فِقْهُ نَهْجُ البَلاغة عَلَی المَذاهِبِ السَّبعَةِ المجلد 7

هوية الکتاب

فقه نهج البلاغة على المذاهب السبعة الامامي - الزيدي - الحنفي - المالكي -الشافعي - الحنبلي - الأباضي وبيان القواعد الفقهية والمعارف الاخلاقية وشروح الاحاديث

ISBN 9789933582470 رقم الإيداع في دارالكتب والوثائق العراقية ببغداد 3588 لسنة 2019 م مصدر الفهرس-ة: IO-KaPLI ara IQ-KaPLI rda رقم تصنيف BP193.1.A2 H3 2020: LC المؤلف الشخصي: الحسني، نبيل، 1384 للهجرة - مؤلف.

العنوان: فقه نهج البلاغة على المذاهب السبعة: الامامي - الزيدي - الحنفي - المالكي - الشافعي - الحنبلي - الأباضي وبيان القواعد الفقهية والمعارف الاخلاقية وشروح الاحاديث: دراسة بينية / بيان المسؤولية: تأليف السيد نبيل الحسني الكربلائي.

بيانات الطبع: الطبعة الاولى. بيانات النشر: كربلاء، العراق: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة 2020 / 1441 للهجرة. الوصف المادي: 12 مجلد؛ 24 سم. سلسلة النشر: (العتبة الحسينية المقدسة؛ 697).

سلسلة النشر: (مؤسسة علوم نهج البلاغة؛ 176) سلسلة النشر: (سلسلة الدراسات والبحوث العلمية، وحدة الدراسات الفقهية: 18).

تبصرة ببليوجرافية: يتضمن ارجاعات ببليوجرافية. تبصرة محتويات: الجزء 1: اثر المدرسة الامامية في نشوء الفقه وتطوره - الجزء 2: نشوء المذاهب الفقهية وتطورها - الجزء 3: مقدمة العبادات - الجزء 4: الطهارات - الجزء 5: الصلاة - الجزء 6: الزكاة - الجزء 7: الصيام والحج والامر بالمعروف والنهي عن المنكر - الجزء 8: الجهاد - الجزء 9: التجارة والشركة - الجزء 10: الوقف والقصاص - الجزء 11: القضاء والشهادات - الجزء 12: الفهارس.

موضوع شخصي: علي بن أبي طالب (عليه السلام) الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 - للهجرة - حديث.

موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة. مصطلح موضوعي: الفقه الاسلامي - مذاهب.

مصطلح موضوعي: المذاهب الدينية - تاريخ. مصطلح موضوعي: العبادات (فقه اسلامي). مصطلح موضوعي: المعاملات (فقه اسلامي).

اسم شخص اضاف: شرح ل (عمل): الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة. اسم هيئة اضاف: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة. جهة مصدرة.

تمت الفهرسة قبل النشر في مكتبة العتبة الحسينية

ص: 1

اشارة

ISBN 9789933582470 رقم الإيداع في دارالكتب والوثائق العراقية ببغداد 3588 لسنة 2019 م مصدر الفهرس-ة: IO-KaPLI ara IQ-KaPLI rda رقم تصنيف BP193.1.A2 H3 2020: LC المؤلف الشخصي: الحسني، نبيل، 1384 للهجرة - مؤلف.

العنوان: فقه نهج البلاغة على المذاهب السبعة: الامامي - الزيدي - الحنفي - المالكي - الشافعي - الحنبلي - الأباضي وبيان القواعد الفقهية والمعارف الاخلاقية وشروح الاحاديث: دراسة بينية / بيان المسؤولية: تأليف السيد نبيل الحسني الكربلائي.

بيانات الطبع: الطبعة الاولى. بيانات النشر: كربلاء، العراق: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة 2020 / 1441 للهجرة. الوصف المادي: 12 مجلد؛ 24 سم. سلسلة النشر: (العتبة الحسينية المقدسة؛ 697).

سلسلة النشر: (مؤسسة علوم نهج البلاغة؛ 176) سلسلة النشر: (سلسلة الدراسات والبحوث العلمية، وحدة الدراسات الفقهية: 18).

تبصرة ببليوجرافية: يتضمن ارجاعات ببليوجرافية. تبصرة محتويات: الجزء 1: اثر المدرسة الامامية في نشوء الفقه وتطوره - الجزء 2: نشوء المذاهب الفقهية وتطورها - الجزء 3: مقدمة العبادات - الجزء 4: الطهارات - الجزء 5: الصلاة - الجزء 6: الزكاة - الجزء 7: الصيام والحج والامر بالمعروف والنهي عن المنكر - الجزء 8: الجهاد - الجزء 9: التجارة والشركة - الجزء 10: الوقف والقصاص - الجزء 11: القضاء والشهادات - الجزء 12: الفهارس.

موضوع شخصي: علي بن أبي طالب (عليه السلام) الامام الاول، 23 قبل الهجرة 40 - للهجرة - حديث.

موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة. مصطلح موضوعي: الفقه الاسلامي - مذاهب.

مصطلح موضوعي: المذاهب الدينية - تاريخ. مصطلح موضوعي: العبادات (فقه اسلامي). مصطلح موضوعي: المعاملات (فقه اسلامي).

اسم شخص اضاف: شرح ل (عمل): الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة. اسم هيئة اضاف: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة. جهة مصدرة.

تمت الفهرسة قبل النشر في مكتبة العتبة الحسينية

ص: 2

سلسلة الدراسات والبحوث العلمية وحدة الدراسات الفقهية (18) فقه نهج البلاغة على المذاهب السبعة: الامامي - الزيدي - الحنفي - المالكي - الشافعي - الحنبلي - الأباضي وبيان القواعد الفقهية والمعارف الاخلاقية وشروح الاحاديث دراسة بينية الجزء السابع الصام والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنکر تأليف السيد نبيل الحسني الكربلائي اصدار مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة (176)

ص: 3

للعتبة الحسينية المقدسة الطبعة الأولى 1441 ه/ 2020 م العراق: کربلاء المقدسة - العتبة الحسينية المقدسة مؤسسة علوم نهج البلاغة www.inahj.org Email: inahj.org@gmail.com موبایل: 07815016633 - 07728243600

ص: 4

بسم الله الرحمن الرحيم الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7) صدق الله العلي العظيم

ص: 5

ص: 6

الباب الخامس «كتاب الصيام والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»

ص: 7

ص: 8

يتضمن الباب:

الفصل الأول: الصيام

• المبحث الأول: تعريف الصيام في اللغة والشريعة وبيان أقسامه.

* المسألة الأولى: تعريف الصيام في المذهب الإمامي.

* المسألة الثانية: تعريف الصيام في اللغة والشرع وبيان أقسامه عند فقهاء المذاهب الأخرى.

* المسألة الثالثة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب السبعة في المسألة.

* المسألة الرابعة: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة.

• المبحث الثاني: فضل الصوم وفوائده.

* المسألة الأولى: المذهب الإمامي.

* المسألة الثانية: فضل الصوم وفوائده في المذاهب الاخرى.

* المسألة الثالثة: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة.

• المبحث الثالث: الحكمة في تشريع الصيام.

* المسألة الأولى: بیان علة فرض الصيام في المذهب الإمامي.

* المسألة الثانية: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة.

ص: 9

الفصل الثاني: الحج

• المبحث الأول: معنى الحج في اللغة والاصطلاح والشريعة.

* المسألة الأولى: معنى الحج في اللغة.

* المسالة الثانية: معنى الحج في الاصطلاح.

* المسالة الثالثة: معنى الحج في المذهب الإمامي.

* المسالة الرابعة: معنى الحج في المذاهب الأخرى.

* المسالة الخامسة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة.

• المبحث الثاني: أقوال الفقهاء في وجوب الحج والعمرة.

* المسألة الأولى: أقوال فقهاء المذهب الإمامي في وجوب الحج.

* المسألة الثانية: أقوال فقهاء المذاهب الأخرى في وجوب الحج.

• المبحث الثالث: فضلُ الحَجّ.

* المسألة الأولى: فضل الحج في المذهب الإمامي.

* المسألة الثانية: فضل الحج في المذاهب الأخرى.

* المسالة الثالثة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة.

• المبحث الرابع: فوائد الحج وثماره.

* المسألة الأولى: أقوال فقهاء المذهب الإمامي في فضل الحج وثماره.

* المسألة الثانية: ما ورد في الخطبة من شروح نهج البلاغة.

ص: 10

• المبحث الخامس: حكم إجارة دور مكة ومنع الحاج من سكناها.

* المسالة الاولى: حكم اجارة دور مكة وبيعها في المذهب الإمامي.

* المسالة الثانية: حكم اجارة دور مكة وبيعها في المذاهب الاخرى.

* المسالة الثالثة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء الذاهب في المسألة.

• المبحث السادس: في صفات الهدي واستشراف الأذن والعين.

* المسألة الأولى: أقوال فقهاء المذهب الإمامي في المسألة.

* المسألة الثانية: أقوال فقهاء المذاهب الاخرى في المسألة.

* المسالة الثالثة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسالة.

* المسألة الثالثة: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة.

ص: 11

الفصل الثالث: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

• المبحث الأول: في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتحريم تركهما.

* المسألة الأولى: تعريف المعروف والمنكر في اللغة.

* المسالة الثانية: معنى المعروف والمنكر عند الفقهاء.

* المسألة الثالثة: فضل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

* المسألة الرابعة: وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المذهب الإمامي.

* المسألة الخامسة: وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المذاهب الاخرى.

* المسالة السادسة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب الاسلامية السبعة في المسألة.

* المسألة السابعة: قاعدة فقهية.

* المسألة الثامنة: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة.

* المبحث الثاني: مراتب إنكار المنكر والنهي عنه.

* المسألة الأولى: مراتب النهي عن المنكر في المذهب الإمامي.

* المسالة الثانية: مراتب النهي عن المنكر في المذاهب الاخرى.

* المسالة الثالثة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة.

* المسالة الرابعة: قاعدة فقهية: مراتب الأنكار ثلاثة تتعاكس في الإبتداء.

* المسألة الخامسة: ما ورد في الأحاديث الشريفة من شروح نهج البلاغة.

ص: 12

الفصل الأول : «كتاب الصيام»

اشارة

ص: 13

ص: 14

توطئة

قال أمير المؤمنين الإمام علي (عليه الصلاة والسلام) في التحذير من الظلم، وسوء عاقبة الكبر وأثر الفرائض الواجبة على الإنسان في حراسته من هذه العواقب.

فيقول:

«فَاللهَ اللهَ فِي عَاجِلِ الْبَغْيِ، وَآجِلِ وَخَامَةِ الظُّلْمِ، وَسُوءِ عَاقِبَةِ الْكِبْرِ، فَإنَّهَا مَصْيَدَةُ إِبْلِيسَ الْعُظْمَى، وَمَكِيدَتهُ الْكُبْرَى، الَّتِي تُسَاوِرُ قُلُوبَ الرِّجَالِ مُسَاوَرَةَ السُّمُومِ الْقَاتِلَةِ، فَمَا تُكْدِي أَبَداً، وَلاَ تُشْوِي أَحَداً، لاَ عَالِماً لِعِلْمِهِ وَلاَ مُقِلاًّ في طِمْرِهِ وَعَنْ ذلِكَ مَا حَرَسَ اللهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالصَّلَوَاتِ وَالزَّكَوَاتِ، وَمُجَاهَدَةِ الصِّيَامِ فِي الاْيَّامِ الْمَفْرُوضَاتِ، تسْكِيناً لاَطْرَافِهِمْ وَتَخْشِيعاً لاِبْصَارِهمْ، وَتَذْلِيلاً لِنُفُوسِهِمْ، وَتَخْفِيضاً لِقُلُوبِهِمْ، وَإِذْهَاباً لِلْخُيَلاَءِ عَنْهُمْ، لِما فِي ذلِكَ مِنْ تَعْفِيرِ عِتَاقِ الْوُجُوهِ بالتُّرَابِ تَوَاضُعاً، وَالْتِصَاقِ كَرَائِمِ الْجَوَارِحِ بِالاْرْضِ تَصَاغُراً، وَلُحُوقِ الْبُطُونِ بِالمُتونِ مِنَ الصِّيَامِ تَذَلُّلاً مَعَ مَا فِي الزَّكَاةِ مِنْ صَرْفِ ثَمَرَاتِ الاْرْضِ وَغَيْرِ ذَلِكَ إِلَى أَهْلِ الْمَسْكَنَةِ وَالْفَقْرِ»(1).

لم يشتمل كتاب نهج البلاغة على أقوال عديدة في فريضة الصيام سوى بعض الأحاديث التي تظهر فضيلة الصيام وفوائده.

ص: 15


1- نهج البلاغة بتحقيق صبحي الصالح، الخبطة القاصعة: ص 293

ولذا: سنقتصر في هذا الفصل على ثلاثة مباحث، الأول: نتناول فيه تعريف الصيام في اللغة والشرع وأقسام الصوم عند فقهاء المذاهب.

والمبحث الثاني: نتناول فيه بيان فضيلة الصيام وفوائده.

أما المبحث الثالث المتعلق بالحكمة من فرض الله تعالى للصيام، وكذا آداب الصائم فلم اعثر عليهما في المذاهب الإسلامية الستة - بحسب ما توفر الدي من أمهات المصادر الفقهية - وتفرد المذهب الإمامي بذلك.

ص: 16

المبحث الأول تعريف الصيام في اللغة والشريعة وبيان أقسامه

تناول أغلب الفقهاء في المذاهب الاسلامية تعريف الصيام في اللغة والشريعة لاسيما الفقهاء الذين بسطوا القول في الفقه وصنفوا موسوعاتهم الفقهية، فكانت أقوالهم كالاتي:

المسألة الأولى: تعريف الصيام في المذهب الإمامي.

تناول فقهاء الإمامية الصيام فعرفوه بما يلي:

أولاً - العلامة ابن المطهر الحلي (عليه الرحمة والرضوان) (ت 826 ه).

ألف - تعريف الصيام.

(الصوم لغة: الإمساك.

وفي الشرع: عبارة عن الإمساك عن اشياء مخصوصة، في زمان مخصوص، على وجه مخصوص)(1).

باء - وجوب صوم شهر رمضان.

قال (رحمه الله): (صوم شهر رمضان واجب بالنص والاجماع؛ والصوم

ص: 17


1- تحریر الاحكام: ج 1 ص 449

المشروع هو الإمساك عن المفطرات من أول طلوع الفجر الثاني الى غروب الشمس الذي تجب معه الصلاتان)(1).

جيم - أقسام الصوم.

قال (رحمه الله):

(الصوم ينقسم الى واجب ومندوب، ومكروه، ومحظور)(2).

وسيمر بيان هذه الاقسام لاحقاً عند ايراد أقوال المحقق البحراني فقد اورد هذه الاقسام وبيانها عند العلامة (عليه الرحمة والرضوان) وأضاف عليها مجموعة من الأحاديث الشريفة.

ثانياً - المحقق البحراني (رحمه الله) (ت: 1186 ه).

قال (رحمه الله) في بيان معنى الصيام في اللغة والشرع وأقسامه، ما يلي:

ألف - معنى الصيام في اللغة والشرع.

الصوم لغة: الإمساك، قال في القاموس: صيام صوماً وصياما واصطام: أمسك عن الطعام والشراب والكلام والنكاح والسير. وقال في المصباح المنير: قيل هو مطلق الامساك في اللغة ثم استعمل في الشرع في إمساك مخصوص. وقال أبو عبيدة كل ممسك عن طعام أو كلام أو سير فهو صائم، قال خيل صيام وخيل غير صائمة تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما. أي قيام بلا اعتلاف. انتهى. وقال ابن دريد: كل شيء سكنت حركته فقد صام يصوم

ص: 18


1- تحرير الاحكام: ج 1 ص 449
2- الحدائق الناظرة: ج 13 ص 2

صوما. وفي الآية الشريفة حكاية عن مریم (عليها السلام): «إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا»(1) أي صمتا.

وكلماتهم متفقة على أنه حقيقة في الامساك وإن كان عن كل شيء بنسبته.

أما معنى الصوم في الشرع فقال (رحمه الله):

(عبارة عن إمساك مخوص).

باء - أقسام الصوم .

تناول المحقق أقسام الصوم معتمداً في ذلك على ما جاء عن العلامة الحلي (عليه الرحمة والرضوان) في منتهى المطلب(2) فقال:

(إن الصوم ينقسم إلى واجب وندب و مکروه ومحظور.

فالواجب ستة: صوم شهر رمضان، والكفارات، ودم المتعة، والنذر وما في معناه من اليمين، والعهد، والاعتكاف على بعض الوجوه، وقضاء الواجب، والندب جميع أيام السنة إلا العيدين وأيام التشريق لمن كان بمنی.

والمؤكد منه أربعة عشر: صوم ثلاثة أيام في كل شهر، وأيام البيض، والغدير، ومولد النبي (صلى الله عليه وآله) ومبعثه، ودحو الأرض، وعرفة، لمن لا يضعفه عن الدعاء، وعاشوراء على جهة الحزن والمباهلة، وكل خميس، وكل جمعة، وأول ذي الحجة، ورجب، وشعبان.

ص: 19


1- مریم: 28
2- منتهى المطلب: ج 9 ص 9 - 10

والمكروه أربعة: صوم عرفة لمن يضعفه عن الدعاء، أو شك في الهلال، والنافلة سفرا عدا ثلاثة أيام الحاجة بالمدينة، والضيف نافلة، بغير إذن مضيفه، وكذا الولد من غير إذن الوالد، والصوم ندبا لمن دعي إلى طعام.

والمحظور تسعة: صوم العيدين، وأيام التشريق لمن كان بمنى، ويوم الشك بنية الفرض، وصوم نذر المعصية، وصوم الصمت، وصوم الوصال، وصوم المرأة والعبد ندبا من غير إذن الزوج والمالك، وصوم الواجب سفرا عدا ما استثنى. انتهى.

وروى ثقة الإسلام في الكافي والصدوق في الفقيه مسندا في الأول ومرسلا في الثاني عن الزهري عن علي بن الحسين (عليهما السلام) قال:

قال لي يوما: يا زهري من أين جئت؟

فقلت: من المسجد.

قال: فيم كنتم؟

قلت: تذاكرنا أمر الصوم فأجمع رأيي ورأي أصحابي على أنه ليس من الصوم شيء واجب إلا صوم شهر رمضان.

فقال: «يا زهري ليس كما قلتم، الصوم على أربعين وجها..».

وفي كتاب الفقه الرضوي قال: «إعلم أن الصوم على أربعين وجها».

ونحن نسوق الحديث بالروايتين ونشير إلى مواضع الزيادة والنقصان من أحدهما متى اتفق:

«فعشرة أوجه منها واجبة: كوجوب شهر رمضان، وعشرة أوجه منها صيامهن حرام، وأربعة عشر وجها منها صاحبها بالخيار إن شاء صام وإن

ص: 20

شاء أفطر، وصوم الإذن على ثلاثة أوجه، و-وم التأديب، وصوم الإباحة، وصوم السفر والمرض».

ففي حديث الفقه بعد ذلك أما: الصوم الواجب وفي حديث الزهري قلت: جعلت فداك فسرهن لي قال:

«أما الواجب فصيام شهر رمضان، وصيام شهرين متتابعين في كفارة الظهار، لقول الله تعالى:

«وَ الَّذِینَ یُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ یَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِیرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ یَتَمَاسّا» .. إلى قوله تعالى: «فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ»(1).

وصيام شهرين متتابعين في من أفطر يوما من شهر رمضان متعمدا، وصيام شهرين متتابعين في قتل الخطأ لمن لم يجد العتق واجب لقول الله تعالى: «وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِیرُ رَقَبَه مُؤْمِنَه وَدِیَهٌ مُسَلَّمَهٌ إلَی أهْلِهِ...»، إلى قوله تعالى: «فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا»(2).

وفي كتاب الفقه اقتصر على قوله: «فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ» وصوم ثلاثة أيام في كفارة اليمين واجب لمن لم يجد الاطعام، قال الله تعالى:

«رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ»(3) كل ذلك متتابع وليس بمتفرق، وصيام أذى حلق الرأس واجب، قال الله

ص: 21


1- المجادلة: 5 - 6
2- النساء: 92
3- المائدة: 89

تبارك وتعالى:(1) «أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ»(2) فصاحبها فيها بالخيار فإن صام صام ثلاثة أيام، وصوم دم المتعة واجب لمن لم يجد الهدي قال الله تبارك وتعالى: «فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَهِ إِلَی الْحَجِّ»(3) إلى قوله «فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ»(4) وصوم جزاء الصيد وأجب، قال الله تبارك وتعالى: «وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا»(5) إلى قوله «أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا»(6).

ففي حديث الزهري هنا: «أو تدري كيف يكون عدل ذلك صياما يا زهري»؟ قال: قلت: لا أدري.

فقال: «يقوم الصيد قيمة عدل، ثم تفض تلك القيمة على البر، ثم يكال ذلك البر أصواعا، فيصوم لكل نصف صاع يوما».

وفي كتاب الفقه الرضوي وأروي عن العالم (عليه السلام) أنه قال: «أتدرون كيف يكون عدل ذلك صياما»؟

فقيل له: لا.

فقال:

«يقوم الصيد قيمة ثم يشتري بتلك القيمة البر، ثم يكال، ذلك البر

ص: 22


1- فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه . . «هكذا في كتب الحديث
2- البقرة: 193
3- فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد . . (هكذا في كتب الحديث)
4- البقرة: 196
5- في كتب الحديث هكذا: «من قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما»
6- المائدة: 95

أصواعا؛ فيصوم لكل نصف صاع يوما، وصوم النذر واجب، وصوم الاعتكاف واجب».

وأما الصوم الحرام فصوم يوم الفطر ويوم الأضحى وثلاثة أيام التشريق وصوم يوم الشك أمرنا به ونهينا عنه: أمرنا أن نصومه من شعبان(1) ونهينا عنه أن ينفرد الرجل بصيامه في اليوم الذي يشك فيه الناس»(2).

ففي كتاب الفقه:

«فإن لم يكن صام من شعبان شيئا ينوي به ليلة الشك أنه صائم من شعبان».

وفي حديث الزهري، فقلت له: جعلت فداك فإن لم يكن صام من شعبان شيئا كيف يصنع؟

قال: «ينوي ليلة الشك أنه صائم من شعبان فإن كان من شهر رمضان أجزأ عنه وإن كان من شعبان لم يضره».

ففي حديث الزهري هنا فقلت وكيف يجزئ صوم تطوع عن فريضة؟

فقال:

«لو أن رجلا صام يوما من شهر رمضان تطوعا وهو لا يعلم أنه من شهر رمضان ثم علم بعد ذلك لأجزأ عنه لأن الفرض إنا وقع على اليوم بعينه».

وفي كتاب الفقه:

«ولو أن رجلا صام شهرا تطوعا في بلد الكفر فلما أن عرف كان شهر رمضان وهو لا يدري ولا يعلم أنه من شهر رمضان وصام بأنه من غيره ثم

ص: 23


1- في كتب الحديث هكذا: «مع صيام شعبان»
2- فقه الرضا لابن بابويه القمي: ص 201

علم بعد ذلك أجزأ عنه من رمضان لأن الفرض إنا وقع على الشهر بعينه.

وصوم الوصال حرام، وصوم الصمت حرام، وصوم نذر المعصية حرام، وصوم الدهر حرام.

وأما صوم الذي صاحبه فيه بالخيار فصوم يوم الجمعة، والخميس، والاثنين، وصوم أيام البيض، وصوم ستة أيام من شوال بعد الفطر بيوم». وفي حديث الزهري هنا، وصوم ستة أيام من شوال بعد شهر رمضان، وصوم يوم عرفة، وصوم يوم عاشوراء، ولعل هذين اليومين سقط ذكرهما غلطا من النساخ(1) فإن الكتاب غير خال من الغلط.

فكل ذلك صاحبه فيه بالخيار إن شاء صام وإن شاء أفطر.

وأما صوم الإذن: فالمرأة لا تصوم تطوعا إلا بإذن زوجها، والعبد لا يصوم تطوعا إلا بإذن مولاه، والضيف لا يصوم تطوعا إلا بإذن صاحب البيت(2).

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):

«من نزل على قوم فلا يصومن تطوعا إلا بإذنهم».

وأما صوم التأديب؛ فإنه يؤمر(3) الصبي إذا بلغ سبع سنين بالصوم تأديبا وليس ذلك بفرض.

ص: 24


1- في الفقه الرضوي المطبوع هكذا: وصوم ستة أيام من شوال بعد الفطر بيوم ويوم عرفة ويوم عاشوراء وكل ذلك
2- هكذا في الفقه، وفي كتب الحديث الناقلة لحديث الزهري «إلا بإذن صاحبه»
3- هكذا في الفقيه ج 2 ص 48، وفي الفروع ج 1 ص 186 والتهذيب ج 1 ص 435 «يؤخذ الصبي. وفي الجميع إذا راهق «بدل» إذا بلغ سبع سنين» نعم ذلك في الفقه الرضوي

وزاد في كتاب الفقه هنا:

«وإن لم يقدر إلا نصف النهار يفطر إذا غلبه العطش، وكذلك من أفطر لعلة من أول النهار ثم قوى بقية يومه أمر بالإمساك عن الطعام بقية تأديبا وليس بفرض، وكذلك المسافر إذا أكل من أول النهار ثم قدم أهله أمر بالإمساك بقية يومه تأديبا وليس بفرض».

وزاد في رواية الزهري:

«كذلك الحائض إذا طهرت أمسكت بقية يومها وأما صوم الإباحة فمن أكل أو شرب ناسيا أو قاء من غير تعمد فقد أباح الله له ذلك وأجزأ عنه صومه.

وأما صوم السفر والمرض فإن العامة قد اختلفت في ذلك، فقال قوم: يصوم، وقال آخرون لا يصوم؛ وقال قوم: إن شاء صام، وإن شاء أفطر»(1).

وأما نحن فنقول: يفطر في الحالين جميعا؛ فإن صام في السفر أو في حال المرض فعليه القضاء؛ فإن الله تعالى يقول:

«فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ»(2) فهذا تفسير الصيام. انتهى.

أقول: وسيأتي تحقيق القول في كل من هذه الأشياء المعدودة هنا في محله إن شاء الله تعالى.

ص: 25


1- المغني ج 3 ص 149 والمحلى ج 6 ص 247 ونيل الأوطار ج 4 ص 237 وبداية المجتهد ج 1 ص 285 ولم أقف ما في حضرني من كتب العامة على وجوب الصوم في المرض نعم في الفقه على المذاهب الأربعة قسم العبادات ص 456 عن الشافعية لا يجوز الفطر للصحيح الذي يظن بالصوم حصول المرض. إلا أن هذا يرجع إلى اعتبار المرض بالفعل
2- البقرة: 184

قال المحدث الكاشاني في كتاب الوافي بعد نقل حديث الزهري: بيان محمد ابن مسلم بن شهاب الزهري راوي هذا الحديث وإن كان خصيصا بعلي بن الحسين (عليهما السلام) وكان له ميل ومحبة، إلا أنه لما كان من العامة وفقهائهم أجمل (عليه السلام) معه في الكلام، ولم يذكر له صيام السنة، ولا صيام الترغيب، لعدم اشتهار خصوصها بين العامة.

وما زعمته العامة من صيام الترغيب والسنة، سماه (عليه السلام):

«بالذي فيه الخيار لصاحبه» تنبيها له على عدم الترغيب فيه؛ فإن أكثره مما ترك صيامه أولى، ولصيام بعضه شرائط كما يأتي في الأخبار انشاء الله تعالى.

قوله (عليه السلام):

«أن ينفرد الرجل بصيامه» إضافة إلى الفاعل، وانفراده به عبارة عن أفراده عن سائر أيام شعبان بالصيام؛ فإنه مظنة لاعتقاده وجوبه وكونه من شهر رمضان، أو المراد انفراده من بين جمهور الناس بصيامه من شهر رمضان مع عدم ثبوت كونه منه، يدل على هذا حديث الزهري الآتي في باب صيام يوم الشك في هذا المعنى فإنه نص فيه وهو بعينه هذا الحديث إلا أنه أورده بابين من هذا، ويأتي تمام تحقيق هذا المقام في ذلك الباب مع معنى قوله (عليه السلام):

«وأمرنا به أن نصومه مع صيام شعبان إن شاء الله تعالى». انتهى.

أقول: والظاهر أن الرضا (عليه السلام) جرى على ذلك في الكتاب المذكور تقية)(1).

ص: 26


1- الحدائق الناضرة: ج 13، ص 2 - 7

المسألة الثانية: تعريف الصيام في اللغة والشرع وبيان أقسامه عند فقهاء المذاهب الأخرى.

أولاً - المذهب الزيدي.

ألف - تعريف الصيام.

قال أحمد المرتضى (ت 840 ه) في تعريف الصيام:

(هو في اللغة: عبارة عن الإمساك، أي إمساك كان، وأكثر ما يستعمل في اللغة: الإمساك عن الكلام فقط، ومنه قوله تعالى:

«فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا».

أي إمساكاً عن الكلام؛ وفي الشرع: الإمساك عن المفطرات من طلوع الفجر الى غروب الشمس مع النية.

باء - أقسام الصوم.

وفي بيان الصيام قال:

(واعلم أن الصيام المشروع هو عشرة انواع تسعة منها واجبه، والعاشر منها مستحب وهذه العشرة منها تسعة أنواع، وهي:

صيام النذر، وكفارة اليمين، وكفارة الظهار، وكفارة القتل، وصوم التمتع، وصوم الاحصار، وصوم الجزاء عن قتل الصيد، وصوم المحرم فدية لما يمنع منه الاحرام وتدعوا الضرورة إليه.

فهذه الثمانية واجبة، والتاسع صوم التطوع، أي ومن أنواع الصوم العشرة

ص: 27

صوم شهر رمضان، وهو واجب)(1).

ثانياً - المذهب الشافعي.

ألف - معنى الصوم في اللغة والشرع.

قال الحافظ النووي (ت 676 ه) في بيان معنى الصيام في اللغة والشرع:

(الصيام في اللغة الإمساك، ويستعمل في كل إمساك يقال صام إذا سكت، وصامت الخيل وقفت.

وفي الشرع: إمساك مخصوص عن شيء مخصوص في زمن مخصوص من شخص مخصوص)(2).

باء - أقسام الصوم.

أما أقسام الصوم فقد قال النووي:

(لا يجب صوم غير رمضان بأصل الشرع بالإجماع وقد يجب بنذر وكفارة، وجزاء الصيد ونحوه، ودليل الاجماع قوله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) حين سأله الاعرابي عن الإسلام؟ فقال:

«وصیام رمضان» فقال: هل علي غيره؟

قال: «لا، إلا أن تطوع»)(3).

ص: 28


1- شرح الازهار: ج2 ص 2 - 3
2- المجموع للنووي: ج 6 ص 247
3- المصدر السابق: ج 6 ص 249

ثالثاً - المذهب المالكي.

تناول الخطاب الرعيني (ت 954 ه) تعريف الصيام في اللغة والشرع دون الاشارة الى أقسام الصوم فكان كالاتي:

ألف - الصيام لغة:

قال: (هو الإمساك والكف والترك، وامسك عن الشيء وكف عنه وتركه فهو صائم، قال الله تعالى:

«إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا»، أي صمتا وهو الإمساك في الكلام والكف عنه، قال النابغة:

خيل صيام وخيل غير صائمة *** تحت العجاج وأخرى تعلك

اللجما يريد بصائمة واقفة ممسكة عن الحرة والجولان.

وقولهم صام النهار معناه إذا انتصف لأن الشمس إذا كانت في وسط السماء فكأنها واقفة غير متحركة لإبطاء مشيها. والعرب قد تسمي الشيء باسم ما قرب منه انتهى. ونحوه قول القاضي عياض: الصيام في اللغ-ة الامساك قال تعالى:

«إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا» أي إمساكا انتهى.

وقال في الصحاح: قال الخليل:

الصيام قيام بلا عمل والصوم الامساك عن الطعام. وصام الفرس أي قام على غير اعتلاف وأنشد بيت النابغة المتقدم. وصام النهار صوما إذا قام قائم الظهيرة واعتدل والصوم ركود الريح.

ص: 29

والبكرات شرهن الصائمة. يعني التي لا تدور.

وقوله تعالى: «إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا».

قال ابن عباس: صمتا. وقال أبو عبيد: كل ممسك عن كلام أو طعام أو سير فهو صائم والصوم ذرق النعامة، والصوم البيعة، والصوم الشجر في لغة هذيل انتهى.

وقال غيره: الصوم شجر على شكل شخص الانسان كربه المنظر انتهى.

وقال غيره: البيعة بكسر الموحدة واحدة بيع اليهود. وقال البيضاوي:

الصوم في اللغة الامساك عما تنزع إليه النفس انتهى.

يسمى الصائم سائحا قال في جمع الأمهات للسنوسي وعنه عليه الصلاة والسلام أنه يقال السائحون الصائمون لأن الله تعالى إذا ذكر الصائمين لم يذكر السائحين، وإذا ذكر السائحين لم يذكر الصائمين)(1).

باء - معنى الصيام شرعاً:

وفي بيان معنى الصيام شرعاً تطرق الخطاب الرعيني الى أقوال بعض فقهاء المالكية فقال: (والصوم في الشرع قال في الذخيرة:

الإمساك عن شهوتي الفم والفرج، وما يقوم مقامهما مخالفة للهوى في طاعة المولى في جميع أجزاء النهار وبنية قبل الفجر أو معه إن أمكن، فيما عدا زمن الحيض والنفاس وأيام الأعياد.

وقال ابن عرفة: الصوم رسمه عبادة عدمية وقت طلوع الفجر الغروب فلا يدخل ترك ما تركه ورع لعدم اقتضائه لذاته الوقت المخصوص.

ص: 30


1- مواهب الجليل: ج 3 ص 275

وقد يحد بأنه كف بنية عن إنزال يقظة ووطئ وإنعاظ ومذي ووصل غذاء غير غالب غبار وذباب وفلقة بين الأسنان لحلق أو جوف، زمن الفجر حتى الغروب دون إغماء أكثر نهاره.

ولا يرد بقول ابن القاسم فيمن حلف ليصومن غدا فبيت وأكل ناسيا فلا شيء عليه لقول ابن رشد: هذا رعي للغو الاكل ناسيا وإلا زيد إثر جوف غير منسية في تطوع.

وقال ابن رشد: إمساك عن الطعام والشراب والجماع من طلوع الفجر إلى غروب الشمس بنية يبطل طرده قولها فيمن صب في حلقه ماء ومن جومعت نائمة ومن أغمي عليه أكثر نهاره وأمذى أو أمني يقظة)(1).

رابعاً - المذهب الحنفي.

تناول السرخسي (ت: 483 ه) معنى الصيام في اللغة والشرع، فقال:

ألف - معنى الصيام لغة:

قال في المبسوط: الصوم في اللغة هو الإمساك، ومنه قول النابغة:

خیل صيام وخیل غیرصائمة *** وتحت العجاج وأخرى تعلك اللجما

أي: واقفة ومنه صام النهار إذا وقفت الشمس ساعة الزوال.

باء - معنى الصيام شرعاً:

(عبارة عن إمساك مخصوص، وهو الكف عن قضاء الشهوتين شهوة

ص: 31


1- مواهب الجليل: ج 3 ص 276

البطن شهوة الفرج من شخص مخصوص وهو أن يكون مسلما طاهراً من الحيض والنفاس في وقت مخصوص وهو ما بعد طلوع الفجر الى وقت غروب الشمس بصفة مخصوصة وهو أن يكون على قصد التقرب. فالاسم شرعي فيه معنى اللغة)(1).

خامساً - المذهب الحنبلي.

تناول ابن قدامة المقدسي (ت: 620 ه) معنى الصيام في اللغة والشرع، فقال:

الف - معنى الصوم لغة:

(الصيام في اللغة الإمساك، يقال صام النهار إذا وقف سير الشمس، قال الله تعالى اخباراً عن مريم:

«إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا» أي: صمتاً لإنه إمسك عن الكلام، وقال الشاعر:

خيل صيام وخيل غير صائمة *** تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما

يعني بالصائمة الممسكة عن الصهيل.

باء - معنى الصوم شرعا:

(والصوم في الشرع عبارة عن الإمساك عن اشياء مخصوصة في وقت مخصوص)(2).

ص: 32


1- المبسوط للسرخسي: ج 3 ص 54
2- المغني: ج 3 ص 2

سادساً - المذهب الإباضي:

قال الشيخ محمد اطفيش في بيان معنى الصوم لغة وشرعاً:

1- معنى الصيام لغة:

(وهو الإمساك).

2- ومعناه في الشرع:

(إمساك المكلف بالنية من الليل عن تناول المطعم والمشرب، وكل ما يصل الجوف، والاستمناء، والاستقاء، والجماع، والكبائر، من الفجر الى المغرب تقرباً الى الله)(1).

وفي أقسام الصوم؛ قال الشيخ ضياء الدين الثميني:

(وهو أما واجب أو مندوب، والاول إما في معين كرمضان، أو لمعنى كالكفارة، أو لا يجاب كنذر)(2).

المسألة الثالثة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب السبعة في المسألة.

1- أتفق فقهاء المذاهب الإسلامية على أن معنى الصيام لغة هو: الإمساك.

2- وفي معنى الصيام شرعاً، فقد أرتكز معناه على الإمساك المخصوص عن الطعام والشراب والفروج في وقت مخصوص.

ص: 33


1- شرح كتاب النيل: ج 3 ص 309
2- شرح كتاب النيل: ج 3 ص 309 - 310

3- ألحق الإباضية الكبائر بلوازم الإمساك، ومن ثم الوقوع فيها يعد مفطراً.

4- ذهب الإمامية إلى إن للصوم أربعة أقسام، وهي: واجب، وندب، ومكروه، ومحظور.

والصوم الواجب ستة: وهو: شهر رمضان، والكفارات، ودم المتعة، والنذر وما في معناه من يمين أو عهد، وصوم الاعتكاف الواجب، وقضاء الواجب.

والندب ما ورد في استحبابه الأثر عن النبي (صلى الله عليه وآله) والعترة النبوية (عليهم السلام).

والمكروه كذلك هو ما جاء من الأثر.

والمحظور تسعة، وهي: صوم العيدين مطلقاً، وأيام التشريق لمن كان بمنى، ويوم الشك بنيّة الفرض، وصوم نذر المعصية، وصوم الصمت، وصوم الوصال، والنفل للمرأة والعبد من دون إذن الزوج أو المولى، وصوم الواجب سفراً عدا ما استثني من ذلك.

5- وذهب الشافعية إلى أن أصل الواجب في الصيام هو شهر رمضان فقط، وقد يجب الصيام بنذر وكفارة، وجزاء الصيد ونحوه.

6- وذهب الشافعية والحنفية والمالكية والحنابلة والإباضية إلى أن اقسام الصوم قسمين هما: واجب وندب.

ص: 34

المسألة الرابعة: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة.

أولاً - الشيخ ابن ميثم البحراني رحمه الله) (ت 679 ه).

قال (رحمه الله) في بيان معنى حديث امير المؤمنين الإمام علي (عليه الصلاة والسلام) في شرحه لنهج البلاغة، ما يلي:

وقوله عليه السلام:

«وَ عَنْ ذَلِكَ مَا حَرَسَ اَللَّهُ عِبَادَهُ اَلْمُؤْمِنِینَ بِالصَّلَوَاتِ» الى قوله: «وَلُحُوقِ الْبُطُونِ باِلمُتونِ مِنَ الصِّيَامِ تَذَلُّلاً...»:

(تنبيه على الامور التي حرس الله تعالى بها عبادة من هذه الرذيلة وجعلها أسبابا للتحرّز من نزغات الشيطان بها، وأشار إلى ثلاثة منها وهي الصلوات والزكوات ومجاهدة الصيام في الأيام المفروض صومها. أمّا الصلوات فلكونها بأجزائها وأوضاعها منافية للكبر.

إذ كان مدارها على تضرّع وخضوع و خشوع وركوع. وكلّ واحد من هذه الأجزاء بكيفيّاته وهيئاته موضوع على المذلَّة والتواضع والاستسلام لعزّة الله وعظمته وتصوّر كماله وتذكَّر وعده ووعيده وأهوال الموقف بين يديه وكلّ ذلك ينافي التكبّر والتعظَّم، وإلى ذلك أشار بقوله: تسكينا لأطرافهم وتخشّعا لأبصارهم. إلى قوله: تصاغرًا، ونصب تسكينا وتخشيعا وتذليلا وتخفيضا وإذهابا على المفعول له، والعامل ما دلّ عليه قوله: حرس. من معنى الأمر: أي حرسهم بهذه وأمرهم بكذا وكذا. وانتصب تواضعا وتصاغرا، والعاملان المصدران: تعفير، والتصاق)(1).

ص: 35


1- شرح نهج البلاغة لابن ميثم البحراني: ج 4 ص 284 - 285

ثانياً - قطب الدين الراوندي (رحمه الله) (ت 573 ه)

«وَعَنْ ذَلِكَ مَا حَرَسَ اَللَّهُ عِبَادَهُ اَلْمُؤْمِنِینَ»، قيل:

أن (ما) صلة زائدة، والمعنى في ذلك الاثبات، يقول: ويحرس الله المؤمنين بسبب طاعتهم التي هي الصلاة والزكاة والصوم المفروض عن ذلك، أي عن أن يبغوا على الضعفاء أو يظلموهم ويظلموا أنفسهم أو يتكبروا، فان الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر.

وانما حرسهم الله عن تلك المنكرات ببركة هذه الطاعات تسكينا لأطرافهم التي هي الأيدي والأرجل ونحوها، وإذا اطمأنت هذه الأعضاء وسكنت فلا يظلم صاحبها أحدا ولا يضربه ولا يقتله ولا يشتمه، وإذا ذلت النفس يذهب التكير.

ثم نبه على كون الصلاة والزكاة والصوم ألطافا في دفع تلك الأشياء، أنه من حيث أن في الصلاة السجود الذي يعفر فيه أعز موضع في البدن، وفي الصوم الجوع الذي يذل البدن، وفي الزكاة الرحمة على الفقراء والمساكين. فهذه الافعال تدفع الكبر وتقمع الفخر.

وقوله «تسكينا لأطرافهم» وما عطف عليه كالعلة لقوله: تسكينا لأطرافهم ولما عطف عليه. وتخفيض القلوب، تهوينها، يقال: خفض عليك الأمر أي هون.

وتخشع البصر: غضه. والخيلاء: التكبر. يقال منه اختال.

والتعفير: أن يمسح المصلي جبينه في حال السجود على العفر وهو التراب.

ص: 36

وعفره تعفيرا: أي مرغه. والعاتق جمع عتيقة وهي الكريمة، والخيار من كل شيء والتصاغر. التخافؤ والتذلل. والمتن: وسط الظهر. والمسكنة: الذل والضعف)(1).

ص: 37


1- منهاج البراعة للراوندي: ج 2 ص 254 - 255

ص: 38

المبحث الثاني فضل الصوم وفوائده

قال أمير المؤمنين الإمام علي (عليه الصلاة والسلام):

1- «وَ لِکُلِّ شَیْءٍ زَکَاةٌ وَ زَکَاةُ اَلْبَدَنِ اَلصِّیَامُ»(1).

2- «وَصَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ جُنَّةٌ مِنَ الْعِقَابِ»(2).

يدل الحديثان على بيان فضل الصوم بنحو عام، وفضل صوم شهر رمضان بنحو خاص، وقد تناول بعض الفقهاء في المذاهب الاسلامية بيان فضل الصيام في مصنفاتهم الفقيهة لا سيما المذهب الإمامي وذلك لوجود العديد من الأحاديث الشريفة الواردة عن أئمة العترة النبوية (عليهم السلام) في مختلف المجالات، فكانت كالاتي:

المسألة الأولى: المذهب الإمامي.

ونورد هنا قولين لعلمين في أعلام الفقه وأساطينه، وهما العلامة ابن المطهر الحلي، والمحقق البحراني (عليها الرحمة والرضوان)، وهما كالاتي:

أولاً - العلامة ابن المطهر الحلي (ت 726 ه):

قال (عليه رحمة الله ورضوانه) في بيان فضل الصيام لا سيما صيام شهر

ص: 39


1- نهج البلاغة الحكمة رقم: (136)
2- نهج البلاغة، الخطبة رقم 110

رمضان المبارك.

(الصوم من أفضل العبادات وأكملها تقرباً، قال رسول الله صلى الله عليه وآله):

«الصوم جنة من النار».

وقال عليه السلام:

«الصائم في عبادة وإن كان نائماً على فراشه ما لم يغتب مسلماً».

وقال (عليه السلام):

«إنّ الله تعالى وكّل ملائكة بالدعاء للصائمين، وأخبرني جبرئيل عن ربه سبحانه أنّه قال: ما أمرت ملائكتي بالدعاء لأحد من خلقي إلّا استجبت لهم فيه»(1).

وقال الصادق (عليه السلام):

«نوم الصائم عبادة، وصمته تسبيح، وعمله متقبل، ودعاؤه مستجاب»(2).

وعن الحسن بن علي(3) (عليهما السلام) قال:

«جاء نفر من اليهود إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فسأله أعلمهم عن مسائل، فكان ممّا سأله انه قال:

لأيّ شيء فرض الله سبحانه الصوم على أمّتك بالنهار ثلاثين يوماً، وفرض على الأُمم أكثر من ذلك؟ فقال النبي (صلى الله عليه وآله):

ص: 40


1- بحار الأنوار: 93/ 253، الحديث 26
2- الوسائل: 7/ 294، الباب 1 من أبواب الصوم المندوب، الحديث 24؛ وبحار الأنوار: 93/ 253
3- في «أ»: «وعن الحسين بن عليّ (عليهما السلام)» وما في المتن موافق للوسائل

«إنّ آدم ( عليه السلام) لمّا أكل من الشجرة بقي في بطنه ثلاثين يوماً، ففرض الله سبحانه على أُمّته ثلاثين يوم الجوع والعطش، والّذي يأكلونه بالليل تفضّل من الله عزّ وعلا عليهم، وكذلك كان على آدم ففرض الله ذلك على أُمّتي، ثمّ تلا هذه الآية: «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ»(1).

قال اليهودي: صدقت يا محمّد.

فما جزاء من صامها؟ فقال النبيّ (صلى الله عليه وآله):

«ما من مؤمن يصوم في شهر رمضان احتساباً إلاّ أوجب الله تبارك وتعالى له سبع خصال: أوّلها يذوب الحرام في جسده، والثانية يقرب من رحمة الله عزّ وجل، والثالثة يكون قد كفّر خطيئة أبيه آدم، والرابعة يهون الله عليه سكرات الموت، والخامسة أمان من الجوع والعطش يوم القيامة، والسادسة يعطيه الله تعالى براءة من النار، والسابعة يطعمه الله من طيّبات الجنة. قال [اليهود]: صدقت يا محمد»(2).

والأخبار كثيرة في ذلك(3).

ثانياً - المحقق البحراني (ت 1186 ه).

قال (رحمه الله) في بيان فضل الصوم:

(لا ريب أن الصوم من أفضل الطاعات، وأشرف العبادات إذا وقع على

ص: 41


1- البقرة: الآيات 182 - 183
2- الوسائل: 7/ 272، الباب 1 من أبواب أحكام شهر رمضان، الحديث 4
3- تحرير الأحكام: ج 1 ص 450 - 452

الوجه المأمور به، ولو لم يكن فيه إلا الإرتقاء من حضیض حظوظ النفس البهيمية إلى ذروة التشبه بالملائكة الروحانية لكفى به فضلا ومنقبة، وقد استفاضت الأخبار بفضله:

فروی ثقة الاسلام في الكافي في الصحيح أو الحسن، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام)(1) قال:

«بنّي الإسلام على خمسة أشياء. على الصلاة والزكاة والحج والصوم والولاية».

وبهذا المضمون أخبار عديدة(2).

وروى عمر وبن جميع(3) قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) قال:

«قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «الصيام جنة من النار».

وروى حفص بن غياث(4) قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول:

«إن شهر رمضان لم يفرض الله صيامه على أحد من الأمم قبلنا.

فقلت له فقول الله عز وجل: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ»(5).

قال: إنما فرض الله صيام شهر رمضان على الأنبياء دون الأمم ففضل به هذه الأمة وجعل صيامه فرضا على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعلى أمته».

ص: 42


1- الوسائل: الباب 1 من الصوم المندوب
2- الوسائل: الباب 1 من مقدمة العبادات
3- الوسائل: الباب 1 من الصوم المندوب
4- الوسائل: الباب 1 من أحكام شهر رمضان
5- البقرة: 180

وروى في الفقيه عن أبي عبد الله (عليه السلام) مرسلا وفي الكافي مسندا(1) قال:

«أوحى الله إلى موسى عليه السلام ما يمنعك من مناجاتي؟

فقال:

یا رب أجلك عن المناجاة لخلوف فم الصائم.

فأوحى الله إليه يا موسى لخلوف فم الصائم عندي أطيب من ريحه المسك».

وروى في الفقيه أن أبي عبد الله (عليه السلام)(2) قال:

«للصائم فرحتان: فرحة عند افطاره وفرحة عند لقاء ربه».

وروى فيه عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)(3) قال:

«قال الله الصوم لي وأنا أجزي به».

وروى في الكافي عن الكناني عن أبي عبد الله عليه السلام(4) قال:

«إن الله تبارك وتعالى يقول الصوم لي وأنا أجزي عليه».

وروى الصدوق في الفقيه عن الصادق (عليه السلام)(5) قال:

«نوم الصائم عبادة وصمته تسبيح وعمله متقبل ودعاؤه مستجاب».

ص: 43


1- الوسائل: الباب 1 من الصوم المندوب
2- الوسائل: الباب 1 من الصوم المندوب
3- الوسائل: الباب 1 من الصوم المندوب
4- الوسائل: الباب 1 من الصوم المندوب
5- الوسائل: الباب 1 من الصوم المندوب

وروى في الكافي مسندا والفقيه مرسلا(1) قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام):

«من صام الله يوما في شدة الحر فأصابه ظمأ وكل الله به ألف ملك يمسحون وجهه ويبشرونه حتى إذا أفطر قال الله تعالى: ما أطيب ريحك وروحك ملائكتي اشهدوا أني قد غفرت له».

