر المنتهى وصريح الغنية إلا من أحمد في الأول.

قال: وظاهر هما الاجماع، مضافا إلى ما سمعته من النصوص المعتبرة وجود الإمام، لكن إن تم الاجماع المزبور فذاك، وإلا أمكن المناقشة فيه بعموم ولاية الفقيه في زمن الغيبة الشاملة لذلك المعتضدة بعموم أدلة الجهاد، فترجح على غيرها.

ص: 32


1- الوسائل - الباب 12 من أبواب جهاد العدو الحديث 7 - 4 - 2

(و) كيف كان ف (لا يتعين إلا أن يعينه الإمام عليه السلام) على شخص خاص أو أشخاص كذلك (لاقتضاء المصلحة) في الخصوصية (أو لقصور القائمين عن) القيام به أو (الدفع إلا بالاجتماع) فيعين الإمام (عليه السلام) من يتم به القيام بذلك، وإلا وجب كفاية أيضا كأصله (أو يعينه على نفسه بنذر وشبهه) كالعهد واليمين والإجارة أو غير ذلك مما يكون سببا للتعيين المخرج له عن الكفائية، ومنه إذا التقى الزحفان وتقابل الفئتان، قال الله تعالى(1):

«إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا» و «إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ» هذا، وقد أطنب في المسالك في بيان قصور العبارة من حيث عطف قوله: أو لقصور على المستثنى أو على قوله: مصلحة ولكن لا فائدة مهمة بعد وضوح المراد، والله العالم)(2).

المسألة الثانية: وجوب الجهاد في المذاهب الاخرى.

أولا: المذهب الزيدي.

يرى فقهاء المذهب الزيدي أن الجهاد فرض كفاية لا فرض عين، ولا خلاف بينهم بان يكون فرض عين إذا قصد الكفار ديار المسلمين، وقد قيده بعض فقهائهم بكفاية البعض في دفعهم.

وعلق وجوب الخروج للجهاد بوجوبه.

ص: 33


1- الأنفال: 47 - 15
2- جواهر الکلام: ج 21 ص 5 - 14

قال إمام الزيدية أحمد المرتضى (ت 840 ه).

(وأعلم أن الجهاد فرض بلا خلاف لقوله تعالى:

«كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ» والآي الدالة على وجبه اكثر من أن تحصى، لكنه فرض كفاية لا فرض عين، وروي عن ابن المسيب أنه فرض عين، ولا خلاف في كونه فرض عين إذا قصد الكفار ديار المسلمين قال في شرح الإبانة: إلا أن يكفي البعض في دفعه وإذا ثبت وجوبه فإنه يجب أن (يخرج له ولكل واجب) كالحج وطلب العلم الواجب (أو مندوب) كالحج نفلا وزيارة قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) أو بعض الفضلاء)(1).

ثانيا: المذهب الشافعي.

والجهاد عند فقهاء الشافعية فرض على الكفاية إذا قام به من فيه كفاية، سقط الفرض عن الباقين؛ قال الحافظ النووي (ت 676 ه):

(والجهاد فرض، والدليل عليه قوله عز وجل:

«كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ»(2) وقوله تعالى «وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ» وهو فرض على الكافية إذا قام به من فيه كفاية سقط الفرض عن الباقين لقوله عز وجل:

«لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى».

ص: 34


1- شرح الازهار: ج 4 ص 526
2- البقرة: 216

ولو كان فرضاً على الجميع لما فضل بين من فعل وبين من ترك، ولأنه وعد الجميع بالحسنى فدل على أنه ليس بفرض على الجميع)(1).

ثالثا: المذهب المالكي.

ذهب فقهاء المالكية إلى القول بوجوب الجهاد على الإمام أن يغزو طائفة للعدو في كل سنة، يخرج هو بها أو من يثق به، وفرض على الناس أموالهم وأنفسهم الخروج المذكور لخروجهم كافة، والنافلة منه: اخراج طائفة بعد أخرى وبعث السريا وقت الغرة والفريضة، وعلى الإمام مراعاة النصفة في المناوبة بين الناس، وذلك لتعلق فرض الكفاية بمن حضر محل متعلقه قادراً عليه دون من بعد عنه لعسره؛ وان عسر الحاضر تعلق بمن يليه.

وجاء ذلك فيما جمعه الحطاب الرعيني؛ فقال:

(الجهاد في أهم جهة كل سنة، وان خاف محارباً كزيارة الكعبة فرض كفاية؛ وقال ابن عرفة، قال ابو عمر في الكافي: فرض على الامام إغزاء طائفة للعدو في كل سنة يخرج هو بها أو من يثق به، وفرض على الناس في أموالهم وأنفسهم الخروج المذكور لا خروجهم كافة، والنافلة منه إخراج طائفة بعد أخرى، وبعث السرايا وقت الغرة والفرصة.

زاد ابن شاس عنه: وعلى الامام رعي النصفة في المناوبة بين الناس. وعزا القرافي جميع ذلك لعبد الملك ثم قال اللخمي عن الداودي: بقي فرضه بعد الفتح على من يلي العدو وسقط عمن بعد عنه. المازري: قوله بيان لتعلق فرض الكفاية بمن حضر محل متعلقه قادرا عليه دون من بعد عنه لعسره وإن

ص: 35


1- المجموع للنووي: ج 19 ص 266

عصى الحاضر تعلق بمن يليه انتهى.

فائدة: إن قيل: كيف غضب النبي (صلى الله عليه وآله) على الثلاثة الذين خلفوا مع أنه فرض كفاية؟ فالجواب ما قال السهيلي في الروض الأنف في حديث الثلاثة: إنه كان على الأنصار فرض عين عليه بايعوا النبي (صلى الله عليه وآله) فكان تخلفهم في هذه الغزاة كبيرة. كذا قال ابن بطال انتهى)(1).

رابعا: المذهب الحنفي.

قال فقهاء المذهب الحنفي أن الجهاد على نوعين، فرض عين يتعلق بذمة من يقول على الجهاد في حال النفير العام، والنوع الآخر: فرض على الكفاية إذا قام به البعض سقط عن البعض الآخر، وذلك كي يتمكن المسلمون من اصلاح شأنهم والقيام بمصالحهم، ولا يتحقق هذا فيما لو انصرف الكل إلى الجهاد.

قال السرخسي (ت 483 ه):

(فريضة الجهاد على نوعين أحدهما عين على كل من يقوى عليه بقدر طاقته وهو ما إذا كان النفير عاما، قال الله تعالى انفروا خفافا وثقالا وقال تعالى: «مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ» إلى قوله «يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا» ونوع هو فرض على الكفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين»(2).

ص: 36


1- مواهب الجليل للحطاب الرعيني: ج 4 ص 536
2- المبسوط للسرخسي: ج 10 ص 3

خامسا: المذهب الحنبلي.

ذهب الحنابلة إلى أن الجهاد فرض على الكفاية إذا قام به قوم سقط عن الباقين، وان كان في أصله فرض عين وهو يشمل سائر الناس فإن قام به بعضهم سقط عن البعض الأخر.

وانه يتعين في ثلاثة مواضع، الأول: إذا ألتقى الزحفان وتقابل الصفان حرم على من حضر الانصراف وتعين عليه المقام.

والثاني: إذا نزل الكفار ببلدتين على أهله قتالهم ودفعهم.

والثالث: إذا استنفر الإمام قوماً لزمهم النفير معه.

واشترطوا في تحقيق الوجوب سبعة شروط (الإسلام، والبلوغ، والعقل، والحرية، والذكورية، والسلامة في الضرر، ووجود النفقة).

وقالوا بالوجوب في كل سنة مرة، الا من عذر مثل ان يكون بالمسلمين ضعف في عدوا أو عدة او ما يحقق العدو والعدة؛ كمن يستعين بالمدد وعدم وجود مانع في الطريق لوصولهم كالعلف والماء، أو أن ترك قتال العدو يؤدي إلى استسلامهم وغيرها.

قال ابن قدامة المقدسي (ت 620 ه):

(والجهاد فرض على الكفاية إذا قام به قوم سقط عن الباقين معنى فرض الكفاية الذي إن لم يقم به من يكفي أنم الناس كلهم، وان قام به من يكفي سقط عن سائر الناس فالخطاب في ابتدائه يتناول الجميع كفرض الأعيان ثم يختلفان في أن فرض الكفاية يسقط بفعل بعض الناس له، وفرض الأعيان لا يسقط عن أحد بفعل غيره. والجهاد من فروض الأعيان لقول الله تعالى:

ص: 37

«انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» وقوله سبحانه «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ» وروى أبو هريرة ان النبي (صلى الله عليه وآله) قال:

«من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالعزومات على شبعة من النفاق» ولنا قول الله تعالى:

«لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى» وهذا يدل على أن القاعدين غير آثمين مع جهاد غيرهم، وقال الله تعالى:

«وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا» ولان رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يبعث السرايا ويقيم هو وسائر أصحابه فاما الآية التي احتجوا بها.

فقد قال ابن عباس: نسخها قوله تعالى: «وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً» رواه الأثرم، وأبو داود، ويحتمل أنه أراد حين استنفرهم (النبي صلى الله عليه وآله وسلم) إلى غزوة تبوك وكانت إجابتهم إلى ذلك، واجبة عليهم ولذلك هجر النبي (صلى الله عليه وآله كعب بن مالك وأصحابه الذين خلفوا حتى تاب الله عليهم بعد ذلك، وكذلك يجب على من استنفره الإمام لقول النبي (صلى الله عليه وآله):

«وإذا استنفرتم فانفروا» متفق عليه.

ومعنى الكفاية في الجهاد أن ينهض للجهاد قوم يكفون في قتالهم إما

ص: 38

أن يكونوا جندا لهم دواوين من أجل ذلك أو يكونوا قد أعدوا أنفسهم له تبرعا بحيث إذا قصدهم العدو حصلت المنعة بهم ويكون في الثغور من يدفع العدو عنها ويبعث في كل سنة جيش يغيرون على العدو في بلادهم.

(فصل): ويتعين الجهاد في ثلاثة مواضع.

(أحدها): إذا التقى الزحفان وتقابل الصفان حرم على من حضر الانصراف وتعين عليه المقام لقول الله تعالى:

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا»، وقوله: «وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ» وقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ».

(الثاني): إذا نزل الكفار ببلد تعين على أهل قتالهم ودفعهم.

(الثالث): إذا استنفر الإمام قوما لزمهم النفير معه لقول الله تعالى:

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ» الآية، والتي بعدها، وقال النبي (صلى الله عليه وآله):

«وإذا استنفرتم فانفروا».

(فصل): ويشترط لوجوب الجهاد سبعة شروط: الإسلام والبلوغ والعقل والحرية والذكورية والسلامة من الضرر ووجود النفقة، فأما الإسلام والبلوغ والعقل فهي شروط لوجوب سائر الفروع ولان الكافر غير مأمون في الجهاد والمجنون لا يتأتى منه الجهاد والصبي ضعيف البينة، وقد روى ابن عمر قال

ص: 39

عرضت على رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوم أحد وانا ابن أربع عشرة فلم يجزني في المقاتلة متفق عليه.

وأما الحرية: فتشترط لما روي أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان يبايع الحر على الإسلام والجهاد ويبايع العبد على الإسلام دون الجهاد ولان الجهاد عبادة تتعلق بقطع مسافة فلم تجب على العبد كالحج، وأما الذكورية فتشترط لما روت عائشة قالت، قلت: يا رسول هل على النساء جهاد؟ فقال:

«جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة». ولأنها ليست من أهل القتال لضعفها وخورها، ولذلك لا يسهم لها ولا يجب على خنثى مشكل لأنه لا يعلم كونه ذكرا فلا يجب مع الشك في شرطه، وأما السلامة من الضرر فمعناه السلامة من العمى والعرج والمرض وهو شرط لقول الله تعالى:

«لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ».

ولأن هذه الاعذار تمنعه من الجهاد، فأما العمى فمعروف، وأما العرج فالمانع منه هو الفاحش الذي يمنع المشي الجيد والركوب كالزمانة ونحوها، وأما اليسير الذي يتمكن معه من الركوب والمشي وإنما يتعذر عليه شدة العدو فلا يمنع وجوب الجهاد لأنه ممكن منه فشابه الأعور، وكذلك المرض المانع هو الشديد فأما اليسير منه الذي لا يمنع امكان الجهاد كوجع الضرس والصداع الخفيف فلا يمنع الوجوب لأنه لا يتعذر معه الجهاد فهو كالعور، وأما وجود النفقة فيشترط لقول الله تعالى:

«لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ

ص: 40

حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ» ولان الجهاد لا يمكن الا بآلة فيعتبر القدرة عليها فإن كان الجهاد على مسافة لا تقصر فيها الصلاة اشترط أن يكون واجد للزاد ونفقة عائلته في مدة غيبته وسلاح يقاتل به ولا تعتبر الراحلة لأنه سفر قريب، وإن كانت المسافة تقصر فيها الصلاة اعتبر مع ذلك الراحلة لقول الله تعالى:

«وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ».

(فصل): وأقل ما يفعل مرة في كل عام لأن الجزية تجب على أهل الذمة في كل عام وهي بدل عن النصرة فكذلك مبدلها وهو الجهاد فيجب في كل عام مرة الامن عذر مثل أن يكون بالمسلمين ضعف في عدد أو عدة أو يكون ينتظر المدد يستعين به أو يكون الطريق إليهم فيها مانع أوليس فيها علف أو ماء أو يعلم من عدوه حسن الرأي في الإسلام فيطمع في إسلامهم ان اخر قتالهم ونحو ذلك ما يرى المصلحة معه في ترك القتال فيجوز تركه بهدنة فإن النبي (صلى الله عليه وآله قد صالح قريشا عشر سنين وأخر قتالهم حق نقضوا عهده واخر قتال قبائل من العرب بغير هدنة، وان دعت الحاجة إلى القتال في عام أكثر من مرة وجب ذلك لأنه فرض كفاية فوجب منه ما دعت الحاجة إليه)(1).

ص: 41


1- المغني لابن قدامة: ج 10 ص 364 - 368

سادسا: المذهب الإباضي.

أختلف المذهب الإباضي عن بقية المذاهب الإسلامية الستة في أصل تسميته الجهاد وتعريفه فقد استعيض عنه بمفردة (الدفاع) ولم يعنون له في كتب الفقه لديهم بعنوان الجهاد.

وينقسم الدفاع عند فقهاء الإباضية إلى قسمين، الأول: دفاع فرض، والآخر: دفاع تطوع، ويكون الأول، أي الدفاع الفرض، هو قتال من يريد قتلك أو أخذ لباسك أو سلاحك أو مرید ضر من لزمك، كعيالك أو صاحبك، ويستوي في ذلك قتال من سعى إلى تحقيق مبتغاه بقتال أو بدون قتال كالخطف.

وأما دفاع التطوع، فهو اتلاف النفس عن الغير كمن سمع أن فلاناً يراد به القتال أو الغدر فيخرج من اجله كي ينجو أو يدفع عن ماله فلا يلزمك الخروج للتعرض لهم ودفعهم أو كقتل الجاني ودفع الباغي وغير ذلك.

وقد تناول هذه المسألة محمد اطفيش، فقال:

(الدفاع أما فرض، وهو القتال، يريد قتلك أو أخذ لباسك أو سلاحك أو مرید ضر من لزمك بقتل أو أخذ سلاح أو لباس، والعطف على قتل بحذف مضاف الدفاع عنه كعيالك وصاحبك الذي عقدت معه الصحبة ومن تعلق إليه ممن لزمه الدفاع عنه، وشمل ذلك ما إذا أراد أخذ ذلك بقتال أو بلا قتال كخطف، ولذا أن أراد القتل بقتال أو بدونه والدفاع في ذلك كله

ص: 42

يكون بما قدرت عليه)(1).

(وإن بلا سلاح إن لم يجده أو عوجل عليه أو كان الدفع بغير أولى له، ومثال الدفاع بغير سلاح الدفع بيد أو عصا لا حديدة فيها أو بألقاء في نحو نار، أو ماء. وبما ينجي من لزمك الدفاع عنه من غرق أو بهيمة أو ضرر هو من قبل الله مثل الغرق والحرق والهرم والجوع والعطش والحر والبرد وغير ذلك، ومعنى كون الضرر من قبل الله أنه لا سبب لمخلوق فيه كحر وبرد وماء، فالنتيجة واجبة مما هو بواسطة مخلوق ومما هو بلا واسطة مخلوق، وأن ارسل الماء عليه أحد فمن واسطة مخلوق، وتكون النتيجة بالنفس مثل أن ينقذ الفريق ويرفع من أحاط به الحريق، ومما ينجو به كإلباس المقرور واطعام الجائع وسقي العطشان وطرد السبع عنه أو قتله، فان ترك النتيجة في ذلك كفر)(2).

أما النوع الثاني وهو: دفاع التطوع.

(وهو اتلاف النفس عن الغير إذا رجا أن ينجو (كدفاع مغير سم الدفع إتلافاً لأنه سبب الإتلاف لإخذ مال الغير أو لتله اي قتل الغير (أو) ك (تغييره جوره) وذلك أن تسمع إنساناً أو أثنين أو ثلاثة أو أكثر خرجوا لأخذ مال أو قتل نفس أو أنهم جاروا كمنع من مال وكفحش فلا يلزمك الخروج للتعرض لهم ودفعهم، أو كقتل الجاني فتغيير، وقتل معطوفان على دفاع ونحوهما كالطاعن والمرتد والقاطع ومانع الحق لا يلزمك أن تخرج إلى

ص: 43


1- کتاب النيل وشفاء العليل: ج 14 ص 760
2- کتاب النيل وشفاء العليل لمحمد أطفيش: ج 14، ص 760 - 671

قتل الجاني ودفاع الباغي وقتله وقتل الطاعن والمانع، بل يجوز ولا يجب، وإنما يجوز في جانب الجاني إن كان الجاني جنى عليه بقتل وليه، أو صار بصورة ما يقتله كل أحد)(1).

المسألة الثالثة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة

أولا: وجوب فريضة الجهاد:

1 - أجمع فقهاء المذهب الإمامي، والزيدي، والحنفي، والمالكي، والحنبلي، والشافعي، على: وجوب فريضة الجهاد.

2 - وخالفهم في ذلك فقهاء المذهب الإباضي، فقالوا: بوجوب الدفاع، ولم يرد في كتبهم لفظ الجهاد.

ثانيا: في كونه فرض كفاية:

أجمع فقهاء الإمامية (أعلى الله شأنهم) على أن الجهاد فرض على الكفاية؛ وهو واجب على الجميع وأن كان يسقط بفعل من يقوم به منهم.

ولذا: يعاقب الجميع بتركه؛ وأن الوجوب مقيد بشرط وجود الإمام المعصوم (عليه السلام) وبسط يده أو من نصبه الإمام للجهاد، ولو بتعميم ولايته له، ولغيره في قطر من الاقطار.

وذهب في كونه فرض على الكفاية الزيدية، والشافعية، والحنفية، والحنابلة.

ص: 44


1- کتاب النيل وشفاء العليل: ج 14 ص 762 - 673

أما الإباضية فقد ذهبوا الى: أن الدفاع فرض على الكفاية.

ثالثا: في كون الجهاد فرض عين:

1 - ذهب الزيدية: إلى شرط قصد الكفار دیار المسلمين.

وذهب المالكية إلى القول: بوجوبه على الإمام في السنة مرة واحدة أن يغزو العدو.

وذهب الحنفية: إلى كونه فرض عين في حال النفير العام لمن يقوى على الجهاد.

وذهب الحنابلة: إلى كونه فرض عين إذا التقى الزحفان وتقابل الصفان، واذا نزل الكفار بلد تعين على أهلها الجهاد، وإذا استنفر الإمام قوماً لزمهم النفير معه.

وقال الإباضية: بالدفاع فرض عين لقتال من يريد قتلك، أو اخذ لباسك أو سلاحك أو مرید ضر بمن لزمك كاهلك وصاحبك.

رابعا: ويتحقق الوجوب بشروط عدة، وهي:

قال الإمامية: (التكليف، والبلوغ، والحرية، والذكورية) وأعذر فيه: (الصبي، والمرأة، والمملوك، والشيخ الهرم، والمجنون).

وقال الحنابلة:

(يشترط فيه: الإسلام، والبلوغ، والعقل، والحرية، والذكورية، والسلامة من الضرر، ووجود النفقة).

ص: 45

المسألة الرابعة: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة.

قال أمير المؤمنين الإمام علي (عليه الصلاة والسلام) لأصحابه في ساعة الحرب:

«وأَيُّ امْرِئٍ مِنْكُمْ أَحَسَّ مِنْ نَفْسِه رَبَاطَةَ جَأْشٍ عِنْدَ اللِّقَاءِ ورَأَى مِنْ أَحَدٍ مِنْ إِخْوَانِه فَشَاً فَلْيَذُبَّ عَنْ أَخِيه بِفَضْلِ نَجْدَتِه الَّتِي فُضِّلَ بِمَا عَلَيْه كَمَا يَذُبُّ عَنْ نَفْسِه فَلَوْ شَاءَ الله لَجَعَلَه مِثْلَه إِنَّ الْمَوْتَ طَالِبٌ حَثِيثٌ لَا يَفُوتُه الْمُقِيمُ ولَا يُعْجِزُه الْهَارِبُ إِنَّ أَكْرَمَ الْمَوْتِ الْقَتْلُ والَّذِي نَفْسُ ابْنِ أَبِي طَالِبٍبِيَدِه لأَلْفُ ضَرْبَةٍ بِالسَّيْفِ أَهْوَنُ عَلَّيَ مِنْ مِيتَةٍ عَلَى الْفِرَاشِ»(1).

تناول شراح نهج البلاغة النص الشريف وبينوا ما ورد فيه من دلالات ومعارف، وقد اخترنا بعضاً منها، وهي كالاتي:

أولا: ابن ميثم البحراني (ت 679 -).

قال (رحمة الله):

(نجدته: شجاعته؛ والتذبيب: الدفع والمنع.

وقد أمرهم في هذا الفصل بمساعدة بعض لبعض في الحرب ومنع بعضهم عن بعض منعا صادقا كما يمنع عن نفسه، وبذلك يكون انعقاد الاجتماع وتعاون الهمم حتّى يكون الجميع كنفس واحدة، وبذلك يكون الظفر والغلبة واستمال ذوى النجدة بذكر فضيلة تخصّهم دون من يذبّون عنه استثارة لنجدتهم وتعطيفا لهم.

ص: 46


1- نهج البلاغة بتحقيق صبحي الصالح، الخطبة 123، ص 179

وقوله: إن الموت طالب حثيث. إلى قوله: إنّ أكرم الموت القتل: تسهيل للقتل والموت بذكر أنّه لابدّ، وتسهيل للحرب عليهم. أما أن أكرم الموت القتل فأراد القتل في سبيل الله، وذلك لاستلزامه الذكر الجميل في الدنیا والثواب الدائم في الأخرى. ثم أكد ذلك بالقسم لألف ضربة بالسيف أهون من ميتة على الفراش. وصدق ذلك في حقّ من نظر إلى الدنيا بعين الاستحقار في جنب نعيم الأبد في الآخرة والذكر الجميل في الدنيا وحصلت له ملكة الشجاعة ظاهر. وبالله التوفيق)(1).

ثانيا: ابن أبي الحديد المعتزلي (ت 656 ه).

قال المعتزلي في بيانه لمضامين النص الشريف:

(أحس: علم ووجد. ورباطة جأش، أي شدة قلب، والماضي ربط، كأنه يربط نفسه عن الفرار. والمروي: رباطة بالكسر، ولا أعرفه نقلا وإنما القياس لا يأباه، مثل عمر عمارة، وخلب خلابة.

والفشل: الجبن. وذب الرجل عن صاحبه، أي أكثر الذب، وهو الدفع والمنع.

والنجدة: الشجاعة. والحثيث: السريع، وفي بعض الروايات: فلیذب عن صاحبه بالإدغام، وفي بعضها فليذبب بفك الادغام. والميتة، بالكسر: هيئة الميت كالجلسة والركبة هيئة الجالس والراكب، يقال: مات فلان ميتة حسنة، والمروي في نهج البلاغة بالكسر في أكثر الروايات، وقد روى: من موتة وهو

ص: 47


1- شرح نهج البلاغة لابن ميثم البحراني: ج 3 ص 121

الأليق، يعني المرة الواحدة، ليقع في مقابلة الألف.

واعلم أنه (عليه السلام) أقسم أن القتل أهون من الموت حتف الانف وذلك على مقتضى ما منحه الله تعالى من الشجاعة الخارقة لعادة البش، وهو (عليه السلام) يحاول أن يحض أصحابه، ويحرضهم ليجعل طباعهم مناسبة لطباعه، وإقدامهم على الحرب مماثلا لاقدامه، على عادة الامراء في تحريض جندهم وعسكرهم وهيهات! إنما هو كما قال أبو الطيب:

يكلف سيف الدولة الجيش همه *** وقد عجزت عنه الجيوش الخضارم ويطلب عند الناس ما عند نفسه *** وذلك مالا تدعيه الضراغم ليست النفوس كلها من جوهر واحد، ولا الطباع والأمزجة كلها من نوع واحد، وهذه خاصية توجد لمن يصطفيه الله تعالى من عباده، في الأوقات المتطاولة، والدهور المتباعدة، وما اتصل بنا نحن من بعد الطوفان، فإن التواريخ من قبل الطوفان مجهولة، عندنا إن أحدا أعطى من الشجاعة والاقدام ما أعطيه هذا الرجل من جميع فرق العالم على اختلافها، من الترك والفرس والعرب والروم وغيرهم، والمعلوم من حاله أنه كان يؤثر الحرب على السلم، والموت على الحياة، والموت الذي كان يطلبه ويؤثره، إنما هو القتل بالسيف، لا الموت على الفراش، کما قال الشاعر:

لو لم يمت بين أطراف الرماح إذا *** لمات إذ لم يمت من شدة الحزن وكما قال الآخر:

يستعذبون مناياهم كأنهم *** لا ييأسون من الدنيا إذا قتلوا

ص: 48

فإن قلت: فما قولك فيها أقسم عليه: هل ألف ضربة بالسيف أهون ألما على المقتول من موتة واحدة على الفراش بالحقيقة، أم هذا قول قاله على سبيل المبالغة والتجوز، ترغيبا لأصحابه في الجهاد؟ قلت: الحالف يحلف على أحد أمرين: أحدهما أن يحلف على ظنه واعتقاده، نحو أن يحلف أن زيدا في الدار، أنا حالف ومقسم على أنى أظن أن زيدا في الدار، أو أنى أعتقد كون زيد في الدار. والثاني إن يحلف، لا على ظنه بل يحلف على نفس الامر في الخارج، فإن حملنا قسم أمير المؤمنين (عليه السلام) على المحمل الأول فقد اندفع السؤال، لأنه (عليه السلام) قد كان يعتقد ذلك. فحلف أنه يعتقد وأنه يظن ذلك، وهذا لا كلام فيه، وإن حملناه على الثاني فالامر في الحقيقة يختلف، لان المقتول بسيف صارم معجل للزهوق لا يجد من الألم وقت الضربة ما يجده الميت دون النزع من المد والكف.

نعم، قد يجد المقتول قبل الضربة ألم التوقع لها، وليس كلامنا في ذلك، بل في ألم الضربة نفسها، وألف سيف صارم مثل سيف واحد، إذا فرضنا سرعة الزهوق، وأما في غیر هذه الصورة، نحو أن يكون السیف كالا، وتتكرر الضربات به، والحياة باقية بعد، وقايسنا بينه وبين ميت يموت حتف أنفه موتا سريعا، إما بوقوف القوة الغاذية كما يموت الشيوخ، أو بإسهال ذريع تسقط معه القوة، ويبقى العقل والذهن، إلى وقت الموت، فإن الموت هاهنا أهون وأقل ألما.

فالواجب أن يحمل كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) إما على جهة التحريض، فيكون قد بالغ كعادة العرب، والخطباء في المبالغات المجازية،

ص: 49

وإما أن يكون أقسم على أنه يعتقد ذلك، وهو صادق فيما أقسم، لأنه هكذا كأن يعتقد بناء على ما هو مركوز في طبعه من محبة القتال، وكراهية الموت على الفراش، وقد روى أنه قيل لأبي مسلم الخراساني: إن في بعض الكتب المنزلة: من قتل بالسيف فبالسيف يقتل؟ فقال: القتل أحب إلى من اختلاف الأطباء، والنظر في الماء، ومقاساة الدواء والداء، فذكر ذلك للمنصور بعد قتل أبي مسلم فقال: قد أبلغناه محبته)(1).

ثالثا: السيد حبيب لله الخوئي (ت 1324 ه):

قال (رحمة الله) في بيان مضامين النص الشريف وقد ناقش قوله المعتزلي في بعض الموارد من الحديث:

(اعلم أنّ هذا الكلام (قاله (عليه السّلام) للأصحاب في ساعة الحرب) ولم أظفر بعد على أنه أیّ حرب، والمقصود به امرهم بقضاء حقّ الاخوّة ورعاية شرايط المواساة والمحبة والذّب عن اخوانهم المسلمين وحماية بيضة الإسلام وحوزة الدّين.

قال (عليه السّلام): (وأیّ امرء منكم أحسّ). أي: علم ووجد (من نفسه رباطة جاش) وقوة قلب (عند اللَّقاء) أي عند القتال ولقاء الأبطال (ورأى من أحد من اخوانه) المؤمنين (فشلا) وجبنا (فليذبّ) أي ليدفع المكروه (عن أخيه بفضل نجدته) وشجاعته (التي فضّل) أي فضّله الله (بها عليه كما يذبّ) ويدفع (عن نفسه) بنهاية الاهتمام والجدّ (فلو شاء الله لجعله مثله).

ص: 50


1- شرح نهج البلاغة للمعتزلي: ج 7 ص 300 - 303

أي: لجعل أخاه الجبان شجاعا مثله، وحيث آثره بتلك النعمة وتفرّد بهذه الفضيلة واختصّ بها ولم يجعل أخوه مثله فلا بدّ له من القيام بوظائف النعم والتشكَّر بالدفع عن الآخر وذلك ل (أنّ الموت طالب) للإنسان (حثيث) أي سريع في طلبه (لا يفوته المقيم ولا يعجزه الهارب).

يعني: لا يخلص منه الراضي به المقيم له، ولا ينجو منه السّاخط له الهارب عنه، ومع ذلك فلا ينبغي للعاقل أن يختار الفرار على القرار، ويؤثر البقاء على اللقاء، مع ايجابه العارفی الأعقاب، والنار يوم الحساب وأيضا قال (إنّ أكرم الموت القتل) حيث إنّه موجب للذكر الجميل في الدّنيا والأجر الجزيل في العقبا ومع ذلك فلا يجوز للبصير تفويت هذا النفع الكثير على نفسه والاقدام على الموت بحتف أنفه قال الشاعر:

وإن تكن الأبدان للموت أنشئت *** فقتل امرء والله بالسيف أفضل ثمّ حاول (عليه السّلام) تحريص أصحابه وتحريضهم على الجهاد والثبات عليه وجعل طباعهم مناسبة لطبيعته فقال:

«والذي نفس ابن أبي طالب بيده لألف ضربة بالسّيف أهون علىّ» وأسهل من ميتة على الفراش».

فان قلت: حلفه ذلك هل هو على الحقيقة أو من باب المجاز والمبالغة ترغيبا لأصحابه في الجهاد قلت: بل هو على حقيقته، لأنه لفرط محبّته في الله ومنتهى شوقه إلى الله وغاية رغبته في ابتغاء مرضات الله سبحانه كان في أعلى مراتب الفناء في الله والبقاء بالله، فارغا عن نفسه في جنب مولاه، ومع ذلك الحال لا تأثير فيه لضربات السيوف وطعنات الرّماح البتّة.

ص: 51

ويشهد بذلك ما رواه غير واحد من أنه (عليه السّلام) قد أصابت رجله الشريف نشابة في غزوة صفّين ولم يطق الجرّاحون إخراجها من رجله لاستحكامها فيه، فلما قام إلى الصّلاة أخرجوها حين كونه في السجدة، فلما فرغ من الصّلاة علم باخراجه وحلف أنه لم يحس ذلك أصلا، ويؤيد ذلك ماعن الخرائج مسندا عن أبي جعفر (عليه السّلام):

«قال الحسين (عليه السّلام) قبل أن يقتل إنّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) قال: يا بنىّ انّك ستساق إلى العراق وهي أرض قد التقى بها النّبيون وأوصياء النّبيين، وهي أرض تدعى غمور أو أنك تستشهد بها ويستشهد معك جماعة من أصحابك لا يجدون ألم مسّ الحدید، وتلي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم): يا نار کونی بردا وسلاما على إبراهيم، يكون الحرب یا عليك وعليهم سلما».

الحديث، وجه التأييد أنّ أصحاب الحسين (عليه السّلام) مع كونهم من أدنى عبيد أمير المؤمنين إذا لم يجدوا ألم الحدید بما فيهم من المحبّة والشوق إلى لقاء الحقّ فكيف به (عليه السّلام) مع خوضه في بحار المعرفة وكماله في مقام المحبّة.

هذا كله على ما في أكثر النسخ من رواية كلامه (عليه السّلام) كما أوردنا وفي نسخة الشارح المعتزلي هكذا: لألف ضربة بالسيف أهون من میة على فراش في غير طاعة الله، وعليه فلا اشكال أصلا لأنّ ألم السيوف دنيوىّ، والميتة على الفراش بغير الطاعة معقبة للألم الأخروي، والأول أهون وأسهل من الثاني لا محالة ولعذاب الآخرة أشدّ وأبقى.

ص: 52

والعجب من الشارح أنه حمل ذلك على المجاز والمبالغة حيث قال، بعد إيراد كلامه (عليه السّلام) على ما حكينا من نسخته: الواجب أن يحمل كلامه إمّا على جهة التحريص فيكون قد بالغ كعادة العرب والخطباء في المبالغات المجازية، وإمّا أن يكون أقسم على أنه يعتقد ذلك وهو صادق فيما اقسم لأنّه هكذا كان يعتقد بناء على ما هو مركوز في طبعه من محبّة القتال وكراهيّة الموت على الفراش)(1).

المسألة الخامسة: اختصاص فريضة الجهاد ببعض القواعد الفقهية وفوائدها.

اختصت فريضة الجهاد ببعض القواعد الفقهية وفوائدها والتي تناولها الشهيد الأول (محمد بن جمال الدين مكي الجزيني (ت 876 ه) فكان منها مايلي:

أولاً: القاعدة الاولى - الحكم بكونه وسيلة إلى المصلحة والمفسدة.

أوردها الشهيد الأول (عليه الرحمة والرضوان) في قواعده تحت الرقم (30) فقال:

(متعلقات الاحكام قسمان، أحدهما ما هو مقصود بالذات، وهو المتضمن للمصالح والمفاسد في نفسه.

والثاني: ما هو وسيلة وطريق إلى المصلحة والمفسدة، وحكم الوسائل في الأحكام الخمسة، حكم المقاصد.

ص: 53


1- منهاج البراعة للخوئي: ج 8 ص 151 - 153

وتتفاوت في الفضائل بحسب المقاصد؛ فكلما كان أفضل کانت الوسيلة إليه أفضل.

قال الله تعالى:

«ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ».

فمدح على الظمأ والمخمصة كما مدح على النيل من العدو، وإن لم يكن الظمأ والمخمصة بقصد المكلف، لأنه إنما حصل بحسب وسيلته إلى الجهاد الذي هو وسيلة إلى أعزاز الدين وإعلا كلمة الله، اللذين هم وسيلتان إلى رضوان الرب تبارك وتعالى)(1).

ثانيا: القاعدة الثانية - الواجب على الكفاية له شبه النفل من حيث يسقط عن البعض بفعل الباقين.

قال الشهيد الأول (عليه الرحمة والرضوان) في القاعدة (53) من قواعده وقد عنون لها ب (الواجب ما يذم تاركه شرعاً لا إلى بدل، ويطلق على ما لا بد منه وإن لم يتعقبه ندم). ثم فرعّ منها فصلاً وهو المرتبط بالواجب على الكفاية كالجهاد، فقال:

الواجب على الكفاية له شبه بالنفل من حيث يسقط عن البعض بفعل الباقين، وقد يسقط بالتعرض له فرض العين، كمن له مريض يقطعه تمريضه عن الجمعة، وإن كان غيره من الأقارب قد يقوم مقامه، ومن ثم ظن بعض

ص: 54


1- القواعد والفوائد: ج 1 ص 60

الناس: أن الاتيان بفرض الكفاية أفضل من فرض العين، من حيث إنه يسقط بفعله الحرج عن نفسه وعن غيره. ويشكل: بجواز استناد الأفضلية إلى زيادة الثواب والمدح، لا إلى إسقاط الذم.

أما الشروع فيه، فإنه يلزم إتمامه غالبا، كالجهاد وصلاة الجنازة. ومن أن فيه شبها بالندب جاز الاستئجار عليه، كالاستئجار على الجهاد وربما جاز أخذ الأجرة على فرض العين، كاللبأ من الام، وإطعام المضطر إذا كان له مال، فإنه يطعمه ويأخذ العوض)(1).

ثالثاً: القاعدة الثالثة - مما يجب على الفور من الأوامر بدليل من الخارج.

وقال (عليه الرحمة والرضوان) في القاعدة (58) من قواعده، وقد عنون لها ب (مما يجب على الفور من الأوامر بدليل من خارج):

(دفع الزكاة، والخمس، والدين عند المطالبة، لان المقصود من شرعية الزكاة والخمس سد خلة الفقراء ومعونة الهاشميين، ففي تأخيرهما إضرار بهم لا سيما مع تعلق أطاعهم به. والامر بالمعروف والنهي عن المنكر، لان تأخيرهما كالتقرير على المعصية. والحكم بين الخصوم، لان المعتدي منها ظالم فيجب كفه عن ظلمه، كالأمر بالمعروف، ولان ظلمه مفسدة ناجزة، وتأخر الحكم يحققها. وإقامة الحدود والتعزيرات، لان في تأخيرها تقليل الزجر عن المفاسد المترتبة عليها، إلا أن يعرض ما يوجب التأخير، كخوف الهلاك، والسراية حيث لا يكون القصد اتلاف النفس.

ص: 55


1- القواعد والفوائد: ج 1 ص 189 - 190

ومنها: الجهاد، وقتال البغاة، لئلا تكثر المفسدة. ومنها: الحج عندنا، لدلالة الاخبار عليه. ولان تأخيره كالتفويت، لجواز عروض العارض، إذ قد يتمادى تأخيره سنة إلى سنة، والسلامة فيها من العوارض، مشكوك فيه. ومنها: الكفارات، لأنها كالتوبة الواجبة على الفور من المعاصي. ورد السلام، لفاء التعقيب في قوله تعالى: «فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا»(1). ولان المسلم يتوقعه في الحال فتأخيره إضرار به)(2).

رابعاً: فائدة (المشقة الموجبة للتخفيف) من قاعدة (المشقة موجبة لليسر).

قال (عليه الرحمة والرضوان) في بيان فوائد قاعدة (المشقة موجبة لليسر) والتي مرّ ذكرها في المبحث الخامس من فصل الصلاة؛ وأما هنا فنورد الفائدة الأولى من فوائد هذه القاعدة، وهي: (المشقة الموجبة للتخفيف) وهي:

(ما تنفك عنه العبادة غالبا، أما ما لا تنفك عنه فلا، كمشقة الوضوء والغسل في السبرات(3)، وإقامة الصلاة في الظهيرات، والصوم في شدة الحر وطول النهار، وسفر الحج، ومباشرة الجهاد، إذ مبنى التكليف على المشقة، إذ هو مشتق من الكلفة، فلو انتفت انتفى التكليف، فتنتفي المصالح المنوطة به، وقد رد الله على القائلين:

«لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ»(4) بقوله «قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا»(5). ومنه: المشاق

ص: 56


1- النساء: 86
2- القواعد والفوائد: ج 1 - 200 - 201
3- السبرات: البرد الشديد
4- التوبة: 81
5- التوبة: 81

التي تكون على جهة العقوبة على الجرم وإن أدت إلى تلف النفس، كالقصاص والحدود بالنسبة إلى المحل والفاعل وإن كان قريبا يعظم ألمه باستيفاء ذلك من قريبه، لقوله تعالى:

«وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ»(1). والضابط في المشقة ما قدره الشارع. وقد أباح الشرع حلق المحرم للقمل، كما في قصة كعب بن عجرة(2) سبب نزول الآية. وأقر النبي (صلى الله عليه وآله) عمرا على التيمم لخوف البرد(3)، فلتقاربهما المشاق في باقي محظورات الاحرام، وباقي مسوغات التيمم. وليس ذلك مضبوطا بالعجز الكلي بما فيه تضييق على النفس، ومن ثم قصرت الصلاة، وأبيح الفطر في السفر ولا كثير مشقة فیه ولا عجز غالبا. فحينئذ يجوز الجلوس في الصلاة مع مشقة القيام وإن أمكن تحمله على عسر شديد، وكذا باقي مراتبه. ومن ثم تحلل المصدود والمحصور وإن أمكنهما المصابرة لما في ذلك من العسر)(4).

ص: 57


1- النور: 2
2- جاء في صحيح مسلم: 2 / 860 - 861، باب 10 من كتاب الحج، حدیث: 82، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وقف عليه ورأسه يتهافت قملا فقال: أيؤذيك هوامك؟ قلت: نعم. قال: فاحلق رأسك..)
3- انظر: الحاكم النيسابوري / المستدرك على الصحيحين: 1 / 177، والبيهقي / السنن الكبرى: 1 / 225
4- القواعد والفوائد: ج 1 ص 127 - 128

ص: 58

الفصل الثاني : في حكم الفرار من العدو والغدربالكفار وطلب المبارزة

اشارة

ص: 59

ص: 60

المبحث الأول: عدم جواز الفرار إذا كان العدو على الضعف أو أقل

قال أمير المؤمنين الإمام علي (عليه الصلاة والسلام):

«أَجْزَأَ امْرُؤٌ قِرْنَه وآسَى أَخَاه بِنَفْسِه، ولَمْ يَكِلْ قِرْنَه إِلَی أَخِيه، فَيَجْتَمِعَ عَلَيْه قِرْنُه وقِرْنُ أَخِيه، وايْمُ الله لَئِنْ فَرَرْتُمْ مِنْ سَيْفِ الْعَاجِلَةِ، لَا تَسْلَمُوا مِنْ سَيْفِ الآخِرَةِ، وأَنْتُمْ لَهَامِيمُ الْعَرَبِ والسَّنَامُ الأَعْظَمُ، إِنَّ فِي الْفِرَارِ مَوْجِدَةَ الله والذُّلَّ الاَّزِمَ والْعَارَ الْبَاقِيَ، وإِنَّ الْفَارَّ لَغَیْرُ مَزِيدٍ فِي عُمُرِه، ولَا مَحْجُوزٍ بَيْنَه وبَیْنَ يَوْمِه، مَنِ الرَّائِحُ إِلَی الله كَالظَّمْآنِ يَرِدُ الْمَاءَ، الْجَنَّةُ تَحْتَ أَطْرَافِ الْعَوَالِ، الْيَوْمَ تُبْلَی الأَخْبَارُ، والله لأَنَا أَشْوَقُ إِلَی لِقَائِهِمْ مِنْهُمْ إِلَی دِيَارِهِمْ»(1).

المسألة الأولی: أقوال فقهاء المذهب الإمامي

تناول فقهاء المذهب الإمامي (أعلى الله شأنهم) مسألة عدم جواز الفرار للمسلم وتقيده بالعدو عند التقاء الصفان أو الافراد على الضعف، وفي ذلك الحكم بسط القول كثير من الفقهاء الماضين (عليهم الرحمة والرضوان) ومنهم:

ص: 61


1- نهج البلاغة، بتحقيق صبحي الصلاح، من كلام له (عليه السلام) في حث اصحابه على القتال: ص 180 - 18

أولاً: العلامة ابن المطهر الحلي (رحمه الله) (ت 726 ه).

قال (عليه الرحمة والرضوان) في التذكرة في المسألة (27) من كتاب الجهاد:

(إذا التقى الصفا، وجب الثبات، وحرم الهرب؛ قال الله تعالى:

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ»(1).

وقال تعالى:

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا»(2).

وعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) الفرار من الزحف من الكبائر؛(3) ويجوز الهرب في أحوال ثلاثة.

الأولى: أن يزيد عدد الكفار على ضعف عدد المسلمين، لقوله تعالى:

«الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ»(4).

وما رواه العامة عن ابن عباس، قال: من فر من اثنين فقد فر، ومنفر و من ثلاثة فما فر(5).

ص: 62


1- الأنفال: 15
2- الأنفال: 45
3- المعجم الكبير للطبراني: ج 9 ص 58
4- الأنفال: 66
5- سنن البيهقي 9: 76، الحاوي الكبير 14: 182، المغني 10: 543، العزيز شرح الوجيز 11: 405

ومن طريق الخاصة: قول الصادق (عليه السلام):

«من فر من رجلين في القتال من الزحف فقد فر، ومن فر من ثلاثة في القتال من الزحف فلم يفر»(1).

ولو لم يزد عدد المشركين على الضعف لكن غلب على ظن المسلمين الهلاك إن ثبتوا، قيل: يجب الثبات، لقوله تعالى: «إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ»(2))(3).

وقيل: يجوز، لقوله تعالى: «وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ»(4) (5).

ولو غلب على ظنه الأسر، فالأولى أن يقاتل حتى يقتل، ولا يسلم نفسه للأسر، لئلا يعذبه الكفار بالاستخدام.

ولو زاد المشركون على ضعف المسلمين، لم يجب الثبات إجماعا. ولو غلب على ظن المسلمين الظفر بهم، استحب الثبات ولا يجب، لأنهم لا يأمنون التلف.

ولو غلب على ظن المسلمين العطب، قيل: يجب الانصراف، لقوله تعالى: «وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ»(6) (7).

ص: 63


1- الكافي 5: 34 / 1، التهذيب: 174 / 342
2- الأنفال: 15
3- العزيز شرح الوجيز 11: 405، المهذب - للشيرازي - 2: 234، روضة الطالبين 7: 449
4- البقرة: 195
5- العزيز شرح الوجيز 11: 405، المهذب - للشيرازي - 2: 234، روضة الطالبين 7: 449
6- البقرة: 195
7- العزيز شرح الوجيز 11: 405، المهذب - للشيرازي - 2: 234، روضة الطالبين 7: 449

وقيل: لا يجب، تحصيلا للشهادة(1).

وقيل: إن كان في الثبات الهلاك المحض من غير نكاية فيهم، لزم الفرار، وإن كان في الثبات نكاية فيهم، فوجهان(2).

ولو قصده رجل وظن أنه إن ثبت قتله، وجب الهرب. ولو ظن الهلاك مع الثبات والانصراف، فالأولى الثبات، تحصيلا لثواب الصبر، ولجواز الظفر، لقوله تعالى: «كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ»(3).

ولو انفرد اثنان بواحد من المسلمين، قيل: يجب الثبات(4).

وقيل: لا يجب، لأن وجوب الثبات مع تعدد المسلمين، فيقوى قلب كل واحد منهم بصاحبه(5).

وقيل: إن طلباه، كان له الفرار، لأنه غير متأهب للقتال، وإن طلبهما ولم يطلباه، لم يجز، لأن طلبهما والحمل عليهما شروع في الجهاد فلا يجوز الإعراض(6).

وفي جواز فرار مائة بطل من المسلمين من مائتي بطل وواحد من ضعفاء الكفار إشكال ينشأ: من مراعاة العدد، ومن المقاومة لو ثبتوا، والعدد مراعى

ص: 64


1- العزيز شرح الوجيز 11: 405، المهذب - للشيرازي - 2: 234، روضة الطالبين 7: 449
2- العزيز شرح الوجيز 11: 405، روضة الطالبين 7: 449
3- البقرة: 249
4- كما في شرائع الإسلام 1: 311، وانظر: العزيز شرح الوجيز 11: 405 - 406
5- قال به أيضا المحقق الحلي في شرائع الإسلام 1: 311، وانظر أيضا: العزيز شرح الوجيز
6- العزيز شرح الوجيز 11: 405 - 406، روضة الطالبين 7: 449

مع تقارب الأوصاف. وللشافعية وجهان(1).

وكذا الإشكال في عكسه، وهو فرار مائة من ضعفاء المسلمين من مائة وتسعة وتسعين من أبطال الكفار، فإن راعينا صورة العدد، لم يجز، وإلا جاز.

ويجوز للنساء الفرار، لأنهن لسن من أهل فرض الجهاد، وكذا الصبي والمجنون. ويأثم السكران. ولو قصد الكفار بلدا فتحصن أهله إلى تحصيل نجدة وقوة، لم يأثموا، إنما الإثم على من ولى بعد اللقاء.

الحالة الثانية: أن يترك لا بنية الهرب، بل يتحرف للقتال.

قال الله تعالى: «إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ»(2).

والمتحرف للقتال هو الذي ينصرف ليكمن في موضع ثم يهجم، أو يكون في مضيق فيتحرف حتى يتبعه العدو إلى موضع واسع ليسهل القتال فيه، أو يرى الصواب في التحول من الواسع إلى الضيق، أو لينحرف عن مقابلة الشمس أو الريح، أو يرتفع عن هابط، أو يمضي إلى موارد المياه من المواضع المعطشة، أو ليستند إلى جبل، أو شبهه.

الحالة الثالثة: أن يتحيز إلى فئة، وهو الذي ينصرف على قصد أن يذهب إلى طائفة ليستنجد بها في القتال. ولا فرق بين أن تكون الطائفة قليلة أو كثيرة، للعموم، ولا بين أن تكون المسافة قصيرة أو طويلة، وهو أحد وجهي الشافعية.

والثاني: أنه يجب أن تكون المسافة قصيرة ليتصور الاستنجاد بها في هذا

ص: 65


1- الوجيز 2: 190، العزيز شرح الوجيز 11: 405، روضة الطالبين 7: 449
2- الأنفال: 16

القتال وإتمامه(1).

وهل يجب عليه تحقيق ماعزم عليه بالقتال مع الفئة التي تحيز إليها؟ للشافعية وجهان: أصحهما عندهم: لا، لأن العزم عليه رخص له [في](2) الانصراف، فلا حجر عليه بعد ذلك، والجهاد لا يجب قضاؤه، ولا فرق بين أن يخاف عجز المسلمين أو لا.

والثاني: نعم، لدلالة الآية على العزم على القتال، والرخصة منوطة بالعزم، ولا يمكن مخادعة الله تعالى في العزم(3).

وقال بعض الشافعية: إنما يجوز التحيز إلى فئة إذا استشعر المتحرف عجزا محوجا إلى الاستنجاد لضعف جند الإسلام، فإن لم يكن كذلك، فلا(4). والعموم يخالفه.

وقال بعضهم: لا يجوز الانصراف من صف القتال إن كان فيه انكسار المسلمين، فإن لم يكن، جاز التحيز للمتحرف للقتال والمتحيز إلى فئة(5).

إذا عرفت هذا، فالاستثناء إنما هو حالة القدرة والتمكن من القتال، فينحصر الاستثناء فيهما، أما العاجز بمرض أو عدم سلاح فله أن ينصرف بكل حال. ولو أمكنه الرمي بالحجارة، احتمل وجوب الثبات. وللشافعية

ص: 66


1- الوجيز 2: 190، العزيز شرح الوجيز 11: 403، المهذب - للشيرازي - 2: 233، روضة الطالبين 7: 448
2- أثبتناها من العزيز شرح الوجيز
3- العزيز شرح الوجيز 11: 403، روضة الطالبين 7: 448
4- العزيز شرح الوجيز 11: 403، روضة الطالبين 7: 448
5- الوجيز 2: 190، العزيز شرح الوجيز 11: 403، روضة الطالبين 7: 447 - 448

وجهان(1).

والمتحيز إلى فئة بعيدة لا يشارك الغانمين في غنيمة فارق قبل اغتنامها، ولو فارق بعد غنيمة البعض، شارك فيه دون الباقي.

أما لو تحيز إلى فئة قريبة، فإنه يشارك الغانمين في المغنوم بعد مفارقته وهو أحد وجهي الشافعي(2) لأنه لا يفوت نصرته والاستنجاد به، فهو كالسرية يشارك جند الإمام فيما يغنمون، وإنما يسقط الانهزام الحق إذا اتفق قبل القسمة، أما إذا غنموا شيئا واقتسموه ثم انهزم بعضهم، لم يسترد منه ما أخذ)(3).

ثانياً: السيد عبد الأعلى السبزواري (رحمه الله) (ت 1414 ه).

قال (عليه الرحمة والرضوان) في مهذب الاحكام من كتاب الجهاد (المسألة: 5 - 6 - 7 - 8) ما يلي:

(المسألة 5: لا ا يجوز الفرار إذا كان العدوّ على الضعف أو أقلّ إلا لمتحرف لقتال أو متحيّزا إلى فئة، أو كان مضطرا إلى ذلك كمرض أو نحوه، بل كل غرض صحيح أمضاه وليّ الأمر.

والراية هي التي يتولاها صاحب الحرب ويقاتل عليها وإليها يميل المقاتل، واللواء علامة كبكبة الأمير يدور معه حيث دار.

لأنّ ذلك كله ما يختلف حسب اختلاف الحالات والأزمنة والأمكنة

ص: 67


1- العزيز شرح الوجيز 11: 404، روضة الطالبين 7: 448
2- العزيز شرح الوجيز 11: 404، روضة الطالبين 7: 448
3- تذكرة الفقهاء: ج 9 ص 58 - 63

والأشخاص ولا تضبطها ضابطة كلية حتى يتعرّض لها الفقيه في عصر واحد لسائر العصور، ولها فنون خاصة تدرّس وتتعلَّم ويتدرب عليها في هذه العصور ولكنّها في عصور حضور إمام العدل يكون بتعليمه وتنظيمه أو نائبه الخاص لذلك، وفي عصر الغيبة لا بد وأن يكون بنظر الفقيه الجامع للشرائط المتقدمة.

يدل على ذلك كله الأدلة الثلاثة بعد حمل قوله تعالى: «إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ» على المثال لكل غرض صحيح شرعي أمضاه ولىّ أمر الجهاد.

فيدل على الحرمة إطلاق قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ»(1) وقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا».

والنصوص المتواترة الدالة على حرمة الفرار من الزحف، وأنّه من الكبائر كما في صحيح ابن محبوب قال: (كتب معي بعض أصحابنا إلى أبى الحسن (عليه السلام) يسأله عن الكبائر كم هي؟ وما هي؟ فكتب:

(الكبائر من اجتنب ما وعد الله عليه النار كفر عنه سيئاته إذا كان مؤمنا والسبع الموجبات: قتل النفس الحرام، وعقوق الوالدين، وأكل الربا، والتعرب بعد الهجرة، وقذف المحصنة، وأكل مال اليتيم، والفرار من الزحف)(2).

وأيضا من الكبائر في صحيحي عبيد بن زرارة ومحمد بن مسلم(3)، وعن

ص: 68


1- الأنفال: 45
2- الوسائل باب: 46 من أبواب جهاد النفس حديث: 1 و 4 و 6
3- الوسائل باب: 46 من أبواب جهاد النفس حديث: 1 و 4 و 6

علي (عليه السّلام):

«وليعلم المنهزم إنّه مسخط ربه وموبق نفسه له في الفرار موجدة الله والذل اللازم والعار الباقي، وأنّ الفار لغير مزید في عمره ولا محجور بينه وبين يومه، ولا يرضي ربه، ولموت الرجل محقا قبل إتيان هذه الخصال خير من الرضا بالتلبس بها والإقرار عليها»(1).

وعنه (عليه السّلام) أيضا:

«إنّ الله تعالى لما بعث نبيه (صلَّى الله عليه وآله) أمر في بدو أمره أن يدعو بالدعوة فقط، وأنزل عليه قوله تعالى: «وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ» فلما أرادوا ما هموا به من تبيينه أمره الله بالهجرة وفرض عليه القتال فقال تعالى: «أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا» ثمَّ ذكر بعض آیات القتال - إلى أن قال -:

«فنسخت آية القتال آية الكف، ثمَّ قال: ومن ذلك أنّ الله فرض القتال على الأمة فجعل على الرجل الواحد أن يقاتل عشرة من المشركين فقال تعالى: «وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا».

(مسألة 6): لو غلب على ظنه الهلاك لا يجوز الفرار أيضا.

وعن الصادق (عليه السّلام) في رواية ابن صدقة:

«إنّ الله عزّ وجل فرض على المؤمنين في أول الأمر أن يقاتل عشرة من المشركين ليس له أن يولَّي وجهه عنهم، ومن ولاهم يومئذ دبره فقد تبوأ

ص: 69


1- الوسائل باب: 29 من أبواب جهاد العدوّ حدیث: 1

مقعده في النار ثمَّ حولهم عن حالهم رحمة منه لهم فصار الرجل منهم عليه أن يقاتل رجلين من المشركين تخفيفا من الله عزّ وجلّ فنسخ الرجلان العشرة»(1).

ومن الإجماع إجماع العقلاء فضلا عن الفقهاء فيرون الناس الفرار من الزحف قبيحا ويلومون عليه.

لإطلاق الأدلة - التي تقدمت - من الكتاب والسنّة، وإطلاق ما دل على أنّ الفرار من الزحف من الكبائر بل يمكن أن يقال إنّ الاستقامة للحق وفي الحق في جبهة القتال مع الباطل من الواجبات العقلية النظامية مطلقا.

ونسب إلى الفاضل الجواز في هذه الصورة، للأصل، وآية التهلكة، والحرج، وأكثر الواجبات مع ظنّ الهلاك.

والكل مردود إذ لا وجه للأصل مع الدليل كما ثبت في محله، وقوام الجهاد على الحرج والمشقة المعرضية للتهلكة، لأنّه لا يدرك السعادة الأبدية (مسألة 7): إذا كان المسلمون أقلّ من الضعف لم يجب عليهم الثبات ولكن لو غلب على الظن السلامة يستحب ذلك وإن غلب العطب وثبت مع ذلك واستشهد نال درجة الشهادة، ولو انفرد اثنان بواحد من المسلمين لم يجب الثبات.

للأصل بعد الاستفادة من الأدلة أنّ شرط وجوب الثبات إنّما هو فيها إذا كان المشركون على الضعف من المسلمين فينتفي المشروط بانتفاء شرطه حينئذ، لما فيه من إظهار القدرة والتجلد، وزيادة العزم خصوصا بعد قوله تعالى:

ص: 70


1- الوسائل باب: 27 من أبواب جهاد العدوّ حديث: 3

«كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ»(1)، وسائر ما ورد من الترغيب فيه، وإنّ النصر من عند الله، وأقلّ مفاد هذه الأدلة الرجحان.

لكثرة ما ورد من الحث والترغيب إلى الثبات والجهاد والشهادة - التي تقدم بعضها - الشاملة لهذه الصورة أيضا وبذلك يفترق الجهاد عن غيره، إذ يجب الانصراف في مثل الفرض في غير الجهاد دونه.

للأصل بعد ظهور الأدلة في وجوب الثبات للضعف في طرف الكثرة كما في قوله تعالى:

«إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا»(2).

(مسألة 8): هل يجب الثبات - على التفصيل الذي مرّ - في الجهاد الذي لا يكون للدعوة إلى الإسلام بل لدفع ما يخشى منه على شعار الإسلام؟ قولان أحوطهما ذلك)(3).

المسألة الثانية: أقوال فقهاء المذاهب الاخرى:

اتفق فقهاء المذاهب الإسلامية على القول بحرمة الفرار ووجوب الثبات في مواجهة العدو؛ وتدارسوا مواضع الترخيص في الفرار وجوازه، وهي كالاتي:

ص: 71


1- البقرة: 249
2- الأنفال: 66
3- مهذب الاحكام في بيان الحلال والحرام: ج 15 ص 118 - 122

أولاً: المذهب الزيدي.

ذهب فقهاء المذهب الزيدي إلى القول بفسق من فر من عدوه إلا أن يكون متحيزاً إلى فئة، كي يمنع نفسه من العدو، وحددوا الفئة ب (الردء) و (المنعة)؛ فأما (الردء) فهو المركز الذي انطلق منه الزاحفون؛ وأما (المنعة) فهي: اي مكان يتحصن فيه الفار من العدو.

ويجوز الفرار لمن خشي الاستئصال بالسرية ولو إلى غير الفئة، وكذا من خشي نقص عام للإسلام بقتل الصابر.

قال أحمد المرتضى (ت 840 ه):

(إذا امتنع الكفار والبغاة عن الرجوع إلى الحق اعلم أن الواجب دعاؤهم أولا (فان أبوا) إلا التمادي في الباطل (وجب الحرب) لهم لكن لا يلزم الامام الحرب لهم إلا (إن ظن الغلب فيفسق من فر) من عدوه حينئذ (إلا) أن يكون في فراره (متحيزا إلى فئة) يعني إلا أن يكون الفار يأوي بنفسه إلى ما يمنعه من عدوه وهي الفئة وتلك الفئة إما (ردء) وهو المركز الذي يتركه الزاحفون على العدو مستقیما وراء ظهورهم (أو منعة) يأوي إليها الفار أي مکان متحصن يمنعه من عدوه إذا کر عليه فإذا انصرف من عدوه ليمنعه منه الرد المذكور أو المنعة المذكورة لم يفسق (وان بعدت) المنعة وسواء كانت معقلا أم ريسا (أو) فر (خشية الاستئصال) بالسرية فإذا خشي ذلك جاز له الفرار ولو إلى غير الفئة على ما صححه الفقيه ل للمذهب (أو) خشية (نقص عام للإسلام) بقتل الصابر ان لم يفر فإنه حينئذ يجوز له الفرار ولو إلى غير

ص: 72

فئة إذا غلب في ظنه أن الفرار ينجيه)(1).

ثانياً: المذهب الشافعي.

ذهب فقهاء الشافعية إلى القول بوجوب الثبات والجهاد إذا ألتقى الزحفان، وقيدوا الوجوب بأمرين، الأول: أن يكون العدو اقل من الضعفين، والثاني: عدم الخوف من الهلاك.

وقالوا: بعدم الجواز لمن تعين عليه الجهاد أن يولى إلا منحرفاً لقتال، وهو ان ينتقل من مكان إلى مكان تتحقق فيه المكنة أو يكون متحيزاً إلى فئة ينضم معهم ليعود إلى القتال.

قال الحافظ النووي (ت 676 ه) في المجموع:

(وإذا التقى الزحفان ولم يزد عدد الكفار على مثلي عدد المسلمين ولم يخافوا الهلاك تعين عليهم فرض الجهاد لقوله عز وجل:

«الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ».

وهذا أمر بلفظ الخبر، لأنه لو كان خبرا لم يقع الخبر بخلاف المخبر فدل على أنه أمر المائة بمصابرة المائتين، وأمر الانف بمصابرة الألفين، ولا يجوز لمن تعين عليه أن يولى إلا منحرفا لقتال، وهو أن ينتقل من مكان إلى مكان أمكن للقتال أو متحيزا إلى فئة، وهو أن ينضم إلى قوم ليعود معهم إلى القتال، والدليل عليه قوله عز وجل:

ص: 73


1- شرح الأزهار لأحمد المرتضى: ج 4 ص 539

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ».

وسواء كانت الفئة قريبة أو بعيدة، والدليل عليه ما روى ابن عمر أنه كان في سرية من سرایا رسول الله (صلى الله عليه وآله) فحاص الناس حيصة عظيمة وكنت ممن حاص، فلا برزنا قلت كيف نصنع وقد فررنا من الزحف وبؤنا بغضب ربنا فجلسنا لرسول الله (صلى الله عليه وآله) قبل صلاة الفجر فلما خرج قمنا وقلنا نحن الفرارون، فقال:

«لا بل أنتم العكارون».

فدنونا فقبلنا يده فقال: إنا فئة المسلمين.

وروى عن عمر، عنه أنه قال:

«إنا فئة كل مسلم، وهو بالمدينة وجيوشه في الآفاق، فإن ولى غير متحرف لقتال أو منحيزا إلى فئة أثم وارتكب كبيرة». والدليل عليه ما روى أبو هريرة عنه أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال:

«الكبائر سبع أولهن الشرك بالله، وقتل النفس بغير حقها، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم بدارا أن يكبروا، وفرار يوم الزحف، ورمى المحصنات وانقلاب إلى الاعراب».

فإني غلب على ظنهم أنهم ان ثبتوا لمثليهم هلكوا ففيه وجهان (أحدهما) أن لهم أن يولوا لقوله عز وجل «وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ» (والثاني)

ص: 74

أنه ليس لهم أن يولوا وهو الصحيح لقوله عز وجل «إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا» ولان المجاهد إنما يقاتل ليقتل أو يقتل وان زاد عدد الكفار على مثلي عدد المسلمين فلهم أن يولوا، لأنه لما أوجب الله عز وجل على المائة مصابرة المائتين دل على أنه لا يجب عليهم مصابرة ما زاد على المائتين.

وروى عطاء عن ابن عباس عنه أنه قال (من فر من اثنين فقد فرو من فر من ثلاثة فلم يفر) وان غلب على ظنهم أنهم لا يهلكون فالأفضل أن يثبتوا حتى لا ينكسر المسلمون، وان غلب على ظنهم أنهم يهلكون ففيه و جهان (أحدهما) أنه يلزمهم أن ينصرفوا لقوله عز وجل:

«وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ» (والثاني) أنه يستحب أن ينصرفوا ولا يلزمهم، لأنهم أن قتلوا فازوا بالشهادة وان لقي رجل من المسلمين رجلين من المشركين في غير الحرب، فإن طلباه ولم يطلبهما فله أن يولى عنها، لأنه غير متأهب للقتال، وإن طلبهما ولم يطلباه ففيه وجهان (أحدهما) أن له أن يولى عنهما لان فرض الجهاد في الجماعة دون الانفراد (والثاني) أنه يحرم عليه أن يولى عنهما، لأنه مجاهد لهما فلم يول عنهما، كما لو كان مع جماعة.

(الشرح) حديث ابن عمر أخرجه أبو داود وابن ماجة والترمذي وحسنه وقال لا نعرفه إلا من حديث زيد بن أبي زياد، ويزيد بن أبي زياد تكلم فيه غير واحد من الأئمة.

حديث عمر أخرجه أحمد والترمذي والبيهقي من حديث ابن عمر مرفوعا حديث أبي هريرة متفق عليه قول ابن عباس بلفظ (من فر من ثلاثة

ص: 75

لم يفر ومن فر من اثنين فقد فر) أخرجه الحاكم والطبراني والشافعي اللغة: قوله (إذا لقيتم الذين كفروا زحفا) الزحف سیر القوم إلى القوم في الحرب يقال زحفوا ودلفوا إذا تقاربوا ودنوا قليلا قليلا، وقيل لبعض نساء العرب ما بالكن رسحا، فقال ارسحتنا نار الزحفين والرسحاء التي لا عجيزة لها، ومعنى نار الزحفين أن النار إذا اشتد لهبها رجعن عنها تباعدن بجر أعجازهن ولا يمشين فإذا سكن لهبها وهان وهجها زحفن إليها وقربن منها.

قوله (متحرفا لقتال) تحرف وانحرف إذا مال، مأخوذ من حرف الشئ وهو طرفه، أي مال عن معظم القتال، ووسط الصف إلى مكان أمكن له الكر والفر أو متحيزا، يقال تحيز وانحاز وتحوز إذا انضم إلى غيره والحين الفريق والفئة الجماعة مشتق من الفأو وهو القطع كأنها انقطعت عن غيرها والجمع فئات وفئون، وقال الهروي من فأيت رأسه وفأوته إذا شققته فانفا.

قوله: (فقد باء بغضب من الله) أي لزمه الغضب ورجع به، وقد ذكر.

قوله: (فحاص الناس حيصة) أي حادوا عن القتال وانهزموا، يقال حاص عن القتال يحيص حيصا إذا حاد عنه، وبؤنا بغضب ربنا، أي انصرفنا وقد لزمنا الغضب، وتبوأ المنزل إذا لزمه، وروى حاص بالحاء والصاد المهملتين، ومعناه هربوا من قوله تعالى: (ولا يجدون عنها محيصا) أي هربا ومفرا، وقوله تعالى: (مالنا من محيص) أي مفر قوله: (بل أنتم العكارون) هم الكرارون العطافون في القتال، يقال عكر يعكر عكرا إذا عطف والعكرة الكرة. قوله: (وانقلاب إلى الأعراب) لعله ترك الجمعة والجماعة والجهاد.

قال الجصاص في كتاب إحكام الأحكام في الآية (الآن خفف الله عنكم)

ص: 76

، ایجاب فرض القتال على الواحد لرجلين من الكفار فإن زاد عدد الكفار على اثنين فجائز حينئذ للواحد التحيز إلى فئة من المسلمين فيها نصرة، فأما أن أراد الفرار ليلحق بقوم من المسلمين لا نصرة معهم فهو من أهل الوعيد المذكور في قوله تعالى:

«وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ».

وقال عمر بن الخطاب لما بلغه أن أبا عبيد ابن مسعود استقتل يوم الجيش حتى قتل ولم ينهزم: رحم الله أبا عبيد لو انحاز إلى لكنت له فئة، فلما رجع إليه أصحاب أبي عبيد قال أنا فئة لكم ولم يعنفهم، وهذا الحكم عندنا ثابت ما لم يبلغ عدد جيش المسلمين اثنى عشر ألفا لا يجوز لهم أن ينهزموا عن مثلهم الا متحرفين لقتال، وهو أن يصيروا من موضع إلى غيره مكايدين لعدوهم من نحو خروج من مضيق إلى فسحة أو من سعة من المسلمين يقاتلونهم معهم، فإذا بلغوا اثنى عشر ألفا فإن محمد بن الحسن ذكر أن الجيش إذا بلغوا كذلك فليس لهم أن يفروا من عدوهم وان كثر عددهم، ولم يذكر خلافا بين أصحابنا فيه.

واحتج بحديث ابن عباس قال، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):

«خير الأصحاب أربعة وخير السرايا أربع مائة وخبر الجيوش أربعة آلاف ولن يؤتى اثنى عشر ألفا من قلة ولن يغلب».

وفي بعضها: «ما غلب قوم يبلغون اثنى عشر ألفا إذا اجتمعت كلمتهم».

وذكر الطحاوي: أن مالكا سئل فقيل له أيسعنا التخلف عن قتال من خرج عن أحكام الله وحكم بغيرها؟ فقال له مالك إن كان معك اثنا عشر

ص: 77

ألفا مثلك لم يسعك التخلف والا فأنت في سعة من التخلف، وكان السائل له عبد الله بن عمر بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر، وهذا المذهب موافق لما ذكر محمد بن الحسن وإن كثر عدد المشركين فغير جائز لهم أن يفروا منهم وإن كانوا أضعافهم لقوله (صلى الله عليه وآله):

«إذا اجتمعت كلمتهم»، وقد أوجب عليهم بذلك جمع كلمتهم. (قلت) والآية تدل على أن الفرار من الزحف من كبائر المعاصي وقد جاء التصريح بذلك في أحاديث الرسول الله (صلى الله عليه وآله) التي أوردها المؤلف، وقد قيد بعض العلماء هذا بما إذا كان لا يزيدون على ضعف المؤمنين.

قال الشافعي: إذا غزا المسلمون فلقوا ضعفهم من العدو حرم عليهم ان يولوا إلا متحرفين لقتال أو متحيزين إلى فئة، وإن كان المشركون أكثر من ضعفهم لم أحب لهم أن يولوا ولا يستوجبون السخط عندي من الله لو ولوا عنهم على غير التحرف للقتال أو التحيز إلى فئة. وقد روى عنه عمر وابنه وابن عباس وأبي هريرة وأبي سعيد الخدري وأبي بصرة وعكرمة ونافع والحسن وقتادة وزيد أبي حبيب والضحاك أن تحريم الفرار في هذه الآية خاص بيوم بدر، ولكن هذا خلاف قاعدة العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ويؤيده نزول الآية بعد انتهاء الغزو، وإن اعترض معترض بالآية:

«إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ» «وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ..» الخ).

قلت: هذا لا ينافي كون التولي حراما وكبيرة من الكبائر ولا يقتضي أن

ص: 78

يكون كل قول لغير السبيين المستثنيين في آية الأنفال يبوء صاحبه بغضب عظيم من الله ومأواه جهنم وبئس المصير، بل قد يكون دون ذلك، ويتقيد بآية رخصة الضعف وبالنهي عن إلقاء النفس في التهلكة من حيث عمومها. وإذا تمسك المعترضون بالحديث الذي أورده المؤلف عن ابن عمر (كنت في سرية.. الخ) قلت فيه يزيد بن أبي زياد وهو مختلف فيه ضعفه الكثيرون وقال ابن حبان كان صدوقا الا أنه لما كبر ساء حفظه وتغير فوقعت المناكير في حديثه، فمن سمع منه قبل التغيير صحيح، ومعروف ما قيل من أنه لا يعتد بتصحيح ابن حبان.

وجملة القول أن هذا الحديث لا وزن له في هذه المسألة لا متنا ولا سندا، وفي معناه أثر عن عمر هو دونه فلا يعتد به في المسألة قال المصنف رحمه الله تعالى:

ويكره أن يقصد قتل ذي رحم محرم، لان رسول الله (صلى الله عليه وآله) منع أبا بكر عنه من قتل ابنه فإن قتله لم يكره أن يقصد قتله کما لا يكره إذا قصد قتله وهو مسلم، وإن سمعه يذكر الله عز وجل أو رسوله (صلى الله عليه وآله) بسوء لم يكره أن يقتله، لأن أبا عبيدة بن الجراح قتل أباه وقال لرسول الله (صلى الله عليه وآله) سمعته يسبك، ولم ينكره عليه ولا يجوز قتل نسائهم)(1).

ثالثا: المذهب المالكي.

ذهب فقهاء المالكية إلى عدم جواز الفرار عند الملاقاة إذا بلغ الكفار ثلثي عدد المسلمين؛ ويجوز الفرار إذا غلب الكفار هذا المقدار؛ ولو فرَّ جماعة من المسلمين فقل عددهم بالنسبة إلى الكفار فيكون العصيان حينئذ على من فر أولً.

ص: 79


1- المجموع: ج 19 ص 290 - 295

وقالوا: إن المراد بالمثلين ليس العدد، وانما القوة و التكاثر دون تعيين العدد، وذهب اكثر فقهائهم إلى القول بالعدد.

وقيدوا التحرف والتحيز بعد الكفار ان كان أقل من ضعف المسلمين وأن يكون إلى فئة خرجوا معهم، أما لو كانوا خرجوا من بلاد الامير والأمير مقيم فلا بلاده فلا يكون فئة لهم ينحازون إليه.

قال الحطاب الرعيني (ت 954 ه):

(وفرارا إن بلغ المسلمون النصف) ش: قال الأقفهسي في شرح الرسالة: ولو كان المسلمون عند الملاقاة قدر ثلث الكفار ففر من المسلمين طائفة فزاد الكفار على مثليهم جاز الفرار للباقين، ويختص العصيان بالأولين دون الباقين انتهى. وقوله: قدر ثلث الكفار لعله نصف الكفار والله أعلم. تنبيهان: الأول: قال القرطبي في شرح مسلم في قوله فبايعناه على أن لا نفر يعني يوم الحديبية: هذا الحكم خاص بأهل الحديبية فإنه مخالف لما في كتاب الله من إباحة الفرار عند مثلي العدو وعلى ما نص عليه في سورة الأنفال وعلى مقتضى بيعة الحديبية أن لا فرار أصلا فهو خاص بهم والله أعلم. ولهذا قال عبد الله بن زيد: لا أبايع على هذا أحدا بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) انتهى. وفي قوله خاص بهم نظر. وانظر لم لا يجوز أن تتفق طائفة وتتعاهد على أن لا يفروا؟ ثم قال في العدد المذكور في الآية: فحمله الجمهور على ظاهره من غير اعتبار بالقوة والضعف والشجاعة والجبن. وحكى ابن حبيب عن مالك وعبد الوهاب أن المراد بذلك القوة والتكاثر دون تعيين العدد، قال ابن حبيب: والقول الأول أكثر فلا تفر المائة من المائتين وإن كانوا أشد جلدا

ص: 80

أو أقل أو أكثر سلاحا. قلت: وهو الظاهر من الآية انتهى.

الثاني: قال السهيلي في الروض الأنف: إن قيل كيف فر الصحابة يوم حنين وهو من الكبائر؟ قلنا: لم يجمع على أنه من الكبائر إلا في يوم بدر، وكذلك قال الحسن ونافع مولى ابن عمر، ويدل له قول الله تعالى:

«وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ» إشارة ليوم بدر، ثم نزل التخفيف في الفارين يوم حنين فقال: (ويوم حنين) الآية. وفي تفسير ابن سلام: كان الفرار من الزحف من الكبائر يوم بدر وكذلك يكون من الكبائر في ملحمة الروم الكبرى عند الدجال، وأيضا فإنهم رجعوا وقاتلوا حتى فتح الله عليهم انتهی. فرع: قال القرطبي: قال عياض: ولم يختلف أنه متی جهل منزلة بعضهم من بعض في مراعاة العدد لم يجز الفرار انتهی.

ص: (إلا تحرفا أو تحيزا إن خيف) ش: يعني أن التحرف والتحيز يجوز إن كان الكفار أقل من ضعفهم. وهذا إذا كان انحيازهم إلى فئة خرجوا معهم، أما لو كانوا خرجوا من بلاد الأمير والأمير مقيم في بلاده فلا يكون فئة لهم ينحازون إليه وذلك خاص بالنبي (صلى الله عليه وآله). قاله في أول رسم من سماع ابن القاسم من کتاب الجامع. وقوله: إن خيف قيد في التحيز لا في التحرف فتأمله. وقول البساطي: قوله إن خيف قيد في هذين غير ظاهر والله أعلم)(1).

رابعاً: المذهب الحنفي.

ذهب فقهاء المذهب الحنفي إلى القول بعدم جواز الفرار من الزحف إذا التقى الصفان وغلب على ظن المسلمين أن لهم طاقة بقتال الكفار فحينئذ

ص: 81


1- مواهب الجليل للحطاب الرعيني: ج 4 ص 546 - 547

لزم الثبات.

وقد خالف المذهب الحنفي بقية المذاهب في التحيز او القتال بالاعتماد على الظن بالقدرة على مواجهة العدو وليس العدد کما ذهب إليه فقهاء المذاهب الإسلامية.

(ولا جهاد على الصبي والمرأة لان بنيتهما لا تحتمل الحرب عادة وعلى هذا الغزاة إذا جاءهم جمع من المشركين ما لا طاقة لهم به وخافوهم أن يقتلوهم فلا بأس لهم أن ينحازوا إلى بعض أمصار المسلمين أو إلى بعض جيوشهم والحكم في هذا الباب لغالب الرأي وأكبر الظن دون العدد فان غلب على ظن الغزاة انهم يقاومونهم يلزمهم الثبات وإن كانوا أقل عددا منهم وإن كان غالب ظنهم انهم يغلبون فلا بأس أن ينحازوا إلى المسلمين ليستعينوا بهم وإن كانوا أكثر عددا من الكفرة وكذا الواحد من الغزاة ليس معه سلاح مع اثنين منهم معها سلاح أو مع واحد منهم من الكفرة ومعه سلاح لا بأس أن يولى دبره متحيزا إلى فئة والأصل فيه قوله تبارك وتعالى:

«وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ». الله عز شأنه نهى المؤمنين عن تولية الادبار عاما بقوله تبارك وتعالى:

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ» وأوعد عليهم بقوله سبحانه وتعالى: «وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ» الآية لان في الكلام تقدیما وتأخيرا معناه والله سبحانه وتعالى أعلم:

ص: 82

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ».

ثم استثنی سبحانه وتعالى من يولى دبره لجهة مخصوصة فقال عز من قائل:

«إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ».

والاستثناء من الخطر إباحة فكان المحظور تولية مخصوصة وهي أن يولى دبره غیر متحرف القتال ولا متحيز إلى فئة فبقيت التولية إلى جهة التحرف والتحيز مستثناة من الحظر فلا تكون محظورة ونظير هذه الآية قوله سبحانه وتعالى:

«مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ».

ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم انه على التقديم والتأخير على ما نذكره في كتاب الاكراه إن شاء الله تعالى وبه تبين أن الآية الشريفة غير منسوخة وكذا قوله سبحانه وتعالى:

«إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ» وقوله «وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا» ليس بمنسوخ لان التولية للتحيز إلى فئة خص فيها فلم تكن الآيتان منسوختين والله سبحانه وتعالى أعلم والدليل عليه قوله (عليه الصلاة والسلام) للذين فروا إلى المدينة وهو فيها «أنتم الکرارون أنا فئة كل مسلم» أخبر (عليه الصلاة والسلام) أن المتحيز إلى فئة كرار وليس بفرار من الزحف فلا يلحقه الوعيد وعلى هذا إذا كانت الغزاة في سفينة فاحترقت السفينة وخافوا الغرق حكموا فيه غالب رأيهم وأكبر ظنهم فإن غلب على رأيهم انهم لو طرحوا أنفسهم في البحر لينجوا بالسباحة وجب عليهم الطرق

ص: 83

ليسبحوا فيتحيزوا إلى فئة وان استوی جانبا الحرق والغرق بأن كان إذا قاموا حرقوا وإذا طرحواغرقوا فلهم الخيار عند أبي حنيفة وأبي يوسف وقال محمد لا يجوز لهم اني يطرحوا أنفسهم في الماء.

(وجه) قوله إنهم لو ألقوا أنفسهم في الماء لهلكوا ولو أقاموا في السفينة لهلكوا أيضا الا انهم لو طرحوا لهلكوا بفعل أنفسهم ولو صبروا لهلكوا بفعل العدو فکان الصبر أقرب إلى الجهاد فكان أولى (وجه) قولهما انه استوی الجانبان في الافضاء إلى الهلاك فيثبت لهم الخيار لجواز أن يكون الهلاك بالغرق أرفق قوله لو أقاموا لهلكوا بفعل العدو وقلنا ولو طرحوا لهلكوا بفعل العدو أيضا إذ العدو هو الذي ألجأهم إليه فكان الهلاك في الحالين مضافا إلى فعل العدو ثم قد يكون الهلاك بالغرق أسهل فيثبت لهم الخيار ولو طعن مسلم برمح فلا بأس بان يمشي إلى من طعنه من الكفرة حتى يجهزه لأنه يقصد بالمشي إليه بذل نفسه لاعزاز دين الله سبحانه وتعالى وتحريض المؤمنين على أن لا يبخلوا بأنفسهم في قتال أعداء الله سبحانه وتعالى فكان جائزا والله سبحانه وتعالى أعلم)(1).

خامساً: المذهب الحنبلي.

ذهب فقهاء المذهب الحنفي إلى القول بوجوب الثبات وحرمة الفرار إذا التقى المسلمون والكفار، واشترطوا لتحقق الوجوب في الثبات بشرطين الأول: إن يكون الكفار لا يزيدون على ضعف المسلمين فإن زادوا عليه جاز الفرار.

ص: 84


1- بدائع الصنائع لأبي بكر الكاشاني: ج 7 ص 98 - 99

والثاني زادوا عليه جاز الفرار.

وفي حكم الظن في الغلبة إذا كان العدو اكثر من الضعف، فالأولى للمسلمين الثبات لما في ذلك من المصلحة وأن انصرفوا جاز لهم لانهم لا يأمنون العضب والحكم علق على مظنته.

قال ابن قدامة المقدسي (ت 620 ه).

(ولا يحل لمسلم أن يهرب من کافرين ومباح له أن يهرب من ثلاثة فإن خشي الأسر قاتل حتى يقتل) وجملته انه إذا التقى المسلمون والكفار وجب الثبات وحرم الفرار بدليل قوله تعالى:

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ» الآية وقال تعالى:

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» وذكر النبي (صلى الله عليه وآله) الفرار یوم الزحف فعده من الكبائر، وحكي عن الحسن والضحاك أن هذا كان يوم بدر خاصة ولا يجب في غيرها والامر مطلق وخبر النبي (صلى الله عليه وآله) عام فلا يجوز التقييد والتخصيص الا بدليل وإنما يجب الثبات بشرطين.

(أحدهما) أن يكون الكفار لا يزيدون على ضعف المسلمين فإن زادوا عليه جاز الفرار لقول الله تعالى: «الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ».

وهذا إن كان لفظه لفظ الخبر فهو أمر بدليل قوله: «الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ» ولو كان خبرا على حقيقته لم يكن ردنا من غلبة الواحد للعشرة

ص: 85

غلبه الاثنين تخفيفا ولان خبر الله تعالى صدق لا يقع بخلاف مخبره وقد علم أن الظفر والغلبة لا يحصل للمسلمين في كل موطن يكون العدو فيه ضعف المسلمين فما دون فلم انه أمر وفرض ولم يأت شئ ينسخ هذه الآية لافي کتاب ولا سنة فوجب الحكم بها.

قال ابن عباس: نزلت «إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ» فشق ذلك على المسلمين حين فرض الله عليهم ألا يفر واحد من عشرة، ثم جاء تخفیف فقال:

«الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ» إلى قوله «يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ» فلما خفف الله عنهم من العدد نقص من الصبر بقدر ما خفف من العدد رواه أبو داود وقال ابن عباس من فر من اثنين فر ومن فر من ثلاثة فما فر.

(الثاني) أن لا يقصد بفراره التحيز إلى فئة ولا التحرف لقتال فإن قصد أحد هذين فهو مباح له لأن الله تعالى قال «إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ» و معنى التحرف للقتال أن ينحاز إلى موضع يكون القتال فيه أمكن مثل أن ينحاز من مواجهة الشمس أو الريح إلى استدبارهما أو من نزلة إلى علو أو من معطشة إلى موضع ماء أو يفر بين أيديهم لتنتقض صفوفهم أو تنفرد خيلهم من رجالتهم أو ليجد فيهم فرصه أو ليستند إلى جبل ونحو ذلك مما جرت به عادة أهل الحرب، وقد روي عن عمر أنه كان يوما في خطبته إذا قال يا سارية بن زنيم الجبل.

ظلم الذئب من استرعاه الغنم فأنكرها الناس ، فقال علي (عليه السلام):

ص: 86

(دعوه)، فلما نزل سألوه عاقال فلم يعترف به وكان قد بعث سارية إلى ناحية العراق لغزوهم فلما قدم ذلك الجيش أخبروا أنهم لقوا عدوهم يوم جمعة فظهر عليهم فسمعوا صوت عمر فتحيزوا إلى الجبل فنجوا من عدوهم فانتصروا عليهم.

وأما التحيز إلى فئة فهو ان يصير إلى فئة من المسلمين ليكون معهم فيقوي بهم على عدوهم وسواء بعدت المسافة أو قربت قال القاضي لو كانت الفئة بخراسان والفئة بالحجاز جاز التخيز إليها ونحوه ذكر الشافعي لأن ابن عمر روي أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال:

«اني فئة لكم وكانوا بمكان بعيد منه».

وقال عمر انا فئة كل مسلم وكان بالمدينة وجيوشه بمصر والشام والعراق وخراسان رواهما سعيد وقال عمر رحم الله أبا عبيد لو كان تحيز إلي لکنت له فئة وإذا خشي الأسر فالأولى له أن يقاتل حتى يقتل ولا يسلم نفسه للأسر لأنه يفوز بثواب الدرجة الرفيعة ويسلم من تحكم الكفار عليه بالتعذيب والاستخدام والفتنة وان استأسر جاز لما روى أبو هريرة أن النبي (صلى الله عليه وآله) بعث عشرة عينا وأمر عليهم عاصم بن ثابت فنفرت إليهم هذيل بقريب من مائة رجل رام فلما أحس بهم عاصم وأصحابه لجئوا إلى فدد فقالوا لهم أنزلوا فأعطونا بأيديكم ولكم العهد والميثاق أن لا نقتل منكم أحدا فقال عاصم أما أنا أنزل في ذمة کافر فرموهم بالنبل فقتلوا عاصما في سبعة معه ونزل إليهم ثلاثة على العهد والميثاق منهم خبيب وزيد بن الدثنة فلما استمكنوا منهم أطلقوا أوتار قسهم فربطوهم بها. متفق عليه فعاصم أخذ

ص: 87

بالعزيمة وخبيب وزيد أخذا بالرخصة وكلهم محمود غير مذموم ولا ملوم.

(فصل) وإذا كان العدو أكثر من ضعف المسلمين فغلب على ظن المسلمين الطفر فالأولى لهم الثبات لما في ذلك من المصلحة، وان انصرفوا جاز لأنهم لا يأمنون العطب والحكم علق على مظنته وهو كونهم أقل من نصف عددهم، ولذلك لزمهم الثبات إذا كانوا أكثر من النصف وان غلب على ظنهم الهلاك فيه.

ويحتمل أن يلزمهم الثبات ان غلب على ظنهم الظفر لما فيه من المصلحة وإن غلب على ظنهم الهلاك في الإقامة والنجاة في الانصراف فالأولى لهم الانصراف وان ثبتوا جاز لأن الم غرضا في الشهادة ويجوز أن يغلبوا أيضا، وان غلب على ظنهم الهلاك في الإقامة والانصراف فالأولى لهم الثبات لينالوا درجة الشهداء المقبلين على القتال محتسبين فيكونون أفضل من المولين ولأنه يجوز أن يغلبوا أيضا فإن الله تعالى يقول: «كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ» ولذلك صبر عاصم وأصحابه فقاتلوا حتى أكرمهم الله بالشهادة فإن جاء العدو بلدا فلأهله التحصن منهم وان كانوا أكثر من نصفهم ليلحقهم مدد أو قوة ولا يكون ذلك توليا ولا فرار إنما التولي بعد لقاء العدو، وان لقوهم خارج الحصن فلهم التحيز إلى الحصن لأنه بمنزلة التحرف للقتال أو التحيز إلى فئة وان غزوا فذهبت دوابهم فليس ذلك عذرا في الفرار لأن القتال ممكن للرجالة، وان تحيزوا إلى جبل ليقاتلوا فيه رجالة فلا بأس لأنه تحرف للقتال وان ذهب سلاحهم فتحيزوا إلى مكان يمكنهم القتال

ص: 88

فيه بالحجارة والتستر بالشجر ونحوه)(1).

سادساً: المذهب الإباضي.

ينفرد المذهب الإباضي بتخصیص مصطلح الدفاع وفتح له باب في الفقه عوضاً عن الجهاد وأن كان المفهوم والمصدق في الأحكام المترتبة على هذا الكتاب هي متشابه لاسيما فيما يرتبط بدفع الضر والهلاك عن النفس والمال والأهل.

ففي حكم الثبات في الدفاع عمن لزمه الدفاع عنه ذهب فقهاء المذهب الإباضي إلى القول بتكفير تارك الدفاع عمن لزمه من عيال وصاحب وغيره.

قال محمد بن يوسف أطفيش (ت 1322 ه):

(ويأثم) يكفر (تارك الدفاع عمن لزمه) من عيال وصاحب وغيره، ولا يضمنه ويرثه في حق الصاحب فقط)(2).

المسألة الثالثة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة.

أولا: في وجوب الثبات وحرمة الفرار.

أجمع فقهاء المذاهب الإسلامية الستة، وهي: الإمامي، والزيدي، والشافعي، والمالكي، والحنفي، و الحنبلي، على وجوب الثبات وحرمة الفرار إذا التقى الصفان في المعركة.

وخالف في ذلك المذهب الإباضي فأوجوب الثبات في الدفاع وتكفير

ص: 89


1- المغني لابن قدامة: ج 10 ص 550 - 554
2- شرح كتاب النيل وشفاء العليل: ج 14 ص 773 - 774

الفار، وعلى قول بإثمه.

وقال الزيدية بفسق الفار.

ثانيا: مورد جواز الفرار.

أجمع فقهاء المذاهب الإسلامية (الأمامي، والشافعي، والمالكي، والحنبلي، والزيدي) على جواز الفرار في موارد وهي:

ألف - في نسبة عدد المسلمين إلى الأعداء.

ألف - في نسبة عدد المسلمين إلى الأعداء.

1 - قال الامامية: إذا كان عدد الاعداء على الضعف من عدد المسلمين أو أقل.

2 - وقال الشافعية: أن يكون العدد أقل من الضعفين.

3 - وقال المالكية: بثلثي عدد المسلمين واكثر من ذلك؛ وان الملاك بالمثلين هو القوة والتكاثر، وليس العدد؛ وهو أحد القولين عندهم، وقال اكثر فقهائهم بالعدد.

4 - وقال الحنابلة: بحواز الفرار إذا كان عدد الكفار ضعف عدد المسلمين وهو موافق لمذهب الإمامية.

5 - خالف المذهب الحنفي بقية المذاهب الستة في جواز الفرار، بالاعتماد على الظن بالقدرة على مواجهة العدو، وليس العدد.

باء - المتحرف لقتال.

وبه قالت فقهاء المذاهب الإسلامية، والتحرف: هو الانتقال إلى مكان يتمكن منه للقتال.

ص: 90

جيم - التحيز إلى فئة.

كي يتمكن من مقاتلت العدو، وبه قالت المذاهب الإسلامية ماعدا المذهب الإباضي لا قول لهم في أمر الجهاد.

المسألة الرابعة: ما ورد حول الحديث من شروح نهج البلاغة.

تناول شراح نهج البلاغة هذا النص الشريف وبينوا معناه ودلالته، فكانت أقوالهم كالاتي:

أولاً: قطب الدين الراوندي (رحمه الله) (ت 573 ه).

قال (رحمه الله):

(وقوله «أجزأ امرؤ قرنه» أي كفاه، يقال أجز أني الشيء أي كفاني، والقرن: المقارن في الحرب.

وروي «وأسى» بواو العطف أيضا، وهو من المواساة.

و «لم يكل قرنه إلى أخيه» من وكلته إلى نفسه، والأمر موكول إلى رأيه: أي لم يجتمع على مؤمن بلاء قرنه وقرن نفسه.

ولهاميم العرب: سادتهم، وهو جمع لهموم، وهو الجواد من الناس والخيل.

ووصفهم بالسنام الأعظم لان سنام الأرض مجدها ووسطها، ويجوز أن يكون المراد كل واحد منكم بمنزلة السنام في البعير، وهو أرفع شيء منه.

والأحسن أن يكون المراد وأنتم أولو السنام الأعظم. وقد تقدم مثله.

وأوجده الله: أي سخطه وغضبه.

وروى «الذل اللاذم» واللاذم واللازم بمعنى واحد.

ص: 91

وافضض جماعتهم: أي فرقهم. وأبسلهم: أي أسلمهم إلى الهلكة، يقال: أبسلت فلانا أي أسلمته إلى الهلاك. وطعن دراك: أي متتابع. ويطيح: يرمي.

ويندر: أي يسقط.

و «المناسر» جمع منسر، وهو قطعة من الجيش.

ويرجموا: أي يرموا «بالكتائب» أي الجيوش.

وقوله «تقفوها الحلائب» أي يتبعها الأنصار من بنى العم خاصة.

ويتلوه الخميس: أي يتبعه الجيش الكثير.

والأعنان: الجوانب، وأعنان السماء: صفائحها وما اعترض من أقطارها، كأنه جمع عنن.

والمسارب: المذاهب، يقال: سرب الفحل يسرب سربا إذا توجه للمرعى والمسارح: المواضع التي يسرح المال السائم، قال تعالى «وَحِينَ تَسْرَحُونَ» يقال: سرحتها سرحا وسرحت هي بنفسها سروحا يتعدى ولا يتعدى، ويقال: سرحت بالغداة وراحت بالعشي.

والمعنى من قوله «إنهم لن يزولوا عن مواقفهم» إلى آخره، بعد أن دعا عليهم وقال «يا رب خذهم» يقول (عليه السلام) لأصحابه: وقت المحاربة أنهم، أي ان هؤلاء الأعداء لا يزولون البتة أبدا عن المواضع التي وقفوا فيها لمحاربتكم إلا بطعن دراك، أي متتابع لا تهب الريح بين تلك الطعنات لشدة تتابعها، يقال: دارك الرجل صوته: أي تابعه.

ثم قال: «ولا يزولون لا بضرب يجمع بين الهام والاقدام.

ثم قال: (وان هؤلاء الأعداء لا يزولون عن مواقفهم إلا بأن يجر الخميس

ص: 92

ببلادهم وحتى تدق أفراسكم في أراضيهم بحوافرها وبمراعي إبلهم ومراعيها فتساق ويغار عليها. يحث أصحابه بهذا على الجهاد)(1).

ثانيا: ابن میثم البحراني (رحمه الله) (ت 678 ه).

قال (رحمه الله) بعد أن قسَّم النص الشريف إلى أقسام، فكان مورد البحث كالاتي:

(التاسع: قوله: «أجزء امرؤ قرنه». العاشر: آسی أخاه بنفسه فعلان ماضيان في معنى الأمر، والتقدير وليجزي امرؤ قرنه وهو خصمه وكفوه في الحرب: أي لتقاومه وليواس أخاه بنفسه في الذبّ عنه ولا يفرّ من قرنه اعتمادا على أخيه في دفعه فيجتمع على أخيه قرنه وقرن أخيه. ثم ذكَّرهم عدم الفائدة في الفرار.

إذ كانت غاية الفرار السلامة من الموت وهو لا بد منه كقوله تعالى:

«قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا»(2) واستعار لفظ سیف الآخرة للموت. ووجه المشابهة كونهما مبطلين للحياة. وإنّما كان سيف الآخرة لأنّها غايته. ثمّ مدحهم بأوصاف يستقبح معها الفرار، وهی کونهم أجود العرب والسنام الأعظم، واستعار لهم لفظ السنام لمشاركتهم إياه في العلوّ والرفعة. ثمّ أكَّد تقبيح الفرار بذكر معايبه، وأنّه لا فائدة فيه أيضا: أمّا معايبه فكونه يستلزم غضب الله فإنّ الفارّ من سیما

ص: 93


1- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة للراوندي: ج 2 ص 35 - 36
2- الأحزاب: 16

الجهاد في سبيله عاص لأمره والعاصي له مستحقّ لغضبه وعقابه. ثمّ كونه مستلزما للذّل اللازم والعار الباقي في الأعقاب وهو ظاهر، وأمّا أنّه لا فائدة فيه فلأنّ الفارّ لا يزاد في عمره لفراره. إذ علمنا أنّه بفراره لم يبلغ إلَّا أجله المكتوب له فكان بقائه في مدّة الفرار من عمره لا زيادة فيه وإنّ له يوما في القضاء الإلهيّ لا يحجز بينه وبينه فرار. وفيه تخويف بالموت.

وقوله: رائح إلى الله كالظمآن يرد الماء. استفهام عمّن يسلك سبيل الله ويروح إليه كما يروح الظمآن استفهاما على سبيل العرض لذلك الرواح، ووجه الشبه القوّة في السير والسعي الحثيث، وأشار بقوله: الجنّة تحت أطراف العوالي. إلى أنّ مطلوبه الرواح إلى الله بالجهاد وجذب إليه بذكر الجنّة، وخصّها بجهة تحت لأنّ دخول الجنّة غاية من الحركات بالرماح في سبيل الله وتلك الحركات إنّما هي تحت العوالي، وقد أطلق لفظ الجنّة على تلك الأفعال الَّتي هي غاية منها مجازا تسمية باسم غايته)(1).

ثالثاً: ابن ابي الحديد المعتزلي (ت 656ه).

قال الشارح المعتزلي في بيان معنى هذا النص الشريف:

(من الناس من يجعل هذه الصيغة وهي صيغة الاخبار بالفعل الماضي، في قوله: أجزأ امرؤ قرنه في معنى الامر، كأنه قال: ليجز كل امرئ قرنه، لأنه إذا جاز الامر بصيغة الاخبار في المستقبل جاز الامر بصيغة الماضي، وقد جاز الأول، نحو قوله تعالى: «وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ»(2)، فوجب ان يجوز الثاني.

ص: 94


1- شرح نهج البلاغة لابن ميثم: ج 3 ص 125 - 126
2- البقرة 233

ومن الناس من قال: معنى ذلك: هلا أجزأ امرؤ قرنه! فيكون تحضيضا محذوف الصيغة للعلم بها. وأجزأ بالهمزة، أي كفى. وقرنك: مقارنك في القتال أو نحوه. وآسى أخاه بنفسه مؤاساة، بالهمز، أي جعله أسوة نفسه وفيه، ويجوز: واسيت زيدا بالواو، وهي لغة ضعيفة. ولم يكل قرنه إلى أخيه، أي لم يدع قرنه ينضم إلى قرن أخيه، فيصيرا معا في مقاومة الأخ المذكور، وذلك قبيح محرم، مثاله: زيد وعمرو مسلمان، ولهما قرنان كافران في الحرب، لا يجوز لزيد ان ينكل عن قرنه فيجتمع قرنه وقرن عمر و على عمرو.

ثم أقسم (عليه السلام) أنهم إن سلموا من الألم النازل بهم لو قتلوا بالسيف في الدنيا، فإنهم لم يسلموا من عقاب الله تعالى في الآخرة، على فرارهم وتخاذلهم. وسمى ذلك سيفا على وجه الاستعارة وصناعة الكلام، لأنه قد ذكر سيف الدنيا، فجعل ذلك في مقابلته. واللهاميم: السادات الأجواد من الناس، والجياد من الخيل، الواحد لهموم. والسنام الأعظم، يريد شرفهم وعلو أنسابهم، لان السنام أعلى أعضاء البعير.

وموجدة الله: غضبه وسخطه. ويروى: والذل اللاذم بالذال المعجمة، وهو بمعنى اللازم أيضا، لذمت المكان بالكسر، أي لزمته. ثم ذكر أن الفرار لا يزيد في العمر، وقال الراجز:

قد علمت حسناء دعجاء المقل *** ان الفرار لا يزيد في الاجل ثم قال لهم: أيكم يروح إلى الله فيكون كالظمآن يرد الماء.

ثم قال: الجنة تحت أطراف العوالي، وهذا من قول رسول الله (صلى الله 90

عليه وآله):

«الجنة تحت ظلال السيوف».

وسمع بعض الأنصار رسول الله (صلى الله عليه وآله)، يقول يوم أحد: «الجنة تحت ظلال السيوف»، وفي يده تمیرات بلوکها فقال: بخ بخ! ليس بيني وبين الجنة إلا هذه التميرات! ثم قذفها من يده، وكسر جفن سيفه، د وحمل على قريش فقاتل حتى قتل. ثم قال: اليوم تبلى الأخبار، هذا من قول الله تعالى: «وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ»(1)، أي نختبر أفعالكم)(2).

ص: 96


1- محمد: 31
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي: ج 8 ص 5 - 6

المبحث الثاني: عدم جواز الغدربالكفار

1 - قال أمير المؤمنين الإمام علي (عليه الصلاة والسلام) في عهده لمالك الاشتر (عليه الرحمة والرضوان):

«ولَا تَدْفَعَنَّ صُلْحاً دَعَاكَ إِلَيْه عَدُوُّكَ ولِلَّهِ فِيه رِضًا فَإِنَّ فِي الصُّلْحِ دَعَةً لِجُنُودِكَ ورَاحَةً مِنْ هُمُومِكَ وأَمْناً لِبِاَدِكَ ولَكِنِ الْحَذَرَ كُلَّ الْحَذَرِ مِنْ عَدُوِّكَ بَعْدَ صُلْحِه فَإِنَّ الْعَدُوَّ رُبَّمَا قَارَبَ لِيَتَغَفَّلَ فَخُذْ بِالْحَزْمِ واتَّهِمْ فِي ذَلِكَ حُسْنَ الظَّنِّ وإِنْ عَقَدْتَ بَيْنَكَ وبَیْنْ عَدُوِّكَ عُقْدَةً أَوْ أَلْبَسْتَه مِنْكَ ذِمَّةً فَحُطْ عَهْدَكَ بِالْوَفَاءِ وارْعَ ذِمَّتَكَ بِالأَمَانَةِ واجْعَلْ نَفْسَكَ جُنَّةً دُونَ مَا أَعْطَيْتَ فَإِنَّه لَيْسَ مِنْ فَرَائِضِ الله شَيْءٌ النَّاسُ أَشَدُّ عَلَيْه اجْتِمَعاً مَعَ تَفَرُّقِ أَهْوَائِهِمْ وتَشَتُّتِ آرَائِهِمْ مِنْ تَعْظِيمِ الْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ وقَدْ لَزِمَ ذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ دُونَ الْمُسْلِمِينَ لِمَا اسْتَوْبَلُوا مِنْ عَوَاقِبِ الْغَدْرِ فَلَا تَغْدِرَنَّ بِذِمَّتِكَ ولَا تَخِيسَنَّ بِعَهْدِكَ ولَا تَخْتِلَنَّ عَدُوَّكَ فَإِنَّه لَا يَجْتَرِئُ عَلَى الله إِلَّا جَاهِلٌ شَقِيٌّ وقَدْ جَعَلَ الله عَهْدَه وذِمَّتَه أَمْناً أَفْضَاه بَیْنَ الْعِبَادِ بِرَحْمَتِه وحَرِيماً يَسْكُنُونَ إِلَی مَنَعَتِه ويَسْتَفِيضُونَ إِلَا جِوَارِه فَلَا إِدْغَالَ ولَا مُدَالَسَةَ ولَا خِدَاعَ فِيه ولَا تَعْقِدْ عَقْداً تُجَوِّزُ فِيه الْعِلَلَ ولَا تُعَوِّلَنَّ عَلَی لَحْنِ قَوْلٍ بَعْدَ التَّأْكِيدِ والتَّوْثِقَةِ ولَا يَدْعُوَنَّكَ ضِيقُ أَمْرٍ لَزِمَكَ فِيه عَهْدُ الله إِلَی طَلَبِ انْفِسَاخِه بِغَیْرِ الْحَقِّ فَإِنَّ صَبْرَكَ عَلَی ضِيقِ أَمْرٍ تَرْجُو انْفِرَاجَه وفَضْلَ عَاقِبَتِه خَیْرٌ مِنْ غَدْرٍ تَخَافُ تَبِعَتَه وأَنْ تُحِيطَ بِكَ مِنَ الله فِيه طِلْبَةٌ لَا تَسْتَقْبِلُ

ص: 97

فِيهَا دُنْيَاكَ ولَا آخِرَتَكَ»(1).

2 - وقال (عليه الصلاة والسلام):

«الْوَفَاءَ تَوْأَمُ الصِّدْقِ ولَا أَعْلَمُ جُنَّةً أَوْقَى مِنْه - ومَا يَغْدِرُ مَنْ عَلِمَ كَيْفَ الْمَرْجِعُ ولَقَدْ أَصْبَحْنَا فِي زَمَانٍ قَدِ اتَّخَذَ أَكْثَرُ أَهْلِه الْغَدْرَ كَيْساً ونَسَبَهُمْ أَهْلُ الْجَهْلِ فِيه إِلَی حُسْنِ الْحِيلَةِ مَا لَهُمْ قَاتَلَهُمُ الله قَدْ يَرَى الْحَوَّلُ الْقُلَّبُ وَجْه الْحِيلَةِ ودُونَهَا مَانِعٌ مِنْ أَمْرِ الله ونَهْيِه فَيَدَعُهَا رَأْيَ عَیْنٍ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا ويَنْتَهِزُ فُرْصَتَهَا مَنْ لَا حَرِيجَةَ لَه فِي الدِّينِ»(2).

3 - وقال (عليه الصلاة والسلام):

«والله مَا مُعَاوِيَةُ بِأَدْهَى مِنِّي ولَكِنَّه يَغْدِرُ ويَفْجُرُ ولَوْ لَا كَرَاهِيَةُ الْغَدْرِ لَكُنْتُ مِنْ أَدْهَى النَّاسِ ولَكِنْ كُلُّ غُدَرَةٍ فُجَرَةٌ وكُلُّ فُجَرَةٍ كُفَرَةٌ ولِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يُعْرَفُ بِه يَوْمَ الْقِيَامَةِ والله مَا أُسْتَغْفَلُ بِالْمَكِيدَةِ ولَا أُسْتَغْمَزُ بِالشَّدِيدَةِ»(3).

4 - وقال (عليه الصلاة والسلام):

«الْوَفَاءُ لأَهْلِ الْغَدْرِ غَدْرٌ عِنْدَ الله والْغَدْرُ بِأَهْلِ الْغَدْرِ وَفَاءٌ عِنْدَ الله»(4).

يمتاز هذا العنوان بمسائل عديدة في الفقه والمعارف الاخلاقية والشروحات التي تناولها العلماء في بيانهم لمفاهيم كتاب نهج البلاغة ومعانيه.

ولذا: سنتناول اولاً ما ارتبط بهذه النصوص الشريفة في مسائل الجهاد،

ص: 98


1- نهج البلاغة كتابه (عليه السلام) للأشتر وعهده إليه: ص 442
2- نهج البلاغة: الخطبة: 41 ص 82
3- نهج البلاغة، الخطبة: ص 200، ص 180
4- نهج البلاغة، الحكمة: 259 ص 513

وهو عدم جواز الغدر بالكفار في المذاهب الإسلامية ، وبيان إجماعهم على عدم جواز الغدر بعد الهدنة والاستئمان للكافر، وهو كالاتي:

المسألة الأولى: عدم جواز الغدر بالكفر في المذهب الإمامي.

ذهب فقهاء المذهب الإمامي (أعلى الله شأنهم) إلى عدم جواز الغدر بالكفار بعد استئمانهم ومهادنتهم؛ وفي بيان أقوالهم التي جمعها وتدارسها الشيخ محمد حسن الجواهري (رحمه الله) (ت 1266 ه) في موسوعته الإستدلالية ، فقال:

(لا يجوز الغدر بهم بان يقتلوا بعد الامان مثلاً، قال في مجمع البحرین:

الغدر ترك الوفاء ونقض العهد بلا خلاف أجده فيه، للنهي عنه أيضا في النصوص(1) السابقة، مضافا إلى قبحه في نفسه وتنفير الناس عن الإسلام، قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في خبر الأصبغ بن نباتة(2) في أثناء خطبة له:

«لولا كراهة الغدر کنت من أدهى الناس، ألا إن لكل غدرة فجرة ولكل فجرة كفرة، ألا وأن الغدر والفجور والخيانة في النار وفي خبر طلحة بن زید»(3).

عن أبي عبد الله (عليه السلام) سأله عن فرقتين من أهل الحرب لكل واحدة منهما ملك على حدة اقتتلوا ثم اصطلحوا ثم إن أحد الملكين غدر بصاحبه فجاء إلى المسلمين فصالحهم على أن يغزوا تلك المدينة، فقال أبو عبد الله (عليه السلام):

ص: 99


1- الوسائل - الباب 15 و 21 من أبواب جهاد العدو
2- الوسائل - الباب 21 من أبواب جهاد العدو الحديث 3 - 1
3- الوسائل - الباب 21 من أبواب جهاد العدو الحديث 3 - 1

«لا ينبغي للمسلمين أن يغدروا ولا يأمروا بالغدر، ولا يقاتلوا مع الذين غدروا، ولكنهم يقاتلون المشركين حيث وجدوهم، ولا يجوز عليهم ما عاهدوا عليه الكفار».