وروى في الفقيه(2) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):

«ما من صائم يحضر قوما يطعمون إلاّ سبحت له أعضاؤه، و كانت صلاة الملائكة عليه، وكانت صلاتهم استغفارا».

إلى غير ذلك من الأخبار التي يضيق عن ذكرها المقام)(3).

المسألة الثانية: فضل الصوم وفوائده في المذاهب الاخرى.

لم يرد فضل الصوم إلاّ مختصراً في أغلب المصنفات الفقهية في المذاهب الاسلامية الأخرى، لا سيما تلك الموسوعات منها والتي تعد آمات الفقه لدى هذه المذاهب.

ولذا: أقتصر الأمر في بيان فضل الصوم بشكل مختصر في المذهب الزيدي، والشافعي، والحنفي؛ وهي كالاتي:

أولاً - المذهب الزيدي.

تعرض زید بن علي (عليهما السلام) (ت 122 ه) لفضل الصيام فقال:

ص: 44


1- الوسائل: الباب 3 من الصوم المندوب
2- الوسائل: الباب 9 من آداب الصائم
3- الحدائق الناظرة: ج 13 ص 8 - 9

(حدثني زيد بن علي عن أبيه جده عن علي - (عليه السلام) - قال:

«لما كان أول ليلة من شهر رمضان قام رسول الله (صلى الله عليه وآله) فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:

أيها الناس إنّ الله قد كفاكم عدوكم من الجن ووعدكم الإجابة، وقال: «ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ» الا وقد وكل الله عز وجل بكل شيطان مريد(1) سبعة أملاك فليس بمحلول حتى ينقضي شهر رمضان وأبواب السماء مفتحة من أول ليلة منه إلى آخر ليلة الا وان الدعاء فيه متقبل فلما كان أول ليلة من العشر(2) الأواخر شمر وشد المئزر وبرز من بيته واعتكف العشر الأواخر وأحيى الليل وكان يغتسل بين العشاءين (صلى الله عليه وآله).

قال: وسألت الإمام أبا الحسين زيدا بن علي (عليهما السلام) ما معنی شد المئزر؟

فقال: «كان يعتزل النساء فيهن».

حدثني زيد بن علي عن أبيه عن جده عن علي (عليه السلام) قال:

«قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) للصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحة يوم القيامة بنادي المنادي أين الظامية أكبادهم وعزتي لأروينهم اليوم».

حدثني زيد بن علي عن أبيه عن جده عن علي (عليه السلام) قال:

ص: 45


1- مرد یمرد من باب قتل فهو مارد إذا عتا اه. مصباح
2- في أمالي أبي طالب عليه السلام باسناده إلى جعفر بن محمد عن أبيه (عليه السلام) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله من اعتكف العشر الأواخر من رمضان كان عدل حجتين وعمرتين

«قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لخلوف(1) فم الصائم أطيب من رائحة المسك عند الله عز وجل، يقول الله عز وجل الصوم لي وانا أجازي عليه»(2).

ثانياً - المذهب الشافعي.

قال الشرواني في بيان فضل شهر رمضان:

(إن لرمضان فضلاً من حيث هو، بقطع النظر عن مجموع أيامه كمغفرة الذنوب لمن صامه ایماناً والدخول من باب الجنة المعد لصائمه، وغير ذلك ما ورد أنه يكرم به صوام رمضان)(3).

ثالثاً - المذهب الحنفي.

قال السرخسي (ت 483 ه) في بيان فضل الصوم والتقرب به إلى الله تعالى:

(والتقرب بالصوم من حيث مجاهدة النفس، والمجاهدة في هذا من وجهين أحدهما يمنع النفس من الطعام وقت الاشتهاء، والثاني بالقيام وقت حبها المنام، ومن المجاهدة حفظ اللسان وتعظيم ما عظم الله تعالى)(4).

المسألة الثالثة: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة.

تناول شراح نهج البلاغة الحديث الأول، وهو قوله (عليه الصلاة والسلام):

ص: 46


1- خلوف فم الصائم اي تعير رائحته، قال عياض: الأكثر يقوله بالفتح وبعضهم بالضم وبعضهم بهما اه. مقدمة الفتح
2- مسند زيد بن علي: ص 202 - 204
3- حواشي الشرواني: ج 3 ص 370
4- المبسوط للسرخسي: ج 3 ص 54 - 55

«وَ لِکُلِّ شَیْءٍ زَکَاةٌ وَ زَکَاةُ اَلْبَدَنِ اَلصِّیَامُ».

والحديث الثاني، وهو قوله:

«وَصَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ جُنَّةٌ مِنَ الْعِقَابِ».

ببیان موجز وذلك لتناولهم موضوع الصيام فيما مرّ من خطبه (عليه السلام) في نهج البلاغة؛ ولذا: اقتصرت بياناتهم لهذين الحديثين بما يلي:

أولاً - الحديث الأول:

قال (عليه الصلاة والسلام):

«وَ لِکُلِّ شَیْءٍ زَکَاةٌ وَ زَکَاةُ اَلْبَدَنِ اَلصِّیَامُ»

1- الشيخ ابن میثم البحراني رحمه الله):

قال (رحمه الله) في بيان الحديث:

(ومن أسرار الصوم كونه زكاة للبدن لما فيه من تنقيص قوته وكسر شهوته لغاية طاعة الله والثواب الاخروي)(1).

2- حبيب الله الخوئي الهاشمي (ت: 1324 ه).

قال (رحمه الله):

(والصوم تزكية للبدن تؤثر في سلامته عن الأعراض المتولدة من كثرة الأكل، وتنوره برفع أستار الظلمة الملقاة إليه من عوارض البطنة المذهبة اللفطنة)(2).

ص: 47


1- شرح نهج البلاغة لابن میثم: ج 5 ص 318
2- منهاج البراعة: ج 2، ص 209 - 210

ثانياً - الحديث الثاني:

قال ( عليه الصلاة والسلام):

«وَصَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ جُنَّةٌ مِنَ الْعِقَابِ».

1- ابن میثم البحراني:

قال (رحمه الله) في بيان الحديث الثاني:

(صوم شهر رمضان، وتخصيصه بكونه جنة من العقاب مع أنّ سائر العبادات كذلك لما أنّه أشدّها وقاية، وبيان ذلك أنّه مستلزم لقهر أعداء الله الَّتي هي الشّياطين المطيفة بالإنسان فإنّ وسيلة الشيطان هي الشهوات وإنّما يقوّي الشهوة ويثيرها الأكل والشرب، ولذلك قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله):

«إنّ الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم فضيّقوا محاربه بالجوع»، وقال (صلى الله عليه وآله وسلم لعائشة:

(داومي قرع باب الجنّة) فقالت: بماذا؟

قال: «بالجوع».

فكان الصوم على الخصوص أشدّ قمعا للشيطان وأسدّ لمسالکه وتضييق مجاريه، ولمّا كان العقاب إنّما يلحق الإنسان ويتفاوت في حقّه بالشدّة والضعف بحسب تفاوت قربه من الشيطان وبعده منه؛ وكانت هذه العبادة أبعد بعيد عن الشيطان كان بسببها أبعد بعيد عن العقاب؛ فلذلك خصّت بكونها وقاية منه.

ص: 48

واعلم أنّ هذه العبادات وإن كانت عدميّة إلَّا أنّها ليست عدما صرفا بل عدم ملكة يحرّك من الطبيعة تحريکا شدیدا ینبّه صاحبه أنّه على جملة من الأمر ليس هذرا فيتذكَّر سبب ما ينويه من ذلك وأنّه التقرّب إلى الله سبحانه کما هو غاية للسرّ العامّ للعبادات)(1).

2- حبيب الله الخوئي الهاشمي (ت 1324 ه).

قال (رحمه الله) في بيان الحديث الثاني:

(وانما خصه - (عليه السلام) - بهذه العلة مع كون ساير العبادات كذلك لكونه اشد وقاية من غيره وبيان ذلك أن استحقاق الانسان للعقوبة إنّما هو بقربه من الشيطان واطاعته له وللنفس الأمّارة، وبشدّة القرب وضعفه يتفاوت العقاب شدّة وضعفا، وبكثرة الطاعة وقلَّتها يختلف العذاب زيادة ونقصانا، وسبيل الشّيطان على الانسان ووسيلته إليه إنّما هي الشّهوات، وقوّة الشهوة بالأكل والشرب، فبالجوع والصوم يضعف الشهوة وينکسر صولة النفس وينسد سبيل الشيطان وينجي من العقوبة والخذلان، کما قال (صلَّى الله عليه وآله):

«إنّ الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم فضيّقوا مجاريه بالجوع»(2).

ص: 49


1- شرح نهج البلاغة للبحراني: ج 3 ص 79
2- منهاج البراعة: ج 7 ص 423

ص: 50

المبحث الثالث الحكمة في تشريع الصيام

قال أمير المؤمنين الإمام علي (عليه الصلاة والسلام) في بيان علة فرض الصيام:

«والصِّیَامَ ابْتِلَاءً لإِخْلَاصِ الْخَلْقِ»(1).

وقال (عليه الصلاة والسلام) في بيان أخلاص الصائم:

«کَمْ مِنْ صَائِمٍ لَیْسَ لَهُ مِنْ صِیَامِهِ إِلاَّ الْجُوعُ وَالظَّمَأُ، وَکَمْ مِنْ قَائِمٍ لَیْسَ لَهُ مِنْ قِیَامِهِ إِلاَّ السَّهَرُ والْعَنَاءُ، حَبَّذَا نَوْمُ الْأَکْیَاس وَإِفْطَارُهُمْ»(2).

يندر الحديث عن بيان علة الأحكام في كتب الفقهاء في المذاهب الاسلامية كما يندر الحديث عن الصائم، ولذلك سنكتفي بما جاء في المذهب الإمامي في ذلك، ثم نعرّج الى بيان ما جاء في شروح نهج البلاغة حول الحديث، في المسألة الثانية، وهو كالاتي:

المسألة الاولى: بيان علة فرض الصيام في المذهب الإمامي.

أورد المحقق البحراني (رحمه الله) في موسوعته الفقيه الموسومة ب: الحدائق الناظرة، بيان علة فرض الصوم وآدب الصائم، فكانت كالاتي:

ص: 51


1- نهج البلاغة، الحكمة: 252
2- نهج البلاغة، الحكمة: 145

أولاً - بيان علّة فرض الصيام.

قال (رحمه الله): (روى الصدوق في الصحيح عن هشام بن الحكم، أنه سأل ابا عبد الله (عليه السلام) عن علة الصيام، فقال:

«إنما فرض الله الصيام ليستوي به الغني والفقير وذلك أن الغني لم يكن ليجد مس الجوع فيرحم الفقير لأن الغني كلما أراد شيئا قدر عليه فأراد الله أن يسوي بين خلقه وأن يذيق الغني مس الجوع والألم لرق على الضعيف ويرحم الجائع»(1) ورواه في كتاب العلل عن هشام ابن الحكم، وزاد ثم سألت أبا الحسن (عليه السلام) فأجابني بمثل جواب أبيه.

وبإسناده عن صفوان بن يحيى عن موسى بن بكر عن زرارة عن الصادق (علیه السلام)(2) قال:

«لكل شيء زكاة، وزكاة الأجسام الصيام».

وبإسناده عن محمد بن سنان عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) في ما كتب إليه من جواب مسائله(3):

«علة الصوم لعرفان مس الجوع والعطش ليكون ذليلا مستكينا مأجورا محتسبا صابرا، ويكون ذلك دليلا له على شدائد الآخرة مع ما فيه من الانكسار له عن الشهوات واعظا له في العاجل دليلا على الأجل ليعلم شدة

ص: 52


1- الوسائل: الباب 1 من وجوب الصوم ونيته
2- الوسائل: الباب 1 من وجوب الصوم ونيته
3- الوسائل: الباب 1 من وجوب الصوم ونيته

مبلغ ذلك من أهل الفقر والمسكنة في الدنيا والآخرة»(1).

وبإسناده عن حمزة بن محمد(2) أنه كتب إلى أبي محمد (عليه السلام):

لم فرض الله الصوم؟ فورد في الجواب:

«ليجد الغني مس الجوع فيمن على الفقير».

ورواه الكليني مثله(3) إلا أنه قال:

«ليجد الغني مضض الجوع فيحنو على الفقير».

وروى في الفقيه عن الحسن بن علي بن أبي طالب (عليه السلام)(4) قال: جاء نفر من اليهود إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) فسأله أعلمهم عن مسائل فكان في ما سأله أنه قال له: لأي شيء فرض الله عز وجل الصوم على أمتك بالنهار ثلاثين يوما، وفرض الله على الأمم أكثر من ذلك؟ فقال النبي (صلى الله عليه وآله):

«إن آدم (عليه السلام) لما أكل من الشجرة بقي في بطنه ثلاثين يوما ففرض الله على ذريته ثلاثين يوما الجوع والعطش والذي يأكلونه بالليل تفضل من الله عليهم وكذلك كان على آدم ففرض الله ذلك على أمتي.

ثم تلا هذه الآية: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ»(5).

ص: 53


1- علل الشرائع للصدوق: ج 2، ص 378
2- الوسائل: الباب 1 من وجوب الصوم ونيته
3- الوسائل: الباب 1 من وجوب الصوم ونيته
4- الوسائل: الباب 1 من وجوب الصوم ونيته
5- البقرة: 183 و 184

قال اليهودي صدقت يا محمد (صلى الله عليه وآله) فا جزاء من صامها؟ فقال النبي (صلى الله عليه وآله):

«ما من مؤمن يصوم شهر رمضان احتسابا إلا أوجب الله له سبع خصال: أولاها يذوب الحرام في جسده، والثانية يقرب من رحمة الله، والثالثة يكون قد كفر خطيئة أبيه آدم، والرابعة يهون الله عليه سكرات الموت، والخامسة أمان من الجوع والعطش يوم القيامة، والسادسة يعطيه الله براءة من النار، والسابعة يطعمه الله من طيبات الجنة».

قال صدقت یا محمد»(1).

ثانياً - آداب الصائم.

وفي آداب الصائم بينّ (رحمه الله) جملة من الآداب، فكانت كالاتي:

(روى الكليني عن الحسن عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال:

«ذا صمت فليصم سمعك وبصرك وشعرك وجلدك».

وعدد أشياء غير هذا.

وقال:

«لا يكون يوم صومك كيوم فطرك».

وعن جراح المدائني عن أبي عبد الله (عليه السلام)(2) قال:

ص: 54


1- الحدائق الناضرة: ج 13 ص 10 - 11
2- الوسائل: 11 من آداب الصائم

«إن الصيام ليس من الطعام والشراب وحده».

ثم قال: (قالت مريم: «إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا»(1)، أي: صمتا فإذا صمتم فاحفظوا ألسنتكم وغضوا أبصاركم ولا تنازعوا ولا تحاسدوا».

قال: وسمع رسول الله (صلى الله عليه وآله) امرأة تسب جارية لها صائمة فدعا رسول الله (صلى الله عليه وآله) بطعام فقال لها: كلي!! فقالت: إني صائمة.

فقال: كيف تكونين صائمة وقد سببت جاريتك؟ إن الصوم ليس من الطعام والشراب.

قال: وقال أبو عبد الله (عليه السلام):

«إذا صمت فليصم سمعك وبصرك من الحرام والقبيح، ودع المراء وأذى الخادم، وليكن عليك وقار الصائم، ولا تجعل يوم صومك كيوم فطرك».

وعن جابر عن أبي عبد الله (عليه السلام)(2) قال:

«قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لجابر بن عبد الله الأنصاري: يا جابر هذا شهر رمضان من صام نهاره وقام وردا من ليله وعف بطنه وفرجه وكف لسانه خرج من ذنوبه كخروجه من الشهر. فقال جابر: يا رسول الله (صلى الله عليه وآله ما أحسن هذا الحديث؟

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا جابر ما أشد هذه الشروط».

ص: 55


1- مريم: 26
2- الوسائل: الباب 11 من آداب الصائم. والرواية عن أبي جعفر (ع)

وعن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله عن آبائه (عليهم السلام)(1) قال: «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):

«ما من عبد صائم يشتم فيقول إني صائم سلام عليك لا أشتمك كما تشتمني، إلا قال الرب تبارك وتعالى: استجار عبدي بالصوم من شر عبدي قد أجرته من النار».

وفي كتاب الفقه الرضوي:

«واعلم رحمك الله أن الصوم حجاب ضربه الله عز وجل على الألسن والأسماع والأبصار وسائر الجوارح حتى يستر به من النار وقد جعل الله على كل جارحة حقا للصائم فمن أدى حقها كان صائما ومن ترك شيئا منها نقص من فضل صومه بحسب ما ترك منها»(2).

ثالثاً - الإخلاص في العبادة، وتجليه في الصيام.

تناول السيد عبد الأعلى السبزواري (عليه الرحمة والرضوان) موضوع الإخلاص في العبادة لا سيما في الصلاة وتجليه في الصيام، فيقول:

(الخلوص والإخلاص وحضور القلب وإقباله في الصلاة وسائر العبادات روح العبادة وحقيقتها التي بها قوامها، وبانتفائها تكون كجسد لا حياة فيه، وقد أمر الله تعالى بالإخلاص، ومدح المخلصين في جملة كثيرة من الآيات.

والإخلاص تارة يكون بالنسبة إلى أصل التوحيد.

ص: 56


1- الفروع: ج 1، ص 187 وفي الوسائل: الباب 12 من آداب الصائم
2- الحدائق الناضرة: ج 13 ص 11 - 13

وأخرى بالنسبة إلى العمل العبادي، وقد ورد عن أبي عبد الله (عليه السلام) تفسير كلّ منهما فقال (عليه السلام):

«والعمل الخالص الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إلا الله عزّ وجلّ»(1).

ثمَّ إنّ ثمرة الإخلاص والخلوص تظهر في الدنيا والآخرة، وقد روى الفريقان عن النبيّ (صلَّى الله عليه وآله):

«من أخلص الله أربعين يوما فجر الله ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه»(2).

وقال عليّ (عليه السلام):

«بالإخلاص يكون الخلاص»(3).

وقال (عليه السلام) أيضا:

«وتخليص النية من الفساد أشدّ على العالمين من طول الجهاد»(4).

وإطلاقه يشمل الخلاص عن جميع المتاعب والمهالك الدنيوية والأخروية.

وقد ورد الترغيب إلى الخلوص والإخلاص في الكتاب والسنة بما يحصى، ويمكن إقامة الدليل العقلي على لزومه، لأنّه من أهم مصاديق شكر المنعم، وأهم العلاجات في الأمراض الروحية، وأسرع طريق لكشف الواقعيات عليه، وقال أبو عبد الله (عليه السلام):

«أفضل العبادة الإخلاص، وأدنى مقام المخلص في الدنيا السلامة من

ص: 57


1- الوسائل: باب 8 من أبواب مقدمة العبادات حديث: 4
2- سفينة البحار: ج 1 صفحة 408
3- الوسائل: باب 8 من أبواب مقدمة العبادات حديث: 2
4- الوافي: ج 10 صفحة: 6

جميع الآثام، وفي الآخرة النجاة من النار، والفوز بالجنة»(1).

وفي الخطبة المتواترة عن النبيّ (صلَّى الله عليه وآله) بين الفريقين التي خطب بها في مسجد الخيف بمنى في حجة الوداع:

«نَضَّرَ اللَّهُ عَبْداً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا وَ حَفِظَهَا وَ بَلَّغَهَا مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرُ فَقِيهٍ وَ رُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَي مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ ثَلَاثٌ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ وَ النَّصِيحَةُ لِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَ اللُّزُومُ لِجَمَاعَتِهِمْ فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ مُحِيطَةٌ مِنْ وَرَائِهِمْ الْمُسْلِمُونَ إِخْوَةٌ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَ يَسْعَي بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ»(2).

وعن مولانا العسكري (عليه السلام):

«لو جعلت الدنيا كلها لقمة واحدة ولقمتها من يعبد الله خالصا لرأيت أتي مقصر في حقه»(3).

ولو أردنا أن نتعرّض لما ورد في الإخلاص في الكتاب والسنة وبيان فوائده الدنيوية والأخروية لاحتاج إلى وضع كتاب مستقل، ولا بد للإنسان أن يهتمّ بدفع الأمراض الروحانية المحيطة به من كلّ جهة والتي أفسدت عليه دينه ودنياه، وأظلمت الفضاء عليه وقطعت الأخوّة بيننا، كاهتمامه بدفع الأمراض الجسمانية بأيّ وجه أمكنه، مع أنّ العلاج موجود بين أيدينا وسهل يسير علينا تناوله، وأبوابه مفتوحة على الجميع ألا وهو الخلوص والإخلاص في أعمالنا، خصوصا التي هي وديعة الله تعالى لدينا.

ص: 58


1- مستدرك الوسائل: باب 8 من أبواب مقدمة العبادات حديث: 3
2- الكافي للكليني: ج 1، ص 403؛ مسند أحمد: ج 4، ص 80
3- سفينة البحار: ج 10، ص 408

الرابع: أهم الموانع عن حصول الخلوص والإخلاص حب العلائق الفانية الدائرة التي تحيط ببني آدم إحاطة الدنيا بأبنائها، وقد جمع ذلك كله النبي الأعظم (صلَّى الله عليه وآله) في قوله:

«حب الدنيا رأس كلّ خطيئة»(1).

فالإخلاص والخلوص مع حب الدنيا متنافيان، ولكن حب الدنيا على قسمين: الأول ما يكون بنحو الموضوعية. والثاني: ما يكون بنحو الطريقية، يعني يحبها لأن يعمل بها في طريق مرضاة الله تعالى، وهذا القسم لا بأس به، بل قد يؤيد حصول الخلوص. عصمنا الله عزّ وجلّ من القسم الأول.

الخامس: العوالم التي نرد عليها إما عالم الشهادة أو عالم الغيب، والأخير بالنسبة إلينا غير متناه؛ وأما بالنسبة إلى الله عز وجل في البين الحضور ما سواه لديه تعالى، فوق ما نتعقله من معنى الحضور، وشهود لكل فوق ما ندركه من معنى الشهود.

والخلوص والإخلاص في عبادة الله جلت عظمته ارتباط مع عالم الغيب في الجملة؛ إذ الارتباط مع الملك والسلطان ارتباط مع من يتعلق، وما يتعلق به في الجملة، لا سيما في الارتباط مع ملك الملوك، فيصير الإخلاص له تعالى إلى مرتبة يوجب صدور الكرامات وخوارق العادات على يد المخلصين له ید تعالى، ويوجب عدم اقتدار الشيطان على الدنو منه، قال تعالى:

«فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ»، وقال تعالى: «إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ»(2).

ص: 59


1- الوسائل: باب 61 من أبواب جهاد النفس حديث: 4
2- الإسراء: 65

لأنّ نسبة الشيطان إلى حرم الكبرياء نسبة الكلب الواقف عند باب الدار فيمنع الأغيار عن الدخول فيها. وأما أهل الدار فلا يقدر على منعهم، بل هم المسيطرون عليه، وتوجيهه لكلّ ما شاؤوا وأرادوا.

وبعبارة أوضح: الخلوص والإخلاص لله تعالى في الأعمال والحالات، كجواز سفر إلهي للسياحة في عوالم الغيب وإتيان التحف منها إلى عالم الشهادة بحسب مراتب الإخلاص وظرفية المخلص، وهذا مقام عال جدّا، ولذا تواترت نصوص الفريقين بما مضمونة:

(إنّ السعي في زيادة كيفية الأعمال أحسن من السعي في زيادة كميتها، وإنّ السعي في تصحيح العقائد والأخلاق أهم من السعي في تكثير الأعمال).

قال تعالى:

«وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا»(1).

وقال عليّ (عليه السلام):

«کَمْ مِنْ صَائِمٍ لَیْسَ لَهُ مِنْ صِیَامِهِ إِلاَّ الْجُوعُ وَالظَّمَأُ، وَکَمْ مِنْ قَائِمٍ لَیْسَ لَهُ مِنْ قِیَامِهِ إِلاَّ السَّهَرُ والْعَنَاءُ، حَبَّذَا نَوْمُ الْأَکْیَاس وَإِفْطَارُهُمْ)(2).

المسألة الثانية: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة.

أولاً - ما ورد في قوله (علیه السلام) «والصيام ابتلاء لإخلاص الخلق» من شروح.

1- ابن ميثم البحراني:

ص: 60


1- الفرقان: 23
2- مهذب الاحكام للسيد عبد الاعلى السبزواري: ج 6 ص 101 - 104

قال ابن ميثم البحراني (رحمه الله) في بيان علة فرض الصوم الذي ورد في الحديث عنه (عليه الصلاة والسلام):

(ولما كان - الصيام - من الشدائد الشاقة على الابدان خصة بان غايته كونه ابتلاء من الله تعالى لإخلاص خلقه، وان كانت هذه غاية من كل العبادات)(1).

2- السيد حبيب الله الخوئي الهاشمي:

قال (رحمه الله):

(قد علَّل عليه السّلام في هذا الكلام من مهام المقرّرات في شريعة الاسلام إلى أن بلغ تسع عشرة، فهل تكون العلل التي ذكرها كما يظهر من إطلاق الكلام عللا تامّة فيستفاد من كلامه تسع عشر كبرى فقهيّة تقرّر هكذا: كلّ مطهر من الشرك فريضة، كلّ منزه عن الكبر فريضة، كلّ تسبيب للرّزق فريضة، كلّ ابتلاء لإخلاص الخلق فريضة، وعلى هذا النّمط. فانّ ظاهر التعليل يقتضي اندراج موضوع الحكم الصغروي تحت هذه الكلَّية التي علَّل بها وتكون كبرى لها، فيسري الحكم إلى سائر الموضوعات والموارد الغير المنصوصة المشتركة مع المنصوص في الاندراج تحت هذه الكبرى التي علَّلت به الحكم في هذا الموضوع الخاص.

واصطلح عليه علماء الأصول بالقياس المنصوص العلَّة وجعلوه حجّة كقياس الأولويّة، واستثنوا من كبرى بطلان القياس في فقه الشيعة الإمامية بل أخرجوهما منه موضوعا بأنّ الحكم في الفرع منصوص مستفاد من عموم العلَّة ومن ظهور اللَّفظ في قياس الأولوية.

ص: 61


1- الحدائق الناضرة: ج 5 ص 366

ولكن لو جعلت هذه الكبريات التسع عشرة كلَّيات عامّة فقهيّة يستلزم فقه جديد ولا أظنّ الفقهاء يلتزمون بها، فتحمل على بيان الحكمة في هذه الأحكام والحكمة لا تسري الحكم عن الموضوع المنصوص إلى غيره.

وقد ورد روايات كثيرة في بيان حكمة الأحكام الشرعيّة قد جمعها الشيخ المتقدّم الصّدوق رضوان الله عليه في كتابه علل الأحكام فصار كتابا ضخما. ولكن لا يستند الفقهاء في إثبات الأحكام إلى كلَّيات هذه العلل المرويّة مضافا إلى ما ذكرنا من أنّ المقصود من الفرض في كلامه هذا أعمّ من الحكم الارشادي والمولوي ومن الوجوب والندب، فلا يستفاد منها حكم الوجوب في غير المورد المنصوص)(1).

ثانياً - ما ورد في قوله (علیه السلام) حدیث:

«کَمْ مِنْ صَائِمٍ لَیْسَ لَهُ مِنْ صِیَامِهِ إِلاَّ الْجُوعُ وَالظَّمَأُ...»

1- علي بن زيد البيهقي (رحمه الله) (ت 565 ه):

قال ( رحمه الله): في بيان معنى قوله (عليه الصلاة والسلام):

«کَمْ مِنْ صَائِمٍ لَیْسَ لَهُ مِنْ صِیَامِهِ إِلاَّ الْجُوعُ وَالظَّمَأُ...»:

(أراد بالقائم المصلي، وهذا هو القائم الذي يمسك من الطعام والشراب والنكاح، ولا يمسك عن المعاصي والفواحش؛ والمراد بالصوم ما ذكرناه. دون الجوع، ولان الظمأ أغلب على العرب من الجوع بسبب حرارة الهواء وغير ذلك وغير ذلك.

ص: 62


1- منهاج البراعة: ج 21 ص 322

قوله: حبّذا نوم الاكياس، لانّ العاقل إذا جرى على قضايا عقله، يقال له الكيّس، ومن جرى على قضايا عقله لا يفعل ما يصير وبالا عليه من المباحات. وللنّوم حالة عجيبة، ونوم الاكياس حالات لهم فيها الطاف من الرؤيا، كما اخبر رسول الله، (صلَّى الله عليه وآله)، عن الرّؤيا الصّالحة للرّجل الصّالح)(1).

2- ابن ميثم البحراني (رحمه الله) (ت 678 ه):

قال (رحمه الله):

(أراد بذلك من أخلّ بشرط من شرائط صيامه وقيامه ولم يأت على وجه الإجزاء، وأعظم شرط لهما توجّههما إلى المعبود الحقّ عزّ سلطانه، وكثرة خلل العبادة وفسادها من كثير من الخلق إنّما يكون للجهل بهذا الشرط. وكنّى بالقيام عن الصلاة. وإنّما مدح نوم الأكياس لأنّ الكيّس هو الَّذي يستعمل ذكاه وفطنته في طرق الخير وعلى الوجه المرضىّ للشارع ويضع كلّ شيء موضعه. ومن كان كذلك كان نومه وإفطاره وجميع تصرّفاته في عباداته موضعة موضعها من رضاء الله ومحبّته)(2).

ص: 63


1- معارج نهج البلاغة - للبيهقي: ص 429
2- شرح نهج البلاغة: ج 5 ص 320

ص: 64

الفصل الثاني : «كتاب الحج»

اشارة

ص: 65

ص: 66

توطئة

لم يشتمل كتاب نهج البلاغة على الكثير من الاحاديث أو الخطب حول الحج، ولذا: لم يرد في هذا الفصل الكثير من المباحث والمسائل حول هذه الفريضة إلا بهذا القدر الذي سنورده، وهي كالاتي:

قال عليه الصلاة والسلام:

«وَ فَرَضَ عَلَیْکُمْ حَجَّ بَیْتِهِ اَلْحَرَامِ اَلَّذِی جَعَلَهُ قِبْلَهً لِلْأَنَامِ، یَرِدُونَهُ وُرُودَ اَلْأَنْعَامِ وَ یَأْلَهُونَ إِلَیْهِ وُلُوهَ اَلْحَمَامِ، وَ جَعَلَهُ سُبْحَانَهُ عَلاَمَةً لِتَوَاضُعِهِمْ لِعَظَمَتِهِ وَ إِذْعَانِهِمْ لِعِزَّتِهِ وَ اِخْتَارَ مِنْ خَلْقِهِ سُمَّاعاً أَجَابُوا إِلَیْهِ دَعْوَتَهُ وَ صَدَّقُوا کَلِمَتَهُ وَ وَقَفُوا مَوَاقِفَ أَنْبِیَائِهِ وَ تَشَبَّهُوا بِمَلاَئِکَتِهِ اَلْمُطِیفِینَ بِعَرْشِهِ، یُحْرِزُونَ اَلْأَرْبَاحَ فِی مَتْجَرِ عِبَادَتِهِ وَ یَتَبَادَرُونَ عِنْدَهُ مَوْعِدَ مَغْفِرَتِهِ، جَعَلَهُ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَی لِلْإِسْلاَمِ عَلَماً وَ لِلْعَائِذِینَ حَرَماً فَرَضَ حَقَّهُ وَ أَوْجَبَ حَجَّهُ وَ کَتَبَ عَلَیْکُمْ وِفَادَتَهُ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: «وَ لِلّهِ عَلَی اَلنّاسِ حِجُّ اَلْبَیْتِ مَنِ اِسْتَطاعَ إِلَیْهِ سَبِیلاً * وَ مَنْ کَفَرَ فَإِنَّ اَللّهَ غَنِیٌّ عَنِ اَلْعالَمِینَ»(1).

ص: 67


1- نهج البلاغة بتحقيق صبحي الصالح: - ص 45، الخطبة الاولى

ص: 68

المبحث الاول معنى الحج في اللغة والاصطلاح والشريعة

المسألة الاولى: معنى الحج في اللغة.

ورد لفظ الحجُّ في المعاجم اللغوية بمعنى: القصدُ، والتوجه الى بيت الله تعالى.

1- قال ابن سيدة: (الحجّ: القصد والتوجه الى البيت بالأعمال المشروعة فرضاً وسنة، وحقيقته الزيارة)(1).

2- قال ابن منظور:

(حَجَّ إلينا فلان، أي قدم؛ وحَجَّه یَحُجُّه حَجّاً: قصده.

وحَجَجتُ فلاناً واعتَمَدتُه أَي قصدته.

ورجلٌ محجوجٌ أَي مقصود.

وقد حَجَّ بنو فلان فلاناً إِذا أَطالوا الاختلاف إِليه؛ قال المُخَبَّلُ السعدي:

وأَشهَدُ مِن عَوفٍ حُلُولاً كثِيرةٌ *** يَحُجُّونَ سِبَّ الزُيرِقانِ المُزَعفُرا

أَي يَقصِدُونه ويزورونه.

ص: 69


1- المخصص لابن سيدة: ق 1 (السفر الثالث عشر) ص 91

قال ابن السكيت: يقول يكثِرونَ الاختلاف إليه، هذا الأَصل، ثم تُعُورِفَ استعماله في القصد إِلى مكة للنُّسُكِ والحجِّ إِلى البيت خاصة؛ تقول حَجَّ يَحُجُّ حَجًّا.

والحجُّ قَصدُ التَّوَجُّه إلى البيت بالأَعمال المشروعة فرضاً وسنّة؛ تقول: حَجَجتُ البيتَ أَحُجُّه حَجًّا إِذا قصدته، وأَصله من ذلك.

وجاء في التفسير: أَن النبي، (صلى الله عليه وآله)، خطب الناسَ فأَعلمهم أَن الله قد فرض عليهم الحجَّ، فقام رجل من بني أَسد فقال: يا رسول الله، أَفي كلِّ عامٍ؟ فأَعرض عنه رسول الله، (صلى الله عليه وآله)، فعاد الرجلُ ثانيةً، فأَعرض عنه، ثم عاد ثالثةً، فقال (صلى الله عليه واله):

«ما يؤمنك أَن أَقولَ نعم، فَتَجِبَ، فلا تقومون بها فتكفرون؟» أي تدفعون وجوبها لثقلها فتكفرون.

وأَراد (عليه الصلاة والسلام): ما يؤمنك أَن يُوحَى إِليَّ أَن قُل نعم فَأَقولَ؟ وحَجَّه يَحُجُّه، وهو الحجُّ.

قال سيبويه: حجَّه یَحُجُّه حِجًّا کا قالوا: ذكره ذِكراً؛ وقوله أَنشده ثعلب:

يوم تَرَى مُرضِعَةً خَلوجا *** وكلَّ اُنثَى حَمَلَت خَدُوجا

وكلَّ صاحٍ ثَمِلاً مَؤُوجا *** ويَستَخِفُّ الحَرَمَ المَحجُوجا

فسَّره فقال: يستخف الناسُ الذهابَ إِلى هذه المدينة لأَن الأَرض دُحِيَت من مكة، فيقول: يذهب الناس إِليها لأَن يحشروا منها.

ص: 70

ويقال: إِنما يذهبون إلى بيت المقدس. ورجلٌ حاجٌّ وقومٌ حُجَّاجٌ وحَجِيجٌ والحَجِيجُ: جماعةُ الحاجِّ)(1).

وقد تلازم معنى الحج والقصد في الدلالة ولم يجد أبو هلال العسكري فرقاً بينهما فقد قال في الفروق اللغوية:

(إنّ الحج هو القصد على إستقامة، ومن ثم سمي قصد البيت حجاً لان من يقصد زيارة البيت لا يعدل عنه الى غيره، ومنه قيل للطريق المستقيم محجة، والحجة فعلة من ذلك لإنه قصد الى استقامة رد الفرع الى الاصل)(2).

المسالة الثانية: معنى الحج في الاصطلاح.

ذهب أهل اللغة الى أن الحج عرفاً، اي (إصطلاحاً) هو: قصد مكة للمسك)(3).

وهذا الذي فهمه الناس وتعارفوا عليه في كلماتهم، وبه قال ابن الانباري في الزاهر:

(وقولهم: قد حج الرجل الى بيت الله، معناه في كلامهم: قصد بيت الله؛ والاعتار معناه في كلامهم: الزيارة)(4).

المسالة الثالثة: معنى الحج في المذهب الإمامي.

تناول الفقهاء في المذهب الإمامي معنى الحج في مصنفاتهم وقد دلت كلماتهم على أن الحج: هو عبادة مخصوصة بأداء جملة من الاعمال والاذكار في

ص: 71


1- لسان العرب: ج 2 ص 266
2- الفروق اللغوية لأبي هلال العسكري: ص 177
3- مختار الصحاح لابي بكر الرازي ج 1 ص 621
4- الزاهر في معاني كلمات الناس: ص 78

زمن محدد ومكان مخصوص وهو بيت الله الحرام، وقد سميت هذه الاعمال بالمناسك.

وهذه جملة من أقوالهم:

أولاً - الشيخ الطوسي (عليه الرحمة والرضوان) (ت 460 ه):

قال في بيان معنى الحج في الشريعة: (قصد البيت الحرام لأداء مناسك مخصوصة عنده متعلقه بزمان مخصوص، والعمرة: عبارة عن زيارة البيت الحرام لأداء مناسك عنده، ولا يختص بزمان مخصوص)(1).

ثانياً - قال العلامة ابن المطهر الحلي (عليه الرحمة والرضوان):

(الحج في الشرع : عبارة عن قصد البيت الحرام لاداء المناسك في زمن معين؛ وأما العمرة فهي: عبارة عن زيارة البيت الحرام لأداء ماسك مخصوصة عنده)(2).

ثالثاً - قال الشهيد الأول (شمس الدين محمد بن مكي العاملي) (عليه الرحمة والرضوان) (ت 786 ه):

الحج شرعاً: (القصد الى مكة ومشاعرها لأداء المناسك المخصوصة، وقيل: هو أسم للمناسك المؤداة في المشاعر المخصوصة، ويلزم منه النقل ومن الأول التخصيص، وهو خير من النقل)(3).

ص: 72


1- المبسوط: ج 1 ص 296
2- تحرير الأحكام: ج 1 ص 621
3- الدروس الشرعية: ج 1 ص 306

رابعاً - قال المحقق البحراني (عليه الرحمة والرضوان) (يوسف بن اح-د الدرازي) (ت 1186 ه):

وقد أشار الى أن الفقهاء قد اتكئوا في المعنى الشرعي على المعنى اللغوي ومركوزه في القصد والتعظيم فقال:

(وهو يطلق في اللغة على معان كما يستفاد من القاموس، وهي: القصد والكف والقدوم والغلبة بالحجة وكثرة الاختلاف والتردد وقصد مكة للنسك، وقال الخليل: الحج كثرة الاختلاف إلى من يعظمه، وسمي الحج حجا لأن الحاج يأتي قبل الوقوف بعرفة إلى البيت ثم يعود إليه لطواف الزيارة ثم ينصرف إلى منى ثم يعود إليه لطواف الوداع.

والأصحاب (رضوان الله عليهم) قد نقلوه عن المعنى اللغوي إلى قصد البيت لأداء المناسك المخصوصة عنده کما عرفه به الشيخ ومن تبعه، أو أنه اسم لمجموع المناسك المؤداة في المشاعر المخصوصة. وقد أورد على كل من التعريفين إيرادات ليس للتعرض لها مزيد فائدة.

إلا أنه ينبغي أن يعلم أن النقل عن المعنى اللغوي - كما ذكرنا - إنما يتم لو لم يكن ما ذكره في القاموس من أنه قصد مكة للنسك معنى لغويا وإلا كان حقيقة لغوية في المعنى المصطلح عليه، والمشهور في كلام أهل اللغة إنما هو أنه بمعنى القصد فيكون النقل متجها، وأنه على تقدير تعريف الشيخ يكون النقل لمناسبة وعلى تقدير التعريف الآخر لغير مناسبة)(1).

ص: 73


1- الحدائق الناضرة: ج 14 ص 3

المسالة الرابعة: معنى الحج في المذاهب الأخرى.

اولا - المذهب الزيدي.

جاء معنى الحج في الفقه الزيدي: بانه عبادة تختص بالبيت الحرام، تحريمها الاحرام وتحليلها الرمي)(1).

ثانيا - المذهب الشافعي.

قال النووي في بيان معنى الحج شرعاً بعد بيانه لغة:

(قال العلماء: ثم اختص الحج في الاستعمال بقصد الكعبة للمنسك)(2) وأما العمرة فقد ارتكز معناها في الشرع عند النووي على المعنى اللغوي فجاءت بمعنيين، الأول الزيارة، والآخر: بقصد الكعبة لأنه قصد إلى موضع عامر)(3).

ثالثا - المذهب الحنفي.

قال السرخسي (محمد بن ابي سهل) (ت: 483 ه) في بيان معنى الحج شرعاً: (عبارة عن زيارة البيت على وجه التعظيم لأداء ركن من اركان الدين عظيم ولا يتوصل الى ذلك الا بقصد.

رابعا - المذهب المالكي.

قال أبو البركات (احمد بن محمد الدردير) (ت 1302 ه).

ص: 74


1- شرح الازهار لاحمد المرتضى: ج 2 ص 58
2- المجموع للنووي: ج 6 ص 2
3- المجموع للنووي: ج 6 ص 2

الحج شرعاً هو (وقوف بعرفة ليلة عاشر ذي الحجة وطواف بالبيت سبعاً وسعي بين الصفة والمروة، كذلك على وجه مخصوص بإحرام)(1).

خامسا - المذهب الحنبلي.

أما فقهاء المذهب الحنبي فقد عرفوا الحج شرعاً بشكل مختصر جداً، فقد قال ابن قدامة المقدسي (ت: 620 ه):

(الحج في الشرع: اسم لإفعال مخصوصة)(2).

وقال الشافعي الصغير (ت: 1004 ه) :

(قصد الكعبة للافعال الاتية، قاله في المجموع واعترضه ابن الرفعة، بأنه: نفس الافعال)(3).

سادسا - المذهب الإباضي.

وقد اكتفى بعض فقهاء الأباضية كالشماخي، وأطفيش بمعناه في اللغة والاصطلاح(4).

المسالة الخامسة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة.

يتضح من هذه الأقوال لدى فقهاء المذاهب الإسلامية عدم الوقوف على تعريف جامع مانع لمعنى الحج شرعا، ومن ثم فلا طائل في مناقشة

ص: 75


1- الشرح الكبير: ج 2 ص 2
2- المغني: ج 3 ص 28؛ الشرح الكبير لابن قدامة: ج 3 ص 12
3- نهاية المحتاج: ج 3 ص 62
4- شرح كتاب النيل لمحمد اطفيش: ج 4 ص 5

هذه الأقوال؛ الا أننا يمكن أن نستخلص مما مرَّ ذكره لا سيما فيما أورده الإمامية (أعلى الله شانهم وحشرهم مع محمد وال محمد صلى الله عليه واله):

إن الحج شرعاً: هو عبادة مخصوصة باداء جملة من الاعمال والاذكار في زمن محدد ومكان مخصوص وهو بيت الله الحرام؛ وقد سميت هذه الاعمال: المناسك ؛ وقد مرَ ذكر هذا التعريف في مقدمة المسالة.

ص: 76

المبحث الثاني أقوال الفقهاء في وجوب الحج والعمرة

1- قال أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام):

«فَرَضَ عَلَیْکُمْ حَجَّ بَیْتِهِ الحَرامِ».

2- وقال (عليه الصلاة والسلام):

«جَعَلَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَی لِلْإِسْلَامِ عَلَماً، وَلِلْعَائِذِینَ حَرَماً، فَرَضَ حَقَّهُ وَأَوْجَبَ حَجَّهُ، وَکَتَبَ عَلَیْکُمْ وِفَادَتَهُ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ:

«وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ».

اتفقت كلمة فقهاء المذاهب الاسلامية على وجوب الحج على الانسان في العمر مرة واحدة وبها تبرء ذمته إن جان بشروطها ومناسكها على الوجه الصحيح، لكنهم اختلفوا في الشروط ومعناها ومفهومها ومصداقها، ومن هذه الشروط الاستطاعة.

والذي نحن بصدده هنا: هو أصل الفرض وموارد وجوبه عند فقهاء المذاهب الإسلامية وهو كالاتي:

ص: 77

المسألة الأولى: أقوال فقهاء المذهب الإمامي في وجوب الحج.

يتماز أغلب فقهاء الإمامية (أعلى الله شأنهم) بأفراد كتاب أو رسالة في الحج منذ الشيخ الصدوق (عليه الرحمة والرضوان) (المتوفي سنة 381 ه) والى يومنا هذا.

بل اننا لنجد أن الشيخ الصدوق قد صنف أكثر من كتاب في هذه الفريضة كما أوردها صاحب الذريعة (عليه الرحمة والرضوان) وهو:

1- كتاب: جامع الحج، وذكره النجاشي باسم (جامع تفسير المنزل في الحج).

2- کتاب: جامع حجج الأئمة عليهم السلام.

3- کتاب: جامع علل الحج.

4- كتاب: جامع فرض الحج والعمرة.

5- کتاب: جامع فضل الكعبة والحرم.

6- کتاب: جامع فقه الحج.

7- کتاب: جامع نوادر الحج.

8- کتاب: کتاب مسائل الحج.

ومن ثم فإن هذه الفريضة قد لاقت اهتماماً بالغاً من فقهاء الإمامية (رضوان الله تعالى عليهم).

وقد أسهبوا في البحث والمناقشة لمسائل هذه الفريضة، ومنها في أصل فرض الحج، ومن هذه الأقوال ما يلي:

ص: 78

اولاً - الشيخ الطوسي (رحمه الله) (ت: 460 ه).

قال الشيخ الطوسي (عليه الرحمة والرضوان) في المبسوط في وجوب الحج والعمرة وشرائط الوجوب، ما يلي:

(فالمفروض منها على ضربين: مطلق من غير سبب ، وواجب عند سبب. فالمطلق من غير سبب هي : حجة الاسلام وعمرة الاسلام، وشرايط وجوبها ثمانية:

البلوغ ، وكمال العقل، والحرية، والصحة، ووجود الزاد، والراحلة، والرجوع إلى كفاية، إما من المال أو الصناعة أو الحرفة، وتخلية السرب من الموانع، وإمكان المسير، ومتى اختل شي من هذه الشرايط سقط الوجوب، ولم يسقط الاستحباب.

ومن شرط صحة أدائهما الاسلام، وكمال العقل، لأن الكافر وإن كان واجبا عليه لكونه مخاطبا بالشرع فلا يصح منه أداؤهما إلا بشرط الاسلام، وعند تكامل الشروط يجبان في العمر مرة واحدة، وما زاد عليها مستحب مندوب إليه، ووجوبهما على الفور دون التراخي.

وأما ما يجب عند سبب فهو ما يجب بالنذر أو العهد أو إفساد حج دخل فيه أو عمرة، ولا سبب لوجوبهما غير ذلك بحسبها إن كان واحدا فواحدا، وإن كان أكثر فأكثر، ولا يصح النذر بهما إلا من كامل العقل حر فأما من ليس كذلك فلا ينعقد نذره، ولا يراعى في صحة انعقاد النذر ما روعي في حجة الاسلام من الشروط لأنه ينعقد نذر من ليس بواجد للزاد والراحلة، ولا ما يرجع إليه من كفاية، وكذلك ينعقد نذر المريض بذلك غير أنه إذا عقد نذره بذلك.

ص: 79

ثم عجز عن المضي فيه أو حيل بينه أو منعه مانع أو نذر في حال الصحة. ثم مرض فإنه يسقط فعله في الحال، ويجب عليه أن يأتي به في المستقبل إذا زال العارض اللهم إلا أن يعقد نذره إنه يحج في سنة معينة فمتى فاته في تلك السنة بتفريط منه وجب علیه أن يأتي به في المستقبل، و إن منعه مانع من ذلك أو حال بينه وبين فعله حايل من عدو أو مرض أو غير ذلك فإنه لا يلزمه فيما بعد لأنه لا دليل عليه، ومتى نذر أن يحج ولم يعتقد أن يحج زايدا على حجة الاسلام. ثم حج بنية النذر أجزأه عن حجة الاسلام، وإن نذر أن يحج حجة الاسلام، ثم حج بنية النذر لم يجزه عن حجة الاسلام، والأولى أن نقول: لا يجزيه أيضا عن النذر لأنه لا يصح منه ذلك قبل أن يقضي حجة الاسلام، ولو قلنا: بصحته كان قويا لأنه لا مانع من ذلك)(1).

ثانياً - العلامة ابن المطهر الحلي (عليه الرحمة والرضوان) (ت: 726 ه):

قال (رحمة الله) في التذكرة في وجوب الحج:

(الحج فريضة من فرائض الإسلام ومن أعظم أركانه بالنص والإجماع.

قال الله تعالى: «عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ»(2) قال ابن عباس: من كفر باعتقاده أنه غير واجب(3).

وسأل علي بن جعفر أخاه الكاظم (عليه السلام)، عن قوله تعالى: (ومن كفر قال: قلت: ومن لم يحج منا فقد كفر؟ قال:

ص: 80


1- المبسوط: ج 1 ص 296 - 297
2- آل عمران: 97
3- المغني والشرح الكبير 3: 164

(لا، ولكن من قال ليس هذا هكذا فقد كفر)(1).

وقال تعالى: «وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ»(2).

وما رواه العامة عن النبي (صلى الله عليه وآله)، قال:

«بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم شهر رمضان وحج البيت»(3) ذكر فيها لحج.

وعن ابن عباس قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وآله، فقال:

(يا أيها الناس إن الله كتب عليكم الحج) فقام الأقرع بن حابس فقال: أفي كل عام يا رسول الله؟ فقال:

(لو قلتها لوجبت ولو وجبت لم تعملوا بها، الحج مرة فمن زاد فتطوع)(4).

ومن طريق الخاصة: ما رواه الحلبي - في الصحيح - عن الصادق (عليه السلام)، قال:

«إذا قدر الرجل على ما يحج به ثم دفع ذلك وليس له شغل يعذره به فقد ترك شريعة من شرائع الإسلام»(5).

وعن ذريح المحاربي - في الصحيح - عن الصادق عليه السلام، قال: من مات ولم يحج حجة الإسلام ولم تمنعه من ذلك حاجة تجحف به أو مرض لا

ص: 81


1- الكافي 4: 265 - 266 / 5، التهذيب 5: 16/ 48، الإستبصار 2: 149 / 488
2- البقرة: 196
3- سنن الترمذي 5: 5 / 2609، سنن البيهقي 4: 81، مسند أحمد 2، 93، 120
4- سنن البيهقي 4: 326، المستدرك - للحاكم - 2: 293
5- التهذيب 5: 18/ 54

يطيق فيه الحج أو سلطان يمنعه فليمت يهوديا أو نصرانيا(1). وقد أطبقت الأمة كافة على وجوب الحج على جامع الشرائط في العمر مرة واحدة)(2).

ثالثاً - الشيخ مرتضى الانصاري (عليه الرحمة والرضوان) (ت 1281 ه):

قال (رحمه الله) في وجوب الحج:

(فالواجب ابتداء من قبل الله تعالى بأصل الشرع الإتيان به مرة واحدة بلا خلاف بين المسلمين كما في التهذيب)(3).

ولذا: حمل أخبار الوجوب على أهل الجدة في كلّ عام، على وجوبه في الأعوام على البدل، لا عينا(4). مضافا إلى الأصل والأخبار.

منها: ما في علل الفضل بن شاذان، عن مولانا أبي الحسن الرضا (عليه السّلام):

«وإنما أمروا بحجّة واحدة لا أكثر؛ لأنّ الله تعالى وضع الفرائض على أدنى القوم»(5). رواه الصدوق في العيون، بسنده الحسن عن الفضل(6).

ومنه يظهر أنّ المحكيّ عنه في علل الشرائع: من القول بوجوبه على المستطيع كلّ عام(7) محمول على الاستحباب المؤكَّد، وإن كان يأبى عن ذلك الاحتجاج له بما في مرفوعة الميثمي من: أنّ في كتاب الله عزّ وجلّ فيما انزل:

ص: 82


1- الكافي 4: 268/ 1، الفقیه 2: 273/ 1333، التهذيب 5: 462 / 1610
2- تذكرة الفقهاء: ج 7 ص 8 - 9
3- التهذيب: ج 5 ص 16 ذيل الحديث 45
4- التهذيب 5: 16 ذيل الحديث 48
5- الوسائل 11: 19 أبواب وجوب الحج ب 3 ح 1 - 3
6- عيون أخبار الرضا عليه السّلام 2: 120 / 1 بتفاوت يسير
7- علل الشرائع: 405 ذيل الحديث 5، وحكاه عنه الاصفهاني في كشف اللثام 5: 9

«وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ»، في كلّ عام «مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا»(1).

ووجوبه (على الفور) اتّفاقا ظاهرا، كما عن الناصريّات والخلاف وشرح الجمل للقاضي والتذكرة وصريح المدارك وظاهر كشف اللثام(2). واستدلّ عليه في المعتبر بأنّ التأخير تعريض لنزول العقاب لو اتّفق الموت، فتجب المبادرة صونا للذمّة عن الاشتغال، وبقول النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلم):

«من مات ولم يحجّ فلا عليه أن يموت يهوديّا أو نصرانيّا»(3). قال: والوعيد مطلقا دليل التضييق(4).

أقول: وبمضمون النبويّ أخبار مستفيضة أوضح.

منها ما رواه الشيخ في الصحيح، عن ذریح المحاربي، عن أبي عبد الله (عليه السّلام) قال:

«من مات ولم يحجّ حجّة الإسلام، ولم يمنعه عن ذلك حاجة تجحفه، ولا مرض لا يطيق فيه الحجّ، ولا سلطان يمنعه، فليمت يهوديّا أو نصرانيّا»(5).

وموثّقة أبان بن عثمان، عن أبي بصير، إنّ:

«من مات وهو صحيح موسر لم يحجّ، فهو ممّن قال الله عزّ وجلّ:

ص: 83


1- آل عمران: 97
2- الناصريّات: 305، الخلاف 2: 257، المسألة 22، شرح جمل العلم والعمل: 207، التذكرة 7: 17 المسألة 8، المدارك 7: 17، کشف اللثام 5: 9
3- الوسائل 11: 32 أبواب وجوب الحجّ ب 7 ح 5 (فيه عن المعتبر)
4- المعتبر 2: 746
5- التهذيب 5: 17/ 49 (بتفاوت يسير)

«وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى»(1) قلت: سبحان الله أعمى قال:

«نعم، أعماه الله عن طريق الجنّة»(2).

وفي رواية زيد الشحّام قلت: لأبي عبد الله (عليه السّلام) التاجر يسوّف الحجّ؟ قال:

«ليس له عذر، فإن مات فقد ترك شريعة من شرائع الإسلام»(3).

وفي صحيحة معاوية بن عمّار: «وإن كان سوّفه للتجارة فلا يسعه، وإن مات على ذلك فقد ترك شريعة من شرائع الإسلام، إذا هو يجد ما يحجّ به، وان كان دعاه قوم أن يحجّوه، فاستحيى فلم يفعل فإنّه لا يسعه إلَّا الخروج ولو على حمار أجدع أبتر. وسألته عن قول الله تعالى:

(ومَن كَفَرَ)(4) قال: ومن ترك»(5).

وصحيحته الأخرى، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السّلام) عن رجل له مال ولم يحجّ قطَّ؟ قال:

«هو ممّن قال الله: (ونحشره يوم القيامة اعمى).

وفي صحيحة الحلبيّ عن أبي عبد الله (عليه السّلام):

ص: 84


1- طه: 124
2- الكافي 4: 269/ 6، التهذيب 5: 18/ 51، الوسائل 11: 27 أبواب وجوب الحجّ ب 6 ح 7 (في المصادر بتفاوت يسير)
3- الكافي 4: 269 / 3، التهذيب 5: 17 - 18 / 50، الوسائل 11: 27 أبواب وجوب الحج ب 6 ح 6
4- آل عمران: 97
5- التهذيب 5: 18 / 52، الوسائل 11: 25 أبواب وجوب الحجّ ب 6 ح 1 وب 10 ح 3 وب 7 ح 2، (وردت فيها مقطَّعة بالترتيب المذكور)

«إذا قدر الرجل على ما يحجّ به، ثمّ دفع ذلك، وليس له شغل يعذر به فقد ترك شريعة من شرائع الإسلام»(1).

وفي رواية الصدوق، عن محمّد بن الفضيل، قال: سألت أبا الحسن (عليه السّلام) عن قول الله تعالى؟:

«وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى»(2) قال:

«نزلت فيمن سوّف الحجّ، حجّة الإسلام وعنده ما يحجّ به، فقال: العام أحج، العام أحجّ، حتى يموت قبل أن يحجّ»(3).

ونحوها رواية أبي بصير في الكافي(4).

وعن علي بن أبي حمزة، عن الصادق (عليه السّلام)، إنّه قال:

«من قدر على ما يحجّ به وجعل يدفع ذلك، وليس له عنه شغل يعذره: الله حتى جاء الموت، فقد ضيّع شريعة من شرائع الإسلام»(5).

ظاهر هذه الأخبار بعد ضمّ بعضها إلى بعض، بل صريح بعضها، هو مفاد ما ذكره المحقّق من الاستدلال العقليّ، وحاصله وجوب المبادرة؛ لئلَّا يحصل الإخلال به من غير عذر فيستحقّ العقاب(6).

وهذا المقدار لا يدلّ إلَّا على الفور من باب الاحتياط، فلو وثق بل علم بعدم حصول الترك منه في السنة المستقبلة فلا إثم.

ص: 85


1- التهذيب 5: 18 / 54، الوسائل 11: 26 أبواب وجوب الحج ب 6 ح 3
2- الإسراء: 72
3- الفقیه 2: 273 / 1331
4- الكافي 4: 268 - 269 / 2
5- الفقيه 2: 273 - 274 / 1334، الوسائل 11: 28 أبواب وجوب الحج ب 6 ح 9
6- المعتبر 2: 746

وهذا غير الفوريّة بمعنى وجوب التعجيل بالذات، نظير ردّ الحقوق، ليترتّب عليه ما ذكروه من استحقاق العقاب بالتأخير ولو لم يترك. بل صرّح في الشرائع وغيره، بكون التأخير كبيرة موبقة(1).

وكيف كان فإثبات وجوب التعجيل بذاته بالأخبار مشكل. والمتيقّن وجوب التعجيل احتياطا. فلو أخّر واتّفق أنّه حجّ في المستقبل فقد عصى بالتجرّي. ولا يبعد أن يكون التجرّي على مثل هذه المعصية أيضا كبيرة؛ لأنّ قبحه تابع لقبح أصل الفعل.

أمّا لو علم أو وثق بحصول الحجّ منه في المستقبل فلا معصية، بناء على ما ذكرنا، حتى لو اتّفق الموت؛ لعدم حصول التجريّ.

نعم، ظاهر الإجماعات المتقدّمة هو القول بالفوريّة الشرعيّة، مع احتمال تنزيل كلماتهم على ما ذكره المحقّق من الفوريّة العقليّة؛ لأنّ المآل عدم الوثوق.

وربّما يستدلّ على الفوريّة بما دلّ من الأخبار على انّ المستطيع لا يجوز أن يحجّ عن غيره نيابة(2).

وفيه: أنّه يجوز أن يكون ذلك لمجرّد الحكم الوضعيّ، لا لأجل التكليف بالحجّ فورا، ولذا حكي عن الحلَّي عدم جواز النيابة ولو لم يجب عليه الحجّ في تلك السنة لعذر(3)، مع قوّة احتمال حمل تلك الأخبار على الغالب: من عدم الوثوق بعدم طروّ العذر، فيجب البدار حينئذ بحكم العقل.

هذا بالنسبة إلى أصل الحجّ.

ص: 86


1- شرائع الإسلام 1: 223، المسالك 2: 122، الروضة 2: 161
2- کشف اللثام 5: 9
3- حكاه الاصفهاني في كشف اللثام 5: 153؛ انظر السرائر 1: 626

وامّا الخروج له في السنة الأولى كما صرّح به في الروضة(1)، فهل يجب مع الرفقة الأولى مطلقا؟ أو بشرط عدم الوثوق بخروج رفقة أخرى؟ - كما في لدروس-(2) أو لا يجب مطلقا إلاَّ إذا قطع بعدم خروج رفقة أخرى؟ - کما قوّاه في المدارك -(3) وجوه: خيرها أوسطها؛ لأنّ محصّل ما دلّ على عقاب من تركها لغير عذر هو وجوب الاحتياط عند عدم الوثوق بالتمكَّن في الزمان الثاني، ولا دليل على فوريّة الخروج شرعا، حتّى يجب المبادرة ولو مع الوثوق، بل عرفت الإشكال في فوريّة أصل الحجّ شرعا)(4).

المسألة الثانية: أقوال فقهاء المذاهب الاخرى في وجوب الحج.

اولاً - المذهب الزيدي.

قال احمد المرتضى (ت 840 ه) في وجوب الحج:

(الأصل فيه من الكتاب قوله تعالى والله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن السنة قوله (صلى الله عليه وآله):

«حجوا قبل أن لا تحجوا» والاجماع فيه ظاهر(5).

ثانياً - المذهب الشافعي.

قال إمام الشافعية في كتابه الأم:

ص: 87


1- الروضة 2: 161
2- الدروس1: 314
3- المدارك 7: 18
4- كتاب الحج: للشيخ الانصاري: ص 6 - 11
5- شرح الازهار: ج 2 ص 59

(أصل إثبات فرض الحج خاصة في كتاب الله تعالى، ثم في سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقد ذكر الله عز وجل الحج في غير موضع من كتابه فحكى أنه قال لابراهيم (عليه السلام):

«وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ»، وقال تبارك وتعالى:

«آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ» مع ما ذكر به الحج.

والآية التي فيها بيان فرض الحج على من فرض عليه، قال الله جل ذكره:

«وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ»، وقال:

«وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّه» وهذه الآية موضوعة بتفسيرها في العمرة)(1).

ثالثاً - المذهب المالكي.

قال ابن ابي يزيد القيراوني (ت 389 ه) في وجوب الحج:

(وحج بيت الله الحرام الذي ببكة فريضة على كل من استطاع الى ذلك سبيلا من المسلمين الاحرار البالغين مرة في عمره، والسبيل الطريق السابلة، والزاد المبلغ الى مكة، والقوة على الوصول الى مكة إما راكباً أو راجلاً مع صحة البدن)(2).

ص: 88


1- کتاب الام للشافعي: ج 2 ص 119
2- رسالة ابن أبي زيد القيرواني: ص 360

رابعاً - المذهب الحنفي.

قال السرخسي المتوفي (483 ه):

(وفريضة الحج ثابتة بالكتاب والسنة أما قوله تعالى: «فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا».

وأكد ما يكون من ألفاظ الإلزام كلمة (على) وأما السنة، فقول رسول الله (صلى الله عليه وآله):

«من وجد زاداً وراحلة يبلغانه بيت الله تعالى ولم يحج حتى مات فليمت ان شاء يهوديا وان شاء نصرانيا».

وفي رواية: «فليمت على أي ملة شاء سوى ملة الاسلام» وتلا قوله تعالى «وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ».

وسبب وجب الحج ما أشار الله تعالى اليه في قوله «حِجّ البَيتِ» فالواجبات تضال الى اسبابها ولهذا لا يجب في العمر الا مرة واحدة لان سببه هو البيت غير متكرر والاصل فيه حديث الاقرع بن حابس حيث قال:

يا رسول الله الحج في كل عام أم مرة؟

فقال (صلى الله عليه وآله ):

«بل مرة فنا زاد فتطوع»

والوقت فيه شرط الاداء وليس ط الاداء وليس سبب. ولهذا لا يتكرر بتكرر الوقت)(1).

ص: 89


1- المبسوط للسرخسي: ج 4 ص 2

خامساً - المذهب الحنبلي.

قال ابن قدامة المقدسي (ت 620 ه) في بيان وجوب الحج:

(والحج في الشرع اسم لافعال مخصوصة، وهو أحد الاركان الخمسة التي بني عليها الاسلام، والأصل في وجوبه الكتاب والسنة والاجماع؛ أما الكتاب فقول الله تعالى:

«وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ».

وروى عن ابن عباس (ومن كفر باعتقاده انه غير واجب)؛ وقال الله تعالى:

«وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ»؛ وأما السنة فقوله النبي (صلى الله عليه وآله):

«بني الاسلام على خمس» وذكر فيها الحج؛ وروى مسلم باسنادة عن ابي هريرة، قال: (خطبنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال:

«يا ايها الناس قد فرض عليكم الحج فحجوا»، فقال رجل أكل عام يا سول الله؟

فسكت، حتى قالها ثلاثاً؟

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله):

«لو قلت: نعم لوجبت، ولما استطعتم، ثم قال: ذروين ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم، واختلافهم على انبيائهم فإذا امرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه»؛ في اخبار كثيرة سوى هذين، واجمعت الامة على وجوب الحج على المستطيع في العمرة مرة واحدة)(1).

ص: 90


1- المغني لابن قدامة: ج 3 ص 159

سادساً - المذهب الإباضي.

قال الشماخي في بيان وجوب الحج والعمرة فهي واجبة - أي العمرة. عند الاباضية كوجوب الحج، فيقول: والحج واجب بشروطه بأجماع الأمة والكتاب والسنّة.

أما الكتاب، فقوله عز وجل:

«وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا»(1)، وقوله: «وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ» ففي هذه الآية دليل على وجوب الحج والعمرة جميعاً؛ وقال بعض: العمرة نافله، واحتجوا بقراءة ابن مسعود:

«وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ» بنصب الحج ورفع العمرة، ويقول: أتموا الحج وقع عليه الفعل فنصب، والعمرة مبتدأ فارتفع، يقول: والعمرة الله تطوع، والعامة من العلماء إن الحج و العمرة فريضتان وهو المأخوذ به عند أصحابنا، وقال جابر بن زيد: ليس الحج في السنة إلا مرة واحدة ولا العمرة إلا مرة واحدة.

وأما الدليل من السنة على وجوب الحج، فما روي أنه (صلى الله عليه وآله) قال في الحديث المشهور:

«بني الاسلام على خمس، على أن يوحد الله تعالى، واقام الصلاة، وايتاء الزكاة، وصيام شهر رمضان، وحج بيت الله الحرام من استطاع اليه سبيلاً».

ص: 91


1- آل عمران: 97

وما روي انه قال (صلى الله عليه وآله):

«من وجد سبيلاً الى الحج ثم لم يحج فليمت يهودياً أو نصرانياً، وان شاء فليمت ميتة جاهلية فقد وجبت له النار، كما وجبت لليهود والنصارى والكفار»(1). فهذا دليل على وجوبه)(2)

ص: 92


1- البقرة: 196
2- الايضاح للشاخي: ج 2 ص 227 - 228

المبحث الثالث فضلُ الحَجّ

1- قال (عليه الصلاة والسلام):

«والحَجُّ جهادُ کُلِّ ضَعیفٍ»(1).

2- وقال (عليه الصلاة والسلام):

«والْحَجَّ تَقْرِبَهً لِلدِّینِ»(2).

3- ومن خطبة له (عليه الصلاة والسلام) في الحج، أنه قال:

«وَفَرَضَ عَلَیْکُمْ حَجَّ بَیْتِهِ الْحَرَامِ، الَّذِی جَعَلَهُ قِبْلَهً لِلْأَنَامِ یَرِدُونَهُ وُرُودَ الأَنْعَامِ، وَیَأْلَهُونَ إِلَیْهِ وُلُوهَ الْحَمَامِ وَجَعَلَهُ سُبْحَانَهُ عَلَامَهً لِتَوَاضُعِهِمْ لِعَظَمَتِهِ وَإِذْعَانِهِمْ لِعِزَّتِهِ، وَاخْتَارَ مِنْ خَلْقِهِ سُمَّاعاً أَجَابُوا إِلَیْهِ دَعْوَتَهُ وَصَدَّقُوا کَلِمَتَهُ وَوَقَفُوا مَوَاقِفَ أَنْبِیَائِهِ وَتَشَبَّهُوا بِمَلَائِکَتِهِ الْمُطِیفِینَ بِعَرْشِهِ، یُحْزِرُونَ الْأَرْبَاحَ فِی مَتْجَرِ عِبَادَتِهِ، وَیَتَبَادَرُونَ عِنْدَ مَوْعِدَ مَغْفِرَتِهِ...»(3).

4- ومن وصية له للإمامين الحسن والحسين (عليهم الصلاة والسلام أجمعين) أنه قال:

ص: 93


1- نهج البلاغة، الحكمة: 136 بتحقيق صبحي الصالح: ص 494
2- المصدر السابق، الحكمة (252)
3- نهج البلاغة بتحقيق صبحي الصالح، الخطبة الاولى: ص 45

«وَاللَّهَ اللَّهَ فِي بَيْتِ رَبِّكُمْ ، لاتُخَلُّوهُ مَا بَقِيتُمْ، فَإِنَّهُ إِنْ تُرِكَ لَمْ تُنَاظَرُوا»(1).

المسألة الاولى: فضل الحج في المذهب الإمامي.

تناول فقهاء المذهب الإمامي (اعلى الله شأنهم) في مصنفاتهم الفقيهة، وفي كتاب الحج، مسألة بيان فضله، وقد جاءت أقوالهم لا سيما في الموسوعات الفقهية بين الإسهاب في البيان أو الاجمال، منذ الشيخ المفيد(2) (عليه الرحمة والرضوان)، أي: من القرن الرابع للهجرة النبوية والى وقتنا الحاضر.

وعليه:

سنكتفي بإيراد قولين من هذه الأقوال والمصنفات الكثيرة، وهما كالاتي:

اولاً - المحقق البحراني (ت 1186 ه) (عليه الرحمة والرضوان).

قال (عليه الرحمة والرضوان) وقد خصص فصلاً لهذا الامر، وتحت عنوان:

(في جملة من الاخبار الدالة على فضل الحج وما فيه من الثواب، منها:

ما رواه ثقة الاسلام في الكافي عن سعد الإسكاف، ورواه في التهذيب ايضاً بسنده عنه قال سمعت ابا جعفر (عليه السلام) يقول:

«إن الحاج إذا أخذ في جهازه لم يخط خطوة في شئ من جهازه إلا كتب الله له عشر حسنات ومحا عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات حتى يفرغ من جهازه متى ما فرغ، فإذا استقلت به راحلته لم تضع خفا ولم ترفعه إلا

ص: 94


1- نهج البلاغة بتحقيق صبحي الصالح: 422
2- المقنعة: ص 386

كتب الله عز وجل له مثل ذلك حتى يقضي نسكه فإذا قضى نسكه غفر الله له ذنوبه، وكان ذا الحجة والمحرم وصفر وشهر ربيع الأول أربعة أشهر يكتب الله له الحسنات ولا يكتب عليه السيئات إلا أن يأتي بموجبة فإذا مضت الأربعة الأشهر خلط بالناس».

وفي رواية التهذيب هكذا:

(غفر الله له ذنوبه بقية ذي الحجة والمحرم وصفر وشهر ربيع الأول فإذا مضت . . . )، إلى آخره.

ولعل المراد ب موجبة على رواية الكافي يعني بما يوجب النار من الكبائر، وعلى هذا فتكون السيئات التي لا تكتب مخصوصة بالصغائر، وعلى ما ذكرنا يدل الخبر الآتي صريحا:

ومنها - ما رواه الشيخ في التهذيب في الصحيح عن معاوية بن عمار عن - أبي عبد الله عن أبيه عن آبائه عليهم السلام(1):

«أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لقيه أعرابي فقال له:

يا رسول الله صلى الله عليه وآله إني خرجت أريد الحج ففاتني وأنا رجل مميل فمرني أن أصنع في مالي ما أبلغ به مثل أجر الحاج؟

قال: فالتفت إليه رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقال له:

«أنظر إلى أبي قبيس، فلو أن أبا قبيس لك ذهبة حمراء أنفقته في سبيل الله ما بلغت به ما يبلغ الحاج».

ص: 95


1- الوسائل الباب 42 من وجوب الحج وشرائطه

ثم قال: «إن الحاج إذا أخذ في جهازه لم يرفع شيئا ولم يضعه إلا كتب الله عز وجل له عشر حسنات ومحا عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات، فإذا ركب بعيره لم يرفع خفا ولم يضعه إلا كتب الله له مثل ذلك، فإذا طاف بالبيت خرج من ذنوبه، فإذا سعى بين الصفا والمروة خرج من ذنوبه، فإذا وقف بعرفات خرج من ذنوبه، فإذا وقف بالمشعر الحرام خرج من ذنوبه، فإذا رمى الجار خرج من ذنوبه».

قال: فعدد رسول الله (صلى الله عليه وآله) كذا وكذا موقفا إذا وقفها الحاج خرج من ذنوبه.

ثم قال: «أنى لك أن تبلغ ما يبلغ الحاج».

قال أبو عبد الله عليه السلام: ولا تكتب عليه الذنوب أربعة أشهر وتكتب له الحسنات إلا أن يأتي بكبيرة».

قال في الوافي بعد نقل الخبر:

للذنوب أنواع مختلفة في التأثير والتكدير ومراتب متفاوتة في الصغر والكبر فلعله بكل فعل وموقف يخرج من نوع أو مرتبة منها إلى أن يطهر منها جميعا، وفي الحديث: إن من الذنوب ذنوبا لا يكفرها إلا الوقوف بعرفة. انتهى.

أقول: ومن المحتمل قريبا - بل لعله أقرب ما ذكره (قدس سره) - أن الغرض من ذلك هو بيان فضل هذه المواقف وأن كل موقف منها مكفر للذنوب كملا بمعنى أنه لو كان ذا ذنوب لكفرت به لا حصول التكفير بالفعل لتحصل المنافاة بينها ويحتاج إلى الجمع بما ذكره، وهذا مبني على

ص: 96

الموازنة في الأعمال والتكفير وحينئذ فإذا كان ثواب الموقف الأول كفر جميع ذنوبه وأسقطها بقي له ثواب المواقف التي بعده سالمة من المقابلة بالذنوب فتكتب له كملا. والله العالم.

ومنها - ما رواه الشيخ في التهذيب والصدوق في الفقيه في الصحيح عن محمد بن قيس(1) قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) وهو يحدث الناس بمكة فقال:

«إن رجلا من الأنصار جاء إلى النبي (صلى الله عليه وآله) يسأله فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله:

«إن شئت فاسأل وإن شئت أخبرتك عن ما جئت تسألني عنه».

فقال أخبرني يا رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال:

«جئت تسألني ما لك في حجتك وعمرتك؟ فإن لك إذا توجهت إلى سبيل الحج ثم ركبت راحلتك ثم قلت بسم الله والحمد لله ثم مضت راحلتك لم تضع خفا ولم ترفع خفا إلا كتب الله لك حسنة ومحا عنك سيئة، فإذا أحرمت ولبيت كان لك بكل تلبية لبيتها عشر حسنات ومحي عنك عشر سيئات.

فإذا طفت بالبيت الحرام أسبوعا كان لك بذلك عند الله عز وجل عهد وذخر يستحي أن يعذبك بعده أبدا، فإذا صليت الركعتين خلف المقام كان لك بها ألفا حجة متقبلة، فإذا سعيت بين الصفا والمروة كان لك مثل أجر من حج ماشيا من بلده ومثل أجر من أعتق سبعين رقبة مؤمنة، فإذا وقفت

ص: 97


1- الوسائل الباب 2 من أقسام الحج

بعرفات إلى غروب الشمس فإن كان عليك من الذنوب مثل رمل عالج أو بعد نجوم السماء أو قطر المطر يغفرها الله تعالى لك.

فإذا رميت الجمار كان لك بكل حصاة عشر حسنات تكتب لك فيما يستقبل من عمرك، فإذا حلقت رأسك كان لك بكل شعرة حسنة تكتب لك فيما يستقبل من عمرك، فإذا ذبحت هديك أو نحرت بدنتك كان لك بكل قطرة من دمها حسنة تكتب لك فيما يستقبل من عمرك، فإذا زرت البيت وطفت به أسبوعا وصليت الركعتين خلف المقام ضرب ملك على كتفيك ثم قال لك: قد غفر الله لك ما مضى وفيما يستقبل ما بينك وبين مائة وعشرين يوما».

ما رواه في الكافي عن خالد القلانسي عن أبي عبد الله (عليه السلام)(1) قال: قال علي بن الحسين (عليه السلام):

«حجوا واعتمروا تصح أبدانكم وتتسع أرزاقكم وتكفون مؤنات عيالاتكم».

وقال: الحاج مغفور له وموجوب له الجنة ومستأنف له العمل ومحفوظ في أهله وماله.

وما رواه في الكافي والفقيه عن إسحاق بن عمار(2) قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) إني قد وطنت نفسي على لزوم الحج كل عام بنفسي أو برجل من أهل بيتي بمالي؟ فقال:

ص: 98


1- الوسائل الباب 1 من وجوب الحج وشرائطه
2- الوسائل الباب 46 من وجوب الحج وشرائطه

«وقد عزمت على ذلك؟ قال قلت نعم. قال إن فعلت فأيقن بكثرة المال والبنين أو أبشر بكثرة المال».

وما رواه في الكافي والتهذيب في الصحيح عن معاوية بن عمار(1) قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام):

«الحجاج يصدرون على ثلاثة أصناف: صنف يعتق من النار وصنف يخرج من ذنوبه كهيئة يوم ولدته أمه، وصنف يحفظ في أهله وماله فذلك أدنى ما برجع به الحاج».

وما رواه في الكافي عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام)(2) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم ):

«الحاج ثلاثة: فأفضلهم نصيبا رجل غفر له ذنبه ما تقدم منه وما تأخر ووقاه الله عذاب القبر، وأما الذي يليه فرجل غفر له ذنبه ما تقدم منه ويستأنف العمل في ما بقي من عمره، وأما الذي يليه فرجل حفظ في أهله وماله».

وما رواه في الكتاب المذكور في الصحيح عن العلاء عن رجل عن أبي عبد الله (عليه السلام)(3) قال:

«إن أدنى ما يرجع به الحاج الذي لا يقبل منه أن يحفظ في أهله وماله. قال قلت بأي شئ يحفظ فيهم؟ قال: لا يحدث فيهم إلا ما كان يحدث فيهم وهو مقيم معهم».

ص: 99


1- الوسائل الباب 38 من وجوب الحج وشرائطه
2- الوسائل الباب 38 من وجوب الحج وشرائطه
3- الوسائل الباب 38 من وجوب الحج وشرائطه

وما رواه في الفقيه مرسلا(1) قال: قال الصادق (علیه السلام):

«لما حج موسى (عليه السلام) نزل عليه جبرئيل عليه السلام فقال له موسى: يا جبرئيل ما لمن حج هذا البيت بلا نية صادقة ولا نفقة طيبة؟ قال أدري حتى أرجع إلى ربي عز وجل فلما رجع قال الله عز وجل يا جبرئيل ما قال لك موسى (عليه السلام)؟ - وهو أعلم بما قال - قال يا رب قال لي ما لمن حج هذا البيت بلا نية صادقة ولا نفقة طيبة؟

قال الله عز وجل ارجع إليه وقل له أهب له حقي وأرضي عنه خلقي. فقال يا جبرئيل ما لمن حج هذا البيت بنية صادقة ونفقة طيبة؟ قال فرجع إلى الله عز وجل فأوحى الله تعالى إليه قل له أجعله في الرفيق الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا. إلى غير ذلك من الأخبار التي يضيق عن نقلها المقام»(2).

ثانياً - السيد محمد كاظم اليزدي (عليه الرحمة والرضوان):

قال في العروة الوثقى:

(فصل في فضل الحج الذي هو أحد أركان الدين ومن أوكد فرائض المسلمين.

قال الله تعالى: «وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا»(3).

غير خفي على الناقد البصير ما في الآية الشريفة من فنون التأكيد،

ص: 100


1- الوسائل الباب 52 من وجوب الحج وشرائطه
2- الحدائق الناظرة للمحقق البحراني: ج 14 ص 15 - 19
3- آل عمران: 97

وضروب الحث والتشديد، ولا سيما ما عرض به تارکه من لزوم کفره وإعراضه عنه بقوله عز شأنه: «وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ»(1).

وعن الصادق (عليه السلام) في قوله عز من قائل:

(من كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا) ذاك الذي يسوف الحج، يعني حجة الإسلام حتى يأتيه الموت(2).

وعنه (عليه السلام):

«من مات وهو صحيح موسر لم يحج فهو ممن قال الله تعالى: (ونحشره يوم القيامة أعمى»)(3).

وعنه (عليه السلام): «من مات ولم يحج حجة الإسلام لم يمنعه من ذلك حاجة تجحف به أو مرض لا يطيق فيه الحج أو سلطان يمنعه فليمت يهوديا أو نصرانيا»(4).

وفي آخر: «من سوف الحج حتى يموت بعثه الله يوم القيامة يهوديا أو نصرانیا»(5).

وفي آخر: «ما تخلف رجل عن الحج إلا بذنب وما يعفو الله أكثر»(6).

وعنهم (عليهم السلام) مستفيضاً:

ص: 101


1- آل عمران: 97
2- الوسائل 8: 17 باب 6 من أبواب وجوب الحج وشرائطه الحديث 5
3- الوسائل 8: 18 باب 6 من أبواب وجوب الحج وشرائطه الحديث 7
4- الوسائل 8: 19 باب 7 من أبواب وجوب الحج وشرائطه الحديث 1
5- الوسائل 8: 20 باب 7 من أبواب وجوب الحج وشرائطه الحديث 3
6- الوسائل 8: 97 باب 47 من أبواب وجوب الحج وشرائطه الحديث 2

«بني الإسلام على خمس: الصلاة والزكاة والحج والصوم والولاية»(1) والحج، فرضه ونفله عظيم فضله، خطير أجره، جزیل ثوابه، جليل جزاؤه. وكفاه ما تضمنه من وفود العبد على سيده، ونزوله في بيته ومحل ضيافته وأمنه. وعلى الكريم إكرام ضيفه وإجارة الملتجئ إلى بيته.

فعن الصادق (عليه السلام):

«الحاج والمعتمر وفد الله، إن سألوه أعطاهم، وإن دعوه أجابهم، وإن شفعوا شفعهم، وإن سكتوا بدأهم، ويعوضون بالدرهم ألف ألف درهم»(2).

وعنه (عليه السلام):

«الحج والعمرة سوقان من أسواق الآخرة اللازم لهما في ضمان الله، إن أبقاه أداه إلى عياله، وإن أماته أدخله الجنة»(3).

وفي آخر: «إن أدرك ما يأمل غفر الله له، وإن قصر به أجله وقع أجره على الله عز وجل»(4).

وفي آخر: «فإن مات متوجها غفر الله له ذنوبه، وإن مات محرما بعثه ملبيا، وإن مات بأحد الحرمين بعثه من الآمنين، وإن مات منصرفا غفر الله له جميع ذنوبه»(5).

وفي الحديث: «إن من الذنوب ما لا يكفره إلا الوقوف بعرفة»(6).

ص: 102


1- الكافي 2: 18 باب دعائم الإسلام الحديث 1، 3، 5، 7، 8
2- الوسائل 8: 68 باب 38 من أبواب وجوب الحج وشرائطه ذيل الحديث 15
3- الوسائل 8: 87 باب 45 من أبواب وجوب الحج وشرائطه الحديث 2
4- الوسائل 8: 69 باب 38 من أبواب وجوب الحج وشرائطه الحديث 22
5- الوسائل 8: 68 باب 38 من أبواب وجوب الحج وشرائطه الحديث 16
6- عدة الداعي: 47. نحوه

وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم) في مرضه الذي توفي فيه في آخر ساعة من عمره الشريف:

«يا أبا ذر اجلس بين يدي اعقد بيدك: من ختم له بشهادة أن لا إله إلا الله دخل الجنة - إلى أن قال: - ومن ختم له بحجة دخل الجنة، ومن ختم له بعمرة دخل الجنة(1)...» الخبر.

وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم):

«وفد الله ثلاثة: الحاج والمعتمر والغازي، دعاهم الله فأجابوه، وسألوه فأعطاهم»(2)

وسأل الصادق (عليه السلام) رجل في مسجد الحرام من أعظم الناس وزرا؟ فقال:

«من يقف بهذين الموقفين عرفة والمزدلفة وسعى بين هذين الجبلين ثم طاف بهذا البيت وصلى خلف مقام إبراهيم. ثم قال في نفسه: وظن أن الله لم يغفر له، فهو من أعظم الناس وزرا»(3).

وعنهم (عليهم السلام):

«الحاج مغفور له وموجوب له الجنة، ومستأنف به العمل، ومحفوظ في أهله وماله. وإن الحج المبرور لا يعدله شئ ولا جزاء له إلا الجنة. وإن الحاج يكون كيوم ولدته أمه. وإنه يمكث أربعة أشهر تكتب له الحسنات، ولا تكتب عليه السيئات إلا أن يأتي بموجبه، فإذا مضت الأربعة الأشهر خلط بالناس.

ص: 103


1- الدعائم 1: 219
2- المستدرك 8: 41 الحديث 25
3- الوسائل 8: 66 باب 38 من أبواب وجوب الحج وشرائطه الحديث 8

وإن الحاج يصدرون على ثلاثة أصناف: صنف یعتق من النار، وصنف يخرج من ذنوبه كهيئة يوم ولدته أمه، وصنف يحفظ في أهله وماله، فذلك أدنى ما يرجع به الحاج. وإن الحاج إذا دخل مكة وكل الله به ملکين يحفظان عليه طوافه وصلاته وسعيه، فإذا وقف بعرفة ضربا منكبه الأيمن، ثم قالا: أما ما مضى فقد كفيته، فانظر كيف تكون فيها تستقبل»(1).

في وفي آخر: «وإذا قضوا مناسكهم قيل لهم: بنیتم بنیانا فلا تنقضوه، کفیتم ما مضى فأحسنوا فيما تستقبلون»(2).

وفي آخر: «إذا صلى ركعتي طواف الفريضة يأتيه ملك فيقف عن يساره، فإذا انصرف ضرب بيده على كتفه فيقول: يا هذا أماما قد مضى فقد غفر لك، وأما ما يستقبل فجد»(3).

وفي آخر: «إذا أخذ الناس منازلهم بمنی نادى مناد: لو تعلمون بفناء من حللتم لأيقنتم بالخلف بعد المغفرة»(4).

وفي آخر: «إن أردتم أن أرضى فقد رضيت»(5).

وعن الثمالي قال: قال رجل لعلي بن الحسين (عليه السلام):

تركت الجهاد وخشونته ولزمت الحج ولينه، فكان متكئا فجلس، وقال:

ص: 104


1- الوسائل 8: 64 باب 38 من أبواب وجوب الحج وشرائطه الحديث 2، 9، 32، والمستدرك 8: 41، ذيل الحديث 22، الوسائل 8: 5 باب 1 من أبوابوجوب الحج وشرائطه الحديث 7
2- الدعائم 1: 294
3- الوسائل 8: 80 باب 42 من أبواب وجوب الحج وشرائطه الحديث 6
4- الوسائل 8: 65 باب 38 من أبواب وجوب الحج وشرائطه الحديث 4
5- الوسائل 8: 68 باب 38 من أبواب وجوب الحج وشرائطه ذيل الحديث 13

«ويحك! أما بلغك ما قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حجة الوداع، إنه لما وقف بعرفة وهمت الشمس أن تغيب، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):

«یا بلال قل للناس فلينصتوا»

فلما أنصتوا قال:

«إن ربكم تطول عليكم في هذا اليوم، فغفر لمحسنكم، وشفع محسنكم في مسيئكم فأفيضوا مغفورا لكم»(1).

وقال النبي (صلى الله عليه وآله) لرجل مميل فاته الحج والتمس منه ما به ينال أجره:

«لو أن أبا قبيس لك ذهبة حمراء فأنفقته في سبيل الله تعالى ما بلغت ما يبلغ الحاج».

وقال: «إن الحاج إذا أخذ في جهازه لم يرفع شيئا ولم يضعه إلا كتب الله له عشر حسنات، ومحا عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات، وإذا ركب بعيره لم يرفع خفا ولم يضعه إلا كتب الله له مثل ذلك، فإذا طاف بالبيت خرج من ذنوبه، فإذا سعى بين الصفا والمروة خرج من ذنوبه، فإذا وقف بعرفات خرج من ذنوبه، فإذا وقف بالمشعر خرج من ذنوبه، فإذا رمي الجمار خرج من ذنوبه».

قال: فعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) كذا وكذا موقفا إذا وقفها الحاج خرج من ذنوبه.

ص: 105


1- الوسائل 8: 65 باب 38 من أبواب وجوب الحج وشرائطه الحديث 5

ثم قال: «أني لك أن تبلغ ما يبلغ الحاج»(1).

وقال الصادق (عليه السلام):

«إن الحج أفضل من عتق رقبة بل سبعين رقبة(2) بل ورد أنه إذا طاف بالبيت وصلى ركعتيه كتب الله له سبعين ألف حسنة، وحط عنه سبعين ألف سيئة، ورفع له سبعين ألف درجة، وشفعه في سبعين ألف حاجة، وحسب له عتق سبعين ألف رقبة، قيمة كل رقبة عشرة آلاف درهم(3)، وإن الدرهم فيه أفضل من ألفي ألف درهم فيما سواه من سبيل الله تعالى(4)، وإنه أفضل من الصيام والجهاد والرباط، بل من كل شئ ما عدا الصلاة»(5).

بل في خبر آخر: «إنه أفضل من الصلاة أيضا»(6).

ولعله لاشتماله على فنون من الطاعات لم يشتمل عليها غيره حتى الصلاة التي هي أجمع العبادات، أو لأن الحج فيه صلاة، والصلاة ليس فيها حج أو لكونه أشق من غيره وأفضل الأعمال أحمزها، والأجر على قدر المشقة. ويستحب تكرار الحج والعمرة وإدمانها بقدر القدرة.

فعن الصادق (عليه السلام) قال: رسول الله (صلى الله عليه وآله):

«تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير

ص: 106


1- الوسائل 8: 79 باب 42 من أبواب وجوب الحج وشرائطه الحديث 1
2- الوسائل 8: 84 باب 43 من أبواب وجوب الحج وشرائطه الحديث 3
3- الوسائل 8: 84 باب 43 من أبواب وجوب الحج وشرائطه الحديث 3
4- الوسائل 8: 82 باب 42 من أبواب وجوب الحج وشرائطه الحديث 13
5- الوسائل 8: 76 باب 41 من أبواب وجوب الحج وشرائطه الحديث 1
6- الوسائل 8: 78 باب 41 من أبواب وجوب الحج وشرائطه الحديث 5

خبث الحديد»(1).

وقال (عليه السلام):

«حج تتری وعمرة تسعى يدفعن عيلة الفقر وميتة السوء»(2).

وقال علي بن الحسين (عليه السلام):

«حجوا واعتمروا تصح أبدانكم وتتسع أرزاقكم، وتكفون مؤنة عیالکم»(3). وكما يستحب الحج بنفسه كذا يستحب الإحجاج بماله.

فعن الصادق (عليه السلام):

«أنه كان إذا لم يحج أحج بعض أهله أو بعض مواليه، ويقول لنا: يا بني إن استطعتم فلا يقف الناس بعرفات إلا وفيها من يدعو لكم، فإن الحاج ليشفع في ولده وأهله وجيرانه».

وقال علي بن الحسين (عليه السلام):

«لإسحاق بن عمار لما أخبره أنه موطن على لزوم الحج كل عام بنفسه أو برجل من أهله بماله: فأيقن بكثرة المال والبنين، أو أبشر بكثرة المال»(4).

وفي كل ذلك روایات مستفيضة يضيق عن حصرها المقام، ويظهر من جملة منها أن تكرارها ثلاثا أو سنة وسنة لا إدمان(5). ويكره ترکه للموسر في كل خمس سنين.

ص: 107


1- الوسائل 8: 87 باب 45 من أبواب وجوب الحج وشرائطه الحديث 1
2- الوسائل 8: 88 باب 45 من أبواب وجوب الحج وشرائطه الحديث 3
3- الوسائل 8: 5 باب 1 من أبواب وجوب الحج وشرائطه الحديث 7
4- ثواب الأعمال: 70 (عن أبي عبد الله (عليه السلام))
5- الوسائل 8: 89 و 91 باب 45 من أبواب وجوب الحج وشرائطه الحديث 9 و 17

وفي عدة من الأخبار: «أن من أوسع الله عليه وهو موسر ولم يحج في كل خمس» وفي رواية: «أربع سنين إنه لمحروم»(1).

وعن الصادق (عليه السلام): «من أحج أربع حجج لم يصبه ضغطة القبر»)(2).

المسألة الثانية: فضل الحج في المذاهب الأخرى.

أولاً - المذهب الزيدي.

قال يحيى بن الحسين في بيان فضل الحج:

(إن الله تبارك وتعالى افترض على خلقه ما افترض عليهم من حجهم، وأمرهم فيه بأداء مناسكهم، فوجب عليهم ما أوجب ربهم، وكان ذلك فرضا على جميع العالمين، واجبا على جميع المؤمنين ليميز الله به المطيعين من العاصين، ويفرق به بين الكافرين والمؤمنين، وفي ذلك مايقول: رب العالمين:

«ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين»(3).

وقال سبحانه: «وأتموا الحج والعمرة لله»(4).

يقول تبارك وتعالى: قوموا بما افترض عليكم منه، وأدوا ما دخلتم فيه منها، وقوموا بما افترض الله على من دخل فيهما من جميع مناسكهما وفي ذلك ما قال الله تبارك وتعالى لنبيه إبراهيم الأواه الحليم، (عليه السلام):

ص: 108


1- الوسائل 8: 98 - 99 باب 49 من أبواب وجوب الحج وشرائطه الحديث 1 - 4
2- العروة الوثقی: ج 4 ص 316 - 322 بتحقيق و نشر مؤسسة النشر الاسلامي قم
3- آل عمران: 97
4- البقرة: 196

«وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ»(1).

فأمره صلى الله عليه ربه جل ذكره بالحج له إلى بيته الحرام، فحج کما أمره الله کما حج أبوه آدم (عليه السلام)، فحج إبراهيم (عليه السلام) بأهله والمؤمنين، حتى انتهى إلى بيت رب العالمين وأمره الله سبحانه بالأذان بالحج، فأذن ودعا إلى الله فأسمع وأجابه إلى ذلك من آمن بالله واتبع أمره)(2).

ثانياً - المذهب الشافعي.

قال النووي في بيان فضل الحج وقد أبتدأ القول بقول الله تعالى:

«وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا».

(وعن ابي هريرة قال: سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله) أي الأعمال و أفضل؟

قال:

«ایمان بالله ورسوله (صلى الله عليه وآله) قيل: ثم ماذا؟ قال:

«حجٍ مبرور». رواه البخاري ومسلم.

وعنه قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول:

«من جمع فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه» رواه البخاري ومسلم.

ص: 109


1- الحج: 47
2- الأحكام، ليحیی بن الحسين: ج 1 ص 271 - 272

وعنه قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):

«العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء الا الجنة» رواه البخاري ومسلم ، المبرور الذي لا معصية فيه.

وعن عائشة، قالت:

قلت: يا رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) نرى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد؟ قال:

لكن أفضل من الجهاد حج مبرور) رواه البخاري، وعنها أن رسول الله صلى الله عليه (واله) وسلم، قال:

(ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة)، رواه مسلم. وعن ابن عباس عنهما أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال:

(عمرة في رمضان تعدل حجة - أو حجة معي -)(1).

ثالثاً - المذهب الحنفي.

في المذهب الحنفي ورد بيان فضل الحج في بدائع الصانع، وذكر فيه ابو بکر الكاشاني (ت 587 ه) قال:

(وفي الحج اظهار العبودية وشكر النعمة أما اظهار العبودية فلان اظهار العبودية هو اظهار التذلل للمعبود وفي الحج ذلك لان الحاج في حال احرامه يظهر الشعث ويرفض أسباب التزين والارتفاق ويتصور بصورة عبد سخط عليه مولاه فيتعرض بسوء حاله لعطف مولاه و مرحمته إياه وفي حال وقوفه

ص: 110


1- المجموع للنووي: ج 7 ص 3

بعرفة بمنزلة عبد عصى مولاه فوقف بين يديه متضرعا حامدا له مثنيا عليه مستغفرا لزلاته مستقيلا لعثراته.

وبالطواف حول البيت يلازم المكان المنسوب إلى ربه بمنزلة عبد معتكف على باب مولاه لائذ بجنابه وأما شكر النعمة فلان العبادات بعضها بدنية وبعضها مالية والحج عبادة لا تقوم الا بالبدن والمال ولهذا لا يجب الا عند وجود المال وصحة البدن فكان فيه شكر النعمتين وشكر النعمة ليس الا استعمالها في طاعة المنعم وشكر النعمة واجب عقلا وشرعا والله أعلم)(1).

المسالة الثالثة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة.

أولاً - أمتازت أقوال فقهاء المذهب الإمامي (اعلى الله شأنهم) بسعة البيان لفضل الحج و السبب في ذلك يعود الى عدد الروايات الشريفة الواردة عن العترة النبوية (عليهم الصلاة والسلام) في بيان فضل الحج والحث على الامتثال له واجباً وندباً.

ثانياً- أما بقية المذاهب الاخرى فلم أعثر على بيان فضل الحج - بما توفر لدي من مصادر - ما يظهر فضل الحج عند ائمة المذاهب أو فقهائها؛ بل كان التركيز على بيان أحكام الحج والعمرة لا سيما في المذهب المالك والحنبلي والإباضي.

ثالثاً- أما المذهب الزيدي، والشافعي، والحنفي، فقد تفاوت الفقهاء في بيان فضل الحج بين الاختصار والسعة، كما مر بيانه.

ص: 111


1- بدائع الصانع: ج 2 ص 118

ص: 112

المبحث الرابع فوائد الحج وثماره

قال أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام):

« ألاَ تَرَوْنَ أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ اخْتَبَرَ الاْوَّلِينَ مِنْ لَدُنْ آدَمَ (علیه السلام) إِلَى الآخِرِينَ مِنْ هذا الْعَالَمِ بَأَحْجَارٍ لاَ تَضُرُّ وَلاَ تَنْفَعُ وَلاَ تُبْصِرُ وَلاَ تَسْمَعُ، فَعَجَلَهَا بَيْتَهُ الْحَرَامَ الَّذِي جَعَلَهُ لِلنَّاسِ قِيَاماً. ثُمَّ وَضَعَهُ بِأَوْعَرِ بِقَاعِ الاْرْضِ حَجَراً، وَأَقَلِّ نَتَائِقِ الدُّنْيَا مَدَراً، وَأَضْيَقِ بُطُونِ الاْوْدِيَةِ قُطْراً، بَيْنَ جِبَالٍ خَشِنَةٍ وَرِمَالٍ دَمِثَةٍ، وَعُيُونٍ وَشِلَةٍ وَقُرىً مُنْقَطِعَةٍ، لا يَزْكُو بِهَا خُفٌّ وَلاَ حَافِرٌ وَلاَ ظِلْفٌ ثُمَّ أَمَرَ آدَمَ (علیه السلام) وَوَلَدَهُ أَنْ يَثْنُوا أَعْطَافَهُمْ نَحْوَهُ، فَصَارَ مَثَابَةً لِمُنْتَجَعِ أَسْفَارِهمْ وَغَايَةً لِمُلْقَى رِحَالِهِمْ، تَهْوِي إِلَيْهِ ثِمَارُ الاْفْئِدَةِ مِنْ مَفَاوِزِ قِفَارٍ سَحِيقَةٍ، وَمَهَاوِي فِجَاجٍ عَمِيقَةٍ وَجَزَائِرِ بِحَارٍ مُنْقَطِعَةٍ، حَتَّى يَهُزُّوا مَنَاكِبَهُمْ ذُلُلاً، يُهَلِّلُونَ لله حَوْلَهُ وَيَرْمُلُونَ عَلَى أَقْدَامِهِمْ شُعْثاً غُبْراً لَهُ، قَدْ نَبَذُوا السَّرَابِيلَ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، وَشَوَّهُوا بِإِعْفَاءِ الشُّعُورِ مَحَاسِنَ خَلْقِهِمُ ابْتِلاَءً عَظِيماً وَامْتِحاناً شَدِيداً، وَاخْتِبَاراً مُبِيناً وَتَمْحِيصاً بَلِيغاً، جَعَلَهُ اللهُ سَبَباً لِرَحْمَتِهِ وَوُصْلَةً إِلَى جَنَّتِهِ. وَلَوْ أَرَادَ سُبْحَانَهُ أَنْ يَضَعَ بَيْتَهُ الْحَرَامَ وَمَشَاعِرَهُ الْعِظَامَ بَيْنَ جَنَّاتٍ وَأَنْهَارٍ وَسَهْلٍ وَقَرَارٍ، جَمَّ الاْشْجَارِ دَانِيَ الِّثمارِ، مُلْتَفَّ الْبُنَى مُتَّصِلَ الْقُرَى بَيْنَ بُرَّةٍ سَمْرَاءَ وَرَوْضَةٍ خَضْرَاءَ، وَأَرْيَافٍ مُحْدِقَةٍ وَعِرَاصٍ مُغْدِقَةٍ، وَريَاضٍ نَاضِرَةٍ وَطُرُقٍ عَامِرَةٍ، لَكَانَ قَدْ صَغُرَ قَدْرُ الْجَزَاءِ عَلَى حَسَبِ ضَعْفِ الْبَلاَءِ. وَلَوْ كَانَ

ص: 113

الاْسَاسُ الْمَحْمُولُ عَلَيْهَا وَالاْحْجَارُ الْمَرْفُوعُ بِهَا بَيْنَ زُمُرُّدَةٍ خَضْرَاءَ وَيَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ وَنُورٍ وَضِيَاءٍ، لَخَفَّفَ ذلِكَ مُضَارَعَةَ الشَّكِّ فِي الصُّدُورِ، وَلَوَضَعَ مُجَاهَدَةَ إبْلِيسَ عَنِ الْقُلُوبِ، وَلَنَفَى مُعْتَلَجَ الرَّيْبِ مِنَ الْنَّاسِ، وَلكِنَّ اللهَ يَخْتَبِرُ عِبَادَهُ بِأَنْوَاعِ الشَّدَائِدِ، وَيَتَعَبَّدُهُمْ بِأَنْوَاعِ الْمَجَاهِدِ، وَيَبْتَلِيهِمْ بِضُرُوبِ الْمَكَارِهِ إِخْرَاجاً لِلتَّكَبُّرِ مِنْ قُلُوبِهِمْ، وَإِسْكَاناً لِلتَّذَلُّلِ فِي نُفُوسِهمْ، وَلِيَجْعَلْ ذلِكَ أَبْوَاباً فُتُحاً إِلَى فَضْلِهِ، وَأَسْبَاباً ذُلُلاً لِعَفْوِهِ»(1).