نعم تجوز الخدعة في الحرب كما صرح به الفاضل في جملة من كتبه، بل في التذكرة والمنتهى دعوى الاجماع، قال: تجوز المخادعة في الحرب وأن يخدع المبارز قرينه ليتوصل بذلك إلى قتله إجماعا، ثم قال: وروى العامة أن عمرو بن عبد ود بارز عليا (عليه السلام) فقال: ما أحب ذلك يا بن أخي، فقال علي (عليه الإسلام):

«لكني أحب أن أقتلك».

فغضب عمرو فأقبل إليه فقال علي (عليه السلام): «ما برزت لأقاتل اثنين».

فالتفت عمرو ، فوثب علي (عليه السلام) فضربه، فقال عمرو خدعتني، فقال (عليه السلام):

«الحرب خدعة».

وفي خبر إسحاق بن عمار(1) عن جعفر عن أبيه عليهما السلام:

(أن عليا (عليه السلام) كان يقول لأن تخطفني الطير أحب إلي من أن أقول على رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما لم يقل، سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوم الخندق، يقول:

ص: 100


1- الوسائل - الباب 53 من أبواب جهاد العدو الحديث 1

«الحرب خدعة، ويقول تكلموا بما أردتم» .

وقال الصدوق من ألفاظ رسول الله (صلى الله عليه وآله): (الحرب خدعة)، وفي خبر أبي البختري(1) المروي عن قرب الإسناد عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي (عليهم السلام) أنه قال:

«الحرب خدعة، وإذا حدثتكم عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) فوالله لأن أخر من السماء أو تخطفني الطير، أحب إلي من أن أكذب على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) بلغه أن بني قريظة بعثوا إلى أبي سفيان إذا التقيتم أنتم ومحمد (صلى الله عليه وآله) أمددناكم وأعناكم، فقام رسول الله (صلى الله عليه وآله) خطيبا فقال:

إن بني قريظة بعثوا إلينا إنا إذا التقينا نحن وأبو سفيان أمدونا وأعانونا، فبلغ ذلك أبا سفيان، فقال غدرت یهود فارتحل عنهم».

وقال عدي بن حاتم(2) إن عليا (عليه السلام) قال يوم التقي هو ومعاوية بصفين فرفع بها صوته يسمع أصحابه:

«والله لأقتلن معاوية وأصحابه». ثم قال في آخر قوله: «إن شاء الله»، وخفض بها صوته وكنت منه قريبا فقلت يا أمير المؤمنين (عليه السلام) إنك حلفت على ما قلت، ثم استثنیت فما أردت بذلك؟ فقال:

«إن الحرب خدعة وأنا عند المؤمنين غير كذوب، فأردت أن أحرض أصحابي عليهم كي لا يفشلوا ولكي يطمعوا فيهم، فافهم فإنك تنتفع بها

ص: 101


1- الوسائل - الباب 53 من أبواب جهاد العدو الحديث 4 - 2
2- الوسائل - الباب 53 من أبواب جهاد العدو الحديث 4 - 2

بعد اليوم إن شاء الله، واعلم أن الله عز وجل قال لموسى (عليه السلام) حيث أرسله إلى فرعون فأتياه:

«فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشی»(1).

وقد علم أنه لا يتذكر ولا يخشی ولكن ليكون أحرض لموسى (عليه السلام على الذهاب».

وكذا يحرم الغلول منهم على ما صرح به في النهاية والنافع والقواعد والإرشاد والتحرير والمنتهى والتذكرة والمسالك وغيرها على ما حكي عن بعضها للنهي عنه في النصوص(2) السابقة، وفسره في المحكي عن جامع المقاصد بالسرقة من أموالهم، ولكن فيه أنه مناف لما هو المعلوم في غير المقام من کون مال الحربي فيئا للمسلم، فله التوصل إليه بكل طريق، اللهم إلا أن يكون إجماعا، أو يكون المراد السرقة منهم بعد الأمان و نحوه مما يكون به محترم المال مع كفره، أو يراد به النهي عن السرقة من الغنيمة، بل قيل إنه أكثر ما يستعمل في ذلك، بل يمكن حمل ما يقبل ذلك من عبارات الأصحاب عليه، والله العالم)(3).

ص: 102


1- طه - 46
2- الوسائل - الباب 15 من أبواب جهاد العدو
3- جواهر الكلام: ج 21 ص 78 - 81

المسألة الثانية: في حكم الغير بالكفار في المذاهب الاخرى.

أولا: المذهب الزيدي.

لم يختلف المذهب الزيدي من بقية المذاهب عن الحكم بعد جواز الغدر بالكفار، وقد أستأمق، جاء ذلك في بيان حكم قتل الأسير والجاسوس بعد وقوع الهدنة؛ قال أحمد المرتضى (ت 840 ه):

والأمر الثالث مما لا يجوز للإمام هو: (قتل جاسوس واسير) والجاسوس هو الذي يدخل في الجيش ليتجسس اخبارهم، والاسير، ظاهر، فيجوز للإمام قتل الجاسوس والأسير بشروط ثلاثة، الأول أن يكونا كافرين أو باغيين؛ والثاني: أن يكونا قد قتلا من جند أهل الحق او قتلا أحد منهم بسببهما أما أن يدلا عليه أو نحو من ذلك فيجوز قتلهما حينئذ لكن إذا كانا قد قتلا کان قتلهما قصاصاً؛ وان حصل القتل بسببهما كان قتلهما حداً؛ والشرط الثالث أن تكون الحرب قائمة أي لا مهادنة في تلك الحال وان لا تكن الحرب قائمة في حال ظفر الإمام بالجاسوس أو كان الاسير مأخوذاً قبل المهادنة فإنه لا يجوز قتل الباغي، وأما الكافر فيجوز إن لم يدخل في عقد الهدنة لإجل كفره لا لغير ذلك)(1).

ثانيا: المذهب الشافعي.

ذهب فقهاء المذهب الشافعي إلى القول بعدم جواز الغدر بالكافر بعد الامان والهدنه، قال إمام المذهب محمد بن ادریس (204 ه):

(إذا دخل قوم من المسلمين بلاد الحرب بإمان فالعدو منهم أمنون إلى أن

ص: 103


1- شرح الأزهار: ج 4 ص 534

يفارقوهم أو يبلغوهم مدة أمانهم وليس ظلمهم ولا خيانتهم وأن أسر العدو أطفال المسلمين ونساءهم لم أكن أحب لهم الغدر بالعدو، ولكن أحب لهم لو سألوهم أن يردوا إليهم الأمان وينبذوا إليهم فإذا فعلوا قاتلوهم من أطفال المسلمين ونسائهم)(1).

ثالثا: المذهب المالكي.

ذهب فقهاء المالكية إلى القول بحرمة الغدر في الحرب؛ جاء ذلك في قول الخطاب الرعيني (ت 954 ه):

(یحرم الغدر وينبغي أن يستعمل الخداع في الحرب؛ والله أعلم)(2).

وقال الآبي الأزهري (ت 1330ت ه):

(ولا يقتل أحد في العدو بعد امان؛ كان الأمان في الإمام أو غيره على المشهور، خلافاً لمن يقول: إن أمان غير الإمام موقوف على نظر الإمام وسند المشهور قوله (صلى الله عليه وآله): ينصب للغادر لواء يوم القيامة، أي: راية فيقال هذه غدرة فلان.

بفتح الغين المعجمة؛ والمراد شهرته يوم القيامة بصفة الغدر ليذمه أهل الموقف.

ولا يخفر لهم اي للعدو بعهد؛ والإخفار نقض العهد وليس هذا تكرار مع ما قبله، فإن الأول خاص بالقتل، وهذا عام في القتل وغیره)(3).

ص: 104


1- کتاب الام: ج 4 ص 263
2- مواهب الجليل: ج 4 ص 547
3- الثمر الداني للأزهري: ص 413

رابعا: المذهب الحنفي.

ذهب فقهاء الحنفية إلى الاكراه للمسلم أن يغدر بالمستأمن على الرغم من التصريح بتحريم النبي (صلى الله عليه و آله) للغدر، جاء ذلك في كتاب المبسوط للسرخسي في كتاب السير؛ قال السرخسي (ت 483ه):

(وأكره للمسلم المستأمن إليهم في دينه أن يغدر بهم لان الغدر حرام، قال صلى الله عليه وآله:

«لكل غادر لواء يركز عند باب أسته يوم القيامة»(1).

یکز عند باب أسته یعرف به غدرته يوم القيامة؛ فإن غدر بهم وأخذ مالهم واخرجه إلى دار الإسلام كرهت للمسلم شراءه منه إذا علم ذلك لأنه حصله بکسب خبيث؛ وفي الشراء منه اغراء له على مثل هذا السبب وهو مكروه للمسلم والأصل فيه حديث المغيرة بن شعبة حين قتل أصحابه وجاء بمالهم إلى المدينة فأسلم وطلب من رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يخمس ماله!! فقال (صلى الله عليه وآله):

«أما إسلامك فمقبول وأما مالك فمال غدر فلا حاجة لنافيه»(2).

خامسا: المذهب الحنبلي.

وذهب الحنابلة إلى القول بلزوم الأمان لمن طلبه سواء كان الغرض منه ليسمع كلام الله تعالى ويعرف شرائع الإسلام؛ أو كان صاحبه قد أخذ الأمان

ص: 105


1- مسند أحمد: ج 1 ص 411
2- المبسوط للسرخسي: ج 10 ص 97

لكي يفتح للمسلمين حصناً على تفصيل في مستحق الامن إذا أدعوه اكثر من شخص.

قال ابن قدامة المقدسي (ت 682 ه):

(ومن طلب الأمان ليسمع كلان الله تعالى ويعرف شرائع الإسلام لزمه اجابتهم ثم يرد إلى مأمنه؛ لا نعلم فيه خلافاً؛ وبه قال قتادة و مكمول والأوزاعي والشافعي وكتب بذلك عمر بن عبد العزيز إلى الناس قول الله تعالى:

«وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ»(1).

المسألة الثالثة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة.

1 - ذهب فقهاء المذهب الإمامي، والزيدي، والشافعي إلى القول بعدم جواز الغدر بالكافر بعد الأمان، أو الهدنة.

2 - وقال فقهاء المالكية بالحرمة.

3 - وقال فقهاء الحنفية بالاكراه.

4 - وقال فقهاء الحنابلة بلزوم الأمان لمن طلبه.

5 - ولم يتناول فقهاء الإباضية العنوان في كتبهم خلوها من كتاب الجهاد؛ نعم أورد الشماخي الحكم في كتاب الدفاع في باب: (إعطاء السلاح لباغٍ اعطى أماناً)(2).

ص: 106


1- الشرح الكبير لابن قدامة : ج 1 ص 561
2- شرح كتاب النيل وشفاء العليل: ج 14 ص 768

المسألة الرابعة: قاعدة فقهية: لا ينبغي للمسلمين أن يغيروا ولا يأمروا بالغير ولا يقاتلوا مع الذين غدروا.

ترتبط هذه القاعدة بكتاب الجهاد وقد تناولها الملا حبیب الله الكاشاني (رحمه الله) (ت 1390)، فقال:

(لا ينبغي للمسلمين أن يغدروا ولا يأمروا بالغدر ولا يقاتلوا مع الذين غدروا ولكنهم يقاتلون المشركين حيث وجدوهم ولا يجوز عليهم ما عاهد عليه الكفار.

فصل: هذا رواه في في عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد بن عیسی عن محمد بن يحيى عن طلحة بن زيد عن الصادق (عليه السلام) والمراد بالغدر القتل بغتة بعد الأمان وتحريمه مما لا خلاف فيه.

فصل: روي في في عن علي بن ابراهيم عن أبيه عن على بن اسباط عن يعقوب بن سالم عن أبي الحسن العبدي عن سعد بن طريف عن الاصبغ بن نباته عن علي (عليه السلام)، قال، قال (عليه السلام) ذات يوم وهو يخطب على المنبر بالكوفة:

«ايها الناس لو لا كراهية الغدر لکنت من اوهى الناس الا ان لكل غدرة فجرة ولكل فجرة كفرة الا وان الغدر والفجور والخيانة في النار».

فصل: الغدرة بفتح الغين المعجمة وسكون الدال المهمله ضد الوفاء والفجرة بالفتح ثم السكون الفجور والكفره كل الظلمة ويحتمل الضم

ص: 107

فيكون بمعنى الكفر)(1).

المسألة الخامسة: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة وعلماء الاخلاق.

تناول شراح نهج البلاغة هذه الاحاديث الشريفة واظهروا دلالات الألفاظ ومعانيها ومعارفها فكانت على النحو الاتي:

أولاً - قال (عليه الصلاة والسلام) في عهده المالك الأشتر (عليه الرحمة والرضوان):

«ولَا تَدْفَعَنَّ صُلْحاً دَعَاكَ إِلَيْه عَدُوُّكَ ولله فِيه رِضًا فَإِنَّ فِي الصُّلْحِ دَعَةً لِجُنُودِكَ ورَاحَةً مِنْ هُمُومِكَ وأَمْناً لِبِاَدِكَ ولَكِنِ الْحَذَرَ كُلَّ الْحَذَرِ مِنْ عَدُوِّكَ بَعْدَ صُلْحِه فَإِنَّ الْعَدُوَّ رُبَّمَا قَارَبَ لِيَتَغَفَّلَ فَخُذْ بِالْحَزْمِ واتَّهِمْ فِي ذَلِكَ حُسْنَ الظَّنِّ وإِنْ عَقَدْتَ بَيْنَكَ وبَیْنَ عَدُوِّكَ عُقْدَةً أَوْ أَلْبَسْتَه مِنْكَ ذِمَّةً فَحُطْ عَهْدَكَ بِالْوَفَاءِ وارْعَ ذِمَّتَكَ بِالأَمَانَةِ واجْعَلْ نَفْسَكَ جُنَّةً دُونَ مَا أَعْطَيْتَ فَإِنَّه لَيْسَ مِنْ فَرَائِضِ الله شَيْءٌ النَّاسُ أَشَدُّ عَلَيْه اجْتِمَاعاً مَعَ تَفَرُّقِ أَهْوَائِهِمْ وتَشَتُّتِ آرَائِهِمْ مِنْ تَعْظِيمِ الْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ وقَدْ لَزِمَ ذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ دُونَ الْمُسْلِمِينَ لِمَا اسْتَوْبَلُوا مِنْ عَوَاقِبِ الْغَدْرِ فَلَا تَغْدِرَنَّ بِذِمَّتِكَ ولَا تَخِيسَنَّ بِعَهْدِكَ ولَا تَخْتِلَنَّ عَدُوَّكَ فَإِنَّه لَا يَجْتَرِئُ عَلَی الله إِلَّا جَاهِلٌ شَقِيٌّ وقَدْ جَعَلَ الله عَهْدَه وذِمَّتَه أَمْناً أَفْضَاه بَیْنَ الْعِبَادِ بِرَحْمَتِه وحَرِيماً يَسْكُنُونَ إِلَی مَنَعَتِه ويَسْتَفِيضُونَ إِلَی جِوَارِه فَلَا إِدْغَالَ ولَا مُدَالَسَةَ ولَا خِدَاعَ فِيه ولَ تَعْقِدْ عَقْداً تُجَوِّزُ فِيه الْعِلَلَ ولَا تُعَوِّلَنَّ عَلَی لَحْنِ قَوْلٍ بَعْدَ التَّأْكِيدِ والتَّوْثِقَةِ ولَا يَدْعُوَنَّكَ ضِيقُ أَمْرٍ لَزِمَكَ فِيه عَهْدُ الله

ص: 108


1- مستقصى مدارك القواعد: ص 267

إِلَی طَلَبِ انْفِسَاخِه بِغَیْرِ الْحَقِّ فَإِنَّ صَبْرَكَ عَلَی ضِيقِ أَمْرٍ تَرْجُو انْفِرَاجَه وفَضْلَ عَاقِبَتِه خَیْرٌ مِنْ غَدْرٍ تَخَافُ تَبِعَتَه وأَنْ تُحِيطَ بِكَ مِنَ الله فِيه طِلْبَةٌ لَا تَسْتَقْبِلُ فِيهَا دُنْيَاكَ ولَا آخِرَتَكَ»(1).

1 - قطب الدين الراوندي (رحمه الله) (ت 573 ه):

قال (عليه الرحمة والرضوان) في بيان معاني النص الشريف:

(وذكر بعد ذلك كيفية المعايشة مع الأعداء إذا صالحهم وعاهدهم، وأمر بالحزم وترك التغافل في حالة الصلح، وان يحوط العهد بالوفاء. وأقطع السلطان فلانا بلد كذا: إذا أعطاه لينتفع هو به خاصة، وأقطعه قطيعة: أي بلدة أو قرية أو مزرعة. والمغبة: العاقبة. والحامة: القرابة. والحاشية: الخدم. وبطانة الرجل: أخص أصحابه، مستعارة من بطانة الثوب.

واحسم: أي اقطع. والحيف: الظلم. وأصحر بعذرك: أي أظهره.

والدعة: الراحة.

وقوله: فإنه ليس من فرائض الله شيء الناس أشد اجتماعا به من تعظيم الوفاء بالعهود.

وقوله «الناس» مبتدأ و «أشد» مبتدأ ثان و «من تعظيم الوفاء» خبره، والمبتدأ الثاني مع خبره خبر المبتدأ الأول، ومحل الجملة نصب لأنه خبر ليس، ومحل ليس مع اسمه وخبره رفع لأنه خبر قوله «فإنه»، وشئ اسم ليس. ومن فرائض الله لو كان متأخرالکان صفة لشيء والآن لما تقدم فهو

ص: 109


1- نهج البلاغة، عهده لمالك الأشتر: ج 3 ص 105 شرح الشيخ محمد عبده

حال منه، كقول الشاعر:

الميتة موحشا طلل *** يلوح كأنه خلل(1) ولا تخیسن بما عاهدهم عليه: أي لا يغدر، يقال: خاس به يخيس ويخوس أي غدر به، وخاس فلان بالعهد إذا نکث.

والجنة: الترس، وههنا كناية، أي اجعل نفسك وقاية، أي دون ما أعطيته من العهد.

وليس فريضة أجمع للأبدان مع تفرق الآراء والأهواء من الوفاء.

ثم قال: ان الكفار كانوا لا يغدرون فيما بينهم لما علموا من سوء عاقبة الغدر.

واستوبلوا: أي استثقلوا، يقال: استوبلت البلد أي استوحشته، وذلك إذا لم يوافقك في بدنك وان كنت تحبه.

وقال: ان الله جعل عهده أمنا ليسكن الناس برحمته إلى منعته، ويقال: فلان في عز ومنعة بالتحريك وقد يسكن عن ابن السكيت، ويقال: المنعة جمع مانع مثل كافر كفرة، أي هو في عز، ومن يمنع من عشيرته.

ويستفيضون إلى جوار: أي يسيلون إليه بالكثرة، والمستفيض الذي يسيل

ص: 110


1- البيت لكثير عزة، وهو ابن عبد الرحمن بن الأسود، شاعر من أهل الحجاز كان دعيا في الحب غير مرغوب فيه لقبح صورته، وكان شيعيا شديد التعصب لآل أبي طالب عليه السلام، فأخذ يشهر بعزة بنت حميد الضمري - أو - بنت نشبة - وعرف بها. وتوفي سنة 105. وميتة صاحبة ذي الرمة. ويمكن أن كثيرا قاله لميتة. وفي رواية أخرى كما في تاج العروس روى البيت هكذا: لعزة موحشا طلل قدیم عفاه كل سجم مستديمأنظر: تاج العروس ط ل ل، جامع الشواهد ص 259، قصص العرب 1 - 142، 2 - 231، 3- 188

مثل إفاضة الماء وغيره، وفاض الماء كثر حتى سال.

ولا ادغال: أي لا افساد، والدغل: الفساد. ولا مدالسة: أي لا مخادعة، يقال فلان لا يدالس أي لا يخادعك ولا يخفي عليك الشيء، فكأنه يأتيك به في الظلام.

ولا تعولن على لحن القول: أي لا تعتمد على العدول عن الصواب، ومنه اللحن في العربية. والتوثقة: الاحكام وأخذ الوثيقة، والميثاق: العهد.

وقوله «وان تحيط بك من الله طلبة» عطف على غدر في قوله «خير من غدر تخاف تبعته» أي عقوبته.

وقوله «لا تستقيل فيها دنياك ولا آخرتك» صفة لقوله طلبة [أي لا يستقيل دنياك] فالمفعول محذوف. وروي: لا تستقبل)(1).

2 - ابن ابي الحديد المعتزلي (ت 656 ه).

قال ابن أبي الحديد المعتزلي في بيان معنى النص الشريف ودلالاته، وقد ابتدأ في بيان الصلح وأثاره:

(أمره أن يقبل السلم والصلح إذا دعى إليه، لما فيه من دعة الجنود، والراحة من الهم، والامن للبلاد، ولكن ينبغي أن يحذر بعد الصلح من غائلة العدو وکيده، فإنه ربما قارب بالصلح ليتغفل، أي يطلب غفلتك، فخذ بالحزم، واتهم حسن ظنك، لا تثق ولا تسكن إلى حسن ظنك بالعدو، وكن كالطائر الحذر. ثم أمره بالوفاء بالعهود، قال: واجعل نفسك جنة دون ما

ص: 111


1- منهاج البراعة للرواندي: ج 3 ص 200 - 201

أعطيت، أي ولو ذهبت نفسك فلا تغدر.

وقال الراوندي: الناس مبتدأ وأشد مبتدأ ثان، ومن تعظيم الوفاء خبره، وهذا المبتدأ الثاني مع خبره خبر المبتدأ الأول، ومحل الجملة نصب لأنها خبر ليس، ومحل ليس مع اسمه وخبره رفع، لأنه خبر، فإنه وشئ اسم ليس ومن فرائض الله حال، ولو تأخر لكان صفة لشئ.

والصواب أن شئ اسم ليس، وجاز ذلك وإن كان نكرة لاعتماده على النفي، ولأن الجار والمجرور قبله في موضع الحال كالصفة، فتخصص بذلك وقرب من المعرفة، والناس: مبتدأ، وأشد: خبره، وهذه الجملة المركبة من مبتدأ وخبر في موضع رفع لأنها صفه شئ وأما خبر المبتدأ الذي هو شئ فمحذوف، وتقديره في الوجود کا حذف الخبر في قولنا: لا إله إلا الله، أي في الوجود.

وليس يصح ما قال الراوندي من أن أشد مبتدأ ثان، و من تعظيم الوفاء خبره، لان حرف الجر إذا كان خبرا لمبتدأ تعلق بمحذوف، وهاهنا هو متعلق بأشد نفسه، فكيف يكون خبرا عنه! وأيضا فإنه لا يجوز أن يكون أشد من تعظيم الوفاء خبرا عن الناس، کما زعم الراوندي، لان ذلك كلام غير مفيد، ألا ترى أنك إذا أردت أن تخبر بهذا الكلام عن المبتدأ الذي هو الناس لم يقم من ذلك صورة محصلة تفيدك شيئا، بل يكون كلاما مضطربا! ويمكن أيضا أن يكون من فرائض الله في موضع رفع، لأنه خبر المبتدأ، وقد قدم عليه، ويكون موضع الناس وما بعده رفع، لأنه خبر المبتدأ الذي هو شئ کما قلناه أولا، وليس يمتنع أيضا أن يكون: من فرائض الله منصوب الموضع،

ص: 112

لأنه حال، ويكون موضع الناس أشد رفعا، لأنه خبر المبتدأ، الذي هو شئ.

ثم قال له (عليه السلام): (وقد لزم المشركون مع شركهم الوفاء بالعهود، وصار ذلك لهم شريعة وبينهم سنة، فالإسلام أولى باللزوم والوفاء).

واستوبلوا: وجدوه وبيلا، أي ثقيلا، استوبلت البلد، أي استوخمته واستثقلته، ولم يوافق مزاجك.

ولا تخیسن بعهدك، أي لا تغدرن، خاس فلان بذمته، أي غدر ونکث.

قوله: «ولا تختلن عدوك»، أي لا تمكرن به، ختلته، أي خدعته.

وقوله: «أفضاه بين عباده»، جعله مشترکا بینهم، لا يختص به فريق دون فريق.

قال: «ويستفيضون إلى جواره»، أي ينتشرون في طلب حاجاتهم ومآربهم، ساکنين إلى جواره، فإلى هاهنا متعلقة بمحذوف مقدر، كقوله تعالى: «فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ»(1)، أي مرسلا. قال: «فلا إدغال»، أي لا إفساد، والدغل: الفساد. ولا مدالسة أي لا خديعة، يقال، فلان لا يوالس ولا يدالس، أي لا يخادع ولا يخون، وأصل الدلس الظلمة والتدليس في البيع: کتمان عيب السلعة عن المشتري.

ثم نهاه عن أن يعقد عقدا يمكن فيه التأويلات والعلل وطلب المخارج. ونهاه إذا عقد العقد بينه وبين العدو أن ينقضه معولا على تأويل خفي أو فحوى قول، أو يقول: إنها عنيت كذا، ولم أعن ظاهر اللفظة، فإن العقود إنما تعقد على ما هو ظاهر في الاستعمال متداول في الاصطلاح والعرف لاعلى

ص: 113


1- النمل 12

ما في الباطن.

وروی ((انفساحه)) بالحاء المهملة، أي سعته.

[فصل فيما جاء في الحذر من كيد العدو] قد جاء في الحذر من كيد العدو والنهي عن التفريط في الرأي السكون إلى ظاهر السلم أشياء كثيرة، وكذا في النهي عن الغدر والنهي عن طلب تأويلات العهود وفسخها بغير الحق.

فرط عبد الله بن طاهر في أيام أبيه في أمر أشرف فيه على العطب، ونجا بعد لأي فكتب إليه أبوه: أتاني يا بنی من خبر تفريطك ما كان أكبر عندي من نعيك لو ورد، لأني لم أرج قط ألا تموت وقد كنت أرجو ألا تفتضح بترك الحزم والتيقظ. وروى ابن الكلبي أن قيس بن زهير لما قتل حذيفة بن بدر ومن معه بجفر الهباءة.

خرج حتى لحق بالنمر بن قاسط وقال: لا تنظر في وجهي غطفانية بعد اليوم، فقال يا: معاشر النمر، أنا قيس بن زهیر، غریب حريب طريد شرید موتور، فانظروا لي امرأة قد أدبها الغنى وأذلها الفقر. فزوجوه بامرأة منهم، فقال لهم: إني لا أقيم فيكم حتى أخبركم بأخلاقي، أنا فخور غيور أنف، ولست أفخر حتى أبتلي، ولا أغار حتی أری، ولا آنف حتى أظلم. فرضوا أخلاقه، فأقام فيهم حتى ولد له، ثم أراد أن يتحول عنهم.

فقال: يا معشر النمر، إن لكم حقا على في مصاهرتي فيكم، ومقامي بين أظهركم، وإن موصیکم بخصال آمركم بها، وأنهاكم عن خصال: علیکم بالأناة فإن بها تدرك الحاجة، وتنال الفرصة، وتسويد من لا تعابون

ص: 114

بتسويده، والوفاء بالعهود فإن به يعيش الناس، وإعطاء ما تريدون إعطاءه قبل المسألة، ومنع ما تريدون منعه قبل الانعام، وإجارة الجار على الدهر، وتنفيس البيوت عن منازل الأيام، وخلط الضيف بالعيال. وأنهاكم عن الغدر، فإنه عار، الدهر وعن الرهان فإن به ثكلت مالكا أخي، وعن البغي فإن به صرع زهير أبي، وعن السرف في الدماء، فإن قتلى أهل البهاءة أورثني العار. ولا تعطوا في الفضول فتعجزوا عن الحقوق، وأنكحوا الأيامي الأكفاء فإن لم تصيبوا بهن الأكفاء فخير بيوتهن القبور. واعلموا أني أصبحت ظالم و مظلوما، ظلمني بنو بدر بقتلهم مالکا، وظلمتهم بقتلى من لا ذنب له. ثم رحل عنهم إلى غمار(1) فتنصر بها، وعف عن المآكل حتى أكل الحنظل إلى أن مات)(2).

3 - ابن میثم البحراني رحمه الله) (ت 679 ه).

قال (عليه الرحمة والرضوان) في بيان معنى النص الشريف وقد جزئه إلى مجموعة مطالب، فقال في المطلب السادس عشر:

(نهاه (عليه السلام) أن يدفع صلحا دعاه إليه عدوّه إذا كان صلحا يرضى الله ونبّه على وجوه المصلحة فيه بضمير صغراه. قوله: فإنّ في الصلح. إلى قوله: لبلادك. وهي ثلاث مصالح ظاهرة اللزوم لصلح العدوّ، وتقدير کبراہ: وكلَّما كان فيه هذه المصالح فواجب قبوله.

السابع عشر: بالغ في تحذيره من العدوّ بعد صلحه وأمره أن يأخذ بالحزم

ص: 115


1- غمار: اسم واد بنجد
2- شرح نهج البلاغة للمعتزلي: ج 17 ص 107 - 110

ويتّهم في الصلح حسن ظنّه الَّذي عساه ينشأ عن صلحه. ونبّه على وجوب ذلك الحذر بضمير صغراه: قوله: فإنّ العدوّ ربّما قارب ليتغقل: أي قارب عدوّه بصلحه ليطلب غفلته فيظفر به، وله (عليه السلام) في ذلك شواهد التجربة. وحذف المفعولين للعلم بها. وتقدير كبراه: وكلّ من كان كذلك فواجب أن يحذر منه.

الثامن عشر: أمره على تقدير أن يعقد بينه وبين عدوّه عهدا أن يحوطه بالوفاء ويرعی ذمّته بالأمانة ويجعل نفسه جنّة دون ما أعطى: أي يحفظ ذلك بنفسه ولو أدى إلى ضررها، واستعار لفظ اللبس لإدخاله في أمان الذمة ملاحظة لشبهها بالقميص ونحوه. وكذلك لفظا الجنة لنفسه ملاحظة لشبهها في الحفظ بالترس ونحوه.

ورغَّب في ذلك بوجهين اشتمل عليهما قوله: فإنّه. إلى قوله: العذر: أحدهما: أنّ الناس أشدّ اجتماعا على ذلك من غيره من فرائض الله الواجبة عليهم مع تفرّق أهوائهم وتشتّت آرائهم. الثاني: أنّ المشركين لزموا ذلك فيما بينهم واستثقلوا الغدر لما فيه من سوء العاقبة.

والمذكوران صغريا ضمير تقدير الكبرى فيهما: وكلَّما كان كذلك فيجب لزومه والمحافظة عليه. ثمّ أكَّد ذلك بالنهي عن الغدر في العهد ونقض الذمّة وخداع العدوّ بمعاهدته ثمّ الغدر به، ونفّر عن ذلك بوجهين: أحدهما: قوله: فإنّه. إلى قوله: الأشقى. وهو صغری ضمیر تلخيصها: فإنّ المجترى على الله شقیّ، وتقدير كبراء: وناقض العهد والمدغل فيه مجتر على الله، ينتج من الرابع فالشقيّ هو ناقض العهد والمدغل فيه. ويجوز أن يكون

ص: 116

تقدير الصغرى: فإنّ ذلك جرأة على الله يستلزم الشقاوة، وتقدير الكبرى: وکلَّما كان كذلك وجب اجتنابه لينتج من الأوّل المطلوب.

الثاني: قوله: وقد جعل. إلى قوله: جواره. وأمنا: أي مأمنا واستعار لفظ الحريم للعهد، ورشّح بذكر السكون إلى منعته والاستفاضة إلى جواره، ونبّه بذلك على وجه الاستعارة وهو الاطمينان إليه والأمن من الفتنة بسببه فأشبه الحريم المانع، والكلام صغری ضمير تقدير کبراہ: وكلَّما كان كذلك فلا يجوز نقضه والإدغال فيه.

التاسع عشر: نهاه أن يعقد عقدا يجوّز فيه العلل أي الأحداث المفسدة له وهو كناية عن أمره بإحكام ما يعقد من الأمور.

العشرون: نهاه أن يعتمد على لحن القول في الأيمان والعهود بعد أن يؤكَّدها ويتوثّق من غيره فيها أو يتوثّق غيره منه فيها ومثال لحن القول ما ادّعاه طلحة والزبير من الوليجة والتورية في بيعتهما له (عليه السلام): أي لا تعتمد على ذلك من نفسك ولا تلتفت إليه من غير لو ادّعاه.

الحادي والعشرون: نهاه أن يدعوه ضيق أمر لزمه فيه عهد الله إلى أن يطلب إبطاله بغير حقّ، ورغَّب في الصبر عليه بقوله: فإنّ صبرك. إلى قوله: آخرتك. وهو صغری ضمير، وأراد بتبعته ما يتبعه من العقوبة، وبالطلبة ما يطالب به يوم القيامة من لزوم العهد، وإحاطتها به كناية عن لزومهاله، وبوصف الطلبة بقوله: لا تستقبل فيها دنياك ولا آخرتك. أراد أنّه لا يكون لك معها دنيا تستقبلها وتنتظر خيرها لعدم الدنيا هناك ولا آخرة تستقبلها إذ لا يستقبل في الآخرة إلَّا الأمور الخيرية. ومن أحاطت به طلبته من الله فلا

ص: 117

خير له في الآخرة يستقبله. وروی تستقبل بالیای: أي لا يكون لك من تلك الطلبة والتبعة إقالة في الدنيا ولا في الآخرة)(1).

ثانيا: قال (عليه الصلاة والسلام):

«إِنَّ الْوَفَاءَ تَوْأَمُ الصِّدْقِ ولَا أَعْلَمُ جُنَّةً أَوْقَى مِنْه - ومَا يَغْدِرُ مَنْ عَلِمَ كَيْفَ الْرْجِعُ - ولَقَدْ أَصْبَحْنَا فِي زَمَانٍ قَدِ اتَّخَذَ أَكْثَرُ أَهْلِه الْغَدْرَ كَيْساً - ونَسَبَهُمْ أَهْلُ الْجَهْلِ فِيه إِلَی حُسْنِ الْحِيلَةِ - مَا لَهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّه - قَدْ يَرَى الْحُوَّلُ الْقُلَّبُ وَجْه الْحِيلَةِ ودُونَهَا مَانِعٌ - مِنْ أَمْرِ اللَّ ونَهْيِه - فَيَدَعُهَا رَأْيَ عَنْدٍ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا - ويَنْتَهِزُ فُرْصَتَهَا مَنْ لَا حَرِيجَةَ لَه فِي الدِّينِ»(2).

نورد في بيان دلالات هذا النص الشريف ومعانيه ما تناوله ابن میثم البحراني وابن أبي الحديد المعتزلي فقط، وهو كالاتي:

1 - ابن میثم البحراني (رحمه الله) (ت 679 ه). قال (رحمه الله):

(ما استترت به من سلاح ونحوه. والقلَّب الحوّل: الَّذي يكثر تحوّله وتقلَّبه في اختيار الأمور، وتعرّف وجوهها. والانتهاز: المبادرة إلى الأمر.

والفرصة: وقت الإمكان. والحريجة: التخرّج وهو التحرّز من الحرج والإثم. واعلم أنّ الوفاء ملكة نفسانيّة ينشأ من لزوم العهد كما ينبغي والبقاء عليه، والصدق ملكة تحصل من لزوم الأقوال المطابقة، وهما فضیلتان داخلتان تحت فضيلة العفّة متلازمتان، ولمّا كان التوأم هو الولد المقارن لولد

ص: 118


1- شرح نهج البلاغة لابن میثم: ج 5 ص 181 - 183
2- نهج البلاغة، الخطبة: 41، ص 92

آخر في بطن واحد أشبهه الوفاء لمقارنته الصدق تحت العفّة، فاستعار لفظه اله. ثمّ لمّا كانت فضيلة الوفاء مقابلة برذيلة الغدر وفضيلة الصدق مقابلة برذيلة الكذب ورذیلتا الغدر والكذب أيضا توأمين تحت رذيلة الفجور المقابلة لفضيلة العفّة.

قوله: ولا أعلم جنّة أوقي منه.

حکم ظاهر فإنّ الوفاء وقاية تامّة للمرء أمّا في آخرته فللاستتارة به من عذاب الله الَّذي هو أعظم محذور، وأمّا في دنياه فللاستتارة به من السبّ والعار وما يلزمه عدم الوفاء من الغدر والكذب الملطخين لوجه النفس. وإذا علمت أنّه لا نسبة لشيء ممّا يجتنّ منه بالأسلحة وغيرها إلى ما يتوقّی بالوفاء علمت أنّه لا جنّة أوقي من الوفاء، وممادح الوفاء ومذامّ الغدر كثيرة قال الله تعالى «الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ»(1) «وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا» الآية وقال في تمدّحه بالوفاء «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ» قال: «فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا»(2).

ومن الخبر في ذمّ الغدر: لكلّ غادر لواء يعرف به يوم القيامة.

وقوله: ولا يغدر من علم كيف المرجع.

أقول: العلم بكيفيّة المرجع إلى الله تعالى والاطَّلاع على منازل السفر إليه وعلى أحوال الآخرة الَّتي هي المستقر صارف قوىّ عن ارتكاب الرذائل

ص: 119


1- الرعد: 20
2- محمد: 10

الَّتي من جملتها الغدر وإنّما خصّ الغدر بنسبة أهله إلى الجهل بأمر المعاد لكونه في معرض مدح الوفاء والترغيب فيه.

قوله: ولقد أصبحنا في زمان. إلى قوله: الحيلة.

أقول: إنّما اتّخذ أهل الزمان الغدر کیسا ونسبهم كثير إلى حسن الحيلة لجهل الفريقين بثمرة الغدر ولعدم تمييزهم بين الغدر والكيس فإنّه لمّا كان الغدر كثيرا ما يستلزم الذكاء والفطنة لوجه الحيلة وايقاعها بالمغدور به وكان الكيس أيضا عبارة عن الفطانة والذكاء وجودة الرأي في استخراج وجوه المصالح الَّتي تنبغي كانت بينهما مشاركة في استلزام مفهوميها للتفطَّن والذكاء في استخراج وجه الحيلة وايقاع الآراء إلَّا أنّ تفطَّن الغادر يستعمله في استنباط الحيلة وإن خالفت القوانين الشرعيّة وفاتت المصالح الكليّة في جنب مصلحة جزئيّة تخصّه، وتفطَّن الكيّس إنّما يستعمله في ايقاع رأي أو حيلة تنتظم مصلحة العالم وتوافق القوانين الشرعيّة، ولدقّة الفرق بينهما استعمل الغادرون غدرهم في موضع الكيس، ونسبهم أيضا الجاهلون في غدرهم إلى حسن حيلتهم کما نسب ذلك إلى عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبه ونحوهما، ولم يعلموا أنّ حيلة الغادر تخرجه إلى رذيلة الفجور، وأنّه لا حسن في حيلة جرّت إلى رذيلة.

وقوله: «ما هم قاتلهم الله قد يرى. إلى آخره».

دعاء عليهم بقتال الله لهم بعد استفهامه عن خوضهم في أمره استفهاما على سبيل الإنكار، وقد علمت أن قتال الله كناية عن عداوته والبعد عن رحمته، وظاهر أنّ أهل الغدر بعداء عن رحمة الله، ثمّ أردف ذلك الدعاء

ص: 120

بالإشارة إلى أنّه لا فضيلة لهم فيما يفتحزون به من الذكاء في استنباط وجوه الحيلة إذ كانت غايتهم الغدر والخيانة فإنّ الحوّل القلَّب في الأمور قدیری وجه الحيلة عيانا إلَّا أنّه يلاحظ في العمل بها مانع من الله ونهيه عن ارتكابها لما يؤدّى إليه من ارتكاب الرذائل الموبقة فيتركها رأى عينه: أي حال ما هي مرئيّة له وبعد القدرة عليها خوفا من الله تعالى. ثمّ يراها من لا يعتقد إثما في حزم قواعد الدين فيبادر إليها حال إمكانها وليس ذلك لفضيلة بل الفضل في الحقيقة لتاركها عن وازع الدين، والإشارة بالحوّل القلَّب إلى نفسه فإنّ شيمه الكريمة كانت كذلك)(1).

2 - ابن ابي الحديد المعتزلي (656 ه):

قال في بيان معنى الحديث:

(يقال: هذا توأم هذا، وهذه توأمته، وهما توأمان وإنما جعل الوفاء توأم الصدق، لان الوفاء صدق في الحقيقة، توأمته، وهما توأمان، وإنما جعل الوفاء توأم الصدق، لان الوفاء صدق في الحقيقة، ألا ترى أنه قد عاهد على أمر وصدق فيه ولم يخلف، وكأنهما أعم وأخص، وكل ألا ترى أنه قد عاهد على أمر وصدق فيه ولم يخلف، وكأنهما أعم وأخص وكل وفاء صدق، وليس كل صدق وفاء، فإن امتنع من حيث الاصطلاح تسمية الوفاء صدقا فلأمر آخر، وهو أن الوفاء قد يكون بالفعل دون القول، ولا يكون الصدق إلا في القول، لأنه نوع من أنواع الخبر، والخبر قول.

ثم قال: ولا أعلم جنة أي درعا. أوقي منه، أي أشد وقاية وحفظا لان

ص: 121


1- شرح نهج البلاغة لابن میثم: ج 2 ص 104 - 106

الوفي محفوظ من الله، مشكور بين الناس.

ثم قال: وما يغدر من علم كيف المرجع، أي من علم الآخرة وطوى عليها عقيدته، منعه ذلك أن يغدر، لان الغدر يحبط الايمان.

ثم ذكر أن الناس في هذا الزمان ينسبون أصحاب الغدر إلى الكيس، وهو الفطنة والذكاء، فيقولون لمن يخدع ويغدر، ولأرباب الجريرة والمكر: هؤلاء أذكياء أكياس كما كانوا، يقولون في عمر و بن العاص والمغيرة بن شعبة وينسبون أرباب ذلك إلى حسن الحيلة وصحة التدبير.

ثم قال: ما لهم قاتلهم! الله دعاء عليهم.

ثم قال: قد يرى الحول القلب وجه الحيلة، ويمنعه عنها نهى الله تعالى عنها، وتحريمه بعد أن قدر عليها، وأمكنه. والحول القلب: الذي قد تحول وتقلب في الأمور وجرب وحنكته الخطوب والحوادث.

ثم قال: وينتهز فرصتها، أي يبادر إلى افتراصها ويغتنمها. من لا حريجة له في الدين، أي ليس بذي حرج، والتحرج: التأثم. والحريجة: التقوى، وهذه كانت سجيته (عليه السلام) وشيمته، ملك أهل الشام الماء عليه، والشريعة بصفين، وأرادوا قتله وقتل أهل العراق، عطشا، فضاربهم على الشريعة حتى ملكها عليهم، وطردهم عنها فقال له أهل العراق: اقتلهم بسيوف العطش، وامنعهم الماء، وخذهم قبضا بالأيدي، فقال:

(إن في حد السيف لغنى عن ذلك، وإني لا أستحل منعهم الماء).

فأفرج لهم عن الماء فوردوه، ثم قاسمهم الشريعة شطرين بينهم وبينه.

ص: 122

وكان الأشتر يستأذنه أن يبيت(1) معاوية، فيقول:

(إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) نهى أن يبيت المشركون).

وتوارث بنوه (عليهم السلام) هذا الخلق الأبي. أراد المضاء أن يبیت عيسى بن موسى فمنعه إبراهيم بن عبد الله(2).

وأرسل لما ظهر بالبصرة إلى محمد بن قحطبة مولى باهلة وكان قد ولى لأبي جعفر المنصور بعض أعمال بفارس، فقال له هل عندك مال! قال: لا، قال: آلله؟ قال: الله قال: خلوا سبيله، فخرج ابن قحطبة، وهو يقول بالفارسية، ليس هذا من رجال لابن أبي جعفر.

وقال لعبد الحميد بن لاحق: بلغني أن عندك مالا للظلمة، يعنى آل أبي أيوب المورياني كاتب المنصور، فقال: مالهم عندي مال، قال: تقسم بالله! قال: نعم، فقال: إن ظهر لهم عندك مال لأعدنك كذابا(3).

وأرسل إلى طلحة الغدري وكان للمنصور عنده مال: بلغنا، أن عندك مالا فأتنا به، فقال: أجل، إن عندي مالا، فإن أخذته منى أغر منيه أبو جعفر

ص: 123


1- يقال: بيت الدو، أي قصده في الليل من غير أن يعلم فيؤخذ بغتة، وهو البيات
2- هو إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، دخل البصرة على عهد لابن أبي جعفر المنصور ودعا الناس إلى أخيه محمد بن عبد الله فبايعه كثيرون من أهلها، ثم استولى على الأهواز وواسط، ولم يزل بها حتى أتاه نعى أخيه محمد قبل فطر سنة 145 بثلاثة أيام، فأرسل إليه أبو جعفر قائده عيسى بن موسى، فخرج إبراهيم لملاقاته، والتقيا عند باخرى وكانت العاقبة لعيسى، وقتل إبراهيم لخمس ليال بقين من ذي القعدة سنة 145، والمضاء أحد رجاله. مقاتل الطالبيين 315 وما بعدها، وتاريخ الطبري (حوادث سنة 145)
3- مقاتل الطالبيين 333

فأضرب عنه.

وكان لغير إبراهيم (عليه السلام) من آل أبي طالب من هذا النوع أخبار كثيرة وكان القوم أصحاب دين ليسوا من الدنيا بسبيل، وإنما يطلبونها اليقيموا عمود الدين بالإمرة فيها فلم يستقم لهم، والدنيا إلى أهلها أميل.

ومن الاخبار النبوية المرفوعة في ذم الغدر:

«ذمة المسلمين واحدة، فإن أجارت عليهم أمة منهم، فلا تخفروا جوارها، فإن لكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة»(1).

وروى أبو هريرة، قال: مر رسول الله (صلى الله عليه آله) برجل يبيع طعاما فسأله: «كيف تبيع»؟ فأخبره، فأمر أبا هريرة أن يدخل فيه يده، فأدخلها فإذا هو مبلول، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله):

«ليس منا من غش».

قال بعض الملوك لرسول ورد إليه من ملك آخر: أطلعني على سر صاحبك، فقال: أيها الملك، إنا لا نستحسن الغدر، وإنه لو حول ثواب الوفاء إليه لما كان فيه عوض من قبحه، ولکان سماجة اسمه، وبشاعة ذكره، ناهيين عنه.

مالك بن دینار: كفى بالمرء خيانة أن يكون أمينا للخونة. وقع جعفر بن يحيى على ظهر كتاب كتبه علي بن عیسی بن ماهان إلى الرشید، يسعى(2) فيه بالبرامكة، فدفعه الرشيد إلى جعفر، یمن به عليه، وقال: أجبه عنه، فكتب في

ص: 124


1- نقله السيوطي في الجامع الصغير 2: 30 عن الحاكم، مع اختلاف في الرواية
2- السعي هنا: الوشاية

ظاهره: حبب الله إليك الوفاء يا أخي فقد أبغضته، وبغض إليك الغدر فقد أحببته، إني نظرت إلى الأشياء حتى أجد لك فيها مشبها فلم أجد، فرجعت إليك، فشبهتك بك، ولقد بلغ من حسن ظنك بالأيام أن أملت السلامة مع البغي، وليس هذا من عاداتها. والسلام.

كان العهد في عيسى بن موسى بن محمد بعد المنصور بكتاب كتبه السفاح، فلما طالت أيام المنصور، سامه أن يخلع نفسه من العهد، ويقدم محمدا المهدى عليه، فكتب إليه عيسى:

بدت لي أمارات من الغدر شمتها *** أرى ما بدا منها سيمطر كم دما وما يعلم العالي متى هبطاته *** وإن سار في ريح الغرور مسلما أبو هريرة يرفعه:

(اللهم إني أعوذ بك من الجوع فبئس الضجيع، وأعوذ بك من الجوع فبئس الضجيع، وأعوذ بك من الخيانة فبئست البطانة)! وعنه مرفوعا: (المكر والخديعة والخيانة في النار).

قال مروان بن محمد لعبد الحميد الكاتب، عند زوال أمره: أرى أن تصير إلى هؤلاء، فلعلك أن تنفعني في مخلفي، فقال: وكيف لي بعلم الناس جميعا أن هذا عن رأيك! إنهم ليقولون كلهم: إني غدرت بك، ثم أنشد:

وغدري ظاهر لا شك فيه *** لمبصره وعذري بالمغيب فلما ظفر به عبد الله بن علي، قطع يديه ورجليه، ثم ضرب عنقه.

كان يقال: لا يغدر غادر إلا لصغر همته عن الوفاء، واتضاع قدره عن

ص: 125

احتمال المكاره في جنب نيل المكارم.

من كلام أمير المؤمنين (عليه السلام):

«الوفاء لأهل الغدر غدر، والغدر بأهل الغدر وفاء عند الله تعالى».

قلت: هذا إنما يريد به إذا كان بينهما عهد ومشارطة فغدر أحد الفريقين، وخاس بشرطه، فإن للآخر أن يغدر بشرطه أيضا ولا يفي به.

ومن شعر الحماسة، واسم الشاعر العارق الطائي(1).

من مبلغ عمرو بن هند رسالة *** إذا استحقبتها العيس جاءت من البعد(2) أيوعدني الرمل بيني وبينه *** تبين رويدا ما أمامة من هند!(3) ومن أجا حولي رعان كأنها *** قنابل خيل من كميت ومن ورد(4) غدرت بأمر كنت أنت اجتررتنا *** إليه وبنس الشيمة الغدر بالعهد)(5)

ص: 126


1- واسمه أيضا قيس بن جروة الطائي، والأبيات في ديوان الحماسة بشرح المرزوق 3: 1466، 1467. قال الشارح: (كان عمرو بن هند غزا اليمامة فأخفق ورجع منفضا، فمر بطئ - وكانوا في ذمته - بكتاب عقد اكتتبه لهم، وعهد أحكمه معهم فقال زرارة بن عدس له: أبيت اللعن! أصب من هذا الحي شيئا. قال: ويلك! إن لهم عقدا لا يجوز لنا تخطيه. فأخذ زرارة يهون أمر العهد عليه، ويحسن الايقاع بهم، فلم يزل يفتل له في الذروة والغارب معه لشئ كان في نفسه على طي، حتى أصاب أذوادا ونساء، فهجا عارق عمرو بن هند بأبيات يعصب بها رأسه فيها بالغدر الذي كان منه، فوقعت الأبيات إلى عمر و بن هند، فتوعد عارقا وحلف أنه يقتله، فاتصلت مقالته بعارق، فقال هذه الأبيات)
2- استحقبتها: حملتها في الحقائب. وتنضى: تهزل
3- أيوعدني، الاستفهام على طريق التقريع واستعظام الامر
4- أجأ: أحد جبلي طئ، وثانيهما سلمى. جمع رعن، وهو أنف يتقدم من الجبل. والقنابل جماعات الخيل، قال التبريزي، (جعلها مختلفة الألوان لاختلاف ألوان الجبال)
5- شرح نهج البلاغة المعتزلي: ج 2 ص 312 - 317

ثالثاً: قال (عليه الصلاة والسلام):

«واللَّه مَا مُعَاوِيَةُ بِأَدْهَى مِنِّي ولَكِنَّه يَغْدِرُ ويَفْجُرُ - ولَوْ لَا كَرَاهِيَةُ الْغَدْرِ لَكُنْتُ مِنْ أَدْهَى النَّاسِ - ولَكِنْ كُلُّ غُدَرَةٍ فُجَرَةٌ وكُلُّ فُجَرَةٍ كُفَرَةٌ - ولِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يُعْرَفُ بِه يَوْمَ الْقِيَامَةِ - واللَّ مَا أُسْتَغْفَلُ بِالْمَكِيدَةِ ولَا أُسْتَغْمَزُ بِالشَّدِيدَةِ»(1).

أشتمل هذا الحديث على مطالب عديدة والتي تضمنت الكثير من الحقائق التاريخية؛ ومما لا شك فيه انها بحاجة إلى المراجعة والتعليق لا سيما في أمر الشيخين الذي تناوله الشارح المعتزلي في شرحه وبيانه لهذا النص الشريف.

ولذا: فقد اقتصرت في بيان دلالات النص على ابن میثم البحراني، وتشذيب قول الشارح المعتزلي، وهما كالاتي:

1 - ابن میثم البحراني:

قال (رحمه الله):

(الدهاء: استعمال العقل والرأي الجيّد فيما يراد فعله ممّا لا ينبغي مع إظهار إرادة غيره. ويسمّى صاحبه داهيا، وداهية للمبالغة، وخبيثا ومکَّارا وحیّالا.

وهو داخل تحت رذيلة الجريزة وهي طرف الإفراط من فضيلة الحكمة العمليّة ويستلزم رذائل كثيرة كالكذب. والغدر: هو الرذيلة المقابلة لفضيلة الوفاء بالعهود الَّتي هي ملكة تحت العقة. والفجور: المقابل لفضيلة العفّة.

ص: 127


1- نهج البلاغة، الخطبة : 200، ج 2 ص 180

فقوله (عليه السّلام): «ما معاوية بأدهى منّي».

أي ليس بأقدر منّي على فعل الدهاء، وأكَّد ذلك بالقسم البارّ.

وقوله: ولكنّه يغدر ويفجر.

إشارة إلى لوازم الدهاء الَّتي لأجلها تركه وهو الغدر، وبواسطته الفجور فإنّ الوفاء لمّا كان نوعا تحت العفّة كان الغدر الَّذي هو رذيلته نوعا تحت ما يقابل العفّة وهو الفجور ولذلك نفى الدهاء عن نفسه لكراهيّته للغدر، ونفيه له عن نفسه لأنّ نفى اللازم مستلزم لنفى الملزوم. ثمّ جعل الغدر أوسط في إثبات الفجور لمعاوية بقياس ضمير من الشكل الأوّل فقوله: ولكنّه يغدر. في قوّة صغرى القياس، وقوله: ويفجر. في قوّة النتيجة فكأنّه قال: ولكنّه يغدر فهو يفجر، ونبّه على الكبرى بقوله: وكلّ غدرة فجرة.

فصار الترتيب هكذا: ولكنّه يغدر وكل من يغدر يفجر والنتيجة فهو إذن يفجر. ثمّ نبّه على لزوم الكفر له بقياس آخر من الشكل الأوّل نبّه على صغراه بقوله: وكلّ غدرة فجرة، وعلى كبراه بقوله: وكلّ فجرة كفرة، وإذ ثبت في القياس الأوّل أنّه فاجر واستلزم قوله: وكلّ فجرة كفرة أن كلّ فاجر كافر ثبت بهاتين المقدّمتين أنّه كافر. وروى: غدرة، وفجرة، وكفرة.

وهو كثير الغدر والفجور والكفر وذلك أصرح في إثبات المطلوب قال بعض الشارحين: ووجه لزوم الکفر أنّ هنا الغادر على وجه استباحة ذلك واستحلاله، كما كان هو المشهور من حال عمرو بن العاص ومعاوية في استباحة ما علم تحريمه بالضرورة من دين محمّد (صلَّى الله عليه وآله وسلم) وجحده وهو معنى الكفر، ويحتمل أنّه يريد كفر نعم الله وسترها

ص: 128

بإظهار معصيته كما هو المفهوم اللغويّ من لفظ الكفر. وإنّما وحّد الكفر ليتعدّد الكفر بحسب تعدّد الغدر فيكون أدعى إلى النفار عن الغدر. إذ هو في معرض التنفير عنه.

وقوله: «ولكلّ غادر لواء يعرف به يوم القيامة».

لفظ الخبر النبويّ، وفيه تنفير عن رذيلة الغدر.

وقوله: «والله ما استغفل بالمكيدة».

تقرير وتأكيد لما ذكره من معرفته بوجوه الآراء وكيفيّة الدهاء للداهى فإنّ من يكون كذلك لا يلحقه غفلة عمّا يعمل عليه من الحيلة والمكيدة.

وقوله: ولا استغمز. بالزاء المعجمة.

أي لا يطلب غمزي وإضعافي فإنّي لا أضعف عمّا ارمي به من الشدائد، وروى بالراء أي لا استجهل بشدائد المكائد. وهذا القول صدر منه (عليه السّلام) كالجواب لما كان يسمعه من أقوال الجاهلين بحاله ونسبتهم له إلى قلَّة التدبير وسوء الرأي ونسبة معاوية إلى استخراج وجوه المصالح والآر الصحيحة في الحرب وغيرها.

واعلم أنّ الجواب عن هذا الخيال يستدعى فهم حاله (عليه السّلام) وحال معاوية وغيره ممّن ينسب إلى جودة الرأي، وبيان التفاوت بينهم وبينه وذلك راجع إلى حرف واحد وهو أنّه (عليه السّلام) كان ملازما في جميع حركاته قوانين الشريعة مدفوعا إلى اتّباعها ورفض ما العادة أن يستعمل في الحروب.

فالتدابير من الدهاء والخبث والمکر والحيلة والاجتهادات في النصوص

ص: 129

وتخصيص عموماتها بالآراء وغير ذلك ممّا لم ترخص فيه الشريعة، وكان غيره يعتمد جميع ذلك سواء وافق الشريعة أو لم يوافق فكانت وجوه الحيل والتدبير عليهم أوسع، وكان مجالها عليه أضيق.

ونقل عن أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ في هذا المعنی کلام طويل خلاصته أن قال:

إنّي ربّما رأيت بعض من يظن بنفسه العقل والعلم وأنّه من الخاصّة وهو من العامّة، ويزعم أنّ معاوية كان أبعد غورا وأصحّ فكرا وأجود مسلكا من عليّ وليس الأمر كذلك وساؤمي إلى موضع غلطه، وذلك أنّ عليّا (عليه السّلام) كان لا يستعمل في حروبه إلَّا ما يوافق الكتاب والسنّة، وكان معاوية يستعمل ما يخالفهما کاستعماله ما يوافقهما ويسير في الحرب بسيرة ملك الهند إذا لا في كسرى، وكان عليّ يقول لأصحابه:

«لا تبدؤهم بالقتال حتى يبدؤكم ولا تتّبعوا مدبرا ولا تجهزوا على جريح ولا تفتحوا بابا مغلقا».

هذه سيرته في ذي الكلاع، وفي أبي الأعور السلمي وفي عمرو بن العاص وفي حبيب بن مسلمة وفي جميع الرؤساء کسيرته في الحاشية والأتباع، وأصحاب الحروب إنّما يقصدون الوجه الَّذي به هلاك الخصم وينتظرون وجه الفرصة سواء كان مخالفا للشريعة كالحريق والغريق ودفق السموم والتضريب بين الناس بالكذب وإلقاء الكتب في العسكر أو موافقا لها فمن اقتصر في التدبير على الكتاب والسنّة فقد منع نفسه الطويل العريض من التدبير وما لا يتناهی من المكائد، والصدق والكذب أكثر من الصدق وحده

ص: 130

والحلال والحرام أكثر من الحلال وحده.

فعلي كان ملجا بلجام الورع عن جميع القول إلَّا ما فيه لله رضى، وممنوع اليدين من كلّ بطش إلاَّ بما دلّ عليه الكتاب والسنّة دون أصحاب الدهاء والمكر والمكائد فلمّا رأت العوامّ نوادر معاوية في المكائد وكثرة معايبه في الخديعة وما تهيّأ له ولم يروا مثل ذلك من عليّ ظنّوا القصور فظنّهم أنّ ذلك لا من رجحان عند معاوية ونقصان في عليّ. ثمّ انظر بعد ذلك كله هل يعدّ لمعاوية من الخداع أكبر من رفع المصاحف، ثم انظر هل خدع بها إلَّا من عصى رأى علي وخالف أمره من أصحابه فإن زعمت أنّه قد نال ما أراد بخداعه من الاختلاف على عليّ فقد صدقت ولكن ليس ذلك محل النزاع ولم يختلف في غرارة أصحاب عليّ وعجلتهم وتسترّعهم وتنازعهم، وإنّما كانت البحث في التمييز بينه وبين معاوية في الدهاء والمكر وصحّة العقل والرأي.

فهذه خلاصة كلامه، ومن تأمّله بعين الانصاف علم صحّته وصدقه، ومن هذا يتبيّن لك الجواب عن كلّ ما نسب إليه من التقصير في خلافته كعدم إقراره لمعاوية على الولاية في أول خلافته ثمّ يعز له بعد ذلك لما يستلزم تقريره من الظلم، وكشبهة التحكيم، وكنسبتهم له إلى التوحّش لبعض أصحابه حتّى فارقوه إلى معاویة كأخيه عقيل وشاعره النجاشي ومصقلة بن هبيرة، وكتركه لطلحة والزبير حتّى فارقاه وخرجا إلى مكَّة وأذن لهما في الا العمرة وذهب عنه الرأي في ارتباطها عنده ومنعه لهما من البعد عنه.

وأمثال ذلك فإنّ الانصاف عند اعتبار حاله في جميع ما نسب إليه يقتضى موافقته للشريعة وعدم خروجه عنها. وتفصيل الأجوبة عن ذلك ممّا يخرج

ص: 131

عن الغرض، وبالله التوفيق)(1).

2 - ابن ابي الحديد المعتزلي.

لعل ايراد جميع ما ذکره الشارح المعتزلي في بيانه لهذه الخطبة والبالغة لأكثر من خمسين صفحه سيخرج الكتاب عن الغرض المقصود في بيان المسائل الفقهية في هذا الكتاب الشريف، وبيان مواردها لدى المذاهب السبعة.

الا أن المنهج المتبع في الدراسات البينية يستلزم مراجعة تلك المدارس الفقهية الفكرية والاخلاقية لبيان أثر النص في الفكر الإسلامي ومعارفه المتعددة.

وعليه: فقد تناول الشارح المعتزلي هذا النص الشريف بمزيد من البيان، نورد ما يتناسب مع اصل قوله (عليه الصلاة والسلام):

«وما معاوية بادهى مني...».

قال ابن ابي الحديد:

(الغدرة، على (فعلة) الكثير الغدر، والفجرة والكفرة الكثير الفجور والكفر، وكل ما كان على هذا البناء فهو للفاعل، فإن سكنت العين فهو للمفعول، تقول: رجل ضحكة أي يضحك، وضحكة يضحك منه، وسخرة يسخر، وسخرة يسخر به، يقول عليه السلام: كل غادر فاجر، وكل فاجر كافر. ويروى: (ولكن كل غدرة فجره، وكل فجرة كفرة) على (فعلة) للمرة الواحدة.

ص: 132


1- شرح نهج البلاغة لابن ميثم البحراني: ج 3 ص 469 - 472

وقوله: «لكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة»، حديث صحيح مروي عن النبي (صلى الله عليه وآله).

ثم أقسم (عليه السلام) أنه لا يستغفل بالمكيدة، أي لا تجوز المكيدة علي، كما تجوز على ذوي الغفلة، وأنه لا يستغمز بالشديدة، أي لا أهين وألين للخطب الشديد.

(سياسة علي وجريها على سياسة الرسول (صلى الله عليه وآله)):

واعلم: أن قوما من لم يعرف حقيقة فضل أمير المؤمنين (عليه السلام)، زعموا أن عمر كان أسوس منه، وإن كان هو أعلم من عمر، وصرح الرئيس أبو علي بن سينا بذلك في (الشفاء) في الحكمة، وكان شيخنا أبو الحسين(1) يميل إلى هذا، وقد عرض به في كتاب (الغرر)، ثم زعم أعداؤه ومباغضوه أن معاوية كان أسوس منه وأصح تدبيرا، وقد سبق لنا بحث قديم في هذا الكتاب في بيان حسن سياسة أمير المؤمنين (عليه السلام) وصحة تدبيره، ونحن نذكر هاهنا ما لم نذكره هناك مما يليق بهذا الفصل الذي نحن في شرحه.

اعلم: أن السائس لا يتمكن من السياسة البالغة إلا إذا كان يعمل برأيه، وبما يرى فيه صلاح ملكه، وتمهيد أمره، وتوطيد قاعدته، سواء وافق الشريعة و لم يوافقها، ومتى لم يعمل في السياسة والتدبير بموجب ما قلناه، فبعيد أن ينتظم أمره، أو يستوثق حاله، وأمير المؤمنين كان مقيدا بقيود الشريعة، مدفوعا إلى اتباعها ورفض ما يصلح اعتماده من آراء الحرب والكيد والتدبير

ص: 133


1- هو كتاب الغرر لأبي الحسين البصري، في أصول الكلام، شرحه المؤلف، وساه (شرح مشکلات الغرر)، ذكره صاحب روضات الجنات

إذا لم يكن للشرع موافقا، فلم تكن قاعدته في خلافته قاعدة غيره ممن لم يلتزم بذلك، ولسنا بهذا القول زارين على عمر بن الخطاب، ولا ناسبين إليه ما هو منزه عنه، ولكنه كان مجتهدا يعمل بالقياس والاستحسان والمصالح المرسلة، ويرى تخصيص عمومات النص بالآراء وبالاستنباط من أصول تقتضي خلاف ما يقتضيه عموم النصوص، ويكيد خصمه، ويأمر أمراءه بالكيد والحيلة، ويؤدب بالدرة والسوط من يتغلب على ظنه أنه يستوجب ذلك، ويصفح عن آخرين قد اجترموا ما يستحقون به التأديب، كل ذلك بقوة اجتهاده وما يؤديه إليه نظره.

ولم يكن أمير المؤمنين (عليه السلام) يرى ذلك، وكان يقف مع النصوص والظواهر، ولا يتعداها إلى الاجتهاد والأقيسة، ويطبق أمور الدنيا على أمور الدين، ويسوق الكل مساقا واحدا، ولا يضيع ولا يرفع إلا بالكتاب والنص، فاختلفت طريقتاهما في الخلافة والسياسة، وكان عمر مع ذلك شديد الغلظة والسياسة.

وكان علي (عليه السلام) كثير الحلم والصفح والتجاوز، فازدادت خلافة ذاك قوة، وخلافة هذا لينا، ولم يمن عمر بما منى به علي (عليه السلام) من فتنة عثمان، التي أحوجته إلى مداراة أصحابه وجنده ومقاربتهم، للاضطراب الواقع بطريق تلك الفتنة، ثم تلا ذلك فتنة الجمل، وفتنة صفين ثم فتنة النهروان، وكل هذه الأمور مؤثرة في اضطراب أمر الوالي وانحلال معاقد ملكه، ولم يتفق لعمر شئ من ذلك، فشتان بين الخلافتين فيما يعود إلى انتظام المملكة وصحة تدبير الخلافة.!

ص: 134

فإن قلت: فما قولك في سياسة الرسول (صلى الله عليه وآله) وتدبيره؟ أليس كان منتظما سديدا مع أنه كان لا يعمل إلا بالنصوص والتوقيف من الوحي! فهلا كان تدبير علي (عليه السلام) وسياسته كذلك! إذا قلتم: أنه كان لا يعمل إلا بالنص؟ قلت: أما سياسة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتدبيره فخارج عما نحن فيه، لأنه معصوم لا تتطرق الغفلة إلى أفعاله، ولا واحد من هذين الرجلين بواجب العصمة عندنا. وأيضا فإن كثيرا من الناس ذهبوا إلى أن الله تعالى أذن للرسول (صلى الله عليه وآله) أن يحكم في الشرعيات وغيرها برأيه، وقال له: احكم بما تراه، فإنك لا تحكم إلا بالحق، وهذا مذهب يونس بن عمران، وعلى هذا فقد سقط السؤال، لأنه (صلى الله عليه وآله) يعمل بما يراه من المصلحة، ولا ينتظر الوحي.

وأيضا فبتقدير فساد هذا المذهب، أليس قد ذهب خلق كثير من علماء أصول الفقه إلى أن الرسول (صلى الله عليه وآله) كان يجوز له أن يجتهد في الاحكام والتدبير، كما يجتهد الواحد من العلماء، وإليه ذهب القاضي أبو يوسف رحمه الله، واحتج بقوله تعالى: «لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ»(1).

والسؤال أيضا ساقط على هذا المذهب، لان اجتهاد علي (عليه السلام) لا يساوى اجتهاد النبي (صلى الله عليه وآله)، وبين الاجتهادين كما بين المنزلتين.

وكان أبو جعفر بن أبي زيد الحسنى نقيب البصرة رحمه الله إذا حدثناه

ص: 135


1- النساء: 105

في هذا يقول: إنه لا فرق عند من قرأ السيرتين: سيرة النبي (صلى الله عليه وآله) وسياسة أصحابه أيام حياته، وبين سيرة أمير المؤمنين (عليه السلام) وسياسة أصحابه أیام حياته، فكما أن عليا (عليه السلام) لم يزل أمره مضطربا معهم بالمخالفة والعصيان والهرب إلى أعدائه، وكثرة الفتن والحروب، فكذلك كان النبي (صلى الله عليه وآله) لم يزل ممنوا بنفاق المنافقين وأذاهم، وخلاف أصحابه عليه وهرب بعضهم إلى أعدائه، وكثرة الحروب والفتن.

وكان يقول: ألست ترى القرآن العزيز مملوءا بذكر المنافقين والشكوى منهم، والتألم من أذاهم له، كما أن كلام علي (عليه السلام) مملوء بالشكوى من منافقي أصحابه والتألم من أذاهم له، والتوائهم عليه! وذلك نحو قوله تعالى:

«أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ»(1).

وقوله: «إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا...»(2) الآية.

وقوله تعالى: «إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ...»(3).

ص: 136


1- المجادلة: 8
2- المجادلة: 10
3- المنافقون: 1

وقوله تعالى: «وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ»(1).

وقوله تعالى: «رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ»(2).

وقوله تعالى: «أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ * وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ»(3).

وقوله تعالى: «سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا * بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا»(4).

وقوله تعالى: «سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ

ص: 137


1- محمد 16
2- محمد 20
3- محمد 29، 30
4- الفتح 11، 12

قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا»(1).

وقوله: «إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ»(2).

قال: وأصحابه هم الذين نازعوا في الأنفال وطلبوها لأنفسهم، حتى أنزل الله تعالى:

«يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ»(3).

وهم الذين التووا عليه في الحرب يوم بدر، وكرهوا لقاء العدو حتى خيف خذلانهم، وذلك قبل أن تتراءى الفئتان، وأنزل فيهم:

«يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ».

وهم الذين كانوا يتمنون لقاء العير دون لقاء العدو، حتى إنهم ظفروا برجلين في الطريق، فسألوهما عن العير، فقالا لا علم لنا بها، وإنما رأينا جيش قريش من وراء ذلك الكثيب، فضربوهما ورسول الله (صلى الله عليه وآله) قائم يصلى، فلما ذاقا مس الضرب قالا بل العير أمامكم فاطلبوها، فلما رفعوا الضرب عنهما، قالا: والله ما رأينا العير ولا رأينا إلا الخيل

ص: 138


1- الفتح 15
2- الحجرات 4، 5
3- الأنفال 1

والسلاح والجيش، فأعادوا الضرب عليهما مرة ثانية، فقالا وهما يضربان: العير أمامكم، فخلوا عنا، فانصرف رسول الله (صلى الله عليه وآله من الصلاة، وقال:

«إذا صدقاكم ضربتموهما، وإذا كذباكم خليتم عنهما! دعوهما».

فما رأيا إلا جيش أهل مكة، وأنزل قوله تعالى:

«وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ»(1).

قال المفسرون: الطائفتان: العير ذات اللطيمة الواصلة إلى مكة من الشام صحبة أبي سفيان بن حرب، وإليها كان خروج المسلمين، والأخرى الجيش ذو الشوكة، وكان (عليه السلام قد وعدهم بإحدى الطائفتين، فكرهوا الحرب، وأحبوا الغنيمة.

قال: وهم الذين فروا عنه (صلى الله عليه وآله يوم أحد، وأسلموه واصعدوا في الجبل، وتركوه حتى شج الأعداء وجهه، وكسروا ثنيته، وضربوه على بيضته، حتى دخل جماجمه، ووقع من فرسه إلى الأرض بين القتلى، وهو يستصرخ بهم، ويدعوهم فلا يجيبه أحد منهم إلا من كان جاريا مجرى نفسه، وشديد الاختصاص به، وذلك قوله تعالى:

«إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ»(2)

ص: 139


1- الأنفال: 7
2- آل عمران 153

أي ينادى فيسمع نداءه آخر الهاربين لا أولهم، لان أولهم أو غلوا في الفرار، وبعدوا عن أن يسمعوا صوته، وكان قصارى الامر أن يبلغ صوته واستصراخه من كان على ساقة الهاربين منهم.

قال: ومنهم الذين عصوا أمره في ذلك اليوم، حيث أقامهم على الشعب في الجبل، وهو الموضع الذي خاف أن تكر عليه منه خيل العدو من ورائه، وهم أصحاب عبد الله ابن جبير، فإنهم خالفوا أمره وعصوه فيما تقدم به إليهم، ورغبوا في الغنيمة، ففارقوا مركزهم: حتى دخل الوهن على الإسلام بطريقهم، لان خالد بن الوليد كر في عصابة من الخيل، فدخل من الشعب الذي كانوا يحرسونه، فما أحس المسلمون بهم إلا وقد غشوهم بالسيوف من خلفهم، فكانت الهزيمة، وذلك قوله تعالى:

«حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ»(1).

قال: وهم الذين عصوا أمره في غزاة تبوك، بعد أن أكد عليهم الأوامر، وخذلوه وتركوه ولم يشخصوا معه، فأنزل فيهم:

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»(2).

ص: 140


1- آل عمران 152
2- التوبة 38، 39

وهذه الآية خطاب مع المؤمنين لا مع المنافقين، وفيها أوضح دليل على أن أصحابه وأولياءه المصدقين لدعوته كانوا يعصونه، ويخالفون أمره، وأكد عتابهم وتقريعهم وتوبيخهم بقوله تعالى:

«لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ»(1).

ثم عاتب رسول الله (صلى الله عليه وآله) على كونه أذن لهم في التخلف، وإنما أذن لهم لعلمه أنهم لا يجيبونه في الخروج، فرأى أن يجعل المنة له عليهم في الأذن لهم، وإلا قعدوا عنه ولم تصل له المنة، فقال له:

«عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ»(2).

أي هلا أمسكت عن الأذن لهم حتى يتبين لك قعود من يقعد، وخروج من يخرج، صادقهم من كاذبهم! لأنهم كانوا قد وعدوه بالخروج معه كلهم، وكان بعضهم ينوى الغدر، وبعضهم يعزم على أن يخيس(3) بذلك الوعد، فلو لم يأذن لهم لعلم من يتخلف ومن لا يتخلف، فعرف الصادق منهم والكاذب.

ثم بين سبحانه وتعالى أن الذين يستأذنونه في التخلف خارجون من الايمان، فقال له:

ص: 141


1- التوبة 42
2- التوبة 43
3- يخيس: يغدر

«لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ»(1).

ولا حاجة إلى التطويل بذكر الآيات المفصلة فيما يناسب هذا المعنى، فمن تأمل الكتاب العزيز علم حاله صلوات الله عليه - وعلى آله - مع أصحابه كيف كانت، ولم ينقله الله تعالى إلى جواره إلا وهو مع المنافقين له والمظهرین خلاف ما يضمرون من تصديقه في جهاد شدید، حتى لقد کاشفوه مرارا، فقال:

«لهم يوم الحديبية احلقوا وانحروا... مرارا».

فلم يحلقوا ولم ينحروا، ولم يتحرك أحد منهم عند قوله، وقال له بعضهم وهو يقسم الغنائم:

(إعدل یا محمد فإنك لم تعدل).؟!! وقالت الأنصار له مواجهة يوم حنين: أتأخذ ما أفاء الله علينا بسيوفنا فتدفعه إلى أقاربك من أهل مكة! حتى أفضى الأمر إلى أن قال لهم في مرض موته:

«ائتوني بدواة وكتف أكتب لكم مالا تضلون بعده»؟ فعصوه ولم يأتوه بذلك، وليتهم اقتصروا على عصيانه ولم يقولوا له ما قالوا، وهو يسمع.

ص: 142


1- التوبة 44، 45

وكان أبو جعفر رحمه الله يقول من هذا ما يطول شرحه، والقليل منه ينبئ عن الكثير، وكان يقول:

إن الإسلام ماحلا عندهم ولا ثبت في قلوبهم إلا بعد موته، حين فتحت عليهم الفتوح، وجاءتهم الغنائم والأموال، وكثرت عليهم المكاسب، وذاقوا طعم الحياة، وعرفوا لذة الدنيا، ولبسوا الناعم، وأكلوا الطيب، وتمتعوا بنساء الروم، وملكوا خزائن کسری.

وتبدلوا بذلك القشف والشظف والعيش الخشن وأكل الضباب والقنافذ واليرابيع ولبس الصوف والكرابيس(1)، وأكل اللوزينجات والفالوذجات ولبس الحرير والديباج، فاستدلوا بما فتحه الله عليهم وأتاحه لهم على صحة الدعوة، وصدق الرسالة، وقد كان (صلى الله عليه وآله) وعدهم بأنه سيفتح عليهم كنوز کسری وقيصر.

فلما وجدوا الأمر قد وقع بموجب ما قاله عظموه وبجلوه، وانقلبت تلك الشكوك وذاك النفاق وذلك الاستهزاء إيمانا ويقينا وإخلاصا، وطاب لهم العيش، وتمسكوا بالدين، لأنه زادهم طريقا إلى نيل الدنيا، فعظموا ناموسه، وبالغوا في إجلاله وإجلال الرسول الذي جاء به، ثم انقرض الأسلاف وجاء الاخلاف على عقيدة ممهدة، وأمر أخذوه تقليدا من أسلافهم الذين ربوا في حجورهم، ثم انقرض ذلك القرن، وجاء من بعدهم كذلك وهلم جرا.

قال: ولولا الفتوح والنصر والظفر الذي منحهم الله تعالى إياه، والدولة

ص: 143


1- الكرابيس: جمع کرباس، وهو الثوب من القطن الأبيض

التي ساقها إليهم، لانقرض دين الإسلام بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وكان يذكر في التواریخ، کما تذكر الان نبوة خالد بن سنان العبسي، حيث ظهر ودعا إلى الدين. وكان الناس يعجبون من ذلك ويتذاكرونه کما يعجبون ويتذاكرون أخبار من نبغ من الرؤساء والملوك والدعاة الذين انقرض أمرهم، وبقيت أخبارهم.

وكان يقول: من تأمل حال الرجلين وجدهما متشابهتين في جميع أمورهما أو في أكثرها، وذلك لان حرب رسول الله (صلى الله عليه وآله) مع المشركين كانت سجالا، انتصر يوم بدر، وانتصر المشركون عليه يوم أحد، وكان يوم الخندق کفافا خرج هو وهم سواء، لا عليه ولا له، لأنهم قتلوا رئيس الأوس وهو سعد بن معاذ، وقتل منهم فارس قريش وهو عمرو بن عبدود، وانصرفوا عنه بغير حرب بعد تلك الساعة التي كانت، ثم حارب بعدها قريشا يوم الفتح، فكان الظفر له.

وهكذا كانت حروب علي (عليه السلام)، انتصر يوم الجمل، وخرج الامر بينه وبين معاوية على سواء، قتل من أصحابه رؤساء، ومن أصحاب معاوية رؤساء، وانصرف كل واحد من الفريقين عن صاحبه بعد الحرب على مكانه، ثم حارب بعد صفين أهل النهروان، فكان الظفر له.

قال: ومن العجب أن أول حروب رسول الله (صلى الله عليه وآله) كانت بدرا، وكان هو المنصور فيها، وأول حروب علي (عليه السلام) الجمل، وكان هو المنصور فيها، ثم كان من صحيفة الصلح والحكومة يوم صفين نظير ما كان من صحيفة الصلح والهدنة يوم الحديبية.

ص: 144

ثم دعا معاوية في آخر أيام علي (عليه السلام) إلى نفسه وتسمى بالخلافة، کما أن مسيلمة والأسود العنسي دعوا إلى أنفسهما في آخر أيام رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتسميا بالنبوة، واشتد على علي (عليه السلام) ذلك، کما اشتد على رسول الله (صلى الله عليه وآله) أمر الأسود ومسيلمة، وأبطل الله أمرهما بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله)، وكذلك أبطل أمر معاوية وبنی أمية بعد وفاة علي (عليه السلام).

ولم يحارب رسول الله (صلى الله عليه وآله) أحد من العرب إلا قریش ما عدا يوم حنين، ولم يحارب عليا (عليه السلام) من العرب أحد إلا قریش ما عدا يوم النهروان، ومات علي (عليه السلام) شهيدا بالسيف، ومات رسول الله (صلى الله عليه وآله) شهيدا بالسم، وهذا لم يتزوج على خديجة أم أولاده حتى ماتت، وهذا لم يتزوج على فاطمة أم أشرف أولاده حتى ماتت. ومات رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن ثلاث وستين سنه، ومات علي (عليه السلام) عن مثلها.

وكان يقول: انظروا إلى أخلاقهما وخصائصهما، هذا شجاع وهذا شجاع، وهذا فصیح وهذا فصيح، وهذا سخي جواد وهذا سخي جواد، وهذا عالم بالشرائع والأمور الإلهية، وهذا عالم بالفقه والشريعة والأمور الإلهية الغامضة، وهذا زاهد في الدنيا غير منهم ولا مستكثر منها، وهذا زاهد في الدنيا تارك لهاغير متمتع بلذاتها. وهذا مذیب نفسه في الصلاة والعبادة، وهذا مثله.

وهذا غير محبب إليه شئ من الأمور العاجلة إلا النساء، وهذا مثله،

ص: 145

وهذا ابن عبد المطلب بن هاشم، وهذا في قعدده، و أبواهما أخوان لأب واحد دون غيرهما من بني عبد المطلب، وربي محمد (صلى الله عليه وآله) في حجر والد هذا وهو أبو طالب، فكان جاريا عنده مجرى أحد أولاده.

ثم لما شب (صلى الله عليه وآله) وكبر استخلصه من بن أبي طالب وهو غلام، فرباه في حجره مكافأة لصنيع أبی طالب به، فامتزج الخلقان، وتماثلت السجيتان، وإذا كان القرين مقتديا بالقرين، فما ظنك بالتربية والتثقيف الدهر الطويل! فواجب أن تكون أخلاق محمد (صلى الله عليه وآله) كأخلاق أبی طالب، وتكون أخلاق علي (عليه السلام) كأخلاق أبي طالب أبيه، ومحمد (عليه السلام) مربیه، وأن يكون الكل شيمة واحدة وسوسا(1) واحدا، وطينة مشتركة، ونفسا غیر منقسمة ولا متجزئة، وألا يكون بين بعض هؤلاء وبعض فرق ولا فضل، لولا أن الله تعالى اختص محمدا (صلى الله عليه وآله) برسالته، واصطفاه لوحيه، لما يعلمه من مصالح البرية في ذلك، ومن أن اللطف به أكمل، والنفع بمكانه أتم وأعم، فامتاز رسول الله (صلى الله عليه وآله) بذلك عمن سواه، وبقي ماعدا الرسالة على أمر الاتحاد، وإلى هذا المعنى أشار (صلى الله عليه وآله) بقوله:

«أخصمك(2) بالنبوة فلا نبوة بعدي، وتخصم الناس بسبع».

وقال له أيضا:

«أنت منی بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي».

ص: 146


1- أي أصلا واحدا
2- أخصمك: أغلبك

فأبان نفسه منه بالنبوة، وأثبت له ما عداها من جميع الفضائل والخصائص مشترکا بینهما.

وكان النقيب أبو جعفر رحمه الله، غزير العلم، صحیح العقل، منصفا في الجدال، غیر متعصب للمذهب، - وإن كان علویا - وكان يعترف بفضائل الصحابة، ويثني على الشيخين.

ويقول: إنهما مهدا دين الإسلام، وأرسيا قواعده، ولقد كان شديد الاضطراب في حياة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وإنما مهداه بما تيسر للعرب من الفتوح والغنائم في دولتهما.

وكان يقول في عثمان: إن الدولة في أيامه كانت على إقبالها وعلو جدها، بل كانت الفتوح في أيامه أكثر، والغنائم أعظم، لولا أنه لم يراع ناموس الشيخين، ولم يستطع أن يسلك مسلكهما، وكان مضعفا في أصل القاعدة، مغلوبا عليه، وكثير الحب لأهله، وأتيح له من مروان وزیر سوء أفسد القلوب عليه، وحمل الناس على خلعه و قتله)(1).

رابعاً: قال (عليه الصلاة والسلام):

«الوفاء لأهل الغدر غدر عند الله ، والغدر بأهل الغدر وفاء عند الله»(2).

لم يسهب شراح نهج البلاغة في بيان معنى هذا النص الشريف ولعل مرد ذلك إلى تناوله موضوع الغدر والوفاء في مباحثهم السابقة وشروحهم لنهج البلاغة.

ص: 147


1- شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج 10 ص 211 - 223
2- شرح نهج البلاغة؛ شرح محمد عبده: ج 4 ص 57

ولذا:

فقد أقتصرنا في ايراد هذه الشروح على شرحين فقط، وهما كالاتي:

1 - علي بن زيد البيهقي (565 ه).

قال (رحمه الله):

(هذا مأخوذ من قول الله تعالى:

«وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ»(1).

وذلك في يهودي بني قينقاع.

وكان بين رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبينهم عهد، فعزم اليهودي على نقض العهد، واخبر الله تعالى رسوله بذلك، وأمره بمجازات نقض عهدهم، ومحاربتهم، فحاربهم وازعجهم، كما ذكر في التفسير)(2).

2 - السيد حبيب الله الخوئي الهاشمي (رحمه الله) (ت 1324 ه).

قال (رحمه الله):

(الغدر، هو نقض العهد وترك الوفاء بالميثاق المؤکَّد، والعهد قد يكون بين المسلم وغيره، وقد يكون بين غير المسلمين بعضهم مع بعض.

أمّا في القسم الأول فيجب الوفاء به، وقد نهي عن الغدر في أخبار كثيرة وكان من وصايا النبيّ صلَّى الله عليه وآله إذا بعث سرية إلى الغزو مع الأعداء

ص: 148


1- الانفال: 58
2- معارج نهج البلاغة: 442

واهتمّ به المسلمون و تجویز الغدر في كلامه هذا ناظر إلى القسم الثاني، والمقصود أنّ العهود غير مانعة عن قبول الإسلام وقال ابن میثم: وذلك أنّ من عهد الله في دينه الغدر وعدم الوفاء لهم إذا غدروا لقوله تعالى:

«وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ»(1).

(قيل: نزلت في يهود بنی قینقاع، وكان بينهم وبين الرّسول صلَّى الله عليه وآله عهد فعزموا على نقضه فأخبره الله تعالى بذلك وأمره بحربهم و مجازاتهم بنقض عهدهم، فكان الوفاء لهم غدرا بعهد الله، والغدر بهم إذا غدروا وفاء بعهد الله، انتهی.

أقول: في مثل هذا المورد لا يكون ترك الوفاء غدرا، وإطلاق الغدر عليه بنحو من العناية من باب المشاكلة كقوله تعالى: «وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا» فانّ جزاء السيّئة لا يكون سيّئة حقيقة، فتدبّر)(2).

المسألة السادسة: الغدر والوفاء في مضامین علماء الاخلاق.

يُعّدُ موضوع (الغدر) من المواضيع الاخلاقية التي اهتم بها علماء الأخلاق، لا سيما في المدرسة الاخلاقية الإمامية، ولقد بسط العلامة الشيخ العارف الاخلاقي محمد مهدي النراقي (طيب الله ثراه) القول والبيان والتحليل العلمي لمنشأ الغدر في النفس وأصل ولوجه وكيفية علاجه بالضد وهو فضيلة الوقاء، فقال:

ص: 149


1- الانفال 58
2- منهاج البراعة: ج 21 ص 329

(ومنها أي من الرذائل المرتبطة بالقوة الشهرية هي رذيلة الغدر والخيانة الغدر والخيانة في المال أو العرض أو الجاه. ويدخل تحته الذهاب بحقوق الناس خفية، وحبسها من غير عسر، وبالبخس في الوزن والكيل، وبالغش بما يخفی، وغير ذلك من التدليسات المموهة والتلبيسات المحرمة. وجميع ذلك من خباثة القوة الشهرية ورذائلها، ومن الرذائل المهلكة وخبائثها.

وقد وردت في ذم الخيانة وبأقسامها أخبار كثيرة، وجميع ما يدل على ذم الذهاب بحقوق الناس وأخذ أموالهم بدون رضاهم يدل على ذمها.

وضد الخيانة (الأمانة)، وقد وردت في مدحها وعظم فوائدها أخبار كثيرة، كقول الصادق (عليه السلام):

«إن الله عز وجل لم يبعث نبيا إلا بصدق الحديث وأداء الأمانة إلى البر والفاجر».

وقوله (عليه السلام):

«لا تغتروا بصلاتهم ولا بصيامهم، فإن الرجل ربما لهج بالصلاة والصوم حتى لو ترکه استوحش، ولكن اختبروهم بصدق الحديث وأداء الأمانة»(1).

وقوله (عليه السلام):

«انظر ما بلغ به علي (عليه السلام) عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) فألزمه فإن عليا (عليه السلام) إنما بلغ ما بلغ به عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) بصدق الحديث وأداء الأمانة»(2).

ص: 150


1- في نسخ جامع السعادات والبحار والوسائل: « عند صدق الحديث...». ورجحنا نسخة الكافي
2- صححنا هذه الأحاديث الثلاثة على البحار: 2 مج 15 / 123 - 124، باب الصدق ولزوم أداء الأمانة وعلى الكافي: باب الصدق وأداء الأمانة. وعلى الوسائل: كتاب الوديعة الباب 1

وقوله (عليه السلام):

«ثلاث لاعذر فيها لأحد: أداء الأمانة إلى البر والفاجر، والوفاء بالعهد إلى البر والفاجر، وبر الوالدين برين كانا أو فاجرین»(1).

وقوله (عليه السلام):

«كان أبي يقول: أربع من كن فيه كمل إيمانه، وإن كان من قرنه إلى قدمه ذنوبا لم ينقصه ذلك وهي: الصدق، وأداء الأمانة، والحياء، وحسن الخلق».

وقوله (عليه السلام):

«أهل الأرض مرحومون ما يخافون وأدوا الأمانة وعملوا بالحق»(2).

وقيل له (عليه السلام):

«إن امرأة بالمدينة كان الناس يضعون عندها الجواري فيصلحن، ومع ذلك ما رأينا مثل ما رأينا مثل ماصب عليها من الرزق. فقال: إنها صدقت الحديث وأدت الأمانة، وذلك يجلب الرزق»(3).

والأخبار في فضيلة الأمانة كثيرة. ولقد قال لقمان:

ص: 151


1- روى في الكافي باب بر الوالدين -: هذا الحديث عن أبي جعفر - (عليه السلام) - وجاء فيه: «ثلاث لم يجعل الله عز وجل لأحد فيهن رخصة...»، ولكن في الوسائل - کتاب الوديعة الباب 2 الطبعة الحجرية - رواه عن الكافي كما في المتن
2- روي في الكافي باب حسن الخلق - هذا الحديث عن الصادق - (عليه السلام) -، وليس فيه: «كان أبي يقول»
3- صححنا الحديث على الوسائل: كتاب الوديعة، الباب، 1، وهو يرويه عن الكافي

«ما بلغت إلى ما بلغت إليه من الحكمة، إلا بصدق الحديث وأداء الأمانة».

فمن تأمل في ذم الخيانة وإيجابها الفضيحة والعار في الدنيا والعذاب والنار في الآخرة، وفي فضيلة الأمانة وأدائها إلى خير الدنيا وسعادة الآخرة، سهل عليه ترك الخيانة والاتصاف بالأمانة)(1).

ص: 152


1- جامع السعادات للنراقي: ج 2 ص 139 - 140

المبحث الثالث: حكم طلب المبارزة في الخروج والامتناع

قال (عليه الصلاة والسلام) لولده الإمام الحسن (عليه السلام):

«لَا تَدْعُوَنَّ إِلی مُبَارَزَةٍ وإِنْ دُعِيتَ إِلَيْهَا فَأَجِبْ فَإِنَّ الدَّاعِيَ إِلَيْهَا بَاغٍ، والْبَاغِيَ مَصْرُوعٌ»(1).

نتناول في هذا المبحث حکم طلب المبارزة في المذاهب الإسلامية، وما ترتب على هذا النص الشريف من الايضاح والدلالة لدى شراح نهج البلاغة، وقبل المضي في مسائل البحث نورد اولاً معنى المبارزة في اللغة.

المسألة الأولى: المبارزة لغة.

يعود معنی (المبارزة) إلى الفعل (برز) ويقرأ بالفتح وبالكسر، وقراءته في كلام الحالين يرشد إلى معنی مختلف، فيراد من الفتح البَرازُ وهو: المكان الحالي وهو الفضاء، وبالكسر (البِرازُ) وهو المبارزة بالحرب.

قال ابن منظور (ت 711 ه):

(البَرازُ، بالفتح: اسم للفضاء الواسع فَکَنَوْا به عن قضاء الغائط کما کَنَوْا عنه بالخلاء لأَنهم كانوا يَتَبَرَّزُون في الأَمكنة الخالية من الناس.

قال الخطابي: المحدّثون يروونه بالكسر، وهو خطأٌ لأَنه بالكسر مصدر

ص: 153


1- نهج البلاغة، الحكمة (233)

من المُبارَزَةِ في الحرب.

وقال الجوهري بخلافه: وهذا لفظه البِراطُ المُبارَزَةُ في الحرب، والبِرازُ أَيضاً كناية عن ثُفْلِ الغذاء، وهو الغائط، ثم قال: والبَرازُ، بالفتح، الفضاء الواسع.

وتَبَرَّزَ الرجلُ: خرج إِلى البَراز للحاجة، وقد تكرر المكسور في الحديث، ومن المَفْتُوحِ حديث الإمام عليّ، (عليه السلام):

«أَن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، رأَى رجلاً يغتسل بالبَرازِ، یرید الموضع المنکشف بغير سُتْرَةٍ»(1).

المسألة الثانية: حكم طلب البارزة في المذهب الإمامي.

اشتملت المبارزة على الوجوب، والاستحباب، والكراهية، والاباحة، والحرمة، عند فقهاء المذاهب الإسلامية، وهي كالاتي:

یری فقهاء المذهب الإمامي (أعلى الله شأنهم):

إنّ المبارزة في أصلها مشروعة وتنقسم إلى خمسة أقسام، واجبة، ومستحبة، ومكروهة، ومباحة؛ ومحرمة. فهي: تكون واجبة إذا أمر الإمام (عليه السلام) بها؛ ومستحبة، إذا طلب المشرك المبارزة؛ ومكروة، إذا خرج إليها بغير اذن الإمام، أي قبل أن يطلبها أحد من المحاربين، وتكره أيضاً إذا خرج المسلم الضعيف عن القتال للمبارزة؛ ومباحة: إذا خرج المسلم إبتدءاً؛ ومحرمة: إذا منع الإمام (عليه السلام) من المبارزة.

ص: 154


1- لسان العرب: ج 5 ص 309، مادة: بَرز

قال الشيخ الجواهري (رحمه الله) (ت) 1266 ه):

(تكره المبارزة بغير إذن الإمام (عليه السلام) کما في اللمعة والدروس والإرشاد والقواعد والتحرير والمختلف والتنقيح والروضة والمسالك ومحكي المبسوط وغيرها، ولعل المراد طلبها بدون إذنه لا الجواب إليها من الطالب لها بدون إذنه، ضرورة كون المستفاد من النصوص الأول دون الثاني.

بل: ربما ظهر منها خلافه ففي خبر ابن القداح(1) عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:

«دعا رجل بعض بني هاشم إلى البراز فأبى أن يبارزه فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام) ما منعك أن تبارزه؟ فقال: كان فارس العرب وخشيت أن يغلبني فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام) فإنه بغي عليك، ولو بارزته الغلبته ولو بغي جبل على جبل هد الباغي».

وقال أبو عبد الله (عليه السلام):

«إن الحسين بن علي (عليهما السلام) دعا رجلا إلى المبارزة فعلم به أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: لئن عدت إلى مثل هذا لأعاقبنك، ولأن دعاك أحد إلى مثلها فلم تجبه لأعاقبنك أما علمت أنه بغي».

وفي نهج البلاغة(2) قال أمير المؤمنين (عليه السلام) لابنه الحسن (عليه السلام).

«لا تدعون إلى مبارزة، وإن دعيت إليها فأجب، فإن الداعي باغ والباغي

ص: 155


1- الوسائل - الباب 31 من أبواب جهاد العدو الحديث 2
2- الوسائل - الباب 31 من أبواب جهاد العدو الحديث 3 - 1

مصروع».

وفي خبر عمرو بن جميع(1) عن أبي عبد الله (عليه السلام) سئل عن المبارزة بين الصفين بغير إذن الإمام (عليه السلام) فقال:

«لا بأس ولكن لا يطلب إلا بإذن الإمام (عليه السلام)».

ولعله، لذا قال الشيخ في النهاية: لا بأس بالمبارزة بين الصفين في حال القتال، ولا يجوز له أن يطلب المبارزة إلا بإذن الإمام (عليه السلام) و نحوه عن ابن إدريس.

وإليه أشار المصنف بقوله: (وقيل: يحرم) بل في المحكي عن أبي الصلاح أيضا، قال: لا يجوز للمسلم أن يستبرز كافرا إلا بإذن سلطان الجهاد وفي المنتهى وهل طلب المبارزة من دون إذنه حرام أو مکروه؟ كلاهما يلوحان من كلام الشيخ، والذي تدل الأخبار عليه التحريم وقال الكركي: الأصح الكراهة، ويحرم طلبها لما ورد من النهي عنه وأنه بغي ولكن ظاهره الكراهة في غير صورة الطلب.

بل: قيل إنه الظاهر من القائلين بجواز المبارزة بغير الإذن، وفي الرياض يدل على رجحان الاستئذان مضافا إلى النص والوفاق الاعتبار والآثار، لأن الإمام (عليه السلام) أعلم بفرسانه و فرسان المشركين ومن يصلح للمبارزة ومن لا يصلح، وربما حصل ضرر بذلك، فينبغي أن يفوض النظر إليه ليكون أقرب إلى الظفر، وأحفظ لقلوب المسلمين.

وعن المنتهى أنه أيده بما رواه الجمهور: من أن عليا (عليه السلام) و حمزة

ص: 156


1- الوسائل - الباب 31 من أبواب جهاد العدو الحديث 3 - 1

وعبيدة استأذنوا النبي (صلى الله عليه وآله) يوم بدر، قلت: قد سمعت ما في النصوص السابقة من الأمر بها بعد الدعاء إليها من غير استئذان والنهي عن طلبها، إلا أنه غير صالح للتخصيص أدلة الجهاد والأمر بالمقاتلة ونحوهما، الضعف السند وإعراض المشهور، ولذا حمل على الكراهة.

نعم: تحرم إذا منع منها بلا خلاف ولا إشكال، وعلى كل حال فلا إشكال في أصل مشروعيتها في الجملة، بل في الإيضاح دعوى إجماع الأمة على ذلك، وفي المنتهي المبارزة مشروعة غير مكروهة في قول عامة أهل العلم إلا الحسن البصري فإنه لم يعرفها وكرهها، ولا ريب في فساده، لما عرفت ولما رواه الجمهور(1) وغيرهم من أن عليا (عليه السلام) بارز يوم خيبر مرحبا فقتله، وبارز عمرو بن عبد ود فقتله، وبارز هو وحمزة وعبيدة بن الحارث يوم بدر بإذن النبي (صلى الله عليه وآله).

وفيما رواه الجمهور(2) أيضا: أن بشر بن علقمة بارز أسوارا فقتله فبلغ سلبه اثني عشر ألفا، ولم يزل أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) تقع منهم المبارزة، وأنه كان أبو ذر يقسم أن قوله تعالى:

«هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ»(3) نزلت في الذين تبارزوا يوم بدر، وهم حمزة وعلي (عليه السلام) وعبيدة(4)، وأن أبا قتادة قال: بارزت رجلا

ص: 157


1- سنن البيهقي ج 9 ص 131 و 132 والبحار ج 21 ص 1 إلى ص 40 وج 20 ص 226 و ج 19 ص 253
2- سنن البيهقي ج 6 ص 311
3- الحج - 20
4- سنن البيهقي ج 9 ص 94

يوم خيبر فقتلته(1)، إلى غير ذلك، بل يمكن دعوی کونه من الضروري.

(و) كذا (يستحب المبارزة) كفاية أو عينا (إذا ندب إليها الإمام عليه السلام) من دون أمر جازم (وتجب) كفاية أو عينا (إذا ألزم) بها بلا خلاف في شئ من ذلك ولا إشكال بعد معلومية وجوب الطاعة له.

بل: في المنتهى لو خرج علج يطلب البراز استحب لمن فيه قوة ويعلم من نفسه الطاقة له مبارزته بإذن الإمام (عليه السلام)، ويستحب للإمام (عليه السلام) أن يأذن له - إلى أن قال - إذا ثبت هذا فالمبارزة تنقسم أقساما أربعة:

واجبة ومستحبة ومكروهة ومباحة، فالواجبة إذا ألزم الإمام (عليه السلام) بها، والمستحبة أن يخرج المشرك فيطلب المبارزة، فيستحب لذي القوة من المسلمين الخروج إليه، والمكروهة أن يخرج الضعيف من المسلمين الذي لا يعلم من نفسه المقاومة، فيكره له المبارزة لما فيه من کسر قلوب المسلمين بقتله ظاهرا والمباحة أن يخرج ابتداء فيبارز، لا يقال: إن الضعيف قد جوز له الدخول في القتال من غير كراهة فكيف کره له المبارزة لأنا نقول الفرق بينها ظاهر، فإن المسلم هنا يطلب الشهادة ولا نترقب منه الغلبة بخلاف المبارزة فإنه يطلب منه الظفر والغلبة، فإذا قتل كان ذلك كسرا في المسلمين.

وفي القواعد: لو طلبها مشرك استحب الخروج إليه للقوي الواثق من نفسه بالنهوض لكن بإذن الإمام (عليه السلام) فيستحب له أن يستأذنه، ويستحب للإمام (عليه السلام) أن يأذن له، فتجئ فيه الأحكام الأربعة

ص: 158


1- سنن الدارمي ج 2 ص 229

قلت: قد يظهر من النصوص السابقة عدم اشتراط إذن الإمام (عليه السلام) في الخروج إلى من طلبها، لأنه باغ، كما أن المتجه کون أقسامها خمسة كما في التحرير فإنها تحرم کما عرفت إذا منع الإمام منها، ومع طلبها ابتداءا عند من عرفت، بل ظاهره هو أيضا التحريم في الأخير کما سمعت، وأيضا قد يقال ظاهر النصوص السابقة عدم الكراهة في الجواب إليها مع طلب المشرك لها وإن كان المسلم ضعيفا، لأنه باغ کما سمعت، فالأولى جعل المكروه طلبها بناءا على المختار، كما أن المباحة ما ذكره مع عدم الطلب من كل منهما، لكن في القواعد تحرم أي المبارزة على الضعيف على إشكال قيل من قوله تعالى: «وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ»(1)

ومن عموم الخطاب بالقتال ولا يخفى عليك ما في الأول من منع کونه إلقاء بل هو شهادة وعن جامع المقاصد أن الأولى الترك، ثم قال: وإن قيل هل الاشكال مع الإذن أو بدونه؟ الأول مشکل، لأنه مع الإذن كيف يحرم أو يكره، وهل يأذن الإمام في الحرام، قلنا: يحتمل أن يأذن الإمام (عليه السلام) ولا يعلم حال المستأذن، فيكون التحريم أو الكراهة بناءا على أن المبارزة من دون إذن مكروهة وهو كما ترى لا حاصل له يعتد به)(2).

ص: 159


1- البقرة - 191
2- جواهر الكلام: ج 21 ص 85 - 89

المسألة الثالثة: حكم طلب البارزة في المذاهب الاخرى.

اولاً: المذهب الشافعي.

ذهب فقهاء الشافعية إلى القول بمشروعية المبارزة وجوازها، ولكن في ابتدائها هي لا مستحبة ولا مكروهة، وتستحب إذا طلبها کافر فيستحب حينها الخروج إليه للمبارزة، وكذا يستحب أن تكون بإذن الإمام، وبغير أذنه حكموا بالجواز. وقيل: يحرم.

وتكره للضعيف الذي لم يجرب نفسه في القتال أن يجيب إليها.

قال النووي (ت 676 ه):

(المبارزة جائزة، ولو خرج کافر وطلبها، استحب الخروج إليه، وابتداء المبارزة، لا مستحب ولا مكروه، وقال ابن أبي هريرة: تكره، وأطلق ابن کج استحبابها، والصحيح الأول، وإنما تحسن المبارزة ممن جرب نفسه وعرف قوته وجرأته، فأما الضعيف الذي لا يثق بنفسه، فتكره له المبارزة ابتداء وإجابة، نص عليه، وفيه وجه: أنه يحرم، والصحيح الأول، ويستحب أن لا يبارز إلا بإذن الأمير، فلو بارز بغير إذنه، جاز على الصحيح، وبه قطع الجمهور، لأن التغرير بالنفس في الجهاد جائز، والثاني: يحرم، لأن للامام نظرا في تعيين الابطال)(1).

ثانيا: المذهب المالكي.

يرى فقهاء المالكية: جواز المبارزة والدعوة إليها واشترطوا أذن الإمام

ص: 160


1- روضة الطالبين: ج 7 ص 450

وقيل لا يشترط.

(أجمع كل من أحفظ عنه على جواز المبارزة والدعوة إليها، وشرط بعضهم فيها إذن الإمام وهو قول الثوري والأوزاعي وأحمد وإسحاق، ولم يشترطه غيرهم، وهو قول مالك والشافعي)(1).

ثالثا: المذهب الحنبلي.

ذهب فقهاء المذهب الحنبلي إلى القول بجواز المبارزة، وأن يستأذن الامير في المبارزة وقيل: بعد الشرط في ذلك وهو تنقسم إلى ثلاثة أقسام، مستحبة، ومباحة، ومكروه:

فإما المستحبة: إذا خرج من الكفار من يدعوا إليها استحب لمن يعلم في نفسه القوة والشجاعة ان يخرج إليه ويكون ذلك بأذن الامير.

وامام المباح: إن يخرج رجل من المسلمين فيطلبها ابتداءاً.

واما المكروه: إن يخرج الضعيف في بدنه وقوته للمبارزة ابتدءاً او إذا دعي إليها.

قال ابن قدامة المقدسي (ت 620 ه):

(وأما المبارزة فيجوز باذن الأمير في قول عامة أهل العلم إلا الحسن فإنه لم يعرفها وكرهها ولنا ان حمزة وعليا وعبیده بن الحارث بارزوا يوم بدر باذن النبي (صلى الله عليه وآله) وبارز علي عمرو بن عبد ود في غزوة الخندق فقتله، وبارز مرحبا يوم حنين، وقيل بارزه محمد بن مسلمة وبارزة

ص: 161


1- مواهب الجليل: ج 4 ص 557

قبل عامر بن الأكوع فاستشهد، وبارز البراء بن مالك مرزبان الذارة فقتله وأخذ سلبه فبلغ ثلاثين ألفا، وروي عنه أنه قال قتلت تسعة وتسعين رئيسا من المشركين مبارزة سوى من شاركت فيه، وبارز شبرين علقمة أسوارا فقتله فبلغ سلبه اثني عشر ألفا فنقله إياه سعد ولم يزل أصحاب النبي (صلى الله عليه ووآله) يبارزون في عصر النبي (صلى الله عليه وآله) وبعده ولم ينكره منكر فكان ذلك اجماعا وكن أبو ذر يقسم ان قوله تعالى:

«هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ» نزلت في الذين تبارزوا يوم بدر وهم حمزة وعلي وعبيدة بارزوا عتبة وشيبة والوليد بن عتبة وقال أبو قتادة بارزت رجلا يوم حنين فقتلته. إذا ثبت هذا فإنه ينبغي ان يستأذن الأمير في المبارزة إذا أمكن، وبه قال الثوري وإسحاق ورخص فيها مالك والشافعي وابن المنذر لخبر أبي قتادة فإنه لم يعلم أنه استأذن النبي (صلى الله عليه وآله) وكذلك أكثر من حكينا عنهم المبارزة لم يعلم منهم استئذان.

ولنا ان الإمام اعلم بفرسانه وفرسان العدو ومتى برز الإنسان إلى من لا يطيقه كان معرضا نفسه للهلاك فيكسر قلوب المسلمين فينبغي ان يفوض ذلك إلى الإمام ليختار للمبارزة من يرضاه لها فيكون أقرب إلى الظفر وجبر قلوب المسلمين وكسر قلوب المشركين فإن قيل فقدا بحكم له ان ينغمس في الكفار وهو سبب لقتله؟ قلنا: إذا كان مبارزا تعلقت قلوب الجيش به وارتقبوا ظفره فإن ظفر جبر قلوبهم وسرهم وكسر قلوب الكفار، وإن قتل كان بالعكس والمنغمس

ص: 162

يطلب الشهادة لا يترقب منه ظفر ولا مقاومة فافترقا وأما مبارزة أبي قتادة فغير لازمة فإنها كانت بعد التحام الحرب، رأى رجلا يريد ان يقتل مسلما فضربه أبو قتادة فالتفت إلى أبي قتادة فضمه ضمنة كاد يقتله وليس هذا هو المبارزة المختلف فيها بل المختلف فيها ان يبرز رجل بين الصفين قبل التحام الحرب يدعو إلى المبارزة فهذا هو الذي يعتبر له اذن الإمام لأن عين الطائفتين تمتد إليهما وقلوب الفريقين تتعلق بهما وأيهما غلب سر أصحابه وكسر قلوب أعدائه بخلاف غيره.

إذا ثبت هذا فالمبارزة تنقسم ثلاثة أقسام مستحبة ومباحة ومكروهة، أما المستحبة فإذا خرج علج يطلب البراز استحب لمن يعلم من نفسه القوة والشجاعة مبارزته باذن الأمير لأن فيه ردا عن المسلمين واظهارا لقوتهم، والمباح أن يبتدئ الرجل الشجاع بطلبها فيباح ولا يستحب لأنه لا حاجة إليها ولا يأمن أن يغلب فيكسر قلوب المسلمين الا انه لما كان شجاعا واثقا من نفسه أبيح له لأنه بحكم الظاهر غالب والمكروه ان يبرز الضعيف المنة الذي لا يثق من نفسه فتكره له المبارزة لما فيه من كسر قلوب المسلمين بقتله ظاهرا)(1).

المسألة الرابعة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة.

اتفق فقهاء المذاهب الإسلامية على مشروعية المبارزة، واختلفوا في بعض احكامها، وهي كالاتي:

ص: 163


1- المغني لابن قدامة: ج 10 ص 395

أولا: تنقسم المبرزة إلى أقسام في الحكم، فهي كالاتي:

أ - عند الامامية إلى خمسة أقسام، وهي الوجب، والإباحة، والحرمة، والاستحباب، والكراهة.

ب - وعند الشافعية تنقسم إلى الإباحة، والاستحباب، والكراهة، وكذلك هي عند الحنابلة.

ج - وقال المالكية: بالجواز فقط.

ثانيا: أختلف فقهاء المذاهب في حكم أذن الإمام في طلب المبازة ابتداءاً والخروج إليها استجابة.