توطئة:

لم تتصدر أمات كتب فقهاء المذاهب الاخرى فوائد الحج وثماره، وهو امر تكرر وجوده في كثير من مسائل الفقه كما مر وسيمر.

إلا أنني وجدت أن الامر يختلف كليا لدى فقهاء المذهب الامامي (أعلى الله شأنهم)، فقد تناولت مصنفات فقهاء المذهب قديماً وحديثاً بيان العديد من المسائل الفقيه التي لم يخض فيها فقيه من فقهاء المذاهب الستة، ومنها فوائد الحج وثماره الدنيوية والاخروية، فكان من أقوالهم، ما يلي:

المسألة الأولى: أقوال فقهاء الذهب الإمامي في فضل الحج وثماره.

لقد تعددت أقوال فقهاء المذهب في هذه المسالة قديما وحديثا، فاخترنا منها ثلاثة أقوال، وهي:

أولاً - المحقق ابن المطهر الحلي (رحمة الله) (ت: 726 ه)

قال (رحمه الله) في بيان فوائد الحج وثماره مستدلاً على ذلك بما ورد من

ص: 114


1- نهج البلاغة، الخطبة (القاصعة) برقم 192

أئمة العترة النبوية (عليهم السلام) من التذكرة، فيقول:

(والحج فيه ثواب عظيم وآجر جزيل؛ روي معاوية بن عمار في الصحيح عن الصادق (عليه السلام) عن أبيه، عن ابائه (عليهم السلام):

أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لقيه أعرابي، فقال له:

«إني خرجت أريد الحج ففاتني، وإني رجل ميل(1)، فمرني أن أصنع في مالي ما أبلغ به مثل أجر الحاج، قال: فالتفت إليه رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقال له: انظر إلى أبي قبيس فلو أن أبا قبيس لك ذهبة حمراء أنفقته في سبيل الله ما بلغت به مبلغ الحاج. ثم قال: إن الحاج إذا أخذ في جهازه لم يرفع شيئا ولم يضعه إلا كتب الله له عشر حسنات ومحى عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات، فإذا ركب بعيره لم يرفع خفا ولم يضعه إلا كتب له مثل ذلك، فإذا طاف بالبيت خرج من ذنوبه، فإذا سعى بين الصفا والمروة خرج من ذنوبه، فإذا وقف بعرفات خرج من ذنوبه، فإذا وقف بالمشعر الحرام خرج من ذنوبه، فإذا رمى الجار خرج من ذنوبه.

قال: فعدد رسول الله (صلى الله عليه وآله) كذا وكذا موقفا إذا وقفها الحاج خرج من ذنوبه، ثم قال: إني لك أن تبلغ ما بلغ(2) الحاج. قال أبو عبد الله (عليه السلام): ولا تكتب عليه الذنوب أربعة أشهر، وتكتب له الحسنات إلا أن يأتي بكبيرة»(3).

وفي الصحيح عن معاوية بن عمار عن الصادق (علیه السلام)، قال:

ص: 115


1- في الكافي: يعني كثير المال
2- في المصدر: يبلغ
3- التهذيب 5: 19 - 20 / 56، وفي الكافي 4: 258 / 25 صدرها بتفاوت

«الحاج يصدرون على ثلاثة أصناف: فصنف يعتقون من النار، وصنف يخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، وصنف يحفظ في أهله وماله، فذاك أدنى ما يرجع به الحاج»(1).

وفي الصحيح عن معاوية بن عمار عن الصادق (علیه السلام)، قال:

«قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): الحج والعمرة تنفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير»(2) خبث الحديد قال معاوية: فقلت له: حجة أفضل أو عتق رقبة؟ قال: «حجة أفضل».

قلت: فثنتين؟ قال: «فحجة أفضل».

قال معاوية: فلم أزل أزيده ويقول: «حجة أفضل» حتى بلغت ثلاثين رقبة، قال: «حجة أفضل»(3).

وعن الصادق (عليه السلام) قال:

«الحاج والمعتمر وفد الله إن سألوه أعطاهم، وإن دعوه أجابهم، وإن شفعوا شفعهم، وإن سكتوا بدأ بهم(4)، ويعوضون بالدرهم ألف ألف درهم»(5).

ثانياً - الشيخ الجواهري (رحمة الله) (ت: 1266 ه):

(للحج أسرار وفوائد لا يمكن إحصاؤها وإن خفيت على الملحدين

ص: 116


1- التهذيب 5: 21 / 59
2- الكير كير الحداد، وهو زق أو جلد غليظ ذو حافات . الصحاح 2: 811 كير
3- التهذيب 5: 21 / 60
4- في المصدر ونسخة بدل: ابتدأهم
5- تذكره الحفاظ: ج 7 ص 10 - 11، المسألة الثالثة

كابن أبي العوجاء وأشباهه، لأن من أضله الله وأعمى قلبه استوخم الحق فلم يستعذ به، وصار الشيطان وليه وربه، يورده مناهل الهلكة ثم لا يصدره إذ من الواضح أن الله تعاى سن الحج ووضعه على عباده إظهارا لجلاله وكبريائه وعلو شأنه وعظم سلطانه، وإعلانا لرق الناس وعبوديتهم وذلهم واستكانتهم.

وقد عاملهم في ذلك معاملة السلاطين لرعاياهم، والملاك لمماليكهم، يستذلونهم بالوقوف على باب بعد باب، واللبث في حجاب بعد حجاب، لا يؤذن لهم بالدخول حتى تقبل هداياهم، ولا تقبل منهم الهدايا حتى يطول حجابهم، وأن الله تعالى قد شرف البيت الحرام وأضافه إلى نفسه، واصطفاه لقدسه، وجعله قياما للعباد ومقصدا يوم من جميع البلاد، وجعل ما حوله حرما، وجعل الحرم أمنا، وجعل فيه ميدانا ومجالا، وجعل له في الحل شبها ومثالا فوضعه على مثال حضرة الملوك والسلاطين.

ثم أذن في الناس بالحج ليأتوه رجالا وركبانا من كل فج، وأمرهم بالاحرام وتغيير الهيئة واللباس شعثا غبرا متواضعين مستكينين رافعين أصواتهم بالتلبية وإجابة الدعوة، حتى إذا أتوه كذلك حجبهم عن الدخول، وأوقفهم في حجبه يدعونه ويتضر عون إليه حتى إذا طال تضرعه واستكانتهم ورجموا شياطينهم بجارهم وخلعوا طاعة الشيطان من رقابهم أذن لهم بتقريب قربانهم وقضاء تفثهم ليطهروا من الذنوب التي كانت هي الحجاب بينهم وبينه، وليزوروا البيت على طهارة منهم، ثم يعيدهم فيه بما يظهر معه كمال الرق وكنه العبودية.

ص: 117

فجعلهم تارة يطوفون ببيته ويتعلقون بأستاره، ويلوذون بأركانه، وأخرى يسعون بين يديه مشيا وعدوا ليتبين لهم عز الربوبية وذل العبودية، وليعرفوا أنفسهم ويضعوا الكبر من رؤوسهم، ويجعل نير الخضوع في أعناقهم ويستشعروا شعار المذلة، وينزعوا ملابس الفخر والعزة.

وهذا من أعظم فوائد الحج، مضافا إلى ما فيه من التذكر بالاحرام والوقوف في المشاعر العظام الأحوال المحشر وأهوال يوم القيامة، إذ الحج هو الحشر الأصغر، وإحرام الناس وتلبيتهم وحشرهم إلى المواقف وقوفهم بها ولهين متضرعين راجين إلى الفلاح أو الخيبة والشقاء أشبه شي بخروج الناس من أجداثهم وتوشحهم بأكفانهم واستغاثتهم من ذنوبهم وحشرهم إلى صعيد واحد إما إلى نعيم أو عذاب أليم.

بل حركات الحاج في طوافهم وسعيهم ورجوعهم وعودهم يشبه أطوار الخائف الوجل المضطرب المدهوش الطالب ملجأ ومفزعا نحو أهل المحشر في أحوالهم وأطوارهم، وإلى ما فيه من اختبار العباد وطاعتهم وانقيادهم إلى أوامره ونواهيه، كما شرحه أمير المؤمنين (عليه السلام) في المروي عنه في نهج البلاغة)(1).

المسألة الثانية: ما ورد في الخطبة من شروح نهج البلاغة.

تناول شراح نهج البلاغة هذه الخطبة المعروفة بالقاصعة في شروحهم، فكان منهم:

ص: 118


1- جواهر الکلام: ج 17 ص 218 - 219

أولاً - ابن ميثم البحراني (رحمة الله) (ت: 679 ه):

قال (رحمة الله): وقوله (عليه السلام):

«جعله للناس قياماً»

(أي مقيما لأحوالهم في الآخرة. يقال: فلان قيام أهله وقوام بيته. إذا كانت به استقامة أحوالهم، وكون مكَّة أقلّ بقاع الأرض مدرا لأنّ الحجريّة أغلب عليها. وإنّما أتى بالرمال الليّنة في معرض الذّم لأنّها أيضا ممّا لا يزكو بها الدوابّ لأنّ ذوات الحافر ترسغ فيها وتتعب في المشي بها.

قال الشارحون: وأراد بالخفّ والحافر والظلف، دوابّها وهي الجمال والخيل والغنم والبقر مجازا إطلاقا لاسم الجزء على الكلّ أو على تقدير إرادة المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه.

وأراد بكونها لا تزكو: أي لا تسمن وتزيد للجدب وخشونة الأرض، والضمير في بها راجع إلى ما دلّ عليه أو عر من الموصوف فإنّه أراد بواد أوعر بقاع الأرض حجرا کما قال: (إني أسكنت من ذريّتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرّم). وقوله: ثمّ أمر آدم وولده أن يثنوا أعطافهم نحوه. قد دلّ كلامه (عليه السّلام) على أنّ البيت الحرام كان منذ آدم (عليه السّلام) والتواريخ شاهدة بذلك.

وقال الطبري: روى عن ابن عبّاس أنّ الله تعالى أوحى إلى آدم لما اهبط إلى الأرض أنّ لي حرما حيال عرشي فانطلق فابن لي بيتا فيه ثمّ طف به کما رأيت ملائكتي تحفّ بعرشي فهنا لك استجيب دعاك ودعاء من تحفّ به من ذريّتك.

ص: 119

فقال آدم: إنّي لست أقوى على بنيانه ولا اهتدى إليه. فبعث الله تعالى ملكا فانطلق به نحو مکَّة كان آدم كلَّما رأى روضة أو مكانا يعجبه سأل الملك أن ينزل به هنالك لتبنى فيه فيقول له الملك: ليس هاهنا. حتّى أقدمه مكَّة فبنى البيت من خمسة جبال طور سيناء وطور زيتون ولبنان والجوديّ، وبنى قواعده من حرّاء.

فلمّا فرغ من بنيانه خرج به الملك إلى عرفات وأراه المناسك كلها الَّتي يفعلها الناس اليوم، ثمّ قدم به مكَّة وطاف بالبيت أسبوعا، ثمّ رجع إلى رض الهند. وقيل: إنّه حجّ على رجليه إلى الكعبة أربعين حجّة. وروى عن وهب بن مبنّة أنّ آدم دعا ربّه فقال: يا ربّ أما لأرضك هذه عامر يسّبحك فيها ويقدّسك غيرى فقال له تعالى:

إنّي سأجعل فيها من ولدك من يسبّح بحمدي ويقدّسني، وسأجعل فيها بيوتا ترفع لذكرى يسبّحني فيها خلقي ويذكر فيها اسمي، وسأجعل من تلك البيوت بيتا اختصّه بكرامتي وأوثره باسمي فأُسميّه بيتي وعليه وضعت جلالتي وعظَّمته بعظمتي، وأنا مع ذلك في كلّ شيء ومع كلّ شيء، أجعل ذلك البيت حرما آمنا یحرم بحرمته من حوله وما حوله ومن تحته ومن فوقه فمن حرّمه بحرمتي استوجب كرامتي ومن أخاف أهله فقد أباح حرمتي واستحقّ سخطي، وأجعله بيتا مباركا يأتيه بنوك شعثا غبر أعلى كلّ ضامر من كلّ فج عميق يزجّون بالتلبية زجيجا ويعجّون بالتكبير عجيجا، من اعتمده لا يريد غيره ووفد إليّ وزارني واستضاف بي أسعفته بحاجته، وحقّ على الكريم أن يكرم وفده وأضيافه.

ص: 120

تعمره يا آدم ما دمت حيّا ثمّ تعمره الأمم والقرون والأنبياء من ولدك أُمّة بعد أُمّة وقرنا بعد قرن. ثمّ أمر آدم إلى أن يأتي البيت الحرام فيطوف به كما كان يرى الملائكة تطوف حول العرش. وبقى أساسه بعد طوفان نوح فبوّأه الله لإبراهيم فبناه. ولنرجع إلى المتن فنقول: إنّه كنّى بني أعطافهم نحوه عن التفاتهم إليه وقصدهم له.

وقوله: فصار مثابة لمنتجع أسفارهم. أي مرجعا لما تنجع من أسفارهم، أي: لطلب منه النجعة والخصب كما قال تعالى:

«وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا»، وكقوله تعالى «لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ».

وذلك أنّه مجمع الخلق وبه يقام الموسم أيّام الحجّ فيكون فيه التجارات والأرباح كما أشرنا إليه في الخطبة الأولى. وكذلك كونه غاية لملقى رحالهم: أي مقصدا.

وقوله: تهوى إليه ثمار الأفئدة. أي تميل وتسقط. وهوى الأفئدة ميولها ومحبّتها إلَّا أنّه لما كان الَّذي يميل إلى الشيء ويحبّه كأنّه يسقط إليه ولا يملك نفسه استعير لفظ الهوى للحركة إلى المحبوب والسعي إليه، وأمّا ثمّار الأفئدة فقال بعض الشارحين: ثمرة الفؤاد سويد القلب. ولذلك يقال للولد: ثمرة الفؤاد.

وأقول: يحتمل أن يكون لفظ الثمار مستعارا للخلق باعتبار أنّ كلَّا منهم محبوب لأهله وآبائه فهو كالثمرة الحاصلة لأفئدتهم من حيث هو محبب لهم كأنّ أفئدتهم ومحبّتهم له قد أثمرته من حيث إنّها أفادت تربيته والعناية

ص: 121

به حتّى استوى إنسانا كاملا، ويحتمل أن يريد بثمار الأفئدة الأشياء المجبيّة لا المعجبة من كلّ شيء كما قال تعالى:

«يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ».

ووجه إضافتها إلى الأفئدة أنّها لمّا كانت محبوبة مطلوبة للأفئدة الَّتي حصلت عن محبّتها كما تحصل الثمرة عن أصلها أضيفت إليها، والإضافة يكفي فيها أدنى سبب ونحوه قوله تعالى «رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ» ولمّا استعار لفظ الهوى رشّح بذكر المهاوي إذ من شأن الهوى أن يكون له موضع. وعميقة صفة لفجاج كما قال تعالى:

«يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ».

ووصف العمق له باعتبار طوله والانحدار فيه من أعالي البلاد إلى مكَّة، ووصف الجزائر بالانقطاع لأنّ البحر يقطعها عن سائر الأرض والبحار يحيط بها. وحتّى غاية من قوله: تهوى. بمعنى اللام، وكنّى بهزّ مناكبهم عن حركاتهم في الطواف بالبيت. إذ كان ذلك من شأن المتحرّك بسرعة. وذللا: جمع ذلول. والنصب على الحال من الضمير في تهزّ.

لا وقال بعضهم: يحتمل أن يكون من مناكبهم وكذلك موضع يهلَّلون لا النصب على الحال وكذلك شعثا وغرا من الضمير في يرملون. وكنّى بنبذهم للسرابيل وراء ظهورهم عن طرحها وعدم لبسها وتشويههم بإعفاء الشعور محاسن خلقهم لأنّ حلق شعر المحرم أو نتفه والتنظيف منه حرام تجب فيه الفدية. وظاهر أنّ إعفاء الشعور يستلزم تقبيح الخلقة وتشويهها وتغيير ما هو معتاد من تحسينها بحلقه وإزالته.

ص: 122

وقوله: ابتلاء. وامتحانا. واختبارا. وتمحيصا.

منصوبات على المفعول له. والعامل فيه قوله: أمر الله آدم، ويحتمل أن يكون على المصدر كلّ من فعله. وعدّد هذه الألفاظ وإن كانت مترادفة على معنی واحد تأكيدا وتقريرا لكون الله تعالى شدّد عليهم في البلوى بذلك ليكون استعدادهم بتلك القوى العظيمة للثواب أتمّ وأشدّ فيكون الجزاء لهم أفضل وأجزل، فلذلك قال:

جعله الله سببا لرحمته ووصلة إلى جنّته:

أي سببا معدّا لإفاضة رحمة تستلزم الوصول إلى جنّته. وقد تأكَّد بهذا المثال صدق قوله:

وكلَّما كانت البلوى والاختبار أعظم كان الثواب أجزل.

لأنّ الله سبحانه لمّا اختبر عباده بأمر الحجّ ومناسكه الَّتي يستلزم شقاء الأبدان و احتمال المشاقّ الكثيرة المتعبة في الأسفار من المسافات البعيدة وترك مفاخر الدنيا عنده ونزع التكبّر حتّى كأنّه لم يوضع إلَّا لخلع التكبّر من الأعناق مع ما في جزئيّات مناسکه و مباشرته من المشاقّ المتكلَّفة مع كونه کما ذكر:

أحجارا لا تضرّ ولا تنفع ولا تسمع ولا تبصر لا جرم كان الاستعداد به لقبول آثار الله وإفاضة رحمته أتمّ من أكثر وجوه الاستعدادات لسائر العبادات فكان الثواب عليه والرحمة النازلة بسببه أتمّ وأجزل.

وقوله: ولو أراد الله . إلى قوله: ضعف البلاء.

صغری قیاس ضمیر استثنائي حذف استثنائه. وهي نتيجة قياس آخر من متصلتين تقدير صغراهما: أنّه لو أراد أن يضع بيته الحرام بين هذه المواضع

ص: 123

الحسنة المبهجة لفعل، وتقدير الكبرى: ولو فعل لكان يجب منه تصغير قدر الجزاء على قدر ضعف البلاء، وتقدير استثناء هذه المتّصلة:

لكنّه لا يجب منه ذلك ولا يجوز لأنّ مراد العناية الإلهيّة مضاعفة الثواب وبلوغ كلّ نفس غاية كمالها وذلك لا يتمّ إلَّا بكمال الاستعداد بالشدائد والميثاق فلذلك لم يرد أن يجعل بيته الحرام في تلك المواضع لاستلزامها ضعف البلاء.

وكنّى بدنوّ الثمار عن سهولة تناولها وحضورها، وبالتفاف البني عن تقارب بعضه من بعض. والبرّة: واحدة البرّ وقد يقام مقام اسم الجنس فيقال: هذه برّة حسنة، ولا يراد بها الحبّة الواحدة واعتبار السمرة لها لأنّ وصفها بعد الخضرة السمرة.

لي وقوله: ولو كان الأساس. إلى قوله: من الناس.

في تقدير قياس ضمير آخر استثنائي كالَّذي قبله، وتلخيصه أنّه تعالى لو جعل الأساس المحمول عليها بيته الحرام بين هذه الأحجار المنيرة المضيئة لخفّف ذلك مسارعة الشكّ في الصدور. وأراد شكّ الخلق في صدق الأنبياء وعدم صدقهم وشكَّهم في أنّ البيت بيتا لله أو ليس. فإنّه على تقدير كون الأنبياء عليهم السّلام بالحال المشهورة من الفقر والذلّ وكون البيت الحرام من هذه الأحجار المعتادة يقوى الشكّ في كونهم رسلا من عند الله وفي كون البيت بيتا له، وعلى تقدير كونهم في الملك والعزّ وكون البيت من الأحجار النفيسة المذكورة ينتفي ذلك الشكّ.

إذ يكون ملكهم ونفاسة تلك الأحجار من الأمور الجاذبة إليهم والداعية إلى محبّتهم والمسارعة إلى تصديقهم والحكم بكون البيت بيت الله

ص: 124

لمناسبته في كماله ما ينسبه الأنبياء إلى الله سبحانه من الوصف بأكمل طرفي النقيض ولكون الخلق أميل إلى المحسوس.

واستعار لفظ المسارعة هنا للمغالبة بين الشكّ وصدق الأنبياء والشكّ في كذبهم فإنّ كلَّا منهما يترجّح على الآخر وكذلك كان وضع مجاهدة إبليس عن القلوب لأنّ الايمان بكونه بيتا لله ينبغي حجّه والقصد إليه لا يكون عن مجاهدة إبليس في تصديق الأنبياء في ذلك وفي وجوب عبادة الله بل لعزّة البيت وحسن بنيانه وميل النفوس إلى شريف جواهره لكن هذه الأمور وهى مسارعة الشكّ ومجاهدة إبليس ومعتلج الريب لا تخفّف ولا تنتفي لكونها مرادة من الحكمة الإلهيّة لإعداد النفوس بها لتدرك الكمالات الباقية والسعادات الدائمة فلذلك لم - يجعل تعالى بنيان بيته من تلك الأحجار النفيسة.

وقوله: ولكن الله يختبر عباده. إلى قوله: المكاره.

استثناء لعلَّة النقائض المذكورة فيقوم مقام استثناء مسارعة الشكّ ومجاهدة إبليس من جملة أنواع الشدائد وألوان المجاهد والمشاقّ واختباره لعباده بها علَّة لوجودها.

وقوله: إخراجا للتكبّر. إلى قوله: لعفوه.

إشارة إلى كونها أسبابا غائيّة من العناية الإلهيّة لإعداد النفوس لإخراج الكبر منها وإفاضة ضدّه وهو التذلَّل والتواضع عليها وإلى كونها أسبابا معدّة لفضله وعفوه، واستعار لفظ الأبواب لها باعتبار الدخول منها إلى رضوان الله وثوابه. ولفظ الذلل لكون الدخول منها إلى ذلك سهلا للمستعدّين لها.

ص: 125

ثمّ عاد إلى التحذير من الله تعالى في البغي والظلم وعاقبته. وحاصل الكلام أنّه جعل عاجل البغي وآجل الهلاك عنه وسوء عاقبة الكبر محلَّا للحذر من الله تعالى وذلك باعتبار وعيده تعالى عند التلبّس بالبغي والنظر في تلك الحال إلى ما يستلزم من الهلاك في الآخرة وما يستلزمه التكبّر من سوء العاقبة)(1).

ثانياً - ابن ابي الحديد المعتزلي (ت 656 ه).

قال ابن أبي الحديد في بيان دلالة قوله (عليه الصلاة والسلام) الذي أوردناه في مطلع المبحث فيقول:

«كانت المثوبة»:

(أي الثواب؛ وأجزل أكثر، والجزيل العظيم، وعطاء جزل وجزيل والجمع جزال، وقد أجزلت له من العطاء، أي أكثرت. وجعله للناس قياما، أي عمادا، وفلان قيام أهله، أي يقيم شؤونهم، ومنه قوله تعالى:

«وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا»(2). وأوعر بقاع الأرض حجرا، أي أصعبها، ومكان وعر، بالتسكين صعب المسلك أو المقام.

وأقل نتائق الدنيا مدرا:

أصل هذه اللفظة من قولهم (امرأة منتاق)، أي كثيرة الحبل والولادة، ويقال ضيعة منتاق أي كثيرة الريع، فجعل (عليه السلام) الضياع ذوات المدر التي تثار للحرث نتائق، وقال إن مكة أقلها صلاحا للزرع، لان أرضها حجرية.

ص: 126


1- شرح نهج البلاغة لابن میثم: ج 4 ص 278 - 283
2- النساء: 5

والقطر الجانب، ورمال دمثة سهلة، وكلما كان الرمل أسهل؛ كان أبعد عن أن ينبت. وعيون وشلة، أي قليلة الماء، والوشل، بفتح الشين الماء القليل، ويقال وشل الماء وشلانا، أي قطر. قوله:

(لا يزكو بها خف):

أي لا تزيد الإبل فيها أي لا تسمن، والخف هاهنا، هو الإبل والحافر الخيل والحمير، والظلف الشاة، أي ليس حولها مرعى يرعاه الغنم فتسمن. وان يثنوا أعطافهم نحوه، أي يقصدوه ويحجوه، وعطفا الرجل جانباه. وصار مثابة، أي يثاب إليه ويرجع نحوه مرة بعد أخرى، وهذه من ألفاظ الكتاب العزيز(1).

قوله (عليه السلام): (لمنتجع أسفارهم):

أي لنجعتها، والنجعة طلب الكلاء في الأصل، ثم سمى كل من قصد أمرا يروم النفع منه منتجعا.

قوله: (وغاية لملقى رحالهم):

أي صار البيت هو الغاية التي هي الغرض والمقصد، وعنده تلقى الرحال؛ أي تحط رحال الإبل عن ظهورها، ويبطل السفر، لأنهم قد انتهوا إلى الغاية المقصودة.

قوله: (تهوى إليه ثمار الأفئدة):

ثمرة الفؤاد هو سويداء القلب، ومنه قولهم للولد هو ثمرة الفؤاد، ومعنى (تهوى إليه) أي تتشوقه وتحن نحوه. والمفاوز هي جمع مفازة، الفلاة سميت

ص: 127


1- وهو قوله تعالى في سورة البقرة: «وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا»

مفازة، اما لأنها مهلكة، من قولهم فوز الرجل أي هلك، واما تفاؤلا بالسلامة والفوز، والرواية المشهورة (من مفاوز قفار) بالإضافة. وقد روى قوم (من مفاوز) بفتح الزاء، لأنه لا ينصرف، ولم يضيفوا جعلوا (قفار) صفة. والسحيقة البعيدة. والمهاوي المساقط. والفجاج جمع فج، وهو الطريق بين الجبلين.

قوله (عليه السلام) :(حتى يهزوا مناكبهم):

أي يحركهم الشوق نحوه إلى أن يسافروا إليه، فكنى عن السفر بهز المناكب. وذللا، حال، اما منهم واما من المناكب، وواحد المناكب، منكب بكسر الكاف، وهو مجمع عظم العضد والكتف.

قوله: (ويهللون):

يقولون لا إله إلا الله، وروى (يهلون لله) أي يرفعون أصواتهم بالتلبية ونحوها.

ويرملون: الرمل السعي فوق المشي قليلا. شعثا غبرا

لا يتعهدون شعورهم ولا ثيابهم ولا أبدانهم، قد نبذوا السرابيل، ورموا ثيابهم وقمصانهم المخيطة. وشوهوا باعفاء الشعور، أي غيروا وقبحوا محاسن صورهم، بان اعفوا شعورهم فلم يحلقوا ما فضل منها وسقط على الوجه ونبت في غيره من الأعضاء التي جرت العادة بإزالتها عنها.

والتمحيص التطهير، من محصت الذهب بالنار إذا صفيته مما يشوبه، والتمحيص أيضا الامتحان والاختبار. والمشاعر معالم النسك.

قوله: (وسهل وقرار):

أي في مكان سهل يستقر فيه الناس ولا ينالهم من المقام به مشقة. وجم الأشجار كثيرها. وداني الثمار قريبها. وملتف البنى مشتبك العمارة. والبرة

ص: 128

الواحدة من البر، وهو الحنطة. والأرياف جمع ريف وهو الخصب والمرعی في الأصل، وهو هاهنا السواد والمزارع، و محدقة محيطة. ومغدقة غزيرة، والغدق الماء الكثير. وناضرة ذات نضارة ورونق وحسن.

قوله: (ولو كانت الأساس):(1)

يقول لو كانت أساس البيت التي حمل البيت عليها وأحجاره التي رفع بها من زمردة وياقوتة فالمحمول والمرفوع کلاهما مرفوعان، لأنهما صفة اسم كان والخبر من (زمردة)، وروی (بين زمردة)، ويجوز أن تحمل لفظتا المفعول وهما المحمول والمرفوع ضمير البيت، فيكون قائما مقام اسم الفاعل، ويكون موضع الجار والمجرور نصبا، ويجوز الا تحملهما ذلك الضمير، ويجعل الجار والمجرور هو الساد مسد الفاعل، فيكون موضعه رفعا. وروی (مضارعة الشك) بالضاد المعجمة، ومعناه مقارنة الشك ودنوه من النفس، واصله من مضارعة القدر إذا حان ادراكها، ومن مضارعة الشمس إذا دنت للمغيب.

وقال الراوندي في تفسير هذه الكلمة من مضارعة الشك، أي مماثلته ومشابهته، وهذا بعيد، لأنه لا معنى للمماثلة والمشابهة هاهنا، والرواية الصحيحة بالصاد المهملة.

قوله (عليه السلام): (ولنفی متعلج الريب):

أي اعتلاجه، أي ولنفی اضطراب الشك في القلوب وروی (ستعبدهم) و (يتعبدهم)، والثانية أحسن. والمجاهد جمع مجهدة، وهي المشقة. وأبوابا فتحا أي مفتوحة وأسباب ذللا، أي سهلة.

ص: 129


1- الأساس، بالكسر: جمع أس

واعلم أن محصول هذا الفصل انه كلما كانت العبادة أشق كان الثواب عليها أعظم، ولو أن الله تعالى جعل العبادات سهلة على المكلفين لما استحقوا عليها من الثواب الا قدرا يسيرا، بحسب ما يكون فيها من المشقة اليسيرة.

فان قلت فهل كان البيت الحرام موجودا أيام آدم (عليه السلام)، ثم أمر آدم وولده أن يثنوا أعطافهم نحوه قلت نعم هكذا روى أرباب السير وأصحاب التواريخ؛

روى أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في تاريخه عن ابن عباس، أن الله تعالى أوحى إلى آدم لما أهبطه إلى الأرض إن لي حرما حيال عرشي، فانطلق فابن لي بيتا فيه ثم طف به كما رأيت ملائكتي تحف بعرشي فهنالك استجيب دعاءك ودعاء من يحف به من ذريتك.

فقال آدم انى لست أقوى على بنائه، ولا اهتدى إليه، فقيض الله تعالى له ملكا، فانطلق به نحو مكة - وكان آدم في طريقه كلما رأى روضة أو مكانا يعجبه سال الملك أن ينزل به هناك ليبنى فيه، فيقول الملك انه ليس هاهنا حتى أقدمه مكة - فبنى البيت من خمسة جبال طور سيناء، وطور زيتون، ولبنان، والجودي، وبنى قواعده من حراء. فلما فرغ خرج به الملك إلى عرفات، فأراه المناسك كلها التي يفعلها الناس اليوم، ثم قدم به مكة وطاف بالبيت أسبوعا، ثم رجع إلى ارض الهند فمات.

وروى الطبري في التاريخ أن آدم حج من ارض الهند إلى الكعبة أربعين حجة على رجليه. وقد روى أن الكعبة أنزلت من السماء و هي ياقوتة أو لؤلؤة؛ على اختلاف الروايات وانها بقيت على تلك الصورة إلى أن فسدت

ص: 130

الأرض بالمعاصي أيام نوح، وجاء الطوفان فرفع البيت، وبني إبراهيم هذه البنية على قواعده القديمة.

وروى أبو جعفر، عن وهب بن منبه أن آدم دعا ربه فقال يا رب اما لأرضك هذه عامر يسبحك ويقدسك فيها غيري فقال الله اني سأجعل فيها من ولدك من يسبح بحمدي ويقدسني، وسأجعل فيها بيوتا ترفع لذكرى، يسبحني فيها خلقي، ويذكر فيها اسمي، وسأجعل من تلك البيوت بیتا اختصه بكرامتي، وأوثره باسمي، فأسميه بيتي، وعليه وضعت جلالتي وخصصته بعظمتي.

وانا مع ذلك في كل شئ، اجعل ذلك البيت حرما آمنا يحرم بحرمته من حوله، ومن تحته، ومن فوقه فمن حرمه بحرمتي استوجب کرامتي، ومن أخاف أهله فقد أباح حرمتي، واستحق سخطي، واجعله بيتا مباركا يأتيه بنوك شعثا غبرا على كل ضامر من كل فج عميق، يرجون بالتلبية رجیجا، ويعجون بالتكبير عجيجا، من اعتمده لا يريد غيره.

ووفد إلى وزارني واستضاف بي، أسعفته بحاجته؛ وحق على الكريم أن يكرم وفده وأضيافه؛ تعمره یا آدم ما دمت حيا، ثم تعمره الأمم والقرون والأنبياء من ولدك أمة بعد أمة، وقرنا بعد قرن. قال ثم أمر آدم أن يأتي إلى البيت الحرام الذي اهبط له إلى الأرض فيطوف به کما كان يرى الملائكة تطوف حول العرش، وكان البيت حينئذ من درة أو من ياقوتة، فلما أغرق الله تعالى قوم نوح رفعه، وبقي أساسه فبوأه الله لإبراهيم فبناه)(1).

ص: 131


1- شرح نهج البلاغة للمعتزلي: ج 3 ص 157 - 162

ص: 132

المبحث الخامس حكم إجارة دور مكة ومنع الحاج

من سكناها

قال أمير المؤمنين الإمام علي (عليه الصلاة والسلام) في كتاب بعثه الى عامله على مكة قثم بن العباس:

«وَمُرْ أَهْلَ مَکَّةَ أَلَّا یَأْخُذُوا مِنْ سَاکِنٍ أَجْراً، فَإِنَّ اللّهَ سُبْحَانَهُ یَقُولُ:

«سَواءً الْعاکِفُ فِیهِ وَالْبادِ» فَالْعَاکِفُ الْمُقِیمُ بِهِ، وَالْبَادِی الَّذِی یَحُجُّ إِلَیْهِ مِنْ غَیْرِ أَهْلِهِ»(1).

أختلف فقهاء المذاهب الاسلامية في حكم إجارة الدور في مكة وبيعها بين الحرمة، والجواز، و الكراهة، وهي كالاتي:

للمسالة الأولى: حكم إجارة دور مكة وبيعها في المذهب الإمامي.

أختلفت أراء فقهاء الإمامية (أعلى الله شأنهم) قديماً في حكم أجارة دور مكة وبيعها، بين الحرمة والكراهة، أما المتأخرين منهم فقالوا بالجواز والكراهة؛ وهي كالاتي:

ص: 133


1- نهج البلاغة، تحقیق صبحي الصالح، الخطبة: 67 ص 458

أولا - القول بالحرمة، والكراهة.

وهذه الطائفة من أقوال الفقهاء جمعها وناقشها العلامة ابن المطهر الحالي (عليه رحمه الله ورضوانه ) فقال:

(قال الشيخ - الطوسي - لا ينبغي لأحد أن يمنع الحاج شيئا من دور مكة ومنازلها، لأن الله تعالى قال: سواء العاكف فيه والباد(1)، وهذا القول يشعر بالكراهة.

وقال ابن البراج:

ليس لأحد أن يمنع الحاج موضعا من دور مكة ومنازلها، لقوله تعالى: (سواء العاكف فيه والباد)(2)، وهذه العبارة تشعر بالتحريم.

وقال ابن الجنيد(3):

الأجرة لبيوت مكة حرام، ولذلك استحب للحاج أن يدفع ما يدفعه الأجرة حفظ رحله لا أجرة ماينزله.

وقال ابن إدریس:

لا ينبغي أن يمنع الحاج خصوصا شيئا من دور مكة ومنازلها، للإجماع على ذلك، فأما الاستشهاد بالآية فضعيف، بل إجماع أصحابنا منعقد وأخبارهم متواترة، فإن لم يكن متواترة فهي متلقاة بالقبول لم يدفعها أحد منهم، فالإجماع هو الدليل القاطع على ذلك دون غيره، فأما الآية فالضمير

ص: 134


1- النهاية ونكتها: ج 1 ص 557
2- المهذب: ج 1 ص 273
3- لم نعثر على كتابه

فيها راجع إلى المسجد الحرام دون مكة جميعها، وأيضا قوله تعالى:

«لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ»، فحظر علينا دخول غير بيوتنا. فأما من قال: لا يجوز بيع رباع مكة ولا إجارتها فصحيح إن أراد نفس الأرض، لأن مكة أخذت عنوة بالسيف، فهي لجميع المسلمين لا تباع ولا توقف ولا تستأجر، فأما التصرف والتحجير والآثار فيجوز بيع ذلك وإجارته، كما يجوز بيع سواد العراق المفتتحة عنوة، فنحمل ما ورد في ذلك على نفس الأرض دون التصرف(1). ونقل عن بعض أصحابنا التحريم، والأولى الكراهة.

لنا: ما رواه حفص بن البختري في الصحيح، عن الصادق - عليه السلام- قال:

«ليس ينبغي لأهل مكة أن يجعلوا على دورهم أبوابا، وذلك أن الحاج ينزلون معهم في ساحة الدار يقضوا حجهم»(2). وليس في ذلك دلالة على التحريم، لأن الأصل عدمه)(3).

ثانيا - القول بالجواز والكراهة في منع الحاج من سكن دور مكة.

1- قال الشيخ الجواهري (رحمة الله) (ت: 1266 ه) في حكم منع الحاج من سكن دور مكة:

(المشهور أنه يكره أن يمنع أحد الحاج والمعتمرين من سكن دور مكة؛ وقيل، والقائل الشيخ فيما حكي عنه:

ص: 135


1- السرائر: ج 1 ص 644 - 645
2- تهذیب الأحکام: ج 5 ص 463 ح 1615، وسائل الشيعة: ب 32 من أبواب مقدمات الطواف ح 5 ج 9 ص 368
3- مختلف الشيعة: ج 4 ص 366 - 368

(یحرم) لما عن الفخر من أن مكة كلها مسجد، لقوله تعالى:

«سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ»(1).

وكان الاسراء به من دار أم هاني، وإن كان هو كما ترى مناف للاجماع بقسميه على عدم كونها مسجدا، مع منع کونه في الدار المزبورة، على أنه يمكن أن يكون أسري به منها إلى المسجد الحرام ثم منه إلى المسجد الأقصى، وعن ابن إدريس الاستدلال بالاجماع والأخبار المتواترة، قال:

(وإن لم تكن متواترة فهي متلقاة بالقبول) وفيه منع واضح، والأولى الاستدلال بظاهر قوله تعالى: «سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ»(2) مؤيدا بما تسمعه من النصوص المفسرة له بذلك، فلا يرد ما عن السرائر من أن الضمير فيه للمسجد الحرام، بل منها يعلم كون المراد به الحرم أو مكة کما في آية الأسراء، وبما ورد من ذم معاوية حيث كان أول من علق المصراعين ومنع الحاج حقه، قال الصادق (عليه السلام) في حسن الحسين بن أبي العلاء(3):

(إن معاوية أول من علق على بابه المصراعين بمكة، فمنع حاج بيت الله ما قال الله عز وجل: (سواء العاكف فيه والباد) وكان الناس إذا قدموا مكة نزل البادي على الحاضر حتى يقضي حجه، وكان معاوية صاحب السلسلة التي قال الله تعالى: «ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ إِنَّهُ كَانَ لَا

ص: 136


1- الإسراء: 1
2- الحج: 25
3- ذكر صدره في الوسائل في الباب - 32 - من أبواب مقدمات الطواف الحديث 1 وتمامه في الكافي ج 4 ص 244

يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ»(1) وكان فرعون هذه الأمة) وقال أيضا في حسنه الآخر(2) في قوله تعالى: (سواء) إلى آخره:

(كانت مكة ليس على شئ منها باب، وكان أول من علق على بابه المصراعين معاوية بن أبي سفيان، وليس ينبغي لأحد أن يمنع الحاج شيئا من الدور والمنازل) وقال (عليه السلام) أيضا في خبر يحيى بن أبي العلاء(3):

لم يكن لدور مكة أبواب، وكان أهل البلدان يأتون بقطراتهم فيدخلون فيضربون بها، وكان أول من بوها معاوية لعنه الله).

وقال (عليه السلام) أيضا في صحيح البختري(4):

«ليس ينبغي لأهل مكة أن يجعلوا على دورهم أبوابا، وذلك أن الحاج ينزلون معهم في ساحة الدار حتى يقضوا حجهم».

وقال (عليه السلام) في صحيح الحلبي(5) المروي عن العلل بعد أن سأله عن قول الله عز وجل (سواء) الآية:

(لم يكن ينبغي أن يوضع على دور مكة أبواب، لأن للحاج أن ينزلوا معهم في دورهم في ساحة الدار حتى يقضوا مناسكهم، وأن أول من جعل لدور مكة أبوابا معاوية لعنه الله).

ص: 137


1- الحاقة: 32 و 33
2- الوسائل - الباب - 32 - من أبواب مقدمات الطواف - الحديث 4 - 2
3- الوسائل - الباب - 32 - من أبواب مقدمات الطواف - الحديث 4 - 2
4- الوسائل - الباب - 32 - من أبواب مقدمات الطواف الحديث 5 عن حفص بن البختري وهو الصحيح كما في التهذيب ج 5 ص 463 الرقم 1615
5- الوسائل - الباب - 32 - من أبواب مقدمات الطواف الحديث - 3 - 6 - 8

وفي خبر الحسين ابن علوان(1) عن جعفر عن أبيه عن علي (عليهم السلام) المروي عن قرب الأسناد:

(إنه نهى أهل مكة أن توجر دورهم وأن يغلقوا أبوابا، وقال: (سواء العاكف فيه والباد) قال: وفعل ذلك أبو بكر وعمر وعثمان وعلي (عليه السلام) حتى كان في زمن معاوية).

وفي خبر علي بن جعفر(2) عن أخيه موسى (عليه السلام):

(ليس ينبغي لأهل مكة أن يمنعوا الحاج شيئا من الدور ينزلونها).

إلا أن شهرة الأصحاب والتعبير بلفظ (لا ينبغي) و نحوه رجح الكراهة. (و) لذا كان (الأول أصح) وكونها مفتوحة عنوة لا يمنع من الأولوية واختصاص الآثار بمن فعلها، وحينئذ فيجوز أخذ الأجرة خلافا لأبي على فحرمها، ولعله لما سمعته من خبر قرب الإسناد الذي لا جابر له، فليحمل على الكراهة، ولكن الاحتياط لا ينبغي ترکه، ولعله لذلك استحب للحاج أن يدفع ما يدفع لأجرة حفظ رحله لا أجرة ما ينزله، وربما كان في حرمة الأجرة لو قلناها إيماء إلى حرمة المنع عن النزول، وقد ذكرنا في كتاب المكاسب بعض ما يشهد لما هنا فلاحظ وتأمل)(3).

ص: 138


1- الوسائل - الباب - 32 - من أبواب مقدمات الطواف الحديث - 3 - 6 - 8
2- الوسائل - الباب - 32 - من أبواب مقدمات الطواف الحديث - 3 - 6 - 8
3- جواهر الكلام: ج 2 ص 48 - 50

المسالة الثانية: حكم إجارة دور مكة وبيعها في المذاهب الاخرى.

أولا - المذهب الشافعي:

ذهب فقهاء المذهب الشافعي الى الجواز في بيع أو اجارة دور مكة ومذهبهم في ذلك أن مكة مكة فتحت صلحاً لا عنوة کما ذهب اليه غيرهم من الفقهاء والمذاهب ومن ثم تبقی دور مكة ملكاً لأصحابها فتورث وتأجر وترهن.

قال النووي (ت 676 ه):

(في مذاهب العلماء في بيع دور مكة وغيرها من أرض الحرم واجارتها ورهنها، ومذهبنا جوازه وبه قال عمر بن الخطاب وجماعات من الصحابة ومن بعدهم، وهو مذهب أبي يوسف.

وأحتج الشافعي والأصحاب المذهبنا بقوله تعالى:

«لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ» والإظافة تقتضي الملك؛ فان قيل: قد تكون الإضافة لليد والسكن لقوله تعالى: «وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ»؟ فالجواب: أن حقيقة الاضافة تقتضي الملك ولهذا لو قال هذا الدار لزید حکم بملكها لزيد ولو قال: أردت به السكن واليد لم يقبل...)(1).

ثانيا - المذهب المالكي والحنفي.

ذهب إمام المذهب المالكي وإمام المذهب الحنفي الى عدم جواز بيع و أجارة دور مكة(2) ومذهبهم في ذلك إنها فتحت عنوة فلا يجوز شيء من

ص: 139


1- المجموع للنووي: ج 9 ص 548 - 549
2- بدائع الصانع للكاشاني: ج 5 ص 146

ذلك؛ واحتج هؤلاء بقوله تعالى:

«وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ».

قالوا: والمراد بالمسجد جميع الحرم لقوله سبحانه وتعالى:

«سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ» أي من بیت خديجة بقوله تعالى:

«إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا» قالوا: أو المحرم لا يجوز بيعه وبحديث أسماعیل بن ابراهيم بن مهاجر عن أبيه عبد الله بن یابان عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):

«مكة مباح لا تباع ولا تؤجر بيوتها».

وبحديث عائشة قالت: (قلت يا رسول الله ألا نبني لك بيتا أو بناء يظلك من الشمس؟ قال:

«لا إنما هو مباح لمن سبق إليه» رواه أبو داود.

وعن أبي حنيفة عن عبد الله بن أبي زياد عن أبي نجيح عن عبد الله بن عمرو قال (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):

«مكة حرام وحرام بیع رباعها وحرام أجر بيوتها».

وعن عثمان بن أبي سليمان عن علقمة بن نضلة الكناني قال:

(كانت بيوت مكة تدعى السوائب لم تبع رباعها في زمان رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولا أبی بکر ولا عمر من احتاج سكن ومن استغنی أسكن) رواه البيهقي.

ص: 140

وبالحديث الصحيح أن رسول الله (صلى الله عليه وآله):

«قال منی مباح لمن سبق». وهو حديث صحيح سبق بيانه في كتاب الجنائز في باب الدفن قالوا ولأنها بقعة من الحرم فلا يجوز بيعها واجارتها کنفس المسجد الحرام)(1).

ثالثا - المذهب الحنبلي.

ذهب المذهب الحنبلي إلى جواز امتلاك دور مكة واجارتها ومذهبهم في ذلك الى انها فتحت عنوة إلا أن النبي (صلى الله عليه وآله) قد أقر أهلها فيما على أملاكهم ورباعهم.

قال ابن قدامة المقدسي:

(فيدل ذلك على أنه - [صلى الله عليه وآله] - ترکها هم کما ترك لهوازن نساءهم وأبناءهم)(2).

المسالة الثالثة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء الذاهب في المسألة.

تباينت أقوال أئمة وفقهاء المذاهب الاسلامية في حكم إجارة دور مكة وبيعها بين الجواز والحرمة والكراهة، وهي كالاتي:

1- ذهب فقهاء الإمامية الى القول بالحرمة لدى المتقدمين من الفقهاء، في حين ذهب أغلب المتأخرين والمعاصرين الى الكراهة في أخذ الأجرة من الحاج.

ص: 141


1- المجموع للنووي: ج 9 ص 249
2- منهاج البراعة للراوندي: ج 3 ص 245 - 246

2- وذهب فقهاء المذهب الشافعي الى جواز دور مكة أو إجارتها.

3- وقال المالكية والحنفية إلى الحرمة في بيع دور مكة وإجارتها.

4- وقال فقهاء الحنابلة في جواز البيع والإجارة لدور مكة.

والعلة في هذا الاختلاف تعود الى عنوان فتح مكة المكرة بين كونها فتحت عنوة أم سلمًا، وذهب الإمامية في ذلك إلى قوله تعالى «سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ» وما ورد عن أئمة العترة النبوية (عليهم الصلاة والسلام)، من احاديث شريفة، ومنها مورد البحث.

المسألة الثالثة: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة.

أولاً - قال قطب الدين الرواندي (ت 573 ه):

(قوله عليه السلام): «فأقم للناس الحج»: أي أفعال الحج من الفرائض والسنن والإقامة بالحج هو العمل به بعد علمه وتعليمه من لا يعلم كيفيته.

«وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ»: أي بأيام طاعة الله وقيل: أيام الله عقوباته.

والعصران: الغداة والعشي، وهما أطيب الأوقات بالحجاز على كل حال.

وروي «فأفت للمستفتي» والفتوى المسألة، واستفتيته أي سألته فأفتاني أي رفع الاشكال منها.

والسفيرة الرسول والمصلح بين القوم ولا يكن إلا لسانك سفيرا لك إلى الناس، إعرابه على هذا أحسن. وروي «سفیر» بالرفع على أنه اسم کان و «إلا لسانك» صفته، أي غير لسانك، والخبر إلى الناس.

ص: 142

وقوله «فإنها ان ذيدت»: أي فان حاجته ان دفعت أول مرة فلا يحمدك بعد ذلك وان قضيتها وقبلك وقبلنا أي عندك وعندنا.

والخلة: الحاجة والفقر، والجمع خلات. ويقال «سد الله مفاقره» أي أغناه وسد وجوه فقره: والعاكف مبتدأ وسواء الخبر، وقيل: سواء مبتدأ والعاكف رفع بفعله وسد مسد الخبر، وسواء بالنصب مصدر عمل فيه معنى جعلنا، كأنه قال: سويناه للناس سواء، ورفع العاكف به، أي مستويا فيه العاكف والباد، أو حال تضمن الضمير في الناس أو من جعلناه. والمحبة: الحب، والجمع محاب)(1).

ثانياً - قال ابن ميثم البحراني (ت 679 ه):

وفيه مقاصد:

أحدها: أمره بإقامة الحجّ للناس. وإقامته القيام بأعماله، وتعليم الجاهلين كيفيّته، وجمعهم عليه.

الثاني: أن يذكَّرهم بأيّام الله: أي عقوباته الَّتي وقعت بمن سلف من المستحقّين لها كي يحترزوا بطاعته من أمثالها. وعبّر عنها بالأيام مجازا إطلاقا لاسم المتعلَّق على المتعلَّق.

الثالث: أن يجلس لهم العصرين: أي الغداة والعشيّ لكونهما أطيب الأوقات بالحجاز، وأشار إلى أعظم فوائد جلوسه في الوقتين وهى فايدة العلم، وحصره وجوه حاجة أهلها إليها وأمره بسدّ تلك الوجوه، وبيان الحصر أنّ الناس إمّا غير عالم أو عالم، وغير العالم إما مقلَّد أو متعلَّم طالب،

ص: 143


1- منهاج البراعة للرواندي: ج 3 ص 245 - 246

والعالم إمّا هو أو غيره. فهذه أقسام أربعة. فوجه حاجة القسم الأوّل وهو الجاهل المقلَّد أن يستفتي فأمره أن يفتيه، ووجه حاجة الثاني وهو المتعلَّم الجاهل أن يتعلَّم فأمره أن يعلَّمه، ووجه حاجة الثالث هو مع الرابع وهو العالم أن يتذاكرا فأمره بالمذاكرة له.

الرابع: نهاه أن يجعل له إلى الناس سفيرا يعبر عنه إلَّا لسانه، ولا حاجبا إلَّا وجهه لأنّ ذلك مظنّة الكبر والجهل بأحوال الناس الَّتي يجب على الوالي ) الإحاطة بها بقدر الإمكان. وإلَّا للحصر وما بعدها خبر كان.

الخامس: نهاه أن يحجب أحدا عن لقائه، بحاجته مؤكَّدا لما سبق، ورغبّه في ملاقاة ذي الحاجة بضمير صغراه قوله: فإنّها. إلى قوله: قضائها: أي لم تحمد

فيما بعد وإن قضيتها له، وتقدير الكبری: وكلّ أمر كان كذلك فلا ينبغي أن يحجب صاحبه عن لقائك به ويذاد عن أبوابك في أوّل ورده.

السادس: أمره أن يعتبر مال بيت المسلمين ويصرفه في مصارفه متوخّيا بذلك الأحوج فالأحوج ويحمل الباقي إليه. ومصيبا حال. وروي: مواضع المفاقر. والإضافة لتغاير اللفظين.

السابع: أمره بنهي أهل مكَّة عن أخذ الأجرة ممّن يسكن بيوتهم واحتجّ لذلك بالآية مفسّرا لها، وهي صغری ضمير. وتقدير کبراہ: وكلَّما قال الله فيه ذلك لم يجز مخالفته. ثمّ ختم بالدعاء لنفسه وله أن يوفّقهما لمحابّه. وبه التوفيق لذلك)(1).

ص: 144


1- شرح نهج البلاغة لابن میثم البحراني: ج 5 ص 217

ثالثاً - قال ابن أبي الحديد المعتزلي (ت 656 ه):

(قد تقدم ذكر قثم(1) ونسبه. أمره أن يقيم للناس حجهم، وأن يذكرهم بأيام الله، وهي أيام الانعام وأيام الانتقام، لتحصل الرغبة والرهبة. واجلس لهم العصرين: الغداة والعشي.

ثم قسم له ثمرة جلوسه لهم ثلاثة أقسام: إما أن يفتی مستفتيا من العامة في بعض الأحكام، وأما أن يعلم متعلما يطلب الفقه، وإما أن يذاکر عالما ويباحثه ويفاوضه ولم يذكر السياسة والأمور السلطانية لان غرضه متعلق بالحجيج، وهم أضيافه، يقيمون ليالي يسيرة ويقفلون، وإنما يذكر السياسة وما يتعلق بها فيما يرجع إلى أهل مكة، ومن يدخل تحت ولايته دائما، ثم نهاه عن توسط السفراء والحجاب بينه وبينهم، بل ينبغي أن يكون سفيره لسانه، وحاجبه وجهه، وروى ولا يكن إلا لسانك سفيرا لك إلى الناس بجعل لسانك اسم كان مثل قوله: «وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا»(2).

والرواية الأولى هي المشهورة، وهو أن يكون سفيرا اسم كان، ولك خبرها، ولا يصح ما قاله الراوندي: إن خبرها إلى الناس، لان إلى هاهنا متعلقة بنفس سفير فلا يجوز أن تكون الخبر عن سفير تقول: سفرت إلى بنی فلان في الصلح، وإذا تعلق حرف الجر بالكلمة صار كالشئ الواحد.

ثم قال: فإنها أن ذیدت أي طردت ودفعت. كان أبو عباد ثابت بن يحيی كاتب المأمون إذا سئل الحاجة يشتم السائل، ويسطو عليه ويخجله، ويبكته

ص: 145


1- قثم بن العباس بن عبد المطلب
2- النمل: 56

ساعة ثم يأمر له بها، فيقوم وقد صارت إليه وهو يذمه ويلعنه قال علي بن جبلة العكو كلعن الله أبا عباد لعنا يتوالى يوسع السائل شتما * ثم يعطيه السؤال.

وكان الناس يقفون لأبي عباد وقت ركوبة، فيتقدم الواحد منهم إليه بقصته ليناوله إياها، فيركله برجله بالركاب، ويضربه بسوطه، ويطير غضبا، ثم لا ينزل عن فرسه حتى يقضى حاجته، ويأمر له بطلبته، فينصرف الرجل بها وهو ذام له ساخط عليه، فقال فيه دعبل:

أولى الأمور بضيعة وفساد *** ملك يد بره أبو عباد(1)

متعمد بدواته جلساءه(2) *** فمضرج ومخضب بمداد

وكأنه من دير هز قل مفلت *** حرب يجر سلاسل الأقياد(3)

فاشدد أمير المؤمنين صفاده *** بأشد منه في يد الحداد

وقال فيه بعض الشعراء:

قل للخليفة يا بن عم محمد *** قيد وزيرك إنه ركال

فلسوطه بين الرؤوس مسالك *** ولرجله بين الصدور مجال)(4)

ص: 146


1- دیوانه 71، وروايته: «أمر يدبره أبو عباد» وبعد هناك: خرق على جلسائه فكأنهم * حضروا لملحمة ويوم جلاد
2- الديوان: «يسطو على كتابه بدواته»
3- الديوان: «حرد» ودير هزقل: مجتمع المجانين كان
4- شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد: ج 18 ص 31 - 32

المبحث السادس في صفات الهدي واستشراف الأذن والعين

قال عليه الصلاة والسلام:

«وَ مِنْ تَمَامِ اَلْأُضْحِیَّةِ اِسْتِشْرَافُ أُذُنِهَا وَ سَلاَمةُ عَیْنِهَا، فَإِذَا سَلِمَتِ اَلْأُذُنُ وَ اَلْعَیْنُ سَلِمَتِ اَلْأُضْحِیَّةُ وَ تَمَّتْ، وَ لَوْ کَانَتْ عَضْبَاءَ اَلْقَرْنِ تَجُرُّ رِجْلَهَا إِلَی اَلْمَنْسَكِ»(1).

تناول فقهاء المذاهب الاسلامية استشراف أذن الأضحية وعينها لمعرفة سلامتها وذلك لتعلق موضوع الإجزاء فيهذه السلامة، ولذا: فقد تباينت الأقوال في ذلك، وهي كالاتي:

المسألة الأولى: أقوال فقهاء للذهب الإمامي في المسألة.

ذهب فقهاء المذهب الى الأمامي الى عدم اجتزاء الأضحية اذا كانت عوراء أو عرجاء أو مقطوعة الأذن وغيرها من الموانع، وهي كالاتي:

أولاً - العلامة بن المطهر الحلي (رحمه الله) (ت 726 ه).

وقد جمع العلامة الحلي (رحمه الله) هذه الموانع وتفصيلها في جملة من المسائل من كتاب الحج في بيان أفضل الهدي و منها، سلامة العين والأذن، فقال:

ص: 147


1- نهج البلاغة، الخطبة: 52؛ واردها الشيخ الطوسي في مصباح المتهجد بلفظ: «تجر رجليها الى المنسك، فاذا ضحيتم فكلوا منها واطعموا وادخروا واحمدوا الله على ما رزقکم من بهيمة الأنعام....) «المصباح المتهجد: ص 664»

(مسألة 598: ويجب أن يكون تاماً، فلا تجزئ العوراء، ولا العرجاء البين عرجها، ولا المريضة البين مرضها، ولا الكسيرة(1) التي لا تنقي(2)، وقد وقع الاتفاق بين العلماء على اعتبار هذه الصفات الأربع في المنع.

روى العامة عن البراء بن عازب، قال: قام رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقال:

«أربع لا تجوز في الأضاحي: العوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين عرجها، والكسيرة التي لا تنقي»(3) أي التي لا مخ لها لهزالها.

وأما المريضة فقيل: هي الجرباء، لأن الجرب يفسد اللحم(4).

والوجه: اعتبار كل مرض يؤثر في هزالها و فساد لحمها، ومعنى البين عورها: أي التي انخسفت عينها وذهبت، فإن ذلك ينقصها، لأن شحمة العين عضو يستطاب أكله(5). والبين عرجها: لا تتمكن من السير مع الغنم ولا تشاركها في العلف والرعي فتهزل.

ومن طريق الخاصة: قول الصادق (عليه السلام) عن أبيه عن آبائه (عليهم السلام)، قال:

ص: 148


1- في «ق، ك» والطبعة الحجرية: الكبيرة، وكذا في نظيرها الآتي في رواية البراء بن عازب. وما أثبتناه من المصدر
2- أي: التي لا مخ لها لضعفها وهزالها، كما سيأتي، والنقي: المخ. النهاية - لابن الأثير - 5: 110 «نقا»
3- سنن أبي داود 3: 97/ 2802
4- القائل هو الخرقي من الحنابلة. انظر الشرح الكبير 3: 548
5- في الطبعة الحجرية: أكلها

(قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لا يضحى بالعرجاء البين عرجها، ولا بالعوراء البين عورها، ولا بالعجفاء، ولا بالجرباء(1)، ولا بالجذاء)، وهي المقطوعة الأذن، (ولا بالعضباء)، وهي المكسورة القرن(2).

ولو كانت العوراء غير مخسوفة العين، احتمل المنع، لعموم الخبر، وكما وقع الاتفاق على منع ما اتصف بواحدة من الأربع فكذا ينبغي على ما فيه نقص أكثر، كالعمياء. ولا يعتبر مع العمى انخساف العين إجماعا، لأنه يخل بالمشي مع الغنم والمشاركة في العلف أكثر من إخلال العور.

مسألة 599: العضباء - وهي مكسورة القرن - لا تجزئ إلا إذا كان القرن الداخل صحيحا، فإنه يجوز التضحية به - وبه قال علي (عليه السلام)، وعمار وسعيد بن المسيب والحسن(3) - لما رواه العامة عن علي (عليه السلام) وعمار(4)، ولم يظهر لهما مخالف من الصحابة.

ومن طريق الخاصة: قول الصادق (عليه السلام) في المقطوعة القرن أو المكسورة القرن:

«إذا كان القرن الداخل صحيحا فهو يجزأ».

فلا بأس وإن كان القرن الظاهر الخارج مقطوعا(5). ولأن ذلك لا يؤثر في اللحم، فأجزأت، كالجماء.

ص: 149


1- في المصدر: ولا بالخرماء
2- التهذيب 5: 213/ 716
3- المغني 3: 597، الشرح الكبير 3: 548
4- المغني 3: 597، الشرح الكبير 3: 548
5- التهذيب 5: 213/ 717

وقال باقي العامة: لا تجزئ - وقال مالك: إن كان يدمي، لم يجز، وإلا جاز(1) - لما رووه عن علي (عليه السلام)، قال:

«نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يضحي بأعضب الأذن والقرن»(2).

وهو محمول على ما کسر داخله. وأما العضباء - وهي التي ذهب نصف أذنها أو قرنها - فلا تجزئ، وبه قال أبو يوسف ومحمد وأحمد في إحدى الروايتين(3). وكذا لا تجزئ عندنا ما قطع ثلث أذنها - وبه قال أبو حنيفة وأحمد في الرواية الأخرى(4) - لأن ما قطع بعض أذنها يصدق عليها أنها مقطوعة الأذن، فتدخل تحت النهي.

مسألة 600: لا بأس بمشقوقة الأذن أو مثقوبتها إذا لم يكن قد قطع من الأذن شئ، لما رواه العامة عن علي (عليه السلام)، قال:

«أمرنا أن نستشرف العين والأذن(5) ولا نضحي بمقابلة ولا مدابرة ولا خرقاء ولا شرقاء».

قال زهير: قلت لأبي إسحاق: ما المقابلة؟ قال: يقطع طرف الأذن، قلت: فما المدابرة؟ قال: يقطع من مؤخر الأذن، قلت: فما الخرقاء؟ قال: تشق الأذن، قلت: فما الشرقاء؟ قال: تشق أذنها للسمة(6).

ص: 150


1- المغني 3: 597، الشرح الكبير 3: 548
2- سنن ابن ماجة 2: 1051/ 3145، سنن الترمذي 4: 90/ 1504، سنن أبي داود 3: 98/ 2805، المستدرك - للحاکم - 4: 224، مسند أحمد 1: 83
3- تحفة الفقهاء 3: 85، المغني 3: 596، الشرح الكبير 3: 548
4- النتف 1: 240، تحفة الفقهاء 3: 85، المغني 3: 596، الشرح الكبير 3: 548
5- أي: نتأمل سلامتهما من آفة تكون بهما. النهاية - لابن الأثير - 2: 462 شرف
6- المغنی 3: 597 - 598، الشرح الكبير 3: 549، سنن أبي داود 3: 97 - 98/ 2804، وفي سنن النسائي 7: 216 و 217 بدون الذيل

ومن طريق الخاصة: قول علي (عليه السلام):

«أمرنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) في الأضاحي أن نستشرف العين والأذن، ونهانا عن الخرقاء والشرقاء والمقابلة والمدابرة»(1).

يقال: استشرفت الشي: إذا رفعت بصرك تنظر إليه، وبسطت كفك فويق حاجبك كأنك تستظل من الشمس.

وسئل أحدهما (عليهما السلام) عن الأضاحي إذا كانت الأذن مشقوقة أو مثقوبة بسمة، فقال: «ما لم يكن مقطوعا فلا بأس»(2).

ثانياً - السيد عبد الأعلى السبزواري رحمه الله)، (ت: 1414 ه).

قال في مهذب الاحکام، المسألة 26:

(لا بأس بمشقوق الأذن ومثقوبها إن لم ينقص منها شيء، کما لا بأس بمکسور القرن الخارج، ولا الجماء الَّتي لم يخلق لها قرن، والفاقد للذّنب كذلك، وقول أبي عبد الله (عليه السلام):

«فإن لم تجد فما استيسر عليك»، وقوله (عليه السّلام) الآخر:

«فان لم تجد فما استيسر من الهدي».

على أنواع الهدي والأفضل فالأفضل وإن كان صحيحا، ولكن حيث ورد ذلك كله في مقام الرأفة والامتنان یکون الحمل على إجزاء الناقص عند عدم التمكن إلا منه صحيحا أيضا، فيما لم يرد دليل على الخلاف، إلَّا أن الظاهر تسالهم على عدم العمل بهذا الإطلاق، مع أن إهداء الشيء الناقص إلى

ص: 151


1- الفقيه 2: 293 / 1449، والتهذيب 5: 212/ 715
2- تذكرة الفقهاء: ج 8 ص 260 - 263

العظيم من كل حيثية وجهه مما يستنكره العقل السليم - وإن كان ليس من عادة عظيم العظماء المداقة في الهدايا والعطايا، بل ما رأينا منه إلا خلاف ذلك، وفي جملة من الدعوات: «یا من يقبل اليسير ويعفو عن الكثير»، وكذا قوله (عليه السلام):

«خيرك إلينا نازل وشرنا إليك صاعد».

وعلى أي تقدير فما هو المشهور من عدم الإجزاء في كل ناقص هو المتعين.

كل ذلك للإطلاق، والاتفاق، ونصوص خاصّة بعد عدم صدق النقص على ذلك كله، وفي خبر ابن أبي نصر عن أحدهما (عليهم السّلام): «سئل عن الأضاحي إذا كانت الأذن مشقوقة أو مثقوبة بسمة فقال (عليه السّلام): ما لم يكن منها مقطوعا فلا بأس»(1).

وأما ما في خبر الحلبي عن الصادق (عليه السّلام): «وإن كان شقا فلا يصلح»(2) لكن الأولى اجتناب ذلك كله.

وفي صحيح جميل عنه (عليه السّلام) أيضا أنه قال:

«في المقطوع القرن أو المكسور القرن إذا كان القرن الداخل صحيحا فلا بأس وإن كان القرن الظاهر الخارج مقطوعا».

وقال في المدارك: «قد قطع الأصحاب بإجزاء الجمّاء وهي التي لم تخلق لها قرن، والصماء وهي فاقدة الأذن خلقة، للأصل، ولأن فقد هذه الأعضاء لا يوجب نقصا في قيمة الشاة ولا في لحمها».

ص: 152


1- الوسائل باب: 23 من أبواب الذبح حديث: 1
2- الوسائل باب: 23 من أبواب الذبح حديث: 2

أقول: هو حسن بالنسبة إلى الجماء، إذ الظاهر تعارفه وعدم عده نقصا عند العرف وإن كان في تعليله ما لا يخفی.

وأما الفاقدة الأذن خلقة، فيمكن أن يكون نقصا خصوصا بعد قول أمير المؤمنين (عليه السّلام):

«فإذا سلمت الأذن والعين سلمت الأضحية وتمت وإن كانت عضباء تجر رجلها إلى المنسك»(1). إلا أن يقال: أنه في مقام بيان النواقص الطارئة والأضحية المندوبة لا الخلقية والهدي الواجب.

وأما البتراء: فإن كانت من النوع الذي ليس لها ذنب أصلا فالظاهر الإجزاء، وإنّ كانت ممالها ذنب واتفق عدمه خلقة فيشكل الإجزاء إن لم يكن إجماع، ويظهر من الكلمات عدم تحققه، ويمكن أن يجمع بين الكلمات بذلك.

لرواية ابن هاني عن علي (عليه السلام) قال:

«أمرنا رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) في الأضاحي أن نستشرف العين والأذن، ونهانا عن الخرقاء والشرقاء والمقابلة والمدابرة»(2) قال الصدوق في معاني الأخبار: «الخرقاء»: أن يكون في الأذن ثقب)(3).

المسألة الثانية: أقوال فقهاء المذاهب الأخرى في المسألة.

أولاً - المذهب الزيدي.

ذهب الزيدية إلى تحقق سلامة الأضحية وفيها ويجزي منها الى اشتراط

ص: 153


1- الوسائل باب: 21 من أبواب الذبح حديث: 6
2- الوسائل باب: 21 من أبواب الذبح حديث: 2
3- مهذب الاحکام: ج 14 ص 265 - 267

كونها سالمة العين والأذن والقوائم لاشترقاء أو خرقاء أو مقابلة أو مدابرة.

جاء ذلك في مسند زيد بن علي (عليهما السلام)، فقال:

(فيما يجزي من الأضحية سليمة العينين والأذنين والقوائم لا شرقا ولا خرقا ولا مقابلة ولا مدابرة، أمرنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) ان نستشرف(1) العين والأذن الثني(2) من المعز والجذع(3) من الضأن إذا كان سمينا لا خرقا ولا جدعا ولا هرمة ولا ذات عوار فإذا أصابها شئ بعدما تشتريها فبلغت المنحر فلا بأس.

قال أبو خالد رحمه الله فسر لنا زید بن علي المقابلة ما قطع طرف من اذنها(4) والمدابرة ما قطع من جانب الاذن(5) والشرقا الموسومة والخرقا(6) المثقوبة الاذن)(7).

ص: 154


1- استشرفت اي تأملت ومنه الحديث: أمرنا أن نستشرف العين والأذن اي نتفقد ونتأمل فعل الناظر المستشرف إذا يطلبان شريفتين لسلامتهما من العيوب. من الحكم السوابغ على الكلم النوابغ تأليف الناصر لدين الله محمد بن علي عليه السلام
2- الثنية من الغنم ما دخل في السنة الثانية ومن البقر كذلك ومن الإبل في السادسة والذكر ثني اه نهاية
3- الجذع ما كان شابا فتيا، فهو من الإبل ما دخل في السنة الخامسة ومن البقر والمعز ما دخل في السنة الثانية، وقیل البقر في الثالثة ومن الضأنما تمت له سنة وقيل أقل منها، ومنهم من يخالف بعض هذا التقدير اه نهاية
4- أي من مقدمها
5- من مؤخرها
6- قال ابن قتيبة: الخرقا أن يكون في الأذن ثقب مستدير، والمقابلة ان يقطع من مقدم اذنها شئ ثم يترك معلقا كأنه زنمة، ويقال مثل ذلك في الإبل المزنمات. ولفظ المصباح: المقابلة على صيغة اسم مفعول الشاة التي تقطع من اذنها قطعة ولا تبين وتبقى معلقة من قدم وإن كانت من أخر فهي المدابرة، وقدم بضمتين بمعنى المقدم وأخر بضمتين بمعنى المؤخر
7- مسند زيد بن علي: ص 245

ثانياً - المذهب الشافعي.

وذهب الشافعية الى أن عدم سلامة العين والاذن والعرجاء والمريضة البين مرضها والعرجاء البين ضلعها فهذه الاربعة غير مجزية في الهدي والأضحية.

قال النووي:

(ولا يجزئ ما فيه عيب ينقص اللحم كالعوراء والعمياء والعرجاء التي تعجز عن المشي في المرعى لما روى البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

«لا يجزئ في الأضاحي العوراء البين عورها والمريضة البين مرضها والعرجاء البين ضلعها والكسيرة التي لا تبقى».

فنص على هذه الأربعة لأنها تنقص اللحم فدل على أن كل ما ينقص اللحم لا يجوز، ويكره أن يضحي بالجلحاء وهي التي لا يخلق لها قرن وبالعصماء وهي التي انكسر غلاف قرنها وبالعضباء وهي التي انكسر قرنها وبالشرقاء وهي التي انثقبت من الكي أذنها وبالخرقاء وهي التي تشق أذنها بالطول لان ذلك كله يشينها.

وقد روينا عن ابن عباس ان تعظيمها استحسانها فان ضحی بما ذکرناه أجزأه لان مابها لا ينقص من ذبحه ولا يجزئه عن الأضحية فان زال العيب قبل أن يذبح لم يجزه عن الأضحية لأنه أزال الملك فيها بالنذر وهي لا تجزئ فلم يتغير الحكم بما يحدث فيها كالو أعتق بالكفارة عبدا أعمى ثم صار بعد العتق بصيرا).

ص: 155

(الشرح) حديث البراء صحيح رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وغيرهم بأسانید حسنة قال أحمد بن حنبل ما أحسنه من حديث وقال الترمذي حديث حسن صحيح (وقوله عيب ينقص اللحم - بفتح الياء و اسکان النون وضم القاف - (وقوله) صلى الله عليه وسلم: (البين ضلعها) هو بفتح الضاد المعجمة واللام - وهو العرج (وقوله): التي لا تنقي - بضم التاء وإسكان النون وكسر القاف - اي التي لا نقي لها - بكسر النون وإسكان القاف - وهو المخ (وقوله) هذه الأربعة يعني الأمراض (وقوله) نقص اللحم - بتخفيف القاف والجلحاء بالمد وكذا العصماء وهي - بفتح العين والصاد المهملتين - وكذلك العضباء - بفتح العين وإسكان الضاد المعجمة - والشرقاء والخرقاء بالمد أيضا.

(وقوله): يشينها، بفتح أوله، وهذا التفسير الذي ذكره المصنف في الشرقاء والخرقاء مما أنكر عليه وغلطوه فيه بل الصواب المعروف في الشرقاء أنها المشقوقة الأذن والحرقاء التي في أذنها ثقب مستدير والله أعلم.

(أما) الأحكام ففيه مسائل:

(إحداها): لا تجزئ التضحية بما فيه عيب ينقص اللحم المريضة فإن كان مرضها يسيرا لم يمنع الأجزاء وإن كان بينا يظهر بسببه الهزال وفساد اللحم لم يجزه هذا هو المذهب وبه قطع الجمهور.

وحكى ابن کج قولا شاذا أن المرض لا يمنع بحال وأن المرض المذكور في الحديث المراد به الجرب و حکی وجه أن المرض يمنع الاجزاء وإن كان يسيرا وحكاه في الحاوي قولا قدیما، وحکی وجه في الهيام - بضم الهاء

ص: 156

وتخفيف الياء - خاصة أنه يمنع الأجزاء وهو من أمراض الماشية وهو أن يشتد عطشها فلا تروي من الماء قال أهل اللغة هو داء يأخذها فتهيم في الأرض لا ترعى وناقة هيماء - بفتح الهاء والمد - والله أعلم.

(الثانية): الجرب يمنع الأجزاء كثيره وقليله كذا قاله الجمهور ونص عليه في الجديد لأنه يفسد اللحم والودك، وفيه وجه شاذ أنه لا يمنع إلا إذا كثر كالمرض واختاره إمام الحرمين والغزالي والمذهب الأول، وسواء في المرض والجرب ما یرجی زواله وما لا يرجی.

(الثالثة): العرجاء ان اشتد عرجها بحيث تسبقها الماشية إلى الكلا الطيب وتتخلف عن القطيع لم تجزئ وإن كان يسيرا لا يخلفها عن الماشية لم يضر فلو انكسر بعض قوائمها فكانت تزحف بثلاث لم تجزئ، ولو أضجعها ليضحي بها وهي سليمة فاضطربت وانكسرت رجلها أو عرجت تحت السكين لم تجزه على أصح الوجهين لأنها عرجاء عند الذبح فأشبه ما لو انكسرت رجل شاة فبادر إلى التضحية بها فإنها لا تجزئ.

(الرابعة): لا تجزئ العمياء ولا العوراء التي ذهبت حدقتها وكذا ان بقيت حدقتها في أصح الوجهين لفوات المقصود وهو كمال النظر، وتجزئ العشواء على أصح الوجهين وهي التي تبصر بالنهار دون الليل لأنها تبصر وقت الرعي.

(فاما) العمش و ضعف بصر العينين جميعا قطع الجمهور بأنه لا يمنع، وقال الروياني: أن غطى الناظر بياض أذهب أكثره منع وان أذهب أقله لم يمنع على أصح الوجهي.

ص: 157

(الخامسة): العجفاء التي ذهب مخها من شدة هزالها لا تجزئ بلا خلاف وإن كان بها بعض الهزال ولم يذهب منها أجزأت كذا أطلقه الأكثرون.

وقال الماوردي: إن كان خلقيا فالحكم كذلك وإن كان لمرض منع الاجزاء لأنه ذا وقال امام الحرمین کما لا يعتبر السمن البالغ للاجزاء لا يعتبر العجف البالغ للمنع قال وأقرب معتبر أن يقال إن كان لا يرغب في لحمها الطبقة العالية من طلبة اللحم في حالة الرخاء منع.

(السادسة): ورد النهي عن الثولاء وهي المجنونة التي تستدير في الرعي ولا ترعى الا قليلا فتزل فلا تجزئ بالاتفاق.

(السابعة): يجزئ الفحل وان کثر نزوانه والأنثى وان كثرت ولادتها ولم يطب لحمها الا إذا انتهيا إلى العجف البين.

(الثامنة): لا تجزئ مقطوعة الأذن فان قطع بعضها نظر فإن لم يبن منها شئ بل شق طرفها وبقي متدليا لم يمنع على الأصح من الوجهين وقال القفال يمنع وحكاه الدارمي عن ابن القطان، وان أبين فإن كان كثيرا بالإضافة إلى الاذن منع بلا خلاف وإن كان يسيرا منع أيضا على أصح الوجهين لفوات جزء مأكول، قال إمام الحرمين وأقرب ضبط بين الكثير واليسير أنه إن لاح النقص من البعد فكثير والا فقليل.

(التاسعة): لا يمنع الكي في الاذن وغيرها على المذهب وبه قطع الجمهور وقيل في منعه وجهان لتصلب الموضع، وتجزئ صغيرة الاذن ولا تجزئ التي لم يخلق لها أذن على المذهب وبه قطع الجمهور وفيه وجه ضعيف انها تجزئ حكاه الدارمي وغيره.

ص: 158

(العاشرة): لا تجزئ التي أخذ الذئب مقدارا بينا من فخذها بالإضافة إليه ولا يمنع قطع الفلقة اليسيرة من عضو كبير، ولو قطع الذئب أو غيره أليتها أو ضرعها لم تجزئ على المذهب وبه قطع الجمهور وقيل فيه وجهان، وتجزئ المخلوقة بلا ضرع أو بلا الية على أصح الوجهين کما يجزئ الذكر من المعز بخلاف التي لم يخلق لها اذن لان الاذن عضو لازم غالبا والذنب کالألية وقطع بعض الألية أو الضرع كقطع كله ولا تجزئ مقطوعة بعض اللسان.

(الحادية عشرة): يجزئ الموجوء والخصي كذا قطع به الأصحاب وهو الصواب، وشذ ابن کج فحكى في الخصي قولين وجعل المنع هو قول الجديد وهذا ضعيف منابذ للحديث الصحيح (فان قيل) فقد فات منه الخصيتان وهما مأكولتان (قلنا) لیستا مأكولتين في العادة بخلاف الاذن ولان ذلك ينجبر بالسمن الذي يتجدد فيه بالاخصاء فإنه إنما جاء في الحديث أنه ضحی بموجوبين وهما المرضوضان ولا يلزم منه جواز الخصي الذي ذهبت خصياه فإنها بالرضى صارتا کالمعدومتين وتعذر أكلهما.

(الثانية عشرة): تجزئ التي لا قرن ها و مکسورة القرن سواء دمی قرنها أم لا قال القفال الا أن يؤثر ألم الانكسار في اللحم فیکون کالجرب وغيره وذات القرن أفضل للحديث الصحيح أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) (ضحی بكبشين أقرنين) ولقول ابن عباس تعظيمها استحسانها.

(الثالثة عشرة): تجزئ ذاهبة بعض الأسنان فان انكسرت جميع أسنانها أو تناثرت فقد أطلق البغوي وآخرون أنها لا تجزئ وقال أمام الحرمين قال المحققون تجزئ وقيل لا تجزئ وقال بعضهم إن كان ذلك لمرض أو كان يؤثر

ص: 159

في الاعتلاف وينقص اللحم منع والافلا؛ قال الرافعي وهذا حسن ولكنه يؤثر بلا شك فرجع الكلام الا المنع المطلق هذا كلام الرافعي والصحيح المنع مطلقا؛ وفي الحديث نهي عن المشيعة قال صاحب البيان هي المتأخرة عن الغنم فإن كان ذلك لهزال أو علة منع لأنها عجفاء وإن كان عادة وكسلا لم يمنع والله أعلم.

(الرابعة عشرة): قال أصحابنا العيوب ضربان ضرب يمنع الاجزاء وضرب لا يمنعه لكن يكره.

(فأما) الذي يمنعه فسبق بيانه وتفصيله والمتفق عليه منه والمختلف فيه وأما الذي لا يمنعه بل يكره فمنه مکسورة القرن وذاهبته ويقال للتي لم يخلق لها قرن جلحاء وللتي انكسر ظاهر قرنها عصماء والعضباء هي مكسورة ظاهر القرن وباطنه هذا مذهبنا.

وقال النخعي: لا تجوز الجلحاء، وقال مالك ان دمی قرن العضباء لم تجزئ والا فتجزئ؛ دلیلنا انه لا يؤثر في اللحم (ومنه) المقابلة والمدابرة يكرهان ويجزئان وهما - بفتح الباء فيهما.

قال جمهور العلماء من أهل اللغة وغریب الحديث والفقهاء: المقابلة التي قطع من مقدم اذنها فلقة وتدلت في مقابلة الاذن ولم ينفصل والمدابرة التي قطع من مؤخر اذنها فلقة وتدلت منه ولم تنفصل والفلقة الأولى تسمی الاقبالة والأخرى تسمى الادبارة.

وقال أبو عبيد معمر بن المثنى في كتابه غريب الحديث: المقابلة الموسومة بالنار في باطن أذنها والمدابرة في ظاهر أذنها والمشهور الأول، ودليل المسألة حديث علي -عليه السلام- قال:

ص: 160

«أمرنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن نستشرف العين والاذن وأن لا نضحي بعوراء ولا مقابلة ولا مدابرة ولا شرقاء ولا خرقاء»، رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وغيرهم. قال الترمذي: حديث حسن صحيح وسبق تفسير الخرقاء والشرقاء في أول كلام المصنف ومعنى نستشرف العين أي نشرف عليها ونتأملها وقد قدمنا أن هذه العيوب كلها لا تمنع الاجزاء، ونقله صاحب البيان عن أصحابنا العراقيين ثم قال وقال المسعودي: يعني صاحب الديانة في إجزائها وجهان والله أعلم)(1).

ثالثاً - المذهب الحنفي.

ذهب فقهاء الحنفية الى أن النهي الذي ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله) في الأضحية الشرقاء والخرفاء والمقابلة والمدابرة محمول على الاستحباب وهو مجزي في الاضحية.

قال ابو بكر الكاشاني (ت 587 ه):

(وتجوز الثولاء وهي المجنونة الا إذا كان ذلك يمنعها عن الرعى والاعتلاف فلا تجوز لأنه يفضى إلى هلاكها فكان عيبا فاحشا وتجوز الجرباء إذا كانت سمينة فإن كانت مهزولة لا تجوز وتجزي الجماء وهي التي لا قرن لها خلقة وكذا مكسورة القرن تجزى لما روى أن سيدنا عليا - (عليه الصلاة والسلام) - سئل عن القرن فقال:

ص: 161


1- المجموع للنووي: ج 8 ص 399 - 403

«لا يضرك أمرنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن نستشرف العين والاذن».

وروى أن رجلا من همذان جاء إلى الإمام علي - (عليه السلام) - فقال:

يا أمير المؤمنين، البقرة عن كم؟ قال: «عن سبعة».

قال: مكسورة القرن؟ قال: «لاضير».

ثم قال عرجاء؟ فقال: «إذا بلغت المنسك».

ثم قال الإمام علي - (عليه السلام) -:

«أمرنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) انا نستشرف العين والاذن فان بلغ الكسر المشاش لا تجزيه».

والمشاش رؤس العظام مثل الركبتين والمرفقين وتجزي الشرقاء وهي مشقوقة الأذن طولا، وما روى أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) نهى أن يضحى بالشرقاء والخرقاء والمقابلة والمدابرة، فالخرقاء هي مشقوقة الأذن والمقابلة التي يقطع من مقدم أذنها شي ولا يبان بل يترك معلقا والمدابرة أن يفعل ذلك بمؤخر الاذن من الشاة فالنهي في الشرقاء والمقابلة والمدابرة محمول على الندب.

وفي الخرقاء على الكثير على اختلاف الأقاويل في حد الكثير على ما بينا ولا بأس بما فيه سمة في اذنه لان ذلك لا يعد عيبا في الشاة أو لأنه عيب ي أو لان السمة لا يخلو عنها الحيوان ولا يمكن التحرز عنها)(1).

ص: 162


1- بدائع الصانع: ج 5 ص 75 - 76

رابعا - المذهب الحنبلي.

ذهب فقهاء الحنابلة الى أن التضحية بالمدابرة والمقابلة والخرقاء والشرقاء مجزي إلا أنه مكروه.

قال ابن قدامة المقدسي:

(ويكره أن يضحي بمشقوقة الاذن أو ما قطع منها شئ أو ما فيها عيب من هذه العيوب التي لا تمنع الاجزاء لقول علي - (عليه السلام) -:

«أمرنا ان نستشرف العين والاذن ولا يضحي بمقابلة ولا مدابرة ولا خرقاء ولا شرقاء».

قال زهير قلت: لأبي إسحاق ما المقابلة؟

قال: يقطع طرف الاذن، قلت فما المدابرة؟ قال يقطع مؤخر الاذن، قلت: فما الخرقاء؟ قال: يشق الاذن قلت: فما الشرقاء؟

قال: يشق اذنها السمه رواه أبو داود والنسائي. قال القاضي الخرقا التي انثقبت اذنها والشرقاء التي تشق اذنها وتبقى كالشاختين وهذا نهي تنزيه ويحصل الاجزاء بها لا نعلم في هذا خلافاً)(1).

خامساً - المذهب الإباضي.

ذهب الإباضية الى أن العيوب التي لا تضر هي العين والاذن مجزية في الأضحية وأن المانع في الإجزاء هو العور والعرج والعجف وفي ذلك، قال: محمد بن يوسف أطفيش:

ص: 163


1- المغني: ج 3 ص 586

(سالم، لا مشقوق أذنه، ولا مثقوب، ولا مقطوع نصفها فاكثر، وكذا القرن والذنب؛ وقيل: كل نقص بعد سلامة عين واذن لا يضر، ولا تجزي عرجاء، ولا عوراء، ولا عجفاء، إن ظهر، قيل: ولا يضر عرج لم يمنع رعياً، ولا رمداً ابصرت به، ولا سقوط ضروس أن بقي ما تأكل به وتجتر، ولا قرون أن بقي ما يلوي عليه أصبع...)(1).

المسالة الثالثة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسالة.

تباينت أقوال فقهاء المذاهب الاسلامية في حكم العيوب المانعة من الإجزاء في الأضحية فجعلوا منها ما يمنع الإجزاء ومنها ما لا يمنع، وهي كالاتي:

1- فذهب الحنفية الى أن الجنون والجرب في الأضحية مجزي وخالفوا بذلك المذاهب الاسلامية.

2- واتفق الفقهاء في أن سلامة العين والأذن شرط في الإجزاء فالعوراء والمقطوعة الاذن غير مجزية ولذا: لزم إستشراف الأذن وسلامة العين.

واستندوا في ذلك الى حديث أمير المؤمنين الإمام علي (عليه الصلاة والسلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، أنه قال:

«أمرنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن نستشرف الأذن والعين ولا نضحي بعور ولا بمقابلة ولا مدابرة ولا خرفاء ولا شرقاء».

فالمقابلة، هي: ما قطع من مقدم أذنها وبقي معلقاً بها كالزنمة.

ص: 164


1- شرح كتاب النيل وشفاء العليل الأطفيش: ج 4 ص 201 - 202

والشرقاء: ما شق أذنها وبقيت كالشاختين.

والخرقاء: التي أثقبت أذنها من الكي.

فكل هذا مكروه، فإن ضحي بها جاز أي: إذا كانت الأضحية مقابلة ومدابرة وخرقاء وشرقاء كره التضحية بها، وقد أتفق فقهاء المذاهب الاسلامية على ذلك ما عدا الإباضية.

3- ذهب الإباضية الى أن الشق والثقب في الأذن مانع من التضحية ولو قل وذهبوا الى أن مضرتهما أعظم من مضرة القطع لانها سببان لزيادة الخرق.

4- ذهب الإمامية الى كفاية سلامة العينين والأذنيين، وجواز التضحية بالموجوء ونحوه، لكن الأفضل أن تكون كبشا أملح، أقرن، فحلا، سمينا، والأحوط: (أن تكون ثنيا وإن كان الاجتزاء بالجذع من الضان هنا أيضا غير بعيد، ويجزئ عنها الهدي الواجب، والجمع أفضل)(1).

المسألة الرابعة: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة.

أولاً - ابن ميثم البحراني (رحمه الله) (ت: 679 ه).

قال (رحمه الله) في شرحه لنهج البلاغة.

(الأضحية: منصوبة إلى الأضحى إذ كان ذبحها في ضحى ذلك اليوم، وقيل إنّه مشتقّ منها. واستشراف أذنها: طولها، وكنّى بذلك عن سلامتها من القطع أو نقصان الخلقة. والعضباء: مكسورة القرن، وقيل القرن الداخل. وكنّى بجرّ رجلها إلى المنسك عن عرجها. والمنسك: موضع النسك، وهو

ص: 165


1- دليل الناسك للسيد الحكيم: ص 398

العبادة والتقرّب بذبحها. واعلم أنّ المعتبر في الأضحيّة سلامتها عمّا ينقّص قيمتها، وظاهر أنّ العمى والعور والهزال وقطع الأذن تشويه في خلقتها ونقصان في قيمتها دون العرج وكسر القرن.

وفي فضل الأضحيّة أخبار كثيرة روى عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال:

«ما من عمل يوم النحر أحبّ إلى الله عزّ وجلّ من إراقة دم، وإنّها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأظلافها وأن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع الأرض فطيّبوا بها نفسا. وروى عنه أيضا أنّ لكم بكلّ صوفة من جلدها حسنة، وبكلّ قطرة من دمها حسنة، وأنّها لتوضع في الميزان فأبشروا».

وقد كانت الصحابة يبالغون في أثمان الهدى والأضاحي، ويكرهون المماكسة فيها فإنّ أفضل ذلك أغلاه ثمنا وأنفسه عند أهله.

روى أن عمر أهدى نجيبة فطلبت منه بثلاثمائة دينار فسأل رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يبيعها ويشترى بثمنها بدنا فنهاه عن ذلك، وقال:

«بل اهدها».

وسرّ ذلك أنّ الجيّد القليل خير من الكثير الدون. فثلاث مائة دينار وإن كان قيمة ثلاثين بدنة وفيها تكثير اللحم ولكن ليس المقصود اللحم. بل المقصود تزكية النفس وتطهيرها عن صفة البخل وتزيينها بجمال التعظيم لله ف «لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ»، وذلك بمراعاة النفاسة في القيمة كثر العدد أم قلّ.

واعلم أنّه ربما لاح من أسرار وضع الأضحيّة سنّة باقية هو أن يدوم بها

ص: 166

التذكَّر لقصّة إبراهيم (عليه السّلام) وابتلائه بذبح ولده وقوّة صبره على تلك المحنة والبلاء المبين، ثمّ يلاحظ من ذلك حلاوة ثمرة الصبر على المصائب والمكاره فيتأسّى الناس به في ذلك مع ما في نحر الأضحيّة من تطهير النفس عن رذيلة البخل واستعداد النفس بها للتقرّب إلى الله تعالى)(1).

ثانياً - ابن أبي الحديد المعتزلي (ت: 656 ه).

قال في شرحه للنهج:

(الأضحية ما ما يذبح يوم النحر، وما يجرى مجراه أيام التشريق من النعم. واستشراف أذبها: انتصابها وارتفاعها، أذن شرفاء أي منتصبة.

والعضباء: المكسورة القرن. والتي تجر رجلها إلى المنسك، كناية عن العرجاء، ويجوز المنسك، بفتح السين وكسرها)(2).

ص: 167


1- شرح نهج البلاغة لابن ميثم: ج 2 ص 143
2- شرح نهج البلاغة للمعتزلي: ج 4 ص 3

ص: 168

الفصل الثالث : «كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»

اشارة

ص: 169

ص: 170

توطئة

تعلقت هذه الفريضة من حيث المفهوم والدلالة بالجهاد الجوارحي والجوانحي لما لها من آثار كبيرة على النفس والمجتمع سواء كانت هذه الفريضة قد أقيمت أو عطلت ففي كلا الحالين يترتب على ذلك آثار كبيرة.

وللوقوف على أحكامها بما يتناسب مع ما ورد من نصوص شريفة في نهج البلاغة، وبيان هذه الأحكام في المذاهب الإسلامية السبعة وعطفها على ما تعرض له العلماء في شروح نهج البلاغة، فلا بد أولاً، من التنبيه إلى قضية مهمة، وهي: أن كثيرا من المسائل والاحكام المتعلقة بهذه الفريضة قد أنفرد في بيانها فقهاء المذهب الإمامي (أعلى الله شأنهم)(1) دون غيرهم من فقهاء المذاهب الإسلامية الستة،مما اضطرنا الى تركها وذلك:

أن المنهج المتبع في الكتاب هو إيراد الاحكام الفقهية على المذاهب السبعة ومن ثم فان مقتضيات هذا المنهج تحول دون ذكر کثير من الأحكام التي وردت في نهج البلاغة وتفرد ببيانها فقهاء المذهب الامامي.

وعليه:

فقد اقتصرت هذه الفريضة وبناءً على هذا المنهج بإيراد مبحثين فقط، وهما:

ص: 171


1- ينظر على سبيل الاستشهاد كتاب: مهذب الاحكام للمرجع الديني السيد عبد الاعلى السبزواري (عليه الرحمة والرضوان)، كتاب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر: ج 15 ص 220

أولاً - بيان وجوب فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفضلها في المذاهب الإسلامية السبعة.

وثانياً - مراتب الإنكار والنهي عن المنكر.

ص: 172

المبحث الأول في وجوب الأمر بالمعروف والنهي

عن المنكر وتحريم تركهما

قال أمير المؤمنين الامام علي (عليه الصلاة والسلام) في وصيته للحسن والحسين (عليهما السلام):

«لَا تَتْرُکُوا الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَ النَّهْیَ عَنِ الْمُنْکَرِ فَیُوَلَّی عَلَیْکُمْ أَشْرَارُکُمْ ثُمَ تَدْعُونَ فَلَا یُسْتَجَاب لَكُم»(1).

وقال (عليه الصلاة والسلام) في وصيته للإمام الحسن(عليه السلام):

«وَ إِنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَ النَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ لَخُلُقَانِ مِنْ خُلُقِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَ إِنَّهُمَا لاَ يُقَرِّبَانِ مِنْ أَجَلٍ وَ لاَ يَنْقُصَانِ مِنْ رِزْقٍ»(2).

المسألة الأولى: تعريف المعروف والمنكر في اللغة.

في هذه المسألة نورد ما جاء لدى أهل اللغة، ثم نردفه بقول المتشرعة ليتضح لدينا معنى هذه الفريضة ودلالتها المفاهيمية، وهي كالاتي:

ص: 173


1- نهج البلاغة: ومن وصية له للحسن والحسين (عليهما السلام) لما ضربه ابن ملجم (لعنه الله)، ص 421
2- نهج البلاغة بتحقيق صبحي الصالح: ومن حديث له (156): من 218

أولاً - المعروف والمنكر لغة.

ألف - المعرفة لغة.

يقود جذر الأمر بالمعروف الى (عرف).

و (عرف): عرفت الشيء معرفة وعرفاناً، وأمر عارف: معروف، عريف.

والعرف: المعروف؛ قال النابغة:

أبي الله إلا عدله وقضاءه *** فلا النكر معروف ولا العرف ضائع(1)

وقال أبن فارس (ت 395 ه):

العين والراء والفاء أصلان صحيحان يدل أحدهما على تتابع الشيء متصلا بعضه ببعض والآخر يدل على السكون والطمأنينة، فالأول العرف، عرف الفرس وسمّي بذلك لتتابع الشّعر عليه، ويقال: جاءت القطا عرفاً عرفاً: أي بعضها خلف بعض.

ومن الباب العرفة، وجمعها عرف، وهي أرض منقادة مرتفعة بين سهلتين تنبت، كأنّها عرف فرس.

ومن الشعر في ذلك، والأصل الآخر: المعرفة والعرفان؛ تقول: عرف فلانا عرفانا ومعرفة وهذا أمر معروف؛ وهذا يدل على ما قلناه من سكونه إليه لأن من أنكر شيئاً توحش منه ونبا عنه)(2).

ص: 174


1- کتاب العين للفراهيدي: ج 2 ص 121
2- معجم مقاييس اللغة: ج 4 ص 281

ونستنتج من ذلك: إن المعروف هو الشيء الحسن الذي تسكن إليه النفس البشرية وتأنس به وأن ما تنفر منه النفس وتستوحش منه فتنكره القبحه فهو المنكر، أي إن النفس أنكرته.

وهذا المفهوم والمعنى ما ذهب إليه أهل اللغة في بيان معنى المنكر:

باء - المنكر لغة.

قال ابن منظور (ت: 711 ه):

(المنكر من المر: خلاف المعروف، وقد تكرر في الحديث (الإنكار والمنكر)، وهو ضد المعروف، وكل ما قبحه الشرع وكرهه، فهو منکر، ونكره ينكره، نکرا، فهو منکور، واستنكره فهو مستنكر، والجمع مناكير، عن سيبويه.

قال أَبو الحسن: وإِنما أَذكُرُ مثل هذا الجمع لأَن حكم مثله أَن الجمع بالواو والنون في المذكر وبالأَلف والتاء في المؤنث.

والنُّکرُ والنَّكراءُ، ممدود: المُنكَرُ.

وفي التنزيل العزيز: (لقد جئت شيئاً نُكراً)، قال: وقد يحرك مثل عُسرٍ وعُسُرٍ؛ قال الشاعر الأَسوَدُ بنُ يَعفُرَ:

أَتَوني فلم أَرضَ ما بَیَّتُوا *** وكانوا أَتَوني بِشيءٍ نُكُر

لأُنکِحُ أَيمَهُم مَنذِراً *** وهل يُنكحُ العبدَ حُرٌّ لِحُر؟

ورجل نَکُرٌ ونَکِرٌ أَي داه مُنکَرٌ، وكذلك الذي يُنکِرُ المُنكَرَ، وجمعهما

ص: 175

أَنكارٌ، مثل عَضُدٍ وأَعضادٍ وكَبِدٍ وأَكباد)(1).