1 - فعند الإمامية: تجب المبارزة إذا ألزم الإمام (عليه السلام) القيام بها؛ وتكره بدون أذنه ابتدءاً دون أن يدعوا إليها أحد من المحاربين؛ وتحرم إذا منع الإمام (عليه السلام) من القيام بها.

2 - وعند الشافعية يستجب أذن الإمام، وبغير أذنه حكموا بالجواز، وقيل: يحرم.

3 - وعند المالكية: لا يكون أذن الإمام شرط في جواز المبارزة.

4 - وقال بلزوم أذن الإمام في المبارزة.

ثالثا: ما يكره في المبارزة.

1 - فعند الإمامية: تكره المبارزة إذا خرج إليها المسلم ابتداءاً بدون أذن الإمام؛ والضعيف في قوته وشجاعته وجلادته.

2 - وعند الشافعية والحنابلة: تكره للضعيف الذي لم يجرب نفسه في القتال.

ص: 164

رابعا: ما يستحب في المبارزة.

أتفق فقهاء المذهب الإمامي، والشافعي، والحنبلي، على استحباب المبارزة إذا دعى إليها الخصم.

المسألة الخامسة: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة.

قال أمير المؤمنين الإمام علي (عليه الصلاة والسلام) لولده الإمام الحسن (عليه السلام):

«لا تَدْعُوَنَّ إِلَی مُبَارَزَةٍ وإِنْ دُعِيتَ إِلَيْهَا فَأَجِبْ - فَإِنَّ الدَّاعِيَ إِلَيْهَا بَاغٍ والْبَاغِيَ مَصْرُوعٌ»(1).

وللحديث دلالات تعرض لبيانها شراح نهج البلاغة، وهي كالاتي:

أولاً: ابن ميثم البحراني.

(نفّر عن الدعوة إلى المبارزة بقياس كامل من الشكل الأوّل وهو قوله: فإنّ الداعي. إلى قوله: مصروع. وبيانه أنّ الدعاء إلى المبارزة خروج عن فضيلة الشجاعة إلى طرف الإفراط منها وهو التهوّر وهو بغى وعدوان لأنّه خروج عن فضيلة العدل في القوّة الغضبيّة، وأمّا أنّ الباغي مصروع ففي غالب الأحوال. لاستعداده ببغيه لذلك. لأنّ المجازاة واجبة في الطبيعة)(2).

ص: 165


1- نهج البلاغة: الحكم (233)
2- شرح نهج البلاغة: ج 5 ص 359

ثانياً: ابن أبي الحديد.

ويبتدأ الشرح بقوله متسائلاً:

(مثل من شجاعة علي: قد ذكر (عليه السلام)) الحكمة؛ ثم ذكر العلة، وما سمعنا أنه (عليه السلام) دعا إلى مبارزة قط، وإنما كان يدعى هو بعينه، أو يدعو من يبارز، فيخرج إليه فيقتله، دعا بنو ربيعة بن عبد بن شمس بنی بني هاشم إلى البراز يوم بدر، فخرج (عليه السلام) فقتل الوليد واشترك هو وحمزة (عليه السلام) في قتل عتبة، ودعا طلحة بن أبي طلحة إلى البراز يوم أحد، فخرج إليه فقتله، ودعا مرحب إلى البراز يوم خيبر فخرج إليه فقتله.

فأما الخرجة التي خرجها يوم الخندق إلى عمرو بن عبد ود فإنها أجل من أن يقال جليلة، وأعظم من أن يقال عظيمة، وما هي إلا كما قال شيخنا أبو الهذيل وقد سأله سائل:

أيما أعظم منزلة عند الله على أم أبو بكر؟ فقال: يا بن أخي، والله لمبارزة على عمرا يوم الخندق تعدل أعمال المهاجرين والأنصار وطاعاتهم كلها وتربى عليها فضلا عن أبي بكر وحده. وقد روى عن حذيفة بن اليمان ما يناسب هذا، بل ما هو أبلغ منه، روى قيس بن الربيع عن أبي هارون العبدي، عن ربيعة بن مالك السعدي، قال: أتيت حذيفة بن اليمان فقلت: يا أبا عبد الله، إن الناس يتحدثون عن علي بن أبي طالب ومناقبه، فيقول لهم أهل البصيرة: إنكم لتفرطون في تقريظ هذا الرجل، فهل أنت محدثي بحديث عنه أذكره للناس؟ فقال يا ربيعة: وما الذي تسألني عن علي، وما الذي أحدثك عنه!

ص: 166

والذي نفس حذيفة بيده لو وضع جميع أعمال أمة محمد (صلى الله عليه وآله) في كفه الميزان منذ بعث الله تعالى محمدا إلى يوم الناس هذا، ووضع عمل واحد من أعمال على في الكفة الأخرى لرجح على أعمالهم كلها، فقال ربيعة: هذا المدح الذي لا يقام له ولا يقعد ولا يحمل، إني لأظنه إسرافا یا أبا عبد الله! فقال حذيفة: يا لكع، وكيف لا يحمل! وأين كان المسلمون يوم الخندق وقد عبر إليهم عمرو وأصحابه فملكهم الهلع والجزع، ودعا إلى المبارزة فأحجموا عنه حتی برز إليه على فقتله! والذي نفس حذيفة بيده لعمله ذلك اليوم أعظم أجرا من أعمال أمة محمد صلى الله عليه وآله إلى هذا اليوم وإلى أن تقوم القيامة.

وجاء في الحديث المرفوع: (إن رسول الله صلى الله عليه وآله قال ذلك اليوم حين برز إليه:

«برز الايمان كله إلى الشرك كله».

وقال أبو بكر بن عياش: لقد ضرب علي بن أبي طالب (عليه السلام) ضربة ما كان في الإسلام أيمن منها ضربته عمرا يوم الخندق، ولقد ضرب على ضربة ما كان في الإسلام أشام منها - یعنی ضربة ابن ملجم لعنه الله. وفي الحديث المرفوع أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لما بارز على عمرا ما زال رافعا يديه مقمحا(1)رأسه نحو السماء، داعيا ربه قائلا: اللهم إنك أخذت مني عبيدة يوم بدر، وحمزة يوم أحد، فاحفظ على اليوم عليا، «رَبِّ

ص: 167


1- أقمح رأسه: كشفها

لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ»(1).

وقال جابر بن عبد الله الأنصاري: والله ما شبهت يوم الأحزاب، قتل على عمرا وتخاذل المشركين بعده، إلا بما قصه الله تعالى من قصة طالوت وجالوت في قوله: «فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ»(2).

وروى عمرو بن أزهر، عن عمرو بن عبيد، عن الحسن أن عليا (عليه السلام) لما قتل عمرا احتز رأسه وحمله فألقاه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله، فقام أبو بكر وعمر فقبلا رأسه، ووجه رسول الله (صلى الله عليه وآله) يتهلل، فقال: هذا النصر! أو قال: هذا أول النصر.

وفي الحديث المرفوع إن رسول الله صلى الله عليه وآله قال يوم قتل عمرو: (ذهبت ريحهم، ولا يغزوننا بعد اليوم، ونحن نغزوهم إن شاء الله).

[قصة غزوة الخندق] وينبغي أن نذكر ملخص هذه القصة من مغازي الواقدي وابن إسحاق، قالا خرج عمرو بن عبد ود يوم الخندق وقد كان شهد بدرا فارتث(3)جريحا، ولم يشهد أحدا، فحضر الخندق شاهرا سيفه معلما، مدلا بشجاعته وبأسه، وخرج معه ضرار بن الخطاب الفهري وعكرمة بن أبي جهل وهبيرة بن أبي وهب ونوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزوميون، فطافوا بخيولهم على الخندق إصعادا وانحدارا، يطلبون موضعا ضيقا يعبرونه، حتى وقفوا على أضيق موضع فيه في المكان المعروف بالمزار،

ص: 168


1- الأنبياء 89
2- البقرة 251
3- ارتثت: حمل من المعركة جريحا وبه رمق

فاكرهوا خيولهم على العبور فعبرت، وصاروا مع المسلمين على أرض واحدة ورسول الله (صلى الله عليه وآله) جالس وأصحابه قيام على رأسه، فتقدم عمرو بن عبد ود فدعا إلى البراز مرارا، فلم يقم إليه أحد، فلما أكثر، قام علي (عليه السلام) فقال:

«أنا أبارزه يا رسول الله».

فأمره بالجلوس، وأعاد عمرو النداء والناس سكوت كان على رؤوسهم الطير، فقال عمرو: أيها الناس، إنكم تزعمون أن قتلاكم في الجنة وقتلانا في النار، أفما يحب أحدكم أن يقدم على الجنة أو يقدم عدوا له إلى النار! فلم يقم إليه أحد، فقام علي (عليه السلام) دفعة ثانية وقال:

«أنا له يا رسول الله».

فأمره بالجلوس، فجال عمرو بفرسه مقبلا ومدبرا، وجاءت عظماء الأحزاب فوقفت من وراء الخندق ومدت أعناقها تنظر، فلما رأى عمرو أن أحدا لا يجيبه، قال:

ولقد بححت من النداء ٭٭٭ بجمعهم: هل من مبارز! ووقفت مذ جبن المشيع ٭٭٭ موقف القرن المناجز إني كذلك لم أزل ٭٭٭ متسرعا قبل الهزاهز إن الشجاعة في الفتى ٭٭٭ والجود من خير الغرائز فقام علي (عليه السلام) فقال:

«یا رسول الله، إئذن لي في مبارزته».

فقال: «ادن، فدنا فقلده سيفه، وعممه بعامته»، وقال: «امض لشأنك».

ص: 169

فلما انصرف قال: (اللهم أعنه عليه)، فلما قرب منه قال له مجيبا إياه عن شعره:

لا تعجلن فقد أتاك ٭٭٭ مجیب صوتك غير عاجز ذو نية وبصيرة ٭٭٭ يرجو بذاك نجاة فانز إني لآمل أن أقيم ٭٭٭ عليك نانحة الجنائز من ضربة فوهاء يبقى ٭٭٭ ذكرها عند الهزاهز فقال عمرو: من أنت! وكان عمرو شيخا كبيرا قد جاوز الثمانين، وكان ندیم أبي طالب بن عبد المطلب في الجاهلية، فانتسب علي (عليه السلام) له وقال:

(أنا علي بن أبي طالب)، (عليه السلام)، فقال: أجل، لقد كان أبوك ندیما لي وصديقا، فارجع فإني لا أحب أن أقتلك - كان شيخنا أبو الخير مصدق بن شبيب النحوي يقول إذا مررنا في القراءة عليه بهذا الموضع والله ما أمره بالرجوع إبقاء عليه، بل خوفا منه، فقد عرف قتلاه ببدر وأحد، وعلم أنه إن ناهضه قتله، فاستحيا أن يظهر الفشل، فأظهر الابقاء والإرعاء، وإنه لکاذب فيهما - قالوا فقال له علي (عليه السلام): (لكني أحب أن أقتلك).

فقال: يا بن أخي، إني لأكره أن أقتل الرجل الكريم مثلك، فارجع وراءك خير لك، فقال علي:

«إن قريشا تتحدث عنك. إنك قلت: لا يدعوني أحد إلى ثلاث إلا أجبت ولو إلى واحدة منه»؟

ص: 170

قال: اجل، فقال علي (عليه السلام): «فإني أدعوك إلى الإسلام»، قال: دع عنك هذه، قال:

«فإني أدعوك إلى أن ترجع بمن تبعك من قريش إلى مكة»؟ قال: إذن تتحدث نساء قريش عنى أن غلاما خدعني، قال:

«فإني أدعوك إلى البراز».

فحمي عمرو وقال: ما كنت أظن أن أحدا من العرب يرومها منی، ثم نزل فعقر فرسه - وقيل ضرب وجهه ففر - وتجاولا، فثارت لهما غبرة وارتهما عن العيون، إلى أن سمع الناس التكبير عاليا من تحت الغبرة، فعلموا أن عليا قتله، وانجلت الغبرة عنهما، وعلي راكب صدره يجز رأسه، وفر أصحابه ليعبروا الخندق، فظفرت بهم خيلهم إلا نوفل بن عبد الله، فإنه قصر فرسه، فوقع في الخندق، فرماه المسلمون بالحجارة، فقال: يا معاشر الناس، قتلة أكرم من هذه، فنزل إليه علي عليه السلام، فقتله)(1).

ص: 171


1- شرح نهج البلاغة: ج 19 ص 60 - 64

ص: 172

الفصل الثالث : في قتال أهل البغي

اشارة

ص: 173

ص: 174

توطئة

قال أمير المؤمنين الإمام علي (عليه الصلاة والسلام):

«لَا تُقَاتِلُوا الْخَوَارِجَ بَعْدِي، فَلَيْسَ مَنْ طَلَبَ الْحَقَّ فَأَخْطَأَه كَمَنْ طَلَبَ الْبَاطِلَ فَأَدْرَكَه»(1).

إن موضوع البغاة، وحكم محاربتهم، وما يتبع ذلك من أحكام في اموالهم في ساحة المعركة، ونسائهم، وذراريهم، يعود الفضل في معرفته وتشریعه إلى أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام).

فجميع فقهاء المذاهب الذين تناولوا قتال أهل البغي رجعوا في احكامهم إلى سيرة الإمام علي (عليه السلام) في حربه للخوارج: وهم أهل النهروان، والقاسطين: وهم أهل صفين، معاوية واصحابه وجنده، والناكثين: وهم أهل الجمل عائشة وطلحة والزبير ومن سار تحت رايتهم أما ما جاء في النص الشريف في صيغة النهي عن قتال الخوارج، من بعده (عليه الصلاة والسلام) فالغرض منه:

كما يقول الشيخ الجواهري (عليه الرحمة والرضوان):

(تنقیح موضوع البغاة على وجه تجري عليه أحكامهم، وإلا فقد يجب قتلهم لكونهم محاربين، أو لانهم نصّاب ولاستحلالهم دماء المسلمين وتكفيرهم أمير المؤمنين (عليه السلام)، ونحو ذلك مما هو ضروريّ الدين، أو لغير ذلك من موجبات القتل التي هي مذهبهم، فانهم لم يبقوا على ما

ص: 175


1- نهج البلاغة الخطبة: 61، ج 1 ص 108 بشرح محمد عبده

كانوا حال خروجهم، بل صارت لهم عقائد ملعونه خرجوا بها عن ربقة الإسلام.

ولذا: حكم الأصحاب بنجاستهم في كتاب الطهارة من غير خلاف يعرف فيه بينهم؛ وكيف كان فقد عرفت عدم اعتبار الشبهة لهم، كما أن من حكم أهل البصرة والنهروان يعلم أيضاً عدم اعتبار أمام لأنفسهم کما عن بعض العامة)(1).

ولذلك:

فإن حکم قتال أهل البغي في المذاهب الإسلامية لم يخرج عن الاجماع في قتالهم، وان الضابطة في معرفة البغاة كانت سيرة الإمام علي (عليه السلام)، ومنها ذهب ابن عابدين فقيه المذهب الحنفي (ت 1252 ه) في موضوع أتباع الوهابية إلى الحكم بكونهم خوارج، فقال:

(قوله: ويكفرون أصحاب نبینا (صلى الله عليه وآله) علمت أن هذا غیر شرط في مسمی الخوارج، بل هو بيان لمن خرجوا على سيدنا علي (عليه الصلاة والسلام)، وإلا فيكفي فيهم اعتقادهم كفر من خرجوا عليه، کما وقع في زماننا في اتباع عبد الوهاب الذين خرجوا من نجد وتغلبوا على الحرمين وكانوا ينتحلون مذهب الحنابلة، لكنهم اعتقدوا أنهم هم المسلمون وأن من خالف اعتقادهم مشركون، واستباحوا بذلك قتل أهل السنة وقتل علمائهم، حتی کسر الله تعالى شوكتهم وخرب بلادهم وظفر بهم عساكر المسلمين عام ثلاث وثلاثين ومائتين وألف.

ص: 176


1- جواهر الكلام لشيخ الجواهري: ج 21 ص 334

قوله: (کما حققه في الفتح) حيث قال:

وحكم الخوارج عند جمهور الفقهاء والمحدثين حكم البغاة. وذهب بعض المحدثين إلى كفرهم).(1) وعليه:

فان المبحث يلزم فيه ابتدأً الرجوع تعريف البغاة في اللغة والشرع، ثم نعرج إلى معرفة قتالهم في المذاهب الإسلامية، ومن ثم إلى معرفة ما اجاد به شراح نهج البلاغة، وهي كالاتي:

ص: 177


1- حاشية رد المختار: ج 4 ص 449 - 450

ص: 178

المبحث الأول: البغاة في اللغة والشرع

المسألة الأولى: البغاة لغة.

وردت كلمة (البغاة) أو (البغي) في المصنفات اللغوية بمعنى: الظلم، والباغي هو الظالم(1). وجاء بعمي: لا لتعدي وكل، مجاوزة في الحد وافراط على المقدار الذي هو حد الشيء)(2).

وقال ابن فارس (ت 395 ه):

(الباء، والغين والياء) اصلان، احدهما طلب الشيء، والثاني جنس من الفساد)(3).

وهذا الذي يتناسب مع دلالة النص الشريف ومراد الفقهاء في موضوع البغي وحكمه.

المسألة الثانية: معنى البغاة في الشرع.

عرّف الفقهاء (البغي) و (الباغي) في الشرع ب (الظلم)، وهي كالاتي:

ص: 179


1- کتاب العين للفراهيدي: ج 4 ص 453
2- الصحاح للجوهري: ج 6 ص 2281
3- معجم مقاییس اللغة: ج 1 ص 271

أولا: المذهب الإمامي.

قال العلامة الحلي (عليه الرحمة والرضوان):

إنّ المراد من الباغي في عرف الفقهاء، هو: (المخالف للإمام العادل، الخارج من طاعته بالامتناع عن اداء ما وجب عليه بالشرائط الآتية؛ وسمي باغياً إما لتجاوزه الحد المرسوم، والبغي: مجاوزه الحد.

وقيل لأنه ظالم بذلك، والبغي: الظلم؛ قال الله تعالى:

«ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ»(1)، أي: ظلم.

وقيل: لطلبة الاستعلاء على الإمام، من قولهم: بغى الشيء، أي: طلبه(2).

ثانيا: المذهب الزيدي.

وعرفهم الزيدية: بانهم طائفة من المؤمنين بغت على طائفة أخرى؛ أو على إمام حق من المحقين(3).

ثالثا: المذهب الحنفي.

عرّفهم الخطاب الرعيني (ت 954 ه) بقوله:

(الباغية: هي الفئة أو فرقة من المسلمين خالفت لشيئين: إما لمنع حق وجب عليها من زكاة أو حكم من احكام الشريعة أو لدخول في طاعته فانه حق أو خالفته لخلعه، والمراد هنا بالإمام هو: الإمام الأعظم أو نائبه)(4).

ص: 180


1- الحج: 60
2- تذكره الفقهاء للعلامة الحلي: ج 9 ص 392
3- الاحكام ليحیی بن زید: ص 506
4- مواهب الجليل: ج 8 ص 366

رابعا: المذهب الحنفي.

وعرّفه ابن عابدين (ت 1252ه) بقوله:

(الباغي في عرّف الفقهاء: الخارج على إمام الحق)(1).

خامسا: المذهب الشافعي.

وعرّف النووي (ت 676 ه) الباغي بقوله:

(هو المخالف للإمام العدل الخارج عن طاعته من اداء واجب عليه أو غيره)(2).

ص: 181


1- حاشية رد المختار: ج 4 ص 449
2- روضه الطالبيين: ج 7 ص 271

ص: 182

المبحث الثاني: حكم قتال البغاة في المذاهب السبعة

أجمع فقهاء المذاهب الإسلامية السبعة على وجوب قتال البغاة، ولكن تباينت أقوالهم في أصنافهم، وفيما يوجب قتالهم؛ وفي الإمام الذي حرم الخروج عليه؛ وبأوجه ثبوت الإمامة؛ وبما يتعلق بأموالهم وجرحاهم واسراهم ونسائهم وذراريهم، ومدبرهم؛ والاستعانة على قتالهم بالذمي والشرك؛ وتترسهم بالأطفال والنساء؛ وقتال الوالد وذي الرحم؛ وقطع المؤنة عنهم؛ ورميهم بالمنجنيق، وحرقهم بالنار أو الهدم؛ وحكم ما اتلفه الباغي من الأموال، وهي كالاتي:

المسألة الاولى: المذهب الإمامي.

ذهب فقهاء الإمامية (أعلى الله شأنهم) إلى بيان حكم قتال البغاة ضمن الأمور الاتية:

1 - وجوب مقاتلة الذين يخرجون على الإمام (عليه السلام) الواجب الطاعة شرعاً إذا أمر بذلك، أو بدعاء من نصبه الإمام.

2 - لا يجوز مخالفة الإمام، أو من نصبه الإمام؛ وان التأخير عن القتال من الذنوب الكبائر.

3 - إن الفرار من قتال البغاة كالفرار من الزحف من قتال المشركين.

ص: 183

4 - إن يتعين قتالهم من الإمام المعصوم (عليه السلام) فيصبح قتالهم على الكفاية، ما لم يستنهضه الإمام على التعيين.

5 - إن حدَّ الجهاد معهم إلى أن يرجعوا، وذلك أن المقدار الواجب هو دفعهم عن الإمام (عليه السلام).

6 - ينبغي ارشادهم قبل القتال، وذكر ما يزيح عنهم الشبهة، ويجب مصابرتهم حتى يفيئوا أو يقتلوا 7 - إن البغاة ينقسمون إلى قسمين، الأول: من له فئة يرجع إليها فحكم هؤلاء:

أ - أن يجهز على جريحهم ب - ويتبع مدبرهم.

ج - ويقتل أسيرهم.

والقسم الآخر: من لا فئة له، وحكم قتال هؤلاء:

أ - لا يجهز على جريحهم.

ب - ولا يتبع مدبرهم.

ج - ولا يقتل اسيرهم.

د - ولا يأخذ شيء من أموالهم في مساحة الحرب أو خارجها.

ه - ويعفى عن اسيرهم إذا انتهت الحرب.

8 - ولا يجوز سبي ذراري البغاة من سبي ذراري البغاة من كلا القسمين.

9 - ولا تملك نسائهم.

ص: 184

11 - والمقتول مع الإمام العادل (عليه السلام) شهید یغسل ولا يكفن؛ ولكن يصلى عليه؛ وان أجر قتاله للبغاة أعظم من قتاله للمشركين.

12 - حكم اکثر علماء الإمامية (أعلى الله شأنهم) بكراهة قتل الوالد وغيره من الارحام - إذا كانوا من البغاة - وقيل: إن الكراهة محصورة بقتل الوالد، للأمر بالصحبة بالمعروف في الدنيا، أما غير الوالد فحكمه باق على مقتضى عموم القتل كالمشرك الرحم.

13 - لو تترس البغاة بالأطفال ونحوهم ممن هو غير مقاتل ولم يمكن التوصل إليهم إلا بقتل الاطفال، قتلوا، والحال كذا: فيما لو قاتلوا مع البغاة.

14 - إن مانع الزكاة الذي لا يستحل منعها، فهو غير مرتد، وهو كمن ترك الصلاة أو الصوم، لعدم انکاره الضروري.

15 - من سب الإمام المعصوم (عليه السلام) وجب قتله بلا خلاف بين علماء المذهب.

16 - من سب فاطمة (عليها السلام) والانبياء والملائكة (عليهم السلام) وجب قتله؛ ولا ينبغي التغرير بالنفس في زمان الهدنة إذا سمع العارف السب من المخالفين.

17 - الذمي الذي يقاتل مع البغاة يصبح مربياً، وقد خرق الذمة.

18 - للإمام أن يستعين باهل الذمة مع الضرورة في قتال أهل البغي الذين هم كأهل الحرب.

19 - إذا أتلف الباغي في خروجه على المعصوم (عليه السلام) أو من نصبه الإمام، مالا أو نفساً في حال الحرب فهو ضامن.

ص: 185

20 - من اتى من البغاة ما يوجب حداً واعظم بدار الحرب فمع الظفر به يقام عليه الحد.

وهذه الامور تناولها فقهاء الإمامية، وبسط فيها القول والبيان الشيخ الجواهري (عليه الرحمة والرضوان) (ت 1266 ه) فقال:

(البغي الذي هو لغة مجاوزة الحد والظلم والاستعلاء وطلب الشيء، وفي عرف المتشرعة الخروج عن طاعة الإمام العادل (عليه السلام) على الوجه الآتي، والمناسبة بينة وبين الجميع واضحة، وإن كانت هي في الظلم أتم، ومن ذلك وغيره يعلم أن البغاة اسم ذم، خلافا لبعض العامة فأنكره، وقال: المراد بالبغاة المخطؤون من أهل الاجتهاد، وهو كما ترى ناش عن عناد، وعلى كل حال فخبر الأسياف(1)المروي في التهذيب والكافي وعمل به الأصحاب وتسمعه إن شاء الله صريح فيما ذكره بعض من أنه نزل فيهم قوله تعالى:

«وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ».(2) وإن كان قد أشكله بعض بأنها في المؤمنين، والفرق الثلاثة عندنا كفار وإن انتحلوا الإسلام، ولفظ البغي فيها أعم من ذلك، إذ يمكن إرادة التعدي من بعض المؤمنين على بعض، ولكن يمكن أن يكون ضرب من المجاز ولو باعتبار معتقدهم كما ستعرف ذلك.

ص: 186


1- الوسائل - الباب 5 من أبواب جهاد العدو الحديث 2
2- الحجرات - 9

وعلى كل حال فقد قيل: إنهم استفادوا منها أمورا خمسة:

أحدها: إن البغاة على الإمام (عليه السلام) مؤمنون، لأن الله تعالى سماهم مؤمنين وهو لا يوافق أصولنا في الإمامة، ومن هنا حمل على ضرب من المجاز بناء على الظاهر أو على ما كانوا عليه أو على ما يعتقدونه، نحو قوله تعالى:

«كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ».(1) المعلوم أنه في المنافقين بل في المنتهى وهذه صفة المنافقين إجماعا.

الثاني: وجوب قتالهم، وهو كذلك عندنا كما ستعرف إن شاء الله.

الثالث: وجوب القتال إلى غاية وهو كذلك أيضا لنص الآية كما ستعرف.

الرابع: عدم الرجوع على أهل البغي بنفس أو مال بعد الصلح، لعدم ذكر شيء منهما بعده، ومناف لما عندنا كما ستعرف، بل ولقوله تعالى فيها وأقسطوا المراد به العدل.

الخامس: دلالتها على جواز قتال كل من منع حقا طولب به فلم يفعل، للعلة التي جوزت قتال البغاة، وفيه أنها مستنبطة وليست حجة عندنا، خصوصا بعد معلومية تفاوت الحقوق، وأن أعظمها مخالفة الإمام (عليه السلام) على وجه يترتب عليه الفساد في الدين، فلا يقاس عليه غيره، کما هو واضح.

وكيف كان فلا خلاف بين المسلمين فضلا عن المؤمنين في أنه (يجب قتال

ص: 187


1- الأنفال - 5 و6

من خرج على إمام عادل عليه السلام) بالسيف ونحوه (إذا ندب إليه الإمام عليه السلام) عموما أو خصوصا أو (من نصبه الإمام) لذلك أو ما يشمله، بل الاجماع بقسميه عليه.

بل: المحكي منهما مستفیض کالنصوص(1)من طرق العامة والخاصة، مضافا إلى ما سمعته من الكتاب بناء على نزوله فيهم کما تسمع التصريح به في خبر الأسياف في الخاتمة، المروي في الكافي والتهذيب، وعمل به الأصحاب، ومنهم الناكثون أصحاب الجمل أعوان الامرأة، والقاسطون أهل الشام والمارقون الخوارج الذين هم كلاب أهل النار، وقد مرقوا من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ولا يتجاوز الایمان تراقيهم، وقد بشر النبي صلى الله عليه وآله أمير المؤمنين (عليه السلام) بمباشرة قتالهم أجمع من بعده کما تسمعه إن شاء الله في خبر الأسياف وغيره، وأنه الذي يقاتل على تأويل القرآن کما قاتل هو على تنزيله، وعن علي (عليه السلام) أنه قال:

«أمرت بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين ففعلت ما أمرت».(2) وقال (عليه السلام) أيضا:

«والله ما وجدت إلا قتالهم أو الكفر بما أنزل الله تعالى على نبيه محمد صلی الله عليه وآله»(3) وعن الباقر (عليه السلام) أنه ذكر الذين حاربهم علي (عليه السلام)

ص: 188


1- الوسائل - الباب 26 من أبواب جهاد العدو وسنن البيهقي ج 8 ص 168
2- دعائم الإسلام ج 1 ص 388
3- المستدرك - الباب 24 من أبواب جهاد العدو الحديث 12 - 13

فقال:

«أما إنهم أعظم حربا ممن حارب رسول الله (صلى الله عليه وآله)، قيل له وكيف ذلك يا بن رسول الله؟ قال: لأن أولئك كانوا جاهلية وهؤلاء قرؤوا القرآن وعرفوا فضل أهل الفضل، فأتوا ما أتوا بعد البصيرة»(1).

(و) كيف كان ف (التأخر عنه كبيرة) بلا خلاف ولا إشكال، خصوصا بعد أن كان من الجهاد، بل هو من أعظم أفراده، وفي خبر هشام بن يزيد قال:

(سمعت يزيد بن علي يقول: كان علي (عليه السلام) في حربه أعظم أجرا من قيامه مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حربه، قال: قلت: بأي شئ تقول أصلحك الله؟ قال: فقال لي لأنه كان من رسول الله (صلى الله عليه وآله) تابعا، ولم يكن له إلا أجر تبعيته، وكان في هذه متبوعا وكان له أجر كل من تبعه)(2).

(و) لكن (إذا قام به من فيه غنى سقط عن الباقين ما لم يستنهضه الإمام (عليه السلام) على التعيين) إذ هو واجب كفاية كجهاد المشركين، وحينئذ فالمراد من ندب الإمام أو منصوبه طلب من تقوم به الكفاية من المسلمين، وإلا فلو أمرهم على العموم الاستغراقي وجب امتثال أمره، فيكون عينيا من هذه الحيثية، كالذي يستنهضه الإمام (عليه السلام) بخصوصه کما

ص: 189


1- المستدرك - الباب 24 من أبواب جهاد العدو الحديث 12 - 13
2- التهذيب - ج 6 ص 170 الرقم 326 وفيه «قال: سمعت زيد بن علي» وهو الصحيح

هو واضح، وفي خبر محمد بن عمر بن علي عليه السلام(1)عن أبيه عن جده (عليه السلام) عن النبي صلى الله عليه وآله المروي مسندا عن مجالس الحسن بن محمد الطوسي، أنه قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):

(«إن الله تعالى قد كتب على المؤمنين الجهاد في الفتنة من بعدي كما كتب عليهم الجهاد مع المشركين معي»، فقلت يا رسول الله: وما الفتنة التي كتب علينا فيها الجهاد؟ قال:

«فتنة قوم يشهدون أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، وهم مخالفون لسنتي وطاعنون في ديني»، فقلت: فعلى ما نقاتلهم يا رسول الله وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله؟ فقال:

«على إحداثهم في دينهم وفراقهم لامري، واستحلالهم دم عترتي») الحديث.

وعن علي (عليه السلام)(2) «إنه حرض الناس على القتال يوم الجمل، فقال: قاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم، لعلهم ينتهون، ثم قال: والله ما رمي أهل هذه الآية بسهم من قبل اليوم» وعنه (عليه السلام) أيضا(3)أنه قال يوم صفين:

«اقتلوا بقية الأحزاب وأولياء الشيطان، اقتلوا من يقول: كذب الله

ص: 190


1- الوسائل - الباب 26 من أبواب جهاد العدو الحديث 7
2- دعائم الإسلام ج 1 ص 389 - 390 المطبوعة عام 1383
3- دعائم الإسلام ج 1 ص 389 - 390 المطبوعة عام 1383

ورسوله، وتقولون صدق الله ورسوله».

(و) من ذلك وغير كان (الفرار في حربهم كالفرار في حرب المشركين و) أنه (يجب مصابرتهم حتى يفيئوا أو يقتلوا) وإن استعاذوا بالمصاحف والدعوة إلى حكم الكتاب لم يلتفت إلى قولهم إذا كان قد دعوا إليه فامتنعوا فيقاتلون حينئذ حتى يصرحوا بالفئة على وجه لم يعلم کونه خديعة، وما وقع من أمير المؤمنين (عليه السلام) في صفين كان مغلوبا عليه من جيشه الذي كان أكثره من المخالفين، وإلا فهو قد صابرهم أي مصابرة خصوصا ليلة الهرير في وقعة صفين، وعن عبد الرحمن السلمي(1)قال:

«شهدت صفين مع علي (عليه السلام) فنظرت إلى عمار بن یاسر وقد حمل فأبلي وانصرف وقد انثنى سيفه من الضرب، وكان مع علي (عليه السلام) جماعة قد سمعوا قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعمار:

«یا عمار تقتلك الفئة الباغية»، فكان لا يسلك واديا إلا اتبعوه فنظر إلى هاشم بن عتبة المرقال صاحب راية علي (عليه السلام) وقد ركز الراية وكان هاشم أعور فقال له عمار: یا هاشم عورا وجبنا لا خير في أعور لا يغشی الناس، فانتزع هاشم الراية وهو يقول:

أعور يبغي أهله محلا ٭٭٭ قد عالج الحياة حتى ملا لا بد أن يفل أو يفلا فقال عمار: أقدم یا هاشم - إلى أن قال: فحملا جميعا فما رجعا حتى قتلا.

ص: 191


1- دعائم الإسلام ج 1 ص 392 مع اختلاف يسير

وعن علي (عليه السلام):(1) «أنه أعطى الراية يوم الجمل محمد بن الحنفية وأقامه بين يديه، وقدم الحسن (عليه السلام) على الميمنة والحسين (عليه السلام) على الميسرة، ووقف خلف الراية على بغلة رسول الله (صلى الله عليه وآله) الشهباء، قال ابن الحنفية:

فدنی منا القوم ورشقونا بالنبل، وقتلوا رجلا، فالتفت إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فرأيته نائما قد استثقل نوما، فقلت:

يا أمير المؤمنين على مثل هذا الحال تنام وقد فضخونا بالنبل وقتلوا رجلا منا، هلك الناس، فقال علي (عليه السلام):

«لا أراك إلا تحن حنين العذراء الراية راية رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فأخذها فهزها».

وكانت الريح في وجوهنا فانقلبت عليهم، فحسر علي (عليه السلام) عن ذراعه وشد عليهم فضرب بسيفه حتى صبغ کم قبائه وانحنی سیفه.

وكيف كان فقتال البغاة كقتال المشركين في الوجوب وكفائيته وکون ترکه كبيرة، وأن الفرار منه لا خلاف أجده في شئ من ذلك كما اعترف به في المنتهى، والنصوص من الطرفين وافية به کفعل علي (عليه السلام) في قتال الفرق الثلاثة.

والمقتول مع العادل شهید لا يغسل ولا يكفن بل يصلى عليه بلا خلاف أجده فيه، بل ظاهر المنتهى الاجماع عليه، وبالجملة فهم كالمشركين في أصل

ص: 192


1- دعائم الإسلام ج 1 ص 353

القتال والمصابرة ونحو هما مما تقدم هناك حتى بالنسبة إلى قتل الوالد وغيره من الأرحام الذي حكي عن الشيخ هنا کراهته بل في المنتهى نسبته إلى أكثر العلماء، وإن كان فيه أن التعارض مخصوص بالوالد، للأمر بالصحبة في الدنيا معروفا، ومع فرض التكافؤ من جميع الوجوه يتجه التخيير.

أما غير الوالد فهو باق على مقتضى عموم القتل کالمشرك الرحم، بل يمكن منع التكافؤ في الأول، لقوة دليل وجوب قتلهم المؤيد باعزاز الدين، ونهي النبي (صلى الله عليه وآله) أبا بكر وأبا حذيفة عن قتل أبويهما لم يثبت من طرقنا والغرض من ذلك بیان اتحاد کيفية قتال المشركين والبغاة من هذا الوجه (و) نحوه.

نعم: (من كان من أهل البغي لهم فئة يرجع إليها جاز الاجهاز على جريحهم واتباع مدبرهم وقتل أسيرهم، ومن لم يكن لهم فئة فالقصد بمحاربتهم تفریق کلمتهم، فلا يتبع لهم مدبر ولا يجهز على جريح ولا يقتل لهم مأسور) بلا خلاف أجده في شيء من ذلك.

نعم: في الدروس ونقل الحسن أنهم يعرضون على السيف، فمن تاب منهم ترك وإلا قتل، إلا أنه لم نعرف القائل به، بل المعلوم من فعل علي (عليه السلام) في أهل الجمل خلافه، وحينئذ فلا خلاف معتد به فيه، بل في المنتهى ومحكي التذكرة نسبته إلى علمائنا، بل عن الغنية الاجماع عليه صريحا، وهو الحجة بعد خبر حفص بن غیاث(1)(سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الطائفتين من المؤمنين إحداهما باغية والأخرى عادلة فهزمت العادلة

ص: 193


1- الوسائل - الباب 24 من أبواب جهاد العدو الحديث 1 - 4

الباغية قال:

«ليس لأهل العدل أن يتبعوا مدبرا ولا يجهزوا على جريح ولا يقتلوا أسيرا، وهذا إذا لم يبق من أهل البغي أحد ولم یکن فئة يرجعون إليها، فإذا كانت لهم فئة يرجعون إليها فإن أسيرهم يقتل، ومدبرهم يتبع، وجريحهم يجهز عليه».

وخبر الحسن بن علي بن شعبة المروي عن تحف العقول(1)عن أبي الحسن الثالث (عليه السلام) أنه قال في جواب مسائل يحيى بن أكثم:

«وأما قولك إن عليا (عليه السلام) قتل أهل صفين مقبلين ومدبرین وأجهز على جريحهم، وأنه يوم الجمل لم يتبع موليا، ولم يجهز على جريح، ومن ألقى سلاحه أمنه، ومن دخل داره أمنه، إن أهل الجمل قتل إمامهم ولم تكن لهم فئة يرجعون إليها، وإنما رجع القوم إلى منازلهم غير محاربين ولا مخالفين ولا منابذین، ورضوا بالكف عنهم، فكان الحكم فيهم رفع السيف عنهم، والكف عن أذاهم إذا لم يطلبوا عليه أعوانا.

وأهل صفين كانوا يرجعون إلى فئة مستعدة، وإمام يجمع لهم السلاح والدروع والرماح والسيوف، ويسني لهم العطاء، ويهيئ لهم المنازل، ويعود مريضهم ويجبر کسيرهم، ويداوي جريحهم، ويحمل راجلهم، ويكسو حاسرهم ويردهم فيرجعون إلى محاربتهم وقتالهم، فلم يساو بين الفريقين في الحكم لما عرفت من الحكم في قتال أهل التوحيد، لكنه شرح ذلك لهم، فمن رغب عرض على السيف أو يتوب عن ذلك».

ص: 194


1- الوسائل - الباب 24 من أبواب جهاد العدو الحديث 1 - 4

(وعن شريك(1)قال: لما هزم الناس يوم الجمل، قال أمير المؤمنين (عليه السلام):

«لا تتبعوا موليا ولا تجهزوا على جريح، ومن أغلق بابه فهو آمن».

فلما كان يوم صفين قتل المقبل والمدبر وأجاز على جريح، فقال أبا بن تغلب لعبد الله ابن شريك هاتان سیرتان مختلفتان، فقال: إن أهل الجمل قتل طلحة والزبير وأن معاوية كان قائما بعينه، وكان قائدهم).

وفي الدعائم(2)عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال:

«سار علي (عليه السلام) بالمن والعفو في عدوه من أجل شیعته، لأنه كان يعلم أنه سيظهر عليهم عدوهم من بعده، فأحب أن يقتدي من جاء بعده به، فيسير في شيعته بسيرته ولا يجاوز فعله، فيرى الناس أنه قد تعدى وظلم إذا انهزم أهل البغي وكان لهم فئة يلجئون إليها طلبوا وأجهز على جرحاهم واتبعوا وقتلوا ما أمكن اتباعهم وقتلهم، و كذلك سار علي (عليه السلام) في أصحاب صفين، لأن معاوية كان وراءهم، وإذا لم يكن لهم فئة لو يطلبوا ولم يجهز على جرحاهم، لأنهم إذا ولوا تفرقوا».

إلى غير ذلك من النصوص التي قد تظافرت في أنه (عليه السلام) سار في أهل الجمل بالمن والعفو.

ص: 195


1- الوسائل - الباب 24 من أبواب جهاد العدو الحديث 3
2- ذكر صدوره في المستدرك في الباب 23 من أبواب جهاد العدو الحديث 4 وذيله في الباب 22 منها الحديث 1

قال أبو حمزة الثمالي(1)قلت لعلي بن الحسين (عليهما السلام): بما سار علي بن أبي طالب (عليه السلام)؟ فقال: «إن أبا اليقظان كان رجلا حادا رحمه الله فقال يا أمير المؤمنين: بم تسير في هؤلاء غدا؟» فقال: «بالمن کما سار رسول الله (صلى الله عليه وآله) في أهل مكة».

وعن الأصبغ(2)إن أمير المؤمنين (عليه السلام) يوم الجمل لما قتل طلحة والزبير وقبض على عائشة وانهزم أصحاب الجمل نادى مناديه:

لا تجهزوا على جريح، ولا تتبعوا مدبرا، ومن ألقى سلاحه فهو آمن، ثم دعا ببغلة رسول الله (صلى الله عليه وآله) الشهباء فركبها، ثم قال:

«تعال يا فلان، وتعال يا فلان» حتی جمع إليه زهاء من ستين شيخا، كلهم من همدان قد تنكبوا الترسة وتقلدوا السيوف، ولبسوا المغافر، فسار وهم حوله حتى انتهى إلى دار عظيمة فاستفتح، ففتح له، فإذا هو بنساء يبكين بفناء الدار، فلما نظرن إليه، صحن صيحة واحدة وقلن: هذا قاتل الأحبة، فلم يقل لهن شيئا.

وسأل عن حجرة عائشة، ففتح له بابها، وسمع بينهما كلام شبیه بالمعاذير: لا والله، وبلى والله، ثم خرج فنظر إلى امرأة أدماء طويلة، فقال لها:

«یا صفية».

فأتته مسرعة، فقال:

ص: 196


1- الوسائل - الباب 25 من أبواب جهاد العدو الحديث 4
2- المستدرك - الباب 22 من أبواب جهاد الحديث 1

«ألا تبعدين هؤلاء الكلبات، يزعمن أني قاتل الأحبة، ولو كنت قاتل الأحبة، لقتلت من في هذه الحجرة، ومن في هذه».

وأومأ إلى ثلاث حجر، فذهبت إليهن، وقالت لهن، فما بقيت في الدار صائحة إلا سکتت، ولا قائمة إلا قعدت. قال الأصبغ:

وكان في إحدى الحجر عائشة ومن معها من خاصتها، وفي الأخرى مروان بن الحكم وشباب من قريش، وفي الأخرى عبد الله بن الزبير وأهله، فقيل للأصبغ: فهلا بسطتم أيديكم على هؤلاء فقتلتموهم، أليس هؤلاء كانوا أصحاب القرحة، فلم استبقيتموهم؟ قال: قد ضربنا والله بأيدينا إلى قوائم سيوفنا، وأحددنا أبصارنا نحوه لكي يأمرنا فيهم بأمر، فما فعل، وأوسعهم عفوا).

ولعله لهذه النصوص ونحوها قال الشيخ وابنا إدريس وحمزة فيما حكي عنهم إنه يعتبر في جريان حكم البغاة كونهم في منعة وكثرة لا يمكن کفهم وتفریق جمعهم إلا بالاتفاق وتجهيز الجيوش والقتال، فأما إن كانوا نفرا يسيرا کالواحد والاثنين والعشرة وكيدهم ضعيف لم يجر عليهم حكم أهل البغي، وهو المحكي عن الشافعي، مستدلين عليه بأن ابن ملجم(1)لما جرح عليا (عليه السلام) وقبض عليه أوصى أمير المؤمنين (عليه السلام) بالاحسان إليه، وقال:

«إن برئت فأنا أولى بأمري، وإن مت فلا تمثلوا به».

ولكن عن بعض الجمهور جریان حكم البغاة حتى على الواحد إذا خرج

ص: 197


1- الوسائل - الباب 62 من أبواب القصاص في النفس الحديث 4

بالسيف، بل: في المنتهى وعن التذكرة أنه قوي، بل: قيل، إنه مقتضى إطلاق المتن والقواعد والإرشاد وغيرها، وإن كان قد يناقش بانسياق غير ذلك من الاطلاق المزبور، خصوصا بعد ذكرهم الفئة ونحوها مما يظهر منه الاجتماع المعتد به، ولا أقل من الشك، فيبقى الأصل حينئذ بحاله، نعم يجري عليهم حكم المحارب لو فرض إشهاره للسلاح أو غيره مما يندرج فيه.

وحكي: عن الشيخ أيضا، وابني حمزة، وإدريس، اشتراط الخروج عن قبضة الإمام منفردين عنه في بلد أو بادية في جريان حكم البغاة، أما لو كانوا معه وفي قبضته فليسوا أهل بغي، ولعله للمرسل.(1) «إن عليا (عليه السلام) كان يخطب فقال رجل بباب المسجد: لا حکم إلا لله تعريضا بعلي (عليه السلام) أنه حكم في دين الله الرجال، فقال علي (عليه السلام):

«كلمة حق أريد بها باطل، لكم علينا ثلاث، لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا اسم الله فيها، ولا نمنعكم الفيئ ما دامت أيديكم معنا، ولا نبدأكم بقتال».

إذ المراد من قوله (عليه السلام):

«ما دامت أيديكم معنا»: عدم الانفراد، ولكنه مرسل غير جامع لشرائط الحجية، نعم، قد يقال: إن حكم البغاة لم يعلم إلا من فعل علي (عليه السلام) کما اعترف به الشافعي وغيره، ولم يثبت لنا شيء من فعله فيما عدا الفرق الثلاثة، وقد كانوا كذلك.

ص: 198


1- المستدرك - الباب 24 من أبواب جهاد العدو الحديث 9

وربما حكي عنهم أيضا اشتراط أن يكونوا على المبائنة بتأويل يعتقدونه، ولم نجد لهم ما يدل عليه، بل الواقع من علي (عليه السلام) من أهل الجمل وصفين خلافه، ضرورة عدم شبهة لهم، نعم: قد كان ذلك في خصوص الخوارج.

ففي خبر السكوني،(1)(عن جعفر عن أبيه عن آبائه (عليهم السلام):

«لما فرغ أمير المؤمنين (عليه السلام) من أهل النهر قال: لا يقاتلهم أحد بعدي، إلا من هم أولى بالحق منه».

کما هو المحكي عن خط العلامة بيده، فيكون حينئذ إخبارا لا نهيا، وفي بعض إلا من هو أولى بالحق منهم وفي خبره الآخر(2)عن جعفر عن أبيه (عليهما السلام) أيضا قال:

«ذكرت الحرورية عند علي (عليه السلام) قال: إن خرجوا على إمام عادل أو جماعة فقاتلوهم، وإن خرجوا على إمام جائر فلا تقاتلوهم، فإن لهم في ذلك مقالا».

وفي خبر جميل بن دراج(3)قال (قال رجل لأبي عبد الله (عليه السلام): الخوارج شكاك؟ فقال: «نعم».

ص: 199


1- الوسائل - الباب 26 من أبواب جهاد العدو الحديث 4 - 6 - 13
2- الوسائل - الباب 26 من أبواب جهاد العدو 3 عن ابن المغيرة إلا أن الموجود في علل الشرائع عن السكوني
3- الوسائل - الباب 26 من أبواب جهاد العدو الحديث 4 - 6 - 13

قال: فقال بعض أصحابه: كيف وهم يدعون إلى البراز؟ قال: «ذلك مما يجدون في أنفسهم».

وفي نهج البلاغة(1)عن أمير المؤمنين (عليه السلام):

«لا تقتلوا الخوارج بعدي، فليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه يعني معاوية وأصحابه» والغرض من ذلك تنقيح موضوع البغاة على وجه تجري عليه أحكامهم، وإلا فقد يجب قتلهم لكونهم محاربين أو لأنهم نصاب، ولاستحلالهم دماء المسلمين وتكفيرهم أمير المؤمنين (عليه السلام) ونحو ذلك مما هو ضروري الدين، أو لغير ذلك من موجبات القتل التي هي مذهبهم، فإنهم لم يبقوا على ما كانوا حال خروجهم، بل صارت لهم عقائد ملعونة خرجوا بها عن ربقة الإسلام، ولذا حكم الأصحاب بنجاستهم في كتاب الطهارة من غير خلاف يعرف فيه بينهم.

وكيف كان فقد عرفت عدم اعتبار الشبهة أيضا في البغي للقطع بكون أهل الجمل وصفين منهم، ولا شبهة لهم، كما أن من حكم أهل البصرة والنهر يعلم أيضا عدم اعتبار نصب أمام لأنفسهم کما عن بعض العامة.

نعم الظاهر عدم الخلاف بل والاشكال في اعتبار إرشادهم قبل القتل، وذكر ما يزيح عنهم الشبهة کما فعله أمير المؤمنين (عليه السلام) في حربهم بنفسه وبرسله حتى ما ذكر لهم جريا على مذاقهم، ولم يكتف بذلك حتى بدأوه بالحرب ففعل بهم ما فعل، والله العالم.

مسائل:

ص: 200


1- الوسائل - الباب 26 من أبواب جهاد العدو الحديث 4 - 6 - 13

الأولى: (لا يجوز سبي ذراري البغاة). وإن تولدوا بعد البغي (ولا تملك نسائهم إجماعا).

محصلا ومحكيا عن التحرير وغيره بل عن المنتهى: «نفي الخلاف فيه بين أهل العلم» وعن التذكرة بين الأمة لكن في المختلف والمسالك نسبته إلى المشهور، ولعله لما في الدروس، قال: ونقل الحسن أن للإمام (عليه السلام) ذلك إن شاء، لمفهوم قول علي (عليه السلام):

«إني مننت على أهل البصرة كما من رسول الله (صلى الله عليه وآله) على أهل مكة، وقد كان لرسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يسبي فكذا الإمام (عليه السلام)».

وهو شاذ، قلت: بل لم نعرفه لأحد منا، مع احتمال كون مراده أنه قد كان ذلك لأمير المؤمنين (عليه السلام) لو أراده، إلا أن التقية جعلت الحكم كذلك كما استفاضت به النصوص، ففي خبر عبد الله بن سليمان:(1)

(قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إن الناس يروون أن عليا (عليه السلام) قتل أهل البصرة وترك أموالهم؟

فقال:

«إن دار الشرك يحل ما فيها، وأن دار الإسلام لا يحل ما فيها، فقال: إن عليا (عليه السلام) إنما من عليهم كما من رسول الله (صلى الله عليه وآله) على أهل مكة، وإنما ترك علي (عليه السلام) لأنه كان يعلم أنه سيكون له شيعة، وأن دولة الباطل ستظهر عليهم، فأراد أن يقتدى به في شيعته، وقد

ص: 201


1- الوسائل - الباب 25 من أبواب جهاد العدو الحديث 6 - 8 - 1 - 3

رأيتم آثار ذلك هو ذا سائر في الناس سيرة علي (عليه السلام)، ولو قتل علي (عليه السلام) أهل البصرة جميعا واتخذ أموالهم لكان ذلك له حلالا، لكنه من عليهم ليمن على شيعته من بعده».

وخبر زرارة(1) عن أبي جعفر (عليه السلام):

«لولا أن عليا (عليه السلام) سار في أهل حربه بالكف عن السبي والغنيمة للقيت شيعته من الناس بلاء عظيما، ثم قال: والله لسيرته كانت خيرا لكم ماطلعت عليه الشمس».

وخبر أبي بكر الحضرمي(2) (سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول:

«السيرة علي (عليه السلام) في أهل البصرة كانت خيرا لشيعته مما طلعت عليه الشمس، إنه علم أن للقوم دولة، فلو سباهم لسبیت شیعته، قلت: فأخبرني عن القائم (عليه السلام) يسير بسيرته؟

قال: لا إن عليا سار فيهم بالمن لما علم من دولتهم، وإن القائم (عليه السلام) يسير فيهم بخلاف تلك السيرة، لأنه لا دولة لهم»).

وخبر الحسن بن هارون بياع الأنماط(3) قال: (كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) جالسا، فسأله معلى بن خنیس:

أيسير الإمام (عليه السلام) بخلاف سيرة علي عليه السلام؟

قال: «نعم، وذلك أن عليا سار بالمن والكف لأنه علم أن شيعته سيظهر

ص: 202


1- الوسائل - الباب 25 من أبواب جهاد العدو الحديث 6 - 8 - 1 - 3
2- الوسائل - الباب 25 من أبواب جهاد العدو الحديث 6 - 8 - 1 - 3
3- الوسائل - الباب 25 من أبواب جهاد العدو الحديث 6 - 8 - 1 - 3

عليهم، وأن القائم (عليه السلام) إذا قام سار فيهم بالسيف والسبي لأنه يعلم أن شيعته لن يظهر عليهم من بعده أبدا».

إلى غير ذلك من النصوص المروية في الكافي والتهذيب وغيرهما بل يمكن دعوى القطع بمضمونها إن لم يمكن دعوی تواترها بالمعنى المصطلح، فلعل القائل المزبور أراد هذا المعنى، لا أن المراد جواز السبي في زمان الهدنة إلى ظهور صاحب الأمر (عليه السلام)، قال محمد بن مسلم:(1)

سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن القائم (عليه السلام) إذا قام بأي سيرة يسير في الناس؟

فقال:

«بسيرة ما سار به رسول الله (صلى الله علیه و آله) حتى يظهر الإسلام».

قلت: وما كانت سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ قال:

«أبطل ما كان في الجاهلية، واستقبل الناس بالعدل، وكذلك القائم (عليه السلام) إذا قام يبطل ما كان في الهدنة، مما كان في أيدي الناس ويستقبل بهم العدل».

ولا ينافي ذلك ما في جملة من النصوص من جواب علي (عليه السلام) لما سئل عن السبي فقال:

«أيكم يأخذ أم المؤمنين في سهمه».

منها خبر مروان بن الحكم(2) قال:

ص: 203


1- الوسائل - الباب 25 من أبواب جهاد العدو الحديث 2 - 5 - 7
2- الوسائل - الباب 25 من أبواب جهاد العدو الحديث 2 - 5 - 7

(لما هزمنا علي بالبصرة رد على الناس أموالهم، من أقام بينة أعطاه، ومن لم يقم بينة أحلفه، فقال له قائل:

يا أمير المؤمنين أقسم الفيئ بيننا والسبي؟

قال: فلما أكثروا، قال:

«أيكم يأخذ أم المؤمنين في سهمه» ،فكفوا).