ثانيا - الأمر لغة.

(والأمر الذي هو نقيض النهي، قولك: أفعل كذا.

قال الأصمعي يقال لي: عليك أمرة مطاعة أي لي عليك أن آمرك مرة واحدة فتطيعني.

قال الكسائي فلان يؤامر نفسية أي: نفس تأمره بشيء ونفس تأمره بآخر.

وقال: إنه لأمور بالمعروف ونهي عن المنكر من قوم أمر)(2).

المسالة الثانية: معنى المعروف والمنكر عند الفقهاء.

أولاً - المذهب الإمامي.

عرّفه فقهاء الإمامية (أعلى الله شأنهم) بما يلي:

قال: الشيخ محمد حسن الجواهري (عليه الرحمة والرضوان) (ت: 1266 ه):

(المعروف على ما في المنتهى ومحكي التحرير والتذكرة (هو كل فعل حسن اختص بوصف زائد على حسنه إذا عرف فاعله ذلك أو دل عليه، والمنكر كل فعل قبيح عرف فاعله قبحه أو دل عليه) فالأول بمنزلة الجنس، ضرورة كون المراد بالحسن الجائز بالمعنى الأعم الشامل لما عدا الحرام فإنه

ص: 176


1- لسان العرب: ج 5 ص 233 - 234
2- معجم مقايس اللغة: ج 1 ص 137

على ما عرفوه بما للقادر عليه العالم بحاله أن يفعله، أو بما لم يكن على صفة تؤثر في استحقاق الذم ويقابله القبيح، والاختصاص بوصف إلى آخره بمنزلة الفصل لاخراج المباح الذي لا وصف فيه زائدا على حسنه المراد به جواز فعله، ويتبعه المكروه وإن دخل في تعريفي الحسن بالأولوية، أو لأنه لا وصف فيه زائدا على حسنه بمعنى الجواز بناءا على كون المراد الزيادة في الحسن كالندبية والوجوبية، فلا تدخل المرجوحية في الفعل حينئذ فيه، وقد يطلق الحسن على ما له مدخلية في استحقاق المدح، فيختص حينئذ بالواجب والمندوب، ويخرج عنه المباح والمكروه، لكن لا يحمل المتن عليه، ضرورة أنه لو كان المراد به ذلك لم يحتج إلى قيد الاختصاص بوصف زائد في إخراجهما بعد خروجهما عنه بالحسن.

وأما المنكر فليس إلا القبيح الذي هو الحرام كما سمعته من التعريفين، بل والثالث المقابل للحسن بالمعنى الأخير: أي ما كان على صفة تؤثر في استحقاق الذم، وحينئذ فالمباح والمكروه فضلا عن ترك المندوب ليسا من المعروف ولا من المنكر، فلا يؤمر بهما ولا ينهى عنهما، وربما حكي عن بعض إدراج المكروه في المنكر على معنى ما كان فيه صفة تقتضي رجحان تركه وحينئذ يكون النهي على قسمين: واجب ومستحب كالأمر بالمعروف، إلا أنه خلاف المعروف في المراد منه، وفي المسالك يمكن دخوله في المندوب باعتبار استحباب تركه، فإذا تركه مندوبا تعلق الأمر به، وهذا هو الأولى، وفيه ما لا يخفى، ولكن الأمر سهل بعد معلومية رجحان النهي عن فعل المكروه، كمعلومية رجحانه أيضا عن ترك المندوب، ولذا صرح باستحباب الأول أبو الصلاح وابن حمزة والشهيدان والسيوري على ما حكي، اندرج في

ص: 177

عنوان معروف و منکر أو لم يندرج، وعلى كل حال فالمراد بالتقييد بقوله إذا إلى آخره من حيث يؤمر به وينهى عنه لا في حد ذاته إذ العلم به غیر شرط کونه حسنا ومعروفا و قبيحا، كما أن الظاهر إرادة الإشارة إلى العلم بالاجتهاد والتقليد مثلا من قوله عرفه أو دل عليه وهو واضح)(1).

ثانيا - المذهب الحنبلي.

عرّفه فقهاء المذهب الحنبلي بما يلي:

قال البهوتي (ت 1015 ه):

(المعروف: كل ما أمرُ به شرعاً؛ والمنكر: كل ما نهي عنه شرعاً)(2).

المسألة الثالثة: فضل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

أتفق فقهاء المذاهب الإسلامية على فضل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لما ورد فيه في نصوص شرعية في القرآن والسنة النبوية، وقد تعرض الشيخ الجواهري (عليه الرحمة والرضوان) على ايراد بعضاً من النصوص الكثيرة في بيان فضله، وهي كالاتي:

قال الله عز وجل في بيانه:

«وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ»(3).

ص: 178


1- جواهر الكلام: ج 21، ص 356 - 358
2- کشاف القناع: ج 3 ص 37
3- آل عمران: 104

وقال تعالى:

«كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ»(1).

وقال تعالى:

«الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ»(2).

إلى غير ذلك مما ذكره تعالى في كتابه العزيز، وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله)(3):

(إذا أمتي تواكلت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فليأذنوا بوقاع من الله تعالى).

وقال (صلى الله عليه وآله) أيضا(4):

(كيف بكم إذا فسدت نساؤكم، وفسق شبانكم ولم تأمروا بالمعروف، ولم تنهوا عن المنكر)

فقيل له: ويكون ذلك يا رسول الله؟ فقال: (نعم وشر من ذلك، فيكف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف).

فقيل له يا رسول الله ويكون ذلك؟ فقال:

ص: 179


1- آل عمران: 110
2- الحج: 41
3- الوسائل: الباب 1 من أبواب الأمر والنهي الحديث 5 - 12
4- الوسائل: الباب 1 من أبواب الأمر والنهي الحديث 5 - 12

(نعم وشر من ذلك، كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكرا والمنكر معروفا).

وقال (صلى الله عليه وآله) أيضا(1): (إن الله عز وجل ليبغض المؤمن الضعيف الذي لا دين له).

فقيل له: وما المؤمن الذي لا دين له؟ قال: (الذي لا ينهى عن المنكر)

وقال أيضا(2): (لا يزال الناس بخیر ما أمروا بالمعروف ونهو عن المنكر وتعاونوا على البر، فإذا نزعت منهم البركات، وسلط بعضهم على بعض، ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء وجاء رجل من خثعم).(3)

فقال يا رسول الله: أخبرني ما أفضل الاسلام؟ فقال:

(الايمان بالله). قال: ثم ماذا؟ قال: (صلة الرحم)، قال: ثم ماذا؟ قال: (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، فقال الرجل: فأي الأعمال أبغض إلى الله تعالى عز وجل؟ قال: (الشرك بالله)، قال: ثم ماذا؟ قال: (قطيعة الرحم)، قال: ثم ماذا؟ قال: (النهي عن المعروف والأمر بالمنكر).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام)(4): (من ترك إنكار المنكر بقلبه ويده ولسانه فهو ميت بين الاحياء).

وخطب (عليه السلام) يوما(5) (فحمد الله وأثنى عليه)، وقال:

ص: 180


1- الوسائل: الباب 1 من أبواب الأمر والنهي الحديث 13
2- الوسائل: الباب 1 من أبواب الأمر والنهي الحديث 18 - 11 - 7 إلا أنه من ترك ذيل الأخير وذكر تمامه في الكافي؛ ج 5 ص 57
3- تقدم آنفا تحت رقم 2
4- الوسائل: الباب 3 من أبواب الأمر والنهي الحديث 4
5- تقدم آنفا تحت رقم 2

(أما بعد: فإنه إنما هلك من كان قبلكم حيث ما علموا من المعاصي، ولم ينههم الربانيون والأحبار عن ذلك نزلت بهم العقوبات، فأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، وأعملوا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لن يقربا أجلا ولن يقطعا رزقا، إن الأمر ينزل من السماء إلى الأرض كقطر المطر إلى كل نفس بما قدر الله لها من زيادة أو نقصان).

إلى آخره، وقال أيضا:

(اعتبروا أيها الناس بما وعظ الله به أولياءه من سوء ثنائه على الأحبار إذ يقول(1) «لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ» وقال(2) «لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ».

وإنما عاب الله تعالى ذلك عليهم لأنهم كانوا يرون من الظلمة الذين بين أظهرهم المنكر والفساد، فلا ينهونهم عن ذلك رغبة فيما كانوا ينالون منهم، ورهبة مما يحذرون، والله يقول فلا تخشوا الناس واخشون وقال والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر فبدء الله تعالى بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة منه، لعلمه بأنها إذا أديت وأقيمت استقامت الفرائض كلها هینها وصعبها، وذلك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعاء إلى الاسلام مع رد المظالم ومخالفة الظالم، وقسمة الفيئ والغنائم، وأخذ الصدقات من

ص: 181


1- الوسائل: الباب 2 من أبواب الأمر والنهي الحديث 9
2- المائدة: 78 - 79

مواضعها ووضعها في حقها).إلى آخره.

وقال الباقر (عليه السلام):(1)

(یکون في آخر الزمان قوم يتبع فيهم قوم مراؤون يتقرؤن ویتنسکون حدثاء وسفهاء لا يوجبون أمرا بمعروف ولا نهيا عن منكر إلا إذا آمنوا الضرر يطلبون لأنفسهم الرخص والمعاذير، يتبعون زلات العلماء وفساد علمهم، يقبلون على الصلاة والصيام، وما لا يكلمهم في نفس ولا مال ولو أضرت الصلاة بسائر ما يعملون بأموالهم وأبدانهم لرفضوها کما رفضوا أسمى الفرائض وأشرفها، إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة عظيمة بها تقام الفرائض، هنالك يتم غضب الله عليهم، فيعمهم بعقابه، فيهلك الأبرار في دار الفجار، والصغار في دار الكبار، إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الأنبياء، ومنهاج الصالحين، فريضة عظيمة بها تقام الفرائض، وتأمن المذاهب، وتحل المكاسب، وترد المظالم، وتعمر الأرض، وينتصف من الأعداء، ويستقيم الأمر، فأنكروا بقلوبكم والفظوا بألسنتكم وصكوا بها جباههم، ولا تخافوا في الله لومة لائم، فإن اتعظوا وإلى الحق رجعوا فلا سبيل عليهم «إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم»(2) هنالك فجاهدوهم بأبدانكم، وابغضوهم بقلوبكم، غير طالبين سلطانا، ولا باغين مالا، ولا مريدين بالظلم ظفرا حتى يضيئوا إلى أمر

ص: 182


1- ذكره في الوسائل مقطعا في الباب 2 من أبواب الأمر والنهي: الحديث 6 والباب 1 منها الحديث 6 والباب 3 منها الحديث 1 وتمامه: في الكافي ج 5 ص 55 والتهذيب ج 6 ص 180 الرقم 372
2- الشوری: 42

الله ويمضوا على طاعته).

قال أبو جعفر (عليه السلام):(1)

(أوحى الله تعالى إلى شعیب (عليه السلام) إني معذب من قومك مأة ألف أربعين ألفا من شرارهم وستين ألفا من خيارهم، فقال: يا رب هؤلاء الأشرار فما بال الأخيار؟ فأوحى الله عز وجل إليه أنهم داهنوا أهل المعاصي، ولم يغضبوا لغضبي).

وقال أبو جعفر (عليه السلام):(2)

(بئس القوم قوم يعيبون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقال هو أيضا والصادق (عليهما السلام)(3) ويل لقوم لا يدينون الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).

وقال الصادق (عليه السلام) أيضا(4):

(الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خلقان من خلق الله، فمن نصرهما أعزه الله ومن خذلهما خذله الله تعالى). وقال الباقر (علیه السلام)، أيضا(5):

(من مشى إلى سلطان جائر فأمره بتقوى الله ووعظه وخوفه كان له مثل أجر الثقلين: الجن والإنس ومثل أعمالهم إلا الإمام (عليه السلام).

ص: 183


1- الوسائل: الباب 8 من أبواب الأمر والنهي الحديث 1
2- الوسائل: الباب 1 من أبواب الأمر والنهي الحديث 2
3- الوسائل: الباب 1 من أبواب الأمر والنهي الحديث 1 - 20 والثاني عن الباقر عليه السلام إلا أن الموجود في التهذيب ج 6 ص 177 الرقم 357 قال: قال أبو عبد الله عليه السلام
4- تقدم آنفا تحت رقم 1
5- الوسائل: الباب 3 من أبواب الأمر والنهي الحديث 11

وقال الصادق (عليه السلام)(1):

(ما أقر قوم بالمنكر بين أظهرهم لا يغيرونه إلا أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده إلى غير ذلك من النصوص)(2).

المسألة الرابعة: وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن النكرفي للذهب الإمامي.

أجمع فقهاء الإمامية (أعلى الله شأنهم) على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجوباً كفائياً، وأن المعروف ينقسم الى الواجب والندب، وأن الأمر بالواجب واجب، وبالمندوب مندوب، وأن النهي عن المنكر كله واجب فما هو الا قبيح محرم؛ وذهب بعض الفقهاء الى امكانية تقسيم المنكر الى المحرم والمكروه، فيكون النهي عن المحرم واجب وعن المكروه مستحب ويتحقق الوجوب ويتعلق بالذمة بأربعة شروط، وهي:

1- العلم بأن ما يأمر به معروف، وما ينهى عنه منکر.

2- أن يجوز تأثير الإنكار ، فلو غلب على ظنه أو علم أنه لا يؤثر لم يجب.

3- ألا يظهر من الفاعل أمارة الإقلاع، فلو لاح منه امارة الإمتناع من ذلك سقط الإنكار.

4- ألا يكون فيه مفسدة.

ولقد تناول الشيخ محمد حسن الجواهري (عليه الرحمة والرضوان)، (ت 1266 ه) في جواهر الكلام أقوال فقهاء الطائفة (أعزها الله في مسألة

ص: 184


1- الوسائل: الباب من أبواب الأمر والنهي الحديث 3
2- جواهر الكلام: ج 21، ص 352 - 356

الوجب، فقال:

(فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان اجماعاً؛ من المسلمين بقسميه عليه، مضافا إلى ما تقدم من الكتاب والسنة وغيره.

بل: عن الشيخ، والفاضل، والشهيدين، والمقداد: أن العقل مما يستقل بذلك من غير حاجة إلى ورود الشرع، نعم هو مؤكد، وإن كان الأظهر أن وجوبهما من حيث كونهما كذلك سمعی کما عن السيد، والحلي، والحلبي، والحاجا نصير الدين الطوسي، والكركي، وفخر المحققين، ووالده، في بعض كتبه.

بل: عن المختلف نسبته إلى الأكثر.

بل: عن السرائر نسبته إلى جمهور المتكلمين والمحصلين من الفقهاء، ضرورة عدم وصول العقل إلى قبح ترك الأمر بذلك على وجه يترتب عليه العقاب بدون ملاحظة الشرع، ودعوى أن إيجابهما من اللطف الذي يصل العقل إلى وجوبه علیه جل شأنه واضحة المنع، كوضوح الاكتفاء من الله تعالى بالترغيب والترهيب ونحوهما مما يقرب معه العبد إلى الطاعة ويبعد عن المعصية دون الالجاء في فعل الواجب وترك المحرم.

بل: في المنتهي: لو وجبا بالعقل لما ارتفع معروف ولما وقع منكر، أو كان الله تعالى شأنه محلا بالواجب، والتالي بقسميه باطل، فالمقدم مثله بیان الشرطية أن الأمر بالمعروف هو الحمل على فعل المعروف، والنهي عن المنكر هو المنع منه، فلو كانا بالعقل لكانا واجبين على الله تعالى، لأن كل واجب عقلي يجب على كل من حصل فيه وجه الوجوب ولو وجبا على الله تعالى لزم أحد الأمرين، وأما بطلانهما فظاهر، أما الثاني فلأنه حكيم لا يجوز عليه الاخلال

ص: 185

بالواجب، وأما الأول فلأنه يلزم الالجاء وهو ينافي التكليف، لا يقال: إن هذا وارد عليكم في وجوبهما على المكلف، لأن الأمر هو الحمل، والنهي هو المنع، ولا فرق في اقتضاء الحمل والمنع الالجاء بين ما إذا صدرا من المكلف أو من الله تعالى، وذلك قول بابطال التكليف، لأنا نقول:

لا نسلم أنه يلزم الألحاء، لأن منع المكلف لا يقتضي الامتناع، أقصى ما في الباب أن يكون مقربا، ويجري مجرى الحدود في اللطفية، ولهذا تقع القبائح مع حصول الانکار وإقامة الحدود وإن كان لا يخفى عليك ما في ذلك كله، والعمدة الوجدان، ضرورة عدم وصول العقل إلى ذلك على وجه يترتب عليه الذم والعقاب:

نعم: يمكن دعوی وصوله إلى الرجحان في الجملة لا على الوجه المزبور، والأمر سهل بعد ما عرفت من ثبوته بالشرع كتابا وسنة وإجماعا.

(ووجوبها على الكفاية) وحينئذ ف (يسقط بقيام من فيه غناء وكفاية) کما هو خيرة السيد، والحلبي، والقاضي، والحلي، والفاضل، والشهيدين، والمحقق الطوسي في التجريد، والأردبيلي، والخراساني، وغيرهم على ما حكي عن بعضهم.

(وقيل): والقائل الشيخ وابن حمرة وفخر الاسلام والشهيد في غاية المراد والسيوري على ما حكي عن بعضهم (بل): هو (على الأعيان).

بل: ربما حكي عن الحلي، بل: عن الشيخ حکایته عن قوم من أصحابنا (وهو أشبه) عند المصنف بأصول المذهب و قواعده التي منها أصالة العينية في الوجوب، مضافا إلى الأمر بهما على جهة العموم في جملة من النصوص

ص: 186

منها بعض ما تقدم سابقا، ومنها النبوي(1):

(لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو ليعمكم عذاب الله).

وفي آخر:(2)

(مروا بالمعروف وإن لم تعملوا به کله، وانهو عن المنكر وإن لم تنتهوا عنه كله). إلى غير ذلك.

لكن لا يخفى عليك انقطاع الأصل بمعلومية كون الغرض منهما حصول ذلك في الخارج لا أنهما مرادان من كل شخص بعينه.

بل: يمكن دعوى عدم تعقل إرادة الحمل على المعروف بالید مثلا من الجميع، كما أنه يمكن القطع بكون المراد من هذه العمومات مثل ما ورد منها في تغسيل الميت ودفنه ونحوهما مما هو متعلق بالجميع على معنى الاجتزاء به من أي شخص منهم والعقاب على الجميع مع الترك أصلا، لا أن المراد فعله من كل واحد الذي لا يمكن تصوره باعتبار معلومية عدم إرادة التكرار كمعلومية عدم إمكان الاشتراك، كما هو واضح، هذا كله مضافا إلى الاستدلال عليه أيضا بظاهر قوله تعالى:

«وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ»(3) إلى آخره، المراد منه التبعيض، خصوصا بعد استدلال الصادق (علیه السلام)، قال مسعدة بن صدقة(4) سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أواجب هو على الأمة

ص: 187


1- الوسائل: الباب 3 الأمر والنهي الحديث 12
2- الوسائل: الباب 10 من أبواب الأمر والنهي الحديث 10
3- آل عمران: 104
4- الوسائل: الباب 2 من أبواب الأمر والنهي الحديث 1

جميعا؟

فقال: (لا)، فقيل: ولم؟ قال: (إنما هو على القوي المصاع العالم بالمعروف من المنكر لا على الضعفة الذي لا يهتدون سبيلا) - إلى أن قال -:

(والدليل على ذلك كتاب الله عز وجل «وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ»، إلى آخرها.

فهذا خاص غير عام، كما قال الله عز وجل:

«وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ»(1) ولم يقل على أمة موسی ولا على كل قوم، وهو يومئذ أمم مختلفة، والأمة واحد فصاعدا کما قال الله عز وجل «إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ»(2) يقول مطيعا لله عز وجل وليس على من يعلم ذلك في هذه الهدنة من حرج إذا كان له قوة له ولا عدد ولا طاعة).

وقال مسعدة(3) سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: وسئل عن الحديث الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وآله:

(أن أفضل الجهاد كلمة عدل عند إمام جائر) ما معناه ؟ قال:

(هذا على أن يأمره بعد معرفته، وهو مع ذلك يقبل منه، وإلا فلا).

ولكن يمكن كون المراد من الخبر المفسر للآية الإمام العادل، بل كاد يكون صريح قوله (عليه السلام) والأمة واحد إلى آخره.

ص: 188


1- الأعراف: 159
2- النحل: 120
3- الوسائل: الباب 2 من أبواب الأمر والنهي الحديث 1

بل: يمكن القطع به بناءا على ما هو المعروف عندنا من تعلق الواجب الكفائي بالجميع من حيث الخطاب وإن سقط بفعل البعض، مع أن الآية ظاهرة في الوجوب على معنى أمة من المؤمنين لا جميعهم فضلا عن الناس، وهو إنما يوافق ما ذهب إليه غيرنا من أن المخاطب في الكفائي البعض المبهم، نحو ما قالوه في الواجب المخير بالنسبة إلى المكلف به، وقد أبطلناه في محله.

وحينئذ فالمقصود أنه مع بسط يده الواجب عليه جميع أفراد الأمر بالمعروف التي منها الجهاد وقتال البغاة وإقامة الحدود والتعزيرات ورد المظالم العامة والخاصة وغير ذلك مما لا يقوم به إلا الإمام عليه السلام، فهو خارج عما نحن فيه من بعض أفراد الأمر بالمعروف، فالعمدة حينئذ ما ذكرناه أولا لكن ينبغي أن يعلم أن القائل بالعينية موافق على السقوط مع حصول المطلوب بترك العاصي الاصرار على معصيته، ضرورة امتناع التكليف حينئذ به بامتناع متعلقه وإنما يظهر فائدة القولين في وجوب قیام الكل به قبل حصول الغرض وإن قام به من فيه كفاية على الوجوب العيني، وسقوط الوجوب عمن زاد على ما فيه الكفاية من القائمين على القول الآخر، وحينئذ فلو أمر أو نهی بعض و تخلف بعض كان آثما وإن حصل المطلوب بالبعض الآخر.

ويمكن أن يقال بعينية الانكار القلبي على كل مكلف، ودونه في الاحتمال الأمر اللساني، وأما الحمل عليه بضرب ونحوه فيمكن القطع بعدم العينية فيه، فيكفي حينئذ وقوعه من البعض فيسقط عن الآخر ولا إثم عليه وإن كان قادرا على ما وقع من غيره أيضا، كما أنه يمكن القطع بملاحظة السيرة المستمرة في سائر الأعصار والأمصار بعدم الوجوب العيني فيهما، ولذا يكتفي ذو القدرة عليهما بارسال من يقوم بهما عن مضيه بنفسه وعن مضي

ص: 189

غيرهم ممن هو مشترك معهم في التكليف کما هو واضح.

وعلى كل حال فلا إشكال في سقوط الوجوب بامتثال المأمور على القولين وإن اختلفت الجهة على التقديرين، كما أنه لا إشكال في سقوط المبادرة على الكفائية مع القطع بقيام الغير، حتى لو بان بعد ذلك فساد القطع ولم يكن محل بعد التكليف لم يكن آثما، للسيرة المستمرة في سائر الأعصار والأمصار على عدم المبادرة بمجرد العلم بموت زید مثلا لتغسيله مع القطع بقيام الغير به وإن ظهر بعد ذلك فساد القطع بل لا يبعد الاكتفاء بالظن الغالب المتاخم للعلم لها أيضا، بل ربما احتمل الاكتفاء بمطلق الظن وإن كان فيه نظر أو منع، للأصل السالم عن المعارض.

وعلى كل حال فهو بحث في حكم الكفائي من حيث كونه كذلك لا مدخلية لخصوص المقام فيه، وقد ذكرنا الكلام فيه وفي باقي أحكامه في مطاوي المباحث. (و) على كل حال فقد ظهر لك مما ذكرنا سابقا أن: (المعروف ينقسم إلى الواجب والندب) ضرورة كون كل منهما معروفاً.

بل: قد سمعت احتمال اندراج ترك المكروه في الثاني منهما أيضا، وحينئذ (ف) المدح والثناء في الكتاب والسنة على الآمرين بالمعروف شامل لهما، نعم الأمر بالواجب واجب، وبالمندوب مندوب) کما صرح به الحلي، والديلمي، والفاضل، والشهيدان، وغيرهم.

بل: عن المفاتيح الاجماع عليه، مضافا إلى ما قيل من عدم زيادة الفرع على أصله وإلى ما جاء به من النصوص كقوله (عليه السلام):

ص: 190

«الدال على خير كفاعله»(1).

(ومن أمر بمعروف ونهى عن منكر أو دل على خير أو أشار به فهو شريك).

(2)(ولا يتكلم الرجل بكلمة حق يؤخذ بها إلا كان له مثل أجر من أخذ بها).(3)

إلى غير ذلك مما جاء من الحث على الأمر بالخير بل جميع ما في الكتاب والسنة من المدح على الأمر بالمعروف شامل لهما ولو على إرادة مطلق الرجحان من صيغة الأمر، اللهم إلا أن يقال إن مجاز التخصيص أولى من ذلك، ولكن رجحانه عليه هنا بحث، لقوة إرادة ما يشملهما من المعروف.

بل: لولا الاجماع الذي قد عرفت أمكن القول بوجوب الأمر بالمعروف الشامل لهما وإن لم يجب المندوب على المأمور، أو نقول: بأن المراد وجوب الأمر بالمعروف كل على حاله نحو ما قيل في آية «أوفوا بالعقود»(4) على تقدير تناولها للجائز، فيكون المراد حينئذ من الوفاء بها إعطاء كل منها ما يقتضيه، وإن كان ذلك كله لا يخلو من بحث، ولكن الأمر سهل بعد معلومية الحال نعم ينبغي الرفق في ذلك، قال عمار بن أبي الأحوص،(5) قلت، لأبي عبد الله (عليه السلام):

ص: 191


1- الوسائل: الباب 1 من أبواب الأمر والنهي الحديث 19 - 21
2- الوسائل: الباب 1 من أبواب الأمر والنهي الحديث 19 - 21
3- الوسائل: الباب 16 من أبواب الأمر والنهي الحديث 4
4- المائدة: 1
5- الوسائل: الباب 14 من أبواب الأمر والنهي الحديث 9

(إن عندنا قوما يقولون بأمير المؤمنين ويفضلونه على الناس كلهم، وليس يصفون ما نصف من فضلكم، أنتولاهم ؟ فقال لي:

(نعم في الجملة، أليس عند الله ما لم يكن عند رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولرسول الله (صلى الله عليه وآله) ما ليس عندنا، وعندنا ما ليس عندكم، وعندكم ما ليس عند غير كم، إن الله وضع الاسلام على سبعة أسهم: على الصبر، والصدق، واليقين، والرضا، والوفاء، والحلم، ثم قسم ذلك بين الناس، فمن جعل فيه هذه السبعة الأسهم فهو كامل محتمل، ثم قسم لبعض الناس السهم، ولبعضهم السهمين، ولبعضهم الثلاثة الأسهم، ولبعض الأربعة الأسهم، ولبعض الخمسة الأسهم، ولبعض الستة الأسهم، ولبعض السبعة الأسهم، فلا تحملوا على صاحب السهم سهمين، ولا على صاحب السهمين ثلاثة أسهم، ولا على صاحب الثلاثة أربعة أسهم، ولا على صاحب الأربعة خمسة أسهم، ولا على صاحب الخمسة ستة أسهم، ولا على صاحب الستة سبعة أسهم، فتثقلوهم وتنفروهم، ولكن ترفقوا بهم وسهلوا لهم المدخل، وسأضرب لك مثلا تعتبر به:

إنه كان رجل مسلم وكان له جار كافر، وكان الكافر يرافق المؤمن، فلم يزل يزين له الاسلام حتى أسلم، فغدا عليه المؤمن فاستخرجه من منزله فذهب به إلى المسجد ليصلي معه الفجر جماعة فلما صلى قال: لو قعدنا نذكر الله تعالى حتى تطلع الشمس فقعد معه فقال له:

لو تعلمت القرآن إلى أن تزول الشمس وصمت اليوم كان أفضل، فقعد معه وصام حتى صلى الظهر والعصر، فقال: له لو صبرت حتى تصلي المغرب

ص: 192

والعشاء الآخرة كان أفضل فقعد معه حتى صلى المغرب والعشاء الآخرة، نهضا وقد بلغ مجهوده وحمل عليه ما لا يطيق، فلما كان من الغد غدا عليه وهو يريد مثل ما صنع بالأمس فدق عليه بابه ثم قال:

اخرج حتى نذهب إلى المسجد فأجابه: أن انصرف عني إن هذا دين شديد لا أطيقه.

فلا تخرقوا بهم، أما علمت أن إمارة بني أمية كانت بالسيف، والعنف، والجور، وإن إمامتنا: بالرفق، والتأليف، والوقار، والتقية، وحسن الخلطة، والورع، والاجتهاد، فرغبوا الناس في دينكم، وفيا أنتم فيه).

(و) أما (المنكر) ف (لا ينقسم) إذ ليس هو إلا القبيح المحرم كما عن الشيخ التصريح به، لما عرفته من عدم كون المكروه منكرا، وحينئذ (فالنهي عنه كله واجب) کما صرح به غير واحد وكأنه اصطلاح، وإلا فيمكن قسمته إليهما أيضا على معنى وجوب النهي عن الحرام واستحباب النهي عن المكروه، فيكون حينئذ قسمين كالمعروف ولعله لذا قال ابن حمزة فيما حكي عنه:

«النهي عن المنكر يتبع المنكر، فإن كان المنكر محظورا كان النهي عنه واجبا، وإن كان مكروها كان النهي عنه مندوبا وإن كان فيه أن إطلاق المنكر على المكروه غير معروف، وفي المختلف استجود هنا عبارة أبي الصلاح، قال:

الأمر والنهي كل منهما واجب ومندوب، فما وجب فعله عقلا أو سمعا الأمر به واجب، وما ندب إليه فالأمر به مندوب، وما قبح عقلا أو سمعا النهي عنه واجب، وما كره منهما النهي عنه مندوب ولا بأس به والله العالم.

(و) كيف كان ف (لا يجب النهي عن المنكر) ولا الأمر بالمعروف الواجب

ص: 193

(ما لم يكمل شروط أربعة) كما صرح بذلك الفاضل، والشهيدان، وغيرهم، ولعل اقتصار المصنف على الأول لإرادة الأعم من ترك الحرام وفعل الواجب من المنكر على أن يكون المراد بالنهي عن الثاني هو الأمر بالفعل الذي هو المعروف، أو لوضوح أنها شرائط فيهما، أو لغير ذلك.

وعلى كل حال ف (الأول أن يعلمه) معروفا و (منكرا ليأمن) من (لغلط في) التعريف و (الانكار) كما صرح به الحلي، والفاضل، والشهيدان، والمقداد، کا وغيرهم على ما حكي عن بعضهم.

بل: عن المنتهى نفي الخلاف فيه، ومقتضاه كون ذلك شرطا للوجوب کالاستطاعة للحج وحينئذ فالجاهل معذور، لكن في حاشية الكركي، والمسالك النظر في ذلك، قال في الأول: ولقائل أن يقول:

إن في اشتراط الوجوب به نظرا، فإن من علم أن زيدا قد صدر منه فعل منكر أو ترك معروفا في الجملة بنحو شهادة العدلين ولا يعلم المعروف والمنكر ينبغي أن يتعلق به وجوب الأمر والنهي، ويجب عليه تعلم ما يصح معه الأمر والنهي، كما يتعلق بالمحدث وجوب الصلاة، ويجب عليه تحصيل شروطها، والأصل في ذلك أنه لا دليل يدل على اشتراط الوجوب بهذا الأمر، فإن الأمر بهما ورد مطلقا، وتقييده يتوقف على الدليل، وهو منتف، وظاهر تعليلهم يرشد إلى ذلك فإنه كما هو ظاهر لا يستلزم ما ادعوه، لأنا على ذلك الاحتمال نوجب عليه - بعد الإحاطة بترك المعروف في الجملة - التعلم ثم الأمر.

ص: 194

وقال في الثاني منهما: وقد يناقش بأن عدم العلم بالمعروف والمنكر لا ينافي تعلق الوجوب بمن لم يعلم، وإنما ينافيه نفس الأمر والنهي حذرا من الوقوع في الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف، وحينئذ فيجب على من علم بوقوع النكر أو ترك المعروف من شخص معين في الجملة بنحو شهادة العدلين أن يتعلم ما يصح معه النهي والأمر ثم يأمر أو ينهى، كما يتعلق بالمحدث وجوب الصلاة ويجب عليه تحصيل شروطها، وحينئذ فلا منافاة بين عدم جواز أمر الجاهل ونهيه حال الجهل وبين وجوبهما عليه كما تجب الصلاة على المحدث والكافر، ولا تصح منهما على تلك الحال وفيه - مع أنه مناف لما سمعته من الأصحاب من دون خلاف فيه بينهم.

كما اعترف به في المنتهى - أنه مناف أيضا لما في خبر مسعدة(1) السابق الذي حصر الوجوب فيه على القوي المطاع العالم بالمعروف من المنكر، بل يمكن دعوى أن المنساق من إطلاق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو ما علمه المكلف من الأحكام من حيث كونه مكلفا بها، لا أنه يجب أن يتعلم المعروف من المنكر زائدا على ذلك مقدمة لأمر الغير ونهيه اللذين يمكن عدم وقوعهما من يعلمه من الأشخاص، وأما ما ذكراه من المثال فهو خارج عما نحن فيه، ضرورة العلم حينئذ بتحقق موضوع الخطاب بخلاف من فعل أمرا أو ترك شيئا ولم نعلم حرمة ما فعله ولا وجوب ما تركه، فإنه لا يجب تعرف ذلك مقدمة للأمر والنهي لو فرضنا كونهما منه، بل أصل البراءة محكم، وهو مراد الأصحاب بكونه شرطا للوجوب، والله العالم.

ص: 195


1- الوسائل: الباب 2 من أبواب الأمر والنهي الحديث 1

و (الثاني أن يجوز تأثير إنكاره، فلو غلب على ظنه أو علم أنه لا يؤثر لم يجب) بلا خلاف أجده في الأخير.

بل: في ظاهر المنتهى الاجماع عليه، لكن قد يشكل بالنسبة إلى المرتبة الأولى منه، وهو الانكار القلي الذي ستعرف وجوبه على الاطلاق، اللهم إلا أن يقال إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يعقل كونهما بالقلب وحده، ضرورة عدم كون ذلك أمرا ونهيا، كضرورة عدم كون المعرف والمنكر بالقلب آمرا وناهيا، وإنما هو من توابع الايمان بما جاء به النبي (صلى الله عليه وآله) فلا بد من اعتبار أمر آخر في المرتبة الأولى به تعد في الأمر والنهي، وهو إظهار عدم الرضا بضرب من الاعراض وإظهار الكراهة ونحو ذلك، والأمر في ذلك سهل.

إنما الكلام فيما ذكره المصنف وجماعة، بل ربما نسب إلى الأكثر من السقوط أيضا بغلبة الظن بعدم التأثير، مع أن الأوامر مطلقة، ومقتضاها الوجوب على الاطلاق حتى في صورة العلم بعدم التأثير، إلا أنه للاجماع وغيره سقط في خصوصها، أما غيرها فباق على مقتضى الاطلاق من الوجوب.

و لعله لذا كان ظاهر جماعة بل صريح آخرين الاكتفاء بالتجويز الذي معناه الامكان الذي يخرج عنه الامتناع خاصة، بل هو مقتضى عنوان المتن أولا، وإن كان قد فرع عليه غلبة الظن، ودعوى انصراف الاطلاق إلى غير ذلك فيبقى أصل البراءة سليما ممنوعة، كما أن الصادق (عليه السلام) في خبر مسعدة(1) المتقدم لما سئل عما جاء عن النبي (صلى الله عليه وآله):

ص: 196


1- الوسائل: الباب 2 من أبواب الأمر والنهي الحديث 1 - 2 مع اختلاف في الثاني

(إن أفضل الجهاد كلمة عدل عند إمام جائر): هذا على أن يأمره بعد معرفته، ومع ذلك يقبل منه ، وإلا فلا - كقوله (عليه السلام) في خبر يحيى(1):

(إنما يؤمر بالمعروف وينهى عن المنكر مؤمن متيقظ أو جاهل متعلم، وأما صاحب سوط وسيف فلا).

وفي خبر داود الرقي(2):

(لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه).

قيل له: وكيف ذلك؟ قال:

(يتعرض لما لا يطيق).

وفي خبر حرث:(3)

(ما يمنعكم إذا بلغكم عن الرجل ما تكرهون، وما يدخل علينا به الأذى، أن تأتوه فتؤنبوه، وتعذلوه، وتقولوا له قولا بليغا).

قلت: جعلت فداك، إذا لا يقبلون منا، قال:

(اهجروهم، واجتنبوا مجالسهم).

وفي خبر أبان:(4)

(كان المسيح عليه السلام يقول: إن التارك شفاء المجروح ممن جرحه شريك جارحه لا محالة). - إلى أن قال -:

ص: 197


1- الوسائل: الباب 2 من أبواب الأمر والنهي الحديث 1 - 2 مع اختلاف في الثاني
2- الوسائل: الباب 13 من أبواب الأمر والنهي الحديث 1
3- الوسائل: الباب 7 من أبواب الأمر والنهي الحديث 3
4- الوسائل: الباب 2 من أبواب الأمر والنهي الحديث 5

(فكذلك لا تحدثوا بالحكمة غير أهلها فتجهلوا، ولا تمنعوها أهلها فتأثموا وليكن أحدكم بمنزلة الطبيب المداوي إن رأى موضعا لدوائه، وإلا أمسك).

- لا دلالة فيه على السقوط مع الظن كما زعمه بعض الأفاضل خصوصا فيها عدا الأول.

بل: يمكن ظهوره خصوصا الأخير في عكسه فإن الطبيب قد يعطي الدواء مع احتمال الشفاء، وأما الأول فلا دلالة فيه على العلم بالقبول، مع أن الخصم لا يقوله أيضا، ضرورة الوجوب عنده مع تساوي الطرفين، ويمكن حمل عبارة المصنف ونحوها على أن المراد بغلبة الظن الطمأنينة العادية التي لا يراعي معها الاحتمال لكونه من الأوهام فيها، لا أن المراد عدم وجوبه مع الاحتمال المعتد به عند العقلاء الذي هو مقتضى إطلاق الأدلة، خصوصا بعد تصريح غیر واحد بأن الساقط مع العلم بعدم التأثير الوجوب دون الجواز، بل عن بعض الأصحاب استحبابه، والله العالم.

و (الثالث أن يكون الفاعل له): أي المنكر ولو ترك الواجب (مصرا على الاستمرار، فلو لاح منه أمارة الامتناع) عن ذلك (سقط الانكار) بلا خلاف مع فرض استفادة القطع من الأمارة بل ولا إشكال ضرورة عدم موضوع لها، بل هما محرمان حينئذ كما صرح به غير واحد، كما أنه لا إشكال في عدم السقوط بعد العلم باصراره، إنما الاشكال في السقوط بالأمارة الظنية بامتناعه كما هو مقتضى المتن وغيره باعتبار إطلاق الأدلة واستصحاب الوجوب الثابت اللهم إلا أن يريد الظن الغالب الذي يكون معه الاحتمال وهما لا يعتد به عند العقلاء كما سمعته آنفا.

ص: 198

بل: قد يقال بوجوبهما في حال عدم العلم بالاصرار، للحكم بفسقه ما لم تعلم توبته، فيجري عليه حينئذ جميع الأحكام التي منها أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر ما لم تتحقق التوبة ولو بالطريق الذي يتحقق به مثلها من إظهار الندم ونحوه، ومن ذلك ينقدح الاشكال فيما عن السرائر والإشارة والجامع من كون شرط وجوبهما ظهور أمارة الاستمرار.

بل: وفيما عن جماعة من كون الشرط الاصرار، ولعل الأولى جعل الشرط عدم ظهور أمارة الاقلاع.

بل: لا بد من تقييد الأمارة بما يكتفي في تحقق التوبة، بل لعل هذا هو المراد مما في الدروس من القطع بالسقوط لو لاح منه أمارة الندم، ولذا قال الكفاية بعد حكايته عنه:

وهو حسن إن أفادت الأمارة غلبة الظن، وحينئذ فلو شك في امتناعه وعدمه اتجه الوجوب كما صرح به في المسالك، قال فيها في شرح العبارة: لا إشكال في الوجوب مع الاصرار، وإنما الكلام في سقوطه بمجرد ظهور أمارة الامتناع، فإن الأمارة علامة ضعيفة يشكل معها سقوط الواجب المعلوم، وفي الدروس أنه مع ظهور الأمارة يسقط قطعا، ويلحق بعلم الاصرار اشتباه الحال فيجب الانكار وإن لم يتحقق الشرط الذي هو الاصرار، ومثله القول في الأمر بالمعروف، وهو موافق لكثير مما ذكرناه، خلافا لما سمعته من ظاهر السرائر والجامع والإشارة من اعتبار ظهور أمارة الاستمرار في الوجوب.

بل: وظاهر من اعتبر الاصرار في الوجوب أيضا، ضرورة مخالفة ذلك كله لاطلاق الأدلة، وهل يكفي مجرد الامتناع أو لا بد من التوبة؟ استظهر بعض

ص: 199

الناس من أكثر الأصحاب السقوط بالأول، ثم قال: نعم إن ظهر استمراره على ترك التوبة كان اللازم أمره بها، ولكن هذا غير الأمر بالمعروف الذي وجب عليه التوبة بتركه، وفي الكفاية قالوا:

لو ظهر الاقلاع سقط، ولا ريب فيه إن كان المراد بالاقلاع الندم، ولو كان مجرد الترك ففيه تردد، قلت: لا ريب في أولوية مراعاة التوبة كما أشرنا إليه سابقا، والله العالم.

و (الرابع أن لا يكون في الانكار مفسدة، فلو) علم أو (ظن توجه الضرر إليه أو إلى ماله) أو إلى عرضه (أو إلى أحد من المسلمين) في الحال أو المآل (سقط الوجوب) بلا خلاف أجده فيه كما اعترف به بعضهم، لنفي الضرر والضرار والحرج في الدين، وسهولة الملة وسماحتها، وإرادة الله اليسر دون العسر وقول الرضا عليه السلام في الخبر المروي(1) عن العيون:

(والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان على من أمكنه ذلك ولم يخف على نفسه).

كقول الصادق (عليه السلام) في حديث شرائع الدين(2) مع زيادة:

(ولا على أصحابه).

وقوله (عليه السلام) أيضا في خبر مسعدة(3) السابق:

(وليس ذلك في هذه الهدنة إذا كان لا قوة له ولا مال ولا عدد ولا طاعة).

ص: 200


1- الوسائل: الباب 1 من أبواب الأمر والنهي الحديث 22
2- الوسائل: الباب 1 من أبواب الأمر والنهي الحديث 22
3- الوسائل: الباب 2 من أبواب الأمر والنهي الحديث 1 مع اختلاف يسير

بل: وقوله (عليه السلام) في خبر يحيى(1) الطويل السابق. بل: وقوله عليه السلام أيضا في خبر مفضل بن زيد(2):

(من تعرض لسلطان جائر فأصابته بلية لم يؤجر عليها ولم يرزق الصبر عليها). وغير ذلك من النصوص السابقة وغيرها.

والمناقشة: بأن التعارض بينها وبين ما دل على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من وجه يدفعها أولا أن مورد جملة منها في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، نعم هو كذلك بالنسبة إلى نحو قوله صلى الله عليه وآله:(3)

(لا ضرر ولا ضرار وقوله تعالى: ما جعل عليكم في الدين من حرج)(4)

ونحوهما، ومن التخصيص في السابقة يعلم الرجحان حينئذ في هذه العمومات، خصوصا بعد ملاحظة غير المقام من التكاليف التي تسقط مع الضرر كالصوم ونحوه، وقول الباقر عليه السلام في الخبر(5) السابق:

(يكون في آخر الزمان قوم مراؤون يتقرؤون). - إلى أن قال -: (لا يوجبون أمرا بمعروف ولا نهيا عن منكر إلا إذا أمنوا الضرر، يطلبون لأنفسهم الرخص والمعاذير).

محمول على أناس مخصوصين موصوفين بهذه الصفات، أو على إرادة فوات النفع مع الضرر.

ص: 201


1- الوسائل: الباب 2 من أبواب الأمر والنهي الحديث 2 - 3
2- الوسائل: الباب 2 من أبواب الأمر والنهي الحديث 2 - 3
3- الوسائل: الباب 12 من كتاب إحياء الموات
4- الحج: 78
5- الوسائل: الباب 2 من أبواب الأمر والنهي الحديث 6

بل: في الوسائل أو على وجوب تحمل الضرر اليسير، أو على استحباب تحمل الضرر العظيم، وإن كان لا يخلو من نظر بل منع في الأخير ضرورة ثبوت الحرمة حينئذ کما صرح به الشهیدان والسيوري، وما وقع من خصوص مؤمن آل فرعون و أبي ذر وغيرهما في بعض المقامات فلأمور خاصة لا يقاس عليها غيرها.

ثم إن ظاهر الأصحاب اعتبار العلم أو الظن بالضرر، ويقوي إلحاق الخوف المعتد به عن العقلاء، هذا، وعن البهائي رحمه الله في أربعينه عن بعض العلماء زيادة أنه لا يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا بعد كون الأمر والناهي متجنبا عن المحرمات وعدلا، لقوله تعالى:

«أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ»(1)، وقوله تعالى:

«لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ»(2)، وقوله تعالى:

«كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ».

وقول الصادق (عليه السلام) في خبر محمد بن عمر(3) المروي عن الخصال وعن روضة الواعظين:

(إنما يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر من كانت فيه ثلاث خصال: عامل بما يأمر به، تارك لما ينهى عنه).

وقول أمير المؤمنين (عليه السلام)، في نهج البلاغة:

ص: 202


1- البقرة: 44
2- الصف: 2
3- الوسائل: الباب 10 من أبواب الأمر والنهي الحديث 3 عن محمد بن أبي عمير رفعه إلى أبي عبد الله عليه السلام والباب 2 منها الحديث 10

(وأمروا بالمعروف وائتمروا به، وانهوا عن المنكر وانتهوا عنه).

وإنما أمرنا بالنهي بعد التناهي، وفي الخبر:

«ولا يأمر بالمعروف من قد أمر أن يؤمر به، ولا ينهى عن المنكر من قد أمر أن ينهى عنه».

على أن هداية الغير فرع الاهتداء، والإقامة بعد الاستقامة، وفيه أن الأول إنما يدل على ذم غير العامل بما يأمر به لا على عدم الوجوب عليه، واحتمال الثاني اللوم على قول فعلنا أو ما يدل على ذلك ولا فعل، والثالث الإشارة إلى الإمام القائم بجميع أفراد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتعريض بأئمة المتلبسين بلباس أئمة العدل، كل ذلك لاطلاق ما دل على الأمر بهما كتابا وسنة وإجماعا من غير اشتراط للعدالة.

بل: ظاهر حصرهم الشرائط في الأربعة عدم اشتراط غيرها، بل عن السيوري والبهائي والكاشاني التصريح بعدم اعتبار العدالة.

نعم: يعتبر في الأمر التكليف، كما أنه يعتبر في المأمور والمنهي، ومنع الصبي والمجنون عن إضرار الغير ليس من الأمر بالمعروف، بل هو كمنع الدابة المؤذية، فما في كنز العرفان - من أنه لا يشترط في المأمور والمنهي أن يكون مكلفا، فإن غير المكلف إذا علم إضراره للغير منع من ذلك وكذا الصبي ينهى عن المحرمات لئلا يتعودها، ويؤمر بالطاعات ليتمرن عليها - واضح الفساد بعد ما عرفت من أن المنكر المحرم المعروف الواجب، ولا واجب ولا محرم بالنسبة إلى غير المكلف)(1).

ص: 203


1- جواهر الكلام للشيخ الجواهري: ج 21 ص 358 - 374

المسألة الخامسة: وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنکر في المذاهی الاخري.

أولا - المذهب الزيدي.

ذهب الزيدية الى وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على كل مكلف مسلم لمن علم المعروف والمنكر؛ واختلفوا في وجوبه عقلاً؛ وتعلق الوجوب في الأمر والنهي بشروط وهي العلم بالمعروف والمنكر؛ غلبته الظن بالتأثير؛ إن يظن التضيق في الأمر والنهي؛ وان لا يؤدي الأمر والنهي الى قبيح)

ولقد جاء بيان ذلك فيما عرضه إمام الزيدية أحمد المرتضى (ت 840 ه) في شرح الأزهار، فقال:

(اعلم أنه يجب على كل مكلف مسلم الامر بما علمه معروفا والنهي عما علمه منكرا لقوله تعالى:

«وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ».

فاقتضى ذلك كونه فرض كفاية وقوله صلى الله عليه وآله وسلم لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم سلطانا ظالما لا يجل كبيركم ولا يرحم صغير كم فيدعوا خياركم فلا يستجاب لهم إلى غير ذلك وعلى الجملة فوجوب ذلك معلوم من الدين ضرورة وقد اختلف في وجوبه عقلا (ولو) لم يتمكن المكلف من انكار المنكر الا (بالقتل) لفاعله جاز ذلك لآحاد المسلمين بخلاف الامر بالمعروف فلا يجوز القتل لأجله الا بأمر الإمام لان القتل على ذلك حد بخلاف القتل مدافعة عن المنكر فإنما هو لأجل

ص: 204

الدفع فيجري مجرى المدافعة عن النفس أو المال.

واعلم أن النهي والامر لا يجبان الا بشروط:

الأول: أن يعلم الآمر الناهي أن الذي يأمر به معروف حسن والذي ينهى عنه منکر قبيح والا لم يأمن أن يأمر بالقبيح وينهى عن الحسن فإن لم يحصل الا ظن لم يجب اتفاقا وهل يحسن قيل ف لا يحسن إذ الاقدام على مالا يؤمن قبحه قبيح وقيل ح بل يحسن وان لم يجب قال مولانا علیلم ولا وجه له.

الشرط الثاني: قوله (إن ظن التأثير) أي لا يجب على المكلف أن يأمر وينهى إلا حيث يغلب في ظنه أن لامره ونهيه تأثيرا في وقوع المعروف و زوال المنكر فإن لم يظن ذلك لم يجب وفي حسنه خلاف.