وعن الصدوق (رحمه الله): (قد روي أن الناس اجتمعوا إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) يوم البصرة فقالوا:

يا أمير المؤمنين أقسم بيننا غنائمهم؟

قال: «أيكم يأخذ أم المؤمنين في سهمه».(1)

ضرورة كون ذلك منه إسكاتا للخصم، وإلا فالأصل هو ما تضمنته النصوص السابقة الذي لا يمكنه أن يبوح به، فإن أكثر جيشه مخالفون کما صرح (عليه السلام) به في بعض خطبه، بل هو من المعلوم من كتب السير والتواري، ويكفيك خبر النهي(2) عن الاجتماع في نافلة شهر رمضان المشتمل على صيحة الكوفة من جميع جوانبها واسنة عمراه فكف عن النهي عن ذلك، فالعمدة حينئذ هذا وهو تكليف كالأصلي، بل الأجر في التعبد به أعظم من الأجر بالعمل بالأول حال عدم التقية، وإلا فقوله (عليه السلام):

«أيكم يأخذ أم المؤمنين» إلى آخره يمكن الجواب عنه باستثنائها خاصة، إلا أنه (عليه السلام) أبدى ذلك إسكاتا لهم وجوابا على ما عندهم من

ص: 204


1- الوسائل - الباب 25 من أبواب جهاد العدو الحديث 2 - 5 - 7
2- الوسائل - الباب 10 من أبواب نافلة شهر رمضان من كتاب الصلاة

الاعتقاد، وبه قطع حجة الخوارج لما أنكروا عليه ما فعله بالبصرة من سفك الدماء وعدم السبي أو غير ذلك من الحكم التي هو أدرى بها، ولكن الأمر المخزون المكنون هو الذي أبداه أئمة الهدى (عليهم السلام)، على أنه (عليه السلام) مع منه عليهم بما من وكانت سيرته معلومة لديهم وقد فعلوا في کربلاء ما فعلوا.

وما تضمنته النصوص المزبورة تنكشف الشبهة عن جملة من الأمور، منها نکاح عمر لأم كلثوم، ومنها ملاقاتهم بالرطوبة ونحوها وغير ذلك من المعاملة معاملة المسلم الحقيقي، وحاصله أن هذا الزمان المسمى في النصوص بزمان الهدنة يجري عليهم فيه جميع أحكام المسلمين في الطهارة وأكل الذبائح والمناکحات و حرمة الأموال ونحو ذلك حتى يظهر الحق فيجرى عليهم حينئذ حكم الكفار الحربيين، ومنه خبر مسعدة بن زیاد(1) المروي قرب الإسناد عن جعفر عن أبيه (عليهما السلام):

«إن عليا (عليه السلام) لم يكن ينسب أحدا من أهل البغي إلى الشرك ولا إلى النفاق، ولكن كان يقول: إخواننا بغوا علينا».

وخبر الفضل بن شاذان(2) عن الرضا (عليه السلام) المروي مسندا عن العيون في حديث طويل:

«فلا يحل قتل أحد من النصاب والكفار في دار التقية إلا قاتل أو ساع في

ص: 205


1- الوسائل - الباب 26 من أبواب جهاد العدو الحديث 10 - 9
2- الوسائل - الباب 26 من أبواب جهاد العدو الحديث 10 - 9

فساد، وذلك إذا لم تخف على نفسك وأصحابك وفي الدعائم»(1)

عن علي (عليه السلام) أنه سئل عن الذين قاتلهم من أهل القبلة أكافرون هم؟ قال:

«كفروا بالأحكام وكفروا بالنعم، ليس كفر المشركين الذين دفعوا النبوة ولم يقروا بالإسلام، ولو كانوا كذلك ما حلت لنا مناكحتهم ولا ذبائحهم ولا مواريثهم».

إلى غير ذلك من النصوص الدالة على جريان حكم المسلمين على البغاة من حيث البغي في زمن الهدنة، فضلا عما هو المعلوم من تتبع كتب السير من مخالطتهم وعدم التجنب عن أسئارهم وغير ذلك من أحكام المسلمين، وإن وجب قتالهم على الوجه الذي ذكرناه، لكن ذلك أعم من الكفر، نعم الخوارج منهم قد اتخذوا بعد ذلك دینا، واعتقدوا اعتقادات صاروا بها کفارا لا من حيث كونهم بغاة، وأما تغسيلهم ودفنهم والصلاة عليهم فقد فرعه بعضهم على الكفر وعدمه، ولكن قد يقال بعدم وجوب ذلك وإن لم نقل بكفرهم حال حياتهم، ولكن لهم حكمهم بعد موتهم کما سمعته سابقا في مطلق منكر الإمامة.

ومن ذلك يعلم الحال في المسألة.

(الثانية): التي هي (لا يجوز تملك شئ من أموالهم التي لم يحوها العسكر سواء كانت مما تنقل كالثياب والآلات أو لا تنقل كالعقارات، لتحقق الإسلام المقتضي لحقن الدم والمال)

ص: 206


1- المستدرك - الباب - 24 - من أبواب جهاد العدو - الحديث 14

بلا خلا أجده في شئ من ذلك، بل في المسالك هو موضع وفاق، بل في صريح المنتهى والدروس ومحكي الغنية والتحرير الاجماع عليه، بل يمكن دعوى القطع به بملاحظة ما وقع من أمير المؤمنين (عليه السلام) في حرب أهل البصرة والنهر بعد الاستيلاء عليهم، مضافا إلى ما سمعته من النصوص السابقة، نعم ما حكاه الحسن ابن أبي عقيل مثله يأتي هنا أيضا، وقد سمعت تحقيق الحال فيه على وجه لا يقدح في محكي الاجماع ولا محصله، فمن الغريب دعوى بعض الناس الشهرة سابقا بالنسبة إلى سبي الذرية والنساء، والاجماع في المقام على عدم جواز تملك المال الذي لم يحوه العسكر مع اتحاد المقامين، ولكن الأمر سهل.

(وهل يؤخذ ما حواه العسكر مما ينقل ويحول) كالسلاح والدواب وغيرهما (قيل) والقائل المرتضى وابن إدريس والفاضل في جملة من كتبه والشهيد في الدروس على ما حكي عن بعضهم (لا) يؤخذ (لما ذكرناه من العلة) التي قد عرفت دلالة النصوص عليها عموما وخصوصا، بل عن الناصريات لا أعلم خلافا من الفقهاء فيه، وعن السرائر إجماعنا بل المسلمين عليه، وعن التذكرة نسبته إلى كافي العلماء.

(وقيل): والقائل العماني والإسكافي والشيخ في محكي الخلاف والنهاية والجمل والقاضي والحلبي وابن حمزة والفاضل في المختلف وثاني الشهيدين والكركي على ما حكي عن بعضهم (نعم) يؤخذ (عملا بسيرة علي عليه السلام، وهو الأظهر) عند المصنف وفي المختلف نسبته إلى الأكثر، وعن الخلاف ما يحويه عسكر البغاة يجوز أخذه والانتفاع به، ويكون غنيمة يقسم في المقاتلة، وما لم يحوه العسكر لا يتعرض له، واستدل على ذلك باجماع الفرقة

ص: 207

وأخبارهم، وهو جيد لو ثبت أن ذلك سيرة علي (عليه السلام)، ضرورة كونها حينئذ المخصصة للعمومات الدالة على حرمة مال المسلم، ودعواها من المصنف وغيره معارضة بدعواها من غير الشهيد في الدروس وغيره على العكس، حتی استدل بها على العدم، قال: وهو الأقرب عملا بسيرة علي (عليه السلام) في أهل البصرة، فإنه أمر برد أموالهم، فأخذت حتی القدور، كما أن ما عن العماني من أنه روي(1)

«أن رجلا من عبد القيس قام يوم الجمل، فقال: يا أمير المؤمنين (عليه السلام): ما عدلت حين تقسم بيننا أموالهم، ولا تقسم بينا نسائهم ولا أبنائهم؟ فقال له:

«إن كنت كاذبا فلا أماتك الله حتى تدرك غلام ثقيف؟ وذلك أن دار الهجرة حرمت ما فيها، وإن دار الشرك أحلت ما فيها، فأيكم يأخذ أمه من سهمه».

فقام رجل فقال: وما غلام ثقيف يا أمير المؤمنين؟ فقال:

«عبد لا يدع لله حرمة إلا انتهكها». قال: يقتل أو يموت؟ قال:

«بل، يقصمه الله قاصم الجبارين».

والشيخ في المبسوط روي أصحابنا(2) «إن ما يحويه العسكر من الأموال فإنه يقسم» معارض بما عن المبسوط من أنه روي «أن عليا (عليه السلام) لما هزم الناس يوم الجمل قالوا له يا أمير المؤمنين ألا نأخذ أموالهم؟

ص: 208


1- المستدرك - الباب - 23 - من أبواب جهاد العدو - الحديث 10 إلا أنه ترك ذيله
2- الوسائل - الباب - 41 - من أبواب جهاد العدو

قال:

«لا، لأنهم تحرموا بحرمة الإسلام، فلا تحل أموالهم في دار الهجرة».

«وفيه أيضا روي أبو قيس: أن عليا (عليه السلام) نادی:

«من وجد ماله فليأخذه»، فمر بنا رجل فعرف قدرا نطبخ فيها فسألناه أن يصبر حتى ينضج فلم يفعل فرمی برجله فأخذه.

وبما تقدم من خبر مروان وغيره مما سبق مضافا إلى العلة المزبورة، ولعل الجمع بين النصوص أنه (عليه السلام) قد أذن لهم بأخذ المال الذي عند العسكر ثم بعد أن وضعت الحرب أوزارها غرمه من بیت المال لأهله حتى أنه (عليه السلام) كان يكتفي من المدعي باليمين.

وأما إجماع الخلاف فمعارض بما سمعته من الإجماع على عكسه، وعدالة العماني مع أنه مرسل لا تقتضي صحة الرواية، كقول الشيخ في المبسوط روی أصحابنا خصوصا بعد أن روي في الخلاف ما سمعت فلا أقل من التعارض، فتبقى العمومات حينئذ سليمة، خصوصا بملاحظة ما سمعته من مراعاة علي (عليه السلام) حال شیعته من بعد.

نعم: لا يضمن ما تلف من مال الباغي حال الحرب من دابة أو سلاح أو غيرهما وإن كان المباشر لاتلافه تابع العادل، لأن السبب فيه أقوى من المباش، ولذا لم يضمن لعايشة جعلها الذي كان شيطانا حين أمر بعقره، بل الأمر بقتالهم ودفاعهم يستلزم عرفا ذلك، بل عن أبي حنيفة والمرتضى منا جواز الانتفاع بدوابهم وسلاحهم حال الحرب في قتالهم، وهو لا يخلو من وجه، لاطلاق الأمر بقتالهم، خلافا للشافعي فالأظهر حینئذ الأول لا الثاني،

ص: 209

ومن ذلك يظهر لك ما في المختلف فإنه أطنب في الاستدلال بأمور ما كنا لنؤثر وقوعها منه، منها أن القائل بالأخذ أكثر فالظن به أقوى، ومنها أن المرسل للرواية العماني وهو شيخ من علمائنا تقبل مراسيله، ومنها أن البغاة عند بعض علمائنا كفار، وهي كغيرها مما ذكره بعد كما ترى، والله العالم.

المسألة الثالثة: (ما حواه العسكر للمقاتلة خاصة يقسم للراجل سهم وللفارس سهمان ولذي الفرسين أو الأفراس ثلاثة).

بلا خلاف أجده بين القائلين به، ولعله لالحاق حكم البغاة بحكم أهل الحرب في ذلك، لما سمعته من بعض النصوص الدالة عليه كخبر أبي البختري،(1) عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي (عليهم السلام):

«القتل قتلان قتل كفارة وقتل درجة، والقتال قتالان قتال الفئة الباغية ني يفيئوا، وقتال الفئة الكافرة حتى يسلموا».

ونحوه ما يستفاد منه كونهم كأهل الحرب، وحينئذ يتجه في غنيمتهم ما سمعته في قسمة الغنيمة من إخراج الخمس وغيره مما تقدم سابقا، لكن لم يحك من فعل أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي هو الأصل في حكم البغاة کما اعترف به المؤالف والمخالف مراعاة شي من ذلك، بل لعل المتحقق خلافا، نعم قد أخذ الناس ما أخذوا وفيهم الأعراب وغيرهم ممن لا معرفة ولا مبالاة له في هذه الأمور، ولذا نادى مناديه بما سمعت، وغرم للمدعي بيمينه، ومن ذلك يظهر لك زيادة على ما عرفت ضعف القول الثاني المتقدم في المسألة الثانية الذي مبني الحكم هنا عليه، كما هو واضح.

ص: 210


1- الوسائل - الباب - 26 - من أبواب جهاد العدو - الحديث 11

ولو تترسوا بالأطفال ونحوهم ممن هو غير مقاتل ولم يمكن التوصل إليهم إلا بقتلهم قتلوا کما سمعته في المشركين، ترجیحا لما دل على قتالهم على حرمة النساء والأطفال، كما أنهم كذلك لو قاتلوا معهم، ولذا رشق الهودج بالنبال، وإن استؤسروا أطلقوا، لكن عن الشيخ في الخلاف أنهم يحبسون، وفي الدروس وهو ظاهر ابن الجنيد، ولم نعرف مأخذه، وإذا استؤسر منهم مقاتل ففي الدروس «حبس حتى تنقضي الحرب، لكن في بعض الأخبار(1) أن عمارا جاء لأمير المؤمنين (عليه السلام) بأسير منهم فقتله، والله العالم.

(خاتمة منع الزكاة لا مستحلا فليس بمرتد) قطعا کمن ترك الصلاة والصوم، وإطلاق ذلك عليه في بعض النصوص(2) منزل على إرادة بيان عظم الذنب وعظم العقوبة (و) لكن (يجوز قتاله حتى يدفعها) کما صرح به غیر واحد، بل لا أجد فيه خلافا کما اعترف به بعضهم، بل عن المنتهی نسبته إلى قول العلماء، بل في محكي التذكرة الاجماع عليه، وهو الحجة بعد خبر أبان بن تغلب(3) عن الصادق (عليه السلام):

«دمان في الإسلام حلال من الله تعالى لا يعصي فيهما أحد حتى يبعث الله قائمنا أهل البيت (عليهم السلام) - إلى أن قال - الزاني المحصن نرجمه، ومانع الزكاة نضرب عنقه».

وإن كان يمكن حمله على مستحل المنع من المسلمين الذي لا إشكال ولا خلاف في كفره بانکاره الضروري كغيرها من الضروريات، فحكمه حينئذ

ص: 211


1- المستدرك - الباب - 21 - من أبواب جهاد العدو - الحديث 2
2- الوسائل - الباب - 4 - من أبواب ما تجب فيه الزكاة
3- الوسائل - الباب - 4 - من أبواب ما تجب فيه الزكاة الحديث 6

حكم المرتد أما الأول فليس بمرتد قطعا، خلافا للعامة فسموه مرتدا تبعا لما وقع من أبي بكر في قوم منعوا الزكاة، فأرسل إليهم خالد بن الوليد لعنه الله فقتل رجالهم وسبى نسائهم حتى دخل بزوجة مالك في تلك الليلة، ولكن ذلك قد كان لأغراض فاسدة، خصوصا بعد أن كان منعها عليه منهم لعدم إمامته المقتضية وجوب طاعتهم له، وهذا هو الذي دعاه إلى ذلك، وإلا فمانع الزكاة عاص يقهر على أخذها منه، فإن لم يمكن إلا بالقتال قوتل، وهل غير الزكاة كذلك لم يحضرني الآن من تعرض لذلك.

ولكن يقوى في النظر إلحاق الخراج ونحوه من الحقوق العامة بها في ذلك، كما يلوح من توعد أمير المؤمنين (عليه السلام) ابن عباس(1) لما أخذ خراج البصرة وهرب، بل: فيه أنه لو فعل ذلك الحسن والحسين (عليه السلام) لفعلت كذا وكذا، بل لعل الخمس أيضا كذلك، إذ الظاهر كون الوجه منع الناس حقوقها، وهو مشترك بين الجميع، ولكن ذلك كله من وظائف الإمام (عليه السلام) الذي يجوز له القتال مع كل من خالف أمره في حق وجب عليه أداؤه كما عساه يشعر به ما صنعه أمير المؤمنين (عليه السلام) حال قتال الخوارج فإنه قد طالبهم على ما في بعض الأخبار بالقود عن شخص قتلوه، فقالوا نحن جميعا قتلناه، وأبوا فنابذهم، كما أن كثيرا من الأحكام التي تقدمت مخصوصة به لا يتعدى منه إلى غيره، والله العالم.

(ومن سب الإمام العادل وجب قتله): بلا خلاف أجده فيه، بل في ظاهر المنتهى ومحكي التذكرة الاجماع عليه، كما عن صريح جماعة، وهو الحجة بعد

ص: 212


1- البحار - ج 42 ص 181 الطبع الحديث

قول النبي(1) صلى الله عليه وآله وسلم:

((من سمع أحدا يذكرني فالواجب عليه أن يقتل من شتمني، ولا يرفع إلى السلطان، وإذا رفع إليه كان عليه أن يقتل من نال مني)).

المتمم بعدم القول بالفصل بينه وبين غيره من الأئمة (عليهم السلام) الذين سبهم سبه أيضا مع ما في آخر(2) «عمن سمع يشتم علي (عليه السلام) فقال والله حلال الدم»

بل: لعل إطلاق الفتاوی کصريح بعض النصوص عدم التوقف على إذن الإمام (عليه السلام)، کما عن الغنية الاجماع عليه، بل: لا ريب في اندراج الساب من المسلمين في الناصب الذي ورد فيه(3) أنه حلال الدم والمال، بل ينبغي القطع بكفر الساب مع فرض استحلاله، إذ هو من منكري الضرورة حينئذ، بل الظاهر کفره وإن لم يكن مستحلا باعتبار کونه فعل ما يقتضي الكفر، کهتك حرمة الكعبة والقرآن، بل الإمام أعظم منهما، ولعله ظاهر المنتهى وغيره، لتعليله القتل بأنه كافر مرتد.

بل: الظاهر إلحاق سب فاطمة (عليها السلام) بهم.

وكذا: باقي الأنبياء (عليهم السلام) بل: والملائكة، إذ الجميع من شعائر الله تعالى شأنه، فهتكها هتك حرمة الله تعالى شأنه، بل لا يبعد القول بقتل الساب حدا وإن تاب وقلنا بقبول توبته كالمرتد الفطري وإن لم يكن منه.

ص: 213


1- الوسائل - الباب - 25 من أبواب حد القذف - الحديث 2
2- الوسائل - الباب - 27 من أبواب حد القذف - الحديث 2
3- الوسائل - الباب - 27 - من أبواب حد القذف الحديث 5

نعم لا ينبغي التغرير بالنفس في زمان الهدنة إذا سمع العارف السب من بعض المخالفين، قال الصادق (عليه السلام) في خبر إسحاق ابن عمار:(1)

((لولا إنا نخاف عليكم أن يقتل رجل منکم برجل منهم ورجل منکم خير من ألف رجل منهم لأمرناكم بالقتل لهم، ولكن ذلك إلى الإمام (عليه السلام).

وقد تقدم خبر الفضل بن شاذان(2) وعن الريان بن الصلت،(3) قلت: للرضا (عليه السلام): إن العباسي يسمعني فيك، ويذكرك كثيرا وهو كثيرا ما ينام عندي، ويقبل فترى أن آخذ عليه وأعصره حتى يموت، ثم أقول مات فجائية؟

فقال: ونفض يديه ثلاث مرات:

«لا، یا ریان»..

فقلت: إن الفضل بن سهل هو ذا يوجهني إلى العراق في أمواله، والعباسي خارج بعدي بأيام إلى العراق فترى أن أقول لمواليك القميين أن يخرج منهم عشرون وثلاثون رجلا كأنهم قاطعوا طريق أو صعاليك فإذا اجتاز بهم قتلوه، فيقال: قتله الصعاليك؟

فسكت، فلم يقل نعم، ولا، لا).

قلت: لعله لعدم وثوقه باستتار الأمر، وإلا فلا إشكال في الجواز، بل:

ص: 214


1- الوسائل - الباب 26 - من أبواب جهاد العدو الحديث 2 - 9 - 12
2- الوسائل - الباب 26 - من أبواب جهاد العدو الحديث 2 - 9 - 12
3- الوسائل - الباب 26 - من أبواب جهاد العدو الحديث 2 - 9 - 12

الوجوب معه، وقد أشبعنا الكلام في المسألة في مقام آخر، ولو عرض بالسب عزر كما في غيره، خلافا لبعض العامة فلم يوجبه، لعدم تعزير علي (عليه السلام) من عرض له بنحو ذلك المحتمل وجوها متعددة، والله العالم.

(وإذا قاتل الذمي مع أهل البغي خرق الذمة) بلا خلاف أجده فیه بل ولا إشكال بعد أن كان عقدها على خلاف ذلك، فيجري عليه الحكم الحربي حينئذ، نعم عن التذكرة والمنتهى وغيرهما قبول دعواه لو ادعى الشبهة المحتملة في حقه، فيبقى على ذمتة حينئذ، وفي الدروس لو ادعوا الجهل أو الاكراه فالأقرب القبول، ولا بأس به.

(وللإمام (عليه السلام) أن يستعين بأهل الذمة) مع الضرورة (في قتال أهل البغي) الذين هم كأهل الحرب، وقد استعان رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأهل الذمة عليهم(1) كما تقدم سابقا بلا خلاف أجده فيه إلا من الشيخ في محكي المبسوط، بل في المنتهى هو خلاف ما عليه الأصحاب، وإنما سار إليه لتخريج من الشافعي، وهو أن أهل الذمة يقتلون أهل البغي مقبلين ومدبرين، وذلك غير جائز وهو کما تری، خصوصا بعد أن كان في عسكر علي (عليه السلام) يوم الجمل مثل من قتل الزبير وهو نائم تحت شجرة وقتل محمد بن طلحة ولم يكن يقاتل بل قيل نهى علي (عليه السلام) عن قتله وغيره من لا يعرف هذه الحدود.

ويخطر في البال أن عليا (عليه السلام) كان يجوز له قتل الجميع إلا خواص شیعته، لأن الناس جميعا قد ارتدوا بعد النبي (صلى الله عليه وآله) يوم السقيفة

ص: 215


1- کتاب نصب الراية ج 3 ص 422

إلا أربعة سلمان وأبا ذر والمقداد وعمار، ثم رجع بعد ذلك أشخاص، والباقون استمروا على كفرهم حتى مضت مدة أبي بكر وعمر وعثمان، فاستولى الكفر عليهم أجمع حتى آل الأمر إليه (عليه السلام)، ولم يكن له طريق إلى إقامة الحق فيهم إلا بضرب بعضهم بعضا، وأيهم قتل كان في محله إلا خواص الشيعة الذين لم يتمكن من إقامة الحق بهم خاصة، والله العالم.

(ولو أتلف الباغي على العادل) أو تابعه ولو ذميا (مالا أو نفسا في حال الحرب) فضلا عن غيره (ضمنه) بلا خلاف أجده فيه بینا کما اعترف به الفاضل في محكي التذكرة، بل ظاهره فيها وفي المنتهى الاجماع عليه، وهو كذلك، مضافا إلى عموم الأدلة المقتضية له دون العكس کما عرفته سابقا (و) حينئذ في (من أتى منهم ما يوجب حدا واعتصم بدار الحرب فمع الظفر به يقام عليه الحد) بلا خلاف أجده فيه، كما هو ظاهر المسالك وغيرها، بل ولا إشكال لما عرفت، وإن لم يكن كذلك في أهل الحرب لخبر الجب(1) المستفاد من قوله تعالى:

«قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ»(2) فلا يرجع عليهم بما أتلفوه من نفس أو مال إذا أسلموا، بل في الدروس وكذا جناية حربي على حربي هدر إذا أسلما، ولا يخلو من بحث وإن كان خبر الجب يقتضيه.

وليكن فيما ذكرناه من أحكام الجهاد كفاية، فإن كثيرا منها موكولة إلى

ص: 216


1- المستدرك - الباب - 15 من أبواب أحكام شهر رمضان الحديث 2 والخصائص الكبرى ج 1 ص 249 وكنز العمال ج 1 ص 17 الرقم 243 والجامع الصغير ج 1 ص 123
2- الأنفال 39

دولة الحق التي يكون صاحبها أعلم من غيره بها عجل الله فرجه وسهل مخرجه، ولكن لا بأس بختم الكتاب بخبر حفص بن غیاث(1) المروي في الكافي والتهذيب عن أبي عبد الله (عليه السلام) ليكون ختامه مسکا، قال:

سأل رجل أبي عن حروب أمير المؤمنين (عليه السلام) وكان السائل من محبينا، فقال له أبو جعفر (عليه السلام):

«بعث الله تعالى شأنه محمدا (صلى الله عليه وآله) بخمسة أسياف، ثلاثة منها شاهرة فلا تغمد حتى تضع الحرب أوزارها، ولن تضع الحرب أوزارها حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت الشمس من مغربها من الناس كلهم في ذلك اليوم، فيومئذ لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا، وسيف منها مكفوف وسيف منها مغمود سله إلى غيرنا وحكمه إلينا».

وأما السيوف الثلاثة الشاهرة: فسيف على مشركي العرب، قال الله تعالى:

«فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا...» - يعني آمنوا - وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين) فهؤلاء لا يقبل منهم إلا القتل أو الدخول في الإسلام وأموالهم وذراريهم سبي على ما سن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فإنه سبی وعفى وقبل الفداء.

والسيف الثاني: على أهل الذمة، قال الله تعالى:

ص: 217


1- الوسائل - الباب - 5 من أبواب جهاد العدو الحديث 2

«وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا»(1) نزلت هذه الآية في أهل الذمة ثم نسخها قوله عز وجل:

«قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ».(2)

فمن كان منهم في دار الإسلام فلن يقبل منه إلا الجزية أو القتل، ومالهم فئ، وذراريهم سبي، وحلت لنا مناكحتهم، ومن كان منهم في دار الحرب حل لنا سبيهم وأموالهم، ولم تحل لنا مناكحتهم ولم يقبل منهم إلا دخول دار الإسلام أو الجزية أو القتل.

والسيف الثالث: سيف على مشركي العجم يعني الترك والديلم والخزر قال الله تعالى في أول سورة الذين كفروا فقص قصتهم ثم قال:

«فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا»(3)

فإن قوله فإما منا بعد يعني السبي منهم، وإما فداء يعني المفاداة بينهم وبين هؤلاء الإسلام، فهؤلاء لا يقبل منهم إلا القتل أو الدخول في الإسلام، ولا يحل لنا مناكحتهم ما داموا في الحرب، وأما السيف المكفوف فسيف على أهل البغي والتأويل قال الله تعالى:

ص: 218


1- البقرة - 83
2- التوبة - 29
3- محمد صلى الله عليه وآله - 4 و 5

«وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ»(1) فلما نزلت هذه الآية قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):

إن منكم من يقاتل بعدي على التأويل کما قاتلت على التنزيل، فسئل النبي (صلى الله عليه وآله) من هو؟ فقال:

خاصف النعل يعني أمير المؤمنين (عليه السلام).

فقال عمار بن ياسر: قاتلت هذه الراية مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثلاثا، وهذه الرابعة، والله لو ضربونا حتى يبلغوا بنا السعفات من هجر لعلمنا أنا على الحق، وأنهم على الباطل، وكانت السيرة فيهم من أمير المؤمنين (عليه السلام) ما كان من رسول الله (صلى الله عليه وآله) في أهل مكة يوم فتح مكة، فإنه لم يسب لهم ذرية، وقال:

من أغلق بابه فهو آمن، ومن ألقى سلاحه أو دخل دار أبي سفيان فهو آمن، وكذلك قال:

أمير المؤمنين (عليه السلام) يوم البصرة نادى فيهم ألا لا تسبوا لهم ذرية، ولا تجهزوا على جريح، ولا تتبعوا مدبرا، ومن أغلق بابه وألقى سلاحه فهو آمن، وأما السيف المغمود فالسيف الذي يقام به القصاص، قال الله تعالى «النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ»(2).

فسله إلى أولياء المقتول و حكمه إلينا، فهذه السيوف التي بعث الله تعالى

ص: 219


1- الحجرات - 9
2- المائدة - 49

بها محمدا (صلى الله عليه وآله)، فمن جحدها أو جحد واحدا منها أو شيئا من سيرها وأحكامها فقد كفر بما أنزل الله تعالى على محمد (صلى الله عليه وآله).

هذا كله في الجهاد الأصغر، وأما الجهاد الأكبر الذي هو جهاد النفس فقد تكفلت بجميع ما جاء به من رسول الله (صلى الله عليه وآله) الذي قال الله تعالى شأنه فيه «وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ»(1) ومن أخيه وابن عمه ووصیه وخليفته وصهره وأبي ذريته أمير المؤمنين وسيد الوصيين (عليه السلام) الذي هو باب مدينة العلم، ومن أولاده الأئمة المعصومين الغر الميامين الكتب المصنفة في هذا الفن لأصحابنا وغيرهم، قال الصادق عليه السلام(2) «إن النبي (صلى الله عليه وآله) بعث بسرية فلما رجعوا قال:

«مرحبا بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي الجهاد الأكبر».

قيل يا رسول الله: وما الجهاد الأكبر؟ قال: (جهاد النفس)(3).

المسألة الثانية: قتال البغاة في المذاهب الاخرى.

أولا: المذهب الزيدي.

ذهب فقهاء المذهب الزيدي إلى القول: بوجوب قتال من بغي من المؤمنين على طائفة اخرى من المؤمنين، أو على إمام حق من المحقين، فيجب

ص: 220


1- القلم - 4
2- الوسائل - الباب 1 من أبواب جهاد النفس - الحديث 1
3- جواهر الكلام: ج 21 ص 322 - 351

جهادهم إذا امتنعوا من الحكم ولم يرضوا بالحق.

ويجب أن يحتج عليهم قبل قتالهم ويدعون إلى كتاب الله؛ فان أجابوا حرم قتالهم واموالهم، وان امتنعوا حل قتلهم وقتالهم، ويغنم ما اجلبوا به في معسكرهم وعساکرهم، ولم يجز سبيهم ولم يحل ذلك فيهم؛ ولا يجوز للإمام الاستعانة بالكفار والفساق على قتالهم، وقيل يجوز؛ ولا يجوز قتل اسيرهم او الاجهاز على جريحهم او اتباع المدبر وهو ما ثبت مع سيرة الإمام علي (عليه السلام) في قتال أهل الجمل.

قال إمام الزيدية يحیی بن الحسين (ت 298 ه):

يجب قتال من بغي من المؤمنين على طائفة من المؤمنين أو على إمام حق من المحقين فيجب جهادهم إذا امتنعوا من الحكم ولم يرضوا بالحق کما قال الله سبحانه:

«وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ»(1)

فأوجب قتال من بغي من المسلمين على طائفة من المؤمنين فكيف بقتال من بغى على رب العالمين وخالف حكم المحقين، ولم يطع من أمره الله بطاعته من الأئمة الهادین، فمن امتنع من ذلك وخالف الرحمان وأبدى المجاهرة لله والعصيان وجب على المسلمين قتاله أبدا حتى يفي إلى أمر الله ويحكم بحكم الله ويسلم الأمر لأولياء الله حتى يكون الدين لله خالصا كما قال عز وجل

ص: 221


1- الحجرات: 9

فيما نزل من كتابه وفرقانه:

«وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ»(1) فيجب على من قاتل الظالمين الباغين أن يحتج عليهم من قبل قتالهم ويدعوهم إلى كتاب ربهم فإن أجابوا حرم عليهم قتلهم وقتالهم وأموالهم وإن امتنعوا من الحق حل للمسلمين قتلهم وقتالهم ويغنم ما أجلبوا به في عساكرهم ولم يجز سبيهم ولم يحل ذلك فيهم.

كذلك فعل أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب (عليه السلام) بالبصرة يوم الجمل قتل من قاتله وأخذ ما في العسكر ولم يتبع من المنهزمين مدبرا ولم يجز على جريح ولم يجز لاحد سبيا فتكلم بعض أصحابه في ذلك وقالوا أحللت لنا دماءهم وأموالهم وحرمت علينا سبيهم، فقال:

«ذلك حكم الله فيهم وعليهم وفي غيرهم من سواهم ممن يفعل كفعلهم».

فلما إن أكثروا عليه في ذلك قام خطيبا فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ثم قال:

«أيها الناس إنكم قد أكثر تهم من القيل والقال والكلام في ما لا يجوز منا المحال فأيكم يأخذ عايشة في سهمة»؟

فقالوا كلهم: لا أينا، فقال:

«فكيف ذلك، وهي أعظم الناس جرما؟.

فلما أن قال ذلك لهم استفاقوا من جهلهم وأبصروا من عماهم واستيقظوا من نومتهم وصوبره في قوله واتبعوه في أمره وعلموا أن قد أصاب وجانب

ص: 222


1- البقرة: 123

الشك والارتياب. قال يحيى بن الحسين (عليه السلام): فكل من شاق الحق وعانده وجب قتاله وحل دمه، ومن حل بالمحاربة دمه كان غنيمة للمسلمين عسكره، وحرم سباؤه ملم يجز ذلك فيه)(1).

ثانيا: المذهب الشافعي.

ذهب فقهاء المذهب الشافعي كالحافظ النووي (ت 676 ه)(2) إلى أن البغاة هم الذي يخرجون على الإمام، وتنعقد الإمامة بواحدة من ثلاثة، باستخلاف الإمام الذي كان من قبل للإمام اللاحق، أو بقهره الناس بالغلبة والصولة أو باختيار أهل الحل والعقد له.

وحدده المذهب الشافعي التعامل مع البغاة وقتالهم بأمور، وهي:

1- لا يغتالون ولا يبدؤون بالقتال حتى ينذروا وينصحوا ويوعظوا، فإن اصروا قوتلوا.

2- من أدبر منهم وانهزم لم يتبع، وكذا من ترك سلاحه وترك القتال لم يقاتل، وإذا كان لهم زعيم وامام يجتمعون إليه، تتم ملاحقتهم، وأن أدبروا في القتال فيقاتلوا حتى يعودوا إلى الطاعة.

3- لا يقتل جريحهم ولا أسيرهم، ولا يطلق الاسير قبل انقضاء الحرب الا أن يبايع الإمام.

4- واما أموالهم من الخيل والاسلحة، فإذا ظفر بها لم ترد إليهم حتی ينقضي القتال ويعودوا إلى الطاعة، أو تفرقهم، ولا يجوز استعمالها في القتال

ص: 223


1- الاحکام: ج 2 ص 506 - 508
2- المجموع: ج 19 ص 192

ويجوز استخدامها للضرورة ودفع الضرر.

5- لا يقاتلون بما یعم ضرره ويعظم أثره كالنار والمنجنيق وغيرها ابتداءاً، ولو استخدموا ذلك فتم معاملتهم بالمثل.

6- لا يجوز الاستعانة عليهم بالكفار، ولا يجوز الاستعانة بمن يرى قتلهم مدبرين أو يعتقد ذلك كالمذهب الحنفي.

7- وإذا استعان البغاة باهل الحرب وعقدوا لهم الذمة فهي غير ملزمة ويجوز اغتنام أموالهم واسترقاقهم وقتلهم في حال الأسر أو الادبار والاجهاز على جريحهم.

8- ورفع الضمان عما أتلفه أهل البغي وذلك استمالة لقلوبهم إلى الطاعة لئلا ينفرهم الضمان.

قال النووي، (ت 676 ه): في قتال البغاة وقد قسمة إلى اطراف:

(الأول في صفتهم. الباغي في اصطلاح العلماء: هو المخالف لإمام العدل، الخارج عن طاعته بامتناعه من أداء واجب عليه أو غيره بشرطه الذي سنذكره إن شاء الله تعالى، قال العلماء: ويجب قتال البغاة، ولا يكفرون بالبغي، وإذا رجع الباغي إلى الطاعة قبلت توبته، وترك قتاله، وأجمعت الصحابة على قتال البغاة، ثم أطلق الأصحاب القول بأن البغي ليس باسم ذم، وبأن الباغين ليسوا بفسقة، كما أنهم ليسوا بكفرة، لكنهم مخطئون فيما يفعلون ويذهبون إليه من التأويل، ومنهم من يسميهم عصاة، ولا يسميهم فسقة ويقول: ليس كل معصية بفسق، والتشديدات الواردة في الخروج عن طاعة الامام وفي مخالفته كحديث من حمل علينا السلاح فليس منا وحديث

ص: 224

من فارق الجماعة فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه وحديث من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فميتته جاهلية كلها محمولة على من خرج عن الطاعة وخالف الامام بلا عذر ولا تأويل.

فصل الذين يخالفون الامام بالخروج عليه وترك الانقياد، والامتناع من أداء الحقوق ينقسمون إلى بغاة وغيرهم، ولكل واحد من الصنفين أحكام خاصة، فنصف البغاة بما يتميزون به، ونذكر في ضمنهم غيرهم من المخالفين. أما البغاة، فتعتبر فيهم خصلتان، إحداهما: أن يكون لهم تأويل يعتقدون بسببه جواز الخروج على الامام، أو منع الحق المتوجه عليهم، فلو خرج قوم عن الطاعة، ومنعوا الحق بلا تأويل، سواء كان حدا أو قصاصا أو مالا لله تعالى أو للآدميين، عنادا أو مكابرة، ولم يتعلقوا بتأويل، فليس لهم أحكام البغاة، وكذا المرتدون، ثم التأويل للبغاة إن كان بطلانه مظنونا، فهو معتبر، وإن كان بطلانه مقطوعا به، فوجهان، أوفقهما لاطلاق الأكثرين: أنه لا يعتبر، كتأويل المرتدين وشبهتهم، والثاني: يعتبر، ويكفي تغليطهم فيه، وقد يغلط الإنسان في القطعيات.

فرع الخوارج صنف من المبتدعة يعتقدون أن من فعل كبيرة، كفر وخلد في النار، ويطعنون لذلك في الأئمة، ولا يحضرون معهم الجمعات والجماعات، قال الشافعي وجماهير الأصحاب: لو أظهر قوم رأي الخوارج، وتجنبوا الجماعات، وكفروا الامام ومن معه، فإن لم يقاتلوا وكانوا في قبضة الامام، لم يقتلوا ولم يقاتلوا، ثم إن صرحوا بسب الامام أو غيره من أهل العدل، عزروا، وإن عرضوا، ففي تعزيرهه وجهان. قلت: أصحهما: لا يعزرون، قاله الجرجاني، وقطع به صاحب التنبيه. والله أعلم.

ص: 225

ولو بعث الامام إليهم واليا فقتلوه، فعليهم القصاص، وهل يتحتم قتل قاتله، كقاطع الطريق، لأنه شهر السلاح أم لا لأنه لم يقصد إخافة الطريق؟ وجهان.

قلت: أصحهما: لا يتحتم. والله أعلم. وأطلق البغوي أنهم إن قاتلوا، فهم فسقة وأصحاب بهت، فحكمهم حكم قطاع الطريق، فهذا ترتيب المذهب والمنصوص وما قاله الجمهور، وحكى الامام في تكفير الخوارج وجهين، قال: فإن لم نكفرهم، فلهم حكم المرتدين، وقيل: حكم البغاة، فإن قلنا:

کالمرتدین، لم تنفذ أحكامهم.

الخصلة الثانية: أن يكون لهم شوكة وعدد بحيث يحتاج الأمام في ردهم إلى الطاعة إلى كلفة، ببذل مال، أو إعداد رجال، ونصب قتال، فإن كانوا أفرادا يسهل ضبطهم، فليسوا بغاة، وشرط جماعة من الأصحاب في الشوكة أن ينفردوا ببلدة، أو قرية، أو موضع من الصحراء، وربما قيل: يشترط كونهم في طرف من أطراف ولاية الامام بحيث لا يحيط بهم أجناده، والأصح الذي قاله المحققون: أنه لا يعتبر ذلك، وإنما يعتبر استعصاؤهم وخروجهم عن قبضة الأمام حتى لو تمكنوا من المقاومة وهم محفوفون بجند الإسلام، حصلت الشوكة، وتتعلق بالشوكة صور ذكرها الامام: إحداها: حكى في قوم قليلي العدد تقووا بحصن وجهين، ورأي أن الأولى أن يفصل، فيقال: إن كان الحصن على حافة الطريق، وكانوا يستولون بسببه على ناحية وراء الحصن، فالشوكة حاصلة وحكم البغاة ثابت، لئلا تتعطل أقضية أهل تلك الناحية، وإلا فليسوا بغاة، ولا نبالي بما وقع من التعطل في العدد القليل.

ص: 226

الثانية: قال: لو تجرب من الشجعان عدد يسير يقوون بفضل قوتهم على مصارمة الجموع الكثيرة، حصلت الشوكة بلا خلاف.

الثالثة: قال: يجب القطع بأن الشركة لا تحصل إذا لم يكن لهم متبوع مطاع، إذ لا قوة لمن لا يجمع كلمتهم مطاع، وهل يشترط أن يكون فيهم إمام منصوب لهم أو منتصب؟ وجهان، ويقال: قولان، أصحهما عند الأكثرين: لا يشترط، وبه قال العراقيون والامام، وفي المنهاج للشيخ أبي محمد: أنه يشترط فيهم أن يمتنعوا من حكم الامام، وأن يظهروا لأنفسهم حکما، ويشبه أن يقال: هذا طريق مخالفة الأمام، ولا بد فيهم منها، ثم تعتبر الخصلتان فلیس فيه مخالفة ما سقناه. وبالله التوفيق.

الطرف الثاني في حكم البغاة وفيه مسألتان: إحداها: شهادة البغاة مقبولة بناء على أنهم ليسوا فسقة، ولفظ الشافعي: ولو شهد منهم عدل، قبلت شهادته ما لم يكن يرى الشهادة لموافقته بتصديقه، فأثبت العدالة مع البغي، فإن كان لهم قاض في بلد، قال المعتبرون من الأصحاب: إن كان يستحل دماء أهل العدل، لم ينفذ حكمه، لأنه ليس بعدل، ومن شرط القاضي العدالة، وكذا يقول هؤلاء فيما لو كان الشاهد يستحل دماء أهل العدل وأموالهم، ومنهم من يطلق نفوذ قضاء البغاة لمصلحة الرعية، وإن لم يكن قاضيهم ممن يستحل دماء أهل العدل وأموالهم، ونفذ حكمه فيما ينفذ فيه حكم قاضي أهل العدل، فلو حکم بما يخالف النص أو الاجماع أو القياس الجلي، فهو باطل، حتى لوقضى على رجل من أهل العدل بضمان ما أتلف في الحرب عليهم، لم ينفذ قضاؤه، وكذا لو حكم بسقوط ضمان ما أتلفوه هم على أهل العدل في غير القتال، لم ينفذ، ولو حکم بسقوط ضمان ما أتلفوه في القتال،

ص: 227

نفذ حكمه، ولا تجوز مطالبتهم بعد ذلك، لأنه مجتهد فيه، ولا ينفذ قضاء الباغي إذا كان من الخطابية الذين يقضون لموافقتهم بتصديقهم إذا قضى لموافقه، کما ترد شهادته له.

فرع إذا كتب قاضيهم حيث ينفذ قضاؤه بما حكم به إلى حاكم أهل العدل، جاز قبوله وتنفيذه، ويستحب أن لا يقبل استخفافا بهم، وإن كتب بما ثبت عنده ولم يحكم به، فهل يحكم قاضينا به؟ فيه قولان، أظهرهما: نعم، وحكى الامام طرد القولين فيما حكم به، واستعان فيه بالاستيفاء، قا: وكنت أود لو فصل فاصل بين حكم يتعلق بأهل النجدة، وحكم يتعلق بالرعايا. فرع لو ورد من قاضي البغاة كتاب على قاضينا، ولم يعلم أنه من يستحل دماء أهل العدل أم لا، ففي قبوله والعمل به قولان، حكاهما ابن كج، قال: واختيار الشافعي منهما: المنع.

المسألة الثانية: إذا أقام البغاة الحدود على جناة البلد الذي استولوا عليه، وأخذوا الزكاة من أهله وخراج أرضه، وجزية الذميين فيه، اعتد بما فعلوه، وإذا عاد البلد إلى أهل العدل، لم يطالبوا أهله بشئ من ذلك، وفي الجزية وجه شاذ لبعدها عن المسافة، ولو فرقوا سهم المرتزقة من الفئ على جندهم، ففي وقوعه موقعه وجهان، أحدهما: لا، لئلا يكون عونا لهم، وأصحهما: نعم، لأنهم من جند الإسلام، وإرعاب الكفار حاصل بهم.

فرع: إذا عاد البلد إلى أهل العدل، فادعى من عليه حق أن البغاة استوفوه، ولا يعلم الإمام ذلك ولا بينة، فإن كان زكاة، صدق بيمينه، وهل اليمين واجبة أم مستحبة؟ فيه خلاف سبق في الزكاة، وإن كان جزية، لم

ص: 228

يصدق على الصحيح، وكذا إن كان خراجا على الأصح، لأنه أجرة أو ثمن بخلاف الزكاة، فإنها عبادة ومواساة ومبناها على الرفق، وإن كان حدا فقال المتولي: يصدق إن كان أثره باقيا على بدنه، وإلا فإن ثبت بالاقرار، صدق، لأنه يقبل رجوعه، وإن ثبت بالبينة، فلا.

فصل: الذين لهم تأویل بلا شوكة، أو شوكة بلا تأويل، ليس لهم حكم البغاة، ولا ينفذ قضاء حاكمهم، ولا يعتد باستيفائهم الحقوق والحدود، وفي أصحاب الشوكة احتمال للامام لئلا يتضرر أهل الناحية التي استولوا عليها والمعروف للأصحاب ماسبق، والتحكم فيهم على الخلاف المعروف في غيرهم. الطرف الثالث في حكم ضمان المتلف من نفس أو مال بين الفريقين. فإذا أتلف باغ على عادل أو عكسه في غير القتال، ضمن قطعا على ما تقرر من القصاص والقيمة، وأما في حال القتال، فما يتلفه العادل على الباغي لا يضمنه، وما يتلفه الباغي على العادل من نفس أو مال هل يضمنه؟ قولان أظهرهما: لا، فإن كان القتل عمدا، ففي القصاص طريقان، أصحهما: طرد القولين.

والثاني: القطع بالمنع لشبهة تأويلهم، فإن أوجبنا القصاص، فال الامر إلى الدية، فهي في مال القاتل، وإن لم نوجبه، فهل یکون له حكم العمد، فتتعجل الدبة في مال القاتل، أم حکم نسبه شبه العمد، فتتأجل على العاقلة؟ فيه خلاف، کمن قتل مسلما على زي الكفار، وأما الكفارة، فتجب حيث أوجبنا قصاصا أو دية، وإلا فوجهان، أصحهما: المنع طردا للاهدار، ولأنها أولى بالمسامحة من حق الآدمي.

ص: 229

فرع: القولان فيما أتلف بسبب القتال، وتولد منه هلاکه، فلو أتلف في القتال ما ليس من ضرورة القتال، وجب ضمانه قطعا كالمتلف قبل القتال ذكره الامام.

فرع: الأموال المأخوذة في القتال يجب ردها بعد انقضاء الحرب إلى أصحابها، يستوي فيه الفريقان، فإن أتلفت بعد انقضاء الحرب، وجب الضمان. فرع لو استولي باغ على أمة أو مستولدة لأهل العدل، فوطئها، ألزمه الحد، فإن أولدها، فالولد رقيق غير نسيب، فإن كانت مكرهة، فهل يجب المهر؟ قيل: فيه القولان في ضمان المال، وقال البغوي: ينبغي أن يجب قطعا، کما لو أتلف المأخوذ بعد الانهزام، ولو استولى حربي على أمة مسلمة وأولدها، فالولد رقيق وغير نسيب، ولا حد ولا مهر، لأنه لم يلتزم الاحکام.

فرع: هذا الذي سبق من حكم الاتلاف هو في قتال البغاة، فأما المخالفون للإمام بتأويل بلا شوكة، فيلزمهم ضمان ما أتلفوه من نفس ومال، وإن كان في حال القتال كقطاع الطريق، وأما الذين لهم شوكة بلا تأويل، ففي ضمان ما أتلفوه في القتال طريقان، أحدهما: يجب قطعا كعکسه، وأصحهما: طرد القولين كالباغي، لأن سقوط الضمان عن الباغي لقطع الفتنة واجتماع الكلمة، وهذا موجود هنا، ولو ارتدت طائفة لهم شوكة، فأتلفوا مالا أو نفسا في القتال، ثم تابوا وأسلموا، ففي ضمانهم القولان کالبغاة، أظهرهما عند بعضهم: لا ضمان، وخالفه البغوي، ولا ينفذ قضاء قاضي المرتدين قطعا.

الطرف الرابع في كيفية قتال البغاة: طريقها طريق دفع الصائل، والمقصود ردهم إلى الطاعة، ودفع شرهم، لا النفي والقتل، فإذا أمكن

ص: 230

الأسر، لا يقتل، وإذا أمكن الاثخان، لا يذفف، فإن التحم القتال، واشتدت الحرب، خرج الامر عن الضبط، قال الامام: وقد يتخيل من هذا أنا لا نسير إليهم، ولا نفاتحهم بالقتال، وأنهم إذا ساروا إلينا لا نبدأ بقتالهم، بل تصطف قبالتهم، فإن قصدونا، دفعناهم، قال: وقد رأيت هذا الطائفة من الأصحاب وهو خطأ، بل إذا أذنهم الامام بالحرب، ولم يرجعوا إلى الطاعة، سار إليهم، ومنعهم من القطر الذي استولوا عليه، فإن انهزموا وكلمتهم واحدة، اتبعناهم إلى أن يتوبوا ويطيعوا، وليس قتال الفريقين كصيال الواحد ودفعه بكيفية قتالهم مسائل:

الأولى: لا يغتالون ولا يبدؤون بالقتال حتى ينذروا، فيبعث الامام إليهم أمينا فطنا ناصحا، فإذا جاءهم سألهم ما ينقمون؟ فإن ذكروا مظلمة، وعللوا مخالفتهم بها، أزالها، وإن ذكروا شبة، كشفها لهم، وإن لم يذكروا شيئا، أو أصروا بعد إزالة العلة، نصحهم ووعظهم، وأمرهم بالعود إلى الطاعة، فإن أصروا، دعاهم إلى المناظرة، فإن لم يجيبوا، أو أجابوا فغلبوا، وأصروا مکابرین، آذنهم بالقتال، فإن استنظروا، بحث الامام عن حالهم واجتهد، فإن ظهر له أنهم عازمون على الطاعة، وأنهم يستنظرون لكشف الشبهة، أو التأمل والمشاورة، أنظرهم، وإن ظهر له أنهم يقصدون الاجتماع، أو يستلحقون مددا لهم، لم ينظرهم، وإن سألوا ترك القتال أبدا، لم يجبهم، وحيث لا يجوز الإنظار، فلو بذلوا مالا، ورهنوا أولادهم والنساء، لم يقبله، لأنهم قد يقوون في المدة، ويظهرون على أهل العدل ويستردون ما بذلوه، وإذا كان بأهل العدل ضعف، أخر القتال، ونص في الأم أنه لو كان عندهم أساري من أهل العدل فسألوا - والحرب قائمة - أن يمسك ليطلقوهم، وأعطوا بذلك رهائن، قبلنا، فإن

ص: 231

أطلقوا الأسارى، أطلقنا الرهائن، وإن قتلوهم، لم يجز قتل الرهائن، بل لا بد من إطلاقهم بعد انقضاء الحرب.

الثانية: من أدبر منهم وانهزم، لم يتبع، وكذا من ألقى سلاحه وترك القتال، لم يقاتل، وانهزام الجند بأن يتبدد، وتبطل شوكتهم واتفاقهم، فلو ولوا ظهورهم وهم مجتمعون تحت راية زعيمهم، لم ينكف عنهم، بل يطلبهم حتی یرجعوا إلى الطاعة، ولو بطلت قوة واحد واعتضاده بالجمع لتخلفه عنهم مختارا، أو غير مختار، لا يقتل ولا يتبع، ومن ولي متحرفا لقتال، أتبع وقوتل، وإن ولى متحيزا إلى فئة، فإن كانت قريبة، أتبع، وإلا فلا على الأصح، وربما أطلق وجهان من غير فرق بين قريبة وبعيدة، وأجري الوجهان فيما لو بطلت شوكة الجند في الحال ولم يؤمن اجتماعهم في المآل، وموضع الاتفاق أن يؤمن اجتماعهم.

الثالثة: لا يقتل مثخنهم ولا أسيرهم، وجوز أبو حنيفة قتلهما صبرا، فلو قتل عادل أسيرهم، ففي وجوب القصاص عليه وجهان لشبهة خلاف أبي حنيفة.

قلت: أصحهما: لا قصاص. والله أعلم. ولا يطلق الأسير قبل انقضاء الحرب إلا أن يبايع الامام، ويرجع إلى الطاعة باختياره، ولو انقضت الحرب وجموعهم باقية، لم يطلق إلا أن يبايع، وإن بذلوا الطاعة، أو تفرقت جموعهم، أطلق، فإن توقع عودهم، ففي الاطلاق الوجهان السابقان، وينبغي أن يعرض على أسراهم بيعة الامام، هذا في أسير هو أهل للقتال، فأما إذا أسر نساءهم وأطفالهم، فيحبسون إلى انقضاء القتال ثم يطلقون، هذا هو الأصح،

ص: 232

وفي وجه لأبي إسحاق: إن رأى الإمام في إطلاقهم قوة أهل البغي، وأن حبسهم يردهم إلى الطاعة، ويدعوهم إلى مراجعة الحق، حبسهم حتى يطيعوا، وفي وجه له حبسهم مطلقا کسرا لقلوب البغاة، وعلى هذا وقت تخليتهم وقت تخلية الرجال، وأما العبيد والمراهقون، فأطلق جماعة أنهم كالنساء وإن كانوا يقاتلون، وقال الامام والمتولي: إن كان يجئ منهم قتال، فهم كالرجال في الحبس والاطلاق، وهذا حسن، ولا شك أن العبيد والمراهقين والنساء إذا قاتلوا فهم كالرجال في أنهم يقتلون مقبلين، ويتركون مدبرین، ويجوز أسر كل هؤلاء المذكورين ابتداء.

فرع: إذا ظفرنا بخيلهم وأسلحتهم، لم نردها حتى ينقضي القتال، ونأمن غائلتهم بعودهم إلى الطاعة، أو تفرقهم، ولا يجوز استعمالها في القتال، فلو وقعت ضرورة ولم يجد أحدنا ما يدفع عن نفسه إلا سلاحهم، أو ما يركبه وقد وقعت هزيمة إلا خيولهم، جاز الاستعمال والركوب، کما يجوز أكل مال الغير للضرورة، وما ليس من آلات الحرب من أموالهم يرد إليهم عند انقضاء الحرب.

الرابعة: لا يقاتلهم بما یعم ويعظم أثره، کالمنجنيق والنار، وإرسال السيول الجارفة، لكن لو قاتلونا بهذه الأوجه، واحتجنا إلى المقابلة بمثلها دفعا، أو أحاطوا بنا، واضطررنا إلى الرمي بالنار ونحوها، فعلناه للضرورة، وإن تحصنوا ببلدة أو قلعة، ولم يتأت الاستيلاء عليها إلا بهذه الأسباب، فإن كان فيها رعایا لا بغي فيهم، لم يجز قتالهم بهذه الأسباب، وإن لم يكن فيها إلا البغاة المقاتلون، فكذلك في الأصح، لأن ترك بلدة في أيدي طائفة من المسلمين قد يمكن الاحتيال في محاصرتهم والتضييق علهم أقرب إلى الإصلاح من اصطلام أمم.

ص: 233

الخامسة: لا يجوز أن يستعان عليهم بكفار، لأنه لا يجوز تسلیط كافر على مسلم، ولهذا لا يجوز لمستحق قصاص أن يوكل كافرا باستيفائه، ولا للامام أن يتخذ جلادا کافرا لإقامة الحدود على المسلمين، ولا يجوز أن يستعان بمن يرى قتلهم مدبرين إما لعداوة وإما لاعتقاده، کالحنفي، إلا أن يحتاج إلى الاستعانة بهم، فيجوز بشرطين، أحدهما: أن تكونه فيهم جرأة وحسن إقدام.