(و) الشرط الثالث: أن يظن (التضيق أي نضيق الأمر والنهي بحيث أنه إذا لم يأمر بالمعروف في ذلك الوقت فات عمله وبطل وإن لم ينه عن المنكر في تلك الحال وقع المنكر فأما لو لم يظن ذلك لم يجب عليه وأما الحسن فبحسن لان الدعاء إلى الخير حسن بكل حال.

(و) الشرط الرابع: أن لا يؤدي الأمر والنهي إلى قبيح فلا يجب إلا إن (لم يؤد إلى منکر (مثله) أما اخلال بواجب أو فعل قبيح (أو) يؤد إلى (أنكر) منه فان غلب في ظنه انه يؤد إلى ذلك قبح الأمر والنهي حينئذ قيل ح فأما إذا أدا إلى أدون في القبح في محل ذلك الحكم لا في غيره نحو أن ينهي عن قتل زيد فيقطع يده لم يسقط الوجوب وان اختلف المحل سقط كان يعلم أنه يقطع يد عمرو أو يضربه إذا نهاه عن قتل زيد قيل ف وكان الفعل الآخر

ص: 205

من جنس الأول كما صورنا لا إن غلب في ظنه أنه إن نهاه عن قتل زيد أخذ مال عمر و فلا يسقط الوجوب لان حرمة النفس أبلغ من حرمة المال وذلك يجوز لخشية التلف.

(أو) إذا أدا الأمر والنهي إلى (تلفه) أي تلف الأمر والناهي (أو) تلف (عضو منه أو) تلف (مال مجحف) به فان خشية ذلك يسقط به وجوب الأمر والنهي (فيقبح) الأمر والنهي حيث يؤدي إلى مثله أو إلى أنكر على الصفة التي حققها عليلم أو إلى تلفه أو تلف عضو منه أو مال مجحف به قوله (غالبا) يحترز من أن يحصل بتلف الأمر والناهي إعزاز للدين وقدوة للمسلمين فإنه بحسن منه الأمر والنهي وإن غلب في ظنه أنه يؤدي إلى تلفه کما كان من زيد بن علي والحسين بن علي عليهما السلام)(1).

ثانيا - المذهب الشافعي.

ذهب فقهاء الشافعية الى وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو فرض كفاية ولم يشترطوا في تعلق وجوبه بشروط فهو لا يسقط عن المكلف لكونه يظن انه لا يفيد، أو يعلم بالعادة انه لا يؤثر كلامه؛ بل يجب عليه الأمر والنهي بأصحاب الولايات والمراتب؛ بل ذلك ثابت لآحاد المسلمين وواجب عليهم).

أما فيما يخص العلم بالمعروف والمنكر فذهبوا الى القول بانه مختلف بحسب الاشياء، فان كان من الواجبات الظاهرة والمحرمات المشهورة فكل المسلمين علماء بها، وأن كان من دقائق الأقوال والأفعال، ومما يتعلق

ص: 206


1- شرح الأزهار: ج 4 ص 582 - 585

بالاجتهاد لم يكن للعوام الابتداء بإنكاره، بل ذلك للعلماء، ويلتحق بهم من اعماله العلماء بان ذلك جمع عليه، وأن يكون الأمر والنهي برفق.

قال الحافظ النووي (ت 676 ه):

(الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية بإجماع الأمة، وهو من أعظم قواعد الاسلام، ولا يسقط عن المكلف لكونه يظن أنه لا يفيد، أو يعلم بالعادة أنه لا يؤثر كلامه، بل يجب عليه الأمر والنهي، فإن الذكرى تنفع المؤمنين، وليس الواجب عليه أن يقبل منه، بل واجبه أن يقول كما قال الله تعالى:

«مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ» قالوا: ومن أمثلته: أن يرى مكشوف بعض عورته في حمام ونحو ذلك، ولا يشترط في الأمر والناهي كونه ممتثلا ما يأمر به، مجتنبا ما ينهي عنه، بل عليه الأمر والنهي في حق نفسه، وفي حق غيره، فإن أخل بأحدهما، لم يجز الاخلال بالآخر، ولا يختص الأمر والنهي بأصحاب الولايات والمراتب، بل ذلك ثابت لآحاد المسلمين وواجب عليهم، قال إمام الحرمين: والدليل عليه إجماع المسلمين، فإن غير الولاة في الصدر الأول كانوا يأمرون الولاة وينهونهم مع تقرير المسلمين إياهم وترك توبيخهم على التشاغل بذلك بغير ولاية، ويدل عليه قول النبي (صلى الله عليه وآله) في صحيح مسلم:

(من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه).

قال أصحابنا: وإنما يأمر وينهى من كان عالما بما يأمر به وينهى عنه،

ص: 207

وذلك يختلف بحسب الأشياء، فإن كان من الواجبات الظاهرة، والمحرمات المشهورة، كالصلاة والصيام والزنى والخمر ونحوها، فكل المسلمين علماء بها، وإن كان من دقائق الأقوال والأفعال، وما يتعلق بالاجتهاد، لم یکن للعوام الابتداء بإنكاره، بل ذلك للعلماء، ويلتحق بهم من أعلمه العلماء بأن ذلك مجمع عليه.

ثم العلماء إنما ينكرون ما أجمع على إنكاره، أما المختلف فيه فلا إنکار فيه، لأن كل مجتهد مصیب، أو المصيب واحد ولا نعلمه، ولا إثم على المخطئ، لكن إن ندبه على جهة النصيحة إلى الخروج من الخلاف، فهو حسن محبوب، ويكون برفق، لأن العلماء متفقون على استحباب الخروج من الخلاف إذا لم يلزم منه إخلال بسنة ثابتة، أو وقوع في خلاف آخر، وذكر الماوردي خلافا في أن من قلده السلطان الحسبة، هل له حمل الناس على مذهبه فيما اختلف العلماء فيه إذا كان المحتسب مجتهدا أم ليس له تغيير ما كان على مذهب غيره؟ والأصح أنه ليس له تغييره لما ذكرناه، ولم يزل الخلاف بين الصحابة والتابعين في الفروع، ولا ينكر أحد على غيره مجتهدا فيه، وإنما ينكرون ما خالف نصا، أو إجماعا، أو قياسا جليا)(1).

ثالثا - المذهب المالكي.

ذهب فقهاء المالكية إلى أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب كفائي وأجمعوا على ذلك وقيد الفرض بعدم الخوف على النفس أو على الغير إذا وقعت مفسدة في النهي أعظم من المنكر الواقع او غلب على ظن الناهي

ص: 208


1- روضة الطالبين للنووي: ج 7، ص 420 - 422

عن المنكر أن النهي يزيد في عناد المرتكب للمنكر.

ولا يختص الوجوب بالولاة، بل يجب على كل مكلف قادر من رجل وامرأة، حر أو عبد؛ ولا يجب على الصبي إلا انه يثاب عليه، ولا يشترط فيه العدالة.

قال محمد بن أحمد الشربيني (ت 977 ه):

(ومن فروض الكفايات الأمر بالمعروف من واجبات الشرع، والنهي عن المنكر من محرماته بالأجماع، إذا لم يخف على نفسه أو ماله أو على غيره مفسدة أعظم من مفسدة المنكر الواقع، أو غلب على ظنه أن المرتكب يزيد فيما هو فيه عناداً كما أشار إليه الغزالي في الأحياء كإمامه، ولا يختص بالولاة: بل يجب على كل مكلف قادر من رجل وامرأة حر أو عبد، وللصبي ذلك ويثاب عليه ألا أنه لا يجب عليه، ولا يشترط في الأمر بالمعروف العدالة، بل قال الإمام: وعلى متعاطي الكأس أن ينكر على الجلاس، وقال الغزالي يجب على من غصب امرأة على الزنا أمرها ستر وجهها عنه)(1).

رابعا - المذهب الحنفي.

أجمع فقهاء الحنفية على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على كل مسلم وهو فرض كفاية ويتحقق بكونه فرض عين إذا قلده من بيده الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سواء كان من قلده ذلك باغياً أم عادلاً، فإن شرط التقليد التمكن.

ص: 209


1- مغني المحتاج محمد بن أحمد الشربيني: ج 4، ص 211

قال السرخسي (ت: 483 ه) في بيان المعاملة مع المشركين من كتاب السير:

(الواجب دعاؤهم إلى الدين وقتال الممتنعين منهم من الإجابة لإن صفة هذه الأمة في الكتب المنزلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبها كانوا خير الأمم قال الله تعالى «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ».

ورأس المعروف الايمان بالله، تعالى فعلى كل مؤمن أن يكون آمراً به داعياً إليه وأصل المنكر الشرك فهو أعظم ما يكون من الجهل والعناد لما فيه من انکار الحق من غير تأويل فعلى كل مؤمن أن ينهى عنه با يقدر عليه)(1).

وقال في باب الخوارج من كتاب السير:

(أن الحكم بالعدل ودفع الظلم عن المظلوم من باب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وذلك فرض على كل مسلم إلا أن كل من كان من الرعية بما هو فرض عليه سواء كان من قلده باغيا أو عادلا فان شرط التقليد التمكن وقد حصل)(2).

خامسا - المذهب الحنبلي.

ذهب فقهاء المذهب الحنبلي الى أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو فرض على الكفاية؛ وهو يجب على كل من علمه جازماً به وشاهده بعينه، ولم يخف الاذى من أدائه، ولا يسقط التكليف بالتوهم بوقوع الضرر، ومن شروطه أن يعلم المسلم أو يغلب على ظنه أن النهي عن المنكر أو الأمر

ص: 210


1- المبسوط للسرخسي: ج 10، ص 2
2- المبسوط للسرخسي: ج 10، ص 130

بالمعروف لا يؤدي الى مفسدة ومن شروطه أيضاً أن يأمن على نفسه وماله من التلف، ورجاء حصول المقصود، وعدم قيام غیره به.

قال البهوتي (ت 1051 ه) في كتاب الحج:

(ومن فرض الكافيات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمعروف كل ما أمر به شرعاً؛ والمنكر: كل ما نهی عنه شرعاً؛ فيجب على من علمه جزماً وشاهده وعرف من ينكره ولم يخف أدى؛ قال القاضي: ولا يسقط فرضه بالتوهم؛ فلو قيل له لا تأمر على فلان بالمعروف؛ فإنه يقتلك لم يقسط عنه لذلك؛ وقال ابن عقيل في آخر الارشاد: من شروط الانكار أن يعلم أو يغلب على ظنه أنه لا يفضي الى مفسدة.

قال أحمد في رواية الجماعة: إذا أمرت ونهیت فلم ينته، فلا ترفعه الى السلطان، ليعدى عليه؛ وقال أيضاً: من شرطه أن يأمن على نفسه وماله خوف التلف وكذا قال جمهور العلماء؛ ومن شرطه أيضاً: رجاء حصول المقصود، وعدم قيام غيره به، نقله في الآداب عن الأصحاب، وعلى الناس: إعانة المنكر ونصره على الانکار)(1).

سادسا - المذهب الإباضي.

ذهب فقهاء الإباضية الى القول بان الامر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على كل مسلم وجوب كفاية وعلى قدر طاقته)(2).

ص: 211


1- کشاف القناع للبهوتي: ج 3، ص 37 - 38
2- کتاب النيل وشفاء الغليل: ج 14، ص 267

المسالة السادسة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب الاسلامية السبعة في المسألة.

تفاوتت أقوال المذاهب الإسلامية السبعة في السعة والاختصار في بيان احكام فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بنحو عام لا سيما في بيان أمر الوجوب وشروط تحقيقه وتعلقه بذمة المكلف، فكانت أقوالهم على النحو الاتي:

أولاً - أجمع الفقهاء في المذاهب الإسلامية السبعة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجوباً كفائياً.

ثانياً - ذهب الإمامية إلى أن المعروف ينقسم الى الواجب والندب، وان الأمر بالواجب، وبالمندوب مندوب وأن النهي عن المنكر كله واجب، وذهب بعض الفقهاء الى امكانية تقسم المنكر الى المحرم والمكروه، فيكون النهي عن المحرم واجب، وعن المكروه مستحب.

ثالثاً - في العلم بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد كانت اقوال فقهاء الذاهب السبعة على النحو الاتي:

1- ذهب الإمامية الى العلم بالواجبات والمندوبات والمحرمات والمكروهات، فيكون الأمر والنهي واجب في الواجبات والمحرمات، ومستحب في المندوبات والمكروهات.

2- وذهب الزيدية في الى تعلق الوجوب بالمعلم بالمعروف والمنكر.

3- وقال الشافعية إن العلم بالمعروف والمنكر مختلف بحسب الاشياء، فإن كان من الواجبات الظاهرة والمحرمات المشهورة فكل المسلمين علماء

ص: 212

بها، وأن كان من دقائق الأقوال والأفعال ومما يتعلق بالاجتهاد لم يكن للعوام الابتداء بإنكاره، بل ذلك للعلماء، ويلتحق بهم من أعلمه العلماء بان ذلك جمع عليه.

4- أما المالكية فلم يقيدوا الوجوب بالعلم، وإنما بالقدرة على الأمر والنهي.

5- أما الحنفية فقيدوا الأمر والنهي بالتمكن؛ وانه يكون فرض عين على المسلم إذا قام من بيده الأمر والنهي بتقليده ذلك سواء كان من قلده ذلك باغيا ام عادلاً.

6- أما الحنابلة فقالوا بوجوبه على كل من علمه جازماً به وشاهده بعينه.

7- وقيده الإباضية على قدر طاقة المسلم.

رابعاً - وفي شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد كانت أقوالهم على النحو الاتي:

ألف- ذهب فقهاء الإمامية الى تعلق الفريضة بأربعة شروط، وهي:

1- العلم بان ما يأمر به معروف، وما ينهي عنه منکر.

2- إن يجوز تأثير الإنكار.

3- الا يظهر من الفاعل أمارة الإقلاع.

4- إلا يكون فيه مفسدة.

باء- وقال الزيدية في شروطه:

1- العلم بالمعروف والمنكر.

ص: 213

2. غلبة الظن بالتأثير.

3- إن يظن التضييق في الأمر والنهي.

4- إن لا يؤدي الأمر والنهي إلى قبيح.

جيم- وقال الشافعية في شروطه:

لم يشترط فقهاء الشافعية في تعلق الفريضة بذمة المكلف فهو لا يسقط عن المكلف لكونه يظن أنه لا يفيد، أو يعلم بالعادة أنه لا يؤثر كلامه.

دال- واشترط فقهاء المالكية:

1- بعدم الخوف على النفس أو المال.

2- عدم وقوع مفسدة في النهي اعظم من المنكر الواقع.

3- إن لا يزيد النهي عن المنكر في عناد المرتكب له، ويكفي حصول الظن في ذلك من الناهي.

ه- وذهب فقهاء الحنفية الى شرط واحد وهو التمكين.

فهذه أقوال فقهاء المذاهب الإسلامية في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقد ورد في أمر الوجوب قاعدة فقهيه تناولها الشهيد الأول (عليه الرحمة والرضوان)، وهي كالاتي:

المسألة السابعة: قاعدة فقهية.

تناول الشهيد الأول، العاملي، المكي، (عليه رحمة الله ورضوانه) (ت 786 ه) فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وشروطهما في قواعده، فقال:

ص: 214

(يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اجماعاً، وهل هما عقليان أو سمعيان، وعلى الكفاية، أو على الاعياذ؟

قولان: أقربهما أولهما، عن النبي (صلى الله عليه وآله):

«لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر، أو ليوشكن أن يبعث الله عقابا منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم».

وروى الأصحاب قريبا من معناه ومن شروطهما:

أن لا يؤدي الانكار إلى مفسدة، كارتكاب منكر أعظم منه، مثل أن ينهاه عن شرب الخمر، فيتوثب للقتل ونحوه. والعلم بوجه الفعل في نفسه.

وبأن هذا الفعل موصوف بالوجه ، فلا إنكار فيما اختلف فيه العلماء اختلاف ظاهرا، إلا أن يكون المتلبس يعتقد تحريم ما فعل، أو وجوب ما ترك، والمنكر موافق له في اعتقاده: واختلال هذه الشروط يحرم النهي والامر، إلا بالقلب، فيما إذا علم كونه منكرا.

ويشترط: أن يجوز التأثير ولو مع تساوي الاحتمالين، ولا يشترط العلم، ولا غلبة الظن. أما لو علم عدم التأثير، أو غلب ظنه عليه، فإنه يسقط الوجوب، لا الجواز والاستحباب. وأن يأمن على نفسه وماله ومن يجري مجراه. وهذا يمكن دخوله في؟؟؟ الأول. وهو يسقط الجواز أيضا، إلا أن يكون المأخوذ منه مالا له، فيجوز تحمل الامر، والسماحة به)(1).

ص: 215


1- القواعد والفوائد: ج 2 ، ص 201 - 202

المسألة الثامنة: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة.

أولاً- ماجاء في قوله (علیه السلام) في وصيته للإمامين الحسن والحسين (علیها السلام): «لا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيولي عليكم شراركم ثم تدعون فلا يستجاب لكم».

تناول شراح نهج البلاغة هذا الحديث بالبيان والتوضيح، وقد كانت أقوالهم في ذلك:

ألف - ابن میثم البحراني (رحمه لله) (ت: 769 ه).

قال (رحمه الله) في الأمر العاشر في أمور الوصية:

(النهي عن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المستلزم للأمر بهما. ونفّر عن ذلك الترك بما يستلزمه ويعدّله من تولَّى الأشرار عليهم وعدم استجابة دعاء الداعين منهم، ووجه إعداده لذلك أنّ ترك الاجتماع على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يستلزم ثوران المنكر وقلَّة المعروف من طباع الأشرار ويعدّ لاستيلائها وغلبتها وولاية أهلها وذلك يستلزم كثرة الشرّ والأشرار وقلَّة الصالحين وضعف هممهم عن استنزال رحمه الله تعالى بأدعيتهم فيدعون فلا يستجاب لهم)(1).

باء - السيد حبيب الله الخوئي الهاشمي (رحمه الله).

قال (رحمه الله) في بيان معنى الحديث الشريف ودلالته:

ملازمة الأمر والنهي عن المنكر لردع الاشرار عن أعمالهم السوء، وقيام

ص: 216


1- شرح نهج البلاغة، لابن میثم البحراني: ج 5، ص 123

الابرار بإجراء الأمور النافعة للعامة والأمة، فان التسامح فيهما يوجب تسلط الاشرار والاستيلاء على موارد القدرة والثورة في الجامعية الإسلامية ويؤثر الدعاء في دفعهم لتقصير المسلمين وجرّهم البلاء على أنفسهم)(1).

ثانياً - قوله (علیه السلام): «إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خلق الله سبحانه، وانهما لايقربان من أجل ولا ينقصان من رزق».

وفي بيان هذا الحديث الشريف نورد ثلاثة أقوال لشراح نهج البلاغة وهي كالاتي:

ألف - علي بن زيد البيهقي (رحمه الله) (ت: 565 ه).

قال (رحمه الله) في بيان هذا الحديث الشريف:

قوله: (إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لخلقان من خلق الله، سبحانه وتعالى). الخلق هاهنا السّنة، والمعنى ان الدّعاء الى المحاسن بالتعريف والهداية والتحسين، والصرف عن القبائح بالتعريف وسوء العاقبة سنّة الله، فانّه، تعالى، خلق الخلق ليهديهم الى المحاسن، ويمنعهم عن القبايح، حتی يستحقّ كلّ واحد منهم الثّواب في العقبي. فهذه سنّة الله في العباد. فمن احيا هذه السّنّة بين العباد، فدعا الى المعروف، وامر به، ونهی عن المنكر، وما رضى به، وكرّهه الى الناس، فبقدر ما قام به، كان آخذا بسنّة الله تعالى، حيث قال: «وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ».

ص: 217


1- منهاج البراعة: ج 20، ص 132

قوله: (وانّهما لا يقربان من اجل ولا ينقصان من رزق)، یعنی الامر بالمعروف لا ينقص العمر والرّزق، وكذلك النهى عن المنكر، فلا يجب ان يخاف المسلم من الامر بالمعروف والنهى عن المنكر)(1).

باء - ابن ابي الحديد المعتزلي (ت 656 ه).

قال المعتزلي في بيان معنى أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خلقان من خلق الله سبحانه:

(وذلك لأنه تعالى ما أمر إلا بمعروف، وما نهي إلا عن منكر ويبقى الفرق بيننا وبينه أنا يجب علينا النهى عن المنكر بالمنع منه، وهو سبحانه، لا يجب عليه ذلك لأنه لو منع من إتيان المنكر لبطل التكليف.

ثم قال: (إنهما لا يقربان من أجل، ولا ينقصان من رزق) وإنما قال (عليه السلام) ذلك، لان كثيرا من الناس يكف عن نهى الظلمة عن المناكير، توهما منه أنهم إما أن يبطشوا به فيقتلوه أو يقطعوا رزقه ويحرموه، فقال (عليه السلام):

(إن ذلك ليس مما يقرب من الاجل ولا يقطع الرزق). وينبغي أن يحمل كلامه (عليه السلام) على حال السلامة وغلبة الظن بعدم تطرق الضرر الموفي على مصلحة النهى عن المنكر)(2).

جیم - ابن ميثم البحراني (رحمه الله) (ت 679 ه):

قال (رحمه الله) في بيان معنى:

ص: 218


1- معارج نهج البلاغة: ص 216
2- شرح نهج البلاغة للمعتزلي: ج 9، ص 203 - 204

(إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خلق الله ولا ينقصان من الرزق):

(أنّ إطلاق لفظ الخلق على الله استعارة لأنّ حقيقة الخلق أنّه ملكة نفسانيّة تصدر عن الإنسانبها أفعال خيريّة أو شرّيّة. وإذ قد تنزّه قدسه تعالى عن الكيفيّات والهيئات لم يصدق هذا اللفظ عليه حقيقة لكن لمّا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الأخلاق الفاضلة أشبه ما نعتبره له تعالى من صفات الكمال ونعوت الجلال الَّتي ينسب إليها ما يصدر عنه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والأفعال الخيريّة الَّتي بها نظام العالم وبقاؤه كحكمته وقدرته وجوده وعنايته وعدم حاجته ما يتعارف من الأخلاق الفاضلة الَّتي تصدر عنها الأفعال الخيريّة والشرّيّة فاستعير لها لفظ الأخلاق، وأطلق عليه. فأمّا كونهما لا يقرّبان الأجل ولا ينقصان الرزق فلأنّ كثيرا من ضعفاء الاعتبار العقليّ يمنعهم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنکر توهّم أحد الأمرين، وخصوصا ترك نهى الملوك من المنكرات)(1).

ص: 219


1- شرح نهج البلاغة لابن میثم البحراني: ج 3، ص 263 - 264

ص: 220

المبحث الثاني مراتب إنكار المنكر والنهي عنه

قال أمير المؤمنين الإمام علي (عليه الصلاة والسلام) في بيان مرا إنكار المنكر، والنهي عنه، في جملة من الموارد، وهي كالاتي:

1- «مَنْ أَحَدَّ سِنَانَ اَلْغَضَبِ لِلَّهِ قَوِیَ عَلَی أَشَدِّ اَلْبَاطِلِ»(1).

2- «اَیُّهَا المُؤمنونَ اِنَّهُ مَنْ رَاَی عُدوَاناً یُعمَلُ بِهِ وَ مُنکَراً یُدعَی اِلیهِ فَاَنْکَرَهُ بِقَلبِهِ فَقَدْ سَلِمَ وَ بَرِءَ وَ مَنْ اَنْکَرَهُ بِلِسانِهِ فَقَدْ اُجِرَ وَ هُوَ اَفضَلُ مِن صاحِبِه وَ مَنْ اَنکَرَهُ بِالسَّیفِ، لِتَکُونَ کَلِمِةُ اللهِ هِیَ العُلیا وَ کَلِمَةُ الظّالِمینَ هِیَ السُّفَّلی فَذلِكَ الَّذی اَصابَ سَبیلَ الهُدی وَ قامَ عَلی الطَّریقِ وَ نَوَّرَ فی

قَلبِهِ الیَقینُ»(2).

3- «فَمِنهُمُ المُنكِرُ لِلمُنكَرِ بِيَدِهِ وَ لِسَانِهِ وَ قَلبِهِ، فَذَلِكَ المُستَكمِلُ لِخِصَالِ الخَيرِ، وَ مِنهُمُ المُنكِرُ بِلِسَانِهِ وَ قَلبِهِ وَ التّارِكُ بِيَدِهِ، فَذَلِكَ مُتَمَسّكٌ بِخَصلَتَينِ مِن خِصَالِ الخَيرِ، وَ مُضَيّعٌ خَصلَةً، وَ مِنهُمُ المُنكِرُ بِقَلبِهِ وَ التّارِكُ بِيَدِهِ وَ لِسَانِهِ، فَذَلِكَ ألّذِي ضَيّعَ أَشرَفَ الخَصلَتَينِ مِنَ الثّلَاثِ، وَ تَمَسّكَ بِوَاحِدَةٍ، وَ مِنهُم تَارِكٌ لِإِنكَارِ المُنكَرِ بِلِسَانِهِ وَ قَلبِهِ وَ يَدِهِ، فَذَلِكَ مَيّتُ الأَحيَاءِ، وَ مَا أَعمَالُ البِرّ كُلّهَا وَ الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللّهِ، عِندَ الأَمرِ بِالمَعرُوفِ وَ النهّي عَن المُنكَرِ، إِلّا كَنَفثَةٍ فِي بَحرٍ لجُيّ»(3).

ص: 221


1- نهج البلاغة بتحقيق صبحي الصالح: الحكمة 174، ص 501
2- نهج البلاغة بتحقيق صبحي الصالح: الحديث: 373، ص 541
3- نهج البلاغة بتحقيق صبحي الصالح: الحديث 374، ص 542

4- «اَوَّلَ ما تُغْلَبُونَ عَلَیهِ مِنَ الجِهادِ - الجِهادُ بِاَیدیکُم ثُمَّ بِاَلسِنَتِکُم ثُمَّ بِقُلُوبِکُم، فَمَنْ لَم یَعرِفْ بِقَلْبِهِ مَعروفاً وَلَمْ یُنکِر مُنکَراً، قُلِبَ فَجُعِلَ اَعلاهُ اَسفَلُه وَ اَسفَلُهُ اَعلاهُ»(1).

5- «وَأْمُرْ بالْمَعْرُوفِ تَكُنْ مِنْ أَهْلِهِ، وَأَنْكِرِ المُنكَرَ بِيَدِكَ وَلِسَانِكَ، وَبَايِنْ مَنْ فَعَلَهُ بِجُهْدِكَ، وَجَاهِدْ فِي اللهِ حَقَّ جَهَادِهِ، وَلاَ تَأْخُذْكَ فِي اللهِ لَوْمَةُ لاَئمٍ»(2).

6 - «فَإِنَّ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ یَلْعَنِ اَلْقَرْنَ اَلْمَاضِیَ بَیْنَ أَیْدِیکُمْ، إِلاَّ لِتَرْکِهِمُ اَلْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَ اَلنَّهْیَ عَنِ اَلْمُنْکَرِ، فَلَعَنَ اَللَّهُ اَلسُّفَهَاءَ لِرُکُوبِ اَلْمَعَاصِی وَ اَلْحُکَمَاءَ لِتَرْكِ اَلتَّنَاهِی»(3).

7- «وَأَنْ يَنْصُرَ اللهَ سُبْحَانَهُ بَيَدِهِ وَقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ، فَإِنَّهُ، جَلَّ اسْمُهُ قَدْ تَكَفَّلَ بِنَصْرِ مَنْ نَصَرَهُ وَإِعْزَازِ مَنْ أَعَزَّهُ»(4).

تناول فقهاء المذاهب الإسلامية مراتب الإنكار للمنكر والنهي عنه في مصنفاتهم الفقهية واجمعوا على انها في مراتب ثلاثة، وهي (اليد، واللسان، والقلب) وذكروا التفضيل فيما بين هذه المراتب وما يتعلق بها من أثار تربوية واجتماعية وعقدية، فكانت على النحو الاتي:

المسألة الأولى: مراتب النهي عن المنكر في المذهب الإمامي.

ذهب فقهاء المذهب الإمامي (أعلى الله شأنهم) الى القول بان مراتب الإنكار للمنكر والنهي عنه، هي ثلاثة ويبدأ الإنكار بالقلب، ثم باللسان،

ص: 222


1- نهج البلاغة بتحقيق صبحي الصالح: الحديث: 375، ص 542
2- نهج البلاغة بتحقيق صبحي الصالح: ص 218
3- نهج البلاغة بتحقيق صبحي الصالح، الوصية: 31، 392
4- عهده عليه السلام لمالك الاشتر رضوان الله عليه: ص 427

ثم باليد. ولا ينتقل الى الاثقل إلا لم ينجح الأخف.

ولو زال بإظهار الكراهية أقتصر، ولو كان بنوع من إعراض، ولو لم يثمر انتقال الى اللسان؛ ولو لم يرتفع الا باليد، كالضرب جاز.

أما لو افتقر إلى الجراح أو القتل لم يجز إلا بأذن الإمام أو من نصبه.

وقد تناول الشيخ محمد حسن الجواهري (عليه رحمة الله ورضوانه) هذه المسائل في موسوعته الفقهية، وبسط فيها البيان والاستشهاد والنقاش لأقوال فقهاء المذهب (رضوان الله تعالى عليهم)، فقال:

(مراتب الإنكار ثلاث، بلا خلاف أجده فيه بين الأصحاب: الأولى، الانكار (بالقلب) كما في الخبر المروي عن الإمام الباقر (عليه السلام):

«فأنكروا بقلوبكم والفظوا بألسنتكم وصكوا بها جباههم، ولا تخافوا في الله لومة لائم» - الى أن قال - «فجاهدوهم بأبدانكم وابغضوهم بقلوبكم»(1). الى آخره.

وفي المروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أيضاً:

«من ترك إنكار المنكر بقلبه ويده ولسانه فهو ميت في الأحياء».

وفي الآخر المروي(2) عنه (عليه السلام) أيضا:

«إن أول ما تقبلون عليه من الجهاد، الجهاد بأبدانكم، ثم بألسنتكم، ثم بقلوبكم، فمن لم يعرف معروفا، ولم ينكر منكرا، قلب فجعل أعلاه أسفله».

ص: 223


1- وسائل الشيعة للحر العاملي: ج 21، ص 374
2- الوسائل: الباب 3 من أبواب الأمر والنهي الحديث 1 - 4 - 10 مع اختلاف يسير في الثالث

وفي المروي(1) عن العسكري (عليه السلام)، عن النبي (صلى الله عليه وآله):

«من رأى منكرا فلينكر بيده إن استطاع، فإن لم يستطع فبقلبه، فحسبه أن يعلم الله من قلبه أنه لذلك كاره».

إلى غير ذلك من النصوص، لكن عن النهاية تفسيره باعتقاد الوجوب والحرمة.

بل: في المسالك هو الظاهر من الاطلاق، وجعل في القواعد ذلك الاعتقاد مع عدم الرضا بالمعصية أول مراتب الانكار القلبي، وعن التنقيح تفسيره بذلك أيضا مع الابتهال إلى الله تعالى في إهداء العاصي، وفي الكفاية بعدم الرضا بالفعل، ولعله لاستفاضة النصوص:(2) (بأن الراضي بالحرام كفاعله).

بل: به علل(3) قتل ذراري قتلة الحسين (عليه السلام)، وعن المفاتيح تفسيره بالبغض في الله، ولعله لبعض الأخبار، وظاهر المنتهى وما تسمعه من المتن أنه إظهار الكراهية، ولعله لقول أمير المؤمنين (عليه السلام):

(أمرنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن نلقى أهل المعاصي بوجوه مكفهرة).

والصادق (عليه السلام): (قد حق لي أن آخذ البرئ منكم بذنب السقيم، وكيف لا يحق ذلك وأنتم يبلغكم عن الرجل منكم القبيح فلا تنكرون عليه ولا تنهرونه ولا تؤذونه حتى يترك).

ص: 224


1- الوسائل: الباب 3 من أبواب الأمر والنهي الحديث 12
2- الوسائل: الباب 5 من أبواب الأمر والنهي الحديث 0 - 4
3- الوسائل: الباب 5 من أبواب الأمر والنهي الحديث 0 - 4

وقوله (عليه السلام) أيضا:

(لو أنكم إذا بلغكم عن الرجل شئ تمشيتم إليه فقلتم يا هذا إما أن تعتزلنا وتتجنبنا، وإما أن تكف عن هذا، فإن فعل، وإلا فاجتنبوه).

وقوله (عليه السلام) أيضا(1):

(إن الله عز وجل بعث ملكين إلى أهل مدينة ليقلباها على أهلها فلما انتهيا إلى المدينة فوجدا فيها رجلا يدعو ويتضرع) - إلى أن قال - (فعاد أحدهما إلى الله تعالى فقال: يا رب إني انتهيت إلى المدينة فوجدت عبدك فلانا يدعوك ويتضرع إليك، فقال: امض إلى ما أمرتك، فإن ذا الرجل لم يتمعر) - أي يتغير - (وجهه غضبا لي).

إلى غير ذلك من النصوص التي تقدم بعضها الآمرة بهجرانهم وهجران مجالسهم.

لكن لا يخفى عليك ما في جملة من هذه التفاسير، إذ الأول كما ذكرنا سابقا ليس من الأمر بالمعروف ولا من النهي عن المنكر لغة وعرفا، وإنما هو من أحكام الايمان حال وجود موضوعهما وعدمه، وكذا زيادة عدم الرضا بالمعصية معه، فإن الرضا وإن كان محرما في نفسه لكن عدمه ليس أمرا ولا نهيا، وكذا البغض ما لم يظهر، وأغرب من ذلك زيادة الابتهال الذي لا مدخلية له في الأمر بالمعروف.

بل: لا قائل بوجوبه، نعم إظهار الكراهة والهجر ونحوهما دالان على طلب الفعل أو الترك، ومن هنا قلنا سابقا أنه لا بد من ضميمة في الانكار

ص: 225


1- الوسائل: الباب 6 من أبواب الأمر والنهي الحديث 2

بالقلب يكون بها داخلا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إلا أنه بهذا المعنى مشروط أيضا بتجويز التأثير وبعدم الضرر.

فلا يتم قول المصنف.

بل: والعلامة في المحكي عن جميع كتبه: (وهو) أي الانكار بالقلب (يجب وجوبا مطلقا) على معنى أنه لا يتوقف على التجويز ولا على أمن الضرر كما صرح به غير واحد، وبالجملة الانكار القلبي بمعنى الاعتقاد ونحوه ليس من الأمر بالمعروف بل وكذا عدم الرضا أو البغض أو نحو ذلك مما هو في القلب من دون إظهار منه، وإن قلنا بوجوبه في نفسه لبعض النصوص، وأما الاظهار ونحوه فهو منه، لدلالته على طلب الفعل أو الترك، إلا أن ذلك ليس واجبا مطلقا بل هو مشروط بما عرفت.

ومن هنا: كان المتجه للمصنف والفاضل تفسيره بذلك مع ترك إطلاق وجوبه، وذلك لكونه حينئذ كالمرتبة الثانية والثالثة (و) هي الانكار (باللسان وباليد) اللتين لا خلاف في اشتراطها بما سمعت كما لا خلاف في وجوبهما أيضا لما سمعته من النصوص السابقة مضافا إلى خبر(1) يحيى الطويل عن أبي عبد الله (عليه السلام):

(ما جعل الله بسط اللسان وكف اليد، ولكن جعلها يبسطان معا ويكفان معا).

وغيره أيضا، نعم يستفاد منها أيضا خصوصا خبر العسكري (عليه السلام) السابق عن النبي (صلى الله عليه وآله)(2) الانكار القلبي المحض،

ص: 226


1- الوسائل: الباب 3 من أبواب الأمر والنهي الحديث 2 - 12
2- الوسائل: الباب 3 من أبواب الأمر والنهي الحديث 2 - 12

لقوله (صلى الله عليه وآله):

(من رأي منكرا فلينكر بيده إن استطاع، فإن لم يستطع فبقلبه، فحسبه أن يعلم الله من قلبه أنه لذلك كاره)

وخبر يحيى(1) الطويل صاحب المقري عن الصادق (علیه السلام):

(حسب المؤمن عزا إذا رأى منكرا أن يعلم الله عز وجل من قلبه إنكاره مع زيادة المقت والبغض).

كما يستفاد من غيرها(2) ولكنه ليس من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ضرورة عدم دلالته من الطلب من المأمور والمنهي بوجه من الوجوه مع فرض عدم أمارة تدل على ذلك حتى تغير الوجه ونحوه.

وكيف كان فقد صرح الفاضل، وابن سعيد، والسيوري، و وغيرهم على ما حكي عن بعضهم بوجوب مراعاة الأيسر، فالأيسر في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

بل: نسبه بعض الأفاضل إلى الشهرة، بل: لم أجد من حكى الخلاف في ذلك، وإليه أشار المصنف بقوله: (ويجب دفع المنكر بالقلب أولا كما إذا عرف أن فاعله ينزجر باظهار الكراهية، وكذا إذا عرف أن ذلك لا يكفي وعرف الاكتفاء بضرب من الاعراض والهجر وجب، واقتصر عليه) مراعيا للأيسر فالأيسر، (ولو عرف أن ذلك لا يرفعه انتقل إلى الانكار باللسان مرتبا للأيسر من القول فالأيسر، ولو لم يرتفع إلا باليد مثل الضرب وما شابهه) من فرك

ص: 227


1- الوسائل: الباب 5 من أبواب الأمر والنهي الحديث 1
2- الوسائل: الباب 3 من أبواب الأمر والنهي الحديث 1

الإذن والحبس ونحوهما (جاز) ودعوى أن إطلاق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يقتضي الترتيب المزبور.

بل: قد سمعت ما في بعض الأخبار السابقة من التزام ارتكاب الأثقل من الانكار - يدفعها ما يستفاد من غيرها من مراعاة الترتيب مضافا إلى قاعدة حرمة إيذاء المؤمن وإضراره المقتصر في الخروج منها على مقدار ما ترتفع به الضرورة.

بل: لعل قوله تعالى: «فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيئ إلى أمر الله»(1) إلى آخره ظاهر في ذلك باعتبار تقديم الصلح أولا، على أن التعارض بين إطلاق الأمر بالمعروف وبين النهي عن الإضرار بالمؤمن والإيذاء له من وجه، والمعلوم من تخصيص الأخير بالأول حال الترتيب الذي ذكرناه، وحينئذ فالمتجه الاقتصار فيهما على أول مراتب الإنكار بالقلب على وجه يظهر للمأمور والمنهي ذلك، ثم المرتبة الأخرى منه الأيسر فالأيسر إلى أن تنتهي مراتبه بأقسام الهجر وتغير الوجه ونحوهما فإن لم يجد استعمل اللسان أيضا بمراتبه الأيسر فالأيسر، فإن لم يجد استعمل اليد أيضا بمراتبها.

ولكن ذلك كله مع فرض ترتبها في الإيذاء، وإلا فلو فرض أن الهجر أشد إيذاء من بعض القول وجب الثاني، ولو علم من أول الأمر أنه لا يجدي إلا المرتبة الأخيرة من المراتب استعملها من غير تدرج، إذ هو في مجهول الحال، لكن عن الشيخ، وابن حمزة، يجب أولا باللسان، ثم باليد، ثم بالقلب.

ص: 228


1- الحجرات: 9

«وعن سلار»: باليد أولا، فإن لم يمكن فاللسان، فإن لم يمكن فالقلب، وعن الحلبي في الإشارة: يجب باليد واللسان، فإن فقدت القدرة أو تعذر الجمع فيه بين ذلك فباللسان والقلب خاصة، فإن لم يمكن الجمع فيه بينهما لأحد الأسباب المانعة فلا بد منه باللسان، ولا يسقط الإنكار به شيء.

ولا يخفى عليك ما في الجميع، خصوصا الأخير، ضرورة سقوط الإنكار باللسان مع الضرر والخوف وعدم تجويز التأثير، وربما يكون المراد من الاختلاف بيان مراتب سقوط الانكار بالنسبة إلى التمكن وعدمه على معنى سقوطه باليد عند الحاجة إليه مع عدم التمكن، ولكن لا يسقط باللسان مع التمكن ولو بالنسبة إلى غير الفرد الذي يتوقف إنكاره على الضرب باليد، فإن لم يتمكن منه أيضا باللسان بالنسبة إلى بعض الأشخاص اقتصر على القلب بالطريق الذي ذكرناه، وهكذا، وعلى ذلك فلا يكون خلافا في المسألة، وحينئذ فالسقوط مترتب أيضا كالثبوت، ولعل هذا أولى مما في المختلف، فإنه بعد أن حكى بعض ما ذكرناه من الاختلاف قال: ولا أرى في ذلك كثير بحث، والتحقيق أن النزاع لفظي.

فإن القائل بوجوبه باللسان أولا ثم باليد أشار إلى أنه يعد فاعل المعروف بالخير، ويعظه بالقول، ويزجره على الترك، فإن أفاد وإلا ضربه وأدبه، فإن خاف وعجز عن ذلك كله اعتقد وجوب الأمر بالمعروف وتحريم المنكر، وذلك مرتبة القلب، والقائل بتقديم القلب يريد أنه يعتقد الوجوب ويغضب في قلبه غضبا يظهر على وجهه الكراهة والإعراض، والقائل بتقديم اليد يريد أنه يفعل المعروف ويتجنب المنكر بحيث يتأسى الناس به، فإن لم ينجع وعظ وخوف باللسان، فإن لم ينجع اقتصر على الانكار القلبي وهو

ص: 229

کما ترى، ولعله، لذا قال في محكي التنقيح: أنه مجرد تخمين لا دليل عليه.

وعلى كل حال فما ذكرنا يعلم وجوب مراعاة الأيسر فالأيسر في المراتب كلها، كما يعلم منه أيضا أن المراد بالجواز في المتن الوجوب بل ويعلم أيضا التخيير في الأفراد مع فرض تساويها مرتبة، ولو كان المنكر مثلا يرتفع بالقول الغليظ والضرب الخفيف اقتصر على الأول بناءا على ما ذكرنا من الترتيب بين اللسان واليد، مع احتمال التخيير مع فرض التساوي في الإيذاء، وإلا وجب الأسهل، لما سمعته من القاعدة السابقة التي منها يعلم الحال في أفراد المراتب، فرب إعراض وهجر من بعض الأشخاص بالنسبة إلى بعض الأشخاص يكون أشد إيذاء من بعض الكلام وبالجملة الميزان ما عرفت، وهو مع أنه أحوط به تجتمع النصوص.

ثم إن ظاهر المصنف وغيره الاجماع على عدم توقف الضرب الخالي عن الجرح على إذن الإمام (عليه السلام) أو القائم مقامه، لكن في محكي نهاية الشيخ الأمر بالمعروف يكون باليد واللسان، فأما اليد فهو أن يفعل المعروف ويتجنب المنكر على وجه يتأسى به الناس، وأما باللسان فهو أن يدعو الناس إلى المعروف، ويعدهم على فعله المدح والثواب، ويزجرهم ويحذرهم عن الاخلال به من العقاب.

فإن لم يتمكن من هذين النوعين بأن يخاف ضررا عليه أو على غيره اقتصر على اعتقاد وجوب الأمر بالمعروف بالقلب، وليس عليه أكثر من ذلك، من ذلك، وقد يكون الأمر بالمعروف باليد بأن يحمل الناس على ذلك بالتأديب والردع وقتل النفوس وضرب من الجراحات، إلا أن هذا الضرب لا يجب

ص: 230

فعله إلا بإذن السلطان الوقت المنصوب للرئاسة العامة ، فإن فقد الإذن من جهته اقتصر على الأنواع التي ذكرناها، وإنكار المنكر يكون بالأنواع الثلاثة التي ذكرناها.

فأما اليد فهو أن يؤدب فاعله بضرب من التأديب، إما الجراح أو الألم أو الضرب، غير أن ذلك مشروط بالإذن من جهة السلطان حسبما قدمناه وفيه نظر من وجوه، وأغرب من ذلك ما في مجمع البرهان أنه لو لم يكن جوازهما بالضرب إجماعيا لكان القول بجواز مطلق الضرب بمجرد أدلتهما مشکلا.

إذ لا يخفى على من أحاط بما ذكرناه من النصوص وغيرها أن المراد بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الحمل على ذلك بإيجاد المعروف والتجنب من المنكر لا مجرد القول، وإن كان يقتضيه ظاهر لفظ الأمر والنهي، بل وبعض النصوص الواردة في تفسير قوله تعالى:

«قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ»(1) المشتملة على الاكتفاء بالقول للأهل افعلوا كذا واتركوا كذا، قال الصادق (عليه السلام) في خبر عبد الأعلى مولى آل سام(2):

(لما نزلت هذه الآية «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا» «جلس رجل من المسلمين يبكي وقال: أنا عجزت عن نفسي وكلفت أهلي؟

فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): حسبك أن تأمرهم بما تأمر به نفسك، وتنهاهم عما تنهی عنه نفسك).

ص: 231


1- التحریم: 6
2- الوسائل: الباب 9 من أبواب الأمر والنهي الحديث 2 - 3

وخبر أبي بصير(1) في الآية، قلت: كيف أقيهم؟ قال:

«تأمرهم بما أمر الله، وتنهاهم عما نهاهم الله، فإن أطاعوك فقد وقيتهم، وإن عصوك كنت قد قضيت ما عليك».

وفي خبره الآخر(2) عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الآية أيضا: كيف نقي أهلنا؟ قال:

«تأمرونهم وتنهونهم».

لكن ما سمعته من النصوص والفتاوي الدالة على أنهما يكونان بالقلب واللسان واليد صريح في إرادة حمل الناس عليهما بذلك كله.

بل: هو معنى قوله (عليه السلام):

(ما جعل الله بسط اللسان وكف اليد ولكن جعلهما يبسطان معا ويكفان معا).

فيمكن إرادة ما يشمل الضرب ونحوه من أمر الأهل ونهيهم، كما أنه صرح في النصوص أيضا بالهجر وتغير الوجه وغيرهما مما يراد منه الطلب بواسطة هذه الأمور لا مجرد القول كما هو واضح بأدنی تأمل ونظر.

بل: منه يعلم أن المراد حينئذ من إطلاق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الكتاب والسنة حمل تارك المعروف وفاعل المنكر على الفعل والترك بالقلب على الوجه الذي ذكرناه، وباللسان وباليد كذلك، بل قد سمعت دعوى الإجماع من الأردبيلي على الأخير فضلا عن الأولين.

ص: 232


1- الوسائل: الباب 9 من أبواب الأمر والنهي الحديث 2 - 3
2- الوسائل: الباب 9 من أبواب الأمر والنهي الحديث 2 - 3

نعم من أعظم أفراد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأعلاها وأتقنها وأشدها تأثيرا خصوصا بالنسبة إلى رؤساء الدين أن يلبس رداء المعروف واجبه ومندوبه، وينزع رداء المنكر محرمه ومكروهه، ويستكمل نفسه بالأخلاق الكريمة وينزههاعن الأخلاق الذميمة.

فإن ذلك منه سبب تام لفعل الناس المعروف، ونزعهم المنكر وخصوصا إذا أكمل ذلك بالمواعظ الحسنة المرغبة والمرهبة، فإن لكل مقام مقالا، ولكل داء دواء، وطب النفوس والعقول أشد من طب الأبدان بمراتب كثيرة وحينئذ يكون قد جاء بأعلى أفراد الأمر بالمعروف، نسأل الله التوفيق لهذه المراتب)(1).

المسالة الثانية: مراتب النهي عن المنكر في المذاهب الأخرى.

أولاً - المذهب الزيدي.

ذهب الزيدية الى أن مراتب الإنكار هي اثنان، وهما (اللسان واليد) وان الواجب الابتداء بالإنكار باللسان وأن يبدأ بالكلام اللين فإن لم ينفع فبالكلام الخشن فإن لم ينفع انتقل الى الرتبة الثانية وهي الإنكار باليد ويبدأ بالإنكار باليد، ثم بالسوط ثم بالسيف ونحوه دون القتل فإن كفي، وإلا انتقل الى القتل؛ ثم قيد الإنكار والنهي بهذا التفصيل لمن يتعبد على المذهب الزيدي فلا يجوز انكار شيء مختلف فيه بين المذاهب كفعل قام به الشافعي او الحنفي وهكذا.

ص: 233


1- جواهر الكلام للشيخ الجواهري: ج 21، ص 374 - 383

جاء ذلك البيان فيما تناوله إمام الزيدية أحمد المرتضى (ت: 840 ه)، فقال:

(أن (يخشن) کلامه على المأمور والمنهي (إن كفى اللين) في امتثالهما للامر والنهي فإن لم يكف الكلام اللين انتقل إلى الكلام الخشن فان كفي وإلا أنتقل إلى الدفع بالضرب بالسوط و نحوه فان کفی والا انتقل إلى الضرب بالسيف ونحوه دون القتل فان كفي وإلا أنتقل إلى القتل.

قال (عليه السلام): وقد دخل هذا الترتيب في قولنا ولا يخشن إن کفی اللين (ولا) يجوز أيضا للمنكر أن ينكر (في) شئ (مختلف فيه) كشرب المثلث والغنى في غير أوقات الصلاة وكشف الركبة (على من هو مذهبه) أي مذهبه جواز ذلك، قيل ي إلا الامام فله أن يمنع من المختلف فيه وإن كان مذهب الفاعل جوازه وأما إذا كان مذهبه تحريم ذلك الفعل وجب الانكار عليه من الموافق له و المخالف لأنه فاعل محظور عنده فان التبس على المنكر مذهب الفاعل قال ص بالله: وجب على المنكر أن يسأل الفاعل عن مذهبه فيه. قال مولانا علیلم: والأقرب أنه يعتبر مذهب أهل الجهة فإن كانوا حنفية مثلا لم يلزمه انکار شرب المثلث ولا السؤال عن حال فاعله وإن كانوا شافعية سأل الفاعل عن مذهبه حينئذ ونحو ذلك كثير.

(ولا) يجوز أن ينكر (غير ولي) للصغير أو المجنون (على صغير) أو مجنون إذا رآه يفعل منكرا فليس له أن ينكر عليه (بالاضرار) به بالضرب أو الحبس بل يكفيه الأمر أو النهي لان ذلك من قبيل التأديب وليس من باب إزالة المنكر فكان تأديبه بالضرب ونحوه يختص بوليه (الأ) أن يدافعه غير وليه (عن اضرار) بالغير أما ببهيمة أو صبي أو أي حيوان ليس بمباح فله أن يدفعه بالاضرار به بالضرب ونحوه ولو بالقتل قيل ح وكذا البهيمة إذا لم

ص: 234

تندفع عن مضرة الغير الا بالقتل حل قتلها وكذا لو رآه يغير زرعا أو يأخذ شيئا من مال الغير جاز له دفعه بالاضرار به)(1).

ثانياً - المذهب المالكي.

يرى المالكية: إن مراتب الإنكار ثلاثة، وهي تبتدأ باليد ثم اللسان ثم القلب، وقيدت المرتبة الأولى والثانية بالقدرة والاستطاعة؛ وان يكون عمله الله، وليبدأ بنفسه في النهي عن المنكر ويتوب إلى الله تعالى.

قال ابن أبي زيد القيرواني (ت 389 ه):

(ومن الفرائض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على كل من بسطت يده في الأرض، وعلى كل من تصل يده إلى ذلك فإن لم يقدر فبلسانه، فإن لم يقدر فبقلبه. وفرض على كل مؤمن أن يريد بكل قول وعمل من البر وجه الله الكريم، ومن أراد بذلك غير الله لم يقبل عمله، والرياء الشرك الأصغر.

والتوبة فريضة من كل ذنب من غير إصرار والاصرار المقام على الذنب واعتقاد العود إليه، ومن التوبة رد المظالم واجتناب المحارم والنية أن لا يعود، وليستغفر ربه ويرجو رحمته ويخاف عذابه ويتذکر نعمته لديه ويشكر فضله عليه بالاعمال بفرائضه وترك ما يكره فعله ويتقرب إليه بما تيسر له من نوافل الخير وكل ما ضيع من فرائضه فليفعله الآن، وليرغب إلى الله في تقبله ويتوب إليه من تضييعه، وليلجأ إلى الله فيما عسر عليه من قياد نفسه ومحاولة أمره موقنا أنه المالك لصلاح شأنه وتوفيقه وتسديده، لا يفارق ذلك على ما فيه من حسن أو قبيح ولا یيأس من رحمة الله، والفكرة في أمر الله مفتاح العبادة فاستعن بذكر الموت و الفكرة

ص: 235


1- شرح الأزهار: ج 4، ص 585 - 586

فيما بعده وفي نعمة ربك عليك وإمهاله لك وأخذه لغيرك بذنبه، وفي سالف ذنبك وعاقبة أمرك ومبادرة ما عسى أن يكون قد اقترب من أجلك)(1).

ثالثاً - المذهب الشافعي.

ذهب فقهاء الشافعية الى القول: بان صفة النهي عن المنكر ومراتبه تبتدأ باليد ثم باللسان ثم بالقلب وأن الاستطاعة في النهي هي الملاك في الانتقال من مرتبه الى آخرى، فمن قدر على النهي في اليد لا يكفي وأن يعتمد الرفق في التغيير بالجاهل وبالظالم الذي يخاف شره؛ فإن ذلك أدعى الى قبول قوله، وإزالة المنكر.

قال النووي (ت 676 ه):

(وإما صفة النهي عن المنكر ومراتبه، فضابطه قوله (صلى الله عليه وآله):

«فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه فعليه أن يغير بكل وجه أمكنه، ولا يكفي الوعظ لمن أمكنه إزالته باليد، ولا تكفي كراهة القلب لمن قدر على النهي باللسان، وقد سبق في كتاب الغصب صفة كسر الملاهي وجملة متعلقة بالمنكرات، وينبغي أن يرفق في التغيير بالجاهل وبالظالم الذي يخاف شره، فإن ذلك أدعى إلى قبول قوله، وإزالة المنكر، وإن قدر على من يستعين به ولم يمكنه الاستقلال، استعان ما لم يؤد ذلك إلى إظهار سلاح وحرب، فإن عجز، رفع ذلك إلى صاحب الشوكة، وقد تقدم هذا في كتاب الصيال، فإن عجز عن كل ذلك، فعليه أن يكرهه بقلبه»(2)

ص: 236


1- رسالة ابن أبي زيد القيرواني: 679 - 681
2- روضة الطالبين: ج 7 ص 422 - 423

رابعاً - المذهب الحنفي.

خالف فقهاء المذهب الحنفي في مراتب الإنكار بقية المذاهب الإسلامية من حيث الترتيب فأبتدؤا بالنكران القلبي، ثم النهي والنكران باللسان، ثم باليد، وقيد ذلك بالقدرة على النهي.

قال السرخسي (ت 483 ه):

(فعلى كل مؤمن أن ينهي عنه بما يقدر عليه وقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) مأموراً في الابتداء بالصفح والاعراض عن المشركين، قال تعالى:

«فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ»، وقال تعالى:

«وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ».

ثم أمر بالدعاء الى الدين بالموعظة والمجادلة بالأحسن، فقال تعالى:

«ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ»، ثم أمر بالقتال إذا كانت البداية منهم، فقال تعالى:

«أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا» أي أذن لهم الدفع، وقال تعالى:

«فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ» وقال تعالى: «وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا»)(1).

خامساً - المذهب الحنبلي.

يرى فقهاء الحنابلة: أن مراتب النهي عن المنكر ثلاثة ايضاً، وتبتدأ بالید، ثم باللسان، ثم بالقلب وهو أضعف الإيمان، وأن المراد من التغير باليد ليس السيف والسلاح.

ص: 237


1- المبسوط للسرخسي: ج 10، ص 2

قال البهوتي (ت: 1051 ه):

(وعلى الناس إعانة المنكر ونصره على الإنكار؛ واعلاه باليد، ثم باللسان، ثم بالقلب، وهو أضعف الإيمان، وقال في رواية صالح: التغيير باليد ليس بالسيف والسلاح؛ قال القاضي: ويجب فعل الكراهة للمنكر، کما يجب أنکاره)(1).

المسالة الثالثة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة.

أولاً - مراتب الإنكار:

1- ذهب أغلب فقهاء المذاهب الإسلامية الخمسة: الإمامية والحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة إلى أن عدد مراتب إنكار المنكر ثلاثة، وهي: الإنكار باليد، ثم باللسان، ثم بالقلب.

2- وخالفهم في ذلك المذهب الزيدي في عدد المراتب، فقد حصرها باثنين، وهما (اللسان واليد).

ثانيا- اختلف فقهاء المذاهب الإسلامية في الإبتداء والتقديم لهذه المراتب، على النحو الاتي:

1- ذهب فقهاء الإمامية والحنفية الى أن النكران يبدأ بالقلب، ثم باللسان، ثم باليد.

2- وقال فقهاء الزيدية أن النهي يبدأ باللسان ثم باليد.

3- وقال فقهاء المالكية، والشافعية، والحنبلية إن النكران يبدأ باليد، ثم

ص: 238


1- کشاف القناع للبهوتي: ج 3، ص 38

باللسان، ثم بالقلب.

4- قال فقهاء الإمامية بان راتب النهي في الإيمان الفعلي هي: اليد، ثم اللسان، ثم القلب؛ فاقوی.

ثالثاً- أشترط بعض المذاهب في الانتقال من مرتبة إلى مرتبة بشروط، وهي:

1- القدرة على النكران والنهي عن المنكر.

وقد قال بهذا الشرط المالكية والشافعية، والحنفية، والأباطية.

2- الابتداء بالأخف ثم الاثقل وبه أشترط الإمامية الانتقال من رتبة الى آخرى، أي: (النجاح في الأخف) فإذا ينجح النكران القلبي، ينتقل الى الاثقل وهو اللسان، واذا لم ينجح اللسان، انتقل إلى الاثقل وهو اليد.

3- وقال الزيدية إن يبدأ بالأخف في مرتبة اللسان ويبدأ بالقول اللين فإن لم ينفع انتقل الى القول الخشن فإن لم ينفع انتقل الى اليد ويبدأ بالضرب، فإن لم ينفع انتقل الى السوط، ثم السيف.

4- ويرى الشافعية أن من استطاع أن ينهي باليد، لا يكفي أن ينهي باللسان

رابعاً- إنفرد الإمامية بتقييد إنكار المنكر باليد في الجرح أو القتل بإذن الإمام؛ أو من نصبه الإمام.

خامساً- إنفرد الزيدية بتقييد الإنكار والنهي عن المنكر في الأمور المتفق عليها بين المذاهب.

أما الأمور الخلافية فلا يجوز للمنكر إنكارها، فلا يجوز إنكار فعل عمل به الشافعي على مذهبه وكذا الحنفي أو المالكي أو الحنبلي، كشرب المثلث، والغني في أوقات الصلاة، وكشف الركبة.

ص: 239

المسالة الرابعة: قاعدة فقهية: مراتب الأنكارثلاثة تتعاكس في الإبتداء.

وترتكز هذه القاعدة على القدر والعجز، فيبتدأ باليد؛ فإن عجز فباللسان، فإن عجز فبالقلب.

وقد تناول هذه القاعدة وبينَّ تفاصيلها الشهيد الأول (رحمه الله) (ت: 786 ه).

فقال: (مراتب الانکار ثلاث، تتعاكس في الابتداء فبالنظر إلى القدرة والعجز: اليد، فإن عجز فباللسان، فإن عجز فبالقلب.

وبالنظر إلى التأثير، مقتصر على القلب، والمقاطعة، وتغيير التعظيم، فإن لم ينجع فالقول، مقتصرا على الأيسر فالأيسر، قال الله تعالى:

«فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى»(1) وقال تعالى: «وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ»(2).

ثم بالقلب، وأضعف الإنكار القلبي، لقوله (عليه السلام):

(من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وليس وراء ذلك شئ من الایمان) ویروی: (وذلك أضعف الایمان).

والمراد بالایمان هنا: الأفعال، ومنه قوله (صلى الله عليه وآله):

(الايمان بضع وسبعون شعبة أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)، وهذه التجزئة إنما تصح في الأفعال.

ص: 240


1- طه: 33
2- العنكبوت: 46

وأقوى الایمان (الفعلي: اليد، ثم اللسان، ثم القلب)(1)، لان اليد تستلزم إزالة المفسدة على الفور، ثم القول، لأنه قد تقع معه الإزالة، ثم القلب، لأنه لا يؤثر. وإذا لحظ عدم تأثيره في الإزالة ، فكأنه لم يأت إلا بهذا النوع الضعيف من الايمان. وقد سمى الله الصلاة إيمانا بقوله: «وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ»(2) أي صلاتكم إلى بيت المقدس.

فروع(3):

(الأول): لا يشترط في المأمور والمنهي أن یکون عالما بالمعصية، فینکر على المتلبس بالمعصية بصورة تعريفه أنها معصية ونهيه عنها، وكذا المتناول للمعصية، فإنه ينكر عليه، كالبغاة، لان المعتبر ملابسته لمفسدة واجبة الدفع، أو تاركا لمصلحة واجبة الحصول، کنهي الأنبياء (عليهم السلام) عن ذلك في أول البعثة، وقد كان المتلبسون غير عالمين بذلك ولان الصبيان والمجانين يؤدبون ولا معصية، وربما أدى الأدب إلى القتل، کما في صورة صولهم على دم أو بضع لا يندفعون عنه إلا بالقتل.

ومن هذا الباب: لو سمع العدل أو الفاسق عفو الموكل عن القصاص، وأخبر الوكيل بعفوه، فلم يقبل منه، فللشاهد الانكار والدفع لهذا الوكيل عن القصاص ما أمكن به. ولو أدى إلى قتله فإشكال(4).

ص: 241


1- في (ح): الفعل باليد، ثم باللسان، ثم بالقلب. وما أثبتناه مطابق لما في الفروق: 4/ 256
2- البقرة: 143
3- انظر هذه الفروع في: الفروق: 4/ 256 - 258
4- ذهب ابن عبد السلام في قواعده: 1/ 122، إلى جواز قتله إذا لم يمكن الدفع إلا به

وكذا لو وجد أمته بيد رجل زعم أنه اشتراها من وكيله، فأراد البائع وطأها لتكذيبه في الشراء، أو أخذها، فله دفعه عنها. وهذا المثال ليس من باب الانکار(1)، بل من باب الدفاع عن المال والبضع(2).

(الثاني): يجبان(3) على الفور إجماعا، فلو اجتمع جماعة متلبسون بمنکر، أو ترك معروف واجب، أنكر عليهم جميعا بفعل واحد، أو قول واحد، إذا كان ذلك كافيا في الغرض، مثل: لا تزنوا صلوا.

(الثالث): الأمر بالمندوب والنهي عن المكروه مستحبان، ولكن ليس فيهما تعنيف ولا توبيخ ولا إنزال ضرر، لأن الضرر حرام، فلا يكون بدلا عن المكروه، وهو من باب التعاون على البر والتقوى. وكذلك من وجده يفعل ما يعتقده الواجد قبيحا، ولا يعتقد مباشره قبحه ولا حسنه مع تقارب(4) المدارك، أو يعتقد حسنه لمدرك ضعيف، کاعتقاد الحنفي(5) شرب النبيذ، فإنه ينكر عليه، أما الأول فبغير تعنيف، وأما الثاني فكغيره من المنكرات.

(الرابع): لو أدى الانكار إلى قتل المنكر، حرم ارتكابه، لما سلف. وجوزه كثير من العامة(6)، لقوله تعالى: «وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ»(7) مدحهم بأنهم قتلوا بسبب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ص: 242


1- خلافا لبعض العلماء، فقد جعله مثالا للانکار. انظر: القرافي / الفروق: 4/ 257
2- انظر بعض هذه الأمثلة أيضا في: قواعد الأحكام لابن عبد السلام: 1/ 121 - 122
3- أي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
4- في (ح): تفاوت. وما أثبتناه مطابق لما في الفروق: 4 / 257
5- في (م): الحنبلي. وما أثبتناه هو الصواب
6- نقله عنهم القرافي في / الفروق: 4/ 257 - 258
7- آل عمران: 146

وهذا مسلم إذا كان على وجه الجهاد.

قالوا: قتل یحیی بن زکریا عليهما السلام لنهيه عن تزويج الربيبة(1).

قلنا: وظيفة الأنبياء غير وظائفنا.

قالوا: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):

«أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر»(2)، وفي هذا تعريض لنفسه بالقتل، ولم يفرق بين الكلمات أهي نص في الأصول أو الفروع، من الكبائر أو الصغائر(3)؟ قلنا محمول على الأمام، أو نائبه، أو بإذنه، أو على من لا يظن القتل.

قالوا: خرج مع ابن الأشعث(4) جمع عظيم من التابعين في قتال الحجاج، لإزالة ظلمه وظلم الخليفة عبد الملك، ولم ينكر ذلك عليهم أحد من العلماء(5).

قلنا: لم يكونوا كل الأمة. ولا علمنا أنهم ظنوا القتل، بل جوزوا التأثير ورفع المنكر. أو جاز أن يكون خروجهم بإذن إمام واجب الطاعة، كخروج زید بن علي (عليه السلام) وغيره من بني علي عليه السلام)6.

ص: 243


1- انظر: القرافي / الفروق: 4 / 258
2- انظر: المتقي الهندي / کنز العمال: 2/ 16، حدیث: 385، والسيوطي / الجامع الصغير بشرح المناوي: 1 / 81
3- انظر: القرافي / الفروق: 4/ 258
4- هو عبد الرحمان بن محمد بن الأشعث الكندي، صاحب الوقائع المشهورة مع الحجاج بن يوسف الثقفي، كان من قواعده، ثم انتقض عليه وجرت بينهما معارك، انتهت بانتصار الحجاج عليه
5- انظر: القرافي / الفروق: 4/ 258 . (6) القواعد والفوائد: ج 2، ص 202 - 207

المسألة الخامسة: ما ورد في الأحاديث الشريفة من شروح نهج البلاغة.

لقد تناول شراح نهج البلاغة هذه الأحاديث المرتبطة بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمزيد من البيان والدلالة والتوضيح، وذلك لما تشکله هذه الفرضية من أثار نفسية وتربوية واجتماعية، سواء على مستوى الفردي أو الجماعي، فكانت على النحو الاتي:

أولاً - قوله (عليه السلام): «مَنْ أَحَدَّ سِنَانَ اَلْغَضَبِ لِلَّهِ قَوِیَ عَلَی أَشَدِّ اَلْبَاطِلِ».

ألف - ابن میثم البحراني رحمه الله) (ت: 679 ه).

قال ابن میثم البحراني (عليه الرحمة والرضوان) في بيان معنى الحديث ودلالته:

(لمّا كان تعالى هو العزيز المطلق كان استناد قوّة الغضب والحميّة له إلى عزّته؛ وصولة الغاضب اعتزازا به أشدّ بكثير من صولته بدون ذلك الاستناد وبحسب تأكَّد القوّة بعزّة الله يكون ضعفها بالاستناد إلى الباطل المضادّ لدينه؛ ولذلك قهر أولياء الله على قلَّتهم في مبدء الإسلام أعداؤه على كثرتهم، وأطاق هو عليه السلام قلع باب خيبر على شدّته أو قتل جبابرة العرب؛ واستعار لفظ السنان لحدّة الغضب باعتبار استلزامها للنكاية في العدو، ورشّح بذكر أحدّ)(1).

ص: 244


1- شرح نهج البلاغة لابن میثم: ج 5، ص 337

باء - ابن أبي الحديد المعتزلي (ت: 656 ه).

قال الشارح المعتزلي في بيان معنى الحديث ودلالته:

(هذا من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والكلمة تتضمن استعارة تدل على الفصاحة، والمعنى أن من أرهف عزمه على إنكار المنكر، وقوي غضبه في ذات الله ولم يخف ولم يراقب مخلوقاً أعانه الله على إزالة المنكر؛ وان كان قوياً صادراً من جهة عزيزة الجانب، وعنها وقعت الكناية باشداء الباطل)(1).

جیم - السيد حبيب الله الخوئي (ت: 1324 ه).

قال (رحمه الله) في بيان معنى الحديث ودلالته:

(الحدة: ما تعتري الإنسان من النزق والغضب، يقال:

حدّ يحدّ حداً إذا غضب.

والمعنى: كلّ شيء له وجه إلى الله وطرف إلى الطبيعة، فباعتبار وجهه الإلهي حسن ممدوح، فالغضب إذا ثار لله كان حسنا وصار من الايمان ويعتزّ به الدّين ويشدّ به ظهر المؤمنين.

وقد روى في مجمع البحرين عن الباقر (عليه السلام) وقد سأل: «ما بال المؤمن أحدّ شيء»؟ فقال:

(لأنّ عزّ القرآن في قلبه، ومحض الایمان في صدره، وهو لله مطيع، ولرسوله مصدّق) - صلى الله عليه وآله - ولا بد للمجاهد في سبيل الله من سورة

ص: 245


1- شرح نهج البلاغة للمعتزلي: ج 18، ص 405

الغضب، وجمرة حمية كاللهب، حتّى يقدر على الدفاع تجاه الأعداء الأشدّاء، وقوي على قتل الأبطال من المحاربين لله ورسوله) - صلى الله عليه وآله -(1).

ثانياً - بيان قوله عليه الصلاة والسلام: «اَیُّهَا المُؤمنونَ اِنَّهُ مَنْ رَاَی عُدوَاناً یُعمَلُ بِهِ وَ مُنکَراً یُدعَی اِلیهِ فَاَنْکَرَهُ بِقَلبِهِ فَقَدْ سَلِمَ وَ بَرِءَ وَ مَنْ اَنْکَرَهُ بِلِسانِهِ فَقَدْ اُجِرَ وَ هُوَ اَفضَلُ مِن صاحِبِه، وَ مَنْ اَنکَرَهُ بِالسَّیفِ لِتَکُونَ کَلِمِهُ اللهِ هِیَ العُلیا وَ کَلِمَهُ الظّالِمینَ هِیَ السُّفَّلی فَذلِكَ الَّذی اَصابَ سَبیلَ الهُدی وَ قامَ عَلی الطَّریقِ وَ نَوَّرَ فی قَلبِهِ الیَقینُ».

ونكتفي في بيان الحديث على قولين من أقوال الإمامية (أعلى الله شأنهم) وهو كالاتي:

ألف - ابن میثم البحراني (رحمه الله).

قال (رحمه الله) في بيان معنى الحديث ودلالته:

(لمّا كان إنكار المنكر واجبا على كلّ مكلَّف بحسب تمكَّنه وكان لتمكّنه من ذلك طرف أدنى وهو الإنكار بالقلب لإمكانه من كلّ أحد، وطرف أعلى وهو الإنكار باليد وهو الغاية، ووسط وهو الإنكار باللسان كانت درجاته في استحقاق الأجر به مترتّبة على درجات إنكاره، وإنّما خصّص المنكر بقلبه بالسلامة والبراءة: أي من عذاب الله لأنّه لم يحمل إثما وإنّما لم يذكر له أجرا وإن كان كلّ واجب يثاب عليه لأنّ غاية إنكار المنكر دفعه والإنكار بالقلب ليس له في الظاهر تأثير في دفع المنكر فكأنّه لم يفعل ما يستحقّ به أجرا وإنّما

ص: 246


1- منهاج البراعة للسيد حبيب الله الخوئي: ج 21، ص 251

قال: لتكون كلمة الله هي العليا. لأنّه إن لم يكن ذلك مقصود المنكر بل كان مقصوده مثلا الرياء أو الغلبة الدنيوية لا يكون قد أصاب سبيل الهدى، واستعار لفظ التنوير لوضوح الحق في قلبه وجلائه من شبه الباطل)(1).

باء - السيد حبيب الله الخوئي الهاشمي رحمه الله).

قال (رحمه الله) في بيان معنى حديث أمير المؤمنين عليه السلام ودلالته ما يلي:

(لأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرعين من فروع الدّين الاسلامي المفروضة على كافّة المسلمين من دون نكير، وفروع الدّين الثمانية ضرورية يحكم على منکر كلها أو بعضها بالخروج عن الاسلام، ولهما شرائط مقرّرة في الفقه و مراتب مترتّبة قد بيّنها في كلامه هذا (عليه الصّلاة والسّلام)، فأدنی مراتب النهي عن المنكر هو الانكار بالقلب، وهو واجب مطلقا حتّى في أشدّ مواقف التّقية وتسلَّط المخالف للحق.

فقال (عليه السّلام): من رأى العدوان ودعي إلى المنكر ولا يقدر على الدفاع باللَّسان والجوارح فلا بدّ أن ينكره بقلبه و جنانه، فإذا أنكره بقلبه فقد سلم من ترك الواجب وبرئ من عهدة تكليفه في هذا الموقف الحرج، وإن قدر على إنكاره باللَّسان مأمونا على ماله ونفسه فله الأجر والثواب وهو أفضل من المنكر بالقلب فحسب . وأعلا درجات النهي عن المنكر هو النّهي بالقوّة والدّفع عنه بالسيف إعلاء لكلمة الحقّ وإرغاما لأنف الظالمين، ونصرة للحقّ المبين فذلك الَّذي أصاب سبيل الهدی، وبلغ الدرجة القصوى، من أداء الحق الواجب، ونوّر قلبه بنور اليقين الثاقب. والمقصود

ص: 247


1- شرح نهج البلاغة لابن میثم: ج 5، ص 462

أنّه قصد بعمله رضا الله وقام به مخلصا لوجه الله، فإن كان قصده الغلبة والاستيلاء أدّى واجبه إلَّا أنّه لم يصب سبيل الهداية، لأنّ النهي عن المنكر واجب توصّلی لا يشترط فيه قصد القربة وإن كان يشترط في ترتب الثواب، وتنوّر القلب بنور اليقين)(1).

ثالثاً - قوله عليه الصلاة والسلام: «فَمِنهُمُ المُنكِرُ لِلمُنكَرِ بِيَدِهِ وَ لِسَانِهِ وَ قَلبِهِ فَذَلِكَ المُستَكمِلُ لِخِصَالِ الخَيرِ، وَ مِنهُمُ المُنكِرُ بِلِسَانِهِ وَ قَلبِهِ وَ التّارِكُ بِيَدِهِ فَذَلِكَ مُتَمَسّكٌ بِخَصلَتَينِ مِن خِصَالِ الخَيرِ وَ مُضَيّعٌ خَصلَةً، وَ مِنهُمُ المُنكِرُ بِقَلبِهِ وَ التّارِكُ بِيَدِهِ وَ لِسَانِهِ فَذَلِكَ ألّذِي ضَيّعَ أَشرَفَ الخَصلَتَينِ مِنَ الثّلَاثِ وَ تَمَسّكَ بِوَاحِدَةٍ، وَ مِنهُم تَارِكٌ لِإِنكَارِ المُنكَرِ بِلِسَانِهِ وَ قَلبِهِ وَ يَدِهِ فَذَلِكَ مَيّتُ الأَحيَاءِ، وَ مَا أَعمَالُ البِرّ كُلّهَا وَ الجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللّهِ عِندَ الأَمرِ بِالمَعرُوفِ وَ النهّي عَن المُنكَرِ إِلّا كَنَفثَةٍ فِي بَحرٍ لجُيّ، وَ إِنّ الأَمرَ بِالمَعرُوفِ وَ النهّي َ عَنِ المُنكَرِ لَا يُقَرّبَانِ مِن أَجَلٍ وَ لَا يَنقُصَانِ مِن رِزقٍ، وَ أَفضَلُ مِن ذَلِكَ كُلّهِ كَلِمَةُ عَدلٍ عِندَ إِمَامٍ جَائِرٍ».

ونورد هنا ثلاثة أقوال لبيان معنى هذا الحديث، وهي كالاتي:

ألف - ابن میثم البحراني (رحمه الله):

قال (رحمه الله) في بيان معنى الحديث ودلالته:

(إنّه عليه السّلام جرى في هذه القسمة على الوجه الطبيعيّ المعتاد، وذلك أنّ العادة جارية بأن ينكر الإنسان أوّلا بقلبه، ثمّ بلسانه، ثمّ بیده

ص: 248


1- منهاج البراعة: ج 21، ص 461 - 462

إذا تمکَّن.

وقد يرد القسمة على غير هذا الوجه فيكون الناس على أقسام سنّة وهي المنكر بقلبه فقط أو بلسانه فقط أو بيده فقط أو بقلبه ولسانه أو بقلبه ويده أو بلسانه ويده.

واعلم أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر متلازمان لأنّ المعروف والمنكر قد يكونان نقيضين أو في قوّتهما فيكون النهي عن المنكر مستلزما للأمر بالمعروف والأمر بالمعروف مستلزما للنهي عن المنكر. واستجاعهما لخصال الخير ظاهر لأنّ كلّ خصلة منه معروف فالأمر بالمعروف مطلقا أمر بها وترك كلّ واحدة من خصال الخير منكر فإنكاره يستلزم الأمر بها.

ولمّا كانت هذه الأنواع الثلاثة من إنكار المنكر فضایل تحت فضيلة العدل وجب عدادها من خصال الخير، ولمّا كانت مستلزمة لساير الفضايل كما أشرنا إليه وجب أن يكون المنكر للمنكر مطلقا مستكملا لجميع خصال الخير وأن يكون التارك له بیده تاركا لخصلة ومتمسّكا بخصلتين، والتارك بيده ولسانه مضيّعا لأشرف الخصلتين من الثلاث وإنّما كانتا أشرف لكونهما يستلزمان دفع المنكر أو بعضه غالبا بخلاف الثالثة، ووجب أن يستحقّ تارك الثلاث اسم الميّت في حياته لخلوّه عن جميع الفضايل. ولفظ الميّت استعارة.

وقوله: وما أعمال البرّ. إلى قوله: لجّيّ. تعظيم لهاتين الفضيلتين، وشبّه أعمال البرّ كلها بالنسبة إليهما بالنفثة في البحر اللجيّ، ووجه الشبه أن كلّ خصلة من أعمال البرّ جزئيّ بالنسبة إليهما كالنفثة بالنسبة إلى البحر وعموم الخير منهما.

ص: 249

وقوله فإنّ الأمر. إلى قوله: رزق صغری ضمير رغَّب به فيهما، وتقدير الكبرى: وكلَّما لا يقرّب من أجل ولا ينقص من رزق فلا ينبغي أن يحذر منه. ثمّ أشار إلى أفضل أصنافهما وهو كلمة العدل عند الإمام الجائر لغرض ردّه عن جوره)(1).

باء - ابن أبي الحديد المعتزلي:

قال الشارح المعتزلي في بيان معنى الحديث ودلالته ما يلي:

((قد سبق قولنا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو أحد الأصول الخمسة عند أصحابنا. لجة الماء: أعظمه، وبحر لجي: ذو ماء عظيم. والنفثة، الفعلة الواحدة من نفشت الماء من فمي، أي قذفته بقوة. قال (عليه السلام): لا يعتقدن أحد إنه إن أمر ظالما بالمعروف، أو نهی ظالما عن منکر، إن ذلك يكون سببا لقتل ذلك الظالم المأمور أو المنهي إياه، أو يكون سببا لقطع رزقه من جهته، فإن الله تعالى قدر الاجل، وقضى الرزق، ولا سبيل لأحد أن يقطع على أحد عمره أو رزقه.

وهذا الكلام ينبغي أن يحمل على إنه حث وحض وتحريض على النهى عن المنكر والامر بالمعروف، ولا يحمل على ظاهره، لان الانسان لا يجوز أن يلقى بنفسه إلى التهلكة، معتمدا على أن الاجل مقدر، وإن الرزق مقسوم، وإن الانسان متى غلب على ظنه أن الظالم يقتله ويقيم على ذلك المنكر، ويضيف إليه منکرا آخر لم يجز له الانكار.

فأما كلمة العدل عند الامام الجائر فنحو ما روى أن زيد بن أرقم رأي

ص: 250


1- شرح نهج البلاغة للبحراني: ج 5 ص 429 - 430

عبيد الله بن زياد - ويقال بل يزيد بن معاوية - يضرب بقضيب في يده ثنايا الحسين (عليه السلام) حين حمل إليه رأسه، فقال له: أيها! ارفع يدك فطالما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله يقبلها)(1).

جيم - السيد حبيب الله الخوئي (رحمه الله).

قال (عليه الرحمة والرضوان) في بيان معنى الحديث:

(المعروف والمنكر يطلق على الواجب والحرام في قول الفقهاء: ((يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) لأنّ ظاهر لفظ المنكر القبيح الَّذي يرادف الفحشاء ويقارنه في آيات القرآن كکا قال تعالى:

«إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ»(2).

وأمّا المعروف فيختصّ بالواجب بقرينة وجوب الأمر به، وأمّا إذا كان مندوبا أو مباحا فلا يجب الأمر به، كما أنّ لفظ الأمر المتعلَّق به يخصّصه بالوجوب، لأنّ الأمر المطلق يفيد الوجوب. والأمر بالمعروف كالنهي عن المنكر يجبان بشرائط مقرّرة في مقامه، ولهما مراتب كما ذكرنا، يسقط وجوب كلّ مرتبة غير مقدورة وينتقل إلى مرتبة نازلة حتّى ينتهي إلى الانكار بالقلب الَّذي هو واجب بالنسبة إلى المنكر مطلقا. ولكن المستفاد من كلامه هذا (عليه السّلام) أمر أهمّ وأتمّ ويشبه أن يكون مقصوده الإعانة على الخير المطلق والدّفاع عن الشتر المطلق، فأشار إلى أنّ أهل الخير ينقسمون إلى ثلاث مراتب باعتبار استعداداتهم وجوهر ذاتهم. فمنهم خيّرون مطلقا وطاردون

ص: 251


1- شرح نهج البلاغة للمعتزلي: ج 19 ص 306 - 307
2- العنكبوت: 45

للشرّ والمنكر باليد واللَّسان والقلب، وهم المهذّبون وواصلون إلى أعلى درجات الخير المعبّر عنه في الفلسفة التربوية الفارسية بقولهم: «پندار نيك، کردار نيك، گفتار نيك».

لا ومنهم من حاز الدرجة الثانية، وهو المنكر بلسانه وقلبه والتارك بيده، يعني بلغ في التربية الأخلاقية إلى حيث صار لسانه خيّرا وداعيا إلى الخير وقلبه طاهرا ينوي الخير، ولكن لم يصر عمله خيرا مطلقا فذلك حصّل خصلتين من خصال الخير ومنهم المنكر بقلبه، أي نيّته الخير ولكن لم يملك لسانه ويده ليكونا ممحّضا للخير وداعيا إليه بوجه مطلق، فقد ذهب منه أشرف الخصلتين.

والدّليل على إرادة هذا المعنى العامّ التامّ قوله:

(وما أعمال البر كلها والجهاد في سبيل الله عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلَّا كنفثة في بحر لّجى).

فكلامه عليه السّلام يرجع إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالنظر إلى الوجهة الأخلاقية للامر والناهي، لا بالنظر إلى حكمه الفقهي المعنون في كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الفقه)(1).

رابعاً - قوله عليه الصلاة والسلام: «أول ما تغلبون عليه من الجهاد بأيديكم ثم بألسنتكم، ثم بقلوبكم، فمن لم يعرف بقلبه معروفاً، ولم ينكر منكراً قلب بجعل أعلاه أسفله».

ص: 252


1- منهاج البراعة: ج 21، ص 464 - 465

ونورد في بيان معنى الحديث أقوال الشيخ ابن ميثم البحراني، وابن أبي الحديد المعتزلي، والسيد حبيب الله الخوئي، وهو كالاتي:

ألف - ابن ميثم البحراني.

قال (عليه الرحمة والرضوان) في بيان معنى الحديث ودلالته:

(الجهاد باليد واللسان والقلب هو إنكار المنكر بها. وإنّما كان باليد أوّل مغلوب عليه لأنّ الغرض الأوّل للعدوّ إزالة سلطان اليد ومقاومته فإذا تمكَّن من ذلك كان زوال سلطان اللسان سهلا.

فإن قلت: لم قال: ثمّ بقلوبكم. ومعلوم أنّ القلب لا يطَّلع عليه العدوّ ولا يتمكَّن من إزالة الجهاد به.

قلت: أراد أنّهم إذا غلبوا على الجهاد باليد واللسان وطالت المدّة عليهم ألقوا المنكر وتكرّر على سمعهم وأبصارهم وقلوبهم فلم يبق إنكاره وهو معنى غلبهم عليه.

وقوله: فمن لم يعرف بقلبه إلى آخره. نفّر عن ترك الخصلتين بما يلزمه من قلب أعلى التارك أسفله، واستعار لفظ القلب للانتكاس في مهاوي الردائل ودركات الجحيم. وإنّما خصّص إنكار القلب بذلك لإمكانه في كلّ وقت و خلوّه عن المضارّ المخوّفة الَّتي يخشى في الإنكار باليد واللسان)(1).

باء - ابن أبي الحديد المعتزلي.

قال ابن أبي الحديد في بيان معنى الحديث:

ص: 253


1- شرح نهج البلاغة للبحراني: ج 5، ص 430 - 431

(إنما قال ذلك لان الانكار بالقلب آخر المراتب، وهو الذي لا بد منه على كل حال، فأما الانكار باللسان وباليد فقد يكون منهما بد، وعنهما عذر، فمن ترك النهى عن المنكر بقلبه، والامر بالمعروف بقلبه، فقد سخط الله عليه لعصيانه، فصار كالممسوخ الذي يجعل الله تعالى أعلاه أسفله، وأسفله أعلاه تشويها لخلقته، ومن يقول بالأنفس الجسمانية، وإنها بعد المفارقة يصعد بعضها إلى العالم العلوي: وهي نفوس الأبرار وبعضها ينزل إلى المركز، وهي نفوس الأشرار، يتأول هذا الكلام على مذهبه، فيقول:

إن من لا يعرف بقلبه معروفا، أي لا يعرف من نفسه باعثا عليه ولا متقاضيا بفعله، ولا ينكر بقلبه منكرا، أي لا يأنف منه ولا يستقبحه، ويمتعض من فعله يقلب نفسه التي قد كان سبيلها أن تصعد إلى عالمها فتجعل هاوية في حضيض الأرض، وذلك عندهم هو العذاب والعقاب)(1).

جيم - السيد حبيب لله الخوئي.

قال (عليه الرحمة والرضوان) في بيان معنى الحديث ودلالته:

(أخبر عليه السّلام في هذا الكلام إلى تسلَّط الجائرين على حكومة الاسلام فيسلبون من المسلمين المؤمنين القوّة والقدرة على إجراء أحكام الدّين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلم يكن لهم إمام ظاهر قاهر يمنع من المناهي ويجري الحدود على من ارتكب المعاصي فيكتفون بالوعظ والانذار باللَّسان، فلمّا استكمل سلطة الغاصب منع من ذلك فلا يقدرون على أداء الوظيفة باللسان أيضا. ثمّ إذا دام ملك الج-ور والباطل ونشأ بينهم

ص: 254


1- شرح نهج البلاغة للمعتزلي: ج 19، ص 312

الولدان الأصاغر لا يحصل لهم ملكة الايمان والاعتقاد، فلا ينكرون المنكر بقلوبهم، بل يصير المنكر معروفا والمعروف منكرا فينتكس قلوبهم ويدركون الحق باطلا، والباطل حقا فقوله عليه السّلام (جعل أعلاه أسفله) كناية عن درك خلاف الحق والواقع)(1).

خامساً - قوله عليه الصلاة والسلام): «وَأمرِ بِالمَعروفِ تَكُن مِن أَهلِهِ، وأنكِرِ المُنكَرَ بِيَدِكَ ولِسَانِكَ وبَاين مَن فَعَلَه بِجُهدِكَ، وجَاهِد فِي الله حَقَّ جِهَادِه، وَلَا تَأخُذُكَ فِي الله لَومَةُ لَائِمٍ».

وتناول في بيان معنى الحديث قول ابن ميثم البحراني فقط .

قال (رحمه الله) في بيان معنى الحديث:

(أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فعلا وقولا، ويباين من فعله بقدر إمكانه، وهو من فروض الكفاية، وعليهما مدار نظام العالم، ولذلك كان الق-رآن الكريم والسنّة النبويّة مشحونين بهما واستدرجه إلى ذلك بقوله: ((تكن من أهله)) لأنّهم أولياء الله الأبرار المرغوب في الكون منهم)(2).

لا تم الفصل بحمد الله وسابق لطفه ونسأله المزيد من فضله وفضل رسوله (صلى الله عليه وسلم)

ص: 255


1- منهاج البراعة: ج 21، ص 466
2- شرح نهج البلاغة لابن ميثم: ج 5، ص 10

ص: 256

المحتويات

الباب الخامس الصيام والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنکر

الفضل الأول کتاب الصیام

توطئة...15

المبحث الأول: تعريف الصيام في اللغة والشريعة وبيان أقسامه...17

المسألة الأولى: تعريف الصيام في المذهب الإمامي...17

أولاً - العلامة ابن المطهر الحلي (عليه الرحمة والرضوان) (ت 826 ه)...17

ألف - تعريف الصيام...17

باء - وجوب صوم شهر رمضان...17

جيم - أقسام الصوم...18

ثانياً - المحقق البحراني (رحمه الله) (ت: 1186 ه)...18

ألف - معنى الصيام في اللغة والشرع...18

باء - أقسام الصوم...19

المسألة الثانية: تعريف الصيام في اللغة والشرع وبيان أقسامه عند فقهاء المذاهب الأخرى...27

أولاً - المذهب الزيدي...27

ألف - تعريف الصيام...27

باء - أقسام الصوم...27

ثانياً - المذهب الشافعي...28

ألف - معنى الصوم في اللغة والشرع...28

باء - أقسام الصوم...28

ص: 257

ثالثاً - المذهب المالكي...29

ألف - الصيام لغة:...29

باء - معنى الصيام شرعاً:...30

رابعاً - المذهب الحنفي...31

ألف - معنى الصيام لغة:...31

باء - معنى الصيام شرعاً:...31

خامساً - المذهب الحنبلي...32

الف - معنى الصوم لغة:...32

باء - معنى الصوم شرعا:...32

سادساً - المذهب الإباضي:...33

1- معنى الصيام لغة:...33

2- ومعناه في الشرع:...33

المسألة الثالثة: خلاصة القول فيها أورده فقهاء المذاهب السبعة في المسألة...33

المسألة الرابعة: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة...35

أولاً - الشيخ ابن ميثم البحراني (رحمه الله) (ت 679 ه)...35

ثانياً - قطب الدين الراوندي (رحمه الله) (ت 573 ه)...36

المبحث الثاني: فضل الصوم وفوائده...39

المسألة الأولى: المذهب الإمامي...39

أولاً - العلامة ابن المطهر الحلي (ت 726 ه):...39

ثانياً - المحقق البحراني (ت 1186 ه)...41

المسألة الثانية: فضل الصوم وفوائده في المذاهب الاخرى...44

أولاً - المذهب الزيدي...44

ثانياً - المذهب الشافعي...46

ثالثاً - المذهب الحنفي...46

ص: 258

المسألة الثالثة: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة...46

أولاً - الحديث الأول:...47

1- الشيخ ابن ميثم البحراني (رحمه الله):...47

2- حبيب الله الخوئي الهاشمي (ت: 1324 ه)...47

ثانياً - الحديث الثاني:...48

1- ابن ميثم البحراني:...48

2- حبيب الله الخوئي الهاشمي (ت 1324 ه)...49

المبحث الثالث: الحكمة في تشريع الصيام...51

المسألة الاولى: بيان علة فرض الصيام في المذهب الإمامي...51

أولاً - بيان علة فرض الصيام...52

ثانياً - آداب الصائم...54

ثالثاً - الإخلاص في العبادة، وتجليه في الصيام...56

المسألة الثانية: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة...60

أولاً - ما ورد في قوله (علیه السلام) «والصيام ابتلاء لإخلاص الخلق» من شروح...60

ثانياً - ما ورد في قوله (عليه السلام) حديث:...62

الفصل الثاني كتاب الحج

توطئة...67

المبحث الاول: معنى الحج في اللغة والاصطلاح والشريعة...69

المسألة الاولى: معنى الحج في اللغة...69

المسالة الثانية: معنى الحج في الاصطلاح...71

المسالة الثالثة: معنى الحج في المذهب الإمامي...71

المسالة الرابعة: معنى الحج في المذاهب الأخرى...74

اولا - المذهب الزيدي...74

ص: 259

ثانيا - المذهب الشافعي...74

ثالثا - المذهب الحنفي...74

رابعا - المذهب المالكي...74

خامسا - المذهب الحنبلي...75

سادسا - المذهب الإباضي...75

المسالة الخامسة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة...75

المبحث الثاني: أقوال الفقهاء في وجوب الحج والعمرة...77

المسألة الأولى: أقوال فقهاء المذهب الإمامي في وجوب الحج...78

اولاً- الشيخ الطوسي (رحمه الله) (ت: 460 ه)...79

ثانياً- العلامة ابن المطهر الحلي (عليه الرحمة والرضوان) (ت: 726 ه):...80

ثالثاً- الشيخ مرتضى الانصاري (عليه الرحمة والرضوان) (ت 1281 ه):...82

المسألة الثانية: أقوال فقهاء المذاهب الاخرى في وجوب الحج...87

اولاً - المذهب الزيدي...87

ثانياً - المذهب الشافعي...87

ثالثاً - المذهب المالكي...88

رابعاً - المذهب الحنفي...89

خامساً - المذهب الحنبلي...90

سادساً - المذهب الإباضي...91

المبحث الثالث: فضل الحج...93

المسألة الاولى: فضل الحج في المذهب الإمامي...94

اولاً - المحقق البحراني (ت 1186 ه) (عليه الرحمة والرضوان)...94

ثانياً - السيد محمد كاظم اليزدي (عليه الرحمة والرضوان):...100

المسألة الثانية: فضل الحج في المذاهب الأخرى...108

أولاً - المذهب الزيدي...108

ص: 260

ثانياً - المذهب الشافعي...109

ثالثاً - المذهب الحنفي...110

المسالة الثالثة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة...11

المبحث الرابع: فوائد الحج وثماره...113

المسألة الأولى: أقوال فقهاء المذهب الإمامي في فضل الحج وثماره...114

أولاً - المحقق ابن المطهر الحلي (رحمة الله) (ت: 726 ه)...114

ثانياً - الشيخ الجواهري (رحمة الله) (ت: 1299 ه):...116

المسألة الثانية: ما ورد في الخطبة من شروح نهج البلاغة...118

أولاً - ابن میثم البحراني (رحمة الله) (ت: 679 ه):...119

ثانياً - ابن ابي الحديد المعتزلي (ت 656 ه)...126

المبحث الخامس: حكم إجارة دور مكة ومنع الحاج...133

من سكناها...133

المسالة الأولى: حكم إجارة دور مكة وبيعها في المذهب الإمامي...133

أولا - القول بالحرمة، والكراهة...134

ثانيا - القول بالجواز والكراهة في منع الحاج من سكن دور مكة...135

المسالة الثانية: حكم إجارة دور مكة وبيعها في المذاهب الأخرى...139

أولا - المذهب الشافعي:...139

ثانيا - المذهب المالكي والحنفي...139

ثالثا - المذهب الحنبلي...141

المسالة الثالثة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء الذاهب في المسألة...141

ثانياً - قال ابن میثم البحراني (ت 679 ه):...143

ثالثاً - قال ابن أبي الحديد المعتزلي (ت 656 ه):...145

المبحث السادس: في صفات الهدي وإستشراف الأذن والعين...147

المسألة الأولى: أقوال فقهاء المذهب الإمامي في المسألة...147

ص: 261

أولاً - العلامة بن المطهر الحلي (رحمه الله) (ت 726 ه)...147

ثانياً - السيد عبد الأعلى السبزواري (رحمه الله)، (ت: 1414 ه)...151

المسألة الثانية: أقوال فقهاء المذاهب الاخرى في المسألة...153

أولاً - المذهب الزيدي...153

ثانياً - المذهب الشافعي...155

ثالثاً - المذهب الحنفي...161

رابعا - المذهب الحنبلي...163

خامساً - المذهب الإباضي...163

المسالة الثالثة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسالة...164

المسألة الرابعة: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة...165

أولاً - ابن میثم البحراني (رحمه الله) (ت: 679 ه)...165

ثانياً - ابن أبي الحديد المعتزلي (ت: 656 ه)...167

الفصل الثالث كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

توطئة...171

المبحث الأول: في وجوب الأمر بالمعروف والنهي...173

عن المنكر و تحریم ترکهما...173

المسألة الأولى: تعريف المعروف والمنكر في اللغة...173

أولاً - المعروف والمنكر لغة...174

ألف - المعرفة لغة...174

باء - المنكر لغة...175

ثانيا - الأمر لغة...176

المسالة الثانية: معنى المعروف والمنكر عند الفقهاء...176

أولا - المذهب الإمامي...176

ص: 262

ثانيا - المذهب الحنبلي...178

المسألة الثالثة: فضل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر...178

المسألة الرابعة: وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المذهب الإمامي...184

المسألة الخامسة: وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المذاهب الأخرى...204

أولا - المذهب الزيدي...204

ثانيا - المذهب الشافعي...206

ثالثا - المذهب المالكي...208

رابعا – المذهب الحنفي...209

خامسا - المذهب الحنبلي...210

سادسا - المذهب الإباضي...211

المسالة السادسة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب الاسلامية السبعة في المسألة...212

المسألة السابعة: قاعدة فقهية...214

المسألة الثامنة: ما ورد في الحديث من شروح نهج البلاغة...216

أولاً - ما جاء في قوله (علیه السلام) في وصيته للإمامين الحسن والحسين (علیها السلام): «لا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيوئي عليكم شراركم ثم تدعون فلا يستجاب لكم»...216

ألف - ابن میثم البحراني (رحمه الله) (ت: 769 ه)...216

ثانياً - قوله (علیه السلام): «إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خلق الله سبحانه، وانهما لا يقربان من أجل ولا ينقصان من رزق»...217

ألف - علي بن زيد البيهقي (رحمه الله) (ت: 565 ه)...217

باء - ابن أبي الحديد المعتزلي (ت 656 ه)...218

جیم - ابن میثم البحراني (رحمه الله) (ت 679 ه):...218

المبحث الثاني: مراتب إنكار المنكر والنهي عنه...221

المسألة الأولى: مراتب النهي عن المنكر في المذهب الإمامي...222

المسالة الثانية: مراتب النهي عن المنكر في المذاهب الأخرى...233

ص: 263

أولاً - المذهب الزيدي...233

ثانياً - المذهب المالكي...235

ثالثاً - المذهب الشافعي...236

رابعاً - المذهب الحنفي...237

خامساً - المذهب الحنبلی...237

المسالة الثالثة: خلاصة القول فيما أورده فقهاء المذاهب في المسألة...238

المسالة الرابعة: قاعدة فقهية: مراتب الأنكار ثلاثة تتعاكس في الإبتداء...240

المسألة الخامسة: ما ورد في الأحاديث الشريفة من شروح نهج البلاغة...244

أولاً - قوله (عليه السلام): «مَن أَحَدَّ سِنَانَ الغَضَبَ للهِ قَويَ عَلَى قَتلِ أَشِدَّاءِ البَاطِلِ»...244

ألف - ابن میثم البحراني (رحمه الله) (ت: 679 ه)...244

باء - ابن أبي الحديد المعتزلي (ت: 656 ه)...245

جيم - السيد حبيب الله الخوئي (ت: 1324 ه)...245

ثانياً - بيان قوله عليه الصلاة والسلام: «أَيُّهَا المُؤمِنُونَ إِنَّه مَن رَأَي عُدوَاناً...»...246

ألف - ابن میثم البحراني (رحمه الله)...246

باء - السيد حبيب الله الخوئي الهاشمي (رحمه الله)...247

ثالثاً - قوله عليه الصلاة والسلام: «فُمِنهُمُ المنكِرُ لِلمُنكَرِ بِيَدِه ولِسَانِه وقَلبِه...»...248

ألف - ابن میثم البحراني (رحمه الله):...248

باء - ابن أبي الحديد المعتزلي:...250

جيم - السيد حبيب الله الخوئي (رحمه الله)...251

رابعاً - قوله عليه الصلاة والسلام: «أول ما تغلبون عليه من الجهاد بأيديكم ثم بألسنتكم، ثم بقلوبكم، فمن لم يعرف بقلبه معروف، ولم ينكر منكراً قلب بجعل أعلاه أسفله»...252

ألف - ابن میثم البحراني...253

باء - ابن أبي الحديد المعتزلي...253

جيم - السيد حبيب الله الخوئي...254

خامسا - قوله (عليه الصلاة والسلام): «وأمُر بِالمَعرُوفِ تَكُن مِن أَهلِه»...255

ص: 264

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.