والثاني: أن يتمكن من منعهم لو ابتغوا أهل البغي بعد هزيمتهم، ولا بد من اجتماع الشرطين لجواز الاستعانة، كذا حكاه ابن الصباغ والروياني وغيرهما عن اتفاق الأصحاب ولفظ البغوي يقتضي جوازها بأحدهما. السادسة: لو استعان البغاة علينا بأهل الحرب، وعقدوا لهم ذمة وأمانا ليقاتلوا معهم، لم ينفذ أمانهم علينا، فلنا أن نغنم أموالهم، ونسترقهم، ونقتلهم إذا وقعوا في الأسر، ونقتلهم مدبرین، ونذفف على جريحهم، وقال القاضي حسين: لا يتبع مدبرهم، ولا يذفف على جريحهم، والصحيح الأول.

وهل ينعقد الأمان في حق البغاة؟ وجهان، أصحهما: نعم، فإن قلنا: لا، فقال البغوي: لأهل البغي أن یکروا عليهم بالقتل والاسترقاق، والذي ذكره الامام على هذا، أنه أمان فاسد، وليس لأهل البغي اغتيالهم، بل يبلغونهم المأمن، فلو قالوا: ظننا أنه يجوز لنا أن نعين بعض المسلمين على بعض أو ظننا أنهم المحقون، أو ظننا أنهم استعانوا بنا في قتال الكفار، فوجهان.

أحدهما: لا اعتبار بظنهم الفاسد، ولنا قتلهم واسترقاقهم، وأصحهما: أنا نبلغهم المأمن، ونقاتلهم مقاتلة البغاة، فلا يتعرض لهم مدبرين، وما أتلفه أهل الحرب على أهل العدل غير مضمون عليهم، وما يتلفون على

ص: 234

أهل البغي مضمون إن نفذنا أمانهم لهم، وإلا فلا، ولو استعان البغاة بأهل الذمة في قتالنا، نظر، إن علموا أنه لا يجوز لهم قتالنا ولم يكرهوا، انتقض عهدهم، وحكمهم حكم أهل الحرب، فيقتلون مقبلين ومدبرين، ولو أتلفوا بعد القتال شیئا، لم يضمنوه.

وقيل: في انتقاض عهدهم قولان، وإن قالوا: كنا مكرهين، لم ينتقض على المذهب، ويقاتلون مقاتلة البغاة، وإن قالوا: ظننا أنه يجوز لنا إعانة بعض المسلمين على بعض، أو أنهم يستعينون بنا على كفار، أو أنهم المحقون، لم ينتقض على المذهب، وقيل: قولان، وإن لم يذكروا عذرا، انتقض على المذهب، وقيل: قولان، ثم قيل: القولان إذا لم نشترط عليهم ترك القتال في عقد الذمة، فإن شرط، انتقض قطعا، وقيل: قولان مطلقا، وحيث قلنا: ينتقض، فهل يبلغون المأمن أم يجوز قتلهم واسترقاقهم؟

فيه خلاف مذكور في الجزية، فإن قلنا: يبلغون المأمن، فهل لنا قتلهم منهزمين؟ وجهان، وجه الجواز أنه من بقية العقوبة على القتال، ثم الذي ذكره البغوي وغيره، أنه كما ينتقض عهدهم في حق أهل العدل ينتقض في حق أهل البغي، وفي البيان أنه ينبغي أن يكون في انتفاضه في حق البغاة الخلاف في المسألة السابقة.

وإن قلنا: لا ينتق، فهم كالبغاة في أنه لا يتبع مدبرهم ولا يذفف على جريحهم، ولو أتلفوا شيئا على أهل العدل، لزمهم الضمان بخلاف البغاة، فإنهم لا يضمنون في قول، لأنا أسقطنا الضمان عنهم استمالة لقلوبهم إلى الطاعة لئلا ينفرهم الضمان، وأهل الذمة في قبضة الأمام، ولو أتلفوا نفسا،

ص: 235

قال الامام: إن أوجبنا القصاص على البغاة، فأهل الذمة وإلا فوجهان، أحدهما: يجب، كالضمان، والثاني: لا، للشبهة المقترنة بأحوالهم، وإذا قلنا: لا ينتقض الأمان فجاءنا ذمي تائبا، ففي ضمان ما أتلف طريقان، أحدهما: نعم، والثاني: على قولين، كالبغاة)(1).

ثالثا: المذهب المالكي.

ذهب فقهاء المالكية إلى القول بان الباغي من خالف الإمام وأن الإمامة تثبت بثلاثة (بإيصاء الخليفة الأول - بالتغلب على الناس - ببيعة أهل الحل والعقد) واشترطوا في الإمام (الحرية والعدالة والفطانة وكونه قرشياً، وذو نجدة وكفاية في المعضلات).

وحكموا بفسق العامي ما لم تكن في عنقه بيعه؛ ويتحقق البغي بالامتناع عن أداء الزكاة أو الوفاء للإمام بما عليهم من دین کخراج الارض؛ ويجوز للناس منع الإمام، بل ومقاتلته إذا كلفهم بمال ظلماً فلهم مقاتلته دفعاً عن انفسهم ولكن ليس لهم أن يخلعوه فان ذلك يكون بغياً ويجوز له قتالهم.

ولكن عليه أولاً: أن يدعوهم للدخول تحت طاعته ما لم يعاجلوه في القتال والا فلا تجب الدعوى ولا يرمون بالمنجنيق؛ ولا يقطع عنهم الإبل التي تحمل الطعام؛ ولا تسبی ذراريهم، ولا يسترقوا، ولا تهدم بيوتهم أو يحرق زرعهم، ولا ترفع رؤوسهم بالرماح من بلد إلى آخر ولكن تحمل في نفس محل قتلهم فهو جائز، ولا تغنم أموالهم، ولا يستعان عليهم بمشرك، ولا يجهز على جريحهم، وان يكف عن مدبرهم، ولا يقتل أسيرهم، ولا يوادعون على مال؛ ويجوز

ص: 236


1- روضة الطالبين: ج 7 ص 270 - 281

الاستعانة بابلهم وخيلهم وبغالهم وسلاحهم أن ظفر بها على قتالهم إذا احتيج لذلك؛ ويرد إليهم أموالهم بعد انتهاء المقاتلة والظهر عليهم وانهزامهم.

وأما أهل البدع والإباضية فانهم يستتابون فإن تابوا والا ضربت أعناقهم ویری مالك أن ذلك بسبب إفسادهم لا كفرهم(1).

قال الشيخ الدسوقي (ت 1230 ه):

(اعلم أن الإمامة العظمى تثبت بأحد أمور ثلاثة، إما بایصاء الخليفة الأول المتأهل لها، وإما بالتغلب على الناس لان من اشتدت وطأته بالتغلب وجبت طاعته ولا يراعى في هذا شروط الإمامة إذ المدار علی درء المفاسد وارتكاب أخف الضررين، وأما بيعة أهل الحل والعقد.

وهم من اجتمع فيهم ثلاثة أمور العلم بشروط الامام والعدالة والرأي وشروط الامام الحرية والعدالة والفطانة وكونه قريشيا وكونه نجدة وكفاية في المعضلات انظر بن. وبيعة أهل الحل كما في ح بالحضور والمباشرة بصفقة اليد وإشهاد الغائب منهم ويكفي العامي اعتقاد أنه تحت أمره، فإن أضمر خلاف ذلك فسق ودخل تحت قوله (عليه الصلاة والسلام):

«من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية».

قوله: (ويزيد الخ) جواب عما يقال إن الإمام الحسين - (عليه السلام) - خالف اليزيد وخرج عن طاعته والحال أن اليزيد هو الامام في وقته فيلزم أن يكون الإمام الحسين - (عليه السلام) - وأتباعه بغاة وهو باطل.

قوله: (ونائب الامام مثله) أي في كون مخالفته تعد بغيا. قوله: (كزكاة)

ص: 237


1- المغني لابن قدامة: ج 1 ص 59

أي أمرهم بأدائها فامتنعوا. قوله: (مما جبوه لبيت مال المسلمين) أي وكأن يأمرهم بوفاء ما عليهم من الدين فيمتنعون.

قوله: (كخراج الأرض) أي العنوية الذي أمرهم بدفعه لبيت المال فامتنعوا ويؤخذ من تعريف المصنف أن الأمام إذا كلف الناس بمال ظلما فامتنعوا من إعطائه فأتى لقتالهم فيجوز لهم أن يدفعوا عن أنفسهم ولا يكونون بغاة بمقاتلته لأنهم لم يمنعوا حقا ولا أرادوا خلعه. قوله: (لحرمة ذلك عليهم) أي وإنما كانوا بغاة إذا خالفوه لأجل إرادة خلعه لحرمة خلعه وإن جار.

قوله: (إذ لا يعزل الخ) بل ولا يجوز الخروج عليه تقديما لأخف المفسدتين اللهم إلا أن يقوم عليه إمام عدل فيجوز الخروج عليه وإعانة ذلك القائم. قوله: (وعدم المبالاة) هذا عطف تفسير أي أنه لا بد أن يكون الخروج على وجه المغالبة والمراد بها إظهار القهر وعدم المبالاة وإن لم يقاتل کما استظهره بعض.

قوله: (لا على سبيل المغالبة كاللصوص) أي وكمن يعتزلوا الأئمة ولا يبايعهم ولا يعاندهم كما اتفق لبعض الصحابة أنه مكث شهرا لم يبايع الخليفة ثم بايعه. قوله: (فللعدل قتالهم) اللام بمعنى على أو أنها للاختصاص.

قوله: (وإن تأولوا الخروج عليه لشبهة) أي بدليل قتال أبي بکر ما نعی الزكاة لزعم بعضهم أنه (عليه الصلاة والسلام) أوصى بالخلافة لعلي وزعم بعضهم أن المخاطب بأخذها المصطفى بقوله تعالى: «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً» الآية.

ص: 238

والمبالغة راجعة لقوله خالفت الامام ولقوله فللعدل قتالهم. قوله: (کما أنه لا يجوز له قتالهم) أي مع إصراره على الفسق بل يجب عليه أن يتوب ويقاتل. قوله: (بأن يدعوهم أولا للدخول تحت طاعته) أي وموافقة جماعة المسلمين.

قوله: (ما لم يعاجلوه) أي وإلا فلا تجب الدعوى. قوله: (والمنجنيق) هذا هو المعتمد خلافا لابن شاس القائل لا تنصب عليهم الرعادات أي المجانيق. قوله: (وقطع الميرة) الميرة في الأصل الإبل التي تحمل الطعام أريد بها هنا نفس الطعام.

قوله: (لكن لا نسبي ذراريهم الخ) خلافا لظاهر تشبيه المصنف قتالهم بقتال الكفار فإنه يفيد سبيهم ويفيد أنهم إذا تترسوا بذرية تركوا إلا أن يخاف على أكثر المسلمين وهو مسلم في الثاني دون الأول. قوله: (ولا يسترقوا) أي إذا ظفر نابهم لأنهم أحرار مسلمون وحذف المصنف النون مع لا النافية وهو جائز على قلة ومنه خبر لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا وليست لا في كلام المصنف ناهية لان النهي من الشارع والمصنف مخبر بالحكم لا ناهاه عبق.

قوله: (ولا غيره) أي كزرعهم وبيوتهم. قوله: (ولا ترفع رؤوسهم بأرماح) أي لا بمحل قتلهم ولا بغيره هذا ظاهر الشارح تبعا لعبق وتت قال بن وفيه نظر بل إنما يمنع حمل رؤوسهم على الرماح لمحل آخر کبلد أو وال وأما رفعها على الرماح في محل قتلهم فقط فجائز کالكفار فلا فرق بين الكفار والبغاة في هذا ولهذا لم يذكره ابن شاس في الأمور التي يمتاز فيها

ص: 239

قتالهم عن قتال الكفار ونصه يمتاز قتال البغاة عن قتال الكفار بأحد عشر وجها، أن يقصد بالقتال ردعهم لا قتلهم، وأن يكف عن مدبرهم، ولا يجهز على جريحهم، ولا تقتل أسراهم، ولا تغنم أموالهم، ولا تسبی ذراريهم، ولا يستعان عليهم بمشرك، ولا يوادعهم على مال، ولا تنصب عليهم الرعادات، ولا تحرق مساكنهم ولا يقطع شجرهم.

قوله: (فإنه يجوز بمحلهم فقط) أي ولا يجوز حمل رؤوسهم لبلد أخرى أو لوال.

قوله: (بفتح الدال) كذا ضبطه ابن غازي ومعناه أنهم إذا انكفوا عن بغيهم بعد دعوتهم للدخول تحت طاعة الامام أو بعد مقاتلتهم وطلبوا الأمان فلا يجوز تركهم في محلهم على مال يؤخذ منهم بل يتركون مجانا وضبطه ابن مرزوق بسكون الدال مضارع دعا فقال أي لا يعطيهم السلطان أو نوابه مالا على الدخول تحت طاعته لان خروجهم معصية.

قوله: (من سلاح وكراع) أي وغيرها فلو قاتلونا على إبل أو بغال أو فيلة وظفرنا بهم وأخذناها منهم لجاز الاستعانة بها عليهم إن احتيج لذلك. قوله: (على فرض لو حيز عنهم) أي لان الامام إذا ظفر لهم بمال حال المقاتلة فإنه يوقفه حتى يرد إليهم كما في المواق عن عبد الملك. قوله: (فلذا عبر بالرد) أي فاندفع ما يقال الرد فرع الاخذ وهو منتف فأين الرد. قوله: (أي حصل الأمان للامام) الأوضح أي حصل الأمن الامام والناس منهم. قوله: (بالظهور عليهم) أي بسبب ظهورنا عليهم وانهزامهم)(1)

ص: 240


1- حاشية الدسوقي: ج 4 ص 298 - 300

رابعا: المذهب الحنفي.

ذهب فقهاء الحنفية إلى القول بان الباغي الذي يخرج على الإمام الحق، واختلفوا فيمن يكون الإمام الحق وما المراد من ذلك فقال بعضهم: هو المتغلب الذي يعم على الناس حكمه، وتستقر سلطنته ونفوذه وقهره، فهذا لا يجوز الخروج عليه؛ وهو قول الفقهاء المتقدمين منهم، واما المتأخرين فقالوا: يراد به الحكم للغلبة لان الجميع يطلبون الدنيا فلا يدري العال من الباغي.

واشترطوا في البغاة: أنهم يخرجون على اعتقاد انهم على حق بتأويل، وبخلافه يكونون لصوص؛ أو على ظلم نزل بهم من الإمام فان خرجوا لم يكونوا من أهل البغي؛ ولا ينبغي للناس ان يعينوا الإمام على هذه الطائفة التي خرجت ولان ان يعينوا تلك الطائفة على الإمام لان فيه اعانه على خروجهم على الإمام.

ولكن إذا كان خروجهم لدعوى انهم أهل الحق والولاية فهم بغاة، ويجب على كل من يقول على القتال ان ينص امام المسلمين على هؤلاء الخارجين.

وحكموا أن أهل العدل هم الذين خرجوا مع الإمام علي (عليه السلام) وان خصومه أهل البغي، و لولاه (عليه السلام) لما عرّف ما هو حكم قتال أهل البغي، وقد سار ابو حنفية في حكم قتال أهل الخوارج والبغاة بسيرة الإمام علي (عليه السلام) في قتاله لأهل الجمل وصفين والنهروان فذهب إلى القول با يلي:

1- لا ينبغي للإمام ان يتعرض لهم ما لم يخرجوا عليه؛ فإذا بلغه عزمهم على الخروج فحينئذ ينبغي له أن يأخذهم فيحبسهم قبل ان يتفاقم الأمر.

ص: 241

2- إذا لم تكن لهم فئة فلا يجهز على جريحهم، ولا يتبع مدبرهم ولا تقيل اسيرهم، ولا تأخذ أموالهم، ولا تسبی ذراريهم أو تأخذ نسائهم فتسبی؛ وإذا كان لهم فئه فيكون حالهم على العكس.

3- وإذا اصاب أهل العدل من سلاح البغاة واحتاجوا إليه استخدم ضدهم ويعاد إليهم بعد الحرب.

4- وإذا تاب أهل البغي فلا يضمنون ما اتلفوا.

5- وإذا استعان البغاة بأهل الذمة لم ينقض ذلك العهد معهم.

6- يجوز قتالهم بجميع انواع الحرب كالنبل والمنجنيق والنار وغيرها.

7- وقالوا إن البغاة والخوارج الذين خرجوا لقتال الإمام علي (عليه السلام) هم على حد سواء؛ وقالوا: بتكفير المنكر لضرورة من ضرورات الدين، وقاذه ف عائشة ومنکر صحبته ابيها.

قال ابن عابدين (ت 252 ه) في حاشيته على رد المختار عند قوله:

(والبغاة الخارجون على الإمام الحق: الظاهر أن المراد به ما یعم المتغلب، لأنه بعد استقرار سلطنته ونفوذ قهره لا يجوز الخروج عليه کما صرحوا به، ثم رأيت في الدر المنتقى قال: إن هذا في زمانهم، وأما في زماننا فالحكم للغلبة، لان الكل يطلبون الدنيا فلا يدرى العادل من الباغي كما في العمادية اه. وقوله: بغير حق أي في نفس الامر، وإلا فالشرط اعتقادهم أنهم على حق بتأويل وإلا فهم لصوص، ويأتي تمام بیانه.

قوله: (وتمامه في جامع الفصولين) حيث قال في أول الفصل الأول: بیانه أن المسلمين إذا اجتمعوا على إمام وصاروا آمنين به فخرج عليه طائفة من

ص: 242

المؤمنين، فإن فعلوا ذلك لظلم ظلمهم به فهم ليسوا من أهل البغي وعليه أيترك الظلم وينصفهم، ولا ينبغي للناس أن يعينوا الامام عليهم لان فيه إعانة على الظلم، ولا أن يعينوا تلك الطائفة على الامام أيضا لان فيه إعانة على خروجهم على الامام، وإن لم يكن ذلك لظلم ظلمهم ولكن لدعوى الحق والولاية فقالوا: الحق معنا فهم أهل البغي، فعلى كل من يقوى على القتال أن ينصروا إمام المسلمين على هؤلاء الخارجين، لأنهم ملعونون على السان صاحب الشرع، قال (عليه الصلاة والسلام):

«الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها».

فإن كانوا تكلموا بالخروج لكن لم يعزموا على الخروج بعد، فليس للإمام أن يعترض لهم، لان العزم على الجناية لم يوجد بعد، كذا ذكر في واقعات اللامشي، وذكر، القلانسي في تهذيبه.

قال بعض المشايخ: لولا الإمام علي (عليه السلام) ما درينا القتال مع أهل القبلة.

وكان علي (عليه السلام) ومن تبعه من أهل العدل وخصمه من أهل البغي، وفي زماننا الحكم للغلبة ولا تدري العادلة والباغية كلهم يطلبون الدنيا اه ط. لكن قوله: ولا أن يعينوا تلك الطائفة على الأمام، فيه كلام سيأتي. قوله: (قطاع طريق) وهم قسمان: أحدهما الخارجون بلا تأويل بمنعة وبلا منعة، يأخذون أموال المسلمين ويقتلونهم ويخيفون الطريق.

والثاني قوم كذلك، إلا أنهم لا منعة لهم لكن لهم تأويل، كذا في الفتح، لكنه عد الأقسام أربعة، وجعل هذا الثاني قسما منهم مستقلا ملحقا بالقطاع

ص: 243

من جهة الحكم.

وفي النهر: هنا تحريف فتنبه له. قوله: (وبغاة) هم كما في الفتح قوم مسلمون خرجوا على إمام العدل ولم يستبيحوا ما استباحه الخوارج من دماء المسلمين وسبي ذراريهم اه. والمراد خرجوا بتأويل وإلا فهم قطاع کما علمت. وفي الاختيار: أهل البغي كل فئة لهم منعة يتغلبون ويجتمعون ويقاتلون أهل العدل بتأويل ويقولون الحق معنا ويدعون الولاية اه.

قوله: (وخوارج وهم قوم الخ) الظاهر أن المراد تعريف الخوارج الذين خرجوا على علي (عليه الصلاة والسلام)، لان مناط الفرق بينهم وبين البغاة هو استباحتهم دماء المسلمين وذراريهم بسبب الكفر، إذ لا تسبى الذراري ابتداء بدون كفر، لكن الظاهر من كلام الاختيار وغيره أن البغاة أعم، فالمراد بالبغاة ما يشمل الفريقين، ولذا فسر في البدائع البغاة بالخوارج لبيان أنهم منهم وإن كان البغاة أعم، وهذا من حيث الاصطلاح، وإلا فالبغي والخروج متحققان في كل من الفريقين على السوية، ولذا قال علي (عليه الصلاة والسلام) في الخوارج: إخواننا بغوا علينا. قوله: (لهم منعة) بفتح النون: أي عزة في قومهم فلا يقدر عليهم من يريدهم مصباح.

قوله: (بتأويل) أي بدليل يؤولونه على خلاف ظاهره، كما وقع للخوارج الذين خرجوا من عسكر علي عليه بزعمهم أنه كفر هو ومن معه من الصحابة، حيث حكم جماعة في أمر الحرب الواقع بينه وبين معاوية وقالوا: إن الحكم إلا الله، ومذهبهم أن مرتكب الكبيرة كافر، وأن التحكيم كبيرة لشبه قامت لهم استدلوا بها مذكورة مع ردها في كتب العقائد. مطلب في أتباع

ص: 244

عبد الوهاب الخوارج في زماننا قوله: (ويكفرون أصحاب نبینا (صلى الله عليه وآله)) علمت أن هذا غير شرط في مسمی الخوارج.

بل هو بيان لمن خرجوا على الإمام علي (عليه السلام)، وإلا فيكفي فيهم اعتقادهم كفر من خرجوا عليه، كما وقع في زماننا في اتباع عبد الوهاب الذين خرجوا من نجد وتغلبوا على الحرمين وكانوا ينتحلون مذهب الحنابلة، لكنهم اعتقدوا أنهم هم المسلمون وأن من خالف اعتقادهم مشركون، واستباحوا بذلك قتل أهل السنة وقتل علمائهم، حتی کسر الله تعالى شوكتهم وخرب بلادهم وظفر بهم عساكر المسلمين عام ثلاث وثلاثين ومائتين وألف. قوله: (کما حققه في الفتح) حيث قال: وحكم الخوارج عند جمهور الفقهاء والمحدثين حكم البغاة. وذهب بعض المحدثين إلى كفرهم.

قال ابن المنذر: ولا أعلم أحدا وافق أهل الحديث على تكفيرهم، وهذا يقتضي نقل إجماع الفقهاء. مطلب في تكفير الخوارج وأهل البدع وقد ذكر في المحيط أن بعض الفقهاء لا يكفر أحدا من أهل البدع. وبعضهم يكفر من خالف منهم ببدعته دليلا قطعيا ونسبه إلى أكثر أهل السنة، والنقل الأول أثبت، نعم يقع في كلام أهل مذهب تكفير كثير، لكن ليس من كلام الفقهاء الذين هم المجتهدون بل من غيرهم.

مطلب: لا عبرة بغير الفقهاء: يعني المجتهدين ولا عبرة بغير الفقهاء، والمنقول عن المجتهدين ما ذكرنا، وابن المنذر أعرف بنقل مذاهب المجتهدين اه. لكن صرح في كتابه المسايرة بالاتفاق على تكفير المخالف فيما كان من أصول الدني وضرورياته: كالقول بقدم العالم، ونفي حشر الأجساد، ونفي

ص: 245

العلم بالجزئيات، وأن الخلاف في غيره کنفي مبادئ الصفات، ونفي عموم الإرادة، والقول بخلق القرآن الخ.

وكذا قال في شرح منية المصلي: إن ساب الشيخين ومنکر خلافتهما من بناه على شبهة له لا يكفر، بخلاف من ادعى أن عليا إله وأن جبريل غلط، لان ذلك ليس عن شبهة واستفراغ وسع في الاجتهاد بل محض هوى اه. وتمامه فيه. قلت: وكذا يكفر قاذف عائشة ومنکر صحبة أبيها، لان ذلك تکذیب صریح القرآن).

خامسا: المذهب الحنبلي.

ذهب فقهاء المذهب الحنبلي إلى القول بان البغاة لم يخرجوا عن الإيمان؛ ولكن يجب قتالهم، إذا لم يفيئوا إلى أمر الله، وليس عليهم تبعته فيما اتلفوه في القتال، ويجوز قتال كل من منع حقاً عليه وهي البيعة للإمام، فكل من ثبتت إمامته وجبت طاعته وحرم الخروج عليه وقتاله.

والإمامة عند الحنابلة تثبت بوجوه:

1- بعهد النبي (صلى الله عليه وآله) إليه.

2- بعهد إمام قبله إليه.

3- من خرج وغلب الناس بالسيف حتى أقروا له، واذعنوا بطاعته، وتابعوه صار إماماً يحرم قتاله والخروج عليه.

فمن خرج على من ثبتت امامته بأحد هذه الوجوه باغياً وجب قتاله.

ويرى الحنابلة أن مانعي الزكاة في البغاة، وأن أهل الجمل وصفين

ص: 246

والنهروان كذلك.

وجعلوا الخارجون عن قبضة الإمام اصنافاً اربعة، وهم:

1- من أمتنع عن طاعته وخرج لقتاله بغير تأويل فهؤلاء قطاع طريق.

2- قوم لهم تأويل لكن ليس لهم منعه كالواحد والاثنين والعشرة فهؤلاء حكمهم بانهم قطاع طريق.

3- الخوارج الذين يكَّفرون بالذنب ويكفرون الإمام علي - (عليه الصلاة والسلام) - وكثيراً من الصحابة، ويستحلون دماء المسلمين وأموالهم، إلا من كان معهم ويعتقد بعقيدتهم.

هؤلاء فيهم قولان:

الاول- أنهم بغاة وهو موافق لقول ابي حنفية، والشافعي وجمهور الفقهاء وكثير من أهل الحديث.

في حين يرى مالك إستتابتهم فإن تابوا يعفى عنهم وإلا قتلوا على إفسادهم لا على كفرهم.

الثاني- أنهم مرتدون حكمهم حكم المرتدين وتباح دماؤهم وأموالهم؛ فان تحيزوا في مكان وكانت لهم منعة وشوكة صاروا أهل حرب كسائر الكفار، وأن كانوا في قبضة الإمام استتابهم كاستتابة المرتدين فإن تابوا و إلا ضربت أعناقهم و أموالهم فيئاً لا يرثهم ورثتهم المسلمون.

وحكم فقهاء الحنابلة بعدم كفر أهل النهروان، فهم بغاة؛ ولكن يجوز قتلهم ابتداءً، والاجهاز على جريحهم وذلك أن بدعتهم وسوء فعلهم يقتضي حل دمائهم.

ص: 247

4- قوم من أهل الحق يخرجون عن قبضة الإمام ویرومون خلعه لتأويل سائغ، وحكم هؤلاء، هو:

أ- لا يجوز قتالهم حتی يبعث إليهم من يسألهم ويكشف لهم الصواب وأزال ما یذکرونه من المظالم والحجج فان لجوا قتلهم حينئذ، ومرجعهم في ذلك الحكم تعامل الإمام علي - (عليه الصلاة والسلام) - مع أهل الجمل وأهل النهروان وهم الحرورية؛ وان طلبوا الإمهال في النظر بما يدعوهم إليه أمهلم، وأن كانوا يقصدون التهيئ لقتاله أو خديعته ومهاجمته لم يمهلهم بل يعاجلهم بالقتال.

ولا يجوز للإمام أخذ المال أو الرهائن ليمهلهم وان امكن دفعهم بدون القتال لم يجز قتلهم.

ب- لا يجوز الاجهاز على جريحهم، وقتل مدبرهم وأسيرهم، ولا تسبی هم ذرية، ولا يغنم لهم مال؛ ويغسل قتيلهم ويكفن ويصلى عليه.

ج- وإذا قاتل معهم عبيد ونساء وصبيان فهم كالرجل البالغ الحر يقاتلون مقبلين ويتركون مدبرین.

د- لا يجوز قتال البغاة بما يعم الضرر كالنار والمنجنيق، والتغريق إلا عند الضرورة.

ه- لا يجوز الاستعانة بأهل الذمة على قتال البغاة، و في الاستعانة باهل الذمة يرى الحنابلة أن كان القصد بالاستعان لرد البغاة وكفهم جاز ذلك.

و- إذا أظهر قوم رأي الخوارج بتكفير من ارتكب كبيرة، وترك الجماعة، واستحلال دماء المسلمين واموالهم إلا أنهم لم يخرجوا عن قبضة الإمام ولم

ص: 248

يسفكوا الدم الحرام فلا يحل قتلهم لا قتالهم وهذا الحكم ذهب إليه ايضاً الشافعي وأبو حنيفة، وجمهور أهل الفقه.

وإذا لم يمكن دفعهم إلا بقتلهم جاز قتلهم ولا شيء على من قتلهم من أثم ولا ضمان ولا كفارة.

إذا قتل رجل من أهل العدل فهو شهيد لا يغسل ولا يصلي عليه؛ وقيل يغسل ويصلي عليه.

وليس على أهل البغي ضمان فيما اتلفوه حال الحرب من نفس ومال وذهب ام هذا القول ابو حنيفة والشافعي في أحد قوليه.

وإذا قتل احد البغاة رجلاً من أهل العدل خارج المعركة فلا يتحتم قتل الباغي.

ي- أما أهل البدع فقد حكم إمام الحنابلة بعدم التفريق بينهم وبين الخوارج وعدّ والرافضة منهم وقال بعدم الجواز في الصلاة عليهم وعيادة مريضهم وبذلك قال الشافعي وأبو حنيفة، أي بعدم التفريق بين أهل البدع والخوارج، وقال مالك لا يصلي على الإباضية ولا القدرية وسائر اصحاب الأهواء ولا تتبع جنازتهم ولا تعاد مرضاهم.

قال ابن قدامة المقدسي (ت 620 ه) في قتال أهل البغي:

(الأصل في هذا الباب قول الله سبحانه:

«وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ».

ص: 249

ففيها خمس فوائد (أحدها) أنهم لم يخرجوا بالبغي عن الايمان فإنه سماهم مؤمنين (الثانية) انه أوجب قتالهم (الثالثة) انه أسقط قتالهم إذا فاءوا إلى أمر الله (الرابعة) انه أسقط عنهم التبعة فيما أتلفوه في قتالهم (الخامسة) ان الآية أفادت جواز قتال كل من منع حقا عليه، وروى عبد الله بن عمر وقال سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول:

«من أعطى إماما صفقة يده وثمرة فؤاده فليطعه ما استطاع فإن جاء آخر ينازعه فاضر بوا عنق الآخر». رواه مسلم.

وروى عرفجة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):

«ستكون هنات وهنات - ورفع صوته - ألا ومن خرج على أمتي وهم جميع فاضربوا عنقه بالسيف كائنا من كان».

فكل من ثبتت إمامته وجبت طاعته وحرم الخروج عليه وقتاله لقول الله تعالى:

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ» وروى عبادة بن الصامت، قال: بايعنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) على السمع والطاعة في المنشط والمكره وأن لا ننازع الامر أهله، وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال:

«من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فات فميتته جاهلية».

رواه ابن عبد البر من حديث أبي هريرة وأبي ذر وابن عباس كلها بمعنى واحد وأجمعت الصحابة على قتال البغاة فإن أبا بكر قاتل ما نعي الزكاة وعلي قاتل أهل الجمل وصفين وأهل النهروان والخارجون عن قبضة الإمام

ص: 250

أصناف أربعة:

(أحدها) قوم امتنعوا من طاعته وخرجوا عن قبضته بغير تأويل فهؤلاء قطاع طريق ساعون في الأرض بالفساد يأتي حكمهم في باب مفرد.

(الثاني) قوم لهم تأويل إلا أنهم نفر يسير لا منعة لهم كالواحد والاثنين والعشرة ونحوهم فهؤلاء قطاع طريق في قول أكثر أصحابنا وهو مذهب الشافعي لأن ابن ملجم لما جرح عليا قال للحسن إن برئت رأيت رأيي وإن مت فلا تمثلوا به فلم يثبت لفعله حكم البغاة ولأننا لو أثبتنا للعدد اليسير حكم البغاة في سقوط ضمان ما أتلفوه أفضى إلى إتلاف أموال الناس، وقال أبو بكر لافرق بين الكثير والقليل وحكمهم حكم البغاة إذا خرجوا عن قبضة الإمام.

(الثالث) الخوارج الذين يكفرون بالذنب ويكفرون عثمان وعليا وطلحة والزبير وكثيرا من الصحابة ويستحلون دماء المسلمين وأموالهم إلا من خرج معهم فظاهر قول الفقهاء من أصحابنا المتأخرين انهم بغاة حكمهم حكمهم وهذا قول أبي حنيفة والشافعي وجمهور الفقهاء وكثير من أهل الحديث ومالك يرى استتابتهم فإن تابوا وإلا قتلوا على افسادهم لاعلى كفرهم، وذهبت طائفة من أهل الحديث إلى أنهم كفار مرتدون حكمهم حكم المرتدين وتباح دماؤهم وأموالهم فإن تحيزوا في مكان وكانت لهم منعة وشوكة صاروا أهل حرب كسائر الكفار، وان كانوا في قبضة الإمام استتابهم کاستتابة المرتدين فإن تابوا وإلا ضربت أعناقهم وكانت أموالهم فيئا لا يرثهم ورثتهم المسلمون لما روى أبو سعيد قال سمعت رسول الله (صلى الله عليه

ص: 251

وآله) يقول:

«الخرج قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم وأعمالكم مع أعمالهم يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية».

ينظر في النصل فلا يرى شيئا، وينظر في القدح فلا يرى شيئا وينظر في الريش فلا يرى شيئا ويتمارى في الفوق) رواه مالك في موطئه والبخاري في صحيحه وهو حديث صحيح ثابت الاسناد وفي لفظ قال:

«يخرج قوم في آخر الزمان أحداث الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من خير قول البرية يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين كما يمرق لسهم من الرمية فأينما لقيتهم فاقتلهم فإن قتلهم أجر لمن قتلهم يوم القيامة».

رواه البخاري وروى معناه من وجوه، يقول فكما خرج هذا السهم نقيا خاليا من الدم والفرث لم يتعلق منها بشئ كذلك خروج هؤلاء من الدين يعني الخوارج.

وعن أبي أمامة انه رأى رؤوسا منصوبة على درج مسجد دمشق فقال كلاب النار شر قتلى تحت أديم الساء خير قتلى من قتلوه ثم قرأ: «يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ» إلى آخر الآية فقيل له أنت سمعته من رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ قال لو لم أسمعه الامرة أو مرتين أو ثلاثا أو أربعا حتى عد سبعا ما حدثتكموه.

و وقال الترمذي: هذا حديث حسن ورواه ابن ماجة عن سهل عن ابن عيينة عن أبي غالب انه سمع أبا أمامة يقول شر قتلى قتلوا تحت أديم السماء

ص: 252

وخير قتلى من قتلوا، کلاب أهل النار کلاب أهل النار كلاب أهل النار، قد كان هؤلاء مسلمين فصاروا كفارا، قتلت يا أبا أمامة هذا شئ تقوله؟ قال: بل سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعن علي (عليه الصلاة والسلام) في قول تعالى: «قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا».

قال: «هم أهل النهروان».

وعن أبي سعيد في حديث آخر عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال:

«هم شر الخلق والخليقة لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد».

وقال: «لا يجاوز إيمانهم حناجرهم».

وأكثر الفقهاء على أنهم بغاة ولا يرون تكفيرهم قال ابن المنذر لا أعلم أحدا وافق أهل الحديث على تكفيرهم وجعلهم كالمرتدين، وقال ابن عبد البر في الحديث الذي رويناه: قوله (يتماري في الفوق) يدل على أنه لم يكفرهم لأنهم علقوا من الإسلام بشي بحيث يشك في خروجهم منه.

وروي عن علي أنه لما قاتل أهل النهر قال لأصحابه لا تبدؤوهم؟ بالقتال وبعث إليهم أفيدونا بعبد الله بن خباب قالوا: كلنا قتله فحينئذ استحل قتالهم لاقرارهم على أنفسم بما یوجب قتلهم.

وذكر ابن عبد البر عن علي (عليه الصلاة والسلام) أنه سئل عن أهل النهر أكفار هم؟ قال:

«من الكفر فروا».

قيل فمنافقون؟ قال: «إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا»

قيل فما هم؟ قال: «هم قوم أصابتهم فتنة فعموا فيها وصموا وبغوا

ص: 253

علينا وقاتلونا فقاتلناهم».

ولما جرحه ابن ملجم قال للحسن:

«أحسنوا إساره فإن عشت فأنا ولي دمي، وإن مت فضربة كضربتي».

وهذا رأي عمر بن عبد العزيز فيهم وكثير من العلماء والصحيح إن شاء الله ان الخوارج يجوز قتلهم ابتداء والإجازة على جريحهم لأمر النبي (صلى الله عليه وآله) بقتلهم ووعده بالثواب من قتلهم فإن عليا (عليه الصلاة والسلام) قال: «لولا أن ينظروا لحدثتكم بما وعد الله الذين يقتلونهم على لسان محمد (صلى الله عليه وآله)».

ولان بدعتهم وسوء فعلهم يقتضي حل دمائهم بدليل ما أخبر به البني (صلى الله عليه وآله) من عظم ذنبهم وانهم شر الخلق والخليقة وانهم يمرقون من الدين وانهم كلاب النار، وحثه على قتلهم واخباره بأنه لو أدركهم لقتلهم قتل عاد فلا يجوز إلحاقهم بمن أمر النبي (صلى الله عليه وآله) بالكف عنهم وتورع كثير من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن قتالهم ولا بدعة فيهم.

(الصنف الرابع) قوم من أهل الحق يخرجون عن قبضة الإمام وير ومون خلعه لتأویل سائغ وفيهم منعة يحتاج في كفهم إلى جمع الجيش فهؤلاء البغاة الذين نذكر في هذا الباب حكمهم، وواجب على الناس معونة إمامهم في قتال البغاة لما ذكرنا في أول الباب ولأنهم لو تركوا معونته لقهره أهل البغي وظهر الفساد في الأرض.

(مسألة) قال أبو القاسم: (وإذا اتفق المسلمون على إمام فمن خرج عليه

ص: 254

من المسلمين يطلب موضعه حوربوا ودفعوا بأسهل ما يندفعون به) وجملة الامر أن من اتفق المسلمون على إمامته وبيعته ثبتت إمامته ووجبت معونته لما ذكرنا من الحديث والاجماع، وفي معناه من ثبتت إمامته بعهد النبي (صلى الله عليه وآله) أو بعهد إمام قبله إليه فإن أبا بكر ثبتت إمامته باجماع الصحابة على بيعته وعمر ثبتت إمامته بعهد أبي بكر إليه وأجمع الصحابة على قبوله.

ولو خرج رجل على الإمام فقهره وغلب الناس بسيفه حتى أقروا له وأذعنوا بطاعته وتابعوه صار إماما يحرم قتاله، والخروج عليه فإن عبد الملك بن مروان خرج على ابن الزبير فقتله واستولى على البلاد وأهلها حتى بايعوه طوعا وكرها فصار إماما يحرم الخروج عليه وذلك لما في الخروج عليه من شق عصى المسلمين وإراقة دمائهم وذهاب أموالهم، ويدخل الخارج عليه في عموم قوله عليه السلام:

«من خرج على أمتي وهم جميع فاضربوا عنقه بالسيف كائنا من كان».

فمن خرج على من ثبتت إمامته بأحد هذه الوجوه باغيا وجب قتاله، ولا يجوز قتالهم حتى يبعث إليهم من يسألهم ويكشف لهم الصواب الا أن يخالف كلبهم فلا يمكن ذلك في حقهم، فاما ان أمكن تعريفهم عرفهم ذلك وأزال ما يذكرونه من المظالم وأزال حججهم، فإن لجوا قتلهم حينئذ لأن الله تعالى بدأ بالامر بالاصلاح قبل القتال فقال سبحانه:

«وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ».

وروي أن عليا (عليه الصلاة والسلام) راسل أهل البصرة قبل وقعة

ص: 255

الجمل ثم أمر أصحابه أن لا يبدؤوهم بالقتال ثم قال:

«إن هذا يوم من فلج فيه فلج يوم القيامة».

ثم سمعهم يقولون: الله أكبر یا ثارات عثمان، فقال: «اللهم أكب قتلة عثمان لوجوههم».

وروى عبد الله بن شداد ابن الهادي ان عليا لما اعتزلته الحرورية بعث إليهم عبد الله بن عباس فواضعوه کتاب الله ثلاثة أيام فرجع منهم أربعة آلاف، فإن أبوا الرجوع وعظهم وخوفهم القتال، وإنما كان كذلك لأن المقصود کفهم ودفع شرهم لا قتلهم فإذا أمكن بمجرد القول كان أولى من القتال لما فيه من الضرر بالفريقين فإن سألوا الانظار نظر في حالهم وبحث عن أمرهم، فإن بان له ان قصدهم الرجوع إلى الطاعة ومعرفة الحق أمهلهم.

قال ابن المنذر: أجمع على هذا كل من أحفظ عنه من أهل العلم، فإن كان قصدهم الاجتماع على قتاله وانتظار مدد يقوون به أو خديعة الإمام أو ليأخذوه على غرة ويفترق عسكره لم ينظرهم وعاجلهم لأنه لا يأمن أن يصير هذا طريقا إلى قهر أهل العدل ولا يجوز هذا وان أعطوه عليه مالا لأنه لا يجوز أن يأخذ المال على اقرارهم على مالا يجوز اقرارهم عليه وان بذل له رهائن على أنظارهم لم يجز أخذها لذلك ولان الرهائن لا يجوز قتلهم لغدر أهلهم فلا يفيد شيئا.

وإن كان في أيديهم أسرى من أهل العدل وأعطوا بذلك رهائن منهم قبلهم الإمام واستظهر للمسلمين فإن أطلقوا أسرى المسلمين الذين عندهم أطلقت رهائنهم وان قتلوا من عندهم لم يجز قتل رهائنهم لأنهم لا يقتلون

ص: 256

بقتل غيرهم فإذا انقضت الحرب خلى الرهائن کما تخلى الأسارى منهم، وان خاف الإمام على الفئة العادلة الضعف عنهم أخر قتالهم إلى أن تمكنه القوة عليهم لأنه لا يأمن الاصطلام والاستئصال فيؤخرهم حتى تقوي شوكة أهل العدل ثم يقاتلهم، وان سألوه أن ينظرهم أبدا ويدعهم وما هم عليه ويكفوا عن المسلمين نظرت فإن لم يعلم قوته عليهم وخاف قهرهم له ان قاتلهم تركهم.

وان قوي عليهم لم يجز اقرارهم على ذلك لأنه لا يجوز أن يترك بعض المسلمين طاعة الإمام ولا تؤمن قوة شوكتهم بحيث يفضي إلى قهر الإمام العادل ومن معه، ثم إن أمكن دفعهم بدون القتل لم يجز قتلهم لأن المقصود دفعهم لأهلهم ولان المقصود إذا حصل بدون القتل لم يجز القتل من غير حاجة، وان حضر معهم من لا يقاتل لم يجز قتله، وقال أصحاب الشافعي فيه وجه آخر يجوز لأن عليا (عليه السلام) نهی أصحابه عن قتل محمد بن طلحة السجاد وقال:

«إياكم وصاحب البرنس».

فقتله رجل وأنشأ يقول:

وأشعث قوام بآيات ربه *** قليل الأذى فيما ترى العين مسلم

هتكت له بالرمح جيب قميصه *** فخر صريعا للدين وللفم

على غيرشي غيرأن ليس تابعا *** عليا ومن لم يتبع الحق يظلم

يناشدني حم والرمح شاجر *** فهلا تلاحم قبل التقدم

وكان السجاد حامل راية أبيه ولم يكن يقاتل فلم ينكر علي قتله ولأنه

ص: 257

صار ردا لهم، ولنا قول الله تعالى:

«وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ».

والأخبار الواردة في قتل المسلم والاجماع على تحريمه وإنما خص من ذلك ما حصل ضرورة دفع الباغي والصائل ففيما عداه يبقى على العموم والاجماع فيه ولهذا حرم قتل مدبرهم وأسيرهم والاجهاز على جريحهم مع نهم إنما تركوا القتال عجزا عنه ومتى ما قدروا عليه عادوا إليه فمن لا يقاتل تورعا عنه مع قدرته عليه ولا يخاف منه القتل بعد ذلك أولى ولأنه مسلم لم يحتج إلى دفعه ولا صدر منه أحد الثلاثة فلم يحل دمه لقوله (عليه السلام):

«لا يحل دم امرئ مسلم الا بإحدى ثلاث».

فما حديث علي في نهيه عن قتل السجاد فهو حجة عليه فإن نهي علي أولى من فعل من خالفه ولا يمتثل قول الله تعالى ولا قول رسوله ولا قول إمامه، وقولهم لم ينكر قتله قلنا لم ينقل إلينا أن عليا علم حقيقة الحال في قتله ولا حضر قتله فينكره وقد جاء أن عليا (عليه السلام) حين طاف في القتلى رآه فقال السجاد ورب الكعبة هذا الذي قتله بره بأبيه وهذا يدل على أنه لم يشعر بقتله ورأي كعب بن سور فقال يزعمون إنما خرج إلينا الرعاع وهذا الحبر بين أظهرهم، ويجوز أن يكون تركه الانكار عليهم اجتزاء بالنهي المتقدم ولان القصد من قتالهم كفهم وهذا كاف لنفسه فلم يجز قتله كالمنهزم.

(فصل) وإذا قاتل معهم عبيد ونساء وصبيان فهم كالرجل البالغ الحر يقاتلون مقبلين ويتركون مدبرين لأن قتالهم للدفع، ولو أراد أحد هؤلاء قتل

ص: 258

إنسان جاز دفعه وقتاله وان أتى على نفسه ولذلك قلنا في أهل الحرب إذا كان معهم النساء والصبيان يقاتلون قوتلوا وقتلوا.

(فصل) ولا يقاتل البغاة بما یعم اتلافه كالنار والمنجنيق والتغريق من غیر ضرورة لأنه لا يجوز قتل من لا يقاتل وما یعم اتلافه يقع على من يقاتل ومن لا يقاتل فإن دعت إلى ذلك ضرورة مثل أن يحتاط بهم البغاة ولا يمكنهم التخلص إلا برميهم بما يعم اتلافه جاز ذلك وهذا قول الشافعي وقال أبو حنيفة إذا تحصن الخوارج فاحتاج الإمام إلى رميهم بالمنجنيق فعل ذلك بهم ما كان لهم عسکر وما لم ينهزموا وان رماهم البغاة بالمنجنيق والنار جاز رميهم بمثله.

(فصل) قال أبو بكر وإذا اقتتلت طائفتان من أهل البغي فقدر الإمام على قهر هما لم يعن واحدة منهما لأنهما جميعا على الخطأ وان عجز عن ذلك وخاف اجتماعهما على حربه ضم إليه أقربها إلى الحق فإن استویا اجتهد برأيه في ضم إحداهما ولا يقصد بذلك معونة إحداهما بل الاستعانة على الأخرى فإذا هزمها يقاتل من معه حتى يدعوهم إلى الطاعة لأنهم قد حصلوا في أمانه، وهذا مذهب الشافعي ولا يستعين على قتالهم بالكفار بحال ولا بمن يري قتلهم مدبرین.

وبهذا قال الشافعي، وقال أصحاب الرأي لا بأس أن يستعين عليهم بأهل الذمة والمستأمنين وصنف آخر منهم إذا كان أهل العدل هم الظاهرين على من يستعينون به ولنا ان القصد كفهم وردهم إلى الطاعة دون قتلهم وان دعت الحاجة إلى الاستعانة بهم فإن كان يقدر على كفهم استعان بهم وان لم

ص: 259

يقدر لم يجز.

(فصل) وإذا أظهر قوم رأي الخوارج مثل تكفير من ارتكب كبيرة وترك الجماعة واستحلال دماء المسلمين وأموالهم الا أنهم لم يخرجوا عن قبضة الإمام ولم يسفكوا الدم الحرام فحكي القاضي عن أبي بكر أنه لا يحل بذلك قتلهم ولا قتالهم وهذا قول أبي حنيفة والشافعي وجمهور أهل الفقه، وروي ذلك عن عمر بن عبد العزيز فعلى هذا حكمهم في ضمان النفس والمال حکم المسلمين وان سبوا الإمام أو غيره من أهل العدل عزروا لأنهم ارتكبوا محرما لاحد فيه وان عرضوا بالسب فهل يعزرون؟

على وجهين، وقال مالك في الإباضية وسائر أهل البدع: يستتابون فإن تابوا وإلا ضربت أعناقهم.

قال إسماعيل بن إسحاق: رأي مالك قتل الخوارج وأهل القدر من أجل الفساد الداخل في الدين كقطاع الطريق فإن تابوا والا قتلوا على افسادهم لا على كفرهم واما من رأى تكفيرهم فمقتضى قوله أنهم يستتابون فإن تابوا وإلا قتلوا لكفرهم کما یقتل المرتد.

وحجتهم قول النبي (صلى الله عليه وآله): «فأيما لقيتموهم فاقتلوهم» وقوله (عليه السلام): «لئن أدركتهم لأقتلتهم قتل عاد» وقوله (صلى الله عليه وآله) في الذي أنكر عليه وقال: إنها لقسمة ما أريد بها وجه الله لأبي بكر:

«اذهب فاقتله».

ثم قال لعمر مثل ذلك، فأمر بقتله قبل قتاله وهو الذي قال يخرج

ص: 260

من ضئضئ هذا قوم يعني الخوارج وقول عمر لصبيغ لو وجدتك محلوقا لضربت الذي فيه عيناك بالسيف يعني لقتلتك وإنما يقتله لكونه من الخوارج فإن النبي (صلى الله عليه وآله) قال:

«سيماهم التسبید». یعني: حلق رؤوسهم.

واحتج الأولون بفعل علي (عليه الصلاة والسلام) فإنه روي عنه أنه كان يخطب يوما فقال رجل بباب المسجد لاحکم الا لله، فقال علي:

«كلمة حق أريد بها باطل» ثم قال: «لكم علينا ثلاث لا نمنعكم مساجد الله ان تذكروا فيها اسم الله تعالى ولا نمنعكم الفي ما دامت أيديكم معنا ولا نبدأكم بقتال».

وروى أبو يحيى قال صلى علي (عليه السلام) صلاة فتأداه رجل من الخوارج: (لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين) فاجابه علي (عليه السلام):

«فاصبر ان وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون».

وكتب عدي بن أرطاة إلى عمر بن عبد العزيز ان الخوارج يسبونك فكتب إليه ان سبوني فسبوهم أو اعفوا عنهم وان شهروا السلاح فاشهروا عليهم وان ضربوا فاضربوا ولان النبي (صلى الله عليه وآله) لم يتعرض للمنافقين الذين معه في المدينة فلان لا يتعرض لغيرهم اولي وقد روي في خبر الخارجي الذي أنكر عليه أن خالدا قال يا رسول الله الا أضرب عنقه؟ قال: «لعله يصلي؟»

قل رب مصل لا خير فيه قال: «إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس».

ص: 261

(مسألة) قال (فإن آل ما دفعوا به إلى نفوسهم فلا شئ على الدافع وان قتل الدافع فهو شهيد) وجملته انه إذا لم يمكن دفع أهل البغي إلا بقتلهم جاز قتلهم ولا شئ على من قتلهم من اثم ولا ضمان ولا كفارة لأنه فعل ما أمر به وقتل من أحل الله قتله وامر بمقاتلته وكذلك ما أتلفه أهل العدل على أهل البغي حال الحرب من المال لاضمان فيه لأنهم إذا لم يضمنوا الأنفس فالأموال أولى فإن قتل العادل كان شهيدا لأنه قتل في قتال أمر الله تعالى به بقوله «فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي» وهل يغسل ويصلي عليه؟

فيه روايتان إحداهما) لا يغسل ولا يصلي عليه لأنه شهید معركة أمر بالقتال فيها فأشبه شهید معركة الكفار (والثانية) يغسل ويصلى عليه وهو قول الأوزاعي وابن المنذر ولان النبي (صلى الله عليه وآله) أمر بالصلاة على من قال لا إله إلا الله واستثنی قتيل الكفار في المعركة ففي ما عداه يبقى على الأصل ولان شهید معركة الكفار أجره أعظم وفضله أكثر وقد جاء أنه يشفع في سبعين من أهل بيته وهذا لا يلحق به في فضله فلا يثبت فيه مثل حكمه فإن الشئ إنما يقاس على مثله.

(فصل) وليس على أهل البغي أيضا ضمان ما أتلفوه حال الحرب من نفس ولا مال، وبه قال أبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه وفي الآخر يضمنون ذلك لقول أبي بكر لأهل الردة: تدون قتلانا ولاندي قتلاكم ولأنها نفوس وأموال معصومة أتلفت بغير حق ولا ضرورة دفع مباح فوجب ضمانه كالذي تلفت في غير حال الحرب ولنا ما روى الزهري أنه قال كانت الفتنة العظمی بين الناس وفيهم البدريون فاجمعوا على أن لا يقام حد على رجل ارتكب فرجا حراما بتأويل القرآن ولا يغرم مالا أتلفه بتأويل القرآن ولأنها

ص: 262

طائفة ممتنعة بالحرب بتأویل سائغ فلم تضمن ما أتلفت على الأخرى كأهل العدل ولان تضمينهم يفضي إلى تنفيرهم عن الرجوع إلى الطاعة فلا يشرع کتضمين أهل الحرب.

فاما قول أبي بكر فقد رجع عنه ولم يمضه فإن عمر قال له أما ان يدوا قتلانا فلا فإن قتلانا قتلوا في سبيل الله تعالى على ما أمر الله فوافقه أبو بكر ورجع إلى قوله فصار أيضا إجماعا حجة لنا ولم ينقل أنه غرم أحدا شيئا من ذلك وقف قتل طليحة عكاشة بن محصن وثابت بن أقرم ثم أسلم فلم يغرم شيئا ثم لو وجب التغريم في حق المرتدين لم يلزم مثله ههنا فإن أولئك کفار لا تأويل لهم وهؤلاء طائفة من المسلمين لهم تأویل سائغ فكيف يصح الحاقهم بهم؟ فاما ما أتلفه بعضهم على بعض في غير حال الحرب قبله أو بعده فعلی متلفه ضمانه.

وبهذا قال الشافعي ولذلك لما قتل الخوارج عبد الله بن خباب أرسل إليهم علي أقيدونا من عبد الله بن خباب ولما قتل بن ملجم عليا في غير المعركة أقيد به وهل يتحتم قتل الباغي إذا قتل أحدا من أهل العدل في غير المعركة؟ فيه وجهان: (أحدهما) يتحتم لأنه قتل باشهار السلاح والسعي في الأرض بالفساد فيحتم قتله كقاطع الطريق (والثاني) لا يتحتم وهو الصحيح القول علي (عليه السلام):

«ان شئت أن اعفو وان شئت استقدت».

فاما الخوارج فالصحيح على ما ذكرنا إباحة قتلهم فلا قصاص على قاتل أحد منهم ولا ضمان عليه في ماله

ص: 263

(مسألة) قال (وإذا دفعوا لم يتبع لهم مدبر ولا يجاز على جريحهم ولم يقتل لهم أسير ولم يغنم لهم مال ولم تسب له ذرية) وجملته أن أهل البغي إذا تركوا القتال إما بالرجوع إلى الطاعة وإما بالقاء السلاح وإما بالهزيمة إلى فئة أو إلى غير فئة واما بالعجز لجراح أو مرض أو أسر فإنه يحرم قتلهم واتباع مدبرهم.

وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة إذا هزموا ولا فئة لهم كقولنا وان كانت لهم فئة يلجئون إليها جاز قتل مدبرهم وأسيرهم والإجازة على جريحهم وان لم يكن لهم فئة لم يقتلوا لكن يضربون ضربا و جيعا ويحبسون حتى يقلعوا عماهم عليه ويحدثوا توبة ذكروا هذا في الخوارج ويروى عن ابن عباس نحو هذا واختاره بعض أصحاب الشافعي لأنه متى لم يقتلهم اجتمعوا ثم عادوا إلى المحاربة ولنا ما روي عن علي (عليه السلام) أنه قال يوم الجمل:

«لا يذفف على جريح ولا يهتك ستر ولا يفتح باب ومن أغلق بابا أو بابه فهو آمن ولا يتبع مدبر».

وقد روي نحو ذلك عن عمار وعن علي (عليه السلام) انه ودي قوما من بيت مال المسلمين قتلوا مدبرين، وعن أبي أمامة أنه قال شهدت صفين وكانوا لا يجيزون على جريح ولا يقتلون موليا ولا يسلبون قتيلا وقد ذكر القاضي في شرحه عن عبد الله بن مسعود ان النبي (صلى الله عليه وآله) قال:

«يا ابن أم عبد ما حكم من بغي على أمتي؟» فقلت الله ورسوله أعلم فقال:

«لايتبع مدبرهم ولا يجاز على جريحهم ولا يقتل أسيرهم ولا يقسم فيئهم

ص: 264

ولان المقصود دفعهم وكفهم وقد حصل فلم يجز قتلهم كالصائل ولا يقتلون لما يخاف في الثاني كما لو لم تكن لهم فئة».

إذا ثبت هذا فإن قتل إنسان من منع من قتله ضمنه لأنه قتل معصوما لم يؤمر بقتله وفي القصاص و جهان (أحدهما) يجب لأنه مكافئ معصوم (والثاني) لا يجب لأن في قتلهم اختلافا بين الأئمة فكان ذلك شبهة دارئة للقصاص لأنه مما يندرئ بالشبهات، وأما أسيرهم فإن دخل في الطاعة خلي سبيله وان أبي ذلك وكان رجلا جلدا من أهل القتل حبس ما دامت الحرب قائمة فإذا انقضت الحرب خلي سبيله وشرط عليه أن لا يعود إلى القتال وإن لم يكن الأسير من أهل القتال كالنساء والصبيان والشيوخ الفانين خلي سبيلهم ولم يحبسوا في أحد الوجهين.

وفي الآخر يحبسون لأن فيه كسرا لقلوب البغاة، وان أسر كل واحد من الفريقين أساري من الفريق الآخر جاز فداء أساری أهل العدل باسری أهل البغي وإن قتل أهل البغي أساری أهل العدل لم يجز لأهل العدل قتل أساراهم لأنهم لا يقتلون بجناية غيرهم ولا يزرون وزر غيرهم وان أبی البغاة مفاداة الاسرى الذين معهم وحبسوهم احتمل أن يجوز لأهل العدل حبس من معهم ليتوصلوا إلى تخليص أساراهم بحبس من معهم ويحتمل أن لا يجوز حبسهم ويطلقون لأن الذنب في حبس أسارى أهل العدل لغيرهم.

(فصل) فأما غنيمة أموالهم وسبي ذريتهم فلا نعلم في تحريمه بين أهل العلم خلافا وقد ذكرنا حديث أبي أمامة وابن مسعود، ولأنهم معصومون وإنما أبيح من دمائهم وأموالهم ما حصل من ضرورة دفعهم وقتالهم وما

ص: 265

عداه يبقى على أصل التحريم، وقد روي أن عليا (عليه الصلاة والسلام) يوم الجمل قال:

«من عرف شيئا من ماله مع أحد فليأخذه».

وكان بعض أصحاب علي قد أخذ قدرا وهو يطبخ فيها فجاء صاحبها ليأخذها فسأله الذي يطبخ فيها إمهاله حتى ينضج الطبيخ فأبي وكبه وأخذها، وهذا من جملة ما نقم الخوارج من علي فإنهم قالوا: إنه قاتل ولم يسب ولم يغنم فإن حلت له دماؤهم فقد حلت له أموالهم وإن حرمت عليه أموالهم فقد حرمت عليه دماؤهم.

فقال لهم ابن عباس: أفتسبون أمكم؟ يعني عائشة أم تستحلون منها ما تستحلون من غيرها؟ فإن قلتم لیست أمكم فقد كفرتم، وإن قلتم انها أمكم واستحللتم سبيها فقد كفرتم، یعني بقوله انكم إن جحدتم انها أمكم فقد قال الله تعالى:

«النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ».

فإن لم تكن أمالهم لم يكونوا من المؤمنين، ولان قتال البغاة إنما هو لدفعهم وردهم إلى الحق لا لكفرهم فلا يستباح منهم إلا ما حصل ضرورة الدفع الصائل وقاطع الطريق وبقي حكم المال والذرية على أصل العصمة وما أخذ من كراعهم وسلاحهم لم يرد إليهم حال الحرب لئلا يقاتلونا به.

وذكر القاضي ان احمد أومأ إلى جواز الانتفاع به حال التحام الحرب ولا يجوز في غير قتالهم وهذا قول أبي حنيفة لأن هذه الحال يجوز فيها اتلاف نفوسهم وحبس سلاحهم وكراعهم فجاز الانتفاع به کسلاح أهل الحرب.

ص: 266

وقال الشافعي لا يجوز ذلك إلا من ضرورة إليه لأنه مال مسلم فلم يجز الانتفاع به بغير إذنه كغيره من أموالهم.

وقال أبو الخطاب في هذه المسألة وجهان کالمذهبين، ومتى انقضت الحرب وجب رده إليهم کما ترد إليهم سائر أموالهم لقول النبي (صلى الله عليه وآله):

«لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه».

وروى أبو قيس أن عليا (عليه السلام) عنه نادی:

«من وجد ماله فليأخذه».

(مسألة) قال: (ومن قتل منهم غسل و کفن وصلي عليه) يعني من أهل البغي وبهذا قال مالك والشافعي، وقال أصحاب الرأي إن لم يكن لم فئة صلي عليهم وان كانت لهم فئة لم يصل عليهم لأنه يجوز قتلهم في هذه الحال فلم يصل عليهم کالكفار، ولنا قول النبي (صلى الله عليه وآله):

«صلوا على من قال لا إله إلا الله».

رواه الحلال في جامعه، ولأنهم مسلمون لم يثبت لهم حكم الشهادة فيغسلون ويصلى عليهم کما لو لم يكن لهم فئة. وما ذكروه ينتقض بالزاني المحصن والمقتص منه والقاتل في المحاربة.

(فصل) لم يفرق أصحابنا بين الخوارج وغيرهم في هذا وهو مذهب الشافعي وأصحاب الرأي. وظاهر کلام أحمد رحمه الله انه لا يصلى على الخوارج فإنه قال أهل البدع ان مرضوا فلا تعودوهم وان ماتوا فلا تصلوا عليهم.

ص: 267

وقال أحمد: الجهمية والرافضة لا يصلى عليهم قد ترك النبي (صلى الله عليه وآله) الصلاة بأقل من هذا.

وذكر أن النبي (صلى الله عليه وآله) نهى أن تقاتل خیبر من ناحية من نواحيها فقاتل رجل من تلك الناحية فقتل فلم يصل عليه النبي (صلى الله عليه وآله) فقيل إنه كان في قرية أهلها نصارى ليس فيها من يصلي عليه قال: (أنا لا أشهده يشهده من شاء).

وقال مالك: لا يصلي على الإباضية ولا القدرية وسائر أصحاب الأهواء ولا تتبع جنائزهم ولا تعاد مرضاهم. والإباضية صنف من الخوارج نسبوا إلى عبد الله بن أباض صاحب مقالتهم، والأزارقة أصحاب نافع بن الأزرق، والنجدات أصحاب نجدة الحروري، والبيهسية أصحاب بیهس، والصفرية قيل إنهم نسبوا إلى صفرة ألوانهم وأصنافهم كثيرة، والحرورية نسبوا إلى أرض يقال لها حروراء خرجوا بها.

وقال أبو بكر بن عياش: لا أصلي على الرافضي لأنه زعم أن عمر کافر، ولا على الحروري لأنه يزعم أن عليا کافر.

وقال الفرياني من شتم أبانكر فهو كافر لا يصلى عليه، ووجه ترك الصلاة عليهم انهم يكفرون أهل الإسلام ولا يرون الصلاة عليهم فلا يصلى عليهم کالكفارة من أهل الذمة وغيرهم ولأنهم مرقوا من الدين فأشبهوا المرتدين.

(فصل) والبغاة إذا لم يكونوا من أهل البدع ليسوا بفاسقين وإنما هم يخطئون في تأويلهم والإمام وأهل العدل مصیبون في قتالهم فهم جميعا کالمجتهدين من الفقهاء في الأحكام من شهد منهم قبلت شهادته إذا كان

ص: 268

عدلا وهذا قول الشافعي ولا أعلم في قبول شهادتهم خلافا، فأما الخوارج وأهل البدع إذا خرجوا على الإمام فلا تقبل شهادتهم لأنهم فساق وقال أبو حنيفة يفسقون بالبغي وخروجهم على الإمام ولكن تقبل شهادتهم لأن فسقهم من جهة الدين فلا ترد به الشهادة وقد قبل شهادة الكفار بعضهم على بعض)(1).

سادساً: المذهب الإباضي.

تناول فقهاء الإباضية حكم قتال البغاة في كتاب الدماء، واستندوا إلى حرمة دم المسلم واباحته إلى الحديث المروي عن النبي (صلى الله عليه وآله):

«لا يحل دم امرئ مسلم يشهد إلا اله الا الله و انی رسول الله الا احد ثلاثة: الثيب الزاني، النفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة»(2).

وعليه:

دار کلام فقهاء الإباضية في قتال البغاة و تحديد هويتهم وتصنيفهم ضمن الموارد الثلاثة التي وردت في الحديث، وهم على انواع عدة، وهي:

الغاصب، والسارق، والأخذ بخفية، والقاطع، والسالب، والقاتل، والجارح، والمؤثر في البدن ومفوت منفعة عضو، وماد يده إلى جسد أو ثوب أحد مساخراً به مهيناً له، والقاصد ليزني بفرج أو يد أو لمس أو لكشف عورة.

ولم يتعرض الإباضية إلى حكم الخارج على الإمام ضمن عنوان البغي مع

ص: 269


1- المغني: ج 1 ص 48 - 67
2- کتاب النيل وشفاء العليل، محمد أطفيش: ج 14 ص 265

الحكم بوجوب نصب الإمام لتوقف الواجب عليه من تمام الأمر والنهي وإقامة الحدود والقيام بالعدل والإنصاف وردع المعتدي.

ولكنهم حكموا بجواز قتل من طعن أو عصى أو أبي إمامة الإمام.

وبجواز وحليت دم الإمام إذا أبى أن يقبل الإمامة لنفسه عن طلبوه إن تأهل، وإذا قتلوا من أبى فإنهم ينظرون في غيره كما أمر عمر أهل الشوری بذلك.

وحكموا بجواز تقديم المفضول مع وجود الفاضل.

وحكموا بكفر الإمام إذا ترك من خرج عليه، وبخلعه إذا ترك القتال وكان العدو على النصف.

ويثبت عقد الإمام إذا بایعه خمسة، وقيل: أقل ما يعقد له إثنان؛ وقيل: إن الإمام لايحتاج إلى من يعقد له لأن المراد التراضي به، فإذا وقع التراضي به من الخاصة فهو إمام، ولو كان القائم بذلك مبتدئاً؛ وقالوا: بعدم جواز قتال من أراد أخذ مال الزكاة بالقتال وأن كان باغياً، وذلك أن الذي يجوز له اخذ الزكاة إمام الإباضية.

وأوجبوا على إمام الدفاع إن يقاتل بالناس باغياً عليهم واحداً أو اثنين أو ثلاثة أو أكثر وتنتهي امامته بزوال الباغي أو زوال بغيه أو بزوال القتال.

وقالوا: بجواز قطع شجر او نخل البغاة وقطع الطعام عنهم؛ ولم يفرقوا بين من له فئة أو لم یکن: فجميعهم لا يجوز قتل اسيرهم وجريحهم ولا يتبع مدبرهم(1).

ص: 270


1- ينظر: شرح کتاب النيل وشفاء العليل لاطفیش: ج 14 ص 265 - 435

ومن ثم فمدار عنوان البغي ومفهومه مختلف عند فقهاء الإباضية عن جميع فقهاء المذاهب الإسلامية.

المسألة الثالثة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة.

وخلافة القول في مسألة قتال أهل البغي، والبغاة يتفرع إلى أمور، وهي کالاتي:

أولا: مفهوم البغي والباغي، ومن هم؟

1- عرّف فقهاء الإمامية (البغي) بالظلم، وأن الباغي هو: الخارج على الإمام العادل.

2- قال المالكية: بان الفئة الباغية هي المخالفة للإمام لشيئين، الأول: لمنع حق وجب عليها كالزكاة، والآخر لعدم الدخول في طاعته ومخالفته.

3- وعند فقهاء الحنفية، فأن الباغي: الخارج على إمام الحق.

4- وعند الإباضية: (الغاصب، والسارق، وأخذ بخفية، والقاطع، والسالب، والقاتل، والخارج والمؤثر في البدن، والمفوت لمنفعة عضو، والماد يده إلى جسد أو ثوب احدٍ ساخراً به ومهيناً له، والقاصد الزنی).

وجوزوا الخروج على السلاطين الظلمة، وجواز البقاء تحت سلطانهم.

5- وعند الزيدية: طائفة من المؤمنين بغت على طائفة أخرى أو على إمام حق من المحقين.

6- وعند الحنابلة: هم، الخارجون على الإمام الذي ثبتت غمامته، ومن منع الزكاة، وأهل الجمل وصفين، والنهروان.

ص: 271

7- وعند الشافعية: الباغي، هو المخالف لإمام العدل الخارج عن طاعته بامتناعه عن إداء واجب عليه أو غيره.

ثانيا: من هو الإمام الذي يحرم الخروج عليه؟

1- قال الإمامية: بان الإمام الذي يحرم الخروج عليه، هو الإمام المعصوم (عليه السلام) الواجب الطاعة شرعاً.

2- وعند الزيدية: الإمام الذي يحرم الخروج عليه، هو: إمام الحق.

3- وعند الشافعية: فإن الإمام الذي يحرم الخروج عليه هو الذي تنعقد إمامته باستخلاف الإمام الذي كان قبله، أو بقهره الناس بالغلبة والصولة، أو باختيار أهل الحل والعقد؛ واشترطوا فيه (أن يكون: ذکراً، بالغاً؛ عاقلاً، مسلماً، عدلاً، عالماً في الفقه، شجاعاً، وقرشياً).

4- وبهذه الثوابت والشروط قال فقهاء المالكية أيضاً؛ والمراد هنا بالإمام هو: الإمام الأعظم أو نائبة.

5- واختلف فقهاء المذهب الحنفي فيمن يكون الإمام الحق وما المراد من ذلك، فقال بعضهم:

هو المتغلب الذي يعم على الناس حكمه، وتستقر سلطنته، ونفوذه وقهره، فهذا لا يجوز الخروج عليه.

وقيل: وهم اصحاب الرأي الجديد، يراد به: الحكم للغلبة، لان الجميع يطلبون الدنيا فلا ندري العادل من الباغي.

6- وقال الحنابلة: بان الإمامة تثبت بأحد هذه الوجوه، وهي:

ص: 272

(بعهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم ) إليه؛ بعهد إماما قبله إليه من خرج وغلب الناس بالسيف حتى أقروا له واذعنوا بطاعته، وتابعوه، صار إماماً يحرم قتاله والخروج عليه).

7- وقال الإباضية: بان عقد الإمامة يثبت إذا بايع الرجل خمسة، وقيل: ينعقد عقد الإمامة باثنين وقيل: إن الإمام لا يحتاج إلى من يعقد له، لان المراد التراضي به، فإذا وقع التراضي من الخاصة فهو إمام، ولو كان القائم بذلك مبتدءاً.

ثالثا: هل يجب قتالهم؟

1- أجمع فقهاء الإمامية (أعلى الله شأنهم) على وجوب قتالهم إذا أمر الإمام المعصوم (عليه السلام) بذلك، أو بدعاء من نصبه الإمام؛ ولا يجوز المخالفة له لوجوب طاعته، وان مخالفته من الكبائر، وإذا لم يتعين قتالهم من الإمام المعصوم (عليه السلام) يصبح قتالهم على الكفاية ما لم يستنهضه الإمام (عليه السلام) على التعيين؛ لإن المقدار الواجب دفعهم عن الإمام نظير وجوب الدفاع في زمن الغيبة؛ وأن حد الجهد معهم حتى يرجعوا؛ وأن فضل جهادهم أعظم من جهاد المشركين.

2- وقال الزيدية: بوجوب جهادهم إذا امتنعوا من الحكم ولم يرضوا بالحق.

3- وقال الشافعية: يجب قتال البغاة؛ ولا يكفّرون بالبغي.

4- وقال المالكية: بجواز قتال البغاة أرادوا خلع الإمام، أو منعوه الزكاة، أو الوفاء له بما عليهم من دين كجراج الارض.

5- وقال الحنفية: بوجوب قتال البغاة الذين خرجوا لدعوى أنهم أهل

ص: 273

الحق والولاية.

6- وقال الحنابلة: بوجوب قتال البغاة إذا لم يفيئوا لأمر الله؛ وقالوا بجواز قتال كل من منع حقاً عليه وهي البيعة للإمام.

7- وقال الإباضية: بجواز قتل من طعن أو عصى أو أبي إمامة الإمام.

رابعا: هل يعاجلون بالقتال.

1- قال الامامية: ينبغي أرشادهم قبل القتال، وذكر ما يزيح عنهم الشبهة، ويجب مصابرتهم حتى يفيئوا إلى أمر الله تعالى أو يقتلوا.

2- وقالت الزيدية: يجب أن يحتج عليهم قبل قتالهم ويدعون إلى كتاب الله؛ فإن اجابوا حرم قتالهم؛ وأن امتنعوا حل قتالهم.

3- وقال الشافعية: لا يغتالون ولا يبدئون بالقتال حتى ينذروا، وينضحوا ويعظوا فإن أروا قوتلول.

4- وقال المالكية: على الإمام أن يدعوهم اولاً للدخول تحت طاعته، مالم يعاجلوه في القتال، وإلا فلا تجب الدعوى.

5- وقال الحنفية: لا ينبغي للإمام أن يتعرض لهم ما لم يخرجوا عليه؛ فإذا بلغة عزمهم على الخروج فحينئذ ينبغي له أن يأخذهم فيحبسهم قبل أن يتفاقم الأمر.

6- وقال الحنابلة: إن الذين لا يجوز قتالهم ابتداءًاهم الذين يخرجون على الإمام ویرومون خلقه لتأویل سائغ، فهؤلاء لا يجوز قتال حتی يبعث إليهم من يسألهم ويكشف الصواب لهم؛ وازالت ما يذكرونه من المظالم والحجج

ص: 274

فإن لجوا قتلهم حينئذ.

وأن طلبوا الإمهال في النظر بما يدعوهم إليه أمهلهم، وأن كانوا يقصدون التهيئ لقتاله أو خديعته ومهاجمته لم يمهلهم بل يعاجلهم بالقتال، ولا يجوز للإمام أخذ المال أو الرهائن ليمهلهم، وأن امكن دفعهم بدون القتال لم يجز قتلهم.

خامسا: حكم قتال من كانت له فئة.

1- قال الإمامية في قتال الباغي الذي له فئة يرجع إليها:

أ- أن يجهز على جريحهم.

ب- ويقتل اسيرهم.

ج- ويتبع مدبرهم.

د- ولا تسبی نساؤهم، وذراريهم، ولا يملكون.

ه- إذا اتلفوا مالاً أو نفساً في حال الحرب فهم ضامنون

و- ومن أتی منهم ما يوجب الحد وأعتصم بدار الحرب فمع الظفر به يقام عليه الحد.

2- وقال الزيدية: بعدم التفريق بين من له فئه أو ليس له، ومن ثم لا يجهز على جريح البغاة ولا يقتل اسيرهم ولا يتبع مدبرهم، ولم يجز سبي نسائهم ولا ذراريهم؛ ولكن يغنم ما اجلبوا به في معسكرهم وعساکرهم.

3- أما الشافعية: فقد اكتفوا بالقول في حكم من له فئة أن يتبع مدبرهم ويلاحقوا ويقاتلوا حتى يعودوا إلى الطاعة، وقد اشترك هؤلاء مع من لا فئة

ص: 275

له ببعض الاحكام، وهي:

إذا أسر نساؤهم واطفالهم فيتم حبسهم إلى انقضاء القتال، ثم يطلقون؛ وكذا العبيد وإذا ظفر بأموالهم من الخيل والاسلحة لم ترد إليهم حتى ينقضي القتال ويعودوا إلى الطاعة أو تفرقهم ولا يجوز استعمالها في القتال، وقيل: يجوز استخدامها للضرورة ودفع الضرر؛ واما غيرها من الاموال فترد إليهم بعد انقضاء الحرب.

4- أما المالكية: فلم يفرقوا بين من له فئة يرجع إليها أو من ليس له فئة، فجميع البغاة لهم هذه الاحكام: ولا تسبى ذراريهم ولا يسترقوا، ولا تهدم بيوتهم، ولا تحرق اشجارهم وزرعهم، ولا تقطع عنهم الأبل التي تحمل الطعام ولا ترفع رؤوسهم بالرماح من بلد إلى آخر، ولكن تحمل في نفس محل قتلهم، ولا تغنم أموالهم، ولا يجهز على جريحهم، وأن يكف عن مدبرهم، ولا يقتل اسيرهم ولا يوادعون على مال؛ ويجوز الاستعانة بابلهم وبغالهم وسلاحهم أن ظفر بها على قتالهم وإذا احتيج إلى ذلك، ويرد إليهم أموالهم بعد انتهاء المقاتلة والظهور عليهم وانهزامهم.

5- وقال الحنفية: إذا كان للبغاة فئة يرجعون إليها: يقتل اسيرهم، ويجهز على جريهم، ويتبع مدبرهم وتأخذ أموالهم وتسبى ذراريهم ونسأهم.

6- أما الحنابلة: فلم يظهروا بشكل صيرح ما اتفق عليه فقهاء المذاهب الإسلامية في تصنيف البغاة إلى من له فئة او ليس له فئة بل: صنعوا إلى من له تأويل ومن ليس له تأويل.

فالخوارج الذين يكفرون بالذنب، ويكفرون الإمام علي (عليه الصلاة

ص: 276

والسلام)، وكثيرا من الصحابة، ويستحلون دماء المسلمين وأموالهم، إلا من كان معهم ويعتقد بعقيدتهم، فهؤلاء فيهم قولان:

القول الأول: إنهم بغاة؛ وهو موافق لقول ابي حنفية في كونهم بغاة، والشافعي، وجمهور الفقهاء، وكثير من أهل الحديث؛ في حين يرى مالك استتابتهم، فإن تابوا يعفى عنهم، وإلا قتلوا على إفسادهم لا كفرهم.

القول الآخر: إنهم مرتدون حكمهم حكم المرتدين، وتباح دماؤهم، وأموالهم، فان تخيروا في مكان وكانت له منعة وشكوة صاروا أهل حرب كسائر الكفار، وان كانوا في قبضة الإمام استتابهم کاستتابة المرتدین، فإن تابوا؛ وإلا ضربت أعناقهم وكانت أموالهم فيئاً لا يرثهم ورثتهم المسلمون.

وحکم فقهاء الحنابلة بعدم كفر أهل النهروان، فهم بغاة، ولكن يجوز قتلهم ابتدءاً، والاجهاز على جريحهم وذلك أن بدعتهم وسوء فعلهم تقتضي حل دمائهم.

7- أما فقهاء الإباضية: فلم يفرقوا في الحكم بين من له فئة يرجع إليها؛ أو ليس له فئة وقالوا في حم قتال بغاة أهل التوحيد: لا يجهز على جريحها، ولا يقتل أسيرها، ولا يطلب هاربها، ولا يقسم فيئها.

سادسا: حكم قتال من ليس له فئة.

1- قال الإمامية: ومن لم يكن له فئة يرجع إليها، فهؤلاء:

أ- لا يجهز على جريحهم.

ب- ولا يتبع مدبرهم.

ص: 277

ج- ولا يقتل أسيرهم.

د- ولا يجوز سبي ذراريهم.

ه- ويعفی عن اسيرهم إذا انتهت الحرب.

ي- ولا يأخذ شيء من أموالهم في ساحة الحرب أو خارجها.

2- وقال الشافعية: لا يقتل اسيرهم ولا يجهز على جريحهم، ولا يطلق الاسير قبل انقضاء الحرب، إلا أن يبايع الإمام؛ وإذا أسر نساؤهم واطفالهم فيتم حبسهم إلى انقضاء القتال، ثم يطلقون، وكذا العبيد والمراهقين.

وأما أموالهم من الخيل والأسلحة فإذا ظفر بها لم ترد إليهم حتى ينقضي القتال ويعودوا إلى الطاعة، أو تفرقهم، ولا يجوز استعمالها في القتال، ويجوز استخدامها للضرورة ودفع الضرر؛ واما غيرها من الأموال فترد إليهم بعد انقضاء الحرب.

3- وقال المالكية: لا تسبی ذراريهم، ولا تحمل رؤوسهم من بلد إلى بلد، ويجوز في محل القتل، ولا تغنم أموالهم، ولا يجهز على جريحهم، وان يكف عن مدبرهم ولا يقتل أسيرهم، ولا يوادعون على مال، ويجوز الاستعانة بأبلهم وخيلهم، وبغالهم وسلاحهم أن ظفر بها على قتالهم إذا احتيج لذلك؛ ويرد إليهم أموالهم بعد انتهاء المقاتلة والظهور عليهم وانهزامهم.

4- وقال الحنفية: إذا لم تكن لهم فئة فلا يجهز على جريحهم، ولا يتبع مدبرهم، ولا يقتل أسيرهم، ولا تأخذ أموالهم، ولا تسبی ذراريهم، ولا تأخذ نسائهم.

5- وقال الحنابلة: لا يجوز الاجهاز على جريحهم، أو يأخذ الإمام المال أو

ص: 278

الرهائن ليمهلهم، ولا يقتل مدبرهم أو اسيرهم ولا تسبى لهم ذرية ولا يغنم لهم مال؛ ويغسل ويكفن قتيلهم ويصلى عليه.

سابعا: في الاستعانة على قتالهم بالذمي والكافر؛ واستعانة البغاة بالذمي والكافر في قتالهم لأهل الحق.

قال الإمامية: للإمام (عليه السلام) أن ستعين بأهل الذمة مع الضرورة؛ في قتال أهل البغي الذين هم كأهل الحرب؛ وأما الذمي الذي يقاتل مع البغاة فانه يصبح حربياً وقد خرق الذمة.

2- قال الزيدية: واختلف الزيدية بين الجواز وعدمه، فقالوا: بعدم الجواز بالاستعانة والكفار الفساق على قتال البغاة.

وقيل: يجوز.

3- قال الشافعية: وقالوا: لا يجوز ال استعانة عليهم بالكفار، وبمن يرى قتلهم مدبرين، أو يعتقد ذلك كالمذهب الحنفي.

وإذا استعان البغاة بأهل الحرب وعقدوا لهم الذمة فهي غير ملزمة لأهل الحق وبذلك يجوز اغتنام أموالهم، واسترقاقهم، وقتلهم في حال الاسر أو الادبار والاجهاز على جريحهم.

4- قال الحنفية: يرى فقهاء المذهب: إن استعانة البغاة بالذمي لا تنقض العهد معهم؛ ولكنهم يكونون بغاة ايضاً ويجوز الاستعانة باهل الذمي على قتال البغاة.

6- قال الحنبلية: يرى الحنابلة جواز الاستعانة بالذمي بقصد رد البغاة وكفهم.

7- قال الإباضي: لا يجوز الاستعانة بالكافر والمشرك ولو على المشرك.

ص: 279

ثامنا: حكم استخدام المنجنيق، والهدم، والحرق، والاغراق، في قتال البغاة.

1- قال المالكية: إلى القول بعدم الجواز باستخدام المنجنيق في قتالهم، أو يحرق زرعهم، أو تهدم بيوتهم. ولا تقطع عنهم الآبل التي تحمل الطعام.

2- وقال الحنابلة: لا يجوز قتالهم بما یعم الضرر إلا عند الضرورة.

3- وقال الحنفية: يجوز قتالهم بجميع أنواع الحرب كالنبل، والمنجنیق والتغريق، والنار وغيرها.

4- لم يتعرض له فقهاء الأمامية، والزيدية، والشافعية.

5- وقال الإباضية: يجوز قطع نخل أو شجر البغاة، وقيل: بكره؛ ويجوز قطع الطعام والماء وغيرها عن البغاة، كما يجوز هدم حصونهم ودورهم.

تاسعا: من جرى حكمه بالبغي والتكفير.

تباينت أقوال فقهاء المذاهب الإسلامية في حكم إلحاق صفة البغي والتكفير على فئات من المسلمين.

1- قال الامامية:

أ- إن مانع الزكاة الذي لا يستحل منعها فهو غير مرتد، وهو كمن ترك الصلاة أو الصوم، لعدم انکاره الضروري من الدين.

ب- وإن من سب الإمام المعصوم (عليه السلام) أو سب فاطمة (عليها السلام) أو الأنبياء او الملائكة (عليهم السلام) وجب قتله؛ ولكن لا ينبغي التغير بالنفس في زمان الهدنة إذا سمع العارف السب والشتم من المخالفين.

2- قال المالكية: وأهل البدع والإباضية فإنهم يستتابون، فإن تابوا وإلا

ص: 280

ضربت أعناقهم وان ذلك بسبب إفسادهم، لا كفرهم.

3- قال الحنفية: إن المنكر لضرورة من ضرورات الدين، وقاذف عائشة، ومنکر صحبة أبيها كافر، وأن أهل البدع والخوارج سواء.

4- وقال الحنابلة: بعدم التفريق بين أهل البدع، والخوارج، وعدّ الجهمية والرافضة منهم؛ وحكموا بعدم الجواز في الصلاة عليهم وعيادة مريضهم.

وقالوا: أن هذا مذهب الشافعي وأبو حنيفة، ومالك.

وقالوا: إذا أظهر قوم رأي الخوارج لكنهم لم يخرجوا من قبضة الإمام، ولم يسفكوا الدم الحرام، فلا يحل قتلهم ولا قتالهم وأن هذا الحكم ذهب إليه الشافعي وابو حنيفة وجمهور أهل الفقه.

المسألة الرابعة: حقيقة الرفض والرافضة.

لقد مر علينا في بيان اقوال فقهاء المذهب الحنبلي والمالكي في حكم اهل البدع وعدهم الرافضة منهم!! ويمكن لنا ان نجمل القول على هذا الحكم بما يلي:

أولا: معنى الرفض في اللغة والاصطلاح.

لابد لمدعي الفقه ابتداء ان يكون محيطا بلغة العرب، فالرفض لغة هو:

(ترك الشيء)(1) وتقول: (رفضني فرفضته، رفضت الشيء: أرفضه رفضاً، تركته وفرقته)(2).

ص: 281


1- كتاب العين للفراهيدي: ج 7 ص 29
2- لسان العرب لابن منظور، ج 7، ص 159

وقال أبو الصلاح الحلبي: (الرفض: صفة لشيعة آل محمد (عليهم السلام)، لأنهم رفضوا الباطل، واتبعوا الحق، واخذوا دينهم عن أئمتهم المعصومين ابناء الرسول (صلى الله عليه وآله) عن جدهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن جبرائيل، (عليه السلام) عن الله عز وجل)(1).

ثانيا: مدعى ابن تيمية في أصل الرفض.

وأما ما قاله ابن تيمية في أن أصل كلمة الرفض إنما تعود إلى زمن زيد بن علي زين العابدين (عليهما السلام) الذي استشهد على يد أئمة ابن تيمية(2) فهو كذب صراح؛ وذلك:

إن لفظ (الرفض والرافضة) يعود إلى زمن وقوع حرب الجمل (عام 36 ه) فقد اطلقه معاوية بن أبي سفيان على شيعة عثمان بن عفان الذين نصبوا العداء لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) وخرجوا الحربه كما يروي نصر بن مزاحم (المتوفى سنة 212 ه)، واليعقوبي (المتوفى سنة 284 ه) وغيرهم؛ وقد ورد ذلك جلياً في كتاب معاوية الذي بعثه إلى عمرو بن العاص وهو في فلسطين، يقول فيه:

(أما بعد، فإنه كان من أمر علي وطلحة والزبير وعائشة ما قد بلغك فقد سقط إلينا مروان بن الحكم في رافضة أهل البصرة وقدم علينا جریر بن عبد الله في بيعة علي وقد حبست نفسي عليك حتى تأتيني، أقبل اذاكرك امراً)(3).

ص: 282


1- قريب المعارف: ص 18
2- منهاج السنة لابن تيمية: ج 1 ص 35
3- وقعة صفين لنصر بن مزاحم: ص 34؛ تاريخ اليعقوبي: ج 2 ص 184؛ تاریخ ابن عساكر: ج 59 ص 130

وهي بهذا النص التاريخي، أي مفردة (رافضة) قد سبقت استشهاد زید بن علي (عليه السلام).

ثالثا: مقاصدية الرفض والرافضة في روايات أئمة أهل البيت (عليهم الصلاة والسلام).

أما تداولها في الروايات الشريفة الواردة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) فيكشف عن امور، منها:

1- إن مدلول هذه اللفظة يرشد إلى منزلة ايمانية، ورتبة تقوائية .

2- إن الناس كانت تدرك أن هذه المفردة تتلازم مع أتباع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) وشيعته كالصحابي الجليل عمار بن یاسر، وأبي ذر الغفاري، وسلمان المحمدي، وغيرهم؛ فقد شهد التاريخ والسِّيَر أن هؤلاء حينما اتبعوا الحق الذي يدور مع علي (عليه السلام) حيثما دار، وتركوا غير علي (عليه السلام) ورفضوا الإقرار بخلافة غيره کانوا رافضة.

وقد وظّف معاوية هذا المفهوم والمعنى والدلالة لمفردة الرفض في مكانين، الأول في بيان استخدامها اللغوي المراد به الترك فنسبه إلى أهل البصرة التي كانت تعرف انذاك بأنها عثمانية، فهم شيعته وأنصاره، وتأزروا على الوقوف تحت راية طلحة والزبير، وتطاعنوا بالرماح حتى تجسرت في صدورهم، وتقطعت أيديهم في التنافس في مسك زمام جمل عائشة، وهم يقاتلون الإمام علياً (عليه السلام) وأنصاره من الصحابة البدريين والشجريين كما يروي الحاكم في المستدرك(1).

ص: 283


1- مستدرك الحاكم، ج 3 ص 104

وأمّا التوظيف الآخر فكان في التنكيل بشيعة علي (عليه السلام) الذين تركوا الإقرار بالباطل، وتمسكوا بالحق وقائده علي بن أبي طالب (عليه السلام)؛ فكانوا رافضة لغيره. واستشهدوا بذلك وامتازوا به على غيرهم من المسلمين.

ومن ثم بدأ وضع الروايات الكثيرة في ذمهم والتي أوردها مصنف معارج العلا وآمن بها - بحسب ما ورد في مصنفه - ولذا قام بالتبرؤ منهم.

وهذه الحقيقة قد ارشد إليها بعض النصوص الشريفة والواردة عن العترة النبوية، أي توظيف معاوية وبنو أمية للمعنى اللغوي لمفردة (الرافضة) واکسائه بالمعنى العقدي، فمن دلالة (الترك) إلى دلالة (الخروج من الدين) لهذه الفئة التي رفضت الانقياد للباطل المتجسد بالإقرار لغير علي (عليه السلام) بالإمامة والخلافة فكان هذا التفرد خروجاً على الفئة الباغية، الذي جده عمار بن یاسر (رضوان الله تعالى عليه) بجهاده لهذه الفئة واستشهاده بين يدي أمير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه الصلاة والسلام).

ولذا:

1- نجد أن الإمام محمداً الباقر (عليه السلام) قد أعاد المعنى لمفردة الرفض وأرجعها إلى أصلها اللغوي والعقدي الذي غيّر مساره أعداء الحق والإسلام وذلك حينما دخل عليه أبو الجارود (عليه الرحمة) وهو يقول له - كما يروي البرقي المتوفي (سنة 74 ه) في المحاسن: (إن فلاناً سنانا باسم، قال (عليه السلام):

«وما ذاك الاسم»؟

ص: 284

قال سمانا الرافضة.

فقال أبو جعفر (عليه السلام) وأومأ بيده إلى صدره:

«وانا من الرافضة وهو مني» قالها ثلاثاً)(1).

2- وروى ايضاً بسنده عن أبي بصير قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام) جعلت فداك اسم سمينا به استحلت به الولاة دماءنا واموالنا وعذابنا؛ قال:

«وما هو»؟

قال الرافضة؛ فقال أبو جعفر (عليه السلام):

«إن سبعين رجلاً من عسكر فرعون رفضوا فرعون فأتوا موسى (عليه السلام) فأوحى الله إلى موسى أن ثبت لهم هذا الاسم في التوراة فإني قد نحلتهم وذلك اسم قد نحلكموه الله»(2).

ونلاحظ في هذا الرواية كيف أن الإمام الباقر (عليه السلام) قد أعاد إلى مفردة الرفض، أو الرافضة معناها اللغوي والعقدي الكاشف عن موقف هذه الجماعة، التي تركت فرعون ورفضت أن تكون تحت رايته وإمامته وذهبوا إلى نبي الله موسى (عليه السلام).

مما أسس إلى فكر سياسي وجهادي قائم على محاربة الطاغوتية والفرعونية وما يعرف اليوم بمصطلح (الدكتاتورية) أو (الاستبدادية)، وقد سارت عليه شيعة علي بن أبي طالب (عليه السلام) في كل زمان ومكان، فرفضت هذه الانواع من الحكم والحكام؛ فكانوا بسبب هذه المواقف الجهادية عند

ص: 285


1- المحاسن للبرقي: ج 1 ص 157
2- المحاسن للبرقي ج 1 ص 158

الولاة، والامراء، والخلفاء، والحكام، والسلاطين، محكوماً عليهم بالقتل ومصادرة الأموال، والتعذيب والتهجير، فكان أول من لاقى ذلك من شيعة علي (عليه السلام) الصحاب الجليل أبو ذر الغفاري (رضوان الله عليه) في مواجهته لعثمان بن عفان، وكعب الأحبار، ومروان بن الحكم، فتم نفيه وتهجيره إلى الربذة.

ثم لتسير شيعة آل محمد (صلى الله عليه وآله) على هذا النهج في رفض الظلم، والطاغوتية، والاستبداد في كل زمان؛ سواء كان ذلك في زمان إمامهم وقائدهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (صلوات الله عليه)، أو في زمان غيره من أئمة الهدى والخير والصلاح؛ فالحال واحدة في جميع هذه الأزمنة إلى يومنا هذا.

ومما يدل عليه ما أخرجه محمد بن الحسن بن فروخ الصفار (المتوفي سنة 290 ه) بسنده عن بكر بن کرب الصيرفي (رحمه الله)، قال: (سمعت أبا عبد الله - الصادق (عليه السلام) - يقول:

«مالهم ولكم، وما يريدون منکم، وما يعيبونكم، يقولون الرافضة! نعم والله، رفضتم الكذب واتبعتم الحق؛ أما والله أن عندنا ما لا نحتاج إلى أحد، والناس يحتاجون إلينا، أن عندنا الكتاب بإملاء رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وخطه علي بيده صحيفة طولها سبعون ذراعاً فيها كل حلال وحرام»)(1).

ويرشد الحديث الشريف إلى بيان جملة من الأمور، منها:

1- الحصار الاجتماعي الذي فرضه الطواغيت واشياعهم على اتباع

ص: 286


1- بصائر الدرجات: ص 169

العترة النبوية (عليهم السلام).

2- إن السبب الحقيقي في وصف شيعة آل البيت (عليهم السلام) بالرافضة هو لرفضهم الكذب واتباعهم للحق.

3- کما بيّن (عليه السلام) کيفية مواجهة هذه الحرب بأن الله تعالى أعطاهم ما لم يعط الناس أجمعين، أي علم الحلال والحرام، الذي هو سنام العلوم واشرفها، فضلاً عن تحديده (عليه السلام) بهذه اللفظة لاختصاصهم بشريعة المصطفی (صلى الله عليه وآله).

ومن ثم فمن ادعى العلم بها فهو كاذب لأنه محتاج إليهم فهم أهل القرآن وشرعه، فاحتاجهم الناس وهم لا يحتاجون إلى أحد، وبذا يكون المفتقرون للعلم هم أعداء آل البيت (عليهم السلام) لا العكس کما يتوهم الظالمون)(1).

المسألة الخامسة: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة.

قال (عليه الصلاة والسلام):

«لاَ تُقَاتِلُوا اَلْخَوَارِجَ بَعْدِی فَلَیْسَ مَنْ طَلَبَ اَلْحَقَّ فَأَخْطَأَهُ کَمَنْ طَلَبَ اَلْبَاطِلَ فَأَدْرَکَهُ»(2).

قال الشريف الرضي (رحمه الله): (يعني معاوية وأصحابه).

وقد تناول ابن میثم البحراني وابن أبي الحديد المعتزلي هذا الحديث

ص: 287


1- معارج العلا في مناقب المرتضى (عليه السلام) لمحمد صدر العالم الدهلوي تحقيق السيد نبيل الحسني: ج 1 ص 31 من المقدمة العلمية
2- نهج البلاغة: ص 94؛ الخطبة (61)

واظهروا ما ورد فيه من معان ودلالاته وهي كالاتي:

أولاً: ابن ميثم البحراني (ت 679 ه)

قال ابن ميثم (رحمه الله):

(نهى - (عليه السلام) عن قتل الخوارج بعده، وأومى إلى علَّة استحقاق القتل بأنّها طلب الباطل لأنّه باطل ليتبيّن أنّها منفيّة في حقّهم فينتفى لازمها وهو استحقاق القتل، وأشار إلى أنّ الخوارج لم يطلبوا الباطل مع العلم بكونه باطلا بل طلبوا الحقّ بالذات فوقعوا بالباطل بالعرض. ومن لم يكن غرضه إلَّا الحقّ لم يجز قتله، وحسن الكلام يظهر في تقدير متّصلة هكذا: لو استحقّوا: القتل بسبب طلبهم لاستحقّوه بسبب طلبهم للباطل من حيث هو باطل لكنّهم لا يستحقّونه من تلك الجهة لأنّهم ليسوا طالبين للباطل من حيث هو باطل فلا يستحقّون القتل، وفرق بين من يطلب الحقّ لذاته فيظهر عنه في صورة باطل، وبين من يطلب الباطل لذاته فيظهره في صورة الحقّ حتّى يدركه، فإنّ الثاني هو المستحقّ للقتل دون الأوّل، وأومى بمن طلب الباطل فأدركه إلى معاوية.

واعلم: أنّ هذا نصّ منه (عليه السّلام) بأنهم كانوا طالبين للحقّ، وبيانه أنّ معظم رؤسائهم كانوا على غاية من المحافظة على العبادات كما نقل عن الرسول (صلى الله عليه وآله) حيث وصفهم فقال:

«حتّى أن صلاة أحدكم لتحتقر في جنب صلاتهم».

وكانوا مشهورين بالصلاح والمواظبة على حفظ القرآن ودرسه إلَّا أنّهم بالغوا في التجرّي وشدّة الطلب للحقّ حتّى عبروا عن فضيلة العدل فيه إلى

ص: 288

رذيلة الإفراط فوقعوا في الفسق ومرقوا من الدين.

فإن قلت: كيف نهى عن قتلهم.

قلت: جوابه من وجهين: أحدهما: أنّه (عليه السّلام) إنّما نهى عن قتلهم بعده على تقدير أن يلزم كلّ منهم نفسه ويشتغل بها ولا يعيث في الأرض فسادا وهو إنّما قتلهم حيث أفسدوا في زمانه وقتلوا جماعة من الصالحين كعبد الله بن خبّاب، وشقّوا بطن امرأته وكانت حاملا ودعوا الناس إلى بدعتهم ومع ذلك كان يقول لأصحابه حين سار إليهم: لا تبدؤهم بالقتال حتّى يبدؤکم به ولم يشرع في قتلهم حتّى بدؤه بقتل جماعة من أصحابه.

الثاني: أنّه يحتمل أن يقال: إنّه إنّما قتلهم لأنّه إمام عادل رأى الحقّ في ذلك، وإنّما نهى عن قتلهم بعده لأنّه علم أنّه لا يلي هذا الأمر بعده من له بحكم الشريعة أن يقتل ويتولَّى أمر الحدود، ومن لا يعرف مواضعها)(1).

ثانياً: ابن أبي الحديد المعتزلي (ت 656 ه).

تناول الشارح المعتزلي واسهب في ذكر الخوارج واخبارهم وما جرى بينهم وبين عبيد الله بن زياد والي الكوفة وذكر كثيراً من رجالاتهم، لكنه صدر حديثه عنهم ببيان دلالات الحديث الشريف في النهي عن قتال الخوارج بعده وأظهر مقارنة بين الخوارج ومعاوية فكان أسواء على الإسلام من الخوارج وأشر.

ولذا: سنورد تصديره للحديث وندع ذكر اخبار الخوارج واحوالهم.

ص: 289


1- شرح نهج البلاغة لابن میثم: ج 2 ص 155 - 156

قال: (مراده - (عليه السلام) أن الخوارج ضلوا بشبهة دخلت عليهم، وكانوا يطلبون الحق، ولهم في الجملة تمسك بالدين، ومحاماة عن عقيدة اعتقدوها، وإن أخطئوا فيها، وأما معاوية فلم يكن يطلب الحق، وإنما كان ذا باطل لا يحامي عن اعتقاد قد بناه على شبهة، وأحواله كانت تدل على ذلك، فإنه لم يكن من أرباب الدين، ولا ظهر عنه نسك، ولا صلاح حال، وكان مترفا يذهب مال الفئ في مآربه، و تمهید ملکه، ويصانع به عن سلطانه، وكانت أحواله كلها مؤذنة بانسلاخه عن العدالة، وإصراره على الباطل، وإذا كان كذلك لم يجز أن ينصر المسلمون سلطانه، وتحارب الخوارج عليه وإن كانوا أهل ضلال، لأنهم أحسن حالا منه، فإنهم كانوا ينهون عن المنكر، ويرون الخروج على أئمة الجور واجبا.

وعند أصحابنا أن الخروج على أئمة الجور واجب، وعند أصحابنا أيضا أن الفاسق المتغلب بغیر شبهه يعتمد عليها لا يجوز أن ينصر على من يخرج عليه ممن ينتمي إلى الدين، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، بل يجب أن ينصر الخارجون عليه، وأن كانوا ضالين في عقيدة اعتقدوها بشبهة دينية دخلت عليهم، لأنهم أعدل منه، وأقرب إلى الحق، ولا ريب في تلزم الخوارج بالدين، كما لا ريب في أن معاوية لم يظهر عنه مثل ذلك)(1).

ص: 290


1- شرح نهج البلاغة للمعتزلي: ج 5 ص 78 - 79

المحتويات

الباب السادس كتاب الجهاد

الفصل الأول معنى الجهاد وفضله ووجوبه

المبحث الأول: معنى الجهاد في اللغة وعند الفقهاء...13

المسألة الأولى: معنى الجهاد في اللغة...13

المسألة الثانية: معنى الجهاد عند فقهاء الإمامية...13

المسألة الثالثة: معنى الجهاد عند فقهاء المذاهب الاخرى...14

المبحث الثاني: فضل الجهاد...15

المسألة الأولى: فضل الجهاد في المذهب الإمامي...15

المسألة الثانية: فضل الجهاد في المذاهب الاخرى...17

أولا: المذهب الزيدي:...17

ثانيا: المذهب الشافعي...17

ثالثاً: المذهب المالكي...18

رابعاً: المذهب الحنفي...18

خامساً: المذهب الحنبلي...19

سادسا: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب الإسلامية في المسألة...20

ص: 291

المبحث الثالث: وجوب الجهاد...21

المسألة الأولى: وجوب الجهاد في المذهب الإمامي...21

المسألة الثانية: وجوب الجهاد في المذاهب الاخرى...33

أولا: المذهب الزيدي...33

ثانيا: المذهب الشافعي...34

ثالثا: المذهب المالكي...35

رابعا: المذهب الحنفي...36

خامسا: المذهب الحنبلي...37

سادسا: المذهب الإباضي...42

المسألة الثالثة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة...44

أولا: وجوب فريضة الجهاد:...44

ثانيا: في كونه فرض كفاية:...44

ثالثا: في كون الجهاد فرض عين:...45

رابعا: ويتحقق الوجوب بشروط عدة، وهي:...45

المسألة الرابعة: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة...46

أولا: ابن میثم البحراني (ت 679 ه)...46

ثانيا: ابن أبي الحديد المعتزلي (ت 656 ه)...47

ثالثا: السيد حبيب الله الخوئي (ت 1324 ه):...50

المسألة الخامسة: اختصاص فريضة الجهاد ببعض القواعد الفقهية وفوائدها...53

أولاً: القاعدة الاولى - الحكم بكونه وسيلة إلى المصلحة والمفسدة...53

ثانيا: القاعدة الثانية - الواجب على الكفاية له شبه النفل من حيث يسقط عن البعض بفعل الباقين...54

ثالثاً: القاعدة الثالثة - مما يجب على الفور من الأوامر بدليل من الخارج...55

رابعاً: فائدة (المشقة الموجبة للتخفيف) من قاعدة (المشقة موجبة لليسر)...56

ص: 292

الفصل الثاني في حكم الفرار من العدو والغدر بالكفار وطلب المبارزة

المبحث الأول: عدم جواز الفرار إذا كان العدو على الضعف أو أقل...61

المسألة الأولى: أقوال فقهاء المذهب الإمامي...61

أولاً: العلامة ابن المطهر الحلى (رحمه الله) (ت 726 ه)...62

ثانياً: السيد عبد الأعلى السبزواري (رحمه الله) (ت 1414 ه)...67

المسألة الثانية: أقوال فقهاء المذاهب الاخرى:...71

أولاً: المذهب الزيدي...72

ثانياً: المذهب الشافعي...73

ثالثاً: المذهب المالكي...79

رابعاً: المذهب الحنفي...81

خامساً: المذهب الحنبلي...84

سادساً: المذهب الإباضی...89

المسألة الثالثة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة...89

أولا: في وجوب الثبات وحرمة الفرار...89

ثانيا: موارد جواز الفرار...90

المسألة الرابعة: ما ورد حول الحديث من شروح نهج البلاغة...91

أولاً: قطب الدين الراوندي (رحمه الله) (ت 573 ه)...91

ثانيا: ابن میثم البحراني (رحمه الله) (ت 678 ه)...93

ثالثاً: ابن ابي الحديد المعتزلي (ت 656 ه)...94

المبحث الثاني: عدم جواز الغدر بالكفار...97

المسألة الأولى: عدم جواز الغدر بالكفار في المذهب الإمامي...99

المسألة الثانية: في حكم الغدر بالكفار في المذاهب الاخرى...103

أولا: المذهب الزيدي...103

ص: 293

ثانيا: المذهب الشافعي...103

ثالثا: المذهب المالكي...104

رابعا: المذهب الحنفي...105

خامسا: المذهب الحنبلي...105

المسألة الثالثة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة...106

المسألة الرابعة: قاعدة فقهية: لا ينبغي للمسلمين أن يغدروا ولا يأمروا بالغدر ولا يقاتلوا مع الذين غدروا...107

المسألة الخامسة: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة وعلماء الاخلاق...108

1- قطب الدين الراوندي (رحمه الله) (ت 573 ه):...109

2- ابن ابي الحديد المعتزلي (ت 656 ه)...111

3- ابن میثم البحراني (رحمه الله) (ت 679 ه)...115

1- ابن میثم البحراني (رحمه الله) (ت 679 ه)...118

2- ابن أبي الحديد المعتزلي (656 ه):...121

1- ابن میثم البحراني:...127

2- ابن ابي الحديد المعتزلي...132

1- علي بن زيد البيهقي (565 ه)...148

2- السيد حبيب الله الخوئي الهاشمي (رحمه الله) (ت 1324 ه)...148

المسألة السادسة: الغدر والوفاء في مضامين علماء الاخلاق...149

المبحث الثالث: حكم طلب المبارزة في الخروج والامتناع...153

المسألة الأولى: المبارزة لغة...153

المسألة الثانية: حكم طلب المبارزة في المذهب الإمامي...154

المسألة الثالثة: حكم طلب المبارزة في المذاهب الاخرى...160

اولاً: المذهب الشافعي...160

ثانيا: المذهب المالكي...160

ثالثا: المذهب الحنبلي...161

ص: 294

المسألة الرابعة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة...163

أولا: تنقسم المبارزة إلى أقسام في الحكم، فهي كالاتي:...164

ثانيا: أختلف فقهاء المذاهب في حكم أذن الإمام في طلب المبارزة ابتداءاً والخروج إليها استجابة...164

ثالثا: ما يكره في المبارزة...164

رابعا: ما يستحب في المبارزة...165

المسألة الخامسة: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة...165

أولاً: ابن میثم البحراني...165

ثانياً: ابن أبي الحديد...166

الفصل الثالث في قتال أهل البغي

توطئة...175

المبحث الأول: البغاة في اللغة والشرع...179

المسألة الأولى: البغاة لغة...179

المسألة الثانية: معنى البغاة في الشرع...179

أولا: المذهب الإمامي...180

ثانيا: المذهب الزيدي...180

ثالثا: المذهب الحنفي...180

رابعا: المذهب الحنفي...181

خامسا: المذهب الشافعي...181

المبحث الثاني: حكم قتال البغاة في المذاهب السبعة...183

المسألة الأولى: المذهب الإمامي...183

المسألة الثانية: قتال البغاة في المذاهب الاخرى...220

أولا: المذهب الزيدي...220

ثانيا: المذهب الشافعي...223

ص: 295

ثالثا: المذهب المالكي...236

رابعا: المذهب الحنفي...241

خامسا: المذهب الحنبلي...246

سادساً: المذهب الإباضي...269

المسألة الثالثة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة...271

أولا: مفهوم البغي والباغي، ومن هم؟...271

ثانيا: من هو الإمام الذي يحرم الخروج عليه؟...272

ثالثا: هل يجب قتالهم؟...273

رابعا: هل يعاجلون بالقتال...274

خامسا: حكم قتال من كانت له فئة...275

سادسا: حكم قتال من ليس له فئة...277

سابعا: في الاستعانة على قتالهم بالذمي والكافر؛ واستعانة البغاة بالذمي والكافر في قتالهم لأهل الحق...279

ثامنا: حكم استخدام المنجنيق، والهدم، والحرق، والاغراق، في قتال البغاة...280

تاسعا: من جری حکمه بالبغي والتكفير...280

المسألة الرابعة: حقيقة الرفض والرافضة...281

أولا: معنى الرفض في اللغة والاصطلاح...281

ثانيا: مدعی ابن تيمية في أصل الرفض...282

ثالثا: مقاصدية الرفض والرافضة في روايات أئمة أهل البيت (عليهم السلام)...283

المسألة الخامسة: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة...287

أولاً: ابن میثم البحراني (ت 679 ه)...288

ثانياً: ابن أبي الحديد المعتزلي (ت 656 ه)...289

ص: 296

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.